Professional Documents
Culture Documents
إذا دل الحرف على معنى في غيره يسمى حرف المعنى ،وهو ما أطلقه
النحويون على هذه الحروف ،ولها صلة وطيدة بفهم المعاني واستنباط
الحكام من نصوص القرآن الكريم ،بطريق التجتهاد أو التأويل ،لن كثيرا ً من
القضايا الدللية والمسائل الفقهية يتوقف فهمها على فهم الدللة التي
يؤديها الحرف في النص ،وسميت حروف معان لهذا الغرض ،لنها تصل معاني
الفعال إلى السماء ،أو لدللتها على معنى ،وقد اختلف النحاة وعلماء
الصول وعلماء الكلم في وظائف هذه الحروف كقواعد نحوية ودلل ت لغوية
على الحكام الفقهية والعقائدية" ،وهي تعامل معاملة اللفظ في الجملة من
حيث الدللة فمنها ما يكون مستعمل ً في الحقيقة ومنها ما يكون مستعمل ً
في المجاز وغيره" ).(2
والصل في معرفة دللة هذه الحروف ،هو التأمل في الكلم والصل من
الكتاب والسنة والرتجوع إلى الصول ،وذكر السيوطي هذه الحروف تحت
عنوان" :الدوا ت التي يحتاج إليها المفسر" فقال" :وأعني أن معرفة ذلك من
المهما ت المطلوبة لختلف مواقعها ولهذا يختلف الكلم والستنباط
بحسبها" ).(3
قد تؤدي دللة الحرف في النص إلى الختلف في الحكم ،من ذلك قوله تعالى:
ْ ة أُ ْ ُ
ر) ) ،(7وهومن ْك َ ِ
ن ال ُع ِ
ن َو َ
ه ْ
وت َن ْ َ
ف َ
عُرو ِ
م ْ
ن ِبال َ
مُرو َ
س ،ت َأ ُ
ت ِللّنا ِ
تج ْ
ر َخ ِ م ٍ
خي َْر أ ّم َك ُن ْت ُ ْ
ما من مكلف إل ويجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ،حيث يجب
ن
م َ
س ِ
تج َ
تجت َن ُِبوا الّر ْ
فا ْعليه أن يدفع الضرر عن النفس ،ومن هذا قوله تعالىَ ) :
َ
ن) ).(8 وَثا ِال ْ
وكقولهم :إن لفلن من أولده تجندا ً وللمير عسكرًا ،يريد بذلك تجميع أولده
وغلمانه ل بعضهم ،وهناك من يرى دللتها على المعنيين ،فإن المر
بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان واتجبا ً على الكل ،إل أنه متى قام به
قوم سقط التكليف على الباقين" ).(9
وقال الزمخشري بدللتها على التبعيض واعتمد على الحجج التالية" :إن في
المة من ل يقدر على الدعوة ول على المر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل
النساء والمرضى والعاتجزين" ).(10
"إن هذا التكليف خاص بالعلماء بدللة القرائن التي اشتمل عليها النص وهي:
المر بثلثة :الدعوة إلى الخير والمر بالمعروف والنهي عن المنكر .ومعلوم
أن هذه الشياء مشروطة بالعلم والحكمة والسياسة ،ول شك أن هؤلء العلماء
هم بعض المة وهناك من أضاف التقوى والقدوة الحسنة ،وأن هذه مهمة
عظ َ ِ
ة و ِ
م ْ
وال َ
ة َ حك ْ َ
م ِ ل َرب ّ َ
ك ِبال ِ ع إ َِلى َ
سِبي ِ النبياء قبل العلماء ،لقوله تعالى ) :ا ُدْ ُ
ة) ).(11
سن َ ِ ال ْ َ
ح َ
ن ك َل ّ َ
م م ْ م َ ه ْمن ْ ُوذكر ابن هشام ) (12معانيها ومنها التبعيض نحو قوله تعالىِ ) :
الله) ) ،(13وعلمتها إمكان سد "بعض" مسدها كقراءة عبد الله بن مسعود
ن) )" ،(14وهذا يعني أنه اختلف في دللتها وهي حّبو َ
ما ت ُ ِ
ض َ ع َ قوا ب َ ْ ف ُحّتى ت ُن ْ ِ ) َ
تعامل معاملة اللفظ ودللتها متأثرة بالسياق الذي ترد فيه ،إل أن التحكم في
السياق ليس بالمر الهين ،وهذا هو السر فيما وقع من خلفا ت بين العلماء
د
ع َو َ في دللة هذه الحروف" .حتى إن بعض الزنادقة تمسك بقوله تعالىَ ) :
ة) ) ،(15في الطعن على بعض فَر ً غ ِ م ْ
م َ ه ْ من ْ ُحا ت ِ مُلوا ال ّ
صال ِ َ ع ِ
و َ مُنوا َ نآ َ ذي ْ َ الله ال ِ
الصحابة باعتبار أن "من" هنا للتبعيض ،وهي في الحق للتبيين أي الذين آمنوا
ماد َ ع ِن بَ ْم ْ ل ِ سو ِوالّر ُ ه َجاُبوا ل ِل ّ ِ ست َ َ نا ْ ذي ْ َ هم هؤلء .ومثل هذا قوله تعالى) :ال ِ
عظِْيم) ) ،(16وكلهم متق تجٌر َ قوا أ َ َ ت وا َ م ال َ َ
ْ ّ م َ ه ْمن ْ ُ
سُنوا ِ ح َنأ ْ ذي َ حِ ،لل ِ قْر ُ ه ُصاب َ ُأ َ
فُروا ن كَ َ ذي َ ن ال ِ مس ّ ن لي َ َقوُلو َ ما ي َ ُ ع ّ هوا َ م ي َن ْت َ ُ ن لَ ْوإ ِ ْومحسن ،ومنه قوله تعالىَ ) :
م) ) (17فالمقول عنهم ذلك كلهم كفار" ).(18 َ ع َ
ب أِلي ٌ ذا ٌ م َ ه ْمن ْ ُ
ِ
فتكون فائدة ذكر الغاية علي إسقاط ما وراء المرفق من حكم الغسل ،فإلى
المرافق غاية للترك ل للغسل ،وإذا احتملت الحروف إحدى الدللتين ،بما يأتي
به من أدلة ،فقد تحتاج هي الخرى إلى أدلة وبراهين ،وهكذا إلى ما ل غاية له،
ويضاف إلى ذلك أيضا ً ظاهرة البدال في هذه المورفيما ت ،وكمثال على قوله
م) ) ،(21زعم بعضهم أن الباء هنا للتبعيض ،تقول سك ُ ْ حوا ب ُِر ُ
ؤو ِ س ُ
م َ
وا ْ
تعالىَ ) :
العرب مسحت رأسي ومسحت برأسي ،فلم يبق فرق إل التبعيض ،ليس كذلك
بل يقول) :مسح( له مفعولن يتعدى لحدهما بنفسه والخر بالباء ،ولم تخير
العرب بين المفعولين في هذه الباء ،بل عينتها لما هو آلة للمسح ،فإذا قلت:
مسحت يدي بالحائط فالرطوبة الممسوحة على يدك ،وإذا قلت مسحت
الحائط بيدي فالشيء المزال هو على الحائط ويدك هي اللة المزيلة" ).(22
والقاعدة الصارفة لما ذهب إليه المام القرافي آنفًا ،هي أن الشارع الحكيم
أمرنا أن ننقل رطوبة اليدي للرأس وأعضاء الوضوء ولم يوتجب علينا إزالة
شيء عن رؤوسنا وأعضائنا ،وعلى ذلك يكون الرأس آلة تزيل الرطوبة عن
اليد ل العكس وعليه تكون للتعدية ،لنها ل تكون للتبعيض إل حيث يتعدى
الفعل بنفسه ،وقدر بعضهم دللة المورفيم )ب( على التبعيض ومنهم ابن
العربي القاضي حيث قال" :إذا قلت حلقت رأسي ،اقتضى في الطلق
العرفي الجميع ،وإذا قلت مسحت الجدار أو رأس اليتيم اقتضى البعض ،لن
الجدار ل يمكن تعميمه بالمسح حسًا ،ول غرض في استيعابه قصدًا ،ورأس
اليتيم لتجله الرأفة ،فيجزي منه أقله بحصول الغرض به ،ونقول :مسحت
الدابة فل يجزي إل تجميعها لتجل مقصد النظافة فيها ،وكذلك الرأس كله
فتؤكده ،ولو كان يقتضي البعض لما تأكد بالكل ،فإن التأكد لرفع الحتمال
المتطرق إلى الظاهر في إطلق اللفظ" ).(23
ونفهم مما سبق أن هذه المورفيما ت ل تدل إل مع القرينة ،فليس لها تجهة من
تجها ت المعنى ل مجازا ً ول حقيقة ،وينطبق هذا مع اللفظ أيضا ً فضل ً عنها.
وقالوا" :إن الباء هنا للسببية ،وهي عندهم الداخلة على صالح للستفادة به
رْزقا ً
ت ِ ن الث ّ َ
مَرا ِ م َ
ه ِ
ج بِ ِ فأ َ ْ
خَر َ عن فاعل معداها مجازا ً ) (28نحو قوله تعالىَ ) :
م) ) (29فلو قصد إسناد الخراج إلى الهاء لحسن ،ولكنه مجاز ،قال :ومنه: ل َك ُ ْ
كتبت بالقلم وقطعت بالسكين .ومن هنا دل المورفيم على المجاز،
والنحويون يعبرون عن هذه الباء بالستعانة ولكنهم آثروا على ذلك التعبير
بالسببية من أتجل الفعال المنسوبة إلى الله تعالى ،لن استعمال مصطلح
السببية يجوز ،أما استعمال مصطلح الستعانة فل يجوز على الله ،وتعدد
المصطلحا ت للمورفيم الواحد هو إتيانه في القرآن الكريم بهذه الدلل ت التي
يحددها السياق الذي يقلب الحرف بحرف آخر حسب اختلف دللة السياق إذا
تعدد ت المعاني للحرف الواحد ،فمن أخذ دللة هذه الحروف على ظاهرها،
قال :نصف الله بما وصف به نفسه ،وهو عندي هروب من التأويل ،ومن أول
أعطاها دللة أخرى حسب الستعمال وهو القرب والصوب.
وقال الزمخشري في تفسيره لهذه الية" :قلت :المعنى أنه تجعل الماء سببا ً
في خروج الثمرا ت ومادة لها كماء الفحل في خلق الولد ،وهو قادر على أن
ح َ
كم ودواع... ينشئ التجناس كلها بل أسباب ول مواد ...ولكن لـه في ذلك ِ
سكون إلى عظيم قدرته وغرائب حكمته").(30 وعبر وأفكار صالحة ...و ُ
ن" في قوله تعالى ...":من الثمرا ت" واعتبر م ْ وقد تعرض الزمخشري لدللة " ِ
دللتها على التبعيض ،ومن القرائن المنفصلة عن النص ،والتي تصرف دللتها
ت) ) (31وقوله تعالى: مَرا ِ ن كُ ّ
ل الث ّ َ م ْ
ها ِفي ْ َ ه ِإلى التبعيض قوله تعالى) :ل َ ُ
ت) ) ،(32ولذا قيل إن اللفظ قد يحدث له مع التركيب حكم ه ثَ َ
مَرا ٍ تجَنا ب ِ ِ فأ َ ْ
خَر ْ ) َ
لم يكن قبل ذلك ،وهذا الحكم الدللي ،تتحكم فيه القرائن الشرعية والعقلية،
ل ،ل يسعفنا و ً َ
والدليل على ذلك أن اعتبار اللفظ أو الحرف على ما وضع له أ ّ
في كثير من النصوص ،فل بد والحال هذه أن نلجأ إلى ما يسمى عند المحدثين
بالستبدال الدللي ،وأطلق النحاة القدامى عليه المجاوزة ،ولعلهم يعنون بها
َ
ع) )(33 تجو ٍن ُ م ْ م ِ
ه ْ م ُ ع َ ن" بمعنى "عن" كقوله تعالى) :أطْ َ م ْالمجاز ،فتكو ن " ِ
ن م م ه
ُ ُ ْ ِ ْ ب ُ
لو ُ
ق ة ي
ِ َ ِ س َ
قا ْ لِ ل ٌ
ل ي
َ ْو َ
ف ) تعالى: وقوله منه، يطعم ل والجوع أي عن تجوع
ه) ) ،(34أي عن ذكر الله ،ولذا قرئ :عن ذكر الله ،وهذا دليل على أن ر الل ِِذك ْ ِ
القراءا ت في غالبها ،وهذا في الدللة طبعًا ،لم تخرج عن الدللة النحوية ،قال
ن" في هذا.؟ قلت :إذا قلت :قسا قلبه ع ْ
و" َن" َ م ْ الزمخشري" :ما الفرق بين " ِ
من ذكر الله فالمعنى ما ذكر ت من أن القسوة من أتجل الذكر وبسببه ،وإذا
قلت عن ذكر الله ،فالمعنى غلظ عن قبول الذكر وتجفا عنه ،ونظيره :سقاه
من العيمة أي من أتجل عطشه ،وسقاه عن العيمة ،إذا أرواه حتى أبعده عن
العطش" ).(35
ن" التيم ْ
ولو لم نلجأ إلى قاعدة البدال لما استقام المعنى مع المورفيم " ِ
تعني أن ذكر الله سبب إلى قساوة القلوب ،مع أننا نعلم أن ذكر الله سبب
لحصول النور والهداية والطمئنان ،أل بذكر الله تطمئن القلوب.؟! فمنهم من
أتجاب عن الشكال الدللي باللجوء إلى ظاهرة التبدل الدللي ،ومنهم من ترك
ل تأويل ً يتناسب مع الحرف المستعمل "من" فقد قال و َ
النص على ظاهره ،وأ ّ
الرازي" :إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر بعيدة عن مناسبة الروحانيا ت
شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية والخلق الدميمة ،فإن سماعها لذكر الله
يزيدها قسوة ...والدليل على ذلك ،أن الفاعل الواحد قد تختلف أفعاله بحسب
اختلف القوابل ،فحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح ،وقد نرى إنسانا ً
واحدا ً يذكر كلما ً واحدا ً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره،
وما ذاك إل لختلف تجواهر النفوس"....
" ...فإذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون ذكر الله يوتجب النور والهداية
والطمئنان في النفوس الطاهرة ،ويوتجب القوة والبعد عن الحق في
النفوس الخبيثة الشيطانية" ) ،(36وهناك من لجأ إلى قياس الية على كلم
العرب من قولهم ،حدثته من فلن ،أي عن فلن ،ومّثل له ابن مالك بنحو:
"عد ت منه وأتيت منه ،وبرئت منه ،وشبعت منه ،ورويت منه" ).(37
ولكن الرازي حاول تفسير دللة الحرف بحيث وتجد لها تخريجا ً ناسب ظاهر
ن" ،وهذا في اعتقاديع ْ
ب" َن" ِم ْ
النص على ما هو عليه ،أي بدون استبدال " ِ
حسن ،وبذلك تجنب نفسه التحريف ،وهو يحافظ بذلك على ظاهر النص ول
يتصرف فيه ،ولكن حتى الذين تصرفوا قالوا بأن "من" بمعنى "عن" إن
خرتجوا في الظاهر عن ظاهر النص ،إل أنهم لم يخرتجوا عن شائع عبارا ت
العرب ،إذ ل سبيل إلى فهم كتاب الله فهما صحيحا ً ومعرفة مقاصده معرفة
سليمة ،إل بالعودة إلى سننهم في كلمهم ،وهي التي استقى منها القرآن
ألفاظه ،لن هناك من الكلم ما ل ينجلي إل بالسماع ،وعليه فإن استبدال
بعض الحروف ببعض أيضا ً من كلمهم ،والتأويل على هذا الساس صحيح هو
الخر.
وإذا سألنا لماذا استعمل القرآن الكريم الحرف بدل الخر ،كان الجواب ،هكذا
تكلمت العرب أو هكذا أراد الله أو هما معًا ،إذ القرآن كلم الله على عادة
العرب وعرفهم ،وعليه فإن السؤال بالصيغة العقلية لماذا قال كذا ولم يقل
هكذا.؟ لم يعد ذا معنى ،ول يعني هذا أن التأويل يتميز بالعبثية وعدم النضباط،
بل إن التأويل له قوانين تحكمه ،وقد سماها أبو حامد الغزالي" :شروط
التأويل" وعلى رأسها معرفة اللغة العربية والنحو على وتجه ما تعارف العرب
عليه ،وطرقهم في التمييز بين صريح الكلم وظاهره ،ومجمله وحقيقته
ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ويكتفى من ذلك ومجازه وعامه وخاصه َ
كله بالقدر الذي يتسنى معه الحاطة بعناصر النص الديني.(38) "...
وهذه التأويل ت احتمال ت ،وهي تخضع كلها إلى قواعد كلم العرب ،ففي قوله
َ
م) ).(39
ب أِلي ٍ ع َ
ذا ٍ ن َ
م ْ جْر ُ
كم ِ ن ذُُنوب ِك ُ ْ
م وي ُ ِ م ْ فْر ل َك ُ ْ
م ِ غ ِ
تعالى) :ي َ ْ
وقال ابن هشام النصاري "إن من" ههنا زائدة والتقدير" :يغفر لكم ذنوبكم
وقيل بل الفائدة فيه أن كلمة "من" ههنا لبتداء الغاية ،فكأن المعنى أنه يقع
ابتداء الغفران بالذنوب" ) ،(40وقال الزمخشري" :إنما بعض المغفرة لن من
الذنوب ما ل يغفره اليمان كذنوب المظالم ونحوها" ).(41
وما أطلقه ليس بصحيح ،وهو قوله :إن اليمان ل يغفر المظالم .لن الكافر
ب السلم عنه إثم ما تقدم بل إشكال.إذا أسلم وحسن إسلمه يج ّ
وتعتبر ظاهرة البدال التي رأيناها في القرآن الكريم ظاهرة مخالفة لمعيارية
اللغة ،لن هذه المعايير حدد ت على أساس نصوص مختارة من الشعر والنثر،
وهذا يعني من الوتجهة النظرية أنه ل بد من وتجود فروق بين النظام اللغوي
"المعيار" وظواهر الستعمال اللغوي ،فإذا كان المجاز هو كسر العلقة
العرفية بين اللفظ والمعنى الذي وضع له في الصل" ،فإن ظاهرة إبدال
الحروف كسر هو الخر للعلقة التي بين الحرف والمعنى الذي وضع له في
أصل كلمهم ،إل أن النحاة القدامى أطلقوا على هذه الظاهرة مصطلح
"التساع" وهو من سنن كلمهم ،وبالتالي ل يخرج عن معيارية اللغة،
والتساع ينتج عن تبادل الوظائف النحوية ،ويعد ذلك عندهم من الرخص
الكلمية ،مقابلة للرخصة عند الفقهاء ،وقد أعطاه النحاة مصطلح التضمين
وهو ما يقابل مصطلح "التساع" عند البلغيين" ).(42
فحروف الجر التي يحل بعضها محل بعض قد تغير دللة التركيب ،وقد يبقى
المعنى على ما هو عليه في الصل ،والحكم تحدده مقتضيا ت السياق وقد
أطلق المحدثون عليها" :تبادل الوظائف الدللية" وهذه ظاهرة عامة في
الستخدام العربي وهو نوع من أنواع إبداع اللغة وواحدة من صورها ،وهي
أيضا ً من الوظائف النحوية الناشئة عن اتساع في استخدام الوحدا ت اللغوية
لتؤدي المعاني المختلفة سواء في البلغة أو في النحو أو في اللغة" ).(43
إن لعلماء الكلم وأهل التأويل ،موقفا ً خاصا ً وهم يتعاملون مع هذه الظاهرة
اللغوية ،وخاصة في القرآن الكريم ،لن القتصار عليها عندهم قد يؤدي إلى
الغلط فالتأويل ل بد منه ،وهو مطلب ضروري في النظر إلى معاني القرآن
الكريم ،وهذا بعد تحكيم العقل والسماع ،لن العملية التأويلية تتطلب هذه
الشروط بالضافة إلى تحكيم الرأي والعقل الذي ل يتعارض مع السماع ،وذلك
بهدف البحث عن النواحي الداخلية أو الباطنية للنص ذاته ،لتصل في النهاية
إلى تحقيق الرتباط بين المنقول والمعقول والمشروع معًا ،لن النص إذا أدى
آخذه على الظاهر إلى المحال أو الستحالة العقلية أو الشرعية ،يجب حينئذ
إزالة هذا المحال ومعالجته بالتأويل بحثا ً عن دللة داخلية سعيا ً إلى الوصول
ما أمكن إلى حقائق المعاني المتوخاه من النص ،وهذا ما حاول علماء الكلم
أن يحققوه خلل ما بذلوه من تجهود في تأويل نصوص القرآن على خلف
بينهم طبعًا ،وهذا الخلف ناتج عن الختلف في اعتماد القرائن الموتجهة.
وقد يذهب المتأمل في النص القرآني وفي ذهنه عقيدة يريد أن يثبتها ول
يريد أن يتجافى عنها ،وإذا عارضه ظاهر النص اضطر إلى التأويل،
م ُ في السما ِ َ ََ
ف ب ِك ْ
س َ
خ ِ
ن يَ ْ
ءأ ْ ّ َ ن ِ
م ْ
م َ
من ْت ُ ْ
فالزمخشري وهو يفسر قوله تعالى) :أأ ِ
موُر) ).(44قال" :من السماء" فيه وتجهان أحدهما :من ض َ
فإ ِ َ َ
ي تَ ُ
ه َ
ذا ِ الْر َ
ملكوته
في السماء لنها مسكن ملئكته ثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ،ومنها
تنزل قضاياه وكتبه وأوامره" ).(45
الثاني :أنهم كانوا يعتقدون التشبيه وأنه في السماء وأن الرحمة والعذاب
ينزلن منه ،وكانوا يدعونه من تجهتها فقيل لهم على حسب اعتقادهم،
"أأمنتم" من تزعمون أنه في السماء وهو متعال عن المكان أن يعذبكم
بخسف أو حاصب" ).(46
فخالف الزمخشري في تأويل ظاهر الية لكي ينزه الله عن الجهة والمكان
وفي الحقيقة أن هذا التأويل يتفق فيه بعض المفسرين فقد قال الرازي..." :
كانت العرب مقرين بوتجود الله لكنهم كانوا يعتقدون أنه في السماء على
وفق قول المشبهة ،فكأنه تعالى قال لهم" :أتعلمون من قد أقررتم بأنه في
السماء واعترفتم له بالقدرة ما يشاء أن يخسف بكم الرض ،أو تقدير الية من
في السماء سلطانه وملكه والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله
وتعظيم قدرته ،كما قال" :وهو الله في السماوا ت وفي الرض" ،أي نفاذ
أمره وقدرته وتجريان مشيئته في السماوا ت وفي الرض أو يكون المراد "من
السماء" هو الملك الموكل بالعذاب وهو تجبريل عليه السلم ،والمعنى أن
يخسف بهم الرض بأمر الله وإذنه" ).(47
ومن الدلة التي يعتمد عليها لرد هذا التأويل الذي ذهب إليه الرازي ،أنه قال:
"من في السماء" وهي للعاقل ،وحملها على الملك أو العذاب هو إخراج للفظ
عن ظاهره بل قرينة تستدعي ذلك ،بل إن هناك مجموعة من القرائن تدل
م الطّي ّ ُ
ب(48) )... د الك َل ِ ُ
ع ُ
ص َ على إثبا ت العلو لله تعالى منها قوله تعالى) :إ ِل َي ْ ِ
ه يَ ْ
فهو صريح أيضا ً في صعود أقوال العباد وأعمالهم إليه يصعد بها الملئكة.
وأخبر موسى فرعون الطاغية بأن إلهه في السماء ،فأراد فرعون أن يلتمس
السباب للوصول إليه تمويها ً بها على قومه ،فأمر وزيره هامان أن يبني له
الصرح ثم عقب على ذلك بقوله" :وإني لظنه كاذبا" ) (49أي موسى كاذبا ً
فيما أخبر به من كون إلهه في السماء" ،وعليه فيكون من أنكر أن يكون الله
في السماء كينونة هو أعلم بها ،شبه فرعون في تكذيبه لموسى في كون إلهه
في السماء ،وعليه تكون الدللة في الية المركزية أن "في" بمعنى "على"
حتى ل يجوز أن يفهم أن السماء ظرف له سبحانه وتعالى ،فيكون سبحانه في
أعلى علو ،وهذا أيضا ً تأويل للذين يعارضون التأويل" ) (50قوله تعالى
ي" ) (51وقولهك إ ِل َ ّ
ع َ
ف ُ
وَرا ِ في ّ َ
ك َ و ِ
مت َ َ
سى إّني ُعي َ
لعيسى عليه السلمَ" :يا ِ
ه)).(52ه إ ِل َي ْ ِ
ه الل ُ
ع ُ ل َر َ
ف َ تعالى) :ب َ ْ
فظاهر هذه اليا ت يدل على علوه تعالى ،وارتفاعه فوق العرش ،وهي ترد
على المعطلين ،ففي "إلي" الضمير يعود على الرب سبحانه وتعالى ،إل أن
هذه القرينة قد أولت هي الخرى والمراد بها :رافعك إلى رحمتي أو إلى حيث
ملئكتي ،وهناك من قال" :إذا قال" إن الله تعالى في السماء ،يريد بذلك أنه
فوقها من طريق الصفة ل من طريق الجهة ) (53ومن ذلك ما روي في الخبر،
أن تجارية عرضت على رسول الله –صلى الله عليه وسلم –ممن أريد عتقها في
الكفارة ،فقال لها عليه الصلة والسلم" :أين الله.؟ فأشار ت إلى السماء،
فقال عليه السلم :اعتقها فإنها مؤمنة" ). (54
ويفهم من هذا ،تجوز الشارة إلى العلو والرد على من نفاها وتأول ،وفيه
أيضا ً تجواز الستفهام عن الله "بأين" التي تقتضي دللتها تحديد الجهة في
اللغة ،إل أن دللة بعض اللفاظ في القرآن الكريم تنقل من المواضعة اللغوية
إلى الصطلح الشرعي أو العقدي عن طريق التأويل ،ويعتمد في النقل
الدللي للفظ على آليا ت تحويلية في النصوص ذاتها ،وهي قائمة على علم
البحث اللغوي ونظام الدللة اللفظية من مجالها العرفي إلى مجالها
الستدللي العقلي ،أي أنها تحولت إلى نظام من العلما ت غير اللغوية،
فتحولت إلى علما ت ودلل ت معقولة ،فكلمة "أين الله" مع استحالة كونه في
مكان ،فاستحالة المكان بالنسبة للفظ "أين" في حق الله يعتبر نقل ً من
المواضعة إلى الستدلل العقلي العقائدي وفي كلم العرب مما يقابلها أيضا ً
أنهم استعملوها عن مكان مسؤول عنه في غير هذا المعنى الصلي توسعا ً
وتشبيها ً لها بما وضع لها ،فيقولون :أين فلن من فلن.؟ وليس يريدون الرتبة
والمنزلة ،وكذلك يقولون :لفلن عند فلن مكانة ومنزلة ،ويريدون من ذلك
المرتبة في التقريب والكرام ،ويقولون :فلن في السماء أي هو عظيم
الشأن رفيع المقدار.
وتكون دللة "أين" بهذا العتبار على المجاز ،وقال المام أبو يحيى زكريا
النصاري ،في هذه الية" :من في السماء"" :إن قلت كيف" من في السماء"
مع أنه تعالى ليس فيها ول في غيرها بل هو تعالى وتنزه عن كل مكان.؟!
قلت :المعنى بملكوته في السماء ،التي هي مسكن ملئكته ،ومحل عرشه
وكرسيه واللوح المحفوظ ومنه تنزل أقضيته وكتبه" )(55
وقال الصابوني معلقًا" :لله تعالى تجهة العلو المطلق ،فهو تعالى فوق عرشه
وعرشه قد أحاط بالسماوا ت والرض ،وإذا كان الكرسي وهو أصغر من
العرش ،قد أحاط بالكون وبالسماء والرض "وسع كرسيه السماوا ت والرض"
فكيف بالعرش.؟! فنجنح في مثل هذا إلى التفويض والتسليم ،كما هو مذهب
السلف "لن تحديد الجهة من صفا ت التجسام وهي مستحيلة عليه تعالى ،لنه
لو كان في مكان للزم أن يكون المكان أقوى منه ،لنه حامل له واللزم باطل،
وعليه فإن دللة "في" إما على المجاز وهو تأويل وإما اللجوء إلى التسليم
والتفويض ،إل أن المجاز تعطيل لدللة اللغة وخاصة إذا كان بدون قرينة تدل
على ذلك ،وعليه ،فإننا نثبت له ما أثبته لنفسه تعالى دون تمثيل أو تكييف،
وعليه ل ننكر قول من قال :إن الله في السماء لن اللفظ تجاء به الكتاب" )
.(56
فقد وصف نفسه سبحانه وتعالى ،بأنه فوق كل شيء ل على معنى المسافة
والمساحة ،وذلك أن كل ما كان فوق شيء على معنى المساحة والتمكن فيه
والعلو عليه ،كان دونه شيء وهو ما عليه من المكان ،فقد قال –صلى الله
عليه وسلم " :-أنت الول فليس قبلك شيء ،وأنت الخر فليس بعدك شيء"،
وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ،وأنت الباطن فليس دونك شيء(57) "...
وهذا الخبر يثبت تنزيهه تعالى عن المكان والزمان ،ويفهم منه عدم إحاطة
العقول بذاته الشريفة ،لنه يستحيل في حقه ،وعليه يكون مذهب التفويض
والتسليم اسلم والله أعلم.
ومن الظواهر اللغوية التي لها أثرها في التأويل ما يسمى "بحروف النسق"
وأم هذا الباب "الواو" لكثرة مجالها فيه ،وهي مشتركة في العراب والحكم
ونعالجها كعلمة دللية من خلل السياق الذي ترد فيه ،كما أننا نريد أن نبين
أثرها في التأويل عند علماء الكلم ،وخاصة عند الشعرية والمعتزلة ،وذلك من
خلل عرض مناقشة للمدرستين معتمدين في ذلك على بعض النصوص منها
ن
م ْ ن ِ م ي َُتوُبو َ هال َ ٍ
ة ثُ ّ ج َ ء بِ َ سو َن ال ّ مُلو َ ع َ ن يَ ْ
ذي َ ه ِلل ِ عَلى الل ِ ة َ وب َ ُما الت ّ ْ قوله تعالى) :إ ِن ّ َ
َ ً ً َ َ ولئ ِ َ قريبُ َ ،
ن
ذي َ ة ِلل ِوب َ ُ
ت الت ّ ْ س ْ ولي ْ َ كيماَ . ح ِ عِليما َ ه َ ن الل ُ وكا َ م َ ه ْ
علي ْ ِ ه َ ب الل ُ ك ي َُتو ُ فأ ْ َ ِ ٍ
َ
نِ َذي ال َ لوَ َ ن ال ت ْ ُ بُ ت نيّ ِ إ َ
ل قاَ ت
َ ْ ُو م ال م ه
ُ
َ َ َ ْ د ح أ ر ضَ ح
َ ذاَ ِ إ تى ّ ح
ِ َ ت َ
ئا ي
ّ ّس ال نم ُ َ
لو ع َيَ ْ
ذابا أِليما) ) ،(58فالنص ينفي التوبة ً َ ً ع َ
م َ َ َ َ ُ مك ّ ُ
ه ْ عت َدَْنا ل ُ فاٌر أولئ ِك أ ْ ه ْو ُ ن َموُتو َ يَ ُ
عن الذين يصرون على الذنوب إلى الوقت الذي ل تقبل فيه توبتهم وهو
معاينتهم للمو ت ،وهذا يعني أن من ما ت على غير توبة مخلد في النار ،لن:
الذين يعملون السيئا ت ،معطوف على الذين يموتون وهم كفار ،وهو ما اعتمد
وفوا ل :ول يموتون وهم كفار عطف على الذين س ّ عليه الزمخشري قائ ً
توبتهم إلى حضرة المو ت وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه ل توبة لهم" )
،(59وبهذا العطف فإن مرتكب الكبيرة مخلد في النار عند الزمخشري إذا ما ت
على غير توبة.
فموضع "الذين" تجر بالعطف على قوله" :وليست التوبة للذين يعلمون
السيئا ت ول الذين يموتون وهم كفار" ) ،(60وهذا العراب يؤيد مذهب
الزمخشري.
أما الشعرية فإنهم نظروا إلى النص في إطار سياقه العام ،قال الكلبي:
"فإن كانوا كفارا ً فهم مخلدون في النار بإتجماع ،وإن كانوا مسلمين فهم في
مشيئة الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم") ،(61وقد عرض المام الرازي
إلى تفسير هذه الية في رده على الوعيد به بعد أن ذكر حجتهم فقال..." :
فعطف الذين يعلمون السيئا ت على الذين يموتون وهم كفار ،والمعطوف
مغاير للمعطوف عليه ،فثبت أن الطائفة الولى ليسوا من الكفار ،ثم إنه
مًا) ،فهذا يقتضي شمول َ تعالى قال في حق الكلُ) :أول َئ ِ َ
ذابا ً أِلي َ
ع َ
م َ عت َدَْنا ل َ ُ
ه ْ كأ ْ
هذا الوعيد للكفار والفساق ،ثم أخبر تعالى أنه ل توبة لهم عند المعاينة فلو
كان يغفر لهم مع ترك التوبة لم يكن لهذا العلم معنى" ) (62ويقتضي هذا
التأويل عند المعتزلة أن من ما ت بدون توبة يخلد في النار.
وقد رد المام الرازي ) (63هذا الفهم بما سماه بالعموميا ت ،فأشار الكلبي
إليها بقوله" :إن العذاب ثابت في حق الكفار ومنسوخ في حق العصاة من
ن ن ذَل ِ َ شَر َ
ن يُ ْ غ ِ َ ه ل َ يَ ْ
ك َ ْ
مِ ل دو َ
ما ُ
فُر َ
غ ِ
وي َ ْ
ه َك بِ ِ فُر أ ْ ن الل َ
المسلمين ،بقوله تعالى) :إ ِ ّ
ً
ء) ) ،(64فعذابهم مقيد بالمشيئة" ) ،(65ومنه أيضا المطلق والمقيد َيشا ُ
والعام والخاص وغير ذلك مما أشر ت إليه سابقًا ،وأطلقت عليه آليا ت سياق
الخطاب الديني ،وهذه القواعد أو الصول هي التي يجب أن تراعى بعين
العتبار أثناء التعرض للدللة النحوية واللتزام بها عند المتأمل لن عملية
التأويل في الكلم اللهي تقتضي ذلك.
ويتبين مما سبق موقف الشعرية وأهل السنة من التفسير العتزالي الذي
يتجه إلى النص القرآني ويتناوله من أوتجه متعددة ،والتعرض لجزئيا ت العقيدة
وكان الغرض الذي يحدوهم هو التمكين لعقيدة السلم ونصرها وتأييدا ً لهيمنة
سلطانها وهو تفسير منهجه في التجاه إلى اللغة والعتماد عليها وتتبع سير
خطاها فيما تتناوله من دلل ت.
فإذا لم تكن هناك قرينة تدل على أن المراد هو الجملة الخيرة فهو الولى،
فإنه في هذه يقع الختلف في الدللة ،ومنه يلجأ إلى التأويل ومثل
ع م
َ َ َ ن عو ُ ن ل ي َدْ ذي َ وال ِ السرخسي لما دلت القرينة على صرفه بقوله تعالىَ ) :
ن
م ْ و َ نَ ، ول ي َْزُنو َ َ ق َ ح ّ ه إ ِل ّ ِبال ْ َ م الل ُ حّر َس ال ِّتي َ ف َ ن الن ّ ْقت ُُلو َ ول َ ي َ ْ خَر َ ه إ َِلها ً آ َ الل ِ
ن م ّ ل إ ً ا هان م ه ي ف دُ ل خ وي مة يا ق ال م و ي ب َ
ذا ع ال ه َ ل ف ع ضا ي ً ا ثام َ أ ق ْ ل ي َ
ك لَ ذ ْ
ل ع يَ ْ
َ ْ ِ ْ ْ َ ُ َ ِ ْ َ َ َ ِ ُ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ َ ِ ف َ
صاِلحا) ) ،(67فإنه استثناء من الجميع" ) (68لن التوبة ً ل َ م َ ع ِ و َ ن َ م َ وآ َ ب َ َتا َ
تقبل من الجميع اتفاقًا ،وهذا المعنى مأخوذ من نصوص وأدلة أخرى كقرائن
صارفة ،وهذا فيما يتعلق بالتوبة ،أما ما دلت القرينة على رتجوعه إلى الجملة
ة
وِدي َ ٌ ة َ من َ ٍ ؤ ِ م ْ ة ُ قب َ ٍري ُْر َر َ ح ِ فت َ ْخطَأ ً َ منا ً َ ؤ ِم ْل ُ قت َ َ ن َ م ْ و َ الخيرة فقط كقوله تعالىَ ) :
َ ة إ َِلى أ َ ْ
قوا) ) ،(69فإن الستثناء في هذه الية يرتجع إلى صدّ ُ ن يَ ّ ه إ ِل ّ أ ْ هل ِ ِ سل ّ َ
م ٌ م َ ُ
الجملة الخيرة ،لن تحرير الرقبة حق الله فل يسقط بإسقاطهم ) ،(70لن
تجح أحد المعنيين ،فعندئذ القرينة شرعية ،أما إذا اختلفت الدلة ولم يوتجد ما ير ّ
يقع الخلف والتأويل.
ومن أثر الختلف في هذه القاعدة قبول شهادة المحدود بالقذف في قوله
َ ْ
م َثماِني َ
ن ه ْدو ُ تجل ِ ُ ء َ
فا ْ دا َه َش َة ُع ِ م لَ ْ
م ي َأُتوا ب ِأْرب َ َ ت ث ُ ّصَنا ِ ح َم ْ ن ال ُ
مو َ ن ي َْر ُذي َ وال ِ تعالىَ ) :
د ع ب ن م بوا تا ن ذي ال ّ ل إ ن قو ُ س فاَ ال م ه َ
ك ئَ ل و ة أ َبدا ً وأ ُ د ها شَ م ه َ ل لوا ُ ب ْ
ق ت ول َ تجل ْدَ ً
ِ ْ َ ْ ِ ُ َ ِ َ َ ِ ِ ْ ُ ِ َ َ َ ْ ً َ َ ُ ْ َ َ ة َ َ
م) ) ،(71والشكالية المطروحة في اليتين: ه َ
غ ُ حوا َ َ ذَل ِ َ
حي ٌ فوٌر َر ِ ن الل َفإ ِ ّ صل ُ وأ ْ ك َ
أنه تجاء فيها ثلث تجمل متعاطفة ثم أعقبها استثناء ،فإلى أي منها يرتجع
الستثناء.؟
حكمت الية الكريمة على القاذف بثلثة أحكام .الول :أن يجلد ثمانين تجلدة
والثاني :أن ل تقبل له شهادة أبدًا ،والثالث وصفه بالفسق والخروج عن طاعة
الله ،ثم عقبت الية الكريمة بعد هذه الحكام الثلثة بالستثناء ،واختلف
الفقهاء في هذا الستثناء هل يعود إلى الجملة الخيرة ،فيرفع عنه وصف
الفسق ويظل مردود الشهادة أو أن شهادته تقبل كذلك بالتوبة.؟ والقاعدة
الدللية في النص هي :هل الستثناء الوارد بعد الجمل المتقاطعة يرتجع إلى
الكل أو إلى الخير.؟.
وعند التجابة عن هذا التساؤل تتدخل العملية التأويلية ومن ذلك تأويل
الزمخشري" :والذي يقتضيه ظاهر الية ونظمها أن تكون الثلث بمجموعتين
تجزاء الشرط كأنه قيل :ومن قذف المحصنا ت فاتجلدوهم وردوا شهادتهم
سقوهم أي فاتجمعوا لهم الجلد والرد والفسق ،إل الذين تابوا عن القذف وف ّ
وأصلحوا فإن الله يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ول مردودين ول
سقين" ).(72مف ّ
وإذا كان رتجوعه إلى الجميع كما يرى الزمخشري ،فإنه يسقط الحد وهو الجلد
ثمانين تجلدة وهذا باطل بالتجماع ،فيتعين أن يرتجع إلى الجملة الخيرة
فحسب ،وكأن الزمخشري يرى أن التوبة تسقط الحد عن التائب وهذا ما
يقتضيه ظاهر كلمه ،وما يعارض ظاهر كلمه أن الله تعالى قد حكم بعدم
قبول شهادته على التأبيد "ول تقبلوا لهم شهادة أبدًا" فلفظ "البد" "يدل
على الدوام والستمرار حتى لو تاب وأناب ،وقبول شهادته يناقض هذه البدية
التي حكم القرآن بها ،والعتماد هنا على القرينة اللفظية اللغوية أبدًا" )(73
أما الذين ردوا هذا التأويل ،فإنهم قالوا :إن الكفر أعظم تجرما ً من القذف
والكافر إذا تاب تقبل شهادته ،فكيف ل تقبل شهادة المسلم إذا قذف ثم تاب.؟
وقال الشافعي –رحمه الله " :-عجبا ً يقبل الله من القاذف توبته وتردون
شهادته" ) (74ورد صاحب الكشاف هذه القرينة بقوله" :فإن قلت :الكافر
يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالتجماع ،والقاذف فل تقبل شهادته،
كأن القذف مع الكفر أهون من القذف مع السلم ،قلت :المسلمون ل
يعبؤون بسب الكفار ،لنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيها بالباطل ،فل يلحق
المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنار ما يلحقه بقذف مسلم مثله فشدد
على القاذف من المسلمين ردعا ً وكفا ً عن إلحاق الشنار" ).(75
وقال الشنقيطي" :إن الستثناء في الية الكريمة كان ينبغي أن يرتجع إلى
الكل ولكن لما كان الجلد ثمانين من أتجل حق المقذوف ،وكان هذا الحق من
حقوق العباد لم يسقط بالتوبة ،فيبقى رد الشهادة والحكم بالفسق وهما من
حق الله فيسقطان بالتوبة" ).(76
وقد رتجح العلمة المودودي هذا الرأي بقوله ...." :إن أسلوب عبارة القرآن
يدل دللة واضحة على أن العفو المذكور في تجملة" :إل الذين تابوا" ،إنما
يرتجع إلى تجملة" :وأولئك هم الفاسقون" لن تجلد القاذف ثمانين تجلدة وعدم
قبول شهادته ،تجاء ذكرهما في العبارة بصيغة المر" :فاتجلدوهم ثمانين تجلدة،
ول تقبلوا لهم شهادة أبدًا" وتجاء الحكم عليه بصيغة الخبر" :وأولئك هم
الفاسقون" ،فإذا تجاء قوله تعالى" :إل الذين تابوا وأصلحوا ،فإن الله غفور
رحيم" بعد هذا الحكم الثالث مقترنا ً به ،فهو يدل بنفسه على أن هذا الستثناء
إنما يرتجع إلى الجملة الخبرية الخيرة ول يرتجع إلى تجملتي المر الوليين...
وليست التوبة عبارة عن تلفظ النسان بها بل هي عبارة عن شعوره بالندامة
واعتزامه على إصلح نفسه ،ورتجوعه إلى الخير وكل ذلك ل يعلم حقيقته إل
الله ،ولتجل هذا ،فإنه ل تغتفر بالتوبة العقوبة الدنيوية ،وإنما تغتفر بها
العقوبة الخروية فحسب ،ومن ثمة فإن الله تعالى لم يقل :إل الذين تابوا
وأصلحوا ،فإن الله غفور رحيم" ،فإنه لو كانت العقوبا ت الدنيوية أيضا ً تغتفر
بالتوبة ،فمن ذا الذي ترونه من الجناة ل يتوب اتقاء العقوبة.؟ )(77