Professional Documents
Culture Documents
كتاب مختصر يبحث في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العطرة من الولدة
إلى الوفاة وما بينهما من نشأة وبعثة ومحنة وتعذيب وإسراء وطلب نصرة
وهجرة ومعارك وعهود ومواثيق وغير ذلك من المور التي تتعلق بسيرته
الشريفة صلى الله عليه وسلم
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
مقدمة المؤلف
ولكني كنت أرى في عزيمتي قصورا ً عن تنفيذ رغبته وتتميم أمنيته ،فإن
المقام عظيم ،وصعوباته أعظم .ولكن لم أَر من المر ب ُد ّا ً تلقاء ما كنت
أسمعه من كبار رجال المنصورة ،فإنهم أكثروا من الماني لعمل هذا الكتاب،
العميم النفع ،الجزيل الفائدة ،فقمت معتمدا ً على الله راجيا ً منه أن يوّفقني
سرى حتى بلغت المنى ،فجاء بحمد الله، سي َْر بال ّ
لما فيه رضاه ،وواصلت ال ّ
صة .وقد كانمة ،وترجع إليه الخا ّ سهل المنال ،عذب المورد ،تنتفع به العا ّ
موِردي في تأليفه :القرآن الشريف ،وصحيح السّنة مما رواه المامان
البخاري ومسلم ،ولم أخرج عنهما إل فيما ل بد ّ من تفيهم العبارات ،فكان
يساعدني »الشفا« للقاضي عياض و»السيرة الحلبية« و»المواهب اللدنية«
للقسطلني ،و»إحياء علوم الدين« للغزالي .هذا ،وأسأل الله من فيض فضله
أن يوّفق أئمتنا وأمراءنا للقتداء بسّيدنا ومولنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم ،وإحياء معاِلم دينه حتى يؤّيدوا بروح من عند الله .وقد آن أن نشرع
فيما قصدناه مستعينين بحول الله فنقول:
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
السيد الكرم الذي شرف الناس بوجوده هو) :محمد بن عبد الله( من زوجه
هب الّزهرية القرشية) .ابن عبد المطلب( من زوجه فاطمة بنت آمنة بنت وَ ْ
ً ً
عمرو المخزومية القرشية .وكان عبد المطلب شيخا معظما في قريش
درون عن رأيه في مشكلتهم ويقدمونه في مهماتهم) .ابن هاشم( من ص ُ
يَ ْ
زوجه سلمى بنت عمرو النجارية الخزرجية) .ابن عبد مناف( من زوجه عاتكة
حَليل الخزاعية ،وكانحّبى بنت ُ
ي( من زوجه ُ ص ّمّرة السلمية) .ابن قُ َ بنت ُ
ي في الجاهلية حجابة البيت ،وسقاية الحاج ،وإطعامه المسمى إلى قص ّ
بالرفادة ،والندوة وهي الشورى ل يتم أمر إل في بيته ،واللواء ،ل تعقد راية
لحرب إل بيده .ولما أشرف على الموت جعلها في يد أحد أولده عبد الدار،
لكن بنو عبد مناف أجمعوا رأيهم على أل يتركوا بني عمهم عبد الدار
يستأثرون بهذه المفاخر ،وكاد يفضي المر إلى القتال لول أن تدارك المَر
عقلُء الفريقين ،فأعطوا بني عبد المناف السقاية والرفادة فدامتا فيهم إلى
أن انتهتا للعباس بن عبد المطلب ،ثم لبنيه من بعده ،أما الحجابة فبقيت بيد
بني عبد الدار ،وأ َقَّرها لهم الشرع فهي فيهم إلى الن .وهم بنو شيبة بن
عثمان بن أبي طلحة بن عبد العُّزى بن عثمان بن عبد الدار ،وأما اللواء فدام
فيهم حتى أبطله السلم ،وجعله حقا ً للخليفة على المسلمين يضعه فيمن
يراه صالحا ً له ،وكذلك الندوة .وقصي )بن كلب( من زوجه فاطمة بنت سعد،
شُنوَءة) .ابن مرة( من زوجه هند بنت سرير من بني فهر وهي يمانية من أزد َ
ً
بن مالك) .ابن كعب( من زوجه وحشية بنت شيبان من بني فهر أيضا) .ابن
لؤي( من زوجه أم كعب ماوِّية بنت كعب من ُقضاعة) .ابن غالب( من زوجه
أم لؤي سلمى بنت عمرو الخزاعي) .ابن فهر( من زوجه أم غالب ليلى بنت
هذيل .وفهر هو قريش ــــ في قول الكثرين ـــــ وكانت قريش سعد من ُ
شَرة قبيلة :بنو عبد مناف ،وبنو عبد الدار بن قصي ،وبنو أسد بن عبد اثنتي عَ ْ
العُّزى بن قصي ،وبنو زهرة
مّرة ،وبنو تيم بن مّرة ،وبنو عدي بن بن كلب ،وبنو مخزوم بن يقظة بن ُ
هصيص بن كعب ،وبنو عامر بن لؤي ،وبنو تيم كعب ،وبنو سهم بن عمرو بن ُ
محارب بن فهر ،والمقيمون منهم بمكة ُ وبنو بن غالب ،وبنو الحارث بن فهر،
يسمون قريش البطاح ،والذين بضواحيها قريش الظواهر) .ابن مالك( من
زوجه جندلة بنت الحارث من جرهم) .ابن النضر( من زوجه عاتكة بنت
مر بن أ ُّد) .ابن دوان من قيس عَْيلن) .ابن كنانة( من زوجه ب َّرة بنت ُ عَ ْ
مدركة( من زوجه عوانة بنت سعد بن قيس عيلن) .ابن ُ خَزيمة( من زوجه َ ُ
دف المضروب بها سلمى بنت أسلم من ُقضاعة) .ابن إلياس( من زوجه ِ
خن ْ ِ
د.
مضر( من زوجه الرباب بنت حيدة بن مع ّ المثل في الشرف والمنعة) .ابن ُ
مَعانة بنت جوشم ّ
سودة بنت عَك) .ابن معد( من زوجه ُ )ابن نزار( من زوجه َ
جرهم) .ابن عدنان(.
من ُ
هذا هو النسب المتفق على صحته من علماء التاريخ والمحدثين ،أما النسب
فوق ذلك فل يصح فيه طريق ،غاية المر أنهم أجمعوا على أن نسب الرسول
صلى الله عليه وسلم ينتهي إلى إسماعيل بن إبراهيم أبي العرب المستعربة.
نسب شريف كما ترى :آباء طاهرون وأمهات طاهرات ،لم يزل عليه السلم
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ينتقل من أصلب أولئك إلى أرحام هؤلء حتى اختاره الله هاديا ً مهديا ً من
م الولى في الشرف أوسط العرب نسبًا .فهو من صميم قريش التي لها القد ُ
وعلو المكانة بين العرب ،ول تجد في سلسلة آبائه إل كراما ً ليس فيهم
ن شأنًا ،ول ُ
مسترَذل بل كلهم سادة قادة ،وكذلك أمهات آبائه من أرفع قبائله ّ
شك أن شرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة ،وكل اجتماع بين
آبائه وأمهاته كان شرعيا ً بحسب الصول العربية ،ولم ينل نسبه شيء من
سفاح الجاهلية بل طّهره الله من ذلك والحمد لله.
كان عبد الله بن عبد المطلب من أحب ولد أبيه إليه ،فزوجه آمنة بنت وهب
بن عبد مناف بن ُزهرة بن كلب ،وسّنه ثماني عشرة سنة ،وهي يومئذٍ من
أفضل نساء قريش نسبا ً وموضعًا ،ولما دخل عليها حملت بالرسول صلى الله
عليه وسلم ،ولم يلبث أبوه أن توفي بعد الحمل بشهرين ،ودفن بالمدينة عند
أخواله بني عدي بن النجار ،فإنه كان قد ذهب بتجارة إلى الشام ،فأدركته
مت مدة حمل آمنة وضعت ولدها ،فاستبشر منيته بالمدينة وهو راجع ،ولما ت ّ
ث في أرجائه روح الداب وتمم مكارم العالم بهذا المولود الكريم الذي ب ّ
الخلق .وقد حقق المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان صبيحة يوم
الثنين تاسع ربيع الول الموافق لليوم العشرين من أبريل سنة ) (571من
الميلد ،وهو يوافق السنة الولى من حادثة الفيل ،وكانت ولدته في دار أبي
فاء أم عبد الرحمان بن عوف، شْعب بني هاشم ،وكانت قابلته ال ّ
ش ّ طالب ب ِ ِ
ً
ماه محمدا ،ولم يكن ً
شره ،فأقبل مسرورا وس ّ ولما ولد أرسلت أمه لجده تب ّ
دره وذكره ل عند العرب ،ولكن أراد الله أن يحقق ما ق ّ هذا السم شائعا ً قب ُ
ميه
ده أن يس ّ في الكتب التي جاءت بها النبياء كالتوراة والنجيل ،فألهم ج ّ
ّ َ
ه،
مة أبيه عبدِ الل ِ ضنته أم أيمن بركة الحبشية ،أ َ بذلك إنفاذا ً لمره ،وكانت حا ِ
ة عمه أبي لهب. م ُ وأول من أرضعه ث ُويب ُ َ
ةأ َ ََْ َ ْ
الرضاع
حادثة شق الصدر
وحصل له وهو بينهم حادثة مهمة وهي شق صدره وإخراج حظ الشيطان
منه ،فأحدث ذلك عند حليمة خوفا ً فردته إلى أمه وح ّ
دثتها قائلة :بينما هو
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وإخوته في ب َْهم لنا خلف بيوتنا إذ أتى أخوه يعدو ،فقال لي ولبيه :ذاك أخي
قا بطنه فهما القرشي قد أخذه رجلن عليهما ثياب بيض ،فأضجعاه ،ف َ
ش ّ
سوطانه .فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه منتقعا ً لونه ،فالتزمته والتزمه يَ ُ
ي؟ فقال :جاءني رجلن عليهما ثياب بيض ،فقال أبوه ،فقلنا له :ما لك يا بن ّ
قا بطني،
أحدهما لصاحبه :أهو هو؟ قال :نعم .فأقبل يبتدراني فأضجعاني فش ّ
فالتمسا فيه شيئًا ،فأخذاه وطرحاه ول أدري ما هو.
ثم إن أمه أخذته منها ،وتوجهت به إلى المدينة لزيارة أخوال أبيه بني عدي
بن النجار ،وبينما هي عائدة أدركتها منيتها في الطريق فماتت بالبواء
م أيمن ،وكفله جده عبد المطلب ،ورقّ له رِقّ ً
ة لم ت ُعَْهد له في ُ
فحضنته أ ّ
ل على أن له شْأنا ً عظيما ً في المستقبل، ولده ،لما كان يظهر عليه مما يد ّ
وكان يكرمه غاية الكرام ،ولكن لم يلبث عبد المطلب أن ُتوفي بعد ثماني
سنوات من عمر الرسول صلى الله عليه وسلم ،فكفله شقيق أبيه أبو طالب
مقل ً من المال فبارك الله له فكان له رحيما ً وعليه غيورًا ،وكان أبو طالب ُ
لفي قليله ،وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في مدة كفالة عمه مثا َ
القناعة والبعد عن السفاسف التي يشتغل بها الطفال عادة ،كما روت ذلك
ت الكل جاء الولد يختطفون وهو قانع ُ
أم أيمن حاضنته ،فكان إذا أقبل وق ُ
بما سييسُره ُ الله له.
فجار
حرب ال ِ
جاِر ،وهي ف َ
ولما بلغت سّنه عليه الصلة والسلم عشرين سنة حضر حرب ال ِ
ن للنعمان بن كنانة ومعها قريش ،وبين قيس .وسببها :أنه كا َ حرب كانت بين ِ
عكاظ لُتباع له، ُ سوق إلى عام كل يرسلها تجارة بالحيرة العرب ك
المنذر مل ِ
وكان يرسلها في أمان رجل ذي منعةٍ وشرف في قومه ليجيزها فجلس يوما ً
وعنده البراض بن قيس الكناني ــــ وكان فاتكا ً خليعا ً خلعه قومه لكثرة شّره
ن ُيجيز لي تجارتي هذه حتى يبلغها م ْ
حال فقالَ : ــــ وعروة بن عتبة الر ّ
ن ُ ُ
م ْ عكاظ؟ فقال البّراض :أنا أجيزها على بني كنانة ،فقال النعمان :إنما أريد َ
ب خليع يجيزها لك؟ أنا ُيجيُزها على الناس كلهم .فقال عروة :أبيت اللعن أكل ٌ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
قْيصوم من أهل نجد وتهامة .فقال الب َّراض :أو أجيزها على أهل الشيح وال َ
ُتجيزها على كنانة يا عروة؟ قال :وعلى الناس كلهم ،فأسّرها في نفسه،
وترّبص له حتى إذا خرج بالتجارة ،قتله غدرًا ،ثم أرسل رسول ً يخبر قومه
كنانة بالخبر ،ويحذرهم قيسا ً قوم عروة .وأما قيس فلم تلبث بعد أن بلغها
مت لتدرك ثأرها ،حتى أدركوا قريشا ً وكنانة بنخلة ،فاقتتلوا ،ولما الخبر أن ه ّ
اشتد ّ البأس وحميت قيس ،احتمت قريش بحرمها ،وكان فيهم رسول الله.
ثم إن قيسا ً قالوا لخصومهم :إّنا ل نترك دم عروة ،فموعدنا عكاظ العام
ل جمعت حو ْ ُ المقبل ،وانصرفوا إلى بلدهم يحرض بعضهم بعضًا ،فلما حا َ
ل ال َ
موعها وكانت معها ثقيف وغيرها ،وجمعت قريش جموعها من كنانة ج ُ
قيس ُ
والحابيش ــــ وهم حلفاء قريش ــــ وكان رئيس بني هاشم الزبيُربن عبد
المطلب ومعه إخوته أبو طالب وحمزة والعباس وابن أخيه النبي الكريم،
وكان على بني أمّية حرببن أمّية ،وله القيادة العامة لمكانه في قريش شرفا ً
وسنًا .وهكذا كان على كل بطن من بطون قريش رئيس ،ثم تناجزوا الحرب،
حُرمات مكة التي ن ُ
م ْ
ل فيه ِح ّ
ل ،ولما است ُ ِ فكان يوما ً من أشد ّ أيام العرب َ
هو ً
فجار .وكادت الدائرة تدور على قيس سمي يوم ال ِكانت مقدسة عند العرب ُ
ولما بلغت سنه عليه الصلة والسلم خمسا ً وعشرين سنة سافر إلى الشام
المّرة الثانية ،وذلك أن خديجة بنت خويلد السدية كانت سيدة تاجرة ذات
شرف ومال ،تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه ،فلما سمعت عن
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
زواجه خديجة
سّرت من المين عليه الصلة دما مكة ورأت خديجة ربحها العظيم ُ فلما قَ ِ
ه لنفسها ،وكانت سنها نحو الربعين ،وهي من خط ُب ُ ُوالسلم وأرسلت إليه ت ْ
ل ،فقام المين عليه الصلة والسلم مع أوسط قريش حسبا ً وأوسعهم ما ً
مها عمروبن أسد ،فخطبها منه بواسطة عمه أبي أعمامه حتى دخل على ع ّ
مها .وقد خطب أبو طالب في هذا اليوم فقال :الحمد لله طالب ،فزّوجها ع ّ
د ،وعنصر مضر، ضىِء مع ّ ضئ ْ ِ
الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ،وزرع إسماعيل و ِ
واس حرمه ،وجعله لنا بيتا ً محجوجا وحرما آمنا ،وجعلنا
ً ً ً س ّ
وجعلنا حضنة بيته و ُ
كام الناس ،ثم إن ابن أخي هذا محمدبن عبد الله ل ُيوزن به رجل شرفا ً ح ّ
ل ،فإن المال ظل زائل ،وأمر حائل، ل ،وإن كان في المال قُ ّ ونبل ً وفض ً
وعارية مسترّدة ،وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل ،وقد خطب
ق كذا .وعلى ذلك تم دا ِ
ص َ
إليكم رغبة في كريمتكم خديجة ،وقد بذل لها من ال ّ
المر .وقد كانت متزوجة قبله بأبي هالة ،توفي عنها وله منها ولد اسمه هالة،
وهو ربيب المصطفى عليه الصلة والسلم.
بناء البيت
ولما بلغت سنه عليه الصلة والسلم خمسا ً وثلثين سنة ،جاء سيل جارف
دع جدران الكعبة بعد توهينها من حريق كان أصابها قبل ،فأرادت قريش فص ّ
هدمها ليرفعوها ويسقفوها ،فإنها كانت رضيمة فوق القامة ،فاجتمعت
قبائلهم لذلك ،ولكنهم هابوا هدمها لمكانها في قلوبهم .فقال لهم الوليدبن
المغيرة :أتريدون بهدمها الصلح أم الساءة؟ قالوا :بل الصلح ،قال :إن الله
مصِلحين ،وشرع يهدم فتبعوه وهدموا حتى وصلوا إلى أساس ل يهلك ال ُ
ن م
َ ْ عادة على َ
كم ح
ِ ال من كثير فيها نقش
ُ ً اصحاف
ِ وجدوا وهناك إسماعيل،
يضعون أساس بناء شهير ليكون تذكرة للمتأخرين بعمل المتقدمين .ثم
ي ول بيعُ ِربا ،وجعل مهُر بغ َدوا لذلك نفقة ليس فيها َ ابتدؤوا في البناء وأع ّ
الشراف من قريش يحملون الحجارة على أعناقهم ،وكان العباس ورسول
صص الله فيمن يحمل ،وكان الذي يلي البناء نجار رومي اسمه باقوم ،وقد خ ّ
لكل ركن جماعة من العظماء ينقلون إليه الحجارة ،وقد ضاقت بهم النفقة
جَر ،وبنوا عليه ح ْ
الطيبة عن إتمامه على قواعد إسماعيل ،فأخرجوا منها ال ِ
جدارا ً قصيرًا ،علمة على أنه من الكعبة ،ولما تم البناء ثمانية عشر ذراعا ً
بحيث ِزيد َ فيه عن أصله تسعة أذرع ورفع الباب عن الرض بحيث ل ُيصعد
إليه إل بدرج أرادوا وضع الحجر السود موضعه ،فاختلف أشرافهم فيمن
ب بينهم نار الحرب ،ودام بينهم هذا يضعه ،وتنافسوا في ذلك حتى كادت تش ّ
ن رجل في قريش إذ ذاك أبو أميةبن المغيرة ل ،وكان أس ّالخصام أربع ليا ٍ
ّ
م خالدبن الوليد فقال لهم :يا قوم ل تختلفوا وحكموا بينكم من المخزومي ع ّ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ل المر لّول داخل ،فكان هذا الداخل هو المين ترضون بحكمه .فقالوا :ن َك ِ ُ
ما يعهدونه فيه من المانة
المأمون عليه الصلة والسلم ،فاطمأن الجميع له ل ِ َ
وصدق الحديث وقالوا :هذا المين رضيناه ،هذا محمد؛ لنهم كانوا يتحاكمون
إليه إذ كان ل ُيداري ول ُيماري .فلما أخبروه الخبر بسط رداءه وقال :لتأخذ
كل قبيلة بناحية
من الثوب ،ثم وضع فيه الحجر وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه فأخذه
ووضعه فيه وهكذا انتهت هذه المشكلة التي كثيرا ً ما يكون أمثالها سببا ً في
ن الله عليهم بعاقل مثل أبي أمية م ّ انتشار حروب هائلة بين العرب ،لول أن َ
يرشدهم إلى الخير ،وحكيم مثل الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم
بما ُيرضي جميعهم .ول ُيستغرب من قريش تنافسهم هذا ،لن البيت ِقبَلة
جون إليها ،فكل عمل فيه عظيم به الفخر والسيادة، العرب وكعبتهم التي يح ّ
ضع للعبادة بشهادة القرآن الكريم ،قال تعالى في سورة آل وهو أول بيت وُ ِ
ن)ِ (96فيهِ مي َ َ ْ
دى للَعال ِّ ً
مَباَركا وَهُ ً
ة ُ ّ
ذى ب ِب َك َ ّ َ
س لل ِ ضعَ ِللّنا ِ ت وُ ِ ل ب َي ْ ٍ ن أ َوّ َعمران} :إ ِ ّ
منا{ )آل عمران (97 ،96 :وكان ً ن ءا ِ َ
ه كا َ َ
خل ُ من د َ َ م وَ َهي َ م إ ِْبرا ِ قا ُ م َ ت ّ ت ب َي َّنا ٌ ءاَيا ٌ
ن دخل مكة َ ْ م وظلموا بغوا َ فلما جرهم ُ قبيلة إسماعيل ولد بعد أمره يلي
اجتمعت عليهم خزاعة وأجَلوهم عن البيت ،ووليته خزاعة حينا ً من الدهر ،ثم
منوا في بلدهم ،فكانت قبائل أخذته منهم في عهد قصيبن كلب ،وبسببه أ ِ
ن الله العرب تهابهم ،وإذا احتموا به كان حصنا ً أمينا ً من اعتداء العادين ،وامت ّ
حَرما ً َ َ
جعَل َْنا َم ي ََروْا ْ أّنا َعليهم بذلك في تنزيله ،فقال في سورة العنكبوت} :أوَل َ ْ
م{ )العنكبوت.(67 : حوْل ِهِ ْن َ م ْس ِ ف الّنا ُ خط ّ ُ منا ً وَي ُت َ َ
ءا ِ
لم َيرث عليه الصلة والسلم من والده شيئًا ،بل ولد يتيما ً عائل ً فاسترضع
كنه أن يعمل عمل ً كان يرعى الغنم مع إخوته في بني سعد ،ولما بلغ مبلغا ً يم ّ
ما رجع إلى مكة كان يرعاها لهلها على من الرضاع في البادية ،وكذلك ل ّ
قراريط كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه .ووجود النبياء في حال التجرد
عن الدنيا ومشاغلها أمر ل بد ّ منه ،لنهم لو وجدوا أغنياء للهتهم الدنيا
وشغلوا بها عن السعادة البدية ،ولذلك ترى جميع الشرائع اللهية متفقة على
م شاهد على استحسان الزهد فيها والتباعد عنها ،وحال النبياء الساِلفين أعظ ُ
ذلك ،فكان عيسى عليه السلم أزهد َ الناس في الدنيا ،وكذلك كان موسى،
سواء؛ تلك حكمة سَعة بل كلهم َ وإبراهيم .وكانت حالتهم في صغرهم ليست َ
بالغة أظهرها الله على أنبيائه ليكونوا نموذجا ً لمتبعيهم في المتناع عن
التكالب على الدنيا والتهافت عليها ،وذلك سبب البليا والمحن .وكذلك رعاية
الغنم ،فما من نبي إل رعاها كما أخبر عن ذلك الصادق المصدوق في حديث
كم فإن النسان إذا استرعى الغنم ــــ وهي ح َ للبخاري .وهذه أيضا ً من بالغ ال ِ
ف تعطفًا ،فإذا انتقل من ذلك إلى ة واللط ُأضعف البهائم ــــ سكن قلَبه الرأف ُ
ذب أول ً من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي ،فيكون رعاية الخلق كان لما هُ ّ
ب عليه الصلة والسلم كان يتجر ،وكان شريكه في أعدل الحوال .ولما ش ّ
السائببن أبي السائب .وذهب بالتجارة لخديجة ــــ رضي الله عنها ــــ إلى
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
جْعل يأخذه .ولما شرفت خديجة بزواجه ،وكانت ذات يسار ،عمل الشام على ُ
ن عليه به في سورة في مالها وكان يأكل من نتيجة عمله .وحقق الله ما امت ّ
َ
دى)(7 ضآل ّ فَهَ َك َجد َ َك ي َِتيما ً َفآَوى) (6وَوَ َ جد ْ َ
م يَ ِ ل ذكره} :أل َ ْ الضحى بقوله ج ّ
ُ َ ً َ َ َ َ َ
ما
ت ت َد ِْرى َ
ما كن َمرَِنا َ نأ ْم ْ
حي َْنآ إ ِلي ْك ُروحا ّعآئ ِل ً فَأغَْنى) (8وَكذ َل ِك أوْ َ
َ ك َجد َ َ
وَوَ َ
دى ب ِهِ ً
جعَلَناه ُ ُنورا ن ّهْ ِْ كن َ َ
ن وَل ِ
ما ُ لي َ َ
ب وَل ا ِ ال ْك َِتا ُ
وقد حفظه الله في صغره من كل أعمال الجاهلية التي جاء شرعه الشريف
ت إليه الوثان بغضا ً شديدا ً حتى ما كان يحضر لها احتفال ً أو عيدا ً ض ْ
بضدها وب ُغّ َ
ي
ت إل ّض ْ ت ب ُغّ َ
مما يقوم به عُّباُدها .وقال عليه الصلة والسلم» :لما نشأ ُ
م بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إل ي الشعر ،ولم أه ّالوثان ،وب ُّغض إل ّ
ت بسوء مرتين ،كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك .ثم ما همم ُ
بعدهما حتى أكرمني الله برسالته .قلت ليلة لغلم كان يرعى معي :لو
مر كما يسمر الشباب ،فخرجت لذلك س ُأبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأ ْ
ً
ت أول دارٍ من مكة أسمع عزفا بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم، حتى جئ ُ
س الشمس ي فنمت فما أيقظني إل م ّ فجلست لذلك ،فضرب الله على أذن ّ
ض شيئًا ،ثم عراني مرة أخرى مثل ذلك« .وكان عليه الصلة والسلم ولم أق ِ
ل يأكل ما ذبح على النصب وحّرم شرب الخمر على نفسه مع شيوعه في
حّلي الله بها أنبياءه قومه شيوعا ً عظيمًا ،وذلك كله من الصفات التي ي ُ َ
قي وحيه ،فهم معصومون من الدناس قبل ليكونوا على تمام الستعداد لتل ّ
ما
وة وبعدها ،أما قبل النبوة فليتأهلوا للمر العظيم الذي سُيسند إليهم ،وأ ّ النب ّ
مبعدها فليكونوا قدوة لممهم .عليهم من الله أفضل الصلوات وأت ّ
التسليمات.
وة
ما أكرمه الله به قبل النب ّ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أول منحة من الله ما حصل من البركات على آل حليمة الذين كان مسترضعا ً
فيهم ،فقد كانوا قبل حلوله بناديهم مجدبين فلما صار بينهم صارت غَُنيماتهم
تؤوب من مرعاها وإن أضراعها لتسيل لبنًا ،ويرحم الله البوصيري حيث يقول
في همزيته:
سعداُء ثم أعقب ذلك ما حصل من شق ً ُ
خر الله أناسالسعيدٍ فإّنهم ُ
وإذا س ّ
ّ
صدره وإخراج حظ الشيطان منه ،وليس هذا بالعجيب على قدرة الله تعالى،
فمن استبعد ذلك كان قليل النظر ،ل يعرف من قوة الله شيئًا ،لن خرق
العادات للنبياء ليس بالمر المستحدث ول المستغرب.
ومن المكرمات اللهية تسخير الغمامة له في سفره إلى الشام ،حتى كانت
تظله في اليوم الصائف ل يشترك معه أحد في القافلة ،كما روى ذلك
مشاركا ً له في سفره ،وهذا ما حّببه إلى ميسرة غلم خديجة الذي كان ُ
ً
خديجة حتى خطبته لنفسها ،وتيقنت أن له في المستقبل شأنا .ولذلك لما
ة أخرى زيادة على ما وة كانت أسرع الناس إيمانا ً به ،ولم تنتظر آي ً جاءته النب ّ
علمته من مكارم الخلق ،وما سمعته من خوارق العادات.
ومن منن الله عليه ما كان يسمعه من السلم عليه من الحجار والشجار،
فكان إذا خرج لحاجته أبعد َ حتى ل يرى بناء ،ويفضي إلى الشعاب وبطون
الودية فل يمّر بحجر ول شجر إل سمع :الصلة والسلم عليك يا رسول الله،
دث بذلك عن وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فل يرى أحدًا ،وقد ح ّ
خر الله الجمادات للنبياء قبله، نفسه .وليس في ذلك كبير إشكال فقد س ّ
ولت حّية تسعى ثم حَرة فرعون بعد أن تح ّ س َفعصا موسى التقمت ما صنع َ
ً
رجعت كما كانت ،ولما ضرب بها الحجر نبع منه الماء اثنتي عشرة عينا لكل
خر الله لهم سبط من أسباط بني إسرائيل عين .وكذلك غيره من النبياء س ّ
خطارة شأنهم. َ ل العقلء على عظيم قدرهم و َ ما شاء من أنواع الجمادات لتد ّ
أنزل الله التوراة على موسى محتوية على الشرائع التي تناسب أهل ذاك
وه فيها بذكر كثيرٍ من النبياء الذين علم الله أنه سيرسلهم ،فمما الزمن ،ون ّ
ً
جاء فيها تبشيرا برسولنا الكريم خطابا لسّيدنا موسى عليه السلم» :وسوف ً
ُأقيم لهم نبي ّا ً مثلك من بين إخوتهم وأجعل كلمي في فمه ويكلمهم بكل
ن لم ي ُط ِعْ كلمه الذي يتكلم به باسمي فأنا الذي أنتقم م ْ
شيء آمره به ،و َ
ي بالكبرياء ويتكلم باسمي بما لم آمره به أو منه ،فأما النبي الذي يجترىء عل ّ
ت أن تميز بين النبي الصادق والكاذب باسم آلهة أخرى فليقتل ،وإذا أحبب َ
ن ما قاله ذلك النبي باسم الرب ولم يحدث فهو كاذب يريد فهذه علمتك :إ ّ
تعظيم نفسه ولذلك ل تخشاه« .ويقول اليهود إن هذه البشارة ليوشعبن نون
دة المسيح نبي ّا ً آخر خليفة موسى عليه السلم ،مع أنهم كانوا ينتظرون في م ّ
غير المسيح ،فإنهم أرسلوا ليوحنا المعمدان )يحيى( يسألونه عن نفسه
فقالوا له :أنت إيليا؟ فقال :ل ،فقالوا أنت المسيح؟ فقال :ل ،فقالوا أنت
النبي؟ فقال :ل ،فقالوا ما بالك إذا ً ت َُعمد ُ إذا كنت لست إيليا ول المسيح ول
ت حتى ل على أن التوراة تبشر بإيليا والمسيح ونبي لم يأ ِ النبي؟ فهذه تد ّ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
صت زمن المسيح ،ثم إن التوراة تقول في صفة النبي إنه مثل موسى ،وقد ن ّ
فر التثنية على أنه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثل موسى ،وورد في آخر س ْ
ه ذلك في في هذه البشارة أن النبي الذي يفتري على الله ُيقتل ،وي ُ ْ
شب ُ
ل)(44 ْ
ض الَقاِوي ِ ل عَل َي َْنا ب َعْ َقو ّ َ القرآن قوله تعالى في سورة الحاقة} :وَل َوْ ت َ َ
س{ن الّنا ِ م َك ِ م َص ُ ن)َ (46والل ّ ُ
ه ي َعْ ِ ه ال ْوَِتي َ قط َعَْنا ِ
من ْ ُ م لَ َ ن) (45ث ُ ّ ه ِبال ْي َ ِ
مي ِ خذ َْنا ِ
من ْ ُ ل َ
)المائدة (67 :أكان يعجز الله ــــ وهو القادر على كل شيء ــــ أن يعاقب
َ
قوُلو َ
ن م يَ ُ
من ينسب إليه ما لم يقله وهو الذي قال في سورة الشورى} :أ ْ
كم عََلى قَل ْب ِ َ خت ِ ْ شإ ِ الل ّ ُ
ه يَ ْ ذبا ً فَِإن ي َ َ
افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َ ِ
سلم رضي الله عنه وهو الذي كان رئيس اليهود وروي مثله عن عبد اللهبن َ
مه الرياسة حتى يترك الدين القويم ،وكذلك كعب الحبار .وفي بعض فلم ت ُعْ ِ
ُ
وال للخنا ،أسدده لكل جميل، ب في السواق ول ق ّ خا ٍ
ص ّ
طرق الحديث» :ول َ
وأهب له كل خلق كريم ،وأجعل السكينة لباسه ،والبّر شعاره ،والتقوى
ضميره ،والحكمة مقوله ،والصدق والوفاء طبيعته ،والعفو والمعروف خلقه،
والعدل سيرته ،والحق شريعته ،والهدى إمامه ،والسلم مّلته ،وأحمد اسمه،
أهدي به بعد الضللة ،وأعّلم به بعد الجهالة ،وأرفع به بعد الخمالة ،وُأسمي به
بعد النكرة ،وُأكّثر به بعد القّلة ،وُأغني به بعد العَْيلة ،وأجمع به بعد الفرقة،
وُأؤّلف به بين قلوب مختلفة ،وأهواء متشتتة ،وأمم متفرقة ،وأجعل أمته خير
أمة ُأخرجت للناس« .وقد أخبر عليه الصلة والسلم عن صفته في التوراة
فقال ــــ وهو الصادق المين ــــ :عبدي أحمد المختار مولده مكة ومهاجره
مادون الله على كل حال. المدينة ــــ أو قال :ط َْيبة ــــ وأمته الح ّ
تبشير النجيل
شر عيسى عليه السلم قومه في النجيل بالفارقليط ومعناه قريب من ب ّ
دقه في القرآن قول الله تعالى في سورة الصف :وَإ ِذ ْ محمد أو أحمد ويص ّ
ن
ما ب َي ْ َ ّ ً
دقا ل َ
ص ّ
م َ ُ َ ّ
ل اللهِ إ ِلي ْكم ّ سو ُ ل إ ِّنى َر ُسراءي َ م ياب َِنى إ ِ ْمْري َ َ ن َسى اب ْ ُ عي َ ل َِقا َ
َ ْ
د{ )الصف(6 : م ُ
ح َ هأ ْ م ُ
س ُ دى ا ْمن ب َعْ ِل ي َأِتى ِ سو ٍ شرا ً ب َِر ُ
مب َ ّن الت ّوَْراةِ وَ ُم َ
ي َد َىّ ِ
وقد وصف المسيح هذا الفارقليط بأوصاف ل تنطبق إل على نبّينا فقال :إنه
يوبخ العالم على خطيئته ،وإنه يعّلمهم جميع الحق لنه ليس ينطق من عنده
بل يتكلم بكل ما يسمع ،وهذا ما ورد في القرآن الكريم في سورة النجم:
حى)) { (4النجم 3 :ــــ (4وقد ى ُيو َح ٌن هُوَ إ ِل ّ وَ ْوى) (3إ ِ ْ ن ال ْهَ َ
ما َينط ِقُ عَ ِ }وَ َ
ورد في إنجيل برنابا ــــ الذي ظهر منذ زمن قريب وأخفته حجب الجهالة ــــ
ذكُر اسم الرسول عليه الصلة والسلم صراحة.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وهذا يسهل لك فهم الحركة العظيمة من الحبار والرهبان قبيل البعثة فكان
دث عاصمبن اليهود يستفتحون على عرب المدينة برسول منتظر .فقد ح ّ
عمربن قتادة عن رجال من قومه ،قالوا :إنما دعانا للسلم ــــ مع رحمة الله
ب أوثانشرك وأصحا َ حبار َيهود ،كنا أهل ِ
تعالى لنا ــــ ما كنا نسمع من أ ْ
وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت ل تزال بيننا وبينهم شرور ،فإذا
نلنا منهم بعض ما يكرهون ،قالوا لنا :قد تقارب زمان نبي ُيبعث الن ،نقتلكم
معه قتل عاد وإرم .فكثيرا ً ما نسمع ذلك منهم .فلما بعث الله رسوله محمدا ً
جْبنا حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به ،فبادرناهم إليه فآمّنا أ َ
وكفروا .وإنما قال لهم اليهود نقتلكم معه قتل عاد وإرم لن من صفته عليه
ي يستأصل المشركين بالقوة ،ولم الصلة والسلم في كتبهم أن هذا النب ّ
ن الحسد والبغي سيتمكنان من أفئدتهم فينبذون الدين القّيم َ
يكونوا يظنون أ ّ
صر فيحقّ عليهم العذاب في الدنيا والخرة .وكان أمّيةبن أبي الصلت المتن ّ
دث ّ وح العربي كثيرا ً ما يقول :إني لجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلدنا.
سلمان الفارسي رضي الله عنه عن نفسه أنه صحب قسيسا ً فكان يقول له:
يا سلمان إن الله سوف يبعث رسول ً اسمه أحمد ،يخرج من جبال تهامة،
علمته أنه يأكل الهدية ول يأكل الصدقة ،وهذا الحديث كان من أسباب إسلم
ن كتابه إل
سلمان .ولما راسل عليه الصلة والسلم ملوك الرض لم ي ُهِ ْ
كسرى الذي ليس عنده علم من الكتاب ،وأما جميع ملوك النصارى
كالنجاشي ملك الحبشة ،والمقوقس ملك مصر ،وقيصر ملك الروم ،فأكرموا
وَِفاد َة َ رسله .ومنهم من آمن كالنجاشي ،ومنهم من رد ّ رد ّا ً لطيفا ً وكاد يسلم
لول غلبة الملك كقيصر ،ومنهم من هادى كالمقوقس ،ولم يكن عليه الصلة
م ما ذاك إل لنهم يعلمون أن ب بها هؤلء الملوك الله ّ وة ُيرهِ ُوالسلم في ق ّ
شر برسول يأتي من بعده ،ووافقت صفات رسولنا ما المسيح عليه السلم ب ّ
عندهم
بدء الوحي
ما بلغ عليه الصلة والسلم سن الكمال وهي أربعون سنة أرسله الله ل ّ
للعالمين بشيرا ً ونذيرا ً لُيخرجهم من ُ
ظلمات الجهالة إلى نور العلم وكان ذلك
في أول فبراير سنة 610من الميلد كما أوضحه المرحوم محمود باشا
ن ذلك كان في 17رمضان سنة 13قبل َ
الفلكي ،تبين بعد دقة البحث أ ّ
الهجرة وذلك يوافق يوليو سنة .610وأول ما بدىء به الوحي الرؤيا
الصادقة ،فكان ل يرى رؤيا إل جاءت مثل َفلق الصبح ،وذلك لما جرت به
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
عادة الله في خلقه من التدريج في المور كلها حتى تصل إلى درجة الكمال.
مَلك لول مرة ،ثم حّبب إليه ومن الصعب جدا ً على البشر تلقي الوحي من ال َ
عليه الصلة والسلم الخلء ،ليبتعد عن ظ ُُلمات هذا العالم وينقطع عن الخلق
حراء فيتعّبد فيه
إلى الله فإن في العزلة صفاَء السريرة .وكان يخلو بغار ِ
الليالي ذوات العدد ،فتارة عشرًا ،وتارة أكثر إلى شهر .وكانت عبادته على
دين أبيه إبراهيم عليه السلم ويأخذ لذلك زاده ،فإذا فرغ رجع إلى خديجة
فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ،فبينما هو قائم في بعض
اليام على الجبل إذ ْ ظهر له شخص ،وقال :أبشر يا محمد أنا جبريل ،وأنت
رسول الله إلى هذه المة .ثم قال له :اقرأ ،قال :ما أنا بقارىء ،فإنه عليه
ل .فأخذه فغطه بالنمط الذي كان ي لم يتعلم القراءة قب ً
الصلة والسلم أم ّ
ينام عليه حتى بلغ منه الجهد ،ثم أرسله ،فقال :اقرأ .قال :ما أنا بقارىء.
طه ثانية ثم أرسله ،فقال :اقرأ .قال :ما أنا بقارىء ،فأخذه فغ ّ
طه فأخذه فغ ّ
الثالثة ،ثم أرسله
فترة الوحي
دة لم يتفق عليها المؤرخون ،وأرجح أقوالهم فيها أربعون يوماً، وَفَت ََر الوحي م ّ
ليشتد ّ شوق الرسول للوحي ،وقد كان ،فإن الحال اشتد ّ به عليه الصلة
ً
والسلم حتى صار كلما أتى ذروة جبل بدا له أن يرمي نفسه منها ،حذرا من
قطيعة الله له بعد أن أراهُ نعمته الكبرى ،وهي اختياره لن يكون واسطة بينه
حقًا ،فيطمئن خاطره ل :أنت رسول الله َدى له المَلك قائ ً
وبين خلقه ،فيتب ّ
ما عزم عليه ،حتى أراد الله أن يظهر للوجود نور الدين فعاد إليه ويرجع ع ّ
الوحي.
عود الوحي
مَلك الذي فبينما هو يمشي إذ سمع صوتا ً من السماء فرفع إليه بصره ،فإذا ال َ
كر ما فعله في المرة حراء جالس بين السماء والرض ،فُرعب منه لتذ ّ جاءه ب ِ
مد ّث ُّر) ْ َ
الولى فرجع وقال :دثروني ،دثروني .فأنزل الله تعالى عليه} :يأي َّها ال ُ
مُننجْر) (5وَل َ ت َ ْ ك فَط َهّْر)َ (4والّر ْ
جَز َفاهْ ُ م فََأنذِْر) (2وََرب ّ َ
ك فَك َب ّْر) (3وَث َِياب َ َ (1قُ ْ
صب ِْر)(7 ك َفا ْ ست َك ْث ُِر) (6وَل َِرب ّ َ
تَ ْ
الدعوة سّرا
جفاة ل دين لهم ،إل فقام عليه الصلة والسلم بالمر ودعا لعبادة الله أقواما ً ُ
أن يسجدوا لصنام ل تنفع ول تضر ،ول حجة لهم أل أنهم مت ِّبعون لما كان
يعبد آباؤهم ،وليس عندهم من مكارم الخلق إل ما كان مرتبطا ً بالعّزة
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وال ََنفة ،وهو الذي كثيرا ً ما كان سببا ً في الغارات والحروب وإهراق الدماء،
فجاءهم رسول الله بما ل يعرفونه .فذوو العقول السليمة بادروا إلى
مته الرياسة أدبر واستكبر كيل ُتسَلب منه التصديق وخلع الوثان ،ومن أعْ َ
طع عليه نور السلم خديجة بنت خويلد َزوجه، س َ
عظمته .وكان أول من َ
مقيما عنده ُيطعمه ويسقيه ويقوم بأمره، ً وعليبن أبي طالب ابن عمه ،وكان ُ
قل كثير الولد ،فقال ّ لن قريشا ً كانوا قد أصابتهم مجاعة ،وكان أبو طالب ُ
م ِ
مه العباسبن عبد المطلب »إن أخاك أبا طالب كثير عليه الصلة والسلم لع ّ
فف من عياله ،تأخذ العيال ،والناس فيما ترى من الشدة ،فانطلق بنا إليه لنخ ّ
واحدًا ،وأنا واحدًا« ،فانطلقا وعرضا عليه المر ،فأخذ العباس جعفربن أبي
طالب ،وأخذ عليه الصلة والسلم علي ًّا ،فكان في كفالته كأحد أولده إلى أن
وة وقد ناهز الحتلم ،فكان تابعا ً للنبي في كل أعماله ،ولم يتدنس جاءت النب ّ
بد ََنس الجاهلية من عبادة الوثان ،واّتباع الهوى ،وأجاب أيضا ً زيدبن حارثةبن
شرحبيل الكلبي ،موله عليه الصلة والسلم ،وكان ُيقال له زيدبن محمد ،لنه
لما اشتراه أعتقه وتبّناه ،وكان المتبّنى معتبرا ً كابن حقيقي يرث ويورث،
ُ
ن أجابه من غير م ْ
م أيمن حاضنته التي زّوجها لموله زيد .وأول َ وأجابت أيضا ً أ ّ
أهل بيته أبو بكربن أبي قحافةبن عامربن عمروبن كعببن سعدبن ت َْيمبن مّرة
التيمي القرشي ،كان صديقا ً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النب ّ
وة
يعلم ما اّتصف به من مكارم الخلق ولم ي َْعهد عليه كذبا ً منذ اصطحبا ،فأّول
ما أخبره برسالة الله أسرع بالتصديق ،وقال :بأبي أنت وأمي ،أهل الصدق
أنت ،أشهد أن ل إله
ظما ً في قريش على إل ّ الله وأنك رسول الله .وكان رضي الله عنه صدرا ً مع ّ
ف الناس ،سخيًا ،يبذل المال، سعة من المال وكرم الخلق ،وكان من أع ّ
محببا ً في قومه ،حسن المجالسة ،ولذلك كله كان من رسول الله صلى الله
عليه وسلم بمنزلة الوزير ،فكان يستشيره في أموره كلها ،وقال في حقه:
»ما دعوت أحدا ً إلى السلم إل كانت له كبوة غير أبي بكر« .وكانت الدعوة
إلى السلم سّرا ً حذرا ً من مفاجأة العرب بأمر شديد كهذا ،فيصعب
ن يثق به .ودعا أبو بكر م ْ
استسلمهم ،فكان عليه الصلة والسلم ل يدعو إل َ
ن يثق به من رجال قريش ،فأجابه جمع منهم :عثمانبن عفانبن م ْ
إلى السلم َ
أبي العاصبن أميةبن عبد شمسبن عبد مناف الموي القرشي ،ولما علم عمه
م بإسلمه ،أوثقه كتافا ً وقال :ترغب عن دين آبائك إلى دين مستحدث؟ حك َ ُ
ال َ
ُ
والله ل أحّلك حتى تدع ما أنت عليه ،فقال عثمان :والله ل أدعه ول أفارقه.
فلما رأى الحكم صلبته في الحق تركه ،وكان كهل ً يناهز الثلثين من عمره.
وامبن خويلدبن أسدبن عبد العزىبن قصي القرشي ،وأمه ومنهم :الزبيربن الع ّ
م الزبير يرسل الدخان عليه وهو مقيد صفية بنت عبد المطلب ،وكان ع ّ
ً
واه الله بالثبات ،وكان شابا ل يتجاوز سن الحتلم. ليرجع إلى دين آبائه ،فق ّ
ومنهم :عبد الرحمانبن عوفبن عبد عوفبن الحارثبن زهرةبن كلب القرشي
ماه عليه الصلة والسلم
الهاشمي ،وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو فس ّ
عبد الرحمان.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ومنهم :سعدبن أبي وقاص مالكبن ُأهيببن عبد منافبن زهرةبن كلب الزهري
ة بنت أبي سفيانبن أمية بإسلمه قالت له :يا من َ ُ
ح ْ
القرشي .ولما علمت أمه َ
ن ّ
سعد بلغني أنك قد صبأت ،فوالله ل يظلني سقف من الحر والبرد ،وإ ّ
ي حرام حتى تكفر بمحمد .وبقيت كذلك ثلثة أيام فجاء الطعام والشراب عل ّ
سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه أمر أمه فنزل في ذلك
سنا ً ح ْ وال ِد َي ْهِ ُ
ن بِ َسا َ تعليما ً قول الله تعالى في سورة العنكبوت :وَوَ ّ
صي َْنا ال ِن ْ َ
ُ م فَل َ ت ُط ِعْهُ َ َ
م فَأن َب ِئ ُ ُ
كم جعُك ُ ْمْر ِ ى َمآ إ ِل ُ ّ عل ْ ٌ س لَ َ
ك ب ِهِ ِ ما ل َي ْ َ شرِ َ
ك ِبى َ ك ل ِت ُ ْ دا َ جاهَ َ وَِإن َ
ق
ن أشرك ،فأجازيكم ح ّ م ْن) (8ـ ف { من آمن منكم و َ ملو َ ُ م ت َعْ َ ما ُ
كنت ُ ْ بِ َ
جزائكم .وفي ختام هذه الية فائدتان :التنبيه على أن الجزاء إلى الله فل
ض على الثبات في الدين لئل ينال دث نفسك بجفوتهما لشراكهما ،والح ّ تح ّ
شّر الجزاء في الخرى.
ومنهم :طلحةبن عبيد اللهبن عثمانبن عمروبن كعببن سعدبن تيمبن مّرة
التيمي القرشي وقد كان عََرف من الرهبان ذكَر الرسول وصفته ،فلما دعاه
ماأبو بكر وسمع من رسول الله ما نفعه الله به ،ورأى الدين متينا ً بعيدا ً ع ّ
العرب من المثالب ،بادر إلى السلمh.
ماربن ياسر وممن سبقوا إلى السلم :صهيب الرومي وكان من الموالي ،وع ّ
ت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما العنسي وقد قال رضي الله عنه :رأي ُ
معه إل خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر وكذلك أسلم أبوه ياسر وأمه سمّية.
ركي مش ِ ومن السابقين الولين :عبد اللهبن مسعود ،كان يرعى الغنم لبعض ُ
قريش ،فلما رأى اليات الباهرة وما يدعو إليه عليه السلم من مكارم
الخلق ،ترك عبادة الوثان ولزم رسول الله ،وكان رضي الله عنه كثير
الدخول على الرسول ل ُيحجب ،ويمشي أمامه ،ويستره إذا اغتسل ،ويوقظه
ه نعليه إذا قام ،فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه. إذا نام ،وُيلبس ُ
ومن السابقين الّولين :أبو ذر الِغفاري وكان من أعراب البادية فصيحا ً حلو
مب َْعث رسول الله قال لخيه :اركب إلى هذا الوادي فاعلم الحديث ،ولما بلغه َ
لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء ،واسمع من
قوله ،ثم ائتني .فانطلق الخ حتى قدم مكة وسمع من قول الرسول صلى
الله عليه وسلم ثم رجع إلى أبي ذر فقال :رأيته يأمر بمكارم الخلق ويقول
كلما ً ما هو بالشعر ،فقال :ما شفيتني مما أردت .فتزوّد َ وحمل ِقربة له فيها
م مكة فأتى المسجد ،فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ول ماء ،حتى قَدِ َ
ن يخاطب م ْ
ره أن يسأل عنه لما يعرفه من كراهة قريش لكل َ يعرفه ،وك َ ِ
ي فعرف أنه غريب فأضافه عنده، رسول الله ،حتى إذا أدركه الليل رآه عل ّ
ولم يسأل أحد منهما صاحبه عن شيء )على قاعدة الضيافة عند العرب ل
ح احتمل ِقربته وزاده ُيسأل الضيف عن سبب قدومه إل بعد ثلث( فلما أصب َ َ
إلى المسجد وظل ذلك اليوم ول يراه الرسول حتى أمسى ،فعاد إلى
ي فقال :أما آن للرجل أن يعرف منزله الذي ُأضيف به مضجعه ،فمّر به عل ّ
بالمس؟ فأقامه ،فذهب معه ل يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء ،حتى إذا
دثني ما الذي ي مثل ذلك ،ثم قال له علي :أل تح ّ كان اليوم الثالث عاد عل ّ
ً ً
ك؟ قال :إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت ،ففعل فأخبره ،قال: م َ
أقد َ
ً
فإنه حق ،وهو رسول الله ،فإذا أصبحت فاتبعني ،فإني إن رأيت شيئا أخافه
خلي ففعل. ت فاتبعني حتى ندخل مد َ عليك قمت كأني أريق الماء ،فإن مضي ُ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
فانطلق يتبع أثره حتى دخل على النبي ،ودخل معه ،فسمع من قوله ،وأسلم
مكانه ،فقال له النبي صلى الله عليه وسلم» :ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى
ن بها بين َ
ظهرانيهم .فخرج يأتيك أمري« ،قال :والذي نفسي بيده لصرخ ّ
حتى أتى المسجد ،فنادى بأعلى صوته :أشهد أن ل إله إل الله وأن محمدا ً
ب عليه
رسول الله .فقام القوم فضربوه حتى أضجعوه ،وأتى العباس فأك ّ
وقال :ويلكم أوََلست ُ
م تعلمون أنه من
ِغفار ،وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليه؟ فأنقذه منهم ،ثم عاد من الغد
ب العباس عليه .رواه البخاري .وكان رضي لمثلها ،فضربوه وثاروا إليه ،فأك ّ
الله عنه من أصدق الناس قو ً
ل ،وأزهدهم في الدنيا.
ومن السابقين :سعيدبن زيد العدوي القرشي ،وَزوجه فاطمة بنت الخطاب
أخت عمر ،وُأم الفضل ُلبابة بنت الحارث الهللية ،زوج العباسبن عبد
عبيدةبن الحارثبن عبد المطلببن هاشم ،ابن عم رسول الله صلى المطلب ،و ُ
الله عليه وسلم ،وأبو سلمة عبد اللهبن عبد السد المخزومي القرشي ابن
عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وزوجه أم سلمة ،وعثمانبن مظعون
الجمحي القرشي ،وأخواه ُقدامة ،وعبد الله ،والرقمبن أبي الرقم
المخزومي القرشي.
ومن السابقين الّولين :خالدبن سعيدبن العاصبن أميةبن عبد شمس الموي
م قرشي إجلل ً له ،وكان
م لم يعت ّ
القرشي ،كان أبوه سيد قريش إذا اعت ّ
خالدبن سعيد قد رأى في منامه أنه سيقع في هاوية ،فأدركه رسول الله
م تدعو يا محمد؟ قال» :أدعوك إلى عبادة وخّلصه منها فجاء إليه وقال :إل َ
الله وحده ل شريك له ،وأن تخلع ما أنت عليه من عبادة حجر ل يسمع ول
يبصر ول يضّر ول ينفع ،والحسان إلى والديك ،وأن ل تقتل ولدك خشية
الفقر ،وأن ل تقرب الفاحشة ما ظهر منها وما بطن ،وأن ل تقتل نفسا ً حّرم
ده،الله إل بالحق ،وأن ل تقرب مال اليتيم إل بالتي هي أحسن حتى يبلغ أش ّ
وأن توفي الكيل والميزان بالقسط ،وأن تعدل في قولك ولو حكمت على
ذوي قرباك ،وأن توفي لمن عاهدت« فأسلم رضي الله عنه ،وحينئذٍ غضب
عليه أبوه وآذاه حتى منعه القوت ،فانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ،فكان يلزمه ويعيش معه ،ويغيب عن أبيه في ضواحي مكة ،وأسلم
بعده أخوه عمروبن سعيد.
وهكذا دخل هؤلء الشراف في دين السلم ،ولم يكن مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم سيف يضرب به أعناقهم حتى يطيعوه صاغرين ،وليس معه
ما يرغب فيه حتى يترك هؤلء العظماء آباءهم ،وذوي الثروة منهم ،ويتبعوا
الرسول ليأكلوا من فضل ماله ،بل كان الكثير منهم واسع الثروة أكثر منه
عليه الصلة والسلم كأبي بكر وعثمان وخالدبن سعيد وغيرهم ،والذين
قات مع اّتباع الرسول ،بحيث اّتبعوه من الموالي اختاروا الذى والجوع والمش ّ
م ليس ذلك لو اتبعوا سادتهم لكانوا في هذه الدنيا أهدأ بال ً وأنعم عيشة ،الله ّ
إل من هداية الله وسطوع أنوار الدين عليهم ،حتى أدركوا ما هم عليه من
الضللة وما عليه رسول الله من الهدى.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
الجهر بالتبليغ
مضت كل هذه المدة والنبي عليه الصلة والسلم ل ُيظهر الدعوة في مجامع
كنون من إظهار عبادتهم حذرا ً من قريش العمومية ،ولم يكن المسلمون يتم ّ
شعاب مكة يصّلي ل من أراد العبادة ذهب إلى ِ تعصب قريش ،فكان ك ّ
ما دخل في الدين ما يربو على الثلثين ،وكان من اللزم اجتماع مستخفيًا ،ول ّ
الرسول بهم ليرشدهم ويعّلمهم ،اختار لذلك دار الرقمبن أبي الرقم ــــ وهو
من ذكرنا إسلمهم ــــ ومكث عليه الصلة والسلم يدعو سّرا ً حتى نزل م ّ
ْ َ
ن) كي َ شرِ ِ م ْن ال ُ ض عَ ِ مُر وَأعْرِ ْ ما ت ُؤْ َ صد َع ْ ب ِ َ حجرَ :فا ْ عليه قوله تعالى في سورة ال ِ
َ َ ً َ َ
ه
مَرأت ُ ُ ب)َ (3وا ْ ت لهَ ٍ صلى َنارا َذا َ سي َ ْب)َ (2 س َ َ
ما ك َ ه وَ َ مال ُ ُ ه َ مآ أغَْنى عَن ْ ُ َ (1) (94
َ َ
ن) ْ َ
شيَرت َك القَْرِبي َ د) (5وَأنذِْر عَ ِ س ٍم َ من ّ ل ّ حب ْ ٌ ها َ جيدِ َ ب)ِ (4فى ِ حط ِ ة ال ْ َ
مال َ َح َّ
َ
صوْك{ ن عَ َ َ
ن) (215فإ ِ ْ مِني َ مؤ ْ ِ ْ
ن ال ُ م َ َ
ن ات ّب َعَك ِ َ
م ِ حك ل ِ َ جَنا َ
ض َف ْ خ َِ (214وا ْ
مام ّرىء ّ قل إ ِّنى ب َ ِ ْ َ
)الشعراء (216 ،215 :أي :العشيرة والقربون }ف ُ
ن{ )الشعراء (216 :فجمعهم عليه الصلة والسلم وقال لهم» :إن مُلو َ ت َعْ َ
ت ُ غرر ولو كذبتكم، ما ً ا جميع الناس تُ كذب لو والله أهله، يكذب ل الرائد
الناس جميعا ً ما غررتكم ،والله الذي ل إله إل هو إني لرسول الله إليكم
ن كما تستيقظون، ن كما تنامون ،ولُتبعث ُ ّ خاصة ،وإلى الناس كافة ،والله لتموت ُ ّ
ن بالحسان إحسانًا ،وبالسوء سوءًا ،وإّنها لجّنة ن بما تعملون ،ولتجزوُ ّ حاسب ّ ولت ُ َ
أبدا ً أو لنار أبدًا« .فتكلم القوم كلما ً لّينا ً غير عمه أبي لهب الذي كان خصما ً
لدودا ً فإنه قال :خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب ،فإن أسلمتموه
إذا ً ذللتم ،وإن منعتموه ُقتلتم ،فقال أبو طالب :والله لنمنعنه ما بقينا ،ثم
انصرف الجمع.
ن) دو َشْيئا ً وَل َ ي َهْت َ ُن َ مو َ م ل َ ي َعْل َ ُ ن ءاَباؤُهُ ْ جد َْنا عَل َي ْهِ ءاَباءَنآ أ َوَل َوْ َ
كا َ ما وَ َ سب َُنا َح َْ
ل ب َي ْن َ ُ َ ْ ّ ً َ َ َ َ َ
كم جعَ َ سك ُُنوا إ ِلي َْها وَ َ م أْزواجا لت َ ْ سك ُ ْف ِ ن أن ُ م ْ كم ّخل ق َ ل ُ ن َ ن ءاَيات ِهِ أ ْ م ْ (104وَ ِ
هآمت َْرُفو َ ن)َ (21قا َ
ل ُ فكُرو َ ّ قوْم ٍ ي َت َ َ ّ
تل َ ك لَيا ٍ ن ِفى ذ َل ِ َ ة إِ ّم ًح َموَد ّة ً وََر ْ ّ
ُ
ن{ )الزخرف .(23 :ولما دو َ قت َ ُ
م ْ
هم ّ مةٍ وَإ ِّنا عََلى ءاَثارِ ِ جد َْنآ ءاَبآءَنا عََلى أ ّ إ ِّنا وَ َ
دالة على التعصب والعناد شّبههم بمن قبلهم من المم في هذه المقالة ال ّ
ْ ُ ْ ُ َ قال} :قُ ْ َ
ه
م بِ ِسلت ُ ْمآ أْر ِ م عَل َي ْهِ ءاَبآءك ُ ْ
م َقالوا إ ِّنا ب ِ َ جدت ّ ْ
ما وَ َ
م ّ
دى ِ م ب ِأهْ َ ل أوَل َوْ ِ
جئ ْت ُك ُ ْ
ن)(24 كافُِرو ََ
اليذاء
ً
دة ،خصوصا إذا ذهب
ورأى رسول الله من المشركين كثير الذى وعظيم الش ّ
مواإلى الصلة عند البيت ،وكان من أعظمهم أًذى لرسول الله جماعة س ّ
لكثرة أذاهم بالمستهزئين.
دهم :أبو جهل عمروبن هشامبن المغيرة المخزومي القرشي، فأّولهم وأش ّ
ن محمدا قد أتى ما ترون من عيب دينكم وشتم ً قال يومًا :يا معشر قريش إ ِ ّ
ن له غدا ً بحجر ُ
ب آبائكم ،إني أعاهد الله َلجلس ّ آلهتكم ،وتسفيه أحلمكم ،وس ّ
موني عند ذلك أو سل ِ ُ
ت به رأسه فأ ْ ضخ ُ ل أطيق حمله ،فإذا سجد في صلته ر َ
امنعوني ،فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم ،فلما أصبح أخذ حجرا ً
كما وصف ،ثم جلس لرسول الله ينتظره ،وغدا عليه الصلة والسلم كما كان
عل ،فلما سجد يغدو إلى صلته ،وقريش في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فا ِ
عليه الصلة والسلم احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه ،حتى إذا دنا منه
رجع منهزما ً منتقعا ً لونه من الفزع ورمى حجره من يده .فقام إليه رجال من
كم؟ قال :قمت إليه لفعل ما قلت لكم ،فلما ح َ ك يا أبا ال َ قريش فقالوا :ما ل َ
م بي أن ط هَ ّ دنوت منه عرض لي فحل من البل والله ما رأيت مثله ق ّ
يأكلني ،فلما ُذكر ذلك لرسول الله قال :ذاك جبريل ولو دنا لخذه .وكان أبو
جهل كثيرا ً ما ينهى الرسول عن صلته في البيت فقال له مرة بعد أن رآه
يصلي :ألم أنهك عن هذا؟ فأغلظ له رسول الله القول وهدده ،فقال:
أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا؟ فأنزل الله تهديدا ً له في آخر سورة اقرأ:
ه)ة) (16فَل ْي َد ْع ُ َنادِي َ ُ خاط ِئ َ ٍ
كاذِب َةٍ َ صي َةٍ َ
ة)َ (15نا ِ صي َ ِفعا ً ِبالّنا ِ م َينت َهِ ل َن َ ْ
س َ ك َل ّ ل َِئن ل ّ ْ
ه)(19 رب َنادِي َ ُ جد ْ َواقْت َ ِس ُه َوا ْة) (18ك َل ّ ل َ ت ُط ِعْ ُ سن َد ْعُ الّزَبان ِي َ َ
َ (17
ومن أذيته للرسول ما حكاه عبد اللهبن مسعود من رواية البخاري قال :كنا
مع رسول الله في المسجد وهو يصلي ،فقال أبو جهل :أل رجل يقوم إلى
فَْرث جزور بني فلن فيلقيه على محمد وهو ساجد؟ فقام عقبةبن أبي
مَعيطبن أبي عمروبن أميةبن عبد شمس ،وجاء بذلك الفرث ،فألقاه على ُ
النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد ،فلم يقدر أحد من المسلمين الذين
كانوا بالمسجد على إلقائه عنه لضعفهم عن مقاومة عدوهم ،ولم يزل عليه
الصلة والسلم ساجدا ً حتى جاءت فاطمة بنته فأخذت القذر ورمته .فلما قام
م عليك بالمل من قريش« ن صنع هذا الصنع القبيح فقال» :الله ّ
م ْ
دعا على َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ومما حصل لرسول الله مع أبي جهل أن هذا ابتاع أجمال ً من رجل يقال له
الراشي فمطله بأثمانها فجاء الرجل مجمع قريش يريد منهم مساعدة على
أخذ ماله ،فدّلوه على رسول الله لُينصفه من أبي جهل استهزاء لما يعلمونه
من أفعال ذلك الشقي بالرسول ،فتوجه الرجل إليه وطلب منه المساعدة
ن هذا؟ قال :محمد، م ْ
على أبي جهل فخرج معه حتى ضرب عليه بابه فقالَ :
ح ط هذا حقه ،فقال أبو جهل :ل تبر ْ فخرج منتقعا ً لونه فقال له الرسول :أع ِ
حتى تأخذه ،فلم يبرح الرجل حتى أخذ د َْينه ،فقالت قريش :ويلك يا أبا الحكم
ي بابي حتى ما رأينا مثل ما صنعت قال :ويحكم والله ما هو إل أن ضرب عل ّ
سمعت صوته فملئت منه رعبًا ،ثم خرجت إليه وإن فوق رأسي فحل ً من
لبل ما رأيت مثله.ا ِ
م رسول الله كان أشد ّ ومن جماعة المستهزئين :أبو لهببن عبد المطلب ،ع ّ
ً
عليه من الباعد ،فكان يرمي القذر على بابه لنه كان جارا له ،فكان الرسول
يطرحه ويقول :يا بني عبد مناف أيّ جوار هذا؟ وكانت تشاركه في قبيح
ُ
ب رسول الله، م جميل بنت حرببن أمية ،فكانت كثيرا ً ما تس ّ عمله زوجه أ ّ
وتتكلم فيه بالنمائم ،وخصوصا ً بعد أن نزل فيها وفي زوجها سورة أبي لهب.
معيط كان الجار الثاني لرسول الله ،وكان عقبةبن أبي ُ ومن المستهزئينُ :
يعمل معه كأبي لهب ،صنع مرة وليمة ودعا لها كبراء قريش وفيهم رسول
الله فقال عليه الصلة والسلم» :والله ل آكل طعامك حتى تؤمن بالله«،
جمحي القرشي ،وكان صديقا ً له فقال :ما ُ
فتشّهد فبلغ ذلك أبّيبن خلف ال ُ
شيء بلغني عنك؟ قال :ل شيء ،دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل
طعامي حتى أشهد له ،فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم َيطعم فشهدت له.
ي :وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا ً فلم تطأ عنقه ،وتبزق في ُ
قال أب ّ
وجهه ،وتلطم عينه ،فلما رأى عقبة رسول الله فعل به ذلك فأنزل الله فيه
ع
م َت َ خذ ْ ُ ل يال َي ْت َِنى ات ّ َ قو ُ م عََلى ي َد َي ْهِ ي َ ُ ظال ِ ُ ض ال ّ م ي َعَ ّ في سورة الفرقان :وَي َوْ َ
ّ َ ّ ً َ
ن
ضلِنى عَ َ ِ قد ْ أ َ خِليل) (28ل َ ً َ
خذ ْ فلنا َ ُ م أت ّ ِ ل) (27ياوَي ْل ََتا لي ْت َِنى ل ْ
َ َ سِبي ً ل َ سو ِ الّر ُ
ُ َ َ َ
جل أن ً ن َر ُ قت ُلو َ خذول) (29أت َ ْ ً ُ ن َ سا ِ ن ل ِل ِن ْ َ ن الشي ْطا ُ ّ جآءِنى وَكا َ الذ ّك ْرِ ب َعْد َ إ ِذ َ
ْ
م{ )غافر.(28 : من ّرب ّك ُ ْ ت ِ م ِبال ْب َي َّنا ِ جآءك ُ ْ ه وَقَد ْ َ ى الل ّ ُ ل َرب ّ َ قو َ يَ ُ
ومن جماعة المستهزئين :العاصبن وائل السهمي القرشي والد عمروبن
العاص ،كان شديد العداوة لرسول الله ،وكان يقول :غّر محمد أصحابه أن
يحيوا بعد الموت ،والله ما يهلكنا إل الدهر ،فقال الله رد ّا ً عليه في دعواه في
ما ي ُهْل ِك َُنآ إ ِل ّ الد ّهُْر حَيا وَ َ ت وَن َ ْ مو ُ حَيات َُنا الد ّن َْيا ن َ ُ ى إ ِل ّ َ َ ما هِ سورة الجاثية} :وََقاُلوا ْ َ
َ َ
فَر ب َِئاَيات َِنا وََقا َ
ل ذى ك َ َ ت ال ّ ِ ن) (24أفََرأي ْ َ م إ ِل ّ ي َظ ُّنو َ ن هُ ْ عل ْم ٍ إ ِ ْ ن ِ م ْ ك ِ م ب ِذ َل ِ َ ما ل َهُ ْ وَ َ
َ
ن عَْهدا) (78كل ّ ً َ ْ َ ّ َ ً َ
ما ِ ح َعند َ الّر ْ خذ َ ِ ب أم ِ ات ّ َ مال ً وَوَلدا) (77أطلعَ الغَي ْ َ ن َ لوت َي َ ّ َ
ل وَي َأ ِْتيَنا فَْردا)ً قو ُ ما ي َ ُ ه َ مد ّا) (79وَن َرِث ُ ُ ً ب َ ذا ِ ن العَ َْ م َ ه ِ َ
مد ّ ل ُ ل وَن َ ُ قو ُ ما ي َ ُب َ ْ
سن َكت ُ ُ َ
(80
ومن جماعة المستهزئين :السودبن عبد يغوث ،الزهري ،القرشي ،من بني
زهرة ،أخوال رسول الله ،كان إذا رأى أصحاب النبي مقبلين يقول :قد جاءكم
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ملوك الرض ،استهزاًء بهم لنهم كانوا متقشفين ،ثيابهم رّثة ،وعيشهم خشن،
ت اليوم من السماء؟ وكان يقول لرسول الله سخرية :أما ك ُل ّ ْ
م َ
ن عم خديجة ،كان هو وشيعته إذا ومنهم :السودبن عبد المطلب السدي ،اب ُ
ن
ذي َ ّ
ن ال ِ فْين :إ ِ ّ ف ِ مّر عليهم المسلمون يتغامزون وفيهم نزل في سورة المط ّ
َ
ن)(30 مُزو َ مّروا ْ ب ِهِ ْ
م ي َت ََغا َ ن) (29وَإ َِذا َ كو َ ح ُ مُنوا ْ ي َ ْ
ض َ ن ءا َ ذي َن ال ّ ِ كاُنوا ْ ِ
م َ موا ْ َ جَر ُ أ ْ
َ َ
ضآّلو َ
ن) لء ل َ َ ن هَؤُ َ م َقاُلوا ْ إ ِ ّ ن) (31وَإ َِذا َرأوْهُ ْ قل َُبوا ْ فَك ِِهي َ
م ان َقل َُبوا ْ إ َِلى أهْل ِهِ ْ
وَإ َِذا ان َ
(32
ومنهم :الوليدبن المغيرة ،عم أبي جهل ،كان من عظماء قريش وفي سعة
من العيش ،سمع القرآن مرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقال
لقومه بني مخزوم :والله لقد سمعت من محمد آنفا ً كلما ً ما هو من كلم
مثمر، ن له لحلوة ،وإن عليه لطلوة ،وإن أعله ل ُ النس ول من كلم الجن ،وإ ّ
مغدق ،وإنه يعلو وما ُيعلى ،فقالت قريش :صبأ والله الوليد، وإن أسفله ل ُ
ن قريش كلها ،فقال أبو جهل :أنا أكفيكموه .فتوجه وقعد إليه حزينا ً لتصبأ ّ
وكّلمه بما أحماه ،فقام فأتاهم فقال :تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه
ً
وس؟ وتقولون :إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر فهل ُيه ّ
ذاب ،فهل جّربتم عليه شيئا ً من ط؟ وتزعمون أنه ك ّ رأيتموه يتعاطى شعرا ً ق ّ
كر قليل ً ثم قال: م ل ،ثم قالوا :فما هو؟ فف ّ الكذب؟ فقالوا في كل ذلك :الله ّ
جما هو إل ساحر ،أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فارت ّ
دثر مخاطبا ً لرسوله: النادي فرحا ً فأنزل الله في شأن الوليد في سورة الم ّ
شُهودًا)(13 ن ُ دودًا) (12وَب َِني َ م ُ م ْمال ً ّ ه َ ت لَ ُ جعَل ْ ُ حيدًا) (11وَ َ ت وَ ِ ق ُ خل َ ْن َ م ْ ذ َْرِنى وَ َ
ً
ه كان ل َْيات َِنا عَِنيدا)(16 َ َ َ ْ ً َ
د) (15كل ّ إ ِن ّ ُ ن أِزي َ معُ أ ْ م ي َط َ مِهيدا) (14ث ُ ّ ه تَ ْ تل ُ مّهد ّ وَ َ
َ م قُت ِ َ َ ّ ً ُ
ف ل كي ْ َ ف قَد َّر) (19ث ُ ّ ل كي ْ َ قت ِ َه فَكَر وَقَد َّر) (18فَ ُ صُعودا) (17إ ِن ّ ُ ه َ ق ُ سأْرهِ ُ َ
ست َكب ََر) (23فَ َ ْ َ َ
ن
ل إِ ْ قا َ م أد ْب ََر َوا ْ سَر) (22ث ُ ّ س وَب َ َ م عَب َ َ م ن َظَر) (21ث ُ ّ قَد َّر) (20ث ُ ّ
ُ ْ ّ
قَر)(26 س َصِليهِ َ سأ ْ ر)َ (25 ش ِ ل الب َ َ هاَذآ إ ِل قَوْ ُ ن َ حٌر ي ُؤْث َُر) (24إ ِ ْ س ْ هاَذآ إ ِل ّ ِ َ
وأنزل فيه أيضا ً في سورة ن :ول تطع كل حلف{ كثير الحلف وكفى بهذا
ن{ حقير وأراد به الكذاب لنه حقير في نفسه زاجرا ً لمن اعتاد الحلف َ
مهِي ْ ٍ
مّناٍع م{ بنقل الحاديث للفساد بين الناس َ مي ْ ٍشاٍء بن َ ِ م ّ ماٍز{ عّياب طعان َ هَ ّ
َ َ
معْت َدٍ أثي ْم ٍ عُت ُ َ
ل
ما ٍ ن َذا َ ن كا َم{ دخيل أ ْ ذلك َزن ِي ْ ٍ ل{ غليظ جاف َبعد َ َ خي ْرِ ُ
ِلل َ
م{ ُ َ َ َ
نِ ،إذا ت ُْتلى عَلي ْهِ آَياُتنا َقا َ
خرطو ِ ه على ال ُ م ُ س ُ
سن َ ِ نَ ، ل أساط ِي ُْر الّولي ْ َ وََبني َ
كناية عن الذلل والتحقير لن الوجه أكرم عضو والنف أشرف ما فيه،
ل ما يدل على العظمة ،كالنفة وهي :الحمية .فالوسم ولذلك اشتقوا منه ك ّ
على أشرف عضو دليل الذلل والهانة.
ومن المستهزئين :النضربن الحارث العبدري من بني عبد الداربن قصي .كان
ن قبلهم، م ْ دثهم ويذكرهم ما أصاب َ إذا جلس رسول الله مجلسا ً للناس يح ّ
َ
دث عن ن منه حديثا ً ثم يح ّ س ُ ح َ موا يا معشر قريش فإني أ ْ قال النضر :هل ّ
ملوك فارس ،وكان يعلم أحاديثهم ،ويقول :ما أحاديث محمد إل أساطير
ث
دي ِ ح ِ رى ل َهْوَ ال ْ َ شت َ ِمن ي َ ْ س َ ن الّنا ُ ِ م َ الّولين وفيه نزل في سورة لقمان :وَ ِ
ن) (6وَإ َِذا مِهي ٌ ب ّ ذا ٌم عَ َ َ
ك لهُ ْ َ ً
ها هُُزوا أوْلئ ِ َ خذ َ َعل ْم ٍ وَي َت ّ ِ ل الل ّهِ ب ِغَي ْرِ ِسِبي ِ عن َ ل َ ض ّ ل ِي ُ ِ
ً ُ َ ّ َ ً
شْرهُ ن ِفى أذ ُن َي ْهِ وَْقرا فَب َ ّ معَْها ك َأ ّ س َم يَ ْ ست َك ِْبرا ك َأن ل ْ م ْ ت ُت َْلى عَلي ْهِ ءاَيات َُنا وَلى ُ
ّ َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
إسلم حمزة
مه حمزةبن عبد المطلب ،فقد أدركته وكان بعض إيذائهم هذا سببا ً لسلم ع ّ
الحمّية عندما عّيرته بعض الجواري بإيذاء أبي جهل لبن أخيه ،فتوجه إلى ذلك
م أنار الله ب محمدا ً وأنا على دينه؟ ث ُ ّ الشقي وغاضبه وسّبه ،وقال :كيف تس ّ
دهم غيرة على ً
بصيرته بنور اليقين حتى صار من أحسن الناس إسلما ،وأش ّ
المسلمين ،وأقواهم شكيمة على أعداء الدين حتى سمي أسد َ الله.
وكما ُأوذي الرسول عليه الصلة والسلمُ ،أوذي أصحابه لّتباعهم له ،خصوصا ً
من ليس له عشيرة تحميه ،وترد ّ كيد عدوه عنه ،وكل هذا الذى كان حلوا ً في
م
أعينهم ما دام فيه رضاء الله ،فلم يفتنوا عن دينهم بل ثبتهم الله حتى أت ّ
أمره على أيديهم ،وصاروا ملوك الرض بعد أن كانوا مستضعفين فيها ،كما
فوا ْ ِفى َ
ضعِ ُست ُ ْ نا ْ ن عََلى ال ّ ِ
ذي َ م ّ
ريد ُ أن ن ّ ُ في سورة القصص :وَن ُ ِ ل ذكره قال ج ّ
َ
ن)(5 وارِِثي َ م ال ْ َ
جعَل َهُ ُ
ة وَن َ ْ
م ً جعَل َهُ ْ
م أئ ِ ّ ال ْْر ِ
ض وَن َ ْ
ومن الذين ُأوذوا في الله :بللبن رباح كان مملوكا ً لمّيةبن خلف الجمحي
القرشي ،فكان يجعل في عنقه حبل ً ويدفعه إلى الصبيان يلعبون به ،وهو
َ َ
ه ما هو فيه عن توحيد الله .وكان أمية يخرج به في شغَل ْ ُ
د .لم ي َ ْ ح ٌحد ٌ أ َ يقول :أ َ
وقت الظهيرة في الرمضاء ــــ وهي الرمل الشديد الحرارة لو وضعت عليه
ت ــــ ثم يؤمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ،ثم ج ْقطعة لحم ل ََنض َ
يقول له :ل تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللت والعّزى،
فيقول :أحد أحد .مّر به أبو بكر يوما ً فقال :يا أمية أما تتقي الله في هذا
ذه مما ترى .فاشتراه منه المسكين ،حتى متى تعذبه؟ قال :أنت أفسدته فأنق ْ
ّ َ ً َ
م َنارا ت َلظى)(14 وأعتقه فأنزل الله فيه وفي أمية في سورة الليل :فَأنذ َْرت ُك ُ ْ
ذى ّ
قى) (17ال ِ جن ّب َُها ال ْت ْ َ
سي ُ َ ب وَت َوَّلى) (16وَ َ ذى ك َذ ّ َ قى) (15ال ّ ِ ش َ هآ إ ِل ّ ال ْ ْ صَل َل َ يَ ْ
ه
جهِ َرب ّ ِجَزى) (19إ ِل ّ اب ْت َِغآء وَ ْ مةٍ ت ُ ْ
من ن ّعْ َ
عند َه ُ ِحد ٍ ِ
ما ل ِ َ كى) (18وَ َ ه ي َت ََز ّ َ
مال ُ ي ُؤِْتى َ
ضى)) { (21الليل 14 :ــــ (21بما يعطيه الله في ف ي َْر َسو ْ َ ال ْعَْلى) (20وَل َ
َ
ل ذكره على أن بذل الصديق ماله في الخرى جزاء أعماله .وقد نّبه الله ج ّ
ديق ً ً
شراء بلل وعتقه لم يكن إل ابتغاء وجه ربه ،وكفى بهذا شرفا وفضل للص ّ
رضي الله عنه وأرضاه ،وقد أعتق غير بلل جماعة من الرقاء أسلموا
فعذبهم مواليهم.
ذبت في الله حتى عميت فلم يزدها ذلك إل ومنهم امرأة تسمى زنيرة ع ّ
إيمانًا ،وكان أبو جهل يقول :أل تعجبون لهؤلء وأتباعهم؟ لو كان ما أتى به
محمد خيرا ً ما سبقونا إليه أفتسبقنا زنيرة إلى رشد؟ فأنزل الله في سورة
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
سبي في الجاهلية فاشترته ُأم أنمار، تُ ، من أوذي في الله :خّباببن الَر ّ وم ّ
وة ،فلما شّرفه الله بها أسلم خباب، وكان حدادا وكان النبي يألفه قبل النب ّ ً
ماة فتجعلها على ظهره ليكفر ّ المح بالحديدة فكانت مولته تعذبه بالنار فتأتي
فل يزيده ذلك إل إيمانًا .وجاء خباب مرة إلى رسول الله وهو متوسد ب ُْرَدة
في ظل الكعبة ،فقال :يا رسول الله أل تدعو الله لنا؟ فقعد عليه الصلة
ن قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط م ْ والسلم محمّرا ً وجهه فقال» :إنه كان َ
الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ،ويوضع المنشار على فرق رأس
ق ،ما يصرفه ذلك عن دينه ،وليظهرن الله تعالى هذا المر حتى أحدهم فيش ّ
ب على يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ل يخاف إل الله ،والذئ َ
غنمه« .قال ذلك عليه الصلة والسلم وهو في هذه الحال الشديدة التي ل
يتصور فيها أعقل العقلء ،وأنبل النبلء ،قوة منتظرة أو سعادة مستقبلة،
م إل أن ذلك وحي يوحى إليه ،ثم أنزل الله تعالى تثبيتا ً للمؤمنين أول الله ّ
م لَ ْ ُ َ ْ ُ َ َ
مّنا وَهُ ْقولوا ءا َ
س أن ي ُت َْركوا أن ي َ ُ ب الّنا ُ س َ
ح ِسورة العنكبوت :الم) (1أ َ
ه ) { 3:العنكبوت 1 :ــــ ّ
ن الل ُ م ّ َ َ
م فلي َعْل ََ َ
من قب ْل ِهِ ْ ن ِ قد ْ فَت َّنا ال ّ ِ
ذي َ ن) (2وَل َ َ
فت َُنو َ
يُ ْ
.(3
من ُأوذي في الله :أبو بكر الصديق ،ولما اشتد عليه الذى أجمع أمره على وم ّ
َ
الهجرة من مكة إلى جهة الحبشة ،فخرج حتى أتى بْرك الِغماد فلقيه ابن
ل :إلى أين يا أبا بكر؟ ة( فقا َ الد ّغُّنة )وهو سيد قبيلة عظيمة اسمها ال َ
قاَر ُ
فقال :أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الرض وأعبد ربي ،فقال ابن
صل الَرحم وتحمل مث ُْلك يا أبا بكر ل يخرج ،إنك تكسب المعدوم ،وت َ ِ الدغنةِ :
ل ،وتقري الضيف ،وُتعين على نوائب الحق ،فأنا لك جار ،فارجع واعبد الك َ ّ
ربك ببلدك ،فرجع وارتحل ابن الدغنة معه ،وطاف في أشراف قريش ،فقال
ج مثله .أتخرجون رجل ً يكسب المعدوم ،ويصل الرحم، خَر ُ
لهم :أبو بكر ل ي ُ ْ
ذب قريش ويحمل الكل ،ويقري الضيف ،وُيعين على نوائب الحق؟ فلم ُتك ّ
مْر أبا بكر فليعبد ربه في داره ،فليص ّ
ل فيها ما بجوار ابن الدغنة ،وقالوا لهُ :
شاء ،وليقرأ ما شاء ول يؤذينا بذلك ول يستعلن ،فإ ِّنا نخشى أن يفِتن نساءنا
وأبناءنا ،فقال ذلك ابن الدغنة لبي بكر ،فلبث بذلك يعبد ربه في داره ول
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
يستعلن بصلته ول يقرأ في غير داره ،ثم بدا لبي بكر فابتنى مسجدا ً ِبفناء
داره ،وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن ،فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم
كاًء ل يملك عينيه إذا قرأ القرآن، وهم يعجبون منه وينظرون إليه .وكان رجل ً ب ّ
فأفزع ذلك أشراف قريش ،فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا :إّنا
جرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك ،فابتنى كّنا قد أ َ
مسجدا ً بفناء داره فأعلن بالصلة والقراءة فيه ،وإ ِّنا قد خشينا أن يفتن
ب أن يقتصر على أن يعبد ربه بفناء داره فعل ،وإن نساءنا وأبناءنا ،فإن أح ّ
فَركَ خ ِ ْ
سله أن يرد ّ إليك ذمتك ،فإنا قد كرهنا أن ن ُ ْ أبي إل ّ أن يعلن ذلك فَ َ
ت
ولسنا مقّرين لبي بكر الستعلن .فأتى ابن الدغنة أبا بكر ،فقال :لقد علم َ
ي ذمتي، ت لك عليه .فإما أن تقتصر على ذلك ،وإما أن ت ُْرجع إل ّ الذي عاقد ُ
فإني ل ُأحب أن تسمع العرب
ت في رجل عقدت له .فقال أبو بكر :فإني أرد ّ عليك جوارك فْر ُ أني أ ُ ْ
خ ِ
وأرضى بجوار الله .رواه البخاري .وكان ذلك سببا ً ليصال أذى عظيم إلى أبي
بكر رضي الله عنه.
وبالجملة فلم يخل أحد من المسلمين من أ َذِي ّةٍ لحقته ،ولكن كل ذلك ضاع
دى تلقاء ثباتهم وعظيم إيمانهم ،فإنهم لم يسلموا لغرض دنيوي يرجون س ً
حصوله فيسهل إرجاعهم ،ولكن وفقهم الله لدراك حقيقة اليمان فرأوا كل
شيء دونه سه ً
ل.
ً
دهم نفعا ،بل كلما زادوا المسلمين ج ِ
ولما رأى كفار قريش أن ذلك الذى لم ي ُ ْ
أًذى ازداد يقينهم ،اجتمعوا للشورى فيما بينهم ،فقال لهم عتبةبن ربيعة
العبشمي من بني عبد شمسبن عبد مناف ــــ وكان سيدا ً مطاعا ً في قومه
ض عليه أمورا ً عّله يقبل ُ
ــــ :يا معشر قريش أل أقوم لمحمد فأكّلمه وأعر ُ
م إليه فكلمه .فذهب ف عّنا؟ فقالوا :يا أبا الوليد فق ْبعضها فنعطيه إياها ويك ّ
إلى رسول الله وهو يصلي في المسجد ،وقال :يابن أخي إنك مّنا حيث قد
ت بهت من خيارنا حسبا ً ونسبًا ،وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ،فّرقْ َ علم َ
فرت من مضى من ت آلهتهم ودينهم ،وك ّ عب َ
ت أحلمهم ،و ِفه َجماعتهم ،وس ّ
ّ ً
آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها،
فقال عليه الصلة والسلم» :قل يا أبا الوليد أسمع«.
ت به من هذا المر مال ً جمعنا لك من ت تريد ُ بما جئ َ فقال :يا ابن أخي إن كن َ
ودناك علينا حتى لت ُتريد شرفا ً س ّل ،وإن كن َ أموالنا حتى تكون أكثرنا ما ً
ك علينا ،وإن كان هذا الذي يأتيك ً
ملكا ملكنا َ ت ُتريد ُ نقطعَ أمرا ً دونك ،وإن كن َ
ده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا َرّئيا ً من الجن ل تستطيع ر ّ
حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى ،فقال عليه
ت يا أبا الوليد؟« قال :نعم» ،قال :فاسمع مني« الصلة والسلم» :فقد فرغ َ
صلت:فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أول سورة ف ّ
ب
م) (2ك َِتا ٌ حي ِن الّر ِ ما ِ ح َن الّر ْ م َل ّ زي ٌ بسم الله الرحمان الرحيم{ حم)َ (1تن ِ
َ َ ً ً
ض أك ْث َُرهُ ْ
م ذيرا فَأعَْر َ شيرا وَن َ ِ ن) (3ب َ ِ مو َ قوْم ٍ ي َعْل َ ُه قُْرءانا ً عََرب ِي ّا ً ل ّ َ
ت ءاَيات ُ ُ صل َ ْ
فُ ّ
َ َ ُ ْ ُ
عوَنا إ ِلي ْهِ وَِفى ءاذان َِنا وَقٌْر ما ت َد ْ ُم ّن) (4وََقالوا قُلوب َُنا ِفى أك ِن ّةٍ ِ مُعو َ س َ م ل َ يَ ْ فَهُ ْ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
حى م ُيو َ مث ْل ُك ُ ْ شٌر ّ مآ أ َن َا ْ ب َ َ ل إ ِن ّ َ ن) (5قُ ْ مُلو َ عا ِ ل إ ِن َّنا َ م ْ ب َفاعْ َ جا ٌ ح َ ك ِ من ب َي ْن َِنا وَب َي ْن ِ َ وَ ِ
ْ ّ َ ْ َ َ
ن)(6 كي َ شرِ ِ م ْ ل لل ُ فُروهُ وَوَي ْ ٌ ست َغْ ِ موا إ ِلي ْهِ َوا ْ قي ُ ست َ ِ حد ٌ َفا ْ م اله وا ِ مآ الهك ُ ْ ى أن ّ َ إ ِل ّ
مُلوا ْ مُنوا ْ وَعَ ِ ن ءا َ ذي َ ن ال ّ ِ ن) (7إ ِ ّ كافُِرو َ م َ خَرةِ هُ ْ م ِبال ْ ِ ن الزكاةَ وَهُ ْ ن ل َ ي ُؤُْتو َ ذي َ ال ّ ِ
َ َ
ض ِفى خل َقَ ال ْْر َ ذى َ ن ِبال ّ ِ فُرو َ م ل َت َك ْ ُ ل أءن ّك ُ ْ ن) (8قُ ْ مُنو ٍ م ْ جٌر غَي ُْر َ مأ ْ ت ل َهُ ْ حا ِ صال ِ َ ال ّ
من فَوْقَِها جعَ َ َ ْ َ ً َ َ ُ
ى ِ س َ ل ِفيَها َرَوا ِ ن) (9وَ َ مي َ ب الَعال ِ دادا ذ َل ِك َر ّ ه أن َ نل ُ جعَلو َ ن وَت َ ْ مي ْ ِ ي َوْ َ
ّ َ َ َ َ
وى ست َ َ ما ْ ن) (10ث ُ ّ سآئ ِِلي َ وآء لل ّ س َ وََباَرك ِفيَها وَقَد َّر ِفيَهآ أْقوات ََها ِفى أْرب َعَةِ أّيام ٍ َ
َ َ ً َ ً َ قا َ َ
َ
وعا أوْ كْرها قالَتآ أت َي َْنا َ ض ائ ْت َِيا ط ْ ل لَها وَل ِل ْْر ِ ن فَ َ خا ٌ ى دُ َ مآء وَهِ َ س َ إ َِلى ال ّ
ها
مَر َ َ حى ِفى ك ُ ّ َ ن) (11فَ َ َ
مآء أ ْ س َ ل َ ن وَأوْ َ مي ْ ِ
ت ِفى ي َوْ َ ماوا ٍ س َ سب ْعَ َ ن َ ضاهُ ّ ق َ طآئ ِِعي َ
م) (12فَإ ِ ْ
ن ْ ديُر ال ْعَ ِ فظا ً ذ َل ِ َ
زيزِ العَِلي ِ ق ِ ك تَ ْ ح ْ ح وَ ِ صاِبي َ م َ مآء الد ّن َْيا ب ِ َ
َ
س َ وََزي ّّنا ال ّ
َ
س ُ
ل ر ال
ِ َ ُْ ُ ّ ُ م ه ت جآء ْ ذ إ ( 13 د) مو َ
َ ِ ِ َ ٍ َ ُ َث و د عا ة َ ق ع صا َ
ل ْ ث م ة
ْ ُ ْ َ ِ ً َّ ق ع صا م ُ ك ت ر َ ذ أن ْ
ل ُ ق َ ف ضوا ْ أعَْر ُ
مَلئ ِك َ ً ه َقاُلوا ْ ل َوْ َ خل ْفه َ من بي َ
ة ل َ لنَز َ شآء َرب َّنا َ دوا ْ إ ِل ّ الل ّ َ م أل ّ ت َعْب ُ ُ ن َ ِ ِ ْ م ْ م وَ ِ ديهِ ْ ن أي ْ ِ ِ َْ ِ
َ ْ مآ أ ُ
ن)(14 ِ ُ َ رو ف كا فَإ ِّنا ب ِ َ ْ ِ ُ ْ ِ ِ
ه ب م ت ل س ر
ف عن ذلك ،فلما رجع عتبة سألوه فأمسك عتبة بفيه ،وناشده الرحم أن ي َك ُ ّ
ط ،والله ما هو بالشعر ول فقال :والله لقد سمعت قول ً ما سمعت مثله ق ّ
بالكهانة ول بالسحر ،يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي ،خّلوا بين الرجل
ه
صب ْ ُ
ن تُ ِ ن لكلمه الذي سمعت نبأ ،فَإ ِ ْ وبين ما هو فيه فاعتزلوه ،فوالله ليكون ّ
كفيتموه بغيركم ،وإن يظهر على العرب فعزه عّزكم ،فقالوا :لقد العرب فقد ُ
سحرك محمد ،فقال :هذا رأيي.
ثم عرضوا عليه بعد ذلك أن يشاركهم في عبادتهم ويشاركوه في عبادته
ن) (2وَل َ دو َما ت َعْب ُ ُ
َ
ن) (1ل َ أعْب ُد ُ َ كافُِرو َ ل يأ َي َّها ال ْ َ
فأنزل الله تعالى في ذلك :قُ ْ
َ َ د)َ (3ول أ ََنآ َ َ َ
د)(5 مآ أعْب ُ ُ ن َ
دو َ عاب ِ ُم َ م) (4وَل َ أنت ُ ْ ما عََبدت ّ ْ عاب ِد ٌ ّ مآ أعْب ُ ُن َ دو َ عاب ِ ُم َ أنت ُ ْ
ن أ َت ّب ِعُ إ ِل ّ سى إ ِ ْ ف ِ قآء ن َ ْمن ت ِل ْ َ ه ِ
كون ِلى أ َ ُ
ن أب َد ّل َ ُ ْ ما ي َ ُ ُ ل َ ن) (6قُ ْ ى ِدي ِم وَل ِ َم ِدين ُك ُ ْ ل َك ُ ْ
ى{ )يونس.(15 : َ
حى إ ِل ّ ما ُيو َ َ
وقد حصل له مع كفار قريش نادرة تكون لمن استهان بالضعيف كمصباح
كبراء قريش يستضيء به ،وهو أنه بينما الرسول عليه الصلة والسلم مع ُ
وأشرافهم يتألفهم ويعرض عليهم القرآن وما جاء به من الدين إذ أقبل عليه
من أسلموا قديما ً ــــ والنبي عبد الله ابن أم مكتوم العمى ــــ وهو م ّ
مشتغل بالقول ،وقد لقي منهم مؤانسة حتى طمع في إسلمهم ،فقال له
عبد الله :يا رسول الله عّلمني مما عّلمك الله وأكثر عليه القول ،فشقّ ذلك
على الرسول ،وكره قطعه لكلمه ،وخاف عليه الصلة والسلم أن يكون
التفاته لذلك المسكين ينفر عنه قلب أولئك الشراف ،فأعرض عنه فعاتبه
َ
مى)(2 جآءهُ ال ْعْ َ س وَت َوَّلى) (1أن َ ل سورة عبس :عَب َ َ الله على ذلك بقوله أوّ َ
َ َ
ست َغَْنى)(5 نا ْ م ِ ما َ ه الذ ّك َْرى) (4أ ّ كى) (3أوْ ي َذ ّك ُّر فََتن َ
فعَ ُ ك ل َعَل ّ ُ
ه ي َّز ّ ما ي ُد ِْري َ
وَ َ
َ َ ّ ّ َ َ َ َ َ
و ه
َ ُ َ و (8 عى) س
َ ْ َ ي ك جآءَ من ما
َ ّ َ أ و (7 كى) زَّ ي ل أ ك ي ل
َ َ َ ْ ع ما و ( 6 دى) فَ َ ُ َ َ ّ
ص ت ه ل ت أن
ه ت َل َّهى)(10 َ
ت عَن ْ ُشى) (9فَأن َ خ َ يَ ْ
ما رأى المشركون أن هذه المطالب التي يعرضونها ل ُتقبل منهم أرادوا أن
ول ّ
يدخلوا في باب آخر ،وهو تعجيز الرسول بطلب اليات ،فاجتمعوا ،وقالوا :يا
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ة نطلبها منك وهي أن تشقّ لنا القمر فرقتين، محمد إن كنت صادقا ً فأِرنا آي ً
فأعطاه الله هذه المعجزة ،وانشقّ القمر فرقتين فقال رسول الله:
»اشهدوا« وهذه القصة رواها عبد اللهبن مسعود وهو من السابقين الّولين
ُرويت عنه من طرق كثيرة ،ورواها عبد اللهبن عباس وغيره ،ورواها عنهم
جمع غزير حتى صار الحديث كالمتواتر وقد ذكرها القرآن الكريم في قوله
ةمُر) (1وَِإن ي ََروْا ْ ءاي َ ً ق َ شقّ ال ْ َ ة َوان َ ساعَ ُ ت ال ّ تعالى في أول سورة القمر :اقْت ََرب َ ِ
ن الْرض ْ م َ جَر لَنا ِ َ ف ُ حّتى ت َ ْ َ
ن لك َ َ م َ مّر)َ (2لن ن ّؤْ ِ ست َ ِ م ْ حٌر ّ س ْ قوُلوا ْ ِ ضوا ْ وَي َ ُ ي ُعْرِ ُ
فجيرا) (ِ 91أوَ َ َ ْ َ َ َ ُ َ
ْ خللَها ت َ ْ ِ ً جَر الن َْهاَر ِ ف ّ ب فت ُ َ
ْ عن َ ٍ ل وَ ِ خي ٍ من ن ّ ِ ة ّ جن ّ ٌن لك َ عا أوْ ت َكو َ ي َن ُْبو ً
ل) (92أوَ ً َ
ملئ ِكةِ قِبيَ َ ْ ّ َ َ َ َ
ْ ى ِباللهِ َوال َ فا أوْ ت َأت ِ َ س ً ت عَلي َْنا ك ِ َ م َ ما َزعَ ْ مآء ك َ س َ قط ال ّ س ِ تُ ْ
َ َ َ
حّتى ت ُن َّز َ
ل َ َ
ك ي ق ر ل
ّ ِ َ ُِ ِ ّ ن م ْ ؤ ن لن َ و مآء ّ َ س ال فى ِ قى َ ر ت و أ ف
َْ ٌ ّ ُ ْ ُ ٍ ْ َْ ر خ ز من ت يب َ
ك ل نيَ ُ َ
كو
ل ه{ )السراء 90 :ــــ (93ولم يجبهم الله إل بقوله} :قُ ْ قَرء ُ عَل َي َْنا ك َِتاًبا ن ّ ْ
ل{ )السراء (93 :لن الله علم ما ت ُك ِّنه سو ً شًرا ّر ُ ت إ َل ّ ب َ َ كن ُ ل ُ ن َرّبى هَ ْ حا َ سب ْ َُ
جوانحهم من التعصب والعناد ،فل يؤمنون مهما جاءهم من البينات كما قال
شعِرك ُ َ
ن{ مُنو َ ت ل َ ي ُؤْ ِ جآء ْ م أن َّهآ إ َِذا َ ما ي ُ ْ ُ ْ ل ذكره في سورة النعام} :وَ َ ج ّ
م ّ
من قالوا كما في سورة النفال :اللهُ ّ )النعام (109 :وكيف يرجى الخير م ّ
َ َ كان هاَذا هو ال ْحق من عند َ َ
مآء أوِ ائ ْت َِنا س َ ن ال ّ م َ جاَرة ً ّ ح َ مط ِْر عَلي َْنا ِ ك فَأ ْ ُ َ َ ّ ِ ْ ِ ِ ِإن َ َ َ
م{ )النفال (32 :ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا َ ب ِعَ َ
ب أِلي ٍ ذا ٍ
سنةإليه ،وهذه ّ
سنن النبياء إذا رأوا من طلب اليات عنادًا ،وأنهم يطلبونها تعجيزا ً ل من ُ
ل بقومهم الهلك كما حصل لعاد وثمود يسألون الله إنفاذ هذه اليات كيل يح ّ
َ
من َعََنآ أن
ما َ
وغيرهم .وهذا هو المراد من قوله تعالى في سورة السراء} :وَ َ
َ
ن{ )السراء.(59 : ب ب َِها ال ْوُّلو َ
ت إ ِل ّ أن ك َذ ّ َ
ل ِبال َْيا ِ س َن ّْر ِ
ف أمام هيرودس طلب منه آية ما وق َوقد حصل للمسيح عليه السلم أنه ل ّ
ه إلى طلبه ،فلما رأى ذلك سخر منه ورّده إلى عدوه بيلطس بعد أن جب ْ ُ
فلم ي ُ ِ
كان يأسف عليه ويتمنى لقاءه ،وذلك مذكور في الصحاح الثالث والعشرين
من إنجيل لوقا.
فعند ذلك تجهَز ناس للخروج من ديارهم وأموالهم فرارا ً بدينهم كما أشار
دة أصحابها عشرةعليه الصلة والسلم ،وهذه هي أول هجرة من مكة ،وع ّ
رجال وخمس نسوة ،وهم :عثمانبن عفان وزوجه رقّية بنت رسول الله ،وأبو
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
إسلم عمر
وفي ذلك الوقت أسلم الشهم الهمام عمربن الخطاب العدوي القرشي بعد
ما كان عليه من كراهية المسلمين وشدة أذاهم .قالت ليلى ــــ إحدى
المهاجرات لرض الحبشة مع زوجها ــــ :كان عمربن الخطاب من أشد
ت بعيري ُأريد أن أتوجه إلى أرض الحبشة الناس علينا في إسلمنا ،فلما ركب ُ
إذا أنا به ،فقال لي :إلى أين يا ُأم عبد الله؟ فقلت :قد آذيتمونا في ديننا،
ب في أرض الله حيث ل نؤذى ،فقال :صحبكم الله ،فلما جاء زوجي عامر نذه ُ
سلم؟ والله ل يسلم حتى أخبرته بما رأيت من رِقّةِ عمر ،فقال :ترجين أن ي ُ ْ
يسلم حمار الخطاب وذلك لما كان يراه من قسوته وشدته على المسلمين،
ولكن حصلت له بركة دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم ،فإنه قال قبيل
عّز السلم بعمر« .وكان إسلمه في دار الرقمبن أبي إسلمه» :اللهم أ ِ
الرقم التي كان المسلمون يجتمعون فيها وقد حقق الله بإسلمه ما رجاه
عليه الصلة والسلم ،فقد قال عبد اللهبن مسعود من رواية البخاري :ما زلنا
أعّزة منذ أسلم عمر .فإنه طلب من رسول الله أن يعلن صلته في المسجد
ة شديدة حينما رأوا عمر أسلم ،وكانوا قد أرادوا ففعل وقد أدرك الكفاَر كآب ٌ
سْهمي وهو قتله حتى اجتمع جمع حول داره ينتظرونه ،فجاء العاصبن وائل ال ّ
حب ََرة ،وقميص مكفوف حّلة ِ من بني سهم حلفاء بني عدي قوم عمر وعليه ُ
ت.ن أسلم ُ ك؟ فقال :زعم قومك أنهم سيقتلونني إ ْ بحرير ،فقال لعمر :ما بال ُ َ
ن عمر ،وخرج العاص فوجد الناس قد م َ
قال :ل سبيل إليك فأنا لك جار ،فأ ِ
سال بهم الوادي ،فقال :أين تريدون؟ قالوا :نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ.
قال :ل سبيل إليه .فرجع الناس من حيث أتوا.
وبعد ثلثة أشهر من خروج مهاجري الحبشة رجعوا إلى مكة حيث ل تتيسر
ضف َ لهم القامة فيها لنهم قليلو العدد ــــ وفي الكثرة بعض ا ُ
لنس ــــ وأ ِ
إلى ذلك أنهم أشراف قريش ومعهم نساؤهم ،وهؤلء ل يطيب لهم عيش في
دار غربة بهذه الحالة.
وقد ُأولع بعض المؤرخين بحكاية يجعلونها سببا ً في رجوع مهاجري الحبشة،
وهي أنه بلغهم إسلم قومهم حينما قرأ عليهم الرسول سورة النجم ،وتكلم
َ
ت َوال ْعُّزى) (19وَ َ
مَنواةَ م الّل َ
فيها كلما ً حسنا ً عن آلهتهم حيث قال بعد :أفََرءي ْت ُ ُ
خَرى)(20ة ال ْ ْ
الّثال ِث َ َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وهذا مما ل تجوز روايته إل من قليلي الدراك الذين ينقلون كل ما وجدوه غير
متثبتين من صحته ،وها نحن ُأولء نسوق لك أدلة النقل والعقل على بطلن
ما ذكر ،أما الحديث فسنده ومتنه قلقان ،فالسند قال فيه القاضي عياض في
الشفا» :لم يخّرجه أحد من أهل الصحة ول رواه ثقة بسند سليم« ،وأما
المتن فليس أصحاب رسول الله ول المشركون مجانين حتى يسمعوا مدحا ً
َ
مآء س َ ى إ ِل ّ أ ْ
ن هِ َ
أثناء ذم ويجوز ذلك عليهم ،فبعد ذكر الصنام قال :إ ِ ْ
ن{ )النجم .(23 :فالكلم طا ٍسل ْ َمن ُه ب َِها ِ ل الل ّ ُ مآ َأنَز َكم ّ م َوءاَبآؤُ ُ سميتمو َ َ
هآ أنت ُ ْ َ ّ ُْ ُ
جونه بها من َْتظم ،ولو كان ذلك قد حصل لّتخذه الكفار عليه حجة يحا ّ غير ُ
وقت الخصام ،وهم من نعرفهم من العناد فيما ليس فيه أدنى حجة ،فكيف
بهذه؟ وليس ذلك القيل أقل من تحويل القبلة إلى الكعبة ،وهذا قالوا فيه ما
قو ُ
ل سي َ ُ
ماهم الله سفهاء وأنزل فيهم في سورة البقرةَ } : قالوا حتى س ّ
كاُنوا ْ عَل َي َْها{ )البقرة.(142 : م ال ِّتى َ
عن قِب ْل َت ِهِ ُم َ ما وَّلهُ ْس َ ن الّنا ِ م َفَهآء ِس َ
ال ّ
ولكن لم ُيسمع عن أي واحد من رجالتهم والمتصدرين للعناد منهم أن قال:
ت آلهتنا بعد أن مدحتها؟ وكان ذلك أولى لهم من تجريد السيوف ما لك َذمم َ
مهج الرجال. وبذل ُ
على أن المؤرخين الذين ينقلون هذه العبارة ويجعلونها سببا ً لرجوع مهاجري
الحبشة يقولون أثناء كلمهم :إن الهجرة كانت في رجب ،والرجوع كان في
شوال ،ونزول سورة النجم كان في رمضان ،فالمدة بين نزول السورة
مل أدنى تأمل يرى أن الشهر كان ل ورجوع المهاجرين شهر واحد ،والمتأ ّ
يكفي في ذاك الزمن للذهاب من مكة إلى الحبشة والياب منها لنه لم يكن
إذ ذاك مراكب بخارية تسّهل السير في البحر ،ول تلغراف يوصل خبر إسلم
ة بعد ذلك إن قلنا إن هذه الخرافة من قريش لمن بالحبشة ،فل غراب َ
موضوعات أهل الهواء الذين ابتلى الله بهم هذا الدين ،ولكن الحمد لله فقد
مفترٍ كذاب ففي ن علينا بحفظ كتابنا المجيد الذي يحكم بيننا وبين كل ُ م ّ
وى)(3 ْ
ن الهَ َ
ما َينط ِقُ عَ ِ
السورة نفسها} :وَ َ
والذي ورد في الصحيح في موضوع هذا السجود ما رواه عبد اللهبن مسعود:
ن كان معه إل م ْ
أن النبي عليه الصلة والسلم قرأ والنجم فسجد ،وسجد َ
رجل ً أخذ كفا ً من حصى وضعه على جبهته وقال :يكفيني هذا ،فرأيته قُت ِ َ
ل بعد
كافرًا .وليس في هذا الحديث أدنى دللة على أن الذين سجدوا معه هم
مشركون ،بل الذي يفيده قوله :فرأيته قُِتل بعد كافرا ً أنه كان مسلما ً ثم
د ،وهذا ما حصل من بعض ضعاف القلوب الذين لم يتحملوا الذى رأيته ارت ّ
فكفروا ،منهم :عليبن أميةبن خلف.
ن
م ْهذا ،ولما رجع مهاجرو الحبشة إلى مكة لم يتمكن من الدخول إليها إل َ
مجيرًا ،فدخل أبو سلمة في جوار خاله أبي طالب ،ودخل عثمانبن وجد له ُ
مظعون في جوار الوليدبن المغيرة ،وقد رد ّ عليه جواره حينما رأى ما صنعه
بالمسلمين ،فلم ي ََر أن يكون مرتاحا ً وإخوانه معذبون.
كتابة الصحيفة
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ل بكفار قريش ،عرضوا على بني عبد مناف ،الذين منهم ولما ضاقت الحي ُ
الرسول عليه الصلة والسلم ،دية مضاعفة ،ويسلمونه ،فأبوا عليهم ذلك ،ثم
عرضوا على أبي طالب أن ُيعطوه سيدا ً من شبانهم يتبناه ،ويسلم إليهم ابن
أخيه ،فقال :عجبا ً لكم تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟
فلما رأوا ذلك أجمعوا أمرهم على منابذة بني هاشم وبني المطلب وََلديْ عبد
مناف وإخراجهم من مكة ،والتضييق عليهم فل يبيعونهم شيئًا ،ول يبتاعون
منهم حتى يسلموا محمدا ً للقتل ،وكتبوا بذلك صحيفة وضعوها في جوف
شْعب أبي طالب ،ودخل الكعبة ،فانحاز بنو هاشم ــــ بسبب ذلك ــــ في ِ
معهم بنو المطلب سواء في ذلك مسلمهم وكافرهم ما عدا أبا لهب فإنه كان
مْيهم عبد شمس ونوفل ابني عبد مناف، مع قريش ،وانخذ َ
ل عنهم بنو عَ ّ
فجهد القوم حتى كانوا يأكلون ورق الشجر ،وكان أعداؤهم يمنعون التجار من
مبايعتهم وفي مقدمة المانعين أبو لهب.
نقض الصحيفة
وقد قام خمسة من أشراف قريش يطالبون بنقض هذه الصحيفة الظالمة،
وهم :هشامبن عمروبن ربيعةبن الحارث العامري ،وهو أعظمهم في ذلك
مط ِْعمبن
بلًء ،وزهيربن أبي أمية المخزومي ابن عمة الرسول عاتكة ،وال ُ
مَعةبن السود السدي، خَترّيبن هشام السدي ،وز ْعديّ النوفلي ،وأبو الب َ ْ
ّ
ل ،فلما أصبحوا غدا زهير وعليه حلة ،فطاف بالبيت ثم واتفقوا على ذلك لي ً
س الثياب وبنو هاشم ْ
أقبل على الناس ،فقال :يا أهل مكة أنأكل الطعام ون َلب َ ُ
شق هذه الصحيفة والمطلب هَْلكى ل يبيعون ول يبتاعون؟ والله ل أقعد حتى ت ُ َ
معة لبي جهل :أنت والله ت ،فقال َز ْ
الظالمة القاطعة .فقال أبو جهل :كذب َ
أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت ،فقال أبو البختري :صدق زمعة ،وقال
دق على ما قيل المطعمبن عدي :صدقتما ،وكذب من قال غير ذلك .وص ّ
َ
قها ،وكانت الَرضة قد أكلتها هشامبن عمرو ،فقام إليها المطعمبن عدي فش ّ
فلم يبقَ فيها إل ما فيه اسم الله ،وقد أخبر النبي عليه الصلة والسلم عمه
أبا طالب بذلك قبل أن يفعل ما ذكر ،فخرج القوم إلى مساكنهم بعد هذه
الشدة.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وفود نجران
شعب وفد من نصارى نجران بلغهم وقد وفد على الرسول بعد الخروج من ال ّ
خبُرهُ من مهاجري الحبشة ،فسارعوا بالقدوم عليه حتى يروا صفاته مع ما
ذكر منها في كتبهم ،وكانوا عشرين رجل ً أو قريبا ً من ذلك ،فقرأ عليهم
القرآن فآمنوا كلهم ،فقال لهم أبو جهل :ما رأينا ركبا ً أحمق منكم ،أرسلكم
قومكم تعلمون خبر هذا الرجل فصبأتم فقالوا :سلم عليكم ل نجاهلكم ،لكم
ما أنتم عليه ولنا ما اخترناه ،فأنزل الله في ذلك قوله في سورة القصص:
م َقاُلوا ْ ن) (52وَإ َِذا ي ُت َْلى عَل َي ْهِ ْ مُنو َ هم ب ِهِ ي ُؤْ ِ من قَب ْل ِهِ ُ ب ِ م ال ْك َِتا َ ن ءات َي َْناهُ ُ ذي َ ال ّ ِ
َ ُ
ن) (53أوْل َئ ِ َ
هم
جَر ُ نأ ْ ك ي ُؤُْتو َ مي َسل ِ ِ م ْ من قَب ْل ِهِ ُ من ّرب َّنآ إّنا ك ُّنا ِ حق ّ ِ ه ال ْ َ مّنا ب ِهِ إ ِن ّ ُ ءا َ
ن) (54وَإ َِذا قو َ م ُينفِ ُ ما َرَزقَْناهُ ْ م ّ ة وَ ِسي ّئ َ َسن َةِ ال ّ ح َ ْ
ن ِبال َ ْ
صب َُروا وَي َد َْرؤُ َ ما َ ن بِ َ
َ َ َ مّرت َي ْ ِ ّ
م لَ م عَل َي ْك ُْ سل ٌ َ م َ ُ
مالك ْ ُ م أعْ َ ُ َ
مالَنا وَلك ْ ُ َ ْ
ه وَقالوا لَنآ أعْ َ ُ َ ْ
ضوا عَن ْ ُ ّ
مُعوا اللغْوَ أعَْر ُ ْ س ِ َ
َ َ َ َ ْ َ ّ ْ
مط ِْر عَلي َْنا عندِك فأ ْ ن ِ م ْ حق ّ ِ هاَذا هُوَ ال َ ن َ م ِإن كا َ ن) (55اللهُ ّ جاهِِلي َ ن َب ْت َِغى ال َ
م{ )النفال.(32 : َ ْ َ
مآء أوِ ائت َِنا ب ِعَ َ
ب أِلي ٍ ذا ٍ س َن ال ّ م َ جاَرةً ّ ح َ ِ
وبعد خروجه عليه الصلة والسلم من الشعب بقليل وقبل الهجرة بثلث
سنين توفيت خديجة بنت خويلد زوجه رضي الله عنها ،وكان عليه الصلة
والسلم كثيرا ً ما يذكرها ويترحم عليها ،ول غرابة ،فهي أول نفس زكية
دقت رسول الله فيما جاء به عن ربه ،وقد جاء منها بأولده كلهم ما عدا ص ّ
إبراهيم .فمنها زينب وهي أكبر بناته تزوجها في الجاهلية أبو العاصبن الربيع،
وأعقب منها أمامة التي تزوجها عليبن أبي طالب بعد وفاة فاطمة ،ومنها
رقّية وُأم كلثوم تزوجهما عثمان؛ الولى بمكة قبل الهجرة وهاجر بها إلى
ن ماتت أختها ،ومنها فاطمة وهي أصغر بناته َ
الحبشة ،والثانية بالمدينة بعد أ ْ
تزوجها عليبن أبي طالب ،وقد جاءت خديجة بأولد توّفوا صغارًا ،ولم يعش
ل .ولما توفيت خديجةبعد رسول الله من أولده إل ّ فاطمة عاشت بعده قلي ً
حزن عليها رسول الله حزنا ً شديدا ً لما كانت عليه من الرقة لرسول الله،
ومحاجزة الكفار عنه لما لها من الجاه في عشيرتها بني أسد ،ومنها القاسم
وكان به يكنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله الملقب بالطيب
والطاهر.
زواج سودة
ودة
س ْ
وعقد عليه الصلة والسلم في الشهر الذي ماتت فيه خديجة على َ
مَعة العامرية القرشية بعد أن توفي عنها زوجها وابن عمها السكرانبن بنت َز ْ
عمرو ،وقد كانت آمنت بالله وبرسوله وخالفت أقاربها وبني عمها ،وهاجرت
مع زوجها إلى الحبشة في المرة الثانية خوف الفتنة ،وعقب رجوعه من
هجرته توفي عنها ،فلم يكن ثم أجمل مما صنعه الرسول بزوج رجل آمن به،
م
ولو تركت لقومها مع ما هم عليه من الغلظة وكراهة السلم لفتنوها ،وكر ُ
نسبها في قومها يمنعها من التزّوج برجل أقل منها نسبا ً وشرفًا.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وبعد ذلك بشهر عقد على عائشة بنت صديقه أبي بكر وهي ل تتجاوز السابعة
من عمرها ،ولم يتزوج عليه الصلة والسلم بكرا ً غيرها ،ودخل عليها
سودة ُ فدخل عليها بمكة. بالمدينة ،أما َ
وبعد وفاة خديجة بنحو شهر ،توفي عمه أبو طالب ،الذي كان يمنعه من أذى
ذب رسول الله فيما جاء به بل يعتقد صدقه لم أعدائه ،ومع أنه كان ل ي ُك َ ّ
ينطق بالشهادتين حتى آخر لحظة من حياته ،وفيه نزل في سورة القصص:
َ ك ل َ تهدى م َ
ن)(56 دي َ م ِبال ْ ُ
مهْت َ ِ شآء وَهُوَ أعْل َ ُمن ي َ َ دى َ ه ي َهْ ِ ن الل ّ َ
ت وََلك ِ ّ حب َب ْ َنأ ْ َ ْ َْ ِ }إ ِن ّ َ
وقد سمى رسول الله هذا العام الذي فقد فيه زوجه وعمه عام الحزن .ولما
مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله ما لم يمكنها نيله في حياة أبي
طالب ،واشتد المر عليه حتى كانوا ينثرون التراب على رأسه وهو سائر،
ويضعون أوساخ الشاة عليه في صلته ،وتعلقت به كفار قريش مرة
يتجاذبونه ويقولون له :أنت الذي تريد أن تجعل اللهة إلها ً واحدًا؟ فما تقدم
أحد من المسلمين حتى يخلصه منهم لما هم عليه من الضعف إل أبو بكر
ه{ )غافر.(28 : ى الل ّ ُ قو َ
ل َرب ّ َ جل ً َأن ي َ ُ ن َر ُ قت ُُلو َ فإنه تقدم ،وقال :أ َت َ ْ
هجرة الطائف
فلما رأى عليه الصلة والسلم استهانة قريش به أراد أن يتوجه إلى ثقيف
مم أمر ربه ،لنهم بالطائف يرجو منهم نصرته على قومه ومساعدته حتى يت ّ
أقرب الناس إلى مكة وله فيهم خؤولة ،فإن أم هاشمبن عبد مناف عاتكة
سَليمبن منصور وهم حلفاء ثقيف ،فلما توجه إليهم ومعه السلمية من بني ُ
حبيب ة :عبد يال ِْيل ومسعود و َ موله زيدبن حارثة قابل رؤساءهم وكانوا ثلث ً
أولد عمروبن عمير الثقفي ،فعرض عليهم نصرته حتى يؤدي دعوته ،فرّدوا
عليه ردا ً قبيحًا ،ولم يَر منهم خيرًا ،وحينذاك طلب منهم أن ل ُيشيعوا ذلك
عنه كيل تعلم قريش فيشتد ّ أذاهم لنه استعان عليهم بأعدائهم ،فلم تفعل
ثقيف ما رجاه منهم عليه الصلة والسلم ،بل أرسلوا سفهاءهم وغلمانهم
يقفون في وجهه في الطريق ويرمونه بالحجارة ،حتى أدموا عقبه ،وكان
ل بها ،وكانت زيدبن حارثة يدرأ عنه إلى أن انتهى إلى شجرة كْرم واستظ ّ
شيبة ابني ربيعة وهما من أعدائه وكانا في البستان، بجوار بستان لُعتبة و َ
وتي ُ
فق ّ َ
م إني أشكو إليك ضع َ ً
فكره رسول الله مكانهما فدعا الله قائل» :الله ّ
ب المستضعفين، هواني على الناس ،يا أرحم الراحمين أنت ر ّ وقِل ّ َ
ة حيلتي و َ
وأنت ربي ،إلى من تكلني ،إلى بعيد يتجّهمني ،أم إلى عدوَ ملكته أمري؟ إن
ي فل أبالي« فلما رآه ابنا ربيعة َرّقا له وأرسل إليه لم يكن بك غضب عل ّ
داس .فلما ابتدأ رسول الله ف من العنب مع مولى لهما نصراني اسمه عَ ّ قط ْ ٍ بِ ِ
داس: صلى الله عليه وسلم يأكل قال» :بسم الله الرحمان الرحيم« فقال عَ ّ
ي
هذا الكلم ما يقوله أهل هذه البلد ،فقال له عليه الصلة والسلم» :من أ ّ
البلد أنت وما دينك؟« فقال :نصراني من ن ِي َْنوى ،فقال له عليه الصلة
والسلم» :من قرية الرجل الصالح ُيوُنسبن مّتى؟« قال :وما علمك بيونس؟
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
فقرأ له من القرآن ما فيه قصة يونس ،فلما سمع ذلك عداس أسلم ،وأتى
جبريل برسالة من الله ج ّ
ل ذكره ،وقال :إن الله أمرني أن أطيعك في قومك
لما صنعوه
م اهدِ قومي فإنهم ل يعلمون« فقال معك ،فقال عليه الصلة والسلم» :الله ّ
ماك الرؤوف الرحيم. جبريل :صدق من س ّ
من ينتمون خَلة وفد عليه نفر من الجن يستمعون القرآن وهم م ّ ولما كان بن َ ْ
إلى موسى صلوات الله عليه ،فلما سمعوه أنصتوا له ورجعوا إلى قومهم
منذرين وأبلغوهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل في
مان فَل َ ّ قْرءا َ ن ال ْ ُ مُعو َ ست َ ِ ن يَ ْ ج ّن ال ْ ِ م َ فرا ً ّ ك نَ َ صَرفَْنآ إ ِل َي ْ َ سورة الحقاف} :وَإ ِذ ْ َ
ْ ُ َ ْ ّ َ
مَنآ ن)َ (29قالوا ياقَوْ َ منذِِري َ مِهم ّ ى وَلوْا إ ِلى قَوْ ِ ض َ ما قُ ِ صُتوا ْ فَل َ ّ ضُروهُ َقاُلوا ْ أن ِ ح ََ
ق ْ َ ّ ً ُ ً
معَْنا ك َِتابا أنزِ َ
ح ّ دى إ ِلى ال َ ن ي َد َي ْهِ ي َهْ ِ ما ب َي ْ َ دقا ل َ ص ّ م َ سى ُ مو َ من ب َعْد ِ ُ ل ِ س ِ إ ِّنا َ
َ ْ ّ ْ َ
من م ّ ُ
فْر لك ْ مُنوا ب ِهِ ي َغْ ِ ى اللهِ َوءا ِ ع َ جيُبوا َدا ِ مَنآ أ ِ َ
م) (30ياقوْ َ
َ قي ٍ ست َ ِ م ْ ق ّ ري ٍ وَإ َِلى ط ِ
َ
ز
ج ٍ معْ ِ س بِ ُ ى الل ّهِ فَل َي ْ َ ع َ ب َدا ِ ج ْ من ل ّ ي ُ ِ م) (31وَ َ ب أِلي ٍَ ذا ٍ ن عَ َ م ْ م ّ جْرك ُ ْ م وَي ُ ِ ذ ُُنوب ِك ُ ْ
ُ ُ
ى
ح َ ل أو ِ ن) (32قُ ْ مِبي ٍل ّ ضَل ٍ ك ِفى َ من ُدون ِهِ أوْل َِيآء أوْل َئ ِ َ ه ِ س لَ ُ ض وَل َي ْ َ ِفى ال ْْر َ
دى إ َِلى إل َ َ
جبًا) (1ي َهْ ِ معَْنا قُْرءان َا ً عَ َ س ِ قاُلوا ْ إ ِّنا َ ن فَ َ ج ّ ن ال ْ ِ م َ فٌر ّ مع َ ن َ َ ست َ َها ْ ى أن ّ ُ ِ ّ
حدًا)(2 ك بربنآ أ َ َ ر نش لن َ و ه ب نا م َ
ئا َ ف ْ
َِ َّ َ ّ ِ َ ّ ِ ِ َ الّر ِ
د ش
وفد د َْوس
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة الط ّ َ
فْيلبن عمرو
دوسي ،من قبيلة دوس ،عشيرة أبي هريرة الصحابي الشهير ،وكان ال ّ
ً ً
الطفيل شريفا في قومه شاعرا نبيل ،فلما قرأ عليه القرآن أسلم ،فقال لهً
رسول الله» :اذهب إلى قومك فادعهم إلى السلم« ودعا لهم رسول الله
م اهد ِ د َْوسًا« ،فتوجه إليهم الطفيل صلى الله عليه وسلم فقال» :الله ّ
ه على الرسول مرة ثانية َ
ودعاهم فآمن بدعوته كثير منهم .وستأتي وِفاد َت ُ ُ
بقومه في المدينة.
السراء والمعراج
وقبل الهجرة أكرمه الله بالسراء والمعراج ،أما السراء فهو توجهه ليل ً إلى
بيت المقدس بإ ِْيلياء ورجوعه من ليلته ،وأما المعراج فهو صعوده إلى العالم
العلوي ،وقد قال جمهور أهل السّنة :إن ذلك كان بجسمه الشريف ،وكانت
عائشة رضي الله عنها تمنع رؤية رسول الله ربه ،وتقول :من قال إن محمدا ً
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله ،والسراء مذكور في القرآن الكريم،
َ
ن سَرى ب ِعَب ْدِهِ ل َي ْل ً ّ
م َ ن ال ّ ِ
ذى أ ْ حا َ
سب ْ َ
قال تعالى في أول سورة السراءُ :
حَرام ِ إ َِلى ) ( ) {1: ،السراء.(1 :
جدِ ال ْ َ
س ِ ال ْ َ
م ْ
ح أحاديثه ما رواه الشيخان وأما المعراج فقد ورد في صحيح السّنة ،وأص ّ
ونقله القاضي عياض في شفائه عن أنسبن مالك رضي الله عنه قال :قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم» :أتيت بالُبراق ــــ وهو داّبة فوق الحمار
ت
ت بي َ ودون البغل يضع حافره عند منتهى ط َْرفه ــــ قال :فركبته حتى أتي ُ
المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها النبياء ،ثم دخلت المسجد فصليت
ر ،وإناٍء من لبن ،فاخترت فيه ركعتين ،ثم خرجت فأتاني جبريل بإناٍء من خم ٍ
ج بنا إلى السماء ،فاستفتح جبريل اللبن ،فقال جبريل :اخترت الفطرة .ثم عُرِ َ
فقيل :من أنت؟ قال جبريل ،قيل :ومن معك؟ قال :محمد ،قيل :وقد ُبعث
إليه؟ قال :قد بعث إليه ،ففتح لنا فإذا بآدم ،فرحب بي ،ودعا لي بخير .ثم
عرج بنا إلى السماء الثانية ،فاستفتح جبريل ،فقيل :من أنت؟ قال :جبريل،
قيل :ومن معك؟ قال :محمد ،قيل :وقد بعث إليه؟ قال :قد بعث إليه ،ففتح
عوا لي بخير .ثم لنا ،فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى ابن مريم فرحبا ود َ َ
عَُرج بنا إلى السماء الثالثة فذكر مثل الول ،ففتح لنا وإذا أنا بيوسف ،وإذا هو
ج بنا إلى السماء ُ
قد أعطي شطر الحسن ،فرحب ودعا لي بخير .ثم عُرِ َ
الرابعة فذكر مثله ،فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير .قال تعالى في
كانا ً عَل ِي ًّا)(57
م َ
سورة مريم :وََرفَعَْناه ُ َ
ّ
وفي صبيحة ليلة السراء جاء جبريل وعلم رسول الله كيفية الصلة وأوقاتها،
فيصلي ركعتين إذا ظهر الفجر ،وأربع ركعات إذا زالت الشمس ومثلها إذا
ضوعف ظل الشيء ،وثلثا ً إذا غربت ،وأربعا ً إذا غاب الشفق الحمر .وكان
عليه الصلة والسلم قبل مشروعية الصلة يصلي ركعتين صباحًا ،ومثلهما
مساًء كما كان يفعل إبراهيم عليه السلم.
صاروا ذوي النفوذ فيها والقوة ،وكان اليهود إذا خذلوا يستفتحون على
أعدائهم باسم نبي ُيبعث قد قرب زمانه .ولما اختلفت كلمة العرب فيما بينهم
قت عصا اللفة ،حالفوا اليهود على أنفسهم ،فحالف الوس بني قريظة، و ُ
ش ّ
وحالف الخزرج بني النضير وبني قينقاع ،وآخر اليام بينهم يوم ُبعاث قتل فيه
ي ابن سلول من الخزرج ،وأبو عامر ُ
أكثر رؤسائهم ولم يبق إل عبد اللهبن أب َ ّ
دمه اللهالراهب من الوس ،ولذلك كانت عائشة تقول :كان يوم ُبعاث يوما ً ق ّ
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقد خطر ببال رؤساء الوس أن يحالفوا
سبن رافع مع حيسر أن َسبن معاذ وأبا ال َ قريشا ً على الخزرج ،فأرسلوا إيا َ
جماعة يلتمسون ذلك الحلف في قريش ،فلما جاؤوا مكة جاءهم رسول الله
وقال» :هل لكم في خير مما جئتم له؟ أن تؤمنوا بالله وحده ،ول تشركوا
به شيئًا ،وقد أرسلني الله إلى الناس كافة« ثم تل عليهم القرآن ،فقال
إياسبن معاذ :يا قوم هذا والله خير مما جئنا له ،فحصبه أبو الحيسر وقال له:
دعنا منك لقد جئنا لغير هذا ،فسكت.
العقبة الولى
شرة من الخزرج ،واثنان ً
فلما كان العام المقبل قدم اثنا عشر رجل ،منهم عَ َ
من الوس ،وهم :أسعدبن زرارة ،وعوف ومعاذ ابنا الحارث ،ورافعبن مالك،
عبادةبن الصامت ،ويزيدبن ثعلبة ،والعباسبن عبادة، وذكوانبن قيس ،و ُ
وعقبةبن عامر وقطبةبن عامر ،وهؤلء من الخزرج ،وأبو الهيثمبن الت ّّيهان،
ويمبن ساعدة وهما من الوس ،فاجتمعوا به عند العقبة ،وأسلموا وبايعوا وع ُ َ
رسول الله على بيعة النساء ،وذلك قبل أن تفترض الحرب ،على أل يشركوا
بالله شيئًا ،ول يسرقوا ول يزنوا ،ول يقتلوا أولدهم ،ول يأتوا ببهتان يفترونه
بين أيديهم وأرجلهم ،ول يعصونه في معروف ،فإن وََفوا فلهم الجنة ،وإن
غشوا من ذلك شيئا ً فأمرهم إلى الله عز وجل ،إن شاء غفر وإن شاء عذب، َ
وهذه هي العقبة الولى.
فأرسل لهم عليه الصلة والسلم مصعببن عمير العبدري وعبد الله ابن ُأم
مكتوم ــــ وهو ابن خالة خديجة ــــ ُيقرآنهم القرآن ،ويفقهانهم في الدين،
ونزل مصعب على أحد المبايعين أبي ُأمامة أسعدبن زرارة ،وصار يدعو بقية
الوس والخزرج للسلم .وبينما هو في بستان مع أسعدبن زرارة إذ قال
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
العقبة الثانية
ولما كان وقت الحج في العام الذي يلي البيعة الولى ،قدم مكة كثيرون
مشركيهم ،ولما قابل وفدهم رسول الله، منهم يريدون الحج ،وبينهم كثير من ُ
واعدوه المقابلة ليل ً عند العقبة ،فأمرهم أن ل ُينّبهوا في ذلك الوقت نائمًا،
ول ينتظروا غائبًا ،لن كل هذه العمال كانت خفية من قريش كيل ي ّ
طلعوا
على المر ،فيسَعوا في نقض ما أبرم ،شأنهم مع رسول الله في أول أمره.
من معهم ولما فرغ النصار من حجهم توجهوا إلى موعدهم كاتمين أمرهم ع ّ
من المشركين ،وكان ذلك بعد مضي ثلث الليل الول ،فكانوا يتسللون الرجل
ل ،منهم اثنان وستون من الخزرج، والرجلين حتى تم عددهم ثلثة وسبعين رج ً
سيبة بنت كعب من بني وأحد عشر من الوس ،ومعهم امرأتان وهما :ن ُ َ
سلمة ،ووافقهم رسول الله هناك وليس النجار ،وأسماء بنت عمرو من بني َ
معه إل عمه العباسبن عبد المطلب وهو على دين قومه ،ولكن أراد أن يحضر
ن متوثقا ً له ،فلما اجتمعوا عّرفهم العباس بأن ابن أخيه لم أمر ابن أخيه ليكو َ
من أظهر له العداوة ً ّ
مَنعة من قومه حيث لم يمكنوا منه أحدا م ّ يزل في َ
والبغضاء ،وتحملوا من ذلك أعظم الشدة ،ثم قال لهم :إن كنتم ترون أنكم
من خالفه ،فأنتم وما تحملتم من ذلك، وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه م ّ
وإل فدعوه بين عشيرته فإنه لبمكان عظيم .فقال كبيرهم المتكلم عنهم
الَبراءبن معرور :والله لو كان لنا في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه ،ولكنا
مَهجنا دون رسول الله ،وعند ذلك قالوا لرسول نريد الوفاء والصدق وبذل ُ
الله صلى الله عليه وسلم :خذ لنفسك ولربك ما أحببت .فقال» :أشترط
لربي أن تعبدوه وحده ول تشركوا به شيئًا ،ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون
ن :يات عليكم« .فقال له أبو الهيثمبن الت ّّيها ِ منه نساءكم وأبناءكم متى قدم ُ
ً
رسول الله إن بيننا وبين الرجال عهودا وإّنا قاطعوها ،فهل عسيت إن نحن
فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم عليه الصلة
والسلم ،وقال:
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ولما رجع النصار إلى المدينة ظهر بينهم السلم أكثر من المرة الولى .أما
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فازداد عليهم أذى المشركين لما
سمعوا أنه حالف قوما ً عليهم ،فأمر عليه الصلة والسلم جميع المسلمين
بالهجرة إلى المدينة ،فصاروا يتسّللون خيفة قريش أن تمنعهم .وأول من
ج أم سلمة ومعه زوجه ،وكان قومها منعوها خرج أبو سلمة المخزومي زو ُ
ً
منه ولكنهم أطلقوها بعد َفلحقت به .وتتابع المهاجرون فرارا بدينهم ليتمكنوا
من عبادة الله الذي امتزج حّبه بلحمهم ودمهم ،حتى صاروا ل يعبؤون
بمفارقة أوطانهم والبتعاد عن آبائهم ما دام في ذلك رضا الله ورسوله .ولم
يبق بمكة منهم إل أبو بكر وعلي وصهيب وزيدبن حارثة ،وقليلون من
كنهم حاُلهم من الهجرة ،وقد أراد أبو بكر الهجرة المستضعفين الذين لم تم ّ
سلك فإني أرجو أن يؤذن لي« ،فقال فقال له عليه الصلة والسلم» :على رِ ْ
أبو بكر :وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال» :نعم« .فحبس أبو بكر نفسه على
مر استعدادا ً لذلك.
س ُ
رسول الله ليصحبه ،وعلف راحلتين كانتا عنده ورق ال ّ
دار الندوة
س الشيطان حينما طرق مسامعهم مبايعة م ّأما قريش فكانوا كأنهم أصيبوا ب َ
ذود عنه حتى الموت ،فاجتمع رؤساؤهم وقادتهم في دار النصار له على ال ّ
الندوة وهي دار قصّيبن كلب التي كانت قريش ل تقضي أمرا ً إل فيها
يتشاورون ما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خافوه،
فقال قائل منهم :نخرجه من أرضنا كي نستريح منه ،فُرِفض هذا الرأي لنهم
قالوا :إذا خرج اجتمعت حوله الجموع لما يرونه من حلوة منطقه وعذوبة
وثقه ونحبسه حتى يدركه ما أدرك الشعراء قبله من لفظه .وقال آخر :ن ُ ْ
الموت ،فُرِفض هذا الرأي كسابقه ،لنهم قالوا :إن الخبر ل يلبث أن يبلغ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ضلونه على الباء ف ّأنصاره ،ونحن أدرى الناس بمن دخل في دينه حيث ي ُ َ
والبناء ،فإذا سمعوا ذلك جاؤوا لتخليصه وربما جّر هذا من الحرب علينا ما
نحن في ِغنى عنه .وقال لهم طاغيتهم :بل نقتله ،ولنمنع بني أبيه من الخذ
بثأره ،نأخذ من كل قبيلة شابا ً جلدا ً يجتمعون أمام داره ،فإذا خرج ضربوه
ضربة رجل واحد ،فيفترق دمه في القبائل فل يقدر بنو عبد مناف على حرب
قريش كلهم بل يرضون بالدية ،فأقّروا هذا الرأي .هذا مكرهم ،ولكن إرادة
ن{ )النفال(30 : ري َ
ماك ِ ِخي ُْر ال ْ َ ه َوالل ّ ُ
ه َ مك ُُر الل ّ ُ مك ُُرو َ
ن وَي َ ْ الله فوق كل إرادة وَي َ ْ
فأعلم نبيه بما دبره العداء في سّرهم ،وأمره باللحاق بدار هجرته ،بدار فيها
ينشر السلم ،ويكون فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم العزة والمنعة.
وهذا من الحكمة بمكان عظيم فإنه لو انتشر السلم بمكة لقال المبغضون:
ن
مدوا إلى شخص منهم ،وأوعزوا إليه أ ْ ك العرب ،فع َ مل ْ َ
إن قريشا ً أرادوا ُ
دعي هذه الدعوى حتى تكون وسيلة لنيل مآربهم ،ولكنهم كانوا له أعداء ي ّ
داء ،آذوه شديد الذى حتى اختار الله له مفارقة بلدهم والبعد عنهم. أل ّ
ن له في الهجرة فتوجه من ساعته إلى صديقه أبي بكر ،وأعلمه أن الله قد أذِ َ
ة ،فقال :نعم ،ثم عرض عليه إحدى راحلتيه اللتين كانتا فسأله أبو بكر الصحب َ
جَراب، فَرة في ِ س ْ صنعت لهما ُ ث الجهاز ،و ُ دتين لذلك ،فجهزهما أح ّ مع ّ
فقطعت أسماء بنت أبي بكر ِنطاقها ،وربطت به على فم الجراب ،واستأجرا
ديلبن بكر ،وكان هاديا ً ماهرًا ،وهو على دين كفار ُ
عبد اللهبن أَريقط من بني ال ّ
ل .ثم فارق مَناه ودفعا إليه راحلتيهما ،وواعداه غار ثور بعد ثلث ليا ٍ قريش فأ ِ
ً
الرسول عليه الصلة والسلم أبا بكر وواعده المقابلة ليل خارج مكة ،وكانت
هذه الليلة هي ليلة استعداد قريش لتنفيذ ما أقّروا عليه ،فاجتمعوا حول باب
الدار ،ورسول الله داخله ،فلما جاء ميعاد الخروج ،أمر ابن عمه علي ّا ً بالمبيت
مكانه كيل يقع الشك في وجوده أثناء الليل ،فإنهم كانوا يرددون النظر من
جى علي ّا ً ببرده ،وخرج على القوم وهو شقوق الباب ليعلموا وجوده ،ثم س ّ
ً ْ يقرأ} :وجعل ْنا من بي َ
م لَ َ
م فهُ ْ شي َْناهُ ْ ْ َ
سد ّا فأغ َ م َ
فهِ ْ
خل ِن َ سد ّا ً و ِ
م ْ م َ ديهِ ْ
ن أي ْ َِ َ َ َ ِ َْ ِ
ن)(9 صُرو َي ُب ْ ِ
أما المشركون فلما علموا بفساد مكرهم وأنهم إنما باتوا يحرسون عليبن أبي
طالب ل محمدبن عبد الله ،هاجت عواطفهم ،فأرسلوا الطلب من كل جهة،
وجعلوا الجوائز لمن يأتي بمحمد أو يدل عليه ،وقد وصلوا في طلبهم إلى
ذلك الغار الذي فيه ط ِل ْب َُتهم بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه لنظرهما ،حتى
معََنا{ ن الل ّ َ
ه َ ن إِ ّ أبكى ذلك أبا بكر ،فقال له عليه الصلة والسلم :ل َ ت َ ْ
حَز ْ
ن لحد منهم التفاتة ح ْ)التوبة (40 :فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم ي َ ِ
إلى ذلك الغار بل صار أعدى العداء أميةبن خلف يبعد لهم اختفاء المطلوبين
تفي مثل هذا الغار .فأقاما فيه ثلث ليال حتى ينقطع الطلب .وكان يبي ُ
حر،
س َن فَي ُد ِْلج من عندهما ب َ ف ول َ ِ
ق ٌ عندهم عبد اللهبن أبي بكر وهو شاب ثق ٌ
ً
فيصبح مع قريش بمكة كبائت بها ،فل يسمع أمرا يكتادون به إل وعاه حتى
يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلم ،وكان عامربن فَُهيرة يروح عليهما
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
بقطعة من غنم يرعاها حين تذهب ساعة من العشاء ،ويغدو بها عليهما ،فإذا
خرج من عندهما عبد الله َتبع أثره عامر بالغنم كيل يظهر لقدميه أثر .ولما
انقطع الطلب خرجا بعد أن جاءهما الدليل بالراحلتين صبح ثلث ،وسارا
متبعين طريق الساحل.
س َ
ل مد ِْلجي ،وكان قد رأى ُر ُ وفي الطريق لحقهم طالبًاُ ،
سراقةبن مالك ال ُ
مشركي قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما مئة
مدِلج إذ ناقة لمن قتله أو أسره .فبينما هو في مجلس من مجالس قومهبن ُ
سراقة إني رأيت آنفا ً أقبل رجل منهم حتى قام عليهم وهم جلوس فقال :يا ُ
سود َة ً بالساحل أراها محمدا ً وأصحابه ،فعرف سراقة أنهم هم ،ولكنه أراد َ
أ ْ
مخبره عن طلبهم ،فقال :إنك رأيت فلنا ً وفلنا ً انطلقوا بأعيننا أن يثني عزم ُ
ة لهم ،ثم لبث في المجلس ساعة ،وقام وركب فرسه ،ثم سار، ضال ّ ً
يبتغون َ
حتى دنا من الرسول ومن معه ،فعثرت به فرسه فخّر عنها ،ثم ركبها ثانيا ً
وسار حتى صار يسمع قراءة المصطفى وهو ل يلتفت ،وأبو بكر ُيكِثر اللتفات
فساخت قائمتا فرس سراقة في الرض حتى بلغتا الركبتين فخّر عنها ،ثم
طع لثرهما غبار ساطع في س َزجرها حتى نهضت ،فلم تكد ُتخرج يديها حتى َ
دى ،وداخله رعب عظيم، س ً
م سراقة أن عمله ضائع ُ السماء مثل الدخان ،فعل ِ َ
ن معه حتى جاءهم ،ويقول م ْفناداهما بالمان فوقف عليه الصلة والسلم و َ
سراقة :وقع في نفسي حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول الله، ُ
فقلت :إن قومك قد جعلوا فيك الدية ،وأخبرهما بما يريد بهما الناس ،وعرض
ف عّنا ،فسأله سراقة عليهما الزاد والمتاع فلم يأخذا منه شيئا ً بل قال له :أخ ِ
ن ،فأمر أبا بكر فكتب .وبذلك انقضت هذه المشكلة ب أم ٍ
أن يكتب له كتا َ
التي أظهر الله فيها عنايته برسوله.
وكان أهل المدينة حينما سمعوا بخروج رسول الله وقدومه عليهم يخرجون
حّرة حتى يرّدهم حّر الظهيرة ،فانقلبوا يوما ً بعد أن طال انتظارهم،
إلى ال َ
ُ ُ
فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لمر ينظر
إليه ،فبصر برسول الله وأصحابه يزول بهم السراب يظهرهم تارة ويخفيهم
كم ــــ أي حظكمجد ّ ُ
أخرى ،فقال اليهودي بأعلى صوته :يا معشر العرب هذا َ
حّرة.
قوا رسول الله بظهر ال َ ــــ الذي تنتظرون ،فثاروا إلى السلح فتل ّ
قباء
النزول ب ُ
فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمروبن عوف بقباء .والذي
حققه المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان في اليوم الثاني من ربيع
الول الذي يوافق 20سبتمبر سنة ،622وهذا أول تاريخ جديد لظهور
السلم بعد أن مضى عليه ثلث عشرة سنة ،وهو مضيق عليه من مشركي
قريش ،ورسول الله ممنوع من الجهر بعبادة ربه ،أما الن فقد آواه الله هو
وصحابته رضوان الله عليهم بعد أن كانوا قليل ً يتخطفهم الناس.
هجرة النبياء
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أعمال مكة
هذا ،ولنبّين لك مجمل ما دعا إليه الرسول عليه الصلة والسلم بمكة من
أصول الدين وذلك أمران:
الول :العتقاد بوحدانية الله وأن ل ُيشرك معه في العبادة غيره ،سواء كان
ة أو بنتا ً كما عليه بعض
ركو مكة ،أو أبا ً أو زوج ًمش ِذلك الغير صنما ً كما يفعل ُ
الطوائف الخرى كالنصارى ،ولول العتقاد بوحدانية الله ما ك َّلف أحد نفسه
تكاليف الحياة من آداب الخلق بل كان يسير فيما تأمره به نفسه من
شهواتها وملذاتها ما دام ذلك خافيا ً عن الناس.
الثاني :العتقاد بالبعث والنشور وأن هناك يوما ً ثانيا ً للنسان ُيجازى فيه على
ما صنعه في الدنيا إن خيرا ً فخير وإن شّرا ً فشر ،وعلى هذين المرين جاء
غالب الي المكّية ،فقّلما نرى سورة من سور مكة إل مشحونة بالستدلل
عليهما وتوبيخ من تركهما ،وكل ذلك بأساليب تأخذ بالعقل ،وبراهين ل تحتاج
دى.ما يضيع الوقت س ً لفلسفة الذين يشغلون أنفسهم بما ل طائل تحته م ّ
ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة من القرآن معظمه ،وهو
ما عدا ثلثا ً وعشرين سورة منه ،وهي :البقرة ،آل عمران ،النساء ،المائدة،
النفال ،التوبة ،الحج ،النور ،الحزاب ،القتال ،الفتح ،الحجرات ،الحديد،
المجادلة ،الحشر ،الممتحنة ،الصف ،الجمعة ،المنافقون ،التغابن ،الطلق،
التحريم ،النصر ،هذه كلها مدنية وباقي القرآن م ّ
كي.
كلثومبن قباء ،نزل على شيخ بني عمرو ُ ولما نزل عليه الصلة والسلم ب ُ
َ
خيثمة لَنه كانالهدم ،وكان يجلس للناس ويتحدث لهم في بيت سعدبن َ
سْنح )محلة بالمدينة( على خارجةبن زيد من بني حارث عزبًا .ونزل أبو بكر بال ّ
من الخزرج.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
مسجد ُقباء
سس فيها مسجد قباء الذي وصفه الله بأنه وأقام رسول الله بقباء ليالي أ ّ
مسجد ُأسس على التقوى من أول يوم ،وصّلى فيه عليه الصلة والسلم بمن
معه من النصار والمهاجرين ،وهم آمنون مطمئنون ،وكانت المساجد على
عهد رسول الله في غاية من البساطة ليس فيها شيء مما اعتاده ُبناة
مهم إل له ّج ّالمساجد في القرون الخيرة ،لن الرسول وأصحابه لم يكن ُ
منصرفا ً لتزيين القلوب ،وتنظيفها من حظ الشيطان ،فكان سور المسجد ل
يتجاوز القامة وفوقه مظلة ي ُّتقى بها حّر الشمس.
أول جمعة
وأدركته عليه الصلة والسلم صلة الجمعة في بني سالمبن عوف ،فنزل
لها وهذه أول جمعة له عليه الصلة والسلم ،وأول خطبة خطبها عليه وص ّ
الصلة والسلم حمد الله ،وأثنى عليه ،ثم قال» :أما بعد ،أيها الناس فقدموا
غنمه ليس لها راٍع ،ثم ن َ
دكم ،ثم لي َد َعَ ّ ن أح ُ
ق ّ
صعَ َن والله لي ُ ْلنفسكم ،ت َعُْلم ّ
ن له ربه ــــ ليس له َترجمان ول حاجب يحجبه دونه ــــ :ألم يأتك ليقول َ ّ
ن
ظر ّت لنفسك؟ فََلين ُ م َ
ت عليك؟ فما قد ّ ْ ضل ُ
ل ،وأف َ رسولي فبّلغك ،وآتيتك ما ً
دامه فل يرى غير جهنم ،فمن شمال ً فل يرى شيئًا ،ثم لَينظر ّ
ن قُ ّ يمينا ً و ِ
ي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ،ومن لم يجد فبكلمة ق َ استطاع أن ي َ ِ
ة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ،والسلم جَزى الحسن ُ ن بها ت ُ ْ طيبة؛ فإ ّ
عليكم ورحمة الله وبركاته«.
ن رسول الله صلى جارِ فخرج إليه ّن َم ْجاِريا حّبذا محمد ٌ ِ
جوارٍ من بني الن ّ ّ ن َ
ح ُ
نَ ْ
الله عليه وسلم فقال» :أتحببنني؟« فقلن :نعم ،فقال» :الله يعلم أن قلبي
يحبكن« واختار عليه الصلة والسلم النزول في الد ّوْرِ السفل من دار أبي
ض رضي الله عنه ذلك كرامة لرسول أيوب ليكون أريح لزائريه ،ولكن لم ير َ
دثه وطء القدام أو الماء الذي الله لما يمكن أن يصيبه من التراب الذي ُيح ِ
كسرت من زوجته جّرة ماء بالليل ،فقام هو وهي يهراق ،فقد اتفق أن ُ
بقطيفتهما التي ليس لهما غيُرها ،يمسحان الماء خوفا ً على رسول الله،
ن
فا ُ ل أبو أيوب يستعطفه حتى كان في العِْلو ،وكانت تأتيه ال ِ
ج َ ولذلك لم ي ََز ْ
ُ
كل ليلة من سَراة النصار كسعدبن عبادة وأسعدبن زرارة وأم زيدبن َثابت،
فما من ليلة إل وعلى بابه الثلث أو الربع من جفان الثريد.
نزول المهاجرين
ولما تحول مع رسول الله أغلب المهاجرين تنافس فيهم النصار ،فح ّ
كموا
قرعة.
القرعة بينهم ،فما نزل مهاجري على أنصاري إل ب ُ
أُ ُ
خوّةُ السلم
ومن يتأمل إلى هذه المحبة التي يستحيل أن تكون بتأثير بشر ،بل بفضل من
الله ورحمته ،يفهم كيف انتصر هؤلء القوام على معانديهم من المشركين
وأهل الكتاب مع قّلة الَعدد والُعدد.
وكان النصار يؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ،قال تعالى في سورة
م وَل َجَر إ ِل َي ْهِ ْ ها َن َ م ْ ن َحّبو َ م يُ ِمن قَب ْل ِهِ ْ ن ِما َ داَر َوالي َ وءوا ال ّ ن ت َب َ ّذي َالحشرَ} :وال ّ ِ
َ
م وَلوْ َ َ َ ْ ُ
م
ن ب ِهِ ْكا َ سهِ ْف ِ ن عَلى أن ُ مآ أوُتوا وَي ُؤْث ُِرو َ م ّ ة ّ ج ًحا َم َ دورِهِ ْ ص ُن ِفى ُ دو َ
ج ُيَ ِ
ن{ )الحشر .(9 :وهذا أعلى ْ َ ُ
سهِ فَأوْلئ ِ َ من ُيوقَ ُ
حو َ فل ِ ُ
م ْ م ال ُ ك هُ ُ ف ِ ح نَ ْش ّ ة وَ َ
ص ٌ
صا َ خ َ َ
درجات الخوة ،وكل ذلك كانوا يرونه قليل ً بالنسبة لما وجب عليهم لخوانهم،
ن بينهم الخاء ،آخى بين مك ّ َ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لي ُ َ
ُ
المهاجرين والنصار ،فكان كل أنصاري ونزيله أخوين في الله .ومن العبث أن
ضح للقارىء أن هذه الخوة كانت أرقى بكثير من الخوة نكلف القلم أن يو ّ
ً
ل ذلك للحساس السلمي فإنه أفصح منطقا من القلم. العصبية ،بل ن َك ِ ُ
ً ً
ف الله بينها حتى صارت شيئا واحدا في أجسام ّ َ
وعلى الجمال فتلك قلوب أل َ
متفرقة ،وعسى الله أن يوّفق مسلمي عصرنا إلى هذا الخاء حتى يسودوا
كما ساد المتحدون ،وكان هذا الخاء على المواساة والحق ،وأن يتوارثوا بعد
الموت دون ذوي الرحام ،وكان عليه الصلة والسلم يقول لكل اثنين» :تآخيا
خوين أخوين« ودام هذا الميراث إلى أن أنزل الله سبحانه قوله في في الله أ َ
َ ُ
ه{ ب الل ّ ِ ض ِفى ك َِتا ِ م أوْلى ب ِب َعْ ٍ
َ ضهُ ْ حام ِ ب َعْ ُسورة الحزاب} :وَأوُْلو ال ْْر َ
)الحزاب.(6 :
هجرة أهل البيت
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ولما استقر عليه الصلة والسلم بالمدينة أرسل زيدبن حارثة وأبا رافع إلى
مكة ليأتيا بمن تخّلف من أهله ،وأرسل معهما عبد اللهبن أ َُريقط يدلهما على
سودة زوجه، ُ
دما بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه عليه الصلة والسلم ،و َ ق ِ
الطريق ،ف َ
وُأم أيمن زوج زيد وابنهما أسامة ،وأما زينب فمنعها زوجها أبو العاصبن
م رومان ،زوج أبيه ،وعائشة ُ
الربيع ،وخرج من الجميع عبد اللهبن أبي بكر بأ ّ
وام ،وكانت حامل ً بابنها عبد الله ،وهو أول أخته ،وأسماء زوج الزبيربن الع ّ
مولود للمهاجرين بالمدينة.
مى المدينة ح ّ
ُ
ولم يكن هواء المدينة في البدء موافقا ً للمهاجرين من أهل مكة ،فأصاب
شكوا إليه المر قال:مى ،وكان رسول الله يُعودهم ،فلما َ كثيرا ً منهم ال ُ
ح ّ
دها وفيم ّ
ت إلينا مكة وأشد ،وبارك لنا في ُ
م حبب إلينا المدينة كما حبب َ »الله ّ
ل وعل دعوته ،وعاش ج ّفة« .فاستجاب الله َ ح َ
ج ْصاعها ،وانقل وباءها إلى ال ُ
المهاجرون في المدينة بسلم.
منع المستضعفين من الهجرة
ومنع مشركو مكة بعضا ً من المسلمين عن الهجرة ،وحبسوهم وعذبوهم،
منهم :الوليدبن الوليد ،وعّياشبن أبي ربيعة ،وهشامبن العاص ،فكان عليه
الصلة والسلم يدعو لهم في صلته ،وهذا أصل القنوت ،وقد حصل في
ل في الصلة مختلفة ،فكان في وتر العشاء ،وصلة أوقات مختلفة َومحا ّ
الصبح بعد الركوع وقبله ،فروى كل صحابي ما رآه ،وهذا سبب اختلف الئمة
في مكان القنوت.
سنة الولى ال ّ
بناء المسجد
مْبرك ناقته أمام محّلة ثم شرع عليه الصلة والسلم في بناء مسجده في َ
حجر مْرَبدا ً للتمر يملكه غلمان يتيمان في ِ بني مالكبن النجار ،وكان محله ِ
ً
مربد ليتخذه مسجدا ،فقال :بل أسعدبن زرارة ،فدعا الغلمين ،وساومهما بال ِ
ه لك يا رسول الله ،فأبى عليه الصلة والسلم أن يقبله منهما هبة بل ن َهَب ُ ُ
ابتاعه منهما ،وكان فيه قبور للمشركين وبعض حفر ونخل ،فأمر بالقبور
قطع ،ثم أمر باتخاذ اللِبن فاتخذ سويت ،وبالّنخل ف ُت ،وبالحفر فَ ُ
فُنبش ْ
وشرعوا في البناء به ،وجعلوا عضادتي الباب من الحجارة ،وسقفوه بالجريد،
وجعلت عمده من جذوع النخل ،ول يزيد ارتفاعه عن القامة إل قلي ً
ل ،وقد
غب المسلمين في العمل ،وصاروا يرتجزون عمل فيه رسول الله بنفسه لير ّ
وهو يقول معهم:
جعلت قبلة المسجد مهاجرهْ و ُاللهم ل خيَر إل خيُر الخرهفارحم النصاَر وال ُ
جعل له ثلثة أبواب ،ثم حصبت أرضه لن في شماله إلى بيت المقدس ،و ُ
المطر كان قد أّثر فيه ،فأمر عليه الصلة والسلم بحصبه ،ولم يزين المسجد
سودة بنت زمعة، ش حتى ول بالحصر ،وُبني بجانبه حجرتان ،إحداهما ل َ فُر ٍ بِ ُ
ً
والخرى لعائشة ،ولم يكن عليه الصلة والسلم متزوجا غيرهما إذ ذاك،
وكانت الحجرتان متجاورتين وملصقتين للمسجد على شكل بنائه ،وصارت
الحجرات تبنى كلما جاءت زوج.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
بدء الذان
أوجب الله الصلة على المسلمين ليكونوا دائما ً متذكرين عظمة العل ّ
ي
محكم كتابه في العلى ،فيتبعون أوامره ،ويجتنبون نواهيه ،ولذلك قال في ُ
ر{ )العنكبوت.(45 : شآء َوال ْ ُ
من ْك َ ِ ح َ ن ال ْ َ
ف ْ ن الصلة َ ت َن َْهى عَ ِ سورة العنكبوت :إ ِ ّ
ً
وجعل أفضل الصلة ما كان جماعة ليذاكر المسلمون بعضهم بعضا في
ووا روابط اللفة والتحاد بينهم ،ومتى حان وقت شؤونهم واحتياجاتهم ،ويق ّ
ماً، ّ
الصلة فل بد ّ من عمل ينبه الغافل ،ويذكر الساهي حتى يكون الجتماع عا ّ
فائتمر النبي عليه الصلة والسلم مع الصحابة فيما يفعل لذلك ،فقال
بعضهم :نرفع راية إذا حان وقت الصلة ليراها الناس ،فلم يرضوا ذلك لنها ل
تفيد النائم ول الغافل ،وقال آخرونُ :نشعل نارا ً على مرتفع من الهضاب فلم
يقبل أيضًا ،وأشار آخرون ببوق وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم
فكرهه رسول الله ،لنه لم يكن يحب تقليد اليهود في عمل ما ،وأشار
بعضهم بالناقوس وهو ما يستعمله النصارى فكرهه الرسول أيضًا ،وأشار
قِبل هذا بعضهم بالنداء فيقوم بعض الناس إذا حانت الصلة وينادي بها ف ُ
الرأي ،وكان أحد المنادين عبد اللهبن زيد النصاري ،فبينما هو بين النائم
واليقظان إذ عرض له شخص وقال :أل أعلمك كلمات تقولها عند النداء
بالصلة؟ قال :بلى ،فقال له :قل :الله أكبر الله أكبر مرتين ،وتشّهد مرتين،
ي على الفلح مرتين ،ثم كبر ربك ي على الصلة مرتين ،ثم قل :ح ّ ثم قل :ح ّ
مرتين ،ثم قل ل إله إل الله .فلما استيقظ توجه إلى النبي صلى الله عليه
قن ذلك بلل ً وسلم وأخبره خبر رؤياه ،فقال» :إنها لرؤيا حق« ،ثم قال له» :ل ّ
فإنه أندى صوتا ً منك« ،وبينما بلل يؤذن إذ جاء عمر يجر رداءه ،فقال :والله
لقد رأيت مثله يا رسول الله ،وكان بلل أحد مؤذنيه بالمدينة ،والخر عبد الله
ي على الفلح» :الصلة ُ
ابن أم مكتوم ،وكان بلل يقول في أذان الصبح بعد ح ّ
خير من النوم« مرتين ،وأقّره الرسول على ذلك ،وكان عليه
الصلة والسلم يأمر في فجر رمضان بأذانين :أولهما يوقظ به الغافلون حتى
ي َن ْت َِبهوا للسحور ،والثاني للصلة .وأما الذان للجمعة ،فكان أوله إذا جلس
المام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر
وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد نداء آخر على الزوراء .رواه البخاري.
ولما تولى هشامبن عبد الملك أخذ الذان الذي زاده عثمان بالزوراء وجعله
على المنار ،ثم نقل الذان الذي كان على المنار حين صعود المام على
المنبر في العهد الول بين يديه.
فعلم بذلك أن الذان في المسجد بين يدي الخطيب بدعة أحدثها هشامبن
عبد الملك ،ول معنى لهذا الذان ،لنه هو نداء إلى الصلة ،ومن هو في
المسجد ل معنى لندائه ومن هو خارج المسجد ل يسمع النداء إذا كان النداء
في المسجد .ذكر ذلك الشيخ محمد ابن الحاج في »المدخل«.
قال الحافظ في فتح الباري» :وأما ما أحدث الناس قبل الجمعة من الدعاء
إليها بالذكر والصلة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو في بعض البلد
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
يهود المدينة
مشركي قريش ابتلهم في المدينة هذا ،وكما ابتلى الله المسلمين في مكة ب ُ
بيهودها وهم :بنو قينقاع ،وقريظة ،والنضير ،فإنهم أظهروا العداوة والبغضاء
حسدا ً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق ،وكانوا قبل مجيء
الرسول يستفتحون على المشركين من العرب إذا شّبت الحرب بين
الفريقين بنبي يبعث قد قرب زمانه ،فلما جاءهم ما عرفوا استعظم
وة في ولد إسماعيل ،فكفروا بما أنزل الله بغيًا ،مع رؤساؤهم أن تكون النب ّ
ت إل ّ مصدقا ً لما بين يديه من كتب أنهم يرون أن رسول الله محمدا ً لم يأ ِ
الله التي أنزلها على من سبقه من المرسلين ،مبّينا ً ما أفسده التأويل منها،
ولكنهم نبذوه وراء ظهورهم كأنهم ل يعلمون .ومما عابوه على السلم نسخ
الحكام ،وما د ََروا أن القادر العليم يعلم ما يحتاج إليه النسان أكثر منهم،
فإنه ميال بطبعه للترّقي ،والرسول عليه الصلة والسلم وجد بادىء بدء بين
جماعة من العرب ُأميين ليسوا على شيء من العتقادات اللهية ،فكانت
الحكمة داعية لن يكون التشريع لهم على التدريج ،لنه لو حّرم الله عليهم
شرب الخمر وأكل الربا ،وأمرهم بالصلة والزكاة ،وهكذا إلى آخر الوامر
والمناهي التي جاء بها الشرع السلمي لما أجابه أحد من هؤلء النافرة
قلوبهم ،المختلفة أهواؤهم ،الذين كانوا منغمسين في كثير من الضاليل،
فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمر شيئا ً فشيئا ً حتى ُروضت
ذبت نفوسهم ،وكانت الحكام ل ينزلها الله عليه إل عقب عقولهم ،وهُ ّ
الحوادث التي تقتضيها ،ليكون التأثير في النفوس أشد ،ولكن اليهود أرادوا
جهم القرآن الشريف بما ل يد القدرة عن أن تفعل إل ما يشتهون ،وقد ح ّ غَ ّ
يدل على أنهم يعلمون من نفوسهم الُبعد عن الحق ،فقال في سورة البقرة:
ت من ّوُا ْ ال ْ َ
مو ْ َ س فَت َ َ
ن الّنا ِ
من ُدو ِ ة ّ
ص ً عند َ الل ّهِ َ
خال ِ َ داُر ال ْ ِ
خَرةُ ِ ت ل َك ُ ُ
م ال ّ ل ِإن َ
كان َ ْ قُ ْ
ل ذكرهن{ )البقرة (94 :ثم حّتم ج ّ صادِِقي َ م َ ِإن ك ُن ْت ُ ْ
َ َ
م
ه عَِلي ٌ م َوالل ّ ُ ديهِ ْ
ت أي ْ ِ م ْما قَد ّ َدا ب ِ َ
من ّوْه ُ أب َ ًعدم إجابتهم بقوله} :وََلن ي َت َ َ
ن{ )البقرة .(95 :فلو كانوا يعلمون من أنفسهم أنهم على الحق لما ِبال ّ
ظاِلمي َ
طلب منهم مع سهولته ،وحرصهم على تكذيب الصادق المين، ما ُتأخروا ع ّ
طقا ً باللسان .وقد تّبين الهدى ولم ينقل لنا عن أحد منهم أنه تمنى ذلك ولو ن ُ ْ
سلم ،فترك هواه وأسلم بعد أن لحد رؤساء بني قينقاع وهو عبد اللهبن َ
دوه من سفهائهم دونه من رؤسائهم ،ع ّ سمع القرآن ،وبعد أن كان اليهود يع ّ
هّ ْ َ
م أن ي َك ْ ُ َ ْ
مآ أنَز َ
ل الل ُ فُروا ب ِ َ سهُ ْف َ شت ََروْا ب ِهِ أن ُ ما ا ْ س َ حينما بلغهم إسلمه ،فـ}ب ِئ ْ َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
المنافقون
معاهدة اليهود
ت أنه كان يضاد المسلمين في المدينة فئتان :اليهود، هذا ،وقد علم َ
ل من هؤلء ظواهرهم ،وعقد مع أولئك عهدا ً والمنافقون ،ولكن الرسول قَب ِ َ
حاِربهم ول يؤذيهم ،ول يعينون عليه أحداً،
مقتضاه ترك الحرب والذى ،فل ي ُ َ
وإن دهمه بالمدينة عدو ينصرونه ،وأقّرهم على دينهم.
مشروعية القتال
علم مما تقدم أن رسول الله عليه الصلة والسلم لم يقاتل أحدا ً على قد ُ
الدخول في الدين ،بل كان المر قاصرا على التبشير والنذار ،وكان الله ً
ويه على الصبر أمام ما كان يلقيه من أذى سبحانه ينزل عليه من الي ما يق ّ
ْ ْ ُ ُ َ
صب ََر أوْلوا العَْزم ِ ما َ صب ِْر ك َ قريش ،ومن ذلك قوله في سورة الحقافَ} :فا ْ
ص الله عليه ً
م{ )الحقاف .(35 :وكان كثيرا ما يق ّ جل ل ّهُ ْ ست َعْ ِ ل وَل َ ت َ ْ س ِن الّر ُ م َ ِ
أنباء إخوانه من المرسلين قبله ليثبت به فؤاده ،ولما ازداد طغيان أهل مكة
ألجؤوه إلى الخروج من داره بعد أن ائتمروا على قتله ،فكانوا هم البادئين
بالِعداء على المسلمين حيث أخرجوهم من ديارهم بغير حق ،فبعد الهجرة
ن ُ
أِذن الله للمهاجرين بقتال مشركي قريش بقوله في سورة الحج} :أذِ َ
م لَ َ َ
ديٌر)8 7 6 5 4 3 2 (39 ق ِ صرِهِ ْ ه عََلى ن َ ْ ن الل ّ َموا ْ وَإ ِ ّ م ظ ُل ِ ُ ن ب ِأن ّهُ ْقات َُلو َ ن يُ َ
ذي َ ل ِل ّ ِ
: 9؛ { )الحج .(40 ،39 :ثم أمرهم بذلك في قوله في سورة البقرة :وََقات ُِلوا ْ
ن)(190 دي َ معْت َ ِ ب ال ْ ُح ّ ه ل َ يُ ِ ن الل ّ َدوا ْ إ ِ ّ م وَل َ ت َعْت َ ُ قات ُِلون َك ُ ْ ن يُ َ ذي َ ل الل ّهِ ال ّ ِسِبي ِ ِفي َ
َ ْ َ َ
ن
م َشد ّ ِ ةأ َ فت ْن َ ُم َوال ِ جوك ُ ْ خَر ُ ثأ ْ حي ْ ُن َ م ْ م ّ جوهُ ْ خرِ ُ م وَأ ْ موهُ ْ فت ُ ُث ث َقِ ْ حي ْ ُم َ َواقْت ُُلوهُ ْ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
مم ِفيهِ فَِإن َقات َُلوك ُ ْ قات ُِلوك ُ ْ حّتى ي ُ َ حَرام ِ َ جدِ ال ْ َ س ِ م ْ عند َ ال ْ َ
م ِ قات ُِلوهُ ْل وَل َ ت ُ َ ال ْ َ
قت ْ ِ
م)(192 حي ٌ فوٌر ّر ِ ه غَ ُن الل ّ َن انت َهَوْا ْ فَإ ِ ّن) (191فَإ ِ ِ ري َ كافِ ِ جَزآء ال ْ َ ك َ كذال ِ َم َ َفاقْت ُُلوهُ ْ
ن إ ِل ّ عََلىدوا َ ن انت ََهوا ْ فَل َ عُ ْ ن لل ّهِ فَإ ِ ِ دي ُن ال ّكو َ ة وَي َ ُ ن فِت ْن َ ٌ حّتى ل َ ت َ ُ
كو َ م َ وََقات ُِلوهُ ْ
ن)(193 مي َ ال ّ
ظال ِ ِ
وبذلك لم يكن الرسول يتعرض إل لقريش دون سائر العرب فلما تمال على
المسلمين غيُر أهل مكة من مشركي العرب ،واتحدوا عليهم مع العداء ،أمر
ة ن َ
كآفّ ً كي َشرِ ِ م ْ الله بقتال المشركين كافة ،بقوله في سورة التوبة :وََقات ُِلوا ْ ال ْ ُ
ن ليس له م ْما ً لكل َ ة{ )التوبة (36 :وبذلك صار الجهاد عا ّ م َ
كآفّ ً قات ُِلون َك ُ ْ
ما ي ُ َ كَ َ
ُ
ت أن أقاتل كتاب من الوثنيين وهذا مصداق قوله عليه الصلة والسلم» :أمر ُ
ه ،ويقيموا الصلة، ل الل ِ س حتى يشهدوا أن ل إله إل الله وأن محمدا ً رسو ُ النا َ
م،
هم وأموالهم إل بحق السل ِ ة ،فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماَء ُ ويؤتوا الزكا َ
وحسابهم على الله« .ولما وجد المسلمون من اليهود خيانة للعهود حيث أنهم
ساعدوا المشركين في حروبهم ،أمر الله بقتالهم بقوله في سورة النفال:
ن{ خائ ِِني َب ال َ ح ّ ه ل َ يُ ِ ن الل ّ َ وآء إ ِ ّ م عََلى َ
س َ ة َفانب ِذ ْ إ ِل َي ْهِ ْ من قَوْم ٍ ِ
خَيان َ ً ن ِ خافَ ّ ما ت َ َ }وَإ ِ ّ
)النفال (58 :وقتالهم واجب حتى يدينوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون ،ليأمن المسلمون جانبهم ،وصار قتال رسول الله للعداء على هذه
المبادىء التية:
ركي قريش محاربين لنهم بدؤوا بالعدوان فصار للمسلمين مش ِ 1ــــ اعتبار ُ
قتالهم ومصادرة تجارتهم حتى يأذن الله بفتح مكة أو تعقد هدنة وقتية بين
الطرفين.
ي من اليهود خيانة وتحّيز للمشركين قوتلوا حتى يؤمن جانبهم 2ــــ متى ُرئ ِ َ
بالنفي أو القتل.
ً
دت قبيلة من العرب على المسلمين أو ساعدت قريشا قوتلت 3ــــ متى تع ّ
حتى تدين بالسلم.
4ــــ كل من بادأ بعداوة من أهل الكتاب كالنصارى قوتل حتى يذعن
بالسلم أو يعطي الجزية عن يد ٍ وهو صاغر.
5ــــ كل من أسلم فقد عصم دمه وماله إل بحقه ،والسلم يقطع ما قبله.
وقد أنزل الله في القرآن الكريم كثيرا ً من الي تحريضا ً على القدام في
قتال العداء وتبعيدا ً عن الفرار من الزحف ،فقال في الموضوع الول في
خَرةِ ن اْلحياةَ الد ّن َْيا ِبال ْ ِ شُرو َ ن يَ ْ ذي َل الل ّهِ ال ّ ِ سِبي ِل ِفى َ قات ِ ْ سورة النساء} :فَل ْي ُ َ
ظيمًا{ َ َ
جرا ً عَ ِف ن ُؤِْتيهِ أ ْ
سو ْ َب فَ َ ل أو ي َغْل ِ ْ ل الل ّهِ فَي ُ ْ
قت َ ْ سِبي ِ ل ِفى َ قات ِ ْ من ي ُ َ وَ َ
ن ّ َ
ذي َ )النساء .(74 :وقال في الموضوع الثاني في سورة النفال} :ي َأي َّها ال ِ
م َ ْ َ ِ ٍ
ذ ئ مو ي من ي ُوَل ّهِ ْم الد َْباَر) (15وَ َ حفا ً فَل َ ت ُوَّلوهُ ُ فُروا ْ َز ْ ن كَ َ ذي َ م ال ّ ِ مُنوا ْ إ َِذا ل َ ِ
قيت ُ ُ ءا َ
ْ َ
م
جهَن ّ ُ مأَواه ُ َ ن الل ّهِ وَ َم َب ّ ض ٍ
قد ْ َبآء ب ِغَ َ حّيزا ً إ َِلى فِئ َةٍ فَ َ مت َ َ
ل أوْ ُ قَتا ٍ حّرفا ً ل ّ ِ مت َ َد ُب َُره ُ إ ِل ّ ُ
صيُر)(16 م ِ س ال ْ َ وَب ِئ ْ َ
بدء القتال
ب
هب بتجارتها إلى الشام لتبيع وتبتاع ،وُيسمى الرك ُ
كانت عادة قريش أن تذ َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
عْيرًا ،وكان يسير معها لحراستها كثير من أشراف القوم السائر بهذه التجارة ِ
سَراِتهم ،ول بد لوصولهم إلى الشام من المرور على دار الهجرة ،فرأى و َ
ة وآيبة ،ليكون في
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ُيصادَِر تجارتهم ذاهب ً
ذلك عقاب لمشركي مكة ،حتى تضعف قوتهم المالية ،فيكون ذلك أدعى
لخذلنهم في ميدان القتال الذي ل بد ّ أن يكون ،لن قريشا ً لم تكن لتسكت
فه أحلمهم وعاب عبادتهم خصوصا ً وهم قدوة العرب في الدين. من س ّ ع ّ
سرية
مه حمزةبن عبد المطلب في ثلثين رجل ً من ففي شهر رمضان أرسل ع ّ
عيرا ً
مْرَثد حليف حمزة ،ليعترض ِ المهاجرين ،وعقد لهم لواء أبيض حمله أبو َ
لقريش آيبة من الشام ،فيها أبو جهل وثلثمائة من أصحابه المشركين ،فسار
حمزة حتى وصل ساحل البحر من ناحية الِعيص فصادف العير هناك ،فلما
جهني فأطاعوه وانصرفوا، تصاّفوا للقتال حجز بين الفريقين َ
مجدِّيبن عمرو ال ُ
وشكر عليه الصلة والسلم مجديا ً على عمله لما كان من قلة عدد
المسلمين وكثرة عدوهم.
عبيدةبن الحارث ابن عم حمزة في ثمانين راكبا ً من وفي شوال أرسل ُ
ُ
طحبن أَثاثة ليعترض عيرا ً لقريش، س َ
م ْ
المهاجرين ،وعقد له لواء أبيض حمله ِ
مَئتا رجل ،فوافوا العير ببطن رابغ فكان بينهما الرمي بالنبل ،ثم خاف فيها ِ
المشركون أن يكون للمسلمين كمين فانهزموا ،ولم يتبعهم المسلمون ،وفّر
من المشركين إلى المسلمين المقدادبن السود وعتبةبن غَْزوان وكانا قد
أسلما وخرجا ليلحقا بالمسلمين.
وفيات
وفي هذه السنة توفي من المهاجرين عثمانبن مظعون أخو رسول الله صلى
الله عليه وسلم من الرضاع أسلم قديمًا ،وهاجر الهجرتين ،ولما دفن أمر
ش قبره بالماء ،ووضعَ على قبره حجرًا ،وقال:
عليه الصلة والسلم بأن ي َُر ّ
َ
م به قبر أخي ،وأدفن إليه من مات من أهلي« ،وهذا كان القصد من »أت َعَل ّ ُ
وضع الحجار على المقابر ،ل ما يقصده أهل العصور الخيرة من تشييد
الهياكل على القبور ،وتصويرها بصور ت َُرى في عين الناظر كالصنام ،ليأتي
أقارب الميت ويصنعوا عندها احتفالت كثيرة ،تشبه ما كان يفعله مشركو
مكة عند معابدهم ،ومن العبث فعل شيء لم يفعله رسول الله صلى الله
عليه وسلم مما يتعلق بأمور الخرة.
دبن ُزرارة أحد النقباء الثني عشر ،كان رضي الله عنه ومات من النصار أسع ُ
نقيب بني النجار ،ولما مات اختار رسول الله نفسه للنقابة عليهم لن »ابن
أخت القوم منهم« ومات أيضا ً البراءبن معرور أحد النقباء ،وهو الذي كان
يتكلم عن القوم في العقبة الثانية .ومات من مشركي مكة في هذه السنة
الوليدبن المغيرة ،ولما احُتضر جزع فقال له أبو جهل :ما جزعك يا عم؟
فقال :والله ما بي من جزع من الموت ،ولكن أخاف أن يظهر دين ابن أبي
ف إني ضامن أل ّ يظهر .وفيها أيضا ً مات
كبشة بمكة ،فقال أبو سفيان :ل تخ ْ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
غزوة وَّدان
خلت من السنة الثانية خرج رسول الله صلى الله عليه َ ولثنتي عشرة ليلة َ
وسلم من المدينة بعد أن استخلف عليها سعدبن عبادة ،ليعترض عيرا ً
مه حمزة ،ولم يلق هناك لقريش ،فسار حتى بلغ وَّدان ،وكان يحمل لواءه ع ّ
حربا ً لن العير كانت قد سبقته ،وفي هذه الغزوة صالح بني ضمرة على أنهم
صَرةَ
مهم ،وأن عليهم ن ُ ْآمنون على أنفسهم ولهم النصر على من را َ
المسلمين إذا ُدعوا ،ثم رجع إلى المدينة بعد مضي خمس عشرة ليلة.
غزوة ُبواط
عه غير قليل حتى بلغه أن عيرا ً لقريش آيبة من الشام ولم يمض على رجو ِ
فيها أميةبن خلف ومائة من قريش ،وألفان وخمسمائة بعير ،فسار إليها في
دبن أبيمائتين من المهاجرين ،وذلك في ربيع الول ،وكان يحمل لواءه سع ُ
ً
وقاص ،فسار حتى بلغ ُبواط ،فوجد العير قد فاتته فرجع ولم يلقَ كيدا ،وذلك
كله لما كان يأخذه المشركون من الحذر على أنفسهم والجتهاد في تعمية
أخبارهم عن أهل المدينة.
غزوة العُ َ
شيرة
وأعقب رجوعه عليه الصلة والسلم خروج قريش بأعظم عيرٍ لها فقد جمعوا
ل فصاعدا ً إل بعث
فيها أموالهم حتى لم يبق بمكة قرشي أو قرشية لها مثقا ٌ
به في تلك العير ،وكان يرأسها أبو سفيانبن حرب ومعه بضعة وعشرون
ل ،فخرج لها الرسول في جمادى الولى ومعه مائة وخمسون من رج ً
مةبن عبد السد ،وحمل لواءه عمه المهاجرين ،واستخلف على المدينة أبا سل َ
ف عليه
ت ،وحال َشْيرة فوجد العير قد مض ْ حمزة ،ولم يزل سائرا ً حتى بلغ العُ َ
مدِلج وحلفاءهم ،ثم رجع عليه الصلة الصلة والسلم في هذه الغزوة بني ُ
والسلم إلى المدينة ينتظر هذه العير حينما ترجع.
سرية
صد َ بها قريشا ً وتعلم لنا من أخبارهم« وإنما لم ة ،فتر ُ خل َ َض حتى تنزل ن َ ْ فام ِ
ً
يخبرهم عليه الصلة والسلم بمقصدهم وهم بالمدينة حذرا من شيوع الخبر،
فيدل عليهم أحد العداء من المنافقين أو اليهود فترصد لهم قريش .ول
يخفى أن عدد السرية قليل ل يمكنه المقاومة ،ثم سار عبد الله رضي الله
غزوان لنهما أضل عتبةبن َ عنه ،وفي أثناء السير تخّلف سعدبن أبي وّقاص و ُ
عير بعيرهما الذي كانا يعتقبانه ،وسار الباقون حتى وصلوا نخلة فمّرت بهم ِ
حضرمي ،وعثمانبن عبد اللهبن المغيرة قرشية تريد مكة فيها عمروبن ال َ
كيسان ،فأجمع المسلمون أمرهم على أن يحملوا حكمبن َ وأخوه نوفل ،وال َ
عليهم ويأخذوا ما معهم ،فحملوا عليهم في آخر يوم من رجب ،فقتلوا
عمروبن الحضرمي ،وأسروا عثمان والحكم ،وهرب نوفل ،واستاقوا الِعير
ل غنيمة غنمها المسلمون من أعدائهم قريش ثم رجعوا ،ولم يتمكن وهي أو ُ
المشركون من اللحاق بهم ،فلما قدموا المدينة وشاع أنهم قاتلوا في الشهر
فهم المسلمون ،وقال لهم عليه الحرم ،وعابتهم قريش واليهود بذلك ،عَن ّ َ
حرم« فندموا ،فأنزل الله الصلة والسلم» :ما أمرُتكم بقتال في الشهر ال ُ
ل ِفيهِ ك َِبيٌر ل قَِتا ٌل ِفيهِ قُ ْ حَرام ِ قَِتا ٍ شهْرِ ال ْ َ ن ال ّ ِ ك عَ سئ َُلون َ َ في سورة البقرة :ي َ ْ
عند َ اللهِّ ْ َ
ه أكب َُر ِ َ ْ ْ ل الل ّهِ وَك ْ
ُ
من ْ ُ
ج أهْل ِهِ ِ
خَرا ُحَرام ِ وَإ ِ ْجدِ ال َ س ِم ْ فٌر ب ِهِ َوال َ سِبي ِ
عن َ صد ّ َ وَ َ
ْ َ
سّري عنهم وقد طلب المشركون ل{ )البقرة (217 :فَ ُ قت ْ ِن ال َ م َ ْ
ة أكب َُر ِ َوال ْ ِ
فت ْن َ ُ
فداء أسيريهما ،فقال عليه الصلة والسلم »حتى يرجعَ سعد وعتبة« ،فلما
ل عليه الصلة والسلم الفدية في السيرين ،فأما الحكمبن كيسان رجعا قَب ِ َ
فأسلم وحسن إسلمه وبقي مع المسلمين ،وأما عثمان فلحق بمكة كافرًا.
تحويل القبلة
ً
مكث عليه الصلة والسلم بالمدينة ستة عشر شهرا يستقبل بيت المقدس
ب وجهه في السماء داعيا ً ب أن تكون قبلته الكعبة ويقل ّ ُ
في صلته ،وكان يح ّ
الله بذلك .فبينما هو في صلته إذ أوحى الله إليه بتحويل القبلة إلى الكعبة
ن وراءه .وكانت هذه الحادثة سببا ً لفتتان بعض المسلمين م ْ ول ،وتحوّ َ
ل َ فتح ّ
الذين ضعفت قلوبهم فارتدوا على أعقابهم .وقد أكثر اليهود من التنديد على
ن يشاُء إلى م ْ
السلم بهذا التحويل .وما د ََروا أن لله المشرق والمغرب يهدي َ
صراط مستقيم.
صوم رمضان
وفي شعبان من هذه السنة أوجب الله صوم شهر رمضان على المة
السلمية ،وكان عليه الصلة والسلم قبل ذلك يصوم ثلثة أيام من كل شهر.
م النظام ،فإن النسانوالصيام من دعائم هذا الدين ،والفرائض التي بها يت ّ
ً
ب نفسه ،والسعي فيما يعود عليها بالنفع الخاص ،تاركا ما مجبول على ح ّ
وراء ذلك من حاجات الضعفاء والمساكين ،فل بد ّ من واِزع يزعه لحاجات
قوم أقعدتهم قواهم عن إدراك حاجاتهم ،ول أقوى من ذوق قوارص الجوع
والعطش ،إذ بهما تلين نفسه ويتهذب خلقه ،فيسهل عليه بذل الصدقات.
صدقة الفطر
ّ
ولذلك أوجب الشاِرع الحكيم عقب الصوم زكاة الفطر فترى النسان يبذلها
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
زكاة المال
وفي هذا العام ُفرضت زكاة الموال ،وهذه هي النظام الوحيد الذي به يأكل
الفقراء والمساكين من إخوانهم الغنياء بل ضرر على هؤلء ،فإذا بلغت
الدنانير عشرين أو الدراهم مائتين ،وحال عليها الحول ،وجب عليك أن تؤدي
ربع عشرها ،أي اثنين ونصفا ً في كل مائة ،وما زاد فبحسابه ،وإذا بلغت
الشياه أربعين ،والبقر ثلثين ،والبل خمسًا ،وحال عليها الحول وجب عليك
شاِرع ،ومثلها عروض التجارة، كذلك أن تؤدي منها جرءا ً مخصوصا ً حدده ال ّ
ومحصولت الزراعة كل هذا يقبضه المام ،ويوزعه على مستحقيه من
صد ََقا ُ
ت ما ال ّ الفقراء والمساكين وبقية المذكورين في آية الصدقة} :إ ِن ّ َ
ن
مي َ ْ
ب َوالَغارِ ِ َ
م وَِفى الّرقا ِ فةِ قُُلوب ُهُ ْمؤَل ّ َ
ن عَل َي َْها َوال ْ ُمِلي َن َوال َْعا ِ قَرآء َوال ْ َ ل ِل ْ ُ
كي ِ سا ِ
م َ ف َ
م)(60 كي ٌ
ح ِم َ ه عَِلي ٌ ن الل ّهِ َوالل ّ ُ م َ ة ّ ض ً
ري َ ل فَ ِسِبي ِن ال ّ سِبي ِ ّ
ل اللهِ َواب ْ ِ وَِفى َ
لم يطل العهد بتلك الِعير العظيمة التي خرج لها عليه السلم وهي متوجهة
بإلى الشام ،فلم يدركها ولم يزل مترقبا ً رجوعها ،فلما سمع برجوعها ن َد َ َ
ل الله أن ه ،وقال» :هذه عيُر قريش فاخرجوا إليها لع ّ إليها أصحاب َ ُ
قل آخرون ،لظنهم أن الرسول عليه السلم لم َ َ
ينفلكموها« ،فأجاب قوم ،وث ُ
ب معنا«. ي ُرِد ْ حربًا ،فإنه لم يحتفل بها بل قال» :من كان ظهره حاضرا فليرك ْ
ً
ن من رمضان بعد أن خل َوْ َ
ل َ ث ليا ٍولم ينتظر من كان ظهره غائبًا .فخرج لثل ِ
وّلى على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم ،وكان معه ثلثمائة وثلثة عشر
ل :مئتان ونيف وأربعون من النصار ،والباقون من المهاجرين ،ومعهم رج ً
فََرسان ،وسبعون بعيرا يعتقبونها ،والحامل للواء مصعببن عمير العَْبدري .ولما ً
علم أبو سفيان بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم استأجر راكبا ً ليأتي
قريشا ً ويخبرهم الخبر ،فلما علموا بذلك أدركتهم حميتهم ،وخافوا على
سراعا ً ولم يتخلف من أشرافهم إل أبو لهببن عبد المطلب، تجارتهم ،فنفروا ِ
ّ
فإنه أرسل بدله العاصبن هشامبن المغيرة .وأراد أميةبن خلف أن يتخلف
دثه إياه سعدبن معاذ حينما كان معتمرا ً بعد الهجرة بقليل ،حيث لحديث ح ّ
ت من رسول الله يقول» :إنهم قاتلوك« قال ــــ كما رواه البخاري ــــ سمع ُ
ّ
قال :بمكة؟ قال :ل أدري .ففزع لذلك وحلف أل يخرج ،فعابه أبو جهل ولم
يزل به حتى خرج قاصدا ً الرجوع بعد قليل ولكن إرادة الله فوق كل إرادة،
ة من الشراف على م جماع ٌ فإن منيته ساقته إلى حتفه رغم أنفه .وكذلك عََز َ
ل قريش على الخروج ،فخرجوا ت رجا ُ ب عليهم ذلك ،وبهذا أجمع ْ القعود فَعِي ْ َ
ن ل َهُ ُ
م قْينات يغنين بهجاء المسلمين :وَإ ِذ ْ َزي ّ َ على الصعب والذلول ،أمامهم ال َ
طا َ
م{ جاٌر ل ّك ُ ْ
س وَإ ِّني َن الّنا ِ م َم ِم ال ْي َوْ َب ل َك ُ ُغال ِ َ ل لَ َ مال َهُ ْ
م وََقا َ ن أعْ َ شي ْ َ ُ
ال ّ
)النفال .(48 :وقد ضرب الله عمل الشيطان هذا مثل ً يعتبر به ذوو الرأي من
بعدهم ،فقال في سورة الحشر:
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن يعرف شيئا ً مما فعله
قيا خارج المدينة، س ْ المشركون ،ولم يكن خروجه إل للعير ،فعسكر ببيوت ال ّ
ن ليس له قدرة على الحرب ،ثم أرسل اثنين م ْ واستعرض الجيش فرد ّ َ
يتجسسان الخبار عن العير .ولما بلغ الّرْوحاء جاءه الخبر بمسير قريش لمنع
عيرهم ،وجاءه مخبراه بأن العير ستصل بدرا ً غدا ً أو بعد غد ،فجمع عليه
ن الله قد وعدني الصلة والسلم كبراء الجيش وقال لهم» :أّيها الناس إ ّ
إحدى الطائفتين أنها لكم :العير أو النفير« فتبين له عليه الصلة والسلم أن
بعضهم يريدون غير ذات الشوكة وهي العير ليستعينوا بما فيها من الموال،
فقد قالوا :هل ّ ذكرت لنا القتال فنستعد وجاء مصداق ذلك قوله في سورة
فتين أ َنها ل َك ُم وتودو َ دى ال ّ
تن غَي َْر َذا ِنأ ّ ْ ََ َ ّ َ طائ ِ َ َ ْ ِ ّ َ ح َ ه إِ ْم الل ّ ُالنفال :وَإ ِذ ْ ي َعِد ُك ُ ُ
م{ )النفال .(7 :ثم قام المقدادبن السود رضي الله عنه ن ل َك ُ ْكو ُ شوْك َةِ ت َ ُ ال ّ
ض لما أمرك الله ،فوالله ل نقول لك كما قالت بنو ل :يا رسول الله ام ِ فقا َ
هاهَُنا َقا ِ َ
ت وََرب ّك فَ َ َ
ن{ )المائدة: دو َ ع ُ قاِتل إ ِّنا َ ب أن َ إسرائيل لموسىَ} :فاذ ْهَ ْ
(24ولكن اذهب أنت وربك فقاتل إّنا معكما مقاتلون ،والله لو سرت بنا إلى
ماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ،فدعا له بخير ،ثم قال عليه ك الغِ َ ب َْر َ
ي أّيها الناس« وهو يريد النصار لن بيعة العقبة ربما السلم» :أشيروا عل ّ
جب عليهم نصرته إل ما دام بين أظهرهم .فإن فيها :يا يفهم منها أنه ل ت َ ِ
رسول الله إّنا
ُبرآء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا ،فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا نمنعك
مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا .فقال سعدبن معاذ ،سيد الوس :كأنك تريدنا يا
دقناك ،وأعطيناك رسول الله؟ فقال» :أجل« فقال سعد :قد آمنا بك وص ّ
ض لما أمرك الله ،فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت على ذلك عهودنا ،فام ِ
بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك ،وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غداً،
دق عند اللقاء ،ولع ّ
ل الله ُيريك مّنا ما تقّر به عَي ُْنك، ص ُصُبر عند الحربُ ،
إّنا ل ُ
سّر بذلك ،وقال كما في فسر على بركة الله .فأشرق وجهه عليه السلم ،و ُ
م من رواية البخاري» :أبشروا والله كأني أنظر إلى مصارع القوم« َفعلم القو ُ
ة حصلت ،فإن أبا سفيان لما علم هذه الجملة أن الحرب ل بد ّ حاصلة ،وحقيق ً
ً
بخروج المسلمين له ترك الطريق المسلوكة ،وسار مّتبعا ساحل البحر فنجا،
وأرسل إلى قريش ُيعِلمهم بذلك ،ويشير عليهم بالرجوع ،فقال أبو جهل :ل
جزور ،ونطعم الطعام ،وُنسقي نرجع حتى نحضر بدرا ً فنقيم فيه ثلثًا :ننحر ال َ
الخمر ،وتسمع بنا العرب فل يزالون يهابوننا أبدًا .فقال الخنسبن شريق
جى الله الثقفي لبني زهرة ــــ وكان حليفا ً لهم ــــ :ارجعوا يا قوم فقد ن ّ
أموالكم فرجعوا ،ولم يشهد بدرا ً زهري ول عدوي ،ثم سار الجيش حتى
وصلوا وادي بدر فنزلوا عدوته القصوى عن المدينة في أرض سهلة لينة.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ما قارب بدرا ً أرسل عليه السلم علّيبن أبي أما جيش المسلمين ،فإنه ل ّ
سقاة ً لقريش فيهم غلم لبني وام ليعرفا الخبار ،فصادفا ُ طالب والزبيربن الع ّ
الحجاج وغلم لبني العاص السهميين ،فأتيا بهما ،والرسول عليه السلم قائم
يصلي ،ثم سألهما عن أنفسهما ،فقال :نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم
الماء ،فضرباهما لنهما ظنا أن الغلمين لبي سفيان .فقال الغلمان :نحن
م الرسول عليه السلم صلته ،قال» :إذا لبي سفيان فتركاهما .ولما أت ّ
صدقاكم ضربتموهما ،وإذا كذباكم تركتموهما؟ صدقا والله إنهما لقريش« .ثم
كثيب ،فقال لهما: قال لهما» :أخبراني عن قريش؟« قال :هم وراء هذا ال َ
»كم هم؟« فقال :ل ندري .قال» :كم ينحرون كل يوم؟« .قال :يوما ً تسعا ً
من في ويوما ً عشرًا .قال» :القوم ما بين التسعمائة واللف« ،ثم سألهما ع ّ
النفير من أشراف قريش فذكرا له عددا ً عظيمًا ،فقال عليه السلم لصحابه:
»هذه مكة قد ألقت إليكم أفلذ كبدها« ،ثم ساروا حتى نزلوا بعُد ْوَةِ الوادي
الدنيا من المدينة بعيدا ً عن الماء في أرض سبخة ،فأصبح المسلمون عطاشا ً
دثهم الشيطان بوسوسته ،ولول فضل الله دث ،فح ّ ح ِ
م ْ
جنب وبعضهم ُ بعضهم ُ
عليهم ورحمته لثنيت عزائمهم ،فإنه قال لهم :ما ينتظر المشركون منكم إل
هب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاؤوا. أن يقطع العطش رقابكم ،وُيذ ِ
حياض على فأرسل الله لهم الغيث حتى سال الوادي ،فشربوا واتخذوا ال ِ
عُد ْوَةِ الوادي ،واغتسلوا وتوضؤوا وملؤوا السقية ،ولبدت الرض ،حتى ثبتت
حل عليها القدام ،على حين أن كان هذا المطر مصيبة على المشركين فإنه وَ ّ
الرض حتى لم يعودوا يقدرون على الرتحال .ومصداق هذا قوله تعالى في
جَز م رِ ْ عنك ُ ْب َ م ب ِهِ وَي ُذ ْهِ َ مآء ل ّي ُط َهَّرك ُ ْ مآء َ س َمن ال ّ كم ّ ل عَل َي ْ ُ سورة النفال} :وَي ُن َّز ُ
م{ )النفال (11 :وقد أرى الله دا َ ْ
ت ب ِهِ القْ َ م وَي ُث َب ّ َ ط عََلى قُلوب ِك ْ
ُ ُ ن وَل ِي َْرب ِ َ طا ِشي ْ َ ال ّ
رسوله في منامه العداء كما أراهموه وقت اللقاء قليلي العدد كيل يفشل
ل .قال تعالى في سورة النفال} :إ ِذ ْ المسلمون ،وليقضي الله أمرا ً كان مفعو ً
َ
ر
م ِ م ِفى ال ْ ْ م وَل َت ََناَزعْت ُ ْ شل ْت ُ ْف ِ م ك َِثيرا ً ل ّ َ ك قَِليل ً وَل َوْ أَراك َهُ ْ م َ مَنا ِ ه ِفى َ م الل ّ ُ ريك َهُ ُ يُ ِ
م ِفى قي ْت ُ ْ ْ
م إ ِذِ الت َ َ موهُ ْ ُ
ريك ُ دوِر) (43وَ َإ ِذ ْ ي ُ ِ ص ُ ت ال ّ ذا ِ م بِ َ ه عَِلي ٌ م إ ِن ّ ُ سل َّ ه َ ّ
ن الل َ وَلك ِ ّ َ
ّ َ َ ً ّ َ ُ ُ ّ َ
ع
ج ُ فُعول وَإ ِلى اللهِ ت ُْر َ ً م ْ ن َ مرا كا َ هأ ْ ى الل ُ ض َ ق ِ م ل ِي َ ْ
م ِفى أعْي ُن ِهِ ْ قلل ك ْ ً
م قِليل وَي ُ َ َ أعْي ُن ِك ُ ْ
موُر)(44 ال ُ
واقف على باب العريش متوشح سيفه ،وكان من دعاء الرسول عليه الصلة
م أنشدك عهدك والسلم ذاك الوقت كما جاء في صحيح البخاري» :الله ّ
سُبك فإن الله سينجز لك ح ْ
م إن شئت لم ُتعبد« فقال أبو بكرَ :
ووعدك ،الله ّ
ع
م ُ
ج ْ ْ
م ال َ
سي ُهَْز ُ
وعده .فخرج عليه الصلة والسلم من العريش وهو يقولَ :
وَي ُوَّلو َ
ن الد ّب َُر)(45
واشتد القتال ،وحمي الوطيس ،وأيد الله المسلمين بالملئكة ُبشرى لهم
هزم الجمع ،ووّلوا الد ّب َُر ،وتبعهم ولتطمئن به قلوبهم .فلم تكن إل ساعة حتى ُ
المسلمون يقتلون ويأسرون ،فقتل من المشركين نحوُ السبعين ،منهم من
قريش :عتبة وشيبة ابنا ربيعة ،والوليدبن عتبةُ ،قتلوا مبارزة أول القتال ،وأبو
ختريبن هشام ،والجراح والد أبي عبيدة قتله ابنه بعد أن ابتعد عنه فلم الب َ ْ
يزدجر ،وُقتل أميةبن خلف وابنه علي ،اشترك في قتلهما جماعة من النصار ُ
ة
مي ّ ُ ُ
ماربن ياسر ،وقد سعيا في ذلك لما كان يفعله بهما أ َ مع بللبن رباح وع ّ
َ
في مكة .ومن القتلى حنظلةبن أبي سفيان ،وأبو جهلبن هشام ،أثخنه فتيان
صغيران من النصار ،لما كانا يسمعانه من أنه كان شديد َ اليذاء لرسول الله،
وأجهز عليه عبد اللهبن مسعود ،وُقتل نوفلبن خويلد قتله عليبن أبي طالب،
ن أمية ،وقُِتل كثيرون ُ
صب ِ
ن العا ِ
ة سعيدِ ب ِح َ
حي ْ َ
وقتل عبيدة والعاصي ولدا أبي أ َ
ل منهم عليه السلم وهو راجع غيرهم .أما السرى فكانوا سبعين أيضًا ،قت َ
معيط ،والنضَربن الحارث اللذين كانا بمكة من أشد المستهزئين. ةبن أبي ُ
عقب َ
وكانت هذه الواقعة في ) (17رمضان ،وهو اليوم الذي ابتدأ فيه نزول القرآن
وبين التاريخين ) (14سنة قمرية كاملة.
وقد أمر عليه الصلة والسلم بالقتلى فُنقلوا من مصارعهم التي كان
الرسول عليه الصلة والسلم أخبر بها قبل حصول الموقعة إلى قليب بدر،
سننه في مغازيه إذا مّر بجيفة إنسان أمر بها لنه عليه السلم كان من ُ
فدفنت ،ل يسأل عنه مؤمنا ً أو كافرا .ولما ألقي عتبة والد أبي حذيفة أحد
ً
السابقين إلى السلم تغير وجه ابنه ففطن الرسول عليه السلم لذلك،
فقال» :لعّلك دخلك من شأن أبيك شيء؟« فقال :ل والله ولكني كنت أعرف
ل ،فكنت أرجو أن يهديه الله للسلم ،فلما رأيت ما من أبي رأيا ً وحلما ً وفض ً
مات عليه أحزنني ذلك ،فدعا له الرسول عليه السلم بخير ،ثم أمر عليه
فةِ القليب الذي رمي فيه ش َشد ّ عليها حتى قام على َ حلته ف ُ
السلم برا ِ
المشركون ،فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم» :يا فلنبن فلن ويا
فلنبن فلن أيسّركم أنكم كنتم أطعتم الله ورسوله؟ فإّنا قد وجدنا ما وعدنا
مربنا حقًا ،فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟« فقال عمر :يا رسول الله ما ت ُك َل ّ ُ
معَ لما س محمد بيده ما أنتم بأس َ من أجساد ل أرواح فيها؟ فقال» :والذي نف ُ
ن ل منهم« .وتقول عائشة رضي الله عنها إنما قال» :إنهم الن ليعلمون أ َ أقو ُ
ّ
مآموَْتى{ )النمل} (80 :وَ َ معُ ال ْ َ
س ِك ل َ تُ ْ
ت أقول لهم حق« ،ثم قرأت :إ ِن ّ َ ما كن ُ
وؤوا من ِفى ال ْ ُ َ
قُبوِر{ )فاطر ،(22 :يقول» :يعلمون ذلك حينما تب ّ مٍع ّ
س ِ
م ْت بِ ُأن َ
مقاعدهم من النار« .رواه البخاري .ثم أرسل عليه السلم المبشرين،
فأرسل عبد اللهبن رواحة لهل العالية ،وأرسل زيدبن حارثة لهل السافلة
راكبا ً على ناقة رسول الله ،وكان المنافقون والكفار من اليهود قد أرجفوا
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
بالرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ،عادة العداء في إذاعة الضّراء،
يقصدون بذلك فتنة المسلمين ،فجاء أولئك المبشرون بما سّر أهل المدينة،
وكان ذلك وقت انصرافهم من دفن رقية بنت رسول الله وزوج عثمان .ثم
خلف بين بعض المسلمين في قسمة قفل رسول الله راجعًا ،وهنا وقع ُ
الغنائم ،فالشبان يقولون :باشرنا القتال ،فهي لنا خالصة ،والشيوخ يقولون:
كنا ردءا ً لكم فنشارككم .ولما كان هذا الختلف مما يدعو إلى الضعف،
ويزرع في القلوب العداوة والبغضاء المؤديين إلى تشتت الشمل أنزل الله
ل ل ِلهِّ
فا ُ
ل الن َ ل قُ ِ
فا ِ
ن الن َ سأ َُلون َ َ
ك عَ ِ حسما ً لهذا الخلف أول سورة النفال} :ي َ ْ
قوا ْ ) ( ) {1:النفال (1 :فسطع على أفئدتهم نور القرآن، ل َفات ّ ُسو َِوالّر ُ
فتأّلفت بعد أن كادت تفترق ،وتركوا أمر الغنائم لرسول الله يضعها كيف شاء
ــــ كما حكم القرآن ــــ فقسمها عليه الصلة والسلم على السواء الراجل
ن لم يحضر م ْ
مع الراجل ،والفارس مع الفارس ،وأدخل في السهام بعض َ
كلف به وهم :أبو ُلبابة النصاري لنه كان مخّلفا ً على أهل المدينة، لمر ُ
والحارثبن حاطب لن الرسول عليه الصلة والسلم خلفه على بني عمروبن
حاِء سرا بالّروْ َواتبن جبير لنهما ك ُ ِ خ ّ مة و َ قق أمرا ً بلغه ،والحارثبن الص ّ عوف ليح ّ
سل ُ
فلم يتمكنا من السير ،وطلحةبن عبيد الله ،وسعيدبن زيد لنهما أر ِ
يتجسسان الخبار ،فلم يرجعا إل بعد انتهاء الحرب ،وعثمانبن عفان لن
الرسول عليه السلم خّلفه على ابنته رقّية يمرضها ،وعاصمبن عدي لنه
خلفه على أهل ُقباء والعالية ،وكذلك أسهم لمن قتل ببدر وهم أربعة عشر
جرح في المبارزة الولى، عبيدةبن الحارثبن عبد المطلببن هاشم الذي ُ منهم ُ
صفراء .ولما فإنه رضي الله عنه مات عند رجوع المسلمين من بدر ودفن بال ّ
قارب عليه السلم المدينة تلقته الولئد بالدفوف يقلن:
طلع البدر علينامن ثنّيات الوداعوجب الشكر عليناما دعا لله داعأّيها المبعوث
مطاع فيناجئت بالمر ال ُ
أسرى بدر
ولما دخلوا المدينة استشار عليه الصلة والسلم أصحابه فيما يفعل بالسرى،
ذبوك وقاتلوك وأخرجوك فأرى أن فقال عمربن الخطاب :يا رسول الله قد ك ّ
كنني من فلن ــــ لقريب له ــــ فأضرب عنقه ،وتمكن حمزة من أخيه تم ّ
العباس ،وعلي ّا ً من أخيه عقيل .وهكذا حتى يعلم الناس أنه ليس في قلوبنا
موّدة للمشركين ،ما أرى أن تكون لك أسرى ،فاضرب أعناقهم ،هؤلء
صناديدهم وأئمتهم وقادتهم .ووافقه على ذلك سعدبن معاذ وعبد اللهبن
رواحة ،وقال أبو بكر :يا رسول الله هؤلء أهلك وقومك قد أعطاك الله
الظفر والنصر عليهم ،أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا
منهم قوة لنا على الكفار ،وعسى الله أن يهديهم بك فيكونوا لك عضدًا.
فقال عليه الصلة والسلم» :إن الله لي ُّلين قلوب أقوام حتى تكون ألين من
اللبن ،وإن الله ليشدد قلوب أقوام حتى تكون أشد ّ من الحجارة ،وإن مثلك يا
فوٌر صاِنى فَإ ِن ّ َ
ك غَ ُ ن عَ َ
م ْ
مّنى وَ َ
ه ِ من ت َب ِعَِنى فَإ ِن ّ ُ
أبا بكر كمثل إبراهيم قال :فَ َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ب ل َ ت َذ َْر عََلى
م{ )إبراهيم (36 :وإن مثلك يا عمر مثل نوح قالّ} :ر ّ حي ٌ
ّر ِ
ً ْ
ن ال َ
ن د َّيارا{ )نوح «(26 :ورأى عليه الصلة والسلم رأي أبي ري َ
كافِ ِ م َ ال ْْر ِ
ض ِ
بكر بعد أن مدح كل ّ من الصاحبين لن الوجهة واحدة وهي إعزاز الدين،
وخذلن المشركين ،ثم قال لصحابه» :أنتم اليوم عالة فل يفلتن أحد من
أسراكم إل بفداء« وقد بلغ قريشا ً ما عزم عليه رسول الله في أمر السرى،
فناحت على القتلى شهرًا ،ثم أشير عليهم من كبارهم أل ّ يفعلوا كيل يبلغ
مموا على أل يبكوا قتلهم محمدا ً وأصحابه جزعهم فيشمتوا بهم ،فسكتوا وص ّ
حتى يأخذوا بثأرهم ،وتواصوا فيما بينهم أل ّ يعجلوا في طلب الفداء لئل يتغالى
المسلمون فيه.
الفداء
طلببن أبي وََداعة السهمي ،وكان أبوه من السرى، فلم يلتفت إلى ذلك الم ّ
فخرج خفية حتى أتى المدينة وفدى أباه بأربعة آلف درهم ،وعند ذلك بعثت
قريش في فداء أسراها ،وكان أربعة آلف إلى ألف درهم ،ومن لم يكن معه
فداء وهو يحسن القراءة والكتابة أعطوه عشرة من غلمان المدينة ُيعّلمهم،
وكان ذلك فداَءه.
طلب من أبيه فداؤه أبى ،وقال: ومن السرى عمروبن أبي سفيان ،ولما ُ
والله ل يجمع محمد بين ابني ومالي ،دعوه يمسكوه في أيديهم ما بدا لهم.
فبينما أبو سفيان بمكة إذ وجد سعدبن النعمان النصاري معتمرًا ،فعدا عليه
فحبسه بابنه عمرو ،فمضى قوم سعد إلى رسول الله وأخبروه فأعطاهم
كوا به سعدًا.مرا ً فف ّ
عَ ْ
ومن السرى أبو العاصبن الربيع زوج زينب بنت الرسول ،وكان عليه الصلة
والسلم قد أثنى عليه خيرا ً في مصاهرته ،فإنه لما استحكمت العداوة بين
قريش ورسول الله بمكة ،طلبوا من أبي العاص أن يطّلق زينب كما فعل ابنا
أبي لهب بابنتي الرسول ،فامتنع وقال :والله ل أفارق صاحبتي ،وما أحب أن
لي بها امرأة من قريش ،ولما ُأسر أرسلت زينب في فدائه ِقلدة لها كانت
حّلتها بها أمها خديجة ليلة عرسها .فلما رأى عليه الصلة والسلم تلك القلدة
َرقّ لها رّقة شديدة ،وقال لصحابه» :إ ْ
ن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وترّدوا
ب بذلك ،فأطلقه عليه الصلة والسلم لها قلدتها فافعلوا« فرضي الصحا ُ
بشرط أن يترك زينب تهاجر إلى المدينة .فلما وصل إلى مكة أمرها باللحاق
بأبيها ،وكان الرسول أرسل لها من يأتي بها فاحتملوها .هذا ،ولما أسلم أبو
العاصبن الربيع قبيل الفتح رد ّ عليه امرأته بالنكاح الول.
سهيلبن عمرو ،وكان من خطباء قريش وفصحائها وطالما آذى ومن السرىُ :
عني يا رسول الله أنزع ثنيتي َ ْ د الخطاب: عمربن فقال بلسانه، المسلمين
ه ،فل يقوم عليك خطيبا ً في موطن أبدًا ،فقال عليه الصلة دلع لسان ُ ُ
سهيل ،ي َ ْ
مّثل الله بي وإن كنت نبي ًّا ،وعسى أن يقوم مقاما ً ل ُ
والسلم» :ل أمّثل في ُ َ
مه« وقدم بفدائه مكرزبن حفص ،ولما ارتضى معهم على مقدارٍ حبس تذ ّ
قق الله خبر الرسول في سهيل، نفسه بدله حتى جاء بالفداء .هذا ،وقد ح ّ
فإنه لما مات عليه الصلة والسلم أراد أهل مكة الرتداد كما فعل غيرهم من
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
العراب ،فقام سهيل هذا خطيبا ً وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى
ن كان يعبد محمدا ً فإن محمدا ً قد مات ومن كان م ْ
على رسوله :أيها الناس َ
م
ت وَإ ِن ّهُ ْ مي ّ ٌ ي ل يموت ألم تعلموا أن الله قال} :إ ِن ّ َ
ك َ يعبد الله فإن الله ح ّ
َ
ت أوْ قُت ِ َ َ َ ّ
ل ما َ ل أفإ ِْين ّ من قَب ْل ِهِ الّر ُ
س ُ ت ِ
خل ْل قَد ْ َ
سو ٌ
مد ٌ إ ِل َر ُ ح ّ م َ
ما ُ ن) (30وَ َ مي ُّتو َ ّ
َ َ
م{ )آل عمران (144 :ثم قال :والله إني أعلم أن هذا ُ
قاب ِك ْ م عَلى أع ْ َ قل َب ْت ُ ْ
ان َ
الدين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها فل يغّرنكم هذا ــــ يريد أبا سفيان
ــــ من أنفسكم ،فإنه يعلم من هذا المر ما أعلم لكنه قد ختم على صدره
مة ،وإن حسد بني هاشم ،وتوكلوا على رّبكم ،فإن دين الله قائم ،وكلمته تا ّ
صر من نصره ومقوَ دينه ،وقد جمعكم الله على خيركم ــــ يريد أبا بكر الله نا ِ
ــــ وإن ذلك لم يزد السلم إل قوة ،فمن رأيناه ارتد ضربنا عنقه .فتراجع
ما كانوا عزموا عليه ،وكان هذا الخبر من معجزات نبينا صلى الله الناس ع ّ
عليه وسلم.
كه أخواه خالد وهشام ،فلما افْت ُدِيَ ورجعومن السرى :الوليدبن الوليد افت ّ
دوا
فداء؟ فقال خفت أن يع ّ إلى مكة أسلم فقيل له :هل ّ أسلمت قبل ال ِ
إسلمي خوفًا .ولما أراد الهجرة منعه أخواه ففّر إلى النبي في عمرة القضاء.
ومن السرى :السائببن يزيد ،وكان صاحب الراية في تلك الحرب ،فدى
نفسه .وهو الجد الخامس للمام محمدبن إدريس الشافعي.
ي كان أبوه عمير شيطانا ً من شياطين قريش ح ّ
م ِ ج َ
مي ْرٍ ال ُ
ومنهم :وهببن عُ َ
ً
كثير اليذاء لرسول الله ،جلس يوما بعد انتهاء هذه الحرب مع صفوانبن أمية
ي ليس عندي قضاؤه ن عل ّ
مصاب بدر ،فقال عمير :والله لول د َي ْ ٌ يتذاكران ُ
ً
عيال أخشى عليهم الفقر بعدي ،كنت آتي محمدا فأقتله ،فإن ابني أسير في و ِ
عمير سيفه ي وعيالك مع عيالي ،فأخذ ُ أيديهم ،فقال صفوانَ :دينك عل ّ
دم المدينة ،فبينا عمر مع نفر من المسلمين مه ،وانطلق حتى قَ ِ وشحذه وس ّ
ً
إذ نظر إلى عمير متوشحا سيفه ،فقال :هذا الكلب عدو لله ما جاء إل بشَر،
ثم قال للنبي عليه الصلة والسلم :هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحا ً
ي« .فأخذ عمر بحمائل سيفه وأدخله .فلما رآه عليه سيفه ،فقال» :أدخله عل ّ
الصلة والسلم قال» :أطلقه يا عمر ادن يا عمير« فدنا ،وقال :أنِعموا
صباحًا ،فقال عليه الصلة والسلم» :قد أبدلنا الله تحية خيرا ً من تحيتك
وهي :السلم« ،ثم قال» :ما جاء بك يا عمير؟« قال :جئت لهذا السير الذي
ل السيف؟« قال :قّبحها الله من في أيديكم فأحسنوا فيه ،فقال» :فما با ُ
دقني ما الذي سيوف وهل أغنت عنا شيئًا؟ قال عليه الصلة والسلم» :اص ُ
ت
ت له؟« قال :ما جئت إل لذلك .قال عليه الصلة والسلم» :كل بل قعد َ جئ َ
ذبك عمير وقال :كّنا نك ّ جرِ وقلتما كيت وكيت« ،فأسلم ُ ح ْ
أنت وصفوان في ال ِ
بما تأتي به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي ،وهذا أمر لم يحضره
قهوا أخاكم في دينه ،وأقرئوه إل أنا وصفوان فقال عليه الصلة والسلم» :ف ّ
القرآن ،وأطلقوا أسيره« ،فعاد عمير إلى مكة وأظهر إسلمه.
ومن السرى :أبو عزيزبن عمير ،أخو مصعببن عمير .مّر به أخوه فقال للذي
شد ّ يدك به ،فإن أمه ذات متاع لعّلها تفديه منك .فقال له :يا أخي
أسرهُ :
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
العتاب في الفداء
حّتى َ َ ُ َ َ
سَرى َ هأ ْ نل ُ ى أن ي َكو َ ن ل ِن َب ِ ّ ما كا َ م الفداُء أنزل الله في شأنهَ } : ولما ت َ ّ
م ل ّوْل َ
كي ٌ
ح ِ
زيٌز َ
ه عَ ِ ّ
خَرةَ َوالل ُ ْ
ريد ُ ال ِ ه يُ ِ ّ
ض الد ّن َْيا َوالل ُن عََر َ دو َري ُ
ض تُ ِ ْ
ن ِفي الْر ِ خ َي ُث ْ ِ
م عَ َ َ ُ َ ّ
م)(68 ظي ٌ ب عَ ِ ذا ٌ خذ ْت ُ ْ
مآ أ َ
م ِفي َ
سك ْم ّسب َقَ ل َن اللهِ َم َب ّ ك َِتا ٌ
دون عن سبيل نهى سبحانه عن اتخاذ السرى قبل الثخان في قتل الذين يص ّ
ضض المسلمين على إرادة عََر ِ ب بع َ الله ويمنعون دين الله من النتشار ،وعا َ
ب مجتهدا على اجتهاده ً الدنيا وهو الفدية ،ولول حكم سابق من الله أل ي َُعاقِ َ
ما دام المقصد خيرا ً لكان العذاب ،ثم َأباح لهم الكل من تلك الفدية المبني
أخذها على النظر الصحيح .وهذا من أقوى الدلة على صدق نبّينا عليه الصلة
والسلم فيما جاء به ،لنه لو كان من عنده ما كان يعاتب نفسه على عمل
عمله بناًء على رأي كثير من الصحابة .وقد وعد الله السرى الذين يعلم في
ى ُقل َ قلوبهم خيرا ً بأن يؤتيهم خيرا ً مما أ ُ ِ
خذ َ منهم ويغفر لهم فقالَ :ياأي َّها الن ّب ِ ّ َ
مآ
م ّ خْيرا ً ّم َ خْيرا ً ي ُؤْت ِك ُ ْم َ ه ِفي قُُلوب ِك ُ ْ سَرى ِإن ي َعْل َم ِ الل ّ ُ ن ال ْ ْ م َ كم ّ دي ُ من ِفى أي ْ ِ لّ َ
م)(70 حي ٌ فوٌر ّر ِ ه غَ ُم َوالل ّ ُفْر ل َك ُ ْ
م وَي َغْ ِ منك ُ ْ
خذ َ ِأُ ِ
وى أهله ،ودمغ فيه الشرك وهذه الغزوة هي التي أعّز الله بها السلم وق ّ
وخّرب محله ،مع قّلة المسلمين وكثرة عدوهم ،فهي آية ظاهرة على عناية
الله تعالى بالسلم وأهله مع ما كان عليه العدو من القوة بسوابغ الحديد
ومة ،والخيلء الزائدة ،ولذلك قال الله ممتنا ً دة الكاملة ،والخيل المس ّ والع ّ
ة{ )آل عمران(123 : ّ َ
م أذِل ٌ َ ّ ُ َ
ه ب ِب َد ْرٍ وَأنت ُ ْم الل ُ صَرك ُ قد ْ ن َ َ
على عباده بهذا النصر :وَل َ
أي :قليل عددكم ،لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله ،فهي أعظم غزوات
السلم ،إذ بها كان ظهوره ،وبعد وقوعها أشرق على الفاق نوره ،فقد قتل
داء للسلم ،ودخل الرعب في فيها من صناديد قريش من كانوا العداء الل ّ
قلوب العرب الخرين ،فكانت للمسلمين هيبة بها يكسرون الجيوش،
ي العلى على هذه العناية ،واتخذنا م أن شكرنا العل ّ جَر َ ويهزمون الرجال ،فل َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
يوم النصر في بدر وهو السابع عشر من شهر رمضان عيدا ً نتذكر فيه نعمة
الله على رسوله وعلى المسلمين.
وعندما تظاهر يهود قينقاع بالعداوة وتحصنوا بحصونهم ،سار إليهم عليه
الصلة والسلم في نصف شوال من هذه السنة ،يحمل لواءه عمه حمزة،
وخّلف على المدينة أبا لبابة النصاري ،فحاصرهم خمس عشرة ليلة.
سويق غزوة ال ّ
ً ً
كان أبو سفيان متهيجا ،لنه لم يشهد بدرا التي قتل فيها ابنه وذوو قرباه
س رأسه الماء حتى يغزو محمدًا ،وليبّر بقسمه خرج بمائتين من فحلف أل ّ يم ّ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أصحابه يريد المدينة ،ولما قاَربها ،أراد أن يقابل اليهود من بني النضير
خطبَ حي َّيبن أ َ ْ
ليهيجهم ،ويستعين بهم على حرب المسلمين ،فأتى سيدهم ُ
شكم فأذن له واجتمع به ،ثم خرج من م ْ س ّ
لمبن ِ ض مقابلته ،فأتى َ
فلم ير َ
ً
عنده ،وأرسل رجال من قريش إلى المدينة ،فحّرقوا في بعض نخلها ،ووجدوا
أنصاريا ً فقتلوه ،ولما علم بذلك رسول الله ،خرج في أثرهم في مائتين من
شيربن عبد خَلون من ذي الحجة ،بعد أن وّلى على المدينة ب َ ِ أصحابه ،لخمس َ
ففون ما يحملونه ليكونوا المنذر ،ولكن لم يلحقهم ،لنهم هربوا وجعلوا يخ ّ
ويق ،فأخذه المسلمون، س ِ
ب ال ّأقدر على السراع ،فألقوا ما معهم من جر ِ
ويق.
س ِ
ولذلك سميت هذه الغزوة بغزوة ال ّ
صلة العيد
ن الله للعالم السلمي سّنة عظيمة ،بها يتمكن أبناء البلد وفي هذا العام س ّ
عروة الدين الوثقى، لخاء ،ويقووا ُ
الواحد من المسلمين أن يجددوا عهود ا ِ
وهي الجتماع في يومي عيد الفطر وعيد الضحى .وكان عليه الصلة
ً
والسلم يجمع المسلمين في صعيد واحد ،ويصلي بهم ركعتين تضرعا إلى
ضا ً لهم
صم عروتهم ،وأن ينصرهم على عدوهم ،ثم يخطبهم حا ّ ف ِ
الله أن ل ي َ ْ
على الئتلف ،ومذكرا ً لهم ما يجب عليهم لنفسهم ،ثم يصافح المسلمون
بعضهم بعضًا ،وبعد ذلك يخرجون لداء الصدقات للفقراء والمساكين ،حّتى
ما ً لجميع المسلمين ،فبعد الفطر زكاته ،وبعد الضحى يكون السرور عا ّ
ّ
تضحيته ،نسأله تعالى أن يؤلف بين قلوبنا ،ويوّفقنا لعمال سلفنا.
ن في الحبال خرج إلى ولما انتصر المسلمون ببدر ،ورأى السرى مقّرني َ
قريش يبكي قتلهم ويحّرضُهم على حرب المسلمين ،فقال عليه الصلة
والسلم» :من لكعببن الشرف ،فإنه قد آذى الله ورسوله؟« فقال محمدبن
ب أن أقتله؟ قال» :نعم« ،قال :أنا لك به،
ح ّ
مسلمة النصاري الوسي :أت ِ
ن لي أقول شيئا ً أتمكن به ،فأذن له ،ثم خرج ومعه أربعة من قومه حتى
وائذ ْ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أتى كعبا ً فقال له :إن هذا الرجل ــــ يريد رسول الله ــــ قد سألنا صدقة
ه ،قال :إنا قدوإنه قد عَّنانا ،وإني قد أتيتك أستسلفك ،قال :وأيضا ً والله لتمّلن ُ
ب أن ندعه حتى ننظر إلى أيّ شيء يصير شأنه ،وقد أردنا أن اّتبعناه ،فل نح ّ
سقا ً أو وسقين .قال :نعم ولكن اْرهَُنوني .قالوا :أي شيء ُتريد؟ سِلفنا و ْ
تُ ْ
قال :ارهنوني نساءكم ،قالوا :كيف ن َْرهَُنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال:
ب أحدهم ،فيقالُ :رهن س ّ فارهنوني أبناءكم .قالوا :كيف نرهنك أبناءنا فَي ُ َ
ة ــــ يعني :السلح ــــ م َ ْ
بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا ،ولكن نرهنك الل َ
فرضي ،فواعده ليل ً أن يأتيه فجاءه ليل ً ومعه أبو نائلة أخو كعب من الرضاع
جْبر ــــ وكلهم أوسّيون ــــ ن َ وعّبادبن ِبشر ،والحارثبن أوس ،وأبو عبس اب ُ
ل ،فقالت له امرأته :أين تخرج الساعة فناداه محمدبن مسلمة ،فأراد أن ينز َ
محارب؟ فقال :إنما هو ابن أخي محمدبن مسلمة ورضيعي أبو وإنك امرؤ ُ
نائلة ،إن الكريم لو ُدعي إلى طعنة بليل لجاب .ثم قال محمد لمن معه :إذا
ه ،فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه م ُ جاءني فإني آخذ بشعره فأ َ
ش ّ
ح منه ريح المسك .فقال ف ُشحا سيفه ،وهو ي َن ْ َ ً فاضربوه ،فنزل إليهم كعب متو ّ
َ
م رأسك؟ قال :نعم محمد :ما رأيت كاليوم ريحا ً أطيب ،أتأذن لي أن أش ّ
مه ،فلما استمكن منه قال :دونكم فاقتلوه ففعلوا ،وأراح الله المسلمين فش ّ
من شر أعماله التي كان يقصدها بهم ،ثم أتوا النبي فأخبروه ،وكان قتل هذا
الشقي في ربيع الول من هذا العام ،وكان عليه الصلة
والسلم إذا رأى من رئيس غدرًا ،ومقاصد سوء ،ومحبة لثارة الحرب ،أرسل
فك اليهودي وكان مثلله من ُيريحه من شّره .وقد فعل كذلك مع أبي عَ َ
كعب في الشر.
حران
غزوة ب ُ ْ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
سليم يريدون الغارة على بلغه عليه الصلة والسلم أن جمعا ً من بني ُ
خَلون من جمادى الولى، ت َ
س َ
المدينة ،فسار إليهم في ثلثمائة من أصحابه ل ِ ِ
وخّلف على المدينة ابن أم مكتوم ،ولما وصل ُبحران تفرقوا ،ولم يلق كيدا ً
فرجع.
سرية
ُ
لما تيقنت قريش أن طريق الشام من جهة المدينة أغلق في وجه تجارتهم،
عيرا ً إلى الشام من طريقول يمكنهم الصبر عنها لن بها حياتهم ،أرسلوا ِ
العراق ،وكان فيها جمع من قريش منهم أبو سفيانبن حرب ،وصفوانبن أمية،
وحويطببن عبد العزى ،فجاءت أخبارهم لرسول الله ،فأرسل لهم زيدبن
حارثة في مائة راكب يترقبونهم ،وكان ذلك في جمادى الخرة ،فسارت
قْرَدة بناحية نجد فأخذت الِعير وما
السرية حتى لقيت الِعير على ماء اسمه ال َ
مس الرسول عليه الصلة والسلم هذه حينما فيها ،وهرب الرجال ،وقد خ ّ
وصلت له.
حد ُ
غزوة أ ُ
ب قريشا ً ما أصابها ببدر ،وأ ُغِْلقت في وجوههم طرق التجارة ،اجتمع ولما أصا َ
ن بقي من أشرافهم إلى أبي سفيان رئيس تلك العير التي جلبت عليهم م َْ
سلمت لصحابها بعد ،فقالوا: ّ المصائب ،وكانت موقوفة بدار الندوة ،ولم تكن ُ
إن محمدا ً قد وََترنا ،وقتل خيارنا ،وإّنا رضينا أن نترك ربح أموالنا فيها،
َ
ل من له فيها نصيب، استعدادا ً لحرب محمد وأصحابه ،وقد رضي بذلك ك ّ
ن ربحها نحوا ً من خمسين ألف دينار ،فجمعوا لذلك الرجال ،فاجتمع من وكا َ
قريش ثلثة آلف رجل ومعهم الحابيش ــــ وهم حلفاؤهم من بني
طلق وبني الهونبن خزيمة ،ومعهم أبو عامر الراهب الوسي ،وكان قد ص َ الم ْ
من هم فارق المدينة كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عدد م ّ
كنانة وتهامة ،وقال صفوانبن على شاكلته ،وخرج معهم جماعات من أعراب ِ
ن عليه ببدر م ّ
أمية لبي عَّزة َ الشاعر ــــ الذي ل ينسى القارىء أن الرسول َ
عّنا بلسانك ،فقال :إني عاهدت وأطلقه من غير فداء ــــ :إنك رجل شاعر فأ ِ
ت في يده مرة ثانية أل أنجو ،فلم يزل عين عليه ،وأخاف إن وقع ُ محمدا ً أل ّ أ ِ
جبيربن به صفوان حتى أطاعه ،وذهب يستنفر الناس لحرب المسلمين ،ودعا ُ
مط ْعِم ٍ غلما ً حبشيا ً له ،اسمه َوحشي ،وكان راميا ً قّلما ُيخطىء ،فقال له: ُ
مي طعَْيمة فأنت حر .ثم خرج ُ اخرج مع الناس ،فإن أنت قتلت حمزة بع ّ
ف
ن والدفوف والمعازف والخمور ،واصطحب الشرا ُ قيا ُ
الجيش ،ومعهم ال ِ
منهم نساءهم كيل ينهزموا ،ولم يزالوا سائرين حتى نزلوا مقابل المدينة بذي
حَليفة. ال ُ
أما رسول الله عليه الصلة والسلم ،فكان قد بلغه الخبر من كتاب بعث به
إليه عمه العباسبن عبد المطلب ،الذي لم يخرج مع المشركين في هذه
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
جا ً بما أصابه يوم بدر .ولما وصلت الخبار باقتراب المشركين، الحرب ،محت ّ
جمع عليه الصلة والسلم أصحابه وأخبرهم الخبر ،وقال» :إن رأيتم أن
تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن هم أقاموا أقاموا بشر مقام ،وإن
هم دخلوا علينا قاتلناهم« فكان مع رأيه شيوخ المهاجرين والنصار ورأى ذلك
ن لم يشهد بدرا ً منهم فأشاروا ُ
م ْي ،أما الحداث وخصوصا ً َ أيضا ً عبد اللهبن أب ّ
عليه بالخروج ،وكان مع رأيهم حمزةبن عبد المطلب ،وما زال هؤلء
بالرسول حتى تبع رأيهم ،لنهم الكثرون عددا ً والقوون جلدًا ،فصلى الجمعة
ضهم في خطبتها على الثبات خَلون من شوال ،وح ّ بالناس في يومها لعشر َ
دته،
والصبر وقال لهم» :لكم النصر ما صبرتم« ثم دخل حجرته ،ولبس ع ّ
فظاهر بين درعين ،وتقلد السيف ،وألقى الترس وراء ظهره .ولما رأى ذوو
الرأي من النصار أن الحداث استكرهوا الرسول على الخروج لموهم،
وقالوا :رّدوا المر لرسول الله ،فما أمر ائتمرنا ،فلما خرج عليه الصلة
س سلحه أن والسلم ،قالوا :يا رسول الله ن َّتبعُ رأيك ،فقال» :ما كان لنبي ل َب ِ َ
يضعه حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه« ثم عقد اللوية فأعطى لواء
حباببن المنذر ،ولواء الوس المهاجرين لمصعببن عمير ،ولواء الخزرج لل ُ
لسيدبن الحضير ،وخرج من المدينة بألف رجل .فلما وصلوا رأس الثنية ،نظر ُ
عليه الصلة والسلم إلى كتيبة كبيرة ،فسأل عنها ،فقيل :هؤلء حلفاء عبد
ي من اليهود ،فقال» :إّنا ل نستعين بكافر على مشرك« وأمر برّدهم ُ
اللهبن أب ّ
طولى في الخيانة g.ثم استعرض لنه ل يأمن جانبهم من حيث لهم اليد ال ُ
جندب، مَرةبن ُ س ُ
الجيش فرد ّ من استصغر ،وكان فيمن رّد :رافعبن خديج ،و َ
مرة ،وقال لزوج أمه :أجاز رسول س ُ
م ،فبكى َ ً
ثم أجاز رافعا لما قيل له إنه را ٍ
الله رافعا ً ورّدني مع
أني أصرعه ،فبلغ رسول الله الخبر ،فأمرهما بالمصارعة ،فكان الغالب
سمرة ،فأجازه .ثم بات عليه الصلة والسلم محله ليلة السبت ،واستعمل
على حرس الجيش محمدبن مسلمة ،وعلى حرسه الخاص ذكوانبن عبد
ط ــــ وهو بستان بين شو ْ ِ حر سار الجيش حتى إذا كان بال ّ س َ قيس .وفي ال ّ
ي بثلثمائة من أصحابه وقال :عصاني ُ ُ
حد والمدينة ــــ رجع عبد اللهبن أب َ َ أ ُ
وأطاع الوِْلدان فعلم نقتل أنفسنا؟ فتبعهم عبد اللهبن عمرو والد جابر،
م قَِتال ً م الله أل تخذلوا قومكم ونبّيكمَ} ،قاُلوا ْ ل َوْ ن َعْل َ ُ كرك ُ ُوقال :يا قوم أ ُذ َ ّ
كم الله ،فسيغني الله عنكم م{ )آل عمران (167 :فقال لهم :أ َب ْعَد َ ُ ل ّت ّب َعَْناك ُ ْ
مت طائفتان من المؤمنين أن تفشل: ُ
ي ،ه ّ نبّيه .ولما فعل ذلك عبد اللهبن أب َ ّ
سِلمة من الخزرج ،فعصمهما الله .وقد افترق بنو حارثة من الوس ،وبنو َ
المسلمون فرقتين فيما يفعلون بالمنخذلين ،فقوم يقولون :نقاتلهم ،وقوم
ن
قي َمَنافِ ِم ِفى ال ْ ُ ما ل َك ُ ْيقولون :نتركهم ،فأنزل الله في سورة النساء} :فَ َ
ّ َ فئ َتين والل ّه أ َرك َسهم بما ك َسبوا ْ أ َتريدو َ
ل
ضل ِ ِ من ي ُ ْ ه وَ َ ل الل ُ ض ّنأ َ م ْ دوا ْ َن أن ت َهْ ُ ُ ِ ُ َ َ ُ ِ َْ ِ َ ُ ْ َ ُ ْ ِ َ
ل)(88سِبي ً ه َ جد َ ل َ ُ
ه فََلن ت َ ِ الل ّ ُ
قالوا :ما لنا في الوقوف من حاجة ،ونسوا أمر السيد الحكيم صلى الله عليه
سهم فثبت وسلم ،فذكّرهم رئيسهم به فلم يلتفتوا وانطلقوا ينتهبون .أما رئي ُ
دبن الوليد ــــ أحد ُ رؤساء المشركين ــــ وثبت معه قليل منهم ،فلما رأى خال ُ
خل ُوّ الجبل من الرماة ،انطلق ببعض الجيش ،فقتل من ثبت من الرماة ،وأتى ُ
المسلمين من ورائهم وهم مشتغلون بدنياهم ،فلما رأوا ذلك البلء دهشوا
ت صفوفهم ،واختلطوا من غير شعار ،حتى صار وتركوا ما بأيديهم ،وانتقض ْ
ضهم بعضًا ،ورفعت إحدى نساء المشركين اللواء فاجتمعوا حوله، يضرب بع ُ
مصَعببن عمير صاحب ة قتل ُ َ
مئ َ َ
وكان من المشركين رجل يقال له ابن ق ِ
اللواء ،وأشاع أن محمدا ً قد قتل ،فدخل الفشل في المسلمين حتى قال
ُ
مُنوكم.م نقاتل إذا كان محمد قد ُقتل؟ فارجعوا إلى قومكم يؤَ ّ ضهم :عل َ بع ُ
وقال جماعة :إذا كان محمد قد ُقتل فقاتلوا عن دينكم .وكان من نتيجة هذا
ة من المسلمين ،من بينهم :الوليدبن عقبة ،وخارجةبن الفشل أن انهزم جماع ٌ
زيد ،وِرفاعةبن المعلى ،وعثمانبن عفان ،وتوجهوا إلى المدينة ،ولكنهم
استحيوا أن يدخلوها ،فرجعوا بعد ثلث ،وثبت رسول الله صلى الله عليه
وسلم ،ومعه جماعة ،منهم أبو طلحة النصاري استمر بين يديه يمنع عنه
كنانته بين يدي رسول الله ،وصار ه ،وكان راميا ً شديد الرمي .فنثر ِفت ِ ِ
ج َح َ
ب َ
يقول :نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوَقاء .وكل من كان يمر ومعه
كنانة يقول له عليه الصلة والسلم» :انثرها لبي طلحة« ،وكان ينظر إلى
القوم ليرى مواضع النبل ،فيقول له أبو طلحة :يا نبي الله بأبي أنت وأمي ،ل
تنظر يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك.
ت سعدبن أبي وقاص ،فكان عليه الصلة والسلم يقول له» :ارم ِ من ثب َ وم ّ
ح
حَنيف وكان من مشاهير الرماة نض َ سعد فداك أبي وأمي« .ومنهم سهلبن ُ
ُ
ماكبن
س َ
عن رسول الله بالنبل حتى انفرج عنه الناس .ومنهم أبو ُدجانة ِ
ل يقع على ظهره وهو شة النصاري تترس على رسول الله ،فصار النب ُ خَر َ
َ
ن حتى كثر فيه .وكان يقاتل عن الرسول زيادةبن الحارث حتى أصابت منح ٍ
ُ
ح مقاتله ،فأمر به فأدني منه ووسده قدمه حتى مات .وقد أصابه عليه الجرا ُ
ملها بما أعطاه الله من الثبات ،فقد أقبل الصلة والسلم شدائد عظيمة تح ّ
من كانوا معه، ُ
أبّيبن خلف يريد قتله فأخذ عليه الصلة والسلم الحربة م ّ
ب هلكه وهو ة كانت سب َ ما قَُرب منه ضربه ضرب ً وقال» :خّلوا طريقه« ،فل ّ
راجع ،ولم يقتل رسول الله غيره ل في هذه الغزوة ول في غيرها.
ع
قع فيها المسلمون ،فوق َ حفرا ً وغ ّ
طاها لي َ وكان أبو عامر الراهب قد حفر ُ
ي بيده، ُ
خدشت ركبتاه ،فأخذ عل ّ الرسول في حفرة منها ،فأغمي عليه ،و ُ
من ثبت ــــ حتى استوى قائمًا ،فرماه ورفعه طلحةبن عبيد الله ــــ وهما م ّ
ج
ش ّعتبةبن أبي وقاص بحجر كسر رباعيته فتبعه حاطببن أبي بلتعة فقتله ،و َ
وجهه عليه الصلة والسلم عبد اللهبن شهاب الزهري ،وجرحت وجنتاه بسبب
ة غضب الله عليه، مئ َ َ
دخول حلقتي المغفر فيهما من ضربة ضربه بها ابن قَ ِ
كسرت في ذلك ثنيتاه ،وقال فجاء أبو عبيدة وعالج الحلقتين حتى نزعهما ،ف ُ
ضبوا وجه نبّيهم؟« فأنزل الله حينئذ ٍ عليه الصلة والسلم» :كيف يفلح قوم خ ّ
َ َ َ س لَ َ
م أوْ ي ُعَذ ّب َهُ ْ
م ب عَلي ْهِ ْ ىء أوْ ي َُتو َ ش ْ ن ال ْ ْ
مرِ َ م َ
ك ِ في سورة آل عمران :ل َي ْ َ
ن)(128
مو َ م َ
ظال ِ ُ فَإ ِن ّهُ ْ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وقد أصاب المسلمين الذين كانوا يحوطون رسول الله كثير من الجراحات،
لن الشخص منهم كان يتلقى السهم ،خوفا ً أن يصل للرسول ،فوجد بطلحة
ف وسبعون جراحة ،وشّلت يده ،وأصاب كعببن مالك سبع عشرة جراحة. ني ٌ
ً
أما القتلى فكانوا نيفا وسبعين منهم ستة من المهاجرين ،والباقون من
النصار .ومن المهاجرين :حمزةبن عبد المطلب ،ومصعببن عمير ،ومن
لدبن عمرو ،وأخوالنصار حنظلةبن أبي عامر ،وعمروبن الجموح ،وابنه خ ّ
زوجه والد ُ جابربن عبد الله ،فأتت زوج عمرو هند ُ بنت عمروبن حرام
وحملتهم :زوجها وابنها وأخاها على بعير لتدفنهم بالمدينة ،فنهى عليه الصلة
والسلم عن الدفن خارج أحد ،فرجعوا .وقتل سعدبن الربيع ،وأرسل عليه
من يأتيه بخبره فوجده بين القتلى ،وبه رمق ،فقيل له :إن الصلة والسلم َ
دبن الربيع:
ل لكم سع ُمِبلغهُ :قل لقومي :يقو ُرسول الله يسأل عنك ،فقال ل ُ
الله الله وما عاهدتم عليه رسوله ليلة العقبة ،فوالله ما لكم عند الله عذر.
م أنسبن مالك ،فإنه لما سمع بقتل رسول الله قال :يا وقتل أنسبن النضر ع ّ
قوم ما تصنعون بالبقاء بعده؟ موتوا على ما مات عليه إخوانكم ،فلم يزل
يقاتل حتى ُقتل رضي الله عنه.
حد حتى إن هندا ً زوج أبي سفيان بقرت بطن حمزة، ُ
ت قريش بقتلى أ ُ مّثل ْ
و َ
وأخذت كبده لتأكلها ،فلكتها ثم أرسلتها ،وفعلوا قريبا ً من ذلك بإخوانه
ل ،إن ت فعا ِم ْ
الشهداء .ثم إن أبا سفيان صعد الجبل ونادى بأعلى صوته :ن ِعْ َ
م بيوم بدر ،وموعدكم بدر العام المقبل ،ثم قال :إنكم سجا ٌ
ل ،يو ٌ ب ِالحر َ
ؤني .ثم إن المشركين رجعوا س ْ
ة لم آمر بها ولم ت َ ُ َ
مث ْل ًستجدون في قتلكم ُ
إلى مكة ولم يعرجوا على المدينة ،وهذا مما يدل على أن المسلمين لم
ك اليوم ،وإل لم يكن بد ّ من تعقب المشركين لهم حتى ي ُِغيروا ينهزموا في ذل َ
قد عليه الصلة والسلم القتلى وحزن على عمه حمزة على مدينتهم .ثم تف ّ
ُ
حد ،كل شهيد بثوبه الذي قتل فيه .وكانوا حزنا ً شديدًا ،ودفن الشهداء كلهم بأ ُ
يدفنون الرجلين والثلثة في لحد واحد لما كان عليه المسلمون من تعب،
فكان يشقّ عليهم أن يحفروا لكل شهيد حفرة .ولما رجع المسلمون إلى
المدينة سخر منهم اليهود والمنافقون ،وأظهروا ما في قلوبهم من البغضاء،
ما قُت ُِلوْا{ )آل عمران.(156 : ماُتوا ْ وَ َ ما َ كاُنوا ْ ِ
عن ْد ََنا َ وقالوا لخوانهم :ل ّوْ َ
كرهم بأمرين عظيمين وهذا الذي ابتلي به المسلمون درس مهم لهم ،يذ ّ
تركهما المسلمون فُأصيبوا ،أولهما :طاعة الرسول في أمره ،فقد قال
للرماة :ل تبرحوا مكانكم إن نحن ُنصرنا أو ُقهرنا ،فعصوا أمره ونزلوا.
والثاني :أن تكون العمال كلها لله غير منظورة فيها لهذه الدنيا التي كثيرا ً ما
عرض الدنيا ،والتَهوا بالغنائم تكون سببا ً في مصائب عظيمة ،وهؤلء أرادوا َ
ت غزوة صل َ ْ عوقبوا ،وفي ذلك أنزل الله في سورة آل عمران التي فَ ّ حتى ُ
من ُ َ ُ
كم ن ِ حّبو َ ما ت ُ ِم ّ مآ أَراك ُ ْ من ب َعْد ِ َ حد :ا لله ـ « » صلى الله عليه وسلم { ّ أ ُ
فا م وَل َ َ
قد ْ ع َ َ م ل ِي َب ْت َل ِي َك ُ ْ
م عَن ْهُ ْصَرفَك ُ ْ خَرةَ ث ُ ّ
م َ ريد ُ ال ْ ِ من ي ُ ِ كم ّ من ُريد ُ الد ّن َْيا وَ ِ
من ي ُ ِ ّ
ن)(152 َ ني
ِ م
ِ ْ ؤ م
ُ ْ لا َ
لى َ ع ل
ٍ ض
ْ َ ف ذوُ هّ لوال
ْ َ ُ م ُ كْ نَ ع
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ذرا ً من رجوع المشركين ح ِلما رجع عليه الصلة والسلم إلى المدينة أصبح َ
إلى المدينة ليتمموا انتصارهم ،فنادى في أصحابه بالخروج خلف العدو ،وأل ّ
يخرج إل من كان معه بالمس ،فاستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم
ل ،فأعطاه عليبن أبي ح ّمدوا جراحاتهم وخرجوا واللواء معقود لم ي ُ َ قرح ،فض ّال َ
طالب ،وولى على المدينة ابن أم مكتوم ،ثم سار الجيش حتى وصلوا حمراء
السد وقد كان ما ظنه الرسول حقًا ،فإن المشركين تلوموا على ترك
المسلمين من غير شن الغارة على المدينة حتى يتم لهم النصر ،فأصّروا
على الرجوع ،ولكن لما بلغهم خروج الرسول في أثرهم ظنوا أنه قد حضر
ن لم يحضر بالمس ،وألقى الله الرعب في قلوبهم ،فتمادوا في م ْ
معه َ
سيرهم إلى مكة ،وظفر عليه الصلة والسلم وهم في حمراء السد بأبي
ن عليه ببدر بعد أن تعهد أل ّ يكون على المسلمين ،فأمر م ّ
عزة الشاعر ،الذي َ
ي ،ودعني لبناتي ،وأعطيك عهدا ً أل ّ ْ
بقتله ،فقال :يا محمد أقلني ،وامُنن عل ّ
أعود لمثل ما فعلت ،فقال عليه الصلة والسلم» :ل والله ل تمسح عارضيك
حرٍ مرتين ،اضرب ج ْن من ُ ت محمدا ً مرتين ،ل ي ُل ْد َغ ُ المؤم ُ بمكة تقول :خدع ُ
عنقه يا زبير« فضرب عنقه ،وفي هذا تأديب عظيم من صاحب الشرع
الشريف ،فإن الرجل الذي ل يحترز مما ُأصيب منه ليس بعاقل ،فل بد ّ من
مْلك. الحزم لقامة دعائم ال ُ
حوادث
وفي هذه السنة زّوج عليه الصلة والسلم بنته ُأم كلثوم لعثمانبن عفان بعد
مى ذا النورين .وفيها تزّوج عليه الصلة س ّأن ماتت رقية عنده ،ولذلك كان ي ُ َ
مها أخت عثمانبن مظعون ،وكانت ُ
والسلم حفصة بنت عمربن الخطاب ،وأ ّ
خنيسبن حذافة السهمي رضي الله عنه ،فتوفي عنها بجراحة قبله تحت ُ
ب بنت خزيمة الهللية من أصابته ببدر ،وفيها تزوج عليه الصلة والسلم زين َ
بني هللبن عامر ،كانت تدعى في الجاهلية ُأم المساكين لرأفتها وإحسانها
حد وهي أخت ُ
قتل عنها بأ ُ إليهم ،وكانت قبله تحت عبد اللهبن جحش ،ف ُ
ميمونة بنت الحارث لمها ،وفيها ولد الحسنبن علي رضي الله عنهما .وفيها
حرمت الخمر ،وكان تحريمها بالتدريج ،لما كان عليه العرب من المحبة ُ
الشديدة لها ،فيصعب إذا ً تحريمها دفعة واحدة ،وكان ذلك التحريم تابعا ً
فر عنها ،لن المنكر إذا ُأسند تحريمه لحادثة أقّر الجميع على لحوادث ت ُن َ ّ
ُ
تقبيحها كان ذلك أشد ّ تأثيرا في النفس .فأول ما ب ُّين فيها قوله تعالى في ً
ع
مَنافِ ُم ك َِبيٌر وَ َ مآ إ ِث ْ ٌ
ل ِفيهِ َ سرِ قُ ْ مرِ َوال ْ َ
مي ْ ِ خ ْ ن ال ْ َ ك عَ ِ سئ َُلون َ َسورة البقرة :ي َ ْ
س{ )البقرة .(219 :فمنفعة الميسر التصدق بربحه على الفقراء كما ِللّنا ِ
كانت عادة العرب ،ومنفعة الخمر تقوية الجسم ،ولما شربها بعض المسلمين
صلة على السكران ،فقال تعالى في سورة حّرمت ال ّ وخّلط في القراءة ُ
َ َ
موا ْ َ
ما حّتى ت َعْل َ ُ كاَرى َ س َم ُ قَرُبوا ْ الصلة َ وَأنت ُ ْ مُنوا ْ ل َ ت َ ْ
ن ءا َ ذي َ النساء} :ي َأي َّها ال ّ ِ
ث من شربها اعتداء بعض المسلمين على ن{ )النساء (43 :ولما حد َ قوُلو َتَ ُ
ما ْ ّ َ ً
مُنوا إ ِن ّ َ نآ َ ذي َ حّرمت قطعيا بقوله تعالى في سورة المائدة} :ي َأي َّها ال ِ إخوانهم ُ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
سنة الّرابعة
ال ّ
سرية
ُ
في بدء السنة الرابعة بلغ رسول الله أن طليحة وسلمة ابني خويلد السديين
يدعوان قومهما بني أسد لحربه عليه الصلة والسلم ،فدعا أبا سلمةبن عبد
سْر حتى تنزل أرض بني أسدبن السد المخزومي ،وعقد له لواًء وقال لهِ » :
ل ،فسار في هلل المحرم حتى بلغ خزيمة فَأ َِغْر عليهم« ،وأرسل معه رجا ً
طنا ً فأغار عليهم ،فهربوا من منازلهم ،ووجد أبو سلمة إبل ً وشاًء فأخذها،قَ َ
ولم يلق حربًا ،ورجع بعد عشرة أيام من خروجه.
سرية
وفي بدئها أيضا ً بلغه عليه الصلة والسلم أن سفيانبن خالدبن ن ُب َْيح الُهذلي
المقيم بعَُرَنة يجمع الجموعَ لحربه ،فأرسل له عبد اللهبن أ ُن َْيس الجهني وحده
ل حتى يتمكن، قو ّ َ
ليقتله ،فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ي َت َ َ
خَلون من المحرم ،ولما فأذن له ،وقال» :انتسب لخزاعة« ،فخرج لخمس َ
ت بجمعك خزاعة ،سمع ُ من الرجل؟ قال :من ُ وصل إليه قال له سفيان :م ّ
لمحمد فجئت لكون معك ،فقال له :أجل ،إني لفي الجمع له ،فمشى عبد
خبائه تفرق الناس دثه وسفيان يستحلي حديثه ،فلما انتهى إلى ِ الله معه وح ّ
عنه فجلس معه عبد الله حتى نام ،فقام وقتله ،ثم ارتحل حتى أتى المدينة،
ولم يلحقه الطلب وكفى الله المؤمنين القتال.
سرية
فر أرسل عليه الصلة والسلم عشرة رجال عيونا ً على قريش ،مع ص َوفي َ
ة ،الذين جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون قاَر ِ ضل وال َ
رهط عَ َ
مر عليهم عاصمبن ثابت النصاري ،فخرجوا قههم في الدين ،وأ ّ من يف ّ
يسيرون الليل ويكمنون النهار حتى إذا كانوا بالّرجيع غدر بهم أولئك الرهط،
ودّلوا عليهم هذيل ً قوم سفيانبن خالد الهذلي الذي كان قتله عبد اللهبن
م ،واقتفوا آثارهم حتى قربوا
أنيس ،فنفروا إليهم فيما يقرب من مائتي را ٍ
س بهم رجال السرية لجؤوا إلى جبل هناك ،فقال لهم العداء: منهم ،فلما أح ّ
انزلوا ولكم العهد أل ّ نقتلكم ،فنزل إليهم ثلثة اغتروا بعهدهم ،وقاتلهم
الباقون ،ومعهم عاصم غير راضين بالنزول في ذمة مشرك .ولما رأى الثلثة
ن الغدر امتنع أحدهم فقتلوه ،وأما الثنان فباعوهما بمكة الذين سّلموا عي َ
خبيببنمن كان له ثأر عند المسلمين ،وهناك قُِتل .وقد قال أحدهما وهو ُ م ّ
عدي حين أرادوا قتله:
َ ً ن أ ُقْت َ ُ ُ
ك فيصَرعيوذل َ
م ْ
ب كان في الله َجن ْ ٍ
سِلماعلى أيّ َ
م ْل ُ ت أبالي حي َ وَل َ ْ
س ُ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
سرية
ضير
غزوة بني الن ّ ِ
يا لله ،ما أسوأ عاقبة الطيش فقد تكون المة مرتاحة البال ،هادئة الخواطر،
حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر ،يظنون من ورائه النجاح ،فيجلب
عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم ،وهذا ما حصل ليهود بني النضير حلفاء
الخزرج ،الذين كانوا يجاورون المدينة ،فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود
ل منهم الخر ،ولكن بنو النضير لم يوفوا بهذه العهود حسدًامنهم يأمن بها ك ّ
وبغيًا .فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض من أصحابه في ديار
بني النضير إذ ائتمر جماعة منهم على قتله بأن يأخذ واحد ٌ منهم صخرةً
ويلقيها عليه من علو ،فُأطلع عليه الصلة والسلم على قصدهم ،فرجع وتبعه
أصحابه ،ثم أرسل لهم محمدبن مسلمة يقول لهم» :اخرجوا من بلدي فقد
ن
م ْ هممتم بما هممتم من الغدر« .إذ الحزم كل الحزم أل يتهاون النسان مع َ
عرف منه الغدر ،فتهيأ القوم للرحيل ،فأرسل لهم إخوانهم المنافقون ُ
م ل َن َ ْ ُ
م وَل َ معَك ُ ْ ن َج ّ خُر َ جت ُ ْ خرِ ْ نأ ْ يقولون :ل تخرجوا من دياركم ونحن معكم ل َئ ِ ْ
َ نطيع فيك ُ َ
ن) (11ل َئ ِ ْ
ن كاذُِبو َم لَ َ شهَد ُ إ ِن ّهُ ْ ه يَ ْ م َوالل ّ ُ صَرن ّك ُ ْ م ل ََنن ُحدا ً أَبدا ً وَِإن ُقوت ِل ْت ُ ْ مأ َ ْ ُ ِ ُ
ن ّ َ
م لي ُوَل ّ صُروهُ ْ م وَلِئن ن ّ َ َ صُرون َهُ ْ ْ ُ
م وَلِئن ُقوت ِلوا ل َ َين ُ َ معَهُ ْ
ن َجو َ خُر ُ ْ
جوا ل َ ي َ ْ خرِ ُ أُ ْ
ةص ٌ صا َ خ َ جآءوا َ قوا ْ ت ََر َ ك َنافَ ُ ب ِفى أ ََبدا ً إ ِن ّ َ شد ّ ال ْك َِتا ِ ن) (12أ َ َ صُرو َ م ل َ ُين َ ال ْد َْباَر ث ُ ّ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
َ َ خرجتم والل ّ َ ُ
م ِفى أَبدا ً إ ِن ّهُ ْ
م حدا ً ُقوت ِل ْت ُ ْ ه أَبدا ً أ َمن أ ْ ِ ْ ُ ْ َ ُ ة وَ َ
ص ٌصا َ خ َ ة عََلى َ ص ٌ
صا َ خ ََ
َ َ َ ُ ّ ّ ّ
م ِفى ِفى م أل ْ صَرن ّك ُ ْ ه ِفى قُلوب َِنا لَنن ُ ن َوالل ُ م ْن وَِإن ِ ذي َ م ال ِحي ٌه ّر ِ م َوالل ُ صَرن ّك ُ ْ ل ََنن ُ
َ
ن ُقوت ِل ْت ُ ْ
م م ْ ه ِفى ِ ف ت ََر َوالل ّ ُ قوَنا َرءو ٌ سب َ ُ
ن َ ذي َ ه ل ّل ّ ِ
م عََلى َوالل ّ ُ حي ٌ ن ّر ِ م ْه ِ أَبدا ً َوالل ّ ُ
َ
ن أَبدا ً َ
م ْقوَنا وَِإن ت ََر ِ سب َ ُ
طيعُ َ خوان َِنا عََلى ن ُ ِ ِفى أَبدا ً َرب َّنآ وَل ِ ْ
م
قوَنا إ ِن ّهُ ْ م وَِإن قُُلوب َِنا َ
سب َ ُ صَرن ّك ُ ْن ل ََنن ُ ذي َه ل ّل ّ ِ
م َوالل ّ ُ م قُُلوب َِنا إ ِن ّهُ ْ ه ُقوت ِل ْت ُ ْ قُُلوب َِنا َوالل ّ ُ
َ َ
م ِفى م ل ََنن ُ
صَرن ّك ُ ْ حدا ً ُقوت ِل ْت ُ ْ نأ َ ذي َ م ال ّ ِ
م إ ِن ّهُ ْحدا ً إ ِن ّهُ ْ م وَِإن أ َ صَرن ّك ُ ْ م ل ََنن ُ م إ ِن ّهُ ْ حي ٌ
ّر ِ
وَ ْ ُ ّ ً َ ّ ً َ
م وَل ْ ه قوت ِلت ُ ْ ن أَبدا وَِإن َوالل ُ ذي َ ِفى أَبدا وَِإن ال ِ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
لمبن حي َّيبن أخطب ،وس ّ ولما سار اليهود نزل بعضهم بخيبر ،ومنهم أكابرهم ُ
عات بالشام ،وأسلم منهم اثنان :يامينبن قْيق ،ومنهم من سار إلى أ َْذر َ ح َأبي ال ُ
ل الله ما أخذ من بني النضير، مس رسو ُ عمرو وأبو سعدبن وهب ،ولم يخ ّ
دات الحرب، فإنه فيٌء لم يوجف عليه بخيل ول ركاب ،ومثل هذا يكون لمع ّ
وللرسول ،يطعم منه أهله ،ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل،
قَرى ل ال ْ ُ كما قال تعالى في سورة الحشر :مآ أ ََفآء الل ّه عََلى رسول ِه م َ
ن أهْ ِ َ ُ ِ ِ ْ ُ ّ
ن ُ َ
ل كى ل ي َكو َ َ سِبي ِ
ن ال ّ ْ قْرَبى َوال ْي ََتا َ
ذى ال ْ ُ فَل ِل ّهِ وَِللّر ُ
ن َواب ْ ِ
كي ِ
سا ِم َمى َوال َ ل وَل ِ ِ
سو ِ
م{ )الحشر (7 :فأعطى عليه الصلة والسلم من هذا منك ُ ْن ال ْغْن َِيآء ِ ُدول َ ً
ة ب َي ْ َ
الفيء فقراء المهاجرين ،الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ،ورّدوا لخوانهم ُ
من النصار ما كانوا قد أخذوه منهم أيام هجرتهم ،وأخذ عليه الصلة والسلم
خر منها ُقوت أهله عامًا. أرضا ً يزرعها ويد ّ ِ
وفي ربيع الخر بلغه عليه الصلة والسلم أن قبائل من نجد يتهيؤون لحربه،
وهم :بنو محارب وبنو ثعلبة ،فتجّهز لهم ،وخرج في سبعمائة مقاتل ،ووّلى
على المدينة عثمانبن عفان ،ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا ديار القوم ،فلم
يجدوا فيها أحدا ً غير نسوة فأخذه ّ
ن ،فبلغ الخبر رجالهم ،فخافوا وتفرقوا في
ف
س ،وأخا َرؤوس الجبال ،ثم اجتمع جمع منهم وجاؤوا للحرب ،فتقارب النا ُ
بعضهم بعضًا .ولما حانت صلة العصر وخاف عليه الصلة والسلم أن يغدر
بهم العداء وهم يصّلون ،صلى بالمسلمين صلة الخوف ،فألقى الله الرعب
في قلوب العداء ،وتفرقت جموعهم خائفين منه صلى الله عليه وسلم.
ومال المام البخاري إلى أن هذه الغزوة كانت في السنة السابعة وأجمعَ أه ُ
ل
سي َرِ على خلفه.ال ّ
مّر الظهران ــــ فقال لقومه :إن هذا عام وهي سوق معروفة من ناحية َ
جدب ول يصلحنا إل عام عشب فارجعوا ،أما المسلمون فأقاموا ببدر ل
سوء
م ُ
سهُ ْ
س ْ
م َ ل لّ ْ
م يَ ْ ن الل ّهِ وَفَ ْ
ض ٍ م َ قل َُبوا ْ ب ِن ِعْ َ
مةٍ ّ يشاركهم في تجارته أحد }َفان ْ َ
م)(174 ظي ٍل عَ ِ ض ٍ ه ُذو فَ ْ ن الل ّهِ َوالل ّ ُ َوات ّب َُعوا ْ رِ ْ
ضوا َ
حوادث
ُ
وفي هذا العام ولد الحسينبن علي ،وفيه توفيت زينب بنت خزيمة أم
سَلمة رضي الله عنه ابن عمة رسول الله ،وأخوه
المؤمنين ،وفيه توفي أبو َ
ل من هاجر إلى الحبشة ،وفيه تزوج عليه الصلة والسلممن الرضاعة ،وأو ُ
ة هندا ً زوج أبي سلمة بعد وفاته. ُ
سل َ َ
م َ م َ
أ ّ
سة
م َ
سنة الخا ِ
ال ّ
وفي ربيع الول من هذا العام بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن جمعا ً من
مّر بهم ،وأنهم يريدون الدنو من المدينة دومة الجندل يظلمون من َ العراب ب ُ
فتجهز لغزوهم ،وخرج في ألف من أصحابه ،بعد أن وَّلى على المدينة
من النهار حتى قرب سَباعبن عُْرُفطة الِغفاري ،ولم يزل يسير الليل ويك ُ ِ
منهم ،فلما بلغهم الخبر تفرقوا ،فهجم المسلمون على ماشيتهم ورعائهم،
ثب ،وهرب من هرب ،ثم نزل بساحتهم فلم يلقَ أحدًا ،وب ّ فُأصيب م ُ
ن أصي ََ ْ
السرايا فلم يجد منهم أحدًا ،فرجع عليه الصلة والسلم غانمًا ،وصالح وهو
ميه عليه الصلة والسلم فزاري ،وهو الذي كان يس ّن ال َ
ص ٍح ْ
ةبن ِ عائد عيين َ
الحمق المطاع ،لنه كان يتبعه ألف قََناة ،وأقطعه عليه الصلة والسلم أرضا ً
يرعى فيها بهمه على بعد ستة وثلثين ميل ً من المدينة لن أرضه كانت قد
أجدبت.
صط َِلق
م ْ
غزوةبن ال ُ
في شعبان ،بلغه عليه الصلة والسلم أن الحارثبن أبي ضرار ،سيد َ بني
ُ
حد ،يجمع المصطلق الذين ساعدوا قريشا ً على حرب المسلمين في أ ُ
الجموع لحربه ،فخرج له عليه الصلة والسلم في جمع كثير ،ووّلى على
ة وُأم سلمة .وخرج معه دبن حارثة ،وخرج معه من نسائه عائش ُ المدينة زي َ
ّ
ناس من المنافقين لم يخرجوا قط في غزوة مثلها ،يرجون أن يصيبوا من
ن بني ض الدنيا ،وفي أثناء مسيره عليه الصلة والسلم التقى بعَي ْ ِ عََر ِ
ب فأمر بقتله .ولما بلغ الحارث ْ يج فلم العدو أحوال عن فسأله المصطلق،
رئيس الجيش مجيء المسلمين لحربه ،وأنهم قتلوا جاسوسه ،خاف هو
وجيشه خوفا ً شديا ً حتى تفرق عنه بعضهم ،ولما وصل المسلمون إلى
ف الفريقان للقتال ،بعد أن عرض عليهم السلم فلم يقبلوا، صا ّ
سيع ت َ َ ال ْ ُ
مَري ْ ِ
فتراموا بالنبل ساعة ،ثم حمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد ،فلم
يتركوا لرجل من عدوهم مجال ً للهرب ،بل قتلوا عشرة منهم وأسروا باقيهم
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
مع النساء والذرية ،واستاقوا البل والشياه ،وكانت البل ألفي بعير ،والشياه
شقران ،وعلى السرى خمسة آلف ،واستعمل الرسول على ضبطها موله ُ
ب َُريدة .وكان في نساء المشركين ب َّرة بنت الحارث سيد القوم ،وقد أخذ من
سن السياسة ح ْت على المسلمين ،وهنا يظهر ُ ت أسرى وُّزعَ ْ
قومها مئتا بي ٍ
سُر نسائهم بهذه ً
ومنتهى الكرم ،فإن بني المصطلق من أعّز العرب دارا فأ ْ
ن على الحال صعب جدًا ،فأراد عليه الصلة والسلم أن يجعل المسلمين ي َ ُ
مّنو َ
ماها النساء بالحرية من تلقاء أنفسهم ،فتزوج بّرة بنت الحارث التي س ّ
ة ،فقال المسلمون :أصهار رسول الله ل ينبغي أسرهم في أيدينا فمّنوا جوَي ْرِي َ َ
ُ
ن امرأةٍ على قومها كما قالت عائشة رضي ة أيم َ
عليهم بالعتق ،فكانت جويري ُ
الله عنها ،وتسّبب عن هذا الكرم العظيم وهذه المعاملة الجليلة أن أسلم بنو
المصطلق عن بكرة أبيهم ،وكانوا للمسلمين بعد أن كانوا عليهم.
فأولهما :أن أجيرا ً لعمربن الخطاب اختصم مع حليف للخزرج ،فضرب الجيُر
الحليف حتى سال دمه ،فاستصرخ بقومه الخزرج ،واستصرخ الجير
بالمهاجرين ،فأقبل الذعر من الفريقين ،وكادوا يقتتلون لول أن خرج عليهم
رسول الله فقال» :ما بال دعوى الجاهلية؟« وهي ما يقال في الستغاثة :يا
بعوا هذه الكلمة فإنها منتنة« ،ثم كلم المضرو َ فلن .فأخبر الخبر ،فقال» :د َ ُ لَ ُ
ي هذا الخصام ُ
حتى أسقط حقه وبذلك سكنت الفتنة ،فلما بلغ عبد اللهبن أب َ َ
ذلة أو قد ب ،وكان عنده رهط من الخزرج ،فقال :ما رأيت كاليوم م ّ غض َ
فعلوها؟ نافرونا في ديارنا ،والله ما نحن والمهاجرون إل كما قال الّول:
ن معه، م ْمن كلبك يأكلك ،أما والله :ل َِئن { )المنافقون ،(8 :ثم التفت إلى َ س ّ
وقال :هذا ما فعلتم بأنفسكم ،أحللتموهم بلدكم وقاسمتموهم أموالكم ،أما
والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم ثم لم يرضوا بما
فعلتم حتى جعلتم أنفسكم غرضا ً للمنايا دون محمد فأيتمتم أولدكم ،وَقَل َل ُْتم
ضوا من عنده ،وكان في مجلسه شاب ف ّ
وكثروا ،فل تنفقوا عليهم حتى ي َن ْ َ
ث السن ،قوي السلم ،اسمه زيدبن أرقم ،فأخبر رسول الله الخبر فتغير حدي ُ
وجهه ،وقال» :يا غلم لعلك غضبت عليه فقلت ما قلت؟« فقال :والله يا
رسول الله لقد سمعته .قال» :لعّله أخطأ سمعك« ،فاستأذن عمر الرسول
ي أو أن يأمر أحدا ً غيره بقتله فنهاه عن ذلك .وقال» :كيف يا ُ
في قتل ابن أب َ ّ
س أن محمدا ً يقتل أصحابه؟« ثم أذن بالرحيل في وقت عمر إذا تحدث النا ُ
شغْ َ
ل لم يكن يرتحل فيه حين اشتد الحر يقصد بذلك عليه الصلة والسلم َ
حضير وسأله عن سبب الناس عن التكلم في هذا الموضوع ،فجاءه أسيدبن ُ
الرتحال في هذا الوقت ،فقال» :أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن
رجعَ إلى
ن العّز منها الذل« .قال :أنت والله يا رسول الله تخرجه إنالمدينة ليخرج ّ
ت ،هو والله الذلي ُ
ل وأنت العزيُز ،ثم ساَر عليه الصلة والسلم بالناس شئ َ
س
م ّ ً
سيرا حثيثا حتى آذتهم الشمس ،فنزل بالناس فلم يلبثوا أن وجودا ًَ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
حديث الفك
يب منها للمصائب ،وهي رم ُ النادرة الثانية :وهي أفظعُ من الولى وأجل ُ
ّ
ديقة ،زوج رسول الله بالفك ،فاّتهموها بصفوانبن المعَطل عائشة الص ّ
السلمي ،وذلك أنهم لما دنوا من المدينة أذن عليه الصلة والسلم ليلة
بالرحيل ،وكانت السيدة عائشة قد مضت لقضاء حاجتها حتى جاوزت الجيش،
قد ٌ لها من جْزع
ع ْ
حلها ،فلمست صدرها فإذا ِ فلما قضت شأنها أقبلت إلى َر ْ
فارِ قد انقطع فرجعت تلتمس عقدها ،فحبسها ابتغاؤه ،فأقبل الرهط الذين ظَ َ
ن إذ ذاك خفافا ً كانوا ي َْرحُلوَنها ،فاحتملوا هودجها ظاّنين أنها فيه ،لن النساء ك ّ
ة الهودج ،وكانت عائشة جارية حديثة ف َ
خ ّ
ن اللحم ،فلم يستنكر القوم ِ لم ي َغْ َ
شهُ ّ
السن ،فجاءت منزل الجيش بعد أن وجدت عقدها ،وليس بالمنزل داٍع ول
ت ،وكان الذي يسيُر وراء الجيش يفتقد ضائعه مجيب ،فغلبتها عيناها فنام ْ ُ
طل ،فأصبح عند منزلها فعرفها لنه كان رآها قبل الحجاب، معَ ُّ ال صفوانبن
فاسترجع ،فاستيقظت باسترجاعه وسترت وجهها بجلبابها ،فأناخ راحلته
وأركبها من غير أن يتكلما بكلمة ،ثم انطلق يقود بها الراحلة حتى وصل
الجيش وهو نازل للراحة ،فقامت قيامة أهل الفك ،وقالوا ما قالوا في
ي. ُ
ولى كبر الفك عبد اللهبن أب ّ عائشة وصفوان ،والذي ت َ َ
ولما قدموا المدينة مرضت عائشة شهرًا ،والناس يفيضون في قول الفك،
وهي ل تشعر بشيء ،وكانت تعرف في رسول الله رقة إذا مرضت ،فلم
يعطها نصيبا ً منها في هذا المرض ،بل كان يمر على باب الحجرة ل يزيد على
ت خرجت هي قهَ ْ قوله» :كيف حالكم؟« مما جعلها في ريب عظيم .فلما ن َ ِ
ُ
مسطحبن أثاثة ــــ أحد أهل الفك ــــ للتبّرز خارج البيوت ،فعثرت أم ُ
وأم ِ
ت
مسطح فقالت عائشة :بئس ما قل ِ مْرطها فقالت :تعس ِ مسطح في ِ
ً
أتسبين رجل ً شهد بدرا؟ فقالت يا هَْنتاه ُ أو لم تسمعي ما قالوا؟ فسألتها
عائشة عن ذلك فأخبرتها الخبر ،فازدادت مرضا ً على مرضها .ولما جاءها
عليه الصلة والسلم كعادته ،استأذنته أن تمّرض في بيت أبيها ،فأذن لها،
وني عليك ،فوالله لقّلما كانت ما يقول الناس ،فقالت :يا بنّية ه ّ
ت أمها ع ّ
فسأل ْ
ط وضيئه عند رجل يحبها ولها ضرائر إل أكثرن عليها ،فقالت عائشة: امرأة ق ّ
سبحان الله أوَ قد تحدث الناس بهذا؟ وبكت تلك الليلة حتى أصبحت ل يرقأ
لها دمع ،ول تكتحل بنوم .وفي خلل ذلك كان عليه الصلة والسلم يستشير
كباَر أهل بيته فيما يفعل ،فقال له أسامة لما يعلمه من براءة عائشة :أهلك
ق الله عليك، ضي ّ ِأهلك ول نعلم عليهم إل خيرًا .وقال عليبن أبي طالب :لم ي ُ َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ل رسول الله صلى الله عليه ت واضطجعت على فراشها ،ولم يزاو ْ ثم تحول ْ
وسلم مجلسه حتى نزلت عليه اليات من سورة النور ببراءة السيدة
سُبوهُ ح َ م ل َ تَ ْ من ْك ُ ْ ة ّ صب َ ٌ ك عُ ْ جآءوا ِبالفْ ِ ن َ ذي َ ن ال ّ ِ ديقة} :إ ِ ّ المطهرة عائشة الص ّ
ذى ت َوَلى ّ ّ
ن الث ْم ِ َوال ِ م َ ب ِ س َ ْ
ما اكت َ َ م ّ من ْهُ ْ رىء ّ م ِ لا ْ ُ
م ل ِك ّ خي ٌْر ل ّك ْ
ُ ل هُوَ َ م بَ ْ شّرا ً ل ّك ُ ْ َ
ت مَنا ُ مؤ ْ ِ ْ
ن َوال ُ مُنو َ مؤ ْ ِ ن ال ُ ْ َ
موه ُ ظ ّ معْت ُ ُ س ِ ول إ ِذ ْ َ ّ
م) (11ل ْ ظي ٌ ب عَ ِ ذا ٌ ه عَ َ مل ُ َ من ْهُ ْ ك ِب َْرهُ ِ
َ َ َ َ ّ ٌ ْ ُ ً ب َِأن ُ
دآء فَإ ِذ ْ ل ْ
م شهَ َ جآءو عَلي ْهِ ب ِأْرب َعَةِ ُ ن) (12لوْل َ مِبي ٌ هاَذآ إ ِفْك ّ خْيرا وََقالوا َ م َ سهِ ْ ف ِ
ل الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ
م ض ُ ن) (13وَل َوْل َ فَ ْ كاذُِبو َ م ال ْ َ عند َ الل ّهِ هُ ُ ك ِ دآء فَأ ُوْل َئ ِ َ شهَ َ ي َأ ُْتوا ْ ِبال ّ
َ
م) (14إ ِذ ْ ظي ٌ ب عَ ِ ذا ٌ م ِفيهِ عَ َ ضت ُ ْ مآ أفَ ْ م ِفى َ سك ُ ْ م ّ خَرةِ ل َ َ ه ِفى الد ّن َْيا َوال ْ ِ مت ُ ُ ح َ وََر ْ
و ً ْ ُ َ ّ ُ ْ َ ُ ُ ْ َ ت َل َ ّ
ه هَّينا وَهُ َ سُبون َ ُ ح َ م وَت َ ْ عل ٌ م ب ِهِ ِ س لك ْ ما لي ْ َ م ّ ن ب ِأفواهِك ْ قولو َ م وَت َ ُ سن َت ِك ْ ه ب ِأل ِ قوْن َ ُ
َ
م ب َِهاَذا ن ل ََنآ أن ن ّت َك َل ّ َ كو ُ ما ي َ ُ م ّ موه ُ قُل ْت ُ ْ معْت ُ ُ س ِ ول إ ِذ ْ َ م) (15وَل َ ْ ظي ٌ عند َ الل ّهِ عَ ِ ِ
م ت ُ
كن إن ً ا بد َ أ ه ل ْ ث م ل ْ ا دو عو ت أن َ ه ّ ل ال م ُ ك ُ ظ ع ي ( 16 م) ظي ع ن تا ه ب ذا َ ها َ
ك ن حا ب س
ُ ْ َُ ُ ِ ِ ِ ِ َ ِ ُ ُ َِ ُْ َ ٌ َ ِ ٌ َ ُ ْ َ َ
ن َأن بو
ِ َ ُ ِ ّ َ ح ي ن ذي ّ ل ا نِ ّ إ ( 18 م) كي ح
َ ِ َ ُ ِ ٌ َ ِ ٌ م لي َ ع ه ّ ل وال ت يا ْ ل ا م ُ ُ ك َ ل ه
ُ ّ ل ال ن ي
ََُّ ُ ب ي و ( 17 ن) مِني َ مؤ ْ ِ ّ
م َ ل ع ي ه ّ ل وال ة ر خ ْ ل وا يا ند ال فى م لي َ أ ب ذا َ ع م ه َ ل ْ ا نو م ءا ن ذي ّ ل ا فى ة ش َ ح فا َ ْ ل ا
َ ِ َ ُ َْ ُ ِ َّْ َ ٌ ِ ِ ٌ َ ُ ْ َ ُ ِ َ ِ ُ ِ تَ ِ َ
ع شي
َ َ
م) حي ٌ ف ّر ِ ه َرءو ٌ ن الل ّ َ ه وَأ ّ مت ُ ُ ح َ م وََر ْ ل الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ ض ُ ن) (19وَل َوْل َ فَ ْ مو َ م ل َ ت َعْل َ ُ وَأن ْت ُ ْ
خ ُ شي ْ َ خ ُ َ
ت
طوا ِ من ي َت ّب ِعْ ُ ن وَ َ طا ِ ت ال ّ طوا ِ مُنوا ْ ل َ ت َت ّب ُِعوا ْ ُ ن ءا َ ذي َ (20يأي َّها ال ّ ِ
مُر ِبال ْ َ ْ شي ْ َ
شآء ح َ ف ْ ه ي َأ ُ ن فَإ ِن ّ ُ طا ِ ال ّ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
َ كم م َ
ن الل ّ َ
ه حد ٍ أَبدا ً وََلك ِ ّ نأ َ من ُ ّ ْ كى ِ ما َز َ ه َمت ُ ُ
ح َ م وََر ْ ل الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ ض ُمن ْك َرِ وَل َوْل َ فَ َْوال ْ ُ
سعَةِ َأن ل أ ُوُْلوا ْ ال ْ َ ْ
م َوال ّ منك ُ ْ ل ِ ض ِف ْ م) (21وَل َ ي َأت َ ِ ميعٌ عَِلي ٌ س ِه َ شآء َوالل ّ ُ من ي َ َكى َ ي َُز ّ
حوا ْ ُ
ف ُص َفوا ْ وَل ْي َ ْ ل الل ّهِ وَل ْي َعْ ُ سِبي ِ ن ِفى َ ري َ ج ِمَها ِ ن َوال ْ ُ كي َ سا ِ م َقْرَبى َوال ْ َ ي ُؤُْتوا ْ أوِْلى ال ْ ُ
حبو َ َ
م{ )النور (22 :فقال أبو بكر :بل حي ٌ فوٌر ّر ِ ه غَ ُ م َوالل ّ ُ ه ل َك ُ ْفَر الل ّ ُ ن أن ي َغْ ِ أل َ ت ُ ِ ّ َ
مسطح .فهذه مضار المنافقين نحب ذلك يا رسول الله ،وأعاد النفقة على ِ
الذين يدخلون بين المم مظهرين لهم المحبة وقلوبهم مملوءة حقدا ً
يتربصون الفتن ،فمتى رأوا بابا ً لها وََلجوه فنعوذ بالله منهم.
غزوة الخندق
لم يقّر لعظماء بني النضير قرار بعد جلئهم عن ديارهم وإرث المسلمين لها،
بل كان في نفوسهم دائما ً أن يأخذوا ثأرهم ويسترّدوا بلدهم ،فذهب جمع
منهم إلى مكة ،وقابلوا رؤساء قريش ،وحّرضوهم على حرب رسول الله
ومّنوهم المساعدة ،فوجدوا منهم قبول ً لما طلبوه ،ثم جاؤوا إلى قبيلة
غطفان وحّرضوا رجالها كذلك ،وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب،
فوجدوا منهم ارتياحًا ،فتجهزت قريش وأتباعها يرأسهم أبو سفيان ،ويحمل
لواءهم عثمانبن طلحةبن أبي طلحة العبدري ،وعددهم أربعة آلف ،معهم
ةبن ثلثمائة فرس ،وألف وخمسمائة بعير .وتجهزت غطفان يرأسهم عُي َي ْن َ ُ
دمنا أقطعه أرضا ً حصن الذي جازى إحسان رسول الله كفرًا ،فإنه كما ق ّ ِ
فه وحافره ،قام يقود الجيوش لحرب يرعى فيها سوائمه ،حتى إذا سمن خ ّ
من أنعم عليه ،وكان معه ألف فارس .وتجهزت بنو مّرة يرأسهم الحارثبن
ة، َ
خيل َ عوف المري وهم أربعمائة ،وتجهزت بنو أشجع يرأسهم أبو مسعودبن ُر َ
وتجهزت بنو سليم يرأسهم سفيانبن عبد شمس ،وهم سبعمائة ،وتجهزت بنو
أسد يرأسهم طليحةبن خويلد السدي ،وعدة الجميع عشرة آلف محارب
قائدهم العام أبو سفيان .ولما بلغه عليه الصلة والسلم أخبار هاِته
التجهيزات ،استشار أصحابه فيما يصنع أيمكث بالمدينة أم يخرج للقاء هذا
الجيش الجّرار؟ فأشار عليه سلمان الفارسي بعمل الخندق وهو عمل لم
تكن العرب تعرفه ،فأمر عليه الصلة والسلم المسلمين بعمله ،وشرعوا في
حفره شمالي المدينة من الحّره الشرقية إلى الحّرة الغربية وهذه هي الجهة
التي كانت عورة ُتؤتى المدينة من قبلها .أما بقية حدودها فمشتبكة بالبيوت
والنخيل ،ل يتمكن العدو من الحرب جهتها ،وقد قاسى المسلمون صعوبات
جسيمة في حفر الخندق ،لنهم لم يكونوا في سعة من العيش حتى يتيسر
لهم العمل ،وعمل معهم عليه الصلة والسلم ،فكان ينقل التراب متمثل ً
بشعر ابن رواحة:
َ
م
ت القدا َ ة عليناوثب ّ ِ م لول أنت ما اهتديناول تصد ّْقنا ول صّلينافَأن ْزِل َ ْ
ن سكين ً الله ّ
ة أبينا وأقام الجيش في إن لقيناوالمشركون قد ب ََغوا عليناوإن أرادوا فتن ً
سْلع وهو جبل مطل على المدينة وع ّ
دتهم الجهة الشرقية مسندا ً ظهره إلى َ
ثلثة آلف ،وكان لواء المهاجرين مع زيدبن حارثة ،ولواء النصار مع سعدبن
حد .وكان ُ
جمع السيال ،وأما غطفان فنزلت جهة أ ُ م ْ
عبادة .أما قريش فنزلت ب َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ما
أما المنافقون فقد أظهروا في هذه الشدة ما تكّنه ضمائرهم حتى قالواّ } :
ه إ ِل ّ غُُرورًا{ )الحزاب (12 :وانسحبوا قائلين :إن بيوتنا سول ُ ُ وَعَد ََنا الل ّ ُ
ه وََر ُ
ن إ ِل ّ فَِرارًا{
دو َ
ري ُ
ى ب ِعَوَْرةٍ ِإن ي ُ ِ
ما هِ َ
عورة نخاف أن ُيغير عليها العدو }وَ َ
حَبه ضيق )الحزاب (13 :واشتدت الحال بالمسلمين ،فإن هذا الحصار صا َ
على فقراء المدينة ،والذي زاد الشدة عليهم ما بلغهم من أن يهود بني
قريظة الذين ُيساكنونهم في المدينة قد انتهزوا هذه الفرصة لنقض العهود،
طب سيد بني النضير المجلين توجه إلى كعببن أسد خ َحي َّيبن أ َ ْوسبب ذلك أن ُ
سنالقرظي سيد بني قريظة ،وكان له كالشيطان إذ قال للنسان اكفر ،فح ّ
له نقض العهد ،ولم يزل به حتى أجابه لقتال المسلمين.
ولما بلغت هذه الخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل مسلمةبن
أسلم في مائتين ،وزيدبن حارثة في ثلثمائةٍ لحراسة المدينة ،خوفا ً على
وام يستجلي له الخبر ،فلما وصلهم النساء والذراري ،وأرسل الزبيربن الع ّ
وجدهم حانقين ،يظهر على وجوههم الشر ،ونالوا من رسول الله صلى الله
ج ُ
ل عليه وسلم والمسلمين أمامه ،فرجع وأخبر الرسول بذلك .وهناك اشتد وَ َ
المسلمين وزلزلوا زلزال ً شديدًا ،لن العدو جاءهم من فوقهم ومن أسفل
منهم وزاغت البصار وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنون ،وتكلم
ن،
ص ٍح ْةبن ِ المنافقون بما َبدا لهم ،فأراد عليه الصلة والسلم أن يرسل لعُي َي ْن َ َ
ويصالحه على ثلث ثمار المدينة لينسحب بغطفان ،فأبى النصار ذلك قائلين:
إنهم لم يكونوا ينالون مّنا قليل ً من ثمارنا ونحن كفار ،أفبعد السلم
يشاركوننا فيها؟ وإذا أراد الله العناية بقوم هيأ لهم أسباب الظفر من حيث ل
يعلمون .فانظر إلى هذه العناية من الله للمتمسكين بدينه القويم .جاء
ُنعيمبن مسعود الشجعي وهو صديق قريش واليهود ومن غطفان ،فقال :يا
مرني بأمرك حتى رسول الله إني قد أسلمت وقومي ل يعلمون بإسلمي ف ُ
ذل عّنا ماخ ّ َ ولكن ُأساعدك .فقال» :أنت رجل واحد وماذا عسى أن تفعل؟
دعه«. استطعت فإن الحرب خ ْ
الخدعة في الحرب
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
فخرج من عنده وتوجه إلى بني قريظة الذين نقضوا عهود المسلمين ،فلما
رأوه أكرموه لصداقته معهم ،فقال :يا بني قريظة تعرفون وّدي لكم وخوفي
دثكم حديثا ً فاكتموه عّني ،قالوا :نعم ،فقال :لقد رأيتم ما
عليكم ،وإني مح ّ
وقع لبني قينقاع والنضير من إجلئهم وأخذ أموالهم وديارهم ،وإن قريشا ً
وغطفان ليسوا مثلكم فهم إذا رأوا فرصة انتهزوها وإل انصرفوا لبلدهم .وأما
أنتم فتساكنون الرجل ــــ يريد الرسول ــــ ول طاقة لكم بحربه وحدكم،
فأرى أل ّ تدخلوا في هذه الحرب حتى تستيقنوا من قريش وغطفان أنهم لن
يتركوكم ويذهبوا إلى بلدهم بأن تأخذوا منهم رهائن سبعين شريفا ً منهم،
فاستحسنوا رأيه وأجابوه إلى ذلك.
ثم قام من عندهم وتوجه إلى قريش فاجتمع برؤسائهم ،وقال :أنتم تعرفون
دثكم حديثا ً فاكتموه عني ،قالوا :نفعل،
وّدي لكم ،ومحبتي إّياكم ،وإني مح ّ
فقال لهم :إن بني قريظة قد ندموا على ما فعلوه مع محمد وخافوا منكم أن
ترجعوا وتتركوهم معه فقالوا له :أُيرضيك أن نأخذ جمعا ً من أشرافهم
ونعطيهم لك ،وترد ّ جناحنا الذي كسرت ــــ يريد بني النضير ــــ فرضي بذلك
منهم .وها هم مرسلون إليكم فاحذروهم ول تذكروا مما قلت لكم حرفًا.
ثم أتى غطفان فأخبرهم بمثل ما أخبر به قريشًا ،فأرسل أبو سفيان وفدا ً
لقريظة يدعوهم للقتال غدا ً فأجابوا :إّنا ل يمكننا أن نقاتل في السبت ــــ
دي فيه ،ومع صبنا ما أصابنا إل من التع ّوكان إرساله لهم ليلة السبت ــــ ولم ي ُ ِ
ذلك فل نقاتل حتى تعطونا رهائن منكم حتى ل تتركونا وتذهبوا إلى بلدكم،
فتحققت قريش وغطفان كلم ُنعيمبن مسعود ،وتفرقت القلوب فخاف
بعضهم بعضًا ،وكان عليه الصلة والسلم قد ابتهل إلى الله الذي ل ملجأ إل
م
ل الكتاب ،سريعَ الحساب اهزم الحزاب ،الله ّ من ْزِ َ
م ُ
إليه ودعاه بقوله» :الله ّ
ب الله دعاءه عليه الصلة والسلم ،فأرسل اهزمهم وانصرنا عليهم« وقد أجا َ
على العداء ريحا ً باردة في ليلة مظلمة ،فخاف العرب أن تتفق اليهود مع
مة فأجمعوا أمرهم على الرحيل المسلمين ويهجموا عليهم في الليلة المدله ّ
قبل أن يصبح الصباح .ولما سمع عليه الصلة والسلم الضوضاء في جيش
من منكم ينظر لنا خبر القوم؟« العدو ،قال لصحابه» :ل بد ّ من حادث ،ف َ
حذيفةبن اليمان ،فقال عليه الصلة فسكتوا حتى كرر ذلك ثلثًا .وكان فيهم ُ
والسلم» :تسمع صوتي منذ الليلة ول تجيب« فقال :يا رسول الله البرد
شديد ،فقال» :اذهب في حاجة رسول الله واكشف لنا خبر القوم« فخاطر
طلع على جلّية الخبر ،وأن رضي الله عنه بنفسه في خدمة نبّيه ،حتى ا ّ
العداء عازمون على الرحلة.
هزيمة الحزاب
ل منكموقد بلغ من خوفهم ،أن كان رئيسهم أبو سفيان يقول لهم :ليتعّرف ك ّ
قا َ
ل بعيره يريد لع َأخاه ،وليمسك بيده حذرا ً من أن يدخل بينكم عدو ،وقد ح ّ
أن يبدأ بالرحيل ،فقال له صفوانبن أمية :إّنك رئيس القوم فل تتركهم
وتمضي ،فنزل أبو سفيان وأذن بالرحيل ،وترك خالدبن الوليد في جماعة
ليحموا ظهور المرتحلين حتى ل يدهموا من ورائهم ،وأزاح الله عن المسلمين
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
مة التي تحّزب فيها الحزاب من عرب ويهود على المسلمين ،ولول هذه الغ ّ
ة منه وفضل ً لساءت الحال. من ّ ً لطف الله وعنايته بهذا الدين ِ
ميه نعمة قا على الله أن يس ّ ً وكان جلء الحزاب في ذي القعدة ،وكان ح ّ
َ ّ ْ ْ َ
م إ ِذ ْ ُ
ة اللهِ عَلي ْك ْ م َ ُ
مُنوا اذ ْكُروا ن ِعْ َ ن ءا َ ذي َ بقوله في سورة الحزاب} :ياأي َّها ال ّ ِ
َ
نمُلو َ ما ت َعْ َ ه بِ َ ن الل ّ ُ كا َ ها وَ َ م ت ََروْ َ جُنودا ً ل ّ ْ م ِريحا ً وَ ُ سل َْنا عَل َي ْهِ ْ جُنود ٌ فَأْر َ م ُ جآءت ْك ُ ْ َ
َ ْ َ ُ َ ُ ُ ً
ت صاُر وَب َلغَ ِ ت الب ْ َ م وَإ ِذ ْ َزاغ ِ منك ْ ل ِ ف َ س َ نأ ْ م ْ م وَ ِ من فَوْقِك ْ م ّ جآءوك ْ صيرا) (9إ ِذ ْ َ بَ ِ
ن وَُزل ْزُِلوا ْ مُنو َ مؤ ْ ِ ْ
ى ال ُ َ ْ ّ ّ ُ ْ ُ ال ْ ُ
ن ِباللهِ الظُنون َا) (10هَُنال ِك اب ْت ُل ِ َ جَر وَت َظّنو َ حَنا ِ ب ال َ قلو ُ
ما وَعَد ََنا ض ّ مَر ٌ ن ِفى قُُلوب ِِهم ّ ذي َ ن َوال ّ ِ قو َ مَنافِ ُ ل ال ْ ُ قو ُ ديدًا) (11وَإ ِذ ْ ي َ ُ ش ِ زِل َْزال ً َ
َ
م ل َك ُ ْ
م قا َ م َب لَ ُ ل .ي َث ْرِ َ م ياأهْ َ من ْهُ ْ ة ّ ف ٌ ه إ ِل ّ غُُرورًا) (12وَإ ِذ ْ َقاَلت ّ
طآئ ِ َ سول ُ ُ ه وََر ُ الل ّ ُ
ْ
ى ب ِعَوَْرةٍ ِإن ما هِ َ ن ب ُُيوت ََنا عَوَْرة ٌ وَ َ ن إِ ّ قوُلو َ ى يَ ُ م الن ّب ِ ّ من ْهُ ُريقٌ ّ ن فَ ِ ست َأذِ ُجُعوا ْ وَي َ ْ َفاْر ِ
ن إ ِل ّ فَِرارًا)(13 دو َ ري ُ يُ ِ
ولما رجع عليه الصلة والسلم بأصحابه ،وأراد أن يخلع لباس الحرب ،أمره
الله باللحوق ببني قريظة ،حتى يطّهر أرضه من قوم لم تعد تنفع معهم
العهود ،ول تربطهم المواثيق ،ول يأمن المسلمون جانبهم في شدة ،فقال
ن أحد منكم العصر إل في بني قريظة« فساروا مسرعين، صل ّي َ ّ
لصحابه» :ل ي ُ َ
وتبعهم عليه الصلة والسلم راكبا ً على حماره ،ولواؤه بيد عليبن أبي طالب،
وخليفته على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم ،وكان عدد المسلمين ثلثة
آلف ،وقد أدرك جماعة من الصحاب صلة العصر في الطريق فص ّ
لها
ّ
بعضهم حاملين أمر الرسول بعدم صلتها على قصد السرعة ،ولم يصلها
الخرون إل في بني قريظة بعد مضي وقتها حاملين المر على حقيقته فلم
ُيعّنف فريقا ً منهم.
ولما رأى بنو قريظة جيش المسلمين ألقى الله الرعب في قلوبهم ،وأرادوا
صل من فعلتهم القبيحة وهي الغدر بمن عاهدوهم وقت الشغل بعدو آخر، التن ّ
ولكن أّنى لهم ذلك وقد ثبت للمسلمين غدرهم؟ فلما رأوا ذلك تحصنوا
بحصونهم وحاصرهم المسلمون خمسا ً وعشرين ليلة ،فلما رأوا أن ل مناص
من الحرب ،وأنهم إن استمروا على ذلك ماتوا جوعًا ،طلبوا من المسلمين
أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من الجلء بالموال وترك السلح ،فلم
يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ،فطلبوا أن يجلوا بأنفسهم من غير مال
ول سلح فلم يرض أيضًا ،بل قال :ل بد ّ من النزول والرضا بما يحكم عليهم
خيرا ً كان أو شرًا ،فقالوا له :أرسل لنا أبا ُلبابة نستشيره ،وكان أوسيا ً من
حلفاء بني قريظة ،له بينهم أولد وأموال ،فلما توجه إليهم استشاروه في ُ
النزول على حكم الرسول .فقال لهم :انزلوا ،وأومأ بيده إلى حلقه ،يريد :أن
ت أني خنت الله الحكم الذبح ،ويقول أبو لبابة :لم أبارح موقفي حتى علم ُ
ورسوله ،فنزل من عندهم قاصدا ً المدينة خجل ً من مقابلة رسول الله ،وربط
نفسه في سارية من سواري المسجد حتى يقضي الله فيه أمره .ولما سأل
عنه عليه الصلة والسلم أخبر بما فعل ،فقال :أما لو جاءني لستغفرت له،
أما وقد فعل ما فعل فنتركه حتى يقضي الله فيه .ثم إن بني قريظة لما لم
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
يروا بد ّا ً من النزول على حكم رسول الله فعلوا ،فأمر برجالهم فك ُّتفوا،
فجاءه رجال من الوس وسألوه أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع حلفاء
إخوانهم الخزرج ،فقال لهم :أل يرضيكم أن يحكم فيهم رجل منكم؟ فقالوا:
نعم .واختاروا سيدهم سعدبن معاذ الذي كان جريحا ً من السهم الذي ُأصيب
دة لمعالجة الجرحى، به في الخندق ،وكان مقيما ً بخيمة في المسجد مع ّ
ف عليه ن يأتي به ،فحملوه على حماره ،والت ّ م ْ
فأرسل عليه الصلة والسلم َ
ي ُ
جماعة من الوس يقولون له :أحسن في مواليك ،أل ترى ما فعل ابن أب َ ّ
في مواليه؟ فقال رضي الله عنه :لقد
ولما أقبل على الرسول وأصحابه وهم جلوس ،قال عليه الصلة والسلم:
»قوموا إلى سّيدكم فأنزلوه« ،ففعلوا ،وقالوا له :إن رسول الله صلى الله
لك أمر مواليك لتحكم فيهم .وقال له الرسول» :احكم فيهم عليه وسلم قد و ّ
يا سعد« .فالتفت سعد للناحية التي ليس فيها رسول الله وقال :عليكم عهد ُ
الله وميثاقه أن الحكم كما حكمت؟ فقالوا :نعم ،فالتفت إلى الجهة التي فيها
ل ،فقالوا :نعم، ض طرفه إجل ً ن هنا كذلك؟ وهو غا ّ م ْ
الرسول وقال :وعلى َ
فقال :فإني أحكم أن تقتلوا الرجال ،وتسبوا النساء والذرية ،فقال عليه
ت فيهم بحكم الله يا سعد« لن هذا جزاء الخائن الصلة والسلم» :لقد حكم َ
الغادر .ثم أمر بتنفيذ الحكم فنفذ عليهم ،وجمعت غنائمهم ،فكانت ألفا ً
ة ،ووجد ف ٍ ج َ
ح َوخمسمائة سيف ،وثلثمائة درع ،وألفي رمح ،وخمسمائة ترس و َ
َ
مس ذلك كله مع النخل والسبي ح ،وشياهًا ،فخ ّ ض َأثاثا ً كثيرًا ،وآنية ،وأجمال ً نوا ِ
للراجل ثلث الفارس ،وأعطى النساء اللتي ُيمرضن الجرحى ،ووجد في
جرار خمر فُأريقت .وبعد تمام هذا المر انفجر جرح سعدبن معاذ الغنيمة ِ
فمات رضي الله عنه وأرضاه .كان في النصار كأبي بكر في المهاجرين .وقد
كان له العزم الثابت في جميع المشاهد التي تقدمت الخندق ،وكان عليه
شره بالجنة على عظيم أعماله. الصلة والسلم يحبه كثيرا ً وب ّ
ن
خُرو َ وعقب رجوع المسلمين إلى المدينة تاب الله على أبي ُلبابة بقولهَ :وءا َ
خر سيئا ً عَسى الل ّ َ
ب عَل َي ْهِ ْ
م ه أن ي َُتو َ ُ َ صاِلحا ً َوءا َ َ َ ّ طوا ْ عَ َ
مل ً َ خل َ ُم َاعْت ََرُفوا ْ ب ِذ ُُنوب ِهِ ْ
م)(102 حي ٌفوٌر ّر ِ ه غَ ُ ن الل ّ َ
إِ ّ
وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا
الغدر والخيانة ،ولم يبقَ إل بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها وهم الذين كانوا
السبب في إثارة الحزاب .وسيأتي للقارىء قريبا ً اليوم الذي يعاقبون فيه.
ماحقه بالشراف ،فلما نزل قوله تعالى في سورة الحزاب :وَ َ ولكن هذا ل ي ُل ْ ِ
ن
م ْ خي ََرة ُ ِ م ال ْ ِ ن ل َهُ ُ كو َ مرا ً َأن ي َ ُ كان ل ِمؤْمن ول َ مؤْمنة إَذا قَضى الل ّه ورسول ُ َ
هأ ْ ُ ََ ُ ُ َ ََ َ ُ ِ ٍ َ ُ ِ َ ٍ ِ
َ َ ً َ َ
ج َ
ك ك َزوْ َ ك عَلي ْ َ س ْ م ِمِبينا) (36أ ْ ضلل ً ّ ل َ ض ّ قد ْ َ ه فَ َسول ُ ه وََر ُ ص الل ّ َ من ي َعْ ِ م وَ َ مرِهِ ْ أ ْ
ت الله حكمه ه{ )الحزاب .(37 :وأخفى في نفسه ما أبداه الله ،فَب َ ّ ّ
ق الل َ َوات ّ ِ
بإبطال هذه القاعدة وهي :تحريم زوج المتبّنى بقوله في سورة الحزاب:
ج ِفى حَر ٌ ن َ مِني َ مؤْ ِن عََلى ال ْ ُ كو َ ى ل َ يَ ُ جَناك ََها ل ِك َ ْطرا ً َزوّ ْ من َْها وَ َ ضى َزي ْد ٌ ّ ما قَ َ }فَل َ ّ
َ أ َْزَواِج أد ْ ِ
َ
ل{ )الحزاب.(37 : فُعو ً مُر الل ّهِ َ
م ْ نأ ْ كا َطرا ً وَ َ ن وَ َ من ْهُ ّ ضوْا ْ ِ م إ َِذا قَ َ عَيآئ ِهِ ْ
ثم إن الله حرم التبني على المسلمين لما فيه من الضرار ،وأنزل فيه في
ل الل ّهِ وَ َ َ َ
مخات َ َ سو َ كن ّر ُ م وََل ِ جال ِك ُ ْ من ّر َ حد ٍ ّ مد ٌ أَبآ أ َ ح ّ م َن ُ كا َ ما َ سورة الحزابّ } :
ىء عَِليمًا)(40 ْ َ
ش لّ ُ ك ن الل ّ ُ
ه بِ كا َ ن وَ َ الن ّب ِّيي َ
يقول المؤرخون وذوو المقاصد السافلة منهم في هذه القصة أقوال ً ل تجوز
قه حقيقة ما يقول ،فإنهم يذكرون أن الرسول ف َ من ضاع رشده ،ولم ي ْ إل م ّ
توجه يوما لزيارة زيد فرأى زوجه مصادفة لن الريح رفعت الستر عنها ً
فوقعت في قلبه ،فقال :سبحان الله فلما جاء زوجها ذكرت له ذلك ،فرأى
من الواجب عليه فراقها ،فتوجه وأخبر الرسول بعزمه فنهاه عن ذلك ...إلخ.
وهذا مما يكذبه أن نساء العرب لم تكن قبل ذلك تعرف ستر الوجوه ،وزينب
بنت عمته أسلمت قديما ً ورسول الله بمكة ،فكيف لم يرها ،وقد مضى على
إسلمها نحو عشر سنوات وهي بنت عمته ،إل حينما رفعت الريح الستر
مصادفة ،ورسول الله هو الذي زوجها زيدًا؟ فلو كان له فيها رغبة حب أو
عشق لتزوجها هو ول مانع يمنعه من ذلك .ومن مّنا يتصور السيد الكرم
يقول لقومه إنه مرسل من ربه ،ويتلو عليهم صباح مساء أمر الله له بقوله
َ
م{ من ْهُ ْجا ّ مت ّعَْنا ب ِهِ أْزَوا ً ما َ ك إ َِلى َ ن عَي ْن َي ْ َ مد ّ ّ جرِ المكية :ل َ ت َ ُ ح ْ في سورة ال ِ
مت ّعَْنا ب ِهِ
ما َ َ َ
ن عَي ْن َي ْك إ ِلى َ مد ّ ّ َ ً
)الحجر .(88 :وفي سورة طه المكية أيضا} :وَل ت َ ُ
م َزهَْرةَ اْلحياةِ الد ّن َْيا{ )طه .(131 :ثم هو بعد ذلك يدخل بيت رجل َ
من ْهُ ْأْزواجا ً ّ
من مّتبعيه ،وينظر إلى زوجه مصادفة ثم يشتهي زواجها؟ إن هذا لمر عظيم
تشعر بذلك صدورنا .ولو حدث أمر مثل ذلك من أقل الناس لعيب عليه،
خُلقًا ،وأبعدهم فكيف بمن اجتمعت كلمة المؤرخين على أنه أحسن الناس ُ
دهم ذكاء وفراسة حتى مدحه الله بقوله في سورة ن: عن الدنايا ،وأش ّ
ه يَ لع ت م ع نَ أ و ه يَ ل ع ه ّ ل ال م عأنَ ذى ّ ل ل لُ قوُ ت ْ ذإ و ( 4 م) ك ل َعََلى ُ ُ }وَإ ِن ّ َ
ُ َ ْ ِ َ َْ ْ َ َ ْ ِ َ َ ِ ِ َِ َ خل ٍ َ ِ ٍ
ظي ع ق
َ
شى خ َديهِ وَت َ ْ مب ْ ِ
ه ُ ما الل ّ ُ ك َ س َ ف ِ فى ِفى ن ِ ْ خ ِه وَت ُ ْ ق الل ّ َ ج َ
ك َوات ّ ِ ك َزوْ َ ك عَل َي ْ َ س ْ م ِ أ ْ
ن
كو َ ى ل َ يَ ُ جَناك ََها ل ِك َ ْ طرا ً َزوّ ْ من َْها وَ َ ضى َزي ْد ٌ ّ ما قَ َ شاهُ فَل َ ّ خ َ حقّ َأن ت َ ْ الناس والل ّ َ
هأ َ ّ َ َ ُ
عََلى
الحجاب
وفيه نزلت آية الحجاب وهو خاص بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكان عمربن الخطاب قبل نزول آيته يحّبه ويذكره كثيرًا ،ويود ّ أن ينزل فيه
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ن عين ،فنزل في سورة الحزاب: طاع فيكن ما رأتك ّ قرآن ،وكان يقول :لو أ ُ َ
م أ َط ْهَُر ل ِ ُ َ
مقُلوب ِك ُ ْ ب ذال ِك ُ ْ جا ٍح َ من وََرآء ِ ن ِ سئ َُلوهُ ّمَتاعا ً َفا ْ ن َ موهُ ّسأل ْت ُ ُ }وَإ َِذا َ
َ
منا إل من ن{ )الحزاب .(53 :فقال بعضهم :أن ُْنهى أن نكلم بنات ع ّ وَقُُلوب ِهِ ّ
ما
وراء حجاب؟ لئن مات محمد لتزوجن عائشة فنزل بعد الية المتقدمة} :وَ َ
َ َ َ كان ل َك ُ َ
من ذال ِك ُ ْ من ب َعْدِهِ أَبدا ً إ ِ ّ ه ِ حوا ْ أْزَوا َ
ج ُ ل الل ّهِ وَل َ أن َتنك ِ ُسو َ م أن تؤُْذوا ْ َر ُ ْ َ َ
ظيمًا{ )الحزاب .(53 :أما غير أزواجه عليه الصلة والسلم عند َ الل ّهِ عَ ِ ن ِ كا ََ
ض البصار ،وحفظ الفروج ،كما أمر بذلك الرجال، من المؤمنات ،فأمرن بغ ّ
ُ
ن للجانب إل ما ظهر منها كالخاتم في الصبع، وأمرن أل ّ يبدين زينته ّ
ل إبداؤه خفي منها فل يح ّ والخضاب في اليد ،والكحل في العين ،أما ما َ
قلدة للعنق ،والكليل ِ وال للرجل، مُلج للعضد ،والخلخال كالسوار للذراع ،والد ّ ْ
للرأس ،والوشاح للصدر ،والقرط للذن .والمراد بالزينة الظاهرة والخفية
ُ
ن
ن على الجيوب كيل تبقى صدوره ّ موضعها ،وأمرن أيضا ً بأن يضربن بخمره ّ
نن واسعة تبدو منها نحوره ّ مكشوفة ،فإن النساء إذ ذاك كانت جيوبه ّ
ن ،وُنهين عن أن يضربن مر من ورائه ّ خ ُن يسدلن ال ُ ن وما حواليها ،وك ّ وصدوره ّ
ن ذوات خلخال .وإذا كان النهي عن إظهار صوت الحلي ن ليعلم أنه ّ بأرجله ّ
م بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي بعدما نهين عن إظهار الحلي ،عُل ِ َ
أبلغ وأبلغ ،قال تعالى في
من يريد خطبتها فهو أمر لم يكن ُيفعل في عهد الرسول ب المرأة ع ّج ُ
ح ْ
أما َ
نّ س الحكيم ّ
شارع ال فإن الصالح، السلف عهد في ول وسلم عليه الله صلى
دم عليه ،حتى يتم الوفاق والوئام بين ذلك ليكون الرجل على علم مما ُيق ِ
الزوجين في أمر أجمع عليه أئمة الدين.
قال حجة السلم الغزالي في »الحياء« :وقد ندب الشرع إلى مراعاة
ب النظر ،فقال» :إذا أوقع الله في نفس أحدكم أسباب اللفة ولذلك استح ّ
من امرأة ،فلينظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما« ــــ أي :يؤلف بينهما ــــ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
فرض الحج
وفي هذا العام ــــ على ما عليه الكثرون ــــ فرض الله على المة السلمية
ل ،ليجتمع المسلمون من جميع القطار، حج البيت من استطاع إليه سبي ً
فيتجهوا إلى الله ويبتهلوا إليه أن يؤيدهم بنصره وُيعينهم على اتباع دينه
القويم .وفي ذلك من تقوية الرابطة واتحاد القلوب ما فيه للمسلمين الفائدة
العظمى.
سة
ساد َ
سنة ال ّ
ال ّ
سرية
بنو لحيان هم الذين قتلوا عاصمبن ثابت وإخوانه ،ولم يزل رسول الله حزينا ً
عليهم متشوقا ً للقصاص من عدوهم حتى ربيع الول من هذه السنة ،فأمر
أصحابه بالتجّهز ،ولم ُيظهر مقصده كما هي عادته عليه الصلة والسلم في
غالب الغزوات ،لتعمى الخبار عن العداء ،وولى على المدينة ابن ُأم مكتوم،
وسار في مائتي راكب معهم عشرون فرسًا ،ولم يزل سائرا ً حتى مقتل
أصحاب الرجيع ،فترحم عليهم ودعا لهم ،ولما سمع به بنو لحيان تفرقوا في
الجبال ،فأقام عليه الصلة والسلم بديارهم يومين يبعث السرايا فل يجدون
فان حتى يعلم بهم أهل مكة س َأحدًا ،ثم أرسل بعضا ً من أصحابه ليأتوا عُ ْ
ُفيداخلهم الرعب ،فذهبوا إلى ك َُراع الغميم ،ثم رجع عليه الصلة والسلم إلى
المدينة ،وهو يقول» :آيبون ،تائبون ،لربنا حامدون ،أعوذ بالله من وعثاء
السفر ،وكآبة المنقلب ،وسوء المنظر في الهل والمال«.
غزوة الغابة
حة ترعى بالغابة ،فأغار عليها ق َكان للنبي عليه الصلة والسلم عشرون ل ِ ْ
عيينةبن حصن في أربعين فارسا ً واستلبها من راعيها ،فجاءت الخبار رسول ُ
ةبن الكوع ،أحد رماة النصار، م ُ َ
سل َ ّ
الله عليه الصلة والسلم ،والذي بلغه هو َ
داًء فأمره الرسول بأن يخرج في أثر القوم ليشغلهم بالنبل حتى وكان عَ ّ
يدركهم المسلمون ،فخرج يشتد في أثرهم حتى لحقهم ،وجعل يرميهم
جهت الخيل نحوه رجع هاربًا ،فل ُيلحق ،فإذا دخلت الخيل بعض بالنبل ،فإذا و ّ
المضايق عل الجبل ،فرمى عليها الحجارة حتى ألقوا كثيرا ً مما بأيديهم من
ففوا عن أنفسهم ،حتى ل يلحقهم الجيش ،ولم يزل سلمة الرماح والبراد ليخ ّ
على ذلك حتى تلحق به الجيش ،فإن الرسول دعا أصحابه فأجابوه ،وأول
من انتهى إليه المقدادبن عمرو ،فقال له» :اخرج في طلب القوم حتى
ألحقك« وأعطاه اللواء فخرج ،وتبعته الفرسان حتى أدركوا أواخر العدو،
فحصلت بينهم مناوشات قتل فيها مسلم ومشركان ،واستنقذ المسلمون
ب اللقاح ،وهرب أوائل القوم بالبقية ،وطلب سلمةبن الكوع من رسول غال َ
الله أن يرسله مع جماعة في أثر القوم ،ليأخذهم على غّرة ،وهم نازلون
َ
ح« ثم رجع ج ْ
س ِ مل َك ْ َ
ت فَأ ْ على أحد مياههم ،فقال له عليه الصلة والسلمَ » :
بعد خمس ليال.
سرية
ن يمّر بهم من المسلمين، مّر ذكرهم كثيرا ً ما يؤذون َ
م ْ كان بنو أسد الذين َ
صن في أربعين راكبا ً لُيغير ح َ م ْ فأرسل لهم عليه الصلة والسلم عُ ّ
كاشةبن ِ
عليهم ،ولما قارب بلدهم علموا به فهربوا ،وهناك وجدوا رجل ً نائما ً فأ ّ
منوه
ليدّلهم على ن ََعم القوم ،فدّلهم عليها فاستاقوها ،وكانت مائة بعير ثم قدموا
المدينة ولم يلقوا كيدًا.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
سرية
صة يريدون الغارة ق ّوفي ربيع الول بلغه عليه الصلة والسلم أن من بذي ال َ
على ن ََعم المسلمين التي ترعى بالهيفاء ،فأرسل لهم محمدبن مسلمة في
من المشركون حينما علموا ل ،وقد ك َ َ عشرة من المسلمين ،فبلغ ديارهم لي ً
بهم ،فنام المسلمون ،ولم يشعروا إل والنبل قد خالطهم ،فتواثبوا على
أسلحتهم ولكن تغلب عليهم العداء فقتلوهم ،غير محمدبن مسلمة تركوه
لظنهم أنه قُِتل ،فعاد إلى المدينة ،وأخبر الرسول عليه الصلة والسلم،
ص من العداء ،فلما فأرسل أبا عبيدة عامربن الجراح في ربيع الخر ليقت ّ
مهم ورجع. وصل ديارهم وجدهم تشتتوا هاربين فاستاق ن َعَ َ
سرية
سليم الذين كانوا من المتحزبين في غزوة الخندق المسلمين في س بنو ُ عاك َ َ
دبن حارثة في ربيع الخر لُيغير سيرهم ،فأرسل عليه الصلة والسلم زي َ
موم فلما بلغوا ديارهم وجدوهم تفرقوا ،ووجدوا هناك امرأة ج ُ
عليهم في ال َ
سليم ،أصابوا بها ن ََعما ً وشاًء ،ووجدوا رجال ً ُ بني منازل على لتهم مزينة د ّ
من ُ
أسروهم ،وفيهم زوج تلك المرأة ،فرجعوا بذلك إلى المدينة ،فوهب الرسول
لهذه المرأة نفسها وزوجها.
سرية
عيرا لقريش أقبلت من الشام تريد مكة ،فأرسل لها زيدبن ً بلغ الرسول أن ِ
من معها من ً
حارثة في مائة وسبعين راكبا ليعترضها ،فأخذها وما فيها وأسر َ
الرجال ،وفيهم أبو العاصبن الربيع ،زوج زينب بنت رسول الله ،وكان من
ة ،فاستجار بزوجه زينب فأجارته، رجال مكة المعدودين تجارة ومال ً وأمان ً
ونادت بذلك في مجمع قريش ،فقال عليه الصلة والسلم» :المسلمون يد
ت« وهذا أبلغ ما قيل في واحدةُ ،يجير عليهم أدناهم ،وقد أجرنا من أجر ِ
المساواة بين أفراد المسلمين ورد ّ عليه الرسول ماله بأسره ل يفقد منه
قه ،ورجع إلى المدينة مسلماً، شيء ،فذهب إلى مكة .فأدى لكل ذي حقَ ح ّ
فرد ّ عليه رسول الله زوجه.
سرية
دبن حارثة في خمسة وفي جمادى الخرة أرسل عليه الصلة والسلم زي َ
ل ،للغارة على بني ثعلبة ،الذين قتلوا أصحاب محمدبن مسلمة وهم عشر رج ً
ف .فتوجهت السرية لذلك ،ولما رآهم العداء ظنوهم طليعة مقيمون بالط َّر ِ
لجيش رسول الله ،فهربوا وتركوا ن ََعمهم وشاءهم ،فاستاقها المسلمون
ل.ورجعوا إلى المدينة بعد أربع ليا ٍ
سرية
دبن حارثة ،لُيغيَر على بني فََزارة
وفي رجب أرسل عليه الصلة والسلم زي َ
لنهم تعرضوا لزيد وهو راجع بتجارة من الشام ،فسلبوا ما معه ،وكادوا
يقتلونه ،فلما جاء المدينة ،وأخبر الرسول الخبر ،أرسله مع رجاله للقصاص
قرى .فساروا حتى دهموا العدو وأحاطوا من َفزارة المقيمين في وادي ال ُ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
بهم ،وقتلوا منهم جمعا ً كثيرًا ،وأخذوا امرأة من كبارهم أسيرة ،فاستوهبها
من أسرها وفدى بها أسيرا ً كان بمكة.عليه الصلة والسلم م ّ
سرية
وفي شعبان أرسل عليه الصلة والسلم عبد الرحمانبن عوف مع سبعمائة
صاهم عليه الصلة جْندل ،وقد و ّ من الصحابة لغزو بني كلب في ُدومة ال َ
ً
والسلم قبل السفر بقوله» :اغزوا جميعا في سبيل الله ،فقاتلوا من كفر
بالله ،ول ت َغُّلوا ول تغدروا ول تمّثلوا ،ول تقتلوا وليدًا ،فهذا عهد الله وسيرة
نبّيه فيكم« ثم أعطاه اللواء فساروا على بركة الله حتى حّلوا بديار العدو،
فدعوهم إلى السلم ثلثة أيام ،وفي اليوم الرابع أسلم رئيس القوم
صَبغبن عمرو النصراني ،وأسلم معه جمع من قومه ،وبقي آخرون راضين َ
ال ْ
بإعطاء الجزية ،فتزوج عبد الرحمان بنت رئيسهم ،كما أمره بذلك عليه
الصلة والسلم ،وهذه أقرب واسطة لتمكين صلت الود ّ بين المراء بحيث
م الخر ،فِنعما هي سياسة السلم والمحبة. م كل ّ ما يه ّ يه ّ
سرية
وفي شعبان أرسل عليه الصلة والسلم عليبن أبي طالب في مائة لغزو بني
دك لنه بلغه أنهم يجمعون الجيوش لمساعدة يهود خيبر على ف َ
سعدبن بكر ب َ
طونه من تمر خيبر ،فسارت السرية ،وبينما حرب المسلمين مقابل تمر ُيع َ
هم سائرون التقوا بجاسوس للعدّو ،وكانوا قد أرسلوه إلى خيبر ليعقد
ن ،فدلهم على المعاهدة مع يهودها ،فطلبوا منه أن يدّلهم على القوم وهو آم ٌ
ذروا قومهم،ة ،فح ّموضعهم ،فاستاق منه المسلمون ن ََعم القوم ،وهرب الرعا ُ
خَلهم الرعب ،وتفرقوا ،فرجع المسلمون ومعهم خمسمائة َبعير وألفا دا َ
ف َ
دوا اليهود بشيء.
ة ،ورد ّ الله كيد َ المشركين فلم يم ّ
شا ٍ
قتل أبي رافع
وكان المحّرك لهل خيبر على حرب المسلمين ،وهو سيدهم ،أبو رافع
حقيق الملقب بتاجر أهل الحجاز ،لما كان له من المهارة في س ّ
لمبن أبي ال ُ َ
ب اليهود كما يريد ،فانتدب له عليه ب بها قلو َ ّ
قل ُالتجارة ،وكان ذا ثروة طائلة ي ُ َ
ن يقتله ،فأجاب لذلك خمسة رجال من الخزرج رئيسهم م ْ
الصلة والسلم َ
عبد اللهبن عَت ِْيك ،ليكون لهم مثل أجر إخوانهم من الوس الذين قتلوا كعَببن
الشرف ،فإن من ِنعم الله على رسوله أن كان الوس والخزرج يتفاخرون
س عمل ً إل اجتهد بما يفعلونه من تنفيذ رغبات رسول الله ،فل تعمل الو ُ
ً ّ
صاهم أل يقتلوا وليدا ول ج في مثله ،فأمرهم الرسول بذلك بعد أن و ّ الخزر ُ
ق
امرأة ،فساروا حتى أتوا خيبر ،فقال عبد الله لصحابه :مكاَنكم ،فإني منطل ٌ
طف له لعّلي أدخل ،فأقبل حتى دنا من الباب ،ثم تقّنع بثوب كأنه واب ومتل ّ للب ّ
واب :ادخل يا عبد الله إن كنت يقضي حاجته ،وقد دخل الناس ،فهتف به الب ّ
ُ ُ
واب ،فأخذ من حتى نام الب ّتريد الدخول ،فإني أريد أن أغلق الباب ،فدخل وك َ َ
المفاتيح ،وفتح ليسُهل له الهرب ،ثم توجه إلى بيت أبي رافع ،وصار يفتح
البواب التي ُتوصل إليه ،وكلما فتح بابا ً أغلقه من الداخل حتى انتهى إليه،
فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله ،فلم يمكنه تمييزه ،فنادى يا أبا رافع
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
قال :من؟ فأهوى بالسيف نحو الصوت فلم يغن شيئًا ،وعند ذلك قالت
ك وأين ابن عتيك الن؟ فعاد ُ
م ِ
امرأته :هذا صوت ابن عتيك ،فقال لها :ثكلتك أ ّ
ل :ما هذا الصوت الذي نسمعه يا أبا رافع؟ مغّيرا ً صوته ،قائ ً
عبد الله للنداء ُ
ً
قال :لمك الويل ،إن رجل في البيت ضربني بالسيف ،فعمد إليه فضربه
مغيث وغَّير صوته ،فوجده مستلقيا ً ن شيئًا ،فتوارى ثم جاءه كال ُ أخرى لم ُتغ ِ
على ظهره ،فوضع السيف في بطنه ،وتحامل عليه حتى سمع صوت العظم،
سّلم فكسرت رجله، ثم خرج من البيت ،وكان نظره ضعيفا ً فوقع من فوق ال ُ
صبها بعمامته ،ثم انطلق إلى أصحابه ،وقال :النجاة ،قِتل فع َ
دثوه ثم قال لعبد الله» :ابسط والله أبو رافع ،فانتهوا إلى الرسول ،فح ّ
كها قط ،وعادت أحسنّ رجلك« فمسحها عْليه الصلة والسلم فكأنه لم يشت َ ِ
ما كانت فانظر ــــ رعاك الله ــــ إلى ما كان عليه المسلمون من استسهال
المصاعب ما دامت في إرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فرضي الله
عنهم وأرضاهم.
سرية
سيربن ِرزام ،فأرسل عليه الصلة والسلم ولما ُقتل كعب وّلى اليهود مكانه أ ُ
َ ٌ
ن يستعلم له خبره ،فجاءته الخبار بأنه قال لقومه :سأصنع بمحمد ما لم م ْ
َ
يصنعه أحد ٌ قبلي ،أسير إلى غطفان فأجمعهم لحربه ،وسعى في ذلك.
فأرسل عليه الصلة والسلم عبد اللهبن رواحة الخزرجي في ثلثين من
النصار لستمالته ،فخرجوا حتى قدموا خيبر ،وقالوا لسير :نحن آمنون حتى
نعرض عليك ما جئنا له؟ قال :نعم ،ولي مثل ذلك ،فأجابوه ،ثم عرضوا عليه
أن يقدم على رسول الله ويترك ما عزم عليه من الحرب فيوّليه الرسول
على خيبر ،فيعيش أهلها بسلم ،فأجاب إلى ذلك وخرج في ثلثين يهوديا ً ك ّ
ل
سير على مجيئه ،وأراد ُ
ف لمسلم ،وبينما هم في الطريق ندم أ َ يهودي ردي ٌ
منوه فأهوى بيده إلى سيف عبد اللهبن رواحة، التخّلص مما فعل بالغدر بمن أ ّ
مة فخذه ،ولم فقال له :أغدرا ً يا عدو الله؟ ثم نزل وضربه بالسيف فأطاح عا ّ
من معه من اليهود فقتلوهم عن آخرهم. يلبث أن هلك ،فقام المسلمون على َ
وهذه عاقبة الغدر.
قصة عُ ْ
كل وعَُري َْنة
كل وعَُري َْنة ،فأظهروا السلم وال جماعة من عُ ْ م على رسول الله في ش ّ قد ِ َ
ة بطونهم ،فلم ً
سقاما ،مصفرة ً ألوانهم ،عظيم ً وبايعوا رسول الله .وكانوا ِ
يوافقهم هواء المدينة ،فأمر لهم عليه الصلة والسلم بذ َْود من البل معها
راٍع ،وأمرهم باللحوق بها في مرعاها ليشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا ،ولما
مث ُّلوا به ،واستاقوا البل،
تم شفاؤهم جازوا الحسان كفرًا ،فقتلوا الراعي و َ
فهري في عشرين كرزبن جابر ال ِفلما بلغ ذلك رسول الله أرسل وراءهم ُ
فارسا ً فلحقوا بهم ،وقبضوا على جميعهم ،ولما جيء بهم إلى المدينة أمر
قطعت أيديهم مث ُّلوا بالراعي ،ف ُ
عليه الصلة والسلم أن يمثل بهم كما َ
ت أعيُنهم وألقوا بالحّرة حتى ماتوا ،فهكذا يكون جزاُء الخائن مَر ْ وأرجُلهم و ُ
س ّ
ل هؤلء الشريرين مما يدل على فساد الصل، م ُ
الذين ل ُينتظر منه صلح ،وعَ َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ولؤم العشيرة ،وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن
مث َْلة.
ال ُ
سرية
جلس أبو سفيانبن حرب يوما ً في نادي قومه ،فقال :أل رجل يذهب لمحمد
ح منه؟ فتقدم له رجل وتعهد له بما فيقتله غدرا ً فإنه يمشي بالسواق لنستري َ
ة وجّهزه لذلك .فخرج الرجل حتى وصل إلى المدينة ة ونفق ً أراد ،فأعطاه راحل ً
ل عليه وهو بمسجد بني ح سادسةٍ من خروجه ،فسأل عن رسول الله فَد ُ ّ صب ْ َ
ُ
عبد الشهل ،فلما رآه عليه الصلة والسلم قال» :إن هذا الرجل ليريد غدراً،
وإن الله مانعي منه« فذهب لينحني على الرسول ،فجذبه ُأسيدبن حضير من
ل على فعلته ،ثم سأله عليه الصلة إزاره ،وهنالك سقط الخنجر ،فندم الرج ُ
ّ
والسلم عن سبب عمله فصدقه بعد أن توّثق من حفظ دمه ،فخلى عليه
ف الرجال، الصلة والسلم سبيله .فقال الرجل :والله يا محمد ما كنت أخا ُ
طلعت على ما ن رأيتك فذهب عقلي وضعفت نفسي ،ثم إنك ا ّ َ
فما هو إل أ ْ
ت أنك ممنوع ،وأنك على حق ،وأن حزب ت به مما لم يعلمه أحد ،فعرف ُ همم ُ َ
ب الشيطان ،ثم أسلم .وعند ذلك أرسل عليه الصلة والسلم ُ حز سفيان أبي
ري ،وكان رجل ً جريئا ً فاتكا ً في الجاهلية ،وأصحبه برفيق، عمروبن أمية ال ّ ْ ِ
م ض
ليقتل أبا سفيان غيلة جزاء اعتدائه ،فلما قدما مكة توجها ليطوفا بالبيت قبل
مرا ً أحد ُ رجال مكة ،فقال :هذا عمروبن ُأمّية أن يؤديا ما أرسل له ،فعرف عَ ْ
ً
ما جاء إل بشر ،فلما رآهم علموا به لم يجد مناصا من الهرب ،فاصطحب
ن الله سبحانه أراد أن يعيش أبو سفيان َ
معه رفيقه ،ورجعا إلى المدينة ،وكأ ّ
ح الكعبة للمسلمين ،ويعتنق الدين الحنيفي القويم. م بيده مفاتي َ سل ّ َ
حتى ي ُ َ
حد َْيبَية
غزوة ال ُ
رأى عليه الصلة والسلم في نومه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام
صرين ،فأخبر المسلمين أنه يريد العمرة، سهم ومق ّ آمنين محّلقين رؤو َ
واستنفر العراب الذين حول المدينة ليكونوا معه ،حذرا ً من أن ترّدهم قريش
عن عمرتهم ،ولكن هؤلء العراب أبطؤوا عليه لنهم ظنوا أل ّ ينقلب الرسول
والمؤمنون إلى أهليهم أبدًا ،وتخّلصوا بأن قالوا :شغلتنا أموالنا وأهلونا
فاستغفر لنا ،فخرج عليه الصلة والسلم بمن معه من المهاجرين والنصار
دتهم ألفا ً وخمسمائة ،وولى على المدينة ابن ُأم مكتوم ،وأخرج معه تبلغ ع ّ
ً
زوجه أم سلمة ،وأخرج الهَد ْيَ ليعلم الناس أنه لم يأت محاربا ،ولم يكن مع
ض أنقُرب ،لن الرسول لم ير َ أصحابه شيء من السلح إل السيوف في ال ُ
سفان ُ ْ ع وصل حتى الجيش سار يحملوا السيوف مجردة وهم معتمرون ،ثم
دوا المسلمين عن مكة وأل ّ فجاءه عينه يخبره أن قريشا ً أجمعت رأيها أن يص ّ
دوا خالدبن الوليد في مائتي يدخلوها عليهم عَْنوةً أبدًا .وتجهزوا للحرب ،وأع ّ
دوا المسلمين عن التقدم ،فقال عليه الصلة والسلم: فارس طليعة لهم ليص ّ
»هل من رجل يأخذ بنا على غير طريقهم؟« فقال رجل من أسلم :أنا يا
رسول الله .فسار بهم في طريق وعرة ،ثم خرج بهم إلى مستوٍ سهل يملك
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
مكة من أسفلها ،فلما رأى خالد ما فعل المسلمون رجع إلى قريش وأخبرهم
مَرار بركت ناقته .فزجروها فلمالخبر .ولما كان عليه الصلة والسلم بثنّية ال ُ
واء ،فقال عليه الصلة والسلم» :ما خلت وما ذلك ص َ
ق ْ تقم ،فقالوا :خل َ ِ
ت ال َ
س محمد بيده ل تدعوني س الفيل .والذي نف ُ خلق ،ولكن حبسها حاب ُ لها ب ُ
م حرمات الله إل أجبتهم إليها« مع أن المسلمين لو صلة فيها تعظي ُ َ خ ْ
قريش ل ِ َ
ف الله أيدي َ
قاتلوا أعداءهم في مثل هذا الوقت لظفروا بهم ،ولكن ك ّ
حرمات ف أيدي قريش عن المسلمين كيل ُتنتهك ُ المسلمين عن قريش ،وك َ ّ
البيت الذي أراد الله أن يكون حرما ً آمنًا ،ويوطد المسلمون من جميع القطار
م أخوتهم دعائ َ
فيه .ثم أمرهم عليه الصلة والسلم بالنزول أقصى الحديبية وهناك جاء
خزاعي رسول ً من قريش ،يسأل عن سبب مجيء المسلمين، ديلبن وَْرَقاء ال ُبُ َ
فأخبره عليه الصلة والسلم بمقصده ،فلما رجع ُبديل إلى قريش وأخبرهم
بذلك ،لم يثقوا به لنه من خزاعة الموالية لرسول الله كما كانت كذلك
لجداده ،وقالوا :أيريد محمد ٌ أن يدخل علينا في جنوده معتمرا ً تسمع العرب
أنه قد دخل علينا عنوة ،وبيننا وبينهم من الحرب ما بيننا؟ والله ل كان هذا
سّيد الحابيش وهم حلفاء سبن علقمة َ حل َي ْ َ
طرف .ثم أرسلوا ُأبدا ً ومنا عَْين ت َ ْ
دي،ظمون اله ْ ن قوم يع ّ م ْ قريش ،فلما رآه عليه الصلة والسلم قال» :هذا ِ
ابعثوه في وجهه حتى يراه« ،ففعلوا ،واستقبله الناس ي ُل َّبون ،فلما رأى ذلك
ج لخم وجذام دوا .أتح ّ حل َْيس رجع ،وقال :سبحان الله ما ينبغي لهؤلء أن ي ُ َ
ص ّ ُ
ب البيت إن كت قريش ،ور ّ وحمير ،وُيمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟ هل ْ
القوم أ ََتوا معتمرين.
س إنما أنت أعرابي ل علم لك فلما سمعت قريش منه ذلك قالوا له :اجل ْ
ةبن مسعود الثقفي سيد أهل الطائف فتوجه إلى بالمكايد ،ثم أرسلوا عُْروَ َ
ش الناس ،ثم جئت إلى أهلك ت أوبا َرسول الله ،وقال :يا محمد قد جمع َ
ضها بهم إنها قريش قد خرجت تعاهد الله أل تدخلها عليهم ف ّوعشيرتك ل ِت َ ُ
م الله لكأني بهؤلء قد انكشفوا عنك .فنال منه أبو بكر ،وقال: عَْنوة أبدًا .واي ُ
نحن ننكشف عنه؟ ويحك
س لحية رسول الله ،فكان المغيرةبن شعبة يقرع وكان عروة يتكلم وهو يم ّ
يده إذا أراد ذلك ،ثم رجع عروة وقد رأى ما يصنع بالرسول أصحابه ،ل يتوضأ
فضوا أصواتهم ضوءا ً إل كادوا يقتتلون عليه يتمسحون به ،وإذا تكلموا َ
خ َ و ُ
ت كسرى في دون النظر إليه .فقال :والله يا معشر قريش جئ ُ ح ّ
عنده ،ول ي ُ ِ
مِلكا في قومه مثل محمد في أصحابه، ً ت َ
ملكه وقيصَر في عظمته ،فما رأي ُ
ولقد رأيت قوما ً ل ُيسلمونه لشيء أبدًا ،فانظروا رأيكم ،فإنه عرض عليكم
رشدا ً فاقبلوا ما عرض عليكم ،فإني لكم ناصح ،مع أني أخاف أل تنصروا
عليه .فقالت قريش :ل تتكلم بهذا ،ولكن نرّده عامنا ويرجع إلى قابل .ثم إن
الرسول اختار عثمانبن عفان رسول ً من عنده إلى قريش حتى يعلمهم
جه معه عشرة استأذنوا الرسول في زيارة أقاربهم ،وأمر جه وتو ّ
صده ،فتو ّ ق ِم ْ
َ
عليه الصلة والسلم عثمان أن يأتي المستضعفين من المؤمنين بمكة
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
بيعة الرضوان
س للبيعة على القتال فبايعوه تحت شجرة هناك ــــ سميت بعد
ودعا النا َ
بشجرة الرضوان ــــ على الموت ،فشاعَ أمر هذه البيعة في قريش فداخلهم
منها رعب عظيم ،وكانوا قد أرسلوا خمسين رجل ً عليهم مكرُزبن حفص
ليطوفوا بعسكر المسلمين لعلهم يصيبون منهم ِغّرة ،فأسرهم حارس
الجيش محمدبن مسلمة وهرب رئيسهم ،ولما علمت بذلك قريش جاء جمع
منهم وابتدؤوا يناوشون المسلمين حتى أسر منهم اثنا عشر رجل ً وُقتل من
المسلمين واحد.
ديبية
ح َ
صلح ال ُ
محمدبن عبد الله .فأمر عليه الصلة والسلم علي ّا ً بمحو ذلك وكتابة محمدبن
عبد الله ،فامتنع ،فمحاها النبي بيده ،وكتبت نسختان نسخة لقريش ونسخة
للمسلمين.
ولما انتهى المر ،أمر عليه الصلة والسلم أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم،
ما ً دي ليتحّللوا من عمرتهم ،فاحتمل المسلمون من ذلك ه ّ وينحروا اله ْ
ُ
عظيمًا ،حتى إنهم لم يبادروا بالمتثال ،فدخل عليه الصلة والسلم على أم
المؤمنينُ ،أم سلمة ،وقال لها» :هلك المسلمون أمرتهم فلم يمتثلوا«،
ملت نفسك أمرا ً عظيما ً في الصلح، فقالت :يا رسول الله اعذرهم ،فقد ح ّ
ج يا رسول الله ورجع المسلمون من غير فتح فهم لذلك مكروبون ،ولكن اخر ْ
ك فعلت تبعوك ،فتقدم عليه الصلة والسلم إلى وابدأهم بما تريد فإذا رأوْ َ
لق فحلق رأسه ،فلما رآه المسلمون تواثبوا على هَد ْي ِهِ فنحره ودعا بالح ّ
ل فريق الهدي فنحروه وحلقوا ،ثم رجع المسلمون إلى المدينة ،وقد أمن ك ّ
الخر .ولما قّر قرارهم جاءتهم مهاجرة ُأم كلثوم بنت عقبةبن أبي معيط،
أخت عثمان لمه ،فطلبها المشركون فقالت :يا رسول الله إني امرأة ،وإن
َ
نذي َ رجعت إليهم فتنوني في ديني ،فأنزل الله في سورة الممتحنة :ياأي َّها ال ّ ِ
حنوهُن الل ّ َ
نن فَإ ِ ْ مان ِهِ ّم ب ِِإي َ ه أعْل َ ُ ُ ّ مت َ ِ ُت َفا ْ جرا ٍ مَها ِ ت ُ مَنا ُ مؤ ْ ِ م ال ْ ُجآءك ُ ُ مُنوا ْ إ َِذا َ ءا َ
نحلو َ ّ م يَ ِ م وَل َ هُ ْ ل لهُ ّْ ح ّ ن ِ فارِ ل َ هُ ّ ْ
ن إ ِلى الك ُ ّ َ جُعوهُ ّ ت فَل َ ت َْر ِ مَنا ٍ مؤ ْ ِ
ن ُ موهُ ّ مت ُ ُعَل ِ ْ
ُ َ َ ْ َ
نجوَرهُ ّ نأ ُ موهُ ّ ن إ َِذآ ءات َي ْت ُ ُ حوهُ ّ م أن َتنك ِ ُ ح عَلي ْك ُ ْ جَنا َقوا وَل َ ُ ف ُمآ أن َ هم ّ ن َوءاُتو ُ ل َهُ ّ
حك ْ ُ
م م ُ قوا ْ ذ َل ِك ُ ْ ف ُمآ َأن َ سئ َُلوا ْ َم وَل ْي َ ْ قت ُ ْف ْ مآ َأن َ سئ َُلوا ْ َ وافِرِ َوا ْ صم ِ ال ْك َ َ كوا ْ ب ِعِ َ س ُ م ِ وَل َ ت ُ ْ
م)(10 كي ٌ ح ِم َ ه عَِلي ٌ ّ
م َوالل ُ ُ
م ب َي ْن َك ْ ُ
حك ُ الل ّهِ ي َ ْ
وقد تمكن أبو بصير عتبةبن أسيد الثقفي ــــ رضي الله عنه ــــ من الفرار
إلى رسول الله ،فأرسلت قريش في أثره رجلين يطلبان تسليمه ،فأمره
عليه الصلة والسلم بالرجوع معهما ،فقال :يا رسول الله أترّدني إلى الكفار
يفتنوني في ديني بعد أن خّلصني الله منهم؟ فقال» :إن الله جاعل لك
ولخوانك فرجًا« ،فلم يجد بدا ً من اّتباعه ،فرجع مع صاحبيه ،ولما كان بذي
حَليفة عدا على أحدهما فقتله ،وهرب منه الخر ،فرجع إلى المدينة وقال :يا ال ُ
مق ْ
ت ذمتك ،أما أنا فنجوت ،فقال له» :اذهب حيث شئت ول ت ُ ِ رسول الله وفَ ْ
بالمدينة« فذهب إلى محل بطريق الشام تمّر به تجارة قريش ،فأقام به
من كانوا مسلمين بمكة وَنجوا ،وسار إليه أبو جندلبن
واجتمع معه جمع م ّ
سهيل ،واجتمع إليه جمع من العراب ،وقطعوا الطريق على تجارة قريش
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
حتى قطعوا عنهم المداد ،فأرسل رجال قريش لرسول الله يستغيثون به في
ساك من جاءه مسلمًا ،فقبل منهم إبطال هذا الشرط ويعطونه الحق في إم َ
ملها في مة التي لم يتمكنوا من تح ّ ذلك ،وأزاح الله عن المسلمين هذه الغ ّ
الحديبية حينما أمرهم عليه الصلة والسلم برد ّ أبي جندل ،وعلموا أن رأي
رسول الله أفضل وأحسن من رأيهم حيث كان فيه أمن تسبب عنه اختلط
الكفار بالمسلمين ،فخالطت بشاشة السلم قلوبهم حتى قال أبو بكر رضي
م من فتح الحديبية ولكن الناس قصر الله عنه :ما كان فتح في السلم أعظ َ
ُ
جل لعجلة العباد ُ
جلون ،والله ل ي َعْ َما كان بين محمد ورّبه ،والعباد ُ ي َعْ َ رأيهم ع ّ
حتى تبلغ المور ما أراد.
وفي رجوعه عليه الصلة والسلم من الحديبية نزلت عليه سورة الفتح ،وقال
مِبينًا{ )الفتح (1:وفي تسمية هذه الغزوة
ك فَْتحا ً ّ
حَنا ل َ َ
سبحانه في أولها :إ ِّنا فَت َ ْ
ديق.دمنا لك عن الص ّ بالفتح المبين تصديق لما ق ّ
مكاتبة الملوك
ولما وصل هذا الكتاب قيصر ،قال :انظروا لنا من قومه أحدا ً نسأله عنه،
وكان أبو سفيانبن حرب بالشام مع رجال من قريش في تجارة ،فجاءت
عوه لمقابلة الملك فأجاب ،ولما قدموا عليه في سل قيصر لبي سفيان ود َ َ ُر ُ
ً
م أّيهم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ْ
سلهُ ْجمانهَ :
القدس قال لتْر ُ
فقال أبو سفيان :أنا ،لنه لم يكن في الركب من بني عبد مناف غيره ،فقال
ن مني ،ثم أمر أصحابه فجعلوا خلف ظهره ،ثم قال لترجمانه :قل قيصر :اد ُ
دمت هذا أمامكم لسأله عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، لصحابه إنما ق ّ
وقد جعلتكم خلفه كيل تخجلوا من رد ّ كذبه عليه إذا كذب ،ثم سأله كيف
نسب هذا الرجل فيكم؟ قال :هو فينا ذو نسب .قال :هل تكّلم بهذا القول
أحد ٌ منكم قبله؟ قال :ل .قال :هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
قال؟ قال :ل .قال :فهل كان من آبائه من ملك؟ قال :ل .قال :فأشراف
الناس ي َت ّب ُِعونه أم ضعفاؤهم؟ قال :بل ضعفاؤهم .قال :فهل يزيدون أم
خطة لدينه؟ قال :ل. س ْ
ينقصون؟ قال :بل يزيدون .قال :هل يرتد ّ أحد منهم َ
قال :هل يغدر إذا عاهد؟ قال :ل ،ونحن الن منه في ذمة ل ندري ما هو
فاعل فيها .قال :فهل قاتلتموه؟ قال :نعم .قال :فكيف حربكم وحربه؟ قال:
مركم؟ قال :يقول: م يأ ُجال مرة لنا ومرة علينا .قال :فَب ِ َ
س َ
الحرب بيننا وبينه ِ
ما كان يعبد آباؤنا ويأمر ً
»اعبدوا الله وحده ول تشركوا به شيئا ،وينهى ع ّ
بالصلة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء المانة«.
ت أنه فيكم ذو نسب ،وكذلك فقال الملك :إني سألتك عن نسبه فزعم َ
الرسل ت ُْبعث في نسب قومها ،وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟
ل قيل فزعمت أن ل ،فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت :رج ٌ ْ
م بقو ٍل يأت َ ّ ُ ٌ َ ْ
ن ل،
تأ ْ قبله ،وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعم َ
ب على الناس ويكذب على الله ،وسألتك هل كان فقلت :ما كان ليذَر الكذ َ
ملكمن آبائه من ملك؟ فقلت :ل ،فلو كان من آبائه ملك لقلت :رجل يطلب ُ
ت :بل ضعفاؤهم وهم ف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقل َ أبيه ،وسألتك أأشرا ُ
أتباع الرسل ،وسألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلت :بل يزيدون ،وكذلك
خطة لدينه؟ فقلت :ل ،وكذلك س ْ
اليمان حتى يتم ،وسألتك هل يرتد ّ أحد منهم َ
اليمان حين تخالط بشاشته القلوب ،وسألتك :هل قاتلتموه؟ فقلت :نعم،
سل ُتبتلى ثم تكون لهم العاقبة، جال ،وكذلك الّر ُ س َوإن الحرب بينكم وبين ِ
ت أنه يأمر بالصلة والصدق والعفاف والوفاء وسألتك :بماذا يأمر؟ فزعم َ
بالعهد وأداء المانة ،وسألتك :هل يغدر؟ فذكرت أن ل ،وكذلك الرسل ل
ت أنه مبعوث ،ولم أظن أنه فيكم ،وإن كان ي ،وقد علم ُ ت أنه نب ّ
تغدر ،فعلم ُ
ي هاتين ،ولو أعلم أني أخلص إليه ما كّلمتني به حقا فسيملك موضعَ قدم ّ
ً
طهم فل ت الذين عنده وكثر ل َغَ ُت أصوا ُلتكلفت ذلك ،قال أبو سفيان :فَعَل َ ْ
أدري ما قالوا وُأمر بنا فأخرجنا.
فلما خرج أبو سفيان مع أصحابه قال :لقد بلغ أمر ابن أبي كبشة أن يخافه
ملك بني الصفر
سلعمرو الغساني ،فقال له :أين تريد؟ قال :الشام .قال :لعّلك من ُر ُ
ت عنقه .ولم ُيقتل لرسول الله عليه الصلة ضرب َ ْ
محمد؟ قال :نعم ،فأمر به ،ف ُ
جدا ً شديداً.
جد َ لذلك وَ ْوالسلم رسول غيره ،وقد وَ َ
قوِْقس
م َ
كتاب ال ُ
جه عليه الصلة والسلم حاطَببن أبي ب َْلتعة بكتاب إلى المقوقس أمير وو ّ
مصر من جهة قيصر ،وكان فيه» :بسم الله الرحمان الرحيم ،من محمد
من اتبع الهدى ،أما بعد: رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط ،سلم على َ
سَلم ُيؤتك الله أجرك مرتين ،وإن تولي َ
ت م تَ ْ فإني أدعوك بدعاية السلم أسل ْ
نري َمت َ ِ
م ْ ْ
ن ال ُ
ري َمت َ ِ
م ْ ْ
مةٍ ال ُ َ َ ْ َ
ب ت ََعالوْا إ ِلى كل ِ َ ْ
ل الك َِتا ِ فإنما عليك إثم القبط« ،وياأ َهْ َ
ن{ الية )آل عمران (64 :فأوصله له حاطب بإسكندرية ،فلما قرأه ري َ
مت َ ِ
م ْال ْ ُ
من خالفه وأخرجه من بلده؟ فقال قال :ما منعه إن كان نبي ّا ً أن يدعو على َ
ل الله ،فما له حيث أخذه ت تشهد ُ أن عيسى ابن مريم رسو ُ حاطب :ألس َ
قومه فأرادوا أن يقتلوه أل يكون دعا عليهم أن يهلكهم الله حتى رفعه الله ّ
ت في إليه؟ قال :أحسنت أنت حكيم جاء من عند حكيم .ثم قال :إني قد نظر ُ
ت أنه ل يأمر بمزهود فيه ،ول ينهى عن مرغوب فيه ،ولم أمر هذا النبي فوجد ُ
وة :إخراج ّ النب آلة معه ت
ُ ووجد الكذاب، الكاهن ول ضا ّ
ل، أجده بالساحر ال ّ
الغائب المستور ،والخبار بالنجوى ،وسأنظر.
ثم كتب رد ّ الجواب يقول فيه :بسم الله الرحمان الرحيم :لمحمدبن عبد الله
تمن المقوقس عظيم ِ القبط ،سلم عليك ،أما بعد :فقد قرأت كتابك وفهم ُ
ج
ت أظن أنه يخر ُ ت أن نبيا ً قد بقي وكن ُ ما ذكرت فيه وما تدعو إليه ،وقد علم ُ
ت رسولك ،وبعثت لك بجاريتين لهما مكان عظيم في بالشام ،وقد أكرم ُ
القبط ،وبثياب ،وأهديت إليك بغلة تركبها والسلم .وإحدى الجاريتين مارية
التي تسّرى بها عليه الصلة والسلم ،وجاء منها بولده إبراهيم ،والخرى
أعطاها لحسانبن ثابت .ولم يسلم المقوقس.
كتاب الّنجاشي
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
كتاب كسرى
جه عليه الصلة والسلم عبد اللهبن حذافة السهمي بكتاب إلى كسرى، وو ّ
ملك الفرس ،وفيه» :بسم الله الرحمان الرحيم ،من محمد رسول الله إلى
كسرى عظيم فارس ،سلم على من ات ّب َعَ الهدى ،وآمن بالله ورسوله ،وشهد
أن ل إله إل ّ الله وحده ل شريك له ،وأن محمدا ً عبده ورسوله ،أدعوك بدعاية
الله ،فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة ،لنذر من كان حي ًّا ،ويحقّ القول
على الكافرين ،أسلم تسلم فإن أبيت فإنما عليك إثم المجوس« فلما وصله
ه استكبارًا ،ولما بلغه عليه الصلة والسلم ذلك ،قال» :مّزق الله مّزقَ ُ
الكتاب َ
ً
ملكه كل ممّزق« وقد فعل ،فكانت مملكته أقرب الممالك سقوطا وقد بدأ ُ
من يأتيجه إلى الرسول َ مله باليمن أن يو ّهذا الشقي بالعدوان ،فأرسل لعا ِ
َ
به إليه فعاجله الله بقيام ابنه شيرويه عليه وقت ْل ِهِ له ،ثم أرسل لعامله في
ما أمره به أبوه.
اليمن ينهاه ع ّ
كتاب المنذربن ساوى
جه عليه الصلة والسلم العلَءبن الحضرمي بكتاب إلى المنذربن ساوى وو ّ
ملك البحرين يدعوه إلى السلم وفيه» :بسم الله الرحمان الرحيم ،سلم
ن صلى صلتنا،نم ْ أنت ،فإني أحمد إليك الله الذي ل إله إل ّ هو .أما بعد :فإ ّ
ن
م ْ
مة الرسولَ ،واستقبل ِقبلتنا ،وأكل ذبيحتنا ،فذلك المسلم له ذمة الله وذ ّ
ب ذلك من المجوس فإنه آمن ،ومن أبى فإن عليه الجزية« فأسلم وكتب أح ّ
في رد الجواب :أما بعد ،يا رسول الله فإني قرأت كتابك على أهل البحرين
ن كرهه ،وبأرضي م ْ
ب السلم وأعجبه ودخل فيه ،ومنهم َ فمنهم من أح ّ
ي في ذلك أمرك .فكتب إليه عليه الصلة والسلم: مجوس ويهود فأحدث إل ّ
»بسم الله الرحمان الرحيم ،من محمد رسول الله إلى المنذربن ساوى،
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
سلم عليك ،فإني أحمد الله إليك الذي ل إله إل ّ هو ،وأشهد أن ل إله إل الله
ن ينصحم ْ وأن محمدا ً عبده ورسوله ،أما بعد :فإني أذكرك الله عّز وج ّ
ل فإنه َ
سلي ،ويّتبع أمرهم فقد أطاعني ،ومن فإنما ينصح لنفسه ،وإنه من ُيطعْ ُر ُ
فعتك في ً
نصح لهم فقد نصح لي ،وإن ُرسلي قد أثنوا عليك خيرا ،وإني قد ش ّ
قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه ،وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل
ك عن عملك ،ومن أقام على يهوديته أو منهم ،وإنك مهما تصلح فلن ن َعْزِل َ َ
مجوسيته فعليه الجزية«.
مان مل ِك َ ْ
ي عُ َ كتاب َ
كبيرهم.
سابعة
سَنة ال ّ
ال ّ
خيبر
غزوة َ
وفي محرم السنة السابعة أمر عليه الصلة والسلم بالتجّهز لغزو يهود خيبر،
مهَي ٍّج للحزاب ضد رسول الله في غزوة الخندق ،والذين ل الذين كانوا أعظم ُ
دمنا ذلك في يزالون مجتهدين في محالفة العراب ضد رسول الله كما ق ّ
ن حوله من العراب م ْ قصة كعببن الشرف .وقد استنفر رسو ُ
ل الله لذلك َ
الذين كانوا معه بالحديبية ،وجاء المخّلفون عنها ليؤَذن لهم ،فقال عليه الصلة
والسلم» :ل تخرجوا معي إل رغبة في الجهاد ،أما الغنيمة فل أعطيكم منها
شيئًا« ،وأمر مناديا ً ينادي بذلك ،ثم خرج عليه الصلة والسلم بعد أن وّلى
م سلمة ،ولما ُ عبن عُْرفُط َ َ
ة الغفاري .وكان معه من أزواجه أ ّ سَبا َ
على المدينة ِ
وصل جيش المسلمين إلى خيبر التي تبعد عن المدينة نحو مائة ميل من
الشمال الغربي ،رفعوا أصواتهم بالتكبير والدعاء ،فقال عليه الصلة والسلم:
م ول غائبًا ،إنكم تدعون سميعا ً قريبا ً »ارفقوا بأنفسكم ،فإنكم ل تدعون أص ّ
وهو معكم«.
وكانت حصون خيبر ثلثة ،منفصل ً بعضها عن بعض ،وهي :حصون الن ّ َ
طاة،
صْعب،شق ،والولى ثلثة :حصن ناعم ،وحصن ال ّ كتيبة ،وحصون ال ّوحصون ال َ
ُ
ي ،وحسن البريء ،والثالثة ثلثة ة ،والثانية حصنان :حصن أب ّ وحصن قُل ّ ٍ
للم ،فبدأ عليه الصلة س ِ
موص ،وحصن الوَط ِْيح ،وحصن ال ّ ق ُ
حصون :حصن ال َ
ً
والسلم بحصون الّنطاة ،وعسكر المسلمون شرقيها بعيدا عن مدى النبل،
وأمر عليه الصلة والسلم أن يقطع نخلهم ليرهبهم حتى يسلموا ،فقطع
المسلمون نحو أربعمائة نخلة .ولما رأى عليه الصلة والسلم تصميم اليهود
على الحرب نهى عن القطع ،ثم ابتدأ القتال مع حصن ناعم بالمراماة ،وكان
لواء المسلمين بيد أحد المهاجرين فلم يصنع في ذلك اليوم شيئًا ،وفيه مات
محمودبن مسلمة أخو محمدبن مسلمة ،وصار عليه الصلة والسلم يغدو كل
يوم مع بعض الجيش للمناوشة ،ويخّلف على العسكر أحد المسلمين ،حتى
إذا كانوا في الليلة السادسة ،ظفر حارس الجيش ،وهو عمربن الخطاب،
بيهودي خارج في جوف الليل ،فأتى به رسول الله عليه الصلة والسلم ،ولما
من ُْتموني أّدلكم على أمر فيه نجاحكم d.فقالوا: أدرك الرجل الرعب قال :إن أ ّ
َ
مّناك ،فقال :إن أهل هذا الحصن أدركهم الملل والتعب ،وقد د ُل َّنا فقد أ ّ
شق ،وسيخرجون لقتالكم غدًا ،فإذا فتح تركتهم يبعثون بأولدهم إلى حصن ال ّ
عليكم هذا الحصن غدا ً فإني أدلكم على بيت فيه منجنيق ودبابات ودروع
وسيوف ،يسهل عليكم بها فتح بقية الحصون ،فإنكم تنصبون المنجنيق،
ويدخل الرجال تحت الدبابات ،فينقبون الحصن فتفتحه من يومك ،فقال عليه
ُ
ب الله الصلة والسلم لمحمدبن مسلمة» :سأعطي الراية غدا ً رجل ً يح ّ
ورسوله ويحّبانه« فبات المهاجرون والنصار كلهم يتمّنونها ،حتى قال عمربن
الخطاب :ما تمنيت المارة إل ليلتئذ.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
فلما كان الغد سأل عليه الصلة والسلم عن عليبن أبي طالب فقيل له :إنه
ل في عينيه فشفاهما الله كأن لم يكن ف َ
ن يأتيه به ،ولما جاء ت َ َ
م ْ
أرمد ،فأرسل َ
بهما شيء ،ثم أعطاه الراية ،فتوجه مع المسلمين للقتال ،وهناك وجدوا
ب ،وهو ح ٌ
مْر َي ،ثم خرج َ اليهود متجهزين ،فخرج يهودي يطلب الب َِراز فقتله عل ّ
وام ،ثم أشجع القوم ،فألحقه برفيقه ،فخرج أخوه ياسر ،فقتله الزبيربن الع ّ
ل المسلمون على اليهود حتى كشفوهم عن مواقفهم ،وتبعوهم حتى حم َ
دخلوا الحصن بالقوة وانهزم العداء إلى الحصن الذي يليه وهو حصن
ب ،وغنم المسلمون من حصن ناعم كثيرا ً من الخبز والتمر ،ثم تتبعوا صعْ ِال ّ
ً ً
صْعب ،فقاتل عنه اليهود قتال شديدا حتى رد عنه اليهود إلى حصن ال ّ
المسلمون ،ولكن ثبت الحباببن المنذر ومن معه وقاتلوا قتال ً شديدا ً حتى
هزموا اليهود ،فتبعوهم حتى افتتحوا عليهم الحصن ،فوجدوا فيه غنائم كثيرة
من الطعام فأمر عليه الصلة والسلم مناديا ً يقول» :كلوا واعلفوا دوابكم ول
تأخذوا شيئًا«.
ة ،فتبعهم ثم إن الذين انهزموا من هذا الحصن ساروا إلى حسن قُل ّ ٍ
المسلمون ،وحاصروهم ثلثة أيام حتى استصعب عليهم فتحه ،وفي اليوم
الرابع دّلهم يهودي على جداول الماء التي يستقي منها اليهود ،فمنعوها عنهم،
ق ،فتبعهم ش ّ فخرجوا ،وقاتلوا قتال ً شديدا ً انتهى بهزيمتهم إلى حصون ال ّ
ي ،فخرج أهله ،وقاتلوا قتال ً شديدا ً أبلى فيه أبو ُ
المسلمون وبدؤوا بحصن أب َ ّ
ة ،ووجد دجانة النصاري بلًء حسنا ً حتى تمكن من دخول الحصن عَْنو ً
المسلمون فيه أثاثا ً كثيرا ً ومتاعا ً وغنما ً وطعامًا ،وهرب المنهزمون منه إلى
حصن البريء ،فتمنعوا به أشد التمّنع ،وكان أهله أشد ّ اليهود رميا ً بالنبل
والحجارة حتى أصاب رسول الله بعض منه ،فنصب المسلمون عليه
المنجنيق فوقع في قلب أهله الرعب ،وهربوا منه من غير عناء شديد ،فوجد
فيه المسلمون أواني لليهود من نحاس وفخار ،فقال عليه الصلة والسلم:
»اغسلوها واطبخوا فيها«.
قموص، ثم تتّبع المسلمون بقايا العدو إلى حصون الكتيبة ،وبدأوا بحصن ال َ
سبيتفحاصروه عشرين ليلة ثم فتحه الله على يد عليبن أبي طالب ،ومنه ُ
حيّيبن أخطب ،ثم سار المسلمون لحصار حصني الوطيح صفية بنت ُ
سلِلم ،فلم يقاوم أهلهما بل سّلموا طالبين حقن دمائهم ،وأن يخرجوا من وال ّ
أرض خيبر بذراريهم ل يصطحب الواحد منهم إل ثوبا ً واحدا ً على ظهره،
فأجابهم رسول الله إلى ذلك ،وغنم المسلمون من هذين الحصنين مائة درع،
وأربعمائة سيف ،وألف رمح ،وخمسمائة قوس عربية ،ووجدوا صحفا ً من
التوراة فسّلموها لطاِلبيها.
ل ،وقتل من هذا ،والذين استشهدوا من المسلمين بخيبر خمسة عشر رج ً
ل ،وفي هذه الغزوة أهدت إحدى نساء اليهود ك َُراع
اليهود ثلثة وتسعون رج ً
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
زواج صفية
ي ،سيد
وبعد تمام الظفر والنصر تزوج عليه الصلة والسلم صفية بنت حي ّ
ُ
قَها ،وقد أسلمت رضي الله عنها ،فشرفت بأمومة
عت ْ َ
بني النضير ،وأصدقها ِ
المؤمنين.
فتح فَ َ
دك
صلح تيماء
ولما بلغ يهود تيماء ما فعله المسلمون بيهود خيبر صالحوا على دفع الجزية،
ومكثوا في بلدهم آمنين مطمئنين.
قرىفتح وادي ال ُ
ثم دعا عليه الصلة والسلم يهود َ وادي القرى إلى الستسلم فأبوا وقاتلوا،
فقاتلهم المسلمون ،وأصابوا منهم أحد عشر رج ً
ل ،وغنموا منهم مغانم كثيرة،
مسها عليه الصلة والسلم ،وترك الرض في أيدي أهلها يزرعونها بشطر خ ّ
َ
ما ُيخرجون منها ،وكذلك صنع بأرض خيبر ،وكان يرسل إليهم عبد اللهبن
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
رواحة لتقدير الثمر ،وكان تقديره شديدا ً عليهم ،فأرادوا أن يرشوه ،فقال
ب الناس
سحت؟ والله لقد جئتكم من عند أح ّ لهم :يا أعداء الله تعطوني ال ّ
ي
ي من القردة والخنازير ،ول يحملني بغضي إّياكم وحب ّي ،ولنتم أبغض إل ّ إل ّ
ّ
إياه على أل أعدل.
هذا وبانقياد جميع اليهود المجاورين للمدينة ارتاح المسلمون من شر عدو
كان يتربص بهم الدوائر ،مهما كان بين الفريقين من العهود والمواثيق .ورجع
المسلمون مؤيدين ظافرين.
وفي شعبان بلغه عليه الصلة والسلم أن جمعا ً من هوازن بُترَبة يظهرون
ل ،فسار العداوة للمسلمين ،فأرسل لهم عمربن الخطاب في ثلثين رج ً
إليهم .ولما بلغهم الخبر تفرقوا فلم يجد بها عمر أحدًا ،فرجع.
سرية
داك ،فلما ورد ثم أرسل بشيربن سعد النصاري لقتال بني مّرة بناحية فَ َ
مهم وانحدر إلى المدينة ،أما القوم فكانوا بلدهم لم يَر منهم أحدًا ،فأخذ ن َعَ َ
في الوادي ،فجاءهم الصريخ فأدركوا بشيرا ً ليل ً وهو راجع فتراموا بالنبل،
ح
جرِ َب المسلمين ،و ُ ولما أصبح اقتتل الفريقان قتال ً شديدا ً حتى قُِتل غال ُ
بشير جرحا ً شديدا ً حتى ظن أنه مات ،ولما انصرف عنه العدو تحامل حتى
جاء إلى رسول الله وأخبره الخبر.
سرية
وفي رمضان أرسل عليه الصلة والسلم غالببن عبد الله الليثي إلى أهل
ل ،فساروا حتى هجموا على القوم فقتلوا بعضا ً فَعة في مائة وثلثين رج ً مي ْ َ
ال ِ
ُ
وأسروا آخرين ،وفي أثناء الحرب طارد أسامةبن زيد رجل ً من المشركين،
ولما رأى المشرك الموت في يد ُأسامة تشّهد فظن ُأسامة أن عدوه إنما
قال ذلك تخلصا ً فقتله.
ولما رجع المسلمون إلى المدينة ،وُأخبر رسول الله بفعلة ُأسامة قال:
»أقتلته بعد أن قال :ل إله إل ّ الله ،فكيف تصنع بل إله إل ّ الله؟« قال :يا
رسول الله إنما قالها متعوذا ً من القتل ،قال عليه الصلة والسلم» :فهل ّ
شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟« فقال :يا رسول الله استغفر
لي .قال عليه الصلة والسلم» :فكيف بل إله إل ّ الله؟« فما زال يكررها حتى
تمنى ُأسامة أنه لم يسلم قبل ذلك اليوم ،وأنزل الله في ذلك في سورة
منا ً ) { )النساء،(94 : مؤ ْ ِ
ت ُ م لَ ْ
س َ سَل َ قى إ ِل َي ْك ُ ُ
م ال ّ ن أ َل ْ َ
م ْقوُلوا ْ ل ِ َ
النساء} :وَل َ ت َ ُ
ُ
ثم أمر عليه الصلة والسلم أسامة أن يعتق رقبة كفارة لنه قتل خطأ.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
سرية
عيينةبن حصن واعد َ جماعة من وفي شوال بلغه عليه الصلة والسلم أن ُ
جَبار للغارة على
من و ُ غطفان كانوا مقيمين قريبا ً من خيبر بأرض اسمها ي ُ ْ
المدينة ،فأرسل لهم بشيربن سعد في ثلثمائة رجل ،فساروا إليهم يكمنون
النهار ،ويسيرون الليل حتى أتوا محلتهم ،فأصابوا ن ََعما ً كثيرة ،وتفرق الّرعاء
فأخبروا قومهم ففزعوا ولحقوا بعُْليا بلدهم ،ولم يظفر المسلمون إل برجلين
أسلما ،ثم رجعوا بالغنائم إلى المدينة.
عمرة القضاء
صد ّ معهل الحول على عمرة الحديبية خرج عليه الصلة والسلم بمن ُ لما حا َ
فيها ليقضي عمرته ،واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري ،وساق معه الهدي
ة ،وأخرج معه السلح حذرا ً من غدر قريش ،وكان معه مائة فرس ستين ب َد َن َ ً
عليها محمدبن مسلمة ،وعلى السلح بشيربن سعد ،وأحرم عليه الصلة
دم الخيل حَليفة ق ّ والسلم من باب المسجد المدني ،ولما انتهى إلى ذي ال ُ
ّ
أمامه ،فقيل :يا رسول الله حملت السلح ،وقد شرطوا أل تحمله؟ فقال
عليه الصلة والسلم» :ل ندخل الحرم به ولكن يكون قريبا ً مّنا ،فإن ها َ
جنا
ظهران قابله نفٌر من قريش ،ففزعوا من هائج فزعنا له« فلما كان بمّر ال ّ
دة ،وأسرعوا إلى قومهم فأخبروهم فجاءه فتيان منهم وقالوا :والله هذه الع ّ
دثا فقال» :إّنا ل ً ح َ ً ً
عرفت بالغدر صغيرا ول كبيرا ،وإّنا لم نحدث َ يا محمد ما ُ
ندخل الحرم بالسلح« ولما حان وقت دخوله مكة خرج أهلوها كارهين رؤية
المسلمين يطوفون بالبيت ،فدخل عليه الصلة والسلم وأصحابه متوشحين
داء وأمامه عبد اللهبن رواحة يقول :ل إله إل ّ الله وحده، سيوفهم من َثنّية ك َ َ
صدق وعده ،ونصر عبده ،وأعّز جنده ،وهزم الحزاب وحده .وطاف عليه
ه ،وأمر
جن ِ ِ ح َم ْ الصلة والسلم بالبيت وهو على راحلته ،واستلم الحجر ب ِ ِ
أصحابه أن يسرعوا ثلثة أشواط إظهارا ً للقوة لن المشركين قالوا :سيطوف
مى يثرب ،فقال عليه الصلة والسلم» :رحم الله ح ّ
اليوم بالكعبة قوم نهكتهم ُ
امرءا ً أراهم من نفسه قوة« واضطبعَ عليه الصلة والصلم بردائه ،وكشف
وة ،وفعل مثله المسلمون ،وقد أتم المسلمون عضده اليمنى شأن الفت ّ
رين كما رأى عليه الصلة ص ِ ّ
طوافهم بالبيت آمنين محلقين رؤوسهم ومق ّ
والسلم في منامه.
زواج ميمونة
وتزوج صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ميمونة بنت الحارث الهللية زوج عمه
حد ،وخالة عبد اللهبن العباس ــــ وهي آخر ُ
حمزةبن عبد المطلب شهيد أ ُ
رف. نسائه زواجا ً ــــ ولم يدخل بها إل بعد الخروج من مكة حيث كان ب ِ َ
س ِ
خيل بالذهاب ولما خرج عليه الصلة والسلم أمر الذين كان تركهم لحراسة ال َ
ليطوفوا ففعلوا ،ثم رجع عليه الصلة والسلم إلى المدينة فرحا ً مسرورا بما
ً
حَباه الله من تصديق رؤياه.
َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
مَنة
سَنة الثا ِ ال ّ
سرية
فر أرسل عليه الصلة والسلم غالببن عبد الله الليثي إلى بني ص َ
وفي َ
ديد ،فسار القوم حتى إذا كانوا َ
وح ،وهم قوم من العرب يسكنون بالك ِ مل َ ّال ُ
ديد ٍ التقوا بالحارثبن مالك الليثي المعروف بابن البرصاء ،وكان خصما ً لدودا ً ق َب ُ
ً
فأسروه ،فقال لهم :ما جئت إل للسلم ،فقالوا له :إن تكن مسلما لن يضرك
وح
رباط ليلة وإل استوثقنا منك ،ثم ساروا حتى وصلوا محلة بني المل ّ
فاستاقوا الن َّعم والشاء ،وخرج الصريخ إلى القوم فجاءهم ما ل قبل لهم به،
ل بينهم وبين عدوهم ن الله على المسلمين ،فأرسل سيل ً شديدا ً حا َ ولكن م ّ
مهم ُتساق وهم ل يقدرون على رّدها. حتى صار المشركون يرون ن َعَ َ
سرية
ولما رجع غالب إلى المدينة ظافرا ً أرسله عليه الصلة والسلم في مائتي
ص من بني مّرة بفدك ــــ وهم الذين أصابوا سرية بشيربن سعد رجل ليقت ّ
ــــ فساروا حتى إذا كانوا قريبا ً من القوم خطب غالب فيمن معه ،فقال بعد
أن حمد الله وأثنى عليه :أما بعد فإني ُأوصيكم بتقوى الله وحده ل شريك له،
وأن تطيعوني ول تخالفوا لي أمرا ً فإنه ل رأي لمن ل ُيطاع .ثم آخى بين
الجند ،فقال :يا فلن أنت وفلن ،ويا فلن أنت وفلن ،ل يفارق أحد منكم
ل له :أين صاحبك؟ فيقول :ل أدري، زميله ،وإّياكم أن يرجع الرجل منكم فأقو َ
فإذا كّبرت فكّبروا ،فلما أحاطوا بالعدو ،وكّبر كّبروا ،وجّردوا السيوف فلم
م ،فكان لكل واحد من الغزاة عشرة مهُ ْ
يفلت من عدوهم أحد ،واستاقوا ن َعَ َ
أبِعرة.
سرية
عمير الغفاري إلى ذات وفي ربيع الول أرسل عليه الصلة والسلم كعببن ُ
ل ،فوجدوا جمعا ً كثيراً،
أطلح ــــ من أرض الشام ــــ في خمسة عشر رج ً
فدعوهم إلى السلم فلم يجيبوا وقاتلوا ،وكانوا أكثر عددًا ،فاستشهد
المسلمون عن آخرهم إل رئيسهم كعببن عمير فإنه نجا ،وأتى بالخبر إلى
شقّ عليه ،وأراد أن يبعث إليهم من يقتص منهم ،فبلغه أنهم رسول الله ،فَ َ
ولوا من منزلهم فعدل عن ذلك. تح ّ
مؤَْتة
غزوة ُ
ً
جّهز عليه الصلة والسلم في جمادى الولى جيشا للقصاص ممن قتلوا
دبن حارثة،مر عليهم زي َالحارثبن عمير الزدي ،رسوله إلى أمير ُبصرى ،وأ ّ
وقال لهم» :إن ُأصيب فالمير جعفربن أبي طالب ،فإن أصيب فعبد اللهبن
ُ
دة الجيش ثلثة آلف ،فساروا وشّيعهم عليه الصلة رواحة« .وكان ع ّ
صاهم به» :اغزوا باسم الله فقاتلوا عدوّ الله وعدّوكم والسلم ،وكان فيما و ّ
ً
بالشام ،وستجدون فيها رجال في الصوامع معتزلين فل تتعرضوا لهم ،ول
تقتلوا امرأة ول صغيرا ً ول بصيرا ً فانيًا ،ول تقطعوا شجرا ً ول تهدموا بناًء«.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ؤتة مقتل الحارثبن عمير ،وهناك وجدوا م ْ ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا ُ
صرة .فتفاوض الروم قد جمعوا لهم جمعا ً عظيما ،منهم ومن العرب المتن ّ
ً
مددا ً أم
رجال الجيش فيما يفعلونه :أيرسلون لرسول الله يطلبون منه َ
يقدمون على الحرب؟ فقال عبد اللهبن رواحة :يا قوم والله إن الذي تكرهون
هو ما خرجتم له ،خرجتم تطلبون الشهادة ونحن ما نقاتل بعدد ول بقوة ول
بكثرة ،ما نقاتل إل بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به ،فإنما هي إحدى
الحسنيين :إما الظهور وإما الشهادة ،فقال الناس :صدق والله ابن رواحة.
ومضوا للقتال ،فلقوا هذه الجموع المتكاثرة ،فقاتل زيدبن حارثة رضي الله
عنه حتى استشهد ،فأخذ الراية جعفُربن أبي طالب وهو يقول:
ٌ ة بهاكافر ُ عذا م روم قد َدنا شراُبهاوالرو ُ ة وبارد ٌ َ ة واقْت َِراُبهاطي ّب َ ٌجن ّ ُ
يا حّبذا ال َ
ي إذ لقيُتها ضراُبها ولم يزل يقاتل حتى استشهد رضي الله بعيدةٌ أنساُبهاعل ّ
عنه ،فأخذ الراية عبد اللهبن رواحة فتقدم ثم تردد بعض الترّدد ،فقال يخاطب
نفسه:
دوا الّرّنهما لي س وش ّ ب النا ُ َ
ة أو لتك َْرهِن ّْهإن أجل َ زلّنهطائع ً س لتن ِ ت يا نف ُ أقسم ُ
شّنه؟ ت إل ُنطفة في َ مطمئّنههل أن ِ ت ُ ه؟قد طال ما قد كن ِ ك تكرهين الجن ّ ْ أرا ِ
ثم اقتحم بفرسه المعمعة ،ولم يزل يقاتل ــــ رضي الله عنه ــــ حتى
م بعض المسلمين بالرجوع إلى الوراء ،فقال لهم عقبةبن عامر: استشهد ،فه ّ
ً
يا قوم ُيقتل النسان مقبل خير من أن يقتل مدبرا ،فتراجعوا واتفقوا على ً
مهارته الحربية حمى هذا الجيش مته و َتأمير الشهم الباسل خالدبن الوليد ،وبه ّ
ً
من الضياع ،إذ ما تفعل ثلثة آلف بمائة وخمسين ألفا؟ فإنه لما أخذ الراية
قاتل يومه قتال ً شديدًا ،وفي غده خالف ترتيب العسكر ،فجعل الساقة
ن الروم أن مقدمة ،والمقدمة ساقة ،والميمنة ميسرة ،والميسرة ميمنة ،فظ ّ
دد جاء للمسلمين فرعبوا. م َال َ
مؤتة ،ثم مكث ثم أخذ خالد الجيش وصار يرجع إلى الوراء حتى انحاز إلى ُ
يناوش العداء سبعة أيام ثم تحاجز الفريقان لن الكفار ظنوا أن المداد
تتوالى للمسلمين ،وخافوا أن يجّروهم إلى وسط الصحارى حيث ل يمكنهم
التخّلص وبذلك انقطع القتال ،وقد نعى النبي صلى الله عليه وسلم زيدا ً
وجعفرا ً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم ،فقال» :أخذ الراية زيد
فُأصيب ،ثم أخذها جعفر فُأصيب ،ثم أخذها ابن رواحة فأصيب ــــ وكانت عينا
رسول الله تذرفان ــــ ثم قال :حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى
فتح الله عليهم« وجاءه رجل فقال :يا رسول الله إن نساء جعفر يبكين،
ن ،فأمره ن فلم ي ُط ِعْ َ
ن ،فذهب الرجل ثم أتى فقالت :قد نهيته ّ فأمره أن ينهاه ّ
فذهب ثانيًا ،ثم جاء فقال :والله لقد غلبننا ،فقال له عليه الصلة والسلم:
ن التراب«.
ث في أفواهه ّ ح ُ
»ا ْ
ولما أقبل الجيش إلى المدينة قابلهم المسلمون يقولون لهم :يا فُّرار ،فقال
عليه الصلة والسلم» :بل هم الك ُّرار« .ظن المقيمون بالمدينة أن انحياز
خالد بالجيش هزيمة ،ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراهم أن ذلك
من مكايد الحرب ،وأثنى على خالد في مهارته.
سرية
ً
وفي جمادى الخرة بلغه عليه الصلة والسلم أن جمعا من قضاعة يتجمعون
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
قرى لُيغيروا على المدينة ،فأرسل لهم عمروبن في ديارهم وراء وادي ال ُ
ده بأبي
سراة المهاجرين والنصار ،ثم أم ّالعاص في ثلثمائة رجل من َ
عبيدةبن الجراح في مائتين من المهاجرين والنصار فيهم أبو بكر وعمر،
مرا ً قبل أن يصل إلى القوم ،وقد أراد رجال من الجيش إيقاد نار فلحقوا عَ ْ
فمنعهم عمرو ،فأنكر عليه عمربن الخطاب ،فقال أبو بكر :إنما بعثه رسول
الله علينا رئيسا ً لمعرفته بالحرب أكثر مّنا فل تعصه ،فامتثل.
ولما حّلوا بساحة القوم حملوا عليهم فلم يكن أكثر من ساعة حتى تفرق
العداء منهزمين ،فجمعوا غنائمهم وأرادوا اتباع أثرهم فمنعهم قائدهم ،ثم
رجعوا إلى المدينة ظافرين ،وبينما هم في الطريق أدركت عمروبن العاص
جنابة في ليلة باردة ،فلما أصبح قال :إن أنا اغتسلت هلكت والله يقول :وَل َ
َ
ة{ )البقرة (195 :ثم تيمم وصلى ،ثم أمر بالسير م إ َِلى الت ّهْل ُك َ ِ ديك ُ ْ قوا ْ ب ِأي ْ ِ ت ُل ْ ُ
حتى إذا وصلوا إلى المدينة قام رسول الله عليه الصلة والسلم يسأل عن
أنباء سفرهم كما هي عادته ،فأخبروه بما نقموه من عمروبن العاص من
نهيهم عن إيقاد النار ،ونهيهم عن اتباع العدو ،وصلته جنبًا ،فسأله عليه الصلة
والسلم عن ذلك ،فقال :منعتهم من إيقاد النار لئل يرى العدو قّلتهم فيطمع
فيهم ،ونهيتهم عن اتباع العدو لئل يكون له كمين ،وصّليت جنبا ً لن الله يقول:
َ
ة{ )البقرة (195 :وإن أنا اغتسلت هلكت، م إ َِلى الت ّهْل ُك َ ِ قوا ْ ب ِأي ْ ِ
ديك ُ ْ }وَل َ ت ُل ْ ُ
فتبسم عليه الصلة والسلم وأثنى على عمرو خيرًا.
سرية
وفي رجب أرسل عليه الصلة والسلم أبا عبيدة عامربن الجراح في ثلثمائة
جَهينة التي تسكن ساحل البحر ،وزّود عليه الصلة والسلم فارس لغزو قبيلة ُ
هذا الجيش جرابا ً من التمر ،فساروا حتى إذا وصلوا الساحل أقاموا فيه نحو
خَبط ،وهو ورق نصف شهر ينتظرون العدو ،وقد فني زادهم حتى أكلوا ال َ
مر ،يبّلونه بالماء ويأكلونه إلى أن تقّرحت أشداقهم ،وكان في القومس ُ
ال ّ
الكريم ابن الكريم قيسبن سعدبن عبادة فنحر لهم ثلث جزر في كل يوم
جزور .وفي اليوم الرابع أراد أن ينحر فنهاه رئيسه أبو عبيدة ،لن قيسا ً كان
أخذ تلك الجزر بدين على أبيه ،فخاف أبو عبيدة أل ّ يفي له أبوه بما استدان،
فقال قيس :أترى سعدا ً يقضي ديون الناس ،ويطعم في المجاعة ،ول يقضي
دينا ً استدنته لقوم مجاهدين في سبيل الله؟ ولما يئسوا من لقاء عدوهم
رجعوا إلى المدينة ،فقال قيسبن سعد لبيه :كنت في الجيش فجاعوا ،فقال:
انحر ،قال :نحرت ،قال :ثم جاعوا قال :انحر ،قال :نحرت ،قال :ثم جاعوا،
قال :انحر ،قال :نحرت ،قال :ثم جاعوا ،قال :انحر ،قالُ :نهيتx.
إذا أراد الله أمرا ً هّيأ أسبابه وأزال موانعه ،فقد كان عليه الصلة والسلم
ل العرب حتى تذل قريش ،ول َتنقاد البلد حتى تنقاد مكة ،فكان يعلم أنه ل تذ ّ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
يتشوف لفتحها ،ولكن كان يمنعه من ذلك العهود التي أعطاها قريشا ً في
تالحديبية وهو سيد من وَّفى .ولكن إذا أراد الله أمرا ً هيأ أسبابه ،فقد علم َ
خزاعة دخلت في عهد رسول الله ،وقبيلة بني بكر دخلت في عهد أن قبيلة ُ
قريش ،وكان بين خزاعة وبني بكر دماء في الجاهلية كمنت نارها بظهور
السلم ،فلما حصلت الهدنة وقف رجل من بني بكر يتغنى بهجاء الرسول
صلى الله عليه وسلم على مسمع من رجل خزاعي ،فقام هذا وضربه،
دوا العزيمة لحرب فحّرك ذلك كامن الحقاد ،وتذكر بنو بكر ثأرهم فش ّ
دة والرجال ،ثم ً
خصومهم ،واستعانوا بأوليائهم من قريش ،فأعانوهم سّرا بالع ّ
توجهوا إلى خزاعة وهم آمنون فقتلوا منهم ما يربو على العشرين ،ولما رأى
ذلك حلفاء السيد المين أرسلوا منهم وفدا ً برياسة عمروبن سالم الخزاعي
حّلوا بين يديه ،وأخبروه، ليخبر رسول الله بما فعل بهم بنو بكر وقريش ،فلما َ
قال» :والله لمنعنكم مما أمنع نفسي منه«.
أما قريش فإنهم لما رأوا أن ما عملوه نقض للعهود التي أخذت عليهم ندموا
على ما فعلوا ،وأرادوا مداواة هذا الجرح ،فأرسلوا قائدهم أبا سفيانبن حرب
إلى المدينة ليشد ّ العقد ،ويزيد في المدة ،فركب راحلته ،وهو يظن أنه لم
يسبقه أحد ،حتى إذا جاء المدينة نزل على أم المؤمنين أم حبيبة بنته وقد
ت بهأراد أن يجلس على فراش رسول الله فطوته عنه فقال :يا بنّية أرغب ِ
عني أم رغبت بي عنه؟ فقالت :ما كان لك أن تجلس على فراش رسول الله
وأنت مشرك نجس ،فقال :لقد أصابك بعدي شر .ثم خرج من عندها ،وأتى
النبي في المسجد ،وعرض عليه ما جاء له ،فقال له عليه الصلة والسلم:
دث؟« قال :ل ،فقال عليه الصلة والسلم» :فنحن على ح َ
»هل كان من َ
مدتنا وصلحنا« .ولم يزد عن ذلك .فقام أبو سفيان ،ومشى إلى أكابر
معيناً،المهاجرين من قريش لعّلهم يساعدونه على مقصده ،فلم يجد منهم ُ
جوار رسول الله ،فرجع إلى قومه ولم يصنع شيئًا، جوارنا في ِ وكلهم قالواِ :
سك عند الوثان لينفي عن نفسه هذه فاتهموه بأنه خانهم واّتبع السلم ،فتن ّ
التهمة.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتجهز للسفر ،وأمر أصحابه بذلك،
ديق بالوجهة ،فقال له :يا رسول الله أوَ ليس بينك وبين قريش وأخبر الص ّ
عهد؟ قال» :نعم ،ولكن غدروا ونقضوا« .ثم استنفر عليه الصلة والسلم
العراب الذين حول المدينة ،وقال» :من كان يؤمن بالله واليوم الخر
مَزينة وأشجع فليحضر رمضان بالمدينة« .فقدم جمع من قبائل أسلم وِغفار و ُ
جهينة ،وطوى عليه الصلة والسلم الخبار عن الجيش كيل يشيع المر، و ُ
فتعلم قريش فتستعد للحرب ،والرسول عليه الصلة والسلم ل يريد أن ُيقيم
لحرمتها ،فدعا موله ج ّ حربا ً بمكة بل يريد انقياد أهلها مع عدم المساس ب ُ
خذ ِ العيون والخبار عن قريش حتى نبغتها في بلدها« م ُ
ذكره وقال» :الله ّ
فقام حاطببن أبي بلتعة أحد الذين شهدوا بدرًا ،وكتب كتابا ً لقريش يخبرهم
ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأرسله مع جارية لتوصله إلى
ل ،فأعلم الله رسوله ذلك ،فأرسل في أثرها علي ّا ً والزبير جعْ ٍ
قريش على ُ
َ
ة خاخ ،فإن بها ظِعينة معها كتاب ض َ
والمقداد وقال» :انطلقوا حتى تأتوا َروْ َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
فخذوه منها« .فانطَلقوا حتى أتوا الروضة ،فوجدوا بها المرأة ،فقالوا لها:
نن الكتاب أو لُنلقي ّ
رج ّ
أخرجي الكتاب ،قالت :ما معي كتاب فقالوا :لتخ ِ
صها ،فأتوا به رسول الله ،فقال عليه الصلة قا ِ
ع َ
الثياب ،فأخرجته من ِ
ي ،إني كنت والسلم» :يا حاطب ما هذا؟« قال :يا رسول الله ل تعجل عل ّ
سها ،وكان من معك من المهاجرين لهم حليفا ً لقريش ولم أكن من أ َن ْ ُ
ف ِ
قرابات يحمون أهليهم وأموالهم ،فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتخذ
عندهم يدا ً يحمون بها قرابتي ،ولم أفعله ارتدادا ً عن ديني ،ول رضا ً بالكفر
بعد السلم ،فقال عليه الصلة والسلم» :أما إنه قد صدقكم« .فقال عمر:
دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ،فقال» :إنه قد شهد بدرًا ،وما
طلع على من شهد بدرًا ،فقال :اعملوا ما شئتم فقد غفرت ل الله ا ّ
يدريك لع ّ
لكم« ،وفي ذلك أنزل
ثم سار عليه الصلة والسلم بهذا الجيش العظيم في منتصف رمضان بعد أن
دة الجيش عشرة آلف مجاهد، وّلى على المدينة اب ُ
ن أم مكتوم ،وكانت ع ّ َ
ولما وصل البواء لقيه اثنان كانا من أشد ّ أعدائه وهما :ابن عمه أبو سفيانبن
الحارثبن عبد المطلب شقيق عبيدةبن الحارث شهيد بدر ،وصهره عبد اللهبن
أبي أميةبن المغيرة شقيق زوجه ُأم سلمة ،وكانا يريدان السلم ،فقبلهما
م ال ْي َوْ َ
م ب عَل َي ْك ُ ُ
عليه الصلة والسلم ،وفرح بهما شديد الفرح ،وقال :ل َ ت َث َْري َ
َ
ن{ )يوسف .(92 :ولما وصل عليه الصلة مي َ
ح ِ
م الر ِ
ح ُ ه ل َك ُ ْ
م وَهُوَ أْر َ فُر الل ّ ُ
ي َغْ ِ
ديد رأى أن الصوم شق على المسلمين ،فأمرهم بالفطر ،وأفطر َ
والسلم الك ِ
هو أيضًا ،وقد قابل عليه الصلة والسلم في الطريق عمه العباسبن عبد
المطلب مهاجرا ً بأهله وعياله ،فأمره أن يعود معه إلى مكة ويرسل عياله
إلى المدينة.
ولما وصل عليه الصلة والسلم مّر الظهران أمر بإيقاد عشرة آلف نار،
وكانت قريش قد بلغهم أن محمدا ً زاحف بجيش عظيم ل تدرى وجهته،
ديلبن ورقاء يلتمسون الخبر عن فأرسلوا أبا سفيانبن حرب وحكيمبن حزام وب ُ َ
مّر الظهران فإذا هم بنيران كأنها رسول الله ،فأقبلوا يسيرون حتى أتوا َ
نيران عََرفة ،فقال أبو سفيان :ما هذه؟ لكأنها نيران عََرفة فقال بديلبن
ورقاء :نيران بني عمرو ،فقال أبو سفيان :عمرو أقل من ذلك ،فرآهم ناس
من حرس رسول الله فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله ،فأسلم أبو
طم الجبل حتى خ ْسفيان ،فلما سار قال للعباس» :احبس أبا سفيان عند َ
ة كتيبة على ينظر إلى المسلمين« ،فحبسه العباس فجعلت القبائل تمّر كتيب ً
أبي سفيان وهو يسأل عنها ويقول :ما لي ولها ،حتى إذا مّرت به قبيلة
مل رايتها سعدبن عبادة فقال سعد :يا أبا سفيان اليوم يوم النصار وحا ِ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ذمار.م ال ّل الكعبة .فقال أبو سفيان :يا عباس حبذا يو ُ م ُتسَتح ّالملحمة ،اليو َ
ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيها رسول الله وأصحابه ،وحامل الراية
الزبيربن العوام ،فأخبر أبو سفيان رسول الله بمقالة سعد .فقال عليه الصلة
ظم الله فيه الكعبة ويوم ُتكسى فيه ب سعد ،ولكن هذا يوم ُيع ّ والسلم» :كذ َ
جون ،وأمر خالدبن ح ُ
الكعبة« .ثم أمر عليه الصلة والسلم أن تركز رايته بال َ
داء َ
دى ،ودخل هو من أعلها من ك َ الوليد أن يدخل من أسفل مكة من ك ُ ً
من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن ،ومن دخل المسجد فهو ونادى مناديهَ » :
آمن ،ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن« .وهذه أعظم مّنة له ،واستثنى من
ذلك جماعة عظمت ذنوبهم ،وآذوا السلم وأهله عظيم الذى ،فأهدر دمهم
سْرح الذي ــــ وإن تعلقوا بأستار الكعبة ــــ منهم :عبد اللهبن سعدبن أبي َ
د ،وافترى الكذب على المين أسلم ،وكتب لرسول الله الوحي ،ثم ارت ّ
المأمون ،فكان يقول :إن محمدا ً كان يأمرني أن أكتب عليم حكيم فأكتب
عكرمةبن غفور رحيم ،فيقول كل جيد ومنهم ِ
أبي جهل وصفوانبن أمية ،وهّباربن السود ،والحارثبن هشام ،وزهيربن أبي
أمية ،وكعببن زهير ،ووحشي قاتل حمزة ،وهند بنت عتبة زوج أبي سفيان،
وقليل غيرهم ،ونهى عن قتل أحد سوى هؤلء إل من قاتل ،فأما جيش
ده ،فقاتلهم وقتل منهم ذعُر من قريش يريدون ص ّ خالدبن الوليد فقابله ال ّ
أربعة وعشرين ،وُقتل من جيشه اثنان ،ودخلها عَْنوة من هذه الجهة ،وأما
جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصادف مانعا ً وهو عليه الصلة
ن على الرحل تواضعا ً لله وشكرا ً له على هذه والسلم راكب راحلته منح ٍ
حل ،وأسامةبن زيد رديفه ،وكان ذلك صبح س الّر ْ
م ّ النعمة حتى تكاد جبهته ت َ َ
جون موضع رايته ،وقد ح ُ
يوم الجمعة لعشرين خلت من رمضان حتى وصل ال َ
ً
م سلمة وميمونة ،فاستراح قليل ثم سار وبجانبه أبو ُ
ت له هناك قبة فيها أ ّ نصب ْ
ً
بكر يحادثه ،وهو يقرأ سورة الفتح ،حتى بلغ البيت ،وطاف سبعا على راحلته،
واستلم الحجر بمحجنه ،وكان حول الكعبة إذا ذاك ثلثمائة وستون صنمًا،
ق
فجعل عليه الصلة والسلم يطعنها بعود في يده ،ويقول» :جاء الحقّ وَزهَ َ
د« ثم أمر باللهة فأخرجت من البيت وفيها ل وما ُيعي ُ دىُء الباط ِ ُ الباط ِ ُ
ل وما ي ُب ْ ِ
صورة إسماعيل وإبراهيم في أيديهما الزلم ،فقال عليه الصلة والسلم:
ط« .وهذا أول يوم طّهرت فيه »قاتلهم الله ،لقد علموا ما استقسما بها ق ّ
الكعبة من هذه المعبودات الباطلة .وبطهارة الكعبة المقدسة عند جميع
العرب باديها وحاضرها من هذه الدناس سقطت عبادة الوثان من جميع بلد
ل .ويوشك أن نذكر للقارىء اختفاء آثارها ومحو عبادتها بالكلية. العرب إل قلي ً
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وكّبر في نواحيها ،ثم خرج إلى
مقام إبراهيم ،وصّلى فيه ركعتين ،ثم شرب من زمزم ،وجلس في المسجد،
والناس حوله ،والعيون شاخصة إليه ،ينتظرون ما هو فاعل بمشركي قريش
الذين آذوه ،وأخرجوه من بلده وقاتلوه ،ولكن هنا تظهر مكارم الخلق التي
يلزم أن يتعلم منها المسلم ،أن يكون رضاه وغضبه لله ل لهوى النفس ،فقال
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
عليه الصلة والسلم» :يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟« قالوا:
خيرًا ،أخ كريم وابن أخ كريم ،فقال عليه الصلة والسلم» :اذهبوا فأنتم
طلقاء« .ويرحم الله المام البوصيري حيث قال: ال ّ
ن انتقامه لهوى ب والقصاءولو أ ّ ل للهتساوى الّتقري ُ قط ْعُ والوص ُ وإذا كان ال َ
ن
ة وجفاُءقام لله في المور فأرضى اللهمنه تباي ٌ ت قطيع ٌ س لدام ْ النف ِ
ح إل بما حواه ُ الناُء؟ ثم خطب عليه الصلة ووفاُءفُعله كله جميل وهل ينض ُ
ة أبان فيها كثيرا ً من الحكام السلمية ،منها :أل ُيقَتل مسلم
ّ والسلم خطب ً
بكافر ،ول يتوارث أهل ملتين مختلفتين ،ول تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، ّ
والبينة على من اّدعى ،واليمين على من أنكر ،ول تسافر المرأة مسيرة ثلثة
أيام إل مع ذي محرم ،ول صلة بعد الصبح والعصر ،ول يصام يوم الضحى
خوة ويوم الفطر ،ثم قال» :يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم ن َ ْ
مَها بالباء ،والناس من آدم ،وآدم من تراب ،ثم تل هذه الية: الجاهلية وت َعَظ ّ َ
ُ َ
ل ل ِت ََعاَرُفوا ْ إ ِ ّ
ن شُعوبا ً وَقََبآئ ِ َ
م ُجعَل َْناك ُ ْمن ذ َك َرٍ وَأن َْثى وَ َ كم ّ قَنا ُخل َ ْس إ ِّنا َ }يأي َّها الّنا ُ
خِبيٌر)(13 م َه عَِلي ٌ ن الل ّ َ
م إِ ّ عند َ الل ّهِ أ َت ْ َ
قاك ُ ْ مك ُ ْ
م َ َ
أك َْر َ
أما الذين أهدر رسول الله دمهم فقد ضاقت عليهم الرض بما رحبت ،فمنهم
قت عليه كلمة العذاب فقتل ،ومنهم من أدركته عناية الله فأسلم ،فعبد من ح ّ
اللهبن سعدبن أبي سرح لجأ إلى أخيه من الرضاع عثمانبن عفان ،وطلب منه
أن يستأمن له رسول الله ،فغيبه عثمان حتى هدأ الناس ،ثم أتى به وقال :يا
رسول الله قد أمنته فبايعه ،فأعرض عنه عليه الصلة والسلم مرارا ً ثم
ت عنه بايعه ،فلما خرج عثمان وعبد الله قال عليه الصلة والسلم» :أعرض ُ
ت إلينا؟ فقال» :ل ينبغي م إليه أحدكم فيضرب عنقه« ،فقالوا :هل ّ أشر َ ليقو َ
لنبي أن تكون له خائنة العين«.
م حكيم ُ
ت عمه أ ّ
ت وراءه زوجته وبن ُ ب ،فخرج ْوأما عكرمةبن أبي جهل فهر َ
ً
بنت الحارثبن هشام ،وكانت قد أسلمت يوم الفتح ،وقد أخذت له أمانا من
رسول الله فلحقته ،وقد أراد أن يركب البحر ،فقالت :جئتك من عند أبّر
الناس ،وخيرهم ،ل تهلك نفسك ،وإني قد استأمنته لك فرجع ،ولما رآه عليه
الصلة والسلم وثب قائما ً فرحا ً به ،وقال» :مرحبا ً بمن جاءنا مهاجرا ً
مسلمًا« ثم أسلم رضي الله عنه ،وطلب من رسول الله أن يستغفر له كل
عداوة عاداه إّياها فاستغفر له ،وكان رضي الله عنه بعد ذلك من خيرة
المسلمين وأغيرهم على السلم.
جعِّرانة جاءه
وأما هّباربن السود فهرب ،واختفى ،حتى إذا كان رسول الله بال ِ
ت اللحاق بالعاجم ثم ذكرت ت منك وأرد ُمسلمًا ،وقال :يا رسول الله هرب ُ
من جهل عليك ،وكنا يا رسول الله أهل شرك عائدتك وصلتك وصفحك ع ّ
فهدانا الله بك ،وأنقذنا من الهلكة فاصفح الصفح الجميل ،فقال عليه الصلة
ت عنك«.والسلم» :قد عفو ُ
وأما الحارثبن هشام ،وزهيربن أبي أمية المخزومي ،فأجارتهما أم هانىء بنت
ل الله جوارها ،ولما قابل رسو ُأبي طالب ،فأجاز عليه الصلة والسلم ِ
الحارَثبن هشام مسلما ً قال له» :الحمد لله الذي هداك ما كان مثلك يجهل
ضلء الصحابة.السلم« وقد كان بعد ذلك من فُ َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وأما صفوانبن أمية فاختفى وأراد أن يذهب ويلقي نفسه في البحر ،فجاء ابن
ن سيد قومه ،هرب جمحي وقال :با نبي الله إن صفوا َ عميربن وهب ال ُ
عمه ُ
َ
منت الحمر والسود ،فقال عليه ه فإنك قد أ ّ ليقذف نفسه في البحر فَأ ّ
من ْ ُ
الصلة والسلم» :أدرك ابن عمك فهو آمن« فقال :أعطني علمة ،فأعطاه
عمامته ،فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان ،قال له :فداك أبي وأمي ،جئتك ِ
َ
من عند أفضل الناس ،وأبّر الناس ،وأحلم الناس ،وخير الناس ،وهو ابن
عمك ،وعّزه عّزك ،وشرفه شرفك ،وملكه ملكك ،قال صفوان :إني أخاف
على نفسي ،قال :هو أحلم من ذلك وأكرم ،وأراه العمامة علمة المان،
منتني؟ قال» :صدق« فرجع إلى رسول الله ،وقال له :إن هذا يزعم أنك أ ّ
قال :أمهلني بالخيار فيه شهرين ،قال» :أنت بالخيار فيه أربعة أشهر« ثم
أسلم رضي الله عنه وحسن إسلمه.
ب بها َ
وأما هند بنت عتبة فاختفت ثم أسلمت ،وجاءت إلى رسول الله فرح َ
ي
ب إل ّ وقالت له :والله يا رسول الله ما كان على ظهر الرض أهل خباء أح ّ
ي أن يعزوا من َ
ب إل ّ
أن يذلوا من أهل خبائك ،ثم ما أصبح اليوم أهل خباء أح ّ
أهل خبائك.
وأما وحشي قاتل حمزة فكذلك أسلم ،وحسن إسلمه ،وقبله عليه الصلة
والسلم ،وقد جاءه ابنا أبي لهب عتبة ومعتب فأسلما وفرح بهما عليه الصلة
والسلم.
وكان من الذين اختفوا سهيلبن عمرو ،فاستأمن له ابنه عبد الله فأمنه عليه
الصلة والسلم ،وقال» :إن سهيل ً له عقل وشرف ،وما مثل سهيل يجه ُ
ل
سهيل ً قال :كان والله ب َّرا ً صغيرًا ،بّرا ً كبيرًا،
السلم« .فلما بلغت هذه المقالة ُ
ثم أسلم بعد ذلك.
بيعة النساء
ن يبايعن على أل ّ يشركن بالله
هذا ،ولما تمت بيعة الرجال بايعه النساء ،وك ّ
شيئًا ،ول يسرقن ،ول يزنين ،ول يقتلن أولدهن ،ول يأتين بيهتان يفترينه بين
ن ،ول يعصين الرسول في معروف. ن وأرجهل ّ
أيديه ّ
ن على ظهر الكعبة ،وهذا بدء ظهور ً
ثم أمر عليه الصلة والسلم بلل أن يؤَذ ّ َ
السلم على ظهر البيت الكريم ،فل عجب أن اتخذ المسلمون هذا اليوم عيدا ً
حقّ حمده على هذه النعمة الكبرى والنصر العظيم. يحمدون فيه الله َ
ً
وأقام عليه الصلة والسلم بمكة بعد فتحها تسعة عشر يوما يقصر فيها
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
الصلة ،وولى عليها عَتاب ب َ
ن أسيد ،وجعل رزقه كل يوم درهمًا ،فكان عَّتا ٌ
ب َ ّ
ل يوم. ً
رضي الله عنه يقول :ل أشبعَ الله بطنا جاع على درهم ك ُ ّ
هدم العُّزى
مقامه عليه الصلة والسلم بمكة أرسل خالدبن الوليد في وفي الخامس من ُ
ثلثين فارسا ً لهدم هيكل العُّزى ــــ وهي أكبر صنم لقريش ،وكان هيكلها
خلة ــــ فتوجه إليها خالد وهدمها.
ببطن ن َ ْ
واعس َ
هدم ُ
وأرسل عليه الصلة والسلم عمروبن العاص لهدم سواع ــــ وهو أعظم صنم
لهذيل ــــ وهيكله على ثلثة أميال من مكة ،فذهب إليه وهدمه.
هدم مناة
ً
دبن زيد الشهلي في عشرين فارسا لهدم مناة ،وهي صنم لكلب وبعث سع َ
ل ،وهو جبل على ساحل البحر يهبط منه إلى قُد َْيد. ّ
شل ِم َ
وخزاعة .وهيكلها بال ُ
فتوجهوا إليها وهدموها.
حنين غزوة ُ
بهذا الفتح العظيم وسقوط دولة الوثان ،دانت للسلم جموعُ العرب ودخلوا
ة الجاهلية ،واجتمع مي ّ ُ فيه أفواجًا .أما قبيلتا هوازن وثقيف فأدركتهما َ
ح ِ
ف منهم للشورى ،وقالوا :قد فرغ َ محمد من قتال قومه ول ناهية له الشرا ُ
عّنا ،فَل ْن َغُْزه قبل أن يغزونا .فأجمعوا أمرهم على ذلك ،وولوا رياستهم مالكبن
َ ّ
دبن بكر، صري ،فاجتمع له من القبائل جموع ٌ كثيرة ،فيهم بنو سع ِ عوف الن ّ ْ
مة
ص ّ ً
الذي كان رسول الله مسترضعا فيهم ،وكان في القوم د َُرْيدبن ال ّ
المشهور بأصالة الرأي ،وشدة البأس في الحرب ،ولتقدم سّنه لم يكن له في
هذه الحرب إل الرأي ،ثم إن مالكبن عوف أمر الناس أن يأخذوا معهم
نساَءهم وذراريهم وأموالهم ،فلما علم ذلك ُدريد سأل مالكا ً عن السبب،
ت مع الناس أموالهم وذراريهم ونساءهم لجعل خلف كل رجل فقال :سق ُ
أهله وماله يقاتل عنهم ،فقال دريد :وهل يرد ّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم
ضحت في أهلك ومالك ،فلم ينفعك إل رجل بسيفه وُرمحه ،وإن كانت عليك فُ ِ
ل مالك مشورته ،وجعل النساَء صفوفا ً وراء المقاتلة ،ووراءهم البل ،ثم يقب ْ
البقر ،ثم الغنم ،كيل يفر أحد من المقاتلين.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما بلغه أن هوازن وثقيف
يستعدون لحربه أجمع رأيه على المسير إليهم ،وخرج معه اثنا عشر ألف غاٍز،
منهم ألفان من أهل مكة ،والباقون هم الذين أتوا معه من المدينة ،وخرج
ف يرجون الغنائم، ل مكة ركبانا ً ومشاة حتى النساء يمشين من غير ضع ٍ أه ُ
سهيلبن وخرج في الجيش ثمانون من المشركين ،منهم صفواُنبن أمية ،و ُ
ف عليه الصلة والسلم ص ّعمرو ،ولما قرب الجيش من معسكر العدو َ
ة ،وعقد اللوية ،فأعطى لواء المهاجرين لعلّيبن أبي طالب ،ولواء الغزا َ
حَباببن المنذر ،ولواء الوس لسيدبن حضير ،وكذلك أعطى ألوية الخزرج لل ُ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
لقبائل العرب الخرى .ثم ركب عليه الصلة والسلم بغلته ولبس درعين
مغفر.
والبيضة وال ِ
ن عنهم شيئًا ،فإن مقدمة عجب المسلمون بكثرتهم فلم ت ُغْ ِ هذا ،وقد أ ُ ْ
شعاب المسلمين توجهت جهة العدو ،فخرج لهم كمين كان مستترا ً في ِ
الوادي ومضايقه ،وقابلهم بنبل كأنه الجراد المنتشر ،فلووا أعّنة خيلهم
متقهقرين ،ولما وصلوا إلى من قبلهم تبعوهم في الهزيمة لما لحقهم من
ت على بغلته في ميدان الدهشة ،أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فثب َ
القتال ،وثبت معه قليل من المهاجرين والنصار ،منهم :أبو بكر وعمر وعلي
والعباس وابنه الفضل وأبو سفيانبن الحارث وأخوه ربيعةبن الحارث ومعتُببن
أبي لهب ،وكان العباس آخذا ً بلجام البغلة ،وأبو سفيان آخذا ً بالركاب ،وكان
ي أّيها الناس« ول يلوي عليه أحد ،وضاقت عليه الصلة والسلم ينادي» :إل ّ
بالمنهزمين الرض بما رحبت .أما رجال مكة الذين هم حديثو عهد بالسلم
ة الشرك فمنهم من فرح ،ومنهم من ساءه هذا ق َ
والذين لم ينزعوا عنهم رِب ْ َ
الدبار ،فقال أبو سفيانبن حرب :ل تنتهي هزيمتهم دون البحر .وقال أخ
لصفوانبن أمية :الن بطل السحر .فقال له صفوان ــــ وهو على شركه ــــ:
ن ي َُرّبني رجل من قريش خير من أن ي َُرّبني ض الله فاك ،والله ل َ ْ اسكت فَ ّ
رجل من هوازن .ومّر عليه رجل من قريش وهو يقول :أبشر بهزيمة محمدٍ
ن وقال :ويلك أتبشرني بظهور وأصحابه فوالله ل يجبرونها أبدًا ،فغضب صفوا ُ
العراب؟ وقال عكرمةبن أبي جهل لذاك الرجل :كونهم ل يجبرونها أبدا ً ليس
بيدك ،المر بيد الله ليس إلى محمد منه شيء ،إن ُأديل عليه اليوم فإن
العاقبة له غدًا ،فقال سهيلبن عمرو :والله إن عهدك بخلفه لحديث ،فقال له:
يا أبا يزيد إّنا كنا على غير شيء ،وعقولنا ذاهبة ،نعبد حجرا ً ل يضّر ول ينفعH.
وبلغت هزيمة بعض الفاّرين مكة ،كل هذا ورسول واقف مكانه يقول:
َ
جهْوَرِيّ الصوتب ثم قال للعباس :ــــ وكان َ مط ّل ِ ْ ي ل ك َذِب ْأَنا اب ُ
ن عَب ْدِ ال ُ أنا الن ّب ِ ّ
ــــ »نادِ بالنصار يا عباس« فنادى :يا معشر النصار يا أصحاب بيعة الرضوان
ن في الوادي ،وصار النصار يقولون :لّبيك لّبيك ،ويريد كل واحد م ْفأسمعَ َ
عنان بعيره فيمنعه من ذلك كثرة العراب المنهزمين .فيأخذ منهم أن يلوي ِ
درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه ،وينزل عن بعيره ،ويخلي سبيله،
ل رسول الله جمع عظيم منهم .وأنزل الله ت حتى اجتمع حو َ م الصو َ ويؤ ّ
ً
سكينته على رسوله ،وعلى المؤمنين ،وأنزل جنودا لم يروها ،فكّر المسلمون
على عدوهم يدا ً واحدة فانتكث فتل المشركين .وتفرقوا في كل وجه ل
يلوون على شيء من الموال والنساء والذراري ،وتبعهم المسلمون يقتلون
ويأسرون ،فأخذوا النساء والذراري وأسروا كثيرا ً من المحاربين ،وهرب من
م ناس كثيرون ت بالغة ،وأسل َ جرح في هذا اليوم خالدبن الوليد جراحا ٍ هرب ،و ُ
من مشركي مكة لما رأوه ُ من عناية الله بالمسلمين.
هذا ،والذي حصل في هذه الغزوة درس مهم من دروس الحرب ،فإن هذا
الجيش دخله أخلط كثيرون من مشركين وأعراب وحديثي عهد بالسلم،
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
سّيان عندهم نصُر السلم وخذلنه ،ولذلك بادروا لول صدمة إلى هؤلء ِ
الهزيمة ،وكادت تتم الكلمة على المسلمين لول فضل الله ،فل ينبغي أن
يكون في الجيش إل من يقاتل خالصا ً مخلصا ً من قلبه ليكون مدافعا ً حقا عن
ً
ده الله للفاّرين من أليم
دينه ،فل تميل نفسه إلى الفرار خشية مما أع ّ
العقاب.
ثم أمر عليه الصلة والسلم بجمع السبي والغنائم ،وكانت نحو أربعة
وعشرين ألف بعير ،وأكثر من أربعين ألف شاة ،وأربعة آلف أوقية من
جعّرانة .أما المشركون فتفرقوا ثلث فرق :فرقة الفضة ،فجمع ذلك كله بال ِ
لحقت بالطائف ،وفرقة لحقت بنخلة ،وفرقة عسكرت بأوطاس.
سرية
فأرسل عليه الصلة والسلم لهذه الفرقة أبا عامر الشعري في جماعة منهم
ددهم وظفر بما بقي معهم من الغنائم. أبو موسى الشعري ،فسار إليهم وب ّ
ّ
وقد استشهد أبو عامر في هذه الغزوة وخلف على الغزاة ابن أخيه أبا
موسى ،فرجع ظافرا ً منصورًا.
غزوة الطائف
وسار عليه الصلة والسلم بمن معه إلى الطائف ليجهز على بقية حياة ثقيف
ومن تجمع معهم من هوازن ،وجعل على مقدمته خالدبن الوليد ،ومّر عليه
الصلة والسلم بحصن لمالكبن عوف الّنصري فأمر بهدمه .ومّر ببستان
حّرقنا عليك بستانك، لرجل من ثقيف قد تمنع فيه ،فأرسل إليه أن اخرج وإل َ
فامتنع الرجل فأمر عليه الصلة والسلم بحرقه .ولما وصل المسلمون إلى
ت سنتهم ،فعسكر صنوا به وأدخلوا معهم قو َ الطائف وجدوا العداء قد تح ّ
ُ ً ً
المسلمون قريب الحصن .فرماهم المشركون بالّنبل رميا شديدا حتى أصيب
منهم كثيرون بجراحات منهم عبد اللهبن أبي بكر ،وقد طاوله جرحه حتى
أماته في خلفة أبيه ،ومنهم أبو سفيانبن حرب ُفقئت عينه .وقد مات
بالجراحات اثنا عشر رجل ً من المسلمين .ولما رأى رسول الله أن العدو
م سلمة كن من رميهم ارتفع إلى محل مسجد الطائف الن ،وضر َ ُ متم ّ
بل ّ
وزينب قبتين هناك ،واستمر الحصاُر ثمانية عشر يومًا ،كان فيها ُينادي خالدبن
الوليد بالِبراز فلم يجبه أحد ،وناداه عبد ياليل ــــ عظيم ثقيف ــــ ل ينزل
إليك مّنا أحد ،ولكن نقيم في حصننا ،فإن فيه من الطعام ما يكفينا سنين،
فإن أقمت حتى يفنى هذا الطعام خرجنا إليك بأسيافنا جميعا ً حتى نموت عن
ب .ودخل ص َ صب عليهم المنجنيق فَن ُ ِ آخرنا ،فأمر عليه الصلة والسلم بأن ي ُن ْ َ
سك َ َ
ك جمع من الصحاب تحت دبابتين لينقبوا الحصن ،فأرسلت عليهم ثقيف ِ
محماة بالنار حتى أرجعوهم .فأمر عليه الصلة والسلم أن تقطع الحديد ُ
ً ً
أعنابهم ونخيلهم ،فقطع المسلمون فيها قطعا ذريعا ،فناداه أهل الحصن ،أن
دعها لله وللرحم ،فقال» :أدعها لله
وأن الفتح لم يؤذن فيه استشار نوفلبن معاوية الديلي في الذهاب أو المقام،
فقال :يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت أخذته ،وإن تركته لم يضّرك.
فأمر عليه الصلة والسلم بالرحيل ،وطلب منه بعض الصحابة أن يدعو على
م اهد ِ ثقيفا ً وائت بهم مسلمين«.
ثقيف ،فقال» :الله ّ
تقسيم السبي
جعِّرانة حيث ترك السبي فأحصاه، ثم رجع عليه الصلة والسلم إلى ال ِ
فهم بذلك. ّ
لناس ضعف إسلمهم يتأل ُ وخمسه ،وأعطى منه شيئا ً كثيرا ً ُ
ّ
ُ
ب إليهم السلم ،ومن الولين :أبو سفيان وأعطى أناسا ً لم يسلموا لي ُ َ
حب ّ َ
أعطاه أربعين ُأوقية من الذهب ومائة من البل ،وكذلك ابناه معاوية ويزيد،
فقال له :بأبي أنت وأمي لنت كريم في السلم والحرب .ومنهم حكيمبن
حزام أعطاه كأبي سفيان فاستزاده فأعطاه ،ثم استزاده فأعطاه مثلها،
ضرة حلوة ،فمن أخذه بسخاوة نفس ُبورك خ ِ
ن هذا المال َ وقال» :يا حكيم إ ّ
ُ ُ
له فيه ،ومن أخذه بإشراف نفس لم ُيبارك له فيه ،وكان كالذي يأكل ول
ك ما سفلى« فأخذ َ حكيم المائة الولى وتر َ يشَبع ،واليد ُ الُعليا خير من اليدِ ال ّ
عداها ،ثم قال :والذي بعثك بالحق ل أ َْرَزأ ُ أحدا ً بعدك شيئا ً حتى ُأفارق الدنيا،
فكان الخلفاء بعد رسول الله يعرضون عليه العطاء الذي يستحقه من بيت
ةبن حصن مائة من البل، المال فل يأخذه .وأعطى عليه الصلة والسلم عُي َي ْن َ َ
شْعبا ً
مرداس ،وأعطى صفواَنبن أمية ِ عبن حابس ،والعباسبن ِ وكذلك القر َ
مملوءا ً ن ََعما ً وشاًء كان رآه يرمقه ،فقال له» :هل يعجبك هذا؟« قال :نعم،
س أحد ،وكان سبب قال» :هُوَ لك« فقال صفوان :ما طابت بمثل هذا نف ُ
إسلمه .وكان عليه الصلة والسلم يقصد من هذه العطايا تأليف القلوب
وجمعها على الدين القويم ،وهذا ضرب من ضروب السياسة الدينية حتى
جعل من الصدقات قسما ً للمؤلفة قلوبهم ،وقد عاد ذلك بفائدة عظمى ،فإن َ
ب السلم ُ
ح ّ من أعطوا في هذا اليوم ولم يكونوا أشربوا في قلوبهم ُ كثيرين م ّ
ً
صاروا بعد ُ من أجلء المسلمين ،وأعظمهم نفعا ،كصفوانبن أمية ،ومعاويةبن ّ
أبي سفيان ،والحارثبن هشام وغيرهم.
سمه ثم أمر عليه الصلة والسلم زيدبن ثابت فأحصى ما بقي من الغنائم وق ّ
على الغزاة بعد أن اجتمع إليه العراب ،وصاروا يقولون له :اقسم علينا ،حتى
ألجؤوه إلى شجرة ،فتعلق رداؤه ،فقال» :رّدوا ردائي أيها الناس ،فوالله إن
كان لي شجر تهامة ن ََعما ً لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيل ً ول جبانا ً ول
مه ،وقال» :أّيها الناس والله ما كذوبًا« ثم قام إلى بعيره ،وأخذ َوبرة ً من َ
سَنا ِ
س مردود عليكم ،فأّدوا م ُ خ ُ
مس ،وال ُ خ ُلي من غنيمتكم ول هذه الوبرة إل ال ُ
ً ً ً
ط ،فإن الُغلول يكون على أهله عارا وشنارا ونارا يوم خي َ َ
م ْ خيا َ
ط وال ِ ال ِ
خلسة يرّده ولو كان زهيدًا ،ثم ِ الغنائم من ً اشيئ أخذ من كل فصار القيامة«
ةُ ثلث والفارس شاة، وأربعون ل أربعة من البل ب الرج َ شَرع يقسم فأصا َ
ه الله، ُ
أمثال ذلك ،فقال رجل من المنافقين :هذه قسمة ما أريد بها وج ُ
ل إذا ن يعد ُ م ْ فغضب عليه الصلة والسلم حتى احمّر وجهه ،وقال» :ويحك َ
ده غضبه أن ينتقم لنفسه ،حاشاه عليه الصلة والسلم لم أعدل؟« فلم يؤ ّ
ذر ،وقال له عمر وخالدبن الوليد :دعنا ح وح ّ من ذلك ،بل لم يزد ْ على أن نص َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ولما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا لقريش وقبائل العرب،
ب ُيعطي قريشًا، ضهم حتى قالوا :إن هذا لهو العج ُ ك النصار غضب بع ُ وتر َ
ويتركنا وسيوفنا تقطُر من دمائهم فبلغه ذلك ،فأمر بجمعهم وليس معهم
هم .فلما اجتمعوا قال» :يا معشر النصار ما مقالة بلغتني عنكم؟ ألم غير ُ
ف الله بين ّ
ة فأغناكم الله بي؟ وأعداًء فأل َ ضل ّل ً فهداكم الله بي؟ وعال ًأجدكم ُ
خُبرهم
ت أن أ ْ ً
قلوبكم بي؟ إن قريشا حديثو عهد بكفر ومصيبة ،وإني أرد ُ
تف ُ ّ
فهم ،أغضبتم يا معشر النصار في أنفسكم لشيء قليل من الدنيا أل ْ وأتأ َل ّ َ
به قوما ً ليسلموا ،ووكلتكم إلى إسلمكم الثابت الذي ل ي َُزل َْزل؟ أل ترضون يا
ب الناس بالشاة والبعير ،وترجعوا برسول الله إلى معشر النصار أن يذه َ
رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لول الهجرة لكنت امرأ من النصار ،ولو
م ارحم شعبا ً لسلكت شعب النصار ،الله ّ شْعبا ً وسلك النصار ِ
س ِ سلك النا ُ
ت لحاهم ،وقالوا :رضينا ّ ل
ْ َ ْ ضخا حتى القوم فبكى النصار«. َ ءوأبنا النصاَر،
ف عليه الصلة والسلم وتفرقوا. ل الله قسما ً وحظًا ،ثم انصر َ برسو ِ
وفود هوازن
وبعد بضع عشرة ليلة جاءه صلى الله عليه وسلم وفد هوازن يرأسهم
زهيربن صرد وقالوا :يا رسول الله إن فيمن أصبتم المهات والخوات
مخازي القوام ،ونرغب إلى الله وإليك يا رسول
ن َ
مات والخالت ،وه ّ والع ّ
ن
الله وقال زهير :إن في الحظائر عماتك وخالتك وحواضنك اللتي ك ّ
يكفلنك ،ثم قال أبياتا ً يستعطفه بها:
ة
ن على نسو ٍ ل الله في كرمفإنك المرُء نرجوه وننتظُرامن ْ ن علينا رسو َ امن ْ
ضها الد َّرُرإنا لنشكر للنعماء إن خ ِ م ْ
ضُعهاإذ فوك مملوءة من َ كنت ت َْر َ
مل عفوا منك نلبسههدى البرية أن تعفو ً دخرإّنا نؤ ّ م ّ
كفرتوعندنا بعد هذا اليوم ُ
ضعُُهمن أمهاتك إن العفوَ مشتهر فقال ُ
وتنتصرفألبس العفو من قد كنت ت َْر َ
َ
ه ،فاختاروا إحدى صد َقُ ُ
يأ ْ ب الحديث إل ّ صلى الله عليه وسلم» :إن أح ّ
الطائفتين :إما السبي وإما المال .وقد كنت انتظرتكم حتى ظننت أنكم ل
تقدمون« .فقالوا :ما كّنا نعدل بالحساب شيئًا ،ارد ُد ْ علينا نساءنا وأبناءنا فهو
ب إلينا ول نتكلم في شارة ول بعير ،فقال صلى الله عليه وسلم» :أما ما أح ّ
ّ
لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ،فإذا أنا صليت الظهر فقوموا ،وقولوا :نحن
نستشفع برسول الله إلى المسلمين ،وبالمسلمين إلى رسول الله بعد أن
تظهروا إسلمكم ،وتقولوا :نحن إخوانكم في الدين« ففعلوا .فقال صلى الله
عليه وسلم لصحابه» :أما بعد :فإن إخوانكم هؤلء جاؤوا تائبين ،وإني قد
بب بذلك فليفعل ،ومن أح ّ طي َ ب أن ي ُ ّ ت أن أرد ّ عليهم سبيهم ،فمن أح ّ رأي ُ
فيُء الله عليناظه حتى نعطَيه إياه من أول ما ي ُ ِ ح ّ
منكم أن يكون على َ
فليفعل« ،فقال المهاجرون والنصار :ما كان لنا فهو لرسول الله .وامتنعَ من
ذلك جماعة من العراب ،كالقرعبن حابس ،وعيينةبن حصن ،والعباسبن
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
حَبس ل منهم قرضًا ،وأمر صلى الله عليه وسلم بأن ت ُ ْمرداس ،فأخذه الرسو ُ ِ
م عبد ُ
ة مالكبن عوف النصري رئيس تلك الحرب بمكة عند عمتهم أ ّ عائل ُ
اللهبن أمية .فقال له الوفد :أولئك ساداتنا ،فقال صلى الله عليه وسلم» :إنما
ُأريد بهم الخير« ثم سأل عن مالك فقالوا :هرب مع ثقيف ،فقال» :أخبروه
أنه إن جاءني مسلما ً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من البل« فلما
جعِّرانة ،فأسلم فية حتى أتى رسول الله بال ِ بلغ ذلك مالكا ً نزل من الحصن ُ
خ ْ
ن أسلم من م ْ
وأحرز ماله ،واستعمله عليه الصلة والسلم على َ
هوازن.
عمرة الجعِّرانة
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمر فأحرم من الجعرانة ،ودخل مكة
ث بليل ،فطاف ،واستلم الحجر ،ثم رجع من ليلته ،وكانت إقامته بالجعرانة ثل َ
عشرة ليلة ،ثم أمر عليه الصلة والسلم بالرحيل ،فسار الجيش آمنا ً مطمئنا ً
ث بقين من ذي القعدة. حتى دخل المدينة لثل ٍ
ة
َ َسرا وأفقد دولته، َ
ل وأدا الشرك، َ عجمو بها الله رق
وغزوة حنين هي التي ّ
ف
كنه الحرب إل ساقته ،ولم تترك لها أهله ،فإن هوازن لم تترك وراءها رجل ً تم ّ
بعيرا ً ول شاة إل جاءت به معها ،فأراد الله إعزاز السلم بخذلن أعدائه وأخذ
ن يمانع أو يدافع ،ولذلك م ْ
دة المشركين ،ولم يبق فيهم َ ح ّ
أموالهم ،فانكسرت ِ
يمكننا أن نقول :إن انكسار هوازن كان خاتمة لحروب العرب ،فلم يبقَ فيهم
إل فئات قليلة يسوقهم الطيش إلى شهر السلح ،ثم ل يلبثون أن يغمدوا
السيوف حينما تظهر لهم قوة الحق الساطعة.
سرية
ولما رجع عليه الصلة والسلم إلى المدينة أرسل قيسبن سعد في أربعمائة
صداء ــــ قبيلة تسكن اليمن ــــ إلى السلم ،فجاء إلى رسول الله
ليدعو ُ
ش
من ورائي ،فاردد الجي َ ً
رجل منهم ،فقال :يا رسول الله إني جئتك وافدا ع ّ
وأنا لك بقومي ،فأمر عليه الصلة والسلم برد ّ الجيش.
داء
ص َ
وفود ُ
وخرج الرجل إلى قومه فقدم بخمسة عشر رجل ً منهم ،فنزلوا ضيوفا ً على
سعدبن عبادة ،ثم بايعوا رسول الله على السلم ،وقالوا :نحن لك على من
وراءنا من قومنا ،ولما رجعوا فشا فيهم السلم ،وقدم على رسول الله منهم
مائة في حجة الوداع.
سرية
ثم أرسل عليه الصلة والسلم بشربن سفيان العدوي إلى بني كعب من
خزاعة لخذ صدقات أموالهم ،فمنعهم بنو تميم المجاورون لهم من أداء ما
ض عليهم ،فلما علم بذلك رسول الله أرسل إليهم عيينةبن حصن في فُرِ َ
ً
خمسين فارسا من العراب ،فجاءهم وحاربهم ،وأخذ منهم أحد عشر رج ً
ل،
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وإحدى وعشرين امرأة ،وثلثين صبيًا ،وتوجه بالكل إلى المدينة ،فأمر عليه
مَلة بنت الحارث. الصلة والسلم بجعلهم في دار َر ْ
وفود تميم
عطاردبن حاجب ،والّزبرقانبن بدر ،وعمروبن فجاء في أثرهم وفد تميم ،وفيه ُ
الهتم ،فجلسوا ينتظرون الرسول ،فلما أبطأ عليهم ناَدوا من وراء الحجرات
شْين،منا َ ف :يا محمد اخرج إلينا نفاخرك ،فإن مدحنا َزْين ،وإن ذ ّ جا ٍ
بصوت َ
فخرج إليهم عليه الصلة والسلم ،وقد تأذى من صياحهم ،وفيهم نزل في
َ
م لَت أك ْث َُرهُ ْ
جرا ِ من وََرآء ال ْ ُ
ح ُ ك ِ ن ي َُناُدون َ َ ن ال ّ ِ
ذي َ أوائل سورة الحجرات :إ َ ّ
َ
فوٌره غَ ُم َوالل ّ ُخْيرا ً ل ّهُ ْن َ م لَ َ
كا َ ج إ ِل َي ْهِ ْ
خُر َ
حّتى ت َ ْ صب َُروا ْ َ ن) (4وَل َوْ أن ّهُ ْ
م َ قُلو َ
ي َعْ ِ
م)(5
حي ٌّر ِ
سرية
مَعيط لخذ صدقات بني ثم بعث عليه الصلة والسلم الوليدبن عقبةبن أبي ُ
المصطلق ،فلما علموا بقدومه خرج منهم عشرون رجل ً متقلدين سلحهم
احتفال ً بقدومه ومعهم إبل الصدقة ،فلما نظرهم ظنهم يريدون حربه لما كان
بينه وبينهم من العداوة في الجاهلية ،فرجع مسرعا ً إلى المدينة ،وأخبر
دوا ومنعوا الزكاة ،فأرسل لهم خالدبن الوليد الرسول أن القوم ارت ّ
لستكشاف الخبر ،فسار إليهم في عسكره خفية حتى إذا كان بناديهم سمع
مؤّذنهم يؤّذن بالصبح ،فأتاهم خالد فلم يَر منهم إل طاعة ،فرجع وأخبر
الرسول ،فأرسل عليه الصلة والسلم لهم غير الوليد لخذ الصدقات ،وفي
َ
سقُ ب ِن َب َإ ٍم َفا ِ جآءك ُ ْ مُنوا ْ ِإن َ ن ءا َ الوليد نزل في أوائل الحجرات :ياأي َّها ال ّ ِ
ذي َ
َ
ن)(6 مي َ م َنادِ ِما فَعَل ْت ُ ْحوا ْ عََلى َصب ِ ُجَهال َةٍ فَت ُ ْ صيبُبوا ْ قَوْ َ
ما ب ِ َ فَت َب َي ُّنوا ْ أن ت ُ ِ
سرية
جد ّةَ في مراكبهم يريدون ً
ثم بلغ رسول الله أن جمعا من الحبشة رآهم أهل ُ
جّزز في ثلثمائة ،فذهب حتى وصل م َ
الغارة عليها ،فأرسل لهم علقمةبن ُ
ة ،ونزل في المراكب ليدركهم ،وكان الحباش متحصنين في جزيرة هناك، جد ّ َ
ُ
فلما رأوا المسلمين يريدونهم هربوا ،ولم يلقَ المسلمون كيدًا ،فرجع علقمة
سرعان القوم أن يتعجلوا ،وأمر عليهم عبد بمن معه .ولما كان بالطريق أذن ل ِ َ
سْهمي ،وكان فيه دعابة ،فأوقد لهم في الطريق نارًا ،وقال حذافة ال ّ
اللهبن ُ
لهم :ألستم مأمورين بطاعتي؟ قالوا :نعم ،قال :عزمت عليكم إل ما تواثبتم
م بذلك بعضهم، في هذه النار ،فقال بعضهم :ما أسلمنا إل فرارا ً من النار ،وه ّ
فمنعهم عبد الله ،وقال :كنت مازحًا .فلما ذكروا ذلك لرسول الله ،قال» :ل
طاعة لمخلوق في معصية الخالق«.
سَعة
سَنة الّتا ِ
ال ّ
سرية
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
في ربيع الول أرسل عليه الصلة والسلم عليبن أبي طالب في مائة راكب
فُلس ــــ صنم ٍ لطيىء ــــ فسار إليه وهدمه وأحرقه، وخمسين فارسا ً لهدم ال ُ
ة
فان ُ
س ّ ولما حارب عُّباده هزمهم واستاق ن ََعمهم وشاءهم وسبيهم ،وكان فيه َ
فانة من رسول الله بنت حاتم طّيىء .ولما رجع علي إلى المدينة طلبت س ّ
ن عليها ،فأجابها لنه كان من سنته صلى الله عليه وسلم أن يكرم م ّ
أن ي َ ُ
ك يد افتقرت بعد غنى ،ول ملكتكَ الكرام ،فدعت له ،وكان من دعائها :شكرت ْ َ
يد استغنت بعد فقر ،وأصاب الله بمعروفك مواضعه ،ول جعل لك إلى لئيم
حاجة ،ول سلب نعمة كريم إل وجعلك سببا ً لرّدها عليه .وكانت هذه المعاملة
من رسول الله سببا ً في إسلم أخيها عديبن حاتم الطائي الذي كان فّر إلى
الشام عندما رأى الرايات السلمية قاصدة بلده ،وكان من حديث مجيئه أن
عوملت به من الكرم ،فقال لها :ما أخته توجهت إليه بالشام ،وأخبرته بما ُ
ترين في أمر هذا الرجل؟ فقالت :أرى أن تلحق به سريعًا ،فإن يكن نبيا ً
فللسابق إليه فضل ،وإن يكن ملكا ً فأنت أنت .قال :والله هذا هو الرأي.
فخرج حتى جاء المدينة ،ولقي رسول الله ،فقال عليه الصلة والسلم» :من
الرجل؟« قال :عديبن حاتم ،فأخذه إلى بيته ،وبينما هما يمشيان إذ لقيت
كلمه في حاجتها، رسول الله امرأة عجوز ،فاستوقفته ،فوقف لها طويل ً ت ُ َ
فقال عدي :والله ما هو بملك .ثم مضى رسول الله حتى إذا دخل بيته تناول
س على هذه«. دمها إلى عدي ،وقال» :اجل ْ وة ليفا ً فق ّ ِوسادة من جلد محش ّ
فقال :بل أنت تجلس عليها ،فامتنع عليه الصلة والسلم وأعطاها له ،وجلس
م« قالها ثلثًا ،فقال عدي :إني هو على الرض ،ثم قال» :يا عدي أسلم ،تسل ْ
على دين ،وكان نصرانيًا .فقال له عليه الصلة والسلم» :أنا أعلم بدينك
دد له أشياء كان منك« فقال عدي :أأنت أعلم بديني مّني؟ قال» :نعم« .ثم ع ّ
يفعلها اتباعا ً لقواعد العرب وليست من دين المسيح في شيء ،كأخذه الرباع
وهو ربع الغنائم .ثم قال» :يا عدي إنما يمنعك من الدخول في الدين ما ترى،
ة الناس ومن ل قدرة لهم ،وقد رمتهم العرب مع ضَعف ُ
تقول :إنما اّتبعه َ
ن يأخذه، م ْن المال أن يفيض فيهم حتى ل ُيوجد َُ َ
حاجتهم ،فوالله لُيوشك ّ
ولعّلك إنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم،
ن هذا المر م ّ
حْيرة؟« قال :لم أرها وقد سمعت بها ،قال» :فوالله ليت ّ أتعرف ال ِ
حتى تخرج المرأة من الحيرة تطوف بالبيت من غير جوار أحد ،ولعّلك إنما
يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم ،وايم الله
ن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد ُفتحت عليهم« .فأسلم ليوشك ّ
عدي رضي الله عنه وعاش حتى رأى كل ذلك.
غزوة ت َُبوك
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروم جمعت الجموع تريد غزوه في
سرة الناس ،وجدب البلد ،وشدة الحّر حين
بلده ،وكان ذلك في زمن عُ ْ
طابت الثمار ،والناس يحّبون المقام في ثمارهم وظللهم ،فأمر عليه الصلة
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
مي الخبار والسلم بالتجهز ،وكان قّلما يخرج في غزوة إل وّرى بغيرها ،لي ُعَ ّ
شقةِ ولشدة العدّو، على العدو إل في هذه الغزوة ،فإنه أخبر بمقصده لُبعد ال ّ
دتهم لذلك ،وبعث إلى مكة وقبائل العراب يستنفرهم لذلك، ليأخذ الناس ع ّ
شرةَ آلف ث الموسرين على تجهيز المعسرين ،فأنفق عثمانبن عفان عَ َ وح ّ
ً
دينار ،وأعطى ثلثمائة بعير بعير بأحلسها وأقتابها ،وخمسين فرسا ،فقال
ض عنه« .وجاء أبو ض عن عثمان فإني را ٍ م ار َصلى الله عليه وسلم» :الله ّ
بكر بكل ماله وهو أربعة آلف درهم ،فقال صلى الله عليه وسلم» :هل
أبقيت لهلك شيئًا؟« فقال :أبقيت لهم الله ورسوله ،وجاء عمربن الخطاب
بنصف ماله ،وجاء عبد الرحمانبن عوف بمائة أوقية ،وجاء العباس وطلحة
سقا ً من تمر ،وأرسلت النساء دق عاصمبن عدي بسبعين و ْ بمال كثير .وتص ّ
ة أنفس من بكل ما يقدرن عليه من حيلهن ،وجاءه صلى الله عليه وسلم سبع ُ
فقراء الصحابة يطلبون إليه أن يحملهم .فقال» :ل أجد ما أحملكم عليه«.
حَزنا ً أل ّ يجدوا ما ُينفقون .فجهز عثمان ثلثة فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع َ
س اثنين ،وجهز يامينبن عمرو اثنين.منهم ،وجهز العبا ُ
ولما اجتمع الرجال خرج بهم رسول الله وهم ثلثون ألفًا ،ووّلى على المدينة
ف كثير من المنافقين محمدبن مسلمة ،وعلى أهله عليبن أبي طالب ،وتخل ّ َ
ي ،وقال :يغزو محمد بني الصفر مع جهد الحال والحر ُ
يرأسهم عبد اللهبن أب َ ّ
ب محمد أن قتال بني الصفر معه اللعب؟ والله لكأني والبلد البعيد أيحس ُ
أنظر إلى أصحابه مقّرنين في الحبال .واجتمع جماعة منهم ،فقالوا في حق
رسول الله وأصحابه ما يريدون من الرجاف ،فبلغه ذلك ،فأرسل إليهم
ما قالوا ،فقالوا :إنما كّنا نخوض ونلعب. ماربن ياسر يسألهم ع ّ ع ّ
وجاء إليه جماعة منهم الجدبن قيس يعتذرون عن الخروج ،فقالوا :يا رسول
ذرون الله ائذن لنا ول تفتّنا لّنا ل نأمن من نساء بني الصفر ،وجاء إليه المع ّ
من العراب ــــ وهم أصحاب العذار من ضعف أو قّلة ــــ ليؤذن لهم فأذن
لهم ،وكذلك استأذن كثير من المنافقين فأذن لهم ،وقد عتب الله عليه في
ن ل َكَ ك لِ َ
حّتى ي َت َب َي ّ َ م َ ت ل َهُ ْ م أِذن َ عن َ َ ه َ فا الل ّ ُ ذلك الذن بقوله في سورة براءة :عَ َ
ْ ّ ّ ْ م ال ْ َ
ن ِباللهِ َوالي َوْم ِ مُنو َ َ
ن ل ي ُؤْ ِ ذي َ َ
ست َأذِن ُك ال ِ ما ي َ ْن) (43إ ِن ّ َ كاذِِبي َ صد َُقوا ْ وَت َعْل َ َ ن َ ذي َ ال ّ ِ
دوا ْ َ
ن) (45وَل َوْ أَراُدوا ْ ال ْ ُ
ج لعَ ّ خُرو َ م ي َت ََرد ُّدو َ م ِفى َري ْب ِهِ ْ م فَهُ ْ ت قُُلوب ُهُ ْ خرِ َواْرَتاب َ ْ ال ْ ِ
ن) (46ل َ ْ
و دي َ ع ِ قا ِ معَ ال ْ َ دوا ْ َل اقْعُ ُ م وَِقي َ م فَث َب ّط َهُ ْ ه انب َِعاث َهُ ْ كن ك َرِهَ الل ّ ُ ه عُد ّة ً وََل ِ لَ ُ
مة وَِفيك ُ ْ م ال ْ ِ
فت ْن َ َ م ي َب ُْغون َك ُ ُ خَلل َك ُ ْ ضُعوا ْ ِ خَبال ً ول َوْ َ م إ ِل ّ َ ما َزاُدوك ُ ْ كم ّ جوا ْ ِفي ُ خَر ُ َ
ن)(47 مي َ م ِبال ّ
ظال ِ ِ ه عَِلي ٌ م َوالل ّ ُ ن ل َهُ ْ عو َ ما ُ س ّ َ
gولما استراح الجيش لحقه أبو خيثمة ،وكان من خبر مجيئه أن دخل على
أهله في يوم حار ،فوجد امرأتين له في عريشين لهما في بستان ،قد رشت
ت طعامًا ،وكان يوما ً شديد الحر،ل منهما عريشها ،وبّردت فيها ماء ،وهيأ ْ ك ّ
فلما نظر ذلك قال :يكون رسول الله في الحر وأبو خيثمة في ظل بارد وماء
ش واحدة
صف .ثم قال :والله ل أدخل عري َ مهيأ وامرأة حسناء ما هذا بالن ّ َ
منكما حتى ألحق برسول الله فهّيئا لي زادا ً ففعلتا ،ثم ركب بعيره ،وأخذ
سيفه ورمحه ،وخرج يريد رسول الله فصادفه حين نزل بتبوك.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ثم إن الرسول استشار أصحابه في مجاوزة تبوك إلى ما هو أبعد منها من
سْر .فقال عليه الصلة ُ
ديار الشام ،فقال له عمر :إن كنت أمرت بالسير ف ِ
شْر« .فقال :يا رسول الله إن للروم َ ُ
ست َ ِ
والسلم» :لو كنت أمرت بالسير لم أ ْ
جموعا ً كثيرة ،وليس بالشام أحد من أهل السلم ،وقد دنونا ،وقد أفزعهم
وك ،فلو رجعنا في هذه السنة حتى نرى أو يحدث الله أمرًا ،فتبع عليه دن ّ
الصلة والسلم مشورته ،وأمر بالقفول فرجع الجيش إلى المدينة.
ضرارمسجد ال ّ
سسه ضرار وهو مسجد أ ّ ولما كان على مقربة منها ،بلغه خبر مسجد ال ّ
ة من المنافقين معارضة لمسجد ُقباء ،ليفرقوا جماعة المسلمين .وجاء جماع ٌ
جماعة منهم إلى الرسول طالبين منه أن يصّلي لهم فيه ،فسألهم عن سبب
بنائه ،فحلفوا بالله إن أردنا إل الحسنى ،والله يشهد إنهم لكاذبون ،فأمر عليه
الصلة والسلم جماعة من أصحابه لينطلقوا إليه ،ويهدموه ،ففعلوا .هذا ،ولما
استقر عليه الصلة والسلم بالمدينة جاءه جماعات من الذين تخلفوا
يعتذرون كذبًا ،فقبل منهم عليه الصلة والسلم علنيتهم ،ووكل ضمائرهم
إلى الله ،واستغفر لهم.
خّلفوا
حديث الثلثة الذين ُ
مرارةبن الّربيع ،وهللبن أمّية الوسّيان وجاءه كعُببن مالك الخزرجي ،و ُ
م الَغضب ،وقال» :ما س َ
سم ت َب َ ّ
مقّرين بذنوبهم ،فلما دخل عليه كعب ت َب َ ّ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ت أنت عند غيرك من أهل الدنيا لرأي ُ خّلفك؟« فقال :يا رسول الله لو جلس ُ
ت لئن ت جد ً ُ
ل ،ولكني والله لقد علم ُ سأخرج من سخطه بعذر ،ولقد أوتي ُ
ي فيه، ن الله أن يسخط عل ّ دثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ،ليوشك َ ّ ح ّ
ي فيه ،إني لرجو فيه عفو الله ،والله ما صدق تغضب عل ّ ولئن حدثتك حديث ِ
كان لي من عذر .فقال عليه الصلة والسلم» :أما هذا فقد صدق ،فقم حتى
يقضي الله فيك« .وقال صاحباه مثل قوله ،فقال لهما عليه الصلة والسلم
كما قال لكعب ،ونهى المسلمين عن كلمهم ،فاجتنبهم الناس ،وأمرهم أن
ج هللبن أمية في خدمة زوجها لنه شيخ ضائع يعتزلوا نساءهم ،واستأذنت زو ُ
ليس له خادم فأذن لها ،ولم يزالوا كذلك حتى ضاقت عليهم الرض بما
رحبت ،وضاقت عليهم أنفسهم ،وظنوا أل ملجأ من الله إل إليه ،ثم تاب
عليهم ،فأرسل لهم عليه الصلة والسلم من يبشرهم بهذه النعمة الكبرى،
فتلقاهم الناس أفواجا ً يهنئونهم بتوبة الله .فلما دخل كعب المسجد تلقاه
رسول الله مسرورًا ،فقال» :أبشر يا كعب بخير يوم يمر عليك منذ ولدتك
أمك« ،فقال :من عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال» :بل من عند
الله« .فقال كعب :يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلعَ من مالي صدقة لله
ك عليك بعض مالك فهو خير ولرسوله ،فقال عليه الصلة والسلم» :أمس ْ
لك« .ثم قرأ عليه الصلة والسلم اليات التي فيها توبته هو وصاحباه في
ما
ض بِ َ
م الْر ُ ت عَل َي ْهِ ُ ضاقَ ْ
حّتى إ َِذا َ فوا ْ َ خل ّ ُ
ن ُ ذي َ سورة براءة :وَعََلى الث َّلث َةِ ال ّ ِ
َ َ م َأن ُ
ب
م َتا َن الل ّهِ إ ِل ّ إ ِل َي ْهِ ث ُ ّ
م َ جأ ِ مل ْ َ
م وَظ َّنوا ْ أن ل ّ َ سهُ ْ ف ُ ت عَل َي ْهِ ْ ضاقَ ْ
ت وَ َ حب َ َْر ُ
م)(118 حي ُ ب الّر ِ وا ُ ه هُوَ الت ّ ّ ّ
ن الل َ ْ عَل َي ْهِ ْ
م ل ِي َُتوُبوا إ ِ ّ
وفود ثقيف
وعقب مقدمه عليه الصلة والسلم من تبوك وفد عليه وفد ثقيف ،وكان من
خبرهم ،أنه لما انصرف رسول الله من محاصرتهم ،تبع أثره عروةبن مسعود
الثقفي حتى أدركه قبل أن يصل المدينة ،فأسلم ،وسأله أن يرجع إلى قومه
ويدعوهم إلى السلم ،فقال له» :إنهم قاتلوك« .فقال :يا رسول الله أنا
أحب إليهم من أبكارهم ،فخرج إلى قومه يرجو منهم طاعته لمرتبته فيهم،
لنه كان فيهم محببا ً مطاعًا ،فلما جاء الطائف وأظهر لهم ما جاء به رموه
بالنبل فقتلوه ،وبعد شهر من مقتله ائتمروا فيما بينهم ورأوا أنه ل طاقة لهم
بحرب من حولهم من العرب ،فأجمعوا أمرهم على أن يرسلوا لرسول الله
رجل ً منهم يكّلمه ،وطلبوا من عبد ياليلبن عمرو أن يكون ذلك الرجل فأبى،
ل ،فبعثوا معه خمسة من أشرافهم، وقال :لست فاعل ً حتى ترسلوا معي رجا ً
فخرجوا متوجهين إلى المدينة ،ولما قابلوا رسول الله ضرب لهم قبة في
ناحية المسجد ليسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صّلوا .وكانوا ي َْغدون إلى
رسول الله كل يوم ويخّلفون في رحالهم أصغرهم سن ّا ً عثمانبن أبي العاص.
فكان إذا رجعوا ذهب للنبي واستقرأه القرآن ،وإذا رآه نائما ً استقرأ أبا بكر
حتى حفظ شيئا ً كثيرا ً من القرآن ،وهو يكتم ذلك عن أصحابه ،ثم أسلم
مَر عليهم عثمانبن أبي العاص لما مهم ،فأ ّ
القوم ،وطلبوا أن ي ُعَّين لهم من يؤ ّ
رآه من حرصه على السلم وقراءة القرآن وتعلم الدين.
ثم كتب لهم كتابا ً من جملته» :بسم الله الرحمان الرحيم ،من محمد النبي
ضد ُ شجره ،ومن م ،ل ي ُعْ َحَرا ٌ
صي ْد َه ُ َ
ج وَ َ ضاه َ وَ َ
ع َ
رسول الله إلى المؤمنين ،إن ِ
ُوجد يفعل شيئا ً من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه« .ثم سألوا رسول الله أن
جل هدم صنمهم شهرا ً حتى يدخل السلم في قلوب القوم ،ول يرتاع يؤ َ ّ
السفهاء من النساء من هدمه ،فرضي بذلك عليه الصلة والسلم ،ولما
خرجوا من عنده قال لهم رئيسهم :أنا أعلمكم بثقيف ،اكتموا عنهم إسلمكم
وفوهم الحرب والقتال ،وأخبروهم أن محمدا ً طلب أمورا ً عظيمة أبيناها وخ ّ
عليه .سألنا أن نهدم الطاغية ،وأن نترك الزنا ،وشرب الخمر والربا ،فلما
حّلوا بلدهم جاءتهم ثقيف ،فقال الوفد :جئنا رجل ً فظ ّا ً غليظا ً قد ظهر
بالسيف ،ودان الناس له ،فعرض علينا أمورا ً شديدة ،وذكروا ما تقدم .فقالوا:
موا حصونكم ،واستعدوا والله ل نطيعه أبدًا ،فقالوا لهم :أصلحوا سلحكم ،ور ّ
للقتال ،فأجابوا ،واستمروا على ذلك يومين أو ثلثة ،ثم ألقى الله الرعب في
قلوبهم ،فقالوا :والله ما لنا بحربه من طاقة ،ارجعوا إليه وأعطوه ما سأل،
م كتمتم علينا ذلك؟ قالوا :حتى فقال الوفد :قد قاضيناه وأسلمنا ،فقالوا ل ِ َ
تذهب عنكم نخوة الشيطان فأسلموا.
هدم اللت
ولما بلغ رسو َ
ل الله إسلم ثقيف أرسل أبا سفيان ،والمغيرةبن شعبة الثقفي،
لهدم اللت :صنم ثقيف بالطائف ،فتوجهوا وهدموه حتى سوّوْهُ بالرض.
ج بالناس، ُ
وفي أخريات ذي القعدة ،أرسل عليه الصلة والسلم أبا بكر ليح ّ
ة أهداها دي :عشرون ب َد َن َ ً فخرج في ثلثمائة رجل من المدينة ،ومعه الهَ ْ
دنات ،ولما سافر نزل على رسول الله رسول الله ،وساق أبو بكر خمس ب َ َ
أوائل سورة براءة ،فأرسل بها علي ّا ً ليبلغها الناس في يوم الحج الكبر ،وقال:
»ل يبلغُ عني إل رجل مّني« فلحق أبا بكر في الطريق ،فقال الصديق :هل
استعملك رسول الله على الحج؟ قال :ل ،ولكن بعثني أقرأ أو أتلو »براءة«
ي ثلث عشرة آية على الناس .فلما اجتمعوا بمنى ،يوم النحر ،قرأ عليهم عل ّ
من أول سورة براءة ،تتضمن نبذ العهود لجميع المشركين الذين لم يوّفوا
عهودهم ،وإمهالهم أربعة أشهر يسيحون فيها في الرض كيف شاؤوا ،وإتمام
عهد المشركين الذين لم ُيظاهروا على المسلمين ،ولم يغدروا بهم إلى
ج بعد العام مشرك ،ول يطوف بالبيت عريان ،وكان مدتهم ،ثم نادى :ل يح ّ
علي يصلي في هذا السفر وراء أبي بكر رضي الله عنهما.
يوفاة ابن أب ّ
ي ،وقد صلى عليه رسول الله صلة لم ّ ُ
وفي ذي القعدة مات عبد اللهبن أب َ َ
ً
شي ّعَ جنازته حتى وقف على قبره ،وإنما فعل ذلك تطييبا لقلب يطل مثلها ،و َ
ي فيهم، ً
ولده عبد اللهبن عبد الله ،وتأليفا لقلوب الخزرج لمكانة عبد اللهبن أب ّ
وقد نزع ربقة النفاق كثير من المنافقين بعد هذا اليوم ،لما رأوه من أعمال
السيد الكريم صلى الله عليه وسلم ،وقد نهى الله رسوله عن الصلة على
َ
تما َمن ُْهم ّحد ٍ ّ ل عََلى أ َ ل شأنه في سورة براءة :وَل َ ت ُ َ
ص ّ المنافقين ،فقال ج ّ
ه{ )التوبة.(84 : م عََلى قَب ْرِ ِ أ ََبدا ً وَل َ ت َ ُ
ق ْ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
م كلثوم ُ
وفاة أ ّ
م كلثوم بنت رسول الله وزوج عثمان رضي الله ُ
وفي هذه السنة توفيت أ ّ
عنهما.
سَنة العاشرة ال ّ
سرية
في ربيع الخر أرسل عليه الصلة والسلم خالدبن الوليد في جمع لبني عبد
دان بنجران من أرض اليمن ،وأمره أن يدعوهم إلى السلم ثلث مرات م َ
ال َ
فإن أبوا قاتلهم ،فلما قدم إليهم بعث الركبان في كل وجه يدعون إلى
السلم ويقولون :أسلموا ،تسلموا ،فأسلموا ودخلوا في دين الله أفواجاً،
فأقام خالد بينهم يعلمهم السلم والقرآن ،وكتب إلى رسول الله بذلك،
فأرسل إليه أن يقدم بوفدهم ففعل .وحين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم
ن قاتلكم في الجاهلية؟« قالوا :كنا نجتمع ول
م ْ
م كنتم تغلبون َ
قال لهم» :ب ِ َ
مر عليهم زيدبن حصين. ً
نتفرق ،ول نبدأ أحدا بظلم ،قال» :صدقتم« وأ ّ
سرية
حج ــــوفي رمضان أرسل عليه الصلة والسلم عليا ً في جمع إلى بني مذ ْ ِ
ممه بيده ،وقال» :سر حتى تنزل بساحتهم ،فادعهم إلى قبيلة يمانية ــــ وعَ ّ
م بالصلة ول تبِغ منهم غير ذلك، مْرهُ ْقول :ل إله إل ّ الله ،فإن قالوا :نعم ،فَ ُ
ن يهدي الله بك رجل ً واحدا ً خير لك مما طلعت عليه الشمس ،ول تقاتلهم وَل َ ْ
حتى يقاتلوك« فلما انتهى إليهم لقي جموعهم فدعاهم إلى السلم فأبوا،
ي أصحابه وأمرهم بالقتال ،فقاتلوا حتى ف عل ّورموا المسلمين بالنبل فص ّ
ف عن طلبهم ،ثم لحقهم ودعاهم إلى السلم فأجابوا، هزموا عدوهم فك ّ
ن وراءنا من قومنا ،وهذه صدقاتنا فخذ م ْ وبايعه رؤساؤهم ،وقالوا :نحن على َ
منها حق الله ،ففعل .ثم رجع إلى رسول الله فوافاه بمكة في حجة الوداع.
ثم بعث عليه الصلة والسلم إلى اليمن عمال ً من قبله ،فبعث معاذبن جبل
على الكورة العليا من جهة عدن ،وبعث أبا موسى الشعري على الكورة
سرا ،وب ّ
شرا ول سرا ول تع ّ
صاهما صلى الله عليه وسلم بقوله» :ي ّ السفلى ،وو ّ
ً
فرا« وقال لمعاذ» :إنك ستأتي قوما أهل كتاب ،فإذا جئتهم فادعهم إلى أن تن ّ
ً
ن محمدا رسول الله ،فإن أطاعوا لك بذلك َ
يشهدوا أن ل إله إل الله وأ ّ
فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ،فإن أطاعوا
لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد ّ على
م أموالهم ،واتق دعوة فقرائهم ،فإن هم أطاعوا لك بذلك ،فإياك وكرائ َ
المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب« وقد مكث معاذ باليمن حتى توفي
رسول الله ،أما أبو موسى فقدم على الرسول صلى الله عليه وسلم في
حجة الوداع.
خطبة الوداع
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وفي السنة العاشرة حج صلى الله عليه وسلم بالناس حجة وّدع فيها
المسلمين ،ولم يحج غيرها .وخرج لها يوم السبت لخمس بقين من ذي
القعدة ،ووّلى على المدينة أبا دجانة النصاري ،وكان مع الرسول جمع عظيم
يبلغ تسعين ألفًا ،وأحرم للحج حيث انبعثت به راحلته ثم لّبى ،فقال» :لّبيك
مْلك ل شريك اللهم لّبيك ،لّبيك ل شرك لك لّبيك ،إن الحمد والنعمة لك وال ُ
لك« .ولم ي ََزل صلى الله عليه وسلم سائرا ً حتى دخل مكة ضحى من الثنية
م زْده تشريفا ً وتعظيما ً العليا وهي ثنية ك َ َ
داء .ولما رأى البيت قال» :الله ّ
ة وبرًا« .ثم طاف بالبيت سبعًا ،واستلم الحجر السود ،وصّلى ركعتين ومهاب ً
عند مقام إبراهيم ،ثم شرب من ماء زمزم ،ثم سعى بين الصفا والمروة
سبعا ً راكبا ً على راحلته ،وكان إذا صعد الصفا يقول» :ل إله إل الله ،الله أكبر،
ل إله إل ّ الله وحده ،أنجز وعده ،ونصر عبده ،وهزم الحزاب وحده« .وفي
الثامن من ذي الحجة توجه إلى منى فبات بها.
حجة الوداع
وفي التاسع منه توجه إلى عََرفة ،وهناك خطب خطبته الشريفة التي بّين
ك نصها: ه وفرعه ،وها َ ُ
س ُ
فيها الدين كله أ ّ
»الحمد لله نحمده ،ونستعينه ونستغفره ،ونتوب إليه ،ونعوذ به من شرور
ضلل فل هادي ل له ،ومن ي ُ ْ مض ّ ن يهدِ الله فل ُ م ْأنفسنا ومن سيئات أعمالناَ .
ً
له ،وأشهد ُ أن ل إله إل الله وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمدا عبده
كم على طاعته ،وأستفتح بالذي حث ّ ُ َ ُ
ورسوله :أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأ ُ
هو خير ،أما بعد :أيها الناس اسمعوا مّني أ ُب َّين لكم فإني ل أدري لعّلي ل
ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.
حرمة قوا رّبكم ،ك ُ م عليكم إلى أن تل َ أّيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرا ٌ
م فاشهد ،فمن يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ،أل هل بلغت؟ الله ّ
كانت عنده أمانة فليؤّدها إلى من ائتمنه عليها.
ن أول ربا ً أبدأ به ربا عمي العباسبن عبد المطلب، إن ربا الجاهلية موضوع ،وإ ّ
ُ
وإن دماَء الجاهلية موضوعة وأوّل دم أبدأ به دم عامربن ربيعةبن الحارث،
مد
ه العَ ْشب ْ ُمد قَوٌَد ،وَ ِ وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية ،والعَ ْ
ما قُِتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير ،فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن ُيعبد في أرضكم هذه ،ولكنه قد رضي أن
رون من أعمالكم. ُيطاع فيما سوى ذلك مما تحق ِ
ل به الذين كفروا يحّلونه عاماً، ض ّ أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر ي ُ َ
ويحرمونه عامًا ،ليواطئوا عدة ما حّرم الله ،وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم
عد ّةَ الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ً في خلق الله السموات والرض ،وإن ِ
م ،ثلث متواليات حُر ٌكتاب الله يوم خلق الله السموات والرض ،منها أربعة ُ
جمادى وواحد فرد :ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ،ورجب الذي بين ُ
م اشهد. وشعبان ،أل هل بلغت؟ الله ّ
ن
ن في المضاجع ،وتضربوه ّ ضُلوهُ ّ
ن ،وتهجروهُ ّ فعلن ،فإن الله أذن لكم أن ت َعْ ُ
ن بالمعروف، ن وكسوته ّ
مب َّرح ،فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقه ّ ضربا ً غير ُ
ن شيئًا ،أخذتموه ّ
ن بأمانة الله، وان ،ل يملكن لنفسه ّ وإنما النساء عندكم عَ َ
ن خيراً، ن بكلمة الله ،فاتقوا الله في النساء ،واستوصوا به ّ واستحللتم فروجه ّ
م اشهد. أل هل بلغت؟ الله ّ
ل لمرىء مال أخيه إل عن طيب نفس ح ّأّيها الناس إنما المؤمنون إخوة ،ول ي َ ِ
ب ً
فارا يضرب بعضكم رقا َ ُ
ن بعدي ك ّ جعُ ّم اشهد ،فل ت َْر ِمنه ،أل هل بّلغت؟ الله ّ
ضلوا بعده :كتاب الله ،أل هل ض ،فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم ت ِ بع ٍ
م اشهد.ّ الله بلغت؟
ن أباكم واحد ،كلكم لدم وآدم من تراب، ّ وإ واحد، ربكم إن أيها الناس
ل على عجمي إل بالتقوى .أل هل أكرمكم عند الله أتقاكم ،ليس لعربي فض ٌ
م اشهد ،فليبلغ الشاهد ُ منكم الغائب. بلغت؟ الله ّ
ثأّيها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ،ول تجوز لوار ٍ
جُر، ح َوصية ،ول تجوز وصية في أكثر من الثلث ،والولد للفراش ،وللعاهر ال َ
من اّدعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملئكة والناس
أجمعين ،ل يقبل منه صرف ول عدل ،والسلم عليكم ورحمة الله« وفي هذا
اليوم امتن الله على المؤمنين بقوله في سورة المائدة} :ال ْيو َ
ت ل َك ُ ْ
م مل ْ ُ
م أك ْ َ
َ ْ َ ّ
م ِدينًا{ )المائدة (3 :فل ُ َ ُ َ َ
سل ََ
ْ ال م
ُ ك ل ت
ُ ضي
ِ ر
ََ و تى
ِ م عِ ن
ْ ْ ْ َ م ك ي ل َ ع ت
م وَأت ْ َ ْ ُ
م م ِدين َك ُ ْ
ً ً
غرابة أن اتخذه المسلمون عيدا ،ويوما سعيداُ ،يظهرون فيه شكر الله علىً
هذه النعمة الكبرى .ثم إنه عليه الصلة والسلم أّدى مناسك الحج من رمي
ل إلى ف َ الجمار ،والنحر ،والحلق ،والطواف .وبعد أن أقام بمكة عشرة أيام قَ َ
ملك ْ المدينة ولما رآها كّبر ثلثا ً وقال» :ل إله إل ّ الله وحده ل شريك له ،له ال ُ
وله الحمد وهو على كل شيء قدير ،آيبون ،تائبون ،عابدون ،ساجدون ،لربنا
حامدون ،صدق الله وعده ،ونصر عبده ،وهزم الحزاب وحده«.
الوفود
في هذه السنة والتي قبلها كان ُوفود العرب إلى رسول الله ليبايعوه على
دمون أفواجًا ،ولما في أخبار هذه الوفود من التعاليم ق ُ السلم ،وكانوا ي َ ْ
الحميدة التي يحتاج ذو الدب أن يعرفها ،رأينا أن نذكر لك منها ما يزيدك
يقينا ً وُينير بصيرتك فنقول:
جران وفود ن َ ْ
ً
ومن الوفود وفد نصارى نجران ،وكانوا ستين راكبا ،دخلوا المسجد وعليهم
حب ََرةِ وأردية الحرير ،مختمين بالذهب ،ومعهم بسط فيها تماثيل، ثياب ال ِ
ح جاؤوا بها هدية للنبي صلى الله عليه وسلم ،فلم يقبل البسط وقبل سو ٌ م ُ و ُ
سوح .ولما جاء وقت صلتهم صلوا في المسجد مستقبلين بيت المقدس. ّ م ُ ال ُ
ولما أتموا صلتهم دعاهم عليه الصلة والسلم للسلم فأبوا وقالوا :كّنا
مسلمين قبلكم ،فقال عليه الصلة والسلم» :يمنعكم من السلم ثلث:
عبادتكم الصليب ،وأكلكم لحم الخنزير ،وزعمكم أن لله ولدًا« ،قالوا :فمن
مثل عيسى خلق من غير أب؟ فأنزل الله في ذلك في سورة آل عمران:
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ومن الوفود عبد القيس ،وكان من خبرهم أن الرسول كان جالسا ً بين
ب هم خير أهل المشرق، أصحابه يومًا ،فقال لهم» :سيطلع عليكم من هنا رك ٌ
م اغفر لعبد ضوا الركائب ،وأفنوا الزاد ،الله ّ لم ُيكرهوا على السلم ،قد أن َ
موا بأنفسهم عن القيس« .فلما أتوا ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم َر َ
الركائب بباب المسجد ،وتبادروا إلى رسول الله ،يسلمون عليه ،وكان فيهم
ف عند الركائب حتى أناخها ج ،وكان أصغرهم سن ًّا ،فتخل ّ َ ش ّعبد اللهبن عوف ال َ َ
ونا ً حتى سّلم وجمع المتاع ،وأخرج ثوبين أبيضين فلبسهما ،ثم جاء يمشي هَ ْ
مامته ،فقال: طن لنظر الرسول إلى د َ َ على رسول الله ،وكان رجل ً دميمًا ،فَ َ
ف ِ
يا رسول الله إنه ل ُيستقى في مسوك ــــ أي :جلود ــــ الرجال ،وإنما
الرجل بأصغريه :قلبه ولسانه ،فقال صلى الله عليه وسلم» :إن فيك خلتين
حلم والناة« v.وقد قال صلى الله عليه وسلم لهذا يحّبهما الله ورسوله :ال ِ
الوفد» :مرحبا ً بالقوم غير خزايا ول ندامى« ،فقالوا :يا رسول الله إّنا نأتيك
مضر ،وإّنا ل نص ُ
ل ي من كفار ُ قةٍ بعيدة ،وإنه يحول بيننا وبينك هذا الح ّ من ُ
ش ّ
مرنا بأمرٍ فصل ،فقال» :آمركم باليمان بالله .أتدرون ما إل ّ في شهر حرام ،ف ُ
ً
اليمان بالله؟ شهادة أن ل إله إل الله ،وأن محمدا رسول الله ،وإقام الصلة،
وإيتاء الزكاة ،وصوم رمضان ،وأن ُتعطوا من المغنم الخمس ،وأنهاكم عن
قير ،والمزّفت« والمراد بذلك :ما ينبذ في هذه الواني. م ،والن ّ ِ
حنت َ ِ
الد ّّباء ،وال َ
فقال الشج :يا رسول الله إن أرضنا ثقيلة وخمة ،وإنا إذا لم نشرب هذه
خص لنا في مثل هذه ،وأشار إلى يده ،فأومأ عليه الشربة عظمت بطوننا ،فََر ّ
ت لك في مثل هذه شربته فيه ،وقال» :يا أشج إن رخص ُ الصلة والسلم بك ّ
مل أحدكم من شرابه َ َ
في مثل هذه ــــ وفرج بين يديه وبسطه ــــ حتى إذا ث ِ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
بينهم.
حنيفة
وفود بني َ
سيلمة الكذاب ،وكان مسيلمة يقول :إن م َ
ومن الوفود بنو حنيفة وكان معهم ُ
جعل لي المر من بعده اتبعته ،فأقبل عليه الصلة والسلم ومعه ثابتبن
ماس ،وفي يد رسول الله قطعة من جريد حتى وقف على مسيلمة قَْيسبن َ
ش ّ
ُ
ن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ،وإني لراك الذي في أصحابه ،فقال» :إ ْ
منه رأيت« .وكان عليه الصلة والسلم قد رأى في منامه أن في يده
مه شأنهما ،فأوحى الله إليه أن انفخهما فنفخهما
سوارين من ذهب ،فأه ّ
فطارا ،فأّولهما صلى الله عليه وسلم كذاب َْين يخرجان من بعده ،فكان
مسيلمة أحدهما ،والثاني :السود العنسي صاحب صنعاء .وقد أسلم بنو
حنيفة.
وفود ط َّيىء
ومن الوفود وفد طّيىء ،وفيهم زيد الخيل رئيسهم ،وقد قال صلى الله عليه
وسلم في حقه» :ما ُذكَر لي رجل من العرب إل رأيته دون ما قيل فيه إل زيد
ماه صلى الله عليه وسلم زيد الخير. الخيل« وس ّ
وفود ك ِْندة
ن وجيها مطاعا في قومه .ولما ً ً ومنهم وفد كندة وفيهم الشعثبن قيس ،وكا َ
خبأناه لك؟ فقال: ما َ دخلوا على رسول الله خبأوا له شيئًا ،وقالوا :أخبرنا ع ّ
ن الكاهن والمتكهن في النار« .ثم »سبحان الله إنما يفعل ذلك بالكاهن ،وإ ّ
ي كتابا ل يأتيه الباطل من بين يديه ول ً قال» :إن الله بعثني بالحق ،وأنزل عل ّ
فا)
ص ّت َ صاّفا ِ من خلفه« ،فقالوا :أسمعنا منه ،فتل عليه الصلة والسلمَ :وال ّ
ت
ماوا ِ س َب ال ّ د)ّ (4ر ّ ح ٌوا ِ م لَ َن الهك ُ ْ كرًا) (3إ ِ ّ ت ذِ ْ جرًا)َ (2فالّتال َِيا ِ ت َز ْ جرا ِ َ (1فالز ِ
َ َ َ ّ َ َ ْ
محي َْنا إ ِلي ْك ث ُ ّذى أوْ َ ن ِبال ِ ْ
شئَنا لن َذ ْهَب َ ّ ق) (5وَلِئن ِ شارِ ِ م َب ال َ ما وََر ّ
ما ب َي ْن َهُ َض وَ َ َوال ْْر ِ
ك ك َِبيًرا) ن عَل َي ْ َ
كا َ ه َ ضل َ ُن فَ ْ ك إِ ّ من ّرب ّ َ ة ّم ً
ح َل) (86إ ِل ّ َر ْ ك ب ِهِ عَل َي َْنا وَ ِ
كي ً جد ُ ل َ َ
ل َ تَ ِ
(87
مره
صَرُدبن عبد الله الزدي ،فأسلموا وأ ّ
ومنهم وفد أزد شنوءة ،ورئيسهم ُ
عليهم ،وأمره بأن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك.
مَير
ح ْ
وفود رسول ملوك ِ
كلل ،ونعيمبن عبد ُ
كلل، ومنهم وفد رسول ملوك حمير وهم :الحارثبن عبد ُ
مدان ،وكانوا قد أسلموا وأرسلوا
مَعافَِر ،وهَ ْ
ل ذي ُرعين ،و َوالّنعمان قَي ْ ُ
رسولهم بذلك فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
مَير
ح ْ
كتاب ملوك ِ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
كلل بسم الله الرحمان الرحيم ،من محمد رسول الله ،إلى الحارثبن عبد ُ
مدان .أما معافر ،وهَ ْ ل ذي ُرعَْين ،و َ كلل ،وإلى النعمان َقي ِ وإلى ُنعيمبن عبد ُ
بعد :فإني أحمد الله إليكم الذي ل إله إل هو ،أما بعد :فإنه قد وقع بنا
رسولكم مقفلنا من أرض الروم ،فلقيناه بالمدينة فبّلغ ما أرسلتم به ،وخّبر ما
قبلكم ،وأنبأنا بإسلمكم ،وقتلكم المشركين ،وأن الله قد هداكم بهداه ،إن
أصلحتم وأطعتم الله ورسوله ،وأقمتم الصلة ،وآتيتم الزكاة ،وأعطيتم من
كتب على المؤمنين من ه ،وما ُفي ّ ُ
ص ِم النبي و َ مس الله ،وسه َ خ ُ
الغنائم ُ
ةبن ذي يزن إذا أتاكم ً
صدقة .أما بعد :فإن محمدا النبي أرسل إلى ُزْرعَ َ ال ّ
عبادة، ُ ومالكبن زيد، اللهبن وعبد جبل، معاذبن ُ ً
ا: خير بهم فأوصيكم سلي ُر ُ
مّرة وأصحابهم ،وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة عقبةبن نمر ،ومالكبن ُ و ُ
ن سلي ،وإن أميرهم معاُذبن جبل فل َين َ
قل ِب َ ّ والجزية من مخاليفكم ،وأبلغوها ر ُ
إل راضيًا ،أما بعد :فإن محمدا ً يشهد أن ل إله إل ّ الله وأنه عبده ورسوله ،ثم
مَير ،وقتلت ح ْ
دثني أنك قد أسلمت من أّول ِ إن مالكبن مّرة الّرهاوي قد ح ّ
مَير خيرا ،ول تخونوا ول تخاذلوا ،فإن ً ح ْ
المشركين ،فأبشر بخير وآمرك ب ِ
ل لمحمد ول أهل ح ّرسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم ،وإن الصدقة ل ت َ ِ
بيته ،إنما هي زكاة ي َُزكى بها على ُفقراء المسلمين وابن السبيل ،وإن مالكا ً
فظ الَغيب ،وآمركم به خيرًا ،والسلم عليكم ورحمة الله قد بّلغ الخبر ،وح ِ
وبركاته.
مدانوفود هَ ْ
ً ً
مط ،وكان شاعرا مجيدا ،فلقوا رسول الله مدان ،وفيهم مالكبن ن َ َ ومنها وفد هَ ْ
حَبرات اليمنية ،والعمائم العدنية،
ِ ال من عاتَ ّ ط َ قمُ عليهم تبوك، ه من جعَ ُ
مْر ِ
َ
وقد أنشد مالك لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
ومنها وفد ث َعَْلبة ،وفد على رسول الله أربعة منهم مقّرين بالسلم ،فسّلموا
ن خلفنا من قومنا ونحن مقّرون م ْعليه وقالوا :يا رسول الله إّنا ُرسل َ
بالسلم ،وقد قيل لنا :إنك تقول :ل إسلم لمن ل هجرة له ،فقال عليه
ضّركم« ،ثم قال لهم» :كيف قي ُْتم الله فل ي َ ُ
الصلة والسلم» :حيثما كنتم وات ّ َ
بلدكم؟« فقالوا :مخصبون ،فقال» :الحمد لله« .ثم أقاموا في ضيافته أياماً،
وحين إرادتهم النصراف أجاز كل واحد منهم بخمس أواق من فضة.
ومنها وفد بني فزارة ،وفَد َ على رسول الله جماعة منهم مقّرين بالسلم
سِنتون ،فسألهم عليه الصلة والسلم عن بلدهم ،فقال رجل منهم :يا م ْ وهم ُ
جَناُبنا ،وجاعت عيالنا. دب وأج مواشينا، وهلكت دنا، بل ت ت ن سرسول الله أ َ
َ َ ُ ْ ََ ْ
فادعُ لنا ربك ُيغْثنا .واشفع لنا إلى ربك ،وليشفع لنا ربك إليك ،فقال عليه
الصلة والسلم» :سبحان الله ويلك هذا أنا أشفع إلى ربي ،فمن ذا الذي
سعَ كرسّيه السموات والرض، ي العظيم ،و ِ يشفع ربنا إليه؟ ل إله إل هو العل ّ
حل الحديث« .أي من ثقل الحمل. ط من عظمته وجلله كما يئط الّر ْ فهي ت َئ ِ ّ
ل حتى أغاث بلد هذا ثم صعد عليه الصلة والسلم المنبر ،ودعا الله عّز وج ّ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
محاربوفود بني ُ
ن رّدوا الرد القبيح حينما كان رسول
ومنها وفد بني محارب ،وكانوا من الذي َ
الله بعكاظ يدعو القبائل إلى الله ،فما أعظم مّنة الله الذي أتى بهؤلء ــــ
منقادين
وكانوا ألد ّ العداء ــــ مسلمين ُ
سانوفود غَ ّ
ومنها وفد غسان ،ووفد بني عَْبس ،ووفد النخع.
ف به ،وأدى ما اؤتمن عليه ،وهدى الله به مم عليه الصلة والسلم ما ك ُل ّ َ لما ت ّ
أمته ،اختاره الله للرفيق العلى ،فجلس على المنبر مرة ،وكان فيما قال:
َ
ن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده ،فاختار ما عنده«. »إن عبدا ً خّيره الله بين أ ْ
فبكى أبو بكر ،وقال :يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ،فقال عليه الصلة
ت متخذا ً خليل ً ي في صحبته وماله أبو بكر ،لو كن ُ ن الناس عل ّ م ّ
والسلم» :إن أ َ
دت إل ُ
س ّ
خوخة إل ُ ت أبا بكر ،ولكن أخوة السلم ،ل يبقى في المسجد َ لتخذ ُ
وخة أبي بكر«. خ ْ َ
فر من السنة الحادية ص ََ أواخر في ضه
ُ مر والسلم الصلة عليه بدأه وقد
عشرة من الهجرة في بيت ميمونة ،واستمر مريضا ً ثلثة عشر يومًا ،كان في
ن أن ولما اشتد عليه المرض استأذن منه ّ خللها ينتقل إلى بيوت أزواجه،
ن له ،ولما دخل بيتها واشتد عليه وجعه، َ
ديقة فأذِ ّ ض في بيت عائشة الص ّ مّر َ يُ َ
ن لعلي أعهد إلى الناس«. ّ ل أوكيت ُهُ ّ َ
حل ْهريقوا علي من سبع قَِرب لم ت ُ ْ قالَ » :
ب عليه الماء حتى أشار بيده أن قد فعلتن ،وكان ُ
ضب ،وص ّ مخ َ فأجلس في ِ
من يضع يده فوق ثيابه. هذا الماء لتخفيف حرارة الحمى التي كانت تصيب َ
ل بالناس« مروا أبا بكر فليص ّ ذر عليه الخروج إلى الصلة قالُ » : ولما تع ّ
ة له في حياته .ولما رأت النصاُر اشتداد َ فرضيه عليه الصلة والسلم خليف ً
ل العباس ،وأعلمه بمكانهم وإشفاقهم، وجع الرسول طافوا بالمسجد ،فدخ َ
ي والفضل ،وتقدم العباس فخرج صلى الله عليه وسلم متوكئا ً على عل ّ
مرقاة ط برجليه ،حتى جلس في أسفل ِ خ ّ ب الرأس ي َ ُ أمامهم والنبي معصو ُ
المنبر ،وثار الناس إليه فحمد الله ،وأثنى عليه ،ثم قال» :أيها الناس بلغني
أنكم تخافون من موت نبّيكم ،هل خلد نبي قبلي فيمن بعث الله فَُأخّلد
فيكم؟ أل إني لحق بربي ،وإنكم لحقون بي ،فأوصيكم بالمهاجرين الولين
ن
ر) (1إ ِ ّ خيرًا ،وأوصي المهاجرين فيما بينهم ،فإن الله تعالى يقولَ :وال ْعَ ْ
ص ِ
ق
ح ّصوْا ْ ِبال ْ َ
وا َ ت وَت َ َ
حا ِ مُلوا ْ ال ّ
صال ِ َ مُنوا ْ وَعَ ِ ن ءا َ ذي َ ر) (2إ ِل ّ ال ّ ِس ٍ
خ ْفى ُ ن لَ ِ سا َلن َ ا ِ
قط ُّعوا ْ س ُ ْ َ
ض وَت ُ َ دوا ِفى ال ْْر ِ ف ِ
م أن ت ُ ْ م ِإن ت َوَل ّي ْت ُ ْ سي ْت ُ ْل عَ َ ر) (3فَهَ ْ صوْا ْ ِبال ّ
صب ْ ِ وا َ وَت َ َ
َ
م)(22 مك ُ ْحا َ
أْر َ
وبينما المسلمون في صلة الفجر ،من يوم الثنين ثالث عشر ربيع الول،
ف
ج َ س ْوأبو بكر يصلي بهم ،إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف ِ
حجرة عائشة ،فنظر إليهم وهم في صفوف الصلة ،ثم تبسم يضحك ،فنكص
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ولم تأت ضحوة هذا اليوم حتى فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم دنياه،
ولحق بموله ،وكان ذلك في يوم الثنين 13ربيع أول سنة 8) 11يونيو سنة
(633فيكون عمره عليه الصلة والسلم 63سنة قمرية كاملة ،وثلثة أيام،
سْنح ــــ وإحدى وستين شمسية ،وأربعة وثمانين يومًا ،وكان أبو بكر غائبا ً بال ّ
وهي منازل بني الحارثبن الخزرج ــــ عند زوجه حبيبة بنت خارجةبن زيد،
ن يقول :مات رسول الله ،وقال :إنما أرسل إليه م ْ عد َ ل عمر سيفه ،وتو ّ فس ّ
ث عن قومه أربعين ليلة ،والله إني لرجو أن كما أرسل إلى موسى ،فلب َ
ل وأرجَلهم. طع أيدي رجا ٍ ق ّ يُ َ
فلما أقبل أبو بكر وأخبر الخبر دخل بيت عائشة ،وكشف عن وجه رسول ُ
قب ُّله ،ويبكي ،ويقول :توفي والذي نفسي بيده صلوات الله عليك الله ،فجثا ي ُ َ
يا رسول الله ما أطيبك حي ّا ً وميتًا ،بأبي أنت وأمي ل يجمع الله عليك موتتين.
ن محمدا ً ثم خرج فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :أل من كان يعبد ُ محمدًا ،فإ ّ
تمي ّ ٌك َ ي ل يموت ،وتل قوله تعالى :إ ِن ّ َ قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله ح ّ
َ َ
تما َل أفإ ِْين ّ من قَب ْل ِهِ الّر ُ
س ُ ت ِ خل ْل قَد ْ َ
سو ٌ مد ٌ إ ِل ّ َر ُ ح ّم َ ما ُ ن) (30وَ َ مي ُّتو َم ّ وَإ ِن ّهُ ْ
شْيئا ً ّ َ َ َ َ َ أ َوْ قُت ِ َ
ه َ ضّر الل َقب َي ْهِ فَلن ي َ ُب عَلى عَ ِ قل ِ ْ
من َين َ م وَ َ قاب ِك ُ ْ م عَلى أع ْ َ قلب ْت ُ ْل ان َ
ن)(144 ري َ شاك ِ ِ ه ال ّ زى الل ّ ُ ج ِسي َ ْ
وَ َ
ثم مكث عليه الصلة والسلم في بيته بقية يوم الثنين ،وليلة الثلثاء ويومه
ن،
ل ود ُفِ َ وليلة الربعاء ،حتى انتهى المسلمون من إقامة خليفة عليهم ،فَغُ ّ
س َ
س ،وابناه الفضل وَقَُثم، وكان الذي يغسله علّيبن أبي طالب ،ويساعده العبا ُ
ن في ثلثة أثواب بيض ،ليس قران مولى رسول الله ،وك ُ ّ
ف َ وُأسامةبن زيد ،و ُ
ش ْ
فيها قميص ول عمامة .ولما فرغوا من تجهيزه ُوضع على سريره في بيته،
فَر له ح ِ
مهم أحد ،ثم ُ صّلون عليه ،ولم يؤ ّ ودخل الناس عليه أرسال ً متتابعين ي ُ َ
ي والعباس وولداه الفضل لحد في حجرة عائشة حيث توفي ،وأنزله القبَر عل ّ
ش قبره بلل بالماء ،وُرفع قبره عن الرض قدر شبر .توفي رسول وَقَُثم ،وََر ّ
الله صلى الله عليه وسلم ،وترك للمسلمين ما إن اتبعوه لم يضّرهم شيء:
ب الله الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه ،تنزيل من حكيم كتا َ
ممون فتح البلد، ضحون الدين ،ويت ّ كرام ،يو ّ حميد ،وترك أصحابه البررة ال ِ
مم الله كلمته، وُيظهرون في الدنيا شمس الدين السلمي القويم ،حتى يت ّ
درنا على أداء شكره على هذه ويحقّ وعده ،وقد فعل ،فنسأل الله أن يق ّ
المّنة العظمى ،والنعمة الكبرى.
من محاسن صفاته ،وأحاسن آدابه ،لتكون لك أنموذجا ً تسير عليه ،حتى تكون
على قدم نبّيك صلى الله عليه وسلم ،فتستحق الحمد في الدنيا والذخر في
الخرى.
فاعلم ــــ أرشدني الله وإياك ،وهدانا للصراط السوي ــــ أن خصال الجلل
جبّلة ،وضرورة الحياة،
والكمال في البشر نوعان :ضروري دنيوي :اقتضته ال ِ
ب إلى الله زلفى. قّر ُ
ب ديني :وهو ما ُيحمد فاعله وي ُ َ
ومكتس ٌ
فأما الضروري :فما ليس للمرء فيه اختيار ول اكتساب مثل ما كان في جبّلته
خْلقة ،وجمال الصورة ،وقوة العقل ،وصحة عليه الصلة والسلم من كمال ال ِ
الفهم ،وفصاحة اللسان ،وقوة الحواس ،والعضاء ،واعتدال الحركات،
وشرف النسب ،وعّزة القوم ،وكرم الرض ،ويلحق به ما تدعو ضرورة الحياة
إليه من الغذاء والنوم والملبس والمسكن والمال والجاه.
أما المكتسبة الخروية :فسائر الخلق العلّية والداب الشرعية من الدين،
فة،حلم ،والصبر ،والشكر ،والعدل ،والزهد ،والتواضع ،والعفو ،والع ّ
والعلم ،وال ِ
والجود ،والشجاعة ،والحياء ،والمروءة ،والصمت ،والتؤدة ،والوقار ،والرحمة،
خلق.حسن ال ُحسن الدب ،والمعاشرة ،وأخواتها وهي التي يجمعها ُ و ُ
فإذا نظرت ــــ رعاك الله ــــ إلى خصال الكمال التي هي غير مكتسبة ،وفي
خلقة ،وجدته عليه الصلة والسلم حائزا ً لجميعها ،محيطا ً بشتات جبّلة ال ِ
حسنها ،فقد جاءت الثار محاسنها .فأما الصورة وجمالها وتناسب أعضائه في ُ
الصحيحة والمشهورة الكثيرة بذلك من أنه صلى الله عليه وسلم كان :أزهر
كل ،أهدب الشفار ،أبلج أزج أقنى أفلج مدور الوجه اللون ،أدعج ،أنجل ،أش َ
واسع الجبين كث اللحية تمل صدره ،سواَء البطن عظيم الصدر ،عظيم
فين حب الك ّ المنكبين ،ضخم الِعظام ،عَْبل العضدين والذراعين والسافلَ ،ر ْ
د ،ليس جّرد ،دقيق المسُربةَ ،رْبعة الق ّ مت َ َوالقدمين ،سائل الطراف ،أنوَر ال ُ
بالطويل الباِئن ،ول القصير المترّدد ،ومع ذلك فلم يكن ُيماشيه أحد ينسب
جل الشعر ،إذا افتّر ضاحكا ً افتر إلى الطول إل طاَله صلى الله عليه وسلمَ ،ر ِ
ج من ب الغمام ،وإذا تكلم ُرِئي كالّنور يخر ُ سنا البرق ،وعن مثل ح ّ عن مثل َ
ْ َ َ ً
سك البدن، م كلث َ ٍ
م ،متما ِ م ،ول ُمطهّ ٍ بين ثناياه ،أحسن الناس عُُنقا ،ليس ب ِ ُ
مةِ سوداء ،في حلةّ ت من ذي ل ِ ّ ضرب الّلحم c.قال البراءبن عازب :ما رأي ُ
سول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو هريرة :ما حمراء ،أحسن من ر ُ
ت شيئا ً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،كأن الشمس تجري رأي ُ
در .وفي حديث ابن أبي هالة :يتلل وجهه ج ُ في وجهه ،وإذا ضحك يتلل في ال ُ
ه ،ومن هاب َ ُ
تللؤ القمر ليلة البدر .وقال علي في آخر وصفه له :من رآه َبديهة َ
ه :لم أَر قبله ول بعده مثله صلى الله عليه عت ُ ُ ة أحّبه ،يقول نا ِ
رف ً
ه مع ِ
خالط ُ
وسلم.
شممت عنبرا ً قط ،ول مسكًا ،ول شيئا ً أطيب من ريح رسول وقال أنس :ما َ
الله صلى الله عليه وسلم .وعن جابربن سمرة ،أنه عليه الصلة والسلم
جؤنة عطار .قال ده ،قال :فوجدت ليده َبردا ً وريحا ً كأنما أخرجها من ُ خ ّ مسح َ
سها .يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها، سها بطيب أو لم يم ّ م ّ غيرهَ :
صبيان بريحها ،وروى البخاري يضع يده على رأس الصبي ،فُيعرف من بين ال ّ
في تاريخه الكبير عن جابر :لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمّر في
رف أنه سلكه من طيبه .وأما وُفور عقلهِ صلى الله طريق فيتبعه أحد إل عُ ِ
ُ
ة لسانه ،واعتدال حركاته، عليه وسلم ،وذكاء ل ُّبه ،وقوة ُ حواسه ،وفصاح ُ
مل تدبيرهمرية أنه كان أعقل الناس وأذكاهم ،ومن تأ ّ وحسن شمائله ،فل ِ
مَر بواطن الخلق ،وظواهرهم ،وسياسته للعامة والخاصة ،مع عجيب شمائله أ ْ
ما أفاده من العلم ،وقّرره من الشرع ،دون تعّلم سابق، سَيره فضل ً ع ّ وبديع ِ
جحان عقله، ت ،ول مطالعة للكتب منه ،لم يمت َرِ في ُر ْ دم ْ ول ممارسة تق ّ
قوب فهمه لول بديهة. وث ُ ُ
وكان عليه الصلة والسلم إذا قام في الصلة يرى من خلفه كما يرى من
ن)(219 دي َ
ج ِسا ِ قل ّب َ َ
ك ِفى ال ّ سر قوله تعالى :وَت َ َ أمامه ،وبذلك فُ ّ
ة اللسان ،وبلغة القول ،فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك وأما فصاح ُ
ل الفضل ،والموضع الذي ل ُيجهل ،سلسة طبع ،وبراعة منزع ،وإيجاز بالمح ّ
مع ُ
ن ،وقلة تكلف ،أوتي جوا ِ مقطع ،ونصاعة لفظ ،وجزالة قول ،وصحة معا ٍ
طب كل أمةٍ منها ة العرب ،فكان ُيخا ِ ص ببدائِع الحكم ،وعُّلم ألسن َ
خ ّ الك َِلم ،و ُ
بلسانها ،ويحاورها بلغتها ،وُيباريها في منزع بلغتها ،حتى كان كثير من أصحابه
يسألونه في غير موطن عن شرح كلمه ،وتفسير قوله .من تأمل حديثه
ققه .وليس كلمه مع قريش ككلمه مع أقيال وسيَره علم ذلك وتح ّ
حضرموت ،وملوك اليمن ،وعظماء نجد .بل يستعمل لكل قبيلة ما استحسنته
من اللفاظ ،وما انتهجته من طرق البلغة لي ُب َّين للناس ما ن ُّزل إليهم،
دث الناس بما يعلمون. وليح ّ
وأما كلمه المعتاد ،وفصاحته المعلومة ،وجوامع كلمه ،وحكمه المأثورة ،فقد
جمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب ،ومنها ما ل س فيها الدواوين ،و ُ ف الّنا ُأل ّ َ
ُيوازى فصاحة ،ول يبارى بلغة ،كقوله» :المسلمون تتكافأ دماؤهم ،ويسعى
بذمتهم أدناهم ،وهم يد على من سواهم« .وقوله» :الناس كأسنان المشط«،
ن ل يرى لك ما ترى له«، م ْ
صحبة َ ب« ،و»ل خير في ُ ح ّ
و»المرء مع من أ َ
شار مؤتمن«، و»الناس معادن« ،و»ما هلك امرؤ عرف قدره« ،و»المست َ َ
و»رحم الله عبدا ً قال خيرا ً فغنم ،أو سكت فسلم« .وقوله» :أسِلم َتسلم،
ي وأقربكم مني مجالس يوم وأسلم ُيؤِتك الله أجرك مرتين« ،و»إن أحّبكم إل ّ
كم أخلقا ً الموطؤون أكنافا ً الذين َيألفون وُيؤلفون« .وقوله: سن ُ ُ
القيامة أحا ِ
»لعّله كان يتكلم بما ل يعنيه ،أو يبخل بما ل يغنيه« ،وقوله» :ذو الوجهين ل
سؤال ،وإضاعة المال، يكون عند الله وجيهًا« .ونهيه عن »قيل وقال ،وكثرة ال ّ
ت ،وعقوق المهات ،ووأد البنات« ،وقوله» :اتق الله حيثما كنت، من ٍْع وها ِ
و َ
خلق حسن« ،و»خير المور وأتبع السيئة الحسنة تمحها ،وخالق الناس ب ِ ُ
أوساطها« .وقوله» :أحبب حبيبك هونا ً ما ،عسى أن يكون بغيضك يوما ما«،
ً
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
م إني وقوله» :الظلم ظلمات يوم القيامة« .وقوله في بعض دعائه» :الله ّ
شْعثي ،وُتصلح بها م بها َ أسألك رحمة تهدي بها قلبي ،وتجمع بها أمري ،وتل ّ
فتي ،وتعصمني بها ْ ُ
غائبي ،وُتزكي بها عملي ،وُتلهمني بها ُرشدي ،وترد ّ بها أل َ
ش
م إني أسألك الفوز في القضاء ،ون ُُزل الشهداء ،وعي َ من كل سوء ،الله ّ
ه الكاّفة عن الكاّفة السعداء ،والنصر على العداء« .إلى غير ذلك مما َرَوت ُ
عن مقاماته ،ومحاضراته ،وخطبه ،وأدعيته ،ومخاطباته ،وعهوده ،مما ل
سْبقا ً ل ي ُ ْ
قد َُر خلف أنه نزل من ذلك مرتبة ل ُيقاس بها غيره ،وحاز فيها َ
ه .وقد قال أصحابه :ما رأينا الذي هو أفصح منك ،فقال» :وما يمنعني؟ قَد ُْر ُ
مبين« .وقال ُ
ن عربي ُ وإنما أْنزل القرآن بلساني ،لسا ٍ
مرة أخرى» :أنا أفصح العرب بيد َ أني من قريش ،ونشأت في بني سعد«.
فجمع له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها ،ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق
للهي الذي مدد ُه ُ الوحي الذي ل ُيحيط بعلمه بشر. كلمها ،إلى التأييد ا ِ
وأما سروّ نسبه ،وكرم بلده ،ومنشئه ،فمما ل يحتاج إلى إقامة دليل عليه ،ول
ل ،ول خفي منه .فإنه نخبة بني هاشم ،وسللة قريش وصميمها، مشك ٍ بيان ُ
وأشرف العرب ،وأعّزهم نفرا ً من قبل أبيه وأمه ،ومن أهل مكة ،أكرم بلد
دمنا لك في أول الكتاب ما فيه الكفاية في الله على الله وعلى عباده .وقد ق ّ
هذا المقام.
أما ما تدعو إليه ضرورة الحياة ،فمنه ما الفضل في قلته ،ومنه ما الفضل
في كثرته ،ومنه ما تختلف الحوال فيه ،فالول :كالغذاء والنوم ،ولم ت ََزل
العرب والحكماء قديما ً تتمادح بقلتهما ،وتذم بكثرتهما ،لن كثرة الكل
ب لمضار ة ،مسب ٌشَرهِ وغلبةِ الشهو ِ ص ،وال ّ ل على الن َّهم والحر ِ والشرب دلي ٌ
خثارة النفس ،وامتلء الدماغ .وقلته ب لدواء الجسد ،و ُ الدنيا والخرة ،جال ٌ
ب للصحة ،وصفاء سب ّ ٌ م َل على القناعة ،وملك النفس .وقمع الشهوةُ ، دلي ٌ
دة الذهن ،كما أن النوم دليل على الفسولة والضعف ،وعدم الخاطر ،وح ّ
ب للكسل ،وعادة العجز ،وتضييع العمر في غير نفع، الذكاء والفطنة ،مسب ّ ٌ
وقساوة القلب وغفلته وموته .وكان عليه الصلة والسلم قد أخذ من الكل
م وعاءً َ
ن آد َض عليه قال صلى الله عليه وسلم» :ما مل اب ُ والنوم بالقل ،وح ّ
ث
ٌ ُ لُ ثَ ف ة،َ محال ل كان ن
ِ ْ إَ ف ه، بْ لص ن مق ي ت
ْ َ ٌ ُ ِ ْ َ ُ َ ُ ما ي َ ق ُ ل م
َ آد ابن به ،حس ُ شّرا ً من بطن ِ َ
ه« .ولن كثرة النوم من كثرة الكل س ِ
ف ِ ث ل ِن َ َه ،وثل ٌث لشراب ِ ه ،وثل ٌ
لطعام ِ
والشرب.
وقالت عائشة رضي الله عنها :لم يمتلىء جوف النبي صلى الله عليه وسلم
ط ،وإنه كان في أهله ل يسألهم طعاما ً ول يتشّهاه ،إن أطعموه أكل، شبعا ً ق ّ
ل ،وما سقوه شرب .وفي صحيح الحديث» :أما أنا فل آكل وما أطعموه َقب َ
ن للكل ،والتقعد ُد ُ في الجلوس له ،كالمترّبع وشبهه، كاء :هو الّتمك ُ متكئًا« والت ّ َ
كن الجلسات التي يعتمد فيها الجالس على ما تحته ،والجالس على من تم ّ
هذه الهيئة يستدعي الكل ويستكثر منه ،والنبي عليه الصلة والسلم إنما
قِعيًا ،ويقول» :إنما أنا عبد ،آكل كما
م ْ
كان جلوسه للكل جلوس المستوفِزِ ُ
ل ،ومع ذلك فقدد« ،وكذلك نومه كان قلي ً يأكل العبد ،وأجلس كما يجلس العب ُ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
وة ،وشريف منزلته بالرسالة ،وإنافة رتبته بالصطفاءوأما عظيم قدره بالنب ّ
والكرامة في الدنيا ،فأمر هو مبلغ النهاية ،ثم هو في الخرة سيد ولد آدم.
وأما ما تختلف فيه الحالت في التمدح به ،والتفاخر بسببه والتفضيل لجله،
ه به إلى صل َ ُمة لعتقادها ت َوَ ّ ظم عند العا ّ ككثرة المال ،فصاحبه على الجملة مع ّ
كنه في أغراضه ،وإل فليس فضيلة في نفسه ،فمتى كان بهذه حاجته ،وتم ّ
َ
ه ،يصرفه في مل َ ُ
منفقا ً له في مهماته ،ومهمات من قصده وأ ّ الصورة ،وصاحبه ُ
مواضعه ،مشتريا ً به المعالي والثناء الحسن ،والمنزلة في القلوب .كان
فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا .وإذا صرفه في وجوه البّر ،وأنفقه في
سبل الخير ،وَقصد بذلك الله تعالى والدار الخرة ،كان فضيلة عند الكل بكل
مسكا ً له ،غير موجهه وجوهه ،حريصا ً على جمعه، م ْحال ،ومتى كان صاحبه ُ
جد َدِف به على َ صة في صاحبه ،ولم يق ْ ق َمن ْ َ
عادت كثرته كالعدمَ ،وكان َ
مة النذالة ،فالتمدح بالمال هدة رذيلة البخل ،ومذ ّ السلمة ،بل أوقعه في وَ ْ
صّرفاته ،ونبّينا صلى الله مت َ َ صل به إلى غيره ،وتصريفه في ُ ليس لذاته بل للتو ّ
حلت له الغنائم ،وفتح عليه ّ عليه وسلم ُأوتي خزائن الرض ،ومفاتيح البلد ،وأ ِ
ُ
في حياته بلد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب ،وما دانى ذلك من الشام
جْزي َِتها وصدقاتها ،وهاداه جماعة من جلب إليه كثير من أخماسها وَ ِ والعراق ،و ُ
ملوك القاليم ،فما استأثر بشيء منه ،ول أمسك منه درهما ً بل صرفه
حدا ً ُ
وى به المسلمين ،وقال» :ما يسرني أن لي أ ُ مصارفه ،وأغنى به غيره ،وق ّ
ذهبا ً يبيت عندي منه دينار إل دينارا ً أرصده ل ِد َْيني«.
سمها ،وبقيت منها بقية فدفعها لبعض نسائه ،فلم يأخذه وأتته دنانير مرة فق ّ
نوم حتى قام فقسمها ،وقال» :الن استرحت«.
خلق فجميعها قد كانت خلق نبّينا صلى الله عليه وسلم على النتهاء بحسن ال ُ
في كمالها ،والعتدال إلى غايتها حتى أثنى الله تعالى عليه بذلك فقال:
م)(4 ك ل َعََلى ُ ُ
}وَإ ِن ّ َ
ظي ٍ
ق عَ ِ
خل ٍ
صر ينابيعها ،ونقطة دائرتها :العقل الذي منه ينبعث العلم فأصل فروعها ،وعن ُ
والمعرفة ،ويتفّرع عن هذا ثقوب الرأي ،وجودة الفطنة ،والصابة ،وصدق
حسن السياسة الظن ،والنظر للعواقب ،ومصالح النفس ،ومجاهدة الشهوة ،و ُ
والتدبير ،واقتناء الفضائل ،وتجّنب الرذائل ،وقد بلغ عليه الصلة والسلم منه
ع
م ذلك من ت َت َب ّ َ ومن العلم الغاية القصوى التي لم يبلغها بشر سواه ،يعل ُ
حسن شمائله ،وبدائع طراد سيره ،وطالعَ جوامع ك َِلمه ،و ُ مجاري أحواله ،وا ّ
سَيره ،وحكم حديثه ،وعلمه بما في التوراة والنجيل والكتب المنزلة ،وحكم ِ
سَير المم الخالية وأيامها ،وضرب المثال ،وسياسات النام، الحكماء ،و ِ
وتقرير الشرائع ،وتأصيل الداب النفيسة ،والشيم الحميدة ،إلى فنون العلوم
التي اّتخذ أهلها كلمه فيها قدوة وإشاراته حجة ،كالطب والحساب والفرائض
والنسب وغير ذلك دون تعليم ول مدارسة ،ول مطالعة كتب من تقدم ،ول
ي ل يعرف شيئا ً من ذلك ،حتى شرح الله الجلوس إلى علمائهم ،بل نبي أم ّ
سب عقله كانت معارفه عليه الصلة والسلم ح َ صدره ،وأبان أمره وعّلمه .وب َ
إلى سائر ما عّلمه الله ،وأطلعه عليه من علم ما يكون وما كان ،وعجائب
ل الل ّ ِ
ه ض ُ ن فَ ْ كا َ م وَ َ ن ت َعْل َ ُ م ت َك ُ ْ ما ل َ ْك َ م َ قدرته ،وعظيم ملكوته قال تعالى :وَعَل ّ َ
ظيمًا{ )النساء.(113 : ك عَ ِ عَل َي ْ َ
وأما الحلم والحتمال والعفو مع القدرة ،والصبر على ما يكرهه ،فمما أّدب
َ ْ
رض ف وَأعْ ِ مْر ِبال ْعُْر ِ فوَ وَأ ُ خذِ ال ْعَ ْ الله به نبّيه صلى الله عليه وسلم فقالُ } :
َ
موِر{ )لقمان: ْ
ن عَْزم ِ ال ُ م ْ َ
ن ذ َل ِك ِ ك إِ ّ صاب َ َ مآ أ َ صب ِْر عََلى َ ن)َ (199وا ْ ن ال ْ َ
جاهِِلي َ عَ ِ
فوٌر ه غَ ُ ّ ُ َ ّ َ َ َ ْ ْ ْ ْ
م َوالل ُ ه لك ْ فَر الل ُ ن أن ي َغْ ِ حّبو َ حوا أل ت ُ ِ ف ُ
ص َ
فوا وَلي َ ْ .(17وقال} :وَلي َعْ ُ
موِر)(43 ْ
ن عَْزم ِ ال ُ م ْ َ
ن ذ َل ِك ل َِ فَر إ ِ ّ صب ََر وَغَ َ من َ َ
م{ )النور .(22 :وقال} :وَل َ حي ٌ ّر ِ
طخّير عليه الصلة والسلم في أمرين ق ّ قالت عائشة رضي الله عنها» :ما ُ
إل اختار أيسرهما ،ما لم يكن إثمًا ،فإن كان إثما كان أبعد الناس منه ،وما
ً
انتقم لنفسه إل أن ت ُن َْتهك حرمة الله ،فينتقم لله«.
طلب منه أن يدعو عليهم قال: حد ،و ُ ُ
ولما فعل به المشركون ما فعلوا في أ ُ
م اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون«. »الله ّ
وحسبك في هذا الباب ما فعله مع مشركي قريش الذين آذوه ،واستهزؤوا
به ،وأخرجوه من دياره هو وأصحابه ،ثم قاتلوه ،وحّرضوا عليه غيرهم من
مشركي العرب ،حتى تمال َ عليه جمعهم ،ثم لما فتح الله عليه مكة ما زاد
على أن عفا وصفح ،وقال» :ما تقولون أني فاعل بكم؟« قالوا :خيرا ً أ ٌ
خ
طلقاء« .وعن أنس :كنت مع ن أخ كريم ،فقال» :اذهبوا فأنتم ال ّ
كريم ،واب ُ ٍ
النبي عليه الصلة والسلم وعليه ُبرد غليظ الحاشية فجذبه أعرابي بردائه
جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه ،ثم قال :يا محمد
احمل لي على بعيريّ هذين من مال الله الذي عندك ،فإنك ل تحمل لي من
مالك ول من مال أبيك ،فسكت النبي ثم قال» :المال مال الله وأنا عبده«.
م؟« قال :لنك ثم قال» :وُيقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي« قال :ل ،قال» :ل ِ َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ة ،فضحك عليه الصلة والسلم ،ثم أمر أن ُيحمل له ل تكافىء بالسيئةِ السيئ َ
على بعير شعيٌر ،وعلى الخر تمٌر.
وأما الجود والكرم والسخاء والسماحة ،فكان عليه الصلة والسلم ل ُيوازى
ه بهذا كل من عرفه ،قال جابر ف ُ
ص َ
في هذه الخلق الكريمة ،ول ُيبارى .و َ
سئل عليه الصلة والسلم عن شيء فقال :ل .وقال ابن رضي الله عنه :ما ُ
عباس :كان عليه الصلة والسلم أجود َ الناس بالخير ،وأجود َ ما كان في شهر
رمضان ،وكان إذا لقيه جبريل أجود َ بالخير من الريح المرسلة .وقالت خديجة
ب ل ،وتك ْ ِ
س ُ في صفته عليه الصلة والسلم مخاطبة له :إنك تحمل الك َ ّ
المعدوم.
سُبك شاهدا ً في هذا الباب ما فعله مع هوازن من رد ّ السبي إليها ،وما ح ْ
و َ
فعله يوم تقسيم السبي من إعطاء المؤلفة قلوبهم عظيم العطية .وقد
استوفينا ذلك في موضعه.
حمل إليه عليه الصلة والسلم تسعون ألفًا ،فوضعها على حصير وأخذ و ُ
يقسمها فما قام حتى فرغ منها.
ي ،فإذا جاءنا شيء وجاءه رجل فسأله فقال» :ما عندي شيء ،ولكن ابتعْ عل ّ
ك الله ما ل تقدُر عليه ،فكره ذلك عليه الصلة ف َقضيناه« فقال له عمر :ما كل ّ َ
ف من ذي والسلم ،فقال له رجل من النصار :يا رسول الله أنفق ول تخ ْ
ف البشُر في وجهه وقال: ل ،فتبسم عليه الصلة والسلم وعُرِ َ العرش إقل ً
ت«. ُ
مر ُ »بهذا أ ِ
والخبار بجوده وكرمه عليه الصلة والسلم كثيرة يكفي منها لتعليمك ما
ذكرناه.
ومنها الشجاعة والنجدة ،فكان عليه الصلة والسلم منهما بالمكان الذي ل
ماة ُ والبطال عنه غير مرة ،وهو ُيجهل ،قد حضر المواقف الصعبة ،وفّر الك ُ َ
ُ
قبل ل ُيدبر ،ول يتزحزح ،وما من شجاع إل أحصيت له فّرة، م ْ
ثابت ل ي َب َْرح ،و ُ
حد مما ذكرناه ُ
ن وأ ُ
حن َي ْ ٍ
وحفظت عنه جولة ،سواه .وحسبك ما فعله في ُ
مستوفى.
ت أشجعَ ول أنجد َ ول أجود ول أرضى من رسول الله وقال ابن عمر :ما رأي ُ
ق
حد َ ُ
حمّرت ال َس ،وا ْ
ي :إّنا كّنا إذا اشتد البأ ُ
صلى الله عليه وسلم ،وقال عل ّ
ب إلى العدو منه ،ولقد رأيُتني يوم بدر، َ أقر اتقينا برسول الله ،فما يكون أحد ٌ
ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم ،وهو أقربنا إلى العدو ،وكان من أشد
الناس يومئذٍ بأسًا .وقال أنس :كان عليه الصلة والسلم أشجعَ الناس،
س قَِبل ة ،فانطلق نا ٌ ن الناس ،وأجود َ الناس ،لقد فزع أهل المدينة ليل ً وأحس َ
ً
الصوت ،فتلقاهم عليه الصلة والسلم راجعا ،قد سبقهم إلى الصوت،
ي ،والسيف في عنقه ،وهو يقول: واستبرأ الخبر على فرس لبي طلحة عُْر ٍ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
»لن ُتراعوا«.
وأما الحياء والغضاء ،فكان عليه الصلة والسلم أشد ّ الناس حياًء ،وأكثرهم
عن العورات إغضاء ،قال أبو سعيد الخدري :كان عليه الصلة والسلم أشد ّ
درها .وكان إذا كره شيئا ً عرفناه في وجهه. خ ْ
حياًء من العذراء في ِ
ً
ه أحدا بما شرة ،رقيقَ الظاهر ،ل ي ُ َ
شافِ ُ ف الب َ َ
وكان عليه الصلة والسلم لطي َ
م نفس .قالت عائشة :كان عليه الصلة والسلم إذا بلغه يكرهه ،حياًء وكر َ
ْ
عن أحد ٍ ما يكرهه لم يقل :ما بال فلن يقول كذا وكذا؟ بل يقول» :ما بال
عله ،وقالت رضي مي فا ِ
س ّ
أقوام يصنعون أو يقولون كذا؟« .ينهى عنه ول ي ُ َ
الله عنها :لم يكن عليه الصلة والسلم فاحشًا ،ول متفحشًا ،ول صخابا ً
بالسواق ،ول يجزي بالسيئة السيئة ،ولكن يعفو ويصفح.
وأما حسن عشرته وأدبه ،وبسط خلقه مع أصناف الخلق ،فمما انتشرت به
الخبار الصحيحة ،قال علي رضي الله عنه :كان عليه الصلة والسلم أوسعَ
الناس صدرًا ،وأصدقَ الناس لهجة ،وألينهم عريكة ،وأكرمهم عشرة .وكان
ل قوم ويوّليه عليهم، فرهم ،ويكرم كريم ك ِ عليه الصلة والسلم يؤّلفهم ،ول ين ّ
ذر الناس ،ويحترس منهم ،من غير أن يطوي على أحد منهم بشره ،ول ح َ
وي ْ
خلقه ،ويتفقد أصحابه ،ويعطي كل جلسائه نصيبه ،ل يحسب جليسه أن أحدا ً
ن هو المنصرف أكرم عليه منه .من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكو َ
عنه ،ومن سأله حاجة لم يرّده إل بها ،أو بميسور من القول ،قد وسع الناس
خُلقه ،فصار لهم أبًا ،وصاروا عنده في الحق سواء ،بهذا وصفه ابن بسطه و ُ
َ
أبي هالة .وكان دائم البشر ،سهل الخلق ،لّين الجانب ،ليس بفظ ول غليظ،
ما ل يشتهي ،ول يؤيس داح ،يتغافل ع ّ حاش ،ول عّياب ،ول م ّ خاب ،ول ف ّ ول ص ّ
ب قل ِ ْ ْ َ
ت فَظا غَِليظ ال َ ً ّ ُ َ
م وَلوْ كن ْ َ َ
ت لهُ ْ ّ
ن اللهِ ِلن َ م َمةٍ ّ ح َما َر ْ منه ،قال تعالى :فَب ِ َ
ر{ )آل م ِ ْ
م ِفى ال ْ شاوِْرهُ ْ م وَ َ َ
فْر لهُ ْ ست َغْ ِم َوا ْف عَن ْهُ ْك َفاعْ ُ حوْل ِ َ
ن َ م ْ ضوا ْ ِ ف ّ ل َن ْ َ
َ
ه
ك وَب َي ْن َ ُ ذى ب َي ْن َ َ ن فَإ َِذا ال ّ ِ س ُح َ ىأ ْ ّ
عمران .(159َ :وقال تعالى} :اد ْفَعْ ِبالِتى هِ َ
م{ )فصلت.(34 : مي ٌ ح ِ ى َ داوَة ٌ ك َأن ّ ُ
ه وَل ِ ّ عَ َ
كراعاً، وكان عليه الصلة والسلم يجيب من دعاه ،ويقبل الهدية ،ولو كانت ُ
ويكافىء عليها ،وكان يمازح أصحابه ،ويخالطهم ،ويحادثهم ،ويلعب صبيانهم،
حجره ،ويجيب دعوة الحر والعبد ،والمة والمسكين ،ويُعود ويجلسهم في ِ
المرضى في أقصى المدينة ،ويقبل عذر المعتذر .وقال أنس :ما التقم أحد
حي رأسه ،وما ُ
حى رأسه ،حتى يكون الرجل هو الذي ين ّ أذن النبي يحادثه فن ّ
أخذ أحد ٌ بيده فيرسل يده حتى يرسلها الخر.
ط ماد ّا ً رجليه
وكان يبدأ من لقيه بالسلم ،ويبدأ أصحابه بالمصافحة ،لم ي َُر ق ّ
ضي ّقَ بهما على أحدُ ،يكرم من يدخل عليه ،وربما بسط له بين أصحابه حتى ي ُ َ
ثوبه ،ويؤثره بالوسادة التي تحته ،ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى،
ة لهم ،ول يقطعُ على أحد وي ُك َّني أصحابه ،ويدعوهم بأح ّ
ب أسمائهم تكرم ً
حديثه ،حتى يتجوَّز فيقطعه بنهي أو قيام ،وكان أكثَر الناس تبسمًا ،وأطيبهم
نفسًا ،ما لم ُينزل عليه قرآن ،أو يعظ ،أو يخطب.
وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق فقد وصفه الله بها في قوله
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
م{ )التوبة:
حي ٌ
ف ّر ِ
ن َرءو ٌ مؤ ْ ِ
مِني َ م ِبال ْ ُص عَل َي ْك ُ ْري ٌ ح ِم َ زيٌز عَل َي ْهِ َ
ما عَن ِت ّ ْ تعالى} :عَ ِ
َ ْ ّ ْ َ
ن)(107 مي َ ة للَعال ِ م ً
ح َك إ ِل ّ َر ْ
سلَنا َ مآ أْر َ
.(128وقال} :وَ َ
روي أن أعرابيا ً جاءه يطلب منه شيئا ً فأعطاه ،ثم قال» :أأحسنت إليك؟«
ت .فغضب المسلمون وقاموا إليه ،فأشار إليهم أن قال العرابي :ل ،ول أجمل َ
فوا ،ثم قام ودخل منزله ،وأرسل إليه ،وزاده شيئًا ،ثم قال» :أأحسنت كُ ّ
ً
إليك؟« فقال :نعم ،فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا ،فقال عليه الصلة
تت ،وفي أنفس أصحابي من ذلك شيء ،فإن أحبب َ ت ما ُقل َ
والسلم» :إنك قل َ
ب ما في صدورهم عليك« قال: ي ،حتى يذه َ فقل بين أيديهم ما قلت بين يد ّ
نعم ،فلما كان الغد ــــ أو العشي ــــ جاء فقال عليه الصلة والسلم» :إن
م أنه رضي أكذلك؟« قال :نعم، هذا العرابي قال ما قال ،فزدناه فزع َ
فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا ،فقال عليه الصلة والسلم» :مثلي ومث ُ
ل
ت عليه ،فاّتبعها الناس فلم يزيدوها إل نفورًا، هذا مثل رجل له ناقة شرد ْ
فناداهم صاحبها :خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها منكم وأعلم ،فتوجه لها
ت ،وشد ّ ت واستناخ ْ
بين يديها ،فأخذ لها من قمام الرض ،فرّدها ،حتى جاء ْ
ث قال الرج ُ
ل ما قال عليها رحلها واستوى عليها ،وإني لو تركتكم حي ُ
فقتلتموه دخل النار« .وقال عليه الصلة والسلم» :ل ي ُب َّلغني أحد منكم عن
م الصدر« .وكان يسمعُ بكاء أصحابي شيئا ً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سلي ُ
ولنا
الصبي فيتجوُّز في صلته .وعن ابن مسعود كان عليه الصلة والسلم يتخ ّ
بالموعظة مخافة السآمة علينا.
وأما خلقه عليه الصلة والسلم في الوفاء ،وحسن العهد ،وصلة الرحم،
فروي عن عبد اللهبن أبي الحمساء قال :بايعت النبي عليه الصلة والسلم
ه بها في مكانه فنسيت ،ثم ت له بقية ،فوعدته أن آت ِي َ ُ ببيع قبل أن ُيبعث ،وبقي ْ
ي
ت بعد ثلث ،فجئت ،فإذا هو في مكانه ،فقال» :يا فتى ،لقد شققت عل ّ ذكر ُ
ي بهدية ،قال» :اذهبوا بها إلى بيت ُ
أنا هنا منذ ثلث أنتظرك« .وكان إذا أت َ
ب خديجة« .وكان عليه الصلة فلنة ،فإنها كانت صديقة لخديجة ،إنها كانت تح ّ
صل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم .ووفد َ والسلم ي َ ِ
م يخدمهم بنفسه ،فقال له أصحابه :نكفيك ،فقال» :إنهم كانوا عليه وفد ،فقا َ
لصحابنا مكرمين ،وإني أحب أن أكافئهم« .وفي حديث خديجة :أبشر ،فوالله
ري ق ِ
ب المعدوم ،وت ْس ُ
ل ،وتك ِل الرحم ،وتحمل الك َ ّ ل يخزيك الله أبدًا ،إنك لتص ُ
الضيف ،وتعين على نوائب الحق.
وأما تواضعه عليه الصلة والسلم ،على علو منصبه ورفعة رتبته ،فكان أشد ّ
كبرًا ،وحسبك أنه خّير بين أن يكون نبي ّا ً ملكًا ،أو نبيا ً
الناس تواضعًا ،وأقّلهم ِ
عبدًا ،فاختار أن يكون نبيا ً عبدًا ،وخرج عليه الصلة والسلم مرة على أصحابه
ظم بعضهم متوكئا ً على عصا ،فقاموا ،فقال» :ل تقوموا كما تقوم العاجم ي ُعَ ّ
د ،آكل كما يأكل العبد ،وأجلس كما يجلس العبد«. بعضًا« .وقال» :إنما أنا عب ٌ
ف خلفه ،ويعود المساكين ،وُيجالس الفقراء ،وُيجيب وكان يركب الحمار وي ُْردِ ُ
ً
دعوة العبد ،ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم ،حيثما انتهى به المجلس جلس.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
طروني كما أطرت النصارى ابن مريم .إنما وقال عليه الصلة والسلم» :ل ت ُ ْ
ث، لر ّ ح ٍأنا عبد ،فقولوا :عبد الله ورسوله« وحج عليه الصلة والسلم على َر ْ
م اجعله حجا ً ل رياء فيه ول وعليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم فقال» :الله ّ
دنة .ولما سمعة« هذا وقد فتحت عليه الرض ،وأهدى في حجه ذلك مائة ب َ َ
ُفتحت عليه مكة ،ودخلها بجيوش المسلمين طأطأ على رحله رأسه حتى كاد َ
س قادمته تواضعا ً لله تعالى .وعن أبي هريرة رضي الله عنه :دخل ُ
ت م ّ
يَ َ
السوق مع النبي صلى الله عليه وسلم ،فاشترى سراويل ،وقال للوازن:
»زن وأرجح« ،ثم قال :فوثب إلى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقّبلها،
فجذب يده ،وقال» :هذا تفعله العاجم بملوكها ولست بملك إنما أنا رجل
ب الشيء أحقّ بشيئه ت لحمله قال» :صاح ُ ل فذهب ُ منكم« ،ثم أخذ السراوي َ
أن يحمله«.
ن
فته ،وصدق لهجته ،فكان آم َ وأما عدله عليه الصلة والسلم ،وأمانته ،وع ّ
ف الناس ،وأصدقهم لهجة منذ كان ،اعترف له الناس ،وأعدل الناس ،وأع ّ
دمنا ذلك في وته المين ،وقد ق ّ مى قبل نب ّ س ّ
بذلك محاّدوه وأعداؤه ،وكان ي ُ َ
وة .وفي الحديث عنه عليه الصلة ّ النب قبل سيرته عليه الصلة والسلم
مب َّرد:ط ل يملك رّقها .قال أبو العباس ال ُ والسلم :ما لمست يد ُهُ يد َ أمرأة ق ّ
م الغيم للصيد ،ويوم صلح للنوم ،ويو ُ سم كسرى أيامه ،فقال :يوم الريح ي َ ْ ق ّ
م الشمس للحوائج .ولكن نبّينا عليه الصلة والسلم المطر للهو والشرب ،ويو ُ
جّزأ نهاره ثلثة أجزاء ،جزء لله ،وجزء لهله ،وجزء لنفسه ،ثم جّزأ جزأه بينه
نل م ْ مة ،ويقول» :أبلغوا حاجة َ صة على العا ّ وبين الناس ،فكان يستعين بالخا ّ
ه الله يوم الفزع ن ل يستطيعُ إبلغها آمن ُ م ْ يستطيعُ إبلغي ،فإن من أبلغ حاجة َ
الكبر« .وكان عليه الصلة والسلم ل يأخذ أحدا ً بذنب أحد ،ول يصدق أحدا ً
على أحد.
وأما وقاره عليه الصلة والسلم وصمته ،وتؤدته ،ومروءته ،وحسن هديه.
رج شيئا ً من فكان عليه الصلة والسلم أوقَر الناس في مجلسه ،ل يكاد ُ ُيخ ِ
ً
أطرافه ،وكان إذا جلس احتبى بيديه ،وكذلك كان أكثر جلوسه محتبيا .وكان
من تكلم بغير جميل ،وكان كثير السكوت ،ل يتكلم في غير حاجةُ .يعرض ع ّ
حك أصحابه عنده ُ ض ِل ،ل فضول ول تقصير ،وكان َ ضحكه تبسمًا ،وكلمه فَ ْ
ص ً
س حلم وحياء وخير وأمانة ،ل ُترفع التبسم توقيرا ً له ،واقتداء به .مجلسه مجل ُ
م ،إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على حَر ُ ن فيه ال ُ فيه الصوات ،ول ت ُ ْ
ؤب ُ
رؤوسهم الطير .وقال ابن أبي هالة :كان سكوته صلى الله عليه وسلم على
كر .وقالت عائشة رضي الله عنها: أربع :على الحلم ،والحذر ،والتقدير ،والتف ّ
بح ّده العاد لحصاه ،وكان ي ُ ِ ث حديثا ً لو ع ّ حد ّ ُكان صلى الله عليه وسلم ي ُ َ
ض عليهما .ومن مروءته ّ ويح ً
ا، كثير ويستعملهما طيب ،والرائحة الحسنة، ال ّ
صلى الله عليه وسلم نهيه عن النفخ في الطعام والشراب والمر بالكل مما
سواك وإنقاء البراجم والرواجب )مفاصل الصابع من ظاهر يلي ،والمر بال ّ
الكف وباطنها(.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
دمنا لك فيه ما فيه الكفاية، وأما زهده عليه الصلة والسلم في الدنيا فقد ق ّ
وحسبك شاهدا ً على تقل ّل ِهِ من الدنيا ،وإعراضه عن زهرتها ،وقد سيقت إليه
بحذافيرها ،وترادفت عليه فتوحها ،أنه توفي عليه الصلة والسلم ،ودرعه
ل رزقَ آل م اجع ْ مرهونة عند يهودي في نفقة عياله .وهو يدعو ويقول» :الله ّ
محمد قوتًا« .وقالت عائشة رضي الله عنها :ما شبع عليه الصلة والسلم
ثلثة أيام تباعا ً من خبز حتى مضى لسبيله .وقالت :ما ترك عليه الصلة
والسلم دينارًا ،ول درهمًا ،ول شاة ،ول بعيرًا ،ولقد مات وما في بيتي شيء
ي أن ُتجعل عرض عل ّ يأكله ذو كبد إل شطر شعير في رف لي .وقال» :إني ُ
ب أجوعُ يومًا ،وأشبع يوما .فأما اليوم الذي
ً لي بطحاء مكة ذهبا ً فقلت :ل يا ر ّ
أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك ،وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني
عليك« ،وقالت عائشة :إن كّنا آل محمد لنمكث شهرا ً ما نستوقد نارًا ،إن هو
ن ،ول في خوا ٍإل التمر والماء .وعن أنس :ما أكل عليه الصلة والسلم على ُ
مَرّقق ،ول أرى شاة سميطا ً ق ّ
ط. خب َِز له ُ
ة ،ول ُ سك ُّر َ
ج ٍ ُ
وفي حديث حفصة :كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته
سحا ً نثنيه ثنيتين ،فينام عليه ،فثنيناه ليلة بأربع ،فلما أصبح ،قال» :ما م ْ ِ
ه منعتني الليلة َ
فرشتم لي؟« فذكرنا له ذلك فقال» :رّدوه بحاله فإن وَطاَءت َ ُ
صلتي«.
ث عائشة :لم يمتلىء جوف النبي عليه الصلة والسلم شبعًا ،ولم يب ّ وقالت َ
ل جائعا ً ب إليه من الغنى .وإن كان ليظ ّ شكوى إلى أحد ،وكانت الفاقة أح ّ
يلتوي طول ليلته من الجوع فل يمنعه صيام يومه .ولو شاء رّبه جميع كنوز
ح
ت أبكي رحمة له مما أرى به ،وأمس ُ الرض وثمارها ورغد َ عيشها .ولقد كن ُ
ت ّ
بيدي على بطنه مما أرى به من الجوع ،وأقول :نفسي لك الفداء ،لو تبلغْ َ
من الدنيا بما يقوُتك ،فيقول» :يا عائشة ما لي وللدنيا ،إخواني من ُأولي
العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا ،فمضوا على حالهم،
ت ل ثوابهم .فأجدني أستحي إن ترفّهْ ُ موا على ربهم فأكرم مآبهم ،وأجز َ قد ِ ُفَ َ
ي من اللحوق ب إل ّصَر بي غدا دونهم ،وما من شيء هو أح ّ ً ق ّ في معيشتي أن ي ُ َ
ت الله عليه ً
لئي« .قالت :فما أقام بعد ُ إل شهرا حتى توفي صلوا ُ بإخواني وأخ ّ
وسلمه.
دة عبادته ،فعلى قدر علمه بربه .ولذلك قال: ّ وش له، وطاعته ربه، خوفه وأما
كيتم كثيرًا« »أرى ما ل ترون وأسمع »لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليل ً ولب َ
حقّ لها أن ت َئ ِ ّ َ
ط ما فيها موضع وتت ــــ السماُء و ُ ص ّت ــــ َما ل تسمعون أط ّ ْ
أربع أصابع إل وملك واضع جبهته ساجدا ً لله ،والله لو تعلمون ما أعلم
كيتم كثيرا ً وما تلذذتم بالنساء على الفرش ،ولخرجتم إلى لضحكتم قليل ً ولب َ
صُعدات تجأرون إلى الله تعالى .لوددت أني شجرة تعضد«. ال ّ
ك ،ثم توضأ ،ثم قام يصلي ،فقمت معه فاستفتح الله عليه وسلم ليلة ،فاستا َ
البقرة ،فل يمّر بآية رحمة إل وقف فسأل ،ول يمّر بآية عذاب إل وقف فتعوذ،
ثم ركع فمكث بقدر قيامه ،يقول» :سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء
والعظمة« ،ثم سجد ،وقال مثل ذلك .ثم قرأ )آل عمران( ثم سورة سورة
ت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يفعل مثل ذلك .وقال بعضهم :أتي ُ
يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل ،وفي وصف ابن أبي هالة :كان متواص َ
ل
الحزان دائم الفكرة ليست له راحة.
وعن علي رضي الله عنه قال :سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
ب أساسي، ل أصل ديني ،والح ّة رأس مالي ،والعق ُ سّنته فقال» :المعرف ُ
م
ُ والعل رفيقي، ن
ُ والحز كنزي، والثقة أنيسي، الله وذكر والشوقُ مركبي،
حرفتي، سلحي ،والصبُر ردائي ،والرضا غنيمتي ،والعجُز فخري ،والزهد ُ ِ
ن قوتي ،والصدق شفيعي ،والطاعة حسبي ،والجهاد خلقي ،وقّرة عيني واليقي ُ
مي لجل أمتي ،وشوقي إلى ربي« في الصلة ،وثمرة فؤادي في ذكره ،وغ ّ
فجزاه الله من نبي عن أمته خيرًا ،ورحم الله عبدا تأمل في هذه الشمائل
ً
الكريمة والخصال الجميلة فتمسك بها ،واتبع رسول الله صلى الله عليه
م
وسلم ليحوز شفاعته يوم الفزع الكبر ،ويرضى الله عنه ،فنسألك الله ّ
التوفيق لما فيه الخير بمّنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
ه عليه السلم
مْعجزات ُ ُ
ُ
دمناه من جميل أثر هذا السيد الكريم ،وحميد سيره، إذا تأمل المتأمل ما ق ّ
شاهد وبراعة علمه ،ورجاحة عقله وحلمه ،وجملة كماله ،وجميع خصاله ،و َ
وته ،وصدق دعوته ،وقد كفى هذا حاله ،وصواب مقاله .لم يمتر في صحة نب ّ
غير واحد في إسلمه واليمان به كعبد اللهبن سلم .فإنه قال :لما قدم النبي
ن َ
ت وجهه عرفت أ ّ صلى الله عليه وسلم المدينة جئته لنظر إليه فلما است َب َن ْ ُ
وجهه ليس بوجه كذاب.
ضمادا ً لما وفد عليه قال له صلى الله عليه وسلم» :إن ن ِ وروى مسلم أ ّ
ضل له ،ومن يضلل الله فل ّ م ِالحمد لله نحمده ونستعينه ،من يهد الله فل ُ
ً
هادي له .وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك له وأن محمدا عبده
ي كلماِتك هؤلء ،فلقد بلغن قاموس البحر، عد ْ عل ّ
ضماد :أ ِورسوله« فقال له ِ
ت يدك ُأبايعك. ها ِ
لسلم، عمان أن رسول الله عليه الصلة والسلم يدعوه إلى ا ِ ك ُولما بلغ مل َ
قال :والله لقد دلني على هذا النبي المي أنه ل يأمر بخير إل كان أول آخذ ّ
ب فل يبطر ،وُيغلب فل به ،ول ينهى عن شيء إل كان أول تارك له ،وأنه ي َْغل ُ
جر ،ويفي بالعهد ،وينجز الموعود ،وأشهد أنه نبي .وقال ابن رواحة: ض َيَ ْ
خَبر كيف وقد أظهر الله على ن منظُره ُ ُينبي َ
ك بال َ ن فيه آيات مبّينةلكا َ لو لم تك ْ
ة،
د ،فهو أكثر النبياء آي ً يده تصديقا لدعوته من المعجزات ما ل يفي به الع ّ ً
وأظهرهم برهانًا ،وسنذكر لك في هذا الفصل من اليات ما تقّر به عينكَ،
م الغفير من الصحابة رضوان الله عليهم، ويزداد به يقينك ،مما رواه الج ّ
ً ً
دثون في صحاحهم ،ونبدأ منها بأظهرها شأنا ،وأوضحها بيانا ،وهو وأثبته المح ّ
القرآن الشريف وإعجازه.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أولها :حسن تأليفه ،والتئام كلمه ،وفصاحته ،ووجوه إيجازه ،وبلغته الخارقة
صوا خ ّ ب هذا الشأن ،وفرسان الكلم ،قد ُ عادة العرب ،وذلك أنهم كانوا أربا َ
ص به غيرهم من المم ،وأوتوا من َذرابة اللسان ُ
خ ّ من البلغة والحكم بما لم ي ُ َ
قّيد اللباب ،جعل الله لهم ذلك ت إنسان ،ومن فصل الخطاب ما ي ُ َ ما لم ُيؤ َ
خْلقة ،وفيهم غريزة وقوة ،يأتون منه على البديهة بالعجب ،وي ُد ْلون به
ُ طبعا ً و ِ
طب ،ويرتجزون به خ ْ إلى كل سبب ،يخطبون بديها ً في المقامات ،وشديد ال َ
بين الطعن والضرب ،ويقدحون ويمدحون ،ويتوسلون ويتوصلون ،ويرفعون
َ
ل من م َ ج َ وقون من أوصافهم أ ْ سحر الحلل ،وي ُط َ ّ ويضعون ،فيأتون من ذلك بال ّ
لحن ،وُيهيجون ذهبون ا ِ مط اللل ،فيخدعون اللباب ،ويذللون الصعاب ،وي ُ ْ س ْ ِ
ً ً
من ،ويجّرئون الجبان ،ويصيرون الناقص كامل ،ويتركون النبيه خامل ،منهم الد ّ َ
صل ،والكلم الفخم ،والطبع الجوهري، ف ْالبدوي ذو اللفظ الجزل ،والقول ال َ
والمنزع القوي ،ومنهم الحضري ،ذو البلغة البارعة ،واللفاظ الناصعة،
والكلمات الجامعة ،والطبع السهل ،والتصّرف في القول القليل الكلفة،
الكثير الرونق ،الرقيق الحاشية ،وكلهما له في البلغة الحجة البالغة ،والقوة
مْهيعُ الناهج ،ل يشكون أن الكلم طوع مرادهم، ح الفالج ،وال َ قد ُ الدامغة ،وال ِ
حووا فنونها ،واستنبطوا عيونها ،ودخلوا من كل باب والبلغة ملك قيادهم ،قد َ
من أبوابها ،وعََلوا صرحا ً لبلوغ أسبابها ،فقالوا في الخطير والمهين ،وتفننوا
قل والك ُْثر ،وتساجلوا في النظم والنثر، ث والسمين ،وتقاولوا في ال ّ في الغ ّ
ْ ْ
ن
م ْن ي َد َي ْهِ وَل َ ِ من ب َي ْ ِ ل ِ عهم إل رسول كريم ،بكتاب عزيز :ل ّ ي َأِتيهِ الَباط ِ ُ فما را َ
َ
ما ن َّزلَنا عَلىْ م ّ
ب ّ م ِفى َري ْ ٍ ُ
د) (38) (42وَِإن كنت ُ ْ مي ٍح ِكيم ٍ َ
ح ِ
ن َ م ْل ّ زي ٌ فهِ َتن ْ ِخل ْ ِ َ
م ُ
ن اللهِ ِإن كنت ُ ْ ّ من ُدو ِ دآءكم ّ ُ ْ
عوا ُ
شهَ َ مث ْل ِهِ َواد ْ ُ
من ّ سوَرةٍ ّ ْ
عَب ْدَِنا فَأُتوا ب ِ ُ
حط فه أحلمهم ،وي ُ فلم يزل يقرعهم أشد ّ التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ ،ويس ّ
ت نظامهم ،ويذم آلهتهم وآباءهم ،ويستبيح أرضهم وديارهم مهم ،ويشت ّ ُ أعل َ
وأموالهم ،وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته ،محجمون عن مماثلته،
هاَذآ ن َ يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب ،والغترار بالفتراء ،وقولهم :إ ِ ْ
ه{ )الفرقان.(4 : ك افْت ََرا ُ مّر{ )القمر .(2 :و}إ ِفْ ٌ ست َ ِ
م ْ
حٌر ّ
س ْحٌر ي ُؤْث َُر)ِ (24 س ْ إ ِل ّ ِ
َ
ن{ )النعام .(25 :والمباهتة ،والرضا بالدنية .كقولهم: طيُر ال ْوِّلي َ سا ِ و}أ َ
عوَنا إ ِل َي ْهِ وَِفى ءاذان َِنا وَقٌْر ما ت َد ْ ُ َ }قُُلوب َُنا غُل ْ ٌ
م ّ ف{ )البقرة ،(88 :و}ِفى أك ِن ّةٍ ِ
ن َوال ْغَوْا ْ قْرءا ِ مُعوا ْ ل َِهاَذا ال ْ ُ س َب{ )فصلت ،(5 :و}ل َ ت َ ْ جا ٌح َك ِ من ب َي ْن َِنا وَب َي ْن ِ َ وَ ِ
هاَذآ{ ل َ قل َْنا ِ
مث ْ َ شآء ل َ ُ ه{ )فصلت ،(26 :والدعاء مع العجز ،كقولهم} :ل َوْ ن َ َ ِفي ِ
فعَُلوْا{ )البقرة (24 :فما فعلوا ول )النفال (31 :وقد قال لهم} :وََلن ت َ ْ
ف عواره لجميعهم. ش َ قدروا ،ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيِلمة ،ك ُ ِ
ف على أهل الميز منهم خ َ وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلمهم ،وإل لم ي َ ْ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
أنه ليس من نمط فصاحتهم ،ول جنس بلغتهم ،بل وّلوا عنه مدبرين ،وأتوا
ة{ص حيا ٌ صا ِ ق َ م ِفي ال ْ ِ إليه مذعنين ،وأنت إذا تأملت قوله تعالى} :وَل َك ُ ْ
ب)
ري ٍن قَ ِكا ٍ م َمن ّ ذوا ْ ِ خ ُ ت وَأ ُ ِعوا ْ فَل َ فَوْ َ )البقرة (179 :وقوله} :وَل َوْ ت ََرى إ ِذ ْ فَزِ ُ
َ َ
م{ مي ٌ ح ِى َ داوَة ٌ ك َأن ّ ُ
ه وَل ِ ّ ه عَ َ ذى ب َي ْن َ َ
ك وَب َي ْن َ ُ ن فَإ َِذا ال ّ ِ
س ُ ح َ
ىأ ْ ّ
(51اد ْفَعْ ِبالِتى هِ َ
ض اب ْل َِعى َ )فصلت (34 :وقوله} :وَِقي َ
ل ياأْر ُ
َ
جودِىّ وَِقي َ
ل ت عََلى ال ْ ُ ست َوَ ْمُر َوا ْ ى ال ْ ْ َ مآء وَقُ ِ
ض ض ال ْ َ مآء أقْل ِِعى وَِغي َ س َ ك َويا َ مآء ِ َ
صبا ً َ ْ َ َ َ ْ َ ّ ُ َ ّ ْ ّ
حا ِسلَنا عَلي ْهِ َ ْ َ ر أ منُ ّ همْ ن م
ِ ف ِ ه ب
ِ ِذن ب نا
َ ذ خ
َ أ ل ك ف ( 44 ن) َ مي
ِ ِ ل ظا ال م
ْ ِ و َ ق ل ل دا
ً ْ ع بُ
َ َ
ن أغَْرقَْنا وَ َ
ما م ْ م ّ
من ْهُ ْ
ض وَ ِ فَنا ب ِهِ ال ْْر َ س ْ خ َ ن َ م ْ م ّ من ْهُ ْ ة وَ ِ ح ُ
صي ْ َ
ه ال ّ خذ َت ْ ُ نأ َ م ْم ّ من ْهُ ْ وَ ِ
ن)(40 ْ َ ْ َ َ ْ ّ َ
مو َ م ي َظل ِ ُ سهُ ْ ف َ كن كاُنوا أن ُ م وَل ِ مهُ ْ ه ل ِي َظل ِ َ ن الل ُ كا َ
الوجه الثاني من إعجاز القرآن :صورة نظمه العجيب ،والسلوب الغريب
تالمخالف لساليب كلم العرب ،ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه ووقف ْ
ت فواصل كلماته إليه ،ولم يوجد قبله ول بعده نظير له، عليه مقاطع آِيه وانته ْ
ت دونه ّ
ول استطاع أحد ٌ مماثلة شيء منه ،بل حاَرت فيه عقولهم ،وتد َله ْ
أحلمهم ،ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلمهم من نثر ،أو نظم ،أو سجع ،أو
رجز ،أو شعر.
ليجاز والبلغة بذاتها ،أو السلوب الغريبلعجاز بكل واحد من النوعين ،وا ِ
وا ِ
لتيان بواحد منهما ،إذ
بذاته ،كل واحد منهما نوع إعجاز ،لم تقدر العرب على ا ِ
ن لفصاحتها وكلمها.
كل واحد منهما خارج عن قدرتها مباي ٌ
ت ،وما لم يكن مَغيبا ِ الوجه الثالث من العجاز :ما انطوى عليه من الخبار بال ُ
ن
َ ْ ُ ّ ُ ل خ د تَ ل تعالى: كقوله ولم يقع فوقع ،فوجد كما ورد وعلى الوجه الذي أخبر
هم ن{ )الفتح ،(27 :وقوله عن الروم} :وَ ُ مِني َ ه ءا ِ شآء الل ّ ُ م ِإن َ حَرا َ جد َ ال ْ َ س ِ م ْ ال ْ َ
ن{ )الروم 3 :ــــ ،(4وقوله} :ل ِي ُظ ْهَِرهُ سِني َ ضِع ِ ن ِفى ب ِ ْ سي َغْل ُِبو َ م َ من ب َعْد ِ غَل َب ِهِ ْ ّ
مُلوا ْ م وَعَ ِ من ْك ُْ مُنوا ِ ْ ءا ن ذي ِ ّ ل ا ه ّ ل ال َ َد َ ع و } وقوله: ( 9 )الصف: ه{ ِ ّ لُ ك ن دي ال لى َ َ ع
َ َ ُ ّ ِ
ن
ّ َ ن ّ ك م ُ
ِ ْ َ َ يَ ل و م ه ِ ل ْ ب َ ق من ِ نَ ذيِ ّ ل ا ف َ َ ل خ
ْ َ ت س
ْ ا ما َ
ْ ِ َ ك ض ر ْ ل ا فى ِ م
ُ ْ هّ ن َ فِ ل خ
ْ َ ت س
ْ َ ي َ ل تحا ِ صال ِ َ ال ّ
ً َ َ َ َ ّ
منا{ )النور(55 : مأ ْ خوْفِهِ ْ من ب َعْد ِ َ م ّ م وَلي ُب َد ّلن ّهُ ْ ضى لهُ ْ ذى اْرت َ َ م ال ِ م ِدين َهُ ُ ل َهُ ْ
َ
ن الل ّ ِ
ه ن ِفى ِدي ِ خُلو َ س ي َد ْ ُ ت الّنا َ ح) (1وََرأي ْ َ فت ْ ُ صُر الل ّهِ َوال ْ َ جآء ن َ ْ وقوله} :إ َِذا َ
ّ ْ ُ َ َ ْ َ
ن
معُ وَي ُوَلو َ ج ْ م ال َ سي ُهَْز ُ ن)َ (9 حافِظو َ هل َ ْ
ن ن َّزلَنا الذ ّكَر وَإ ِّنا ل ُ ُ أْفواجًا) (2إ ِّنا ن َ ْ
ح
م{ )التوبة (14 :فكان كذلك مما ا ّ الدبر)َ (45قاتُلوهم يعذ ّبهم الل ّ َ
طلع ديك ُ ْ ه ب ِأي ْ ِ ُ ِ ُ ْ َُ ُْ ُ َُّ
عليه قارىء هذه السيرة ،وما فيه من كشف أسرار المنافقين واليهود،
م ل َوْل َ ي ُعَذ ّب َُنا الل ُ
هّ سهِ ْ ف ِ ن ِفى َأن ُ قوُلو َ فِهم كقوله} :وَي َ ُ حل ِومقالهم وكذبهم في َ
ن لك{ )آل َ َ َ َ قو ُ
دو َ ما ل ي ُب ْ ُ سِهم ّ ف ِ ن ِفى أن ْ ُ فو َ خ ُ ل{ )المجادلة (8 :وقوله} :ي ُ ْ ما ن َ ُ بِ َ
ن
قولو َ ُ ضعِهِ وَي َ ُ وا ِ م َ عن ّ م َ ن الكل ِ ََ ْ حّرفو َ ُ ْ
هاُدوا ي ُ َ ذين َ من ال ِ ّ عمران (154 :وقولهّ } :
ن{ دي ال فى ً اعن َ ط و م ه ت ن س ْ لسمعنا وعصينا واسمع غَير َمسمع َ وراعنا ل َيا ً بأ َ
ّ ِ َ ِ ْ َ َ َ َ َْ َ ْ َ ْ َْ ُ ْ َ ٍ َ ِ َ ّ ِ ِ َِِ ْ َ ْ ِ
)النساء (46 :إلى غير ذلك من اليات البّينات.
الوجه الرابع :ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ،والمم البائدة ،والشرائع
الداثرة ،مما كان ل يعلم منه القصة الواحدة إل الفذ ّ من أحبار أهل الكتاب،
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
الذي قطع عمره في تعّلم ذلك ،فيورده عليه الصلة والسلم على وجهه،
ويأتي به على نصه ،فيقّر العالم بذلك بصحته وصدقه ،وأن مثله لم ينله
ي ،ل يقرأ ول يكتب ،ول ُ
بتعليم ،وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم أم ّ
ل حاَله أحد منهم ،وكثيرا ً جهِ َ اشتغل بمدارسة ول مجالسة ،لم يغب عنهم ،ول َ
ما كان يسأله كثير من أهل الكتاب عن هذا ،فينزل عليه من القرآن ما يتلو
عليهم منه ذكرًا ،كقصص النبياء ،وبدء الخلق ،وما في الكتب السابقة مما
صدقه فيه العلماء بها ،ولم يقدروا على تكذيب ما ُذكر منها ،ولم يؤثر أن
واحدا ً منهم أظهر خلف قوله من كتبه ،ول أبدى صحيحًا ،ول سقيما ً من
صحفه ،بعد أن قرعهم ووبخهم بقوله} :قُ ْ ْ
مكنت ُ ْ ل فَأُتوا ْ ِبالت ّوَْراةِ َفات ُْلو َ
ها ِإن ُ ّ ّ
ن{ )آل عمران.(93 :
صادِِقي َ
َ
داهم فيه الله بقوله: ل على أن أهل الكتاب يعلمون صدقه ما تح ّ ومما يد ّ
من ّوُا ْ
س فَت َ َ عند َ الل ّهِ َ داُر ال ْ ِ ت ل َك ُ ُ ل ِإن َ}ق ُ ْ
ن الّنا ِ
من ُدو ِة ّص ً
خال ِ َ خَرةُ ِ م ال ّ كان َ ْ
ن)(94 صادِِقي َ
م َ ت ِإن ك ُن ْت ُ ْ ال ْ َ
مو ْ َ
ومما يدل على أن هذا القرآن ليس من كلم البشر :الّروعة التي تلحق قلوب
وة حاله ،وإنافة خطره ،حتى سامعيه ،والهيبة التي تعتريهم عند تلوته ،لق ّ
كانوا يستثقلون سماعه ،ويزيدهم نفورًا ،ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
من كرهه ،وهو الحكم«. »إن القرآن صعب مستصَعب على َ
ه
سب ُ ُل ،وت َك ْ ِ وأما المؤمن فل تزال روعته به وهيبته إياه مع تلوته توليه إقبا ً
نذي َ جُلود ُ ال ِ
ّ ه ُ من ْ ُ
شعِّر ِ ق َ هشاشة لميل قلبه إليه وتصديقه به .قال تعالى :ت َ ْ
ه{ )الزمر .(23 :وقال م إ َِلى ذِك ْرِ الل ِ
ّ م وَقُُلوب ُهُ ْ جُلود ُهُ ْ ن ُ م ثُ ّ
م ت َِلي ُ ن َرب ّهُ ْ شو ْ َ خ َ يَ ْ
ة خ ْ ً ً َ ّ َ ْ
هاَذا ال ُ ْ َ َ
شي َ ِ ن َ م ْ دعا ّ ص ّ مت َ َشعا ّ خا ِ ه َ ل لَرأي ْت َ ُجب َ ٍ
ن عَلى َ قْرءا َ تعالى} :لوْ أنَزلَنا َ
ه{ )الحشرf.(21 : الل ّ ِ
ومن وجوه إعجاز القرآن :كونه آية باقية ل تعدم ما بقيت الدنيا ،مع تكفل
ن) (9ل ّ ي َأ ِْتيهِ ال َْباط ِ ُ
ل ظو َحافِ ُ ه لَ َن ن َّزل َْنا الذ ّك َْر وَإ ِّنا ل َ ُح ُ الله بحفظه ،فقال} :إ ِّنا ن َ ْ
ه{ )فصلت (42 :وسائر معجزات النبياء لم يبق إل ف ِ خل ْ ِ
ن َ م ْ ن ي َد َي ْهِ وَل َ ِمن ب َي ْ ِ ِ
خبرها ،والقرآن إلى وقتنا هذا حجة قاهرة ،ومعارضة ممتنعة ،والعصار كلها
طافحة بأهل البيان ،وحملة علم اللسان ،وأئمة البلغة ،وفرسان الكلم،
وجهابذة البراعة ،والملحد فيهم كثير ،والمعادي للشرع عتيد ،فما منهم من
أتى بشيء يؤثر في معارضته ،ول أّلف كلمتين في مناقضته ،ول قدر فيه على
ف من ذهنه في ذلك إل ب َِزْند شحيح ،بل المأثور مطعن صحيح ،ول قدح المتكل ُ
عن كل من رام ذلك إلقاءه في العجز بيديه ،والنكوص على عقبيه.
ولنختم لك هذا الباب بحديثه عليه الصلة والسلم في القرآن قال» :إن الله
أنزل هذا القرآن آمرا ً وزاجرًا ،وسّنة خالية ،ومثل ً مضروبًا ،فيه نبؤكم وخبر
كم ما بينكم ،ل يخلقه طول الّرّد ،ول تنقضي ح ْ
من كان قبلكم ونبأ ما بعدكم و ُ
عجائبه ،هو الحق ليس بالهزل ،من قال به صدق ،ومن حكم به عدل ،ومن
ُ
ي
هد َجَر ،ومن تمسك به ُ ج ،ومن حكم به أقسط ،ومن عمل به أ ِ خاصم به فَل َ َ
م بغيرهحك َ َ ّ
إلى صراط مستقيم ،ومن طلب الهدى من غيره أضله الله ،ومن َ
ط المستقيم ،وحبل الله صمه الله ،هو الذكُر الحكيم ،والنوُر المبين ،والصرا ُ قَ َ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
المتين ،والشفاُء النافع ،عصمة لمن تمسك به ،ونجاة ٌ لمن اّتبعه ،ل يعوج
ب«. وم ،ول يزيغ فَي ُ ْ
ست َعْت َ َ ق ّ
في َ
دمنا حديثهومن معجزاته صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر وقد ق ّ
مستوفى.
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم نبع الماء من بين أصابعه ،وتكثيُره
م الغفير من الصحابة ،منهم أنس وجابر وابن ببركته ،وقد روى هذا الج ّ
مسعود.
ت صلة العصر، ت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حان ْ قال أنس :رأي ُ
س الناس ماًء للوضوء ،فلم يجدوه ،فُأتي النبي صلى الله عليه وسلم فالتم َ
ت الماءوضوء ،فوضع في الناء يده ،وأمر الناس أن يتوضؤوا منه .قال :فرأي ُ بِ َ
س حتى توضؤوا عن آخرهم ،فقيل :كم كنتم؟ ينبع من بين أصابعه ،فتوضأ النا ُ
قال زهاء ثلثمائة.
وقال ابن مسعود :بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم ،وليس معنا ماء،
ضع ُ ل لنا» :اطلبوا من معه فض ُ فقا َ
ل ماٍء« ،فأتي بماء ،فصّبه في إناء ،ثم و َ
فه فيه فجعل الماُء ينبع من بين أصابعه. ك ّ
ديبية ورسول الله بين يديه ِركوةٌ فتوضأ ح َس يوم ال ُوقال جابر :عطش النا ُ
منها ،وأقبل الناس نحوه ،وقالوا ليس عندنا ماء إل ما في ركوتك ،فوضع يده
في الّركوة ،فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون .قيل كم كنتم؟
قال :لو كّنا مائة ألف لكفانا ،كّنا خمس عشرة مائة.
وروى هذه القصة جمع عظيم من الصحابة ،ومثل هذا في هذه المواطن
دث به ،لنهم كانوا الحفيلة ،والجموع الكثيرة ،ل تتطرق التهمة إلى المح ّ
منسهم من ذلك ،ولنهم كانوا م ّ جبلت عليه نفو ُ أسرع شيء إلى تكذيبه ،لما ُ
ت على باطل ،فهؤلء قد رووا هذا ،وأشاعوه ونسبوا حضور الجم ل يسك ُ
دثوا به عنهم أنهم فعلوهالغفير له ،ولم ينكر عليهم أحد من الناس ما ح ّ
وشاهدوه ،فصار كتصديق جميعهم لهم.
سه ودعوته ،كما ورد عن ومما يشبه هذا تفجير الماء ببركته ،وانبعاثه بم ّ
معاذبن جبل في قصة غزوة تبوك ،وأنهم وردوا العين وهي تلمعُ بشيء من
شراك ،فغرُفوا من العين بأيديهم حتى اجتمع فيه شيء ،ثم غسل ماء مثل ال ّ
عليه الصلة والسلم فيه وجهه ويديه ،وأعاده فيها فجرت بماء كثير ،فاستقى
س
الناس ــــ وفي رواية ابن إسحاق فانخرق من الماء ما له حس كح ّ
الصواعق ــــ ثم قال» :يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة ،أن ترى ما هنا قد
دمنا ذلك في غزوة تبوك .وروي عن البَراء وسلمةبن ملىء جنانًا« .وقد ق ّ
ديبية بدعوته عليه الصلة والسلم .وروى أبو قتادة أن الكوع تكثير عين الح َ
كوا إلى رسول الله العطش في بعض أسفاره فدعا بالميضأةَ ش َالناس َ
ِ ْ َ ِ
ضْبنه )ما بين الكشح إلى البط( ثم التقم فمها ،فالله أعلم ،أنفث فجعلها في ِ
فيها أم ل؛ فشرب الناس حتى رووا وملؤوا كل إناء معهم ،فخّيل لي أنها كما
أخذها مني .وكانوا اثنين وسبعين رج ً
ل.
ورويت قصص مشابهة لهذه عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم في
محا ّ
ل مختلفة ،بحيث ل يشك أحد في صدقها بعد تضافر الثقات على روايتها.
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ومن ذلك تكثير الطعام ببركته ودعائه صلى الله عليه وسلم ،روى أبو طلحة
أنه عليه الصلة والسلم أطعم ثمانين أو سبعين رجل ً من أقراص من شعير
فّتتت ،وقال فيها ما
جاء بها أنس تحت إبطه ،فأمر بها عليها الصلة والسلم ف ُ
شاء الله أن يقول.
وروى جابر أنه عليه الصلة والسلم أطعم يوم الخندق ألف رجل من صاع
شعير وعََناق ،وقال جابر :فُأقسم بالله لكلوا حتى تركوه وانحرفوا ،وإن
ط كما هي ،وإن عجيننا ليخبز .وكان عليه الصلة والسلم قد بصق متنا ل َت َغِ ّب ُْر َ
في العجين والبرمة وبارك .وروى أبو أيوب أنه صنع لرسول الله وأبي بكر
ل .وروى طعاما ً يكفيهما ،فأطعم منه عليه الصلة والسلم مائة وثمانين رج ً
مثل ذلك كثير من الصحابة كعبد الرحمانبن أبي بكر ،وسلمةبن الكوع ،وأبي
هريرة ،وعمربن الخطاب ،وأنسبن مالك ،رضوان الله عليهم أجمعين.
ومن معجزاته عليه الصلة والسلم قصة حنين الجذع ،قال جابربن عبد الله:
كان المسجد مسقوفا ً على جذوع نخل ،فكان عليه الصلة والسلم إذا خطب
صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتا ً كصوت يقوم إلى جذع منها ،فلما ُ
ج المسجد لخواره .وفي رواية سهل :وكثر ّ ارت حتى شار .وفي رواية أنس: العِ َ
بكاء الناس لما رأوه به .وفي رواية المطلب :وانشق حتى جاء النبي صلى
الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت .زاد غيره :فقال عليه الصلة
ن هذا بكى لما فقد من الذكر« .وزاد غيره» :والذي نفسي بيده والسلم» :إ ّ
ً
لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزنا على رسول الله صلى الله
عليه وسلم« فأمر به فدفن تحت المنبر .وهذا الحديث خّرجه أهل الصحة،
فهم ،وبمن دون ضع ُ
ورواه من الصحابة كثيرون ،ورواه عنهم من التابعين ِ
ي بهذا الباب ،والله المثّبت على الصواب.دتهم يقع العلم لمن عُن ِ َ ع ّ
ومن معجزاته عليه الصلة والسلم إبراء المرضى ،وذوي العاهات ،فقد
ن قتادةبن النعمان حتى وقعت على وجنتيه ،فرّدها عليه ُ ُ
حد عي ُأصيبت يوم أ ُ
دهما ،وبصق على أثر سهم في وجه الصلة والسلم ،فكانت أحسن عينيه وأح ّ
ح ،وأصاب ابن ملعب أبي قتادة في يوم ذي َقرد ،فما ضرب عليه ول َقا َ
حث ْوَةً من
سن ّةِ استسقاء ،فبعث إلى النبي عليه الصلة والسلم ،فأخذ بيده َ ال َ ِ
هزىَء به ،فأتاه الرض ،فتفل عليها ،ثم أعطاها رسوله ،فأخذها يرى أنه قد ُ
فى ،فشربها فشفاه الله .وتقدم حديث علي ورمده في غزوة بها وهو على َ
ش ً
ده ،ورواه ثقات المسلمين خيبر ،وغير ذلك كثير مما يعجز قلمنا عن ع ّ
العلم.
أما ما منحه الله إياه من إجابة دعواته ،فروي عن أنسبن مالك ،قال :قالت
م أكثر م ُ َ ُ
م :يا رسول الله خادمك أنس ادع ُ الله له ،فقال» :الله ّ سلي ْ ٍ أمي أ ّ
ن
ن مالي لكثير ،وإ ّماله وولده ،وبارك له فيما آتيته« .قال أنس :فوالله إ ّ
ولدي وولد ولدي لُيعاّدون اليوم نحو المائة.
ودعا لعبد الرحمانبن عوف بالبركة ،فكان نصيب كل زوجة من زوجاته الربع
من تركته ثمانين ألفًا ،وتصدق مّرة بِعير فيها سبعمائة بعير وردت عليه تحمل
دق بها ،وبما عليها ،وبأقتابها ،وأحلسها. من كل شيء ،فتص ّ
مكتبة مشكاة السلمية نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
ودعا لمعاوية بالتمكين في الرض فنال الخلفة ،ودعا لسعد بإجابة الدعوة،
فما دعا على أحد إل استجيب له ،وتقدم دعاؤه لعمربن الخطاب أن يعّز
م بارك في شعره وبشره«، ح وجهك ،الله ّ
السلم به ،وقال لبي قتادة» :أفل َ
فمات وهو ابن سبعين سنة ،كأنه ابن خمس عشرة ،ودعواته عليه الصلة
طلع عليها قارىء سيرتنا هذه.والسلم المستجابة أكثر من أن ُتحصى ي ّ
أما ما أطلعه الله عليه من علم ما لم يكن فمما سارت به الركبان ،فعن
ل الله مقامًا ،فما ترك شيئا ً يكون
حذيفة رضي الله عنه ،قال :قام فينا رسو ُ
دثه ،حفظه من حفظه ،ونسيه من في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إل ّ ح ّ
نسيه ،قد علمه أصحابي هؤلء ،وإنه ليكون منه الشيء فأعرفه فأذكره ،كما
يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ،ثم إذا رآه عرفه ،وما أدري أنسي
أصحابي أم تناسوه؟ والله ما ترك عليه الصلة والسلم من قائد فتنة إلى أن
ماه لنا باسمه ،واسم تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلثمائة فصاعدا ً إل قد س ّ
أبيه ،واسم قبيلته .وقد خّرج أهل الصحيح والئمة ما أعلم به أصحابه مما
وعدهم به من الظهور على أعدائه ،وفتح مكة ،وبيت المقدس ،واليمن،
والشام ،والعراق ،وظهور المن حتى تظعن المرأة من الحيرة إلى مكة ،ل
ن المدينة سُتغزى ،وُتفتح خيبر على يد علي في غد يومه، تخاف إل الله ،وأ ّ
مته من الدنيا ،وي ُؤَْتون من زهرتها ،وقسمتهم كنوز كسرى وما يفتح الله على أ ّ
دمنا ما في القرآن من وقيصر ،وقد قدمنا كثيرا ً من ذلك في هذه السيرة ،وق ّ
ذلك ،وهذا ُيغنينا عن الطالة في هذا المقام فحسبك ما سمعت.
ن الله به على رسولنا من م ّومما ينير بصيرتك ــــ أيها القارىء ــــ ما َ
ن
ِ َم َ
ك م ص ع
َ ُ َْ ِ ُي هّ ل وال } تعالى: قال عصمته له من الناس ،وكفايته من آذاه،
ك ب ِأعْي ُن َِنا{ )الطور،(48 :َ حك ْم ِ َرب ّ َ
ك فَإ ِن ّ َ صب ِْر ل ِ ُس{ )المائدة (67 :وقالَ} :وا ْ الّنا ِ
َ
ه{ )الزمر ،(36 :وقال} :إ ِّنا ك َ َ
في َْنا َ
ك ف عَب ْد َ ُكا ٍ س الل ّ ُ
ه بِ َ وقال} :أل َي ْ َ
جابه،
ح ّ
س{ )المائدة (67 :صرف ُ م َ ّ ال ْ ُ
ن الّنا ِ م َك ِ ص ُه ي َعْ ِ
ن)َ (95والل ُ زءي َ ست َهْ ِ
م ْ
دمنا حديث ُدعثور وإرادته قتل النبي وقال» :انصرفوا فقد عصمني الله« .وق ّ
ً
صلى الله عليه وسلم ،وعصمة الله لنبّينا ،وذكرنا كثيرا مما حصل من أبي
ن الله به عليه ليلة جهل لما أراد بالرسول المكايد ،فكفاه الله شّره ،وما م ّ
سراقة في الطريق ،وعلى الجملة فيكفينا من هذا الباب أنه الهجرة ،وحديث ُ
داء بمكة ثلث عشرة سنة ،وبين عليه الصلة والسلم مكث بين أعداء أل ّ
مشابهيهم من المنافقين واليهود عشر سنين .فما تمكن أحد من إيصال أذى
إليه صلى الله عليه وسلم ،بل كفاه موله شّر أعدائه حتى أظهر الدين
ممه. وت ّ