You are on page 1of 72

‫رد علي روحي‬

‫خالد أبوشادي‬

‫تحرير قلب!!‬

‫قال قلبي وهو يرزح تحت الغلل ‪:‬‬


‫اتركيني يا نفس ‪..‬‬
‫أرهقتني ذنوبك‬
‫أفقدتني صوابي ‪..‬‬
‫أهلكتني عيوبك‬
‫زادت من عذابي‬
‫ضاقت عليّ الرض‬
‫واختَنَقْت ‪ ..‬اختنقت‬
‫من طول غيابي‬
‫يا نفس ‪..‬‬
‫كم طمحتُ إلى الخير‬
‫وهممت بإجابة داعي ال‬
‫ت أضع قدمي في قطار الصالحين‬ ‫وكد ُ‬
‫وأمضي معهم في طريق النور‬
‫فحرمتِني‬
‫وحُلتِ بيني وبين النجاة‬
‫أما آن لك أن ترحميني‬
‫وتدعيني أنجو‬
‫فكّيني من أسارك‬
‫أطلقيني من قيدك المرير‬
‫إن رضيتِ الهجر فأنا ل أطيق منه لحظة‬
‫إن أبيت إل الهلك فأنا ل أتحمل غمسة في جهنم‬
‫إن رغبتِ عن جنات عدن‬
‫فأنا المتيّم في هواها منذ زمن‬
‫ويحك!!‬
‫أنا منك وأنت مني لكن ‪..‬‬
‫ما ذنبي وقد سددت عليّ كل منافذ النجاة؟!‬
‫ماذا أفعل وقد قتلت فيّ أي بذرة خير؟!‬
‫ما حيلتي وأنت تريدين قتلي؟!‬
‫أما أنتم يا أعوان نفسي ‪:‬‬
‫أيتها الغفلة الجاثمة‬
‫أيتها الشهوة العارمة‬
‫أيتها القسوة الغالبة‬
‫أيها الضالعون عمدا في المؤامرة‬
‫يا كل من شارك في الجريمة‬
‫ارحلوا عني إلى البد‬
‫غادروني إلى غير رجعة‬
‫لم يعد لكم عندي موضع قدم‬
‫موتوا بغيظكم‬
‫فقد ردّ ال إليّ روحي‬
‫وعافاني في ديني‬
‫وأذِن لي بذكره‬

‫بطاقة دخول‬

‫موضع الصابة ‪ :‬القلب‬


‫تاريخ الصابة ‪ :‬غير معلومة‬
‫تاريخ آخر كشف ‪ :‬أول كشف في حياته‬
‫درجة الصابة ‪ :‬شديدة الخطورة‬
‫القسم ‪ :‬قسم الحالت الحرجة‬
‫أعراض الحالة ‪ :‬نبض اليمان ضعيف ل يكاد يُسمع ‪ ..‬فطرة أوشكت على النقراض ‪ ...‬فرح‬
‫بالمعصية ‪ ..‬نفور من الطاعة ‪ ..‬عين جفت من قلة بكائها من خشية ال ‪ ..‬قلب راحته في‬
‫معصية ربه ‪ ..‬روح وحشتها من الصالحين ‪ ..‬نفس أنسها بالعصاة والمذنبين ‪ ....‬جسد ما‬
‫عرف طريق المسجد منذ سنين ‪..‬‬
‫التوصية ‪ :‬يُرسل فورا إلى الرعاية المركزة اليمانية‪.‬‬

‫المقدمة‬

‫إن الحمد ل نحمده ونستعينه ونستغفره ‪ ،‬ونعوذ بال من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ‪،‬‬
‫من يهده ال فل مضل له ‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له ‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك‬
‫له ‪ ،‬وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ‪ " ،‬يا أيها الذين آمنوا اتقوا ال حق تقاته ول تموتن إل‬
‫وأنتم مسلمون" ‪ " ،‬يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها‬
‫وبث منهما رجال كثيرا ونساء واتقوا ال الذي تساءلون به والرحام إن ال كان عليكم رقيبا" ‪،‬‬
‫" يا أيها الذين آمنوا اتقوا ال وقولوا قول سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع‬
‫ال ورسوله فقد فاز فوزا عظيما " ‪ ،‬أما بعد ‪:‬‬

‫ظاهرة الجفاف الروحي ‪..‬‬

‫ظاهرة الكتفاء الذاتي ‪:‬‬

‫ظاهرة تراها من بعض المربين والدعاة وهي انصرافهم عن مجالس الوعظ والرقائق بحجة‬
‫الكتفاء الذاتي ‪ ،‬وأن تربية المواعظ والرقائق قد تجاوزوها من زمن ‪ ،‬فالمواعظ وترقيق‬
‫القلوب إنما هي للمبتدئين أو من هم على عتبة باب الدعوة!! أما هم فقد تخرّجوا من جامعة‬
‫اليمان وتسلموا شهادات التفوق منها ‪ ،‬ولم يعد لهم في هذا الميدان مطمع ‪ ،‬هذا لسان الحال‬
‫وإن لم يُفصح عنه المقال‪.‬‬

‫ادفع الثمن أول‬

‫كان عكرمة حريصا كل الحرص على أن ل يصل هذا العلم إلى من ل يستحق ‪ ،‬لذا قال رحمه‬
‫ال ‪:‬‬
‫" ل تعلّموا العلم إل لمن يعطي ثمنه " ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬وما ثمنه؟ قال ‪ " :‬يضعه العالم عند من يعمل‬
‫به " ‪.‬‬
‫وبيّن سفيان الثوري السبب في ما قال عكرمة ‪ ،‬فانطلق يشرح ‪:‬‬
‫" إذا رأيتم طالب العلم يطلب الزيادة من العلم دون العمل فل تعلّموه ‪ ،‬فإنّ من لم يعمل بعلمه‬
‫كشجرة الحنظل كلما ازداد ريا بالماء ازداد مرارة ‪ ،‬وإذا رأيتموه يُخلّط في مطعمه ومشربه‬
‫وملبسه ونحو ذلك ول يتورع ‪ ،‬فكُفّوا عن تعليمه تخفيفا للحجة عليه غدا " ‪ ،‬وصدق الشاعر‬
‫حين قال ‪:‬‬
‫لو كان العلم دون التقى شرف ‪ ...‬لكان أشرف خلق ال إبليس‬
‫لذا لما بعث قوم إلى سفيان الثوري يطلبون أن يُحدّثهم اشترط عليهم ‪ " :‬حتى تعملوا بما‬
‫تعلمون ‪ ،‬ثم تأتوني فأحدّثكم " ‪ ،‬ثم أردف في صراحة فاضحة ‪:‬‬
‫" يدنّسون ثيابهم ثم يقولون تعالوا اغسلوها!! " ‪.‬‬
‫ولذا خوّفك سري بن المغلّس السقطي فقال ‪:‬‬
‫" كلما ازددت علما كانت الحجة عليك أوكد " ‪.‬‬
‫وأهمية عودة الروح كانت واضحة وأخذت ما تستحق من سلفنا المبارك ‪ ،‬ومن هذا ما ذكره‬
‫المام الذهبي في ترجمة عبد الرحمن بن شريح رحمه ال ‪ :‬قال هانئ بن المتوكل ‪ :‬حدثني‬
‫محمد بن عبادة المعافري قال ‪ :‬كنا عند أبي شريح فكثرت المسائل فقال ‪ " :‬قد درنت قلوبكم ‪،‬‬
‫فقوموا إلى خالد بن حميد المهري استقلوا قلوبكم ‪ ،‬وتعلموا هذه الرغائب والرقائق ؛ فإنها‬
‫تُجدّد العبادة وتورث الزهادة ‪ ،‬وتجر الصداقة ‪ ،‬وأقلّوا المسائل فإنها في غير ما نزل تقسّي‬
‫القلب وتورث العداوة " ‪.‬‬
‫وحضارة اليوم وهي ترمي سهام خداعها صوب القلوب الغافلة لتصيب لٌبّها ؛ تحتاج إلى درع‬
‫حصين تتكسّر عليه ‪ ،‬فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ‪ ،‬وما هذا الدرع سوى تربية‬
‫إيمانية راسخة تورث النظر في العاقبة ‪ ،‬واليقين بالخرة ‪ ،‬والتنافس في الخيرات ‪ ،‬والزهد في‬
‫الفانيات ‪ ،‬ول يتم ذاك إل إذا رد ال إليك روحك‪.‬‬
‫وما أشبه هذه الحضارة ببساط يسحب الناس ببطء تجاه نهايتهم المحتومة ‪ ،‬وهم عنها غافلون‬
‫شدّهم بعيدا عن طريق النجاة‬ ‫وبغيرها مشتغلون ‪ ،‬والشيطان يرقص بينهم فرحا ‪ ،‬ويقهقه وهو ي ُ‬
‫‪ ،‬حتى إذا ما وقعت بهم الداهية أفاقوا لكن ‪ ..‬هناك ‪ ..‬على أعتاب الحساب وفي ظلمة القبر ؛‬
‫فيا إخوان ‪ ..‬أترضون أن يكون هذا حالكم ‪ :‬تغفلون تغفلون ‪ ،‬ثم تموتون فتندمون!!‬

‫ذلك مبلغهم من العلم‬

‫اشتاط وهب بن منبه غضبا فصاح معلنا ‪:‬‬


‫" واعجبا من الناس يبكون على من مات جسده ول يبكون على من مات قلبه وهو أشد " ‪.‬‬
‫وصدق رحمه ال ؛ فأكثر الخلق يخافون موت أبدانهم ويركضون سراعا لشفائها إن مرضت ‪،‬‬
‫ول يبالون بموت قلوبهم ول يُحرّكون ساكنا إن هي صرخت من الشكوى واللم ‪ ،‬فليست الحياة‬
‫عندهم إل حياة الجسد ‪ ،‬والحياة في هذه الحالة ليس لها سوى معنى واحد ‪ :‬الموت ‪ ،‬فليس‬
‫الميت من خرجت روحه من جنبيه ‪ ،‬وإنما الميت من ل يفقه ماذا لربه من الحقوق عليه!!‬
‫ولذا لما قال رجل لسهل بن عبد ال ‪ :‬دخل اللص بيتي وأخذ متاعي قال له ‪ :‬اشكر ال تعالى!!‬
‫لو دخل الشيطان قلبك فأفسد إيمانك ‪ ،‬ماذا كنت تصنع؟!‬

‫أخي ‪ ..‬أتبكي في بيت ال ندما على ما سرقت ‪ ،‬فإذا عدت إلى بيتك أكلت المسروق!! يا غافل‬
‫‪ ..‬أنفقت ما سرقت وبقي قطع اليد!! أتحفر قبرك بظفرك؟! أتقطع أنفك بسيفك؟! أتقتل نفسك‬
‫بنفسك؟!‬

‫أخي ‪ ..‬قلبك قلبك ‪ ..‬أنقذه منك قبل أن تهلكه ‪ ،‬قلبك ‪ ..‬سفينة نجاتك الوحيدة إلى الجنة وليس‬
‫لك غيرها ‪ ،‬فإياك والغرق ‪ ،‬والغرق اليوم معناه فقدان التألم باقتراف المعصية ‪ ،‬واللمبالة‬
‫بمواطن الزلل ‪ ،‬ومجاراة أهل السوء دون أدنى ندم ‪ ،‬وعدم إنكار المنكر ولو بالقلب ‪ ،‬فإن‬
‫وجدت نفسك تنجرف منك في هذا السيل ؛ فأعلن حالة الطوارئ ‪ ،‬واجذبها نحو النجاة بقوةٍ‬
‫تفوق قوة الغريق الذي يتشبث بأي شيء لدراك النجاة ‪ ،‬وأسرع قبل أن تلفظ أنفاسك الخيرة ‪،‬‬
‫وإل فإنها المحرقة!!‬
‫ويحك ‪ ..‬كيف تنفصل عنه ‪ ،‬وما خلقك إل لتتصل به!!‬
‫هذا الكتاب باب من أبواب الخير ‪ " ،‬وال سبحانه يعاقب من فتح له بابا من الخير فلم ينتهزه ‪،‬‬
‫بأن يحول بين قلبه وإرادته ‪ ،‬فل يُمكّنه بع ُد من إرادته عقوبة له ‪ ،‬فمن لم يستجب ل ورسوله‬
‫إذا دعاه ‪ ،‬حال بينه وبين قلبه وإرادته ‪ ،‬فل يمكنه الستجابة بعد ذلك‪ .‬قال تعالى ‪ ﴿ :‬يا أيّهَا‬
‫الّذ ْينَ آمَنوا اسْتَجيْبوا لِ َولِلرّسوْلِ إِذا ُدعَ ْاكُمْ ِلمَاْ ُيحْي ْيكُمْ وَاعْلَموا َأنّ الَ يَحوْلُ بَ ْينَ ال َم ْرءَ َوقَلْ ِبهِ‬
‫﴾ [ النفال ‪ ، ] 24 :‬وقد صرح سبحانه بهذا في قوله ‪َ ﴿ :‬ونُقَلّبُ َأفْ ِئدَتَهُمْ َوأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا لَمْ‬
‫يُ ْؤمِنُوا ِبهِ أَوّلَ َم ّرةٍ ﴾ [ النعام ‪ ، ] 110 :‬وقال تعالى ‪ ﴿ :‬فَ َلمّا زَاغُوا َأزَاغَ الّلهُ قُلُوبَهُم‬
‫﴾ [ الصف ‪ ، ] 5 :‬وقال ‪َ ﴿ :‬ومَا كَانَ الّلهُ ِل ُيضِلّ قَ ْومًا َب ْعدَ ِإذْ َهدَاهُمْ حَتّى يُبَ ّينَ لَهُمْ مَا يَتّقُونَ ﴾‬
‫[ التوبة ‪ ، ] 115 :‬وهو كثير في القرآن " ‪.‬‬

‫أخي ‪ ..‬هذا الكتاب بضاعة وشراؤها بالعمل ‪ ،‬فاقرأه موقنا أن قراءتك هي سبيل الرقي في‬
‫الدنيا قبل الخرة « اقرأ وارقَ » ‪ ،‬واستعد بعد قراءته للتسابق وتهيّأ للنطلق ‪ ،‬وطلّق زمن‬
‫اللهو وانس أيام الغفلة ‪ ،‬واحطم اللت والعزى لديك ‪ ،‬وتزوّد بالوقود لتبدأ الرحلة ‪ ،‬واتخذه‬
‫زادا لتشغيل آلة القلب لتستأنف المسير وتتحمل المشاق وتستعذب اللم لتستوجب الثمن ‪،‬‬
‫واقبله مني هدية متواضعة ولمسة رقيقة ليكون جليس روحك وهي تولد من جديد من رحم‬
‫الغفلة وتتحرر من أسر البدن‪.‬‬
‫هذا الكتاب رحلة سفر أخروية ‪ ،‬ومن المعلوم أنه " لما سافر موسى إلى الخضر وجد في طريقة‬
‫مس الجوع والنصب فقال لفتاه ‪ :‬آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ‪ ،‬فإنه سفر إلى‬
‫مخلوق ‪ ،‬ولما واعده ربه ثلثين ليلة وأتمها بعشر فلم يأكل فيها ؛ لم يجد مس الجوع ول‬
‫النصب ‪ ،‬فإنه سفر إلى ربه تعالى ‪ ،‬وهكذا سفر القلب وسيره إلى ربه ل يجد فيه من الشقاء‬
‫والنصب ما يجده في سفره إلى بعض المخلوقين " ‪.‬‬

‫هذا الكتاب نهر صاف يسقي القلوب العطشى ويغسل الرواح التي دنستها الذنوب على مدى‬
‫سنين ‪ ،‬وليس هدف الكتاب صبّ اليمان في قلبك كل ‪ ،‬بل لثارة بواعثه الكامنة في عروقك ‪،‬‬
‫ولست أزعم أنني هنا الن لجعلك خيرا مما أنت عليه بل لُعلِمك أنك خيرٌ بكثير مما تظن ‪،‬‬
‫وأصيح فيك بأن رصيد الفطرة الراقد فيك ينتظر شرارة تقدح الحماسة وتطرد الغفلة والكسل ‪،‬‬
‫وأسأل ال أن يجعل هذه الشرارة بين ثنايا هذه الصفحات وفي بطن هذا الكتاب‪.‬‬

‫أخي!! أجِب دعوة محمد إقبال يهيب بك ويصرخ ‪:‬‬


‫شُقّ قلب الطود عن جوهرهِ ‪ ...‬شُقّ موج البحر عن ُدرّ بهِ‬
‫وقد عطّرت هذا الكتاب بعبير القصص لمتّع به القارئ وأرسّخ به المعنى مستحضرا إجابة طلب‬
‫وتحقيق أمنية أحمد بن حنبل حين قال ‪ " :‬ما أحوج الناس إلى قاص صدوق " ‪.‬‬

‫ول تتم الفائدة من هذا الكتاب إل إذا انتقلت روحك من شعور إلى شعور ومن حال إلى حال ‪،‬‬
‫فإذا سافرت في ثنايا هذا الكتاب وهمّ الدنيا يمل قلبك ‪ ،‬وأشغالها تشغلك ‪ ،‬وهمومها تُهِمك ‪،‬‬
‫فكأنك قرأت وما قرأت ‪ ،‬وحفظت وما فهمت‪.‬‬

‫ي روحي (الباب الول ‪ :‬القلب الجريح)‬


‫ورد إل ّ‬
‫الباب الول ‪ :‬القلب الجريح‬

‫ما هو القلب؟!‬

‫أبدأ هذا الباب بسؤال ‪:‬‬


‫قد يقوم إنسان بعملية زراعة قلب ‪ ،‬ويحيا بقية حياته بقلب رجل آخر ‪ ،‬فهل تتغيّر مشاعره‬
‫وتتبدل أفكاره وعواطفه تبعا لهذا القلب الذي ُزرِع فيه؟!‬
‫كل ‪ ،‬فالمشاهد أنه ل يتغيّر دينه ول محبته لهله وقرابته ‪ ،‬وهذا دليل دامغ على أن كل ما‬
‫يظنه الناس من وظائف القلب ودوره في الحب والعاطفة ‪ ،‬واعتباره مركز الفكر وموطن العقائد‬
‫والسلوك مسألة فيها نظر ‪ ،‬فهل يتعارض هذا مع ما ورد في القرآن والسنّة من ذكر القلب‬
‫مرتبطا بهذه المعاني؟!‬
‫لقد استطاع المام أبو حامد الغزالي [ ت ‪ ] 505 :‬أن يحل هذه الشكالية ويميّز بوضوح بين‬
‫المعنيين اللذين يختلطان في أذهان كثير من الناس ‪ ،‬فقال رحمه ال في كتاب عجائب القلب من‬
‫موسوعته القلبية " إحياء علوم الدين " كلما كالبشرى بالولد الكريم يُقرع به سمع الشيخ العقيم‬
‫وجاء فيه ‪:‬‬
‫" لفظ القلب وهو يطلق لمعنيين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬اللحم الصنوبري الشكل ‪ ،‬المودع في الجانب اليسر من الصدر ‪ ،‬وهو لحم مخصوص‬
‫‪ ،‬وفي باطنه تجويف ‪ ،‬وفي ذلك التجويف دم أسود هو منبع الروح ومعدنه ‪ ،‬ولسنا نقصد الن‬
‫شرح شكله وكيفيته ؛ إذ يتعلق به غرض الطباء ‪ ،‬ول يتعلق به الغراض الدينية ‪ ،‬وهذا القلب‬
‫موجود للبهائم ؛ بل هو موجود للميت ‪ ،‬ونحن إذا أطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب لم نعن به‬
‫ذلك ‪ ،‬فإنه قطعة لحم ل قدر له ‪ ،‬وهو من عالم الملك والشهادة ‪ ،‬إذ تدركه البهائم بحاسة‬
‫البصر فضل عن الدميين‪.‬‬
‫والمعنى الثاني هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق ‪ ،‬وتلك اللطيفة هي‬
‫حقيقة النسان ‪ ،‬وهو المدرك العالم العارف من النسان ‪ ،‬وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب‬
‫والمطالب ‪ ،‬ولها علقة مع القلب الجسماني " ‪.‬‬
‫والمقصود أنا إذا أطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب أردنا به المعنى الثاني ‪ ،‬وهدفنا هو ذكر‬
‫أوصاف الروح وأحوالها التي تعتبر سرا مغلقا ‪ ،‬والتعرض لصناف النفوس وتقلباتها رغم أنها‬
‫أمر مبهم ‪ ،‬ورغم أن آيات وأحاديث القلب قد يشتبه في بعضها المر ويتبادر إلى الذهن أنها‬
‫مرتبطة بالقلب العضلي ‪ ،‬إل أن المقصود منها على الحقيقة ‪ :‬القلب المعنوي كما قال المام‬
‫الغزالي ‪:‬‬
‫" وحيث ورد في القرآن والسنّة لفظ القلب ‪ ،‬فالمراد به المعنى الذي يفقه من النسان ‪ ،‬ويعرف‬
‫حقيقة الشياء ‪ ،‬وقد يُكنى عنه بالقلب الذي في الصدر ؛ لن بين تلك اللطيفة وبين جسم القلب‬
‫علقة خاصة " ‪.‬‬

‫لكن‬
‫لماذا الحديث عن القلب بالذات دون سائر العضاء؟!‬
‫لقد أحصيت في هذا الباب عشرين سببا لهذا ‪ ،‬وتبدأ بما يلي ‪:‬‬
‫‪ .1‬إنه الملك ‪:‬‬
‫القلب أمير الجسد وملك العضاء ‪ ،‬فهو راعيها الوحيد وقائدها ‪ ،‬وإنما الجوارح والحواس تبع‬
‫له وآلت تصدع بما تؤمر ‪ ،‬فل تصدر أفعالها إل عن أمره ‪ ،‬ول يستعملها في غير ما يريد ‪،‬‬
‫فهي تحت سيطرته وقهره ‪ ،‬ومنه تكتسب الستقامة أو الزيغ ‪ ،‬وبين القلب والعضاء صلة‬
‫عجيبة وتوافق غريب بحيث تسري مخالفة كل منهما فورا إلى الخر ‪ ،‬فإذا زاغ البصر فلنه‬
‫مأمور ‪ ،‬وإذا كذب اللسان فما هو غير عبد مقهور ‪ ،‬وإذا سعت القدم إلى الحرام فسعي القلب‬
‫أسبق ‪ ،‬لهذا قال صلى ال عليه وسلم عن المصلي العابث في صلته ‪ « :‬لو خشع قلب هذا‬
‫لخشعت جوارحه » ‪ ،‬وقال لمن يؤم من المصلين ‪ « :‬استووا ول تختلفوا فتختلف قلوبكم » ‪،‬‬
‫فأعمال الجوارح ثمرة لعمال القلب ‪ ،‬والخلصة ‪ :‬القلب هو خط الدفاع الول والخير ‪ ،‬فإذا‬
‫ضعف القلب أو فسد أو استسلم انهارت الجوارح!!‬
‫وفي المقابل إذا ذكر العبد ربه فلن القلب ذَكَر ‪ ،‬وإذا أطلق يده بالصدقة فلن القلب أذِن ‪ ،‬وإذا‬
‫بكت العين فلن القلب أمر ‪ ،‬فالقلب مملي الكلم على اللسان إذا نطق ‪ ،‬وعلى اليد إذا كتبت ‪،‬‬
‫وعلى القدام إذا مشت ‪ ،‬وقد عرف النبي صلى ال عليه وسلم للقلب حقه ومكانته حتى وصفه‬
‫بأنه ‪ « :‬مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله » ‪ ،‬وتوجه أول ما توجّه إليه ليربّيه ويهتم به‬
‫ويزكّيه‪.‬‬
‫فكل الفعال مردها إلى القلب وانبعاثها من القلب ‪ ،‬وكل الفعال تعني كل الفعال ولو كانت لبس‬
‫ثيابك وزينة بدنك!! وهذا ما أدركه مستودع القرآن الصحابي الجليل عبدال بن مسعود رضي‬
‫ال عنه فقال ‪ " :‬ل يشبه الزي الزي حتى تشبه القلوب القلوب " ‪.‬‬

‫هدف الحبيب الول‬


‫قالت أم المؤمنين عائشة رضي ال عنها ‪:‬‬
‫« إنما نزل أول ما نزل منه (القرآن) سورة من الُمفصّل فيها ذكر الجنة والنار ‪ ،‬حتى إذا ثاب‬
‫الناس إلى السلم نزل الحلل والحرام ‪ ،‬ولو نزل أول شيء ‪ :‬ل تشربوا الخمر لقالوا ل ندع‬
‫الخمر أبدا ‪ ،‬ولو نزل ‪ :‬ل تزنوا لقالوا ل ندع الزنا أبدا » ‪.‬‬
‫فقد حرّم ال الخمر في العام الثاني من الهجرة أي بعد البعثة بخمسة عشر سنة ‪ ،‬وفرض‬
‫الزكاة في العام الثاني من الهجرة كذلك ‪ ،‬وفرض الحجاب في العام السادس من الهجرة بعد‬
‫تسع عشرة سنة من بعثة النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وهي كلها تكليفات تأخّر نزولها حتى‬
‫زكى القلب ولن وتمكّن منه الحق واستبان‪.‬‬
‫ولشرف القلب جعله ال أداة التعرف عليه ووسيلة الهتداء إليه ‪ ،‬بل إذا غضب ال على عبد‬
‫كان أقصى عقوبة يُنزلها به أن يحول بينه وبين قلبه ‪ ،‬وحيلولته هي أن يحرمه من معرفته‬
‫وقربه ‪ ،‬لذا كان الهتمام به تعبير عن الهتمام بالهم عن المهم وبالصل عن الفرع‪.‬‬

‫‪ .2‬الهدف المشترك ‪:‬‬


‫وقد أدرك الشيطان دور القلب ومكانه فلم يضيّع وقته في معارك جانبية أو مناوشات هامشية ‪،‬‬
‫بل صوّب جهده نحو هدف واحد وغاية ثابتة‪ .‬قال ابن القيّم ‪:‬‬
‫" ولما علم عدو ال إبليس أن المدار على القلب والعتماد عليه ؛ أجلب عليه بالوساوس ‪،‬‬
‫وأقبل بوجوه الشهوات إليه ‪ ،‬وزيّن له من القوال والعمال ما يصده عن الطريق ‪ ،‬وأمدّه من‬
‫أسباب الغي بما يقطعه عن أسباب التوفيق ‪ ،‬ونصب له من المصايد والحبائل ما إن سلم من‬
‫الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق " ‪.‬‬
‫فالقلب هو الهدف المشترك بين الملك والشيطان ‪ ،‬كلهما يستهدفه ‪ ،‬فهو موضع الصراع ‪،‬‬
‫والنقطة الملتهبة ‪ ،‬وساحة القتال ‪ ،‬وأرض المعركة ‪ ،‬ونتيجة هذه المعركة ‪ :‬إما هداية القلب‬
‫وحياته ‪ ،‬وإما قساوته وموته وهلكه ‪ ،‬فواعجبا ممن أخذ نصيحة العدو ‪ ،‬وردّ وصية الحبيب ‪،‬‬
‫واشترى صداقة الشيطان بعداوة الملئكة ‪ ،‬وأعلن الحرب على ما تبقى من إيمانه بالتعاون مع‬
‫عدوه اللدود ‪ ،‬وهي صيحة التعجب التي سبق وأن أطلقها ابن الجوزي حين قال ‪:‬‬
‫" كيف طابت نفسك أن تكون ظهيرا لفئة النفس على فئة القلب ‪ ،‬وفئة القلب مؤمنة وفئة النفس‬
‫كافرة؟! " ‪.‬‬

‫عن الجوارح مختلف‬


‫وقد يقول قائل ‪ :‬لكن العضاء والجوارح كذلك مستهدفة من قبل الملئكة والشياطين ‪ ،‬فما‬
‫الفارق بينها وبين القلب؟! وأقول على لسان أبي حامد الغزالي الذي بيّن الفارق الجلي في قوله‬
‫‪:‬‬
‫" العوارض له أكثر ‪ ،‬فإن الخواطر له كالسهام ‪ ،‬ل تزال تقع فيه ‪ ،‬وكالمطر ؛ ل تزال تُمطر‬
‫عليه ليل ونهارا ل تنقطع ‪ ،‬ول أنت تقدر على منعها فتمنع ‪ ،‬وليس بمنزلة العين التي بين‬
‫الجفنين ‪ ،‬تغمض وتستريح ‪ ،‬أو تكون في موضع خال ‪ ،‬أو ليل مظلم فتُكفى رؤيتها ‪ ،‬أو اللسان‬
‫الذي هو وراء الحجابين ‪ :‬السنان والشفتين ‪ ،‬وأنت قادر على منعه وتسكينه ‪ ،‬بل القلب‬
‫غرض للخواطر ‪ ،‬ل تقدر على منعها والتحفظ عليها بحال ‪ ،‬ول هي تنقطع عنك بوقت " ‪.‬‬

‫‪ .3‬طهارته شرط الدخول ‪:‬‬

‫والسبب الثالث في أهمية القلب أن طهارته شرط دخول الجنة ‪ ،‬لذا ذم ال خبثاء القلوب فقال‬
‫خ َرةِ عَذابٌ عَظيْمٌ‬ ‫خزْيٌ وَلَهُمْ في ال ِ‬ ‫ط ّهرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ في الدّنيا ِ‬
‫‪ ﴿ :‬أُولِئك اّلذِينَ لَمْ ُي ِردِ الُ أنْ يُ َ‬
‫﴾ [ المائدة ‪ ، ] 41 :‬والية دليل دامغ على أن من لم يطهّر قلبه فل بد أن يناله الخزي في‬
‫الدنيا والعذاب في الخرة ‪ ،‬ولهذا حرّم ال سبحانه الجنة على من كان في قلبه مثقال ذرة من‬
‫خبث ‪ ،‬قال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر » ‪.‬‬
‫ول يدخلها أحد إل بعد كمال طيبه وطهره ‪ ،‬لنها دار الطيبين ‪ ،‬ولذا يُقال لهم وهم على مشارف‬
‫الجنة ‪ ﴿ :‬طِبْ ُتمْ فَادْخُلُوهَا خَا ِلدِينَ ﴾ [ الزمر ‪.] 73 :‬‬
‫ويُبشّرون عند موتهم دون غيرهم على لسان الملئكة ‪ ﴿ :‬اّلذِينَ تَتَ َوفّا ُهمُ المَلئِ َكةُ طَيّبِينَ‬
‫يَقُولُونَ سَلمٌ عَلَ ْيكُ ُم ادْخُلُوا الج ّنةَ ِبمَا كُنْتمْ تَ ْع َملُونَ ﴾ [ النحل ‪.] 32 :‬‬
‫قال ابن القيّم ‪ " :‬فالجنة ل يدخلها خبيث ‪ ،‬ول مَن فيه شيء من الخبث ‪ ،‬فمن تطهّر في الدنيا‬
‫ولقي ال طاهرا من نجاساته دخلها بغير معوّق ‪ ،‬ومن لم يتطهر في الدنيا ؛ فإن كانت نجاسته‬
‫عينية كالكافر لم يدخلها بحال ‪ ،‬وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر فى النار‬
‫من تلك النجاسة ‪ ،‬ثم يخرج منها حتى إن أهل اليمان إذا جازوا الصراط حُبسوا على قنطرة‬
‫بين الجنة والنار ‪ ،‬في َهذّبون وينقّون من بقايا بقيت عليهم قصرت بهم عن الجنة ‪ ،‬ولم توجب‬
‫لهم دخول النار ‪ ،‬حتى إذا ُهذّبوا ونقوا ُأذِن لهم في دخول الجنة " ‪.‬‬
‫ط ّهرْ ﴾ [ المدثر ‪.] 4 :‬‬ ‫من أجل ذلك جاء المر جازما للنبي صلى ال عليه وسلم ‪ ﴿ :‬وَثِيَا َبكَ فَ َ‬
‫قال ابن القيّم ‪ " :‬وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب ها هنا‬
‫القلب ‪ ،‬والمراد بالطهارة إصلح العمال والخلق " ‪.‬‬

‫النجاسة الكبرى‬
‫جسٌ ﴾ [ التوبة ‪] 9 :‬‬ ‫شرِكُونَ نَ َ‬
‫قال ال تعالى ‪ ﴿ :‬إِ ّنمَا ا ْل ُم ْ‬
‫فعبّر سبحانه وتعالى عن نجاستهم بالمصدر للمبالغة ؛ وكأنهم عين النجاسة لن خبائث الباطن‬
‫أولى بالجتناب وهل أخبث من الشرك؟! فإن خبائث القلب مع خبثها في الحال مهلكات في المآل‬
‫‪ ،‬ومعنى آخر ‪ :‬هو أن الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظاهر ‪ ،‬فالمشرك قد يكون نظيف‬
‫الثوب مغسول البدن ولكنه نجس القلب ‪ ،‬وهذا الذي ذهب إليه أهل المذاهب الربعة إلى أن‬
‫الكافر ليس بنجس الذات لن ال سبحانه أحلّ طعامهم ‪ ،‬وثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫في ذلك من فعله وقوله ‪ ،‬فأكل في آنيتهم ‪ ،‬وشرب منها ‪ ،‬وتوضأ فيها ‪ ،‬وأنزلهم في مسجده‪.‬‬
‫وإضافة إلى هذا ؛ فالنجاسات المعنوية ليست على درجة واحدة بل تتفاوت ‪ ،‬وليس محلها قلوب‬
‫الكفار فحسب ‪ ،‬بل قد توجد في قلوب المسلمين ‪ ،‬فالغضب والكبر والحسد وغيرها من أمراض‬
‫القلوب نجاسة ‪ ،‬وإذا كان صلى ال عليه وسلم قد قال ‪ « :‬ل تدخل الملئكة بيتا فيه كلب ول‬
‫صورة » ‪ ،‬فإن أبا حامد الغزالي [ ت ‪ ] 505 :‬قد تأمل في هذا الحديث تأمل قد يكون بعيدا عن‬
‫الظاهر لكنه ذو دللة فقال ‪:‬‬
‫" والقلب بيت هو منزل الملئكة ‪ ،‬ومهبط أثرهم ‪ ،‬ومحل استقرارهم ‪ ،‬والصفات الرديئة مثل‬
‫الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلب نابحة ‪ ،‬فأنى تدخله الملئكة‬
‫وهو مشحون بالكلب ‪ ،‬ونور العلم ل يقذفه ال تعالى في القلب إل بواسطة الملئكة ‪ ،‬وما كان‬
‫لبشر أن يكلمه ال إل وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسول فيوحي بإذنه ما يشاء ‪ ،‬وهكذا‬
‫ما يرسل من رحمة العلوم إلى القلوب إنما تتولها الملئكة الموكلون بها ‪ ،‬وهم المقدسون‬
‫المطهرون المبرءون عن الصفات المذمومات ‪ ،‬فل يلحظون إل طيبا ‪ ،‬ول يعمرون بما عندهم‬
‫من خزائن رحمة ال إل طيبا طاهرا " ‪.‬‬

‫‪ .4‬موضع نظر ال ‪:‬‬

‫من القلوب قلب كقبور الموتى ظاهرها الزرع والورد وباطنها الجيف والموت ‪ ،‬أو كبيت مظلم‬
‫على سطحه سراج وباطنه ظلم ‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم يقول في هذا ‪ « :‬إن ال ل ينظر‬
‫إلى صوركم وأموالكم ‪ ،‬ولكن إنما ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم » ‪.‬‬
‫إنها حياة القلب وإن كانت البطون خاوية والثياب بالية ‪ ،‬وقد أبان الحديث أن القلب هو موضع‬
‫نظر الرب ‪ ،‬فل عبرة إذن بحسن الظاهر مع خبث الباطن ‪ ،‬فاعجب ممن يعتني بمظهره‬
‫وهندامه الذي هو محل نظر الخلق ؛ فيغسل ثوبه ويعطّره ‪ ،‬وينظّف بدنه ويطهّره ‪ ،‬ويتزيّن بما‬
‫أمكن ‪ ،‬لئل يطّلع مخلوق على عيب فيه ‪ ،‬ول يهتم بقلبه الذي هو محل نظر الخالق ؛ فيطهّره‬
‫ويزيّنه لئل يطلع ربه منه على دنس أو خبث أو أحد غيره‪.‬‬
‫ومعنى آخر من الحديث قاله ابن الجزري ‪:‬‬
‫ختِيار والرحمة والعَطْف لنّ النظر في الشاهد دليلُ المحبّة ‪ ،‬و َترْك النظر دليل‬
‫" النّظَر ها هنا ال ْ‬
‫البُغْض والكراهة " ‪.‬‬

‫وتأمّل ما يلي لتعلم أهمية القلب ‪:‬‬


‫إن العمل قد يكون ظاهره العصيان وصاحبه مُثاب ‪ ،‬كأن ينطق الرجل بكلمة الكفر مُكرَها وقلبه‬
‫مطمئن باليمان ‪ ،‬أو يشرب مُسكِرا بغير رضاه ‪ ،‬وفي المقابل قد يكون ظاهر العمل الحسان‬
‫وصاحبه في النار ‪ ،‬كأن يُقتل المرء في ساحة قتال ليتغنى الناس بشجاعته ‪ ،‬ويُنفق ماله في‬
‫طرق الخير ليُثني الناس على كرمه ‪ ،‬ويقرأ القرآن ليلفت إليه أعناق الغير ‪ ،‬والقلب في كل هذه‬
‫الحوال واقف وحده في قفص التهام أو مُسجّل بأزهى الحروف في لوحة الشرف‪.‬‬

‫مذنب وبرئ!!‬
‫عمِلَت الخطيئة في الرض كان من شهِدها ؛‬ ‫وتأمل قول النبي صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إذا ُ‬
‫فكرِهها كمن غاب عنها ‪ ،‬ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها » ‪.‬‬
‫سبحان ال! غائبٌ عن ساحة الجريمة لكنه أول المتهمين واسمه في سجل المذنبين ‪ ،‬وآخر‬
‫حضر الجريمة بنفسه ورآها بعينه ومع ذلك يأتي الحكم له بالبراءة!! والسبب في ذلك كله القلب‬
‫الذي أنكر فسلِم أو رضي فأثم‪.‬‬
‫وفي الحديث بشارة ونذارة ؛ بشارة لمن اضطر إلى حضور مجلس يُعصى ال فيه ولم يستطع‬
‫أن ينكره بيده أو بلسانه بل ولم يقدر حتى على مغادرة المكان ؛ فيقوم القلب بالواجب وينبري‬
‫للنكار ‪ ،‬ونذارة لرجل أراد ال له الخير فأبى لنفسه إل الشر ‪ ،‬وعصمه من المنكرات فأبى إل‬
‫التلطخ بها ‪ ،‬وصرف جسده عن مكان الثم فسافر إليه بقلبه وروحه فعوقب بمساواته مع‬
‫مرتكب الجرم‪.‬‬
‫إنه القلب حين يزني!! نعم يزني ‪ ،‬ومع شدة وقع هذه الكلمة على النفس إل أن الذي أطلقها هو‬
‫من وصفه ربه أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ‪ ،‬ومن رحمته ورأفته بأمّته تحذيره الصريح لها‬
‫بقوله ‪ « :‬وزنا القلب ‪ :‬التمني » ‪ .‬قال الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا ‪ " :‬زنا القلب التمني ‪ :‬أي‬
‫يهوى وقوع ما تحبه النفس من الشهوة " ‪.‬‬
‫إن للقلب كسبا كسب الجوارح وعمل كعملها ‪ ،‬وال سبحانه أعلن أنه يؤاخذ على كسب القلب‬
‫سبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [ البقرة ‪.] 225 :‬‬ ‫خذُكُمْ ِبمَا َك َ‬
‫ثوابا وعقابا ‪ ،‬فقال سبحانه ‪َ ﴿ :‬ولَ ِكنْ ُيؤَا ِ‬
‫ويشهد لعمل القلب هذا وأن ال يحاسب العبد عليه حديث ‪:‬‬
‫« إذا التقى المسلمان بسيفيهما ‪ ،‬فقتل أحدهما صاحبه ‪ ،‬فالقاتل والمقتول في النار »‪ .‬قيل ‪ :‬يا‬
‫رسول ال!! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال ‪ « :‬إنه كان حريصا على قتل صاحبه » ‪.‬‬
‫فدخل هذا المسلم النار بشيء وقر في قلبه وهلك بسبب عمل قلبي ؛ ليس غير‪.‬‬
‫الظاهر والباطن!!‬
‫نعم ‪ ..‬صورة القلب هي الصل ‪ ،‬فإن وافق الظاهر الباطن كان ما في القلب حقيقيا ‪ ،‬وإن خالف‬
‫الظاهر الباطن كان ما في القلب مزيفا ‪ ،‬وعلى القلب أيضا يتوقف صحة الظاهر أي قبوله عند‬
‫ال ‪ ،‬أما الناس فإنهم مكلّفون بقبول الظاهر فحسب والحكم على أساسه وال يتولى السرائر ‪،‬‬
‫ومن هنا كان مقصد الشهادتين هو توجيه رسالة ملموسة إلى الناس بإسلم الناطق بها ‪ ،‬في‬
‫حين أن ال وحده هو المطلع على غير الملموس من محتوى الباطن ‪ ،‬وقد نطقت ألسنة‬
‫المنافقين بالشهادتين ‪ ،‬فعصمت دماءهم في الدنيا ‪ ،‬لكن مستقرهم في النهاية هو الدرك السفل‬
‫من النار بما حوت قلوبهم‪.‬‬
‫واسمعوا إلى ارتباط الظاهر بالباطن في قوله تعالى ‪ ﴿ :‬قُلْ ِإنْ كُ ْنتُمْ تُحِبّونَ الّلهَ فَاتّبِعُونِي‬
‫﴾ [ آل عمران ‪ ، ] 31 :‬فإن حب ال في القلب يورث اتباع الجوارح ول بد ؛ وإل كان ادعاء‬
‫وكذبا وزورا‪.‬‬

‫‪ .5‬النافع الوحيد ‪:‬‬

‫قال عز وجل ‪ ﴿ :‬يَوْمَ ل َينْ َفعُ مالٌ وَل بَن ْونٌ * إِل َمنْ أَتَى الَ بِقَ ْلبٍ سَل ْيمٍ ﴾ [ الشعراء ‪-88 :‬‬
‫‪.] 89‬‬
‫فل القول ينفع ‪ ،‬ول العمل يشفع ‪ ،‬بل سلمة القلب هي أصل كل نجاة ؛ كما أن فساده أصل كل‬
‫بلية ‪ ،‬لكن ما هو القلب السليم؟!‬
‫والجواب ‪ :‬هو القلب الذي سلم من كل شيء إل من عبوديته لربه‪ .‬قال شيخ السلم ابن تيمية‬
‫‪ " :‬فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير ل الشر ‪ ،‬وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر ؛‬
‫فأما من ل يعرف الشر فذاك نقص فيه ل يُمدح به " ‪.‬‬
‫وتأمل كيف جعل ال المال والبنون بمعنى الغنى ‪ ،‬كأن المعنى ‪ :‬يوم ل ينفع أحد غناه إل غنى‬
‫من أتى ال بقلب سليم ؛ لن غنى الرجل الحقيقي هو في دينه بسلمة قلبه كما أن غناه فى‬
‫دنياه بماله وولده ‪ ،‬وعلى هذا يكون من معاني القلب السليم أي من فتنة المال والبنين‪.‬‬
‫لكن تلميذا نجيبا من تلمذة ابن تيمية أفاض في شرح معنى القلب السليم ؛ يبغي بذلك إزالة أي‬
‫لبس أو غموض حتى يسهل الوصول إلى المراد ‪ ،‬فقال المام ابن القيّم [ ت ‪: ] 751 :‬‬
‫" والقلب السليم هو الذى سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا‬
‫والرياسة ‪ ،‬فسلم من كل آفة تبعده من ال ‪ ،‬وسلم من كل شبهة تعارض خبره ‪ ،‬ومن كل شهوة‬
‫تعارض أمره ‪ ،‬وسلم من كل إرادة تزاحم مراده ‪ ،‬وسلم من كل قاطع يقطعه عن ال ‪ ،‬فهذا‬
‫القلب السليم فى جنة معجلة فى الدنيا ‪ ،‬وفى جنة فى البرزخ ‪ ،‬وفى جنة يوم المعاد ‪ ،‬ول يتم‬
‫له سلمته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء ‪ :‬من شرك يناقض التوحيد ‪ ،‬وبدعة تخالف السنة‬
‫‪ ،‬وشهوة تخالف المر ‪ ،‬وغفلة تناقض الذكر ‪ ،‬وهوى يناقض التجريد والخلص ‪ ،‬وهذه‬
‫الخمسة حجب عن ال " ‪.‬‬
‫وفي آية سورة ق ‪:‬‬
‫ح َمنَ بِا ْلغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ ق ‪:‬‬
‫خشِيَ الرّ ْ‬
‫حفِيظٍ * َمنْ َ‬
‫عدُونَ ِلكُلّ أَوّابٍ َ‬
‫﴿ َهذَا مَا تُو َ‬
‫‪.] 33-32‬‬
‫وتأمل قوله تعالى في الشعراء ‪ ﴿ :‬أَتَى ﴾ ‪ ،‬وفي ق ‪ ﴿ :‬جَاءَ ﴾ ‪ ،‬وكأن المعنى الذي يريد أن‬
‫يوصله لك ربك ‪ :‬ائتني بقلب سليم وجئني بقلب منيب تنجُ من عذابي وتنل رضائي ‪ ،‬فأنت يا‬
‫أخي وحدك الذي تملك أن تأتي بهذا القلب وليس أحد غيرك‪.‬‬
‫وفي المقابل قد يدخل عبد النار بسبب قلب كما قال تعالى ‪:‬‬
‫جنّ وَالْإِ ْنسِ َلهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْ َقهُونَ بِهَا ﴾ [ العراف ‪.] 179 :‬‬
‫﴿ َولَ َقدْ َذرَأْنَا لِجَ َهنّمَ كَثِيرًا ِمنَ الْ ِ‬
‫بل إن حال العبد في قبره ما هو إل انعكاس لحال قلبه في الدنيا كما قرّر ذلك ابن القيم وهو‬
‫يزيدنا في كتابه زاد المعاد ‪:‬‬
‫" فحال العبد في القبر كحال القلب في الصدر نعيما وعذابا وسجنا وانطلقا " ‪.‬‬

‫‪ .6‬بيت اليمان والتقوى ‪:‬‬

‫قال خبير القلوب وكاتم سر النبي صلى ال عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي ال عنه ‪ :‬حدّثنا‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم حديثين ‪ ،‬رأيتُ أحدهما ‪ ،‬وأنا أنتظر الخر ‪ :‬حدّثنا أن المانة‬
‫نزلت في جِذر قلوب الرّجال ‪ ،‬ثم علموا من القرآن ‪ ،‬ثم علموا من السّنة ‪ ،‬وحدّثنا عن رفعها‬
‫قال ‪ « :‬ينام الرجل النوْمة ف ُتقْبَض المانة من قلبه ‪. » .. ،‬‬
‫ع َرضْنَا الْ َأمَا َنةَ‬
‫والمانة المذكورة في الحديث هي المانة التي جاءت في قوله تعالى ‪ ﴿ :‬إِنّا َ‬
‫حمََلهَا الِْإ ْنسَانُ إِ ّنهُ كَانَ ظَلُومًا‬
‫ح ِملْنَهَا َوَأشْفَ ْقنَ مِنْهَا وَ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْ َأ ْرضِ وَا ْلجِبَالِ فَأَبَ ْينَ َأنْ يَ ْ‬
‫عَلَى ال ّ‬
‫جَهُولًا ﴾ [ الحزاب ‪ ، ] 72 :‬وهي عين اليمان ‪ ،‬فالمانة هنا هي اليمان ‪ ،‬وقد أخبرنا صلى‬
‫ال عليه وسلم في هذا الحديث أن اليمان نزل أول ما نزل في القلب تعبيرا عن الفطرة السوية‬
‫التي يولد بها العبد ‪ ،‬ثم يزيد اليمان بعد ذلك اكتسابا بتعلم القرآن والسنّة ‪ ،‬وتأتي أهمية المانة‬
‫من أنها إذا تمكنت من قلب العبد ؛ قام بأداء ما ُأمِر به واجتنب ما نُهِي عنه في بكل طواعية‬
‫وتسليم‪.‬‬
‫وفي الشطر الثاني من الحديث أشار صلى ال عليه وسلم إلى أن اليمان يُنزع أول ما يُنزع‬
‫كذلك من القلب ‪ ،‬فمن القلب الزيادة ومنه النقصان ‪ ،‬وفيه نشأة الخير ومولد الشر ‪ ،‬ولو لم‬
‫يكن للقلب من فضل إل أنه وعاء اليمان لكفاه وفضل عليه‪.‬‬
‫والقلب كذلك هو وعاء التقوى ‪ ،‬وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬التقوى ها هنا » ‪،‬‬
‫وأشار إلى صدره ‪ ،‬علمة على أن مكان التقوى هو القلب ‪ ،‬والقلب وحده ‪ ،‬فليست التقوى‬
‫نبرة خشوع أو دمعة عين أو إطالة سجدة أو غير ذلك من المظاهر الفارغة من الروحانية‬
‫والخشوع ‪ ،‬إنما هي سر قلبي مستودع في القلب ل يطلع عليه أحد إل ال‪.‬‬

‫‪ .7‬هشاشة المصاب ‪:‬‬

‫قال ابن القيّم ‪:‬‬


‫" ولما كان البدن المريض يؤذيه ما ل يؤذي الصحيح من يسير الحر والبرد والحركة ونحو ذلك‬
‫‪ ،‬فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء من الشبهة أو الشهوة ‪ ،‬حيث ل يقدر على‬
‫دفعهما إذا وردا عليه ‪ ،‬والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك وهو يدفعه بقوته وصحته "‬
‫‪.‬‬
‫فمريض القلب أي نفحة هواء أو هبة تراب تصيبه في مقتل ‪ ،‬وأي شهوة عابرة أو زلة تتسبب‬
‫في فتنته ‪ ،‬وأعرى فخ للشيطان يسقط فيه ‪ ،‬وأسهل مكيدة لعدوه يسارع إليها ‪ ،‬والسبب في‬
‫ذلك كله ضعف قلبه وانهيار أجهزة المناعة لديه‪.‬‬

‫‪ .8‬السرطان ‪:‬‬
‫أصعب المرض عدم معرفة المرض ‪ ،‬وأصعب منه عدم معرفة أنك مريض ‪ ،‬وأصعب وأصعب‬
‫أن ترفض الستماع إلى وصية الطبيب ‪ ،‬وهذه ثلثتها تجتمع في أمراض القلوب ‪ ،‬فمرض‬
‫القلب خفي قد ل يعرفه صاحبه ؛ لذلك يغفل عنه ‪ ،‬وأمراض القلوب هي سرطان الروح ‪،‬‬
‫وخطورتها في أنها كالمرض الخبيث تتسلل إليك دون أن تشعر ‪ ،‬فل ارتفاع حرارة ول ضغط‬
‫مرتفع ول نزيف يؤلم أو جرح ينذر ‪ ،‬لذا يمرض فيها الطب ول ينفع‪.‬‬
‫قال لنا ابن القيّم [ ت ‪ ] 751 :‬بعد أن زرناه في عيادته الربانية ‪:‬‬
‫" وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ول يعرف به صاحبه لشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته‬
‫وأسبابها ‪ ،‬بل قد يموت وصاحبه ل يشعر بموته ‪ ،‬وعلمة ذلك أنه ل تؤلمه جراحات القبائح‬
‫ول يوجعه جهله بالحق ‪ ،‬فإن القلب إذا كان فيه حياة تألّم بورود القبيح عليه ‪ ،‬وتألّم بجهله‬
‫بالحق بحسب حياته ‪ ،‬وما لجرح بميت إيلم " ‪.‬‬
‫ومما يجعل مرض القلب أخطر من مرض البدن بكثير أن مرض القلب عذابه دائم بعد الموت ل‬
‫ينقضي ؛ بعكس مرض البدن الذي يُتخَلّص منه بالموت ‪ ،‬مما يجعل الهتمام بأمراض القلوب‬
‫أوجب والسعي في علجها أدعى‪.‬‬
‫إن ما يصيب البدن من أسقام في هذه الحياة يؤجر عليه النسان ‪ ،‬أما ما يصيب القلب من‬
‫أمراض فهو الثم كله والهلك كله في الحياة وبعد الممات ‪ ،‬إنك إذا دخلت معركة فقتلك العدو‬
‫الظاهر وسلبك حياتك لمتّ شهيدا ‪ ،‬أما إذا غلبك العدو الباطن بأسلحة الشهوات والشبهات لمتّ‬
‫حينئذ طريدا ‪ ،‬وشتان عند ال ما بين شهيد وطريد ‪ ،‬شتان شتان‪.‬‬

‫‪ .9‬وحده مالك دوائه ‪:‬‬

‫سمَاءِ ثُمّ‬
‫خ َرةِ َفلْ َي ْم ُددْ ِبسَبَبٍ إِلَى ال ّ‬
‫صرَهُ الّلهُ فِي الدّنْيَا وَالْآ ِ‬
‫ظنّ َأنْ َلنْ َي ْن ُ‬ ‫قال تعالى ‪َ ﴿ :‬منْ كَانَ يَ ُ‬
‫ظرْ هَلْ ُي ْذهِ َبنّ َك ْي ُدهُ مَا َيغِيظُ ﴾ [ الحج ‪] 15 :‬‬ ‫طعْ فَلْ َينْ ُ‬‫لِ َيقْ َ‬
‫هذه الية تصف حال نفر من المنافقين امتلت قلوبهم غيظا من رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ومن علوه ونصره ‪ ،‬فقال ال لهم ‪ :‬إن ال ناصر رسوله في الدنيا والخرة ؛ فمن كان يظن من‬
‫حاسديه وأعاديه أن ال لن يفعل ويغيظه أن يظفر نبينا بموعود ال له ؛ فليستقص وسعه‬
‫وليستفرغ جهده في إزالة ما في قلبه من غيظ بأن يفعل أقصى ما يستطيع فعله ‪ ،‬ولو كان ذلك‬
‫أن يفعل من بلغ منه الغيط كل مبلغ حتى مدّ حبل إلى سماء بيته فشنق به نفسه ‪ ،‬فإنه وإن فعل‬
‫ذلك فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من غيظ ‪ ،‬كل وال فلن يذهب غيظه ولن يزول‬
‫مرضه إل أن يشاء ال ‪ ،‬فال وحده هو شافي الصدور ورافع وحر القلوب‪.‬‬
‫والمعنى ‪:‬‬
‫* إذا كنت تعاني الكآبة والحزن واليأس والجزع ‪ ،‬فهل تملك قوى الرض جميعا أن تغيّر من‬
‫ذلك مثقال ذرة؟!‬
‫* إذا حيزت لك الدنيا بحذافيرها وصارت تحت أقدامك ؛ لكن امتل قلبك كمدا وغما فهل تهنأ من‬
‫دنياك بشيء؟!‬
‫* إذا غرق قلب في الشك والشبهات والزيغ والرّيَب ؛ فهل يملك نزع ذلك المرض من صدرك‬
‫أحد من أهل الدنيا ما لم يشأ ربك؟!‬
‫* إذا رأيت نعيم الدنيا مقبل على غيرك ومُعرِضا عنك ‪ ،‬فممدت عينيك حسدا ولسانك حقدا‬
‫وقلبك غل ‪ ،‬فهل يملك تطهيرك مما أنت فيه أحد غير ال؟!‬
‫* إذا أحب قلبك شهوة وأُشرِبها ومال إلى خطيئة وعشقها ‪ ،‬فهل يملك أن يعدل قلبك المنكوس‬
‫ويحيي فطرتك السليمة أحد سوى خالقه؟!‬
‫* إذا كره قلبك طاعة واستثقلها وملّ المداومة عليها حتى كاد أن ينقطع ‪ ،‬فهل يملك أحد أن‬
‫يحبّبك فيها ويدنيك منها سوى الذي حبب إلينا اليمان وزيّنه في قلوبنا؟!‬
‫هذا ما أدركه مطرف بن عبد ال [ ت ‪ ] 95 :‬حين انخلع من رؤية عمله واعترف بقمة عجزه‬
‫وغاية ضعفه وردّ الفضل كل الفضل إلى ال وحده حين قال ‪ " :‬لو أُخرِج قلبي فجُعِل في يدي‬
‫هذه في اليسار ‪ ،‬وجيء بالخير فجُعِل في هذه اليمنى ‪ ،‬ثم ُقرّبت من الخرى ما استطعت أن‬
‫أولج في قلبي شيئا حتى يكون ال عز وجل يضعه " ‪.‬‬

‫إلى كل مريض ‪:‬‬


‫يستطيع النسان أن يحرّك رجله إن أراد أو يهوي بيده أو يرفعها ‪ ،‬لكن هل يستطيع أن يفعل‬
‫ذلك مع قلبه؟! كل وال ‪ ..‬فكيف تتعامل مع قلب ل سلطان لك عليه بل ل سلطان عليه إل ل ‪،‬‬
‫ول معرفة لك بأسراره وكنهه بل ل يعرف ذلك إل ال؟! أل فليعلم كل من أراد علج قلبه اليوم‬
‫دون الستعانة بربه أنه لن يزداد إل مرضا ‪ ،‬أل وقل لطالبي الشفاء من عند غير ال ‪ :‬يا عظم‬
‫خسرانكم ‪ ،‬أل قل للواقفين بغير بابه ‪ :‬يا طول هوانكم ‪ ،‬أل قل للمؤمّلين لغير فضله ‪ :‬يا خيبة‬
‫آملكم ‪ ،‬أل قل للعاملين عند غيره ‪ :‬يا ضلل سعيكم‪.‬‬
‫من الذي يستطيع أن يحول بينك وبين الدواء ‪ ،‬ويمنع عنك الطاعة؟! ومن الذي يُبدّل المن‬
‫خوفا والجبن جرأة؟! ومن الذي يقلب الكره حبا والحب كرها؟!‬
‫أخي ‪ ..‬دواؤك عنده فل تلتمسه عند غيره ‪ ،‬وشفاؤك بيده فل تُتعِب الطباء معك ‪ ،‬وإن من‬
‫شيء إل عنده خزائنه ؛ وأنت تائه على أبواب الفقراء تتسول!!‬

‫‪ .10‬النقلب ‪:‬‬

‫القلب هو أرق أعضاء الجسم وأسرعها تأثرا بما يحيط به ويغشاه ‪ ،‬ومن رقته أن تؤثّر فيه‬
‫أدنى خاطرة وأقل هاجس ‪ ،‬وأثر القليل عليه كثير ‪ ،‬فالفات إليه أسرع ‪ ،‬وهو إلى النفلت أدنى‬
‫‪ ،‬ومن النقلب أقرب ‪ ،‬فإن قلب المرء وإن صفا زمنا ‪ ،‬وثبت على اليمان فترة ‪ ،‬واستلذ‬
‫بحلوته حينا ‪ ،‬فإنه معرّض للنتكاسة ‪ ،‬وهذه هي طبيعة القلب ومنها اشتُقّ اسمه ‪ ،‬قال‬
‫القرطبي وهو يشرح معنى كلمة القلب ‪:‬‬
‫" وهو في الصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته ‪ ،‬وقلبت الناء ‪ :‬رددته‬
‫سمّي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان لسرعة الخواطر‬ ‫على وجهه ‪ ،‬ثم نُقِل هذا اللفظ ف ُ‬
‫إليه ولترددها عليه كما قيل ‪:‬‬
‫سمّي القلب إل من تقلّبه ‪ ...‬فاحذر على القلب من قلب وتحول "‬ ‫ما ُ‬
‫سمّي القلب من تَقَلّبِه ‪ ،‬إنما مثل القلب مثل ريشة‬
‫قال النبي صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنما ُ‬
‫بالفلة تعلقت في أصل شجرة يُقلّبها الريح ظهرا لبطن » ‪ ،‬وإن القلب شديد التقلب سريع‬
‫التحول ‪ ،‬ويضرب النبي صلى ال عليه وسلم لذلك مثل فيقول ‪ « :‬لقلب ابن آدم أسرع انقلبا‬
‫من القدر إذا استجمعت غليانًا » ‪.‬‬
‫إن بقاء قلب المؤمن على الدرجة الرفيعة من اليمان التي يجدها بعد أعظم العبادات قدرًا ‪،‬‬
‫وعقب أكثر المواسم خيرا وفضل ؛ أمر مستحيل ؛ لشدة انشغال القلب بالدنيا وملذاتها ‪ ،‬وما‬
‫يعتريه فيها من أفراح وأتراح ‪ ،‬بل وتعرّضها لغزوات الشيطان المتلحقة ‪ ،‬وتلعب اليهود‬
‫بالعورات ‪ ،‬وعزفهم على وتر الهواء ‪ ،‬ومع ذلك أريد أن أطمئنك وأُخوّفك في الوقت ذاته ما‬
‫دام تقليب القلوب بيد ال وحده‪ .‬يقول النبي صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إن قلوب بني آدم كلها‬
‫بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرّفه حيث يشاء » ‪ ،‬ثم قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ « :‬اللهم مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك » ‪.‬‬
‫أخي ‪ ..‬لقد صليت اليوم خمس صلوات فأجبني صادقا ‪ :‬كم مرة دعوت بهذا الدعاء؟! مع أنك‬
‫أحوج إليه من رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬والفتن اليوم أعم وأطغى ‪ ،‬والقلب أضعف‬
‫وأوهن ‪ ،‬فاحرص على ما بينك وبين ال ‪ ،‬وصِل ما انقطع من حبالك معه حتى يثبّتك على‬
‫مرضاته اليوم ويهديك‪.‬‬
‫‪ .11‬أطباؤه مرضى ‪:‬‬

‫وطب القلوب من العلوم التي شحّت في زماننا ‪ ،‬ونتج عنه المرض الذي عمّ وانتشر حتى أصاب‬
‫كثيرا من علمائنا وحاملي دوائنا ؛ فحفظت أذهانهم الشروح والمتون ‪ ،‬ونسيت جوارحهم الهدى‬
‫والمنون ‪ ،‬وقالت ألسنتهم أنهم عالمون ونطقت أفعالهم أنهم جاهلون‪.‬‬
‫وأكثر علماء زماننا نوعان ‪:‬‬
‫نوع منكبٌ على حطام الدنيا لهث وراءها ‪ ،‬ل يمل جمعها ‪ ،‬ويتقلب شهره ودهره في ملذاتها ‪،‬‬
‫وقد أخذت دنياه بمجامع قلبه ‪ ،‬ولزمه خوف الفقر وحب التكاثر ؛ وأكثر هؤلء ُدفِع إلى ذلك‬
‫دفعا وأُريد له أن ينشغل بالسعي وراء لقمة العيش والكدّ من أجل الرزق وأُعطوا في مقابل ذلك‬
‫الكفاف ؛ ليس غير الكفاف ‪ ،‬ليظلوا دوما غارقين في العصار ‪ ،‬دائرين في الرحى ‪ ،‬ل يبلغون‬
‫ما يأملون ‪ ،‬ول يتركون السعي إلى ما يطمحون ‪ ،‬وبذلك نسوا أسمى مهامهم وأشرفها وهي‬
‫وراثة النبياء والقيام بوظيفة الرّسل‪.‬‬
‫ونوع آخر اختصر الطريق على نفسه ‪ ،‬ورضي بالحرام السهل ‪ ،‬والشبهة المربحة ‪ ،‬واتخذ‬
‫اليمان سلعة ‪ ،‬يبيع بعضه أو كله ‪ ،‬ويقبض الثمن توسعة وإكراما وإغداقا وأموال ‪ ،‬أهل تصنّع‬
‫ودهاء ‪ ،‬وتزيّن للمخلوقين ‪ ،‬وتملّق للحكام ‪ ،‬يلتقطون الرّخص ويفتون بها ‪ ،‬ديدنهم المداهنة ‪،‬‬
‫وطريقتهم المنافقة ‪ ،‬ولذا عمّ البلء وعزّ الدواء ‪ ،‬وقد سبق للعالم المجاهد عبد ال بن المبارك‬
‫أن رأى أحد إخوانه يسلك أول هذا الطريق فقام بواجبه في النصح على الفور ‪ ،‬ومدّ له يد‬
‫العون ‪ ،‬وما أطيب سيرة رجل كابن المبارك كأريج الزهور تنقلها الريح من سهل إلى سهل‬
‫ومن عصر إلى عصر متجاوزة حدود الزمان والمكان ‪ ،‬لتنقل لنا أنه لما قيل له ‪ :‬إن إسماعيل‬
‫بن علية قد ولي الصدقات كتب إليه ابن المبارك [ ت ‪ ] 181 :‬أبياتا من الشعر تصلح لكل زمان‬
‫سرى فيه هذا الداء فقال ‪:‬‬
‫يا جاعل العلم له بازيا ‪ ...‬يصطاد أموال المساكين‬
‫احتلت للدنيا ولذاتها ‪ ...‬بحيلة تذهب بالدين‬
‫فصرت مجنونا بها بعد ما ‪ ...‬كنت دواءً للمجانين‬
‫أين رواياتك في سردها ‪ ...‬عن ابن عون وابن سيرين‬
‫أين رواياتك والقول في ‪ ...‬لزوم أبواب السلطين‬
‫إن قلت أُكرهتُ فماذا كذا ‪ ...‬زلّ حمار العلم في الطين‬
‫فلما قرأ الكتاب بكى واستعفى ‪.‬‬
‫وإن كان لموت القلب علمات تختلف من شخص إلى آخر ومن مهنة إلى أخرى ؛ فإن أبرز‬
‫علمات موت قلب العلماء وأشهرها هي ما عرفناه من مالك بن دينار [ ت ‪ ] 130 :‬الذي قال ‪:‬‬
‫" سألتُ الحسن [ ت ‪ : ] 110 :‬ما عقوبة العالم؟ قال ‪ :‬موت القلب‪ .‬قلت ‪ :‬وما موت القلب؟ قال‬
‫‪ :‬طلب الدنيا بعمل الخرة " ‪.‬‬
‫وسمّاهم ربيعة الرأي [ ت ‪ ] 133 :‬بالسفلة وسفلة السفلة ‪ ،‬فقد روى مالك بن أنس [ ت ‪:‬‬
‫‪ " : ] 179‬قال لي أستاذي ربيعة الرأي ‪ :‬يا مالك! من السفلة؟ قلت ‪ :‬من أكل بدينه ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫فمن سفلة السفلة؟ قال ‪ :‬من أصلح دنيا غيره بفساد دينه " ‪.‬‬
‫أظهروا ل دينا * وعلى الدينار داروا‬
‫وله صاموا وصلوا * وله حجوا وزاروا‬
‫لو بدا فوق الثريا * ولهم ريش لطاروا‬
‫عالم السوء الذي ل يعمل بعلمه فتنة ووبال على نفسه وغيره ‪ ،‬ومَثَله مثل صخرة وقفت في فم‬
‫النهر ؛ ل هي تشرب ول هي تدع الماء يخلص إلى الزرع ‪ ..‬ارحمونا يا علماء السوء!!‬
‫إن الفقيه إذا غوى وأطاعه ** قوم غووا معه فضاع وضيّعا‬
‫مِثل السفينة إن هوت في لجة ** تغرقْ ويغرقُ كل من فيها معا‬
‫‪ .12‬رسالة تحذير ‪:‬‬

‫قال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أول ما ُيرْفع من الناس الخشوع » ‪.‬‬


‫وهو إشارة إلى أن علم القلوب سيضمحل وسط طغيان علوم الدنيا ‪ ،‬وأن أسراره ستضيع‬
‫وبركاته ستذهب وسط الزحام ‪ ،‬وهو أول فساد يمس الرض بعد رسول ال ‪ ،‬ليكون علمة‬
‫على خبث الباطن ‪ ،‬ومخالفة السر العلن ‪ ،‬وعندها فساد كل شيء ‪ :‬تذبل القلوب لموت الرواح‬
‫فيها ‪ ،‬وتقرأ اللسنة العربية القرآن وكأنها أعجمية ‪ ،‬فل فهم ول تدبر ول امتثال ‪ ،‬وتنشغل‬
‫المّة –إن انشغلت‪ -‬بمظهر العبادة دون جوهرها ‪ ،‬وتهتم بأركانها دون مقاصدها ‪ ،‬ويكثر‬
‫البهرج الزائف وإن اتّشح بوشاح القرآن‪ .‬قال صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬أكثر منافقي أمّتي‬
‫قرّاؤها " ‪.‬‬
‫وإذا فشا النفاق في أمّة رأيتَ العجب العجاب ‪ ،‬ليس في زماننا فحسب ‪ ،‬بل وفي زمان من هم‬
‫أزكى منا وأطهر ‪ ،‬وليس بين العوام بل بين حفظة كتاب ال‪.‬‬
‫قال النووي [ ت ‪ : ] 606 :‬ما أخاف على ِذمّي إل ال ُقرّاء والعلماء ‪ ،‬فاستنكروا منه ذلك ‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬ما أنا قلته وإنما قاله إبراهيم النخعي ‪ ،‬وقال عطاء ‪ :‬احذروا ال ُقرّاء واحذروني معهم ‪ ،‬فلو‬
‫ت أودّهم لي في رمانة ؛ أقول إنها حلوة ويقول إنها حامضة ما أمنته أن يسعى بدمي إلى‬ ‫خالف ُ‬
‫سلطان جائر ‪ ،‬وقال الفضيل لبنه ‪ :‬اشتروا دارا بعيدة عن ال ُقرّاء ؛ ما لي والقوم! إن ظهرت‬
‫مني زلة قتلوني ‪ ،‬وإن ظهرت علي حسنة حسدوني ‪.‬‬
‫وهل هذا إل لفساد الباطن وخبث السريرة ؛ مع أن ال قد يهدي بقراءتهم اللوف من الناس ‪،‬‬
‫لكن ذلك ل يُغني عنهم من عذاب ال من شيء إن هم فسدت قلوبهم ‪ ،‬وهذا ما سبق وحذّرنا‬
‫منه رسول ال صلى ال عليه وسلم فروى عنه عمر بن الخطاب رضي ال عنه قوله ‪:‬‬
‫« إن أخوف ما أخاف على أمّتي كل منافق عليم اللسان » ‪.‬‬
‫قال المناوي شارحا ‪:‬‬
‫" أي كثير علم اللسان ‪ ،‬جاهل القلب والعمل ‪ ،‬اتخذ العلم حرفة يتأكل بها ذا هيبة وأبهة يتعزز‬
‫ويتعاظم بها ؛ يدعو الناس إلى ال ويفرّ هو منه ‪ ،‬ويستقبح عيب غيره ويفعل ما هو أقبح‬
‫منه ‪ ،‬ويُظهِر للناس التنسك والتعبد ويسارر ربه بالعظائم ‪ ،‬إذا خل به ذئب من الذئاب لكن‬
‫عليه ثياب ‪ ،‬فهذا هو الذي حذّر منه الشارع هنا حذرا من أن يخطِفك بحلوة لسانه ‪ ،‬ويُحرِقك‬
‫بنار عصيانه ‪ ،‬ويقتلك بنتن باطنه وجنانه " ‪.‬‬
‫وسبب تحديث عمر رضي ال عنه بهذا الحديث أن الحنف بن قيس سيد أهل البصرة كان‬
‫فاضل فصيحا مفوّها ‪ ،‬فقدم على عمر فحبسه عنده سنة يأتيه كل يوم وليلة ‪ ،‬فل يأتيه عنه إل‬
‫ما يحب ‪ ،‬ثم دعاه فقال ‪ :‬تدري لم حبستك عني؟! قال ‪ :‬ل‪ .‬قال ‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم حدّثنا فذكر الحديث ‪ ،‬ثم قال ‪ " :‬خشيتُ أن تكون منافقا عليم اللسان ‪ ،‬وإن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم حذرنا منه ‪ ،‬وأرجو أن تكون مؤمنا فانحدر إلى مصرك " ‪.‬‬

‫‪ .13‬أعمال القلوب أولى وأغلى ‪:‬‬

‫لعمل القلب المكانة العظمى والمنزلة السمى في دولة اليمان ‪ ،‬لذا ذكر العلماء أن عمل القلب‬
‫أهم من عمل الجوارح ‪ ،‬قال المام ابن القيم رحمه ال ‪:‬‬
‫" ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب ‪ ،‬وأنها‬
‫ل تنفع بدونها ‪ ،‬وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح ‪ ،‬وهل يُميّز المؤمن‬
‫عن المنافق إل بما في قلب كل واحد منهما من العمال التي ميّزت بينهما؟! وهل يمكن أحد‬
‫الدخول في السلم إل بعمل قلبه قبل جوارحه؟! وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح‬
‫وأكثر وأدوم ‪ ،‬فهي واجبة في كل وقت " ‪.‬‬
‫وقال في موضع آخر ‪:‬‬
‫" فعمل القلب هو روح العبودية ولبها ‪ ،‬فإذا خل عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بل‬
‫روح " ‪.‬‬
‫وقال أيضا ‪:‬‬
‫" فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح ؛ إذ هي أصلها وأحكام الجوارح متفرعة‬
‫عليها " ‪.‬‬
‫ولهذا يسبق أصحاب القلوب أصحاب الجوارح بمراحل وعلى الدوام ‪ " ،‬فالكيّس يقطع من‬
‫المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل أضعاف‬
‫أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق ‪ ،‬فان العزيمة والمحبة تذهب‬
‫المشقة وتُطيّب السير ‪ ،‬والتقدم والسبق إلى ال سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة‬
‫والعزيمة ‪ ،‬فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل ‪ ،‬فإن ساواه في همته‬
‫تقدّم عليه بعمله " ‪.‬‬

‫‪ .14‬عليه مدار الجر وتفاوته ‪:‬‬

‫فتتفاوت الجور في كل عمل حسب محتوى القلوب ‪ ،‬ففي الصلة ‪ :‬قد يصلي الرجلن في صف‬
‫واحد وبين ثوابهما كما بين السماء والرض ‪ ،‬وقد ينفق الخوان مبلغا واحدا فينال أحدهما‬
‫أجرا واحدا بينما الخر ينال سبعمائه أجر أو أكثر ‪ ،‬وقد يدرك قلبان ليلة القدر فيتضاعف أجر‬
‫أحدهما عن الخر أضعافا مضاعفة ‪ ،‬بل حتى في الجهاد ؛ ففي غزوة مؤتة لما قتل جعفر أخذ‬
‫عبد ال بن رواحة الراية ‪ ،‬ثم تقدّم بها وهو على فرسه ‪ ،‬فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض‬
‫التردد ‪ ،‬ثم أخذ سيفه وتقدم فقاتل حتى قُتِل رضي ال عنه‪ .‬قال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬لقد‬
‫رُفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب ‪ ،‬فرأيت في سرير عبد ال بن رواحة‬
‫ازورارا عن سريري صاحبيه ‪ ،‬فقلت ‪ :‬ع ّم هذا؟! فقيل لي ‪ :‬مضيا وتردد عبد ال بن رواحة‬
‫بعض التردد ثم مضى » ‪.‬‬
‫لحظة واحدة من عمل القلب كانت سببا في تأخر ابن رواحة ‪ ،‬ولمحة من طرْف العين أنزلته‬
‫دون صاحبيه ‪ ،‬ليحوز شهادة دون شهادة ‪ ،‬وفوزا دون فوز ‪ ،‬وهذ كله من عمل لحظة!! لكنها‬
‫لحظة قلبية ‪ ،‬لكن كيف بمن غرق قلبه اليام والعوام في غفلت متتابعات وسكرات‬
‫متلزمات؟! تُرى كم يتأخر في الجنة ؛ هذا إن دخلها!!‬
‫لذا أدرك ابن عطاء السكندرى قيمة عمل القلب فانطلق يرسي قاعدة وزن العمال ‪ ،‬وهي قاعدة‬
‫سارية المفعول في زمانه وغير زمانه ‪:‬‬
‫" ما قلّ عمل برز من قلب زاهد ‪ ،‬ول كثر عمل برز من قلب راغب " ‪.‬‬
‫وأكّدها يحيى بن معاذ في قوله الخّاذ ‪:‬‬
‫" مفاوز الدنيا تُقطع بالقدام ‪ ،‬ومفاوز الخرة تُقطع بالقلوب " ‪.‬‬
‫بل وشهد لعمال القلوب من قبل هؤلء جميعا الصحابي المُعلّم عبد ال بن مسعود رضي ال‬
‫عنه حين قال مخاطبا جموع التابعين المجدّين في عبادات الجوارح ‪:‬‬
‫" أنتم أطول صلة ‪ ،‬وأكثر اجتهادا من أصحاب رسول ال ‪ ،‬وهم كانوا أفضل منكم "‪ .‬قيل له ‪:‬‬
‫بأي شيء؟ قال ‪ " :‬إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الخرة منكم " ‪.‬‬

‫‪ .15‬رفعة الدنيا وشرف الخرة ‪:‬‬

‫واسمع كيف رفعت القلوب قوما كانوا خدما وعبيدا ‪ ،‬وسمت بذكرهم فوق السحاب ‪ ،‬ووال لو‬
‫كانت قلوبهم غير نقية أو خالصة لطمس ال ذكرهم وبعثر علمهم ومحى سيرتهم ‪ ،‬أو قرنها‬
‫بكل خبيث وسوء ‪ ،‬ولكنه القلب الحي يظل ينبض بعد موت صاحبه يتغنى بالذكر الجميل‬
‫والسيرة العطرة ‪ ،‬بذا نطق المير شوقي فقال ‪:‬‬
‫الناس صنفان ‪ :‬موتى في حياتهم ** وآخرون ببطن الرض أحياءُ‬
‫قال ابن أبي ليلى ‪:‬‬
‫" قال لي عيسى بن موسى وكان جائرا شديد العصبية (أي للعرب) ‪ :‬من كان فقيه البصرة؟ قلت‬
‫الحسن بن أبي الحسن‪ .‬قال ‪ :‬ثم من؟ قلت ‪ :‬محمد بن سيرين‪ .‬قال ‪ :‬فما هما؟ قلت ‪ :‬موليان‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فمن كان فقيه مكة؟ قلت ‪ :‬عطاء بن أبي رباح ‪ ،‬ومجاهد بن جبر ‪ ،‬وسعيد بن جبير ‪،‬‬
‫وسليمان بن يسار‪ .‬قال ‪ :‬فما هما؟ قلت ‪ :‬موالي‪.‬‬
‫فتغيّر لونه ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬فمن كان أفقه أهل قباء؟ قلت ‪ :‬ربيعة الرأي ‪ ،‬وابن أبي الزناد ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫فما كانا؟ قلت ‪ :‬من الموالي‪.‬‬
‫فاربدّ وجهه ثم قال ‪ :‬فمن كان فقيه اليمن؟ قلت ‪ :‬طاووس ‪ ،‬وابنه ‪ ،‬وهمام بن منبه‪ .‬قال ‪ :‬فما‬
‫هؤلء؟ قلت ‪ :‬من الموالي‪.‬‬
‫فانتفخت أوداجه فانتصب قاعدا ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬فمن كان فقيه خراسان؟ قلت ‪ :‬عطاء بن عبد ال‬
‫الخراساني‪ .‬قال ‪ :‬فما كان عطاء هذا؟ قلت ‪ :‬مولى‪.‬‬
‫فازداد تغيظا وحنقا ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬فمن كان فقيه الجزيرة؟ قلت ‪ :‬ميمون بن مهران‪ .‬قال ‪ :‬فما كان؟‬
‫قلت ‪ :‬مولى‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فتنفس الصعداء ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬فمن كان فقيه الكوفة؟ قلت ‪ :‬فوال لول خوفه لقلت ‪ :‬الحكم‬
‫بن عُيينة ‪ ،‬وعمار بن أبي سليمان ‪ ،‬ولكن رأيت فيه الشر ‪ ،‬فقلت ‪ :‬إبراهيم ‪ ،‬والشعبي‪ .‬قال ‪:‬‬
‫فما كانا؟ قلت ‪ :‬عربيان‪ .‬قال ‪ :‬ال أكبر! وسكن جأشه " ‪.‬‬
‫ل درّهم ‪ ..‬عبيدٌ أشرف من سادة ‪ ،‬وهمم تناطح الجبال ؛ ونجوم ساطعة وإن رآهم الجاهل في‬
‫أدنى سلم المجتمع أو في القاع ‪ ،‬وملوك آخرة ولو لم يجدوا ما يسد الرمق ‪ ،‬والسر من وراء‬
‫هذا كله القلب ‪ ،‬وما يضرهم أن يكونوا من الحطام الفاني والعز الراحل فارغي اليد إذا كانوا من‬
‫كنوز الشفاء ونوافع الدواء ممتلئي القلب؟! وصدق إقبال وهو يجزم ‪:‬‬
‫بامتثال المر يعلو من َرسَب ** وهوى الطاغي ولو كان اللهب‬

‫‪ .16‬العلم الحقيقي ‪:‬‬

‫وهو علم القلوب ‪ ،‬وقد فهم سلفنا الصالح أهمية هذا علم القلوب على سائر العلوم ‪ ،‬فقال عنه‬
‫أبو حامد الغزالي ‪ " :‬وهو فرض عين في فتوى علماء الخرة " ‪ ،‬وقال عمرو بن قيس الملئي‬
‫شرَيح‬
‫‪ " :‬حديث أُرقّق به قلبي ‪ ،‬وأتبلّغ به إلى ربي ‪ ،‬أحب إليّ من خمسين قضية من قضايا ُ‬
‫" ‪ ،‬بل لما قيل للمام أحمد ‪ :‬من نسأل بعدك؟! قال عبدالوهاب الوراق‪ .‬قيل له ‪ :‬إنه ليس له‬
‫اتساع في العلم قال ‪ :‬إنه رجل صالح مثله يُوفّق لصابة الحق ‪ ،‬وسُئل كذلك عن معروف‬
‫الكرخي ؛ فقال ‪ :‬كان معه أصل العلم ‪ :‬خشية ال ‪.‬‬
‫واستُفتي الحسن عن مسألة فأجاب فقيل له ‪ :‬إن فقهاءنا ل يقولون ذلك ‪ ،‬فقال ‪ " :‬وهل رأيت‬
‫فقيها قط؟! الفقيه القائم ليله الصائم نهاره الزاهد في الدنيا " ‪.‬‬
‫وعن ليث قال ‪ " :‬كنت أسأل الشعبي فيُعرِض عني ويجبهني بالمسألة ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا معشر‬
‫العلماء! يا معشر الفقهاء! تروون عنا أحاديثكم وتجبهوننا بالمسألة ‪ ،‬فقال الشعبي ‪ :‬يا معشر‬
‫العلماء! يا معشر الفقهاء! لسنا بفقهاء ول علماء ‪ ،‬ولكنا قوم قد سمعنا حديثا ‪ ،‬فنحن نحدثكم‬
‫بما سمعنا ‪ ،‬إنما الفقيه من ورع عن محارم ال ‪ ،‬والعالم من خاف ال " ‪.‬‬
‫وليس الوصول إلى ال والدار الخرة بكثرة العلم والرواية بل بثمرة العلم والهداية ‪ ،‬وما قيمة‬
‫علم ل يدفع صاحبه إلى العمل؟! وهل هو إل حجة عليه ودليل إدانته وعلمة استهزائه بربه؟!‬
‫لذا كان نهج السلف تجهيز تربة القلب وإعدادها جيدا قبل أن يبذروا فيها أي بذرة علم‪ .‬قال‬
‫سفيان الثوري ‪ " :‬كان الرجل ل يطلب الحديث حتى يتعبّد قبل ذلك عشرين سنة " ‪.‬‬
‫يا من تباعد عن مكارم خلقه ** ليس التفاخر بالعلوم الزاخرة‬
‫من لم يهذّب علمُه أخلقَه ** لم ينتفع بعلومه في الخرة‬
‫المحتالون‬
‫حيَل يظن بها أن يتخلص من حكم الشرع وعاقبة البغي‬ ‫وإذا مرِض قلب العالم استخدم علمه في ِ‬
‫وكأن ال غير مطّلع عليه ‪ ،‬وقد انتشرت هذه الحيل عندما وهن اليمان في الصدور واستثقل‬
‫الناس أحكام الشرع ؛ حتى أفرد ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان فصول عن الحيل وأقسامها ‪،‬‬
‫واسمع إلى واحدة من هذه الحيل يرويها لك أبو حامد الغزالي ‪:‬‬
‫" وحُكي أن أبا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول ‪ ،‬ويستوهب مالها إسقاطا‬
‫للزكاة ‪ ،‬فحُكِي ذلك لبي حنيفة رحمه ال ؛ فقال ‪ :‬ذلك من فقهه ‪ ،‬وصدق فإن ذلك من فقه‬
‫الدنيا ‪ ،‬ولكن مضرته في الخرة أعظم من كل جناية ‪ ،‬ومثل هذا هو العلم الضار " ‪.‬‬
‫لذا كان عليك وأنت تدرس أي علم من علوم الشرع اليوم أن تقرأه بروح جديدة ‪ ،‬وقلب كأنه‬
‫وُلِد اليوم ولم يتلطّخ بخطيئة بعد ‪ ،‬وخذ مثل على ذلك ‪ :‬عِلم السيرة الذي حثّك الستاذ البهي‬
‫الخولي على قراءته بهذه الطريقة الجديدة باستخدام قلبك قبل عينك ‪ ،‬وبروحك وعاطفتك مع‬
‫عقلك ‪ ،‬وأرشدك إلى الطرح الحي فقال ‪:‬‬
‫" أن تُكثِر مصاحبة مولنا رسول ال صلى ال عليه وسلم في سيرته المطهرة مصاحبة وجدانية‬
‫عميقة ‪ ،‬تجعلك في مجلسه عليه السلم إذا جلس ‪ ،‬وفي ركابه إذا ركب ‪ ،‬وفي معيته إذا سار ‪،‬‬
‫وتُسمعك قوارع وعظه ‪ ،‬وتُسرّب إلى قلبك رقة مناجاته إذا ناجى ربه في جوف الليل ‪ ،‬أو في‬
‫خلوات النهار ‪ ،‬وتصل عواطفك بعواطفه صلوات ال عليه ‪ ،‬حتى تكاد تشعر بخلجات قلبه‬
‫العظيم إذا غضب ‪ ،‬وبشاشته وسماحته إذا تسهل لشيء وتهلل ‪ ،‬وتسلكك في صفوف المؤمنين‬
‫به ‪ ،‬فأنت معهم حين يسامون العذاب ‪ ،‬تألم كما يألمون ‪ ،‬وتهاجر كما يهاجرون ‪ ،‬تهاجر معهم‬
‫بوجدانك وخيالك وعواطفك إلى الحبشة أو غيرها من بلد ال ‪ ،‬فإذا شرع له الجهاد في المدينة‬
‫‪ ،‬فأنت تحت لوائه المظفر ‪ ،‬تشهده ممتطيا صهوة جواده ‪ ،‬وقد لبس لمة الحرب ‪ ،‬وتقلّد‬
‫السيف ‪ ،‬وأخذ برمحه ‪ ،‬فهو فارس الميدان ‪ ،‬وقائد الفرسان ‪ ،‬تزهر عيناه الشريفتان من تحت‬
‫مغفره صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فما يصعد شرفا ول يهبط واديا ‪ ،‬ول ينال من عدو نيل إل وأنت‬
‫معه عليه السلم ‪ ،‬تكاد تضرِب إذا ضرب ‪ ،‬وتُقدِم إذا أمر ‪ ،‬وتفديه بما تملك ‪ ،‬وتحوطه بكل ما‬
‫في سويداء قلبك من حب وعاطفة " ‪.‬‬

‫‪ .17‬شرط الطبيب الناجح ‪:‬‬

‫قال ابن القيم في كتابه الطب النبوي عندما تكلم عن الطبيب الحاذق وذكر أنه يجب أن يراعى‬
‫في علجه عشرين أمرًا كان منها ‪:‬‬
‫" أن يكون له خبرة باعتلل القلوب والرواح وأدويتها ‪ ،‬وذلك أصل عظيم في علج البدان ‪،‬‬
‫فإن انفعال البدن وطبيعته عن القلب والنفس أمر مشهود ‪ ،‬والطبيب إذا كان عارفا بأمراض‬
‫القلب والروح وعلجها كان هو الطبيب الكامل ‪ ،‬والذي ل خبرة له بذلك وإن كان حاذقا في‬
‫علج الطبيعة وأحوال البدن نصف طبيب ‪ ،‬وكل طبيب ل يداوي العليل بتفقد قلبه وصلحه ‪،‬‬
‫وتقوية أرواحه وقواه بالصدقة وفعل الخير والحسان والقبال على ال والدار الخرة فليس‬
‫بطبيب بل متطبب قاصر " ‪.‬‬
‫إن غاية ما وصل إليه طب الدنيا أنه يصف الدواء ‪ ،‬لكنه ل يضمن لك حتمية الشفاء ‪ ،‬أما دواء‬
‫الخرة فال هو الذي ضمن لمن تناوله تمام الشفاء ‪ ،‬ولو علم الناس ما للطاقة الروحية من‬
‫فوائد علجية على الجسم والنفس لتخلوا عن استعمال كمية وافرة من الدوية التي في معظمها‬
‫ل تعالج إل العراض ‪ ،‬ول تنفذ إلى السباب ‪ ،‬وقد كان سلفنا الصالح أدرى ما يكونون بذلك ‪،‬‬
‫فأرشدوا أطباء الدنيا إلى ما غاب عنهم من طب الخرة ‪ ،‬وعلّموهم أن راحة قلب للمريض‬
‫وسعادته لها أعظم الثر في محاصرة داء الجسد ودفع بلئه‪.‬‬
‫قال ابن القيّم وهو يصف حال شيخه ابن تيمية ‪:‬‬
‫" وحدّثني شيخنا قال ‪ :‬ابتدأني مرض ‪ ،‬فقال لي الطبيب ‪ :‬إن مطالعتك وكلمك في العلم يزيد‬
‫المرض ‪ ،‬فقلت له ‪ :‬ل أصبر على ذلك ؛ وأنا أحاكمك إلى علمك ‪ ،‬أليست النفس إذا فرحت‬
‫سرّ بالعلم ‪ ،‬فتقوى‬
‫سرّت قويت الطبيعة فدفعت المرض ‪ ،‬فقال ‪ :‬بلى ‪ ،‬فقلت له ‪ :‬فإن نفسي ُت َ‬
‫وُ‬
‫به الطبيعة ‪ ،‬فأجد راحة ‪ ،‬فقال ‪ :‬هذا خارج عن علجنا " ‪.‬‬

‫‪ .18‬قلب يقلب المعركة ‪:‬‬

‫قد يدخل قلبٌ المعركة فيقلب الهزيمة الساحقة نصرا مبينا خاصة إن كان من نوع قلب أبي‬
‫طلحة رضي ال تعالى عنه الذي شهد له النبي صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬صوت أبي طلحة في‬
‫الجيش خير من ألف رجل » ‪.‬‬
‫صوته فحسب بألف فكيف بسيفه؟! وهل بلغ هذا إل بقلبه وما يحويه قلبه؟ وهل هذا إل نتاج‬
‫شجاعته وإقدامه وثباته وإيمانه وهي كلها أعمال قلوب؟! رحمة ال عليه وكأنه يشرح بفعله‬
‫معنى قول ابن الجوزي ‪:‬‬
‫" الشجاع يلبس القلب على الدرع ‪ ،‬والجبان يلبس الدرع على القلب " ‪.‬‬
‫ليدخل بذلك في زمرة من عناهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بقوله ‪:‬‬
‫« خير الصحابة أربعة ‪ ،‬وخير السرايا أربعمائة ‪ ،‬وخير الجيوش أربعة آلف ‪ ،‬ول تُهزَم اثنا‬
‫عشر ألفا من قلة » ‪.‬‬
‫ومعنى آخِر مقطعٍ في الحديث ‪ « :‬ول تُهزَم اثنا عشر ألفا من قلة » ‪ :‬أن هزيمة أي جيش إن‬
‫بلغ هذا العدد ل تكون بسبب قلته لكن بسبب قلوب جنوده ‪ ،‬فهل علمتم الن سبب غثائية المّة‬
‫وكثرة زبدها وضعف قوتها ووهن عزيمتها وتبوئها ذيل المم؟‬
‫وفي المقابل ‪ :‬قد ينقلب قلب نصر المة هزيمة ماحقة ‪ ،‬فإن مرضا واحدا من أمراض القلب‬
‫وهو الوهن كان كافيا لتسلط حفنة من اليهود ل تجاوز مليينها عدد أصابع اليدين على مقدّرات‬
‫أمّة فاق عددها اللف ومائتي مليون مسلم ‪ ،‬إن قلوبنا هي سلحنا الحقيقي في معركتنا الفاصلة‬
‫مع العدو ‪ ،‬لذا كانت ول زالت هي هدف العدو الساسي ومرمى سهامه الوحيد ‪ ،‬يبث فيها السم‬
‫ليتفشى فيها الداء ؛ فتبقى دوما طريحة فراش الشهوات والمنيات ‪ ،‬وتترك بوابة المّة مفتوحة‬
‫على مصراعيها لغارات العدو بعد أن رفعت رايتها البيضاء مستسلمة‪.‬‬
‫ويعضّد هذا قول رسولنا صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬صلح أول هذه المّة بالزهد واليقين ‪ ،‬ويهلك‬
‫آخرها بالبخل والمل » ‪ ،‬وهي كما ترى ليست أعمال جوارح بل أعمال قلوب ‪ ،‬فاعلم قدر قلبك‬
‫وأعطه ما يستحق واعتن به يا غافل عن أثمن ما يملك!! نصر المّة في قلب وهزيمتها من‬
‫قلب ‪ ،‬فأي القلبين قلبك؟!‬

‫‪ .19‬مستودع الخلق والمشاعر ‪:‬‬

‫إن قلب المرء هو الذي يتحكم في أخلقه ويكظم انفعالته ويضبط سلوكه ويهذّب الشارد من‬
‫طباعه ‪ ،‬وهل تسكن أخلق المانة والوفاء والصبر والحلم والرحمة والعفو والصدق والعدل بيتا‬
‫غير القلب؟! ولذا قال الحنف بن قيس ‪:‬‬
‫ولربما ضحك الحليم من الذى ** وفؤاده من حرّه يتأوّه‬
‫ولربما شكل الحليم لسانه ** حذر الجواب وإنه لمُفوّه‬
‫حسْن الخلق من حياة القلب ‪ ،‬وسوء الخلق من مرض القلب أو موته ‪ ،‬وقد كان النبي صلى‬ ‫فُ‬
‫ال عليه وسلم أحسن الناس خلقا ‪ ،‬ولذا فقد كان قلبه أعمر القلوب بالحياة حتى أيقظ قلوب كل‬
‫من كان حوله في حياته وبعد رحيله‪.‬‬
‫قال أبو حامد الغزالي ‪:‬‬
‫" القلب خزانة كل جوهر للعبد نفيس ‪ ،‬وكل معنى خطير ‪ ،‬أولها العقل ‪ ،‬وأجلّها معرفة ال تعالى‬
‫التي هي سبب سعادة الدارين ‪ ،‬ثم البصائر التي بها التقدّم والوجاهة عند ال تعالى ‪ ،‬ثم النية‬
‫الخالصة في الطاعات التي بها يتعلّق ثواب البد ‪ ،‬ثم أنواع العلوم والحكم التي هي شرف‬
‫العبد ‪ ،‬وسائر الخلق الشريفة الخصال الحميدة التي بها يحصل تفاضل الرجال ‪ ،‬وحُقّ لهذه‬
‫سرّاق والقُطّاع ‪ ،‬وتُكرم‬ ‫الخزانة أن تُحفظ وتصان عن الدناس والفات ‪ ،‬وتُحرس وتُحرز من ال ُ‬
‫جلّ بضروب الكرامات ‪ ،‬لئل يلحق تلك الجواهر العزيزة دنس ‪ ،‬ول يظفر بها ‪-‬والعياذ بال‪-‬‬ ‫وتُ َ‬
‫عدو " ‪.‬‬
‫إن قلبا عزيزا يمتلئ بالحزن سوف يرسل الوامر إلى الوجه ليبتسم حتى ل يعلم الناس ما به‬
‫من أذى ‪ ،‬فإن علموا ما به ظلّ متألما ِبذُلّ الشكوى محترقا بنار شفقة الناس عليه ‪ ،‬وهكذا كان‬
‫قلب العزيز أسامة بن منقذ حين قال ‪:‬‬
‫نافقتُ قلبي فوجـهي ضاحكٌ جذِل ** طلـق وقلبي كئيب مُكْمد باكِ‬
‫وراحة القلب في الشكوى ولذتها ** لو أمكنت ل تساوي ذلة الشاكي‬
‫إن القلب والباطن هو من يضبط ويتحكم في الجوارح والظاهر ليظهر أمام الناس ما يسمح به‬
‫القلب فحسب ‪ ،‬ويأذن به ويرضاه ‪ ،‬واسمع مرة ثانية إلى قول أسامة بن منقذ وتمثيله الجميل ‪:‬‬
‫انظر إلى حسن صبر الشمع يُظ ِهرُ للـ ** رائين نورا وفيه النار تستعِر‬
‫كذا الكـريم تراه تـراه ضاحكا جـذِل ** وقلـبه بدخـيل الغـم منفطر‬

‫‪ .20‬بين الموت والحياة ‪:‬‬

‫قال تعالى ‪:‬‬


‫جعَلْنَا َلهُ نُورًا َي ْمشِي ِبهِ فِي النّاسِ َك َمنْ َمثَُلهُ فِي الظُّلمَاتِ لَ ْيسَ‬ ‫﴿ أَ َو َمنْ كَانَ مَ ْيتًا فََأحْيَ ْينَاهُ وَ َ‬
‫بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [ النعام ‪] 122 :‬‬
‫وهذا مثل ضربه ال للذي هداه بعد الضللة وشبّهه بأنه كان كالميت الذي أحياه ال ‪ ،‬وجعل له‬
‫نورا يمشي به في الناس مستضيئا به ‪ ،‬فيميز بعضهم من بعض ‪ ،‬ويفصل بين أبيضهم‬
‫وأسودهم وجميلهم وقبيحهم ومن يعرف منهم ومن ل يعرف ‪ ،‬ويسير فل يتعثّر أو ينكب على‬
‫وجهه ‪ ،‬ويعرف طريقه بل يساعد غيره على معرفة طريقه ‪ :‬يرشد العميان ويهدي الحيران ‪،‬‬
‫أهذا مثله مثل من بقي على الضللة المتخبط في الظلمة ل ينفك منها ول يتخلص؟!‬
‫ولكي تفهمه الفارق جيدا بين الفريقين وترى التناقض الكبير والبون الشاسع بين طريقين ‪،‬‬
‫سدّي في تفسير هذه الية ‪:‬‬ ‫فاسمع ما قاله زيد بن أسلم والمام ال ّ‬
‫حيَيْنَاهُ ﴾ ‪ :‬عمر رضي ال عنه ‪َ ﴿ ،‬ك َمنْ مَثَُلهُ فِي الظُّلمَاتِ ﴾ ‪ :‬أبو جهل لعنه ال " ‪.‬‬ ‫" ﴿ فَأَ ْ‬
‫إنه الفارق بين السماء والرض ‪ ،‬لكن الصحيح أنها عامة في كل مسلم وكافر ‪ ،‬أو ضال‬
‫ومهتدي ‪ ،‬ووصف الموت هذا أحد عشرة أوصاف وصف ال بها قلوب الكافرين في القرآن‪.‬‬
‫قال المام القرطبي ‪:‬‬
‫" وقال أهل المعاني ‪ :‬وصف ال تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف ‪ :‬بالختم والطبع والضيق‬
‫والمرض والرين والموت والقساوة والنصراف والحمية والنكار ‪ ،‬فقال في النكار ‪ ﴿ :‬قُلُوبُهُمْ‬
‫جعَلَ اّلذِينَ َك َفرُوا فِي‬ ‫ُمنْ ِك َرةٌ َو ُهمْ ُمسْتَ ْك ِبرُونَ ﴾ [ النحل ‪ ، ] 22 :‬وقال في الحميّة ‪ِ ﴿ :‬إذْ َ‬
‫صرَفَ الّلهُ قُلُوبَ ُهمْ‬‫صرَفُوا َ‬ ‫ح ِم ّيةَ ﴾ [ الفتح ‪ ، ] 26 :‬وقال في النصراف ‪ ﴿ :‬ثُمّ ا ْن َ‬ ‫قُلُوبِ ِهمُ الْ َ‬
‫بَِأنّهُمْ قَ ْومٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [ التوبة ‪ ، ] 127 :‬وقال في القساوة ‪ ﴿ :‬فَوَيْلٌ لِلْقَا ِ‬
‫س َيةِ قُلُوبُ ُهمْ ِمنْ ذِ ْكرِ‬
‫الّلهِ ﴾ [ الزمر ‪ ، ] 22 :‬وقال ‪ ﴿ :‬ثُمّ َقسَتْ قُلُو ُبكُمْ ِمنْ بَ ْعدِ ذَ ِلكَ ﴾ [ البقرة ‪ ، ] 74 :‬وقال في‬
‫حيَيْنَاهُ ﴾ [ النعام ‪ ، ] 122 :‬وقال ‪ ﴿ :‬إِ ّنمَا َيسْ َتجِيبُ اّلذِينَ‬ ‫الموت ‪ ﴿ :‬أَ َو َمنْ كَانَ مَيْتًا فَأَ ْ‬
‫سمَعُونَ وَا ْلمَوْتَى يَ ْبعَثُ ُهمُ الّلهُ ﴾ [ النعام ‪ ، ] 36 :‬وقال في الرين ‪ ﴿ :‬كَلّا بَ ْل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ‬ ‫َي ْ‬
‫سبُونَ ﴾ [ المطففين ‪ ، ] 14 :‬وقال في المرض ‪ ﴿ :‬فِي قُلُوبِ ِهمْ َم َرضٌ ﴾ [ البقرة ‪:‬‬ ‫مَا كَانُوا يَ ْك ِ‬
‫حرَجًا ﴾ [ النعام ‪:‬‬ ‫صدْ َرهُ ضَيّقًا َ‬ ‫‪ ، ] 10‬وقال في الضيق ‪َ ﴿ :‬و َمنْ ُي ِردْ َأنْ ُيضِّلهُ يَجْعَلْ َ‬
‫‪ ، ] 125‬وقال في الطبع ‪َ ﴿ :‬وطُ ِبعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [ التوبة ‪ ، ] 87 :‬وقال ‪﴿ :‬‬
‫علَيْهَا بِ ُك ْفرِهِمْ ﴾ [ النساء ‪ ، ] 155 :‬وقال في الختم ‪ ﴿ :‬خَتَمَ الّلهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [‬ ‫بَلْ طَ َبعَ الّلهُ َ‬
‫البقرة ‪. " ] 7 :‬‬
‫وفي مقابل وصف ‪ :‬ميت ؛ أطلق ال على كل من قُتِل جهادا في سبيله لفظ ‪ :‬حي ‪ ،‬بل حرّم‬
‫علينا أن نطلق عليهم لقب أموات ‪ ،‬وما ذلك إل لحياة قلبه ‪ ،‬فقال ‪َ ﴿ :‬ولَا َتقُولُوا ِل َمنْ يُ ْقتَلُ فِي‬
‫ش ُعرُونَ ﴾ [ آل عمران ‪] 154 :‬‬ ‫سَبِيلِ الّلهِ َأمْوَاتٌ َبلْ أَحْيَاءٌ َولَ ِكنْ لَا َت ْ‬
‫فنهانا سبحانه أن نطلق على الشهيد كلمة ‪ :‬ميت ‪ ،‬فهو حي في حياته وبعد رحيله ‪ ،‬لذا قال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم عن طلحة بن عبيد ال وهو حي ‪ « :‬طلحة ممن قضى نحبه » ‪،‬‬
‫فالحي حي في حياته وبعد مماته ‪ ،‬وميت القلب ميت في حياته وبعد موته ‪ ،‬وحياة قلب الشهيد‬
‫توحي بها معنى كلمة شهيد والتي تعني أنه شهد على الغيب حتى صار عنده شهادة ‪ ،‬ولنه‬
‫رأى بقلبه ما ل يراه الناس إل بعد موتهم ؛ فأقدم على التضحية بأغلى ما يملك ؛ كوفئ‬
‫باستمرار إطلق صفة الحياة عليه حتى بعد الموت‪.‬‬

‫ورد إلي رحي (الباب الثاني ‪ :‬أنواع القلوب ‪ ..‬القلب الحي)‬

‫*·~‪ *~-.,¸¸.-‬الفصل الثاني ‪ :‬أقسام القلوب *·~‪*~-.,¸¸.-‬‬

‫تُرى لو قبضنا ال الن فبأي قلب نلقى ال؟! واسأل نفسك اليوم صادقا ‪ :‬قلبك معك أم عليك؟!‬
‫عندك أم عند غيرك؟! ومن العجب أن الرجل فينا كلما لقي أخاه أو صاحبه سأله عن أولده‬
‫وعن عمله وعن أهله وعن صحته وعن تجارته وعن كل شيء ‪ ،‬لكنه ل يسأله أهم سؤال ‪ :‬ما‬
‫حال قلبك؟ ولو سُئل أحدنا هذا السؤال لستغرب أشد الستغراب هذا إن فهمه في الصل ‪ ،‬فأي‬
‫القلوب قلبك؟! أم أنك ل تملك قلبا من الساس؟!‬
‫قال ابن القيّم ‪:‬‬
‫" اطلب قلبك في ثلثة مواطن ‪ :‬عند سماع القرآن ‪ ،‬وفي مجالس الذكر ‪ ،‬وفي أوقات الخلوة ‪،‬‬
‫فان لم تجده في هذه المواطن ؛ فسل ال أن يمنّ عليك بقلب فإنه ل قلب لك " ‪.‬‬
‫ولذا لما قابل رجلٌ قلبا من القلوب الحية من أمثال الربيع بن خثيم وسأله عن حاله انصرف‬
‫عقل الربيع أول ما انصرف أنه يسأله عن قلبه وحياة روحه ‪ ،‬فلما قال له قائل ‪ :‬كيف أصبحت؟‬
‫قال ‪ " :‬أصبحنا مذنبين ‪ ،‬نأكل أرزاقنا ‪ ،‬وننتظر آجالنا " ‪.‬‬
‫فكم منا يفهم ما فهم الربيع ‪ ،‬ويجيب مثل ما أجاب؟! فالحياة حياة القلب ‪ ،‬والموت موت القلب ‪،‬‬
‫والمرض مرض القلب ‪ ،‬وإلى أقسام القلوب نتجوّل في هذا الباب‪.‬‬

‫‪ .1‬القلب الحي ‪‌ :‬‬


‫أ‪ -‬إذا ذُكِر ال وجل قلبه ‪:‬‬

‫ول تزال قصة الطبيب المسلم الذي عاد أحد مرضاه قديما دالة على معنى وجل القلب ‪،‬‬
‫وذلك أنهم حكوا أن طبيبا ذهب ليتفقد أحد المرضى ‪ ،‬والذي كان طريح الفراش ل يُدرى‬
‫سبب مرضه ‪ ،‬ول يُعرف له علة ظاهرة ‪ ،‬فتناول الطبيب يد المريض ليقيس النبض ‪،‬‬
‫وأخذ أثناء ذلك يسأل من حوله عن أحواله ‪ ،‬ثم عرّج فسأل عن جيرانه ‪ ،‬فأخذ النبض‬
‫عندها يسرع شيئا فشيئا ‪ ،‬حتى إذا سأل عن جار بعينه وهنا أسرع النبض أكثر ؛ حتى‬
‫إذا سأل عن أبناء هذا الجار اضطربت أوصال المريض وازداد النبض علوا ‪ ،‬فلما ذُكِر‬
‫سرَت الرعشة من نبضه إلى جسده الذي بدأ‬ ‫أن له ابنة حسناء وأتى ذكر اسمها َ‬
‫يرتجف وبصره الذي زاغ ووجهه الذي أمطر العرق ‪ ،‬فقال الطبيب لهله عندها ‪ :‬هذا‬
‫ليس بمريض!! هذا رجل عاشق!!‬
‫ول المثل العلى! أيحضر القلب عند ذكر الحبيب ول يحضر عند ذكر المجيب؟! أتخشع‬
‫الجوارح لذكر المخلوق ول تبالي بذكر الخالق؟! أينقطع الفؤاد كمدا لغياب فان وزائل‬
‫ول يبالي بهجران باق ودائم؟!‬
‫من علمات المحب انزعاجه عند ذكر محبوبه ‪ ،‬فإذا أردت اختبار قلبك لتعرف أي‬
‫القلوب هو؟! فاسأل نفسك ‪ :‬أيحضر القلب عند ذكر ربه؟ أيخشع لسماع كلمه؟ أينصت‬
‫لترديد أذانه؟ أبكى ليلة خوفا من عذابه؟ أضطرب يوما لحتمال طرده من جواره؟ أقلق‬
‫من خاتمة أعماله؟ كن صادقا وإن لم يطلع عليك أحد ‪ ،‬فإنه سبحانه أدرى منك‬
‫بسريرتك وأعلم بك منك ‪ ،‬فاعرف موقعك من اليمان كما سبق وعرف الحسن البصري‬
‫لما سأله رجل فقال ‪ :‬يا أبا سعيد! أمؤمن أنت؟ فقال له ‪ " :‬اليمان إيمانان ‪ ،‬فإن كنت‬
‫تسألني عن اليمان بال وملئكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا به‬
‫مؤمن ‪ ،‬وإن كنت تسألني عن قول ال تبارك وتعالى ‪ ﴿ :‬إِ ّنمَا ا ْلمُ ْؤمِنُونَ اّلذِينَ ِإذَا ذُ ِكرَ‬
‫علَى رَبّ ِهمْ َيتَوَكّلُونَ ﴾ إلى قوله‬ ‫الّلهُ َوجِلَتْ قُلُوبُ ُهمْ َوِإذَا تُلِ َيتْ عَلَيْ ِهمْ آيَا ُت ُه زَادَتْهُمْ إِيمَانًا َو َ‬
‫﴿ أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُ ْؤمِنُونَ حَقّا ﴾ فوال ما أدري أنا منهم أم ل " ‪.‬‬
‫أحياء القلوب إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدا وبكيّا بينما غيرهم خرّ عليها‬
‫صمّا وعميانا ‪ ،‬لنهم أصحاب حياة يسمعون بقلوبهم قبل أسماعهم ‪ ،‬ولذا قال ابن زيد‬
‫في قوله ﴿ وَتَ ِعيَهَا ُأ ُذنٌ وَاعِ َيةٌ ﴾ [ الحاقة ‪ ] 12 :‬واعية ‪ " :‬إنما تعي القلوب ما تسمع‬
‫الذان من الخير والشر " ‪.‬‬
‫قال ابن القيّم ‪:‬‬
‫" فالوعي توصف به الذن كما يوصف به القلب ‪ ،‬يقال ‪ :‬قلب واع وأذن واعية لما بين‬
‫الذن والقلب من الرتباط ‪ ،‬فالعلم يدخل من الذن إلى القلب ‪ ،‬فهي بابه والرسول‬
‫الموصل إليه العلم ؛ كما أن اللسان رسوله المؤدي عنه ‪ ،‬ومن عرف ارتباط الجوارح‬
‫بالقلب علم أن الذن أحقها أن توصف بالوعي ‪ ،‬وأنها إذا وعت وعى القلب " ‪.‬‬

‫‌ب‪ -‬له في كل شيء عبرة ‪:‬‬

‫سمِينَ ﴾ [ الحجر ‪ ، ] 75 :‬والمتوسّمون هم المتفكرون‬ ‫﴿ ِإنّ فِي ذَ ِلكَ لَآيَاتٍ لِ ْلمُتَ َو ّ‬


‫المعتبرون الذين يتوسمون في الشياء ويتفكرون فيها ويعتبرون ‪ ،‬ويدققون نظرهم‬
‫حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته‪.‬‬
‫قال العلماء ‪ :‬التوسّم من الوسم وهي العلمة التي يُستدل بها ؛ يُقال ‪ :‬توسمت فيه‬
‫الخير إذا رأيت ملمح ذلك فيه ‪ ،‬ومنه قول عبد ال بن رواحة للنبي صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪:‬‬
‫إني توسّمت فيك الخير أعرفه ‪ ...‬وال يعلم أني ثابت البصر‬
‫واتسم الرجل إذا جعل لنفسه علمة يُعرف بها ‪ ،‬والواسم ‪ :‬الناظر إليك من فرقك إلى‬
‫قدمك ‪ ،‬وأصل التوسم التثبت والتفكر مأخوذ من الوسم ‪ ،‬وهو التأثير بحديدة في جلد‬
‫البعير وغيره‪.‬‬
‫والشارة ﴿ فِي َذِلكَ ﴾ إلى جميع ما تضمنته القصة التي بدأت بقوله تعالى ﴿ وَنَبّئْهُمْ‬
‫عنْ ضَ ْيفِ إِ ْبرَاهِيمَ ﴾ ‪ ،‬ففيها من اليات الكثير ‪ :‬آية نزول الملئكة في بيت إبراهيم‬ ‫َ‬
‫عليه السلم كرامة له ‪ ،‬وبشارته بغلم عليم ‪ ،‬وإعلم ال إياه بما سيحل بقوم لوط ‪،‬‬
‫ونصر ال لوطا بالملئكة ‪ ،‬وإنجائه عليه السلم وآله ‪ ،‬وإهلك قومه وامرأته‬
‫لمناصرتها إياهم ‪ ،‬وآية عمى أهل الضللة عن أنوار الهداية ‪ ،‬وآية غضب ال على‬
‫صرّين على عصيان الرسل ‪ ،‬وهو إهانة للذين لم تردعهم العبر بأنهم دون مرتبة‬
‫ال ُم ِ‬
‫النظر ‪ ،‬وتعريض بمشركي مكة الذين لم يتعظوا ؛ بأن يحل بهم ما حلّ بالمم من قبلهم‬
‫التي عرفوا أخبارها ورأوا آثارها ‪ ،‬وتعريض كذلك بمن سلك نفس الطريق من العصاة‬
‫والغافلين‪.‬‬

‫للفراسة رجالها‬
‫ول تكون الفراسة إل بتفريغ القلب من هَمّ الدنيا ‪ ،‬وتطهيره من أدناس المعاصي‬
‫وكدورة الخلق وفضول المباحات ‪ ،‬وعندها يجري على مرآة القلب كل حق ل خيال ‪،‬‬
‫لنه تقلب بين آيات الحق وأنوار الطاعات فانهالت عليه الفيوضات والشراقات ‪ ،‬ومثل‬
‫ذلك قول ابن عباس رضي ال عنه ‪ :‬ما سألني أحد عن شيء إل عرفت أفقيه هو أو‬
‫غير فقيه‪.‬‬
‫وما رُوِي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب‬
‫المسجد فقال أحدهما ‪ :‬أراه نجارا ‪ ،‬وقال الخر ‪ :‬بل حدادا ‪ ،‬فتبادر من حضر إلى‬
‫الرجل فسأله فقال ‪ :‬كنت نجارا وأنا اليوم حداد!!‬
‫ورُوي عن جندب بن عبد ال البجلي أنه أتى على رجل يقرأ القرآن فوقف فقال ‪ :‬من‬
‫سمّع سمّع ال به ومن راءى راءى ال به ‪ ،‬فقلنا له ‪ :‬كأنك عرّضت بهذا الرجل ‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬إن هذا يقرأ عليك القرآن اليوم ويخرج غدا حروريا ؛ فكان رأس الحرورية واسمه‬
‫مرداس‪.‬‬
‫ورُوِي عن الحسن البصري أنه دخل عليه عمرو بن عبيد فقال ‪ :‬هذا سيد فتيان البصرة‬
‫إن لم يُحدِث ‪ ،‬فكان من أمره من القدَر ما كان حتى هجره عامة إخوانه‪.‬‬
‫وقال ليوب ‪ :‬هذا سيد فتيان أهل البصرة ولم يستثن‪.‬‬
‫ورُوِى عن الشعبي أنه قال لداود الزدي وهو يماريه ‪ :‬إنك ل تموت حتى تُكوى في‬
‫رأسك وكان كذلك‪.‬‬
‫ورُوي أن عمر بن الخطاب رضي ال عنه دخل عليه قوم من مذحج فيهم الشتر فصعّد‬
‫فيه النظر وصوّبه وقال ‪ :‬أيهم هذا؟ قالوا ‪ :‬مالك بن الحارث فقال ‪ :‬ما له قاتله ال!‬
‫إني لرى للمسلمين منه يوما عصيبا ‪ ،‬فكان منه في الفتنة ما كان‪.‬‬
‫ورُوِي عن عثمان بن عفان رضي ال عنه ‪ :‬أن أنس بن مالك دخل عليه وكان قد مر‬
‫بالسوق ‪ ،‬فنظر إلى امرأة فلما نظر إليه قال عثمان ‪ :‬يدخل أحدكم علي وفي عينيه أثر‬
‫الزني! فقال له أنس ‪ :‬أوحيا بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم؟! فقال ‪ :‬ل ! ولكن‬
‫برهان وفراسة ‪ ،‬وصدق ‪ ،‬ومثله كثير من الصحابة والتابعين رضي ال عنهم أجمعين‬
‫‪.‬‬

‫من ألوان الفراسة‬


‫التفاعل مع الحداث اليومية ‪ :‬صاحب القلب الحي إذا رأى ظلمة حسبها ظلمة القبر ‪،‬‬
‫وإذا وجد لذة ذكر نعيم الجنة ‪ ،‬وإذا صرخ من ألم خاف عذاب النار ‪ ،‬وإذا ش ّم شواء‬
‫ذكر جهنم ‪ ،‬وإذا رأى ضاحكا على معصية رقّ لحاله في الخرة ‪ ،‬وإذا رأى مطيعا على‬
‫فاقة استبشر بنعيمه في الجنة‪.‬‬
‫كان عمر بن عبد العزيز من أرباب القلوب الحية وكان واقفا مع سليمان بن عبد‬
‫الملك ‪ ،‬فسمع سليمان صوت الرعد فجزع ووضع صدره على مقدمة الرحل ‪ ،‬فقال‬
‫عمر وهو المعتبر المتدبر بكل ما حوله ‪ :‬هذا صوت رحمته فكيف إذا سمعت صوت‬
‫عذابه؟!‬
‫ومثله الحسن البصري الذي روى عنه سلم ‪ " :‬أُتي الحسن بكوز من ماء ليفطر‬
‫عليه ‪ ،‬فلما أدناه إلى فيه بكى ؛ وقال ‪ :‬ذكرت أمنية أهل النار؛ قولهم ‪َ ﴿ :‬أنْ َأفِيضُوا‬
‫علَيْنَا ِمنَ ا ْلمَاءِ ﴾ [ العراف ‪ ، ] 50 :‬وذكرت ما أُجيبوا ‪ِ ﴿ :‬إنّ الّلهَ َ‬
‫ح ّرمَ ُهمَا عَلَى‬ ‫َ‬
‫الْكَا ِفرِينَ ﴾ [ العراف ‪ :‬من الية ‪. " )50‬‬
‫إن حياة القلب تمنح العين حياة فوق الحياة وبصيرة فوق البصر ‪ ،‬فإذا هي مثل عين‬
‫أبي الفرج بن الجوزي الذي أبصر وتبصّر فقال حاكيا إحدى تأملته التي ل يدركها إل‬
‫من كان مثله ‪:‬‬
‫" رأيت كل من يعثر بشيء أو يزلق في مطر يلتفت إلي ما عثر به فينظر إليه طبعا‬
‫موضوعا في الخلق ‪ ،‬إما ليحذر منه أن جاز عليه مرة أخرى أو لينظر ‪ -‬مع احترازه‬
‫وفهمه ‪ -‬كيف فاته التحرز من مثل هذا ‪ ،‬فأخذت من ذلك إشارة وقلت ‪ :‬يا من عثر‬
‫مرارا ‪ ..‬هل أبصرت ما الذي عثّرك فاحترزت من مثله ‪ ،‬أو قبّحت لنفسك ‪-‬مع‬
‫حزمها‪ -‬تلك الواقعة " ‪.‬‬
‫قراءة الرسائل الربانية ‪ :‬وصاحب القلب الحي إذا وفّقه ال لطاعة سأل نفسه ‪ :‬بأي‬
‫عمل صالح أثابني ال بهذه الطاعة؟ أبدعوة إلى خير أم بصلة ليل أم بسعي في حاجة‬
‫مسلم أم بعفو عن مسيء أم بإنظار معسر؟! فيراجع شريط ذكرياته ليُكرّر صالح أعماله‬
‫فينعم بنفس الثواب مرات كثيرة ‪ ،‬وقد جعل ال ثمارا عديدة تربو على الخمسين لمن‬
‫حرس ثغور قلبه من عدوه ‪ ،‬ولم يُدخِل منها سوى الحسنات الموالية للقلب والعاملة‬
‫على مصلحته ومنفعته ‪ ،‬لكن قضى ال أن ل يتذوق لذة هذه الثمرات إل من زكى قلبه‬
‫وسمت روحه ‪ ،‬ولذا قال ابن القيم وهو يحاول أن يقنعك بجدوى هذه الحراسة وفاعلية‬
‫ترك الذنوب ‪:‬‬
‫" لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إل إقامة المروءة ‪ ،‬وصون العرض ‪ ،‬وحفظ‬
‫الجاه ‪ ،‬وصيانة المال الذي جعله ال قِواما لمصالح الدنيا والخرة ‪ ،‬ومحبة الخلق ‪،‬‬
‫وجواز القول بينهم ‪ ،‬وصلح المعاش ‪ ،‬وراحة البدن ‪ ،‬وقوة القلب ‪ ،‬وطيب النفس ‪،‬‬
‫ونعيم القلب ‪ ،‬وانشراح الصدر ‪ ،‬والمن من مخاوف الفُساق والفجار ‪ ،‬وقلة الهم والغم‬
‫والحزن ‪ ،‬وعز النفس عن احتمال الذل ‪ ،‬وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية ‪،‬‬
‫وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار ‪ ،‬وتيسير عليه الرزق من حيث ل‬
‫يحتسب ‪ ،‬وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي ‪ ،‬وتسهيل الطاعات عليه ‪،‬‬
‫وتيسير العلم والثناء الحسن في الناس ‪ ،‬وكثرة الدعاء له ‪ ،‬والحلوة التي يكتسبها‬
‫وجهه ‪ ،‬والمهابة التي تُلقى له في قلوب الناس ‪ ،‬وانتصارهم وحميتهم له اذا أوذي‬
‫وظُلِم ‪ ،‬وذبّهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب ‪ ،‬وسرعة إجابة دعائه ‪ ،‬وزوال الوحشة‬
‫التي بينه وبين ال ‪ ،‬وقُرب الملئكة منه ‪ ،‬وبُعد شياطين النس والجن منه ‪ ،‬وتنافس‬
‫الناس على خدمته وقضاء حوائجه ‪ ،‬وخطبتهم لمودته وصحبته ‪ ،‬وعدم خوفه من‬
‫الموت ‪ ،‬بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه ‪ ،‬وصِغَر الدنيا في قلبه ‪،‬‬
‫وكِبَر الخرة عنده ‪ ،‬وحرصه على الملك الكبير والفوز العظيم فيها ‪ ،‬وذوق حلوة‬
‫الطاعة ‪ ،‬ووجد حلوة اليمان ‪ ،‬ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملئكة له ‪،‬‬
‫وفرح الكاتبين به ودعاؤهم له كل وقت ‪ ،‬والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته ‪،‬‬
‫وحصول محبة ال له ‪ ،‬وإقباله عليه ‪ ،‬وفرحه بتوبته ‪ ،‬وهكذا يجازيه بفرح وسرور ل‬
‫نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه " ‪.‬‬
‫لكن ‪ ..‬تُرى هل يلمح هذه المكافآت أحد غير أحياء القلوب؟! وهل يقوم بشكرها غير‬
‫من يتمتّعون بالرقة اليمانية والحساسية النورانية والفطرة التي لم تتدنس بعد؟‬
‫ومن أحياء القلوب هؤلء وأرباب المشاعر الرقيقة هذه ‪ :‬يحيى بن معاذ الذي لمح ذلك‬
‫بما حباه ال من بصيرة إيمانية ثاقبة فقال ‪:‬‬
‫" إن العبد على قدر حبه لموله يُحبّبه إلى خلقه ‪ ،‬وعلى قدر توقيره لمره يُ َوقّره‬
‫خلقه ‪ ،‬وعلى قدر التشاغل منه بأمره يشغل به خلقه ‪ ،‬وعلى قدر سكون قلبه على‬
‫وعده يطيب له عيشه ‪ ،‬وعلى قدر إدامته لطاعته يُحلّيها في صدره ‪ ،‬وعلى قدره لهجه‬
‫بذكره يديم ألطاف بره ‪ ،‬وعلى قدر استيحاشه من خلقه يؤنسه بعطائه ‪ ،‬فلو لم يكن‬
‫لبن آدم الثواب على عمله إل ما عُجّل له في دنياه لكان كثيرا " ‪.‬‬

‫العقوبات إشارات‬
‫حرِم القلب الحي من طاعة بادر على الفور بالسؤال ‪ :‬بأي معصية‬ ‫وفي المقابل إذا ُ‬
‫حرِمت وبأي خطيئة مُنِعت؟ أبكلمة غيبة؟ أبنظرة محرّمة؟ أبعقوق والدة؟! أبسماع‬ ‫ُ‬
‫فحش؟! يسأل نفسه خاصة بعد أن ارتجف خوفا واضطرب وجل واقتنع بسلمة تحليل‬
‫ابن القيم الذي انتهى إلى ( أن ال سبحانه جعل عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما‬
‫قصدوا له بتلك الجرائم ‪ ،‬فجعل عقوبة الكاذب إهدار كلمه ورده عليه ‪ ،‬وجعل عقوبة‬
‫الغالّ من الغنيمة لمّا قصد تكثير ماله بالغلول ‪ :‬حرمانه سهمه وإحراق متاعه ‪ ،‬وجعل‬
‫عقوبة من اصطاد فى الحرم أو الحرام ‪ :‬تحريم أكل ما صاده وتغريمه نظيره ‪ ،‬وجعل‬
‫عقوبة من استكبر عن عبوديته وطاعته ‪ :‬أن صيّره عبدا لهل عبوديته وطاعته ‪،‬‬
‫وجعل عقوبة من أخاف السبيل وقطع الطريق ‪ :‬أن تُقطع أطرافه وتُقطع عليه الطرق‬
‫كلها بالنفي من الرض ؛ فل يسير فيها إل خائفا ‪ ،‬وجعل عقوبة من التذ بدنه كله‬
‫وروحه بالوطء الحرام ‪ :‬إيلم بدنه وروحه بالجلد والرجم فيصل اللم إلى حيث وصلت‬
‫اللذة ‪ ،‬وشرع النبي صلى ال عليه وسلم عقوبة من اطلع في بيت غيره ‪ :‬أن تقلع‬
‫عينه بعود ونحوه ؛ إفسادًا للعضو الذى خانه ‪ ،‬وأولجه بيته بغير إذنه ‪ ،‬وعاقب من‬
‫حرص على الولية والمارة والقضاء بأن شرع منعه وحرمانه ما حرص عليه ‪ ،‬ولهذا‬
‫عاقب أبا البشر آدم عليه السلم بأن أخرجه من الجنة لما عصاه بالكل من الشجرة‬
‫ليخلد فيها ‪ ،‬فكانت عقوبته إخراجه منها ضد ما أمّله ‪ ،‬وعاقب الناس إذا بخسوا الكيل‬
‫والميزان بجور السلطان عليهم ؛ يأخذ من أموالهم أضعاف ما يبخس به بعضهم‬
‫بعضا ‪ ،‬وعاقبهم إذا منعوا الزكاة والصدقة ترفيها لموالهم بحبس الغيث عنهم ‪،‬‬
‫فيمحق بذلك أموالهم ‪ ،‬ويستوى غنيهم وفقيرهم في الحاجة ‪ ،‬وعاقبهم إذا أعرضوا عن‬
‫كتابه وسنّة نبيه صلى ال عليه وسلم وطلبوا الهدى من غيره ‪ :‬بأن يضلهم ويسد‬
‫عليهم أبواب الهدى ‪ ،‬وهذا باب واسع جدا عظيم النفع لمن تدبّره يجده متضمنا لمعاقبة‬
‫الرب سبحانه من خرج عن طاعته ‪ ،‬بأن يعكس عليه مقصوده شرعا وقدرا دنيا وآخره‬
‫)‪.‬‬
‫وممن تدبر هذا الباب ‪ :‬عمر بن الخطاب رضي ال عنه ول أعقل ‪ ،‬فقد روى الزهري‬
‫أن عمر بن الخطاب رضي ال عنه أصابه حجر وهو يرمي الجمار فشجّه فقال ‪ " :‬ذنب‬
‫بذنب ‪ ،‬والبادي أظلم " ‪.‬‬
‫وآخر على الدرب يقتفي أثر الفاروق خطوة خطوة وقدمه في إثر قدمه وهو أبو زرعة‬
‫الرازي ‪ ،‬فعن عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي قال ‪ " :‬اعتل أبو زرعة الرازي ‪،‬‬
‫فمضيت مع أبي لعيادته ‪ ،‬فسأله أبي عن سبب هذه العِلّة ‪ ،‬فقال ‪ :‬بِتّ وأنا في عافية ‪،‬‬
‫فوقع في نفسي أني إذا أصبحت أخرجتُ ما أخطأ سفيان الثوري ‪ ،‬فلما أصبحتُ خرجتُ‬
‫إلى الصلة ‪ ،‬وفي دربنا كلبٌ ما نبحني قطّ ‪ ،‬ول رأيته عدا على أحد ‪ ،‬فعدا عليّ‬
‫حمِمت ‪ ،‬فوقع في نفسي أن هذا لِما وضعتُ في نفسي ‪ ،‬فأضربتُ عن ذلك‬ ‫وعقرني ‪ ،‬و ُ‬
‫الرأي " ‪.‬‬
‫وثالثهم سجّان!! نعم سجّان‪ .‬قال بعض السجانين ‪ " :‬كنتُ سجّانا نيّفا وثلثين سنة أسأل‬
‫كل مأخوذ بالليل أنه هل صلى العشاء في جماعة؟! فكانوا يقولون ‪ :‬ل " ‪.‬‬
‫وصدق صلى ال عليه وسلم حين قال ‪ « :‬ل يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إل‬
‫بذنب ‪ ،‬وما يعفو ال عنه أكثر » ‪ ،‬بل وأكّد ‪ « :‬المصائب والحزان في الدنيا جزاء » ‪.‬‬

‫الراشد َي ْرشُد و ُي ْرشِد‬


‫وليست هذه الرسائل الربانية بحرمان الطاعات والقربات فحسب ‪ ،‬بل قد تكون كذلك‬
‫بتعسير دنيا وتضييق رزق وعقوق ولد وتنغيص عيش وشجار زوجة ‪ ،‬لينتبه كل من‬
‫لم ينتبه إلى عقوبة حرمان أجر الخرة إن كان دنيوي الهمة ل تقلقه الخرة بحال ‪ ،‬ول‬
‫يستيقظ إل بحرمان دنيوي ‪ ،‬وللستاذ الراشد إسقاط لطيف يقول فيه ‪:‬‬
‫" فلو أسلف مسلم حسنة فى المساء من صدقة ‪ ،‬أو صلة بوقتها ‪ ،‬أو أمر بمعروف ‪،‬‬
‫أو إغاثة لهفان ‪ ،‬أو تفهيم علم ‪ ،‬أو بذل شفاعة ‪ ،‬أو ستر عرض ‪ ،‬أو تخذيل عن شر ‪،‬‬
‫أو خلفة غاز مجاهد ‪ ،‬فماذا يحدث له فى الصباح؟‬
‫يستيقظ فإذا زوجه مبتسمة فى وجهه ‪ ،‬وإذا أولده يستيقظون مع أول نداء ‪ ،‬على أتم‬
‫نظافة ‪ ،‬وكل قد كتب واجبه المدرسى وجمع كتبه‪ .‬فإذا أفطر ‪ :‬كان طعامه لذيذا ‪،‬‬
‫وتودعه زوجه بابتسامة أيضًا حتى إذا ركب سيارته –وهى دوابنا اليوم‪ -‬وجدها سلسة‬
‫تشتغل مع أول إدارة للمفتاح ‪ ،‬ووجد الشارات الضوئية خضراء تفتح له الطريق‬
‫مرحبة به ‪ ،‬والسائق الذى أمامه يسير وفق الصول بأدب وهدوء ‪ ،‬حتى شرطى‬
‫المرور يرفع له يده بالتحية‪.‬‬
‫فإذا دخل مكتبه الوظيفى ‪ :‬وجده نظيفا ‪ ،‬وجاءه من المراجعين أهل الرفق والخلق ‪،‬‬
‫فإذا رجع ‪ :‬لم يجد ألذ من طعامه ‪ ،‬وهكذا سائر يومه!‪.‬‬
‫ثم لو أسلف سيئة فى ليلة أخرى ‪ :‬من غيبة ‪ ،‬أو بخل ‪ ،‬أوتقاعس عن نجدة ‪ ،‬أو‬
‫تأخير صلة ‪ ،‬أو تنابز باللقاب ‪ ،‬أو منع خير ‪ ،‬أو أذى جار ‪ ،‬أو انتصار بالباطل‬
‫لزوجة في تعاملها مع زوج صاحبه ‪ ،‬فماذا يحدث له؟‬
‫يستيقظ فإذا زوجه ذات عبوس وتأفف ‪ ،‬ول يدرى سببًا منه مباشرًا في إغصابها ‪ ،‬ثم‬
‫من بعد قليل إذا بها تولول ‪ ،‬ولربما فتش عن الفرد الضائع من حذاء ابنه نصف ساعة‬
‫‪ ،‬حتى يتأخر عن دوامه المدرسي ‪ ،‬ويكون طعامه مالحا ل يكاد يسيغه ‪ ،‬وتعذّبه‬
‫سيارته نصف ساعة أخرى كي تشتغل ‪ ،‬وتكون كالدابة الشموس ‪ ،‬ويجد الشارات‬
‫الضوئية حمراء في وجهه ‪ ،‬ويُبتلى بسائق طائش عن يمينه ‪ ،‬ثم يوقفه شرطي مرور‬
‫كان قد تشاجر مع زوجه هو الخر فيفرغ همومه فيه ويحرر له مخالفة هو منها‬
‫برئ ‪ ،‬وقد يبتلى ثالثة في مكتبه بمراجع فوضوى ملحاح يعكر عليه ويشكوه لدى‬
‫الرئيس ‪ ،‬ولربما يجد في الخر طعام غدائه دخانا محضا وتكون زوجه قد نسيت القدر‬
‫على النار حتى احترق ‪ ،‬ويظل سائر يومه قلقًا كئيبًا ‪ ،‬حتى أن أقل عقوبته أن توقظه‬
‫رنة الهاتف وهو في عز نوم القيلولة ‪ ،‬فيزعجه‪.‬‬
‫وكلنا يمر بمثل هذه الحوال ‪ ،‬ولكن القل هم الذين يرجعون بذاكرتهم إلى ما أسلفوا‬
‫من حسنات أو سيئات تكون سببًا لهذه الحوال ‪ ،‬والموفّق هو الذي يسرع إلى بديهته‬
‫هذا المعنى فيعلم موطن قدمه ‪ ،‬فيزداد خيرًا وصعودًا ‪ ،‬أو يحذر المنزلق ‪ ،‬ويجد في‬
‫هذه المعاكسات الخفيفة اللطيفة تحذيرًا يمنعه من السترسال في الغي وركوب الشهوات‬
‫‪ ،‬بل هي إشارات تحذير ربانية توازي اللمم والصغائر تنبهه إلى وجوب فطم النفس عن‬
‫هواها ‪ ،‬وإل عوقب بأكبر من ذلك ‪ ،‬من تضييق رزق ‪ ،‬وضياع تجارة ‪ ،‬وجلء بركة ‪،‬‬
‫ومرض متعب ‪ ،‬وتسلط ظالم ‪ ،‬وطلق ‪ ،‬وقذف عرض ‪ ،‬وفشل في امتحان ‪ ،‬وسفاهة‬
‫جار ‪ ،‬وبما هو أكبر من ذلك ربما ‪ ،‬ولهذا فإن هذه المعاكسات هي من تمام اللطف‬
‫الرباني بمؤمن يفهمها ويستوجب موعظتها ‪ ،‬من أجل أن ل يتمادى ‪ ،‬بل قيل ‪ :‬هي‬
‫مداعبة من ال للعبد ‪ ،‬يُذكّره أنه معه وتحت رقابته ليستقيم " ‪.‬‬
‫يا إخوتاه ‪ ..‬النظر في العاقبة نجاة ‪ ،‬ومن كثر اعتباره قلّ عثاره ‪ ،‬فما لنا ل ننتبه؟!‬
‫مع ما قد ينتظرنا بعد لطيف العتاب من عنيف العقاب؟!‬

‫والحر تكفيه الشارة‬


‫وهاك تجربة عملية ومقياس واقعي تعرف به حالة قلبك ومنسوب اليمان فيه ‪:‬‬
‫كم من الليالي تنام متأخّرا مع شدة التعب ومع ذلك تجد نفسك تنهض لصلة الفجر أو‬
‫للقيام دون أن يوقظك أحد!! وكم من الليالي نمت فيها فورا بعد العشاء ومع ذلك طلعت‬
‫عليك الشمس بعد أن ضاعت عليك الصلة!! إنها وال حياة قلبك ليس غير ‪ ،‬وقد‬
‫علمت أن العبد يُقرع بالعصى ‪ ،‬والحر تكفيه الشارة ‪ ،‬وهذه ليست إشارة واحدة بل‬
‫إشارات ‪ ،‬وأنت لست عبد شهوة أو شيطان ‪ ،‬ولست ملك هوى أو غفلة بل أنت من‬
‫سادات الحرار وسالكي طريق البرار‪.‬‬

‫‌ج‪ -‬انتفاضة الحياء ‪:‬‬

‫فمع أن العين مبصرة لما حولها ‪ ،‬لكنها لو رأت مشهدا محرّما فلن يُمكّن القلب الحي‬
‫الخواطر منه بحال ‪ ،‬ومع أن الذن مصغية ؛ لكنه لو كان الحرام لرتعدت وجل ‪ ،‬وبنت‬
‫على الفور سدا منيعا وحجابا حاجزا بينها وبين ما يُغضب ال ‪ ،‬وإذا جلس صاحب هذا‬
‫القلب مجلسا وتسلل إليه الحرام للمحه على الفور وتسلل خارجا في الحال إن لم يقدر‬
‫على التغيير والمواجهة ‪ ،‬وهذا هو مصدر سلمة هذا القلب وعنوان نقائه‪ .‬قال تعالى ‪:‬‬
‫صرُونَ ﴾ [ العراف‬ ‫﴿ ِإنّ اّلذِينَ اتّقَوْا ِإذَا َمسّهُمْ طَا ِئفٌ ِمنَ الشّيْطَانِ َتذَ ّكرُوا فَ ِإذَا هُمْ مُ ْب ِ‬
‫‪] 201 :‬‬
‫وتأمل قوله ﴿ َمسّهُمْ ﴾ الدال على إصابة غير مكينة ‪ ،‬وذلك بسبب فزعهم إلى ال‬
‫ليعصمهم من الشيطان عند ابتداء خواطره ؛ فإن الخواطر ولدة إن أُهملت لم تلبث أن‬
‫تصير شهوة ‪ ،‬ثم تصير الشهوة إرادة ‪ ،‬ثم تصير الرادة عزما ‪ ،‬ثم يتحول العزم عمل‪.‬‬
‫وتأمل قوله ﴿ طَا ِئفٌ ﴾ وكأن خواطر الشر طافت بهم ‪ ،‬ودارت حولهم فلم تقدر أن‬
‫تدخل إليهم وتؤثّر فيهم لقوة قلوبهم ويقظة إيمانهم ‪ ،‬فهم كمن طاف به الخيال ولم‬
‫يجرؤ على أن يدفعهم إلى الفعال ‪ ،‬والطائف يُطلق على الذي يمشي حول المكان ينتظر‬
‫الذن له بالدخول ‪ ،‬فشبّه ال الخاطر في ابتداء وروده في النفس بحلول الطائف على‬
‫المكان دون أن يستقر فيه‪.‬‬

‫‌د‪ -‬حلو اللسان‬

‫عن أبي هريرة رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إن العبد ليتكلم‬
‫بالكلمة من رضوان ال ل يُلقي لها بال يرفع ال بها درجات » ‪.‬‬
‫والبال هو القلب ‪ ،‬وتأمل قوله « ل يُلقي لها بال » ‪ ،‬أي أنها تخرج رغما عنه دون‬
‫تفكير أو تدبر ودون أن يُمرّها على قلبه ‪ ،‬ومع ذلك تخرج منه طيبة نقية ‪ ،‬لن كل‬
‫وعاء بما فيه ينضح ‪ ،‬وحديقة الورد ل يفوح منها غير شذى الورد ‪ ،‬إن حي القلب‬
‫يتذوّق كل كلمة بقلبه قبل النطق بها ‪ ،‬فإن كانت حلوة علم أن طعمها في الخرة‬
‫سيكون أحلى فأطلقها ‪ ،‬وإن كانت ُمرّة عرف أن طعمها في الخرة أشد مرارة فسكت‪.‬‬
‫واسمع إلى طهارة ل تدانيها طهارة ‪ ،‬وقلب طهور كالماء الطهور طاهر ومطهّر لما‬
‫حوله من القلوب ‪ ،‬وهو قلب عبد ال بن عون الذي قال عنه خارجة بن مصعب ‪" :‬‬
‫صحبتُ عبدال أربعا وعشرين سنة ‪ ،‬فما أعلم أن الملئكة كتبت عليه خطيئة " ‪.‬‬
‫فمهما استفزه الشيطان ببعض جنده وكافة حيله واجتمع عليه من أعوانه ما اجتمع ؛‬
‫فلن يفلحوا إذا أبدا ‪ ،‬فعن بكار بن محمد وابن قعنب قال ‪ " :‬كان ابن عون ل يغضب‬
‫فإذا أغضبه الرجل قال ‪ :‬بارك ال فيك " ‪.‬‬
‫ومن ذلك أن جاءه غلم له فقال ‪ :‬فقأت عين الناقة!! قال ‪ :‬بارك ال فيك‪ .‬قال ‪ :‬قلت‬
‫فقأت عينها فتقول بارك ال فيك!! قال ‪ :‬أقول ‪ ..‬أنت حر لوجه ال‪.‬‬
‫أي تربية؟! وأي صفاء ونقاء؟! وأي مجاهدة أورثت هذا السمو الراقي من سماحة‬
‫النفس وطيب الكلم وروعة التقى حتى صار مضرب المثال ‪ ،‬ومنتهى غاية الصالحين ‪،‬‬
‫وأسمى أمنيات المخلصين ؛ في عصره وغير عصره ‪ ،‬فعن معاذ بن معاذ قال ‪:‬‬
‫" حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد قال ‪ :‬إني لعرف رجل منذ عشرين‬
‫سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون فما يقدر عليه ‪ ،‬وليس ذاك أن يسكت‬
‫رجلٌ ل يتكلم ‪ ،‬ولكن يتكلم فيسلم كما يسلم ابن عون " ‪.‬‬
‫لكنه ليس وحده في الميدان بل ينافسه في الحلبة أطهار كُثر ‪ ،‬منهم الفضيل الذي أراد‬
‫أن يعطّر ألسنتنا ويطيّب كلمنا بطريقته الخاصة وأسلوبه المقنع فقال ‪:‬‬
‫" حسناتك من عدوك أكثر منها من صديقك!! قيل ‪ :‬وكيف ذلك يا أبا علي؟! قال ‪ :‬إن‬
‫صديقك إذا ذُكِرتَ بين يديه قال ‪ :‬عافاه ال ‪ ،‬وعدوك إذا ذُكِرت بين يديه يغتابك الليل‬
‫ض إذا ذُكِر بين يديك أن تقول ‪:‬‬‫والنهار ‪ ،‬وإنما يدفع المسكين حسناته إليك ‪ ،‬فل تر َ‬
‫اللهم أهلكه ‪ ..‬ل ‪ ،‬بل ادعُ ال ‪ :‬اللهم أصلحه ‪ ..‬اللهم راجع به ‪ ،‬ويكون ال معطيك‬
‫أجر ما دعوت به ‪ ،‬فإنه من قال لرجل ‪ :‬اللهم أهلكه ‪ ،‬فقد أعطى الشيطان سؤاله ‪ ،‬لن‬
‫الشيطان إنما يدور على هلك الخلق " ‪.‬‬
‫رحمة ال على أصحاب تلك القلوب ‪ ،‬وصدق فيها وصف من وصفها بقوله ‪:‬‬
‫" إن من الرجال ما هو كالنسخة المخطوطة ؛ ربما كانت ناقصة أو مخرومة ‪ ،‬أو مسّ‬
‫الزيت أطرافها فأفسدها ‪ ،‬ولكنها أثمن وأغلى لنها واحدة ل ثانية لها " ‪.‬‬

‫الرسول قدوتنا‬
‫ولماذا نذهب بعيدا وبين أيدينا سيد القدوات نبينا صلى ال عليه وسلم الذي روى عنه‬
‫جابر بن سمرة رضي ال عنه ‪ « :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم طويل الصمت‬
‫قليل الضحك » ‪ ،‬وهو مع صمته كان إذا تكلم ل يُخرِج غير الرحيق والعبير والدواء‬
‫والشفاء ‪ ،‬وبهذا وصفه رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬مثل المؤمن مثل النحلة ؛‬
‫ل تأكل إل طيبا ول تضع إل طيبا » ‪.‬‬
‫قال ابن الثير ‪:‬‬
‫" ووجه المشابهة بينهما ‪ :‬حذق النحل وفطنته ‪ ،‬وقلة أذاه ‪ ،‬وحقارته ‪ ،‬ومنفعته ‪،‬‬
‫وقنوعه ‪ ،‬وسعيه في الليل ‪ ،‬وتنزهه عن القذار ‪ ،‬وطيب أكله ‪ ،‬وأنه ل يأكل من كسب‬
‫غيره ‪ ،‬ونحوله ‪ ،‬وطاعته لميره " ‪.‬‬
‫إنه قطعة ذهب نقية ليس فيها شائبة واحدة ول ذرة غريبة من غير الذهب ‪ ،‬فل زيف‬
‫ول خبث ول تلوّن أو تغير بل ثبات وطهارة تماما ‪ ،‬وليس فيها أدنى خبث تنفيه النار ‪،‬‬
‫مصداق وصف رسول ال صلى ال عليه وسلم للمؤمن ‪:‬‬
‫« ومثل المؤمن مثل سبيكة الذهب ؛ إن نُفِخت عليها احمرت ‪ ،‬وإن ُوزِنت لم تنقص »‬
‫‪.‬‬

‫‌ه‪ -‬غزير الدمع ‪:‬‬

‫أخي المريض ‪ ..‬إن ساعدك الدمع وإل فتباكَ ‪ ،‬فليس مثل الدموع علمة على القلب‬
‫الحي ‪ ،‬وإنما يحصد الزرع يوم القيامة من روّى أرض قلبه قبل الندامة ‪ ،‬فماذا أنت‬
‫حرِمت الدموع؟!‬
‫حاصد إذا ُ‬
‫حي القلب يبكي شوقا وقلقا ‪ :‬قال عبد الواحد بن زيد ‪:‬‬
‫" يا إخوتاه! أل تبكون شوقا إلى ال؟ أل إنه من بكى شوقا إلى سيده لم يحرمه النظر‬
‫إليه ‪..‬‬
‫يا إخوتاه! أل تبكون خوفا من النار؟ أل إنه من بكى خوفا من النار أعاذه ال منها ‪..‬‬
‫يا إخوتاه! أل تبكون خوفا من العطش يوم القيامة؟ أل إنه من بكى خوفا من ذلك سُقِي‬
‫على رؤوس الخلئق يوم القيامة ‪..‬‬
‫يا إخوتاه! أل تبكون؟ بلى فابكوا على الماء البارد أيام الدنيا لعله أن يسقيكموه في‬
‫حظائر القدس مع خير الندماء والصحاب من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‬
‫غشِي عليه! ‪.‬‬‫وحسن أولئك رفيقا " ‪ ،‬ثم جعل يبكي حتى ُ‬
‫حي القلب قد يبكي من الذان ‪ :‬كان أبو زكريا النهشلي إذا سمع النداء تغيّر لونه‬
‫وأرسل عينيه فبكى ‪ ،‬فسُئل عن ذلك فقال ‪ :‬أشبّهه بالصريخ يوم العرض ‪ ،‬ثم غشي‬
‫عليه ‪.‬‬
‫حي القلب قد يبكي من الوضوء‪ .‬كان عطاء السليمي إذا فرغ من وضوئه انتفض‬
‫وارتعد وبكى بكاء شديدا ‪ ،‬فيُقال له في ذلك فيقول ‪ " :‬إني أريد أن أُقدِم على أمر عظيم‬
‫‪ ..‬أريد أن أقوم بين يدي ال عز وجل " ‪.‬‬
‫حي القلب تُبكيه الذنوب ‪ :‬نظر حذيفة المرعشي إلى رجل يبكي فقال ‪ :‬ما يبكيك يا فتى؟‬
‫قال ‪ :‬ذكرت ذنوبا سلفت فبكيت‪ .‬قال ‪ :‬فبكى حذيفة ثم قال ‪ :‬نعم يا أخي! فلمثل الذنوب‬
‫فليُبكَ ‪ ،‬ثم أخذ بيده فتنحيا فجعل يبكيان!‬
‫حي القلب يزعجه الختام فيبكي‪ .‬قال محسن بن موسى ‪ :‬كنت عديل سفيان الثوري إلى‬
‫مكة فرأيته يكثر البكاء فقلت له ‪ :‬يا أبا عبد ال بكاؤك هذا خوفا من الذنوب ؟ قال ‪:‬‬
‫فأخذ عودا من المحمل فرمي به فقال ‪ " :‬إن ذنوبي أهون علي من هذا ‪ ،‬ولكني أخاف‬
‫أن أسلب التوحيد " ‪.‬‬
‫لكن من الناس أجدب العينين ‪ ،‬فل يستطيع البكاء مع أن قلبه تعمره الخشية ‪ ،‬ومنهم‬
‫في المقابل من هو رقيق الحس سريع النفعال والدمع ؛ وإن لم يصاحب ذلك منه عمل‬
‫صالح أو خشية دائمة ‪ ،‬وعندما نفاضل بين الثنين نقول ‪ :‬بكاء القلب أولى وأعلى ‪،‬‬
‫لن بكاء العين شهادة على حيوية القلب لكن الشهادة قد تكون مزورة أحيانا إذا لم‬
‫يصاحبها العمل ‪ ،‬أما بكاء القلب وخشيته فشهادة دامغة على حيوية القلب ‪ ،‬وهي‬
‫شهادة ل تقبل التزوير على الطلق‪.‬‬

‫بكاء الحبيب‬
‫قال ابن القيّم ‪:‬‬
‫" وكان بكاؤه تارة رحمة للميت ‪ ،‬وتارة خوفا على أمّته وشفقه عليها ‪ ،‬وتارة من‬
‫خشية ال ‪ ،‬وتارة عند سماع القرآن ‪ ،‬وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلل مصاحب‬
‫للخوف والخشية ‪ ،‬ولما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له وقال ‪ « :‬تدمع‬
‫العين ويحزن القلب ول نقول إل ما يرضي ربنا وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون » ‪،‬‬
‫وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض ‪ ،‬وبكى لما قرأ عليه ابن مسعود سورة‬
‫النساء ‪ ،‬وانتهى فيها إلى قوله تعالى ‪ ﴿ :‬فَكَ ْيفَ ِإذَا جِئْنَا ِمنْ ُكلّ ُأ ّمةٍ ِبشَهِيدٍ َوجِئْنَا ِبكَ‬
‫عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [ النساء ‪ ، ] 41 :‬وبكى لما مات عثمان بن مظعون ‪ ،‬وبكى لما‬
‫كسفت الشمس وصلى صلة الكسوف ‪ ،‬وجعل يبكي في صلته وجعل ينفخ ويقول‪« :‬‬
‫رب ألم تعدني أل تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون ونحن نستغفرك » ‪ ،‬وبكى لما جلس‬
‫على قبر إحدى بناته ‪ ،‬وكان يبكي أحيانا في صلة الليل‪.‬‬
‫والبكاء أنواع ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬بكاء الرحمة والرقة‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬بكاء الخوف والخشية‪.،‬‬
‫والثالث ‪ :‬بكاء المحبة والشوق‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬بكاء الفرح والسرور‪.‬‬
‫والخامس ‪ :‬بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله‪.‬‬
‫والسادس ‪ :‬بكاء الحزن ‪.‬‬
‫والسابع ‪ :‬بكاء الخور والضعف‪.‬‬
‫والثامن ‪ :‬بكاء النفاق ‪ ،‬وهو ‪ :‬أن تدمع العين ‪ ،‬والقلب قاس ‪ ،‬فيظهر صاحبه الخشوع‬
‫‪ ،‬وهو من أقسى الناس قلبا‪.‬‬
‫والتاسع ‪ :‬البكاء المستعار والمستأجر عليه كبكاء النائحة بالجرة فإنها كما قال عمر‬
‫بن الخطاب ‪ :‬تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها ‪.‬‬
‫والعاشر‪ :‬بكاء الموافقة ‪ ،‬وهو‪ :‬أن يرى الرجل الناس يبكون لمر ورد عليهم فيبكي‬
‫معهم ‪ ،‬ول يدري لي شيء يبكون ‪ ،‬ولكن يراهم يبكون فيبكي " ‪.‬‬

‫‌و‪ -‬همومه أخروية ‪:‬‬

‫فإن فات حي القلب ورده من قرآن أو صلة وجد لفواته ألما أشد من فوات ماله ‪،‬‬
‫وتقلّب بالليل على فراش كالجمر ‪ ،‬فما عسانا نقول لمن ليس له ورد بالساس؟! بل‬
‫ماذا عسانا نقول لمن إذا فاتته الصلة المفروضة لم يجد ألما ول حسرة؟! وكأن رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ل يخاطب بالحديث التالي إل أحياء القلوب حين يقول ‪« :‬‬
‫الذي تفوته صلة العصر كأنما ُوتِر أهله وماله » ‪.‬‬
‫أي كأنما فقد أهله وماله وهلكوا ‪ ،‬فصاحب القلب الحي فحسب هو من يشعر بهذا وأما‬
‫غيره فهيهات هيهات ‪ ،‬ولما كان حاتم الصم رجل كريما من أرباب القلوب الحية ‪ ،‬فقد‬
‫أراد أن يبعث الحياة في قلوب من حوله ‪ ،‬فكان أن روى لنا تجربته قائل وهو يحمل هَم‬
‫فوات الخير ‪:‬‬
‫" فاتتني صلة الجماعة مرة فعزاني أبو إسحق البخاري وحده ‪ ،‬ولو مات لي ولد‬
‫لعزّاني أكثر من عشرة آلف ؛ لن مصيبة الدين عندهم أهون من مصيبة الدنيا " ‪.‬‬
‫وآخر كان يحمل َهمّ المّة وهو أويس القرني الذي كان رغم فقره المدقع وبؤسه الشديد‬
‫مستشعرا مسئوليته تجاه كل مسلم جائع أو عريان ‪ ،‬ويسأل ال أن يغفر ذنبه هذا!!‬
‫فكيف بنا يا أصحاب النعيم والترف؟! قال عنه سفيان الثوري ‪ " :‬كان لويس القرني‬
‫رداء إذا جلس مسّ الرض ‪ ،‬وكان يقول ‪ :‬اللهم إني أعتذر إليك من كبد جائعة وجسد‬
‫عار ‪ ،‬وليس لي إل ما على ظهري وفي بطني " ‪.‬‬
‫ومن القرن العشرين يطل علينا المام حسن البنا الذي حمل الهم حتى أطار النوم من‬
‫عينيه ‪ ،‬وذلك لما انتشرت موجتا اللحاد والباحية في آن واحد على أرض مصر ‪،‬‬
‫واسمع إليه يقول ‪:‬‬
‫" وصرتُ أرقب هذين المعسكرين فأجد معسكر الباحية والتحلل في قوة وفتوة ‪،‬‬
‫ومعسكر السلمية الفاضلة في تناقص وانكماش ‪ ،‬واشتد بي القلق حتى إني لذكر أنني‬
‫قضيت نحوا من نصف رمضان هذا العام في حالة أرق شديد ل يجد النوم إلى جفني‬
‫سبيل من شدة القلق والتفكير في هذه الحال "‪.‬‬
‫ومثله في حمل هذا الهم كان الشيخ رشيد رضا الذي دخلت عليه أمه يوما فوجدته‬
‫مهموما فقالت له ‪ " :‬مالك؟! هل مات مسلم بالصين؟!" ‪.‬‬
‫ورابع ممن يحمل حيوية القلب يحمل معها هَمّ الخاتمة ‪ ،‬فل يدري أيختم له بخير أم‬
‫يودّع الدنيا بسوء؟! قال يحيى بن معاذ ‪ " :‬التائب يبكيه ذنبه ‪ ،‬والزاهد يبكيه غربته ‪،‬‬
‫والصديق يبكيه خوف زوال اليمان " ‪.‬‬
‫وخامس يحمل هم التقصير حتى أبكاه وهو يحيى بن معاذ كذلك الذي قال ‪ " :‬لست أبكي‬
‫على نفسي إن ماتت ؛ إنما أبكي على حاجتي إن فاتت " ‪.‬‬

‫‌ز‪ -‬توحيد الخوف ‪:‬‬

‫حي القلب ل يخشى إل ال ‪ ،‬فل خوف من بشر ولو كان جائرا ‪ ،‬ول من حدث ولو كان‬
‫قاهرا ‪ ،‬ول خوف على رزق أو أجل ‪ ،‬ول خوف على ولد أو متاع ‪ ،‬بل وبسبب حياة‬
‫قلبه ؛ كلما عل وعزّ من أمامه كلما هوى وهان في عينيه ‪ ،‬وهكذا كان طاووس‬
‫اليماني ‪ ،‬فعن الصلت بن راشد قال ‪ :‬كنت جالسا عند طاووس فسأله سلم بن قتيبة عن‬
‫شي فانتهره قال ‪ :‬قلت هذا سلم بن قتيبة صاحب خراسان‪ .‬قال ‪ " :‬ذلك أهون له علي "‬
‫‪.‬‬
‫ول يخاف أحد من غير ال إل لمرض في قلبه ‪ ،‬وقد حكى ال أن من صفات الذين في‬
‫خشَى َأنْ ُتصِي َبنَا دَا ِئ َرةٌ ﴾ [ المائدة ‪ ، ]52 :‬وحكى أن‬ ‫قلوبهم مرض أنهم قالوا ‪ ﴿ :‬نَ ْ‬
‫جمَعُوا‬‫أحياء القلوب الذين سلمت قلوبهم قالوا ‪ ﴿ :‬اّلذِينَ قَالَ لَ ُهمُ النّاسُ ِإنّ النّاسَ َقدْ َ‬
‫حسْبُنَا الّلهُ وَنِ ْعمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران ‪.]173 :‬‬ ‫خشَ ْوهُمْ فَزَا َدهُمْ إِيمَانا َوقَالُوا َ‬
‫لَ ُكمْ فَا ْ‬
‫خشَ ْونِ‬‫خشَوُا النّاسَ وَا ْ‬ ‫وهؤلء امتثلوا أمر ربهم الذي طمأن قلوبهم بقوله ‪ ﴿ :‬فَل تَ ْ‬
‫﴾ [المائدة ‪ ، ]44 :‬وقد ربط سبحانه الخوف منه وحده باليمان ‪ ،‬وجعل الخشية منه‬
‫خشَوْنَ ُهمْ فَالّلهُ أَحَقّ‬
‫حكرا على أحياء القلوب ‪ ،‬فقال على سبيل التقرير والتوبيخ ‪ ﴿ :‬أَتَ ْ‬
‫خشَ ْوهُ ِإنْ كُ ْنتُمْ مُ ْؤمِنِينَ ﴾ [ التوبة ‪ ، ]13 :‬وقال آمرا وناهيا في آن واحد ‪ ﴿ :‬فَل‬ ‫َأنْ َت ْ‬
‫تَخافُوهُمْ وَخَافُونِ ِإنْ كُ ْنتُمْ مُؤمِن ْينَ ﴾ [ آل عمران ‪] 175 :‬‬
‫وعدم الخوف إل من ال دليل على حياة القلب وجسارته كما ذكروا أن رجل شكا إلى‬
‫المام أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولة فقال ‪ " :‬لو صححت لم تخف أحدا " ‪.‬‬
‫وذلك مع التسليم بأن الخوف الجبلي الذي ل يمنع من أداء الواجب ل يقدح في صحة‬
‫القلب كخوف النسان من عدوه ومن المخاطر والهوال ‪ ،‬أما الخشية الكاملة فل تكون‬
‫إل من ال وحده‪.‬‬

‫‌ح‪ -‬غيرة النبياء‬

‫قال صلى ال عليه وسلم وهو يحكي قصة المعراج إلى السماء ‪ « :‬ثم انطلقنا حتى‬
‫انتهينا إلى السماء السادسة ‪ ،‬فأتيت على موسى عليه السلم ‪ ،‬فسلمت عليه ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫مرحبا بالخ صالح والنبي الصالح ‪ ،‬فلما جاوزته بكى فنودي ‪ :‬ما يبكيك؟ قال ‪ :‬رب!!‬
‫هذا غلم بعثته بعدي يدخل من أمّته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي »‪.‬‬
‫قال العلماء ‪:‬‬
‫" لم يكن بكاء موسى حسدا معاذ ال ‪ ،‬فان الحسد في ذلك العالم منزوع عن آحاد‬
‫المؤمنين ‪ ،‬فكيف بمن اصطفاه ال تعالى؟! بل كان أسفا على ما فاته من الجر الذي‬
‫يترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمّته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص‬
‫أجورهم المستلزم لتنقيص أجره ‪ ،‬لن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه ‪ ،‬ولهذا كان من‬
‫اتبعه من أمّته في العدد دون من اتبع نبينا صلى ال عليه وسلم مع طول مدتهم‬
‫بالنسبة لهذه المّة ‪ ،‬وأما قوله « غلم » فليس على سبيل النقص بل على سبيل‬
‫التنويه بقدرة ال وعظيم كرمه ؛ إذ أعطى لمن كان في ذلك السن ما لم يعطه أحدا قبله‬
‫ممن هو أسن منه " ‪.‬‬
‫وانظروا مثل إلى حياة قلبي أبي بكر وعمر رضي ال عنهما ‪ ،‬وهل أشد حياة من قلبي‬
‫أقرب وأحب صحابيين إلى رسول ال؟! وتأمّل أثر ذلك على تنافسهما في الخيرات ‪،‬‬
‫وليس ذلك في ميدان العبادات فحسب بل تعدّاها إلى العادات والذوقيات ‪ ،‬وعن ذلك قال‬
‫عمر بن الخطاب رضي ال عنه ‪:‬‬
‫" إنا سهرنا ليلة في بيت عند أبي بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬ثم خرجنا ورسول ال صلى ال عليه وسلم يمشي بيني وبين أبي بكر ‪،‬‬
‫فلما انتهينا إلى المسجد إذا رجل يقرأ فقام النبي صلى ال عليه وسلم يستمع إليه ‪ ،‬ثم‬
‫قال ‪ « :‬من سرّه أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد » ‪ ،‬فعلمت أنا‬
‫وصاحبي أنه عبد ال بن مسعود ‪ ،‬فلما أصبحت غدوت إليه لبشّره ‪ ،‬فقال ‪ :‬سبقك بها‬
‫أبو بكر!! " ‪.‬‬
‫وموقف آخر ل يقل غرابة في الحرص على الخير يرويه أبو صالح الغفاري أن عمر‬
‫بن الخطاب رضي ال عنه كان يتعاهد عجوزا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة‬
‫من الليل ‪ ،‬فيستسقي لها ‪ ،‬ويقوم بأمرها ‪ ،‬وكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها ‪،‬‬
‫فأصلح ما أرادت ‪ ،‬فجاءها غير مرة ‪ ،‬فل يسبق إليها ‪ ،‬فرصده عمر فإذا هو بأبي بكر‬
‫الصديق الذي يأتيها وهو خليفة ‪.‬‬
‫لذا اعترف عمر رضي ال عنه بفضل أبي بكر وأقرّ له قائل ‪ " :‬ما سبقتُ أبا بكر قطّ‬
‫إلى خير إِلّ سبقني إليه ‪ ،‬ولو ِددْتُ أنّي شعرة في صدر أبي بكر "‬

‫ورد إلي رحي (الباب الثاني ‪ :‬أنواع القلوب ‪ ..‬القلب القاسي)‬


‫‪:‬‬ ‫القلب القاسي‬ ‫‪.2‬‬

‫والقسوة هي الموت ‪ ،‬والقساوة عبارة عن غلظة مع صلبة ‪ ،‬وهي عبارة عن خلو القلب من‬
‫ضرِبت بها‬ ‫النابة والذعان ليات ال تعالى ‪ ،‬وهي أشد عقوبات القلب على الطلق ‪ ،‬ولذا ُ‬
‫قلوب الكافرين والمنافقين‪.‬‬
‫قال مالك بن دينار ‪ " :‬إن ل عقوبات في القلوب والبدان ‪ :‬ضنك في المعيشة ‪ ،‬ووهن في‬
‫ضرِب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب " ‪ ،‬وأكّد على نفس المعنى حذيفة‬ ‫العبادة ‪ ،‬وما ُ‬
‫المرعشي فقال ‪ " :‬ما أُصيب أحد بمصيبة أعظم من قساوة قلبه " ‪.‬‬
‫وتأمل قول ال ‪:‬‬
‫جرُ مِ ْنهُ‬
‫شدّ َقسْ َوةً َوِإنّ ِمنَ ا ْلحِجَا َرةِ َلمَا يَتَ َف ّ‬‫﴿ ثُمّ َقسَتْ قُلُو ُبكُمْ ِمنْ بَ ْعدِ ذَ ِلكَ فَهِيَ كَا ْلحِجَا َرةِ أَوْ َأ َ‬
‫خشْ َيةِ الّلهِ َومَا الّلهُ ِبغَافِلٍ‬ ‫خرُجُ مِ ْنهُ ا ْلمَاءُ َوِإنّ ِمنْهَا َلمَا يَهْبِطُ ِمنْ َ‬ ‫الْأَ ْنهَارُ َوِإنّ مِنْهَا َلمَا َيشّقّقُ فَ َي ْ‬
‫عمّا تَ ْع َملُونَ ﴾ [ البقرة ‪] 74 :‬‬ ‫َ‬
‫إشارة الى ما ذكره ال من آية إحياء القتيل أو إلى جميع العظات والقوارع التي مرّت ببني‬
‫إسرائيل ‪ ،‬والتي تزول منها الجبال وتلين لها الصخور ؛ وكان الجدر أن تلين لها قلوبهم ‪ ،‬أما‬
‫وقد لم تفعل فقد استحقت أن توصف بالقسوة لنفورها من اليمان بعد معاينة أسبابه وموجباته ‪،‬‬
‫شدّ َقسْ َوةً ﴾ ‪ ،‬وقد كانت صلبة الحجر أعرف للناس وأشهر مثل‬ ‫فهذه القلوب ﴿ كَالْحِجَا َرةِ أَوْ َأ َ‬
‫يضرب للقساوة لنها محسوسة لديهم ‪ ،‬ومع ذلك فقد عذر ال الحجارة لكنه لم يعذر القاسية‬
‫خرُجُ ِم ْنهُ ا ْلمَاءُ‬ ‫جرُ مِ ْنهُ ا ْلأَنْهَارُ َوِإنّ ِمنْهَا َلمَا َيشّقّقُ فَيَ ْ‬
‫قلوبهم فقال ‪َ ﴿ :‬وِإنّ ِمنَ ا ْلحِجَا َرةِ َلمَا يَ َتفَ ّ‬
‫خشْ َيةِ الّلهِ ﴾‪.‬‬ ‫َوِإنّ ِمنْهَا َلمَا يَ ْهبِطُ ِمنْ َ‬
‫وتأمل قول ال المُعجِز يصف صاحب القلب القاسي ‪َ ﴿ :‬وأَح ْاطَتْ ِبهِ خَطيْئَ ُتهُ ﴾ أي استولت‬
‫عليه ‪ ،‬وشملت جميع أحواله حتى صار محاطا بها ل ينفذ إليه من حوله شيء ‪ ،‬وذلك أن من‬
‫أذنب ذنبا ولم يُقلع عنه جرّه ذلك إلى العودة لمثله ‪ ،‬والنهماك فيه ‪ ،‬وارتكاب ما هو أكبر منه ؛‬
‫حتى تستولي عليه الذنوب ‪ ،‬وتأخذ بمجامع قلبه ‪ ،‬فيتحول طبعه مائل إلى المعاصي ‪ ،‬مستحسنا‬
‫إياها ‪ ،‬معتقدا أن ل لذة سواها ‪ ،‬مُبغِضا لمن يحول بينه وبينها ‪ ،‬مُكذّبا لمن ينصحه بالبعد عنها‬
‫‪ ،‬كما قال ال تعالى ‪ ﴿ :‬ثُمّ كَانَ عَاقِ َبةَ اّلذِينَ َأسَاءُوا السّوءَى َأنْ َكذّبُوا بِآيَاتِ الّلهِ وَكَانُوا بِهَا‬
‫َيسْتَ ْهزِئُونَ ﴾ [ الروم ‪.] 10 :‬‬
‫فتصبح ذنوبه كالخيمة تحجب عنه كل شيء ‪ :‬نظر ال إليه ‪ ،‬ونعيم الجنة المنتظر ‪ ،‬وعذاب‬
‫النار المترقّب ‪ ،‬وكيد إبليس المتحفّز ‪ ،‬وحسرة الملئكة المشفقة ‪ ،‬كل ذلك يغيب عنه عند‬
‫وقوعه في الذنب ول يراه ‪ ،‬وهو معنى قول النبي صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« ل يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ‪ ،‬ول يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ‪ ،‬ول‬
‫يسرق حين يسرق وهو مؤمن ‪ ،‬ول ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها‬
‫وهو مؤمن » ‪.‬‬

‫القساوة الموسمية‬
‫قاسي القلب يموت أقرب الناس إليه ول يتأثر ‪ ،‬وحي القلب يموت أبعد الناس عنه ويخشع‬
‫لموته ‪ ،‬بل قد يقسو القلب في وقت ويلين في آخر ‪ ،‬فحي القلب نفسه تمر به حالت قساوة ‪،‬‬
‫فيسمع الية من كتاب ال فيبكي ‪ ،‬ويسمع قوارع اليات في يوم آخر ول يتأثر ‪ ،‬لنه سمع‬
‫الولى حال سلمة قلبه والثانية حال قساوته ‪ ،‬وقد تأتيه الموعظة فتسري في جسده كتيار‬
‫الكهرباء في يوم ‪ ،‬وتنزل عليه في اليوم الذي يليه كما تنزل على عمود الرخام!! والسبب‬
‫قلبه ‪ ،‬وقد تجود يداه بالصدقة حينا وتمسك أنامله عليها أحايين كثيرة وكأنها صخرة ‪ ،‬والسبب‬
‫أيضا قلبه‪ .‬ول تستثني القسوة أحدا حتى أنها لتضرب قلوب الذين يحملون مفاتيح القلوب ‪،‬‬
‫ويعلمون سر حيوية الرواح ‪ ،‬وهم قراء القرآن ‪ ،‬لذا بعث أبو موسى الشعري رضي ال عنه‬
‫إلى قراء أهل البصرة ‪ ،‬فدخل عليه ثلثمائة رجل قد قرءوا القرآن ‪ ،‬فقال ‪ " :‬أنتم خيار أهل‬
‫البصرة وقراؤهم ‪ ،‬فاتلوه ول يطولن عليكم المد ‪ ،‬فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم‬
‫"‪.‬‬

‫قسوة من تسعة‬

‫قسوة القلب نابعة من تسعة أشياء ‪ ،‬وهي كما يلي ‪:‬‬

‫‪ .1‬كثرة الكل ‪:‬‬

‫روى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال ‪:‬‬
‫أكلت ثريدا بلحم سمين فأتيت النبي صلى ال عليه وسلم وأنا أتجشأ ‪ ،‬فقال ‪ « :‬كفّ عنا‬
‫جشاءك ‪ ،‬فإن أكثرهم شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة » ‪ ،‬فما أكل أبو جحيفة بملء‬
‫بطنه حتى فارق الدنيا ‪ ،‬وكان إذا تغدى ل يتعشى وإذا تعشى ل يتغدى‪.‬‬
‫لكن ما العلقة بين التجشؤ والجوع يوم القيامة والتي قد تبدو بعيدة من أول وهلة؟‬
‫قال المناوي موضّحا خطورة السراف في الطعام الذي استهان به الكثيرون ‪ ،‬يحسبونه هينا‬
‫وهو عند أطباء القلوب عظيم ‪:‬‬
‫" والنهي عن الجشاء نهي عن سببه وهو الشبع ‪ ،‬وهو مذموم طبا وشرعا ‪ ،‬كيف وهو يقرب‬
‫الشيطان ويهيّج النفس إلى الطغيان ‪ ،‬والجوع يضيق مجاري الشيطان ‪ ،‬ويكسر سطوة النفس ‪،‬‬
‫فيندفع شرهما ‪ ،‬ومن الشبع تنشأ شدة الشبق إلى المنكوحات ‪ ،‬ثم يتبعها شدة الرغبة إلى الجاه‬
‫والمال اللذان هما الوسيلة إلى التوسع في المطعومات والمنكوحات ‪ ،‬ثم يتبع ذلك استكثار المال‬
‫والجاه وأنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسدات ‪ ،‬ثم يتولد من ذلك آفة الرياء وغائلة‬
‫التفاخر والتكاثر والكبرياء ‪ ،‬ثم يتداعى ذلك إلى الحسد والحقد والعداوة والبغضاء ‪ ،‬ثم يُفضي‬
‫ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء والبطر والشر ‪ ،‬وذلك مُفضٍ إلى الجوع في‬
‫القيامة وعدم السلمة إل من رحم ربك " ‪.‬‬
‫ولذا كانت سنّة وطريقة عبد ال بن عمر رضي ال عنهما التي سار عليها طوال حياته أن يقلل‬
‫من طعامه عن طريق وسيلة تفيض ثوابا وتقذف أجرا ‪ ،‬فقد كان ل يأكل حتى يؤتى بمسكين‬
‫فيأكل معه ‪ ،‬فأُدخِل عليه يوما رجل فأكل أكل كثيرا ‪ ،‬فقال ابن عمر لغلمه ‪ :‬يا نافع ل تُدخل‬
‫علي هذا ‪ ،‬فإني سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ « :‬المؤمن يأكل في معيّ واحد ‪،‬‬
‫والكافر يأكل في سبعة أمعاء » ‪.‬‬
‫وهنا يبادرنا سؤال ‪ :‬كم من كافر أقل أكل من مؤمن ‪ ،‬وكم من كافر أسلم فلم يتغير مقدار أكله!!‬
‫قال ابن حجر ‪:‬‬
‫" قيل ‪ :‬المراد حض المؤمن على قلة الكل إذا علم أن كثرة الكل صفة الكافر ‪ ،‬فإن نفس‬
‫المؤمن تنفر من التصاف بصفة الكافر ‪ ،‬ويدل على أن كثرة الكل من صفة الكفار قوله تعالى ‪:‬‬
‫﴿ وَاّلذِينَ َك َفرُوا يَ َتمَتّعُونَ وَ َيأْكُلُونَ َكمَا تَأْكُلُ الْأَ ْنعَامُ ﴾ [ محمد ‪.] 12 :‬‬
‫وقال الطيبي ‪ :‬ومحصل القول أن من شأن المؤمن الحرص على الزهادة والقتناع بالبلغة‬
‫بخلف الكافر ‪ ،‬فإذا وجد مؤمن أو كافر على غير هذا الوصف ل يقدح في الحديث ‪ ،‬ومن هذا‬
‫ش ِركٌ‬
‫حهَا إِلّا زَانٍ أَوْ ُم ْ‬
‫شرِ َكةً وَالزّانِ َيةُ لَا َينْكِ ُ‬
‫قوله تعالى ﴿ الزّانِي لَا يَ ْن ِكحُ إِلّا زَانِ َيةً أَوْ ُم ْ‬
‫﴾ [ النور ‪ ، ] 3 :‬وقد يوجد من الزاني نكاح الحرة ومن الزانية نكاح الحر‪.‬‬
‫وقيل أن المراد بالمؤمن في هذا الحديث التام اليمان ؛ لن من حسن إسلمه وكمل ايمانه‬
‫اشتغل فكره فيما يصير إليه من الموت وما بعده ‪ ،‬فيمنعه شدة الخوف وكثرة الفكر والشفاق‬
‫على نفسه من استيفاء شهوته " ‪.‬‬
‫وإن كثرة الطعام ما هي إل علمة على قسوة القلب وطريق ُممَهّد موصل إلى موته ‪ ،‬لذا غفل‬
‫قساة القلوب عن سبب رئيسي لفراطهم في الطعام وبالتالي جهلوا سبب القساوة ‪ ،‬وهو ما‬
‫أشار إليه ابن القيّم في الفوائد ‪:‬‬
‫" لو تغذّى القلب بالمحبة لذهبت عنه بطنة الشهوات‪.‬‬
‫ولو كنت عذري الصبابة لم تكن ‪ ...‬بطينا وأنساك الهوى كثرةَ الكل " ‪.‬‬
‫وإن كثرة الطعام كذلك تُدخل القلب في متاهة الفات الستة التي أشار إليها أبو سليمان الدارانى‬
‫بقوله ‪ " :‬من شبع دخل عليه ست آفات ‪ :‬فقد حلوة المناجاة ‪ ،‬وحرمان الشفقة على الخلق ؛‬
‫لنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباع ‪ ،‬وثقل العبادة ‪ ،‬وزيادة الشهوات ‪ ،‬وإن سائر المؤمنين‬
‫يدورون حول المساجد ‪ ،‬والشباع يدورون حول المزابل " ‪.‬‬
‫بل أوصى الحسن البصري كل من ضاع خشوعه والتمس دموع الخشية فلم يجدها ؛ أوصاه‬
‫بهذه الوصية العملية المُجرّبة واقعيا فقال ‪ " :‬من أراد أن يخشع قلبه ويغزر دمعه فليأكل في‬
‫نصف بطنه " ‪.‬‬
‫فضل عن أن كثرة الطعام تضيّع على المرء فرص الثواب الجزيل لنها تصرف الطعام في غير‬
‫وجهه الصحيح ‪ ،‬ولو صرِفت صدقة وبذل بدل من أكلها لكان خيرا لصاحبها في الدنيا‬
‫والخرة ‪ ،‬وقد رُوِي عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه رأى رجل عظيم البطن فأشار إلى بطنه‬
‫بأصبعه فقال ‪ « :‬لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك » ‪.‬‬
‫لكن ‪ ..‬هل مقصود كلمي أن يجوّع النسان نفسه ويُحرّم على نفسه ما أحل ال له؟! حاشا‬
‫وكل ؛ بل كل ما أريد قوله جاء موجزا على لسان الحليمي رحمه ال الذي بيّن مغزى الكلم ‪:‬‬
‫" وكل طعام حلل فل ينبغي لحد أن يأكل منه ما يثقل بدنه ‪ ،‬فيحوجه إلى النوم ‪ ،‬ويمنعه من‬
‫العبادة ‪ ،‬وليأكل بقدر ما يسكن جوعه ‪ ،‬وليكن غرضه من الكل أن يشتغل بالعبادة ويقوي‬
‫عليها " ‪.‬‬
‫فالمطلوب منك على الفور إذن ثلثة أمور ‪:‬‬
‫أول ‪ :‬نية صالحة لكل لقمة تؤكل ‪ ،‬حتى يتحوّل الطعام إلى عبادة ‪ ،‬ويُغذّي روحك مع جسدك‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬قلة الكل ‪ ،‬وهي ما قال عنه النبي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ثلث لطعامه وثلث لشرابه‬
‫وثلث لنفسه ‪ ،‬وعلمة ذلك أن تفارق المائدة وأنت ل تزال جائعا ‪ ،‬وهو معنى قوله ‪ « :‬وإذا‬
‫أكلنا ل نشبع »‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬الصيام الدائم انتصارا لروحك على شهوة الكل‪.‬‬

‫‪ .2‬كثرة النوم ‪:‬‬

‫النوم كالملح ل بد من قليل منه في الطعام ‪ ،‬لكن زيادته مضرة وتجعل طعم الحياة غير مستساغ‬
‫‪ ،‬فلكثرة النوم أضرار كثيرة ‪ ،‬وما قسوة القلب إل أحد نتائجها ‪ ،‬وقد سبق وأن أحصى أبو حامد‬
‫الغزالي عواقب كثرة النوم فقال ‪:‬‬
‫" وفي كثرة النوم ‪ :‬ضياع العمر ‪ ،‬وفوت التهجد ‪ ،‬وبلدة الطبع ‪ ،‬وقساوة القلب ‪ ،‬والعمر أنفس‬
‫الجواهر ‪ ،‬وهو رأس مال العبد فيه يتجر ‪ ،‬والنوم موت ‪ ،‬فتكثيره يُنقص العمر ‪ ،‬ثم فضيلة‬
‫التهجد ل تخفى ‪ ،‬وفي النوم فواتها " ‪.‬‬
‫وكيف يكثر النوم في هذه الدنيا من ينتظر أطول رقدة له في القبر؟! وكيف يُسرِف أحد في النوم‬
‫وهو أخو الموت من الرضاع؟! يا من قساوة قلبه أشد من الحجر ‪..‬‬
‫يا طويل الرقاد والغفلت ‪ ...‬كثرة النوم تورث الحسرات‬
‫إنّ في القبر إن نزلت إليه ‪ ...‬لرقادا يطول بعد الممات‬
‫ومِهادا ُممَهّدا لك فيه ‪ ...‬بذنوب عملت أو حسنات‬
‫أأمنت الهجوم من ملك المو ‪ ...‬ت وكم نال آمنا ببيات‬
‫لكن لماذا يصحو قاسي القلب إذا كان يتقلب طوال يومه في طبقات من النوم المتواصل ‪ ،‬من‬
‫نوم في اليقظة إلى نوم في المنام ‪ ،‬إنها قسوة القلب تجعل صاحبها غير آبه بقيمة الوقت ول‬
‫مكترث به ‪ ،‬فل يوجد ما يفعله كي يستيقظ ‪ ،‬لذا يغط في نوم عميق‪.‬‬

‫أسباب قلة المنام‬

‫قال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬


‫« ما رأيت مثل النار نام هاربها ‪ ،‬ول مثل الجنة نام طالبها » ‪.‬‬
‫أي أن النوم وشدة الغفلة والسترسال في الكسل ليست طرق الهارب من جهنم والطالب للجنة ‪،‬‬
‫بل إن طريقه يمر باليقظة ووثبات الهروب من جحيم المعاصي إلى جنة الطاعات ‪ ،‬وفي الحديث‬
‫عدّ له‪.‬‬
‫معنى التعجب والستنكار على من أكثر نومه وسدر في غفلته عما ُأ ِ‬
‫ومما يعين على قلة النوم ‪ :‬همّ الخوف من النار ‪ ،‬فقد كان طاووس يفترش فراشه ثم يضطجع‬
‫عليه فيتقلب كما تقلى الحبة على المقلى ثم يثب فيدرجه ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول ‪:‬‬
‫طيّر ذكر جهنم نوم العابدين ‪ ،‬وكان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلة‬
‫فيقول ‪ :‬اللهم إن ذكر جهنم ل يدعني أنام ‪ ،‬ثم يقوم إلى ُمصَله ‪ ،‬ولما قالت ابنة الربيع بن‬
‫خيثم ‪ :‬يا أبت ما لك ل تنام والناس ينامون؟ فقال ‪ :‬إن النار ل تدع أباك ينام!! وكان صفوان‬
‫بن محرز إذا جنّه الليل يخور كما يخور الثور ويقول ‪ :‬منع خوف النار مني الرقاد ‪ ،‬وكان‬
‫سفيان الثوري ل ينام إل أول الليل ‪ ،‬ثم ينتفض فزعا مرعوبا ينادي ‪ :‬النار النار ‪ ..‬شغلني ذكر‬
‫النار عن النوم والشهوات ‪ ،‬ثم يتوضأ ويقول عقب وضوئه ‪ :‬اللهم إنك عالم بحاجتي ‪ ،‬وما‬
‫أطلب إل فكاك رقبتي من النار ‪ ،‬وهؤلء عبّر عن حالهم شعرا عبد ال بن المبارك فقال ‪:‬‬
‫إذا ما الليل أظلم كابدوه ‪ ...‬فيسفر عنهم وهم ركوع‬
‫أطار الخوف نومهم فقاموا ‪ ...‬وأهل المن في الدنيا هجوع‬
‫ومما يعين على قلة النوم ‪ :‬معرفة قيمة الوقت ‪ ،‬فوال يا أخي ‪ ..‬لو أن ساعة من النوم حذفتها‬
‫من ساعات نومك كل يوم لضافت إليك عمرا آخر لو كنت تعلم ‪ ،‬لتجد الفارق مبهجا يوم‬
‫القيامة‪.‬‬
‫ومما يعين على قلة النوم ‪ :‬قلة الكل ‪ ،‬فمن أكل كثيرا نام كثيرا فخسر كثيرا‪.‬‬
‫ومما يعين على قلة النوم ‪ :‬التعامل مع الساعة البيولوجية بحكمة ‪ ،‬فإن وظائف الجسم في‬
‫النسان تستطيع أن تتكيف مع أي عدد من ساعات نومه ‪ ،‬ولن يشبع أحد من كثرة النوم ‪ ،‬لكن‬
‫العاقل هو من أعطى جسمه راحته دون إفراط أو تفريط‪.‬‬
‫ومما يعين على قلة النوم ‪ :‬النوم على الشق اليمن ‪ " ،‬وقد قيل ‪ :‬إن الحكمة في النوم على‬
‫الجانب اليمن أن ل يستغرق النائم في نومه لن القلب فيه ميل إلى جهة اليسار ‪ ،‬فإذا نام على‬
‫جنبه اليمن طلب القلب مستقره من الجانب اليسر ‪ ،‬وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله‬
‫في نومه بخلف قراره في النوم على اليسار ‪ ،‬فإنه مستقره ‪ ،‬فيحصل بذلك الدعة التامة ‪،‬‬
‫فيستغرق النسان في نومه ويستثقل ‪ ،‬فيفوته مصالح دينه ودنياه " ‪.‬‬
‫ومما يعين على قلة النوم ‪ :‬حمل هم وأعله هَمّ الدعوة إلى ال ‪ ،‬ورحمة ال على دعاة السلم‬
‫في زماننا يحيون ما اندثر من سيرة السلف ويحيون قلوبنا عندما نسمع عن عزمهم ‪ ،‬فقد‬
‫حدّثني والد زوجتي أنه صاحب فضيلة الداعية الشيخ عبد المتعال الجبري في رحلة دعوية‬
‫دائبة ‪ ،‬لتتواصل حركته من بعد صلة الفجر انتقال من محاضرة إلى درس إلى سعي في قضاء‬
‫حوائج حتى انتصف عليهما الليل ‪ ،‬ووصل البيت في تمام الساعة الثانية فجرا ‪ ،‬ليجدا عند‬
‫رجوعهما من ينتظرهما ليستشير الشيخ في أمر!! فاعتذر الخ المضيف قائل أن الشيخ متعب‬
‫من سعيه طيلة اليوم ولن يستطيع مقابلة أحد ‪ ،‬وهنا قال الشيخ ‪ :‬ومن قال لك أني متعب؟ يا‬
‫أخي ‪ ..‬أنا يكفيني كل يوم من النوم ساعتان ‪ ،‬مجتمعتان أو متفرّقتان!! فجلس مع الرجل وأشار‬
‫عليه في مسألته!!‬

‫أمّة وسطا‬
‫لكن الدعوة إلى التقليل من النوم ل بد أن تكون معتدلة ل تغمط النفس حقها وضرورات‬
‫حياتها ‪ ،‬فتضر من حيث تريد أن تنفع ‪ ،‬ول تبلّغ المقصود بل ضد المقصود‪ .‬قال ابن القيم وهو‬
‫يقود قافلتنا بحكمة في طريق العتدال ‪:‬‬
‫" وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الفات ؛ فمدافعته وهجره مورث لفات أخرى عظام ‪ :‬من‬
‫سوء المزاج ويبسه وانحراف النفس وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل ‪ ،‬ويورث‬
‫أمراضا متلفة ل ينتفع صاحبها بقلبه ول بدنه معها ‪ ،‬وما قام الوجود إل بالعدل ‪ ،‬فمن اعتصم‬
‫به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير " ‪.‬‬

‫أنفع النوم وأضره‬


‫فإن تابعت وسألت ابن القيم ‪ :‬وما أنفع النوم وما أضره؟! وما المستحب منه وما المكروه؟!‬
‫فعلى الخبير سقطت ‪ ،‬حيث أجابك رحمه ال قائل ‪:‬‬
‫" وأنفع النوم ‪ :‬ما كان عند شدة الحاجة إليه ‪ ،‬ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره ‪ ،‬ونوم‬
‫وسط النهار أنفع من طرفيه ‪ ،‬وكلما قرب النوم من الطرفين قلّ نفعه وكثر ضرره ‪ ،‬ول سيما‬
‫نوم العصر والنوم أول النهار إل لسهران ‪ ،‬ومن المكروه عندهم ‪ :‬النوم بين صلة الصبح‬
‫وطلوع الشمس ‪ ،‬فإنه وقت غنيمة ‪ ،‬وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة حتى لو‬
‫ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس ‪ ،‬فإنه أول‬
‫النهار ومفتاحه ‪ ،‬ووقت نزول الرزاق ‪ ،‬وحصول القسم ‪ ،‬وحلول البركة ‪ ،‬ومنه ينشأ النهار ‪،‬‬
‫فينبغى أن يكون نومها كنوم المضطر وبالجملة فأعدل النوم وأنفعه ‪ :‬نوم نصف الليل الول‬
‫وسدسه الخير ‪ ،‬وهو مقدار ثمان ساعات ‪ ،‬وهذا أعدل النوم عند الطباء ‪ ،‬وما زاد عليه أو‬
‫نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه ‪ ،‬ومن النوم الذي ل ينفع أيضا ‪ :‬النوم أول‬
‫الليل عقيب غروب الشمس حتى تذهب فحمة العشاء ‪ ،‬وكان رسول ال يكرهه ‪ ،‬فهو مكروه‬
‫شرعا وطبعا " ‪.‬‬

‫مراعاة الفوارق‬
‫ومن الخطأ الفاحش ‪ :‬معاملة الناس معاملة واحدة وعدم مراعاة اختلف حال الشخاص‬
‫والقدرات ؛ فمن الناس من تقل عدد ساعات نومه بطبيعته ‪ ،‬ول بد كذلك من مراعاة اختلف‬
‫البيئات ؛ فالبلد الحارة غير البلد الباردة ‪ ،‬والبلد المزدحمة غير البلد الهادئة ‪ ،‬ومراعاة‬
‫اختلف العمار كذلك ؛ فما يحتاجه الشاب غير ما يحتاجه الشيخ ‪ ،‬ومراعاة اختلف العمال‬
‫فأصحاب الشغال الشاقة غير أصحاب العمال السهلة ؛ والعمال البدنية غير العمال الذهنية ‪،‬‬
‫ول بد كذلك من فهم قضية البركة في الوقات لدى الصالحين وإعطائها حقها ‪ ،‬ومن الخطأ عدم‬
‫مغالبة النعاس الخفيف إن وُجِد والستجابة لدواعيه ‪ ،‬ولو صمد صاحبه قليل لنقشع عنه وزال‬
‫وربح هو وقته ‪ ،‬وأخيرا فمن الخطأ الشائع الكثار من جوالب النعاس ككثرة الطعام والتمدد‬
‫الطويل في غير وقت النوم ‪.‬‬

‫وأخيرا ‪ :‬عبادة النوم‬


‫واسمع كيف حوّل صلى ال عليه وسلم نومه إلى عبادة ‪ ،‬وكيف علّمنا ذلك من بعده لنتعبّد ال‬
‫تعالى حتى أثناء نومنا؟! فقد روت عنه عائشة رضي ال عنها أنه ( كان ل ينام حتى يقرأ بني‬
‫إسرائيل والزمر ) ‪ ،‬وفي حديث آخر للعرباض بن سارية رضي ال عنه أن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم ( كان ل ينام حتى يقرأ المُسبّحات ‪ ،‬ويقول ‪ :‬فيها آية خير من ألف آية ) ‪،‬‬
‫والمُسبّحات هي السور التي افتتحت بقوله تعالى ‪ ﴿ :‬سَ ّبحَ ﴾ أو ﴿ يُس ّبحُ ﴾ ‪ ،‬وهن سور ‪:‬‬
‫السراء ‪ ،‬والحديد ‪ ،‬والحشر ‪ ،‬والصف ‪ ،‬والجمعة ‪ ،‬والتغابن ‪ ،‬والعلى‪.‬‬
‫إن شأن أي مقتد برسول ال صلى ال عليه وسلم أن يقرأ هذه السور حتى يغلبه النعاس ‪،‬‬
‫وكأن المراد أن تنام وأنت تقرأ القرآن ‪ ،‬وأن يكون هذا هو آخر ما ينطق به لسانك في يومك ‪،‬‬
‫وقد بيّن ابن القيم فضل هذا النوع من الذكر قبل النوم ‪ ،‬ورغّبك فيه ‪ ،‬ووضّح لك الحكمة منه ‪،‬‬
‫وحسن العاقبة والجزاء عليه ‪ ،‬وكل هذا ليغريك فتواظب ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫" وبالجملة فل يزال يذكر ال على فراشه حتى يغلبه النوم وهو يذكر ال ‪ ،‬فهذا منامه عبادة‬
‫وزيادة له في قربه من ال " ‪.‬‬
‫ومكافأة أخرى عظيمة عظيمة لمن نام وهو يذكر ربه نقلها لنا أبو أمامة رضي ال عنه فقال ‪:‬‬
‫سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ « :‬من أوى إلى فراشه طاهرا وذكر ال تعالى‬
‫حتى يُدركه النعاس ‪ ،‬لم ينقلب ساعة من الليل يسأل ال شيئا من خير الدنيا والخرة إل أعطاه‬
‫إياه » ‪.‬‬
‫ورد إلي رحي (الباب الثاني ‪ :‬أنواع القلوب ‪ ..‬القلب القاسي(‬

‫‪.‬‬

‫‪ .3‬كثرة الكلم ‪:‬‬

‫قال عطاء بن أبي رباح ‪ " :‬إن من قبلكم كانوا يعدّون فضول الكلم ما عدا كتاب ال أو أمر‬
‫بمعروف أو نهي عن منكر أو أن تنطق في معيشتك التي ل بد لك منها ‪ ،‬أتذكرون أن عليكم‬
‫حافظين كراما كاتبين ‪ ،‬عن اليمين وعن الشمال قعيد ‪ ،‬ما يلفظ من قول إل لديه رقيب عتيد ‪،‬‬
‫أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفة التي أملى صدر نهاره وليس فيها شيء من أمر آخرته " ‪.‬‬

‫إن من القلوب القاسية من ل يصلح معه إل مثل هذه اللهجة القاسية ‪ ،‬وإن كثرة الكلم بالباطل‬
‫ل تعالج إل بقوة كلم الحق ‪ ،‬لكن عبد ال بن المبارك كان أخف لهجة حين خاطب من كان قلبه‬
‫بين القساوة والحياة قائل ‪:‬‬
‫وإذا ما هممت بالنطق في الباطل فاجعل مكانه تسبيحا‬
‫فاغتنام السكوت أفضل من خوض وإن كنت في الحديث فصيحا‬
‫إن كثرة الكلم هي علمة واضحة على قسوة القلب لكن كثرة الكلم كذلك من أسهل الطرق‬
‫الموصلة إليه ‪ ،‬لذا قال بشر بن الحارث ‪ " :‬خصلتان تقسيان القلب ‪ :‬كثرة الكلم وكثرة الكل‬
‫" ‪ ،‬وأخطر من ذلك قول النبي صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الخرة أسوؤكم أخلقا الثرثارون المتفيهقون المتشدّقون »‬
‫‪.‬‬
‫و « الثرثارون » أي الذين يُكثرون الكلم تكلفا وتشدقا ‪ ،‬و « المتفيهقون » هم مدّعو الفقه‬
‫الذين يتوسعون في الكلم ويفتحون به أفواههم تفاصحا وتفاخرا ؛ وهو مأخوذ من الفهق وهو‬
‫المتلء والتساع ‪ ،‬لنه يمل فمه بالكلم ويتوسع فيه إظهارا لفصاحته وفضله واستعلء على‬
‫غيره ؛ ليميل بقلوب الناس وأسماعهم إليه ‪ ،‬أما « المتشدّقون » فهم الذين يتكلمون بأشداقهم‬
‫ويتقعرون في مخاطبتهم من غير احتياط واحتراز ‪ ،‬لكن يبادرنا هنا سؤال ‪:‬‬
‫ما الدافع إلى كثرة الكلم؟!‬
‫قال المناوي ‪:‬‬
‫" كثرة الكلم تتولد عن أمرين ‪ :‬إما طلب رئاسة يريد أن يرى الناس علمه وفصاحته ‪ ،‬وإما قلة‬
‫العلم بما يجب عليه في الكلم " ‪.‬‬
‫فكثرة الكلم نابعة من قسوة القلب ‪ ،‬فإن القلب القاسي إما أن يمتل بحب الرئاسة أو يمتل غفلة‬
‫وعدم إدراك عواقب الكلم ‪ ،‬وكلٌ منهما دافع إلى كثرة الكلم ‪ ،‬أما حب الرئاسة فيدفع صاحبه‬
‫إلى التباهي بما فيه وما ليس فيه ‪ ،‬فيمتلئ فخرا وينطق زهوا ‪ ،‬وأما قلة العلم فتجعل صاحبها‬
‫ينسى أنه محاسب على فلتات لسانه ومنتجات فمه ‪ ،‬فيكثر كلمه وإن كان فيه الهلك ‪ ،‬وصدقك‬
‫نصر بن أحمد النصيحة حين أنشدك محذّرا ‪:‬‬
‫لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل ‪ ...‬وكل امرىء ما بين فكيه مقتل‬
‫ب شرّ لنفسه ‪ ...‬إذا لم يكن قفل على فيه مقفل‬ ‫وكم فاتحٌ أبوا ِ‬
‫إذا ما لسان المرء أكثر هذره فذاك لسان بالبلء مُوَكّل‬
‫إذا شئت أن تحيا سعيدا مُسلّما ‪ ...‬فدبّر وميّز ما تقول وتفعل‬
‫وإن كثرة الكلم مُهلكة مُهلكة حتى وإن كان الكلم مباحا ‪ ،‬لنها ستجر حتما إلى الكلم الحرام ‪،‬‬
‫والشيطان يستدرجك لينقلك من المنطقة المباحة إلى الدائرة المحرّمة ‪ ،‬وكثرة السير في الرض‬
‫الموحلة ل بد أن تؤدي بصاحبها إلى النزلق في الوحل‪ .‬قال عمر رضي ال عنه ‪ " :‬من كثر‬
‫كلمه كثر سقطه ‪ ،‬ومن كثر سقطه قلّ حياؤه ‪ ،‬ومن قلّ حياؤه ق ّل ورعه ‪ ،‬ومن قلّ ورعه مات‬
‫قلبه " ‪.‬‬
‫وحسب كثير كلمه أنه بمثابة منتظر الفتنة وموشك على الخطأ ‪ ،‬ويكفي قليل الكلم أنه ينتظر‬
‫الرحمة ويدنو بإنصاته من الهداية والصواب‪.‬‬

‫ولن العاقل يعلم أنه محاسب عن كل كلمة ‪ ،‬لذا يتفكّر في كلمه أول ‪ ،‬فإن كان ل أمضاه ‪،‬‬
‫وإن كان لغيره حبسه ‪ ،‬لذا قلّ كلمه ‪ ،‬وسكت عن كثير الكلم ‪ ،‬أما قاسي القلب فل يعمل حسابا‬
‫لقول أو كلم لذا ينطق بكل سوء ‪ ،‬ويزيد في منطقه دون خشية أو مراقبة ‪ ،‬إن القلب الحي‬
‫مصفاة لكل قول سيء ‪ ،‬والقلب القاسي باب مفتوح لكلمات السوء‪ .‬فعن الحسن البصري قال ‪:‬‬
‫" كانوا يقولون إن لسان المؤمن وراء قلبه ‪ ،‬فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه ثم أمضاه‬
‫بلسانه ‪ ،‬وإن لسان المنافق أمام قلبه فإذا هم بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه " ‪.‬‬
‫وليست كثرة كلم المرء من العقل في شيء ‪ ،‬لذا كان من أحكم ما قيل ‪ :‬إذا تمّ العقل نقص‬
‫الكلم ‪ ،‬وقد قال المهلب بن أبي صفرة الزدي ‪ " :‬يعجبني أن أرى عقل الرجل الكريم زائدا على‬
‫لسانه " ‪ ،‬وهل أوفر عقل وأكثر نبوغا من رسول ال صلى ال عليه وسلم؟! لذا كان من صفات‬
‫كلم النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان يُحدّث حديثا لو عده العاد لحصاه ‪ ،‬وهذا إشارة إلى‬
‫قلة كلمه ‪ ،‬وفي هذا كذلك ‪ :‬الوقار والمهابة التي يلبس تاجها أحياء القلوب‪.‬‬
‫تاج الوقار وحسن سمت المسلم ‪ ..‬صمت المليء وحكمة المتـكلّم‬
‫وقد جعل أبو الدرداء رضي ال عنه قلة الكلم من علمات الفقه ؛ ما هو بغزارة العلم ول كثرة‬
‫الرواية ‪ ،‬فقال رحمه ال ‪ " :‬من فقه الرجل قلة كلمه فيما ل يعنيه " ‪.‬‬
‫أقلل كلمك واستعذ من شرّه ‪ ...‬إنّ البلء ببعضه مقرون‬
‫واحفظ لسانك واحتفظ من عِيّه ‪ ...‬حتى يكون كأنه مسجون‬
‫وكّل فؤادك باللسان وقُْلْ له ‪ ...‬إنّ الكلم عليكما موزون‬

‫وفي نهاية كلمنا عن كثرة الكلم يبادرنا سؤال ‪ :‬هل ل بد لحياء القلوب أن يكونوا قليلي‬
‫الكلم؟!‬
‫والجواب ‪ :‬كل ‪ ،‬وليس إذا كان الكلم صحيحا وفي الخير؟! ولذا لما عيب إياس بن معاوية‬
‫بكثرة الكلم قال ‪ :‬وأما كثرة الكلم فبصواب أتكلم أم بخطأ؟ قالوا ‪ :‬بصواب‪ .‬قال ‪ " :‬فالكثار من‬
‫الصواب أمثل " ‪.‬‬

‫‪ .4‬كثرة المخالطة ‪:‬‬

‫والمقصود بها ‪ :‬مخالطة المرضى والحتكاك بأموات القلوب ومعايشة قساة المشاعر اليمانية‬
‫والمبيت وسط من يذكّرونك بالدنيا وليس لهم من الخرة نصيب ‪ ،‬وهؤلء يجرونك نحو النار‬
‫جرا ويوصدون في وجهك أبواب الجنة ‪ ،‬وفيهم يقول ابن القيّم رحمه ال ‪:‬‬
‫" وكم جلبت خلطة الناس من نقمة ‪ ،‬ودفعت من نعمة ‪ ،‬وأنزلت من محنة ‪ ،‬وعطّلت من منحة ‪،‬‬
‫وأحلت من رزية ‪ ،‬وأوقعت في بلية ‪ ،‬وهل آفة الناس إل الناس ‪ ،‬وهل كان علي أبي طالب‬
‫رضي ال عنه عند الوفاة أضرّ من قرناء السوء ؛ لم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة‬
‫واحدة توجب له سعادة البد " ‪.‬‬
‫وغني عن القول أن الصاحب جسر إلى الرحمة أو اللعنة ‪ ،‬والصديق سائق إلى الجنة أو النار ‪،‬‬
‫علَى َيدَ ْيهِ َيقُولُ‬ ‫لذا قصّ ال تعالى علينا في القرآن قصة يوم الندم فقال ‪َ ﴿ :‬ويَوْمَ يَ َعضّ الظّالِمُ َ‬
‫خلِيلًا ﴾ [ الفرقان ‪.] 28-27 :‬‬ ‫خذْ فُلَانًا َ‬
‫خذْتُ َمعَ ال ّرسُولِ سَبِيلًا * يَا َويْلَتَا َليْتَنِي لَمْ أَتّ ِ‬
‫يَا َليْتَنِي اتّ َ‬
‫والقصة أن عقبة كان قد همّ بالسلم فمنعه منه أمية بن خلف وكانا صديقين ‪ ،‬وكان عقبة قد‬
‫صنع وليمة فدعا إليها قريشا ‪ ،‬ودعا رسول ال صلى ال عليه وسلم فأبى أن يأتيه إل أن يُسلم‬
‫‪ ،‬وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه أحد من أشراف قريش فأسلم ونطق بالشهادتين ‪ ،‬فأتاه‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم وأكل من طعامه ‪ ،‬فعاتبه خليله أمية بن خلف وكان غائبا ‪،‬‬
‫فقال عقبة ‪ :‬رأيت عظيما أل يحضر طعامي رجل من أشراف قريش ‪ ،‬فقال له خليله ‪ :‬ل أرضى‬
‫حتى ترجع وتبصق في وجهه وتطأ عنقه وتقول كيت وكيت ‪ ،‬ففعل عدو ال ما أمره به خليله ؛‬
‫فأنزل ال عز وجل ‪َ ﴿ :‬ويَوْمَ يَ َعضّ الظّالِمُ عَلى َيدَ ْيهِ ﴾ [ الفرقان ‪.] 27 :‬‬
‫والظالم هنا هو عقبة بن أبي معيط وخليله هو أمية بن خلف ‪ ،‬ولم يُسمّيا في الية لنه أبلغ في‬
‫الفائدة ‪ ،‬ليُعلم أن هذا سبيل كل ظالم أطاع صاحبه في معصية ال‪.‬‬
‫قال مجاهد ‪ " :‬الظالم عام في كل ظالم " ‪.‬‬
‫إشارة إلى كل ظالم اتخذ خليل له يصده عن الذكر بعد إذ جاءه على يد نبيه ‪ ،‬ويصرفه عن ما‬
‫فيه نجاته ‪ ،‬ليرتدع التابع ويرتجف رعبا هو يرى نفسه يُقرن بمن بصق في وجه رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وداس على عنقه وقُتل على يديه‪.‬‬
‫ومن يكن الغراب له دليل ‪ ..‬يمرّ به على جيف الكلب‬
‫إن تأمل في من يُحشر معهم المرء يكفي للتخلص من أثر هذا السم في الحال ﴿ الَخِلّ ْاءُ يَ ْومَ ِئذٍ‬
‫عدُوّ إل ال ُمتّق ْينَ ﴾ [ الزخرف ‪ ، ] 67 :‬ولكن قساة القلوب من الظالمين أعاجم ل‬ ‫بَ ْعضُهُمْ لِبَ ْعضٍ َ‬
‫يفهمون لغة القرآن ‪ ،‬وهو سُم ليس لك تتهاون في تناول جرعة واحدة منه وإل كان العطب ( ل‬
‫تصاحب إل مؤمنا ‪ ،‬ول يأكل طعامك إل تقي )‪.‬‬
‫وإن أي طالب للشفاء اليوم وباحث عن العافية سيفشل حتما ويظل متخبّطا في الضلل‬
‫والظلمة ‪ ،‬وكلما قام سقط ‪ ،‬وكلما تقدّم تعثّر ؛ ما لم يتخذ القرار المصيري الحاسم بهجر الرفقة‬
‫المهلكة والتي تشده إلى الوراء وتهوي بإيمانه إلى السفل ‪ ،‬ولن تُجدي أبدا جرعة دواء ما دام‬
‫يتبعها جرعة سم ‪ ،‬ولن تحصل عافية يوما ما دمت تُصبح وتُمسي بين أعداء العافية ‪ ..‬أل‬
‫فانتبه!!‬

‫أخي ‪..‬‬
‫كاذبٌ ثم كاذبٌ من ادعى قدرته على معايشة البيئة الفاسدة دون التأثر بغبارها ‪ ،‬لن قلبه قلب‬
‫بشر ل قلب َملَك ‪ ،‬وسيتأثر حتما بالبيئة المحيطة سلبا أو إيجابا ‪ ،‬وإل لماذا أمر ال رسوله‬
‫المؤيد بالوحي والذي رأى الجنة والنار رأي العين بصيانة سمعه وبصره ومفارقة مجالس‬
‫ع ِرضْ‬
‫السوء؟ بل وحذّره من أن يفتن بهم قائل ‪َ ﴿ :‬وِإذَا َرأَيْتَ اّلذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَ َأ ْ‬
‫حدِيثٍ غَ ْي ِرهِ ﴾ [ النعام ‪ ، ] 68 :‬فإذا كان هذا التحذير للنبي صلى ال‬ ‫عَنْهُمْ حَتّى َيخُوضُوا فِي َ‬
‫عليه وسلم وهو أطهر القلوب وأنقاها وأشرفها وأزكاها ؛ بل وأبعدها عن التأثر بما يتأثر به‬
‫غيره ‪ ،‬فكيف بغيره؟! بل لما ذهب إلى عرس من أعراس الجاهلية ألقى ال على عينيه بالنعاس‬
‫صيانة له وحفظا‪.‬‬

‫سببا المرض‬
‫إن سبب القبال على صحبة السوء هو التشابه أو الغفلة ‪ ،‬فأما التشابه فقد كان مالك بن دينار‬
‫يقول ‪ " :‬ل يتفق اثنان في عِشرة إل وفي أحدهما وصفٌ من الخر ‪ ،‬وإن أجناس الناس‬
‫كأجناس الطير ‪ ،‬ول يتفق نوعان من الطير في الطيران إل وبينهما مناسبة‪ .‬قال ‪ :‬فرأى يوما‬
‫غرابا مع حمامة فعجب من ذلك ‪ ،‬فقال ‪ :‬اتفقا وليسا من شكل واحد ‪ ،‬ثم طارا فإذا هما أعرجان‬
‫‪ ،‬فقال ‪ :‬من ها هنا اتفقا " ‪.‬‬
‫ولذلك قال بعض الحكماء ‪ :‬كل إنسان يأنس إلى شكله ؛ كما أن كل طير يطير مع جنسه ‪ ،‬وإذا‬
‫اصطحب اثنان برهة من زمان ولم يتشاكل في الحال فل بد أن يتفرقا ‪ ،‬وهذا معنى خفي فطن‬
‫له الشعراء حتى قال قائلهم ‪:‬‬
‫وقائل كيف تفارقتما ‪ ...‬فقلت قول فيه إنصاف‬
‫لم يك من شكلي ففارقته ‪ ...‬والناس أشكال وألف‬
‫وأما الغفلة فالمقصود بها ‪ :‬عدم النتباه إلى سهولة انتشار العدوى وعموم البلوى بالمخالطة ‪،‬‬
‫والنسان بطبعه وحكم بشريته يتأثر بصديقه وجليسه ‪ ،‬ويكتسب أخلق قرينه وخليله ؛ لن‬
‫رفقة السوء أعدى من الجرب ‪ ،‬ولربما يعدي السليمَ الجربُ ‪ ،‬وقد قال ابو قدامة في كلم‬
‫مختصر حواه كتابه مختصر منهاج القاصدين ‪ ،‬وهو يرصد فيه ما خفي عن غيره من الطباء‬
‫والمرضى من عواقب رفقة السوء ‪:‬‬
‫" مسارقة الطبع من أخلقهم الرديئة ‪ ،‬وهو داء دفين قلما ينتبه له العقلء فضل عن الغافلين ‪،‬‬
‫وذلك أنه قلّ أن يجالس النسان فاسقا مدة ‪ ،‬مع كونه منكرا عليه في باطنه ‪ ،‬إل ولو قاس‬
‫نفسه إلى ما قبل مجالسته لوجد فارقا في النفور عن الفساد ‪ ،‬لن الفساد يصير بكثرة المباشرة‬
‫هيّنا على الطبع ‪ ،‬ويسقط وقعه واستعظامه ‪ ،‬ومهما طالت مشاهدة النسان الكبائر من غيره ‪،‬‬
‫احتقر الصغائر من نفسه " ‪.‬‬
‫ومن آثار صحبة السوء ‪ :‬الرضا عن النفس ‪ ،‬وما حال مريض يقارن نفسه بالموات؟! أو‬
‫يفرح أن وجد نفسه أعور بين قطيع من العُمي؟! أو يظن بنفسه الخير أن كان يهوي إلى أسفل‬
‫وغيره أسفل منه ؛ كلهما يهوي لكنه مطمئن أن أخاه أقرب منه إلى الهاوية!! وهو معنى قول‬
‫ابن عطاء ‪ :‬ربما كنت مسيئا فأراك الحسان صحبة من هو أسوأ حال منك‪.‬‬
‫ومن آثارها ‪ :‬حالة الموت السريري أو ترك المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬لن مخالطة‬
‫الفاسدين تُضعِف قوة النكار في القلب ‪ ،‬ومع مرور الوقت تنعكس المشاعر ‪ ،‬وتتحول كراهة‬
‫المنكر إلى حب له واستئناس به ‪ ،‬وحتى إن لم تنطمس الفطرة وتصل إلى هذا المنحدر يكون‬
‫السكوت عن النكار حتى ل يخسر الصديق صديقه أو حتى يؤذي مشاعره!!‬
‫وجّه علي باشا ماهر الدعوة للمام الشهيد حسن البنا لحضور حفل زفاف ابنه بالسكندرية ‪،‬‬
‫فذهب الستاذ المرشد إلى السكندرية ونزل عند الخوان ‪ ،‬وكلف الستاذ أحد الخوة الذين‬
‫رافقوه بالذهاب إلى الحفل ‪ ،‬وقال له ‪ :‬إذا لم تجد أي مخالفة شرعية فاتصل بي تليفونيا حتى‬
‫أحضر ‪ ،‬وإذا وجدت ما يسبب أي حرج فقم أنت بالواجب ‪ ،‬وانتظر الستاذ فترة ‪ ،‬ولم يتصل‬
‫الخ ‪ ،‬فقال الستاذ للخوان ‪ :‬أل توجد مناسبة عند أحد الخوة؟ قالوا ‪ :‬بلى ‪ ،‬عند فلن عقد‬
‫زواج ‪ ،‬فذهبوا جميعا ‪ ،‬وكانت مفاجأة سارة ‪ ،‬وعمت الفرحة والبهجة ‪.‬‬
‫ومن آثارها نفور الصالحين منك بعد أن أدنيت أهل السوء ‪ ،‬وهي وصية الواعظ أبي حازم لما‬
‫دخل على أمير المدينة ‪ ،‬فقال له ‪ :‬تكلم‪ .‬قال له ‪ " :‬انظر الناس ببابك ‪ ،‬إن أدنيت أهل الخير‬
‫ت أهل الشّر ذهب أهل الخير " ‪.‬‬
‫ذهب أهل الشّر ‪ ،‬وإن أدني َ‬
‫فإذا وجدت الصالحين يهربون منك ولم تجد حولك غير قساة القلوب ‪ ،‬فاعلم أنك أنت السبب ‪،‬‬
‫فل يدخل الضوء مكانا حتى يطرد الظلم ‪ ،‬ول يملؤ العسل وعاءً مُلئ بالعلقم‪.‬‬
‫ولهذا حذّر عالم المدينة وسيد التابعين في زمانه سعيد بن المسيب [ ت ‪ ] 94 :‬من مجرّد النظر‬
‫إلى الفئة الضالة فضل عن مخالطتهم ؛ فقال متخذا أقصى درجات الحيطة ومتجنبا أولى خطوات‬
‫النهيار والسقوط ‪:‬‬
‫" ل تنظروا إلى الظلمة فتحبط أعمالكم الصالحة ؛ بل هؤلء ل سلمة في مخالطتهم ‪ ،‬وإنما‬
‫السلمة في النقطاع عنهم " ‪.‬‬

‫‪ .5‬نقض عهد ال ‪:‬‬

‫قال تعالى ‪ ﴿ :‬فَ ِبمَا نَ ْقضِهِمْ مِيثَاقَ ُهمْ لَ َعنّاهُمْ َوجَعَ ْلنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِ َيةً ﴾ [ المائدة ‪] 13 :‬‬
‫فجعل ال نقض العهد معه سببا رئيسا لقسوة القلب ‪ ،‬ويشهد لهذا قوله تعالى ‪َ ﴿ :‬و ِمنْهُمْ َم ْ‬
‫ن‬
‫ص ّد َقنّ وََلنَكُو َننّ ِمنَ الصّاِلحِينَ * َفَلمّا آَتَاهُمْ ِمنْ َفضْ ِلهِ بَخِلُوا ِبهِ‬ ‫عَا َهدَ الّلهَ لَ ِئنْ آَتَانَا ِمنْ َفضْ ِلهِ لَ َن ّ‬
‫عدُوهُ‬
‫َوتَوَلّوْا َوهُمْ ُم ْع ِرضُونَ * فَ َأعْقَبَ ُهمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ َيلْقَوْ َنهُ ِبمَا َأخْلَفُوا الّلهَ مَا َو َ‬
‫َو ِبمَا كَانُوا َي ْكذِبُونَ ﴾ [ التوبة ‪] 77-75 :‬‬
‫فتأمل هذه القصة وهي أن هؤلء القوم عاهدوا ال إن آتاهم من فضله أن يتصدقوا مما آتاهم ‪،‬‬
‫ولكن لما آتاهم ال من فضله نكصوا على أعقابهم ‪ ،‬وغدروا في ما عاهدوا ‪ ،‬فكانت العقوبة أن‬
‫أعقبهم ال تعالى نفاقا دائما في قلوبهم يبقى معهم حتى الممات ‪ ،‬وهذا وعيد مخيف يرتعد منه‬
‫المرء إن هو خالف ما سبق وأن عاهد ربه عليه ‪ :‬أن يصل إلى ما انحدر إليه هؤلء المنافقون‬
‫‪ ،‬فإن قانون التماثل ل يتخلّف ول يتبدّل ‪ ،‬فإن فعلنا مثل ما فعل أسلفنا من المم والقوام‬
‫السابقة وصلنا إلى ما وصلوا إليه خيرا كان أو شرا ‪ ،‬وما ربك بظلم للعبيد‪.‬‬
‫إن منا من إذا نزلت به بلية أو مرض أو احتاج ربه في حل مشكلة ألمّت به ؛ أناب وخضع‬
‫وتاب وخشع ‪ ،‬وعاهد ال لئن كشف ال عنه ما هو فيه ليفعلن وليكونن ‪ ،‬ثم ل يكون بعدها إل‬
‫التولي يوم الزحف ‪ ،‬وإخلف الوعد مع البشر من نواقض المروءة ؛ فكيف بنقض العهد مع‬
‫ال؟! لذا يشتد غضب ال على هذا المستهين بربه ‪ ،‬فيضرب على قلبه القسوة والنفاق‪.‬‬
‫أعرف رجل كان أبعد ما يكون عن ال ‪ ،‬لكنه ابتُلي بمرض عضال ‪ ،‬فصار المسجد بيته ‪،‬‬
‫والقرآن نطقه ‪ ،‬وأقبل على الصلة بعد أن هجرها دهرا ‪ ،‬وأشرقت عيناه بدمع الندم بعد أن ولى‬
‫زمان الجدب ؛ حتى شفاه ال وأخذ بيديه إلى العافية ‪ ،‬فرجع إلى سابق عهده ناكثا مدبرا ‪ ،‬دون‬
‫أن يدرك قبح فعلته وهول غدرته ‪ ،‬فماذا كانت النتيجة؟! تيه في دروب الحياة وقسوة أشد وبعدا‬
‫أكثر عن ساحل النجاة ‪ ،‬حتى يتوفاه الموت أو يجعل ال له سبيل‪.‬‬

‫‪ .6‬تعليم العلم دون استعماله ‪:‬‬


‫قال ذو النون وقد سئل ‪ :‬ما أساس قسوة القلب للمريد؟! فقال ‪ " :‬ببحثه عن علوم رضي نفسه‬
‫بتعليمها دون استعمالها والوصول إلى حقائقها " ‪.‬‬
‫والسبب في هذه العقوبة أنه رغّب الناس في بضاعة زهد هو فيها ‪ ،‬وأرشد الناس إلى دواء لم‬
‫يستعمله ‪ ،‬وحمل بين يديه الهناء فاختار الشقاء ؛ ومن العجائب أعمش كحّال ‪ ،‬ولذا كانت‬
‫عقوبته إماتة قلبه وحرمانه من الحياة‪.‬‬
‫إن كثرة الوعظ قد تذهب بتأثيره في قلب الواعظ لعتياده إياه وتكراره له مرات كثيرة وفي‬
‫محافل شتى ‪ ،‬والمر يحتاج إلى نوبة إفاقة متكرّرة وعلى الدوام ‪ ،‬وإلى إتقان مهارة التأثير في‬
‫النفس إضافة إلى مهارة التأثير في الغير ‪ ،‬وإل كان حظ النسان من وعظه ‪ :‬لسانه ‪ ،‬ونصيبه‬
‫من موعظته ‪ :‬دموع غيره ‪ ،‬ودوره مع كلمه ‪ :‬هداية المستمعين إليه‪ .‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ « :‬مثل العالم الذي يُعلّم الناس الخير وينسى نفسه ؛ كمثل السراج يضيء للناس‬
‫ويُحرِق نفسه » ‪.‬‬
‫كان السري السقطي يُعجب مما يرى من علم الجنيد وحسن خطابه وسرعة جوابه ‪ ،‬فقال له‬
‫يوما وقد سأله عن مسألة فأجاب وأصاب ‪ :‬أخشى أن يكون من الدنيا لسانك ‪ ،‬فكان الجنيد ل‬
‫يزال يبكي من تلك الكلمة ‪.‬‬
‫وتأمّلوا رقة قلب وحياة روح سيد الوعاظ الواعظ الكوفي ابن السماك [ ت ‪ ] 183 :‬فقد ذكر‬
‫النار في بعض مجالسه ‪ ،‬فبكى وأبكى ووعظ وذكر وجرى مجلس حسن جميل ‪ ،‬فلما كان في‬
‫المجلس الثاني ُدفِعت إليه رقعة كان فيها ‪:‬‬
‫يا أيها الرجل المعلم غيره ‪ ..‬هل لنفسك كان ذا التعليم‬
‫تصف الدواء من السقام لذي الضنا كيما يصح به وأنتم سقيم‬
‫وأراك تُلقّح بالرشاد عقولنا نصحا وأنت من الرشاد عديم‬
‫فمرض من ذلك مرضا شديدا ‪ ،‬وتُوفّي منه رحمه ال!! ‪.‬‬
‫ومثلما كان في الكوفة أحياء قلوب كان لهم إخوان في أقصى المغرب في أرض الندلس يخافون‬
‫من نفس المصير ويتهمون النفس بالتقصير ‪ ،‬ومنهم المنذر بن سعيد القاضي الندلسي الذي‬
‫خطب يوما وأراد التواضع ؛ فكان من فصول خطبته أن قال ‪:‬‬
‫" حتى متى؟ وإلى متى؟ فكم الذي أعظ ول أتعظ ؛ وأزجر ول أزدجر ‪ ،‬أدل الطريق على‬
‫المستدلين ‪ ،‬وأبقى مقيما مع الحائرين! كل إن هذا لهو الضلل المبين! ﴿ ِإنْ هِيَ إِلّا فِ ْتنَ ُتكَ‬
‫ُتضِلّ بِهَا َمنْ َتشَاءُ َوتَ ْهدِي َمنْ َتشَاءُ ﴾ [ العراف ‪ ] 155 :‬اللهم فرّغني لما خلقتني له! ول‬
‫تشغلني بما تكفّلت لي به! ول تحرمني وأنا أسألك! ول تعذّبني وأنا أستغفرك! يا أرحم‬
‫الراحمين! "‪.‬‬

‫طواف أهل النار‬


‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه ‪ ،‬فيدور بها في النار كما يدور الحمار‬
‫برحاه ‪ ،‬فيطيف به أهل النار فيقولون ‪ :‬يا فلن! ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا‬
‫عن المنكر؟ فيقول ‪ :‬بلى قد كنت آمركم بالمعروف ول آتيه ‪ ،‬وأنهاكم عن المنكر وآتيه » ‪.‬‬
‫يُقال أطاف به القوم إذا حلقوا حوله حلقة ‪ ،‬وهذا الطواف يكون يوم القيامة ‪ ،‬حيث يجتمع إليه‬
‫أهل النار ‪ ،‬تتملّكهم أقصى درجات الدهشة والتعجّب ممن كان يحذّرهم من النار ثم صاحبهم فيها‬
‫حرِمها معهم ‪ ،‬فتندلق أمعاؤه ‪ ،‬وتنكشف أسراره ‪ ،‬ويُبدي ال ما كان‬ ‫‪ ،‬ويدعوهم إلى الجنة ثم ُ‬
‫يُخفيه ‪ ،‬ويفضح ما كان غارقا فيه‪.‬‬
‫لهذا ألحّ الصحابة على كل من دخل طريق الدعوة أن يكون مؤهّل ‪ ،‬وقلبه مهيئا ‪ ،‬وروحه‬
‫مستعدة ‪ ،‬وإل كان دخيل على جمهور الدعاة ‪ ،‬والمستزيد من العلم دون العمل به شبيه بشجر‬
‫الحنظل ؛ كلما ازداد ريا بالماء ازداد مرارة ‪ ،‬فقد جاء رجل إلى عبدال بن عباس رضي ال‬
‫عنه فقال ‪ :‬يا ابن عباس!! إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر‪ .‬قال ‪ :‬أو بلغت؟ قال‬
‫‪ :‬أرجو‪ .‬قال ‪ :‬فإن لم تخش أن تفتضح بثلثة أحرف في كتاب ال عز و جل فافعل‪ .‬قال ‪ :‬وما‬
‫هن؟ قال ‪ :‬قوله عز وجل ‪ ﴿ :‬أَتَ ْأ ُمرُونَ النّاسَ بِا ْل ِبرّ وَتَ ْنسَ ْونَ أَ ْن ُفسَكُمْ ﴾ [ البقرة ‪ ] 44 :‬أحكمت‬
‫هذه الية؟ قال ‪ :‬ل‪ .‬قال ‪ :‬فالحرف الثاني‪ .‬قال ‪ :‬قوله عز و جل ‪ ﴿:‬لِمَ َتقُولُونَ مَا لَا تَ ْفعَلُونَ *‬
‫ع ْندَ الّلهِ َأنْ َتقُولُوا مَا لَا تَفْ َعلُونَ ﴾ [ الصف ‪ ] 3-2 :‬أحكمت هذه الية؟ قال ‪ :‬ل‪ .‬قال‬ ‫كَ ُبرَ مَ ْقتًا ِ‬
‫‪ :‬فالحرف الثالث‪ .‬قال ‪ :‬قول العبد الصالح شعيب عليه السلم ‪َ ﴿ :‬ومَا ُأرِيدُ َأنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا‬
‫أَنْهَاكُمْ عَ ْنهُ ﴾ [هود ‪ ] 88 :‬أحكمت هذه الية؟ قال ‪ :‬ل‪ .‬قال ‪ " :‬فابدأ بنفسك " ‪.‬‬

‫‪ .7‬كثرة الذنوب ‪:‬‬

‫قال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬الثم حوّاز القلوب ‪ ،‬وما من نظرة إل وللشيطان فيها مطمع » ‪.‬‬
‫وحوازّ بتشديد الزاي أو الواو ‪ ،‬فهي حَوَازّ بتشديد الزاي جمع حازّ ‪ ،‬وهي المور التي تحزّ‬
‫فيها أي تؤثر ‪ ،‬كما يؤثر الحزّ في الشيء ‪ ،‬أو حوّاز بتشديد الواو ‪ ،‬أي يحوزها ويتملكها‬
‫ويغلب عليها‪.‬‬
‫وسواء كان المراد أن الذنوب تجرح القلوب وتؤثر فيها ‪ ،‬أو تحوز القلوب وتسيطر عليها ‪ ،‬فإن‬
‫ضررها عظيم وفادح ‪ ،‬ولذا كان من رحمة ال بعباده أن فرض عقوبات تنبيهية لتستيقظ‬
‫القلوب رهبا وترتعد الطراف وجل ‪ ،‬فتغلق على العدو بابا سبق وأن ولج منه ‪ ،‬وتطرد فلوله‬
‫على أدبارها بعد أن غزوا قلعته‪.‬‬
‫الذنب إذن يُضعف مقاومة حصن القلب العتيد في مواجهة المعاصي ‪ ،‬فتنهار مقاومته أمام أي‬
‫شهوة ويستسلم لي غفلة ‪ ،‬فإن تتابعت على القلب غزوات العدو مع انعدام الحراسة عليه‬
‫أصابته حالة من حالة السّكر ‪ ،‬فيصبح كالمخمور بل إن المخمور قد يكون أفضل حال منه ‪،‬‬
‫فإنه تأتيه ساعة إفاقة يصحو فيها ويعقل ‪ ،‬بل لو صادف شيئا ينقذه من همومه غير الخمر‬
‫لربما تركها ‪ ،‬أما مخمور القلب فل يفيق من سكرته إل على دقات ملك الموت يطرق بابه!!‬
‫فهو ميت في صورة حي ‪ ،‬وحجر في صورة قطعة لحم!!‬
‫إن الوقوع في الذنوب مع عدم النزوع عنها والقامة عليها يؤدي إلى القساوة أو الموت ؛ لذا‬
‫كان من بديع شعر ابن المبارك الذي رصد فيه هذا المعنى ‪:‬‬
‫رأيت الذنوب تميت القلوب ‪ ...‬ويورث الذلّ أدمانها‬
‫وترك الذنوب حياة القلوب ‪ ...‬وخيرٌ لنفسك عصيانها‬

‫‪ .8‬كثرة الضحك ‪:‬‬

‫وهي وصية النبي صلى ال عليه وسلم لنا حيث قال ناصحا أبا هريرة ‪:‬‬
‫« ول تكثر الضحك ؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب » ‪.‬‬
‫قال المناوي ‪:‬‬
‫" أي تصيره مغمورا في الظلمات بمنزلة الميت الذي ل ينفع نفسه بنافعة ‪ ،‬ول يدفع عنها شيئا‬
‫من مكروه ‪ ،‬وحياته وإشراقه مادة كل خير ‪ ،‬وموته وظلمته مادة كل شر ‪ ،‬وبحياته تكون قوته‬
‫وسمعه وبصره وتصور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه " ‪.‬‬
‫وموت القلب هو أصل فساده ‪ ،‬لذا قال صلى ال عليه وسلم في حديث آخر ‪:‬‬
‫« وإياك وكثرة الضحك ‪ ،‬فإن كثرة الضحك فساد القلب » ‪.‬‬
‫أي أن كثرة الضحك تورث قسوة القلب ‪ ،‬لن الفراط فيه يورث النغماس في اللهو والغفلة عن‬
‫الخرة ‪ ،‬وإذا كان السلم يكره الغلو والسراف في كل شي ولو كان في العبادة ؛ فكيف باللهو‬
‫والمرح؟!‬

‫هزل الطباء!!‬
‫والبعد عن الفراط في المزاح أوجب للدعاة ‪ ،‬فهم القدوات والصور التي يتأمل الناس حسنها ثم‬
‫يقلّدونها ‪ ،‬وهم الصل الذي يستنسخ منه الناس نسخا من أعمالهم الزكية ‪ ،‬فإذا كان الصل‬
‫مهتزا فكيف بالصورة؟! والبحر الذي يغسل الدران إذا كان غير نظيف فكيف يُطهّر؟! وكيف‬
‫تقسو قلوب من مهمتهم أن تلين بهم قلوب الناس؟! وكيف يموت قلب مطلوب منه أن يحيي‬
‫قلوب الخرين؟! ولذا كان من الوصايا العشر للمام البنا وصيتان مرتبطتان بهذا المر ؛ الولى‬
‫‪ " :‬ل تمزح فإن المّة المجاهدة ل تعرف إل الجد " ‪ ،‬والثانية ‪ " :‬ل تكثر الضحك فإن القلب‬
‫المتصل بال ساكن وقور " ‪ ،‬ويبيّن ذلك جليا ويحذّر منه بشدة بعد أن رصده بدقة في تقريره‬
‫الميداني المفصّل الستاذ الراشد فيقول ‪:‬‬
‫" وقضايا السلم أوفر جدا وأثقل هموما من أن تدع عصبة من الدعاة تطيل الضحك ‪ ،‬وتستجيز‬
‫المزاح ‪ ،‬وتتخذ لها من صاحب خير فيها محور تندّر وتروي قصصه وغرائبه ‪ ،‬والبتسامة‬
‫علمة المؤمن ولسنا نُنْكرها ‪ ،‬والنكتة في ساعتها سائغة ‪ ،‬والريحية أصل في سلوكنا واللفة‬
‫والبشاشة ‪ ،‬ليس العبوسة ‪ ،‬والقهقهة الولى لك ‪ ،‬والثانية نهبها لك أيضا ‪ ،‬فإنا كرماء ‪ ،‬ولكن‬
‫الثالثة عليك ‪ ،‬وتشفع حسناتك لها عندنا ‪ ،‬وأما الرابعة فيلزمها حد ل شفاعة فيه ‪ ،‬وشعار ‪:‬‬
‫الضحك للضحك ؛ باطل ‪ ،‬والهزل الهزيل مرفوض في أوساط العمل السلمي ‪ ،‬وإنما الداعية‬
‫مُفوّض بالجد والتجديد " ‪.‬‬

‫بقي لك أربعة‬
‫حتى تستكمل آداب المزاح وتحيط بها علما ؛ هاك ما يلي من شروط المزاح المباح ‪:‬‬
‫أولها ‪ :‬أل يكون كذبا ‪ ،‬ولهذا قال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ويل للذي يُحدّث فيكذب ليُضحك به‬
‫القوم ‪ ،‬ويل له ‪ ،‬ويل له » ‪.‬‬
‫قال المناوي ‪ " :‬كرّره إيذانا بشدة هلكته ‪ ،‬وذلك لن الكذب وحده رأس كل مذموم ‪ ،‬وجماع كل‬
‫فضيحة ‪ ،‬فإذا انضم إليه استجلب الضحك الذي يميت القلب ‪ ،‬ويجلب النسيان ‪ ،‬ويورث‬
‫الرعونة ؛ كان أقبح القبائح " ‪.‬‬
‫وغالبا ما يؤدي بصاحبه إلى الكذب ‪ ،‬لن غرضه أن يُضحك الناس كيفما كان ‪ ،‬فيسحبه‬
‫الشيطان رويدا رويدا دون أن يشعر حتى يكذب ليُضحك غيره‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬أل يشتمل على تحقير أو استهزاء أو سخرية من أحد ‪ « :‬بحسب امرئ من الشّر أن‬
‫يحقر أخاه المسلم »‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬أل يؤدي إلى ترويع مسلم ‪ ،‬فقد روى النعمان بن بشير رضي ال عنهما قال ‪ :‬كنا مع‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم في مسير فخفق رجل على راحلته ‪ ،‬فأخذ رجل سهما من كنانته‬
‫‪ ،‬فانتبه الرجل ففزع ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل يحل لرجل أن ُيرَوّع مسلما‬
‫»‪.‬‬
‫والسياق يدل على أن الذي فعل ذلك كان يمزح ‪ ،‬وقد ورد في الحديث ‪ « :‬ل يأخذن أحدكم متاع‬
‫صاحبه لعبا ول جادا ‪ ،‬وإن أخذ عصا صاحبه فليردها عليه » ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬أل يهزل في موضع الجد ‪ ،‬ول يضحك في مجال يستوجب البكاء ‪ ،‬فلكل شئ أوانه ‪،‬‬
‫ولكل مقام مقال ‪ ،‬والحكمة هي وضع الشيء في موضعه المناسب‪.‬‬
‫وأقبح المزاح ما كان في لحظة خشوع أو عقيب طاعة ‪ ،‬فإنه يذهب بأثرها ويضيع مفعولها في‬
‫الحال ‪ ،‬وبعد أن كان القلب خاشعا وجل خائفا رطبا ؛ إذا به يتحوّل ‪ ،‬وليس قلب المازح وحده‬
‫بل قلوب كل من سمعوا مزاحه وتأثّروا به‪.‬‬
‫وقد عاب ال تعالى على المشركين أنهم كانوا يضحكون عند سماع القرآن وكان أولى بهم‬
‫حكُونَ وَلَا تَ ْبكُون * َوأَنتُمْ سَا ِمدُونَ‬
‫حدِيثِ َتعْجَبُونَ * وَ َتضْ َ‬
‫البكاء ‪ ،‬فقال عز وجل ‪َ ﴿ :‬أ َف ِمنْ َهذَا الْ َ‬
‫﴾ [ النجم ‪] 60-58 :‬‬

‫اعتراض!!‬
‫قال أبو حامد الغزالي متقمّصا كل من شخصية المعارض والمؤيد ‪:‬‬
‫" فإن قلت ‪ :‬قد نقل المزاح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه فكيف يُنهى عنه؟!‬
‫فأقول ‪ :‬إن قدرت على ما قدر عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه وهو ‪ :‬أن تمزح‬
‫ول تقول إل حقا ‪ ،‬ول تؤذي قلبا ‪ ،‬ول تُفرّط فيه ‪ ،‬وتقتصر عليه أحيانا على الندور ‪ ،‬فل حرج‬
‫عليك فيه ‪ ،‬ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ النسان المزاح حرفة يواظب عليه ‪ ،‬ويُفرّط فيه ‪،‬‬
‫ثم يتمسك بفعل الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وهو كمن يدور نهاره مع الزنوج ينظر إليهم‬
‫وإلى رقصهم ؛ ويتمسك بأن رسول ال صلى ال عليه وسلم أذن لعائشة في النظر إلى رقص‬
‫الزنوج في يوم عيد ‪ ،‬وهو خطأ إذ من الصغائر ما يصير كبيرة بالصرار ‪ ،‬ومن المباحات ما‬
‫يصير صغيرة بالصرار ‪ ،‬فل ينبغي أن يُغفل عن هذا " ‪.‬‬

‫‪ .9‬أكل الحرام ‪:‬‬

‫السم الذي يصل إلى القلب عن طريق أكلة محرمة يتسبب على الفور في موت القلب ويبوسه ؛‬
‫إن لم يتدارك النسان نفسه بترياق التوبة ودموع الندم ‪ ،‬وقد قرّر علماء القلوب مرارا أنه ل‬
‫ينشأ من أكل الحرام إل فعل الحرام ‪ ،‬ول من أكل الحلل إل فعل الطاعات ‪ ،‬فلو أراد آكل الحلل‬
‫أن يعصي لما قدر ‪ ،‬ولو أراد آكل الحرام أن يطيع لما قدر‪.‬‬
‫فأكل الحلل هو الذي تلين به القلوب وتسمو على إثره الروح ‪ ،‬وهو دواء غير معتاد وزاد‬
‫يغفل عنه الكثيرون ‪ ،‬ويحسبون المر بكثرة الصيام وطول القيام فحسب ‪ ،‬وهو المر الذي غاب‬
‫عن بشر بن الحارث وعن صاحبه عبد الوهاب بن أبي الحسن ‪ ،‬لكن ما كان ليغيب عن‬
‫إستاذهما أحمد بن حنبل ‪ ،‬فعن أبي حفص عمر بن صالح الطرسوسي قال ‪:‬‬
‫" ذهبت أنا ويحيى الجلء إلى أبي عبد ال فسألته ‪ ،‬فقلت ‪ :‬رحمك ال يا أبا عبد ال بم تلين‬
‫القلوب؟! فأبصر إلى أصحابه فغمزهم بعينه ‪ ،‬ثم أطرق ساعة ‪ ،‬ثم رفع رأسه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا بني‬
‫بأكل الحلل ‪ ،‬فمررت كما أنا إلى أبي نصر بشر بن الحارث ‪ ،‬فقلت له ‪ :‬يا أبا نصر! بم تلين‬
‫القلوب؟! قال ‪ :‬أل بذكر ال تطمئن القلوب‪ .‬قلت ‪ :‬فإني جئت من عند أبي عبد ال ‪ ،‬فقال ‪ :‬هيه‬
‫‪ ..‬إيش قال لك أبو عبد ال؟! قلت ‪ :‬بأكل الحلل ‪ ،‬فقال ‪ :‬جاء بالصل ‪ ،‬فمررت إلي عبد‬
‫الوهاب بن أبي الحسن ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا أبا الحسن! بم لين القلوب؟! قال ‪ :‬أل بذكر ال تطمئن‬
‫القلوب‪ .‬قلت ‪ :‬فإني جئت من عند أبي عبد ال ‪ ،‬فاحمرت وجنتاه من الفرح ‪ ،‬وقال لي ‪ :‬إيش‬
‫قال أبو عبد ال؟! قلت ‪ :‬قال بأكل الحلل ‪ ،‬فقال ‪ :‬جاءك بالجوهر ‪ ..‬جاءك بالجوهر ‪ ،‬الصل‬
‫كما قال ‪ ،‬الصل كما قال " ‪.‬‬
‫ومن هنا أفتاك إبراهيم بن أدهم بما يلي ‪:‬‬
‫" أطب مطعمك ؛ ول عليك أن ل تقوم بالليل وتصوم بالنهار " ‪.‬‬
‫بل وعقد هؤلء العلماء المقارنات وعلّموك مبكّرا ما يُعرف بفقه الولويات ‪ ،‬فنطق عبد ال بن‬
‫المبارك وقال ‪ " :‬ردّ درهم من شبهة أحب إليّ من أن أتصدق بمائة ألف درهم ومائة ألف ومائة‬
‫ألف ؛ حتى بلغ إلى ستمائة ألف " ‪.‬‬
‫ومن بعد جاء إبراهيم بن أدهم الذي أرشدنا إلى طريق الرتقاء في مدارج المتقين فقال ‪ " :‬ما‬
‫أدرك من أدرك إل من كان يعقل ما يدخل جوفه "‪.‬‬
‫والثالث هو الفضيل بن عياض الذي قال ‪ " :‬من عرف ما يدخل جوفه كتبه ال صديقا ‪ ،‬فانظر‬
‫عند من تفطر يا مسكين " ‪ ،‬وأخيرا سفيان الثوري الذي فضح آكلي الحرام المتستّرين بالتصدق‬
‫منه ببعض الحسان ‪ ،‬فعرّفهم حقيقة ما صنعوا بمثل واضح فاضح ‪" :‬من أنفق من الحرام في‬
‫طاعة ال كان كمن طهّر الثوب النجس بالبول ‪ ،‬والثوب النجس ل يطهّره إل الماء ‪ ،‬والذنب ل‬
‫يكفّره إل الحلل "‪.‬‬
‫وقرّر أخيرا أبو حامد الغزالي في صرامة واضحة بعد أن استدل بكلم هؤلء الفضلء السابقين‬
‫( أن العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام ‪ ،‬وأن أكل الحلل هو أساس العبادات كلها ) ‪.‬‬
‫القلب القاسي ‪ ..‬علمات القسوة‬

‫علمات القسوة‬

‫لكل شيء علمة ‪ ،‬بمعرفة هذه العلمة يسهل الكتشاف المبكّر لهذا الداء الوبيل ‪ ،‬أل إن أبرز‬
‫علمات القلب القاسي ‪:‬‬

‫‌أ‪ -‬تعطل الحواس ‪:‬‬

‫القلب القاسي ‪ ..‬ل القرآن يُزكّيه ول النظر في آيات ال يحييه ‪ ،‬والسبب موت حواسه وتعطل‬
‫عملها‪.‬‬
‫قال ابن الجوزي ‪:‬‬
‫ختَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ َمنْ إِ َلهٌ غَ ْيرُ‬
‫سمْ َعكُمْ َوأَ ْبصَارَ ُكمْ وَ َ‬
‫خذَ الّلهُ َ‬
‫" رأيتُ هذه الية ‪ ﴿ :‬قُلْ َأ َرأَيْتُمْ ِإنْ َأ َ‬
‫ص ِدفُونَ ﴾ [ النعام ‪ ] 46 :‬فلحت لي فيها‬ ‫ص ّرفُ الْآيَاتِ ثُمّ هُمْ َي ْ‬ ‫ظرْ كَ ْيفَ ُن َ‬ ‫الّلهِ يَ ْأتِي ُكمْ ِبهِ انْ ُ‬
‫إشارة كدت أطيش منها ‪ ،‬وذلك أنه إن كان عنى بالية نفس السمع والبصر ‪ ،‬فإن السمع آلة‬
‫لدراك المسموعات والبصر آلة لدراك المبصرات ‪ ،‬فهما يعرضان ذلك على القلب فيتدبر‬
‫ويعتبر ‪ ،‬فإذا عرضت المخلوقات على السمع والبصر أوصل إلى القلب أخبارها من أنها تدل‬
‫على الخالق ‪ ،‬وتحمل على طاعة الصانع ‪ ،‬وتحذّر من بطشه عند مخالفته‪.‬‬
‫وإن عنى معنى السمع والبصر ؛ فذلك يكون بذهولها عن حقائق ما أدركا شُغِل بالهوى ‪،‬‬
‫فيُعاقب النسان بسلب معاني تلك اللت ‪ ،‬فيرى وكأنه ما رأى ‪ ،‬ويسمع كأنه ما سمع ‪ ،‬والقلب‬
‫ذاهل عما يتأذى به ل يدري ما يُراد به ‪ ،‬ل يؤثر عنده أنه يبلى ‪ ،‬ول تنفعه موعظة تُجلى ‪ ،‬ول‬
‫يدري أين هو ‪ ،‬ول ما المراد منه ‪ ،‬ول إلى أين يُحمل ‪ ،‬وإنما يلحظ بالطبع مصالح عاجلته ‪،‬‬
‫ول يتفكر في خسران آجلته ‪ ،‬فل يعتبر برفيقه ‪ ،‬ول يتعظ بصديقه ‪ ،‬ول يتزود لطريقه ‪ ،‬فنعوذ‬
‫بال من سلب فوائد اللت فإنها أقبح الحالت " ‪.‬‬

‫ل أرى ل أسمع ل أتكلم‬


‫ومن قسوة القلب كونه " أصم ل يسمع الحق أبكم ل ينطق به أعمى ل يراه ‪ ،‬فيصير النسبة بين‬
‫القلب وبين الحق كالنسبة بين أذن الصم والصوات ‪ ،‬وعين العمى واللوان ‪ ،‬ولسان‬
‫الخرس والكلم ‪ ،‬وبهذا يعلم أن الصم والبكم والعمى للقلب بالذات والحقيقة ‪ ،‬والجوارح‬
‫بالفرض والتبعية ‪ ،‬فإنها ل تعمى البصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور ‪ ،‬وليس المراد‬
‫نفي العمى الحسي عن البصر ‪ ،‬وإنما المراد أن العمى التام على الحقيقة ‪ :‬عمى القلب ‪ ،‬حتى‬
‫أن عمى البصر بالنسبة إليه كالعمى حتى يصح نفيه بالنسبة إلى كماله وقوته " ‪ ،‬واسمع إلى‬
‫تفاصيل تعطل حواس القاسية قلوبهم حاسة حاسة ‪:‬‬

‫‪ .i‬السمع ‪:‬‬
‫وصف ال حال الكفار حال سماعهم الهدى أنهم جعلوا أصابعهم في آذانهم ‪ ،‬وأطلق ال اسم‬
‫الصابع على النامل على وجه المجاز ‪ ،‬فإن الذي يُجعل في الذن النملة ل الصبع كله ‪ ،‬لكنه‬
‫عبّر عن النامل بالصابع للمبالغة في إرادة السامعين سد المسامع ؛ بحيث لو أمكن لدخلوا‬
‫الصابع كلها ‪ ،‬فإن حدث ووصلت إلى آذانهم كلمة واحدة من كلمات الحق قبل أن يسدوها ‪،‬‬
‫ونفذ إليها سهم من سهام الخير ‪ ،‬لرتد من على أبواب الذان المؤصدة ‪ ،‬لذا قال تعالى ‪﴿ :‬‬
‫َوفِي آذَانِهِمْ َو ْقرًا ﴾ أي صمما وثقل مانعا من سماع الحق ‪ ،‬بل لو أزال ال انسداد هذه السماع‬
‫حتى تصل الموعظة إلى قلوبهم لوصلت ؛ لكن إلى قلوب غلفاء ل تُنفِذ النور ‪ ،‬ظلمات بعضها‬
‫سمَعَهُمْ َلتَوَلّوْا َوهُمْ‬‫سمَعَ ُهمْ وَلَوْ َأ ْ‬
‫فوق بعض ‪ ،‬لذا قال تعالى ‪ ﴿ :‬وََلوْ عَلِمَ الُ فِيهِمْ خَ ْيرًا لَ َأ ْ‬
‫مُ ْع ِرضُونَ ﴾ [ النفال ‪] 23 :‬‬
‫والسماع المطلوب هو إسماع القلوب وهو أعلى درجة من إسماع الذان ‪ ،‬فإن الكلم له لفظ‬
‫ومعنى ‪ ،‬فسماع لفظه هو حظ الذن ‪ ،‬سماع معناه هو حظ القلب ‪ ،‬ومتى لم ينصت القلب ضاع‬
‫الحديث والحدث ‪ ،‬وقد نفى سبحانه عن الكفار غلظ القلوب سماع المعنى الذي هو حظ القلب ‪،‬‬
‫وأثبت لهم سماع اللفظ فقط الذي هو حظ الذن ‪ ،‬وهذا النوع من السماع ل يفيد السامع بل‬
‫يضره لقيامه حجة عليه‪.‬‬
‫س َمعٍ ﴾ [ النساء ‪ ] 46 :‬أي اسمع‬ ‫س َمعْ غَ ْيرَ ُم ْ‬ ‫وهو ما يلخصه قول أهل الكتاب لنبينا ‪ ﴿ :‬وَا ْ‬
‫غير مسموع منك ‪ ،‬فآذاننا معك وقلوبنا مع غيرك ‪ ،‬فقاسي القلب ل يسمع ‪ ،‬وإذا سمع ل‬
‫ينصت ‪ ،‬وإذا أنصت ل يعي ‪ ،‬وإذا وعى ل يُدرك ‪ ،‬وإذا أدرك ل يعمل ‪ ،‬وإذا عمل أتبع عمله‬
‫برياء وسمعة ‪ ،‬فعمله كله عليه مردود ‪ ،‬وعاقبته ضلل وحسرة‪.‬‬
‫لهم وإن كان هذا هو وصف القرآن لسمع أصحاب القلوب القاسية فإن وصف النبي ‪« :‬‬
‫صرّون على ما فعلوا وهم‬ ‫ويل لقماع القول!! ويل للمصرّين الذين قريب من قريب‪ .‬قال ُي ِ‬
‫يعلمون " ‪.‬‬
‫فكما أن القمع يدخل ما يوضع فيه من جانب ويخرج من الخر ؛ فكذلك قاسي القلب أذناه طرفا‬
‫قمع!! يدخل الكلم من الذن اليمنى ليخرج من اليسرى دون أن يستقر في القلب منه شيء‪.‬‬
‫‪ .ii‬البصر ‪:‬‬
‫ما أشقى قساة قلوب رانت عليها ذنوب ‪ ،‬فلم تعد عيونهم تبصر دلئل الحق وآيات الخير ‪ ،‬ول‬
‫عرَضْنَا جَ َهنّمَ يَ ْو َم ِئذٍ‬‫ترى رسل ال نظرا لِما غطى أبصارها من قساوة وجهالة‪ .‬قال تعالى ‪َ ﴿ :‬و َ‬
‫سمْعًا‬‫عنْ ذِ ْكرِي وَكَانُوا لَا َيسْ َتطِيعُونَ َ‬ ‫غطَاءٍ َ‬ ‫ع ْرضًا * اّلذِينَ كَانَتْ َأعْ ُينُهُمْ فِي ِ‬ ‫لِلْكَافِرِينَ َ‬
‫﴾ [ الكهف ‪] 101-100 :‬‬
‫قال ابن القيم ‪:‬‬
‫" وهذا يتضمن معنيين ‪ :‬أحدهما أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات ال وأدلة‬
‫توحيده وعجائب قدرته ‪ ،‬والثاني أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره والهتداء‬
‫به ‪ ،‬وهذا الغطاء للقلب أول ثم يسري منه إلى العين " ‪.‬‬
‫لذا كان الكافرون ‪-‬وقلوبهم أشد القلوب قساوة‪ -‬لهم عيون ل يبصرون بها ‪ ،‬فهم عمي عن‬
‫الحق ل يبصرونه ‪ ،‬لذا وصفهم ربهم وهو العلم بهم بقوله ‪ ﴿ :‬وَلَوْ فَ َتحْنَا عَلَيْ ِهمْ بَابًا ِمنَ‬
‫حنُ قَ ْومٌ َمسْحُورُونَ ﴾ [ الحجر ‪:‬‬ ‫سمَاءِ َفظَلّوا فِيهِ يَ ْعرُجُونَ * لَقَالُوا ِإ ّنمَا سُ ّكرَتْ أَ ْبصَارُنَا بَلْ نَ ْ‬‫ال ّ‬
‫‪] 15-14‬‬
‫فشبّه تعطّل حاسة البصر بسكر الشراب ‪ ،‬أي غشيهم ما غطّى أبصارهم كما غشي السكران ما‬
‫غطّى عقله ‪ ،‬فلم ير شيئا ‪ ،‬وإن كان لصاحب القلب الحي في الية الواحدة آيات ‪ ،‬فإن صاحب‬
‫القلب القاسي نظرا لتقلبه في ظلمات الذنب وغوصه في أعماق الخطيئة يُعاقَب بأشد العقوبة‬
‫وهي ‪َ ﴿ :‬وِإنْ َيرَوْا كُلّ آ َيةٍ لَا يُ ْؤمِنُوا ِبهَا ﴾ [ النعام ‪ ، ] 25 :‬وهذا يشمل كل من آيات ال‬
‫المنظورة في كونه أو المستورة في كتابه ‪ ،‬فمرور اليات عليه شبيه بطلوع الشمس والقمر‬
‫على العميان‪.‬‬
‫أل رب ذي عينين ل تنفعانــه وهل تنفع العينان من قلبـه أعمى‬
‫قد يُنصَح من بعينيه رمد بِعدم البروز إلى الشمس ‪ ،‬وما في الشمس مِن عيب ول مرض!‬
‫والمرض في عيني الرمد! وقد يُنصح المريض بِعَدم شمّ الطّيب ‪ ..‬وما في الطّيب إل الشذى‬
‫والعطر‪.‬‬
‫فقل للعيون ال ّرمْد للشمس أعينُ تراها ِبحَقّ في َمغِيبٍ ومَطلعِ‬
‫وسامِح عيونا أطفأ ال نورهـا بأبصارها ل تسْتفيق ول تَعِي‬
‫‪ .iii‬اللسان ‪:‬‬
‫‪ε‬قاسي القلب الخرس أحسن من معانيه والعي أبلغ من بيانه ‪ ،‬وقال فيه نبينا ‪ « :‬وإن العبد‬
‫ليتكلم بالكلمة من سخط ال ل يلقي لها بال يهوي بها في جهنم » ‪.‬‬
‫واسمع مثل إلى ابن هانئ الندلسي وهو يمدح الخليفة المعز بقوله ‪:‬‬
‫ما شئت ل ما شاءت القدار ‪ ...‬فاحكم فأنت الواحد القهار‬
‫فابتله ال بمرض شديد على إثر هذا الكلمة ‪ ،‬صار يعوي فيه من شدة اللم نادما على ما قال ‪،‬‬
‫لسان حاله ‪:‬‬
‫أبعين مفتقرٍ إليك نظرتَ لي ‪ ...‬فأهنتني وقذفتني من حالق‬
‫لستَ الملوم أنا الملوم لنني ‪ ...‬أنزلت آمالي بغير الخالق‬
‫فقاسي القلب على الجمال ما سلمت له يد ول قدم ول عقل ول جارحة ‪ ،‬وهذا حال القلب حين‬
‫يقسو ويذبل ويفقد رطوبة إيمانه ‪ ،‬فالبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ‪ ،‬والذي خبث ل يخرج إل‬
‫نكدا ‪ ،‬فكل شيء طالح ‪ ،‬وهل يخرج من الفاسد إل فاسد؟! وهل يلد الضال غير ( ضلّ ) ( يضلّ‬
‫) ( ضلل )؟!‬
‫قاسي القلب غافل عن الغاية التي خلق ال لجلها لسانه فل ذكر ول دعاء ول خير ول بناء ‪،‬‬
‫بل غيبة وفحش ‪ ،‬وخشن قول واعتداء ‪ ،‬والقساوة القلبية ستؤدي إلى قساوة اللفظ ول بد‪.‬‬
‫مثل فقهي‬
‫وحتى تقترب الصورة وتكون أوضح ‪ ،‬وتعرف معنى تعطل الحواس عند قاسي القلب وتُصدّق ما‬
‫أقول هاك هذا المثل العملي في هذا الحديث ‪:‬‬
‫قال ‪ « :‬ل طلق ول عِتاق في إغلق » ‪ε .‬عن صفية بنت شيبة قالت ‪ :‬حدثتني عائشة أن‬
‫رسول ال‬
‫والغلق هو شدة الغضب أو الكراه ‪ ،‬ذلك أن النسان في حالة الغضب الشديد قد يفقد إحساسه‬
‫بمن حوله فل سماع لصوت الحق ول إبصار لعواقب المر ول عقل يُرشد للصواب ‪ ،‬تماما كما‬
‫يُغْلَق البابُ على النسان ‪ ،‬فل يدرك ما حوله ‪ ،‬ولذا جعل الشارع الحكيم ل عبرة عندها بالطلق‬
‫أو العتاق ‪ ،‬وهو شبيه بما يحدث لقاسي القلب الذي لجّ في عصيانه حتى ذهب عقله ‪ ،‬وكما‬
‫تأتي النسان حالت يفقد فيه عقلة وسيطرته على حواسه من جراء غضب عارم ؛ تأتيه كذلك‬
‫أوقات وحالت تتعطّل فيها حواسه من جراء غفلة عارمة أو قساوة شديدة أو طول غياب عن‬
‫أنوار الحق‪.‬‬
‫يا مؤثر المراض على العافية ‪ ..‬يا مختار الكدر على الصافية ‪:‬‬
‫إذا كنت تضجر من حجاب الشمس ساعة ‪ ،‬فكيف ل يضجر من شمس عقله محجوبة عن الحق‬
‫أربعين عاما؟!‬
‫ومن القلوب القاسية ‪ :‬القلوب الممسوخة ‪ ،‬قال ابن القيّم وهو يتكلم عن أثر الذنوب ‪:‬‬
‫" ومنها مسخ القلب فيمسخ كما تُمسخ الصورة ‪ ،‬فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه‬
‫في أخلقه وأعماله وطبيعته ‪ ،‬فمن القلوب ما يمسخ على قلب خنزير لشدة شبه صاحبه به ‪،‬‬
‫ومنها ما يمسخ على خلق كلب أو حمار أو حية أو عقرب وغير ذلك ‪ ،‬وهذا تأويل سفيان بن‬
‫عيينة فى قوله تعالى ‪َ ﴿ :‬ومَا ِمنْ دَا ّبةٍ فِي الْ َأ ْرضِ وَلَا طَا ِئرٍ َيطِيرُ ِبجَنَاحَ ْيهِ إِلّا ُأمَمٌ َأمْثَالُكُمْ مَا‬
‫شرُونَ ﴾ [النعام ‪ .] 38:‬قال ‪ :‬منهم من يكون على‬ ‫ح َ‬
‫يءٍ ثُمّ إِلَى رَبّهِمْ يُ ْ‬‫َفرّطْنَا فِي الْ ِكتَابِ ِمنْ شَ ْ‬
‫أخلق السباع العادية ‪ ،‬ومنهم من يكون على أخلق الكلب ‪ ،‬وأخلق الخنازير ‪ ،‬وأخلق‬
‫الحمير ‪ ،‬ومنهم من يتطوّس في ثيابه لحما بتطوس الطاووس فى ريشه ‪ ،‬ومنهم من يكون‬
‫بليدا كالحمار " ‪.‬‬
‫ومن أقسام القلوب القاسية ‪ :‬القلوب المحجوبة ‪ ،‬فقد قال ابن القيّم وهو يُكمل كلمه عن أثر‬
‫الذنوب ‪:‬‬
‫" ومنها حجاب القلب عن الرب فى الدنيا ‪ ،‬والحجاب الكبر يوم القيامة كما قال تعالى ‪َ ﴿ :‬كلّا‬
‫حجُوبُونَ ﴾ [المطففين ‪ ، ] 15 :‬فمنعتهم الذنوب أن يقطعوا المسافة‬ ‫عنْ رَبّهِمْ يَ ْو َم ِئذٍ َلمَ ْ‬
‫إِنّهُمْ َ‬
‫بينهم وبين قلوبهم فيصلوا إليها ‪ ،‬فيروا ما يصلحها ويزكيها وما يفسدها ويشقيها ‪ ،‬وأن‬
‫يقطعوا المسافة بين قلوبهم وبين ربهم فتصل القلوب إليه ‪ ،‬فتفوز بقربه وكرامته وتقرّ به عينا‬
‫‪ ،‬وتطيب به نفسا ‪ ،‬بل كانت الذنوب حجابا بينهم وبين قلوبهم ‪ ،‬وحجابا بينهم وبين ربهم‬
‫وخالقهم " ‪.‬‬
‫ط َبعُ عَ َلىٰ قُلُوبِ ِهمْ فَهُمْ لَ‬
‫ومن أقسام القلوب القاسية ‪ :‬القلوب المطبوعة‪ .‬قال تعالى ‪ ﴿ :‬وَنَ ْ‬
‫سمَعُونَ ﴾ [العراف ‪ ، ]100 :‬وأصل الطبع ‪ :‬الصدأ يكون على السيف ونحوه ‪ ،‬فل يدخلها‬ ‫َي ْ‬
‫شيء من ضوء الهدى ‪ ،‬فصاروا بسبب استغراقهم في ذنوبهم مطبوعا على قلوبهم ل يصل‬
‫إليها من النور في الحديث ‪ε « :‬شيء ‪ ،‬فل يسمعون ما يُتلى من الوعظ والنذار ‪ ،‬ومنه قوله‬
‫من ترك الجمعة ثلث مرات متواليات من غير ضرورة طبع ال على قلبه » ‪.‬‬
‫ومن أقسام القلوب القاسية ‪ :‬القلوب المكنونة كما قال سبحانه وتعالى ‪َ ﴿ :‬وقَالُواْ قُلُو ُبنَا فِى‬
‫أَكِ ّنةٍ ِممّا َت ْدعُونَا إِلَ ْيهِ َوفِى ءاذانِنَا َو ْقرٌ َومِن َبيْنِنَا وَ َبيْ ِنكَ حِجَابٌ ﴾ [ فصلت ‪ ، ] 5 :‬وهي جمع‬
‫كِنان ‪ ،‬وأصله من الستر والتغطية ‪ ،‬فذكر ال في هذه الية غطاء القلب وهو الكنة ‪ ،‬وغطاء‬
‫الذن وهو الوقر ‪ ،‬وغطاء العين وهو الحجاب ‪ ،‬والمعنى ‪ :‬إنا في ترك قبول أي شيء منك‬
‫بمنزلة من ل يسمع ما تقول ول يراك‪.‬‬
‫فهذا الصنف من الناس ل يكتفي بما قاله أصحاب القلوب المغلفة ‪ ﴿ :‬قُلُو ُبنَا غُ ْلفٌ ﴾ ‪ ،‬إنما‬
‫يتجاوز ذلك ‪ ،‬ويبدي كراهيته لسماع أي خير ‪ ،‬بل وعدم رغبته حتى في رؤية من يرشده إلى‬
‫الخير ‪ ،‬فمجرد رؤيتُه تُنغّص عليه لذته الدنيوية ‪ ،‬وهذا النوع من أقسى أنواع القلوب ‪ ،‬وقد‬
‫عنِ ال ّتذْ ِك َرةِ ُم ْع ِرضِينَ *‬‫قال تعالى في تشبيه هؤلء المعرضين عن كلمه وهديه ‪َ ﴿ :‬فمَا لَهُمْ َ‬
‫ح ُمرٌ ُمسْتَ ْن ِفرَةٌ * َفرّتْ ِمنْ َقسْ َو َرةٍ ﴾ [ المدثر ‪] 51-49 :‬‬
‫كَأَنّ ُهمْ ُ‬
‫قال ابن القيم ‪:‬‬
‫" شبّههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحُمر رأت السد أو الرماة ففرّت منه ‪ ،‬وهذا من‬
‫بديع القياس والتمثيل ‪ ،‬فإن القوم في جهلهم بما بعث ال به رسوله كالحمر وهي ل تعقل‬
‫شيئا ‪ ،‬فإذا سمعت صوت السد أو الرامي نفرت منه أشد النفور ‪ ،‬وهذا غاية الذم لهؤلء ‪،‬‬
‫فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يُهلكها ويعقرها ‪ ،‬وتحت‬
‫المستنفرة معنى أبلغ من النافرة ؛ فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا وحضّه على‬
‫النفور ‪ ،‬فإن في الستفعال من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد ‪ ،‬فكأنها تواصت بالنفور‬
‫وتواطأت عليه " ‪.‬‬
‫وهل تنفع الموعظة مع أمثال هؤلء؟! كل وال ‪..‬‬
‫إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة كالرض إن سبخت لم ينفع المطر‬
‫‌ب‪ -‬احتلل الدنيا القلب ‪:‬‬
‫‪ « :‬تعس عبد ما فائدة شراب الدنيا الحلو إذا كان يورثُ الشرق‪ .‬قال الدينار وعبد الدرهم‬
‫وعبد الخميصة ؛ إن أُعطِي رضي ‪ ،‬وإن لم يُعطَ سخِط ‪ ،‬تعس وانتكس ‪ ،‬وإذا شيك فل انتقش »‬
‫‪.‬‬
‫قال الطيبي ‪ " :‬خصّ العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها ‪ ،‬كالسير الذي ل‬
‫يجد خلصا ‪ ،‬ولم يقل ‪ :‬مالك الدينار ول جامع الدينار ‪ ،‬لن المذموم من المُلك والجمع ‪ :‬الزيادة‬
‫عن قدر الحاجة " ‪.‬‬
‫وكذلك خصّ الشوكة بالذكر لنه أقل ما يُتصوّر من اللم ‪ ،‬فإذا دعا بعدم على زوال أقل اللم‬
‫انتفى زوال ما فوقه بالوْلى ‪ ،‬فهو دعاء من النبي عاشق الدنيا بالتعاسة والكآبة وفقدان‬
‫السعادة ‪ ،‬ومن معاني التعاسة في اللغة ‪ :‬سقوط العبد من فوق دابته وتعثره وانكبابه على‬
‫وجهه ‪ ،‬فيكون معنى الدعاء ‪ :‬سقوطه الدائم مع ما في هذا السقوط من هوان وذلة وصغار ‪،‬‬
‫وأما الدعاء عليه بالنتكاس فالنتكاس هو النقلب على الرأس كناية عن الخيبة والخسار ‪،‬‬
‫ومنه انتكاسة المريض وهو رجوع المرض إليه بعد أن ظن أنه منه دعا على عبد الدنيا أن‬
‫يظل في سقوط دائم أي كلما شُفِي ‪ ،‬فكأن الرسول أفاق سقط وكلما نهض تعثر ‪ ،‬ولذا تجد‬
‫الغارق في دنياه وأمواله قلما يفيق ‪ ،‬وإذا أفاق كان ذلك على قارعة وقعها شديد تهزه هزا‬
‫عنيفا ليس غير‪.‬‬
‫بالمؤمنين رؤوف رحيم‬
‫ونظرا لتسلل مرض حب الدنيا إلى القلوب ‪ ،‬وغزوه لها في هدوء وكتمان وتدرج بأمته أن‬
‫علّمها هذه الدعوات وخبث فل يشعر به أحد ؛ كان من رحمة النبي لطلعه من وراء ستار‬
‫الغيب على المستقبل ‪ ،‬فعن عبد ال بن عمر رضي ال يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلء‬
‫الكلمات عنهما قال ‪ :‬قلما كان رسول ال لصحابه ‪:‬‬
‫« اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ‪ ،‬ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ‪،‬‬
‫ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا ‪ ،‬ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ‪،‬‬
‫واجعله الوارث منا ‪ ،‬واجعل ثأرنا على من ظلمنا ‪ ،‬وانصرنا على من عادانا ‪ ،‬ول تجعل‬
‫مصيبتنا في ديننا ‪ ،‬ول تجعل الدنيا أكبر همنا ول مبلغ علمنا ‪ ،‬ول تسلّط علينا من ل يرحمنا »‬
‫‪.‬‬
‫وأصحابه وهي مجالس آخرة ل تُذكر فيها الدنيا وكان هذا في مجالس النبي إل لتزرع‬
‫للخرة ‪ ،‬وهو دعاء موجه إلى قلوب القرن الول التي لم يكن لغير ال فيها شيء ‪ ،‬فكيف‬
‫بمجالس القرن الواحد والعشرين ورسول ال عنها غائب ‪ ،‬وقلوبنا تشكو فيها توالي غارات‬
‫المادية عليها ‪ ،‬وتعاني إزاحة همّ الخرة تحت مطارق التنافس المادي الشرس والتكالب‬
‫الدنيوي الشره؟! فيا إخوتاه!! يا أهله!! أفيقوا قبل أن تُضرب على قلوبكم القسوة التي يعجز‬
‫معها أبرع الطباء ‪ ،‬أفسحوا لخراكم نصيبا من دنياكم قبل نزول الموت ‪ ،‬وأيقنوا أنكم إن لم‬
‫تركعوا ل بقلوبكم وأجسامكم في خشوع ؛ ستركع قلوبكم وتسجد للدنيا في تذلل وخضوع ‪،‬‬
‫ومن رغِب عن عبودية ال ابتُلي بعبودية الخلق ول بد ‪ ،‬ومن زهد في حب ال عوقب بحب‬
‫الدنيا حتى الثمالة ‪ ،‬أل فاهدموا هذه الصنام التي أنتم لها عاكفون‪.‬‬
‫قال ابن القيّم ‪:‬‬
‫" ومن لم يعكف قلبه على ال وحده عكف على التماثيل المتنوعة كما قال إمام الحنفاء لقومه‬
‫‪ ﴿ :‬مَا َهذِهِ ال ّتمَاثِيلُ الّتِي أَ ْنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [ النبياء ‪ ، ] 52 :‬فاقتسم هو وقومه حقيقة‬
‫العكوف ‪ ،‬فكان حظ قومه العكوف على التماثيل ‪ ،‬وكان حظه العكوف على الرب الجليل ‪،‬‬
‫والتماثيل جمع تمثال وهو الصور الممثلة ‪ ،‬فتعلق القلب بغير ال واشتغاله به والركون إليه‬
‫عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه ‪ ،‬وهو نظير العكوف على تماثيل الصنام ‪ ،‬ولهذا كان‬
‫شرك عباد الصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وإرادتهم على تماثيلهم ‪ ،‬فإذا كان في القلب‬
‫تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفا عليها ؛ فهو نظير عكوف الصنام عليها ‪ ،‬ولهذا‬
‫سماه النبي عبدا لها ودعا عليه بالتعس والنكس فقال ‪ :‬تعس عبد الدينار " ‪.‬‬
‫رحم ال رجال سلمت منهم القلوب وطهروا من العيوب ‪ ،‬فكانت الدنيا عندهم أحقر من أن‬
‫تحتاج إلى محاربة أو تتطلب مجاهدة ‪ ،‬قال ابن الجوزي ‪:‬‬
‫" ويحك!! إنما يكون الجهاد بين المثال ‪ ،‬ولذلك مُنِع من قتل النساء والصبيان ‪ ،‬فأي قدر للدنيا‬
‫حتى يحتاج قلبك إلى محاربة لها؟! أما علمت أن شهواتها جيف ملقاة؟! أفيحسن ببازي الملك‬
‫أن يطير عن كفه إلى ميتة؟! " ‪ .‬لسان حال أحدهم ‪:‬‬
‫ال يعلم أني لست أعشقها ‪ ...‬ول أريد بقاءً ساعة فيها‬
‫لكن تمرّغت في أدناسها زمنا ‪ ...‬وبت أنشرها حينا وأطويها‬
‫وكم تحمّلت فيها غير مكترث ‪ ...‬من شامخات ذنوب لستُ أحصيها‬
‫فقلت أبقى لعلي أهدم ما ‪ ...‬بنيتُ منها وأدناسي أنقيها‬
‫ومن ورائي جبال لست أقطعها ‪ ...‬حتى أخفّف أحمالي وألقيها‬
‫يا ويلتي وبحار العفو زاخرة ‪ ...‬إن لم تُصبني برش في تثنيها‬
‫‌ج‪ -‬انتكاسة الفطرة ‪:‬‬
‫قال شيخ السلم ابن تيمية وهو يصف حال عاشق انتكست فطرته ‪:‬‬
‫أحب لحبها السودان حتى أحب لحبها سود الكلب‬
‫" فقد أحب سوداء فأحب جنس السواد حتى في الكلب ‪ ،‬وهذا كله مرض في القلب في تصوراته‬
‫وإرادته " ‪.‬‬
‫واسمع هذه القصة التي تثبت لك صحة كلم ابن تيمية والتي أوردها ابن الجوزي في المنتظم‬
‫عن رجل كان صريع شهوته وقتيل هواه ‪ ،‬واسمه أحمد بن كليب هذا المسكين المغتر ؛ وكان‬
‫قد عشِق عشقا حراما ‪ ،‬ولو كان مع امرأة لكان مع جرمه معذورا بحال مع الحوال ‪ ،‬لكنه كان‬
‫عشقا قبيحا فاحشا انتكست به فطرته مع غلم!! والغلم اسمه أسلم بن أبي الجعد من بنى‬
‫خلد ‪ ،‬وكان فيهم وزارة أي كانوا وزراء للملوك وحجابا ‪ ،‬فأنشد فيه أشعارا تحدث الناس بها ‪،‬‬
‫وكان هذا الشاب أسلم يطلب العلم في مجالس المشايخ ؛ فلما بلغه عن ابن كليب ما قال فيه‬
‫استحى من الناس ‪ ،‬وانقطع في دارهم ‪ ،‬وكان ل يجتمع بأحد من الناس ‪ ،‬فازداد غرام ابن‬
‫كليب به حتى مرض من ذلك مرضا شديدا بحيث عاده منه الناس ‪ ،‬ول يدرون ما به ‪ ،‬وكان في‬
‫جملة من عاده بعض المشايخ من العلماء ‪ ،‬فسأله عن مرضه ‪ ،‬فقال ‪ :‬أنتم تعلمون ذلك ومن‬
‫أي شيء مرضي وفي أي شيء دوائي ؛ لو زارني أسلم ونظر إليّ نظرة ‪ ،‬ونظرته نظرة واحدة‬
‫لبرأت!! فرأى ذلك العالم من المصلحة أن لو دخل على أسلم وسأله أن يزوره ولو مرة واحدة‬
‫مختفيا ‪ ،‬ولم يزل ذلك الرجل العالم بأسلم حتى أجابه إلى زيارته ؛ فانطلقا إليه فلما دخل دربه‬
‫ومحلته تجتن الغلم ‪ ،‬واستحى من الدخول عليه ‪ ،‬وقال للرجل العالم ل أدخل عليه وقد ذكرني‬
‫ونوّه بأسمي ؛ وهذا مكان ريبة وتهمة ‪ ،‬وأنا ل أحب أن أدخل مداخل التهم ‪ ،‬فحرص به الرجل‬
‫كل الحرص ليدخل عليه فأبى عليه ‪ ،‬فقال له إنه ميت ل محالة ‪ ،‬فإذا دخلت عليه أحييته ‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬يموت وأنا ل أدخل مدخل يُسخِط ال علي ويغضبه ‪ ،‬وأبى أن يدخل وانصرف راجعا إلى‬
‫دارهم ‪ ،‬فدخل الرجل على ابن كليب ‪ ،‬فذكر له ما كان من أمر أسلم معه ؛ وقد كان غلم ابن‬
‫كليب دخل عليه قبل ذلك ‪ ،‬وبشّره بقدوم معشوقه عليه ‪ ،‬ففرح بذلك جدا ‪ ،‬فلما تحقق رجوعه‬
‫عنه اختلط كلمه واضطرب في نفسه ‪ ،‬وقال لذلك الرجل الساعي بينهما ‪ :‬اسمع يا أبا عبد ال‬
‫واحفظ عنى ما أقول ثم أنشده ‪:‬‬
‫أسلم يا راحة العليل ‪ ...‬رفقا على الهائم النحيل‬
‫وصلك أشهى إلى فؤادى ‪ ...‬من رحمة الخالق الجليل‬
‫فقال له الرجل ‪ :‬ويحك!! اتق ال تعالى!! ما هذه العظيمة!! فقال ‪ :‬قد كان ما سمعت أو قال‬
‫القول ما سمعت‪ .‬قال ‪ :‬فخرج الرجل من عنده فما توسط الدار حتى سمع الصراخ عليه وسمع‬
‫صيحة الموت وقد فارق الدنيا على ذلك ‪.‬‬
‫وهو ما عبّر عنه ابن الجوزي بمثل من عالم الحيوان حين قال ‪ " :‬هيهات ‪ ..‬إن الطبع الردي ل‬
‫يليق به الخير ‪ ،‬هذه الخنفساء إذا ُدفِنت في الورد لم تتحرك ‪ ،‬فإذا أعيدت إلى الروث رتعت ‪،‬‬
‫وما يكفي الحية أن تشرب اللبن حتى تمج سمها فيه ‪ ،‬وكل إلى طبعه عائد " ‪.‬‬
‫‌د‪ -‬الفرح بالخطيئة ‪:‬‬
‫الفرح بالمعصية والتفاخر بها والدعوة إليها كل هذه أدلة على شدة الرغبة فيها والجهل بسوء‬
‫عاقبتها والستهانة بقدر من عصاه العبد ‪ ،‬فكل من اشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه ‪،‬‬
‫وليبك على موت قلبه ‪ ،‬فإنه لو كان حيا لحزنه ارتكابه للذنب وغاظه وصعب عليه ‪ ،‬ول يحس‬
‫القلب الميت بذلك فحيث ‪ ،‬فما لجرح بميت إيلم‪.‬‬
‫قال ابن عطاء ‪:‬‬
‫" من علمات موت القلب ‪ :‬عدم الحزن على ما فاتك من الموافقات ‪ ،‬وترك الندم على ما فعلته‬
‫من وجود الزلت " ‪.‬‬
‫وقد سمى ابن القيم هذه العلمة ‪ :‬الخسف بالقلب كما " يُخسف بالمكان وما فيه ‪ ،‬فيخسف به‬
‫إلى أسفل سافلين وصاحبه ل يشعر ‪ ،‬وعلمة الخسف به أنه ل يزال جوال حول السفليات‬
‫والقاذورات والراذائل كما أن القلب الذى رفعه ال وقربه إليه ل يزال جوّال حول البر والخير‬
‫ومعالي المور والعمال والقوال والخلق " ‪.‬‬
‫‌ه‪ -‬ألعوبة الشيطان ‪:‬‬
‫تذكّر دائما أن العقل السليم في الجسم السليم ‪ ،‬ومعنى هذا أن التغذية اليمانية وتعاهد الرجل‬
‫قلبه لبد وأن تثمِر بإذن ال تصحيح مفاهيمك وضبط أفكارك في إطار الشرع الحنيف ودوائر‬
‫الهدى ‪ ،‬والعكس بالعكس في حالة قسوة القلب ويبوسته ‪ ،‬فيتبع قسوة القلب فساد يحصل له‬
‫يُفسِد تصوره للحق ‪ ،‬فل يرى الحق حقا ‪ ،‬أو يراه باطل ‪ ،‬أو ينقص إدراكه له ‪ ،‬وتنعدم إرادته‬
‫له ‪ ،‬فيبغض الحق النافع ‪ ،‬ويحب الباطل المهلك‪.‬‬
‫واسمع إلى حالة مستعصية من حالت تلعب الشيطان بالقلب ‪ ،‬وإفساده لتصوراته ‪ ،‬وعكسه‬
‫لدراكاته ‪ ،‬ومثل جليّ على الفطرة حين تنتكس والشيطان حين يتحكم وهو عبد الرحمن‬
‫والغواية وقد غلبت ‪ ،‬وذلك في قصة قاتل علي بن أبي طالب بن ملجم ‪:‬‬
‫كان عبد الرحمن بن ملجم قد أبصر امرأة من بني تميم يُقال لها قطام ‪ ،‬وكانت من أجمل أهل‬
‫زمانها ‪ ،‬وكانت ترى رأي الخوارج فولع بها فقالت ‪ :‬ل أتزوج بك إل على ثلثة آلف وقتل‬
‫علي بن أبي طالب ‪ ،‬فقال لها ‪ :‬لك ذلك ‪ ،‬فأتى ابن ملجم رجل من أشجع يقال له شبيب بن‬
‫بجرة ليعاونه في قتل علي ‪ ،‬فقال له ‪ :‬هل لك في شرف الدنيا والخرة؟ قال ‪ :‬وما ذاك؟ قال ‪:‬‬
‫قتل علي بن أبي طالب!! فاتفقا على قتله وقد كان ‪ ،‬واسمع إلى خاتمته وكيف سخر الشيطان‬
‫منه حتى آخر لحظات حياته ‪:‬‬
‫" ثم إن الحسن بن علي استحضر عبد الرحمن بن ملجم من السجن فأحضر الناس النفط‬
‫والبواري ليحرقوه فقال لهم أولد علي ‪ :‬دعونا نشتفي منه ‪ ،‬فقُطعت يداه ورجله فلم يجزع ول‬
‫فتُر عن الذكر!! ثم كحلت عيناه وهو فى ذلك يذكر ال!! وقرأ سورة اقرأ باسم ربك إلى‬
‫آخرها ‪ ،‬وإن عينيه لتسيلن على خديه ‪ ،‬ثم حاولوا لسانه ليقطعوه فجزع من ذلك جزعا‬
‫شديدا ‪ ،‬فقيل له في ذلك فقال ‪ :‬إني أخاف أن أمكث في الدنيا فواقا ل أذكر ال!! " ‪.‬‬
‫‪τ‬وأيضا وقع في هذا الفخ وانخدع للشيطان عمرو بن الحمق وهو من قتلة عثمان ‪ ،‬فقد وثب‬
‫على عثمان فجلس على صدره وبه رمق ‪ ،‬فطعنه تسع طعنات قال عمرو ‪ " :‬فأما ثلث منهن ؛‬
‫فإني طعنتهن إياه ل ‪ ،‬وأما ست فإني طعنتهن إياه لما كان في صدري عليه " ‪.‬‬
‫إنه تلعب الشيطان بهذه القلوب ‪ ،‬وإلباسه أكبر الكبائر ثياب أعظم القربات ‪ ،‬وإدخالهم النار بما‬
‫يظنونه يُدني من الجنة ‪ ،‬ونيل سخط ال وهم واهمون أن الرحمة تغمرهم ‪ ،‬نسأل ال العافية‪.‬‬
‫‌و‪ -‬بكاء الذليل ‪:‬‬
‫علم يبكي قاسي القلب؟! لكم أن تتوقّعوا ‪ ،‬هل يبكي على فوات حظه من ال أم حظه من‬
‫الشيطان؟! هل يبكي على ضياع الجر أو فوات الوزر؟! هل يبكي على الدنيا أم الخرة؟! أل‬
‫فلتسمعوا الطنطاوي يخاطب فريقا من هؤلء وهم عشاق لبنى وليلى قائل ‪:‬‬
‫" ول تقيموا الدنيا وتقعدوها ‪ ،‬وتغرقوا الرض بالدموع لن الحبيبة المحترمة لم تمنح قُبلة‬
‫وَعدت بها ‪ ،‬ولم تصِل وقد لوّحت بالوصل ‪ ،‬تنظمون الشعار في هذه الكارثة وتنشؤون فيها‬
‫الفصول ‪ ،‬تبكون وتستبكون ‪ ،‬ثم تنامون آمنين مطمئنين ‪ ،‬والنار من حولكم تأكل البلد والعباد‪.‬‬
‫الشعر شعور ‪ ،‬فأي شعور وأي حس فيمن يرى أمة كريمة مجيدة بقضّها وقضيضها ‪،‬‬
‫ومفاخرها وتاريخها وحياتها وأمجادها تُطرد من ديارها وتُخرج من بيتها –وهي أمته ‪،‬‬
‫ضرِبت عليها الذلة والمسكنة‬ ‫وأفرادها إخوته – لتعطى مساكنها إلى أمة من أسقط المم ‪ ،‬أمة ُ‬
‫وباءت بغضب من ال ‪ ،‬وغضب من الناس ومن الحق والفضيلة والتاريخ ‪ ،‬ويرى صدورها‬
‫مفتحة للرصاص ‪ ،‬وشيوخها مساقين إلى حبال المشانق ‪ ،‬وشبابها في شعاف الجبال وبطون‬
‫الودية يدفعون الظلم بالدم ‪ ،‬وأطفالها ونساءها بين لصين ‪ :‬لص ديار ‪ ،‬ولص أعراض ‪ ،‬لص‬
‫يحارب بالذهب ‪ ،‬ولص يقاتل بالبارود ثم ل ُيحِس بهذا كله ‪ ،‬ول يدري به ول يفكّر فيه لماذا؟‬
‫لن الشاعر المسكين مصاب متألم!‪.‬‬
‫ما له؟ ما مُصابه؟ إن حبيبته لم تعطه خدّها ليقبّله!! إن العاطفة إذا بلغت هذا المبلغ كانت‬
‫جريمة " ‪.‬‬
‫‌ز‪ -‬داء الذكر ‪:‬‬
‫لسْلمِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِ َيةِ قُل ْوبُهُمْ ِمنْ ِذ ْكرِ الِ‬ ‫ص ْد َرهُ ِل ِ‬
‫شرَحَ الُ َ‬ ‫قال تعالى متوعّدا ومنذرا ‪َ ﴿ :‬أ َف َمنْ َ‬
‫﴾ [ الزمر ‪] 22 :‬‬
‫أي قست قلوبهم بسبب ذكر ال الذي لنت له قلوب المؤمنين وانشرحت صدورهم ‪ ،‬فاستقبلوا‬
‫الدواء على أنه داء ‪ ،‬وتلقوا الغيث بسد المنافذ عليه ‪ ،‬وقابلوا الضيف المحمّل بالهدايا بالبواب‬
‫المؤصدة ‪ ،‬فإذا ذُكر ال تعالى عندهم أو ُتلِيت آياته اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قساوة‬
‫وغلظة وشدة ‪ ،‬وللمبالغة في وصف أحياء القلب بالقبول ووصف قساة القلب بالصدود ؛ فقد‬
‫ذكر ال شرح الصدر دون القلب الذي يسكن فيه ليدل على شدة قبول أحياء القلوب للسلم‬
‫حتى مل الصدر الوسع من القلب ؛ بعكس قساة القلوب‪.‬‬
‫وسبب هذا التباين الرهيب والبون الشاسع ‪ :‬اختلف قابلية القلب واستعداده للهداية ‪ ،‬فإن‬
‫السبب الواحد تختلف آثاره وأفعاله باختلف القلب المتلقي ونوعية التربة المستقبلة ‪ ،‬فذكر ال‬
‫سبب لين القلوب وإشراقها إذا كانت القلوب سليمة من مرض العناد والمكابرة والكبر ‪ ،‬فإذا حلّ‬
‫ح َدهُ‬
‫فيها هذا المرض صارت إذا ذكر ال عندها أشد مرضا مما كانت عليه ‪َ ﴿ :‬وِإذَا ذُ ِكرَ الّلهُ وَ ْ‬
‫شرُونَ ﴾ [ الزمر ‪:‬‬ ‫ستَ ْب ِ‬
‫خ َرةِ َوِإذَا ذُ ِكرَ اّلذِينَ ِمنْ دُو ِنهِ ِإذَا هُمْ َي ْ‬
‫شمَ َأزّتْ قُلُوبُ اّلذِينَ لَا يُ ْؤمِنُونَ بِا ْلآَ ِ‬
‫ا ْ‬
‫‪] 45‬‬
‫قلوب بذكر ال تزداد قسوة فل الوعظ يُجدي ول العُتب ينفع‬
‫أسوق لها طيب الكلم لعلها تلين فل تصغي ول تتخشّع‬
‫إذا قلت هذا مدرج القوم فارتقي يقول الهوى ‪ :‬جدّثت من لم يسمع‬
‫وإذا هوت يوما إلى الناس شهوة تراها إلى ما يُغضب الرب تُسرِع‬
‫‪-3 .‬القلب المريض‬

‫المرض دون القساوة ‪ ،‬والقلب المريض هو المتذبذب بين السلمة والقساوة ‪ ،‬فهو يعلو حينا‬
‫ويهبط حينا ‪ ،‬وهو القلب الذي تمده مادتان ‪ :‬مادة إيمان ومادة كفر ‪ ،‬وهو إن غلب عليه‬
‫مرضه التحق بالميت القاسى ‪ ،‬وإن غلبت عليه صحته التحق بالقلب السليم ‪ ،‬وخطورة هذا‬
‫القلب وأهميته تتمثّل في أن الشيطان ل يقرب القلب القاسي الميت فهذا ل مطمع له فيه ‪ ،‬ول‬
‫يستطيع أن يقرب القلب الحي وإل احترق ‪ ،‬إنما يهاجم القلوب المريضة‪.‬‬
‫وخطورة هذا القلب كذلك في أن أمراض القلوب تفوق أمراض البدان كمّا وكيفا ‪ ،‬بل تتفاوت‬
‫تفاوتا عظيما من حيث مدة المرض ‪ ،‬فالمراض لها أعمار ‪ ،‬فمن مرض موسمي عارض إلى‬
‫مرض مستحكم دائم ‪ ،‬ومن مرض ساعة إلى مرض شهر إلى مرض ل يزول إل بموت‬
‫صاحبه ‪ ،‬فكم سيطول مرضك ‪ ،‬ومتى الشفاء من العناء؟! كما تتفاوت خطورة المرض الواحد‬
‫تفاوتا شديدا ‪ ،‬فمن إصابة حادة إلى إصابة مزمنة ‪ ،‬ومن مرض مؤلم إلى آخر مميت ‪ ،‬ومن‬
‫مرض محدود الثر ل يتعدّى صاحبه إلى مرض مُعدي يضر بالمجتمع ‪ ،‬لكن ‪ ..‬وقبل الدخول في‬
‫التفاصيل ‪..‬‬

‫ماهو المرض؟!‬

‫قال ابن القيّم ‪:‬‬


‫" والمرض يدور على أربعة أشياء فساد وضعف ونقصان وظلمة ‪ ،‬ومنه َمرِض الرجل في المر‬
‫إذا ضعف فيه ولم يبالغ ‪ ،‬وعين مريضة النظر أي فاترة ضعيفة ‪ ،‬وريح مريضة إذا هَبّ هبوبها‬
‫كما قال ‪:‬‬
‫راحت لربعك الرياح مريضة ‪ ،‬أي لينة ضعيفة حتى ل يعفى أثرها ‪ ،‬وقال ابن العرابي ‪ :‬أصل‬
‫المرض النقصان ومنه بدن مريض أي ناقص القوة ‪ ،‬وقلب مريض ‪ :‬ناقص الدين ‪ ،‬و َمرِض في‬
‫حاجتي إذا نقصت حركته ‪ ،‬وقال الزهري عن المنذري عن بعض أصحابه ‪ :‬المرض إظلم‬
‫الطبيعة واضطرابها بعد صفائها‪ .‬قال ‪ :‬والمرض الظلمة وأنشد ‪:‬‬
‫وليلة مرضت من كل ناحية ** فما يُضيء لها شمس ول قمر‬
‫هذا أصله في اللغة " ‪.‬‬
‫أما من حيث الواقع والمشاهد ‪ ،‬فيكمل ابن القيّم كلمه في موضع آخر فهو فارس هذا الميدان‬
‫بل جدال ‪:‬‬
‫" كل عضو من أعضاء البدن خُلِق لفعل خاص به كماله في حصول ذلك الفعل منه ‪ ،‬ومرضه ‪:‬‬
‫أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له حتى ل يصدر منه أو يصدر مع نوع من الضطراب ‪،‬‬
‫فمرض اليد ‪ :‬أن يتعذر عليها البطش ‪ ،‬ومرض العين ‪ :‬أن يتعذر عليها النظر والرؤية ‪،‬‬
‫ومرض اللسان ‪ :‬أن يتعذر عليه النطق ‪ ،‬ومرض البدن ‪ :‬أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو‬
‫يضعف عنها ‪ ،‬ومرض القلب ‪ :‬أن يتعذر عليه ما خلق له من معرفة ال ومحبته والشوق إلى‬
‫لقائه والنابة إليه وإيثار ذلك على كل شهوة " ‪.‬‬

‫نوعا المرض‬

‫وأمراض القلوب نوعان ‪ :‬أمراض تتعلق بالجوارح وهي الشهوات ‪ ،‬وأخرى تتعلق بالعقول‬
‫وهي الشبهات ‪ ،‬وقد جمعهما النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي برزة‬
‫رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إنما أخشى عليكم شهوات الغي في‬
‫بطونكم وفروجكم ‪ ،‬ومضلت الهوى » ‪.‬‬
‫ومضلت الهوى هي الشبهات‪ .‬قال ابن القيم ‪:‬‬
‫" وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع والهوى على العقل ‪ ،‬فالول ‪ :‬أصل فتنة‬
‫الشبهة ‪ ،‬والثاني ‪ :‬أصل فتنة الشهوة ‪ ،‬ففتنة الشبهات تُدفع باليقين ‪ ،‬وفتنة الشهوات تدفع‬
‫بالصبر ‪ ،‬ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين المرين ‪ ،‬فقال ‪َ ﴿ :‬وجَعَ ْلنَا مِ ْنهُمْ أَ ِئ ّمةً‬
‫يَ ْهدُونَ بِ َأ ْمرِنَا َلمّا صَ َبرُوا َوكَانُوا بِآيَا ِتنَا يُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة ‪ ، ] 17 :‬فدلّ على أنه بالصبر‬
‫واليقين تنال المامة في الدين " ‪.‬‬

‫‪ .1‬مرض الشهوات ‪:‬‬


‫طرَةِ ِمنَ ال ّذهَبِ‬
‫حبّ الشّهَوَاتِ ِمنَ ال ّنسَاءِ وَالْ َبنِينَ وَالْ َقنَاطِيرِ ا ْلمُقَ ْن َ‬ ‫قال تعالى ‪ ﴿ :‬زُ ّينَ لِلنّاسِ ُ‬
‫سنُ ا ْلمَآبِ‬
‫ح ْ‬
‫حيَاةِ الدّ ْنيَا وَالّلهُ عِ ْن َدهُ ُ‬
‫حرْثِ ذَ ِلكَ َمتَاعُ الْ َ‬‫ضةِ وَا ْلخَيْلِ ا ْل ُمسَ ّو َمةِ وَالْأَ ْنعَامِ وَالْ َ‬
‫وَالْ ِف ّ‬
‫﴾ [ آل عمران ‪] 14 :‬‬
‫فالشهوات شكلها حلو وطعمها حلو ‪ ،‬لكنها الحلوة التي تتبعها المرارة ‪ ،‬وتلحقها التبعات ‪،‬‬
‫وتتلوها الحسرات ‪ ،‬وتخامر العقل فتُسكره ‪ ،‬وتدخل عليه فتغلبه ‪ ،‬وإنما تُصرع عقول أذكى‬
‫الذكياء وأحكم الحكماء عند التهاب الشهوات‪.‬‬
‫والن إلى أول شهوة وهي ‪:‬‬
‫‌أ‪ .‬شهوة حب الدنيا وجمع المال ‪ :‬وهي أول شهوة حذّر منها النبي صلى ال عليه وسلم أمّته‬
‫حيث قال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إن الدنيا خضرة حلوة ‪ ،‬وإن ال مستخلفكم فيها ‪ ،‬فينظر‬
‫كيف تعملون فاتقوا الدنيا ‪. » .. ،‬‬
‫ولن الرزق مضمون ‪ ،‬لذا لم يخش علينا النبي صلى ال عليه وسلم من الفقر بل خاف علينا‬
‫الغنى ‪ ،‬فأقسم صلى ال عليه وسلم –وهل يحتاج مثله إلى قسم؟!‪ « : -‬وال ما الفقر أخشى‬
‫عليكم ‪ ،‬ولكن أخشى أن تُبسط عليكم الدنيا كما ُبسِطت على من كان قبلكم ؛ فتنافسوها كما‬
‫تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم » ‪.‬‬
‫والحق أن شهوة حب المال عمت غالب الخلق حتى فُتِنوا بالدنيا وزهرتها ‪ ،‬وصارت غاية‬
‫قصدهم ‪ :‬لها يطلبون ‪ ،‬وبها يرضون ‪ ،‬ومن أجلها يغضبون ‪ ،‬وبسببها يوالون ‪ ،‬وعليها‬
‫يعادون ‪ ،‬وكم قُطِعت أرحام في سبيلها ‪ ،‬وسُفِكت دماء بسببها ‪ ،‬ووقعت فواحش من أجلها ‪،‬‬
‫ونزلت القطيعة وحلّت البغضاء ‪ ،‬و ُفرّق بين الخ وأخيه ‪ ،‬وتقاتل الب مع ابنه ‪ ،‬وتعادى‬
‫الصحاب والخلن ‪ ،‬والسبب ‪ :‬دنيا‪.‬‬
‫وهذا ما استشرفه عمر بن الخطاب رضي ال عنه ‪ ،‬حتى لم يؤثّر في بصيرته الفرح بالغنيمة‬
‫والنشغال بالنصر ‪ ،‬فقد أورد ابن حجر أن عمر بن الخطاب رضي ال عنه أُتي بمال من‬
‫غطّي ‪ ،‬ثم دعا الناس فاجتمعوا ‪ ،‬ثم أمر به‬ ‫المشرق يُقال له نفل كسرى ‪ ،‬فأَمر به فصُبّ و ُ‬
‫ف ُكشِف عنه ‪ ،‬فإذا حُلي كثير وجوهر ومتاع ‪ ،‬فبكى عمر ‪ ،‬وحمد ال عز وجل ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬ما‬
‫يبكيك يا أمير المؤمنين؟! هذه غنائم غنمها ال لنا ونزعها من أهلها ‪ ،‬فقال ‪ " :‬ما فُتِح من هذا‬
‫على قوم إل سفكوا دماءهم واستحلوا حرمتهم " ‪.‬‬
‫ولماذا ل يبكي عمر ‪ ،‬وقد بيّن النبي صلى ال عليه وسلم هذا المصير في نظره لحالنا المؤلم‬
‫من وراء ستار رقيق ‪ ،‬فقال ‪ « :‬كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم‪ .‬أي قوم أنتم؟‬
‫»‪ .‬قال عبد الرحمن بن عوف رضي ال عنه ‪ :‬نقول كما أمرنا ال‪ .‬قال ‪ « :‬أو غير ذلك؟‬
‫تتنافسون ‪ ،‬ثم تتحاسدون ‪ ،‬ثم تتدابرون » ‪.‬‬
‫ولنه رأى ما لم نر ‪ ،‬وأحس بما ينتظرنا ‪ ،‬وخاف من سوء عاقبتنا ‪ ،‬فقد حذّر النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم من أناس يبيعون الدين بعرض الدنيا ‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬بادروا‬
‫بالعمال فتنا كقطع الليل المظلم ‪ :‬يُصبح الرجل مؤمنا ويُمسي كافرا ‪ ،‬ويمسي مؤمنا ويصبح‬
‫كافرا ‪ ،‬يبيع دينه بعرض من الدنيا » ‪.‬‬
‫وهو ما أخاف عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلفة حتى بكى ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أبا فلن!! أتخشى‬
‫علي‪ .‬قال ‪ :‬كيف حبك للدرهم؟! قال ‪ :‬ل أحبه قال ‪ " :‬ل تخف فإن ال سيعينك " ‪.‬‬
‫ومن آثارها المدمّرة عدم جدوى نصيحة عشاقها ‪ ،‬وهو ما سبق ورصده أبو يحيى مالك بن‬
‫دينار حين قال ‪ " :‬إن البدن إذا سقم لم ينجح فيه طعام ول شراب ‪ ،‬ول نوم ول راحة ‪ ،‬وكذلك‬
‫القلب إذا علقه حب الدنيا لم تنجح فيه الموعظة " ‪.‬‬
‫ومن آثارها المؤلمة والمشاهدة بوضوح والمُجرّبة مرارا وتكرارا أنك " بقدر ما تحزن للدنيا‬
‫يخرج همّ الخرة من قلبك ‪ ،‬وبقدر ما تحزن للخرة كذلك يخرج همّ الدنيا من قلبك " ‪.‬‬

‫الفضيحة!!‬
‫ومن علمات حب الدنيا ‪ :‬بيع الخرة بالغتراف من المال دون مبالة بمصدره ‪ :‬حلل أم‬
‫حرام ‪ ،‬وقد تنبّأ النبي صلى ال عليه وسلم بهذا الزمان ‪ ،‬ولعله زماننا الذي نعيش فيه فقال ‪:‬‬
‫« ليأتين على الناس زمان ل يبالي المرء مما أخذ المال؟ أمن حلل أم من حرام؟ » ‪.‬‬
‫وجزم في قول آخر أن هذا الداء داء قديم موغل في القِدم فقال ‪:‬‬
‫« إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم » ‪.‬‬
‫وإذا كان ل بد من ورود كلمة الحرص في قاموس حياتك ‪ ،‬فليكن الحرص النافع ل الحرص‬
‫الفاجع كما في نصيحة العابد الزاهد عبد الواحد بن زيد الذي قال ‪:‬‬
‫" الحرص حرصان ‪ :‬حرص فاجع ‪ ،‬وحرص نافع ‪ ،‬فأما النافع ‪ :‬فحرص المرء على طاعة‬
‫ال ‪ ،‬وأما الحرص الفاجع ‪ :‬فحرص المرء على الدنيا " ‪.‬‬
‫ومن علمات حب الدنيا ‪ :‬الحسد الذي يحس صاحبه باللم إذا فاته من حظوظ الدنيا شيء‬
‫كالمال والجاه والمنصب والسلطان ‪ ،‬فل يرضى عن حاله أبدا ‪ ،‬بل يعتبر نفسه دائما سيء الحظ‬
‫صريع القدار لنه لم ينل ما نال غيره ‪ ،‬مع أنه ل يحس بنفس الشعور إذا رأى من هو خير‬
‫منه دينا وأفضل منه خلقا ‪ ،‬فل يغار إل لدنيا ‪ ،‬ول ينافس أبدا في دين ‪ ،‬ليكون ممن ع ّيرَهم ابن‬
‫المبارك بقوله ‪:‬‬
‫أرى أناسا بأدنى الدين قد قنعوا ** ول أراهم رضوا في العيش بالدون‬
‫فاستغنِ بالدين عن دنيا الملوك كما ** استغنى الملوك بدنياهم عن الدين‬
‫والحسد كما علّمنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يخدش اليمان كما قال صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ « :‬ول يجتمعان في قلب عبد ‪ :‬اليمان والحسد » ‪ ،‬فيا أخي الحاسد ‪:‬‬
‫متى تُمسي وتُصبح مستريحا ** وأنت الدهر ل ترضى بحال‬
‫وقد يجري قليل المال مجرى ** كثير المال في سد الخلل‬
‫إذا كان القليل يسدّ فقري ** ولم أجد الكثير فل أبالي‬
‫ومن علمات حب الدنيا ‪ :‬كثرة الحديث عنها ‪ ،‬فمن أحبّ شيئا أكثر من ذكره ‪ ،‬فكثرة الكلم عن‬
‫التجارات ‪ ،‬وأحدث الزياء والموضات ‪ ،‬وأنواع السيارات ‪ ،‬وآخر الصيحات ‪ ،‬وأشهى‬
‫المأكولت ‪ ،‬وإضاعة المجالس في الشادة بهذه المور ؛ كل هذا يدل على أن القلب مزدحم‬
‫بدنيا لم تفسح للخرة موضع قدم‪.‬‬
‫ومن علمات حب الدنيا ‪ :‬المغالة في الهتمام بترفيه النفس مأكل ومشربا وملبسا ومسكنا‬
‫ومركبا ‪ ،‬والهتمام بالكماليات والترفيات اهتماما يملك عليه وقته وعقله ‪ ،‬فيجهد نفسه بشراء‬
‫النيق من اللباس ويزوّق مسكنه وينفق الموال والوقات في هذا ‪ ،‬ويغرق في التنعيم والترف‬
‫المنهي عنه في حديث معاذ بن جبل رضي ال عنه لما بعث به النبي صلى ال عليه وسلم إلى‬
‫اليمن وأوصاه فقال ‪ « :‬إياك والتنعيم ‪ ،‬فإن عباد ال ليسوا بالمتنعمين » ‪.‬‬
‫ولذلك حثّ النبي صلى ال عليه وسلم على أخذ الكفاية من الدنيا دون التوسع الذي يشغل عن‬
‫ذكر ال ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في‬
‫سبيل ال » ‪ ،‬بل هدّد النبي صلى ال عليه وسلم المكثرين من الموال إل أهل الصدقات فقال ‪:‬‬
‫« ويل للمكثرين إل من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا ‪ ،‬أربع عن يمينه وعن شماله ومن ُقدّامه‬
‫ومن ورائه » ‪ ،‬وصدق القائل ‪:‬‬
‫سنٍ ** إذا لم يكن فيها معاش لظالم‬
‫فلو كانت الدنيا جزاءً لمُح ِ‬
‫لقد جاع فيها النبياء كرامة ** وقد شبِعت فيها بطون البهائم‬

‫ل تذموها ولكن‬
‫قال يحيى بن معاذ الرازي ‪ " :‬الدنيا خزانة ال فما الذي يُبغض منها ‪ ،‬وكل شيء من حجر أو‬
‫مدر أو شجر يسبّح ال فيها‪ .‬قال ال تعالى ‪ " :‬وإن من شيء إل يسبح بحمده " ‪ ،‬وقال ال‬
‫تعالى ‪ " :‬ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " ‪ ،‬فالمجيب له بالطاعة ل يستحق أن يكون‬
‫بغيضا في قلوب المؤمنين " ‪.‬‬
‫فليس المطلوب منك سب الدنيا أو الهرب منها بل الواجب عليك ‪ :‬تحقيق الزهد ‪ ،‬والزهد في‬
‫أبسط صوره ومعانيه أن تحوز الدنيا في يدك ل في قلبك ‪ ،‬وأن تملكها ل أن تملكك ‪ ،‬وأن‬
‫تضحي بها في سبيل آخرتك ل أن تبيع الخرة من أجلها ‪ ،‬وأن تطلب الخرة بالدنيا ل أن تطلب‬
‫الدنيا بالخرة ‪ ،‬وأن تفرّغ قلبك مما خلت منه يدك ‪ ،‬ويبشّرك عندها بحسن العاقبة الدنيوية‬
‫والخروية يحيى بن معاذ فيقول ‪:‬‬
‫" الدنيا أمير من طلبها ‪ ،‬وخادم من تركها ‪ ،‬الدنيا طالبة ومطلوبة ‪ ،‬فمن طلبها رفضته ‪ ،‬ومن‬
‫رفضها طلبته ‪ ،‬الدنيا قنطرة الخرة فاعبروها ول تعمروها ‪ ،‬ليس من العقل بنيان القصور على‬
‫الجسور ‪ ،‬ومن طلّق الدنيا فالخرة زوجته ‪ ،‬فالدنيا مطَلّقة الكياس ‪ ،‬ل تنقضي عدتها أبدا ‪،‬‬
‫فخلّ الدنيا ول تذكرها ‪ ،‬واذكر الخرة ول تنسها ‪ ،‬وخذ من الدنيا ما يبلّغك الخرة ‪ ،‬ول تأخذ‬
‫من الدنيا ما يمنعك الخرة " ‪.‬‬
‫وما يعين قلبك على التشبع بالزهد ‪ :‬المقارنة العابرة بين الدنيا والخرة كمّا وكيفا ‪ ،‬فالدنيا أيام‬
‫قلئل معدومة في مواجهة خلود ل آخر له ‪ ،‬والدنيا نعيمها متنغص ‪ ،‬إن أضحكت اليوم أبكت‬
‫غدا ‪ ،‬وإن سرّت تبع سرورها الردى ‪ ،‬وإن حلّت فيها النعم جميعا نزلت فيها النقم سريعا ‪ ،‬إن‬
‫أخصبت أجدبت ‪ ،‬وإن جمعت فرّقت ‪ ،‬وإن ضمت شتّتت ‪ ،‬وإن زادت أبادت ‪ ،‬وإن أسفرت أدبرت‬
‫‪ ،‬وإن راقت أراقت ‪ ،‬وإن عمّت بنوالها غمّت بوبالها ‪ ،‬وإن جادت بوصالها جاءت بفصالها ‪،‬‬
‫غزيرة الفات ‪ ،‬كثيرة الحسرات ‪ ،‬قليلة الصفا ‪ ،‬عديمة الوفا ‪ ،‬ومن لم يتبصر في أمرها اليوم‬
‫عضّ يديه غدا ‪ ،‬وبكى مع الدمع دما ‪ ،‬بل وحتى من ملك أقصى نعيمها ‪ ..‬أتظنونه قد‬
‫استراح؟! كل وال ‪..‬‬
‫أرى من الدنيا لمن هي في يديه ** عذابا كلما كثُرت لديه‬
‫تهين لها المكرمين لها بذل ** و ُتكِرم كل من هانت لديه‬
‫وأين كل هذا من الخرة ونعيم الخرة ولذة الخرة وخلود الخرة؟!‬
‫وبعد الحاطة بالزهد علما تنزل إلى ساحة الجد عمل ‪ ،‬وممارسة يومية ومشقة نفسية ‪،‬‬
‫والنفس على ما عوّدتها نشأت ‪ ،‬وكيف ما ربيتها نمت وترعرت ‪ ،‬ولذا لما قيل هذا المعنى‬
‫شعرا على لسان أبي ذؤيب الهذلي ‪:‬‬
‫والنفسُ راغب ٌة إذا رغّبتها ** وإذا تُردّ إلى قليلٍ تقنع‬
‫قال الصمعي ‪ " :‬هذا أبدع بيت قالته العرب " ‪.‬‬

‫توازَن ‪ ..‬ل تقع!!‬


‫واسمع إلى هذا التوازن الرائع الذي نجح في بلوغه الصحابي الجليل الزبير بن العوّام رضي ال‬
‫عنه ‪ ،‬وتعليمه لنا معنى الزهد الحقيقي ‪ ،‬وذلك في ما رواه عنه عمر بن قيس قال ‪:‬‬
‫" كان لبن الزبير مائة غلم ‪ ،‬يتكلم كل غلم منهم بلغة أخرى ‪ ،‬فكان ابن الزبير يُكلّم كل واحد‬
‫منهم بلغته ‪ ،‬فكنت إذا نظرت إليه في أمر دنياه قلت ‪ :‬هذا رجل لم ُيرِد ال طرفة عين ‪ ،‬وإذا‬
‫نظرت إليه في أمر آخرته قلت ‪ :‬هذا رجل لم ُيرِد الدنيا طرفة عين " ‪.‬‬
‫إنه الحتراف اليماني بشقيه الدنيوي والخروي ‪ ،‬وبلوغ المؤمن أقصى ما يبلغه صاحب دنيا‬
‫من علوم وفنون ‪ ،‬وما يبلغه صاحب آخره من تقوى واهتداء ‪ ،‬وما أحوجنا اليوم إلى أحفاد ابن‬
‫الزبير ‪ ،‬نريد المؤمن الثري الذي يضرب بماله في كل تجارة ويربح في كل سوق ‪ ،‬ثم هو مع‬
‫ذلك الزاهد الورِع الذي يسخّر ماله لنصرة الدين ونفع المسلمين ‪ ..‬نريد الناس إذا مدحوا ثريا‬
‫بكثرة ماله التفتوا إلى تقواه فزادهم إيمانا واقتداء ‪ ..‬نريد أن نكسر احتكار مليين اللهين‬
‫والعابثين لثروات المّة ‪ ..‬نريد أن نذكر أن عثمان اشترى الجنّة بماله ‪ ،‬وأن مال أبي بكر هو‬
‫أكثر ما نفع رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وكذلك نريد أن نفعل‪.‬‬

‫نعم ‪ ..‬آن لنا نحن أبناء السلم في القرن الحادي والعشرين أن ندرك الزهد الحقيقي بعد أن‬
‫فهمناه دهرا فقرا ورضا بالقليل وإيثارا للعزلة في الزوايا على المضاربة في السواق تاركين‬
‫الساحة لكل عابث فاجر أو عدو ماكر ‪ ،‬وهو ما فطن إليه علم الزهد في زمانه سفيان الثوري‬
‫وأدرك تغير أولويات كل زمن فقال ‪ " :‬كان المال فيما مضى يُكره ‪ ،‬فأما اليوم فهو ترس‬
‫المؤمن " ‪.‬‬
‫ب‪ .‬شهوة حب الشهرة‬
‫وله صور خفية وجلية منها ‪:‬‬
‫حب تصدر المجالس والستئثار بالكلم وفرض الستماع على الخرين ‪ ،‬وصدر أي مجلس هو‬
‫من بقوله ‪ « :‬اتقوا هذه المذابح يعني المحاريب التي حذرنا منها رسول ال المحاريب» ‪.‬‬
‫فالمحراب الذي يعظ منه الواعظ مثل من المذابح إن لم يراع هو العمل بما يقول ‪ ،‬وامتثال ما‬
‫أمر به ؛ مع أنها قد تكون مراكز التوجيه للخير والهداية إلى الفوز لكنها مع ذلك قد تودي‬
‫بصاحبها إلى الشر وترمي به في الخسران‪.‬‬
‫يقول ‪ " :‬المدح هو الذبح " ‪τ .‬النتشاء بالمدح ‪ :‬ولذا كان عمر بن الخطاب‬
‫قال المناوي ‪ " :‬وسماه ذبحا لنه يميت القلب فيخرج من دينه ‪ ،‬وفيه ذبح للممدوح ‪ ،‬فإنه يغره‬
‫بأحواله ويغريه بالعجب والكبر ‪ ،‬ويرى نفسه أهل للمدحة سيما إذا كان من أبناء الدنيا أصحاب‬
‫النفوس وعبيد الهوى " ‪.‬‬
‫الدرس من أبيه الذي روى الحديث السابق ‪ ،‬وقد تعلّم عبد ال بن عمر فكان لسلمة قلبه‬
‫يكره المدح وينقبض منه ‪ ،‬ولما جاءه رجل وقال له ‪ :‬يا خير الناس وابن خير الناس ‪ ،‬قال له‬
‫‪ " :‬ما أنا بخير الناس ول أنا ابن خير الناس ‪ ،‬ولكني عبد من عباد ال ‪ ،‬أرجو ال وأخافه ‪،‬‬
‫وال لن تزالوا بالرجل حتى تُهلِكوه " ‪.‬‬
‫‪ « :‬من سرّه أن يمتثل له الرجال قياما فليتبوأ بيتا من النار » ‪ε .‬محبة أن يقوم الناس له ‪:‬‬
‫وقد قال رسول ال‬
‫ومثل هذا النوع من الناس يعتريه الغضب إن لم يقم له أحد ليجلس مكانه ويشعر عن ذلك في‬
‫قوله ‪ « :‬ل يُقيم الرجل بالمهانة وانتقاص القدر ؛ رغم نهيه الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه‬
‫»‪.‬‬
‫وأين هؤلء من القلوب الحية التي كرهت الشهرة وعافت علو المكانة وتميز المكانة بين‬
‫العامة‪ .‬كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام ‪ ،‬وكان خالد بن معدان إذا عظمت‬
‫حلقته قام وانصرف كراهة الشهرة ‪ ،‬وغيرهم وغيرهم لن كل واحد منهم قد عرف قدر نفسه‬
‫وحقيقة جهله وضعفه فما غرّه ثناء الناس عليه‪ .‬قال المروزي للمام أحمد ‪ " :‬إني أرجو أن‬
‫يكون يُدعى لك في المصار فقال ‪ :‬يا أبا بكر!! إذا عرف الرجل نفسه فما ينفعه كلم الناس " ‪.‬‬
‫لذا ما تفاخروا مرة واحدة في حياتهم ول غالوا في أثمانهم حتى لقاء ربهم بل تواضعوا ‪،‬‬
‫والمواقف ل تزال تُروى للمام أحمد‪ .‬قال عنه يحيى بن معين ‪ " :‬ما رأيت مثل أحمد!! صحبناه‬
‫خمسين سنة فما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير " ‪.‬‬
‫ومما يرتبط ارتباطا وثيقا بشهوة حب الشهرة ‪:‬‬
‫‌ج‪ .‬شهوة حب الرئاسة‬
‫وهي شهوة مرتبطة ارتباطا وثيقا بحب الظهور ‪ ،‬وهي بقوله ‪ « :‬إنكم ستحرصون على‬
‫المارة ‪ ،‬وستكون التي حذر منها رسول ال ندامة يوم القيامة ‪ ،‬فنعم المرضعة وبئس‬
‫الفاطمة » ‪.‬‬
‫وقوله ‪ « :‬نعم المرضعة » وذلك أولها لن معها المال والجاه والسلطة ‪ ،‬وقوله ‪ « :‬بئس‬
‫الفاطمة » أي ‪ :‬آخرها لن معه القتل والعزل في الدنيا عواقب الرئاسة ومراحلها والحسرة‬
‫والتبعات يوم القيامة ‪ ،‬وقد بيّن النبي الثلث في قوله ‪ « :‬إن شئتم أنبأتكم عن المارة وما هي‬
‫‪ :‬أولها ملمة ‪ ،‬وثانيها ندامة ‪ ،‬وثالثها عذاب يوم القيامة إل من عدل » ‪.‬‬
‫والرئاسة التي نقصدها هنا ليست دنيوية فحسب بل قد تكون دينية كذلك لمن يتبوأ مراكز‬
‫الرشاد والتوجيه والنصح والتربية ‪ ،‬ولو كان يدفع إلى التطلع للرئاسة ‪ :‬القيام بالواجب وتحمل‬
‫التبعة الثقيلة في وقت ل يسد الثغرة فيه من هو أفضل بذل وعمل لكان المر محمودا ‪ ،‬أما إذا‬
‫كان الدافع ‪ :‬رغبة جامحة في الزعامة ونفرة من قبول التوجيه من غيره واستئثار بمركز المر‬
‫والنهي ؛ فيا خطورة ما أصاب من مرض‪.‬‬
‫إسلم من ابتلي بهذا المرض وردّه ولم يقبله ‪ ،‬وقد رفض رسول ال أتى بني عامر بن‬
‫صعصعة فدعاهم إلى ال واسمعوا ما رواه الزهري أن النبي ‪ ،‬وعرض عليهم نفسه ‪ ،‬فقال‬
‫له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس ‪ :‬وال لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لكلت به‬
‫العرب ‪ ،‬ثم قال له ‪ :‬أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ‪ ،‬ثم أظهرك ال على من يخالفك ؛‬
‫أيكون لنا المر من بعدك؟ قال ‪ « :‬المر ل يضعه حيث يشاء »‪ .‬قال ‪ :‬فقال له ‪ " :‬أفنهدف‬
‫نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك ال كان المر لغيرنا! ل حاجة لنا بك " ‪.‬‬
‫لرجلين سأله المارة ‪ « :‬إنا ل نولّي هذا َمنْ سأله ‪ ،‬ول من حرص عليه » ‪ε .‬بل قال‬
‫يسن بذلك أحد قوانين الدارة اليمانية ويميّزها عن إدارة اليوم الحديثة هذا الصنف من الدعاة‬
‫‪ ،‬الذين ليس يعنيهم ويشغل فكرهم سوى رضا ‪ ،‬ويمدح ال سبحانه وتعالى بارزين كانوا أو‬
‫مستترين ‪ ،‬في المقدمة أو في المؤخّرة ‪ « :‬طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل ال ‪ ،‬أشعث‬
‫رأسه ‪ ، ،‬وذلك بقوله مغبرة قدماه ‪ ،‬إن كان في الحراسة كان في الحراسة ‪ ،‬وإن كان في‬
‫الساقة كان في الساقة ‪ ،‬إن استأذن لم يؤذن له ‪ ،‬وإن شفع لم يُشفّع » ‪.‬‬
‫وتأمل أنه ذكر هنا الساقة والحراسة وكلهما ليس من أماكن الصدارة أو مراكز القيادة ‪ ،‬فكأنه‬
‫أراد ترسيخ معنى الجندية ومعالجة حب الرئاسة في قلوب السامعين معالجة جذرية ‪ ،‬فل يذكر‬
‫الرئاسة ولو بكلمة لتغيب حتى حروفها عن عينك وتتوارى عن قلبك‪.‬‬
‫يا ذئاب!!‬
‫‪ « :‬ما ذئبان جائعان أُرسل في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء قال النبي على المال‬
‫والشرف لدينه »‪ .‬والذئبان الجائعان هما ‪ :‬الحرص على المال والحرص على الشرف ‪ ،‬وإذا‬
‫أُرسِلت الذئب في الغنم فماذا تفعل؟! فكذلك يفعل الحرص على المال والحرص على الجاه‬
‫والشرف في الدين ‪ ،‬إنها تلتهم دين المرء وتفترس إيمانه‪.‬‬
‫قال ابن رجب ‪:‬‬
‫أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من " فأخبر النبي إفساد الذئبين‬
‫لهذه الغنم ‪ ،‬بل إما أن يكون مساويا وإما أكثر ‪ ،‬يشير أنه ل يسلم من دين المسلم مع حرصه‬
‫على المال والشرف في الدنيا إل القليل ‪ ،‬كما أنه ل يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين‬
‫فيها إل القليل ‪ ،‬فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف‬
‫في الدنيا " ‪.‬‬
‫وحب الرئاسة والسعي لها شهوة خفية في النفس ‪ ،‬وكثير من الناس قد يزهد في الطعام‬
‫والشراب والثياب لكن الزهد في الرئاسة عنده نجم سماوي ل يُدرك‪ .‬قال سفيان الثوري رحمه‬
‫ال ‪ " :‬ما رأيت زهدا في شيء أقل منه في الرئاسة ‪ ،‬ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب‬
‫والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة تحامى عليها وعادى " ‪ ،‬وقال يوسف بن أسباط ‪ " :‬الزهد في‬
‫الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا " ‪ ،‬ولذلك كان السلف رحمهم ال يحذرون من يحبون منها ‪،‬‬
‫فقد كتب سفيان إلى صاحبه عباد بن عباد رسالة فيها ‪ " :‬إياك وحب الرئاسة ‪ ،‬فإن الرجل تكون‬
‫الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض ل يبصره إل البصير من العلماء‬
‫السماسرة ‪ ،‬فتفقّد نفسك واعمل بنية "‪.‬‬
‫واتهم أيوب السختياني كل محب للرئاسة بالكذب فقال ‪ " :‬ما صدق عبد قط فأحب الشهرة " ‪،‬‬
‫ونفى عنه التقوى بشر بن الحارث فقال ‪ " :‬ما اتقى ال من أحب الشهرة " ‪ ،‬ووصفه بعدم‬
‫الفلح يحيى بن معاذ حين قال ‪ " :‬ل يفلح من شممت منه رائحة الرياسة "‪.‬‬
‫لحب الرئاسة بالشهوة الخفية حين قال محذرا ‪τ :‬وما أحسن وصف شدّاد بن أوس يا بقايا‬
‫العرب ‪ ...‬إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء ‪ ،‬والشهوة الخفية‪ .‬قيل لبي داود السجستاني ‪ :‬ما‬
‫الشهوة الخفية؟ قال ‪ :‬حب الرئاسة‪.‬‬
‫قال ابن تيمية معقبا ‪ " :‬فهي خفية ‪ ،‬تخفى عن الناس ‪ ،‬وكثيرا ما تخفى على صاحبها " ‪.‬‬
‫أمارة حب المارة‬
‫لكنها وإن كانت خفية ‪ ،‬ومهما توارت وأتقنت فن التستر والهرب ‪ ،‬فقد أذن ال لنا أن نفضحها‬
‫عن طريق علماتها حتى ل يعود لمبتلى عذر في ترك التداوي وهجر التسامي ‪ ،‬ومن العلمات‬
‫‪:‬‬
‫ما ذكره الفضيل بن عياض ‪ " :‬ما من أحد أحب الرئاسة إل حسد وبغى ‪ ،‬وتتبع عيوب الناس ‪،‬‬
‫وكره أن يُذكر أحد بخير " ‪.‬‬
‫فمن علماتها إذن حب ذكر الغير بالنقائص والعيوب ‪ ،‬وكراهة أن يُذكر أحد عنده بخير ‪ ،‬بل‬
‫وانتقاص الخرين ليرفع نفسه ‪ ،‬فل يدل على من هو أفضل منه في الدين أو العلم ‪ ،‬بل ويحجب‬
‫فضائل الخرين ويكتم أخبارهم خشية أن يستدل الناس عليهم فيتركوه ويذهبوا إلى غيره ‪ ،‬أو‬
‫يقارنوا بينه وبين من هو خير منه فينفضوا عنه‪.‬‬
‫الحسرة إذا زالت أو سُلِبت منه الرئاسة ‪ ،‬وتأمل لو أن عالما تصدّر مجلس علم مثل ‪ ،‬فالتف‬
‫الناس حوله ‪ ،‬ثم جاء من هو أعلم منه فقدّمه الناس عليه وانقطعوا إليه ‪ ،‬فهل يفرح هذا العالم‬
‫أو يحزن؟ هل يفرح لنه قد جاء من هو أعلم منه يحمل عنه المسئولية ويرفع عنه التبعة ويفيد‬
‫الناس أكثر منه ؛ أم يحزن ويغتم لنه قد جاء من خطف منه الضواء وصيحات العجاب؟! بهذا‬
‫تفضح قلبك أيها الداعية إذا خشيت مرضه وأردت شفاءه‪ .‬قال ابن الجوزي ‪:‬‬
‫" وقد يكون الواعظ صادقا قاصدا للنصيحة إل أن منهم من شرب الرئاسة في قلبه مع الزمان‬
‫فيحب أن يُعظّم ‪ ،‬وعلمته ‪ :‬أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه أو يعينه على الخلق كره ذلك ‪ ،‬ولو‬
‫صحّ قصده لم يكره أن يعينه على خلئق الخلق " ‪.‬‬
‫وقال كذلك ‪:‬‬
‫" ومنهم من يفرح بكثرة التباع ‪ ،‬ويلبّس عليه إبليس بأن هذا الفرح لكثرة طلب العلم ‪ ،‬وإنما‬
‫مراده كثرة الصحاب " ‪.‬‬
‫إنها مجالس السوء وإن كان ظاهرها الخير ‪ ،‬وأماكن الفتنة وإن رُفِعت عليها رايات الهدى ‪،‬‬
‫ووسائل الهلك وإن صُنِعت للنجاة!!‬
‫كم شارب عسل فيه منِيته وكم تقلّد سيفا من به ذُبِحا‬
‫وتستطيع أخي الداعية أن تُجري اختبارا واحدا يكشف لك حقيقة مجالسك على الفور ‪ ،‬وذلك‬
‫على طريقة ابتكرها عبد الرحمن بن مهدي وهي كما يلي ‪:‬‬
‫عن عبد الرحمن بن مهدي قال ‪ " :‬كنتُ أجلس يوم الجمعة فإذا كثر الناس فرحت ‪ ،‬وإذا قلوا‬
‫حزنت ‪ ،‬فسألت بشر بن منصور فقال ‪ :‬هذا مجلس سوء فل تعُد إليه ‪ ،‬فما عدتُ إليه " ‪.‬‬
‫حسرة قلبه إذا منع من الظهور وفاتته فرصة إبداء إمكاناته واستعراض قدراته ‪ ،‬وبالحلو تُعرف‬
‫المرارة ‪ ،‬وبالضد تتميز الشياء لذا فاسمعوا ما فعل المحدّث الرباني شيخ نيسابور أبي عمرو‬
‫إسماعيل بن نجيد فيما قصّه المام الذهبي ‪:‬‬
‫" ومن محاسنه أن شيخه الزاهد أبا عثمان الحيري طلب في مجلسه مال لبعض الثغور فتأخّر ‪،‬‬
‫فتألم وبكى على رؤوس الناس ‪ ،‬فجاءه ابن نجيد بألفي درهم فدعا له ‪ ،‬ثم إنه نوّه به ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫قد رجوت لبي عمرو بما فعل ‪ ،‬فإنه قد ناب عن الجماعة ‪ ،‬وحمل كذا وكذا ‪ ،‬فقام ابن نجيد‬
‫وقال ‪ :‬لكن إنما حملت من مال أمي وهي كارهة فينبغي أن ترده لترضى ‪ ،‬فأمر أبو عثمان‬
‫بالكيس فرد إليه ‪ ،‬فلما جنّ الليل جاء بالكيس والتمس من الشيخ ستر ذلك ‪ ،‬فبكى وكان بعد‬
‫ذلك يقول ‪ :‬أنا أخشى من همة أبي عمرو " ‪.‬‬
‫إضفاء هالت الهمية الزائفة كادعاء المواعيد الكاذبة والنشغالت التافهة ‪ ،‬ليوقع في روع‬
‫الناس علو قدره وارتفاع منزلته وتهافت الناس عليه ‪ ،‬والنبي يقول ‪ « :‬المتشبّع بما لم يُعطَ‬
‫كلبس ثوبي زور » ‪ε .‬‬
‫قال ابن حجر ‪:‬‬
‫" المتشبّع أي المتشبّه بالشبعان وليس به شبع ‪ ،‬واستعير للتحلي بفضيلة لم يرزقها ‪ ،‬وشُبّه‬
‫بلبس ثوبي زور ؛ أي ذي زور ‪ ،‬وهو الذي يتزيا بزي أهل الصلح رياء ‪ ،‬وأضاف الثوبين‬
‫إليه لنهما كالملبوسين ‪ ،‬وأراد بالتثنية أن المتحلي بما ليس فيه كمن لبس ثوبي الزور ارتدى‬
‫بأحدهما واتزر بالخر كما قيل ‪ :‬إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا ‪ ،‬فالشارة بالزار والرداء إلى أنه‬
‫متصف بالزور من رأسه إلى قدمه ‪ ،‬ويحتمل أن تكون التثنية إشارة إلى أنه حصل بالتشبع‬
‫حالتان مذمومتان ‪ :‬فقدان ما يتشبع به ‪ ،‬وإظهار الباطل " ‪.‬‬
‫عدم المشاركة بفاعلية عندما يكون مرؤوسا ‪ ،‬بل والتهرب من التكاليف حين ل يكون هناك‬
‫فرصة للبروز ‪ ،‬واشتعال قلبه حماسة ونشاطا عندما يكون رأس المر وقائده‪.‬‬
‫كثرة نقده لغيره بسبب وبغير سبب ‪ ،‬ومحاولة التقليل من أهمية مقترحات الغير ومبادراتهم مع‬
‫عدم تقديم البديل ‪ ،‬والعمل على إخفاق ما لم يشارك فيه‪.‬‬
‫الصرار على رأيه وصعوبة التنازل عنه ‪ ،‬وإن ظهرت أدلة بطلنه ورجحان غيره‪.‬‬
‫سبب هذا المرض‬
‫السبب الرئيس ‪ :‬عدم تقدير عواقب التقصير في الخرة ‪ ،‬وقد قال‪ «:‬ما من رجلٍ يلي أمر‬
‫عشرةٍ فما فوق ذلك‪ ،‬إل أتى ال مغلولً يده إلى عنقه ‪ ،‬فكه بره أو أوثقه إثمه ‪ ،‬أولها ملمة ‪،‬‬
‫وأوسطها ندامة ‪ ،‬وآخرها خزي يوم القيامة » ‪.‬‬
‫أل فانتبه يا طالب العلم وأنت تعلّم الناشئة ‪ ،‬وانتبه أيها المربي حين ‪ ،‬وكيف حثّنا على الزهد‬
‫تربّي من حولك ‪ ،‬وتعلّم من سعد بن أبي وقاص في الرئاسة بلسان حاله مما أغنانا عن‬
‫آلف الخطب والصفحات ‪ ،‬فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال ‪ :‬كان سعد في إبلٍ له وغنم‬
‫فأتاه ابنه عمر بن سعد ‪ ،‬فلما رآه قال ‪ :‬أعوذ بال من شر هذا الراكب ‪ ،‬فلما أتاه قال ‪ :‬يا أبت!‬
‫أرضيتَ أن تكون أعرابيا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة ؟! ‪ε‬فضرب سعدٌ‬
‫صدر عمر وقال ‪ :‬اسكت فإني سمعت رسول ال يقول ‪ « :‬إن ال يحب العبد التقي الغني الخفي‬
‫»‪.‬‬
‫وتأمّل أيضا كيف كان هروب العلماء من مسئولية القضاء ‪ ،‬والقضاء منصب وسلطة ومكانة‬
‫وأبهة ‪ ،‬وقد كان القاضي من أعظم الناس مكانة في زمانه ‪ ،‬وكلمته مسموعة ل ترد ؛ ومع‬
‫ذلك كان الصالحون يهربون من القضاء ويُضربون عنه ول يتولونه ‪ ،‬بل ويسجنون ول‬
‫يرضونه ‪ ،‬مع أنهم أهل له ‪ ،‬وذلك لخوفهم ينذر ‪ « :‬قاضيان في النار من تبعات المر ‪،‬‬
‫وكيف ل وقد سمعوا قول النبي ‪ ،‬وقاض في الجنة » ‪.‬‬
‫يحذّر ‪ « :‬من أتى أبواب السلطان اف ُتتِن » ‪ ،‬وكثرة من وكيف ل والنبي قضاة اليوم والعلماء‬
‫على باب السلطان وقوف ‪ ،‬وعلى رضاه حريصون ‪ ،‬ول يحسون بالكارثة!!‬
‫التوازن المفقود‬
‫التوازن المنشود بين كراهية الشهرة‬
‫ووجوب قيادة جموع المة ‪ ،‬فإننا نريد لجموع الصالحين أن تبرز في الوقت الذي توارت فيه‬
‫الكفايات وبرزت فيه الرويبضات ‪ ،‬وأن تفخر بعملها الصالح قائلة ‪ :‬هلم إلينا أيها الناس ‪ ،‬وذلك‬
‫في الوقت الذي تبارت رموز الشر في الدعوة إلى باطلها ‪ ،‬وتنافست في طمس فطرة الناس‬
‫ببث سمومها وشرورها ‪ ،‬لذا كان لبد للطيّب أن يدافع الخبيث ويزاحمه حتى يبث الخير إلى‬
‫محيط الناس الملوّث ‪ ،‬وعلى كل واحد أن يتفرّس في نفسه اليوم ‪ ،‬ويرى هل فيه من علمات‬
‫حب الرئاسة شيء ‪ ،‬ويعيد تقييم نفسه باستمرار وعلى مرور الشهر والعوام ‪ ،‬فإن البداية قد‬
‫تكون صحيحة ويتسلل الخطأ بعد ذلك ‪ ،‬والنية قد تبدأ خالصة حتى تتسرّب إليها جرثومة رياء ‪،‬‬
‫لذا وجب التنبه والمراقبة‪.‬‬
‫د‪ .‬شهوة النساء‬
‫ويسأل سائل ‪ :‬لماذا نتكلم عن شهوة الرجال نحو النساء ول نتكلم عن شهوة النساء نحو‬
‫الرجال؟! إن كثيرا ما يتساءلون ‪ :‬لماذا تكلم القرآن عن الحور العين في الجنة ولم يتكلم عن‬
‫مثيل ذلك للمؤمنات؟! والجواب أن الحب عند الرجل يتمحور حول الفعال ‪ ،‬فهو عنده غريزة‬
‫تتبعها عاطفة ‪ ،‬بينما الحب عند المرأة عاطفة مقدمة على الغريزة ‪ ،‬وحين يمتزج الحب‬
‫بالشهوة عند الرجال ؛ فهو عند النساء ‪ :‬كلمات وثناء وغزل ‪ ،‬لذا وجدنا الشعر عربيا وغربيا‬
‫قديما وحديثا يحفل بغزل الرجال للنساء ل غزل النساء للرجال ‪ ،‬فالرجل يعلن عن الرغبة‬
‫ويطلب ‪ ،‬والمرأة سلحها التمنع والدلل‪.‬‬
‫‪ « :‬ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء » ‪ε .‬من هنا جاء تحذير الرسول‬
‫‪ " :‬إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في وقد سبق أن أخبرنا النبي صورة شيطان " ‪،‬‬
‫إشارة إلى الهوى والميل الطبيعي الذي جعله ال تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى‬
‫النساء ‪ ،‬واللتذاذ بالنظر إليهن ‪ ،‬والحديث معهن ‪ ،‬وسماع أخبارهن ‪ ،‬وكل ما يتعلق بهن ‪ ،‬ول‬
‫غرو ‪ ،‬فالمرأة أعظم فتن إبليس وأشد محنه وأيسر طرقه وأخفى حيله ‪ ،‬ولذا يتبعها ويلزمها‬
‫ويزيّنها ويُحلّيها في عيون الرجال‪ .‬قال مجاهد ‪ " :‬إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها‬
‫فزيّنها لمن ينظر ‪ ،‬فإذا أدبرت جلس على عجزها فزيّنها لمن ينظر " ‪.‬‬
‫وعدّها الحسن بن صالح نصف جيش الشيطان المرابط على ثغر القلب فقال ‪ " :‬سمعت أن‬
‫الشيطان قال للمرأة ‪ :‬أنت نصف جندي ‪ ،‬وأنت سهمي الذي أرمي به فل أخطأ ‪ ،‬وأنت موضع‬
‫سري ‪ ،‬وأنت رسولي في حاجتي " ‪.‬‬
‫ويُشخّص ابن الجوزي مرضا عضال يُصاب به مطلق بصره ‪ -‬وما أكثر جراحاته – فيقول ‪:‬‬
‫" يُعرِض النسان عن زوجته ويؤثر عليها الجنبية ‪ ،‬وقد تكون الزوجة أحسن ‪ ،‬والسبب في‬
‫ذلك أن عيوب الجنبية لم تَبِن له ‪ ،‬وقد تكشفها المخالطة ‪ ،‬ولهذا إذا خالط هذه المحبوبة‬
‫الجديدة ‪ ،‬وكشفت له المخالطة ما كان مستورا ملّ وطلب أخرى إلى ما ل نهاية له " ‪.‬‬
‫ثم يكمل وصيته أثناء صيده لحدى خواطره فيقول ‪:‬‬
‫" ليعلم العاقل أن ل سبيل إلى حصول مراد تام كما يريد ﴿ َوَلسْتُمْ بِآخِذ ْيهِ إِلّا َأنْ تُ ْغمِضوا ف ْيهِ‬
‫﴾ [ البقرة ‪ ، ] 267 :‬ما عيب نساء الدنيا بأحسن من قوله عز وجل ﴿ وَلَ ُهمْ فيهَا َأزْوَاجٌ‬
‫مُطَ ّه َرةٌ ﴾ [ البقرة ‪. " ] 25 :‬‬

‫فاسمُ بعينيك إلى نسوة ‪ ...‬مهورهن العمل الصالح‬


‫وحدّث النفس بعشق اللى ‪ ...‬في عشقهن المتجر الرابح‬
‫واعمل على الوصل فقد أمكنت ‪ ...‬أسبابه ووقتها رائح‬

‫الطنطاوي يصيح‬
‫قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه ال ‪:‬‬
‫" لو أتيت مال قارون وجسد هرقل وواصلتك عشر آلف من أجمل النساء من كل لون وكل شكل‬
‫وكل نوع من أنواع الجمال هل تظن أنك تكتفي؟ ل ‪ ..‬أقولها بالصوت العالي ‪ :‬ل ‪ ..‬أكتبها‬
‫بالقلم العريض ‪ ،‬ولكن واحدة بالحلل تكفيك ‪ ،‬ول تطلبوا مني الدليل فحيثما تلفتم حولكم وجدتم‬
‫في الحياة الدليل قائما ظاهرا مرئيا " ‪.‬‬
‫لكن ما الذي يزيّن الحرام للنسان ويبغّض له الحلل؟! وما الذي يجعله تهفو نفسه للغريبة عنه‬
‫وتزهد في سكنه ومودته وشريكة عمره؟! إنه الرغبة في التغيير والقضاء على الملل ‪ ،‬إنه‬
‫التطلع إلى كل جديد ‪ ،‬فالمرء توّاق إلى ما لم ينل ‪ ،‬ويجيب الطنطاوي ثانية قائل ‪:‬‬
‫" فالنساء مختلفات ‪ ،‬ولكن طعم المتعة بهن واحد ل يختلف ‪ ،‬وما فرق بين تلك لراقصة وبين‬
‫امرأتك إل أن الولى تأتيك على جوعك بالرغيف قد لفته بمنديل الحرير ‪ ،‬ووضعت المنديل في‬
‫شملة ‪ ،‬وألقت الشملة في صندوق من الفضة المذهبة ‪ ،‬وجعلت حول الصندوق الورق‬
‫الشفاف ‪ ،‬فأنت كلما رفعت حجابا من هذه الحجب اشتد جوعك وشوقك إلى ما وراءها ‪ ،‬فإذا‬
‫بلغت الرغيف حسبته قُطِف من قمح الجنة ‪ ،‬ثم طحنته الملئكة ‪ ،‬ثم عجنته بأيديهن الحور‬
‫العين ‪ ،‬وأنت ل تأكل المنديل ول الشملة ول الصندوق ‪ ،‬إنما تأكل الرغيف ‪ ،‬وأنت ل تريد هذه‬
‫الثياب ول هذه النوار ‪ ،‬إنما تريد المرأة ‪ ،‬ولعل امرأتك أبهى منها وأجمل " ‪.‬‬

‫السجود للصنم‬
‫وإليك نماذج من هؤلء المرضى الذين استسلموا لمرضهم ‪ ،‬فلم يحاولوا الستشفاء بطبيب بارع‬
‫أو مشفى جامع حتي غزاها المرض فشوّه ملمحها ومسخ فطرتها ووصل إلى النخاع وقطع‬
‫عليها خط الرجعة‪ .‬قيل لحدهم ‪ :‬جاهد في سبيل ال ‪ ،‬فقال ‪:‬‬

‫يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد‬


‫لكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيل بينهن شهيد‬

‫وأعلن أخ له في الغواية ‪:‬‬


‫ولو أنني أستغفر ال كلما ذكرتك لم تكتب عليّ ذنوب‬
‫هذا حال اللسان ‪ ،‬أما حال القلب فأسوأ ‪:‬‬
‫محا حبها حب الولى ُكنّ قبلها وحَلّ مكـانا لم يكن حَلّ من قبل‬
‫أما حب ال والشوق إليه ‪ ،‬فلم يعد له في القلب ل أقول موضع قدم بل موضع إبرة!! بل وصل‬
‫حالهم إلى وصف مريع أفاض فيه ابن القيّم ليخوّف كل عاقل من عواقب المرض ويلوّح أمام‬
‫ناظريه براية الخطر ‪ ،‬فقال في شفقة الطبيب يبيّن خطورة المرض وفداحة الصابة ‪:‬‬
‫" فلو خُيّر بين رضاه ورضا ال لختار رضا معشوقه على رضا ربه ‪ ،‬ولقاء معشوقه أحب إليه‬
‫من لقاء ربه ‪ ،‬وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه ‪ ،‬وهربه من سخطه عليه أشد من هربه‬
‫من سخط ربه عليه ‪ ،‬يُسخِط ربه بمرضاة معشوقه ‪ ،‬ويقدّم مصالح معشوقة وحوائجه على‬
‫طاعة ربه ‪ ،‬فإن فضل من وقته ‪ ،‬وكان عنده قليل من اليمان ‪ ،‬صرف تلك الفضلة فى طاعة‬
‫ربه ‪ ،‬وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها وأهمل أمر ال‬
‫تعالى ‪ ،‬يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس ‪ ،‬ويجعل لربه من ماله ‪ -‬إن جعل له ‪ -‬كل رذيلة‬
‫وخسيس ‪ ،‬فلمعشوقه لبه وقلبه ‪ ،‬وهمه ووقته ‪ ،‬وخالص ماله ‪ ،‬وربه على الفضلة ‪ ،‬قد اتخذه‬
‫وراءه ظهريا ‪ ،‬وصار لذكره نسيا ‪ ،‬إن قام فى خدمته فى الصلة فلسانه يناجيه وقلبه يناجى‬
‫معشوقه ‪ ،‬ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق ‪ ،‬ينفر من خدمة ربه حتى كأنه‬
‫واقف فى الصلة على الجمر من ثقلها عليه وتكلفه لفعلها ‪ ،‬فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل‬
‫عليها بقلبه وبدنه فرحا بها ‪ ،‬ناصحا له فيها ‪ ،‬خفيفة على قلبه ل يستثقلها ول يستطيلها " ‪.‬‬
‫لذا يعاقبه ال في الدنيا قبل الخرة ‪ ،‬وعلى يد من؟! على يد من ل يخطر له على بال ومن بذل‬
‫في سبيله كل غال ‪ :‬على يد محبوبه الذي أحبه من دون ال‪ .‬قال ابن القيّم ‪:‬‬
‫عذّب به ول بد ‪ ،‬وأن من‬ ‫" وقد قضى ال تعالى قضاء ل يرد ول يُدفع أن من أحب شيئا سواه ُ‬
‫خاف غيره سُلّط عليه ‪ ،‬وأن من اشتغل بشيء غيره كان شؤما عليه ‪ ،‬ومن آثر غيره عليه لم‬
‫يبارك فيه ‪ ،‬ومن أرضى غيره بسخطه أسخطه عليه ول بد " ‪.‬‬
‫عذابات فوق عذابات ‪ ،‬وآلم وحسرات في الدنيا وفي القبر وفي النار!! قال ابن القيم ‪:‬‬
‫عذّب به ثلث مرات في هذه الدار ‪ ،‬فهو يُعذّب به قبل حصوله‬ ‫" فكل من أحب شيئا غير ال ُ‬
‫عذّب به حال حصوله بالخوف من سلبه وفواته ‪ ،‬فإذا سُلِبه اشتد‬ ‫حتى يحصل ‪ ،‬فاذا حصل ُ‬
‫عذابه عليه ‪ ،‬فهذه ثلثة أنواع من العذاب في هذه الدار‪.‬‬
‫وأما في البرزخ فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي ل يُرجى عوده ‪ ،‬وألم فوات ما فاته من النعيم‬
‫العظيم باشتغاله بضده ‪ ،‬وألم الحجاب عن ال ‪ ،‬وألم الحسرة التي تقطع الكباد ‪ ،‬فالهم والغم‬
‫والحسرة والحزن تعمل في نفوسهم نظير ما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم ‪ ،‬بل عملها في‬
‫النفوس دائم مستمر حتى يردها ال إلى أجسادها ‪ ،‬فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر‬
‫"‪.‬‬
‫ولو فكّر العاشق المسكين في مصير من عشقه وخاتمة من أحب لتاب من فوره وزهد في‬
‫وصله كما قال المتنبي ‪:‬‬

‫لو فكّر العاشق في منتهى حُسن الذي يسبيه لم يسبه‬

‫وأكّد آخر نفس المعنى فقال ‪:‬‬


‫وان سبتك الدمى فانظر بفكرك ما تغدو اليه الدمى في ظلمة القبر‬

‫لكن أين حال هؤلء من أحياء القلوب وأرباب العقول الذين يتدبرون ويعتبرون ‪ ،‬ويقرؤون ما‬
‫وراء الحداث فيرشدون ‪ ،‬ومن سادات هؤلء ابن الجوزي الذي علّمنا في إحدى كنوزه الرائقة‬
‫‪:‬‬
‫" تأملتُ حالة أزعجتني ‪ ،‬وهو أن الرجل قد يفعل مع امرأته كل جميل وهي ل تحبه ‪ ،‬وكذا يفعل‬
‫مع صديقه والصديق يبغضه ‪ ،‬وقد يتقرّب إلى السلطان بكل ما يقدر عليه والسلطان ل يؤثره ‪،‬‬
‫فيبقى متحيّرا يقول ‪ :‬ما حيلتي؟! فخفتُ أن تكون هذه حالتي مع الخالق سبحانه ‪ ،‬أتقرّب إليه‬
‫وهو ل يريدني ‪ ،‬وربما يكون قد كتبني شقيا في الزل " ‪.‬‬
‫‌‬
‫ه‪ .‬شهوة حب الهل والولد ‪:‬‬
‫وقد ورد التحذير من هذه الشهوة في أكثر من آية من كتاب ال عز وجل ‪ ،‬ولعل أخطرها‬
‫عدُوّا‬ ‫وأعظمها وقعا على القلب قوله تعالى ‪ ﴿ :‬يَا أَيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا ِإنّ ِمنْ َأزْوَاجِكُمْ َوأَوْلدِكُمْ َ‬
‫ح َذرُوهُمْ َوِإنْ تَعْفُوا وَ َتصْفَحُوا َوتَغْ ِفرُوا فَ ِإنّ الّلهَ غَفُو ٌر رَحِيمٌ‪.‬إِ ّنمَا َأمْوَالُ ُكمْ َوأَوْلدُكُمْ فِتْ َنةٌ‬
‫لَكُمْ فَا ْ‬
‫جرٌ عَظِيمٌ ﴾ [ التغابن ‪] 15-14 :‬‬ ‫وَالّلهُ عِ ْن َدهُ أَ ْ‬
‫قال المام البغوي عند تفسير هذه الية ‪ " :‬وقال عطاء بن يسار ‪ :‬نزلت في عوف بن مالك‬
‫الشجعي ‪ :‬كان ذا أهل وولد ‪ ،‬وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إلى من تدعنا؟‬
‫عدُوّا لَ ُكمْ ﴾ بحملهم إياكم على ترك‬ ‫جكُمْ َوأَوْلدِ ُكمْ َ‬ ‫فيرق لهم ويقيم ‪ ،‬فأنزل ال ‪ِ ﴿ :‬إنّ ِمنْ َأزْوَا ِ‬
‫الطاعة ‪ ،‬فاحذروهم أن تقبلوا منهم "‪.‬‬
‫وتأمّلوا ‪ :‬لما ذكر ال العداوة أدخل ﴿ ِمنْ ﴾ للتبعيض ‪ ،‬فقال ‪ِ ﴿ :‬إنّ ِمنْ َأزْوَاجِكُمْ َوأَوْل ِدكُمْ‬
‫عدُوّا َلكُمْ ﴾ ‪ ،‬لن ليس كل الهل أعداء ‪ ،‬ولم يذكر ﴿ ِمنْ ﴾ في قوله ‪ ﴿ :‬إَ ّنمَا َأمْوَالُكُمْ َوأَوْلدُكُمْ‬ ‫َ‬
‫فِ ْت َنةٌ ﴾ لنه ل تخلو الزوجة والولد من الفتنة واشتغال القلب بها‪.‬‬
‫تأكيدا لمعناها وشرحا لفحواها حيث قال وقد تآخت هذه الية مع حديث بريدة يخطب فجاء‬
‫الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران ‪ " : ،‬كان رسول ال من المنبر ‪ ،‬فحملها ‪،‬‬
‫فوضعها بين يديه يمشيان ويعثران ‪ ،‬فنزل رسول ال ‪ ،‬ثم قال ‪ « :‬صدق ال ‪ ﴿ :‬إَ ّنمَا‬
‫َأمْوَالُكُمْ َوأَوْلدُكُمْ فِ ْتنَة ﴾ نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران ‪ ،‬فلم أصبر حتى قطعت‬
‫حديثي ورفعتهما » ‪.‬‬
‫ويعلق سيد قطب رحمه ال تعالى على آية التغابن هذه فيقول ‪:‬‬
‫" ولكن النص القرآني أشمل من الحادث الجزئي ‪ ،‬وأبعد مدى وأطول أمدا ؛ فهذا التحذير من‬
‫الزواج والولد كالتحذير الذي في الية التالية من الموال والولد معا ‪ ﴿ :‬إَ ّنمَا َأمْوَالُكُمْ‬
‫َوأَوْل ُدكُمْ فِ ْت َنةٌ ﴾ ‪.‬‬
‫والتنبيه إلى أن من الزواج والولد من يكون عدوا ‪ ،‬إن هذا يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة‬
‫البشرية ؛ ويمس وشائج متشابكة ودقيقة في التركيب العاطفي ‪ ،‬وفي ملبسات الحياة سواء ‪،‬‬
‫فالزواج والولد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر ال ‪ ،‬كما أنهم قد يكونون دافعا للتقصير‬
‫في تبعات اليمان ‪ ،‬اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم لو قام المؤمن بواجبه ‪ ،‬فلقي ما يلقاه‬
‫المجاهد في سبيل ال! والمجاهد في سبيل ال يتعرض لخسارة الكثير ‪ ،‬وتضحية الكثير‪.‬‬
‫كما يتعرض هو وأهله للعنت ‪ ،‬وقد يحتمل العنت في نفسه ول يحتمله في زوجه وولده ‪ ،‬فيبخل‬
‫ويجبن ليوفر لهم المن والقرار ‪ ،‬أو المتاع والمال ‪ ،‬فيكونون عدوا له ؛ لنهم صدوه عن‬
‫الخير ‪ ،‬وعوّقوه عن تحقيق غاية وجوده النساني العليا‪.‬‬
‫كما أنهم قد يقفون له في الطريق يمنعونه من النهوض بواجبه ؛ اتقاء لما يصيبهم من جرائه ‪،‬‬
‫أو لنهم قد يكونون في طريق غير طريقه ‪ ،‬ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد ل ‪،‬‬
‫وهي كذلك صور من العداوة متفاوتة الدرجات ‪ ،‬وهذه وتلك مما يقع في حياة المؤمن في كل آن‬
‫‪ ،‬ومن ثم اقتضت هذه الحال المعقدة المتشابكة ‪ :‬التحذير من ال ‪ ،‬لثارة اليقظة في قلوب الذين‬
‫آمنوا ‪ ،‬والحذر من تسلل هذه المشاعر ‪ ،‬وضغط هذه المؤثرات ‪ ،‬ثم كرر هذا التحذير في صورة‬
‫أخرى من فتنة الموال والولد ‪ ،‬وكلمة فتنة تحتمل معنيين ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬أن ال يفتنكم بالموال والولد بمعنى يختبركم ‪ ،‬فانتبهوا لهذا ‪ ،‬وحاذروا وكونوا أبدا‬
‫يقظين لتنجحوا في البتلء ‪ ،‬وتخلصوا وتتجردوا ل ‪ ،‬كما يفتن الصائغ الذهب بالنار ليخلصه‬
‫من الشوائب!‬
‫والثاني ‪ :‬أن هذه الموال والولد فتنة لكم توقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية ‪ ،‬فاحذروا‬
‫هذه الفتنة ل تجرفكم وتبعدكم عن ال "‪.‬‬
‫والمعنى الثاني من كلم سيد يبين أن الولد قد يشغلون عن ال وعن ذكره ومرضاته وقربه‬
‫كما دلّ على ذلك قوله تعالى ‪ ﴿ :‬يَا أَيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا لَا تُلْ ِهكُمْ َأمْوَالُ ُكمْ وَلَا أَوْلَادُ ُكمْ عَن ذِ ْكرِ الّلهِ‬
‫سرُونَ ﴾ [ المنافقون ‪.] 9 :‬‬ ‫َومَن يَفْعَلْ ذَ ِلكَ فَأُوَْل ِئكَ هُمُ ا ْلخَا ِ‬
‫وهي آية من سورة المنافقين التي سردت صفات المنافقين وأحوالهم ‪ ،‬ثم تحذير المؤمنين من‬
‫الوقوع في ما وقعوا فيه من النشغال بها عن الخرة والتفريط في صالح العمال ‪ ،‬وأخذ المال‬
‫من حل وحرمة ؛ تحت ذريعة توفير الراحة والسعادة للهل والولد‪ .‬قال الزجاج ‪:‬‬
‫" أعلمهم ال عز وجل أن الموال والولد مما يفتنون به ؛ وهذا عام في جميع الولد ‪ ،‬فإن‬
‫النسان مفتون بولده ؛ لنه ربما عصى ال تعالى بسببه ‪ ،‬وتناول الحرام لجله ‪ ،‬ووقع في‬
‫العظائم إل من عصمه ال تعالى " ‪.‬‬

‫ثمرتا الجبن والبخل‬

‫ومن آثار هذه الشهوة إذا طغت وخرجت عن حدود الفطرة السوية ‪ :‬الوقوع في صفتين‬
‫ذميمتين هما ‪ :‬البخل والجبن ‪ ،‬مما سبق وأن نبّه عليه الرسول بقوله ‪ « :‬إن الولد مبخلة‬
‫مجبنة » ‪.‬‬
‫والجبن والخوف يصدان عن القيام بواجب الدعوة والجهاد ؛ وقد يحتمل الداعية الذى والعنت‬
‫على نفسه في سبيل ال عز وجل ‪ ،‬لكن القليل هو من يحتمله في أهله وأولده ؛ خاصة إذا‬
‫تعرض لما يبعده عنهم كالسجن والتشريد‪.‬‬
‫يقول سيد رحمه ال تعالى ‪ " :‬هناك فتنة الهل والحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الذى‬
‫بسببه ‪ ،‬وهو ل يملك عنهم دفعا وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم ‪ ،‬وينادونه باسم الحب‬
‫والقرابة ‪ ،‬واتقاء ال في الرحم التي يعرضها للذى أو الهلك "‪.‬‬
‫وفي هذا فتنة واختبار أيما اختبار ‪ ،‬وهل خُلِقت الشهوات إل للختبار؟! ول يثبت إل من ثبته‬
‫ال عز وجل وعصمه بصدق التوكل عليه وحسن الظن به والوثوق برحمته وحفظه‪.‬‬
‫لكن ماذا إذا ربّى النسان ولده ليكون عونا له على مشقات الطريق ‪ ،‬وعامل ثبات ل فتنة ‪،‬‬
‫وقوة تقدم ل تقهقر ‪ ،‬كما سبق وفعل إبراهيم بن أبي الليث مع بناته اللتي صرن أساتذة الرجال‬
‫في مدارس الثبات ‪ ،‬فقد روى محمد بن سويد الطحان ‪:‬‬
‫" كنا عند عاصم بن علي ومعنا أبو عبيد ‪ ،‬وإبراهيم بن أبي الليث وجماعة ‪ ،‬وأحمد بن حنبل‬
‫يضرب ‪ ،‬فجعل عاصم يقول ‪ :‬أل رجل يقوم معي ‪ ،‬فنأتي هذا الرجل ‪ ،‬فنكلمه؟ قال ‪ :‬فما يجيبه‬
‫أحد ‪ ،‬ثم قال ابن أبي الليث ‪ :‬أنا أقوم معك يا أبا الحسين ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا غلم ‪ :‬خُفّي‪ .‬فقال ابن أبي‬
‫الليث ‪ :‬يا أبا الحسين ‪ ..‬أبلغُ إلى بناتي ‪ ،‬فأوصيهم ‪ ،‬فظننا أنه ذهب يتكفن ويتحنط ‪ ،‬ثم جاء ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬إني ذهبت إليهن ‪ ،‬فبكين‪ .‬قال ‪ :‬وجاء كتاب ابنتي عاصم من واسط ‪ :‬يا أبانا! إنه بلغنا‬
‫أن هذا الرجل أخذ أحمد بن حنبل ‪ ،‬فضربه على أن يقول ‪ :‬القرآن مخلوق ‪ ،‬فاتق ال ‪ ،‬ول‬
‫تُجِبه ‪ ،‬فوال لن يأتينا نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك أجبت!! "‬

‫الباب الثالث ‪ :‬كيفية تناول الدواء‬


‫على عتبة هذا الباب ‪:‬‬
‫هي خمسة عشر قرصا سهلة البلع عظيمة النفع ُت ِمدّ القلب بالقوة وتُ ِعدّه للعلج قبل تلقي‬
‫جرعات الدواء ودورات الستشفاء ‪ ،‬سمّها إن شئت مضاعِفات القوة العامة ‪ ،‬وهي غير‬
‫مضاعفات القوة الخاصة بكل جرعة والتي سأتعرّض لها عند التحدّث عن جرعات الدواء ‪،‬‬
‫وإياك إياك أن تبخل على نفسك بها ‪ ،‬فإن أشد درجات البخل أن يبخل النسان على نفسه مع‬
‫الحاجة ‪ ،‬فيمرض أشد المرض ول يتداوى ‪ ،‬ولو أن مريضا تناول الدواء دون أن يأخذ وصايا‬
‫الطبيب في العتبار لما أفلح دواؤه ول تم شفاؤه ‪ ،‬والن مع أول الوصايا ‪:‬‬
‫‪ .1‬ل تردّ الدواء أو تتهاون فيه ‪ :‬قال ابن القيم ‪:‬‬
‫" حذارِ حذارِ من أمرين لهما عواقب‬
‫سوء ‪ :‬أحدهما ‪ :‬رد الحق لمخالفته هواك ‪ ،‬فإنك تعاقب بتقليب القلب ‪ ،‬وردّ ما َي ِردُ عليك من‬
‫الحق رأسا ول تقبله إل إذا برز في قالب هواك‪ .‬قال تعالى ‪ ﴿ :‬وَنُ َقلّبُ َأفْ ِئدَتَ ُهمْ َوأَ ْبصَا َرهُمْ َكمَا َلمْ‬
‫يُ ْؤمِنُوا ِبهِ أَوّلَ َمرّةٍ ﴾ [ النعام ‪ ، ] 110 :‬فعاقبهم على رد الحق أول مرة بأن قلب أفئدتهم‬
‫وأبصارهم بعد ذلك‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬التهاون بالمر إذا حضر وقته ‪ ،‬فإنك إن تهاونت به ثبّطك ال وأقعدك عن مراضيه‬
‫خرُوجِ َفقُلْ َلنْ‬ ‫ج َعكَ الّلهُ إِلَى طَائِ َفةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَ ْأذَنُوكَ لِ ْل ُ‬
‫ن رَ َ‬
‫وأوامره عقوبة لك‪ .‬قال تعالى ‪ ﴿ :‬فَ ِإ ْ‬
‫عدُوّا إِنّكُ ْم َرضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوّلَ َم ّرةٍ فَاقْ ُعدُوا َمعَ الْخَالِفِينَ‬
‫خرُجُوا َمعِيَ أَ َبدًا وَ َلنْ تُقَا ِتلُوا مَعِيَ َ‬
‫تَ ْ‬
‫﴾ [ التوبة ‪ ، ] 83 :‬فمن سلم من هاتين الفتين والبليتين العظيمتين فليهنه السلمة " ‪.‬‬
‫عرِف عنه التفكر وطول وهذا ما أبكى أبو الدرداء ‪ ،‬حيث ظلّت‬ ‫عند موته وهو أشهر من ُ‬
‫آية واحدة عالقة في ذهنه ل تفارقه التدبر من صحابة النبي لحظة حتى عند موته ‪ ،‬وكان‬
‫مما هداه إليه تدبره ‪ :‬أن هذه الية هي من أهم ما قرأ ؛ فما تذكر غيرها عند الوفاة ‪ ،‬فعن أم‬
‫الدرداء أن أبا الدرداء لما احتضر جعل يقول ‪ " :‬من يعمل لمثل يومي هذا؟! من يعمل لمثل‬
‫ساعتي هذه؟! من يعمل لمثل مضجعي هذا؟! ثم يقول ‪َ ﴿ :‬ونُقَلّبُ َأفْ ِئدَتَهُمْ َوأَ ْبصَا َرهُمْ َكمَا لَمْ‬
‫يُ ْؤمِنُوا ِبهِ أَوّلَ َم ّرةٍ ﴾ [ النعام ‪. " ] 110 :‬‬
‫حين عرضه عليه أول خشي أن يكون قد قصّر في قبول الحق من نبينا وكأنه مرة ‪،‬‬
‫وظن أنه لم يأخذه كما ينبغي بأقصى قوة وعزم وبأسرع استجابة من أول لحظة ‪ ،‬فعاتب نفسه‬
‫على ذلك حتى عل النحيب قبل الرحيل‪.‬‬
‫وردّ الدواء يتمثل في عدم تناوله عمدا أو سهوا ‪ ،‬أو تناوله مع عدم المواظبة عليه ‪ ،‬أو‬
‫النصراف إلى غيره والتماس الشفاء في ما عداه ‪ ،‬أو الستخفاف بمفعوله وأثره ‪ ،‬وأي من‬
‫هذه الفات كفيل بأن يحول بينك وبين شفائك واستعادة عافيتك اليمانية‪.‬‬
‫عرِض عليه أن يتناول‬ ‫ولعل مما يعينك على تنفيذ هذه الوصية أن تُنزِل نفسك بمنزلة مريض ُ‬
‫الدواء أياما معدودة لينال عافية الدهر ؛ فهو بمنزلة كسير عليه أن يحتمل مرارة الدواء حينا‬
‫لتحصل له الصحة البدية ‪ ،‬أو بمنزلة الغريق الذي أُلقي إليه طوق النجاة فإن تشبّث به وإل‬
‫صار طعام السمك في قاع البحر ‪ ،‬ويدفعك إلى ذلك دفعا ويذكّرك به كلما نسيت ‪ :‬بكاء أبي‬
‫الدرداء ساعة احتضاره!!‬
‫‪ .2‬أيقن بفاعلية الدواء ‪:‬‬
‫أن عن أبي سعيد الخدري ‪ :‬اسقه عسلً ‪ ،‬ثم أتى فقال ‪ :‬أخي يشتكي بطنه ‪ ،‬فقال رجلً‬
‫أتى النبي الثانية فقال ‪ :‬اسقه عسلً ‪ ،‬ثم أتى الثالثة فقال ‪ :‬اسقه عسلً ‪ ،‬ثم أتاه ‪ « :‬صدق‬
‫ال وكذب بطن أخيك ‪ ...‬اسقه عسلً » ‪ ،‬فقال ‪ :‬فعلت ‪ ،‬فقال فسقاه فبرأ ‪.‬‬
‫وإن كان للصحة النفسية دور أساسي في شفاء أي مريض ‪ ،‬فإن الصحة النفسية اليمانية هنا‬
‫هي الطمئنان إلى فاعلية الدواء والتأكد من أنه سيجلب الشفاء ‪ ،‬فكلما نزل الدواء على قلب‬
‫أكثر يقينا وأكمل ثقة كلما كان أثره أعظم والشفاء أقرب ‪ ،‬وكلما امتل القلب بالشك والرّيَب كان‬
‫نزول الدواء عليه كنزول الماء بأرض قيعان ل تُمسك الماء ول تُنبت الكل‪.‬‬
‫لكن لماذا ل نوقن وال سبحانه هو الذي أرشدنا إلى الدواء وحثّنا عليه؟! وكيف ل نوقن‬
‫والدواء جرّبه مليين الصالحين من قبلنا فوجدوا أعظم الثر ووصلوا إلى ما ينشدون؟! وحتى‬
‫متى ل نوقن والوعد وعد رسول ال وهل أوفى من رسول ال؟! والبشارة بالشفاء جاءتنا على‬
‫لسانه ول أصدق؟! فوال لو أيقنتم بشفائكم لستكثرتم من دوائكم ‪ ،‬ولو انتبهتم من رقادكم‬
‫لوصلتم إلى مرادكم ‪ ،‬فأعطوا أنفسكم من دوائها ما ستقرؤوه يعطِكم ربكم من شفائه ما طلبتموه‬
‫‪ ،‬وإل تجرّعتم جرعات الندم على موائد السف ‪ ،‬حين ترون أثر الدواء في الدنيا ومفعوله في‬
‫الخرة ‪ ،‬وتندمون ندامة ال ُكسَعِيّ حين رأت عيناه ما صنعت يداه‪.‬‬
‫‪ .3‬داوم تصل ‪:‬‬
‫طالب الشفاء اليوم ل ينال مراده بعبادة يوم وليلة ‪ ،‬بل لبد من مداومة ‪ ،‬وقد تبين في حديث‬
‫العسل أن المريض لم يجد أثر الدواء حتى تناول ثلث جرعات ‪ ،‬وليس ذلك في أمراض البدان‬
‫فحسب بل في أمراض القلوب كذلك ‪ ،‬فالنفس ل تقبل أثر الطاعة ول تتشرب فائدتها إل بعد مدة‬
‫ومواظبة عليها ‪ ،‬ذلك أن عقبة البدء كؤود ‪ ،‬يصعّبها الشيطان عليك ‪ ،‬ويضع أمامك الحواجز‬
‫والمثبطات ‪ ،‬لكن مع البدء وبداية تسلل اليمان إلى القلب ‪ ،‬وانتشار حلوته في الروح ‪ ،‬تلين‬
‫القلوب للطاعة ويستنير الصدر للنابة ‪ ،‬وصدق ابن الجوزي حين قال ‪:‬‬
‫" إذا استقام للجواد الشوط لم يُحوِج راكبه إلى السوط " ‪.‬‬
‫وضرب لنا أبو حامد الغزالي مثل ليقنع كل يائس من الشفاء بجدوى المحاولة وحتمية الشفاء‬
‫إذا جدّ في السعي ‪ ،‬وقلّد الصالحين الذين جاهدوا ( وفعلوا بها ما يُفعل بالبازي إذا ُقصِد تأديبه‬
‫ونقله من التوثّب والستيحاش إلى النقياد والتأديب ‪ ،‬فإنه يُحبس أول في بيت مظلم ‪ ،‬وتُخاط‬
‫عيناه حتى يحصل به الفطام عن الطيران في جو الهواء ‪ ،‬وينسى ما قد كان ألِفه من طبع‬
‫السترسال ‪ ،‬ثم يرفق باللحم حتى يأنس بصاحبه ويألفه إلفا إذا دعاه أجابه ‪ ،‬ومهما سمع‬
‫صوته رجع إليه ‪ ،‬فكذلك النفس ل تألف ربها ‪ ،‬ول تأنس بذكره إل إذا فُطِمت عن عادتها‬
‫بالخلوة والعزلة أول ؛ ليحفظ السمع والبصر عن المألوفات ‪ ،‬ثم عُوّدت الثناء والذكر والدعاء‬
‫ثانيا في الخلوة حتى يغلب عليها النس بذكر ال عز وجل عوضا عن النس بالدنيا وسائر‬
‫الشهوات ‪ ،‬وذلك يثقل على المريد في البداية ‪ ،‬ثم يتنعم به في النهاية ؛ كالصبي يفطم عن‬
‫الثدي ‪ ،‬وهو شديد عليه إذا كان ل يصبر عنه ساعة ‪ ،‬فلذلك يشتد بكاؤه وجزعه عند الفطام ‪،‬‬
‫ويشتد نفوره عن الطعام الذي يُقدّم إليه بدل عن اللبن ‪ ،‬ولكنه إذا مُنِع اللبن رأسا يوما فيوما‬
‫وعظم تعبه في الصبر عليه وغلبه الجوع تناول الطعام تكلفا ‪ ،‬ثم يصير له طبعا ‪ ،‬فلو رُدّ بعد‬
‫ذلك إلى الثدي لم يرجع إليه ‪ ،‬فيهجر الثدي ‪ ،‬ويعاف اللبن ‪ ،‬ويألف الطعام ‪ ،‬وكذلك الدابة في‬
‫البتداء ‪ :‬تنفر عن السّرج واللجام والركوب ؛ فتُحمل على ذلك قهرا ‪ ،‬وتُمنَع عن السرج الذي‬
‫ألفته بالسلسل والقيود أول ‪ ،‬ثم تأنس به بحيث تترك في موضعها ‪ ،‬فتقف فيه من غير قيد ‪،‬‬
‫فكذلك تُؤدّب النفس كما تؤدّب الطير والدواب ) ‪.‬‬
‫إن النفس إذا وجدت لذة العبادة ‪ ،‬وأحست بأثر جرعات الدواء بدد فيها نور اليقين ظلم‬
‫المادة ‪ ،‬وأطفأ برد العفو نار الذنب ‪ ،‬كالرضيع الذي يستغني عن اللبن بألوان الطعمة المختلفة‬
‫ليزهد بعدها في ثدي أمه ‪ ،‬والمعنى أنك كلما تناولت جرعة دواء زادت سرعة سيرك ‪ ،‬وانتفض‬
‫قلبك وكأنما نشط من عقال ؛ ذلك أن المسافر إذا عاين البلد التي يريد دخولها أسرع واستحث‬
‫دابته على السير بغير ما كانت عليه عند بدايات سفره والهدف عنه غائب ‪ ،‬وكذلك القلب إذا‬
‫ذاق حلوة اليمان ووجد أثر العافية صار أقوى عزما وأشد قوة لقربه من غايته وتلمح قلبه‬
‫لنوار ما سعى إليه‪.‬‬
‫‪ .4‬لحظة التأخير القاتلة ‪:‬‬
‫تأخير المحاولة ليس في صالحك ‪ ،‬وتأجيل جرعة الدواء عن ميعادها يزيد المرض رسوخا ‪،‬‬
‫والمقاومة انهيارا ‪ ،‬والنفس إلفا لما يضرها ‪ ،‬وبغضا لما ينفعها ‪ ،‬لن التأخير يمنح الفرصة‬
‫للسم بأن يسري إلى القلب ويتمكن منه ‪ ،‬والقلب منبع الحياة ‪ ،‬فينشأ عن ذلك أبشع الثر ‪،‬‬
‫وبتأخّرك عن تناول الجرعة المقررة مرة من بعد مرة ستصل حتما إلى الجرعة الحرجة التي لو‬
‫لم تتناولها لمات قلبك في الحال ‪ ،‬ول عزاء في القلوب الغافلة!!‬
‫أخي ‪ ..‬التسويف سم العمال وعدو الكمال ‪ ،‬ومن ترك المبادرة اليوم وارتمى في أحضان‬
‫(سوف) وقع فريسة لسدين عظيمين ‪ :‬أحدهما تراكم ظلمة المعصية على قلبه حتى تصير رينا‬
‫وطبعا وأقفال يستحيل معها الشفاء ‪ ،‬والثاني أن يباغته الموت فتضيع فرصة للنجاة ‪ ،‬لذا صاح‬
‫فيك الصاحب شرف الدين النصاري ‪:‬‬

‫ف أمضى‬ ‫دع التسويفَ وامضِ إِلى المعالي ‪ ...‬بعزمٍ من ذبابِ السي ِ‬


‫ن َرفْضا‬
‫وخذْ في الج ّد وارفضْ من أباهُ ‪ ...‬من الهلين والِخوا ِ‬
‫وأصغِ لما أشرتُ به فإِني ‪ ...‬صحب ُتكَ منه كأسَ النصحِ َمحْضا‬
‫أخي المريض ‪:‬‬
‫ل تشغل‬
‫نفسك كثيرا بسؤال ‪ :‬كيف حال قلبي الن ‪ ،‬وليكن همك همك الول ‪ :‬هل بدأت رحلة العلج أم‬
‫ليس بعد ‪ ،‬فإن هذا الطريق من مشى فيه خطوة تلقّفته أيادي الرحمة اللهية‬
‫والعناية الربانية لتوصله إلى ألذ نهاية وفي سرعة البرق‪.‬‬
‫يا من اشتكى قلبه ‪..‬‬
‫أوجع اللم حرقة الندم‬
‫جرَ أرجو وسوف‬ ‫‪ ،‬ومن راقه طعم الماني فاته أسمى المعالي ‪ ،‬ومن أقلقه خوف الهلك ه َ‬
‫وعسى ‪ ،‬ومن أيقن أن الماني تُنقِص العقل عافت نفسه كل تأخير ؛ وعلم أن المرء كلما كبر‬
‫صعبت عليه المحاولة ‪ ،‬ذلك أنه ليس أشد من فطام الكبير ‪ ،‬ومن العناء رياضة‬
‫ال َهرِم‪.‬‬
‫أخي طالب الشفاء ‪:‬‬
‫" إحالتك العمال على وجود الفراغ من رعونات النفس " ‪.‬‬
‫هكذا قالها ابن عطاء وصدق ‪ ،‬فإن كنت تظن أن الشيطان سيعطيك مهلة للتوبة ‪ ،‬أو سيمنحك‬
‫الفرصة لتلتقط أنفاسك ‪ ،‬أو سيتركك فارغا لتراجع نفسك وتتعافى ‪ ،‬فاعلم أنك واهم ‪ ،‬فالعجل‬
‫العجل ‪ ..‬والبدار البدار ‪ ،‬واذكر أن الكسل آفة أعجز المرضى ‪ ،‬وما بسقت فروع ندم إل من‬
‫حرِم البركة ‪ ،‬ومن أضاع الفرصة تجرّع الغُصة ‪ ،‬فخاطب نفسك‬ ‫بذرة كسل ‪ ،‬ومن ملّ الحركة ُ‬
‫بقولك ‪ :‬إن كان لك في الشفاء نصيب فالن وإل فهيهات ‪ ،‬فإن من أجّل أمره إلى الغد لم يفلح‬
‫حرِم مبادِر إل فى النادر ‪ ،‬فهيا!! الن ‪ ..‬وفي التو واللحظة ‪..‬‬
‫إلى البد ‪ ،‬وفي المقابل ‪ :‬ما ُ‬
‫ليس المر شاقا ‪ ..‬ووال ما هي إل سفرة قلب وأنت على الفراش ‪ ..‬دون أن تفارق مكانك ‪..‬‬
‫كل المطلوب منك أن تُشهِد ربك على إرادة الشفاء ‪ ،‬وأن تبرم العقد معه على شراء العفو ‪،‬‬
‫وتقطع تذاكر الرجوع إليه ‪ ،‬فإن فعلت ‪ ..‬فاجعل دون الوفاء بعهدك الموت!!‬

‫وسر عن قريب واستجب واجتنب (غدا) وشمّر عن الساق اجتهادا بنهض ِة‬
‫وكن صارما كالسيف فالموت في (عسى) وإياك (مهل) فهي أخطر علــةِ‬
‫جدّتِ‬
‫جدْتَ َ‬
‫جدْ خيرا فالنفس إن ُ‬
‫وجُـذّ بسـيف العزم (سوف) فإن تجُـدْ ت ِ‬
‫كم عمرك الن؟!‬
‫وفي ضوء نشاطك أو كسلك ‪ ،‬ومبادرتك أو تقاعسك ‪ ،‬وانتباهتك أو غفلتك تستطيع أن تحدّد‬
‫عمرك الحقيقي اليوم ‪ ،‬وأعني بذلك عمرك المحسوب بميزان اليمان ل بذاكرة اليام ‪ ،‬وبحساب‬
‫الكرام البررة ل بسجلت موظّف الحي الذي تسكنه ‪ ،‬وهو ما قال به ابن القيم ‪:‬‬
‫" فما كان من‬
‫وقته ل وبال فهو حياته وعمره ‪ ،‬وغير ذلك ليس محسوبًا في حياته وإن عاش عيش‬
‫البهائم ‪ ،‬فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والماني الباطلة ‪ ،‬وكان خير ما قطعه به النوم‬
‫والبطالة ‪ ،‬فموت هذا خير له من حياته ‪ ،‬وإذا كان العبد ‪ -‬وهو في الصلة ‪ -‬ليس له من‬
‫صلته إل ما عقل منها ‪ ،‬فليس له من عمره إل ما كان فيه بال ول " ‪.‬‬

‫تزوّجت البطالة بالتواني فأولدها غلما مع غلمة‬


‫فأما البن سمّـوْه بفقـر وأما البنت سمّوْها ندامة‬
‫‪ .5‬اختر دواءك بنفسك ‪:‬‬
‫هذه نصيحة أهداها إليك عبد فأمسكها بكلتي يديك وعضّ عليها بناجزيك ‪ ،‬فقد كان ابن ال‬
‫بن مسعود مسعود قليل الصوم ‪ ،‬وكان يقول ‪ " :‬إذا صمت ضعفت عن الصلة ؛ وأنا أختار‬
‫الصلة على الصوم " ‪ ،‬وكان بعضهم إذا صام ضعف عن قراءة القرآن ‪ ،‬فكان يكثر الفطر حتى‬
‫يقدر على التلوة ‪ ،‬وكل إنسان أعلم بحاله وما يُصلحه‪.‬‬
‫كل منا مريض في جانب من الجوانب ‪ ،‬وكلنا يحتاج إلى الدواء ‪ ،‬لكن نوع الدواء الشافي‬
‫يختلف من مريض إلى آخر ‪ ،‬لن النفوس تتباين وتختلف اختلفا شاسعا ‪ ،‬وبالتالي فليس كل‬
‫دواء يُحدِث نفس الثر في جميع النفوس ‪ ،‬قد تشكو قسوة قلبك وتفقد حلوة القرب منه ‪ ،‬فل‬
‫يكون هناك دواء أفضل لحالتك من ركعتين في جوف الليل تغتسل فيهما بالدموع ‪ ،‬وربما كان‬
‫أفضل دواء في حق غيرك أن يخرج من ماله صدقة ل ‪ ،‬وثالث يُشفى بعبرة في خلوة ‪ ،‬ورابع‬
‫بمسح رأس يتيم ‪ ،‬وخامس بإطعام مسكين ‪ ،‬وسادس بمجالسة صالح ‪ ،‬وسابع بدعاء خاشع‬
‫أمام مقبرة أو تشييع ميت وحمل نعش ‪ ،‬وثامن بصيام تطوع وإل قسا قلبه وساءت حاله ‪ ،‬وكلٌ‬
‫أدرى بدوائه وأعلم بحاله ‪ ،‬ولبد لك أن تُجرّب سائر الدوية لتعرف أيها أنسب لك ‪ ،‬ومداوٍ‬
‫لحالتك‪.‬‬
‫قال ابن القيّم شارحا ‪:‬‬
‫" ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الزمان والماكن والشخاص والحوال ‪ ،‬وكلها طرق‬
‫مرضاته ‪ ،‬فهذه التي جعلها ال لرحمته وحكمته كثيرة متنوعة جدا لختلف استعدادات العباد‬
‫وقوابلهم ‪ ،‬ولو جعلها نوعا واحدا مع اختلف الذهان والعقول وقوة الستعدادات وضعفها لم‬
‫يسلكها إل واحد بعد واحد ‪ ،‬ولكن لما اختلفت الستعدادات تنوعت الطرق ؛ ليسلك كل امرىء‬
‫إلى ربه طريقا يقتضيها استعداده وقوته وقبوله " ‪.‬‬
‫ومن ذلك ما فعله جعفر بن سليمان حين عرف أنسب دواء له وجرّبه فوجده أجدى ما يكون‬
‫فانطلق يحكي ‪:‬‬
‫" كنتُ إذا وجدت من قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع نظرة ‪ ،‬وكنت إذا رأيت وجه‬
‫محمد بن واسع حسبت أن وجهه وجه ثكلى " ‪.‬‬
‫أخي ‪ ..‬إذا أحسست بنفسك تسبح منك نحو ساحل الفتور ‪ ،‬ولمست قلبك فأحسست بقساوته ‪،‬‬
‫وطلبت عينك فوجدتها جافة من قلة الدمع ‪ ،‬وبحثت عن روحك فوجدتها سارحة مع غير ال ؛‬
‫فهرول مسرِعا إلى أسرع ما يشفيك وأعظم ما يُحدِث أثره فيك ‪ ،‬لتغرف منه وتشرب فترتوي‬
‫وتهتدي بإذن باريك‪.‬‬

‫‪ .6‬شدّد ثم أرخِ ‪:‬‬


‫البداية القوية تضمن النهاية السعيدة ‪ ،‬والعزمة الفتية تكفل دوام الصحة أعواما مديدة ‪ ،‬فل بد‬
‫من عزمة وقرار حاسم ووقفة محورية تعترف فيها ليس فقط أنك مريض ؛ بل وتعلن أنك في‬
‫أمس الحاجة للدواء ‪ ،‬ويُرى ذلك في شدة انطلقتك وحماستك ‪ ،‬وبدون هذه البداية تتعثّر في‬
‫النهاية بل قبل النهاية ‪ ،‬وصدق الشاعر إذ يقول ‪:‬‬
‫فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازما فلي ْقسُ أحيانا على من يرحم‬
‫قد يقسو الب على ابنه وهو صغير في سن التنشئة ليقيمه على الجادة ‪ ،‬ويغرس في نفسه منذ‬
‫الصغر ما يجهل الطفل حكمته في صغره ولن يعرف قيمته إل عند كبره ‪ ،‬وهذه القسوة هي‬
‫عين الرحمة ‪ ،‬وهذه الغلظة من ورائها أرق المشاعر ‪ ،‬وإل شاب الولد على ما شبّ عليه ‪ ،‬وما‬
‫شبّ عليه ليس فيه من الدب والذوق والخلق شيء ‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫فإن قلت ‪ :‬بلى ؛ سألتك ‪ :‬وهل أحد أحق بالرحمة من نفسك التي بين جنبيك؟! وهل أولى‬
‫بالشفقة من روحك التي هي سر حياتك؟ فما بالك تؤدّب ولدك وتهمل نفسك؟! وتعِظ غيرك‬
‫وتنسى قلبك؟!‬
‫ومن التشديد صفاء البتداء وقوة النطلق من أول خطوة‪ .‬قال أبو عثمان الحيري ‪ " :‬من لم‬
‫تصح إرادته ابتداء ؛ فإنه ل يزيده مرور اليام عليه إل إدبارا " ‪.‬‬
‫ومن التشديد أخذ النفس بالعزم ‪ ،‬وعدم إرخاء الحبل لها والسماح لها بالتفلت والهرب ‪ ،‬وذلك‬
‫بإلزامها من الطاعات ما يهذّب سلوكها ويلين طبعها ‪ ،‬والكثار عليها من النوافل حتى تذل‬
‫طبيعتها المارة بالسوء وتستسلم للخير ‪ ،‬وهذا فعل ال وتشريعه ‪ ،‬ومثال ذلك ‪ :‬أن ال أمر‬
‫الصحابة بصبر الواحد منهم إلى العشرة ثم خفّف عنهم ذلك إلى الثنين ‪ ،‬ومن ذلك أنه حرّم‬
‫على المسلمين الوائل في الصيام إذا نام أحدهم أن يأكل بعد ذلك أو يجامع حتى اعتادته‬
‫النفوس ثم خفّف عنهم ‪ ،‬ومن ذلك أنه أوجب عليهم تقديم الصدقة بين يدي مناجاة رسوله فلما‬
‫وطّنوا على أمر ال خفّفه عنهم ‪ ،‬ومن ذلك أنه فرض قيام الليل عاما كاملة لتعتاده النفس ثم‬
‫نزلت آية التخفيف بجعله نافلة‪ .‬قال ابن القيّم ‪ " :‬وقد يفعل الملوك ببعض رعاياهم قريبا من هذا‬
‫‪ ،‬وقد يفعل بعض الحمّالين قريبا من هذا فيزيدون على الحمل شيئا ل يحتاجون إليها ‪ ،‬ثم يحط‬
‫تلك الشياء فيسهل حمل الباقي عليهم " ‪.‬‬
‫ومن التشديد قضاء الطاعة إذا فاتتك حتى ل تسترسل النفس في ترك الطاعة والتقصير ‪،‬‬
‫فتعتاده ويصعب عليها المواظبة من بعد‪.‬‬
‫ومن التشديد تلقي المر للتنفيذ لن لغة المواعظ وحدها ل تنفع ‪ ،‬بل ل بد من مزجها بصيغة‬
‫المر والنهي ‪ ،‬واستقبال جرعات الشفاء بالمتثال والتسليم ‪ ،‬والحفاوة بها حفاوتك بمن طال‬
‫غيابه عنك ثم أقبل لزيارتك ‪ ،‬لذا كان على سالك طريق الشفاء اليوم أن يتحلى بجوهرتين‬
‫جدّ والعزم ‪ :‬أن العزم صدق الرادة واستجماعها ‪،‬‬ ‫جدّ والعزم ‪ ( ،‬والفرق بين ال ِ‬ ‫ثمينتين هما ال ِ‬
‫والجد صدق العمل وبذل الجهد فيه ‪ ،‬وقد أمر ال سبحانه وتعالى بتلقى أوامره بالعزم والجد‬
‫خذُوا مَا آتَ ْينَا ُكمْ بِ ُق ّوةٍ ﴾ [ البقره ‪ ، ] 63 :‬وقال ‪ ﴿ :‬وَكَ َتبْنَا َلهُ فِي الَْألْوَاحِ ِمنْ كُلّ‬‫فقال ‪ُ ﴿ :‬‬
‫خذِ‬‫حيَى ُ‬ ‫خ ْذهَا بِقُ ّوةٍ ﴾ العراف ‪ ، 145 : :‬وقال ‪ ﴿ :‬يَا يَ ْ‬ ‫يءٍ فَ ُ‬
‫ظةً َوتَ ْفصِيلًا لِ ُكلّ شَ ْ‬ ‫يءٍ مَ ْوعِ َ‬
‫شَ ْ‬
‫الْكِتَابَ بِقُ ّوةٍ ﴾ [ مريم ‪ ] 12 :‬أي بجد واجتهاد وعزم ل كمن يأخذ ما أمر به بتردد وفتور) ‪.‬‬
‫وقد يكون المر صعبا أن تجمع بين الجد والفهم كما جاء في شعر المتنبي ‪:‬‬
‫جدّ والفهما‬ ‫وما الجمع بين الماء والنار في يدي بأصعب من أن أجمع ال ِ‬
‫لكنه يسير على من يسّره ال عليه ‪ ،‬قريب إلى من سعى إليه‪.‬‬
‫الهول المفزع‬
‫ومن هذا التشديد الشافي والتكليف المعافي ما رواه الحاكم في المستدرك من لبايعه على‬
‫السلم قال ‪ :‬أتيت رسول ال حديث بشير بن الخصاصية فاشترط عليّ ‪ « :‬تشهد أن ل‬
‫إله إل ال وأن محمدا عبده ورسوله ‪ ،‬وتصلي الخمس ‪ ،‬وتصوم رمضان ‪ ،‬وتؤدي الزكاة ‪،‬‬
‫وتحج البيت وتجاهد في سبيل ال »‪.‬‬
‫قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ..‬أما اثنتان فل أطيقهما!! أما الزكاة فما لي إل عشر" ذود " ‪ -‬أي ‪:‬‬
‫عشر رؤوس من البل‪ُ -‬هنّ رسل أهلي وحمولتهم!! وأما الجهاد فيزعمون أنه من ولى ‪ -‬أي‬
‫هرب من المعركة‪ -‬فقد باء بغضب من ال ‪ ،‬يده فأخاف إذا حضرني قتال كرهت الموت‬
‫وخشعت نفسي‪ .‬قال ‪ :‬فقبض رسول ال ثم حرّكها ‪ ،‬ثم قال ‪ « :‬ل صدقة ول جهاد فبم تدخل‬
‫الجنة ؟! » ‪.‬‬
‫قال بشير ‪ :‬ثم قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ..‬أبايعك فبايعني عليهن كلهن ‪.‬‬
‫والفائدة ‪ :‬لبد من جهد ‪ ..‬لبد من عطاء ‪ ،‬ولبد من بذل ‪ ..‬لبد من فداء ‪ ،‬إنها شروط النجاة‬
‫ل شروط سُكنى الفراديس ‪ ،‬وسمات المسلم العامي ل المسلم المجاهد ‪ ،‬إنها أساسيات الدين‬
‫ومتطلبات العقيدة ونفقات دخول الجنة ‪ ،‬ولو وواجهك هذه المواجهة لصدمك رده عليك كما‬
‫سبق وصدم كنت تعيش في زمن النبي بشيرا وهزه ‪ ،‬لكنها صدمة لزمة وهزة شافية ووقفة‬
‫مؤلمة تدفعك إلى مراجعة شريط حياتك لتنظر ما دفعت من ثمن لتشتري الجنة ‪ ،‬فبين جنبات‬
‫هذا الحديث جرعة هامة من جرعات الدواء ولمحة من لمحات الشفاء‪.‬‬
‫أخي ‪ ..‬افهمني!! السلعة واحدة ‪ ،‬والثمن واحد ‪ ،‬وما كان ال ليحابي قوما على حساب‬
‫آخرين ‪ ،‬فتكون السلعة رخيصة لنا وغالية على غيرنا‪.‬‬
‫يرحمك ال!!‬
‫قال ‪ε :‬ولن ديننا دين العزم والقوة ول مجال فيه للكسل روى أبو هريرة عن النبي‬
‫« إن ال يحب العطاس ويكره التثاؤب ‪ ،‬فإذا عطس أحدكم وحمد ال كان حقا على كل مسلم‬
‫سمعه أن يقول ‪ :‬يرحمك ال ‪ ،‬فأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان ؛ فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما‬
‫استطاع ‪ ،‬فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان »‪ .‬رواه البخاري ‪ ،‬وفي رواية لمسلم ‪« :‬‬
‫فإن أحدكم إذا قال ‪ :‬ها ‪ ..‬ضحك الشيطان منه » ‪.‬‬
‫أن ينفّرك منه قدر لما كان التثاؤب مما يُرضي الشيطان ؛ أراد النبي المستطاع ويحذرك من‬
‫الوقوع فريسة لمثبّطات العزم ومقدّماته ‪ ،‬وأما العطاس فعلى العكس من ذلك ؛ هو نعمة ربانية‬
‫جاءت لتوقظك وتنشّطك إلى العمل ‪ ،‬لذا كان على العاطس أن يحمد ال ‪ ،‬وكان حقا على من كل‬
‫سمعه من المسلمين أن يشاركه الفرحة بهذه الصحوة التي جاءته من غير سعي منه أو‬
‫ترتيب ‪ ،‬فيدعو له بالرحمة‪.‬‬
‫همة هرة!!‬
‫رأى الجنيد هرة تسعى وراء فأر ؛ فدخل الفأر جحره وبقيت هي أمام الجحر تترقّب ‪ ،‬وكل‬
‫شعرة من جسدها واقفة تعلن النفير ‪ ،‬مستحضرة أعلى درجات العزم والتوثب ‪ ،‬فخطر للجنيد‬
‫خاطر استحال خاطرة جاء فيها ‪:‬‬
‫" يا مسكين ‪ ..‬ألم تحصّل في الهرة درجة هرة؟! وإذا حصّلت ‪ ..‬أيكون مطلوبك كمطلوبها؟! "‪.‬‬
‫أنت طالب جنة وهي طالبة لقمة وهمتها أعلى من همتك!! أنت طالب شفاء وهي طالبة عناء‬
‫ومع ذلك عزمها أشد وأصدق!! أنت تسعى لباقٍ وهي تسعى لفانٍ ومع هذا تغلبك؟! قطة هجرت‬
‫الكسل وهبّت إلى العمل وأنت نائم في بيتك يا بطل؟!‬
‫‪ .7‬أرخِ ثم شدّد ‪:‬‬
‫وهي طريقة التشريع اللهي أيضا في بعض ملمحه يصفها ابن القيم فيقول ‪:‬‬
‫" فينقل عباده بالتدريج من اليسير إلى ما هو أشد منه لئل يفجأ هذا التشديد بغتة فل تحمله ول‬
‫تنقاد له ‪ ،‬وهذا كتدريجهم في الشرائع شيئا بعد شيء دون أن يؤمروا بها كلها وهلة واحدة ‪،‬‬
‫وكذلك المحرمات ‪ ،‬ومن هذا أنهم أمروا بالصلة أول ركعتين ركعتين ؛ فلما ألفوها زيد فيها‬
‫ركعتين أخريين في الحضر ‪ ،‬ومن هذا أنهم أُمروا أول بالصيام وخُيّروا فيه بين الصوم عينا‬
‫وبين التخيير بينه وبين الفدية ؛ فلما ألِفوه أُمروا بالصوم عينا ‪ ،‬ومن هذا أنهم ُأذِن لهم بالجهاد‬
‫أول من غير أن يوجبه عليهم ؛ فلما توطّنت عليه نفوسهم وباشروا حسن عاقبته وثمرته ُأمِروا‬
‫به فرضا ‪ ،‬وحكمة هذا التدريج ‪ :‬التربية على قبول الحكام والذعان لها والنقياد لها شيئا‬
‫فشيئا ‪ ،‬وكذلك يقع مثل هذا في قضائه وقدره مقدر على عبده بل ل بد منه اقتضاه حمده‬
‫وحكمته ‪ ،‬فيبتليه بالخف أول ثم يرقيه إلى ما هو فوقه حتى يستكمل ما كتب عليه منه " ‪.‬‬
‫والمشاهد أن كثيرا من المرضى يشاهدون من منّ ال عليهم بالعافية والسمو في آفاق المتعة‬
‫اليمانية ‪ ،‬فيسعون في إدراكهم ‪ ،‬ويحاولون مطاولة النجم في عله بقفزة واحدة ‪ ،‬وعندما‬
‫يفشلون يرجعون خائبين تاركين المحاولة ويائسين من الشفاء ‪ ،‬ولو أنهم صعدوا السلّم درجة‬
‫درجة ‪ ،‬وبدؤوا بالنتهاء عن ما حرّم ال ‪ ،‬ثم ساروا إلى الفرائض فأتموها ‪ ،‬وأتبعوا ذلك‬
‫بالنوافل التي ل تشق عليهم ‪ ،‬لوجدوا في نهاية الطريق ما وجد هؤلء ‪ ،‬ولكنهم قوم‬
‫يستعجلون‪.‬‬
‫أيها المتعجّلون!! أنتم ل ترون سوى قمة الهرم ولكنكم ل تلمحون ما ُبذِل فيه من عرق وجهد ‪،‬‬
‫أنتم ل تبصرون إل اللمحة الخيرة واللقطة المبهجة والمشهد السعيد ‪ ،‬أما المسلسل الطويل من‬
‫المجاهدة والصراع والمثابرة والكفاح فما خطر ببالكم قط ‪ ،‬لذا طمعتم في نيل العل برقدة في‬
‫الفراش والغرق في أماني الحالمين ‪ ،‬وهذا محال في سوق الخرة‪.‬‬
‫ولعل هذا ما قصده كل من ثابت البناني وعتبة الغلم وهما يرويان قصة كفاحهما المتشابه بل‬
‫المتطابقة ؛ حتى عبّر كلهما عنها بنفس الكلمات تماما ‪ ،‬فقال كل منهما على حدة ‪:‬‬
‫" كابدتُ الصلة عشرين سنة ‪ ،‬وتنعّمت بها عشرين سنة " ‪.‬‬
‫وهذه اللذة والتنعم بالخدمة إنما تحصل بالمصابرة والتعب أول ‪ ،‬فإذا صبر المريض وصدق في‬
‫صبره أفضى به صبره إلى اللذة كما قال أبو زيد ‪ " :‬ما زلت أسوق نفسي إلى ال وهي تبكي‬
‫حتى سقتها وهي تضحك " ‪.‬‬
‫‪ .8‬نقطة الضعف المدمّرة ‪:‬‬
‫لكل منا نقطة ضعفه التي يتسلل منها الشيطان إلى قلبه لينقل إليه العدوى ويبث النجوى ‪ ،‬وهي‬
‫تختلف من مريض لخر ‪ ،‬لكن الحاذق اليوم هو من عرف نقطة ضعفه ‪ ،‬وابتعد عن كل ما‬
‫يوصل إليها ‪ ،‬فإن كانت نقطة ضعفه النساء سعى في شغل فراعه وتجنّب أماكن الختلط‬
‫والتبرج ‪ ،‬وإن كانت انهياره في الخلوة في مواجهة الذنوب ؛ حرص على الذوبان في مجتمع‬
‫الصالحين وعدم التفرد ما استطاع إلى أن تقوى مناعته ‪ ،‬وإن كانت نقطة ضعفه شرهه في‬
‫جمع المال زار من هو أفقر منه وعاد أصحاب المراض المستعصية حتى يعتبر ‪ ،‬وبهذا يغلق‬
‫الباب أمام تفاقم المرض ‪ ،‬بل يشفى منه بمرور الوقت بإذن ال‪.‬‬
‫إن معرفة نقطة الضعف هي نصف الطريق إلى الشفاء ‪ ،‬ولذا كان من جميل الدعاء ‪ " :‬اللهم‬
‫أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه " ‪ ،‬فالمشاكل العويصة تُحلّ بمعرفة الحق أول ‪ ،‬ثم بامتلك الطاقة‬
‫النفسية والقوة الروحية لتباع هذا الحق ‪ ،‬فإن عرفت نقطة ضعفك فقد قطعت شوطا طويل في‬
‫طريق العلج ‪ ،‬وكثير من الناس ل يعرف عيبه ‪ ،‬ومنهم من يعرف ويجادل عنه أو ينفيه وكأنه‬
‫تهمة ‪ ،‬وليس هذا من سمات المؤمنين في شيء ‪ ،‬فإن صاحب القلب الحي يفرح بمن أهدى‬
‫إليه عيوبه ‪ ،‬ويتخذ صاحبا يُحصي عليه ‪ ،‬و ُيِلحّ على من يخالطه في أن يرشده إلى نقائصه‪.‬‬
‫وقد يقوى المرء في جانب ويضعف في آخر ‪ ،‬وقد يعرف نقطة ضعفه وقد ل يعرفها ‪ ،‬وليس‬
‫غير التجربة خير برهان ‪ ،‬ولذلك لما اختلف الناس في أيهما أزهد عمر بن عبد العزيز أم أويس‬
‫القرني؟ قال أبو سليمان الداراني ‪ " :‬كان عمر بن عبد العزيز أزهد من أويس القرني ‪ ،‬لن‬
‫عمر ملك الدنيا بحذافيرها و َزهَد فيها ‪ ،‬ول ندري حال أويس لو ملك ما ملكه عمر كيف يكون؟‬
‫ليس من جرّب كمن لم يُجرّب " ‪.‬‬
‫يوم العرض على القلب‬
‫إلى أهمية معرفة نقطة الضعف حين قال ‪ε :‬وقد سبق وأن أرشدك نبيك‬
‫شرِبَهَا نكت فيه نكتة‬
‫« تُعرَض الفتن على القلوب عرض الحصير عودا عودا ‪ ،‬فأي قلب ُأ ْ‬
‫سوداء ‪ ،‬وأي قلب أنكرها ُنكِت فيه نكتة بيضاء ؛ حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا ل تضره‬
‫فتنة ما دامت السموات والرض ‪ ،‬والخر أسود ُمرْبَادّا كالكوز مُجَخّيا ل يعرف معروفا ول ينكر‬
‫منكرا إل ما ُأشْرِبَ من هواه » ‪.‬‬
‫والتيان بالفعل « تُعرض » بصيغة المضارع دللة على أن العرض مستمر طيلة الحياة ل ينتهي‬
‫حتى تنتهي أنت إلى قبرك ‪ ،‬لكن الفتن تختلف ؛ ففتنة الشباب غير فتنة الشيوخ ‪ ،‬لن شهوة‬
‫النساء مثل في قلوب الشباب أقوى ‪ ،‬وطول المل والحرص في قلوب الشيوخ أبقى ‪ ،‬فلكل عمر‬
‫فتْ َنتُه ‪ ،‬وقد يصمد الرجل أمام فتنة سنين ؛ فإذا كان آخر عمره هوى فيها ‪ ،‬بل ولكل جنس‬
‫أيضا فتْنَتُه ‪ ،‬ففتن الرجال غير فتن النساء ‪ ،‬بل لكل زمن فتن ‪ ،‬والشيطان في كل الحوال‬
‫ملحاح ل يدع المحاولة مع أي أحد وفي أي عمر كان‪.‬‬
‫ومعنى « عُودا عُودا » أى تُعاد وتكرّر مرة بعد مرة ‪ ،‬لذا أوردها النووي في رواية بلفظ «‬
‫عَوْدا عَوْدا » ‪ ،‬ومعنى عرض الحصير أي كما يُنسج الحصير عودا عودا ‪ ،‬وذلك أن ناسج‬
‫الحصير عند العرب كلما صنع عودا أخذ آخر ونسجه ‪ ،‬فشبّه عرض الفتن على القلوب واحدة‬
‫بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحدا بعد واحد ‪ ،‬فمن القلوب من يُشرَب هذه‬
‫الفتنة ‪ ،‬ومعنى أُشربها أي استسلم لها حتى دخلت فيه دخول تاما وحلت منه محل الشراب ‪،‬‬
‫شرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْ ِعجْل ﴾ [ البقره ‪ ] 93 :‬أي حب العجل‪.‬‬
‫ومنه قوله تعالى ﴿ َوُأ ْ‬
‫يا تائها عن معرفة نقطة ضعفه ‪ :‬أما عرفت قصتك؟! أما دريت خبرك؟! أنت الذي كانت له‬
‫الفتنة لقلبه كحصان طروادة ‪ ،‬استخدمها الشيطان ليتسلل بها إلى قلعته ‪ ،‬ويجتاز كافة حراسات‬
‫القلب وجنوده ؛ حتى إذا دخل وتمكن استمر الزحف ‪ ،‬فانهارت المناعة واستسلمت القلعة!!‬
‫وأمام هذا السيل المنهمر الذي تتابع على القلب يسودّ القلب ‪ ،‬ويظل يهوي وينتكس ويذوي‬
‫ويرتكس حتى يصبح كالكوز ُمجَخّيا أي مقلوبا ‪ ،‬وهل يبقى في الكوب المقلوب شيء؟ وكذلك‬
‫هو ل يبقى ول يثبت فيه أي خير ‪ ،‬ومعنى آخر لقوله « منكوسا » أي تنقلب عنده حقائق‬
‫المور ‪ ،‬فيرى الباطل حقا والحق باطل ‪ ،‬والهلك نجاة والنجاة هلكا ‪ ،‬والحامض حلوا والسكر‬
‫ملحا ‪ ،‬وهذه عاقبة كل من استسلم لضعفه وركع لهواه‪.‬‬
‫ومن يك ذا فمٍ ُم ّر مريضٍ ‪ ...‬يجد ُمرّا به الماءَ الزلل‬
‫وتأمّل قوله ‪ « :‬مُربادّا » أي يحمل بقايا بياض فى عموم سواد ‪ ،‬وهذا دللة على أنه ما كان‬
‫أسود يوم خلقه ال ‪ ،‬بل كان أبيض ناصع بياض الفطرة ليحمل الخير ويدوم عليه ؛ لكنه اختار‬
‫بإرادته الذي هو أدنى ‪ ،‬وقدّم الخبيث على الطيب ‪ ،‬وطرد خيره مؤثرا شرّه ‪ ،‬وأحيا فجوره‬
‫وأمات ِبرّه ‪ ،‬فلم يبق من البياض والفطرة واليمان إل بقع من البياض الغارقة في لجة الخطيئة‬
‫وطوفان السواد‪.‬‬
‫والحديث في مجمله يبث الرعب فينا ليدفعنا بقوة إلى ضرورة مراجعة النفس لكتشاف نقطة‬
‫الضعف التي يتسلل منها الشيطان ليحوّل صاحب القلب الحي في النهاية إلى صاحب قلب‬
‫منكوس ‪ ،‬وما ذاك إل من تهاونه في معرفة عيب نفسه في البدء ‪ ،‬وعدم سدّ هذا المنفذ على‬
‫الشيطان بسد فولذي اليمان وسعيه الحثيث في العلج ‪ ،‬نعم نقطة ضعف واحدة ليس غير‬
‫كفيلة أن تؤدي إلى انتكاسة قلبك وانقلب روحك ‪ ،‬وأنت السبب إذ لم تسمع وصية الحبيب ‪ ،‬أو‬
‫سمعتها ورميتها وراء ظهرك ‪ ،‬ثم تبكي!!‬
‫وما مثلك بنقطة ضعفك مع شيطانك إل كحامل قطعة لحم وحوله كلب جائع ‪ ،‬فل يزال الكلب‬
‫ملزما لك حتى ترمي عنك قطعة اللحم ‪ ،‬فإن رميتها ثم زجرته انصرف عنك ‪ ،‬وإل ظل يحوم‬
‫حولك يطمع في لحظة غفلة أو سِنة نوم ليهجم!!‬
‫وفي المقابل ينتصب القلب الحي صخرة شامخة تتكسر عليها أمواج الفتن ‪ ،‬وهذا سر تشبيهه‬
‫بالصفا‪ .‬قال القاضي عياض رحمه ال ‪ " :‬ليس تشبيهه بالصفا بيانا لبياضه ‪ ،‬لكن صفة أخرى‬
‫لشدته على عقد اليمان وسلمته من الخلل ‪ ،‬وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا ‪،‬‬
‫وهو الحجر الملس الذى ل يعلق به شيء " ‪.‬‬
‫ومن هذه القلوب الحية قلب علم الولياء عبد القادر الجيلني [ت‪ ]561:‬الذي محى نقطة ضعفه‬
‫قبل أن تظهر ‪ ،‬وأزالها من أرض قلبه حتى قبل أن تبرز ‪ ،‬وانظروا إليه وإلى شدة عزمة وقوة‬
‫بأسه وهو يقول ‪ " :‬إذا وُلِد لي ولد أخذته على يدي ‪ ،‬فأُخرِجه من قلبي ‪ ،‬فإذا مات لم يؤثّر‬
‫عندي موته شيئا!! " ‪.‬‬

You might also like