You are on page 1of 248

‫‪/http://www.saaid.

net‬‬

‫ماذا خسر العال‬


‫بانطاط السلمي؟‬

‫أبو السن علي السن الندوي‬

‫ومقدمة بقلم الشهيد‬


‫سَيّد قطب‬
‫‪/http://www.saaid.net‬‬
‫ن الَّر ِ ِ‬
‫حيم‬ ‫سم ِ اللهِ الَّر ْ‬
‫حم ِ‬ ‫بِ ْ‬
‫مقدمة‬
‫بقلم الباحث السلمي الستاذ سيد قطب‬
‫ما أحوج السلمي اليوم إل من يرد عليهم إيانم بأنفسهم وثقتهم باضيهم ورجاءهم‬
‫ف مستقبلهم ‪ ..‬وما أحوجهم لن يرد عليهم إيانم بذا الدين الذي يملون اسه ويهلون‬
‫كنهه‪ ،‬ويأخذونه بالوراثة أكثر ما يتخذونه بالعرفة‪.‬‬
‫وهذا الكتاب الذي بي يدي‪" :‬ماذا خسر العال بانطاط السلمي" لؤلفه (السيد أب‬
‫السن علي السن الندوي) من خي ما قرأت ف هذا التاه ‪ ،‬ف القدي والديث سواء‪.‬‬
‫إن السلم عقيدة استعلء‪ ،‬من أخص خصائصها أنا تبعث ف روح الؤمن با إحساس‬
‫العزة من غي كب ‪ ،‬وروح الثقة ف غي اعتزاز‪ ،‬وشعور الطمئنان ف غي تواكل‪ .‬وأنا تشعر‬
‫السلمي بالتبعة النسانية اللقاة على كواهلهم‪ ،‬تبعة الوصاية على هذه البشرية ف مشارق‬
‫الرض ومغاربا‪ ،‬وتبعة القيادة ف هذه الرض للقطعان الضالة‪ ،‬وهدايتها إل الدين القيم‪،‬‬
‫والطريق السوي‪ ،‬وإخراجها من الظلمات إل النور با آتاهم ال من نور الدى والفرقان ‪:‬‬
‫{ كُنُتمْ خَيْرَ أُمّةٍ ُأخْرِ َجتْ لِلنّاسِ َتأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَْن َهوْنَ عَ ِن الْمُنكَرِ وَُتؤْمِنُونَ بِاللّهِ } ‪...‬‬
‫{ َوكَ َذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا لّتَكُونُواْ ُش َهدَاء عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ َعلَيْ ُكمْ َشهِيدا } ‪.‬‬
‫وهذا الكتاب الذي بي يدي يثي ف نفس قارئه هذه العان كلها‪ ،‬وينفث ف روعه‬
‫تلك الصائص جيعها‪ ،‬ولكنه ل يعتمد ف هذا على مرد الستثارة الوجدانية أو العصبية‬
‫الدينية ‪ ،‬بل يتخذ الوضوعية أداته‪ ،‬فيعرضها على النظر والس العقل والوجدان جيعا‪،‬‬
‫ويعرض الوقائع التاريية واللبسات الاضرة عرضاَ عاد َل مستنياَ ‪،‬ويتحاكم ف القضية الت‬
‫يعرضها كاملة إل الق والواقع والنطق والضمي‪ ،‬فتبدو كلها متساندة ف صفة وف صف‬
‫قضيته‪ ،‬بل تحل ول اعتساف ف مقدمة أو نتيجة‪ .‬وتلك مزية الكتاب الول‪.‬‬
‫إنه يبدأ فيسم صورة صغية سريعة‪ -‬ولكنها واضحة‪ -‬لذا العال قبل أن تشرق عليه‬
‫أنوار السلم الول‪ .‬رسم الصورة لذا العال شرقا وغربا وشالً وجنوبا‪ ،‬من الند و الصي‬

‫‪2‬‬
‫إل فارس والروم‪ ،‬صورة الجتمع وصورة الضمي ف هذه الدنيا العريضة‪ ،‬ف الماعات الت‬
‫تظلها الديانات السماوية‪ ،‬كاليهودية والسيحية‪ ،‬والت تظلها الديانات الوثنية‪ ،‬كالندوكية‬
‫والبوذية والزرادشتية ‪ ..‬وما إليها ‪..‬‬
‫إنا صورة جامعة تعرض رقعة العال وتصفها وصفا بينا‪ ،‬ل يعتسف الؤلف فيه‪ ،‬ول‬
‫يستبد به‪ ،‬إنا يشرك معه الباحثي والؤرخي من القدامى والحدثي ‪ ،‬من يدينون بغي السلم‬
‫‪ ،‬فل شبهة ف أن يكونوا مغرضي له ‪ ،‬وللدور الذي أداه ف ذلك العال القدي ‪.‬‬
‫إنه يصف العال تسيطر عليه روح الاهلية ‪ ،‬ويتعفن ضميه ‪ ،‬وتأسن روحه ‪ ،‬وتتل‬
‫فيه القيم والقاييس ‪ ،‬ويسوده الظلم والعبودية ‪ ،‬وتتاحه موجة من الترف الفاجر والرمان‬
‫التاعس ‪ ،‬وتغشاه غاشية من الكفر والضلل والظلم ‪ ،‬على الرغم من الديانات السماوية ‪،‬‬
‫الت كانت فد أدركها التحريف ‪ ،‬وسرى فيها الضعف ‪ ،‬وفقدت سيطرتا على النفوس ‪،‬‬
‫واستحالت جامدة ‪ ،‬ل حياة فها ول روح ‪ ،‬وباصة السيحية‪.‬‬
‫‪ ...‬فإذا فرغ الؤلف من رسم صورة العال باهليته هذه ‪ ،‬بدأ يعرض دور السلم ف‬
‫حياة البشرية ‪ .‬دوره ف تليص روح البشر من الوهم والرافة ‪ ،‬ومن العبودية والرق ‪ ،‬ومن‬
‫الفساد والتعفن ‪ ،‬ومن القذارة والنلل ‪ ،‬ودوره ف تليص الجتمع النسان من الظلم‬
‫والطغيان‪ ،‬ومن التفكك والنيار ‪ ،‬ومن فوارق الطبقات واستبداد الكام واستذلل الكهان ‪،‬‬
‫ودوره ف بناء العال على أسس من العفة والنظافة واليابية والبناء ‪ ،‬والرية والتجدد ‪ ،‬ومن‬
‫العرفة واليقي ‪ ،‬والثقة واليان ‪ .‬والعدالة والكرامة ‪ ،‬ومن العمل الدائب لتنمية الياة وترقية‬
‫الياة ‪ ،‬وإعطاء كل ذي حق حقه ف الياة ‪.‬‬
‫كل أولئك ف إبان الفترة الت كانت القيادة فيها للسلم ف أي مكان ‪ ،‬والت كان‬
‫السلم فيها يعمل ‪ ،‬وهو ل يستطيع أن يعمل أن يعمل أل أن تكون له القيادة ‪ ،‬لنه بطبيعته‬
‫عقيدة استعلء ‪ ،‬ومنهج قيادة ‪ ،‬وشرعة ابتداع ل إتباع ‪.‬‬
‫ث تيء الفترة الت فقد السلم فيها الزمام ‪ ،‬بسبب انطاط السلمي ‪ ،‬وتليهم عن‬
‫القيادة الت يفرضها عليهم هذا الدين ‪ ،‬والوصاية الت يكلفهم با على البشرية ‪ ،‬والتبعات الت‬
‫ينوطها بم ف كل اتاه ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫وهنا يستعرض الؤلف أسباب هذا لنطاط الروحية والادية ‪ ،‬ويصف ما حل‬
‫بالسلمي أنفسهم عندما تلوا عن مبادئ دينهم ‪ ،‬ونكصوا عن تبعاتم ‪ ،‬وما نزل بالعال كله‬
‫من فقدانه لذه القيادة الراشدة ‪ ،‬ومن انتكاسه إل الاهلية الول ‪ ،‬ويرسم خط الندار‬
‫الرهيب الذي ترتكس فيه النسانية ف ذات الوقت الذي تفتح فيه آفاق العال الباهرة ‪ .‬يرسم‬
‫هذا الط عن طريق التأمل الفاحص ‪ ،‬ل بالمل النارية والتعبيات الجنحة ‪ .‬فالقائق‬
‫الواقعة ‪ ،‬كما عرضها الؤلف غنية عن كل برج وكل تزويق ‪.‬‬
‫ومن خلل هذا الستعراض ‪ ،‬يس القارئ ‪ ،‬بدى الاجة البشرية اللحة إل تغيي‬
‫القيادة النسانية ‪ ،‬وردها إل الدى الذي انبثق ليخرج الناس من الظلمات إل النور ‪ ،‬ومن‬
‫الاهلية إل العرفة ‪ ،‬ويشعر بالقيمة الكلية لوجود هذه القيادة ف الرض ‪ ،‬وبدى السارة‬
‫الت حلت بالبشر جيعا ‪ ،‬ل بالسلمي وحدهم ف الاضي وف الاضر وف الستقبل القريب‬
‫والبعيد ‪.‬‬
‫كذلك يثور ف نفس لسلم بصفة خاصة روح الندم ‪ ،‬على ما فرّط ‪ ،‬وروح العتزاز‬
‫با وُهب وروح الستشراف إل القيادة الت ضيّع ‪.‬‬
‫ولعله ما يلفت النظر تعبي الؤلف دائما عن النكسة الت حاقت بالبشرية كلها منذ أن‬
‫عجز السلمون عن القيادة بكلمة " الاهلية " ‪.‬‬
‫وهو تعبي دقيق الدللة على فهم الؤلف للفارق الصيل بي روح السلم ‪ ،‬والروح‬
‫الادي الذي سيطر على العال قبله ‪ ،‬ويسيطر عليه اليوم بعد تلي السلم عن القيادة ‪ ..‬إنا‬
‫(الاهلية) ف طبيعتها الصلية ‪ ،‬فالاهلية ليست فترة من الزمن مدودة ‪ ،‬ولكنها طابع روحي‬
‫وعقلي معي ‪ ،‬طابع يبز بجرد أن تسقط القيم الساسية للحياة البشرية ‪ ،‬كما أرادها ال ‪،‬‬
‫وتل ملها قيم مصطنعة تستند إل الشهوات الطارئة ‪ ،‬وهذا ما تعانيه البشرية اليوم ف حالة‬
‫الرتقاء الول ‪ ،‬كما كانت تعانيه من قبل ف أيام الببرية الول ‪.‬‬
‫فرسالة العال السلمي هي الدعوة إل ال ورسوله واليان باليوم الخر‪ .‬وجائزته هي‬
‫الروج من الظلمات إل النور ‪ ،‬ومن عبادة الناس إل عبادة ال وحده والروج من ضيق‬
‫الدنيا إل سعتها ‪ ،‬ومن جور الديان إل عدل السلم ‪ .‬وقد ظهر فضل هذه الرسالة ‪ .‬وسهل‬
‫‪4‬‬
‫فهمها ف هذا العصر أكثر من كل عصر ‪ ،‬فقد افتضحت الاهلية ‪ ،‬وبدت سوأتا للناس ‪،‬‬
‫واشتد تذمر الناس منها ‪ ،‬فهذا طور انتقال العال من قيادة الاهلية إل قيادة السلم ‪ ،‬لو‬
‫نض العال السلمي ‪ ،‬واحتضن هذه الرسالة بكل إخلص وحاس وعزية ‪ ،‬ودان با‬
‫(( كالرسالة الوحيدة الت تستطيع أن تنقذ العال من النيار والنلل )) ‪ ،‬كما يقول الؤلف‬
‫الفاضل قرب ناية الكتاب ‪.‬‬
‫وأخيا ‪ ،‬فإن الصيصة البارزة ف هذا الكتاب كله هي الفهم العميق لكليات الروح‬
‫السلمية ف ميطها الشامل وهو لذا ل يعد نوذجا للبحث الدين والجتماعي فحسب ‪ ،‬بل‬
‫نوذجا للتاريخ كما ينبغي أن يكتب من الزاوية السلمية‪.‬‬
‫لقد مضى الوربيون يؤرخون للعال كله من زاوية النظر الغربية ‪ ،‬متأثرين بثقافاتم‬
‫الادية ‪ ،‬وفلسفتهم الادية ‪ ،‬ومتأثرين كذلك بالعصبية الغربية والعصبية الدينية – شعروا بذلك‬
‫أم ل يشعروا ومن ّث وقعت ف تاريهم أخطاء وانرافات ‪ ،‬نتيجة إغفالم لقيم كثية ف هذه‬
‫الياة ل يستقيم تاريخ الياة ول يصح تفسي الوادث والنتائج بدونا ‪ ،‬ونتيجة عصبيتهم الت‬
‫تعل أوروبا ف نظرهم هي مور العال ومركزه دائما ‪ ،‬ولغفالم العوامل الخرى الت أثرت‬
‫ف تاريخ البشرية ‪ ،‬أو التهوين من شأنا إذا ل يكن مصدرها هو أوروبا ‪.‬‬
‫ولقد درجنا نن على أن نتلقف التاريخ من أيدي أوربا كما نتلقف كل شيء آخر‬
‫نتلقفه بأخطائه تلك ‪ ،‬وهي أخطاء ف النهج بإغفال قيم كثية وعوامل كثية ‪ ،‬وأخطاء ف‬
‫التصوير نتيجة النظر من زاوية واحدة للحياة البشرية ‪ ،‬وأخطاء ف النتائج تبعا للخطار‬
‫النهجية والتصويرية‪.‬‬
‫وهذا الكتاب الذي بي يدي نوذج للتاريخ الذي ينظر للمور كلها ‪ ،‬وللعوامل جيعها‬
‫‪ ،‬وللقيم على اختلفها ‪ .‬ولعل القارئ ل يكن ينتظر من رجل مسلم ‪ ،‬واثق بقوة الروح‬
‫السلمي ‪ ،‬متحمس لرد القيادة العالية إليه ‪ ،‬أن يتحدث عن مؤهلت القيادة ‪ ،‬فل ينسى‬
‫بوار (الستعداد الروحي) أن يلح ف (الستعداد الصناعي ولرب) و (التنظيم العلمي‬
‫الديد)وأن يتحدث عن (الستقلل التجاري والال ) ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫إنه الحساس التناسق بكل مقومات الياة البشرية ‪ .‬وبذا الحساس التناسق سار ف‬
‫استعراضه التاريي ‪ ،‬وف توجيهه للمة السلمية سواء ‪ ،‬ومن هنا يعد هذا الكتاب نوذجا‬
‫للتاريخ ‪ ،‬كما يب أن يتناوله السلمون مستقلي ‪ .‬عن التأثر بالطريقة الوروبية ‪ ،‬الت‬
‫ينقصها هذا التناسق وهذه العدالة وهذا التحقيق ‪.‬‬
‫وإنه ليسعدن أن أتدث عن هذا الكتاب بذلك الحساس ذاته ‪ ،‬وأن أسجل هذه‬
‫الظاهرة ‪ ،‬وأنا مغتبط بذه الفرصة الت أتاحت ل أن أطلع عليه ف العربية ‪ ..‬اللغة الت آثر‬
‫صاحبه أن يكتبه با ‪ ،‬وأن ينشره ف مصر للمرة الثانية ‪ { :‬إِ ّن فِي َذلِكَ َل ِذكْرَى ِلمَن كَانَ لَهُ‬
‫سمْعَ وَ ُهوَ َشهِيدٌ }‬
‫قَ ْلبٌ َأوْ َألْقَى ال ّ‬
‫سيد قطب‬

‫‪6‬‬
‫مقدمة الطبعة الرابعة‬
‫المد ل ‪ ،‬وسلم على عباده الذين اصطفى ‪.‬‬
‫أما بعد ‪ ،‬فقد ظهرت الطبعة الول لكتاب (( ماذا خسر العال بانطاط السلمي ))‬
‫سنة ‪ 1950‬م فكان القبال عليه عظيما تطى قياس الؤلف ورجاءه ‪ ،‬فقد كان كتابا ل‬
‫يسترعي اهتمام القراء إل موضوعه‪ -‬الذي يكاد يكون طريفا‪ -‬وما يتوي عليه من مادة‬
‫ومعن ‪ ،‬ول يكن من ورائه شخصية الؤلف وشهرته ‪ ،‬فلم يكن قد ظهر لؤلفه كتاب آخر‬
‫قبل هذا الكتاب ف العال العرب ‪ ،‬ول يعرفه الناس ف هذه القطار ‪ .‬فكانت العناية بذا‬
‫الكتاب عناية خالصة مردة للكتاب وللموضوع‪ ،‬ليس فيها نصيب لشخصية الؤلف وشهرته‪.‬‬
‫ول يُعلّل هذا القبال النادر الذي حظي به الكتاب إل بفضل ال تعال ولطفه ‪ ،‬وبعد‬
‫ذلك بأنّ هذا الكتاب قد جاء ف أوانه ‪ ،‬وصادف رغبة غامضة واتاها مبهما ف النفوس ‪،‬‬
‫وبأنه يتجاوب مع شعور كثي من الفكرين والثقفي ف العال لعرب ‪ ،‬ويلتقي مع أفكارهم‬
‫وآرائهم ودراستهم ‪.‬‬
‫وعلى كُ ّل فقد كان الكتاب واسع النتشار ف العواصم العربية والوساط العلمية ‪،‬‬
‫وتناولته طبقات المة وبعض قادة الفكر بالدراسة والبحث ‪ ،‬وأشار الربون والعلمون على‬
‫الشباب بطالعة هذا الكتاب ‪ ،‬والمد ل الذي بعزّته وجلله تتم الصالات ‪.‬‬
‫وقد قامت لنة التأليف والترجة والنشر ف القاهرة بالطبعة ‪ ،‬وكان لا‪ -‬ولشك‪-‬‬
‫فضل ف ظهور هذا الكتاب ف مظهر جيل لئق ‪ ،‬وف نفوذه ف الوساط العلمية والدبية ‪،‬‬
‫وحرصت جاعة الزهر للنشر والتأليف‪ -‬وفيها أصدقاء الؤلف‪ -‬على إعادة طبع الكتاب ‪،‬‬
‫فصرّحت لا بذلك ‪ ،‬ووافق عليه الرحوم الستاذ الكبي الدكتور أحد أمي (بك) رئيس‬
‫اللجنة فظهرت الطبعة الثانية سنة ‪ 1951‬م ‪ ،‬وفيها مقدمات للدكتور ممد يوسف موسى ‪،‬‬
‫والكاتب السلمي الستاذ سيد قطب ‪ ،‬وصديق الؤلف الشيخ أحد الشرباصي ‪ ،‬زادت ف‬
‫قيمة الكتاب ‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ظهرت الطبعة الثانية ‪ ،‬وأنا ف جولت ف الشرق الوسط ‪ ،‬فلم أتكن من أن أضيف‬
‫إليها زيادات كنت أفكر فيها وأشعر بالاجة إليها ‪ ،‬وهيأ ال أسباب الطبعة الثالثة ‪ ،‬ووقعت‬
‫إلّ مصادر جديدة ‪ ،‬وجدّ عندي بعض الراء ونواح جديدة فألقتها بالكتاب ‪ ،‬وتأخرت‬
‫هذه الطبعة لبعض السباب إل سنة ‪ 1959‬م ‪ ،‬ونفدت ف مدة قريبة ‪ ،‬وها هي الطبعة‬
‫الرابعة مزيدة منقحة ‪.‬‬
‫وأسأل ال سبحانه وتعال أن ينفع بذه الطبعة‪ -‬وما يليها من طبعات إن شاء ال –‬
‫كما نفع بالطبعات الول‪ ، )(1‬وأن يعل هذا الكتاب وسيلة للوعي الديد ‪ ،‬واليان الديد‬
‫الذي تشتد حاجة العال السلمي إليه ‪ ،‬إنه على كل شيء قدير‪.‬‬

‫أبو السن علي السن الندوي‬


‫لكهنؤ (الند)‬

‫**********************************‬

‫‪/http://www.saaid.net‬‬

‫(‪ (1‬ظهرت ترجمة الكتاب النكليزية باسم ‪ Islam and the world‬من جامعة بنجاب في لهور باكستان ‪ ،‬وظهرت الطبعة‬
‫الثالثة لترجمة الكتاب الوردية في لكهنؤ الهند ‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫تصدير‬
‫بقلم فضيلة الستاذ‬
‫الدكتور ممد يوسف موسى‬
‫اتصال السماء بالرض لداء رسالة من ال التفرد ف سوه وعليائه ‪ ،‬إل عبيده‬
‫الحتاجي لديه وإرشاده ‪ ،‬حدث من الحداث العظام ‪ ،‬وخرق لنواميس الطبيعة الت ل تتغي‬
‫من طريقها الرسوم إل حي الاجة القصوى ‪ ،‬ولغاية قدرها العزيز العليم ‪.‬‬
‫وليس يدث أو يكون أمر ف هذا العال إل عن سبب اقتضى حدوثه وكونه ‪ ،‬ولغاية‬
‫أريدت منه‪.‬‬
‫وظهور السلم ‪ ،‬وهو أعظم ما رأى العال من أحداث ‪ ،‬ل بد له من أسبابه الت‬
‫استلزمته ‪ ،‬ومهداته الت أعدت له ‪ ،‬وغايته الت تنتظر دائما منه ‪.‬‬
‫ولسنا الن بسبيل الديث ‪ ،‬ولو بالياز الشديد ‪ ،‬عن هذه السباب والمهدات الت‬
‫أعدت لظهور السلم ‪ ،‬بعد أن خل العال الذي كان معروفا حينذاك من الجتمع الصال‬
‫والدين الصحيح ‪ ،‬ولسنا كذلك بسبيل الديث عن الغاية الت جاء السلم من أجلها ‪،‬‬
‫وعمل نبيه ورجاله الولون جاهدين على الوصول إليها ‪ ،‬فسعد به العال ‪ ،‬زمنا طويلً كل‬
‫ذلك معروف ‪ ،‬يصبح الكلم فيه حديثا معادا ‪ ،‬ول مل لثل هذا الديث الن ف الكلمة الت‬
‫يسعدن أن أقدم با لذا الكتاب ‪ ،‬استجابة لطلب مؤلفه صديقنا الستاذ الليل السيد أب‬
‫السن علي السن الندوي ‪ ،‬أحد دعاة السلم من الطراز الول ف هذا العصر الذي نعيش‬
‫فيه ‪.‬‬
‫على أن الكتاب ف غي حاجة حقا لتقدمة مقدم ‪ ،‬فقد تقبله القراء بقبول حسن ‪،‬‬
‫وخصوه بفاوة ل يظفر با كتاب ظهر عن السلم ف هذه اليام ‪ ،‬وإنا هو تواضع وفضل‬
‫من الؤلف الؤمن الصادق اليان جعله يطلب من هذه الكلمة ‪ ،‬وأشهد أن قرأت الكتاب‬
‫حي ظهرت طبعته الول ف أقل من يوم ‪ ،‬وأغرمت به غراما شديدا ‪ ،‬حت لقد كتبت ف‬
‫آخر نسخت وقد فرغت منه (( إن قراءة هذا الكتاب فرض على كل مسلم يعمل لعادة مد‬

‫‪9‬‬
‫السلم )) ‪ ،‬وكل هذا قبل أن أعرف الؤلف الفاضل ‪ ،‬فلما سعدت بعرفته والديث معه‬
‫مرات عديدة ‪ ،‬فهمت كيف ولاذا فتنت بالكتاب ‪ ،‬وعرفت أن مرد هذا كله‪ -‬فوق ما فيه‬
‫من ثرات التوفر على البحث ونشدان الق‪ -‬إل معرفة الكاتب بالسلم معرفة حقه وأخ‬
‫نفسه ف حياته به ‪ ،‬والخلص ف الدعوة الصحيحة له ‪.‬‬
‫لقد أحس صديقنا الفاضل أبو السن ما نسه جيعا ف حسرة بالغة ‪ ،‬وأل شديد ‪،‬‬
‫وهو ما ارتضته الدول السلمية لنفسها من السي ف الؤخرة وراء العال الغرب ‪ ،‬تيل إل ما‬
‫ييل ‪ ،‬وتقبل حكمه فيما يعرض له من شؤونا ‪ ،‬وترضى ما يقره من (قيم) حسب موازينه‬
‫الاصة به ‪.‬وكان من هذا أن فقد العرب‪ -‬والسلم بعامة‪ -‬ثقته بنفسه وجنسه ودينه‬
‫ومعاييه ‪ ،‬وقيمه العالية الت كان يرص عليها أجداده وأسلفه الماجد ‪ ،‬ويلونا من‬
‫أنفسهم الكان العلي الرموق ‪ .‬وهذه علتنا الت يب أن نطب لا ‪ ،‬وف ذلك تتركز‬
‫مشكلتنا ‪ ،‬أو مشاكلنا الت يب علينا أن ند الل الناجع لا من صميم ديننا وتارينا وتراثنا‬
‫الروحي العقلي الالد ‪ ،‬وإل هذا كله نظر مؤلف كتاب "ماذا خسر العال بانطاط السلمي"‬
‫‪ ،‬وإليه جيعه عن نفسه وعمل جهده ‪.‬‬
‫حقا ليست مشكلة العال السلمي اليوم ف عدم الدعاوة للسلم بي غي السلمي ‪،‬‬
‫ول ف اكتساب مسلمي جدد وإنا هذه الشكلة هي انصراف السلمي عن السلم ‪ ،‬وعن‬
‫الشرق إل الغرب بضارته وقيمه الت يدعو إليها وموازينه الت با يزن المور ‪.‬ومن ثّ صرنا‬
‫مسلمي بالسم الولدة والوقع الغراف فحسب ‪ ،‬وعزفنا عن السلم بالفعل ‪ ،‬حت أصبحنا‬
‫ول نعرفه ف تشريعنا وتقاليدنا الت نأخذ هذه اليام أنفسنا با ‪ ،‬ولسنا ف حاجة ف هذا‬
‫لضرب المثال الت نسها ونلمسها جيعا ف رجال الكم ‪ ،‬وف مثلي البلد السلمية ف‬
‫الشرق والغرب ‪ ،‬وفيمن يب أيكون القدوة الطيبة بكم مناصبهم الدينية ف مصر وغي مصر‬
‫‪ ،‬والمر ل من قبل ومن بعد ‪.‬‬
‫ولقد اختتم ال بالسلم رسالته للعال ‪ ،‬فليس لنا أن ننتظر اتصالً جديدا من السماء‬
‫بالرض يطهرها ما كاد يعمها من شرك وضلل وفساد ‪ ،‬ول نبيا آخر بعد رسول السلم ‪،‬‬
‫يرج العال برسالة جديدة من الظلمات إل النور ‪ ،‬ول قرآنا جديدا يهدي النسانية الائرة‬
‫‪10‬‬
‫إل سبيل الرشد والسعادة ‪ .‬ولكن ال الرحن الرحيم ترك فينا بعد هذا ‪ ،‬أو بسبب هذا ‪،‬‬
‫كتابا لن يضل من اتبعه ‪ ،‬وشريعته لن يشقى من عمل با ‪.‬‬
‫وكل ما يب أن نعمل له ‪ ،‬لنخرج والعال كله من هذه الاهلية الت احتوتنا من جيع‬
‫الطراف ‪ ،‬هو إعادة الثقة بديننا حت يكون أساس حياتنا ف كل مقوماتا ‪ ،‬وليس لنا أن‬
‫نطلب من أحد أن يؤمن بذا الدين قبل أن نؤمن نن أولً به ‪ ،‬ولن يكون هذا اليان إل‬
‫بالقدوة الطيبة الصالة نقدمها للناس جيعا ‪.‬‬
‫إن العال ‪ ،‬وهذا أمر لسناه بأنفسنا لسا بأوربا ‪ ،‬يتخذ من فشل السلمي سياسيا‬
‫واقتصاديا دليلً حاسا على عدم صلح السلم لقيادة السلمي بله العال كله ! مع أن هذا‬
‫العال السيحي نفسه حي كان السلمون مسلمي حقا من ناحية العقيدة والعمل على‬
‫السواء ‪ ،‬قد تزعزع عن مسيحيته عندما شاهد ما أحرزته سيوف السلمي من ناح منقطع‬
‫النظي ‪ ،‬إذ اعتقدوا‪ -‬بق – أن ناح السلمي هذا دليل قاطع على صدق دينهم ‪ ،‬مادام ال‬
‫ل يؤت نصره إل لعباده الختارين‪. )(2‬‬
‫وليس ما نقول ‪ ،‬من أثر القوى الطيبة الصالة ف الدعاوة للسلم ‪ ،‬بالقول الذي ل‬
‫يرتكز على دليل وشواهد من التاريخ الصحيح ‪ .‬إن صاحب كتاب الدعوة إل السلم نفسه‬
‫يذكر ما يأت حرفيا ‪:‬‬
‫(( ويظهر أن أخلق صلح الدين ‪ ،‬وحياته الت انطوت على البطولة ‪ ،‬قد أحدثت ف‬
‫أذهان السيحيي ف عصره تأثيا سحريا خاصا ‪ ،‬حت أن نفرا من الفرسان السيحيي ‪ ،‬قد‬
‫بلغ من قوة انذابم إليه ‪ ،‬أن هجروا ديانتهم السيحية ‪ ،‬وهجروا قومهم وانضموا إل‬
‫السلمي ‪ ،‬وكذلك كانت الال عندما طرح النصرانية فارس انكليزي من فرسان العبد يدعى‬
‫(( روبرت أوف سانت ألبانس )) ‪ Robert of St. Albans‬عام ‪ 1185‬م واعتنق‬
‫السلم ‪ ،‬ث تزوج بإحدى حفيدات صلح الدين وبعد عامي غزا صلح الدين ((فلسطي))‬
‫وهزم اليش السيحي هزية منكرة ف واقعة((حطي)) وكان جوي ‪ Guy‬ملك بيت القدس‬
‫بي السرى‪.‬‬
‫(‪ (2‬انظر في هذا الكتاب (( الدعوة إلى السلم (( للسير توماس أرنولد النجليزي المعروف ص ‪ 7‬من الترجمة العربية للدكتور‬
‫حسن إبراهيم وآخرين ‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫وحدث ف مساء العركة أن ترك اللك ستة من فرسانه ‪ ،‬وفروا إل معسكر صلح‬
‫الدين بحض إرادتم‪. )) )(3‬‬
‫هذا شاهد من الشواهد الت ل تصى كثرة ‪ ،‬والت تزخر با كتب التاريخ ف القدي‬
‫والديث ‪ ،‬ومنها نعلم أثر القدوة الطيبة ف النفوس ‪ ،‬حت ف نفوس غي السلمي الذين كنا‬
‫نراهم خصوما لنا وأعداء ‪ ،‬ومنها نعلم أيضا سببا من السباب القوية الت يسرت للمسلمي‬
‫ما فتح ال عليهم من فتوح ‪ ،‬وما ظفروا به من أماد ‪.‬‬
‫إن هذا السلم ل يصلح اليوم إل با صلح به ف المس ‪ ،‬إيان به إيانا يالط شغاف‬
‫قلب الؤمن ‪ ،‬واستعذاب للتضحية ف سبيله با يعتز به الرء من مال ونفس ‪ ،‬واعتزاز با جاء‬
‫به من تشاريع ومبادئ وتقاليد صالة لناض العال وإسعاده ‪ ،‬ودعوة له بالعمل الصال‬
‫والقوى الطيبة ‪ ،‬وعدم القضاء إل بكمه ‪ ،‬وجعل الياة ف كل جوانبها ل تقوم إل عليه ‪.‬‬

‫علينا إذا أردنا أن نأخذ مكاننا من جديد ف قيادة النسانية أن نعتقد اعتقادا حقا يظهر‬
‫أثر ف كل ما نقول أو نعمل‪ -‬ما يراه شاعر السلم الدكتور ممد إقبال من أن السلم ل‬
‫يلق ليندفع مع التيار ‪ ،‬ويساير الركب البشري حيث اته وسار ‪ ،‬بل خلق ليوجه العال‬
‫والجتمع والدينة ‪ ،‬ويفرض على البشرية اتاهه ‪ ،‬ويلي عليها إرادته ‪ ،‬لنه صاحب الرسالة‬
‫وصاحب العلم اليقي ‪ .‬ولنه السؤول عن هذا العال وسيه واتاهه ‪ .‬فليس مقامه مقام‬
‫التقليد والتباع إن مقامه مقام المامة و القيادة ومقام الرشاد والتوجيه ‪ .‬ومقام المر الناهي‬
‫‪ .‬وإذا تنكر له الزمام ‪ ،‬وعصاه الجتمع وانرف عن الادة ‪ ،‬ل يكن له أن يستسلم ويضع‬
‫ويضع أوزاره ويسال الدهر ‪ ،‬بل عليه أن يثور عليه وينازله ‪ .‬ويظل ف صراع معه وعراك ‪،‬‬
‫حت يقضي ال ف أمره ‪ .‬إن الضوع والستكانة للحوال القاسرة والوضاع القاهرة ‪،‬‬
‫ولعتذار بالقضاء والقدر من شأن الضعفاء والقزام ‪ .‬أما الؤمن القوي فهو بنفسه قضاء ال‬
‫الغالب وقدره الذي ل يرد‪. )(4‬‬

‫(‪(3‬‬
‫ص ‪ 83 -82‬من الكتاب المذكور ‪.‬‬
‫(‪(4‬‬
‫من بحث للستاذ أبي الحسن الندوي نفسه عنوانه ‪ - :‬شاعر السلم الدكتور محمد إقبال ‪. 68 – 66‬‬
‫‪12‬‬
‫وبعد ‪ :‬ماذا أريد أن أقول بعد ذلك ف هذه الكلمة الت أحسبها طالت بعض الشيء ف‬
‫تقدي كتاب هو بنفسه وبكاتبه غن عن كل تقدي ‪ ،‬كما قلت ف أول الديث ؟ ‪.‬‬
‫إن‪ -‬علم ال‪ -‬لست أذكر فيما قرأت من القدي والديث كتابا حوى من الي ما‬
‫حواه هذا الكتاب ‪ ،‬ول كتاب وضع أيدينا على دواء ما نشكو منه من أدواء وأمراض ‪ ،‬كما‬
‫فعل هذا الكتاب ‪ ،‬ول كتابا نفذ كاتبه إل روح السلم ‪ ،‬وأخلص ويلص ف الدعوة له ‪،‬‬
‫ويقف كل جهوده على هذا السبيل كهذا الكتاب ‪.‬‬
‫علينا إذا أن نفيد من هذا الكتاب ‪ ،‬ومن الوسائل الت يدعو مؤلفه الفاضل‬
‫لصطناعها ‪ ،‬لنصل إل النهضة الرجوة ‪ ،‬والكرامة والجد ف هذه الياة ‪ ،‬وف الياة الخرى‬
‫‪ ،‬وذلك ما ل يكون لنا إل إذا غينا من أوضاع التعليم ومناهجه غاياته عندنا ‪ ،‬وإل إذا جعلنا‬
‫هنا تربية النشء على أسس إسلمية صحيحة ‪ ،‬وجعلنا الغاية من التربية والتعليم عندنا النهضة‬
‫بالعال السلمي حت يصل إل ما يب أن يكون له من مكانة ملحوظة ف هذا العال ‪،‬‬
‫واصطنعنا لذا ‪ ،‬الوسائل الناجعة حقا ‪.‬‬
‫إن هذا ‪ ،‬حي يتم ‪ ،‬إن أراد ال لمة السلم إفاقة من نومها ‪ ،‬ونضة من كبوتا ‪،‬‬
‫يعل من تلميذ رجالت مسلمي حقا ف الستقبل ‪ ،‬يسنون تصريف شؤون المة حي‬
‫توضع أمور المة بي أيديهم ‪ ،‬ويعل منهم رجالً شجعانا أمناء لدينهم وأمتهم ‪ ،‬ل هم لم‬
‫ف حياتم إل إعادة مد السلم ‪ ،‬والعال السلمي ‪.‬‬
‫والوسائل الناجعة للوصول إل تلك الغاية الجيدة من التربية والتعليم جد كثية‬
‫ومعروفة إن أردناها ‪ ،‬ولكن يسن أن نتم هذه الكلمة بقبس من كلم الستاذ أب السن‬
‫الندوي نفسه ‪ ،‬إنه يقول ‪:‬‬
‫(( والقرآن وسية ممد صلى ال عليه وسلم قوتان عظيمتان تستطيعان أن تشعل ف‬
‫العال السلمي نار الماسة واليان ‪ ،‬وتدثا ف كل وقت ثورة عظيمة على العصر الاهلي‬
‫وتعل من أمة مستسلمة منخذلة ناعسة ‪ ،‬أمة فتية ملتهبة حاسة وغية وحنقا على الاهلية ‪،‬‬
‫وسخطا على النظم الائرة ‪ .‬إن علة علل العال السلمي اليوم هي الرضا بالياة الدنيا‬
‫والطمئنان با ‪ .‬والرتياح إل الوضاع الفاسدة ‪ .‬والتبذير الزائد ف الياة ‪ .‬فل يقلقه فساد ‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫ول يزعجه انراف ‪ .‬ول يهيجه منكر ‪ .‬ول يهمه غي مسائل الطعام واللباس ‪ .‬ولكن بتأثي‬
‫القرآن والسية النبوية ‪ .‬إن وجدا إل القلب سبيلً ‪ .‬يدث صراع بي اليان والنفاق ‪.‬‬
‫واليقي والشك ‪ .‬بي النافع العاجلة والدار الخرة ‪ ،‬وبي راحة السم ونعيم القلب ‪ ،‬وبي‬
‫حياة البطولة وموت الشهادة ‪ .‬صراع أحدثه كل نب ف وقته ‪ .‬و يصلح العال إل به ‪ .‬حينئذ‬
‫يقوم ف كل ناحية من نواحي العال السلمي ‪ .‬ف كل أسرة إسلمية { ِّنهُ ْم فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَّب ِهمْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْأ ْرضِ لَن ّندْ ُعوَ‬ ‫َوزِدْنَاهُمْ ُهدًى{‪َ }13‬ورَبَطْنَا عَلَى قُلُوِب ِهمْ إِ ْذ قَامُوا فَقَالُوا رَبّنَا رَبّ ال ّ‬
‫مِن دُونِهِ ِإلَها لَ َقدْ قُلْنَا إِذا شَطَطا } ‪ .‬هنالك تفوح روائح النة ‪ ،‬وتب نفحات القرن الول‬
‫‪ .‬ويولد للسلم عال جديد ل يشبه العال القدي ف شيء )) ! ‪.‬‬
‫من هذه الكلمات الت قبسناها من هذا الكتاب الذي نكتب هذا التقدي له ‪ ،‬نرى أي‬
‫روح كبية أملت على الؤلف ما كتب ! نفع ال به وبكل آثاره ‪ ،‬وجزاه عن السلم وأمته‬
‫خي الزاء ‪.‬‬

‫ممد يوسف موسى‬

‫********************************‬

‫‪14‬‬
‫صورة وصفية ‪:‬‬
‫أخي أبو السن ! ‪..‬‬
‫بقلم فضيلة الستاذ أحد الشرباصي‬
‫لقيت أخي أبا السن أول مرة ف شتاء سنة ‪ 1951‬م ‪ ،‬بدار (الشبان السلمي) ف‬
‫القاهرة ‪ ،‬عقب ماضرة ل من (( ماضرات الثلثاء )) وقد أقبل علي يطلب ف أدب جم‬
‫وتواضع ظاهر ليلة من ليال الثلثاء ‪ ،‬ليلقي فيها ماضرة عن ((العال ف مفترق الطريق)) ‪..‬‬
‫فرأيت رجلً نيف البدن ‪ ،‬نيل العود ‪ ،‬له لية سراء ‪ ،‬وملبسه قليلة خفيفة الوزن والثمن ‪،‬‬
‫ونظراته عميقة نفاذة ‪ ،‬ونباته دقيقة أخاذه فيها بة ‪ ،‬عرفت فيما بعد أنا ملزمة له من جهد‬
‫وإجهاد ‪ ،‬وبعد اللقاء الول العاجل توثقت بين وبينه أسباب الخوة والحبة ‪ ،‬وعن خب به‬
‫أكتب هذه السطور‪.‬‬
‫هو العال الؤمن الداعية الحتسب السيد أبو السن علي السن الندي الندوي ‪ ،‬من‬
‫النتسبي إل عترة السن بن علي رضي ال عليهما ‪ ،‬ووالده هو الشريف العلمة عبد الي بن‬
‫فخر الدين بن عبد العلي ‪ ،‬ينتهي نسبه إل عبد ال بن الشتر بن ممد ذي النفس الزكية بن‬
‫عبدال الحض بن الحسن الثن بن السن السبط بن علي بن أب طالب ‪ ،‬ولوالده كتب كثي‬
‫من الطبوع ومنها الخطوط أشهرها ((نزهة الواطر)) ف ثانية ملدات‪ )(5‬وقد توف سنة‬
‫‪ 1341‬هجرية ‪.‬‬
‫وقد ولد السيد أبو السن ف مديرية بالند تسمى ((راي بريلي)) ‪ ،‬وهي تبعد عن‬
‫((لكهنؤ)) سبعي كيلو مترا تقريبا ‪ ،‬وكانت الولدة بقرية ((تكية)) ف شهر الحرم سنة‬
‫‪1332‬هـ ‪ ،‬مد ال ف عمره وأدام به نفع السلم والسلمي ‪.‬‬
‫وأسرة أخي أب السن من أصل عرب ‪ ،‬ل تزال تافظ على أنسابا إل هذا اليوم وهي‬
‫تافظ على صلتا بأصلها وإن كانت تتكلم الندية وتعيش ف الند منذ قرون ‪ ،‬وتتاز‬
‫بالحافظة على التوحيد والسنة والبعد عن البدع والدعوة إل ال والهاد ف سبيله ‪ ،‬وللسيد‬

‫(‪ (5‬ظهرت سبعة مجلدات من هذا الكتاب من دائرة المعارف في حيدر أباد الهند ‪ ،‬والكتاب يشتمل على خمسة آلف ترجمة لعيان‬
‫الهند ‪ ،‬وظهر للمؤلف كتاب (( الثقافة السلمية في الهند (( طبعه المجمع العلمي العربي في دمشق ‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫أب السن أخ أكب منه هو السيد الدكتور عبد العلي عبد الي‪ )(6‬وهو طبيب ‪ ،‬وقد ترج ف‬
‫ندوة العلماء ومعهد ديوبند ‪ ،‬كما ترج ف جامعة لكهنؤ بتفوق وامتياز ‪ ،‬فهو بذلك يمع‬
‫بي الثقافتي الدينية والعصرية ‪ ،‬وله فضل كبي ف تربية السيد أب السن وثقافته ‪ ،‬ويدير ندوة‬
‫العلماء خلفا لبيه الراحل ‪ ...‬وقد تزوج السيد أبو السن منذ عشر سنوات من السرة‬
‫نفسها ‪ ،‬لن هذا تقليد مترم يعاقب من يرج عليه ‪.‬‬
‫بدأ السيد أبو السن تعلمه القرآن الكري ف البيت تعاونه أمه ‪ ،‬وأمه من فضليات‬
‫النساء والسيدات الفاضلت الصالات ‪ ،‬تفظ القرآن ‪ ،‬وتكتب ‪ ،‬وتؤلف ث تعلم اللغتي‬
‫الوردية والفارسية ‪ ،‬ث بدأ وهو ف الثانية عشرة من عمره يتعلم النليزية والعربية معا ‪ ،‬وبدأ‬
‫تعلم العربية على الشيخ خليل بن ممد اليمن ‪ ،‬وتوفر سنتي كاملتي على دراسة الدب‬
‫العرب وحده ‪ ،‬وقرأ كثيا من كتب الدب ‪ ،‬وشغف با على خلف العادة يومئذ ف الند ‪،‬‬
‫لنم يزهدون ف الدب العرب ‪ ،‬وعن عناية خاصة بالعكوف على كتب ثلثة هي ‪ :‬نج‬
‫البلغة ‪ ،‬ودلئل العجاز ‪ ،‬والماسة ‪ ،‬ث التحق بامعة لكهنؤ ‪ ،‬وهي جامعة تدرس العلوم‬
‫الدنية باللغة النليزية ‪ ،‬وفيها قسم لداب اللغة العربية التحق با السيد أبو السن ‪ ،‬وكان‬
‫يومئذ أصغر طلب الامعة سنا ‪ ،‬وضاق بدروس القواعد أولً فأخره ذلك قليلً ‪ ،‬ث سار ف‬
‫تعلمه متازا فائقا سابقا ‪ ،‬ث أت دراسته الدبية على الدكتور الشيخ تقي الدين اللل‬
‫الراكشي رئيس تدريس الدب العرب ف ندوة العلماء‪ -‬وهي جعية تشرف على دار العلوم‬
‫هناك‪ -‬ث دخل الندوة ‪ ،‬ومكث با سنتي يدرس علوم الديث ‪ ،‬واستفاد كثيا من شيخ‬
‫الديث الشيخ حيدر حسن خان ‪ .‬ومكث ف دار العلوم ديوبند مدة شهور ‪ ،‬وحضر دروس‬
‫العال الكبي الجاهد الشيخ حسي أحد الدن ف الديث ‪.‬‬
‫وسافر إل لهور ‪ ،‬وقرأ التفسي على الشيخ أحد علي الفسر الشهور ‪ ،‬ول تكن‬
‫دراسته ف أغلب أدوارها دراسة نظامية بشهادات ‪ ،‬بل كانت دراسة حرة لوجه العلم والعرفة‬
‫‪ ،‬ولا أت دراسته رجع إل لكهنؤ ‪ ،‬وعي مدرسا ف دار العلوم هناك ‪ ،‬ومكث فيها عشر‬
‫سنوات يدرس علوما متلفة ‪ ،‬واشتغل بوار ذلك بالكتابة ف ملة " الضياء " العربية الت‬

‫(‪(6‬‬
‫توفي إلى رحمة ال في ‪ 21‬ذي العقيدة ‪ 1380‬هـ الموافق ‪ 7‬مايو ‪ 1961‬م‬
‫‪16‬‬
‫تصدرها ندوة العلماء ‪ ،‬ورئيس تريرها الستاذ مسعود الندوي ‪ ،‬واشتغل كذلك بالتأليف ف‬
‫الوردية ‪ ،‬وأظهر كتابه (( سية السيد أحد الشهيد )) فكان القبال عليه عظيما حت طبع‬
‫ثلث مرات ‪.‬‬
‫ث انتقل إل دلي ‪ ،‬والتقى بالداعية الجدد العظيم الشيخ ممد إلياس ‪ ،‬وكان هذا‬
‫اللقاء نقطة تول ف حياة أب السن ‪ ،‬لن الشيخ ممد إلياس كان مرشدا شعبيا ‪ ،‬له صلة‬
‫عميقة وثيقة بالماهي عن طريق الدعوة إل ال ‪ .‬وأبو السن ل يكن متصلً بالشعب قبل‬
‫ذلك ‪ ،‬بل كان مقتصرا على الدراسة والتأليف ‪ .‬فأخذ يتصل بأهل القرى والدساكر ‪ ،‬ويقوم‬
‫برحلت إسلمية قد تستغرق الواحدة منها شهرا ‪ ،‬لنشر الدعوة ف قرى الند ومدنا ‪ ،‬وكان‬
‫الشيخ إلياس‪ -‬ول يزال – هو مثل أب السن العلى ف الكمة الدينية العميقة وف قوة‬
‫اليان لن الشيخ إلياس ‪-‬كما يقول أخونا‪ -‬كان صورة من السلف الصال ‪ ،‬وكان ملصا‬
‫غيورا ‪ ،‬يتأل لال السلمي ‪ ،‬ويعمل من أجلهم ‪ ،‬ويسي ف شئونم ‪ ،‬ويترق بروحه القوية‬
‫الوثابة ف سبيلهم‪. )(7‬‬
‫وتلقى التربية الروحية من العارف الليل الرب الكبي الشيخ عبد القادر الرأي يوري‬
‫واستفاد من صحبته ومالسته ‪.‬‬
‫ورأس أبو السن ترير ملة " الندوة " العلمية الت كانت تصدر بالوردية ‪ ،‬وكانت‬
‫لسان حال الندوة ‪ ،‬وكلفته الامعة السلمية ف (عليكره) بوضع مناهج لطلبة (البكالوريا) ف‬
‫التعليم الدين ‪ ،‬فألف ف ذلك كتابا أساه (إسلميات) وقبلت الامعة هذا الكتاب وأخذت به‬
‫وكافأت صاحبه عليه ؛ ودعي للقاء ماضرات ف الامعة اللية السلمية بدلي ‪ ،‬فألقى‬
‫ماضرة ف موضوع ‪( :‬الدين والدنية) كانت موضع الستحسان ‪ ،‬ونشرت وكان لا تأثي‬
‫واسع النطاق ‪.‬‬
‫وألف ف هذه الفترة كتبا لطلبة الدارس العربية ف الند ‪ ،‬منها كتاب " متارات ف‬
‫الدب العرب " وقد قررت دار العلوم ف الند وبعض الامعات ف تدريسه ‪ .‬ومنها كتاب‬
‫((قصص النبيي )) ف ثلثة أجزاء ‪ ،‬وغي ذلك من الكتب ‪ ،‬وأصدر ملة (التعمي) الت كانت‬
‫(‪ (7‬توفي إلى رحمة ال تعالى عام ‪ 1363‬هـ ‪ -‬وللسيد أبي الحسن تأليف في سيرته في أردو وحديث عنه في محاضرته (( الدعوة‬
‫السلمية في الهند وتطوراتها (( ‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫تصدر بالوردية مرتي ف الشهر ‪ ،‬وأسس جعية للتبشي بالسلم بي الندوس ‪ ،‬وأصدرت‬
‫هذه المعية التبشيية السلمية عدة رسائل وبوث عن اللة الغراء باللغة النليزية النتشرة‬
‫هناك ‪ .‬وأسس (الجمع السلمي العلمي) ف لكهنؤ سنة ‪ 1960‬م وله نشاط وإنتاج ف‬
‫اللغات النليزية والندية والوردية والعربية ‪ ،‬ومطبوعات قيمة ‪.‬‬
‫وأخي الفضال أبو السن له غرام أصيل عميق باقتناء الكتب ومسامرتا والديث عنها‬
‫‪ .‬وأعز ما يرص عليه من عرض الياة هو كتبه ‪ .‬وأغلى ما يهدي إليه كتاب يرضيه ويغذيه ‪،‬‬
‫ول يقتن أبو السن الكتب ليزين با داره ‪ ،‬بل ليهضمها قراءة وبثا ونقدا ‪ ،‬وكتاباته‬
‫الختلفة فيها دلله واضحة على ذلك ‪ ،‬وقد أفادته هذه الطالعات والسامرات – بوار البة‬
‫والتجربة‪ -‬فدرة على الرتال بالعربية ‪ ،‬فهو يتدفق كالسيل بلغة بليغة فيها الصور البيانية‬
‫والتعبي الميل وأغلب ماضراته يستعد لا ‪ ،‬وكثيا ما يكتبها ‪ ،‬وأسلوبه يغلب عليه العنصر‬
‫العاطفي اللتهب ومع ذلك إذا طرق باب البحث أجاد وأفاد وأمتع أيضا ‪ ،‬وهو كما عرفت‬
‫عنه وكما حدثن مرارا ل يب أن يهجم على الديث ف موضوع ذي بال إل إذا احتفل به‬
‫وتيأ له ‪ ،‬وليس ذلك عن قلة بضاعة ولكنه احتراس العال الذي يريد أن يستيقن ويتثبت ! ‪..‬‬
‫وقد غلب النثر على أب السن فلم تطاوعه قريته يوما على نظم الشعر ‪...‬‬
‫وقد ظل الستاذ أبو السن يارس ألوانا من اللعاب الرياضية ككرة القدم والسباحة‬
‫والصيد والوكي والتنس ث انقطع عنها أخيا ‪ ،‬وعلى الرغم من هذا أصابته أمراض استمرت‬
‫مدة طويلة ‪ ،‬وخاصة ف الصدر ‪ ،‬ث عافاه ال منها ‪ ،‬وبقي له سعال يعاوده من حي لخر ‪.‬‬
‫وهو يكره التصوير بميع أنواعه ‪ ،‬ويرمه على نفسه ف تشديد ملحوظ ‪ ،‬ولقد زرت‬
‫معه إحدى دور الطبع والنشر الكبى بالقاهرة ‪ ،‬ورغب مصور الدار أن يلتقط لنا صورا‬
‫تذكارية فرفض أبو السن ‪ ،‬وأصر على الرغم من طول الحاولة والرجاء ‪ ،‬وذكر أن السلمي‬
‫ف الند (متفقون) على حرمة التصوير !! ‪..‬‬
‫ولقد سألته ذات مرة عن السابقي الذين تأثر بم ‪ ،‬فأجابن بأنم المام أحد بن حنبل‬
‫صاحب الوقف العروف ف الحنة ‪ ،‬وشيخ السلم ابن تيمية ‪ ،‬والشيخ أحد السر هندي (من‬
‫سر هند ‪ ،‬بلد ف البنجاب) التوف سنة ‪1024‬هـ صاحب الرسائل الالدة ف الشريعة‬
‫‪18‬‬
‫والقيقة وماربة البدع ‪ ،‬والجدد للملة ‪ ،‬ولشيخ ول ل الدهلوي التوف سنة ‪1176‬هـ‬
‫الباحث السلمي العظيم صاحب (حجة ال البالغة) والصاحب أحد الشهيد مؤسس أول‬
‫دولة شرعية ف الند ف القرن الثالث عشر الجري‪ ، )(8‬وقد استمرت هذه الدولة عدة‬
‫شهور ‪ ،‬ث ثار عليها النليز بؤامراتم فأخذوا عليها الطريق ‪.‬‬
‫وأعظم آمال أب السن أن يرى السلم سائدا على الرض ‪ ،‬وأن يرى الدول الباغية‬
‫معذبة مقهورة حت يسلي نفسه ويستبشر ويرى انتقام ال من الذين حاربوا السلم وأذلوا‬
‫السلمي وهو يعتقد ويرى أن بقاء القلة السلمة ف الند من الي ‪ ،‬وفيه فائدة ترجى للهند ‪،‬‬
‫فلعل للسلم مستقبلً ذا بال هناك ‪ ،‬ولقد رحل أبو السن إل الجاز ف سنت ‪-1947‬‬
‫‪)(9‬‬
‫‪ 1950‬م وقدم إل مصر سنة ‪ 1951‬م ‪ ،‬وطوّف بأغلب العال السلمي ‪ ،‬فرأى وشاهد‬
‫ودرس وكتب وحاضر وخطب ‪ ،‬وكان له ف كل أرض نزل با مهود وجهود وعهود ‪.‬‬
‫وقد اختي عضوا مراسلً ف الجمع العلمي العرب بدمشق سنة ‪ 1957‬م ‪ .‬ودعي‬
‫للقاء ماضرات كأستاذ زائر ف جامعة دمشق ‪ 1956‬م ‪. )(10‬‬
‫وقد سألته وهو بيننا ف مصر عن حسنات مصر ‪ ،‬فقال موجزا ‪ :‬اليان بال والدين ‪،‬‬
‫والحبة للمسلم خاصة إذا كان غريبا ‪ ،‬ورقة القلب ‪ ،‬وسلمة الصدر ‪ ،‬وكثرة العمال‬
‫النتجة ‪ ...‬ث سألته عن السيئات فتحرج ث أجاب ‪ :‬السفور ‪ ،‬وعدم التستر ‪ ،‬والصور الليعة‬
‫ف الصحف والجلت ‪ ،‬واستهانة بعض العلماء ببعض الحرمات ‪ ،‬وعدم الحافظة على‬
‫الماعات ف الساجد برغم كثرتا ‪ ،‬والندفاع ف تقليد الضارة الغربية بل تبصر ‪.‬‬
‫وأخي أبو السن بعد هذا كله عدو للمظاهر الكاذبة ‪ ،‬يتخفف ف ثيابه وطعامه‬
‫وفراشه ‪ ،‬ويكره التكلف والجاملة الزائدة ‪ ،‬ول يقيم للمال وزنا ف حياته ‪ ،‬وثقته بربه فوق‬
‫كل شيء ‪ ،‬ومثابرته على النضال ف سبيل ما يؤمن به مضرب المثال ‪ ،‬وإخلصه العميق سر‬
‫ناحه بينما يفشل الخرون ‪.‬‬

‫(‪ (8‬هو من نفس أسرة السيد أبي الحسن ومن أشهر رجالها ورجال الهند ‪ .‬ولد سنة ‪ 1201‬هـ في راي بريلي (الهند( واستشهد في‬
‫سبيل ال في بالكوت ( باكستان الن ( سنة ‪ 1246‬هـ ‪.‬‬
‫(‪ (9‬طبعت مذكراته في القاهرة بعنوان (( سائح في الشرق العربي (( ‪.‬‬
‫(‪ (10‬ظهر مجموع هذه المحاضرات التي ألقاها الستاذ أبو الحسن في مدرج الجامعة الكبير في دمشق وهي اثنتا عشرة محاضرة‬
‫باسم (( رجال الفكر والدعوة في السلم (( من مطبعة جامعة دمشق سنة ‪ 1960‬م ‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫لقد طال الكلم ‪ ،‬ومع ذلك ل أقل كل شيء عن أخي أب السن ! ‪..‬‬

‫أحد الشرباصي‬
‫الدرس بالزهر الشريف‬

‫*************************************‬

‫‪20‬‬
/http://www.saaid.net

http://saaid.net/book/index.ph
p

21
‫الباب الول‬
‫العصر الاهلي‬
‫الفصل الول‬
‫النسانية ف الحتضار‬
‫كان القرن السادس والسابع (ليلد السيح) من أحط أدوار التاريخ بل خلف ‪،‬‬
‫فكانت النسانية متدلية منحدرة منذ قرون ‪ ،‬وما على وجه الرض قوة تسك بيدها وتنعها‬
‫من التردي ‪ ،‬فقد زادتا اليام سرعة ف هبوطها وشدة ف إسفافها ‪ ،‬وكأ ّن النسان ف هذا‬
‫القرن قد نسي خالقه ‪ ،‬فنسي نفسه ومصيه ‪ ،‬وفقد رشده ‪ ،‬وقوة التمييز بي الي والشر ‪،‬‬
‫والسن والقبيح ‪ ،‬وقد خفتت دعوة النبياء من زمن ‪ ،‬والصابيح الت أوقدوها قد انطفأت من‬
‫العواصف الت هبت بعدهم أو بقيت ‪ ،‬ونورها ضعيف ضئيل ل يني إل بعض القلوب فضلً‬
‫عن البيوت فضلً عن البلد ‪ ،‬وقد انسحب رجال الدين من ميدان الياة ‪ ،‬ولذوا إل الديرة‬
‫والكنائس واللوات ‪ ،‬فرارا بدينهم من الفت وضنا بأنفسهم ‪ ،‬أو رغبة إل الدعة‬
‫والسكوت ‪ ،‬وفرارا من تكاليف الياة وجدها ‪ ،‬أو فشلً ف كفاح الدين والسياسة والروح‬
‫والادة ‪ ،‬ومن بقي منهم ف تيار الياة اصطلح مع اللوك وأهل الدنيا ‪ ،‬وعاونم على إثهم‬
‫وعدوانم ‪ ،‬وأكل أموال الناس بالباطل ‪ ...‬على حساب الضعفاء والحكومي ‪ .‬وإن النسانية‬
‫ل تشقى بتحول الكم والسلطان والرفاهية والنعيم من فرد إل فرد آخر من جنسه ‪ ،‬أو من‬
‫جاعة إل جاعة أخرى مثلها ف الور والستبداد وحكم النسان للنسان ‪ ،‬وإن هذا الكون‬
‫ل يتفجع ول يتأل فقط بانطاط أمة أدركها الرم وسرى فيها الوهن ‪ ،‬وسقوط دولة تآكلت‬
‫جذورها وتفككت أوصالا ‪ ،‬بل بالعكس تقتضي ذلك سنة الكون ‪ ،‬وإن دموع النسان لعز‬
‫من أن تفيض كل يوم على ملك راحل وسلطان زائل ‪ ،‬وإنه لفي غن ‪ ،‬وإنه لفي شغل عن أن‬
‫يندب من ل يعمل يوما لسعاده ‪ ،‬ول يكدح ساعة لصاله ‪ ،‬وإن السماء والرض لتقسوان‬
‫كثيا على هذه الوادث الت تقع ووقعت كل يوم ووقعت ألوف الرات { َكمْ تَ َركُوا مِن‬

‫‪22‬‬
‫جَنّاتٍ وَعُيُونٍ{‪َ }25‬وزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيٍ{‪ }26‬وَنَ ْعمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَا ِكهِيَ{‪َ }27‬كذَلِكَ‬
‫سمَاء وَالَْأرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ } ‪.‬‬ ‫وََأ ْورَثْنَاهَا قَوْما آخَرِينَ{‪ }28‬فَمَا بَ َكتْ عَلَْي ِهمُ ال ّ‬
‫بل إن كثيا من هؤلء السلطي والمم كانوا كلً على ظهر الرض ‪ ،‬وويلً للنوع‬
‫النسان وعذابا للمم الصغية والضعيفة ‪ ،‬ومنبع الفساد والرض ف جسم الجتمع البشري ‪،‬‬
‫يسري منه السم ف أعصابه وعروقه ‪ ،‬ويتعدى الرض إل السم السليم فكان ل بد من عملية‬
‫جراحية ‪ ،‬وكان قطع هذا الزء السقيم وإبعاده من السم السليم مظهرا كبيا لربوبية رب‬
‫العالي ورحته ‪ ،‬يستوجب المد والمتنان من جيع أعضاء السرة النسانية ‪ ،‬بل من جيع‬
‫ب الْعَاَلمِيَ } ‪ ،‬ولكن ل يكن‬ ‫أفراد الكون { فَقُ ِطعَ دَابِ ُر الْ َقوْمِ اّلذِينَ ظََلمُواْ وَاْلحَ ْمدُ لِّل ِه رَ ّ‬
‫انطاط السلمي ووال دولتهم وركود ريهم‪ -‬وهم حلة رسالة النبياء ‪ ،‬وهم للعال البشري‬
‫كالعافية للجسم النسان‪ -‬انطاط شعب أو عنصر أو قومية ‪ ،‬فما أهون خطبه وما أخف‬
‫وقعه ‪ ،‬ولكنه انطاط رسالة هي للمجتمع البشري كالروح ‪ ،‬وانيار دعامة قام عليها نظام‬
‫الدين والدنيا ‪.‬‬
‫فهل كان انطاط السلمي واعتزالم ف الواقع ما يأسف له النسان ف شرق الرض‬
‫وغربا ‪ ،‬وبعد قرون مضت على الادث ؟‬
‫وهل خسر العال حقا‪ -‬وهو غن بالمم والشعوب‪ -‬بانطاط هذه المة شيئا ؟ وفيم‬
‫كانت خسارته ورزيته ؟‬
‫وماذا آل إليه أمر الدنيا ‪ ،‬وماذا صارت إليه المم بعدما تولت قيادها المم الوروبية‬
‫حت خلفت السلمي ف النفوذ العالي ‪ ،‬وأسست دولة واسعة على أنقاض الدولة السلمية ؟‬
‫وماذا أثر هذا التحول العظيم ف قيادة المم وزعامة العال ف الدين والخلق والسياسة‬
‫والياة العامة وف مصي النسانية ؟‬
‫وكيف يكون الال لو نض العال السلمي من كبوته وصحا من غفوته ‪ ،‬وتلك‬
‫زمام الياة ؟‬
‫ذلك كله ما ناول الجابة عنه ف الصفحات التية ! ‪...‬‬
‫أبو السن علي السن‬
‫‪23‬‬
‫ِبسْمِ الِ ال ّرحْمنِ ال ّرحِيمِ‬
‫ماذا خسر العال بانطاط السلمي ؟‬
‫ل يكن انطاط السلمي أولً ‪ ،‬وفشلهم وانعزالم عن قيادة المم بعد ‪ ،‬وانسحابم من‬
‫ميدان الياة والعمل أخيا ‪ ،‬حادثا من نوع ما وقع وتكرر ف التاريخ من انطاط الشعوب‬
‫والمم ‪ ،‬وانقراض الكومات والدول ‪ ،‬وانكسار اللوك والفاتي ‪ ،‬وانزام الغزاة النتصرين ‪،‬‬
‫وتقلص ظل الدنيات ‪ .‬والزر السياسي بعد الد ‪ .‬فما أكثر ما وقع مثل هذا ف تاريخ كل أمة‬
‫‪ .‬وما أكثر أمثاله ف تاريخ النسان العام ! ولكن هذا الادث كان غريبا ل مثيل له ف‬
‫التاريخ ‪ .‬مع أن ف التاريخ مثلً وأمثلة لكل حادث غريب ‪.‬‬
‫ل يكن هذا الادث يص العرب وحدهم ‪ ،‬ول يص الشعوب والمم الت دانت‬
‫بالسلم ‪ ،‬فضلً عن السر والبيوتات الت خسرت دولتها وبلدها ‪ ،‬بل هي مأساة إنسانية‬
‫عامة ل يشهد التاريخ أتعس منها ول أعم منها ‪ .‬فلو علم العال حقيقة هذه الكارثة ‪ ،‬ولو‬
‫عرف مقدار خسارته ورزيته ‪ ،‬انكشف عنه غطاء العصبية ‪ ،‬لتذ هذا اليوم النحس – الذي‬
‫وقعت فيه يوم عزاء ورثاء ‪ ،‬ونياحة وبكاء ‪ ،‬ولتبادلت شعوب العال وأمه التعازي ‪ ،‬ولبست‬
‫المة ثوب الداد ‪ ،‬ولكن ذلك ل يتم ف يوم ‪ ،‬وإنا وقع تدرييا ف عقود من السني ‪،‬‬
‫والعال ل يسب إل الن الساب الصحيح لذا الادث ‪ ،‬ول يقدره قدره ‪ ،‬وليس عنده‬
‫القياس الصحيح لشقائه وحرمانه ‪.‬‬
‫إن العال ل يسر شيئا بانقراض دولة ملكت حينا من الدهر‪ .‬وفتحت مموعا من‬
‫البلد والقاليم‪ .‬واستعبدت طوائف من البشر‪ .‬ونعمت وترفهت ‪.‬‬

‫نظرة ف الديان والمم ‪:‬‬


‫أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثي والتلعبي ‪ ،‬ولعبة الحرفي والنافقي ‪ ،‬حت‬
‫فقدت روحها وشكلها ‪ ،‬فلو بعث أصحابا الولون ل يعرفوها ‪ ،‬وأصبحت مهود الضارة‬
‫الثقافة والكم والسياسة مسرح الفوضى والنلل والختلل وسوء النظام ‪ ،‬وعسف الكام‬
‫‪24‬‬
‫‪ ،‬وشغلت بنفسها ‪ ،‬ل تمل للعال رسالة ول للمم دعوة ‪ ،‬وأفلست ف معنوياتا ‪ ،‬ونضب‬
‫معي حياتا ‪ ،‬ل تلك مشرعا صافيا من الدين السماوي ‪ ،‬ول نظاما ثابتا من الكم البشري‪.‬‬

‫السيحية ف القرن السادس السيحي ‪:‬‬


‫ل تكن السيحية ف يوم من اليام من التفصيل والوضوح ومعالة مسائل النسان ‪،‬‬
‫بيث تقوم عليه حضارة ‪ ،‬أو تسي ف ضوئه دولة ‪ ،‬ولكن كان فيها أثارة من تعليم السيح ‪،‬‬
‫وعليها مسحة من دين التوحيد البسيط ‪ ،‬فجاء بولس فطمس نورها ‪ ،‬وطعّمها برافات‬
‫الاهلية الت انتقل منها ‪ ،‬والوثنية الت نشأ عليها ‪ ،‬وقضى قسطنطي على البقية الباقية ‪ ،‬حت‬
‫أصبحت النصرانية مزيا من الرافات اليونانية والوثنية الرومية والفلطونية الصرية والرهبانية‬
‫‪ ،‬اضمحلت ف جنبها تعليم السيح البسيطة كما تتلشى القطرة من اليم ‪ ،‬وعادت نسيجا‬
‫خشبيا من معتقدات وتقاليد ل تغذي الروح ‪ ،‬ول تد العقل ول تشعل العاطفة ‪ ،‬ول تل‬
‫معضلت الياة ‪ ،‬ول تني السبيل ‪ ،‬بل أصبحت بزيادات الحرفي ‪ ،‬وتأويل الاهلي ‪ ،‬تول‬
‫بي النسان والعلم والفكر ‪ ،‬وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية ‪ ،‬يقول (‪)Sale‬‬
‫مترجم القرآن إل النكليزية عن نصارى القرن السادس اليلدي ‪(( :‬وأسرف السيحيون ف‬
‫عبادة القديسي والصور السيحية حت فاقوا ف ذلك الكاثوليك ف هذا العصر‪. )))(11‬‬

‫الرب الهلية الدينية ف الدول الرومية ‪:‬‬


‫ث ثارت حول الديانة وف صميمها مادلت كلمية‪ ،‬وسفسطة من الدل العقيم‬
‫شغلت فكر المة ‪ ،‬واستهلكت ذكاءها ‪ ،‬وابتلعت فدرتا العملية ‪ ،‬وتولت ف كثي من‬
‫الحيان حروبا دامية وقتلً وتدميا وتعذيبا ‪ ،‬وإغارة وانتهابا واغتيالً ‪ ،‬وحولت الدارس‬
‫والكنائس والبيوت معسكرات دينية متنافسة وأقحمت البلد ف حرب أهلية ‪ ،‬وكان أشد‬
‫مظاهر هذا اللف الدين ما كان بي نصارى الشام والدولة الرومية ‪ ،‬وبي نصارى مصر ‪،‬‬
‫أو بي (اللكانية) و (النوفيسية) بلفظ أصح ‪ ،‬فكان شعار اللكانية عقيدة ازدواج طبيعة‬

‫(‪(11‬‬
‫‪(Sale's Translation, p. 62 ( 1896‬‬
‫‪25‬‬
‫السيح ‪ ،‬وكان النوفيسيون يعتقدون أن للسيد السيح طبيعة واحدة ‪ ،‬وهي اللية الت تلشت‬
‫فيها طبيعة السح البشرية ‪ ،‬كقطرة من الل تقع ف بر عميق ل قرار له ‪ .‬وقد اشتد هذا‬
‫اللف بي الزبي ف القرني السادس والسابع ‪ ،‬حت صار كأنه حرب عوان بي ديني‬
‫متنافسي ‪ ،‬أو كأنه خلف بي اليهود والنصارى ‪ ،‬كل طائفة تقول للخرى ‪ :‬إنا ليست‬
‫على شيء ‪ .‬يقول الدكتور ألفرد ‪ .‬ج ‪ .‬بتلر ‪:‬‬
‫(( إن ذينك القرني كانا عهد نضال متصل بي الصريي والرومانيي ‪ ،‬نضال يذكيه‬
‫اختلف ف النس واختلف ف الدين ‪ ،‬وكان اختلف الدين أشد من اختلف النس ‪ ،‬إذ‬
‫كانت علة العلل ف ذلك الوقت تلك بي اللكانية والنوفيسية ‪ ،‬وكانت الطائفة الول‪ -‬كما‬
‫يدل عليها اسها‪ -‬حزب مذهب الدولة المباطورية وحزب اللك والبلد ‪ ،‬وكانت تعتقد‬
‫العقيدة السنية الوروثة ‪ ،‬وهي ازدواج طبيعة السيح ‪ ،‬على حي أن الطائفة الخرى وهي‬
‫حزب القبط النوفيسيي –أهل مصر‪ -‬كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها ‪ ،‬وتاربا‬
‫حربا عنيفة ف حاسة هوجاء يصعب علينا أن نتصورها أو نعرف كنهها ف قوم يعقلون ‪ ،‬بلة‬
‫يؤمنون بالنيل ‪. )))(12‬‬
‫وحاول المباطور هرقل (‪ )641-610‬بعد انتصاره على الفرس سنة ‪ 638‬جع‬
‫مذاهب الدولة التصارعة وتوحيدها ‪ ،‬وأراد التوفيق ‪ ،‬وتقررت صورة التوفيق ‪ ،‬أن يتنع الناس‬
‫عن الوض ف الكلم عن كنه طبيعة السيد السيح ‪ ،‬وعما إذا كانت له صفة واحدة ‪ ،‬أم‬
‫صفتان ولكن عليهم بأن يشهدوا بأن ال له إرادة واحدة أو قضاء واحد ‪ .‬وف صدر عام‬
‫‪ 631‬حصل وفاق على ذلك وصار الذهب النوثيلي مذهبا رسيا للدولة ‪ ،‬ومن تضمهم من‬
‫أتباع الكنيسة السيحية ‪ ،‬وصمم هرقل على إظهار الذهب الديد على ما عداه من الذاهب‬
‫الختلفة له متوسلً إل ذلك بكل الوسائل ‪ ،‬ولكن القبط نابذوه العداء وتبأوا من هذه البدعة‬
‫والتحريف ‪ ،‬وصمدوا له واستماتوا ف سبيل عقيدتم القدية ‪ ،‬وحاول المباطور مرة أخرى‬
‫توحيد الذاهب وحسم اللف ‪ ،‬فاقتنع بأن يقر الناس بأن ال له إرادة واحدة ‪ ،‬وأما السألة‬
‫الخرى ‪ ،‬وهي نفاذ تلك الرادة بالفعل ‪ ،‬فأرجأ القول فيه ‪ ،‬ومنع الناس أن يوضوا ف‬

‫(‪(12‬‬
‫فتح العرب لمصر ‪ ،‬تعريب محمد فريد أبو حديد ‪ ،‬ص ‪. 38 – 37‬‬
‫‪26‬‬
‫مناظراتا ‪ ،‬وجعل ذلك رسالة رسية ‪ ،‬وبعث با إل جيع جهات العال الشرقي ‪ ،‬ولكن‬
‫الرسالة ل تدئ العاصفة ف مصر ووقع اضطهاد فظيع على يد قيس ف مصر واستمر عشر‬
‫سني ‪ ،‬وقع خللا ما تقشعر منه اللود ‪ ،‬فرجال كانوا يعذبون ث يقتلون إغراقا ‪ ،‬وتوقد‬
‫الشاعل وتسلط نارها على الشقياء حت يسيل الدهن من الانبي على الرض ‪ ،‬ويوضع‬
‫السجي ف كيس ملوء من الرمل ويرمى به ف البحر ‪ ،‬إل غي ذلك من الفظائع ‪.‬‬

‫النلل الجتماعي والقلق القتصادي ‪:‬‬


‫بلغ النلل الجتماعي غايته ف الدولة الرومية والشرقية ‪ ،‬وعلى كثرة مصائب الرعية‬
‫ازدادت التاوات ‪ ،‬وتضاعفت الضرائب ‪ .‬حت أصبح أهل البلد يتذمرون من الكومات ‪.‬‬
‫ويقتونا مقتا شديدا ‪ .‬ويفضلون عليها كل حكومة أجنبية ‪ ،‬وكانت اليارات والصادرات‬
‫ضغثا على إبّالة ‪ ،‬وقد حدثت لذلك اضطرابات عظيمة وثورات ‪ .‬وقد هلك عام ‪ 532‬ف‬
‫الضطراب ثلثون ألف شخص ف العاصمة‪ . )(13‬وعلى شدة الاجة إل القتصاد ف الياة‬
‫أسرف الناس فيه ‪ ،‬ووصلوا ف التبذل إل أحط الدركات ‪ .‬وأصبح الم الوحيد اكتساب الال‬
‫من أي وجه ‪ ،‬ث إنفاقه ف التظرف والترف وإرضاء الشهوات ‪.‬‬
‫ذابت أسس الفضيلة ‪ .‬وانارت دعائم الخلق ‪ .‬حت صار الناس يفضلون العزوبة‬
‫على الياة الزوجية ليقضوا مآربم ف حرية‪ . )(14‬وكان العدل كما يقول (سيل) يباع ويساوم‬
‫مثل السلع ‪ .‬وكانت الرشوة واليانة تنالن من المة التشجيع‪ . )(15‬يقول (جيبون) ‪(( :‬وف‬
‫آخر القرن السادس وصلت الدولة ف ترديها وهبوطها إل آخر نقطة‪ . )(16‬وكان مثلها كمثل‬
‫دوحة عظيمة كانت أمم العال ف حي من الحيان تستظل بظلها الوارف ‪ .‬ول يبق منها إل‬
‫الذع الذي ل يزداد كل يوم إل ذبولً‪ . )) )(17‬ويقول مؤلفو (تاريخ العال للمؤرخي) ‪:‬‬
‫((إن الدن العظيمة الت أسرع إليها الراب ول تسترد مدها وزهرتا أبدا ‪ ،‬تشهد با أصيبت‬

‫(‪Encyclopeadia Britanica .See Justin (13‬‬


‫(‪. The History of Decline and Fall of the Roman Empire by Edward Gippon v. 3 . p (14‬‬
‫(‪(Sale's Translation, p.72 ( 1896 (15‬‬
‫(‪. The History of Decline and Fall of the Roman Empire V. Y . P . 13 (16‬‬
‫(‪. The History of Decline and Fall of the Roman Empire V. Y . P . 13 (17‬‬
‫‪27‬‬
‫به الدولة البيزنطية ف هذا العهد من النطاط الائل الذي كانت نتيجته الغالة ف الكوس‬
‫والضرائب والنطاط ف التجارة ‪ ،‬وإهال الزراعة ‪ ،‬وتناقص العمران ف البلدان‪.)) )(18‬‬

‫مصر ف عصر الدولة الرومية ديانة واقتصادا ‪:‬‬


‫أما مصر ذات النيل السعيد ‪ ،‬والصب الزيد ‪ ،‬فكانت ف القرن السابع من أشقى بلد‬
‫ال بالنصرانية ‪ ،‬وبالدولة الرومية معا ‪ ،‬أما الول فلم تستفد منها إل خلفات ومناظرات ف‬
‫طبيعة السيح ‪ ،‬وف فلسفة ما وراء الطبيعة والفلسفة اللية ‪ .‬وقد ظهرت ف القرن السابع ف‬
‫شر مظاهرها ‪ ،‬وأنكت قوى المة العقلية ‪ ،‬وأضعفت قواها العملية ‪ ،‬وأما الخرى فلم تلق‬
‫منها إل اضطهادا دينيا فظيعا واستبدادا سياسيا شنيعا ترعت ف سبيلهما من الرائر ف عشر‬
‫سني ما ذاقته أوربا ف عهد التفتيش الدين ف عقود من السني ‪ ،‬فألاها ذلك عن كل وطر‬
‫من أوطار الياة ‪ ،‬وعن كل مهمة شريفة من مهمات الدين والروح ‪ ،‬فل هي تتمتع بالرية‬
‫السياسية رغم كونا مستعمرة رومية ‪ ،‬ول هي تتمتع بالرية الدينية والعقلية ‪ ،‬رغم كونا‬
‫نصرانية ‪.‬‬
‫ويقول الدكتور غوستاف لوبون ف كتابه (حضارة العرب) ‪:‬‬
‫((ولقد أكرهت مصر على انتحال النصرانية ‪ .‬ولكنها هبطت بذلك إل حضيض‬
‫النطاط الذي ل ينتشلها منه سوى الفتح العرب ‪ ،‬وكان البؤس والشقاء ما كانت تعانيه‬
‫مصر الت كانت مسرحا للختلفات الدينية الكثية ف ذلك الزمن ‪ .‬وكان أهل مصر يقتتلون‬
‫ويتلعنون بفعل تلك الختلفات ‪ ،‬وكانت مصر الت أكلتها النقسامات الدينية ‪ ،‬وأنكها‬
‫استبداد الكام تقد أشد القد على سادتا الروم ‪ .‬وتنتظر ساعة تريرها من براثن قياصرة‬
‫القسطنطينية الظالي‪.)) )(19‬‬
‫ويقول الدكتور الفرد ‪.‬ج ‪ .‬بتلر ف كتابه (فتح العرب لصر) ‪:‬‬
‫(( فالق أن أمور الدين ف القرن السابع كانت ف مصر أكب خطرا عند الناس من‬
‫أمور السياسة ‪ ،‬فلم تكن أمور الكم هي الت قامت عليها الحزاب ‪ ،‬واختلف بعضها عن‬
‫(‪(18‬‬
‫‪. Historian's History of the World V . VII p . 175‬‬
‫(‪(19‬‬
‫حضارة العرب ‪ ،‬تعريب عادل زعيتر ‪ ،‬الفصل الرابع (( العرب في مصر صفحة ‪. 336‬‬
‫‪28‬‬
‫بعض فيها ‪ ،‬بل كان كل اللف على أمور العقائد والديانات ‪ ،‬ول يكن نظر الناس إل‬
‫الدين أنه العي يستمد منه الناس ما يعينهم على العمل الصال ‪ ،‬بل كان الدين ف نظرهم هو‬
‫العتقاد الجرد ف أصول معينة ‪.‬‬
‫(( فكان اختلف الناس ومناظراتم العنيفة كلها على خيالت صورية من فروق دقيقة‬
‫بي العتقدات ‪ ،‬وكانوا ياطرون بياتم ف سبيل أمور ل قيمة لا ‪ ،‬وف سبيل فروق ف‬
‫أصول الدين وف فلسفة ما وراء الطبيعة يدق فهمها ‪ ،‬ويشق لدراكها‪. )) )(20‬‬
‫هذا ‪ ،‬وقد اتذها الروم شاة حلوبا يريدون أن يستنفوا مواردها ‪ ،‬ويتصوا دمها ‪،‬‬
‫يقول ألفرد‪:‬‬
‫((إن الروم كانوا يبون من مصر جزية على النفوس وضرائب أخرى كثية العدد‪..‬ما‬
‫لشك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة‪ ،‬وكانت تري بي الناس على غي عدل‪)))(21‬‬
‫ويقول مؤلفو (تاريخ العال للمؤرخي) ‪:‬‬
‫(( إن مصر كانت تضيف إل مالية الدولة البيزنطية مموعا كبيا من حاصلها‬
‫ومنتجاتا ‪ ،‬وكانت طبقات الفلحة الصرية – مع حرمانا من كل قوة سياسية ومن كل‬
‫نفوذ – مرغمة على أداء الرج للدولة الرومية ككراء الرض فضلً عن الضرائب ‪ ،‬وكانت‬
‫ثروة مصر ف هذا العهد إل النتقاص والنطاط‪. )) )(22‬‬
‫وهكذا اجتمع لصر من الضطهاد الدين ‪ ،‬والستبداد السياسي والستغلل‬
‫القتصادي ما شغلها بنفسها ‪ ،‬وكدر عليها صفو حياتا ‪ ،‬وألاها عن كل مكرمة ‪.‬‬

‫(‪(20‬‬
‫فتح العرب لمصر ‪ ،‬ص ‪. 47‬‬
‫(‪(21‬‬
‫المصدر السابق ‪.‬‬
‫(‪(22‬‬
‫‪. Historian's History of the World , V . VII p. 173‬‬
‫‪29‬‬
‫البشة ‪:‬‬
‫أما جارتا البشة فكانت على الذهب (الونوفيسي) كذلك ‪ ،‬وكانت مع ذلك تعبد‬
‫أوثانا كثية استعارت بعضها من المجية ‪ ،‬ول يكن التوحيد إل ضربا راقيا من الوثنية‬
‫خلعت عليها لباسا من علم ومصطلحات نصرانية ‪ ،‬ول تكن ف الدين بذات روح ‪ ،‬ول ف‬
‫الدنيا بذات طموح ‪ ،‬وقد قضى ممع (نيقية) أن ليس لا استقلل بأمورها الدينية ‪ ،‬وإنا هي‬
‫تابعة للكرسي السكندري ‪.‬‬

‫المم الوروبية الشمالية الغربية ‪:‬‬


‫أما المم الوروبية التوغلة ف الشمال والغرب فكانت تتسكع ف ظلم الهل الطبق ‪،‬‬
‫والمية الفاشية ‪ ،‬والروب الدامية ‪ ،‬ل ينبثق فيها فجر الضارة والعلم بعد ‪ ،‬ول تظهر على‬
‫مسرحها الندلسي لتؤدي رسالتها ف العلم والدنية ‪ ،‬ول تصهرها الوادث ‪ ،‬وكانت بعزل‬
‫جادة قافلة الضارة النسانية بعيدة عنها ‪ ،‬ل تعرف عن العال ول يعرف العال التمدن عنها‬
‫إل قليلً ‪ ،‬ول تكن – ما يري ف الشرق والغرب ما يغي وجه التاريخ – ف عي ول نفي ‪،‬‬
‫وكانت بي نصرانية وليدة ‪ ،‬ووثنية شائبة ‪ ،‬ول تكن بذات رسالة ف الدين ‪ ،‬ول بذات راية‬
‫ف السياسة ‪.‬‬
‫يقول هـ ‪ .‬ج ‪ .‬ويلز ‪:‬‬
‫(( ول تكن ف أوربا الغربية ف ذلك العهد أمارات الوحدة والنظام‪. )) )(23‬‬
‫ويقول (‪: ) Robert Briffault‬‬
‫((لقد أطبق على أوربا ليل حالك من القرن الامس إل القرن العاشر ‪ ،‬وكان هذا‬
‫الليل يزداد ظلما وسوادا ‪ .‬قد كانت هجية ذلك العهد أشد هولً وأفظع من هجية‬
‫العهد القدي ‪ ،‬لنا كانت أشبه بثة حضارة كبية قد تعفنت ‪ ،‬وقد انطمست معال‬
‫هذه الضارة وقضي عليها بالزوال ‪ ،‬وقد كانت القطار الكبية الت ازدهرت فيها‬

‫(‪A Short History of the World .H . G . Wels (23‬‬


‫‪30‬‬
‫هذه الضارة وبلغت أوجها ف الاضي ‪ ،‬كإيطاليا وفرنسا ‪ ،‬فريسة الدمار والفوضى‬
‫والراب‪. )) )(24‬‬

‫اليهود ‪:‬‬
‫وكانت ف أوربا وآسيا وإفريقيا أمة هي أغن أمم الرض مادة ف الدين ‪ ،‬وأقربا فهما‬
‫لصطلحاته ومعانيه ‪ ،‬أولئك هم اليهود ‪ ،‬ولكن ل يكونوا عاملً من عوامل الضارة والسياسة‬
‫أو الدين يؤثر ف غيهم ‪ ،‬بل قُضي عليهم من قرون طويلة أن يتحكم فيهم غيهم ‪ ،‬وأن‬
‫يكونوا عرضة للضطهاد والستبداد ‪ ،‬والنفي واللء ‪ ،‬والعذاب والبلء ‪ ،‬وقد أورثهم‬
‫تاريهم الاص وما تفردوا به بي أمم الرض من العبودية الطويلة والضطهاد الفظيع‬
‫والكبياء القومية ‪ ،‬والدلل بالنسب ‪ ،‬والشع وشهوة الال وتعاطي الربا ‪ ،‬أورثهم كل ذلك‬
‫نفسية غريبة ل توجد ف أمة وانفردوا بصائص خلقية كانت لم شعارا على تعاقب العصار‬
‫والجيال ‪ ،‬منها النوع عند الضعف ‪ ،‬والبطش وسوء السية عند الغلبة ‪ ،‬والتل والنفاق ف‬
‫عامة الحوال ‪ ،‬والقسوة والثرة وأكل أموال الناس بالباطل ‪ ،‬والصد عن سبيل ال ‪ .‬وقد‬
‫وصفهم القرآن الكري وصفا دقيقا عميقا يصور ما كانوا عليه ف القرني السادس والسابع من‬
‫تدهور خلقي ‪ ،‬وانطاط نفسي ‪ ،‬وفساد اجتماعي‪ ،‬عزلوا بذلك عن إمامة المم وقيادة العال‪.‬‬

‫بي اليهود والسيحيي ‪:‬‬


‫وقد تدد ف أوائل القرن السابع من الوادث ما بغضهم إل السيحيي ‪ ،‬وبغض‬
‫السيحيي إليهم وشوه سعتهم ‪ ،‬ففي السنة الخية من حكم فوكاس (‪ 610‬م ) أوقع اليهود‬
‫بالسيحيي ف أنطاكية ‪ ،‬فأرسل المباطور قائده " أبنوسوس" ليقضي على ثورتم ‪ ،‬فذهب‬
‫وأنفذ عمله بقسوة نادرة ‪ ،‬فقتل الناس جيعا ‪ ،‬قتلً بالسيف ‪ ،‬وشنقا وإغراقا وتعذيبا ‪ ،‬ورميا‬
‫للوحوش الكاسرة ‪.‬‬
‫وكان ذلك بي اليهود والنصارى مرة بعد مرة ‪ .‬قال القريزي ف كتاب الطط ‪:‬‬
‫((وف أيام فوقا ملك الروم ‪ ،‬بعث كسرى ملك فارس جيوشه إل بلد الشام ومصر فخربوا‬
‫(‪(24‬‬
‫‪. The Making of Humanity, Robert Briffault P . 164‬‬
‫‪31‬‬
‫كنائس القدس وفلسطي وعامة بلد الشام ‪ ،‬وقتلوا النصارى بأجعهم وأتوا إل مصر ف‬
‫طلبهم ‪ ،‬وقتلوا منهم أمة كبية ‪ ،‬وسبوا منهم سبيا ل يدخل تت حصر وساعدهم اليهود ف‬
‫ماربة النصارى وتريب كنائسهم ‪ .‬وأقبلوا نو الفرس من طبية وجبل الليل ‪ ،‬وقرية‬
‫الناصرية صور ‪ ،‬وبلد القدس ‪ ،‬فنالوا من النصارى كل منال ‪ ،‬وأعظموا النكاية فيهم ‪،‬‬
‫وخربوا لم كنيستي وأحرقوا أماكنهم ‪ ،‬وأخذوا قطعة من عود الصليب ‪ ،‬وأسروا بطرك‬
‫القدس وكثيا من أصحابه‪. )) )(25‬‬
‫إل أن قال بعد أن ذكر فتح الفرس لصر ‪:‬‬
‫((فثارت اليهود ف أثناء ذلك بدينة صور وأرسلوا بقيتهم ف بلدهم وتواعدوا على‬
‫اليقاع بالنصارى وقتلهم ‪ ،‬فكانت بينهم حرب اجتمع فيها من اليهود نو عشرين ألفا‬
‫وهدموا كنائس النصارى خارج صور فقوي النصارى عليهم وكاثروهم فانزم اليهود هزية‬
‫قبيحة وقتل منهم كثي ‪ ،‬وكان هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية ‪ ،‬وغلب الفرس بيلة دبرها‬
‫على كسرى حت رحل عنهم ‪ ،‬ث سار من قسطنطينية ليمهد مالك الشام ومصر ‪ ،‬ويدد ما‬
‫خربا الفرس ‪ ،‬فخرج إليه اليهود من طبية وغيها ‪ ،‬وقدموا له الدايا الليلة طلبوا منهم أن‬
‫يؤمنهم ويلف لم على ذلك فأمنهم وحلف لم ‪ ،‬ث دخل القدس وقد تلقاه النصارى‬
‫بالناجيل والصلبان والبخور والشموع الشعلة ‪ ،‬فوجد الدينة وكنائسها وقمامتها خرابا ‪،‬‬
‫فساءه ذلك وتوجع له ‪ ،‬وأعلمه النصارى با كان من ثورة اليهود مع الفرس وإيقاعهم‬
‫بالنصارى وتريبهم الكنائس ‪ ،‬وأنم كانوا أشد نكاية لم من الفرس وقاموا قياما كبيا ف‬
‫قتلهم من آخرهم ‪ ،‬وحثوا هرقل على الوقيعة بم ‪ ،‬وحسنوا له ذلك فاحتج عليه با كان من‬
‫تأمينه لم وحلفه ‪ ،‬فأفتاه رهبانم وبطاركتهم وقسيسوهم بأنه ل حرج عليه ف قتلهم ‪ ،‬فإنم‬
‫عملوا حيلة حت أمنهم من غي أن يعلم با كان منهم ‪ ،‬وأنم يقومون عنه بكفارة يينه بأن‬
‫يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جعة ف كل سنة عنه على مر الزمان والدهور ‪ ،‬فمال إل‬
‫قولم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جيعهم فيها ‪ ،‬حت ل يبق ف مالك الروم بصر‬
‫والشام منهم إل من فر واختفى ال )) ‪.‬‬

‫(‪(25‬‬
‫كتاب الخطط المقريزية ‪ ،‬ج ‪ 4‬ص ‪. 392‬‬
‫‪32‬‬
‫وبذه الروايات يعلم ما وصل إليه الفريقان ‪ ،‬اليهود والنصارى ‪ ،‬من القسوة والضراوة‬
‫بالدم النسان وتي الفرص للنكاية ف العدو ‪ ،‬وعدم مراعاة الدود ف ذلك ‪ ،‬وبذه‬
‫الخلق النحطة والستهانة بياة النسان ل يكن لطائفة أو أمة أن تؤدي رسالة الق والعدل‬
‫والسلم وتسعد البشرية ف ظلها وتت حكمها ‪.‬‬

‫إيران والركات الدامة فيها ‪:‬‬


‫أما فارس الت شاطرت الروم ف حكم العال التمدن فكانت القل القدي لنشاط كبار‬
‫الدامي الذين عرفهم العال ‪ ،‬كان أساس الخلق متزعزعا مضطربا منذ عهد عريق ف القدم‬
‫‪ ،‬ول تزل الحرمات النسبية الت تواضعت على حرمتها ومقتها طبائع أهل القاليم العتدلة‬
‫موضع خلف ونقاش ‪ ،‬حت إن يزدجرد الثان الذي حكم ف أواخر القرن الامس اليلدي‬
‫‪)(27‬‬
‫تزوج بنته ث قتلها‪ ،)(26‬وأن برام جوبي الذي تلك ف القرن السادس كان متزوجا بأخته‬
‫يقول البوفسور (( أرتر كرست سي)) أستاذ اللسنة الشرقية ف جامعة كوبنهاجن‬
‫بالدنارك التخصص ف تاريخ إيران ف كتابه (إيران ف عهد الساسانيي) ‪:‬‬
‫(( إن الؤرخي العاصرين للعهد الساسان مثل (جاتياس) وغيه ‪ ،‬يصدقون بوجود‬
‫عادة زواج اليرانيي بالحرمات ‪ ،‬ويوجد ف تاريخ العهد الساسان أمثلة لذا الزواج ‪ ،‬فقد‬
‫تزوج برام جوبي وتزوج جشتسب قبل أن يتنصر بالحرمات‪ ، )(28‬ول يكن يعد هذا الزواج‬
‫معصية عند اليرانيي ‪ ،‬بل كان عملً صالا يتقربون به إل ال ‪ ،‬ولعل الرحالة الصين (هوئن‬
‫سوئنج) أشار إل هذا الزواج بقوله ‪ :‬إن اليرانيي يتزوجون من غي استثناء ‪. )))(29‬‬
‫ظهر "مان" ف القرن الثالث السيحي ‪ ،‬وكان ظهوره رد فعل عنيف غي طبعي ضد‬
‫النعة الشهوية السائدة ف البلد ‪ ،‬ونتيجة منافسة النور والظلمة الوهية فدعا إل حياة العزوبة‬
‫لسم مادة الفساد الشر من العال ‪ ،‬وأعلن أن امتزاج النور بالظلمة شر يب اللص منه‬
‫فحرّم النكاح استعجالً للفناء وانتصارا للنور على الظلمة بقطع النسل ‪ .‬وقتله برام سنة‬
‫(‪(26‬‬
‫‪. Historian's History of the World V . 8 . P . 84‬‬
‫(‪(27‬‬
‫تاريخ الطبري ج ‪ 3‬ص ‪. 138‬‬
‫(‪(28‬‬
‫إيران في عهد الساسانيين ‪ ،‬ترجمة الدكتور محمد إقبال من الفرنسية إلى الردية ص ‪. 439‬‬
‫(‪(29‬‬
‫(( إيران في عهد الساسانيين (( ص ‪430‬‬
‫‪33‬‬
‫‪276‬م قائلً إن هذا خرج داعيا إل تريب العال فالواجب أن يبدأ بتخريب نفسه قبل أن‬
‫يتهيأ له شيء من مراده ‪ .‬ولكن تعاليمه ل تت بوته بل عاشت إل ما بعد الفتح السلمي ‪.‬‬
‫ث ثارت روح الطبيعة الفارسية على تعاليم مان الجحفة ‪ ،‬وتقمصت دعوة مزدك‬
‫الذي ولد ‪ 487‬م فأعلن أن الناس ولدوا سواء ل فرق بينهم ‪ ،‬فينبغي أن يعيشوا سواء ل‬
‫فرق بينهم ‪ ،‬ولا كان الال والنساء ما حرصت النفوس على حفظه وحراسته كان ذلك عند‬
‫مزدك أهم ما تب فيه الساواة والشتراك ‪.‬‬
‫قال الشهرستان‪ (( . )(30‬أحل النساء وأباح الموال وجعل الناس شركة فيها‬
‫كاشتراكهم ف الاء والنار والكل )) ‪ .‬وحظيت هذه الدعوة بوافقة الشبان والغنياء والترفي‬
‫وصادفت من قلوبم هوى ‪ ،‬وسعدت كذلك بماية البلط فأخذ قباذ بناصرها ونشط ف‬
‫نشرها وتأييدها حت انغمست إيران بتأثيها ف الفوضى اللقية وطغيان الشهوات ‪ ،‬قال‬
‫الطبي ‪ (( :‬افترض السّفلة ذلك واغتنموا وكاتفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم فابتلى الناس‬
‫بم وقوي أمرهم حت كانوا يدخلون على الرجل ف داره فيغلبونه على منله ونسائه وأمواله‬
‫ل يستطيع المتناع منهم ‪ ،‬وحلوا قباذ على تزيي ذلك وتوعدوه بلعه فلم يلبثوا إل قليلً‬
‫حت صاروا ل يعرف الرجل ولده ول الولود أباه ول يلك شيئا ما يتسع به‪ )))(31‬إل أن قال‬
‫‪ (( :‬ول يزل قباذ من خيار ملوكهم حت حلة مزدك على ما حله عليه فانتشرت الطراف‬
‫وفسدت الثغور‪. )))(32‬‬

‫تقديس الكاسرة ‪:‬‬


‫وكانت الكاسرة ملوك فارس يدّعون أنه يري ف عروقهم دم إلي ‪ ،‬وكان الفرس‬
‫إليهم كآلة ويعتقدون أن ف طبيعتهم شيئا علويا مقدسا فكانوا يكفرون لم ‪ ،‬وينشدون‬
‫الناشيد بألوهيتهم ويرونم فوق القانون وفوق النتقاد وفوق البشر ‪ ،‬ل يري اسهم على‬
‫لسانم ‪ ،‬ول يلس أحد ف ملسهم ‪ ،‬ويعتقدون أن لم حقا على كل إنسان ‪ ،‬وليس لنسان‬

‫(‪(30‬‬
‫الملل والنحل للشهرستاني ج ‪ 1‬ص ‪. 86‬‬
‫(‪(31‬‬
‫تاريخ الطبري ج ‪ 2‬ص ‪. 88‬‬
‫(‪(32‬‬
‫المصدر السابق ‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫حق عليهم وأن ما يرضخون لحد من فضول أموالم وفتات نعيمهم إنا هو صدقة وتكرم من‬
‫غي استحقاق ‪ ،‬وليس للناس قِبلهم إل السمع والطاعة ‪ ،‬وخصصوا بيتا معينا – وهو البيت‬
‫الكيان فكانوا يعتقدون أن لفراده وحدهم الق أن يلبسوا التاج ويبوا الراج ‪ ،‬وهذا الق‬
‫ينتقل فيهم كابرا عن كابر وأبا عن جد ل ينازعهم ذلك إل ظال ول ينافسهم إل دعي‬
‫نذل ‪ ،‬فكانوا يدينون باللك والوراثة ف البيت الالك ل يبغون به بد ًل ول يريدون عنه‬
‫ميصا ‪ ،‬فإذا ل يدوا من هذه السرة كبيا ملكوا عليهم طفلً ‪ ،‬وإذا ل يدوا رجلً ملكوا‬
‫عليهم امرأة فقد ملكوا بعد شيويه ولده أزدشي وهو ابن سبع سني وملك فرّخ زاد خسروا‬
‫ابن كسرى أبرويز وهو طفل ‪ ،‬وملكوا بوران بنت كسرى ‪ ،‬وملكت كذلك ابنة كسرى‬
‫ثانية يقال لا أزرمي دخت‪ )(33‬ول يطر ببالم أن يلكوا عليهم قائدا كبيا أو رئيسا من‬
‫رؤسائهم مثل رستم وجابان وغيها لنم ليسوا من البيت اللكي ‪.‬‬

‫التفاوت بي الطبقات ‪:‬‬


‫وكذلك اعتقادهم ف الببيوتات الروحية والشراف من قومهم ‪ ،‬فيونم فوق العامة ف‬
‫طينتهم وفوق مستوى الناس ف عقولم ونفوسهم ‪ .‬ويعطونم سلطة ل حد لا ‪ ،‬ويضعون لا‬
‫خضوعا كاملً‪ -‬يقول البوفسور أرترسي مؤلف تاريخ (إيران ف عهد الساسانيي) ‪:‬‬
‫((كان الجتمع اليران مؤسسا على اعتبار النسب والِرف ‪ ،‬وكان بي طبقات‬
‫الجتمع هوة واسعة ل يقوم عليها جسر ول تصل بينها صلة‪ ، )(34‬وكانت الكومة تظر على‬
‫العامة أن يشتري أحد منهم عقارا لمي أو كبي‪ ، )(35‬وكان من قواعد السياسة الساسانية أن‬
‫يقنع كل واحد بركزه الذي منحه نسبه ‪ ،‬ول يستشرف لا فوقه‪ ، )(36‬ول يكن لحد أن‬
‫يتخذ حرفة‪ )(37‬غي الرفة الت خلقه ال لا‪ ، )(38‬وكان ملوك إيران ل يولون وضيعا وظيفة‬

‫(‪(33‬‬
‫راجع تاريخ الطبري ج ‪ ، 2‬وتاريخ إيران لمكاريوس ‪.‬‬
‫(‪(34‬‬
‫(( إيران في عهد الساسانيين (( ص ‪. 590‬‬
‫(‪(35‬‬
‫أيضاً ص ‪. 420‬‬
‫(‪(36‬‬
‫أيضاً ص ‪. 418‬‬
‫(‪(37‬‬
‫أيضاً ص ‪. 418‬‬
‫(‪(38‬‬
‫أيضاً ص ‪. 422‬‬
‫‪35‬‬
‫من وظائفهم‪ ، )(39‬وكان العامة كذلك طبقات متميزة بعضها عن بعض تيزا واضحا ‪ ،‬وكان‬
‫لكل واحد مركز مدد ف الجتمع‪. )) )(40‬‬
‫وكان ف هذا التفاوت بي طبقات المة امتهان للنسانية يظهر لك جليا ف مالس‬
‫المراء والشراف ‪ ،‬حيث يقوم الناس على رؤوس المراء كأنم جاد ل حراك بم ويلسون‬
‫مزجر الكلب ‪ ،‬وقد أكب ذلك على رسول السلمي وأنكره ‪ ،‬ويتبي ما روى الطبي ما‬
‫وصل إليه الفرس من الستكانة والضوع لسادتم جريا على عاداتم ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫((عن أب عثمان النهدي قال لا جاء الغية إل القنطرة فعبها إل أهل فارس أجلسوه‬
‫واستأذنوا رستم ف إجازته ‪ ،‬ول يغيوا شيئا من شارتم تقوية لتهاونم ‪ ،‬فأقبل الغية بن‬
‫شعبة والقوم ف زيهم عليهم التيجان والثياب النسوجة بالذهب ‪ ،‬وبُسطهم على غلوة ‪ ،‬ول‬
‫يصل إل صاحبهم حت يشي عليها غلوة ‪ ،‬وأقبل الغية وله أربع ضفائر يشي حت جلس معه‬
‫على سريره ووسادته ‪ ،‬فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوه ومغثوه ‪ ،‬فقال ‪ :‬كانت تبلغنا عنكم‬
‫الحلم ول أرى قوما أسفه منكم ‪ ،‬إنا معشر العرب سواء ل يستعبد بعضنا بعضا إل أن‬
‫يكون ماربا لصاحبه‪ ،‬فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى ‪ ،‬وكان أحسن من الذي‬
‫صنعتم أن تبون أن بعضكم أرباب بعض ‪ ،‬وأن هذا المر ل يستقيم فيكم فل نصنعه ‪ ،‬ول‬
‫آتكم ولكن دعوتون ‪ .‬اليوم علمت أن أمركم مضمحل ‪ ،‬وأنكم مغلوبون ‪ ،‬وأن ملكا ل‬
‫يقوم على هذه السية ول على هذه العقول‪. )))(41‬‬
‫تجيد القومية الفارسية ‪:‬‬
‫ث يبالغون ف تجيد القومية الفارسية ويرون أن لا فضلً على سائر الجناس والمم ‪،‬‬
‫وأن ال قد خصها بواهب ومنح ل يشرك فيها أحدا ‪ ،‬وكانوا ينظرون إل المم حولم نظرة‬
‫ازدراء وامتهان ‪ ،‬ويلقبونا بألقاب فيها الحتقار والسخرية ‪.‬‬
‫عبادة النار وتأثيها ف الياة ‪:‬‬

‫(‪(39‬‬
‫أيضاً ص ‪. 422‬‬
‫(‪(40‬‬
‫(( إيران في عهد الساسانيين (( ص ‪. 421‬‬
‫(‪(41‬‬
‫الطبري ج ‪ 4‬ص ‪. 108‬‬
‫‪36‬‬
‫كانوا ف الزمن القدي يعبدون ال ويسجدون له ‪ ،‬ث جعلوا يجدون الشمس والقمر‬
‫والنجوم وأجرام السماء مثل غيهم من الوائل ‪ ،‬وجاء زرادشت صاحب الديانة الفارسية‬
‫فيقال ‪ :‬إنه دعا إل التوحيد وأبطل الصنام ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن نور ال يسطع ف كل ما يشرق‬
‫ويلتهب ف الكون ‪ .‬وأمر بالتاه إل جهة الشمس والنار وساعة الصلة لن النور رمز إل‬
‫الله وأمر بعدم تدنيس العناصر الربعة وهي ‪ :‬النار والواء والتراب والاء ‪ ،‬وجاء بعده علماء‬
‫سنوا للزرادشتيي شرائع متلفة فحرموا عليهم الشتغال بالشياء الت تستلزم النار فاقتصروا ف‬
‫أعمالم على الفلحة والتجارة ‪ ،‬ومن هذا التمجيد للنار واتاذها قبلة ف العبادات تدرج‬
‫الناس إل عبادتا حت صاروا يعبدونا عينا ويبنون لا هياكل ومعابد ‪ ،‬وانقرضت كل عقيدة‬
‫وديانة غي عبادة النار وجُهلت القيقة ونسي التاريخ‪. )(42‬‬
‫ولا كانت النار ل توحي إل عبّادها بشريعة ول ترسل رسولً ‪ ،‬ول تتدخل ف شئون‬
‫حياتم ول تعاقب العصاة والجرمي أصبحت الديانة عند الجوس عبارة عن طقوس وتقاليد‬
‫يؤدونا ف أمكنة خاصة ف ساعات خاصة ‪ ،‬أما ف خارج العابد ‪ ،‬وف دورهم ودوائر‬
‫حكمهم وتصرفهم ‪ ،‬وف السياسة والجتماع ‪ ،‬فكانوا أحرارا يسيون على هواهم ‪ .‬وما‬
‫تلي عليهم نفوسهم ‪ ،‬أو ما يؤدي إليه تفكيهم ‪ .‬أو ما توحي به مصالهم ومنافعهم ‪ ،‬شأن‬
‫الشركي ف كل عصر ومصر ‪.‬‬
‫وهكذا ُحرِمت المة الفارسية ف حياتا دينا عميقا جامعا يكون تربية للنفس ‪ ،‬وتذيبا‬
‫للخلق‪ ،‬وقامعا للشهوات ‪ ،‬وحافزا على التقوى وفعل اليات ‪ ،‬ويكون نظاما للسرة‬
‫وتدبيا للمنل وسياسة للدولة ‪ ،‬ودستورا للمة ‪ ،‬ويول بي الناس وطغيان اللوك ‪ ،‬وعسف‬
‫الكام ‪ ،‬ويأخذ على يد الظال ‪ ،‬وينتصف للمظلوم ‪ ،‬وأصبح الجوس ل فرق بينهم وبي‬
‫اللدينيي والباحيي ف الخلق والعمال ‪.‬‬

‫(‪(42‬‬
‫انظر تاريخ إيران تأليف شاهين مكاريوس ص ‪. 224 – 221‬‬
‫‪37‬‬
‫الصي ديانات ‪:‬‬
‫وكانت تسود الصي ف هذا القرن ثلث ديانات ‪ .‬ديانة " ل وتسو" وديانة‬
‫"كونفوشيوس" والبوذية ‪ ،‬أما الول ففضلً عن أنا تولت وثنية ف عهد قريب فهي تُعن‬
‫بالنظريات أكثر منها بالعمليات ‪ ،‬وكان أتباعها متقشفي زاهدين ‪ ،‬ل يتزوجون ول ينظرون‬
‫إل الرأة ول يتصلون با اتصالً ‪ ،‬فلم يكن لا أن تكون أُسّا لياة سديدة أو حكومة رشيدة ‪،‬‬
‫حت التجأ الذين جاءوا بعد مؤسسها إل مالفته والعدول عنه إل غيه ‪.‬‬
‫أما "كونفوشيوس" فقد كان يعن بالعمليات أكثر من النظريات ‪ ،‬ولكن انصرت‬
‫تعاليمه ف شؤون هذه الدنيا وتدبي المور الادية والسياسية والدارية ‪ ،‬وقد كان أتباعه ل‬
‫يعتقدون –ف بعض الزمنة‪ -‬بعبادة إله معي ‪ ،‬فيعبدون ما يشاءون من الشجار والنار ‪،‬‬
‫وليس فيها نور من يقي ول باعث من إيان ول شرع ساوي ‪ ،‬وإنا هو حكمة حكيم‬
‫وتارب خبي ‪ ،‬يستفيد با النسان إذا شاء ويرفضها إذا شاء ‪.‬‬

‫البوذية‪ -‬تطوراتا وانطاطها ‪:‬‬


‫أما البوذية فقد فقدت بساطتها وحاستها ‪ ،‬وابتلعتها البهية الثائرة الوتورة فتحولت‬
‫وثنية تمل معها الصنام حيث سارت‪ .‬وتبن الياكل‪ .‬وتنصب تاثيل بوذا حيث حلت‬
‫‪)(43‬‬
‫ونزلت‪ .‬وقد غمرت هذه التماثيل الياة الدينية والدنية الت ظهرت ف عهد ازدهار البوذية‬
‫‪ .‬يقول الستاذ "إيشوراتوبا" أستاذ تاريخ الضارة الندية ف إحدى جامعات الند ‪ (( :‬لقد‬
‫قامت ف ظل البوذية دولة تعن بظاهر اللة وعبادة التماثيل وتغي ميط الرابطات الخوية‬
‫البوذية ‪ ،‬وظهرت فيها البدع‪ .)) )(44‬ول حظ ذلك أيضا أحد الكتاب العصريي وكبار‬
‫السياسيي ف الند فقال ‪:‬‬
‫(( جعلت البهية بوذا مظهرا لللة ‪ ،‬وقلدتا ف ذلك البوذية نفسها ‪ ،‬وأصبحت‬
‫الرابطة الخوية البوذية تلك ثورة هائلة ‪ ،‬وأصبحت مركزا لصال جاعات خاصة ‪ ،‬وفقدت‬

‫(‪ (43‬الزائر لمتحف تكسل في غربي بنجاب (( باكستان (( يندهش من رؤية كثرة التماثيل البوذية التي استخرجت من حفائر المدن‬
‫البوذية المطورة ويعرف أن هذه الديانة والمدنية أصبحتا وثنيتين تماماً ‪.‬‬
‫(‪ (44‬الهند القديمة (( اردو (( للستاذ ايشور اتويا ‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫النظام وتسرب إل مناهج العبادة السحر والوهام ‪ ،‬وبدأت الديانة تتقهقر وتنحط بعدما‬
‫سادت ف الند وازدهرت ألف سنة ‪ ،‬وقد ذكرت (‪ )Mrs Rhys DaVids‬ما أصيبت‬
‫به الديانة البوذية ف هذا العهد من الوهن والعتلل فقالت كما نقل عنها "سي رادها‬
‫كرشنن" ف كتابه "الفلسفة الندية" ‪:‬‬
‫(( لقد أظلت الفكار العليلة تعليم بوذا اللقي حت توارى وراء هذه التخيلت‬
‫السقيمة ‪ ،‬لقد نشأ مذهب جديد ف الديانة وازدهر ‪ ،‬وملك على الناس القلوب ‪ ،‬ث اضمحل‬
‫وخلفه مذهب آخر ‪ ،‬وهلم جرا ‪ ،‬حت تراكمت هذه الوهام اللبة ‪ ،‬وحجبت الو وساد‬
‫الظلم ‪ ،‬وقد اضمحلت دروس مؤسس الديانة الغالية البسيطة بسبب التدقيقات الكلمية‬
‫والتنطعات‪. )) )(45‬‬
‫لقد أصيبت البهية والبوذية بالنطاط ‪ ،‬ودخلت فيها العادات الساقطة ‪ ،‬وأصبح من‬
‫العسي التمييز بينهما ‪ ،‬لقد اندمت البوذية ف البهية وذابت فيها ‪.)))(46‬‬
‫ول يزل وجود الله اليان به ف البوذية موضع خلف وشك عند مؤرخي هذه الديانة‬
‫ومترجي مؤسسها ‪ ،‬حت يار بعضهم ويتساءل ‪ :‬كيف قامت هذه الديانة العظيمة على‬
‫أساس رقيق من الداب الت ليس فيها اليان بال‪ . )(47‬فلم تكن البوذية إل طرقا لرياضة‬
‫النفس وقمع الشهوات ‪ ،‬والتحلي بالفضائل ‪ ،‬والنجاة من الل ‪ ،‬والصول على العلم ‪.‬‬
‫إذن فلم تكن عند الصينيي رسالة دينية للعال يلون با مشاكله ‪ ،‬وكانوا ف أقصى‬
‫شرق العال التمدن متفظي بتراثهم الدين والعلمي‪ ،‬ل يزيدون ف ثروتم ول ف ثروة غيهم‪.‬‬

‫أمم آسيا الوسطى ‪:‬‬


‫أما المم الخرى ف آسيا الوسطى وف الشرق ‪ ،‬كالغول والترك واليابانيي ‪ ،‬فقد كانت بي‬
‫بوذية فاسدة ‪ ،‬ووثنية هجية ‪ ،‬ل تلك ثروة علمية ‪ ،‬ول نظاما سياسيا راقيا ‪ ،‬إنا كانت ف‬

‫(‪(45‬‬
‫‪. Jawahar Dal Nehru : The Discovery of India P . 201 202‬‬
‫(‪(46‬‬
‫أيضاً ‪.‬‬
‫(‪(47‬‬
‫اقرأ مقالة (( بوذا (( في دائرة المعارف البريطانية ‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫طور النتقال من عهد المجية إل عهد الضارة ‪ ،‬ومنها شعوب ل تزال ف طور البداوة‬
‫والطفولة العقلية ‪.‬‬

‫الند ‪ :‬ديانة ‪ ،‬واجتماعا ‪ ،‬وأخلقا ‪.‬‬


‫أما الند فقد اتفقت كلمة الؤلفي ف تاريها على أن أحط أدوارها ديانة وخلقا‬
‫واجتماعا ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس اليلدي ‪ ،‬قد ساهت الند‬
‫جاراتا وشقيقاتا ف التدهور اللقي والجتماعي ‪ ،‬الذي شل الكرة الرضية ف هذه القبة‬
‫من الزمن وأخذت نصيبا غي منقوص من هذا الظلم الذي مد رواقه على العمورة ‪ ،‬وامتازت‬
‫عنها ف ظواهر وخلل يكن أن نلخصها ف ثلث ‪)1(:‬كثرة العبودات واللة كثرة فاحشة‪.‬‬
‫(‪ )2‬الشهوة النسية الامة ‪ )3( .‬التفاوت الطبقي والجحف والمتياز الجتماعي الائر ‪.‬‬

‫الوثنية التطرفة ‪:‬‬


‫قد بلغت الوثنية أوجها ف القرن السادس ‪ ،‬فقد كان عدد اللة ف "ويد" ثلثة وثلثي‬
‫‪ ،‬وقد أصبحت ف هذا القرن ‪ 330‬مليون ‪ .‬وقد أصبح كل شيء رائع وكل شيء جذاب‬
‫وكل مرفق من مرافق الياة إلا يعبد ‪ ..‬وهكذا جاوزت الصنام والتماثيل واللة واللهات‬
‫الصر وأربت على العد ‪ ،‬فمنها أشخاص تاريية ‪ ،‬وأبطال تثل فيهم ال‪-‬زعموا‪ -‬ف عهود‬
‫وحوادث معروفة ‪ ،‬ومنها جبال تلى عليها بعض آلتهم ‪ ،‬ومنها معادن كالذهب والفضة‬
‫تلى فيها إله ‪ ،‬ومنها نر الكنج الذي خرج من رأس "مهاديو" الله ‪ ،‬ومنها آلت الرب‬
‫وآلت الكتابة وآلت التناسل وحيوانات أعظمها البقرة والجرام الفلكية وغي ذلك ‪،‬‬
‫وأصبحت الديانة نسيجا من خرافات وأساطي وأناشيد وعقائد وعبادات ما أنزل ال با من‬
‫سلطان ‪ ،‬ول يستسغها العقل السليم ف زمن من الزمان ‪.‬‬
‫وقد ارتقت صناعة نت التماثيل ف هذا العهد ‪ ،‬وبلغت أوجها ف القرن السادس‬
‫والسابع ‪ ،‬حت فاق هذا العصر ف ذلك العصور الاضية ‪ .‬وقد عكفت الطبقات كلها وعكف‬
‫أهل البلد من اللك إل الصعلوك على عبادة الصنام ‪ ،‬حت ل تد الديانة البوذية والينية‬

‫‪40‬‬
‫منها بدا ‪ ،‬وتذرعت هاتان الديانتان بذه الوسيلة للحتفاظ بياتما وانتشارها ف البلد ‪.‬‬
‫ويدل على ما وصلت إليه الوثنية والتماثيل ف هذا العصر ما حكاه الرحالة الصين الشهي "‬
‫هوئن سوئنج " الذي قام برحلته بي عام ‪ 630‬وعام ‪ 644‬عن الحتفال العظيم الذي أقامه‬
‫اللك هرش الذي حكم الند من عام ‪ 606‬إل ‪ (( : 647‬وأقام اللك احتفالً عظيما ف‬
‫قنوج اشترك فيه عدد كبي جدا من علماء الديانات السائدة ف الند ‪ ،‬وقد نصب اللك تثالً‬
‫ذهبيا لبوذة على منارة تعلو خسي ذراعا ‪ ،‬وقد خرج بتمثال آخر لبوذة أصغر من التمثال‬
‫الول ف موكب حافل قام بنبه اللك " هرش " بظلة وقام اللك الليف " كامروب " يذب‬
‫عنه الذباب‪. )) )(49‬‬
‫ويقول هذا الرحالة عن أسرة اللك ورجال بلطه ‪ " :‬إن بعضهم كان من عباد " شو "‬
‫وبعضهم من أتباع الديانة البوذية ‪ ،‬وكان بعضهم يعبد الشمس وبعضهم يعبد " وشنو "‬
‫وكان لكل واحد أن يص من اللة أحدا بعبادته أو يعبدهم جيعا‪. )) )(50‬‬

‫الشهوة النسية الامة ‪:‬‬


‫وأما الشهوة فقد امتازت با ديانة الند ومتمعها منذ العهد القدي ‪ ،‬فلعل الواد النسية‬
‫والهيجات الشهوية ل تدخل ف صميم ديانة بلد مثل ما دخلت ف صميم الديانة الندية ‪،‬‬
‫وقد تناقلت الكتب الندية وتدثت الوساط الدينية عن ظهور صفات الله وعن وقوع‬
‫الوادث العظيمة وعن تعليل الكوان روايات وأقاصيص عن اختلط النسي من اللة‬
‫وغارة بعضها على البيوت الشريفة تستك منها السامع ويتندى لا البي حياء ‪ ،‬وتأثي هذه‬
‫الكايات ف عقول التديني الخلصي الرددين لذه الكايات ف إيان وحاسة دينية وفعلها‬
‫ف عواطفهم وأعصابم واضح ‪ ،‬زاد إل ذلك عبادتم للة التناسل للهم الكب " مهاديو " ‪،‬‬
‫وتصويرها ف صورة بشعة ‪ ،‬واجتماع أهل البلد عليها من رجال ونساء وأطفال وبنات ‪ ،‬زد‬
‫إليه كذلك ما يدث به بعض الؤرخي أن رجال بعض الفرق الدينية كانوا يعبدون النساء‬

‫(‪(49‬‬
‫رحلة هوئن سوئنج (( فوكوي كي (( الدولة الغربية ‪.‬‬
‫(‪(50‬‬
‫أيضاً ‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫العاريات والنساء يعبدن الرجال العراة‪ )(51‬وكان كهنة العابد من كبار الونة والفساق الذين‬
‫كانوا يرزءون الراهبات والزائرات ف أعز ما عندهن ‪ ،‬وقد أصبح كثي من العابد نواخه‬
‫يترصد فيها الفاسق لطلبته ‪ ،‬وينال فيها الفاجر بغيته ‪ ،‬وإذا كان هذا شأن البيوت الت رفعت‬
‫للعبادة والدين فما ظن القارئ ببلط اللوك وقصور الغنياء ؟ ! فقد تنافس فيها رجالا ف‬
‫إتيان كل منكر وركوب كل فاحشة ‪ ،‬وكان فيها مالس متلطة من سادة وسيدات ‪ ،‬فإذا‬
‫لعبت المر برؤوسهم خلعوا جلباب الياء والشرف وطرحوا الشمة فتوارى الدب وتبقع‬
‫الياء ‪ ...‬هكذا أخذت البلد موجة طاغية من الشهوات النسية واللعة ‪ ،‬وأسفّت‬
‫أخلق النسي إسفافا كبيا ‪.‬‬

‫نظام الطبقات الائر ‪:‬‬


‫أما نظام الطبقات فلم يعرف ف تاريخ أمة من المم نظام طبقي أشد قسوة وأعظم‬
‫فصلً بي طبقة وطبقة وأشد استهانة بشرف النسان من النظام الذي اعترفت به الند دينيا‬
‫ومدنيا ‪ ،‬وخضعت له آلفا من السني ول تزال ‪ ،‬وقد بدت طلئع التفاوت الطبقي ف آخر‬
‫العهد الويدي بتأثي الرف والصنائع وثوراتا ‪ ،‬وبكم الحافظة عل خصائص السللة الرية‬
‫الحتلة ونابتها ‪ ،‬وقبل ميلد السيح بثلثة قرون ازدهرت ف الند الضارة البهية ‪ ،‬ووضع‬
‫فيها مرسوم جديد للمجتمع الندي ‪ ،‬وألف فيه قانون مدن وسياسي اتفق عليه البلد وأصبح‬
‫قانونا رسيا ومرجعا دينيا ف حياة البلد ومدنيتها وهو العروف الن بـ "منوشاستر " ‪.‬‬
‫يقسم هذا القانون أهل البلد إل أربع طبقات متازة وهي (‪ )1‬الباهة ‪ ،‬طبقة الكهنة‬
‫ورجال الدين ‪ )2( .‬شتري رجال الرب ‪ )3( .‬ويش رجال الزراعة والتجارة ‪ )4( .‬شودر‬
‫رجال الدمة ‪ .‬ويقول " منو " مؤلف هذا القانون ‪:‬‬
‫(( إن القادر الطلق قد خلق لصلحة العال الباهة من فمه ‪ ،‬وشتري من سواعده ‪،‬‬
‫وويش من أفخاذه ‪ ،‬والشودر من أرجله ‪ ،‬ووزع لم فرائض وواجبات لصلح العال ‪ .‬فعلى‬
‫الباهة تعليم ويد أو تقدي النذور لللة وتعاطي الصدقات ‪ ،‬وعلى الشتري حاسة الناس‬

‫(‪(51‬‬
‫ستيارته بركاش لديالند سرسوتي الهندكي ص ‪. 344‬‬
‫‪42‬‬
‫والتصدق وتقدي النذور ودراسة " ويد " والعزوف عن الشهوات ‪ ،‬وعلى ويش رعي السائمة‬
‫والقيام بدمتها وتلوة ويد والتجارة والزراعة ‪ ،‬وليس لشودر إل خدمة هذه الطبقات الثلث‬
‫))‪. )(52‬‬

‫امتيازات طبقة الباهة ‪:‬‬


‫وقد منح هذا القانون طبقة الباهة امتيازات وحقوقا ألقتهم باللة فقد قال إن‬
‫الباهة هم صفوة ال وهم ملوك اللق ‪ ،‬وإن ما ف العال هو ملك لم فإنم أفضل اللئق‬
‫وسادة الرض‪ )(53‬ولم أن يأخذوا من مال عبيدهم شودر‪ -‬من غي جريرة – ما شاؤوا ‪ ،‬لن‬
‫العبد ل يلك شيئا وكل ماله لسيده‪. )(54‬‬
‫وإن البهي الذي يفظ رك ويد " الكتاب القدس " هو رجل مغفور له ولو أباد‬
‫العوال الثلثة بذنوبه وأعماله‪ ، )(55‬ول يوز للملك حت ف أشد ساعات الضطرار والفاقة أن‬
‫‪)(56‬‬
‫يب من الباهة جباية أو يأخذ منهم إتاوة ‪ ،‬ول يصح لبهي ف بلده أن يوت جوعا‬
‫وإن استحق برهي القتل ل يز للحاكم إل أن يلق رأسه ‪ ،‬أما غيه فيقتل‪. )(57‬‬
‫أما الشتري فإن كانوا فوق الطبقتي " ويش وشودر " ولكنهم دون الباهة بكثي‬
‫فيقول " منو " ‪ :‬إن البهي الذي هو ف العاشرة من عمره يفوق الشتري الذي ناهز مائة‬
‫كما يفوق الوالد ولده‪. )(58‬‬

‫النبوذون الشقياء ‪:‬‬


‫أما شودر " النبوذون " فكانوا ف الجتمع الندي‪ -‬بنص هذا القانون الدن الدين‪-‬‬
‫أحط من البهائم وأذل من الكلب ‪ ،‬فيصرح القانون بأن " من سعادة شودر أن يقوموا بدمة‬

‫(‪(52‬‬
‫منوشاستر ‪ :‬الباب الول ‪.‬‬
‫(‪(53‬‬
‫أيضاً ‪.‬‬
‫(‪(54‬‬
‫الباب الثامن ‪.‬‬
‫(‪(55‬‬
‫الباب التاسع ‪.‬‬
‫(‪(56‬‬
‫الباب التاسع ‪.‬‬
‫(‪(57‬‬
‫الباب الثاني ‪.‬‬
‫(‪(58‬‬
‫منوشاستر الباب الحادي عشر ‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫الباهة وليس لم أجر وثواب بغي ذلك‪ . )(59‬وليس لم أن يقتنوا مالً أو يدخروا كنا فإن‬
‫ذلك يؤذي الباهة‪ ، )(60‬وإذا مد أحد من النبوذين إل برهي يدا أو عصا ليبطش به قطعت‬
‫يده ‪ ،‬وإذا رفسه ف غضب فدعت رجله‪ ، )(61‬وإذا هم أحد من النبوذين أن يالس برهيا‬
‫فعلى اللك أن يكوي إسته وينفيه من البلد‪ ، )(62‬وأما إذا مسه بيد أو سبه فيقتلع لسانه ‪ ،‬وإذا‬
‫ادعى أنه يعلمه سقي زيتا فائرا‪ ، )(63‬وكفارة قتل الكلب والقطة والضفدعة والوزغ والغراب‬
‫والبومة ورجل من الطبقة النبوذة سواء‪. " )(64‬‬

‫مركز الرأة ف الجتمع الندي ‪:‬‬


‫وقد نزلت النساء ف هذا الجتمع منلة الماء‪ ، )(65‬وكان الرجل قد يسر امرأته ف‬
‫القمار ‪ ،‬وكان ف بعض الحيان للمرأة عدة أزواج‪ )(66‬فإذا مات زوجها صارت كالوءودة ل‬
‫تتزوج ‪ ،‬وتكون هدف الهانات والتجريح ‪ ،‬وكانت أمة بيت زوجها التوف وخادم الحاء‬
‫وقد ترق نفسها على إثر وفاة زوجها تفاديا من عذاب الياة وشقاء الدنيا ‪ .‬وهكذا صارت‬
‫هذه البلد الخصبة أرضا وعقولً ‪ ،‬وهذه المة‪ -‬الت وصفها بعض مؤرخي العرب بكونا‬
‫معدن الكمة وينبوع العدل والسياسة وأهل الحلم الراجحة والراء الفاضلة‪ )(67‬لبعد عهدها‬
‫عن الدين الصحيح وضياع مصادره وتريف رجال الدين وإمعان الناس ف القياس والتخمي‬
‫واتباع هوى النفوس ونزعات الشهوات ‪ ..‬أصبحت هذه البلد مسرحا للجهل الفاضح‬
‫والوثنية الوضيعة والقسوة المجية والور الجتماعي الذي ليس له مثيل ف المم ول نظي ف‬
‫التاريخ‪.‬‬

‫العرب ‪ :‬خصائصهم ومواهبهم ‪:‬‬


‫(‪(59‬‬
‫أيضاً ‪.‬‬
‫(‪(60‬‬
‫الباب العاشر ‪.‬‬
‫(‪(61‬‬
‫أيضاً ‪.‬‬
‫(‪(62‬‬
‫الباب الثامن ‪.‬‬
‫(‪(63‬‬
‫منوشاستر‬
‫(‪(64‬‬
‫‪. R . C . Dutt 342 – 343‬‬
‫(‪(65‬‬
‫اقرأ استهلل قصة مها بهارات ( الملحمة الهندية الكبرى ( ‪.‬‬
‫(‪(66‬‬
‫‪. R . C . Dutt 331‬‬
‫(‪(67‬‬
‫صاعد الندلسي م ‪ ، 462‬طبقات المم ص ‪. 11‬‬
‫‪44‬‬
‫أما العرب فقد امتازوا بي أمم العال وشعوبه ف العصر الاهلي بأخلق ومواهب‬
‫تفردوا با أو فازوا فيها بال ِقدْح العلّى ‪ ،‬كالفصاحة وقوة البيان وحب الرية والنفة‬
‫والفروسية والشجاعة والماسة ف سبيل العقيدة والصراحة ف القول وجودة الفظ وقوة‬
‫الذاكرة وحب الساواة وقوة الرادة والوفاء والمانة ‪.‬‬
‫ولكن ابتلوا ف العصر الخي‪ -‬لبعد عهدهم من النبوة والنبياء وانصارهم ف شبه‬
‫جزيرتم وشدة تسكهم بدين الباء وتقاليد أمتهم بانطاط دين شديد ووثنية سخيفة قلما‬
‫يوجد لا نظي ف المم العاصرة ‪ ،‬وأدواء خلقية واجتماعية جعلت منهم أمة منحطة الخلق‬
‫فاسدة الجتمع متضعضعة الكيان حاوية لسوأ خصائص الياة الاهلية وبعيدة عن ماسن‬
‫الديان ‪.‬‬

‫وثنية الاهلية ‪:‬‬


‫كان الشرك هو دين العرب العام والعقيدة السائدة ‪ ،‬كانوا يعتقدون ف ال أنه إله‬
‫أعظم خالق الكوان ومدبر السماوات والرض ‪ ،‬بيده ملكوت كل شيء فلئن سئلوا ‪ :‬من‬
‫خلق السماوات والرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ‪َ {،‬ولَئِن َسَألْتَهُم مّنْ َخلَ َقهُمْ لَيَقُولُنّ‬
‫اللّهُ } ولكن ما كانت حوصلة فكرهم الاهلي تسع توحيد النبياء ف خلوصه وصفائه وسوه‬
‫‪ ،‬وما كانت أذهانم البعيدة العهد بالرسالة والنبوة والفاهيم الدينية تسيغ أن دعاء أحد من‬
‫البشر يتطرق إل السموات العلى ويظي عند ال بالقبول مباشرة بغي واسطة وشفاعة ‪ ،‬قياسا‬
‫على هذا العال القاصر وعاداته وأوضاع اللوكية الفاسدة وماري المور فيها ‪ ،‬فبحثوا لم‬
‫عن وسطاء توسلوا بم إل ال وأشركوهم ف الدعاء ‪ ،‬وقاموا نوهم ببعض العبادات‬
‫ورسخت ف أذهانم فكرة الشفاعة حت تولت إل عقيدة قدرة الشفعاء على النفع والضرر ‪.‬‬
‫ث ترقوا ف الشرك فاتذوا من دون ال آلة ‪ ،‬واعتقدوا أن لم ماثلة ومشاركة ف تدبي الكون‬
‫‪ ،‬وقدرة ذاتية على النفع والضرر والي والشر والعطاء والنع ‪ ،‬فإذا كانوا الولون يعترفون‬
‫ل باللوهية والربوبية الكبى ‪ ،‬ويكتفون بالشفعاء والولياء كان الخرون يشركون آلتهم‬

‫‪45‬‬
‫مع ال ويعتقدون فيهم قدرة ذاتية على الي والشر والنفع والضر والياد والفناء مع معن‬
‫غي واضح عن ال كإله أعظم ورب الرباب‪. )(68‬‬

‫أصنام العرب ف الاهلية ‪:‬‬


‫ول يزل هذا الفريق الثان يقوى أمره ويستفحل مع إمعان القوم ف الاهلية وقرب هذه‬
‫النعة الوثنية إل الواس والحسوسات واتفاقه مع ضعف التفكي حت أصبحت هذه العقيدة‬
‫السائدة وأصبح الذين ييزون بي اللة والوسطاء شواذ ف المة ‪ ،‬ومن رجال الطبقة الثقفة ‪،‬‬
‫وهكذا انغمست المة ف الوثنية وعبادة الصنام بأبشع أشكالا ‪ ،‬فكان لكل قبيلة أو ناحية أو‬
‫مدينة صنم خاص ‪ ،‬بل كان لكل بيت صنم خصوصي ‪ :‬قال الكلب ‪ :‬كان لهل كل دار من‬
‫مكة صنم ف دارهم يعبدونه ‪ ،‬فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع ف منله أن يتمسح‬
‫به ‪ ،‬وإذا قدم من سفر كان أول ما يصنع إذا دخل منله أن يتمسح به أيضا‪ . )(69‬واستهترت‬
‫العرب ف عبادة الصنام ‪ ،‬فمنهم من اتذ بيتا ‪ ،‬ومنهم من اتذ صنما ‪ ،‬ومن ل يقدر عليه‬
‫ول على بناء بيت نصب حجرا أمام الرم ‪ ،‬وأمام غيه ‪ ،‬ما استحسن ‪ ،‬ث طاف به كطوافه‬
‫بالبيت وسوها النصاب‪ . )(70‬وكان ف جوف الكعبة‪ -‬البيت الذي بن لعبادة ال وحده‪-‬‬
‫وف فنائها ثلث مائة وستون صنما‪ ، )(71‬وتدرجوا من عبادة الصنام والوثان إل عبادة‬
‫جنس الجارة ‪.‬‬
‫روى البخاري ن أب رجاء العطاردي قال ‪ :‬كنا نعبد الجر ‪ ،‬فإذا وجدنا حجرا هو‬
‫خي منه ألقيناه وأخذنا الخر ‪ ،‬فإذا ل ند حجرا ‪ ،‬جعنا حثوة من تراب ‪ ،‬ث جئنا بالشاة‬
‫فحلبنا عليه ث طفنا به‪. )(72‬‬
‫وقال الكلب ‪ :‬كان الرجل إذا سافر فنل منلً أخذ أربعة أحجار ‪ ،‬فنظر إل أحسنها‬
‫فاتذه ربا ‪ ،‬وجعل ثلث أثاف لقدره ‪ ،‬وإذا ارتل تركه‪. )(73‬‬

‫(‪(68‬‬
‫راجع كتاب (( بيئة النبي صلى ال عليه وسلم من القرآن (( – للستاذ محمد عزت دروزة ‪.‬‬
‫(‪(69‬‬
‫كتاب الصنام ص ‪. 33‬‬
‫(‪(70‬‬
‫كتاب الصنام ص ‪. 33‬‬
‫(‪(71‬‬
‫الجامع الصحيح للبخاري كتاب المغازي باب فتح مكة ‪.‬‬
‫(‪(72‬‬
‫الجامع الصحيح للبخاري كتاب المغازي باب وفد بني حنيفة ‪.‬‬
‫(‪(73‬‬
‫كتاب الصنام ‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫اللة عند العرب ‪:‬‬
‫وكان للعرب‪ -‬شأن كل أمة مشركة ف كل زمان ومكان‪ -‬آلة شت من اللئكة‬
‫والن والكواكب ‪ ،‬فكانوا يعتقدون أن اللئكة بنات ال ‪ ،‬فيتخذونم شفعاء لم عند ال‬
‫ويعبدونم ويتوسلون بم عند ال ‪ ،‬واتذوا كذلك من الن شركاء ل وآمنوا بقدرتم‬
‫وتأثيهم وعبدوهم‪. )(74‬‬
‫قال الكلب ‪ :‬كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الن ‪.)(75‬‬
‫وقال صاعد ‪ :‬كانت ِحمْيَر تعبد الشمس ‪ ،‬وكنانة القمر ‪ ،‬وتيم الدبران ‪ ،‬ولم‬
‫وجذام الشتري ‪ ،‬وطيء سهيلً ‪ ،‬وقيس الشّعري العبور ‪ ،‬وأسد عطاردا‪. )(76‬‬

‫اليهودية والنصرانية ف بلد العرب ‪:‬‬


‫وانتشرت اليهودية والنصرانية ف بلد العرب ‪ ،‬ول تستفد منها العرب كثيا من العان‬
‫الدينية ‪ ،‬وكانتا نسختي من اليهودية ف الشام ‪ ،‬والنصرانية ف بلد الروم والشام قد طرأ‬
‫عليها من التحريف والزيغ والوهن ما شرحناه من قبل ‪.‬‬

‫الرسالة واليان بالبعث ‪:‬‬


‫أما الرسالة فقد تصور العرب للنب صورة خيالية ‪ ،‬وتثلوه ف ذات قدسية ‪ ،‬ل يأكل‬
‫ول يشرب ول ينكح ول يلد ول يشي ف السواق ‪ .‬وكانت عقولم الضيقة ل تضم أن‬
‫هنالك بعثا بعد الوت ‪ ،‬وحياة بعد هذه الياة ‪ ،‬فيها الساب ‪ ،‬والثواب والعقاب ‪ ،‬قالوا ‪:‬‬
‫{ َوقَالُوا مَا هِيَ ِإلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُوتُ وََنحْيَا وَمَا ُي ْهلِكُنَا ِإلّا الدّهْرُ} وقالوا ‪ { :‬أَِئذَا كُنّا‬
‫عِظَاما َورُفَاتا َأإِنّا َلمَبْعُوثُونَ خَلْقا َجدِيدا }‬

‫(‪(74‬‬
‫كتاب الصنام ص ‪. 44‬‬
‫(‪(75‬‬
‫أيضاً ص ‪. 34‬‬
‫(‪(76‬‬
‫طبقات المم لصاعد ص ‪. 430‬‬
‫‪47‬‬
‫قال صاعد ‪ :‬كان جهورهم ينكر ذلك "اليعاد" ل يصدق بالعاد ول يقول بالزاء ‪،‬‬
‫ويرى أن العال ل يرب ول يبيد ‪ ،‬وإن كان ملوقا مبتدعا ‪ ،‬وكان فيهم من يقر بالعاد ‪،‬‬
‫ويعتقد إن نرت ناقته على قبه يشر راكبا ‪ ،‬ومن ل يفعل ذلك يشر ماشيا ‪.)(77‬‬

‫الدواء اللقية والجتماعية ‪:‬‬


‫أما من جهة الخلق ‪ ،‬فكانت فيهم أدواء وأمراض متأصلة ‪ ،‬وأسبابا فاشية ‪ ،‬فكان‬
‫شرب المر واسع الشيوع شديد الرسوخ فيهم تتحدث عن معاقرتا والجتماع على شربا‬
‫الشعراء ‪ ،‬وشغلت جانبا كبيا من شعرهم وتاريهم وأدبم ‪ ،‬وكثرت أسائها وصفاتا ف‬
‫لغتهم ‪ ،‬وكثر فيها التدقيق والتفصيل كثرة تدعو إل العجب‪ ، )(78‬وكانت حوانيت المارين‬
‫مفتوحة دائما ‪ ،‬يرفرف عليها علم يسمى غاية ‪.‬‬
‫قال لبيد‪: )(79‬‬
‫قد بتّ سامرها وغاية تاجر *** وافيت إذا رفعت وعز مُدامها‬
‫وكان من شيوع تارة المر أن أصبحت كلمة التجارة مرادفا لبيع المر ‪ ،‬كما قال‬
‫لبيد ‪ :‬وغاية تاجر ‪ ،‬وقال عمرو ابن قميئة ‪:)(80‬‬
‫إذا سحب الريط والروط إل *** أدن تاري وأنقص اللمما‬
‫وكان القمار من مفاخر الياة الاهلية ‪ .‬قال الاهلي‪: )(81‬‬
‫أعيتنا ألبانا ولومها *** وذلك عار يا بن ريطة ظاهر‬
‫ناب با أكفاءنا ونينها *** ونشرب ف أثانا ونقامر‬
‫وكان عدم الشاركة ف مالس القمار عارا ‪ ،‬يقول الشاعر‪: )(82‬‬
‫وإذا هلكتُ فل تريدي عاجزا *** غسا ول برما ول معزال‬

‫(‪(77‬‬
‫أيضاً ص ‪. 44‬‬
‫(‪(78‬‬
‫اقرأ كتاب المخصص لبن سيده ج ‪ 11‬ص ‪. 101 – 82‬‬
‫(‪(79‬‬
‫السبع المعلقات ‪ ،‬معلقة لبيد ‪.‬‬
‫(‪(80‬‬
‫ديوان الحماسة ‪.‬‬
‫(‪(81‬‬
‫ديوان الحماسة ‪.‬‬
‫(‪(82‬‬
‫ديوان الحماسة ‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫قال قتادة ‪ :‬كان الرجل ف الاهلية يقامر على أهله وماله فيقعد حزينا سلبيا ينظر إل‬
‫ماله ف يد غيه ‪ ،‬فكانت تورث بينهم عداوة وبغضا‪. )(83‬‬
‫وكان أهل الجاز ‪ ،‬العرب واليهود ‪ ،‬يتعاطون الربا ‪ ،‬وكان فاشيا فيهم ‪ ،‬وكانوا‬
‫يحفون فيه ويبلغون إل حد الغلو والقسوة ‪ ،‬وقال الطبي ‪ :‬كان الربا ف الاهلية ف‬
‫التضعيف وف السني ‪ ،‬يكن للرجل فضل دين فيأتيه إذا حلّ الجل فيقول له ‪ :‬تقضين أو‬
‫تزيدن ؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضى وإل حوله إل السن الت فوق ذلك ‪ ،‬إن كانت‬
‫ابنة ماض يعلها ابنة لبون ف السنة الثانية ‪ ،‬ث حُقّة ث َجذَعة ث رباعيا هكذا إل فوق ‪ ،‬وف‬
‫العي يأتيه ‪ ،‬فإن ل يكن عنده أضعفه ف العام القابل وإن ل يكن عنده أضعفه أيضا فتكون‬
‫مائة فيجعلها إل القابل مائتي ‪ ،‬فإن ل يكن عنده جعلها أربعمائة يضعفها له كل سنة أو‬
‫يقضيه‪. )(84‬‬
‫وقد رسخ الربا فيهم وجرى منهم مرى المور الطبيعية الت صاروا ل يفرقون بينه‬
‫وبي التجارة الطبيعية وقالوا إنا البيع مثل الربا ‪ ،‬وقال الطبي إن الذين كانوا يأكلون الربا من‬
‫أهل الاهلية كان إذا حل مال أحدهم على غرية يقول الغري لغري الق ‪ " :‬زدن ف الجل‬
‫وأزيدك ف مالك " فكان يقال لما إذا فعل ذلك ‪ :‬هذا ربا ل يل ‪ ،‬فإذا قيل لما ذلك قال ‪:‬‬
‫سواء علينا زدنا ف أول البيع أو عند مل الال‪. )(85‬‬
‫ول يكن الزن نادرا وكان غي مستنكر استنكارا شديدا ‪ ،‬فكان من العادات أن يتخذ‬
‫الرجل خليلت ويتخذ النساء أخلء بدون عقد ‪ ،‬وكانوا قد يُكرهون بعض النساء على‬
‫الزن ‪ ،‬قال ابن عباس ‪ :‬كانوا ف الاهلية يكرهون إماءهم على الزن يأخذون أجورهن‪. )(86‬‬
‫قالت عائشة ‪ " :‬إن النكاح ف الاهلية كان على أربعة أناء ‪ ،‬فنكاح منها نكاح الناس‬
‫اليوم يطب الرجل إل الرجل وليته أو بنته فيصدقها ث ينكحها ‪ ،‬والنكاح الخر كان الرجل‬
‫يقول لمرأته إذا طهرت من طمثها ‪ :‬أرسلي إل فلن فاستبضعي منه ‪ ،‬ويعتزلا زوجها ول‬
‫يسها أبدا حت يتبي حلها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ‪ ،‬فإذا تبي حلها أصابا‬
‫(‪(83‬‬
‫شيْطَانُ أَن يُوقِعَ َب ْي َنكُمُ ا ْل َعدَاوَةَ وَا ْل َبغْضَاء (( الية ‪.‬‬
‫تفسير الطبري ‪ :‬تفسير آية ((ِإّنمَا يُرِيدُ ال ّ‬
‫(‪(84‬‬
‫تفسير الطبري (( ج ‪ 4‬ص ‪. (( 59‬‬
‫(‪(85‬‬
‫تفسير الطبري ‪ ،‬ص ‪. 69‬‬
‫(‪(86‬‬
‫تفسير الطبري ‪،‬ج ‪ 18‬ص ‪. . 401‬‬
‫‪49‬‬
‫زوجها إذا أحب ‪ ،‬وإنا يفعل ذلك رغبة ف ناة الولد ‪ ،‬فكان هذا النكاح نكاح‬
‫الستبضاع ‪ ،‬ونكاح آخر يتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على الرأة ‪ ،‬كلهم يصيبها ‪،‬‬
‫فإذا حلت ووضعت ومرّ عليها ليال بعد أن تضع حلها أرسلت إليهم فلم يستطيع رجل منهم‬
‫أن يتنع حت يتمعوا عندها ‪ ،‬تقول لم ‪ :‬قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو‬
‫ابنك يا فلن ‪ ،‬تسمي من أحبت باسه فيلحق به ولدها ول يستطيع أن يتنع من جاءها ‪،‬‬
‫وهن البغايا كن ينصب على أبوابن رايات تكون علما ‪ ،‬فمن ارادهن دخل عليهن فإذا‬
‫حلت إحداهن ووضعت حلها جعوا لا ودعوا لا القافة ث ألقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه‬
‫ودعي ابنه ل يتنع من ذلك‪. )(87‬‬

‫الرأة ف الجتمع الاهلي ‪:‬‬


‫وكانت الرأة ف الجتمع الاهلي عرضة غب وحيف ‪ ،‬وتؤكل حقوقها وتُبْتز أموالا‬
‫وتُحرم إرثها وتعضل بعد الطلق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجا ترضاه‪ )(88‬وتورث كما‬
‫يورث التاع أو الدابة‪ ، )(89‬عن ابن عباس قال ‪ (( :‬كان الرجل إذا مات أبوه أو حيّه فهو‬
‫أحق بامرأته ‪ ،‬إن شاء أمسكها أو يبسها حت تفتدي بصداقها أو توت فيذهب بالا )) وقال‬
‫عطاء بن أب رباح‪ :‬إن أهل الاهلية كانوا إذا هلك الرجل فترك امرأة حبسها أهله على الصب‬
‫سدّي ‪ :‬إن الرجل ف الاهلية كان يوت أبوه أو أخوه أو ابنه فإذا مات‬‫يكون فيهم وقال ال ُ‬
‫وترك امرأته فإن سبق وارث اليت فألقى عليها ثوبه فهو أحق با أن ينكحها بهر صاحبه أو‬
‫يُنكحها فيأخذ مهرها ‪ ،‬وإن سبقته فذهبت إل أهلها فهي أحق بنفسها‪ )(90‬وكانت الرأة ف‬
‫الاهلية يطفف معها الكيل ‪ ،‬فيتمتع الرجل بقوقه ول تتمتع هي بقوقها ‪ ،‬يؤخذ ما تؤت من‬
‫مهر وتسك ضرارا للعتداء‪ ، )(91‬وتلقي من بعلها نشوزا أو إعراضا وتترك ف بعض‬

‫(‪(87‬‬
‫الجامع الصحيح للبخاري كتاب النكاح باب من قال ‪ :‬ل نكاح إل بولي ‪.‬‬
‫(‪(88‬‬
‫سورة البقرة ‪ ،‬آية ‪. 232‬‬
‫(‪(89‬‬
‫النساء آية ‪. 19‬‬
‫(‪(90‬‬
‫تفسير الطبري ج ‪ 4‬ص ‪. 308‬‬
‫(‪(91‬‬
‫سورة البقرة ‪ ،‬آية ‪. 231‬‬
‫‪50‬‬
‫الحيان كالعلقة‪ )(92‬ومن الأكولت ما هو خالص للذكور ومرم على الناث‪ ، )(93‬وكان‬
‫يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من النساء من غي تديد‪. )(94‬‬
‫وقد بلغت كراهة البنات إل حد الوأد ‪ .‬ذكر اليثم بن عدي – على ما حكاه عنه‬
‫اليدان‪ -‬أن الوأد كان مستعمل ف قبائل العرب قاطبة ‪ ،‬فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة ‪،‬‬
‫فجاء السلم ‪ ،‬وكانت مذاهب العرب متلفة ف وأد الولد فمنهم من كان يئد البنات لزيد‬
‫الغية ومافة لوق العار بم من أجلهن ‪ ،‬ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء أو‬
‫شيماء (سوداء) أو برشاء (برصاء) أو كسحاء (عرجاء) تشاؤما منهم بذه الصفات ‪ ،‬ومنهم‬
‫من كان يقتل أولده خشية النفاق وخوف الفقر ‪ ،‬وهم الفقراء من بعض قبائل العرب فكان‬
‫يشتريهم من بعض سراة العرب وأشرافهم‪ . )(95‬قال صعصعة بن ناجية ‪ :‬جاء السلم وفديت‬
‫ثلثائة موءودة‪ )(96‬ومنهم من كان ينذر‪ -‬إذا بلغ بنوه عشرة – نر واحد منهم كما فعل‬
‫عبدالطلب ‪ ،‬ومنهم من يقول ‪ :‬اللئكة بنات‪ -‬ال سبحانه عما يقولون‪ -‬فألقوا البنات به‬
‫تعال فهو عز وجل أحق بن‪. )(97‬‬
‫وكانوا يقتلون البنات ويئدونن بقسوة نادرة ف بعض الحيان ‪ ،‬فقد يتأخر وأد‬
‫الوءودة لسفر الوالد وشغله فل يئدها إل وقد كبت وصارت تعقل ‪ ،‬وقد حكوا ف ذلك عن‬
‫أنفسهم مبكيات ‪ ،‬وقد كان بعضهم يلقي النثى من شاهق‪. )(98‬‬

‫العصبية القبلية والدموية ف العرب ‪:‬‬


‫وكانت العصبية القبلية والدموية شديدة جامة ‪ ،‬وكان أساسها جاهليا تثله الملة‬
‫الأثورة عن العرب ‪(( :‬انصر أخاك ظالا أو مظلوما )) فكانوا يتناصرون ظالي أو مظلومي ‪.‬‬
‫وكانت ف الجتمع العرب طبقات وبيوت ترى لنفسها فضلً على غيها ‪ ،‬وامتيازا ‪،‬‬
‫فتترفع على الناس ول تشاركهم ف عادات كثية حت ف بعض مناسك الج ‪ ،‬فل تقف‬
‫(‪(92‬‬
‫النساء ‪ :‬آية ‪. 139‬‬
‫(‪(93‬‬
‫النعام ‪. 140‬‬
‫(‪(94‬‬
‫النساء آية ‪. 3‬‬
‫(‪(95‬‬
‫اقرأ بلوغ الرب في أحوال العرب لللوسي ‪.‬‬
‫(‪(96‬‬
‫كتاب الغاني ‪.‬‬
‫(‪(97‬‬
‫بلوغ الرب ‪.‬‬
‫(‪(98‬‬
‫أيضاً ‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫بعرفات وتتقدم على الناس ف الفاضة والجازة ‪ ،)(99‬وتنسأ الشهر الرم ‪ ،‬وكان النفوذ‬
‫والناصب العليا والنسيء متوارثا ‪ ،‬يتوارثه البناء عن الباء ‪ ،‬وكانت طبقات مسخرة‬
‫وطبقات سُوقة وعوام ‪ ،‬فكان التفاوت الطبقي من مسلمات الجتمع العرب ‪.‬‬
‫وكان الرب والغزو ما طبعت عليه طبيعتهم العربية ‪ ،‬وألمتهم إياه معيشتهم البدوية ‪،‬‬
‫حت صارت الرب مسلة لم وملهى فقال قائلهم ‪:)(100‬‬
‫وأحيانا على بكر أخينا *** إذا ما ل ند إل أخانا‬
‫هانت عليهم الرب وإراقة الدماء حت كانت تثيها حادثة ليست بذات خطر ‪ ،‬فقد‬
‫وقعت الرب بي بكر وتغلب ابن وائل ومكثت أربعي سنة أريقت فيها دماء غزيرة ‪ ،‬وما‬
‫ذاك إل لن كليبا‪ -‬رئيس معدّ‪ -‬رمى ضلع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها وقتل‬
‫جساس بن مرة كليبا ‪،‬واشتبكت الرب بي بكر وتغلب ‪ ،‬وكان كما قال الهلهل أخو‬
‫كليب‪(( :‬قد فن اليان وثكلت المهات ويتم الولد دموع ل ترقأ وأجساد ل تدفن‪)) )(101‬‬
‫كذلك حرب داحس والغباء فما كان سببها إل أن داحسا فرس قيس بن زهي كان‬
‫سابقا ف رهان بي قيس بن زهي وحذيفة بن بدر فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة فلطم‬
‫وجهه وشغله ففاتته اليل ‪ ،‬وتل ذلك قتل ث أخذ بالثأر ونصر القبائل لبنائها ‪ ،‬وأسر ونزح‬
‫للقبائل ‪ ،‬وقتل ف ذلك ألوف من الناس‪. )(102‬‬
‫وكانت الياة كلها شبكة مبوكة من تراث وثارات وفشت حبائلها ف القبائل وأوصى‬
‫با الباء والبناء ‪ ،‬وحلت العيشة البدوية وقلة أسباب الياة ‪ ،‬والطمع والشع ‪ ،‬والحقاد‬
‫والستهانة بياة النسان على الفتك والسلب والنهب ‪ ،‬حت كانت أرض الزيرة كِفة حابل‬
‫ل يدري النسان مت يغتال وأين ينهب ‪ .‬وكان الناس يُتخطفون من بي عشيتم ف‬
‫القوافل ‪ ،‬حت احتاجت الدول القوية إل الفارة الساهرة ‪ ،‬والبذرقة القوية‪ ، )(103‬فكانت عي‬
‫كسرى تبذرق من الدائن حت تدفع إل النعمان بن النذر بالية ‪ ،‬والنعمان يبذرقها بفراء‬

‫(‪ (99‬سورة البقرة آية ‪. 199‬‬


‫(‪ (100‬ديون الحماسة ‪.‬‬
‫(‪ (101‬انظر أيام العرب ‪.‬‬
‫(‪ (102‬انظر أيام العرب ‪.‬‬
‫(‪ (103‬البذرقة ‪ :‬الخفارة والحراسة ‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫من بن ربيعة حت تدفع إل بن هوذة بن علي النفي باليمامة فيبذرقها حت ترج من أرض‬
‫بن حنيفة ث تدفع إل تيم وتعل لم جعالة فتسي با إل أن تبلغ اليمن وتسلم إل عمال‬
‫كسرى باليمن‪.)(104‬‬

‫ظهر الفساد ف الب والبحر ‪:‬‬


‫وبالملة ل تكن على ظهر الرض أمة صالة الزاج ‪ ،‬ول متمع قائم على أساس‬
‫الخلق والفضيلة ‪ ،‬ول حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحة ‪ ،‬ول قيادة مبنية على‬
‫العلم والكمة ‪ ،‬ول دين صحيح مأثور عن النبياء ‪.‬‬

‫لعات ف الظلم ‪:‬‬


‫وكان النور الضعيف الذي يتراءى ف هذا الظلم الطبق من بعض الديرة والكنائس‬
‫أشبه بالباحب الذي يضيء ف ليلة شديدة الظلم فل يترق الظلم ‪ ،‬ول يني السبيل ‪ ،‬وكان‬
‫الذي يرج ف ارتياد العلم الصحيح ‪ ،‬وانتجاع الدين الق يهيم على وجهه ف البلد ‪ ،‬ترفعه‬
‫أرض وتفضه أخرى ‪ ،‬حت يأوي إل رجال شواذ ف المم والبلد ‪ ،‬فيلجأ إليهم كما يلجأ‬
‫الغريق إل ألواح سفينة مكسرة ‪ ،‬هشمها الطوفان ‪ ،‬يدل على ندرتم خب سلمان الفارسي‬
‫أكب الرواد الدينيي ف القرن السادس الذي شرق وغرب ف الفحص عنهم ‪ ،‬ول يزل يتنقل‬
‫من الشام إل الوصل ‪ ،‬ومن الوصل إل نُصيبي ‪ ،‬ومن نصيبي إل عمورية ‪ ،‬ويوصي به‬
‫بعضهم إل بعض ‪ ،‬حت أتى على آخرهم فلم يد لم خامسا ‪ ،‬وأدركه السلم ف هذا‬
‫الظلم ‪ ،‬قال سلمان ‪:‬‬
‫(( لا قدمت الشام ‪ ،‬قلت ‪ :‬من أفضل أهل هذا الدين ؟ قالوا ‪ :‬السقف ف الكنيسة !‬
‫قال فجئته ‪ ،‬فقلت ‪ :‬إن قد رغبت ف هذا الدين ‪ ،‬وأحببت أن أكون معك أخدمك ف‬
‫كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك ‪ ،‬قال ‪ :‬فادخل ‪ ،‬فدخلت معه ‪ ،‬قال فكان رجل سوء‬
‫يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها ‪ ،‬فإذا جعوا إليه منها أشياء اكتنه لنفسه ‪ ،‬ول يعطه الساكي‬
‫حت جع سبع قلل من ذهب وورِق‪ ،‬قال ‪ :‬وأبغضته بغضا شديدا لا رأيته يصنع ‪ ،‬ث مات‬
‫(‪(104‬‬
‫تاريخ الطبري ج ‪ 2‬ص ‪. 133‬‬
‫‪53‬‬
‫فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ‪ ،‬فقلت لم ‪ :‬إن هذا كان رجل سوء ‪ ،‬يأمركم بالصدقة‬
‫ويرغبكم فيها فإذا جئتموه با اكتنها لنفسه ‪ ،‬ول يعط الساكي منها شيئا ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وما‬
‫علمك بذلك ؟ قال قلت ‪ :‬أنا أدلكم على كنه ‪ ،‬قالوا ‪ :‬فدلنا عليه ‪ ،‬قال فأريتهم موضعه ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬فاستخرجوا منه سبع قلل ملوءة ذهبا وورقا ‪ ،‬قال ‪ :‬فلما رأوها ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وال ل ندفنه‬
‫أبدا ‪ ،‬فصلبوه ث رجوه بالجارة ‪ ،‬ث جاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه ‪ ،‬قال ‪ :‬يقول‬
‫سلمان‪ :‬فما رأيت رجلً ل يصلي المس أرى أنه أفضل منه وأزهد ف الدنيا وأرغب ف‬
‫الخرة ول أدأب ليلً ونارا منه ‪ ،‬قال ‪ :‬فأحببته حبا ل أحبه من قبل وأقمت معه زمانا ‪ ،‬ث‬
‫حضرته الوفاة ‪ ،‬فقلت له يا فلن ‪ :‬إن كنت معك وأحببتك حبا م أُحبه من قبلك ‪ ،‬وقد‬
‫حضرك ما ترى من أمر ال ‪ ،‬فإل من توصى ب ‪ ،‬وما تأمرن ؟ قال ‪ :‬يا بن وال ما اعلم‬
‫أحدا اليوم على ما كنت عليه ‪ ،‬لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إل رجلً‬
‫بالوصل وهو فلن ‪ ،‬فهو على ما كنت عليه فالق به ‪ ،‬قال ‪ :‬فلما مات وغيب لقت‬
‫بصاحب الوصل ‪ ،‬فقلت له ‪ :‬يا فلن إن فلنا أوصان عند موته أن ألق بك ‪ ،‬وأخبن أنك‬
‫على أمره ‪ .‬قال ‪ :‬فقال ل ‪ :‬أقم عندي ‪ ،‬فأقمت عنده ‪ ،‬فوجدته خي رجل على أمر‬
‫صاحبه ‪ ،‬فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة ‪ ،‬قلت له ‪ :‬يا فلن ‪ ،‬إن فلنا أوصى ب أليك‬
‫وأمرن باللحوق بك ‪ ،‬وقد حضرك من ال عز وجل ما ترى ‪ ،‬فإل من توصى ب وما‬
‫تأمرن ؟ قال ‪ :‬يا بن وال ما أعلم رجلً على مثل ما كنا عليه إل رجل بنصيبي وهو فلن‬
‫فالق به ‪ ،‬فلما مات وغيب لقت بصاحب نصيبي فجئته فأخبته ببي وما أمرن به‬
‫صاحب ‪ ،‬قال فأقم عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه ‪ ،‬فأقمت مع خي رجل ‪،‬‬
‫فو ال ما لبث أن نزل به الوت ‪ ،‬فلما حضر قلت له ‪ :‬يا فلن إن فلنا كان أوصى ب إل‬
‫فلن ث أوصى ب فلن إليك ‪ ،‬فإل من توصى ب وما تأمرن ؟ قال ‪ :‬أي بن وال ما نعلم‬
‫ل بعمورية فإنه بثل ما نن عليه ‪ ،‬فإن أحببت فأته‬ ‫أحدا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إل رج ً‬
‫‪ ،‬قال ‪ :‬فإنه على أمرنا ‪ ،‬قال فلما مات وغيب لقت بصاحب عمورية ‪ ،‬وأخبته خبي ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬أقم عندي ‪ ،‬فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم ‪ .‬قال ‪ :‬واكتسبت كان ل‬
‫بقرات وغنيمة ‪ ،‬قال ‪ :‬ث نزل به أمر ال ‪ ،‬فلما ُحضِر قلت له ‪ :‬يا فلن ‪ ،‬إن كنت مع‬
‫‪54‬‬
‫فلن ‪ ،‬فأوصى ب فلن إل فلن ‪ ،‬وأوصى ب فلن إل فلن ‪ ،‬ث أوصى ب فلن إليك ‪ ،‬فإل‬
‫من توصى ب وما تأمرن ؟ قال ‪ :‬أي بن ‪ ،‬وال ما أعلم أصبح على ما كنا عليه أحد من‬
‫الناس آمرك أن تأتيه ‪ ،‬ولكنه قد أظلك زمان نب هو مبعوث بدين إبراهيم يرج بأرض العرب‬
‫مهاجرا إل أرض بي حرتي بينهما نل به علمات ل تفى ‪ ،‬يأكل الدية ‪ ،‬ول يأكل‬
‫الصدقة ‪ ،‬بي كتفيه خات النبوة ‪ ،‬فإن استطعت أن تلحق بتلك البلد فافعل )) ال ‪. )(105‬‬
‫**************************‬

‫(‪ (105‬رواه المام أحمد بإسناده عن ابن عباس عن سلمان ورواه الحاكم في مستدركه ‪ .‬والرواية لتصال سندها وعدالة رواتها من‬
‫أصح الوثائق التاريخية عن الجاهلية وحالتها الدينية ‪.‬‬
‫‪55‬‬
‫الفصل الثان‬
‫النظام السياسي والال ف العصر الاهلي‬
‫اللكية الطلقة ‪:‬‬
‫كان العصر الاهلي مسرحا للحكم الائر الستبد ‪ ،‬فقد كانت السياسة ف هذا العصر‬
‫ملكية مطلقة ‪ ،‬قد تقوم على تقديس البيوتات الاصة ‪ ،‬كما كان ف فارس ‪ ،‬فقد كان آل‬
‫ساسان يعتقدون أن حقهم ف اللك مستمد من ال ‪ ،‬وقد عملوا كل ما ف استطاعتهم للتأثي‬
‫ف رعاياهم حت أذعنوا لذا الق اللكي القدس وصارت لم عقيدة يدينون با ‪ ،‬وقد تقوم‬
‫على تقديس اللوك مطلقا ‪ ،‬فكان الصينيون يسمون ملكهم المباطور ابن السماء ‪،‬‬
‫ويعتقدون أن السماء ذكر ‪ ،‬والرض أنثى ‪ ،‬وقد ولد الكائنات ‪ ،‬وكان المباطور ختا الول‬
‫هو بكر هذين الزوجي‪ ، )(106‬وكان المباطور يعتب كالب الوحيد للمة ‪ ،‬له أن يفعل ما‬
‫يشاء ‪ ،‬وكانوا يقولون له ‪ " :‬أنت أبو المة وأمها " ولا مات المباطور "ل يان" أو "تاي‬
‫تسونغ" لبست الصي ثوب الداد ‪ ،‬وحزنت المة حزنا شديدا ‪ ،‬فمنها من أثخن وجهه‬
‫بالبر ‪ ،‬ومن قطع شعره ‪ ،‬ومن ضرب أذنيه بانب النعش ‪ .‬وقد تقوم على تقديس بعض‬
‫الشعوب والوطان كما كان ف الملكة الرومية ‪ ،‬فكان البدأ الساسي هو تقديس الوطن‬
‫الرومي ‪ ،‬والشعب الرومي ‪ .‬ول تكن المم والبلد إل خادمة لصلحتها وعروقا يري منها‬
‫الدم إل مركزها ‪ ،‬فكانت الدولة تستهي ف ذلك بكل حق ومبدأ ‪ ،‬وتدوس كل شرف‬
‫وكرامة ‪ ،‬وتستحل كل ظلم وشنيعة ‪ ،‬ول ينع بلدا من هذا اليف والظلم اشتراك ف دين‬
‫وعقيدة ول إخلص ووفاء للملكة ‪ ،‬ول يعترف لا ف زمن من الزمان بق حكمها نفسها‬
‫بنفسها والتمتع بقوقها ف أرضها إنا هي ناقة ركوب ف بعض الحيان ‪ ،‬حلوب ف بعضها ‪،‬‬
‫ل يقدم لا العلف إل ما يقيم صلبها ويدر ضرعها ‪.‬‬
‫يقول (‪ ) Robert Briffault‬عن الدولة الرومية ‪:‬‬

‫(‪(106‬‬
‫تاريخ الصين لجميز كاركرن ‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫(( ل يكن سبب انقراض الدولة الرومية وسقوطها الساسي الفساد الزائد (كالرشوة‬
‫وغيها) بل كان الفساد والشر وعدم الطابقة بالواقع ما صحب نشوء هذه الدولة من أول‬
‫يومها وتغلغل ف أحشائها ‪ .‬إن كل مؤسسة بشرية تقوم على أساس زائف منها ول تستطيع‬
‫أن تنقذ نفسها بذكاء أو نشاط ‪ ،‬ولا كان الفساد ما قامت عليه هذه الدولة فكان ل بد أن‬
‫تبيد يوما وتنهار ‪ ،‬لقد رأينا أن الدولة الرومية إنا كانت وسيلة لرفاهية طبقة صغية على‬
‫حساب الماهي الذين كانت هذه الطبقة تستغلهم وتتص دمائهم ‪ .‬لقد كانت التجارة تسي‬
‫ف رومة بأمانة وعدل وقد كان ذلك ما طبعت عليه هذه الدولة ‪ ،‬وقد كانت فائقة ف قوة‬
‫الكم والقضاء ‪ ،‬وف الكفاءة ‪ ،‬ولكن هذه الحاسن كلها ل تكن لتحفظ الدولة من عواقب‬
‫الزيف الساسي والطأ ‪. )))(107‬‬

‫الكم الرومان ف مصر والشام ‪:‬‬


‫يقول الدكتور الفرد‪ .‬ج‪ .‬بتلر عن الكم الرومان ف مصر ‪:‬‬
‫(( إن حكومة مصر (الرومية) ل يكن لا إل غرض واحد ‪ ،‬وهو أن تبتز الموال من‬
‫الرعية لتكون غنيمة للحاكمي ‪ ،‬ول يساورها أن تعل قصد الكم توفي الرفاهية للرعية أو‬
‫ترقية حال الناس والعلو بم ف الياة أو تذيب نفوسهم أو إصلح أمور أرزاقهم ‪ ،‬فكان‬
‫الكم على ذلك حكم الغرباء ل يعتمد إل على القوة ول يس بشيء من العطف على‬
‫الشعب الحكوم‪.)) )(108‬‬
‫ويقول مؤرخ عرب شامي عن الكم الرومان ف الشام ‪:‬‬
‫(( كانت معاملة الرومان للشاميي بادئ ذي بدء عادلة حسنة مع ما كانت عليه‬
‫ملكتهم ف داخليتها من الشاغب والتاعب ‪ .‬ولا شاخت دولتهم انقلبت إل أتعس ما كانت‬
‫عليه من الرق والعبودية ‪ ،‬ول تضف رُومية بلد الشام مباشرة ول يصبح سكانا وطنيي‬
‫رومانيي ‪ ،‬ول أرضهم أرضا رومانية ‪ ،‬بل ظلوا غرباء ورعايا ‪ ،‬وكثيا ما كانوا يبيعون‬

‫(‪(107‬‬
‫‪. The Making of Humanity, by Robert Briffault p 159‬‬
‫(‪(108‬‬
‫فتح العرب لمصر للدكتور الفرد ‪.‬ج ‪ .‬بتلر ‪ ،‬تعريب محمد فريد أبو حديد ‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫أبنائهم ليوفوا ما عليهم من الموال ‪ ،‬وقد كثرت الظال والسخرات والرقيق ‪ ،‬وبذه اليدي‬
‫عمر الرومان ما عمروا من العاهد والصانع ف الشام‪. )) )(109‬‬
‫(( حكم الرومان الشام سبعمائة سنة بدأ معهم ف البلد الناع والشقاق والستبداد‬
‫والنانية وقتل النفس ‪ ،‬وحكم اليونان الشام ‪ 369‬سنة سادت ف عهدهم الروب الطاحنة‬
‫والظال وظهرت الطامع اليونانية بأعظم مظاهرها وكان حكمهم من أشد الويلت وأشأم‬
‫النكبات على المة الشامية‪. )) )(110‬‬
‫وبالختصار كانت الوليات الرومية والفارسية غي مرتاحة ف حكم الجانب ‪،‬‬
‫وكانت الحوال السياسية والقتصادية مضطربة حت ف مراكز الدولة وعواصمها ‪.‬‬

‫نظام الباية والراج ف إيران ‪:‬‬


‫ول يكن النظام الال والسياسة الالية ف إيران عادلة مستقرة بل كانت جائرة مضطربة‬
‫ف كثي من الحوال ‪ ،‬تابعة لخلق الباة العاملي وأهوائهم والحوال السياسية والربية ‪.‬‬
‫يقول مؤلف (( إيران ف عهد الساسانيي )) ‪:‬‬
‫(( كان الباة ل يتحرزون من اليانة واغتصاب الموال ف تقدير الضرائب وجباية‬
‫الموال ‪ ،‬ولا كانت الضرائب تتلف كل سنة وتزيد وتنقص ل يكن دخل الدولة وخرجها‬
‫مقدرين مضبوطي ‪ ،‬وقد كانت الرب تنشب ف بعض الحيان وليست عند الدولة أموال‬
‫تنفقها على الرب ‪ ،‬فكان يلجئها ذلك إل ضرائب جديدة ‪ ،‬وكانت القاطعات الغربية‬
‫الغنية‪ -‬وخاصة بابل‪ -‬هدف هذه الضرائب دائما ‪. )))(111‬‬

‫كنوز اللوك ومدخراتم ‪:‬‬


‫ول يكن ما ينفق على أهل البلد ف إيران من مالية الدولة شيئا كثيا ‪ .‬وقد اعتاد‬
‫ملوك إيران من القدي أن يكتنوا النقود ويدخروا الطرف والشياء الغالية‪ ، )(112‬ولا نقل‬

‫(‪(109‬‬
‫خطط الشام للستاذ كرد علي ج ‪ 1‬ص ‪. 101‬‬
‫(‪(110‬‬
‫أيضاً ج ‪ 1‬ص ‪. 103‬‬
‫(‪(111‬‬
‫إيران في عهد الساسانيين ص ‪. 161‬‬
‫(‪(112‬‬
‫إيران في عهد الساسانيين ص ‪.162‬‬
‫‪58‬‬
‫خسرو الثان ف الدائن أمواله إل بناية أحدثها سنة ‪608 -607‬م وكان ما نقله ‪460‬‬
‫مليون وثانية مليي مثقال ذهب وذلك ما يساوي ‪ 370‬مليون وخسة مليي فرنك ذهب ‪،‬‬
‫وف العام الثالث عشر من جلوسه على العرش كان ف خزانته ‪ 800‬مليون مثقال ذهب‪. )(113‬‬

‫الفصل الشاسع بي طبقات الجتمع ‪:‬‬


‫كان الغن لفراد معدودين والفقر لعظم الهلي ‪ ،‬يقول مؤلف " إيران ف عهد‬
‫الساسانيي " عن أخصب عهد من عهود إيران وعن أعدل ملك من ملوكها وهو كسرى‬
‫أنوشروان ‪:‬‬
‫(( إن ما قام به كسرى من إصلح النظام الال كان ف مصلحة مالية الملكة أكب منه‬
‫ف مصلحة الرعية ‪ ،‬فلم تزل العامة يعيشون ف الهل والضنك كما كانوا ف السابق وما‬
‫شاهد الفلسفة البيزنطيون من فوارق نسبية بي طبقات الجتمع والفصل الشاسع بينها‬
‫والبؤس الذي كان يعش فيه رجال الطبقات النحطة أقلق خاطرهم وانتقدوا الجتمع الفارسي‬
‫بقولم ‪ :‬إن القوياء فيه يقهرون الضعفاء ويعاملونم بظلم وبقسوة شديدة‪.)) )(114‬‬
‫وكانت الناصب وقفا على بعض البيوتات والسلئل ذات الثروة والاه والنفوذ عند‬
‫الكام ‪.‬‬
‫ويقول (‪ ) Robert Briffault‬عن النظام الطبقي ف الدولة الرومية ‪:‬‬
‫(( ما جرت العادة أنه إذا أصيبت مؤسسة اجتماعية بالزوال والنطاط ل يرى‬
‫القائمون عليها حيلة إل أن ينعوها من الركة والتطور ‪ ،‬لذلك كان الجتمع الرومي (ف عهد‬
‫النطاط) خاضعا لنظام طبقي جائر يرزح تته ‪ ،‬وما كان لحد ف هذا الجتمع أن يغي‬
‫حرفته ‪ ،‬وكان ل بد للبن أن يتخذ حرفة أبيه‪.)) )(115‬‬

‫الفلحون ف إيران ‪:‬‬


‫(‪(113‬‬
‫إيران في عهد الساسانيين ص ‪. 611‬‬
‫(‪(114‬‬
‫إيران في عهد الساسانيين ص ‪. 590‬‬
‫(‪(115‬‬
‫‪. The Making of Humanity p 160‬‬
‫‪59‬‬
‫أثقلت الضرائب التنوعة التجددة كاهل المهور حت ترك كثي من الزارعي أعمالم‬
‫أو دخلوا الديرة فرارا من الضرائب والدمة العسكرية لمة ل يبونا أو لغرض ل يتحمسون‬
‫له وفشت ف الناس البطالة والنايات وطرق غي شرعية للكسب ‪.‬‬
‫يصر قول مؤلف " إيران ف عهد الساسانيي " ‪:‬‬
‫(( كان الفلحون ف شقاء وبؤس عظيم وكانوا مرتبطي بأراضيهم ‪ ،‬وكانوا‬
‫يُستخدمون مانا ويكلفون كل عمل ‪ ،‬يقول الؤرخ " اميان مارسيلينوس " إن هؤلء‬
‫الفلحي البؤساء كانوا يسيون خلف اليوش مشاة كأنه قد كتب عليهم الرق الدائم ‪ ،‬ول‬
‫يكونوا ينالون إعانة أو تشجيعا من راتب أو أجرة‪ )(116‬وكانت علقة الفلحي باللك‬
‫أصحاب الراضي كعلقة العبيد بالسادة‪.)) )(117‬‬

‫الضطهاد والستبداد ‪:‬‬


‫واضطهد اليوم ف الشام والعراق واليعقوبيون ف مصر اضطهادا كبيا واستبد الكام‬
‫استبدادا شديدا وعاثوا ف البلد والدماء والموال والعراض ‪ .‬وتصامّ أهل الل والعقد عن‬
‫شكواهم حت صار الناس يعدون هذه الوضاع الفاسدة ضربة لزب وقضاء متوما ‪ ،‬وصاروا‬
‫ف بعض اليام يفضلون الوت على الياة ‪.‬‬

‫الدنية الصطنعة والياة الترفة ‪:‬‬


‫استحوذت على الناس ف الدولتي‪ -‬الفارسية والرومية‪ -‬حياة الترف والبذخ وطغى‬
‫عليهم بر الدينة الصطنعة والياة الزورة وغرقوا فيه إل أذقانم ‪ .‬فكان ملوك فارس والروم‬
‫وأمراء الدولتي سادرين ف غفلتهم ل هم لم إل اللذة والتهام الياة ‪ ،‬وبذخوا بذخا عظيما‬
‫تطى القياس ‪ ،‬ودققوا ف مرافق العيشة وفضول الدنية وحواشي الياة تدقيقا عظيما جدا ‪،‬‬
‫فكان لكسرى أبرويز ‪ 12‬ألف امرأة وخسون ألف جواد وشيء ل يصى من أدوات الترف‬

‫(‪(116‬‬
‫أيضاً ص ‪. 424‬‬
‫(‪(117‬‬
‫أيضاً ص ‪. 424‬‬
‫‪60‬‬
‫والقصور الباذخة ومظاهر الثروة والنعمة ‪ ،‬وقصره مثال ف البة والغن‪ ، )(118‬يقول‬
‫مكاريوس ‪:‬‬
‫(( ل يرو ف التاريخ أن مليكا بذخ وتنعم مثل الكاسرة الذين كانت تأتيهم الدايا‬
‫والرايات من كل البلدان الواقعة ما بي الشرق القصى والشرق الدن‪ )(119‬ولا خرجوا من‬
‫العراق ف الفتح السلمي تركوا ف الزائن من الثياب والتاع والنية والفضول واللطاف‬
‫والدهان ما ل يدرى ما قيمته ))‪.‬‬
‫وقد وجد العرب قبابا تركية ملوءة سللً متمة بالرصاص ‪ ،‬قال العرب ‪ :‬فما‬
‫حسبناها إل طعاما فإذا هي آنية الذهب والفضة‪.)) )(120‬‬
‫ووصف الؤرخون العرب بار كسرى الذي أصابه السلمون يوم الدائن فقالوا ‪:‬‬
‫(( هو ستون ذراعا ف ستي ذراعا ‪ ،‬بساط واحد مقدار جريب ‪ ،‬أرضه بذهب ووشيه‬
‫بفصوص وثره بوهر وورقه برير وماء الذهب فيه طرق كالصور وفصوص كالنار ‪،‬‬
‫وخلل ذلك كالدير ‪ ،‬وف حافاته كالرض الزروعة ‪ ،‬والرض البقلة بالنبات ف الربيع من‬
‫الرير على قضبان الذهب ‪ ،‬ونواره بالذهب والفضة وأشباه ذلك ‪ ،‬وكانوا يعدونه للشتاء ‪،‬‬
‫إذا ذهبت الرياحي ‪ ،‬فكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه فكأنم ف رياض‪ ، )) )(121‬وهذا‬
‫يدل على ما وصل إليه البذخ والترفه ف الدنية الفارسية ‪.‬‬
‫كذلك كان الشام ف الدولة الرومية وحواضرها ‪ ،‬وكانت الدولتان والدنيتان –‬
‫الفارسية والرومية ‪ ..‬كفرسي رهان ف البذخ والترفه ف دقائق الدنية ‪ ،‬وقد بذخ الباطرة‬
‫ونوابم وأمراؤهم ف الشام بذخا عظيما وحوى بلطهم وقصورهم ومالس شربم ولوهم‬
‫من آلت الترف وأسباب الرفاهية شيئا كثيا ‪ ،‬وبلغت من الترف والناقة شأوا بعيدا ‪ ،‬وقد‬
‫وصف حسان بن ثابت الشاعر الخضرم ملس جبلة بن اليهم الغسان فقال ‪ :‬لقد رأيت‬
‫عشر قيان خس روميات يغني بالرومية بالبابط وخس يغني غناء أهل الية أهداهن إليه‬
‫إياس بن قبيصة وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيها ‪ ،‬وكان إذا جلس‬
‫(‪(118‬‬
‫تاريخ إيران لشاهين مكاريوس طبع ‪ 1898‬ص ‪. 90‬‬
‫(‪(119‬‬
‫أيضاً ص ‪. 211‬‬
‫(‪(120‬‬
‫تاريخ الطبري ‪.‬‬
‫(‪(121‬‬
‫تاريخ الطبري ج ‪ 4‬ص ‪. 178‬‬
‫‪61‬‬
‫للشراب فرش تته الس والياسي وأصناف الرياحي وضرب له العنب والسك ف صحاف‬
‫الفضة والذهب وأتى بالسك الصحيح ف صحاف الفضة وأوقد له العود الندّي إن كان شاتيا‬
‫‪ ،‬وإن صائفا بطن بالثلج وأت هو وأصحابه بكسى صيفية يتفضل هو وأصحابه با ف الصيف‬
‫‪ ،‬وف الشتاء الفراء الفنك وما أشبهه‪. )(122‬‬
‫وكان المراء والقيال والغنياء ورجال البيوتات الشريفة وأفراد الطبقة الوسطى على‬
‫آثار اللوك ياولون أن يقلدوهم ف لباسهم وطعامهم ومالسهم وترفهم وكانوا يأخذون‬
‫أنفسهم بعاداتم ومناهج حياتم ‪ ،‬وارتفع مستوى الياة ارتفاعا عظيما وتعقدت الدنية تعقدا‬
‫عظيما ‪ ،‬وصار الواحد ينفق على نفسه وعلى جزء من لباسه ما يشبع قرية أو يكسو قبيلة ‪،‬‬
‫وكان لبد منه لكل شريف أو وجيه ‪ ،‬حت إذا أخل به وأغفله أشي إليه بالبنان وتفادته العيون‬
‫‪ ،‬حت صار ذلك واجبا من وجبات الياة وشريعة من شرائع الجتمع الت ل يل العدول عنها‬
‫‪ .‬عن الشعب قال ‪ :‬كان أهل فارس يعلون قلنسهم على قدر أحسابم ف عشائرهم ‪ ،‬فمن‬
‫ت شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف ‪ ،‬وكان هرمز من ت شرفه فكانت قيمتها مائة ألف وكانت‬
‫مفصصة بالوهر‪ ، )(123‬وتام شرف أحدهم أن يكون من بيوتات السبعة ومن الزادية كان‬
‫مرزبان الية أزمان كسرى ‪ ،‬وكان قد بلغ نصف الشرف ‪ ،‬وكانت قيمة قلنسوته خسي‬
‫ألفا ‪ )(124‬وبيع ما على رستم بسبعي ألفا وكانت قيمة قلنسوته مائة ألف‪. )(125‬‬
‫درج الناس على هذه الدنية الترفة وعاداتا الفاسدة ورضعوا بلبانا ونشأوا عليها حت‬
‫أصبحت لم الطبيعة الثانية ‪ ،‬وعز عليهم الفصال وشق عليهم أن يتنازلوا إل الياة الطبعية‬
‫البسيطة حت ف ساعة عصيبة وف فاقة واضطرار ‪ ،‬ذكروا أن يزدجرد آخر ملوك فارس لا فر‬
‫من الدائن أخذ معه ألف طاه وألف مغن وألف قيم للنمور وألف قيم للبزاة وآخرين وكان‬
‫يستقل هذا العدد‪ ، )(126‬واستسقى الرمزان ملك الهواز أمام عمر فأتى به ف قدح غليظ ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬لو مت عطشا ل أستطع أن أشرب ف مثل هذا ‪ .‬فأت به ف إناء يرضاه ‪.)(127‬‬
‫(‪(122‬‬
‫الغاني لبي الفرج الصبهاني ج ‪ ، 14‬ص ‪. 2‬‬
‫(‪(123‬‬
‫تاريخ الطبري ج ‪ 4‬ص ‪. 6‬‬
‫(‪(124‬‬
‫أيضاً ص ‪. 11‬‬
‫(‪(125‬‬
‫أيضاً ص ‪. 134‬‬
‫(‪(126‬‬
‫(( إيران في عهد الساسانيين (( لرتهر كرستن ‪ :‬ص ‪. 681‬‬
‫(‪(127‬‬
‫تاريخ الطبري ج ‪ 4‬ص ‪. 161‬‬
‫‪62‬‬
‫الزيادة الباهظة ف الضرائب ‪:‬‬
‫كانت نتيجة هذا البذخ والترف الطبيعية الزيادة الباهظة ف الضرائب وسن القواني‬
‫الديدة لبتزاز الموال من طبقات الفلحي والصناع والتجار وأهل الرف حت وصلت إل‬
‫حد الرهاق وأثقلت كاهل الهلي وانقضت ظهرهم ‪.‬‬
‫يقول مؤلف " إيران ف عهد الساسانيي " ‪:‬‬
‫وقد جرت عادة ملوك إيران بقبول الدايا والتقديات من الرعية وكانوا يسمون ذلك "‬
‫آيي" وكان ذلك علوة على الضرائب الرسية ‪ ،‬وكانوا يأخذون من الناس الدايا جبا يوم‬
‫نوروز والهرجان وكانت مناجم الذهب ف أرمينيا ملكا للملك ولنفقاته الاصة‪.)) )(128‬‬
‫ويقول الؤرخ العرب الشامي ‪:‬‬
‫(( كان يقضي على الشعب الشامي أن يؤدي الزية وعشر غلته وأتاوة من الال‬
‫ورسا على كل رأس ‪ ،‬وللشعب الرومان موارد مهمة من المارك والناجم والضرائب‬
‫والقول الصالة لزرع النطة والراعي يؤجرونا من شركات التعهدين يسمونم العشارين ‪،‬‬
‫يبتاعون من الكومة حق جباية الراج ‪ ،‬وف كل ولية عدة شركات من العشارين ‪ ،‬ولكل‬
‫شركة مستخدمون من الكتاب والباة يظهرون ف مظهر السادة ‪ ،‬ويتناولون أكثر ما يب‬
‫لم أخذه ‪ ،‬ويسلبون نعمة الهلي ‪ ،‬وكثيا ما يبيعونم كما يباع الرقيق‪.)) )(129‬‬
‫(( أوجز أحدهم السياسة المباطورية ف الرومان بقوله ‪ (( :‬الراعي الصال يز صوف‬
‫غنمه ول ينتفه )) فمضى القرنان وأباطرة الرومان يكتفون بز سكان ملكتهم يسلبون منهم‬
‫كثيا من الموال ولكنهم يمونم من العدو الارجي‪. )) )(130‬‬
‫شقاء المهور ‪:‬‬
‫وهكذا أصبح أهل البلد ف كلتا الملكتي طبقتي متميزتي تام التمييز ‪ :‬طبقة اللوك‬
‫والمراء ورجال البلط اللكي وأسرهم وعشائرهم والتصلون بم والغنياء ‪ ،‬فكانوا يعيشون‬

‫(‪(128‬‬
‫(( إيران في عهد الساسانيين (( لرتهر كرستن ‪ :‬ص ‪. 681‬‬
‫(‪(129‬‬
‫خطط الشام للستاذ كرد علي ج ‪ 5‬ص ‪. 47‬‬
‫(‪(130‬‬
‫خطط الشام للستاذ كرد علي ج ‪ 5‬ص ‪. 47‬‬
‫‪63‬‬
‫بي الزهار والرياحي ويتقلبون ف أعطاف النعيم ‪ ،‬وينعلون أفراسهم عسجدا ‪ ،‬ويكسون‬
‫بيوتم حريرا وسندسا ‪.‬‬
‫وطبقة الفلحي والصناع والتجار الصغار وأهل الرف والشغال ‪ ،‬كانوا ف جهد من‬
‫العيش يرزخون تت أثقال الياة والضرائب والتاوات ويرسفون ف القيود والغلل‬
‫ويعيشون عيش البهائم ‪ ،‬ل حظ لم ف الياة إل العمل لغيهم والشقاء لنعيمهم ول همّ لم‬
‫إل الكل والعلف ‪ ،‬فإذا سئموا هذا العيش الر تعللوا بالسكرات واللهيات ‪ ،‬وإذا تنفسوا من‬
‫هذا العناء رتعوا ف الحرمات ‪،‬ورغم هذا الهد ف لعيشة يهدون أنفسهم ف تقليد رجال‬
‫الطبقة العليا ف كثي من أساليب حياتم ‪ ،‬فكان ذلك أشد من الهد ف سبيل الكفاف من‬
‫الرزق والبلغة من العيش ‪ ،‬فتنغص حياتم ‪ ،‬ويتكدر صفوهم ويشتغل بالم ‪.‬‬

‫بي غن مطغ وفقر منس ‪:‬‬


‫وهكذا ضاعت رسالة النبياء ‪ ،‬والخلق الفاضلة والبادئ السامية ف العال التمدن‬
‫العمور بي غن مطغ وفقر منس ‪ ،‬وأصبح لغن ف شغل عن الدين والهتمام بالخرة والتفكي‬
‫ف الوت وما بعده بنعيمه وترفه ‪ ،‬وأصبح الفلح أو العامل ف شغل عن الدين كذلك لمومه‬
‫وأحزانه وتكاليف حياته ‪ ،‬وأصبحت الياة ومطالبها ه ّم الغن والفقي وشغلهما الشاغل ‪،‬‬
‫وكانت رحى الياة تدور حول الناس ف قوة ل يرفعون فيها إل الدين والخرة رأسا ‪ ،‬ول‬
‫يتفرغون لا يتصل بالروح والقلب والعان السامية ساعة ‪.‬‬

‫تصوير الاهلية ‪:‬‬


‫وقد صور أحد كبار علماء السلم‪ )(131‬هذه الال فأجاد التصوير ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫(( اعلم أن العجم والروم لا توارثوا اللفة قرونا كثية وخاضوا ف لذة الدنيا ونسوا‬
‫الدار الخرة واستحوذ عليهم الشيطان ‪ ،‬وتعمقوا ف مرافق العيشة وتباهوا با ‪ ،‬وورد عليهم‬
‫حكماء الفاق يستنبطون لم دقائق العيشة ومرافقها ‪ ،‬فما زالوا يعملون با ويزيد بعضهم‬
‫على بعض ويتباهون با حت قيل إنم كانوا يعيون من كان يلبس من صناديدهم منطقة أو‬
‫(‪(131‬‬
‫وهو شيخ السلم ولي ال بن عبدالرحيم الدهلوي ( م ‪ 1176‬هـ ( ‪.‬‬
‫‪64‬‬
‫تاجا قيمتها دون مائة ألف درهم أو ل يكون له قصر شامخ وآبزن‪ )(132‬وحام وبساتي ‪ ،‬ول‬
‫يكون له دواب فارهة وغلمان حسان ‪ ،‬ول يكون له توسع ف الطاعم وتمل ف اللبس‬
‫وذكر ذلك يطول ‪ ،‬وما تراه من ملوك بلدك يغنيك عن حكاياتم ‪ ،‬فدخل كل ذلك ف‬
‫أصول معاشهم ‪ ،‬وصار ل يرج من قلوبم إل أن تزع ‪ ،‬وتولد من ذلك داء عضال دخل ف‬
‫جيع أعضاء الدينة وآفة عظيمة ‪ ،‬ول يبق منهم أحد من أسواقهم ورستاقهم وغنيهم‬
‫وفقيهم ‪ ،‬إل قد استولت عليه وأخذت بتلبيبه ‪ ،‬وأعجزته ف نفسه وأهاجت عليه غموما‬
‫وهوما ل أرحاء لا ‪ ،‬وذلك أن تلك الشياء ل تكن لتحصل إل ببذل أموال خطية ‪ ،‬ول‬
‫تصل تلك الموال إل بتضعيف الضرائب على الفلحي والتجار وأشباههم والتضييق‬
‫عليهم ‪ ،‬فإن امتنعوا قاتلوهم وعذبوهم ‪ ،‬وإن أطاعوا جعلوهم بنلة المي والبقر تستعمل ف‬
‫النضح والدياس والصاد ‪ ،‬ول تقتن إل ليستعان با ف الاجات ‪ ،‬ث ل تترك ساعة من الغناء‬
‫‪ ،‬حت صاروا ل يرفعون رؤوسهم إل السعادة الخروية أصلً ول يستطيعون ذلك ‪ ،‬وربا‬
‫كان إقليم واسع ليس فيه أحد يهمه دينه‪.)) )(133‬‬

‫******************************‬

‫(‪(132‬‬
‫فسقية ‪.‬‬
‫(‪(133‬‬
‫حجة ال البالغة (( باب إقامة الرتفاقات وإصلح الرسوم ((‬
‫‪65‬‬
‫الباب الثان‬
‫من الاهلية إل السلم‬
‫الفصل الول‬
‫منهج النبياء ف الصلح والتغيي‬
‫العال الذي واجهه ممد صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫بعث ممد بن عبد ال صلى ال عليه وسلم والعال بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزا‬
‫عنيفا ‪ ،‬فإذ كل شيء فيه ف غي مله ‪ ،‬فمن أساسه ومتاعه ما تكسر ‪ ،‬ومنه ما التوى‬
‫وانعطف ‪ ،‬ومنه ما فارق مله اللئق به وشغل مكانا آخر ‪ ،‬ومنه ما تكدس وتكوم ‪.‬‬
‫نظر إل العال بعي النبياء فرأى إنسانا قد هانت عليه إنسانيته ‪،‬رآه يسجد للحجر‬
‫والشجر والنهر ‪ ،‬وكل مال يلك لنفسه النفع والضر ‪.‬‬
‫رأى إنسانا معكوسا قد فسدت عقليته ‪ ،‬فلم تعد تسيغ البديهيات ‪ ،‬وتعقل الليات ‪،‬‬
‫وفسد نظام فكره ‪ ،‬فإذا النظري عنده بديهي وبالعكس ‪ ،‬يستريب ف موضع الزم ‪ ،‬ويؤمن‬
‫ف موضع الشك ‪ .‬وفسد ذوقه فصار يستحلي الر ويستطيب البيث ‪ ،‬ويستمرئ الوخيم ‪،‬‬
‫وبطل حسه فأصبح ل يبغض العدو الظال ‪ ،‬ول يب الصديق الناصح ‪.‬‬
‫رأى متمعا هو الصورة الصغرة للعال ‪ ،‬كل شيء فيه ف غي شكله أو ف غي مله ‪،‬‬
‫قد أصبح فيه الذئب راعيا والصم الائر قاضيا ‪ ،‬وأصبح الجرم فيه سعيدا حظيا ‪ ،‬والصال‬
‫مروما شقيا ل أنكر ف هذا الجتمع من العروف ‪ ،‬ول أعرف من النكر ‪،‬ورأى عادات‬
‫فاسدة تستعجل فناء البشرية ‪ ،‬وتسوقها إل هوة اللك ‪.‬‬
‫رأى معاقرة المر إل حد الدمان ‪ ،‬واللعة والفجور إل حد الستهتار ‪ ،‬وتعاطي‬
‫الربا إل حد الغتصاب واستلب الموال ورأى الطمع وشهوة الال إل حد الشع والنهامة‬
‫ورأى القسوة والظلم إل حد الوأد وقتل الولد ‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫رأى ملوكا اتذوا بلد ال دولً ‪ ،‬وعباد ال خولً ‪ ،‬ورأى أحبارا ورهبانا أصبحوا‬
‫أربابا من دون ال ‪ ،‬يأكلون أموال الناس بالباطل ‪ ،‬ويصدون عن سبيل ال ‪.‬‬
‫رأى الواهب البشرية ضائعة أو زائغة ل ينتفع با ول توجه التوجيه الصحيح ‪ ،‬فعادت‬
‫وبال على أصحابا وعلى النسانية ‪ ،‬فقد تولت الشجاعة فتكا وهجية ‪ ،‬والواد تبذيرا‬
‫وإسرافا ‪ ،‬والنفة حية جاهلية ‪ ،‬والذكاء شطارة وخديعة ‪ ،‬والعقل وسيلة لبتكار النايات ‪،‬‬
‫والبداع ف إرضاء الشهوات ‪.‬‬
‫رأى أفراد البشر واليئات البشرية كخامات ل تظ بصانع حاذق ‪ ،‬ينتفع با ف هيكل‬
‫الضارة ‪ ،‬وكألواح الشب ل تسعد بنجار يركب منها سفينة تشق بر الياة ‪.‬‬
‫رأى المم قطعانا من الغنم ليس لا راع ‪ ،‬والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه ‪،‬‬
‫والسلطان كسيف ف يد سكران يرح به نفسه ‪ ،‬ويرح به أولده وإخوانه ‪.‬‬

‫نواحي الياة الفاسدة ‪:‬‬


‫إن كل ناحية من نواحي هذه الياة الفاسدة تسترعي اهتمام الصلح وتشغل باله ‪ ،‬فلو‬
‫كان رجل من عامة رجال الصلح لتوفر على إصلح ناحية من نواحيها ‪ ،‬وظل طول عمره‬
‫يعال عيبا من عيوب الجتمع ويعانيه ‪ ،‬ولكن نفسية النسان معقدة التركيب دقيقة النسج‬
‫كثية النافذ والبواب ‪،‬خفية التخلص والتنصل ‪ ،‬وإنا إذا زاغت أو اعوجت ل يؤثر فيها‬
‫إصلح عيب من عيوبا وتغيي عادة من عاداتا ‪ ،‬حت يغي اتاهها من الشر إل الي ومن‬
‫الفساد إل الصلح ‪ ،‬وتقتلع جرثومة الفساد من النفس البشرية الت قد تنبت بفساد الجتمع‬
‫واختلل التربية كما تنبت الشائش الشيطانية ف أرض كرية ‪ ،‬وتسم مادة الشر ويغرس‬
‫فيها حب الي والفضيلة ومافة ال عز وجل ‪.‬‬
‫وكل داء من أدواء الجتمع النسان وكل عيب من عيوب اليل الاضر يتطلب‬
‫إصلحه حياة كاملة ‪ ،‬ويستغرق عمر إنسان بطوله ‪ ،‬وقد يستغرق أعمار طائفة من الصلحي‬
‫ول يزول ‪ ،‬فإذا ذهب أحد يطارد المر ف بلد قد نشأت على حياة الترف والبذخ ودانت‬
‫باللهو واللذة أعياه أمرها وحبطت جهوده ‪ ،‬لن شرب المر ليس إل نتيجة نفسية تعشق‬

‫‪67‬‬
‫اللذة حت ف السم ‪ ،‬وتبتغي النشوة حت ف الث ‪ ،‬فل تجره بجرد الدعاية والنشر والكتب‬
‫‪(13‬‬
‫الطب وبيان مضاره الطبية ومفاسده اللقية ‪ ،‬وبسن القواني الشديدة والعقوبات الصارمة‬
‫‪ )4‬ل تجره إل بتغيي نفس عميق ‪ ،‬وإذا أرغمت على تركه بغي هذا التغيي تسللت إل غيه‬
‫من أنواع الرية واستباحته بتغيي الساء والصور ‪.‬‬

‫ل يكن الرسول رجلً إقليميا أو زعيما وطنيا ‪:‬‬


‫وكان مال العمل ف بلد العرب فسيحا إذا كان الرسول صلى ال عليه وسلم رجلً‬
‫إقليميا وسار ف قومه سية القادة السياسيي والزعماء الوطنيي ‪ ،‬كان له أن يعقد للمة‬
‫العربية لواء تنضم إليه قريش والقبائل العربية ‪ ،‬ويكوّن إمارة عربية قوية موحدة يكون‬
‫رئيسها ‪ ،‬ولشك أن أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيها كانوا ف مقدمة من ينضم إل‬
‫هذا اللواء القومي ‪ ،‬ويقاتلون تته ويقلدونه الزعامة ‪ .‬أما كانوا يشهدون بصدقه وأمانته ؟ أما‬
‫حكموه ف أكب حادث من حوادث حياتم الكية ومنحوه أكب شرف ‪ ،‬إذ حكموه ف وضع‬
‫الجر السود ف مكانه من البيت ؟ أما قالوا له على لسان عتبة ‪ ،‬وهم ما عرفوا الغراء‬
‫السياسي ‪ (( :‬إن كنت إنا بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت‪ ، )) )(135‬وإذا‬
‫صار له ذلك كان يكنه أن يرمي الدولة الفارسية بفرسان العرب وشجعانم ‪ ،‬وينتصر للعروبة‬
‫الهضومة ‪ ،‬وينتصر من العجم الظالي ‪ ،‬ويغرز علم الفتح العرب والجد القومي على هضاب‬
‫الروم وفارس‪ ،‬وإذا ل يكن من حكمة السياسة أن يناجز إحدى المباطوريتي ف ذلك الي‪،‬‬
‫فكان يكنه أن يغي على اليمن أو البشة أو جارة أخرى ويصمها إل المارة العربية الوليدة‪.‬‬

‫(‪ (134‬منعت حكومة أمريكا الخمر ‪ ،‬وطاردتها في بلدها واستعملت جميع وسائل المدينة الحاضرة كالمجلت والجرائد‬
‫والمحاضرات والصور والسينما لتهجين شربها وبيان مضارها ومفاسدها ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد‬
‫على ‪ 60‬مليون دولر ‪ ،‬وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على ‪ 10‬بليين صفحة ‪ ،‬وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون‬
‫التحريم في مدة أربعة عشر عامًا ل يقل عن ‪ 250‬مليون جنيه ‪ ،‬وقد أعدم فيها ‪ 300‬نفس ؛ وسجن ‪ 532335‬نفس ‪ ،‬وبلغت‬
‫الغرامات إلى ‪ 16‬مليون جنيه ‪ ،‬وصادرت من الملك ما يبلغ ‪ 400‬مليون وأربعة مليين جنيه ‪ ،‬ولكن كل ذلك لم يزد المة‬
‫المريكية إل غراما بالخمر وعنادًا في تعاطيها ‪ ،‬حتى اضطرت الحكومة سنة ‪ 1933‬م إلى سحب القانون وإباحة الخمر في مملكتها‬
‫إباحة مطلقة (( من كتاب تنقيحات للستاذ أبي العلى المودودي ((‬
‫(‪ (135‬البداية والنهاية لبن كثير الدمشقي ص ‪ 43‬ج ‪. 3‬‬
‫‪68‬‬
‫وكانت ف الياة العربية نواح اجتماعية واقتصادية كثية تتاج إل حنكة سياسي‬
‫وكفاية إداري وعزية عصامي وابتكار عبقري ‪ ،‬فلو قيض لا رجل من هؤلء الرجال لكان‬
‫للعرب شأن كبي وتاريخ جديد ‪.‬‬

‫ل يبعث لينسخ باطل بباطل ‪:‬‬


‫ولكنّ ممدا صلى ال عليه وسلم ل يبعث لينسخ باطلً بباطل ويبدل عدوانا بعدوان ‪،‬‬
‫ويرم شيئا ف مكان ويله ف مكان آخر ‪ ،‬ويبدل أثرة أمة بأثرة أمة أخرى ‪ ،‬ل يبعث زعيما‬
‫وطنيا أو قائدا سياسيا ‪ ،‬ير النار إل قرصه ويصغي الناء إل شقه ‪ ،‬ويرج الناس من حكم‬
‫الفرس والرومان إل حكم عدنان وقحطان ‪ .‬وإنا أرسل إل الناس كافة بشيا ونذيرا ‪،‬‬
‫وداعيا إل ال بإذنه وسراجا منيا ‪ ،‬إنا أرسل ليخرج عباد ال جيعا من عبادة العباد إل‬
‫عبادة ال وحده ‪ ،‬ويرج الناس جيعا من ضيق الدنيا إل سعة الدنيا والخرة ‪ ،‬ومن جور‬
‫الديان إل عدل السلم ‪ ،‬يأمرهم بالعروف وينهاهم عن النكر ‪ ،‬ويل لم الطيبات ‪ ،‬ويرم‬
‫عليهم البائث ‪ ،‬ويضع عنهم إصرهم والغلل الت كانت عليهم ‪.‬‬
‫فلم يكن خطابه لمة دون أمة ووطن دون وطن ‪ ،‬ولكن كان خطابه للنفس البشرية‬
‫وللضمي النسان ‪ ،‬وكانت أمته العربية لنطاطها وبؤسها أحق من يبدأ به مهمته الصلحية‬
‫وجهاده العظيم ‪ ،‬وكانت أم القرى والزيرة العربية لوقعها الغراف واستقللا السياسي خي‬
‫مركز لرسالته ‪ ،‬وكانت المة العربية بصائصها النفسية ومزاياها الدبية خي مل لدعوته‬
‫وخي داعية لرسالته ‪.‬‬

‫قفل الطبيعة البشرية ومفتاحها ‪:‬‬


‫ول يكن صلى ال عليه وسلم من عامة الصلحي الذين يأتون البيوت من ظهورها ‪ ،‬أو‬
‫يتسللون إليها من نوافذها ‪ ،‬ويكافحون بعض الدواء الجتماعية والعيوب اللقية فحسب ‪،‬‬

‫‪69‬‬
‫فمنهم من يوفق لزالة بعضها مؤقتا ف بعض نواحي البلد ‪ ،‬ومنهم من يوت ول ينجح ف‬
‫مهمته ‪. )(136‬‬
‫أتى النب صلى ال عليه وسلم بيت الدعوة والصلح من بابه ‪ ،‬ووضع على قفل‬
‫الطبيعة البشرية مفتاحه ‪ ،‬ذلك القفل العقد الذي أعيا فتحه جيع الصلحي ف عهد الفترة ‪،‬‬
‫وكل من حاول فتحه من بعده بغي مفتاحه ‪ .‬ودعا الناس إل اليان بال وحده ‪ ،‬ورفض‬
‫الوثان والعبادات والكفر بالطاغوت بكل معان الكلمة وقام ف القوم ينادي ‪ (( :‬يا أيها‬
‫الناس قولوا ل إله إل ال تفلحوا !)) ودعاهم إل اليان برسالته ‪ ،‬واليان بالخرة ‪.‬‬

‫**************************************‬

‫(‪ (136‬إن غاندي الزعيم الهندي الكبير هدف من أول حياته السياسية والروحية إلى مبدأين عظيمين حصر فيهما زعامته السياسية‬
‫وشخصيته الروحية القوية النادرتين في هذا العصر جعلهما شعارًا لمبدئه ‪ :‬الول " ل عنف ول مقاومة " وقد دعا إلى هذا المبدأ‬
‫كديانة وفلسفة ‪ ،‬وظل سنين طوال يدعو إليه بخطبه ومقالته وصحفه ‪ ،‬واستنفد في ذلك جهوده ولما لم يكن ذلك عن طريق التغيير‬
‫النفسي وعن طريق الدعوة الدينية الساسية لم تؤثر دعوته في نفسية أمته تأثيراً عميقًا ‪ ،‬وقد جعلت هذه المة دعوته هباء منثورا‬
‫في الضطرابات الطائفية العظيمة التي وقعت في بنجاب الشرقية ودلهي عاصمة الهند في سبتمبر سنة ‪1947‬م التي قتل فيها من‬
‫المسلمين أكثر من نصف مليون ‪ ،‬وكانت مجزرة هائلة وقع فيها من القسوة والهمجية والعتداء على الطفال والنساء والعراض‬
‫ما ل يكاد يصدقه المؤرخون ‪ ،‬حتى انتهت باغتيال هذا الرجل العظيم الذي بلغت به أمته حد التقديس والتأليه ‪.‬‬
‫والمبدأ الثاني ‪ :‬نسخ اللمس المنبوذ ‪ ،‬ولم ينجح في مهمته هذه كذلك نجاحًا يعتد به ‪ ،‬فكان ذلك برهاناً سطعاً على أن طريق النبياء‬
‫هو الطبيعي الصحيح في الصلح والتغيير ‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫الفصل الثان‬
‫رحلة السلم من الاهلية إل السلم‬
‫دفاع الاهلية عن نفسها ‪:‬‬
‫ما أخطأ الجتمع الاهلي فهم هذه الدعوة ومراميها ‪ ،‬وما ُغمّ على أهله أمرها ‪،‬‬
‫وأدركوا عندما قرع أساعهم صوت النب صلى ال عليه وسلم أن دعوته إل اليان بال‬
‫وحده سهم مسدّد إل كبد الاهلية ونعي لا ‪ ،‬فقامت قيامة الاهلية ودافعت عن تراثها‬
‫دفاعها الخي ‪ ،‬وقاتلت ف سبيل الحتفاظ به قتال الستميت ‪ ،‬وأجلبت على الداعي صلى‬
‫ال عليه وسلم بيلها ورجلها ‪ ،‬وجاءت بدها وحديدها ‪{ :‬وَانطَلَ َق اْلمَلَأُ مِْن ُهمْ أَنِ امْشُوا‬
‫وَاصْبِرُوا َعلَى آِلهَتِ ُكمْ إِنّ َهذَا َلشَيْءٌ يُرَادُ } ووجد كل ركنٍ من أركان هذه الياة ومن أثاف‬
‫الاهلية نفسه مهددا وحياته منذرة ‪ ،‬وهنا وقع ما تدث عنه التاريخ من حوادث الضطهاد‬
‫والتعذيب ‪ ،‬وكان ذلك آية توفيق النب صلى ال عليه وسلم لنه أصاب الغرض ‪ ،‬وضرب‬
‫على الوتر الساس ‪ ،‬وأصاب الاهلية ف صميمها وف مقتلها ‪ ،‬وثبت النب صلى ال عليه‬
‫وسلم على دعوته ثبوتا دونه ثبوت الراسيات ‪ ،‬ل يثنيه أذى ‪ ،‬ول يلويه كيد ‪ ،‬ول يلتفت إل‬
‫إغراء ‪ ،‬ويقول لعمه ‪ (( :‬يا عم لو وضعت الشمس ف يين والقمر ف يساري ما تركت هذا‬
‫المر حت يظهره ال أو أهلك ف طلبه‪.)))(137‬‬

‫ف سبيل الدين الديد ‪:‬‬


‫مكث رسول ال صلى ال عليه وسلم ثلث عشرة حجة يدعو إل ال وحده واليان‬
‫برسالته واليوم الخر ف كل صراحة ‪ ،‬ل يكن ول يلوّح ول يلي ‪ ،‬ول يستكي ول ياب‬
‫ول يداهن ويرى ف ذلك دواء لكل داء ‪ ،‬وقامت قريش وصاحوا به من كل جانب ‪ ،‬ورموه‬
‫عن قوس واحدة ‪ ،‬وأضرموا البلد عليه نارا ليحولوا بينه وبي أبنائهم وإخوانم فأصبح اليان‬
‫به والنياز له جد الد ‪ ،‬ل يتقدم إليه إل جاد ملص هانت عليه نفسه ‪ ،‬وعزم على أن‬
‫(‪(137‬‬
‫البداية والنهاية ج ‪ 3‬ص ‪. 33‬‬
‫‪71‬‬
‫يقتحم لجله النيان ‪ ،‬وتشي إليه ولو على حسك السعدان ‪ ،‬فتقدم فتية من قريش ل‬
‫يستخفهم طيش الشباب ‪ ،‬ول يستهويهم مطمع من مطامع الدنيا ‪ ،‬إنا ههم الخرة وبغيتهم‬
‫النة ‪ ،‬سعوا مناديا ينادي لليان أن آمنوا بربكم فضاقت عليهم الياة الاهلية با رحبت‬
‫وضاقت عليهم أنفسهم وقلقت بم مضاجعهم ‪ ،‬فكأنم على السك ‪ ،‬ورأوا أنم ل يسعهم‬
‫إل اليان بال ورسوله فآمنوا وتقدموا إل النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وهو ف بلدهم وبي‬
‫سعهم وبصرهم فكانت رحلة طويلة شاقة لا أقامت قريش بينه وبي قومه من عقبات ‪،‬‬
‫ووضعوا أيديهم ف يديه ‪ ،‬وأسلموا أنفسهم وأرواحهم إليه ‪ ،‬وهم من حياتم على خطر ‪،‬‬
‫سبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُوا أَن‬ ‫ومن البلء والحنة على يقي ‪ ،‬سعوا القرآن بقول ‪ { :‬ال{‪ }1‬أَ َح ِ‬
‫يَقُولُوا آمَنّا وَ ُهمْ لَا يُفْتَنُونَ{‪َ }2‬ولَقَ ْد فَتَنّا اّلذِينَ مِن قَبِْل ِه ْم فَلَيَعَْلمَنّ اللّ ُه الّذِينَ صَ َدقُوا َولَيَعَْلمَنّ‬
‫الْكَاذِبِيَ } وسعوا قوله تعال ‪{ :‬أَمْ َحسِبُْتمْ أَن َتدْ ُخلُوْا الْجَنّةَ َوَلمّا يَأْتِكُم مّثَ ُل الّذِينَ خََل ْواْ مِن‬
‫قَبْلِكُم ّمسّْت ُهمُ الْبَأْسَاء وَالضّرّاء وَ ُزلْ ِزلُواْ حَتّى يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى َنصْرُ اللّهِ أَل‬
‫ب } فما كان من قريش إل ما توقعوه ‪ ،‬وقد نثرت كنانتها ‪ ،‬وأطلقت‬ ‫إِنّ َنصْرَ اللّ ِه قَرِي ٌ‬
‫عليهم كل سهم من سهامها ‪ ،‬فما زادهم كل هذا إل ثقة وتلدا ‪ ،‬وقالوا ‪َ { :‬هذَا مَا وَ َعدَنَا‬
‫صدَقَ اللّهُ َورَسُولُهُ وَمَا زَادَ ُهمْ ِإلّا إِيَانا وََتسْلِيما } ول يزدهم هذا البلء‬ ‫اللّهُ َورَسُولُهُ َو َ‬
‫والضطهاد ف الدين إل متانة ف عقيدتم وحية لدينهم ومقتا للكفر وأهله ‪ ،‬وإشعالً‬
‫لعاطفتهم وتحيصا لنفوسهم فأصبحوا كالتب السبوك واللجي الصاف ‪ ،‬وخرجوا من كل منة‬
‫وبلء خروج السيف بعد اللء ‪.‬‬

‫التربية الدينية ‪:‬‬


‫هذا والرسول صلى ال عليه وسلم يغذّي أرواحهم بالقرآن ويرب نفوسهم باليان‬
‫ويضعهم أمام رب العالي خس مرات ف اليوم عن طهارة بدن وخشوع قلب وخضوع‬
‫جسم وحضور عقل ‪ ،‬فيزدادون كل يوم سو روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتررا من‬
‫سلطان الاديات ومقاومة للشهوات ونزوعا إل رب الرض والسموات ‪ ،‬ويأخذهم بالصب‬
‫على الذى والصفح الميل وقهر النفس ‪ ،‬لقد رضعوا حب الرب وكأنم ولدوا مع‬

‫‪72‬‬
‫السيف ‪ ،‬وهم من أمة ‪ ،‬من أيامها حرب بسوس وداحس والغباء ‪ ،‬وما يوم الفجار ببعيد ‪.‬‬
‫ولكن الرسول يقهر طبيعتهم الربية ويكبح نوتم العربية ‪ ،‬ويقول لم ‪ { :‬كُفّواْ أَْيدِيَ ُكمْ‬
‫وََأقِيمُواْ الصّلَةَ } فانقهروا لمره وكفوا أيديهم ‪ ،‬وتملوا من قريش ما تسيل منه النفوس ف‬
‫غي جب وف غي عجز ‪ ،‬ول يسجل التاريخ حادثة دافع فيها مسلم ف مكة عن نفسه بالسيف‬
‫مع كثرة الدواعي الطبيعية إل ذلك وقوتا ‪ ،‬وذلك غاية ما روي ف التاريخ من الطاعة‬
‫والضوع ‪ ،‬حت إذا تعدت قريش ف الطغيان وبلغ السيل الزب أذن ال لرسوله ولصحابه‬
‫بالجرة ‪ :‬وهاجروا إل يثرب وقد سبقهم إليها السلم ‪.‬‬

‫ف مدينة الرسول صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬


‫والتقى أهل مكة بأهل يثرب ‪ .‬ل يمع بينهم إل الدين الديد ‪ .‬فكان أروع منظر‬
‫لسلطان الدين شهده التاريخ ‪ .‬وكان الوس والزرج ل ينفضوا عنهم غبار حرب بعاث ‪.‬‬
‫ول تزال سيوفهم تقطر دما ‪ .‬فألّف السلم بي قلوبم ‪ .‬ولو أنفق أحد ما ف الرض جيعا‬
‫ما ألّف بي قلوبم ‪ .‬ث آخى رسول ال صلى ال عليه وسلم بينهم وبي الهاجرين ‪ .‬فكانت‬
‫أخوة تزري بأخوة الشقاء ‪ .‬وتبذ كل ما روي ف التاريخ من خلة الخلء ‪.‬‬
‫كانت هذه الماعة الوليدة‪ -‬الؤلفة من أهل مكة الهاجرين وأهل يثرب النصار‪ -‬نواة‬
‫للمة السلمية الكبية الت أخرجت للناس ومادة للسلم ‪ ،‬فكان ظهور هذه الماعة ف‬
‫هذه الساعة العصيبة وقاية للعال من النلل الذي كان يهدده ‪ .‬وعصمة للنسانية من الفت‬
‫والخطار الت أحدقت با ‪ .‬لذلك قال ال تعال لا حض على الخوة واللفة بي الهاجرين‬
‫والنصار ‪ِ { :‬إلّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَ ٌة فِي ا َلرْضِ َوَفسَادٌ كَِبيٌ } ‪.‬‬

‫انلت العقدة الكبى ‪:‬‬


‫ول يزل الرسول صلى ال عليه وسلم يربيهم تربية دقيقة عميقة ‪ .‬ول يزل القرآن‬
‫يسمو بنفوسهم ويذكي جرة قلوبم ‪ .‬ول تزل مالس الرسول صلى ال عليه وسلم تزيدهم‬
‫رسوخا ف الدين وعزوفا عن الشهوات ‪ ،‬وتفانيا ف سبيل الرضاة ‪ ،‬وحنينا إل النة ‪،‬‬

‫‪73‬‬
‫وحرصا على العلم وفقها ف الدين وماسبة للنفس ‪ .‬يطيعون الرسل ف النشط والكره ‪.‬‬
‫وينفرون ف سبيل ال خفافا وثقالً ‪ .‬قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعا وعشرين مرة ف‬
‫عشر سني ‪ .‬وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة ‪ .‬فهان عليهم التخلي عن الدنيا‬
‫وهانت عليهم رزيئة أولدهم ونسائهم ف نفوسهم ‪ .‬ونزلت اليات بكثي ما ل يألفوه ول‬
‫يتعودوه ‪ .‬وبكل ما يشق على النفس إتيانه ف الال والنفس والولد والعشية فنشطوا وخفوا‬
‫لمتثال أمرها ‪ .‬وانلت العقدة الكبى‪ -‬عقدة الشرك والكفر‪ -‬فانلت العقد كلها وجاهدهم‬
‫الرسول جهاده الول فلم يتج إل جهاد مستأنف لكل أمر وني ‪ .‬وانتصر السلم على‬
‫الاهلية ف العركة الول‪ -‬فكان النصر حليفه ف كل معركة ‪ ،‬وقد دخلوا ف السلم كافة‬
‫بقلوبم وجوارحهم وأرواحهم كافة ‪ ،‬ل يشاقون الرسول من بعد ما تبي لم الدى ‪ ،‬ول‬
‫يدون ف أنفسهم حرجا ما قضى ول يكون لم الية من بعد ما أمر أو نى ‪ .‬حدثوا‬
‫الرسول عما اختانوا أنفسهم ‪ ،‬وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة‬
‫استوجبت الد‪ -‬نزل تري المر والكئوس التدفقة على راحاتم ‪ ،‬فحال أمر ال بينها وبي‬
‫الشفاه التلمظة والكباد التقدة ‪ ،‬وكسرت دنان المر فسالت ف سكك الدينة ‪.‬‬
‫حت إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم ‪ ،‬بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم ‪.‬‬
‫وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيهم ‪ .‬وأصبحوا ف الدنيا رجال الخرة وف اليوم رجال‬
‫الغد ‪ .‬ل تزعهم مصيبة ول تبطرهم نعمة ول يشغلهم فقر ول يطغيهم غن ول تلهيهم تارة‬
‫ول تستخفهم قوة ‪ ،‬ول يريدون علوا ف الرض ول فسادا ‪ .‬وأصبحوا للناس القسطاس‬
‫الستقيم قوامي بالقسط شهداء ل ولو على أنفسهم أو الوالدين والقربي ‪ .‬وطّأ لم أكناف‬
‫الرض وأصبحوا عصمة للبشرية ووقاية للعال وداعية إل دين ال ‪ .‬واستخلفهم الرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم ف عمله ولق بالرفيق العلى قرير العي من أمته ورسالته ‪.‬‬

‫أغرب انقلب وقع ف تاريخ البشر ‪:‬‬

‫‪74‬‬
‫لقد كان هذا النقلب الذي أحدثه صلى ال عليه وسلم ف نفوس السلمي‬
‫وبواسطتهم ف الجتمع النسان أغرب ما ف تاريخ البشر ‪ ،‬وقد كان هذا النقلب غريبا ف‬
‫كل شيء ‪ :‬كان غريبا ف سرعته وكان غريبا ف عمقه وكان غريبا ف سعته وشوله ‪ .‬وكان‬
‫غريبا ف وضوحه وقربه إل الفهم ‪ .‬فلم يكن غامضا ككثي من الوادث الارقة للعادة ‪ ،‬ول‬
‫يكن لغزا من اللغاز ‪ .‬فلندرس هذا النقلب عمليا ‪ ،‬ولنتعرف مدى تأثيه ف الجتمع‬
‫النسان والتاريخ البشري ‪.‬‬

‫تأثي اليان الصحيح ف الخلق واليول ‪:‬‬


‫كان الناس‪ -‬عربا وعجما‪ -‬يعيشون حياة جاهلية ‪ ،‬يسجلون فيها لكل ما خلق‬
‫لجلهم ويضع لرادتم وتصرفهم ‪ ،‬ل يثيب الطائع بائزة ول يعذب العاصي بعقوبة ول‬
‫يأمر ول ينهى ‪ ،‬فكانت الديانة سطحية طافية ف حياتم ‪ ،‬ليس لا سلطان على أرواحهم‬
‫ونفوسهم وقلوبم ‪ ،‬ول تأثي لا ف أخلقهم واجتماعهم ‪ .‬كانوا يؤمنون بال كصانع أت‬
‫عمله واعتزل وتنازل عن ملكته ل ناس خلع عليهم خلعة الربوبية ‪ .‬فأخذوا بأيديهم أزمّة‬
‫المر وتولوا إدارة الملكة وتدبي شئونا وتوزيع أرزاقها ‪ ،‬إل غي ذلك من مصال الكومة‬
‫النظمة ‪ ،‬فكان إيانم بال ل يزيد على معرفة تاريية ‪ ،‬وكان إيانم بال وإحالتهم خلق‬
‫السموات والرض إل ال ل يتلف عن جواب تلميذ من تلميذ فن التاريخ يقال له ‪ :‬من بن‬
‫هذا القصر العتيق ؟ فيسمى ملكا من اللوك القدمي من غي أن يافه يضع له ‪ ،‬فكان دينهم‬
‫عاريا عن الشوع ل ودعائه ‪ ،‬وما كانوا يعرفون عن ال ما يببه إليهم ‪ ،‬فكانت معرفتهم‬
‫مهمة غامضة ‪ ،‬قاصرة مملة ‪ ،‬ل تبعث ف نفوسهم هيبة ول مبة ‪.‬‬
‫وهذه الفلسفة اليونانية قد عرفت بواجب الوجود ف سلوب ‪ ،‬ليست فيها صفة مثبتة‬
‫من صفات القدرة والربوبية والعطاء النع والرحة ‪ ،‬ول تثبت له إل اللق الول ‪ ،‬ونفت عنه‬
‫الختيار والعلم والرادة ‪ ،‬ونفت الصفات وقرّرت كليات كلها حط من قدر الالق وقياس‬
‫على اللق ‪ ،‬والسلوب إذا اجتمعت ل تفد فائدة إياب واحد ‪ ،‬ول نعلم مدينة واحدة ول‬
‫متمعا ول نظاما ول عملً ول بناية قامت على مرد أسلوب ‪ ،‬فتجردت الديانة ف أوساط‬

‫‪75‬‬
‫الفلسفة الغريقية عن روح الشوع والستكانة ل واللتجاء إليه ف الوادث ومبته بكل‬
‫القلب ‪ .‬وهكذا فقدت الديانة السائدة على العال روحها وأصبحت طقوسا وتقاليد وأشباحا‬
‫لليان ‪.‬‬
‫انتقل العرب والذين أسلموا من هذه العرفة العليلة الغامضة اليتة إل معرفة عميقة‬
‫واضحة روحية ذات سلطان على الروح والنفس والقلب والوارح ‪ ،‬ذات تأثي ف الخلق‬
‫والجتماع ‪ ،‬ذات سيطرة على الياة وما يتصل با ‪ ،‬آمنوا بال الذي له الساء السن والثل‬
‫العلى ‪ ،‬آمنوا برب العالي الرحن الرحيم مالك يوم الدين اللك القدوس السلم الؤمن‬
‫الهيمن العزيز البار التكب ‪ ،‬الالق البارئ الصور ‪ ،‬العزيز الكيم ‪ ،‬الغفور الودود ‪،‬‬
‫الرؤوف الرحيم ‪ ،‬له اللق والمر ‪ ،‬بيده ملكوت كل شيء ‪ ،‬يي ول يار عليه ‪ ،‬إل آخر ما‬
‫جاء ف القرآن من وصفه ‪ ،‬يثيب بالنة ويعذب بالنار ‪ ،‬ويبسط الرزق لن يشاء ويقدر ‪ ،‬يعلم‬
‫البء ف السماوات والرض ‪ ،‬ويعلم خائنة العي وما تفي الصدور ‪ ،‬إل آخر ما جاء ف‬
‫القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه ‪ ،‬فانقلبت نفسيتهم بذا اليان الواسع العميق الواضح انقلبا‬
‫عجيبا ‪ ،‬فإذا آمن أحد بال وشهد أن ل إله إل ال انقلبت حياته ظهرا لبطن ‪ ،‬تغلغل اليان‬
‫ف أحشائه وتسرب إل جيع عروقه ومشاعره ‪ ،‬وجرى منه مرى الروح والدم واقتلع جراثيم‬
‫الاهلية وجذورها ‪ ،‬وغمر العقل والقلب بفيضانه وجعل منه رجلً غي الرجل ‪ ،‬وظهر منه‬
‫روائع اليان واليقي والصب والشجاعة ومن خوارق الفعال والخلق ما حي العقل‬
‫والفلسفة وتاريخ الخلق ‪ ،‬ول يزال موضع حية ودهشة منه إل البد ‪ ،‬وعجز العلم عن‬
‫تعليله بشيء غي اليان الكامل العميق ‪.‬‬

‫وخز الضمي ‪:‬‬


‫وكان هذا اليان مدرسة خلقية وتربية نفسية تلي على صاحبها الفضائل اللقية من‬
‫صرامة إرادة وقوة نفس وماسبتها والنصاف منها ‪ ،‬وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الخلق‬
‫وعلم النفس عن الزلت اللقية والسقطات البشرية ‪ ،‬حت إذا جحت السورة البهيمية ف‬
‫حي من الحيان وسقط النسان سقطة ‪ ،‬وكان ذلك حيث ل تراقبه عي ول تتناوله يد‬

‫‪76‬‬
‫القانون تول هذا اليان نفسا لوّامة عنيفة ووخزا لذعا للضمي وخيالً مروعا ‪ ،‬ل يرتاح‬
‫معه صاحبه حت يعترف بذنبه أمام القانون ‪ ،‬ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ويتحملها مطمئنا‬
‫مرتاحا تفاديا من سخط ال وعقوبة الخرة ‪.‬‬
‫وقد حدثنا الؤرخون الثقات ف ذلك بطرائف ل يدث نظيها إل ف التاريخ السلمي‬
‫الدين فمنها ما روى مسام ابن الجاج القشيي صاحب الصحيح بسنده عن عبد ال بن‬
‫بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك السلمي ‪ ،‬أتى رسول صلى ال عليه وسلم فقال ‪ (( :‬يا‬
‫رسول اله إن ظلمت نفسي وزنيت وإن أريد أن تطهرن )) فرده ‪ ،‬فلما كان من الغد أتاه‬
‫فقال ‪ (( :‬يا رسول ال إن قد زنيت )) فرده الثانية ‪ ،‬فأرسل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫إل قومه فقال‪ :‬أتعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا ؟ فقالوا ‪ :‬ما نعلمه إل وف العقل من‬
‫صالينا فيما نرى فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه فأخبوه أنه ل بأس به ول بعقله ‪،‬‬
‫فلما كانت الرابعة حفر له حفرة ث أمر فرُجم ‪.‬‬
‫قال فجاءت الغامدية فقالت ‪ (( :‬يا رسول ال إن قد زنيت فطهرن )) وأنه ردها‬
‫فلما كان الغد قالت ‪ :‬يا رسول ال لِم تردن ؟ لعلك أن تردن كما رددت ماعزا ‪ ،‬فو ال‬
‫إن لبلى ‪ .‬قال ‪ :‬أما ل فاذهب حت تلدي ‪ .‬قال ‪ :‬فلما ولدت أتته بالصب ف خرقة قالت ‪:‬‬
‫هذا قد ولدته ‪ .‬قال ‪ :‬فاذهب فأرضعيه حت تطعميه ‪ .‬فلما فطمته أتته بالصب ‪ ،‬ف يده كسرة‬
‫خبز ‪ ،‬فقالت ‪ :‬هذا يا نب ال قد فطمته وقد أكل الطعام ‪ .‬فدفع الصب إل رجل من السلمي‬
‫‪ .‬ث أمر فحفر لا إل صدرها وأمر الناس فرجوها ‪ .‬فاستقبلها خالد بن الوليد بجر فرمى‬
‫رأسها فنضح الدم على وجه خالد فسبها ‪ ،‬فسمع نب ال سبه إياها فقال ‪ (( :‬مهلً يا خالد ‪،‬‬
‫فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابا صاحب مكس لغفر له )) ث أمر با فصلى عليه‬
‫ودفنت‪. )(138‬‬

‫الثبات أمام الطامع والشهوات ‪:‬‬

‫(‪(138‬‬
‫صحيح مسلم ‪ ،‬كتاب الحدود ‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫وكان هذا اليان حارسا لمانة النسان وعفافه وكرامته ‪ ،‬يلك نفسه النع أمام‬
‫الطامع والشهوات الارفة وف اللوة والوحدة حيث ل يراها أحد ‪ .‬وف سلطانه ونفوذه‬
‫حيث ل ياف أحدا ‪ .‬وقد وقع ف تاريخ الفتح السلمي من قضايا العفاف عند الغنم وأداء‬
‫المانات إل أهلها والخلص ل ‪ ،‬ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره ‪ ،‬وما ذاك إل نتيجة‬
‫رسوخ اليان ومراقبة ال واستحضار علمه ف كل مكان وزمان ‪.‬‬
‫حدث الطبي قال ‪ :‬لا هبط السلمون الدائن وجعوا القباض أقبل رجل بُقّ معه‬
‫فدفعه إل صاحب القباض ‪ .‬فقال والذين معه ‪ :‬ما رأينا مثل هذا قط ‪ .‬ما يعدله ما عندنا ول‬
‫يقاربه ‪ .‬فقالوا ‪ :‬هل أخذت منه شيئا ؟ فقال ‪ :‬أما وال لول ال ما أتيتكم به ‪ .‬فعرفوا أن‬
‫للرجل شأنا فقالوا ‪ :‬من أنت ؟ فقال ‪ :‬ل وال ل أخبكم لتحمدون ول غيكم ليقرظون ‪.‬‬
‫ولكن أحد ال وأرضى بثوابه فأتبعوه رجلً حت انتهى إل أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر‬
‫بن عبد قيس‪. )(139‬‬

‫النفة وكب النفس ‪:‬‬


‫وكأن هذا اليان بال رفع رأسهم عاليا وأقام صفحة عنقهم فلن تُحن لغي ال أبدا ‪.‬‬
‫ل للك جبار ول لب من الحبار ول لرئيس دين ول دنيوي ‪ .‬ومل قلوبم وعيونم بكبياء‬
‫ال تعال وعظمته ‪ ،‬فهانت وجوه اللق وزخارف الدنيا ومظاهر العظمة والفخفخة ‪ ،‬فإذا‬
‫نظروا إل اللوك وحشمتهم وما هم فيه من ترف ونعيم وزينة وزخرف ‪ ،‬فكأنم ينظرون إل‬
‫صور ودمى قد كسيت ملبس النسان ‪.‬‬
‫عن أب موسى قال ‪ :‬انتهينا إل النجاشي وهو جالس ف ملسه وعمرو بن العاص عن‬
‫يينه وعمارة عن يساره والقسيسون جلوس ساطي ‪ ،‬وقد قال له عمرو وعمارة ‪ :‬إنم ل‬
‫يسجدون لك ‪ ،‬فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسي والرهبان ‪ :‬اسجدوا للملك ‪ .‬فقال‬
‫جعفر ‪ :‬ل نسجد إل ل‪. )(140‬‬
‫الستهانة بالزخارف والظاهر الوفاء ‪:‬‬

‫(‪(139‬‬
‫تاريخ الطبري ج ‪ 4‬ص ‪. 16‬‬
‫(‪(140‬‬
‫البداية ج ‪. 3‬‬
‫‪78‬‬
‫أرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر رسولً إل رستم قائد اليوش الفارسية‬
‫وأميهم ‪ ،‬فدخل عليه وقد زينوا ملسه بالنمارق والزراب والرير ‪ ،‬وأظهر اليواقيت والللئ‬
‫الثمينة العظيمة ‪ ،‬وعلى تاجه وغي ذلك من المتعة الثمينة ‪ ،‬وقد جلس على سرير من ذهب‬
‫‪ .‬ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصية ول زل راكبها حت داس با على طرف‬
‫البساط ‪ ،‬ث نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل عليه سلحه ودرعه وبيضته على رأسه ‪،‬‬
‫فقالوا له ‪ :‬ضع سلحك ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن ل آتكم وإنا جئتكم حي دعوتون فإن تركتمون‬
‫هكذا وإل رجعت ‪ .‬فقال رستم ‪ :‬ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمه فوق النمارق فخرق‬
‫عامتها ‪ .‬فقالوا له ‪ :‬ما جاء بكم ؟ فقال ‪ :‬ال ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إل‬
‫عبادة ال ‪ ،‬ومن ضيق الدنيا إل سعتها ‪ ،‬ومن جور الديان إل عدل السلم ‪.‬‬

‫الشجاعة النادرة والستهانة بالياة ‪:‬‬


‫ولقد بعث اليان بالخرة ف قلوب السلمي شجاعة خارقة للعادة وحنينا غريبا إل‬
‫النة واستهانة نادرة بالياة ‪ ،‬تثلوا الخرة وتلت لم النة بنعمائها كأنم يرونا رأي عي ‪،‬‬
‫فطاروا إليها طيان حام الزاجل ل يلوي على شيء ‪.‬‬
‫تقدم أنس بن النضي يوم أُحُد وانكشف السلمون فاستقبله سعد بن معاذ فقال ‪ :‬يا‬
‫سعد بن معاذ ‪ ،‬النة ورب الكعبة ‪ ،‬إن أجد ريها من دون أحد ‪ ،‬قال أنس ‪ :‬فوجدنا به‬
‫بضعا وثاني ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل ومثل به‬
‫الشركون ‪ ،‬فما عرفه أحد إل أخته ببنانه‪. )(141‬‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم بدر ‪ :‬قوموا إل النة عرضها السموات‬
‫والرض ؟ فقال عمي بن المام النصاري ‪ :‬يا رسول ال جنة عرضها السموات والرض ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬بخ بخ قال ‪ :‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ما يملك على قولك‬
‫بخ بخ ؟ قال ‪ :‬ل وال يا رسول ال إل رجاء أن يكون من أهلها ‪ .‬قال ‪ :‬فإنك من أهلها ‪.‬‬

‫(‪(141‬‬
‫متفق عليه ‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫فأخرج ترات من قرنه فجعل يأكل منهن ‪ ،‬ث قال ‪ :‬لئن أنا حييت حت آكل ترات هذه إنا‬
‫لياة طويلة ‪ ،‬فرمى با كان معه من التمر ث قاتلهم حت قتل‪. )(142‬‬
‫عن أب بكر بن أب موسى الشعري قال ‪ :‬سعت أب رضي ال عنه وهو بضرة العدو‬
‫يقول ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إن أبواب النة تت ظلل السيوف ‪ ،‬فقام‬
‫رجل رث اليئة فقال ‪ :‬يا أبا موسى أأنت سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول هذا ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪ .‬فرجع إل أصحابه فقال ‪ :‬أقرأ عليكم السلم ‪ ،‬ث كسر جفن سيفه فألقاه ث‬
‫مشى بسيفه إل العدو فضرب حت قتل ‪.)(143‬‬
‫وكان عمرو بن الموح أعرج شديد العرج ‪ ،‬وكان له أربعة بني شباب يغزون مع‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا غزا ‪ ،‬فلما توجه إل أحد أراد أن يتوجه معه فقال له بنوه‬
‫‪ :‬إن ال قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونن نكفيك وقد وضع ال عنك الهاد ‪ ،‬فأتى‬
‫عمرو بن الموح رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬يا رسول ال إن َبنّ هؤلء ينعونن‬
‫أن أخرج معك ‪ ،‬ووال إن لرجو أن استشهد فأطأ بعرجت هذه ف النة ‪ ،‬فقال له رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أما أنت فقد وضع ال عنك الهاد ‪ ،‬وقال لبنيه ‪ :‬وما عليكم أن‬
‫تدعوه لعل ال عز وجل أن يرزقه الشهادة فخرج مع رسول ال صل ال عليه وسلم فقتل يوم‬
‫أحد شهيدا ‪.)(144‬‬
‫قال شداد بن الاد ‪ :‬جاء رجل من العراب إل النب صلى ال عليه وسلم فآمن به‬
‫واتبعه فقال أهاجر معك ‪ ،‬فأوصى به بعض أصحابه ‪ ،‬فلما كانت غزوة خيب غنم رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم شيئا فقسمه ‪ ،‬وقسم للعراب فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى‬
‫ظهورهم ‪ ،‬فلما جاء دفعوه إليه فقال ‪ :‬ما هذا ؟ قالوا ‪ :‬قسم قسمه لك رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فأخذه فجاء به إل النب صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬ما هذا يا رسول ال ؟ قال‬
‫قسم قسمته لك ‪ ،‬قال ‪ :‬ما على هذا اتبعتك ‪ ،‬ولكن اتبعتك على أن ُأرْمَى ها هنا‪ -‬وأشار‬
‫إل حلقه‪ -‬بسهم ‪ ،‬فأموت فأدخل النة ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن تصدق ال ليصدقك ‪ ،‬ث نضوا إل قتال‬

‫(‪(142‬‬
‫رواه مسلم ‪.‬‬
‫(‪(143‬‬
‫رواه مسلم ‪.‬‬
‫(‪(144‬‬
‫زاد المعاد ج ‪ 3‬ص ‪. 135‬‬
‫‪80‬‬
‫العدو فأت به النب صلى ال عليه وسلم وهو مقتول فقال ‪ :‬أهو هو ؟ قالوا ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫صدق ال فصدقه‪. )(145‬‬

‫من النانية إل العبودية ‪:‬‬


‫وكانوا قبل هذا اليان ف فوضى من لفعال والخلق والسلوك والخذ والترك‬
‫والسياسة والجتماع ‪ ،‬ل يضعون لسلطان ول يقرون بنظام ول ينخرطون ف سلك ‪،‬‬
‫يسيون على الهواء ويركبون العمياء ويبطون خبط عشواء ‪ ،‬فأصبحوا الن ف حظية‬
‫اليان والعبودية ل يرجون منها ‪ ،‬واعترفوا ل باللك والسلطان والمر والنهي ‪ ،‬ولنفسهم‬
‫بالرعوية والعبودية والطاعة الطلقة ‪ ،‬وأعطوا من أنفسهم القادة واستسلموا للحكم اللي‬
‫ل ووضعوا أوزارهم ‪ ،‬وتنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم ‪ ،‬وأصبحوا عبيدا ل‬
‫استسلما كام ً‬
‫يلكون ما ًل ول نفسا ول تصرفا ف الياة إل ما يرضاه ال ويسمح به ‪ ،‬ل ياربون ول‬
‫يصالون إل بإذن ال ول يرضون ول يسخطون ول يعطون ول ينعون ول يصلون ول‬
‫يقطعون إل بإذنه ووفق أمره ‪ .‬ولا كان القوم يسنون اللغة الت نزل با القرآن وتكلم با‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم وعرفوا الاهلية ونشأوا عليها ‪ ،‬وعرفوا معن السلم معرفة‬
‫صحيحة ‪ ،‬وعرفوا أنه خروج من حياة إل حياة ‪ ،‬ومن ملكة إل ملكة ‪ ،‬ومن حكم إل‬
‫حكم ‪ ،‬أو من فوضوية إل سلطة ‪ ،‬أو من حرب إل استسلم وخضوع ‪ ،‬ومن النانية إل‬
‫العبودية ‪ ،‬وإذا دخلوا ف السلم فل افتيات ف الرأي ول نزاع مع القانون اللي ول خية‬
‫بعد المر ول مشاقة للرسول ول تاكم إل غي ال ول إصدار عن الرأي ‪ ،‬ول تسك بتقاليد‬
‫وعادات ول ائتمار بالنفس ‪ ،‬فكانوا إذا أسلموا انتقلوا من الياة الاهلية بصائصها وعاداتا‬
‫وتقاليدها إل السلم بصائصه وعاداته وأوضاعه ‪ ،‬وكان هذا النقلب العظيم يدث على‬
‫أثر قبول السلم من غي تأن ‪.‬‬
‫همّ فضالة بن عمي بن اللوح أن يقتل رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ .‬وهو يطوف‬
‫بالبيت ‪ .‬فلما دنا منه ‪ .‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أ فضالة ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬فضالة يا‬

‫(‪(145‬‬
‫زاد المعاد ج ‪ 3‬ص ‪.190‬‬
‫‪81‬‬
‫رسول ال ! قال ‪ :‬ماذا كنت تدث به نفسك ؟ قال ‪ :‬ل شيء ‪ ،‬كنت أذكر ال ‪ ،‬فضحك‬
‫النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ث قال ‪ :‬استغفر ال ‪ ،‬ث وضع يده على صدره فسكن قلبه ‪،‬‬
‫وكان فضالة يقول ‪ :‬وال ما رفع يده على صدري حت ما خلق ال شيئا أحب إلّ منه ‪ ،‬قال‬
‫فضالة‪ :‬فرجعت إل أهلي فمررت بامرأة كنت أتدث إليها ‪ ،‬فقالت ‪ :‬هلمّ إل الديث ‪،‬‬
‫فقلت ‪ :‬يأب ال عليك والسلم‪. )(146‬‬

‫الحكمات والبينات ف الليات ‪:‬‬


‫وقد كان النبياء عليهم السلم أخبوا الناس عن ذات ال وصفاته وأفعاله ‪ ،‬وعن بداية‬
‫هذا العال ومصيه ‪ ،‬وما يهجم عليه النسان بعد موته ‪ ،‬وآتاهم علم ذلك كله بواسطتهم‬
‫عفوا بدون تعب ‪ ،‬وكفوهم مؤونة البحث والفحص ف علوم ليس عندهم مباديها ول‬
‫مقدماتا الت يبنون عليها بثهم ليتوصلوا إل مهول ‪ ،‬لن هذه العلوم وراء الس والطبيعة ‪،‬‬
‫ل تعمل فيهما حواسهم ‪ ،‬ول يؤدي إليها نظرهم ‪ ،‬وليست عندهم معلوماتا الولية ‪.‬‬
‫لكن الناس ل يشكروا هذه النعمة وأعادوا المر جذعا ‪ ،‬وأبدوا البحث أُنفا وبدأوا‬
‫رحلتهم ف مناطق مهولة ل يدون فيها مرشدا ول ِخرّيتا ‪ ،‬وكانوا ف ذلك أكثر ضللً ‪،‬‬
‫وأشد تعبا وأعظم اشتغالً بالفضول من رائد ل يقتنع با أدى إليه العلم النسان ف الغرافية ‪،‬‬
‫وما حدد وضبط ف الرائط على تعاقب الجيال ‪ ،‬فحاول أن يقيس ارتفاع البال وعمق‬
‫البحار من جديد ‪ ،‬ويتب الصحارى والسافات والدود بنفسه على قصر عمره ‪ ،‬وضعف‬
‫قوته ‪ ،‬وفقدان آلته ‪ ،‬فلم يلبث أن انقطعت به مطيته وخانته عزيته ‪ ،‬فرجع بذكرات‬
‫وإشارات متلة ‪ ،‬وكذلك الذين خاضوا ف الليات من غي بصية ‪ ،‬وعلى غي هدى ‪ ،‬جاءوا‬
‫ف هذا العلم بآراء فجة ‪ ،‬ومعلومات ناقصة ‪ ،‬وخواطر سانة ‪ ،‬ونظريات مستعجلة ‪ ،‬فضلوا‬
‫وأضلوا ‪.‬‬
‫وكذلك منحهم النبياء عليهم السلم مبادئ ثابتة ومكمات هي أساس الدنية الفاضلة‬
‫‪ ،‬والياة السعيدة ف كل زمان ومكان ‪ ،‬فحرموها على تعاقب العصار ‪ ،‬فبنوا مدنيتهم على‬

‫(‪(146‬‬
‫زاد المعاد ج ‪ 2‬ص ‪. 332‬‬
‫‪82‬‬
‫شفا جرف هار ‪ ،‬وأساس منهار ‪ ،‬وعلى قياس واختيار ‪ ،‬فزاغ أساس الدنية وتداعى بناؤها ‪،‬‬
‫وخر عليهم السقف من فوقهم ‪.‬‬
‫وكان الصحابة رضي ال عنهم سعداء موفقي جدا ‪ ،‬إذ عوّلوا ف ذلك كله على‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فكفوا الئونة وسعدوا بالثمرة ‪ ،‬ووفروا ذكائهم وقوتم‬
‫وجهادهم ف غي جهاد ‪ ،‬ووفروا عليهم أوقاتم فصرفوها فيما يعنيهم من الدين والدنيا‬
‫وتسكوا بالعُروة الوثقى ‪ ،‬وأخذوا ف الدين بلب اللباب ‪.‬‬

‫**********************************‬

‫‪83‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫الجتمع السلمي‬
‫طاقة زهر ‪:‬‬
‫إن هذا اليان بال والرسول واليوم الخر والسلم ل ولدينه أقام عوج الياة ‪ ،‬ورد‬
‫كل فرد ف الجتمع البشري إل موضعه ‪ ،‬ل يقصر عنه ول يتعداه وأصبحت اليئة البشرية‬
‫طاقة زهر ل شوك فيها ‪ ،‬أصبح الناس أسرة واحدة أبوهم آدم ‪ ،‬وآدم من تراب ‪ ،‬ل فضل‬
‫لعرب على عجمي ‪ ،‬ول لعجمي على عرب إل بالتقوى ‪ ،‬يقول النب صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫((كلكم بنو آدم ‪ ،‬وآدم خلق من تراب ‪ ،‬ولينتهي قوم يفخرون بآبائهم ‪ ،‬أو ليكونن أهون‬
‫على ال تعال من العلن‪ ،)) )(147‬ويسمعه الناس يقول ‪ (( :‬يا أيها الناس إن ال قد أذهب‬
‫عنكم عبية الاهلية وتعظمها بآبائها ‪ ،‬فالناس رجلن ‪ :‬رجل بٌر تقيٌ كري على ال تعال ‪،‬‬
‫ورجل فاجر شقي هي على ال تعال‪ ،)) )(148‬ويقول ‪ (( :‬إن أنسابكم هذه ليست على‬
‫لنسبة على أحد ‪ ،‬كلكم بنو آدم ‪ ،‬طف الصاع ل ينعوه ‪ ،‬ليس لحد على أحد فضل إل‬
‫بدين وتقوى‪ ، )) )(149‬وعن أب ذر رضي ال عنه أن النب صلى ال عليه وسلم قال له ‪:‬‬
‫((انظر فإنك لست بي من أحر ول أسود ‪ ،‬إل أن تفضله بتقوى ال)) ويسمعه الناس يقول‬
‫فيما يناجي به ربه ف آخر الليل ‪ (( :‬وأنا شهيد أن العباد كلهم أخوة‪. )))(150‬‬

‫ليس منا من دعا إل عصبية ‪:‬‬


‫واقتلع صلى ال عليه وسلم جذور الاهلية وجراثيمها ‪ ،‬وحسم مادتا ‪ ،‬وسد كل‬
‫نافذة من نوافذها ‪ ،‬فقال ‪ (( :‬ليس منا من دعا إل عصبية ‪ ،‬وليس منا من قاتل على عصبية ‪،‬‬
‫وليس منا من مات على عصبية‪ ، )) )(151‬وعن جابر بن عبد ال قال ‪(( :‬كنا ف غزاة فكسع‬
‫رجل من الهاجرين رجلً من النصار ‪ ،‬فقال النصاري ‪ :‬يا للنصار ‪ .‬فقال الهاجرين ‪ :‬يا‬
‫(‪(147‬‬
‫تفسير ابن كثير ‪ ،‬سورة الحجرات ‪.‬‬
‫(‪(148‬‬
‫رواه ابن أبي حاتم ‪.‬‬
‫(‪(149‬‬
‫رواه المام أحمد ‪.‬‬
‫(‪(150‬‬
‫رواه أبو داود ‪.‬‬
‫(‪(151‬‬
‫رواه أبو داود ‪.‬‬
‫‪84‬‬
‫للمهاجرين فقال النب صلى ال عليه وسلم ‪ :‬دعوها إنا منتنة‪ )) )(152‬وحرم حية الاهلية ‪،‬‬
‫وقيد ذلك التناصر الذي جرت الاهلية العربية على إطلقه ‪ ،‬فكان من المثال السائرة‬
‫وشرائع الاهلية الثابتة ‪ (( .‬أنصر أخاك ظالا أو مظلوما )) ‪ ،‬قال النب صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫(( من نصر قومه على غي الق ‪ ،‬فهو كالبعي الذي ردي فهو ينع بذنبه‪ ، )) )(153‬وتغيت‬
‫بذلك نفسية العرب وعقليته حت أصبح ذوق السلم العرب ل يسيغ ذلك الثل العرب السائر ‪،‬‬
‫فلما قال النب صلى ال عليه وسلم مرة ‪ (( :‬أنصر أخاك ظالا أو مظلوما )) ل يلك نفسه ‪،‬‬
‫فقال ‪ (( :‬يا رسول إذا نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالا ؟ قال النب صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫تنعه من الظلم فذاك نصرك إياه‪. )))(154‬‬

‫كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته ‪:‬‬


‫وأصبحت الطبقات والجناس ف الجتمع السلمي متعاونة متعاضدة ل يبغى بعضها‬
‫على بعض ‪ ،‬فالرجال قوامون على النساء با فضل ال بعضهم على بعض وبا أنفقوا من‬
‫أموالم ‪ .‬والنساء صالات قانتات حافظات للغيب با حفظ ال ‪ ،‬لن مثل الذي عليهن‬
‫بالعروف ‪ ،‬وأصبح كل واحد ف الجتمع راعيا ومسئولً عن رعيته ‪ .‬المام راع ومسئول عن‬
‫رعيته ‪ ،‬والرجل راع ف أهله ومسئول عن رعيته ‪ ،‬والرأة راعية ف بيت زوجها ومسئولة عن‬
‫رعيتها ‪ ،‬والادم راع ف مال سيده ومسئول عن رعيته‪ ، )(155‬وهكذا كان الجتمع السلمي‬
‫متمعا رشيدا عاقلً مسئولً عن أعماله ‪.‬‬

‫ل طاعة لخلوق ف معصية الالق ‪:‬‬


‫وأصبح السلمون أعوانا على الق ‪ ،‬أمرهم شورى بينهم ‪ ،‬يطيعون الليفة ما أطاع ال فيهم‬
‫فإن عصى ال فل طاعة له عليهم وأصبح شعار الكم ‪ " :‬ل طاعة لخلوق ف معصية الالق "‬
‫(‪(152‬‬
‫رواه البخاري ‪.‬‬
‫(‪(153‬‬
‫تفسير ابن كثير‬
‫(‪(154‬‬
‫حديث متفق عليه ‪.‬‬
‫(‪(155‬‬
‫حديث متفق عليه ‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫وأصبحت الموال والزائن الت كانت طعمه للملوك والمراء ودولة الغنياء مال ال الذي ل‬
‫ينفق إل ف وجهه ول يرج إل ف حقه وأصبح السلمون مستخلفي فيه ‪ ،‬والليفة كول‬
‫اليتيم إن استغن استعف وإن افتقر أكل بالعروف ‪ ،‬وأصبحت الرض الت اغتصبها اللوك‬
‫والمراء يفسحونا لن يشاؤون ويضيقونا على من يشاؤون ‪ ،‬ويقطعها بعضهم بعضا كما‬
‫يقطع الثوب ‪ ،‬وأصبحت أر ال الت من ظلم قيد شب من طوقه من سبع أراضي ‪.‬‬

‫حلول الرسول مل الروح والنفس من الجتمع ‪:‬‬


‫وكان الجتمع البشري قد فقد نشاطه وأرييته ف الياة وف كل ما يأت ويذر وكان‬
‫متمعا مرهقا منوقا ‪ ،‬فكان مدفوعا إل ساحة الرب من غي أن ينشط أو يتحمس لغراض‬
‫أول المر ‪ ،‬وكان مدفوعا إل الصلح ول يقض من الرب وطرا ول يشف نفسه ‪ ،‬وكان‬
‫الرجال ف هذا الجتمع يرغمون على التضحية واليثار ومكابدة التاعب ومعاناة المور الشاقة‬
‫من غي هوى ومن غي وجدان ومن غي عاطفة ‪ ،‬ل يبون القادة ول يبهم القادة فكانوا‬
‫مرغمي على أن يطيعوا من ل يبونه ويفدوا بأرواحهم وأموالم من يبغضونه ‪ .‬فانطفأت جرة‬
‫القلوب وبردت العواطف ونشأ الناس على النفاق ولرياء والتل ونشأت النفوس على الذل‬
‫وتمل الضيم والصغار ‪.‬‬
‫كانت العاطفة القوية‪ -‬الت يرجع إليها الفضل ف غالب عجائب النسانية ومعظم‬
‫الثار الالدة ف التاريخ ‪ ،‬تلك الت يسميها الناس (الب)‪ -‬تائهة ضائعة ‪ ،‬ل يظهر منذ قرون‬
‫من يشغلها ويستثمرها فضاعت ف ألوان المال الزاهية والظاهر اللبة الفانية ما تغن به‬
‫الشعراء قديا وحديثا ‪.‬‬
‫ف هذا الجتمع الائر الظلوم قام ممد صلى ال عليه وسلم فحل عقاله وفك إساره ث‬
‫حل منه مل الروح والنفس وشغل منه مكان القلب والعي ‪ .‬وهو البشر الذي جع ال له‬
‫أسى صفات المال والكمال وأبلغ معان السن والحسان ‪ .‬من رآه بديهة هابه ومن خالطه‬
‫معرفة أحبه ‪ .‬يقول ناعته ‪ :‬ل أر قبله ول بعده مثله ‪ ،‬فاندفع إليه الب الصادق كما يندفع‬
‫الال إل الدور ‪ .‬وانذبت إليه النفوس والقلوب انذاب الديد إل الغناطيس ‪ .‬كأنا كان‬

‫‪86‬‬
‫من القلوب والرواح على ميعاد ‪ .‬وأحبه رجال أمته وأطاعوه حبا وطاعة ل يسمع بثلهما ف‬
‫تاريخ العشاق والتيمي ‪ .‬ووقع من خوارق الب والتفان ف سبيل طاعته وإيثاره على النفس‬
‫والهل والال والولد ما ل يدث قبله ولن يدث بعده ‪.‬‬

‫نوادر الب والتفان ‪:‬‬


‫وُطئ أبو بكر بن أب قحافة ف مكة يوما بعدما أسلم وضرب ضربا شديدا ودنا منه عتبه بن‬
‫ربيعة فجعل يضربه بنعلي مصوفي ويرفهما لوجهه ونزا على بطن أب بكر حت ما يعرف‬
‫وجهه من أنفه ‪ ،‬وحلت بنو تيم أبا بكر ف ثوب حت أدخلوه منله ول يشكون ف موته ‪،‬‬
‫فتكلم آخر النهار فقال‪ :‬ما فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه‬
‫ث قاموا وقالوا لمه أم الي ‪ :‬انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه ‪ ،‬فلما خلت به ألت‬
‫عليه وجعل يقول ‪ :‬ما فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ فقالت ‪ :‬وال ما ل علم‬
‫بصاحبك ‪ .‬فقال ‪ :‬اذهب إل أم جيل بنت الطاب فاسأليها عنه ‪ .‬فخرجت حت جاءت أم‬
‫جيل فقال ‪ :‬إن أبا بكر يسألك عن ممد بن عبد ال قالت ‪ :‬ما أعرف أبا بكر ول ممد بن‬
‫عبد ال ‪ ،‬وإن كنت تبي أن أذهب معك إل ابنك ذهبت ‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ .‬فمضت معها حت‬
‫وجدت أبا بكر صريعا دنفا ‪ ،‬فدنت أم جيل وأعلنت بالصياح وقالت ‪ :‬وال إن قوما نالوا‬
‫هذا منك لهل فسق وكفر ‪ ،‬وإن لرجو أن ينتقم ال لك منهم ‪ .‬قال ‪ :‬فما فعل رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ؟ قال ‪ :‬هذه أمك تسمع ! قال ‪ :‬فل شيء عليك منها ‪ .‬قالت ‪ :‬سال‬
‫صال ! قال ‪ :‬أين هو ؟ قالت ‪ :‬ف دار ابن الرقم ‪ ،‬قال ‪ :‬فإن ل عليّ أن ل أذوق طعاما ول‬
‫أشرب شرابا أو آت رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأمهلتا حت إذا هدأت الرجل وسكن‬
‫الناس خرجتا به يتكئ عليهما حت أدخلتاه على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪. )))(156‬‬
‫وخرجت امرأة من النصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم فقالت ‪ :‬ما فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ قالوا ‪ :‬خيا هو بمد ال‬
‫كما تبي! قالت ‪ :‬أرونيه حت أنظر إليه ‪ .‬فلما رأته قالت ‪ :‬كل مصيبة بعدك جلل‪. )(157‬‬
‫(‪(156‬‬
‫البداية والنهاية ج ‪ 3‬ص ‪. 30‬‬
‫(‪(157‬‬
‫رواه ابن إسحاق إمام المغازي ‪ ،‬ورواه البيهقي مرسلً ‪ ،‬والجلل ‪ :‬الحقيرة‬
‫‪87‬‬
‫رفعوا خبيبا رضي ال عنه على الشبة ونادوه يناشدونه ‪ :‬أتب أن ممد مكانك ؟ قال‬
‫‪ :‬ل وال العظيم ما أحب أن يفدين بشوكة يشاكها ف قدمه ‪ .‬فضحكوا منه ‪.)(158‬‬
‫وقال زيد بن ثابت ‪ :‬بعثن رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن‬
‫الربيع فقال ل ‪ :‬إن رأيته فأقرئه من السلم وقل له ‪ :‬يقول لك رسول ال صلى ل عليه وسلم‬
‫‪ :‬كيف تدك ؟ قال ‪ :‬فجعلت أطوف بي القتلى فأتيته وهو بآخر رمق وفيه سبعون ضربة ما‬
‫بي طعنة رمح وضربة سيف ورمية سهم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا سعد ‪ ،‬إن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يقرأ عليك السلم ويقول لك ‪ :‬أخبن كيف تدك ؟ فقال ‪ :‬على رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم السلم ‪ :‬قل له ‪ :‬يا رسول ال أجد ريح النة ‪ .‬وقل لقومي النصار ‪ :‬ل عذر‬
‫لكم عند ال إن خلص إل رسول ال صلى ال عليه وسلم وفيكم عي تطرف ‪ .‬وفاضت‬
‫نفسه من وقته‪. )(159‬‬
‫وتّرس أبو دجانة يوم أحد على رسول ال صلى ال عليه وسلم بظهره والنبل يقع فيه‬
‫وهو ل يتحرك‪ . )(160‬ومص مالك الدري جرح رسول ال صلى ال عليه وسلم حت أنقاه‬
‫قال له ‪ :‬مه ‪ .‬قال ‪ :‬وال ما أمه أبدا ‪. )(161‬‬
‫وقدم أبو سفيان الدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم طوته عنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا بنية ‪ ،‬ما أدري أرغبت ب عن هذا الفراش أم‬
‫‪(1‬‬
‫رغبت به عن قالت ‪ :‬بل هو فراش رسول ال صلى ال عليه وسلم وأنت رجل مشرك نس‬
‫‪. )62‬‬
‫قال عبد ال بن مسعود الثقفي لصحابه بعدما رجع من الديبية ‪ :‬أي قوم وال لقد‬
‫وفدت على اللوك ‪ ،‬على كسرى وقيصر والنجاشي ‪ ،‬وال ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما‬
‫يعظم أصحاب ممد ممدا ‪ ،‬وال إن تنخم نامة إل وقعت ف كف رجل منهم فدلك با‬

‫(‪(158‬‬
‫البداية والنهاية ج ‪ 4‬ص ‪. 63‬‬
‫(‪(159‬‬
‫زاد المعاد ج ‪ 2‬ص ‪. 134‬‬
‫(‪(160‬‬
‫أيضاً ص ‪. 130‬‬
‫(‪(161‬‬
‫أيضاً ص ‪. 136‬‬
‫(‪(162‬‬
‫سيرة ابن هشام ‪ ،‬ذكر السباب الموجبة للمسير إلى مكة ‪.‬‬
‫‪88‬‬
‫وجهه وجلده ‪ ،‬وإذا أمرهم ابتدروا أمره ‪ ،‬وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضٌوئه ‪ ،‬وإذا تكلم‬
‫خفضوا أصواتم عنده ‪ ،‬وما يُحدّون إليه النظر تعظيما له ‪.)(163‬‬

‫عجائب النقياد والطاعة ‪:‬‬


‫ول يزل النقياد والطاعة من جنود " الب " التطوعة ‪ ،‬فلما أحبه القوم بكل قلوبم أطاعوه‬
‫بكل قواهم ‪ ،‬يثل ذلك خي تثيل ما قال سعد بن معاذ عن نفسه وعن النصار قبل بدر ‪:‬‬
‫((إن أقول عن النصار وأجيب عنهم فاظعن حيث شئت وصل حبل من شئت وخذ من‬
‫أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت وما أخذت منا كان أحب إلينا ما تركت وما أمرت فيه أمر‬
‫فأمرنا تبع لمرك ‪ ،‬فو ال لئن سرت حت تبلغ البك من غمدان لنسين معك ‪ ،‬وال لئن‬
‫استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك‪. )) )(164‬‬
‫وكان من شدة طاعتهم له صلى ال عليه وسلم أنه صلى ال عليه وسلم نى أهل الدينة‬
‫عن كلم الثلثة الذين تلفوا عن غزوة تبوك ‪ ،‬فما كان من الناس إل أن أطاعوه وأصبحت‬
‫الدينة لؤلء كأنا مدينة الموات ليس با داع ول ميب ‪ .‬يقول كعب ‪ :‬ونى رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم عن كلمنا أيها الثلثة من بي من تلف عنه قال فاجتنبنا الناس أو قال‬
‫تغيوا لنا حت تنكرت ل نفس الرض فما هي الرض الت أعرف ‪ ،‬إل أن قال ‪ :‬حت إذا‬
‫طال عليّ من جفوة السلمي مشيت حت تسورت جدار حائط أب قتادة وهو ابن عمي‬
‫وأحب الناس إلّ فسلمت عليه فو ال ما رد عليّ السلم فقلت له ‪ :‬يا أبا قتادة أنشدك بال‬
‫هل تعلمن أحب ال ورسوله ؟ فسكت فعدت فناشدته فسكت ‪ ،‬فعدت فناشدته ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫ال ورسوله أعلم ‪ ،‬ففاضت عين وتوليت حت تسورت الدار‪. )(165‬‬
‫وكان من طاعته أيضا وهو ف موضع عتاب وجفوة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫يأتيه ويقول له ‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقال ‪ :‬أطلقها أم‬

‫(‪(163‬‬
‫زاد المعاد ‪ ،‬ج ‪ 3‬ص ‪. 125‬‬
‫(‪(164‬‬
‫أيضاً ‪.‬‬
‫(‪(165‬‬
‫متفق عليه ‪.‬‬
‫‪89‬‬
‫ماذا أفعل ؟ فقال ‪ :‬ل بل اعتزلا فل تقربنها ‪ .‬فقال لمرأته ‪ :‬القي بأهلك فكون عندهم‬
‫حت يقضي ال من هذا المر‪. )(166‬‬
‫وكان من حبه للرسول صلى ال عليه وسلم وإيثاره على كل أحد ف الدنيا أن ملك‬
‫غسان يطب وده ويستلحقه بنفسه ‪ ،‬وتلك منة عظيمة ف حال الفوة والعتاب ولكنه يرفض‬
‫ذلك قال ‪ (( :‬بينما أنا أمشي ف سوق الدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام من قدم بالطعام‬
‫يبيعه بالدينة يقول ‪ :‬من يدلن على كعب بن مالك فطفق الناس يشيون له إلّ حت جاءن‬
‫فدفع إل كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه ‪ :‬أما بعد فإنه قد بلغنا أن‬
‫صاحبك قد جافاك ول يعلك ال بدار هوان ول مضيعة فالق بنا نواسك ‪ .‬فقلت حي‬
‫قرأتا ‪ :‬وهذه أيضا من البلء ‪ ،‬فتيممت با التنور فسجرتا ‪.)(167‬‬
‫ومن غرائب الطاعة وسرعة النقياد ما حدث عند نزول النهي عن المر ف ملس شرب ‪،‬‬
‫فعن أب بريدة عن أبيه قال ‪ :‬بينما نن قعود على شراب لنا وعندنا باطية‪ )(168‬لنا ‪ ،‬ونن‬
‫نشرب المر حلً إذ قمت حت آت رسول ال صلى ال عليه وسلم فأسلم عليه وقد نزل‬
‫خمْرُ وَاْلمَيْسِرُ وَالَنصَابُ وَا َلزْلَمُ رِجْسٌ مّنْ َعمَلِ‬
‫تري المر {يَا أَّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِّنمَا الْ َ‬
‫الشّيْطَانِ } – إل قوله ‪َ { :‬فهَلْ أَنتُم مّنَتهُونَ } فجئت إل أصحاب فقرأتا عليهم إل قوله ‪:‬‬
‫{ َفهَلْ أَنتُم مّنَتهُونَ } ‪ .‬قال ‪ :‬وبعض القوم شربته ف يده شرب بعضا وبقي بعض ف‬
‫الناء ‪ ،‬فقال بالناء تت شفته العليا كما يفعل الجام ‪ ،‬ث صبوا ما ف باطيتهم فقالوا ‪:‬‬
‫انتهينا ربنا ‪ .‬انتهينا ربنا ‪. )(169‬‬
‫ومن غرائب الطاعة للرسول وإيثاره على النفس والهل والعشية ما روي عن عبد ال‬
‫بن عبد ال بن أب ‪ ،‬روى ابن جرير بسنده عن ابن زيد قال ‪ :‬دعا رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم عبد ال بن عبد ال بن أبّ قال ‪ :‬أل ترى ما يقول أبوك ؟ قال ‪ :‬ما يقول بأب أنت‬
‫وأمي ؟ قال ‪ :‬يقول لئن رجعنا إل الدينة ليخرجن العز منها الذل ‪ ،‬فقال ‪ :‬فقد صدق وال‬
‫يا رسول ال ‪ ،‬أنت وال العز وهو الذل ‪ ،‬أما وال لقد قدمت الدينة يا رسول ال وإن أهل‬
‫(‪(166‬‬
‫متفق عليه ‪.‬‬
‫(‪(167‬‬
‫متفق عليه ‪.‬‬
‫(‪(168‬‬
‫الباطية ‪ :‬إناء من زجاج يمل من الشراب ‪.‬‬
‫(‪(169‬‬
‫خمْرُ } الية ‪ ،‬تفسير الطبري ‪. 7‬‬
‫رواه ابن جرير بسنده في التفسير عند قوله تعالى ‪{ :‬يَا َأّيهَا اّلذِينَ آ َمنُواْ ِإّنمَا ا ْل َ‬
‫‪90‬‬
‫يثرب ليعلمون ما با أحد أبّر من ‪ ،‬ولئن كان يرضي ال ورسوله أن آتيهما برأسه لتيتهما به‬
‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ل ‪ .‬فلما قدموا الدينة قام عبد ال بن عبد ال بن أب‬
‫على بابا بالسيف لبيه ث قال ‪ :‬أنت القائل لئن رجعنا إل الدينة ليخرجن العز منها الذل ؟‬
‫أما وال لتعرفن العزة لك أو لرسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وال ل يأويك ظله ول تأويه‬
‫أبدا إل بإذن من ال ورسوله ‪ .‬فقال ‪ :‬يا للخزرج ‪ ،‬ابن ينعن بيت ‪ ،‬يا للخزرج ابن ينعن‬
‫بيت !! فقال ‪ :‬وال ل يأويه أبدا ‪ .‬إل بإذن منه ‪ .‬فاجتمع إليه رجال فكلموه فقال ‪ :‬وال ل‬
‫يدخله إل بإذن من ال ورسوله ‪ .‬فأتوا النب صلى ال عليه وسلم فأخبوه فقال ‪ :‬اذهبوا إليه‬
‫فقولوا له ‪ :‬خلّه ومسكنه ‪ .‬فأتوه فقال ‪ :‬أما إذا جاء أمر النب صلى ال عليه وسلم فنعم‪. )(170‬‬

‫***********************************‬

‫(‪(170‬‬
‫تفسير الطبري ج ‪. 28‬‬
‫‪91‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫كيف حول الرسول خامات الاهلية‬
‫إل عجائب النسانية‬
‫بذا اليان الواسع العميق والتعليم النبوي التقن ‪ ،‬وبذه التربية الكيمة الدقيقة‬
‫وبشخصيته الفذة ‪ ،‬وبفضل هذا الكتاب السماوي العجز الذي ل تنقضي عجائبه ول تلق‬
‫جدته ‪ ،‬بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم ف النسانية الحتضرة حياة جديدة ‪.‬‬
‫عمد إل الذخائر البشرية وهي أكداس من الواد الام ل يعرف أحد غناءها ‪ ،‬ول‬
‫يعرف ملها وقد أضاعتها الاهلية والكفر والخلد إل الرض فأوجد فيها بإذن ال اليان‬
‫والعقيدة وبعث فيها الروح الديدة ‪ ،‬وأثار من دفائنها وأشعل مواهبها ‪ ،‬ث وضع كل واحد‬
‫ف مله فكأنا خلق له ‪ ،‬وكأنا كان الكان شاغرا ل يزل ينتظره ويتطلع إليه ‪ ،‬وكأنا كان‬
‫جادا فتحول جسما ناميا وإنسانا متصرفا وكأنا كان ميتا ل يتحرك فعاد حيا يلي على‬
‫العال إرادته وكأنا كان أعمى ل يبصر الطريق فأصبح قائدا بصيا يقود المم ‪َ{ :‬أوَ مَن كَانَ‬
‫مَيْتا فََأحْيَيْنَاهُ وَجَ َعلْنَا لَهُ نُورا َيمْشِي ِب ِه فِي النّاسِ َكمَن مّثَلُهُ فِي الظُّلمَاتِ لَيْسَ ِبخَا ِرجٍ } ‪.‬‬
‫عمد إل المة العربية الضائعة وإل أناس من غيها فما لبث العال أن رأى منهم نوابغ كانوا‬
‫من عجائب الدهر وسوانح التاريخ ‪ ،‬فأصبح عمر الذي كان يرعى البل لبيه الطاب وينهره‬
‫وكان من أوساط قريش جلدة وصرامة ‪ ،‬ول يتبوأ منها الكانة العليا ‪ ،‬ول يسب له أقرانه‬
‫حسابا كبيا ‪ ،‬إذا به يفجأ العال بعبقريته وعصاميته ‪ ،‬ويدحر كسرى وقيصر عن عروشهما‬
‫ويؤسس دولة إسلمية تمع بي متلكاتما وتفوقهما ف الدارة وحسن النظام فضلً عن‬
‫الورع والتقوى والعدل الذي ل يزال فيه الثل السائر ‪.‬‬
‫وهذا ابن الوليد كان أحد فرسان قريش الشبان انصرت كفاءته الربية ف نطاق ملّيٍ‬
‫ضيق يستعي به رؤساء قريش ف العارك القبلية فينال ثقتهم وثناءهم ‪ ،‬ول يرز الشهرة الفائقة‬
‫ف نواحي الزيرة ‪ ،‬إذ به يلمع سيفا إليا ل يقوم له شيء إل حصده ‪ ،‬وينل كصاعقة على‬
‫الروم والفرس ويترك ذكرا خالدا ف التاريخ ‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫وهذا أبو عبيدة كان موصوفا بالصلح والمانة والرفق ويقود سرايا السلمي إذا به‬
‫يتول القيادة العظمى للمسلمي ويطرد هرقل من ربوع الشام ومروجها الضراء ويلقي عليها‬
‫الوداع ويقول ‪ :‬سلم على سورية سلما ل لقاء بعده ‪.‬‬
‫وهذا عمرو بن العاص كان يُعد من عقلء قريش وترسله ف سفارتا إل البشة تسترد‬
‫الهاجرين السلمي فيجع خائبا إذا به يفتح مصر وتصي له صولة عظيمة ‪.‬‬
‫وهذا سعد بن أب وقاص ل نسمع به ف التاريخ العرب قبل السلم كقائد جيش‬
‫ورئيس كتيبة ‪ ،‬إذا به يتقلد مفاتيح الدائن ‪ ،‬وينيط باسه فتح العراق وإيران ‪.‬‬
‫وهذا سلمان الفارسي كان ابن موبذان ف إحدى قرى فارس ل يزل يتنقل من رق إل‬
‫رق ومن قسوة إل قسوة إذا به يطلع على أمته كحاكم لعاصمة المباطورية الفارسية الت‬
‫كان بالمس أحد رعاياها ‪ ،‬وأعجب من ذلك أن هذه الوظيفة ل تغي من زهادته وتقشفه‬
‫فياه الناس يسكن ف كوخ ويمل على رأسه الثقال ‪.‬‬
‫وهذا بلل البشي يبلغ من فضله وصلحه مبلغا يلقبه فيه أمي الؤمني عمر بالسيد ‪.‬‬
‫وهذا سال مول أب حذيفة يرى فيه عمر موضعا للخلفة يقول ‪ :‬لو كان حيا‬
‫لستخلفته ‪.‬‬
‫وهذا زيد بن حارثة يقود جيش السلمي إل مؤتة وفيه مثل جعفر بن أب طالب وخالد‬
‫بن الوليد ‪ ،‬ويقود ابنه أسامة جيشا فيه مثل أب بكر وعمر ‪.‬‬
‫وهذا أبو ذر والقداد وأبو الدرداء وعمار بن ياسر ومعاذ بن جبل وأب بن كعب ‪،‬‬
‫تب عليهم نفحة من نفحات السلم فيصبحون من الزّهاد العدودين والعلماء الراسخي ‪.‬‬
‫وهذا علي بن أب طالب وعائشة وعبد ال بن مسعود وزيد بن ثابت وعبد ال بن‬
‫عباس قد أصبحوا ف أحضان النب المي صلى ال عليه وسلم من علماء العال يتفجر العلم من‬
‫جوانبهم وتنطق الكمة على لسانم ‪ ،‬أبّر الناس قلوبا وأعمقهم علما وأقلهم تكلفا ‪،‬‬
‫يتكلمون فينصت الزمن ويطبون فيسجل قلم التاريخ ‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫كتلة بشرية متزنة ‪:‬‬
‫ث ل يلبث العال التمدن أن يرى من هذه الواد الام البعثرة الت استهانت بقيمتها‬
‫المم العاصرة وسخرت منها البلد الجاورة ‪ ،‬ل يلبث أن يرى منها كتلة ل يشاهد التاريخ‬
‫البشري أحسن منها اتزانا ‪ ،‬كأنا حلقة مفرغة ل يعرف طرفها أو كالطر ل يُدرى أأوله خي‬
‫أم آخره كتلة فيها الكفاية التامة ف كل ناحية من نواحي النسانية ‪ ،‬كتلة هي ف غن عن‬
‫العال ‪ ،‬وليس العال ف غن عنها ‪ ،‬وضعت مدنيتها وأسست حكومتها وليس لا عهد با ‪ ،‬ل‬
‫تضطر إل أن تستعي رجلً من أمة أو تستعي ف إدارتا بكومة ‪ ،‬أسست حكومة تد رواقها‬
‫على رقعة متسعة من قارتي عظيمتي ‪ ،‬وملت كل ثغر وسدت كل عوز برجل يمع بي‬
‫الكفاية والديانة والقوة والمانة ‪ ،‬تأسست هذه الكومة التشعبة الطراف فأندتا هذه المة‬
‫الوليدة الت ل يض عليها إل بعض العقود –كله جهاد ودفاع ومقاومة وكفاح – برجل من‬
‫الرجال الكفاء ‪ ،‬فكان منها المي العادل والازن المي والقاضي القسط ‪ ،‬والقائد العابد‬
‫والوال التورع والندي التقي ‪ ،‬وكانت بفضل التربية الدينية الت ل تزال مستمرة ‪ ،‬وبفضل‬
‫الدعوة السلمية الت ل تزال سائرة ‪ ،‬مادة ل تنقطع ومعينا ل ينضب ‪ ،‬ل تزال تسند‬
‫الكومة برجال يرجحون جانب الداية على الباية‪ ،‬ول يزالون يمعون بي الصلح والكفاية‬
‫‪ ،‬وهنا ظهرت الدنية السلمية بظهرها الصحيح ‪ ،‬وتلت الياة الدينية بصائصها الت ل‬
‫تتوفر لعهد من عهود التاريخ البشري ‪.‬‬
‫لقد وضع ممد صلى ال عليه وسلم مفتاح النبوة على قفل الطبيعة البشرية فانفتح على‬
‫ما فيها من كنوز وعجائب وقوى ومواهب ‪ ،‬أصاب الاهلية ف مقتلها أو صميمها ‪ ،‬فأصمى‬
‫رميته ‪ ،‬وأرغم العال العنيد بول ال على أن ينحو نوا جديدا ويفتتح عهدا سعيدا ‪ ،‬ذلك‬
‫هو العهد السلمي الذي ل يزال غرة ف جبي التاريخ ‪.‬‬

‫*************************************‬

‫‪94‬‬
‫الباب الثالث‬
‫العصر السلمي‬

‫الفصل الول‬
‫عهد القيادة السلمية‬
‫الئمة السلمون وخصائصهم ‪:‬‬
‫ظهر السلمون وتزعموا العال وعزلوا المم الريضة من زعامة النسانية الت استغلتها‬
‫وأساءت عملها ‪ ،‬وساروا بالنسانية سيا حثيثا متزنا عادلً ‪ ،‬وقد توفرت فيهم الصفات الت‬
‫تؤهلهم لقيادة المم ‪ ،‬وتضمن سعادتا وفلحها ف ظلهم وتت قيادتم ‪.‬‬
‫أولً ‪ :‬أنم أصحاب كتاب منل وشريعة إلية ‪ ،‬فل يقننون ول يشترعون من عند‬
‫أنفسهم ‪ ،‬لن ذلك منبع الهل والطأ والظلم ‪ ،‬ول يبطون ف سلوكهم وسياستهم‬
‫ومعاملتهم للناس خبط عشواء ‪ ،‬قد جعل ال لم نورا مشون به ف الناس ‪ ،‬وجعل لم شريعة‬
‫يكمون با بي الناس {َأوَ مَن كَانَ مَيْتا فَأَحْيَيْنَاهُ َوجَعَلْنَا لَهُ نُورا َي ْمشِي ِب ِه فِي النّاسِ َكمَن‬
‫مّثَلُ ُه فِي الظُّلمَاتِ لَيْسَ ِبخَا ِرجٍ مّْنهَا } وقد قال ال تعال ‪{ :‬يَا أَّيهَا اّلذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ َقوّامِيَ‬
‫سطِ َولَ َيجْرِمَنّ ُكمْ شَنَآ ُن َقوْمٍ َعلَى َألّ تَ ْع ِدلُواْ اعْ ِدلُواْ ُهوَ َأقْ َربُ لِلتّ ْقوَى وَاتّقُواْ‬
‫لِلّهِ ُش َهدَاء بِالْقِ ْ‬
‫الّلهَ إِنّ اللّهَ خَِبيٌ ِبمَا تَ ْعمَلُونَ } ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬أنم ل يتولوا الكم والقيادة بغي تربية خلقية وتزكية نفس ‪ ،‬بلف غالب‬
‫المم والفراد ورجال الكومة ف الاضي والاضر ‪ ،‬بل مكثوا زمنا طويلً تت تربية ممد‬
‫صلى ال عليه وسلم وإشرافه الدقيق يزكيهم ويؤدبم ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف‬
‫والمانة واليثار على النفس وخشية ال وعدم الستشراف للمارة والرص عليها ‪ .‬يقول ‪:‬‬
‫((إنا وال ل نُول هذا العمل أحدا سأله ‪ ،‬أو أحدا حرص عليه‪ ،)) )(171‬ول يزال يقرع‬
‫ك الدّارُ الْآخِرَةُ َنجْعَُلهَا لِّلذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُُلوّا فِي الَْأرْضِ َولَا فَسَادا وَالْعَاقِبَةُ‬
‫سعهم ‪{ :‬تِلْ َ‬

‫(‪ (171‬حديث متفق عليه ‪.‬‬


‫‪95‬‬
‫لِ ْلمُتّقِيَ } فكانوا ل يتهافتون على الوظائف والناصب تافت الفراش على الضوء ‪ ،‬بل كانوا‬
‫يتدافعون ف قبولا ويتحرجون من تقلدها ‪ ،‬فضلً عن أن يرشحوا أنفسهم للمارة ويزكوا‬
‫أنفسهم وينشروا دعاية لا وينفقوا الموال سعيا وراءها ‪ ،‬فإذا تولوا شيئا من أمور الناس ل‬
‫يعدوه مغنما أو طعمة أو ثنا لا أنفقوا من مال أو جهد ‪ ،‬بل عدوه أمانة ف عنقهم وامتحانا‬
‫من ال ‪ ،‬ويعلمون أنم موقوفون عند ربم ومسئولون عن الدقيق والليل ‪ ،‬وتذكروا دائما‬
‫قول ال تعال ‪:‬‬
‫{إِنّ اللّهَ يَأْمُ ُركُمْ أَن تُؤدّوْا الَمَانَاتِ ِإلَى أَ ْهِلهَا وَإِذَا حَ َكمْتُم بَيْ َن النّاسِ أَن َتحْ ُكمُواْ‬
‫بِالْعَدْلِ } وقوله ‪َ { :‬و ُهوَ اّلذِي جَ َعلَ ُكمْ خَلَِئفَ ا َل ْرضِ َو َرفَعَ بَ ْعضَ ُكمْ َفوْقَ بَعْضٍ َدرَجَاتٍ‬
‫لّيَبُْلوَ ُك ْم فِي مَا آتَاكُمْ }‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬أنم ل يكونوا خدمة جنس ‪ ،‬ورسل شعب أو وطن ‪ ،‬يسعون لرفاهيته‬
‫ومصلحته وحده ويؤمنون بفضله وشرفه على جيع الشعوب والوطان ‪ ،‬ل يلقوا إل ليكونوا‬
‫حكاما ‪ ،‬ول تلق إل لتكون مكومة لم ‪ ،‬ول يرجوا ليؤسسوا إمباطورية عربية ينعمون‬
‫ويرتعون ف ظلها ويشمخون ويتكبون تت حايتها ‪ ،‬ويرجون الناس من حكم الروم‬
‫والفرس إل حكم العرب وإل حكم أنفسهم ‪ .‬إنا قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جيعا‬
‫وإل عبادة ال وحده ‪ ،‬كما قال ربعي بن عامر رسول السلمي ف ملس يزدجرد ‪ (( :‬ال‬
‫ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إل عبادة ال وحده ‪،‬ومن ضيق الدنيا إل سعتها ‪ ،‬ومن‬
‫جور الديان إل عدل السلم‪ )) )(172‬فالمم عندهم سواء والناس عندهم سواء ‪ ،‬الناس‬
‫كلهم من آدم ‪ ،‬وآدم من تراب ‪ ،‬ل فضل لعرب على عجمي ول لعجمي على عرب إل‬
‫بالتقوى ‪{ :‬يَا أَّيهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن َذكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَا ُكمْ شُعُوبا َوقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ‬
‫َأكْرَمَ ُكمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَِبيٌ‪. } )(173‬‬
‫وقد قال عمر بن الطاب لعمرو بن العاص عامل مصر‪ -‬وقد ضرب ابنه مصريا ‪،‬‬
‫وافتخر بآبائه قائلً ‪ :‬خذها من ابن الكرمي ‪ ،‬فاقتص منه عمر‪ : -‬مت استعبدت الناس وقد‬

‫(‪(172‬‬
‫البداية والنهاية لبن كثير ‪.‬‬
‫(‪(173‬‬
‫من خطبة النبي صلى ال عليه وسلم في حجة الوداع ‪.‬‬
‫‪96‬‬
‫ولدتم أمهاتم أحرارا ‪ .)(174‬فلم يبخل هؤلء با عندهم من دين وعلم وتذيب على أحد ‪،‬‬
‫ول يراعوا ف الكم والمارة والفضل نسبا ولونا ووطنا ‪ ،‬بل كانوا سحابة انتظمت البلد‬
‫وعمت العباد ‪ ،‬وغوادي مزنة أثن عليها السهل والوعر وانتفعت با البلد والعباد على قدر‬
‫قبولا وصلحها‪. )(175‬‬
‫ف ظل هؤلء وتت حكمهم استطاعت المم والشعوب – حت الضطهدة منها ف‬
‫القدي‪ -‬أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والكومة ‪ ،‬أن تساهم العرب ف بناء‬
‫العال الديد بل إن كثيا من أفرادها فاقوا العرب ف بعض الفضائل ‪ ،‬وكان منهم أئمة هم‬
‫تيجان مفارق العرب وسادة السلمي من الئمة والفقهاء والحدثي ‪ ،‬حت قال ابن خلدون ‪:‬‬
‫(( من الغريب الواقع أن حلة العلم ف اللة السلمية أكثرهم العجم ‪ ،‬ل من العلوم الشرعية‬
‫ول من العلوم العقلية‪ ، )(176‬إل ف القليل النادر ‪ ،‬وإن كان منهم العرب ف نسبته ‪ ،‬فهو‬
‫عجمي ف لغته ‪ ،‬ومرباه ومشيخته ‪ ،‬مع أن اللة عربية ‪ ،‬وصاحب شريعتها عرب ‪. )))(177‬‬
‫ونبغ من هذه المم ف عصور السلم قادة وملوك ووزراء وفضلء ‪ ،‬هم نوم الرض ونباء‬
‫النسانية ‪ ،‬وحسنات العال ‪ ،‬فضيلة ومروءة وعبقرية ودينا وعملً ‪ ،‬ل يصيهم إل ال ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬أن النسان جسم وروح ‪ ،‬وهو قلب وعقل وعواطف وجوارح ‪ ،‬ل يسعد ول‬
‫يفلح ول يرقى رُقيا متزنا عادلً حت تنمو فيه هذه القوى كلها نوا متناسبا لئقا با ‪،‬‬
‫ويتغذى غذاء صالا ‪ ،‬ول يكن أن توجد الدنية الصالة البتة إل إذا ساد وسط دين خلقي‬
‫عقلي جسدي يكن فيه للنسان بسهولة أن يبلغ كماله النسان ‪ ،‬وقد أثبتت التجربة أنه ل‬
‫يكون ذلك إل إذا كانت قيادة الياة وإدارة دفة الدنية بيد الذين يؤمنون بالروح والادة ‪،‬‬
‫ويكونون أمثلة كاملة ف الياة الدينية واللقية ‪ ،‬وأصحاب عقول سليمة راجحة ‪ ،‬وعلوم‬
‫صحيحة نافعة ‪ ،‬فإذا كان فيهم نقص ف عقيدتم أو ف تربيتهم عاد ذلك النقص ف مدنيتهم ‪،‬‬

‫(‪ (174‬القصة بتمامها في تاريخ عمر بن الخطاب لبن الجوزي ‪.‬‬


‫(‪ (175‬عن أبي موسى عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ‪ (( :‬مثل ما بعثني ال به من الهدى والعلم كمثل الغيث أصاب أرضاً فكان‬
‫منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكل والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع ال بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا‬
‫وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان ل تمسك ماء ول تنبت كل ‪ ،‬فذلك مثل من فقه في دين ال ونفعه ما بعثني ال به فعلم‬
‫وعلم ‪ ،‬ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى ال الذي أرسلت به (( ‪ .‬رواه البخاري في الجامع الصحيح ‪ ،‬كتاب العلم ‪.‬‬
‫(‪ (176‬يعني سواء في ذلك العلوم الشرعية والعلوم العقلية ‪.‬‬
‫(‪ (177‬المقدمة ص ‪. 499‬‬
‫‪97‬‬
‫وتضخم وظهر ف مظاهر كثية ‪ ،‬وف أشكال متنوعة ‪ ،‬فإذا تغلبت جاعة ل تعبد إل الادة‬
‫وما إليها من لذة ومنفعة مسوسة ‪ ،‬ول تؤمن إل بذه الياة ‪ ،‬ول تؤمن با وراء الس أثرت‬
‫طبيعتها ومبادئها وميولا ف وضع الدنية وشكلها ‪ ،‬وطبعتها بطابعها ‪ ،‬وصاغتها ف قالبها ‪،‬‬
‫فكملت نواح للنسانية واختلت نواح أُخرى أهم منها ‪ .‬عاشت هذه الدنية وازدهرت ف‬
‫الصّ والجر ‪ ،‬وف الورق والقماش ‪ ،‬وف الديد والرصاص ‪ ،‬وأخصبت ف ميادين الروب‬
‫وساحات القتال ‪ ،‬وأوساط الحاكم ومالس اللهو ومامع الفجور ‪ ،‬وماتت وأجدبت ف‬
‫القلوب والرواح وف علقة الرأة بزوجها ‪ ،‬والولد بوالده والوالد بولده ‪ ،‬والخ بأخيه‬
‫والرجل بصديقه ‪ ،‬وأصبحت الدنية كجسم ضخم متورم يل العي مهابة ورواء ‪ ،‬ويشكو ف‬
‫قلبه آلما وأوجاعا ‪ ،‬وف صحته انرافا واضطرابا ‪.‬‬
‫وإذا تغلبت جاعة تحد الادة أو تمل ناحيتها ول تتم إل بالروح وما وراء الس‬
‫والطبيعة ‪ ،‬وتعادي هذه الياة وتعاندها ‪ ،‬ذبلت زهرة الدنية وهزلت القوى النسانية وبدأ‬
‫الناس‪ -‬بتأثي هذه القيادة – يؤثرون الفرار إل الصحارى واللوات على الدن ‪ ،‬والعزوبة‬
‫على الياة الزوجية ‪ ،‬ويعذبون الجسام حت يضعف سلطانا فتتطهر الروح ويؤثرون الوت‬
‫على الياة ‪ ،‬لينتقلوا من ملكة الادة إل إقليم الروح ويستوفوا كمالم هنالك ‪ ،‬لن الكمال‬
‫ف عقيدتم ل يصل ف العال الادي ‪ ،‬ونتيجة ذلك أن تتضر الضارة وترب الدن ويتل‬
‫نظام الياة ولا كان هذا مضادا للفطرة ل تلبث أن تثور عليه ‪ ،‬وتنتقم منه بادية حيوانية ليس‬
‫فيها تسامح لروحانية وأخلق ‪ ،‬وهكذا تنتكس النسانية وتلفها البهيمية والسبعية النسانية‬
‫المسوخة ‪ ،‬أو تجم على هذه الماعة الراهبة جاعة مادية قوية فتعجز عن القاومة لضعفها‬
‫الطبعي ‪ ،‬وتستسلم وتضع لا ‪ ،‬أو تسبق هي‪ -‬با يعتريها من الصعوبات ف معالة أمور‬
‫الدنيا‪ -‬فتمد يد الستعانة إل الادية ورجالا وتسند إليهم أمور السياسة وتكتفي هي‬
‫بالعبادات والتقاليد الدينية ‪ ،‬ويدث فصل بي الدين والسياسة فتضمحل الروحانية والخلق‬
‫ويتقلص ظلها وتفقد سلطانا على الجتمع البشري والياة العملية حت تصي شبحا وخيالً أو‬
‫نظرية علمية ل تأثي لا ف الياة وتؤول الياة مادية مضة وقلما خلت جاعة من الماعات‬

‫‪98‬‬
‫الت تولت قيادة بن جنسها من هذا النقص ‪ ،‬لذلك ل تزل الدنية متأرجحة بي مادية بيمية‬
‫وروحانية ورهبانية ول تزل ف اضطراب ‪.‬‬
‫يتاز أصحاب النب صلى ال عليه وسلم بأنم كانوا جامعي بي الديانة والخلق‬
‫والقوة والسياسة ‪ ،‬وكانت تتمثل فيهم النسانية بميع نواحيها وشعبها وماسنها التفرقة ف‬
‫قادة العال ‪ ،‬وكان يكن لم – بفضل تربيتهم اللقية والروحية السامية واعتدالم الغريب‬
‫الذي قلما اتفق للنسان ‪ ،‬وجعهم بي مصال الروح والبدن واستعدادهم الادي الكامل‬
‫وعقلهم الواسع – أن يسيوا بالمم النسانية إل غايتها الثلى الروحية واللقية والادية ‪.‬‬

‫دور اللفة الراشدة مثل الدنية الصالة ‪:‬‬


‫وكذلك كان ‪ ،‬فلم نعرف دورا من أدوار التاريخ أكمل وأجل وأزهر ف جيع هذه‬
‫النواحي من هذا الدور ‪ ،‬دور اللفة الراشدة فقد تعاونت فيه قوة الروح والخلق والدين‬
‫والعلم والدوات الادية ف تنشئة النسان الكامل ‪ ,‬وف ظهور الدنية الصالة ‪ .‬كانت حكومة‬
‫من أكب حكومات العال ‪ ،‬وقوة سياسة مادية تفوق كل قوة ف عصرها ‪ .‬تسود فيها الثل‬
‫اللقية العليا وتكم معايي الخلق الفاضلة ف حياة الناس ونظام الكم ‪ .‬وتزدهر فيها‬
‫الخلق والفضيلة مع التجارة و الصناعة ‪.‬ويساير الرقي اللقي والروحي اتساع الفتوح‬
‫واحتفال الضارة فتقل النايات وتندر الرائم بالنسبة إل مساحة الملكة وعدد سكانا‬
‫ورغم دواعيها وأسبابا ‪.‬وتسن علقة الفرد بالفرد والفرد بالماعة وعلقة الماعة بالفرد‪.‬‬
‫وهو دور كمال ل يلم النسان بأرقى منه ول يفترض الفترضون أزهى منه ‪.‬ول يكن إل‬
‫بسية الرجال الذين يتولون الكم ويشرفون على الدنية وبعقيدتم وتربيتهم وخطتهم ف‬
‫الكم وسياستهم ‪ ،‬فكانوا أصحاب دين وأخلق عالية أينما كانوا ‪ ،‬كانوا أعفة أمناء‬
‫خاشعي متواضعي ‪ ،‬حكاما كانوا أو رعايا أو شرطة أو جنودا ‪ .‬يصف شيخ من عظماء‬
‫الروم جنود السلمي فيقول ‪ :‬إنم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون‬
‫بالعروف وينهون عن النكر ويتناصفون بينهم‪ . )(178‬وقال الخر ‪(( :‬هم فرسان بالنهار‬

‫(‪(178‬‬
‫رواه أحمد بن مروان المالكي في المجالسة ‪.‬‬
‫‪99‬‬
‫رهبان بالليل ‪ ،‬ل يأكلون ف ذمتهم إل بثمن ‪ ،‬ول يدخلون إل بسلم ‪ ،‬يقضون على من‬
‫حاربوا حت يأتوا عليه‪ .)) )(179‬ويقول الثالث ‪ (( :‬أما الليل فرهبان وأما النهار ففرسان ‪،‬‬
‫يريشون النبل ويبونا ويثقفون القنا ‪ ،‬لو حدثت جليسك حديثا ما فهمه عنك لا عل من‬
‫أصواتم بالقرآن والذكر‪ .)) )(180‬ويغنم الند ف الدائن تاج كسرى وبساطه وهو يساوي‬
‫مئات اللوف من الدناني فل تعبث به يد ول تشح عليه نفس ‪ ،‬ث يسلمونه إل المي ويرسله‬
‫المي إل خليفة السلمي فيتعجب ويقول ‪ :‬إن الذين أدوا هذا لمناء‪. )(181‬‬

‫تأثي المامة السلمية ف الياة العامة ‪:‬‬


‫إن هذا الرعيل من أتباع ممد صلى ال عليه وسلم كان خليقا بأن يسعد النوع‬
‫النسان ف ظله وتت حكمه ‪،‬وأن يسي بقيادته سديد الطى رشيد الغاية مستقيم السي ‪،‬‬
‫وأن يعمر ويطمئن العال ف دوره وتصب الرض وتأخذ زخرفها ‪ ،‬فإنم كانوا خي القائمي‬
‫على مصالها حارسي لا‪ ،‬ول ينظرون إل هذه الياة كقفص من حديد أو غُلّ ف عنق‬
‫فيعادونه ويكسرونه‪ ،‬ول ينظرون إليها كفرصه من لو ونعيم ومتعة ل تعود أبدا فينتهزونا و‬
‫يهتبلونا‪ ،‬ول يضيعون منها ساعة ول يدخرون من طيباتا ‪ ،‬وكذلك ل يعدونا عذابا وعقوبة‬
‫برية فيتخلصون منها ول ينظرون إل الدنيا كمائدة مدودة فيتهالكون عليها ‪ ،‬إل ما ف‬
‫الرض من نعماء وخزائن وخيات كأنا مال سائب يتقاتلون عليه ‪ ،‬وإل المم الضعيفة‬
‫كفريسة يتسابقون ف اقتناصها ‪ ،‬بل يعدون هذه الياة نعمة من ال هي أصل كل خي وسبب‬
‫كل بر ‪ ،‬يتقربون فيها إل ال ويصلون إل كمالم النسان الذي قدر لم ‪ ،‬وفرصة من عمل‬
‫وجهاد ل فرصة بعدها ‪{ :‬الّذِي خََل َق الْ َموْتَ وَاْلحَيَاةَ لِيَبُْل َو ُكمْ أَيّ ُكمْ أَ ْحسَنُ َعمَلً } {إِنّا‬
‫ض زِينَةً ّلهَا لِنَبُْلوَ ُهمْ أَّي ُهمْ َأ ْحسَنُ َعمَلً }‪.‬ويعيدون هذا العال ملكة ل‬ ‫جَعَلْنَا مَا عَلَى الَْأرْ ِ‬
‫استحلفهم فيها ‪-‬أولً‪ -‬من حيث أصل النسان الذي جعله خليفة ف الرض { إِنّي جَا ِعلٌ‬
‫فِي ا َلرْضِ َخلِيفَةً} { ُهوَ اّلذِي َخلَقَ لَكُم مّا فِي ا َلرْضِ َجمِيعا} { َولَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ‬

‫(‪(179‬‬
‫البداية والنهاية ج ‪ 7‬ص ‪. 53‬‬
‫(‪(180‬‬
‫البداية والنهاية ج ‪ 7‬ص ‪.16‬‬
‫(‪(181‬‬
‫سيرة عمر بن الخطاب لبن الجوزي ‪.‬‬
‫‪100‬‬
‫وَ َحمَلْنَا ُه ْم فِي الْبَرّ وَالَْبحْرِ َورَ َزقْنَاهُم مّنَ الطّيّبَاتِ َوَفضّلْنَا ُهمْ َعلَى كَِثيٍ ّممّنْ خَلَقْنَا تَ ْفضِيلً} ‪.‬‬
‫و‪-‬ثانيا‪ -‬من حيث إنه إنسان أسلم لمر ال وانقاد لكمه فاستخلفه ف الرض واسترعاه‬
‫أهلها {وَ َعدَ اللّ ُه اّلذِينَ آمَنُوا مِن ُكمْ وَ َعمِلُوا الصّاِلحَاتِ لََيسَْتخْلِفَّنهُم فِي الَْأ ْرضِ َكمَا اسَْتخْلَفَ‬
‫اّلذِينَ مِن قَبِْل ِهمْ َولَيُمَكّنَنّ َل ُهمْ دِيَنهُ ُم الّذِي ارَْتضَى َلهُمْ َولَيُبَ ّدلَّنهُم مّن بَ ْعدِ َخ ْوِفهِمْ أَمْنا‬
‫يَعُْبدُونَنِي لَا ُيشْ ِركُونَ بِي شَيْئا}‪.‬ومنحهم حق التمتع بيات الرض من غي إسراف وتبذير‬
‫حبّ اْلمُسْ ِرفِيَ }‬ ‫{ َخلَقَ لَكُم مّا فِي ا َلرْضِ َجمِيعا} ‪{،‬وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَ ُتسْ ِرفُواْ إِنّهُ لَ ُي ِ‬
‫ق قُلْ هِي لِّلذِينَ آمَنُواْ فِي اْلحَيَاةِ‬ ‫{قُلْ مَنْ حَرّ َم زِينَةَ اللّ ِه الّتِيَ أَ ْخ َرجَ لِعِبَادِهِ وَالْطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْ ِ‬
‫الدّنْيَا خَاِلصَةً َيوْمَ الْقِيَامَةِ } ‪،‬وجعل لم الولية على أمم الرض وجاعات البشر يراقبون‬
‫سيها وسيتا وأخلقها ورغباتا ‪ ،‬فيشدون الضال ويردون الغاوي ويصلحون الفاسد‬
‫ويقيمون الود ‪ ،‬ويرأبون الصدع ويأخذون للضعيف من القوي‪ ،‬وينتصفون للمظلوم من‬
‫الظال ‪ ،‬ويقومون ف الرض القسط ويبسطون على العال جناح المن {كُنُتمْ خَيْرَ أُمّةٍ‬
‫ُأخْرِ َجتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِاْلمَعْرُوفِ وَتَْن َهوْنَ َع ِن الْمُنكَرِ وَُتؤْمِنُونَ بِالّلهِ } ‪{ ،‬يَا أَّيهَا اّلذِينَ آمَنُواْ‬
‫سطِ ُش َهدَاء لِّلهِ } ‪.‬‬ ‫كُونُواْ قَوّامِيَ بِالْقِ ْ‬
‫وقد وصف عال ألان مسلم وصفا دقيقا ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫(( إن السلم ل ينظر‪ -‬كالنصرانية – إل العال بنظار أسود ‪ ،‬بل هو يعلمنا أن ل‬
‫نسرف ف تقدير الياة الرضية ‪ ،‬وأن ل نغال ف قيمتها مغالة الضارة الغربية الاضرة ‪.‬إن‬
‫السحية تذم الياة الرضية وتكرهها‪ ،‬والغرب الاضر‪-‬خلف الروح النصران – يهتم بالياة‬
‫كما يهتم النهم بطعامه ‪ ،‬هو يبتلعه ولكن ليس عنده كرامة له ‪ ،‬والسلم بالعكس ينظر إل‬
‫الياة بسكينه واحترام ‪ ،‬هو ل يبعد الياة بل يعدها كمرحلة نتازها ف طريقنا إل حياة‬
‫عليا ‪ ،‬وبا أنا مرحلة ومرحلة لبد منها ليس للنسان أن يتقرها أو يقلل من قيمة حياته‬
‫الرضية ‪.‬إن مرورنا بذا العال ف سفر الياة لبد منه ‪ ،‬وقد سبق به تقدير ال ‪ ،‬فالياة‬
‫النسانية لا قيمتها الكبى ‪ ،‬ولكن ل ينبغي لنا أن ننسى أنا ليست إل واسطة وآلة وليست‬
‫قيمتها إل قيمة الوسائط واللت ‪ ،‬السلم ل يسمح بالنظرية الادية القائلة (( إن ملكت‬
‫ليست إل هذا العال)) ول بالنظرية السيحية الت تزدري الياة وتقول (( ليس هذا العال‬
‫‪101‬‬
‫ملكت )) وطريق السلم طريق وسط بينهما ‪ ،‬القرآن يرشدنا أن ندعو‪ { :‬رَبّنَا آتِنَا فِي الدّنْيَا‬
‫َحسَنَةً َوفِي ال ِخرَةِ َحسَنَةً } فالتقدير لذا العال وأشيائه ليس حجر عثرة ف سبيل جهودنا‬
‫الروحية الصبة ‪ ،‬والرقي الادي مرغوب فيه مع أنه ليس غاية ف نفسه ‪ .‬إن غاية جهودنا‬
‫ينبغي أن تكون إياد أحوال وظروف شخصية واجتماعية – والحافظة عليها إن وجدت –‬
‫تساعد ف ارتقاء القوة اللقية ف النسان ‪ ،‬مطابقة لذا البدأ ‪ .‬السلم يهدي الناس إل‬
‫الشعور بالسئولية اللقية ف كل عمل يعمله كبيا كان أو صغيا إن نظام السلم الدين ل‬
‫يسمح أبدا بثل ما أمر به النيل قائلً " أعطوا ما لقيصر لقيصر وأعطوا ما ل ل " ‪ ،‬لن‬
‫السلم ل يسمح بتقسيم حاجات حياتنا إل خلقية وعملية ‪ ،‬ليس هناك إل خية فقط ‪،‬‬
‫خية بي الق والباطل ‪ ،‬وليس شيء وسطا بينهما ‪ ،‬لذلك هو يلح على العمل لنه جزء لزم‬
‫للخلق ل غن عنه ‪ ،‬ينبغي لكل فرد مسلم أن يعيد نفسه مسئولً شخصيا عن الحيط الذي‬
‫ييط به وكل ما يقع حوله ‪ ،‬ومأمورا بالهاد لقامة الق ومق الباطل ف كل وقت وف كل‬
‫جهة ‪ ،‬فإن القرآن يقول {كُنُتمْ خَْيرَ أُمّةٍ أُخْ ِر َجتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِاْلمَعْرُوفِ وَتَْنهَوْنَ َعنِ‬
‫اْلمُنكَرِ وَُتؤْمِنُونَ بِاللّهِ } ‪ ،‬هذا هو البر اللقي للحركة السلمي الهادية والفتوح السلمية‬
‫الول والستعمار السلمي ‪ ،‬فالسلم استعماري إن كان ل بد من هذا التعبي ‪ ،‬ولكن هذا‬
‫النوع من الستعمار ليس مدفوعا بب الكومة والستيلء ‪ ،‬وليس من الثرة القتصادية‬
‫للقومية ف شيء ‪ ،‬ول يكن يفز الجاهدين الولي إل الهاد طمع ف خفض من العيش‬
‫ورخائه على حساب الناس الخرين ‪ ،‬ول يقصد منه إل بناء إطار عالي لحسن ما يكن‬
‫للنسان من ارتقاء روحي ‪ ،‬كما أن العلم بالفضيلة حسب تعليم السلم يفرض على النسان‬
‫تبعة العمل بالفضائل ‪ .‬السلم ل يوافق أبدا على الفصل الفلطون والتفريق النظري البحت‬
‫بي الفضيلة والرذيلة ‪ ،‬بل يرى أنه من الوقاحة والرذيلة أن ييز النسان نظريا بي الق‬
‫والباطل ‪ ،‬ول ياهد لرتقاء الق وإزاحة الباطل ‪ ،‬فإن الفضيلة‪ -‬كما يقول السلم‪ -‬تيا إذا‬
‫جاهد النسان لبسط سلطانا على الرض وتوت إذا خذلا وتقاعد عن نصرتا ‪.)))(182‬‬

‫(‪(182‬‬
‫‪. Mohammad Asad "Leopold Weiss " , Islam At The Cross Roads Fifth Edition p . 29‬‬
‫‪102‬‬
‫الدنية السلمية وتأثيها ف التاه البشري ‪:‬‬
‫كان ظهور الدنية السلمية بروحها ومظاهرها وقيام الدولة السلمية بشكلها‬
‫ونظامها ف القرن الول لجرة ممد صلى ال عليه وسلم فصلً جديدا ف تاريخ الديان‬
‫والخلق ‪ ،‬وظاهرة جديدة ف عال السياسة والجتماع ‪ ،‬انقلب به تيار الدنية ‪ ،‬واتهت به‬
‫الدنيا اتاها جديدا ‪ ،‬فكانت الدعوة السلمية ل يزل يأت با النبياء ويبشر با البشرون‬
‫وياهد ف سبيلها الخلصون ‪ ،‬ولكن ل يكن يتمكن دعاتا من إقامة حكومة قائمة على‬
‫أساسها ومناهجها متشبعة ببادئها ‪ ،‬ومن إقامة مدنية مطبوعة بطابعها مبنية على أحكامها مثل‬
‫ما تكنوا ف هذه الرة ‪ ،‬ول تنل هذه الدعوة والهود من النجاح ف هذا السبيل مثل ما نالت‬
‫أخيا على يد ممد صلى ال عليه وسلم وخلفائه الراشدين ‪ ،‬فكان هذا الفتح البي للسلم‬
‫منة جديدة للجاهلية ل تعهدها من قبل ‪ ،‬ول تعرف كيف ترج منها ‪ ،‬عهدها با دعوة دينية‬
‫روحية فإذا هي تصبح ناة وسعادة وروحا ومادة وحياة وقوة ومدنية واجتماعا وحكومة‬
‫وسياسة ‪ .‬دين سائغ معقول كله حكمة وبداهة إزاء أوهام وخرافات وأساطي ‪ ،‬وشرع إلي‬
‫ووحي ساوي إزاء أقيسة وتارب إنسانية وتشريع بشري ‪ ،‬ومدنية فاضلة قوية البنيان مكمة‬
‫الساس ‪ ،‬يسود فيها روح التقوى والعفاف والمانة ‪ ،‬وتقدر فيها الخلق الفاضلة فوق الال‬
‫والاه ‪ ،‬والروح فوق الظاهر الوفاء ‪ ،‬يتساوى الناس فل يتفاضلون إل بالتقوى ‪ ،‬ويهتم‬
‫الناس بالخرة فتصبح النفوس مطمئنة والقلوب خاشعة ‪ ،‬ويقل التنافس ف أسباب هذه الياة‬
‫والتكالب على حطام الدنيا ‪ ،‬ويقل التباغض والتشاحن ‪ ،‬كل ذلك إزاء مدنية صاخبة‬
‫مضطربة متناحرة متداعية البنيان متزلزلة الركان ‪ ،‬يظلم الكبي فيها الصغي‪ ،‬ويأكل القوي‬
‫فيها الضعيف ‪ ،‬ويتسابقون ف اللهو والفجور ‪ ،‬يتنافسون ف الاه والموال وأسباب الترف‬
‫والنعيم ‪ ،‬حت تصبح الدنيا كلها حربا ف حرب وتصبح الدنية جحيما على أهلها ‪،‬‬
‫ب الْأَكْبَرِ لَعَّل ُهمْ َيرْجِعُونَ } حكومة عادلة تساوي‬
‫ب الْأَدْنَى دُو َن الْعَذَا ِ‬
‫{ َولَنُذِيقَّنهُمْ مِنَ الْ َعذَا ِ‬
‫بي رعيتها وتأخذ للضعيف من القوي ‪ ،‬وترس للناس أخلقهم كما ترس لم بيوتم‬
‫وأموالم ‪ ،‬وتفظ عليهم دماءهم وأعراضهم ‪ ،‬خيارهم أمراؤهم ‪ ،‬وأزهدهم ف العيش أملكهم‬
‫لسبابه وأقدرهم عليه ‪ ،‬إزاء حكومة عم فيها الور والعسف ‪ ،‬وتواضع رجالا على اليانة‬
‫‪103‬‬
‫والظلم ‪ ،‬وتسابق أهلها ف أكل أموال الناس وهتك أعراضهم وسفك دمائهم ‪ ،‬وتفسد على‬
‫الناس أخلقهم با تضرب لم مثلً بأخلقها ‪ ،‬شرارهم أُمراؤهم وملوكهم ‪ ،‬تشبع دوابم‬
‫وكلبم وتوع رعيتهم ‪ ،‬وتكسى بيوتم ويعرى الناس ‪.‬‬
‫فأصبح الناس ل يدون عائقا عن السلم ‪ ،‬ول يواجهون صعوبة وعنتا ف سبيل قبول‬
‫السلم ول يرون للجاهلية مرجحا ومصلحة ‪ ،‬ويدخل الرجل ف السلم فل يسر شيئا ول‬
‫يفقد شيئا ويد برد اليقي وحلوة اليان وعزة السلم ودولة قوية يعتز با وأنصارا يفدونه‬
‫بأرواحهم وأنفسهم ‪ ،‬ونفسا مطمئنة وثقة ف الياة بعد الوت ‪ ،‬فصار الناس ينتقلون من‬
‫معسكر الاهلية إل معسكر السلم باختيارهم ‪ ،‬وصارت أرض الاهلية تنتقص من أطرافها‬
‫وكلمة السلم تعلو وظله يتد ‪ ،‬حت ارتفعت الفتنة وكان الدين ل ‪.‬‬
‫وكان تأثي هذا النقلب عظيما جليلً ‪ ،‬فكان الطريق إل ال من قبل ف دولة الاهلية‬
‫وغربة السلم شاقا عسيا مفوفا بالخطار ‪ ،‬فأصبح الن سهلً يسيا آمنا مسلوكا ‪ ،‬وكان‬
‫يصعب على النسان ف الوسط الاهلي أن يطيع ال ‪ ،‬فصعب عليه ف الوسط السلمي أن‬
‫يعصي ال ‪ ،‬وكانت الدعوة إل النار بالمس ظاهرة منصورة فأصبحت اليوم خافتة مذولة ‪،‬‬
‫وكانت أسباب سخط ال وعصيانه مكشوفة موفورة فعادت نادرة مستورة ‪ ،‬وكانت الدعوة‬
‫إل ال ف أرض ال جرية قد ترتكب سرا وخفية ‪ ،‬فأصبحت جهرا وعلنية وحرة آمنة ل‬
‫تلقى معارضة ذات بال ‪ ،‬ول ياف أصحابا اضطهادا ف سبيل العقيدة وأذى ف سبيل الدين‬
‫س فَآوَا ُكمْ وَأَّي َدكُم بَِنصْ ِرهِ َورَ َزقَكُم مّنَ الطّيّبَاتِ }‬
‫الديد ‪َ { :‬تخَافُونَ أَن يََتخَطّفَ ُكمُ النّا ُ‬
‫وأصبح أصحابا يأمرون بالعروف وينهون عن النكر ‪ ،‬يأمرون وينهون بعن الكلمة ‪.‬‬
‫صارت طباع الناس وعقولم تتغي وتتأثر بالسلم من حيث يشعرون ومن حيث ل‬
‫يشعرون ‪ ،‬كما تتأثر طبيعة النسان والنبات ف فصل الربيع ‪ ،‬وبدأت القلوب العاصية الافة‬
‫ترق وتشع وبدأت مبادئ السلم وحقائقه تتسرب إل أعماق النفوس وتغلغل ف الحشاء ‪،‬‬
‫وبدأت قيمة الشياء تتغي ف عيون الناس والوازين القدية تتحول وتلفها الوازين الديدة ‪،‬‬
‫وأصبحت الاهلية حركة رجعية كان من المود والغباوة الحافظة عليها ‪ ،‬وصار السلم‬
‫شيئا راقيا عصريا كان من الظرف والكياسة النتساب إليه والظهور بظاهره ‪ ،‬وكانت المم‬
‫‪104‬‬
‫بل كانت الرض تدنو رويدا رويدا إل السلم ‪ ،‬ول يشعر أهلها بسيهم كما ل يشعر أهل‬
‫الكرة الرضية بدورانم حول الشمس ‪ ،‬يظهر ذلك ف فلسفتهم وف دينهم وف أدبم وف‬
‫مدنيتهم ‪ ،‬وتشف عن ذلك بواطنهم وضمائرهم ‪ ،‬وتنم عنه الركة الصلحية الت ظهرت‬
‫فيهم حت بعد انطاط السلمي ‪.‬‬
‫جاء السلم بالتوحيد ونعى على الوثنية والشرك ‪ ،‬فهان الشرك منذ ذلك اليوم ف‬
‫عيون أهله وصغر ‪ ،‬وصار أهله يجلون منه ويتبؤون منه ول يقرون به ‪ ،‬بعدما كانوا‬
‫يتهدون ف إظهاره ويستميتون ف الدفاع عنه ‪ ،‬وأصبح أهل كل دين يؤولون ما ف نظامهم‬
‫الدين من شرك أو مظاهر شرك ووثنية ورسومها وتقاليدها ويلوون بذلك ألسنتهم ‪،‬‬
‫ويتهدون ف التعبي عنه وشرحه با يقرب إل التوحيد السلمي ويشبهه ‪.‬‬
‫يقول الستاذ أحد أمي ‪ (( :‬ظهر بي النصارى نزعات يظهر فيها أثر السلم ‪ .‬من‬
‫ذلك أنه ف القرن الثامن اليلدي أي ف القرني الثان والثالث الجريي ظهرت ف سبتمانيا (‬
‫‪ )SePtimania( (183‬حركة تدعو إل إنكار العتراف أمام القسس ‪ ،‬وأن ليس للقسس‬
‫حق ف ذلك ‪ ،‬وأن يضرع النسان إل ال وحده ف غفران ما ارتكب من إث ‪ ،‬والسلم ليس‬
‫له قسيسون ورهبان وأحبار ‪ ،‬فطبيعي أن ل يكون فيه اعتراف )) ‪.‬‬
‫وكذلك كانت حركة تدعو إل تطيم الصور والتماثيل الدينية (‪)Iconoclasts‬‬
‫ذلك أنه ف القرن الثامن والتاسع للميلد أو القرن الثالث والرابع الجري ‪ ،‬ظهر مذهب‬
‫نصران يرفض تقديس الصور والتماثيل ‪،‬فقد أصدر المباطور الرومان "ليو" الثالث أمرا سنة‬
‫‪ 726‬م يرم فيه تقديس الصور والتماثيل ‪ ،‬وأمرا آخر سنة ‪ 730‬م يعد التيان بذا وثنية ‪،‬‬
‫وكذلك كان قسطنطي الامس وليو الرابع ‪ ،‬على حي كان البابا جريوري الثان والثالث‬
‫وجرمانيوس بطريرك القسطنطينية والمباطورة إيرين من مؤيدي عبادة الصور ‪ ،‬وجرى بي‬
‫الطائفتي نزاع شديد ل مل لتفصيله ‪ ،‬وكل ما نريد أن نذكره أن بعض الؤرخي يذكرون‬
‫أن الدعوة إل نبذ الصور والتماثيل كانت متأثرة بالسلم ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬إن كلوديوس (‬
‫‪ )Claadius‬أسقف تورين (الذي عي سنة ‪ 828‬م وحول ‪213‬هـ)والذي كان‬

‫(‪(183‬‬
‫سبتمانيا مقاطعة فرنسية قديمة في الجنوب الغربي لفرنسا على البحر البيض المتوسط‬
‫‪105‬‬
‫يرق الصور والصلبان وينهى عن عبادتا ف أسقفيته ‪ ،‬ولد ورب ف الندلس السلمي ‪.‬‬
‫وكراهية السلم للتماثيل والصور معروفة ‪ ،‬روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي ال عنها‬
‫قالت ‪ :‬قدم رسول ال صلى ال عليه وسلم من سفر ‪ ،‬وقد سترت سهوة ل بقرام فيه تاثيل ‪،‬‬
‫فلما رآه هتكه ‪ ،‬وتلون وجهه ‪ ،‬وقال ‪ :‬يا عائشة أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون‬
‫بلق ال ‪.‬قالت ‪ :‬فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادت‪)(184‬ن )) والحاديث ف هذا الباب‬
‫مستفيضة ‪.‬‬
‫وكذلك وجدت طائفة من النصارى‪ )(185‬شرحت عقيدة التثليث با يقرب من‬
‫الوحدانية وأنكرت ألوهية السيح عليه السلم‪. )(186‬‬
‫ويكن لن يطالع تاريخ أوربا الدين وتاريخ الكنسية النصرانية أن يلتمس تأثي السلم‬
‫العقلي ف نزعات الصلحي والثائرين على النظام السقفي السائد ‪ ،‬أما دعوة "لوثر "‬
‫الصلحية الكبية ‪ ،‬فقد كانت – على ِعلّتا‪ -‬أبرز مظهر للتأثّر بالسلم وبعض عقائده‬
‫كما اعترف الؤرخون ‪.‬‬
‫وترى كذلك تأثي للعقلية السلمية والشريعة السلمية ف أخلق المم اجتماعها‬
‫وتشريعها ف أوربا النصرانية وف الند الوثنية بعد الفتح السلمي‪ )(187‬تراه وتلمسه ف التاه‬
‫إل التوحيد ونزعات الحترام للمرأة وحقوقها والعتراف ببدأ الساواة بي طبقات البشر ‪،‬‬
‫إل غي ذلك ما سبق إليه السلم وامتازت به شريعته ومدنيته ‪.‬‬
‫يقول الباحث الندي العروف( ‪)k. M. panikkar‬سفي الند ف مصر سابقا ‪،‬‬
‫وهو يتحدث عن تأثي عقيدة التوحيد السلمية ف عقلية الشعب الندي ودياناته ‪:‬‬
‫((من الواضح القرر أن تأثي السلم ف الديانة الندكية كان عميقا ف هذا العهد‬
‫(السلمي)‪ ،‬إن فكرة عبادة ال ف النادك مدينة للسلم ‪ ،‬إن قادة الفكر والدين ف هذا‬
‫العصر وإن سوا آلتهم بأساء شت قد دعوا إل عبادة ال ‪ ،‬وصرحوا بإن الله واحد ‪ ،‬وهو‬

‫(‪(184‬‬
‫السهوة ‪ :‬النافذة بين الدارين ‪ .‬والقرام ‪ :‬الستر‬
‫(‪(185‬‬
‫‪. Haine's Christianity of Islam in Spain p. 116‬‬
‫(‪(186‬‬
‫ضحى السلم ج ‪ 1‬ص ‪. 165 – 164‬‬
‫(‪(187‬‬
‫‪. Influence of Islam on Indian Culture by Doctor Tara Chand‬‬
‫‪106‬‬
‫يستحق العبادة ‪ ،‬ومنه تطلب النجاة والسعادة ‪ .‬وقد ظهر هذا التأثي ف الديانات والدعوات‬
‫الت ظهرت ف الند ف العهد السلمي كديانة "‪ "Bhagti‬ودعوة (( كبي‪. )) )(188‬‬
‫ويقول رئيس وزراء الند جواهر لل برو ف كتابه (‪)Discovery of India‬‬
‫((إن دخول الغزاة الذين جاءوا من شال غرب الند ودخول السلم له أهية كبية ف تاريخ‬
‫الند إنه قد فضح الفساد الذي كان قد انتشر ف الجتمع الندوكي ‪ ،‬إنه قد أظهر انقسام‬
‫الطبقات واللمس النبوذ ‪ ،‬وحب العتزال عن العال الذي كانت تعيش فيه الند ‪ ،‬إن نظرية‬
‫الخوة السلمية والساواة الت كان السلمون يؤمنون با ‪ ،‬ويعيشون فيها ‪ ،‬أثرت ف أذهان‬
‫الندوس تأثيا عميقا ‪ ،‬وكان أكثر خضوعا لذا التأثي البؤساء الذين حرم عليهم الجتمع‬
‫الندي الساواة والتمتع بالقوق النسانية )) ‪.‬‬
‫ويقول كاتب عصري فاضل وهو (‪ )N. C. Mehta‬ف كتابه " الضارة الندية‬
‫والسلم " (‪: )Indian Civilization and Islam‬‬
‫(( إن السلم قد حل إل الند مشعلً من نور قد انلت به الظلمات الت كانت‬
‫تغشى الياة النسانية ف عصر مالت فيه الدنيات القدية إل النطاط والتدل ‪ ،‬وأصبحت‬
‫الغايات الفاضلة معتقدات فكرية ‪ ،‬لقد كانت فتوح السلم ف عال الفكار أوسع وأعظم‬
‫منها ف حقل السياسة ‪ ،‬شأنه ف القطار الخرى ‪ ،‬لقد كان من سوء الظ أن ظل تاريخ‬
‫السلم ف هذا القطر (الندي) مرتبطا بالكومة ‪ ،‬فبقيت حقيقة السلم ف حجاب ‪،‬‬
‫وبقيت هباته وأياديه الميلة متفية عن النظار )) ‪.‬‬
‫ول يستطيع دين من الديان ومدنية من الدنيات تعيش ف العال التمدن العمور أن‬
‫تدعي أنا ل تتأثر بالسلم والسلمي ف قليل ول كثي ‪.‬‬
‫يقول (‪ )Robert Briffault‬ف كتابه (‪)The Making of Humanity‬‬
‫(( ما من ناحية من نواحي تقدم أوربا إل وللحضارة السلمية فيها فضل كبي وآثار‬
‫حاسة لا تأثي كبي‪. )) )(189‬‬
‫ويقول ف موضع آخر ‪:‬‬
‫(‪(188‬‬
‫‪. A Survey of Indian . History p . 132‬‬
‫(‪(189‬‬
‫‪. p . 190‬‬
‫‪107‬‬
‫((ل تكن العلوم الطبيعية (الت يرجع فيها الفضل إل العرب) هي الت أعادت أوربا إل‬
‫الياة ولكن الضارة السلمية قد أثرت ف حياة أوربا تأثيات كبية ومتنوعة منذ أرسلت‬
‫أشعتها الول إل أوربا‪. )) )(190‬‬
‫فلو جرت المور هكذا وتتعت المم النسانية بقيادة الماعة الت خُلقت بقيادتا‬
‫وأعطيت القوس باريها ‪ ،‬وجرت الياه إل ماريها ‪ ،‬لكان للعال النسان تاريخ غي التاريخ‬
‫الذي نقرؤه حافلً بالزلزل والنكبات ناطقا بطول بلء النسانية ومنها ‪ ،‬لكان له تاريخ ميد‬
‫جيل يغتبط به كل إنسان ويقر عينا ‪ ،‬ولكن جرت القدار بغي ذلك ‪ ،‬وبدأ النطاط ف‬
‫السلمي أنفسهم ‪.‬‬

‫**********************************‬

‫(‪(190‬‬
‫‪. p. 202‬‬
‫‪108‬‬
‫الفصل الثان‬
‫النطاط ف الياة السلمية‬
‫الد الفاصل بي العصرين ‪:‬‬
‫قال أحد الدباء ‪ (( :‬أمران ل يدد لما وقت بدقة ‪ ،‬النوم ف حياة الفرد ‪ ،‬والنطاط‬
‫ف حياة المة ‪ ،‬فل يشعر بما إل إذا غلبا واستوليا )) إنه لق ف قضية أكثر المم ‪ ،‬ولكن‬
‫بدأ التدلّي والنطاط ف حياة المة السلمية أوضح منه ف حياة المم الخرى ‪ ،‬ولو أردنا‬
‫أن نضع إصبعنا على الد الفاصل بي الكمال والزوال لوضعنا على ذلك الط التاريي الذي‬
‫يفصل بي اللفة الراشدة واللوكية العربية أو ملوكية السلمي ‪.‬‬

‫نظرة ف أسباب نضة السلم ‪:‬‬


‫كان زمام القيادة السلمية‪ -‬والعالية بالواسطة‪ -‬بيد الرجال الذين كان كل فرد منهم‬
‫معجزة جليلة لحمد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬إيانا وعقيدة وعملً وخلقا وتربية وتذيبا وتزكية‬
‫نفس وسو سية ‪ ،‬وكمالً واعتدالً ‪ ،‬لقد صاغهم النب صلى ال عليه وسلم صوغا ‪ ،‬وصبهم‬
‫ف قالب السلم صبا ‪ ،‬فعادوا ل يشبهون أنفسهم إل ف الجسام ل ف اليول والنعات ‪،‬‬
‫ول ف الرغبات والهواء ‪ ،‬ولو دقق مدقق لا رأى ف سيتم وأخلقهم مأخذا جاهليا يناف‬
‫روح السلم والنفسية السلمية ‪ ،‬ولو تثل السلم بشرا لا زاد على أن يكون كأحدهم ‪،‬‬
‫وكانوا كما قلنا أمثلة كاملة وأقيسة تامة للدين والدنيا والمع بينهما ‪ ،‬فكانوا أئمة يصلون‬
‫بالناس ‪ ،‬وقضاة يفصلون قضاياهم ‪ ،‬ويكمون بينهم بالعدل والعلم ‪ ،‬وأمنة لموال السلمي‬
‫وخزنتهم ‪ ،‬وقوادا يقودون اليوش ويسنون تدبي الروب ‪ ،‬وأمراء يباشرون إدارة البلد‬
‫ويشرفون على أمور الملكة ويقيمون حدود ال ‪ ،‬وكان الواحد منهم ف آن واحد تقيا زاهدا‬
‫وبطلً ماهدا ‪ ،‬وقاضيا فهما ‪ ،‬وفقيها متهدا وأميا حازما وسياسيا منكا ‪ ،‬فكان الدين‬
‫والسياسة يتمثلن ف شخص واحد وهو شخص الليفة وأمي الؤمني ‪ ،‬حوله جاعة من‬
‫ترجوا‪ -‬إن صح التعبي‪ -‬ف هذه الدرسة ‪ ،‬الدرسة النبوية ‪ ،‬أم السجد النبوي ‪ ،‬أفرغوا ف‬
‫‪109‬‬
‫قالب واحد يملون روحا واحدة ‪ ،‬وتلقوا تربية واحدة ‪ ،‬يستشيهم الليفة ويستعي بم ‪،‬‬
‫فل يقطع أمرا ذا بال حت يشهدوه فسرت روحهم ف الدنية ونظام الكم وحياة الناس‬
‫واجتماعهم وأخلقهم ‪ ،‬وانعكست ميولم ورغباتم ف الدنية وظهرت خصائصهم فيها ‪ ،‬فل‬
‫عداء بي الروح والادة ول صراع بي الدين والسياسة ول تفريق بي الدين والدنيا ‪ ،‬ول‬
‫تاذب بي الصال والبادئ ول تزاحم بي الغراض والخلق ‪ ،‬ول تناحر بي الطبقات ‪،‬‬
‫ول تنافس ف الشهوات ‪.‬‬

‫شروط الزعامة السلمية ‪:‬‬


‫إن الزعامة السلمية تقتضي صفات دقيقة ‪ ،‬واسعة جدا نستطيع أن نمعها ف كلمتي‬
‫"الهاد " و "الجتهاد" ‪ ،‬فهاتان كلمتان خفيفتان بسيطتان ‪ ،‬ولكنهما كلمتان جامعتان‬
‫عامرتان بالعان الكثية ‪.‬‬

‫الهاد ‪:‬‬
‫أما الهاد فهو بذل الوسع وغاية الهد لنيل أكب مطلوب ‪ ،‬وأكب وطر للمسلم طاعة‬
‫ال ورضوانه والضوع لكمه والسلم لوامره ‪ ،‬وذلك يتاج إل جهاد طويل شاق ضد‬
‫كل ما يزاحم ذلك من عقيدة وتربية وأخلق وأغراض وهوى وكل من ينافس ف حكم ال‬
‫وعبادته من آلة ف النفس والفاق ‪ ،‬فإذا حصل ذلك للمسلم وجب عليه أن ياهد لتنفيذ‬
‫حكم ال وأوامره ف العال حوله وعلى بن جنسه ‪ ،‬فريضة من ال وشفقة على خلق ال ‪،‬‬
‫ولن الطاعة النفرادية قد تصعب وتتنع أحيانا بغي ذلك ‪ ،‬وذلك ما يسميه القرآن " الفتنة "‬
‫ومعلوم أن العال كله با فيه من جاد ونبات وحيوان وإنسان خاضع لشيئة ال وأحكامه‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َطوْعا َوكَرْها وَِإلَيْهِ‬
‫التكوينية وقوانينه الطبيعية{ َولَهُ أَسَْلمَ مَن فِي ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَ ْرضِ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ‬ ‫جدُ لَهُ مَن فِي ال ّ‬
‫سُ‬ ‫يُرْجَعُونَ} {َألَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ َي ْ‬
‫شجَرُ وَال ّدوَابّ َوكَِثيٌ مّ َن النّاسِ وَكَِثيٌ حَقّ عَلَْيهِ الْ َعذَابُ } فيتعي أن‬ ‫وَالّنجُومُ وَالْجِبَالُ وَال ّ‬
‫جهاد السلم إنا هو لتنفيذ شريعته الت جاء با النبياء ‪ ،‬وإعلء كلمته ونفاذ أحكامه ‪ ،‬فل‬

‫‪110‬‬
‫حكم إل ل ول أمر إل له ‪ ،‬وهذا الهاد مستمر ماض إل يوم القيامة ‪ ،‬له أنواع وأشكال ل‬
‫يأت عليها الصر ‪ ،‬منها القتال ‪ ،‬وقد يكون أشرف أنواعه وغايته أن ل تبقى ف الدنيا قوتان‬
‫متساويتان متنافستان تتجاذبان الهواء والنفس { َوقَاتِلُو ُهمْ حَتّى لَ تَكُو َن فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ‬
‫كُلّهُ لِلّه} ‪.‬‬
‫ومن مقتضيات هذا الهاد أن يكون النسان عارفا بالسلم الذي ياهد لجله‬
‫وبالكفر والاهلية الت ياهد ضدها ‪ ،‬يعرف السلم معرفة صحيحة ويعرف الكفر والاهلية‬
‫معرفة دقيقة ‪ ،‬فل تدعه الظاهر ول تغره اللوان ول تعزه اللوان ‪ ،‬وقد قال عمر بن الطاب‬
‫رضي ال عنه ‪ :‬إنا ينقض السلم عروة عروة من نشأ ف السلم ول يعرف الاهلية ‪ .‬ول‬
‫يب على كل مسلم أن تكون معرفته دقيقة بالكفر والاهلية ومظاهرها وأشكالما وألوانما‬
‫‪ .‬ولكن على من يتزعم السلم ويتول قيادة اليش السلمي ضد الكفر والاهلية ‪ ،‬أن‬
‫تكون معرفته بالكفر والاهلية فوق معرفة عامة السلمي وأوساطهم ‪.‬‬
‫كذلك يب أن يكون استعدادهم كاملً وقوتم تامة ‪ ،‬يقارعون الديد بالديد بل‬
‫بأقوى من الديد ‪ ،‬ويقابلون الريح بالعصار ‪ ،‬ويواجهون الكفر وأهله بكل ما يقدرون‬
‫عليه ‪ ،‬وبكل ما امتدت إليه يدهم ‪ ،‬وبكل ما اكتشفه النسان ووصل إليه العلم ف ذلك‬
‫العصر ‪ ،‬من سلح وجهاز واستعداد حرب ‪ ،‬ل يقصرون ف ذلك ول يعجزون ‪َ { :‬وأَ ِعدّواْ‬
‫ط الْخَيْلِ ُترْهِبُونَ بِهِ َع ْدوّ اللّهِ وَ َع ُدوّ ُكمْ }‪.‬‬
‫َلهُم مّا اسْتَطَعْتُم مّن ُقوّةٍ وَمِن رّبَا ِ‬

‫الجتهاد ‪:‬‬
‫أما الجتهاد فنريد به أن يكون من يرأس السلمي قادرا على القضاء الصحيح ف‬
‫النوازل الوادث الت تعرض ف حياة السلمي وف العال وف المم الت يكمها ‪ ،‬وف السائل‬
‫الت تفاجئ وتتجدد ‪ ،‬والت ل يستقصيها فقه مدون ومذهب مأثور وفتاوى مؤلفة ‪ ،‬ويكون‬
‫عنده من معرفة روح السلم وفهم أسرار الشريعة والطلع على أصول التشريع وقوة‬
‫الستنباط – انفرادا أو اجتماعا‪ -‬ما يل به هذه الشاكل ويرشد المة ف الغمة ‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫ويكون عنده من الذكاء والنشاط والد والعلم ما يستخدم به ما خلق ال ف هذا‬
‫الكون من قوى طبيعية ‪ ،‬وما بث ف الرض وتت الرض من خيات ومنابع ثروة وقوة ‪،‬‬
‫وأن يسخرها لصلحة السلم بدل أن يستخدمها أهل الباطل لهوائهم ‪ ،‬ويتخذوها وسيلة‬
‫للعلو ف الرض ‪ ،‬ويسخرها الشيطان لتحقيق أغراضه والفساد ف الرض ‪.‬‬

‫انتقال المامة من الكفاء إل غي الكفاء ‪:‬‬


‫ولكن من السف ومن سوء حظ العال البشري أن تول هذا النصب الطي رجال ل‬
‫يكونوا له أكفاء ‪ ،‬ول يُعدوا له عدة ‪ ،‬ول يأخذوا له أهبة ‪ ،‬ول يتلقوا تربية دينية وخلقية كما‬
‫تلقى الولون وكثيون ف عصرهم وجيلهم ‪ ،‬ول يسيغوا تعاليم السلم إساغة تليق بقيادة‬
‫المة السلمية والضطلع بزعامتها ‪ ،‬ول تنق رؤوسهم ول نفوسهم من بقايا التربية‬
‫القدية ‪ ،‬ول يكن عندهم من روح الهاد ف سبيل السلم ومن قوة الجتهاد ف السائل‬
‫الدينية والدنيوية ما يعلهم يضطلعون بأعباء اللفة السلمية‪ -‬وهذا الكم عام يشمل خلفاء‬
‫بن أمية وبن العباس ‪ ،‬حاشا الليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (م ‪101‬هـ) ‪.‬‬

‫تريفات الياة السلمية ‪:‬‬


‫فظهر من ذلك ثلمات ف ردم السلم ل تسد إل الن ‪ ،‬ووقعت تريفات ف الياة‬
‫السلمية‪.‬‬

‫فصل الدين عن السياسة ‪:‬‬


‫وقع فصل بي الدين والسياسة عمليا ‪ ،‬فإن هؤلء ل يكونوا من العلم والدين بكان‬
‫يستغنون به عن غيهم من العلماء وأهل الدين فاستبدوا بالكم والسياسة ‪ ،‬واستعانوا‪ -‬إذا‬
‫أرادوا واقتضت الصال‪ -‬بالفقهاء ورجال الدين كمشيين متخصصي ‪ ،‬واستخدموهم ف‬
‫مصالهم واستغنوا عنهم إذا شاؤوا ‪ ،‬وعصروهم مت شاءوا ‪ ،‬فتحررت السياسة من رقابة‬
‫الدين ‪ ،‬وأصبحت قيصرية أو كسروية مستبدة ‪ ،‬وملكا عضوضا ‪ ،‬وأصبحت السياسة‬

‫‪112‬‬
‫كجمل هائج حبله على غاربه ‪ ،‬وأصبح رجال الدين والعلم بي معرضة للخلفة وخارج‬
‫عليها ‪ ،‬وحائد منعزل اشتغل باصة نفسه وأغمض العي عما يقع ويري حوله ‪ ،‬يائسا من‬
‫الصلح ‪ ،‬ومنتقد يتلهف ويتنفس الصعداء ما يرى ول يلك من المر شيئا ‪ ،‬ومتعاون مع‬
‫الكومة لصلحة دينية أو شخصية ‪ ،‬ولكلّ ما نوى ‪ ،‬وحينئذ انفصل الدين والسياسة ‪ ،‬وعادا‬
‫كما كانا قبل عهد اللفة الراشدة أصبح الدين مقصوص الناح مكتوف اليدي ‪،‬‬
‫وأصبحت السياسة مطلقة اليد حرة التصرف نافذة الكلمة صاحبة المر والنهي ‪ ،‬ومن ثّ‬
‫أصبح رجال العلم والدين طبقة متميزة ‪ ،‬ورجال الدنيا طبقة متميزة ‪ ،‬والشقة بينهما شاسعة ‪،‬‬
‫وف بعض الحيان بينهما عداء وتنافس ‪.‬‬

‫النعات الاهلية ف رجال الكومة ‪:‬‬


‫ول يكن رجال الكومة حت اللفاء أمثلة كاملة ف الدين والخلق ‪ ،‬بل كان ف‬
‫كثي منهم عروق للجاهلية ونزعاتا ‪ ،‬فسرت روحهم ونفسيتهم ف الياة العامة والجتماع ‪،‬‬
‫وأصبحوا أسوة للناس ف أخلقهم وعوائدهم وميولم ‪ ،‬وزالت رقابة الدين والخلق‬
‫وارتفعت السبة وفقدت حركة المر العروف والنهي عن النكر سلطانا ‪ ،‬لنا ل تستند إل‬
‫قوة ول تميها حكومة ‪ ،‬وإنا يقوم با متطوعون ل قوة لديهم ول عقاب ‪ ،‬والدواعي إل‬
‫خلفها متوافرة قوية ‪ ،‬فتنفست الاهلية ف بلد السلم ورفعت رأسها ‪ ،‬وأخلد الناس إل‬
‫الترف والنعيم وإل اللهي واللعب ‪ ،‬وانغمسوا ف اللذات والشهوات واستهتروا استهتارا ‪،‬‬
‫ونظرة ف كتاب الغان وكتاب اليوان للجاحظ تُريك ما كان هنالك من رغبة جامة إل‬
‫اللهو ‪ ،‬وتافت على اللهي واللذات ‪ ،‬ونمة للجياة الدنيا وأسبابا ‪ ،‬وبذه السية ‪ ،‬وبذه‬
‫الخلق النحطة ‪ ،‬ومع هذا النماك ف اللهي ل تستطيع أمة أ تؤدي رسالة السلم ‪ ،‬وأن‬
‫تقوم ف الدنيا مقام خلفاء النبياء ‪ ،‬وتذكر بال والخرة وتض على التقوى والدين ‪ ،‬وأن‬
‫تكون أسوة للناس ف أخلقها ‪ ،‬بل ل تستطيع أن تتمتع بالياة والرية زمنا طويلً ‪{ :‬سُنّةَ‬
‫اللّ ِه فِي اّلذِينَ َخَلوْا مِن قَبْلُ َولَن َتجِدَ ِلسُنّةِ اللّهِ تَْبدِيلً } ‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫سوء تثيلهم للسلم ‪:‬‬
‫وكان هؤلء ف كل ما يأتون ويذرون مثلي لنفسهم وسياستهم فقط ‪ ،‬ل يثلون‬
‫السلم ‪ ،‬ول سياسته الشرعية ‪ ،‬ل قانونه الرب ‪ ،‬ول نظامه الدن ‪ ،‬ول تعاليمه الخلقية‬
‫إل ف النادر ففقدت رسالة السلم تأثيها وقوتا ف قلوب غي السلمي وضعفت ثقتهم به ‪.‬‬
‫وف لفظ مؤرخ أورب‪ -‬بدأ السلم بالنطاط ‪ ،‬لن البشرية بدأت تشك ف صدق القائمي‬
‫بتمثيل الديانة الديدة ‪.‬‬

‫قلة الحتفال بالعلوم العملية الفيدة ‪:‬‬


‫إن العلماء الفكرين منهم ل يعتنوا بالعلوم الطبيعية التجريبية والعلوم العملية الثمرة‬
‫الفيدة اعتناءهم بعلوم ما بعد الطبيعة والفلسفة اللية الت تلقوها من اليونان وما هي إل‬
‫وثنيتهم القومية الت ترجوها ف لغتهم الفلسفية ‪ ،‬وأضفوا عليها لباسا من الفن ‪ ،‬وما هي إل‬
‫ظنون وتمينات وطلسم لفظية ل حقيقة لا ول معن ‪ ،‬وقد أغن ال السلمي عنها وكفاهم‬
‫هذا البحث والتنقيب ‪ ،‬وعملية تزئة وتليل ف مسائل ذات ال وصفاته وما يتعلق با أشبه‬
‫بالتحليل الكيمياوي با أنزل إليهم بينات من الدى والفرقان وجعلهم على نور من ربم ‪،‬‬
‫ولكن السلمي ل يشكروا هذه النعمة العظيمة ‪ ،‬وظلوا قرونا طويلة ياهدون من هذه العلوم‬
‫والباحث ف غي جهاد ‪ ،‬ويضيعون ذكاءهم ف مباحث فلسفية وكلمية ل تدي نفعا ول‬
‫تأت بنتيجة ‪ ،‬وليس لا دعوة ف الدنيا والخرة ‪ ،‬وتشاغلوا با عن علوم واختبارات تسخر لم‬
‫قوى الطبيعة ويسخرونا لصلحة السلم ‪ ،‬ويبسطون با سيطرة السلم الادية والروحية على‬
‫العال كله ‪.‬‬
‫وكذلك اشتغلوا بباحث الروح وفلسفة الشراق ومسائل وحدة الوجود ‪ ،‬وبذلوا فيها‬
‫قسطا كبيا من أوقاتم وجهودهم وذكائهم ‪.‬‬
‫أما ما وصل إليه السلون ف العلوم الطبيعية والتجريبية‪ ،‬فإنه وإن كان أرقى من العصور‬
‫السابقة وأكثر ثروة ف العلم والختبار ‪ ،‬إل أنه ل يتناسب مع فتوحهم الواسعة ف دوائر‬

‫‪114‬‬
‫علمية أخرى ‪ ،‬ول يتلءم مع الدة الطويلة الت تتعوا با ف التاريخ ‪ ،‬ول يظهر فيها من النوابغ‬
‫والعبقريي مثل ما ظهر ف موضوعات أخرى ‪.‬‬
‫وإن ما خلفوه من كتب ف الطبيعيات والكونيات والتجارب العلمية ‪ ،‬وإن ما كانت‬
‫ما استفادت به أوربا ف نضتنا وأقرت بقيمتها ‪ ،‬إل أنا تتضاءل جدا أمام هذه الكتبة الائلة‬
‫الزاخرة الت أنتجتها أوربا ف القرني السابع عشر والثامن عشر فقط ‪ ،‬فمهما افتخرنا بآثار‬
‫علماء الندلس وحكماء الشرق ‪ ،‬فإنا ل تعد شيئا بانب النتاج الغرب الضخم ف العلم‬
‫والكمة والتجربة والختبار ‪ ،‬ل ف الكمية ول ف الكيفية ‪ ،‬ول ف البداع ول ف البتكار ‪،‬‬
‫ول ف التدقيق العلمي ول ف التقان الفن ‪ ،‬وإذا أرادت أن تعرف مقدار عناية الشرق‬
‫السلمي بالناحية الروحية ونسبتها إل الناحية العلمية والتجريبية فقارن بي كتاب الفتوحات‬
‫الكية للشيخ ابن عرب مثلً وبي أكب كتاب ف الطبيعيات والكمة ‪ ،‬تر فرقا هائلً ف‬
‫ضخامة الادة والعناية بالوضوع والهاد ف سبيله ‪ ،‬وبذلك تعرف ذوق الشرق الغالب عليه ‪.‬‬

‫الضللت والبدع ‪:‬‬


‫جبٌ من الشرك والهل والضللة ‪ ،‬وطرأت على‬ ‫وكاد يجب توحيد السلم النقي ُح ُ‬
‫النظام الدين بدع شغلت مكانا واسعا من حياة السلمي وشغلتهم عن الدين الصحيح ‪ ،‬وعن‬
‫الدنيا وميزة السلمي بي أمم الرض وفضلهم إنا هو من هذا الدين الذي جاء به ممد صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬وميزة هذا الدين وإعجازه ف صحته وحفظه ‪ ،‬لنه يتاز بأنه وحي ال‬
‫وشريعته ووضعه العجز وشرعه الكيم { َتنِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ َحمِيدٍ } فإذا عملت فيه عقول‬
‫الناس ودخلت فيه أعمال الناس وأهواؤهم ل يكن له على الديان الت حرفها أهلها ‪ ،‬والنظم‬
‫الت نسجتها أيدي الناس إل بقدار ما فيه من الوحي الحفوظ والعلم العصوم ‪ ،‬ول يكن‬
‫ضامنا لسعادة الدنيا والخرة ‪ ،‬ول يكن حقيقا بأن تضع له العقول وينجذب إليه الناس ‪.‬‬

‫إنكار الدين على السلمي وإهابته بم ‪:‬‬


‫‪115‬‬
‫ول يغربن عن البال أن الدين ل يزل طول هذه الدة حيا مفوظا من التحريف والتبديل‬
‫‪ ،‬مهيبا بالسلمي ناعيا عليهم انرافهم عن طريقه ‪ ،‬ول يزل مناره عاليا وضوءه مشرقا‬
‫ضوَانَهُ سُبُ َل السّلَمِ وَُيخْرِ ُجهُم مّنِ الظُّلمَاتِ ِإلَى النّورِ بِِإذْنِهِ وََي ْهدِيهِمْ‬
‫{َي ْهدِي بِهِ الّلهُ مَنِ اتَّبعَ ِر ْ‬
‫ِإلَى صِرَاطٍ ّمسْتَقِيمٍ } ول يزل الكتاب والسنة يبعثان ف نفوس القراء ثورة على الشرك والبدع‬
‫‪ ،‬وعلى الهالة والضللة وثورة على أخلق الاهلية وعوائدها ‪ ،‬وثورة على ترف الترفي‬
‫واستبداد اللوك ‪ ،‬ول يزل ينهض بتأثيها ف كل دور من أدوار التاريخ السلمي ‪ ،‬وف كل‬
‫ناحية من نواحي العال السلمي رجال يقومون ف هذه المة على طريق النبياء ‪ ،‬يددون لا‬
‫أمر دينها ‪ ،‬وينفخون فيها روح الهاد ‪ ،‬ويفتحون لا باب الجتهاد ‪ ،‬ويسعون لقامة‬
‫حكومة إسلمية على منهاج اللفة الراشدة ‪ ،‬فمنهم من استشهد ف هذه السبيل ‪ ،‬ومنهم‬
‫ي رِجَالٌ صَ َدقُوا مَا‬ ‫من استطاع أن يثل دورا قصيا يذكر باللفة الراشدة ‪{ :‬مِ َن اْلمُؤْمِنِ َ‬
‫عَا َهدُوا اللّهَ َعلَيْ ِه َفمِْنهُم مّن َقضَى َنحْبَهُ وَمِْنهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا َب ّدلُوا تَْبدِيلً } وهم مصداق‬
‫الديث الشريف ‪ (( :‬ل تزال طائفة من أمت ظاهرين على الق ل يضرهم من خالفهم ول‬
‫من خذلم حت يأت أمر ال )) فتاريخ الهاد والتجديد ف السلم متصل ل تقطعه فترة ‪،‬‬
‫ومشاعل الصلح متسلسلة بعضها من بعض ل تطفئها العواصف‪. )(191‬‬

‫حسن بلء العال السلمي ف القرن السادس ‪:‬‬


‫ف القرن السادس الجري م ّن ال على العال السلمي‪ -‬الذي بدت عليه أمارات‬
‫الضعف والشيخوخة بعد السلجقة وتوزعه ملوك وأمراء ف الناء‪ -‬بقادة كبار حفظ ال بم‬
‫شرف السلم وعزته ‪ ،‬وأعاد بم الياة إل العال السلمي النهار ‪ ،‬بدأت الغزوات‬
‫الصليبية‪ -‬الت كانت تدف أولً إل الستيلء على الماكن القدسة عند السيحيي‪ -‬تتحدى‬
‫السلم والسلمي كلهم ‪ ،‬وتدد الزيرة العربية ومهد السلم والدول الجاورة للشام ‪،‬‬
‫واستول الصليبيون الوربيون فعلً على القدس وعلى عامة مدن الشام وقلعه ‪ ،‬وطمعوا ف‬
‫مدينة الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وكانوا أكب خطر على السلم والسلمي بعد فتنة الردة‬

‫(‪(191‬‬
‫اقرأ في هذا الموضوع كتاب المؤلف (( رجال الفكر والدعوة في السلم (( طبع في دمشق ‪.‬‬
‫‪116‬‬
‫‪ ،‬هنالك قيض ال للسلم عماد الدين أتابك زنكي (م ‪541‬هـ) الذي قارع الصليبيي‬
‫وهزمهم ف معارك كثية وفتح الرّها ‪ ،‬وقام بعده ولده العظيم اللك العادل نور الدين ممود‬
‫زنكي (م ‪569‬هـ) وصمم على إجلء الصليبيي من الشام واسترداد القدس للمسلمي ‪،‬‬
‫ومات رحة ال عليه قبل أن يكمل مهمته وخلفه ف ذلك أحد رجاله ومرشحيه اللك الناصر‬
‫السلطان صلح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر ‪ ،‬وهو الرجل الذي هيأه ال لذه الهمة‬
‫العظيمة وجع فيه من خصال الزم والعزم والخلص والتجرد للغاية والرص على الهاد‬
‫والتفان ف سبيله وعلو المة ف نصر السلم وقتال أهل الكفر والبغي ‪ ،‬وحسن القيادة وقوة‬
‫التنظيم والصلح والديانة والفتوة الفائقة والنسانية السامية ومكارم الخلق ما ل يتمع إل‬
‫ف أفذاذ الرجال ف العال ‪ ،‬فكان بذلك معجزة من معجزات السلم ودليلً على أن السلم‬
‫ل ينته دوره ول يفقد اليوية والنتاج ‪ ،‬وقد توحد العال السلمي من بي نر الفرات وبي‬
‫النيل للمرة الول بعد مدة طويلة ليقاتل أوربا الت تدفقت جيوشها واندفع ملوكها وأمراؤها‬
‫وقوادها الكبار ليهاجوا العال السلمي ‪ ،‬وقد اجتمع تت لواء صلح الدين للجهاد أجناس‬
‫كثية من السلمي ل تتمع قبل ‪ ،‬والتهبت شعلة الهاد والغية السلمية بعد مدة طويلة ‪،‬‬
‫واستخدم صلح الدين للجهاد كل ما وصل إليه العال السلمي من العلم والختراع وصناعة‬
‫الرب يومئذ ‪ ،‬هو كل ما أوت من الذكاء والصب والتفكي وهزم الصليبيي ف حطي عام (‬
‫‪583‬هـ) هزية منكرة وكسر شوكتهم وفتح القدس ف العام نفسه واستول على فلسطي لا‬
‫وانصر الصليبيون ف " صور" فقط ‪ ،‬ألقت أوربا أفلذ أكبادها ‪ ،‬وجاءت بدها وحديدها‬
‫واجتمعت جيوشها الكثيفة تت قيادة القائد الكبي رتشارد ‪ Richard‬ملك انكلترا‬
‫وكانت الرب بي الصليبيي والسلمي سجالً حت وقعت الدنة سنة ‪588‬هـ (‪ 2‬سبتمب‬
‫‪ 1192‬السيحي) وجل معظم الغزاة الصليبيي عن فلسطي ورجع رتشارد إل ملكه ‪ ،‬وبعد‬
‫ذلك بسنة استأثر ال بصلح الدين ‪.‬‬
‫ويسن بنا أن ننقل هنا ما علق الؤرخ النكليزي ‪Stanley Lave people‬‬
‫على هذه الدنة ف كتابه عن صلح الدين ‪ ،‬وبه نستطيع أن نعرف قوة العال السلمي‬
‫ووحدته تت قيادة صلح الدين ‪:‬‬
‫‪117‬‬
‫(( انتهت الرب القدسة الت استمرت خسة أعوام ‪ ،‬لقد كان السلمون قبل انتصارهم ف‬
‫معركة حطي ف يوليه سنة ‪1187‬م ول يلكون قياطا من الرض غرب نر الردن ‪ ،‬أما ف‬
‫سبتمب سنة ‪1192‬م لا وقع الصلح ف الرملة فقد ملكوا البلد كلها إل سلسلة ضيقة تتد من‬
‫صور إل يافا كان السيحيون ل يزالون يلكونا ‪ ،‬ول تكن هذه الدنة ما يجل لا صلح‬
‫الدين ويتأسف ‪ ،‬لقد بقي معظم ما فتحه الصليبيون ف حوزة الفرنج ‪ ،‬ولكن كانت النتيجة‬
‫تافهة جدا بالنسبة إل خسائر الموال والنفوس ‪ .‬فقد زحفت أوربا كلها إل الرض القدسة‬
‫لا استفزها البابا للغزو الصليب ‪ ،‬وبذل القيصر فريدرك وملوك انكلترا وفرنسا وصقلية‬
‫وليوبولد النمساوي والدوق البجندي والكونت الفلندري مئات من النبلء والشاهي وأمراء‬
‫الشعوب السيحية وملك حكومة القدس السيحية وملوك الكومات النصرانية ف فلسطي‬
‫وفرسان طبقة الداوية وطبقة السبتار وأبطالا ‪ ،‬لقد بذل هؤلء كلهم كل ما ف وسعهم‬
‫للستيلء على القدس ولتزدهر الكومة السيحية الت كانت مركزها القدس ‪ ،‬والت أشرفت‬
‫على النقراض ‪ .‬ولكن ماذا كان مصي هذه الهود كلها ؟ مات القيصر فريدرك ف هذه الدة‬
‫‪ ،‬ورجع ملوك انكلترا وفرنسا إل بلدهم ودفن كثي من زملئهم المراء والنبلء ف أرض‬
‫إيليا وبقي القدس ف حوزة صلح الدين ‪ ،‬كما كان ‪ ،‬ول يكن من حظ السيحيي إل إمارة‬
‫عكة الصغية على الساحل ‪.‬‬
‫لقد وقف العال السيحي وقفة رجل واحد إزاء السلمي ‪ ،‬ولكنه ل يستطع أن يزحزح‬
‫صلح الدين عن مكانه ‪ ،‬كان جيش صلح الدين قد أعياه الهاد الطويل والتاعب العظيمة ‪،‬‬
‫وقد ظل أعواما طوالً مرابطا مناضلً مكافحا عدوا قويا جدا لكن ل يسمع من جندي‬
‫واحد أني أو شكاة‪ .‬أنم ل يتأخروا يوما ف الضور ول يضنوا قط بالنفائس والنفوس كلما‬
‫دعاهم صلح الدين للجهاد وكلما استفزهم للقتال ‪ ،‬وربا شكا أحد المراء التابعي له ف‬
‫بعض أودية دجلة البعيدة من هذه النجدة الت ل تكاد تنتهي ولكن قدموا بعوثهم وحضروا‬
‫ليوشهم لنصرة السلطان كلما طلبوا ‪ .‬وقد قاتل اليش الوصلي بكل بطولة وحاسة ف‬
‫حرب أرسوف الخية وكان السلطان واثقا بأنه سيأتيه الدد من جيوش مصر والعراق‬
‫وكذلك من جيش الشام الشمال والركزي ‪ .‬وكان التركمان والعرب والصريون مسلمي‬
‫‪118‬‬
‫وخدمة أوفياء للسلطان وحضروا كالعبيد كلما طلبهم السلطان وقد مزج السلطان هذه‬
‫العناصر الختلفة مزجا غريبا وألف بينهم رغم ما فيها من اختلف ف النس والقومية وما بي‬
‫أفرادها من خلفات داخلية ومنافسات قبلية فكانوا كالسد الواحد ‪ .‬وقد عان السلطان‬
‫بعض الصعوبة ف توحيد هذه الجناس ‪ ،‬وقد ظهرت ف بعض الناسبات بوادر اللف فقد‬
‫ترد اليش ف يافا مرة ‪ ،‬ولكن رغم ذلك كله بقيت هذه المم الختلفة الجناس إل خريف‬
‫سنة ‪ 1192‬م خاضعة لمر السلطان وظلت تاهد ف سبيل ال من سنة ‪ 1187‬م العام الذي‬
‫طلبها فيه صلح الدين للجهاد ‪ ،‬وف خلل هذه الدة الطويلة ل يسجل التاريخ حادثة عصت‬
‫فيها مقاطعة أو ثارت فيها دولة تابعة أو رئيس من الرؤساء ‪ ،‬وكانت المال الكبية الت‬
‫عقدت بنصيحتهم ومثابرتم تعي الراسخي ف الوفاء والن القوياء ‪ ،‬إنا علمنا قريبا من‬
‫أقربائه ف العراق ثار عليه ‪ ،‬ولكن السلطان منّ عليه بالعفو ‪ ،‬وهدأ الرجل ‪ ،‬وبذلك يعلم ما‬
‫كان للسلطان من نفوذ غريب ف دولته ورعيته ‪ ،‬وانتهت الرب الت استمرت خسة أعوام‬
‫وانتهت منها ومتاعبها والسلطان هو اللك الوحيد من جبال الكرد إل صحراء النوبة ‪ ،‬وكان‬
‫ملك بلد الكرد ملك آرمينيا وسلطان قونية وقيصر قسطنطينية وراء هذه الدود يرصون‬
‫على صداقة صلح الدين ومساعدته ‪ ،‬وما قبل صلح الدين أن يكون عليه منة لحد من‬
‫هؤلء ‪ ،‬ول يضروا قط لنجدته إنا حضروا لتهنئته ‪.‬‬
‫وكان صلح الدين بطل هذه العركة ومركز هذه الدائرة ‪ ،‬وكان أخوه العادل هو‬
‫الشخصية الثانية الت ظهرت على مسرح القتال ‪ ،‬ول نعرف أحدا من القواد والمراء استول‬
‫عليه ‪ ،‬وكان عنده ملس حرب يستشيه ف أمور الرب ‪ ،‬وقد وقع نادرا أن غلب رأي هذا‬
‫الجلس الاطئ على رأي السلطان الصحيح ‪ ،‬كما كان أمام صور وعكة ‪ ،‬ولكن ل يكن‬
‫أحد من أعضاء هذا الجلس مستأثرا به دون غيه ‪ ،‬لقد كان الخوة والبناء ‪ ،‬وأبناء‬
‫الخوان ‪ ،‬والزملء القدماء ‪ ،‬والولة الدد ‪ ،‬والعقلء ‪ ،‬والقضاة الذكياء ‪ ،‬والعتمدون‬
‫الوفياء ‪ ،‬والتعصبون ‪ ،‬والوعاظ ‪ ،‬والعلماء كلهم متفقي على الهاد ‪ ،‬وقاتلوا تت لوائه‬
‫جنبا بنب ‪ ،‬وخدموه بكل ما عندهم من قوة وكفاية ونصيحة ‪ ،‬وكان كل يعلم أن صلح‬

‫‪119‬‬
‫الدين سيد الميع وأميهم ‪ ،‬وكان قلب واحد وإرادة واحدة تسيطر عليهم ف أزمات متلفة‬
‫وساعات عصيبة وحروب طاحنة ‪ ،‬هو قلب صلح الدين القوي وإرادته الديدية )) اهـ ‪.‬‬

‫فقر القيادة ف العال السلمي بعد صلح الدين ‪:‬‬


‫مات صلح الدين بعدما قضى مهمته إل حد بعيد ‪ ،‬وانلى الطر القريب العاجل‬
‫الذي كان يهدد كيان السلم ومركزه ‪ ،‬وتراجع سيل الصليبيي وقد تعلموا دروسا مفيدة‬
‫ودرسوا جوانب الضعف والقوة ف كلتا البهتي ‪ ،‬رجعوا ليستعدوا للصليبية الديدة ف القرن‬
‫التاسع عشر السيحي ‪ ،‬وعاد السلمون إل سيتم الول من انقسام وتنافس ‪ ،‬وتطاحن‬
‫وغفلة ‪ ،‬ول يرزق العال السلمي بعد ذلك قائدا ملصا للسلم ‪ ،‬مؤثرا لصلحته على هواه‬
‫‪ ،‬متجردا للجهاد ‪ ،‬مببا تتمع حوله القلوب مثل صلح الدين الذي استطاع بول ال وقوته‬
‫وبواهبه العظيمة أن يدحر أوربا كلها ‪ ،‬ويفظ للسلم ملكه وشرفه ‪ ،‬وعم لنطاط ف‬
‫العال السلمي واستفحل مع اليام ‪.‬‬

‫نتائج القرون النحلة ‪:‬‬


‫وظلت خلية السلم تعمل ف أدوار النطاط أيضا ‪ ،‬ويظهر من اللوك والفاتي أفراد‬
‫هم أنوذج الصحابة والسلف الصال ف سيتم وأخلقهم ‪ ،‬ف دينهم وتقواهم ‪ ،‬وينهض ف‬
‫العال السلمي رجال يتجمل التاريخ بذكرهم ‪.‬‬
‫وكان السلمون‪ -‬رغم انرافهم عن سيتم الول وطريقهم الثال‪ -‬أقرب إل طريق‬
‫النبياء وأطوع ل من المم الاهلية العاصرة لم ‪ ،‬وكان وجودهم ودولتهم أكب عائق‬
‫للجاهلية ف انتشارها وازدهارها ‪ ،‬وكانوا رغم نقائصهم أكب قوة ف العال تابا الدول ‪،‬‬
‫وتسب لا كل حساب ‪.‬‬

‫انيار صرح القوة السلمية ‪:‬‬

‫‪120‬‬
‫ول تزل تضعف هذه القوة وتن بدون أن يشعر بذلك الجانب حت إذا خضّدت‬
‫شوكة السلمي ف القرن السابع لا مزق التتار حكومة خوارزمشاه – الملكة السلمية‬
‫الخية‪ -‬وسقطت بغداد ف أيديهم زال ذلك الشبح الخيف وسقط الجدار‪ ، )(192‬فعاثت‬
‫الطيور والوحش ف القل ‪ ،‬وتاسر الناس على السلمي وبلدهم ‪.‬‬
‫ورث التتار والغول تراث السلمي وخلفوهم ف الكومة ‪ ،‬وناهيك به بؤسا وشقاء‬
‫للنسانية وخرابا للعال أن يتول قيادة العال أمة جاهلة وحشية ليس عندها دين ول علم ول‬
‫ثقافة ول حضارة ‪.‬‬

‫**************************‬

‫(‪(192‬‬
‫المجدار ‪ :‬ما ينصب في الزرع لطرد الطير والوحش ‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫دور القيادة العثمانية‬
‫العثمانيون على مسرح التاريخ ‪:‬‬
‫ف ذلك الي ظهر الترك العثمانيون على مسرح التاريخ ‪ ،‬وفتح ممد الثان بن مراد ‪،‬‬
‫وهو ابن أربع وعشرين سنة القسطنطينية العظمى عاصمة الدول البيزنطية النيعة سنة‬
‫‪753‬هـ (‪ 1453‬م) فتجدد رجاء السلم وانبعث المل ف نفوس السلمي ‪ ،‬وكان الترك‬
‫وعلى رأسهم آل عثمان موضعا للثقة ف قيادة المم السلمية وف استرداد قوة السلمي‬
‫‪)(193‬‬
‫ومكانتهم ف العال ‪ ،‬وكان فتحهم للقسطنطينية الت استعصت على السلمي ثانية قرون‬
‫دليلً على كفاءتم وقوتم ‪ ،‬وبلوغهم درجة الجتهاد ف صناعة الرب ‪ ،‬وحسن قيادتم‬
‫العسكرية وتفوقهم على المم العاصرة ف آلت الرب واستخدامهم لهمتهم قوة العلم‬
‫والعمل ‪ .‬وكل ذلك ما ل غن للمة عنه ‪.‬‬

‫تفوق ممد الفاتح ف فن الرب ‪:‬‬


‫وقد كان ممد الفاتح‪ -‬كما يقول درابر‪ -‬يعرف العلوم الرياضية ويسن تطبيقها على‬
‫الفن الرب ‪ ،‬وكان قد أعد لذا الفتح عدته ‪ ،‬واستفاد كل ما ف عصره من معدات حربية‬
‫قال البارون " كارادفور " (‪ )Barron Carra de vaux‬ف كتابه " مفكرو‬
‫السلم " ف الزء الول منه عند ترجة ممد الفاتح ‪:‬‬
‫(( إن هذا الفتح ل يُقيّض لحمد الفاتح اتفاقا ‪ ،‬ول تيسي لجرد ضعف دولة بيزنطية ‪،‬‬
‫بل كان هذا السلطان يدبر التدابي اللزمة له من قبل ‪ ،‬ويستخدم له كل ما كان ف عصره‬
‫من قوة العلم ‪ ،‬فقد كانت الدافع حينئذ حديثة العهد بالياد ‪ ،‬فأعمل ف تركيب أضخم‬
‫الدافع الت يكن تركيبها يومئذ وانتدب مهندسا مريا ركب مدفعا كان وزن الكرة الت‬

‫(‪ (193‬غزا السطول العربي القسطنطينية بقيادة بسر بن أرطأة سنة ‪ 44‬للهجرة وفق سنة ‪ 664‬للمسيح ‪ ،‬وحاصر يزيد بن معاوية‬
‫القسطنطينية سنة ‪ 52‬هجرية وفق سنة ‪ 672‬مسيحية ‪ ،‬وحصرها العرب أربع مرات على القل بعد ذلك ‪ ،‬ولم يفتحوها لمنعتها ‪.‬‬
‫‪122‬‬
‫يرمي با ‪ 300‬كيلو جرام ‪ ،‬وكان مدى مرماه أكثر من ميل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنه كان يلزم لذا‬
‫الدفع ‪ 700‬رجل ليتمكنوا من سحبه ‪ ،‬وكان يلزم له نو ساعتي من الزمن لشوه ‪ ،‬ولا‬
‫زحف ممد الفاتح لفتح القسطنطينية كان تت قيادته ثلثائة ألف مقاتل ‪ ،‬ومعه مدفعية‬
‫هائلة ‪ ،‬وكان أسطوله الحاصر للبلدة من البحر (‪ )120‬سفينة حربية ‪ ،‬وهو الذي‪ -‬من‬
‫قريته‪ -‬تصور سحب جانب من السطول من الب إل الليج وأزلق على الخشاب الطلية‬
‫بالشحم (‪ )70‬سفينة أنزلا ف البحر من جهة قاسم باشا‪.)) )(194‬‬

‫مزايا الشعب التركي ‪:‬‬


‫وقد تفرد الشعب التركي السلم تت قيادة آل عثمان بزايا اختص با من بي الشعوب‬
‫السلمية يومئذ واستحق با زعامة السلمي ‪:‬‬
‫أولً‪ -‬أنه كان شعبا ناهضا متحمسا طموحا فيه روح الهاد ‪ ،‬وكان سليما‪ -‬بكم‬
‫نشأته وقرب عهده بالفطرة والبساطة ف الياة‪ -‬من الدواء اللقية والجتماعية الت أصابت‬
‫المم السلمية ف الشرق ف مقتلها ‪.‬‬
‫ثانيا‪ -‬أنه كان متوفرا لديه القوة الربية الت يقدر با على بسط سيطرة السلم الادية‬
‫والروحية ‪ ،‬ويرد با غاشية المم الناوئة وعاديتها ‪ ،‬ويتبوأ با قيادة العال ‪ ،‬فقد بادر‬
‫العثمانيون ف صدر دولتهم لستعمال العدات الربية وخصوصا النارية منها واهتموا بالدافع‬
‫وأخذوا بالديث الحدث من آلت الرب ‪ ،‬عُنوا بفن الرب وتنظيم اليوش وتعبئتها حت‬
‫صاروا ف صناعة الرب أئمة بغي نزاع ‪ ،‬والثل الكامل والقدوة لوربا ‪.‬‬
‫وكانوا يكمون ف ثلث قارات ‪ :‬أوربا ‪ ،‬وآسيا ‪ ،‬وإفريقية ‪ ،‬ملكوا الشرق السلمي‬
‫من فارس حت مراكش ‪ ،‬ودوخوا آسيا الصغرى وتوغلوا ف أوربا ‪ ،‬حت بلغوا أسوار " فيينا "‬
‫وكانوا سادة البحر التوسط من غي نزاع ‪ ......‬قد جعلوه بية عثمانية ل أثر للجنب حوله‬
‫وقد كتب معتمد القيصر بطرس الكب لدى الباب العال أن السلطان يعتب البحر السود‬
‫كداره الاصة فل يباح دخوله لجنب ‪ ،‬وأنشأوا أسطولً عظيما ل قبل لوربا به حت‬

‫(‪(194‬‬
‫من حواشي المير شكيب ارسلن على (( حاضر العالم السلمي (( الجزء الول ‪ ،‬ص ‪ ، 220‬الطبعة الثانية ‪.‬‬
‫‪123‬‬
‫اجتمعت لسحقه كل من عمارات البابا والبندقية وإسبانيا والبتغال ومالطة عام ‪945‬هـ ‪-‬‬
‫‪1547‬م – ولكن ل تغن عنهم كثرتم شيئا ‪.‬‬
‫وقد جعت المباطورية العثمانية ف عهد سليمان القانون الكبي بي السيادتي البية‬
‫والبحرية وبي السلطتي السياسية والروحية ‪.‬‬
‫بلغت حدود الدولة العثمانية على ملك سليمان الطونة والصاوة (النهرية) ف الشمال‬
‫ونبع النيل والحيط الندي ف النوب وسلسلة جبال القفقاس ف الشرق وجبال أطلس ف‬
‫الغرب وهي مساحة تزيد على ‪ 400‬ألف ميل مربع ‪.‬‬
‫وكان السطول العثمان مؤلفا ما يزيد على ‪ 2000‬مركب حرب ‪ ،‬وكان القسم‬
‫الشرقي من بر سفيد وبر الدرياتيك ومرمرة وأزاق والسود والحر وفارس ف حوزته‬
‫وتت سيطرته ‪.‬‬
‫‪(1‬‬
‫ودخل كل مدينة شهية ف العال القدي ما عدا رومة ف ضمن حدود الدولة العثمانية‬
‫‪ ، )95‬وكانت أوربا كلها ترتعد منهم فرقا ‪ ،‬ويدخل ملوكها الكبار ف ذمة ملوكهم ‪ ،‬ويسك‬
‫أهل الديار عن قرع أجراس كنائسهم احتراما للترك إذا نزلوا با وأمر البابا أن يتفل بعيد ‪،‬‬
‫وأن تقام صلوات الشكر مدة ثلثة أيام لا أتاه نعي ممد الفاتح ‪.‬‬
‫ثالثا‪ -‬كانوا ف أحسن مركز للقيادة العالية ‪ .‬كانوا ف شبه جزيرة البلقان بيث‬
‫يشرفون منها على آسيا وأوربا ‪ ،‬وكانت عاصمتهم واقعة بي البحرين السود والبيض ‪،‬‬
‫وواصلة بي البين آسيا وأوربا ‪ ،‬فكانت خي عاصمة لكب دولة تكم على آسيا وأوربا‬
‫وأفريقية ‪ ،‬حت قال نابليون ‪ (( :‬لو كانت هناك دولة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح الدن‬
‫لتكون عاصمة لا ))‪.‬‬
‫وكانت أوربا لا الطر الكبي والشأن العظيم ف الستقبل القريب ‪ ،‬تزخر فيها القوى‬
‫اليوية وتيش فيها صدورها عوامل الر قي ‪ ،‬فكان ف استطاعة الترك‪ -‬لو وفق ال‪ -‬أن‬
‫يتقدموا ف ميدان العلم والعقل ويسبقوا أمم أوربا النصرانية ويصبحوا أئمة العال يقودونه إل‬
‫الق والدى قبل أن تلك أوربا زمام العال وتقوده إل النار والدمار ‪.‬‬

‫(‪(195‬‬
‫فلسفة التاريخ العثماني لمحمد جميل بيهم ‪ .‬ص ‪281 – 280‬‬
‫‪124‬‬
‫انطاط التراك ف الخلق وجودهم ف العلم وصناعة الرب ‪:‬‬
‫ولكن من سوء حظ السلمي‪ -‬فضلً عن سوء حظ التراك‪ -‬أخذ الترك ف النطاط‬
‫والتدل ودب إليهم داء المم من قبلهم ‪ :‬السد والبغضاء واستبداد اللوك وجورهم وسوء‬
‫تربيتهم وفساد أخلقهم وخيانة المراء وغشهم للمة وإخلد الشعب إل الدعة والراحة ‪ ،‬إل‬
‫غي ذلك من أخلق المم النحطة ما هو مبي ف كتب التاريخ التركي ‪ ،‬وليس هذا موضع‬
‫تفصيله ‪ ،‬وكان شر ما أصيبوا به المود ف العلم والمود ف صناعة الرب وتنظيم اليوش ‪،‬‬
‫وقد نسوا قول ال تعال ‪{ :‬وَأَ ِعدّواْ َلهُم مّا اسَْتطَعْتُم مّن قُوّةٍ وَمِن رّبَاطِ اْلخَيْلِ تُرْهِبُونَ ِبهِ‬
‫َع ْدوّ اللّهِ وَ َع ُد ّوكُمْ وَآ َخرِينَ مِن دُوِنهِمْ لَ تَعَْلمُوَنهُمُ } ال ‪ .‬وقول النب صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫(( الكمة ضالة الؤمن حيث وجدها فهو أحق با )) ‪ ،‬وكان خليقا بم‪ -‬لرج مركزهم‬
‫السياسي والغراف‪ ،‬وقد أحاطت بم الدول الوربية إحاطة السور بالعصم ‪ -‬أن يعلوا وصية‬
‫القائد السلمي الكبي عمرو بن العاص رضي ال عنه للمسلمي ف مصر نصب أعينهم ‪:‬‬
‫((واعلموا أنكم ف رباط إل يوم القيامة لكثرة العداء حولكم وتشوف قلوبم إليكم وإل‬
‫داركم )) ولكن الترك وقفوا وتقدم الزمان ‪ ،‬وتلفوا وسبقت المم الوربية ‪.‬‬

‫المود العلمي ف تركيا ‪:‬‬


‫وقد وصفت الكاتبة خالدة أديب هان هذا المود العلمي ف تركيا وصفا يسن بنا أن‬
‫ننقله هنا قالت ‪:‬‬
‫(( ما دامت فلسفة التكلمي تيمن على الدنيا ظل علماء السلم ف تركيا يقومون‬
‫بواجبهم ويسنون القيام به ‪ ،‬وكانت الدرسة السليمانية ومدرسة الفاتح مركزين للعلوم‬
‫والفنون السائدة ف ذلك الزمان ‪ ،‬لكن لا نشط الغرب من عقال الفلسفة اللية والباحث‬
‫الدينية الكلمية ووضع أساس العلم الديث والكمة الديدة فأحدث انقلبا ف العال ل تعد‬
‫جاعة العلماء تقدر على الضطلع بأعباء التعليم والقيام بواجبات العلمي ‪ .‬كان يعتقد‬
‫هؤلء أن العلم ل يزال حيث كان ف القرن الثالث عشر السيحي ل يتجاوز ذلك القام ول‬

‫‪125‬‬
‫يتقدم ‪ ،‬ول تزل هذه الفكرة الاطئة سائدة على نظامهم التعليمي إل القرن التاسع عشر‬
‫السيحي ))‪.‬‬
‫(( إن فكرة علماء تركيا والبلد السلمية الخرى هذه ليست من الدين ف شيء ‪ ،‬إن‬
‫الفلسفة اللية أو علم الكلم الذي كان عند السلمي أو النصارى ‪ ،‬إنا كان مبنيا على‬
‫فلسفة الغريق ‪ ،‬وكان الغلبة فيه لفكار أرسطاطاليس الذي كان فيلسوفا وثنيا ‪ ،‬ويدر ب‬
‫ف هذا القام أن أقارن بإجال بي عقلية العلماء السيحيي والسلمي ))‪.‬‬
‫((ل يتعرض القرآن الكري بالتفصيل لسألة خلق العال الطبيعي ‪ ،‬والقسط الوف ف‬
‫تعليمه والهية الكبى للحياة اللقية والجتماعية ‪ ،‬ومقصوده الكب فصل ما بي السن‬
‫والقبيح والي والشر ‪ ،‬إنه جاء بشريعة للعال ‪ ،‬وكلما ذكر مسألة من مسائل ما بعد الطبيعة‬
‫أو العارف الروحية قلما نرى فيها تعقدا أو إشكالً ‪ ،‬إن أساس تعليمه التوحيد ‪ ،‬فكان‬
‫السلم دينا سحا بسيطا ‪ ،‬وهو أفسح صدرا للنظريات الديدة عن العال الطبعي من الديان‬
‫الخرى بكثي ‪ ،‬ولكن هذا التسامح وهذه البساطة الت كانت تساعد ف التحقيق العلمي‬
‫الديد ل تطل مدتا ف حياة السلمي ‪ .‬قيد العلماء والتكلمون ف القرن التاسع الجري‬
‫الليات‪ -‬فضلً عن الفقه‪ -‬بسلسل وقيود ‪ ،‬وأوصدوا باب التحقيق والجتهاد ‪ ،‬ف ذلك‬
‫الوقت تغلغلت أفكار أرسطاطاليس ف الفلسفة السلمية ))‪.‬‬
‫(( بالعكس من ذلك الدين السيحي‪ -‬الذي هو أول بأن يسمى دين الراهب بولس‪-‬‬
‫فإن (سفر بدء التكوين) يتوي على تفصيل للعال الطبيعي ‪ ،‬وإذ آمن النصارى بأنه كلم ال‬
‫كان الواجب عليهم أن يقرروا صدقه ‪ ،‬ولا كانت الشاهدة ل تؤيدهم ف هذا التأويل لأوا‬
‫إل الستدلل وتسكوا بأهداب أرسطاطاليس ‪ ،‬لن منطقه يعمل عمل السحر )) ‪.‬‬
‫(( ولا بدأ الغرب ف دراسة الطبيعة بواسطة الشاهدة والختبار والتحليل والتجزئة‬
‫سقط ف أيدي رجال الكنيسة ‪ ،‬ولا وصل العلماء بطرق عملية إل اكتشافات مهمة خاف‬
‫علماء النصرانية على سيادة الكنيسة أن تنقرض ‪ ،‬فحدث صراع عنيف بي الدين والعلم ‪،‬‬
‫وذهب كبار علماء الطبيعة الذين كانوا عاكفي على دراستهم وتقيقهم ضحية علمهم )) ‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫(( واضطرت الكنيسة النصرانية بعد العارك الدموية بي الدين والعلم أن تواجه الواقع ‪،‬‬
‫فأدخلت علوم الطبيعة ف برنامج مدارسها وكلياتا ‪ ،‬وأصبحت جامعاتا الت ل تكن تتلف‬
‫بالمس عن مدارس السلمي ‪ ،‬مركزا للعلوم الطبيعية والعلوم لديثة ‪ ،‬ول تجر مع هذا‬
‫فلسفتها ‪ ،‬وكان نتيجة ذلك أن ظل للكنيسة سلطان على فريق من الطبقة الثقفة ‪ ،‬وكان‬
‫للقسس الكاثوليك والبوتستانت مشاركة ف العلوم الديثة ‪ ،‬وكانوا يقدرون على أن يباحثوا‬
‫الناشئة ف كل موضوع ))‪.‬‬
‫(( وكان العلماء ف تركيا العثمانية على الضد من ذلك ‪ ،‬فلم يعنوا باكتساب العلوم‬
‫الديثة ‪ ،‬بل منعوا الفكار الديدة أن تدخل ف منطقتهم ‪ ،‬وإذ كانوا متصرفي بزمام تعليم‬
‫المة السلمية ول يسمحوا لشيء طريف بأن يقرب منهم ‪ ،‬فإن المود قد تغلب على‬
‫نظامهم التعليمي ‪ ،‬وكانت مشاغلهم السياسية قد طغت ف دور النطاط ‪ ،‬وكانت تسمح‬
‫لم بأن يتحملوا متاعب الشاهدة والختبار ‪ ،‬فلم يكن لم إل أن يلحوا على فلسفة‬
‫أرسطاطاليس ‪ ،‬ويبنوا علمهم على لستدلل ‪ ،‬فلم تزل الدارس السلمية ف القرن التاسع‬
‫عشر السيحي ‪ ،‬كما كانت ف القرن الثالث عشر السيحي‪. )) )(196‬‬

‫النطاط الفكري والعلمي العام ‪:‬‬


‫ول يكن المود العلمي والكلل الفكري مقتصرين على تركيا وأوساطها العلمية‬
‫والدينية فحسب ‪ ،‬بل كان العال السلمي من شرقه إل غربه مصابا بالدب العلمي ‪ ،‬وشبه‬
‫شلل فكري ‪ ،‬قد أخذه العياء والفتور ‪ ،‬واستول عليه النعاس ‪ .‬ولعل القرن التاسع‪ -‬إذا ل‬
‫نقل القرن الثامن‪ -‬آخر قرون النشاط والتوليد والبتكار ف الدين والعلم ‪ ،‬والدب والشعر‬
‫والكمة ‪ ،‬والقرن العاشر أول قرون المود والتقليد والحاكاة ‪ ،‬وترى هذا المود عاما‬
‫شاملً للعلوم الدينية والفنون الدبية والعان الشعرية والنشاء والتاريخ ومناهج التعليم ‪ ،‬فل‬
‫تد ف كتب التراجم الت ألفت للعصور الخية من تطلق عليه لقب العبقري ‪ ،‬أو النابغة أو‬

‫(‪ (( (196‬صراع الشرق والغرب في تركيا (( ‪ :‬محاضرات في النجليزية لخالدة أديب ألقتها في الجامعة الملية السلمية ‪ ،‬الخطبة‬
‫الثانية (( انحطاط العثمانيين (( ص ‪. 43 – 40‬‬
‫‪. Conflict of East and West in Turkey by Halide Edib P . 40 – 43‬‬
‫‪127‬‬
‫الحقق على القل ‪ ،‬أو من جاء ف فن من الفنون بشيء طريف مبتكر ‪ ،‬أو زاد ف العلم زيادة‬
‫حسنة إذا استثنينا بعض الفراد ف أطراف العال السلمي ‪ ،‬كالشيخ أحد بن عبد الحد‬
‫السرهندي (م ‪1024‬هـ) صاحب الرسالة الالدة ف الشريعة والعارف اللية ‪ ،‬والشيخ ول‬
‫ال بن عبدالرحيم الدهلوي (م ‪1176‬هـ) صاحب حجة ال البالغة وإزالة الفاء والفوز‬
‫الكبي ورسالة النصاف ‪ ،‬وابنه الشيخ رفيع الدين (م ‪1233‬هـ) صاحب تكميل الذهان‬
‫وأسرار الحبة ‪ ،‬والشيخ إساعيل بن عبدالغن بن ول ال الدهلوي (م ‪1246‬هـ) صاحب‬
‫منصب المامة والعبقات والصراط الستقيم‪. )(197‬‬
‫ول نقرأ ف شعر هذه العصور الخية على كثرة ما نظم وقيل فيها شعرا مطبوعا يعلق‬
‫بالذهن أو إنشاء مترسلً ينشرح له الصدر ‪ ،‬ترى أدبا فاترا باردا قد أفسده التأنق ف اللية‬
‫اللفظية والبالغة والتهويل ف اللفاظ والعان وكثرة التملق ف الدح والغزل بالذكر ف‬
‫الشعر ‪ ،‬والتكلف حت ف الرسائل الخوانية والغراض الطبيعية والسجع البارد حت ف كتب‬
‫التاريخ والتراجم ‪.‬‬
‫كذلك حلقات التعليم قد رحلت عنها كتب التقدمي وحلت ملها كتب التأخرين‬
‫التكلفي وغصت بالواشي والتقريرات والتلخيصات والتون الت ضن فيها مؤلفوها على‬
‫القرطاس ‪ ،‬وتعمدوا التعقيد والغموض ‪ ،‬وكأنم ألفوها ف صناعة الختزال ‪ ،‬وكل ذلك ينبئ‬
‫عن النطاط الفكري والعلمي الذي حل بالعال السلمي وتغلغل ف أحشائه ‪.‬‬

‫معاصرو العثمانيي ف الشرق ‪:‬‬


‫وعاصرت الدولة العثمانية دولتان قويتان ف الشرق ‪ ،‬إحداها الدولة الغولية الت‬
‫أسسها بابر التيموري (سنة ‪933‬هـ ‪1546‬م) وكان معاصرا للسلطان سليم الول وتوال‬
‫على عرشها ملوك من أعظم السلمي شوكة وأبة وقوة حربية واتساع ملكة ‪ ،‬وكان‬
‫أعظمهم أورنك زيب ‪ ،‬وكان آخر اللوك التيموريي القوياء وأوسعهم ملكة وأعظمهم‬
‫فتوحا وأمتنهم ديانة وأعرفهم بالكتاب والسنة ‪ ،‬وقد عاش أكثر من تسعي سنة وحكم‬

‫(‪(197‬‬
‫انظر تراجمهم في كتاب نزهة الخواطر للعلمة عبدالحي الحسني المجلد الخامس والسادس والسابع ‪.‬‬
‫‪128‬‬
‫خسي وتوف (سنة ‪1118‬هـ) أي ف فجر القرن الثامن عشر السيحي ‪ ،‬وهو عصر مهم‬
‫جدا ف تاريخ أوربا ولكنه ل يكن هو ول سلفه على شيء من التصال با كان يري ف‬
‫أوربا وما تتمخض به من حودث جسام ‪ ،‬وما يفور ف صدره من عوامل الرقي والنهضة ‪،‬‬
‫وكانوا ينظرون إل من يغشاهم من تار أوربا وأطبائها أو سفراء دولا‪ -‬على قلة ورودهم من‬
‫هذه البلد النائية‪ -‬نظر الستخفاف والحتقار ‪.‬‬
‫وكانت تصاقب دولتهم ف أفغانستان الدولة الصفوية ‪ ،‬وكانت راقية متحضرة ولكنها‬
‫شغلت بنعتها الشيعية وبالجوم على الدولة العثمانية مرة والدفاع عن نفسها مرة أخرى ‪.‬‬
‫وانصر هاتان الدولتان ف قطرها وكانت بعزل عما يقع ف الشرق الدن فضلً عن‬
‫الغرب ‪ ،‬وف البلد السلمية فضلً عن البلد الجنبية ‪ ،‬أما التحالف والتكتل فلم يكن يطر‬
‫من أحد منهم على بال ‪ ،‬وذلك ما طبعت عليه الدول الشرقية والكومات الشخصية ووصى‬
‫با الباء والبناء ‪ ،‬وكذلك دراسة أحوال أوربا العلمية والربية واقتباس العلوم والصنائع من‬
‫الارج فلم يكن يدور بلد إنسان ف ذلك العصر ‪.‬‬

‫نضة أوربا الاهلية وسيها الثيث ف علوم الطبيعة والصناعات ‪:‬‬


‫وكان القرن السادس عشر والسابع عشر السيحي من أهم أدوار التاريخ النسان الذي‬
‫له ما بعده ‪ ،‬قد استيقظت فيه أوربا من هجعتها الطويلة ‪ ،‬وهبت من مرقدها منونة تتدارك‬
‫زمان الغفلة والهل وتعدو إل غايتها عدوا ‪ ،‬بل تطي إليها بكل جناح ‪ ،‬تسخر قوى الطبيعة‬
‫وتفضح أسرار الكون ‪ ،‬وتكشف عن بار وقارات كانت مهولة وتفتح فتوحا جديدة ف كل‬
‫علم وفن وف كل ناحية من نواحي الياة ونبغ ف هذه الدة القصية رجال ومبتكرون ف كل‬
‫علم وعبقرية أمثال كوبرنيكس (‪ )Copernicus‬وبرونو (‪ )Brunoe‬وغليليو (‬
‫‪ )Galilio‬وكبلر (‪ )kepler‬ونيوتن(‪ ، )Newton‬وغيهم الذين نسخوا النظام القدي‬
‫وأسسوا نظاما حديثا واكتشفواعوال ف العلم ‪ ،‬ومن الرحالي الكتشفي أمثال كلمبس (‬
‫‪ )Columbus‬وفاسكودي غاما (‪ )Vasco Dagama‬وملن (‪ . )Maglin‬كان‬
‫تاريخ المم ف هذا الدور ف صياغة وسبك ‪ ،‬وكانت نوم المم والشعوب بعضها ف أفول‬

‫‪129‬‬
‫وبعضها ف طلوع ‪ ،‬يصي الفل منها طالعا والطالع آفلً ‪ ،‬وكانت ساعة ف ذلك الزمان‬
‫تساوي يوما بل أياما ‪ ،‬ويوم يساوي عاما بل أعواما ‪ ،‬فمن ضيع ساعة فقد ضيع زمنا ‪.‬‬

‫تلف السلمي ف مرافق الياة ‪:‬‬


‫ولكن السلمي ل يضيعوا ساعات وأياما بل ضيعوا أحقابا وأجيالً انتهزت فيها‬
‫الشعوب الوربية كل دقيقة وثانية ‪ ،‬وسارت سيا حثيثا ف كل ميدان من مادين الياة‬
‫وقطعت ف أعوام مسافة قرون ‪.‬‬
‫وما ينبئ عن مقدار خول تركيا ف ميدان العلوم والصناعات أن صناعة السفن ل‬
‫تدخل ف تركيا إل ف القرن السادس عشر السيحي ‪ ،‬ول تدخل الطابع ف العاصمة والحاجر‬
‫الصحية ف هذه الدولة إل ف القرن الثامن عشر ‪ ،‬وكذلك مدارس الفنون الربية على النسق‬
‫الورب ‪ .‬وف آخر هذا القرن كانت تركيا بعزل عن الصناعات والكتشافات ‪ ،‬حت لا‬
‫شاهدوا بالونا يلق فوق العاصمة ظنوه من أعمال السحر والكيمياء ‪ .‬قد سبقتها دول أوربا‬
‫الصغية ف الخذ بأسباب الدنية والرفاه العام ‪ ،‬وحت سبقتها مصر ف اتاذ السكك الديدية‬
‫واستعمال القطارات بأربعة أعوام وف استعمال طوابع البيد ببضعة أشهر ‪.‬‬

‫تلفهم ف صناعة الرب ‪:‬‬


‫ول يكن انطاط السلمي ف العلوم النظرية والكمية والدنية فحسب ‪ ،‬بل كان هذا‬
‫النطاط عاما شاملً ‪ ،‬حت تلفوا عن أوربا ف صناعة الرب الت كان التركي ف الزمن‬
‫الخي ابن بدتا وأبا عذرتا ‪ ،‬قد أقرّ بفضلهم وتبيزهم فيها العال ‪ ،‬ولكن سبقتهم أوربا‬
‫باختراعها وقوة إبداعها وحسن تنظيمها حت هزمت جيوشها اليوش العثمانية هزية منكرة‬
‫(سنة ‪1774‬م) وظهر سبقها ف ميدان القتال أيضا فانتبهت الدولة العثمانية بعض النتباه ‪،‬‬
‫وانتدبت الاهرين الوربيي لتنظيم اليش وتربية العساكر ‪ ،‬وعُن السلطان سليم الثالث ف‬
‫فجر القرن التاسع عشر بالصلح ‪ ،‬وكان عصاميا قد نشأ وتعلم خارج البلط‪ -‬خلفا‬
‫لسابقيه‪ -‬وأنشأ مدارس جديدة وكان يُعلم بنفسه ف مدرسة الندسة ‪ ،‬وألف جيشا على‬

‫‪130‬‬
‫الطراز الديث ‪ ،‬وأدخل تعديلت وتسينات ف النظام السياسي ‪ ،‬وقد بلغ الشعب حدا‬
‫كبيا من المود والحافظة على القدي ف كل شيء حت ثار عليه اليش القدي واغتاله ‪،‬‬
‫وخلفه ممود الثان الذي حكم من سنة ‪ 1807‬م إل سنة ‪ 1839‬م ‪ ،‬ومن بعده عبد‬
‫الجيد الول (‪1839‬م‪ 1851 -‬م) فخلفا سليما الثالث ف مهمته وتقدمت تركيا بعض‬
‫التقدم ‪.‬‬
‫قارن هذا الشوط الذي قطعته تركيا السلمية ف ميدان الرقي والتقدم ‪ ،‬بالشواط الت‬
‫قطعتها أوربا ف القرن الثامن عشر والتاسع عشر تد الفرق هائلً ‪ ،‬فلم يكن جريها ف اليدان‬
‫إل مسابقة بي سلحفاة وأرنب ‪ ،‬إل أن الرنب ساهر دائب ف عمله ‪ ،‬والسلحفاة قد يغلبها‬
‫النوم وتغفي إغفاءه ‪.‬‬

‫***************************************‬

‫‪131‬‬
‫الباب الرابع‬
‫العصر الورب‬
‫الفصل الول‬
‫أوربا الادية‬
‫طبيعة الضارة الغربية وتاريها ‪:‬‬
‫قبل أن ننظر ماذا أثّر تول القيادة من المم السلمية إل المم الوربية ف عقلية العال‬
‫وأخلق الشعوب والمم والدنية والجتماع واتاهات النسانية وميولا ‪ ،‬وماذا جن منه‬
‫النوع النسان ‪ ،‬وهل كان ربه أكثر من خسارته ورزئه أو بالعكس ؟ ‪ ..‬يب علينا أن‬
‫نعرف طبيعة الضارة الغربية ووضعها وروحها وفلسفة حياة هذه المم وكيف نشأت ؟‬
‫ليست الضارة الغربية ف القرن العشرين السيحي وليدة هذه القرون التأخرة الت تلت‬
‫القرون الظلمة ف أوربا أو حديثة كما يتوهم كثي من الناس ‪ ،‬بل يرجع تاريها إل آلف من‬
‫السني ‪ ،‬فهي سليلة الضارة اليونانية الضارة الرومية قد خلفتهما ف تراثهما السياسي‬
‫والعقلي والدن ‪ ،‬وورثت عنهما كل ما خلفتا من متلكات ونظام سياسي وفلسفة اجتماعية ‪،‬‬
‫وتراث عقلي وعلمي ‪ ،‬وانطبعت فيها ميولما ونزعاتما وخصائصهما‪ .‬بل اندرت إليها ف‬
‫الدم ‪ ،‬فقد كانت الضارة اليونانية أول مظهر رائع – حفظه لنا التاريخ – للعقلية الوربية ‪.‬‬
‫وأول حضارة – سجلها التاريخ – قامت على أساس الفلسفة الوربية تلت فيها النفسية‬
‫الوربية ‪ ،‬وعلى أنقاضها قام صرح الضارة الرومية تمل روحا واحدة هي الروح الوربية ‪،‬‬
‫وظلت الشعوب الوربية طيلة قرون متفظة بصائصها وطبيعتها ‪ ،‬وارثة لفلسفتها وعلومها‬
‫وآدابا وأفكارها ‪ ،‬حت برزت با ف القرن التاسع عشر ف ثوب برّاق يوهك – بطلوته‬
‫وزهو ألوانه – أنه جديد النسج ولكن لمته وسداه من نسج اليونان والرومان ‪.‬‬
‫إذا يسن بنا أن نتعرف بالضارة اليونانية والرومية أولً وأن نعرف طبائعهما‬
‫وروحهما ‪ ،‬حت نكون على بصية ف انتقاد الضارة الغربية والكم عليها ف القرن العشرين‬

‫‪132‬‬
‫خصائص الضارة الغريقية ‪:‬‬
‫اليونان أمة موهوبة ‪ ،‬من أنب أمم العال وأذكاها وأكثرها استعدادا للعلم والدب ‪،‬‬
‫ومن أخصبها أذهانا وعقولً ‪ ،‬وقد مثلت ف العال دورا خالدا بفلسفتها وأدبا ووفرة من نبغ‬
‫فيها من العلماء والكماء والعبقريي تزهو بآثارهم مكتبات العال ‪.‬‬
‫والذي يعنينا الن هو أن نعرف طبيعة الضارة الت أنشأوها ‪ ،‬فإذا نظرنا فيها نظرة‬
‫تليل وانتقاد وصرفنا النظر عما تشترك فيه مع الضارات من مظاهر وظواهر وبثنا عن‬
‫طبيعتها وخصائصها وجدنا من الزايا الت تتاز با عن الدنيات الخرى – خصوصا الدنيات‬
‫الشرقية – ما يلي ‪:‬‬
‫(‪)1‬اليان بالحسوس وقلة التقدير لا ل يقع تت الس ‪.‬‬
‫(‪)2‬قلة الدين والشوع ‪.‬‬
‫(‪)3‬شدة العتداد بالياة والهتمام الزائد بنافعها ولذائذها ‪.‬‬
‫(‪)4‬النعة الوطنية ‪.‬‬
‫ويكن أن نصر هذه الظاهر التشتتة ف كلمة مفردة هي (( الادية )) فكانت الضارة‬
‫اليونانية شعارها (( الادية )) وهي الت ينم با كل ما يتصل باليونان من ثقافة وعلم وفلسفة‬
‫وشعر ودين ‪ ،‬فلم يستطيعوا أن يتصوروا صفات ال وقدرته إل ف شكل آلة نتوا لا تاثيل‬
‫وبنوا لا معابد وهياكل ‪ ،‬فللرزق إله وللرحة إله ‪ ،‬وللقهر إله ‪ ،‬ث نسبوا إليها كل ما يتص‬
‫بالسم الادية ونسجوا حولا من أساطي وخرافات ‪ ،‬وصوروا العان الجردة وتصوروها ف‬
‫أجسام وأشكال ؛ فللحب إله وللجمال إله ‪ ،‬وليس نظام العقول العشرة والفلك التسعة ف‬
‫فلسفة أرسطاطاليس إل رشحه من رشحات هذه الادية الت تتخلى عنها الطبيعة اليونانية ‪.‬‬
‫وقد سلم العلماء الوربيون بغلبة الادية ف الضارة اليونانية ‪ ،‬ونوهوا با ف كتبهم‬
‫وبوثهم العلمية ‪ ،‬وقد ألقى العال اللان الدكتور (( هاس )) ( ‪ ) Haas‬ثلث ماضرات ف‬
‫جنيف عنوانا (( ما هي الدينة الوربية ؟ )) وهو من العلماء الذين يرون أن الدنية الغربية ل‬
‫تتأثر بالشرق ‪ ،‬وأنا مدينة مفردة متازة ‪ ،‬ونلخص هنا كلمه فيما نن بصدده ‪:‬‬

‫‪133‬‬
‫(( الدنية اليونانية هي مركز الدينة الغربية الاضرة ‪ ،‬وكان الهم عند رجالا نشوء قوى‬
‫النسان نشوءا مناسبا وكان الثل الكامل عندهم السم الميل التناسب ‪ ،‬وليس هذا إل‬
‫اعتدادا بالحسوسات اعتدادا كبيا ‪ ،‬وكان أكب عنايتهم بالرياضة البدنية واللعاب الرياضية‬
‫والرقص وغيه ‪ ،‬وكان التثقيف الذهن الذي يتوي على الشعر والغناء والتمثيل والفلسفة‬
‫وعلوم الطبيعة ل يتجاوز حدا خاصا حت ل يكون ارتقاء الذهن على حساب السم ‪ ،‬وكان‬
‫الدين خلوا من الروحانية العنوية ؛ ل يكن فيه علم الدين ول طبقة رجال الدين ‪ .‬أما اللون‬
‫الروحي الذي ف تقاليد (( أزفس )) وغيها فإنا هو مستعار من الشرق ول يصح أن ينسب‬
‫إل الدينة اليونانية )) ‪.‬‬
‫ولحظ كثي من العلماء الوربيي رقة الدين ف اليونان وقلة الشوع والد ف أعمالم‬
‫وكثرة اللهو والطرب ف حياتم ‪ .‬يقول ليكي ف كتابه (( تاريخ أخلق أوربا )) ‪ (( :‬إن‬
‫الركة اليونانية كانت عقلية وذهنية مضة ‪ ،‬وكانت الركة الصرية بالعكس من الول ‪،‬‬
‫روحية باطنية ‪ .‬وينقل (( أبوليس )) الؤلف الرومي قوله ‪ (( :‬إن الصريي كانوا يعظمون‬
‫آلتهم بالتضرع والبكاء ‪ ،‬وكان اليونانيون يعظمون آلتهم بالرقص والغناء )) ويعلق عليه بقوله‬
‫‪ (( :‬ل ريب أن التاريخ اليونان يصدق ذلك ويؤيده ‪ ،‬فل نعلم دينا من الديان يزاحم دين‬
‫اليونان وتقاليده ف كثرة الفراح والعياد واللعاب وف قلبه الشية والشوع ‪ ،‬فلم يكن‬
‫اليونان يعظمون ال تعال إل كما يعظمون شيوخهم وعظماءهم ‪ ،‬وكانوا يكتفون ف تعظيمه‬
‫وتجيده برسوم عادية وتقاليد جارية )) ‪.‬‬
‫وكان لليونان فلسفة إلية وعقائد يستغرب معها الشوع ل وعبادته والتضرع له‬
‫واللتجاء إليه والطراح على عتبته ‪ ،‬فإن من ينفي الصفات عن ال تعال ويعطله وينفي عنه‬
‫الختيار والفعال واللق والمر ف هذا الكون ‪ ،‬ويربط هذا العال با يسمونه (( العقل الفعال‬
‫وحركات الفلك )) فإنه بطبيعة هذه العقيدة ل يقصد ال ف حياته العملية إل تقليدا ‪ ،‬ول‬
‫يرجوه ول يهابه ول يبه ول ير لعظمته ‪ ،‬ول يستغيث به ف شدته ول يسبح بمده ويعيش‬
‫كأنه إله ول رب ؛ فإذا سعنا أن اليونان ل يكونوا خاشعي ل وكانت عبادتم وأعمالم‬
‫الدينية أجسادا بغي أرواح ‪ ،‬وأنم كانوا يعظمون ال كما كانوا يعظمون شيوخهم وكبارهم‬
‫‪134‬‬
‫ل نستغربه البتة ‪ ،‬وإنا نتعجب إذا سعنا عكس ذلك ‪ ،‬وقد أثرت شدة العتداد بالياة الدنيا‬
‫والبالغة ف قيمتها ‪ ،‬وكذلك الولوع بالتماثيل والصور والغناء والوسيقى الت يسميها اليونان‬
‫الفنون الميلة ولج الدباء والؤلفي بالرية الشخصية الت ل تعرف قيدا ول تقف عند حد‬
‫تأثيا سيئا ف أخلق اليونان ومتمعها ‪ ،‬فانتشرت الفوضى ف الخلق وحدثت ثورة على‬
‫كل نظام ‪ ،‬وأصبح شعار الرجل المهوري ( وهو كناية عن الر والتنور ) الري وراء‬
‫الشهوات العاجلة ‪ ،‬وانتهاب السرات ‪ ،‬والتهام الياة التهام الائع النهم ‪ .‬يصف سقراط –‬
‫كما ينقل عنه أفلطون ف كتابه (( الملكة )) – الرجل المهوري فكأنا يصف ناقد من نقاد‬
‫هذا القرن فت القرن العشرين ف إحدى عواصم الدينة الغربية ‪:‬‬
‫(( إذا قيل له ‪ :‬إن بعض السرات من الرغبات الت هي طيبة وتستحق الحترام وبعضها‬
‫من الشهوات الت هي قبيحة ‪ ،‬وإن الول ينبغي أن يعمل بقتضاها وتترم والخرى ما ينبغي‬
‫أن ينع عنها ويقام عليها الجر ‪ ،‬ل يقبل هذا الرجل هذا القانون الصحيح ول يسمح بسماعه‬
‫؛ فإذا عرضت عليه هذه القائق أنغض إليك رأسه مستهزئا وأكد أن جيع الشهوات سواء‬
‫وتستحق الحترام بغي فرق بينها ‪ ،‬وهكذا يعيش ويقضي أيامه مرضيا شهواته الت تعتريه‬
‫أحيانا ‪ ،‬ذات يوم تراه سكران ثل مصغيا إل الغناء ‪ ،‬وف يوم آخر تراه صائما يتزئ بالاء ‪،‬‬
‫وتارة يدخل ف التربية والتمرين ‪ ،‬وأخرى تراه كسلن عاطلً يهمل كل شيء ‪ ،‬ومرة تراه‬
‫يعيش عيش فيلسوف ‪ ،‬وأحيانا يدخل ف السياسة وينهض ويطب بقتضى الوقت ‪ ،‬ربا يدح‬
‫بعض رجال الرب والندية وييل إليهم أو يشرع ف التجارة لنه يغبط التاجر الرابح ‪ ،‬ليس‬
‫لياته نظام ول ضبط ولكنه يعد هذه الياة هنيئة ناعمة سارة ويواصلها إل النهاية )) ‪.‬‬
‫أما الوطنية فهي من لوازم الطبيعة الوربية ‪ ،‬وهي أظهر وأقوى ف أوربا منها ف آسيا ‪،‬‬
‫وقد أغرى بذلك الطبيعة الغرافية وأوحته ‪ ،‬لن الناطق الطبيعية ف آسيا واسعة جدا وتشمل‬
‫على مناخات وعلى أجيال وأنواع كثية للبشر ‪ ،‬وهي غنية مصبة ف وسائل العيشة ؛‬
‫فالملكة ف القارة السيوية تنح بكم الطبيعة إل السعة والعموم ‪ ،‬وظهرت ف أرضها‬
‫وازدهرت أوسع مالك عرفها التاريخ ‪ ،‬أما ف أوربا فالتنازع على البقاء فيها شديد ‪ ،‬والكفاح‬
‫للحياة دائم مستمر ‪ ،‬لتزاحم العمران وضيق الناطق وقلة وسائل العيشة ‪ ،‬وقد حصرت البال‬
‫‪135‬‬
‫والنار الجناس الوربية ‪ ،‬ف نطاق طبعي دائم ‪ ،‬وبالخص الزء الوسط الغرب والزء‬
‫النوب من أوربا ‪ ،‬ل يسمح لمالك واسعة عظيمة ‪ ،‬وقد شاءت طبيعة هذه القارة أن تكون‬
‫منشأ لمالك ضيقة صغية ‪ ،‬لذلك كان التصور السياسي ف أوربا ف القدي ل يكاد ياوز‬
‫مالك بلدية ل تزيد منطقتها على أميال مستقلة استقللً تاما ‪ ،‬وأكب مظهر لذا التصور أرض‬
‫يونان حيث وجدت من فجر التاريخ عشرات من مدن صغية مستقلة ‪.‬‬
‫فل عجب إذا كان اليونان يدينون بالوطنية وينتحلونا ‪ ،‬وقد سلم (( ليكي )) أن الفكرة‬
‫الوطنية هي الفكرة السائدة ف اليونان ‪ ،‬وكانت الفكرة العالية الت قد نطق با بعض حكمائهم‬
‫كسقراط وانكساغورس شاذة ل تنل أنصارا وانتصارا ف يونان ‪ ،‬فكان نظام أرسطاطاليس‬
‫الخلقي مبنيا على التمييز بي اليونان وغي اليونان ‪ ،‬وكان حب الوطن يتقدم فضائل‬
‫الخلق الت أجع عليها حكماء اليونان ‪ ،‬وأن أرسطاطاليس ل يكتف بب وطنه والولء له‬
‫فحسب ؛ بل قال ‪ :‬إن اليونانيي ينبغي لم أن يعاملوا الجانب با يعاملون به البهائم ؛ وقد‬
‫راجت هذه الفكرة الوطنية الضيقة ف الوساط اليونانية وتغلغلت ف الحشاء ‪ ،‬حت لا قال‬
‫فيلسوف إنه ل يص مواطنيه بواساته بل سيكون بره عاما لميع اليونانيي استشرفه الناس‬
‫عجبا ونظروا إليه شزرا ‪.‬‬

‫خصائص الضارة الرومية ‪:‬‬


‫خلف اليونان الروم وفاقوهم ف القوة والتنظيم للمملكة واتساع الدولة وصفات الندية ‪،‬‬
‫ولكن ل يلحقوا بم بعد ف العلم والفلسفة والداب والشعر والتهذيب واللباقة والدنية الت‬
‫كان للغريق فيها فضل وتقدم على جيع المم العاصرة وعلى الروم أيضا الذين كانوا ل‬
‫يزالون ف دورهم العسكري ‪ ،‬فخضعوا لم علميا وتطفلوا على مائدتم واقتبسوا من علومهم‬
‫وفلسفتهم وأفكارهم ‪.‬‬
‫يقول ليكي ‪:‬‬
‫(( إن اليونان كانت لم ثروة علمية ضخمة أنتجوها وزادوا فيها على مر القرون‬
‫والعصور ‪ ،‬وكانت رومة ل تزال ف طورها الندي ل تلك أثرا من الثار الدبية ‪ ،‬بل كانت‬

‫‪136‬‬
‫لغتها قاصرة ف التعبي عن الفكار والعان العالية ‪ ،‬فغُلب الروم بتخلفهم وقصورهم ف العلم ‪،‬‬
‫وانقلبوا صاغرين للمدنية اليونانية الت غُلب أهلها ف السياسة ‪ ،‬ول يزالوا مأخوذين بسحرهم‬
‫ف كل قسم من أقسام العلم ‪ ،‬فكان الؤرخون القدمون ف الروم يؤلفون كتبهم باليونانية ‪،‬‬
‫واستمرت اليونانية لغة التأليف والعلم بعد ما بدأ شعراء الروم ينظمون الشعر ف اللتينية )) ‪.‬‬
‫ول يكن هذا الضوع خاصا ف عال التأليف والدب فحسب ‪ ،‬بل غلبت الدنية‬
‫الغريقية الدنية الرومية ف الخلق والسجايا والعشرة والجتماع وف العواطف والنعات ‪،‬‬
‫وف كل ناحية من نواحي الياة العامة ‪ ،‬وأصبح الروم يقلدون الغريق ويتنبلون بذلك‬
‫ويتظرفون ‪.‬‬
‫وهكذا انتقلت الفلسفة اليونانية والثقافة اليونانية ‪ ،‬بل النفسية اليونانية إل الروم ‪ ،‬وجرت‬
‫منهم مرى الروح والدم ‪ ،‬ول يكن الروم – بطبيعتهم الوروبية – يتلفون عن اليونان ف‬
‫الصائص الفطرية كثيا ‪ ،‬بل هناك شبه عظيم بي المتي ‪ ،‬إيان بالحسوس وغلو ف تقدير‬
‫الياة وشك ف دين ‪ ،‬وضعف ف يقي ‪ ،‬واضطراب ف العقيدة ‪ ،‬واستخفاف بالنظام الدين‬
‫وطقوسه ‪ ،‬واعتزاز بالقومية وتعصب لا ‪ ،‬وحب مفرط للوطن ‪ .‬زد إل ذلك كله اعتدادا‬
‫بالقوة واحتراما زائدا لا يبلغ العبادة والتقديس ‪.‬‬
‫يظهر من التاريخ أنه ل يكن للرومان إيان راسخ ف دينهم ‪ ،‬وإن أعذرهم ف ذلك ‪ ،‬فإن‬
‫النظام الدين الوثن الراف الذي كان سائدا ف رومية يقتضي بطبيعته الشك والضطراب‬
‫وضعف اليان ‪ ،‬فكلما تقدموا ف العلم وتنورت أفكارهم ‪ ،‬ازدادوا استخفافا به ‪ ،‬وقد قضوا‬
‫من أول يوم أن اللة ل يدخل لم ف السياسة وأمور الدنيا ‪.‬‬
‫يقول ( سيسرو ‪: ) Cicero‬‬
‫لا كان المثلون ينشدون ف دور التمثيل أبياتا معناها أن اللة ل دخل لا ف أمور الدنيا‬
‫يصغي إليها الناس ويسمعونا بكل رغبة ‪.‬‬
‫ويقول الراهب ( أغستي ‪: ) Auguostine‬‬
‫(( إن الروم الوثنيي كانوا يعبدون آلتهم ف العابد ويهزأون بم ف دور التمثيل )) وقد‬
‫فقد الدين الرومي سلطانه الروحي على معتنقيه ‪ ،‬وبردت العاطفة الدينية ف قلوب الناس حت‬
‫‪137‬‬
‫ترأ الناس على اللة وأهانوها ف بعض الحيان ‪ ،‬فإن التاريخ يدثنا أنه لا غرق أسطول‬
‫للمباطور أغسطس ‪ Augustus‬استشاط غضبا ‪ ،‬وحطم تثال نيبتون ‪ Neptone‬إله‬
‫البحر ‪ ،‬ولا مات جرمينيكس ‪ Germanicus‬رجم الناس أنصاب اللة (الت كانوا يذبون‬
‫عليها ) ‪.)(198‬‬
‫فلم يكن للدين تأثي ف أخلق المة وسياستها ومتمعها ‪ ،‬ول يكن يلك عليهم‬
‫شعورهم وميولم ويراقب عليهم أخلقهم ونزعاتم ‪ ،‬ول يكن دينا عميقا يكم على الروح‬
‫وينبعث من أعماق القلب ‪ ،‬بل كان تقليدا من التقاليد ‪ ،‬كانت السياسة تقتضي البقاء عليه‬
‫ولو بالسم والرسم ‪ .‬يقول ليكي ‪:‬‬
‫(( إن الدين الرومي كان أساسه على الثرة ‪ ،‬ول يكن يرمي إل إل رفاهة الفراد‬
‫وسلمتهم من الصائب والتاعب ؛ والشاهد على ذلك أنه ظهر ف رومية مئات من البطال‬
‫والعظماء ‪ ،‬ولكن ل ينهض فيها زاهد ف الدنيا عزوف عن ملذات الياة ‪ ،‬ول تسمع مثالً ف‬
‫تاريخ الروم للتضحية واليثار إل وتده ل تأثي فيه للدين ولكن مبنيا على الوطنية‪. )) )(199‬‬
‫والظاهرة الت يتاز با الروم من بي أمم الرض العاصرة بل بعدها ‪ ،‬والت أصبحت لا‬
‫دينا تدين به وشعارا تعرف به هي روح الستعمار والنظر الادي البحت إل الياة ‪ .‬وذلك ما‬
‫ورثته أوربا العاصرة عن سلفها الروميي وخلفتهم فيه ‪.‬‬
‫وقد أجاد وصفه العال اللان السلم الستاذ ممد أسد ف كتابه النفيس السلم على‬
‫مفترق الطرق )) ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫(( إن الفكرة الت كانت تسيطر على المباطورية الرومانية هي احتكار القوة لا‬
‫واستغلل المم الخرى لصلحة الوطن الرومي فقط ‪ ،‬ل يكن رجالا والقائمون عليها‬
‫يتحاشون من أي ظلم وقسوة ف سبيل حصول خفض العيش لطبقة متازة ‪ .‬أما ما اشتهر من‬
‫عدل الروم فلم يكن إل للروم فقط ‪ ،‬إن هذه السية ل يكن أن تقوم إل على إدراك مادي‬
‫مض للحياة والضارة ‪ ،‬وإن كانت ماديتهم قد هذبت بذوق عقلي ولكنها بعيدة عن جيع‬

‫(‪ (198‬تاريخ أخلق أوربا ‪.‬‬


‫‪. ( History of European morals ( The pagan empire‬‬
‫(‪ (199‬المصدر نفسه ‪.‬‬
‫‪138‬‬
‫القيم الروحية ‪ ،‬إن الروم ل يدينوا بالدين جديا أبدا ‪ ،‬كانت آلتهم التقليدية ماكاة شاحبة‬
‫لساطي الغريق وخرافاتم‪ ،‬وقد آمنوا بذه الرواح مافظة على الرابطة الجتماعية الت كانت‬
‫تربطهم وتوحدهم ‪ ،‬فلم يكونوا يسمحون لذه اللة بالتدخل ف حياتم العملية ‪ ،‬كان لا أن‬
‫يأذنوا أن تتكهن بالغيب – إذا سئلت عن ذلك – على لسان الكهان ولكن ل يلوا لا أبدا أن‬
‫تفترض شرائع أخلقية على الناس‪)) )(200‬‬

‫النطاط اللقي ف المهورية الرومية ‪:‬‬


‫وف ناية دور المهورية سال بالروم سيل النطاط اللقي والبهيمية ‪ ،‬وفاض بر الترف‬
‫ف العيش والبذخ فيضانا عظيما – غاص الروم فيه إل القاع وسالت فيه النظم الخلقية الت‬
‫كانت الروم معروفي با كالغناء ‪ ،‬وتزعزع البناء الجتماعي حت كاد ينهدم ‪ ،‬وقد صوره‬
‫((درابر )) المريكي بقلمه البليغ ‪:‬‬
‫(( لا بلغت الدولة الرومية ف القوة الربية والنفوذ السياسي أوجها ‪ ،‬ووصلت ف‬
‫الضارة إل أقصى الدرجات هبطت ف فساد الخلق وف النطاط ف الدين والتهذيب إل‬
‫أسفل الدركات ‪ .‬بطر الرومان معيشتهم وأخلدوا إل الرض واستهتروا استهتارا ‪ ،‬وكان‬
‫مبدؤهم ‪ .‬أن الياة إنا هي فرصة للتمتع ‪ ،‬ينتقل فيها النسان من نعيم إل ترف ومن لو إل‬
‫لذة ‪ ،‬ول يكن زهدهم وصومهم ف بعض الحيان إل ليبعث على شهوة الطعام ‪ ،‬ول يكن‬
‫اعتدالم إل ليطول به عمر اللذة ‪ ،‬كانت موائدهم تزهو بأوان الذهب والفضة مرصعة‬
‫بالواهر ‪ ،‬ويف بم خدام ف ملبس جيلة خلبة وغادات رومية حسان وغوان عاريات‬
‫كاسيات غي متعففات تدل دللً ‪ ،‬ويزيد ف نعيمهم حامات باذخة وميادين للهو واسعة‬
‫ومصارع يتصارع فيها البطال مع البطال أو مع السباع ‪ ،‬ول يزالون يصارعون حت ير‬
‫الواحد منهم صريعا يتشحط ف دمه ‪ ،‬وقد أدرك هؤلء الفاتون الذين دوخوا العال أنه إن‬
‫كان هنالك شيء يستحق العبادة فهو القوة ‪ ،‬لنه با يقدر النسان أن ينال الثروة الت يمعها‬
‫أصحابا بعرق البي وكد اليمي ‪ ،‬وإذا غلب النسان ف ساحة القتال بقوة ساعده فحينئذ‬

‫(‪(200‬‬
‫‪. Islam at the Cross Roads p . 38 – 39‬‬
‫‪139‬‬
‫يكن له أن يصادر الموال والملك ويعي إيرادات القطاع ‪ ،‬وإن رأس الدولة الرومية هو‬
‫رمز لذه القوة القاهرة فكان نظام رومة الدن يشف عن أبة اللك ‪ ،‬ولكنه كان طلء خداعا‬
‫كالذي نراه ف حضارة اليونان ف عهد انطاطها ‪. )))(201‬‬

‫تنصر الروم ‪:‬‬


‫وها هنا حادثة عظيمة يب أن يسجلها الؤرخ وينوه با‪ ،‬وهي اعتلء عرش رومة الوثنية‪،‬‬
‫وكان ذلك بلوس قسطنطي الذي اعتنق النصرانية على سرير الباطرة سنة ‪305‬م فانتصرت‬
‫فيه النصرانية على الوثنية ونالت فجأة ما ل تكن تلم به من ملك عريض ودولة مترامية‬
‫الطراف وكلمة ل تعلوها كلمة ‪ .‬ولا كان قسطنطي إنا توصل إل اللك على جسر من‬
‫أشلء النصارى وأنار من دمائهم الت أريقت ف الذب عنه والنصر له ‪ ،‬عرف لم الميل‬
‫وبذل لم وجهه‪ ،‬ووطأ لم أكنافه وقلدهم مفاتيح ملكه‪.‬‬

‫خسارة النصرانية ف دولتها ‪:‬‬


‫ولكن انتصر النصارى ف ساحة القتال وانزموا ف معترك الديان ‪،‬ربوا ملكا عظيما‬
‫وخسروا دينا جليلً‪ ،‬لن الوثنية الرومية مسخت دين السيح ومسخه أهله‪ ،‬وكان أكثر مسخا‬
‫له وتريفا هو قسطنطي الكبي حامي ذمار النصرانية ورافع لوائها ‪.‬‬
‫يقول ((درابر)) ‪:‬‬
‫((دخلت الوثنية والشرك ف النصرانية بتأثي النافقي الذين تقلدوا وظائف خطية‬
‫ومناصب عالية ف الدولة الرومية بتظاهرهم بالنصرانية‪ ،‬ول يكونوا يتفلون بأمر الدين ‪ ،‬ول‬
‫يلصوا له يوما من اليام ‪ ،‬وكذلك كان قسطنطي فقد قضى عمره ف الظلم والفجور ‪ ،‬ول‬
‫يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إل قليلً ف آخر عمره (‪ 337‬م) ‪.‬‬
‫أن الماعة النصرانية وأن كانت قد بلغت من القوة بيث ولّت فسطنطي اللك ولكنها‬
‫ل تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية وتقتلع جرثومتها ‪ ،‬وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت‬
‫مبادئها ‪ ،‬ونشأ من ذلك دين جديد تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء – هنالك يتلف‬
‫(‪(201‬‬
‫‪. Conflict of Religion & Science‬‬
‫‪140‬‬
‫السلم عن النصرانية‪ ،‬إذ قضى السلم على منافسه (الوثنية) قضاء باتا ‪ ،‬ونشر عقائده‬
‫خالصة بغي غش ‪.‬‬
‫وإن هذا المباطور الذي كان عبدا للدنيا والذي ل تكن عقائده الدينية تساوي شيئا‬
‫رأى لصلحته الشخصية والصلحة الزبي التنافسي‪ -‬النصران والوثن‪ -‬أن يوحدها ويؤلف‬
‫بينهما ‪ ،‬حت إن النصارى الراسخي أيضا ل ينكروا عليه هذه الطة‪ ،‬ولعلهم كانوا يعتقدون‬
‫أن الديانة الديدة ستزدهر إذا طمست ولقحت بالعقائد الوثنية القدية ‪ ،‬وسيخلص الدين‬
‫النصران عاقبة المر من أدناس الوثنية وأرجاسها ))‪.‬‬

‫الرهبانية العاتية ‪:‬‬


‫فلم تستطع هذه النصرانية اللقحة بالوثنية الشوهة الت فقدت روحها وجالا أن تغي من‬
‫سية الروم النحطة وأن تبعث فيهم حياة جديدة ‪ ،‬حياة دينية نقية طاهرة وأن تفتح عهدا‬
‫زاهرا ف تاريخ الروم ‪ ،‬بل إنا ابتدعت رهبانية لعلها كانت شرا على النسانية والدنية من‬
‫بيمية رومة الوثنية ‪ ،‬وقد جن جنون هذه الرهبانية ف العال النصران وتطى حدود القياس ‪،‬‬
‫وإنا نلتقط أمثلة من كتاب تاريخ أخلق أوربا وهو قليل من كثي جدا ‪:‬‬
‫(( زاد عدد الرهبان زيادة عظيمة ‪ ،‬وعظم شأنم واستفحل أمرهم واسترعوا النظار‬
‫وشغلوا الناس ‪ ،‬ول يكن الن إحصاؤهم بالدقة ‪ ،‬ولكن ما يلقي الضوء على كثرتم وانتشار‬
‫الركة الرهبانية ما روى الؤرخون أنه كان يتمع أيام عيد الفصح خسون ألفا من الرهبان ‪،‬‬
‫وف القرن الرابع السيحي كان راهب واحد يشرف على خسة آلف راهب ‪ ،‬وكان الراهب‬
‫(( سرابي )) يرأس عشرة آلف ‪ ،‬وقد بلغ عدهم ف ناية القرن الرابع عدد أهل مصر )) ‪.‬‬

‫عجائب الرهبان‪:‬‬
‫ل ف الدين والخلق إل قرني ‪ ،‬وروى الؤرخون من ذلك‬ ‫ظل تعذيب السم مثلً كام ً‬
‫عجائب ‪ ،‬فحدثوا عن الراهب ماكاريوس ( ‪ ) Makarius‬أنه نام ستة أشهر ف مستنقع‬
‫ليقرص جسمه العاري ذباب سام ‪ ،‬وكان يمل دائما نو قنطار من حديد ‪ ،‬وكان صاحبه‬

‫‪141‬‬
‫الراهب يوسيبيس ( ‪ ) Eusebius‬يمل نو قنطارين من حديد ‪ ،‬وقد أقام ثلثة أعوام ف‬
‫بئر نزح ‪ ،‬وقد عبد الرهب يوحنا ( ‪ )St. Jhon‬ثلث سني قائما على رجل واحدة ول‬
‫ينم ول يقعد طول هذه الدة ‪ ،‬فإذا تعب جدا أسند ظهره إل صخرة ‪ ،‬وكان بعض الرهبان‬
‫ل يكتسون دائما ‪ ،‬وإنا يتسترون بشعرهم الطويل ويشون على أيديهم وأرجلهم كالنعام ‪.‬‬
‫وكان أكثرهم يسكنون ف مغارات السباع والبار النازحة والقابر ‪ ،‬ويأكل كثي من الكل‬
‫والشيش ‪ ،‬وكانوا يعدون طهارة السم منافية لنقاء الروح ويتأثون عن غسل العضاء ‪،‬‬
‫وأزهد الناس عندهم وأتقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم ف النجاسات والدنس ‪ ،‬يقول‬
‫الراهب اتينس ‪ :‬إن الراهب أنتون ل يقترف إث غسل الرجلي طول عمره ‪ ،‬وكان الراهب‬
‫أبراهام ل يس وجهه ول رجله الاء خسي سنة ؛ وقد قال الراهب السكندري بعد زمن‬
‫متلهفا ‪ :‬واأسفاه ! لقد كنا ف زمن نعد غسل الوجه حراما فإذا بنا الن ندخل المامات ‪،‬‬
‫وكان الرهبان يتجولون ف البلد ويتطفون الطفال ويهربونم إل الصحراء والديار‬
‫وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتم ويربونم تربية رهبانية والكومة ل تلك من المر شيئا‬
‫‪ ،‬والمهور والدهاء يؤيدونم ويبذون الذين يهجرون آباءهم وأمهاتم ويتارون الرهبانية‬
‫ويهتفون باسهم ‪ ،‬وعرف كبار الرهبان ومشاهي التاريخ النصران بالهارة ف التهريب ‪ ،‬حت‬
‫روي أن المهات كن يسترن أولدهن ف البيوت إذا رأين الراهب أمبوز ( ‪) Ambrose‬‬
‫وأصبح الباء والولياء ل يلكون من أولدهم شيئا وانتقل نفوذهم ووليتهم إل الرهبان‬
‫والقسوس‪. )(202‬‬

‫تأثي الرهبانية ف أخلق الوربيي ‪:‬‬


‫كان نتيجة هذه الرهبانية أن خلل الفتوة والروءة الت كانت تعد فضائل ‪ ،‬عادت‬
‫فاستحالت عيوبا ورذائل ‪ ،‬وزهد الناس ف البشاشة وخفة الروح والصراحة والسماحة‬
‫والشجاعة والرأة وهجروها ‪ ،‬وكان من أهم نتائجها أن تزلزلت دعائم الياة النلية ‪ ،‬وعم‬
‫الكنود والقسوة على القارب ‪ ،‬فكان الرهبان الذين تفيض قلوبم حنانا ورحة ‪ ،‬وعيونم من‬

‫(‪ (202‬اقرأ تاريخ أخلق أوربا (( ليكي ((‬


‫‪. Lecky : History of European Morals Chapter IV‬‬
‫‪142‬‬
‫الدمع ‪ ،‬تقسو قلوبم وتمد عيونم على الباء والمهات والولد ‪ ،‬فيخلفون المهات ثكال‬
‫والزواج أيامي والولد يتامى ‪ ،‬عالة يتكففون الناس ‪ ،‬ويتوجهون قاصدين الصحراء ‪ .‬ههم‬
‫الوحيد أن ينقذوا أنفسهم ف الخرة ل يبالون ماتوا أو عاشوا ‪ ،‬وحكى (( ليكي )) من ذلك‬
‫حكايات تدمع العي وتزن القلب‪. )(203‬‬
‫وكانوا يفرون من ظل النساء ويتأثون من قربن والجتماع بن ‪ ،‬وكانوا يعتقدون أن‬
‫مصادفتهن ف الطريق والتحدث إليهن ولو كن أمهات وأزواجا أو شقيقات تبط أعمالم‬
‫وجهودهم الروحية ‪ .‬وروى (( ليكي )) من هذه الضحكات البكيات شيئا كثيا ‪.‬‬

‫عجز الرهبانية عن تعديل الادية الامة ‪:‬‬


‫ول يتوهم أحد أن هذه الرهبانية الغالية قد عدلت من شره الادية الرومية ‪ ،‬وكبحت من‬
‫جاحها وغلوائها ف البهيمية والشهوات ‪ ،‬فإن هذا ل يكن ول يكون ف الغالب وتأباه الفطرة‬
‫النسانية ويكذبه التاريخ ؛ فإن الذي يوجد العتدال ويفض من الادية الامة ويعل منها‬
‫حياة معتدلة هو النظام الروحي الدين اللقي الكيم الذي يوافق الفطرة النسانية الصحيحة ‪،‬‬
‫والذي ل يتصدى لن يزيل الفطرة النسانية ‪ ،‬بل يوجهها توجيها نافعا ‪ ،‬فإنا ل تزول ولكن‬
‫تيل من شر إل خي ؛ وهكذا فعل السلم ‪ ،‬وهكذا فعل سيدنا ممد صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫فقد صرف شجاعة العرب من النافسات القبلية والتقاتل وأخذ الثأر والحقاد القدية إل‬
‫الهاد ف سبيل ال وإعلء كلمة ال ‪ ،‬وصرف تبذيرهم وساحتهم إل النفاق ف سبيل ال ‪،‬‬
‫وشغلهم عن الاهلية بالدين السلمي ‪ ،‬وأبدل الشيء بالشيء ‪ ،‬وأعطى النفس حقها من‬
‫النشاط والترويح ‪ ،‬فإن النفوس كما قال عال من علماء السلمي ل تترك شيئا إل بشيء ‪،‬‬
‫وإن النفوس قد خُلقت لتعمل ل لتترك‪ ، )(204‬وإن النبياء قد بعثوا بتكميل الفطرة وتكريرها‬
‫ل بتبديلها وتغييها ‪.)(205‬‬

‫(‪(203‬‬
‫‪. History of European Morals .part II Chapter IV, from Constantine to Charlemagne‬‬
‫(‪(204‬‬
‫من كلم شيخ السلم الحافظ ابن تيمية م ‪727‬هـ في كتابه ((اقتضاء الصراط المستقيم ومخالفة أصحاب الجحيم(( ص ‪. 143‬‬
‫(‪(205‬‬
‫ابن تيمية في كتابه (( النبوات (( ‪.‬‬
‫‪143‬‬
‫قدِم رسول ال صلى ال عليه وسلم الدينة ولم يومان يلعبون فيهما ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما هذان‬
‫اليومان ؟ قالوا ‪ :‬كنا نلعب فيهما ف الاهلية ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إن ال‬
‫قد أبدلكم بما خيا منهما ‪ ،‬يوم الضحى ويوم الفطر‪ ، )(206‬وعن عائشة رضي ال عنها‬
‫قالت ‪ :‬دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري النصار تغنيان با تقاولت به النصار يوم‬
‫بعاث قالت ‪ :‬وليستا بغنيتي ‪ ،‬فقال أبو بكر ‪ :‬أبزمور الشيطان ف بيت رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ؟ وذلك يوم عيد ‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬يا أبا بكر ‪ ،‬إن لكل‬
‫قوم عيدا وهذا عيدنا ‪ .‬وف رواية أنه قال ‪ :‬دعهما يا أبا بكر فإنا أيام عيد ‪.)(207‬‬
‫أما النصرانية الرومية فقد حاولت عبثا تغيي الفطرة وإزالتها وجاءت بنظام ل تطيقه‬
‫الفطرة النسانية ول تسيغه ‪ .‬وحلت النفوس ما ل طاقة لا به فرغبت فيه كرد فعل ضد‬
‫الادية الطاغية واحتملته كارهة ‪ ،‬ث تلصت منه وثارت عليه ول تقدر النصرانية – بإسرافها‬
‫ف الرهبانية والزهد ومكابرتا للفطرة والواقع أن تصلح ما فسد من أخلق الناس وعوائدهم ‪،‬‬
‫وتسك بضبع الدينة الساقطة إل الاوية وتنعها من التردي ‪ .‬فكانت حركة الفجور والباحة‬
‫وحركة الغلو ف الزهد والرهبانية تسيان ف البلد النصرانية جنبا إل جنب ‪ ،‬بل الصح أن‬
‫الرهبانية كانت معتزلة ف الصحارى واللوات ل سلطان لا على الياة ‪ .‬وحركة اللعة‬
‫والباحة كانت زاخرة طامة ف الدن والواضر ‪.‬‬

‫بي الرهبانية العاتية ‪ ،‬والادية الامة ‪:‬‬


‫يصور (( ليكي )) ما كان عليه العال النصران ف ذلك العصر من التأرجح بي الرهبانية‬
‫والفجور فيقول ‪:‬‬
‫(( إن التبذل والسفاف قد بلغا غايتهما ف أخلق الناس واجتماعهم ‪ ،‬وكانت الدعارة‬
‫والفجور والخلد إل الترف والتساقط على الشهوات والتملق ف مالس اللوك وأندية‬
‫الغنياء والمراء والسابقة ف زخارف اللباس واللي والزينة ف حدتا وشدتا ‪ ،‬كانت الدنيا‬
‫ف الي تتأرجح بي الرهبانية القصوى والفجور القصى ‪ ،‬وإن الدن الت ظهر فيها أكثر‬
‫(‪(206‬‬
‫رواه أبو داود بإسناده عن أنس ‪ ،‬وأحمد ‪ ،‬والنسائي ‪.‬‬
‫(‪(207‬‬
‫حديث متفق عليه ‪.‬‬
‫‪144‬‬
‫الزهاد كانت أسبق الدن ف اللعة والفجور ‪ ،‬وقد اجتمع ف هذا العصر الفجور والوهم‬
‫اللذان ها عدوان لشرف النسان وكرامته ‪ ،‬وقد ضعف رأي المهور حت أصبح الناس ل‬
‫يلفون بسوء الحدوثة والفضيحة بي الناس ‪ ،‬وكأن الضمي النسان ربا ياف الدين‬
‫ووعيده ‪ ،‬ولكنه أمن واطمأن ‪ ،‬لعتقاده أن الدعية وغيها تكفر عن جيع أعمال النسان ‪،‬‬
‫لقد نفقت سوق الكر والديعة والكذب حت فاق هذا العصر ف ذلك عصر القياصرة ‪،‬‬
‫‪(20‬‬
‫ولكن قل الظلم والعتداء والقسوة واللعة ‪ ،‬مع انطاط ف حرية الفكر والماسة القومية‬
‫‪. )) )8‬‬

‫الفساد ف الراكز الدينية ‪:‬‬


‫ول تكن الرهبانية والنظام الدين السلب إل مصادمة للفطرة ‪ ،‬فبقيت مقهورة بعوامل‬
‫الديانة الديدة وسلطانا الروحي وساعدتا عوامل أخرى ‪ ،‬ث قهرت الطبيعة وتسرب الضعف‬
‫والنراف ف الراكز الدينية حت صارت تزاحم الراكز الدنيوية وربا تسبقها ف فساد‬
‫الخلق والدعارة والفجور ‪ ،‬لذلك وقفت الكومة الآدب الدينية الت كانت ترمي إل عقد‬
‫اللفة والخوة بي السيحيي وأعياد الشهداء والولياء وذكرياتم الت وجدت فيها اللعة‬
‫والفجور حى ومرتعا ‪ ،‬واتم القسوس بكبائر ومنكرات ‪.‬‬
‫ويقول الراهب (( جروم )) ( ‪: )Jarum‬‬
‫(( إن عيش القسوس ونعيمهم كان يزري بترف المراء والغنياء الترفي ‪ ،‬وقد انطت‬
‫أخلق البابوات انطاطا عظيما واستحوذ عليهم الشع وحب الال وعدوا طورهم ‪ ،‬حت‬
‫كانوا يبيعون الناصب والوظائف كالسلع ‪ ،‬وقد تباع بالزاد العلن ‪ ،‬ويؤجرون أرض النة‬
‫بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران ‪ .‬ويأذنون بنقض القانون ‪ ،‬وينحون شهادات النجاة‬
‫وإجازات والحرمات والحظورات كأوراق النقد وطوابع البيد ‪ ،‬ويرتشون ويرابون ‪ ،‬وقد‬
‫بذروا الال تبذيرا حت اضطر البابا انوسنت الثامن أن يرهن تاج البابوية ‪ .‬ويذكر عن البابا ليو‬
‫العاشر أنه أنفق ما ترك البابا السابق من ثروة وأموال ‪ ،‬وأنفق نصيبه ودخله ‪ ،‬وأخذ إيراد‬

‫(‪(208‬‬
‫‪History of European Morals II Chapter IV‬‬
‫‪145‬‬
‫خليفته الترقب سلفا وأنفقه ‪ ،‬ويروى أن مموع دخل ملكة فرنسا ل يكن يكفي البابوات‬
‫لنفقاتم وإرضاء شهواتم‪. )) )(209‬‬

‫تنافس البابوية والمباطورية ‪:‬‬


‫وبدأ الناع والنافسة بي البابوية والمباطورية ف القرن الادي عشر ‪ ،‬فاشتدت بعنف‬
‫وحي وطيسها ‪ ،‬وانتصرت فيها البابوية أولً حت إن هنري الرابع مثل المباطورية اضطر‬
‫سنة ‪1077‬م أن يتقدم بضوع نو البلط البابوي ف قلعة كانوسا ول يسمح له البابا‬
‫بالدخول إل بعد أن شفع له الرجال ‪ ،‬فسمح له بالثول بي يديه ‪ .‬فدخل المباطور صاغرا‬
‫حافيا لبسا الصوف وتاب على يديه فغفر له البابا زلته ‪ .‬وكانت الرب بي البابوية‬
‫والمباطورية بعد ذلك سجالً حت ضعفت البابوية ‪ ،‬وبقي الناس هذه الدة الطويلة يتنازعهم‬
‫عاملن دين ودنيوي وبقوا يرزحون تت نيين إمباطوري وبابوي ‪.‬‬
‫وكان البابوات يتمتعون ف هذه العصور الوسطى بنفوذ واسع وسلطان عظيم ل يكن‬
‫للملوك والباطرة ‪ ،‬وكان يكن لم أن يتقدموا بأوربا تقدما صحيحاَ ف العلم والدنية تت‬
‫ظل الدين ‪ ،‬لن نوابم ومثليهم كانوا يتجولون ف البلدان الوربية وينلون من أهلها ف‬
‫جناب مَربع وظل ظليل ‪ ،‬ويتفاهون معهم بلغة واحدة ويتدخلون ف أمور سياسية مهمة ‪،‬‬
‫ووجدوا ف كل بقعة أنصارا لم من ذوي الرأي والسياسة يتكلمون بلغة واحدة ويساعدونم‬
‫ف مهمات الدولة ‪.‬‬

‫شقاء أوربا برجال الدين ‪:‬‬


‫ولكن رجال الدين من سوء حظ النصرانية ومن سوء حظ المم الت دانت با أساؤوا‬
‫استعمال هذا السلطان الائل فاستغلوه لنفسهم ونفوذهم وجاههم ‪ ،‬وبقيت أوربا تتسكع ف‬
‫دياجي الهل والرافة والنطاط ‪ ،‬وأصيبت الدنية بكمهم ورهبانيتهم ف صميمها ‪ ،‬فلم‬
‫يتضاعف عدد سكان القارة الوربية ف ألف سنة ‪ ،‬ول يتضاعف عدد سكان إنكلترة ف‬
‫(‪(209‬‬
‫‪. Conflict of Religion and Science‬‬
‫‪146‬‬
‫خسمائة سنة ‪ .‬ول شك أن من أسبابا حياة العزوبة الت كان القسوس والرهبان يزينونا‬
‫للناس ويرغبون فيها ‪ ،‬ول يشأ الكهان والساقفة أن يساهم الطباء ف مرافقهم وغلتم‬
‫فانتشرت الوبئة والمراض ف طول القارة وعرضها ‪ ،‬وتعرف من رحلة أنبيس سلوئيس الذي‬
‫اشتهر بعد بلقب ( ‪ ) Pus the Second‬الت قام با ف الزائر البيطانية حوال سنة‬
‫‪ 1430‬م ما كانت عليه هذه الزائر من بؤس وانطاط ف الدنية وفقر مدقع ‪.‬‬

‫جناية رجال الدين على الكتب الدينية ‪:‬‬


‫ولكن من أعظم أخطاء رجال الدين ف أوربا ومن أكب جناياتم على أنفسهم وعلى‬
‫الدين الذي كانوا يثلونه أنم دسوا ف كتبهم الدينية القدسة معلومات بشرية ومسلمات‬
‫عصرية عن التاريخ والغرافية والعلوم الطبيعية ربا كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم ف‬
‫ذلك العصر‪ ،‬وكانت حقائق راهنة ل يشك فيها رجال ذلك العصر ‪ ،‬ولكنها ليست أقصى ما‬
‫وصل إليه العلم النسان ‪ ،‬وإذا كان ذلك ف عصر من العصور غاية ما وصل إليه علم البشر‬
‫فإنه ل يؤمن عليه التحول والتعارض ؛ فإن العلم النسان متدرج مترق ‪ ،‬فمن بن عليه دينه‬
‫فقد بن قصرًا على كثيب مهيل من الرمل ‪ .‬ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة ولكنه كان أكب‬
‫جناية على أنفسهم وعلى الدين ‪ ،‬فإن ذلك ‪ ،‬كان سببا للكفاح الشئوم بي الدين والعقل‬
‫والعلم الذي انزم فيه ذلك الدين الختلط بعلم البشر الذي فيه الق والباطل والالص‬
‫والزائف – هزية منكرة ‪ ،‬وسقط رجال الدين سقوطا ل ينهضوا بعده ‪ ،‬وشر من ذلك كله‬
‫وأشأم أن أوربا أصبحت ل دينية‪.‬‬
‫ول يكتف رجال الدين با أدخلوه ف كتبهم القدسة ‪ ،‬بل قدسوا كل ما تناقلته اللسن‬
‫واشتهر بي الناس وذكره بعض شراح التوراة والنيل ومفسريها من معلومات جغرافية‬
‫وتاريية وطبيعية ‪ ،‬وصبغوها صبغة دينية وعدوها من تعاليم الدين وأصوله الت يب العتقاد‬
‫با ونبذ كل ما يعارضها ‪ ،‬وألفوا ف ذلك كتبا وتآليف ‪ ،‬وسوا هذه الغرافية الت ما أنزل ال‬
‫با من سلطان الغرافية السيحية ( ‪ ) Christian Topography‬وعضوا عليها‬
‫بالنواجذ وكفروا كل من ل يدن با ‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫اضطهاد الكنيسة للعلم ‪:‬‬
‫وكان ذلك ف عصر انفجر فيه بركان العقلية ف أوربا ‪ ،‬وحطم علماء الطبيعة والعلوم‬
‫سلسل التقليد الدين فزيفوا هذه النظريات الغرافية الت اشتملت عليها هذه الكتب‬
‫وانتقدوها ف صرامة وصراحة ‪ ،‬واعتذروا عن عدم اعتقادها واليان با بالغيب ‪ ،‬وأعلنوا‬
‫اكتشافاتم العلمية واختباراتم ‪ ،‬فقامت قيامة الكنيسة ‪ ،‬وقام رجالا التصرفون بزمام المور‬
‫ف أوربا وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالم ف سبيل الدين السيحي ‪ ،‬وأنشأوا ماكم‬
‫التفتيش الت تعاقب – كما يقول البابا – أولئك اللحدين والزنادقة الذين هم منتشرون ف‬
‫الدن وف البيوت والسراب والغابات والغارات والقول ‪ ،‬فجدت واجتهدت وسهرت على‬
‫عملها ‪ ،‬واجتهدت أن ل تدع ف العال النصران عرقا نابضا ضد الكنيسة ‪ ،‬وانبثت عيونا ف‬
‫طول البلد وعرضها ‪ ،‬وأحصت على الناس النفاس ‪ ،‬وناقشت عليهم الواطر حت يقول‬
‫عال نصران ‪ (( :‬ل يكن لرجل أن يكون مسيحيا ويوت حتف أنفه )) ‪ ،‬ويقدر أن من‬
‫عاقبت هذه الحاكم يبلغ عددهم ثلثمائة ألف ‪ ،‬أحرق منهم اثنان وثلثون ألفا أحياء كان‬
‫منهم العال الطبيعي العروف برونو ‪ ،‬نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوال ‪،‬‬
‫وحكمت عليه بالقتل ‪ ،‬واقترحت بأن ل تراق قطرة من دمه ‪ ،‬وكان ذلك يعن أن يرق‬
‫حيا ‪ ،‬وكذلك كان ‪.‬‬
‫وهكذا عواقب العال الطبيعي الشهي غاليليو (‪ )Galilio‬بالقتل لنه كان يعتقد بدوران‬
‫الرض حول الشمس ‪.‬‬
‫ثورة رجال التجديد ‪:‬‬
‫هنالك ثار الجددون التنورون وعيل صبهم ‪ ،‬وأصبحوا حربا لرجال الدين ومثلي‬
‫الكنيسة والحافظي على القدي ‪ ،‬ومقتوا كل ما يتصل بم ويعزى إليهم من عقيدة وثقافة‬
‫وعلم وأخلق وآداب ‪ ،‬وعادوا الدين السيحي أولً والدين الطلق ثانيا ‪ ،‬واستحالت الروب‬
‫بي زعماء العلم والعقلية ‪ ،‬وزعماء الدين السيحي ‪ - ،‬وبلفظ أصح الديانة والبوليسية –‬
‫حربا بي العلم والدين مطلقا ‪ ،‬وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان ل تتصالان ‪ ،‬وأن‬

‫‪148‬‬
‫العقل والنظام الدين ضدان ل يتمعان ‪ ،‬فمن استقبل أحدها استدبر الخر ‪ ،‬ومن آمن‬
‫بالول كفر بالثان ‪ ،‬وإذا ذكروا الدين ‪ ،‬ذكروا تلك الدماء الزكية الت أريقت ف سبيل العلم‬
‫والتحقيق ‪ ،‬وتلك النفوس البيئة الت ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم ‪ ،‬وتثل‬
‫لعينهم وجوه كالة عابسة ‪ ،‬وجباه مقطبة ‪ ،‬وعيون ترمي بالشرر ‪ ،‬وصدور ضيقة حرجة ‪،‬‬
‫وعقول سخيفة بليدة ‪ ،‬فاشأزت قلوبم وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلء وكل ما يثلونه ‪،‬‬
‫وتواصوا به وجعلوه كلمة باقية ف أعقابم ‪.‬‬

‫تقصي الثائرين وعدم تثبتهم ‪:‬‬


‫ول يكن عند هؤلء الثائرين من الصب والثابرة على الدراسة والتفكي ‪ ،‬ومن الوداعة‬
‫والدوء ‪ ،‬ومن العقل والجتهاد ما ييزون به بي الدين ورجاله الحتكرين لزعامته ‪ ،‬ويفرقون‬
‫بي ما يرجع إل الدين عن عهدة ومسئولية ‪ ،‬وما يرجع إل رجال الكنيسة من جود وجهل‬
‫واستبداد وسوء تثيل ‪ ،‬فل ينبذوا الدين نبذ النواة ‪ ،‬ولكن الفيظه وشنآن رجال الدين‬
‫والستعجال ل يسمح بالنظر ف أمر الدين والتريث ف شأنه كغالب الثوار ف أكثر العصار‬
‫والمصار ‪.‬‬
‫ول يكن عندهم من صدق الطلب والنصيحة لنفسهم وأمتهم وسعة الصدر ما يملهم‬
‫على النظر ف الدين السلمي الذي كان يدين به أمم معاصرة لم ‪ ،‬الدين الذي يلصهم من‬
‫هذه الزمة و { َيأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَْنهَا ُهمْ عَ ِن الْمُنكَرِ وَُيحِلّ َل ُهمُ الطّيّبَاتِ وَُيحَرّمُ َعلَْي ِهمُ‬
‫ضعُ عَْنهُمْ ِإصْرَ ُهمْ وَالَغْلَ َل الّتِي كَانَتْ عَلَْي ِهمْ }‪ .‬ولكن حية الاهلية والسدود‬ ‫اْلخَبَآئِثَ وََي َ‬
‫الت أقامتها الرب الصليبية بي الغرب السيحي والشرق السلمي ودعاية الكهنة ورجال‬
‫الكنيسة ضد السلم وصاحب رسالته عليه الصلة والسلم ‪ ،‬وعدم تشم التعب والطالعة ‪،‬‬
‫وقلة الرص على النجاة الخروية والهتمام با بعد الوت ‪ ،‬زد إل ذلك تفريط السلمي ف‬
‫التبشي السلمي ‪ ،‬ونشر السلم ف أوربا ‪ ،‬كل ذلك منعهم من الرجوع إل الدين السلمي‬
‫والخذ به ف ساعة كانوا يتاجون إليه حاجة السليم إل راق والسموم إل ترياق ‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫اتاه الغرب إل الادية ‪:‬‬
‫وعلى كل فقد وقع الحذور وانصرف اتاه الغرب إل الادية بكل معانيها ‪ ،‬وبكل ما‬
‫تتضمنه هذه الكلمة من عقيدة ووجهة نظر ونفسية وعقلية وأخلق واجتماع وعلم وأدب‬
‫وسياسة وحكم ‪ ،‬وكان ذلك تدرييا‪ ،‬وكان أولً ببطء وعلى مهل‪ ،‬ولكن بقوة وعزية‪ ،‬فقام‬
‫علماء الفلسفة والعلوم الطبيعية ينظرون ف الكون نظرا مؤسسا على أنه على أنه ل خالق ول‬
‫مدبر ول آمر ‪ ،‬وليس هناك قوة وراء الطبيعة والادة تتصرف ف هذا العال وتكم عليه وتدبر‬
‫شئونه ‪ ،‬وصاروا يفسرون هذا العال الطبيعي‪ ،‬ويعللون ظواهره وآثاره بطريق ميكانيكي‬
‫بت ‪ ،‬وسوا هذا نظرا علميا مردا وسوا كل بث وفكر يعتقد بوجود إله ويؤمن به طريقا‬
‫تقليديا ل يقوم عندهم على أساس العلم والكمة ‪ ،‬واستهزأوا به واتذوه سخريا ‪ ،‬ث انتهى‬
‫بم طريقهم الذي اختاروه وبثهم ونظرهم إل أنم جحدوا كل شيء وراء الركة والادة ‪،‬‬
‫وأبوا اليان بكل ما ل يأت تت الس والختبار ‪ ،‬ول يدخل تت الوزن والعد والساحة ‪،‬‬
‫فأصبح – بكم الطبيعة وبطريق اللزوم اليان بال وبا وراء الطبيعة ‪ ،‬من قبيل الفروضات‬
‫الت ل يؤيدها العقل ول يشهد با العلم ‪.‬‬
‫إنم ل يحدوا بال إل زمن طويل ‪ ،‬ول يكاشفوا الدين العداء ‪ ،‬ول يحدوا به كلهم ‪،‬‬
‫ولكن منهج التفكي الذي اختاروه ‪ ،‬والوقف الذي اتذوه ف البحث والنظر ل يكن ليتفق‬
‫والدين الذي يقوم على اليان بالغيب وأساسه الوحي والنبوة ودعوته ولجه بالياة‬
‫الخروية ‪ ،‬ول شيء من ذلك يدخل تت الس والختبار ويصدقه الوزن والعد والساحة ‪،‬‬
‫فلم يزالوا يزدادون كل يوم شكا ف العقائد الدينية ‪.‬‬
‫افتضاح الادية ف الدور الخي ‪:‬‬
‫ولكن رجال النهضة الوربية ظلوا قرونا يمعون بي النظر الادي الاحد والياة الادية ‪،‬‬
‫والطقوس الدينية السيحية ‪ ،‬بالتقليد أو بتأثي الحيط الذي ل يزال ف العال النصران ‪ ،‬أو‬
‫بصال خلقية واجتماعية كانت تقتضي البقاء ولو بالسم على نظام دين يؤلف بي أفراد المة‬
‫ويفظها من الفوضى ‪ ،‬حت افتضحوا ف الخي وصعب المع بينهما بسرعة سي الضارة‬

‫‪150‬‬
‫الادية ‪ ،‬وتلف الدين والتقاليد وعجزها عن مسايرتا وما ف المع بينهما من متاعب وضياع‬
‫للوقت وتكلف هم ف غن عنه ‪ ،‬فطرحوا الشمة ورموا برقع النفاق ‪.‬‬

‫جنود الادية ودعاتا ‪:‬‬


‫ونض الكتاب والؤلفون والدباء والعلمون والجتماعيون والسياسيون ف كل ناحية من‬
‫نواحي أوربا ينفخون صور الادية ‪ ،‬وينفثون بأقلمهم سومها ف عقل المهور وقلبه ‪،‬‬
‫ويفسرون الخلق تفسيا ماديا ‪ ،‬تارة ينشرون الفلسفة النفعية ‪ ،‬وطورا فلسفة اللذة‬
‫البيقورية ‪.‬‬
‫والسياسيون أمثال ميكيافيلي الفلورنسي ( ‪ 1527 – 1469‬م ) دعوا من قبل إل‬
‫فصل الدين عن السياسة ‪ ،‬وتقسيم الخلق إل شخصية واجتماعية ‪ ،‬وقرروا أن الدين – إذا‬
‫كان لبد منه – قضية شخصية ل ينبغي أن تتدخل ف أمور السياسة والدولة ‪ ،‬وأن الدولة‬
‫عندهم أعز وأهم من كل شيء ‪ ،‬وأن النصرانية إنا موضوعها الياة الخروية ‪ ،‬وأن التديني‬
‫والصالي ل يفيد وجودهم الدولة ‪ ،‬وإن كان يفيد الكنيسة ‪ ،‬لنم يتقيدون بأحكام الدين ‪،‬‬
‫ولنم ل يستطيعون أن ييدوا عن أحكام الدين ومبادئ الخلق إذا اقتضت الصلحة غي‬
‫ذلك ‪ ،‬وأن اللوك والمراء يب عليهم أن يتخلقوا بأخلق الثعالب ‪ ،‬ول يتشموا من نقض‬
‫العهود والكذب واليانة والغش والنفاق إذا كان ف ذلك أدن مصلحة للدولة إل غي ذلك ‪،‬‬
‫ونحت هذه الدعوة وساعدتا عوامل كثية من الوطنية والقومية الت خلفت الديانة القدية ‪.‬‬
‫وأحدث الدباء والؤلفون وأصحاب الباعة والقرية والذكاء ‪ ،‬خصوصا ف ثورة فرنسا‬
‫وبعدها ‪ ،‬الثورة على الخلق القدية ‪ ،‬والنظم الجتماعية ‪ ،‬وزينوا للناس الث ‪ ،‬ونشروا‬
‫دعوة الباحة ‪ ،‬وإطلق الطبائع من كل قيد ‪ ،‬والفرد من كل مسئولية ‪ ،‬ودعوا إل التهام‬
‫الياة البهيمية ‪ ،‬وإرضاء الشهوات ‪ ،‬وانتهاب السرات ‪ ،‬واستعجال الطيبات ‪ ،‬وغلوا وأسرفوا‬
‫ف تقدير قيمة هذه الياة وجحدوا كل شيء سوى اللذة العاجلة والنفع الادة الظاهر‬
‫الحسوس‬

‫‪151‬‬
‫نسخة صادقة من الضارة اليونانية ‪:‬‬
‫فأصبحت الياة ف أوربا ف القرني التاسع عشر والعشرين نسخة صادقة من الياة ف‬
‫يونان وروما الوثنيتي الاهليتي ‪ ،‬وعادت الطبيعة الوربية ( الت كانت النصرانية الشرقية قد‬
‫قهرتا ) جذعة ‪.‬‬
‫ول غرابة ف ذلك ‪ ،‬فالوربيون اليوم إنا ينحدرون من أولئك اليونان والرومان ‪،‬‬
‫والسلئل الوربية الخرى ترى دينا خلوا من الروحانية ‪ ،‬كما لحظ الدكتور (( هاس )) ف‬
‫ذكر الضارة اليونانية ‪.‬‬
‫وترى رقة الدين وقلة الشوع والد ف أعماله ‪ .‬وكثرة اللهو والطرب ف الياة ‪ ،‬كما‬
‫ذكر (( ليكي )) عن الديانة اليونانية ‪ ،‬وهو نتيجة الوضع الدين الذي وصلت إليه أوربا ‪ ،‬فإنه‬
‫ل يتفق والشوع ل والد ف عبادته ‪ ،‬ونتيجة تلك النظريات والغايات الت وصل إليها علماء‬
‫الطبيعة والكمة ف أوربا وأعلنوها تلقاها المهور بالقبول وحلت مل الدين ‪.‬‬
‫وترى كذلك تافتا على ملذات الياة تافت الظمآن على الاء والفراش على النار ‪،‬‬
‫والرص على اقتطاف جن الياة وثارها باليدين ‪ ،‬كما وصف به سقراط الرجل المهوري‬
‫اليونان ف عصره ‪.‬‬
‫وكذلك ترى شكا ف الدين واضطرابا ف العقيدة واستخفافا بالنظام الدين وطقوسه‬
‫وتقاليده ‪ ،‬كما رأيت ف روما بعد التنور ‪.‬‬

‫ديانة أوربا اليوم الادية ل النصرانية ‪:‬‬


‫فمما لشك فيه أن دين أوربا اليوم الذي يلك عليها القلب والشاعر ويكم على الروح‬
‫هو الادية ل النصرانية ‪ ،‬كما يعلم ذلك كل من عرف النفسية الوربية واتصل بالوربيي عن‬
‫كثب ل عن كتب ‪ ،‬بل وعن كتب أيضا – ول ينخدع بالظاهر الدينية الت تزيد ف أبة‬
‫الدولة والت يد فيها الشعب ترويا للنفس وتنوعا ‪ ،‬ول ينخدع بزيارتم للكنائس‬
‫وحضورهم ف تقاليدها ‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫وقد بي ذلك ف وضوح وصراحة الستاذ اللان الهتدي ممد أسد السابق ذكره ف‬
‫كتابه ‪ (( :‬السلم على مفترق الطرق )) قال ‪:‬‬
‫(( ل شك أنه ل يزال ف الغرب أفراد يعيشون ويفكرون على أسلوب دين ويبذلون‬
‫جهدهم ف تطبيق عقائدهم بروح حضارتم ‪ ،‬ولكنهم شواذ ‪ ،‬إن الرجل العادي ف أوربا ‪،‬‬
‫ديقراطيا كان أو فاشيا ‪ ،‬رأساليا كان أو اشتراكيا ‪ ،‬عاملً باليد أو رجلً فكريا ‪ ،‬إنا يعرف‬
‫دينا واحدا ‪ ،‬وهو عبادة الرقي الادي والعتقاد بأنه ل غاية ف الياة غي أن يعلها النسان‬
‫أسهل ‪ ،‬وبالتعبي الدارج (( حرة مطلقة )) من قيود الطبيعة ‪ ،‬أما كنائس هذا (( الدين ))‬
‫فهي الصانع الضخمة ودور السينما والختبات الكيماوية ودور الرقص ومراكز توليد‬
‫الكهرباء ‪ ،‬وأما كهنتها فهم رؤساء الصيارف والهندسون والمثلت وكواكب السينما‬
‫وأقطاب التجارة والصناعة والطيارون والبزون الذين يضربون رقما قياسيا ‪ ،‬ونتيجة هذه‬
‫النهامة للقوة ‪ ،‬والشره للذة ‪ ،‬النتيجة اللزمة ظهور طوائف متنافسة مدججة بالسلح ‪،‬‬
‫والستعدادات الربية ‪ ،‬مستعدة لبادة بعضها بعضا إذا تصادمت أهواؤها ومصالها ‪ ،‬أما ف‬
‫جانب الضارة فنتيجتها ظهور طراز للنسان يعتقد الفضيلة ف الفائدة العملية ‪ ،‬والثل الكامل‬
‫عنده والفارق بي الي والشر هو النجاح الادي ل غي ‪. )))(210‬‬
‫((إن الضارة الغربية ل تحد ال ف شدة وصراحة ‪ ،‬ولكن ليس ف نظامها الفكري‬
‫موضع ل ف القيقة ول تعرف له فائدة ول تشعر باجة إليه‪. )) )(211‬‬
‫ربا يقلل من قيمة هذه الشهادات على مركز الدين ف الياة الوربية ومدى تأثيه كون‬
‫صاحبها قد انتقل من النصرانية إل السلم ومن أوربا إل الشرق السلمي ‪ ،‬فها هنا شهادة‬
‫أصرح منها وأدل على اضمحلل الدين الرسي ف أكب مراكزه ‪ ،‬واستنكاف أهله من‬
‫النتساب إليه لحد كبار العلمي ف (( لندن )) وكتاب النكليزية البارزين ‪.‬‬
‫قال الستاذ جود ( ‪ ) Joad‬رئيس قسم الفلسفة وعلم النفس ف جامعة لندن ف كتابه ‪:‬‬
‫( ‪: ) Guide to Modern Wickedness‬‬

‫(‪(210‬‬
‫‪. Islam At the Cross Roads, p . 50 . Fifth Edition‬‬
‫(‪(211‬‬
‫‪Islam At the Cross Roads, p, 40 .‬‬
‫‪153‬‬
‫(( سألت عشرين طالبا وتلميذة كلهم ف أوائل العقد الثان من أعمارهم ‪ :‬كم منهم‬
‫مسيحي بأي معن من معان الكلمة ‪ ،‬فلم يب بـ(( نعم )) إل ثلثة فقط ‪ ،‬وقال سبعة‬
‫منهم ‪ :‬إنم ل يفكروا ف هذه السألة أبدا ‪ .‬أما العشرة الباقية فقد صرحوا أنم معادون‬
‫للمسيحية ‪ ،‬أنا أرى أن هذه النسبة بي من يؤمن بالسيحية ويدين با وبي من ل يؤمن ف‬
‫هذه البلد ليست شاذة ول غربية ‪ ،‬نعم إذا وجه هذا السؤال إل مثل هذه الماعة قبل‬
‫خسي سنة أو عشرين ‪ ،‬كانت الجوبة متلفة ‪ .‬بناء على ذلك الذين يتفقون ف الرأي مع (‬
‫‪ ) Canon Barry‬ويزعمون أن نضة مسيحية كبية يكن أن تنقذ العال سيكونون قليلً‬
‫جدا ‪ ،‬فإن ل أرى لرأيه هذا مؤيدا ومبرا إل أن يكون ذلك رغبته وهواه ‪ ،‬فإن الهواء‬
‫كثيا ما تلق الفكار ‪ ،‬ولكنها ل تولد الشهادات والوثائق ‪ ،‬وإن الحوال والثار ف هذه‬
‫البلد لتدل على أن الكنيسة النصرانية ستموت ف القرن الت ‪ ،‬وإليك ما يؤيد هذا الرأي نقلً‬
‫من صحيفة يومية ‪:‬‬
‫اخترع رجل ف السابعة والسبعي من عمره طريقة تول با نسخ الكتاب القدس العتيقة‬
‫إل حشو البنادق والرير الصناعي واللدائن وأوراق النقد الثمينة ‪ ،‬وإن آلته قد نصبت ف (‬
‫‪ ) Cardiff Factory‬وف ثانية مصانع أخرى وتصنع بنسخ التوراة القدية أسلحة حربية‬
‫وقد استثمر الخترع باللة ثروة عظيمة بعد ما عاش ف ضنك من العيش ‪.‬‬
‫ويتم الستاذ مقالته هذه بملة من التوراة – ول أجل منها – لخاطبة القسوس ورجال‬
‫الدين أمثال ( كيني بيي ) وغيه (( فليسمع من له أذنان‪. )) )(212‬‬
‫ويقول هذا الؤلف ف كتابه الثان (‪. ) Philosophy for our Times‬‬
‫(( ل يزل سائدا على عقلية انكلترا منذ قرون شرهُ الال والتملك ‪ ،‬وكانت رغبة نيل‬
‫الثروة أقوى عامل ف حياة البلد وأكب باعث على العمل ‪ ،‬لن الثروة وسيلة للتملك ‪،‬‬
‫وضخامته ووفرته مقياس لكفاءة النسان ‪ ،‬ول يزل الناس يتلقون من طرق السياسة والدب‬
‫والتمثيل والسينما والذاعة اللسلكية ‪ ،‬وف بعض الحيان من منابر الكنائس ف ظل عام‬

‫(‪(212‬‬
‫‪. Guide to Modern Wickedness p . 114 – 115‬‬
‫‪154‬‬
‫وشهر – التحريضات على جع الال واقتنائه والقناع بأن المة التمدنة هي الت ارتقت فيها‬
‫عاطفة الشره والتملك ‪.‬‬
‫إن هذه العبادة للمال تناقض عقائدنا الدينية ‪ ،‬لن الدين يدح الفقر ويذم الغن ‪ ،‬ويقول‬
‫‪ :‬إن الفقي أقدر على الصلح من الغن ‪ ،‬ومع أن الكمة والنعيم الدين متفقان على أن الفقر‬
‫أوفق لعبادة ال ودخول النة ‪ ،‬ولكن الناس ل يرغبوا إل تصديق الدين ف ذلك والعمل‬
‫بأحكامه ‪ ،‬ول يزالوا يؤثرون الثروة الاضرة على نعيم النة الوعود ‪ ،‬لعلهم يظنون أنم إذا‬
‫تابوا ف آخر عهدهم بالدنيا فإنم يرزون حسن الخرة ‪ ،‬كما ظفروا بسن الدنيا بأموالم‬
‫الودعة ف الصارف ‪.‬‬
‫وقد أعرب عن فكرتم هذه ( ‪ ) Sammuel Butler‬ف كتابه بقوله ‪ (( :‬إن بعض‬
‫الؤلفي يقولون ‪ :‬إنا ل نستطيع أن نمع بي عبادة ال وعبادة الال ‪ ،‬وأنا أسلم أن المر ليس‬
‫بيسور ‪ ،‬ولكن مت تكون الهمات ف الدنيا ميسورة سهلة ؟‬
‫فمهما اختلفنا ف البادئ فإن القيقة الراهنة أن كلنا راسخ ف تقليد بتلر واتباعه ‪ ،‬فنحن‬
‫مشغوفون بب الال ‪ ،‬وعقيدتنا أن الثروة هي القياس الصحيح لعظمة الفرد والكومة ‪،‬‬
‫وكانت سببا لظهور مبدأين لما الهية التاريية الكبى ‪.‬‬
‫أحدها ‪ :‬مبدأ عدم التدخل القتصادي الذي كان سائدا على القرن التاسع عشر ‪،‬‬
‫ويدعي أصحاب هذا البدأ أن النسان يبن عمله على أعظم نفع يلبه ‪ ،‬وأن ليس الباعث‬
‫على العمال اللتذاذ بالعواطف القلبية بل اللتذاذ بالثروة ‪.‬‬
‫والبدأ الثان الذي يسود القرن العشرين ‪ :‬هو مبدأ التنظيم القتصادي النسوب إل‬
‫ماركس ‪ ،‬ويقوم هذا البدأ على أن نظام النسان القتصادي إنا يتأسس على حوائج النسان‬
‫الالية ‪ ،‬وهذا النظام هو الذي يلق الدب والخلق والدين والنطق ونظام الكومة ‪ ،‬ول‬
‫يكن هذان البدآن لينال القبول الذي ناله لول شغف الناس ف بلدنا بالال والهتمام الزائد‬
‫به )) ‪.‬‬
‫ويقول ف مكان آخر من هذا الكتاب ‪:‬‬

‫‪155‬‬
‫(( إن نظرية الياة الت تسود على هذا العصر وتكم عليه ‪ :‬هي النظر ف كل مسألة‬
‫وشأن من ناحية العدة واليب ( ‪. )stomach and pocket view of life‬‬
‫وقد أجاد الصحفي المريكي الشهور (‪ )Jhon Gunther‬تثيل هذه النفسية ف كتابه‬
‫ف (( داخل أوربا )) ( ‪ )Inside Europe‬بقوله ‪:‬‬
‫(( إن النليز إنا يعبدون بنك إنلترا (‪ )Bank of England‬ستة أيام ف السبوع‬
‫ويتوجهون ف اليوم السابع إل الكنيسة )) ‪.‬‬

‫مظاهر الطبيعة ف أوربا ‪:‬‬


‫إن هؤلء الذين ل يؤمنون بياة أخرى ول يعتقدون وراء اللذة والتمتع بالياة والعلو ف‬
‫الرض غاية عليا ‪ ،‬ول يذكرون ال إل نادرا ‪ ،‬ول يرجون له وقارا ‪ ،‬كيف يرجى منهم أن‬
‫يتضرعوا إل ال إذا مسهم الضر ‪ ،‬ويبتوا إليه وينيبوا إذا دههم الطر كما ذكر ال عن‬
‫الشركي الذين كانوا يؤمنون بال ‪َ { :‬إِذَا َغشَِيهُم ّم ْوجٌ كَالظَّللِ دَ َعوُا اللّهَ ُمخِْلصِيَ لَهُ الدّينَ‬
‫حدُ بِآيَاتِنَا ِإلّا كُلّ خَتّارٍ كَفُورٍ } **{ ُهوَ اّلذِي‬ ‫جَ‬ ‫صدٌ وَمَا َي ْ‬
‫فََلمّا َنجّا ُهمْ ِإلَى الْبَ ّر فَمِْنهُم مّقَْت ِ‬
‫ُيسَيّ ُركُ ْم فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ حَتّى إِذَا كُنُتمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَْينَ ِبهِم ِبرِيحٍ طَيَّبةٍ َوفَرِحُواْ ِبهَا جَاءْتهَا‬
‫رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاء ُهمُ اْل َموْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنّواْ أَّن ُهمْ ُأحِيطَ ِبهِمْ دَ َع ُواْ اللّهَ ُمخِْلصِيَ لَهُ‬
‫الدّينَ لَئِنْ َأنَيْتَنَا ِمنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ } ولكن هؤلء – بإمعانم ف الادية‬
‫والتمسك بالسباب الظاهرة والتعلل با واستغنائهم عن ال – قد وصلوا من القسوة والغفلة‬
‫ك فَأَ َخذْنَا ُهمْ بِالْبَأْسَاء‬
‫إل حيث صدق عليهم قول ال ‪َ { :‬ولَ َقدْ َأرْسَلنَا ِإلَى أُ َممٍ مّن قَبِْل َ‬
‫ستْ قُلُوُب ُهمْ َوزَيّنَ َل ُهمُ‬ ‫وَالضّرّاء لَعَّلهُمْ يََتضَرّعُو َن * فََلوْل إِذْ جَاء ُهمْ بَأْسُنَا َتضَرّعُواْ َولَـكِن َق َ‬
‫ب َفمَا اسْتَكَانُوا لِرَّبهِمْ‬ ‫الشّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَ ْعمَلُونَ } وقوله عز وجل ‪ { :‬وَلَ َقدْ أَ َخذْنَاهُم بِالْعَذَا ِ‬
‫وَمَا يََتضَرّعُونَ } فل تكاد تشعر ف خطب الزعماء والوزراء ف أوربا برقة قلب وانكساره‬
‫وإخبات إل ال ف أدهى ساعات الرب وأمرّها ‪ ،‬ول تشاهد شيئا من ذلك ف أخلق‬
‫الشعب وأعماله وأفراحه ‪ ،‬ويعد ذلك مفكرو الغرب وأدباؤه من باب التجلد وقوة القلب‬
‫وإباء الضيم ‪ ،‬وقد افتخر أحد زعماء النليز وكبار رجال السياسة ف البلان النليزي بأن‬

‫‪156‬‬
‫رجال الشعب النليزي ل يستسلموا للحوادث والنوازل ‪ ،‬واستشهد على ذلك بأن الشتغلي‬
‫بالرقص واللهو ف سنغافورة ل يتحولوا عن مكانم ول يؤخروا أدوار الرقص والغناء ‪،‬‬
‫وطيارات اليابان تطر الدينة شآبيب القنابل ‪ .‬ويكي هندي عن سهرة شهدها قال ‪ (( :‬بينما‬
‫نن ف الرقص إذ سعنا النذار بالغارة الوية فساد الدوء ف الكان ‪ ،‬ث قال أحد أصحاب‬
‫الجلس ‪ :‬ماذا ترون ؟ هل يستمر الرقص أم يؤخر ؟ فأجابت فتاة ‪ :‬بل نستمر راقصي ‪،‬‬
‫وهكذا كان ‪ ،‬ودوّت الارة فضلً عن النادي الذي كنا فيه بالغان‪ ، )) )(213‬ويقول ‪(( :‬من‬
‫العادات اليومية أنه يعلن ف السينما ‪ :‬تبدأ الغارة الوية ولكن يستمر هذا الفصل ومن أراد أن‬
‫يذهب إل الخبأ فطريقه أسفل إل اليسار ‪ ،‬ولكن الناس يستمرون جلوسا ول أحد يبح من‬
‫مكانه ويبدأ الفصل ‪ )))(214‬ويقول كاتب إنليزي تعليقا على صورة نشرت ف (‬
‫‪ )Statesman‬الصحيفة النليزية اليومية الكبى ف الند ف ‪ 24‬من يناير ‪ 1942‬م ‪:‬‬
‫((من الغريب أن أجل التمثيليات إنا ظهرت أيام الروب الكبى ف التاريخ ‪ ،‬كذلك الشأن‬
‫ف بريطانيا اليوم فالناظر يرى اللهي والسينما والتمثيليات والصور ما ل يرى أجل وأبدع‬
‫منها قبل الرب ‪ ،‬والتفرج يد ف ملهي لندن كل ما يسليه ويرضي ذوقه )) وف عدد آخر‬
‫من هذه الريدة الصادر ف ‪ 15‬من ديسمب ‪ 1943‬م (( إن صناعة الفلم ف (( لندن )) و‬
‫(( لشبونة )) و (( موسكو )) إل تقدم وف ازدهار )) ‪ .‬ول تد مثالً لذا التجلد والعكوف‬
‫على اللذة واللهو ف أشد ساعات الرج وف آخر ساعات العمر إل ف يونان وروما ف العهد‬
‫القدي ‪.‬‬
‫وقد روى مراسل روتر كيف استقبل الستر تشرشل رئيس الوزارة البيطانية العام القبل‬
‫وودع العام الراحل وذلك ف يوم عصيب من أيام الرب يلجأ فيه النسان إل ال ويفيق‬
‫السكران ويشع القاسي ‪ ،‬وإليك نص البقية ‪:‬‬
‫(( واشنطن ‪ ،‬اليوم الول من يناير ( عام ‪ 1942‬م ) البارحة لا كان العام الديد يلتقي‬
‫بالعام النصرم وكان الستر تشرشل رئيس الوزارة مسافرا من كندا إل الوليات التحدة ف‬
‫قطار رسي خرج رئيس الوزراء مستصحبا سي شارليس بورتل بغتة ودخل مطعم القطار‬
‫(‪(213‬‬
‫الغارات الجوية لغا محمد أشرف الدهلوي ص ‪. 71‬‬
‫(‪(214‬‬
‫أيضاً ص ‪. 70‬‬
‫‪157‬‬
‫والسيجار ف فمه وكأس شبانية ف يده ‪ ،‬وتعجب مثلو الصحف الذين كانوا سائرين معه‬
‫تناول الستر تشرشل الكأس مبتسما وقال ‪ (( :‬باسم عام ‪ 1941‬م ذلك العام القائد إل‬
‫الجتهاد والتعب والفتح )) ف ذلك الوقت لفظ العام الراحل نفسه الخي وتنفس العام‬
‫الديد وأعلنت الساعة بوفوده وهنأ الصحفيون ورؤساء القطار الستر تشرشل ‪ ،‬وأخذ رئيس‬
‫الوزراء يد سي شارليس بورتل بيد ‪ ،‬وأخذ يد كاربورل هارنر بيده الخرى وأخذ كل بيد‬
‫الخر وبدأوا يغنون ف رقصة وانطلق الستر تشرشل إل الباب وقال ليهنكم جيعا ورزقنا ال‬
‫الفتح ‪ ،‬وجعلت الماعة تغن ف حدة وتصفيق ‪ ،‬وخط رئيس الوزراء حرف ‪ v‬وانصرف إل‬
‫عربته سعيدا مسرورا )) ‪.‬‬
‫قارن هذه الطبيعة الادية بالنفسية الدينية وتعاليم الدين وعمل التديني وسيتم ف‬
‫الروب والخطار ففي القرآن { يَا أَّيهَا اّلذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُ ْم فِئَ ًة فَاثْبُتُواْ وَا ْذكُرُواْ اللّهَ كَثِيا‬
‫لّعَلّ ُكمْ تُفَْلحُونَ } وكان النب صلى ال عليه وسلم إذا حزبهُ أمر فزع إل الصلة ‪ ،‬وف سية‬
‫ابن هشام ف وقعة بدر الكبى قال ابن إسحاق ‪ :‬ث عدّل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫الصفوف ورجع إل العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر الصديق رضي ال عنه ليس معه غيه ‪،‬‬
‫ورسول ال صلى ال عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول ‪ :‬اللهم إن‬
‫تلك هذه العصابة اليوم ل تعبد ‪.‬‬
‫والادية لسباب حتمية طبيعية وتاريية وعلمية قد أصبحت شعار الضارة الغربية والياة‬
‫الغربية منذ عهد عريق ف التاريخ ‪ ،‬ول تزدها النشأة الديدة والنهضة العلمية والسياسية ف‬
‫أوربا إل حدة وقوة ‪ ،‬وقد لحظ هذا المتياز كثي من علماء الغرب والشرق ‪ ،‬فمن علماء‬
‫الشرق الستاذ اللعي الرحالة ذو النظر الثاقب عبدالرحن الكواكب ف مستهل هذا القرن فقد‬
‫قال ف كتاب (( طبائع الستبداد )) ‪:‬‬
‫ي النفس شديد العاملة ‪ ،‬حريص على الستئثار حريص على‬ ‫(( الغرب مادي الياة ‪ ،‬قو ّ‬
‫النتقام ‪ ،‬كأنه ل يبق عنده شيء من البادئ العالية والعواطف الشريفة الت نقلتها له مسيحية‬
‫الشرق ‪ ،‬فالرمان مثلً جاف الطبع يرى أن العضو الضعيف الياة من البشر يستحق الوت ‪،‬‬
‫ويرى كل الفضيلة ف القوة وكل القوة ف الال ‪ ،‬فهو يب العلم ولكن لجل الال ويب‬
‫‪158‬‬
‫الجد ولكن لجل الال ‪ ،‬واللتين منه مطبوع على العجب والطيش ‪ ،‬يرى العقل ف‬
‫النطلق ‪ ،‬والياة ف خلع الياة ‪ ،‬والشرف ف الزينة واللباس ‪ ،‬والعز ف التغلب على‬
‫الناس )) ‪.‬‬
‫وهذا تصوير صادق للطبيعة الوربية وتليل صحيح للنفسية الغربية ‪ ،‬ول نظن الرحوم‬
‫الكواكب قد تامى الكلم على غي النسي اللان واللتين إل تفاديا من الوقوع ف العنت ‪،‬‬
‫فجعل اللان واللتين مثلً لسائر الوربيي ‪.‬‬

‫الغايات الادية للحركات الروحية العلمية ‪:‬‬


‫وترى هذا الروح الادي ف جيع نظم أوربا السياسية والجتماعية واللقية الت ابتكرتا‬
‫أو جددتا شعوبا لذا العهد ‪ ،‬حت إن الركة الروحية الت شغلت الناس كثيا ف أوربا ف‬
‫الزمن الخي إنا روحها الادية ‪ ،‬فقد أصبحت صناعة وفنا كسائر الصناعات والفنون ف‬
‫أوربا ‪ ،‬غايتها مشاهدة عجائب إقليم الروح والطلع على أسرارها والتحدث إل أرواح‬
‫الوتى وترويح النفس والتلهي ‪ ،‬وليست من تزكية النفس وتصفية القلب والشوع ل والعمل‬
‫الصال والستعداد للموت والصب على مكاره الياة وهضم النفس ف شيء ‪ ،‬خلفا للحركة‬
‫الروحية والتصوف ف الشرق السلمي ‪.‬‬
‫كذلك العمال الت يضحي فيها الناس بنفوسهم وأرواحهم ف الغرب إنا ترجع ف‬
‫الغالب إل غايات مادية كحسن الحدوثة وانتشار الصيت وخلود الذكر ف التاريخ والتبيز‬
‫على الناس وأن يتمجد به شعبه ويفتخر ويتشرف به وطنه ويغتبط ‪ ،‬خلفا للعمال الت يبتغي‬
‫با وجه ال ‪ ،‬فالسلم ياف أن يشوب عمله شيء من الرياء والسمعة فيحبطه ويسمع قول‬
‫ال تعال ‪ { :‬هَلْ نُنَبّئُ ُكمْ بِالْأَ ْخسَرِينَ أَ ْعمَالً{‪ }103‬الّذِي َن ضَلّ سَعُْيهُ ْم فِي اْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ ُهمْ‬
‫ت رَّبهِمْ َولِقَائِ ِه َفحَبِ َطتْ أَ ْعمَالُ ُهمْ‬
‫ك الّذِينَ كَفَرُوا بِآيَا ِ‬
‫حسِنُونَ صُنْعا{‪ }104‬أُولَئِ َ‬ ‫حسَبُونَ أَّن ُهمْ ُي ْ‬
‫َي ْ‬
‫فَلَا نُقِيمُ َل ُهمْ َيوْ َم الْقِيَامَةِ وَزْنا } ‪ ،‬وقوله عز وجل ‪َ { :‬وَقدِمْنَا ِإلَى مَا َعمِلُوا مِنْ َعمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ‬
‫هَبَاء مّنثُورا } وقد سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الرجل الذي يقاتل شجاعة‬
‫ويقاتل رياء ‪ :‬أي ذلك ف سبيل ال ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ (( :‬من قاتل‬

‫‪159‬‬
‫لتكون كلمة ال هي العليا فهو ف سبيل ال )) ‪ .‬وكان عمر بن الطاب رضي ال عنه يقول‬
‫ف دعائه ‪ (( :‬اللهم اجعل عملي كله صالا واجعله كله لوجهك خالصا ول تعل لغيك فيه‬
‫شيئا )) واجتهاد الصالي من هذه المة ف إخفاء عبادتم وصدقاتم معروف ف كتب‬
‫التاريخ والسي ‪.‬‬

‫التصوف الادي الغرب ووحدة الوجود القتصادي ‪:‬‬


‫وقد بلغ النظر الادي والفكر الادي ف أوربا درجة الستغراق فيه والفناء ونسيان ما‬
‫سوى القيم الادية ‪ ،‬ولنضرب بذلك مثلً بكارل ماركس ‪ 1883 – 1818‬م مؤسس‬
‫الفلسفة الشيوعية ‪.‬‬
‫يرى كارل ماركس أن النظام القتصادي هو روح الجتماع وأن الدين والضارة‬
‫وفلسفة الياة والفنون الميلة كلها عكس لذا النظام القتصادي ‪ ،‬هو يقول ‪ :‬إن ف كل‬
‫عصر وف كل دور من أدوار التاريخ طريقة خاصة للنتاج الصناعي وعلى وفقها تتعي‬
‫العلقات الجتماعية ‪ ،‬ولكن بغد قليل ل تبقى هذه العلقات الجتماعية متوافقة متناسبة مع‬
‫طرق النتاج ويتهد بعض الناس لتشكيل هذه العلقة تشكيلً جديدا ‪ ،‬وهذه هي الت تعرف‬
‫ف التاريخ بالنقلبات والثورات ‪ .‬والؤرخ يهل ماهيتها ولكن ل غرابة ف ذلك ‪ ،‬فإن الذين‬
‫يشتركون ف هذه الثورات قد ل يشعرون أنفسهم بالغاية الت يقاتلون لجلها ‪ ،‬ولكن يكن‬
‫لنا أن نل هذه اللغاز ونعلم أن الرتقاء السياسي والتعديلت والتحسينات ف النظم السياسية‬
‫وما يطرأ عليها من التغيي والتطور ليست إل صورا جديدة للعلئق الجتماعية تظهر لتجعل‬
‫هذه العلئق متناسبة متوافقة بطرق النتاج الديدة من جديد ‪ ،‬ولا كان الختلف بي طرق‬
‫النتاج الصناعي والعلئق الجتماعية الت تقوم عليها مستمرا فيكون الهد لتطبيقها مستمرا‬
‫أيضا ‪ ،‬وإذا تاوز الختلف واشتد ظهر ف شكل ثورة ‪ ،‬ولكن ل ينبغي لنا – إذا ل يكن‬
‫الختلفات واضحة – أن ننفي وجودها وننكرها ‪ ،‬والختلف بي مناهج النتاج الصناعي‬
‫والوشائج الجتماعية يظهر ف حرب الطبقات ‪ ،‬لن جيع طبقات الجتماع إنا هي أجزاء‬

‫‪160‬‬
‫النظام القتصادي ‪ ،‬ويستنتج من ذلك كارل ماركس أن التاريخ البشري غي العهد الذي‬
‫كانت الياة البشرية ف طفولتها ليس إل قصة حرب الطبقات الجتماعية الختلفة ‪.‬‬
‫وهكذا جحد الرجل جيع نواحي البشرية غي الناحية القتصادية ول يعر غيها شيئا من‬
‫العناية ‪ ،‬ول يقم للدين والخلق والروح والقلب وحت العقل وزنا وقيمة ‪ ،‬ول يعترف أن‬
‫أحدا منها كان عاملً من عوامل التاريخ ‪ ،‬وأن جيع الروب والثورات ف التاريخ ل يكن إل‬
‫ثارا لبطن من بطن ‪ ،‬وجهادا ف سبيل تنظيم جديد للنظام القتصادي وطرق النتاج الصناعي‬
‫‪ ،‬وحت الروب الدينية ل تكن عنده إل حرب الطبقات القتصادية استأثرت إحداها بوارد‬
‫الثروة ووسائلها وطرق النتاج ‪ ،‬واجتهدت الخرى ف أن تنافسها وتتناول قسطها أو أن‬
‫تنظمها من جديد فوقعت الرب ‪ ،‬ويب أن تكون كذلك ف رأيه (( بدر )) و (( أُحد )) و‬
‫(( الحزاب )) و (( القادسية )) و (( اليموك )) ‪ ،‬ووقائع ومعارك حفظها التاريخ ‪.‬‬
‫فهذا هو – كما ترى – التصوف الادي الغرب ‪ ،‬وهذه هي فلسفة وحدة الوجود وحدة‬
‫القتصاد ‪ ،‬ولا كان الشرقيون إنا يغلبهم الروح الدين والتأله نفى التألون منهم والغلوبون‬
‫وجود كل شيء سوى ال ‪ ،‬وهتفوا ف سكرهم وغلبة الال عليهم ‪ :‬ل موجود إل ال ‪ ،‬ولا‬
‫كان الفكرون الوربيون إنا تغلبهم الادية نفوا وجود كل شيء سوى الناحية القتصادية‬
‫وهتفوا ‪ :‬ل موجود إل البطن والعدة ‪ .‬إن صوفية الشرق كانوا يرون النسان ظلً ربانيا ‪ ،‬أما‬
‫الاديون ف الغرب فل يرونه إل وجودا بيميا حيوانيا ‪.‬‬

‫نظرية دارون وتأثيها ف الفكار والضارة ‪:‬‬


‫وساعدهم ف وجهة نظرهم هذه ف جيع مسائل النسان وزاد الطي بلة ‪ ،‬النظرية الت‬
‫ظهرت ف القرن التاسع عشر عن ارتقاء النسان ‪ ،‬وكونه حيوانا مترقيا عما دونه من‬
‫اليوانات ‪ ،‬ل يزل يتاز برحلة بعد مرحلة ف رحلته النوعية الت استغرقت ألوفا من السني‬
‫ول يزل ينتقل من طور حيوان إل طور آخر ‪ ،‬من أميبا (‪ )Amoeba‬إل قرد ومن قرد إل‬
‫إنسان حت بلغ كماله النوعي ‪ ،‬وزعيم هذه النظرية وبطلها دارون الذي ظهر كتابه أصل‬
‫النواع (‪ )Origin of species‬سنة ‪ 1859‬م فكان حديث النوادي والجامع والدارس‬

‫‪161‬‬
‫وشغل الناس الشاغل ‪ ،‬وكانت هذه النظرية اتاها جديدا ل يسبق ف السائل البشرية وما‬
‫يتعلق با ‪ ،‬تقلب تيار الفكر وتصرف نظر النسان ف الستعلم والستهداء ف مسائله وف‬
‫تاريه من النسان إل اليوان ‪ ،‬وتعله يعتقد أن هذا الكون سائر بغي عناية إلية ‪ ،‬وبغي أن‬
‫تتداخل فيه قوة غي طبيعة ‪ ،‬وأن ل علة ف الكون سوى السنن الطبيعية ‪ ،‬وأن الوجودات‬
‫ترتقي من مراتب الياة الول إل مراتبها العليا بعمل فطري تدريي عار من العقل والكمة ‪،‬‬
‫وأن النسان وسائر أنواع اليوان ليس من صنع صانع حكيم بل هو نتيجة نواميس طبيعية‬
‫انتهى با التنازع للبقاء وناموس بقاء الصلح والنتخاب الطبعي الذي هو سائر ف الكون إل‬
‫إنسان ناطق ذي شعور ‪.‬‬
‫إن مناقضة هذه النظرية للدين والعقل ف البادئ والغايات والنتائج الفكرية واللقية‬
‫وآثارها العملية واضحة ‪ ،‬بل كان هذا دينا جديدا يهدم الدين القدي من الساس ويل مله ‪،‬‬
‫فل غرابة إذا اضطرب لا رجال الدين وحسبوا لا كل حساب ‪ ،‬وخافوا على مصي الدين ف‬
‫أوروبا ‪.‬‬
‫يقول الستاذ جود ف كتابه ‪:‬‬
‫(( يصعب علينا الن أن ندرك تلك الدهشة والستغراب الذي فاجأ أجددنا عندما ظهر‬
‫كتاب أصل النواع لدارون ‪ ،‬وعندما جاءت النتائج أن دارون اثبت – أو يظن أنه أثبت –‬
‫أن عمل ارتقاء الياة على هذا الكوكب ( الرض ) ل يزل مستمرا متوصلً من ظهور الميبا‬
‫(‪ )Amoeba‬وفرخ البحر (‪ )Jelly Fish‬ف أشكاله الول إل أشكاله النهائية العليا‬
‫وهي أرقى أشكال الياة وأعلها ‪ ،‬فلم يزل عمل الرتقاء من الميبا إل طورنا متواصلً غي‬
‫منقطع )) ‪.‬‬
‫(( بالعكس من ذلك أن الذين عاشوا ف عصر فكتوريا إنا أرشدوا أن النسان خلق‬
‫مستقل ‪ ،‬وهو ف القيقة نوع من ملك منحط ‪ ،‬أما إذا كان دارون مصيبا فالنسان ل يكن‬
‫إل قردا راقيا ‪ ،‬فعز على أهل عصر فكتوريا أن يكون النسان قردا راقيا بدل أن يكون ملكا‬

‫‪162‬‬
‫منحطا ‪ ،‬وما طابت لم هذه النظرية واجتهدوا أن يلصوا النسان من هذه السبة الت لقتهم‬
‫من هذه العقيدة ف النسان واقترحوا لذلك اقتراحات‪. )) )(215‬‬
‫إقبال المهور على نظرية الرتقاء ‪:‬‬
‫ولكن المهور والدهاء من الناس تلقوا هذه النظرية بالقبول – رغم ما فيها من ضعف‬
‫ونقص من الوجهة العلمية – فهموها أو ل يفهموها – وكأن الذهان كانت متهيئة لثل هذه‬
‫النظرية ‪ ،‬وكأن الناس وجدوا فيها منافسا للدين ورجاله ‪ ،‬وصعب على رجال الدين أن‬
‫يعارضوا هذا التيار الارف من أفكار الناس وأذواقهم والسيل العرم من النشورات‬
‫والحاضرات ‪ ،‬فوضعت الكنيسة أوزارها ف هذه الرب حت إذا مات دارون سنة ‪ 1883‬م‬
‫منحته الكنيسة النليزية أكب شرف تنحه لنسان ‪ ،‬وذلك بأنا أذنت بدفنه ف ويست‬
‫منسترايب مل دفن الرجال الدينيي ‪.‬‬
‫وكان تأثي هذه النظرية بعيدا عميقا ف الفكار والضارة والدب والسياسة تراه وتلمسه‬
‫ف أخلق الناس ‪ ،‬وف نزعات الرجوع إل الفطرة وإل العهد الذي كان النسان يعيش فيه‬
‫على الفطرة عاريا حرا ‪ ،‬وف تعيي الثل الكامل للنسان وف جيع العمال والخلق الت ل‬
‫تصدر إل على تسليم أن النسان إنا هو حيوان راق ‪ ،‬وف فساد الياة النلية الذي يعب عنه‬
‫الستر شبد أحد علماء النليز بقوله ‪ (( :‬لقد ظهر ف إنلترا جيل من الناس يهل الياة‬
‫النلية جهلً باتا ‪ ،‬ول يعرف غي حياة القطعان والبهائم )) ‪.‬‬
‫من جنايات الادية ‪:‬‬
‫وكان من نتائج هذه الادية الارفة ‪ ،‬والتربية اللدينية الت ليس فيها نصيب للخلق‬
‫ومافة ال عز وجل ‪ ،‬واليان بالخرة أن أصحاب الراكز الكبية ‪ ،‬ورجال السياسة‬
‫والسئولية يرتكبون ف بعض الحيان جنايات ل يتنل إليها أكب الثي ‪ .‬وذلك لصلحة‬
‫سياسية وهية لبلدهم وأمتهم أو لاه شخصي أو ربح مال ‪ ،‬فمن أغرب ما روي ف تاريخ‬
‫البشر من القسوة والظلم ‪ ،‬أن النليز قد أوقعوا ف بنغال (الند) ماعة مزورة غي طبيعية ‪،‬‬
‫لنم منعوا استعمال القوارب الت يصد الناس عليها مزارع الرز – وهو غذاء بنغال –‬
‫(‪(215‬‬
‫‪. Guide to Modern Wickedness p . 235 – 236‬‬
‫‪163‬‬
‫واحتكروا البوب ف مقدار عظيم للجند ‪ ،‬ول يكنوا الناس منها حت فسدت وضاعت ‪،‬‬
‫ومات مئات اللوف من الناس جوعا ‪ ،‬والبوب وفية ف البلد ‪ ،‬والواصلت ميسورة ‪،‬‬
‫والقطر غادية رائحة ‪ ،‬والند بلد مصبة تستطيع أن تغذي بلدا أخرى ‪ .‬وذلك كله لا‬
‫توقعوه من إقبال الناس على التجنيد ‪ ,‬وليهنوا على فشل الكم الذات ف إدارة البلد ‪.‬‬
‫وقد تغافل لورد ماونت بيت حاكم الند العام سنة ‪ 1947‬عما يدبر من الفتك بالسلمي‬
‫ف دلي وبنجاب الشرقية ‪ ,‬فقد اتصلت به أنباء الؤامرات والطط الت كانت تبيت ضد‬
‫العنصر السلمي ف هذه النطقة ‪ ,‬وأنذره الباء بوقوع اضطراب طائفي هائل ‪ ,‬فنام على‬
‫كل ذلك انتقاما من أن السلمي ل ينتخبوه حاكما عاما لباكستان كما فعل أهل الند ‪،‬‬
‫ولتكون هذه الضطرابات الطائفية ‪ ,‬والروب الهلية حجة على عدم أهلية أهل البلد‬
‫للستقلل ‪ ,‬وكونم عيالً على النليز ف المن والنظام ‪ ،‬فكان نتيجة ذلك ‪ ,‬تلك الجزرة‬
‫البشرية الائلة الت عقمت القرون أن تلد مثلها ‪.‬‬
‫ومن ذلك أن (( ريدكلف )) الذي اختاره الفريقان النديان حكما ف مسألة بعض مدن‬
‫بنجاب هل تنضم إل هندوستان ‪ ،‬أو إل باكستان حكم حكما جائرا ‪ ،‬فكان نتيجة ذلك‬
‫جلء السلمي من فيزوبور ‪ ،‬وكورداسبور ‪ ،‬ومتاعب عظيمة ‪ ،‬وخسائر كبية ف النفوس‬
‫والموال ‪.‬‬
‫أما تأييد ترومان للصهيونية ‪ ،‬ودولة إسرائيل ف فلسطي ‪ ،‬ومعارضته للقضية العربية الت‬
‫ل غبار عليها ‪ ،‬لجل أن يكسب ود اليهود ويتمتع بنفوذهم السياسي والال والصحاف ‪،‬‬
‫وليكسب انتخابه ‪ ،‬وتعاميه عن براهي الدولة العربية الساطعة ‪ ،‬وسكوت أمريكا على فظائع‬
‫فرنسا ف الزائر ‪ ،‬ووقوفها بوار هذه الدولة الائرة ف قضية الزائر العربية السلمية ‪،‬‬
‫وتعاونا على الث والعدوان ‪ ،‬فقضية تنبئ عن ضعف أخلق العظماء ف أوربا وأمريكا ‪،‬‬
‫ودوران الياة السياسية على الفوائد ل البادئ ‪.‬‬

‫*********************************‬

‫‪164‬‬
‫الفصل الثان‬
‫النسية والوطنية ف أوربا‬
‫انكسار الكنيسة اللتينية سبب قوة العصبية والقومية والوطنية ‪:‬‬
‫قدمنا أن الوطنية والقومية والعتداد الشديد بالشعب والوقع الغراف من خصائص الطبع‬
‫الورب الذي سرى ف العنصر الورب مسرى الروح ‪ ،‬وجرى منه مرى الدم وأصبح طبيعة‬
‫ثانية له ‪ ،‬ولكن النصرانية قهرت هذه الطبيعة ‪ ،‬لنا – على علتا ‪ ،‬وبرغم ما طرأ عليها من‬
‫التحريف والتبدل – ل يزال عليها مسحة من تعليم السيح ‪ ،‬وفيها أثارة من علمه ‪ ،‬والدين‬
‫السماوي مهما ترف وتغي ل يعرف الفرق الصطنعة بي النسان والنسان ‪ ،‬ول يفرق بي‬
‫الجناس واللوان والوطان ‪ ،‬فجمعت النصرانية المم الوربية تت لواء الدين وجعلت من‬
‫العال النصران عشية واحدةِ ‪ ،‬وأخضعت الشعوب الكثية للكنيسة اللتينية فغلبت العصبية‬
‫القومية والنعرة الوطنية ‪ ،‬وشغلت المم عنها لدة طويلة ‪ ،‬ولكن لا قام لوثر سنة ‪– 1483‬‬
‫‪ 1526‬م بركته الدينية الصلحية الشهية ضد الكنيسة اللتينية ‪ ،‬ورأى من مصلحة مهمته‬
‫أن يستعي باللان جنسه ونح ف عمله ناحا ل يستهان بقدره ‪ ،‬وانزمت الكنيسة اللتينية‬
‫ف عاقبة المر فانفرط عقدها ‪ ،‬استقلت المم ‪ ،‬وأصبحت ل تربطها رابطة ‪ ،‬ول تزل كل‬
‫يوم تزداد استقللً ف شؤونا وتشتتا ‪ .‬حت إذا اضمحلت النصرانية نفسها ف أوربا قويت‬
‫العصبية القومية والوطنية ‪ ،‬وكان الدين والقومية ككفت ميزان كلما رجحت واحدة طاشت‬
‫الخرى ‪ ،‬ومعلوم أن كفة الدين ل تزل تف كل يوم ‪ ،‬ول تزل كفة منافسته راجحة ‪ ،‬وقد‬
‫أشار إل هذه القيقة التاريية الفاضل النليزي العروف لورد لوثي ‪Lord Lothian‬‬
‫السفي البيطان السابق ف أمريكا ف خطبته الت ألقاها ف حفلة جامعة عليكرة ف يناير سنة‬
‫‪ 1938‬م ‪.‬‬
‫(( لا قضت حركة لوثر الت تدعى حركة إصلح الدين على وحدة أوربا الثقافية والدينية‬
‫‪ ،‬انقسمت هذه القارة ف إمارات شعبية متلفة ‪ ،‬أصبحت منازعاتا ومنافساتا خطرا خالدا‬
‫على أمن العال )) ‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫وكان نتيجة النطاط الدين ‪ ،‬وانفاض مبادئ الدين والخلق ‪ ،‬رجحان كفة الوطنية‬
‫والنسية ؛ يقول (( لورد لوثي )) ف نفس هذه الطبة ‪:‬‬
‫(( إن الدين الذي هو الرشد اللزم للنسان والوسيلة الوحيدة لصول الغاية اللقية ‪،‬‬
‫والشرف العنوي للحياة البشرية ‪ ،‬كان نتيجة النطاط ف سلطانه أن فت العال الغرب‬
‫بذاهب سياسية تقوم على أساس اختلف الجناس والطبقات وآمن ‪ -‬بتأثي العلوم الطبيعية‪-‬‬
‫أن الرقي الادي هو الغاية العليا ‪ ،‬والوطر الكب ‪ ،‬ول يزال يزيد هذا المر ف مشاكل الياة‬
‫وأثقالا وتكاليفها ‪ ،‬وكان من نتائج ذلك أيضا أنه صعب على أوربا أن توفق بي روحها‬
‫وحياتا توفيقا ينقذها من القومية ‪ ،‬داهية هذا العصر الكبى‪. )) )(216‬‬

‫طوائف العصبية النسية ف أوربا ‪:‬‬


‫كان نتيجة انلل النظام الدين وانتعاش النعرة القومية أولً ‪ ،‬أن أصبحت أوربا معسكرا‬
‫واحدا ضد الشرق كله ‪ ،‬وخطت خطّا فاصل بي الغرب والشرق أو بي أوربا وبي سواها‬
‫من القارات والقاليم ‪ ،‬والنس الري وبي ما عداه من أجناس البشر ‪ ،‬يعد أن كل ما دون‬
‫هذا الط له الفضل على كل ما وراءه من نسل وشعب وثقافة وحضارة وعلم وأدب ‪ ،‬وأن‬
‫الول خلق ليسود ويكم ‪ ،‬والثان ليخضع ويدين ‪ ،‬والول ليبقى ويزدهر ‪ ،‬والثان ليموت‬
‫ويضمحل ‪ ،‬وهذا بعينه ما امتاز به اليونان والروم ف عهدهم ‪ ،‬فقد كانوا ل يعدون مهذبي‬
‫إل أنفسهم فقط ‪ ،‬وكانوا يسمون كل شيء غريبا ‪ ،‬خصوصا كل ما كان واقعا ف شرق‬
‫الحيط الطلنتيكي – بربريا ‪.‬‬
‫وكان نتيجة هذه النفسية النسية والعصبية ضد كل ما جاء من الارج ويعزى إل أجنب‬
‫‪ ،‬أن صار بعض الشعوب الوروبية ينظر إل الدين السيحي وإل السيح كطارئ ونزيل‬
‫يريدون أن ينفوه من بلدهم ويتبأوا منه ‪ ،‬يثل ذلك ما قال أحد العلمي ف ألانية وهو‬
‫البوفسور أترن ‪:‬‬

‫(‪(216‬‬
‫‪. Convocation Adress of Lord Lothian at Muslim University Aligarh‬‬
‫‪166‬‬
‫((لي شيء يدرس أولدنا تاريخ أمة أجنبية‪ ،‬ولاذا يقص عليهم قصص إبراهيم وإسحق؟‬
‫ينبغي أن يكون إلنا أيضا ألانياَ )) ‪.‬‬
‫ونشأت ف ألانيا طائفة تتبأ من سيدنا السيح عليه السلم لكونه من بن إسرائيل ‪،‬‬
‫والذين ل يزالون يدينون له بالب والتعظيم يتهدون أن يثبتوا أنه كان من سللة آرية ‪،‬‬
‫وظهرت ف ألانية نزعة إل إحياء اللة القومية القدية الت كان يعبدها الشعب اللان ف‬
‫عهده القدي ‪.‬‬
‫وليست روسيا العالية بأقل حاسة للعصبية النسية والوطنية من منافسها القدي ألانيا ‪.‬‬
‫فيعتقد الناس ف روسيا أن أغلب الختراعات الكبى ف العصر الديث إنا يرجع الفضل‬
‫فيها إل الروس ‪.‬‬
‫فليس (( لفوازييه )) هو واضح القانون الاص بتركيب الجسام ‪ ،‬بل هو مدين با‬
‫ينسب إليه للعال الروسي (( ميشيل لوموتوسوف )) وليس (( لديسون )) فضل ف استخدام‬
‫الكهرباء ف الضاءة فقد سبقه (( لووجي )) الروسي بست سنوات إل غي ذلك ‪ ،‬ونشرت‬
‫جريدة برافدا ‪ :‬أن العلماء الروسيي توصلوا إل اختراع التلغراف قبل (( مورس )) وإل تسيي‬
‫القاطرة البخارية قبل (( ستفنسن )) ‪ ،‬إل غي ذلك من تديات للتاريخ ليس الباعث عليها إل‬
‫العصبية النسية وتقديس (( روسيا )) ‪.‬‬

‫عدوى النسية ف القطار السلمية ‪:‬‬


‫وما يدعو إل السف والضطراب ‪ ،‬أن هذه العدوى النسية قد سرت إل بعض‬
‫القطار السلمية الت كان يب وكان من الترقب أن تكون زعيمة لدعوة السلم العالية ‪،‬‬
‫حاملة ف عصرها لرسالة المن والسلم ‪ ،‬وأن تكون جبهة قوية ضد النسية والوطنية ‪،‬‬
‫وذلك بانلل الدين ف هذه البلد ‪ ،‬وبتأثي الداب الوربية والضارة الغربية ‪ ،‬فترى ف‬
‫الترك النعة الطورانية والدعوة إل إحياء جاهليتها القدية وآدابا وثقافتها ‪ ،‬والنظرة إل الدين‬
‫السلمي الذي انتشر على أيدي العرب وشريعة السلم وثقافته ولغته نظرة شبه نظرة ألانيا‬
‫الديدة إل الديان الت جاء با النبياء من غي النسل الري والداب السامية وثقافتها ‪،‬‬

‫‪167‬‬
‫فاعتقد بعض الفكرين ف تركيا الفتاة أن السلم دين طارئ غريب ل يصلح للترك ‪ ،‬وأن‬
‫الول بم أن يرجعوا إل وثنيتهم الول قبل أن اعتنق آباؤهم الدين السلمي ‪ ،‬تقول الكاتبة‬
‫خالدة أديب هان عن (( ضياء كوك ألب )) من كبار مؤسسي تركيا الديدة أدبا وتذيبا ‪:‬‬
‫(( كان ضياء كوك ألب يريد أن ينشئ تركيا جديدة تكون صلة بي التراك العثمانيي‬
‫وبي أسلفهم الطورانيي ‪ ،‬فقد كان يريد أن يقوم بإصلح مدن بواسطة العلومات الت‬
‫جعها عن التنظيمات السياسية والدنية ف عهد التراك قبل السلم ‪ ،‬كان ضياء يعتقد ويؤمن‬
‫بأن السلم الذي وضعه العرب ل يصلح لشأننا ‪ ،‬ولبد لنا من إصلح دين يوافق طبائعنا إذا‬
‫ل نرجع إل عهدنا الاهلي ‪. )))(217‬‬
‫وما ل شك فيه أن هذه النعة قد وجدت ف الترك وكذلك ف اليرانيي ف الزمن‬
‫الخي‪:‬‬
‫قال الرحوم المي (( شكيب أرسلن )) وهو البي الثقة فيما يتعلق بالترك فضلً عن‬
‫العرب لطول مكثه ف تركيا وكان عضوا ف ملس المة ‪:‬‬
‫(( وهناك فئة ثانية تدعى الفئة الطورانية تالف الفئة الول ‪ - ،‬أي الفئة الت تقول‬
‫بالقومية العثمانية السلمية – ف كل هذه النظريات ‪ ،‬وأشهر دعاتا ضياء كوك ألب وأحد‬
‫أغائف ‪ ،‬ويوسف أقشورا اللذان قدما من روسيا ‪ ،‬وجلل ساهر ‪ ،‬ويي كمال ‪ ،‬وحدال‬
‫صبحي رئيس وجاق (( تورك بوردي )) وممد أمي بك الشاعر اللي ‪ ،‬وكثي من الدباء‬
‫والفكرين ‪ ،‬وأكثر الطلبة والنشء الديد ‪ .‬وهؤلء يزعمون أن الترك هم من أقدم أمم‬
‫البسيطة وأعرقها مدا ‪ ،‬وأسبقها إل الضارة ‪ ،‬وأنم هم والنس الغول واحد ف الصل ‪،‬‬
‫ويلزم أن يعودا واحدا ‪ ،‬ويسمون ذلك بالامعة الطورانية ‪ ،‬ول يقتصروا منها على الترك‬
‫الذين ف سيبيا وتركستان الصي وفارس والقوقاس والناضول والروملي ‪ ،‬بل مبدؤهم مد‬
‫هذه الرابطة إل الغول ف الصي ‪ ،‬وإل الجر والفنلنديي ف أوربا ‪ ،‬وكل ما يقال إنه ينتمي‬
‫إل أصل طوران ‪ ،‬وهم يقولون بلف ما يقول الولون ‪ ،‬فهم ترك أولً ومسلمون ثانيا ‪،‬‬
‫وشعارهم عدم التدين وإهال الامعة السلمية ‪ ،‬إل إذا كانت خادمة لنفوذ القومية الطورانية‬

‫(‪(217‬‬
‫محاضرات (( خالدة أديب هانم (( في الجامعة الملية بدلهي ‪.‬‬
‫‪168‬‬
‫‪ ،‬فتكون عندئذ واسطة ل غاية ‪ ،‬وقد غل كثي من هذه الفئة ف الطورانية حت قالوا ‪ :‬نن‬
‫أتراك فكعبتنا طوران ‪ ،‬وهم يتغنون بدائح جنكيز ‪ ،‬ويعجبون بفتوحات الغول ‪ ،‬ول ينكرون‬
‫شيئا من أعمالم ‪ ،‬وينظمون الناشيد للحداث ف وصف الوقائع النكيزية ليطبعوهم على‬
‫العجاب با ويرقوا مستوى نفوسهم بزعمهم‪ .. )) )(218‬وقال أيضا ‪:‬‬
‫(( وهذا ولا كان هذا العصر عصر القوميات كما ل يفى اقتداء بالمم الوربية ف الزمن‬
‫الخي كانت القومية الفارسية قد أخذت تشتد أكثر من ذي قبل ‪ ،‬وذلك نظي ما حصل عند‬
‫الترك ‪ ،‬وصار كثي من ناشئة الفرس يبحثون عن دين فارس القدي ‪ ،‬وذلك نظي ناشئة الترك‬
‫الذين أخذوا يبحثون عن عبادات أجدادهم وعن الذئب البيض الذي كانوا يعبدون ‪ ،‬حت‬
‫صوروه ف بعض كتبهم الديثة ‪ ،‬وقال لم الرحوم ( موسى كاظم ) شيخ السلم – وهو‬
‫الذي أخبن بذلك ‪ : -‬إن العرب كانت عندهم عبادات كهذه تقشعر منها البدان ‪،‬‬
‫ولكنهم اقتلعوها بالسلم وافتخروا بأن ال لطف بم وأنقذهم منها ورفعهم عن مستوى تلك‬
‫السفالت ‪ .‬وأما أنتم فتريدون أن تتناسوا العتقاد بالبارئ تعال وتتذكروا عبادة الذئب‬
‫البيض ‪ ،‬فيا للسف )) ‪.‬‬
‫(( فكما حصل عند الترك حصل عند الفرس وصار ناشئتهم يبحثون عن أديانم القدية‬
‫الت منها الكيومرتية ( أي تعظيم النور ) والتحرز من الظلمة ‪ .‬ومن هنا جاءتم عبادة النار ‪،‬‬
‫ومنها فرقة ( زرادشت ) الذي كان يدعو إل وحدانية ال ‪ ،‬ويقول ‪ :‬إنه خالق النور والظلمة‬
‫وإن الي والشر إنا حصل بامتزاجهما ‪ ،‬وإنما لو ل يتزجا لا كان وجود للعال ‪ ،‬إل غي‬
‫ذلك من العقائد والوابد والثار الت كانت عند قدماء الفرس ‪ :‬كالثنوية ‪ ،‬والزردشتية ‪،‬‬
‫والانوية ‪ ،‬ومنهم من يبحث عن الزدكية الت كانت تدعو إل اللاد والباحية ‪. )))(219‬‬

‫الديانة القومية الوربية وأركانا ‪:‬‬

‫(‪(218‬‬
‫من حواشي المير (( شكيب أرسلن (( على حاضر العالم السلمي الجزء الول ص ‪. 159 – 158‬‬
‫(‪(219‬‬
‫حواشي حاضر العالم السلمي الجزء الول ص ‪. 165 – 164‬‬
‫‪169‬‬
‫والطوة الثانية ف هذا الطريق أن أصبحت الشعوب والدول ف أوربا ‪ ،‬الصغية منها‬
‫والكبية ‪ ،‬عوال مستقلة ل ترى العال خارج الطوط الت خطتها الطبيعة من جبال وأنار ‪،‬‬
‫أو خطتها بيدها من غاية سياسية واستعمار ‪ ،‬ول تعترف بوجود النسان ف غي منطقتها فل‬
‫تترمه ول تعرفه ‪ ،‬واتذت نفسها إلا تدين له بكل ما يدين به العباد الخلصون من عبادة‬
‫وتقديس وأضاح هي دماء الخرين ونفوسهم وأموالم وبلدهم ‪ ،‬وقتال ف سبيله ‪ ،‬وتفان ف‬
‫طاعته ‪ ،‬وميا ومات لجله ‪ ،‬وهذا الدين القومي يشتمل على شيئي ‪ :‬إياب وسلب ‪ ،‬أما‬
‫الياب فهو العتقاد بأن الشعب أو المة فوق كل شيء ‪ ،‬وأفضل من كل شيء ‪ ،‬وأن ال –‬
‫إذا كانت المة تعترف به وتعتقد أو ترى أن من الصلحة أن تستعمل هذه الكلمة – ل يلق‬
‫أفضل من هذه المة ‪ ،‬ول أنب منها ‪ ،‬ول أذكى ول أقوى ول أحق بالكم والسيادة‬
‫والولية على المم ‪ ،‬والرعاية للعال منها ‪ ،‬وأنا أمينة ووكيله ووصيه ف الرض ‪ ،‬ول يلق‬
‫بلدا أحب إليه من هذه البلد ‪ ،‬ول تربة أذكى من تربتها ‪ ،‬وهذا هو الدين القومي الذي ل‬
‫يسمح لنسان أن يعيش ف بلده حت يؤمن به ‪.‬‬
‫ول تتلف شعوب أوربا الاضرة ودولا ف هذه الديانة القومية إل ف الصراحة والنفاق ‪،‬‬
‫وأن بعضها تقول وتفعل ‪ ،‬وبعضها تفعل ول تقول ‪ ،‬فإن بذرة القومية والوطنية إذا ألقيت ف‬
‫أرض فإنا ل تلبث أن تنشأ وتد عروقها ف الرض ث تصي شجرة ‪ ،‬فدوحة تظلل المة ‪،‬‬
‫ول يكن لشعب أن يؤمن بالقومية ‪ ،‬ث ل يعتدي ول يتطاول أو ل يريد أن يعتدي ويتطاول‬
‫ول يقت الخرين ‪ ،‬ول يزدريهم ‪ ،‬كما ل يكن أن يسرف النسان ف المر ‪ ،‬ث ل يسكر‬
‫ول يهذي كما قال الشاعر ‪:‬‬
‫ألقاه ف البحر مكتوفا وقال له *** إياك إياك أن تبتل بالاء‬
‫خصوصا إذا كان العلم والدب والشعر والفلسفة والتاريخ وحت العلوم الطبيعية متعاونة‬
‫على إنشاء العاطفة القومية والنعرة الشعبية واليلء النسية والفخر بالباء والتعظيم بالاضي ‪،‬‬
‫ول يكون رادع من خلق ول وازع من دين ‪ ،‬وتول القيادة رجال ل يعرفون غي القومية‬
‫والجد القومي غاية مرمى ‪ ،‬ومن مقومات هذه الياة القومية الت ل تقوم بغيها ‪ ،‬الكراهة‬
‫والوف ‪ ،‬وذلك هو الزء السلب ف دين القومية ‪ ،‬فإن الماسة القومية ل تظهر ول تبقى‬
‫‪170‬‬
‫حت يكون للشعب ما يكرهه ويافه ‪ ،‬فل يزال القائدون يثيون الكامن من عواطفه ‪،‬‬
‫ويذكرون الامد من حيته ويضربون على الوتر الساس وهو الكراهة والوف ‪ ،‬فلولها‬
‫لنقشعت سحابة القومية وتراجع سيلها ‪.‬‬
‫ل فلسفيا نفسيا فقال ‪:‬‬‫وقد حلل ذلك الستاذ (( جود )) تلي ً‬
‫(( إن العواطف الت هي مشتركة والت يكن إثارتا بسهولة هي عواطف القت والوف‬
‫الت ترك جاعات كبية من الدهاء ‪ ،‬بدل الرحة والود والكرم والب ‪ ،‬فالذين يريدون أن‬
‫يكموا على الشعب لغاية ما ‪ ،‬ل ينجحون حت يلتمسوا له ما يكرهه ويوجدوا له من يافه ‪،‬‬
‫وإذا أردتُ أن أوحد الشعوب ينبغي أن أخترع لم عدوا على كوكب آخر – على القمر‬
‫مثلً – تافه هذه الشعوب ‪ ،‬فلم يعد من دواعي العجب أن الكومات القومية ف هذا العصر‬
‫ف معاملتها ليانا إنا تقاد بعواطف القت والوف ‪ ،‬فعلى تلك العواطف يعيش من‬
‫يكمونا ‪ ،‬وعلى تلك العواطف يقوى التاد القومي‪. )) )(220‬‬

‫الل السلمي لعضلة الرب والناقشات الشعوبية ‪:‬‬


‫إن هذا الل الذي قدمه الستاذ (( جود )) لشكلة المم ومعضلة الروب والنافسات‬
‫الشعوبية حل عادل وتوجيه معقول ‪ ،‬فل تنصرف عداوة الشعوب والمم بعضها لبعض حت‬
‫يكون لا عدو من غيها تشترك ف عداوته وكرهه والخافة منه ‪ .‬وتتعاون ف الرب معه ‪،‬‬
‫ولكن هذا ل يتاج إل اختراع وإبداع ‪ ،‬ول يلزم أن يوجد لا عدو على كوكب آخر‬
‫كالقمر والريخ ‪ ،‬وأن لم التناوش من مكان بعيد ؟ فالدين ينبه إل أن هذا العدو للنوع‬
‫النسان ولذرية آدم يوجد على الرض نفسها ‪ ،‬وحق على كل إنسان أن يعاديه ويترس منه‬
‫خذُوهُ‬ ‫ويتعاون مع بن نوعه ف معاداته وماربته يقول القرآن ‪ { :‬إِنّ الشّيْطَانَ لَ ُكمْ َع ُدوّ فَاّت ِ‬
‫ب السّ ِعيِ } ويقول ‪ { :‬يَا أَّيهَا اّلذِينَ آمَنُواْ ادْ ُخلُواْ‬ ‫صحَا ِ‬ ‫َع ُدوّا إِّنمَا َيدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا ِمنْ َأ ْ‬
‫ت الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ َع ُدوّ مّبِيٌ } ‪.‬‬
‫فِي السّ ْلمِ كَآفّةً َولَ تَتّبِعُواْ خُ ُطوَا ِ‬

‫(‪(220‬‬
‫‪. Guide to Modern Wickedness . p . 150‬‬
‫‪171‬‬
‫وقد قسم السلم العال البشري إل قسمي فقط ‪ ،‬أولياء ال وأولياء الشيطان ‪ ،‬وأنصار‬
‫الق وأنصار الباطل ‪ ،‬ول يشرع حربا ول جهادا إل ضد أنصار الباطل وأولياء الشيطان أينما‬
‫كانوا ومن كانوا ‪ ،‬فقال ‪ { :‬اّلذِينَ آمَنُواْ يُقَاِتلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُو َن فِي‬
‫سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ َأ ْولِيَاء الشّيْطَانِ إِنّ كَْيدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا } ‪ .‬وهذه الروب الت‬
‫ل يشهد التاريخ أين منها وأقل إراقة للدماء وذهابا بالنفس ‪ ،‬ول أعود منها على النسانية‬
‫بالصال العام والي الشترك والسعادة جعاء فل يربو عدد القتولي من الفريقي ( السلم‬
‫والكافر ) ف جيع الغزوات والسرايا والناوشات الت ابتدأت من السنة الثانية للهجرة ‪،‬‬
‫ودامت إل السنة التاسعة على ألف وثانية عشر نفسا ‪ 1018‬السلمون منهم ‪ 259‬والكفار‬
‫‪ )759(221‬أما الصابون ف حرب ‪ 1918 – 1914‬الكونية فيبلغ عددهم على الصح‬
‫واحدا وعشرين مليون نسمة‪ 21 ,000,000 )(222‬عدد القتولي منهم سبعة مليي ‪000‬‬
‫‪ 7 ,00,‬وقدر الستر مكست (‪ )Maxton‬عضو البلان النليزي أن الصابي ف الرب‬
‫الثانية الكبى ‪ .... 1939‬ل يقل عددهم عن خسي مليون ‪ 50 ,000, 000‬وقد كلف‬
‫قتل رجل واحد ف الرب الول عشرة آلف جنيه ‪ ،‬أما مموع نفقاتا فيبلغ‬
‫‪ 000,000,000,37‬جنيه أما نفقات الرب الثانية لساعة واحدة فمليون من النيهات‬
‫‪.)(223 000,000,1‬‬
‫ث كانت الروب الدينية السلمية حاقنة للدماء عاصمة للنفوس والموال وفاتة عهد‬
‫السعادة والغبطة ف العال ‪ ،‬أما حرب التنافس والمية الاهلية الت تدعى الرب الكبى فقد‬
‫كانت مقدمة حروب متسلسلة ؛ وإليك ما قال الستر لويد جورج بطل الرب الكبى‬
‫ورئيس الوزارة النليزية حينئذ ‪:‬‬
‫(( لو رجع سيدنا السيح إل العال لا عاش إل قليلً ‪ ،‬إنه سيى النسان ل يزال بعد‬
‫ألفي سنة مشغوفا بالشر والفساد والقتل والفتك بين نوعه ‪ ،‬والنهب والغارة ‪ ،‬بل إن أكب‬
‫(‪ (221‬عولنا في هذه العداد على إحصاء مؤلف السيرة النبوية الشهيرة القاضي محمد سليمان المنصور فوري في المجلد الثاني من‬
‫كتاب سيرة رحمة للعالمين ولم يغادر من الغزوات والبعوث والمناوشات صغيرة ول كبيرة إل أحصاها ‪ ،‬أما احصاءات غيره من‬
‫المؤلفين فإنها تمثل عددًا أقل من هذه العداد ‪.‬‬
‫(‪ (222‬وقد حقق المستر هـ ‪ .‬تاونسند ‪ E. H. Tawansend‬في مقالة له نشرتها صحيفة هندو النكليزية اليومية ( ‪ 31‬يناير ‪ 1943‬م‬
‫( أن عدد المصابين في الحرب الكبرى ل يقل عن ‪ 37,513,886‬المقتولون منهم ‪. 8,543،515‬‬
‫(‪ (223‬من مقالة لتاونسند في صحيفة هندو ‪.‬‬
‫‪172‬‬
‫حرب ف التاريخ قد استغرقت دم جسم النسانية وأهلكت الرث والنسل حت أصابت الناس‬
‫ماعة ‪ ،‬وماذا يرى السيد السيح يا ترى ؟ هل يرى الناس يتصافحون كالخوان والصدقاء ؟‬
‫ل ‪ .‬بل يراهم يتهيأون لرب أشد هولً من الول وأعظم فتكا وتعذيبا ؛ يراهم يتسابقون ف‬
‫اختراع اللت الهنمية ويبتدعون وسائل التعذيب ‪. )))(224‬‬
‫وليس اشتغال هذه الشعوب بالعداوة والروب فيما بينها ‪ ،‬وما هذه القومية والوطنية ال‬
‫إل لنصراف هذه الشعوب عن عداوة عدوها القيقي ونسيانا له ‪ ،‬فالنار تأكل نفسها إن ل‬
‫تد ما تأكل ‪ ،‬وكما قال الشاعر الاهلي ‪:‬‬
‫وأحيانا على بكر أخينا *** إذا ما ل ند إل أخانا‬
‫فإذا عرفت عدوها وعرفت ضرره على نفسها ‪ ،‬وعرفت خطره وقوته كان ذلك مشغلة‬
‫لا عن كل حرب وعداوة وشح ومنافسة وأحقاد وهية وتراث مصطنعة ‪ .‬وقد قالت العرب‬
‫قديا ‪ (( :‬عند الفيظة تذهب الحقاد )) وهكذا جعل ممد صلى ال عليه وسلم من قبائل‬
‫العرب التعادية الت كانت سيوفهم تقطر من دمائهم كالوس والزرج ف الدينة ‪ ،‬وبن‬
‫عدنان وبن قحطان ف الزيرة ‪ ،‬والجناس التباينة ف العال ‪ ،‬أمة واحدة ومعسكرا واحدا‬
‫إزاء الكفر والاهلية ‪ ،‬إذ جعل لا ف خارجها ما تكرهه وتعاديه ‪ ،‬وهو الباطل والطاغوت‬
‫ووكلؤه وأنصاره ‪ ،‬وشغلها بربه وقرأ ‪ { :‬اّلذِينَ آمَنُواْ يُقَاِتلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ‬
‫ت فَقَاتِلُواْ َأ ْولِيَاء الشّيْطَانِ إِنّ كَْيدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا } فنسيت‬
‫يُقَاتِلُو َن فِي سَبِيلِ الطّاغُو ِ‬
‫أحقادها وتراثها ول تتذكرها إل لا انصرفت عن عدوها وتشاغلت عن قتاله ومعاداته فكانت‬
‫حروب داخلية وفت يعرفها الميع ‪.‬‬

‫دعاية القوميي وإضرارهم بالشعوب الصغية ‪:‬‬


‫ول يزال القوميون ف داخل البلد وخارجها يزينون للشعوب الصغية القومية ويطرون‬
‫أدبا ولسانا وثقافتها وتذيبها ‪ ،‬ويجدون لا تاريها حت تصبح نشوانة بالعواطف القومية‬

‫(‪ (224‬وقد صدقت فراسته ووقع تحت أعيننا ما تنبأ به وقد فاقت هذه الحرب الجارية الماضية فتكاً بالرواح للعمران وتدميراً للبلدان‬
‫ووقائع تشيب لهولها الوالدان وغلء في السلع وارتفاعاً في السعار وأصابت الناس مجاعات شديدة في كثير من القطار‬
‫‪173‬‬
‫واليلء والكبياء ‪ ،‬وتدل بنفسها وتظن أنا مانعتها حصونا وما أعدت للحرب ‪ ،‬وتنقطع‬
‫عن العال وتتحرش أحيانا بالدول الكبية غرورا بنفسها ‪ ،‬أو تجم عليها الدول فل تلبث إل‬
‫عشية أو ضحاها ‪ ،‬وتذهب ضحية لقوميتها وانصارها ف دائرة ضيقة ‪ ،‬ول يغن أولئك‬
‫السئولون عنها شيئا { َكمَثَلِ الشّيْطَانِ إِ ْذ قَالَ لِلْإِنسَا ِن اكْفُ ْر فََلمّا كَفَ َر قَالَ إِنّي َبرِيءٌ مّنكَ }‬
‫كذلك وقع لبولندة وبلجيكا وهولندة ويونان ودنارك ‪ ،‬وهكذا وقع ليران والعراق ف‬
‫الرب الثانية ‪.‬‬

‫مطامح الدول الكبية ‪:‬‬


‫أما الدولة الكبية فترى من واجب قوميتها أن تبسط سيطرتا على أكب رقعة من الرض‬
‫وترفرف أعلمها على مساحات واسعة وإن كانت قفارا أو صحارى وتكون لا مستعمرات‬
‫ومتلكات ف قارات متلفة ‪ ،‬وأن كان ذلك يكلفها جيوشا وأموا ًل بغي فائدة جدية تعود‬
‫عليها ويصعب عليها حراستها والقيام بشئونا ‪ ،‬كل ذلك ما توجبه عليها شريعة القومية ‪،‬‬
‫وليس لا غاية أخلقية وترة أدبية غي ما تسميه (( الجد القومي والشرف القومي )) ‪.‬‬
‫وقد شرح الستاذ (( جود )) الجد القومي بقوله ‪:‬‬
‫(( إن الجد القومي إنا يعن أن يكون الشعب يلك قوة يسلط با رغبته وهواه على‬
‫آخرين إذا مست الاجة ‪ ،‬ويكفي لشناعة ما يسمونه ( الثل الكامل للشعب ) وهو الجد‬
‫القومي إنه يناقض الصفات اللقية والفضيلة إذا كانت بلد ل تقول إل صدقا ‪ ،‬وتفي‬
‫بوعودها وتعامل الضعفاء معاملة إنسانية فمستوى شرفها عند المم منحط فالشرف – كما‬
‫قال الستر بلدون ‪ : -‬عبارة عن قوة تنال المة با الجد والفخار وتستلفت إليها النظار‬
‫وتشغل الفكار ‪ ،‬ومعلوم أن هذه القوة الت تنال المة با هذه الدرجة من الشرف إنا تتوقف‬
‫على قنابل نارية متفجرة ومشعلة للنيات ‪ ،‬وعلى وفاء الشبان وولئهم للوطن ‪ ،‬الذين يبون‬
‫إلقاء تلك القنابل على الدن ‪ .‬فالشرف الذي يدح لجله شعب يناقض تلك الصفات‬
‫والخلق الت يدح با الفرد ‪ ،‬فأرى أن الشعب يب أن يعد هجيا وغي مهذب بالقدار‬

‫‪174‬‬
‫الذي يلكه من الشرف ‪ ،‬إذا ليس من الشرف أن ينال النسان أو الشعب الشرف بالديعة‬
‫والكر والظلم ‪. )))(225‬‬
‫(( إن الكب – أكثر من الطمع – هو الذي يمل الطبقة الاكمة ف بريطانيا على اتباع‬
‫خطط ل تتفق مع ما يتظاهرون به من حب الصلح والوئام ‪ ،‬دع رجلً يقترح على ولة المر‬
‫ف بريطانيا أن يهجروا قياطا من رمل من متلكاتا الت ل تغرب فيها الشمس ومن أشدها‬
‫قحولة وجدبا ‪ ،‬تر الحافظي البطال ف إنلترا يقيمون العال ويقعدونه سخطا وحنقا ‪،‬‬
‫وترى الصحافة النليزية العتدلة تتميز غيظا ‪ ،‬إذا تعلم أن هؤلء الحافظي ليسوا طماعي‬
‫فقط بل هم مستكبون معاندون‪. )) )(226‬‬

‫منافسة الشعوب ف الستعمرات والسواق ‪:‬‬


‫وقد سبقت إل هذا الستعمار والمتلك أمم وتلفت أخرى ‪ ،‬ث نضت الخية تنافسها‬
‫وتطالب بأسهامها وتبحث لا عن مستعمرات وأسواق لبضائعها وشرفات تغزو عليها على‬
‫الجد والفخار ‪ ،‬وتعد بفضلها من المباطوريات الكبار ‪ ،‬وقامت الول تدفعها وتول بينها‬
‫وبي ما تشتهي ‪ ،‬وتزعم أنا إنا تغضب للمم الصغية ونصرة الظلوم ‪ .‬ولكن كثيا من‬
‫الناس ‪ ،‬من أنفسها ومن الجانب ‪ ،‬يشكون ف إخلص هذه المم وف صفاء طويتها وحسن‬
‫نيتها ‪.‬‬
‫يقول الستاذ (( جود )) ‪ (( :‬النليزي – جاهلً أو متجاهلً للمسائل الت أدت إل‬
‫قسمة ضيزى للعمران ‪ ،‬ضاربا صحفا عن سخط الشعوب مثل اليابانيي – يعتقد أن النليز‬
‫أمة سلمية ويرمي اليابانيي بب القتال والضراوة بالروب ‪ .‬والنليز ل شك أمة سلمية ‪،‬‬
‫ولكن مسالتهم مسالة لص قد اعتزل حرفته القدية ‪ ،‬وقد أحرز شرفا وجاها بفضل غنائمه‬
‫السابقة ‪ ،‬وهو يبغض الذين يدخلون جديدا ف حرفته القدية ‪ ،‬عنده فضول أموال وغنائم ل‬
‫يستهلكها ‪ ،‬ولكنه يلقب الذي يريدون أن يساهوا ف ذلك بواة الرب‪. )) )(227‬‬

‫(‪(225‬‬
‫‪. Guide to Modern Wickedness . p . 153‬‬
‫(‪(226‬‬
‫‪. Guide to Modern Wickedness . p . 180‬‬
‫(‪(227‬‬
‫‪. Guide to Modern Wickedness . p . 180‬‬
‫‪175‬‬
‫وكثيا ما تنشب الرب بي هذه المم السابقة إل السيادة والتملك وبي المم التطلعة‬
‫لا الطامة إليها ‪ ،‬ولكن هذه الرب ل يصح قياسها على حرب تشهر لردع الظال والنتصار‬
‫للمظلوم وإقامة القسط عملً بقول ال عز وجل ‪{ :‬وَإِن طَائِفَتَانِ مِ َن الْ ُمؤْمِنِيَ اقْتَتَلُوا‬
‫فََأصِْلحُوا بَيَْن ُهمَا فَإِن بَ َغتْ إِ ْحدَا ُهمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ ِإلَى أَمْرِ اللّ ِه فَإِن‬
‫ب الْمُ ْقسِطِيَ }( الجرات ) ‪ ،‬ولكن هذه‬ ‫ح ّ‬‫ت فََأصِْلحُوا بَيَْن ُهمَا بِالْعَدْلِ َوَأقْسِطُوا إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫فَاء ْ‬
‫الرب حرب شح ومنافسة ‪ ،‬وحرب غية وحسد ‪ ،‬ما كانت جعية المم ( الفقيدة ) الت‬
‫كانت هذه الروب تشهر تت إشرافها ‪ ،‬ول خليفتها المم التحدة )) إل كما قال المي‬
‫شكيب أرسلن ‪ (( :‬مثل العروض برا بل ماء ‪ ،‬ما وجدت إل لتلبس العتداء حلة قانونية ‪،‬‬
‫وتسوغ الفتوحات بتغيي الساء ‪ ،‬ل يطيعها سوى ضعيف عاجز ‪ ،‬ول تستطيع أن تكم على‬
‫قوي متجاوز )) أو ف لفظ فقيد السلم الدكتور ممد إقبال ‪ (( :‬جعية لصوص ونباشي‬
‫تألفت لتقسيم الكفان )) ‪.‬‬
‫قال الستاذ ( جود ) النليزي ‪:‬‬
‫(( إن حربا تشهر تت إشراف عصبة المم ليست للعدل بي المم يقوم با شرطة العال‬
‫للخذ على يد الظال وعقاب العتدي ‪ ،‬ليست هذه الرب إل كفاحا بي الطوائف التنافسة‬
‫ف القوة ‪ .‬الواحدة منها حريصة على الحافظة على القسط الكب من ثروة العال ومواردها ‪،‬‬
‫والخرى متهالكة على تصيلها ‪ ،‬إن مثل هذه الروب ل تتلف عن حروب نشبت بي‬
‫الطوائف التنافسة ف الاضي ‪ ،‬ول عن حروب النمسا وبروسيا‪ ، )(228‬وعن حروب السنوات‬
‫السبع‪ )(229‬وعن حروب نابليون ؛ وعن حرب ‪ . 1918 – 1914‬ل تتلف هذه الرب‬
‫عن هذه الروب كلها إل ف السم ‪.‬‬
‫أما التذرع بأن هذه الروب إنا نصبت للدفاع عن الديقراطية وعن عصبة المم ‪ ،‬وضد‬
‫الفاشية والعتداء فل يغي من الوقف شيئا‪. )) )(230‬‬
‫(‪ (228‬حرب منافسة وطمع اشتركت فيها فرنسا واسبانيا وإنجلترا وهولندة لتناول غنائم انتقصت فيها أطراف النمسا وممتلكاتها‬
‫ونشبت على أثر وفاة فريدريك ملك النمسا وجلوس ابنته ماريا تيريزا على العرش بوصيته ورضا الدول سنة ‪ 1740‬وانتهت سنة‬
‫‪. 1748‬‬
‫(‪ (229‬حروب اشتركت فيها فرنسا وروسيا وسويدن وأكثر إمارات الدول اللمانية وبروسيا وانجلترا حماية لبعضها ‪ ،‬واعتداء على‬
‫بعضها ابتدأت سنة ‪ 1756‬وانتهت سنة ‪. 1763‬‬
‫(‪. Guide to Modern Wickedness . p . 191 (230‬‬
‫‪176‬‬
‫الفرق بي حكم الباية ‪ ،‬وحكم الداية ‪:‬‬
‫روي أن عمر بن عبد العزيز خليفة السلمي قال لعامله مرة ‪(( :‬ويك إن ممدا صلى‬
‫ال عليه وسلم بُعِث هاديا ول يُبْ َعثْ جابيا )) وهذه الملة تعرب عن روح الكومة الدينية‬
‫الت تتأسس على منهاج النبوة ‪ ،‬وتسي على آثار النبياء وخطتها وسياستها ‪ ،‬فتكون عنايتها‬
‫واهتمامها بالدين وبإصلح أخلق الحكومي وبا يعود عليهم بالنفع والضرر ف الخرة أكثر‬
‫من اهتمامها بالباية والراج وأنواع الحاصيل واليراد ‪،‬وتنظر ف جيع مسائل السياسة‬
‫والالية من الوجهة الدينية وتقدم البادئ الدينية واللقية على النافع والصال الادية ‪،‬فتمنع‬
‫المر وترم الزنا وأنواع اللعة والفجور والعقود الالية الفاسدة النافعة للفراد الضرة‬
‫بالجتمع ‪ ،‬فتحظر الربا والقمار وإن كان ذلك يرجع على الكومة بالسارة الادية الفادحة ‪،‬‬
‫وتشرع مشاريع إصلحية وتراقب الخلق وتعن بتهذيب النفوس ‪،‬وإن كان ذلك يكفلها‬
‫أموالً طائلة وميزانية ضخمة ‪،‬ونتيجة هذا النوع من الكومات إذا قامت ف بلد مّا بّينها‬
‫القران وتنبأ با للمهاجرين الولي ‪{ :‬الّذِينَ إِن مّكّنّا ُه ْم فِي الَْأ ْرضِ َأقَامُوا الصّلَاةَ وَآَتوُا الزّكَاةَ‬
‫وَأَمَرُوا بِاْلمَعْرُوفِ وََن َهوْا عَنِ اْلمُنكَرِ َولِلّهِ عَاقِبَ ُة الْأُمُورِ }‬
‫أما الكومات الت تقوم للجباية ل للهداية ‪ ،‬وللنتفاع ل للنفع ‪ ،‬فطبيعي أن تكون‬
‫عنايتها مصروفة إل أنواع الراج والحاصيل والغلت ‪ ،‬وكثيا ما يكون ذلك على حساب‬
‫الخلق والفضائل والنظام النل ‪ ،‬فتبيح أنواعا كثية من اللعة والفجور بقيود تنظمها ول‬
‫تنعها ‪ ،‬فتسمح بالبغاء الرسي ‪ ،‬وقد تراب نفسها وتبيح القمار ‪ ،‬وكثيا من النايات و‬
‫الرائم اللقية بتغيي الساء وتديد بعض الشياء تأمينا لصالها ‪ ،‬ول تبيح المر فقط بل‬
‫تبيعها وتتول تارتا وتنظيمها وتاكم وتعاقب من ينعها وياهد ضدها ‪ ،‬وقد تب أهل بعض‬
‫البلد على اشتراء الخدرات الت تصدرها ‪ ،‬كما فعل بعض الكومات الوربية ف آسيا مع‬
‫أهل الصي ‪ ،‬فطبيعي كذلك أن تصاب هذه الشعوب الحكومة ف أخلقها وترزأ ف روحها‬
‫وقلبها ‪ ،‬بل إن أهل البلد ينحط مستوى أخلقهم لجرد الخالطة بذه الشعوب الاكمة‬

‫‪177‬‬
‫وماورتا ‪ ،‬ويلحقهم عدوى المراض اللقية الفاشية ف القطار الوربية الت ولدتا الضارة‬
‫الادية هنالك ‪ ،‬وذلك ما أقروا به ‪ .‬أنفسهم وشكوا منه ‪.‬‬
‫فالكومات الوربية تمل معها مفاسد الضارة الغربية وشرورها ‪ ،‬وكيف يرجى من‬
‫هذه الكومات أن تزدهر الفضيلة والخلق ويرقى مستوى أخلق الشعب ف ظلها‬
‫ودولتها ‪ ،‬ول يكن ذلك ف بلدها وأوطانا ‪ ،‬وليس ذلك من رسالتها ومهمتها ‪ ،‬ول ما‬
‫تدين به وتعتقده (( وكل إناء بالذي فيه ينضح )) ول تزل طريق اللوك والفاتي غي طريق‬
‫النبياء والداة والصلحي ‪ ،‬وإن القيقة الت ذكرها القرآن على لسان ملكة سبأ حقيقة راهنة‬
‫ل تتلف ف الزمنة والمكنة ‪:‬‬
‫سدُوهَا وَ َجعَلُوا َأعِزّةَ أَ ْه ِلهَا َأذِّلةً } ‪.‬‬
‫{ إِنّ اْلمُلُوكَ ِإذَا دَخَلُوا َقرْيَةً أَ ْف َ‬

‫*****************************‬

‫‪178‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫أوربا إل النتحار‬
‫عصر الكتشاف والختراع ‪:‬‬
‫إذا عرفت عصور التاريخ با ييزها عن غيها ‪ ،‬وأضيفت إليه ‪ ،‬أمكننا أن نسمي هذا‬
‫العصر عصر الكتشاف والختراع ‪ ،‬وعصر اللسلكي والكهرباء ؛ وفضل الوربيي‬
‫وتقدمهم ف هذا الباب وعبقرية رجال الكتشاف والختراع وإبداعهم من القضايا الت ل‬
‫تقبل الكابرة ‪.‬‬
‫ولكن مهما بالغ البالغون ف إطراء الصناعات والخترعات الديثة ف أوربا ‪ ،‬وبرغم‬
‫إعجابنا با والثناء على مكتشفيها ومترعيها ‪ ،‬ينبغي أل ننسى أن هذه الصناعات والخترعات‬
‫ليست غايات ف نفسها مقصودة بالذات ‪ ،‬بل هي وسائط ووسائل لغاية أخرى نكم عليها‬
‫بالي والشر ‪ ،‬والنفع والضر ‪ ،‬بقياس هذه الغاية وكونا خيا أو شرا ‪ ،‬ونكم عليها‬
‫بالنجاح واليبة بالقياس إل مطابقتها للغاية الت وضعت لا ‪ ،‬والنظر ف النتائج الت حصلت‬
‫منها ‪ ،‬والدور الذي لعبته ف حياة الناس ومتمعهم وأخلقهم وسياستهم ‪.‬‬

‫الغاية من الصناعات والخترعات ‪ ،‬وموقف السلم منها ‪:‬‬


‫أما الغاية فعلى ما أرى هي التغلب على العقبات والصعوبات ف سي الياة الت سببها‬
‫الهل والضعف ‪ ،‬والنتفاع بقوى الطبيعة الودعة ف هذا الكون وخياتا وخزائنها البثوثة‬
‫فيها ‪ ،‬واستخدامها لقاصد صحيحة من غي علو ف الرض ول فساد ‪.‬‬
‫كان النسان يسافر ف الزمن القدي ماشيا ‪ ،‬ث ألم أن يسخر لذلك اليوان ‪ ،‬فاتذ‬
‫العجلت واتذ الياد العتاق ‪ ،‬ث ل يزل يتدرج ف السرعة والختراع حت وصل من الركبة‬
‫إل القطار ‪ ،‬ومنه إل السيارة ‪ ،‬ومنها إل الطيارة ‪ ،‬وكذلك من السفينة الشراعية إل‬
‫البواخر ‪ ،‬فل بأس ‪ ،‬بل يا حبذا إذا كان ذلك كله تابعا لقاصد صحيحة يسافر النسان با‬
‫من مكان إل مكان لغرض صحيح جدي مثمر ‪ ،‬ويمل عليها أثقاله إل بلد ل يكن بالغه إل‬
‫‪179‬‬
‫بشق النفس ؛ ويوفر الوقت والقوة وينتفع با ف الي ‪ .‬وقس على ذلك سائر القوى الطبيعية‬
‫والخترعات الديثة الت ينتفع با النسان انتفاعا مشروعا ويستخدمها لقاصد رشيدة نافعة ‪.‬‬
‫إن موقف السلم ف ذلك بيّن واضح ‪ ،‬فقد أخب أن النسان خليفة ال ف الرض قد‬
‫سخر ال العال لغراضه الصحيحة بتصرف منه وغي تصرف فقال ‪ُ { :‬هوَ اّلذِي خَلَقَ لَكُم‬
‫مّا فِي ا َلرْضِ َجمِيعا } ‪ ،‬وقال ‪ { :‬اللّهُ اّلذِي خَلَ َق السّمَاوَاتِ وَا َلرْضَ وَأَن َزلَ مِ َن السّمَاءِ مَاءً‬
‫ي فِي الَْبحْرِ بِأَمْرِهِ وَ َسخّرَ لَكُمُ‬
‫ت ِرزْقا لّكُمْ وَ َسخّرَ لَ ُكمُ الْفُلْكَ لَِتجْ ِر َ‬ ‫فَأَخْ َرجَ بِهِ مِ َن الثّمَرَا ِ‬
‫شمْسَ وَالْ َقمَرَ دَآئِبَيَ وَ َسخّرَ لَ ُكمُ اللّْيلَ وَالّنهَارَ{‪ }33‬وَآتَاكُم‬ ‫الَْنهَارَ{‪ }32‬وَ َسخّر لَكُمُ ال ّ‬
‫حصُوهَا إِنّ الِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ }‬ ‫مّن كُلّ مَا َسَألْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّواْ نِ ْع َمتَ الّلهِ لَ ُت ْ‬
‫( إبراهيم ) ‪ ،‬وقال ‪َ { :‬ولَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ َو َحمَلْنَا ُهمْ فِي الْبَرّ وَالَْبحْرِ َورَ َزقْنَاهُم مّنَ الطّيّبَاتِ‬
‫َوفَضّلْنَا ُهمْ َعلَى كَثِيٍ ّممّنْ َخلَقْنَا تَ ْفضِيلً }( السراء ) ليلحظ القارئ الطلق ف قوله ‪:‬‬
‫{ وَ َحمَلْنَا ُه ْم فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ } ‪ ،‬وقوله ‪َ { :‬و َرزَقْنَاهُم مّنَ الطّيّبَاتِ} ‪ ،‬وقال ‪ { :‬وَالَنْعَامَ‬
‫خَلَ َقهَا لَ ُكمْ فِيهَا ِدفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِْنهَا تَ ْأكُلُونَ{‪َ }5‬ولَكُ ْم فِيهَا َجمَالٌ حِيَ تُ ِريُونَ وَحِيَ‬
‫َتسْرَحُونَ{‪ }6‬وََتحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ ِإلَى بََلدٍ ّلمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ ِإلّ ِبشِ ّق الَنفُسِ إِ ّن رَبّ ُكمْ لَ َرؤُوفٌ‬
‫حمِيَ لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَةً وََيخُْلقُ مَا لَ تَعَْلمُونَ } (النحل) ‪ .‬قد‬ ‫رّحِيمٌ{‪ }7‬وَاْلخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْ َ‬
‫منّ ال ف هذه الية على النسان بتمكينه لبلوغ غايته من غي شق النفس ‪ ،‬واستدل به على‬
‫رأفته به ‪ ،‬ورحته له ‪ ،‬وقال ‪ { :‬وَاّلذِي خَلَ َق الَْأ ْزوَاجَ كُّلهَا وَجَعَلَ لَكُم مّ َن الْفُ ْلكِ وَالْأَنْعَامِ مَا‬
‫تَ ْركَبُونَ{‪ }12‬لَِتسَْتوُوا عَلَى ُظهُورِهِ ُثمّ َتذْكُرُوا نِ ْعمَ َة رَبّ ُكمْ إِذَا اسَْتوَيُْتمْ َعلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ‬
‫اّلذِي َسخّرَ لَنَا َهذَا وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِِنيَ{‪ }13‬وَإِنّا ِإلَى رَبّنَا َلمُنقَلِبُونَ } ( الزخرف ) ‪ .‬وما‬
‫أجدر النسان أن يقول إذا استوى على سيارة أو طيارة ‪ { :‬سُبْحانَ اّلذِي َسخّرَ لَنَا َهذَا وَمَا‬
‫كُنّا لَهُ مُقْرِنِيَ } ‪ ،‬فهو أبعد من أن يكون مقرنا لقطع من صفيح وحديد ل حياة فيها ول‬
‫حركة ‪ ،‬يسخرها له تري بأمره رخاء حيث أصاب ‪ ،‬ول ينس أنه راجع إل ال وماسب‬
‫على ما أوت من قوة وسعة ‪ ،‬فإن أساء استعمال هذه القدرة والتمكي عوقب على ذلك ‪.‬‬
‫وكذلك ل ينس أنه عبد خاضع ل منقاد لكمه ل يلك موتا ول حياة ول نشورا ‪ ،‬ول يطغ‬
‫‪ ،‬فإن النسان ليطغى أن رآه استغن ‪.‬‬
‫‪180‬‬
‫سِ‬
‫ط‬ ‫وقال ‪{ :‬لَ َقدْ َأرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَن َزلْنَا مَ َعهُ ُم الْكِتَابَ وَاْلمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِ ْ‬
‫حدِي َد فِيهِ بَ ْأسٌ َشدِيدٌ وَمَنَاِفعُ لِلنّاسِ وَلِيَعَْلمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ َورُسُلَهُ بِالْغَْيبِ إِنّ اللّ َه َق ِويّ‬ ‫وَأَن َزلْنَا اْل َ‬
‫عَزِيزٌ }( الديد ) ‪ .‬فالديد فيه منافع للناس ومن أكب منافعه أنه يستخدم لنصر ال ورسله ‪،‬‬
‫ولذلك قدم عليه ذكر إرسال الرسل ‪ ،‬وإنزال الكتب ‪.‬‬
‫فالسلم ينتفع بكل ما خلق ال وأودع ف الكون من قوة ف سبيل الهاد ف سبيل ال ‪،‬‬
‫وف نشر دينه ‪ ،‬وإظهاره على الدين كله وإعلء كلمته ‪ ،‬وفيما أباح ال له ورغبة فيه من‬
‫تارة مشروعة وكسب حلل ‪ ،‬وسفر بر ‪ ،‬ومنافع مباحة ‪.‬‬

‫إنا طائركم معكم ‪:‬‬


‫إن الصنوعات المادية ل ذنب عليها ‪ ،‬فإنا خاضعة لرادة النسان وعقليته وأخلقه ‪،‬‬
‫فهي ف ذات نفسها ليست خيا ول شرا ‪ ،‬ولكن النسان هو الذي يعلها باستعماله لا‬
‫خيا أو شرا ‪ ،‬وكثيا ما تكون خيا ف نفسها ‪ ،‬فيحولا النسان شرا بسوء استعماله‬
‫وخبث سريرته ‪ ،‬وفساد تربيته ‪ ،‬فليس الشأن ف هذه اللت والخترعات ‪ ،‬إنا الشأن فيمن‬
‫يستغلها وف الغرض الذي يستعملها له ‪ .‬وحقيق أن يقال – لن أصبح يتطي ف أوربا من هذه‬
‫اللت ‪ ،‬ومن الطيارات الت تقذف القنابل ‪ ،‬وتدمر النازل ‪ ،‬وتنسف القرى والدن ‪،‬‬
‫والغواصات الت تغرق بواخر الركاب السالي والتجار المني ‪ ،‬واللسلكية الت تذيع الكذب‬
‫والزور ‪ ،‬وتنشر اللعة والجون ويشكو منها ‪ ،‬ويوجه إليها اللم ‪ { : -‬قَالُوا طَائِ ُر ُكمْ‬
‫مَعَكُمْ } فإن العلوم الطبيعية تسخر للنسان القوة الادية ‪ ،‬وليس من شأنا أن تعلمه أيضا‬
‫كيف يستعملها ‪ ،‬وفيم يضعها ‪ ،‬كالكبيت يعطيك نارا ؛ ولك أن ترق با بيتا على‬
‫سكانه ‪ ،‬أو تطبخ طعاما أو تستدفئ بالنار ‪ ،‬والذي يعلم كيف يستعمل النسان القوة وفيما‬
‫يضعها هو الدين ‪ ،‬فالدين يرشد النسان كيف ينتفع بقوته انتفاعا حقيقيا ‪ ،‬وكيف يشكر‬
‫نعمة ال ‪ ،‬ويظر على النسان أن يكون بقوته الت خوله ال إياها معينا على الظلم والرية‬
‫والث والعدوان ‪ ،‬كما قال موسى عليه السلم ‪{ :‬قَا َل رَبّ ِبمَا أَنْ َع ْمتَ عَلَ ّي فَلَنْ َأكُونَ َظهِيا‬

‫‪181‬‬
‫لّ ْلمُجْرِمِيَ }(القصص) ‪ :‬وقال سليمان ‪َ { :‬هذَا مِن َفضْ ِل رَبّي لِيَبُْلوَنِي أََأشْكُرُ أَمْ َأكْفُرُ وَمَن‬
‫شَكَ َر فَإِّنمَا َيشْكُرُ لِنَ ْفسِهِ وَمَن كَفَ َر فَإِ ّن رَبّي غَنِيّ كَرِيٌ } ‪.‬‬

‫التخليط بي الوسائط والغايات ‪:‬‬


‫أما الوربيون فقد حرموا أنفسهم الدين ‪ ،‬فلم يبق لم رادع من خلق أو وازع من دين ‪،‬‬
‫أو مرشد من علم إلي يرشدهم إل الادة ‪ ،‬ونسوا غاية خلقهم ومبدأهم ومصيهم وقالوا ‪:‬‬
‫{إِنْ هِيَ ِإلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُوتُ وََنحْيَا وَمَا َنحْنُ ِبمَبْعُوثِيَ } فاعتقدوا بطبيعة هذه العقيدة أن‬
‫ليس للنسان وراء اللذة والراحة والنتفاع الادي والعلو ف الرض وبسط السيطرة عليها –‬
‫كمملكة ل سيد لا ول وارث – والتغلب على أهلها والستئثار بباتا وخزائنها ‪ ،‬مقصد‬
‫ول غاية ‪ ،‬فاستعملوا هذه القوة والعلم ف حصول اللذات والتغلب على الناس وقهر‬
‫النافسي ‪ ،‬وتنافسوا ف اختراع اللت الت ينالون با وطرهم ويعجزون با غيهم ‪ ،‬ول يزل‬
‫بم ذلك حت اختلطت عليهم الوسائط بالغايات ‪ ،‬فاعتقدوا الوسائط غايات ‪ ،‬وافتتنوا‬
‫بالخترعات والكتشفات كغاية ف نفسها ل لغيها ‪ ،‬وعكفوا عليها وتشاغلوا با كتشاغل‬
‫الصبيان باللعب والدّمى ‪ ،‬واعتقدوا أن الراحة هي الضارة ث تقدموا وصاروا يعتقدون أن‬
‫السرعة هي الضارة ‪.‬‬
‫يقول الستاذ جود ‪:‬‬
‫(( يقول دزرائيلي ‪ Disraeli‬إن الجتمع ف عصره يعتقد أن الضارة هي الراحة ‪ ،‬أما‬
‫نن فنعتقد أن الضارة عبارة عن السرعة ‪ ،‬فالسرعة هي إله الشباب العصري ‪ ،‬وإنه يضحي‬
‫على نُصبه بالدوء والراحة والسلم والعطف على الخرين من غي رحة‪. )) )(231‬‬

‫عدم تعادل القوة والخلق ف أوربا ‪:‬‬

‫(‪(231‬‬
‫‪.Guide to Modern Wickedness . p . 241‬‬
‫‪182‬‬
‫إن الوربيي قد فقدوا تعادل القوة والخلق والتوازن بي العلم – بظاهر من الياة الدنيا‬
‫– والدين منذ قرون ‪ ،‬فلم تزل القوة والعلم ف أوربا بعد النهضة الديدة ينموان على حساب‬
‫الدين والخلق ‪ ،‬ول يزل الولن ف ارتفاع وارتقاء ‪ ،‬والخران ف انفاض وانطاط ‪ ،‬حت‬
‫بعدت النسبة بينهما ‪ ،‬ونشأ جيل كأنه ميزان لصقت إحدى كفتيه بالرض وهي كفة القوة‬
‫والعلم ‪ ،‬وخفت الثانية – وهي كفة الخلق والدين – حت ارتفعت جدا ‪ ،‬وبينما يتراءى‬
‫هذا اليل للناظر ف خوارقه الصناعية وعجائبه الكونية وتسخيه للمادة والقوى الطبيعية‬
‫لصاله وأغراضه كأنه فوق البشر إذا هو ل يتميز ف أخلقه وأعماله ‪ ،‬ف شرهة وطمعه ‪ ،‬ف‬
‫طيشه ونزقه ‪ ،‬وف قسوته وظلمه عن البهائم والسباع ‪ ،‬وبينما هو قد ملك جيع وسائل الياة‬
‫‪ ،‬إذا هو ل يدري كيف يعيش ! وبينما هو قد بلغ الغايات ووراء الغايات ف الكماليات‬
‫وفضول الياة ‪ ،‬إذا هو ل يدري كيف يعيش! وبينما هو قد بلغ الغايات ووراء الغايات ف‬
‫الكماليات وفضول الياة ‪ ،‬إذا هو ل يعرف البادئ الولية والبديهيات للحياة النسانية‬
‫والدنية والخلق ‪ ،‬فتراه يصعد إل السماء ويريد أن يناطح الوزاء ‪ ،‬وهو ل يتقن شئون‬
‫الرض ول يصلح ما تت قدميه ‪ ،‬وقد خولته العلوم الطبيعية قوة قاهرة وهو ل يسن‬
‫استعمالا ‪ ،‬كفل صغي أو سفيه أو منون يلك أزمّة المور ويؤتى مفاتيح الزائن ‪ ،‬فهو ل‬
‫يزيد على أن يعبث بالواهر الغالية والنفائس الخزونة ويعيث ف دماء الناس ونفوسهم ‪.‬‬

‫قوة اللة ‪ ،‬وعقل الطفال ‪:‬‬


‫يقول الستاذ (( جود )) النليزي ‪ (( :‬إن العلوم الطبيعية قد منحتنا القوة الديرة‬
‫باللة ‪ ،‬ولكننا نستعملها بعقل الطفال والوحوش‪. )) )(232‬‬
‫ويقول ف موضع آخر ‪:‬‬
‫إن هذا التفاوت بي فتوحنا العلمية الدهشة ‪ ،‬وطفولتنا الجتماعية الخجلة ‪ ،‬نواجهه‬
‫على كل منعطف ومنعرج نستطيع أن نتحدث من وراء القارات والبحار ونرسل الصور‬
‫بالبق ونركب اللسلكية ف منازلنا ‪ ،‬ونستمع ف سيلن إل دقات (‪ – )Big Ben‬الساعة‬

‫(‪(232‬‬
‫‪.Guide to Modern Wickedness . p . 261‬‬
‫‪183‬‬
‫العظمى – تضرب ف لندن ‪ ،‬ونركب فوق الرض والبحر وتتهما ‪ ،‬والطفال يتحدثون على‬
‫السلك البقية ‪ ،‬واللت الكاتبة صامتة ‪ ،‬وتل السنان من غي إياع ‪ ،‬والزروع تنمى‬
‫بالكهرباء ‪ ،‬والشوارع تفرش بالطاط ‪ ،‬وأشعة روتنجن (‪ )x-rays‬نوافذ نطل منها على‬
‫داخل أبداننا ‪ ،‬والصور التحركة تتكلم وتغن ‪ ،‬ويكشف عن الجرمي والغتالي باللسلكية ‪،‬‬
‫والغواصات تذهب إل القطب الشمال والطيارات تطي إل القطب النوب ومع ذلك كله ل‬
‫نقدر ف وسط مدننا الكبى أن نصص رحبة يلعب فيها أطفال الفقراء ف راحة وسلم ‪،‬‬
‫ونتيجة ذلك أنا نقتل منهم ألفي (‪ )2000‬ونرح منهم تسعي ألفا (‪ )90000‬سنويا ‪ ،‬قال‬
‫ل فيلسوف هندي ف انتقاده اللذع لطرائي لعجائب حضارتنا ‪ :‬وكان بعض سواق‬
‫السيارات قد نح ف قطع ثلثمائة أو أربعمائة ميل ف ساعة على رمال (‪، )pendine‬‬
‫وطارت طائرة من موسكو إل نيويورك ف فترة قليلة من الزمن قال الفيلسوف ‪ :‬نعم ! إنكم‬
‫تقدرون أن تطيوا ف الواء كالطيور وتسبحوا ف الاء كالسمك ‪ ،‬ولكنكم إل الن ل‬
‫تعرفون كيف تشون على الرض ‪. )))(233‬‬

‫ويتعلمون ما يضرهم ول ينفعهم ‪:‬‬


‫وقد أصبحت هذه الخترعات والكتشفات الديدة – ما كانت تعود على النوع‬
‫النسان بي كبي لو كان مستعملها يعرف الي ويقدر أن يتجه إليه – أصبحت وضررها‬
‫أكب من نفعها ‪ ،‬وكان كما قال القرآن عن السحر ‪ { :‬وَيَتَعَّلمُونَ مَا َيضُرّ ُهمْ َولَ يَنفَ ُعهُمْ } ‪.‬‬
‫اسع شاهدا من أهلها ينتقد هذه الخترعات ويبوح بالقيقة وهو (( جود )) السابق الذكر ‪:‬‬
‫(( وقد استطعنا أن نسافر بسرعة زائدة من مكان إل مكان ‪ ،‬ولكن المكنة الت نسافر‬
‫إليها قلما نصلح للسفر ‪ ،‬وقد زويت الرض للرحالي وتدانت المم ووطئ بعضها عتبة بعض‬
‫‪ ،‬ولكن كان نتيجة ذلك أن توترت العلقات بينها وأصبحت أسوأ ما كانت ‪ ،‬أما الرافق الت‬
‫استطعنا با أن نتعارف بياننا فقد عادت فحشرت العال ف الرب ‪ ،‬اخترعنا آلة الذاعة‬
‫وتدثنا با إل الشعوب الجاورة والمم الشقيقة ‪ ،‬ولكن كان عاقبتها أن كل شعب يستنفد‬

‫(‪(233‬‬
‫‪.Guide to Modern Wickedness . p .293‬‬
‫‪184‬‬
‫موارد الواء ليذاء الشعب الجاور ومعاكسته ‪ ،‬إذ يتهد أن يقنعه بفضل نظامه السياسي على‬
‫نظامه‪. )) )(234‬‬
‫(( انظر إل الطيارة الت تلق ف السماء ييل إليك أن صانعيها كانوا ف علمهم ولباقتهم‬
‫وصناعتهم فوق البشر ‪ ،‬والذي طاروا عليها أولً لشك أنم كانوا ف علو هتهم وعزمهم‬
‫وجرأتم أبطالً مغاوير ‪ ،‬ولكن انظر الن إل القاصد الت استعملت لا الطيارة وتستعمل لا‬
‫ف الستقبل ‪ ،‬إنا هي قذف القنابل وتزيق جثث النسان وخنق الحياء وإحراق الجساد‬
‫وإلقاء الغارات السامة ‪ ،‬وتقطيع الستضعفي الذي ل عاصم لم من هذا الشر إرْبا إربا ‪،‬‬
‫وهذه إما مقاصد المقى أو الشياطي ‪. )))(235‬‬
‫(( وما عسى أن يقول الؤرخ غدا كيف كنا نستعمل معدن الذهب ؟ سيذكر أنا توصلنا‬
‫إل أن نب عن الذهب باللسلكي ‪ ،‬وسيستعرض الصور الت تثل اللياقة والهارة الت كان‬
‫أصحاب الصارف يزنون با الذهب ويعدونه ‪ ،‬وكيف تدينا قانون الاذبية ف نقله من‬
‫عاصمة إل عاصمة ‪ ،‬وسيسجل أن أشباه الوحوش الذين كانوا ماهرين وجرآء ف فتوحهم‬
‫الصناعية كانوا عاجزين عن التعاون الدول الذي كان يقتضيه ضبط الذهب والتقسيم‬
‫الصحيح ‪ ،‬وكانوا ل يعنون إل بأن يدفنوا العادن بالسرعة المكنة ‪ ،‬وكانوا يستخرجون‬
‫الذهب والعادن من بطون الرض ف جنوب إفريقية ‪ ،‬ويدفنونا ف مصارف لندن ونيويورك‬
‫وباريس‪. )) )(236‬‬
‫ويتناول هذه البحث – التفاوت بي العلم والصناعة وبي الخلق النسانية ‪ ،‬وإخفاق‬
‫الضارة الديثة ف أداء رسالتها – مفكر آخر يمع بي العلم بالفلسفة والعلوم الطبيعية ف‬
‫تليل أدق وأسلوب أعمق وهو الدكتور (‪ )Alexis Carrel‬ف كتابه – النسان ‪ ،‬ذلك‬
‫الجهول – (‪: ). Man the Unknown‬‬

‫(‪(234‬‬
‫‪. Guide to Modern Wickedness . p . 247‬‬
‫(‪(235‬‬
‫‪. Guide to Modern Wickedness . p .262‬‬
‫(‪(236‬‬
‫‪. Guide to Modern Wickedness . p .262‬‬
‫‪185‬‬
‫(( يظهر أن الضارة العصرية ل تستطيع أن تنتج رجالً يلكون البتكار والذكاء والرأة‬
‫‪ .‬وف كل قطر تقريبا يرى النسان ف الطبقة الت تباشر إدارة المور وتلك زمام البلد‬
‫انطاطا ف الستعداد الفكري واللقي ‪.‬‬
‫إننا نلحظ أن الضارة العصرية ل تقق المال الكبية الت عقدتا با النسانية وإنا‬
‫أخفقت ف تنشئة الرجال الذين يلكون الذكاء والقدام الذي يسي بالضارة على الشارع‬
‫الطر الذي تتعثر عليه ‪ ،‬إن الفراد والنسانية ل تتقدم بتلك السرعة الت تقدمت با‬
‫الؤسسات الت نبعث من عقولا ‪ ،‬إنا هي نقائص القادة السياسيي الفكرية واللقية وجهلهم‬
‫الذي يعرض أمم العصر للخطر‪. )) )(237‬‬
‫(( إن الوسط الذي أنشأه العلوم الطبيعية وعلم الصناعات للنسان ل يناسب النسان‬
‫لنه مرتل ل يقم على تصميم وتفكي سابق ‪ ،‬ول يراع فيه النسجام مع شخصية النسان ‪،‬‬
‫إن هذا الوسط الذي هو وليد ذكائنا واختراعاتنا ل يطابق قاماتنا ول أشكالنا ‪ ،‬نن غي‬
‫مسرورين ‪ ،‬نن ف انطاط الخلق وف العقول ‪ ،‬أن المم الت ازدهرت فيها الضارة‬
‫الصناعية وبلغت أوجها هي أضعف ما كانت ‪ ،‬وهي تسي سيا حثيثا إل المجية ولكنها ل‬
‫تدرك ذلك ‪ ،‬إنه ل حارس لا من الحيط الثائر الذي أقامته العلوم الطبيعية حول هذه المم ‪.‬‬
‫الق يقال إن حضارتنا – كالضارات الت تقدمتها – قد فرضت شروطا للبقاء ستجعل –‬
‫لسباب ل تزال مهولة – الياة مالً ‪ ،‬إن علمنا بالياة وكيف يب أن يعيش النسان‬
‫متأخر جدا عن علمنا بالاديات ‪ ،‬وهذا التأخر هو الذي جن علينا ‪. )))(238‬‬
‫(( ل ين نفع من الزيادة ف عدد الخترعات اللية ‪ ،‬ل فائدة ف أن نعلق أهية كبى‬
‫على اكتشافات علوم الطبيعية والفلكيات وعلم الكيمياء ‪ ،‬أي خي ف الزيادة ف الراحة‬
‫والشرف ‪ ،‬والمال والنظر وكماليات حضارتنا إذا منع ضعفنا من النتفاع بذلك وتوجيهه‬
‫إل صالنا ‪ .‬إنه ل خي ف أحكام طريق للحياة يقصى فيه العنصر اللقي وتبعد منه أشرف‬

‫(‪(237‬‬
‫( ‪( Man the Unknown‬‬
‫(‪(238‬‬
‫المصدر السابق ‪.‬‬
‫‪186‬‬
‫عناصر المم العظيمة ‪ ،‬إن الليق بنا أن نعن بأنفسنا أكثر من أن نعن بصناعة بواخر أسرع‬
‫وسيارات أربح‪ ،‬وراديوات أرخص‪ ،‬وتلسكوبات لفحص هيكل سدي على بعد سحيق‪)))(239‬‬
‫(( ما هو مدى التقدم القيقي الذي نققه حينما تنقلنا إحدى الطائرات إل أوربا أو إل‬
‫الصي ف ساعات قلئل ؟ هل من الضروري أن نزيد النتاج بل توقف حت يستطيع النسان‬
‫أن يستهلك كميات أكثر فأكثر من أشياء ل جدوى منها ؟ أليس هناك أي ظل من الشك ف‬
‫أن علوم اليكانيكا والطبيعة والكيمياء عاجزة عن إعطائنا الذكاء والنظام الخلقي والصحة‬
‫والتوازن العصب والمن والسلم‪. )) )(240‬‬

‫أوربا ف النتحار ‪:‬‬


‫والاصل أن الغربيي لا فقدوا الرغبة ف الي والصلح ‪ ،‬وضيعوا الصول والبادئ‬
‫الصحيحة ‪ ،‬وزاغت قلوبم وانرفت ‪ ،‬وفسدت أذواقهم ل تزدهم العلوم والخترعات إل‬
‫ضررا ‪ ،‬كما أن الغذية الصالة تستحيل ف جسم المعود والوبوء مرضا وفسادا ‪ ،‬بل ل‬
‫تزدهم هذه اللت والخترعات إل قوة وسرعة ف الهلك واستعانة على النتحار ؛ وقد‬
‫أحسن الستر ايدن ‪ Eden‬رئيس وزراء بريطانيا السابق وصف ذلك ف بعض خطبه سنة‬
‫‪ 1938‬م ‪:‬‬
‫(( إن أهل الرض كادوا يرجعون ف أخريات هذا القرن إل عهد المجية والوحشية ‪،‬‬
‫ويعيشون عيشة سكان الكهوف والغارات ‪ ،‬ومن الغريب الضحك أن البلد والدول تنفق‬
‫مليي من النيهات على وقاية نفسها من آلة فتاكة تافها ‪ ،‬ولكنها ل تنفق على ضبطها ‪،‬‬
‫وإن أتعجب ف بعض الحيان وأقوال ‪ :‬كيف لو زار العال الديد زائر من كوكب آخر‬
‫وهبط إلينا فما عسى أن يشاهده ؟ سيجدنا نعد العدة لهلك بعضنا ‪ ،‬ونتبادل النباء عنها‬
‫ويب بعضنا كيف نستعمل هذه اللت الهنمية )) ‪.‬‬

‫القنبلة الذرية وفظائعها ‪:‬‬

‫(‪(239‬‬
‫المصدر السابق ‪.‬‬
‫(‪(240‬‬
‫المصدر السابق ‪.‬‬
‫‪187‬‬
‫لعل الستر إيدن لا أفضى بذا الديث ل يدر بلده أن العال التمدن وعلى رأسه أميكا‬
‫رسول السلم وزعيم الضارة والعال الديد سيتوصل أثناء الرب إل استعمال آلة تبز جيع‬
‫اللت والخترعات ف التدمي والتقتيل ‪ ،‬وتفوق ذكاء النسان وخياله ف الول والفظاعة ‪،‬‬
‫قد كانت هذه اللة هي القنبلة الذرية الت جربتها أمريكا مرة ف صحراء نيوميكسيكو ‪ ،‬وثانية‬
‫على رؤوس البشر ف مدينة هيوشيما ‪ ،‬وبعدها ف نازاكي الدينتي اليابانيتي ‪ .‬وقد أذاع‬
‫رئيس بلدة (هيوشيما) ف ‪ 20‬أغسطس آب ‪ 1949‬م أن الذين هلكوا ف اليوم السادس من‬
‫أغسطس آب ‪ 1945‬م من اليابانيي يتراوح عددهم بي مائت ألف وعشرة آلف ومائت‬
‫ألف وأربعي ألفا ( ب‪ -‬ت ) ‪.‬‬
‫يقول الستر استورت (‪ )Stuart Gilder‬ف مقالة نشرتا صحيفة الند النليزية‬
‫السيارة (‪ )Statesman‬ف عددها الصادر ف ‪ 16‬سبتمب ‪. 1945‬‬
‫يقول البوفسور (‪: )Plesh‬‬
‫(( ل يؤمن على الناس الذين كانوا يبعدون عن النطقة الت انفجرت فيها القنبلة الذرية‬
‫بائة ميل أن يكونوا قد تأثروا با ‪ ،‬فينبغي أن يفحص عنهم فحصا طبيا ‪ ،‬ول يستغرب أن‬
‫يصبح الناس يوم ويقرأوا ف الرائد أن علمات الصابة بطاعون القنبلة الذرية قد ظهرت ف‬
‫الذين يسكنون على آلف أميال من اليابان ‪.‬‬
‫ويقول البوفسور ( م ‪ .‬ي ‪ .‬أول فنيت ) معلم جامعة برمنجهام وعضو اليئة الصناعية‬
‫ف إعداد القنبلة الذرية ‪:‬‬
‫(( من المور الرافية أن يعتقد إنسان أن بريطانيا أو دولة أخرى تستطيع أن تافظ على‬
‫سر القنبلة الذرية ‪ .‬إن البادئ الت قامت عليها صناعة القنبلة الذرية مكشوفة لكل دولة ‪ ،‬إن‬
‫بريطانيا وأميكا استفادتا بتجاريب السابقي وبلغتا إل ناية صناعة القنبلة الذرية ‪ ،‬ولكنها ل‬
‫تدوم سرا حربيا إل لجل معدود ‪ ،‬لن كل بلد صناعية تستطيع أن تعد القنبلة الذرية ف‬
‫مدة خس سنوات وإذا أفرغت جهودها ووجهت قواها إل صناعتها فيمكن أن تبلغ إل‬
‫نايتها ف سنتي )) ‪.‬‬
‫ويقول البوفسور الذكور ‪:‬‬
‫‪188‬‬
‫(( وأنا على يقي أنه سيظهر ف مدة قصية على مسرح العال قنابل تفوق القنابل الول‬
‫بعشرة آلف طن ف قوة النفجار ‪ ،‬وستليها قنابل قوتا مليون طن ‪ ،‬ول ينفع ف التوقي منها‬
‫دفاع أو احتياط ‪ ،‬وإن ست قنابل فقط من هذا القبيل تكفي ف تدمي إنلترا على بكرة‬
‫أبيها ‪ ،‬وإن العلماء الروسيي ينجحون ف إعداد القنابل ف مدة قصية جدا )) ‪.‬‬
‫وقد اخترعت أمريكا قنبلة أخرى تفوق القنبلة الذرية ف القوة والفظاعة ‪ ،‬وهي (‬
‫‪ )Hydrogen Bomb‬وقد جرى اختبارها للمرة الثانية ف الحيط الادئ يوم ‪ 26‬من‬
‫مارس سنة ‪. 1954‬‬
‫وقد ذكر الستر شارلس – ي – ولسن (‪ )Charles E. Wilson‬سكرتي وزارة‬
‫الدفاع أن النتائج كانت هائلة ل تكاد تصدق ‪.‬‬
‫وقد ذكر الستر لويس استراس (‪ )Lewis Strauss‬رئيس لنة القوة الذرية ف‬
‫أمريكا أن قنبلة هيدروجينية واحدة تستطيع أن تبيد مساحة مدينة نيويورك الواسعة ‪.‬‬
‫وقال العال الطبعي الشهي ونائب رئيس ملس المن اللواء صاحب سنج ف دهلي‬
‫الديدة ‪:‬‬
‫إن أربع قنابل هيدروجينية وزن كل واحدة منها مائة طن تستطيع أن تقتل كل نسمة‬
‫على وجه الرض ‪ ،‬وقد شاع أخيا أن روسيا اكتشفت القنبلة النيتروجينية (‪Nitrogen‬‬
‫‪ )bomb‬الت هي أدهى وأمر من القنبلة اليدروجينية ‪.‬‬

‫والذي خبث ل يرج إل نكدا ‪:‬‬


‫وقد تضعضع أساس الدنية الوربية ‪ ،‬كما ذكرنا بتفصيل ‪ ،‬ول يزل بناؤه متزعزعا ‪ ،‬ول‬
‫تزده اليام ول يزده الرتفاع إل زيغا واختللً‪ ،‬وفسدت بذرتا ‪ ،‬فلم تصلح شجرتا ول‬
‫تطلب ثرتا {وَالْبََلدُ الطّّيبُ َيخْ ُرجُ نَبَاُتهُ بِإِذْ ِن رَبّهِ وَالّذِي خَُبثَ لَ َيخْ ُرجُ ِإلّ نَكِدا }‪.‬‬
‫وقد شرح ذلك ف إياز الستاذ السيد أبو العلى الودودي ف أحد فصول كتابه‬
‫((تنقيحات )) بالوردية قال ‪:‬‬

‫‪189‬‬
‫(( ظهرت الضارة الغربية ف أمة ل يكن عندها معي صاف ول نبع عذب للحكمة‬
‫اللية ‪ ،‬لقد كان فيها قادة الدين ولكن ل يكونوا أصحاب حكمة ول علم ول شريعة إلية ‪،‬‬
‫ول يكن عندهم إل شبح دين لو حاول أن يسي بالنوع النسان على صراط مستقيم ف طرق‬
‫الفكر والعمل لا استطاع ‪ ،‬ول يكن له إل أن يكون حجر عثرة وسدا ف سبيل ارتقاء العلم ‪،‬‬
‫والكمة ‪ ،‬وهكذا كان ‪ ،‬وكان عاقبة ذلك أن الذين كانوا يريدون الرقي نبذوا الدين‬
‫بالعراء ‪ ،‬واختاروا طريقا ل يكن دليلهم فيها إل الشاهدة والختبار والقياس والستقراء ‪،‬‬
‫ووثقوا بذه الدلئل الت هي ف حاجة بنفسها إل الداية والنور ‪ ،‬وجاهدوا واجتهدوا‬
‫باحتذائها ف طرق الفكر والنظر والتحقيق والكتشاف والبناء والتنظيم ‪ ،‬ولكن ضلت‬
‫خطوتم الول ف كل جهة وف كل مال ‪ ،‬وانصرفت فتوحهم ف ميادين العلم والتحقيق ‪،‬‬
‫وماولتم ف سبيل الفكر والنظر إل غاية ل تكن صحيحة ‪ ،‬إنم بدأوا وساروا من نقطة‬
‫اللاد والادية ‪ ،‬نظروا ف الكون على أنه ليس له إله ‪ ،‬نظروا ف الفاق والنفس على أنه ل‬
‫حقيقة فيها إل الشاهد والحسوس ‪ ،‬وليس وراء هذا الستار الظاهر شيء ‪ ،‬إنم أدركوا‬
‫نواميس الفطرة بالختبار والقياس ولكنهم ل يتوصلوا إل فاطرها ‪ ،‬إنم وجدوا الوجودات‬
‫مسخرة واستخدموها لغراضهم ‪ ،‬ولكنهم جهلوا أنم ليسوا سادتا ومدبريها ‪ ،‬بل هم خلفاء‬
‫سيدها الق ‪ ،‬فلم يروا أنفسهم مسئولي عنها ‪ ،‬ول يروا على أنفسهم عهدة وتبعة ‪ ،‬فاختل‬
‫أساس مدنيتهم وتذيبهم ‪ ،‬وانصرفوا عن عبادة ال إل عبادة النفس ‪ ،‬واتذوا إلهم هواهم ‪،‬‬
‫وفتنتهم عبادة هذا الله ‪ ،‬وسارت بم هذه العبادة ف كل ميدان من ميادين الفكر والعمل‬
‫على طريق زائغة خلبة رائعة ‪ ،‬ولكن مصيها إل اللك ‪.‬‬
‫هذا هو الذي مسخ العلوم الطبيعية فصارت آلة اللك النسان ‪ ،‬وصاغ الخلق ف‬
‫قالب الشهوات والرياء واللعة والباحة ‪ ،‬وسلط على العيشة شيطان الثرة والشح والفتك‬
‫ببن النوع ‪ ،‬ودس ف عروق الجتماع وشرايينه سوم عبادة النفس والنانية والخلد إل‬
‫الراحة والتنعيم ‪ ،‬ولطخ السياسة بالنسية والوطنية وفروق اللون والنسل وعبادة إله القوة ‪،‬‬
‫فجعلها لعنة كبى للنسانية ‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫والاصل أن البذرة البيثة الت ألقيت ف تربة أوربا ف نضتها الثانية ل تأت عليها قرون‬
‫حت نبتت منها دوحة خبيثة ‪ ،‬ثارها حلوة ولكنها سامة ‪ ،‬أزهارها جيلة ولكنها شائكة ‪،‬‬
‫فروعها مضرة ولكنها تنفث غازا ساما ل يرى ‪ ،‬ولكنه يسمم دم النوع البشري ‪.‬‬
‫إن أهل الغرب الذين غرسوا هذه الشجرة البيثة قد مقتوها ‪ ،‬وأصبحوا يتذمرون منها ‪،‬‬
‫لنا خلقت ف كل ناحية من نواحي حياتم مشاكل وعقدا ل يسعون للها إل وظهرت‬
‫مشاكل جديدة ‪ ،‬ول يفصلون فرعا من فروعها إل وتطلع فروع كثية ذات شوك ؛ فهم ف‬
‫معالة أدوائهم وإصلح شئونم كمعال الداء بالداء وناقش الشوكة بالشوكة ‪ ،‬إنم حاربوا‬
‫الرأسالية فنجمت الشيوعية ‪ ،‬إنم حاولوا أن يستأصلوا الديقراطية فنبت الدكتاتورية ‪ ،‬أرادوا‬
‫أن يلوا مشاكل الجتماع فنبتت حركة تذكي النساء (‪ )Feminism‬وحركة منع‬
‫الولدة ‪ ،‬أرادوا أن يشترعوا قواني لستئصال الفاسد اللقية فاشرأبت حركة العصيان‬
‫والناية ‪ ،‬فل ينتهي شر إل إل شر ‪ ،‬ول فساد إل إل فساد أكب منه ‪ ،‬ول تزال هذه الشجرة‬
‫تـثمر لم شرورا ومصائب ‪ ،‬حت صارت الياة الغربية جسدا مقروحا ‪ ،‬يشكو من كل‬
‫جزء أوجاعا وآلما ‪ ،‬وأعيا الداء الطباء ‪ ،‬واتسع الرق على الراقع ؛ المم الغربية تتململ‬
‫ألا ‪ ،‬قلوبم مضطربة وأرواحها متعطشة إل ماء الياة ولكنها ل تعلم أين معي الياة ‪ ،‬إن‬
‫الكثرية من رجالا ل تزال تتوهم أن منبع الصائب ف فروع هذه الشجرة ‪ ،‬فهم يفصلونا‬
‫ويستأصلونا من الشجرة ويضيعون أوقاتم وجودهم ف قطعها ‪ ،‬إنم ل يعلمون أن منبع‬
‫الفساد ف أصل الشجرة ‪ ،‬ومن السفاهة أن يترقب النسان أن ينبت فرع صال من أصل‬
‫فاسد ‪ ،‬وفيهم جاعة قليلة من العقلء أدركوا أن أصل حضارتم فاسد ولكنهم لا نشأوا‬
‫قرونا ف ظل هذه الشجرة – وبأثارها نبت لمهم ونشز عظمهم – كلت أذهانم عن أن‬
‫يعتقدوا أصلً آخر غي هذا الصل يستطيع أن يرج فروعا وأوراقا صالة سليمة ‪ ،‬وكل‬
‫الفريقي ف النتيجة سواء ؛ إنم يتطلبون شيئا يعال سقمهم ويريهم من كربم ولكنهم ل‬
‫يعلمونه ول مكانه ‪. )))(241‬‬

‫(‪(241‬‬
‫تنقيحات ‪ ،‬مقالة أمم العصر المريضة ص ‪. 26 – 25 – 24‬‬
‫‪191‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫رزايا النسانية العنوية‬
‫ف عهد الستعمار الورب‬
‫ليس من قصدنا الن أن نبحث عن رزايا المم الشرقية السيوية ف السياسة والقتصاد‬
‫والتجارة والصناعة ‪ ،‬وخسارتا ف متلكاتا وانكسارها أمة بعد أمة وقطرا بعد قطر أمام قوة‬
‫الغرب الادية ودهائه السياسي ‪ ،‬فلذلك حديث يطول ول يسعه هذا الؤلف الصغي ‪ ،‬وقد‬
‫طرق هذا الوضوع كثي من الؤلفي والؤرخي ف الشرق والغرب ‪ ،‬وألفوا فيه مؤلفات بي‬
‫صغي وكبي ومتوسط وأشبعوا فيه الكلم ‪.‬‬
‫ولكن الذي يهمنا – ونن نتكلم ف هذا الكتاب عن خسارة العال بانطاط السلمي‬
‫واستيلء الوربيي بالتبع – رزيئة العال النسان وخطب الجتمع البشري ف الروح‬
‫والخلق والنفس ‪ ،‬ومعان أسى من الادة وما يتصل بالسم والرض ف عهد النفوذ الورب‬
‫العام ‪ ،‬وسيل حضارته الارف ‪ ،‬فتلك رزية ل تقبل العزاء ‪ ،‬وكسر ل ينجب ‪ ،‬والذين‬
‫أدركوه قليل ‪ ،‬والذين تدثوا به أقل من أولئك القليل ‪.‬‬
‫ولا كان نظام الياة السلمي هو النافس للنظام الاهلي ‪ ،‬كان طبعا رزء السلمي ف‬
‫عهد انتصار الكم الاهلي أكب ‪ ،‬وقسطهم ف هذه الصيبة العالية أوفر ‪ ،‬لن السلم‬
‫والاهلية ككفت ميزان ‪ ،‬كلما رجحت كفة طاشت الخرى ‪.‬‬
‫والن نتحدث عن هذه الرزايا العنوية رزيئة رزيئة ‪.‬‬

‫بطلن الاسة الدينية ‪:‬‬


‫ما هي غاية هذا العال الت ينتهي إليها ‪ ،‬ومصيه الذي يصي إليه ؟هل بعد هذه الياة‬
‫حياة أخرى ؟وما هو وضعها إذا كانت ؟ وهل لذه الياة الخرة تعليمات وإرشادات ف‬
‫الياة الدنيا ؟ ومن أي منبع تستقى هذه العلومات ؟ وما هي الطرق والسس الت إذا سار‬
‫عليها النسان كانت حياته الخرة راضية مرضية ؟ وما مصدر هذه الطرق ؟ وما هي الطريق‬
‫‪192‬‬
‫الثلى للوصول بعد الوت إل نعيم ل ينفد وقرة عي ل تنقطع ؟ ومن أين تستفاد هذه‬
‫الطريق؟‪.‬‬
‫تلك أسئلة ورثها الشرقي أبًا عن جد ‪ ،‬وشغلت خاطره ‪ ،‬وأزعجت فكره طيلة قرون ول‬
‫يقدر أن يذهل عنها ويتناساها حت ف لوه وزهوره ‪ ،‬وكانت هذه السئلة حافز نفسه ‪،‬‬
‫ونداء ضميه ؛ ول يستطيع أن يتصام عنه ويطوي دونه كشحًا ‪ ,‬بل أصغى إليه ف رغبة‬
‫ونصيحة وإخلص ‪ ،‬وأجل هذه السئلة من نفسه وحياته الحل الول ‪ ,‬وما زال منذ آلف‬
‫من السني ف أخذ ورد ونقض وإبرام ف هذا الوضوع ‪,‬وليس ما نسميه ما وراء الطبيعة‬
‫والفلسفة اللية ‪ ,‬والشراق والرياضة النفسية ‪ ,‬والعلم والكمة إل ماولت ومغامرات ف‬
‫هذا الطريق الطويل الظلم ‪,‬وارتيادًا إثر ارتياد ف مناطق مهولة ‪ ,‬ينئ عن اهتمام الشرق البليغ‬
‫بذا الوضوع ورغبته اللحة فيه‪.‬‬
‫هذه طبيعة الشرقي وطبيعة أكثر أفراد البشر ف القاليم العتدلة قبل ظهور الغربيي ؛ وإن‬
‫استعرنا لذلك لغة الفلسفة وتعبيهم قلنا ‪ :‬ل يزل ف الناس _ عدا حواسهم الظاهرة المس‬
‫_حاسة سادسة يسوغ أن نسميها بالاسة الدينية ‪ ,‬وكما أن الواس الظاهرة لا دوائر عمل‬
‫تصل فيها مسوساتا الاصة با فللعي مبصرات وللذن مسموعات ال ‪ .‬كذلك هذه‬
‫الاسة الدينية لا ثرات وتأثيات هي من خواص هذه الاسة الت ل تزل لهل الشرق ضربة‬
‫لزب ‪ ,‬وكما أن من فقد حاسة من الواس الظاهرة بطلت مسوساتا الاصة با ‪ ,‬فل‬
‫تصل له باسة أخرى إل بطريق خرق العادة ‪ ,‬ول تل حاسة مهما كانت قوية وصحيحة‬
‫مل الاسة الخرى‪ ,‬كذلك من فقد الاسة الدينية لطارئ مؤثر أو حرمها لنقص ف الفطرة‬
‫بطلت نتائجها الاصة با ‪ ,‬وانعدمت ف حقه ‪ ,‬بيث ل يستطيع أن يتصورها أو يصدقها ‪,‬‬
‫شأن العمى ل يبصر اللوان والجرام الرئية ‪ ,‬وقد يعاند ويكابر ف إنكارها ‪ ,‬وشأن الصم‬
‫الذي ليست الدنيا الصاخبة إل مدينة الموات عنده ‪ ,‬ليس با داع ول ميب ؛ كذلك من‬
‫حرم الاسة الدينية جحد الغيب ‪ ,‬وكابر فيما هو وراء الطبيعة وعاند ف العان الدينية ‪ ,‬وقسا‬
‫على الرقائق والقوارع الت تز النفوس ‪ ,‬وترقق القلوب وتذرف العيون ‪.‬‬
‫* ما لرح بيت إيلم *‬
‫‪193‬‬
‫أشد العقبات الت واجهها النبياء والدعاة الدينيون ‪ ,‬واصطدمت با خطبهم ومواعظهم‬
‫ودعوتم ‪ ,‬هم أولئك الذين حرموا الاسة الدينية أو فقدوها بتاتًا ‪ ,‬والذين تجرت قلوبم‬
‫وماتت نفوسهم ف مسألة الدين‪ ,‬والذين آلوا على أنفسهم أنم ل يفكرون ف أمر الدين‬
‫وأمور الخرة ‪ ,‬ول يلقون السمع لذا الوضوع أصلً ‪ ,‬والذين لا سعوا كلم النب الذين‬
‫تيش له الصدور وتلي له الصخور ‪ ,‬ما زادوا أن قالوا ف صمم وإعراض ‪{ :‬إِنْ هِيَ ِإلّاحَيَاتُنَا‬
‫الدّنْيَا َنمُوتُ وََنحْيَا وَمَا َنحْنُ ِبمَبْعُوثِيَ } ولا انتهى النب من كلمه السائغ العقول الذي‬
‫يفهمه الطفال ‪ ,‬والذين كان بلغتهم الفصيحة قالوا ‪ { :‬مَا نَفْقَهُ كَثِيا مّمّا تَقُولُ وَإِنّا لَنَرَاكَ‬
‫فِينَا ضَعِيفا }‪َ { ,‬وقَالُوا قُلُوبُنَا فِي َأكِنّةٍ ّممّا َتدْعُونَا ِإلَيْهِ َوفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ‬
‫ب فَا ْعمَلْ إِنّنَا عَامِلُونَ } ‪.‬‬
‫ِحجَا ٌ‬
‫لشك أن هذه السئلة كانت موضوع دراسة العلماء والفكرين ف فجر النهضة الوربية‬
‫الديدة ‪ ,‬واستمروا يبحثون فيها ويؤلفون ويتناقشون ‪ ,‬ولكن كلما قطعت الدنية الوربية‬
‫شوطًا تلفت هذه الباحث والسئلة شوطًا ؛ ولا ظهرت خواص هذه الدنية الباطنة وتلت‬
‫هي ف مظهرها الادي خفت ‪ -‬ف ضجتها – هذا الصوت الذي كان ينبع من أعماق القلب‬
‫وقرارة الضمي النسان الي ‪ ,‬ول ينكر أن هذه السئلة تدرس ف قسم الفلسفة وعلوم ما‬
‫وراء الطبيعة ف الدارس والجامع العلمية والكاتب العامة ‪ ,‬ويتباحث فيها العلماء التخصصون‬
‫وتظهر لم ف هذا الوضوع تأليفات بي آونة وأخرى ؛ ولكن الذي لشك فيه أنا فقدت‬
‫سلطانا على القلوب والفكار وامت علمة الستفهام الواضحة النية الت كان يراها كل‬
‫إنسان عاقل فيقف أمامها كما تقف القطر أمام الشارات ‪ ,‬وأصبحت هذه الستفسارات ل‬
‫تيك ف صدر النسان ول تشغله كما كانت تشغل آباءه وتيك ف صدوهم ‪ ,‬ول يكن‬
‫ذلك عن إيان وانشراح صدر وطمأنينة قلب واقتناع بل صحيح وارتياح إل نتيجة حاسة ‪.‬‬
‫كل ! ل يكن ذلك إل لن هذه السئلة قد فقدت أهيتها وأخلت مكانا لسئلة مادية أهم ف‬
‫أعي أبناء القرني التاسع عشر والعشرين منها ‪ ,‬ولن رجل العصر قد لزم الياد التام ف هذه‬
‫السائل وصرف النظر عنها ‪ ,‬فل عليه إن كانت بعد هذه الياة حياة ثانية وكانت النة والنار‬
‫والثواب والعقاب والنجاة واللك أو ل تكن ‪ ,‬فل يهمه شيء من ذلك ل سلبًا ول إيابًا ‪,‬‬
‫‪194‬‬
‫لن شيئا من ذلك ل يس مسائلة اليومية أو ف آخر الشهر ‪ ,‬ول يتصل بشخصه ول يترك‬
‫عاجلً بآجل ول يتكلف ما ل يعنيه فيترك هذه الباحث (( الفارغة )) يبحث فيها معلم‬
‫الفلسفة ف الامعة ويفضي فيها برأيه الؤلف ف هذه الوضوع ‪ .‬أما هو فهو رجل جد‬
‫وعمل ‪ ،‬ل يعرف إل حياة الصانع والدارات وسي الاكينات ول يهتم إل بتسلية النفس‬
‫وترويها ف آخر النهار والنوم الادئ ف آخر الليل والجرة ف آخر السبوع أو الراتب ف‬
‫أواخر الشهور وحساب الرباح ف أخر السنة وإعادة الصحة والشباب ف آخر العمر وأما ما‬
‫بعد الياة فهو عنده مهول ووهم من الوهام ‪{ :‬بَلِ ادّارَكَ عِ ْل ُمهُ ْم فِي الْآخِ َرةِ بَلْ ُهمْ فِي‬
‫شَكّ مّْنهَا َبلْ هُم مّْنهَا َعمِونَ } ‪.‬‬
‫إن هذا الضرب من الناس ل يزال يزداد عددا وأهية ف كل أمة وبلد بتأثي الضارة‬
‫الغربية ‪ ،‬ذلك الضرب من الناس ل يترك واشتغالم بالياة الدنيا والعكوف عليها فراغا لدعوة‬
‫دينية ‪ ،‬وإن الذين يدعوهم إل الدين والياة الخروية ليتحي معهم كما يتحي السندباد‬
‫البحري – كما تروي لنا حكاية ألف ليلة وليلة – مع بيضة العنقاء ‪ ،‬ظنها السندباد البحري‬
‫بناء من رخام فدار حولا عدة مرات ليبحث عن باب يدخل منه فلم يد ‪ ،‬كذلك الداعي‬
‫الدين يدور حول رؤوسهم فل يد منفذا يدخل منه إل عقولم ‪ ،‬ويدخل به دعوته الدينية‬
‫إل نفوسهم ‪ ،‬فقد أقفلت الياة الادية ومسائلها جيع أبوابا وسدت جيع نوافذ فكرهم ‪.‬‬
‫وكما أن رجلً ل يظ من الفطرة بالذوق الدب ‪ ،‬يسمع اللان الميلة والبيات‬
‫الرقيقة فل يعدها إل أصواتا ل فن فيها ‪ ،‬كذلك الذي حرم الاسة الدينية ل تؤثر فيه دعوة‬
‫النبياء وخطب الوعاظ ‪ ،‬وحكمة العلماء وأمثال الصحف السماوية ‪ ،‬وتضيع فيه بلغة‬
‫البلغاء وإخلص الخلصي ‪ ،‬ويصبح كل ذلك صيحة ف واد ونفخة ف رماد ‪:‬‬
‫لقد أسعت لو ناديت حيا *** ولكن ل حياة لن تنادي‬
‫والذي من بذا الضرب من الناس يفهم السر ف قوله تعال ‪{ :‬خََتمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ‬
‫سمَعُونَ َأوْ يَعْقِلُونَ إِنْ‬‫حسَبُ أَنّ َأكْثَرَ ُهمْ َي ْ‬
‫وَعَلَى َسمْ ِع ِهمْ وَعَلَى أَْبصَارِ ِهمْ ِغشَاوَةٌ } ‪{ ،‬أَمْ َت ْ‬
‫ُهمْ ِإلّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ ُهمْ َأضَلّ سَبِيلً } وتظهر له حقيقة قوله ‪{ :‬وَمَثَلُ اّلذِينَ كَفَرُواْ َكمَثَلِ‬

‫‪195‬‬
‫س َمعُ ِإلّ دُعَاء وَِندَاء صُمّ بُ ْكمٌ ُعمْ ٌي َفهُمْ لَ يَعْقِلُونَ } ول يلق ف شرحها‬
‫اّلذِي يَنْ ِعقُ ِبمَا لَ َي ْ‬
‫وتعليلها ما لقيه الفسرون الذين ل يشاهدوا هذا النوع من صعوبة ‪.‬‬
‫داء هذا العصر الذي ل ينجح فيه الدواء ول يؤثر فيه العلج هو الستغناء التام عن‬
‫الدين ‪ ،‬ول يلق رجال الدعوة الدينية من العنت والشدة ف أحط أدوار الفسق والفجور وف‬
‫أحلك عهود العصية والغفلة ‪ ،‬ما يلقونه ف دعوة هؤلء الذين لزموا العراض التام ف هذه‬
‫س ِمعُ الصّمّ الدّعَاء‬
‫س ِمعُ اْلمَوْتَى َولَا ُت ْ‬
‫السائل ( الكلمية ) فل تعنيهم سلبا ول إيابا {إِنّكَ لَا ُت ْ‬
‫إِذَا َوّلوْا ُمدْبِرِينَ } ‪.‬‬
‫وقد فطن لذا الفرق الوهري بي النفسية القدية والديدة أحد كبار معلمي الفلسفة‬
‫وعلم النفس ف إحدى جامعات أوربا الكبى وشرحه ف عبارة وجيزة ‪ .‬قال س م جود ‪:‬‬
‫(( ثارت ف قدي الزمن شكوك واعتراضات وأسئلة واستفسارات حول الدين ‪ ،‬ل يطمئن‬
‫بعض أصحابا ول يرتاحوا إل جواب مقنع ‪ ،‬ولكن ما يتاز به هذا اليل أنه ل تزعجه‬
‫السئلة رأسا ‪ ،‬ول تيك ف صدره ول تنشأ ف هذا العصر أصلً )) ‪.‬‬

‫زوال العاطفة الدينية ‪:‬‬


‫لا طغى بر الادية ف العال السلم ف العهد الخي وفاض ‪ ،‬كون رجال الدين جزرا‬
‫صغية ف بر الادية الحيط ‪ ،‬يلجأ إليها الفارون إل ال والتبمون من الياة الادية والغفلة ‪،‬‬
‫كان فيها رجال هم كمنارات النور ف البحر الظلمات يربون الناس التربية الدينية واللقية ‪،‬‬
‫ويزكون أنفسهم ويصقلون قلوبم ‪.‬‬
‫وكنت ترى ف العال السلمي حركة مستمرة إل هذه الزر ؛ فترى قوافل لرواد‬
‫الروحانية ومنتجعي التربية الدينية غادية رائحة من أقصى الشرق إل أقصى الغرب ‪ ،‬ومن‬
‫أقصى شال العال السلمي إل أقصى جنوبه ‪ ،‬متخطية الثغور السياسية متازة العقبات‬
‫الغرافية ‪ ،‬فترى هذه الزر مستعمرات دينية ‪ ،‬قد أمت فيها الفروق النسية والوطنية ‪،‬‬
‫وترى متحفا إنسانيا قد اجتمع فيه الشرقي مع الغرب والبخاري مع الغرب والناضول مع‬
‫الندنوسي ‪ ،‬قد فروا بدينهم من الفت ورموا بأنفسهم على عتبة ربم ‪ ،‬يدعون ربم بالغداة‬

‫‪196‬‬
‫والعشي يريدون وجهه ويتلقون التربية الدينية ث ينبثون ف أناء العال دعاة مصلحي ومعلمي‬
‫مرشدين ‪ ،‬يلتقطون نصيب ال من بي نصيب الشيطان وييون أرضا مواتا من القلوب ‪،‬‬
‫ويبذرون فيها بذور الدين ‪.‬‬
‫وكذلك ل تزل ف جنب أقوى الدول وأوسعها دول روحية يفوق سلطانا الروحي‬
‫سلطان الادي ‪ ،‬فيها رجال تأتيهم الدنيا راغمة ويأتيهم اللوك والمراء صاغرين ‪ ،‬ولم نظام‬
‫كنظام الدول ينصبون ويقرون وينقلون ويستخلفون ‪ ،‬ولم (( قناصل وسفراء )) ف كل دولة‬
‫مادية وكأن خارطة العال السلمي بي أيديهم ‪ ،‬فإذا خل ثغر من ثغور السلم نصبوا فيه‬
‫مرابطا دينيا يفظه من عادية الغفلة والعصية ‪ ،‬ويرسه من غاشية الهل والطغيان‪. )(242‬‬
‫وكانت هذه الدول الروحية مستقلة ف إدارتا ونظامها الداخلي ‪ ،‬ل يتداخل فيها اللوك‬
‫والمراء ول تؤثر فيها التقلبات السياسية والوادث الحلية ؛ ولضرب لذلك مثلً بالستعمرة‬
‫الروحية العروفة بغياث فور ‪ ،‬الت أنشأها الشيخ نظام الدين البداون الندي (( م ‪725‬‬
‫هـ)) ف نفس عاصمة الند وقد عاصر الشيخ ثانية من اللوك البابرة (( من غياث الدين‬
‫بلب ‪ 686 – 664‬إل غياث الدين تغلق ‪ )) 725 – 720‬وحافظت على استقللا التام‬
‫من غي أن تسها يد اللوك ‪ ،‬وكنت ترى فيها رجالً من سنجر ف إيران إل رجال من أوده‬
‫ف شرق الند ‪.‬‬
‫وقد كان لذه الراكز ولصحابا الفقراء من الهابة والشمة والحترام الفائق ما قد‬
‫يسدهم عليه أكب ملوك العال ‪ ،‬وقد يكون هذا سبب الوحشة بينهم ‪ ،‬وما ذاك إل لقبال‬
‫الناس على رجال الدين واحتفائهم والضوع للسلطان الروحي ‪ ،‬فكان السيد آدم البنوري‬
‫الندي ( م ‪ 1053‬هـ ) دفي البقيع يأكل على مائدته كل يوم ألف رجل ‪ ،‬ويشي ف‬
‫ركابه ألوف الرجال ومئات من العلماء ‪ ،‬ولا دخل السيد ف لهور عام ‪ 1053‬كان ف‬
‫معيته عشرة آلف من الشراف والشايخ وغيهم ‪ ،‬حت توجس شاهجان ملك الند منه‬

‫(‪ (242‬حديث الشيخ الصالح السيد علي الهجويري دفين لهور أن شيخه أمره بالرحلة إلى لهور والقامة فيها ‪ ،‬فاعتذر بأن هناك‬
‫زميله الشيخ حسين الزنجاني فل لزوم لذهابه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ل بد أن تذهب وتقيم بها ‪ :‬قال ‪ :‬فشددت رحلي وامتثلت أمر الشيخ ووصلت‬
‫إلى لهور في الليل وقد غلقت أبوابها فبت ليلتي خارج السور ‪ .‬ولما أصبحت وفتح باب السور إذا بالناس يحملون جنازة الشيخ‬
‫حسين ‪ ،‬فعرفت سر أمر الشيخ ودخلت البلد ‪ .‬وخلفته في عمله دعاء الخلق إلى ال ( كشف المحجوب للهجويري (‬
‫‪197‬‬
‫خيفة ‪ ،‬فأرسل إليه ببلغ من الال ‪ ،‬ث قال له ‪ :‬قد فرض ال عليك الج فعليك بالجاز ‪،‬‬
‫فعرف إيعاز اللك ‪ ،‬وسافر إل الرمي حيث مات‪. )(243‬‬
‫وهذا الشيخ ممد معصوم ( م ‪ ) 1079‬ابن الشيخ الكبي أحد السرهندي قد بايعه‬
‫وتاب على يده تسعمائة ألف من الرجال ‪ ،‬واستخلف ف دعاء اللق إل ال وإرشاد الناس‬
‫وتربيتهم الدينية سبعة آلف من الرجال‪. )(244‬‬
‫وهذه ابنه الشيخ سيف الدين السرهندي (م ‪ )1096‬كان يأكل على مائدته ألف‬
‫وأربعمائة ‪ ،‬ويقترحون الطعمة ويتخيونا‪. )(245‬‬
‫وهذا الشيخ ممد زبي السرهندي ( م ‪ ) 1151‬كان إذا خرج من بيته ألقى له الغنياء‬
‫الشيلن والناديل حت ل يطأ الرض ‪ ،‬وإذا خرج لعيادة مريض أو لبعض شأنه خرج ف‬
‫ركابه الغنياء والمراء فكان موكبا مثل مواكب اللوك‪. )(246‬‬
‫وهذه أمثلة قليلة ل نقصد منها إل الستدلل على ما كان للدين من مكانة وشرف ف‬
‫عيون الناس ‪ ،‬وعلى ما كان من احتفاء برجاله ومن يثلونه ‪ ،‬وخضوعهم لسلطان الدين فوق‬
‫سلطان القوة ‪ ،‬وتافتهم على موارد الدين ومشارعه ‪ ،‬وهذه أمثلة التقطناها على عجل من‬
‫تاريخ الند السلمي ولحات عابرة فيه ؛ ولو ذهبنا نستقصي أمثلته وشواهده من تاريخ‬
‫السلم العام ومن تراجم الرجال الدينيي وسيهم ف بلد الشام ومصر والغرب القصى‬
‫والعراق لكان ملدا كبيا – ونكتفي هنا بذكر الشيخ خالد الكردي ( م ‪ 1242‬هـ )‬
‫الذي ازدحم الناس عليه ف بغداد يتوبون على يديه ويستفيدون منه ‪ ،‬وقد أخب شيخه ف‬
‫رسالة كتبها إليه أن مائة من العلماء الفحول قد ترجوا عليه ‪ ،‬وأن خسمائة من كبار العلماء‬
‫قد دخلوا ف بيعته ‪ ،‬وأما العوام والواص فل يأت عليهم حصر‪. )(247‬‬
‫واستمر هذا القبال على الدين والجرة ف طلب العلم النافع والعمل الصال ‪ ،‬وتشم‬
‫السفار والخطار لزكية النفس وتذيب اللق والتوصل إل معال الرشد والستعداد للخرة‬

‫(‪(243‬‬
‫التذكرة الدمية ( الفارسية ( ‪.‬‬
‫(‪(244‬‬
‫نزهة الخواطر ‪ ،‬المجلد الخامس ‪ ،‬للشيخ عبدالحي الحسني ‪.‬‬
‫(‪(245‬‬
‫ذيل الرشحات ( الفارسية (‬
‫(‪(246‬‬
‫در المعارف ( الفارسية ( ‪ ،‬نزهة الخواطر ( العربية ( ‪.‬‬
‫(‪(247‬‬
‫در المعارف‬
‫‪198‬‬
‫إل أول عهد الستعمار الورب ؛ فترى ف كل قطر إسلمي مراكز دينية وملجئ روحية‬
‫يأوي إليها أهل الطلب من سائر الفاق ‪ ،‬وتطبهم الدنيا والناصب العالية ف الكومات‬
‫فيأبون إل فرارا ‪ ،‬ويلجأون إل هذا الحيط الادئ الروحي ‪ ،‬ويكبون على إصلح باطنهم‬
‫وسل حظ الشيطان منه ‪.‬‬
‫وتتعدى ف الضارة إل أواسط القرن الثالث عشر الجري وقد احتل النليز الند ‪ ،‬ولا‬
‫تؤثر حضارتم وفلسفة حياتم ف متمع البلد ‪ ،‬فترى بقايا من الياة الدينية الول ‪ ،‬ويدثنا‬
‫مؤرخ‪ )(248‬عن زاوية الشيخ غلم علي الدهلوي ‪ ( ،‬م ‪ 1240‬هـ ) فيقول ‪:‬‬
‫(( رأيت بعين ف هذه الزاوية رجالً من الروم والشام وبغداد ومصر والبشة قد بايعوا‬
‫الشيخ ‪ ،‬وعدوا الثول بي يديه حسنة الدهر وسعادة العمر ‪ .‬أما الوافدون من البلد القريبة‬
‫كالند وأفغانستان فكانوا كالراد ‪ ،‬ول يقل عدد القيمي ف هذه الزاوية عن خسمائة رجل‬
‫تقوم الزاوية بنفقاتم ‪. )))(249‬‬
‫وييل الشيخ رؤوف أحد الجددي نظره ف رجال هذه الزاوية اليوم الثامن والعشرين من‬
‫جادى الول عام ‪ 1231‬هـ فيجد رجالً من سرقند وبارى وتاشقند وحصار وقندهار‬
‫وكابل وبشاور وكشمي واللتان ولهور وسرهند وأمروهه وسبنهل ورامبوا وبريلي ولكهنؤ‬
‫وجائس وبرائج وكوركهبور وعظيم آباد ودماكه ‪ ،‬وحيدر آباد ‪ ،‬وبونه وغيها‪. )(250‬‬
‫وليعرف أن هذا كله ف زمان ل تدث فيه طرق النقل الديثة فكان كله مشيا على‬
‫القدام وسفرا ف القوافل ‪.‬‬
‫وتتجلى الناظر الخية لذا العهد الراحل ف تاريخ مصلح الند الكبي والجاهد الشهي‬
‫السيد المام أحد بن عرفان الشهيد ( ‪ 1246‬هـ ) فإذا قرأت تاريه وجولته ف الند‬
‫لجل بث دعوته إل التوحيد واتباع السنة والهاد رأيت ألوفا يتوبون من الذنوب والثام‬
‫والشرك والحدثات ‪ ،‬حت تقفر الانات وتغص الساجد ‪ ،‬ويتسابقون ف دعوته هو ورفقته‬

‫(‪(248‬‬
‫هو السير السيد أحمد خان صاحب الدعوة إلى التعليم النجليزي في الهند ومؤسس الجامعة الشهيرة في عليكرة ‪.‬‬
‫(‪(249‬‬
‫آثار الصناديد ( الوردية (‬
‫(‪(250‬‬
‫در المعارف ( الفارسية ( ‪.‬‬
‫‪199‬‬
‫الذين يعدون بالئات إل بيوتم وصنع الولئم لم ‪ ،‬ويستهينون ف سبيل ذلك بالموال ‪،‬‬
‫ويسترخصون كل عزيز وغال حت يتقارعوا بينهم أيهم يبدأ وأيهم يتقدم ‪.‬‬
‫وترى ف السلمي شهامة ف سبيل الدين وعلو هة وساحة نفس وأريية ل تعهدها بعد‬
‫ذلك ‪ ،‬فلما خرج السيد للحج عام ‪ 1236‬هـ ورفقته أكثر من سبعمائة رجل ضيف‬
‫السلمون هذا الركب ف كل مل ير به ‪ ،‬من راي بريلي مسقط رأسه إل كلكته حيث‬
‫ركبوا السفن ‪ ،‬ولا نزل بال آباد ضيّفه الشيخ غلم علي ‪ ،‬وأقام هذا الركب ضيفا عليه‬
‫خسة عشر يوما ‪ ،‬واجتمع الناس من القرى والضواحي وكلهم يأكلون على مائدة الشيخ‬
‫الطعام الفاخر ‪ ،‬هذا عدا الدايا الت أهداها إل أهل الركب والكسوة والزاد الذي قدمه ‪ ،‬وف‬
‫أثناء الرجوع لا حلت القافلة قريبا من مدينة مرشد آباد ف طريقها من كلكته إل راي بريلي‬
‫قام ديوان غلم مرتضى بضيافتهم وأعلن ف السوق أن كل من يشتري من أهل القافلة أو‬
‫يستأجر منهم أهل الصناعة فهو يؤدي الثمن من عنده ‪ ،‬وكلمه السيد ف هذا فقال ‪ :‬حسب‬
‫من الفخر والشكر أن أقوم بدمة الجاج ‪.‬‬
‫وترى ف الناس رقة ف القلوب وانقيادا للحق وخضوعا للشرع ‪ ،‬فقد تشرف بالبيعة‬
‫والتوبة مئات ألوف من السلمي ف هذا السفر ‪ ،‬وكان الناس ينهالون من كل صقع‬
‫ويدخلون ف الي أفواجا ‪ ،‬حت إن الرضى ف مستشفى مدينة بنارس أرسلوا إل السيد‬
‫يقولون ‪ :‬إنا رهائن الفراش وأحلس الدار فل نستطيع أن نضر فلو رأى السيد أن يتفضل‬
‫مرة حت نتوب على يديه لفعل ‪ ،‬وذهب السيد وبايعهم ‪.‬‬
‫وأقام ف كلكته شهرين ‪ ،‬ويقدر أن الذين كانوا يدخلون ف البيعة ل يقل عددهم عن‬
‫ألف نسمة يوميا ‪ ،‬وتستمر البيعة إل نصف الليل ‪ ،‬وكان من شدة الزحام ل يتمكن من‬
‫مبايعتهم واحدا واحدا فكان يد سبعة أو ثانية من العمائم والناس يسكونا ويتوبون‬
‫ويعاهدون ال ‪ ،‬وكان هذا دأبه كل يوم سبع عشرة أو ثان عشرة مرة ‪.‬‬
‫وخطب السيد ف الناس ف كلكته خسة عشر أو عشرين يوما ‪ ،‬وكان يضر هذه‬
‫الواعظ نو ألفي من وجهاء البلد والعلماء والشيوخ فضلً عن عامة الناس والدهاء ‪،‬‬
‫وكذلك رفيقه الشيخ عبد الي البهانوي كان يذكر كل يوم جعة ويوم الثلثاء بعد صلة‬
‫‪200‬‬
‫الظهر إل العصر ‪ ،‬والناس يتساقطون عليه كالفراش ؛ ويسلم كل يوم عشرة أو خسة عشر‬
‫رجلً من الكفار ‪.‬‬
‫وكان من تأثي هذه الواعظ ودخول الناس ف الدين وانقيادهم للشرع أن تعطلت تارة‬
‫المر ف كلكته وهي كبى مدن الند ومركز النليز ‪ ,‬وكسدت سوقها و أقفزت الانات‬
‫واعتذار المارون عن دفع ضرائب الكومة متعللي بكساد السوق وتعطيل تارة المر ‪.‬‬
‫ولا دعا السيد المام إل الهاد لب الناس من كل طبقة دعوته ف نشاط وحاسة ولقوا‬
‫به ‪ ,‬وترك الفلحون سكتهم وأقفل التجارة دكاكينهم وغادر الناس أوطانم وتغربوا ف دين‬
‫ال ول يتلفتوا إل ما وراءهم ول يلووا على شيء حت قتلوا ف سبيل ال ف وادي بال كوت‬
‫عام ‪1246‬هـ ف الثغور ‪ ,‬ورجع فلهم إل قلل البال فاعتصموا با وقضوا نبهم ف الهاد‪.‬‬
‫هذا كله والضارة السلمية ف الند ف الحتضار والكومة السلمية ف انيار ‪ ,‬ولكن‬
‫ل يزل ف الناس بقية من النفة السلمية والمية الدينية والنابة إل ال والفرار إليه وسرعة‬
‫الجابة للداعي إل ال ‪ ,‬والستهانة بالياة الدنيا وبذل النفوس والنفائس ف سبيل ال ‪.‬‬
‫ورسخت قدم النليز وأصبح نظامهم التعليمي – وهو من أكب جنودهم – يؤت أكله‬
‫حي ‪ ،‬وتسربت ف الناس أفكارهم وميولم ‪ ،‬فصارت تقلب نظام الياة ونظام الفكر ف الند‬
‫رأسا على عقب من حيث ل يشعر أهلها فتقاصرت المم ف الدين وخدت جذوة القلوب‬
‫وانطفأت شعلة الياة الدينية ‪ ،‬وانصرفت الرغبات والهواء والتنافس الطبيعي – الذي هو‬
‫الدافع الكب إل التقدم والبداع – من الدين والروحانية إل العاش والادة ‪ ،‬وقلت مرغبات‬
‫الهد ف الدين والعلم وما يتصل بالروح والقلب ‪ ،‬وتوافرت الزهدات والثبطات عنه ‪،‬‬
‫وكثرت الدواعي والافزات إل ضده ‪ ،‬واته تيار الذي والنبوغ والعبقرية – الذي كان‬
‫متجها من قبل إل الدين – من صنوف الدين وأقسام العلم الدين والروحي ‪ ،‬إل النتاج‬
‫والبداع ف أنواع علوم العاش ومرافق الياة ‪.‬‬
‫وكان ل يزال بالعهد الراحل رمق وبقية من حياة تنازع الوت وتاول البقاء ‪ ،‬فكان ل‬
‫يزال ف الناس رجال يدعون إل الدين وإصلح النفوس وتزكيتها وتذيب الخلق وتصفيتها‬
‫وهم تذكار لسلفهم ف زهدهم ف الدنيا والقبال على الخرة والخلص واتباع السنة ‪،‬‬
‫‪201‬‬
‫وكانت ل تزال لم دعوة ف الناس ‪ ،‬والسلمون يعدون التصال بؤلء والتمسك بأهدابم‬
‫حقا من حقوق الدين وواجبا من واجبات الياة ‪ ،‬وكان بعض الغنياء والمراء وأرباب‬
‫الدنيا ‪ ،‬لم اهتمام زائد بسن الاتة وأمور الخرة وصلح القلب وعمارة الباطن ‪ ،‬ولكن‬
‫كان هذا كله أشبه بالتهاب السراج قبل النطفاء ‪ ،‬فقد ذوى أصل الشجرة الدينية ‪،‬‬
‫وانقطعت عنها مادة الياة ‪ ،‬وهبّ عليها إعصار فيه نار ‪.‬‬
‫سرى الشك وسوء الظن ف الوساط الدينية والبيوت العريقة ف الدين والعلم بتأثي‬
‫الحيط وبتأثي التعاليم الفرنية وضعفت الثقة بال وبصفاته وبواعيده ‪ ،‬فأصبح الباء يضنون‬
‫بأولدهم على الدين ‪ ،‬ول ياطرون بأوقاتم وقواهم ف سبيل الدين وعلوم الدين ‪ ،‬وأصبحوا‬
‫يعلمونم العلوم العاشية واللغات الفرنية ‪ ،‬ل رغبة ف تصيل الفيد النافع ول دفاعا عن‬
‫السلم بل زهدا ف الدين وفرارا من خطر الستقبل وخوفا على أفلذ أكبادهم من الضياع‬
‫واستسلما للدهر التقلب ‪ ،‬وتسلط عليهم خوف الفقر حت أصبحوا من خوف الوت ف‬
‫الوت ‪.‬‬
‫وهكذا انقرض هذا اليل وطوي هذا البساط ‪ ،‬ولفظ هذا العهد الروحي نفسهُ الخي ‪،‬‬
‫وتله عهد الادة ‪ ،‬وأصبحت الدنيا سوقا ليس فيها إل البيع والشراء ‪.‬‬

‫طغيان الادية والعدة ‪:‬‬


‫رووا أن شاعرة جاهلية هي (( كبشة بنت معد يكرب )) عاتبت أخاها عمرو بن معد‬
‫يكرب ‪ ،‬وعيته بيله إل قبول دية أخيه القتول فقالت ‪:‬‬
‫ودع عنك عمْرا إن عمْرا مسال *** وهل بطن عمرو غي شب لطعم ؟‬
‫ما تتصور الرأة الاهلية البسيطة أن بطن إنسان يتجاوز مقدار شب فكيف لو رأت معدة‬
‫النسان الاضر ابن القرن العشرين ؛ تضخمت وكبت حت وسعت الرض وتاوزت حت‬
‫أصبحت ل يلؤها إل التراب ‪.‬‬
‫نعم تضخمت معدة الرص ف النسان حت صارت ل يشبعها مقدار من الال ‪ ،‬وتولد‬
‫ف الناس غليل ل يُرْوى وأُوارٌ ل يُشفى ‪ ،‬وأصبح كل واحد يمل ف قلبه جهنم ل تزال تبتلع‬

‫‪202‬‬
‫وتستزيد ‪ ،‬ول تزال تنادي هل من مزيد ؟ هل من مزيد ؟ تسلط على الناس – أفرادا وأما –‬
‫شيطان الشع والرص فكأن بم مسا من النون ‪ ،‬وأصبح النسان نما يلتهم الدنيا التهاما ‪،‬‬
‫ويستنف موارده حللً وحراما ‪ ،‬ث ل يرى أنه قضى لبانته وشفى نفسه ‪ ،‬والعهدة ف ذلك‬
‫على وضع الياة الاضرة وطبيعتها وكونا مادية صرفة ل تؤمن بالخرة ‪ .‬وخليق بن ل يعتد‬
‫إل بياته الدنيا ول يرى وراءها عالا آخر وحياة ثانية أن تكون هذه الياة بضاعته ورأس ماله‬
‫وأكب هه وغاية رغبته ومبلغ علمه ‪ ،‬وأن ل يؤخر من حظوظها وطيباتا ولذائذها شيئا وأن‬
‫ل يضيع فرصة من فرصها ‪ ،‬ولي عال يدخر وهو ل يؤمن بعال وراء هذا العال ‪ ،‬ول بياة‬
‫بعد هذه الياة ؟‬
‫وقد عب عن هذه النفسية الاهلية الشاعر الاهلي الشاب طرفة بن العبد ف صراحة‬
‫وبساطة فقال ‪:‬‬
‫فإن كنت ل تستطيع دفع منيت *** فدعن أبادرْها با ملكت يدي‬
‫كري يروّي نفسه ف حياته *** ستعلم إن متنا غدا أينا الصّدِي‬
‫وكل إنسان متمدن اليوم – إل من عصمه ال باليان – يرى هذا الرأي ويذهب هذا‬
‫الذهب ف الياة ‪ ،‬إل أنه قد يرؤ على أن يصرح به ‪ ،‬وقد ل يلك ذلك اللسان البليغ الذي‬
‫يعب عن ضميه ؛ والسبب الثان ‪ - :‬هو الدب العصري – بعناه الواسع – الذي ل يتحدث‬
‫إل عن الادة وأصحابا ‪ ،‬وينع لهل الثراء وأصحاب الحتكار وأصحاب النتاج ‪ ،‬النوع‬
‫الذي ل يليق بالدب الشريف العال ‪ ،‬فيكتب دقائق حياتم ف تفصيل ‪ ،‬وينشر ألقابم‬
‫وأساءهم بقلم عريض وكل نفس من أنفاس مدحه وتقريظه وكل فصل من فصول روايته‬
‫ينتهي إل نتيجة مادية أو إل بطل من أبطال الادة ‪ ،‬ويزين للقارئ الذهب البيقوري تارة‬
‫بالتلميح وتارة بالتصريح ‪ ،‬ويث الشباب على التهام الياة وانتهاب السرات نثرا وشعرا‬
‫وفلسفة ورواية وتليلً وتصويرا ‪ ،‬فل ينتهون منه إل بالروح الادية والتقديس لرجال الادة ‪.‬‬
‫وكذلك الجتمع الذي ل يقدر إل الغن الظريف متناسيا كل ما فيه من رذيلة ولؤم أصل‬
‫وسوء خلق ‪ ،‬ويتجن على النسان الذي ل يترجح ف ميزانه مهما كثرت مواهبه وطاب‬
‫عنصره وسا جوهره ‪ ،‬ويلمّح وقد يصرح بأن الفقي ل يستحق الياة ‪ ،‬ويعامله معاملة‬
‫‪203‬‬
‫الدواب والمي والكلب ‪ ،‬فيغم النسان – إذا ل يكن ثائرا على الجتمع – على أن يضع‬
‫لشريعة متمعه ‪ ،‬وأن يتجمل ويتظرف لجتمعه ‪ ،‬فل يلبس إل لغيه ول يتأنق إل لغيه ‪.‬‬
‫وهذا الجتمع ل تزال مقاييسه للشرف والظرافة تتغي ومعاييه للنسانية تتبدل وتتحول‬
‫ومطالبه تتنوع وتتكثر ‪ ،‬حت يضيق النسان با ذرعا ويلجأ إل طرق غي شريفة لتحصيل‬
‫الال وإل كدح وكد ف الياة ‪ ،‬وهناك هوم تتوال ول تنتهي ومتاعب تتسلسل ول تنقطع ‪.‬‬
‫وزاد الطي بلة تنافس الصانع والنتجي والصناع ؛ ففي كل صباح يتدفق على الدينة‬
‫سيل جديد من أحدث النتجات وأحدث طراز من السيارات والسجائر والزياء والقبعات‬
‫والحذية والدهان والطلية وأسباب الزينة والزخارف والجهزة ول يلب منها شيء قياما‬
‫بالواجب وسدّا للعوز ‪ ،‬بل كله ف سبيل الستغلل الصناعي والحتكار التجاري ‪ ،‬ول تلبث‬
‫هذه النتجات الت هي من فضول الياة أن تدخل ف أصول العاش ولوازم الدينة ‪ ،‬والذي ل‬
‫يتحلى با ل يعد من الحياء ‪.‬‬
‫ولذه السباب ولغيها ارتفعت قيمة الال ف عيون الناس ارتفاعا ل تبلغه ف الزمن‬
‫السابق ‪ ،‬وبلغ من الهية والكانة مبلغا ل يبلغه – على ما نعرفه – ف دور من أدوار التاريخ‬
‫الدون ‪ ،‬وأصبح الال هو الروح الساري ف جسم الجتمع البشري والافز الكب للناس على‬
‫أعمالم ونشاطهم الدن ‪ ،‬وقد يدفع الخترع إل الختراع والصانع إل صناعته والسياسي إل‬
‫مقالته والرشح إل انتخابه والعال إل تأليفه ‪ ،‬حت القادة إل الرب ‪ ،‬فهو القطب الذي تدور‬
‫حوله رحى الياة العصرية كما يقول الستاذ (( جود )) معلم الفلسفة وعلم النفس ف جامعة‬
‫لندن‪(( :‬إن النظرية الهيمنة السائدة على هذا العصر هي النظرية القتصادية ‪ ،‬وأصبح البطن أو‬
‫اليب ميزانا لكل مسألة فبمقدار اتصالا باليب وتأثيها فيه يقبل الناس عليها ويعنون با)) ‪.‬‬
‫إذا حكمت على عصرك وطبائعه وأذواقه وأنت بعزل عن الياة ‪ ،‬وبنيت حكمك على‬
‫مؤلفات ومقالت إنا تكتب ف زاوية من زوايا الكتب فإنك تغالط نفسك ‪ ،‬وقد تقرأ ف هذه‬
‫الكتب الفلسفية أو القالت العلمية التحليلية كأنك ف عصر متمدن راق تتحكم فيه معايي‬
‫الخلق وتسود فيه الثل العليا ويغشاه سحاب الفضيلة والنبل ‪ ،‬وتلق عليه روح الديانة‬
‫والعلم ‪ ،‬ولكن الواقع غي ذلك ‪ ،‬فإن هذه الكتب إنا ألفت ف عال اليال الذي يعيش فيه‬
‫‪204‬‬
‫مؤلفوها ‪ ،‬وإن أهواءهم وأذواقهم هي الت خلقت لم عال خياليا يصفونه ويصورونه ف‬
‫كتبهم ‪ ،‬حت ييل إل القارئ أنه هو العال الحيط به ‪ ..‬وللهواء عجائب وخوارق ‪.‬‬
‫ولكنك إذا اتصلت بالياة عن كتبٍ ل عن كُتبٍ ‪ ،‬وخالطت الناس ودرست أحوالم‬
‫وأصغيت إل حديثهم ف البيت وف القطار والبستان وعلى الائدة وف السمر ‪ ،‬رأيت‬
‫( الذهب ) حديث النوادي وشغل اللسنة وهوى القلوب ‪ ،‬والبداية والنهاية ف كل‬
‫موضوع ‪ ،‬والقطب الذي تدور حوله رحى الياة ‪.‬‬
‫إن شاعرا عربيا يلعن الصعلوك الذي ل يتعدى نظره ول يسمو فكره عن لباس وطعام‬
‫ويقول ‪:‬‬
‫لا ال صعلوكا مناه وهه *** من العيش أن يلقى لبوسا ومطعما‬
‫فكيف إذا أشرف هذا الشاعر على هذه الدينة وهي تري بفلسفتها وسياسييها ونوابغها‬
‫وعلمائها وكتابا وأشرافها وأغنيائها وفقرائها وراء غاية ل تتعدى لبوسا ومطعما مهما‬
‫تنوعت أشكالا وتضخمت ألقابا ؟! فالياة كلها جهاد ف سبيل اللباس والطعام ‪.‬‬

‫التدهور ف الخلق والجتمع ‪:‬‬


‫احتل الجانب الشرق السلمي وقد أصاب الجتمع الشرقي السلمي انطاط ف‬
‫الخلق والجتماع ‪ ،‬وسبقت إليه أدواء خلقية واجتماعية كانت أهم أسباب انيار الدول‬
‫السلمية وانزام المم الشرقية ‪.‬‬
‫ولكن مع ذلك ل يزل الجتمع الشرقي السلمي – على علته – متفظا ببعض البادئ‬
‫اللقية السامية والصائص الجتماعية الفاضلة الت ل يوجد لا مثيل ف المم ‪ ،‬وقد نضج‬
‫واكتمل فن الخلق عند الشرقيي ووصل من الدقة والتفصيل واللطافة ورقة الواشي ذروة‬
‫ل بصل إليها ذهن العصر ‪ ،‬ول يتصورها الغرب إل ف الشعر والدب ‪.‬‬
‫يقرأ النسان أو يسمع روايات عن استحكام الروابط والواصر بي أعضاء الجتمع العام‬
‫وأفراد السرة ‪ ،‬وتغلغلها ف الحشاء واستمرارها إل الحقاب والجيال وخلوها من كل‬
‫مصلحة ومتعة مادية ‪ ،‬ما ل يتصوره أبناء هذا العصر ‪ .‬وكذلك من حنو الباء على البناء وبر‬

‫‪205‬‬
‫البناء بالباء ‪ ،‬وتوقي الصغي للكبي وحدب الكبي على الصغي ‪ ،‬وعن عفاف النساء ووفاء‬
‫اللئل وأمانة الدم ووفائهم واستقامة الشبان وثباتم على الخلق ومعاملة الشراف‬
‫بعضهم لبعض ‪ ،‬والحافظة على الرواتب والعادات والطراد ف مسألة اللباس والشعائر‬
‫والعشرة ‪ ،‬واليثار ف شأن الصدقاء والنصح لم ‪ ،‬يسمع منها غرائب ل يكاد يصدق با ‪.‬‬
‫كان بر البناء للباء وطاعتهم إل حد التفان ف سبيلهم والضمحلل ف وجودهم‬
‫منتزعا من قول النب صلى ال عليه وسلم ‪ (( :‬أنت ومالك لبيك )) ‪.‬‬
‫وكان حب البناء لبائهم وبرهم وحرصهم على أداء حقوقهم غي مقتصر على حياة‬
‫البوين ‪ ،‬بل كان يستمر إل ما بعد وفاتما أصدقائهما وأهل أنسهما والهداء إليهم‬
‫والتحبب إل أولدهم وعشيتم ‪ ،‬وكان ذلك عملً بقوله صلى ال عليه وسلم ‪ (( :‬إن من‬
‫أبر الب بر الرجل بأهل ود أبيه بعد أن يول )) ‪.‬‬
‫وكان البوان مثلً للنصح والخلص ف حبهما للولد ‪ ،‬وكانا يضحيان بميع أهوائهما‬
‫وميولما وراحتهما وبلذة المومة والبوة ف سبيل تثقيفهم وتربيتهم وتعليمهم ‪ ،‬ويتحملن ف‬
‫ذلك – حت الرجل المي والرأة الاهلة – إجحاف العلمي وعسفهم وإضرارهم ف بعض‬
‫الحيان بسم الصغار ‪ ،‬ويرعان الرائر ويصبان على الغصص ف سبيل الولد ونبوغهم ‪،‬‬
‫وقد تواضع على ذلك أهل البيوتات والشرف حت أهل الطبقات الوضيعة ‪ ،‬ويعدون من‬
‫ل نذلً لئيما‪ ،‬والذي روي عن هارون الرشيد ف تنبيهه لولديه المي والأمون‬ ‫خالف ذلك رج ً‬
‫ووصيته لما بدمة الكسائي معروف ف التاريخ ؛ ومن غرائب ما يروى ف هذا الباب ويثل‬
‫الطبيعة الشرقية أن (( تاج الدين ألدز )) أمي الفغان بعد السلطان شهاب الدين الغوري أسلم‬
‫ولده إل معلم وضرب العلم الولد حت مات ‪ ،‬فلما علم بذلك (( تاج الدين )) أشار على‬
‫العلم بأن يهرب وقال ‪ (( :‬ل آمن عليك من أم الولد فعسى أن ينالك منها مكروه )) ‪.‬‬
‫وكانت الرابطة بي الصغي والكبي ف الجتمع السلمي مؤسسة على تعاليم الشرع ((‬
‫من ل يرحم صغينا ول يوقر كبينا فليس منا )) ‪.‬‬
‫ومن خصائص الضارة الشرقية الطراد ف الياة والحافظة على لون واحد والتظاهر‬
‫بظهر واحد ‪ ،‬فكان الرجل إذا شرع ف أمر وتظاهر بظهر واصله إل غايته ‪ ،‬وإذا اتذ عادة‬
‫‪206‬‬
‫أو شارة ف اللباس أو عامل أحدا نوع معاملة واظب عليه إل آخر أنفاسه ‪ ،‬ل تؤثر ف ذلك‬
‫الوادث ول تغيه الفصول ول انراف الصحة ول الكسل ول الصال ‪.‬‬
‫ول يكن العمدة ف حياة السرة والقبائل ول يكن اليزان ف التوقي والشرف هو كثرة‬
‫الال فيختلف الستوى الال ف أسرة اختلفا كبيا ‪ ،‬ويتفاوت الرجال ف قبيلة أو قوم تفاوتا‬
‫عظيما ف الال والاه ‪ ،‬فهذا سريٌ مثر وذلك فقي معدم ‪ ،‬ول يكن يستطيع أحد أن يفرق‬
‫بينهم ويرفع بعضهم فوق بعض لجل التفاوت القتصادي ف متمعات السر والبيوتات‬
‫والآت ( بعناها اللغوي ) فإذا شم أحد رائحة الفرق أو نظرة الزدراء ‪ ،‬ثار كالليث ‪ ،‬أو إذا‬
‫بدرت بادرة من الضيف تنم عن هذا الفصل انسحبت السرة كلها من الضيافة وقاطعوا أهل‬
‫الضيافة ‪ ،‬وكانوا يدا واحدة مع أخيهم الهضوم ‪.‬‬
‫وكان الفقي الصعلوك ف قبيلة يواجه الغنياء واللوك من تلك القبيلة برأة وهو معتز‬
‫بنفسه معتد بشرفه ل يرى ف نفسه نقيصة لجل فقر ‪ ،‬وكان الغن أو اللك يكرمه ويله‬
‫الحل اللئق بشرفه ونسبه وفضيلته الذاتية ‪ ،‬بصرف النظر عن رثاثة هيئته وتبذله ‪ ،‬والزمة‬
‫القتصادية الطارئة على كرم عنصره وصفاء معدنه وطيب منبته ومتانة دينه ووفور علمه ‪.‬‬
‫وكان الفقي ف ذلك يبالغ كثيا ف إخفاء عسرته وضنك معيشته ويتحمل ويتجلد ‪،‬‬
‫ويسوءه أن يفطن أحد إل فاقته ورقة حاله ‪.‬‬
‫وكان ضمي الر عزيزا مترما كدينه وعرضه ‪ ،‬ل يساوم عليه ول يباع بأي ثن ‪ ،‬وكان‬
‫الواحد يفضل الوت الحر على كذبة أو خيانة يلص با نفسه من الوت ‪.‬‬
‫وقد روى لنا التاريخ الندي طرائف ف هذا الباب لبد أن تكون أمثلتها متوافرة ف تاريخ‬
‫جيع البلد السلمية ‪ :‬منها أن الشيخ رضي ال البداون اتم بالشتراك ف الثورة على‬
‫النليز عام ‪ 1857‬وحوكم أمام حاكم إنليزي كان من تلميذه ‪ ،‬فأوعز إليه الاكم على‬
‫لسان بعض الصدقاء أن يحد التام فيطلقه ‪ .‬ولكن الشيخ أب وقال ‪ :‬قد اشتركت ف‬
‫الروج على النليز فكيف أجحد ؟ واضطر الاكم فحكم عليه بالعدام ‪ ،‬ولا قدم للشنق‬
‫بكى الاكم وقال له ‪ :‬حت ف هذه الساعة لو قلت مرة ‪ :‬إن القضية مكذوبة عليّ وإن بريء‬
‫لجتهدت ف تليصك ‪ ،‬فغضب الستاذ وقال ‪ :‬أتريد أن أحبط عملي بالكذب على نفسي ؟‬
‫‪207‬‬
‫لقد خسرت إذا وضل عملي‪ ،‬بل قد اشتركت ف الثورة فافعلوا ما بدا لكم‪ ،‬وشنق‬
‫الرجل !!‪.‬‬
‫ول يكن صدقهم واعترافهم با يعملون ويعتقدون مقتصرا على ما يتصل بأنفسهم ‪ ،‬بل‬
‫كانوا صادقي فيما يتصل بالمة والشعب ‪ ،‬فلم يكونوا يعرفون العصبية النسية والوطنية‬
‫والنف القومي الذي أصبح اليوم من واجبات النسية والوطنية ‪ ،‬وكانوا يعدون الكذب‬
‫وشهادة الزور لجل المة والوطن واللة رذيلة وإثا كبيا ‪ .‬وكانوا يعتقدون أن أحكام‬
‫الشرع تعم الفرد والمة والمور الشخصية والجتماعية وكانوا متمسكي بقول تعال ‪{ :‬يَا‬
‫أَّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُوْا َقوّامِيَ بِالْ ِقسْطِ ُش َهدَاء لِلّهِ َوَلوْ َعلَى أَن ُفسِ ُكمْ َأ ِو الْوَالِدَيْنِ وَالَقْرَبِيَ }‬
‫الية ‪ ،‬وقوله ‪َ { :‬ولَ َيجْرِمَنّكُمْ شَنَآ ُن َقوْمٍ عَلَى َألّ تَ ْع ِدلُواْ ا ْعدِلُواْ ُهوَ َأقْرَبُ لِلتّ ْقوَى وَاتّقُواْ اللّهَ‬
‫} وقوله ‪ { :‬وَِإذَا حَ َكمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَن َتحْ ُكمُواْ بِالْعَدْلِ } وقوله ‪ { :‬وَإِذَا قُلُْتمْ فَا ْع ِدلُواْ َولَوْ‬
‫كَانَ ذَا قُرْبَى } ‪.‬‬
‫وما يروي لنا الشيوخ من ذلك ‪ :‬أنه وقع نزاع بي النادك والسلمي ف قرية كاندهلة‬
‫من مديرية (( مظفر نكر )) ف الوليات التحدة الندية على أرض ‪ ،‬فادعى النادك أنا معبد‬
‫لم ‪ ،‬والسلمون أنا لم مسجد ‪ .‬وتاكموا إل حاكم البلد النليزي ‪ ،‬فسمع الاكم القضية‬
‫ودلئل الفريقي ول يطمئن إل نتيجة ‪ ،‬فسأل النادك ‪ :‬هل يوجد ف القرية مسلم تثقون‬
‫بصدقه وأمانته أحكم على رأيه ؟ قالوا ‪ :‬نعم ‪ ،‬فلن ؛ وسوا شيخا من علماء السلمي‬
‫وصاليهم ‪ ،‬فأرسل إليه الاكم وطلبه إل الحكمة ‪ ،‬فلما جاءه الرسول قال ‪ :‬قد حلفت أن‬
‫ل أرى وجه إفرني ‪ ،‬ورجع الرسول فقال الاكم ‪ :‬ل بأس ‪ ،‬ولكن احضر وأدل برأيك ف‬
‫القضية ‪ ،‬فحضر الشيخ وول دبره إل الاكم وقال ‪ :‬الق مع النادك ف هذه القضية ‪،‬‬
‫والرض لم ‪ .‬وبذلك قضى الاكم وخسر السلمون القضية ‪ ،‬ولكن كسبوا قلوب النادك‬
‫وأسلم منهم جاعة ‪.‬‬
‫وكذلك كان الناس يعدون العلم عارية مقدسة ووديعة من ال ل يبيعونه كسلعة ف‬
‫السوق ‪ ،‬ول يتعاونون به على إث آث وعدوان معتد ‪ ،‬وكانوا ل يرضون أن يستعي به نظام‬
‫جائر أو حكومة غي إسلمية ‪.‬‬
‫‪208‬‬
‫وما حكى لنا الثقات وقرأناه ف التاريخ أن الشيخ عبدالرحيم الرامبوري ( م ‪1234‬‬
‫هـ) كان يعمل ف بلدة رامبور براتب زهيد يتقاضاه كل شهر من المارة السلمية ل يزيد‬
‫على عشر روبيات ( أقل من جنيه مصري ) فقدم إليه حاكم الولية النليزي الستر هاكنس‬
‫وظيفة عالية ف كلية بريلي راتبها مائتان وخسون روبية ( تسعة عشر جنيها مصريا ) ‪،‬‬
‫وذلك يساوي خسي جنيها ف هذا العهد ‪ ،‬ووعد بالزيادة ف الراتب بعد قليل ‪ ،‬فاعتذر‬
‫الشيخ عن قبوله وقال ‪ :‬إن أتقاضى عشر روبيات وإنا ستنقطع إذا تولت إل هذه الوظيفة ‪.‬‬
‫فتعجب النليزي وقال ‪ :‬ما رأيت كاليوم ‪ :‬أنا أقدم راتبا يزيد على راتبك الال بأضعاف‬
‫أضعاف ‪ ،‬وتترك الضعاف الضاعفة وتقنع بالنر اليسي !‪ .‬فتعلل الشيخ بأن ف بيته شجرة‬
‫سدر وهو مغرم بثمرها وأنه سيحرمها إذا أقام ف بريلي ‪ .‬ول يفطن النليزي بعد إل مقصود‬
‫الشيخ ‪ .‬فقال ‪ :‬أنا زعيم بأن هذا الثمر يصل إليك من رامبور إل بريلي ‪ ،‬فتشبث ثالثة بأن‬
‫حوله طلبة وتلميذ يقرؤون عليه ف بلده فلو انتقل إل هذه الوظيفة انقطعت دروسهم ‪ .‬ول‬
‫ييأس النليزي الناقش من إقناعه فقال ‪ :‬أنا أجري لم جرايات ف بريلي ويواصلون‬
‫درووسهم هناك ‪ ،‬وهنا أطلق الشيخ آخر سهامه الذي أصمى رميته فقال ‪ :‬وماذا يكون‬
‫جواب غدا إذا سالن رب ‪ :‬كيف أخذت الجرة على العلم ؟ وهنا بت النليزي وسقط ف‬
‫يديه وعرف نفسية العال السلم ‪ ،‬وقضى الشيخ حياته على أقل من جنيه يأخذه كل شهر ‪.‬‬
‫قارن هذه الروح السامية والنفس الكبية الت تربا بالعلم أن يباع بيع السلع ‪ ,‬و تغار على‬
‫العقيدة والكرامة أن تشترى بال أو منفعة ‪ ,‬بذا التبذل والسفاف الذي وصل إليه أهل العلم‬
‫والعقل والصناعة ف هذا الزمان ‪ ,‬فقد عرض كثي من علمهم وعقلهم وما يسنونه كالسلع‬
‫ف السواق ‪ ،‬يبيعونا بالناداة ( الزاد العلن ) ليشتريها من يزيد ف الثمن كائنا من كان ‪،‬‬
‫فليس الشأن عندهم ف العقيدة ول ف الغرض والنتيجة ول ف اللءمة والذوق ‪ ،‬إنا الشأن‬
‫عندهم ف الثمن الذي يدفعه الشتري ‪.‬‬
‫وكل يوم نطلع على مضحكات مبكيات ف هذا الباب ‪ ،‬فهذا الستاذ كان أمس ف‬
‫معهد إسلمي يدرس العلوم السلمية والتاريخ السلمي ‪ ،‬وقدمت غليه الكلية الكاثوليكية‬
‫الفلنية وظيفة تدريس براتب يزيد على راتبه السابق بمسة جنيهات فانتقل إليها ‪ ،‬وهذا‬
‫‪209‬‬
‫السيد فلن كان ف وزارة العارف سابقا ‪ ،‬وكان شابا مثقفا وعالا له هوى ف التحقيق‬
‫والدراسة ‪ ،‬تقرأ له مقالت علمية ف الجلت الراقية ‪ ،‬فإذا به ينتقل فجأة إل مصلحة الطيان‬
‫أو الذاعة ‪ ،‬وسألناه ‪ :‬ماذا حدث له حت غي طريقه وقلب تيار حياته ؟ فأخبنا أن ذلك‬
‫لجل أنه يربح ف مركزه الديد عشرة جنيهات ‪ ،‬وهذا البحاثة الفلن كتب مقالة عن‬
‫التصوف السلمي ونال با ثناء أهل العلم قد تول إل وزارة الارجية أو أصبح ترجان دولة‬
‫أوروبية ‪ ،‬وما هو إل لجل زيادة بقدار بضعة جنيهات ‪ ،‬أوليس هذا لن الربح الال قد‬
‫أصبح كل شيء ‪ ،‬ولن الذهب اللماع أصبح التصرف الوحيد ف مناهج الياة والسيطر‬
‫الوحيد على الرواح والعقليات ؟! ‪.‬‬
‫قرأنا ف التاريخ السلمي أن النصور الليفة العباسي الشهور طلب من ابن طاوس ف‬
‫ملس أن يناوله الدواة ليكتب شيئا فامتنع ‪ ،‬فسأله الليفة عن سبب امتناعه وعدم امتثاله أمر‬
‫خليفة السلمي ‪ ،‬فقال ‪ :‬أخاف أن تكتب با معصية فأكون شريكك فيها ومتعاونا على الث‬
‫والعدوان ‪ .‬إل هذا الد وصل بم تسكهم بقوله تعال ‪ { :‬وَتَعَاوَنُواْ َعلَى اْلبّ وَالتّ ْقوَى َولَ‬
‫تَعَاوَنُواْ عَلَى الِْثمِ وَالْعُ ْدوَانِ } أما امتناعهم عن قبول منصب القضاء ف نظام ل يرضونه ول‬
‫يرتاحون إل سيه وتفاصيله فرواياته بلغت حد التواتر ‪ ،‬واطردت ف أدوار الياة السلمية‬
‫الول ‪.‬‬
‫قارن هذا الحتراس من التعاون على الث والعدوان ‪ ،‬وهذا التعفف عن الشاركة ف نظام‬
‫غي صحيح ‪ ،‬والمتناع من أدن مساعدة لدف ل يتفق ومصال المة السلمية أو يعود‬
‫عليها بالضرر أو فيه غش وخديعة للمة ‪ .‬قارن كل ذلك بذه الساعدة والتعضيد الذي تتمتع‬
‫به الكومات الوربية من السلمي ‪ ،‬وهذا الذكاء واللباقة والقلم البليغ واللسان الذلق الذي‬
‫ينتفع به الجانب منهم ف مصالهم وإداراتم ‪.‬‬
‫فهنالك شبانٌ مسلمون وكتاب بارعون يتولون ترير الصحف والجلت الت تصدرها‬
‫الكومات الجنبية لنشر دعايتها ف بلد السلمي والتأثي ف عقليتهم ونفسيتهم وتويه‬
‫القائق بقدرة الأجورين من السلمي أنفسهم ‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫وهنالك جاعة من (( الفاضل )) ينحدرون من أصول عربية صميمة ‪ ،‬وينتمون إل‬
‫بيوتات عريقة ف الجد والخلص والسلم ‪ ،‬قد جاهد آباؤهم ف سبيل الق ومق الباطل ‪،‬‬
‫وبقيت نسبتهم ف أسائهم تروي لنا تاريا ميدا عن آبائهم حافلً بلئل الهال ‪ ،‬وجرى‬
‫دمهم ف عروقهم ‪ ،‬وظهر ف ملمح وجوههم وتقاطيعها ‪ ،‬يشتغلون اليوم ف الكومات‬
‫الجنبية ‪ ،‬ويستعملون تلك اللغة الضرية الفصحى الت نزل با القرآن الكري ‪ ،‬والت تكلم با‬
‫رسل السلمي ف مالس ملوك فارس والروم ‪ ،‬فأدوا با رسالة السلم ‪ ،‬وألقوا الهابة ف‬
‫قلوبم ‪ ،‬والت ألقى با القواد السلمي خطب الهاد ‪ ،‬بذه اللغة الكرية الت ل تليق إل‬
‫للبطولة السلمية ‪ ،‬وبتلك الكلمات الفصيحة الرائعة الت ل تمل إل ف مواضع الق والهاد‬
‫‪ ،‬ينشر هؤلء دعاية الكومات الجنبية الت تعبث بالسلمي عبث اللعب بالكرة ‪ ،‬أو عبث‬
‫الوليد بانب القرطاس ‪ ،‬وقد رزأتم ف سياستهم واستقللم وإيانم وعقلهم واقتصادهم ‪،‬‬
‫ولم أعمال من دون ذلك هم لا عاملون ‪.‬‬
‫قد سعنا منهم أن هذه الكومات تقوم بهود نبيلة لي العروبة والسلم ورفع شأنم ‪.‬‬
‫وأنا (( نور الرية الوضاء ف عال ساده الظلم الدامس )) ‪ ،‬وقد سعناهم يشيدون‬
‫(( بالدمات اللى والساعدات العظيمة الت تقدمها الذاعة البيطانية ف سبيل نضة القطار‬
‫العربية وتوحيد تفكيها وثقافتها وتوثيق الروابط بينها ‪ ،‬وما تقوم به من نشر الثقافة العربية‬
‫السلمية ‪ ،‬وتعريف السلمي بتاريهم الجيد ومدنيتهم الزاهرة ‪ ،‬وإطلع العال العرب على‬
‫حقائق المور ‪ ،‬وسي الوادث ف نزاهة وترد وصدق‪ )) )(251‬ولطالا سعناهم وقرأنا لم‬
‫إشادة بإيان هذه الكومات بالديقراطية الصحيحة وجهادها لتوطيد المن العام وسلم العال‬
‫وحرية المم الستضعفة والبلد الهضومة ‪ ،‬ورفعها لراية العدل والساواة ‪ ،‬والخذ للمظلوم‬
‫من الظال ‪ ،‬وقيامها للحق ‪ ..‬ال ‪.‬‬
‫فأن كان هؤلء التحدثون ل يرضى ضميهم با يقولون ‪ ,‬ويعرفون أن هذه الكلمات ف‬
‫غي ملها ‪ ,‬وإنا هو كله لصالهم الالية ‪ ,‬فيالنطاط النفس الشريفة ‪ ,‬ويا لرخص السلعة‬
‫الغالية ‪ ,‬ويا ضيعة الكلمات العامرة بالعان ‪ ,‬ويا شقاء اللغة العربية بأهلها !‪0‬وإذا كان ذلك‬

‫(‪(251‬‬
‫الكلمات التي بين القوسين منقولة لفظاً ‪.‬‬
‫‪211‬‬
‫عن اعتقاد وثقة وفهم للمعن ‪ ,‬فيا جهلً بالقائق ‪ ,‬ويا إنكارا للمحسوس ‪ ,‬ويا مسخا‬
‫للقلوب !‪0‬‬
‫وهذا عصر التناقض فيكتب أديب أو صحاف اليوم كتابا حاسيا ف سية بطل من أبطال‬
‫الهاد السلمي ‪ ,‬أو مدد من مددي السلم ‪ ,‬ول يف مداد مقالته أو كتابه ذلك حت‬
‫يكتب بقلمه تقريظا أو ثناء على خائن من خونة المة ‪ ,‬أو صنيعة من صنائع الجانب‬
‫لصلحة سياسية ومنفعة مالية ‪ ,‬ول يرى ف ذلك تناقضا ‪.‬‬
‫طلب ملك من ملوك العرب من شاعر عرب فرسه ‪ ,‬فاعتذر أن يعطيها بأي ثن كان‬
‫وقال ‪:‬‬
‫أبيت اللعن إن سكاب علق *** نفيس ل تعار ول تباع‬
‫ولكن كأن الضمي عند هؤلء الذين يشتغلون ف الكومات الجنبية ‪ ،‬أو يذيعون من‬
‫مطاتا ما ل يرضى به ضميهم ول يصدق علمهم ‪ ،‬أو يصدرون صحفا ‪ ،‬أو يؤلفون كتبا‬
‫على جعالة أو راتب شهري ؛ أذل وأرخص من جواد الاهلي فهو يعار ويباع ‪ ،‬وذلك ل‬
‫يكن لعيار ول ليباع ‪.‬‬
‫وكانت الروابط والواصر ف الشرق – ف الغالب – قائمة على أساس غي مادي إما‬
‫عقلي وإما روحي ووجدان ‪ ،‬وكان للثرة والنانية فيها نصيب ضئيل ‪ ،‬وكان نتيجة ذلك‬
‫وجود روابط وأواصر ل يكن تعليلها بالادة وجر النفع إل أصحابا ‪ ،‬وكانت هذه الروابط‬
‫متغلغلة ف الحشاء ؛ فمن ذلك أن علقة التلميذ بأستاذه وإخلصه وحبه له ف العهد‬
‫السابق ‪ ،‬يزري بعلقة الولد بوالده وحبه له ف هذا العصر ‪.‬‬
‫اشتهر نبأ وفاة الستاذ الشهي العلمة نظام الدين اللكهنوي ( م ‪ 1161‬هـ ) صاحب‬
‫منهاج الدرس النظامي الاري تطبيقه ف الند وخراسان ‪ ،‬فلما أتى النعي تلميذه السيد كمال‬
‫الدين العظيما بادي ‪ ،‬مات من شدة الزن ‪ ،‬وعمي تلمذه الخر (( ظريف العظيما بادي ))‬
‫من كثرة البكاء ‪ ،‬وتقق بعد ذلك أن الشاعة كانت غي صحيحة‪ ، )(252‬ولعل ذهن هذا‬

‫(‪(252‬‬
‫نزهة الخواطر للشيخ عبدالحي الحسني ( المجلد السادس ( ‪.‬‬
‫‪212‬‬
‫العصر ل يسيغ هذه الرواية ‪ ،‬ولكن الذي عرف طبيعة الشرق ‪ ،‬ومدى اتصال التلميذ هنالك‬
‫بأستاذه وحبه له ل يستغرب هذه الرواية ول يكذبا ‪.‬‬
‫يعلم الطلع على تاريخ الخلق وفلسفتها أنه قد ظهرت مدرسة ف أوربا قبل السيح‬
‫بأربعة قرون ‪ ،‬وكان لا أنصار من كبار الفلسفة والخلقيي إل القرن التاسع عشر السيحي‬
‫‪ ،‬تدين باللذة البدنية وتعتقد أنا ميزان للخلق ومعيار العمال ‪ ،‬وتشي على أتباعها بأن‬
‫يهتبلوا فرص التمتع بالياة الدنيا ويغتنموا فلتات الدهر ‪.‬‬
‫وافترق أصحاب هذه الدرسة فرقتي ؛ فمنهم ؛( أولو الثرة ) الذين يقولون ‪ :‬ينبغي أن‬
‫ل يول بي النسان وشهواته حائل حت ل يدع حاجة ف نفسه إل قضاها ‪ ،‬فينال بذلك‬
‫النصيب الكب من اللذة والناءة وقالوا ‪ :‬السعادة هي إرضاء الشهوة وقضاء مآرب النفس‬
‫واقتطاف قطوف السرة واللذة باليدين ‪.‬‬
‫والفرقة الثانية هم ( النفعيون ) ويرى أهل هذا الذهب أن الواجب هو تصيل النفعة الت‬
‫ينال با أكب عدد من أفراد البشر أوفر قسط من اللذة والناء ‪ ،‬ول وزن للفعال اللقية ف‬
‫نظرهم إل با تأت به السرة لغالب بن النوع ‪ ،‬ويرى هؤلء أن السعادة هي أن تتوافر للناس‬
‫بأعمالم اللذات وتبعد عنهم اللم ‪.‬‬
‫ويرى القارئ ويلمس الروح الادي التعشق للذة والناء ف آراء هذا الذهب ونزعاته من‬
‫أحطها وأكثرها إسفافا إل أرقاها وأكثرها تليقا ‪ ،‬وهذا يتلف عن طبائع الشرق وشرائع‬
‫السماء اختلفا بينا ‪ .‬وقد أثرت هذه النعة الادية ف فلسفة الغرب وأخلقه وأدابه وحضارته‬
‫تأثيا عميقا ‪ ،‬ول تزال مهيمنة على الياة الغربية وآدابا حت اليوم ‪.‬‬
‫ث نزعوا دائما ف تشخيص النفعة ووزنا إل الادية لنم احتكموا فيها إل أذهانم‬
‫وعقولم ‪ ،‬وقد أصبحت مادية بتة ‪ ،‬لنا بقيقة ل تأت تت الس أو الساحة أو العد أو‬
‫الوزن‪ ،‬ول تؤمن بنفعة ل تلب لذة وهناء‪ ،‬حت مؤسس هذا الذهب ((أبيقور م ‪271‬ق‪.‬م))‬
‫صرح بأن مناط الكم على العمال هي النفعة ‪ ،‬وأن النفعة ل قيمة لا إل إذا اجتلبت لذة‬
‫واغتباطا ‪ ،‬فكيف وقد تدرجت العقول والطبائع الغربية ومردت على النوع الادي على‬
‫تعاقب الجيال والعصور ؟! ‪.‬‬
‫‪213‬‬
‫فكان نتيجة ذلك أن الذهن الغرب والنطق العصري أصبحا عاجزين عن الهتداء إل‬
‫منفعة غي مسوسة ل تلب لذة واغتباطا ‪ ،‬وأصبح العقل الورب ماميا عن الادية ل يكم‬
‫على الخلق بالسن والصحة إل بقدار جلبها للمنافع الادية ‪ ،‬وبسب ما يكتسب الجتمع‬
‫بواسطتها من اللذة والناء ‪ ،‬والفراد من الغتباط والرخاء ‪ ،‬فأصبح الربح الادي هو اليزان‬
‫للخلق والفارق بي الشر والي ‪ ،‬وأصبحت الخلق الت ل وزن لا ف ميزان الادة ‪ ،‬ليس‬
‫لا قيمة إل القيمة الدينية أو اللقية ف الصطلح القدي ينتقص كل يوم سلطانا على القلوب‬
‫والعقول ‪ ،‬وتعدم أنصارا وتصبح من شعائر القدي وذكريات العهد الاضي كحنان البوين‬
‫وحبهما للولد ‪ ،‬ووفاء الزواج وحفظهن للغيب ‪ ،‬وتل مل هذه الخلق القدرة الصناعية‬
‫والختراع والنتاج والوطنية والنسية ول تزال ترتفع قيمتها ويرجع وزنا ‪.‬‬
‫ول يزال الجتمع العصري يستغن عن الروابط النلية والرحام الدموية والشرائع اللقية‬
‫بتنظيمات اجتماعية شعبية على الطوط السياسية والصناعية والقتصادية ‪ .‬ول يهم الجتمع‬
‫الن كيف يعامل الولد والده أو الزوجة زوجها إذا كان هؤلء الفراد ل يزالون ف الدائرة‬
‫الدنية الت اختطها الجتمع حول أفراده ؛ وما دام ل يدث عملهم هذا اضطرابا ف الجتمع‬
‫وثورة على النظام ول يعرقل سي الدينة فل بأس إذا كان هنالك عقوق من ولد أو فرك من‬
‫قرينة أو جفاء من زوج أو دعارة من امرأة أو فسق من رجل أو خيانة من زوجة ‪.‬‬

‫******************************‬

‫‪214‬‬
‫الباب الامس‬
‫قيادة السلم للعال‬
‫الفصل الول‬
‫نضة العال السلمي‬

‫اتاه العال بأسره إل الاهلية ‪:‬‬


‫لسباب تاريية عقلية ‪ ،‬طبيعية قاسرة ‪ ،‬ذكرناها ف البحوث السابقة ‪ ،‬تولت أوربا‬
‫النصرانية جاهلية مادية ‪ ،‬تردت من كل ما خلفته النبوة من تعاليم روحية ‪ ،‬وفضائل خلقية ‪،‬‬
‫ومبادئ إنسانية ‪ ،‬وأصبحت ل تؤمن ف الياة الشخصية إل باللذة والنفعة الادية ‪ ،‬وف الياة‬
‫السياسية إل بالقوة والغلبة ‪ ،‬وف الياة الجتماعية إل بالوطنية العتدية والنسية الغاشة ‪،‬‬
‫وثارت على الطبيعة النسانية ‪ ،‬والبادئ اللقية ‪ ،‬وشغلت باللت ‪ ،‬واستهانت بالغايات ‪،‬‬
‫ونسيت مقصد الياة ‪ ،‬وبهادها التواصل ف سبيل الياة وبسعيها الدائب ف الكتشاف‬
‫والختبار مع استهانتها الستمرة بالتربية اللقية وتغذية الروح وجحود با جاءت به الرسل ‪،‬‬
‫وبإمعانا ف الادية ‪ ،‬وبقوتا الائلة مع فقدان الوازع الدين ‪ ،‬والاجز اللقي ‪ ،‬أصبحت فيلً‬
‫هائجا ‪ ،‬يدوس الضعيف ‪ ،‬ويهلك الرث والنسل ‪ ،‬وبانسحاب السلمي من ميدان الياة‬
‫وتنازلم عن قيادة العال وإمامة المة ‪ ،‬وبتفريطهم ف الدين والدنيا ‪ ،‬وجنايتهم على أنفسهم‬
‫وعلى بن نوعهم ‪ ،‬أخذت أوربا بناصية المم ‪ ،‬وخلفتهم ف قيادة العال ‪ ،‬وتسيي سفينة الياة‬
‫والدنية الت اعتزل ربّانُها ‪ ،‬وبذلك أصبح العال كله – بأمه وشعوبه ومدنياته – قطارا سريعا‬
‫تسي به قاطرة الاهلية والادية إل غايتها ‪ ،‬وأصبح السلمون – كغيهم من المم – ركابا ل‬
‫يلكون من أمرهم شيئا ‪ ،‬وكلما تقدمت أوربا ف القوة والسرعة ‪ ،‬وكلما ازدادت وسائلها‬
‫ووسائطها ‪ ،‬ازداد هذا القطار البشري سرعة إل الغاية الاهلية حيث النار والدمار‬
‫والضطراب والتناحر والفوضى الجتماعي والنطاط اللقي والقلق القتصادي والفلس‬

‫‪215‬‬
‫الروحي ‪ ،‬وها هي أوربا تستبطئ الن أسرع قطار ‪ ،‬وتريد أن تصل إل غايتها بسرعة الطائرة‬
‫بل بسرعة القوة الذرية ‪.‬‬

‫استيلء الفلسفة الوربية على العال ‪:‬‬


‫وليس على وجه الرض اليوم أمة أو جاعة تالف المم الغربية ف عقائدها ونظرياتا‬
‫وتزاحها ف سيها وتعارضها ف وجهتها وتناقشها ف مبادئها وفلسفتها الاهلية ‪ ،‬ونظام‬
‫حياتا الادي ل ف أوربا ول ف أمريكا ‪ ،‬ول ف أفريقية وآسيا ‪ ،‬والذي نرى ونسمع من‬
‫خلف سياسي ونزاع بي المم فإنا هو تنافس ف القيادة ‪ ،‬وتنازع فيمن يكون هو القائد إل‬
‫هذه الغاية الشتركة ‪ ،‬فدل الحور إنا كانت تكره أن يبقى اللفاء مستبدين بالقيادة العالية‬
‫منذ زمن طويل ‪ ،‬مستأثرين بوارد الرض وخيتا وأسواقها ومستعمراتا ‪ ،‬وبشرف السيادة‬
‫على العال وحدهم مع أنا ل تقل عنهم ف القوة والعلم والنظام والنبوغ والذكاء ‪ ،‬بل ربا‬
‫تفوقهم ‪ ،‬أما إنا كانت تريد أن تسي إل غاية أخرى وأن تقوم بدعوة السيح ‪ ،‬وتقيم ف‬
‫الرض القسط ‪ ،‬وأن تقود المم الدين والتقوى وتنصرف با وتتجه من الادية إل الروحانية‬
‫والخلق ‪ ،‬فهيهات هيهات ‪.‬‬
‫أما روسيا الشيوعية فليست إل ثرة الضارة الغربية ‪ ،‬قد أينعت وادركت ‪ .‬ول تتاز عن‬
‫الشعوب والدول الوربية إل أن روسية قد خلعت جلباب النفاق والزور ونفذت ما تزوره‬
‫وتبطنه المم الغربية منذ زمن طويل ‪ ،‬وتعتقده منذ قرون ف الخلق والجتماع ‪ ،‬وقد‬
‫استبطأت روسية سي هاتيك المم والدول ف سبيل اللاد واللدينية والباحية والادية‬
‫البهيمية فهي تريد أن تتول قيادة العال‪ ،‬وتسي بالمم النسانية سيا حثيثا إل ما وصلت إليه‪.‬‬

‫الشعوب والدول السيوية ‪:‬‬


‫أما الشعوب والدول السيوية والمم الشقية فهي ف طريقها إل الغاية الت وصلت إليها‬
‫شعوب أوربا ف الضارة والسياسة ‪ ،‬وتدين با تدين به هذه الشعوب ف الخلق والداب‬
‫والجتماع وتعتقد ما تعتقده عن الياة والكون ‪ ،‬وتتحلى به من سية وخلق وتذيب ‪ ،‬إل‬

‫‪216‬‬
‫أنا ل ترضى أن يتول أمرها النلء الجانب ويقيموا عليها الجر كما يقام على السفيه ‪،‬‬
‫وأن تكون للوربيي عليها دول وإمباطوريات ينعمون ف ظلها ويرتعون ف جنباتا ‪ ،‬ول‬
‫يكون لا مثلها ف الشرق وأفريقية وآسية ‪ ،‬ول تستمتع حت ف داخل بلدها با استمتع به‬
‫الوربيي ماديتهم وتنقم منهم أخلقهم وسيتم وتنعى عليهم فلسفتهم ومبادئهم فلعل ذلك‬
‫ل يطر منها على بال ‪ ،‬بل قد زين لا كل ما تتصف به المم الوربية فحل ف عينها ‪.‬‬
‫وكلما سنحت لذه المم فرصة الستقلل وملكت زمام أمورها تلت أخلقها ومبادئها‬
‫وظهرت سيتا الاهلية ف صورتا الطبيعية القيقية ‪ ،‬فإذا هي أفضع صورة وأبشعها ف‬
‫ل وتدميا ‪،‬‬ ‫التاريخ ‪ ،‬قساوة قلب وضراوة بالدم النسان وهتكا للعراض ونبا للموال وقت ً‬
‫وقد ظهرت من بعض هذه الشعوب السيوية على أثر استقللا من الكم الجنب فظائع‬
‫ومنكرات تستبشعها الوحوش والسباع وتستك منها الساع ‪ ،‬فقد عاملت بعض الشعوب‬
‫الواطنة بعصبية دينية وسياسية ‪ ،‬معاملة عز نظيها ف التاريخ ‪ ،‬رضعاء يقتلون ويُقطعون إربا‬
‫إربا ‪ ،‬ونساء تتك أعراضهن ث يقتلن من غي رحة ول حياء ‪ ،‬وآبار تسمم وبيوت تدم‬
‫ونيان تشعل وقنابل تقذف ‪ ،‬وإذا دخلوا قرية فاتي منتشرين أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها‬
‫أذلة ووضعوا فيها السيف ‪ ،‬وعاث الوحوش ف الدماء والعراض حت أقفرت القرى ‪،‬‬
‫وامتلت البار بالسيدات اللت آثرن الوت على هتك العراض ‪ ،‬هذا عدا نساء قتلن بمجية‬
‫وطرق فظيعة ل تسبق ف التاريخ ‪ ،‬إل غي ذلك من الفاعيل الت يشك فيها الناس ف البلد‬
‫السلمية والتحضرة ‪.‬‬
‫هذا غي ذلك الضطهاد الدين والقاطعة الجتماعية الت تلقاها تلك الطوائف ف‬
‫بلدها ‪ ،‬وما تلقى ثقافتها وديانتها من مطاردة ومهاجة من تلقاء هذه الشعوب فتحرم الرية‬
‫الثقافية واللسانية وترغم على لغة مصطنعة دائرة ‪ ،‬وياول القوياء أن يحوا كل أثر من آثار‬
‫حضارتا وثقافتها ويتلقوا عليها الكاذيب والنايات ‪ ،‬ويثلوا قصة المل والذئب كل يوم ‪،‬‬
‫فيعزل رجالا من الوظائف وتسد ف وجوههم أبواب العاش والتجارة والرف ‪ ،‬وتقفل‬
‫دكاكينهم ومالم التجارة وتصادر أملكهم وأموالم بعلل واهية مضحكة ‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫ث إن هذه المم أفلست إفلسا شائنا ف الدين والخلق ‪ ،‬وقد أشربت ف قلوبا حب‬
‫الال والادة ‪ ،‬وتسلط عليها شيطان الثرة والشع حت ضجت منها الكومات وتعبت ‪ ،‬فقد‬
‫ارتفعت السعار ارتفاعا فاحشا ‪ ،‬فلما التجأت الكومة إل التسعي اختفت السلع والموال ‪،‬‬
‫وأصبح الناس ل يدون كسوة ول طعاما ول حاجة إل بالسعر الذي يريده التاجر ‪ ،‬فنفقت‬
‫السوق السوداء وشاعت النايات واليانات والرتشاء والتهريب ‪ ،‬وأصبحت الكومة‬
‫والتجار كفرسي رهان أو قرن ميدان ‪ ،‬كل يريد أن يغلب صاحبه وينتهز غرته ‪ ،‬وأصبح‬
‫الناس حبة بي حجري الرحى ل يدرون كيف يفعلون ‪.‬‬
‫وقد حاول رجال الصلح والديانة أن ينفخوا ف هذه المم حياة جديدة ويبنوا فيها‬
‫روح الخلق والفضيلة والمانة والقتصاد فأخفقوا إخفاقا تاما ‪ ،‬وعملوا أن خلق أمة‬
‫بأسرها أهون من إصلح هذه المم وتذيبها وقد انقطعت مادتا وانقضى أجلها ‪.‬‬
‫وهكذا أصبح العال شرقا وغربا ف أزمة روحية وخلقية واجتماعية واقتصادية تطلب حلً‬
‫سريعا عاجلً ‪.‬‬

‫الل الوحيد للزمة العالية ‪:‬‬


‫والل الوحيد هو تول القيادة العالية وانتقال دفة الياة من اليد الثيمة الرقاء الت‬
‫أساءت استعمالا إل يد أخرى بريئة حاذقة ‪.‬‬
‫إن تول القيادة من بريطانيا إل أمريكا ومنهما جيعا إل روسيا ل يغن غناء ول يغي من‬
‫الوقف شيئا ‪ ،‬فإن هذا التحول ليس إل نقا الجداف من الوقف شيئا ‪ ،‬فإن هذا التحول ليس‬
‫إل نقل الجداف من اليمي إل الشمال إذا تعبت الول أو بالعكس ‪ ،‬فما دام الجداف‬
‫واحدا فل فرق بي يينه وشاله ‪ ،‬وليست بريطانيا وأمريكا وروسيا إل أيدي رجل واحد‬
‫تتداول دفة الياة ‪ ،‬وتتناوب تديف السفينة على خط واحد إل جهة واحدة ‪.‬‬
‫إن التحول الؤثر الواضح هو تول القيادة من أوربا – بالعن الواسع الذي يشمل بريطانيا‬
‫وأمريكا وروسيا ومن كان على شاكلتها من المم السيوية والشرقية – الت تقودها الادية‬

‫‪218‬‬
‫والاهلية ‪ ،‬إل العال السلمي الذي يقوده سيدنا صلى ال عليه وسلم برسالته الالدة ودينه‬
‫الكيم ‪.‬‬
‫هذا هو التحول الذي يغي وجه التاريخ ويول مرى المور وينقذ العال من الساعة‬
‫الرهيبة الت ترقبه ‪.‬‬
‫إن حقا على العال السلمي أن يُمن نفسه بذا النصب الطي ‪ ،‬ويطمح إليه ‪ ،‬وإن حقا‬
‫على كل بلد إسلمي وشعب إسلمي أن يشد حيازيه لذلك ‪ ،‬وإن حقا على كل مسلم أن‬
‫ياهد ف سبيله ويبذل ما ف وسعه ‪ ،‬فهذه هي الهمة الشريفة الت نيطت بالمة السلمية يوم‬
‫برزت إل عال الوجود ‪ ،‬ويوم طهرت نواتا ف جزيرة العرب ‪.‬‬

‫العال السلمي على أثر أوربا ‪:‬‬


‫من الغريب الواقع أن السلمي قد أصبحوا ف الزمن الخي ف كثي من نواحي الرض‬
‫حت ف مراكز السلم وعواصمه حلفاء للجاهلية الوربية وجنودا متطوعي لا ‪ ،‬بل صار‬
‫بعض الشعوب والدول السلمية يرى ف الشعوب الوربية الت تزعمت حركة الاهلية منذ‬
‫قرون ونفخت فيها روحا جديدة ‪ ،‬وركزت أعلمها على الشرق والغرب ‪ ،‬ناصرا للمسلمي‬
‫‪ ،‬حاميا لذمار السلم الستضعف ‪ ،‬حاملً لراية العدل ف العال قوّاما بالقسط ‪.‬‬
‫ورضي عامة السلمي بأن يكونوا ساقة عسكر الاهلية بدل أن يكونوا قادة اليش‬
‫السلمي ‪ ،‬وسرت فيهم الخلق الاهلية ومبادئ الفلسفة الوربية سريان الاء ف عروق‬
‫الشجر والكهرباء ف السلك ‪ ،‬فترى الادية الغربية ف البلد السلمية ف كثي من مظاهرها‬
‫وآثارها ‪ ،‬ترى تافتا على الشهوات ونما للحياة ‪ ،‬نم من ل يؤمن بالخرة ‪ ،‬ول يوقن بياة‬
‫بعد هذه الياة ‪ ،‬ول يدخر من طيباتا شيئا ‪ .‬وترى تنافسا ف أسباب الاه والفخار وتكالبا‬
‫عليها فعل من يغلو ف تقوي هذه الياة وأسبابا ‪ ،‬وترى إيثارا للمصال والنافع الشخصية‬
‫على البادئ والخلق ‪ ،‬شأن من ل يؤمن بن ول بكتاب ‪ ،‬ول يرجو معادا ‪ ،‬ول يشى‬
‫حسابا ‪ ،‬وترى حبا للحياة وكراهة للموت ‪ ،‬دأب من يعد الياة الدنيا رأس بضاعته ‪،‬‬
‫ومنتهى أمله ومبلغ علمه ‪ ،‬وترى افتتانا بالزخارف والظاهر الوفاء كالمم الادية الت ليس‬

‫‪219‬‬
‫عندها أخلق ول حقيقة حية ‪ ،‬وترى خضوعا للنسان ‪ ،‬واستكانة للملوك والمراء ورجال‬
‫الكومة والناصب وتقديسهم شأن المم الوثنية وَعََبدَ ِة الصنام ‪.‬‬

‫السلمون على علتم موئل النسانية وأمة الستقبل ‪:‬‬


‫ولكن برغم كل ما أصيب به السلمون من علة وضعف فإنم هم المة الوحيدة على‬
‫وجه الرض ‪ ،‬الت تعد خصيم المم الغربية وغريتها ومنافستها ف قيادة المم ‪ ،‬ومزاحتها ف‬
‫وضع العال ‪ ،‬والت يعزم عليها دينها أن تراقب سي العال وتاسب المم على أخلقها‬
‫وأعمالا ونزعاتا ‪ ،‬وأن تقودها إل الفضيلة والتقوى ‪ ،‬وإل السعادة والفلح ف الدنيا‬
‫والخرة ‪ ،‬وتول بينها وبي جهنم با استطاعت من القوة ‪ ،‬والت يرّم عليها دينها ويأب‬
‫وضعها وفطرتا أن تتحول أمة جاهلية ‪.‬‬
‫هذه هي المة الت يكن أن تعود ف حي من الحيان خطرا على النظام الاهلي الذي‬
‫بسطته أوروبا ف الشرق والغرب وأن تبط مساعيها ‪.‬‬
‫وقد وصف هذا الطر شاعر السلم الكيم (( ممد إقبال )) ف قصيدته البديعة ‪:‬‬
‫( برلان إبليس ) على لسان إبليس ‪ ،‬ذكر فيها أن الشيطان وزملء إبليس وأعوانه اجتمعوا ف‬
‫ملس شورى ‪ ،‬وتباحثوا ف سي العال وأخطار الغد وفتنة ‪ ،‬وما يتوجسون من خيفة على‬
‫نظامهم البليسي ومهمتهم الشيطانية ‪ ،‬فتذكروا ف فت وأخطار قد أحدقت بم وهددت‬
‫نظامهم ‪ ،‬وجللوا خطبها وتناذروا شرها ‪ ،‬فذكروا أحدهم المهورية وحسب لا حسابا‬
‫كبيا ‪ ،‬فقال الثان ‪ :‬ل يهولنك أمرها فإنا ليست إل غطاء للملوكية ‪ ،‬ونن الذين كسونا‬
‫اللوكية اللباس المهوري ‪ ،‬إذا رأينا النسان بدأ يتنبه ويفيق ويشعر بكرامته ‪ ،‬وخفنا ثورة‬
‫على نظامنا قد ل تمد عاقبتها ‪ ،‬فأليناه بلعبة المهورية ‪ ،‬وليس الشأن ف المي واللك ‪ .‬إن‬
‫اللوكية ل تنحصر ف وجود شخص ترتكز فيه اللوكية وفرد يستبد بالسلطان ‪ ،‬إنا اللوكية‬
‫أن يعيش النسان عيالً على غيه مستشرفا إل متاع غيه ‪ ،‬سواء ف ذلك الشعب والفرد ‪.‬‬
‫أما رأيت نظام الغرب المهوري وجه مشرق وضاح وباطنه أظلم من باطن جنكيز خان ؟ ‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫فقال الخر ‪ :‬ل بأس إذا بقيت روح اللوكية ‪ ،‬ولكن ماذا يقول النائب الحترم ف هذه‬
‫الفتنة الدهاء الت أثارها هذا اليهودي الذي يدعى كارل ماركس ذلك الباقعة الذي ليس نبيا‬
‫ولكنه يمل عند أتباعه كتابا مقدسا ‪ ،‬هل عندك نبأ أنه أقام العال وأقعده ‪ ،‬وأثار العبيد على‬
‫السادة حت تزعزعت مبان المارة والسيادة ؟ ‪.‬‬
‫فقال الخر ماطبا رئيس الجلس ‪ :‬يا صاحب الفخامة ‪ ،‬إن سحرة أوربا وإن كانوا‬
‫مريديك الخلصي ولكن ل أعد أثق بفراستهم ‪ ،‬ها هو السامري اليهودي الذي هو نسخة‬
‫من مزدك ( الزعيم الفارسي الشتراكي ) قد كاد يأت على العال بقواعده فاستنسر البغاث ‪،‬‬
‫وأصبح الصعاليك يزحون اللوك بالناكب ويدفعونم بالراح ( أعلم أرض جعلت بطائحا )‬
‫إنا قد استهنا بطب هذه الركة الشتراكية وها هي قد استفحلت نفاقم شرها ‪ ،‬وها هي‬
‫الرض ترجف بول فتنة الغد ‪ ،‬سيدي إن العال الذي كنت تكمه سينقض عليك ‪ ،‬إذا‬
‫ينقلب النظام العال ظهرا لبطن ‪.‬‬
‫فتكلم رئيس الجلس ( أبليس ) وقال ‪ :‬إن أملك زمام العال وأتصرف به كيف أشاء ‪،‬‬
‫وسيى العال عجبا إذا حرشت بي المم الوربية فتهارشت تارش الكلب ‪ ،‬وافترس بعضها‬
‫بعضا فعل الذئاب ‪ ،‬وإذا هست ف آذان القادة السياسيي وأساقف الكنائس الروحانيي‬
‫فقدوا رشدهم وجن جنونم ‪.‬‬
‫أما ما ذكرت عن الشتراكية فكونوا على ثقة أن الرق الذي أحدثته الفطر بي النسان و‬
‫النسان ليرفؤه النطق الزدكي (الفلسفة الشتراكية ) ل يوفن هؤلء الشتراكيون الطرداء‬
‫والصعاليك السفهاء ‪.‬‬
‫إن كنت خائفا فإن أخاف أمة ل تزال شرارة الياة والطموح كامنة ف رمادها ‪,‬ول‬
‫يزال فيها رجال تتجاف جنوبم عن الضاجع وتسيل دموعهم على خدودهم سحرا ‪ ،‬ل يفى‬
‫على البي التفرس أن السلم هو فتنة الغد وداهية الستقبل ‪ ،‬ليست الشتراكية ‪.‬‬
‫أنا ل أجهل أن هذه المة قد اتذت القرآن مهجورا ‪ ،‬وأنا فتنت بالال وشغفت بمعه‬
‫وادخاره كغيها من المم ‪ ،‬أنا خبي أن ليل الشرق داج مكفهر ‪ ،‬وأن علماء السلم‬
‫وشيوخه ليست عندهم تلك اليد البيضاء الت تشرق لا الظلمات ويضيء لا العال ‪ ،‬ولكن‬
‫‪221‬‬
‫أخاف أن قوارع هذا العصر وهزته ستقض مضجعها وتوقظ هذه المة وتوجهه إل شريعة‬
‫( ممد صلى ال عليه وسلم ) أن أحذركم وأنذركم من دين ( ممد صلى ال عليه وسلم )‬
‫حامي الذمار ‪ ،‬حارس الذمم والعراض ‪ ،‬دين الكرامة والشرف ‪ ،‬دين المانة والعفاف ‪،‬‬
‫دين الروءة والبطولة ‪ ،‬دين الكفاح والهاد ‪ ،‬يلغي كل نوع من أنواع الرق ‪ ،‬ويحو كل أثر‬
‫من آثار استعباد النسان ‪ ،‬ل يفرق بي مالك وملوك ‪ ،‬ول يؤثر سلطانا على صعلوك ‪،‬‬
‫يزكي الال من كل دنس ورجس ويعله نقيا صافيا ‪ ،‬ويعل أصحاب الثروة واللك‬
‫متسخلفي ف أموالم‪ )(253‬أمناء ل وكلء على الال ‪ .‬وأي ثورة أعظم وأي انقلب أشد‬
‫خطرا ما أحدثه هذا الدين ف عال الفكر والعمل يوم صرخ أن الرض ل ل للملوك‬
‫والسلطي ‪.‬‬
‫فابذلوا جهدكم أن يظل هذا الدين متواريا عن أعي الناس ‪ ،‬وليهنكم أن السلم بنفسه‬
‫هو ضعيف الثقة بربه قليل اليان بدينه ‪ ،‬فخي لنا أن يبقى مشتغلً بسائل علم الكلم‬
‫والليات وتأويل كتاب ال واليات ‪ ،‬اضربوا على آذان السلم فإنه يستطيع أن يكسر‬
‫طلسم العال ويبطل سحرنا بأذانه وتكبيه ‪ ،‬واجتهدوا أن يطول ليله ويبطئ سحره ‪ ،‬اشتغلوا‬
‫يا إخوان عن الد والعمل حت يسر الرهان ف العال ‪ .‬خي لنا أن يبقى السلم عبدا لغيه ‪،‬‬
‫ويهجر هذا العال ويعتزله ويتنازل عنه لغيه زاهدا فيه ‪ ،‬واستخفافا لطره ‪ ،‬يا ويلتنا ويا‬
‫شقوتنا لو انتبهت هذه المة الت يعزم عليها دينها أن تراقب العال وتعسّه ‪.‬‬

‫رسالة العال السلمي ‪:‬‬


‫ل ينهض العال السلمي إل برسالته الت وكلها إليه مؤسسه صلى ال عليه وسلم‬
‫واليان با والستماتة ف سبيلها ‪ ،‬وهي رسالة قوية واضحة مشرقة ‪ ،‬ل يعرف العال رسالة‬
‫أعدل منها ول أفضل ول أين للبشرية منها ‪.‬‬
‫وهي الرسالة نفسها الت حلها السلمون ف فتوحهم الول ‪ ،‬والت لصها أحد رسلهم‬
‫ف ملس يزدجرد ملك إيران بقوله ‪ (( :‬ال ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إل عبادة‬

‫(‪(253‬‬
‫ستَخَْلفِينَ فِيهِ } ‪ ( .‬الحديد (‬
‫جعََلكُم مّ ْ‬
‫{ َأَن ِفقُوا ِممّا َ‬
‫‪222‬‬
‫ال وحده ‪ ،‬ومن ضيق الدنيا إل سعتها ‪ ،‬ومن جور الديان إل عدل السلم )) رسالة ل‬
‫تتاج إل تغيي كلمة وزيادة حرف ‪ ،‬فهي منطبقة تام النطباق على القرن العشرين انطباقها‬
‫على القرن السادس السيحي ‪ ،‬كأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خرج السلمون من جزيرتم‬
‫لنقاذ العال من براثن الوثنية والاهلية ‪.‬‬
‫فل يزال الناس اليوم عاكفي على أصنام لم – من أوثان منحوتة ومنجورة ومقبورة‬
‫ومنصوبة – ول تزال عبادة ال وحده مغلوبة غريبة ‪ ،‬ول تزال الفتنة قائمة على قدم وساق ‪،‬‬
‫ول يزال إله الوى يعبد ‪ ،‬ول يزال الحبار والرهبان واللوك والسلطي وأصحاب القوة‬
‫والثروة والزعماء والحزاب السياسية أربابا من دون ال تقرب لا القرابي وينصب لا البي‪.‬‬
‫وكذلك العال اليوم رغم اتساعه وتوفر وسائل السفر والنتقال من مكان إل مكان ‪،‬‬
‫واتصال الشعوب والمم بعضها ببعض أضيق بأهله منه بالمس ‪ ،‬قد ضيقته الادية الت ل تنظر‬
‫إل إل قدمها ول تؤمن إل بفائدة صاحبها ‪ ،‬ول تعرف غي العكوف على الشهوات وعبادة‬
‫الذات ‪ ،‬وقد خنقته الثرة الت ل تسمح لثني بالعيش ف إقليم واسع ‪ ،‬والوطنية الضيقة الت‬
‫تنظر إل كل أجنب شزرا وتحد له كل فضل وترمه كل حق ‪.‬‬
‫ث ضيق خناق هذه الياة الادية السيطرون السياسيون الذين يتكرون وسائل الياة‬
‫والرزق والقوت ‪ ،‬ويضيقون هذه الياة لن شاؤوا ويسعونا لن شاؤوا ‪ ،‬ويبسطون الرزق –‬
‫زعموا – لن شاؤوا ويقدرونه لن شاؤوا ‪ ،‬فأصبحت الدن الواسعة أضيق من جحر ضب ‪،‬‬
‫وأصبح الناس ف بلدهم ف شبه حجر كحجر السفيه واليتيم وضاقت على الناس الرض با‬
‫رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ‪ ،‬وأصبح الناس ف أغلل وأصفاد من الدينة والملكة مُهددين‬
‫ف كل وقت بجاعات مصطنعة وحقيقية ‪ ،‬وحروب خارجية وداخلية ‪ ،‬وإضرابات‬
‫واضطرابات أسبوعية ويومية ‪.‬‬
‫نعم ومن جور الديان إل عدل السلم ! ول تزال ف هذا العصر التنور الواعي الثقف‬
‫أديان تعبث بعقول الناس وتسخرهم كالمي والبقر ‪ ،‬وتزين لتباعها قتل مئات من البشر‬
‫لجل بقرة ذبت ف عيد الضحى ‪ ،‬أو شجرة مقدسة عُضدت ف قرية من القرى ‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫وهنالك أديان بغي اسم الديان ل تقل ف نفوذها وسلطانا ول تقل ف جورها وعدوانا‬
‫وعبثها بعقول أتباعها وف عجائبها عن الديان القدية ‪ ،‬وهي والنظم السياسية والنظريات‬
‫القتصادية الت يؤمن با الناس كدين ورسالة ‪ ،‬كالنسية والوطنية ‪ ،‬والديوقراطية‬
‫والشتراكية ‪ ،‬والدكتاتورية والشيوعية ‪ ،‬وهي أقل مسامة لن ل يدين با وأشد قسوة على‬
‫منافسيها ‪ ،‬وأضيق عطفا من الديان الاهلية ‪ ،‬والضطهاد السياسي اليوم أفضع من‬
‫الضطهاد الدين ف القرون الظلمة ‪ ،‬فإذا تغلب حزب من الحزاب الوطنية أو ساد مبدأ من‬
‫البادئ السياسية ‪ .‬أو انتصر فريق على فريق ف النتخاب ‪ ،‬سد ف وجه منافسه البواب‬
‫وعذبه أشد العذاب ‪ ،‬وما حرب أسبانيا الهلية الت دامت مدة طويلة ‪ ،‬وسفكت فيها دماء‬
‫غزيرة ‪ ،‬وما حرب الصي الت قامت بي المهوريي والشيوعيي من أهل الصي ‪ ،‬وحرب‬
‫((كوريا)) الت قامت بي النوبيي والشماليي ‪ ،‬إل نتيجة اختلف ف العقيدة السياسية‬
‫والنظريات القتصادية ‪.‬‬
‫فرسالة العال السلمي هي الدعوة إل ال ورسوله واليان باليوم الخر ‪ ،‬وجائزته‬
‫الروج من الظلمات إل النور ‪ ،‬ومن عبادة الناس إل عبادة ال وحده ‪ ،‬والروج من ضيق‬
‫الدنيا إل سعتها ‪ ،‬ومن جور الديان إل عدل السلم ‪ ،‬وقد ظهر فضل هذه الرسالة وسهل‬
‫فهمها ف هذا العصر أكثر من كل عصر ‪ ،‬فقد افتضحت الاهلية وبدت سوآتا للناس واشتد‬
‫تذمر الناس منها ‪ ،‬فهذا طور انتقال العال من قيادة الاهلية إل قيادة السلم ‪ ،‬لو نض العال‬
‫السلم ‪ ،‬واحتضن هذه الرسالة بكل إخلص وحاسة وعزية ‪ ،‬ودان با كالرسالة الوحيدة‬
‫الت تستطيع أن تنقذ العال من النيار والنلل ‪.‬‬

‫الستعداد الروحي ‪:‬‬


‫ولكن العال السلمي ل يؤدي رسالته بالظاهر الدينة الت جادت با أوربا على العال ‪،‬‬
‫وبذق لغاتا وتقليد أساليب الياة الت ليست من نضة المم ف شيء ‪ ،‬إنا يؤدي رسالته‬
‫بالروح والقوة العنوية الت تزداد أوربا كل يوم إفلسا فيها ‪ ،‬وينتصر باليان والستهانة‬
‫بالياة والعزوف عن الشهوات ‪ ،‬والشوق إل الشهادة والني إل النة ‪ ،‬والزهد ف حطام‬

‫‪224‬‬
‫الدنيا وتمل الذى ف ذات ال صابرا متسبا قال ال تعال ‪َ { :‬ولَ َتهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن‬
‫تَكُونُواْ تَ ْأَلمُونَ فَإِّن ُهمْ َي ْألَمُونَ كَمَا تَ ْألَمونَ وَتَ ْرجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لَ يَرْجُونَ } فقوة الؤمن وسر‬
‫انتصاره ف إيانه بالخرة ورجائه لثواب ال ‪ ،‬فإذا كان العال السلمي ل يرمي إل إل ما‬
‫تراه أوربا من العرض القريب ‪ ،‬ول يطمح إل فيما تطمح فيه أوربا من حطام الدنيا ‪ ،‬ول‬
‫يؤمن إل با تؤمن به أوربا من الحسوسات والاديات ‪ ،‬كانت أوربا بقوتا الادية أحق‬
‫بالنتصار والسيادة من العال السلمي الذي يتخلف عنها ف القوة الادية تلفا شائنا ول‬
‫يفوقها ف القوة العنوية ‪.‬‬
‫لقد أتى على العال السلمي حي من الدهر وهو مستخف بذه القوة العنوية ل يتفل‬
‫با ‪ ،‬ول يتفظ بالبقية منها ‪ ،‬ول يغذيها ‪ ،‬حت نضب معينها ف قلبه ‪ ،‬فلما خاض العال‬
‫السلمي ف العارك الت تتاج إل اليان ‪ ،‬والصب والثبات ‪ ،‬وتمل الشدائد والنكبات ‪،‬‬
‫وزلزل بعض الزلزل ‪ ،‬ولأ إل القوة العنوية الكامنة ف نفوس السلمي ‪ ،‬كانت كسراب‬
‫بقيعة يسبه الظمآن ماء حت إذا جاءه ل يده شيئا ‪ ،‬هنالك عرف أنه قد جن على نفسه‬
‫جناية عظيمة بإهال هذه القوة الروحية وتضييعها ‪ ،‬وبث ف جعبته فلم يد شيئا يسد مكانا‬
‫ويغن غناءها ‪.‬‬
‫وخاض العال السلم ف معارك حاسة ‪ ،‬وهو يرى أن السلمي تقوم قيامتهم ‪ ،‬وسوف‬
‫يهرعون للدفاع عن السلم وحاية بلدهم القدسة ‪ ،‬ويغضبون ل ورسوله وحُرماته ‪ ،‬وإن‬
‫القطار السلمية تشتعل نارا وتتوقد حية وحاسة ‪ ،‬فإذا الادث ل يؤثر ف العال السلمي‬
‫التأثي النتظر ‪ ،‬وإذا النظر ضئيل والسخط خافت ‪ ،‬وإذا العال السلمي كعادته – ف غدواته‬
‫وروحاته – منهمك ف لذاته وشهواته ‪ ،‬كأن ل يدث كبي شيء ‪ ،‬فعرف أن الملة الدينية‬
‫قد ضعفت ف العال السلمي ‪ ،‬وأن شعلة الهاد قد انطفأت أو كادت ‪ ،‬وهنالك عرف‬
‫الناس ضعف العال السلمي وخذلنه وهوأنه على أنفسهم ‪.‬‬
‫فالهم الهم لقادة العال السلمي ‪ ،‬وجعياته وهيئاته الدينية وللدول السلمية غرس‬
‫اليان ف قلوب السلمي وإشعال العاطفة الدينية ‪ ،‬ونشر الدعوة إل ال ورسوله ‪ ،‬واليان‬
‫بالخرة على منهاج الدعوة السلمية الول ‪ ،‬ل تدخر ف ذلك وسعا ‪ ،‬وتستخدم لذلك‬
‫‪225‬‬
‫جيع الوسائل القدية والديثة ‪ .‬وطرق النشر والتعليم ‪ ،‬كتجوال الدعاة ف القرى والدن ‪.‬‬
‫وتنظيم الطب والدروس ‪ ،‬ونشر الكتب والقالت ‪ ،‬ومدارسة كتب السية ‪ ،‬وأخبار‬
‫الصحابة ‪ ،‬وكتب الغازي والفتوح السلمية ‪ ،‬وأخبار أبطال السلم وشهدائه ‪ ،‬ومذاكرة‬
‫أبواب الهاد ‪ ،‬وفضائل الشهداء ‪ ،‬وتستخدم لذلك الراديو والصحافة وكتب الدب ‪ ،‬وجيع‬
‫القوى والوسائل العصرية ‪.‬‬
‫والقرآن وسية ممد صلى ال عليه وسلم قوتان عظيمتان تستطيعان أن تشعل ف العال‬
‫السلمي نار الماسة واليان ‪ ،‬وتدثا ف كل وقت ثورة عظيمة على العصر الاهلي ‪،‬‬
‫وتعل من أمة مستسلمة ‪ ،‬منخذلة ناعسة ‪ ،‬أمة فتية متلهبة حاسة وغية وحنقا على الاهلية‬
‫وسخطا على النظم الائرة ‪.‬‬
‫أن علة العال السلمي هو الرضا بالياة الدنيا والطمئنان با ‪ ،‬والرتياح إل الوضاع‬
‫الفاسدة والدوء الزائد ف الياة ‪ ،‬فل يقلقه فساد ‪ ،‬ول يزعجه انراف ‪ ،‬ول يهيجه منكر ‪،‬‬
‫ول يهمه غي مسائل الطعام واللباس ‪ ،‬ولكن بتأثي القرآن والسية النبوية – إن وجدا إل‬
‫القلب سبيل – يدث صراع بي اليان والنفاق ‪ ،‬واليقي والشك ‪ ،‬بي النافع العاجلة والدار‬
‫الخرة ‪ ،‬وبي راحة السم ونعيم القلب ‪ ،‬وبي حياة البطالة وموت الشهادة ‪ ،‬وصراع أحدثه‬
‫كل نب ف وقته ‪ ،‬ول يصلح العال به ؛ حينئذ يقوم ف كل ناحية من نواحي العال‬
‫السلمي ‪ ،‬بل ف كل أسرة إسلمية ف كل بلد إسلمي {فِتْيَةٌ آمَنُوا ِبرَّبهِمْ َوزِدْنَا ُهمْ ُهدًى{‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ لَن ّندْ ُعوَ مِن دُونِهِ ِإلَها‬
‫‪َ }13‬ورَبَطْنَا عَلَى قُلُوِبهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبّنَا رَبّ ال ّ‬
‫لَقَ ْد قُلْنَا إِذا َشطَطا }‬
‫هنالك تتجدد ذكرى بلل ‪ ،‬وعمار ‪ ،‬وخباب ‪ ،‬وحبيب ‪ ،‬وخُبيب ‪ ،‬ومصعب بن‬
‫عمي ‪ ،‬وعثمان بن مظعون ‪ ،‬وأنس بن النضر ‪ ،‬هنالك تفوح روائح النة ‪ ،‬وتب نفحات‬
‫القرن الول ‪ ،‬ويولد للسلم عال جديد ل يشبه العال القدي ف شيء ‪...‬‬

‫الستعداد الصناعي والرب ‪:‬‬

‫‪226‬‬
‫ولكن مهمة العال السلمي ل تنتهي هنا ‪ ،‬فإذا أراد أن يضطلع برسالة السلم ويلك‬
‫قيادة العال فعليه بالقدرة الفائقة ‪ ،‬والستعداد التام ف العلوم والصناعة والتجارة وفن الرب ‪،‬‬
‫وأن يستغن عن الغرب ف كل مرفق من مرافق الياة ‪ ،‬وف كل حاجة من الاجات ‪ ،‬يقوت‬
‫ويكسو نفسه ‪ ،‬ويصنع سلحه ‪ ،‬وينظم شؤون حياته ‪ ،‬ويستخرج كنوز أرضه وينتفع با ‪،‬‬
‫ويدير حكوماته برجاله وماله ‪ ،‬ويخر بار الحيط به بسفنه وأساطيله ‪ ،‬ويارب العدو‬
‫ببوارجه ودباباته وأسلحة بلده ‪ ،‬وتزيد صادراته على وارداته ‪ ،‬ول يتاج إل الستدانة من‬
‫الغرب ‪ ،‬ول يضطر إل أن يلجأ إل راية من راياته وينظم إل معسكر من معسكراته ‪.‬‬
‫أما ما دام العال السلمي خاضعا للغرب ف العلم والسياسة والصناعة والتجارة ‪ ،‬يتص‬
‫الغرب دمه ‪ ،‬ويفر أرضه فيستخرج منها ماء الياة ‪ ،‬وتغزو بضائعه أسواق العال السلمي‬
‫وبيوته وجيوبه كل يوم فتستخرج منها كل شيء ‪ ،‬وما دام العال السلمي يستدين من‬
‫الغرب الموال ‪ ،‬ويستعي منه الرجال ‪ ،‬ليديروا حكومته ‪ ،‬ويشغلوا الوظائف الطية ويدربوا‬
‫جيوشه ويستورد منه البضائع ويلب منه الصنائع ‪ ،‬وينظر إليه كأستاذ ومرب ‪ ،‬وسيد ورب ‪،‬‬
‫ل يبم أمرا إل بإذنه ول يصدر إل عن رأيه ‪ ،‬فل يستطيع أبدا أن يواجه الغرب فضلً عن أن‬
‫يناهضه ويغالبه ‪.‬‬
‫هذه هي الناحية العلمية والصناعية الت أخل با العال السلمي ف الاضي فعوقب‬
‫بالعبودية الطويلة والياة الذليلة ‪ ،‬وابتلي العال السلمي بالسيادة الوربية الائرة الت ساقت‬
‫العال إل النار والدمار والتناحر والنتحار ‪ ،‬فإن فرط العال السلمي مرة ثانية ف الستعداد‬
‫العلمي والصناعي والستقلل ف شئون حياته كتب الشقاء للعال وطالت منة النسانية‬
‫وبلؤها ‪.‬‬

‫تبوء الزعامة ف العال والتحقيق ‪:‬‬


‫وقد تنازل العال السلمي – با فيه العال العرب – منذ زمن طويل عن مكانته ف القيادة‬
‫العلمية والتوجيه ‪ ،‬والستقلل الفكري ‪ ،‬وأصبح عيالً على الغرب متطفلً على مائدته حت‬
‫ف اللغة العربية وآداب اللغة وعلومها ‪ ،‬وحت ف علوم الدين كالتفسي والديث والفقه ‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫وأصبح الستشرقون هم الرشدين الو ّجهِي ف البحث والتحقيق ‪ ،‬والدراسة والتأليف ‪ ،‬وهم‬
‫النتهى والرجع والجة ف الحكام والراء السلمية والنظريات العلمية والتاريية ‪ ،‬وهم‬
‫السوة ف النقض والبرام ‪ .‬وعدد كبي منهم قسوس وإرساليون ويهود ومسيحيون متعصبون‬
‫‪ ،‬يضمرون للسلم وصاحب رسالته – صلى ال عليه وسلم – العداء والبغضاء ‪ ،‬وللحضارة‬
‫السلمية السخرية والستهزاء ‪ ،‬ويونون ف النصوص والنقول ‪ ،‬ويرّفون الكلم عن مواضعه‬
‫‪ .‬ومنهم عدد ل يتقن اللغة العربية ول يبع فيها ‪ ،‬وهم يطئون ف فهم النصوص وترجتها‬
‫أخطاء فاحشة ‪ ،‬وقد تغلغلت أفكارهم ودعاياتم ف الوساط العلمية الديثة ف العال‬
‫السلمي وتلت بصورة واضحة ف الدعوة إل فضل الدين عن السياسة ‪ ،‬وأن الدين قضية‬
‫شخصية ل شأن له بالجتمع ‪ ،‬وف الدعوة إل تغيي مفهوم الدين وأحكام الشريعة السلمية‬
‫على أساس الضارة الغربية وفلسفتها ‪ ..‬إل غي ذلك من الفكار الت يدعو إليها تلميذ‬
‫الستشرقي والاضعون لم ف الشرق السلمي ‪.‬‬
‫وقد عجز كتاب الشرق السلمون والفكرون الشرقيون عن مواجهة الضارة الغربية‬
‫وجها لوجه ونقد أسسها وقيمها نقدا ُحرّا جريئا فيه البتكار ‪ ،‬وفيه الستقلل ‪ ،‬وقد بلغ‬
‫بعضهم من ضعف التفكي ‪ ،‬والغراق ف التقليد منلة رأى فيها أن الضارة الغربية هي آخر‬
‫ما وصل إليه العقل البشري وأنه ل منلة وراءها ‪ ،‬ومنهم من دعا إل تطبيق الضارة الغربية‬
‫برُمتها ‪ ،‬وعلى علتا ف الشرق ‪ ،‬ودعا بعض القطار السلمية وإذابتها فيها واختيار الثقافة‬
‫اليونانية الت هي أصل الثقافات الوربية ‪.‬‬
‫وندر ف هذه الطبقة وجود (( عملق )) يكفر بالضارة الغربية وفلسفة حياتا وقيمها‬
‫ويشرّح الضارة الغربية وأُسسها الت قامت عليها ف ثقة واعتداد وعلم وبصية ‪ ،‬ونستثن من‬
‫هذه الكلية بعض الفراد الفذاذ كالعلمة (( ممد إقبال )) من السلمي القدامى ‪ ،‬والستاذ‬
‫(( ممد أسد )) من الوربيي الهتدين بالسلم ‪.‬‬
‫ولبد – إذا أراد العال السلمي أن يقوم على قدميه ويفكر بعقله – أن يقاوم هذا‬
‫الضوع ويكون فيه علماء عماليق وكتاب جهابذة يتناولون الضارة الغربية بالنقد‬
‫والتشريح ‪ ،‬وكتابات الستشرقي وآرائهم بالرح والتعديل ‪ .‬ويتبحرون ف العلوم السلمية‬
‫‪228‬‬
‫ويتعمقون فيها حت يفيد منهم كبار الستشرقي ف أوربا وأمريكا ويصححون بم آراءهم‬
‫وأخطاءهم ‪ ،‬ويتوجه رواد العلم والتحقيق والدراسات العالية إل عواصم العال العرب‬
‫وحواضر العال السلمي ‪ ،‬كما اعتادوا أن يتوجهوا إل عواصم أوربا وأمريكا ‪ .‬فهذه الدن‬
‫السلمية أول بأن تكون مركزا للثقافة السلمية والعلوم الدينية وآداب اللغة العربية من‬
‫العواصم الوربية وجامعات أوربا ‪ ،‬ومن سقوط المة والقناعة بالدون أن تتخلى هذه‬
‫العواصم العريقة ف العلم والدين عن زعامتها العلمية ومكانتها الرئيسية ‪.‬‬

‫التنظيم العلمي الديد ‪:‬‬


‫ولبد للعال السلمي من تنظيم العلم الديد با يوافق روحه ورسالته ‪ .‬وقد ساد العال‬
‫السلمي على العال القدي بزعامته العلمية ‪ ،‬فتسرب بذلك ف عقلية العال وثقافته ‪ ،‬وتغلغل‬
‫ف أحشاء الدب والفلسفة ‪ ،‬وظل العال التمدن قرونا يفكر بعقله ويكتب بقلمه ويؤلف بلغته‬
‫‪ ،‬فكان الؤلفون ف إيران وتركستان وأفغانستان والند ل يؤلفون كتابا له شأن إل باللغة‬
‫العربية ‪ ،‬وكان بعضهم يؤلف الصل بالعربية ويلخصه بالفارسية كما فعل الغزال ف ‪:‬‬
‫(( كيمياء السعادة )) ‪.‬‬
‫وإن كانت هذه الركة العلمية الت ظهرت ف صدر الدولة العباسية متأثرة باليونان‬
‫والعجم ‪ ،‬وغي مؤسسة على الفكرة السلمي النقي والروح السلمي ؛ وإن كانت فيها‬
‫مواضع ضعف من الناحية العلمية والدينية ‪ ،‬ولكنها سادت على العال بقوتا ونشاطها ‪،‬‬
‫واضمحلت أمامها النظم العلمية القدية ‪.‬‬
‫وجاءت نضة فنسخت هذا النظام القدي باختباراتا ونقدها العلمي ‪ ،‬ووضعت منهاجا‬
‫جديدا للعلم والدراسة كان نسخة صادقة لروحها وعقليتها ونفسيتها الادية ‪ ،‬فل يرج منه‬
‫الطالب إل وهو متشبع بذه الروح ‪ ،‬وخضع العال مرة ثانية لذا النظام التعليمي ‪ ،‬وخضع له‬
‫العال السلمي بطبيعة الال – إذا كان مصابا بالنطاط العلمي والشلل الفكري من زمان ‪،‬‬
‫وكان ل يد الدد والغوث إل ف أوربا – فقبل هذا النظام التعليمي على علته ‪ ،‬فهو النظام‬
‫السائد اليوم ف أناء العال السلمي ‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫وكانت نتيجة هذا النظام الطبيعية ‪ ،‬صراعا بي النفسية السلمية – إن كانت ل تزال ف‬
‫الشباب ل تقتلها البيئة – وبي النفسية الديدة ‪ ،‬وبي وجهة الخلق السلمية ووجهة‬
‫الخلقية الوربية ‪ ،‬وبي اليزان القدي والديد للشياء وقيمتها ‪ ،‬وكانت نتيجة هذا النظام‬
‫حديث الشك والنفاق ف الطبقة الثقفة ‪ ،‬وقلة الصب ونامة الياة وترجيح العاجل على الجل‬
‫‪ ،‬إل غي ذلك ما هو من طبائع الدينة الوربية ‪.‬‬
‫فإذا أراد العال السلمي أن يستأنف حياته ‪ ،‬ويتحرر من رق غيه وإذا كان يطمح إل‬
‫القيادة ‪ ،‬فل بد إذن من الستقلل التعليمي ‪ ،‬بل لبد من الزعامة العلمية وما هي بالمر الي‬
‫‪ ،‬إنا تتاج إل تفكي عميق ‪ ،‬وحركة التدوين والتأليف الواسعة ‪ ،‬وخبة إل درجة التحقيق‬
‫والنقد بعلوم العصر مع التشبع بروح السلم واليان الراسخ بأصوله وتعاليمه ‪ ،‬إنا لهمة‬
‫تنوء بالعصبة أول القوة ‪ ،‬إنا هي من شأن الكومات السلمية ‪ ،‬فتنظم لذلك جعيات ‪،‬‬
‫وتتار لا أساتذة بارعي ف كل فن فيضعون منهاجا تعليميا يمع بي مكمات الكتاب‬
‫والسنة وحقائق الدين الت ل تتبدل وبي العلوم العصرية النافعة والتجربة والختبار ‪ ،‬ويدونون‬
‫العلوم العصرية للشباب السلمي على أساس السلم وبروح السلم وفيها كل ما يتاج إليه‬
‫النشء الديد ‪ ،‬ما ينظمون به حياتم ويافظون به على كيانم ويستغنون به عن الغرب‬
‫ويستعدون للحرب ‪ ،‬ويستخرجون به كنوز أرضهم وينتفعون بيات بلدهم ‪ ،‬وينظمون‬
‫مالية البلد السلمية ‪ ،‬ويديرون حكوماتا على تعاليم السلم بيث يظهر فضل النظام‬
‫السلمي ف إدارة البلد ‪ ،‬وتنظيم الشئون الالية على النظم الوربية ‪ ،‬وتنحل مشاكل‬
‫اقتصادية عجزت أوربا عن حلها ‪.‬‬
‫بالستعداد الروحي والستعداد الصناعي والرب والستقلل التعليمي ينهض العال‬
‫السلمي ‪ ،‬ويؤدي رسالته وينقذ العال من النيار الذي يهدده ‪ .‬فليست القيادة بالزل ‪ ،‬إنا‬
‫هي جد الد ‪ ،‬فتحتاج إل جد واجتهاد ‪ ،‬وكفاح وجهاد ‪ ،‬واستعداد أي استعداد ‪:‬‬
‫كل امرئ يري إل *** يوم الياج با استعدا‬

‫‪230‬‬
‫الفصل الثان‬
‫زعامة العال العرب‬
‫أهية العال العرب ‪:‬‬
‫إن العال العرب له أهية كبية ف خريطة العال السياسية وذلك لنه وطن أمم لعبت‬
‫أكب دور ف التاريخ النسان ‪ ،‬ولنه يتضن منابع الثروة والقوة الكبى ‪ :‬الذهب السود‬
‫الذي هو دم السم الصناعي والرب اليوم ؛ ولنه صلة بي أوربا وأمريكا ‪ ،‬وبي الشرق‬
‫القصى ‪ ،‬ولنه قلب العال السلمي النابض يتجه إليه روحيا ودينيا ويدين ببه وولئه ‪،‬‬
‫ولنه عسى – لقدر ال – أن يكون ميدان الرب الثالثة ‪ ،‬ولن فيه اليدي العاملة ‪،‬‬
‫والعقول الفكرة ‪ ،‬والجسام القاتلة ‪ ،‬والسواق التجارية ‪ ،‬والراضي الزراعية ‪ ،‬ولن فيها‬
‫مصر ذات النيل السعيد بنتاجها ومصولا وخصبها وثروتا ورقيها ومدنيتها ‪ ،‬وفيه سورية‬
‫وفلسطي وجاراتا ‪ ،‬باعتدال مناخها وجال إقليمها وأهيتها الستراتيجية ‪ ،‬وبلد الرافدين‬
‫بشكيمة أهلها ومنابع فيها ‪ ،‬والزيرة العربية بركزها الروحي وسلطانا الدين ‪ ،‬واجتماع‬
‫الج السنوي الذي ل مثيل له ف العال وآبار البترول الغزيرة ‪ .‬كل ذلك قد جعل العال العرب‬
‫مصر أنظار الغربيي ‪ ،‬وملتقى مطامعهم وميدان تنافس لقيادتم ‪ ،‬وكان رد فعله أن نشأ ف‬
‫العال العرب شعور عميق بالقومية العربية ‪ ،‬وكثر التغن ((بالوطن العرب)) و ((الجد العرب))‬
‫‪.‬‬

‫ممد رسول ال روح العال العرب ‪:‬‬


‫ولكن السلم ينظر إل العال العرب بغي العي الت ينظر با الورب ‪،‬وبغي العي الت‬
‫ينظر با الوطن العرب ‪،‬إنه ينظر با الوطن العرب ‪ ،‬إنه ينظر إليه كمعهد السلم ومشرق‬
‫نوره ومعقل النسانية ‪ ,‬وموضع القيادة العالية ‪ ,‬ويعقد أن سيدنا ممدا العرب هو روح العال‬
‫العرب وأساسه وعنوان مده ؛ وأن العال العرب – با فيه من موارد الثروة والقوة و با فيه من‬
‫خيات وحسنات – جسم بل روح ‪ ,‬وخط بل وضوح إذا انفصل – ل سح ال بذلك –‬
‫عن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم وقطع صلته عن تعاليمه ودينه ؛ وأن سيدنا رسول‬
‫‪231‬‬
‫ال صلى ال عليه وسلم هو الذي أبرز العال العرب للوجود ‪ ,‬فقد كان هذا العال وحدات‬
‫مفككة ‪ ,‬وقبائل متناحرة ‪ ,‬وشعوبا مستعبدة ومواهب ضائعة ‪ ,‬وبلدا ًتتسكع ف الهل‬
‫والضللت ‪ ,‬فكان العرب ل يلمون بناجزة الدولة الرومية والفارسية ول يطر ذلك منهم‬
‫على بال ‪ ,‬ول يصدقون بذلك إذا قيل لم ف حال من الحوال ‪ ,‬وكانت سورية الت تكون‬
‫جزءا مهما من العال العرب مستعمرة رومية تعان اللكية الطلقة والكم الائز الستبد ‪ ,‬ل‬
‫تعرف معن الرية والعدل ‪ ,‬وكان العراق مطية لشهوات الدولة الكيانية مثقلة بالضرائب‬
‫الحفة والتاوات الفادحة ‪ .‬وكانت مصر قد اتذها الرومان ناقة حلوبا ركوبا ً ‪ ,‬يزون‬
‫صوفها و يظلمونا ف علفها ‪ ,‬ث إنا تعان الضطهاد الدين مع الستبداد السياسي ‪ ،‬فما لبث‬
‫هذا العال الفكك النحل ‪ ،‬الظلوم الضطهد ‪ ،‬أن هبت عليه نفحة من نفحات السلم الذي‬
‫جاء به ممد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬أدرك رسول ال من هذا العال وهو ضائع هالك وأخذ‬
‫بيبده وهو ساقط متهالك ‪ ،‬فأحياه بإذن ال وجعل له نورا يشي به ف الناس ‪ ،‬وعلمه الكتاب‬
‫والكمة وزكاه ؛ فكان هذا العال بعد البعثة الحمدية سفي السلم ‪ ،‬ورسول المن والسلم‬
‫‪ ،‬ورائد العلم والكمة ‪ ،‬ومشعل الثقافة والضارة ‪ .‬كان غوثا للمم ‪ ،‬غيثا للعال ‪ ،‬هنالك‬
‫كانت الشام وكان العراق ‪ ،‬وكانت مصر ‪ ،‬وكان العال العرب الذي نتحدث عنه ‪ ،‬فلول‬
‫ممد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ولول رسالته ‪ ،‬ولول ملته ‪ ،‬لا كانت سورية ‪ ،‬ول كان العراق ‪،‬‬
‫ول كانت مصر ‪ ،‬ول كان العال العرب ‪ ،‬بل ول كانت الدنيا كما هي الن حضارة وعقلً ‪،‬‬
‫وديانة وخلقا ‪ ،‬فمن استغن عن دين السلم من شعوب العال العرب وحكوماته ‪ ،‬وول‬
‫وجهه شطر الغرب أو أيام العرب الول ‪ ،‬أو استلهم قواني حياته أو سياسته من شرائع‬
‫الغرب ودساتيه أو أسس حياته على العنصرية أو العروبة الت ل شأن لا بالسلم ‪ ,‬ول يرض‬
‫برسول ال قائدا ورائدا وإماما وقدوة ‪ ,‬فليد على ممد بن عبد ال صلى ال عليه وسلم‬
‫نعمته ويرجع إل جاهليته الول ‪ ,‬حيث الكم الرومان واليران ‪ ,‬وحيث الهل والضللة ‪,‬‬
‫وحيث الغفلة والبطالة وحيث العزلة عن العال ‪ ,‬والمول والمود ‪ ,‬فإن هذا التاريخ الجيد ‪,‬‬
‫وهذه الضارة الزاهية ‪ ,‬وهذا الدب الزاخر ‪ ,‬وهذه الدول العربية ‪ ,‬ليست إل حسنة من‬
‫حسنات ممد عليه الصلة والسلم ‪.‬‬
‫‪232‬‬
‫اليان هو قوة العال العرب ‪:‬‬
‫فالسلم هو قومية العال العرب ‪ ,‬وممد صلى ال عليه وسلم هو روح العال العرب وإمامة‬
‫وقائده واليان هو قوة العال العرب الت حارب با العال البشري كله فانتصر عليه ‪ ,‬وهو قوته‬
‫وسلحه اليوم كما كان بالمس ‪ ,‬به يقهر أعداءه ‪ ,‬ويفظ كيانه ويودي رسالته ‪ .‬إن العال‬
‫العرب ل يستطيع أن يارب الصهيونية أو الشيوعية أو عدوا آخر بالال الذي ترضخه‬
‫بريطانيا أو تتصدق به أمريكا ‪,‬أو تعطيه مقابل ما تأخذ من أرضه من الذهب السود ‪ ,‬إنا‬
‫يارب عدوه باليان والقوة العنوية ‪ ,‬وبالروح الت حارب با الدولة الرومية والمباطورية‬
‫الفارسية ف ساعة واحدة فانتصر عليهما جيعا‪ .‬إنه ل يستطيع أن يارب أعداءه بقلب يب‬
‫الياة ويكره الوت ‪ ,‬ويسم ييل إل الدعة والراحة ‪ ,‬وعقل يامره الشك وتتنازع فيه‬
‫الفكار والهواء ‪ ,‬أو بيد مضطربة وقلب متشك ضعيف اليان وقوة متخاذلة ف اليدان ‪،‬‬
‫فالهم لمراء العرب وزعمائهم وقادة الامعة العربية أن يغرسوا اليان ف الشعوب العربية ‪،‬‬
‫وجاهي المة وأولياء المور ‪ ،‬واليوش العربية والفلحي والتجار ‪ ،‬وف كل طبقة من‬
‫طبقات المهور ‪ ،‬ويشعلوا فيها شعلة الهاد ف سبيل ال ‪ ،‬والتوق إل النة ‪ ،‬ويبعثوا فيها‬
‫الستهانة بالظاهر الوفاء وزخارف الدنيا ‪ ،‬ويعلموهم كيف يتغلبون على شهوات النفس‬
‫ومألوفات الياة ‪ ،‬وكيف يتحملون الشدائد ف سبيل ال ‪ ،‬وكيف يستقبلون الوت بثغر باسم‬
‫‪ ،‬وكيف يتهافتون عليه تافت الفراش على النور ‪.‬‬

‫تضحية شباب العرب قنطرة إل سعادة البشرية ‪:‬‬


‫بُعث رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد بلغت شقاوة النسانية غاية ما وراءها غاية ‪،‬‬
‫وكانت قضية النسانية أعظم من أن يقوم لا أفراد متنعمون ل يتعرضون لطر ول لسارة‬
‫ول منة ‪ ،‬لم النعيم الاضر والغد الضمون ‪ ،‬إنا تتاج هذه القضية إل أناس يضحون‬
‫بإمكانياتم ومستقبلهم ف سبل خدمة النسانية وأداء رسالتهم القدسة ‪ ،‬ويعرضون نفوسهم‬
‫وأموالم ومعائشهم وحظوظهم من الدنيا للخطر والضياع ‪ ،‬وتاراتم وحرفهم ومكاسبهم‬

‫‪233‬‬
‫للتلف والكساد ‪ ،‬وييبون آمال آبائهم وأصدقائهم فيهم ‪ ،‬حت يقولوا للواحد منهم كما قال‬
‫قوم صال ‪{ :‬قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْ ُجوّا قَبْلَ هَـذَا } ‪.‬‬
‫إنه ل بقاء للنسانية ول قيام لدعوة كرية بغي هؤلء الجاهدين ‪ ،‬وبشقاء هذه الفنة‬
‫من البشر ف الدنيا – كما يعتقد كثي من معاصريهم – تنعم النسانية وتسعد المم ‪،‬‬
‫ويتحول تيار العال من الشر إل الي ‪ ،‬ومن السعادة أن يشقى أفراد وتنعم أمم ‪ ،‬وتضيع‬
‫أموال وتكسد تارات لبعض الفراد وتنمو نفوس وأرواح ل يصيها إل ال من عذاب ال‬
‫ومن نار جهنم ‪.‬‬
‫علم ال عند بعثة الرسول صلى ال عليه وسلم أن الروم والفرس والمم التحضرة‬
‫التصرفة بزمام العال التمدن ل تستطيع بكم حياتا الصطنعة الترفة أن تتعرض للخطر‬
‫وتتحمل التاعب والصاعب ف سبيل الدعوة والهاد وخدمة النسانية البائسة ‪ ,‬ول تستطيع‬
‫أن تضحي بشيء من دقائق مدنيتها ف اللبس والأكل وأن تتنل عن حظوظها ولذاتا‬
‫وزخارفها فضلً عن حاجاتا ‪ ،‬وأنه ل يوجد فيها أفراد يقوون على قهر شهواتم ‪ ،‬والد من‬
‫طموحهم ‪ ،‬والزهد ف فضول الياة ومطامع الدنيا ‪ ،‬والقناعة بالكفاف ‪ ،‬فاختار لرسالة‬
‫السلم وصحبة الرسول عليه الصلة والسلم أُمة تضطلع بأعباء الدعوة والهاد وتقوى على‬
‫التضحية واليثار ‪ ،‬تلك هي المة العربية القوية السليمة الت ل تبتلعها الدنية ول ينخرها‬
‫البذخ والترف وأولئك أصحاب ممد صلى ال عليه وسلم أبر الناس قلوبا وأعمقهم علما‬
‫وأقلهم تكلفا ‪.‬‬
‫قام الرسول بذه الدعوة العظيمة فأدى حقوقها ‪ :‬من الهاد ف سبيلها وإيثارها على‬
‫كل ما يقف ف وجهها ‪ ،‬والعزوف عن الشهوات ومطامع الدنيا فكان ف ذلك أسوة وإماما‬
‫للعال كله ‪ ،‬وفد قريش وعرض عليه كل ما يغري الشباب ويرضي الطامي من رئاسة‬
‫وشرف ومال عظيم وزواج كري ‪ ،‬فرفض كل ذلك ف صرامة وصراحة ‪ ،‬وكلمة عمه‬
‫وحاول أن يد من نشاطه ف سبيل الدعوة فقال ‪ (( :‬يا عم وال لو وضعوا الشمس ف يين‬
‫والقمر ف يساري على أن أترك هذا المر حت يظهره ال أو أهلك فيه ما تركته )) ث كان‬
‫أسوة للناس ف عصره وبعد عصره بقيامه بأكب قسط من الهاد واليثار ‪ ،‬والزهد وشظف‬
‫‪234‬‬
‫العيش وأقل قسط من العيش وأسباب الياة ‪ ،‬فقد أوصد على نفسه البواب وسد ف وجهه‬
‫الطرق وتعدى ذلك إل أسرته وأهل بيته والتصلي به ‪ ،‬فكان أكثر الناس اتصالً به وأقربم‬
‫إيه أقلهم حظا ف الياة ‪ ,‬وأعظمهم نصيبا ف الهاد واليثار ‪ ,‬فإذا أراد أن يرم شيئا بدأ‬
‫ذلك بشيته وبيته ‪ ,‬وإذا سن حقا أو فتح بابا لنفعة قدم الخرين وربا حرمه على عشيته‬
‫القربي ‪ .‬أراد أن يرم الربا فبدأ بربا عمه عباس بن عبد الطلب فوضعه كله ‪ ,‬وأراد أن يهدر‬
‫دماء الاهلية فبدأ بدم ابن ربيعة بن الارث بن عبد الطلب فأبطله ‪ ,‬وسن الزكاة وهي منفعة‬
‫مالية عظيمة مستمرة إل يوم القيامة فحرمها على عشيته بن هاشم إل آخر البد ‪ ,‬وكلمه‬
‫علي بن أب طالب يوم الفتح أن يمع لبن هاشم الجابة مع السقاية فأب وطلب عثمان بن‬
‫طلحة وناوله مفتاح الكعبة وقال ‪ :‬هاك مفتاحك يا عثمان ‪ ،‬اليوم يوم بر ووفاء ‪ ،‬وقال‬
‫خذوها خالدة تالدة فيكم ل ينعها منكم إل ظال ‪ ،‬وحل أزواجه على الزهد والقناعة‬
‫وشظف العيش وخيهن بي عشرته مع الفقر وضيق العيش ‪ ،‬ومفارقته مع السعة والرخاء وتل‬
‫عليهن قوله تعال ‪ { :‬يَا أَّيهَا النّبِ ّي قُل لَّأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنّ تُ ِردْنَ اْلحَيَاةَ الدّنْيَا َوزِينََتهَا فَتَعَالَيْنَ‬
‫أُمَتّعْكُنّ َوأُسَرّحْ ُكنّ سَرَاحا َجمِيلً{ ‪ }28‬وَإِن كُنتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ َورَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَ َة فَإِنّ اللّهَ‬
‫أَ َعدّ لِ ْل ُمحْسِنَاتِ مِنكُنّ َأجْرا عَظِيما } فاخترن ال والرسول ‪ ،‬وتأتيه فاطمة تشكو إليه ما‬
‫تلقى ف يدها من الرحى وبلغها أنه جاءه رقيق فيوصيها بالتسبيح والتحميد والتكبي ويقول لا‬
‫إنه خي لا من خادم ‪ ..‬وهكذا كان شأنه مع أهل بيته والتصلي به فالقرب ث القرب ‪.‬‬
‫وآمن به رجال من قريش ف مكة فاضطربت حياتم القتصادية اضطرابا عظيما ‪ ،‬وكسدت‬
‫تارتم وحرم بعضهم رأس ماله الذي جعه ف حياته ‪ ،‬وحرم بعضهم أسباب الترف والرخاء‬
‫وأناقة اللباس الت كان فيها مضرب الثل ‪ ،‬وكسدت تارة بعضهم لشتغاله بالدعوة‬
‫وانصراف الزبائن عنه وحرم بعضهم نصيبه ف ثروة أبيه ‪.‬‬
‫ث لا هاجر الرسول إل الدينة وتبعه النصار تأثرت بذلك بساتينهم ومزارعهم فلما‬
‫أرادوا أن يقبلوا عليها بعض الوقت ويصلحوها ل يسمح لم بذلك وأنذرهم ال به فقال ‪:‬‬
‫{وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الّلهِ َولَ ُتلْقُواْ بِأَْيدِي ُكمْ ِإلَى الّتهْلُكَةِ } ‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫وهكذا كان شأن العرب والذين احتضنوا هذه الدعوة منهم فقد كان نصيبهم من‬
‫متاعب الهاد وخسائر النفوس والموال أعظم من نصيب أي أمة ف العال وقد خاطبهم ال‬
‫شيَتُكُمْ وَأَ ْموَالٌ اقْتَ َرفُْتمُوهَا‬
‫بقوله ‪{ :‬قُلْ إِن كَانَ آبَا ُؤكُمْ وَأَبْنَآ ُؤكُمْ وَِإ ْخوَانُ ُكمْ وََأ ْزوَاجُ ُكمْ وَ َع ِ‬
‫ضوَْنهَا أَ َحبّ ِإلَيْكُم مّنَ اللّهِ َورَسُولِهِ وَ ِجهَا ٍد فِي سَبِيلِهِ‬ ‫شوْنَ كَسَادَهَا وَ َمسَاكِنُ تَ ْر َ‬ ‫خَ‬ ‫وَِتجَارَةٌ َت ْ‬
‫فَتَرَّبصُواْ حَتّى َيأْتِيَ الّلهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لَ َي ْهدِي الْ َقوْ َم الْفَاسِقِيَ } وقال ‪{ :‬مَا كَانَ لِأَ ْه ِل الْ َمدِينَةِ‬
‫وَمَنْ َح ْوَلهُم مّنَ الَعْرَابِ أَن يََتخَلّفُواْ عَن رّسُولِ اللّهِ َولَ يَرْغَبُواْ ِبأَن ُفسِ ِهمْ عَن نّ ْفسِهِ } لن‬
‫سعادة البشرية إنا كانت تتوقف على ما يقدمونه من تضحية وإيثار ما يتحملون من خسائر‬
‫ونكبات فقال ‪َ { :‬ولَنَبُْلوَنّكُمْ ِبشَيْءٍ مّنَ اْلخَوفْ وَاْلجُوعِ وَنَقْصٍ مّ َن الَمَوَالِ وَالنفُسِ‬
‫سبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُوا أَن يَقُولُوا آمَنّا وَ ُهمْ لَا يُفْتَنُونَ } وكان إحجام‬ ‫وَالّثمَرَاتِ } وقال ‪{ :‬أَ َح ِ‬
‫العرب عن هذه الكرمة وترددهم ف ذلك امتدادا لشقاء النسانية واستمرارا للوضاع السيئة‬
‫ف العال فقال ‪ِ{ :‬إلّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَ ٌة فِي الَ ْرضِ َوَفسَادٌ كَبِيٌ } ‪.‬‬
‫وقد وقف العال ف القرن السادس السيحي على مفترق الطرق إما أن يتقدم العرب‬
‫ويعرضوا نفوسهم وأموالم وأولدهم وكل ما يعز عليهم للخطر ويزهدوا ف مطامع الدنيا‬
‫ويضحوا ف سبيل الصلحة الجتماعية بأنانيتهم فيسعد العال وتستقيم البشرية وتقوم سوق‬
‫النة وتروج بضاعة اليان ‪ ،‬وإما أن يؤثروا شهواتم ومطامعهم وخظوظهم الفردية على‬
‫سعادة البشرية وصلح العال فيبقى العال ف حأ الضللة والشقاء إل ما شاء ال ‪ ،‬وقد أراد‬
‫ال بالنسانية خيا وتشجع العرب – با نفخ فيهم ممد صلى ال عليه وسلم من روح اليان‬
‫واليثار وحبب إليهم الدار الخرة وثوابا – فقدموا أنفسهم فداء للنسانية كلها وزهدوا ف‬
‫مطامع الدنيا طمعا ف ثواب ال وسعادة النوع النسان وجاهدوا بأموالم وأنفسهم ف سبيل‬
‫ال ‪ ،‬وضحوا بكل ما يرص عليه الناس من مطامع وشهوات وآمال وأحلم وأخلصوا ل‬
‫العمل والهاد فآتاهم ال ثواب الدنيا وحسن ثواب الخرة وال يب الحسني ‪.‬‬
‫وقد استدار الزمان كهيئته يوم بعث الرسول ووقف العال على مفترق الطرق مرة ثانية‬
‫إما أن يتقدم العرب – وهم أمة الرسول وعشيته – إل اليدان ويغامروا بنفوسهم وإمكانياتم‬
‫ومطامهم وياطروا فيما هم فيه من رخاء وثراء ودنيا واسعة ‪ ،‬وفرص متاحة للعيش وأسباب‬
‫‪236‬‬
‫ميسورة فينهض العال من غثاره وتتبدل الرض غي الرض وإما أن يستمروا فيما هم فيه من‬
‫طمع وطموح ‪ ،‬وتنافس ف الوظائف والرتبات وتفكر ف كثرة الدخل واليراد وزيادة غلة‬
‫الملك وربح التجارات والصول على أسباب الترف والتنعم فيبقى العال ف هذا الستنقع‬
‫الذي يتردى فيه منذ قرون ‪.‬‬
‫إن العال ل يسعد وخية الشباب ف العواصم العربية عاكفون على شهواتم تدور‬
‫حياتم حول الادة والعدة ل يفكرون ف غيها ول يترفعون عن الهاد ف سبيلهما ولقد كان‬
‫شباب بعض المم الاهلية الذين ضحوا بستقبلهم ف سبيل البادئ الت اعتنقوها أكب منهم‬
‫نفسا ‪ ،‬وأوسع منهم فكرا ‪ ،‬بل كان الشاعر الاهلي (( امرؤ القيس )) أعلى منهم هة ‪ ،‬إذ‬
‫قال ‪:‬‬
‫ولو أنن أسعى لدن معيشة *** كفان ول أطلب قليل من الال‬
‫ولكنما أسعى لجد مؤثل *** وقد يدرك الجد الؤثل أمثال‬
‫إن العال ل يكن أن يصل إل السعادة إل على قنطرة من جهاد ومتاعب يقدمها‬
‫الشباب السلم ‪ ،‬إن الرض لفي حاجة إل ساد ‪ ،‬وساد أرض البشرية الذي تصلح به وتنبت‬
‫زرع السلم الكري هي الشهوات والطامع الفردية الت يضحي با الشباب العرب ف سبيل‬
‫علو السلم وبسط المن والسلم على العال وانتقال الناس من الطريق الؤدية إل جهنم إل‬
‫الطريق الؤدية إل النة ‪.‬‬
‫إنه لثمن قليل جدا لسلعة غالية جدا ‪.‬‬

‫العناية بالفروسية والياة العسكرية ‪:‬‬


‫من القائق الؤلة أن الشعوب العربية قد فقدت كثيا من خصائصها العسكرية ‪،‬‬
‫ورزئت ف فروسيتها الت كانت معروفة با ف العال ‪ ،‬فكانت رزيئة كبية وخسارة فادحة ‪،‬‬
‫وكانت سببا من أسباب ضعفها وعجزها ف ميدان الهاد ‪ ،‬فقد اضمحلت الروح‬
‫العسكرية ‪ ،‬وضعفت الجسام ونشأ الناس على التنعم ‪ ،‬وقد حلت السيارات مل الياد حت‬
‫كادت اليل العربية تنقرض من الزيرة العربية ‪ ،‬وهجر الناس الصارعة والناضلة وسباق‬

‫‪237‬‬
‫اليل وأنواع الرياضة البدنية والتدريبات العسكرية ‪ ،‬واستبدلوا با ألعابا ل تفيدهم شيئا ‪،‬‬
‫فالهم لرجال التعليم والتربية قادة الشعوب العربية أن يربوا الشبيبة العربية على الفروسية‬
‫والياة العسكرية ‪ ،‬وعلى البساطة ف العيشة وخشونة العيش واللدة وتمل الشاق‬
‫والتاعب ‪ ،‬والصب على الكروه !‪.‬‬
‫وقد كتب الرب الكبي أمي الؤمني عمر بن الطاب إل بعض عماله العرب وهم ف‬
‫‪(25‬‬
‫بلد العجم ‪ (( :‬إياكم والتنعم وزي العجم وعليكم بالشمس فإنا حام العرب ‪ ،‬وتعددوا‬
‫‪ ، )4‬واخشوشنوا‪ ، )(155‬واخشوشبوا‪ ، )(256‬واخلولقوا‪ ، )(257‬وأعطوا الركب أسنتها ‪ ،‬وانزوا‬
‫نزوا ‪ ،‬وارموا الغراض ‪. )))(258‬‬
‫وقد قال النب صلى ال عليه وسلم ‪ (( :‬ارموا بن إساعيل فإن أباكم كان راميا‪)) )(259‬‬
‫وقال ‪ (( :‬أل إن القوة الرمي ‪ ،‬أل إن القوة الرمي‪. )) )(260‬‬
‫ومن واجب رجال التربية وولة المر أن ياربوا بكل قوتم ما يضعف روح الرجولة‬
‫واللدة ويبعث على التخنث والعجز ‪ ،‬من عادات وأدب وصحافة وتعليم ‪ ،‬ويأخذوا على‬
‫يد الصحافة الاجنة والدب الليع اللحد ‪ ،‬الذي ينشر ف الشباب النفاق والدعارة‬
‫والفسوق ‪ ،‬وعبادة اللذة والشهوات ‪ ،‬ول يسمحوا لؤلء التجارة الذين يبون أن تشيع‬
‫الفاحشة ف الذين آمنوا أن يدخلوا ف معسكر ممد صلى ال عليه وسلم الذي بعث ليتمم‬
‫مكارم الخلث ‪ ،‬ويفسدوا على الناشئة السلمية قلبها وأخلقهم ‪ ،‬ويزينوا لا الفسوق‬
‫والعصيان ‪ ،‬وحب الفحشاء ‪ ،‬بثمن بس دراهم معدودة ‪ ،‬وقد شهد التاريخ بأن كل أمة‬
‫أصيب رجالا ف رجولتهم وغيتم ‪ ،‬ونساؤها ف أنوثتهن وأمومتهن ‪ ،‬وطغى فيهن التبج ‪،‬‬
‫ومزاحة الرجال ف كل شيء ‪ ،‬والزهد ف الياة النلية ‪ ،‬وحبب إليهن العقم ‪ ،‬أفل نمها‬
‫وكسفت شسها ‪ ،‬فأصبحت أثرا بعد عي ‪.‬‬

‫(‪(254‬‬
‫تمعدد الغلم ‪ :‬شب وغلظ ‪ .‬وقيل معناه ‪ :‬تشبهوا بعيش معد بن عدنان وكان ذا غلظ وتقشف ‪.‬‬
‫(‪(155‬‬
‫اخشوشن ‪ :‬تخشن في المطعم والملبس ‪.‬‬
‫(‪(256‬‬
‫اخشوشب ‪ :‬صار صلبًا كالخشب في أحواله وصيره على الجهد ‪.‬‬
‫(‪(257‬‬
‫تبذلوا في الملبس ‪.‬‬
‫(‪(258‬‬
‫رواه البغوي عن أبي عثمان النهدي ‪.‬‬
‫(‪(259‬‬
‫رواه البخاري ‪.‬‬
‫(‪(260‬‬
‫رواه مسلم ‪.‬‬
‫‪238‬‬
‫هذه كانت عاقبة اليونان والرومان والفرس ‪ ،‬وإن أوربا لفي طريقها إل هذه العاقبة ‪،‬‬
‫فليحذر العال العرب من هذا الصي الائل ‪.‬‬

‫ماربة التبذير والفرق الائل بي الغن والصعلوك ‪:‬‬


‫وقد اعتاد العرب لسباب كثية وبتأثي الضارة الغربية حياة الترف والدعة والعتداد‬
‫الزائد بالكماليات وفضول الياة والسراف والتبذير ‪ ،‬والستهانة بال ال ف سبيل اللذة‬
‫والشهوة والفخر والزينة ‪.‬‬
‫وبانب هذا الترف والنعيم وحياة البذخ والتبذير ‪ ،‬جوع وعري وفقر فاضح ‪ ،‬يرى‬
‫الناظر مناظرة الشائنة ف عواصم البلد العربية فتدمع العي ويزن القلب وينتكس الرأس حياء‬
‫وخجلً ‪ ،‬فبينا هنالك رجل عنده فضول الثياب وزائدة الطعام والشراب ل يعرف كيف‬
‫يستهلكه ‪ ،‬إذ ببدوي ل يد قوت يومه وكسوة جسمه ‪ ،‬وبينما أمراء العرب وأغنياؤهم على‬
‫سيارات تباري الريح وتثي النقع ‪ ،‬إذا بفوج من النساء والطفال عليه ثياب سوداء قد‬
‫أصبحت خيوطا من طول اللبس يعدو لجل فلس أو قرص ‪ ،‬فما دامت الدن العربية تمع‬
‫بي القصور الشامة والسيارات الفاخرة ‪ ،‬وبي الكواخ القية والبيوت التداعية الضيقة‬
‫الظلمة ‪ ،‬وما دامت التخمة والوع يزخران ف مدينة واحدة ‪ ،‬فالباب مفتوح على مصراعيه‬
‫للشيوعية والثورات والضطراب والقلق ل تقفها دعاية ول قوة ‪ ،‬وإذا ل يسد النظام‬
‫السلمي ف بلده بماله واعتداله يل مله نظام جائر بعسفه وقهره عقابا من ال كرد فعل‬
‫عنيف ‪.‬‬

‫التخلص من أنواع الثرة ‪:‬‬


‫لقد أتى على العال العرب عهد ف التاريخ كانت الياة فيه تدور حول فرد واحد –‬
‫وهو شخص الليفة أو اللك – أو حول حفنة من الرجال – هم الوزراء وأبناء اللك –‬
‫وكانت البلد تعتب ملكا شخصيا لذلك الفرد السعيد والمة كلها فوجا من الماليك‬

‫‪239‬‬
‫والعبيد ‪ ،‬ويتحكم ف أموالم وأملكهم ونفوسهم وأغراضهم ‪ ،‬ول تكن المة الت كانت‬
‫ل لشخصه ول تكن حياته إل امتدادا لياته ‪.‬‬ ‫يكم عليها إل ظ ً‬
‫لقد كانت الياة تدور حول هذا الفرد بتاريها وعلومها وآدابا وشعرها وانتاجها ‪،‬‬
‫فإذا استعرض أحد تاريخ هذا العهد أو أدب تلك الفترة من الزمان وجد هذه الشخصية‬
‫تسيطر على المة أو الجتمع ‪ ،‬كما تسيطر شجرة باسقة على الشائش والشجيات الت‬
‫تنبت ف ظلها وتنعها من الشمس والواء ‪ ،‬كذلك تضمحل هذه المة ف شخص هذا الفرد‬
‫وتذوب فيه وتصبح أمة هزيلة ل شخصية لا ول إرادة ‪ ،‬ول حرية لا ول كرامة ‪.‬‬
‫وكان هذا الفرد هو الذي تدور لجله عجلة الياة ‪ ،‬فلجله يتعب الفلح ويشتغل‬
‫التاجر ويتهد الصانع ‪ ،‬ويؤلف الؤلف وينظم الشاعر ‪ ،‬ولجله تلد المهات ‪ ،‬وف سبيله‬
‫يوت الرجال وتقاتل اليوش ‪ ،‬بل ولجله تلفظ الرض خزائنها ويقذف البحر نفائسه‬
‫وتستخرج كنوز الرض خياتا ‪.‬‬
‫وكانت المة – وهي صاحبة النتاج وصاحبة الفضل ف هذه الرفاهية كلها‪ -‬تعيش‬
‫عيش الصعاليك ‪ ،‬أو الرقاء الماليك ‪ ،‬وقد تسعد بفتات مائدة اللك وبا يفضل عن حاشيته‬
‫فتشكر ‪ ،‬وقد تُحرم ذلك أيضا فتصب ‪ ،‬وقد توت فيها النسانية فل تنكر شيئا بل تتسابق ف‬
‫التزلف وانتهاز الفرص ‪.‬‬
‫هذا هو العهد الذي ازدهر ف الشرق طويلً وترك رواسب ف حياة هذه المة ونفوسها‬
‫وف أدبا وشعرها ‪ ،‬وأخلقها واجتماعاتا ‪ ،‬وخلّف آثارا باقية ف الكتبة العربية ‪ ،‬ومن هذه‬
‫الثار الناطقة كتاب (( ألف ليلة وليلة )) الذي يصور ذلك العهد تصويرا بارعا ‪ ،‬يوم كان‬
‫الليفة ف بغداد أو اللك ف دمشق أو القاهرة ‪ ،‬هو كل شيء ‪ ،‬وبطل رواية الياة ومركز‬
‫الدائرة إن هذا العهد الذي يثله كتاب (( ألف ليلة وليلة )) بأساطيه وقصصه ‪ ،‬وكتاب‬
‫الغان بتاريه وأدبه ‪ ،‬ل يكن عهدا إسلميا ‪ ،‬ول عهدا طبيعيا معقولً ‪ ،‬فل يرضاه السلم‬
‫ول يقرّه العقل ‪ ،‬بل إنا جاء السلم بدمه والقضاء عليه ‪ ،‬فقد كان هذا هو العهد الذي‬
‫بعث فيه ممد صلى ال عليه وسلم فسماه الاهلية ونعى عليه وأنكر على ملوكه – ككسرى‬
‫وقيصر – وعلى أثرتم وترفهم أشد النكار ‪.‬‬
‫‪240‬‬
‫إن هذا العهد غي قابل للبقاء والستمرار ف أي مكان وف أي زمان ول سبيل إليه إل‬
‫إذا كانت المة مغلوبة على أمرها أم مصابة ف عقلها أو فاقد الوعي والشعور أو ميتة النفس‬
‫والروح ‪.‬‬
‫إن هذا الوضع ل يقره عقل ‪ ،‬ومن الذي يسوّغ أن يتخم فرد أو بضعة أفراد بأنواع‬
‫الطعام والشراب ويوت آلف جوعا ومسبغة ‪ ،‬ومن الذي يسوغ أن يعبث ملك أو أبناء‬
‫ملك بالال عيث الجاني ‪ ،‬والناس ل يدون من القوت ما يقيم صلبهم ومن الكسوة ما يستر‬
‫جسمهم ‪ ،‬ومن الذي يسوغ أن يكون حظ طبقة – وهي الكثرة – النتاج وحده والكدح‬
‫ف الياة والعمل الضن الذي ل ناية له ‪ ،‬وحظ طبقة – وهي ل تاوز عدد الصابع – إل‬
‫التلهي بثمرات تعب الطبقة الول من غي شكر وتقدير وف غي عقل ووعي ‪ ،‬ومن الذي‬
‫يسوغ أن يشقى أهل الصناعة وأهل الذكاء وأهل الجتهاد وأهل الواهب وأهل الصلح ‪،‬‬
‫وينعم رجال ل يسنون غي التبذير ول يعرفون صناعة غي صناعة الفجور وشرب المور ؟!‬
‫ومن الذي يسوغ أن تُجفى أهل الكفاية وأهل النبوغ وأهل المانة ويقصوا كالنبوذين ويتمع‬
‫حول ملك أو أمي فوج من خساس النفوس وسخفاء العقول وفاقدي الضمائر من ل ه ّم لم‬
‫إل ابتزاز الموال وإرضاء الشهوات ‪ ،‬ول يسنون فنا من فنون الدنيا غي التملق والطراء‬
‫والؤامرة ضد البرياء ‪ ،‬ول يتصفون بشيء غي فقدان الشعور وقلة الياء ‪.‬‬
‫إنه وضع شاذ ل ينبغي أن يبقى يوما فضلً عن أن يبقى أعواما ‪.‬‬
‫إنه إن سبق ف عهد من عهود التاريخ وبقي مدة طويلة فقد كان ذلك على غفلة من‬
‫المة أو على الرغم منها ‪ ،‬وبسبب ضعف السلم وقوة الاهلية ‪ ،‬ولكنه خليق بأن ينهار‬
‫ويتداعى كلما أشرقت شس السلم واستيقظ الوعي وهبت المة تاسب نفسها وأفرادها ‪.‬‬
‫فالذين ل يزالون يعيشون ف عال (( ألف ليلة وليلة )) إنا يعيشون ف عال الحلم ‪،‬‬
‫إنا يعيشون ف بيت أوهن من بيت العنكبوت ‪ ،‬إنا يعيشون ف بيت مهدد بالخطار ل‬
‫يدرون مت يكبس ‪ ،‬ول يدرون مت تعمل فيه معاول الدم ‪ ،‬وإن سلموا من كل هذا فل‬
‫يدرون مت ير عليهم السقف من فوقهم فإنه بيت قائم على غي أساس متي وعلى غي دعائم‬
‫قوية ‪.‬‬
‫‪241‬‬
‫أل إن عهد ألف ليلة وليلة قد مضى فل يدعنّ أقوام أنفسهم ول يربطوا نفوسهم‬
‫يعجلة قد تكسرت وتطمت ‪ ،‬إن اللوكية مصباح – إن جاز هذا التعبي – قد نفذ زيته‬
‫واحترقت فتيلته ‪ ،‬فهو إل إنطفاء عاجل ولو ل تب عاصفة ‪.‬‬
‫إنه ل مل ف السلم لي نوع من أنواع الثرة ‪ ،‬إنه ل مل فيه للثرة الفردية أو‬
‫العائلية الت نراها ف بعض المم الشرقية والقطار السلمية ول مل فيه للثرة النظمة الت‬
‫نراها ف أوربا وأمريكا وف روسيا ‪ ،‬فهي ف أوربا أثرة حزب من الحزاب ‪ ،‬وف أمريكا أثرة‬
‫الرأساليي ‪ ،‬وف روسيا قلة آمنت بالشيوعية التطرفة وفرضت نفسها على الكثرة وهي تعامل‬
‫العمال والعتقلي بقسوة نادرة ووحشية ربا ل يوجد لا نظي ف تاريخ السخرة الظالة‪. )(261‬‬
‫إن الثرة يمع أنواعها ستنتهي وإن النسانية ستثور عليها وتنتقم منها انتقاما شديدا ‪،‬‬
‫إنه ل مستقبل ف العال إل للسلم السمح العادل الوسط وإن طال أجل هذه (( الثرات ))‬
‫وأرخي لا العنان وتادت ف غيها وطغيانا مدة من الزمان ‪.‬‬
‫إن الثرة – فردية كانت أو عائلية أو حزبية أو طبقية – غي طبيعية ف حياة المة وإنا‬
‫تتخلص منها ف أول فرصة إنه ل مل لا ف السلم ول مل لا ف متمع واع بلغ الرشد ول‬
‫أمل ف استمرارها ؛ فخي للمسلمي وخي للعرب وخي لقادتم وولة أمورهم أن يلصوا‬
‫أنفسهم منها ويقطعوا صلتهم با قبل أن تغرق فيغرقوا معها ‪.‬‬

‫إياد الوعي ف المة ‪:‬‬


‫إن أخوف ما ياف على أمة ويعرضها لكل خطر ويعلها فريسة للمنافقي ولعبة‬
‫للعابثي هو فقدان الوعي ف هذه المة ‪ ،‬وافتتانا بكل دعوة واندفاعها إل كل موجة‬
‫وخضوعها لكل متسلط وسكونا على كل فظيعة وتملها لكل ضيم ‪ ،‬وأن ل تعقل المور‬
‫ول تضعها ف مواضعها لكل ضيم ‪ ،‬وأن ل تعقل المور ول تضعها ف مواضعها ول تيز بي‬
‫الصديق والعدو وبي الناصح والغاش وأن تلدغ من جحر مرة بعد مرة ول تنصحها‬
‫الوادث ‪ ،‬ول تروعها التجارب ‪ ،‬ول تنتفع بالكوارث ‪ ،‬ول تزال تول قيادها من جربت‬

‫(‪ (261‬اقرأ في ذلك كتاب ‪Forced Labour in Russia :‬‬


‫لمؤلفه ‪Professor Ernest Tallgren :‬‬
‫‪242‬‬
‫عليه الغش والديعة واليانة والثرة والنانية ‪ ،‬ول تزال تضع ثقتها فيه وتكنه من نفسها‬
‫وأموالا وأعراضها ومفاتيح ملكها وتنسى سريعا ما لقت على يده السائر والنكبات‬
‫فيجترئ بذلك السياسيون الحترفون ‪ ،‬والقادة الائنون ويأمنون سخط المة وماسبتها‬
‫ويتمادون ف غيهم ويسترسلون ف خياناتم وعبثهم ثقة ببلهة المة وسذاجة الشعب وفقدان‬
‫الوعي ‪.‬‬
‫إن الشعوب السلمية والبلد العربية – مع السف – ضعيفة الوعي – إذا ترجنا أن‬
‫نقول ‪ :‬فاقدة الوعي – فهي ل تعرف صديقها من عدوها ول تزال تعاملها معاملة سواء أو‬
‫تعامل العدو أحسن ما تعامل الصديق الناصح وقد يكون الصديق ف تعب وجهاد معها طول‬
‫حياته بلف العدو ‪ ،‬ول تزال تلدغ من جحر واحد ألف مرة ول تعتب بالوادث والتجارب‬
‫‪ ،‬وهي ضعيفة الذاكرة سريعة النسيان تنسى ماضي الزعماء والقادة ‪ ،‬وتنسى الوادث القريبة‬
‫والبعيدة ‪ ،‬وهي ضعيفة ف الوعي الجتماعي وأضعف ف الوعي السياسي ‪ ،‬وذلك ما جر‬
‫عليها وبلً عظيما وشقاء كبيا وسلط عليها القيادة الزائفة وفضحها ف كل معركة ‪.‬‬
‫إن المم الوربية – برغم إفلسها ف الروح والخلق وبرغم عيوبا الكثية الت بثنا‬
‫عنها ف هذا الكتاب – قوية الوعي الدن والسياسي – قد بلغت سن الرشد ف السياسة ‪،‬‬
‫وأصبحت تعرف نفعها من ضررها ‪ ،‬وتيز بي الناصح والادع ‪ ،‬وبي الخلص والنافق ‪،‬‬
‫وبي الكفؤ والعاجز ‪ ،‬فل تول قيادها إل الكفاء القوياء المناء ‪ ،‬ث ل توليهم أمورهم إل‬
‫على حذر ‪ ،‬فإذا رأت منهم عجزا أو خيانة أو رأت أنم مثلوا دورهم وانتهوا من أمرهم‬
‫استغنت عنهم وأبدلت بم رجالً أقوى منهم وأعظم كفاءة وأجدر بالوقف ‪ ،‬ول ينعها من‬
‫إقالتهم أو إقصائهم من الكم ماضيهم الرائع وأعمالم الليلة وانتصارهم ف حرب ‪ ،‬أو‬
‫ناحهم ف قضية وبذلك أمنت السياسيي الحترفي ‪ ،‬والقيادة الضعيفة أو الائنة ‪ ،‬وخوف‬
‫ذلك الزعماء ورجال الكم وكانوا حذرين ساهرين يافون رقابة المة وعقابا وبطش الرأي‬
‫العام ‪.‬‬
‫فمن أعظم ما تدم به هذه المة وتؤمن من الهازل والآسي الت ل تكاد تنتهي هو‬
‫إياد الوعي ف طبقاتا ودهائها وتربية الماهي التربية العقلية والدنية والسياسية ‪ ،‬ول يفى‬
‫‪243‬‬
‫أن الوعي غي فشو التعليم وزوال المية وإن كانت هذه الخية من أنح وسائلها ‪ ،‬وليعرف‬
‫الزعماء السياسيون والقادة أن المة الت يعوزها الوعي غي جديرة بالثقة ول تبعث حالتها‬
‫على الرتياح وإن أطرت الزعامة والزعماء وقدستهم فإنا – ما دامت ضعيفة الوعي – عرضة‬
‫لكل دعاية وتريج وسخرية كريشة ف فلة تلعب با الرياح ول نستقر ف مكان ‪.‬‬

‫استقلل البلد العربية ف تارتا وماليتها ‪:‬‬


‫وكذلك لبد للعال العرب – كالعال السلمي – من الستقلل ف تارته وماليته‬
‫وصناعته وتعليمه ‪ ،‬ل تلبس شعوبه وجاهيه إل ما تنبته أرضه وتنسجه يده ‪ ،‬وتستغن عن‬
‫الغرب ف جيع شئون حياتا ‪ ،‬وف كل ما تتاج إليه من كسوة ‪ ،‬وطعام ‪ ،‬وبضائع ‪،‬‬
‫ومصنوعات ‪ ،‬وأسلحة وجهاز حرب ‪ ،‬وآلت وماكينات ‪ ،‬وأدوية ‪ ،‬فل تكون كلً على‬
‫الغرب وعيالً عليه ف معيشتها ومتطفلة على مائدته ‪.‬‬
‫إن العال العرب ل يستطيع أن يارب الغرب – إذا احتاج إل ذلك ودعت إليه‬
‫الظروف – وهو مدين له ف ماله ‪ ،‬عيال عليه ف لباسه وبضائعه ‪ ،‬ل يد قلما يوقع به على‬
‫ميثاق مع الغرب ‪ ،‬إل الرصاص الذي أفرغ ف الغرب ‪ ،‬إن عارا على المة يري ماء الياة ف‬
‫عروقها وشرايينها إل أجسام غيها ‪ ،‬وأن يدرب جيوشها وكلء الغرب وضباطه ‪ ،‬ويدير‬
‫بعض مصال حكومتها رجاله ‪ ،‬فلبد للعال العرب أن يقوم هو نفسه بجاته ‪ :‬تنظيم التجارة‬
‫والالية ‪ ،‬وحركة التوريد والتصدير ‪ ،‬والصناعة الوطنية ‪ ،‬وتدرب اليش ‪ ،‬وصنع اللت‬
‫والاكينات وتربية الرجال الذين يضطلعون بميع مهمات الدولة ووظائف الكومة ف خبة‬
‫ومهارة فنية ‪ ،‬وأمانة ونصيحة ‪.‬‬

‫تقدم مصر ف ميدان التجارة والصناعة والعلم ‪:‬‬


‫ولبد هنا من العتراف بأن مصر قد أثبتت كفايتها واستعدادها الكبي ف ميدان العلم‬
‫والصناعة ‪ ،‬وتربية الرجال ‪ ،‬ونشر الثقافة ‪ ،‬ونقل العلوم العصرية إل اللغة العربية ‪ ،‬وبواسطتها‬
‫إل المة العربية ‪ ،‬وعنايتها بالصناعة الوطنية ‪ ،‬وتنظيم شئون دولتها وماليتها على أساس العلم‬

‫‪244‬‬
‫العصري ‪ ،‬أما فضلها على اللغة العربية وإحياؤُها للكتب العربية ‪ ،‬وتقدم الصحافة والطباعة‬
‫وحركة النشر فيها ‪ ،‬فمن الأثر والفاخر الت سيسجلها التاريخ ‪ ،‬ويردد صداها الستقبل ‪،‬‬
‫ويدين بفضلها العرب جيعا ‪.‬‬

‫رجاء العال السلمي من العال العرب ‪:‬‬


‫والعال العرب بواهبه وخصائصه وحسن موقعه الغراف وأهيته السياسية يسن‬
‫الضطلع برسالة السلم ‪ ،‬ويستطع أن يتقلد زعامة العال السلمي ‪ ،‬ويزاحم أوربا بعد‬
‫الستعداد الكامل ‪ ،‬وينتصر عليها بإيانه وقوة رسالته ونصر من ال ‪ ،‬ويول العال من الشر‬
‫إل الي ‪ ،‬ومن النار والدمار إل الدوء والسلم ‪.‬‬

‫إل قمة القبلة العلمية ‪:‬‬


‫ما أعظم التطور الذي حدث ف تاريخ العرب على إثر بعثة ممد صلى ال عليه وسلم‬
‫ونادت به سورة السراء وقصة العرج ف لغة صرية بليغة وف أسلوب مبي مشرق‪ ، )(262‬وما‬
‫أعظم النعمة الت أسبغها ال على العرب ‪ .‬نقلهم من جزيرتم الت يتناحرون فيها إل العال‬
‫الفسيح الذي يقودونه بناصيته ‪ ،‬ومن الياة القبلية الحدودة الت ضاقوا با إل النسانية‬
‫الواسعة الت يشرفون عليها ويوجهونا ‪ ،‬وأصبحوا بفضل هذا التطور العظيم الذي فاجأ‬
‫العرب وفاجأ العال يقولون بكل وضوح وشجاعة لمباطور الملكة الفارسية العظيمة‬
‫وأركان دولته ‪(( :‬ال ابتعثنا لنخرج بنا من شاء من عبادة العباد إل عبادة ال وحده ‪،‬ومن‬
‫ضيق الدنيا إل سعتها ‪ ،‬ومن جور الديان إل عدل السلم )) ‪.‬‬
‫نعم لقد خرجوا من ضيق الدنيا أولً إل سعتها ث أخرجوا المم من ضيق الدنيا إل‬
‫سعتها آخرا ‪ ،‬وهل أضيق من الياة القبلية والنسية ‪ ،‬وأوسع من الياة النسانية الفاق ؟‬
‫وهل أضيق من الياة الت ل يفكر فيها إل ف الادة الزائلة والياة الفانية ول ياهد إل ف‬
‫سبيلها من الياة اليانية الروحانية الت ل ناية لا ول تديد ‪! .‬؟ ‪.‬‬

‫(‪ (262‬تضم سورة السراء وقصة المعرج وإعلنات بأن محمداً صلى ال عليه وسلم هو نبى القبيلتين وإمام المشرقين والمغربين‬
‫ووارث النبياء قبله وإمام الجيال بعده ‪.‬‬
‫‪245‬‬
‫لقد خرجوا من ضيق جزيرة العرب ‪ ،‬ومن ضيق الياة فيها ‪ ،‬ومن ضيق التفكي ف‬
‫مسائلها ومصالها ‪ ،‬ومن ضيق التناحر على سيادتا ‪ ،‬ومن ضيق التكالب على حطامها‬
‫القليل وملكها الضئيل وعيشها الذليل ‪ ،‬إل عال جديد من السيادة الروحية واللقية والعلمية‬
‫والسياسية ‪ ،‬ليس الدانوب الفائض والنيل السعيد والفرات العذب والسند الطويل إل سواقي‬
‫حقية وترعا صغية فيه ‪ ،‬وليست جبال اللب والبانس وعقاب لبنان وقمم هاليا إل تللً‬
‫متواضعة وسدودا صغية ‪ ،‬وليست البلد كالند والصي وتركستان إل أحياء ضيقة وحارات‬
‫صغية ‪ ،‬ونقطا مغمورة ف هذا العال ‪ ،‬وليست هذه الرض كلها – إذا نظر إليها من ارتقى‬
‫إل قمة هذه السيادة – إل خريطة صغية ملونة يراها الطائر الحلق ف السماء ‪ ،‬وليست المم‬
‫الكبية – مع ثقافتها وحضاراتا وآدابا – إل أسرا صغية ف أمة كبية ‪.‬‬
‫لقد قام العال الكبية على أساس العقيدة الواحدة ‪ ،‬واليان العميق والصلة الروحية‬
‫القوية ‪ ،‬وكان أوسع عال عرفه التاريخ وكانت الشعوب الت تكون هذا العال أقوى أسرة‬
‫عرفها التاريخ ‪ ،‬تنصهر فيها الثقافات الختلفة ‪ ،‬والعبقريات الختلفة ‪ ،‬فتكون منها ثقافة‬
‫واحدة هي الثقافة السلمية ‪ ،‬الت ل تزل تظهر ف نوابغ السلم الذين ل يصيهم عدد وف‬
‫الآثر السلمية – بي علمية وعملية – الت ل يستقصيها التاريخ ‪.‬‬
‫لقد كانت – ول تزال – قيادة هذا العال بدارة واستحقاق أشرف قيادة وأعظمها‬
‫وأقواها ف تاريخ الزعامة والقيادة ‪ ،‬وقد أكرم ال با العرب لا أخلصوا لذه الدعوة السلمية‬
‫وتفانوا ف سبيلها ‪ ،‬فأحبهم الناس ف العال حبا ل يعرف له نظي ‪ ،‬وقلدوهم ف كل شيء‬
‫تقليدا ل يعرف له نظي ‪ ،‬وخضعت للغتهم اللغات ‪ ،‬ولثقافتهم الثقافات ‪ ،‬ولضارتم‬
‫الضارات ‪ ،‬فكانت لغتهم هي لغة العلم والتأليف ف العال التمدن من أقصاه إل قصاه ‪،‬‬
‫وهي اللغة القدسة البيبة الت يؤثرها الناس على لغاتم الت نشأوا عليها ‪ ،‬ويؤلفون فيها أعظم‬
‫مؤلفاتم وأحب مؤلفاتم ‪ ،‬ويتقنونا كأبنائها وأحسن ‪ ،‬وينبغ فيها أدباء ومؤلفون يضع لم‬
‫الثقفون ف العال العرب ‪ ،‬ويقر بفضلهم وإمامتهم أدباء العرب ونقادهم ‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫وكانت حضارتم هي الضارة الثلي الت يتمجد الناس ويتظرفون بتقليدها ‪ ،‬ويث‬
‫علماء الدين على تفضيلها على الضارات الخرى ويطلقون على كل ما يالفها من‬
‫الضارات – اسم (( الاهلية )) و (( العجمية )) وينهون عن اتاذ شعائرها ومظاهرها ‪.‬‬
‫وبقيت هذه القيادة الشاملة الكاملة مدة طويلة والناس ل يفكرون ف ثورة عليها ‪ ،‬وف‬
‫التخلص منها ‪ ،‬كما هي عادة الفتوحي والمم الغلوبة على أمرها ف كل عهد ‪ ،‬لن صلتهم‬
‫بذه القيادة ليست صلة الفتوح بالفاتح أو الحكوم بالاكم أو الرقيق بالسيد القاهر ‪ ،‬إنا هي‬
‫صلة التدين بالتدين ‪ ،‬وصلة الؤمن بالؤمن ‪ ،‬وعلى الكثر إنا هي صلة التابع بالتبوع الذي‬
‫سبقه بعرفة الق واليان بالدعوة والتفان ف سبيلها ‪ ،‬فل مل للثورة ‪ ،‬ول مل للتذمر ‪ ،‬ول‬
‫مل لنكران الميل ‪ ،‬إنا اللئق أن يعترفون لم بالفضل ‪ ،‬وتلهج ألسنتهم بالشكر والدعاء ‪،‬‬
‫وأن يقولوا ‪ { :‬رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا َولِإِ ْخوَانِنَا اّلذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيَانِ وَلَا َتجْعَ ْل فِي قُلُوبِنَا غِلّا لّّلذِينَ‬
‫ف رّحِيمٌ } ‪.‬‬ ‫ك َرؤُو ٌ‬ ‫آمَنُوا رَبّنَا إِنّ َ‬
‫وهكذا كان ‪ ،‬فقد ظلت هذه المم الفتوحة تعتب العرب النقذ من الاهلية والوثنية ‪،‬‬
‫والداعي إل دار السلم ‪ ،‬والقائد إل النة ‪ ،‬والعلم للحضارة ‪ ،‬والستاذ ف الدب ‪.‬‬
‫هذه هي القيادة العالية الت هيأتا البعثة الحمدية ‪ ،‬وهي القيادة الت يب أن يرص‬
‫عليها العرب أشد الرص ‪ ،‬ويعضوا عليها بالنواجذ ‪ ،‬ويسعوا إليها بكل ما أوتوا من مواهب‬
‫ويتواصى با البار والبناء ‪ ،‬ول يوز لم – ف شريعة العقل والدين والغية – أن يتخلوا‬
‫عنها ف زمن من الزمان ‪ ،‬ففيها عوض عن كل قيادة مع زيادة ‪ ،‬وليس ف غيها عوض عنها‬
‫وكفاية ‪ ،‬وهي القيادة الت تشمل جيع أنواع القيادة والسيارة ‪ ،‬وهي تسيطر على القلوب‬
‫والرواح ‪ ،‬أكثر من سيطرتا على الجسام والشباح ‪.‬‬
‫إن الطريق إل هذه القيادة مهدة ميسورة للعرب ‪ ،‬وهي الطريق الت جربوها ف‬
‫عهدهم الول (( الخلص للدعوة السلمية واحتضانا وتنبيها والتفان ف سبيلها وتفضيل‬
‫منهج الياة السلمي على جيع مناهج الياة )) ‪.‬‬
‫وبذلك – من غي قصد وإرادة لنيل هذه القيادة وتبوئها – تضع لم المم السلمية‬
‫ف أناء العال ‪ ،‬وتتهالك على حبهم وإجللم وتقاليدهم ‪ ،‬وبذلك تنفتح لم أبواب جديدة‬
‫‪247‬‬
‫وميادين جديدة ف مشارق الرض ومغاربا ‪ ،‬اليادين الت استعصت على غزاة الغرب‬
‫ومستعمريه وثارة عليه ‪ ،‬وتدخل أمم جديدة ف السلم ‪ ،‬أمم فتية ف مواهبها وقواها‬
‫وذخائرها ‪،‬أمم تستطيع أن تعارض أوربا ف مدنيتها وعلومها إذا وجدت إيانا جديدا ‪ ،‬ودينا‬
‫جديدا ‪ ،‬وروحا جديدا ‪ ،‬ورسالة جديدة ‪.‬‬
‫إل مت أيها العرب تصرفون قواكم البارة الت فتحتم با العال القدي ف ميادين ضيقة‬
‫مدودة ؟ وإل مت ينحصر هذا السيل العرم – الذي جرف بالمس بالدنيات والكومات –‬
‫ف خدود هذا الوادي الضيق ‪ ،‬تصطرع أمواجه ويلتهم بعضها بعضا ؟ إليكم هذا العال‬
‫النسان الفسيح الذي اختاركم ال لقيادته واجتباكم لدايته ‪ ،‬وكانت البعثة الحمدية فاتة‬
‫هذا العهد الديد ف تاريخ أمتكم وف تاريخ العال جيعا ‪ ،‬وف مصيكم ومصي العال جيعا‬
‫فاحتضنوا هذه الدعوة السلمية من جديد وتفانوا ف سبيلها وجاهدوا فيها { َوجَا ِهدُوا فِي‬
‫اللّهِ َحقّ ِجهَا ِدهِ ُهوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَ َعلَ عَلَيْ ُك ْم فِي الدّينِ مِنْ حَ َرجٍ مّلّةَ أَبِي ُكمْ إِبْرَاهِيمَ ُهوَ‬
‫َسمّاكُمُ اْل ُمسْلِميَ مِن قَبْلُ َوفِي َهذَا لِيَكُونَ الرّسُولُ َشهِيدا عَلَيْ ُكمْ وَتَكُونُوا ُش َهدَاء َعلَى النّاسِ‬
‫فََأقِيمُوا الصّلَاةَ وَآتُوا ال ّزكَاةَ وَاعَْتصِمُوا بِاللّهِ ُهوَ َم ْولَا ُكمْ فَنِ ْعمَ اْل َموْلَى وَنِ ْعمَ الّنصِيُ } ‪.‬‬

‫**************************************‬

‫‪/http://www.saaid.net‬‬

‫‪248‬‬

You might also like