Professional Documents
Culture Documents
net
2
إل فارس والروم ،صورة الجتمع وصورة الضمي ف هذه الدنيا العريضة ،ف الماعات الت
تظلها الديانات السماوية ،كاليهودية والسيحية ،والت تظلها الديانات الوثنية ،كالندوكية
والبوذية والزرادشتية ..وما إليها ..
إنا صورة جامعة تعرض رقعة العال وتصفها وصفا بينا ،ل يعتسف الؤلف فيه ،ول
يستبد به ،إنا يشرك معه الباحثي والؤرخي من القدامى والحدثي ،من يدينون بغي السلم
،فل شبهة ف أن يكونوا مغرضي له ،وللدور الذي أداه ف ذلك العال القدي .
إنه يصف العال تسيطر عليه روح الاهلية ،ويتعفن ضميه ،وتأسن روحه ،وتتل
فيه القيم والقاييس ،ويسوده الظلم والعبودية ،وتتاحه موجة من الترف الفاجر والرمان
التاعس ،وتغشاه غاشية من الكفر والضلل والظلم ،على الرغم من الديانات السماوية ،
الت كانت فد أدركها التحريف ،وسرى فيها الضعف ،وفقدت سيطرتا على النفوس ،
واستحالت جامدة ،ل حياة فها ول روح ،وباصة السيحية.
...فإذا فرغ الؤلف من رسم صورة العال باهليته هذه ،بدأ يعرض دور السلم ف
حياة البشرية .دوره ف تليص روح البشر من الوهم والرافة ،ومن العبودية والرق ،ومن
الفساد والتعفن ،ومن القذارة والنلل ،ودوره ف تليص الجتمع النسان من الظلم
والطغيان ،ومن التفكك والنيار ،ومن فوارق الطبقات واستبداد الكام واستذلل الكهان ،
ودوره ف بناء العال على أسس من العفة والنظافة واليابية والبناء ،والرية والتجدد ،ومن
العرفة واليقي ،والثقة واليان .والعدالة والكرامة ،ومن العمل الدائب لتنمية الياة وترقية
الياة ،وإعطاء كل ذي حق حقه ف الياة .
كل أولئك ف إبان الفترة الت كانت القيادة فيها للسلم ف أي مكان ،والت كان
السلم فيها يعمل ،وهو ل يستطيع أن يعمل أن يعمل أل أن تكون له القيادة ،لنه بطبيعته
عقيدة استعلء ،ومنهج قيادة ،وشرعة ابتداع ل إتباع .
ث تيء الفترة الت فقد السلم فيها الزمام ،بسبب انطاط السلمي ،وتليهم عن
القيادة الت يفرضها عليهم هذا الدين ،والوصاية الت يكلفهم با على البشرية ،والتبعات الت
ينوطها بم ف كل اتاه .
3
وهنا يستعرض الؤلف أسباب هذا لنطاط الروحية والادية ،ويصف ما حل
بالسلمي أنفسهم عندما تلوا عن مبادئ دينهم ،ونكصوا عن تبعاتم ،وما نزل بالعال كله
من فقدانه لذه القيادة الراشدة ،ومن انتكاسه إل الاهلية الول ،ويرسم خط الندار
الرهيب الذي ترتكس فيه النسانية ف ذات الوقت الذي تفتح فيه آفاق العال الباهرة .يرسم
هذا الط عن طريق التأمل الفاحص ،ل بالمل النارية والتعبيات الجنحة .فالقائق
الواقعة ،كما عرضها الؤلف غنية عن كل برج وكل تزويق .
ومن خلل هذا الستعراض ،يس القارئ ،بدى الاجة البشرية اللحة إل تغيي
القيادة النسانية ،وردها إل الدى الذي انبثق ليخرج الناس من الظلمات إل النور ،ومن
الاهلية إل العرفة ،ويشعر بالقيمة الكلية لوجود هذه القيادة ف الرض ،وبدى السارة
الت حلت بالبشر جيعا ،ل بالسلمي وحدهم ف الاضي وف الاضر وف الستقبل القريب
والبعيد .
كذلك يثور ف نفس لسلم بصفة خاصة روح الندم ،على ما فرّط ،وروح العتزاز
با وُهب وروح الستشراف إل القيادة الت ضيّع .
ولعله ما يلفت النظر تعبي الؤلف دائما عن النكسة الت حاقت بالبشرية كلها منذ أن
عجز السلمون عن القيادة بكلمة " الاهلية " .
وهو تعبي دقيق الدللة على فهم الؤلف للفارق الصيل بي روح السلم ،والروح
الادي الذي سيطر على العال قبله ،ويسيطر عليه اليوم بعد تلي السلم عن القيادة ..إنا
(الاهلية) ف طبيعتها الصلية ،فالاهلية ليست فترة من الزمن مدودة ،ولكنها طابع روحي
وعقلي معي ،طابع يبز بجرد أن تسقط القيم الساسية للحياة البشرية ،كما أرادها ال ،
وتل ملها قيم مصطنعة تستند إل الشهوات الطارئة ،وهذا ما تعانيه البشرية اليوم ف حالة
الرتقاء الول ،كما كانت تعانيه من قبل ف أيام الببرية الول .
فرسالة العال السلمي هي الدعوة إل ال ورسوله واليان باليوم الخر .وجائزته هي
الروج من الظلمات إل النور ،ومن عبادة الناس إل عبادة ال وحده والروج من ضيق
الدنيا إل سعتها ،ومن جور الديان إل عدل السلم .وقد ظهر فضل هذه الرسالة .وسهل
4
فهمها ف هذا العصر أكثر من كل عصر ،فقد افتضحت الاهلية ،وبدت سوأتا للناس ،
واشتد تذمر الناس منها ،فهذا طور انتقال العال من قيادة الاهلية إل قيادة السلم ،لو
نض العال السلمي ،واحتضن هذه الرسالة بكل إخلص وحاس وعزية ،ودان با
(( كالرسالة الوحيدة الت تستطيع أن تنقذ العال من النيار والنلل )) ،كما يقول الؤلف
الفاضل قرب ناية الكتاب .
وأخيا ،فإن الصيصة البارزة ف هذا الكتاب كله هي الفهم العميق لكليات الروح
السلمية ف ميطها الشامل وهو لذا ل يعد نوذجا للبحث الدين والجتماعي فحسب ،بل
نوذجا للتاريخ كما ينبغي أن يكتب من الزاوية السلمية.
لقد مضى الوربيون يؤرخون للعال كله من زاوية النظر الغربية ،متأثرين بثقافاتم
الادية ،وفلسفتهم الادية ،ومتأثرين كذلك بالعصبية الغربية والعصبية الدينية – شعروا بذلك
أم ل يشعروا ومن ّث وقعت ف تاريهم أخطاء وانرافات ،نتيجة إغفالم لقيم كثية ف هذه
الياة ل يستقيم تاريخ الياة ول يصح تفسي الوادث والنتائج بدونا ،ونتيجة عصبيتهم الت
تعل أوروبا ف نظرهم هي مور العال ومركزه دائما ،ولغفالم العوامل الخرى الت أثرت
ف تاريخ البشرية ،أو التهوين من شأنا إذا ل يكن مصدرها هو أوروبا .
ولقد درجنا نن على أن نتلقف التاريخ من أيدي أوربا كما نتلقف كل شيء آخر
نتلقفه بأخطائه تلك ،وهي أخطاء ف النهج بإغفال قيم كثية وعوامل كثية ،وأخطاء ف
التصوير نتيجة النظر من زاوية واحدة للحياة البشرية ،وأخطاء ف النتائج تبعا للخطار
النهجية والتصويرية.
وهذا الكتاب الذي بي يدي نوذج للتاريخ الذي ينظر للمور كلها ،وللعوامل جيعها
،وللقيم على اختلفها .ولعل القارئ ل يكن ينتظر من رجل مسلم ،واثق بقوة الروح
السلمي ،متحمس لرد القيادة العالية إليه ،أن يتحدث عن مؤهلت القيادة ،فل ينسى
بوار (الستعداد الروحي) أن يلح ف (الستعداد الصناعي ولرب) و (التنظيم العلمي
الديد)وأن يتحدث عن (الستقلل التجاري والال ) .
5
إنه الحساس التناسق بكل مقومات الياة البشرية .وبذا الحساس التناسق سار ف
استعراضه التاريي ،وف توجيهه للمة السلمية سواء ،ومن هنا يعد هذا الكتاب نوذجا
للتاريخ ،كما يب أن يتناوله السلمون مستقلي .عن التأثر بالطريقة الوروبية ،الت
ينقصها هذا التناسق وهذه العدالة وهذا التحقيق .
وإنه ليسعدن أن أتدث عن هذا الكتاب بذلك الحساس ذاته ،وأن أسجل هذه
الظاهرة ،وأنا مغتبط بذه الفرصة الت أتاحت ل أن أطلع عليه ف العربية ..اللغة الت آثر
صاحبه أن يكتبه با ،وأن ينشره ف مصر للمرة الثانية { :إِ ّن فِي َذلِكَ َل ِذكْرَى ِلمَن كَانَ لَهُ
سمْعَ وَ ُهوَ َشهِيدٌ }
قَ ْلبٌ َأوْ َألْقَى ال ّ
سيد قطب
6
مقدمة الطبعة الرابعة
المد ل ،وسلم على عباده الذين اصطفى .
أما بعد ،فقد ظهرت الطبعة الول لكتاب (( ماذا خسر العال بانطاط السلمي ))
سنة 1950م فكان القبال عليه عظيما تطى قياس الؤلف ورجاءه ،فقد كان كتابا ل
يسترعي اهتمام القراء إل موضوعه -الذي يكاد يكون طريفا -وما يتوي عليه من مادة
ومعن ،ول يكن من ورائه شخصية الؤلف وشهرته ،فلم يكن قد ظهر لؤلفه كتاب آخر
قبل هذا الكتاب ف العال العرب ،ول يعرفه الناس ف هذه القطار .فكانت العناية بذا
الكتاب عناية خالصة مردة للكتاب وللموضوع ،ليس فيها نصيب لشخصية الؤلف وشهرته.
ول يُعلّل هذا القبال النادر الذي حظي به الكتاب إل بفضل ال تعال ولطفه ،وبعد
ذلك بأنّ هذا الكتاب قد جاء ف أوانه ،وصادف رغبة غامضة واتاها مبهما ف النفوس ،
وبأنه يتجاوب مع شعور كثي من الفكرين والثقفي ف العال لعرب ،ويلتقي مع أفكارهم
وآرائهم ودراستهم .
وعلى كُ ّل فقد كان الكتاب واسع النتشار ف العواصم العربية والوساط العلمية ،
وتناولته طبقات المة وبعض قادة الفكر بالدراسة والبحث ،وأشار الربون والعلمون على
الشباب بطالعة هذا الكتاب ،والمد ل الذي بعزّته وجلله تتم الصالات .
وقد قامت لنة التأليف والترجة والنشر ف القاهرة بالطبعة ،وكان لا -ولشك-
فضل ف ظهور هذا الكتاب ف مظهر جيل لئق ،وف نفوذه ف الوساط العلمية والدبية ،
وحرصت جاعة الزهر للنشر والتأليف -وفيها أصدقاء الؤلف -على إعادة طبع الكتاب ،
فصرّحت لا بذلك ،ووافق عليه الرحوم الستاذ الكبي الدكتور أحد أمي (بك) رئيس
اللجنة فظهرت الطبعة الثانية سنة 1951م ،وفيها مقدمات للدكتور ممد يوسف موسى ،
والكاتب السلمي الستاذ سيد قطب ،وصديق الؤلف الشيخ أحد الشرباصي ،زادت ف
قيمة الكتاب .
7
ظهرت الطبعة الثانية ،وأنا ف جولت ف الشرق الوسط ،فلم أتكن من أن أضيف
إليها زيادات كنت أفكر فيها وأشعر بالاجة إليها ،وهيأ ال أسباب الطبعة الثالثة ،ووقعت
إلّ مصادر جديدة ،وجدّ عندي بعض الراء ونواح جديدة فألقتها بالكتاب ،وتأخرت
هذه الطبعة لبعض السباب إل سنة 1959م ،ونفدت ف مدة قريبة ،وها هي الطبعة
الرابعة مزيدة منقحة .
وأسأل ال سبحانه وتعال أن ينفع بذه الطبعة -وما يليها من طبعات إن شاء ال –
كما نفع بالطبعات الول ، )(1وأن يعل هذا الكتاب وسيلة للوعي الديد ،واليان الديد
الذي تشتد حاجة العال السلمي إليه ،إنه على كل شيء قدير.
**********************************
/http://www.saaid.net
( (1ظهرت ترجمة الكتاب النكليزية باسم Islam and the worldمن جامعة بنجاب في لهور باكستان ،وظهرت الطبعة
الثالثة لترجمة الكتاب الوردية في لكهنؤ الهند .
8
تصدير
بقلم فضيلة الستاذ
الدكتور ممد يوسف موسى
اتصال السماء بالرض لداء رسالة من ال التفرد ف سوه وعليائه ،إل عبيده
الحتاجي لديه وإرشاده ،حدث من الحداث العظام ،وخرق لنواميس الطبيعة الت ل تتغي
من طريقها الرسوم إل حي الاجة القصوى ،ولغاية قدرها العزيز العليم .
وليس يدث أو يكون أمر ف هذا العال إل عن سبب اقتضى حدوثه وكونه ،ولغاية
أريدت منه.
وظهور السلم ،وهو أعظم ما رأى العال من أحداث ،ل بد له من أسبابه الت
استلزمته ،ومهداته الت أعدت له ،وغايته الت تنتظر دائما منه .
ولسنا الن بسبيل الديث ،ولو بالياز الشديد ،عن هذه السباب والمهدات الت
أعدت لظهور السلم ،بعد أن خل العال الذي كان معروفا حينذاك من الجتمع الصال
والدين الصحيح ،ولسنا كذلك بسبيل الديث عن الغاية الت جاء السلم من أجلها ،
وعمل نبيه ورجاله الولون جاهدين على الوصول إليها ،فسعد به العال ،زمنا طويلً كل
ذلك معروف ،يصبح الكلم فيه حديثا معادا ،ول مل لثل هذا الديث الن ف الكلمة الت
يسعدن أن أقدم با لذا الكتاب ،استجابة لطلب مؤلفه صديقنا الستاذ الليل السيد أب
السن علي السن الندوي ،أحد دعاة السلم من الطراز الول ف هذا العصر الذي نعيش
فيه .
على أن الكتاب ف غي حاجة حقا لتقدمة مقدم ،فقد تقبله القراء بقبول حسن ،
وخصوه بفاوة ل يظفر با كتاب ظهر عن السلم ف هذه اليام ،وإنا هو تواضع وفضل
من الؤلف الؤمن الصادق اليان جعله يطلب من هذه الكلمة ،وأشهد أن قرأت الكتاب
حي ظهرت طبعته الول ف أقل من يوم ،وأغرمت به غراما شديدا ،حت لقد كتبت ف
آخر نسخت وقد فرغت منه (( إن قراءة هذا الكتاب فرض على كل مسلم يعمل لعادة مد
9
السلم )) ،وكل هذا قبل أن أعرف الؤلف الفاضل ،فلما سعدت بعرفته والديث معه
مرات عديدة ،فهمت كيف ولاذا فتنت بالكتاب ،وعرفت أن مرد هذا كله -فوق ما فيه
من ثرات التوفر على البحث ونشدان الق -إل معرفة الكاتب بالسلم معرفة حقه وأخ
نفسه ف حياته به ،والخلص ف الدعوة الصحيحة له .
لقد أحس صديقنا الفاضل أبو السن ما نسه جيعا ف حسرة بالغة ،وأل شديد ،
وهو ما ارتضته الدول السلمية لنفسها من السي ف الؤخرة وراء العال الغرب ،تيل إل ما
ييل ،وتقبل حكمه فيما يعرض له من شؤونا ،وترضى ما يقره من (قيم) حسب موازينه
الاصة به .وكان من هذا أن فقد العرب -والسلم بعامة -ثقته بنفسه وجنسه ودينه
ومعاييه ،وقيمه العالية الت كان يرص عليها أجداده وأسلفه الماجد ،ويلونا من
أنفسهم الكان العلي الرموق .وهذه علتنا الت يب أن نطب لا ،وف ذلك تتركز
مشكلتنا ،أو مشاكلنا الت يب علينا أن ند الل الناجع لا من صميم ديننا وتارينا وتراثنا
الروحي العقلي الالد ،وإل هذا كله نظر مؤلف كتاب "ماذا خسر العال بانطاط السلمي"
،وإليه جيعه عن نفسه وعمل جهده .
حقا ليست مشكلة العال السلمي اليوم ف عدم الدعاوة للسلم بي غي السلمي ،
ول ف اكتساب مسلمي جدد وإنا هذه الشكلة هي انصراف السلمي عن السلم ،وعن
الشرق إل الغرب بضارته وقيمه الت يدعو إليها وموازينه الت با يزن المور .ومن ثّ صرنا
مسلمي بالسم الولدة والوقع الغراف فحسب ،وعزفنا عن السلم بالفعل ،حت أصبحنا
ول نعرفه ف تشريعنا وتقاليدنا الت نأخذ هذه اليام أنفسنا با ،ولسنا ف حاجة ف هذا
لضرب المثال الت نسها ونلمسها جيعا ف رجال الكم ،وف مثلي البلد السلمية ف
الشرق والغرب ،وفيمن يب أيكون القدوة الطيبة بكم مناصبهم الدينية ف مصر وغي مصر
،والمر ل من قبل ومن بعد .
ولقد اختتم ال بالسلم رسالته للعال ،فليس لنا أن ننتظر اتصالً جديدا من السماء
بالرض يطهرها ما كاد يعمها من شرك وضلل وفساد ،ول نبيا آخر بعد رسول السلم ،
يرج العال برسالة جديدة من الظلمات إل النور ،ول قرآنا جديدا يهدي النسانية الائرة
10
إل سبيل الرشد والسعادة .ولكن ال الرحن الرحيم ترك فينا بعد هذا ،أو بسبب هذا ،
كتابا لن يضل من اتبعه ،وشريعته لن يشقى من عمل با .
وكل ما يب أن نعمل له ،لنخرج والعال كله من هذه الاهلية الت احتوتنا من جيع
الطراف ،هو إعادة الثقة بديننا حت يكون أساس حياتنا ف كل مقوماتا ،وليس لنا أن
نطلب من أحد أن يؤمن بذا الدين قبل أن نؤمن نن أولً به ،ولن يكون هذا اليان إل
بالقدوة الطيبة الصالة نقدمها للناس جيعا .
إن العال ،وهذا أمر لسناه بأنفسنا لسا بأوربا ،يتخذ من فشل السلمي سياسيا
واقتصاديا دليلً حاسا على عدم صلح السلم لقيادة السلمي بله العال كله ! مع أن هذا
العال السيحي نفسه حي كان السلمون مسلمي حقا من ناحية العقيدة والعمل على
السواء ،قد تزعزع عن مسيحيته عندما شاهد ما أحرزته سيوف السلمي من ناح منقطع
النظي ،إذ اعتقدوا -بق – أن ناح السلمي هذا دليل قاطع على صدق دينهم ،مادام ال
ل يؤت نصره إل لعباده الختارين. )(2
وليس ما نقول ،من أثر القوى الطيبة الصالة ف الدعاوة للسلم ،بالقول الذي ل
يرتكز على دليل وشواهد من التاريخ الصحيح .إن صاحب كتاب الدعوة إل السلم نفسه
يذكر ما يأت حرفيا :
(( ويظهر أن أخلق صلح الدين ،وحياته الت انطوت على البطولة ،قد أحدثت ف
أذهان السيحيي ف عصره تأثيا سحريا خاصا ،حت أن نفرا من الفرسان السيحيي ،قد
بلغ من قوة انذابم إليه ،أن هجروا ديانتهم السيحية ،وهجروا قومهم وانضموا إل
السلمي ،وكذلك كانت الال عندما طرح النصرانية فارس انكليزي من فرسان العبد يدعى
(( روبرت أوف سانت ألبانس )) Robert of St. Albansعام 1185م واعتنق
السلم ،ث تزوج بإحدى حفيدات صلح الدين وبعد عامي غزا صلح الدين ((فلسطي))
وهزم اليش السيحي هزية منكرة ف واقعة((حطي)) وكان جوي Guyملك بيت القدس
بي السرى.
( (2انظر في هذا الكتاب (( الدعوة إلى السلم (( للسير توماس أرنولد النجليزي المعروف ص 7من الترجمة العربية للدكتور
حسن إبراهيم وآخرين .
11
وحدث ف مساء العركة أن ترك اللك ستة من فرسانه ،وفروا إل معسكر صلح
الدين بحض إرادتم. )) )(3
هذا شاهد من الشواهد الت ل تصى كثرة ،والت تزخر با كتب التاريخ ف القدي
والديث ،ومنها نعلم أثر القدوة الطيبة ف النفوس ،حت ف نفوس غي السلمي الذين كنا
نراهم خصوما لنا وأعداء ،ومنها نعلم أيضا سببا من السباب القوية الت يسرت للمسلمي
ما فتح ال عليهم من فتوح ،وما ظفروا به من أماد .
إن هذا السلم ل يصلح اليوم إل با صلح به ف المس ،إيان به إيانا يالط شغاف
قلب الؤمن ،واستعذاب للتضحية ف سبيله با يعتز به الرء من مال ونفس ،واعتزاز با جاء
به من تشاريع ومبادئ وتقاليد صالة لناض العال وإسعاده ،ودعوة له بالعمل الصال
والقوى الطيبة ،وعدم القضاء إل بكمه ،وجعل الياة ف كل جوانبها ل تقوم إل عليه .
علينا إذا أردنا أن نأخذ مكاننا من جديد ف قيادة النسانية أن نعتقد اعتقادا حقا يظهر
أثر ف كل ما نقول أو نعمل -ما يراه شاعر السلم الدكتور ممد إقبال من أن السلم ل
يلق ليندفع مع التيار ،ويساير الركب البشري حيث اته وسار ،بل خلق ليوجه العال
والجتمع والدينة ،ويفرض على البشرية اتاهه ،ويلي عليها إرادته ،لنه صاحب الرسالة
وصاحب العلم اليقي .ولنه السؤول عن هذا العال وسيه واتاهه .فليس مقامه مقام
التقليد والتباع إن مقامه مقام المامة و القيادة ومقام الرشاد والتوجيه .ومقام المر الناهي
.وإذا تنكر له الزمام ،وعصاه الجتمع وانرف عن الادة ،ل يكن له أن يستسلم ويضع
ويضع أوزاره ويسال الدهر ،بل عليه أن يثور عليه وينازله .ويظل ف صراع معه وعراك ،
حت يقضي ال ف أمره .إن الضوع والستكانة للحوال القاسرة والوضاع القاهرة ،
ولعتذار بالقضاء والقدر من شأن الضعفاء والقزام .أما الؤمن القوي فهو بنفسه قضاء ال
الغالب وقدره الذي ل يرد. )(4
((3
ص 83 -82من الكتاب المذكور .
((4
من بحث للستاذ أبي الحسن الندوي نفسه عنوانه - :شاعر السلم الدكتور محمد إقبال . 68 – 66
12
وبعد :ماذا أريد أن أقول بعد ذلك ف هذه الكلمة الت أحسبها طالت بعض الشيء ف
تقدي كتاب هو بنفسه وبكاتبه غن عن كل تقدي ،كما قلت ف أول الديث ؟ .
إن -علم ال -لست أذكر فيما قرأت من القدي والديث كتابا حوى من الي ما
حواه هذا الكتاب ،ول كتاب وضع أيدينا على دواء ما نشكو منه من أدواء وأمراض ،كما
فعل هذا الكتاب ،ول كتابا نفذ كاتبه إل روح السلم ،وأخلص ويلص ف الدعوة له ،
ويقف كل جهوده على هذا السبيل كهذا الكتاب .
علينا إذا أن نفيد من هذا الكتاب ،ومن الوسائل الت يدعو مؤلفه الفاضل
لصطناعها ،لنصل إل النهضة الرجوة ،والكرامة والجد ف هذه الياة ،وف الياة الخرى
،وذلك ما ل يكون لنا إل إذا غينا من أوضاع التعليم ومناهجه غاياته عندنا ،وإل إذا جعلنا
هنا تربية النشء على أسس إسلمية صحيحة ،وجعلنا الغاية من التربية والتعليم عندنا النهضة
بالعال السلمي حت يصل إل ما يب أن يكون له من مكانة ملحوظة ف هذا العال ،
واصطنعنا لذا ،الوسائل الناجعة حقا .
إن هذا ،حي يتم ،إن أراد ال لمة السلم إفاقة من نومها ،ونضة من كبوتا ،
يعل من تلميذ رجالت مسلمي حقا ف الستقبل ،يسنون تصريف شؤون المة حي
توضع أمور المة بي أيديهم ،ويعل منهم رجالً شجعانا أمناء لدينهم وأمتهم ،ل هم لم
ف حياتم إل إعادة مد السلم ،والعال السلمي .
والوسائل الناجعة للوصول إل تلك الغاية الجيدة من التربية والتعليم جد كثية
ومعروفة إن أردناها ،ولكن يسن أن نتم هذه الكلمة بقبس من كلم الستاذ أب السن
الندوي نفسه ،إنه يقول :
(( والقرآن وسية ممد صلى ال عليه وسلم قوتان عظيمتان تستطيعان أن تشعل ف
العال السلمي نار الماسة واليان ،وتدثا ف كل وقت ثورة عظيمة على العصر الاهلي
وتعل من أمة مستسلمة منخذلة ناعسة ،أمة فتية ملتهبة حاسة وغية وحنقا على الاهلية ،
وسخطا على النظم الائرة .إن علة علل العال السلمي اليوم هي الرضا بالياة الدنيا
والطمئنان با .والرتياح إل الوضاع الفاسدة .والتبذير الزائد ف الياة .فل يقلقه فساد .
13
ول يزعجه انراف .ول يهيجه منكر .ول يهمه غي مسائل الطعام واللباس .ولكن بتأثي
القرآن والسية النبوية .إن وجدا إل القلب سبيلً .يدث صراع بي اليان والنفاق .
واليقي والشك .بي النافع العاجلة والدار الخرة ،وبي راحة السم ونعيم القلب ،وبي
حياة البطولة وموت الشهادة .صراع أحدثه كل نب ف وقته .و يصلح العال إل به .حينئذ
يقوم ف كل ناحية من نواحي العال السلمي .ف كل أسرة إسلمية { ِّنهُ ْم فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَّب ِهمْ
سمَاوَاتِ وَالَْأ ْرضِ لَن ّندْ ُعوَ َوزِدْنَاهُمْ ُهدًى{َ }13ورَبَطْنَا عَلَى قُلُوِب ِهمْ إِ ْذ قَامُوا فَقَالُوا رَبّنَا رَبّ ال ّ
مِن دُونِهِ ِإلَها لَ َقدْ قُلْنَا إِذا شَطَطا } .هنالك تفوح روائح النة ،وتب نفحات القرن الول
.ويولد للسلم عال جديد ل يشبه العال القدي ف شيء )) ! .
من هذه الكلمات الت قبسناها من هذا الكتاب الذي نكتب هذا التقدي له ،نرى أي
روح كبية أملت على الؤلف ما كتب ! نفع ال به وبكل آثاره ،وجزاه عن السلم وأمته
خي الزاء .
********************************
14
صورة وصفية :
أخي أبو السن ! ..
بقلم فضيلة الستاذ أحد الشرباصي
لقيت أخي أبا السن أول مرة ف شتاء سنة 1951م ،بدار (الشبان السلمي) ف
القاهرة ،عقب ماضرة ل من (( ماضرات الثلثاء )) وقد أقبل علي يطلب ف أدب جم
وتواضع ظاهر ليلة من ليال الثلثاء ،ليلقي فيها ماضرة عن ((العال ف مفترق الطريق)) ..
فرأيت رجلً نيف البدن ،نيل العود ،له لية سراء ،وملبسه قليلة خفيفة الوزن والثمن ،
ونظراته عميقة نفاذة ،ونباته دقيقة أخاذه فيها بة ،عرفت فيما بعد أنا ملزمة له من جهد
وإجهاد ،وبعد اللقاء الول العاجل توثقت بين وبينه أسباب الخوة والحبة ،وعن خب به
أكتب هذه السطور.
هو العال الؤمن الداعية الحتسب السيد أبو السن علي السن الندي الندوي ،من
النتسبي إل عترة السن بن علي رضي ال عليهما ،ووالده هو الشريف العلمة عبد الي بن
فخر الدين بن عبد العلي ،ينتهي نسبه إل عبد ال بن الشتر بن ممد ذي النفس الزكية بن
عبدال الحض بن الحسن الثن بن السن السبط بن علي بن أب طالب ،ولوالده كتب كثي
من الطبوع ومنها الخطوط أشهرها ((نزهة الواطر)) ف ثانية ملدات )(5وقد توف سنة
1341هجرية .
وقد ولد السيد أبو السن ف مديرية بالند تسمى ((راي بريلي)) ،وهي تبعد عن
((لكهنؤ)) سبعي كيلو مترا تقريبا ،وكانت الولدة بقرية ((تكية)) ف شهر الحرم سنة
1332هـ ،مد ال ف عمره وأدام به نفع السلم والسلمي .
وأسرة أخي أب السن من أصل عرب ،ل تزال تافظ على أنسابا إل هذا اليوم وهي
تافظ على صلتا بأصلها وإن كانت تتكلم الندية وتعيش ف الند منذ قرون ،وتتاز
بالحافظة على التوحيد والسنة والبعد عن البدع والدعوة إل ال والهاد ف سبيله ،وللسيد
( (5ظهرت سبعة مجلدات من هذا الكتاب من دائرة المعارف في حيدر أباد الهند ،والكتاب يشتمل على خمسة آلف ترجمة لعيان
الهند ،وظهر للمؤلف كتاب (( الثقافة السلمية في الهند (( طبعه المجمع العلمي العربي في دمشق .
15
أب السن أخ أكب منه هو السيد الدكتور عبد العلي عبد الي )(6وهو طبيب ،وقد ترج ف
ندوة العلماء ومعهد ديوبند ،كما ترج ف جامعة لكهنؤ بتفوق وامتياز ،فهو بذلك يمع
بي الثقافتي الدينية والعصرية ،وله فضل كبي ف تربية السيد أب السن وثقافته ،ويدير ندوة
العلماء خلفا لبيه الراحل ...وقد تزوج السيد أبو السن منذ عشر سنوات من السرة
نفسها ،لن هذا تقليد مترم يعاقب من يرج عليه .
بدأ السيد أبو السن تعلمه القرآن الكري ف البيت تعاونه أمه ،وأمه من فضليات
النساء والسيدات الفاضلت الصالات ،تفظ القرآن ،وتكتب ،وتؤلف ث تعلم اللغتي
الوردية والفارسية ،ث بدأ وهو ف الثانية عشرة من عمره يتعلم النليزية والعربية معا ،وبدأ
تعلم العربية على الشيخ خليل بن ممد اليمن ،وتوفر سنتي كاملتي على دراسة الدب
العرب وحده ،وقرأ كثيا من كتب الدب ،وشغف با على خلف العادة يومئذ ف الند ،
لنم يزهدون ف الدب العرب ،وعن عناية خاصة بالعكوف على كتب ثلثة هي :نج
البلغة ،ودلئل العجاز ،والماسة ،ث التحق بامعة لكهنؤ ،وهي جامعة تدرس العلوم
الدنية باللغة النليزية ،وفيها قسم لداب اللغة العربية التحق با السيد أبو السن ،وكان
يومئذ أصغر طلب الامعة سنا ،وضاق بدروس القواعد أولً فأخره ذلك قليلً ،ث سار ف
تعلمه متازا فائقا سابقا ،ث أت دراسته الدبية على الدكتور الشيخ تقي الدين اللل
الراكشي رئيس تدريس الدب العرب ف ندوة العلماء -وهي جعية تشرف على دار العلوم
هناك -ث دخل الندوة ،ومكث با سنتي يدرس علوم الديث ،واستفاد كثيا من شيخ
الديث الشيخ حيدر حسن خان .ومكث ف دار العلوم ديوبند مدة شهور ،وحضر دروس
العال الكبي الجاهد الشيخ حسي أحد الدن ف الديث .
وسافر إل لهور ،وقرأ التفسي على الشيخ أحد علي الفسر الشهور ،ول تكن
دراسته ف أغلب أدوارها دراسة نظامية بشهادات ،بل كانت دراسة حرة لوجه العلم والعرفة
،ولا أت دراسته رجع إل لكهنؤ ،وعي مدرسا ف دار العلوم هناك ،ومكث فيها عشر
سنوات يدرس علوما متلفة ،واشتغل بوار ذلك بالكتابة ف ملة " الضياء " العربية الت
((6
توفي إلى رحمة ال في 21ذي العقيدة 1380هـ الموافق 7مايو 1961م
16
تصدرها ندوة العلماء ،ورئيس تريرها الستاذ مسعود الندوي ،واشتغل كذلك بالتأليف ف
الوردية ،وأظهر كتابه (( سية السيد أحد الشهيد )) فكان القبال عليه عظيما حت طبع
ثلث مرات .
ث انتقل إل دلي ،والتقى بالداعية الجدد العظيم الشيخ ممد إلياس ،وكان هذا
اللقاء نقطة تول ف حياة أب السن ،لن الشيخ ممد إلياس كان مرشدا شعبيا ،له صلة
عميقة وثيقة بالماهي عن طريق الدعوة إل ال .وأبو السن ل يكن متصلً بالشعب قبل
ذلك ،بل كان مقتصرا على الدراسة والتأليف .فأخذ يتصل بأهل القرى والدساكر ،ويقوم
برحلت إسلمية قد تستغرق الواحدة منها شهرا ،لنشر الدعوة ف قرى الند ومدنا ،وكان
الشيخ إلياس -ول يزال – هو مثل أب السن العلى ف الكمة الدينية العميقة وف قوة
اليان لن الشيخ إلياس -كما يقول أخونا -كان صورة من السلف الصال ،وكان ملصا
غيورا ،يتأل لال السلمي ،ويعمل من أجلهم ،ويسي ف شئونم ،ويترق بروحه القوية
الوثابة ف سبيلهم. )(7
وتلقى التربية الروحية من العارف الليل الرب الكبي الشيخ عبد القادر الرأي يوري
واستفاد من صحبته ومالسته .
ورأس أبو السن ترير ملة " الندوة " العلمية الت كانت تصدر بالوردية ،وكانت
لسان حال الندوة ،وكلفته الامعة السلمية ف (عليكره) بوضع مناهج لطلبة (البكالوريا) ف
التعليم الدين ،فألف ف ذلك كتابا أساه (إسلميات) وقبلت الامعة هذا الكتاب وأخذت به
وكافأت صاحبه عليه ؛ ودعي للقاء ماضرات ف الامعة اللية السلمية بدلي ،فألقى
ماضرة ف موضوع ( :الدين والدنية) كانت موضع الستحسان ،ونشرت وكان لا تأثي
واسع النطاق .
وألف ف هذه الفترة كتبا لطلبة الدارس العربية ف الند ،منها كتاب " متارات ف
الدب العرب " وقد قررت دار العلوم ف الند وبعض الامعات ف تدريسه .ومنها كتاب
((قصص النبيي )) ف ثلثة أجزاء ،وغي ذلك من الكتب ،وأصدر ملة (التعمي) الت كانت
( (7توفي إلى رحمة ال تعالى عام 1363هـ -وللسيد أبي الحسن تأليف في سيرته في أردو وحديث عنه في محاضرته (( الدعوة
السلمية في الهند وتطوراتها (( .
17
تصدر بالوردية مرتي ف الشهر ،وأسس جعية للتبشي بالسلم بي الندوس ،وأصدرت
هذه المعية التبشيية السلمية عدة رسائل وبوث عن اللة الغراء باللغة النليزية النتشرة
هناك .وأسس (الجمع السلمي العلمي) ف لكهنؤ سنة 1960م وله نشاط وإنتاج ف
اللغات النليزية والندية والوردية والعربية ،ومطبوعات قيمة .
وأخي الفضال أبو السن له غرام أصيل عميق باقتناء الكتب ومسامرتا والديث عنها
.وأعز ما يرص عليه من عرض الياة هو كتبه .وأغلى ما يهدي إليه كتاب يرضيه ويغذيه ،
ول يقتن أبو السن الكتب ليزين با داره ،بل ليهضمها قراءة وبثا ونقدا ،وكتاباته
الختلفة فيها دلله واضحة على ذلك ،وقد أفادته هذه الطالعات والسامرات – بوار البة
والتجربة -فدرة على الرتال بالعربية ،فهو يتدفق كالسيل بلغة بليغة فيها الصور البيانية
والتعبي الميل وأغلب ماضراته يستعد لا ،وكثيا ما يكتبها ،وأسلوبه يغلب عليه العنصر
العاطفي اللتهب ومع ذلك إذا طرق باب البحث أجاد وأفاد وأمتع أيضا ،وهو كما عرفت
عنه وكما حدثن مرارا ل يب أن يهجم على الديث ف موضوع ذي بال إل إذا احتفل به
وتيأ له ،وليس ذلك عن قلة بضاعة ولكنه احتراس العال الذي يريد أن يستيقن ويتثبت ! ..
وقد غلب النثر على أب السن فلم تطاوعه قريته يوما على نظم الشعر ...
وقد ظل الستاذ أبو السن يارس ألوانا من اللعاب الرياضية ككرة القدم والسباحة
والصيد والوكي والتنس ث انقطع عنها أخيا ،وعلى الرغم من هذا أصابته أمراض استمرت
مدة طويلة ،وخاصة ف الصدر ،ث عافاه ال منها ،وبقي له سعال يعاوده من حي لخر .
وهو يكره التصوير بميع أنواعه ،ويرمه على نفسه ف تشديد ملحوظ ،ولقد زرت
معه إحدى دور الطبع والنشر الكبى بالقاهرة ،ورغب مصور الدار أن يلتقط لنا صورا
تذكارية فرفض أبو السن ،وأصر على الرغم من طول الحاولة والرجاء ،وذكر أن السلمي
ف الند (متفقون) على حرمة التصوير !! ..
ولقد سألته ذات مرة عن السابقي الذين تأثر بم ،فأجابن بأنم المام أحد بن حنبل
صاحب الوقف العروف ف الحنة ،وشيخ السلم ابن تيمية ،والشيخ أحد السر هندي (من
سر هند ،بلد ف البنجاب) التوف سنة 1024هـ صاحب الرسائل الالدة ف الشريعة
18
والقيقة وماربة البدع ،والجدد للملة ،ولشيخ ول ل الدهلوي التوف سنة 1176هـ
الباحث السلمي العظيم صاحب (حجة ال البالغة) والصاحب أحد الشهيد مؤسس أول
دولة شرعية ف الند ف القرن الثالث عشر الجري ، )(8وقد استمرت هذه الدولة عدة
شهور ،ث ثار عليها النليز بؤامراتم فأخذوا عليها الطريق .
وأعظم آمال أب السن أن يرى السلم سائدا على الرض ،وأن يرى الدول الباغية
معذبة مقهورة حت يسلي نفسه ويستبشر ويرى انتقام ال من الذين حاربوا السلم وأذلوا
السلمي وهو يعتقد ويرى أن بقاء القلة السلمة ف الند من الي ،وفيه فائدة ترجى للهند ،
فلعل للسلم مستقبلً ذا بال هناك ،ولقد رحل أبو السن إل الجاز ف سنت -1947
)(9
1950م وقدم إل مصر سنة 1951م ،وطوّف بأغلب العال السلمي ،فرأى وشاهد
ودرس وكتب وحاضر وخطب ،وكان له ف كل أرض نزل با مهود وجهود وعهود .
وقد اختي عضوا مراسلً ف الجمع العلمي العرب بدمشق سنة 1957م .ودعي
للقاء ماضرات كأستاذ زائر ف جامعة دمشق 1956م . )(10
وقد سألته وهو بيننا ف مصر عن حسنات مصر ،فقال موجزا :اليان بال والدين ،
والحبة للمسلم خاصة إذا كان غريبا ،ورقة القلب ،وسلمة الصدر ،وكثرة العمال
النتجة ...ث سألته عن السيئات فتحرج ث أجاب :السفور ،وعدم التستر ،والصور الليعة
ف الصحف والجلت ،واستهانة بعض العلماء ببعض الحرمات ،وعدم الحافظة على
الماعات ف الساجد برغم كثرتا ،والندفاع ف تقليد الضارة الغربية بل تبصر .
وأخي أبو السن بعد هذا كله عدو للمظاهر الكاذبة ،يتخفف ف ثيابه وطعامه
وفراشه ،ويكره التكلف والجاملة الزائدة ،ول يقيم للمال وزنا ف حياته ،وثقته بربه فوق
كل شيء ،ومثابرته على النضال ف سبيل ما يؤمن به مضرب المثال ،وإخلصه العميق سر
ناحه بينما يفشل الخرون .
( (8هو من نفس أسرة السيد أبي الحسن ومن أشهر رجالها ورجال الهند .ولد سنة 1201هـ في راي بريلي (الهند( واستشهد في
سبيل ال في بالكوت ( باكستان الن ( سنة 1246هـ .
( (9طبعت مذكراته في القاهرة بعنوان (( سائح في الشرق العربي (( .
( (10ظهر مجموع هذه المحاضرات التي ألقاها الستاذ أبو الحسن في مدرج الجامعة الكبير في دمشق وهي اثنتا عشرة محاضرة
باسم (( رجال الفكر والدعوة في السلم (( من مطبعة جامعة دمشق سنة 1960م .
19
لقد طال الكلم ،ومع ذلك ل أقل كل شيء عن أخي أب السن ! ..
أحد الشرباصي
الدرس بالزهر الشريف
*************************************
20
/http://www.saaid.net
http://saaid.net/book/index.ph
p
21
الباب الول
العصر الاهلي
الفصل الول
النسانية ف الحتضار
كان القرن السادس والسابع (ليلد السيح) من أحط أدوار التاريخ بل خلف ،
فكانت النسانية متدلية منحدرة منذ قرون ،وما على وجه الرض قوة تسك بيدها وتنعها
من التردي ،فقد زادتا اليام سرعة ف هبوطها وشدة ف إسفافها ،وكأ ّن النسان ف هذا
القرن قد نسي خالقه ،فنسي نفسه ومصيه ،وفقد رشده ،وقوة التمييز بي الي والشر ،
والسن والقبيح ،وقد خفتت دعوة النبياء من زمن ،والصابيح الت أوقدوها قد انطفأت من
العواصف الت هبت بعدهم أو بقيت ،ونورها ضعيف ضئيل ل يني إل بعض القلوب فضلً
عن البيوت فضلً عن البلد ،وقد انسحب رجال الدين من ميدان الياة ،ولذوا إل الديرة
والكنائس واللوات ،فرارا بدينهم من الفت وضنا بأنفسهم ،أو رغبة إل الدعة
والسكوت ،وفرارا من تكاليف الياة وجدها ،أو فشلً ف كفاح الدين والسياسة والروح
والادة ،ومن بقي منهم ف تيار الياة اصطلح مع اللوك وأهل الدنيا ،وعاونم على إثهم
وعدوانم ،وأكل أموال الناس بالباطل ...على حساب الضعفاء والحكومي .وإن النسانية
ل تشقى بتحول الكم والسلطان والرفاهية والنعيم من فرد إل فرد آخر من جنسه ،أو من
جاعة إل جاعة أخرى مثلها ف الور والستبداد وحكم النسان للنسان ،وإن هذا الكون
ل يتفجع ول يتأل فقط بانطاط أمة أدركها الرم وسرى فيها الوهن ،وسقوط دولة تآكلت
جذورها وتفككت أوصالا ،بل بالعكس تقتضي ذلك سنة الكون ،وإن دموع النسان لعز
من أن تفيض كل يوم على ملك راحل وسلطان زائل ،وإنه لفي غن ،وإنه لفي شغل عن أن
يندب من ل يعمل يوما لسعاده ،ول يكدح ساعة لصاله ،وإن السماء والرض لتقسوان
كثيا على هذه الوادث الت تقع ووقعت كل يوم ووقعت ألوف الرات { َكمْ تَ َركُوا مِن
22
جَنّاتٍ وَعُيُونٍ{َ }25وزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيٍ{ }26وَنَ ْعمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَا ِكهِيَ{َ }27كذَلِكَ
سمَاء وَالَْأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ } . وََأ ْورَثْنَاهَا قَوْما آخَرِينَ{ }28فَمَا بَ َكتْ عَلَْي ِهمُ ال ّ
بل إن كثيا من هؤلء السلطي والمم كانوا كلً على ظهر الرض ،وويلً للنوع
النسان وعذابا للمم الصغية والضعيفة ،ومنبع الفساد والرض ف جسم الجتمع البشري ،
يسري منه السم ف أعصابه وعروقه ،ويتعدى الرض إل السم السليم فكان ل بد من عملية
جراحية ،وكان قطع هذا الزء السقيم وإبعاده من السم السليم مظهرا كبيا لربوبية رب
العالي ورحته ،يستوجب المد والمتنان من جيع أعضاء السرة النسانية ،بل من جيع
ب الْعَاَلمِيَ } ،ولكن ل يكن أفراد الكون { فَقُ ِطعَ دَابِ ُر الْ َقوْمِ اّلذِينَ ظََلمُواْ وَاْلحَ ْمدُ لِّل ِه رَ ّ
انطاط السلمي ووال دولتهم وركود ريهم -وهم حلة رسالة النبياء ،وهم للعال البشري
كالعافية للجسم النسان -انطاط شعب أو عنصر أو قومية ،فما أهون خطبه وما أخف
وقعه ،ولكنه انطاط رسالة هي للمجتمع البشري كالروح ،وانيار دعامة قام عليها نظام
الدين والدنيا .
فهل كان انطاط السلمي واعتزالم ف الواقع ما يأسف له النسان ف شرق الرض
وغربا ،وبعد قرون مضت على الادث ؟
وهل خسر العال حقا -وهو غن بالمم والشعوب -بانطاط هذه المة شيئا ؟ وفيم
كانت خسارته ورزيته ؟
وماذا آل إليه أمر الدنيا ،وماذا صارت إليه المم بعدما تولت قيادها المم الوروبية
حت خلفت السلمي ف النفوذ العالي ،وأسست دولة واسعة على أنقاض الدولة السلمية ؟
وماذا أثر هذا التحول العظيم ف قيادة المم وزعامة العال ف الدين والخلق والسياسة
والياة العامة وف مصي النسانية ؟
وكيف يكون الال لو نض العال السلمي من كبوته وصحا من غفوته ،وتلك
زمام الياة ؟
ذلك كله ما ناول الجابة عنه ف الصفحات التية ! ...
أبو السن علي السن
23
ِبسْمِ الِ ال ّرحْمنِ ال ّرحِيمِ
ماذا خسر العال بانطاط السلمي ؟
ل يكن انطاط السلمي أولً ،وفشلهم وانعزالم عن قيادة المم بعد ،وانسحابم من
ميدان الياة والعمل أخيا ،حادثا من نوع ما وقع وتكرر ف التاريخ من انطاط الشعوب
والمم ،وانقراض الكومات والدول ،وانكسار اللوك والفاتي ،وانزام الغزاة النتصرين ،
وتقلص ظل الدنيات .والزر السياسي بعد الد .فما أكثر ما وقع مثل هذا ف تاريخ كل أمة
.وما أكثر أمثاله ف تاريخ النسان العام ! ولكن هذا الادث كان غريبا ل مثيل له ف
التاريخ .مع أن ف التاريخ مثلً وأمثلة لكل حادث غريب .
ل يكن هذا الادث يص العرب وحدهم ،ول يص الشعوب والمم الت دانت
بالسلم ،فضلً عن السر والبيوتات الت خسرت دولتها وبلدها ،بل هي مأساة إنسانية
عامة ل يشهد التاريخ أتعس منها ول أعم منها .فلو علم العال حقيقة هذه الكارثة ،ولو
عرف مقدار خسارته ورزيته ،انكشف عنه غطاء العصبية ،لتذ هذا اليوم النحس – الذي
وقعت فيه يوم عزاء ورثاء ،ونياحة وبكاء ،ولتبادلت شعوب العال وأمه التعازي ،ولبست
المة ثوب الداد ،ولكن ذلك ل يتم ف يوم ،وإنا وقع تدرييا ف عقود من السني ،
والعال ل يسب إل الن الساب الصحيح لذا الادث ،ول يقدره قدره ،وليس عنده
القياس الصحيح لشقائه وحرمانه .
إن العال ل يسر شيئا بانقراض دولة ملكت حينا من الدهر .وفتحت مموعا من
البلد والقاليم .واستعبدت طوائف من البشر .ونعمت وترفهت .
((11
(Sale's Translation, p. 62 ( 1896
25
السيح ،وكان النوفيسيون يعتقدون أن للسيد السيح طبيعة واحدة ،وهي اللية الت تلشت
فيها طبيعة السح البشرية ،كقطرة من الل تقع ف بر عميق ل قرار له .وقد اشتد هذا
اللف بي الزبي ف القرني السادس والسابع ،حت صار كأنه حرب عوان بي ديني
متنافسي ،أو كأنه خلف بي اليهود والنصارى ،كل طائفة تقول للخرى :إنا ليست
على شيء .يقول الدكتور ألفرد .ج .بتلر :
(( إن ذينك القرني كانا عهد نضال متصل بي الصريي والرومانيي ،نضال يذكيه
اختلف ف النس واختلف ف الدين ،وكان اختلف الدين أشد من اختلف النس ،إذ
كانت علة العلل ف ذلك الوقت تلك بي اللكانية والنوفيسية ،وكانت الطائفة الول -كما
يدل عليها اسها -حزب مذهب الدولة المباطورية وحزب اللك والبلد ،وكانت تعتقد
العقيدة السنية الوروثة ،وهي ازدواج طبيعة السيح ،على حي أن الطائفة الخرى وهي
حزب القبط النوفيسيي –أهل مصر -كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها ،وتاربا
حربا عنيفة ف حاسة هوجاء يصعب علينا أن نتصورها أو نعرف كنهها ف قوم يعقلون ،بلة
يؤمنون بالنيل . )))(12
وحاول المباطور هرقل ( )641-610بعد انتصاره على الفرس سنة 638جع
مذاهب الدولة التصارعة وتوحيدها ،وأراد التوفيق ،وتقررت صورة التوفيق ،أن يتنع الناس
عن الوض ف الكلم عن كنه طبيعة السيد السيح ،وعما إذا كانت له صفة واحدة ،أم
صفتان ولكن عليهم بأن يشهدوا بأن ال له إرادة واحدة أو قضاء واحد .وف صدر عام
631حصل وفاق على ذلك وصار الذهب النوثيلي مذهبا رسيا للدولة ،ومن تضمهم من
أتباع الكنيسة السيحية ،وصمم هرقل على إظهار الذهب الديد على ما عداه من الذاهب
الختلفة له متوسلً إل ذلك بكل الوسائل ،ولكن القبط نابذوه العداء وتبأوا من هذه البدعة
والتحريف ،وصمدوا له واستماتوا ف سبيل عقيدتم القدية ،وحاول المباطور مرة أخرى
توحيد الذاهب وحسم اللف ،فاقتنع بأن يقر الناس بأن ال له إرادة واحدة ،وأما السألة
الخرى ،وهي نفاذ تلك الرادة بالفعل ،فأرجأ القول فيه ،ومنع الناس أن يوضوا ف
((12
فتح العرب لمصر ،تعريب محمد فريد أبو حديد ،ص . 38 – 37
26
مناظراتا ،وجعل ذلك رسالة رسية ،وبعث با إل جيع جهات العال الشرقي ،ولكن
الرسالة ل تدئ العاصفة ف مصر ووقع اضطهاد فظيع على يد قيس ف مصر واستمر عشر
سني ،وقع خللا ما تقشعر منه اللود ،فرجال كانوا يعذبون ث يقتلون إغراقا ،وتوقد
الشاعل وتسلط نارها على الشقياء حت يسيل الدهن من الانبي على الرض ،ويوضع
السجي ف كيس ملوء من الرمل ويرمى به ف البحر ،إل غي ذلك من الفظائع .
((20
فتح العرب لمصر ،ص . 47
((21
المصدر السابق .
((22
. Historian's History of the World , V . VII p. 173
29
البشة :
أما جارتا البشة فكانت على الذهب (الونوفيسي) كذلك ،وكانت مع ذلك تعبد
أوثانا كثية استعارت بعضها من المجية ،ول يكن التوحيد إل ضربا راقيا من الوثنية
خلعت عليها لباسا من علم ومصطلحات نصرانية ،ول تكن ف الدين بذات روح ،ول ف
الدنيا بذات طموح ،وقد قضى ممع (نيقية) أن ليس لا استقلل بأمورها الدينية ،وإنا هي
تابعة للكرسي السكندري .
اليهود :
وكانت ف أوربا وآسيا وإفريقيا أمة هي أغن أمم الرض مادة ف الدين ،وأقربا فهما
لصطلحاته ومعانيه ،أولئك هم اليهود ،ولكن ل يكونوا عاملً من عوامل الضارة والسياسة
أو الدين يؤثر ف غيهم ،بل قُضي عليهم من قرون طويلة أن يتحكم فيهم غيهم ،وأن
يكونوا عرضة للضطهاد والستبداد ،والنفي واللء ،والعذاب والبلء ،وقد أورثهم
تاريهم الاص وما تفردوا به بي أمم الرض من العبودية الطويلة والضطهاد الفظيع
والكبياء القومية ،والدلل بالنسب ،والشع وشهوة الال وتعاطي الربا ،أورثهم كل ذلك
نفسية غريبة ل توجد ف أمة وانفردوا بصائص خلقية كانت لم شعارا على تعاقب العصار
والجيال ،منها النوع عند الضعف ،والبطش وسوء السية عند الغلبة ،والتل والنفاق ف
عامة الحوال ،والقسوة والثرة وأكل أموال الناس بالباطل ،والصد عن سبيل ال .وقد
وصفهم القرآن الكري وصفا دقيقا عميقا يصور ما كانوا عليه ف القرني السادس والسابع من
تدهور خلقي ،وانطاط نفسي ،وفساد اجتماعي ،عزلوا بذلك عن إمامة المم وقيادة العال.
((25
كتاب الخطط المقريزية ،ج 4ص . 392
32
وبذه الروايات يعلم ما وصل إليه الفريقان ،اليهود والنصارى ،من القسوة والضراوة
بالدم النسان وتي الفرص للنكاية ف العدو ،وعدم مراعاة الدود ف ذلك ،وبذه
الخلق النحطة والستهانة بياة النسان ل يكن لطائفة أو أمة أن تؤدي رسالة الق والعدل
والسلم وتسعد البشرية ف ظلها وتت حكمها .
((30
الملل والنحل للشهرستاني ج 1ص . 86
((31
تاريخ الطبري ج 2ص . 88
((32
المصدر السابق .
34
حق عليهم وأن ما يرضخون لحد من فضول أموالم وفتات نعيمهم إنا هو صدقة وتكرم من
غي استحقاق ،وليس للناس قِبلهم إل السمع والطاعة ،وخصصوا بيتا معينا – وهو البيت
الكيان فكانوا يعتقدون أن لفراده وحدهم الق أن يلبسوا التاج ويبوا الراج ،وهذا الق
ينتقل فيهم كابرا عن كابر وأبا عن جد ل ينازعهم ذلك إل ظال ول ينافسهم إل دعي
نذل ،فكانوا يدينون باللك والوراثة ف البيت الالك ل يبغون به بد ًل ول يريدون عنه
ميصا ،فإذا ل يدوا من هذه السرة كبيا ملكوا عليهم طفلً ،وإذا ل يدوا رجلً ملكوا
عليهم امرأة فقد ملكوا بعد شيويه ولده أزدشي وهو ابن سبع سني وملك فرّخ زاد خسروا
ابن كسرى أبرويز وهو طفل ،وملكوا بوران بنت كسرى ،وملكت كذلك ابنة كسرى
ثانية يقال لا أزرمي دخت )(33ول يطر ببالم أن يلكوا عليهم قائدا كبيا أو رئيسا من
رؤسائهم مثل رستم وجابان وغيها لنم ليسوا من البيت اللكي .
((33
راجع تاريخ الطبري ج ، 2وتاريخ إيران لمكاريوس .
((34
(( إيران في عهد الساسانيين (( ص . 590
((35
أيضاً ص . 420
((36
أيضاً ص . 418
((37
أيضاً ص . 418
((38
أيضاً ص . 422
35
من وظائفهم ، )(39وكان العامة كذلك طبقات متميزة بعضها عن بعض تيزا واضحا ،وكان
لكل واحد مركز مدد ف الجتمع. )) )(40
وكان ف هذا التفاوت بي طبقات المة امتهان للنسانية يظهر لك جليا ف مالس
المراء والشراف ،حيث يقوم الناس على رؤوس المراء كأنم جاد ل حراك بم ويلسون
مزجر الكلب ،وقد أكب ذلك على رسول السلمي وأنكره ،ويتبي ما روى الطبي ما
وصل إليه الفرس من الستكانة والضوع لسادتم جريا على عاداتم ،قال :
((عن أب عثمان النهدي قال لا جاء الغية إل القنطرة فعبها إل أهل فارس أجلسوه
واستأذنوا رستم ف إجازته ،ول يغيوا شيئا من شارتم تقوية لتهاونم ،فأقبل الغية بن
شعبة والقوم ف زيهم عليهم التيجان والثياب النسوجة بالذهب ،وبُسطهم على غلوة ،ول
يصل إل صاحبهم حت يشي عليها غلوة ،وأقبل الغية وله أربع ضفائر يشي حت جلس معه
على سريره ووسادته ،فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوه ومغثوه ،فقال :كانت تبلغنا عنكم
الحلم ول أرى قوما أسفه منكم ،إنا معشر العرب سواء ل يستعبد بعضنا بعضا إل أن
يكون ماربا لصاحبه ،فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى ،وكان أحسن من الذي
صنعتم أن تبون أن بعضكم أرباب بعض ،وأن هذا المر ل يستقيم فيكم فل نصنعه ،ول
آتكم ولكن دعوتون .اليوم علمت أن أمركم مضمحل ،وأنكم مغلوبون ،وأن ملكا ل
يقوم على هذه السية ول على هذه العقول. )))(41
تجيد القومية الفارسية :
ث يبالغون ف تجيد القومية الفارسية ويرون أن لا فضلً على سائر الجناس والمم ،
وأن ال قد خصها بواهب ومنح ل يشرك فيها أحدا ،وكانوا ينظرون إل المم حولم نظرة
ازدراء وامتهان ،ويلقبونا بألقاب فيها الحتقار والسخرية .
عبادة النار وتأثيها ف الياة :
((39
أيضاً ص . 422
((40
(( إيران في عهد الساسانيين (( ص . 421
((41
الطبري ج 4ص . 108
36
كانوا ف الزمن القدي يعبدون ال ويسجدون له ،ث جعلوا يجدون الشمس والقمر
والنجوم وأجرام السماء مثل غيهم من الوائل ،وجاء زرادشت صاحب الديانة الفارسية
فيقال :إنه دعا إل التوحيد وأبطل الصنام ،وقال :إن نور ال يسطع ف كل ما يشرق
ويلتهب ف الكون .وأمر بالتاه إل جهة الشمس والنار وساعة الصلة لن النور رمز إل
الله وأمر بعدم تدنيس العناصر الربعة وهي :النار والواء والتراب والاء ،وجاء بعده علماء
سنوا للزرادشتيي شرائع متلفة فحرموا عليهم الشتغال بالشياء الت تستلزم النار فاقتصروا ف
أعمالم على الفلحة والتجارة ،ومن هذا التمجيد للنار واتاذها قبلة ف العبادات تدرج
الناس إل عبادتا حت صاروا يعبدونا عينا ويبنون لا هياكل ومعابد ،وانقرضت كل عقيدة
وديانة غي عبادة النار وجُهلت القيقة ونسي التاريخ. )(42
ولا كانت النار ل توحي إل عبّادها بشريعة ول ترسل رسولً ،ول تتدخل ف شئون
حياتم ول تعاقب العصاة والجرمي أصبحت الديانة عند الجوس عبارة عن طقوس وتقاليد
يؤدونا ف أمكنة خاصة ف ساعات خاصة ،أما ف خارج العابد ،وف دورهم ودوائر
حكمهم وتصرفهم ،وف السياسة والجتماع ،فكانوا أحرارا يسيون على هواهم .وما
تلي عليهم نفوسهم ،أو ما يؤدي إليه تفكيهم .أو ما توحي به مصالهم ومنافعهم ،شأن
الشركي ف كل عصر ومصر .
وهكذا ُحرِمت المة الفارسية ف حياتا دينا عميقا جامعا يكون تربية للنفس ،وتذيبا
للخلق ،وقامعا للشهوات ،وحافزا على التقوى وفعل اليات ،ويكون نظاما للسرة
وتدبيا للمنل وسياسة للدولة ،ودستورا للمة ،ويول بي الناس وطغيان اللوك ،وعسف
الكام ،ويأخذ على يد الظال ،وينتصف للمظلوم ،وأصبح الجوس ل فرق بينهم وبي
اللدينيي والباحيي ف الخلق والعمال .
((42
انظر تاريخ إيران تأليف شاهين مكاريوس ص . 224 – 221
37
الصي ديانات :
وكانت تسود الصي ف هذا القرن ثلث ديانات .ديانة " ل وتسو" وديانة
"كونفوشيوس" والبوذية ،أما الول ففضلً عن أنا تولت وثنية ف عهد قريب فهي تُعن
بالنظريات أكثر منها بالعمليات ،وكان أتباعها متقشفي زاهدين ،ل يتزوجون ول ينظرون
إل الرأة ول يتصلون با اتصالً ،فلم يكن لا أن تكون أُسّا لياة سديدة أو حكومة رشيدة ،
حت التجأ الذين جاءوا بعد مؤسسها إل مالفته والعدول عنه إل غيه .
أما "كونفوشيوس" فقد كان يعن بالعمليات أكثر من النظريات ،ولكن انصرت
تعاليمه ف شؤون هذه الدنيا وتدبي المور الادية والسياسية والدارية ،وقد كان أتباعه ل
يعتقدون –ف بعض الزمنة -بعبادة إله معي ،فيعبدون ما يشاءون من الشجار والنار ،
وليس فيها نور من يقي ول باعث من إيان ول شرع ساوي ،وإنا هو حكمة حكيم
وتارب خبي ،يستفيد با النسان إذا شاء ويرفضها إذا شاء .
( (43الزائر لمتحف تكسل في غربي بنجاب (( باكستان (( يندهش من رؤية كثرة التماثيل البوذية التي استخرجت من حفائر المدن
البوذية المطورة ويعرف أن هذه الديانة والمدنية أصبحتا وثنيتين تماماً .
( (44الهند القديمة (( اردو (( للستاذ ايشور اتويا .
38
النظام وتسرب إل مناهج العبادة السحر والوهام ،وبدأت الديانة تتقهقر وتنحط بعدما
سادت ف الند وازدهرت ألف سنة ،وقد ذكرت ( )Mrs Rhys DaVidsما أصيبت
به الديانة البوذية ف هذا العهد من الوهن والعتلل فقالت كما نقل عنها "سي رادها
كرشنن" ف كتابه "الفلسفة الندية" :
(( لقد أظلت الفكار العليلة تعليم بوذا اللقي حت توارى وراء هذه التخيلت
السقيمة ،لقد نشأ مذهب جديد ف الديانة وازدهر ،وملك على الناس القلوب ،ث اضمحل
وخلفه مذهب آخر ،وهلم جرا ،حت تراكمت هذه الوهام اللبة ،وحجبت الو وساد
الظلم ،وقد اضمحلت دروس مؤسس الديانة الغالية البسيطة بسبب التدقيقات الكلمية
والتنطعات. )) )(45
لقد أصيبت البهية والبوذية بالنطاط ،ودخلت فيها العادات الساقطة ،وأصبح من
العسي التمييز بينهما ،لقد اندمت البوذية ف البهية وذابت فيها .)))(46
ول يزل وجود الله اليان به ف البوذية موضع خلف وشك عند مؤرخي هذه الديانة
ومترجي مؤسسها ،حت يار بعضهم ويتساءل :كيف قامت هذه الديانة العظيمة على
أساس رقيق من الداب الت ليس فيها اليان بال . )(47فلم تكن البوذية إل طرقا لرياضة
النفس وقمع الشهوات ،والتحلي بالفضائل ،والنجاة من الل ،والصول على العلم .
إذن فلم تكن عند الصينيي رسالة دينية للعال يلون با مشاكله ،وكانوا ف أقصى
شرق العال التمدن متفظي بتراثهم الدين والعلمي ،ل يزيدون ف ثروتم ول ف ثروة غيهم.
((45
. Jawahar Dal Nehru : The Discovery of India P . 201 202
((46
أيضاً .
((47
اقرأ مقالة (( بوذا (( في دائرة المعارف البريطانية .
39
طور النتقال من عهد المجية إل عهد الضارة ،ومنها شعوب ل تزال ف طور البداوة
والطفولة العقلية .
40
منها بدا ،وتذرعت هاتان الديانتان بذه الوسيلة للحتفاظ بياتما وانتشارها ف البلد .
ويدل على ما وصلت إليه الوثنية والتماثيل ف هذا العصر ما حكاه الرحالة الصين الشهي "
هوئن سوئنج " الذي قام برحلته بي عام 630وعام 644عن الحتفال العظيم الذي أقامه
اللك هرش الذي حكم الند من عام 606إل (( : 647وأقام اللك احتفالً عظيما ف
قنوج اشترك فيه عدد كبي جدا من علماء الديانات السائدة ف الند ،وقد نصب اللك تثالً
ذهبيا لبوذة على منارة تعلو خسي ذراعا ،وقد خرج بتمثال آخر لبوذة أصغر من التمثال
الول ف موكب حافل قام بنبه اللك " هرش " بظلة وقام اللك الليف " كامروب " يذب
عنه الذباب. )) )(49
ويقول هذا الرحالة عن أسرة اللك ورجال بلطه " :إن بعضهم كان من عباد " شو "
وبعضهم من أتباع الديانة البوذية ،وكان بعضهم يعبد الشمس وبعضهم يعبد " وشنو "
وكان لكل واحد أن يص من اللة أحدا بعبادته أو يعبدهم جيعا. )) )(50
((49
رحلة هوئن سوئنج (( فوكوي كي (( الدولة الغربية .
((50
أيضاً .
41
العاريات والنساء يعبدن الرجال العراة )(51وكان كهنة العابد من كبار الونة والفساق الذين
كانوا يرزءون الراهبات والزائرات ف أعز ما عندهن ،وقد أصبح كثي من العابد نواخه
يترصد فيها الفاسق لطلبته ،وينال فيها الفاجر بغيته ،وإذا كان هذا شأن البيوت الت رفعت
للعبادة والدين فما ظن القارئ ببلط اللوك وقصور الغنياء ؟ ! فقد تنافس فيها رجالا ف
إتيان كل منكر وركوب كل فاحشة ،وكان فيها مالس متلطة من سادة وسيدات ،فإذا
لعبت المر برؤوسهم خلعوا جلباب الياء والشرف وطرحوا الشمة فتوارى الدب وتبقع
الياء ...هكذا أخذت البلد موجة طاغية من الشهوات النسية واللعة ،وأسفّت
أخلق النسي إسفافا كبيا .
((51
ستيارته بركاش لديالند سرسوتي الهندكي ص . 344
42
والتصدق وتقدي النذور ودراسة " ويد " والعزوف عن الشهوات ،وعلى ويش رعي السائمة
والقيام بدمتها وتلوة ويد والتجارة والزراعة ،وليس لشودر إل خدمة هذه الطبقات الثلث
)). )(52
((52
منوشاستر :الباب الول .
((53
أيضاً .
((54
الباب الثامن .
((55
الباب التاسع .
((56
الباب التاسع .
((57
الباب الثاني .
((58
منوشاستر الباب الحادي عشر .
43
الباهة وليس لم أجر وثواب بغي ذلك . )(59وليس لم أن يقتنوا مالً أو يدخروا كنا فإن
ذلك يؤذي الباهة ، )(60وإذا مد أحد من النبوذين إل برهي يدا أو عصا ليبطش به قطعت
يده ،وإذا رفسه ف غضب فدعت رجله ، )(61وإذا هم أحد من النبوذين أن يالس برهيا
فعلى اللك أن يكوي إسته وينفيه من البلد ، )(62وأما إذا مسه بيد أو سبه فيقتلع لسانه ،وإذا
ادعى أنه يعلمه سقي زيتا فائرا ، )(63وكفارة قتل الكلب والقطة والضفدعة والوزغ والغراب
والبومة ورجل من الطبقة النبوذة سواء. " )(64
45
مع ال ويعتقدون فيهم قدرة ذاتية على الي والشر والنفع والضر والياد والفناء مع معن
غي واضح عن ال كإله أعظم ورب الرباب. )(68
((68
راجع كتاب (( بيئة النبي صلى ال عليه وسلم من القرآن (( – للستاذ محمد عزت دروزة .
((69
كتاب الصنام ص . 33
((70
كتاب الصنام ص . 33
((71
الجامع الصحيح للبخاري كتاب المغازي باب فتح مكة .
((72
الجامع الصحيح للبخاري كتاب المغازي باب وفد بني حنيفة .
((73
كتاب الصنام .
46
اللة عند العرب :
وكان للعرب -شأن كل أمة مشركة ف كل زمان ومكان -آلة شت من اللئكة
والن والكواكب ،فكانوا يعتقدون أن اللئكة بنات ال ،فيتخذونم شفعاء لم عند ال
ويعبدونم ويتوسلون بم عند ال ،واتذوا كذلك من الن شركاء ل وآمنوا بقدرتم
وتأثيهم وعبدوهم. )(74
قال الكلب :كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الن .)(75
وقال صاعد :كانت ِحمْيَر تعبد الشمس ،وكنانة القمر ،وتيم الدبران ،ولم
وجذام الشتري ،وطيء سهيلً ،وقيس الشّعري العبور ،وأسد عطاردا. )(76
((74
كتاب الصنام ص . 44
((75
أيضاً ص . 34
((76
طبقات المم لصاعد ص . 430
47
قال صاعد :كان جهورهم ينكر ذلك "اليعاد" ل يصدق بالعاد ول يقول بالزاء ،
ويرى أن العال ل يرب ول يبيد ،وإن كان ملوقا مبتدعا ،وكان فيهم من يقر بالعاد ،
ويعتقد إن نرت ناقته على قبه يشر راكبا ،ومن ل يفعل ذلك يشر ماشيا .)(77
((77
أيضاً ص . 44
((78
اقرأ كتاب المخصص لبن سيده ج 11ص . 101 – 82
((79
السبع المعلقات ،معلقة لبيد .
((80
ديوان الحماسة .
((81
ديوان الحماسة .
((82
ديوان الحماسة .
48
قال قتادة :كان الرجل ف الاهلية يقامر على أهله وماله فيقعد حزينا سلبيا ينظر إل
ماله ف يد غيه ،فكانت تورث بينهم عداوة وبغضا. )(83
وكان أهل الجاز ،العرب واليهود ،يتعاطون الربا ،وكان فاشيا فيهم ،وكانوا
يحفون فيه ويبلغون إل حد الغلو والقسوة ،وقال الطبي :كان الربا ف الاهلية ف
التضعيف وف السني ،يكن للرجل فضل دين فيأتيه إذا حلّ الجل فيقول له :تقضين أو
تزيدن ؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضى وإل حوله إل السن الت فوق ذلك ،إن كانت
ابنة ماض يعلها ابنة لبون ف السنة الثانية ،ث حُقّة ث َجذَعة ث رباعيا هكذا إل فوق ،وف
العي يأتيه ،فإن ل يكن عنده أضعفه ف العام القابل وإن ل يكن عنده أضعفه أيضا فتكون
مائة فيجعلها إل القابل مائتي ،فإن ل يكن عنده جعلها أربعمائة يضعفها له كل سنة أو
يقضيه. )(84
وقد رسخ الربا فيهم وجرى منهم مرى المور الطبيعية الت صاروا ل يفرقون بينه
وبي التجارة الطبيعية وقالوا إنا البيع مثل الربا ،وقال الطبي إن الذين كانوا يأكلون الربا من
أهل الاهلية كان إذا حل مال أحدهم على غرية يقول الغري لغري الق " :زدن ف الجل
وأزيدك ف مالك " فكان يقال لما إذا فعل ذلك :هذا ربا ل يل ،فإذا قيل لما ذلك قال :
سواء علينا زدنا ف أول البيع أو عند مل الال. )(85
ول يكن الزن نادرا وكان غي مستنكر استنكارا شديدا ،فكان من العادات أن يتخذ
الرجل خليلت ويتخذ النساء أخلء بدون عقد ،وكانوا قد يُكرهون بعض النساء على
الزن ،قال ابن عباس :كانوا ف الاهلية يكرهون إماءهم على الزن يأخذون أجورهن. )(86
قالت عائشة " :إن النكاح ف الاهلية كان على أربعة أناء ،فنكاح منها نكاح الناس
اليوم يطب الرجل إل الرجل وليته أو بنته فيصدقها ث ينكحها ،والنكاح الخر كان الرجل
يقول لمرأته إذا طهرت من طمثها :أرسلي إل فلن فاستبضعي منه ،ويعتزلا زوجها ول
يسها أبدا حت يتبي حلها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ،فإذا تبي حلها أصابا
((83
شيْطَانُ أَن يُوقِعَ َب ْي َنكُمُ ا ْل َعدَاوَةَ وَا ْل َبغْضَاء (( الية .
تفسير الطبري :تفسير آية ((ِإّنمَا يُرِيدُ ال ّ
((84
تفسير الطبري (( ج 4ص . (( 59
((85
تفسير الطبري ،ص . 69
((86
تفسير الطبري ،ج 18ص . . 401
49
زوجها إذا أحب ،وإنا يفعل ذلك رغبة ف ناة الولد ،فكان هذا النكاح نكاح
الستبضاع ،ونكاح آخر يتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على الرأة ،كلهم يصيبها ،
فإذا حلت ووضعت ومرّ عليها ليال بعد أن تضع حلها أرسلت إليهم فلم يستطيع رجل منهم
أن يتنع حت يتمعوا عندها ،تقول لم :قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو
ابنك يا فلن ،تسمي من أحبت باسه فيلحق به ولدها ول يستطيع أن يتنع من جاءها ،
وهن البغايا كن ينصب على أبوابن رايات تكون علما ،فمن ارادهن دخل عليهن فإذا
حلت إحداهن ووضعت حلها جعوا لا ودعوا لا القافة ث ألقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه
ودعي ابنه ل يتنع من ذلك. )(87
((87
الجامع الصحيح للبخاري كتاب النكاح باب من قال :ل نكاح إل بولي .
((88
سورة البقرة ،آية . 232
((89
النساء آية . 19
((90
تفسير الطبري ج 4ص . 308
((91
سورة البقرة ،آية . 231
50
الحيان كالعلقة )(92ومن الأكولت ما هو خالص للذكور ومرم على الناث ، )(93وكان
يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من النساء من غي تديد. )(94
وقد بلغت كراهة البنات إل حد الوأد .ذكر اليثم بن عدي – على ما حكاه عنه
اليدان -أن الوأد كان مستعمل ف قبائل العرب قاطبة ،فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة ،
فجاء السلم ،وكانت مذاهب العرب متلفة ف وأد الولد فمنهم من كان يئد البنات لزيد
الغية ومافة لوق العار بم من أجلهن ،ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء أو
شيماء (سوداء) أو برشاء (برصاء) أو كسحاء (عرجاء) تشاؤما منهم بذه الصفات ،ومنهم
من كان يقتل أولده خشية النفاق وخوف الفقر ،وهم الفقراء من بعض قبائل العرب فكان
يشتريهم من بعض سراة العرب وأشرافهم . )(95قال صعصعة بن ناجية :جاء السلم وفديت
ثلثائة موءودة )(96ومنهم من كان ينذر -إذا بلغ بنوه عشرة – نر واحد منهم كما فعل
عبدالطلب ،ومنهم من يقول :اللئكة بنات -ال سبحانه عما يقولون -فألقوا البنات به
تعال فهو عز وجل أحق بن. )(97
وكانوا يقتلون البنات ويئدونن بقسوة نادرة ف بعض الحيان ،فقد يتأخر وأد
الوءودة لسفر الوالد وشغله فل يئدها إل وقد كبت وصارت تعقل ،وقد حكوا ف ذلك عن
أنفسهم مبكيات ،وقد كان بعضهم يلقي النثى من شاهق. )(98
( (105رواه المام أحمد بإسناده عن ابن عباس عن سلمان ورواه الحاكم في مستدركه .والرواية لتصال سندها وعدالة رواتها من
أصح الوثائق التاريخية عن الجاهلية وحالتها الدينية .
55
الفصل الثان
النظام السياسي والال ف العصر الاهلي
اللكية الطلقة :
كان العصر الاهلي مسرحا للحكم الائر الستبد ،فقد كانت السياسة ف هذا العصر
ملكية مطلقة ،قد تقوم على تقديس البيوتات الاصة ،كما كان ف فارس ،فقد كان آل
ساسان يعتقدون أن حقهم ف اللك مستمد من ال ،وقد عملوا كل ما ف استطاعتهم للتأثي
ف رعاياهم حت أذعنوا لذا الق اللكي القدس وصارت لم عقيدة يدينون با ،وقد تقوم
على تقديس اللوك مطلقا ،فكان الصينيون يسمون ملكهم المباطور ابن السماء ،
ويعتقدون أن السماء ذكر ،والرض أنثى ،وقد ولد الكائنات ،وكان المباطور ختا الول
هو بكر هذين الزوجي ، )(106وكان المباطور يعتب كالب الوحيد للمة ،له أن يفعل ما
يشاء ،وكانوا يقولون له " :أنت أبو المة وأمها " ولا مات المباطور "ل يان" أو "تاي
تسونغ" لبست الصي ثوب الداد ،وحزنت المة حزنا شديدا ،فمنها من أثخن وجهه
بالبر ،ومن قطع شعره ،ومن ضرب أذنيه بانب النعش .وقد تقوم على تقديس بعض
الشعوب والوطان كما كان ف الملكة الرومية ،فكان البدأ الساسي هو تقديس الوطن
الرومي ،والشعب الرومي .ول تكن المم والبلد إل خادمة لصلحتها وعروقا يري منها
الدم إل مركزها ،فكانت الدولة تستهي ف ذلك بكل حق ومبدأ ،وتدوس كل شرف
وكرامة ،وتستحل كل ظلم وشنيعة ،ول ينع بلدا من هذا اليف والظلم اشتراك ف دين
وعقيدة ول إخلص ووفاء للملكة ،ول يعترف لا ف زمن من الزمان بق حكمها نفسها
بنفسها والتمتع بقوقها ف أرضها إنا هي ناقة ركوب ف بعض الحيان ،حلوب ف بعضها ،
ل يقدم لا العلف إل ما يقيم صلبها ويدر ضرعها .
يقول ( ) Robert Briffaultعن الدولة الرومية :
((106
تاريخ الصين لجميز كاركرن .
56
(( ل يكن سبب انقراض الدولة الرومية وسقوطها الساسي الفساد الزائد (كالرشوة
وغيها) بل كان الفساد والشر وعدم الطابقة بالواقع ما صحب نشوء هذه الدولة من أول
يومها وتغلغل ف أحشائها .إن كل مؤسسة بشرية تقوم على أساس زائف منها ول تستطيع
أن تنقذ نفسها بذكاء أو نشاط ،ولا كان الفساد ما قامت عليه هذه الدولة فكان ل بد أن
تبيد يوما وتنهار ،لقد رأينا أن الدولة الرومية إنا كانت وسيلة لرفاهية طبقة صغية على
حساب الماهي الذين كانت هذه الطبقة تستغلهم وتتص دمائهم .لقد كانت التجارة تسي
ف رومة بأمانة وعدل وقد كان ذلك ما طبعت عليه هذه الدولة ،وقد كانت فائقة ف قوة
الكم والقضاء ،وف الكفاءة ،ولكن هذه الحاسن كلها ل تكن لتحفظ الدولة من عواقب
الزيف الساسي والطأ . )))(107
((107
. The Making of Humanity, by Robert Briffault p 159
((108
فتح العرب لمصر للدكتور الفرد .ج .بتلر ،تعريب محمد فريد أبو حديد .
57
أبنائهم ليوفوا ما عليهم من الموال ،وقد كثرت الظال والسخرات والرقيق ،وبذه اليدي
عمر الرومان ما عمروا من العاهد والصانع ف الشام. )) )(109
(( حكم الرومان الشام سبعمائة سنة بدأ معهم ف البلد الناع والشقاق والستبداد
والنانية وقتل النفس ،وحكم اليونان الشام 369سنة سادت ف عهدهم الروب الطاحنة
والظال وظهرت الطامع اليونانية بأعظم مظاهرها وكان حكمهم من أشد الويلت وأشأم
النكبات على المة الشامية. )) )(110
وبالختصار كانت الوليات الرومية والفارسية غي مرتاحة ف حكم الجانب ،
وكانت الحوال السياسية والقتصادية مضطربة حت ف مراكز الدولة وعواصمها .
((109
خطط الشام للستاذ كرد علي ج 1ص . 101
((110
أيضاً ج 1ص . 103
((111
إيران في عهد الساسانيين ص . 161
((112
إيران في عهد الساسانيين ص .162
58
خسرو الثان ف الدائن أمواله إل بناية أحدثها سنة 608 -607م وكان ما نقله 460
مليون وثانية مليي مثقال ذهب وذلك ما يساوي 370مليون وخسة مليي فرنك ذهب ،
وف العام الثالث عشر من جلوسه على العرش كان ف خزانته 800مليون مثقال ذهب. )(113
((116
أيضاً ص . 424
((117
أيضاً ص . 424
60
والقصور الباذخة ومظاهر الثروة والنعمة ،وقصره مثال ف البة والغن ، )(118يقول
مكاريوس :
(( ل يرو ف التاريخ أن مليكا بذخ وتنعم مثل الكاسرة الذين كانت تأتيهم الدايا
والرايات من كل البلدان الواقعة ما بي الشرق القصى والشرق الدن )(119ولا خرجوا من
العراق ف الفتح السلمي تركوا ف الزائن من الثياب والتاع والنية والفضول واللطاف
والدهان ما ل يدرى ما قيمته )).
وقد وجد العرب قبابا تركية ملوءة سللً متمة بالرصاص ،قال العرب :فما
حسبناها إل طعاما فإذا هي آنية الذهب والفضة.)) )(120
ووصف الؤرخون العرب بار كسرى الذي أصابه السلمون يوم الدائن فقالوا :
(( هو ستون ذراعا ف ستي ذراعا ،بساط واحد مقدار جريب ،أرضه بذهب ووشيه
بفصوص وثره بوهر وورقه برير وماء الذهب فيه طرق كالصور وفصوص كالنار ،
وخلل ذلك كالدير ،وف حافاته كالرض الزروعة ،والرض البقلة بالنبات ف الربيع من
الرير على قضبان الذهب ،ونواره بالذهب والفضة وأشباه ذلك ،وكانوا يعدونه للشتاء ،
إذا ذهبت الرياحي ،فكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه فكأنم ف رياض ، )) )(121وهذا
يدل على ما وصل إليه البذخ والترفه ف الدنية الفارسية .
كذلك كان الشام ف الدولة الرومية وحواضرها ،وكانت الدولتان والدنيتان –
الفارسية والرومية ..كفرسي رهان ف البذخ والترفه ف دقائق الدنية ،وقد بذخ الباطرة
ونوابم وأمراؤهم ف الشام بذخا عظيما وحوى بلطهم وقصورهم ومالس شربم ولوهم
من آلت الترف وأسباب الرفاهية شيئا كثيا ،وبلغت من الترف والناقة شأوا بعيدا ،وقد
وصف حسان بن ثابت الشاعر الخضرم ملس جبلة بن اليهم الغسان فقال :لقد رأيت
عشر قيان خس روميات يغني بالرومية بالبابط وخس يغني غناء أهل الية أهداهن إليه
إياس بن قبيصة وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيها ،وكان إذا جلس
((118
تاريخ إيران لشاهين مكاريوس طبع 1898ص . 90
((119
أيضاً ص . 211
((120
تاريخ الطبري .
((121
تاريخ الطبري ج 4ص . 178
61
للشراب فرش تته الس والياسي وأصناف الرياحي وضرب له العنب والسك ف صحاف
الفضة والذهب وأتى بالسك الصحيح ف صحاف الفضة وأوقد له العود الندّي إن كان شاتيا
،وإن صائفا بطن بالثلج وأت هو وأصحابه بكسى صيفية يتفضل هو وأصحابه با ف الصيف
،وف الشتاء الفراء الفنك وما أشبهه. )(122
وكان المراء والقيال والغنياء ورجال البيوتات الشريفة وأفراد الطبقة الوسطى على
آثار اللوك ياولون أن يقلدوهم ف لباسهم وطعامهم ومالسهم وترفهم وكانوا يأخذون
أنفسهم بعاداتم ومناهج حياتم ،وارتفع مستوى الياة ارتفاعا عظيما وتعقدت الدنية تعقدا
عظيما ،وصار الواحد ينفق على نفسه وعلى جزء من لباسه ما يشبع قرية أو يكسو قبيلة ،
وكان لبد منه لكل شريف أو وجيه ،حت إذا أخل به وأغفله أشي إليه بالبنان وتفادته العيون
،حت صار ذلك واجبا من وجبات الياة وشريعة من شرائع الجتمع الت ل يل العدول عنها
.عن الشعب قال :كان أهل فارس يعلون قلنسهم على قدر أحسابم ف عشائرهم ،فمن
ت شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف ،وكان هرمز من ت شرفه فكانت قيمتها مائة ألف وكانت
مفصصة بالوهر ، )(123وتام شرف أحدهم أن يكون من بيوتات السبعة ومن الزادية كان
مرزبان الية أزمان كسرى ،وكان قد بلغ نصف الشرف ،وكانت قيمة قلنسوته خسي
ألفا )(124وبيع ما على رستم بسبعي ألفا وكانت قيمة قلنسوته مائة ألف. )(125
درج الناس على هذه الدنية الترفة وعاداتا الفاسدة ورضعوا بلبانا ونشأوا عليها حت
أصبحت لم الطبيعة الثانية ،وعز عليهم الفصال وشق عليهم أن يتنازلوا إل الياة الطبعية
البسيطة حت ف ساعة عصيبة وف فاقة واضطرار ،ذكروا أن يزدجرد آخر ملوك فارس لا فر
من الدائن أخذ معه ألف طاه وألف مغن وألف قيم للنمور وألف قيم للبزاة وآخرين وكان
يستقل هذا العدد ، )(126واستسقى الرمزان ملك الهواز أمام عمر فأتى به ف قدح غليظ ،
فقال :لو مت عطشا ل أستطع أن أشرب ف مثل هذا .فأت به ف إناء يرضاه .)(127
((122
الغاني لبي الفرج الصبهاني ج ، 14ص . 2
((123
تاريخ الطبري ج 4ص . 6
((124
أيضاً ص . 11
((125
أيضاً ص . 134
((126
(( إيران في عهد الساسانيين (( لرتهر كرستن :ص . 681
((127
تاريخ الطبري ج 4ص . 161
62
الزيادة الباهظة ف الضرائب :
كانت نتيجة هذا البذخ والترف الطبيعية الزيادة الباهظة ف الضرائب وسن القواني
الديدة لبتزاز الموال من طبقات الفلحي والصناع والتجار وأهل الرف حت وصلت إل
حد الرهاق وأثقلت كاهل الهلي وانقضت ظهرهم .
يقول مؤلف " إيران ف عهد الساسانيي " :
وقد جرت عادة ملوك إيران بقبول الدايا والتقديات من الرعية وكانوا يسمون ذلك "
آيي" وكان ذلك علوة على الضرائب الرسية ،وكانوا يأخذون من الناس الدايا جبا يوم
نوروز والهرجان وكانت مناجم الذهب ف أرمينيا ملكا للملك ولنفقاته الاصة.)) )(128
ويقول الؤرخ العرب الشامي :
(( كان يقضي على الشعب الشامي أن يؤدي الزية وعشر غلته وأتاوة من الال
ورسا على كل رأس ،وللشعب الرومان موارد مهمة من المارك والناجم والضرائب
والقول الصالة لزرع النطة والراعي يؤجرونا من شركات التعهدين يسمونم العشارين ،
يبتاعون من الكومة حق جباية الراج ،وف كل ولية عدة شركات من العشارين ،ولكل
شركة مستخدمون من الكتاب والباة يظهرون ف مظهر السادة ،ويتناولون أكثر ما يب
لم أخذه ،ويسلبون نعمة الهلي ،وكثيا ما يبيعونم كما يباع الرقيق.)) )(129
(( أوجز أحدهم السياسة المباطورية ف الرومان بقوله (( :الراعي الصال يز صوف
غنمه ول ينتفه )) فمضى القرنان وأباطرة الرومان يكتفون بز سكان ملكتهم يسلبون منهم
كثيا من الموال ولكنهم يمونم من العدو الارجي. )) )(130
شقاء المهور :
وهكذا أصبح أهل البلد ف كلتا الملكتي طبقتي متميزتي تام التمييز :طبقة اللوك
والمراء ورجال البلط اللكي وأسرهم وعشائرهم والتصلون بم والغنياء ،فكانوا يعيشون
((128
(( إيران في عهد الساسانيين (( لرتهر كرستن :ص . 681
((129
خطط الشام للستاذ كرد علي ج 5ص . 47
((130
خطط الشام للستاذ كرد علي ج 5ص . 47
63
بي الزهار والرياحي ويتقلبون ف أعطاف النعيم ،وينعلون أفراسهم عسجدا ،ويكسون
بيوتم حريرا وسندسا .
وطبقة الفلحي والصناع والتجار الصغار وأهل الرف والشغال ،كانوا ف جهد من
العيش يرزخون تت أثقال الياة والضرائب والتاوات ويرسفون ف القيود والغلل
ويعيشون عيش البهائم ،ل حظ لم ف الياة إل العمل لغيهم والشقاء لنعيمهم ول همّ لم
إل الكل والعلف ،فإذا سئموا هذا العيش الر تعللوا بالسكرات واللهيات ،وإذا تنفسوا من
هذا العناء رتعوا ف الحرمات ،ورغم هذا الهد ف لعيشة يهدون أنفسهم ف تقليد رجال
الطبقة العليا ف كثي من أساليب حياتم ،فكان ذلك أشد من الهد ف سبيل الكفاف من
الرزق والبلغة من العيش ،فتنغص حياتم ،ويتكدر صفوهم ويشتغل بالم .
******************************
((132
فسقية .
((133
حجة ال البالغة (( باب إقامة الرتفاقات وإصلح الرسوم ((
65
الباب الثان
من الاهلية إل السلم
الفصل الول
منهج النبياء ف الصلح والتغيي
العال الذي واجهه ممد صلى ال عليه وسلم :
بعث ممد بن عبد ال صلى ال عليه وسلم والعال بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزا
عنيفا ،فإذ كل شيء فيه ف غي مله ،فمن أساسه ومتاعه ما تكسر ،ومنه ما التوى
وانعطف ،ومنه ما فارق مله اللئق به وشغل مكانا آخر ،ومنه ما تكدس وتكوم .
نظر إل العال بعي النبياء فرأى إنسانا قد هانت عليه إنسانيته ،رآه يسجد للحجر
والشجر والنهر ،وكل مال يلك لنفسه النفع والضر .
رأى إنسانا معكوسا قد فسدت عقليته ،فلم تعد تسيغ البديهيات ،وتعقل الليات ،
وفسد نظام فكره ،فإذا النظري عنده بديهي وبالعكس ،يستريب ف موضع الزم ،ويؤمن
ف موضع الشك .وفسد ذوقه فصار يستحلي الر ويستطيب البيث ،ويستمرئ الوخيم ،
وبطل حسه فأصبح ل يبغض العدو الظال ،ول يب الصديق الناصح .
رأى متمعا هو الصورة الصغرة للعال ،كل شيء فيه ف غي شكله أو ف غي مله ،
قد أصبح فيه الذئب راعيا والصم الائر قاضيا ،وأصبح الجرم فيه سعيدا حظيا ،والصال
مروما شقيا ل أنكر ف هذا الجتمع من العروف ،ول أعرف من النكر ،ورأى عادات
فاسدة تستعجل فناء البشرية ،وتسوقها إل هوة اللك .
رأى معاقرة المر إل حد الدمان ،واللعة والفجور إل حد الستهتار ،وتعاطي
الربا إل حد الغتصاب واستلب الموال ورأى الطمع وشهوة الال إل حد الشع والنهامة
ورأى القسوة والظلم إل حد الوأد وقتل الولد .
66
رأى ملوكا اتذوا بلد ال دولً ،وعباد ال خولً ،ورأى أحبارا ورهبانا أصبحوا
أربابا من دون ال ،يأكلون أموال الناس بالباطل ،ويصدون عن سبيل ال .
رأى الواهب البشرية ضائعة أو زائغة ل ينتفع با ول توجه التوجيه الصحيح ،فعادت
وبال على أصحابا وعلى النسانية ،فقد تولت الشجاعة فتكا وهجية ،والواد تبذيرا
وإسرافا ،والنفة حية جاهلية ،والذكاء شطارة وخديعة ،والعقل وسيلة لبتكار النايات ،
والبداع ف إرضاء الشهوات .
رأى أفراد البشر واليئات البشرية كخامات ل تظ بصانع حاذق ،ينتفع با ف هيكل
الضارة ،وكألواح الشب ل تسعد بنجار يركب منها سفينة تشق بر الياة .
رأى المم قطعانا من الغنم ليس لا راع ،والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه ،
والسلطان كسيف ف يد سكران يرح به نفسه ،ويرح به أولده وإخوانه .
67
اللذة حت ف السم ،وتبتغي النشوة حت ف الث ،فل تجره بجرد الدعاية والنشر والكتب
(13
الطب وبيان مضاره الطبية ومفاسده اللقية ،وبسن القواني الشديدة والعقوبات الصارمة
)4ل تجره إل بتغيي نفس عميق ،وإذا أرغمت على تركه بغي هذا التغيي تسللت إل غيه
من أنواع الرية واستباحته بتغيي الساء والصور .
( (134منعت حكومة أمريكا الخمر ،وطاردتها في بلدها واستعملت جميع وسائل المدينة الحاضرة كالمجلت والجرائد
والمحاضرات والصور والسينما لتهجين شربها وبيان مضارها ومفاسدها ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد
على 60مليون دولر ،وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على 10بليين صفحة ،وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون
التحريم في مدة أربعة عشر عامًا ل يقل عن 250مليون جنيه ،وقد أعدم فيها 300نفس ؛ وسجن 532335نفس ،وبلغت
الغرامات إلى 16مليون جنيه ،وصادرت من الملك ما يبلغ 400مليون وأربعة مليين جنيه ،ولكن كل ذلك لم يزد المة
المريكية إل غراما بالخمر وعنادًا في تعاطيها ،حتى اضطرت الحكومة سنة 1933م إلى سحب القانون وإباحة الخمر في مملكتها
إباحة مطلقة (( من كتاب تنقيحات للستاذ أبي العلى المودودي ((
( (135البداية والنهاية لبن كثير الدمشقي ص 43ج . 3
68
وكانت ف الياة العربية نواح اجتماعية واقتصادية كثية تتاج إل حنكة سياسي
وكفاية إداري وعزية عصامي وابتكار عبقري ،فلو قيض لا رجل من هؤلء الرجال لكان
للعرب شأن كبي وتاريخ جديد .
69
فمنهم من يوفق لزالة بعضها مؤقتا ف بعض نواحي البلد ،ومنهم من يوت ول ينجح ف
مهمته . )(136
أتى النب صلى ال عليه وسلم بيت الدعوة والصلح من بابه ،ووضع على قفل
الطبيعة البشرية مفتاحه ،ذلك القفل العقد الذي أعيا فتحه جيع الصلحي ف عهد الفترة ،
وكل من حاول فتحه من بعده بغي مفتاحه .ودعا الناس إل اليان بال وحده ،ورفض
الوثان والعبادات والكفر بالطاغوت بكل معان الكلمة وقام ف القوم ينادي (( :يا أيها
الناس قولوا ل إله إل ال تفلحوا !)) ودعاهم إل اليان برسالته ،واليان بالخرة .
**************************************
( (136إن غاندي الزعيم الهندي الكبير هدف من أول حياته السياسية والروحية إلى مبدأين عظيمين حصر فيهما زعامته السياسية
وشخصيته الروحية القوية النادرتين في هذا العصر جعلهما شعارًا لمبدئه :الول " ل عنف ول مقاومة " وقد دعا إلى هذا المبدأ
كديانة وفلسفة ،وظل سنين طوال يدعو إليه بخطبه ومقالته وصحفه ،واستنفد في ذلك جهوده ولما لم يكن ذلك عن طريق التغيير
النفسي وعن طريق الدعوة الدينية الساسية لم تؤثر دعوته في نفسية أمته تأثيراً عميقًا ،وقد جعلت هذه المة دعوته هباء منثورا
في الضطرابات الطائفية العظيمة التي وقعت في بنجاب الشرقية ودلهي عاصمة الهند في سبتمبر سنة 1947م التي قتل فيها من
المسلمين أكثر من نصف مليون ،وكانت مجزرة هائلة وقع فيها من القسوة والهمجية والعتداء على الطفال والنساء والعراض
ما ل يكاد يصدقه المؤرخون ،حتى انتهت باغتيال هذا الرجل العظيم الذي بلغت به أمته حد التقديس والتأليه .
والمبدأ الثاني :نسخ اللمس المنبوذ ،ولم ينجح في مهمته هذه كذلك نجاحًا يعتد به ،فكان ذلك برهاناً سطعاً على أن طريق النبياء
هو الطبيعي الصحيح في الصلح والتغيير .
70
الفصل الثان
رحلة السلم من الاهلية إل السلم
دفاع الاهلية عن نفسها :
ما أخطأ الجتمع الاهلي فهم هذه الدعوة ومراميها ،وما ُغمّ على أهله أمرها ،
وأدركوا عندما قرع أساعهم صوت النب صلى ال عليه وسلم أن دعوته إل اليان بال
وحده سهم مسدّد إل كبد الاهلية ونعي لا ،فقامت قيامة الاهلية ودافعت عن تراثها
دفاعها الخي ،وقاتلت ف سبيل الحتفاظ به قتال الستميت ،وأجلبت على الداعي صلى
ال عليه وسلم بيلها ورجلها ،وجاءت بدها وحديدها { :وَانطَلَ َق اْلمَلَأُ مِْن ُهمْ أَنِ امْشُوا
وَاصْبِرُوا َعلَى آِلهَتِ ُكمْ إِنّ َهذَا َلشَيْءٌ يُرَادُ } ووجد كل ركنٍ من أركان هذه الياة ومن أثاف
الاهلية نفسه مهددا وحياته منذرة ،وهنا وقع ما تدث عنه التاريخ من حوادث الضطهاد
والتعذيب ،وكان ذلك آية توفيق النب صلى ال عليه وسلم لنه أصاب الغرض ،وضرب
على الوتر الساس ،وأصاب الاهلية ف صميمها وف مقتلها ،وثبت النب صلى ال عليه
وسلم على دعوته ثبوتا دونه ثبوت الراسيات ،ل يثنيه أذى ،ول يلويه كيد ،ول يلتفت إل
إغراء ،ويقول لعمه (( :يا عم لو وضعت الشمس ف يين والقمر ف يساري ما تركت هذا
المر حت يظهره ال أو أهلك ف طلبه.)))(137
72
السيف ،وهم من أمة ،من أيامها حرب بسوس وداحس والغباء ،وما يوم الفجار ببعيد .
ولكن الرسول يقهر طبيعتهم الربية ويكبح نوتم العربية ،ويقول لم { :كُفّواْ أَْيدِيَ ُكمْ
وََأقِيمُواْ الصّلَةَ } فانقهروا لمره وكفوا أيديهم ،وتملوا من قريش ما تسيل منه النفوس ف
غي جب وف غي عجز ،ول يسجل التاريخ حادثة دافع فيها مسلم ف مكة عن نفسه بالسيف
مع كثرة الدواعي الطبيعية إل ذلك وقوتا ،وذلك غاية ما روي ف التاريخ من الطاعة
والضوع ،حت إذا تعدت قريش ف الطغيان وبلغ السيل الزب أذن ال لرسوله ولصحابه
بالجرة :وهاجروا إل يثرب وقد سبقهم إليها السلم .
73
وحرصا على العلم وفقها ف الدين وماسبة للنفس .يطيعون الرسل ف النشط والكره .
وينفرون ف سبيل ال خفافا وثقالً .قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعا وعشرين مرة ف
عشر سني .وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة .فهان عليهم التخلي عن الدنيا
وهانت عليهم رزيئة أولدهم ونسائهم ف نفوسهم .ونزلت اليات بكثي ما ل يألفوه ول
يتعودوه .وبكل ما يشق على النفس إتيانه ف الال والنفس والولد والعشية فنشطوا وخفوا
لمتثال أمرها .وانلت العقدة الكبى -عقدة الشرك والكفر -فانلت العقد كلها وجاهدهم
الرسول جهاده الول فلم يتج إل جهاد مستأنف لكل أمر وني .وانتصر السلم على
الاهلية ف العركة الول -فكان النصر حليفه ف كل معركة ،وقد دخلوا ف السلم كافة
بقلوبم وجوارحهم وأرواحهم كافة ،ل يشاقون الرسول من بعد ما تبي لم الدى ،ول
يدون ف أنفسهم حرجا ما قضى ول يكون لم الية من بعد ما أمر أو نى .حدثوا
الرسول عما اختانوا أنفسهم ،وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة
استوجبت الد -نزل تري المر والكئوس التدفقة على راحاتم ،فحال أمر ال بينها وبي
الشفاه التلمظة والكباد التقدة ،وكسرت دنان المر فسالت ف سكك الدينة .
حت إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم ،بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم .
وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيهم .وأصبحوا ف الدنيا رجال الخرة وف اليوم رجال
الغد .ل تزعهم مصيبة ول تبطرهم نعمة ول يشغلهم فقر ول يطغيهم غن ول تلهيهم تارة
ول تستخفهم قوة ،ول يريدون علوا ف الرض ول فسادا .وأصبحوا للناس القسطاس
الستقيم قوامي بالقسط شهداء ل ولو على أنفسهم أو الوالدين والقربي .وطّأ لم أكناف
الرض وأصبحوا عصمة للبشرية ووقاية للعال وداعية إل دين ال .واستخلفهم الرسول صلى
ال عليه وسلم ف عمله ولق بالرفيق العلى قرير العي من أمته ورسالته .
74
لقد كان هذا النقلب الذي أحدثه صلى ال عليه وسلم ف نفوس السلمي
وبواسطتهم ف الجتمع النسان أغرب ما ف تاريخ البشر ،وقد كان هذا النقلب غريبا ف
كل شيء :كان غريبا ف سرعته وكان غريبا ف عمقه وكان غريبا ف سعته وشوله .وكان
غريبا ف وضوحه وقربه إل الفهم .فلم يكن غامضا ككثي من الوادث الارقة للعادة ،ول
يكن لغزا من اللغاز .فلندرس هذا النقلب عمليا ،ولنتعرف مدى تأثيه ف الجتمع
النسان والتاريخ البشري .
75
الفلسفة الغريقية عن روح الشوع والستكانة ل واللتجاء إليه ف الوادث ومبته بكل
القلب .وهكذا فقدت الديانة السائدة على العال روحها وأصبحت طقوسا وتقاليد وأشباحا
لليان .
انتقل العرب والذين أسلموا من هذه العرفة العليلة الغامضة اليتة إل معرفة عميقة
واضحة روحية ذات سلطان على الروح والنفس والقلب والوارح ،ذات تأثي ف الخلق
والجتماع ،ذات سيطرة على الياة وما يتصل با ،آمنوا بال الذي له الساء السن والثل
العلى ،آمنوا برب العالي الرحن الرحيم مالك يوم الدين اللك القدوس السلم الؤمن
الهيمن العزيز البار التكب ،الالق البارئ الصور ،العزيز الكيم ،الغفور الودود ،
الرؤوف الرحيم ،له اللق والمر ،بيده ملكوت كل شيء ،يي ول يار عليه ،إل آخر ما
جاء ف القرآن من وصفه ،يثيب بالنة ويعذب بالنار ،ويبسط الرزق لن يشاء ويقدر ،يعلم
البء ف السماوات والرض ،ويعلم خائنة العي وما تفي الصدور ،إل آخر ما جاء ف
القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه ،فانقلبت نفسيتهم بذا اليان الواسع العميق الواضح انقلبا
عجيبا ،فإذا آمن أحد بال وشهد أن ل إله إل ال انقلبت حياته ظهرا لبطن ،تغلغل اليان
ف أحشائه وتسرب إل جيع عروقه ومشاعره ،وجرى منه مرى الروح والدم واقتلع جراثيم
الاهلية وجذورها ،وغمر العقل والقلب بفيضانه وجعل منه رجلً غي الرجل ،وظهر منه
روائع اليان واليقي والصب والشجاعة ومن خوارق الفعال والخلق ما حي العقل
والفلسفة وتاريخ الخلق ،ول يزال موضع حية ودهشة منه إل البد ،وعجز العلم عن
تعليله بشيء غي اليان الكامل العميق .
76
القانون تول هذا اليان نفسا لوّامة عنيفة ووخزا لذعا للضمي وخيالً مروعا ،ل يرتاح
معه صاحبه حت يعترف بذنبه أمام القانون ،ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ويتحملها مطمئنا
مرتاحا تفاديا من سخط ال وعقوبة الخرة .
وقد حدثنا الؤرخون الثقات ف ذلك بطرائف ل يدث نظيها إل ف التاريخ السلمي
الدين فمنها ما روى مسام ابن الجاج القشيي صاحب الصحيح بسنده عن عبد ال بن
بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك السلمي ،أتى رسول صلى ال عليه وسلم فقال (( :يا
رسول اله إن ظلمت نفسي وزنيت وإن أريد أن تطهرن )) فرده ،فلما كان من الغد أتاه
فقال (( :يا رسول ال إن قد زنيت )) فرده الثانية ،فأرسل رسول ال صلى ال عليه وسلم
إل قومه فقال :أتعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا ؟ فقالوا :ما نعلمه إل وف العقل من
صالينا فيما نرى فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه فأخبوه أنه ل بأس به ول بعقله ،
فلما كانت الرابعة حفر له حفرة ث أمر فرُجم .
قال فجاءت الغامدية فقالت (( :يا رسول ال إن قد زنيت فطهرن )) وأنه ردها
فلما كان الغد قالت :يا رسول ال لِم تردن ؟ لعلك أن تردن كما رددت ماعزا ،فو ال
إن لبلى .قال :أما ل فاذهب حت تلدي .قال :فلما ولدت أتته بالصب ف خرقة قالت :
هذا قد ولدته .قال :فاذهب فأرضعيه حت تطعميه .فلما فطمته أتته بالصب ،ف يده كسرة
خبز ،فقالت :هذا يا نب ال قد فطمته وقد أكل الطعام .فدفع الصب إل رجل من السلمي
.ث أمر فحفر لا إل صدرها وأمر الناس فرجوها .فاستقبلها خالد بن الوليد بجر فرمى
رأسها فنضح الدم على وجه خالد فسبها ،فسمع نب ال سبه إياها فقال (( :مهلً يا خالد ،
فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابا صاحب مكس لغفر له )) ث أمر با فصلى عليه
ودفنت. )(138
((138
صحيح مسلم ،كتاب الحدود .
77
وكان هذا اليان حارسا لمانة النسان وعفافه وكرامته ،يلك نفسه النع أمام
الطامع والشهوات الارفة وف اللوة والوحدة حيث ل يراها أحد .وف سلطانه ونفوذه
حيث ل ياف أحدا .وقد وقع ف تاريخ الفتح السلمي من قضايا العفاف عند الغنم وأداء
المانات إل أهلها والخلص ل ،ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره ،وما ذاك إل نتيجة
رسوخ اليان ومراقبة ال واستحضار علمه ف كل مكان وزمان .
حدث الطبي قال :لا هبط السلمون الدائن وجعوا القباض أقبل رجل بُقّ معه
فدفعه إل صاحب القباض .فقال والذين معه :ما رأينا مثل هذا قط .ما يعدله ما عندنا ول
يقاربه .فقالوا :هل أخذت منه شيئا ؟ فقال :أما وال لول ال ما أتيتكم به .فعرفوا أن
للرجل شأنا فقالوا :من أنت ؟ فقال :ل وال ل أخبكم لتحمدون ول غيكم ليقرظون .
ولكن أحد ال وأرضى بثوابه فأتبعوه رجلً حت انتهى إل أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر
بن عبد قيس. )(139
((139
تاريخ الطبري ج 4ص . 16
((140
البداية ج . 3
78
أرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر رسولً إل رستم قائد اليوش الفارسية
وأميهم ،فدخل عليه وقد زينوا ملسه بالنمارق والزراب والرير ،وأظهر اليواقيت والللئ
الثمينة العظيمة ،وعلى تاجه وغي ذلك من المتعة الثمينة ،وقد جلس على سرير من ذهب
.ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصية ول زل راكبها حت داس با على طرف
البساط ،ث نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل عليه سلحه ودرعه وبيضته على رأسه ،
فقالوا له :ضع سلحك ،فقال :إن ل آتكم وإنا جئتكم حي دعوتون فإن تركتمون
هكذا وإل رجعت .فقال رستم :ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمه فوق النمارق فخرق
عامتها .فقالوا له :ما جاء بكم ؟ فقال :ال ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إل
عبادة ال ،ومن ضيق الدنيا إل سعتها ،ومن جور الديان إل عدل السلم .
((141
متفق عليه .
79
فأخرج ترات من قرنه فجعل يأكل منهن ،ث قال :لئن أنا حييت حت آكل ترات هذه إنا
لياة طويلة ،فرمى با كان معه من التمر ث قاتلهم حت قتل. )(142
عن أب بكر بن أب موسى الشعري قال :سعت أب رضي ال عنه وهو بضرة العدو
يقول :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :إن أبواب النة تت ظلل السيوف ،فقام
رجل رث اليئة فقال :يا أبا موسى أأنت سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول هذا ؟
قال :نعم .فرجع إل أصحابه فقال :أقرأ عليكم السلم ،ث كسر جفن سيفه فألقاه ث
مشى بسيفه إل العدو فضرب حت قتل .)(143
وكان عمرو بن الموح أعرج شديد العرج ،وكان له أربعة بني شباب يغزون مع
رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا غزا ،فلما توجه إل أحد أراد أن يتوجه معه فقال له بنوه
:إن ال قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونن نكفيك وقد وضع ال عنك الهاد ،فأتى
عمرو بن الموح رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :يا رسول ال إن َبنّ هؤلء ينعونن
أن أخرج معك ،ووال إن لرجو أن استشهد فأطأ بعرجت هذه ف النة ،فقال له رسول
ال صلى ال عليه وسلم :أما أنت فقد وضع ال عنك الهاد ،وقال لبنيه :وما عليكم أن
تدعوه لعل ال عز وجل أن يرزقه الشهادة فخرج مع رسول ال صل ال عليه وسلم فقتل يوم
أحد شهيدا .)(144
قال شداد بن الاد :جاء رجل من العراب إل النب صلى ال عليه وسلم فآمن به
واتبعه فقال أهاجر معك ،فأوصى به بعض أصحابه ،فلما كانت غزوة خيب غنم رسول ال
صلى ال عليه وسلم شيئا فقسمه ،وقسم للعراب فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى
ظهورهم ،فلما جاء دفعوه إليه فقال :ما هذا ؟ قالوا :قسم قسمه لك رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،فأخذه فجاء به إل النب صلى ال عليه وسلم فقال :ما هذا يا رسول ال ؟ قال
قسم قسمته لك ،قال :ما على هذا اتبعتك ،ولكن اتبعتك على أن ُأرْمَى ها هنا -وأشار
إل حلقه -بسهم ،فأموت فأدخل النة ،فقال :إن تصدق ال ليصدقك ،ث نضوا إل قتال
((142
رواه مسلم .
((143
رواه مسلم .
((144
زاد المعاد ج 3ص . 135
80
العدو فأت به النب صلى ال عليه وسلم وهو مقتول فقال :أهو هو ؟ قالوا :نعم ،قال :
صدق ال فصدقه. )(145
((145
زاد المعاد ج 3ص .190
81
رسول ال ! قال :ماذا كنت تدث به نفسك ؟ قال :ل شيء ،كنت أذكر ال ،فضحك
النب صلى ال عليه وسلم ،ث قال :استغفر ال ،ث وضع يده على صدره فسكن قلبه ،
وكان فضالة يقول :وال ما رفع يده على صدري حت ما خلق ال شيئا أحب إلّ منه ،قال
فضالة :فرجعت إل أهلي فمررت بامرأة كنت أتدث إليها ،فقالت :هلمّ إل الديث ،
فقلت :يأب ال عليك والسلم. )(146
((146
زاد المعاد ج 2ص . 332
82
شفا جرف هار ،وأساس منهار ،وعلى قياس واختيار ،فزاغ أساس الدنية وتداعى بناؤها ،
وخر عليهم السقف من فوقهم .
وكان الصحابة رضي ال عنهم سعداء موفقي جدا ،إذ عوّلوا ف ذلك كله على
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فكفوا الئونة وسعدوا بالثمرة ،ووفروا ذكائهم وقوتم
وجهادهم ف غي جهاد ،ووفروا عليهم أوقاتم فصرفوها فيما يعنيهم من الدين والدنيا
وتسكوا بالعُروة الوثقى ،وأخذوا ف الدين بلب اللباب .
**********************************
83
الفصل الثالث
الجتمع السلمي
طاقة زهر :
إن هذا اليان بال والرسول واليوم الخر والسلم ل ولدينه أقام عوج الياة ،ورد
كل فرد ف الجتمع البشري إل موضعه ،ل يقصر عنه ول يتعداه وأصبحت اليئة البشرية
طاقة زهر ل شوك فيها ،أصبح الناس أسرة واحدة أبوهم آدم ،وآدم من تراب ،ل فضل
لعرب على عجمي ،ول لعجمي على عرب إل بالتقوى ،يقول النب صلى ال عليه وسلم:
((كلكم بنو آدم ،وآدم خلق من تراب ،ولينتهي قوم يفخرون بآبائهم ،أو ليكونن أهون
على ال تعال من العلن ،)) )(147ويسمعه الناس يقول (( :يا أيها الناس إن ال قد أذهب
عنكم عبية الاهلية وتعظمها بآبائها ،فالناس رجلن :رجل بٌر تقيٌ كري على ال تعال ،
ورجل فاجر شقي هي على ال تعال ،)) )(148ويقول (( :إن أنسابكم هذه ليست على
لنسبة على أحد ،كلكم بنو آدم ،طف الصاع ل ينعوه ،ليس لحد على أحد فضل إل
بدين وتقوى ، )) )(149وعن أب ذر رضي ال عنه أن النب صلى ال عليه وسلم قال له :
((انظر فإنك لست بي من أحر ول أسود ،إل أن تفضله بتقوى ال)) ويسمعه الناس يقول
فيما يناجي به ربه ف آخر الليل (( :وأنا شهيد أن العباد كلهم أخوة. )))(150
86
من القلوب والرواح على ميعاد .وأحبه رجال أمته وأطاعوه حبا وطاعة ل يسمع بثلهما ف
تاريخ العشاق والتيمي .ووقع من خوارق الب والتفان ف سبيل طاعته وإيثاره على النفس
والهل والال والولد ما ل يدث قبله ولن يدث بعده .
((158
البداية والنهاية ج 4ص . 63
((159
زاد المعاد ج 2ص . 134
((160
أيضاً ص . 130
((161
أيضاً ص . 136
((162
سيرة ابن هشام ،ذكر السباب الموجبة للمسير إلى مكة .
88
وجهه وجلده ،وإذا أمرهم ابتدروا أمره ،وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضٌوئه ،وإذا تكلم
خفضوا أصواتم عنده ،وما يُحدّون إليه النظر تعظيما له .)(163
((163
زاد المعاد ،ج 3ص . 125
((164
أيضاً .
((165
متفق عليه .
89
ماذا أفعل ؟ فقال :ل بل اعتزلا فل تقربنها .فقال لمرأته :القي بأهلك فكون عندهم
حت يقضي ال من هذا المر. )(166
وكان من حبه للرسول صلى ال عليه وسلم وإيثاره على كل أحد ف الدنيا أن ملك
غسان يطب وده ويستلحقه بنفسه ،وتلك منة عظيمة ف حال الفوة والعتاب ولكنه يرفض
ذلك قال (( :بينما أنا أمشي ف سوق الدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام من قدم بالطعام
يبيعه بالدينة يقول :من يدلن على كعب بن مالك فطفق الناس يشيون له إلّ حت جاءن
فدفع إل كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه :أما بعد فإنه قد بلغنا أن
صاحبك قد جافاك ول يعلك ال بدار هوان ول مضيعة فالق بنا نواسك .فقلت حي
قرأتا :وهذه أيضا من البلء ،فتيممت با التنور فسجرتا .)(167
ومن غرائب الطاعة وسرعة النقياد ما حدث عند نزول النهي عن المر ف ملس شرب ،
فعن أب بريدة عن أبيه قال :بينما نن قعود على شراب لنا وعندنا باطية )(168لنا ،ونن
نشرب المر حلً إذ قمت حت آت رسول ال صلى ال عليه وسلم فأسلم عليه وقد نزل
خمْرُ وَاْلمَيْسِرُ وَالَنصَابُ وَا َلزْلَمُ رِجْسٌ مّنْ َعمَلِ
تري المر {يَا أَّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِّنمَا الْ َ
الشّيْطَانِ } – إل قوله َ { :فهَلْ أَنتُم مّنَتهُونَ } فجئت إل أصحاب فقرأتا عليهم إل قوله :
{ َفهَلْ أَنتُم مّنَتهُونَ } .قال :وبعض القوم شربته ف يده شرب بعضا وبقي بعض ف
الناء ،فقال بالناء تت شفته العليا كما يفعل الجام ،ث صبوا ما ف باطيتهم فقالوا :
انتهينا ربنا .انتهينا ربنا . )(169
ومن غرائب الطاعة للرسول وإيثاره على النفس والهل والعشية ما روي عن عبد ال
بن عبد ال بن أب ،روى ابن جرير بسنده عن ابن زيد قال :دعا رسول ال صلى ال عليه
وسلم عبد ال بن عبد ال بن أبّ قال :أل ترى ما يقول أبوك ؟ قال :ما يقول بأب أنت
وأمي ؟ قال :يقول لئن رجعنا إل الدينة ليخرجن العز منها الذل ،فقال :فقد صدق وال
يا رسول ال ،أنت وال العز وهو الذل ،أما وال لقد قدمت الدينة يا رسول ال وإن أهل
((166
متفق عليه .
((167
متفق عليه .
((168
الباطية :إناء من زجاج يمل من الشراب .
((169
خمْرُ } الية ،تفسير الطبري . 7
رواه ابن جرير بسنده في التفسير عند قوله تعالى { :يَا َأّيهَا اّلذِينَ آ َمنُواْ ِإّنمَا ا ْل َ
90
يثرب ليعلمون ما با أحد أبّر من ،ولئن كان يرضي ال ورسوله أن آتيهما برأسه لتيتهما به
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :ل .فلما قدموا الدينة قام عبد ال بن عبد ال بن أب
على بابا بالسيف لبيه ث قال :أنت القائل لئن رجعنا إل الدينة ليخرجن العز منها الذل ؟
أما وال لتعرفن العزة لك أو لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،وال ل يأويك ظله ول تأويه
أبدا إل بإذن من ال ورسوله .فقال :يا للخزرج ،ابن ينعن بيت ،يا للخزرج ابن ينعن
بيت !! فقال :وال ل يأويه أبدا .إل بإذن منه .فاجتمع إليه رجال فكلموه فقال :وال ل
يدخله إل بإذن من ال ورسوله .فأتوا النب صلى ال عليه وسلم فأخبوه فقال :اذهبوا إليه
فقولوا له :خلّه ومسكنه .فأتوه فقال :أما إذا جاء أمر النب صلى ال عليه وسلم فنعم. )(170
***********************************
((170
تفسير الطبري ج . 28
91
الفصل الرابع
كيف حول الرسول خامات الاهلية
إل عجائب النسانية
بذا اليان الواسع العميق والتعليم النبوي التقن ،وبذه التربية الكيمة الدقيقة
وبشخصيته الفذة ،وبفضل هذا الكتاب السماوي العجز الذي ل تنقضي عجائبه ول تلق
جدته ،بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم ف النسانية الحتضرة حياة جديدة .
عمد إل الذخائر البشرية وهي أكداس من الواد الام ل يعرف أحد غناءها ،ول
يعرف ملها وقد أضاعتها الاهلية والكفر والخلد إل الرض فأوجد فيها بإذن ال اليان
والعقيدة وبعث فيها الروح الديدة ،وأثار من دفائنها وأشعل مواهبها ،ث وضع كل واحد
ف مله فكأنا خلق له ،وكأنا كان الكان شاغرا ل يزل ينتظره ويتطلع إليه ،وكأنا كان
جادا فتحول جسما ناميا وإنسانا متصرفا وكأنا كان ميتا ل يتحرك فعاد حيا يلي على
العال إرادته وكأنا كان أعمى ل يبصر الطريق فأصبح قائدا بصيا يقود المم َ{ :أوَ مَن كَانَ
مَيْتا فََأحْيَيْنَاهُ وَجَ َعلْنَا لَهُ نُورا َيمْشِي ِب ِه فِي النّاسِ َكمَن مّثَلُهُ فِي الظُّلمَاتِ لَيْسَ ِبخَا ِرجٍ } .
عمد إل المة العربية الضائعة وإل أناس من غيها فما لبث العال أن رأى منهم نوابغ كانوا
من عجائب الدهر وسوانح التاريخ ،فأصبح عمر الذي كان يرعى البل لبيه الطاب وينهره
وكان من أوساط قريش جلدة وصرامة ،ول يتبوأ منها الكانة العليا ،ول يسب له أقرانه
حسابا كبيا ،إذا به يفجأ العال بعبقريته وعصاميته ،ويدحر كسرى وقيصر عن عروشهما
ويؤسس دولة إسلمية تمع بي متلكاتما وتفوقهما ف الدارة وحسن النظام فضلً عن
الورع والتقوى والعدل الذي ل يزال فيه الثل السائر .
وهذا ابن الوليد كان أحد فرسان قريش الشبان انصرت كفاءته الربية ف نطاق ملّيٍ
ضيق يستعي به رؤساء قريش ف العارك القبلية فينال ثقتهم وثناءهم ،ول يرز الشهرة الفائقة
ف نواحي الزيرة ،إذ به يلمع سيفا إليا ل يقوم له شيء إل حصده ،وينل كصاعقة على
الروم والفرس ويترك ذكرا خالدا ف التاريخ .
92
وهذا أبو عبيدة كان موصوفا بالصلح والمانة والرفق ويقود سرايا السلمي إذا به
يتول القيادة العظمى للمسلمي ويطرد هرقل من ربوع الشام ومروجها الضراء ويلقي عليها
الوداع ويقول :سلم على سورية سلما ل لقاء بعده .
وهذا عمرو بن العاص كان يُعد من عقلء قريش وترسله ف سفارتا إل البشة تسترد
الهاجرين السلمي فيجع خائبا إذا به يفتح مصر وتصي له صولة عظيمة .
وهذا سعد بن أب وقاص ل نسمع به ف التاريخ العرب قبل السلم كقائد جيش
ورئيس كتيبة ،إذا به يتقلد مفاتيح الدائن ،وينيط باسه فتح العراق وإيران .
وهذا سلمان الفارسي كان ابن موبذان ف إحدى قرى فارس ل يزل يتنقل من رق إل
رق ومن قسوة إل قسوة إذا به يطلع على أمته كحاكم لعاصمة المباطورية الفارسية الت
كان بالمس أحد رعاياها ،وأعجب من ذلك أن هذه الوظيفة ل تغي من زهادته وتقشفه
فياه الناس يسكن ف كوخ ويمل على رأسه الثقال .
وهذا بلل البشي يبلغ من فضله وصلحه مبلغا يلقبه فيه أمي الؤمني عمر بالسيد .
وهذا سال مول أب حذيفة يرى فيه عمر موضعا للخلفة يقول :لو كان حيا
لستخلفته .
وهذا زيد بن حارثة يقود جيش السلمي إل مؤتة وفيه مثل جعفر بن أب طالب وخالد
بن الوليد ،ويقود ابنه أسامة جيشا فيه مثل أب بكر وعمر .
وهذا أبو ذر والقداد وأبو الدرداء وعمار بن ياسر ومعاذ بن جبل وأب بن كعب ،
تب عليهم نفحة من نفحات السلم فيصبحون من الزّهاد العدودين والعلماء الراسخي .
وهذا علي بن أب طالب وعائشة وعبد ال بن مسعود وزيد بن ثابت وعبد ال بن
عباس قد أصبحوا ف أحضان النب المي صلى ال عليه وسلم من علماء العال يتفجر العلم من
جوانبهم وتنطق الكمة على لسانم ،أبّر الناس قلوبا وأعمقهم علما وأقلهم تكلفا ،
يتكلمون فينصت الزمن ويطبون فيسجل قلم التاريخ .
93
كتلة بشرية متزنة :
ث ل يلبث العال التمدن أن يرى من هذه الواد الام البعثرة الت استهانت بقيمتها
المم العاصرة وسخرت منها البلد الجاورة ،ل يلبث أن يرى منها كتلة ل يشاهد التاريخ
البشري أحسن منها اتزانا ،كأنا حلقة مفرغة ل يعرف طرفها أو كالطر ل يُدرى أأوله خي
أم آخره كتلة فيها الكفاية التامة ف كل ناحية من نواحي النسانية ،كتلة هي ف غن عن
العال ،وليس العال ف غن عنها ،وضعت مدنيتها وأسست حكومتها وليس لا عهد با ،ل
تضطر إل أن تستعي رجلً من أمة أو تستعي ف إدارتا بكومة ،أسست حكومة تد رواقها
على رقعة متسعة من قارتي عظيمتي ،وملت كل ثغر وسدت كل عوز برجل يمع بي
الكفاية والديانة والقوة والمانة ،تأسست هذه الكومة التشعبة الطراف فأندتا هذه المة
الوليدة الت ل يض عليها إل بعض العقود –كله جهاد ودفاع ومقاومة وكفاح – برجل من
الرجال الكفاء ،فكان منها المي العادل والازن المي والقاضي القسط ،والقائد العابد
والوال التورع والندي التقي ،وكانت بفضل التربية الدينية الت ل تزال مستمرة ،وبفضل
الدعوة السلمية الت ل تزال سائرة ،مادة ل تنقطع ومعينا ل ينضب ،ل تزال تسند
الكومة برجال يرجحون جانب الداية على الباية ،ول يزالون يمعون بي الصلح والكفاية
،وهنا ظهرت الدنية السلمية بظهرها الصحيح ،وتلت الياة الدينية بصائصها الت ل
تتوفر لعهد من عهود التاريخ البشري .
لقد وضع ممد صلى ال عليه وسلم مفتاح النبوة على قفل الطبيعة البشرية فانفتح على
ما فيها من كنوز وعجائب وقوى ومواهب ،أصاب الاهلية ف مقتلها أو صميمها ،فأصمى
رميته ،وأرغم العال العنيد بول ال على أن ينحو نوا جديدا ويفتتح عهدا سعيدا ،ذلك
هو العهد السلمي الذي ل يزال غرة ف جبي التاريخ .
*************************************
94
الباب الثالث
العصر السلمي
الفصل الول
عهد القيادة السلمية
الئمة السلمون وخصائصهم :
ظهر السلمون وتزعموا العال وعزلوا المم الريضة من زعامة النسانية الت استغلتها
وأساءت عملها ،وساروا بالنسانية سيا حثيثا متزنا عادلً ،وقد توفرت فيهم الصفات الت
تؤهلهم لقيادة المم ،وتضمن سعادتا وفلحها ف ظلهم وتت قيادتم .
أولً :أنم أصحاب كتاب منل وشريعة إلية ،فل يقننون ول يشترعون من عند
أنفسهم ،لن ذلك منبع الهل والطأ والظلم ،ول يبطون ف سلوكهم وسياستهم
ومعاملتهم للناس خبط عشواء ،قد جعل ال لم نورا مشون به ف الناس ،وجعل لم شريعة
يكمون با بي الناس {َأوَ مَن كَانَ مَيْتا فَأَحْيَيْنَاهُ َوجَعَلْنَا لَهُ نُورا َي ْمشِي ِب ِه فِي النّاسِ َكمَن
مّثَلُ ُه فِي الظُّلمَاتِ لَيْسَ ِبخَا ِرجٍ مّْنهَا } وقد قال ال تعال { :يَا أَّيهَا اّلذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ َقوّامِيَ
سطِ َولَ َيجْرِمَنّ ُكمْ شَنَآ ُن َقوْمٍ َعلَى َألّ تَ ْع ِدلُواْ اعْ ِدلُواْ ُهوَ َأقْ َربُ لِلتّ ْقوَى وَاتّقُواْ
لِلّهِ ُش َهدَاء بِالْقِ ْ
الّلهَ إِنّ اللّهَ خَِبيٌ ِبمَا تَ ْعمَلُونَ } .
ثانيا :أنم ل يتولوا الكم والقيادة بغي تربية خلقية وتزكية نفس ،بلف غالب
المم والفراد ورجال الكومة ف الاضي والاضر ،بل مكثوا زمنا طويلً تت تربية ممد
صلى ال عليه وسلم وإشرافه الدقيق يزكيهم ويؤدبم ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف
والمانة واليثار على النفس وخشية ال وعدم الستشراف للمارة والرص عليها .يقول :
((إنا وال ل نُول هذا العمل أحدا سأله ،أو أحدا حرص عليه ،)) )(171ول يزال يقرع
ك الدّارُ الْآخِرَةُ َنجْعَُلهَا لِّلذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُُلوّا فِي الَْأرْضِ َولَا فَسَادا وَالْعَاقِبَةُ
سعهم { :تِلْ َ
((172
البداية والنهاية لبن كثير .
((173
من خطبة النبي صلى ال عليه وسلم في حجة الوداع .
96
ولدتم أمهاتم أحرارا .)(174فلم يبخل هؤلء با عندهم من دين وعلم وتذيب على أحد ،
ول يراعوا ف الكم والمارة والفضل نسبا ولونا ووطنا ،بل كانوا سحابة انتظمت البلد
وعمت العباد ،وغوادي مزنة أثن عليها السهل والوعر وانتفعت با البلد والعباد على قدر
قبولا وصلحها. )(175
ف ظل هؤلء وتت حكمهم استطاعت المم والشعوب – حت الضطهدة منها ف
القدي -أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والكومة ،أن تساهم العرب ف بناء
العال الديد بل إن كثيا من أفرادها فاقوا العرب ف بعض الفضائل ،وكان منهم أئمة هم
تيجان مفارق العرب وسادة السلمي من الئمة والفقهاء والحدثي ،حت قال ابن خلدون :
(( من الغريب الواقع أن حلة العلم ف اللة السلمية أكثرهم العجم ،ل من العلوم الشرعية
ول من العلوم العقلية ، )(176إل ف القليل النادر ،وإن كان منهم العرب ف نسبته ،فهو
عجمي ف لغته ،ومرباه ومشيخته ،مع أن اللة عربية ،وصاحب شريعتها عرب . )))(177
ونبغ من هذه المم ف عصور السلم قادة وملوك ووزراء وفضلء ،هم نوم الرض ونباء
النسانية ،وحسنات العال ،فضيلة ومروءة وعبقرية ودينا وعملً ،ل يصيهم إل ال .
رابعا :أن النسان جسم وروح ،وهو قلب وعقل وعواطف وجوارح ،ل يسعد ول
يفلح ول يرقى رُقيا متزنا عادلً حت تنمو فيه هذه القوى كلها نوا متناسبا لئقا با ،
ويتغذى غذاء صالا ،ول يكن أن توجد الدنية الصالة البتة إل إذا ساد وسط دين خلقي
عقلي جسدي يكن فيه للنسان بسهولة أن يبلغ كماله النسان ،وقد أثبتت التجربة أنه ل
يكون ذلك إل إذا كانت قيادة الياة وإدارة دفة الدنية بيد الذين يؤمنون بالروح والادة ،
ويكونون أمثلة كاملة ف الياة الدينية واللقية ،وأصحاب عقول سليمة راجحة ،وعلوم
صحيحة نافعة ،فإذا كان فيهم نقص ف عقيدتم أو ف تربيتهم عاد ذلك النقص ف مدنيتهم ،
98
الت تولت قيادة بن جنسها من هذا النقص ،لذلك ل تزل الدنية متأرجحة بي مادية بيمية
وروحانية ورهبانية ول تزل ف اضطراب .
يتاز أصحاب النب صلى ال عليه وسلم بأنم كانوا جامعي بي الديانة والخلق
والقوة والسياسة ،وكانت تتمثل فيهم النسانية بميع نواحيها وشعبها وماسنها التفرقة ف
قادة العال ،وكان يكن لم – بفضل تربيتهم اللقية والروحية السامية واعتدالم الغريب
الذي قلما اتفق للنسان ،وجعهم بي مصال الروح والبدن واستعدادهم الادي الكامل
وعقلهم الواسع – أن يسيوا بالمم النسانية إل غايتها الثلى الروحية واللقية والادية .
((178
رواه أحمد بن مروان المالكي في المجالسة .
99
رهبان بالليل ،ل يأكلون ف ذمتهم إل بثمن ،ول يدخلون إل بسلم ،يقضون على من
حاربوا حت يأتوا عليه .)) )(179ويقول الثالث (( :أما الليل فرهبان وأما النهار ففرسان ،
يريشون النبل ويبونا ويثقفون القنا ،لو حدثت جليسك حديثا ما فهمه عنك لا عل من
أصواتم بالقرآن والذكر .)) )(180ويغنم الند ف الدائن تاج كسرى وبساطه وهو يساوي
مئات اللوف من الدناني فل تعبث به يد ول تشح عليه نفس ،ث يسلمونه إل المي ويرسله
المي إل خليفة السلمي فيتعجب ويقول :إن الذين أدوا هذا لمناء. )(181
((179
البداية والنهاية ج 7ص . 53
((180
البداية والنهاية ج 7ص .16
((181
سيرة عمر بن الخطاب لبن الجوزي .
100
وَ َحمَلْنَا ُه ْم فِي الْبَرّ وَالَْبحْرِ َورَ َزقْنَاهُم مّنَ الطّيّبَاتِ َوَفضّلْنَا ُهمْ َعلَى كَِثيٍ ّممّنْ خَلَقْنَا تَ ْفضِيلً} .
و-ثانيا -من حيث إنه إنسان أسلم لمر ال وانقاد لكمه فاستخلفه ف الرض واسترعاه
أهلها {وَ َعدَ اللّ ُه اّلذِينَ آمَنُوا مِن ُكمْ وَ َعمِلُوا الصّاِلحَاتِ لََيسَْتخْلِفَّنهُم فِي الَْأ ْرضِ َكمَا اسَْتخْلَفَ
اّلذِينَ مِن قَبِْل ِهمْ َولَيُمَكّنَنّ َل ُهمْ دِيَنهُ ُم الّذِي ارَْتضَى َلهُمْ َولَيُبَ ّدلَّنهُم مّن بَ ْعدِ َخ ْوِفهِمْ أَمْنا
يَعُْبدُونَنِي لَا ُيشْ ِركُونَ بِي شَيْئا}.ومنحهم حق التمتع بيات الرض من غي إسراف وتبذير
حبّ اْلمُسْ ِرفِيَ } { َخلَقَ لَكُم مّا فِي ا َلرْضِ َجمِيعا} {،وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَ ُتسْ ِرفُواْ إِنّهُ لَ ُي ِ
ق قُلْ هِي لِّلذِينَ آمَنُواْ فِي اْلحَيَاةِ {قُلْ مَنْ حَرّ َم زِينَةَ اللّ ِه الّتِيَ أَ ْخ َرجَ لِعِبَادِهِ وَالْطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْ ِ
الدّنْيَا خَاِلصَةً َيوْمَ الْقِيَامَةِ } ،وجعل لم الولية على أمم الرض وجاعات البشر يراقبون
سيها وسيتا وأخلقها ورغباتا ،فيشدون الضال ويردون الغاوي ويصلحون الفاسد
ويقيمون الود ،ويرأبون الصدع ويأخذون للضعيف من القوي ،وينتصفون للمظلوم من
الظال ،ويقومون ف الرض القسط ويبسطون على العال جناح المن {كُنُتمْ خَيْرَ أُمّةٍ
ُأخْرِ َجتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِاْلمَعْرُوفِ وَتَْن َهوْنَ َع ِن الْمُنكَرِ وَُتؤْمِنُونَ بِالّلهِ } { ،يَا أَّيهَا اّلذِينَ آمَنُواْ
سطِ ُش َهدَاء لِّلهِ } . كُونُواْ قَوّامِيَ بِالْقِ ْ
وقد وصف عال ألان مسلم وصفا دقيقا ،قال:
(( إن السلم ل ينظر -كالنصرانية – إل العال بنظار أسود ،بل هو يعلمنا أن ل
نسرف ف تقدير الياة الرضية ،وأن ل نغال ف قيمتها مغالة الضارة الغربية الاضرة .إن
السحية تذم الياة الرضية وتكرهها ،والغرب الاضر-خلف الروح النصران – يهتم بالياة
كما يهتم النهم بطعامه ،هو يبتلعه ولكن ليس عنده كرامة له ،والسلم بالعكس ينظر إل
الياة بسكينه واحترام ،هو ل يبعد الياة بل يعدها كمرحلة نتازها ف طريقنا إل حياة
عليا ،وبا أنا مرحلة ومرحلة لبد منها ليس للنسان أن يتقرها أو يقلل من قيمة حياته
الرضية .إن مرورنا بذا العال ف سفر الياة لبد منه ،وقد سبق به تقدير ال ،فالياة
النسانية لا قيمتها الكبى ،ولكن ل ينبغي لنا أن ننسى أنا ليست إل واسطة وآلة وليست
قيمتها إل قيمة الوسائط واللت ،السلم ل يسمح بالنظرية الادية القائلة (( إن ملكت
ليست إل هذا العال)) ول بالنظرية السيحية الت تزدري الياة وتقول (( ليس هذا العال
101
ملكت )) وطريق السلم طريق وسط بينهما ،القرآن يرشدنا أن ندعو { :رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا
َحسَنَةً َوفِي ال ِخرَةِ َحسَنَةً } فالتقدير لذا العال وأشيائه ليس حجر عثرة ف سبيل جهودنا
الروحية الصبة ،والرقي الادي مرغوب فيه مع أنه ليس غاية ف نفسه .إن غاية جهودنا
ينبغي أن تكون إياد أحوال وظروف شخصية واجتماعية – والحافظة عليها إن وجدت –
تساعد ف ارتقاء القوة اللقية ف النسان ،مطابقة لذا البدأ .السلم يهدي الناس إل
الشعور بالسئولية اللقية ف كل عمل يعمله كبيا كان أو صغيا إن نظام السلم الدين ل
يسمح أبدا بثل ما أمر به النيل قائلً " أعطوا ما لقيصر لقيصر وأعطوا ما ل ل " ،لن
السلم ل يسمح بتقسيم حاجات حياتنا إل خلقية وعملية ،ليس هناك إل خية فقط ،
خية بي الق والباطل ،وليس شيء وسطا بينهما ،لذلك هو يلح على العمل لنه جزء لزم
للخلق ل غن عنه ،ينبغي لكل فرد مسلم أن يعيد نفسه مسئولً شخصيا عن الحيط الذي
ييط به وكل ما يقع حوله ،ومأمورا بالهاد لقامة الق ومق الباطل ف كل وقت وف كل
جهة ،فإن القرآن يقول {كُنُتمْ خَْيرَ أُمّةٍ أُخْ ِر َجتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِاْلمَعْرُوفِ وَتَْنهَوْنَ َعنِ
اْلمُنكَرِ وَُتؤْمِنُونَ بِاللّهِ } ،هذا هو البر اللقي للحركة السلمي الهادية والفتوح السلمية
الول والستعمار السلمي ،فالسلم استعماري إن كان ل بد من هذا التعبي ،ولكن هذا
النوع من الستعمار ليس مدفوعا بب الكومة والستيلء ،وليس من الثرة القتصادية
للقومية ف شيء ،ول يكن يفز الجاهدين الولي إل الهاد طمع ف خفض من العيش
ورخائه على حساب الناس الخرين ،ول يقصد منه إل بناء إطار عالي لحسن ما يكن
للنسان من ارتقاء روحي ،كما أن العلم بالفضيلة حسب تعليم السلم يفرض على النسان
تبعة العمل بالفضائل .السلم ل يوافق أبدا على الفصل الفلطون والتفريق النظري البحت
بي الفضيلة والرذيلة ،بل يرى أنه من الوقاحة والرذيلة أن ييز النسان نظريا بي الق
والباطل ،ول ياهد لرتقاء الق وإزاحة الباطل ،فإن الفضيلة -كما يقول السلم -تيا إذا
جاهد النسان لبسط سلطانا على الرض وتوت إذا خذلا وتقاعد عن نصرتا .)))(182
((182
. Mohammad Asad "Leopold Weiss " , Islam At The Cross Roads Fifth Edition p . 29
102
الدنية السلمية وتأثيها ف التاه البشري :
كان ظهور الدنية السلمية بروحها ومظاهرها وقيام الدولة السلمية بشكلها
ونظامها ف القرن الول لجرة ممد صلى ال عليه وسلم فصلً جديدا ف تاريخ الديان
والخلق ،وظاهرة جديدة ف عال السياسة والجتماع ،انقلب به تيار الدنية ،واتهت به
الدنيا اتاها جديدا ،فكانت الدعوة السلمية ل يزل يأت با النبياء ويبشر با البشرون
وياهد ف سبيلها الخلصون ،ولكن ل يكن يتمكن دعاتا من إقامة حكومة قائمة على
أساسها ومناهجها متشبعة ببادئها ،ومن إقامة مدنية مطبوعة بطابعها مبنية على أحكامها مثل
ما تكنوا ف هذه الرة ،ول تنل هذه الدعوة والهود من النجاح ف هذا السبيل مثل ما نالت
أخيا على يد ممد صلى ال عليه وسلم وخلفائه الراشدين ،فكان هذا الفتح البي للسلم
منة جديدة للجاهلية ل تعهدها من قبل ،ول تعرف كيف ترج منها ،عهدها با دعوة دينية
روحية فإذا هي تصبح ناة وسعادة وروحا ومادة وحياة وقوة ومدنية واجتماعا وحكومة
وسياسة .دين سائغ معقول كله حكمة وبداهة إزاء أوهام وخرافات وأساطي ،وشرع إلي
ووحي ساوي إزاء أقيسة وتارب إنسانية وتشريع بشري ،ومدنية فاضلة قوية البنيان مكمة
الساس ،يسود فيها روح التقوى والعفاف والمانة ،وتقدر فيها الخلق الفاضلة فوق الال
والاه ،والروح فوق الظاهر الوفاء ،يتساوى الناس فل يتفاضلون إل بالتقوى ،ويهتم
الناس بالخرة فتصبح النفوس مطمئنة والقلوب خاشعة ،ويقل التنافس ف أسباب هذه الياة
والتكالب على حطام الدنيا ،ويقل التباغض والتشاحن ،كل ذلك إزاء مدنية صاخبة
مضطربة متناحرة متداعية البنيان متزلزلة الركان ،يظلم الكبي فيها الصغي ،ويأكل القوي
فيها الضعيف ،ويتسابقون ف اللهو والفجور ،يتنافسون ف الاه والموال وأسباب الترف
والنعيم ،حت تصبح الدنيا كلها حربا ف حرب وتصبح الدنية جحيما على أهلها ،
ب الْأَكْبَرِ لَعَّل ُهمْ َيرْجِعُونَ } حكومة عادلة تساوي
ب الْأَدْنَى دُو َن الْعَذَا ِ
{ َولَنُذِيقَّنهُمْ مِنَ الْ َعذَا ِ
بي رعيتها وتأخذ للضعيف من القوي ،وترس للناس أخلقهم كما ترس لم بيوتم
وأموالم ،وتفظ عليهم دماءهم وأعراضهم ،خيارهم أمراؤهم ،وأزهدهم ف العيش أملكهم
لسبابه وأقدرهم عليه ،إزاء حكومة عم فيها الور والعسف ،وتواضع رجالا على اليانة
103
والظلم ،وتسابق أهلها ف أكل أموال الناس وهتك أعراضهم وسفك دمائهم ،وتفسد على
الناس أخلقهم با تضرب لم مثلً بأخلقها ،شرارهم أُمراؤهم وملوكهم ،تشبع دوابم
وكلبم وتوع رعيتهم ،وتكسى بيوتم ويعرى الناس .
فأصبح الناس ل يدون عائقا عن السلم ،ول يواجهون صعوبة وعنتا ف سبيل قبول
السلم ول يرون للجاهلية مرجحا ومصلحة ،ويدخل الرجل ف السلم فل يسر شيئا ول
يفقد شيئا ويد برد اليقي وحلوة اليان وعزة السلم ودولة قوية يعتز با وأنصارا يفدونه
بأرواحهم وأنفسهم ،ونفسا مطمئنة وثقة ف الياة بعد الوت ،فصار الناس ينتقلون من
معسكر الاهلية إل معسكر السلم باختيارهم ،وصارت أرض الاهلية تنتقص من أطرافها
وكلمة السلم تعلو وظله يتد ،حت ارتفعت الفتنة وكان الدين ل .
وكان تأثي هذا النقلب عظيما جليلً ،فكان الطريق إل ال من قبل ف دولة الاهلية
وغربة السلم شاقا عسيا مفوفا بالخطار ،فأصبح الن سهلً يسيا آمنا مسلوكا ،وكان
يصعب على النسان ف الوسط الاهلي أن يطيع ال ،فصعب عليه ف الوسط السلمي أن
يعصي ال ،وكانت الدعوة إل النار بالمس ظاهرة منصورة فأصبحت اليوم خافتة مذولة ،
وكانت أسباب سخط ال وعصيانه مكشوفة موفورة فعادت نادرة مستورة ،وكانت الدعوة
إل ال ف أرض ال جرية قد ترتكب سرا وخفية ،فأصبحت جهرا وعلنية وحرة آمنة ل
تلقى معارضة ذات بال ،ول ياف أصحابا اضطهادا ف سبيل العقيدة وأذى ف سبيل الدين
س فَآوَا ُكمْ وَأَّي َدكُم بَِنصْ ِرهِ َورَ َزقَكُم مّنَ الطّيّبَاتِ }
الديد َ { :تخَافُونَ أَن يََتخَطّفَ ُكمُ النّا ُ
وأصبح أصحابا يأمرون بالعروف وينهون عن النكر ،يأمرون وينهون بعن الكلمة .
صارت طباع الناس وعقولم تتغي وتتأثر بالسلم من حيث يشعرون ومن حيث ل
يشعرون ،كما تتأثر طبيعة النسان والنبات ف فصل الربيع ،وبدأت القلوب العاصية الافة
ترق وتشع وبدأت مبادئ السلم وحقائقه تتسرب إل أعماق النفوس وتغلغل ف الحشاء ،
وبدأت قيمة الشياء تتغي ف عيون الناس والوازين القدية تتحول وتلفها الوازين الديدة ،
وأصبحت الاهلية حركة رجعية كان من المود والغباوة الحافظة عليها ،وصار السلم
شيئا راقيا عصريا كان من الظرف والكياسة النتساب إليه والظهور بظاهره ،وكانت المم
104
بل كانت الرض تدنو رويدا رويدا إل السلم ،ول يشعر أهلها بسيهم كما ل يشعر أهل
الكرة الرضية بدورانم حول الشمس ،يظهر ذلك ف فلسفتهم وف دينهم وف أدبم وف
مدنيتهم ،وتشف عن ذلك بواطنهم وضمائرهم ،وتنم عنه الركة الصلحية الت ظهرت
فيهم حت بعد انطاط السلمي .
جاء السلم بالتوحيد ونعى على الوثنية والشرك ،فهان الشرك منذ ذلك اليوم ف
عيون أهله وصغر ،وصار أهله يجلون منه ويتبؤون منه ول يقرون به ،بعدما كانوا
يتهدون ف إظهاره ويستميتون ف الدفاع عنه ،وأصبح أهل كل دين يؤولون ما ف نظامهم
الدين من شرك أو مظاهر شرك ووثنية ورسومها وتقاليدها ويلوون بذلك ألسنتهم ،
ويتهدون ف التعبي عنه وشرحه با يقرب إل التوحيد السلمي ويشبهه .
يقول الستاذ أحد أمي (( :ظهر بي النصارى نزعات يظهر فيها أثر السلم .من
ذلك أنه ف القرن الثامن اليلدي أي ف القرني الثان والثالث الجريي ظهرت ف سبتمانيا (
)SePtimania( (183حركة تدعو إل إنكار العتراف أمام القسس ،وأن ليس للقسس
حق ف ذلك ،وأن يضرع النسان إل ال وحده ف غفران ما ارتكب من إث ،والسلم ليس
له قسيسون ورهبان وأحبار ،فطبيعي أن ل يكون فيه اعتراف )) .
وكذلك كانت حركة تدعو إل تطيم الصور والتماثيل الدينية ()Iconoclasts
ذلك أنه ف القرن الثامن والتاسع للميلد أو القرن الثالث والرابع الجري ،ظهر مذهب
نصران يرفض تقديس الصور والتماثيل ،فقد أصدر المباطور الرومان "ليو" الثالث أمرا سنة
726م يرم فيه تقديس الصور والتماثيل ،وأمرا آخر سنة 730م يعد التيان بذا وثنية ،
وكذلك كان قسطنطي الامس وليو الرابع ،على حي كان البابا جريوري الثان والثالث
وجرمانيوس بطريرك القسطنطينية والمباطورة إيرين من مؤيدي عبادة الصور ،وجرى بي
الطائفتي نزاع شديد ل مل لتفصيله ،وكل ما نريد أن نذكره أن بعض الؤرخي يذكرون
أن الدعوة إل نبذ الصور والتماثيل كانت متأثرة بالسلم ،ويقولون :إن كلوديوس (
)Claadiusأسقف تورين (الذي عي سنة 828م وحول 213هـ)والذي كان
((183
سبتمانيا مقاطعة فرنسية قديمة في الجنوب الغربي لفرنسا على البحر البيض المتوسط
105
يرق الصور والصلبان وينهى عن عبادتا ف أسقفيته ،ولد ورب ف الندلس السلمي .
وكراهية السلم للتماثيل والصور معروفة ،روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي ال عنها
قالت :قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم من سفر ،وقد سترت سهوة ل بقرام فيه تاثيل ،
فلما رآه هتكه ،وتلون وجهه ،وقال :يا عائشة أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون
بلق ال .قالت :فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادت)(184ن )) والحاديث ف هذا الباب
مستفيضة .
وكذلك وجدت طائفة من النصارى )(185شرحت عقيدة التثليث با يقرب من
الوحدانية وأنكرت ألوهية السيح عليه السلم. )(186
ويكن لن يطالع تاريخ أوربا الدين وتاريخ الكنسية النصرانية أن يلتمس تأثي السلم
العقلي ف نزعات الصلحي والثائرين على النظام السقفي السائد ،أما دعوة "لوثر "
الصلحية الكبية ،فقد كانت – على ِعلّتا -أبرز مظهر للتأثّر بالسلم وبعض عقائده
كما اعترف الؤرخون .
وترى كذلك تأثي للعقلية السلمية والشريعة السلمية ف أخلق المم اجتماعها
وتشريعها ف أوربا النصرانية وف الند الوثنية بعد الفتح السلمي )(187تراه وتلمسه ف التاه
إل التوحيد ونزعات الحترام للمرأة وحقوقها والعتراف ببدأ الساواة بي طبقات البشر ،
إل غي ذلك ما سبق إليه السلم وامتازت به شريعته ومدنيته .
يقول الباحث الندي العروف( )k. M. panikkarسفي الند ف مصر سابقا ،
وهو يتحدث عن تأثي عقيدة التوحيد السلمية ف عقلية الشعب الندي ودياناته :
((من الواضح القرر أن تأثي السلم ف الديانة الندكية كان عميقا ف هذا العهد
(السلمي) ،إن فكرة عبادة ال ف النادك مدينة للسلم ،إن قادة الفكر والدين ف هذا
العصر وإن سوا آلتهم بأساء شت قد دعوا إل عبادة ال ،وصرحوا بإن الله واحد ،وهو
((184
السهوة :النافذة بين الدارين .والقرام :الستر
((185
. Haine's Christianity of Islam in Spain p. 116
((186
ضحى السلم ج 1ص . 165 – 164
((187
. Influence of Islam on Indian Culture by Doctor Tara Chand
106
يستحق العبادة ،ومنه تطلب النجاة والسعادة .وقد ظهر هذا التأثي ف الديانات والدعوات
الت ظهرت ف الند ف العهد السلمي كديانة " "Bhagtiودعوة (( كبي. )) )(188
ويقول رئيس وزراء الند جواهر لل برو ف كتابه ()Discovery of India
((إن دخول الغزاة الذين جاءوا من شال غرب الند ودخول السلم له أهية كبية ف تاريخ
الند إنه قد فضح الفساد الذي كان قد انتشر ف الجتمع الندوكي ،إنه قد أظهر انقسام
الطبقات واللمس النبوذ ،وحب العتزال عن العال الذي كانت تعيش فيه الند ،إن نظرية
الخوة السلمية والساواة الت كان السلمون يؤمنون با ،ويعيشون فيها ،أثرت ف أذهان
الندوس تأثيا عميقا ،وكان أكثر خضوعا لذا التأثي البؤساء الذين حرم عليهم الجتمع
الندي الساواة والتمتع بالقوق النسانية )) .
ويقول كاتب عصري فاضل وهو ( )N. C. Mehtaف كتابه " الضارة الندية
والسلم " (: )Indian Civilization and Islam
(( إن السلم قد حل إل الند مشعلً من نور قد انلت به الظلمات الت كانت
تغشى الياة النسانية ف عصر مالت فيه الدنيات القدية إل النطاط والتدل ،وأصبحت
الغايات الفاضلة معتقدات فكرية ،لقد كانت فتوح السلم ف عال الفكار أوسع وأعظم
منها ف حقل السياسة ،شأنه ف القطار الخرى ،لقد كان من سوء الظ أن ظل تاريخ
السلم ف هذا القطر (الندي) مرتبطا بالكومة ،فبقيت حقيقة السلم ف حجاب ،
وبقيت هباته وأياديه الميلة متفية عن النظار )) .
ول يستطيع دين من الديان ومدنية من الدنيات تعيش ف العال التمدن العمور أن
تدعي أنا ل تتأثر بالسلم والسلمي ف قليل ول كثي .
يقول ( )Robert Briffaultف كتابه ()The Making of Humanity
(( ما من ناحية من نواحي تقدم أوربا إل وللحضارة السلمية فيها فضل كبي وآثار
حاسة لا تأثي كبي. )) )(189
ويقول ف موضع آخر :
((188
. A Survey of Indian . History p . 132
((189
. p . 190
107
((ل تكن العلوم الطبيعية (الت يرجع فيها الفضل إل العرب) هي الت أعادت أوربا إل
الياة ولكن الضارة السلمية قد أثرت ف حياة أوربا تأثيات كبية ومتنوعة منذ أرسلت
أشعتها الول إل أوربا. )) )(190
فلو جرت المور هكذا وتتعت المم النسانية بقيادة الماعة الت خُلقت بقيادتا
وأعطيت القوس باريها ،وجرت الياه إل ماريها ،لكان للعال النسان تاريخ غي التاريخ
الذي نقرؤه حافلً بالزلزل والنكبات ناطقا بطول بلء النسانية ومنها ،لكان له تاريخ ميد
جيل يغتبط به كل إنسان ويقر عينا ،ولكن جرت القدار بغي ذلك ،وبدأ النطاط ف
السلمي أنفسهم .
**********************************
((190
. p. 202
108
الفصل الثان
النطاط ف الياة السلمية
الد الفاصل بي العصرين :
قال أحد الدباء (( :أمران ل يدد لما وقت بدقة ،النوم ف حياة الفرد ،والنطاط
ف حياة المة ،فل يشعر بما إل إذا غلبا واستوليا )) إنه لق ف قضية أكثر المم ،ولكن
بدأ التدلّي والنطاط ف حياة المة السلمية أوضح منه ف حياة المم الخرى ،ولو أردنا
أن نضع إصبعنا على الد الفاصل بي الكمال والزوال لوضعنا على ذلك الط التاريي الذي
يفصل بي اللفة الراشدة واللوكية العربية أو ملوكية السلمي .
الهاد :
أما الهاد فهو بذل الوسع وغاية الهد لنيل أكب مطلوب ،وأكب وطر للمسلم طاعة
ال ورضوانه والضوع لكمه والسلم لوامره ،وذلك يتاج إل جهاد طويل شاق ضد
كل ما يزاحم ذلك من عقيدة وتربية وأخلق وأغراض وهوى وكل من ينافس ف حكم ال
وعبادته من آلة ف النفس والفاق ،فإذا حصل ذلك للمسلم وجب عليه أن ياهد لتنفيذ
حكم ال وأوامره ف العال حوله وعلى بن جنسه ،فريضة من ال وشفقة على خلق ال ،
ولن الطاعة النفرادية قد تصعب وتتنع أحيانا بغي ذلك ،وذلك ما يسميه القرآن " الفتنة "
ومعلوم أن العال كله با فيه من جاد ونبات وحيوان وإنسان خاضع لشيئة ال وأحكامه
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َطوْعا َوكَرْها وَِإلَيْهِ
التكوينية وقوانينه الطبيعية{ َولَهُ أَسَْلمَ مَن فِي ال ّ
سمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَ ْرضِ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ جدُ لَهُ مَن فِي ال ّ
سُ يُرْجَعُونَ} {َألَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ َي ْ
شجَرُ وَال ّدوَابّ َوكَِثيٌ مّ َن النّاسِ وَكَِثيٌ حَقّ عَلَْيهِ الْ َعذَابُ } فيتعي أن وَالّنجُومُ وَالْجِبَالُ وَال ّ
جهاد السلم إنا هو لتنفيذ شريعته الت جاء با النبياء ،وإعلء كلمته ونفاذ أحكامه ،فل
110
حكم إل ل ول أمر إل له ،وهذا الهاد مستمر ماض إل يوم القيامة ،له أنواع وأشكال ل
يأت عليها الصر ،منها القتال ،وقد يكون أشرف أنواعه وغايته أن ل تبقى ف الدنيا قوتان
متساويتان متنافستان تتجاذبان الهواء والنفس { َوقَاتِلُو ُهمْ حَتّى لَ تَكُو َن فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ
كُلّهُ لِلّه} .
ومن مقتضيات هذا الهاد أن يكون النسان عارفا بالسلم الذي ياهد لجله
وبالكفر والاهلية الت ياهد ضدها ،يعرف السلم معرفة صحيحة ويعرف الكفر والاهلية
معرفة دقيقة ،فل تدعه الظاهر ول تغره اللوان ول تعزه اللوان ،وقد قال عمر بن الطاب
رضي ال عنه :إنا ينقض السلم عروة عروة من نشأ ف السلم ول يعرف الاهلية .ول
يب على كل مسلم أن تكون معرفته دقيقة بالكفر والاهلية ومظاهرها وأشكالما وألوانما
.ولكن على من يتزعم السلم ويتول قيادة اليش السلمي ضد الكفر والاهلية ،أن
تكون معرفته بالكفر والاهلية فوق معرفة عامة السلمي وأوساطهم .
كذلك يب أن يكون استعدادهم كاملً وقوتم تامة ،يقارعون الديد بالديد بل
بأقوى من الديد ،ويقابلون الريح بالعصار ،ويواجهون الكفر وأهله بكل ما يقدرون
عليه ،وبكل ما امتدت إليه يدهم ،وبكل ما اكتشفه النسان ووصل إليه العلم ف ذلك
العصر ،من سلح وجهاز واستعداد حرب ،ل يقصرون ف ذلك ول يعجزون َ { :وأَ ِعدّواْ
ط الْخَيْلِ ُترْهِبُونَ بِهِ َع ْدوّ اللّهِ وَ َع ُدوّ ُكمْ }.
َلهُم مّا اسْتَطَعْتُم مّن ُقوّةٍ وَمِن رّبَا ِ
الجتهاد :
أما الجتهاد فنريد به أن يكون من يرأس السلمي قادرا على القضاء الصحيح ف
النوازل الوادث الت تعرض ف حياة السلمي وف العال وف المم الت يكمها ،وف السائل
الت تفاجئ وتتجدد ،والت ل يستقصيها فقه مدون ومذهب مأثور وفتاوى مؤلفة ،ويكون
عنده من معرفة روح السلم وفهم أسرار الشريعة والطلع على أصول التشريع وقوة
الستنباط – انفرادا أو اجتماعا -ما يل به هذه الشاكل ويرشد المة ف الغمة .
111
ويكون عنده من الذكاء والنشاط والد والعلم ما يستخدم به ما خلق ال ف هذا
الكون من قوى طبيعية ،وما بث ف الرض وتت الرض من خيات ومنابع ثروة وقوة ،
وأن يسخرها لصلحة السلم بدل أن يستخدمها أهل الباطل لهوائهم ،ويتخذوها وسيلة
للعلو ف الرض ،ويسخرها الشيطان لتحقيق أغراضه والفساد ف الرض .
112
كجمل هائج حبله على غاربه ،وأصبح رجال الدين والعلم بي معرضة للخلفة وخارج
عليها ،وحائد منعزل اشتغل باصة نفسه وأغمض العي عما يقع ويري حوله ،يائسا من
الصلح ،ومنتقد يتلهف ويتنفس الصعداء ما يرى ول يلك من المر شيئا ،ومتعاون مع
الكومة لصلحة دينية أو شخصية ،ولكلّ ما نوى ،وحينئذ انفصل الدين والسياسة ،وعادا
كما كانا قبل عهد اللفة الراشدة أصبح الدين مقصوص الناح مكتوف اليدي ،
وأصبحت السياسة مطلقة اليد حرة التصرف نافذة الكلمة صاحبة المر والنهي ،ومن ثّ
أصبح رجال العلم والدين طبقة متميزة ،ورجال الدنيا طبقة متميزة ،والشقة بينهما شاسعة ،
وف بعض الحيان بينهما عداء وتنافس .
113
سوء تثيلهم للسلم :
وكان هؤلء ف كل ما يأتون ويذرون مثلي لنفسهم وسياستهم فقط ،ل يثلون
السلم ،ول سياسته الشرعية ،ل قانونه الرب ،ول نظامه الدن ،ول تعاليمه الخلقية
إل ف النادر ففقدت رسالة السلم تأثيها وقوتا ف قلوب غي السلمي وضعفت ثقتهم به .
وف لفظ مؤرخ أورب -بدأ السلم بالنطاط ،لن البشرية بدأت تشك ف صدق القائمي
بتمثيل الديانة الديدة .
114
علمية أخرى ،ول يتلءم مع الدة الطويلة الت تتعوا با ف التاريخ ،ول يظهر فيها من النوابغ
والعبقريي مثل ما ظهر ف موضوعات أخرى .
وإن ما خلفوه من كتب ف الطبيعيات والكونيات والتجارب العلمية ،وإن ما كانت
ما استفادت به أوربا ف نضتنا وأقرت بقيمتها ،إل أنا تتضاءل جدا أمام هذه الكتبة الائلة
الزاخرة الت أنتجتها أوربا ف القرني السابع عشر والثامن عشر فقط ،فمهما افتخرنا بآثار
علماء الندلس وحكماء الشرق ،فإنا ل تعد شيئا بانب النتاج الغرب الضخم ف العلم
والكمة والتجربة والختبار ،ل ف الكمية ول ف الكيفية ،ول ف البداع ول ف البتكار ،
ول ف التدقيق العلمي ول ف التقان الفن ،وإذا أرادت أن تعرف مقدار عناية الشرق
السلمي بالناحية الروحية ونسبتها إل الناحية العلمية والتجريبية فقارن بي كتاب الفتوحات
الكية للشيخ ابن عرب مثلً وبي أكب كتاب ف الطبيعيات والكمة ،تر فرقا هائلً ف
ضخامة الادة والعناية بالوضوع والهاد ف سبيله ،وبذلك تعرف ذوق الشرق الغالب عليه .
((191
اقرأ في هذا الموضوع كتاب المؤلف (( رجال الفكر والدعوة في السلم (( طبع في دمشق .
116
،هنالك قيض ال للسلم عماد الدين أتابك زنكي (م 541هـ) الذي قارع الصليبيي
وهزمهم ف معارك كثية وفتح الرّها ،وقام بعده ولده العظيم اللك العادل نور الدين ممود
زنكي (م 569هـ) وصمم على إجلء الصليبيي من الشام واسترداد القدس للمسلمي ،
ومات رحة ال عليه قبل أن يكمل مهمته وخلفه ف ذلك أحد رجاله ومرشحيه اللك الناصر
السلطان صلح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر ،وهو الرجل الذي هيأه ال لذه الهمة
العظيمة وجع فيه من خصال الزم والعزم والخلص والتجرد للغاية والرص على الهاد
والتفان ف سبيله وعلو المة ف نصر السلم وقتال أهل الكفر والبغي ،وحسن القيادة وقوة
التنظيم والصلح والديانة والفتوة الفائقة والنسانية السامية ومكارم الخلق ما ل يتمع إل
ف أفذاذ الرجال ف العال ،فكان بذلك معجزة من معجزات السلم ودليلً على أن السلم
ل ينته دوره ول يفقد اليوية والنتاج ،وقد توحد العال السلمي من بي نر الفرات وبي
النيل للمرة الول بعد مدة طويلة ليقاتل أوربا الت تدفقت جيوشها واندفع ملوكها وأمراؤها
وقوادها الكبار ليهاجوا العال السلمي ،وقد اجتمع تت لواء صلح الدين للجهاد أجناس
كثية من السلمي ل تتمع قبل ،والتهبت شعلة الهاد والغية السلمية بعد مدة طويلة ،
واستخدم صلح الدين للجهاد كل ما وصل إليه العال السلمي من العلم والختراع وصناعة
الرب يومئذ ،هو كل ما أوت من الذكاء والصب والتفكي وهزم الصليبيي ف حطي عام (
583هـ) هزية منكرة وكسر شوكتهم وفتح القدس ف العام نفسه واستول على فلسطي لا
وانصر الصليبيون ف " صور" فقط ،ألقت أوربا أفلذ أكبادها ،وجاءت بدها وحديدها
واجتمعت جيوشها الكثيفة تت قيادة القائد الكبي رتشارد Richardملك انكلترا
وكانت الرب بي الصليبيي والسلمي سجالً حت وقعت الدنة سنة 588هـ ( 2سبتمب
1192السيحي) وجل معظم الغزاة الصليبيي عن فلسطي ورجع رتشارد إل ملكه ،وبعد
ذلك بسنة استأثر ال بصلح الدين .
ويسن بنا أن ننقل هنا ما علق الؤرخ النكليزي Stanley Lave people
على هذه الدنة ف كتابه عن صلح الدين ،وبه نستطيع أن نعرف قوة العال السلمي
ووحدته تت قيادة صلح الدين :
117
(( انتهت الرب القدسة الت استمرت خسة أعوام ،لقد كان السلمون قبل انتصارهم ف
معركة حطي ف يوليه سنة 1187م ول يلكون قياطا من الرض غرب نر الردن ،أما ف
سبتمب سنة 1192م لا وقع الصلح ف الرملة فقد ملكوا البلد كلها إل سلسلة ضيقة تتد من
صور إل يافا كان السيحيون ل يزالون يلكونا ،ول تكن هذه الدنة ما يجل لا صلح
الدين ويتأسف ،لقد بقي معظم ما فتحه الصليبيون ف حوزة الفرنج ،ولكن كانت النتيجة
تافهة جدا بالنسبة إل خسائر الموال والنفوس .فقد زحفت أوربا كلها إل الرض القدسة
لا استفزها البابا للغزو الصليب ،وبذل القيصر فريدرك وملوك انكلترا وفرنسا وصقلية
وليوبولد النمساوي والدوق البجندي والكونت الفلندري مئات من النبلء والشاهي وأمراء
الشعوب السيحية وملك حكومة القدس السيحية وملوك الكومات النصرانية ف فلسطي
وفرسان طبقة الداوية وطبقة السبتار وأبطالا ،لقد بذل هؤلء كلهم كل ما ف وسعهم
للستيلء على القدس ولتزدهر الكومة السيحية الت كانت مركزها القدس ،والت أشرفت
على النقراض .ولكن ماذا كان مصي هذه الهود كلها ؟ مات القيصر فريدرك ف هذه الدة
،ورجع ملوك انكلترا وفرنسا إل بلدهم ودفن كثي من زملئهم المراء والنبلء ف أرض
إيليا وبقي القدس ف حوزة صلح الدين ،كما كان ،ول يكن من حظ السيحيي إل إمارة
عكة الصغية على الساحل .
لقد وقف العال السيحي وقفة رجل واحد إزاء السلمي ،ولكنه ل يستطع أن يزحزح
صلح الدين عن مكانه ،كان جيش صلح الدين قد أعياه الهاد الطويل والتاعب العظيمة ،
وقد ظل أعواما طوالً مرابطا مناضلً مكافحا عدوا قويا جدا لكن ل يسمع من جندي
واحد أني أو شكاة .أنم ل يتأخروا يوما ف الضور ول يضنوا قط بالنفائس والنفوس كلما
دعاهم صلح الدين للجهاد وكلما استفزهم للقتال ،وربا شكا أحد المراء التابعي له ف
بعض أودية دجلة البعيدة من هذه النجدة الت ل تكاد تنتهي ولكن قدموا بعوثهم وحضروا
ليوشهم لنصرة السلطان كلما طلبوا .وقد قاتل اليش الوصلي بكل بطولة وحاسة ف
حرب أرسوف الخية وكان السلطان واثقا بأنه سيأتيه الدد من جيوش مصر والعراق
وكذلك من جيش الشام الشمال والركزي .وكان التركمان والعرب والصريون مسلمي
118
وخدمة أوفياء للسلطان وحضروا كالعبيد كلما طلبهم السلطان وقد مزج السلطان هذه
العناصر الختلفة مزجا غريبا وألف بينهم رغم ما فيها من اختلف ف النس والقومية وما بي
أفرادها من خلفات داخلية ومنافسات قبلية فكانوا كالسد الواحد .وقد عان السلطان
بعض الصعوبة ف توحيد هذه الجناس ،وقد ظهرت ف بعض الناسبات بوادر اللف فقد
ترد اليش ف يافا مرة ،ولكن رغم ذلك كله بقيت هذه المم الختلفة الجناس إل خريف
سنة 1192م خاضعة لمر السلطان وظلت تاهد ف سبيل ال من سنة 1187م العام الذي
طلبها فيه صلح الدين للجهاد ،وف خلل هذه الدة الطويلة ل يسجل التاريخ حادثة عصت
فيها مقاطعة أو ثارت فيها دولة تابعة أو رئيس من الرؤساء ،وكانت المال الكبية الت
عقدت بنصيحتهم ومثابرتم تعي الراسخي ف الوفاء والن القوياء ،إنا علمنا قريبا من
أقربائه ف العراق ثار عليه ،ولكن السلطان منّ عليه بالعفو ،وهدأ الرجل ،وبذلك يعلم ما
كان للسلطان من نفوذ غريب ف دولته ورعيته ،وانتهت الرب الت استمرت خسة أعوام
وانتهت منها ومتاعبها والسلطان هو اللك الوحيد من جبال الكرد إل صحراء النوبة ،وكان
ملك بلد الكرد ملك آرمينيا وسلطان قونية وقيصر قسطنطينية وراء هذه الدود يرصون
على صداقة صلح الدين ومساعدته ،وما قبل صلح الدين أن يكون عليه منة لحد من
هؤلء ،ول يضروا قط لنجدته إنا حضروا لتهنئته .
وكان صلح الدين بطل هذه العركة ومركز هذه الدائرة ،وكان أخوه العادل هو
الشخصية الثانية الت ظهرت على مسرح القتال ،ول نعرف أحدا من القواد والمراء استول
عليه ،وكان عنده ملس حرب يستشيه ف أمور الرب ،وقد وقع نادرا أن غلب رأي هذا
الجلس الاطئ على رأي السلطان الصحيح ،كما كان أمام صور وعكة ،ولكن ل يكن
أحد من أعضاء هذا الجلس مستأثرا به دون غيه ،لقد كان الخوة والبناء ،وأبناء
الخوان ،والزملء القدماء ،والولة الدد ،والعقلء ،والقضاة الذكياء ،والعتمدون
الوفياء ،والتعصبون ،والوعاظ ،والعلماء كلهم متفقي على الهاد ،وقاتلوا تت لوائه
جنبا بنب ،وخدموه بكل ما عندهم من قوة وكفاية ونصيحة ،وكان كل يعلم أن صلح
119
الدين سيد الميع وأميهم ،وكان قلب واحد وإرادة واحدة تسيطر عليهم ف أزمات متلفة
وساعات عصيبة وحروب طاحنة ،هو قلب صلح الدين القوي وإرادته الديدية )) اهـ .
120
ول تزل تضعف هذه القوة وتن بدون أن يشعر بذلك الجانب حت إذا خضّدت
شوكة السلمي ف القرن السابع لا مزق التتار حكومة خوارزمشاه – الملكة السلمية
الخية -وسقطت بغداد ف أيديهم زال ذلك الشبح الخيف وسقط الجدار ، )(192فعاثت
الطيور والوحش ف القل ،وتاسر الناس على السلمي وبلدهم .
ورث التتار والغول تراث السلمي وخلفوهم ف الكومة ،وناهيك به بؤسا وشقاء
للنسانية وخرابا للعال أن يتول قيادة العال أمة جاهلة وحشية ليس عندها دين ول علم ول
ثقافة ول حضارة .
**************************
((192
المجدار :ما ينصب في الزرع لطرد الطير والوحش .
121
الفصل الثالث
دور القيادة العثمانية
العثمانيون على مسرح التاريخ :
ف ذلك الي ظهر الترك العثمانيون على مسرح التاريخ ،وفتح ممد الثان بن مراد ،
وهو ابن أربع وعشرين سنة القسطنطينية العظمى عاصمة الدول البيزنطية النيعة سنة
753هـ ( 1453م) فتجدد رجاء السلم وانبعث المل ف نفوس السلمي ،وكان الترك
وعلى رأسهم آل عثمان موضعا للثقة ف قيادة المم السلمية وف استرداد قوة السلمي
)(193
ومكانتهم ف العال ،وكان فتحهم للقسطنطينية الت استعصت على السلمي ثانية قرون
دليلً على كفاءتم وقوتم ،وبلوغهم درجة الجتهاد ف صناعة الرب ،وحسن قيادتم
العسكرية وتفوقهم على المم العاصرة ف آلت الرب واستخدامهم لهمتهم قوة العلم
والعمل .وكل ذلك ما ل غن للمة عنه .
( (193غزا السطول العربي القسطنطينية بقيادة بسر بن أرطأة سنة 44للهجرة وفق سنة 664للمسيح ،وحاصر يزيد بن معاوية
القسطنطينية سنة 52هجرية وفق سنة 672مسيحية ،وحصرها العرب أربع مرات على القل بعد ذلك ،ولم يفتحوها لمنعتها .
122
يرمي با 300كيلو جرام ،وكان مدى مرماه أكثر من ميل ،وقيل :إنه كان يلزم لذا
الدفع 700رجل ليتمكنوا من سحبه ،وكان يلزم له نو ساعتي من الزمن لشوه ،ولا
زحف ممد الفاتح لفتح القسطنطينية كان تت قيادته ثلثائة ألف مقاتل ،ومعه مدفعية
هائلة ،وكان أسطوله الحاصر للبلدة من البحر ( )120سفينة حربية ،وهو الذي -من
قريته -تصور سحب جانب من السطول من الب إل الليج وأزلق على الخشاب الطلية
بالشحم ( )70سفينة أنزلا ف البحر من جهة قاسم باشا.)) )(194
((194
من حواشي المير شكيب ارسلن على (( حاضر العالم السلمي (( الجزء الول ،ص ، 220الطبعة الثانية .
123
اجتمعت لسحقه كل من عمارات البابا والبندقية وإسبانيا والبتغال ومالطة عام 945هـ -
1547م – ولكن ل تغن عنهم كثرتم شيئا .
وقد جعت المباطورية العثمانية ف عهد سليمان القانون الكبي بي السيادتي البية
والبحرية وبي السلطتي السياسية والروحية .
بلغت حدود الدولة العثمانية على ملك سليمان الطونة والصاوة (النهرية) ف الشمال
ونبع النيل والحيط الندي ف النوب وسلسلة جبال القفقاس ف الشرق وجبال أطلس ف
الغرب وهي مساحة تزيد على 400ألف ميل مربع .
وكان السطول العثمان مؤلفا ما يزيد على 2000مركب حرب ،وكان القسم
الشرقي من بر سفيد وبر الدرياتيك ومرمرة وأزاق والسود والحر وفارس ف حوزته
وتت سيطرته .
(1
ودخل كل مدينة شهية ف العال القدي ما عدا رومة ف ضمن حدود الدولة العثمانية
، )95وكانت أوربا كلها ترتعد منهم فرقا ،ويدخل ملوكها الكبار ف ذمة ملوكهم ،ويسك
أهل الديار عن قرع أجراس كنائسهم احتراما للترك إذا نزلوا با وأمر البابا أن يتفل بعيد ،
وأن تقام صلوات الشكر مدة ثلثة أيام لا أتاه نعي ممد الفاتح .
ثالثا -كانوا ف أحسن مركز للقيادة العالية .كانوا ف شبه جزيرة البلقان بيث
يشرفون منها على آسيا وأوربا ،وكانت عاصمتهم واقعة بي البحرين السود والبيض ،
وواصلة بي البين آسيا وأوربا ،فكانت خي عاصمة لكب دولة تكم على آسيا وأوربا
وأفريقية ،حت قال نابليون (( :لو كانت هناك دولة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح الدن
لتكون عاصمة لا )).
وكانت أوربا لا الطر الكبي والشأن العظيم ف الستقبل القريب ،تزخر فيها القوى
اليوية وتيش فيها صدورها عوامل الر قي ،فكان ف استطاعة الترك -لو وفق ال -أن
يتقدموا ف ميدان العلم والعقل ويسبقوا أمم أوربا النصرانية ويصبحوا أئمة العال يقودونه إل
الق والدى قبل أن تلك أوربا زمام العال وتقوده إل النار والدمار .
((195
فلسفة التاريخ العثماني لمحمد جميل بيهم .ص 281 – 280
124
انطاط التراك ف الخلق وجودهم ف العلم وصناعة الرب :
ولكن من سوء حظ السلمي -فضلً عن سوء حظ التراك -أخذ الترك ف النطاط
والتدل ودب إليهم داء المم من قبلهم :السد والبغضاء واستبداد اللوك وجورهم وسوء
تربيتهم وفساد أخلقهم وخيانة المراء وغشهم للمة وإخلد الشعب إل الدعة والراحة ،إل
غي ذلك من أخلق المم النحطة ما هو مبي ف كتب التاريخ التركي ،وليس هذا موضع
تفصيله ،وكان شر ما أصيبوا به المود ف العلم والمود ف صناعة الرب وتنظيم اليوش ،
وقد نسوا قول ال تعال { :وَأَ ِعدّواْ َلهُم مّا اسَْتطَعْتُم مّن قُوّةٍ وَمِن رّبَاطِ اْلخَيْلِ تُرْهِبُونَ ِبهِ
َع ْدوّ اللّهِ وَ َع ُد ّوكُمْ وَآ َخرِينَ مِن دُوِنهِمْ لَ تَعَْلمُوَنهُمُ } ال .وقول النب صلى ال عليه وسلم :
(( الكمة ضالة الؤمن حيث وجدها فهو أحق با )) ،وكان خليقا بم -لرج مركزهم
السياسي والغراف ،وقد أحاطت بم الدول الوربية إحاطة السور بالعصم -أن يعلوا وصية
القائد السلمي الكبي عمرو بن العاص رضي ال عنه للمسلمي ف مصر نصب أعينهم :
((واعلموا أنكم ف رباط إل يوم القيامة لكثرة العداء حولكم وتشوف قلوبم إليكم وإل
داركم )) ولكن الترك وقفوا وتقدم الزمان ،وتلفوا وسبقت المم الوربية .
125
يتقدم ،ول تزل هذه الفكرة الاطئة سائدة على نظامهم التعليمي إل القرن التاسع عشر
السيحي )).
(( إن فكرة علماء تركيا والبلد السلمية الخرى هذه ليست من الدين ف شيء ،إن
الفلسفة اللية أو علم الكلم الذي كان عند السلمي أو النصارى ،إنا كان مبنيا على
فلسفة الغريق ،وكان الغلبة فيه لفكار أرسطاطاليس الذي كان فيلسوفا وثنيا ،ويدر ب
ف هذا القام أن أقارن بإجال بي عقلية العلماء السيحيي والسلمي )).
((ل يتعرض القرآن الكري بالتفصيل لسألة خلق العال الطبيعي ،والقسط الوف ف
تعليمه والهية الكبى للحياة اللقية والجتماعية ،ومقصوده الكب فصل ما بي السن
والقبيح والي والشر ،إنه جاء بشريعة للعال ،وكلما ذكر مسألة من مسائل ما بعد الطبيعة
أو العارف الروحية قلما نرى فيها تعقدا أو إشكالً ،إن أساس تعليمه التوحيد ،فكان
السلم دينا سحا بسيطا ،وهو أفسح صدرا للنظريات الديدة عن العال الطبعي من الديان
الخرى بكثي ،ولكن هذا التسامح وهذه البساطة الت كانت تساعد ف التحقيق العلمي
الديد ل تطل مدتا ف حياة السلمي .قيد العلماء والتكلمون ف القرن التاسع الجري
الليات -فضلً عن الفقه -بسلسل وقيود ،وأوصدوا باب التحقيق والجتهاد ،ف ذلك
الوقت تغلغلت أفكار أرسطاطاليس ف الفلسفة السلمية )).
(( بالعكس من ذلك الدين السيحي -الذي هو أول بأن يسمى دين الراهب بولس-
فإن (سفر بدء التكوين) يتوي على تفصيل للعال الطبيعي ،وإذ آمن النصارى بأنه كلم ال
كان الواجب عليهم أن يقرروا صدقه ،ولا كانت الشاهدة ل تؤيدهم ف هذا التأويل لأوا
إل الستدلل وتسكوا بأهداب أرسطاطاليس ،لن منطقه يعمل عمل السحر )) .
(( ولا بدأ الغرب ف دراسة الطبيعة بواسطة الشاهدة والختبار والتحليل والتجزئة
سقط ف أيدي رجال الكنيسة ،ولا وصل العلماء بطرق عملية إل اكتشافات مهمة خاف
علماء النصرانية على سيادة الكنيسة أن تنقرض ،فحدث صراع عنيف بي الدين والعلم ،
وذهب كبار علماء الطبيعة الذين كانوا عاكفي على دراستهم وتقيقهم ضحية علمهم )) .
126
(( واضطرت الكنيسة النصرانية بعد العارك الدموية بي الدين والعلم أن تواجه الواقع ،
فأدخلت علوم الطبيعة ف برنامج مدارسها وكلياتا ،وأصبحت جامعاتا الت ل تكن تتلف
بالمس عن مدارس السلمي ،مركزا للعلوم الطبيعية والعلوم لديثة ،ول تجر مع هذا
فلسفتها ،وكان نتيجة ذلك أن ظل للكنيسة سلطان على فريق من الطبقة الثقفة ،وكان
للقسس الكاثوليك والبوتستانت مشاركة ف العلوم الديثة ،وكانوا يقدرون على أن يباحثوا
الناشئة ف كل موضوع )).
(( وكان العلماء ف تركيا العثمانية على الضد من ذلك ،فلم يعنوا باكتساب العلوم
الديثة ،بل منعوا الفكار الديدة أن تدخل ف منطقتهم ،وإذ كانوا متصرفي بزمام تعليم
المة السلمية ول يسمحوا لشيء طريف بأن يقرب منهم ،فإن المود قد تغلب على
نظامهم التعليمي ،وكانت مشاغلهم السياسية قد طغت ف دور النطاط ،وكانت تسمح
لم بأن يتحملوا متاعب الشاهدة والختبار ،فلم يكن لم إل أن يلحوا على فلسفة
أرسطاطاليس ،ويبنوا علمهم على لستدلل ،فلم تزل الدارس السلمية ف القرن التاسع
عشر السيحي ،كما كانت ف القرن الثالث عشر السيحي. )) )(196
( (( (196صراع الشرق والغرب في تركيا (( :محاضرات في النجليزية لخالدة أديب ألقتها في الجامعة الملية السلمية ،الخطبة
الثانية (( انحطاط العثمانيين (( ص . 43 – 40
. Conflict of East and West in Turkey by Halide Edib P . 40 – 43
127
الحقق على القل ،أو من جاء ف فن من الفنون بشيء طريف مبتكر ،أو زاد ف العلم زيادة
حسنة إذا استثنينا بعض الفراد ف أطراف العال السلمي ،كالشيخ أحد بن عبد الحد
السرهندي (م 1024هـ) صاحب الرسالة الالدة ف الشريعة والعارف اللية ،والشيخ ول
ال بن عبدالرحيم الدهلوي (م 1176هـ) صاحب حجة ال البالغة وإزالة الفاء والفوز
الكبي ورسالة النصاف ،وابنه الشيخ رفيع الدين (م 1233هـ) صاحب تكميل الذهان
وأسرار الحبة ،والشيخ إساعيل بن عبدالغن بن ول ال الدهلوي (م 1246هـ) صاحب
منصب المامة والعبقات والصراط الستقيم. )(197
ول نقرأ ف شعر هذه العصور الخية على كثرة ما نظم وقيل فيها شعرا مطبوعا يعلق
بالذهن أو إنشاء مترسلً ينشرح له الصدر ،ترى أدبا فاترا باردا قد أفسده التأنق ف اللية
اللفظية والبالغة والتهويل ف اللفاظ والعان وكثرة التملق ف الدح والغزل بالذكر ف
الشعر ،والتكلف حت ف الرسائل الخوانية والغراض الطبيعية والسجع البارد حت ف كتب
التاريخ والتراجم .
كذلك حلقات التعليم قد رحلت عنها كتب التقدمي وحلت ملها كتب التأخرين
التكلفي وغصت بالواشي والتقريرات والتلخيصات والتون الت ضن فيها مؤلفوها على
القرطاس ،وتعمدوا التعقيد والغموض ،وكأنم ألفوها ف صناعة الختزال ،وكل ذلك ينبئ
عن النطاط الفكري والعلمي الذي حل بالعال السلمي وتغلغل ف أحشائه .
((197
انظر تراجمهم في كتاب نزهة الخواطر للعلمة عبدالحي الحسني المجلد الخامس والسادس والسابع .
128
خسي وتوف (سنة 1118هـ) أي ف فجر القرن الثامن عشر السيحي ،وهو عصر مهم
جدا ف تاريخ أوربا ولكنه ل يكن هو ول سلفه على شيء من التصال با كان يري ف
أوربا وما تتمخض به من حودث جسام ،وما يفور ف صدره من عوامل الرقي والنهضة ،
وكانوا ينظرون إل من يغشاهم من تار أوربا وأطبائها أو سفراء دولا -على قلة ورودهم من
هذه البلد النائية -نظر الستخفاف والحتقار .
وكانت تصاقب دولتهم ف أفغانستان الدولة الصفوية ،وكانت راقية متحضرة ولكنها
شغلت بنعتها الشيعية وبالجوم على الدولة العثمانية مرة والدفاع عن نفسها مرة أخرى .
وانصر هاتان الدولتان ف قطرها وكانت بعزل عما يقع ف الشرق الدن فضلً عن
الغرب ،وف البلد السلمية فضلً عن البلد الجنبية ،أما التحالف والتكتل فلم يكن يطر
من أحد منهم على بال ،وذلك ما طبعت عليه الدول الشرقية والكومات الشخصية ووصى
با الباء والبناء ،وكذلك دراسة أحوال أوربا العلمية والربية واقتباس العلوم والصنائع من
الارج فلم يكن يدور بلد إنسان ف ذلك العصر .
129
وبعضها ف طلوع ،يصي الفل منها طالعا والطالع آفلً ،وكانت ساعة ف ذلك الزمان
تساوي يوما بل أياما ،ويوم يساوي عاما بل أعواما ،فمن ضيع ساعة فقد ضيع زمنا .
130
الطراز الديث ،وأدخل تعديلت وتسينات ف النظام السياسي ،وقد بلغ الشعب حدا
كبيا من المود والحافظة على القدي ف كل شيء حت ثار عليه اليش القدي واغتاله ،
وخلفه ممود الثان الذي حكم من سنة 1807م إل سنة 1839م ،ومن بعده عبد
الجيد الول (1839م 1851 -م) فخلفا سليما الثالث ف مهمته وتقدمت تركيا بعض
التقدم .
قارن هذا الشوط الذي قطعته تركيا السلمية ف ميدان الرقي والتقدم ،بالشواط الت
قطعتها أوربا ف القرن الثامن عشر والتاسع عشر تد الفرق هائلً ،فلم يكن جريها ف اليدان
إل مسابقة بي سلحفاة وأرنب ،إل أن الرنب ساهر دائب ف عمله ،والسلحفاة قد يغلبها
النوم وتغفي إغفاءه .
***************************************
131
الباب الرابع
العصر الورب
الفصل الول
أوربا الادية
طبيعة الضارة الغربية وتاريها :
قبل أن ننظر ماذا أثّر تول القيادة من المم السلمية إل المم الوربية ف عقلية العال
وأخلق الشعوب والمم والدنية والجتماع واتاهات النسانية وميولا ،وماذا جن منه
النوع النسان ،وهل كان ربه أكثر من خسارته ورزئه أو بالعكس ؟ ..يب علينا أن
نعرف طبيعة الضارة الغربية ووضعها وروحها وفلسفة حياة هذه المم وكيف نشأت ؟
ليست الضارة الغربية ف القرن العشرين السيحي وليدة هذه القرون التأخرة الت تلت
القرون الظلمة ف أوربا أو حديثة كما يتوهم كثي من الناس ،بل يرجع تاريها إل آلف من
السني ،فهي سليلة الضارة اليونانية الضارة الرومية قد خلفتهما ف تراثهما السياسي
والعقلي والدن ،وورثت عنهما كل ما خلفتا من متلكات ونظام سياسي وفلسفة اجتماعية ،
وتراث عقلي وعلمي ،وانطبعت فيها ميولما ونزعاتما وخصائصهما .بل اندرت إليها ف
الدم ،فقد كانت الضارة اليونانية أول مظهر رائع – حفظه لنا التاريخ – للعقلية الوربية .
وأول حضارة – سجلها التاريخ – قامت على أساس الفلسفة الوربية تلت فيها النفسية
الوربية ،وعلى أنقاضها قام صرح الضارة الرومية تمل روحا واحدة هي الروح الوربية ،
وظلت الشعوب الوربية طيلة قرون متفظة بصائصها وطبيعتها ،وارثة لفلسفتها وعلومها
وآدابا وأفكارها ،حت برزت با ف القرن التاسع عشر ف ثوب برّاق يوهك – بطلوته
وزهو ألوانه – أنه جديد النسج ولكن لمته وسداه من نسج اليونان والرومان .
إذا يسن بنا أن نتعرف بالضارة اليونانية والرومية أولً وأن نعرف طبائعهما
وروحهما ،حت نكون على بصية ف انتقاد الضارة الغربية والكم عليها ف القرن العشرين
132
خصائص الضارة الغريقية :
اليونان أمة موهوبة ،من أنب أمم العال وأذكاها وأكثرها استعدادا للعلم والدب ،
ومن أخصبها أذهانا وعقولً ،وقد مثلت ف العال دورا خالدا بفلسفتها وأدبا ووفرة من نبغ
فيها من العلماء والكماء والعبقريي تزهو بآثارهم مكتبات العال .
والذي يعنينا الن هو أن نعرف طبيعة الضارة الت أنشأوها ،فإذا نظرنا فيها نظرة
تليل وانتقاد وصرفنا النظر عما تشترك فيه مع الضارات من مظاهر وظواهر وبثنا عن
طبيعتها وخصائصها وجدنا من الزايا الت تتاز با عن الدنيات الخرى – خصوصا الدنيات
الشرقية – ما يلي :
()1اليان بالحسوس وقلة التقدير لا ل يقع تت الس .
()2قلة الدين والشوع .
()3شدة العتداد بالياة والهتمام الزائد بنافعها ولذائذها .
()4النعة الوطنية .
ويكن أن نصر هذه الظاهر التشتتة ف كلمة مفردة هي (( الادية )) فكانت الضارة
اليونانية شعارها (( الادية )) وهي الت ينم با كل ما يتصل باليونان من ثقافة وعلم وفلسفة
وشعر ودين ،فلم يستطيعوا أن يتصوروا صفات ال وقدرته إل ف شكل آلة نتوا لا تاثيل
وبنوا لا معابد وهياكل ،فللرزق إله وللرحة إله ،وللقهر إله ،ث نسبوا إليها كل ما يتص
بالسم الادية ونسجوا حولا من أساطي وخرافات ،وصوروا العان الجردة وتصوروها ف
أجسام وأشكال ؛ فللحب إله وللجمال إله ،وليس نظام العقول العشرة والفلك التسعة ف
فلسفة أرسطاطاليس إل رشحه من رشحات هذه الادية الت تتخلى عنها الطبيعة اليونانية .
وقد سلم العلماء الوربيون بغلبة الادية ف الضارة اليونانية ،ونوهوا با ف كتبهم
وبوثهم العلمية ،وقد ألقى العال اللان الدكتور (( هاس )) ( ) Haasثلث ماضرات ف
جنيف عنوانا (( ما هي الدينة الوربية ؟ )) وهو من العلماء الذين يرون أن الدنية الغربية ل
تتأثر بالشرق ،وأنا مدينة مفردة متازة ،ونلخص هنا كلمه فيما نن بصدده :
133
(( الدنية اليونانية هي مركز الدينة الغربية الاضرة ،وكان الهم عند رجالا نشوء قوى
النسان نشوءا مناسبا وكان الثل الكامل عندهم السم الميل التناسب ،وليس هذا إل
اعتدادا بالحسوسات اعتدادا كبيا ،وكان أكب عنايتهم بالرياضة البدنية واللعاب الرياضية
والرقص وغيه ،وكان التثقيف الذهن الذي يتوي على الشعر والغناء والتمثيل والفلسفة
وعلوم الطبيعة ل يتجاوز حدا خاصا حت ل يكون ارتقاء الذهن على حساب السم ،وكان
الدين خلوا من الروحانية العنوية ؛ ل يكن فيه علم الدين ول طبقة رجال الدين .أما اللون
الروحي الذي ف تقاليد (( أزفس )) وغيها فإنا هو مستعار من الشرق ول يصح أن ينسب
إل الدينة اليونانية )) .
ولحظ كثي من العلماء الوربيي رقة الدين ف اليونان وقلة الشوع والد ف أعمالم
وكثرة اللهو والطرب ف حياتم .يقول ليكي ف كتابه (( تاريخ أخلق أوربا )) (( :إن
الركة اليونانية كانت عقلية وذهنية مضة ،وكانت الركة الصرية بالعكس من الول ،
روحية باطنية .وينقل (( أبوليس )) الؤلف الرومي قوله (( :إن الصريي كانوا يعظمون
آلتهم بالتضرع والبكاء ،وكان اليونانيون يعظمون آلتهم بالرقص والغناء )) ويعلق عليه بقوله
(( :ل ريب أن التاريخ اليونان يصدق ذلك ويؤيده ،فل نعلم دينا من الديان يزاحم دين
اليونان وتقاليده ف كثرة الفراح والعياد واللعاب وف قلبه الشية والشوع ،فلم يكن
اليونان يعظمون ال تعال إل كما يعظمون شيوخهم وعظماءهم ،وكانوا يكتفون ف تعظيمه
وتجيده برسوم عادية وتقاليد جارية )) .
وكان لليونان فلسفة إلية وعقائد يستغرب معها الشوع ل وعبادته والتضرع له
واللتجاء إليه والطراح على عتبته ،فإن من ينفي الصفات عن ال تعال ويعطله وينفي عنه
الختيار والفعال واللق والمر ف هذا الكون ،ويربط هذا العال با يسمونه (( العقل الفعال
وحركات الفلك )) فإنه بطبيعة هذه العقيدة ل يقصد ال ف حياته العملية إل تقليدا ،ول
يرجوه ول يهابه ول يبه ول ير لعظمته ،ول يستغيث به ف شدته ول يسبح بمده ويعيش
كأنه إله ول رب ؛ فإذا سعنا أن اليونان ل يكونوا خاشعي ل وكانت عبادتم وأعمالم
الدينية أجسادا بغي أرواح ،وأنم كانوا يعظمون ال كما كانوا يعظمون شيوخهم وكبارهم
134
ل نستغربه البتة ،وإنا نتعجب إذا سعنا عكس ذلك ،وقد أثرت شدة العتداد بالياة الدنيا
والبالغة ف قيمتها ،وكذلك الولوع بالتماثيل والصور والغناء والوسيقى الت يسميها اليونان
الفنون الميلة ولج الدباء والؤلفي بالرية الشخصية الت ل تعرف قيدا ول تقف عند حد
تأثيا سيئا ف أخلق اليونان ومتمعها ،فانتشرت الفوضى ف الخلق وحدثت ثورة على
كل نظام ،وأصبح شعار الرجل المهوري ( وهو كناية عن الر والتنور ) الري وراء
الشهوات العاجلة ،وانتهاب السرات ،والتهام الياة التهام الائع النهم .يصف سقراط –
كما ينقل عنه أفلطون ف كتابه (( الملكة )) – الرجل المهوري فكأنا يصف ناقد من نقاد
هذا القرن فت القرن العشرين ف إحدى عواصم الدينة الغربية :
(( إذا قيل له :إن بعض السرات من الرغبات الت هي طيبة وتستحق الحترام وبعضها
من الشهوات الت هي قبيحة ،وإن الول ينبغي أن يعمل بقتضاها وتترم والخرى ما ينبغي
أن ينع عنها ويقام عليها الجر ،ل يقبل هذا الرجل هذا القانون الصحيح ول يسمح بسماعه
؛ فإذا عرضت عليه هذه القائق أنغض إليك رأسه مستهزئا وأكد أن جيع الشهوات سواء
وتستحق الحترام بغي فرق بينها ،وهكذا يعيش ويقضي أيامه مرضيا شهواته الت تعتريه
أحيانا ،ذات يوم تراه سكران ثل مصغيا إل الغناء ،وف يوم آخر تراه صائما يتزئ بالاء ،
وتارة يدخل ف التربية والتمرين ،وأخرى تراه كسلن عاطلً يهمل كل شيء ،ومرة تراه
يعيش عيش فيلسوف ،وأحيانا يدخل ف السياسة وينهض ويطب بقتضى الوقت ،ربا يدح
بعض رجال الرب والندية وييل إليهم أو يشرع ف التجارة لنه يغبط التاجر الرابح ،ليس
لياته نظام ول ضبط ولكنه يعد هذه الياة هنيئة ناعمة سارة ويواصلها إل النهاية )) .
أما الوطنية فهي من لوازم الطبيعة الوربية ،وهي أظهر وأقوى ف أوربا منها ف آسيا ،
وقد أغرى بذلك الطبيعة الغرافية وأوحته ،لن الناطق الطبيعية ف آسيا واسعة جدا وتشمل
على مناخات وعلى أجيال وأنواع كثية للبشر ،وهي غنية مصبة ف وسائل العيشة ؛
فالملكة ف القارة السيوية تنح بكم الطبيعة إل السعة والعموم ،وظهرت ف أرضها
وازدهرت أوسع مالك عرفها التاريخ ،أما ف أوربا فالتنازع على البقاء فيها شديد ،والكفاح
للحياة دائم مستمر ،لتزاحم العمران وضيق الناطق وقلة وسائل العيشة ،وقد حصرت البال
135
والنار الجناس الوربية ،ف نطاق طبعي دائم ،وبالخص الزء الوسط الغرب والزء
النوب من أوربا ،ل يسمح لمالك واسعة عظيمة ،وقد شاءت طبيعة هذه القارة أن تكون
منشأ لمالك ضيقة صغية ،لذلك كان التصور السياسي ف أوربا ف القدي ل يكاد ياوز
مالك بلدية ل تزيد منطقتها على أميال مستقلة استقللً تاما ،وأكب مظهر لذا التصور أرض
يونان حيث وجدت من فجر التاريخ عشرات من مدن صغية مستقلة .
فل عجب إذا كان اليونان يدينون بالوطنية وينتحلونا ،وقد سلم (( ليكي )) أن الفكرة
الوطنية هي الفكرة السائدة ف اليونان ،وكانت الفكرة العالية الت قد نطق با بعض حكمائهم
كسقراط وانكساغورس شاذة ل تنل أنصارا وانتصارا ف يونان ،فكان نظام أرسطاطاليس
الخلقي مبنيا على التمييز بي اليونان وغي اليونان ،وكان حب الوطن يتقدم فضائل
الخلق الت أجع عليها حكماء اليونان ،وأن أرسطاطاليس ل يكتف بب وطنه والولء له
فحسب ؛ بل قال :إن اليونانيي ينبغي لم أن يعاملوا الجانب با يعاملون به البهائم ؛ وقد
راجت هذه الفكرة الوطنية الضيقة ف الوساط اليونانية وتغلغلت ف الحشاء ،حت لا قال
فيلسوف إنه ل يص مواطنيه بواساته بل سيكون بره عاما لميع اليونانيي استشرفه الناس
عجبا ونظروا إليه شزرا .
136
لغتها قاصرة ف التعبي عن الفكار والعان العالية ،فغُلب الروم بتخلفهم وقصورهم ف العلم ،
وانقلبوا صاغرين للمدنية اليونانية الت غُلب أهلها ف السياسة ،ول يزالوا مأخوذين بسحرهم
ف كل قسم من أقسام العلم ،فكان الؤرخون القدمون ف الروم يؤلفون كتبهم باليونانية ،
واستمرت اليونانية لغة التأليف والعلم بعد ما بدأ شعراء الروم ينظمون الشعر ف اللتينية )) .
ول يكن هذا الضوع خاصا ف عال التأليف والدب فحسب ،بل غلبت الدنية
الغريقية الدنية الرومية ف الخلق والسجايا والعشرة والجتماع وف العواطف والنعات ،
وف كل ناحية من نواحي الياة العامة ،وأصبح الروم يقلدون الغريق ويتنبلون بذلك
ويتظرفون .
وهكذا انتقلت الفلسفة اليونانية والثقافة اليونانية ،بل النفسية اليونانية إل الروم ،وجرت
منهم مرى الروح والدم ،ول يكن الروم – بطبيعتهم الوروبية – يتلفون عن اليونان ف
الصائص الفطرية كثيا ،بل هناك شبه عظيم بي المتي ،إيان بالحسوس وغلو ف تقدير
الياة وشك ف دين ،وضعف ف يقي ،واضطراب ف العقيدة ،واستخفاف بالنظام الدين
وطقوسه ،واعتزاز بالقومية وتعصب لا ،وحب مفرط للوطن .زد إل ذلك كله اعتدادا
بالقوة واحتراما زائدا لا يبلغ العبادة والتقديس .
يظهر من التاريخ أنه ل يكن للرومان إيان راسخ ف دينهم ،وإن أعذرهم ف ذلك ،فإن
النظام الدين الوثن الراف الذي كان سائدا ف رومية يقتضي بطبيعته الشك والضطراب
وضعف اليان ،فكلما تقدموا ف العلم وتنورت أفكارهم ،ازدادوا استخفافا به ،وقد قضوا
من أول يوم أن اللة ل يدخل لم ف السياسة وأمور الدنيا .
يقول ( سيسرو : ) Cicero
لا كان المثلون ينشدون ف دور التمثيل أبياتا معناها أن اللة ل دخل لا ف أمور الدنيا
يصغي إليها الناس ويسمعونا بكل رغبة .
ويقول الراهب ( أغستي : ) Auguostine
(( إن الروم الوثنيي كانوا يعبدون آلتهم ف العابد ويهزأون بم ف دور التمثيل )) وقد
فقد الدين الرومي سلطانه الروحي على معتنقيه ،وبردت العاطفة الدينية ف قلوب الناس حت
137
ترأ الناس على اللة وأهانوها ف بعض الحيان ،فإن التاريخ يدثنا أنه لا غرق أسطول
للمباطور أغسطس Augustusاستشاط غضبا ،وحطم تثال نيبتون Neptoneإله
البحر ،ولا مات جرمينيكس Germanicusرجم الناس أنصاب اللة (الت كانوا يذبون
عليها ) .)(198
فلم يكن للدين تأثي ف أخلق المة وسياستها ومتمعها ،ول يكن يلك عليهم
شعورهم وميولم ويراقب عليهم أخلقهم ونزعاتم ،ول يكن دينا عميقا يكم على الروح
وينبعث من أعماق القلب ،بل كان تقليدا من التقاليد ،كانت السياسة تقتضي البقاء عليه
ولو بالسم والرسم .يقول ليكي :
(( إن الدين الرومي كان أساسه على الثرة ،ول يكن يرمي إل إل رفاهة الفراد
وسلمتهم من الصائب والتاعب ؛ والشاهد على ذلك أنه ظهر ف رومية مئات من البطال
والعظماء ،ولكن ل ينهض فيها زاهد ف الدنيا عزوف عن ملذات الياة ،ول تسمع مثالً ف
تاريخ الروم للتضحية واليثار إل وتده ل تأثي فيه للدين ولكن مبنيا على الوطنية. )) )(199
والظاهرة الت يتاز با الروم من بي أمم الرض العاصرة بل بعدها ،والت أصبحت لا
دينا تدين به وشعارا تعرف به هي روح الستعمار والنظر الادي البحت إل الياة .وذلك ما
ورثته أوربا العاصرة عن سلفها الروميي وخلفتهم فيه .
وقد أجاد وصفه العال اللان السلم الستاذ ممد أسد ف كتابه النفيس السلم على
مفترق الطرق )) ،قال :
(( إن الفكرة الت كانت تسيطر على المباطورية الرومانية هي احتكار القوة لا
واستغلل المم الخرى لصلحة الوطن الرومي فقط ،ل يكن رجالا والقائمون عليها
يتحاشون من أي ظلم وقسوة ف سبيل حصول خفض العيش لطبقة متازة .أما ما اشتهر من
عدل الروم فلم يكن إل للروم فقط ،إن هذه السية ل يكن أن تقوم إل على إدراك مادي
مض للحياة والضارة ،وإن كانت ماديتهم قد هذبت بذوق عقلي ولكنها بعيدة عن جيع
((200
. Islam at the Cross Roads p . 38 – 39
139
يكن له أن يصادر الموال والملك ويعي إيرادات القطاع ،وإن رأس الدولة الرومية هو
رمز لذه القوة القاهرة فكان نظام رومة الدن يشف عن أبة اللك ،ولكنه كان طلء خداعا
كالذي نراه ف حضارة اليونان ف عهد انطاطها . )))(201
عجائب الرهبان:
ل ف الدين والخلق إل قرني ،وروى الؤرخون من ذلك ظل تعذيب السم مثلً كام ً
عجائب ،فحدثوا عن الراهب ماكاريوس ( ) Makariusأنه نام ستة أشهر ف مستنقع
ليقرص جسمه العاري ذباب سام ،وكان يمل دائما نو قنطار من حديد ،وكان صاحبه
141
الراهب يوسيبيس ( ) Eusebiusيمل نو قنطارين من حديد ،وقد أقام ثلثة أعوام ف
بئر نزح ،وقد عبد الرهب يوحنا ( )St. Jhonثلث سني قائما على رجل واحدة ول
ينم ول يقعد طول هذه الدة ،فإذا تعب جدا أسند ظهره إل صخرة ،وكان بعض الرهبان
ل يكتسون دائما ،وإنا يتسترون بشعرهم الطويل ويشون على أيديهم وأرجلهم كالنعام .
وكان أكثرهم يسكنون ف مغارات السباع والبار النازحة والقابر ،ويأكل كثي من الكل
والشيش ،وكانوا يعدون طهارة السم منافية لنقاء الروح ويتأثون عن غسل العضاء ،
وأزهد الناس عندهم وأتقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم ف النجاسات والدنس ،يقول
الراهب اتينس :إن الراهب أنتون ل يقترف إث غسل الرجلي طول عمره ،وكان الراهب
أبراهام ل يس وجهه ول رجله الاء خسي سنة ؛ وقد قال الراهب السكندري بعد زمن
متلهفا :واأسفاه ! لقد كنا ف زمن نعد غسل الوجه حراما فإذا بنا الن ندخل المامات ،
وكان الرهبان يتجولون ف البلد ويتطفون الطفال ويهربونم إل الصحراء والديار
وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتم ويربونم تربية رهبانية والكومة ل تلك من المر شيئا
،والمهور والدهاء يؤيدونم ويبذون الذين يهجرون آباءهم وأمهاتم ويتارون الرهبانية
ويهتفون باسهم ،وعرف كبار الرهبان ومشاهي التاريخ النصران بالهارة ف التهريب ،حت
روي أن المهات كن يسترن أولدهن ف البيوت إذا رأين الراهب أمبوز ( ) Ambrose
وأصبح الباء والولياء ل يلكون من أولدهم شيئا وانتقل نفوذهم ووليتهم إل الرهبان
والقسوس. )(202
((203
. History of European Morals .part II Chapter IV, from Constantine to Charlemagne
((204
من كلم شيخ السلم الحافظ ابن تيمية م 727هـ في كتابه ((اقتضاء الصراط المستقيم ومخالفة أصحاب الجحيم(( ص . 143
((205
ابن تيمية في كتابه (( النبوات (( .
143
قدِم رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة ولم يومان يلعبون فيهما ،فقال :ما هذان
اليومان ؟ قالوا :كنا نلعب فيهما ف الاهلية ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :إن ال
قد أبدلكم بما خيا منهما ،يوم الضحى ويوم الفطر ، )(206وعن عائشة رضي ال عنها
قالت :دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري النصار تغنيان با تقاولت به النصار يوم
بعاث قالت :وليستا بغنيتي ،فقال أبو بكر :أبزمور الشيطان ف بيت رسول ال صلى ال
عليه وسلم ؟ وذلك يوم عيد .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :يا أبا بكر ،إن لكل
قوم عيدا وهذا عيدنا .وف رواية أنه قال :دعهما يا أبا بكر فإنا أيام عيد .)(207
أما النصرانية الرومية فقد حاولت عبثا تغيي الفطرة وإزالتها وجاءت بنظام ل تطيقه
الفطرة النسانية ول تسيغه .وحلت النفوس ما ل طاقة لا به فرغبت فيه كرد فعل ضد
الادية الطاغية واحتملته كارهة ،ث تلصت منه وثارت عليه ول تقدر النصرانية – بإسرافها
ف الرهبانية والزهد ومكابرتا للفطرة والواقع أن تصلح ما فسد من أخلق الناس وعوائدهم ،
وتسك بضبع الدينة الساقطة إل الاوية وتنعها من التردي .فكانت حركة الفجور والباحة
وحركة الغلو ف الزهد والرهبانية تسيان ف البلد النصرانية جنبا إل جنب ،بل الصح أن
الرهبانية كانت معتزلة ف الصحارى واللوات ل سلطان لا على الياة .وحركة اللعة
والباحة كانت زاخرة طامة ف الدن والواضر .
((208
History of European Morals II Chapter IV
145
خليفته الترقب سلفا وأنفقه ،ويروى أن مموع دخل ملكة فرنسا ل يكن يكفي البابوات
لنفقاتم وإرضاء شهواتم. )) )(209
147
اضطهاد الكنيسة للعلم :
وكان ذلك ف عصر انفجر فيه بركان العقلية ف أوربا ،وحطم علماء الطبيعة والعلوم
سلسل التقليد الدين فزيفوا هذه النظريات الغرافية الت اشتملت عليها هذه الكتب
وانتقدوها ف صرامة وصراحة ،واعتذروا عن عدم اعتقادها واليان با بالغيب ،وأعلنوا
اكتشافاتم العلمية واختباراتم ،فقامت قيامة الكنيسة ،وقام رجالا التصرفون بزمام المور
ف أوربا وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالم ف سبيل الدين السيحي ،وأنشأوا ماكم
التفتيش الت تعاقب – كما يقول البابا – أولئك اللحدين والزنادقة الذين هم منتشرون ف
الدن وف البيوت والسراب والغابات والغارات والقول ،فجدت واجتهدت وسهرت على
عملها ،واجتهدت أن ل تدع ف العال النصران عرقا نابضا ضد الكنيسة ،وانبثت عيونا ف
طول البلد وعرضها ،وأحصت على الناس النفاس ،وناقشت عليهم الواطر حت يقول
عال نصران (( :ل يكن لرجل أن يكون مسيحيا ويوت حتف أنفه )) ،ويقدر أن من
عاقبت هذه الحاكم يبلغ عددهم ثلثمائة ألف ،أحرق منهم اثنان وثلثون ألفا أحياء كان
منهم العال الطبيعي العروف برونو ،نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوال ،
وحكمت عليه بالقتل ،واقترحت بأن ل تراق قطرة من دمه ،وكان ذلك يعن أن يرق
حيا ،وكذلك كان .
وهكذا عواقب العال الطبيعي الشهي غاليليو ( )Galilioبالقتل لنه كان يعتقد بدوران
الرض حول الشمس .
ثورة رجال التجديد :
هنالك ثار الجددون التنورون وعيل صبهم ،وأصبحوا حربا لرجال الدين ومثلي
الكنيسة والحافظي على القدي ،ومقتوا كل ما يتصل بم ويعزى إليهم من عقيدة وثقافة
وعلم وأخلق وآداب ،وعادوا الدين السيحي أولً والدين الطلق ثانيا ،واستحالت الروب
بي زعماء العلم والعقلية ،وزعماء الدين السيحي - ،وبلفظ أصح الديانة والبوليسية –
حربا بي العلم والدين مطلقا ،وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان ل تتصالان ،وأن
148
العقل والنظام الدين ضدان ل يتمعان ،فمن استقبل أحدها استدبر الخر ،ومن آمن
بالول كفر بالثان ،وإذا ذكروا الدين ،ذكروا تلك الدماء الزكية الت أريقت ف سبيل العلم
والتحقيق ،وتلك النفوس البيئة الت ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم ،وتثل
لعينهم وجوه كالة عابسة ،وجباه مقطبة ،وعيون ترمي بالشرر ،وصدور ضيقة حرجة ،
وعقول سخيفة بليدة ،فاشأزت قلوبم وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلء وكل ما يثلونه ،
وتواصوا به وجعلوه كلمة باقية ف أعقابم .
149
اتاه الغرب إل الادية :
وعلى كل فقد وقع الحذور وانصرف اتاه الغرب إل الادية بكل معانيها ،وبكل ما
تتضمنه هذه الكلمة من عقيدة ووجهة نظر ونفسية وعقلية وأخلق واجتماع وعلم وأدب
وسياسة وحكم ،وكان ذلك تدرييا ،وكان أولً ببطء وعلى مهل ،ولكن بقوة وعزية ،فقام
علماء الفلسفة والعلوم الطبيعية ينظرون ف الكون نظرا مؤسسا على أنه على أنه ل خالق ول
مدبر ول آمر ،وليس هناك قوة وراء الطبيعة والادة تتصرف ف هذا العال وتكم عليه وتدبر
شئونه ،وصاروا يفسرون هذا العال الطبيعي ،ويعللون ظواهره وآثاره بطريق ميكانيكي
بت ،وسوا هذا نظرا علميا مردا وسوا كل بث وفكر يعتقد بوجود إله ويؤمن به طريقا
تقليديا ل يقوم عندهم على أساس العلم والكمة ،واستهزأوا به واتذوه سخريا ،ث انتهى
بم طريقهم الذي اختاروه وبثهم ونظرهم إل أنم جحدوا كل شيء وراء الركة والادة ،
وأبوا اليان بكل ما ل يأت تت الس والختبار ،ول يدخل تت الوزن والعد والساحة ،
فأصبح – بكم الطبيعة وبطريق اللزوم اليان بال وبا وراء الطبيعة ،من قبيل الفروضات
الت ل يؤيدها العقل ول يشهد با العلم .
إنم ل يحدوا بال إل زمن طويل ،ول يكاشفوا الدين العداء ،ول يحدوا به كلهم ،
ولكن منهج التفكي الذي اختاروه ،والوقف الذي اتذوه ف البحث والنظر ل يكن ليتفق
والدين الذي يقوم على اليان بالغيب وأساسه الوحي والنبوة ودعوته ولجه بالياة
الخروية ،ول شيء من ذلك يدخل تت الس والختبار ويصدقه الوزن والعد والساحة ،
فلم يزالوا يزدادون كل يوم شكا ف العقائد الدينية .
افتضاح الادية ف الدور الخي :
ولكن رجال النهضة الوربية ظلوا قرونا يمعون بي النظر الادي الاحد والياة الادية ،
والطقوس الدينية السيحية ،بالتقليد أو بتأثي الحيط الذي ل يزال ف العال النصران ،أو
بصال خلقية واجتماعية كانت تقتضي البقاء ولو بالسم على نظام دين يؤلف بي أفراد المة
ويفظها من الفوضى ،حت افتضحوا ف الخي وصعب المع بينهما بسرعة سي الضارة
150
الادية ،وتلف الدين والتقاليد وعجزها عن مسايرتا وما ف المع بينهما من متاعب وضياع
للوقت وتكلف هم ف غن عنه ،فطرحوا الشمة ورموا برقع النفاق .
151
نسخة صادقة من الضارة اليونانية :
فأصبحت الياة ف أوربا ف القرني التاسع عشر والعشرين نسخة صادقة من الياة ف
يونان وروما الوثنيتي الاهليتي ،وعادت الطبيعة الوربية ( الت كانت النصرانية الشرقية قد
قهرتا ) جذعة .
ول غرابة ف ذلك ،فالوربيون اليوم إنا ينحدرون من أولئك اليونان والرومان ،
والسلئل الوربية الخرى ترى دينا خلوا من الروحانية ،كما لحظ الدكتور (( هاس )) ف
ذكر الضارة اليونانية .
وترى رقة الدين وقلة الشوع والد ف أعماله .وكثرة اللهو والطرب ف الياة ،كما
ذكر (( ليكي )) عن الديانة اليونانية ،وهو نتيجة الوضع الدين الذي وصلت إليه أوربا ،فإنه
ل يتفق والشوع ل والد ف عبادته ،ونتيجة تلك النظريات والغايات الت وصل إليها علماء
الطبيعة والكمة ف أوربا وأعلنوها تلقاها المهور بالقبول وحلت مل الدين .
وترى كذلك تافتا على ملذات الياة تافت الظمآن على الاء والفراش على النار ،
والرص على اقتطاف جن الياة وثارها باليدين ،كما وصف به سقراط الرجل المهوري
اليونان ف عصره .
وكذلك ترى شكا ف الدين واضطرابا ف العقيدة واستخفافا بالنظام الدين وطقوسه
وتقاليده ،كما رأيت ف روما بعد التنور .
152
وقد بي ذلك ف وضوح وصراحة الستاذ اللان الهتدي ممد أسد السابق ذكره ف
كتابه (( :السلم على مفترق الطرق )) قال :
(( ل شك أنه ل يزال ف الغرب أفراد يعيشون ويفكرون على أسلوب دين ويبذلون
جهدهم ف تطبيق عقائدهم بروح حضارتم ،ولكنهم شواذ ،إن الرجل العادي ف أوربا ،
ديقراطيا كان أو فاشيا ،رأساليا كان أو اشتراكيا ،عاملً باليد أو رجلً فكريا ،إنا يعرف
دينا واحدا ،وهو عبادة الرقي الادي والعتقاد بأنه ل غاية ف الياة غي أن يعلها النسان
أسهل ،وبالتعبي الدارج (( حرة مطلقة )) من قيود الطبيعة ،أما كنائس هذا (( الدين ))
فهي الصانع الضخمة ودور السينما والختبات الكيماوية ودور الرقص ومراكز توليد
الكهرباء ،وأما كهنتها فهم رؤساء الصيارف والهندسون والمثلت وكواكب السينما
وأقطاب التجارة والصناعة والطيارون والبزون الذين يضربون رقما قياسيا ،ونتيجة هذه
النهامة للقوة ،والشره للذة ،النتيجة اللزمة ظهور طوائف متنافسة مدججة بالسلح ،
والستعدادات الربية ،مستعدة لبادة بعضها بعضا إذا تصادمت أهواؤها ومصالها ،أما ف
جانب الضارة فنتيجتها ظهور طراز للنسان يعتقد الفضيلة ف الفائدة العملية ،والثل الكامل
عنده والفارق بي الي والشر هو النجاح الادي ل غي . )))(210
((إن الضارة الغربية ل تحد ال ف شدة وصراحة ،ولكن ليس ف نظامها الفكري
موضع ل ف القيقة ول تعرف له فائدة ول تشعر باجة إليه. )) )(211
ربا يقلل من قيمة هذه الشهادات على مركز الدين ف الياة الوربية ومدى تأثيه كون
صاحبها قد انتقل من النصرانية إل السلم ومن أوربا إل الشرق السلمي ،فها هنا شهادة
أصرح منها وأدل على اضمحلل الدين الرسي ف أكب مراكزه ،واستنكاف أهله من
النتساب إليه لحد كبار العلمي ف (( لندن )) وكتاب النكليزية البارزين .
قال الستاذ جود ( ) Joadرئيس قسم الفلسفة وعلم النفس ف جامعة لندن ف كتابه :
( : ) Guide to Modern Wickedness
((210
. Islam At the Cross Roads, p . 50 . Fifth Edition
((211
Islam At the Cross Roads, p, 40 .
153
(( سألت عشرين طالبا وتلميذة كلهم ف أوائل العقد الثان من أعمارهم :كم منهم
مسيحي بأي معن من معان الكلمة ،فلم يب بـ(( نعم )) إل ثلثة فقط ،وقال سبعة
منهم :إنم ل يفكروا ف هذه السألة أبدا .أما العشرة الباقية فقد صرحوا أنم معادون
للمسيحية ،أنا أرى أن هذه النسبة بي من يؤمن بالسيحية ويدين با وبي من ل يؤمن ف
هذه البلد ليست شاذة ول غربية ،نعم إذا وجه هذا السؤال إل مثل هذه الماعة قبل
خسي سنة أو عشرين ،كانت الجوبة متلفة .بناء على ذلك الذين يتفقون ف الرأي مع (
) Canon Barryويزعمون أن نضة مسيحية كبية يكن أن تنقذ العال سيكونون قليلً
جدا ،فإن ل أرى لرأيه هذا مؤيدا ومبرا إل أن يكون ذلك رغبته وهواه ،فإن الهواء
كثيا ما تلق الفكار ،ولكنها ل تولد الشهادات والوثائق ،وإن الحوال والثار ف هذه
البلد لتدل على أن الكنيسة النصرانية ستموت ف القرن الت ،وإليك ما يؤيد هذا الرأي نقلً
من صحيفة يومية :
اخترع رجل ف السابعة والسبعي من عمره طريقة تول با نسخ الكتاب القدس العتيقة
إل حشو البنادق والرير الصناعي واللدائن وأوراق النقد الثمينة ،وإن آلته قد نصبت ف (
) Cardiff Factoryوف ثانية مصانع أخرى وتصنع بنسخ التوراة القدية أسلحة حربية
وقد استثمر الخترع باللة ثروة عظيمة بعد ما عاش ف ضنك من العيش .
ويتم الستاذ مقالته هذه بملة من التوراة – ول أجل منها – لخاطبة القسوس ورجال
الدين أمثال ( كيني بيي ) وغيه (( فليسمع من له أذنان. )) )(212
ويقول هذا الؤلف ف كتابه الثان (. ) Philosophy for our Times
(( ل يزل سائدا على عقلية انكلترا منذ قرون شرهُ الال والتملك ،وكانت رغبة نيل
الثروة أقوى عامل ف حياة البلد وأكب باعث على العمل ،لن الثروة وسيلة للتملك ،
وضخامته ووفرته مقياس لكفاءة النسان ،ول يزل الناس يتلقون من طرق السياسة والدب
والتمثيل والسينما والذاعة اللسلكية ،وف بعض الحيان من منابر الكنائس ف ظل عام
((212
. Guide to Modern Wickedness p . 114 – 115
154
وشهر – التحريضات على جع الال واقتنائه والقناع بأن المة التمدنة هي الت ارتقت فيها
عاطفة الشره والتملك .
إن هذه العبادة للمال تناقض عقائدنا الدينية ،لن الدين يدح الفقر ويذم الغن ،ويقول
:إن الفقي أقدر على الصلح من الغن ،ومع أن الكمة والنعيم الدين متفقان على أن الفقر
أوفق لعبادة ال ودخول النة ،ولكن الناس ل يرغبوا إل تصديق الدين ف ذلك والعمل
بأحكامه ،ول يزالوا يؤثرون الثروة الاضرة على نعيم النة الوعود ،لعلهم يظنون أنم إذا
تابوا ف آخر عهدهم بالدنيا فإنم يرزون حسن الخرة ،كما ظفروا بسن الدنيا بأموالم
الودعة ف الصارف .
وقد أعرب عن فكرتم هذه ( ) Sammuel Butlerف كتابه بقوله (( :إن بعض
الؤلفي يقولون :إنا ل نستطيع أن نمع بي عبادة ال وعبادة الال ،وأنا أسلم أن المر ليس
بيسور ،ولكن مت تكون الهمات ف الدنيا ميسورة سهلة ؟
فمهما اختلفنا ف البادئ فإن القيقة الراهنة أن كلنا راسخ ف تقليد بتلر واتباعه ،فنحن
مشغوفون بب الال ،وعقيدتنا أن الثروة هي القياس الصحيح لعظمة الفرد والكومة ،
وكانت سببا لظهور مبدأين لما الهية التاريية الكبى .
أحدها :مبدأ عدم التدخل القتصادي الذي كان سائدا على القرن التاسع عشر ،
ويدعي أصحاب هذا البدأ أن النسان يبن عمله على أعظم نفع يلبه ،وأن ليس الباعث
على العمال اللتذاذ بالعواطف القلبية بل اللتذاذ بالثروة .
والبدأ الثان الذي يسود القرن العشرين :هو مبدأ التنظيم القتصادي النسوب إل
ماركس ،ويقوم هذا البدأ على أن نظام النسان القتصادي إنا يتأسس على حوائج النسان
الالية ،وهذا النظام هو الذي يلق الدب والخلق والدين والنطق ونظام الكومة ،ول
يكن هذان البدآن لينال القبول الذي ناله لول شغف الناس ف بلدنا بالال والهتمام الزائد
به )) .
ويقول ف مكان آخر من هذا الكتاب :
155
(( إن نظرية الياة الت تسود على هذا العصر وتكم عليه :هي النظر ف كل مسألة
وشأن من ناحية العدة واليب ( . )stomach and pocket view of life
وقد أجاد الصحفي المريكي الشهور ( )Jhon Guntherتثيل هذه النفسية ف كتابه
ف (( داخل أوربا )) ( )Inside Europeبقوله :
(( إن النليز إنا يعبدون بنك إنلترا ( )Bank of Englandستة أيام ف السبوع
ويتوجهون ف اليوم السابع إل الكنيسة )) .
156
رجال الشعب النليزي ل يستسلموا للحوادث والنوازل ،واستشهد على ذلك بأن الشتغلي
بالرقص واللهو ف سنغافورة ل يتحولوا عن مكانم ول يؤخروا أدوار الرقص والغناء ،
وطيارات اليابان تطر الدينة شآبيب القنابل .ويكي هندي عن سهرة شهدها قال (( :بينما
نن ف الرقص إذ سعنا النذار بالغارة الوية فساد الدوء ف الكان ،ث قال أحد أصحاب
الجلس :ماذا ترون ؟ هل يستمر الرقص أم يؤخر ؟ فأجابت فتاة :بل نستمر راقصي ،
وهكذا كان ،ودوّت الارة فضلً عن النادي الذي كنا فيه بالغان ، )) )(213ويقول (( :من
العادات اليومية أنه يعلن ف السينما :تبدأ الغارة الوية ولكن يستمر هذا الفصل ومن أراد أن
يذهب إل الخبأ فطريقه أسفل إل اليسار ،ولكن الناس يستمرون جلوسا ول أحد يبح من
مكانه ويبدأ الفصل )))(214ويقول كاتب إنليزي تعليقا على صورة نشرت ف (
)Statesmanالصحيفة النليزية اليومية الكبى ف الند ف 24من يناير 1942م :
((من الغريب أن أجل التمثيليات إنا ظهرت أيام الروب الكبى ف التاريخ ،كذلك الشأن
ف بريطانيا اليوم فالناظر يرى اللهي والسينما والتمثيليات والصور ما ل يرى أجل وأبدع
منها قبل الرب ،والتفرج يد ف ملهي لندن كل ما يسليه ويرضي ذوقه )) وف عدد آخر
من هذه الريدة الصادر ف 15من ديسمب 1943م (( إن صناعة الفلم ف (( لندن )) و
(( لشبونة )) و (( موسكو )) إل تقدم وف ازدهار )) .ول تد مثالً لذا التجلد والعكوف
على اللذة واللهو ف أشد ساعات الرج وف آخر ساعات العمر إل ف يونان وروما ف العهد
القدي .
وقد روى مراسل روتر كيف استقبل الستر تشرشل رئيس الوزارة البيطانية العام القبل
وودع العام الراحل وذلك ف يوم عصيب من أيام الرب يلجأ فيه النسان إل ال ويفيق
السكران ويشع القاسي ،وإليك نص البقية :
(( واشنطن ،اليوم الول من يناير ( عام 1942م ) البارحة لا كان العام الديد يلتقي
بالعام النصرم وكان الستر تشرشل رئيس الوزارة مسافرا من كندا إل الوليات التحدة ف
قطار رسي خرج رئيس الوزراء مستصحبا سي شارليس بورتل بغتة ودخل مطعم القطار
((213
الغارات الجوية لغا محمد أشرف الدهلوي ص . 71
((214
أيضاً ص . 70
157
والسيجار ف فمه وكأس شبانية ف يده ،وتعجب مثلو الصحف الذين كانوا سائرين معه
تناول الستر تشرشل الكأس مبتسما وقال (( :باسم عام 1941م ذلك العام القائد إل
الجتهاد والتعب والفتح )) ف ذلك الوقت لفظ العام الراحل نفسه الخي وتنفس العام
الديد وأعلنت الساعة بوفوده وهنأ الصحفيون ورؤساء القطار الستر تشرشل ،وأخذ رئيس
الوزراء يد سي شارليس بورتل بيد ،وأخذ يد كاربورل هارنر بيده الخرى وأخذ كل بيد
الخر وبدأوا يغنون ف رقصة وانطلق الستر تشرشل إل الباب وقال ليهنكم جيعا ورزقنا ال
الفتح ،وجعلت الماعة تغن ف حدة وتصفيق ،وخط رئيس الوزراء حرف vوانصرف إل
عربته سعيدا مسرورا )) .
قارن هذه الطبيعة الادية بالنفسية الدينية وتعاليم الدين وعمل التديني وسيتم ف
الروب والخطار ففي القرآن { يَا أَّيهَا اّلذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُ ْم فِئَ ًة فَاثْبُتُواْ وَا ْذكُرُواْ اللّهَ كَثِيا
لّعَلّ ُكمْ تُفَْلحُونَ } وكان النب صلى ال عليه وسلم إذا حزبهُ أمر فزع إل الصلة ،وف سية
ابن هشام ف وقعة بدر الكبى قال ابن إسحاق :ث عدّل رسول ال صلى ال عليه وسلم
الصفوف ورجع إل العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر الصديق رضي ال عنه ليس معه غيه ،
ورسول ال صلى ال عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول :اللهم إن
تلك هذه العصابة اليوم ل تعبد .
والادية لسباب حتمية طبيعية وتاريية وعلمية قد أصبحت شعار الضارة الغربية والياة
الغربية منذ عهد عريق ف التاريخ ،ول تزدها النشأة الديدة والنهضة العلمية والسياسية ف
أوربا إل حدة وقوة ،وقد لحظ هذا المتياز كثي من علماء الغرب والشرق ،فمن علماء
الشرق الستاذ اللعي الرحالة ذو النظر الثاقب عبدالرحن الكواكب ف مستهل هذا القرن فقد
قال ف كتاب (( طبائع الستبداد )) :
ي النفس شديد العاملة ،حريص على الستئثار حريص على (( الغرب مادي الياة ،قو ّ
النتقام ،كأنه ل يبق عنده شيء من البادئ العالية والعواطف الشريفة الت نقلتها له مسيحية
الشرق ،فالرمان مثلً جاف الطبع يرى أن العضو الضعيف الياة من البشر يستحق الوت ،
ويرى كل الفضيلة ف القوة وكل القوة ف الال ،فهو يب العلم ولكن لجل الال ويب
158
الجد ولكن لجل الال ،واللتين منه مطبوع على العجب والطيش ،يرى العقل ف
النطلق ،والياة ف خلع الياة ،والشرف ف الزينة واللباس ،والعز ف التغلب على
الناس )) .
وهذا تصوير صادق للطبيعة الوربية وتليل صحيح للنفسية الغربية ،ول نظن الرحوم
الكواكب قد تامى الكلم على غي النسي اللان واللتين إل تفاديا من الوقوع ف العنت ،
فجعل اللان واللتين مثلً لسائر الوربيي .
159
لتكون كلمة ال هي العليا فهو ف سبيل ال )) .وكان عمر بن الطاب رضي ال عنه يقول
ف دعائه (( :اللهم اجعل عملي كله صالا واجعله كله لوجهك خالصا ول تعل لغيك فيه
شيئا )) واجتهاد الصالي من هذه المة ف إخفاء عبادتم وصدقاتم معروف ف كتب
التاريخ والسي .
160
النظام القتصادي ،ويستنتج من ذلك كارل ماركس أن التاريخ البشري غي العهد الذي
كانت الياة البشرية ف طفولتها ليس إل قصة حرب الطبقات الجتماعية الختلفة .
وهكذا جحد الرجل جيع نواحي البشرية غي الناحية القتصادية ول يعر غيها شيئا من
العناية ،ول يقم للدين والخلق والروح والقلب وحت العقل وزنا وقيمة ،ول يعترف أن
أحدا منها كان عاملً من عوامل التاريخ ،وأن جيع الروب والثورات ف التاريخ ل يكن إل
ثارا لبطن من بطن ،وجهادا ف سبيل تنظيم جديد للنظام القتصادي وطرق النتاج الصناعي
،وحت الروب الدينية ل تكن عنده إل حرب الطبقات القتصادية استأثرت إحداها بوارد
الثروة ووسائلها وطرق النتاج ،واجتهدت الخرى ف أن تنافسها وتتناول قسطها أو أن
تنظمها من جديد فوقعت الرب ،ويب أن تكون كذلك ف رأيه (( بدر )) و (( أُحد )) و
(( الحزاب )) و (( القادسية )) و (( اليموك )) ،ووقائع ومعارك حفظها التاريخ .
فهذا هو – كما ترى – التصوف الادي الغرب ،وهذه هي فلسفة وحدة الوجود وحدة
القتصاد ،ولا كان الشرقيون إنا يغلبهم الروح الدين والتأله نفى التألون منهم والغلوبون
وجود كل شيء سوى ال ،وهتفوا ف سكرهم وغلبة الال عليهم :ل موجود إل ال ،ولا
كان الفكرون الوربيون إنا تغلبهم الادية نفوا وجود كل شيء سوى الناحية القتصادية
وهتفوا :ل موجود إل البطن والعدة .إن صوفية الشرق كانوا يرون النسان ظلً ربانيا ،أما
الاديون ف الغرب فل يرونه إل وجودا بيميا حيوانيا .
161
وشغل الناس الشاغل ،وكانت هذه النظرية اتاها جديدا ل يسبق ف السائل البشرية وما
يتعلق با ،تقلب تيار الفكر وتصرف نظر النسان ف الستعلم والستهداء ف مسائله وف
تاريه من النسان إل اليوان ،وتعله يعتقد أن هذا الكون سائر بغي عناية إلية ،وبغي أن
تتداخل فيه قوة غي طبيعة ،وأن ل علة ف الكون سوى السنن الطبيعية ،وأن الوجودات
ترتقي من مراتب الياة الول إل مراتبها العليا بعمل فطري تدريي عار من العقل والكمة ،
وأن النسان وسائر أنواع اليوان ليس من صنع صانع حكيم بل هو نتيجة نواميس طبيعية
انتهى با التنازع للبقاء وناموس بقاء الصلح والنتخاب الطبعي الذي هو سائر ف الكون إل
إنسان ناطق ذي شعور .
إن مناقضة هذه النظرية للدين والعقل ف البادئ والغايات والنتائج الفكرية واللقية
وآثارها العملية واضحة ،بل كان هذا دينا جديدا يهدم الدين القدي من الساس ويل مله ،
فل غرابة إذا اضطرب لا رجال الدين وحسبوا لا كل حساب ،وخافوا على مصي الدين ف
أوروبا .
يقول الستاذ جود ف كتابه :
(( يصعب علينا الن أن ندرك تلك الدهشة والستغراب الذي فاجأ أجددنا عندما ظهر
كتاب أصل النواع لدارون ،وعندما جاءت النتائج أن دارون اثبت – أو يظن أنه أثبت –
أن عمل ارتقاء الياة على هذا الكوكب ( الرض ) ل يزل مستمرا متوصلً من ظهور الميبا
( )Amoebaوفرخ البحر ( )Jelly Fishف أشكاله الول إل أشكاله النهائية العليا
وهي أرقى أشكال الياة وأعلها ،فلم يزل عمل الرتقاء من الميبا إل طورنا متواصلً غي
منقطع )) .
(( بالعكس من ذلك أن الذين عاشوا ف عصر فكتوريا إنا أرشدوا أن النسان خلق
مستقل ،وهو ف القيقة نوع من ملك منحط ،أما إذا كان دارون مصيبا فالنسان ل يكن
إل قردا راقيا ،فعز على أهل عصر فكتوريا أن يكون النسان قردا راقيا بدل أن يكون ملكا
162
منحطا ،وما طابت لم هذه النظرية واجتهدوا أن يلصوا النسان من هذه السبة الت لقتهم
من هذه العقيدة ف النسان واقترحوا لذلك اقتراحات. )) )(215
إقبال المهور على نظرية الرتقاء :
ولكن المهور والدهاء من الناس تلقوا هذه النظرية بالقبول – رغم ما فيها من ضعف
ونقص من الوجهة العلمية – فهموها أو ل يفهموها – وكأن الذهان كانت متهيئة لثل هذه
النظرية ،وكأن الناس وجدوا فيها منافسا للدين ورجاله ،وصعب على رجال الدين أن
يعارضوا هذا التيار الارف من أفكار الناس وأذواقهم والسيل العرم من النشورات
والحاضرات ،فوضعت الكنيسة أوزارها ف هذه الرب حت إذا مات دارون سنة 1883م
منحته الكنيسة النليزية أكب شرف تنحه لنسان ،وذلك بأنا أذنت بدفنه ف ويست
منسترايب مل دفن الرجال الدينيي .
وكان تأثي هذه النظرية بعيدا عميقا ف الفكار والضارة والدب والسياسة تراه وتلمسه
ف أخلق الناس ،وف نزعات الرجوع إل الفطرة وإل العهد الذي كان النسان يعيش فيه
على الفطرة عاريا حرا ،وف تعيي الثل الكامل للنسان وف جيع العمال والخلق الت ل
تصدر إل على تسليم أن النسان إنا هو حيوان راق ،وف فساد الياة النلية الذي يعب عنه
الستر شبد أحد علماء النليز بقوله (( :لقد ظهر ف إنلترا جيل من الناس يهل الياة
النلية جهلً باتا ،ول يعرف غي حياة القطعان والبهائم )) .
من جنايات الادية :
وكان من نتائج هذه الادية الارفة ،والتربية اللدينية الت ليس فيها نصيب للخلق
ومافة ال عز وجل ،واليان بالخرة أن أصحاب الراكز الكبية ،ورجال السياسة
والسئولية يرتكبون ف بعض الحيان جنايات ل يتنل إليها أكب الثي .وذلك لصلحة
سياسية وهية لبلدهم وأمتهم أو لاه شخصي أو ربح مال ،فمن أغرب ما روي ف تاريخ
البشر من القسوة والظلم ،أن النليز قد أوقعوا ف بنغال (الند) ماعة مزورة غي طبيعية ،
لنم منعوا استعمال القوارب الت يصد الناس عليها مزارع الرز – وهو غذاء بنغال –
((215
. Guide to Modern Wickedness p . 235 – 236
163
واحتكروا البوب ف مقدار عظيم للجند ،ول يكنوا الناس منها حت فسدت وضاعت ،
ومات مئات اللوف من الناس جوعا ،والبوب وفية ف البلد ،والواصلت ميسورة ،
والقطر غادية رائحة ،والند بلد مصبة تستطيع أن تغذي بلدا أخرى .وذلك كله لا
توقعوه من إقبال الناس على التجنيد ,وليهنوا على فشل الكم الذات ف إدارة البلد .
وقد تغافل لورد ماونت بيت حاكم الند العام سنة 1947عما يدبر من الفتك بالسلمي
ف دلي وبنجاب الشرقية ,فقد اتصلت به أنباء الؤامرات والطط الت كانت تبيت ضد
العنصر السلمي ف هذه النطقة ,وأنذره الباء بوقوع اضطراب طائفي هائل ,فنام على
كل ذلك انتقاما من أن السلمي ل ينتخبوه حاكما عاما لباكستان كما فعل أهل الند ،
ولتكون هذه الضطرابات الطائفية ,والروب الهلية حجة على عدم أهلية أهل البلد
للستقلل ,وكونم عيالً على النليز ف المن والنظام ،فكان نتيجة ذلك ,تلك الجزرة
البشرية الائلة الت عقمت القرون أن تلد مثلها .
ومن ذلك أن (( ريدكلف )) الذي اختاره الفريقان النديان حكما ف مسألة بعض مدن
بنجاب هل تنضم إل هندوستان ،أو إل باكستان حكم حكما جائرا ،فكان نتيجة ذلك
جلء السلمي من فيزوبور ،وكورداسبور ،ومتاعب عظيمة ،وخسائر كبية ف النفوس
والموال .
أما تأييد ترومان للصهيونية ،ودولة إسرائيل ف فلسطي ،ومعارضته للقضية العربية الت
ل غبار عليها ،لجل أن يكسب ود اليهود ويتمتع بنفوذهم السياسي والال والصحاف ،
وليكسب انتخابه ،وتعاميه عن براهي الدولة العربية الساطعة ،وسكوت أمريكا على فظائع
فرنسا ف الزائر ،ووقوفها بوار هذه الدولة الائرة ف قضية الزائر العربية السلمية ،
وتعاونا على الث والعدوان ،فقضية تنبئ عن ضعف أخلق العظماء ف أوربا وأمريكا ،
ودوران الياة السياسية على الفوائد ل البادئ .
*********************************
164
الفصل الثان
النسية والوطنية ف أوربا
انكسار الكنيسة اللتينية سبب قوة العصبية والقومية والوطنية :
قدمنا أن الوطنية والقومية والعتداد الشديد بالشعب والوقع الغراف من خصائص الطبع
الورب الذي سرى ف العنصر الورب مسرى الروح ،وجرى منه مرى الدم وأصبح طبيعة
ثانية له ،ولكن النصرانية قهرت هذه الطبيعة ،لنا – على علتا ،وبرغم ما طرأ عليها من
التحريف والتبدل – ل يزال عليها مسحة من تعليم السيح ،وفيها أثارة من علمه ،والدين
السماوي مهما ترف وتغي ل يعرف الفرق الصطنعة بي النسان والنسان ،ول يفرق بي
الجناس واللوان والوطان ،فجمعت النصرانية المم الوربية تت لواء الدين وجعلت من
العال النصران عشية واحدةِ ،وأخضعت الشعوب الكثية للكنيسة اللتينية فغلبت العصبية
القومية والنعرة الوطنية ،وشغلت المم عنها لدة طويلة ،ولكن لا قام لوثر سنة – 1483
1526م بركته الدينية الصلحية الشهية ضد الكنيسة اللتينية ،ورأى من مصلحة مهمته
أن يستعي باللان جنسه ونح ف عمله ناحا ل يستهان بقدره ،وانزمت الكنيسة اللتينية
ف عاقبة المر فانفرط عقدها ،استقلت المم ،وأصبحت ل تربطها رابطة ،ول تزل كل
يوم تزداد استقللً ف شؤونا وتشتتا .حت إذا اضمحلت النصرانية نفسها ف أوربا قويت
العصبية القومية والوطنية ،وكان الدين والقومية ككفت ميزان كلما رجحت واحدة طاشت
الخرى ،ومعلوم أن كفة الدين ل تزل تف كل يوم ،ول تزل كفة منافسته راجحة ،وقد
أشار إل هذه القيقة التاريية الفاضل النليزي العروف لورد لوثي Lord Lothian
السفي البيطان السابق ف أمريكا ف خطبته الت ألقاها ف حفلة جامعة عليكرة ف يناير سنة
1938م .
(( لا قضت حركة لوثر الت تدعى حركة إصلح الدين على وحدة أوربا الثقافية والدينية
،انقسمت هذه القارة ف إمارات شعبية متلفة ،أصبحت منازعاتا ومنافساتا خطرا خالدا
على أمن العال )) .
165
وكان نتيجة النطاط الدين ،وانفاض مبادئ الدين والخلق ،رجحان كفة الوطنية
والنسية ؛ يقول (( لورد لوثي )) ف نفس هذه الطبة :
(( إن الدين الذي هو الرشد اللزم للنسان والوسيلة الوحيدة لصول الغاية اللقية ،
والشرف العنوي للحياة البشرية ،كان نتيجة النطاط ف سلطانه أن فت العال الغرب
بذاهب سياسية تقوم على أساس اختلف الجناس والطبقات وآمن -بتأثي العلوم الطبيعية-
أن الرقي الادي هو الغاية العليا ،والوطر الكب ،ول يزال يزيد هذا المر ف مشاكل الياة
وأثقالا وتكاليفها ،وكان من نتائج ذلك أيضا أنه صعب على أوربا أن توفق بي روحها
وحياتا توفيقا ينقذها من القومية ،داهية هذا العصر الكبى. )) )(216
((216
. Convocation Adress of Lord Lothian at Muslim University Aligarh
166
((لي شيء يدرس أولدنا تاريخ أمة أجنبية ،ولاذا يقص عليهم قصص إبراهيم وإسحق؟
ينبغي أن يكون إلنا أيضا ألانياَ )) .
ونشأت ف ألانيا طائفة تتبأ من سيدنا السيح عليه السلم لكونه من بن إسرائيل ،
والذين ل يزالون يدينون له بالب والتعظيم يتهدون أن يثبتوا أنه كان من سللة آرية ،
وظهرت ف ألانية نزعة إل إحياء اللة القومية القدية الت كان يعبدها الشعب اللان ف
عهده القدي .
وليست روسيا العالية بأقل حاسة للعصبية النسية والوطنية من منافسها القدي ألانيا .
فيعتقد الناس ف روسيا أن أغلب الختراعات الكبى ف العصر الديث إنا يرجع الفضل
فيها إل الروس .
فليس (( لفوازييه )) هو واضح القانون الاص بتركيب الجسام ،بل هو مدين با
ينسب إليه للعال الروسي (( ميشيل لوموتوسوف )) وليس (( لديسون )) فضل ف استخدام
الكهرباء ف الضاءة فقد سبقه (( لووجي )) الروسي بست سنوات إل غي ذلك ،ونشرت
جريدة برافدا :أن العلماء الروسيي توصلوا إل اختراع التلغراف قبل (( مورس )) وإل تسيي
القاطرة البخارية قبل (( ستفنسن )) ،إل غي ذلك من تديات للتاريخ ليس الباعث عليها إل
العصبية النسية وتقديس (( روسيا )) .
167
فاعتقد بعض الفكرين ف تركيا الفتاة أن السلم دين طارئ غريب ل يصلح للترك ،وأن
الول بم أن يرجعوا إل وثنيتهم الول قبل أن اعتنق آباؤهم الدين السلمي ،تقول الكاتبة
خالدة أديب هان عن (( ضياء كوك ألب )) من كبار مؤسسي تركيا الديدة أدبا وتذيبا :
(( كان ضياء كوك ألب يريد أن ينشئ تركيا جديدة تكون صلة بي التراك العثمانيي
وبي أسلفهم الطورانيي ،فقد كان يريد أن يقوم بإصلح مدن بواسطة العلومات الت
جعها عن التنظيمات السياسية والدنية ف عهد التراك قبل السلم ،كان ضياء يعتقد ويؤمن
بأن السلم الذي وضعه العرب ل يصلح لشأننا ،ولبد لنا من إصلح دين يوافق طبائعنا إذا
ل نرجع إل عهدنا الاهلي . )))(217
وما ل شك فيه أن هذه النعة قد وجدت ف الترك وكذلك ف اليرانيي ف الزمن
الخي:
قال الرحوم المي (( شكيب أرسلن )) وهو البي الثقة فيما يتعلق بالترك فضلً عن
العرب لطول مكثه ف تركيا وكان عضوا ف ملس المة :
(( وهناك فئة ثانية تدعى الفئة الطورانية تالف الفئة الول - ،أي الفئة الت تقول
بالقومية العثمانية السلمية – ف كل هذه النظريات ،وأشهر دعاتا ضياء كوك ألب وأحد
أغائف ،ويوسف أقشورا اللذان قدما من روسيا ،وجلل ساهر ،ويي كمال ،وحدال
صبحي رئيس وجاق (( تورك بوردي )) وممد أمي بك الشاعر اللي ،وكثي من الدباء
والفكرين ،وأكثر الطلبة والنشء الديد .وهؤلء يزعمون أن الترك هم من أقدم أمم
البسيطة وأعرقها مدا ،وأسبقها إل الضارة ،وأنم هم والنس الغول واحد ف الصل ،
ويلزم أن يعودا واحدا ،ويسمون ذلك بالامعة الطورانية ،ول يقتصروا منها على الترك
الذين ف سيبيا وتركستان الصي وفارس والقوقاس والناضول والروملي ،بل مبدؤهم مد
هذه الرابطة إل الغول ف الصي ،وإل الجر والفنلنديي ف أوربا ،وكل ما يقال إنه ينتمي
إل أصل طوران ،وهم يقولون بلف ما يقول الولون ،فهم ترك أولً ومسلمون ثانيا ،
وشعارهم عدم التدين وإهال الامعة السلمية ،إل إذا كانت خادمة لنفوذ القومية الطورانية
((217
محاضرات (( خالدة أديب هانم (( في الجامعة الملية بدلهي .
168
،فتكون عندئذ واسطة ل غاية ،وقد غل كثي من هذه الفئة ف الطورانية حت قالوا :نن
أتراك فكعبتنا طوران ،وهم يتغنون بدائح جنكيز ،ويعجبون بفتوحات الغول ،ول ينكرون
شيئا من أعمالم ،وينظمون الناشيد للحداث ف وصف الوقائع النكيزية ليطبعوهم على
العجاب با ويرقوا مستوى نفوسهم بزعمهم .. )) )(218وقال أيضا :
(( وهذا ولا كان هذا العصر عصر القوميات كما ل يفى اقتداء بالمم الوربية ف الزمن
الخي كانت القومية الفارسية قد أخذت تشتد أكثر من ذي قبل ،وذلك نظي ما حصل عند
الترك ،وصار كثي من ناشئة الفرس يبحثون عن دين فارس القدي ،وذلك نظي ناشئة الترك
الذين أخذوا يبحثون عن عبادات أجدادهم وعن الذئب البيض الذي كانوا يعبدون ،حت
صوروه ف بعض كتبهم الديثة ،وقال لم الرحوم ( موسى كاظم ) شيخ السلم – وهو
الذي أخبن بذلك : -إن العرب كانت عندهم عبادات كهذه تقشعر منها البدان ،
ولكنهم اقتلعوها بالسلم وافتخروا بأن ال لطف بم وأنقذهم منها ورفعهم عن مستوى تلك
السفالت .وأما أنتم فتريدون أن تتناسوا العتقاد بالبارئ تعال وتتذكروا عبادة الذئب
البيض ،فيا للسف )) .
(( فكما حصل عند الترك حصل عند الفرس وصار ناشئتهم يبحثون عن أديانم القدية
الت منها الكيومرتية ( أي تعظيم النور ) والتحرز من الظلمة .ومن هنا جاءتم عبادة النار ،
ومنها فرقة ( زرادشت ) الذي كان يدعو إل وحدانية ال ،ويقول :إنه خالق النور والظلمة
وإن الي والشر إنا حصل بامتزاجهما ،وإنما لو ل يتزجا لا كان وجود للعال ،إل غي
ذلك من العقائد والوابد والثار الت كانت عند قدماء الفرس :كالثنوية ،والزردشتية ،
والانوية ،ومنهم من يبحث عن الزدكية الت كانت تدعو إل اللاد والباحية . )))(219
((218
من حواشي المير (( شكيب أرسلن (( على حاضر العالم السلمي الجزء الول ص . 159 – 158
((219
حواشي حاضر العالم السلمي الجزء الول ص . 165 – 164
169
والطوة الثانية ف هذا الطريق أن أصبحت الشعوب والدول ف أوربا ،الصغية منها
والكبية ،عوال مستقلة ل ترى العال خارج الطوط الت خطتها الطبيعة من جبال وأنار ،
أو خطتها بيدها من غاية سياسية واستعمار ،ول تعترف بوجود النسان ف غي منطقتها فل
تترمه ول تعرفه ،واتذت نفسها إلا تدين له بكل ما يدين به العباد الخلصون من عبادة
وتقديس وأضاح هي دماء الخرين ونفوسهم وأموالم وبلدهم ،وقتال ف سبيله ،وتفان ف
طاعته ،وميا ومات لجله ،وهذا الدين القومي يشتمل على شيئي :إياب وسلب ،أما
الياب فهو العتقاد بأن الشعب أو المة فوق كل شيء ،وأفضل من كل شيء ،وأن ال –
إذا كانت المة تعترف به وتعتقد أو ترى أن من الصلحة أن تستعمل هذه الكلمة – ل يلق
أفضل من هذه المة ،ول أنب منها ،ول أذكى ول أقوى ول أحق بالكم والسيادة
والولية على المم ،والرعاية للعال منها ،وأنا أمينة ووكيله ووصيه ف الرض ،ول يلق
بلدا أحب إليه من هذه البلد ،ول تربة أذكى من تربتها ،وهذا هو الدين القومي الذي ل
يسمح لنسان أن يعيش ف بلده حت يؤمن به .
ول تتلف شعوب أوربا الاضرة ودولا ف هذه الديانة القومية إل ف الصراحة والنفاق ،
وأن بعضها تقول وتفعل ،وبعضها تفعل ول تقول ،فإن بذرة القومية والوطنية إذا ألقيت ف
أرض فإنا ل تلبث أن تنشأ وتد عروقها ف الرض ث تصي شجرة ،فدوحة تظلل المة ،
ول يكن لشعب أن يؤمن بالقومية ،ث ل يعتدي ول يتطاول أو ل يريد أن يعتدي ويتطاول
ول يقت الخرين ،ول يزدريهم ،كما ل يكن أن يسرف النسان ف المر ،ث ل يسكر
ول يهذي كما قال الشاعر :
ألقاه ف البحر مكتوفا وقال له *** إياك إياك أن تبتل بالاء
خصوصا إذا كان العلم والدب والشعر والفلسفة والتاريخ وحت العلوم الطبيعية متعاونة
على إنشاء العاطفة القومية والنعرة الشعبية واليلء النسية والفخر بالباء والتعظيم بالاضي ،
ول يكون رادع من خلق ول وازع من دين ،وتول القيادة رجال ل يعرفون غي القومية
والجد القومي غاية مرمى ،ومن مقومات هذه الياة القومية الت ل تقوم بغيها ،الكراهة
والوف ،وذلك هو الزء السلب ف دين القومية ،فإن الماسة القومية ل تظهر ول تبقى
170
حت يكون للشعب ما يكرهه ويافه ،فل يزال القائدون يثيون الكامن من عواطفه ،
ويذكرون الامد من حيته ويضربون على الوتر الساس وهو الكراهة والوف ،فلولها
لنقشعت سحابة القومية وتراجع سيلها .
ل فلسفيا نفسيا فقال :وقد حلل ذلك الستاذ (( جود )) تلي ً
(( إن العواطف الت هي مشتركة والت يكن إثارتا بسهولة هي عواطف القت والوف
الت ترك جاعات كبية من الدهاء ،بدل الرحة والود والكرم والب ،فالذين يريدون أن
يكموا على الشعب لغاية ما ،ل ينجحون حت يلتمسوا له ما يكرهه ويوجدوا له من يافه ،
وإذا أردتُ أن أوحد الشعوب ينبغي أن أخترع لم عدوا على كوكب آخر – على القمر
مثلً – تافه هذه الشعوب ،فلم يعد من دواعي العجب أن الكومات القومية ف هذا العصر
ف معاملتها ليانا إنا تقاد بعواطف القت والوف ،فعلى تلك العواطف يعيش من
يكمونا ،وعلى تلك العواطف يقوى التاد القومي. )) )(220
((220
. Guide to Modern Wickedness . p . 150
171
وقد قسم السلم العال البشري إل قسمي فقط ،أولياء ال وأولياء الشيطان ،وأنصار
الق وأنصار الباطل ،ول يشرع حربا ول جهادا إل ضد أنصار الباطل وأولياء الشيطان أينما
كانوا ومن كانوا ،فقال { :اّلذِينَ آمَنُواْ يُقَاِتلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُو َن فِي
سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ َأ ْولِيَاء الشّيْطَانِ إِنّ كَْيدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا } .وهذه الروب الت
ل يشهد التاريخ أين منها وأقل إراقة للدماء وذهابا بالنفس ،ول أعود منها على النسانية
بالصال العام والي الشترك والسعادة جعاء فل يربو عدد القتولي من الفريقي ( السلم
والكافر ) ف جيع الغزوات والسرايا والناوشات الت ابتدأت من السنة الثانية للهجرة ،
ودامت إل السنة التاسعة على ألف وثانية عشر نفسا 1018السلمون منهم 259والكفار
)759(221أما الصابون ف حرب 1918 – 1914الكونية فيبلغ عددهم على الصح
واحدا وعشرين مليون نسمة 21 ,000,000 )(222عدد القتولي منهم سبعة مليي 000
7 ,00,وقدر الستر مكست ( )Maxtonعضو البلان النليزي أن الصابي ف الرب
الثانية الكبى .... 1939ل يقل عددهم عن خسي مليون 50 ,000, 000وقد كلف
قتل رجل واحد ف الرب الول عشرة آلف جنيه ،أما مموع نفقاتا فيبلغ
000,000,000,37جنيه أما نفقات الرب الثانية لساعة واحدة فمليون من النيهات
.)(223 000,000,1
ث كانت الروب الدينية السلمية حاقنة للدماء عاصمة للنفوس والموال وفاتة عهد
السعادة والغبطة ف العال ،أما حرب التنافس والمية الاهلية الت تدعى الرب الكبى فقد
كانت مقدمة حروب متسلسلة ؛ وإليك ما قال الستر لويد جورج بطل الرب الكبى
ورئيس الوزارة النليزية حينئذ :
(( لو رجع سيدنا السيح إل العال لا عاش إل قليلً ،إنه سيى النسان ل يزال بعد
ألفي سنة مشغوفا بالشر والفساد والقتل والفتك بين نوعه ،والنهب والغارة ،بل إن أكب
( (221عولنا في هذه العداد على إحصاء مؤلف السيرة النبوية الشهيرة القاضي محمد سليمان المنصور فوري في المجلد الثاني من
كتاب سيرة رحمة للعالمين ولم يغادر من الغزوات والبعوث والمناوشات صغيرة ول كبيرة إل أحصاها ،أما احصاءات غيره من
المؤلفين فإنها تمثل عددًا أقل من هذه العداد .
( (222وقد حقق المستر هـ .تاونسند E. H. Tawansendفي مقالة له نشرتها صحيفة هندو النكليزية اليومية ( 31يناير 1943م
( أن عدد المصابين في الحرب الكبرى ل يقل عن 37,513,886المقتولون منهم . 8,543،515
( (223من مقالة لتاونسند في صحيفة هندو .
172
حرب ف التاريخ قد استغرقت دم جسم النسانية وأهلكت الرث والنسل حت أصابت الناس
ماعة ،وماذا يرى السيد السيح يا ترى ؟ هل يرى الناس يتصافحون كالخوان والصدقاء ؟
ل .بل يراهم يتهيأون لرب أشد هولً من الول وأعظم فتكا وتعذيبا ؛ يراهم يتسابقون ف
اختراع اللت الهنمية ويبتدعون وسائل التعذيب . )))(224
وليس اشتغال هذه الشعوب بالعداوة والروب فيما بينها ،وما هذه القومية والوطنية ال
إل لنصراف هذه الشعوب عن عداوة عدوها القيقي ونسيانا له ،فالنار تأكل نفسها إن ل
تد ما تأكل ،وكما قال الشاعر الاهلي :
وأحيانا على بكر أخينا *** إذا ما ل ند إل أخانا
فإذا عرفت عدوها وعرفت ضرره على نفسها ،وعرفت خطره وقوته كان ذلك مشغلة
لا عن كل حرب وعداوة وشح ومنافسة وأحقاد وهية وتراث مصطنعة .وقد قالت العرب
قديا (( :عند الفيظة تذهب الحقاد )) وهكذا جعل ممد صلى ال عليه وسلم من قبائل
العرب التعادية الت كانت سيوفهم تقطر من دمائهم كالوس والزرج ف الدينة ،وبن
عدنان وبن قحطان ف الزيرة ،والجناس التباينة ف العال ،أمة واحدة ومعسكرا واحدا
إزاء الكفر والاهلية ،إذ جعل لا ف خارجها ما تكرهه وتعاديه ،وهو الباطل والطاغوت
ووكلؤه وأنصاره ،وشغلها بربه وقرأ { :اّلذِينَ آمَنُواْ يُقَاِتلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ
ت فَقَاتِلُواْ َأ ْولِيَاء الشّيْطَانِ إِنّ كَْيدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا } فنسيت
يُقَاتِلُو َن فِي سَبِيلِ الطّاغُو ِ
أحقادها وتراثها ول تتذكرها إل لا انصرفت عن عدوها وتشاغلت عن قتاله ومعاداته فكانت
حروب داخلية وفت يعرفها الميع .
( (224وقد صدقت فراسته ووقع تحت أعيننا ما تنبأ به وقد فاقت هذه الحرب الجارية الماضية فتكاً بالرواح للعمران وتدميراً للبلدان
ووقائع تشيب لهولها الوالدان وغلء في السلع وارتفاعاً في السعار وأصابت الناس مجاعات شديدة في كثير من القطار
173
واليلء والكبياء ،وتدل بنفسها وتظن أنا مانعتها حصونا وما أعدت للحرب ،وتنقطع
عن العال وتتحرش أحيانا بالدول الكبية غرورا بنفسها ،أو تجم عليها الدول فل تلبث إل
عشية أو ضحاها ،وتذهب ضحية لقوميتها وانصارها ف دائرة ضيقة ،ول يغن أولئك
السئولون عنها شيئا { َكمَثَلِ الشّيْطَانِ إِ ْذ قَالَ لِلْإِنسَا ِن اكْفُ ْر فََلمّا كَفَ َر قَالَ إِنّي َبرِيءٌ مّنكَ }
كذلك وقع لبولندة وبلجيكا وهولندة ويونان ودنارك ،وهكذا وقع ليران والعراق ف
الرب الثانية .
174
الذي يلكه من الشرف ،إذا ليس من الشرف أن ينال النسان أو الشعب الشرف بالديعة
والكر والظلم . )))(225
(( إن الكب – أكثر من الطمع – هو الذي يمل الطبقة الاكمة ف بريطانيا على اتباع
خطط ل تتفق مع ما يتظاهرون به من حب الصلح والوئام ،دع رجلً يقترح على ولة المر
ف بريطانيا أن يهجروا قياطا من رمل من متلكاتا الت ل تغرب فيها الشمس ومن أشدها
قحولة وجدبا ،تر الحافظي البطال ف إنلترا يقيمون العال ويقعدونه سخطا وحنقا ،
وترى الصحافة النليزية العتدلة تتميز غيظا ،إذا تعلم أن هؤلء الحافظي ليسوا طماعي
فقط بل هم مستكبون معاندون. )) )(226
((225
. Guide to Modern Wickedness . p . 153
((226
. Guide to Modern Wickedness . p . 180
((227
. Guide to Modern Wickedness . p . 180
175
وكثيا ما تنشب الرب بي هذه المم السابقة إل السيادة والتملك وبي المم التطلعة
لا الطامة إليها ،ولكن هذه الرب ل يصح قياسها على حرب تشهر لردع الظال والنتصار
للمظلوم وإقامة القسط عملً بقول ال عز وجل { :وَإِن طَائِفَتَانِ مِ َن الْ ُمؤْمِنِيَ اقْتَتَلُوا
فََأصِْلحُوا بَيَْن ُهمَا فَإِن بَ َغتْ إِ ْحدَا ُهمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ ِإلَى أَمْرِ اللّ ِه فَإِن
ب الْمُ ْقسِطِيَ }( الجرات ) ،ولكن هذه ح ّت فََأصِْلحُوا بَيَْن ُهمَا بِالْعَدْلِ َوَأقْسِطُوا إِنّ اللّهَ ُي ِ
فَاء ْ
الرب حرب شح ومنافسة ،وحرب غية وحسد ،ما كانت جعية المم ( الفقيدة ) الت
كانت هذه الروب تشهر تت إشرافها ،ول خليفتها المم التحدة )) إل كما قال المي
شكيب أرسلن (( :مثل العروض برا بل ماء ،ما وجدت إل لتلبس العتداء حلة قانونية ،
وتسوغ الفتوحات بتغيي الساء ،ل يطيعها سوى ضعيف عاجز ،ول تستطيع أن تكم على
قوي متجاوز )) أو ف لفظ فقيد السلم الدكتور ممد إقبال (( :جعية لصوص ونباشي
تألفت لتقسيم الكفان )) .
قال الستاذ ( جود ) النليزي :
(( إن حربا تشهر تت إشراف عصبة المم ليست للعدل بي المم يقوم با شرطة العال
للخذ على يد الظال وعقاب العتدي ،ليست هذه الرب إل كفاحا بي الطوائف التنافسة
ف القوة .الواحدة منها حريصة على الحافظة على القسط الكب من ثروة العال ومواردها ،
والخرى متهالكة على تصيلها ،إن مثل هذه الروب ل تتلف عن حروب نشبت بي
الطوائف التنافسة ف الاضي ،ول عن حروب النمسا وبروسيا ، )(228وعن حروب السنوات
السبع )(229وعن حروب نابليون ؛ وعن حرب . 1918 – 1914ل تتلف هذه الرب
عن هذه الروب كلها إل ف السم .
أما التذرع بأن هذه الروب إنا نصبت للدفاع عن الديقراطية وعن عصبة المم ،وضد
الفاشية والعتداء فل يغي من الوقف شيئا. )) )(230
( (228حرب منافسة وطمع اشتركت فيها فرنسا واسبانيا وإنجلترا وهولندة لتناول غنائم انتقصت فيها أطراف النمسا وممتلكاتها
ونشبت على أثر وفاة فريدريك ملك النمسا وجلوس ابنته ماريا تيريزا على العرش بوصيته ورضا الدول سنة 1740وانتهت سنة
. 1748
( (229حروب اشتركت فيها فرنسا وروسيا وسويدن وأكثر إمارات الدول اللمانية وبروسيا وانجلترا حماية لبعضها ،واعتداء على
بعضها ابتدأت سنة 1756وانتهت سنة . 1763
(. Guide to Modern Wickedness . p . 191 (230
176
الفرق بي حكم الباية ،وحكم الداية :
روي أن عمر بن عبد العزيز خليفة السلمي قال لعامله مرة (( :ويك إن ممدا صلى
ال عليه وسلم بُعِث هاديا ول يُبْ َعثْ جابيا )) وهذه الملة تعرب عن روح الكومة الدينية
الت تتأسس على منهاج النبوة ،وتسي على آثار النبياء وخطتها وسياستها ،فتكون عنايتها
واهتمامها بالدين وبإصلح أخلق الحكومي وبا يعود عليهم بالنفع والضرر ف الخرة أكثر
من اهتمامها بالباية والراج وأنواع الحاصيل واليراد ،وتنظر ف جيع مسائل السياسة
والالية من الوجهة الدينية وتقدم البادئ الدينية واللقية على النافع والصال الادية ،فتمنع
المر وترم الزنا وأنواع اللعة والفجور والعقود الالية الفاسدة النافعة للفراد الضرة
بالجتمع ،فتحظر الربا والقمار وإن كان ذلك يرجع على الكومة بالسارة الادية الفادحة ،
وتشرع مشاريع إصلحية وتراقب الخلق وتعن بتهذيب النفوس ،وإن كان ذلك يكفلها
أموالً طائلة وميزانية ضخمة ،ونتيجة هذا النوع من الكومات إذا قامت ف بلد مّا بّينها
القران وتنبأ با للمهاجرين الولي { :الّذِينَ إِن مّكّنّا ُه ْم فِي الَْأ ْرضِ َأقَامُوا الصّلَاةَ وَآَتوُا الزّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِاْلمَعْرُوفِ وََن َهوْا عَنِ اْلمُنكَرِ َولِلّهِ عَاقِبَ ُة الْأُمُورِ }
أما الكومات الت تقوم للجباية ل للهداية ،وللنتفاع ل للنفع ،فطبيعي أن تكون
عنايتها مصروفة إل أنواع الراج والحاصيل والغلت ،وكثيا ما يكون ذلك على حساب
الخلق والفضائل والنظام النل ،فتبيح أنواعا كثية من اللعة والفجور بقيود تنظمها ول
تنعها ،فتسمح بالبغاء الرسي ،وقد تراب نفسها وتبيح القمار ،وكثيا من النايات و
الرائم اللقية بتغيي الساء وتديد بعض الشياء تأمينا لصالها ،ول تبيح المر فقط بل
تبيعها وتتول تارتا وتنظيمها وتاكم وتعاقب من ينعها وياهد ضدها ،وقد تب أهل بعض
البلد على اشتراء الخدرات الت تصدرها ،كما فعل بعض الكومات الوربية ف آسيا مع
أهل الصي ،فطبيعي كذلك أن تصاب هذه الشعوب الحكومة ف أخلقها وترزأ ف روحها
وقلبها ،بل إن أهل البلد ينحط مستوى أخلقهم لجرد الخالطة بذه الشعوب الاكمة
177
وماورتا ،ويلحقهم عدوى المراض اللقية الفاشية ف القطار الوربية الت ولدتا الضارة
الادية هنالك ،وذلك ما أقروا به .أنفسهم وشكوا منه .
فالكومات الوربية تمل معها مفاسد الضارة الغربية وشرورها ،وكيف يرجى من
هذه الكومات أن تزدهر الفضيلة والخلق ويرقى مستوى أخلق الشعب ف ظلها
ودولتها ،ول يكن ذلك ف بلدها وأوطانا ،وليس ذلك من رسالتها ومهمتها ،ول ما
تدين به وتعتقده (( وكل إناء بالذي فيه ينضح )) ول تزل طريق اللوك والفاتي غي طريق
النبياء والداة والصلحي ،وإن القيقة الت ذكرها القرآن على لسان ملكة سبأ حقيقة راهنة
ل تتلف ف الزمنة والمكنة :
سدُوهَا وَ َجعَلُوا َأعِزّةَ أَ ْه ِلهَا َأذِّلةً } .
{ إِنّ اْلمُلُوكَ ِإذَا دَخَلُوا َقرْيَةً أَ ْف َ
*****************************
178
الفصل الثالث
أوربا إل النتحار
عصر الكتشاف والختراع :
إذا عرفت عصور التاريخ با ييزها عن غيها ،وأضيفت إليه ،أمكننا أن نسمي هذا
العصر عصر الكتشاف والختراع ،وعصر اللسلكي والكهرباء ؛ وفضل الوربيي
وتقدمهم ف هذا الباب وعبقرية رجال الكتشاف والختراع وإبداعهم من القضايا الت ل
تقبل الكابرة .
ولكن مهما بالغ البالغون ف إطراء الصناعات والخترعات الديثة ف أوربا ،وبرغم
إعجابنا با والثناء على مكتشفيها ومترعيها ،ينبغي أل ننسى أن هذه الصناعات والخترعات
ليست غايات ف نفسها مقصودة بالذات ،بل هي وسائط ووسائل لغاية أخرى نكم عليها
بالي والشر ،والنفع والضر ،بقياس هذه الغاية وكونا خيا أو شرا ،ونكم عليها
بالنجاح واليبة بالقياس إل مطابقتها للغاية الت وضعت لا ،والنظر ف النتائج الت حصلت
منها ،والدور الذي لعبته ف حياة الناس ومتمعهم وأخلقهم وسياستهم .
181
لّ ْلمُجْرِمِيَ }(القصص) :وقال سليمان َ { :هذَا مِن َفضْ ِل رَبّي لِيَبُْلوَنِي أََأشْكُرُ أَمْ َأكْفُرُ وَمَن
شَكَ َر فَإِّنمَا َيشْكُرُ لِنَ ْفسِهِ وَمَن كَفَ َر فَإِ ّن رَبّي غَنِيّ كَرِيٌ } .
((231
.Guide to Modern Wickedness . p . 241
182
إن الوربيي قد فقدوا تعادل القوة والخلق والتوازن بي العلم – بظاهر من الياة الدنيا
– والدين منذ قرون ،فلم تزل القوة والعلم ف أوربا بعد النهضة الديدة ينموان على حساب
الدين والخلق ،ول يزل الولن ف ارتفاع وارتقاء ،والخران ف انفاض وانطاط ،حت
بعدت النسبة بينهما ،ونشأ جيل كأنه ميزان لصقت إحدى كفتيه بالرض وهي كفة القوة
والعلم ،وخفت الثانية – وهي كفة الخلق والدين – حت ارتفعت جدا ،وبينما يتراءى
هذا اليل للناظر ف خوارقه الصناعية وعجائبه الكونية وتسخيه للمادة والقوى الطبيعية
لصاله وأغراضه كأنه فوق البشر إذا هو ل يتميز ف أخلقه وأعماله ،ف شرهة وطمعه ،ف
طيشه ونزقه ،وف قسوته وظلمه عن البهائم والسباع ،وبينما هو قد ملك جيع وسائل الياة
،إذا هو ل يدري كيف يعيش ! وبينما هو قد بلغ الغايات ووراء الغايات ف الكماليات
وفضول الياة ،إذا هو ل يدري كيف يعيش! وبينما هو قد بلغ الغايات ووراء الغايات ف
الكماليات وفضول الياة ،إذا هو ل يعرف البادئ الولية والبديهيات للحياة النسانية
والدنية والخلق ،فتراه يصعد إل السماء ويريد أن يناطح الوزاء ،وهو ل يتقن شئون
الرض ول يصلح ما تت قدميه ،وقد خولته العلوم الطبيعية قوة قاهرة وهو ل يسن
استعمالا ،كفل صغي أو سفيه أو منون يلك أزمّة المور ويؤتى مفاتيح الزائن ،فهو ل
يزيد على أن يعبث بالواهر الغالية والنفائس الخزونة ويعيث ف دماء الناس ونفوسهم .
((232
.Guide to Modern Wickedness . p . 261
183
العظمى – تضرب ف لندن ،ونركب فوق الرض والبحر وتتهما ،والطفال يتحدثون على
السلك البقية ،واللت الكاتبة صامتة ،وتل السنان من غي إياع ،والزروع تنمى
بالكهرباء ،والشوارع تفرش بالطاط ،وأشعة روتنجن ( )x-raysنوافذ نطل منها على
داخل أبداننا ،والصور التحركة تتكلم وتغن ،ويكشف عن الجرمي والغتالي باللسلكية ،
والغواصات تذهب إل القطب الشمال والطيارات تطي إل القطب النوب ومع ذلك كله ل
نقدر ف وسط مدننا الكبى أن نصص رحبة يلعب فيها أطفال الفقراء ف راحة وسلم ،
ونتيجة ذلك أنا نقتل منهم ألفي ( )2000ونرح منهم تسعي ألفا ( )90000سنويا ،قال
ل فيلسوف هندي ف انتقاده اللذع لطرائي لعجائب حضارتنا :وكان بعض سواق
السيارات قد نح ف قطع ثلثمائة أو أربعمائة ميل ف ساعة على رمال (، )pendine
وطارت طائرة من موسكو إل نيويورك ف فترة قليلة من الزمن قال الفيلسوف :نعم ! إنكم
تقدرون أن تطيوا ف الواء كالطيور وتسبحوا ف الاء كالسمك ،ولكنكم إل الن ل
تعرفون كيف تشون على الرض . )))(233
((233
.Guide to Modern Wickedness . p .293
184
موارد الواء ليذاء الشعب الجاور ومعاكسته ،إذ يتهد أن يقنعه بفضل نظامه السياسي على
نظامه. )) )(234
(( انظر إل الطيارة الت تلق ف السماء ييل إليك أن صانعيها كانوا ف علمهم ولباقتهم
وصناعتهم فوق البشر ،والذي طاروا عليها أولً لشك أنم كانوا ف علو هتهم وعزمهم
وجرأتم أبطالً مغاوير ،ولكن انظر الن إل القاصد الت استعملت لا الطيارة وتستعمل لا
ف الستقبل ،إنا هي قذف القنابل وتزيق جثث النسان وخنق الحياء وإحراق الجساد
وإلقاء الغارات السامة ،وتقطيع الستضعفي الذي ل عاصم لم من هذا الشر إرْبا إربا ،
وهذه إما مقاصد المقى أو الشياطي . )))(235
(( وما عسى أن يقول الؤرخ غدا كيف كنا نستعمل معدن الذهب ؟ سيذكر أنا توصلنا
إل أن نب عن الذهب باللسلكي ،وسيستعرض الصور الت تثل اللياقة والهارة الت كان
أصحاب الصارف يزنون با الذهب ويعدونه ،وكيف تدينا قانون الاذبية ف نقله من
عاصمة إل عاصمة ،وسيسجل أن أشباه الوحوش الذين كانوا ماهرين وجرآء ف فتوحهم
الصناعية كانوا عاجزين عن التعاون الدول الذي كان يقتضيه ضبط الذهب والتقسيم
الصحيح ،وكانوا ل يعنون إل بأن يدفنوا العادن بالسرعة المكنة ،وكانوا يستخرجون
الذهب والعادن من بطون الرض ف جنوب إفريقية ،ويدفنونا ف مصارف لندن ونيويورك
وباريس. )) )(236
ويتناول هذه البحث – التفاوت بي العلم والصناعة وبي الخلق النسانية ،وإخفاق
الضارة الديثة ف أداء رسالتها – مفكر آخر يمع بي العلم بالفلسفة والعلوم الطبيعية ف
تليل أدق وأسلوب أعمق وهو الدكتور ( )Alexis Carrelف كتابه – النسان ،ذلك
الجهول – (: ). Man the Unknown
((234
. Guide to Modern Wickedness . p . 247
((235
. Guide to Modern Wickedness . p .262
((236
. Guide to Modern Wickedness . p .262
185
(( يظهر أن الضارة العصرية ل تستطيع أن تنتج رجالً يلكون البتكار والذكاء والرأة
.وف كل قطر تقريبا يرى النسان ف الطبقة الت تباشر إدارة المور وتلك زمام البلد
انطاطا ف الستعداد الفكري واللقي .
إننا نلحظ أن الضارة العصرية ل تقق المال الكبية الت عقدتا با النسانية وإنا
أخفقت ف تنشئة الرجال الذين يلكون الذكاء والقدام الذي يسي بالضارة على الشارع
الطر الذي تتعثر عليه ،إن الفراد والنسانية ل تتقدم بتلك السرعة الت تقدمت با
الؤسسات الت نبعث من عقولا ،إنا هي نقائص القادة السياسيي الفكرية واللقية وجهلهم
الذي يعرض أمم العصر للخطر. )) )(237
(( إن الوسط الذي أنشأه العلوم الطبيعية وعلم الصناعات للنسان ل يناسب النسان
لنه مرتل ل يقم على تصميم وتفكي سابق ،ول يراع فيه النسجام مع شخصية النسان ،
إن هذا الوسط الذي هو وليد ذكائنا واختراعاتنا ل يطابق قاماتنا ول أشكالنا ،نن غي
مسرورين ،نن ف انطاط الخلق وف العقول ،أن المم الت ازدهرت فيها الضارة
الصناعية وبلغت أوجها هي أضعف ما كانت ،وهي تسي سيا حثيثا إل المجية ولكنها ل
تدرك ذلك ،إنه ل حارس لا من الحيط الثائر الذي أقامته العلوم الطبيعية حول هذه المم .
الق يقال إن حضارتنا – كالضارات الت تقدمتها – قد فرضت شروطا للبقاء ستجعل –
لسباب ل تزال مهولة – الياة مالً ،إن علمنا بالياة وكيف يب أن يعيش النسان
متأخر جدا عن علمنا بالاديات ،وهذا التأخر هو الذي جن علينا . )))(238
(( ل ين نفع من الزيادة ف عدد الخترعات اللية ،ل فائدة ف أن نعلق أهية كبى
على اكتشافات علوم الطبيعية والفلكيات وعلم الكيمياء ،أي خي ف الزيادة ف الراحة
والشرف ،والمال والنظر وكماليات حضارتنا إذا منع ضعفنا من النتفاع بذلك وتوجيهه
إل صالنا .إنه ل خي ف أحكام طريق للحياة يقصى فيه العنصر اللقي وتبعد منه أشرف
((237
( ( Man the Unknown
((238
المصدر السابق .
186
عناصر المم العظيمة ،إن الليق بنا أن نعن بأنفسنا أكثر من أن نعن بصناعة بواخر أسرع
وسيارات أربح ،وراديوات أرخص ،وتلسكوبات لفحص هيكل سدي على بعد سحيق)))(239
(( ما هو مدى التقدم القيقي الذي نققه حينما تنقلنا إحدى الطائرات إل أوربا أو إل
الصي ف ساعات قلئل ؟ هل من الضروري أن نزيد النتاج بل توقف حت يستطيع النسان
أن يستهلك كميات أكثر فأكثر من أشياء ل جدوى منها ؟ أليس هناك أي ظل من الشك ف
أن علوم اليكانيكا والطبيعة والكيمياء عاجزة عن إعطائنا الذكاء والنظام الخلقي والصحة
والتوازن العصب والمن والسلم. )) )(240
((239
المصدر السابق .
((240
المصدر السابق .
187
لعل الستر إيدن لا أفضى بذا الديث ل يدر بلده أن العال التمدن وعلى رأسه أميكا
رسول السلم وزعيم الضارة والعال الديد سيتوصل أثناء الرب إل استعمال آلة تبز جيع
اللت والخترعات ف التدمي والتقتيل ،وتفوق ذكاء النسان وخياله ف الول والفظاعة ،
قد كانت هذه اللة هي القنبلة الذرية الت جربتها أمريكا مرة ف صحراء نيوميكسيكو ،وثانية
على رؤوس البشر ف مدينة هيوشيما ،وبعدها ف نازاكي الدينتي اليابانيتي .وقد أذاع
رئيس بلدة (هيوشيما) ف 20أغسطس آب 1949م أن الذين هلكوا ف اليوم السادس من
أغسطس آب 1945م من اليابانيي يتراوح عددهم بي مائت ألف وعشرة آلف ومائت
ألف وأربعي ألفا ( ب -ت ) .
يقول الستر استورت ( )Stuart Gilderف مقالة نشرتا صحيفة الند النليزية
السيارة ( )Statesmanف عددها الصادر ف 16سبتمب . 1945
يقول البوفسور (: )Plesh
(( ل يؤمن على الناس الذين كانوا يبعدون عن النطقة الت انفجرت فيها القنبلة الذرية
بائة ميل أن يكونوا قد تأثروا با ،فينبغي أن يفحص عنهم فحصا طبيا ،ول يستغرب أن
يصبح الناس يوم ويقرأوا ف الرائد أن علمات الصابة بطاعون القنبلة الذرية قد ظهرت ف
الذين يسكنون على آلف أميال من اليابان .
ويقول البوفسور ( م .ي .أول فنيت ) معلم جامعة برمنجهام وعضو اليئة الصناعية
ف إعداد القنبلة الذرية :
(( من المور الرافية أن يعتقد إنسان أن بريطانيا أو دولة أخرى تستطيع أن تافظ على
سر القنبلة الذرية .إن البادئ الت قامت عليها صناعة القنبلة الذرية مكشوفة لكل دولة ،إن
بريطانيا وأميكا استفادتا بتجاريب السابقي وبلغتا إل ناية صناعة القنبلة الذرية ،ولكنها ل
تدوم سرا حربيا إل لجل معدود ،لن كل بلد صناعية تستطيع أن تعد القنبلة الذرية ف
مدة خس سنوات وإذا أفرغت جهودها ووجهت قواها إل صناعتها فيمكن أن تبلغ إل
نايتها ف سنتي )) .
ويقول البوفسور الذكور :
188
(( وأنا على يقي أنه سيظهر ف مدة قصية على مسرح العال قنابل تفوق القنابل الول
بعشرة آلف طن ف قوة النفجار ،وستليها قنابل قوتا مليون طن ،ول ينفع ف التوقي منها
دفاع أو احتياط ،وإن ست قنابل فقط من هذا القبيل تكفي ف تدمي إنلترا على بكرة
أبيها ،وإن العلماء الروسيي ينجحون ف إعداد القنابل ف مدة قصية جدا )) .
وقد اخترعت أمريكا قنبلة أخرى تفوق القنبلة الذرية ف القوة والفظاعة ،وهي (
)Hydrogen Bombوقد جرى اختبارها للمرة الثانية ف الحيط الادئ يوم 26من
مارس سنة . 1954
وقد ذكر الستر شارلس – ي – ولسن ( )Charles E. Wilsonسكرتي وزارة
الدفاع أن النتائج كانت هائلة ل تكاد تصدق .
وقد ذكر الستر لويس استراس ( )Lewis Straussرئيس لنة القوة الذرية ف
أمريكا أن قنبلة هيدروجينية واحدة تستطيع أن تبيد مساحة مدينة نيويورك الواسعة .
وقال العال الطبعي الشهي ونائب رئيس ملس المن اللواء صاحب سنج ف دهلي
الديدة :
إن أربع قنابل هيدروجينية وزن كل واحدة منها مائة طن تستطيع أن تقتل كل نسمة
على وجه الرض ،وقد شاع أخيا أن روسيا اكتشفت القنبلة النيتروجينية (Nitrogen
)bombالت هي أدهى وأمر من القنبلة اليدروجينية .
189
(( ظهرت الضارة الغربية ف أمة ل يكن عندها معي صاف ول نبع عذب للحكمة
اللية ،لقد كان فيها قادة الدين ولكن ل يكونوا أصحاب حكمة ول علم ول شريعة إلية ،
ول يكن عندهم إل شبح دين لو حاول أن يسي بالنوع النسان على صراط مستقيم ف طرق
الفكر والعمل لا استطاع ،ول يكن له إل أن يكون حجر عثرة وسدا ف سبيل ارتقاء العلم ،
والكمة ،وهكذا كان ،وكان عاقبة ذلك أن الذين كانوا يريدون الرقي نبذوا الدين
بالعراء ،واختاروا طريقا ل يكن دليلهم فيها إل الشاهدة والختبار والقياس والستقراء ،
ووثقوا بذه الدلئل الت هي ف حاجة بنفسها إل الداية والنور ،وجاهدوا واجتهدوا
باحتذائها ف طرق الفكر والنظر والتحقيق والكتشاف والبناء والتنظيم ،ولكن ضلت
خطوتم الول ف كل جهة وف كل مال ،وانصرفت فتوحهم ف ميادين العلم والتحقيق ،
وماولتم ف سبيل الفكر والنظر إل غاية ل تكن صحيحة ،إنم بدأوا وساروا من نقطة
اللاد والادية ،نظروا ف الكون على أنه ليس له إله ،نظروا ف الفاق والنفس على أنه ل
حقيقة فيها إل الشاهد والحسوس ،وليس وراء هذا الستار الظاهر شيء ،إنم أدركوا
نواميس الفطرة بالختبار والقياس ولكنهم ل يتوصلوا إل فاطرها ،إنم وجدوا الوجودات
مسخرة واستخدموها لغراضهم ،ولكنهم جهلوا أنم ليسوا سادتا ومدبريها ،بل هم خلفاء
سيدها الق ،فلم يروا أنفسهم مسئولي عنها ،ول يروا على أنفسهم عهدة وتبعة ،فاختل
أساس مدنيتهم وتذيبهم ،وانصرفوا عن عبادة ال إل عبادة النفس ،واتذوا إلهم هواهم ،
وفتنتهم عبادة هذا الله ،وسارت بم هذه العبادة ف كل ميدان من ميادين الفكر والعمل
على طريق زائغة خلبة رائعة ،ولكن مصيها إل اللك .
هذا هو الذي مسخ العلوم الطبيعية فصارت آلة اللك النسان ،وصاغ الخلق ف
قالب الشهوات والرياء واللعة والباحة ،وسلط على العيشة شيطان الثرة والشح والفتك
ببن النوع ،ودس ف عروق الجتماع وشرايينه سوم عبادة النفس والنانية والخلد إل
الراحة والتنعيم ،ولطخ السياسة بالنسية والوطنية وفروق اللون والنسل وعبادة إله القوة ،
فجعلها لعنة كبى للنسانية .
190
والاصل أن البذرة البيثة الت ألقيت ف تربة أوربا ف نضتها الثانية ل تأت عليها قرون
حت نبتت منها دوحة خبيثة ،ثارها حلوة ولكنها سامة ،أزهارها جيلة ولكنها شائكة ،
فروعها مضرة ولكنها تنفث غازا ساما ل يرى ،ولكنه يسمم دم النوع البشري .
إن أهل الغرب الذين غرسوا هذه الشجرة البيثة قد مقتوها ،وأصبحوا يتذمرون منها ،
لنا خلقت ف كل ناحية من نواحي حياتم مشاكل وعقدا ل يسعون للها إل وظهرت
مشاكل جديدة ،ول يفصلون فرعا من فروعها إل وتطلع فروع كثية ذات شوك ؛ فهم ف
معالة أدوائهم وإصلح شئونم كمعال الداء بالداء وناقش الشوكة بالشوكة ،إنم حاربوا
الرأسالية فنجمت الشيوعية ،إنم حاولوا أن يستأصلوا الديقراطية فنبت الدكتاتورية ،أرادوا
أن يلوا مشاكل الجتماع فنبتت حركة تذكي النساء ( )Feminismوحركة منع
الولدة ،أرادوا أن يشترعوا قواني لستئصال الفاسد اللقية فاشرأبت حركة العصيان
والناية ،فل ينتهي شر إل إل شر ،ول فساد إل إل فساد أكب منه ،ول تزال هذه الشجرة
تـثمر لم شرورا ومصائب ،حت صارت الياة الغربية جسدا مقروحا ،يشكو من كل
جزء أوجاعا وآلما ،وأعيا الداء الطباء ،واتسع الرق على الراقع ؛ المم الغربية تتململ
ألا ،قلوبم مضطربة وأرواحها متعطشة إل ماء الياة ولكنها ل تعلم أين معي الياة ،إن
الكثرية من رجالا ل تزال تتوهم أن منبع الصائب ف فروع هذه الشجرة ،فهم يفصلونا
ويستأصلونا من الشجرة ويضيعون أوقاتم وجودهم ف قطعها ،إنم ل يعلمون أن منبع
الفساد ف أصل الشجرة ،ومن السفاهة أن يترقب النسان أن ينبت فرع صال من أصل
فاسد ،وفيهم جاعة قليلة من العقلء أدركوا أن أصل حضارتم فاسد ولكنهم لا نشأوا
قرونا ف ظل هذه الشجرة – وبأثارها نبت لمهم ونشز عظمهم – كلت أذهانم عن أن
يعتقدوا أصلً آخر غي هذا الصل يستطيع أن يرج فروعا وأوراقا صالة سليمة ،وكل
الفريقي ف النتيجة سواء ؛ إنم يتطلبون شيئا يعال سقمهم ويريهم من كربم ولكنهم ل
يعلمونه ول مكانه . )))(241
((241
تنقيحات ،مقالة أمم العصر المريضة ص . 26 – 25 – 24
191
الفصل الرابع
رزايا النسانية العنوية
ف عهد الستعمار الورب
ليس من قصدنا الن أن نبحث عن رزايا المم الشرقية السيوية ف السياسة والقتصاد
والتجارة والصناعة ،وخسارتا ف متلكاتا وانكسارها أمة بعد أمة وقطرا بعد قطر أمام قوة
الغرب الادية ودهائه السياسي ،فلذلك حديث يطول ول يسعه هذا الؤلف الصغي ،وقد
طرق هذا الوضوع كثي من الؤلفي والؤرخي ف الشرق والغرب ،وألفوا فيه مؤلفات بي
صغي وكبي ومتوسط وأشبعوا فيه الكلم .
ولكن الذي يهمنا – ونن نتكلم ف هذا الكتاب عن خسارة العال بانطاط السلمي
واستيلء الوربيي بالتبع – رزيئة العال النسان وخطب الجتمع البشري ف الروح
والخلق والنفس ،ومعان أسى من الادة وما يتصل بالسم والرض ف عهد النفوذ الورب
العام ،وسيل حضارته الارف ،فتلك رزية ل تقبل العزاء ،وكسر ل ينجب ،والذين
أدركوه قليل ،والذين تدثوا به أقل من أولئك القليل .
ولا كان نظام الياة السلمي هو النافس للنظام الاهلي ،كان طبعا رزء السلمي ف
عهد انتصار الكم الاهلي أكب ،وقسطهم ف هذه الصيبة العالية أوفر ،لن السلم
والاهلية ككفت ميزان ،كلما رجحت كفة طاشت الخرى .
والن نتحدث عن هذه الرزايا العنوية رزيئة رزيئة .
195
س َمعُ ِإلّ دُعَاء وَِندَاء صُمّ بُ ْكمٌ ُعمْ ٌي َفهُمْ لَ يَعْقِلُونَ } ول يلق ف شرحها
اّلذِي يَنْ ِعقُ ِبمَا لَ َي ْ
وتعليلها ما لقيه الفسرون الذين ل يشاهدوا هذا النوع من صعوبة .
داء هذا العصر الذي ل ينجح فيه الدواء ول يؤثر فيه العلج هو الستغناء التام عن
الدين ،ول يلق رجال الدعوة الدينية من العنت والشدة ف أحط أدوار الفسق والفجور وف
أحلك عهود العصية والغفلة ،ما يلقونه ف دعوة هؤلء الذين لزموا العراض التام ف هذه
س ِمعُ الصّمّ الدّعَاء
س ِمعُ اْلمَوْتَى َولَا ُت ْ
السائل ( الكلمية ) فل تعنيهم سلبا ول إيابا {إِنّكَ لَا ُت ْ
إِذَا َوّلوْا ُمدْبِرِينَ } .
وقد فطن لذا الفرق الوهري بي النفسية القدية والديدة أحد كبار معلمي الفلسفة
وعلم النفس ف إحدى جامعات أوربا الكبى وشرحه ف عبارة وجيزة .قال س م جود :
(( ثارت ف قدي الزمن شكوك واعتراضات وأسئلة واستفسارات حول الدين ،ل يطمئن
بعض أصحابا ول يرتاحوا إل جواب مقنع ،ولكن ما يتاز به هذا اليل أنه ل تزعجه
السئلة رأسا ،ول تيك ف صدره ول تنشأ ف هذا العصر أصلً )) .
196
والعشي يريدون وجهه ويتلقون التربية الدينية ث ينبثون ف أناء العال دعاة مصلحي ومعلمي
مرشدين ،يلتقطون نصيب ال من بي نصيب الشيطان وييون أرضا مواتا من القلوب ،
ويبذرون فيها بذور الدين .
وكذلك ل تزل ف جنب أقوى الدول وأوسعها دول روحية يفوق سلطانا الروحي
سلطان الادي ،فيها رجال تأتيهم الدنيا راغمة ويأتيهم اللوك والمراء صاغرين ،ولم نظام
كنظام الدول ينصبون ويقرون وينقلون ويستخلفون ،ولم (( قناصل وسفراء )) ف كل دولة
مادية وكأن خارطة العال السلمي بي أيديهم ،فإذا خل ثغر من ثغور السلم نصبوا فيه
مرابطا دينيا يفظه من عادية الغفلة والعصية ،ويرسه من غاشية الهل والطغيان. )(242
وكانت هذه الدول الروحية مستقلة ف إدارتا ونظامها الداخلي ،ل يتداخل فيها اللوك
والمراء ول تؤثر فيها التقلبات السياسية والوادث الحلية ؛ ولضرب لذلك مثلً بالستعمرة
الروحية العروفة بغياث فور ،الت أنشأها الشيخ نظام الدين البداون الندي (( م 725
هـ)) ف نفس عاصمة الند وقد عاصر الشيخ ثانية من اللوك البابرة (( من غياث الدين
بلب 686 – 664إل غياث الدين تغلق )) 725 – 720وحافظت على استقللا التام
من غي أن تسها يد اللوك ،وكنت ترى فيها رجالً من سنجر ف إيران إل رجال من أوده
ف شرق الند .
وقد كان لذه الراكز ولصحابا الفقراء من الهابة والشمة والحترام الفائق ما قد
يسدهم عليه أكب ملوك العال ،وقد يكون هذا سبب الوحشة بينهم ،وما ذاك إل لقبال
الناس على رجال الدين واحتفائهم والضوع للسلطان الروحي ،فكان السيد آدم البنوري
الندي ( م 1053هـ ) دفي البقيع يأكل على مائدته كل يوم ألف رجل ،ويشي ف
ركابه ألوف الرجال ومئات من العلماء ،ولا دخل السيد ف لهور عام 1053كان ف
معيته عشرة آلف من الشراف والشايخ وغيهم ،حت توجس شاهجان ملك الند منه
( (242حديث الشيخ الصالح السيد علي الهجويري دفين لهور أن شيخه أمره بالرحلة إلى لهور والقامة فيها ،فاعتذر بأن هناك
زميله الشيخ حسين الزنجاني فل لزوم لذهابه ،فقال :ل بد أن تذهب وتقيم بها :قال :فشددت رحلي وامتثلت أمر الشيخ ووصلت
إلى لهور في الليل وقد غلقت أبوابها فبت ليلتي خارج السور .ولما أصبحت وفتح باب السور إذا بالناس يحملون جنازة الشيخ
حسين ،فعرفت سر أمر الشيخ ودخلت البلد .وخلفته في عمله دعاء الخلق إلى ال ( كشف المحجوب للهجويري (
197
خيفة ،فأرسل إليه ببلغ من الال ،ث قال له :قد فرض ال عليك الج فعليك بالجاز ،
فعرف إيعاز اللك ،وسافر إل الرمي حيث مات. )(243
وهذا الشيخ ممد معصوم ( م ) 1079ابن الشيخ الكبي أحد السرهندي قد بايعه
وتاب على يده تسعمائة ألف من الرجال ،واستخلف ف دعاء اللق إل ال وإرشاد الناس
وتربيتهم الدينية سبعة آلف من الرجال. )(244
وهذه ابنه الشيخ سيف الدين السرهندي (م )1096كان يأكل على مائدته ألف
وأربعمائة ،ويقترحون الطعمة ويتخيونا. )(245
وهذا الشيخ ممد زبي السرهندي ( م ) 1151كان إذا خرج من بيته ألقى له الغنياء
الشيلن والناديل حت ل يطأ الرض ،وإذا خرج لعيادة مريض أو لبعض شأنه خرج ف
ركابه الغنياء والمراء فكان موكبا مثل مواكب اللوك. )(246
وهذه أمثلة قليلة ل نقصد منها إل الستدلل على ما كان للدين من مكانة وشرف ف
عيون الناس ،وعلى ما كان من احتفاء برجاله ومن يثلونه ،وخضوعهم لسلطان الدين فوق
سلطان القوة ،وتافتهم على موارد الدين ومشارعه ،وهذه أمثلة التقطناها على عجل من
تاريخ الند السلمي ولحات عابرة فيه ؛ ولو ذهبنا نستقصي أمثلته وشواهده من تاريخ
السلم العام ومن تراجم الرجال الدينيي وسيهم ف بلد الشام ومصر والغرب القصى
والعراق لكان ملدا كبيا – ونكتفي هنا بذكر الشيخ خالد الكردي ( م 1242هـ )
الذي ازدحم الناس عليه ف بغداد يتوبون على يديه ويستفيدون منه ،وقد أخب شيخه ف
رسالة كتبها إليه أن مائة من العلماء الفحول قد ترجوا عليه ،وأن خسمائة من كبار العلماء
قد دخلوا ف بيعته ،وأما العوام والواص فل يأت عليهم حصر. )(247
واستمر هذا القبال على الدين والجرة ف طلب العلم النافع والعمل الصال ،وتشم
السفار والخطار لزكية النفس وتذيب اللق والتوصل إل معال الرشد والستعداد للخرة
((243
التذكرة الدمية ( الفارسية ( .
((244
نزهة الخواطر ،المجلد الخامس ،للشيخ عبدالحي الحسني .
((245
ذيل الرشحات ( الفارسية (
((246
در المعارف ( الفارسية ( ،نزهة الخواطر ( العربية ( .
((247
در المعارف
198
إل أول عهد الستعمار الورب ؛ فترى ف كل قطر إسلمي مراكز دينية وملجئ روحية
يأوي إليها أهل الطلب من سائر الفاق ،وتطبهم الدنيا والناصب العالية ف الكومات
فيأبون إل فرارا ،ويلجأون إل هذا الحيط الادئ الروحي ،ويكبون على إصلح باطنهم
وسل حظ الشيطان منه .
وتتعدى ف الضارة إل أواسط القرن الثالث عشر الجري وقد احتل النليز الند ،ولا
تؤثر حضارتم وفلسفة حياتم ف متمع البلد ،فترى بقايا من الياة الدينية الول ،ويدثنا
مؤرخ )(248عن زاوية الشيخ غلم علي الدهلوي ( ،م 1240هـ ) فيقول :
(( رأيت بعين ف هذه الزاوية رجالً من الروم والشام وبغداد ومصر والبشة قد بايعوا
الشيخ ،وعدوا الثول بي يديه حسنة الدهر وسعادة العمر .أما الوافدون من البلد القريبة
كالند وأفغانستان فكانوا كالراد ،ول يقل عدد القيمي ف هذه الزاوية عن خسمائة رجل
تقوم الزاوية بنفقاتم . )))(249
وييل الشيخ رؤوف أحد الجددي نظره ف رجال هذه الزاوية اليوم الثامن والعشرين من
جادى الول عام 1231هـ فيجد رجالً من سرقند وبارى وتاشقند وحصار وقندهار
وكابل وبشاور وكشمي واللتان ولهور وسرهند وأمروهه وسبنهل ورامبوا وبريلي ولكهنؤ
وجائس وبرائج وكوركهبور وعظيم آباد ودماكه ،وحيدر آباد ،وبونه وغيها. )(250
وليعرف أن هذا كله ف زمان ل تدث فيه طرق النقل الديثة فكان كله مشيا على
القدام وسفرا ف القوافل .
وتتجلى الناظر الخية لذا العهد الراحل ف تاريخ مصلح الند الكبي والجاهد الشهي
السيد المام أحد بن عرفان الشهيد ( 1246هـ ) فإذا قرأت تاريه وجولته ف الند
لجل بث دعوته إل التوحيد واتباع السنة والهاد رأيت ألوفا يتوبون من الذنوب والثام
والشرك والحدثات ،حت تقفر الانات وتغص الساجد ،ويتسابقون ف دعوته هو ورفقته
((248
هو السير السيد أحمد خان صاحب الدعوة إلى التعليم النجليزي في الهند ومؤسس الجامعة الشهيرة في عليكرة .
((249
آثار الصناديد ( الوردية (
((250
در المعارف ( الفارسية ( .
199
الذين يعدون بالئات إل بيوتم وصنع الولئم لم ،ويستهينون ف سبيل ذلك بالموال ،
ويسترخصون كل عزيز وغال حت يتقارعوا بينهم أيهم يبدأ وأيهم يتقدم .
وترى ف السلمي شهامة ف سبيل الدين وعلو هة وساحة نفس وأريية ل تعهدها بعد
ذلك ،فلما خرج السيد للحج عام 1236هـ ورفقته أكثر من سبعمائة رجل ضيف
السلمون هذا الركب ف كل مل ير به ،من راي بريلي مسقط رأسه إل كلكته حيث
ركبوا السفن ،ولا نزل بال آباد ضيّفه الشيخ غلم علي ،وأقام هذا الركب ضيفا عليه
خسة عشر يوما ،واجتمع الناس من القرى والضواحي وكلهم يأكلون على مائدة الشيخ
الطعام الفاخر ،هذا عدا الدايا الت أهداها إل أهل الركب والكسوة والزاد الذي قدمه ،وف
أثناء الرجوع لا حلت القافلة قريبا من مدينة مرشد آباد ف طريقها من كلكته إل راي بريلي
قام ديوان غلم مرتضى بضيافتهم وأعلن ف السوق أن كل من يشتري من أهل القافلة أو
يستأجر منهم أهل الصناعة فهو يؤدي الثمن من عنده ،وكلمه السيد ف هذا فقال :حسب
من الفخر والشكر أن أقوم بدمة الجاج .
وترى ف الناس رقة ف القلوب وانقيادا للحق وخضوعا للشرع ،فقد تشرف بالبيعة
والتوبة مئات ألوف من السلمي ف هذا السفر ،وكان الناس ينهالون من كل صقع
ويدخلون ف الي أفواجا ،حت إن الرضى ف مستشفى مدينة بنارس أرسلوا إل السيد
يقولون :إنا رهائن الفراش وأحلس الدار فل نستطيع أن نضر فلو رأى السيد أن يتفضل
مرة حت نتوب على يديه لفعل ،وذهب السيد وبايعهم .
وأقام ف كلكته شهرين ،ويقدر أن الذين كانوا يدخلون ف البيعة ل يقل عددهم عن
ألف نسمة يوميا ،وتستمر البيعة إل نصف الليل ،وكان من شدة الزحام ل يتمكن من
مبايعتهم واحدا واحدا فكان يد سبعة أو ثانية من العمائم والناس يسكونا ويتوبون
ويعاهدون ال ،وكان هذا دأبه كل يوم سبع عشرة أو ثان عشرة مرة .
وخطب السيد ف الناس ف كلكته خسة عشر أو عشرين يوما ،وكان يضر هذه
الواعظ نو ألفي من وجهاء البلد والعلماء والشيوخ فضلً عن عامة الناس والدهاء ،
وكذلك رفيقه الشيخ عبد الي البهانوي كان يذكر كل يوم جعة ويوم الثلثاء بعد صلة
200
الظهر إل العصر ،والناس يتساقطون عليه كالفراش ؛ ويسلم كل يوم عشرة أو خسة عشر
رجلً من الكفار .
وكان من تأثي هذه الواعظ ودخول الناس ف الدين وانقيادهم للشرع أن تعطلت تارة
المر ف كلكته وهي كبى مدن الند ومركز النليز ,وكسدت سوقها و أقفزت الانات
واعتذار المارون عن دفع ضرائب الكومة متعللي بكساد السوق وتعطيل تارة المر .
ولا دعا السيد المام إل الهاد لب الناس من كل طبقة دعوته ف نشاط وحاسة ولقوا
به ,وترك الفلحون سكتهم وأقفل التجارة دكاكينهم وغادر الناس أوطانم وتغربوا ف دين
ال ول يتلفتوا إل ما وراءهم ول يلووا على شيء حت قتلوا ف سبيل ال ف وادي بال كوت
عام 1246هـ ف الثغور ,ورجع فلهم إل قلل البال فاعتصموا با وقضوا نبهم ف الهاد.
هذا كله والضارة السلمية ف الند ف الحتضار والكومة السلمية ف انيار ,ولكن
ل يزل ف الناس بقية من النفة السلمية والمية الدينية والنابة إل ال والفرار إليه وسرعة
الجابة للداعي إل ال ,والستهانة بالياة الدنيا وبذل النفوس والنفائس ف سبيل ال .
ورسخت قدم النليز وأصبح نظامهم التعليمي – وهو من أكب جنودهم – يؤت أكله
حي ،وتسربت ف الناس أفكارهم وميولم ،فصارت تقلب نظام الياة ونظام الفكر ف الند
رأسا على عقب من حيث ل يشعر أهلها فتقاصرت المم ف الدين وخدت جذوة القلوب
وانطفأت شعلة الياة الدينية ،وانصرفت الرغبات والهواء والتنافس الطبيعي – الذي هو
الدافع الكب إل التقدم والبداع – من الدين والروحانية إل العاش والادة ،وقلت مرغبات
الهد ف الدين والعلم وما يتصل بالروح والقلب ،وتوافرت الزهدات والثبطات عنه ،
وكثرت الدواعي والافزات إل ضده ،واته تيار الذي والنبوغ والعبقرية – الذي كان
متجها من قبل إل الدين – من صنوف الدين وأقسام العلم الدين والروحي ،إل النتاج
والبداع ف أنواع علوم العاش ومرافق الياة .
وكان ل يزال بالعهد الراحل رمق وبقية من حياة تنازع الوت وتاول البقاء ،فكان ل
يزال ف الناس رجال يدعون إل الدين وإصلح النفوس وتزكيتها وتذيب الخلق وتصفيتها
وهم تذكار لسلفهم ف زهدهم ف الدنيا والقبال على الخرة والخلص واتباع السنة ،
201
وكانت ل تزال لم دعوة ف الناس ،والسلمون يعدون التصال بؤلء والتمسك بأهدابم
حقا من حقوق الدين وواجبا من واجبات الياة ،وكان بعض الغنياء والمراء وأرباب
الدنيا ،لم اهتمام زائد بسن الاتة وأمور الخرة وصلح القلب وعمارة الباطن ،ولكن
كان هذا كله أشبه بالتهاب السراج قبل النطفاء ،فقد ذوى أصل الشجرة الدينية ،
وانقطعت عنها مادة الياة ،وهبّ عليها إعصار فيه نار .
سرى الشك وسوء الظن ف الوساط الدينية والبيوت العريقة ف الدين والعلم بتأثي
الحيط وبتأثي التعاليم الفرنية وضعفت الثقة بال وبصفاته وبواعيده ،فأصبح الباء يضنون
بأولدهم على الدين ،ول ياطرون بأوقاتم وقواهم ف سبيل الدين وعلوم الدين ،وأصبحوا
يعلمونم العلوم العاشية واللغات الفرنية ،ل رغبة ف تصيل الفيد النافع ول دفاعا عن
السلم بل زهدا ف الدين وفرارا من خطر الستقبل وخوفا على أفلذ أكبادهم من الضياع
واستسلما للدهر التقلب ،وتسلط عليهم خوف الفقر حت أصبحوا من خوف الوت ف
الوت .
وهكذا انقرض هذا اليل وطوي هذا البساط ،ولفظ هذا العهد الروحي نفسهُ الخي ،
وتله عهد الادة ،وأصبحت الدنيا سوقا ليس فيها إل البيع والشراء .
202
وتستزيد ،ول تزال تنادي هل من مزيد ؟ هل من مزيد ؟ تسلط على الناس – أفرادا وأما –
شيطان الشع والرص فكأن بم مسا من النون ،وأصبح النسان نما يلتهم الدنيا التهاما ،
ويستنف موارده حللً وحراما ،ث ل يرى أنه قضى لبانته وشفى نفسه ،والعهدة ف ذلك
على وضع الياة الاضرة وطبيعتها وكونا مادية صرفة ل تؤمن بالخرة .وخليق بن ل يعتد
إل بياته الدنيا ول يرى وراءها عالا آخر وحياة ثانية أن تكون هذه الياة بضاعته ورأس ماله
وأكب هه وغاية رغبته ومبلغ علمه ،وأن ل يؤخر من حظوظها وطيباتا ولذائذها شيئا وأن
ل يضيع فرصة من فرصها ،ولي عال يدخر وهو ل يؤمن بعال وراء هذا العال ،ول بياة
بعد هذه الياة ؟
وقد عب عن هذه النفسية الاهلية الشاعر الاهلي الشاب طرفة بن العبد ف صراحة
وبساطة فقال :
فإن كنت ل تستطيع دفع منيت *** فدعن أبادرْها با ملكت يدي
كري يروّي نفسه ف حياته *** ستعلم إن متنا غدا أينا الصّدِي
وكل إنسان متمدن اليوم – إل من عصمه ال باليان – يرى هذا الرأي ويذهب هذا
الذهب ف الياة ،إل أنه قد يرؤ على أن يصرح به ،وقد ل يلك ذلك اللسان البليغ الذي
يعب عن ضميه ؛ والسبب الثان - :هو الدب العصري – بعناه الواسع – الذي ل يتحدث
إل عن الادة وأصحابا ،وينع لهل الثراء وأصحاب الحتكار وأصحاب النتاج ،النوع
الذي ل يليق بالدب الشريف العال ،فيكتب دقائق حياتم ف تفصيل ،وينشر ألقابم
وأساءهم بقلم عريض وكل نفس من أنفاس مدحه وتقريظه وكل فصل من فصول روايته
ينتهي إل نتيجة مادية أو إل بطل من أبطال الادة ،ويزين للقارئ الذهب البيقوري تارة
بالتلميح وتارة بالتصريح ،ويث الشباب على التهام الياة وانتهاب السرات نثرا وشعرا
وفلسفة ورواية وتليلً وتصويرا ،فل ينتهون منه إل بالروح الادية والتقديس لرجال الادة .
وكذلك الجتمع الذي ل يقدر إل الغن الظريف متناسيا كل ما فيه من رذيلة ولؤم أصل
وسوء خلق ،ويتجن على النسان الذي ل يترجح ف ميزانه مهما كثرت مواهبه وطاب
عنصره وسا جوهره ،ويلمّح وقد يصرح بأن الفقي ل يستحق الياة ،ويعامله معاملة
203
الدواب والمي والكلب ،فيغم النسان – إذا ل يكن ثائرا على الجتمع – على أن يضع
لشريعة متمعه ،وأن يتجمل ويتظرف لجتمعه ،فل يلبس إل لغيه ول يتأنق إل لغيه .
وهذا الجتمع ل تزال مقاييسه للشرف والظرافة تتغي ومعاييه للنسانية تتبدل وتتحول
ومطالبه تتنوع وتتكثر ،حت يضيق النسان با ذرعا ويلجأ إل طرق غي شريفة لتحصيل
الال وإل كدح وكد ف الياة ،وهناك هوم تتوال ول تنتهي ومتاعب تتسلسل ول تنقطع .
وزاد الطي بلة تنافس الصانع والنتجي والصناع ؛ ففي كل صباح يتدفق على الدينة
سيل جديد من أحدث النتجات وأحدث طراز من السيارات والسجائر والزياء والقبعات
والحذية والدهان والطلية وأسباب الزينة والزخارف والجهزة ول يلب منها شيء قياما
بالواجب وسدّا للعوز ،بل كله ف سبيل الستغلل الصناعي والحتكار التجاري ،ول تلبث
هذه النتجات الت هي من فضول الياة أن تدخل ف أصول العاش ولوازم الدينة ،والذي ل
يتحلى با ل يعد من الحياء .
ولذه السباب ولغيها ارتفعت قيمة الال ف عيون الناس ارتفاعا ل تبلغه ف الزمن
السابق ،وبلغ من الهية والكانة مبلغا ل يبلغه – على ما نعرفه – ف دور من أدوار التاريخ
الدون ،وأصبح الال هو الروح الساري ف جسم الجتمع البشري والافز الكب للناس على
أعمالم ونشاطهم الدن ،وقد يدفع الخترع إل الختراع والصانع إل صناعته والسياسي إل
مقالته والرشح إل انتخابه والعال إل تأليفه ،حت القادة إل الرب ،فهو القطب الذي تدور
حوله رحى الياة العصرية كما يقول الستاذ (( جود )) معلم الفلسفة وعلم النفس ف جامعة
لندن(( :إن النظرية الهيمنة السائدة على هذا العصر هي النظرية القتصادية ،وأصبح البطن أو
اليب ميزانا لكل مسألة فبمقدار اتصالا باليب وتأثيها فيه يقبل الناس عليها ويعنون با)) .
إذا حكمت على عصرك وطبائعه وأذواقه وأنت بعزل عن الياة ،وبنيت حكمك على
مؤلفات ومقالت إنا تكتب ف زاوية من زوايا الكتب فإنك تغالط نفسك ،وقد تقرأ ف هذه
الكتب الفلسفية أو القالت العلمية التحليلية كأنك ف عصر متمدن راق تتحكم فيه معايي
الخلق وتسود فيه الثل العليا ويغشاه سحاب الفضيلة والنبل ،وتلق عليه روح الديانة
والعلم ،ولكن الواقع غي ذلك ،فإن هذه الكتب إنا ألفت ف عال اليال الذي يعيش فيه
204
مؤلفوها ،وإن أهواءهم وأذواقهم هي الت خلقت لم عال خياليا يصفونه ويصورونه ف
كتبهم ،حت ييل إل القارئ أنه هو العال الحيط به ..وللهواء عجائب وخوارق .
ولكنك إذا اتصلت بالياة عن كتبٍ ل عن كُتبٍ ،وخالطت الناس ودرست أحوالم
وأصغيت إل حديثهم ف البيت وف القطار والبستان وعلى الائدة وف السمر ،رأيت
( الذهب ) حديث النوادي وشغل اللسنة وهوى القلوب ،والبداية والنهاية ف كل
موضوع ،والقطب الذي تدور حوله رحى الياة .
إن شاعرا عربيا يلعن الصعلوك الذي ل يتعدى نظره ول يسمو فكره عن لباس وطعام
ويقول :
لا ال صعلوكا مناه وهه *** من العيش أن يلقى لبوسا ومطعما
فكيف إذا أشرف هذا الشاعر على هذه الدينة وهي تري بفلسفتها وسياسييها ونوابغها
وعلمائها وكتابا وأشرافها وأغنيائها وفقرائها وراء غاية ل تتعدى لبوسا ومطعما مهما
تنوعت أشكالا وتضخمت ألقابا ؟! فالياة كلها جهاد ف سبيل اللباس والطعام .
205
البناء بالباء ،وتوقي الصغي للكبي وحدب الكبي على الصغي ،وعن عفاف النساء ووفاء
اللئل وأمانة الدم ووفائهم واستقامة الشبان وثباتم على الخلق ومعاملة الشراف
بعضهم لبعض ،والحافظة على الرواتب والعادات والطراد ف مسألة اللباس والشعائر
والعشرة ،واليثار ف شأن الصدقاء والنصح لم ،يسمع منها غرائب ل يكاد يصدق با .
كان بر البناء للباء وطاعتهم إل حد التفان ف سبيلهم والضمحلل ف وجودهم
منتزعا من قول النب صلى ال عليه وسلم (( :أنت ومالك لبيك )) .
وكان حب البناء لبائهم وبرهم وحرصهم على أداء حقوقهم غي مقتصر على حياة
البوين ،بل كان يستمر إل ما بعد وفاتما أصدقائهما وأهل أنسهما والهداء إليهم
والتحبب إل أولدهم وعشيتم ،وكان ذلك عملً بقوله صلى ال عليه وسلم (( :إن من
أبر الب بر الرجل بأهل ود أبيه بعد أن يول )) .
وكان البوان مثلً للنصح والخلص ف حبهما للولد ،وكانا يضحيان بميع أهوائهما
وميولما وراحتهما وبلذة المومة والبوة ف سبيل تثقيفهم وتربيتهم وتعليمهم ،ويتحملن ف
ذلك – حت الرجل المي والرأة الاهلة – إجحاف العلمي وعسفهم وإضرارهم ف بعض
الحيان بسم الصغار ،ويرعان الرائر ويصبان على الغصص ف سبيل الولد ونبوغهم ،
وقد تواضع على ذلك أهل البيوتات والشرف حت أهل الطبقات الوضيعة ،ويعدون من
ل نذلً لئيما ،والذي روي عن هارون الرشيد ف تنبيهه لولديه المي والأمون خالف ذلك رج ً
ووصيته لما بدمة الكسائي معروف ف التاريخ ؛ ومن غرائب ما يروى ف هذا الباب ويثل
الطبيعة الشرقية أن (( تاج الدين ألدز )) أمي الفغان بعد السلطان شهاب الدين الغوري أسلم
ولده إل معلم وضرب العلم الولد حت مات ،فلما علم بذلك (( تاج الدين )) أشار على
العلم بأن يهرب وقال (( :ل آمن عليك من أم الولد فعسى أن ينالك منها مكروه )) .
وكانت الرابطة بي الصغي والكبي ف الجتمع السلمي مؤسسة على تعاليم الشرع ((
من ل يرحم صغينا ول يوقر كبينا فليس منا )) .
ومن خصائص الضارة الشرقية الطراد ف الياة والحافظة على لون واحد والتظاهر
بظهر واحد ،فكان الرجل إذا شرع ف أمر وتظاهر بظهر واصله إل غايته ،وإذا اتذ عادة
206
أو شارة ف اللباس أو عامل أحدا نوع معاملة واظب عليه إل آخر أنفاسه ،ل تؤثر ف ذلك
الوادث ول تغيه الفصول ول انراف الصحة ول الكسل ول الصال .
ول يكن العمدة ف حياة السرة والقبائل ول يكن اليزان ف التوقي والشرف هو كثرة
الال فيختلف الستوى الال ف أسرة اختلفا كبيا ،ويتفاوت الرجال ف قبيلة أو قوم تفاوتا
عظيما ف الال والاه ،فهذا سريٌ مثر وذلك فقي معدم ،ول يكن يستطيع أحد أن يفرق
بينهم ويرفع بعضهم فوق بعض لجل التفاوت القتصادي ف متمعات السر والبيوتات
والآت ( بعناها اللغوي ) فإذا شم أحد رائحة الفرق أو نظرة الزدراء ،ثار كالليث ،أو إذا
بدرت بادرة من الضيف تنم عن هذا الفصل انسحبت السرة كلها من الضيافة وقاطعوا أهل
الضيافة ،وكانوا يدا واحدة مع أخيهم الهضوم .
وكان الفقي الصعلوك ف قبيلة يواجه الغنياء واللوك من تلك القبيلة برأة وهو معتز
بنفسه معتد بشرفه ل يرى ف نفسه نقيصة لجل فقر ،وكان الغن أو اللك يكرمه ويله
الحل اللئق بشرفه ونسبه وفضيلته الذاتية ،بصرف النظر عن رثاثة هيئته وتبذله ،والزمة
القتصادية الطارئة على كرم عنصره وصفاء معدنه وطيب منبته ومتانة دينه ووفور علمه .
وكان الفقي ف ذلك يبالغ كثيا ف إخفاء عسرته وضنك معيشته ويتحمل ويتجلد ،
ويسوءه أن يفطن أحد إل فاقته ورقة حاله .
وكان ضمي الر عزيزا مترما كدينه وعرضه ،ل يساوم عليه ول يباع بأي ثن ،وكان
الواحد يفضل الوت الحر على كذبة أو خيانة يلص با نفسه من الوت .
وقد روى لنا التاريخ الندي طرائف ف هذا الباب لبد أن تكون أمثلتها متوافرة ف تاريخ
جيع البلد السلمية :منها أن الشيخ رضي ال البداون اتم بالشتراك ف الثورة على
النليز عام 1857وحوكم أمام حاكم إنليزي كان من تلميذه ،فأوعز إليه الاكم على
لسان بعض الصدقاء أن يحد التام فيطلقه .ولكن الشيخ أب وقال :قد اشتركت ف
الروج على النليز فكيف أجحد ؟ واضطر الاكم فحكم عليه بالعدام ،ولا قدم للشنق
بكى الاكم وقال له :حت ف هذه الساعة لو قلت مرة :إن القضية مكذوبة عليّ وإن بريء
لجتهدت ف تليصك ،فغضب الستاذ وقال :أتريد أن أحبط عملي بالكذب على نفسي ؟
207
لقد خسرت إذا وضل عملي ،بل قد اشتركت ف الثورة فافعلوا ما بدا لكم ،وشنق
الرجل !!.
ول يكن صدقهم واعترافهم با يعملون ويعتقدون مقتصرا على ما يتصل بأنفسهم ،بل
كانوا صادقي فيما يتصل بالمة والشعب ،فلم يكونوا يعرفون العصبية النسية والوطنية
والنف القومي الذي أصبح اليوم من واجبات النسية والوطنية ،وكانوا يعدون الكذب
وشهادة الزور لجل المة والوطن واللة رذيلة وإثا كبيا .وكانوا يعتقدون أن أحكام
الشرع تعم الفرد والمة والمور الشخصية والجتماعية وكانوا متمسكي بقول تعال { :يَا
أَّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُوْا َقوّامِيَ بِالْ ِقسْطِ ُش َهدَاء لِلّهِ َوَلوْ َعلَى أَن ُفسِ ُكمْ َأ ِو الْوَالِدَيْنِ وَالَقْرَبِيَ }
الية ،وقوله َ { :ولَ َيجْرِمَنّكُمْ شَنَآ ُن َقوْمٍ عَلَى َألّ تَ ْع ِدلُواْ ا ْعدِلُواْ ُهوَ َأقْرَبُ لِلتّ ْقوَى وَاتّقُواْ اللّهَ
} وقوله { :وَِإذَا حَ َكمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَن َتحْ ُكمُواْ بِالْعَدْلِ } وقوله { :وَإِذَا قُلُْتمْ فَا ْع ِدلُواْ َولَوْ
كَانَ ذَا قُرْبَى } .
وما يروي لنا الشيوخ من ذلك :أنه وقع نزاع بي النادك والسلمي ف قرية كاندهلة
من مديرية (( مظفر نكر )) ف الوليات التحدة الندية على أرض ،فادعى النادك أنا معبد
لم ،والسلمون أنا لم مسجد .وتاكموا إل حاكم البلد النليزي ،فسمع الاكم القضية
ودلئل الفريقي ول يطمئن إل نتيجة ،فسأل النادك :هل يوجد ف القرية مسلم تثقون
بصدقه وأمانته أحكم على رأيه ؟ قالوا :نعم ،فلن ؛ وسوا شيخا من علماء السلمي
وصاليهم ،فأرسل إليه الاكم وطلبه إل الحكمة ،فلما جاءه الرسول قال :قد حلفت أن
ل أرى وجه إفرني ،ورجع الرسول فقال الاكم :ل بأس ،ولكن احضر وأدل برأيك ف
القضية ،فحضر الشيخ وول دبره إل الاكم وقال :الق مع النادك ف هذه القضية ،
والرض لم .وبذلك قضى الاكم وخسر السلمون القضية ،ولكن كسبوا قلوب النادك
وأسلم منهم جاعة .
وكذلك كان الناس يعدون العلم عارية مقدسة ووديعة من ال ل يبيعونه كسلعة ف
السوق ،ول يتعاونون به على إث آث وعدوان معتد ،وكانوا ل يرضون أن يستعي به نظام
جائر أو حكومة غي إسلمية .
208
وما حكى لنا الثقات وقرأناه ف التاريخ أن الشيخ عبدالرحيم الرامبوري ( م 1234
هـ) كان يعمل ف بلدة رامبور براتب زهيد يتقاضاه كل شهر من المارة السلمية ل يزيد
على عشر روبيات ( أقل من جنيه مصري ) فقدم إليه حاكم الولية النليزي الستر هاكنس
وظيفة عالية ف كلية بريلي راتبها مائتان وخسون روبية ( تسعة عشر جنيها مصريا ) ،
وذلك يساوي خسي جنيها ف هذا العهد ،ووعد بالزيادة ف الراتب بعد قليل ،فاعتذر
الشيخ عن قبوله وقال :إن أتقاضى عشر روبيات وإنا ستنقطع إذا تولت إل هذه الوظيفة .
فتعجب النليزي وقال :ما رأيت كاليوم :أنا أقدم راتبا يزيد على راتبك الال بأضعاف
أضعاف ،وتترك الضعاف الضاعفة وتقنع بالنر اليسي ! .فتعلل الشيخ بأن ف بيته شجرة
سدر وهو مغرم بثمرها وأنه سيحرمها إذا أقام ف بريلي .ول يفطن النليزي بعد إل مقصود
الشيخ .فقال :أنا زعيم بأن هذا الثمر يصل إليك من رامبور إل بريلي ،فتشبث ثالثة بأن
حوله طلبة وتلميذ يقرؤون عليه ف بلده فلو انتقل إل هذه الوظيفة انقطعت دروسهم .ول
ييأس النليزي الناقش من إقناعه فقال :أنا أجري لم جرايات ف بريلي ويواصلون
درووسهم هناك ،وهنا أطلق الشيخ آخر سهامه الذي أصمى رميته فقال :وماذا يكون
جواب غدا إذا سالن رب :كيف أخذت الجرة على العلم ؟ وهنا بت النليزي وسقط ف
يديه وعرف نفسية العال السلم ،وقضى الشيخ حياته على أقل من جنيه يأخذه كل شهر .
قارن هذه الروح السامية والنفس الكبية الت تربا بالعلم أن يباع بيع السلع ,و تغار على
العقيدة والكرامة أن تشترى بال أو منفعة ,بذا التبذل والسفاف الذي وصل إليه أهل العلم
والعقل والصناعة ف هذا الزمان ,فقد عرض كثي من علمهم وعقلهم وما يسنونه كالسلع
ف السواق ،يبيعونا بالناداة ( الزاد العلن ) ليشتريها من يزيد ف الثمن كائنا من كان ،
فليس الشأن عندهم ف العقيدة ول ف الغرض والنتيجة ول ف اللءمة والذوق ،إنا الشأن
عندهم ف الثمن الذي يدفعه الشتري .
وكل يوم نطلع على مضحكات مبكيات ف هذا الباب ،فهذا الستاذ كان أمس ف
معهد إسلمي يدرس العلوم السلمية والتاريخ السلمي ،وقدمت غليه الكلية الكاثوليكية
الفلنية وظيفة تدريس براتب يزيد على راتبه السابق بمسة جنيهات فانتقل إليها ،وهذا
209
السيد فلن كان ف وزارة العارف سابقا ،وكان شابا مثقفا وعالا له هوى ف التحقيق
والدراسة ،تقرأ له مقالت علمية ف الجلت الراقية ،فإذا به ينتقل فجأة إل مصلحة الطيان
أو الذاعة ،وسألناه :ماذا حدث له حت غي طريقه وقلب تيار حياته ؟ فأخبنا أن ذلك
لجل أنه يربح ف مركزه الديد عشرة جنيهات ،وهذا البحاثة الفلن كتب مقالة عن
التصوف السلمي ونال با ثناء أهل العلم قد تول إل وزارة الارجية أو أصبح ترجان دولة
أوروبية ،وما هو إل لجل زيادة بقدار بضعة جنيهات ،أوليس هذا لن الربح الال قد
أصبح كل شيء ،ولن الذهب اللماع أصبح التصرف الوحيد ف مناهج الياة والسيطر
الوحيد على الرواح والعقليات ؟! .
قرأنا ف التاريخ السلمي أن النصور الليفة العباسي الشهور طلب من ابن طاوس ف
ملس أن يناوله الدواة ليكتب شيئا فامتنع ،فسأله الليفة عن سبب امتناعه وعدم امتثاله أمر
خليفة السلمي ،فقال :أخاف أن تكتب با معصية فأكون شريكك فيها ومتعاونا على الث
والعدوان .إل هذا الد وصل بم تسكهم بقوله تعال { :وَتَعَاوَنُواْ َعلَى اْلبّ وَالتّ ْقوَى َولَ
تَعَاوَنُواْ عَلَى الِْثمِ وَالْعُ ْدوَانِ } أما امتناعهم عن قبول منصب القضاء ف نظام ل يرضونه ول
يرتاحون إل سيه وتفاصيله فرواياته بلغت حد التواتر ،واطردت ف أدوار الياة السلمية
الول .
قارن هذا الحتراس من التعاون على الث والعدوان ،وهذا التعفف عن الشاركة ف نظام
غي صحيح ،والمتناع من أدن مساعدة لدف ل يتفق ومصال المة السلمية أو يعود
عليها بالضرر أو فيه غش وخديعة للمة .قارن كل ذلك بذه الساعدة والتعضيد الذي تتمتع
به الكومات الوربية من السلمي ،وهذا الذكاء واللباقة والقلم البليغ واللسان الذلق الذي
ينتفع به الجانب منهم ف مصالهم وإداراتم .
فهنالك شبانٌ مسلمون وكتاب بارعون يتولون ترير الصحف والجلت الت تصدرها
الكومات الجنبية لنشر دعايتها ف بلد السلمي والتأثي ف عقليتهم ونفسيتهم وتويه
القائق بقدرة الأجورين من السلمي أنفسهم .
210
وهنالك جاعة من (( الفاضل )) ينحدرون من أصول عربية صميمة ،وينتمون إل
بيوتات عريقة ف الجد والخلص والسلم ،قد جاهد آباؤهم ف سبيل الق ومق الباطل ،
وبقيت نسبتهم ف أسائهم تروي لنا تاريا ميدا عن آبائهم حافلً بلئل الهال ،وجرى
دمهم ف عروقهم ،وظهر ف ملمح وجوههم وتقاطيعها ،يشتغلون اليوم ف الكومات
الجنبية ،ويستعملون تلك اللغة الضرية الفصحى الت نزل با القرآن الكري ،والت تكلم با
رسل السلمي ف مالس ملوك فارس والروم ،فأدوا با رسالة السلم ،وألقوا الهابة ف
قلوبم ،والت ألقى با القواد السلمي خطب الهاد ،بذه اللغة الكرية الت ل تليق إل
للبطولة السلمية ،وبتلك الكلمات الفصيحة الرائعة الت ل تمل إل ف مواضع الق والهاد
،ينشر هؤلء دعاية الكومات الجنبية الت تعبث بالسلمي عبث اللعب بالكرة ،أو عبث
الوليد بانب القرطاس ،وقد رزأتم ف سياستهم واستقللم وإيانم وعقلهم واقتصادهم ،
ولم أعمال من دون ذلك هم لا عاملون .
قد سعنا منهم أن هذه الكومات تقوم بهود نبيلة لي العروبة والسلم ورفع شأنم .
وأنا (( نور الرية الوضاء ف عال ساده الظلم الدامس )) ،وقد سعناهم يشيدون
(( بالدمات اللى والساعدات العظيمة الت تقدمها الذاعة البيطانية ف سبيل نضة القطار
العربية وتوحيد تفكيها وثقافتها وتوثيق الروابط بينها ،وما تقوم به من نشر الثقافة العربية
السلمية ،وتعريف السلمي بتاريهم الجيد ومدنيتهم الزاهرة ،وإطلع العال العرب على
حقائق المور ،وسي الوادث ف نزاهة وترد وصدق )) )(251ولطالا سعناهم وقرأنا لم
إشادة بإيان هذه الكومات بالديقراطية الصحيحة وجهادها لتوطيد المن العام وسلم العال
وحرية المم الستضعفة والبلد الهضومة ،ورفعها لراية العدل والساواة ،والخذ للمظلوم
من الظال ،وقيامها للحق ..ال .
فأن كان هؤلء التحدثون ل يرضى ضميهم با يقولون ,ويعرفون أن هذه الكلمات ف
غي ملها ,وإنا هو كله لصالهم الالية ,فيالنطاط النفس الشريفة ,ويا لرخص السلعة
الغالية ,ويا ضيعة الكلمات العامرة بالعان ,ويا شقاء اللغة العربية بأهلها !0وإذا كان ذلك
((251
الكلمات التي بين القوسين منقولة لفظاً .
211
عن اعتقاد وثقة وفهم للمعن ,فيا جهلً بالقائق ,ويا إنكارا للمحسوس ,ويا مسخا
للقلوب !0
وهذا عصر التناقض فيكتب أديب أو صحاف اليوم كتابا حاسيا ف سية بطل من أبطال
الهاد السلمي ,أو مدد من مددي السلم ,ول يف مداد مقالته أو كتابه ذلك حت
يكتب بقلمه تقريظا أو ثناء على خائن من خونة المة ,أو صنيعة من صنائع الجانب
لصلحة سياسية ومنفعة مالية ,ول يرى ف ذلك تناقضا .
طلب ملك من ملوك العرب من شاعر عرب فرسه ,فاعتذر أن يعطيها بأي ثن كان
وقال :
أبيت اللعن إن سكاب علق *** نفيس ل تعار ول تباع
ولكن كأن الضمي عند هؤلء الذين يشتغلون ف الكومات الجنبية ،أو يذيعون من
مطاتا ما ل يرضى به ضميهم ول يصدق علمهم ،أو يصدرون صحفا ،أو يؤلفون كتبا
على جعالة أو راتب شهري ؛ أذل وأرخص من جواد الاهلي فهو يعار ويباع ،وذلك ل
يكن لعيار ول ليباع .
وكانت الروابط والواصر ف الشرق – ف الغالب – قائمة على أساس غي مادي إما
عقلي وإما روحي ووجدان ،وكان للثرة والنانية فيها نصيب ضئيل ،وكان نتيجة ذلك
وجود روابط وأواصر ل يكن تعليلها بالادة وجر النفع إل أصحابا ،وكانت هذه الروابط
متغلغلة ف الحشاء ؛ فمن ذلك أن علقة التلميذ بأستاذه وإخلصه وحبه له ف العهد
السابق ،يزري بعلقة الولد بوالده وحبه له ف هذا العصر .
اشتهر نبأ وفاة الستاذ الشهي العلمة نظام الدين اللكهنوي ( م 1161هـ ) صاحب
منهاج الدرس النظامي الاري تطبيقه ف الند وخراسان ،فلما أتى النعي تلميذه السيد كمال
الدين العظيما بادي ،مات من شدة الزن ،وعمي تلمذه الخر (( ظريف العظيما بادي ))
من كثرة البكاء ،وتقق بعد ذلك أن الشاعة كانت غي صحيحة ، )(252ولعل ذهن هذا
((252
نزهة الخواطر للشيخ عبدالحي الحسني ( المجلد السادس ( .
212
العصر ل يسيغ هذه الرواية ،ولكن الذي عرف طبيعة الشرق ،ومدى اتصال التلميذ هنالك
بأستاذه وحبه له ل يستغرب هذه الرواية ول يكذبا .
يعلم الطلع على تاريخ الخلق وفلسفتها أنه قد ظهرت مدرسة ف أوربا قبل السيح
بأربعة قرون ،وكان لا أنصار من كبار الفلسفة والخلقيي إل القرن التاسع عشر السيحي
،تدين باللذة البدنية وتعتقد أنا ميزان للخلق ومعيار العمال ،وتشي على أتباعها بأن
يهتبلوا فرص التمتع بالياة الدنيا ويغتنموا فلتات الدهر .
وافترق أصحاب هذه الدرسة فرقتي ؛ فمنهم ؛( أولو الثرة ) الذين يقولون :ينبغي أن
ل يول بي النسان وشهواته حائل حت ل يدع حاجة ف نفسه إل قضاها ،فينال بذلك
النصيب الكب من اللذة والناءة وقالوا :السعادة هي إرضاء الشهوة وقضاء مآرب النفس
واقتطاف قطوف السرة واللذة باليدين .
والفرقة الثانية هم ( النفعيون ) ويرى أهل هذا الذهب أن الواجب هو تصيل النفعة الت
ينال با أكب عدد من أفراد البشر أوفر قسط من اللذة والناء ،ول وزن للفعال اللقية ف
نظرهم إل با تأت به السرة لغالب بن النوع ،ويرى هؤلء أن السعادة هي أن تتوافر للناس
بأعمالم اللذات وتبعد عنهم اللم .
ويرى القارئ ويلمس الروح الادي التعشق للذة والناء ف آراء هذا الذهب ونزعاته من
أحطها وأكثرها إسفافا إل أرقاها وأكثرها تليقا ،وهذا يتلف عن طبائع الشرق وشرائع
السماء اختلفا بينا .وقد أثرت هذه النعة الادية ف فلسفة الغرب وأخلقه وأدابه وحضارته
تأثيا عميقا ،ول تزال مهيمنة على الياة الغربية وآدابا حت اليوم .
ث نزعوا دائما ف تشخيص النفعة ووزنا إل الادية لنم احتكموا فيها إل أذهانم
وعقولم ،وقد أصبحت مادية بتة ،لنا بقيقة ل تأت تت الس أو الساحة أو العد أو
الوزن ،ول تؤمن بنفعة ل تلب لذة وهناء ،حت مؤسس هذا الذهب ((أبيقور م 271ق.م))
صرح بأن مناط الكم على العمال هي النفعة ،وأن النفعة ل قيمة لا إل إذا اجتلبت لذة
واغتباطا ،فكيف وقد تدرجت العقول والطبائع الغربية ومردت على النوع الادي على
تعاقب الجيال والعصور ؟! .
213
فكان نتيجة ذلك أن الذهن الغرب والنطق العصري أصبحا عاجزين عن الهتداء إل
منفعة غي مسوسة ل تلب لذة واغتباطا ،وأصبح العقل الورب ماميا عن الادية ل يكم
على الخلق بالسن والصحة إل بقدار جلبها للمنافع الادية ،وبسب ما يكتسب الجتمع
بواسطتها من اللذة والناء ،والفراد من الغتباط والرخاء ،فأصبح الربح الادي هو اليزان
للخلق والفارق بي الشر والي ،وأصبحت الخلق الت ل وزن لا ف ميزان الادة ،ليس
لا قيمة إل القيمة الدينية أو اللقية ف الصطلح القدي ينتقص كل يوم سلطانا على القلوب
والعقول ،وتعدم أنصارا وتصبح من شعائر القدي وذكريات العهد الاضي كحنان البوين
وحبهما للولد ،ووفاء الزواج وحفظهن للغيب ،وتل مل هذه الخلق القدرة الصناعية
والختراع والنتاج والوطنية والنسية ول تزال ترتفع قيمتها ويرجع وزنا .
ول يزال الجتمع العصري يستغن عن الروابط النلية والرحام الدموية والشرائع اللقية
بتنظيمات اجتماعية شعبية على الطوط السياسية والصناعية والقتصادية .ول يهم الجتمع
الن كيف يعامل الولد والده أو الزوجة زوجها إذا كان هؤلء الفراد ل يزالون ف الدائرة
الدنية الت اختطها الجتمع حول أفراده ؛ وما دام ل يدث عملهم هذا اضطرابا ف الجتمع
وثورة على النظام ول يعرقل سي الدينة فل بأس إذا كان هنالك عقوق من ولد أو فرك من
قرينة أو جفاء من زوج أو دعارة من امرأة أو فسق من رجل أو خيانة من زوجة .
******************************
214
الباب الامس
قيادة السلم للعال
الفصل الول
نضة العال السلمي
215
الروحي ،وها هي أوربا تستبطئ الن أسرع قطار ،وتريد أن تصل إل غايتها بسرعة الطائرة
بل بسرعة القوة الذرية .
216
أنا ل ترضى أن يتول أمرها النلء الجانب ويقيموا عليها الجر كما يقام على السفيه ،
وأن تكون للوربيي عليها دول وإمباطوريات ينعمون ف ظلها ويرتعون ف جنباتا ،ول
يكون لا مثلها ف الشرق وأفريقية وآسية ،ول تستمتع حت ف داخل بلدها با استمتع به
الوربيي ماديتهم وتنقم منهم أخلقهم وسيتم وتنعى عليهم فلسفتهم ومبادئهم فلعل ذلك
ل يطر منها على بال ،بل قد زين لا كل ما تتصف به المم الوربية فحل ف عينها .
وكلما سنحت لذه المم فرصة الستقلل وملكت زمام أمورها تلت أخلقها ومبادئها
وظهرت سيتا الاهلية ف صورتا الطبيعية القيقية ،فإذا هي أفضع صورة وأبشعها ف
ل وتدميا ، التاريخ ،قساوة قلب وضراوة بالدم النسان وهتكا للعراض ونبا للموال وقت ً
وقد ظهرت من بعض هذه الشعوب السيوية على أثر استقللا من الكم الجنب فظائع
ومنكرات تستبشعها الوحوش والسباع وتستك منها الساع ،فقد عاملت بعض الشعوب
الواطنة بعصبية دينية وسياسية ،معاملة عز نظيها ف التاريخ ،رضعاء يقتلون ويُقطعون إربا
إربا ،ونساء تتك أعراضهن ث يقتلن من غي رحة ول حياء ،وآبار تسمم وبيوت تدم
ونيان تشعل وقنابل تقذف ،وإذا دخلوا قرية فاتي منتشرين أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها
أذلة ووضعوا فيها السيف ،وعاث الوحوش ف الدماء والعراض حت أقفرت القرى ،
وامتلت البار بالسيدات اللت آثرن الوت على هتك العراض ،هذا عدا نساء قتلن بمجية
وطرق فظيعة ل تسبق ف التاريخ ،إل غي ذلك من الفاعيل الت يشك فيها الناس ف البلد
السلمية والتحضرة .
هذا غي ذلك الضطهاد الدين والقاطعة الجتماعية الت تلقاها تلك الطوائف ف
بلدها ،وما تلقى ثقافتها وديانتها من مطاردة ومهاجة من تلقاء هذه الشعوب فتحرم الرية
الثقافية واللسانية وترغم على لغة مصطنعة دائرة ،وياول القوياء أن يحوا كل أثر من آثار
حضارتا وثقافتها ويتلقوا عليها الكاذيب والنايات ،ويثلوا قصة المل والذئب كل يوم ،
فيعزل رجالا من الوظائف وتسد ف وجوههم أبواب العاش والتجارة والرف ،وتقفل
دكاكينهم ومالم التجارة وتصادر أملكهم وأموالم بعلل واهية مضحكة .
217
ث إن هذه المم أفلست إفلسا شائنا ف الدين والخلق ،وقد أشربت ف قلوبا حب
الال والادة ،وتسلط عليها شيطان الثرة والشع حت ضجت منها الكومات وتعبت ،فقد
ارتفعت السعار ارتفاعا فاحشا ،فلما التجأت الكومة إل التسعي اختفت السلع والموال ،
وأصبح الناس ل يدون كسوة ول طعاما ول حاجة إل بالسعر الذي يريده التاجر ،فنفقت
السوق السوداء وشاعت النايات واليانات والرتشاء والتهريب ،وأصبحت الكومة
والتجار كفرسي رهان أو قرن ميدان ،كل يريد أن يغلب صاحبه وينتهز غرته ،وأصبح
الناس حبة بي حجري الرحى ل يدرون كيف يفعلون .
وقد حاول رجال الصلح والديانة أن ينفخوا ف هذه المم حياة جديدة ويبنوا فيها
روح الخلق والفضيلة والمانة والقتصاد فأخفقوا إخفاقا تاما ،وعملوا أن خلق أمة
بأسرها أهون من إصلح هذه المم وتذيبها وقد انقطعت مادتا وانقضى أجلها .
وهكذا أصبح العال شرقا وغربا ف أزمة روحية وخلقية واجتماعية واقتصادية تطلب حلً
سريعا عاجلً .
218
والاهلية ،إل العال السلمي الذي يقوده سيدنا صلى ال عليه وسلم برسالته الالدة ودينه
الكيم .
هذا هو التحول الذي يغي وجه التاريخ ويول مرى المور وينقذ العال من الساعة
الرهيبة الت ترقبه .
إن حقا على العال السلمي أن يُمن نفسه بذا النصب الطي ،ويطمح إليه ،وإن حقا
على كل بلد إسلمي وشعب إسلمي أن يشد حيازيه لذلك ،وإن حقا على كل مسلم أن
ياهد ف سبيله ويبذل ما ف وسعه ،فهذه هي الهمة الشريفة الت نيطت بالمة السلمية يوم
برزت إل عال الوجود ،ويوم طهرت نواتا ف جزيرة العرب .
219
عندها أخلق ول حقيقة حية ،وترى خضوعا للنسان ،واستكانة للملوك والمراء ورجال
الكومة والناصب وتقديسهم شأن المم الوثنية وَعََبدَ ِة الصنام .
220
فقال الخر :ل بأس إذا بقيت روح اللوكية ،ولكن ماذا يقول النائب الحترم ف هذه
الفتنة الدهاء الت أثارها هذا اليهودي الذي يدعى كارل ماركس ذلك الباقعة الذي ليس نبيا
ولكنه يمل عند أتباعه كتابا مقدسا ،هل عندك نبأ أنه أقام العال وأقعده ،وأثار العبيد على
السادة حت تزعزعت مبان المارة والسيادة ؟ .
فقال الخر ماطبا رئيس الجلس :يا صاحب الفخامة ،إن سحرة أوربا وإن كانوا
مريديك الخلصي ولكن ل أعد أثق بفراستهم ،ها هو السامري اليهودي الذي هو نسخة
من مزدك ( الزعيم الفارسي الشتراكي ) قد كاد يأت على العال بقواعده فاستنسر البغاث ،
وأصبح الصعاليك يزحون اللوك بالناكب ويدفعونم بالراح ( أعلم أرض جعلت بطائحا )
إنا قد استهنا بطب هذه الركة الشتراكية وها هي قد استفحلت نفاقم شرها ،وها هي
الرض ترجف بول فتنة الغد ،سيدي إن العال الذي كنت تكمه سينقض عليك ،إذا
ينقلب النظام العال ظهرا لبطن .
فتكلم رئيس الجلس ( أبليس ) وقال :إن أملك زمام العال وأتصرف به كيف أشاء ،
وسيى العال عجبا إذا حرشت بي المم الوربية فتهارشت تارش الكلب ،وافترس بعضها
بعضا فعل الذئاب ،وإذا هست ف آذان القادة السياسيي وأساقف الكنائس الروحانيي
فقدوا رشدهم وجن جنونم .
أما ما ذكرت عن الشتراكية فكونوا على ثقة أن الرق الذي أحدثته الفطر بي النسان و
النسان ليرفؤه النطق الزدكي (الفلسفة الشتراكية ) ل يوفن هؤلء الشتراكيون الطرداء
والصعاليك السفهاء .
إن كنت خائفا فإن أخاف أمة ل تزال شرارة الياة والطموح كامنة ف رمادها ,ول
يزال فيها رجال تتجاف جنوبم عن الضاجع وتسيل دموعهم على خدودهم سحرا ،ل يفى
على البي التفرس أن السلم هو فتنة الغد وداهية الستقبل ،ليست الشتراكية .
أنا ل أجهل أن هذه المة قد اتذت القرآن مهجورا ،وأنا فتنت بالال وشغفت بمعه
وادخاره كغيها من المم ،أنا خبي أن ليل الشرق داج مكفهر ،وأن علماء السلم
وشيوخه ليست عندهم تلك اليد البيضاء الت تشرق لا الظلمات ويضيء لا العال ،ولكن
221
أخاف أن قوارع هذا العصر وهزته ستقض مضجعها وتوقظ هذه المة وتوجهه إل شريعة
( ممد صلى ال عليه وسلم ) أن أحذركم وأنذركم من دين ( ممد صلى ال عليه وسلم )
حامي الذمار ،حارس الذمم والعراض ،دين الكرامة والشرف ،دين المانة والعفاف ،
دين الروءة والبطولة ،دين الكفاح والهاد ،يلغي كل نوع من أنواع الرق ،ويحو كل أثر
من آثار استعباد النسان ،ل يفرق بي مالك وملوك ،ول يؤثر سلطانا على صعلوك ،
يزكي الال من كل دنس ورجس ويعله نقيا صافيا ،ويعل أصحاب الثروة واللك
متسخلفي ف أموالم )(253أمناء ل وكلء على الال .وأي ثورة أعظم وأي انقلب أشد
خطرا ما أحدثه هذا الدين ف عال الفكر والعمل يوم صرخ أن الرض ل ل للملوك
والسلطي .
فابذلوا جهدكم أن يظل هذا الدين متواريا عن أعي الناس ،وليهنكم أن السلم بنفسه
هو ضعيف الثقة بربه قليل اليان بدينه ،فخي لنا أن يبقى مشتغلً بسائل علم الكلم
والليات وتأويل كتاب ال واليات ،اضربوا على آذان السلم فإنه يستطيع أن يكسر
طلسم العال ويبطل سحرنا بأذانه وتكبيه ،واجتهدوا أن يطول ليله ويبطئ سحره ،اشتغلوا
يا إخوان عن الد والعمل حت يسر الرهان ف العال .خي لنا أن يبقى السلم عبدا لغيه ،
ويهجر هذا العال ويعتزله ويتنازل عنه لغيه زاهدا فيه ،واستخفافا لطره ،يا ويلتنا ويا
شقوتنا لو انتبهت هذه المة الت يعزم عليها دينها أن تراقب العال وتعسّه .
((253
ستَخَْلفِينَ فِيهِ } ( .الحديد (
جعََلكُم مّ ْ
{ َأَن ِفقُوا ِممّا َ
222
ال وحده ،ومن ضيق الدنيا إل سعتها ،ومن جور الديان إل عدل السلم )) رسالة ل
تتاج إل تغيي كلمة وزيادة حرف ،فهي منطبقة تام النطباق على القرن العشرين انطباقها
على القرن السادس السيحي ،كأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خرج السلمون من جزيرتم
لنقاذ العال من براثن الوثنية والاهلية .
فل يزال الناس اليوم عاكفي على أصنام لم – من أوثان منحوتة ومنجورة ومقبورة
ومنصوبة – ول تزال عبادة ال وحده مغلوبة غريبة ،ول تزال الفتنة قائمة على قدم وساق ،
ول يزال إله الوى يعبد ،ول يزال الحبار والرهبان واللوك والسلطي وأصحاب القوة
والثروة والزعماء والحزاب السياسية أربابا من دون ال تقرب لا القرابي وينصب لا البي.
وكذلك العال اليوم رغم اتساعه وتوفر وسائل السفر والنتقال من مكان إل مكان ،
واتصال الشعوب والمم بعضها ببعض أضيق بأهله منه بالمس ،قد ضيقته الادية الت ل تنظر
إل إل قدمها ول تؤمن إل بفائدة صاحبها ،ول تعرف غي العكوف على الشهوات وعبادة
الذات ،وقد خنقته الثرة الت ل تسمح لثني بالعيش ف إقليم واسع ،والوطنية الضيقة الت
تنظر إل كل أجنب شزرا وتحد له كل فضل وترمه كل حق .
ث ضيق خناق هذه الياة الادية السيطرون السياسيون الذين يتكرون وسائل الياة
والرزق والقوت ،ويضيقون هذه الياة لن شاؤوا ويسعونا لن شاؤوا ،ويبسطون الرزق –
زعموا – لن شاؤوا ويقدرونه لن شاؤوا ،فأصبحت الدن الواسعة أضيق من جحر ضب ،
وأصبح الناس ف بلدهم ف شبه حجر كحجر السفيه واليتيم وضاقت على الناس الرض با
رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ،وأصبح الناس ف أغلل وأصفاد من الدينة والملكة مُهددين
ف كل وقت بجاعات مصطنعة وحقيقية ،وحروب خارجية وداخلية ،وإضرابات
واضطرابات أسبوعية ويومية .
نعم ومن جور الديان إل عدل السلم ! ول تزال ف هذا العصر التنور الواعي الثقف
أديان تعبث بعقول الناس وتسخرهم كالمي والبقر ،وتزين لتباعها قتل مئات من البشر
لجل بقرة ذبت ف عيد الضحى ،أو شجرة مقدسة عُضدت ف قرية من القرى .
223
وهنالك أديان بغي اسم الديان ل تقل ف نفوذها وسلطانا ول تقل ف جورها وعدوانا
وعبثها بعقول أتباعها وف عجائبها عن الديان القدية ،وهي والنظم السياسية والنظريات
القتصادية الت يؤمن با الناس كدين ورسالة ،كالنسية والوطنية ،والديوقراطية
والشتراكية ،والدكتاتورية والشيوعية ،وهي أقل مسامة لن ل يدين با وأشد قسوة على
منافسيها ،وأضيق عطفا من الديان الاهلية ،والضطهاد السياسي اليوم أفضع من
الضطهاد الدين ف القرون الظلمة ،فإذا تغلب حزب من الحزاب الوطنية أو ساد مبدأ من
البادئ السياسية .أو انتصر فريق على فريق ف النتخاب ،سد ف وجه منافسه البواب
وعذبه أشد العذاب ،وما حرب أسبانيا الهلية الت دامت مدة طويلة ،وسفكت فيها دماء
غزيرة ،وما حرب الصي الت قامت بي المهوريي والشيوعيي من أهل الصي ،وحرب
((كوريا)) الت قامت بي النوبيي والشماليي ،إل نتيجة اختلف ف العقيدة السياسية
والنظريات القتصادية .
فرسالة العال السلمي هي الدعوة إل ال ورسوله واليان باليوم الخر ،وجائزته
الروج من الظلمات إل النور ،ومن عبادة الناس إل عبادة ال وحده ،والروج من ضيق
الدنيا إل سعتها ،ومن جور الديان إل عدل السلم ،وقد ظهر فضل هذه الرسالة وسهل
فهمها ف هذا العصر أكثر من كل عصر ،فقد افتضحت الاهلية وبدت سوآتا للناس واشتد
تذمر الناس منها ،فهذا طور انتقال العال من قيادة الاهلية إل قيادة السلم ،لو نض العال
السلم ،واحتضن هذه الرسالة بكل إخلص وحاسة وعزية ،ودان با كالرسالة الوحيدة
الت تستطيع أن تنقذ العال من النيار والنلل .
224
الدنيا وتمل الذى ف ذات ال صابرا متسبا قال ال تعال َ { :ولَ َتهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن
تَكُونُواْ تَ ْأَلمُونَ فَإِّن ُهمْ َي ْألَمُونَ كَمَا تَ ْألَمونَ وَتَ ْرجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لَ يَرْجُونَ } فقوة الؤمن وسر
انتصاره ف إيانه بالخرة ورجائه لثواب ال ،فإذا كان العال السلمي ل يرمي إل إل ما
تراه أوربا من العرض القريب ،ول يطمح إل فيما تطمح فيه أوربا من حطام الدنيا ،ول
يؤمن إل با تؤمن به أوربا من الحسوسات والاديات ،كانت أوربا بقوتا الادية أحق
بالنتصار والسيادة من العال السلمي الذي يتخلف عنها ف القوة الادية تلفا شائنا ول
يفوقها ف القوة العنوية .
لقد أتى على العال السلمي حي من الدهر وهو مستخف بذه القوة العنوية ل يتفل
با ،ول يتفظ بالبقية منها ،ول يغذيها ،حت نضب معينها ف قلبه ،فلما خاض العال
السلمي ف العارك الت تتاج إل اليان ،والصب والثبات ،وتمل الشدائد والنكبات ،
وزلزل بعض الزلزل ،ولأ إل القوة العنوية الكامنة ف نفوس السلمي ،كانت كسراب
بقيعة يسبه الظمآن ماء حت إذا جاءه ل يده شيئا ،هنالك عرف أنه قد جن على نفسه
جناية عظيمة بإهال هذه القوة الروحية وتضييعها ،وبث ف جعبته فلم يد شيئا يسد مكانا
ويغن غناءها .
وخاض العال السلم ف معارك حاسة ،وهو يرى أن السلمي تقوم قيامتهم ،وسوف
يهرعون للدفاع عن السلم وحاية بلدهم القدسة ،ويغضبون ل ورسوله وحُرماته ،وإن
القطار السلمية تشتعل نارا وتتوقد حية وحاسة ،فإذا الادث ل يؤثر ف العال السلمي
التأثي النتظر ،وإذا النظر ضئيل والسخط خافت ،وإذا العال السلمي كعادته – ف غدواته
وروحاته – منهمك ف لذاته وشهواته ،كأن ل يدث كبي شيء ،فعرف أن الملة الدينية
قد ضعفت ف العال السلمي ،وأن شعلة الهاد قد انطفأت أو كادت ،وهنالك عرف
الناس ضعف العال السلمي وخذلنه وهوأنه على أنفسهم .
فالهم الهم لقادة العال السلمي ،وجعياته وهيئاته الدينية وللدول السلمية غرس
اليان ف قلوب السلمي وإشعال العاطفة الدينية ،ونشر الدعوة إل ال ورسوله ،واليان
بالخرة على منهاج الدعوة السلمية الول ،ل تدخر ف ذلك وسعا ،وتستخدم لذلك
225
جيع الوسائل القدية والديثة .وطرق النشر والتعليم ،كتجوال الدعاة ف القرى والدن .
وتنظيم الطب والدروس ،ونشر الكتب والقالت ،ومدارسة كتب السية ،وأخبار
الصحابة ،وكتب الغازي والفتوح السلمية ،وأخبار أبطال السلم وشهدائه ،ومذاكرة
أبواب الهاد ،وفضائل الشهداء ،وتستخدم لذلك الراديو والصحافة وكتب الدب ،وجيع
القوى والوسائل العصرية .
والقرآن وسية ممد صلى ال عليه وسلم قوتان عظيمتان تستطيعان أن تشعل ف العال
السلمي نار الماسة واليان ،وتدثا ف كل وقت ثورة عظيمة على العصر الاهلي ،
وتعل من أمة مستسلمة ،منخذلة ناعسة ،أمة فتية متلهبة حاسة وغية وحنقا على الاهلية
وسخطا على النظم الائرة .
أن علة العال السلمي هو الرضا بالياة الدنيا والطمئنان با ،والرتياح إل الوضاع
الفاسدة والدوء الزائد ف الياة ،فل يقلقه فساد ،ول يزعجه انراف ،ول يهيجه منكر ،
ول يهمه غي مسائل الطعام واللباس ،ولكن بتأثي القرآن والسية النبوية – إن وجدا إل
القلب سبيل – يدث صراع بي اليان والنفاق ،واليقي والشك ،بي النافع العاجلة والدار
الخرة ،وبي راحة السم ونعيم القلب ،وبي حياة البطالة وموت الشهادة ،وصراع أحدثه
كل نب ف وقته ،ول يصلح العال به ؛ حينئذ يقوم ف كل ناحية من نواحي العال
السلمي ،بل ف كل أسرة إسلمية ف كل بلد إسلمي {فِتْيَةٌ آمَنُوا ِبرَّبهِمْ َوزِدْنَا ُهمْ ُهدًى{
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ لَن ّندْ ُعوَ مِن دُونِهِ ِإلَها
َ }13ورَبَطْنَا عَلَى قُلُوِبهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبّنَا رَبّ ال ّ
لَقَ ْد قُلْنَا إِذا َشطَطا }
هنالك تتجدد ذكرى بلل ،وعمار ،وخباب ،وحبيب ،وخُبيب ،ومصعب بن
عمي ،وعثمان بن مظعون ،وأنس بن النضر ،هنالك تفوح روائح النة ،وتب نفحات
القرن الول ،ويولد للسلم عال جديد ل يشبه العال القدي ف شيء ...
226
ولكن مهمة العال السلمي ل تنتهي هنا ،فإذا أراد أن يضطلع برسالة السلم ويلك
قيادة العال فعليه بالقدرة الفائقة ،والستعداد التام ف العلوم والصناعة والتجارة وفن الرب ،
وأن يستغن عن الغرب ف كل مرفق من مرافق الياة ،وف كل حاجة من الاجات ،يقوت
ويكسو نفسه ،ويصنع سلحه ،وينظم شؤون حياته ،ويستخرج كنوز أرضه وينتفع با ،
ويدير حكوماته برجاله وماله ،ويخر بار الحيط به بسفنه وأساطيله ،ويارب العدو
ببوارجه ودباباته وأسلحة بلده ،وتزيد صادراته على وارداته ،ول يتاج إل الستدانة من
الغرب ،ول يضطر إل أن يلجأ إل راية من راياته وينظم إل معسكر من معسكراته .
أما ما دام العال السلمي خاضعا للغرب ف العلم والسياسة والصناعة والتجارة ،يتص
الغرب دمه ،ويفر أرضه فيستخرج منها ماء الياة ،وتغزو بضائعه أسواق العال السلمي
وبيوته وجيوبه كل يوم فتستخرج منها كل شيء ،وما دام العال السلمي يستدين من
الغرب الموال ،ويستعي منه الرجال ،ليديروا حكومته ،ويشغلوا الوظائف الطية ويدربوا
جيوشه ويستورد منه البضائع ويلب منه الصنائع ،وينظر إليه كأستاذ ومرب ،وسيد ورب ،
ل يبم أمرا إل بإذنه ول يصدر إل عن رأيه ،فل يستطيع أبدا أن يواجه الغرب فضلً عن أن
يناهضه ويغالبه .
هذه هي الناحية العلمية والصناعية الت أخل با العال السلمي ف الاضي فعوقب
بالعبودية الطويلة والياة الذليلة ،وابتلي العال السلمي بالسيادة الوربية الائرة الت ساقت
العال إل النار والدمار والتناحر والنتحار ،فإن فرط العال السلمي مرة ثانية ف الستعداد
العلمي والصناعي والستقلل ف شئون حياته كتب الشقاء للعال وطالت منة النسانية
وبلؤها .
227
وأصبح الستشرقون هم الرشدين الو ّجهِي ف البحث والتحقيق ،والدراسة والتأليف ،وهم
النتهى والرجع والجة ف الحكام والراء السلمية والنظريات العلمية والتاريية ،وهم
السوة ف النقض والبرام .وعدد كبي منهم قسوس وإرساليون ويهود ومسيحيون متعصبون
،يضمرون للسلم وصاحب رسالته – صلى ال عليه وسلم – العداء والبغضاء ،وللحضارة
السلمية السخرية والستهزاء ،ويونون ف النصوص والنقول ،ويرّفون الكلم عن مواضعه
.ومنهم عدد ل يتقن اللغة العربية ول يبع فيها ،وهم يطئون ف فهم النصوص وترجتها
أخطاء فاحشة ،وقد تغلغلت أفكارهم ودعاياتم ف الوساط العلمية الديثة ف العال
السلمي وتلت بصورة واضحة ف الدعوة إل فضل الدين عن السياسة ،وأن الدين قضية
شخصية ل شأن له بالجتمع ،وف الدعوة إل تغيي مفهوم الدين وأحكام الشريعة السلمية
على أساس الضارة الغربية وفلسفتها ..إل غي ذلك من الفكار الت يدعو إليها تلميذ
الستشرقي والاضعون لم ف الشرق السلمي .
وقد عجز كتاب الشرق السلمون والفكرون الشرقيون عن مواجهة الضارة الغربية
وجها لوجه ونقد أسسها وقيمها نقدا ُحرّا جريئا فيه البتكار ،وفيه الستقلل ،وقد بلغ
بعضهم من ضعف التفكي ،والغراق ف التقليد منلة رأى فيها أن الضارة الغربية هي آخر
ما وصل إليه العقل البشري وأنه ل منلة وراءها ،ومنهم من دعا إل تطبيق الضارة الغربية
برُمتها ،وعلى علتا ف الشرق ،ودعا بعض القطار السلمية وإذابتها فيها واختيار الثقافة
اليونانية الت هي أصل الثقافات الوربية .
وندر ف هذه الطبقة وجود (( عملق )) يكفر بالضارة الغربية وفلسفة حياتا وقيمها
ويشرّح الضارة الغربية وأُسسها الت قامت عليها ف ثقة واعتداد وعلم وبصية ،ونستثن من
هذه الكلية بعض الفراد الفذاذ كالعلمة (( ممد إقبال )) من السلمي القدامى ،والستاذ
(( ممد أسد )) من الوربيي الهتدين بالسلم .
ولبد – إذا أراد العال السلمي أن يقوم على قدميه ويفكر بعقله – أن يقاوم هذا
الضوع ويكون فيه علماء عماليق وكتاب جهابذة يتناولون الضارة الغربية بالنقد
والتشريح ،وكتابات الستشرقي وآرائهم بالرح والتعديل .ويتبحرون ف العلوم السلمية
228
ويتعمقون فيها حت يفيد منهم كبار الستشرقي ف أوربا وأمريكا ويصححون بم آراءهم
وأخطاءهم ،ويتوجه رواد العلم والتحقيق والدراسات العالية إل عواصم العال العرب
وحواضر العال السلمي ،كما اعتادوا أن يتوجهوا إل عواصم أوربا وأمريكا .فهذه الدن
السلمية أول بأن تكون مركزا للثقافة السلمية والعلوم الدينية وآداب اللغة العربية من
العواصم الوربية وجامعات أوربا ،ومن سقوط المة والقناعة بالدون أن تتخلى هذه
العواصم العريقة ف العلم والدين عن زعامتها العلمية ومكانتها الرئيسية .
229
وكانت نتيجة هذا النظام الطبيعية ،صراعا بي النفسية السلمية – إن كانت ل تزال ف
الشباب ل تقتلها البيئة – وبي النفسية الديدة ،وبي وجهة الخلق السلمية ووجهة
الخلقية الوربية ،وبي اليزان القدي والديد للشياء وقيمتها ،وكانت نتيجة هذا النظام
حديث الشك والنفاق ف الطبقة الثقفة ،وقلة الصب ونامة الياة وترجيح العاجل على الجل
،إل غي ذلك ما هو من طبائع الدينة الوربية .
فإذا أراد العال السلمي أن يستأنف حياته ،ويتحرر من رق غيه وإذا كان يطمح إل
القيادة ،فل بد إذن من الستقلل التعليمي ،بل لبد من الزعامة العلمية وما هي بالمر الي
،إنا تتاج إل تفكي عميق ،وحركة التدوين والتأليف الواسعة ،وخبة إل درجة التحقيق
والنقد بعلوم العصر مع التشبع بروح السلم واليان الراسخ بأصوله وتعاليمه ،إنا لهمة
تنوء بالعصبة أول القوة ،إنا هي من شأن الكومات السلمية ،فتنظم لذلك جعيات ،
وتتار لا أساتذة بارعي ف كل فن فيضعون منهاجا تعليميا يمع بي مكمات الكتاب
والسنة وحقائق الدين الت ل تتبدل وبي العلوم العصرية النافعة والتجربة والختبار ،ويدونون
العلوم العصرية للشباب السلمي على أساس السلم وبروح السلم وفيها كل ما يتاج إليه
النشء الديد ،ما ينظمون به حياتم ويافظون به على كيانم ويستغنون به عن الغرب
ويستعدون للحرب ،ويستخرجون به كنوز أرضهم وينتفعون بيات بلدهم ،وينظمون
مالية البلد السلمية ،ويديرون حكوماتا على تعاليم السلم بيث يظهر فضل النظام
السلمي ف إدارة البلد ،وتنظيم الشئون الالية على النظم الوربية ،وتنحل مشاكل
اقتصادية عجزت أوربا عن حلها .
بالستعداد الروحي والستعداد الصناعي والرب والستقلل التعليمي ينهض العال
السلمي ،ويؤدي رسالته وينقذ العال من النيار الذي يهدده .فليست القيادة بالزل ،إنا
هي جد الد ،فتحتاج إل جد واجتهاد ،وكفاح وجهاد ،واستعداد أي استعداد :
كل امرئ يري إل *** يوم الياج با استعدا
230
الفصل الثان
زعامة العال العرب
أهية العال العرب :
إن العال العرب له أهية كبية ف خريطة العال السياسية وذلك لنه وطن أمم لعبت
أكب دور ف التاريخ النسان ،ولنه يتضن منابع الثروة والقوة الكبى :الذهب السود
الذي هو دم السم الصناعي والرب اليوم ؛ ولنه صلة بي أوربا وأمريكا ،وبي الشرق
القصى ،ولنه قلب العال السلمي النابض يتجه إليه روحيا ودينيا ويدين ببه وولئه ،
ولنه عسى – لقدر ال – أن يكون ميدان الرب الثالثة ،ولن فيه اليدي العاملة ،
والعقول الفكرة ،والجسام القاتلة ،والسواق التجارية ،والراضي الزراعية ،ولن فيها
مصر ذات النيل السعيد بنتاجها ومصولا وخصبها وثروتا ورقيها ومدنيتها ،وفيه سورية
وفلسطي وجاراتا ،باعتدال مناخها وجال إقليمها وأهيتها الستراتيجية ،وبلد الرافدين
بشكيمة أهلها ومنابع فيها ،والزيرة العربية بركزها الروحي وسلطانا الدين ،واجتماع
الج السنوي الذي ل مثيل له ف العال وآبار البترول الغزيرة .كل ذلك قد جعل العال العرب
مصر أنظار الغربيي ،وملتقى مطامعهم وميدان تنافس لقيادتم ،وكان رد فعله أن نشأ ف
العال العرب شعور عميق بالقومية العربية ،وكثر التغن ((بالوطن العرب)) و ((الجد العرب))
.
233
للتلف والكساد ،وييبون آمال آبائهم وأصدقائهم فيهم ،حت يقولوا للواحد منهم كما قال
قوم صال { :قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْ ُجوّا قَبْلَ هَـذَا } .
إنه ل بقاء للنسانية ول قيام لدعوة كرية بغي هؤلء الجاهدين ،وبشقاء هذه الفنة
من البشر ف الدنيا – كما يعتقد كثي من معاصريهم – تنعم النسانية وتسعد المم ،
ويتحول تيار العال من الشر إل الي ،ومن السعادة أن يشقى أفراد وتنعم أمم ،وتضيع
أموال وتكسد تارات لبعض الفراد وتنمو نفوس وأرواح ل يصيها إل ال من عذاب ال
ومن نار جهنم .
علم ال عند بعثة الرسول صلى ال عليه وسلم أن الروم والفرس والمم التحضرة
التصرفة بزمام العال التمدن ل تستطيع بكم حياتا الصطنعة الترفة أن تتعرض للخطر
وتتحمل التاعب والصاعب ف سبيل الدعوة والهاد وخدمة النسانية البائسة ,ول تستطيع
أن تضحي بشيء من دقائق مدنيتها ف اللبس والأكل وأن تتنل عن حظوظها ولذاتا
وزخارفها فضلً عن حاجاتا ،وأنه ل يوجد فيها أفراد يقوون على قهر شهواتم ،والد من
طموحهم ،والزهد ف فضول الياة ومطامع الدنيا ،والقناعة بالكفاف ،فاختار لرسالة
السلم وصحبة الرسول عليه الصلة والسلم أُمة تضطلع بأعباء الدعوة والهاد وتقوى على
التضحية واليثار ،تلك هي المة العربية القوية السليمة الت ل تبتلعها الدنية ول ينخرها
البذخ والترف وأولئك أصحاب ممد صلى ال عليه وسلم أبر الناس قلوبا وأعمقهم علما
وأقلهم تكلفا .
قام الرسول بذه الدعوة العظيمة فأدى حقوقها :من الهاد ف سبيلها وإيثارها على
كل ما يقف ف وجهها ،والعزوف عن الشهوات ومطامع الدنيا فكان ف ذلك أسوة وإماما
للعال كله ،وفد قريش وعرض عليه كل ما يغري الشباب ويرضي الطامي من رئاسة
وشرف ومال عظيم وزواج كري ،فرفض كل ذلك ف صرامة وصراحة ،وكلمة عمه
وحاول أن يد من نشاطه ف سبيل الدعوة فقال (( :يا عم وال لو وضعوا الشمس ف يين
والقمر ف يساري على أن أترك هذا المر حت يظهره ال أو أهلك فيه ما تركته )) ث كان
أسوة للناس ف عصره وبعد عصره بقيامه بأكب قسط من الهاد واليثار ،والزهد وشظف
234
العيش وأقل قسط من العيش وأسباب الياة ،فقد أوصد على نفسه البواب وسد ف وجهه
الطرق وتعدى ذلك إل أسرته وأهل بيته والتصلي به ،فكان أكثر الناس اتصالً به وأقربم
إيه أقلهم حظا ف الياة ,وأعظمهم نصيبا ف الهاد واليثار ,فإذا أراد أن يرم شيئا بدأ
ذلك بشيته وبيته ,وإذا سن حقا أو فتح بابا لنفعة قدم الخرين وربا حرمه على عشيته
القربي .أراد أن يرم الربا فبدأ بربا عمه عباس بن عبد الطلب فوضعه كله ,وأراد أن يهدر
دماء الاهلية فبدأ بدم ابن ربيعة بن الارث بن عبد الطلب فأبطله ,وسن الزكاة وهي منفعة
مالية عظيمة مستمرة إل يوم القيامة فحرمها على عشيته بن هاشم إل آخر البد ,وكلمه
علي بن أب طالب يوم الفتح أن يمع لبن هاشم الجابة مع السقاية فأب وطلب عثمان بن
طلحة وناوله مفتاح الكعبة وقال :هاك مفتاحك يا عثمان ،اليوم يوم بر ووفاء ،وقال
خذوها خالدة تالدة فيكم ل ينعها منكم إل ظال ،وحل أزواجه على الزهد والقناعة
وشظف العيش وخيهن بي عشرته مع الفقر وضيق العيش ،ومفارقته مع السعة والرخاء وتل
عليهن قوله تعال { :يَا أَّيهَا النّبِ ّي قُل لَّأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنّ تُ ِردْنَ اْلحَيَاةَ الدّنْيَا َوزِينََتهَا فَتَعَالَيْنَ
أُمَتّعْكُنّ َوأُسَرّحْ ُكنّ سَرَاحا َجمِيلً{ }28وَإِن كُنتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ َورَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَ َة فَإِنّ اللّهَ
أَ َعدّ لِ ْل ُمحْسِنَاتِ مِنكُنّ َأجْرا عَظِيما } فاخترن ال والرسول ،وتأتيه فاطمة تشكو إليه ما
تلقى ف يدها من الرحى وبلغها أنه جاءه رقيق فيوصيها بالتسبيح والتحميد والتكبي ويقول لا
إنه خي لا من خادم ..وهكذا كان شأنه مع أهل بيته والتصلي به فالقرب ث القرب .
وآمن به رجال من قريش ف مكة فاضطربت حياتم القتصادية اضطرابا عظيما ،وكسدت
تارتم وحرم بعضهم رأس ماله الذي جعه ف حياته ،وحرم بعضهم أسباب الترف والرخاء
وأناقة اللباس الت كان فيها مضرب الثل ،وكسدت تارة بعضهم لشتغاله بالدعوة
وانصراف الزبائن عنه وحرم بعضهم نصيبه ف ثروة أبيه .
ث لا هاجر الرسول إل الدينة وتبعه النصار تأثرت بذلك بساتينهم ومزارعهم فلما
أرادوا أن يقبلوا عليها بعض الوقت ويصلحوها ل يسمح لم بذلك وأنذرهم ال به فقال :
{وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الّلهِ َولَ ُتلْقُواْ بِأَْيدِي ُكمْ ِإلَى الّتهْلُكَةِ } .
235
وهكذا كان شأن العرب والذين احتضنوا هذه الدعوة منهم فقد كان نصيبهم من
متاعب الهاد وخسائر النفوس والموال أعظم من نصيب أي أمة ف العال وقد خاطبهم ال
شيَتُكُمْ وَأَ ْموَالٌ اقْتَ َرفُْتمُوهَا
بقوله { :قُلْ إِن كَانَ آبَا ُؤكُمْ وَأَبْنَآ ُؤكُمْ وَِإ ْخوَانُ ُكمْ وََأ ْزوَاجُ ُكمْ وَ َع ِ
ضوَْنهَا أَ َحبّ ِإلَيْكُم مّنَ اللّهِ َورَسُولِهِ وَ ِجهَا ٍد فِي سَبِيلِهِ شوْنَ كَسَادَهَا وَ َمسَاكِنُ تَ ْر َ خَ وَِتجَارَةٌ َت ْ
فَتَرَّبصُواْ حَتّى َيأْتِيَ الّلهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لَ َي ْهدِي الْ َقوْ َم الْفَاسِقِيَ } وقال { :مَا كَانَ لِأَ ْه ِل الْ َمدِينَةِ
وَمَنْ َح ْوَلهُم مّنَ الَعْرَابِ أَن يََتخَلّفُواْ عَن رّسُولِ اللّهِ َولَ يَرْغَبُواْ ِبأَن ُفسِ ِهمْ عَن نّ ْفسِهِ } لن
سعادة البشرية إنا كانت تتوقف على ما يقدمونه من تضحية وإيثار ما يتحملون من خسائر
ونكبات فقال َ { :ولَنَبُْلوَنّكُمْ ِبشَيْءٍ مّنَ اْلخَوفْ وَاْلجُوعِ وَنَقْصٍ مّ َن الَمَوَالِ وَالنفُسِ
سبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُوا أَن يَقُولُوا آمَنّا وَ ُهمْ لَا يُفْتَنُونَ } وكان إحجام وَالّثمَرَاتِ } وقال { :أَ َح ِ
العرب عن هذه الكرمة وترددهم ف ذلك امتدادا لشقاء النسانية واستمرارا للوضاع السيئة
ف العال فقال ِ{ :إلّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَ ٌة فِي الَ ْرضِ َوَفسَادٌ كَبِيٌ } .
وقد وقف العال ف القرن السادس السيحي على مفترق الطرق إما أن يتقدم العرب
ويعرضوا نفوسهم وأموالم وأولدهم وكل ما يعز عليهم للخطر ويزهدوا ف مطامع الدنيا
ويضحوا ف سبيل الصلحة الجتماعية بأنانيتهم فيسعد العال وتستقيم البشرية وتقوم سوق
النة وتروج بضاعة اليان ،وإما أن يؤثروا شهواتم ومطامعهم وخظوظهم الفردية على
سعادة البشرية وصلح العال فيبقى العال ف حأ الضللة والشقاء إل ما شاء ال ،وقد أراد
ال بالنسانية خيا وتشجع العرب – با نفخ فيهم ممد صلى ال عليه وسلم من روح اليان
واليثار وحبب إليهم الدار الخرة وثوابا – فقدموا أنفسهم فداء للنسانية كلها وزهدوا ف
مطامع الدنيا طمعا ف ثواب ال وسعادة النوع النسان وجاهدوا بأموالم وأنفسهم ف سبيل
ال ،وضحوا بكل ما يرص عليه الناس من مطامع وشهوات وآمال وأحلم وأخلصوا ل
العمل والهاد فآتاهم ال ثواب الدنيا وحسن ثواب الخرة وال يب الحسني .
وقد استدار الزمان كهيئته يوم بعث الرسول ووقف العال على مفترق الطرق مرة ثانية
إما أن يتقدم العرب – وهم أمة الرسول وعشيته – إل اليدان ويغامروا بنفوسهم وإمكانياتم
ومطامهم وياطروا فيما هم فيه من رخاء وثراء ودنيا واسعة ،وفرص متاحة للعيش وأسباب
236
ميسورة فينهض العال من غثاره وتتبدل الرض غي الرض وإما أن يستمروا فيما هم فيه من
طمع وطموح ،وتنافس ف الوظائف والرتبات وتفكر ف كثرة الدخل واليراد وزيادة غلة
الملك وربح التجارات والصول على أسباب الترف والتنعم فيبقى العال ف هذا الستنقع
الذي يتردى فيه منذ قرون .
إن العال ل يسعد وخية الشباب ف العواصم العربية عاكفون على شهواتم تدور
حياتم حول الادة والعدة ل يفكرون ف غيها ول يترفعون عن الهاد ف سبيلهما ولقد كان
شباب بعض المم الاهلية الذين ضحوا بستقبلهم ف سبيل البادئ الت اعتنقوها أكب منهم
نفسا ،وأوسع منهم فكرا ،بل كان الشاعر الاهلي (( امرؤ القيس )) أعلى منهم هة ،إذ
قال :
ولو أنن أسعى لدن معيشة *** كفان ول أطلب قليل من الال
ولكنما أسعى لجد مؤثل *** وقد يدرك الجد الؤثل أمثال
إن العال ل يكن أن يصل إل السعادة إل على قنطرة من جهاد ومتاعب يقدمها
الشباب السلم ،إن الرض لفي حاجة إل ساد ،وساد أرض البشرية الذي تصلح به وتنبت
زرع السلم الكري هي الشهوات والطامع الفردية الت يضحي با الشباب العرب ف سبيل
علو السلم وبسط المن والسلم على العال وانتقال الناس من الطريق الؤدية إل جهنم إل
الطريق الؤدية إل النة .
إنه لثمن قليل جدا لسلعة غالية جدا .
237
اليل وأنواع الرياضة البدنية والتدريبات العسكرية ،واستبدلوا با ألعابا ل تفيدهم شيئا ،
فالهم لرجال التعليم والتربية قادة الشعوب العربية أن يربوا الشبيبة العربية على الفروسية
والياة العسكرية ،وعلى البساطة ف العيشة وخشونة العيش واللدة وتمل الشاق
والتاعب ،والصب على الكروه !.
وقد كتب الرب الكبي أمي الؤمني عمر بن الطاب إل بعض عماله العرب وهم ف
(25
بلد العجم (( :إياكم والتنعم وزي العجم وعليكم بالشمس فإنا حام العرب ،وتعددوا
، )4واخشوشنوا ، )(155واخشوشبوا ، )(256واخلولقوا ، )(257وأعطوا الركب أسنتها ،وانزوا
نزوا ،وارموا الغراض . )))(258
وقد قال النب صلى ال عليه وسلم (( :ارموا بن إساعيل فإن أباكم كان راميا)) )(259
وقال (( :أل إن القوة الرمي ،أل إن القوة الرمي. )) )(260
ومن واجب رجال التربية وولة المر أن ياربوا بكل قوتم ما يضعف روح الرجولة
واللدة ويبعث على التخنث والعجز ،من عادات وأدب وصحافة وتعليم ،ويأخذوا على
يد الصحافة الاجنة والدب الليع اللحد ،الذي ينشر ف الشباب النفاق والدعارة
والفسوق ،وعبادة اللذة والشهوات ،ول يسمحوا لؤلء التجارة الذين يبون أن تشيع
الفاحشة ف الذين آمنوا أن يدخلوا ف معسكر ممد صلى ال عليه وسلم الذي بعث ليتمم
مكارم الخلث ،ويفسدوا على الناشئة السلمية قلبها وأخلقهم ،ويزينوا لا الفسوق
والعصيان ،وحب الفحشاء ،بثمن بس دراهم معدودة ،وقد شهد التاريخ بأن كل أمة
أصيب رجالا ف رجولتهم وغيتم ،ونساؤها ف أنوثتهن وأمومتهن ،وطغى فيهن التبج ،
ومزاحة الرجال ف كل شيء ،والزهد ف الياة النلية ،وحبب إليهن العقم ،أفل نمها
وكسفت شسها ،فأصبحت أثرا بعد عي .
((254
تمعدد الغلم :شب وغلظ .وقيل معناه :تشبهوا بعيش معد بن عدنان وكان ذا غلظ وتقشف .
((155
اخشوشن :تخشن في المطعم والملبس .
((256
اخشوشب :صار صلبًا كالخشب في أحواله وصيره على الجهد .
((257
تبذلوا في الملبس .
((258
رواه البغوي عن أبي عثمان النهدي .
((259
رواه البخاري .
((260
رواه مسلم .
238
هذه كانت عاقبة اليونان والرومان والفرس ،وإن أوربا لفي طريقها إل هذه العاقبة ،
فليحذر العال العرب من هذا الصي الائل .
239
والعبيد ،ويتحكم ف أموالم وأملكهم ونفوسهم وأغراضهم ،ول تكن المة الت كانت
ل لشخصه ول تكن حياته إل امتدادا لياته . يكم عليها إل ظ ً
لقد كانت الياة تدور حول هذا الفرد بتاريها وعلومها وآدابا وشعرها وانتاجها ،
فإذا استعرض أحد تاريخ هذا العهد أو أدب تلك الفترة من الزمان وجد هذه الشخصية
تسيطر على المة أو الجتمع ،كما تسيطر شجرة باسقة على الشائش والشجيات الت
تنبت ف ظلها وتنعها من الشمس والواء ،كذلك تضمحل هذه المة ف شخص هذا الفرد
وتذوب فيه وتصبح أمة هزيلة ل شخصية لا ول إرادة ،ول حرية لا ول كرامة .
وكان هذا الفرد هو الذي تدور لجله عجلة الياة ،فلجله يتعب الفلح ويشتغل
التاجر ويتهد الصانع ،ويؤلف الؤلف وينظم الشاعر ،ولجله تلد المهات ،وف سبيله
يوت الرجال وتقاتل اليوش ،بل ولجله تلفظ الرض خزائنها ويقذف البحر نفائسه
وتستخرج كنوز الرض خياتا .
وكانت المة – وهي صاحبة النتاج وصاحبة الفضل ف هذه الرفاهية كلها -تعيش
عيش الصعاليك ،أو الرقاء الماليك ،وقد تسعد بفتات مائدة اللك وبا يفضل عن حاشيته
فتشكر ،وقد تُحرم ذلك أيضا فتصب ،وقد توت فيها النسانية فل تنكر شيئا بل تتسابق ف
التزلف وانتهاز الفرص .
هذا هو العهد الذي ازدهر ف الشرق طويلً وترك رواسب ف حياة هذه المة ونفوسها
وف أدبا وشعرها ،وأخلقها واجتماعاتا ،وخلّف آثارا باقية ف الكتبة العربية ،ومن هذه
الثار الناطقة كتاب (( ألف ليلة وليلة )) الذي يصور ذلك العهد تصويرا بارعا ،يوم كان
الليفة ف بغداد أو اللك ف دمشق أو القاهرة ،هو كل شيء ،وبطل رواية الياة ومركز
الدائرة إن هذا العهد الذي يثله كتاب (( ألف ليلة وليلة )) بأساطيه وقصصه ،وكتاب
الغان بتاريه وأدبه ،ل يكن عهدا إسلميا ،ول عهدا طبيعيا معقولً ،فل يرضاه السلم
ول يقرّه العقل ،بل إنا جاء السلم بدمه والقضاء عليه ،فقد كان هذا هو العهد الذي
بعث فيه ممد صلى ال عليه وسلم فسماه الاهلية ونعى عليه وأنكر على ملوكه – ككسرى
وقيصر – وعلى أثرتم وترفهم أشد النكار .
240
إن هذا العهد غي قابل للبقاء والستمرار ف أي مكان وف أي زمان ول سبيل إليه إل
إذا كانت المة مغلوبة على أمرها أم مصابة ف عقلها أو فاقد الوعي والشعور أو ميتة النفس
والروح .
إن هذا الوضع ل يقره عقل ،ومن الذي يسوّغ أن يتخم فرد أو بضعة أفراد بأنواع
الطعام والشراب ويوت آلف جوعا ومسبغة ،ومن الذي يسوغ أن يعبث ملك أو أبناء
ملك بالال عيث الجاني ،والناس ل يدون من القوت ما يقيم صلبهم ومن الكسوة ما يستر
جسمهم ،ومن الذي يسوغ أن يكون حظ طبقة – وهي الكثرة – النتاج وحده والكدح
ف الياة والعمل الضن الذي ل ناية له ،وحظ طبقة – وهي ل تاوز عدد الصابع – إل
التلهي بثمرات تعب الطبقة الول من غي شكر وتقدير وف غي عقل ووعي ،ومن الذي
يسوغ أن يشقى أهل الصناعة وأهل الذكاء وأهل الجتهاد وأهل الواهب وأهل الصلح ،
وينعم رجال ل يسنون غي التبذير ول يعرفون صناعة غي صناعة الفجور وشرب المور ؟!
ومن الذي يسوغ أن تُجفى أهل الكفاية وأهل النبوغ وأهل المانة ويقصوا كالنبوذين ويتمع
حول ملك أو أمي فوج من خساس النفوس وسخفاء العقول وفاقدي الضمائر من ل ه ّم لم
إل ابتزاز الموال وإرضاء الشهوات ،ول يسنون فنا من فنون الدنيا غي التملق والطراء
والؤامرة ضد البرياء ،ول يتصفون بشيء غي فقدان الشعور وقلة الياء .
إنه وضع شاذ ل ينبغي أن يبقى يوما فضلً عن أن يبقى أعواما .
إنه إن سبق ف عهد من عهود التاريخ وبقي مدة طويلة فقد كان ذلك على غفلة من
المة أو على الرغم منها ،وبسبب ضعف السلم وقوة الاهلية ،ولكنه خليق بأن ينهار
ويتداعى كلما أشرقت شس السلم واستيقظ الوعي وهبت المة تاسب نفسها وأفرادها .
فالذين ل يزالون يعيشون ف عال (( ألف ليلة وليلة )) إنا يعيشون ف عال الحلم ،
إنا يعيشون ف بيت أوهن من بيت العنكبوت ،إنا يعيشون ف بيت مهدد بالخطار ل
يدرون مت يكبس ،ول يدرون مت تعمل فيه معاول الدم ،وإن سلموا من كل هذا فل
يدرون مت ير عليهم السقف من فوقهم فإنه بيت قائم على غي أساس متي وعلى غي دعائم
قوية .
241
أل إن عهد ألف ليلة وليلة قد مضى فل يدعنّ أقوام أنفسهم ول يربطوا نفوسهم
يعجلة قد تكسرت وتطمت ،إن اللوكية مصباح – إن جاز هذا التعبي – قد نفذ زيته
واحترقت فتيلته ،فهو إل إنطفاء عاجل ولو ل تب عاصفة .
إنه ل مل ف السلم لي نوع من أنواع الثرة ،إنه ل مل فيه للثرة الفردية أو
العائلية الت نراها ف بعض المم الشرقية والقطار السلمية ول مل فيه للثرة النظمة الت
نراها ف أوربا وأمريكا وف روسيا ،فهي ف أوربا أثرة حزب من الحزاب ،وف أمريكا أثرة
الرأساليي ،وف روسيا قلة آمنت بالشيوعية التطرفة وفرضت نفسها على الكثرة وهي تعامل
العمال والعتقلي بقسوة نادرة ووحشية ربا ل يوجد لا نظي ف تاريخ السخرة الظالة. )(261
إن الثرة يمع أنواعها ستنتهي وإن النسانية ستثور عليها وتنتقم منها انتقاما شديدا ،
إنه ل مستقبل ف العال إل للسلم السمح العادل الوسط وإن طال أجل هذه (( الثرات ))
وأرخي لا العنان وتادت ف غيها وطغيانا مدة من الزمان .
إن الثرة – فردية كانت أو عائلية أو حزبية أو طبقية – غي طبيعية ف حياة المة وإنا
تتخلص منها ف أول فرصة إنه ل مل لا ف السلم ول مل لا ف متمع واع بلغ الرشد ول
أمل ف استمرارها ؛ فخي للمسلمي وخي للعرب وخي لقادتم وولة أمورهم أن يلصوا
أنفسهم منها ويقطعوا صلتهم با قبل أن تغرق فيغرقوا معها .
244
العصري ،أما فضلها على اللغة العربية وإحياؤُها للكتب العربية ،وتقدم الصحافة والطباعة
وحركة النشر فيها ،فمن الأثر والفاخر الت سيسجلها التاريخ ،ويردد صداها الستقبل ،
ويدين بفضلها العرب جيعا .
( (262تضم سورة السراء وقصة المعرج وإعلنات بأن محمداً صلى ال عليه وسلم هو نبى القبيلتين وإمام المشرقين والمغربين
ووارث النبياء قبله وإمام الجيال بعده .
245
لقد خرجوا من ضيق جزيرة العرب ،ومن ضيق الياة فيها ،ومن ضيق التفكي ف
مسائلها ومصالها ،ومن ضيق التناحر على سيادتا ،ومن ضيق التكالب على حطامها
القليل وملكها الضئيل وعيشها الذليل ،إل عال جديد من السيادة الروحية واللقية والعلمية
والسياسية ،ليس الدانوب الفائض والنيل السعيد والفرات العذب والسند الطويل إل سواقي
حقية وترعا صغية فيه ،وليست جبال اللب والبانس وعقاب لبنان وقمم هاليا إل تللً
متواضعة وسدودا صغية ،وليست البلد كالند والصي وتركستان إل أحياء ضيقة وحارات
صغية ،ونقطا مغمورة ف هذا العال ،وليست هذه الرض كلها – إذا نظر إليها من ارتقى
إل قمة هذه السيادة – إل خريطة صغية ملونة يراها الطائر الحلق ف السماء ،وليست المم
الكبية – مع ثقافتها وحضاراتا وآدابا – إل أسرا صغية ف أمة كبية .
لقد قام العال الكبية على أساس العقيدة الواحدة ،واليان العميق والصلة الروحية
القوية ،وكان أوسع عال عرفه التاريخ وكانت الشعوب الت تكون هذا العال أقوى أسرة
عرفها التاريخ ،تنصهر فيها الثقافات الختلفة ،والعبقريات الختلفة ،فتكون منها ثقافة
واحدة هي الثقافة السلمية ،الت ل تزل تظهر ف نوابغ السلم الذين ل يصيهم عدد وف
الآثر السلمية – بي علمية وعملية – الت ل يستقصيها التاريخ .
لقد كانت – ول تزال – قيادة هذا العال بدارة واستحقاق أشرف قيادة وأعظمها
وأقواها ف تاريخ الزعامة والقيادة ،وقد أكرم ال با العرب لا أخلصوا لذه الدعوة السلمية
وتفانوا ف سبيلها ،فأحبهم الناس ف العال حبا ل يعرف له نظي ،وقلدوهم ف كل شيء
تقليدا ل يعرف له نظي ،وخضعت للغتهم اللغات ،ولثقافتهم الثقافات ،ولضارتم
الضارات ،فكانت لغتهم هي لغة العلم والتأليف ف العال التمدن من أقصاه إل قصاه ،
وهي اللغة القدسة البيبة الت يؤثرها الناس على لغاتم الت نشأوا عليها ،ويؤلفون فيها أعظم
مؤلفاتم وأحب مؤلفاتم ،ويتقنونا كأبنائها وأحسن ،وينبغ فيها أدباء ومؤلفون يضع لم
الثقفون ف العال العرب ،ويقر بفضلهم وإمامتهم أدباء العرب ونقادهم .
246
وكانت حضارتم هي الضارة الثلي الت يتمجد الناس ويتظرفون بتقليدها ،ويث
علماء الدين على تفضيلها على الضارات الخرى ويطلقون على كل ما يالفها من
الضارات – اسم (( الاهلية )) و (( العجمية )) وينهون عن اتاذ شعائرها ومظاهرها .
وبقيت هذه القيادة الشاملة الكاملة مدة طويلة والناس ل يفكرون ف ثورة عليها ،وف
التخلص منها ،كما هي عادة الفتوحي والمم الغلوبة على أمرها ف كل عهد ،لن صلتهم
بذه القيادة ليست صلة الفتوح بالفاتح أو الحكوم بالاكم أو الرقيق بالسيد القاهر ،إنا هي
صلة التدين بالتدين ،وصلة الؤمن بالؤمن ،وعلى الكثر إنا هي صلة التابع بالتبوع الذي
سبقه بعرفة الق واليان بالدعوة والتفان ف سبيلها ،فل مل للثورة ،ول مل للتذمر ،ول
مل لنكران الميل ،إنا اللئق أن يعترفون لم بالفضل ،وتلهج ألسنتهم بالشكر والدعاء ،
وأن يقولوا { :رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا َولِإِ ْخوَانِنَا اّلذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيَانِ وَلَا َتجْعَ ْل فِي قُلُوبِنَا غِلّا لّّلذِينَ
ف رّحِيمٌ } . ك َرؤُو ٌ آمَنُوا رَبّنَا إِنّ َ
وهكذا كان ،فقد ظلت هذه المم الفتوحة تعتب العرب النقذ من الاهلية والوثنية ،
والداعي إل دار السلم ،والقائد إل النة ،والعلم للحضارة ،والستاذ ف الدب .
هذه هي القيادة العالية الت هيأتا البعثة الحمدية ،وهي القيادة الت يب أن يرص
عليها العرب أشد الرص ،ويعضوا عليها بالنواجذ ،ويسعوا إليها بكل ما أوتوا من مواهب
ويتواصى با البار والبناء ،ول يوز لم – ف شريعة العقل والدين والغية – أن يتخلوا
عنها ف زمن من الزمان ،ففيها عوض عن كل قيادة مع زيادة ،وليس ف غيها عوض عنها
وكفاية ،وهي القيادة الت تشمل جيع أنواع القيادة والسيارة ،وهي تسيطر على القلوب
والرواح ،أكثر من سيطرتا على الجسام والشباح .
إن الطريق إل هذه القيادة مهدة ميسورة للعرب ،وهي الطريق الت جربوها ف
عهدهم الول (( الخلص للدعوة السلمية واحتضانا وتنبيها والتفان ف سبيلها وتفضيل
منهج الياة السلمي على جيع مناهج الياة )) .
وبذلك – من غي قصد وإرادة لنيل هذه القيادة وتبوئها – تضع لم المم السلمية
ف أناء العال ،وتتهالك على حبهم وإجللم وتقاليدهم ،وبذلك تنفتح لم أبواب جديدة
247
وميادين جديدة ف مشارق الرض ومغاربا ،اليادين الت استعصت على غزاة الغرب
ومستعمريه وثارة عليه ،وتدخل أمم جديدة ف السلم ،أمم فتية ف مواهبها وقواها
وذخائرها ،أمم تستطيع أن تعارض أوربا ف مدنيتها وعلومها إذا وجدت إيانا جديدا ،ودينا
جديدا ،وروحا جديدا ،ورسالة جديدة .
إل مت أيها العرب تصرفون قواكم البارة الت فتحتم با العال القدي ف ميادين ضيقة
مدودة ؟ وإل مت ينحصر هذا السيل العرم – الذي جرف بالمس بالدنيات والكومات –
ف خدود هذا الوادي الضيق ،تصطرع أمواجه ويلتهم بعضها بعضا ؟ إليكم هذا العال
النسان الفسيح الذي اختاركم ال لقيادته واجتباكم لدايته ،وكانت البعثة الحمدية فاتة
هذا العهد الديد ف تاريخ أمتكم وف تاريخ العال جيعا ،وف مصيكم ومصي العال جيعا
فاحتضنوا هذه الدعوة السلمية من جديد وتفانوا ف سبيلها وجاهدوا فيها { َوجَا ِهدُوا فِي
اللّهِ َحقّ ِجهَا ِدهِ ُهوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَ َعلَ عَلَيْ ُك ْم فِي الدّينِ مِنْ حَ َرجٍ مّلّةَ أَبِي ُكمْ إِبْرَاهِيمَ ُهوَ
َسمّاكُمُ اْل ُمسْلِميَ مِن قَبْلُ َوفِي َهذَا لِيَكُونَ الرّسُولُ َشهِيدا عَلَيْ ُكمْ وَتَكُونُوا ُش َهدَاء َعلَى النّاسِ
فََأقِيمُوا الصّلَاةَ وَآتُوا ال ّزكَاةَ وَاعَْتصِمُوا بِاللّهِ ُهوَ َم ْولَا ُكمْ فَنِ ْعمَ اْل َموْلَى وَنِ ْعمَ الّنصِيُ } .
**************************************
/http://www.saaid.net
248