Professional Documents
Culture Documents
net
المصطلحات الربعة
في القرآن
-1-
www.ikhwan-info.net
-2-
www.ikhwan-info.net
المقدمة
هذه الكلمات الربع أساس المصطلح القرآني وقوامه ،والقطب الذي تدور حوله دعوة القرآن .فجماع ما يدعو إليه القرآن الكريم هو
أن ال تعالى هو الله الواحد الحد والرب الفرد الصمد ،ل إله إل هو ،ول رب سواه ،ول يشاركه في ألوهيته ول في ربوبيته أحد.
فيجب على النسان أن يرضى به إلها وأن يتخذه دون سواه ربا ،ويكفر بألوهية غيره ويجحد ربوبية من سواه ،وأن يعبده وحده ول
(وما أُمِروا إ ّل لِ َيعْيُدوا إلها واحِدا ل إلهَ إ ّل هوَ سُبحا َنهُ عمّا يُشْرِكون)( .التوبة)31 :
(إنّ هذه أمّ ُت ُكمْ أمّة واحدةً وأنا رَ ّب ُكمْ فاعبدون) (النبياء)92 :
(أفغير دين ال يبغون وله أسلم من في السماوات والرض طوعا وكرها وإليه يرجعون) (آل عمران)83 :
(إن ال ربي وربّكم فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيم) (آل عمران)51 :
هذه الي المعدودة إنما سردناها مثالً وأنموذجا ،وإل فمن قرأ القرآن وتتبع آياته ،فإنه يحس لول وهلة ان كل ما نزل به القرآن
الكريم من الهدي والرشاد ل يدور إل حول هذه المصطلحات الربعة ،وليس موضوع الكتاب وفكرته الساسية إل:
-3-
www.ikhwan-info.net
ومن الظاهر البيّن أنه لبد لمن أراد أن يدرس القرآن ويسبر غور معانيه ،أن يتفهم المعاني الصحيحة لكل من هذه الكلمات الربع
ويتلقى مفهومها الكامل الشامل ،فإذا كان النسان ل يعرف ما الله ،وما معنى الرب ،وما العبادة ،وما تطلق عليه كلمة الدين فل
جرم ،أن القرآن كله سيعود في نظره كلما مهملً ل يفهم من معانيه شيء .فل يقدر أن يعرف حقيقة التوحيد ،أو يتفطن إلى ماهية
الشرك ،ول يستطيع ان يخص عبادته بال سبحانه أو يخلص دينه له .وكذلك إذا كان مفهوم تلك المصطلحات غامضا متشابها في
ذهن الرجل وكانت معرفته بمعانيها ناقصة فل شك أنه يلتبس عليه كل ما جاء به القرآن من الهدى والرشاد ،وتبقى عقيدته
وأعماله كلها ناقصة مع كونه مؤمنا بالقرآن .فإنه لن ينفك يلهج بكلمة ل إله إل ال ويتخذ مع ذلك آلهة متعددة من دون ال .ولن
يبرح يعلن أنه ل رب إل ال ثم يكون مطيعا لرباب من دون ال في واقع المر .إنه يجهر بكل صدق وإخلص بأنه ل يعبد إل ال
تعالى ول يخضع إل له ،ولكنه مع ذلك يكون عاكفا على عبادة آلهة كثيرة من دون ال .وكذلك يصرح بكل شدة وقوة أنه في حظيرة
دين ال وكنفه وإن قام أحد يعزوه إلى دين آخر غير السلم هجم عليه وناصبه الحرب؛ ولكنه يبقى مع ذلك متعلقا بأذيال متعددة ول
شك أنه ل يدعو أحدا غير ال تعالى ول يسميه بالله أو الرب بلسانه ،لكن تكون له آلهة كثيرة وأرباب متعددة من حيث المعاني
التي وضعت لها هاتان الكلمتان ،والمسكين ل يشعر أصلً أنه قد أشرك بال آلهة وأربابا أخرى وغذ نبّهته إلى أنه عابد لغير ال
ومقترفٌ للشرك في الدين ،لنقض عليك يخمش وجهك ،إل أنه يكون عابدا لغير ال حقا وداخلً في غير دينه بدون ريب من حيث
مغزى (العبادة) و (الدين) وهو ل يدري مع كل ذلك أن العمال التي يرتكبها هي في حقيقة المر عبادة لغير ال وأن الحالة التي قد
يدلنا النظر في عصر الجاهلية وما تبعه من عصور السلم أنه لما نزل القرآن في العرب وعرض على الناطقين بالضاد كان حينئذ
يعرف كل امرئٍ منهم ما معنى (الله) وما المراد بـ (الربْ) ،لن كلمتي (الله) و (الرب) كانتا مستعملتين في كلمهم منذ قبل،
وكانوا يحيطون علما بجميع المعاني التي تطلقان عليها .ومن ثم إذا قيل لهم :ل غله إل ال ول رب سواه ول شريك له في ألوهيته
وربوبيته ،أدركوا ما دُعوا إليه تماما وتبين لهم من غير ما لبس ول إبهام أي شيء هو الذي قد نفاه القائل ومنع غير ال أن
يوصف به؛ وأي شيء قد خصه وأخلصه ل تعالى ،فالذين كفروا إنما كفروا عن بينة ومعرفة بكل ما يبطله وينعي عليه كفره
بألوهية غير ال وربوبيته ،وكذلك من آمن فقد آمن عن بينة وبصيرة بكل ما يوجب قبول تلك العقيدة الخذ به أو النسلخ عنه.
-4-
www.ikhwan-info.net
وكذلك كانت كلمتا (العبادة) و (الدين) شائعتين في لغتهم وكانوا يعلمون ما البعد ،وما الحال التي بعبر عنها بالعبودية ،وما هو
المنهاج العملي الذي يطلق عليه اسم (العبادة) وما مغزى (الدين) وما هي المعاني التي تشتمل عليها هذه الكلمة؟ ومن ثم لما قيل
لهم "أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت" وادخلوا في دين ال منقطعين عن الديان كلها ما أخطأوا في فهم هذه الدعوة التي جاء بها
القرآن .وما إن قرعت كلماتها أسماعهم حتى تبينوا :أي نوع من التغيير في نظام حياتهم جاءت تطالبهم به تلك الدعوة؟
ولكنه في القرون التي تلت ذلك العصر الزاهر جعلت تتبدل المعاني الصلية الصحيحة لجميع تلك الكلمات ،تلك المعاني التي كانت
شائعة بين القوم عصر نزول القرآن ،حتى أخذت تضيق كل كلمة من تلكم الكلمات الربع عما كانت تتسع له وتحيط به من قبل،
وعادت منحصرة في معان ضيقة محدودة؛ بمدلولت غامضة مستبهمة .وذلك لسببين اثنين:
الول :قلة الذوق العربي السليم ونضوب معين العربية الخالصة في العصور المتأخرة ،والثاني أن الذين ولدوا في المجتمع السلمي
ونشؤوا فيه ،لم يكن قد بقي لهم من معاني كلمات (الله) و (الرب) و (العبادة) و (الدين) ما كان شائعا في المجتمع الجاهلي وقت
نزول القرآن .ولجل هذين السببين أصبح اللغويون والمفسرون في العصور المتأخرة يشرحون أكثر كلمات القرآن في معاجم اللغة
وكتب التفسير بالمعاني التي فهمها المتأخرون من المسلمين بدلً من معانيها اللغوية الصلية .ودونك من ذلك أمثلة:
وكلمة (الرب) جعلوها مترادفة مع الذي يربي وينشئ وللذات القائمة بأمر تربية الخلق وتنشئتهم.
وكلمة (العبادة) حددوها في معاني التأله والتنسك والخضوع والصلة بين يدي ال.
فكانت النتيجة أن تعذر على الناس أن يدركوا حتى الغرض الحقيقي والمقصد الجوهري من دعوة القرآن فإذا دعاهم القرآن أل
يتخذوا من دون ال إلها ،ظنوا أنهم وفّوا مطالبة القرآن حقها لما تركوا الصنام واعتزلوا الوثان؛ والحال أنهم ل يزالون متشبثين
بكل ما يسعه ويحيط به مفهوم (الله) ما عدا الوثان والصنام ،وهم ل يشعرون أنهم بعملهم ذلك قد اتخذوا غير ال إلها .وإذا
ناداهم القرآن أن ال تعالى هو الرب فل تتخذوا من دونه ربا ،قالوا ها نحن أولء ل نعتقد أحدا من دون ال مربيا لنا ومتعهدا لمرنا،
وبذلك قد كملت عقيدتنا في باب التوحيد ،والواقع أنه قد أذعن أكثرهم لربوبية غير ال من حيث المعاني الخرى التي تطلق عليها
كلمة (الرب) غير هذا المعنى – المربي .-وإذا خاطبهم القرآن أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت ،قالوا :ل نعبد الوثان ،ونبغض
الشيطان ونلعنه ول نخشع إل ل ،فقد امتثلنا هذا المر القرآني أيضا امتثالً ،والحال أنهم ل يزالون متمسكين بأذيال الطواغيت
-5-
www.ikhwan-info.net
الخرى غير الصنام المنحوتة من الحجار ،وقد خصوا سائر ضروب العبادة – اللهم إل التأله -لغير ال ،وقل مثل ذلك في (الدين)،
فإنه ل يفهم الناس من معنى إخلص الدين ل تعالى غير أن ينتحل المرء ما يسمونه (الديانة السلمية) وأل يبقى في ملة الهنادك
أو اليهود أو النصارى .ومن هنا يزعم كل من هو معدود من أهل الديانة السلمية أنه قد أخلص دينه ل ،والحق أن أغلبيتهم ممن
لم يخلصوا دينهم ل تعالى من حيث المعاني الواسعة التي تشتمل عليها كلمة (الدين).
من الحق الذي ل مراء فيه أنه قد خفي على الناس معظم تعاليم القرآن ،بل قد غابت عنهم روحه السامية وفكرته المركزية لمجرد ما
غشي هذه المصطلحات الربعة الساسية من حجب الجهل .وذلك من أكبر السباب التي قد تطرق لجلها الوهن والضعف إلى
عقائدهم وأعمالهم على رغم قبولهم دين السلم وكونهم في عداد المسلمين .ومن أجل ذلك كله يجدر بنا أن نفصل معاني تلك
المصطلحات الربعة ونشرحها شرحا كاملً ،ليتبين غرض القرآن الحقيقي وتعاليمه الساسية.
ومع أني قد حاولت اللمام بمفهوم تلك المصطلحات في مقالت لي عديدة تقدم لي كتابها ،غير أن ما قد كتبته حتى الن ل يكفي في
حد ذاته لدرء الخطاء التي قد تسربت إلى الذهان في هذا الباب؛ ول يكاد يقتنع به الناس ويطمئنون إليه لنهم يحسبون كل ما آني
به من الشرح والتفصيل لمعاني تلك الكلمات من غير استشهاد بآي الكتاب العزيز ومن غير استناد إلى معاجم اللغة – يحسبونه رأيا
لي ارتأيته؛ والظاهر أن رأيي الشخصي ل يمكن أن يقنع الذين ل يرون رأيي ول يوافقونني عليه على القل .فأردت في هذه الرسالة
أن أبين المعاني الكاملة الشاملة لهذه المصطلحات الربعة ،من دون أن آتي في ذلك بقول ل يؤيده القرآن أو برأي ل يستند إلى
معاجم اللغة.
أبو العلى
-6-
www.ikhwan-info.net
-اللـــــه 1
التحقيق اللغوي
مادة كلمة (الله) :الهمزة واللم والهاء ،وقد جاء في معاجم اللغة من هذه المادة ما يأتي بيانه فيما يلي:
ويتبين من التأمل في هذه المعاني المناسبة التي جعلت "اله ياله إلهة" تستعمل بمعنى العبادة – (أي التأله) – (الله) بمعنى المعبود:
-1أن أول ما ينشأ في ذهن النسان من الحافز على العبادة والتأله يكون ما أتاه احتياج المرء وافتقاره .وما كان النسان ليخطر
بباله أن يعبد أحدا ما لم يظن فيه أنه قادر على أن يسد خلته ،وأن ينصره على النوائب ويؤويه عند الفات ،وعلى أن يسكن من
-2وكذلك أن اعتقاد المرء أن أحدا ما قاض للحاجات ومجيب للدعوات ،لستلزم أن يعده أعلى منه منزلة وأسمى مكانة ،وأل يعترف
بعلوه في المنزلة فحسب ،بل أن يعترف كذلك بعلوه وغلبته في القوة واليد.
-3ومن الحق كذلك أن ما تقضى به حاجات المرء غالبا حسب قانون السباب والمسببات في هذه الدنيا ،ويقع جل عمله في قضاء
الحاجات تحت سمع المرء وبصره ،وفي حدود ل تخرج من دائرة علمه ،ل ينشئ في نفس المرء شيئا من النزوع إلى عبادته أبدا،
علم بل رأى بأ ّم عينه كل المنهاج الذي بلغ به غايته وعرف الطريقة التي اتخذها الرجل لقضاء حاجته .فإن تصور العبادة ل يمكن
أن يخطر ببال المرء إل إذا كان شخص المعبود وقوّته من وراء حجاب الغيب ،وكانت مقدرته على قضاء الحوائج تحت أستار
الخفاء .من ها هنا قد اختيرت للمعبود كلمة تتضمن معاني الحتجاب والحيرة والوله مع اشتمالها على معنى الرفعة والعلوّ.
-7-
www.ikhwan-info.net
-4ورابع الربعة أنه من المور الطبيعية التي ل مندوحة عنها أن يتجه النسان في شوق وولع إلى من يظن فيه أنه قادر على أن
يقضي حاجته إذا احتاج ،وعلى أن يؤويه إذا نابته النوائب ،ويهدئ أعصابه عند القلق.
فتبين من ذلك كله أن التصورات التي قد أطلقت من أجلها كلمة (الله) على المعبود هي :قضاء الحاجة والجارة والتهدئة والتعالي
والهيمنة وتملك القوى التي يرجى بها أن يكون المعبود قاضيا للحاجات مجيرا في النوازل وأن يكون متواريا عن النظار يكاد يكون
سرا من السرار ل يدركه الناس ،وأن يفزع إليه النسان ويولع به.
ويجمل بنا بعد هذا البحث اللغوي أن ننظر ماذا كانت تصورّات العرب والمم القديمة في باب اللوهية التي جاء القرآن بإبطالها.
يتبين من هاتين اليتين الكريمتين أن الذين كان يحسبهم أهل الجاهلية آلهة لنفسهم كانوا يظنون بهم أنهم أولياؤهم وحماتهم في
النوائب والشدائد وأنهم يكونون بمأمن من الخوف والنقض إذا احتموا بجوارهم.
( -2فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون ال من شيء لمّا جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب) (هود)101 :
(والذين يدعون من دون ال ل يخلقون شيئا وهم يخلقون .أمواتٌ غير أحياءٍ وما يشعرون أيّان يبعثون .إلهكم إلهٌ واحدٌ) (النحل:
)22-20
(وما يتّبع الذين يدعون من دون ال شركاء إن يتبعون إل الظن وإن هم إل يخرصون) (يونس)66 :
وتتجلى من هذه اليات بضعة أمور ،أحدها أن الذين كان أهل الجاهلية يتخذونهم آلهة لهم كانوا يدعونهم عند الشدائد ويستغيثون
بهم؛ والثاني :أن آلهتهم أولئك لم يكونوا من الجن أو الملئكة أو الصنام فحسب بل كانوا كذلك أفرادا من البشر قد ماتوا من قبل،
كما يدل عليه قوله تعالى" :أمواتٌ غير أحياء وما يشعرون أيان يُبعثون" دللة واضحة والثالث :أنهم كانوا يزعمون أن آلهتهم هذه
-8-
www.ikhwan-info.net
ولبد للقارئ في هذا المقام من أن يكون على ذكر من مفهوم الدعاء ،ومن وضعية النصرة التي يرجوها النسان من الله فالمرء إذا
ل فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء أو إذا أصيب بمرض فدعا الطبيب لمداواته ،ول يصحّ أن يطلق على طلب
كان أصابه العطش مث ً
الرجل للخادم أو للطبيب حكم "الدعاء" وكذلك ليس من معناه أن الرجل قد اتخذ الخادم أو الطبيب إلها له .وذلك أن كل ما فعله الرجل
جار على قانون العلل والسباب ول يخرج عن دائرة حكمه .ولكنه إذا استغاث بولي أو وثن – وقد أجهده العطش أو المرض -بدلً
من أن يدعو الخادم أو الطبيب ،فل شك أنه دعاه لتفريج الكربة واتخذه إلها .فإنه دعا وليا قد ثوى في قبر يبعد عنه بمئات من
الميال ،فكأني له يراه سميعا بصيرا ويزعم أن له نوعا من السلطة على عالم السباب مما يجعله قادرا على ان يقوم بإبلغه الماء
أو شفائه من المرض ،وكذلك إذا دعا وثنا في مثل هذه الحال يلتمس منه الماء أو الشفاء ،فكأنه يعتقد أن الوثن حكمه نافذ على
الماء أو الصحة أو المرض ،مما يقدر به أن يتصرف في السباب لقضاء حاجته تصرفا غيبيا خارجا عن قوانين الطبيعة .وصفوة
القول أن التصور الذي لجله يدعو النسان الله ويستغيثه ويتضرع إليه هو ل جرم تصور كونه مالكا للسلطة المهيمنة على قوانين
( -3ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرّفنا اليات لعلهم يرجعون .فلول نصرهم الذين اتخذوا من دون ال قربانا آلهةً بل ضلّوا
(ومالي ل أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ،أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمان بض ّر ل تغن عني شفاعتهم شيئا ول ينقذون)
(يس)23-22 :
(والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إل ليقربونا إلى ال زُلفى إن ال يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون) (الزمر)3 :
(ويعبدون من دون ال مال يضرهم ول ينفعهم ويقولون هؤلء شفعاؤنا عند ال) (يونس)18 :
فيتجلى من هذه اليات الكريمة أمور عديدة منها أن أهل الجاهلية ما كانوا يعتقدون في آلهتهم أن اللوهية قد توزعت فيما بينهم،
فليس فوقهم إله قاهر ،بل كان لديهم تصور واضح لله قاهر كانوا يعبرون عنه بكلمة (ال) في لغتهم .وكانت عقيدتهم الحقيقة في
شأن سائر اللهة أن لهم شيئا من التدخل والنفوذ في ألوهية ذلك الله العلى ،وأن كلمتهم تُتَلقى عنده بالقبول وأنه يمكن أن تتحقق
أمانينا بواسطتهم ونستدر النفع ونتجنب المضار باستشفاعهم .ولمثل هذه الظنون كانوا يتخذونهم أيضا آلهة مع ال تعالى .ومن هنا
يتبين أن النسان عن اتخذ أحدا شافعا له عند ال ثم أصبح يدعوه ويستعين به ويقوم بآداب التبجيل والتعظيم ويقدم له القربات
والنذور ،فكل ذلك على ما اصطلح عليه أهل الجاهلية اتخاذه إياه إلها.
( -4وقال ال :ل تتخذوا إلهين اثنين ،إنما هو إله واحدٌ فإياي فارهبون) (النحل)51 :
-9-
www.ikhwan-info.net
ويتضح من هذه اليات الحكيمة ،أن أهل الجاهلية كانوا يخافون من قبل آلهتهم أنهم إن أسخطوا آلهتهم على أنفسهم لسبب من
السباب أو حرموا عنايتهم بهم وعطفهم عليهم نابتهم نوائب المرض والقحط والنقص في النفس والموال ونزلت بهم نوازل أخرى.
( -5اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون ال والمسيح بن مريم وما أمروا إل ليعبدوا إلها واحدا ل إله إل هو) (التوبة)31 :
(أرأيت من اتخذ إلهه هواه ،أفأنت تكون عليه وكيل) (الفرقان)43 :
(أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به ال) (الشورى)21 :
وفي اليات يقف المتأمل على معنى آخر لكلمة (الله) يختلف كل الختلف عن كل ما تقدم ذكره من معانيها ،فليس ههنا شيء من
تصور السلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة ،فالذي اتّخذ إلها هو إما واحد من البشر أو نفس النسان نفسه ،ولم يتخذ ذلك إلها من
حيث أن الناس يدعونه أو يعتقدون فيه أنه يضرهم وينفعهم ،أو أنه يستجار به ،بل قد اتخذوه إلها من حيث تلقوا أمره شرعا لهم،
وائتمروا بأمره وانتهوا عما نهى عنه ،واتبعوه فيما حلله وحرمه ،وزعموا ان له الحق في أن يأمر وينهى بنفسه ،وليس فوقه
سلطة قاهرة يحتاج إلى الرجوع والستناد إليها .فالية الولى تبين لنا كيف اتخذت اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا وآلهة
من دون ال ،كما بين ذلك الحديث النبوي الشريف فيما رواه المام الترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي ال عنه
"أنه دخل على رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم وفي عنقه صليب من ذهب وهو يقرأ هذه الية ،قال ،فقلت :إنهم لم يعبدوهم،
فقال :بلى ،إنهم حرموا عليهم الحلل وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم".
وأما الية الثانية فمعناها واضح كل الوضوح ،وذلك أن من يتبع هوى النفس ويرى أمره فوق كل أمر فقد اتخذ نفسه إلها له في
واقع المر.
أما اليتان التاليتان بعدهما فإنه وإن وردت فيهما كلمة (الشركاء) مكان (الله) ،فالمراد بالشرك هو الشراك بال تعالى في اللوهية.
ففي هاتين اليتين دللة واضحة على أن الذين يرون أن ما وضعه رجل أو طائفة من الناس من قانون أو شرعة أو رسم هو قانون
شرعي من غير أن يستند إلى أمر من ال تعالى ،فهم يشركون ذلك الشارع بال تعالى في اللوهية.
-10-
www.ikhwan-info.net
إن جميع ما تقدم ذكره من المعاني المختلفة لكلمة (الله) يوجد فيما بينها ارتباط منطقي ل يخفى على المتأمل المستبصر .فالذي
يتخذ كائنا ما وليا له ونصيرا وكاشفا عنه السوء ،وقاضيا لحاجته ومستجيبا لدعائه وقادرا على أن ينفعه ويضره ،كل ذلك بالمعاني
الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية ،يكون السبب لعتقاده ذلك ظنه فيه أن له نوعا من أنواع السلطة على نظام هذا العالم .وكذلك
من يخاف أحدا ويتقيه ويرى أن سخطه يجر عليه الضرر ومرضاته تجلب له المنفعة ،ل يكون مصدر اعتقاده ذلك وعمله إل ما
يكون في ذهنه من تصور أن له نوعا من السلطة على هذا الكون .ثم أن الذي يدعو غير ال ويفزع إليه في حاجاته بعد إيمانه بال
العلي العلى ،فل يبعثه على ذلك إل اعتقاده فيه أن له شركا في ناحية من نواحي السلطة اللوهية .وعلى غرار ذلك من يتخذ حكم
أحد من دون ال قانونا ويتلقى أوامره ونواهيه شريعة متبعة فإنه أيضا يعترف بسلطته القاهرة .فخلصة القول أن أصل اللوهية
وجوهرها هو السلطة سواء أكان يعتقدها الناس من حيث أن حكمها على هذا العالم حكم مهيمن على قوانين الطبيعة ،أو من حيث أن
النسان في حياته الدنيا مطيع لمرها وتابع لرشادها ،وأن أمرها في حد ذاته واجب الطاعة والذعان.
استدلل القرآن
وهذا هو تصور السلطة الذي يجعله القرآن الكريم أساسا يأتي به من البراهين والحجج على إنكار ألوهية غير ال ،وإثبات اللوهية
ل تعالى وحده .فالذي يستدل به القرآن في هذا الشأن هو انه ل يملك جميع السلطات والصلحيات في السماوات والرض إل ال.
فالخلق مختص به ،والنعمة كلها بيده ،والمر له وحده ،والقوة والحول في قبضته ،وكل ما في السماوات والرض قانت له ومطيع
لمره طوعا وكرها ،ول سلطة لحد سواه ول ينفذ فيها الحكم لحد غيره ،وما من أحد دونه يعرف أسرار الخلق والنظم والتدبير ،أو
يشاركه في صلحيات حكمه .ومن ثم ل إله في حقيقة المر إل هو ،وإذ لم يكن في الحقيقة إله آخر من دون ال ،فكل ما تأتونه من
الفعال معتقدين غيره إلها باطل من أساسه ،سواء أكان ذلك دعاءكم إياه واستجارتكم له أم كان خوفكم إياه ورجاءكم منه ،أم كان
اتخاذكم إياه شافعا لدى ال ،أم كان إطاعتكم له وامتثالكم لمره؛ فإن هذه الواصر والعلقات التي قد عقدتموها مع غير ال ،يجب أن
تكون مختصة بال سبحانه لنه هو الذي يملك السلطة دون غيره.
وأما السلوب الذي يستدل به القرآن الكريم في هذا الباب ،فدونك بيانه في كلمه البليغ المعجز:
(وهو الذي في السماء إلهٌ وفي الرض إل ٌه وهو الحكيم العليم) (الزخرف)84 :
-11-
www.ikhwan-info.net
)22 ،20
(يا أيّها الناس اذكروا نعمة ال عليكم هل من خالقٍ غير ال يرزقكم من السماء والرض ل إله إل هو ،فأنى تؤفكون) (فاطر)3 :
(قل أرأيتم عن أخذ ال سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إلهٌ غير ال يأتيكم به) (النعام)46 :
(وهو ال ل إله إل هو له الحمد في الولى والخرة وله الحُكم وإليه ترجعون .قل أرأيتم إن جعل ال عليكم الليل سرمدا إلى يوم
القيامة من إله غير ال يأتيكم بضياءٍ أفل تسمعون .قل أرأيتم إن جعل ال عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إلهٌ غير ال يأتيكم
(قل ادعوا الذين زعمتم من دون ال ل يملكون مثال ذرةٍ في السماوات ول في الرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من
ظهير .ول تنفع الشفاعة عنده إل لمن أذن له) (سبأ)22:23 :
(خلق السماوات والرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كلٌ يجري لجلٍ مسمى)
(الزمر)5 :
(خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من النعام ثمانية أزواجٍ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في
(أمن خلق السماوات والرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإلهٌ مع ال بل هم
قومٌ يعدلون .أمن جعل الرض قرارا وجعل خللها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا .أإل ٌه مع ال بل أكثرهم ل
يعلمون ،أمّن يُجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الرض .أإلهٌ مع ال قليلً ما تذكرون .أمّن يهديكم في ظلمات
البرّ والبحر ومن يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته أإله مع ال تعالى ال عما يُشركون .أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من
(الذي له ملك السماوات والرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريكٌ في الملك وخلق كل شيءٍ فقدره تقديرا .واتخذوا من دونه آله ًة ل
يخلقون شيئا وهم يخلقون ،ول يملكون لنفسهم ضرا ول نفعا ول يملكون موتا ول حيا ًة ول نشورا) (الفرقان)3 :2 :
(بديع السماوات والرض أنّى يكون له ولدق ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيءٍ وهو بكل شيءٍ عليم .ذلكم ال ربكم ل إله إل هو
خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل) (النعام)102 – 101 :
-12-
www.ikhwan-info.net
(ومن الناس من يتخذ من دون ال أندادا يحبونهم كحب ال والذين آمنوا أشد حبا ل ،ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب إنّ
(قل أرأيتم ما تدعون من دون ال أروني ما خلقوا من الرض أم لهم شرك في السماوات) (ومن أضل ممن يدعو من دون ال من
(لو كان فيهما آله ٌة إل ال لفسدتا فسبحان ال رب العرش عما يصفون .ل يُسئل عما يفع ُل وهُم يُسئلون) (النبياء)23-22 :
(ما اتخذ ال من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعل بعضهم على بعض) (المؤمنون)91 :
(قل لو كان معه آله ٌة كما يقولون إذا لبتغوا إلى ذي العرش سبيلً .سبحانه وتعالى عمّا يقولن علوّا كبيرا) (السراء)43 – 42 :
ففي جميع هذه اليات من أولها إلى آخرها ل تجد إل فكرة رئيسية واحدة أل وهي أن كلً من اللوهية والسلطة تستلزم الخرى وأنه
ل فرق بينهما من حيث المعنى والروح .فالذي ل سلطة له ،ل يمكن أن يكون إلها ول ينبغي أن يتخذ إلها .وأما من يملك السلطة
فهو الذي يجوز أن يكون غلها وهو وحده ينبغي أن يتخذ إلها .ذلك بأن جميع حاجات المرء التي تتعلق بالله أو التي يضطر المرء
لجلها أن يتخذ أحدا إلها له ل يمكن قضاء شيء منها من دون وجود السلطة .ولذلك ل معنى للوهية من ل سلطة له ،فإن ذلك أيضا
مخالف للحقيقة ،ومن النفخ في الرماد أن يرجع إليه المرء ويرجو منه شيئا.
والسلوب الذي يستدل به القرآن واضعا بين يديه هذه الفكرة الرئيسية ،يمكن القارئ أني فهم مقدماته ونتائجه حق الفهم بالترتيب
التي:
-1إن أعمال قضاء الحاجة وكشف الضرر والجارة والتوفيق والنصر والرقابة والحماية وإجابة الدعوات التي قد تهاونتم بها
وصغرتم من شأنها ،ما هي بأعمال هينة في حقيقة المر ،بل الحق أن صلتها وثيقة بالقوى والسلطات التي تتولى أمر الخلق
والتدبير في هذا الكون فإنكم إن تأملتم في المنهاج الذي تقضى به حوائجكم التافهة الحقيرة ،عرفتم أن قضاءها مستحيل من غير أن
أدركوا إذ تعمل كل من الشمس والرض والرياح والبحار قبل أن تتهيأ لكم هذه وتصل إلى أيديكم .فالحق أنه ل تتطلب إجابة دعائكم
وقضاء حاجتكم وما إليها من الشؤون سلطة هينة ،بل يتطلب ذلك سلطة يقتضيها ويستلزمها خلق السماوات والرض وتحريك
السيارات وتصريف الرياح وإنزال المطار وبكلمة موجزة يقتضيها ويتطلبها تدبير نظام هذا الكون بأسره.
-13-
www.ikhwan-info.net
-2وهذه السلطة غير قابلة للتجزئة ،فل يمكن أبدا أن تكون السلطة في أمر الخلق بيد وفي أمر الرزق بيد أخرى ،وأن تكون
الشمس مسخرة لهذا وتكون الرض مذللة لذاك .كما ل يمكن أن يكون النشاء في يد والمرض والشفاء في يد أخرى ،والموت
والحياة بيد ثالثة .فإنه لو كان المر كذلك ما أمكن لنظام هذا الكون أن تقوم له قائمة .فما لب ّد منه أن تكون جميع السلطات
والصلحيات بيد حاكم واحد يرجع إليه كل ما في السماوات والرض .فإنّ نظام هذا العالم يقتضي أن يكون المر كذلك وهو في
الواقع كذلك:
-3وإذ كانت السلطة كلها بيد الحاكم الواحد ولم يكن لحد غيره نقير منها ول قطمير ،فاللوهية أيضا مخصوصة به ل محالة،
وخالصة له دون غيره ول شريك له فيها .فل يملك أحد من دونه أن يغيثك أو يستجيب دعاءك أو يجيرك أو يكون حاميا لك ونصيرا
أو ليا ووكيلً ،أو يملك لك شيئا من النفع أو الضر .إذا ل إله لكم غير ال بمعنى من تلك المعاني التي قد تخطر ببالكم ،حتى إنه ل
يمكن أن يكون أحدا إلها لكم بأن له دالة عند حاكم هذا الكون وتتقبل شفاعته لديه ،لمكانه من التقرب عنده .كل بل ليس في وسع
أحد أن يتصدى لمر من أمور حكمه وتدبيره ،ول يستطيع أحد أن يتدخل في شيء من شؤونه ،وكذلك قبول الشفاعة أو رفضها
متوقف على مشيئته وإرادته ،وليس لحد من القوة والنفوذ ما يجعل شفاعته مقبول لديه.
-4وما يقتضيه توحد السلطة العليا أن يكون جميع ضروب الحكم والمر راجعة إلى مسيطر قاهر واحد ،وإلّ ينتقل منه جزء من
الحكم إلى غيره .فإنه إذا لم يكن الخلق إل له ولم يكن له شريك فيه ،وإذا كان هو الذي يرزق الناس ولم تكن لحد من دونه يد في
المر ،إذا كان هو القائم بتدبير نظام هذا الكون وتسيير شؤونه ولم يكن له في ذلك شريك ،فما يتطلبه العقل ألّ يكون الحكم والمر
والتشريح إل بيده كلك ول مبرّر لن يكون أحد شريكا له في هذه الناحية أيضا .وكما أنّه من الخطأ أن يكون أحد غيره مجيبا لدعوة
الداعي وقاضيا لحاجة المحتاج ،ومجيرا للمضطر في دائرة ملكوته في السموات والرض ،فمن الخطأ والباطل كذلك أن يكون أحد
ل بنفسه ،وآمرا مستبدا بحكمه ،وشارعا مطلق اليد في تشريعه ،إن الخلق والرزق والحياء والنامة ،وتسخير
غيره حاكما مستق ً
الشمس والقمر ،وتكوير الليل والنهار والقضاء والقدر ،والحكم والملك ،والمر والتشريع ..كل أولئك وجوه مختلفة للسلطة الواحدة،
ومظاهر شتى للحكم الواحد ،والحكم والسلطة ل يقبل شيء منهما التجزئة والتقسيم البتة .فالذي يعتقد أمر كائن ما من دون ال مما
يجب إطاعته والذعان له بغير سلطان من عند ال ،فإنه يأتي من الشرك بمثل ما يأتي به الذي يدعو غير ال ويسأله .وكذلك الذي
يدعي أنه مالك الملك ،والمسيطر القاهر ،والحاكم المطلق بالمعاني السياسية ،فإن دعواه هذه كدعوى اللوهية ممن ينادي بالناس:
"إني وليكم وكفيلكم وحاميكم وناصركم" ،ويريد بكل ذلك المعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية .ألم تر أنه بينما جاء في القرآن
أن ال تعالى ل شريك له في الخلق وتقدير الشياء وتدبير نظام العالم ،جاء معه أن ال له الحكم وله الملك ليس له شريك في الملك،
-14-
www.ikhwan-info.net
مما يدل دللة واضحة على أن اللوهية تشتمل على معاني الحكم والملك أيضا ،وأنه مما يستلزمه توحيد الله أل يشرك بال تعالى
في هذه المعاني كذلك .وقد فصل القول في ذلك أكثر مما تقدم فيما يلي من اليات:
(ق ْل اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك من تشاءُ وتعز من تشاء وتذل من تشاء) (آل عمران)26 :
(قل أعوذ برب الناس .ملك الناس .إله الناس) (الناس)3-1 :
وقد صرح القرآن بالمر بأكثر من كل ما سبق في (سورة غافر ) حيث جاء:
(يوم هم بارزون ،ل يخفى على ال منهم شيء ،لمن الملك اليوم ل الواحد القهار) (غافر)16 :
أي يوم يكون الناس قد انقشعت الحجب عنهم ،ول يخفى على ال خافية من أمرهم ،ينادي المنادي :لمن الملك اليوم؟ ول يكون
الجواب إل أن الملك ل الذي غلبت سلطته جميع الخلق ،وأحسن ما يفسر هذه الية ما رواه المام أحمد بن حنبل – رحمه ال – عن
عبد ال بن عمر رضي ال عنهما ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قرأ هذه الية ذات يوم على المنبر (وما قد روا ال حق قدره،
والرض جميعا قبضته يوم القيامة ،والسموات مطويات بيمينه ،سبحانه وتعالى عما يشركون) ورسول ال صلى ال عليه وسلم
يقول :هكذا بيده ويحركها ،يقبل بها ويدبر ،يمجد الرب نفسه ،أنا الجبار ،أنا المتكبر ،أنا العزيز ،أنا الكريم ،فرجف برسول ال صلى
-15-
www.ikhwan-info.net
-2الـــــرب
التحقيق اللغوي
مادة كلمة (الرب) :الراء والباء المضعّفة،ومعناها الصلي الساسي :التربية ،ثم تتشعب عنه معاني التصرف والتعهد والستصلح
والتمام والتكميل ،ومن ذلك كله تنشأ في الكلمة معاني العلو والرئاسة والتملك والسيادة .ودونك أمثلة لستعمال الكلمة في لغة
ب الولد) أي ربّاه حتى أدرك فـ (الرّبيب) هو الصبي الذي تربيه و (الربيبة) الصبية .وكذلك تطلق الكلمتان على الطفل
يقولون (ر ّ
الذي يربى في بيت زوج أمه و (الربيبة) أيضا الحاضنة ويقال (الرّابة) لمرأة الب غير الم ،فإنها وإن لم تكن أم الولد ،تقوم بتربيته
الضافة والزيادة والتمام ،فيقولون (ربّ النعمة) :أي زاد في الحسان وأمعن فيه.
يقولون( :فلن يرب الناس) أي يجمعهم أو يجتمع عليه الناس ،ويسمون مكان جمعهم (بالمرّبّ) و (التربّب) هو النضمام والتجمّع.
يقولون (رب ضيعة) أي تعهدّها وراقب أمرها .قال صفوان بن أمية لبي سفيان :لن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني
رجل من هوازن ،أي يكفلني ويجعلني تحت رعايته وعنايته .وقال علقمة بن عبدة:
أي انتهى إليك الن أمر ربابتي وكفالتي بعد أن رباني قبلك ربوب فلم يتعهدوني ولم يصلحوا شأني .ويقول الفرزدق:
أي الديم الذي لم يليّن ولم يدبغ .ويقال (فلن يربب صنعته عند فلن) أي يشتغل عنده بصناعته ويتمرن عليها ويكسب على يده
المهارة فيها.
يقولون (قد ربّ فلن قومه) :أي ساسهم وجعلهم ينقادون له .و (ربيت القوم) أي حكمتهم وسدتهم ،ويقول لبيد بن ربيعة:
-16-
www.ikhwan-info.net
والمراد برب كندة ههنا سيد كندة ورئيسهم .وفي هذا المعنى يقول النابغة الذبياني:
( )5التملك:
قد جاء في الحديث أنه سأل النبي صلى ال عليه وسلم رجلً "أرب غنم أم رب ابل؟ ،أي أمالك غنم أنت أم مالك ابل؟ وفي هذا المعنى
يقال لصاحب البيت (رب الدار) وصاحب الناقة( :رب الناقة) ومالك الضيعة( :رب الضيعة) وتأتي كلمة الرب بمعنى السيد أيضا
هذا بيان ما يتشعب من كلمة (الرب) من المعاني .وقد أخطأوا لعمر ال حين حصروا هذه الكلمة في معنى المربي والمنشئ ،ورددوا
في تفسير (الربوبية) هذه الجملة (هو إنشاء الشيء حالً فحالً إلى حد التمام) .والحق أن ذلك إنما هو معنى واحد من معاني الكلمة
المتعددة الواسعة .وبإنعام النظر في سعة هذه الكلمة واستعراض معانيها المتشعبة يتبين أن كلمة (الرب) مشتملة على جميع ما يأتي
بيانه من المعاني:
-4السيد المطاع ،والرئيس وصاحب السلطة النافذ الحكم ،والمعترف له بالعلء والسيادة ،والمالك لصلحيات التصرف.
-5الملك والسيد.
وقد جاءت كلمة (الرب) في القرآن بجميع ما ذكرناه آنفا من معانيها .ففي بعض المواضع أريد بها معنى أو معنيان من تلك المعاني.
وفي الخرى أريد بها أكثر من ذلك .وفي الثالثة جاءت الكلمة مشتملة على المعاني الخمسة بأجمعها في آن واحد .وها نحن نبين
بالمعنى الول
-17-
www.ikhwan-info.net
(فإنهم عدوٌ لي إل رب العالمين .الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين .وإذا مرضت فهو يشفين) (الشعراء)80-77 :
(وما بكم من نعمة فمن ال ،ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ،ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون) (النحل-53 :
)54
بالمعنى الثالث
(وما من دابةً في الرض ول طائرٍ يطير بجناحيه إل أممٌ أمثالكم ،ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربّهم يُحشرون) (النعام)38 :
(ول يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون ال) (آل عمران)64 :
والمراد بالرباب في كلتا اليتين الذين تتخذهم المم والطوائف هداتها ومرشديها على الطلق .فتذعن لمرهم ونهيهم ،وتتبع
شرعهم وقانونهم ،وتؤمن بما يحلون وما يحرمون بغير أن يكون قد أنزل ال تعالى به من سلطان ،وتحسبهم فوق ذلك أحقاء بأن
(أما أحدكما فيسقي ربه خمرا) ( ..وقال للذي ظنّ أنه ناجٍ منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه) ( ..فلما جاءه الرّسول
قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللتي قطّعن أيديهنّ إنّ ربي بكيدهنّ عليم) (يوسف)50 ،42 ،41 :
-18-
www.ikhwan-info.net
قد كرر يوسف عليه السلم في خطابه لهل مصر في هذه اليات تسمية عزيز مصر بكلمة (ربهم) فذلك لن أهل مصر بما كانوا
يؤمنون بمكانته المركزية وبسلطته العليا ،ويعتقدون أنه مالك المر والنهي ،فقد كان هو ربهم في واقع المر ،وبخلف ذلك لم يُرد
يوسف عليه السلم بكلمة (الرب) عندما تكلم بها بالنسبة لنفسه إل ال تعالى فإنه لم يكن يعتقد فرعون ،بل ال وحده المسيطر
بالمعنى الخامس:
ومما تقدم من شواهد آيات القرآن ،تتجلى معاني كلمة (الرب) كالشمس ليس دونهما غمام .فالن يجمل بنا أن ننظر ماذا كانت
تصورات المم الضالة في باب الربوبية ،ولماذا جاء القرآن ينقضها ويرفضها ،وما الذي يدعو إليه القرآن الكريم؟ ولعل من الجدر
بنا في هذا الصدد أن نتناول كل أمة من المم الضالة التي ذكرها القرآن منفصلة بعضها عن بعض ،فنبحث في عقائدها وأفكارها
إن أقدم أمة في التاريخ يذكرها القرآن هي أمة نوح عليه السلم ،ويتضح مما جاء فيه عن هؤلء القوم أنهم لم يكونوا جاحدين
بوجود ال تعالى ،فقد روى القرآن نفسه قولهم التي في ردّهم على دعوة نوح عليه السلم:
(المؤمنون)24 : (ما هذا إل بشرٌ مثلكم يريدُ أن يتفضل عليكم ،ولو شاء ال لنزل ملئكة)
-19-
www.ikhwan-info.net
وكذلك لم يكونوا يجحدون كون ال تعالى خالق هذا العالم ،وبكونه ربا بالمعنى الول والثاني ،فإنه لما قال لهم نوح عليه السلم
و (استغفروا ربكم إنه ،كان غفارا) و (ألم تروا كيف خلق ال سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا وال
لم يقم أحد منهم يرد على نوح قوله ويقول :ليس ال بربنا ،أوليس ال بخالق الرض والسماء ول بخالقنا نحن ،أو ليس هو الذي
ثم إنهم لم يكونوا جاحدين أن ال إل ٌه لهم .ولذلك دعاهم نوح عليه السلم بقوله( :ما لكم من إله غيره) فإن القوم لو كانوا كافرين
بألوهية ال تعالى ،إذا لكانت دعوة نوح إياهم غير تلك الدعوة وكان قوله عليه السلم حينئذ من مثل "يا قوم! اتخذوا ال إلها).
فالسؤال الذي يخالج نفس الباحث في هذا المقام هو :أي شيء كان إذا موضوع النزاع بينهم وبين نبيهم نوح عليه السلم .وإننا إذا
أرسلنا النظر لجل ذلك في آيات القرآن وتتبعناها ،تبين لنا أنه لم يكن موضوع النزاع بين الجانبين إل أمرين اثنين :أولهما أن نوحا
عليه السلم كان يقول لقومه :إن ال الذي هو رب العالمين والذي تؤمنون بأنه هو الذي قد خلقكم وخلق هذا العالم جميعا ،وهو
الذي يقضي حاجاتكم ،هو في الحقيقة إلهكم الواحد الحد ول إله إل هو ،وليس لحد من دونه أن يقضي لكم الحاجات ويكشف عنكم
الضر ويسمع دعواكم ويغيثكم ،ومن ثم يجب عليكم أل تعبدوا إل إياه ول تخضعوا إل له وحده.
وكان قو مه بخلف ذلك م صرين على قولهم بأن ال هو رب العالم ين دون ريب .إل أن هناك آلهة أخرى لها أيضا بعض الدخل في
تدبير نظام هذا العالم ،وتتعلق بهم حاجاتنا ،فل بد أن نؤمن بهم كذلك آلهة لنا مع ال:
وثانيهما أن القوم لم يكونوا يؤمنون بربوبية ال تعالى إل من حيث إنه خالقهم ،جميعا ومالك الرض والسماوات ،ومدبر أمر هذا
العالم ،ولم يكونوا يقولون بأنه وحده هو الحقيق – كذلك -بأن يكون له الحكم والسلطة القاهرة في أمور الخلق والجتماع والمدنية
والسياسة وسائر شؤون الحياة النسانية ،وبأنه وحده أيضا هادي السبيل وواضع الشرع ومالك المر والنهي ،وبأنه وحده يجب
كذلك أن يتبع .بل كانوا قد اتخذوا رؤساءهم وأحبارهم أربابا من دون اله في جميع تلك الشؤون .وكان يدعوهم نوح عليه السلم –
-20-
www.ikhwan-info.net
بخلف ذلك إلى أل يجعلوا الربوبية يتقسمها أرباب متفرقة بل عليهم أن يتخذوا ال تعالى وحده ربا بجميع ما تشتمل عليه كلمة
(الرب) من المعاني وأن يتبعوه ويطيعوه فيما يبلغهم من أوامر ال تعالى وشيعته نائبا عنهن فكان يقول لهم:
ويذكر القرآن بعد قوم نوح عادا قوم هود عليه السلم .ومعلوم أن هذه المة أيضا لم تكن جاحدة بوجود ال تعالى ،وكذلك لم تكن
تكفر بكونه إلها .بل كانت تؤمن بربوبية ال تعالى بالمعاني التي كان يؤمن بها قوم نوح عليه السلم .أما النزاع بينها وبين نبيها
هود عله السلم فلم يكن إل حول المرين الثنين اللذين كان حولهما نزاع بين نوح عليه السلم وقومه يدل على ذلك ما يأتي من
(وإلى عادٍ أخاهم هودا ،قال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره) (العراف)65 :
(قالوا أجئتنا لنعبد ال وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا) (العراف)70 :
(وتلك عادٌ جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمرَ كل جبّارٍ عنيد) (هود)59 :
ويأتي بعد ذلك ثمود الذين كانوا أطغى المم وأعصاها بعد عاد وهذه المة أيضا كان ضللها كضلل قومي نوح وهود من حيث
الصل والمبدأ فما كانوا جاحدين بوجود ال تعالى ول كافرين بكونه إلها وربا للخلق أجمعين .وكذلك ما كانوا يستنكفون عن عبادته
والخضوع بين يديه ،بل الذي كانوا يجحدونه هو أن ال تعالى هو الله الواحد ،وأنه ل يستحق العبادة إل هو ،وأن الربوبية خاصة
له دون غيره بجميع معانيها .فإنهم كانوا مصرين على إيمانهم بآلهة أخرى مع ال وعلى اعتقادهم أن أولئك يسمعون الدعاء،
ويكشفون الضر ويقضون الحاجات ،وكانوا يأبون إل أن يتبعوا رؤساءهم وأحبارهم في حياتهم الخلقية والمدنية ،ويستمدوا منهم بدلً
من ال تعالى شرعهم وقانون حياتهم .وهذا هو الذي أفضى بهم في آخر المر إلى أن يصبحوا أمة مفسدة ،فأخذهم من ال عذاب
-21-
www.ikhwan-info.net
(فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عادٍ وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم أل تعبدوا إل ال قالوا لو
شاء ربنا لنزل ملئكة فإنا بما أرسلتم به كافرون) (حم :السجدة )14-13
(وإلى ثمود أخاهم صالحا ،قال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره) (هود)61 :
(قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوّا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا)
(إذ قال لهم أخوهم صالحٌ أل تتقون .إني لكم رسولٌ أمين .فاتقوا ال وأطيعون) (الشعراء)144-151 :
(الشعراء)152-151 : (ول تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الرض ول يصلحون)
ويتلو ثمود قوم إبراهيم عليه السلم .ومما يجعل أمر هذه المة أخطر وأجدر بالبحث ،أن قد شاع خطأ بين الناس عن ملكها نمرود،
أنه كان يكفر بال تعالى ويدعي اللوهية .والحق أنه كان يؤمن بوجود ال تعالى ويعتقد بأنه خالق هذا العالم ومدبر أمره ،ولم يكن
يدعي الربوبية إل بالمعنى الثالث والرابع والخامس .وكذلك قد فشا بين الناس خطأ أن قوم إبراهيم عليه السلم هؤلء ما كانوا
يعرفون ال ول يؤمنون بألوهيته وربوبيته .إنما الواقع أن أمر هؤلء القوم لم يكن يختلف في شيء عن أمر قوم نوح وعاد وثمود.
فقد كانوا يؤمنون بال ويعرفون أنه هو الرب وخالق الرض والسماوات ومدبر أمر هذا العالم ،وما كانوا يستنكفون عن عبادته
كذلك .وأما غيّهم وضللهم فهو أنهم كانوا يعتقدون أن الجرام الفلكية شريكة مع ال في الربوبية بالمعنى الول والثاني ولذلك كانوا
يشركونها بال تعالى في اللوهية .وأما الربوبية بالمعنى الثالث والرابع والخامس فكانوا قد جعلوها خاصة لملوكهم وجبابرتهم .وقد
جاءت نصوص القرآن في ذلك من الوضوح والجلء بحيث يتعجب المرء :كيف لم يدرك الناس هذه الحقيقة وقصروا عن فهمها؟.
وهيا بنا ننظر قبل كل شيء في الحادث الذي حدث لبراهيم – عليه السلم -عند أول ما بلغ الرشد؛ والذي يصف فيه القرآن كيفية
(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا ،قال هذا ربي؛ فلما أفل ،قال ل أحب الفلين .فلما رأى القمر بازغا ،قال هذا ربي ،فلما أفلَ قال لئن
لم يهدني ربي لكونن من القوم الضالين .فلما رأى الشمس بازغة ،قال هذا ربي ،هذا أكبر؛ فلما أفلت قال يا قوم إني بريءٌ مما
تشركون .إني وجهتُ وجهي للذي فطر السماوات والرض حنيفا وما أنا من المشركين) (النعام)79-76 :
فيتبين واضحا من اليات المخطوط تحتها أن المجتمع الذي نشأ فيه إبراهيم عليه السلم،كان يوجد عنده تصور فاطر السماوات
والرض وتصوّر كونه ربا منفصلً عن تصوّر ربوبية السيارات السماوية .ول عجب في ذلك ،فقد كان القوم من ذرية المسلمين
-22-
www.ikhwan-info.net
الذين كانوا قد آمنوا بنوح عليه السلم ،وكان الدين السلمي لم يزل يحيا وُيجدد فيمن داناهم في القرب والقرابة من أمم عاد
وثمود ،على أيدي الرسل الكرام الذين توالوا عليها كما قال ع ّز وجل( :جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم) .فعلى ذلك كان
إبراهيم عليه السلم أخذ تصور كون ال ربا وفاطرا للسماوات والرض عن بيئته التي نشأ فيها .وأما التساؤل الذي كان يخالج
نفسه فهو عن مبلغ الحق والصحة فيما شاع بين قومه من تصوّر كون الشمس والقمر والسيارات الخرى شريكة مع ال في نظام
الربوبية حتى أشركوها بال تعالى في العبادة.فجدّ إبراهيم عليه السلم في البحث عن جوابه قبل أن يصطفيه ال تعالى للنبوة ،حتى
أصبح نظام طلوع السيارات السماوية وأفولها هاديا له إلى الحق الواقع وهو أنه ل رب إل فاطر السماوات والرض .ولجل ذلك تراه
يقول عند أفول القمر :لئن لم يهدني ربي لخافنّ أن أبقى عاجزا عن الوصول إلى الحق وانخدع بهذه المظاهر التي ل يزال ينخدع
بها مليين من الناس من حولي .ثم لما اصطفاه ال تعالى لمنصب النبوة أخذ في دعوة قومه إلى ال ،فإنك ترى بالتأمل في الكلمات
التي كان يعرض بها دعوته على قومه أن ما قلناه آنفا يزداد وضوحا وتبيانا:
(وكيف أخاف ما أشركتم ول تخافون أنكم أشركتم بال ما لم ينزّل به عليكم سلطانا) (النعام – )81
(إذ قال لبيه وقومه ماذا تعبدون .أأفكا آله ًة دون ال تريدون .فما ظنّكم بربّ العالمين) (الصافات)87 -85 :
(إنّا بُرآ ُء منكم ومما تعبدون من دون ال كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بال وحده) (الممتحنة)4 :
فيتجلى من جم يع القوال لبراه يم عل يه ال سلم أ نه ما كان يخا طب ب ها قوما ل يعرفون ال تعالى ويجحدون بكو نه إله الناس ورب
العالمين أو أذهانهم خالية من كل ذلك ،بل كان بين يديه قوم يشركون بال تعالى آلهة أخرى في الربوبية بمعناها الول والثاني وفي
اللوهية .ولذلك ل ترى في القرآن الكريم قولً واحدا لبراهيم عليه السلم قد قصد به إقناع أمته بوجود ال تعالى وبكونه إلها وربا
للعالمين ،بل الذي تراه يدعو أمته إليه في كل ما يقول هو أن ال سبحانه وتعالى هو وحده الرب والله.
ثم لنستعرض أمر نمرود .فالذي جرى بينه وبين إبراهيم عليه السلم من الحوار ،قصه القرآن في ما يأتي من اليات:
(ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه ال الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن
ال يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب فبهت الذي كفر) (البقرة – )258
-23-
www.ikhwan-info.net
أنه ليتضح جليا من هذا الحوار بين النبي وبين نمرود أنه لم يكن النزاع بينهما في وجود ال تعالى أو عدمه وإنما كان في أنه من
ذا يعتقده إبراهيم عليه السلم ربا؟ كان نمرود من أمة كانت تؤمن بوجود ل تعالى ،ثم لم يكن مصابا بالجنون واختلل العقل حتى
يقول هذا القول السخيف البين الحمق" :إني فاطر السماوات والرض ومدبر سير الشمس والقمر" فالحق أنه لم تكن دعواه أنه هو
ال ورب السماوات والرض وغنما كانت أنه رب المملكة التي كان إبراهيم –عليه السلم -أحد أفراد رعيتها .ثم أنه لم يكن يدعي
الربوبية لتلك المملكة بمعناها الول والثاني ،فإنه كان يعتقد بربوبية الشمس والقمر وسائر السيارات بهذين المعنيين ،بل كان يدعي
الربوب ية لمملك ته بالمع نى الثالث والرا بع والخا مس .وبعبارة أخرى كا نت دعواه أ نه مالك تلك الممل كة ،وأن جم يع أهالي ها عب يد له،
وأن سلطته المركزية أساس لجتماعهم ،وأمره قانون حياتهم .وتدل كلمات (أن آتاه ال الملك) دللة صريحة على أن دعواه للربوبية
كان أساسها التبجح بالملكية .فلما بلغه أن قد ظهر بين رعيته رجل يقال له إبراهيم ،ل يقول بربوبية الشمس والقمر ول السيارات
الخرى في دائرة ما فوق الطبي عة ،ول هو يؤ من بربوب ية صاحب العرش في دائرة ال سياسة والمدن ية ،ا ستغرب ال مر جدا فد عا
إبراهيم عليه السلم فسأله :من ذا الذي تعتقده ربا؟ فقال إبراهيم عليه السلم بادئ ذي بدء" :ربي الذي يحيي ويميت يقدر على إماتة
الناس وإحيائهم!" فلم يدرك نمرود غور المر فحاول أن يبرهن على ربوبيته بقوله" :وأنا أيضا أملك الموت والحياة ،فأقتل من أشاء
وأحقن دم من أريد! "..هنالك بين له إبراهيم عليه السلم أنه ل رب عنده إل ال الذي ل رب سواه بجميع معاني الكلمة ،وأنى يكون
ل حد غيره شرك في الربوب ية و هو ل سلطان له على الش مس في طلوع ها وغروب ها؟! وكان نمرود رجلً فطنا ،ف ما أن سمع من
إبراهيـم عليـه السـلم هذا الدليـل القاطـع حتـى تجلت له الحقيقـة ،وتفطـن لن دعواه للربوبيـة فـي ملكوت ال تعالى بيـن السـموات
والرض إن هي إل زعم باطل وادعاء فارغ فبهت ولم ينبس ببنت شفة .إل انه قد كان بلغ منه حب الذات واتباع هوى النفس وإيثار
مصالح العشيرة ،مبلغا لم يسمح له بأن ينزل عن ملكيته المستبدة ويئوب إلى طاعة ال ورسوله ،مع أنه قد تبين له الحق والرشد.
فعلى ذلك قد أعقب ال تعالى هذا الحوار بين النبي ونمرود بقوله( :وال ل يهدي القوم الظالمين) والمراد أن نمرود لما لم يرض أن
يت خذ الطر يق الذي كان ينب غي له أن يتخذه بعد ما تبين له ال حق ،بل آ ثر أن يظلم الخلق ويظلم نف سه مع هم ،بال صرار على ملكي ته
المستبدة الغاشمة لم يؤته ال تعالى نورا من هدايته ،ولم يكن من سنة ال أن يهدي إلى سبيل الرشد من كان ل يطلب الهداية من
تلقاء نفسه.
-24-
www.ikhwan-info.net
ويعقب قوم إبراهيم في القرآن قوم لوط ،الذين بعث لهدايتهم وإصلح فسادهم لوط بن أخي إبراهيم عليهما السلم .-ويدلنا القرآن
الكريم أن هؤلء أيضا ما كانوا متنكرين لوجود ال تعالى ول كانوا يجحدون بأنه هو الخالق والرب بالمعنى الول والثاني .أما الذي
كانوا يأبونه ول يقبلونه فهو العتقاد بأن ال هو الرب المعنى الثالث والرابع والخامس ،والذعان لسلطة النبي من حيث كونه نائبا
من ع ند ال أمينا .ذلك بأن هم كانوا يبتغون أن يكونوا أحرارا مطل قي الحر ية يتبعون ما يشاؤون من أهوائ هم ورغبات هم وتلك كا نت
جريمتهم الكبيرة التي ذاقوا من جرائها أليم العذاب .ويؤيد ذلك ما يأتي من النصوص القرآنية:
العالمين .أتأتون الذّكران من العالمين .وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قو ٌم عادون) (الشعراء)166 – 161 :
وبدي هي أن م ثل هذا القول لم ي كن ليخا طب به إل قوم ل يجدون بوجود ال تعالى وبكو نه خالقا وربا لهذا العالم؟ فأ نت ترى أن هم ل
يجيبون لوطا عليه السلم بقول من مثل" :ما ال؟" من أين له أن يكون خالقا للعالم؟" أو "أنى له أن يكون ربنا ورب الخلق أجمعين؟"
وقد ذكر القرآن الكريم هذا الحديث في موضع آخر بالكلمات التية:
(ولوطا إذ قال لقو مه إن كم لتأتون الفاح شة ما سبقكم ب ها من أ حد من العالم ين .أإن كم لتأتون الرجال وتقطعون ال سبيل وتأتون في
ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إل أن قالوا ائتنا بعذاب ال إن كنت من الصادقين) (العنكبوت)29-28 :
أفيجوز أن يكون هذا جواب قوم ينكرون وجود ال تعالى؟ .ل وال ومـن ذلك يتـبين أن جريمتهـم الحقيقيـة لم تكـن إنكار ألوهيـة ال
تعالى وربوبيته ،بل كا نت جريمت هم أنهم على إيمانهم بال تعالى إلها وربا فيما فوق العالم ال طبيعي ،كانوا يأبون أن يطيعوه ويتبعوا
قانونه في شؤونه الخلقية والمدنية والجتماعية ،يمتنعون من أن يهتدوا بهدي نبيه لوط عليه السلم.
ولنذكر في الكتاب بعد ذلك أهل مدين وأصحاب اليكة الذين بعث إليهم شعيب عليه السلم .ومما نعرف عن أمرهم أنهم كانوا من
ذر ية إبراه يم عل يه السلم .إذن ل حا جة إلى أن نب حث فيهم :هل كانوا يؤمنون بوجود ال تعالى وبكو نه إلها وربا أم ل؟ إنهم كانوا
في حقي قة ال مر أ مة نشأت على ال سلم في بدا ية أمر ها ،ثم أخذت بالف ساد ب ما أ صاب عقائد ها من النحلل وأعمال ها من ال سوء.
-25-
www.ikhwan-info.net
ويبدو مما جاء عنهم في القرآن كأن القوم كانوا بعد ذلك كله يدّعون لنفسهم اليمان ،فإنك ترى شعيبا عليه السلم يكرر لهم القول:
يا قوم اعملوا كذا وكذا إن كنتم مؤمنين وفي خطاب شعيب عليه السلم لقومه وأجوبة القوم له دللة واضحة على أنهم كانوا قوما
يؤمنون بال وينزلو نه منزلة الرب والمعبود .ولكن هم كانوا قد تورطوا في نوع ين من الضلل :أحده ما أن هم كانوا أ صبحوا يعتقدون
اللوه ية والربوب ية في آل هة أخرى مع ال تعالى ،فلم ت عد عبادت هم خال صة لو جه ال ،وال خر أن هم كانوا يعتقدون أن ربوب ية ال ل
مد خل ل ها في شؤون الحياة الن سانية من الخلق والجتماع والقت صاد والمدن ية وال سياسة ،وعلى ذلك كانوا يزعمون أن هم مطلقوا
العنان في حياتهم المدنية ولم أن يتصرفوا في شؤونهم كيف يشاؤون ،ويصدق ذلك ما يأتي من اليات:
(وإلى مد ين أخا هم شعيبا ،قال يا قوم اعبدوا ال ما ل كم من إله غيره قد جاءت كم بين ٌة من رب كم فأوفوا الك يل والميزان ول تبخ سوا
الناس أشياءهم ول تفسدوا في الرض بعد إصلحها ذلكم خي ٌر لكم إن كنتم مؤمنين) (العراف)85 :
(وإنْ كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلتُ به وطائفةٌ لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم ال بيننا وهو خيرُ الحاكمين) (العراف)87 :
(ويـا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسـط ول تبخسـوا الناس أشياءهـم ول تعثوا فـي الرض مفسـدين .بقيـة ال خي ٌر لكـم إن كنتـم
ك لنت الحليم
مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ .قالوا يا شعيب أصلتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاءُ إن َ
والعبارات الخيرة المخطوط تحتها خصوصية الدللة على ضللهم الحقيقي في باب الربوبية واللوهية.
فرعون وآله
وه يا ب نا نن ظر الن في ق صة فرعون وآله ،ف من قد شاع عن هم في الناس من الخطاء والكاذ يب أك ثر م ما شاع في هم عن نمرود
وقومه .فالظن الشائع أن فرعون لم يكن منكرا لوجود ال تعالى فحسب ،بل كان يدعي اللوهية لنفسه أيضا .ومعناه أن قد بلغت منه
ال سفاهة أ نه كان يجا هر على رؤوس الناس بدعوى أ نه فا طر ال سماوات والرض ،وكا نت أم ته من البله والحما قة أن ها كا نت تؤ من
بدعواه تلك .وال حق الوا قع الذي يش هد به القرآن والتار يخ هو أن فرعون لم ي كن يختلف ضلله في باب اللوه ية والربوب ية عن
ضلل نمرود ،ول كان يختلف ضلل آله عن ضلل قوم نمرود .وإنما الفرق بين هؤلء وأولئك أنه قد كان نشأ في آل فرعون لبعض
السباب السياسية عناد وتعصب وطني شديد على بني إسرائيل ،فكانوا لمجرد هذا العناد يمتنعون من اليمان بألوهية ال وربوبيته،
وإن كانت قلوبهم تعترف بها شأن أكثر الملحدين الماديين في عصرنا هذا.
-26-
www.ikhwan-info.net
وبيان هذا الجمال أنه لما استتبت ليوسف عليه السلم السلطة على مصر ،استفرغ جهده في نشر السلم وتعاليمه بينهم .ورسم
على أر ضه من ذلك أثرا محكما لم يقدر على محوه أ حد إلى القرون .وأ هل م صر وإن لم يكونوا إذ ذاك قد آمنوا بد ين ال عن بكرة
أبيهم ،إل أنه ل يم كن أن يكون قد بقي فيهم من لم يعرف وجود ال تعالى ولم يعلم أنه هو فاطر ال سماوات والرض .ول يس المر
ي قف ع ند هذا بل ال حق أن كان تم للتعال يم ال سلمية من النفوذ والتأث ير في كل م صري ما جعله – على ال قل – يعت قد بأن ال إله
الل هة رب الرباب في ما فوق العالم ال طبيعي ولم ي بق في تلك الرض من يك فر بألوه ية ال تعالى .وأ ما الذ ين كانوا قد أقاموا على
الك فر ،فكانوا يجعلون مع ال شركاء في اللوه ية والربوب ية .وكا نت تأثيرات ال سلم المختل فة هذه في نفوس أ هل م صر باق ية إلى
الز من الذي ب عث ف يه مو سى عل يه ال سلم .والدل يل على ذلك تلك الخط بة ال تي ألقا ها أم ير من القباط في مجلس فرعون .وذلك أن
فرعون حينما أبدى إرادته في قتل موسى عليه السلم ،لم يصبر عليه هذا المير القبطي من أمراء مجلسه ،وكان قد أسلم وأخفى
(أتقتلون رجلً أن يقول ربي ال وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن
ف كذاب .يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الرض فمن ينصرنا من بأس ال إن جاءنا).
ال ل يهدي من هو مسر ٌ
(يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الحزاب .مثل داب قوم نوحٍ وعادٍ وثمود والذين من بعدهم).
(ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث ال من بعده رسولً) ( ..ويا قوم ما
لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار .تدعونني لكفر بال وأشرك به ما ليس لي به عل مٌ وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار)(.غافر
وتشهد هذه الخطبة من أولها إلى آخرها بأنه لم يزل أثر شخصية ال نبي يوسف عليه السلم باقيا في نفوس القوم إلى ذلك الحين،
و قد م ضت على عهده قرون متعددة .وبفضل ما علمهم هذا النبي الجل يل ،لم يكونوا قد بلغوا من الجهالة أل يعلموا شيئا عن وجود
ال تعالى ،أو أل يعرفوا أنه الرب والله ،وأن سيطرته وسلطته غالبة على قوى الطبية في هذا العالم ،وأن غضبه مما يخاف ويتقى.
ويت ضح أيضا من آ خر هذه الخطبة أن أ مة فرعون لم تكن تج حد بألوهية ال وربوبي ته جحودا باتا ،وإن ما كان ضللها كضلل المم
الخرى مما ذكرناه آنفا – أي كانت هذه المة أيضا تشرك بال تعالى في صفتي اللوهية والربوبية وتجعل له فيهما أندادا.
أما مثار الشبهة في أمر فرعون فهو سؤاله لموسى عليه السلم (وما رب العالمين) حينما سمع منه( :إنا رسول رب العالمين!) ثم
قوله لصاحبه هامان( :ابن لي صرحا لعلي أبلغ السباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى) ووعيده لموسى عليه السلم( :لئن
اتخذت إلها غيري لجعل نك من الم سجونين) ،وإعل نه لقو مه( :أ نا رب كم العلى) وقوله لملئه( :ل أعلم ل كم من إله غيري) – .فم ثل
-27-
www.ikhwan-info.net
هذه الكلمات التي قالها فرعون قد خيلت إلى الناس أنه كان ينكر وجود ال تعالى وكان فارغ الذهن من تصور رب العالمين ،ويزعم
لنفسه أنه الله الواحد ،ولكن الواقع الحق أنه لم يكن يدعي ذلك كله إل بدافع من العصبية الوطنية .وذلك أنه لم يكن المر في زمن
النبي يوسف عليه السلم قد وقف على أن شاعت تعاليم السلم في ربوع مصر بفضل شخصيته القوية الجليلة ،بل جاوز ذلك إلى
أن تمكن لبني إسرائيل نفوذ بالغ في الرض مصر تبعا لما تهيأ ليوسف عليه السلم من السلطة والكلمة النافذة في حكومة مصر.
فبقيت سلطة بني إسرائيل مخيمة على القطر المصري إلى ثلثمائة سنة أو أربعمائة .ثم أخذ يخالج صدور المصريين من العواطف
الوطن ية والقوم ية ما جعل هم يتع صبون على ب ني إ سرائيل ،واش تد ال مر ح تى الغوا سلطة ال سرائيليين ونفوذ هم إلغاء .فتولى ال مر
بعدهـم السـر المصـرية الوطنيـة وتتابعـت فـي الحكـم .وهؤلء الملوك الجدد لمـا أمسـكوا زمام المـر لم يقتصـروا على إخضاع بنـي
إسرائيل وكسر شوكتهم ،بل تعدوه إلى أن حاولوا محو كل أثر من آثار العهد اليوسفي في مصر وإحياء تقاليد ديانتهم الجاهلية .فلما
بعث إليهم في تلك الونة موسى عليه السلم ،خافوا على غلبتهم وسلطتهم أن تنتقل من أيديهم إلى أيدي بني إسرائيل مرة أخرى.
فلم ي كن يب عث فرعون إل هذا العناد واللجاج على أن ي سأل مو سى عل يه ال سلم ساخطا م تبرما :و ما رب العالم ين؟ و من يم كن أن
ل وجود رب العالم ين .وتت ضح هذه الحقي قة كأو ضح ما يكون م ما جاء في القرآن
يكون إلها غيري؟ و هو في الحقي قة لم ي كن جاه ً
الكر يم من أحادي ثه وأحاد يث ملئه وخ طب مو سى عل يه ال سلم .فيقول فرعون – مثل – تأكيدا لقوله إن مو سى عل يه ال سلم ل يس
برسول ال.
(فلول ألقي عليه أسورةٌ من ذهب أو جاء معه الملئكة مقترنين) (الزخرف)53 :
أفكان لرجل فارغ الذهن من وجود ال تعالى والملئكة أن يقول هذا القول وفي موضع آخر يقص القرآن الحوار التي بين فرعون
(فقال له فرعون إ ني لظ نك يا مو سى م سحورا .قال ل قد عل مت ما أنزل هؤلء إل رب ال سماوات والرض ب صائر وإ ني لظ نك يا
(فلما جاءتهم آياتنا مبصرةً قالوا هذا سحرٌ مبينٌ وجحدوا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) (النمل)14-13 :
ويصور لنا القرآن ناديا آخر جمع موسى عليه السلم وآل فرعون بهذه الية:
ب وقد خاب من افترى .فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن
(قال لهم موسى ويلكم ل تفتروا على ال كذبا فيسحتكم بعذا ٍ
هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما بطريقتكم المثلى) (طه)63-61 :
-28-
www.ikhwan-info.net
والظاهر أنه لم يكن قام النزاع ونشأ الخذ والرد بينهم وبين نبيهم موسى عليه السلم حين أنذرهم عذاب ال ونبههم على سوء مآل
ما كانوا يفترون ،إل لن هم قد كان في قلوب هم ول شك بق ية من أ ثر عظ مة ال تعالى وجلله وهيب ته ول كن حاكم هم الوطني ين ل ما
أنذروهم بخطر النقلب السياسي العظيم ،وحذروهم عاقبة اتباعهم لموسى وهارون ،وهي عودة غلبة السرائيليين على أبناء مصر،
وبعد ما قد تبين لنا من هذه الحقيقة ،من السهل علينا أن نبحث :ماذا كان مثار النزاع بين موسى عليه السلم وفرعون ،وماذا كانت
حقي قة ضلله وضلل قوم هن وبأي معا ني كل مة (الرب) كان فرعون يد عي لنف سه اللوه ية والربوب ية .فتعال نتأ مل لهذا الغرض ما
-1إن الذ ين كانوا يلحون من مل فرعون على حسم دعوة مو سى عليه الصلة والسلم وا ستئصالها من أرض مصر ،يخاطبون
فإذا نظرنا في هاتين اليتين وأضفنا إليهما ما قد زودنا به التاريخ وآثار المم القديمة أخيرا من المعلومات عن أهالي مصر زمن
ل من فرعون وآله كانوا يشركون بال تعالى في المع نى الول والثا ني لكل مة (الرب) ويجعلون م عه شركاء
فرعون ،يتجلى ل نا أن ك ً
من الصنام ويعبدونها .والظاهر أن فرعون لو كان يدعي لنفسه الربوبية فيما فوق العالم الطبيعي ،أي لو كان يدعي أنه هو الغالب
المتصرف في نظام السباب في هذا العالم ،وأنه ل إله ول رب غيره في السماوات والرض ،ولم يعبد اللهة الخرى أبدا.
فليس المراد بذلك أن فرعون كان ينفي جميع ما سواه من اللهة .وإنما كان غرضه الحقيقي من ذلك رد دعوة موسى عليها لسلم
وإبطالها .ولما كان موسى عليه السلم – يدعو إلى إله ل تنحصر ربوبيته في دائرة ما فوق الطبيعة فحسب ،بل هو كذلك مالك المر
والنهي ،وذو القوة والسلطة القاهرة بالمعاني السياسية والمدنية ،قال فرعون لقومه :يا قوم ل أعلم لكم مثل ذلك الله غيري ،وتهدد
-29-
www.ikhwan-info.net
وممـا يعلم كذلك مـن هذه اليات ،وتؤيده شواهـد التاريـخ وآثار المـم القديمـة ،أن فراعنـة مصـر لم يكونوا يدعون لنفسـهم مجرد
الحاكميـة المطلقـة ،بـل كانوا يدعون كذلك نوعا من القداسـة والتنزه بانتسـابهم إلى اللهـة وال صنام ،حرصـا منهـم على أن يتغلغـل
نفوذهم في نفوس الرعية ويستحكم استيلؤهم على أرواحهم .ولم تكن الفراعنة منفردة بهذا الدعاء ،بل الحق أن السر الملكية ما
زالت في أكثر أقطار العالم تحاول الشركة – قليلً أو كثيرا – في اللوهية والربوبية في دائرة ما فوق الطبيعة ،علوة على ما كانت
تتوله مـن الحاكميـة السـياسية ،ومـا زالت لجـل ذلك تفرض على الرعيـة أن تقوم بيـن يديهـا بشيـء مـن شعائر العبوديـة ،على أن
دعوا هم تلك لللوه ية ال سماوية لم تكن هي المق صودة بذاتها في الحقي قة ،وإن ما كانوا يتذرعون بها إلى تأث يل حاكميتهم السياسية.
ومن ذلك نرى أنه ما زالت السر الملكية في مصر وغيرها من القطار الجاهلية تذهب ألوهيتها بذهاب سلطانها السياسي ،وقد بقيت
( )3ولم تكن دعوى فرعون الصلية الغالبة المتصرفة في نظام السنن الطبيعية ،بل باللوهية السياسية! فكان يزعم أنه الرب العلى
لرض مصر ومن فيها بالمعنى الثالث والرابع والخامس لكلمة (الرّب) ويقول إني أنا مالك القطر المصري وما فيه من الغنى والثروة
وأ نا الحق يق بالحاكم ية المطل قة ف يه ،وشخ صيتي المركز ية هي ال ساس لمدي نة م صر واجتماع ها ،وإذن ل يجرينّ في ها إلّ شريع تي
(ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه النهار تجري من تحتي أفل تبصرون) (الزخرف – )51
وهذا الساس نفسه هو الذي كانت تقوم عليه دعوى نمرود للربوبية.
وهو كذلك الساس الذي رفع عليه فرعون المعاصر ليوسف عليه السلم بنيان ربوبيته على أهل مملكته.
( )4أمّا دعوة موسى عليه السلم التي كانت سبب النزاع بينه وبين فرعون وآله ،فهي في الحقيقة أنه ل إله ول ربّ بجميع معاني
كلمـة (الرب) إل ال رب العالميـن ،وهـو وحده الله والرّب فيمـا فوق العالم الطـبيعي ،كمـا أنـه هـو الله والرب بالمعانـي السـياسية
والجتماع ية ،ل جل ذلك ي جب أل نخلص العبادة إل له ،ول نت بع في شؤون الحياة المختل فة إل شر عه وقانو نه ،وا نه – أي مو سى
عليه السلم – قد بعثه ال تعالى باليات البينات وسيُنزل ال تعالى أمره ونهيه لعباده بما يوحي إليه؛ لذلك يجب أن تكون أزمّة أمور
عباده بيده ،ل بيد فرعون .ومن هنا كان فرعون ورؤساء حكومته يُعلون أصواتهم المرّة بعد المرّة بأن موسـى وهارون – عليهما
السلم – قد جاءا يسلبان أرض مصر .وأرادا أن يذهبا بنظمنا الدينية والمدنية ليستبدل بها ما يشاءان من النظم والقواعد.
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين .إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد) (هود)97-96 :
-30-
www.ikhwan-info.net
(ول قد فت نا قبل هم قوم فرعون وجاء هم ر سولٌ كر يم .أن أدّوا إليّ عبا َد ال إ ني ل كم ر سول أم ين .وان ل تعلوا على ال إ ني آتي كم
(إنا أرسلنا إليكم رسو ًل شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولً فعصى فرعون الرسول فأذناه أخذا وبيلً) (المزملّ)16-15 :
(قال فمن ربكما يا موسى .قال ربّنا الذي أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى) (طه)50-49 :
(قال فرعون وما رب العالمين .قال رب السماوات والرض وما بينهما إن كنتم موقنين .قال لم نّ حوله أل تستمعون .قال ربكم ورب
آبائكم الولين .قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون .قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون .قال لئن اتخذت إلها
(وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربّه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الرض الفساد) (غافر)26 :
(قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) (طه – )63
وبإنعام النظر في هذه اليات بالتدريج الذي قد سردناها به ،يتجلى أن الضلل الذي تعاقبت فيه المم المختلفة من أقدم العصور ،كان
هو عينه قد غشت وادي النيل ظلماته ،وأن الدعوة التي قام بها جميع النبياء منذ البد ،كانت هي نفسها يدعو بها موسى وهارون
عليهما السلم.
اليهود والنصارى
وتطلع علي نا ب عد آل فرعون ب نو إ سرائيل وال مم الخرى ال تي دا نت باليهود ية والن صرانية .وهؤلء ل مجال لل ظن في هم أن يكونوا
منكر ين لوجود إله العالم ،أو يكونوا ل يعتقدون بألوهي ته وربوبيّ ته فإن القرآن نف سه يش هد بكون هم أ هل الكتاب .وأ ما ال سؤال الذي
ينشأ في ذهن الباحث عن أمرهم فهو أنه ما هو على التحديد الخطأ في عقيدتهم ومنهج عملهم في باب الربوبية – الذي قد عدهم
القرآن من أجله من القوم الضالين؟ والجواب المجمل على السؤال تجده في القرآن نفسه في آيته الكريمة:
( قل يا أ هل الكتاب ل تغلوا في دين كم غ ير ال حق ول تتبعوا أهواء قو ٍم قد ضلوا من قبلُ وأضلوا كثيرا وضلّوا عن سواء ال سبيل)
(المائدة – )77
فيعلم من هذه الية أن ضلل اليهود والنصارى هو من حيث الصل والساس نفس الضلل الذي ارتطمت فيه المم المتقدمة ،وتدلنا
هذه الية أيضا أن ضللهم هذا كان آتيا من غلوّهم في الدين .وها نحن نرى بعد ذلك كيف يفصل القرآن هذا الجمال:
-31-
www.ikhwan-info.net
(وقالت اليهود عزير ابن ال وقالت النصارى المسيح ابن ال) (التوبة)30 :
(لقد كفر الذين قالوا إن ال هو المسيح ابن مريم .وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا ال ربي وربكم) (المائدة – )72
(ل قد ك فر الذ ين قالوا إن ال ثالث ثلثة و ما من إله إل إله وا حد)( .وإذ قال ال يا عي سى بن مر يم أأ نت قلت للناس اتخذو ني وأمي
إلهين من دون ال قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) (المائدة)116 ،73 :
(ما كان لبشرٍ أن يؤتيه ال الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون ال ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون
الكتاب وبما كنتم تدرسون .ول يأمرَكم أن تتخذوا الملئكة والنبيين أربابا ،أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) (آل عمران)80-79 :
فكان ضلل أهل الكتاب حسب ما تجل عليه هذه اليات :أولً أنهم بالغوا في تعظيم النفوس المقدسة كالنبياء والولياء والملئكة التي
تستحق التكريم والتعظيم لمكانتها الدينية ،فرفعوها من مكانتها الحقيقية إلى مقام اللوهية وجعلوها شركاء مع ال ودخلء في تدبير
أ مر هذا العالم ،ثم عبدو ها وا ستغاثوا ب ها واعتقدوا أن ل ها ن صيبا في اللوه ية والربوب ية الميمنت ين على ما فوق العالم ال طبيعي،
أي أن الذين لم تكن وظيفتهم في الدين سوى أن يعلموا الناس أحكام الشريعة اللهية ،ويزكوهم حسب مرضاة ال ،تدرج بهم هؤلء
حتى أنزلوهم بحيث يحلون لهم ما يشاؤون ويحرمون عليهم ما يشاؤون ،ويأمرونهم وينهونهم حسب ما تشاء أهواؤهم بدون سند
من كتاب ال ،ويسنون لهم من السنن ما تشتهي أنفسهم .كذلك وقع هؤلء في نفس النوعين من الضلل الساسي الخطير اللذين قد
وقع فيهما قبلهم أمم نوح وإبراهيم وعاد وثمود وأهل مدين وغيرهم من المم ،فأشركوا بال الملئكة وعبادة المقربين – كما أشرك
أولئك – فـي الربوبيـة المهيمنـة على مـا فوق العالم الطـبيعي ،وجعلوا الربوبيـة بمعانيهـا السـياسية والمدنيـة – كمـا جعـل أولئك –
للن سان بد ًل من ال رب ال سماوات .وراحوا ي ستمدون مبادئ المدن ية والجتماع والخلق وال سياسة وأحكام ها جميعا من ب ني آدم،
مستغنيين في ذلك عن السلطان المنزل من عند ال تعالى .وأفضى بهم الغي إلى أن قال فيهم القرآن:
(ألم تر إلى الذين أتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) (النساء)51 :
ب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت .أولئك شرّ مكانا
(قل هل أنبئكم بش ٍر من ذلك مثوبة عند ال من لعن ُه ال وغض َ
(الجب تُ) كل مة جام عة شاملة لجم يع أنواع الوهام والخرافات من ال سحر والتمائم والشعوذة والتكهّن وا ستكشاف الغ يب والتشاؤم
والتفاؤل والتأثيرات الخارجـة عـن القوانيـن الطبيعيـة .والمراد مـن (الطاغوت) كـل فرد أو طائفـة أو إدارة تبغـي وتتمرد على ال،
-32-
www.ikhwan-info.net
وتجاوز حدود العبودية وتدعي لنفسها اللوهية والربوبية .فلما وقعت اليهود والنصارى في ما تقدم ذكره من النوعين من الضلل،
كا نت نتيجة أولها أن أخذت جميع أنواع الوهام مأخذها من قلوبهم وعقولهم ،وأما الثاني فاستدرجهم من عبادة العلماء والمشايخ
والصوفية والزهاد إلى عبادة الجبابرة وطاعة الظالمين الذين كانوا قد بغوا على ال علنية!
المشركون العرب
هذا ولنبحث الن في المشركين العرب الذين بعث فيهم خاتم النبيين صلى ال عليه وسلم ،والذين كانوا أول من خاطبهم القرآن ،من
أي نوع كان ضلل هم في باب اللوه ية والربوب ية ،هل كانوا يجهلون ال رب العالم ين ،أو كانوا ينكرون وجوده ،فب عث إلي هم ال نبي
صلى ال عليه وسلم ليبث في قلوبهم اليمان بوجود الذات اللهية! وهل كانوا ل يعتقدون ال عز وجل إلها للعالمين وربا ،فأنزل ال
القرآن ليقنع هم بألوهي ته وربوبي ته؟ و هل كانوا يأبون عبادة ال والخضوع له؟ أو كانوا ل يعتقدو نه سميع الدعاء وقا ضي الحا جة؟
وهل كانوا يزعمون أن اللت والعزّى ومناة وهبل واللهة الخرى هي في الحقيقة فاطرة هذا الكون ومالكته والرازقة فيه والقائمة
على تدبيره وإدارته؟ أو كانوا يؤمنون بأن آلهتهم تلك مرجع القانون ومصدر الهداية والرشاد في شؤون المدنية والخلق؟
كل واحد من هذه السئلة إذا راجعنا فيه القرآن فإنه يجيب عليه بالنفي؛ ويبين لنا أن المشركين العرب لم يكونوا قائلين بوجود ال
تعالى فح سب ،بل كانوا يعتقدو نه مع ذلك خالق هذا العالم كله – ح تى آلهت هم – ومال كه ور به العلى ،وكانوا يذعنون له باللوه ية
والربوبيـة .وكان ال هـو الجناب العلى الرفـع الذي كانوا يدعونـه ويبتهلون إليـه فـي مآل المـر عندمـا يمسـهم الضـر أو تصـيبهم
المصائب ،ثم كانوا ل يمتنعون عن عبادته والخضوع له ،ولم تكن عقيدتهم في آلهتهم وأصنامهم أنها قد خلقتهم وخلقت هذا الكون،
وترزقهم جميعا ،ول أنها تهديهم وترشدهم في شؤون حياتهم الخلقية والمدنية ،فاليات التية تشهد بما تقول:
(قلن لمـن الرض ومـن فيهـا إن كنتـم تعلمون .سيقولون ل ،قـل أفل تذكرون .قـل مـن رب السـماوات السـبع ورب العرش العظيـم.
سـيقولن ال ،قـل أفل تتقون .قـل مـن بيده ملكوت كـل شيءٍ وهـو يجيـر ول يجار عليـه إن كنتـم تعلمون .سـيقولون ل ،قـل فأنـى
كل مكا نٍ وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا ال مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين .فلما أنجاهم إذا هم يبغون في
(وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إل إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان النسان كفورا) (السراء)67 :
-33-
www.ikhwan-info.net
(والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إل ليقربونا إلى ال زلفى) (الزمر)3 :
ثم إنهم لم يكونوا يزعمون للهتهم شيئا من مثل أنها تهديهم في شؤون حياتهم ،فال تعالى يأمر رسوله صلى ال لعيه وسلم في
سورة يونس (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق) الية 35 :فيرميهم سؤاله هذا بالسكات ،ول يجيب أحد منهم عليه بنعم! عن
اللت والعزى ومناة واللهة الخرى تهدينا سواء السبيل في العقيدة والعمل ،وتعلمنا مبادئ العدالة والمن والسلم في حياتنا الدنيا،
وإننا نستمد من منبع علمها معرفة حقائق الكون الساسية ،فعند ذلك يقول ال عز وجل لنبيه صلى ال عليه وسلم:
(قل ال يهدي للحق .أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن ل يهدي إل أن يُهدى فمالكم كيف تحكمون) (يونس)35 :
ويبقى بعد هذه النصوص القرآنية أن نطلب جواب هذا السؤال :ماذا كان ضللهم الحقيقي في باب الربوبية الذي بعث ال نبيه صلى
ال عل يه و سلم نرده إلى ال صواب ،وأنزل كتا به المج يد ليخرج هم من ظلما ته إلى نور الهدا ية؟ وإذا تأمل نا القرآن للتحق يق في هذه
المسألة ،نقف في عقائدهم وأعمالهم كذلك على النوعين من الضلل اللذين مازال يلزمان المم الضالة منذ القدم.
فكانوا بجانـب يشركون بال آلهـة وأربابا مـن دونـه فـي اللوهيـة والربوبيـة فيمـا فوق الطبيعـة ،ويعتقدون بأن الملئكـة والنفوس
الن سانية المقد سة وال سيارات ال سماوية – كل أولئك دخيلة بو جه من الوجوه في صلحيات الحكم القائم فوق نظام العلل وال سباب.
ولذلك لم يكونوا يرجعون إلى ال تعالى وحده فـي الدعاء والسـتعانة وأداء شعائر العبوديـة ،بـل كانوا يرجعون كذلك فـي تلك المور
كلها إلى آلهتهم الم صنوعة الملف قة .وكانوا بجا نب آخر يكادون ل يتصورون في باب الربوب ية المدن ية وال سياسية أن ال تعالى هو
الرب بهذه المعا ني أيضا .فكانوا قد اتخذوا أئمت هم الديني ين ورؤ ساءهم و كبراء عشائر هم أربابا بتلك المعا ني ،ومن هم كانوا يتلقون
القوانين لحياتهم.
(و من الناس من يع بد ال على حر فٍ فان أ صابه خيرٌ اطمأن به وإن أ صابته فتن ٌة انقلب على وج هه خ سر الدن يا والخرة ،ذلك هو
الخسران المبين .يدعو من دون ال ما ل يضره وما ل ينفعه ،ذلك هو الضلل البعيد يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى
(ويعبدون من دون ال مال يضرهم ول ينفعهم ويقولون هؤلء شفعاؤ نا عند ال ،قل أتنبئون ال بما ل يعلم في السماوات ول في،
-34-
www.ikhwan-info.net
(قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الرض في يومين وتجعلون له أندادا) (حم السجدة)9 :
(قل أتعبدون من دون ال مال يملك لكم ضرّا ول نفعا وال هو السميع العليم) (المائدة)76 :
(وإذا م سّ النسان ض ٌر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوّله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل ل أندادا ليضل عنه سبيله)
(الزمر)8 :
(وما بكم من نعمة فمن ال ثم إذا م سّكم الض ّر فإليه تجأرون .ثم إذا كشف الضرّ عنكم إذا فري قٌ منكم بربهم يشركون .ليكفروا بما
(وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم) (النعام)137 :
ومن الظاهر أنه ل يس المراد بـ (شركاء) في هذه الية :اللهة والصنام ،بل المراد بهم أولئك القادة والزعماء الذين زينوا للعرب
ق تل أولد هم وجعلوه في أعين هم مكر مة .فأدخلوا تلك البد عة الشنعاء على د ين إبراه يم وإ سماعيل عليه ما ال سلم .وظا هر كذلك أن
أولئك الزعماء لم يكن القوم قد اتخذوهم شركاء من حيث كانوا يعتقدون أن لهم السلطان فوق نظام السباب في هذا العالم ،أو كانوا
يعبدونهم ويدعونهم ،بل كانوا قد جعلوهم شركاء مع ال في اللوهية والربوبية من حيث كانوا يسلمون بحقهم في أن يشرعوا لهم
ما يشاؤون من النظم والقوانين لشؤونهم المدنية والجتماعية ،وأمورهم الخلقية والدينية.
(أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به ال) (الشورى)21 :
وسيأتي تفصيل معاني كلمة (الدين) في موضعه من هذه الرسالة ،وهناك سنتبين سعة معاني هذه الية وشمولها .على أنه يتضح في
هذا المقام أن ما كان يتوله أولئك الزعماء والرؤساء من وضع الحدود والقواعد التي هي بمثابة الدين بغير إذن من ال تعالى ،وأن
اعتقاد العرب بكونها مما يجب اتباعه والع مل به ،كان هو عينه شركة مع ال من أولئك في ألوهي ته وربوبي ته ،وإيمانا من هؤلء
بشركتهم تلك!
أن هذا الب حث الذي قد خض نا غماره في ال صفحات ال سابقة ب صدد ت صورات ال مم الضالة وعقائد ها ،ليك شف القناع عن حقي قة أن
جم يع ال مم ال تي قد و صمها القرآن بالظلم والضلل وف ساد العقيدة من لدن أعرق الع صور في القدم إلى ز من نزول القرآن ،لم ت كن
-35-
www.ikhwan-info.net
منها جاحدة بوجود ال تعالى ول كانت تنكر كون ال ربا وإلها بالطلق .بل كان ضللها الصلي المشترك بين جميعها أنها كانت قد
قسمت المعاني الخمسة لكلمة (الرب) التي قد حددناها في بداية هذا الباب – مستشهدين باللغة والقرآن – قسمين متباينين:
فأما المعاني التي تدل على أن (الرب) هو الكفيل بتربية الخلق وتعهده وقضاء حاجته وحفظه ورعايته بالطرق الخارجة عن النظام
الطـبيعي ،فكانـت لهـا عندهـم دللة أخرى مختلفـة ،وهـم وإن كانوا ل يعتقدون إل ال تعالى ربهـم العلى بموجبهـا ،إل أنهـم كانوا
يشركون به في الربوبية الملئكة والجن والقوى الغيبية والنجوم والسيارات والنبياء والولياء والئمة الروحانيين.
وأ ما المع نى الذي يدل على أن (الرب) هو مالك ال مر والن هي و صاحب ال سلطة العل يا ،وم صدر الهدا ية والرشاد ،ومر جع القانون
والتشر يع ،وحا كم الدولة والممل كة وق طب الجتماع والمدن ية ،فكا نت له عند هم دللة أخرى متباي نة :وبمو جب هذا المفهوم كانوا إ ما
يعتقدون أن النفوس النسانية وحدهم ربا من دون ال ،وإما يستسلمون لربوبية تلك النفوس في شؤون الخلق والمدنية والسياسة
مـع كونهـم يؤمنون إيمانا نظريا بأن ال هـو الرب ،هذا هـو الضلل الذي مازالت تبعـث لحسـمه الرسـل عليهـم اللم مـن لدن فجـر
التاريخ ،ولجل ذلك بعث ال أخيرا محمدا صلى ال عليه وسلم .وكانت دعوتهم جميعا أن الرب بجميع معاني الكلمة واحد ليس غير،
وهو ال تقدست أسماؤه .والربوبية ما كانت لتقبل التجزئة ولم يكن جزء من أجزائها ليرجع إلى أحد من دون ال بوجه من الوجوه،
وأن نظام هذا الكون مرتبـط بأصـله ومركزه وثيـق الرتباط ،قـد خلفـه ال الواحـد الحـد ،ويحكمـه الفرد الصـمد ،ويملك كـل السـلطة
وال صلحيات ف يه الله الفذّ المو حد! فل يد ل حد غ ير ال في خلق هذا النظام ول شر يك مع ال في إدار ته وتدبيره ول ق سيم له في
ملكو ته .وب ما أن ال تعالى هو مالك ال سلطة المركز ية ،فإ نه هو وحده رب كم في دائرة ما فوق الطبي عة ،ورب كم في شؤون المدن ية
وال سياسة والخلق ،ومعبود كم ووج هة ركوع كم و سجودكم ،ومر جع دعائ كم وعماد توكل كم ،والمتك فل بقضاء حاجات كم ،وكذلك هو
الملك ،ومالك الملك ،وهو الشارع والمقنن ،وهو المر والناهي .وكل هاتين الدللتين للربوبية اللتين قد فصلتم إحداهما عن الخرى
لجاهليتكم ،هي في حقيقة المر قوام اللوهية وعمادها وخاصة إلهية الله .لذلك ل يمكن فصل إحداهما عن الخرى ،كما ل يجوز أن
يشرك مع ال أحد من خلقه باعتبار أيهما .وأما السلوب الذي يدعو به القرآن دعوته هذه فها هو ذا بعبارته:
(إن رب كم ال الذي خلق ال سماوات والرض في ستة أيام ثم ا ستوى على العرش يغ شي الل يل والنهار يطل به حثيثا والش مس والق مر
(العراف)54 : والنجوم مسخرات بأمره ،أل له الخلق والمر ،تبارك ال رب العالمين)
(قل من يرزقكم من السماء والرض ،أمّن يملك السمع والبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر المر
(يونس)32-31 : فسيقولون ال ،فقل أفل تتقون .فذلكم ال ربكم الحق ،فما بعد الحق إل الضلل فأنى تصرفون)
-36-
www.ikhwan-info.net
(خلق ال سماوات والرض بال حق يكور الل يل على النهار ويكور النهار على الل يل و سخر الش مس والق مر كل يجري ل جل م سمى) ..
(ذل كم ال رب كم خالق كل ش يء ل إله إل هو فأ نى تؤفكون) … (ال الذي ج عل ل كم الرض قرارا وال سماء بناءً و صوركم فأح سن
صوركم ورزقكم من الطيبات ،ذلكم ال ربكم فتبارك ال رب العالمين .هو الحي ل إله إل هو فادعوه مخلصين له الدين) (غافر،61 :
(وال خلق كم من تراب) … (يولج الل يل في النهار ويولج النهار في الل يل و سخر الش مس والق مر كلٌ يجري ل جل م سمى ،ذل كم ال
رب كم له الملك والذ ين تدعون من دو نه ما يملكون من قطم ير .إن تدعو هم ل ي سمعوا دعاء كم ولو سمعوا ما ا ستجابوا ل كم ويوم
ل من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصّل
(ضرب لكم مث ً
اليات لقومٍ يعقلون .بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم)..
(وما قدروا ال حق قدره والرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطوياتٌ بيمينه سبحانه وتعالى عما يُشركون) (الزمر)67 :
(فلله الحمد رب السماوات ورب الرض رب العالمين .وله الكبرياءُ في السماوات والرض وهو العزيز الحكيم) (الجاثية)37-36 :
(رب السماوات والرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا) (مريم)65 :
(ول غيب السماوات والرض وإليه يرجع المر كله فاعبده وتوكل عليه) (هود)123 :
(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون) (النبياء)93-92 :
( قل يا أ هل الكتاب تعالوا إلى كل مة سواءٍ بين نا وبين كم أل نع بد إل ال ول نشرك به شيئا ول يت خذ بعض نا بعضا أربابا من دون ال)
-37-
www.ikhwan-info.net
(قل أعوذ برب الناس .ملك الناس .إله الناس) (الناس)3-1 :
فبقراءة هذه اليات بالترتيـب الذي سـردناها بـه ،يتـبين للقارئ أن القرآن يجعـل (الربوبيـة) مترادفـة مـع الحاكميـة والملكيـة (
)Sovereigntyويصف لنا (الرب) بأنه الحاكم المطلق لهذا الكون ومالكه وآمره الوحيد ل شريك له.
وطاعته بهذا العتبار هي الساس الفطري الصحيح الذي يقوم عليه بنيان حياتنا الجتماعية على الوجه الصحيح المرضي ،والصلة
وبهذا العتبار هو حري بأن نعبده نحن وجميع خلئفه ،ونطيعه ونقنت له.
لقـد كان العرب والشعوب الجاهليـة فـي كـل زمان اخطأوا – ول يزالون يخطئون إلى هذا اليوم – بأنهـم وزعوا هذا المفهوم الجامـع
الشا مل للربوب ية على خم سة أنواع من الربوب ية ،ثم ذ هب ب هم ال ظن والو هم أن تلك النواع المختل فة للربوب ية قد تر جع إلى ذوات
مختل فة ونفوس ش تى ،بل ذهبوا إلى أن ها راج عة إلي ها بالف عل .فجاء القرآن فأث بت با ستدلله القوي المق نع أ نه ل مجال أبدا في هذا
النظام المركزي لن يكون أمر من أمور الربوبية راجعا – في قليل أو كثير -إلى غير من بيده السلطة العليا ،وأن مركزية هذا النظام
نفسها هي الدليل البيّن على أن جميع أنواع الربوبية مختصة بال الواحد الحد الذي أعطى هذا النظام خلقه.
ولذلك فإن من يظن جزءا من أجزاء الربوبية راجعا إلى أحد من دون ال ،أو يرجعه إليه ،بأي وجه من الوجوه ،وهو يعيش في هذا
النظام ،فإنه يحارب الحقيقة ويصدف عن المواقع ويبغي على الحق ،وباقي بيديه إلى التهلكة والخسران بما يتعب نفسه في مقاومة
الحق الواقع.
-38-
www.ikhwan-info.net
-3العبـــــادة
التحقيق اللغوي
العبودة والعبودية؛ معناها اللغوي :الخضوع والتذلل ،أي استسلم المرء وانقياده لحد غيره انقيادا ل مقاومة معه ول عدول عنه ول
وعلى ذلك تقول العرب( :بع ير معبّ د) للبع ير ال سلس المنقاد ،و (طر يق معبّد) للطر يق المم هد الو طء .و من هذا ال صل اللغوي نشأت
في مادة هذه الكل مة معا ني العبود ية والطا عة والتأله والخد مة والق يد والم نع .ف قد جاء في ل سان العرب ت حت مادة ( ع ب د) ما
(( )1الع بد) المملوك خلف ال حر( :تع بد الر جل) :اتخذه عبدا أي مملوكا أو عامله معاملة الع بد ،وكذلك (ع بد الر جل واعبده واعتبده)
وقـد جاء فـي الحديـث الشريـف :ثلثـة أنـا خصـمهم :رجـل اعتبـد محررا – وفـي روايـة أعبدُ محررا – أي اتخـذ رجلً حرا عبدا له
ومملوكا :وفي القرآن أن موسى عليه السلم قال لفرعون :وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل) اتخذتهم عبيدا لك.
(( )2العبادة) الطاعة مع الخضوع :ويقال (عبد الطاغوت) أي أطاعه؛ (إياك نعبد) أي نطيع الطاعة التي يخضع معها؛ و (اعبدوا
رب كم) أي أطيعوا رب كم؛ و (قومه ما ل نا عبادون) أي دائنون و كل من دان لملك ف هو عا بد له؛ وقال ا بن النباري( :فلن عا بد) و هو
(( )3عبده عبادة ومعبدا ومعبدة) تأله له( .التعبّد) :التنسك .هو (المعبّد) المكرم المعظم :كأنه يعبد .قال الشاعر:
ويتضـح مـن هذا الشرح اللغوي لمادة (ع ب د) أن مفهومهـا السـاسي أن يذعـن المرء لعلء أحـد وغلبتـه ،ثـم ينزل له عـن حريتـه
واستقلله ويترك إزاءه كل المقاومة والعصيان وينقاد له انقيادا .وهذه هي حقيقة العبدية والعبودية ،ومن ذلك أن أول ما يتمثل في
ذهن العر بي لمجرد سماعه كل مة (الع بد) و (العبادة) هو تصور العبدية والعبودية .وبما أن وظيفة الع بد الحقيق ية هي إطاعة سيده
وامتثال أوامره ،فحتما يتبعه تصور الطاعة .ثم إذا كان العبد لم يقف به المر على أن يكون قد أسلم نفسه لسيده طاعة وتذللً ،بل
كان مع ذلك يعت قد بعلئه ويعترف بعلو شأ نه وكان قل به مفعما بعوا طف الش كر والمتنان على نع مه وأياد يه ،فإ نه يبالغ في تمجيده
وتعظيمه ويتفنن في إبداء الشكر على الئه و في أداء شعائر العبدية له ،وكل ذلك ا سمه التأله والتنسك .وهذا التصور ل ينضم إلى
-39-
www.ikhwan-info.net
معا ني العبد ية إل إذا كان الع بد ل يخ ضع ل سيده رأ سه فحسب ،بل يخ ضع م عه قل به أيضا .وأ ما المفهومان الباقيان فإنه ما ت صوران
وإذا رجع نا إلى القرآن ب عد هذا التحق يق اللغوي رأي نا أن كل مة (العبادة) قد وردت ف يه غالبا في المعا ني الثل ثة الولى .ف في ب عض
المواضـع قـد أريـد بهـا المعنيان الول والثانـي معا ،وفـي الخرى المعنـى الثانـي وحده ،وفيـا لثالثـة المعنـى الثالث فحسـب ،كمـا قـد
استعملت في مواضع أخرى بمعانيها الثلثة في آن واحد .أما أمثلة ورودها بالمعنيين الول والثاني في القرآن فهي:
(ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين .إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين .فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا
والمراد بالعبادة في كل تا اليت ين هو العبود ية والطا عة .فقال فرعون :أن قوم مو سى وهارون عابدون ل نا ،أي عب يد ل نا وخاضعون
لمرنا ،وقال موسى :إنك عبّدت بني إسرائيل ،اتخذتهم عبيدا وتستخدمهم حسب ما تشاء وترضى.
(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا ل إن كنتم إياه تعبدون)(.البقرة)172 :
إن المناسـبة التـي أنزلت بهـا هذه اليـة هـي أن العرب قبـل السـلم كانوا يتقيدون بأنواع مـن القيود فـي المآكـل والمشارب ،امتثالً
لوامر أئمتهم الدينيين واتباعا لوهام آبائهم الولين ،فلما أسلموا قال ال تعالى:
إن كن تم تعبدون ني فعلي كم أن تحطموا جم يع تلك القيود وتأكلوا ما أحلل ته ل كم هنيئا مريئا ،ومعناه أن كم إن لم تكونوا عبادا لحبار كم
وأئمت كم ،بل ل تعالى وحده ،وإن كن تم قد هجر تم طاعت هم إلى طاع ته ،ف قد و جب علي كم أن تتبعوا ما وض عه ل كم من الحدود ،ل ما
وضعوه في الحلل والحرام .ومن ذلك جاءت كلمة (العبادة) في هذا الموضع أيضا بمعاني العبودية والطاعة.
(قل هل أُنبئكم بشرٍ من ذلك مثوبة عند ال من لعنه ال وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت)(.المائدة)60 :
(والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى ال لهم البشرى) (الزمر)17 :
-40-
www.ikhwan-info.net
المراد بعبادة الطاغوت في كل من هذه اليات الثلث هو العبود ية للطاغوت وإطاع ته .ومع نى الطاغوت في إ صطلح القرآن – ك ما
سبقت الشارة إل يه – كل دولة أو سلطة و كل إما مة أو قيادة تب غي على ال وتتمرد ،ثم تن فذ حكم ها في أر ضه وتح مل عباده على
طاعتها بالكراه أو بالغراء أو بالتعليم الفاسد .فاستسلم المرء لمثل تلك السلطة وتلك المامة والزعامة وتعبّده لها ثم طاعته إياها
وخذ بعد ذلك اليات التي قد وردت فيها كلمة (العبادة) بمعناها الثاني فحسب؛ قال ال تعالى:
(ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن ل تعبدوا الشيطان إنه لكم عد ٌو مبين)( .يس)60 :
الظاهر أنه ل يتأله أحد للشيطان في هذه الدنيا ،بل كل يلعنه ويطرده من نفسه ،لذلك فإن الجريمة التي يصم بها ال تعالى بنى آدم
يوم القيامة ليست تألههم للشيطان في الحياة الدنيا ،بل إطاعتهم لمره وابتاعهم لحكمه وتسرعهم إلى السبل التي أراهم إياها.
(احشروا الذيـن ظلموا وأزواجهـم ومـا كانوا يعبدون .مـن دون ال فاهدوهـم إلى صـراط الجحيـم) … (وأقبـل بعضهـم على بعـض
يت ساءلون .قالوا إن كم كن تم تأتون نا عن اليم ين .قالوا بل لم تكونوا مؤمن ين .و ما كان ل نا علي كم من سلطان بل كن تم قوما طاغ ين)
(الصافات)30– 27 ، 23 – 22 :
ويت ضح بإنعام الن ظر في هذه المحاورة ال تي حكا ها القرآن ب ين العابد ين وب ين ما كانوا يعبدون ،أن ل يس المراد بالمعبود ين في هذا
المقام اللهـة والصـنام التـي كان يتأله لهـا القوم ،بـل المراد أولئك الئمـة والهداة الذيـن أضلوا الخلق متظاهريـن بالنصـح ،وتمثلوا
للناس في لبوس القدي سيين المطهر ين ،فخدعو هم ب سبحاتهم وجبات هم وجعلوا تبعا ل هم ،والذ ين أشاعوا في هم ال شر والف ساد با سم
النصح والصلح .فالتقليد العمى لولئك الخداعين والتباع لحكامهم هو الذي قد عبر ال عنه بكلمة العبادة في هذه الية.
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون ال والمسيح بن مريم وما أمروا إل ليعبدوا إلها واحدا) (التوبة)31 :
والمراد باتخاذ العلماء والحبار أربابا من دون ال ثم عبادت هم في هذه ال ية هو اليمان بكونهـم مالكـي المـر والنهـي ،والطاعـة
لحكامهم بدون سند من عند ال أو الرسول ،وقد صرح بهذا المعنى رسول ال صلى ال عليه وسلم نفسه في الحاديث الصحيحة،
فلما قيل له :إننا لم نعبد علماءنا وأحبارنا ،قال :ألم تحلوا ما أحلوه وتحرموا ما حرّموه؟
-41-
www.ikhwan-info.net
ولننظر بعد ذلك في اليات التي قد وردت فيها كلمة (العبادة) بمعناها الثالث .وليكن منك على ذكر في هذا المقام أن العبادة بمعنى
أوله ما :أن يؤدي المرء ل حد من الشعائر كال سجود والركوع والقيام والطواف وتقب يل عت بة الباب والنذر والن سك ،ما يؤد يه عادة
بقصد التأله والتنسك ،ول عبرة بأن يكون المرء يعتقده إلها أعلى مستقلً بذاته ،أو يأتي بكل ذلك إياه وسيلة للشفاعة والزلفى إليه
أو مؤمنا بكونه شريكا للله العلى وتابعا له في تدبير أمر هذا العالم.
والثاني :أن يظن المرء أحدا مسيطرا على نظام السباب في هذا العالم ثم يدعوه في حاجته ويستغيث به في ضره وآفته ،ويعوذ به
فهذان لوجهان من كلهما داخل في معاني التأله ،والشاهد بذلك ما يأتي من آيات القرآن:
(قل إني نُهيتُ أنْ أع ُبدَ الذين تدعون من دون ال لما جاءني البينات من ربي) (غافر)66 :
(فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون ال وهبنا له إسحاق) (مريم)49 ،48 :
(ومن أضل ممن يدعو من دون ال من ل يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون .وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء
ففي كل من هذه اليات الثلث قد صرح القرآن نفسه بأن المراد بالعبادة فيها هو الدعاء والستغاثة.
والمراد بعبادة الجن واليمان بهم في هذه الية ،تفصله الية التية من سورة الجن:
فيتبين منه أن المراد بعبادة الجن هو العياذ بهم واللجوء إليهم في الهوال ونقص الموال والنفس ،كما أن المراد باليمان بهم هو
(ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون ال فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلء أم هم ضلوا السبيل .قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن
-42-
www.ikhwan-info.net
ويتجلى من بيان هذه الية أن المقصود بالمعبود ين فيها هم الولياء وال نبياء والصلحاء والمراد بعبادتهم هو العتقاد بكونهم أجل
وأرفع من خصائص العبدية والظن بكونهم متصفين بصفات اللوهية وقادرين على العانة الغيبية وكشف الضر ،والغاثة ،ثم القيام
بين يديهم بشعائر التكريم والتعظيم فما يكاد يكون تألها وقنوتا!.
(ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملئكة أهؤلء إياكم كانوا يعبدون .قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم) (سبأ)41-40 :
والمقصـود بعبادة الملئكـة فـي هذه اليـة هـو التأله والخضوع لهياكلهـم وتماثيلهـم الخياليـة ،كمـا كان يفعله أهـل الجاهليـة ،وكان
غرضهم من وراء ذلك أن يرضوهم ،فيستعطفوهم ويستعينوا بهم في شؤون حياتهم الدنيا.
(ويعبدون من دون ال ما ل يضرهم ول ينفعهم ويقولون هؤلء شفعاؤنا عند ال) (يونس)18 :
(والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إل ليقربونا إلى ال زلفى) (الزمر)3 :
والمراد بالعبادة في هذه الية أيضا هو التأله ،وقد فصل فيها أيضا الغرض الذي كانوا لجله يعبدونهم.
ويت ضح كل الوضوح من جم يع ما تقدم من المثلة أن كل مة (العبادة) في القرآن قد ا ستعملت في ب عض الموا ضع بمعن يي العبود ية
والطا عة و في الخرى بمع نى الطا عة فح سب ،و في الثال ثة بمع نى التأله وحده والن ق بل أن ن سوق لك المثلة ال تي قد جاءت في ها
كلمة (العبادة) شاملة لجميع المعاني الثلثة ،ل بد أن تكون على ذكر من بعض المور الولية.
إن المثلة التي قد سردناها آنفا ،تتضمن جميعا ذكر عبادة غير ال ،أما اليات التي قد وردت فيها كلمة (العبادة) بمعنيي العبودية
والطاعـة ،فإن المراد بالمعبود فيهـا إمـا الشيطان ،وإمـا الناس المتمردون الذيـن جعلوا أنفسـهم طواغيـت ،فحملوا عباد ال على
عبادت هم وإطاعت هم بدلً من عبادة ال وإطاع ته ،أو هم الئ مة والزعماء الذي قادوا الناس إلى ما اخترعوه من سبل الحياة وطرق
المعاش جاعل ين كتاب ال وراء ظهر هم .وأ ما اليات ال تي قد وردت في ها (العبادة) بمع نى التأله ،فإن المعبود في ها عبارة إ ما عن
الولياء والنبياء والصلحاء الذين اتخذهم الناس آلهة لهم على رغم أنف هدايتهم وتعليمهم ،وإما عن الملئكة والجن الذين اتخذوهم
ل سوء فهم هم شركاء في الربوب ية المهيم نة على قانون الطبي عة ،أو هو عبارة عن تماث يل القوى الخيال ية وهياكل ها .ال تي أ صبحت
سواءا تعبدهم الناس أو أطاعوهم أم تألهوا لهم ،ويقول إن جميع من طفقتم تعبدونهم عباد ال وعبيده ،فل يستحقون أن يعبدوا ول
-43-
www.ikhwan-info.net
أن تم مكت سبون من عبادت هم غ ير الخي بة والمذلة والخزي ،وأن مالك هم في الحقي قة ومالك جم يع ما في ال سماوات والرض هو ال
الواحد ،وبيده كل المر وجميع السلطات والصلحيات ولجل ذلك ل يجدر بالعبادة إل هو وحده.
(إن الذ ين تدعون من دون ال عبادٌ أمثالكـم فاد عو فلي ستجيبوا لكـم إن ك تم صادقين) … (والذ ين تدعون من دو نه ل ي ستطيعون
(وقالوا اتّخـذ الرحمـن ولدا سـبحانه بـل عبادٌ مكرمون .ل يسـبقونه بالقول وهـم بأمره يعملون يعلم مـا بيـن أيديهـم ومـا خلفهـم ول
(وجعلوا بينه وبين الجنّة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون) (الصافات)158 :
(لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا ل ول الملئكة المقربون ،ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا) (النساء:
)172
(تسبح له السماوات السبع والرض ومن فيهنّ ،وإن من شيء إل يسبح بحمده ولكن ل تفقهون تسبيحهم) (السراء)44 :
(إن كلّ من في السماوات والرض إل آتي الرحمن عبدا .لقد أحصاهم وعدهم عدا .وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) (مريم)95-93 :
(قل اللهم ما لك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاءُ وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء
كذلك بعد أن يقيم القرآن البرهان على كون جميع من عبدهم الناس بوجه من الوجوه عبيدا ل وعاجزين أمامه ،يدعو جميع النس
والجن إلى أن يعبدوا ال تعالى وحده بكل معنى من معاني (العبادة) المختلفة ،فل تكن العبدية إل له ،ول يطع إل هو ،ول يتأله المرء
إل له ،ول تكن حبة خردل من أي تلك النواع للعبادة لوجه غير ال!
(والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى ال لهم البشرى) (الزمر)17 :
(ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن ل تعبدوا الشيطان إنه لكم عد ٌو مبين .وأن اعبدوني هذا صراطٌ مستقيم).
-44-
www.ikhwan-info.net
(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا ل إن كنتم إياه تعبدون) (البقرة)172 :
قد أمر ال تعالى في هذه اليات أن تختص له العبادة التي هي عبارة عن العبدية والعبودية والطاعة والذعان ،وقرينة ذلك واضحة
فـي اليات ،فإن ال تعالى يأمـر فيهـا أن اجتنبوا إطاعـة الطاغوت والشيطان والحبار والرهبان والباء والجداد واتركوا عبديتهـم
(قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون ال لما جاءني البيّنات من ربي وأُمرت أن أسلم لرب العالمين) (غافر)66 :
(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم .إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) (غافر)60 :
(ذلكم ال ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير .إن تدعوهم ل يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم
(قل أتعبدون من دون ال ما ل يملك لكم ضرا ول نفعا وال هو السميع العليم) (المائدة)76 :
وقد أمر ال تعالى في هذه اليات أن تختص له العبادة بمعنى التأله .وقرينة ذلك أيضا واضحة في الية ،وهو أن كلمة (العبادة) قد
ا ستعملت في ها بمع نى الدعاء .و قد جاء في ما سبق و ما ل حق من اليات ذ كر الل هة الذ ين كانوا يشركون هم بال تعالى في الربوب ية
فالن ل يس من ال صعب في ش يء على ذي عين ين أن يتف طن إلى أ نه حيث ما ذكرت في القرآن عبادة ال تعالى ولم ت كن في اليات
ال سابقة أو اللحقة مناسبة تحصر كل مة العبادة في مع نى بعينه من المعاني المختلفة للكلمة ،فإن المراد بها في جميع هذه المك نة
(ذلكم ال ربكم ل إله إل هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل) (النعام)102 :
(قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فل أعبد الذين تعبدون من دون ال ولكن أعبد ال الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من
( ما تعبدون من دو نه إل أ سماء سميتموها أن تم وآباؤ كم ما أنزل ال ب ها من سلطان .إن الح كم إل ل أ مر أن ل تعبدوا إل إياه ذلك
-45-
www.ikhwan-info.net
(ول غيب السماوات والرض وإليه يرجع المر كله فاعبده وتوكل عليه) (هود)123 :
(له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا .رب السماوات والرض و ما بينهما فاعبده وا صطبر لعبادته) (مر يم:
)65 ،64
فل داعي لن تخص كلمة (العبادة) في هذه اليات وما شاكل ها بمع نى التأله وحده أو بمع نى العبد ية والطاعة فحسب .بل الحق أن
القرآن في م ثل هذه اليات يعرض دعو ته بأكمل ها .و من الظا هر أ نه لي ست دعوة القرآن إل أن تكون العبد ية والطا عة والتأله ،كل
أولئك خالصا لوجه ال تعالى :و من ثم إن حصر معاني كلمة (العبادة) في معني بعي نه ،في الحقيقة ،حصر لدعوة القرآن في معان
ضيقة .ومن نتائجه المحتومة أن من آمن بدين ال وهو يتصور دعوة القرآن هذا التصور الضيق المحدود ،فإنه لن يتبع تعاليمه إل
-46-
www.ikhwan-info.net
-4الـــــدين
التحقيق اللغوي
( )1الق هر وال سلطة والح كم وال مر ،والكراه على الطا عة ،وا ستخدام القوة القاهرة ( )Sovereigntyفو قه ،وجعله عبدا ،ومطيعا،
فيقولون (دان الناس) أي قهرهم على الطاعة ،وتقول (دنتهم فدانوا) أي قهرتهم فأطاعوا .و (دنت القوم) أي أذللتهم واستعبدتهم ،و
(دان الرجل) إذا عز و (دنت الرجل) حملته على ما يكره .و (دُيّن فلن) إذا حمل على مكروه .و (دنته) أي سسته وملكته .و (ديّنته
وجاء في الحديث النبوي على صاحبه الصلة والسلم( :الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) أي قهر نفسه وذللها ،ومن ذلك
يقال (ديان) للغالب القاهر على قطر أو أمة أو قبيلة والحاكم عليها ،فيقول العشى الحرمازي يخاطب النبي صلى ال عليه وسلم:
وبهذا العتبار يقال (مدين) للعبد والمملوك و (المدينة) للمة فـ (ابن المدينة) معناه ابن المة كما يقول الخطل:
وجاء في التنزيل:
( )2الطاعة والعبدية والخدمة والتسخر لحد والئتمار بأمر أحد ،وقبول الذلة والخضوع تحت غلبته وقهره .فيقولون (دنتهم فدانوا)
أي قهرتهم فأطاعوا ،و (دنت الرجل) أي خدمته ،وجاء في الحديث ،قال رسول ال صلى ال عليه وسلم (أريد من قريش كلمة تدين
بها العرب) أي نطيعهم ونخضع لهم .بهذا المعنى يقال للقوم المطيعين (قوم دين) بهذا المعنى نفسه قد وردت كلمة الدين في حديث
( )3الشرع والقانون والطريقة والمذهب والملة والعادة والتقليد ،فيقولون (ما زال ذلك ديني وديدني) أي دأبي وعادتي .ويقال (دان)
إذا اعتاد خيرا أو شرا .وفي الحديث (كانت قريش ومن دان بدينهم) أي من كان على طريقتهم وعادتهم ،وفيه (أنه عليه السلم كان
على دين قومه) أي كان يتبع الحدود والقواعد الرائجة في قومه في شؤون النكاح والطلق والميراث وغير ذلك من الشؤون المدنية
والجتماعية.
-47-
www.ikhwan-info.net
( )4الجزاء والمكافأة والقضاء والحساب .فمن أمثال العرب (كما تدين تدان) أي كما تصنع يصنع بك .وقد روى القرآن قول الكفار
(أإنا لمدينون) أي هل نحن مجزيون محاسبون؟ وفي حديث ابن عمر رضي عنهما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم (ل تسبوا
السلطين ،فإن كان ل بد فقولوا اللهم دنهم كما يدينون) أي افعل بهم كما يفعلون بنا .ومن هنا تأتي كلمة (الديان) بمعنى القاضي
وحاكم المحكمة وسئل أحد الشيوخ عن علي كرم ال وجهه فقال( :إنه كان ديان هذه المة بعد نبيها) أي كان أكبر قضاتها بعده.
فيتبين مما تقدم أن كلمة (الدين) قائم بنيانها على معان أربعة ،أو بعبارة أخرى هي تمثل الذهن العربي تصورات أربعة أساسية.
وكا نت العرب ت ستعمل هذه الكل مة ق بل ال سلم بهذا المع نى تارة أخرى ح سب لغات هم المختل فة؛ إل أن هم ل ما لم ت كن ت صوراتهم لتلك
المور الرب عة واض حة جل ية ول كان ل ها من ال سمو والب عد ن صيب ،كان ا ستعمال كل مة (الد ين) مشوبا بشوائب الل بس والغموض،
ولذلك لم ي تح ل ها أن تكون م صطلحا من م صطلحات نظام ف كر مت ين ،ح تى نزل القرآن فو جد هذه الكل مة ملئ مة لغرا ضه؛ فاقتنا ها
وا ستعملها لمعان يه الواض حة المتعي نة ،وا صطنعها م صطلحا له مخ صوصا .فأ نت ترى أن كل مة (الد ين) في القرآن تقوم مقام نظام
-4المكافأة التي تكافئها السلطة العليا على اتباع ذلك النظام والخلص له أو على التمرد عليه والعصيان له.
ويطلق القرآن كل مة (الد ين) على معني ها الول والثا ني تارة ،وعلى المع نى الثالث أخرى وعلى الرا بع ثال ثة ،وطورا ي ستعمل كل مة
(الدين) ويريد بها ذلك النظام الكامل بأجزائه الربعة في آن واحد .وليضاح ذلك يجمل بنا النظر فيما يأتي من اليات الكريمة:
-48-
www.ikhwan-info.net
(ال الذي جعل لكم الرض قرارا والسماء بناءً وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم ال ربكم فتبارك ال رب العالمين،
هو الحي ل إله إل هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد ل رب العالمين) (غافر)65-64 :
(قل إني أمرت أن أعبد ال مخلصا له الدين .وأمرت لن أكون أول المسلمين) ( ..قل ال أعبد مخلصا له ديني .فاعبدوا ما شئتم من
دونه) …
(والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى ال لهم البشرى) ( ..إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد ال مخلصا له الدين .أل ل
(وله ما في السماوات والرض وله الدين واصبا أفغير ال تتقون) (النحل)52 :
(أفغير دين ال يبغون وله أسلم من في السماوات والرض طوعا وكرها وإليه يرجعون) (آل عمران)82 :
فـي جميـع هذه اليات قـد وردت كلمـة (الديـن) بمعنـى السـلطة العليـا ،ثـم الذعان لتلك السـلطة وقبول إطاعتهـا وعبديتهـا .والمراد
بإخلص الد ين ل أل ي سلم المرء ل حد من دون ال بالحاكم ية والح كم وال مر ،ويخلص إطاع ته وعبدي ته ل تعالى إخل صا ل يتع بد
ك من دي ني فل أعبدُ الذين تعبدون من دون ال ولكن أع بد ال الذي يتوفا كم وأمرت أن أكون من
( قل يا أي ها الناس إن كن تم في ش ٍ
المؤمنين .وأن أقم وجهك للدين حنيفا ول تكونن من المشركين) (يونس)105-104 :
(إن الحُكم إل ل أمر أن ل تعبدوا إل إياه ذلك الدين القيم) (يوسف)40 :
ل من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) … (بل
(ضرب لكم مث ً
اتّبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم)… (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة ال التي فطر الناس عليها ل تبديل لخلق ال ذلك الدين القيم
(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ول تأخذكم بهما رأفة في دين ال) (النور)2 :
-49-
www.ikhwan-info.net
(إ نّ عدة الشهور ع ند ال اث نا ع شر شهرا في كتاب ال يوم خلق ال سماوات والرض ،من ها أرب عة حرمٌن ذلك الد ين الق يم) (التو بة:
)36
(كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) (يوسف)76 :
(وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم) (النعام)137 :
(أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به ال) (الشورى)21 :
المراد ب ـ (الد ين) في جم يع هذه اليات هو القانون والحدود والشرع والطري قة والنظام الفكري والعملي الذي يتق يد به الن سان فإن
كانت السلطة التي يستند إليها المرء لتباعه قانونا من القوانين أو نظاما من النظم سلطة ال تعالى ،فالمرء ل شك في دين ال عز
وجل ،وأما إن كانت تلك السلطة سلطة ملك من الملوك ،فالمرء في دين الملك ،وإن كانت سلطة المشايخ والقسوس فهو في دينهم.
وكذلك إن كا نت تلك ال سلطة سلطة العائلة أو العشيرة أو جماه ير ال مة ،فالمرء ل جرم في د ين هؤلء .ومو جز القول أن من يت خذ
المرء سنده أعلى السناد وحكمه منتهى الحكام ثم يتبع طريقا بعينه بموجب ذلك ،فإنه –ل شك -بدينه يدين.
(أرايت الذي يكذب بالدين .فذلك الذي يدع اليتيم .ول يحض على طعام المسكين) (الماعون )3-1
قد وردت كلمة (الدين) في هذه اليات بمعنى المحاسبة والقضاء والمكافأة.
إلى هذا المقام قد استعمل القرآن كلمة (الدين) فيما يقرب من معانيها الرائجة في كلم العرب الول .ولكننا نرى بعد ذلك أنه يستعمل
هذه الكل مة م صطلحا جامعا شاملً ير يد به نظاما للحياة يد عن فيه المرء ل سلطة عل يا لكائن ما ،ثم يق بل إطاع ته واتبا عه ويتق يد في
حيا ته بحدوده وقواعده وقواني نه وير جو في طاع ته العزة والتر قي في الدرجات وح سن الجزاء ،ويخ شى في ع صيانه الذلة والخزي
وسوء العقاب .ولعله ل يوجد في لغة من لغات العالم مصطلح يبلغ من الشمول والجامعية أن يحيط بكل هذا المفهوم .وقد كادت كلمة
-50-
www.ikhwan-info.net
( )Stateتبلغ قريبا من ذلك المفهوم ولكنها تفتقر إلى مزيد من التساع لجل إحاطتها بحدود معاني كلمة (الدين) .وفي اليات التالية
(قاتلوا الذ ين ل يؤمنون بال ول باليوم ال خر ول يحرّمون ما حرّم ال ور سوله ول يدينون د ين ال حق من الذ ين أوتوا الكتاب ح تى
(الد ين ال حق) في هذه ال ية كل مة ا صطلحية قد شرح معاني ها وا ضح ال صطلح نف سه عز و جل ،في الج مل الثلث الولى ،و قد
أوضحنا بوضع العلمات على متن الية أنه قد ذكر ال تعالى فيها جميع معاني كلمة (الدين) الربعة ،ثم عبر عن مجموعها بكلمة
(الدين الحق).
(وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدعُ ربّه إني أخاف أن يبدّل دينكم أو يظهر في الرض الفساد) (غافر)26 :
وبملحظة جميع ما ورد في القرآن من تفاصيل لقصة موسى عليه السلم وفرعون ،ل يبقى من شك أن كلمة (الدين) لم ترد في تلك
اليات بمعنى النحلة والديانة فحسب ،أريد بها الدولة ونظام المدينة أيضا .فكان مما يخشاه فرعون ويعلنه :أنه إن نجح موسى عليه
السلم في دعوته ،فإن الدولة ستدول وإن نظام الحياة القائم على حاكمية الفراعنة والقوانين والتقاليد الرائجة سيقتلع من أصله .ثم
إما أن يقوم مقامه نظام آخر على أسس مختلفة جدا ،وإما أل يقوم بعده أي نظام .بل يعم كل المملكة الفوضى والختلل.
(ومن يبتغ غير السلم دينا فلن يقبل منه) (آل عمران)85 :
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (التوبة)33 :
(إذا جاء نصر ال والفتح ورأيتَ الناس يدخلون في دين ال أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) (سورة النصر)
المراد بـ (الدين) في جميع هذه اليات هو نظام الحياة الكامل الشامل لنواحيها من العتقادية والفكرية والخلقية والعملية.
فقد قال ال تعالى في اليتين الولين إن نظام الحياة الصحيح المرضي عند ال هو النظام المبني على إطاعة ال وعبديته .وأما ما
سواه من النظم المبنية على إطاعة السلطة المفروضة من دون ال ،فإنه مردود عند ،ولم يكن بحكم الطبيعة ليكون مرضيا لديه ،ذلك
-51-
www.ikhwan-info.net
بأن الذي ليس النسان إل مخلوقه ومملوكه ،ول يعيش في ملكوته إل عيشة الرعية ،لم يكن ليرضى بأن يكون للنسان الحق في أن
يحيا حياته على إطاعة غير سلطة ال وعبديتها ،أو على اتباع أحد من دون ال.
وقال في ال ية الثال ثة أ نه قد أر سل ر سوله صلى ال عل يه و سلم بذلك النظام ال حق ال صحيح للحياة الن سانية -أي ال سلم -وغا ية
وفي الرابعة قد أمر ال المؤمنين بدين السلم أن يقاتلوا من في الرض ول يكفوا عن ذلك حتى تمحي الفتنة ،وبعبارة أخرى حتى
يمحي جميع النظم القائمة على أساس البغي على ال ،وحتى يخلص ل تعالى نظام الطاعة والعبدية كله.
وفي الية الخيرة الخامسة قد خاطب ال تعالى نبيه صلى ال عليه وسلم حين النقلب السلمي بعد الجهد والكفاح المستمر مدة
ثلث وعشرين سنة ،وقام السلم بالفعل بجميع أجزائه وتفاصيله نظاما للعقيد والفكر والخلق والتعليم والمدنية والجتماع والسياسة
والقت صاد ،وجعلت وفود العرب تتا بع من نوا حي الق طر وند خل في حظيرة هذا النظام ،فإذا ذاك – و قد أدى النبي رسالته ال تي بعث
لجلها – يقول له ال تعالى :إياك أن تظن أن هذا العمل الجليل الذي قد تم على يديك من كسبك ومن سعيك ،فيدركك العجب به ،وإنما
المنزه عن النقص والعيب والمنفرد بصفة الكمال هو ربك وحده ،فسبح بحمده واشكره على توفيقه إياك للقيام بتلك المهمة الخطيرة
وأسأله :ال اغفر لي ما عسى أن يكون قد صدر مني من التق صير والتفريط في واجيي خلل الثلث والعشرين سنة التي قد قمت
بخدمتك فيها:
-52-