Professional Documents
Culture Documents
net
مقدمة المؤلف:
الحمد ل الذي أرسل رسوله بالبينات والهدى ،ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ،ويهدوهم إلىى صراط العزيز الحميد.
وال صلة وال سلم على أف ضل ر سله ،وأشرف دعا ته ،سيدنا مح مد صلى ال عل يه و سلم الذي خ تم ال به ر سله ،فج عل سيرته قدوة ل كل
مؤمن في جميع شؤون الحياة صغيرها وكبيرها ،وختم بدي نه الشرائع ،فجعل ر سالته أكمل الرسالت وأوفاها بحاجات الناس في مختلف
بيئاتهيم وعصيورهم ،صيلى ال وسيلم علييه وعلى أصيحابه الهداة البررة الذيين علم ال فيهيم سيلمة الفطرة ،وصيدق العقيدة ،وعظييم
التضحية ،فشرفهم بحمل رسالة السلم إلى أمم الرض ،فأراقوا في سبيلها دماءهم ،وفارقوا من أجلها ديارهم ،حتى أدوا المانة ،وبلغوا
الرسالة ،ونصحوا ل ورسوله ،فكان لهم فضل على النسانية ل يعرف مداها ،ودين في عنق كل مسلم حتى يرث ال الرض ومن عليها،
رضوان ال عليهم وعلى من أحبهم وحمل لواء الدعوة إلى ال من بعدهم حتى يوم الدين.
وبعد فهذه مذكرات كتبتها على عجل وشدة من المرض بعد أن ألقيتها محاضرة مفصلة على طلب السنة الولى في كل ية الشريعة
توخيت فيها أن أبرز أوضح مظاهر السوة في سيرة الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم ،مما ينبغي على كل مسلم وداعية إلى ال عز
و جل ،وعالم بالشري عة ،وحا مل لفقه ها ،أن يتدبره ويجعله ن صب عين يه ،ليكون له شرف القتداء بر سوله صلى ال عل يه و سلم ،وليف تح
أما مه باب النجاح في دعو ته ب ين الناس ،وباب القبول والر ضى من ال جل شأ نه ،وليك تب له شرف الخلود مع ر سوله صلى ال عل يه
حتِهَا الَ ْنهَارُ خَا ِلدِي نَ فِيهَا َو َذلِ كَ الْ َفوْزُ
خلْ هُ جَنّا تٍ تَجْرِي مِن تَ ْ
و سلم في جنات النع يم ،فإن ال تعالى يقول{ :وَمَن يُطِ عِ اللّ هَ وَرَ سُولَهُ ُيدْ ِ
ا ْلعَظِيمُ} [النساء.]13 :
هذا وقد جعلت البحث وفق المنهج التالي:
أ -مقدمة وتشتمل على بحثين:
-1في ميزة السيرة النبوية والفائدة من دراستها.
-2في مصادر السيرة النبوية ومراجعها الصحيحة.
ب -في فقه سيرته صلى ال عليه وسلم ويشتمل على عشرة فصول.
الفصل الول -في حياته صلى ال عليه وسلم قبل البعثة.
الفصل الثاني -في حياته بعد البعثة إلى الهجرة إلى الحبشة.
الفصل الثالث -في حياته بعد هجرة الحبشة إلى الهجرة للمدينة.
الفصل الرابع -في هجرته حتى استقراره بالمدينة.
الفصل الخامس -في معاركه الحربية منذ غزوة بدر حتى فتح مكة.
الفصل السادس -في انتشار السلم في جزيرة العرب بعد الفتح.
الفصل السابع -في حياته بعد الفتح إلى الوفاة.
الفصل الثامن -في خصائص التشريع السلمي في المدينة.
الفصل التاسع -في أخلقه وافتراءات المستشرقين والمبشرين.
الفصل العاشر -في أثره وأثر رسالته في العالم.
وال أ سأل أن يوفق ني في م ثل هذه العجالة الق صيرة الم ستعجلة إلى إمعان الن ظر في ال سيرة النبو ية ب ما يؤدي إلى الغرض المتو خى من
تدريس هذه المادة في كلية الشريعة بحيث يحمل طلبها وطالباتها على أن يتعشقوا دراسة سيرته الطاهرة ،فيحملوا من معانيها ودروسها
في نفوسهم ما يجعلهم قدوة للناس في استقامتهم وصلح سيرتهم ،وحسن هديهم في الدعوة إلى الصلح حتى يعود الرسول صلى ال
عليه وسلم للمسلمين شمسا منيرة تبدد ظلمات حياتهم ،وتمدهم بالحرارة والدفء في قلوبهم وعقولهم وسلوكهم فيعود للمجتمع السلمي
صفاؤه واستقامته ومثاليته التي تجعله من جديد في مكان الصدارة والقيادة لشعوب العالم ،ويتحقق بذلك قول ال فينا نحن المسلمين مرة
www.ikhwan-info.net
خيْرَ أُمّةٍ أُخْ ِرجَتْ لِلنّاسِ َتأْمُرُونَ بِالْ َمعْرُوفِ وَ َت ْن َهوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَ ُتؤْمِنُونَ بِاللّهِ}[آل عمران.]111:
أخرى{ :كُن ُتمْ َ
دمشق رمضان 1381هي
مصطفى السباعي
المقدمة
-1ميزة السيرة النبوية
تجمع السيرة النبوية عدة مزايا تجعل دراستها متعة روحية وعقلية وتاريخية ،كما تجعل هذه الدراسة ضرورية لعلماء الشريعة والدعاة
إلى ال والمهتم ين بال صلح الجتما عي ،ليضمنوا إبلغ الشري عة إلى الناس بأ سلوب يجعل هم يرون في ها المعت صم الذي يلوذون به ع ند
اضطراب ال سبل واشتداد العوا صف ،ولتتف تح أمام الدعاة قلوب الناس وأفئدتهم ،ويكون الصلح الذي يدعو إل يه الم صلحون ،أقرب نج حا
وأكثر سدادا .ونجمل فيما يلي أبرز مزايا السيرة النبوية.
أول -إنها أصح سيرة لتاريخ نبي مرسل ،أو عظيم مصلح فقد وصلت إلينا سيرة رسول ال صلى ال عليه وسلم عن أصح الطرق العلمية
وأقواها ثبوتا -كما سنرى في بحث مصادر السيرة -مما ليترك مجال للشك في وقائعها البارزة وأحداثها الكبرى ،ومما ييسر لنا معرفة
ما أض يف إليها في الع صور المتأخرة من أحداث أو معجزات أو وقائع أو حى ب ها الع قل الجا هل الرا غب في إضفاء ال صفة المده شة على
رسول ال صلى ال عليه وسلم أكثر مما أراد ال لرسوله أن يكون عليه من جللة المقام وقدسية الرسالة ،وعظمة السيرة.
إن الميزة من صحة السيرة صحة ل يتطرق إليها شك ل توجد في سيرة رسول من رسل ال السابقين ،فموسى عليه السلم قد اختلطت
عندنا وقائع سيرته الصحيحة بما أدخل عليها اليهود من زيف وتحريف ،ول نستطيع أن نركن إلى التوراة الحاضرة لنستخرج منها سيرة
صادقة لموسى عليه السلم ،فقد أخذ كثير من النقاد الغربيين يشكون في بعض أسفارها وبعضهم يجزم بأن بعض أسفارها لم يكتب في
حياة موسى عليه السلم ول بعده بزمن قريب ،وإنما كتب بعد زمن بعيد من غير أن يعرف كاتبها ،وهذا وحده كاف للتشكيك في صحة
سيرة موسى عليه السلم كما وردت في التوراة ،ولذلك ليس أمام المسلم أن يؤمن بشيء من صحة سيرته إل ما جاء في القرآن الكريم
والسنة النبوية الصحيحة.
ومثل ذلك يقال في سيرة عيسى عليه السلم ،فهذه الناج يل المعترف بها رسميا لدى الكنائس المسيحية إنما أقرت في عهد متأخر عن
السيد المسيح بمئات السنينن ،وقد اختيرت – بدون مسوغ علمي – من بين مئات الناجيل التي كانت منتشرة في أيدي المسيحيين يومئذ.
ثم إن نسبة هذه الناجيل لكاتبيها لم يثبت عن طريق علمي تطمئن النفس إليه ،فهي لم ترو بسند متصل إلى كاتبيها ،على أن الخلف قد
وقع أيضا بين النقاد الغربيين في أسماء بعض هؤلء الكاتبين من يكونون؟ وفي أي عصر كانوا؟
وإذا كان هذا شأن سير الرسل أصحاب الديانات المنتشرة في العالم ،كان الشك أقوى في سيرة أصحاب الديانات والفلسفة الخرين الذين
يعد أتباعهم بمئات المليين في العالم ،كبوذا وكونفوشيوس ،فإن الروايات التي يتناقلها أتباعهم عن سيرتهم ليس لها أصل معتبر في نظر
البحث العلمي ،وإنما يتلقفها الكهان فيما بينهم ،ويزيد فيها كل جيل عن سابقه بما هو من قبيل الساطير والخرافات التي ل يصدقها العقل
النير المتحرر الخالي من التعصب لتلك الديانات.
وهكذا نجد أن أصح سيرة وأقواها ثبوتا متواترا هي سيرة محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم.
ثانيا -إن حياة رسول ال صلى ال عليه وسلم واضحة كل الوضوح في جميع مراحلها ،منذ زواج أبيه عبدال بأمه آمنة إلى وفاته صلى
ال عل يه و سلم ،فن حن نعرف الش يء الكث ير عن ولد ته ،وطفول ته وشبا به ،ومك سبه ق بل النبوة ،ورحل ته خارج م كة ،إلى أن بع ثه ال
رسول كريما ،ثم نعرف بشكل أدق واوضح وأكمل كل أحواله سنة فسنة ،مما يجعل سيرته عليه الصلة والسلم واضحة وضوح الشمس،
كما قال بعض النقاد الغربيين :إن محمدا (عليه الصلة والسلم) هو الوحيد الذي ولد على ضوء الشمس.
وهذا ما لم يتيسر مثله ول قريب منه لرسول من رسل ال السابقين ،فموسى عليه السلم ل نعرف شيئا قط عن طفولته وشبابه وطرق
معيشته قبل النبوة ،ونعرف الشيء القليل عن حياته بعد النبوة ،مما ل يعطينا صورة مكتملة لشخصيته ،ومثل ذلك يقال في عيسى عليه
www.ikhwan-info.net
السلم ،فنحن ل نعرف شيئا عن طفول ته إل ما تذكره الناج يل الحاضرة ،من أ نه د خل هي كل اليهود ،ونا قش أحبار هم ،فهذه هي الحاد ثة
الوحيدة التي يذكرونها عن طفولته ،ثم نحن ل نعلم من أحواله بعد النبوة إل ما يتصل بدعوته ،وقليل من أسلوب معيشته ،وما عدا ذلك
فأمر يغطيه الضباب الكثير.
فأ ين هذا م ما تذكره م صادر ال سيرة ال صحيحة من أدق التفا صيل في حياة ر سولنا الشخ صية ،كأكله ،وقيا مه ،وقعوده ،ولبا سه ،وشكله،
وهيئته ،ومنطقه ،ومعاملته ل سرته ،وتعبده ،وصلته ،ومعاشرته ل صحابه ،بل بلغت الدقة في رواة سيرته أن يذكروا لنا عدد الشعرات
البيض في رأسه ولحيته صلى ال عليه وسلم.
ثال ثا -إن سيرة ر سول ال صلى ال عل يه و سلم تح كي سيرة إن سان أكر مه ال بالر سالة ،فلم تخر جه عن إن سانيته ،ولم تل حق حيا ته
بال ساطير ،ولم ت ضف عل يه اللوه ية قليل ول كثيرا ،وإذا قار نا هذا ب ما يرو يه الم سيحيون عن سيرة عي سى عل يه ال سلم ،و ما يرو يه
البوذيون عن بوذا ،والوثنيون عن آلهتهم المعبودة ،اتضح لنا الفرق جليا بين سيرته عليه السلم وسيرة هؤلء ،ولذلك أثر بعيد المدى
في ال سلوك الن ساني والجتما عي لتباع هم ،فادعاء اللوه ية لعي سى عل يه ال سلم ولبوذا جعله ما أب عد منال من أن يكو نا قدوة نموذج ية
للنسان في حياته الشخصية والجتماعية ،بينما ظل وسيظل محمد صلى ال عليه وسلم النثل النموذجي النساني الكامل لكل من أراد أن
س َوةٌ حَ سَ َنةٌ لّمَن
يعيش سعيدا كريما في نفسه وأسرته وبيئته ،ومن هنا يقول ال تعالى في كتابه الكريم { :لَ َقدْ كَا نَ َلكُ مْ فِي رَ سُولِ اللّ هِ أُ ْ
كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْ َي ْومَ الْآخِرَ}[الحزاب.]21:
راب عا -إن سيرة ر سول ال صلى ال عل يه و سلم شاملة ل كل النوا حي الن سانية في الن سان ،ف هي تح كي ل نا سيرة مح مد الشاب الم ين
المستقيم قبل أن يكرمه ال بالرسالة ،كما تحكي لنا سيرة رسول ال الداعية إلى ال المتلمس أجدى الوسائل لقبول دعوته ،الباذل منتهى
طاقته وجهده في إبلغ رسالته ،كما تحكي لنا سيرته كرئيس دولة يضع لدولته أقوم النظم وأصحها ،ويحميها بيقظته وإخلصه وصدقه
بميا يكفيل لهيا النجاح ،كميا تحكيي لنيا سييرة الرسيول الزوج والب فيي حنيو العاطفية ،وحسين المعاملة ،والتميييز الواضيح بيين الحقوق
والواجبات لكل من الزوج والزوجة والولد ،ك ما تحكي ل نا سيرة الر سول المربي المرشد الذي يشرف على ترب ية أ صحابه ترب ية مثالية
ين قل في ها من رو حه إلى أرواح هم ،و من نف سه إلى نفو سهم ،م ما يجعل هم يحاولون القتداء به في دق يق المور وكبير ها ،ك ما تح كي ل نا
سيرة الرسول الصديق الذي يقوم بواجبات الصحبة ،ويفي بالتزاماتها وآدابها ،مما يجعل أصحابه يحبونه كحبهم لنفسهم وأكثر من حبهم
لهليهم وأقربائهم ،وسيرته تحكي لنا سيرة المحارب الشجاع ،والقائد المنتصر ،والسياسي الناجح ،والجار المين ،والمعاهد الصادق.
وقصارى القول :إن سيرة رسول ال صلى ال عليه وسلم شاملة لجميع النواحي النسانية في المجتمع ،مما يجعله القدوة الصالحة لكل
داعية ،وكل قائد ،وكل أب ،وكل زوج ،وكل صديق ،وكل مربي ،وكل سياسي ،وكل رئيس دولة ،وهكذا..
ونحن ل نجد مثل هذا الشمول ول قريبا منه فيما بقي لنا من سير الرسل السابقين ،ومؤسسي الديانات والفلسفة المتقدمين والمتأخرين،
فموسى يمثل زعيم المة الذي أنقذ أمته من العبودية ،ووضع لها من القواعد والمبادئ ما يصلح لها وحدها ،ولكننا ل نجد في سيرته ما
يجعله قدوة للمحاربين ،أو المربين أو السياسيين ،أو رؤساء الدول أو الباء ،أو الزواج مثل ،وعيسى عليه السلم يمثل الداعية الزاهد
الذي غادر الدن يا و هو ل يملك مال ،ول دارا ،ول متا عا ،ولك نه في سيرته الموجودة ب ين أيدي الم سيحيين ،ل يم ثل القائد المحارب ،ول
رئ يس الدولة ،ول الب ،ول الزوج -ل نه لم يتزوج -ول المشترع ،ول غ ير ذلك م ما تمثله سيرة مح مد صلى ال عل يه وسلم .و قل م ثل
ذلك في بوذا ،وكونفوشيوس ،وأر سطو ،وأفلطون ،ونابليون ،وغير هم من عظماء التار يخ ،فإن هم ل ي صلحون للقدوة -إن صلحوا -إل
لناحية واحدة من نواحي الحياة وبرزوا فيها واشتهروا بها ،والنسان الوحيد في التاريخ الذي يصلح أن يكون قدوة لجميع الفئات وجميع
ذوي المواهب وجميع الناس هو محمد صلى ال عليه وسلم.
خامسا -إن سيرة محمد صلى ال عليه وسلم وحدها تعطينا الدليل الذي ل ريب فيه على صدق رسالته ونبوته ،إنها سيرة إنسان كامل
سار بدعو ته من ن صر إلى ن صر ل عن طر يق الخوارق والمعجزات ،بل عن طر يق طبيعي ب حت ،فلق جد د عا فأوذي ،وبلغ فأ صبح له
النصار ،واضطر إلى الحرب فحارب ،وكان حكيما ،موفقا في قيادته ،فما أزفت ساعة وفاته إل كانت دعوته تلف الجزيرة العربية كلها عن
www.ikhwan-info.net
طر يق اليمان ،ل عن طر يق الق هر والغل بة ،و من عرف ما كان عل يه العرب من عادات وعقائد و ما قاوموا به دعو ته من ش تى أنواع
المقاومية حتيى تدبيير اغتياله ،ومين عرف عدم التكافيؤ بينيه وبيين محاربييه فيي كيل معركية انتصير فيهيا ،ومين عرف قصير المدة التيي
استغرقتها رسالته حتى وفاته ،وهي ثلث وعشرون سنة ،أيقن أن محمدا رسول ال حقا ،وأن ما كان يمنحه ال من قوة وثبات وتأثير
ونصر ليس إل لنه نبي حقا ،وما كان ل أن يؤيد من يكذب عليه هذا التأييد الفريد في التاريخ ،فسيرة رسول ال صلى ال عليه وسلم
تث بت ل نا صدق ر سالته عن طر يق عقلي ب حت ،و ما و قع له صلى ال عل يه و سلم من المعجزات لم ي كن ال ساس الول في إيمان العرب
بدعو ته ،بل إ نا ل ن جد له معجزه آ من مع ها الكفار المعاندون ،على أن المعجزات الماد ية تكون ح جة على من شاهد ها ،و من المؤ كد أن
المسلمين الذين لم يروا النبي صلى ال عليه وسلم ،ولم يشاهدوا معجزاته ،إن ما آمنوا بصدق رسالته للدلة العقلية القاطعة على دعواه
النبوة ،ومن هذه الدلة العقلية :القرآن الكريم ،فإنه معجزة عقلية ،تلزم كل عاقل منصف أن بصدق محمد صلى ال عليه وسلم في دعوى
الرسالة.
وهذا يختلف تماما عن سير النبياء السابقين المحفوظة لدى أتباعهم ،فهي تدلنا على أن الناس إنما آمنوا بهم لما رأوا على أيديهم من
معجزات وخوارق ،دون أن يحكموا عقولهم في مبادئ دعواتهم فتذعن لها ،واوضح مثل لذلك السيد المسيح عليه السلم ،فإن ال حكى
ل نا في القرآن الكر يم أ نه ج عل الدعا مة الولى في إقناع اليهود ب صدق ر سالته أ نه يبرئ الك مه والبرص ،ويش في المر ضى ،ويح يي
الموتى ،وينبئهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم ،كل ذلك بإذن ال جل شأنه ،والناجيل الحاضرة تروي لنا أن هذه المعجزات هي وحدها
التي كانت سببا في إيمان الجماهير دفعة واحدة به ،ل على أنه رسول كما يحكي القرآن الكريم ،بل على أنه إله وابن إله-حاشا ل من
ذلك -والم سيحية ب عد الم سيح انتشرت بالمعجزات وخوارق العادات -و في سفر أعمال الر سل أ كبر دل يل على ذلك – ح تى لي صح ل نا أن
نطلق على المسييحية التيي يؤمين بهيا أتباعهيا أنهيا ديين قام على المعجزات والخوارق ،ل على القناع العقلي ومين هنيا نرى هذه الميزة
الواضحة في سيرة الرسول صلى ال عليه وسلم ،أنه ما آمن به واحد عن طريق مشاهدته لمعجزة خارقة ،بل عن اقتناع عقلي وجداني،
وإذا كان ال قد أكرم رسوله بالمعجزات الخارقة ،فما ذلك إل إكرام له صلى ال عليه وسلم وإفحام لمعانديه المكابرين ومن تتبع القرآن
الكريم وجد أنه اعتمد في القناع على المحاكمة العقلية ،والمشاهدة المحسوسة لعظيم صنع ال ،والمعرفة التامة بما كان عليه الرسول
من أمية تجعل إتيانه بالقرآن الكريم دليل على صدق رسالته صلى ال عليه وسلم ،يقول ال تعالى في سورة العنكبوت { :وَقَالُوا َل ْولَا أُن ِزلَ
عَل ْيهِمْ إِنّ فِي َذلِكَ لَرَحْمَةً َو ِذكْرَى
عَليْكَ ا ْلكِتَابَ يُ ْتلَى َ
ن َ ،أ َولَمْ َيكْ ِفهِمْ أَنّا أَن َزلْنَا َ
عَليْ ِه آيَاتٌ مّن رّبّهِ ُقلْ ِإنّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَإِنّمَا أَنَا َنذِيرٌ مّبِي ٌ
َ
لِ َقوْ مٍ ُيؤْمِنُو نَ} [العنكبوت ،]50،51 :ولما اشتط كفار قريش في طلب المعجزات من رسول ال صلى ال عليه وسلم كما كانت تفعل المم
الماضية ،أمره ال أن يجيبهم بقولهُ { :قلْ سُبْحَانَ َربّي َه ْل كُنتُ َإلّ بَشَرًا رّسُولً}[السراء .]93 :استمع إلى ذلك في قوله تعالى في سورة
ن الَرْ ضِ يَنبُوعًا َ ،أوْ َتكُو نَ لَ كَ جَنّةٌ مّ ن نّخِيلٍ وَعِنَ بٍ فَتُ َفجّرَ الَ ْنهَارَ خِللَهَا تَفْجِيرًاَ ،أوْ
حتّ ى تَفْجُرَ لَنَا مِ َ
ال سراء { :وَقَالُواْ لَن ّنؤْمِ نَ لَ كَ َ
ن لِرُ ِقيّ كَ
خرُ فٍ َأوْ تَ ْرقَى فِي ال سّمَاء َولَن ّنؤْمِ َ
عَليْنَا كِ سَفًا َأوْ َتأْتِ يَ بِاللّ هِ وَالْمَل ِئكَةِ قَبِيلًَ ،أوْ َيكُو نَ لَ كَ بَيْ تٌ مّن زُ ْ
تُ سْقِطَ ال سّمَاء كَمَا زَعَمْ تَ َ
عَليْنَا كِتَابًا نّقْ َر ُؤهُ ُقلْ سُبْحَانَ َربّي َه ْل كُنتُ َإلّ بَشَرًا رّسُولً} [السراء.]93-91 :
حتّى ُتنَ ّزلَ َ
َ
هكذا يقرر القرآن بصيراحة ووضوح أن محمدا صيلى ال علييه وسيلم إنسيان رسيول ،وأنيه ل يعتميد فيي دعوى الرسيالة على الخوارق
لمِ}[النعام.]125 :
صدْ َرهُ لِلِسْ َ
والمعجزات ،وإنما يخاطب العقول والقلوبَ { ،فمَن يُ ِردِ اللّهُ أَن َي ْهدِيَهُ يَشْ َرحْ َ
من أذى وع نت في سبيل دعو ته ،ك ما ذكر ما كان المشركون ينعتو نه به من ال سحر والجنون صدا عن د ين ال عز و جل ،و قد تعرض
القرآن لهجرة الر سول ك ما تعرض ل هم المعارك الحرب ية ال تي خاض ها ب عد هجر ته ،فتحدث عن معر كة بدر ،وأ حد ،والحزاب ،و صلح
الحديبية ،وفتح مكة ،وغزوة حنين ،وتحدث عن بعض معجزاته ،كمعجزة السراء والمعراج.
وبالجملة فقد تحدث عن كثير من وقائع سيرة الرسول صلى ال عليه وسلم ،ولما كان الكتاب الكريم أوثق كتاب على وجه الرض ،وكان
من الثبوت المتوا تر ب ما ل يف كر إن سان عا قل في التشك يك بن صوصه وثبوت ها التاريخي ،فإن ما تعرض له من وقائع ال سيرة يع تبر أ صح
مصدر للسيرة على الطلق.
ول كن من المل حظ أن القرآن لم يتعرض لتفا صيل الوقائع النبو ية ،وإن ما تعرض ل ها إجمال ،ف هو ح ين يتحدث عن معر كة ل يتحدث عن
أسبابها ،ول عن عدد المسلمين والمشركين فيها ،ول عن عدد القتلى والسرى من المشركين ،وإنما يتحدث عن دروس المعركة وما فيها
من عبر وعظات ،وهذا شأن القرآن في كل ما أورده من قصص عن النبياء السابقين والمم الماضية ،ولذلك فنحن ل نستطيع أن نكتفي
بنصوص القرآن المتعلقة بالسيرة النبوية لنخرج منها بصورة متكاملة عن حياة الرسول صلى ال عليه وسلم.
-2السنة النبوية الصحيحة:
السنة النبوية الصحيحة التي تضمنتها كتب أئمة الحديث المعترف بصدقهم والثقة بهم في العالم السلمي هي:
الكتب الستة :البخاري ،ومسلم ،وأبوداود ،والنسائي ،والترمذي ،وابن ماجه .ويضاف إليها :موطأ المام مالك ،ومسند المام أحمد ،فهذه
الك تب وخا صة البخاري وم سلم في الذروة العل يا من ال صحة والث قة والتحق يق ،أ ما الك تب الخرى ،ف قد تضم نت ال صحيح والح سن ،و في
بعضها الضعيف أيضا.
من هذه الكتب التي حوت القسم الكبر من حياة النبي صلى ال عليه وسلم ،ووقائعه وحروبه ،وأعماله ،نستطيع أن نكون فكرة شاملة -
وإن كانت غير متكاملة أحيانا -عن سيرة الرسول صلى ال عليه وسلم ،ومما يزيد الثقة بها والطمئنان إليها أنها رويت بالسند المتصل
إلى الصحابة رضوان ال عليهم ،وهم الذين عاشروا الرسول ولزموه ،ونصر ال بهم دينه ،وقد رباهم رسول ال صلى ال عليه وسلم
على عي نه ،فكانوا أك مل أجيال التار يخ ا ستقامة أخلق وقوة إيمان ،و صدق حد يث ،و سمو أرواح ،وكمال عقول ،ف كل ما رووه ل نا عن
الرسول بالسند الصحيح المتصل يجب أن نقبله كحقيقة تاريخية ل يخالجنا الشك فيها.
ويحاول المستشرقون المغرضون وأتباعهم من المسلمين الذين رق دينهم ،وفتنوا بالغرب وعلمائه أن يشككوا في صحة ما بين أيدينا من
كتب السنة المعتمدة ،لينفذوا منها إلى هدم الشريعة ،والتشكيك بوقائع السيرة ،ولكن ال الذي تكفل بحفظ دينه قد هيأ لهم من يرد سهام
باطل هم ،وكيد هم إلى نحور هم و قد تعر ضت في كتا بي « ال سنة ومكانت ها في التشر يع ال سلمي » إلى جهود علمائ نا في تمح يص ال سنة
النبو ية ،و سردت ش به الم ستشرقين و من تابع هم ،وناقشت ها نقا شا علم يا ،أر جو ال أن يثيب ني عل يه ،ويجعله في صفحات ح سناتي يوم
العرض عليه.
-3الشعر العربي المعاصر لعهد الرسالة:
مما ل شك فيه أن المشركين قد هاجموا الرسول ودعوته على ألسنة شعرائهم ،مما اضطر المسلمين إلى الرد عليهم على ألسنة شعرائهم،
كحسان بن ثابت ،وعبدال ابن رواحة ،وغيرهما ،وقد تضمنت كتب الدب ،وكتب السيرة التي صنفت فيما بعد قسطا كبيرا من هذه الشعار
ال تي ن ستطيع أن ن ستنتج من ها حقائق كثيرة عن البيئة ال تي كان يع يش في ها الر سول صلى ال عل يه و سلم ،وال تي ترعر عت في ها عقيدة
السلم أول قيامها.
-4كتب السيرة:
كانت وقائع السيرة النبوية روايات يرويها الصحابة رضوان ال عليهم إلى من بعدهم ،وقد اختص بعضهم بتتبع دقائق السيرة وتفاصيلها،
ثم تناقل التابعون هذه الخبار ودونوها في صحائف عندهم ،وقد اختص بعضهم بالعناية التامة بها ،أمثال أبان بن عثمان بن عفان رضي
ال ع نه (105-32ه ي) وعروة بن الزب ير بن العوام (93-23ه ي) و من صغار التابع ين ع بد ال بن أ بي ب كر الن صاري (تو في سنة
www.ikhwan-info.net
135هي) ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري (124-50هي) الذي جمع السنة في عهد عمر بن عبد العزيز بأمره ،وعاصم بن عمر بن
قتادة النصاري (توفي سنة 129هي).
ثم انتقلت العنا ية بال سيرة إلى من بعد هم ،ح تى أفردو ها بالت صنيف ،و من أش هر أوائل الم صنفين في ال سيرة مح مد بن إ سحاق بن ي سار
(توفي سنة 152هي) وقد اتفق جمهور العلماء والمحدثين على توثيقه ،إل ما روي عن مالك ،وهشام بن عروة بن الزبير من تجريحه،
وقد حمل كثير من العلماء المحققين تجريح هذين العالمين الكبيرين له بعداوات شخصية كانت قائمة بينهما وبين ابن إسحاق.
ألف ابن إسحاق كتابه «المغازي» من أحاديث وروايات سمعها بنفسه في المدينة ومصر ،ومن المؤسف أن هذا الكتاب لم يصل إلينا ،فقد
فُ ِقدَ فيما فُ ِق َد من تراثنا العلمي الزاخر ،ولكن مضمون الكتاب بقي محفوظا بما رواه عنه ابن هشام في سيرته عن طريق شيخه البكائي
الذي كان من أشهر تلمذة ابن إسحاق.
تدلنا الخبار الثابتة عن حياته صلى ال عليه وسلم قبل البعثة على الحقائق التالية:
-1أنه ولد في أشرف بيت من بيوت العرب ،فهو من أشرف فروع قريش ،وهم بنو هاشم ،وقريش أشرف قبيلة في العرب ،وأزكاها
ن سبا وأعل ها مكا نة ،و قد روي عن العباس ر ضي ال ع نه ،عن ر سول ال صلى ال عل يه و سلم أ نه قال « :إن ال خلق الخلق
فجعل ني من خيرهم من خ ير فرقهم ،وخ ير الفريقين ،ثم تخ ير القبائل ،فجعل ني من خ ير قبيلة ،ثم تخ ير البيوت ،فجعل ني من خ ير
بيوتهم ،فأنا خيرهم نفسا ،وخيرهم بيتا».1
ولمكانة هذا النسب الكريم في قريش لم نجدها 2فيما طعنت به على النبي صلى ال عليه وسلم لتضاح نسبه بينهم ،ولقد طعنت فيه بأشياء
كثيرة مفتراة إل هذا المر.
-2أنه نشأ يتيما ،فقد مات أبوه عبد ال وأمه حامل به لشهرين فحسب ،ولما أصبح له من العمر ست سنوات ماتت أمه آمنة فذاق
صلى ال عليه وسلم في صغره مرارة الحرمان من عطف البوين وحنانهما ،وقد كفله بعد ذلك جده عبد المطلب ،ثم توفي ورسول
ال صلى ال عليه وسلم ابن ثمان سنوات ،فكفله بعد ذلك عمه أبو طالب حتى نشأ واشتد ساعده ،وإلى يتمه أشار القرآن الكريم
جدْكَ َيتِيمًا فَآوَى} [الضحى.]6:
بقولهَ{ :أ َلمْ يَ ِ
-3أم ضى ر سول ال صلى ال عل يه و سلم ال سنوات الر بع الولى من طفول ته في ال صحراء في ب ني سعد ،فن شأ قوي البن ية ،سليم
الج سم ،ف صيح الل سان ،جر يء الجنان ،يح سن ركوب الخ يل على صغر سنه قد تفت حت مواه به على صفاء ال صحراء وهدوئ ها،
وإشراق شمسها ونقاوة هوائها.
-4كانت تعرف فيه النجابة من صغره ،وتلوح على محياه مخايل الذكاء الذي يحببه إلى كل من رآه ،فكان إذا أتى الرسول وهو غلم
جلس على فراش جده ،وكان إذا جلس عل يه ل يجلس م عه على الفراش أ حد من أولده (أعمام الر سول) ،فيحاول أعما مه انتزا عه
عن الفراش ،فيقول لهم عبد المطلب :دعوا ابني ،فوال إن له لشأنا.
-5أ نه عل يه ال صلة وال سلم كان ير عى في أوائل شبا به لهل م كة أغنامهم بقرار يط يأخذها أجرا على ذلك ،و قد ث بت ع نه صلى ال
عليه وسلم أنه قال « :ما من نبي إل قد رعى الغنم» قالوا :وأنت يا رسول ال؟ قال « :وأنا» وفي رواية أخرى أنه قال « :ما بعث
ال نبيا إل رعى الغنم» فقال له أصحابه :وأنت يا رسول ال؟ فأجاب « :وأنا رعيتها لهل مكة على قراريط» ثم لما بلغ من عمره
خمسا وعشرين ،عمل لخديجة بنت خويلد في التجارة بما لها على أجر تؤديه إليه.
-6لم يشارك عليه الصلة والسلم أقرانه من شباب مكة في لهوهم ول عبثهم ،وقد عصمه ال من ذلك ،فقد استفاض في كتب السيرة
أنه سمع وهو في سن الشباب غناء من إحدى دور مكة في حفلة عرس ،فأراد أن يشهدها ،فألقى ال عليه النوم ،فما أيقظه إل حر
الشمس ،ولم يشارك قومه في عبادة الوثان ،ول أكل شيئا مما ذبح لها ،ولم يشرب خمرا ،ول لعب قمارا ،ول عرف عنه فحش في
القول ،أو هُجر [قبحٌ] في الكلم.
-7وعرف عنه منذ إدراكه رجحان العقل ،وأصالة الرأي ،وفي حادثة وضع الحجر السود في مكانه من الكعبة دليل واضح على هذا،
فقد أصاب الكعبة سيل أدى إلى تصدع جدرانها ،فقرر أهل مكة هدمها وتجديد بنائها ،وفعلوا ،فلما وصلوا إلى مكان الحجر السود
فيها اختلفوا اختلفا شديدا فيمن يكون له شرف وضع الحجر السود في مكانه ،وأرادت كل قبيلة أن يكون لها هذا الشرف ،واشتد
النزاع حتى تواعدوا للقتال ،ثم ارتضوا أن يحكم بينهم أول داخل من باب بني شيبة ،فكان هو رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فلما
رأوه قالوا :هذا الم ين ،رضي نا بحك مه ،فل ما أ خبر بذلك ،حل المشكلة ب ما ر ضي ع نه جم يع المتنازع ين ،ف قد ب سط رداءه ثم أ خذ
الح جر فوض عه ف يه ،ثم أمر هم أن تأ خذ كل قبيلة بطرف من الرداء ،فل ما رفعوه وبلغ الح جر موض عه ،أخذه ووض عه بيده ،فرضوا
جميعا ،وصان ال بوفور عقله وحكمته دماء العرب من أن تسفك إلى مدى ل يعلمه إل ال.
-8عرف عل يه ال صلة وال سلم في شبا به ب ين قو مه بال صادق الم ين ،واشت هر بين هم بح سن المعاملة ،والوفاء بالو عد ،وا ستقامة
ال سيرة ،وحسن ال سمعة ،م ما رغب خديجة في أن تعرض عل يه التجار بمالها في القافلة ال تي تذ هب إلى مدي نة (بصرى) كل عام
على أن تعط يه ضعف ما تعطي رجل من قوم ها ،فل ما عاد إلى مكة وأخبرها غلمها مي سرة بما كان من أمانته وإخل صه ،ورأت
الربح الكثير في تلك الرحلة ،أضعفت له من الجر ضعف ما كانت أسمت له ،ثم حملها ذلك على أن ترغب في الزواج منه ،فقبل أن
يتزوجها وهو أصغر منها بخمسة عشر عاما ،وأفضل شهادة له بحسن خلقه قبل النبوة قول خديجة له بعد أن جاءه الوحي في غار
حراء وعاد مرتعدا :كل وال ل يخزيك ال أبدا ،إنك لتصل الرحم ،وتحمل الكل (الضعيف) ،وتكسب المعدوم ،وتقري الضيف ،وتعين
على نوائب الحق.
-9سافر مرتين خارج مكة ،أولهما مع عمه أبي طالب حين كان عمره اثنتي عشرة سنة ،وثانيتهما حين كان عمره خمسا وعشرين
سنة ،متاجرا لخدي جة بمال ها ،وكا نت كل تا الرحلت ين إلى مدي نة (ب صرى) في الشام ،و في كلتيه ما كان ي سمع من التجار أحاديث هم،
ويشاهد آثار البلد التي مر بها ،والعادات التي كان عليها سكانها.
-10حبب ال إليه عليه الصلة والسلم قبل البعثة بسنوات أن يخرج إلى غار حراء -وهو جبل يقع في الجانب الشمالي الغربي من
م كة ،على قرب من ها -يخلو ف يه لنف سه مقدار ش هر -وكان في ش هر رمضان -ليف كر في آلء ال ،وعظ يم قدر ته ،وا ستمر على
ذلك حتى جاءه الوحي ،ونزل عليه القرآن الكريم.
بالنسيبة إلى مين يجاورهيم مين الميم المتمدنية أصيفى نفوسيا ،وأسيلم تفكيرا ،وأقوم أخلقيا ،وأكثير احتمال لمكاره
الحروب في سبيل دعوة ال ونشر رسالته في أنحاء العالم.
-4ل يتأهل لمركز الدعوة وقيادتها إل الذكي النبيه ،فال غبياء والمتوسطون في نجابتهم أبعد الناس عن جدارة القيادة
الفكرية ،أو الصلحية ،أو الروحية ،بل إن من سنن الحياة أل يتمكن من القيادة في أي ناحية من نواحي الحياة عن
جدارة وا ستحقاق ال غبياء والمضطربون في تفكير هم ،والشاذون في آرائ هم ،وإذا وا تت ال صدفة أو الظروف واحدا
من هؤلء ،فحملته إلى مركز القيادة ،فسرعان ما يهوي إلى الحضيض ويتخلى عنه قومه بعد أن تدلهم أفعاله على
غباوته ،أو شذوذه ،أو اضطراب تفكيره.
-5ينبغي للداعية أن يعتمد في معيشته على جهده الشخصي ،أو مورد شريف ل استجداء فيه ،ول ذلة ول مهانة.
إن الدعاة الصادقين الشرفاء يربؤون بأنفسهم أن يعيشوا من صدقات الناس وأعطياتهم ،وأية كرامة تكون لهم في نفوس قومهم بعد أن
يهينوا أنفسهم بذل السؤال والستجداء ولو لم يكن صريحا مكشوفا .فإذا وجدنا من يدعي الدعوة والرشاد ،وهو يستكثر من أموال الناس
بشتى أنواع الحيل ،فإننا نجزم بمهانة نفسه في نفسه ،فكيف في نفوس قومه وجيرانه؟ ومن ارتضى لنفسه المهانة ،فكيف يستطيع أن
يدعو إلى مكارم الخلق ،ويقف في وجه الطغاة والمفسدين ،ويحارب الشر والفساد ،ويبعث في المة روح الكرامة والشرف والستقامة؟
-6إن ا ستقامة الداع ية في شبا به وح سن سيرته أد عى إلى نجا حه في دعو ته إلى ال ،وإ صلح الخلق ،ومحار بة
المنكرات ،إذ ل يجد في الناس من يغمزه في سلوكه الشخصي قبل قيامه بالدعوة ،وكثيرا ما رأينا أناسا قاموا بدعوة
ال صلح ،وبخا صة إ صلح الخلق ،وكان من أ كبر العوا مل في إعراض الناس عن هم ما يذكرو نه ل هم من ماض
ملوث ،وخلق غير مستقيم ،بل إن الماضي السيء يكون مدعاة للشك في صدق هؤلء الدعاة ،بحيث يتهمون بالتستر
وراء دعوة الصيلح لمآرب خاصية ،أو يتهمون أنهيم ميا بدؤوا بالدعوة إلى الصيلح إل بعيد أن قضوا لُبانتهيم
[حاجتهم] من ملذات الحياة وشهواتها ،وأصبحوا في وضع أو عمر ل أمل لهم فيه بالستمرار فيما كانوا يبلغون فيه
من عرض أو مال أو شهرة أو جاه.
أما الداعية المستقيم في شبابه ،فإنه يظل أبدا رافع الرأس ناصع الجبين ،ل يجد أعداء الصلح سبيل إلى غمزه بماض قريب أو بعيد،
ول يتخذون من هذا الماضي المنحرف تكأة للتشهير به ،ودعوة الناس إلى الستخفاف بشأنه.
نعم إن ال يقبل توبة التائب المقبل عليه بصدق وإخلص ،ويمحو بحسناته الحاضرة سيئاته المنصرمة ،ولكن هذا شيء غير الداعية الذي
ينتظر لدعوته النجاح إذا استقامت سيرته وحسنت سمعته.
-7إن تجارب الداعية بالسفر ،ومعاشرة الجماهير ،والتعرف على عوائد الناس وأوضاعهم ومشكلتهم ،لها أثر كبير في
نجاح دعوته ،فالذين يخالطون الناس في الكتب والمقالت دون أن يختلطوا بهم على مختلف اتجاهاتهم ،قوم مخفقون
في دعوة الصلح ،ل يستمع الناس إليهم ،ول تستجيب العقول لدعوتهم ،لما يرى فيهم الناس من جهل بأوضاعهم
ومشكلتهم ،فمن أراد أن يصلح المتدينين عليه أن يعيش معهم في مساجدهم ،ومجالسهم ،ومجتمعاتهم ،ومن أراد
أن يصلح حال العمال والفلحين ،عليه أن يعيش معهم في قراهم ،ومصانعهم ،ويؤاكلهم في بيوتهم ،ويتحدث إليهم
في مجتمعات هم ،و من أراد أن ي صلح المعاملت الجار ية ب ين الناس ،عل يه أن يختلط ب هم في أ سواقهم ،ومتاجر هم،
ومصانعهم ،وأنديتهم ،ومجالسهم ،ومن أراد أن يصلح الوضاع السياسية ،عليه أن يختلط بالسياسيين ،ويتعرف إلى
تنظيماتهم ،ويستمع لخطبهم ،ويقرأ لهم برامجهم وأحزابهم ،ثم يتعرف إلى البيئة التي يعيشون فيها ،والثقافة التي
نهلوا من معين ها ،والتجاه الذي يندفعون نحوه ،ليعرف ك يف يخاطب هم ب ما ل تن فر م نه نفو سهم ،وك يف ي سلك في
إصلحه معهم بما ل يدعوهم إلى محاربته عن كره نفسي ،واندفاع عاطفي.
وهكذا يجب أن يكون للداعية من تجاربه في الحياة ،ومعرفته بشؤون الناس ،ما يمكنه من أن يحقق قول ال تعالى{:ادْ عُ ِإلِى سَبِيلِ َربّ كَ
www.ikhwan-info.net
3
حكْمَةِ وَالْ َموْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل ،]125 :وما أبدع القول المأثور :خاطبوا الناس على قدر عقولهم؛ أتريدون أن يكذب ال ورسوله؟
بِالْ ِ
-8يجب على الداعية إلى ال أن تكون له بين الفينة والفينة أوقات يخلو فيها بنفسه ،تتصل فيها روحه بال جل شأنه،
وتصيفو فيهيا نفسيه مين كدورات الخلق الذميمية ،والحياة المضطربية مين حوله ،ومثيل هذه الخلوات تدعوه إلى
محا سبة نف سه إن ق صرت في خ ير ،أو زلت في اتجاه ،أو جان بت سبيل الحك مة ،أو أخطأت في سبيل ومن هج أو
طر يق ،أو انغم ست مع الناس في الجدال والنقاش ح تى أن سته ذ كر ال وال نس به وتذ كر الخرة ،وجنت ها ونار ها،
والموت وغصصه وآلمه ،ولذلك كان التهجد وقيام الليل فرضا في حق النبي صلى ال عليه وسلم ،مستحبا في حق
غيره ،وأحيق الناس بالحرص على هذه النافلة هيم الدعاة إلى ال وشريعتيه وجنتيه ،وللخلوة والتهجيد والقيام ل
بالعبودية في أعقاب الليل لذة ل يدركها إل من أكرمه ال بها ،وقد كان إبراهيم بن أدهم رحمه ال يقول في أعقاب
تهجده وعبادته :نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها.
وحسبنا قول ال تبارك وتعالى مخاطبا رسول ال صلى ال عليه وسلم{ :يَا َأ ّيهَا الْمُزّ ّم ُل ،قُ مِ اللّ ْيلَ ِإلّا َقلِيلًا ،نِ صْفَهُ َأوِ انقُ صْ ِمنْ هُ َقلِيلًا ،
طءًا وَأَ ْق َومُ قِيلًا} [المزمل.]7-1 :
شدّ وَ ْ
علَيْكَ َق ْولًا ثَقِيلًا ،إِنّ نَاشِئَةَ اللّ ْيلِ ِهيَ أَ َ
عَليْهِ وَرَ ّتلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ،إِنّا سَ ُنلْقِي َ
َأوْ ِزدْ َ
الفصل الثاني -في السيرة منذ البعثة حتى الهجرة إلى الحبشة
أ -الوقائع
-13جاء في البخاري 1/199في العلم :باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية ال يفهموا :وقال علي رضي الله عنه :حدثوا
الناس بما يعرفون ،أتحبون أن يكذب الله ورسوله.
www.ikhwan-info.net
و في روا ية ا بن هشام عن ا بن إ سحاق :أن جبر يل جاءه و هو نائم في غار حراء بن مط -وعاء -4من ديباج [حر ير] ف يه كتاب ،فقال:
اقرأ..إلخ .قال :فقرأتها ،ثم انتهى فانصرف عني وهببت من نومي ،فكأنما كتبت في قلبي كتابا ،قال :فخرجت حتى إذا كنت في وسط من
الجبل سمعت صوتا من السماء يقول :يا محمد أنت رسول ال ،وأنا جبريل .قال :فرفعت رأسي إلى السماء أنظر ،فإذا جبريل في صورة
ر جل صافّ قدم يه في أ فق ال سماء يقول : :يا مح مد أ نت رسول ال ،وأ نا جبر يل .قال :فوق فت أن ظر إل يه ،ف ما أتقدم و ما أتأ خر ،وجعلت
أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فل أنظر في ناحية منها إل رأيته كذلك ،فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي ،حتى بعثت
خديجة رُسُلها في طلبي ..إلخ.
-2كان أول من آمن به ودخل في السلم زوجه خديجة رضي ال عنها ،ثم ابن عمه علي رضي ال عنه وهو ابن عشر
5
سنين ،ثم موله ز يد بن حار ثة ،ثم أ بو ب كر ال صديق ر ضي ال ع نه ،وكان أول من أ سلم من العب يد بلل بن رباح
الحب شي وعلى ذلك تكون خدي جة أول من آ من به إطل قا ،و قد صلى ر سول ال صلى ال عل يه و سلم مع ها آ خر يوم
الثنين ،وهو أول يوم من صلته ،وكانت الصلة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي.
-3ثم فتر الوحي بعد ذلك فترة من الزمن اختلفت الروايات في تقديرها ،فأقصاها ثلث سنوات ،وأدناها ستة أشهر وهو
ال صحيح ،و قد شق انقطاع الو حي على الر سول صلى ال عل يه و سلم ،وأحز نه ذلك كثيرا ،ح تى كاد يخرج إلى الجبال
َف َي ُهمّ بأن يترى من رؤوسها ،6ظنا منه أن ال قد قله بعد أن اختاره لشرف الرسالة ،ثم عاد إليه الوحي بعد ذلك كما
يروي المام البخاري في « صحيحه» عن جابر بن ع بد ال الن صاري عن ال نبي صلى ال عل يه و سلم « :بين ما أ نا
أمشيي إذ سيمعت صيوتا مين السيماء ،فرفعيت بصيري فإذا الملك الذي جاءنيي بحراء جالس على كرسيي بيين السيماء
ُمي َفأَنذِرْ} إلى قولهَ{ :الرّجْزَ
والرض ،فرعبيت منيه ،فرجعيت فقلت :زملونيي ،فأنزل ال تعالى{ :ي َا َأيّه َا الْ ُمدّثّرُ ،ق ْ
فَاهْجُرْ} فحمي الوحي وتتابع .
-4بدأ رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد ذلك يدعو إلى السلم من وثق بعقله ثلث سنوات كاملة ،حتى أسلم عدد من
الرجال والنساء ممن عرفوا برجحان الرأي وسلمة النفس.
-5أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد أن بلغ عدد الداخلين في السلم نحوا من ثلثين أن يبلغ الدعوة جهرا ،وذلك
ن } [الحجر.]94 :
صدَعْ بِمَا ُتؤْمَرُ وَأَعْ ِرضْ عَنِ الْمُشْ ِركِي َ
في قوله تعالى {:فَا ْ
-6ابتدأت بذلك مرحلة اليذاء للمؤمن ين الجدد ولر سول ال صلى ال عل يه و سلم ،ف قد هال المشرك ين أن ي سفه الر سول
أحلمهم ،ويعيب آلهتهم ،ويأتيهم بدين جديد يدعو إلى إله واحد ل تدركه العيون والبصار ،وهو يدرك البصار ،وهو
اللطيف الخبير.
-7كان رسول ال صلى ال عليه وسلم في هذه الفترة يجتمع بالمؤمنين سرا في دار الرقم بن أبي الرقم الذي دخل في
السلم أيضا ،وكان الرسول يتلو عليهم ما ينزل عليه من آيات القرآن الكريم ،ويعلمهم من أحكام الدين وشرائعه ما
كان ينزل حينئذ.
-8أمر الرسول صلى ال عليه وسلم يومئذ بأن ينذر عشيرته القربين ،فوقف على الصفا ،ونادى بطون قريش بطنا بطنا،
ودعاهيم إلى السيلم وترك عبادة الوثان ،ورغبهيم فيي الجنية وحذرهيم مين النار ،فقال له أبيو لهيب :تبيا لك ،ألهذا
جمعتنا؟.
-9رغبت قريش في أن تنال من الرسول ،فحماه عمه أبو طالب ،وامتنع عن تسليمه إليهم ،ثم طلب بعد ذهابهم أن يخفف
من دعوته ،فظن أن عمه خاذله ،فقال كلمته المشهورة « :وال لو وضعوا الشمس في يميني ،والقمر في يساري على
أن أترك هذا المر حتى يظهره ال أو أهلك دونه ،ما تركته».
-10اشتد أذى المشركين بعد ذلك للرسول وصحابته ،حتى مات منهم من مات تحت العذاب وعمي من عمي.
-11ل ما رأت قر يش ثبات المؤمن ين على عقيدت هم ،قررت مفاو ضة الر سول على أن تعط يه من المال ما يشاء ،أو تمل كه
عليها ،فأبى ذلك كله.
-12لما رأى الرسول تعنت قريش واستمرارها في تعذيب أصحابه ،قال لهم« :لو خرجتم إلى أرض الحبشة ،فإن فيها ملكا
ل يظلم أحد عنده حتى يجعل ال لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه» فهاجر للمرة الولى اثنا عشر رجل ،وأربع نسوة،
ثم عادوا ب عد أن علموا بإسلم ع مر وإظهار ال سلم ،لكن هم ما لبثوا أن عادوا ومع هم آخرون من المؤمن ين ،و قد بلغ
عددهم في الهجرة الثانية إلى الحبشة ثلثة وثمانين رجل ،ومن النساء إحدى عشرة.
-13مقاطعة المشركين لرسول صلى ال عليه وسلم وبني هاشم وبني المطلب أل يبايعوهم ،ول يناكحوهم ول يخالطوهم،
ول يقبلوا من هم صلحا أبدا ،وا ستمرت المقاط عة سنتين أو ثل ثا ،ل قي في ها الر سول و من م عه في هذه المقاط عة جهدا
شديدا ،ثم انتهت المقاطعة بمسعى عقلء قريش.
لضمائرهم وقلوبهم ،ورضى ال وجنته أعز وأغلى عندهم من كل مناصب الدنيا وجاهها وأموالها.
-7إن على الداعية أن يجتمع بأنصاره على فترات في كل نهار أو أسبوع ،ليزيدهم إيما نا بدعوتهم ،وليعلم هم طرقها وأساليبها
وآدابها ،وإذا خشي على نفسه وجماعته من الجتماع بهم علنا وجب عليه أن يكون اجتماعه بهم سرا لئل يُجمِع المبطلون
أمرهم فيقضوا عليهم جميعا ،أو يزدادوا في تعذيبهم واضطهادهم.
-8إن على الداعية أن يهتم بأقربائه فيبلغهم دعوة الصلح ،فإذا أعرضوا ،كان له عذر أمام ال والناس عما هم عليه من فساد
وضلل.
-9إن على الداع ية إذا و جد جماعته في خ طر على حياتهم أو معتقداتهم من الفت نة ،أن يه يئ لهم مكا نا يأمنون ف يه من عدوان
المبطلين ،ول ينافي ذلك ما يجب على دعاة الحق من تضحية ،فإنهم إذا كانوا قلة استطاع المبطلون أن يقضوا عليهم قضاء
مبرما ،فيتخلصوا من دعوتهم ،وفي وجودهم في مكان آمن ضمان لستمرار الدعوة وانتشارها.
-10إن في أمر الرسول أصحابه أول وثانيا بالهجرة إلى الحبشة ،ما يدل على أن رابطة الدين بين المتدينين ولو اختلفت دياناتهم
هي أقوى وأوثق من رابطتهم مع الوثنيين والملحدين ،فالديانات السماوية في مصدرها وأصولها الصحيحة متفقة في الهداف
الجتماعية الكبرى ،كما هي متفقة في اليمان بال ورسله واليوم الخر ،وهذا ما يجعل وشائج [روابط] القربى بينها أوثق من
أية وشيجة من قرابة أو دم أو موطن مع اللحاد والوثنية والكفر بشرائع ال.
-11إن المبطل ين ل ي ستسلمون أمام أ هل ال حق ب سهولة وي سر ،ف هم كل ما أخف قت ل هم و سيلة من و سائل المقاو مة والقضاء على
دعوة الحق ،ابتكروا وسائل أخرى وهكذا حتى ينتصر الحق انتصاره النهائي ويلفظ الباطل أنفاسه الخيرة.
الفصل الثالث -في السيرة بعد هجرة الحبشة إلى الهجرة للمدينة
أ -الوقائع التاريخية
-4عاد رسول ال صلى ال عليه وسلم من الطائف دون أن تستجيب ثقيف لدعوته ،اللهم إل ما كان من إسلم «عدّاس» غلم
عتبة وشيبة ابني ربيعة ،وكان غلما نصرانيا ،طلب منه سيداه أن يقدم قطفا من العنب إلى الرسول وهو في البستان لما
رأيا من إعيائه وتهجم ثقيف عليه ،فلما قدم عدّاس العنب للرسول صلى ال عليه وسلم أخذ الرسول يبدأ في أكله قائل :بسم
ال ،فلفت ذلك نظر عداس ،إذ ل يوجد في القوم من يقول مثل هذا .وبعد حديث بين عداس والنبي أسلم عدّاس.
-5وقعت معجزة السراء والمعراج وقد اختلف في تاريخ وقوعها ،والمؤكد أنها وقعت قبل الهجرة في السنة العاشرة من بعثته
أو بعد ها ،وال صحيح الذي عل يه جماه ير العلماء أنه ما وق عا في ليلة واحدة يق ظة بالج سد والروح ،أ سري به من الم سجد
الحرام إلى المسيجد القصيى ،ثيم عرج به إلى السيماوات العلى ،ثم عاد إلى بي ته في مكية تلك الليلة ،وأ خبر قريشيا بأمير
المعجزة ،فهزئت وسخرت ،وصدقه أبوبكر وأقوياء اليمان.
-6وفي هذه الليلة فرضت الصلوات خمسا على كل مسلم بالغ عاقل.
-7وفي أثناء مرورالرسول صلى ال عليه وسلم على القبائل في موسم الحج -كعادته في كل عام -لدعوتهم إلى السلم وترك
عبادة الوثان ،وبين ما هو ع ند العق بة ال تي تر مى عند ها الجمار ،ل قي ره طا من الوس والخزرج ،فدعا هم إلى ال سلم،
فأسلموا ،وكان عدد هم سبعة ،ثم عادوا إلى المدي نة ،فذكروا لقوم هم لقيا هم ال نبي صلى ال عل يه و سلم ،و ما دانوا به من
السلم.
-8و في العام التالي لثن تي عشرة سنة من البع ثة وا فى مو سم ال حج اث نا ع شر رجل من الن صار ،فاجتمعوا بال نبي صلى ال
عليه وسلم وبايعوه ،فلما عادوا أرسل معهم مصعب بن عمير إلى المدينة ليقرئ المسلمين فيها القرآن ،ويعلمهم السلم،
فانتشر السلم في المدينة انتشارا كبيرا.
-9و في العام الذي يل يه ح ضر من الن صار جما عة في مو سم ال حج فاجتمعوا بال نبي صلى ال عل يه و سلم م ستخفين ،وكانوا
سبعين رجل وامرأت ين ،وبايعوه على الن صرة والتأي يد ،وعلى أن يمنعوه م ما يمنعون م نه ن ساءهم وأبناء هم ،وعادوا إلى
المدينة بعد أن اختار منهم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم.
تغار منها -وهي متوفاة -لكثرة ما كانت تسمع من ثناء النبي صلى ال عليه وسلم عليها ،فقد روى البخاري عنها رضي ال عنها أنها
قالت :ما غرت على أحد من نساء النبي صلى ال عليه وسلم ما غرت على خديجة ،وما رأيتها ،ولكن كان النبي صلى ال عليه وسلم
يكثر ذكرها ،ولربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ،ثم يبعثها في صدائق -صديقات -خديجة ،فربما قلت له :كأن لم يكن في الدنيا امرأة
إل خديجة؟ فيقول :أنها كانت ،وكانت ،وكان لي منها ولد.
-4في توجه الرسول صلى ال عليه وسلم إلى الطائف بعد أن أعرضت عنه مكة ،دليل على التصميم الجازم في نفس الرسول
على ال ستمرار في دعو ته ،وعدم اليأس من ا ستجابة الناس ل ها ،وب حث عن ميدان جد يد للدعوة ب عد أن قا مت الحوا جز
دونها في ميدانها الول ،كما أن في إغراء ثقيف صبيانها وسفهاءها بالرسول ،دليل على أن طبيعة الشر واحدة أينما كانت،
و هي العتماد على ال سفهاء في إيذاء دعاة الخ ير ،و في سيل الدماء من قد مي ال نبي صلى ال عل يه و سلم -و هو ال نبي
الكريم ، -أكبر مثل لما يتحمله الداعية في سبيل ال من أذى واضطهاد ،أما دعاء النبي صلى ال عليه وسلم في البستان
ذلك الدعاء الخالد ،ففيه تأكيد لصدق الرسول في دعوته ،وتصميم على الستمرار فيها مهما قامت في وجهه الصعاب ،وأنه
ل يه مه إل ر ضا ال وحده ،فل يه مه ر ضا ال كبراء والزعماء ،ول ر ضا العا مة والدهماء « إن لم ي كن بك غ ضب علي فل
أبالي» كما أن فيه استمداد القوة من ال باللجوء إليه والستعانة به عندما يشتد الذى بالداعية ،وفيه أن خوف الداعية كل
الخوف هو من سخط ال عليه وغضبه ،ل من سخط أي شيء سواه.
-5في معجزة السراء والمعراج أسرار كثيرة نشير إلى ثلثة منها فحسب:
أول -ففيها ربط قضية المسجد القصى وما حوله -فلسطين -بقضية العالم السلمي إذ أصبحت مكة بعد بعثة الرسول صلى
ال عليه وسلم مركز تجمع العالم السلمي ووحدة أهدافه ،وأن الدفاع عن فلسطين دفاع عن السلم نفسه ،يجب أن يقوم به كل مسلم
في شتى أنحاء الرض ،والتفريط في الدفاع عنها وتحريرها ،تفريط في جنب السلم ،وجناية يعاقب ال عليها كل مؤمن بال ورسوله.
وثانيا -فيها رمز إلى سمو المسلم ،ووجوب أن يرتفع فوق أهواء الدنيا وشهواتها ،وأن ينفرد عن غيره من سائر البشر بعلو
المكانة ،وسمو الهدف ،والتحليق في أجواء المثل العليا دائما وأبدا.
وثالثيا -فيهيا إشارة إلى إمكان ارتياد الفضاء والخروج عين نطاق الجاذبيية الرضيية ،فلقيد كان رسيولنا فيي حادثية السيراء
والمعراج أول رائد للفضاء في تار يخ العالم كله ،وأن ريادة الفضاء والعودة إلى الرض ب سلم ،أ مر مم كن إن و قع لر سول ال بالمعجزة
في عصره؛ فإنه من الممكن أن يقع للناس عن طريق العلم والفكر.8
-6في فرض الصلة ليلة السراء والمعراج إشارة إلى الحكمة التي من أجلها شرعت الصلة ،فكأن ال يقول لعباده المؤمنين:
إذا كان معراج رسولكم بج سمه ورو حه إلى السماء معجزة ،فليكن ل كم في كل يوم خ مس مرات معراج تعرج ف يه أرواحكم
وقلوبكيم إلي ،ليكين لكيم عروج روحيي تحققون بيه الترفيع عين أهوائكيم وشهواتكيم ،وتشهدون بيه مين عظمتيي وقدرتيي
ووحدانيتي ،ما يدفعكم إلى السيادة على الرض ،ل عن طريق الستعباد والقهر والغلبة ،بل عن طريق الخير والسمو ،عن
طريق الطهر والتسامي ،عن طريق الصلة.
-7وفي عرض الرسول نفسه على القبائل في موسم الحج ،دليل على أن الداعية ل ينبغي أن يقتصر في دعوة الناس إلى الخير
ضمن مجالسه وفي بيئته فحسب ،بل يجب أن يذهب إلى كل مكان يجتمع فيه الناس أو يمكن أن يجتمعوا فيه ،وأنه ل ينبغي
له أن ييأس مين إعراضهيم عنيه مرة بعيد أخرى ،فقيد يهييئ ال له أنصيارا يؤمنون بدعوتيه الخيرة مين حييث ل يفكير ول
يحتسب ،وقد يكون لهذه القلة التي تهتدي به في بعض المناسبات شأن كبير في انتشار دعوة الحق والخير ،وفي انتصارها
النصر النهائي على الشر وأعوانه ،فلقد كان ليمان السبعة الوائل من النصار الذين التقوا برسول ال أول مرة ما أدى إلى
تغلغل السلم في المدينة ،وكان لهذا التغلغل أثر في انتشار السلم وسيطرته عليها ،مما مهد للمؤمنين المضطهدين في
مكة أن يجدوا في المدينة مهاجرا يتمركزون فيه ،ولرسول ال صلى ال عليه وسلم موئل أمينا يقيم فيه دولته ،ويبث منه
[ -18وهذا ل يعم ،على أن فيه نظرا ل يخفى].
www.ikhwan-info.net
دعوته ،وينطلق منه أصحابه إلى مقاومة الشرك والمشركين بالحروب والمعارك التي كانت نهايتها انتصارا خالدا لليمان،
وهزيمة أبدية للشرك ،فرضي ال عن النصار من أوس وخزرج ،كم كان لهم على السلم والمسلمين والعالم كله من فضل
ل ينتهيي خيره ،ورضيي ال عين إخوانهيم المهاجريين الذيين سيبقوهم إلى اليمان ،وضحوا فيي سبيله بالغالي مين الموال
والوطان ،وألحقنا بهم جميعا في جنة الرضوان.
الفصل الرابع -منذ الهجرة حتى استقرار النبي في المدينة
أ -الوقائع التاريخية
-1عل مت قر يش بإ سلم فر يق من أ هل يثرب ،فاش تد أذا ها للمؤمن ين بم كة ،فأمر هم ال نبي صلى ال عل يه و سلم بالهجرة إلى المدي نة،
فهاجروا م ستخفين ،إل ع مر ر ضي ال ع نه ،فإ نه أعلم مشر كي قر يش بهجرته ،9وقال ل هم :من أراد أن تثكله أ مه فليل حق بي غدا
ببطن هذا الوادي ،فلم يخرج له أحد.
-2ولما أيقنت قريش أن المسلمين قد أصبحوا في المدينة في عزة ومنعة ،عقدت مؤتمرا في دار الندوة للتفكير في القضاء على الرسول
نف سه ،فقرّ رأي هم على أن يتخيروا من كل قبيلة من هم ف تى جلدا ،فيقتلوه جمي عا ،فيتفرق د مه في القبائل ،ول يقدر ب نو مناف على
حرب هم جمي عا ،فيرضوا بالد ية ،وهكذا اجت مع الفتيان الموكلون بق تل الر سول صلى ال عل يه و سلم على با به ليلة الهجرة ينتظرون
خروجه ليقتلوه.
-3لم ينم الرسول صلى ال عليه وسلم تلك الليلة على فراشه ،وإنما طلب من علي رضي ال عنه أن ينام مكانه ،وأمره إذا أصبح أن
يرد الودائع ال تي كان أودع ها كفار قر يش عنده إلى أ صحابها ،وغادر الر سول صلى ال عل يه و سلم بي ته دون أن يشاهده الموكلون
بقتله ،وذهب إلى بيت أبي بكر ،وكان قد هيأ من قبل راحلتين له وللرسول صلى ال عليه وسلم ،فعزما على الخروج ،واستأجر أبو
بكر عبد ال بن أريقط الدّيلي وكان مشركا ليدلهما على طريق المدينة ،على أن يتجنب الطريق المعروفة إلى طريق أخرى ل يهتدي
إليها كفار قريش.
-4خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم وصاحبه أبو بكر يوم الخميس أول يوم من ربيع الول لسنة ثلث وخمسين من مولده عليه
الصلة والسلم ،ولم يعلم بأمر هجرته إل علي رضي ال عنه وآل أبي بكر رضي ال عنه ،وعملت عائشة وأسماء بنتا أبي بكر في
تهيئة الزاد لهما ،وقطعت أسماء قطعة من نطاقها -وهو ما يشد به الوسط -فربطت به على فم الجراب -وعاء الطعام -فسميت
لذلك :ذات النطاقين ،واتجها مع دليلهما عن طريق اليمن حتى وصل إلى «غار ثور» ،فكمنا فيه ثلث ليال يبيت عندهما عبد ال بن
أبي بكر وهو غلم شاب ثقف « حاذق» لقن « سريع الفهم» ،فيخرج من عندهما بال سَحَر ،ويصبح مع قريش بمكة كأنه كان نائما
فيها ،فل يسمع من قريش أمرا يبيتونه لهما إل وعاه حتى يأتيهما في المساء بخبره.
-5قامت قيامة قريش لنجاة الرسول صلى ال عليه وسلم من القتل ،وخرجوا يطلبونه من طريق مكة المعتاد ،فلم يجدوه واتجهوا إلى
طر يق الي من ،ووقفوا ع ند فم « غار ثور» يقول بعض هم :لعله و صاحبه في هذا الغار .فيجي به الخرون :أل ترى إلى فم الغار ك يف
تنسج عليه العنكبوت خيوطها ،وكيف تعشعش فيه الطيور ،مما يدل على أنه لم يخل هذا الغار أحد منذ أمد ،وأبو بكر رضي ال عنه
يرى أقدامهم وهم واقفون على فم الغار ،فيرتعد خوفا على حياة الرسول صلى ال عليه وسلم ويقول له :وال يا رسول ال ،لو نظر
أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا ،فيطمئنه الرسول صلى ال عليه وسلم بقوله« :يا أبا بكر ما ظنك باثنين ال ثالثهما؟».
-6أرسلت قريش في القبائل تطمع كل من عثر على الرسول صلى ال عليه وسلم وصاحبه ،أو قتله ،أو أسره ،في دفع مبلغ ضخم من
المال يغري الطامعين ،فانتدب لذلك سراقة بن جعشم ،10وأخذ على نفسه أن يتفقدهما ليظفر وحده بالجائزة.
-7ب عد أن انق طع طلب ر سول ال صلى ال عل يه و سلم و صاحبه ،خر جا من الغار مع دليله ما وأخذا طر يق ال ساحل « ساحل الب حر
الحمر» وقطعا مسافة بعيدة أدركهما من بعدها سراقة ،فلما اقترب منهما ،ساخت قوائم فرسه في الرمل فلم تقدر على السير ،وحاول
ثلث مرات أن يحملها على السير جهة الرسول صلى ال عليه وسلم ،عندئذ أيقن أنه أمام رسول كريم ،فطلب من الرسول صلى ال
عليه وسلم أن يعده بشيء إن نصره ،فوعده بسواري كسرى يلبسهما ،ثم عاد سراقة إلى مكة فتظاهر بأنه لم يعثر على أحد.
-8وصل الرسول صلى ال عليه وسلم وصاحبه المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الول وبعد أن طال انتظار أصحابه له ،يخرجون
كل صباح إلى مشارف المدينة ،فل يرجعون إل حين تحمى الشمس وقت الظهيرة ،فلما رأوه فرحوا به فرحا عظيما ،وأخذت الولئد
ينشدن بالدفوف:
من ثيينيييات اليوداع طلع البدر عيلييينييييا
ميييييا دعييييا ل داع وجب الشكر عيلييينا
جئت بالمر المطاع أيها المبعوث فيييينيا
-9كان الرسول صلى ال عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة قد وصل إلى «قباء» وهي قرية جنوب المدينة على بعد ميلين منها،
فأسس فيها أول مسجد بني في السلم ،وأقام فيها أربعة أيام ،ثم سار صباح الجمعة إلى المدينة ،فأدركته صلة الجمعة في بني سالم
بن عوف ،فبنى مسجدا هناك وأقام أول جمعة في السلم ،وأول خطبة خطبها في السلم ،ثم سار إلى المدينة ،فلما وصلها كان أول
عمل عمله بعد وصوله أن اختار المكان الذي بركت فيه ناقته ليكون مسجدا له ،وكان المكان لغلمين يتيمين من النصار ،فساومهما
على ثمنه ،فقال :بل نهبه لك يا رسول ال ،فأبى إل أن يبتاعه منهما بعشرة دنانير ذهبا أداها من مال أبي بكر ،ثم ندب المسلمين
للشتراك في بناء المسجد ،فأسرعوا إلى ذلك ،وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم ينقل معهم اللّبِن [الطوب] ،حتى تم بناء المسجد
جدرانه من َلبِن ،وسقفه من جريد النخل مقاما على الجذوع.
-10ثم كان أن آ خى المهاجر ين والن صار ،فج عل ل كل أن صاري أ خا من المهاجر ين ،فكان الن صاري يذ هب بأخ يه المها جر إلى بي ته،
فيعرض عليه أن يقتسم معه كل شيء في بيته.
-11ثم كتب رسول ال صلى ال عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والنصار ،وادع فيه اليهود ،وأقرهم على دينهم وأموالهم ،وقد ذكر ابن
هشام هذا الكتاب بطوله فيي سييرته ،وهيو يتضمين المبادئ التيي قاميت عليهيا أول دولة فيي السيلم ،وفيهيا مين النسيانية والعدالة
الجتماعية والتسامح الديني والتعاون على مصلحة المجتمع ما يجدر بكل طالب أن يرجع إليه ويتفهمه ويحفظ مبادئه.
ونحن نذكر المبادئ العامة التي تضمنتها هذه الوثيقة التاريخية الخالدة:
-1وحدة المة المسلمة من غير تفرقة بينها.
-2تساوي أبناء المة في الحقوق والكرامة.
-3تكاتف المة دون الظلم والثم والعدوان.
-4اشتراك المة في تقرير العلقات مع أعدائها ل يسالم مؤمن دون مؤمن.
-5تأسيس المجتمع على أحدث النظم وأهداها وأقومها.
-6مكافحة الخارجين على الدولة ونظامها العام ،ووجوب المتناع عن نصرتهم.
-7حماية من أراد العيش مع المسلمين مسالما متعاونا ،والمتناع عن ظلمهم والبغي عليهم.
-8لغير المسلمين دينهم وأموالهم ،ل يجبرون على دين المسلمين ول تؤخذ منهم أموالهم.
-9على غير المسلمين أن يسهموا في نفقات الدولة كما يسهم المسلمون.
-10على غير المسلمين أن يتعاونوا معهم لدرء الخطر عن كيان الدولة ضد أي عدوان.
-11وعليهم أن يشتركوا في نفقات القتال ما دامت الدولة في حالة حرب.
-12على الدولة أن تنصر من يظلم منهم ،كما تنصر كل مسلم يعتدى عليه.
www.ikhwan-info.net
وغير هم ،كيل هؤلء كانوا شبا با ،حملوا أعباء الدعوة على كواهلهيم ،فتحملوا في سبيلها التضحيات ،وا ستعذبوا مين أجل ها العذاب
واللم والموت ،وبهؤلء انت صر ال سلم ،وعلى جهود هم وجهود إخوان هم قا مت دولة الخلفاء الراشد ين ،وت مت الفتوحات ال سلمية
الرائعة ،وبفضلهم وصل إلينا السلم الذي حررنا ال به من الجهالة والضللة والوثنية والكفر والفسوق.
-7و في مو قف عائ شة وأ سماء ر ضي ال عنه ما أثناء هجرة الر سول صلى ال عل يه و سلم ما يث بت حا جة الدعوات ال صلحية إلى
النسياء ،ف هن أرق عاط فة ،وأك ثر اندفاعيا ،وأسيمح نف سا ،وأطييب قل با ،والمرأة إذا آم نت بش يء لم تبال بنشره والدعوة إل يه بكيل
صعوبة ،وعملت على إقناع زوج ها وأخوت ها وأبنائ ها به ،ولجهاد المرأة في سبيل ال سلم في ع هد الر سول صلى ال عل يه و سلم
صفحات بيضاء مشرقة ،تؤكد لنا اليوم أن حركات الصلح السلمي ستظل وئيدة الخطأ ،قليلة الثر في المجتمع حتى تشترك فيها
المرأة ،فتنشئ جيل من الفتيات على اليمان والخلق والعفة والطهارة ،هؤلء أقدر على نشر القيم التي يحتاج إليها مجتمعنا اليوم في
أوساط النساء من الرجال ،عدا أنهن سيكن زوجات وأمهات ،وأن الفضل الكبير في تربية كبار الصحابة ثم التابعين من بعدهم يعود
إلى ن ساء ال سلم الل تي أنشأن هذه الجيال على أخلق ال سلم وآدا به ،و حب ال سلم ور سوله ،فكا نت أكرم الجيال ال تي عرف ها
التاريخ في علو الهمة ،واستقامة السيرة ،وصلح الدين والدنيا.
إن علينا اليوم أن ندرك هذه الحقيقة ،فنعمل على أن تحمل الفتيات والزوجات لواء دعوة الصلح السلمي في أوساط النساء،
وهن أكثر من نصف المة ،وذلك يقتضينا أن نشجع بناتنا وأخواتنا على تعلم الشريعة في معهد موثوق بحسن تدريسه للسلم ،مثل كلية
الشريعة في جامعتنا ،وكلما كثر عدد هؤلء الفتيات العالمات بالدين ،الفقيهات في الشريعة ،الملمات بتاريخ السلم ،المحبات لرسول ال
صلى ال عليه وسلم ،المتخلقات بأخلقه وأخلق أمهات المؤمنين ،استطعنا أن ندفع حركة الصلح السلمي إلى المام دفعا قويا ،وأن
نقرب اليوم الذي يخضع فيه مجتمعنا السلمي لحكام السلم وشريعته ،وإن ذلك لواقع إن شاء ال.
-8وفي عمى أبصار المشركين عن رؤية رسول ال وصاحبه في «غار ثور» وهم عنده ،وفيما تحكيه لنا الروايات من نسيج العنكبوت
وتفر يخ الطير على فم الغار ،م ثل تخشع له القلوب من أمثلة العناية الله ية برسله ودعا ته وأحبابه ،فما كان ال في رحم ته لعباده
لي سمح أن ي قع الر سول صلى ال عل يه و سلم في قب ضة المشرك ين فيقضوا عل يه وعلى دعو ته و هو الذي أر سله رح مة للعالم ين،
وكذلك يعود ال عباده الدعاة المخلصين أن يلطف بهم في ساعات الشدة ،وينقذهم من المآزق الحرجة ،ويعمي عنهم -في كثير من
الحيان -أب صار المترب صين ل هم بال شر والغدر ،ول يس في نجاة الر سول و صاحبه ب عد أن أحاط به ما المشركون في «غار ثور» إل
شهَادُ} [غا فر ]51:وقول ال تبارك
حيَاةِ الدّنْيَا وَ َيوْ مَ يَقُو مُ ا ْلأَ ْ
سلَنَا وَاّلذِي نَ آمَنُوا فِي الْ َ
ت صديق قول ال تبارك وتعالىِ{ :إنّ ا لَنَن صُرُ رُ ُ
وتعالى{:إِنّ اللّهَ ُيدَا ِفعُ عَنِ اّلذِينَ آ َمنُوا} [الحج.]38:
-9وفي خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون مثل لما يجب أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق مع قائده المين حين
يحدق به الخ طر من خوف وإشفاق على حيا ته ،ف ما كان أ بو ب كر ساعتئذ بالذي يخ شى على نف سه من الموت ،ولو كان كذلك ،ل ما
رافق الرسول صلى ال عليه وسلم في هذه الهجرة الخطيرة وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم ،وعلى مستقبل السلم إن وقع الرسول صلى ال عليه وسلم في قبضة
المشركين.
-10وفي جواب الرسول صلى ال عليه وسلم لبي بكر تطمينا له على قلقه « يا أبابكر ،ما ظنك باثنين ال ثالثهما» مثل من أمثلة الصدق
في الث قة بال والطمئنان إلى ن صره ،والتكال عل يه ع ند الشدائد ،و هو دل يل وا ضح على صدق الر سول صلى ال عل يه و سلم في
دعوى النبوة ،فهيو فيي أشيد المآزق حرجيا وميع ذلك تبدو علييه أمارات الطمئنان إلى أن ال [الذي] بعثيه هدى ورحمية للناس لن
يتخلى عنه في تلك الساعات ،فهل مثل هذا الطمئنان يصدر عن مدع للنبوة ،منتحل صفة الرسالة؟ وفي مثل هذه الحالت يبدو الفرق
واض حا ب ين دعاة ال صلح وب ين المدع ين له والمنتحل ين ل سمه ،أولئك تف يض قلوب هم دائ ما وأبدا بالر ضى عن ال ،والث قة بن صره،
وهؤلء يتهاوون عند المخاوف ،وينهارون عند الشدائد ،ثم ل تجد لهم من دون ال وليا ول نصيرا.
www.ikhwan-info.net
-11ويبدو لنا من موقف سراقة حين أدرك الرسول صلى ال عليه وسلم وعجزه عن الوصول إليه دليل على نبوة الرسول صلى ال عليه
وسلم ،فقد كانت قوائم فرسه تسيخ في الرمل وهي متجهة صوب الرسول ،حتى إذا نزل عنها ووجهها شطر مكة نشطت من كبوتها،
فإذا أراد أن يعيد ها كرة في اتجاه الر سول صلى ال عل يه و سلم عادت إلى عجز ها وكعّ ها [ضعف ها] ،أفترى هذا ي قع إل ل نبي مر سل
مؤيد من ال بالنصر والعون؟ كل ،وهذا ما أدركه سراقة ،فنادى الرسول بالمان ،وأدرك أن للرسول صلى ال عليه وسلم من العناية
اللهية ما تعجز عن إدراكه قوى البشر ،فرضي أن يخسر الجائزة ويفوز بالوعد.
-12وفي وعد الرسول صلى ال عليه وسلم لسراقة بسواري كسرى معجزة أخرى ،فالنسان الذي يبدو هاربا من وجه قومه ل يؤمل في
فتح الفرس والستيلء على كنوز كسرى ،إل أن يكون نبيا مرسل ،ولقد تحقق وعد الرسول صلى ال عليه وسلم له ،وطالب كسرى
عمر بن الخطاب بإنفاذ وعد الرسول صلى ال عليه وسلم له حين رأى سواري كسرى في الغنائم ،فألبسهما عمر سراقة على مل من
الصحابة ،وقال« :الحمد ل الذي سلب كسرى سواريه وألبسهما سراقة بن جعشم العرابي» وهكذا تتوالى المعجزات في هذه الهجرة
واحدة بعد أخرى ليزداد المؤمنون ويستيقن الذين أوتوا الكتاب من المترددين والجاحدين أنه رسول من رب العالمين.
-13كا نت فر حة المؤمن ين من سكان يثرب من أن صار ومهاجر ين بقدوم ر سول ال صلى ال عل يه و سلم وو صوله إلي هم سالما فر حة
أخرجت النساء من بيوتهن والولئد ،وحملت الرجال على ترك أعمالهم ،وكان موقف يهود المدينة موقف المشارك في الفرحة ظاهرا،
والمتألم من مناف سة الزعا مة الجديدة باط نا ،أ ما فر حة المؤمن ين بلقاء ر سولهم ،فل ع جب في ها و هو الذي أنقذ هم من الظلمات إلى
النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ،وأما موقف اليهود فل غرابة فيه وهم الذ ين عرفوا بالملق والنفاق للمجتمع الذي فقدوا
السيطرة عليه ،وبالغيظ والحقد السود ممن يسلبهم زعامتهم على الشعوب ،ويحول بينهم وبين سلب أموالها باسم القروض ،وسفك
دمائ ها با سم الن صح والمشورة ،و ما زال اليهود يحقدون على كل من يخلص الشعوب من سيطرتهم ،وينتهون من الح قد إلى الدس
والمؤامرات ،ثم إلى الغتيال إن ا ستطاعوا ،ذلك ديدن هم ،وتلك جبلت هم ،و قد فعلوا م ثل ذلك بر سول ال صلى ال عل يه و سلم ب عد
ا ستقراره بالمدي نة ،بر غم ما أمضاه بي نه وبين هم على التعاون والتعا يش ب سلمن ول كن اليهود قوم يشعلون نار الحروب دائ ما وأبدا،
و{ ُكلّمَا َأوْ َقدُواْ نَارًا ّللْحَرْبِ أَطْ َف َأهَا اللّهُ} [المائدة.]64:
-14من وقائع الهجرة إلى المدينة تبين لنا أنه صلى ال عليه وسلم ما أقام بمكان إل كان أول ما يفعله بناء مسجد يجتمع فيه المؤمنون
فقد أقام مسجد قباء حين اقام فيها أربعة أيام ،وبنى مسجدا في منتصف الطريق بين قباء والمدينة لما أدركته صلة الجمعة في بني
سالم بن عوف في بطن الوادي « وادي رانوناء».
فلما أن وصل إلى المدينة ،كان أول عمل عمله بناء مسجد فيها.
وهذا يدلنا على أهمية المسجد في السلم ،وعبادات السلم كلها تطهير للنفس ،وتزكية للخلق ،وتقوية لواصر التعاون بين
المسلمين ،وصلة الجماعة والجمعة والعيدين ،مظهر قوي من مظاهر اجتماع المسلمين ،ووحدة كلمتهم ،وأهدافهم ،وتعاونهم على البر
والتقوى ،ل جرم أن كان للمسجد رسالة اجتماعية وروحية عظيمة الشأن في حياة المسلمين ،فهو الذي يوحد صفوفهم ،ويهذب نفوسهم،
ويوقظ قلوبهم وعقولهم ،ويحل مشاكلهم ،وتظهر فيه قوتهم وتماسكهم.
ول قد أث بت تار يخ الم سجد في ال سلم أ نه م نه انطل قت جحا فل الجيوش ال سلمية لغ مر الرض بهدا ية ال ،وم نه انبع ثت أش عة
النور والهدا ية للم سلمين وغير هم ،وف يه ترعر عت بذور الحضارة ال سلمية ون مت ،و هل كان أبوب كر ،وع مر ،وعثمان ،وعلي ،وخالد،
وسعد ،وأبو عبيدة وأمثالهم من عظماء التاريخ السلمي إل تلمذة المدرسة المحمدية التي كان مقرها المسجد النبوي.
وميزة أخرى للمسجد في السلم أنه تنبعث منه في كل أسبوع كلمة الحق مدوية مجلجلة على لسان خطيبه ،في إنكار منكر أو
أمر بمعروف ،أو دعوة إلى خير أو إيقاظ من غفلة ،أو دعوة إلى تجمع ،أو احتجاج على ظالم ،أو تحذير لطاغية ،ولقد شاهدنا في عصر
الطفولة كيف كانت المساجد مراكز النطلق للحركات الوطنية ضد المستعمرين الفرنسيين ،يلجأ إليها زعماء الجهاد ضد الستعمار وضد
الصهيونية ،وإذا كنا نرى تعطيلها اليوم عن القيام بوظيفتها الكبرى ،فما ذلك إل ذنب بعض الخطباء من الموظفين المرتزقين ،أو الجاهلين
www.ikhwan-info.net
الغافل ين ،ويوم يعتلي منابرها ويؤم محاريبها دعاة أشداء في الحق ،علماء بالشري عة ،مخلصون ل ولرسوله ،نا صحون لئ مة الم سلمين
وعامت هم ،يعود للم سجد في مجتمع نا ال سلمي مكان ال صدارة في مؤ سساتنا الجتماع ية ،ويعود الم سجد ليع مل عمله في ترب ية الرجال،
وإخراج البطال ،وإصلح الفساد ،ومحاربة المنكر ،وبناء المجتمع على أساس من تقوى ال ورضوانه.
وإ نا لنأ مل ذلك إن شاء ال ح ين تح تل هذه الطلي عة الطاهرة من شباب نا المؤ من المثق فة بد ين ال المتخل قة بأخلق ر سول ال
منابره وأرجاءه.
-15في مؤخاة الر سول ب ين المهاجر ين والن صار أقوى مظ هر من مظا هر عدالة ال سلم الن سانية الخلق ية البناءة ،فالمهاجرون قوم
تركوا في سبيل ال أموال هم وأراضي هم ،فجاؤوا المدي نة ل يملكون من حطام الدن يا شيئا ،والن صار قوم أغنياء بزروع هم وأموال هم
وصناعتهم ،فليحمل الخ أخاه ،وليقتسم معه سراء الحياة وضراءها ،ولينزله في بيته مادام فيه متسع لهما ،وليعطه نصف ماله ما
دام غنيا عنه ،موفرا له ،فأية عدالة اجتماعية في الدنيا تعدل هذه الخوة؟
إن الذين ينكرون أن يكون السلم عدالة اجتماعية ،قوم ل يريدون أن يبهر نور السلم أبصار الناس ويستولي على قلوبهم ،أو
قوم جامدون يكرهون كل لفظ جديد ولو أحبه الناس وكان في السلم مدلوله ،وإل فكيف تنكر العدالة الجتماعية في السلم وفي تاريخه
هذه المؤاخاة الفذة في التاريخ ،وهي التي عقدها صاحب الشريعة محمد صلى ال عليه وسلم بنفسه ،وطبقها بإشرافه ،وأقام على أساسها
أول مجتمع ينشؤه ،وأول دولة يبنيها؟
سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم..
-16و في الكتاب الذي عقد فيه الرسول الخوة بين المهاجرين والن صار ،والتعاون بين المسلمين وغيرهم جملة من الدلة التي ل ت َردّ
على أن أساس الدولة السلمية قائم على العدالة الجتماعية ،وأن أساس العلئق بين المسلمين وغيرهم هو السلم ما سالموا ،وأن
مبدأ ال حق والعدل والتعاون على البر والتقوى والع مل لخ ير الناس ،ود فع أذى الشرار عن المجت مع ،هو أبرز الشعارات ال تي تنادي
ب ها دولة ال سلم ،وبذلك تكون الدولة ال سلمية أين ما قا مت ،و في أي ع صر نشأت قائ مة على أقوم المبادئ وأعدل ها ،و هي تنط بق
اليوم على أكرم المبادئ التيي تقوم عليهيا الدول ،وتعييش فيي ظلهيا الشعوب ،وإن العميل فيي ع صرنا هذا لقامية دولة فيي مجتمعنيا
ال سلمي تر كز قواعد ها على مبادئ ال سلم ع مل يت فق مع تطور الف كر الن ساني في مفهوم الدولة ،عدا أ نه يح قق للم سلمين بناء
مجتمع من أقوى المجتمعات وأكملها وأسعدها وأرقاها.
وأيا ما كان فإن من مصلحتنا أن تبنى الدولة عندنا على أساس السلم ،وفي ترك ذلك خرابنا ودمارنا ،والسلم ل يؤذي غير المسلمين
في الو طن ال سلمي ،ول يضط هد عقائد هم ،ول ينت قص من حقوق هم ،فف يم الخوف من إلزام الدول في البلد ال سلمية بتنف يذ شرائع
السلم ،وإقامة أحكامه وهي كلها عدل وحق وقوة وإخاء وتكافل اجتماعي شامل على أساس من الخاء والحب والتعاون الكريم؟ إننا لن
علَيْهِم بَ َركَا تٍ مّ نَ
نخلص من ال ستعمار ،إل بالمناداة بال سلم ،و في سبيل ذلك فليع مل العاملون { َو َلوْ أَنّ َأ ْهلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتّقَواْ لَفَتَحْنَا َ
سبِيلِهِ} [النعام{ ]153 :وَمَن يَتّقِ
السّمَاء وَالَرْضِ} [العراف{ ]96 :وَأَنّ هَيذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتّ ِبعُوهُ َولَ َتتّ ِبعُواْ السّ ُبلَ َفتَفَرّقَ ِبكُمْ عَن َ
يءٍ َقدْرًا
ش ْ
ّهي ِل ُكلّ َ
ج َعلَ الل ُ
ِهي َقدْ َ
ِغي أَمْر ِ
ّهي بَال ُ
ّهي َف ُهوَ حَس ْيبُهُ إِنّ الل َ
علَى الل ِ
َسيبُ وَمَن َي َت َوكّلْ َ
حت ِْثي لَا يَ ْ
حي ُِني َ
ْهي م ْ
اللّهَي يَجْعَل لّهُي مَخْرَجًا وَيَرْزُق ُ
ظمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلق.]5 :
عنْهُ سَيّئَاتِهِ وَ ُيعْ ِ
جعَل لّهُ مِنْ أَمْ ِرهِ يُسْرًا} [الطلق{ ]4 :وَمَن يَ ّتقِ اللّهَ ُيكَفّرْ َ
} [الطلق{ ]2 :وَمَن يَ ّتقِ اللّهَ يَ ْ
ما كاد يستقر النبي صلى ال عليه وسلم في المدينة حتى بدأت المعارك الحربية بينه وبين قريش ومن والها من قبائل العرب ،وقد
اصطلح المؤرخون والمسلمون على أن يسموا كل معركة بين المسلمين والمشركين وحضرها النبي بنفسه «غزوة» وكل مناوشة حصلت
بين الفريقين ولم يحضرها الرسول صلى ال عليه وسلم « سرية» وقد بلغ عدد غزوات الرسول صلى ال عليه وسلم ستا وعشرين
www.ikhwan-info.net
غزوة ،وبلغ عدد سراياه ثمانيا وثلثين سرية ،ونقتصر في هذه العجالة على أشهر غزواته ،وهي إحدى عشرة غزوة:
-1غزوة بدر الكبرى:
وكانت في اليوم السابع عشر من رمضان للسنة الثانية من الهجرة ،وسببها أن النبي صلى ال عليه وسلم ندب أصحابه للتعرض لقافلة
قريش العائدة من الشام إلى مكة ،ولم يكن يريد قتال ،ولكن القافلة التي كان يقودها أبوسفيان نجت بعد أن كان أرسل إلى قريش يستنفرها
لحماية القافلة ،فخرجت قريش في نحو من ألف مقاتل ،منهم ستمائة دارع (لبس للدرع) ومائة فرس عليها مائة درع سوى دروع
المشاة ،وسبعمائة بعير ،ومعهم القيان يضربن بالدفوف ،ويغنين بهجاء المسلمين.
أما المسلمون فكانت عدتهم ثلثمائة وثلثة عشر أو أربعة عشر رجل ،وأكثرهم من النصار ،وكان معهم سبعون جمل ،وفرسان أو ثلثة
أفراس فحسب ،وكان يتعاقب النفر اليسير على الجمل الواحد فترة بعد أخرى ،وقبل أن يخوض المعركة ،أراد أن يستشير أصحابه،
وخاصة النصار ،في خوض المعركة ،فأشار عليهم المهاجرون بخوضها ،وتكلموا خيرا ،ثم علم النصار أنه يريدهم ،فقال له سعد بن
معاذ وهو سيد النصارجميعا :يارسول ال قد آمنا بك وصدقناك ،وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ،وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا
على السمع والطاعة ،فامض يارسول ال لما أردت ،فنحن معك ،فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ،ما تخلف
منا رجل واحد ،ما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ،وإنا لصبر عند الحرب ،صدق عند اللقاء ،لعل ال يريك منا ما تقر به عينك ،فسر بنا
على بركة ال .وقال غيره مثل ذلك ،فسر الرسول صلى ال عليه وسلم لذلك ،وقال :سيروا على بركة ال ،وأبشروا ،فإن ال وعدني
إحدى الطائفتين ،إما العير ،وإما النفير ،ثم سار الرسول صلى ال عليه وسلم حتى وصل أدنى ماء من بدر فنزل به ،فقال الحباب بن
المنذر :يارسول ال! هذا منزل أنزلكه ال تعالى :ل تتقدمه ول تتأخر عنه ،أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال الرسول صلى ال عليه
وسلم بل هو الرأي والحرب والمكيدة ،فأشار عليه الحباب بن المنذر أن يسير إلى مكان آخر هو أصلح وأمكن للمسلمين من قطع ماء
بدرعن المشركين ،فنهض الرسول ص ،فنهض الرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه حتى وصلوا إلى المكان الذي أشار به الحباب،
فأقاموا فيه ،ثم أشار سعد بن معاذ أن يبني للرسول صلى ال عليه وسلم عريشا وراء صفوف المسلمين ،فإن أعزهم ال كان ما أحب،
وإل جلس على ركائبه ولحق بمن في المدينة ،فقد تخلف عنا أقوام يا نبي ال ما نحن بأشد لك حبا منهم ،ولو ظنوا أنك تلقى حربا لما
تخلفوا عنك ،فدعا له النبي صلى ال عليه وسلم ،وأمر أن يبنى له العريش ،ولما التقى الجمعان ،أخذ الرسول يسوي صفوف المسلمين،
ويحرضهم على القتال ،ويرغبهم في الشهادة ،وقال « :والذي نفسي بيده ،ل يقاتلهم اليوم رجل ،فيقتل صابرا محتسبا ،مقبل غير مدبر إل
أدخله ال الجنة» ورجع إلى عريشه ومعه أبو بكر ،ويحرسه سعد بن معاذ متوشحا بسيفه ،وأخذ الرسول صلى ال عليه وسلم في
الدعاء ،ومن دعائه« :اللهم أنشدك عهدك ووعدك ،اللهم إن تهلك هذه العصابة (المؤمنون المحاربون) ل تعبد في الرض» وأطال في
سجوده حتى قال له أبو بكر :حسبك ،فإن ال سينجز لك وعدك ،ثم حمي القتال ،وانتهت المعركة بانتصار المسلمين ،وقد قتل من
المشركين نحو من السبعين ،فيهم أشركهم أبو جهل وبعض زعمائهم ،وأسر منهم نحو السبعين ،ثم أمر بدفن القتلى جميعا ،وعاد إلى
المدينة ،ثم استشار أصحابه في أمر السرى ،فأشار عليه عمر بقتلهم ،وأشار عليه أبو بكر بفدائهم ،فقبل الرسول صلى ال عليه وسلم
أبي بكر ،وافتدى المشركون أسراهم بالمال. مشورة
وقد نزل في معركة بدر آيات من كتاب ال الكريم ،قال ال تعالى في سورة آل عمرانَ { :ولَ َقدْ َنصَ َر ُكمُ اللّهُ بِ َبدْرٍ وَأَن ُتمْ َأ ِذلّةٌ فَاتّقُواْ اللّهَ
ن َ ،بلَى إِن تَصْ ِبرُواْ وَ َتتّقُواْ وَ َيأْتُوكُم مّن
لثَةِ آلَفٍ مّنَ الْمَل ِئكَةِ مُن َزلِي َ
شكُرُونَ ِ ،إذْ تَقُولُ ِللْ ُمؤْمِنِينَ َألَن َيكْفِي ُكمْ أَن يُ ِم ّد ُكمْ َر ّبكُم بِثَ َ
َل َعّل ُكمْ تَ ْ
ج َعلَهُ اللّهُ ِإلّ بُشْرَى َل ُكمْ َولِتَطْ َمئِنّ ُقلُو ُبكُم بِهِ وَمَا النّصْرُ ِإلّ مِنْ عِندِ
سوّمِينَ ،وَمَا َ
سةِ آلفٍ مّنَ الْمَل ِئكَةِ مُ َ
َفوْ ِر ِهمْ هَيذَا يُ ْم ِد ْدكُمْ رَ ّبكُم بِخَمْ َ
طعَ طَرَفًا مّنَ اّلذِينَ كَفَرُواْ َأوْ َيكْ ِب َت ُهمْ فَيَن َقلِبُواْ خَآئِبِينَ} [آل عمران.]127-123 :
حكِي ِم ،لِيَقْ َ
اللّهِ ا ْلعَزِيزِ الْ َ
حتّى ُيثْخِنَ
كما نزل العتاب لرسول ال صلى ال عليه وسلم على قبوله فداء السرى ،فقال ال تعالى { :مَا كَانَ لِ َن ِبيّ أَن َيكُونَ لَهُ أَسْرَى َ
عذَابٌ عَظِي ٌم َ ،ف ُكلُواْ
خ ْذ ُتمْ َ
س ُكمْ فِيمَا أَ َ
حكِي ٌم ّ ،ل ْولَ كِتَابٌ مّنَ اللّهِ سَ َبقَ لَمَ ّ
فِي الَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدّ ْنيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الخِ َرةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ
طيّبًا وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ} [النفال.]68-67 :
للً َ
غنِمْ ُتمْ حَ َ
ِممّا َ
www.ikhwan-info.net
-2غزوة أحد:
وكانت يوم السبت لخمس عشرة خلت من شوال في العام الثالث للهجرة ،وسببها أن قريشا أرادت أن تثأر ليوم بدر ،فما زالت تستعد حتى
تجهزت لغزو الرسو ل صلى ال عليه وسلم في المدينة ،فخرجت في ثلثة آلف مقاتل ،ما عدا الحابيش 12فيهم سبعمائة دارع ومائتا
فارس ،ومعهم سبع عشرة امرأة ،فيهن هند بنت عتبة زوج أبي سفيان ،وقد قتل أبوها يوم بدر ،ثم ساروا حتى وصلوا بطن الوادي من
قبل أحد ( وهو جبل مرتفع يقع شمال المدينة على بعد ميلين منها) مقابل المدينة ،وكان من رأي الرسول وعدد من الصحابة أل يخرج
المسلمون إليهم ،بل يظلون في المدينة ،فإن هاجمهم المشركون صدوهم عنها ،ولكن بعض شباب المسلمين وبعض المهاجرين والنصار،
وخاصة من لم يحضر منهم معركة بدر ولم يحصل له شرف القتال فيها ،تحمسوا للخروج إليهم ومنازلتهم في أماكنهم ،فنزل الرسول
صلى ال عليه وسلم عند رأيهم ،ودخل بيته ولبس لمته (درعه) ،وألقى الترس في ظهره ،وأخذ قناته بيده ،ثم خرج إلى المسلمين ،وهو
متقلد سيفه ،فندم الذين أشاروا عليه بالخروج إذ كانوا سببا في حمله على خلف رأيه ،وقالوا للرسول :ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما
شئت أو اقعد إن شئت ،فأجابهم الرسول صلى ال عليه وسلم بقوله « :ما كان ينبغي لنبي إذا لبس لمته أن يضعها حتى يحكم ال بينه
وبين عدوه» ،ثم خرج والمسلمون معه في نحو ألف بينهم مائة دارع وفرسان.
ولما تجمع المسلمون للخروج ،رأى الرسول جماعة من اليهود يريدون أن يخرجوا مع عبد ال بن أبي بن سلول رأس المنافقين للخروج
مع المسلمين ،فقال الرسول « :أو قد أسلموا؟ قالوا :ل يا رسول ال ،قال :مروهم فليرجعوا؛ فإنا ل نستعين بالمشركين على المشركين
» ،وفي منتصف الطريق انخذل عن المسلمين عبد ال بن أبي بن سلول ومعه ثلثمائة من المنافقين ،فبقي عدد المسلمين سبعمائة رجل
فحسب ،ثم مضى الرسول حتى وصل إلى ساحة أحد ،فجعل ظهره للجبل ووجهه للمشركين ،وصف الجيش ،وجعل على كل فرقة منه
قائدا ،واختار خمسين من الرماة ،على رأسهم عبد ال بن جبير النصاري ليحموا ظهر المسلمين من التفاف المشركين وراءهم ،وقال
لهم« :احموا ظهورنا ،ل يأتونا من خلفنا ،وارشقوهم بالنبل؛ فإن الخيل ل تقوم على النبل ،إنا ل نزال غالبين ماثبتم مكانكم ،اللهم إني
أشهدك عليهم» وقال لهم في رواية أخرى « :إن رأيتمونا تخطفنا الطير فل تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم ،وإن رأيتمونا هزمنا
القوم أو ظاهرناهم وهم قتلى ،فل تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم».
ثم ابتدأ القتال ،ونصر ال المؤمنين على أعدائهم ،فقتلوا منهم عددا ،ثم ولوا الدبار ،فانغمس المسلمون في أخذ الغنائم التي وجدوها في
معسكر المشركين ،ورأى ذلك من وراءهم من الرماة فقالوا :ماذا نفعل وقد نصر ال رسوله؟ ثم فكروا في ترك أمكنتهم لينالهم نصيب من
الغنائم ،فذكرهم رئيسهم عبد ال بن جبير بوصية الرسول ،فأجابوا بأن الحرب قد انتهت ،ول حاجة للبقاء حيث هم ،فأبى عبد ال ومعه
عشرة آخرون أن يغادروا أمكنتهم ،ورأى خالد بن الوليد وكان قائد ميمنة المشركين خلو ظهر المسلمين من الرماة ،فكرّ عليهم من
خلفهم ،فما شعر المسلمون إل والسيوف تناوشهم من هنا وهناك ،فاضطرب حبلهم ،وأشيع أن الرسول قد قتل ،ففر بعضهم عائدا إلى
المدينة ،واستطاع المشركون أن يصلوا إلى الرسول ،فأصابته حجارتهم حتى وقع وأغمي عليه ،فشج وجهه ،وخدشت ركبتاه ،وجرحت
شفته السفلى ،وكسرت الخوذة على رأسه ،ودخلت حلقتان من حلقات المِغفر 13في وجنته ،وتكاثر المشركون على الرسول يريدون قتله،
فثبت صلى ال عليه وسلم وثبت معه نفر من المؤمنين ،منهم :أبو دجانة ،تترس على الرسول ليحميه من نبال المشركين ،فكان النبل يقع
على ظهره ،ومنهم سعد بن أبي وقاص رمى يومئذ نحو ألف سهم ،ومنهم :نسيبة أم عمارة النصارية ،تركت سقاء الجرحى ،وأخذت
تقاتل بالسيف ،وترمي بالنبل ،دفاعا عن رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى أصابها في عنقها ،فجرحت جرحا عميقا ،وكان معها زوجها
وابناها ،فقال لهم الرسول صلى ال عليه وسلم « :بارك ال عليكم أهل بيت» فقالت له نسيبة :ادع ال أن نرافقك في الجنة ،فقال « :اللهم
اجعلهم رفقائي في الجنة» فقالت رضي ال عنها بعد ذلك « :ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا» وقد قال صلى ال عليه وسلم في حقها:
« ما التفت يمينا وشمال يوم أحد ،إل ورأيتها تقاتل دوني » وقد جرحت يومئذ اثني عشر جرحا ،ما بين طعنة برمح وضربة بسيف.
وقد حاول في ساعة الشدة أن يصل أبي بن خلف إلى الرسول صلى ال عليه وسلم ليقتله ،وأقسم أل يرجع عن ذلك ،فأخذ عليه السلم
.نسبوا إلى جبل بأسفل مكة يقال له :حبيش ،وقد كانوا حلفاء لقريش 12 -
].المغفر :بكسر الميم وفتح الفاءَ ،زَردٌ (حلقات من حديد) ينسج على قدر الرأس يلبسه الدارع [ 13 -
www.ikhwan-info.net
حربة ممن كانوا معه ،فسددها في نحره ،فكانت سبب هلكه ،وهو الوحيد الذي قتله صلى ال عليه وسلم في جميع معاركه الحربية.14
ثم استطاع صلى ال عليه وسلم الوقوف والنهوض على أكتاف طلحة بن عبيد ال ،فنظر إلى المشركين ،فرأى جماعة منهم على ظهر
الجبل ،فأرسل من ينزلهم قائل « :ل ينبغي لهم أن يعلونا ،اللهم ل قوة لنا إل بك» وانتهت المعركة ،وقال أبو سفيان مظهرا تشفيه
والمشركين من هزيمتهم يوم بدر :يوم بيوم بدر.
وممن قتل في هذه المعركة حمزة عم الرسول صلى ال عليه وسلم ،ومثلت به هند زوج أبي سفيان ،واحتزت قلبه 15ومضغته ،فرأت له
مرارة ثم لفظته ،وقد حزن الرسول صلى ال عليه وسلم لمشهده حزنا عظيما فقال « :لئن أظهرني ال على قريش في موطن من
المواطن لمثلن بثلثين رجل منهم ،ولكن ال نهى عن المُيثيلة بعد ذلك».
وقد بلغ عدد قتلى المسلمين في هذه المعركة نحوا من السبعين ،وقتلى المشركين ثلثة وعشرين.
وقد أنزل ال تعالى في هذه المعركة عدة آيات يضمد بها جراح المؤمنين ،وينبههم إلى سبب الهزيمة التي حلت بهم ،فيقول في سورة آل
س ُكمْ قَ ْرحٌ فَ َقدْ مَسّ الْ َق ْومَ قَ ْرحٌ مّ ْثلُهُ وَ ِتلْكَ اليّامُ ُندَا ِوُلهَا بَيْنَ النّاسِ
ع َلوْنَ إِن كُنتُم ّمؤْ ِمنِينَ ،إ ِن يَمْسَ ْ
عمرانَ { :ولَ َتهِنُوا َولَ تَحْ َزنُوا وَأَن ُتمُ الَ ْ
خلُواْ
سبْ ُتمْ أَن َتدْ ُ
ن َ ،أمْ حَ ِ
حقَ ا ْلكَافِرِي َ
ن َ ،ولِيُ َمحّصَ اللّهُ اّلذِينَ آمَنُواْ وَيَمْ َ
ش َهدَاء وَاللّهُ لَ يُحِبّ الظّالِمِي َ
خذَ مِن ُكمْ ُ
َولِ َي ْع َلمَ اللّهُ اّلذِينَ آ َمنُواْ وَ َيتّ ِ
ع َدهُ ِإذْ
صدَ َق ُكمُ اللّهُ وَ ْ
جنّةَ َولَمّا َي ْعلَمِ اللّهُ اّلذِينَ جَا َهدُواْ مِن ُكمْ وَ َي ْع َلمَ الصّابِرِينَ} [ آل عمران ]142-139 :ثم يقول بعد آياتَ { :ولَ َقدْ َ
الْ َ
حبّونَ مِنكُم مّن يُرِيدُ الدّ ْنيَا وَمِنكُم مّن يُرِيدُ
عصَيْتُم مّن َب ْعدِ مَا أَرَاكُم مّا تُ ِ
شلْ ُتمْ وَ َتنَازَعْ ُتمْ فِي الَمْرِ وَ َ
حتّى ِإذَا فَ ِ
تَحُسّو َنهُم(تقتلونهم) ِب ِإذْنِهِ َ
ص ِعدُونَ (أي تهربون إلى الجبل صاعدين)َ .ولَ
علَى الْ ُمؤْمِنِينَ ِ ،إذْ تُ ْ
ضلٍ َ
خ َرةَ ُثمّ صَرَ َف ُكمْ عَ ْن ُهمْ لِيَ ْب َتلِ َي ُكمْ َولَ َقدْ عَفَا عَن ُكمْ وَاللّهُ ذُو فَ ْ
ال ِ
علَى مَا فَا َت ُكمْ َولَ مَا َأصَا َب ُكمْ وَاللّهُ
حدٍ وَالرّسُولُ َيدْعُو ُكمْ فِي أُخْرَا ُكمْ َفأَثَا َب ُكمْ غُمّا ِب َغمّ (أي فجازاكم غما على غم) ّلكَيْلَ تَحْ َزنُواْ َ
علَى أ َ
َت ْلوُونَ َ
[آل عمران.]153-152 : خبِيرٌ بِمَا َتعْ َملُونَ}
َ
-4غزوة الحزاب:
وتسمى غزوة (الخندق) ،وقد وقعت في شوال من السنة الخامسة للهجرة ،وسببها أنه لما تم إجلء بني النضير ،قدم عدد من حلفائهم إلى
مكة يدعون قريشا ويحرضونها على قتال الرسول ،فأجابت قريش لذلك ،ثم ذهب رؤساء اليهود إلى غطفان ،فاستجابت لهم بنو فزارة
وبنو مرة ،وأشجع واتجهوا نحو المدينة ،فلما سمع صلى ال عليه وسلم بخروجهم ،استشار أصحابه فأشار عليه سلمان بحفر خندق حول
المدينة ،فأمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بحفره وعمل فيه بنفسه ،ولما وصلت قريش ومن معها من الحزاب راعها ما رأت من أمر
الخندق ،إذ ل عهد للعرب بمثله ،وكانت عدتهم عشرة آلف ،وعدة المسلمين ثلثة آلف ،وكان حُيي بن أخطب أحد اليهود الذين هيجوا
قريشا والحزاب ضد المسلمين ،وقد ذهب إلى كعب بن أسد سيد بني قريظة يطلب إليه نقض عهد السلم بينه وبين المسلمين ،وفكر النبي
صلى ال عليه وسلم في مصالحة بني قريظة على ثلث ثمار المدينة ،ولكن النصار رفضوا اعتزازا بدينهم من أن يعطوا الدنية لهؤلء
الخائنين للعهود والمواثيق ،وبدأ القتال باقتحام بعض فرسان المشركين للخندق من إحدى نواحيه الضيقة ،فناوشهم المسلمون وقاتلوهم،
ثم جاء نعيم بن مسعود ابن عامر إلى الرسول صلى ال عليه وسلم ،فأخبره أنه قد أسلم ،وأن قومه ل يعلمون بإسلمه ،وأنه صديق لبني
قريظة يأتمنونه ويثقون به ،وقال للرسول« :مرني بما شئت» فقال له الرسول « :إنما أنت فينا رجل واحد ،فخَذل عنا إن استطعت ،فإن
الحرب خدعة» فاستعمل نعيم دهاءه حتى فرق بين قريش وحلفائها ،وبين بني قريظة ،وأوقع في نفوس كل من الفريقين الشك في الخر،
وأرسل ال على الحزاب ريحا شديدة في ليلة شاتية شديدة البرد ،فجعلت تكفئ قدورهم وتمزق خيامهم ،فامتلت نفوس الحزاب بالرعب
ورحلوا في تلك الليلة ،فلما أصبح الصباح نظر المسلمون فلم يروا أحدا.
علَ ْي ِهمْ رِيحًا
سلْنَا َ
جنُودٌ َفأَرْ َ
علَ ْي ُكمْ ِإذْ جَاء ْت ُكمْ ُ
وفي هذه الغزوة أنزل ال تعالى في كتابه الكريم { :يَا َأ ّيهَا اّلذِينَ آمَنُوا ا ْذكُرُوا ِنعْمَةَ اللّهِ َ
جنُودًا ّلمْ تَ َر ْوهَا َوكَانَ اللّهُ بِمَا َتعْ َملُونَ َبصِيرًا ِ ،إذْ جَاؤُوكُم مّن َفوْ ِق ُكمْ وَمِنْ أَسْ َفلَ مِن ُكمْ وَِإذْ زَاغَتْ ا ْلأَبْصَارُ وَ َب َلغَتِ الْ ُقلُوبُ
وَ ُ
شدِيدًا} [ الحزاب ، ]11-9 :ثم يصف موقف المنافقين وتخذيلهم
ظنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا ،هُنَالِكَ ابْ ُت ِليَ الْ ُمؤْمِنُونَ وَ ُزلْ ِزلُوا ِزلْزَالًا َ
حنَاجِرَ وَتَ ُ
الْ َ
ص َدقَ اللّهُ
عدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَ َ
وانسحابهم من المعركة ،ثم يقول في وصف المؤمنينَ { :ولَمّا رَأَى الْ ُمؤْ ِمنُونَ ا ْلأَحْزَابَ قَالُوا َهذَا مَا وَ َ
عَليْهِ فَ ِم ْنهُم مّن قَضَى نَحْبَهُ وَ ِم ْنهُم مّن يَن َتظِرُ وَمَا َب ّدلُوا
صدَقُوا مَا عَا َهدُوا اللّهَ َ
سلِيمًا ،مِنَ الْ ُمؤْ ِمنِينَ رِجَالٌ َ
وَرَسُولُهُ وَمَا زَا َد ُهمْ ِإلّا إِيمَانًا وَتَ ْ
علَ ْي ِهمْ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رّحِيمًا ،وَ َردّ اللّهُ اّلذِينَ كَفَرُوا
صدْ ِق ِهمْ وَ ُي َعذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء َأوْ يَتُوبَ َ
تَ ْبدِيلًا ،لِ َيجْ ِزيَ اللّهُ الصّا ِدقِينَ بِ ِ
ظ ِهمْ َلمْ يَنَالُوا خَيْرًا َوكَفَى اللّهُ الْ ُمؤْمِنِينَ الْقِتَالَ َوكَانَ اللّهُ َقوِيّا عَزِيزًا } [الحزاب.]25-22 :
ِبغَيْ ِ
].المعنى :إن وضعت السلح يا رسول الله فإن الملئكة لم تضعه بل ما زالت مستعدة للقتال[ 16 -
www.ikhwan-info.net
أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم من ينادي في الناس بأن ل يصلين أحد العصر إل في بني قريظة ،ثم خرج فيهم وقد حمل رايته علي
رضي ال عنه ،وقد اجتمع من المسلمين ثلثة آلف ،ومن الخيل ست وثلثون ،فلما دنا علي من حصن بني قريظة ،سمع منهم مقالة
قبيحة في حقه صلى ال عليه وسلم وحق أزواجه ،فأخبر النبي صلى ال عليه وسلم بذلك ،وطلب إليه أل يدنو من أولئك الخباث ،فأجابه
عليه السلم بأنهم إذا رأوه لم يقولوا من ذلك شيئا لما يعلم من أخلقهم في النفاق والملق ،فلما رأوه تلطفوا به كما تنبأ صلى ال عليه
وسلم ،ثم أخذ المسلمون في حصارهم خمسا وعشرين ليلة ،فلما ضاق بهم المر نزلوا على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فحكم
فيهم سعد بن معاذ سيد الوس ،وكان بنو قريظة حلفاء الوس ،فحكم سعد بأن تقتل مقاتلتهم ،وأن تسبى ذراريهم ،وأن تقسم أموالهم،
فنفذ الرسول حكمه ،وبذلك قضى على مؤامرات اليهود ودسائسهم وتآمرهم على رسول ال صلى ال عليه وسلم ودعوته قضاء مبرما في
المدينة وما حولها.
وفي هذه الغزوة نزلت آيات من القرآن الكريم تبين غدر اليهود ،ونقضهم للعهود ،وتخذيلهم لصفوف المسلمين في غزوة الحزاب{ :وَِإذْ
عوْ َرةٌ وَمَا ِهيَ ِب َعوْ َرةٍ إِن يُرِيدُونَ ِإلّا فِرَارًا
س َت ْأذِنُ فَرِيقٌ مّ ْن ُهمُ النّ ِبيّ يَقُولُونَ إِنّ ُبيُوتَنَا َ
جعُوا وَيَ ْ
قَالَت طّائِفَةٌ مّ ْن ُهمْ يَا َأ ْهلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ َل ُكمْ فَارْ ِ
س ِئلُوا الْ ِفتْنَةَ لَآ َت ْوهَا وَمَا َتلَبّثُوا ِبهَا ِإلّا يَسِيرًا َ ،ولَ َقدْ كَانُوا عَا َهدُوا اللّهَ مِن قَ ْبلُ(إشارة إلى عهد النبي
عَل ْيهِم مّنْ َأقْطَا ِرهَا ُثمّ ُ
خلَتْ َ
َ ،و َلوْ دُ ِ
سؤُولًا ،قُل لّن يَن َف َعكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَ ْرتُم مّنَ الْ َموْتِ َأوِ
ع ْهدُ اللّهِ مَ ْ
صلى ال عليه وسلم معهم يوم استقر بالمدينة) لَا ُي َولّونَ ا ْل َأدْبَارَ َوكَانَ َ
الْ َق ْتلِ وَِإذًا لّا تُمَ ّتعُونَ ِإلّا َقلِيلًا} [الحزاب .]16 -13 :إلى أن يقول{ :وَأَن َزلَ اّلذِينَ ظَاهَرُوهُم(أهل الحزاب) مّنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مِن
طؤُوهَا
ض ُهمْ َودِيَا َر ُهمْ وَأَ ْموَا َل ُهمْ وَأَ ْرضًا ّلمْ تَ َ
صَيَاصِي ِهمْ(حصونهم) وَ َقذَفَ فِي ُقلُو ِب ِهمُ الرّعْبَ فَرِيقًا تَقْ ُتلُونَ وَ َتأْسِرُونَ فَرِيقًا ،وََأوْرَ َث ُكمْ أَرْ َ
يءٍ َقدِيرًا}[الحزاب.]27 -26 :
ش ْ
علَى ُكلّ َ
َوكَانَ اللّهُ َ
-6غزوة الحديبية:
وقعت في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ،وكان من أمرها أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل البيت هو
وصحابته آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين ل يخافون شيئا ،فأمر الناس أن يتجهزوا للخروج إلى مكة معتمرين ،ل يريد حربا لقريش
ول قتال ،فخرج معه المهاجرون والنصار يحدوهم الشوق إلى رؤية بيت ال الحرام بعد أن حرموا من ذلك ست سنوات ،وخرج معهم من
شاء من العراب ،وساق أمامه صلى ال عليه وسلم وهو ما يساق إلى البيت الحرام من البل والنعم تعظيما للبيت وتكريما ،وأحرم
بالعمرة من مكان يسمى بذي الحليفة ،ليعلم الناس وقريش خاصة أنه ل يريد قتال ،وكان عدد من خرج معه نحوا من ألف وخمسمائة،
ولم يخرجوا معهم بسلح إل سلح المسافر في تلك العهود :السيوف في أغمادها ،وسار حتى وصل إلى «عسفان» جاء من يقول له :هذه
قريش قد سمعت بمسيرك ،فخرجوا وقد لبسوا جلود النمور يحلفون بال ل تدخلها عليهم أبدا ،فقال صلى ال عليه وسلم :يا ويح قريش
لقد أكلتهم الحرب! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ،فإن هم أصابوني ،كان ذلك الذي أرادوا ،وإن أظهرني ال عليهم دخلوا في
السلم وافرين ،وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ،فما تظن قريش؟ فوال ل أزال أجاهد على الذي بعثني ال حتى يظهره ال ،أو تنفرد هذه
السالفة».
فلما وصل الحديبية -وهي مكان قريب من مكة بينها وبين طريق جدة الن -جاءه بعض رجال من خزاعة يسألونه عن سبب قدومه،
فأخبرهم أنه لم يأت إل ليزور البيت ويعتمر ،فرجعوا وقالوا لهم :إنكم تعجلون على محمد ،لم يأت لقتال ،إنما جاء زائرا لهذا البيت.
فقالوا :ل وال ل يدخلها عليهم عنوة أبدا ،ول يتحدث العرب عنا بذلك.
ثم بعثوا عروة بن مسعود الثقفي ليتحدث إلى الرسول بهذا الشأن ،وبعد حديث وأخذ ورد بين عروة وبعض الصحابة ،عاد إلى قريش
وحدثهم عما رأى من حب الصحابة لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهيبتهم له ،ورغبتهم في الصلح معه ،فأبوا ذلك ،ثم بعث الرسول
صلى ال عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة ليؤكد لهم الغرض من مجيء الرسول وصحابته ،وأبطأ عثمان ،فأشيع بين المسلمين
أنه قد قتل ،فقال الرسول عندئذ :ل نبرح حتى نناجز القوم (نقاتلهم) ودعا المسلمين إلى البيعة على الجهاد ،والشهادة في سبيل ال،
فبايعوه تحت شجرة هناك من أشجار الطلح على عدم الفرار ،وأنه إما الصلح ،وإما الشهادة ،ولما علمت قريش بأمر البيعة ،خافوا ورأوا
www.ikhwan-info.net
الصلح معه على أن يرجع هذا العام ويعود من قابل فيقيم ثلثا معه سلح الراكب :الرماح والسيوف في أغمادها ،وأرسلت قريش لذلك
سهيل بن عمرو ليتم هذا الصلح ،وأخيرا تم هذا الصلح ،على ما رغبت قريش ،وعلى وضع الحرب بين الفريقين عشر سنين ،وأن من
أتى من عند محمد إلى مكة لم يردوه ،وأن من أتى محمدا من مكة ردوه إليهم ،فعز ذلك على المسلمين ،وأخذ بعضهم يجادل النبي صلى
ال عليه وسلم فيما جاء من شروطها ،ومن أشدهم في ذلك عمر ،حتى قال رسول ال « :إني عبد ال ولن يضيعني» ثم أمر الرسول
أصحابه بالتحلل من العمرة فلم يفعلوا ذلك في موجة من اللم ،لما حيل بينهم وبين دخول مكة ،ولما شق عليهم من شروط الصلح فبادر
عليه السلم بنفسه ،فتحلل من العمرة ،فتبعه المسلمون جميعا ،وقد ظهرت فيما بعد فوائد هذه الشروط التي صعبت على المسلمين ورضي
بها الرسول ،لبعد نظره ورجحان عقله ،وإمداد الوحي له بالسداد في الرأي والعمل.
حنَا لَكَ فَتْحًا مّبِينًا ،لِ َيغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَ َق ّدمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا َتأَخّرَ وَ ُي ِتمّ ِنعْمَ َتهُ
هذا وقد سمى ال هذه الغزوة فتحا مبينا ،حيث قال { :إِنّا فَتَ ْ
عَليْكَ وَ َي ْهدِيَكَ صِرَاطًا مّسْتَقِيمًا ،وَيَنصُرَكَ اللّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [ الفتح ]3-1 :ثم تحدث عن مبايعة الرسول صلى ال عليه وسلم ،فقال:
َ
علَيْهُ اللّهَ فَسَ ُيؤْتِيهِ أَجْرًا
علَى نَفْسِهِ وَمَنْ َأوْفَى بِمَا عَا َهدَ َ
{ إِنّ اّلذِينَ يُبَا ِيعُونَكَ ِإنّمَا ُيبَا ِيعُونَ اللّهَ َيدُ اللّهِ َفوْقَ أَ ْيدِي ِهمْ فَمَن ّنكَثَ َفإِنّمَا يَنكُثُ َ
ضيَ اللّهُ عَنِ الْ ُمؤْمِنِينَ ِإذْ ُيبَا ِيعُونَكَ تَحْتَ الشّجَ َرةِ َف َعلِمَ
عَظِيمًا} [ الفتح ]10 :ورضي عن أصحاب بيعة الرضوان تحت الشجرة فقال{ :لَ َقدْ رَ ِ
عَل ْي ِهمْ وَأَثَا َب ُهمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [ الفتح ]18 :وتحدث عن رؤيا الرسول صلى ال عليه وسلم التي كانت سببا في
سكِينَةَ َ
مَا فِي ُقلُو ِب ِهمْ َفأَن َزلَ ال ّ
سكُمْ وَمُقَصّرِينَ لَا
حلّقِينَ ُرؤُو َ
جدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللّهُ آ ِمنِينَ ُم َ
خلُنّ الْمَسْ ِ
حقّ لَ َتدْ ُ
صدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ ال ّرؤْيَا بِالْ َ
غزوة الحديبية ،فقال{ :لَ َقدْ َ
ج َعلَ مِن دُونِ َذلِكَ َفتْحًا قَرِيبًا} [ الفتح ]27 :ولعل هذه إشارة إلى فتح مكة الذي كان ثمرة من ثمار صلح
تَخَافُونَ َف َع ِلمَ مَا َلمْ َت ْعلَمُوا فَ َ
سلَ رَسُولَهُ
الحديبية ،كما سنذكره في الدروس والعظات إن شاء ال ،ثم أتبع ذلك بتأكيد غلبة هذا الدين وانتصاره ،فقالُ { :هوَ اّلذِي أَرْ َ
شهِيدًا} [الفتح ]28:وصدق ال العظيم.
علَى الدّينِ ُكلّهِ َوكَفَى بِاللّهِ َ
ظهِ َرهُ َ
حقّ لِ ُي ْ
بِا ْلهُدَى َودِينِ الْ َ
-7غزوة خيبر:
وكانت في أواخر المحرم للسنة السابعة من الهجرة.
و (خيبر) واحة كبيرة يسكنها اليهود على مسافة مائة ميل من شمال المدينة جهة الشام.
وسببها أن النبي صلى ال عليه وسلم بعد أن أمن جانب قريش بالصلح الذي تم في الحديبية ،قرر تصفية مشكلة التجمعات اليهودية فيما
حول المدينة بعد أن صفى اليهود من المدينة نفسها ،وقد كان لليهود في خيبر حصون منيعة ،وكان فيها نحو من عشرة آلف مقاتل،
وعندهم مقادير كبيرة من السلح والعتاد ،وكانوا أهل مكر وخبث وخداع ،فل بد من تصفية مشكلتهم قبل أن يصبحوا مصدر اضطراب
وقلق للمسلمين في عاصمتهم (المدينة) ولذلك أجمع الرسول صلى ال عليه وسلم على الخروج إليهم في أواخر المحرم ،فخرج إليهم في
ألف وستمائة مقاتل ،منهم مائتا فارس ،واستنفر من حوله ممن شهد الحديبية ،وسار حتى إذا أشرف على خيبر قال لصحابه :قفوا ،ثم
عاد فقال « :اللهم رب السماوات وما أظللن ،ورب الرضين وما أقللن [حملن] ،ورب الشياطين وما أضللن ،ورب الرياح وما ذرين ،إنا
نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ،ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها ،أقدموا باسم ال».
ولما وصلوا إليها نزل النبي صلى ال عليه وسلم قريبا من أحد حصون خيبر يسمى (حصن النطاة) وقد جمعوا فيه مقاتلتهم ،فأشار
الحباب بن المنذر بالتحول ،لنه يعرف أهل النطاة معرفة جيدة ،وليس قوم أبعد مدى ول أعدل رمية منهم ،وهم مرتفعون على مواقع
المسلمين ،فالنبل منهم سريع النحدار إلى صفوف المسلمين ،ثم إنهم قد يباغتون المسلمين في الليل مستترين بأشجار النخيل الكثيرة،
فتحول الرسول مع المسلمين إلى موضع آخر وابتدأت المعارك ،يفتح المسلمون منها حصنا بعد حصن ،إل الحصنين الخيرين ،فقد رغب
أهلها في الصلح على حقن دماء المقاتلة ،وترك الذرية والخروج إلى أرض خيبر بذراريهم ،وأل يصحب أحد منهم إل ثوبا واحدا،
فصالحهم على ذلك ،وعلى أن ذمة ال ورسوله بريئة منهم إن كتموا شيئا ،ثم غادروهما فوجد المسلمون فيهما أسلحة كثيرة ،وصحائف
متعددة من التوراة ،فجاء اليهود بعد ذلك يطلبونها ،فأمر بردها إليهم ،وقد بلغ عدد قتللى اليهود في هذه المعركة ثلثة وتسعين،
واستشهد من المسلمين خمسة عشر.
www.ikhwan-info.net
-8غزوة مؤتة:
كانت في جمادى الولى للسنة الثامنة من الهجرة ،و (مؤتة) قرية على مشارف الشام ،تسمى الن بي(الكرك) جنوب شرق البحر الميت،
وكان سببها أن الرسول كان قد أرسل الحارث بن عمير الزدي بكتاب إلى أمير بصرى من جهة هرقل ،وهو الحارث بن أبي شمر الغساني
يدعوه فيه إلى السلم -وكان ذلك من جملة كتبه التي بعث بها عليه السلم غلى ملوك العالم وامراء العرب بعد صلح الحديبية -فلما
نزل مؤتة أحد المراء العرب الغساسنة التابعين لقيصر الروم؛ قال له أين تريد؟ لعلك من رسل محمد؟ قال :نعم .فأوثقه وضرب عنقه،
فبلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فاشتد عليه المر إذ لم يقتل له رسول غيره ،وجهز لهم جيشا من المسلمين عدته ثلثة آلف،
وأمر عليهم زيد بن حارثة ،واوصاهم إن أصيب زيد فليؤمروا جعفر بن أبي طالب ،فإن أصيب فليؤمروا عليهم عبدال بن رواحة ،وطلب
من زيد أن يأتي مقتل الحارث بن عمير ،وأن يدعوا من هناك إلى السلم ،فإن أجابوا وإل فليستعينوا بال وليقاتلوهم ،وأوصاهم بقوله« :
أوصيكم بتقوى ال وبمن معهم من المسلمين خيرا ،اغزوا باسم ال ،وفي سبيل ال ،من كفر بال ،ل تغدروا ول تغلوا (الغلول السرقة)
ول تقطعوا شجرا ول تهدموا بناء» ثم سار ولتقتلوا وليدا ول امرأة ول كبيرا فانيا ،ول منعزل بصومعة ،ول تقربوا نخل
الجيش على بركة ال ،وقد شيعهم الرسول بنفسه ،ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا معان ،فبلغهم أن هرقل قد جمع لهم جمعا عظيما،
ونزل في مآب من أرض البلقاء ( هي كورة من أعمال دمشق قصبتها عمان) وكان جيش الروم مؤلفا منهم ومن العرب المنتصرة،
فتشاور المسلمون فيما بينهم ،ورأوا أن يطلبوا من الرسول مددا ،أو يأمرهم بأمر آخر فيمضون له ،فقال عبد ال بن رواحة :وال إن
الذي تكرهون هو ما خرجتم له ،تطلبون الشهادة ،ونحن ما نقاتل الناس بعدد ول كثرة ول قوة ،وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا ال
به ،فإنما هي إحدى الحسنيين؛ فإما الظفر وإما الشهادة ،فوافقه الناس على خوض المعركة ،وابتدأ القتال ،فقاتل زيد حتى قتل ،ثم استلم
اللواء بعده جعفر بن أبي طالب ،فقاتل على فرسه ،ثم اضطر للنزول عنها فقاتل مترجل ،فقطعت يمينه ،فأخذ اللواء بيساره ،فقطعت
يساره ،فاحتضن اللواء حتى قتل رضي ال عنه ،ووجد فيه بضع وسبعون جرحا ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ،ثم أخذ اللواء عبد
ال بن رواحة ،فقاتل حتى قتل ،ثم اتفق المسلمون على إمرة خالد بن الوليد للجيش -وكانت هذه أول معركة يحضرها في السلم -فما
زال يستعمل دهاءه الحربي حتى أنقذ الجيش السلمي من الفناء ،ثم عاد به إلى المدينة.
كانت هذه أول معركة يخوضها المسلمون خارج جزيرة العرب ضد الروم ،وسميت بالغزوة وإن لم يحضرها رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،لكثرة المحاربين فيها ،حيث بلغوا ثلثة آلف مما يخالف عدد المحاربين في السرايا.
وقد أطلق رسول ال صلى ال عليه وسلم على خالد بن الوليد في هذه المعركة( :سيف ال).
-9غزوة الفتح:
وهي فتح مكة ،وكانت في رمضان للسنة الثامنة من الهجرة ،وسببها أن صلح الحديبية أباح لكل قبيلة عربية أن تدخل في عقد رسول ال
صلى ال عليه وسلم إن شاءت ،أو تدخل في عقد قريش ،فارتضت بنو بكر أن تدخل في عقد قريش ،وارتضت خزاعة أن تدخل في عقد
سول ال صلى ال عليه وسلم ،وفي تلك السنة (الثامنة) اعتدت بنو بكر على خزاعة ،فقتلت منها نحو عشرين رجل ،وأمدت قريش بني
بكر بالمال والسلح ،فلما بلغ ذلك الرسول صلى ال عليه وسلم غضب غضبا شديدا ،وتجهز لقتال قريش إل أنه لم يرد أن يخبر الناس
عن وجهته ،لئل تستعد قريش ،فتستباح حرمة البلد الحرام ،وتمتلئ أرجاؤه بأشلء القتلى ،ولكن حاطب بن أبي بلتعة البدري أرسل كتابا
سريا إلى مكة يخبرهم فيه بتوجيه الرسول إليهم ،فأطلع ال رسوله على أمر الكتاب ،فأرسل إلى المرأة التي تحمله بعض أصحابه
ليفتشوها ،فعثروا على الكتاب ،فدعا رسول ال صلى ال عليه وسلم حاطبا ،فقال له :ما حملك على هذا؟ فقال :يا رسول ال أما إني
لمؤمن بال ورسوله ،ما غيرت ول بدلت ،ولكني كنت امرءا ليس لي في القوم من أصل ول عشيرة ،وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل،
فصانعتهم عليه .فقال عمر :يا رسول ال دعني أضرب عنقه ،فإن الرجل قد نافق ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم « :إنه شهد
بدرا وما يدريك لعل ال قد اطلع على أصحاب بدر فقال :اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
ثم سار رسول ال صلى ال عليه وسلم من المدينة لعشر مضين من رمضان ،وفي الطريق أفطر وأفطر الناس معه لما لقوا من الجهد
www.ikhwan-info.net
والمشقة في سفرهم ،وكان عددهم حين خروجهم من المدينة عشرة آلف ،ثم انضم إليهم في الطريق عدد من قبائل العرب ،وفي (مر
الظهران) عثر حرس رسول ال على أبي سفيان واثنين معه ،فأسروهم وجاؤوا بهم إلى النبي صلى ال عليه وسلم ،فأسلم أبو سفيان،
وقال العباس -الذي لقيه الرسول في الطريق مسلما مهاجرا إلى المدينة : -إن أبا سفيان رجل يحب الفخر ،فاجعل له شيئا يفتخر به،
فقال « :من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ،ثم وصل الجيش مكة ،فأعلن منادي الرسول :من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن ،ومن دخل
المسجد فهو آمن ،ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن واستثنى من ذلك خمسة عشر رجل عظمت جريرتهم في حق السلم ورسوله ،ثم
دخل رسول ال مكة وهو راكب راحلته ،منحن على الرحل ،حتى لتكاد جبهته تمس قتب الراحلة شكرا ل على هذا الفتح الكبر ،ثم طاف
الرسول بالبيت ،وأزال ما حولها من أصنام بلغت ثلثمائة وستين ،ثم دخل الكعبة وصلى ركعتين فيها ،ثم وفق على بابها وقريش تنظر ما
هو فاعل بها ،فقال فيما قال ساعتئذ « :يا معشر قريش ،ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيرا؛ أخ كريم وابن أخ كريم ،فقال رسول ال
حمُ الرّاحِمِينَ } [يوسف:
علَ ْي ُكمُ الْ َي ْومَ َيغْفِرُ اللّهُ َل ُكمْ َو ُهوَ أَرْ َ
صلى ال عليه وسلم :اليوم اقول لكم ما قال أخي يوسف من قبل { :لَ تَثْرَيبَ َ
]92اذهبوا فأنتم الطلقاء».
ثم اجتمع الناس حول الصفا ليبايعوا رسول ال صلى ال عليه وسلم على السلم ،فجلس إليهم الرسول على الصفا ،وأخذ بيعتهم على
السمع والطاعة ل ولرسوله فيما استطاعوا ،بايع الرجال أول ،ثم النساء ،ولم يصافح واحدة منهن ،وكان فيمن بايعهن هند زوجة أبي
سفيان التي أهدر الرسول دمها فيمن أهدر يوم الفتح ،فلما علمها ،عفا عنها بيعتها.
وفي يوم الفتح أمر رسول ال بلل أن يؤذن لصلة الظهر على ظهر الكعبة ،فاستعظم ذلك الحاضرون من قريش ولم يسلموا بعد ،ولكن
رسول ال أراد ذلك عمدا لسر عظيم وحكمة بالغة.
– 10غزوة حنين:
وكانت في العاشر من شوال للسنة الثامنة من الهجرة بعد فتح مكة بأيام ،وسببها أن ال لما فتح مكة لرسوله ظن زعماء هوازن وثقيف
أن رسول ال سيتوجه إليهم بعد النتهاء من أمر مكة ،فعزموا على أن يبدؤوه بالقتال ،فأمروا عليهم مالك بن عوف وهو يومئذ ابن
ثلثين سنة ،فأمرهم أن يسوقوا معهم إلى المعركة أموالهم ونساءهم وأبناءهم ومواشيهم ليكون ذلك أدعى إلى ثباتهم في القتال ،وقد بلغت
عدة المقاتلين منهم في المعركة المرتقبة ما بين عشرين ألفا إلى ثلثين ،فأعلن رسول ال عزمه على الخروج لقتاله ،فخرج كل من كان
بمكة؛ أصحابه الذين قدموا معه في المعركة ،ومن انضم إليهم بعد ذلك ممن أسلم حديثا وسار رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى إذا
كان في وادي حنين خرجت عليهم هوازن وحلفاؤها في غبش الصبح ،فحمل عليهم المسلمون فانكمشوا وانهزموا ،فانشغل المسلمون
بجمع الغنائم فاستقبلهم المشركون بالسهام فانفرط عقدهم ،وفر أهل مكة والمسلمون الجدد ،وبقي رسول ال صلى ال عليه وسلم ثابتا
على بغلته يقول« :أنا النبي ل كذب أنا ابن عبد المطلب» ،وكان قد أشيع بين المسلمين أن النبي صلى ال عليه وسلم قد قتل ،فألقى كثير
منهم سلحه يائسا ،ولكن نفرا من المهاجرين والنصار ثبتوا حولهن وأخذ العباس -وكان جهوري الصوت -ينادي في المسلمين :إن
رسول ال ما زال حيا ،فعاد إليه من كان مدبرا ،وتكاثر المؤمنون حتى استطاعوا أن ينتصروا كرة أخرى ،وتبعهم المسلمون يقتلون
ويأسرون ،وبلغت غنائم العدو مبلغا كبيرا ،فرقه اول على المؤلفة قلوبهم من حديثي السلم ،ولم يعط منها النصار شيئا اعتمادا على
إيمانهم وصدق إسلمهم.
علَ ْي ُكمُ
جبَ ْت ُكمْ كَثْرَ ُت ُكمْ َف َلمْ ُتغْنِ عَن ُكمْ شَ ْيئًا وَضَاقَتْ َ
حنَيْنٍ ِإذْ أَعْ َ
وقد نزل من القرآن في هذه المعركة { :لَ َقدْ نَصَ َر ُكمُ اللّهُ فِي َموَاطِنَ كَثِي َرةٍ وَ َي ْومَ ُ
جنُودًا ّلمْ تَ َر ْوهَا وَعذّبَ اّلذِينَ كَفَرُواْ
علَى الْ ُمؤْ ِمنِينَ وَأَن َزلَ ُ
علَى رَسُولِهِ وَ َ
سكِي َنتَهُ َ
ن ُ 25ثمّ َأنَزلَ اللّهُ َ
الَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ُثمّ َولّ ْيتُم ّم ْدبِرِي َ
َو َذلِكَ جَزَاء ا ْلكَافِرِينَ}[ التوبة.]25:
وكانت هذه الغزوة آخر معركة ذات شأن بين السلم والمشركين ،لم يلبث العرب من بعدها أن كسروا الصنام ودخلوا في دين
السلم.
www.ikhwan-info.net
-11غزوة تبوك:
وتسمى غزوة العسرة ،وكانت في رجب سنة تسع من الهجرة.
و(تبوك) موضع بين وادي القرى من أرض الحجاز وبين الشام ،وسببها أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام ضمت قبائل لخم،
وجذام ،وعاملة ،وغسان ،وهي من نصارى العرب ،وكان قصد هرقل من ذلك ،الهجوم على المدينة والقضاء على الدولة الناشئة في
جزيرة العرب التي أخذت أخبارها وأخبار انتصاراتها تثير جزع هرقل وخوفه ،فندب رسول ال الناس للخروج ،وكان الوقت وقت عسر
شديد وحر شديد ،فانتدب المؤمنون الصاقون عن طيب نفس ،وتخلف ثلثة منهم من صادقي اليمان ،وندب رسول ال صلى ال عليه
وسلم الغنياء لتجهيز جيش العسرة ،فجاؤوا بأموال كثيرة؛ جاء أبوبكر بماله كله ،وجاء عمر بنصف ماله ،وتصدق عثمان يومئذ بمال
كثير ،وجهز ثلث الجيش ،حتى دعا له الرسول صلى ال عليه وسلم وقال « :ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» .وجاءه عدد من فقراء
الصحابة ل يجدون ما يركبون عليه ،فقال لهم الرسول صلى ال عليه وسلم « :ل أجد ما أحملكم عليه» ،فتولوا وأعينهم تفيض من
الدمع حزنا أل يجدوا ما ينفقون ،وتخلف من المنافقين بضعة وثمانون رجل ،واعتذر إليه عدد من العراب بأعذار غير صحيحة ،فقبلها
منهم صلى ال عليه وسلم.
سار رسول ال صلى ال عليه وسلم بالناس ومعه ثلثون ألف مقاتل ،ومن الخيل عشرة آلف ،وكان هذا أعظم ما رأته العرب
حتى ذاك ،ثم واصل سيره حتى بلغ تبوك ،فأقام فيها نحوا من عشرين ليلة ،ولم يلق فيها كيدا ،ولم يدخل حربا.
علَى النّ ِبيّ وَالْ ُمهَاجِرِينَ
وكانت هذه آخر غزواته صلى ال عليه وسلم ،وفي هذه الغزوة نزل قول ال تبارك وتعالى{ :لَقَد تّابَ ال َ
علَى الثّلَ َثةِ اّلذِينَ
علَ ْي ِهمْ إِنّهُ ِب ِهمْ َرؤُوفٌ رّحِيمٌ ،وَ َ
وَالَنصَارِ اّلذِينَ اتّ َبعُوهُ فِي سَاعَةِ ا ْلعُسْ َرةِ مِن َب ْعدِ مَا كَادَ يَزِيغُ ُقلُوبُ فَرِيقٍ مّ ْن ُهمْ ُثمّ تَابَ َ
علَ ْي ِهمْ لِيَتُوبُواْ إِنّ اللّهَ ُهوَ
جأَ مِنَ اللّهِ ِإلّ ِإلَيْهِ ُثمّ تَابَ َ
س ُهمْ وَظَنّواْ أَن لّ َملْ َ
علَ ْي ِهمْ أَنفُ ُ
عَل ْي ِهمُ الَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ َ
حتّى ِإذَا ضَاقَتْ َ
خلّفُواْ َ
ُ
ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }[ التوبة.]119 -118 :
كما أنزلت آيات كثيرة تتحدث عن موقف المنافقين والمعتذرين من العراب في هذه الغزوة ،وفيها عتاب من ال لرسوله على
قبول معذرتهم ،وهي آيات كثيرة تجدها في سورة التوبة.
العدوان ،ويقضي على قوة الباطل وشوكته ،لينفسح المجال أمام دعوته الخيرة المحررة ،تخاطب العقول ،وتزكي النفوس ،وتصلح
الفساد ،وتجعل للخير أعلما يهتدى بها ،ومنارات تضيء الطريق لمبتغي الخير والهداية والرشاد.
لهذا كله وما يشبهه شرع ال القتال للمؤمنين في السنة الثانية للهجرة ،حين نزلت اليات التاليةُ { :أذِنَ ِلّلذِينَ يُقَا َتلُونَ ِبأَ ّن ُهمْ
ضهُم ِب َبعْضٍ
حقّ ِإلّا أَن يَقُولُوا َربّنَا اللّهُ َو َل ْولَا دَ ْفعُ اللّهِ النّاسَ َبعْ َ
علَى نَصْ ِر ِهمْ لَ َقدِي ٌر ،اّلذِينَ أُخْ ِرجُوا مِن دِيَا ِر ِهمْ ِبغَيْرِ َ
ظلِمُوا وَإِنّ اللّهَ َ
ُ
سمُ اللّهِ كَثِيرًا َولَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ إِنّ اللّهَ لَ َق ِويّ عَزِي ٌز ،اّلذِينَ إِن ّمكّنّاهُمْ فِي
جدُ ُي ْذكَرُ فِيهَا ا ْ
ص َلوَاتٌ وَمَسَا ِ
صوَا ِمعُ وَبِ َيعٌ وَ َ
ّل ُهدّمَتْ َ
صلَاةَ وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْ َمعْرُوفِ وَ َن َهوْا عَنِ الْمُنكَرِ َو ِللّهِ عَاقِبَةُ ا ْلأُمُورِ}[الحج.]41-39 :
ا ْلأَرْضِ َأقَامُوا ال ّ
هذه هي أولى اليات التي نزلت في شأن القتال والذن فيه ،وجدير بنا أن نقف عندها قليل لنتعرف منها حكمة الذن بالقتال وفائدته
وأهدافه:
17
-1ذكر في صدر الية أنه أذن للمؤمنين بالقتال ،ويلحظ أنه عبر عن المؤمنين بلفظ ( :الذين يقاتلون ) ومن القواعد اللغوية
المعروفة أن تعليق الحكم بمشتق يفيد علية ما منه الشتقاق ،في (يقاتلون) مشتق من المقاتلة ،أي إن هؤلء المؤمنين
الذين أذن لهم بالقتال ،كانوا يقاتلون أي :يضطهدون ويعذبون ،ويعلن عليهم القتال ،فهذا صريح في أن العلة في الذن لهم
بالقتال وقوع الضطهاد عليهم من قبل ،فهو بمثابة رد العدوان عنهم ،ومعاملة المثل بالمثل ،كما في قوله تعالى:
سيّئَةٌ مّ ْثُلهَا} [الشورى.]40 :
سيّئَةٍ َ
عَل ْي ُكمْ} [البقرة ]194 :وقوله { :وَجَزَاء َ
ع َتدَى َ
علَيْهِ بِمِ ْثلِ مَا ا ْ
{فَاعْ َتدُواْ َ
-2وفي الية تصريح بأن هذا القتال الذي كانوا يقاتلون به إنما كان ظلما وعدوانا ل مسوغ له ،وذلك في قوله في الية:
ظلِمُوا} فالمؤمنون في مكة لم يكونوا ظالمين ول متعسفين ،إنما كانوا يدافعون عن العقيدة ،ويدعون قومهم إلى
{ ِبأَ ّن ُهمْ ُ
التحرر من الوهام والخرافات ،ومساوئ الخلق.
-3وفي الية الثانية تصريح بالحقائق التاريخية التي وقع فيها الضطهاد ،ذلك أن هؤلء المؤمنين الذين أذن لهم بالقتال كانوا
قد أخرجوا من ديارهم ،وليس هنالك ظلم أشد من إخراج النسان من وطنه ،وتشريده عن أرضه.
-4وفي الية نفسها بيان للسبب الذي من أجله أخرج هؤلء المؤمنون من ديارهم ،وهو أنهم خالفوا قومهم في اعتناق
الوثنية ،وعبادة اللهة الباطلة ،وعبدوا ال الواحد الحد ،فالقوم كانوا مضطهدين من أجل العقيدة ،ل تريد قريش أن تكون
لهم حريتهم فيها.
-5وما دام المؤمنون كانوا ل يملكون حرية العتقاد ،فالقتال الذي شرع إنما هو لتأمين هذه الحرية التي هي أغلى ما يعتز به
النسان من قيم هذه الحياة.
-6ثم بين ال أن هذا القتال الذي شرعه للمؤمنين ليست فائدته في تأمين الحرية الدينية لهم وحدهم ،بل يستفيد منها أتباع
الديانات السماوية الخرى ،وهي اليهودية والنصرانية ،فإن المسلمين يومئذ كانوا يقاتلون وثنيين ل دين لهم ،فإذا قويت
شوكتهم استطاعوا أن يحموا أماكن العبادة لليهود والنصارى مع حمايتهم للمساجد ،كيل يستولي الوثنيون والملحدون
ضهُم
فيحاربوا الديانات اللهية ،ويغلقوا أماكن العبادة لها ،وذلك واضح في قوله في تلك اليةَ { :و َلوْلَا دَ ْفعُ اللّهِ النّاسَ َبعْ َ
سمُ اللّهِ كَثِيرًا} .
جدُ ُي ْذكَرُ فِيهَا ا ْ
ص َلوَاتٌ وَمَسَا ِ
صوَا ِمعُ وَبِ َيعٌ وَ َ
بِ َبعْضٍ ّل ُهدّمَتْ َ
والصوامع :هي أماكن الخلوة للرهبان ،وتسمى الديرة .والبيع :هي منائس النصارى ،والصلوات :هي كنائس اليهود .وبذلك يتبين
بوضوح أن القتال في السلم ليس لمحو الديانات السماوية ،وهدم معابدها ،بل لحماية هذه الديانات السماوية من استعلء الملحدين
والوثنيين عليها ،وتمكنهم من تدميرها وإغلقها.
-7وفي الية الثالثة تصريح بالنتائج التي تترتب على انتصار المؤمنين في هذا القتال المشروع ،فهي ليست استعمار الشعوب،
ول أكل خيراتها ،ول انتهاب ثرواتها ،ول إذلل كراماتها ،وإنما هي تنائج في مصلحة النسانية ،ولفوائد المجتمعات ،فهي:
صلَاةَ}.
-فهي لنشر السمو الروحي في العالم عن طريق العبادة {أَقَامُوا ال ّ i
-المعروف أنها من القواعد الصولية ل اللغوية ،وأيا ما كان فل مناسبة له هنا لن الية صرحت بالعلة 17 - -
www.ikhwan-info.net
-ولنشر العدالة الجتماعية بين الشعوب عن طريق الزكاة {وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ}. ii
-ولتحقيق التعاون على خير المجتمع وكرامته ورقيه {وَأَمَرُوا بِالْ َمعْرُوفِ }. iii
-وللتعاون على مكافحة الشر والجريمة والفساد {وَ َن َهوْا عَنِ الْمُنكَرِ}. iv
تلك هي النتائج التي تترتب على انتصار المؤمنين في قتالهم مع أعدائهم ،من إقامة دولة إسلمية تعمل على سمو الروح ،وتكافل
المجتمع ،ورقي النسان عن طريق الخير ،ومنع انحداره عن طريق الشر ،فأية غاية إنسانية أنبل من هذه الغاية التي شرع من أجلها
القتال في السلم ،وأي قتال عرفته المم في القديم والحديث يساوي هذه الغاية في عموم الفائدة للناس جميعا وبناء المجتمعات على ما
يؤدي إلى رقيها وتطورها تطورا إنسانيا بناء ،ل رجوع فيه إلى عهد الجاهلية الولى ،من الباحية ،والنحلل ،واللحاد والحروب ،وسفك
الدماء ،كما هو شأن التطور الذي يتم في ظل هذه الحضارة الغربية المادية.
وإذا عرفنا أهدف السلم وغاياته من إباحة القتال ،عرفنا معنى أنه في سبيل ال ،فالجهاد في سبيل ال هو جهاد لتحقيق الخير
والسلم والسمو والعدل في المجتمعات ،وسبيل ال طريقه ،والطريق إلى ال ل يكون إل عن طريق الخير والحب والتعاون على البر
والتقوى ،ل على الثم والعدوان.
هذه كلمة موجزة عن أهداف السلم في مشروعية القتال والسباب التاريخية للذن به .ثم نتكلم عن الدروس والعظات في
معارك السلم الولى ،أي في عهد الرسول صلىال عليه وسلم ،وقد كنت أود أن اتكلم عن دروس كل معركة على حدة ،ولكن الوقت
ضيق وذلك يأخذ عشرات الصفحات ،مما حملني على أن أجمع هذه العظات كلها في مرة واحدة ،مستفيدا من كل معركة أكثر من درس
واحد ،ولعلي أفصّل القول في دروس كل معركة على حدة في العام المقبل إن شاء ال ،وفسح في الجل ،وتفضل بتخفيض المرض.
-1كانت أولى المعارك بدرا ،وكان النبي صلى ال عليه وسلم قد خرج لعتراض قافلة قريش في عودتها من الشام إلى مكة،
ولكن القافلة نجت ،وكان المشركون قد صمموا على القتال ،فكان من أمر المعركة ما ذكرناه .واعتراض قافلة قريش ل
يدل على الرغبة في أخذ الموال وقطع الطريق ،كما يدعي الفاكون من المستشرقين ،بل كان من بواعثه القتصاص من
قريش لخذ أموالها لقاء ما أخذت من أموال المؤمنين المهاجرين ،فقد أجبرتهم أو أكثرهم على ترك دورهم وأراضيهم
وأموالهم ،ومن علمت بهجرته بعد غيابه عن مكة باعت له دوره واستولت على أمواله ،فشريعة المعاملة بالمثل المعترف
بها اليوم في القوانين الدولية تبيح مثل هذا العمل ،كما هو الشأن بيننا وبين إسرائيل .ومن المهم أن نلحظ أنه سبقت
غزوة بدر سبع محاولت لعتراض عير قريش ،وكان الذين يخرجون فيها من المهاجرين فحسب ،ولم يرسل فيها أنصاريا
واحدا ،ذلك لن هؤلء المهاجرين إن اعترضوا قافلة قريش واستولوا عليها ،فإنما يفعلون ذلك عن حق مشروع في جميع
القوانين اللهية ،والشرائع الوضعية ،ونشير إلى هذه المحاولت السبع وهي:
بعث حمزة على رأس سبعة أشهر من الهجرة ،وسرية عبيدة بن الحارث على رأس ثمانية أشهر منها ،وسرية سعد بن أبي وقاص على
ثلثة عشر منها ،و(غزوة و (غزوة ودان) على رأس اثني عشر شهرا منها ،و (غزوة بواط) على رأس رأس تسعة أشهر منها،
بدر الولى) في الشهر الثالث عشر أيضا ،و(غزوة العشيرة) على رأس ستة عشر من الهجرة .وكل هذه السرايا والغزوات كانت مؤلفة
من المهاجرين فحسب ،ليس فيهم أنصاري واحد ،وهذا يؤكد ماقلناه.
-2إن النصر في المعارك ل يكون بكثرة العدد ،ووفرة السلح ،وإنما يكون بقوة الروح المعنوية لدى الجيش ،وقد كان
الجيش السلمي في هذه المعارك ،يمثل العقيدة النقية واليمان المتقد ،والفرح بالستشهاد ،والرغبة في ثواب ال وجنته،
كما يمثل الفرحة من النعتاق من الضلل ،والفرقة والفساد ،بينما كان جيش المشركين يمثل فساد العقيدة ،وتفسخ
الخلق ،وتفكك الروابط الجتماعية ،والنغماس في الملذات ،والعصبية العمياء للتقاليد البالية ،والباء الماضين ،واللهة
المزيفة.
انظر إلى ما كان يفعله الجيشان قبل بدء القتال ،فقد حرص المشركون قبل بدء معركة بدر على أن يقيموا ثلثة أيام يشربون فيها الخمور،
www.ikhwan-info.net
وتغني لهم القيان ،وتضرب لهم الدفوف ،وتشعل عندهم النيران لتسمع العرب بما فعلوا فتهابهم ،وكانوا يظنون ذلك سبيل إلى النصر،
بينما كان المسلمون قبل بدء المعركة يتجهون إلى ال بقلوبهم ،يسألونه النصر ،ويرجونه الشهادة ،ويشمون روائح الجنة ،ويخر الرسول
ساجدا مبتهل يسأل ال أن ينصر عباده المؤمنين ،وكانت النتيجة أن انتصر التقياء الخاشعون ،وانهزم اللهون العابثون.
والذي يقارن بين أرقام المسلمين المحاربين ،وبين أرقام المشركين المحاربين في كل معركة ،يجد أن المشركين أكثر من المؤمنين أضعافا
مضاعفة ،ومع ذلك فقد كان النصر للمسلمين ،حتى في معركتي أحد وحنين حيث انتصر فيها المسلمون ،ولول ما وقع من أخطاء
المسلمين في هاتين المعركتين ومخالفتهم لمر رسول ال صلى ال عليه وسلم ،لما لقي المسلمون هزيمة قط.
-3إن شدة عزائم الجيش واندفاعه في خوض المعركة ،وفرحه بلقاء عدوه مما يزيد القائد إقداما في تنفيذ خطته ،وثقته
بالنجاح والنصر ،كما حدث في معركة بدر.
-4إن على القائد أل يكره جيشه على القتال ،إذا كانوا غير راغبين ومتحمسين حتى يتأكد من رضاهم وتحسسهم ،كما فعل
رسول ال صلى ال عليه وسلم من استشارة أصحابه يوم بدر قبل خوض المعركة.
-5إن احتياط الجنود لحياة قائدهم أمر تحتمه الرغبة في نجاح المعركة والدعوة ،وعلى القائد ان يقبل ذلك ،لن في حياته
حياة الدعوة ،وفي فواتها خسارة المعركة.
وقد رأينا في معركة بدر كيف رضي النبي صلى ال عليه وسلم ببناء العريش له ،ورأينا في بقية المعارك( :أحد) و (حنين) ،كيف كان
المؤمنون الصاقون والمؤمنات الصادقات يلتفون جميعا حول رسولهم ،ويحمونه من سهام العداء ،بتعريض أنفسهم لها ،ولم يعرف عنه
صلى ال عليه وسلم أنه أنكر ذلك مع شجاعته وتأييد ال له ،بل أثنى على هؤلء الملتفين حوله ،كما رأينا في ثنائه على نسيبة أم
عمارة ،ودعائه لها بأن تكون هي وزوجها وأولدها رفقاءه في الجنة.
-6إن ال تبارك وتعالى يحيط عباده المؤمنين الصادقين في معاركهم بجيش من عنده ،كما أنزل الملئكة يوم بدر ،وأرسل
علَيْنَا
الريح يوم الحزاب .ومادام هؤلء المؤمنون يحاربون في سبيله ،فكيف يتخلى عنهم وهو الذي قالَ { :وكَانَ حَقّا َ
ن } [ الروم ]47:وقال { :إِنّ اللّهَ ُيدَا ِفعُ عَنِ اّلذِينَ آمَنُوا} [الحج.] 38:
َنصْرُ الْ ُمؤْمِنِي َ
-7إن من طبيعة الداعية الصادق أن يحرص على هداية أعدائه ،وأن يفسح لهم المجال لعل ال يلقي في قلوبهم الهداية،
ومن هنا نفهم ميل رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى فداء السرى يوم بدر ،فقد كان يرجو أن يهديهم ال وأن تكون
لهم ذرية من بعدهم تعبد ال وتدعو إليه ،وإذا كان القرآن الكريم قد عاتب الرسول على ذلك ،فلن هناك مصلحة أخرى
للسلم يومئذ ،وهو إرهاب اعداء ال والقضاء على رؤوس الفتنة والضللة ،ولو قتل السرى يوم بدر لضعفت مقاومة
قريش للقضاء على زعمائهل ومؤججي نار الفتنة ضد المؤمنين.
ويلوح لي سر آخر في قبول الرسول أمر الفداء ،وهو أن العباس عم الرسول صلى ال عليه وسلم كان من بين السرى ،وللعباس مواقف
في نصرة الرسول صلى ال عليه وسلم قبل إعلن إسلمه ،فقد شهد معه بيعة العقبة الثانية سرا ،وكان يخبر الرسول عن كل تحركات
قريش ،مما يؤكد عندي أنه كان مسلما يكتم إسلمه ،فكيف يقتله الرسول وهذا شأنه معه؟ ولو استثناه الرسول من بين السرى لخالف
شرعته في تحريم قتل المسلم إن كان العباس مسلما ،و إن كان مشركا فشريعته ل تفرق بين قريب وبعيد في الوقوف موقف الحزم
والعداء من كل من يحارب ال ورسوله ،ولغتنمها المشركون والمنافقون فرصة للتشهير به ،ولضعاف الثقة بعدالته وتجرده عن الهوى
في كل ما يصدر عنه ،وليس ذلك من مصلحة الدعوة في شيء.
-8إن مخالفة أمر القائد الحازم البصير يؤدي إلى خسارة المعركة ،كما حصل في وقعة أحد ،فلو أن رماة النبل الذين أقامهم
الرسول صلى ال عليه وسلم خلف جيشه ثبتوا في مكانهم كما أمرهم الرسول صلى ال عليه وسلم لما استطاع المشركون
أن يلتفوا من حولهم ،ويقلبوا هزيمتهم أول المعركة إلى نصر في آخرها ،وكذلك يفعل العصيان في ضياع الفرص ،ونصر
العداء ،وقد أنذر ال المؤمنين بالعذاب إن خالفوا أمر رسولهم ،فقال[ } { :النور]63:
www.ikhwan-info.net
-9والطمع المادي في المغانم وغيرها يؤدي إلى الفشل فالهزيمة ،كما حصل في معركة أحد حينما ترك الرماة مواقفهم طمعا
في إحرازالغنائم ،وكما حصل في معركة حنين حين انتصر المسلمون في أولها ،فطمع بعضهم في الغنائم ،وتركوا تتبع
العدو ،مما أدى إلى عودة العدو وهجومه على المسلمين ،فانهزموا ،ولول ثبات الرسول صلى ال عليه وسلم والمؤمنين
الصادقين حوله ،لما تحولت الهزيمة بعد ذلك إلى نصر مبين ،وكذلك الدعوات يفسدها ويفسد أثرها في النفوس طمع
الداعين إليها في مغانم الدنيا ،واستكثارهم من مالها وعقارها وأراضيها .إن ذلك يحمل الناس على الشك في صدق
الداعية ،فيما يدعو إليه ،واتهامه بأنه ل يقصد من دعوته وجه ال عزوجل ،وإنما يقصد جمع حطام الدنيا باسم الدين
والصلح ،ومثل هذا العتقاد في أذهان الناس صد عن دين ال ،وإساءة إلى كل من يدعو إلى الصلح عن صدق
وإخلص.
-10و في ثبات ن سيبة أم عمارة ،ووقوفها وزوجها وأولدها حول رسول ال صلى ال عليه وسلم حين انك شف المسلمون
يوم أحد .دليل من الدلة المتعددة على إسهام المرأة المسلمة بقسط كبير من الكفاح في سبيل دعوة السلم ،وهو دليل
على حاجتنيا اليوم إلى أن تحميل المرأة المسيلمة عبيء الدعوة إلى ال مين جدييد ،لتدعيو إلى ال فيي أوسياط الفتيات
والزوجات والمهات ،ولتن شئ في أطفال ها حب ال ور سوله ،وال ستمساك بال سلم وتعالي مه ،والع مل لخ ير المجت مع
وصلحه.
وما دام ميدان الدعوة شاغرا من الفتاة المسلمة الداعية ،أو غير ممتلئ بالعدد الكافي منهن ،فستظل الدعوة مقصرة في خطاها ،وستظل
حر كة ال صلح عرجاء ح تى ي سمع ن صف ال مة و هن الن ساء – دعوة الخ ير وي ستيقظ في ضمائر هن وقلوب هن حب الخ ير والقدام على
الدين ،والسراع إلى الستمساك بعروته الوثقى.
-11و في إ صابة ر سول ال صلى ال عل يه و سلم بالجراح يوم أ حد عزا ٌء للدعاة في ما ينال هم في سبيل ال من أذى في
أجسيامهم ،أو اضطهاد لحرياتهيم بالسيجن والعتقال ،أو قضاءٍ على حياتهيم بالعدام والغتيال ،وقيد قال ال تعالى فيي
كتابه الكريم﴿ :الم ،أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم ل يُفتنون .ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن ال الذين
صدقوا وليعلمنّ الكاذبين﴾ [ العنكبوت 2و ]3
-12وفي ما فعله المشركون يوم أ حد من التمث يل بقتلى الم سلمين ،وبخا صة حمزة عم الر سول صلى ال عل يه و سلم ،دل يل
واضح على خلوّ أعداء السلم من كل إنسانية وضمير ،فالتمثيل بالقتيل ل يؤلم القتيل نفسه ،إذ الشاة المذبوحة ل تتألم
من السلخ ،ولكنه دليل على الحقد السود الذي يمل نفوسهم ،فيتجلى في تلك العمال الوحشية التي يتألم منها كل ذي
وجدان حي ،وضمير إنساني.
كذلك رأينا المشركين يفعلون بقتلى المسلمين يوم أحد ،وكذلك رأينا اليهود يفعلون بقتلنا في معارك فلسطين ،وكل الفريقين يصدرون عن
و ْر ٍد وا حد ناب ٍع من حنا يا نفو سهم ال تي ل تؤ من بال واليوم ال خر ،ذلك هو الح قد على الم ستقيمين في هذه الحياة من المؤمن ين إيمانا
صحيحا صادقا بال ورسله واليوم الخر.
-13وفيي قبول الرسيول صيلى ال علييه وسيلم إشارة الحباب بن المنذر بالتحول من منزله الذي اختاره للمعركية يوم بدر،
وكذلك فيي قبول اسيتشارته يوم خييبر ،ميا يحطيم غرور الديكتاتورييين المتسيلطين على الشعوب بغيير إرادة منهيا ول
ر ضى ،هؤلء الذ ين يزعمون لنف سهم من الف ضل في عقول هم وب عد الن ظر في تفكير هم ما يحمل هم على احتقار إرادة
الش عب ،والتعالي عن ا ستشارة عقلئه وحكمائه ومفكرّ يه ،إذ كان ر سول ال صلى ال عل يه و سلم الذي علم ال م نه
أكمل الصفات ما أ ّهلَه لحمل أعباء آخر رسالته وأكملها يقبل رأي أصحابه الخبيرين في الشؤون العسكرية ،وفي طبيعة
الراضي التي تتطلبها طبيعة المعركة دون أن يقول لهم :إني رسول ال ،وحسبي أن آمر بكذا ،وأنهى عن كذا ،إذ قبل
منهم مشورتهم ،وآراءهم فيما لم ينزل عليه وحي ،فكيف بالمتسلّطين الذين رأينا كثيرا منهم ل يتفوّق عل الناس بعقل
www.ikhwan-info.net
ول علم ول تجربة ،بل بتسلّطه على وسائل الحكم بعد أن توات يه الظروف في ذلك؟ كيف بهؤلء الذين هم أد نى ثقافة
وعلما وتجربة من كثير ممن يحكمونهم ،أل يجب عليهم أن يستشيروا ذوي الراء ،ويقبلوا بنصيحة الناصحين وحكمة
المجربين.
إن حوادث التار يخ القر يب والبع يد دلّت نا على أن غرور الديكتاتوري ين ق ضى علي هم وعلى أمت هم ،وهوى بال مة إلى منحدر سحيق ي صعب
الصعود منه إل بعد عشرات السنين أو مئاتها ،ففيما فعله الرسول صلى ال عليه وسلم من قبول مشورة الحباب في بدر وخيبر قدوة لكل
حاكم مخلص ،ولكل قائد حكيم ،ولكل داعية صادق.
وإن من أبرز شعارات الحكيم فيي ال سلم هو الشورى ﴿وأمر هم شُورى بي نه﴾ [الشورى ]38 :وأبرز صفات الحا كم الم سلم الخالد في
التاريخ هو الذي يستشير ول يستبد ،ويتداول الرأي مع ذوي الختصاص في كل موضوع يهمه أرمه ﴿وشاورهم في المر﴾ [آل عمران:
﴿ .]159فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ل تعلمون﴾ [النحل 43 :والنبياء.]7 :
-14و في تقد مه ال صفوف في كل معر كة وخو ضه غمار ها مع هم إل في ما يش ير به أ صحابه ،دل يل على أن مكان القيادة ل
يحتله إل الشجاع المتثبيت ،وأن الجبناء خائري القوى ل يصيلحون لرئاسية الشعوب ،ول لقيادة الجيوش ،ول لزعامية
حركات الصيلح ودعوات الخيير ،فشجاعية القائد والداعيية بفعله وعمله يفييد فيي جنوده وأنصياره في إثارة حماسيهم
واندفاع هم ما ل يفيده ألف خطاب حما سي يلقو نه على الجماه ير .و من عادة الجنود والن صار أن ي ستمدوا قوت هم من
قوة قائدهم ورائدهم ،فإذا ج بن في موا قف اللقاء ،وضعف في موا طن الشدة ،أ ضر بالقضية ال تي يحمل لواء ها ضررا
بالغا.
-15على الجنود وأنصار الدعوة ألّ يخالفوا القائد الحازم البصير في أمر يعزم عليه ،فمثل هذا القائد وهو يحمل المسؤولية
الكبرى ،جدير بالثقة بعد أن يبادلوه الرأي ،ويطلعوه على ما يرون ،فإن عزم بعد ذلك على أمر ،كان عليهم أن يطيعوه،
ك ما ح صل بالر سول يوم صلح الحدي بة ،ف قد اختار الر سول صلى ال عل يه و سلم شروط ال صلح ،و تبين أن ها كا نت في
م صلحة الدعوة ،وأن ال صلح كان ن صرا سياسيا له ،وأن عدد المؤمن ين ب عد هذا ال صلح ازداد في سنتين أضعاف من
أسيلم قبله ،هذا ميع أن الصيحابة شيق عليهيم بعيض هذه الشروط ،حتيى خرج بعضهيم عين حدود الدب اللئق بيه ميع
ر سوله وقائده و قد ح صل م ثل ذلك بأ بي ب كر يوم بدأت حوادث ال ّردّة ،ف قد كان رأي ال صحابة جميعا أل يخرجوا لقتال
المرتدين ،وكان رأي أبي بكر الخروج ،ولما عزم أمره على ذلك أطاعوه ،فنشطوا للقتال ،وتبين أن الذي عزم عليه أبو
بكر من قتال المرتدين هو الذي ثبّت السلم في جزيرة العرب ،ومكّن المؤمنين أن ينساحوا في أقطار الرض فاتحين
هادين مرشدين.
-16ومما طلبه الرسول صلى ال عليه وسلم من نُعيم بن مسعود ،أن يخذّل بين الحزاب ما استطاع في "غزوة الحزاب"
دل يل على أن الخدي عة في حرب العداء مشرو عة إذا كا نت تؤدي إلى الن صر ،وأن كل طر يق يؤدي الى الن صر وإلى
القلل من سفك الدماء مقبول في نظر السلم ،ما عدا الغدر والخيانة ،وهذا من حكمته السياسية والعسكرية صلى ال
عليه وسلم ،وهو ل ينافي مبادئ الخلق السلمية ،فإن المصلحة في القلل من عدد ضحايا الحروب مصلحة إنسانية.
والمصلحة في انهزام الشر والكفر والفتنة مصلحة إنسانية وأخلقية ،فاللجوء الى الخدعة في المعارك يلتقي مع الخلق النسانية التي
ترى في الحروب شرا كبيرا ،فإذا اقتضت الضرورة قيامها ،كان من الواجب إنهاؤها عن أي طريق كان ،لن الضرورة تقدر بقدرها ،وال
لم يشرع القتال إل لحما ية د ين أو أ مة أو أرض ،فالخد عة مع العداء ب ما يؤدي إلى هزيمت هم ،تعج يل بانت صار ال حق الذي يحار به أولئك
المبطلون .ولذلك أثر عن الرسول صلى ال عليه وسلم في "غزوة الحزاب" قوله لعروة ابن مسعود" :الحرب خدعة" وهذا مبدأ مسلم به
في جميع الشرائع والقوانين.
-17و في قبوله صلى ال عل يه و سلم إشارة سلمان بح فر الخندق ،و هو أ مر لم ت كن تعر فه العرب من ق بل ،دل يل على أن
www.ikhwan-info.net
السلم ل يضيق ذرعا بالستفادة مما عند المم الخرى من تجارب تفيد المة وتنفع المجتمع فل شك أن حفر الخندق
أفاد إفادة كبرى في دفع خطر الحزاب عن المدينة ،وقبول رسول ال هذه المشورة ،دليل على مرونته صلى ال عليه
وسلم ،واستعداده لقبول ما يكون عند المم الخرى من أمور حسنة ،وقد فعل الرسول مثل ذلك أكثر من مرة ،فلما أراد
إنفاد كتبه إلى الملوك والمراء والرؤساء قيل له :إن من عادة الملوك أ ّل يقبلوا كتابا إل إذا كان مختوما باسم مرسله،
فأمر على الفور بنقش خاتم له كتب عليه :محمد رسول ال ،وصار يختم به كتبه ،ولما جاءته الوفود من أنحاء العرب
بعيد فتيح مكية تعلن إسيلمها ،قييل له :ييا رسيول ال إن مين عادة الملوك والرؤسياء أن يسيتقبلوا الوفود بثياب جميلة
فخ مة ،فأ مر ر سول ال صلى ال عل يه و سلم أن تشترى له حلة ،ق يل :إن ثمن ها بلغ أربعمائة در هم ،وق يل :أربعمائة
بعير ،وغدا يستقبل بها الوفود ،وهذا هو صنيع الرسول الذي أرسل بآخر الديان وأبقاها إلى أبد الدهر ،فان مما تحتمه
مصلحة أتباعه في كل زمان وفي كل بيئة أن يأخذوا بأحسن ما عند المم الخرى ،مما يفيدهم ،ول يتعارض مع أحكام
شريعتهيم وقواعدهيا العامية ،والمتناع عين ذلك جمود ل تقبله طبيعية السيلم الذي يقول فيي دسيتوره الخالد﴿ :فبشير
عبادِ ،الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه﴾ [الزمر 17 :و ]18ول طبيعة رسوله الذي رأينا أمثلة عما أخذ من المم
الخرى ،وهو القائل" :الحكمة ضالة المؤمن يتلمسها أنّى وجدها" 18ويوم غفل المسلمون في العصور الخيرة ،وخاصة
بعد عصر النهضة الوروبية عن هذا المبدأ العظيم في السلم ،وقاوموا كل إصلح مأخوذ عن غيرهم مما هم في أشد
الحاجة اليه ،أصيبوا بالنهيار ،وتأخروا من حيث تقدم غيرهم ﴿ول عاقبة المور﴾ [الحج.]41 :
-18ومن وصايا رسول ال صلى ال عليه وسلم للجيش السلمي في "غزوة مؤتة" تلمس طابع الرحمة النسانية في قتال
السيلم ،فهيو ل يقتيل مين ل يقاتيل ،ول يخرب ميا يجده فيي طريقيه إل لضرورة ماسية ،وقيد التزم أصيحابه مين بعده
والمسلمون في مختلف العصور بعد ذلك هذه الوصايا ،فكانت حروبهم أرحم حروب عرفها التاريخ ،وكانوا هم محاربون
أدمث أخلقا ،وأشد رحمة من غيرهم وهم مسالمون ،والتاريخ قد سجل للمسلمين صفحات بيضاء في هذا الشأن ،كما
سجل لغيرهم صفحات سوداء ،ول يزال يسجلها حتى اليوم ،ومن منا ل يعرف الوحشية التي فتح بها الصليبيون بيت
المقدس ،والن سانية الرحي مة ال تي عا مل ب ها صلح الد ين الفرن جة ح ين ا ستردها ،و من من ل يذ كر وحش ية المراء
والجنود الصيليبيين حيين اسيتولوا على بعيض العواصيم السيلمية ،كطرابلس ،والمعرة وغيرهميا ،ميع رحمية المراء
والجنود المسلمين حين استردوا تلك البلد من أيدي محتليها الغاصبين ،ونحن اليوم نعيش في عصر النفاق الوروبي
في ادّعاء الحضارة والرح مة الن سانية و حب الخ ير للشعوب ،و هم يخربون البلد ،وي سفكون دماء العُزّل من الشيوخ
والن ساء والطفال ،ول قد عش نا – ب كل أ سف – ع صر قيام إ سرائيل على أرض فل سطين ال سليبة ،وعل مت الدن يا فظائع
اليهود الهمجية الوحشية في دير ياسين ،وقبية ،وحيفا ،ويافا ،وعكا ،وصفد ،وغيرها من المدن والقرى ،ومع ذلك فهم
َيدّعون النسانية ،ويعملون عكسها ،ونحن نعمل للنسانية ،ول نتشدق بها ،ذلك أنّا شعب نحمل في نفوسنا حقا أجمل
المبادئ الخلق ية في ال سلم والحرب ،وننفذ ها برا حة ضم ير واطمئنان ،بين ما هم مجردون من هذه المبادئ في دا خل
نفوسهم ،فل يجدون إل المناداة بها نفاقا وتخديرا ،نحن شعب نؤمن بال القوي الرحيم ،فل تكون قوتنا إل رحمة ،وهم
ش عب يرون من النفاق أن ينكروا علي نا و صف ال بالقوة والب طش ،زاعم ين أن هم ينعتو نه بال حب والرح مة ،ف ما كان
لعلقتهم مع الشعوب وحروبهم مع المسلمين ومع أعدائهم من أبناء ملتهم أثر لهذا الحب ولهذه الرحمة ،نحن شعب ما
كانت حروبنا إل لخير النسانية ،فكنا أبرّ الناس بها ،وهم قوم ما كانت حروبهم إل للغزو والسلب والتسلط والستعمار،
فكانوا أعدى الناس لها.
ومع ذلك فنحن اليوم في حروبنا معهم إنما ندافع عن أرض وحق وكرامة ،فلن يجدينا التغنّي بمبادئنا مع قوم ل يفهمون مبادئ الرحمة
والشرف والنسانية ،بل يجب علينا أن نستمر في كفاحنا لهم ،متمسكين في معاركنا معهم بمبادئ رسولنا وشريعتنا حتى يحكم ال بيننا
.انظر "كشف الخفاء" للعجلوني في روايات هذا الحديث 18
www.ikhwan-info.net
لغير عذر ،إل أن يؤثر الراحة على التعب ،والظل الظليل على حر الشمس وشدتها.
-23أما فتح مكة ،ففيها من الدروس والعظات ما تضيق عن شرحه هذه الصفحات القلئل ،ففيها نجد طبيعة الرسول صلى
ال عليه وسلم الداعية الذي ل يجد الحقد على مقاوميه إلى نفسه سبيلً ،فقد م نّ عليهم بعد كفاح استمر بينه وبينهم
إحدى وعشريين سينة لم يتركوا فيهيا طريقا للقضاء علييه وعلى أتباعيه وعلى دعوتيه إل سيلكوها ،فلميا تيم له النصير
عليهيم ،وفتيح عاصيمة وثنيتهيم ،لم يزد على أن اسيتغفر لهيم ،وأطلق لهيم حريتهيم ،وميا يفعيل مثيل هذا ول فعله فيي
التارييخ ،ولكنميا يفعله رسيول كرييم لم يرد بدعوتيه ملكا ول سييطرة ،وإنميا أراد له ال أن يكون هاديا وفاتحا للقلوب
والعقول ،ولهذا دخل مكة خاشعا شاكرا ل ،ل يزهو كما يفعل عظماء الفاتحين.
-24وفيما فعله الرسول صلى ال عليه وسلم مع أهل مكة حكمة أخرى ،فقد علم ال أن العرب سيكونون حملة رسالته إلى
العالم ،فأب قى على حياة أ هل م كة و هم زعماء العرب ليدخلوا في د ين ال ،ولينطلقوا ب عد ذلك إلى ح مل ر سالة الهدى
والنور إلى الشعوب ،يبذلون من أرواحهم وراحتهم ونفوسهم ما أنقذ تلك الشعوب من عمايتها ،وأخرجها من الظلمات
الى النور.
-25وآخر ما نذكره من دروسها ودروس معاركه الحربية صلى ال عليه وسلم ،هي العبرة البالغة بما انتهت اليه دعوة ال
من ن صر في أ مد ل يت صوره الع قل ،وهذا من أ كبر الدلة على أن محمدا ر سول ال صلى ال عل يه و سلم ،وعلى أن
السلم دعوة ال التي تكفل بنصرها ونصر دعاتها والمؤمنين بها والحاملين للوائها ،وما كان ال أن يتخلى عن دعوته
و هي حيق ورح مة ونور ،وال هو ال حق وهيو الرح من الرح يم الذي و سعت رحم ته كيل شييء ،وال نور ال سماوات
والرض ،فمين يسيتطيع أن يطفيئ نور ال! .وكييف يرضيى للباطيل أن ينتصير النصير الخيير على الحيق ،وللهمجيية
والقسوة والفساد أن تكون لها الغلبة النهائية على الرحمة والصلح.
ولقد أصاب رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمين جراح في معركتي أحد وحنين ،ول بد في الدعوة من ابتلءٍ وجراح وضحايا ﴿
ولينصرنّ ال من ينصره ،إن ال لقوي عزيز﴾ [الحج.]40 :
الفصل السادس -في أهم الحداث التي وقعت بعد فتح مكة
إلى وفاة الرسول صلى ال عليه وسلم
بعد أن فتح ال مكة على رسوله والمسلمين فانهارت بذلك مقاومة قريش التي استمرت إحدى وعشرين سنة منذ بدء الرسالة ،تجمعت
هوازن لقتال الرسول صلى ال عليه وسلم ،فكانت معركة حنين التي تجد تفاصيلها في "سيرة ابن هشام".
ونذكر من دروس هذه المعركة ما يلي:
-1ما كان من غرور مالك بن عوف وعدم ا ستماعه لن صيحة در يد ا بن ال صمة حر صا م نه على الرئا سة ،واغترارا م نه
بصواب فكره ،وتكبّرا عن أن يقول قومه – وهو الشاب القوي المطاع :-قد استمع إلى نصيحة شيخ كبير لم يبق فيه
رمق من قوة ،ولو أنه أطاع نصيحة دريد لجنّب قومه الخسارة الكبيرة في أموالهم ،والعار الشنيع في سبي نسائهم،
ولكنه الغرور وكبرياء الزعامة يوردان موارد الهلكة ويجعلن عاقبة أمرها خسرا ،فقد أبى له غروره أن يستسلم لقوة
ال سلم ال تي ذلت ل ها كبرياء قر يش ب عد طول كفاح وشد يد بلءٍ ،و ظن أ نه ب ما م عه من رجال و ما عنده من أموال،
ي ستطيع أن يتغلب على قوة ال سلم الجديدة في روح ها ،و في أهداف ها ،و في تنظيم ها عل يه وعلى قو مه ،ثم أ بى له
غروره إل أن يخرج معه نساء قومه وأموالهم ليحول ذلك دون هزيمتهم ،وعدا نصيحة دريد الذي قال له :إن المنهزم
www.ikhwan-info.net
ل يرده ش يء ،فإ نه غ فل عن أن الم سلمين الذ ين سيحاربهم ل ي ستندون في رجاء الن صر على مال ول عدد ول عدة،
وإن ما ي ستندون إلى قوة ال العز يز الجبار ،ووعده ل هم بالن صر والج نة ،ول يمتنعون عن الهزي مة رغ بة في الحتفاظ
بن سائهم وأموال هم ،بل رغ بة في ثواب ال وخوفا من عقا به الذي تو عد المنهزم ين في مياد ين الجهاد بأل يم العذاب
وشدييد النتقام ﴿ومين يولّهيم يومئذ دبره إل متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقيد باء بغضيب مين ال ،ومأواه جهنيم
وبئس المصير﴾ [النفال.]16 :
وهكذا حلت الهزيمة بمالك وقبيلته هوازن ومن معه ،ولم يقتصر شؤم غروره وكبريائه عليه وحده ،بل أصاب قومه جميعا ،لنهم أطاعوه
في هذا الغرور ،ولما أنذرهم بأنهم إن لم يستجيبوا له ،بقر بطنه بالسيف ،سارعوا إلى طاعته ،ولو أنهم اتبعوا نصيحة شيخهم المجرب،
وكفكفوا من كبرياء زعيمهم الشاب ،لما أصابهم ما أصابهم ،لقد خافوا من غضب هذا الزعيم المغرور عليهم ،ولو أنهم سألوا أنفسهم:
ماذا يكون لو أغضبناه؟ لكان الجواب :انهيم يفقدون زعيمهيم! وماذا في هذا؟ ماذا فيي ذهاب زعييم مغرور أنانيّ يرييد أن يسيتأثر بشرف
المعركة دون من هم أقدم وأخبر منه بالمعارك وشؤونها؟ وهل توازي حياة شخص حياة قبيلة أو أمة من الناس بأكملها؟ لقد حذّرنا ال
في القرآن من نتيجة هذا الستسلم الجماعي لهواء المغرورين من الكبراء والزعماء ،يقول ال تعالى في قصة موسى مع فرعون﴿ :
فاستخف قومه فأطاعوه ،إنهم كانوا قوما فاسقين ,فلما آسفونا﴾ أغضبونا باعراضهم عن الحق واتباعهم لطاغيتهم المغرور ﴿انتقمنا منهم
فأغرقناهم أجمعين ،فجعلناهم سلفا﴾ قدوة للعقاب ﴿ومثلً للخرين﴾ [الزخرف.]56 – 54 :
-2ما كان من استعارة الرسول صلى ال عليه وسلم من صفوان وهو مشرك مائة درع مع ما يكفيها من السلح ،ففيه
عدا وجوب ال ستعداد الكا مل لقتال العداء ،جواز شراء ال سلح من الكا فر ،أو ا ستعارته على أن ل يؤدي ذلك الى قوة
الكافر واستعلئه ،واتخاذه من ذلك وسيلة لذى المسلمين وإيقاع الضرر بهم ،فقد استعار الرسول من صفوان السلح
ب عد ف تح م كة ،وكان صفوان من الض عف والهوان بح يث ل يقوى على فرض الشروط على ر سول ال صلى ال عل يه
و سلم ،يدل على ذلك قوله للر سول ح ين طلب م نه ذلك :أغَ صبا يا مح مد؟ فأجا به الر سول صلى ال عل يه و سلم " :بل
عاريةً مضمونةً حتى نُؤديها إليك".
وفي هذا أيضا مث ٌل من أمثلة النبل في معاملة المسلمين لعدائهم المنهزمين ،فلو أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أراد أن يأخذها منه
غ صبا ل ستطاع ،ول ما قدر صفوان أن يقول شيئا ،ولك نه هدي النبوة في الن صر ومعاملة المغلوب ين ،وال عف عن أموال هم ب عد أن تنت هي
المعركة ويلقوا السلح ،وما علمنا أن أحدا فعل هذا قبل محمدٍ صلى ال عليه وسلم ول بعده ،وفيما شهدناه من معاملة الجيوش المنتصرة
للمغلوبين والتسلط على أموالهم وكراماتهم وحقوقهم أكبر تأييد لما قلناه ﴿وال يقولُ الحق وهو يهدي السبيل﴾ [الحزاب.]4 :
-3حين خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم للقتال في هذه المعركة ،كان معه اثنا عشر ألفا :عشرة آلف ممن خرجوا
معه من المدينة فشهدوا فتح مكة ،وهم المهاجرون والنصار ،والقبائل التي كانت تجاور المدينة ،أو في طريق المدينة،
وألفان ممن أسلموا بعد الفتح ،وكان أكثر هؤلء ممن لم تتمكن هداية السلم في قلوبهم بعد ،وممن دخلوا في السلم
بعد أن انهارت كل آمالهم في مقاومته وإمكان التغلب عليه ،ففي هذا الجيش كان المؤمنون الصادقون الذين باعوا ال
ض و هم
أرواح هم وأنف سهم في سبيل إعزاز دي نه ،وف يه كان الضعاف في دين هم ،والموتورون الذ ين أ سلموا على مض ٍ
ينطوون على الحقد على السلم والتألم من انتصاره ،فلم يكن الجيش كله في مستوى واحد من قوة الروح المعنوية،
واليمان بالهداف ال تي يحارب من أجل ها ،وف يه الراغبون في غنائم الن صر ومكا سبه ،ولذلك كا نت الهزي مة أول ال مر
شيئا غير مستغرب ،ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسلم حين رأى كثرة من معه" :لن نغلب اليوم من قلة" 19أي:
إن مثيل هذا الج يش في كثرة عدده ل يغلب إل مين أمور معنويية تتعلق بنفوس أفراده ،تتعلق بإيمانهيم وقوة أرواحهيم
واخلصهم وتضحياتهم ،وقد وضع لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم بذلك قاعدة جليلة ،وهي أن النصر ل يكون بكثرة
لم يثبت هذا من قوله صلى الله عليه وسلم ،فقد رواه ابن اسحاق في المغازي ،وفي سنده انقطاع وجهالة19 ،
.وقبل :القائل ذلك ،سلمة بن سلمة بن وقش ،وقيل :أبو بكر الصديق ،وقيل :العباس ،وقيل :رجل من بني بكر
www.ikhwan-info.net
العدد ،ول بجودة ال سلح ،وإن ما يكون بش يء معنوي يغ مر نفوس المحارب ين ،ويدفع هم إلى التضح ية والفداء ،و قد أ كد
القرآن الكريم على هذا في غير موضع ،فقال تعالى﴿ :كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن ال وال مع الصابرين﴾
[البقرة.]249 :
ن عنكم شيئا وضاقت
وفي اليات التي نزلت بعد انتهاء المعركة ما يشير بصراحة إلى هذا المعنى﴿ :ويوم حني نٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغ ِ
عليكم الرض بما رحبت ثم ولي تم مدبر ين ،ثم أنزل ال سكينته على ر سوله وعلى المؤمن ين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا،
وذلك جزاء الكافرين﴾ [التوبة.]26-25 :
-4وفي قول بعض المسلمين لرسول ال صلى ال عليه وسلم وهم في طريقهم إلى المعركة :يا رسول ال اجعل لنا ذات
أنواط ك ما ل هم ذات أنواط ،و في جواب الر سول صلى ال عل يه و سلم" :قل تم – والذي ن فس مح مد بيده – ك ما قال قوم
موسى لموسى﴿ :اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ،قال إنكم قوم تجهلون﴾ [العراف ]138 :إنها السنن ،لتركبن سنن من
كان قبلكم".
في هذا إشارة من رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى ما ستسلكه هذه المة من تقليد المم السابقة لها ،وفيه تحذير من ذلك ،وأنها ل
تسلكه إل من غلبة الجهالة عليها ،فالمم التي تعرف وجوه الخير والفساد ،وطريق الضرر والنفع ،تأخذ الخير وتتمسك به ،وتعرض عن
الفساد وتفر منه ،وتأبى أن تسلك أيّ طريق يضر بها ولو سلكته المم وسارت فيه ،فإذا سارت في طريق التقليد غير عابئة بنتائجه ،كانت
قد وضعت الشيء في غير موضعه ،وهذا هو الجهل الذي قال ال عنه﴿ :إنكم قوم تجهلون﴾ ،والمة الواثقة بنفسها ،المعتزة بشخصيتها،
المطمئ نة إلى ما عند ها من حق وخ ير تأ بى أن ت سير وراء غير ها في ما يؤذي ها وينا في مبادئ ها ،فإذا قلدت ،كا نت ضعي فة الشخ صية،
مضطر بة التفك ير ،م ستسلمة للهواء ،مترد ية في الضعف والنحلل ،وتلك هي الجاهل ية ال تي أنقذ نا ال من ها بر سوله وكتا به وشريع ته،
ليس العلم والجهل في نظر دعوات الصلح هما القراءة والمية ،وإنما هما الهدى والضلل ،والوعي والغباوة ،فالمة الواعية لما يفيدها
ل منهجا ،هي ال مة الجاهلة ولو كا نت تعرف ش تى
و ما يضر ها ،هي ال مة العال مة ولو كا نت أم ية ،وال مة ال تي ل تهتدي إلى الخ ير سبي ً
العلوم ،وتحيط بمختلف الثقافات.
ان الذي هوى ويهوي بال مم – أي أ مة كا نت – ان ما هو ا ستيلء الجاهل ية على عوا طف أبنائ ها وأهوائ هم ،واسألوا التار يخ :هل انهارت
حضارة اليونان والرومان ال بسيطرة الجاهلية عليها.
ان المقلدين جهال مهما تعلموا ،أطفال مهما كبروا ،وسيظلون أولدا جهالً حتى يتحرروا.
-5في هذه المعركة بعد أن انهزم المسلمون أول المر ،وتفرقوا عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ظن شيبة بن عثمان
أ نه سيدرك ثأره من رسول ال صلى ال عليه و سلم ،وكان أبوه قد ق تل في معر كة أ حد ،قال شي بة :فل ما اقتر بت من
رسول ال صلى ال عليه وسلم لقتله أقبل شيء تغشى فؤادي ،فلم أطق ذلك ،وعلمت أنه ممنوع مني.
ول قد تكررت في ال سيرة م ثل هذه الحاد ثة ،تكررت مع أ بي ج هل ،و مع غيره في م كة ،و في المدي نة ،وكل ها تت فق على أن ال قد أحاط
ر سوله ب جو من الره بة أفزع الذ ين كانوا يتآمرون على قتله ،وهذا دل يل على صدق الر سول صلى ال عل يه و سلم في دعوى الر سالة،
وعلى أن ال ق ضى بح فظ نبيه من كل ك يد ،وببقائه حيا ،ح تى يبلغ الر سالة ،ويؤدي الما نة ،وين قذ جزيرة العرب من جاهليت ها ،ويقذف
بأبنائها في وجه الدنيا ،يعلمون ،ويهذّبون ،وينقذون ،ولول حماية ال لرسوله ،لقضى المشركون على حياته منذ أوائل الدعوة ،ولما كمل
الد ين ،وت مت النع مة ،وو صل إلي نا نور الر سالة وهدايت ها ورحمت ها ،ول ما تحول مجرى التار يخ تحوله الذي خلص الن سانية من عمايت ها
وشقائ ها بانتشار ال سلم ،وانتهاء عهود التح كم بالشعوب ،وال ستبداد بت صريف شؤون ها ،من ملوك ورؤ ساء أقاموا سلطانهم على الب غي
والظلم ،ومنع الشعوب من أن تشعر بكرامتها ،أو تثأر لظلمتها ،ولقد تم كل هذا بفضل حماية ال لرسوله ،حتى أدى المانة كاملة غير
منقوصة.
ل جرم أن فضيل ال كان على رسيوله عظيما ﴿وكان فضيل ال علييك عظيما﴾ [النسياء .]113:وأن فضيل رسيوله على البشريية كان
www.ikhwan-info.net
سر وجوده معها! فقالت :خن جر أخذته ،إن دنا م ني أحد من المشركين بعج ته به! فأعجب بها أ بو طلحة ،ول فت نظر
الرسول إلى ما تقول.
هكذا كا نت المرأة الم سلمة ،وهكذا ينب غي أن تكون :جريئة ت سهم في معارك الدفاع بحضور ها بنف سها ،ح تى إذا احت يج الي ها أو د نا من ها
العداء ،ردت عدوانه بنفسها كيل تؤخذ أسيرة مغلوبة ،وللمرأة المسلمة في تاريخ السلم حين نشوئه صفحات مشرقة من الفداء والبلء
والتضحية والشجاعة ،مما يصفع أولئك المتعصبين من المستشرقين وغيرهم من الغربيين الذين زعموا لقومهم أن السلم يهين المرأة
ويحتقر ها ،ول يج عل ل ها مكان ها اللئق في المجت مع في حدود ر سالتها الطبيع ية ،بل تمادى ب هم ال فك الى الدّعاء بأن ال سلم ل يف سح
مجالً للمرأة في الجنة ،فل تدخلها مهما عملت من خير ،وقدّمت من عبادة وتقوى!!.
وبقطع النظر عن نصوص القرآن والسنة الصريحة في رد هذا الفتراء ،فإن تاريخ السلم نفسه ،قد سجل للمرأة المسلمة ،من المآثر في
نشره ،والدعوة اليه ،والتضحية في سبيله ما لم يسجله للمرأة دين من الديان قط ،وما وقع من أم سليم في هذه المعركة (معركة حنين)
مثال من مئات المثلة الناط قة بذلك ،ون حن ل يهم نا الرد على أعداء ال سلم المتع صبين في هذا الموضوع بقدر ما يهم نا أن نت خذ من
حادثة أم سليم هنا درسا بليغا يحفّزنا على دعوة المرأة المسلمة من جديد للقيام بدورها الطبيعي في خدمة السلم ،وتربية أجيالنا المقبلة
على هد ية ومبادئه ،إن المرأة الم سلمة اليوم ،ب ين صالحة م ستقيمة تكت في من صلحها باقا مة ال صلوات ،وقراءة القرآن ،والب عد عن
المحرمات ،وب ين منحر فة في تيار الحضارة الغرب ية ،قد ا ستبدلت بآداب ال سلم آداب ها ،وبأخلق المرأة العرب ية الم سلمة أخلق المرأة
الغربيية التيي جرت عليهيا وعلى أسيرتها وشعبهيا البلء والشقاء ،وإذا كان بعيض الناس قيد أخذوا على عاتقهيم تجرييد المرأة العربيية
ل وخلودا في المآ ثر والمكرمات ،فإن ال سلم وتاري خه
الم سلمة من أخلق ها وخ صائصها ال تي ر بت ب ها أكرم أجيال التار يخ سموا ونب ً
وبخا صة تار يخ ر سوله صلى ال عل يه و سلم ،يه يب ب ها اليوم أن تتقدم من جد يد لتخدم ال سلم والمجت مع ال سلمي في حدود وظيفت ها
الطبيع ية ،ور سالتها التربو ية ،وخ صائصها الكري مة ،من ن بل ،وع فة ،وحش مة ،وحياء ،ترى هل تع يد فتيات نا الم سلمات المتدينات تار يخ
خديجة ،وعائشة ،وأسماء ،والخنساء ،وأم سليم ،وأمثالهن؟ هل يعدن إلينا اليوم تاريخ هؤلء المؤمنات الخالدات ،والنجوم الساطعات؟ هل
ي صعب أن يو جد في هن اليوم عشرات من خدي جة ،وعائ شة ،وأسماء ،وأم سليم؟ كل ،ول كن التوج يه ال صحيح ،واليمان الوا عي المشرق،
كفيل بذلك وأكثر منه ،فمن التي تفتح سجل الخلود للمرأة العربية المسلمة في عصرنا الحاضر ،غير عابئة بتضليل المضللين ،واستهزاء
المستهزئين من أعداء الخير والحق والفضيلة والدين؟
-8وفي هذه المعركة مر رسول ال صلى ال عليه وسلم بامرأة وقد قتلها خالد بن الوليد ،والناس متقصفون (مزدحمون)
علي ها ،فقال :ما هذا؟ قالوا :امرأة قتل ها خالد بن الول يد ،فقال ر سول ال صلى ال عل يه و سلم لب عض من م عه :أدرك
خالدا فقل له :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم ينهاك أن تقتل وليدا ،أو امرأة ،أو عسيفا (أجيرا).
ل شك في أن الن هي عن ق تل الضعفاء ،أو الذ ين لم يشاركوا في القتال ،كالرهبان ،والن ساء ،والشيوخ ،والطفال ،أو الذ ين أ جبروا على
القتال ،كالفلحين ،والجراء (العمال) شيء تفرد به السلم في تاريخ الحروب في العالم ،فما عهد قبل السلم ول بعده حتى اليوم مثل
هذا التشريع الفريد المليء بالرحمة والنسانية ،فلقد كان من المعهود والمسلم به عند جميع الشعوب أن الحروب تبيح للمة المحاربة قتل
جميع فئات الشعب من أعدائها المحاربين بل استثناء ،وفي هذا العصر الذي أعلنت فيه حقوق النسان ،وقامت أكبر هيأة دولية عالمية
لمنع العدوان ،ومساندة الشعوب المستضعفة كما يقولون ،لم يبلغ الضمير النساني من السمو والنبل حدا يعلن فيه تحريم قتل تلك الفئات
ل جماعيا ،كما كان عهدنا
من الناس ،وعهدنا بالحربين العالميتين الولى والثانية تدمير المدن فوق سكانها ،واستباحة تقتيل من فيها تقتي ً
بالحروب الستعمارية ضد ثورات الشعوب التي تطالب بحقها في الحياة والكرامة.
إن الم ستعمرين ي ستبيحون في سبيل إخماد تلك الثورات تخر يب المدن والقرى وق تل سكانها باللف وعشرات اللف ،ك ما فعلت فرن سا
أك ثر من مرة في الجزائر ،وك ما فعلت إنجلترا في أك ثر من م ستعمرة من م ستعمراتها ،وك ما تف عل اليوم البرتغال في م ستعمراتها في
إفريقيا.
www.ikhwan-info.net
كما أننا لم نعهد قط في التاريخ شعب من شعوب العالم القديم والحديث النهي عن قتل العمال والفلحين الذين يجبرون على الحرب جبرا،
ولكن السلم جاء قبل أربعة عشر قرنا بالنهي الصريح عن قتلهم ،ولم يقتصر المر على مجرد النهي تشريعا ،بل كان ذلك حقيقة وواقعا،
فه نا في معر كة حن ين ترى الر سول صلى ال عل يه و سلم نف سه و هو صاحب الشري عة ومبلغ ها عن ال إلى الناس ،يغ ضب لق تل امرأة،
ويرسيل إلى ب عض قواده أن ل يتعرض للنسياء والطفال والجراء ،وحيين جهيز جييش أسيامة لقتال الروم – قبيل وفاتيه بأيام – كان مميا
أوصاهم به :المتناع عن قتل النساء ،والطفال ،والعجزة ،والرهبان الذين ل يقاتلون ،أو ل يعينون على قتال ،وكذلك فعل خليفته أبو بكر
الصديق رضي ال عنه ح ين أنفذ بعث أسامة ،وحين كان يو جه الجيوش للقتال في سبيل ال :في سبيل الحق والخير والهدى والعدالة،
وكذلك فعل سيف ال خالد بن الول يد رضي ال ع نه في فتو حه بالعراق ،فلم يتعرض للكارين (الفلحين) العاكفين على زرا عة أراضيهم
بسوء ،وهكذا أصبح من تقاليد الجيش السلمي في كل مكان ،وفي مختلف العصور هذه المبادئ النسانية النبيلة التي لم يعرفها تاريخ
ج يش من جيوش الرض ،ويدلك على حرص الج يش ال سلمي على هذه التقال يد معاملة صلح الد ين لل صليبيين ب عد أن انت صر علي هم،
واسترد منهم بيت المقدس ،فقد أعطى المان للشيوخ ،ورجال الدين ،والنساء ،والطفال ،بل وللمحاربين الشداء ،فأوصلهم إلى جماعاتهم
بحراسة الجيش السلمي ،لم يمسسهم سوء ،بينما كان موقف الصليبيين حين فتحوا بيت المقدس يتجلى فيه الغدر ،والخسة ،والوحشية،
والدناءة ،ف قد أ من ال صليبيون سكان ب يت المقدس الم سلمين على أرواح هم وأموال هم ،إذا رفعوا الرا ية البيضاء فوق الم سجد الق صى،
فاحتشد فيه المسلمون مخدوعين بهذا العهد ،فلما دخل الصليبيون بيت المقدس ذبحوا كل من التجأ إلى المسجد القصى تذبيحا عاما ،وقد
بلغ من ذبحوا ف يه سبعين ألفا من العلماء ،والزهاد ،والن ساء ،والطفال ،ح تى إن كاتبا صليبيا ر فع البشارة بهذا الف تح ال مبين إلى البا با،
وقال فيه مباهيا :لقد سالت الدماء في الشوارع حتى كان فرسان الصليبيين يخوضون في الدماء إلى قوائم خيولهم.
إننا ل نقول اليوم هذا للمفاخرة والمباهاة بتاريخ فتوحاتنا وقوادنا وجيوشنا التي قال فيها "لوبون"" :ما عرف التاريخ فاتحا أرحم ول أعدل
من العرب" وإن ما نقول هذا لنن به الى أن نا ك نا أر حم بالن سانية وأبر ب ها من هؤلء الغربي ين و هم في القرن العشر ين ،والى أن هؤلء
الغربي ين ح ين يتحدثون الي نا عن حقوق الن سان ويوم الطفال ،ويوم المهات ،تدليلً من هم على سمو حضارت هم ان ما يخدعون نا ن حن ،بل
يخدعون السذج والسخفاء ،وفاقدي الثقة بأمتهم وتاريخهم ،ممن يزعمون أنهم أبناؤنا ومثقفونا.
نر يد أن يكون جيل نا المعا صر واعيا لهذه الد سائس ،واثقا بدي نه وترا ثه الحضاري الن ساني النب يل ،فل يخ ضع لهؤلء الغربي ين خضوع
الفقير الذليل أمام الغني القوي ،ول يتهافت على زادهم الفكري دون تمييز بين غثه وسمينه ،تهافت الفراش على النار ليحترق بها.
لقيد أثبيت العلم أن السيلم خيير الديان ،وأقربهيا الى فطرة النسيان ،وأضمنهيا لصيلح الناس ،وأثبيت التارييخ أن حروب السيلم أرحيم
الحروب ،وأقلها بلءا ،وأكثرها خيرا ،وأنبلها هدفا ،وفي كل يوم جديد برهان جديد على أن السلم دين ال ،وأن محمدا رسول ال ،وأن
المسلمين الصادقين صفوة عباد ال وخيرتهم من الناس أجمعين﴿ .سنريهم آياتنا في الفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ،أو لم
يكف بربك أنه على كل شيء شهيد﴾ [فصلت.]53 :
-9بعد أن تبع رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمون من انهزم من هوازن الى ثقيف بالطائف ،وحاصرها أياما فلم
تفتح عليه ،عاد الى المدينة وفي الطريق قسم غنائم معركة حنين ،وكانت ستة آلف من الذراري والنساء ،ومن البل
والشياه مال يدرى عد ته ،و قد أع طى ق سما كبيرا من ها لشراف من العرب يتألف هم على ال سلم ،وأع طى كثيرا من ها
لقر يش ،ولم ي عط من ها للن صار شيئا ،وتكلم بعضهم في ذلك متألم ين من حرمانهم من هذه الغنائم ،ح تى قال بعضهم:
ل قي رسول ال صلى ال عل يه وسلم قو مه ،أي إ نه لم يعد يذكر نا بعد أن ف تح ال مكة ودا نت قر يش بالسلم ،فج مع
ر سول ال صلى ال عل يه و سلم الن صار وخ طب في هم فقال ب عد أن ح مد ال وأث نى عل يه " :يا مع شر الن صار! مقالة
للً فهدا كم ال؟ وعالة فأغنا كم ال؟ وأعداء
بلغت ني عن كم ،وجدة (أي ع تب) وجدتمو ها عل يّ في أنف سكم؟ ألم تكونوا ض ّ
ن وأفضل.
فألّف ال بين قلوبكم؟ "بلى! ال ورسوله أم ّ
ثم قال ":أل تجيبون ني يا مع شر الن صار؟" قالوا :بماذا نجي بك يا ر سول ال؟ ل ولر سوله ال من والف ضل ،قال صلى ال عل يه و سلم" :أ ما
www.ikhwan-info.net
وال ،لو شئتم لقلتم فلصدقتم :أتيناك مكذبا فصدقناك ،ومخذولً فنصرناك ،وطريدا فآويناك ،وعائلً فآسيناك ،أوجدتم يا معشر النصار في
أنفسكم في لعاعة (البقية اليسيرة) من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ،وتركتكم إلى إسلمكم ،أل ترضون يا معشر النصار أن يذهب الناس
بالشاة والبع ير ،وترجعوا بر سول ال إلى رحال كم؟ فو الذي ن فس مح مد بيده ،لول الهجرة لك نت امرءا من الن صار ،ولو سلك الناس شعبا
(هو الطريق بين جبلين) وسلك النصار شعبا لسلكت شعب النصار ،اللهم ارحم النصار ،وأبناء النصار وأبناء أبناء النصار" فبكى القوم
حتى أخضلوا (بللوا) لحاهم ،وقالوا :رضينا برسول ال قسما وحظا.
وها هنا مسائل يمكن التعليق عليها:
قضية الغنائم كجزء من نظام الحرب في السلم ،وقد اتخذها أعداؤه وسيلة للطعن فيه على أنها باعث مادي من بواعث إعلن أولً:
الحرب في السلم ،ومنشط فعال للجنود المسلمين يدفعهم الى التضحية والفداء ،ولذلك يتهافتون عليها بعد الحرب ،كما في هذه المعركة،
ول ريب في أن كل منصف يرفض هذا الدعاء ،فبواعث الحرب في السلم معنوية تهدف إلى نشر الحق ،ودفع الذى والعدوان ،وهذا ما
صرحت به آيات وأحاديث كثيرة صريحة ،ومن الغرابة بمكان أن يضحي النسان بحياته ،ويعرض مستقبل أسرته للضياع ،طمعا في مغنم
مادي مهما كبر ،والطمع في المغانم المادية ل يمكن أن يؤدي الى البطولت الخارقة التي بدت من المحاربين المسلمين في صدر السلم،
ول يمكن أن يؤدي الى النتائج المذهلة ال تي انت هت اليها معارك ال سلم مع العرب في حياة الرسول صلى ال عل يه وسلم ،وال تي انت هت
اليها معاركه مع فارس والروم فيما بعد ،على أن أعداء السلم لم تكن تنقصهم المطامع المادية ،فغنيمة أموال المسلمين ورقابهم في حال
هزيمتهم كانت من نصيب أعدائهم حتما ،ولم يكن المسلمون وحدهم هم الذين يقتسمون أموال أعدائهم ورقابهم عند النتصار عليهم ،بل
كان هذا شأن كل جيش ين متحارب ين ،فلماذا لم تؤد المطا مع الماد ية ع ند العداء إلى البطولت الخار قة ،والنتائج المذهلة ال تي كا نت تبدو
من الجنود المسلمين ،والتي أسفرت عنها الحروب السلمية؟ وفي وقائع الحروب السلمية ما ينفي نفيا قاطعا بأن الدوافع المادية كانت
ل في
هي البا عث الرئي سي في ن فس الجندي المسلم ،ففي معارك بدر ،وأ حد ،ومؤ تة ،وغيرها كان الب طل الم سلم يتقدم الى المعر كة مؤم ً
إحراز شرف الشهادة ونع يم الج نة ،ح تى كان أحد هم يقذف بالتمرة من ف مه ح ين ي سمع و عد الر سول للشهداء بالج نة ،ويخوض المعر كة
وهو يقول :بخٍ بخٍ ،ما بيني وبين أن أدخل الجنة إل هذه التمرات ،وال إنها لمسافة بعيدة ،ثم ما يزال يقاتل حتى يقتل ،وكان أحدهم يبرز
لقتال العداء ،وهو يقول :الجنة! الجنة! وال إني لجد ريحها دون أحد (أي أقرب من جبل أحد ،وكان ذلك في معركة أحد).
و في معارك الفرس كان جواب قائد الو فد الم سلم لر ستم ح ين عرض أن يد فع للم سلمين أموالً أو ثيابا ليعدلوا عن الحرب ويرجعوا الى
بلد هم ،وال ما هذا الذي خرج نا من أجله ،وإن ما نر يد إنقاذ كم من عبادة العباد إلى عبادة الوا حد القهار ،فان أن تم أ سلمتم رجع نا عن كم
ويبقى ملككم لكم ،وأرضكم لكم ،ل ننازعكم في شيء منها ..فهل هذا جواب جماعة خرجوا للمغانم والستيلء على الراضي والموال.
أ ما أن ي ستشهد لتلك الدعوى الباطلة ب ما ح صل ع ند تق سيم الغنائم ب عد معر كة حن ين من ا ستشراف نفوس كثير ين من المحارب ين إلي ها،
وموجدة الن صار لحرمان هم من ها ،فذلك تعام عن وا قع المعر كة والمتحارب ين ،ف قد كان الذ ين ا ستشرفوا لتلك المغا نم من حدي ثي الع هد
بالسلم الذين لم تتمكن هداية السلم من نفوسهم كما تمكنت من السابقين إليه ،ولذلك لم يستشرف لها أمثال أبي بكر ،وعمر ،وعثمان,
وعلي ،وابن عوف ،وطلحة ،والزبير ،من كبار الصحابة السابقين إلى دعوة السلم ،وما حصل من النصار إنما كانت مقالة بعضهم ممن
رأوا في تق سيم الغنائم يومئذ تفض يل ب عض المحارب ين على ب عض في مكا سب الن صر ،وهذا ي قع من أك ثر الناس في كل ع صر ،و في كل
مكان ،وهذا المعنى مما يجده كل إنسان في نفسه في مثل تلك الظروف.
وليس أدل على إرادة ال وثوابه وجنته ،وطاعة رسوله عند النصار ،من بكائهم حين خطب النبي صلى ال عليه وسلم فيهم ،وكان مما
قاله لهم" :أل تريدون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول ال صلى ال عليه وسلم إلى رحالكم؟" فمن فضلوا صحبة رسوله
وقربهم منه وسكناه بينهم على الموال والمكاسب ،أيصح أن يقال فيهم :إنهم إنما جاهدوا للموال والمكاسب؟
ول مع نى لن يقال :لماذا ج عل ال سلم الغنائم من ن صيب المحارب ين ،ولم يجعل ها من ن صيب الدولة ك ما في ع صرنا هذا؟ لن القول بذلك
غفلة عن طبيعة الناس ،وتقاليد الحروب في تلك العصور ،فلم يكن الجيش السلمي وحده دون الجيش الفارسي أو الرومي هوالذي يقتسم
www.ikhwan-info.net
أفراده أربعية أخماس الغنائم ،بيل كان ذلك شأن الجيوش كلهيا ،ولو أن مجتهدا اليوم ذهيب إلى أن غنائم الجييش السيلمي فيي عصيرنا
الحاضر تعطى للدولة ،لما كان بعيدا عن فقه هذه المسألة وفق مبادئ السلم وروحه.
أن إغداق العطاء للذين أسلموا حديثا ،يدل على حكمة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ومعرفته بطبائع قومه ،وبعد نظرة في ثانيا:
تصريف المور ،فهؤلء الذين ظلوا يحاربون رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ويمتنعون عن قبول دعوته ،حتى فتح مكة ،والذين أظهر
بعضهم الشماتة بهزيمة المسلمين أول المعركة ،ل بد من تأليف قلوبهم على السلم ،وإشعارهم بفضل دخولهم فيه من الناحية المادية
ال تي كانوا يحاربو نه من أجل ها ،إذ كانوا – في الحقي قة – إن ما يحاربو نه و هم أشراف القوم إبقاء على زعامت هم ،وحفاظا على م صالحهم
الماد ية ،فل ما خ ضد ال سلم من شوكت هم بف تح م كة ،كان من المم كن أن يظلوا في قرارة أنف سهم حاقد ين على هذا الن صر ،واجد ين من
هزيمتهم وانك سارهم ،وال سلم د ين هدا ية وإ صلح ،فل يكت في بفرض سلطانه بالقهر والغل بة ،ك ما تفعل كث ير من الن ظم ال تي تعت مد في
قيامها وبقائها على القوة دون استجابة النفوس والقلوب ،بل ل بد من تفتح القلوب له ،واستبشارها بهدايته ،وتعشقها لمبادئه ومثله ،وما
دام العطاء عند بعض الناس مفيدا في استصلح قلوبهم وغسل عداواتهم ،فالحكمة كل الحكمة أن تعطى حتى ترضى ،كما فعل رسول ال
صلى ال عليه وسلم.
ولقد علم ال أن دعوته التي انتصرت أخيرا في جزيرة العرب ،ل بد من أن تمتد الى شرق الدنيا وغربها ،فل بد من إعداد العرب جميعهم
لحميل هذه الرسيالة ،والتضحيية فيي سيبيلها فإذا صيلحت نفوس أشرافهيم بهذه العطيات ،تفتحيت قلوبهيم بعيد ذلك لنور الدعوة ،وحميل
أعبائ ها ،وهذا هو الذي ح صل ،فا نه ب عد أن تألف ر سول ال صلى ال عل يه و سلم قلوب هؤلء الزعماء ،زالت من نفو سهم كل موجدة
وحقد على السلم ودعوته ،فلما انساح الجيش السلمي في الرض للتبشير بمبادئ السلم ،وإخراج الناس من ظلمتهم إلى نوره ،كانت
الجزيرة العربية مستعدة لهذا العمل التاريخي العظ يم ،وكان هؤلء الرؤساء المؤل فة قلوبهم في أوائل الراض ين المندفع ين لخوض معر كة
التحرير ،وقد أثبت التاريخ بلء كثير منهم في الفتوحات بلءً حسنا ،كما كان لكثير منهم بعد ذلك فضل كبير في تثبيت دعائم السلم خارج
الجزيرة ،وإرادة مملكته الواسعة ،وقيادة جيوشه المتدفقة.
ول يضر هؤلء المجاهدين أنهم كانوا في أول إسلمهم ممن ألفت قلوبهم على السلم ،أو تأخر دخولهم فيه عن فتح مكة ،فكثيرا ما يلحق
المتأخر بالسابق ،ويدرك الضعيف فضل القوي ،ويخلص العمل من لم يبدأه مخلصا ،وقد قال الحسن رحمه ال :طلبنا هذا العلم لغير ال،
فأبى إل أن يكون ل .وقال غيره :طلبنا هذا العلم ولم تكن لنا فيه نية ،ثم حضرتنا النية بعد .وحسب المتأخرين أن ال وعدهم بالحسنى،
ل و عد ال
ك ما قال تعالى﴿ :ل ي ستوي من كم من أن فق من ق بل الف تح وقا تل أولئك أع ظم در جة من الذ ين أنفقوا من ب عد ،وقاتلوا ،وك ّ
الحسنى ،وال بما تعملون خبير﴾ [الحديد.]10 :
وفي جمع رسول ال صلى ال عليه وسلم للنصار واسترضائهم على حرمانهم من المغانم ،دليل على حسن سياسته صلى ال ثالثا:
عليه وسلم ،ودماثة خلقه ،فهو حين بلغه ما قاله بعضهم بشأن الغنائم ،اهتم باسترضائهم وجمعهم لذلك ،وقال لهم ذلك القول الحكيم ،مع
أ نه يعلم أن هم يحبو نه ويتبعو نه ،و قد بذلوا في سبيل ال دماء هم وأموال هم ،فل يس يخ شى علي هم ما ين قص من إيمان هم ،أو يوقع هم في
غضب ال ورسوله ،ولكنه أحب أن يزيل ما علق في أذهان بعضهم حول هذا الموضوع ،وتلك سنة حميدة يجب أن يتبعها القادة والزعماء
مع أنصارهم ومحبيهم ،فان العداء متربصون لستغلل كل حادثة أو قول يضعف تعلق المحبين بقادتهم ،والشيطان خبيث الدس ،سريع
المكر ،فل يهمل القادة استرضاء أنصارهم مهما وثقوا بهم.
ثم ان ظر إلى ذلك السلوب الحك يم المؤ ثر الذي سلكه عل يه ال صلة وال سلم ل سترضائهم وإقناع هم بحك مة ما فعل ،ف قد ذ كر فضل هم على
دعوة السلم ،ونصرتهم لرسوله ،ومبادرتهم إلى التصديق به حيث كذبه قومه وطاردوه ،بعد أن ذكّرهم بفضل ال عليهم في إنقاذهم من
الضللة والشتات والعداوة ،ليسهل عليهم كل ما فاتهم من مال الدنيا بجانب ما ربحوه من السعادة والهداية ،وبذلك أكد لهم أمرين :أنه لم
ينحز إلى قومه وينسى هؤلء النصار كما زعم بعضهم ،وأنه كان حين حرمهم الغنائم ،إنما كان يعتمد على قوة دينهم ،وعظيم إيمانهم،
وحبهم ل ولرسوله ،ولعمري ليس بعذ هذا السلوب أسلوب أبلغ في استرضاء ذوي الفضل والسبق في الدعوة ممن آمنوا بها مخلصين
www.ikhwan-info.net
صادقين ،ل يرجون جزا ًء ول شكورا .فصلى ال وسلم عليه ما أصدق قول ال فيه﴿ :وإنك لعلى خلق عظيم﴾ [ن.]5 :
إن في مو قف الن صار بعيد أن سمعوا كل مه ،أروع المثلة فيي صدق اليمان ،ور قة القلوب ،وتذكير ف ضل ال في الهدايية رابعا:
والتقوى ،ف قد ذكروا أن الف ضل ل ولر سوله في ما قاموا به من الن صرة والتأي يد والجهاد ،وأن هم لول ال ل ما اهتدوا ،ولول ر سوله ل ما
استضاءت قلوبهم وبصائرهم ،ولول السلم لما جمع ال شملهم بعد الشتات ،وصان دماءهم بعد الهدر ،وأنقذهم من سيطرة اليهود إلى
عز ال سلم وخل صهم من جيرانهم المستغلين ،ثم أعلنوا إيثارهم رسول ال صلى ال عل يه وسلم على كل ما تف يض به الدن يا من مال
ومتاع ،ولما دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم بالرحمة لهم ،ولولدهم ولولد أولدهم ،سالت مدامعهم فرحا بعناية رسول ال صلى
ال عليه وسلم بهم ودعوته المستجابة لهم ،فهل بعد هذا دليل على صدق اليمان ،وهل هناك حب أسمى وأروع من هذا الحب؟ رضي ال
عنهم وأرضاهم ،وخلّد ذكراهم في العالمين ،وألحقنا بهم في جنات النعيم ،مع رسوله الحبيب العظيم ،والذين أنعم ال عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والمقربين.
وأخيرا فان هذا الموقف وما جرى بين رسول ال صلى ال عليه وسلم والنصار ،مما يجب أن يتذكره كل داعية ،وأن يحفظه كل طالب
علم ،فانه مما يزيد في اليمان ،ويهيج لواعج الحب والشوق إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وصحابته رضوان ال عليهم أجمعين.
كان إبراهيم عليه السلم – وهو أبو النبياء بعد نوح – ممن حارب الوثنية في قومه ،حتى حاول قومه إحراقه بالنار .كما يحكي القرآن
الكريم ،ولما جاء إلى مكة أودع ولده إسماعيل عليه السلم فيها مع أمه ،فلما شب اسماعيل عليه السلم بنيا الكعبة معا لتكون بيتا يعبد
ال عنده ،ويحج الناس اليه ،وتكاثر ولد اسماعيل – وهم العرب المستعربة ،كما يسميهم المؤرخون – واستمروا ل يعرفون عبادة الوثان
والصنام ،20ثم كان من عبادتهم أنه كان ل يظعن من مكة ظاعن ،إل احتمل معه حجرا من حجارة الحرم ،تعظيما للحرم ،وصبابة بمكة،
فحيثميا حلوا وضعوه وطافوا بيه كطوافهيم بالكعبية ،تيمنا منهيم بهيا ،وحبا منهيم للحرم ،وشوقا الييه ،واسيتمروا كذلك حتيى أدخيل فيهيم
"عمروا بن ل حي" عبادة الوثان – وكان ذلك ق بل البع ثة النبو ية بخم سائة سنة على ما يقولون – ف هو أول من غيّر د ين إ سماعيل عل يه
السلم ،وكان من أمره أن تولى حجابة البيت بعد إجلء جرهم عن مكة وما حولها ،ثم مرض مرضا شديدا ،فقيل له :إن بالبلقاء من الشام
ح مة" الن – إن أتيت ها برأت ،فأتا ها فا ستحم ب ها فبرأ ،وو جد أهل ها يعبدون ال صنام فقال :ما هذه؟ فقالوا:
ح مة – و هي ال تي يقال لها "ال َ
نستسقي بها المطر ،ونستنصر بها على العدو ،فسألهم أن يعطوه منها ،ففعلوا ،فقدم بها مكة ،ونصبها حول الكعبة ,21وانتشرت بعد ذلك
عبادة الصنام في جزيرة العرب ،حتى كان لهل كل دار في مكة صنم يعبدونه في دارهم ،فإذا أراد أحدهم السفر ،كان آخر ما يصنع في
منزله أن يتمسح به ،وإذا قدم من سفره ،كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضا.
ثم أول عت العرب بعبادة ال صنام ،فمن هم من ات خذ بيتا ،ومن هم من ات خذ صنما ،و من لم يقدر عل يه ول على بناء ب يت ،ن صب حجرا أمام
الحرم ،وأمام غيره م ما ا ستحسن ،ثم طاف به كطوا فه بالب يت ،وكان الر جل إذا سافر فنزل منزلًَ ،أ خذ أرب عة أحجار فن ظر إلى أح سنها
فاتخذه ربا ،وجعل ثلث أثافي لقدره ،وإذا ارتحل تركه ،فإذا نزل منزلً آخر فعل مثل ذلك.22
وكانت للعرب ثلثة أصنام كبرى تعظمها ،وتحج إليها ،وتنحر لها الذبائح :أقدمها "مناة" وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلل
بقد يد ،ب ين المدي نة وم كة ،وكا نت العرب جميعا تعظ مه ،وأشد هم إعظاما له الوس والخزرج ،فل ما خرج ر سول ال صلى ال عل يه و سلم
لفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ،أرسل إليه عليّا رضي ال عنه ،فهدمه ،وأخذ ما كان له ،وأقبل به الى النبي صلى ال عليه وسلم،
فكان في ما أ خذ :سيفان ،كان الحارث بن أ بي ش مر الغ ساني ملك غ سان أهداه ما له ،والحارث هذا هو الذي ق تل شجاع بن و هب ال سدي
رضي ال عنه حين سلمه كتاب النبي صلى ال عليه وسلم يدعوه للسلم ،ولم يقتل للنبي صلى ال عليه وسلم رسول غيره.
.الصنام :هي ما كان من المعبودات على هيئة تماثيل ،والنصاب :هي أحجار يعبدونها وينحرون عندها 20
.كتاب الصنام لهشام بن محمد بن السائب الكلبي :ص 21 8
.الصنام للكلبي ص 22 33
www.ikhwan-info.net
وثانيهما "اللت" وكانت بالطائف ،وهي صخرة مربعة ،وكانت قريش وجميع العرب تعظمها ،فلما جاء وفد ثقيف بعد عودة النبي صلى ال
عليه وسلم من فتح مكة إلى المدينة ،طلب وفدها منه عليه الصلة والسلم أن يدع لهم اللت ثلث سنين ل يهدمها ،فأبى ذلك عليهم ،فما
برحوا يسألونه سنة سنة وهو يأبى عليهم ،حتى سألوا شهرا واحدا ،فأبى عليهم.
قال ابين هشام :وإنميا يريدون بذلك فيميا يظهرون أن يسيلموا بتركهيا مين سيفهائهم ،ونسيائهم ،وذراريهيم ،ويكرهون أن يروعوا قومهيم
بهدمها حتى يدخلهم السلم ،فأبى رسول ال صلى ال عليه وسلم إل أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها ،فلما أخذ
المغيرة يضربها بالمعول ،خرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها ويقلن:
يردن بذلك :واحسيرتا على التيي كانيت تدافيع عنيا أعداءنيا ،وتدفيع عنيا البلء ،قيد أسيلمها اللئام للهدم ،فلم يدافعوا عنهيا ،ولم يجالدوا
بالسيوف في سبيلها.
وثالثت ها "العزى" كا نت عن يم ين الم سافر من م كة إلى العراق ،وكا نت قر يش تخ صها بالعظام ،فل ما نزل القرآن يندد ب ها وبغير ها من
الصنام ،اشتد ذلك على قريش ،ولما مرض أو أحيحة وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف مرضه الذي مات فيه،
دخل عليه أبو لهب يعوده ،فوجده يبكي ،فقال :ما يبكيك يا أبا أحيحة؟ أمن الموت تبكي ول بد منه؟ قال :ل ،ولكني أخاف أل تعبد العزى
بعدي! قال أ بو ل هب :وال ما عبدت حيا تك لجلك ،ول تترك عبادت ها بعدك لمو تك ،فقال أ بو أحي حة :الن عل مت أن لي خلي فة! ..وأعج به
شدة نصبه في عبادتها.23
فلما كان عام الفتح دعا النبي صلى ال عليه وسلم خالد بن الوليد ،وأمره أن ينطلق بهدمها ،فلما جاءها خالد ،قال سادنها ديبة بن حرمي
الشيباني:
فقال خالد:
اني رأيت ال قد أهانك يا عُزّ كفرانك ل غفرانك
و قد زعموا أن ها ك نت حبش ية ،ناف شة شعر ها ،واض عة يد ها على عاتق ها في دا خل شجرة كان قد قطع ها خالد ،فبرزت له بهذا الش كل،
فضربها ففلق رأسها ،فاذا هي حممة (أي كالفحم) فلما أخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم بأداء مهمته ،قال عليه الصلة والسلم" :تلك
العزى ،ول عزى بعد ها للعرب ،أ ما إن ها لن تع بد ب عد اليوم" .تلك هي أش هر أ صنام العرب في الجاهل ية ،و هي ال تي ذكر ها القرآن الكر يم
بقوله﴿ :أفرأيتم اللت والعزى ومناة الثالثة الخرى﴾ [النجم.]20 – 19 :
ولما دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم البيت الحرام يوم فتح مكة ،رأى صور الملئكة وغيرهم ،فرأى ابراهيم عليه السلم مصورا في
يده الزلم يسيتقسم بهيا ،فقال" :قاتلهيم ال جعلوا شيخنيا يسيتقسم بالزلم ،ميا شأن إبراهييم والزلم؟" ﴿وميا كان ابراهييم يهوديا ول
نصرانيا ،ولكن كان حنيفا مسلما ،وما كان من المشركين﴾[ ،آل عمران ]68 :ثم أمر بتلك الصور كلها ،فطمست.
قال ابن عباس :دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته ،فطاف عليها ،وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص،
فجعل النبي صلى ال عليه وسلم يشير بقضيب في يده الى الصنام ويقول﴿ :جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا﴾ [السراء:
]81فما أشار الى صنم منها في وجهه إل وقع لقفاه ،ول أشار إلى قفاه إل وقع لوجهه ،حتى ما بقي منها صنم إل وقع.
ولم ت مض على ف تح م كة إل شهور ،ح تى كا نت أ صنام جزيرة العرب كل ها قد سقطت عن عروش ها ،وك فر ب ها عبّاد ها ،وأ صبح من كان
يعبدها بالمس يخجل من تفاهة رأيه إذ كان يعبد حجرا ل يضر ول ينفع ول يغني عن حوادث الدهر شيئا.
لقد قامت رسالة السلم أول ما قامت على التشهير بهذه الصنام اللهة ،والتشنيع على عبادتها والدعوة إلى دين الفطرة :عبادة ال خالق
الكون ورب العالم ين ،وقاو مت جزيرة العرب و في مقدمت ها قر يش هذه الدعوة ،ورأت في ها عجبا عجابا ﴿أج عل الل هة إلها واحدا إن هذا
لشيء عجاب﴾ [ص.]5:
وماجت جزيرة العرب واضطربت لهذا الدين الجديد ،وحاولت وأْده والقضاء على رسوله بكل وسيلة ،ولكن النصر كان أخيرا لرسول ال
صلى ال عليه وسلم بعد نضال استمر إحدى وعشرين سنة ،فافتتح عاصمة الوثنية ،وحطم آلهتها ،وهزم جيوشها ،وتغلب على مؤامرات
زعمائ ها ،هل ي صدق الع قل آن ذلك كله قد تم خلل هذه الفترة الق صيرة ،ولم ي كن مع ر سول ال صلى ال عل يه و سلم ح ين ابتدأ هذه
الدعوة إنسان لول أن يكون ال من ورائها ،يهيء كتائبها ،ويوجه معاركها؟ ﴿وما رميت إذ رميت ولكن ال رمى﴾ [النفال.]17 :
ل قد أن هى مح مد بن ع بد ال مأ ساة العرب الفكر ية ال تي ا ستمرت زهاء خم سمائة عام أو تز يد ،وحرر الع قل العر بي من أغلل الوثن ية
وخرافاتها ،وأنقذ الكرامة العربية من مهانة الوثنية وحقارتها ،وفتح أبواب الخلود للعرب يدخلون منه ثم ل يخرجون ،ولقد صدق رسول
ال صلى ال عل يه و سلم ح ين قال" :ل عزى بعد ها للعرب ،إ ما إن ها لن تع بد ب عد اليوم" ف قد ود عت جزيرة العرب حياة الوثن ية إلى ال بد،
وبلغ الع قل العر بي سن الر شد ،فلم ي عد ير ضى بعود ته إلى طفول ته :طفولة الوثن ية ال تي تح مل صاحبها على أن ي ضع جبه ته ع ند أقدام
حجارة صماء بكماء ،ول قد قا مت ب عد وفاة الر سول صلى ال عل يه و سلم حروب وف تن ،واد عى النبوة من ادعا ها ،وعارض القرآن من
عارضه ،ولكنا لم نسمع أن عربيا واحدا فكر في العودة إلى الوثنية وآلهتها ،ذلك أن الراشد لن يعود طفلً ،وكل ذلك إنما تم بفضل محمد
صلى ال عليه وسلم ورسالته ،فله على كل عربي إلى انتهاء الدنيا فضل النقاذ والتحرير ،ثم فضل زيادة الهدى لشعوب الرض من اتبع
الهدى و من أعرض ع نه ،و جل ال ح ين يقول ﴿ :هو الذي ب عث في المي ين ر سولً من هم يتلو علي هم آيا ته ،ويزكّي هم ،ويعلم هم الكتاب
والحكمة ،وإن كانوا من قبل لفي ضلل مبين﴾ [الجمعة.]2 :
غزوة تبوك وأهم ما في هذه الغزوة من عبر ودروس هو ما نوجز الكلم عنه ج-
كان سبب هذه الغزوة أن الروم قد جم عت جموعا كثيرة بالشام ،وأن هر قل قد رزق أ صحابه سنة ،وانض مت ال يه من القبائل أولً-
العرب ية ،ل خم ،وجذام ،وغ سان ،وعاملة ،ثم قدموا طلئع هم إلى البلقاء – كورة من أعمال دم شق ب ين الشام ووادي القرى ،فل ما بلغ ذلك
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ندب الناس للخروج إلى تبوك ،ودعاهم إلى التأهب والستعداد ،ودعا الغنياء إلى البذل والنفاق.
وهذا يفسر لنا طبيعة الحرب في السلم ،فهي ليست عدوانية ،ول استفزازية ،ولكنها للدفاع عن الدين والبلد ،وردع المعتدين ،ومنعهم
عن الذى والف ساد ،وهذا ما صرحت به آيات كثيرة من القرآن الكر يم ،و قد تكلم نا عن أ سباب مشروع ية الحرب في ال سلم ،وأهدا فه،
وطرائ قه ،في مذكرات ال سنة الولى .و في خروج ر سول ال صلى ال عل يه و سلم إلى تبوك ب عد تأ هب الروم وجمع هم للجموع تأي يد ل ما
قلناه هناك.
وفي انضمام بعض القبائل العربية إلى الروم ضد المسلمين ،دليل على أنهم كانوا بعيدين عن فهم السلم ورسالته التحريرية للناس عامة
وللعرب خاصة ،ولو كانوا يعلمون ذلك لبوا أن يكونوا أعوانا للروم على أبناء قومهم من العرب المسلمين.
لقد كانت دعوة الرسول صلى ال عليه وسلم للتأهب في وقت عسر وحر وموسم لجني الثمار ،فأما المؤمنون الصادقون ،فقد ثانيا-
سارعوا إلى تلبيت هم للر سول غ ير عابئ ين بمش قة ول حرمان ،وأ ما المنافقون ،ف قد تخلفوا ،وأخذوا يعتذرون بش تى العذار ،وهكذا ي تبين
المخل صون من المنافق ين في أيام الشدائد ،وينك شف أ مر الدعياء في أيام الم حن ،و قد قال ال تعالى﴿ :الم .أح سب الناس أن يتركوا أن
ن ال الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين﴾ [العنكبوت.]3-1 :
يقولوا آمنا وهم ل يفتنون ،ولقد فتنا الذين من قبلهم ،فليعلم ّ
www.ikhwan-info.net
وإنما تقوم الدعوات ،وتنهض المم بتطهير صفوفها من المنافقين والمخادعين ،ول يثبت للشدة إل كل صادق العزيمة ،مخلص النية ،ثابت
المبدأ ،وكثيرا ما عوق الضعاف والمخادعون سير دعوات الصلح في المة ،وحالوا بينها وبين النصر ،أو أخروها ولو إلى حين ،ولقد
تخلص جييش العسيرة فيي غزوة تبوك مين أمثال هؤلء بفضيل افتضاح أمرهيم ،وانكشاف ضعيف إيمانهيم ،وخور عزائمهيم ،وإن جيشا
متراص ال صف ،مت حد الكل مة ،قوي اليمان ،صادق الع هد ،أجدى لل مة – ولو كان قل يل العدد – وأد عى لكت ساب الن صر من ج يش كث ير
العدد ،متفاوت الفكرة والقوة والثبات ﴿كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن ال ،وال مع الصابرين﴾ [البقرة.]249 :
ل على ما يفعله اليمان
ان في مسارعة الموسرين من الصحابة إلى البذل والنفاق ،كأبي بكر ،وعمر ،وعثمان ،وغيرهم ،دلي ً ثالثا-
في نفوس المؤمنين من مسارعة إلى فعل الخير ومقاومة لهواء النفس وغرائزها ،مما تحتاج إليه كل أمة ،وكل دعوة ،لضمان النصر
على أعدائ ها ،وتأم ين الموارد اللز مة ل ها ،وهذا ما ن جد أمت نا اليوم أ شد الحا جة إل يه ،فالعداء ك ثر ،والعباء ثقيلة ،والمعر كة رهي بة،
والعدو قوي ما كر ،فل ن ستطيع التغلب عل يه إل بمز يد من التضحيات في الموال والن فس والهواء والشهوات ،ول يح قق ذلك إل الد ين
الصحيح المفهوم على حقيقته الذي يربي النفوس على احتساب النفاق والتعب في سبيل المة جهادا يثيب ال عليه كما يثيب المجاهدين
في ميادين النضال.
وخ ير ما يفعله الم صلحون وزعماء النهضات ،هو غرس الد ين في نفوس الناس غر سا كريما ،و كل مقاو مة للد ين ،أو دعوة إلى التحرر
منه ،أو تظاهر بالستخفاف من شأنه ،جريمة وطنية تؤدي إلى أسوأ النتائج ،وأخطر الثار ،كذلك علمنا ال ،وكذلك أثبت لنا التاريخ في
الماضي ،وأثبتت التجربة في الحاضر ،وكل انكار لهذه الحقيقة مغالطة ل يلجأ اليها إل الذين لم تخلص للحق نفوسهم ،ولم تتفتح للخير
أفئدتهم ،ولم تتحل بالسمو والنبل طباعهم.
وفي قصة الذين جاؤوا الى رسول ال يطلبون أن يأخدهم معه إلى الجهاد ،فردهم لنه لم يجد ما يحملهم عليه .فولوا وأعينهم رابعا-
تفيض من الدمع حزنا على حرمانهم من شرف الجهاد مع رسول ال صلى ال عليه وسلم .في هذه القصة التي حكاها ال في كتابه أروع
المثلة على صنع اليمان للمعجزات ،فطبيعة النسان أن يفرح لنجاته من الخطار ،وابتعاده عن الحروب ،ولكن هؤلء المؤمنين الصادقين
بكوا من أجل ذلك ،إذ اعتبروا أنفسهم قد فاتهم حظ كبير من ثواب ال والتعرض للشهادة في سبيله ،فأي مبدأ يعمل في النفوس كما فعل
اليمان في نفوس هؤلء؟ وأي خسارة تلحق بالمة حين تخلو من أمثال هؤلء؟
وفي قصة الثلثة الذين تخلفوا عن الجهاد إيثارا للراحة على التعب ،والظل على الحر ،والقامة على السفر ،مع أنهم خامسا-
مؤمنون صادقون ،درس اجتماعي من أعظم الدروس ،فقد استيقظ اليمان في نفوسهم بعد قليل ،فعلموا أنهم ارتكبوا بتخلفهم عن رسول
ال والمؤمنون إثما كبيرا ،ومع هذا فلم يعفهم ذلك من العقوبة ،وكانت عقوبتهم قاسية رادعة ،فقد عزلوا عن المجتمع عزلً تاما ،ونهي
الناس – ح تى زوجات هم – عن كلم هم والتحدث إلي هم ،ول ما علم ال من هم صدق التو بة ،وبلغ من هم الندم واللم والح سرة مداه ،تاب ال
عليهم ،فلما بشروا بذلك كانت فرحتهم ل تقدر ،حتى انسلخ بعضهم عن ماله وثيابه شكرا ل على نعمة الرضى والغفران.
إن مثل هذه الدروس تمنع المؤمن الصادق في إيمانه عن أن يتخلف عن عمل يقتضيه الواجب أو يرضى لنفسه بالراحة والناس يتعبون،
والنع يم والناس يبتئ سون ،وتلك هي طبي عة اليمان :أن تش عر دائما وأبدا أ نك فرد من جما عة ،وجزء من كل ،وأن ما ي صيب الجما عة
يصيبك ،وما يفيدها يفيدك ،وأن النعيم ل معنى له مع شقاء المة وبؤسها ،والراحة ل لذة لها مع تعب الناس وعنائهم ،وأن التخلف عن
الواجب نقص في اليمان ،وخلل في الدين ،وإثم ل بد فيه من التوبة والنابة.
كما تعطينا القصة درسا بأن العقيدة فوق القرابة ،وأن تنفيذ النظام المشروع مقدم على طاعة الهوى والعاطفة ،وأن القرابة ل تغني شيئا
إزاء غضب ال ومقته ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾ [النور.]63 :
كانت حجة الوداع هي الحجة الوحيدة التي أداها رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد البعثة ،ولما تسامع الناس أن رسول ال صلى ال
www.ikhwan-info.net
عل يه و سلم سيحج في تلك ال سنة ،توافدوا إلى ال حج من مختلف أنحاء الجزيرة العرب ية ح تى بلغوا – ك ما قال ب عض المؤرخ ين – مائة
وأربعة عشر ألفا ،ونحسب أن هذا العدد تقديري ،وإل فكيف أمكن إحصاؤهم وتحديد عددهم بهذا القدر؟
و قد خ طب رسول ال صلى ال عل يه وسلم خطت به الشهيرة ال تي ي جب أن يحفظها كل طالب علم ،ل ما تضمنته من إعلن المبادئ العا مة
للسلم ،وهي آخر خطبه صلى ال عليه وسلم ،وقد جاء فيها:
"أيها الناس ،اسمعوا قولي ،ل أدري لعلي ل ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا" – وهذا من معجزات رسوله صلى ال عليه وسلم –
أيها الناس ،إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ،كحرمة يومكم هذا ،وحرمة شهركم هذا ،وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن
أعمالكم ،وقد بلغت ،فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ،وإن كل ربا موضوع ،ولكن لكم رؤوس أموالكم ل تظلمون ول
تظلمون ،قضى ال أنه ل ربا ،وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله ،وإن كل دم في الجاهلية موضوع ،وإن أول دمائكم أضع دم
ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب – وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل – فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أ ما ب عد أي ها الناس ،فان الشيطان قد يئس من أن يع بد بأرض كم هذه أبدا ،ولك نه إن ي طع في ما سوى ذلك ف قد ر ضي به م ما تحقرون من
أعمالكم ،فاحذروا على دينكم.
أي ها الناس إن الن سيء زيادة في الك فر ،ي ضل به الذ ين كفروا يحلو نه عاما ،ويحرمو نه عاما ،ليواطئوا عدة ما حرم ال ،فيحلوا ما حرم
ال ،ويحرموا ما أ حل ال ،وإن الزمان قد ا ستدار كهيأ ته يوم خلق ال ال سماوات والرض ،وإن عدة الشهور ع ند ال اث نا ع شر شهرا،
منها أربعة حرم :ثلثة متوالية ،ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
أ ما ب عد أي ها الناس فان ل كم على ن سائكم حقا ،ول هن علي كم حقا ،ل كم علي هن أن ل يوطئن فرش كم أحدا تكرهو نه ،وعلي هن أن ل يأت ين
بفاحشية مبينية ،فان فعلن فان ال قيد أذن لكيم أن تهجروهنّ فيي المضاجيع وتضربوهنّ ضربا غيير ميبرح ،فان انتهيين فلهين رزقهين
وكسوتهن بالمعروف ،واستوصوا بالنساء خيرا ،فانهن عندكم عوان ،ل يملكن لنفسهن شيئا ،وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة ال ،واستحللتم
فروجهن بكلمات ال.
فاعقلوا أيها الناس قولي ،فاني قد بلغت ،وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به ،فلن تضلوا أبدا ،أمرا بينا ،كتاب ال وسنة نبيه ،أيها الناس
اسمعوا قولي واعقلوه ،تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم ،وأن المسلمين إخوة ،فل يحل لمرئ من أخيه إل ما أعطاه عن طيب نفس منه،
فل تظلمن أنفسكم ،اللهم هل بلغت؟".
إن أول ما يل فت النظر في ح جة الوداع هذا الجمهور الضخم الذ ين حضروا مع الرسول صلى ال عل يه وسلم من مختلف أنحاء الجزيرة
العربية ،مؤمنين به ،مصدقين برسالته ،مطيعين لمره ،و قد كانوا جميعا قبل ثلثة وعشرين سنة فحسب على الوثنية والشرك ،ينكرون
مبادئ رسالته ،ويعجبون من دعوته الى التوحيد ،وينفرون من تنديده بآبائهم الوثنيين ،وتسفيهه لحلمهم ،بل كان كثير منهم قد ناصبوه
العداء ،وتربصوا به الشر ،وبيتوا على قتله ،وألبّوا عليه الجموع ،وجالدوه بالسيوف والرماح ،فكيف تم هذا النقلب العجيب في مثل هذه
المدة القصيرة ،وكيف استطاع صلى ال عليه وسلم أن يحول هذه الجموع من وثنيتها وجاهليتها وترديها وتفرقها الى توحيد ال وعلم
ذاته وصفاته ،واجتماع الكلمة ،ووحدة الهدف والغاية؟ وكيف كسب حب هذه القلوب بعد عداوتها ،وهي المعروفة بشدة الشكيمة وعنف
الخ صام؟ أل إن إن سانا مه ما بل غت عبقري ته ،ودهاؤه ،وقوة شخ صيته لي ستحيل أن ي صل إلى هذا في مئات ال سنين ،و ما سمعنا بهذا في
الولين والخرين ،إن هو إل صدق الرسالة ،وتأييد السماء ،ونصرة ال ،ومعجزة الدين الشامل الكامل الذي أتم ال به نعمته على عباده،
وخ تم به ر سالته للناس ،وأراد أن ين هي به شقاء أ مة كا نت تائ هة في دروب الحياة ،م ستذلة للهواء الع صبيات ،وأن يدل ها على طر يق
الهدا ية ،ويف تح أعين ها لش عة الش مس ،ويقلد ها قيادة ال مم ،ويحوّل ب ها مجرى التار يخ ،ويم حي ب ها مها نة الن سان ،ويورث ها الحك مة
والكتاب هدى وذكرى لولي اللباب.
مائة وأربعة عشر ألفا كانوا له مكذبين ،فأصبحوا له مصدقين ،وكانوا له محاربين ،فأصبحوا له مذعنين ،وكانوا له مبغضين ،فأصبحوا له
محبين ،وكانوا عليه متمردين ،فأصبحوا له طائعين ،كل ذلك في ثلث وعشرين من السنين ..ذلك هو صنع ال الحق المبين ،فتعالى ال
www.ikhwan-info.net
ع ما يشركون ،وتنز هت ذات ر سوله ع ما يقول الملحدون ،و سبحان ر بك رب العزة ع ما ي صفون ،و سلم على المر سلين ،والح مد ل رب
العالمين.
وثاني ما يلفت النظر في حجة الوداع هذا الخطاب القوي الحكيم الذي خاطب به رسول ال الناس أجمعين ،وتلك المبادئ التي أعلنها بعد
إتمام رسالته ونجاح قيادته ،مؤكدة للمبادئ التي أعلنها في أول دعوته ،يوم كان وحيدا مضطهدا ،ويوم كان قليلً مستضعفا ،مبادئ ثابتة
لم تتغير في القلة والكثرة ،والحرب والسلم ،والهزيمة والنصر ،وإعراض الدنيا وإقبالها ،وقوة العداء وضعفهم ،بينما عرفنا في زعماء
الدن يا تقلبا في العقيدة والمبدأ ،وتباينا في الض عف والقوة ،وتغيرا في الو سائل والهداف ،يظهرون خلف ما يبطنون ،وينادون بغ ير ما
يعتقدون ،ويلبسون في الضعف لبوس الرهبان ،وفي القوة جلود الذئاب ،وما ذلك إل لن هؤلء رسل المصلحة ،وأولئك رسل ال وشتان
بين من يحوم فوق الجيف ،وبين من يسبح في بحار النور ،شتان بين الذين يعملون لنفسهم ،وبين الذين يعملون لنسانيتهم ،شتان بين
أولياء الشيطان وأولياء الرح من ﴿ال ولي الذ ين آمنوا يخرج هم من الظلمات الى النور ،والذ ين كفروا أولياؤ هم الطاغوت يخرجون هم من
النور الى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ [البقرة.]257 :
إن آخر ما فعله رسول ال صلى ال عليه وسلم لنشر الدعوة وحمايتها ،ورد غارة المعتدين على الدولة الجديدة والمتربصين بها أن جهز
جيشا الى الشام تحت قيادة أسامة بن زيد وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ،وقد كان في هذا الجيش جميع
المهاجرين والنصار ،ومن كان حول المدينة من المسلمين ،لم يتخلف منهم أحد ،ولما كان الجيش في ظاهر المدينة يتأهب للمسير ابتدأ
مرض رسول ال صلى ال عليه وسلم الذي توفي فيه ،فتوقف الجيش عن السير انتظارا لشفاء الرسول ،ورغبة في تلقي تعاليمه وهديه،
ولكن رسول ال صلى ال عليه وسلم توفي بعد أيام ،واختاره ال إلى جواره بعد أن أدى المانة وبلغ الرسالة ،وهيأ جزيرة العرب كلها
لحمل لواء السلم ،ونشر حضار ته وتعاليمه في أنحاء الرض ،وبعد أن تكون الجيش الذي يقوم بحمل أعباء هذه الما نة العظيمة الثر
في التار يخ ،ب عد أن ته يأ جنوده ال صالحون لخوض معارك ها ،والقادة الكفاء لقيادة حروب ها ،والرجال العظماء ال صالحون لدارة دولت ها،
ف صلى ال و سلم على ر سوله ،وجزاه ال ع نا و عن الن سانية خ ير الجزاء ،فلوله ولول جنوده الوفياء الذ ين أدّوا الما نة من بعده لك نا
الن في ضلل مبين.
ل قد أكرم ال ر سوله ب ما لم يكرم نبيا من قبله ،إذ طالت حيا ته ح تى رأى ثمرة دعو ته وكفا حه تلف الجزيرة كل ها ،فتطهر ها من الوثان
تطهيرا أبديا ،وتجعل الذين حطموا هذه الصنام بأيديهم فرحين بنعمة ال في إنقاذهم من الضلل ،هم الذين عبدوها من قبل ،وعفّروا لها
وجوههيم بالسيجود لهيا ،وطلب الزلفيى عندهيا ،ثيم تجعيل هؤلء مسيتعدين تمام السيتعداد للنسيياح فيي الرض ،يحملون إلى الناس نور
ل مبعثرا الكفاءات والمواهب،
الهداية التي أنعم ال عليهم بها ،إنه جيل واحد هو الذي كان يعبد الصنام ويؤلّهها ،ويعيش في جاهليته هم ً
ثم هو الذي حطم الوثان ،وأقام الدولة العربية الولى في تاريخ العرب كله ،التي تحمل رسالة وتحدد هدفا ،وتقف من أقوى أمم الرض
حول ها مو قف المعلم المن قذ ،والرائد المع تز ب ما يح مل من هدى ونور وخ ير المش فق على ما كا نت تتردى ف يه ال مم من جهالة وظلم
وانحلل ،بينما كان العرب يبظرون اليها قبل السلم نظر الكبار والعظام ،ويقفون منها موقف التبعية السياسية والفكرية والجتماعية،
إنه حدث فريد في التاريخ قديمه وحديثه ،وليس بعث أسامة إل عنوان هذا الحدث ونتائج هذه الرسالة الميمونة المباركة.
ثيم يتجلى مين جعيل رسيول ال صيلى ال علييه وسيلم قيادة الجييش لسيامة بين زييد وهيو شاب فيي سين العشريين وتحيت لوائه شيوخ
المهاجر ين والن صار ،كأ بي ب كر ،وع مر ،وعثمان ،وعلي ،و هم من هم في سبقهم الى ال سلم ،وح سن بلئ هم ف يه ،وتقدم هم في ال سن
والمكانة على أسامة ،ان في هذا سنة حميدة من سنن السلم في الغاء الفوارق بين الناس من جاه وسنّ وفضل ،وتقديم الكفء الصالح
www.ikhwan-info.net
لها مهما يكن سنّه ومكانته ،ثم في رضى هؤلء العظماء الذين أثبت التاريخ من بعد أن التاريخ لم ينجب مثلهم في عظمتهم وكفاءاتهم،
على أن يكونوا تحت إمرة أسامة الشاب ،ما يدل على مدى التهذيب النفسي والخلقي الذين وصلوا اليه بفضل رسول ال صلى ال عليه
وسلم وهدايته وتربيته وإرشاده.
إن في تأم ير أ سامة على م ثل أ بي ب كر وع مر وعثمان وعلي ،سابقة عظي مة لم تعهد ها أ مة من ال مم ،تدل على وجوب ف سح المجال
لكفاءات الشباب وعبقرياتهم ،وتمكينهم من قيادة المور حين يكونون صالحين لذلك ،وهذا درس عظيم لو بقي المسلمون يذكرونه من بعد
لختفت من تاريخ السلم محن وكوارث ،ومن تاريخ دولته عواصف وفتن زعزعت أركانها وأضعفت من قوتها ،فنعم ما فعل رسول ال
صلى ال عليه وسلم المؤيد بوحي السماء ،الموهوب من الحكمة والسداد ،وبعد النظر ،وعظيم السياسة ،مالم يوهب نبي قبله ،ولم يعرف
عن عظ يم في التار يخ من قبله و من بعده ،ور ضي ال عن أ سامة الشاب ،وهنيئا له ث قة ر سول ال صلى ال عل يه و سلم بكفاءة قياد ته
وصدق عزيمته ،وحسن إسلمه ،رضي ال عنه وجعله قدوة لشبابنا المؤمنين العاملين.
تو في ر سول ال صلى ال عل يه و سلم ب عد أن كان قد علم من طر يق الو حي بقرب أجله ،فودع الناس في ح جة الوداع ،وكا نت قلوب
الصحابة واجفة هلعة خشية أن يكون أجل رسول ال صلى ال عليه وسلم قد اقترب ،ولكن أجل ال إذا جاء ل يؤخر ،فلما أشيع عن وفاة
الر سول صلى ال عل يه و سلم اضطرب ال صحابة جميعا لهول الكار ثة ،وزلزلت المدي نة زلزال ها ،وطا شت عقول كث ير من كبار ال صحابة
والسابقين الى السلم ،فمنهم من عقل لسانه ،ومنهم من أقعد عن الحركة ،ومنهم وهو عمر من شهر سيفه ينهى الناس أن يقولوا :إن
رسول ال صلى ال عليه وسلم مات ،ويزعم أنه غاب ،وسيرجع اليهم ،ولكن أبا بكر وحده هو الذي كان ثابت الجأش ،فدخل على رسول
ال صلى ال عليه وسلم وهو مسجى على فراشه ،فقبله وقال له :بأبي أنت وأمي يا رسول ال! ما أطيبك حيا وميتا! أما الموتة التي كتب
ال عليك فقد ذقتها ،ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا ،يا رسول ال اذكرنا عند ربك.
ثم خرج أبو بكر الى الناس ،فخطب فيهم وقال :أيها الناس! من كان يعبد محمدا ،فان محمدا قد مات ،ومن كان يعبد ال ،فان ال حيّ ل
يموت ،ثم تل قوله تعالى﴿ :وما محمد إل رسول قد خلت من قبله الرسل ،أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ،ومن ينقلب على عقبيه
فلن ي ضر ال شيئا ،و سيجزي ال الشاكر ين﴾ [آل عمران .]144 :فل ما تل ها أ بو ب كر أفاقوا من هول ال صدمة ،وكأن هم لم ي سمعوها من
قبل ،قال أبو هريرة :قال عمر :فوال ما هو ال أن سمعت أن أبا بكر تلها فعقرت – أي دهشت وتحيرت – حتى وقعت الى الرض وما
تحملني رجلي ،وعرفت أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد مات.
وهنا درسان بالغان:
أن الصحابة دهشوا لموت رسول ال صلى ال عليه وسلم ،حتى لكأن الموت ل يمكن أن يأتيه ،مع أن الموت نهاية كل حي، أولهما:
وما ذلك إل لحبهم لرسول ال صلى ال عليه وسلم حبا امتزج بدمائهم وأعصابهم ،والصدمة بف قد الحباب تكون على قدر الحب ،ونحن
نرى من يف قد ولدا أو أبا ك يف ي ظل أياما ل ي صدق أ نه فقده ،وأي حب في الدن يا يبلغ حب هؤلء ال صحابة البرار لر سول ال صلى ال
عل يه و سلم ،و قد هدا هم ال به ،وأنقذ هم من الظلمات إلى النور ،وغ ير حيات هم ،وف تح عقول هم وأب صارهم ،و سما ب هم إلى مرا تب القادة
العظماء ،ثم هو في حياته مربيهم وقاضيهم ومرشدهم يلجؤون اليه في النكبات ،ويسترشدونه في الحوادث ،ويأخذون منه خطاب ال لهم
وحديثه اليهم وتعليمه لهم ،فلما مات رسول ال صلى ال عليه وسلم انقطع ذلك كله ،فأي صدمة أبلغ من هذه الصدمة وأشدها أثرا.
أن موقف أبي بكر دل على أنه يتمتع برباطة جأش وقوة أعصاب عند النكبات ل يتمتع بها صحابي آخر .وهذا ما جعله أولى ثانيهما:
الناس بخلفة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وقد أثبت ذلك في حركة الردة في جزيرة العرب.
إلى هنا ينتهي ملخص ما ألقي من محاضرات في فقه السيرة على طلب السنة الثانية ،وقد بقي من برنامج هذه المحاضرات ملحظة:
www.ikhwan-info.net
أربعة فصول ،ولم يتسع الوقت لملء بقية الفصول المقررة في المنهاج ،كما ذكرناه في مقدمة مذكرة السنة الولى ،وذلك لضيق الوقت،
فنرجو أن يوفق ال لكتابة بقية هذا المنهاج .وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين.