Professional Documents
Culture Documents
سيد قطب
()1
معالم في الطريق
مقدمة :
تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية ..ل بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها ..فهذا
ض للمرض وليس هو المرض ..ولكن بسـبب إفـلسها في عالم " القيم " التي يمكن أن تنمو
عرَ ٌ
َ
الحياة النسانية في ظللها نموًا سليمًا وتترقى ترقيا صحيحًا .وهذا واضح كل الوضوح في العالم
الغربي ،الذي لم يعد لديه ما يعطيه للبشرية من " القيم " ،بل الذي لم يعد لديه ما يُقنع ضميره
باستحقاقه للوجود ،بعدما انتهت " الديمقراطية " فيه إلى ما يشبه الفلس ،حيث بدأت تستعير-
ببطء -وتقتبس من أنظمة المعسكر الشرقي وبخاصة في النظمة القتصادية ! تحت إسم
الشتراكية !
كذلك الحال في المعسكر الشرقي نفسه ..فالنظريات الجماعية وفي مقدمتها الماركسية التي
اجتذبت في أول عهدها عددًا كبيرًا في الشرق -وفي الغرب نفسه -باعتبارها مذهبًا يحمل طابع
العقيدة ،قد تراجعت هي الخرى تراجعًا واضحًا من ناحية " الفكرة " حتى لتكاد تنحصر الن في
" الدولة " وأنظمتها ،التي تبعد بعدًا كبيرًا عن أصول المذهب ..وهي على العموم تناهض طبيعة
الفطرة البشرية ومقتضياتها ،ول تنمو إل في بيئة محطمة ! أو بيئة قد ألفت النظام الدكتاتوري
فترات طويلة ! وحتى في مثل هذه البيئات قد بدأ يظهر فشلها المادي القتصادي -وهو الجانب
الذي تقوم عليه وتتبجح به -فروسيا -التي تمثل قمة النظمة الجماعية -تتناقص غلتها بعد أن
كانت فائضة حتى في عهود القياصرة ،وتستورد القمح والمواد الغذائية ،وتبيع ما لديها من
()2
الذهب لتحصل على الطعام بسبب فشل المزارع الجماعية وفشل النظام الذي يصادم الفطرة
البشرية .
إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال ..ل لن الحضارة الغربية قد
أفلست ماديًا أو ضعفت من ناحية القوة القتصادية والعسكرية ..ولكن لن النظام الغربي قد انتهى
دوره لنه لم يعد يملك رصيداً من " القيم " يسمح له بالقيادة .
لبد من قيادة تملك إبقاء وتنمية الحضارة المادية التي وصلت إليها البشرية ،عن طريق
العبقرية الوروبية في البداع المادي ،وتزود البشرية بقيم جديدة جدّة كاملة -بالقياس إلى ما
والسلم -وحده -هو الذي يملك تلك القيم ،وهذا المنهج .
لقد أدّت النهضة العلمية دورها ..هذا الدور الذي بدأت مطالعه مع عصر النهضة في القرن
السادس عشر الميلدي ،ووصلت إلى ذروتها خلل القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ..ولم تعد
كذلك أدّت " الوطنية " و " القومية " التي برزت في تلك الفترة ،والتجمعات القليمية عامة
دورها خلل هذه القـرون ..ولم تعد تمـلك هي الخرى رصيدًا جديدًا .
ولقد جاء دور " السلم " ودور " المة " في أشد الساعات حرجاً وحيرة واضطرابًا ..جاء
دور السلم الذي ل يتنكّر للبداع المادي في الرض ،لنه يعدّه من وظيفة النسان الولى منذ
()3
أن عهد ال إليه بالخلفة في الرض ،ويعتبره -تحت شروط خاصة -عبادة ل ،وتحقيقًا لغاية
وجاء دور " المة المسلمة " لتحقق ما أراده ال بإخراجها للناس :
ن بِالّل ِه }
ن ا ْلمُنكَرِ وَ ُت ْؤمِنُو َ
ف وَتَ ْن َهوْنَ عَ ْ
ن بِا ْل َمعْرُو ِ
س تَ ْأمُرُو َ
ت لِلنّا ِ
{ كُنْتُ ْم خَيْرَ ُأ ّمةٍ ُأخْ ِرجَ ْ
شهِيدًا } ...
شهَدَا َء عَلَى النّاسِ وَ َيكُونَ ال ّرسُولُ عَلَ ْي ُكمْ َ
سطًا لِ َتكُونُوا ُ
جعَلْنَا ُكمْ ُأ ّمةً َو َ
{ َوكَذَلِكَ َ
ولكن السلم ل يملك أن يؤدي دوره إل أن يتمثل في مجتمع ،أي أن يتمثل في أمة ..
فالبشرية ل تستمع -وبخاصة في هذا الزمان -إلى عقيدة مجردة ،ل ترى مصداقها الواقعي في
حياة مشهودة ..و " وجود " المة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة ..فالمة المسلمة
ليست " أرضًا " كـان يعـيش فيها السـلم .وليست " قومًا " كان أجدادهم في عصر من
عصور التاريخ يعيشون بالنظام السلمي ..إنما " المة المسلمة " جماعة من البشر تنبثق حياتهم
وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج السلمي ...وهذه المة -
بهذه المواصفات ! قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة ال من فوق ظهر الرض جميعًا .
ول بد من " إعادة " وجود هذه " المة " لكي يؤدي السلم دوره المرتقب في قيادة البشرية
()4
ل بد من " بعث " لتلك المة التي واراها ركام الجيال وركام التصورات ،وركام الوضاع
،وركام النظمـة ،التي ل صلة لها بالسلم ،ول بالمنهج السلمي ..وإن كانت ما تزال
تزعم أنها قائمة فيما يسمى " العالم السلمي " !!!
وأنـا أعرف أن المسافة بين محاولة " البعث " وبين تسلم " القيادة " مسافة شاسعة ..فقد
غابت المة المسلمة عن " الوجود " وعن " الشهود " دهرًا طويلً .وقد تولت قيادة البشرية أفكار
أخرى وأمم أخرى ،وتصورات أخرى وأوضاع أخرى فترة طويلة .وقد أبدعت العبقرية
الوروبية في هذه الفترة رصيدًا ضخمًا من " العلم " و " الثقافة " و " النظمة " و " النتاج المادي
" ..وهو رصيد ضخم تقف البشرية على قمته ،ول تفرّط فيه ول فيمن يمثله بسهولة ! وبخاصة
أن ما يسمى " العالم السلمي " يكاد يكون عاطلً من كل هذه الزينة !
ولكن ل بد -مع هذه العتبارات كلها -من " البعث السلمي " مهما تكن المسافة شاسعة
بين محاولة البعث وبين تسلم القيادة .فمحاولة البعث السلمي هي الخطوة الولى التي ل يمكن
تخطيها !
ولكي نكون على بيّنة من المر ،ينبغي أن ندرك -على وجه التحديد -مؤهلت هذه
المة للقيادة البشرية ،كي ل نخطىء عناصرها في محاولة البعث الولى .
إن هذه المة ل تملك الن -وليس مطلوبًا منها -أن تقدم للبشرية تفوقاً خارقاً في
البداع المادي ،يحنى لها الرقاب ،ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية ..فالعبقرية
الوروبية قد سبقته في هذا المضمار سبقًا واسعًا .وليس من المنتظر -خلل عدة قرون على
()5
فلبد إذن من مؤهل آخر ! المؤهل الذي تفتقده هذه الحضارة !
إن هذا ل يعني أن نهمل البداع المادي .فمن واجبنا أن نحاول فيه جهدنا .ولكن ل
بوصفه " المؤهل " الذي نتقدم به لقيادة البشرية في المرحلة الراهنة .إنما بوصفه ضرورة ذاتية
لوجودنا .كذلك بوصفه واجباً يفرضه علينا " التصور السلمي " الذي ينوط بالنسان خلفة
الرض ،ويجعلها -تحت شروط خاصة -عبادة ل ،وتحقيقًا لغاية الوجود النساني .
ل بد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية -غير البداع المادي -ولن يكون هذا المؤهل
سوى " العقيدة " و " المنهج " الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنتاج العبقرية المادية ،تحت إشراف
تصور آخر يلبّي حاجة الفطرة كما يلبيِّها البداع المادي ،وأن تتمثل العقيدة والمنهج في تجمع
إنّ العالم يعيش اليوم كله في " جاهلية " من ناحية الصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة
وأنظمتـها .جاهلية ل تخفف منها شيئًا هذه التيسيرات المادية الهائلة ،وهذا البداع المادي الفائق
!
هذه الجاهلية تقوم على أساس العتداء على سلطان ال في الرض وعلى أخص خصائص
اللوهية ..وهي الحاكمية ..إنها تسند الحاكمية إلى البشر ،فتجعل بعضهم لبعض أربابا ،ل في
الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الولى ،ولكن في صورة ادعاء حق وضع
التصورات والقيم ،والشرائع والقوانين ،والنظمة والوضاع ،بمعزل عن منهج ال للحياة ،
وفيما لم يأذن به ال ..فينشأ عن هذا العتداء على سلطان ال اعتداء على عباده ..وما مهانة "
النسان " عامة في النظمة الجماعية ،وما ظلم " الفراد " والشعوب بسيطرة رأس المال
()6
والستعمار في النظم " الرأسمالية " إل أثرًا من آثار العتداء على سلطان ال ،وإنكار الكرامة
وفي هذا يتفرد المنهج السلمي ..فالناس في كل نظام غير النظام السلمي ،يعبد بعضهم
بعضًا – في صورة من الصور -وفي المنهج السلمي وحده يتحرر الناس جميعًا من عبادة
وهذا هو مفترق الطريق ..وهذا كذلك هو التصور الجديد الذي نملك إعطاءه للبشرية -هو
وسائر ما يترتب عليه من آثار عميقة في الحياة البشرية الواقعية -وهذا هو الرصيد الذي ل
تملكه البشرية ،لنه ليس من " منتجات " الحضـارة الغربية ،وليس من منتجات العبقرية
إننا -دون شك -نملك شيئاً جديدًا جدّة كاملة .شيئاً ل تعرفه البشرية .ول تملك هي أن
ولكن هذا الجديد ،ل بد أن يتمثل -كما قلنا -في واقع عملي .ل بد أن تعيش به أمة ..
وهذا يقتضي عملية " بعث " في الرقعة السلمية هذا البعث الذي يتبعه -على مسافة ما بعيدة أو
إنه ل بد من طليعة تعزم هذه العزمة ،وتمضي في الطريق .تمضي في خضم الجاهلية
الضاربة الطناب في أرجاء الرض جميعًا .تمضي وهي تزاول نوعاً من العزلة من جانب ،
()7
ول بد لهذه الطليعة التي تعزم هذه العزمة من " معالم في الطريق " معالم تعرف منها طبيعة
دورها ،وحقيقة وظيفتها ،وصلب غايتها .ونقطة البدء في الرحلة الطويلة ..كما تعرف منها
طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة الطناب في الرض جميعًا ..أين تلتقي مع الناس وأين تفترق
؟ ما خصائصها هي وما خصائص الجاهلية من حولها ؟ كيف تخاطب أهل هذه الجاهلية بلغة
السلم وفيم تخاطبها ؟ ثم تعرف من أين تتلقى – في هذا كله – وكيف تتلقى ؟
هذه المعالم ل بد أن تقام من المصدر الول لهذه العقيدة ..القرآن ..ومن توجيهاته
الساسية ،ومن التصور الذي أنشأه في نفوس الصفوة المختارة ،التي صنع ال بها في الرض
ما شاء أن يصنع ،والتي حولت خط سير التاريخ مرة إلى حيث شاء ال أن يسير .
لهذه الطليعة المرجوة المرتقبة كتبت " معالم في الطريق " .منها أربعة فصول مستخرجة
.ومنها ()1
من كتاب " في ظلل القرآن " مع تعديلت وإضافات مناسبة لموضوع كتاب المعالم
ثمانية فصول -غير هذه التقدمة -مكتوبة في فترات حسبما أوحت به اللفتات المتوالية إلى
المنهج الرباني الممثل في القرآن الكريم ..وكلها يجمعها -على تفرقها -أنها معالم فى
الطريق ،كما هو الشأن في معالم كل طريق ! وهي في مجموعها تمثل المجموعة الولى من هذه
" المعالم " والتي أرجو أن تتبعها مجموعة أخرى أو مجموعات ،كلما هداني ال إلى معالم هذا
الطريق !
سيد قطب
" طبيعة المنهج القرآني " ..و " التصور السلمي والثقافة " و " الجهاد في سبيل ال " و " نشأة المجتمع )(1
هنالك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها أصحاب الدعوة السلمية في كل أرض وفي
كل زمان .وأن يقفوا أمامها طويلً .ذلك أنها ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها .
لقد خرّجت هذه الدعوة جيلً من الناس -جيل الصحابة رضوان ال عليهم -جيلً مميزًا
في تاريخ السلم كله وفى تاريخ البشرية جميعه .ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى ..نعم
وُجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ .ولكن لم يحدث قط أن تجمّع مثل ذلك العدد الضخم
،في مكان واحد ،كما وقع في الفترة الولى من حياة هذه الدعوة .
هذه ظاهرة واضحة واقعة ،ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامـه طويلً ،لعلنا نهتدي إلى
سرّه .
إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا ،وحديث رسول ال -صلى ال عليه وسلم -وهديه
العملي ،وسيرته الكريمة ،كلها بين أيدينا كذلك ،كما كانت بين أبدي ذلك الجبل الول ،الذي لم
يتكرر في التاريخ ..ولم يغب إل شخص رسول ال -صلى ال عليه وسلم -فهل هذا هـو السر
؟
لو كان وجود شخص رسول ال -صلى ال عليه وسلم -حتميّا لقيام هذه الدعوة ،وإيتائها
ثمراتها ،ما جعلها ال دعوة للناس كافة ،وما جعلها آخر رسالة ،وما وكّل إليها أمر الناس في
()9
ولكن ال -سبحانه -تكفل بحفظ الذّكْر ،و علم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول
ال -صلى ال عليه وسلم -وبمكن أن تؤتي ثمارها .فاختاره إلى جواره بعد ثلثة وعشرين
عامًا من الرسالة ،وأبقى هذا الدّين من بعده إلى آخر الزمان ..وإذن فإن غيبة شخص رسول ال
فلنبحث إذن وراء سبب آخر .لننظر في النبع الذي كان يستقي منه هذا الجيل الول ،فلعل
شيئاً قد تغير فيه .ولننظر في المنهج الذي تخرجوا عليه ،فلعل شيئاً قد تغير فيه كذلك .
كان النبع الول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن .القرآن وحده .فما كان حديث
رسول ال -صلى ال عليه وسلم -وهديه إل أثرًا من آثار ذلك النبع .فعندما سُئلت عائشة
. ()2
رضي ال عنها -عن خُلق رسول ال -صلى ال عليه وسلم -قالت " :كان خُلقه القرآن "
كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه ،ويتكيفون به ،ويتخرجون عليه ،ولم
يكن ذلك كذلك لنه لم يكن للبشرية يومها حضارة ،ول ثقافة ،ول علم ،ول مؤلفات ،ول
دراسات ..كل ! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا
تعيش عليه ،أو على امتداده .وكانت هناك مخلفات الحضارة الغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها ،
وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم .وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها
وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك .وحضارات أخـرى قاصية ودانية :حضارة الهند
وحضارة الصين إلخ .وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها
ومن جنوبها ،كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة ..فلم يكن إذن عن فقر في
الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيـل على كتاب ال وحده ..في فترة تكونه
()10
..وإنما كان ذلك عن " تصميم " مرسوم ،ونهج مقصود .يدل على هذا القصد غضب رسول ال
-صلى ال عليه وسلم -وقد رأى في يد عمر بن الخطاب -رضي ال عنه – صحيفـة مـن
. ()3
التوراة .وقوله " :إنه وال لو كان موسى حيّا بين أظهركم ما حلّ له إل أن يتبعني "
وإذن فقد كان هناك قصد من رسول ال -صلى ال عليه وسلم -أن يقصر النبع الذي
يستقي منه ذلك الجيل ..في فترة التكون الولى ..على كتاب ال وحده ،لتخلص نفوسهم له
وحده .ويستقيم عودهم على منهجه وحده .ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب -رضي
كان رسول ال -صلى ال عليه وسلم -يريد صنع جيل خالص القلب .خالص العقل .
خالص التصور .خالص الشعور .خالص التكوين من أى مؤثر آخر غير المنهج اللهي ،الذي
ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده .فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد ..ثم ما
الذي حدث ،اختلطت الينابيع ! .صبت في النبع الذي استقت منه الجيال التالية فلسفة الغريق
ومنطقهم ،وأساطير الفرس وتصوراتهم ،وإسرائيليات اليهود ولهوت النصارى ،وغير ذلك من
رواسب الحضارات والثقافات .واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم ،وعلم الكلم ،كما اختلط
بالفقه والصول أيضًا .وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الجيال بعد ذلك الجيل ،فلم يتكرر
وما من شك أن اختلط النبع الول كان عاملً أساسيّا من عوامل ذلك الختلف البيّن بين
()11
هناك عامل أساسي آخر غير اختلف طبيعة النبع .ذلك هو اختلف منهج التلقي عما كان
إنهم -في الجيل الول -لم يكونوا يقرءون القرآن بقصد الثقافة والطلع ،ول بقصد
التذوق والمتاع .لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة ،ول
ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولً يمل به جعبته .إنما كان يتلقى القرآن
ليتلقى أمر ال في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها ،وشأن الحياة التي يحياها هو
وجماعته ،يتلقى ذلك المر ليعمل به فور سماعه ،كما يتلقى الجندي في الميدان " المر اليومي "
ليعمل به فور تلقيه ! ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة ،لنه كان يحس أنه
إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه ،فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل
. ()4
بها كما جاء في حديث ابن مسعود رضي ال عنه
هذا الشعور ..شعور التلقي للتنفيذ ..كان يفتح لهم من القرآن آفاقًا من المتاع وآفاقًا من
المعرفة ،لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والطلع ،وكان ييسر
لهم العمل ،ويخفف عنهم ثقل التكاليف ،ويخلط القرآن بذواتهم ،ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم
إلى منهج واقعي ،وإلى ثقافة متحركة ل تبقى داخل الذهان ول في بطون الصحائف ،إنما
إن هذا القرآن ل يمنح كنوزه إل لمن يُقبل عليه بهذه الروح :روح المعرفة المنشئة للعمل .
إنه لم يجيء ليكون كتاب متاع عقلي ،ول كتاب أدب وفن ،ول كتاب قصة وتاريخ -وإن كان
()12
هذا كله من محتوياته -إنما جاء ليكون منهاح حياة .منهاجًا إلهيّا خالصًا .وكان ال سبحـانه
طرِد في
لم ينزل هذا القرآن جملة ،إنما نزل وفق الحاجات المتجددة ،ووفق النمو الم ّ
الفكار والتصورات ،والنمو ال ُمطّرِد في المجتمع والحياة ،ووفق المشكلت العملية التي تواجهها
الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية .وكانت الية أو اليات تنزل في الحالة الخاصة والحادثة
المعينة تحدث الناس عما في نفوسهم ،وتصوّر لهم ما هم فيه من المر ،وترسم لهم منهج العمل
في الموقف ،وتصحح لهم أخطاء الشعور والسلوك ،وتربطهم في هذا كله بال ربهم ،وتع ّرفُه
لهم بصفاته المؤثرة في الكون ،فيحسون حينئذ أنهم يعيشون مع المل العلى ،تحت عين ال ،
في رحاب القدرة .ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم ،وفق ذلك المنهـج اللهي القويم .
إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الول .ومنهج التلقي للدراسة والمتاع
هو الذي خرّج الجيال التي تليه .وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملً أساسيًا كذلك في
لقـد كان الرجل حين يدخل في السلم يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية .كان
يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى السلم أنه يبدأ عهداً جديدًا ،منفصلً كل النفصال عن
حياته التي عاشها في الجاهلية .وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك
الحذر المتخوف ،الذي يحس أن كل هذا رجس ل يصلح للسلم ! وبهذا الحساس كان يتلقى
()13
هَدْي السلم الجديد ،فإذا غلبته نفسه مرة ،وإذا اجتذبته عاداته مرة ،وإذا ضعف عن تكاليف
السلم مرة ..شعر في الحال بالثم والخطيئة ،وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر
مما وقع فيه ،وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهَدْي القرآني .
كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلمه ،تنشأ
عنها عزلة كاملة في صلته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الجتماعية ،فهو قد انفصل
نهائيًا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيًا ببيئته السلمية .حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين
ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي ،فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر .
النخلع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد ،ومن تصور الجاهلية إلى تصور السلم عن الحياة
والوجود .وينشأ من النضمام إلى التجمع السلمي الجديد ،بقيادته الجديدة ،ومنح هذا المجتمع
وكان هذا مفرق الطريق ،وكان بدء السير في الطريق الجديد ،السير الطليق مع التخفف
من كل ضغط للتقاليد التي يتواضع عليها المجتمع الجاهلي ،ومن كل التصورات والقيم السائدة فيه
.ولم يكن هناك إل ما يلقاه المسلم من أذى وفتنة ،ولكنه هو في ذات نفسه قد عزم وانتهى ،ولم
يعد لضغط التصور الجاهلي ،ول لتقاليد المجتمع الجاهلي عليه من سبيل .
نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها السلم أو أظلم .كل ما حولنا جاهلية ..
تصورات الناس وعقائدهم ،عاداتهم وتقاليدهم ،موارد ثقافتهم ،فنونهم وآدابهم ،شرائعهم
وقوانينهم .حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلمية ،ومراجع إسلمية ،وفلسفة إسلمية ،وتفكيرًا
()14
لذلك ل تستقيم قيم السلم في نفوسنا ،ول يتضح تصور السلم في عقولنا ،ول ينشأ فينا
جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه السلم أول مرة .
فل بد إذن -في منهج الحركة السلمية -أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل
مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها .ل بد أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي
استمد منه أولئك الرجال ،النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشبه شائبة .نرجع إليه نستمد منه
تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود النساني ولكافة الرتباطات بين هذين الوجودين وبين
الوجود الكامل الحق ،وجود ال سبحانه ..ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة ،وقيمنا وأخلقنا ،
ول بد أن نرجع إليه -حين نرجع -بشعور التلقي للتنفيذ والعمل ،ل بشعور الدراسة
والمتاع .نرجع إليه لنعرف ماذا يطلب منا أن نكون ،لنكون .وفي الطريق سنلتقي بالجمال الفني
في القرآن وبالقصص الرائع في القرآن ،وبمشاهد القيامة في القرآن ..وبالمنطق الوجداني في
القرآن ..وبسائر ما يطلبه أصحاب الدراسة والمتاع .ولكننا سنلتقي بهذا كله دون أن يكون هو
هدفنا الول .إن هدفنا الول أن نعرف :ماذا يريد منا القرآن أن نعمل ؟ ما هو التصور الكلي
الذي يريد منا أن نتصور ؟ كيف يريد القرآن أن يكون شعورنا بال ؟ كيف يريد أن تكون أخلقنا
ثم ل بد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية
والقيادة الجاهلية ..في خاصة نفوسنا ..ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي
ول أن ندين بالولء له ،فهو بهذه الصفة ..صفة الجاهلية ..غير قابل لن نصطلح معه .إن
()15
إن مهمتنا الولى هي تغيير واقع هذا المجتمع .مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من
أساسه .هذا الواقع الذي يصطدم اصطدامًا أساسيًا بالمنهج السلمي ،وبالتصور السلمي ،
والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج اللهي أن نعيش .
إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته ،
وأل نعدّل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلً أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريق .كل ! إننا
وإياه على مفرق الطريق ،وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق !
وسنلقى في هذا عنتًا ومشقة ،وستفرض علينا تضحيات باهظة ،ولكننا لسنا مخيرين إذا
نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الول الذي أقر ال به منهجه اللهي ،ونصره على منهج
الجاهلية .
وإنه لمن الخير أن ندرك دائمًا طبيعة منهجنا ،وطبيعة موقفنا ،وطبيعة الطريق الذي ل بد
أن نسلكه للخروج من الجاهلية كما خرج ذلك الجيل المميز الفريد ..
()16
(*)
طبيعة المنهج القرآني
ظل القران المكّي ينزل على رسول ال -صلى ال عليه وسلم -ثلثة عشر عاما كاملة ،
يحدّثه فيها عن قضية واحدة .قضية واحدة ل تتغير ،ولكن طريقة عرضها ل تكاد تتكرر .ذلك
السلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة ،حتى لكأنما يطرقها للمرة الولى .
لقد كان يعالـج القضية الولى ،والقضية الكبرى ،والقضية الساسية ،في هذا الدين
الجديد ..قضية العقيدة ..ممثلة في قاعدتها الرئيسية ..اللوهية والعبودية ،وما بينهما من علقة
.
لقد كان يخاطب بهذه الحقيقة " النسان " ..النسان بما أنه إنسان ..وفي هذا المجال
يستوي النسان العربي في ذلك الزمان والنسان العربي في كل زمان ،كما يستوي النسان
إنها قضية " النسان " التي ل تتغير ،لنها قضية وجوده في هذا الكون وقضية مصيره .
قضية علقته بهذا الكون وبهؤلء الحياء ،وقضية علقته بخالق هذا الكون وخالق هذه الحياء .
لقـد كان هذا القرآن المكي يفسر للنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله ..كان
يقول له :من هو ؟ ومن أين جاء ؟ ولماذا جاء ؟ والى أين يذهب في نهاية المطاف ؟ من ذا الذي
مستخرج من كتاب " :في ظلل القرآن " من التعريف بسورة النعام في الجزء السابع من الطبعة المشروعة (*)
الوجود الذي يحسه ويراه ،والذي يحس أن وراءه غيبا يستشرفه ول يراه ؟ من أنشأ هذا الوجود
المليء بالسرار ؟ من ذا يدبره ؟ ومن ذا يحوره ؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه ؟
..وكان يقول له كذلك :كيف يتعامل مع خالق هذا الكون ،ومع الكون أيضا ،كما يبين له :
وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود " النسان " .وستظل هي القضية
وهكذا انقضت ثلثة عشر عاما كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى ،القضية التي ليس
ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات
المتعلقة بنظام الحياة ،إل بعد أن علم ال أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان ،وأنهـا استقرت
استقرارا مكينا ثابتا في قلوب العصبة المختارة من بني النسان ،التي قدّر ال أن يقوم هذا الدين
عليها ،وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين .
وأصحاب الدعوة إلى دين ال ،وإلى إقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين فـي واقع الحياة
،خليقون أن يقفوا طويلً أمام هذه الظاهرة الكبيرة ،ظاهرة تصدي القرآن المكي خلل ثلثة
عشر عاما لتقرير هذه العقيدة ،ثم وقوفه عندها ل يتجاوزها إلى شيء من تفصيلت النظام الذي
يقوم عليها ،والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها .
لقد شاءت حكمة ال أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى لها الدعوة منذ اليوم
الول للرسالة ،وأن يبدأ رسول ال -صلى ال عليه وسلم -أولى خطواته في الدعوة بدعوة
()18
الناس أن يشهدوا :أن ل اله إل ال ،وأن يمضي في دعوته يعرّف الناس بربهم الحق ،
ولم تكن هذه -في ظاهر المر وفي نظرة العقل البشري المحجوب -هي أيسر السبل إلى
قلوب العرب ! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى " إله " ومعنى " :ل إله إل ال " .كانوا
يعرفون أن اللوهية تعني الحاكمية العليا ..وكانوا يعرفون أن توحيد اللوهية وإفراد ال -
سبحانه -بها ،معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والمراء والحكام ،وردّه
كله إلى ال ..السلطان على الضمائر ،والسلطان على الشعائر ،والسلطان على واقعيات الحياة ،
والسلطان في المال ،والسلطان في القضاء ،والسلطان في الرواح والبدان ..كانوا يعلمون أن "
ل إله إل ال " ثورة على السلطان الرضي الذي يغتصب أولى خصائص اللوهية ،وثورة على
الوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الغتصاب ،وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من
عندها لم يأذن بها ال ..ولم يكن يغيب عن العرب -وهم يعرفون لغتهم جيدا ويعرفون المدلول
الحقيقي لدعوة " -ل اله إل ال " -ماذا تعني هذه الدعوة بالنسبة لوضاعهم ورياساتهم
وسلطانهم ،ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة -أو هذه الثورة -ذلك الستقبال العنيف ،وحاربوها
فَِلمَ كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة ؟ وَلِمَ اقتضت حكمة ال أن تبدأ بكل هذا العناء ؟
لقد بُعث رسول ال -صلى ال عليه وسلم -بهذا الدين ،وأخصب بلد العرب وأغناها
()19
بلد الشام كلهـا في الشمال خاضعة للروم ،يحكمها أمراء عرب من قِبَل الروم ،وبلد
اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس ،يحكمها أمراء عرب من قبل الفرس ،وليست في أيدي
العرب إل الحجاز وتهامة ونجد ،وما إليها من الصحاري القاحلة التي تتناثر فيها الواحات
وربما قيل :أنه كان في استطاعة محمد -صلى ال عليه وسلم -وهو الصادق المين
الذي حكّمه أشراف قريش قبل ذلك في وضـع الحجر السود ،وارتضوا حكمه ،منذ خمسة
عشر عاما قبل الرسالة ،والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا ..إنه كان في
استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب التي أكلتها الثارات ومزقتها
النزاعات ،وتوجيهها وجهة قومية لستخلص أرضها المغتصبة من الامبراطوريات المستعمرة ..
الرومان في الشمال والفرس في الجنوب ..وإعلء راية العربية والعروبة ،وإنشاء وحدة قومية
وربما قيل :أنه لو دعا رسول الله -صلى ال عليه وسلم -هذه الدعوة لستجابت له
العرب قاطبة ،بدلً من أن يعاني ثلثة عشر عاما في اتجاه معارض لهواء أصحاب السلطان في
الجزيرة !
وربما قيل :أن محمدا -صلى ال عليه وسلم -كان خليقا -بعد أن يستجيب له العرب
هذه الستجابة ،وبعد أن يولّوه فيهم القيادة والسيادة ،وبعد استجماع السلطان في يديه ،والمجد
فوق مفرقيه -أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعث بها ،في تعبيد الناس لسلطان
()20
ولكن ال -سبحانه -وهو العليم الحكيم ،لم يوجّه رسوله -صلى ال عليه وسلم -هذا
التوجيه ! إنما وجهه إلى أن يصدع بـ " ل اله إل ال " ،وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له
لماذا ؟ إن ال -سبحانه -ل يريد أن يُعَنّت رسوله والمؤمنين معه .إنما هو -سبحانه -
يعلم أن ليس هذا هو الطريق ،ليس الطريق أن تخلص الرض من يد طاغوت روماني أو
طاغوت فارسي ،إلى يد طاغوت عربي .فالطاغوت كله طاغوت ! إن الرض ل ،ويجب أن
تخلص ل .ول تخلص ل إل أن ترتفع عليها راية " :ل إله إل ال " .وليس الطريق أن يتحرر
الناس في هذه الرض من طاغوت روماني أو فارسي ،إلى طاغوت عربي .فالطاغوت كله
طاغوت ! أن النـاس عبيد ل وحده ،ول يكونون عبيدا ل وحده إل أن ترتفع راية " :ل إله إل
ال " -ل إله إل ال كما يدركهـا العربي العارف بمدلولت لغته : ،ل حاكمية إل ال ،ول
شريعة إل من ال ،ول سلطان لحد على أحد ،لأن السلطان كله ل ،ولأن " الجنسية " التي
يريدها السلم للناس هي جنسية العقيدة ،التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر
وبُعث رسول ال -صلى ال عليه وسلم -بهذا الدين ،والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون
المجتمع توزيعاً للثروة والعدالة .قلة قليلة تملك المال والتجارة ،وتتعامل بالرّبا فتتضاعف
تجارتها ومالها .وكثرة كثيرة ل تملك إل الشظف والجوع .والذين يملكون الثروة يملكون معها
()21
وربما قيل :أنه كان في استطاعة محمد -صلى ال عليه وسلم -أن يرفعها راية اجتماعية
،وأن يثيرها حربا على طبقة الشراف ،وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الوضاع ،ورد أموال
وربما قيل :أنـه لو دعا يومها رسول ال -صلى ال عليه وسلم -هذه الدعوة ،لنقسم
المجتمع العربي صفّين :الكثرة الغالبة مع الدعوة الجديدة في وجه طغيان المال والشرف والجاه ،
والقلة القليلة مع هذه الموروثات ،بدل من أن يقف المجتمع كله صفّاً في وجه " ل اله إل ال "
وربما قيل :أن محمدا -صلى ال عليه وسلم -كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة ،
وتوليه قيادها ،فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها ،أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار
عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه ،وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبّدهم لسلطانه البشرى
!
ولكن ال -سبحانه -وهو العليم الحكيم ،لم يوجهه هذا التوجيه ..
لقد كان ال -سبحانه -يعلم أن هذا ليس هو الطريق ..كان يعلم أن العدالة الجتماعية ل
بد أن تنبثـق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل ،يرد المر كله ل ،ويقبل عن رضى وعن
طواعية ما يقضي به ال من عدالة التوزيع ،ومن تكافل الجميع ،ويستقر معه في قلب الخذ
والمأخوذ منه سواء أنه ينفذ نظاما شرعه ال ،ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا
والخرة سواء .فل تمتلئ قلوب بالطمع ،ول تمتلئ قلوب بالحقد ،ول تسير المور كلها بالسيف
والعصا ،وبالتخويف والرهاب ! ول تفسد القلوب كلها وتختنق الرواح ،كما يقع في الوضاع
()22
* * *
وبُعث رسول ال -صلى ال عليه وسلم -والمستوى الخلقي في الجزيرة العربية في
الدرك السفل في جوانب منه شتى -إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية .
كان التظـالم فاشياً في المجتمع ،تعبر عنـه حكمة الشاعر " زهير بن أبي سلمى " :
ويعبر عنه القول المتعارف في الجاهلية " :انصر أخاك ظالما أو مظلوما " .
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ،ومن مفاخره كذلك ! يعبر عن هذه
وكانت الدعارة -في صور شتى -من معالم هذا المجتمع -شأنه شأن كل مجتمع جاهلي
" إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء :فنكاح منها نكاح الناس اليوم ..يخطب
الرجل إلى الرجل وليّته أو بنته ،فيصدقها ثم ينكحها ..والنكاح الآخر كان الرجل يقول لمرأته
-إذا طهرت من طمثها : -ارسلي إلى فلن فاستبضعي منه ،ويعتزلها زوجها ول يمسها أبدًا
()23
حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستضع منه ،فإذا تبين حملها أصابها الرجل إذا أحب ،
وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ! فكان هذا النكاح نكاح الستبضاع ..ونكاح آخر :يجتمع
الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة ،كلهم يصيبها .فإذا حملت ووضعت ،ومر عليها
ليال بعد أن تضع حملها ،أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ،حتى يجتمعوا عندها ،
تقول لهم :قد عرفتم الذي كان من أمركم ،وقد ولدت ،فهو ابنك يا فلن ،تسمي من أحبت
باسمه فيلحـق به ولدها ،ول يستطيع أن يمتنع به الرجل ..والنكاح الرابع :يجتمـع الناس
الكثير ،فيدخلون على المرأة ل تمتنع من جاءها ..وهن البغايا ..كن ينصبن على أبوابهن رايات
تكون علما ،فمن أرادهن دخل عليهن ،فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ،جمعوا لها ودعوا
. ()5
لهم القافة ،ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون ،فالتاطه ،ودعى ابنه ل يمتنع عن ذلك "
وربما قيل :أنه كان قي استطاعة محمد -صلى ال عليه وسلم -أن يعلنها دعوة إصلحية
وربما قيل :أنه -صلى ال عليه وسلم -كان واجدا وقتها -كما يجد كل مصلح أخلقي
وربما قال قائل :أنه لو صنع رسول ال -صلى ال عليه وسلم -ذلك لستجابت له -في
أول المر -جمهـرة صالحة ،تتطهر أخلقها ،وتزكوا أرواحها ،فتصبح أقرب إلى قبول
العقيدة وحملها ،بدلً من أن تثير دعوة " ل إله إل ال " المعارضة القوية منذ أول الطريق .
()24
ولكن ال -سبحانه -كان يعلم أن ليس هذا هو الطريق ! كان يعلم أن الخلق ل تقوم إل
على أساس من عقيدة ،تضع الموازين ،وتقرر القيم ،كما تقرر السلطة التي تستند إليها هذه
الموازين والقيم ،والجزاء الذي تملكه هذه السلطة ،وتوقعه على الملتزمين والمخالفين .وإنه قبل
تقرير هذه العقيدة ،وتحديد هذه السلطة تظل القيم كلها متأرجحة وتظل الخلق التي تقوم عليها
فلمّا تقررت العقيدة -بعد الجهد الشاق -وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة ..
لَمّا عرف الناس ربهم وعبدوه وحده ..لَمّا تحرر الناس من سلطان العبيد ومن سلطان الشهوات
سواء ..لَمّا تقررت في القلوب " ل إله إل ال " ..صنع ال بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه
المقترحون ..تطهرت الرض من " الرومان والفرس " ..ل ليتقرر فيها سلطان " العرب " .
ولكن ليتقرر فيها سلطان " ال " ..لقد تطهرت من سلطان " الطاغوت " كله ..رومانيا ،وفارسيا
وتطهر المجتمع من الظلم الجتماعي بجملته .وقام " النظام السلمي " ،يعدل بعدل ال ،
ويزن بميزان ال ،ويرفع راية العدالة الجتماعية باسم ال وحده ،ويسميها رايـة " السلم " .
ل يقرن إليها اسما آخر ،ويكتب عليهـا " :ل اله إل ال " !
وتطهرت النفوس والخلق ،وزكت القلوب والرواح ،دون أن يحتاج المر حتى للحدود
والتعازير التي شرعها ال -إل في الندرة النادرة -لأن الرقابة قامت هناك في الضمائر ،ولأن
الطمع في رضى ال وثوابه ،والحياء والخوف من غضبه وعقابه ،قد قاما مقام الرقابة ومكان
العقوبات .
وارتفعت البشرية في نظامها ،وفي أخلقها ،وفي حياتها كلها ،إلى القمة السامقة التي لم
أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم ،في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك .
وكانوا قد وُعِدُوا على إقامة هذا الدين وعدا واحدا ،ل يدخل فيه الغلب والسلطان ..ول حتى
لهذا الدين على أيديهم ..وعدا واحدا ل يتعلق بشيء في هذه الدنيا ..وعدا واحدا هو الجنة .هذا
كل وعدوه على الجهاد المضني ،والبتلء الشاق ،والمضي في الدعوة ،ومواجهة الجاهلية
بالمر الذي يكرهه أصحاب السلطان في كل زمان وفي كل مكان ،وهو " :ل إله إل ال " !
فَلَمّا أن ابتلهم ال فصبروا ،ولَمّا أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم ،ولَمّا أن علم ال
منهم أنهم ل ينتظرون جزاء في هذه الرض -كائنا ما كان هذا الجزاء ،ولو كان هو انتصار
هذه الدعوة على أيديهم ،وقيام هذا الدين في الرض بجهدهم -ولَمّا لم يعد في نفوسهم اعتزاز
بجد ول قوم ،ول اعتزاز بوطن ول أرض ،ول اعتزاز بعشيرة ول بيت ..لَمّا أن علم ال
منهم ذلك كله ،علم أنهم قد أصبحوا -إذن -أمناء على هذه المانة الكبرى ..أمناء على العقيدة
،التي يتفرد فيها ال -سبحانه -بالحاكمية في القلوب والضمائر ،وفي السلوك والشعائر ،وفي
الرواح والموال ،وفي الوضاع والحوال ..وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم
ليقوموا به على شريعة ال ينفذونها ،وعلى عدل ال يقيمونه ،دون أن يكون لهم من ذلك السلطان
شيء لأنفسهم ،ول لعشيرتهم ،ول لقومهم ،ول لجنسهم .إنما يكون السلطان الذي في أيديهم ل
،ولدينه وشريعته ،لنهم يعلمون أنه من ال ،هو الذي آتاهم إياه .
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع ،إل أن تبـدأ
الدعوة ذلك البدء .وإل أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدهـا ..راية ل إله إل ال ..ول ترفع
معها سواها .وإل أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره ،المبارك الميسر في
حقيقته .
()26
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص ل ،لو أن الدعوة بدأت خطواتهـا الولى دعوة قومية
،أو دعوة اجتماعية ،أو دعوة أخلقية ..أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد " :ل اله
ذلك شأن القرآن المكّي كله في تقرير " :ل إله إل ال " في القلوب والعقول ،واختيار هذا
الطريق -على مشقته في الظاهر -وعدم اختيار السبل الجانبيـة الخرى ،والصرار على هذا
الطريق .
فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية العتقاد وحدها ،دون التطرق الى تفصيلت النظام
الذي يقوم عليها ،والشرائع التي تنظم المعاملت فيها ،فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه
إن طبيعة هذا الدين هـي التي قضت بهذا ..فهو دين يقوم كله علـى قاعدة اللوهية
الواحدة ..كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الصل الكبير ..وكما أن الشجرة الضخمة
الباسقة ،الوارفة المديدة الظلل ،المتشابكة الغصان ،الضاربة في الهواء ..ل بد لها أن
تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة ،وفي مساحات واسعة ،تناسب ضخامتها وامتدادها
في الهواء ..فكذلك هذا الدين ..إن نظامه يتناول الحياة كلها ،ويتولى شؤون البشرية كبيرها
وصغيرها ،وينظم حياة النسان -ل في الحياة الدنيا وحدها ولكن كذلك في الدار الخرة ،ول
في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها ،ول في المعاملت المادية
الظاهرة وحدها ولكن كذلك في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا -فهو مؤسسة ضخمة هائلة
شاسعة مترامية ،ول بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامـة والعمق والنتشار
أيضا ..
()27
هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته ،يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده ،ويجعل
بناء العقيدة وتمكينها ،وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها ..ضرورة من
ضروريات النشأة الصحيحة ،وضمانا من ضمانات الحتمال ،والتناسق بين الظاهر من الشجرة
ومتى استقرت عقيدة " :ل إله إل ال " في أعماقها الغائرة البعيدة ،استقر معها في نفس
الوقت النظام الذي تتمثل فيه " ل إله إل ال " ،وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيـه النفوس
التي استقرت فيها العقيدة ،واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام ،حتى قبل أن تعرض عليها
تفصيلته ،وقبل أن تعرض عليها تشريعاته .فالستسلم ابتداء هو مقتضى اليمان ..وبمثل هذا
الستسلم تلقت النفوس -فيما بعد -تنظيمات السلم وتشريعاته بالرضى والقبول ،ل تعترض
على شيء منه فور صدوره إليها ،ول تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له ..وهكذا أبطلت الخمر ،
وأبطل الربا ،وأبطل الميسر ،وأبطلت العادات الجاهلية كلها ..أبطلت بآيات من القرآن ،أو
كلمات من الرسول -صلى ال عليه وسلم -بينما الحكومات الرضية تجهد في شيء من هذا كله
بقوانينها وتشريعاتها ،ونظمها وأوضاعها ،وجندها وسلطاتها ،ودعايتها وإعلمها ،فل تبلغ إل
أن تضبط الظاهر من المخالفات ،بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات (! )6
وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم .إن هذا الدين منهج عملي
حركي جاد ..جاء ليحكم الحياة في واقعها ،ويواجه هذا الواقع ليقضى فيه بأمره ..يقره ،أو
يراجع كيف حرم ال الخمر في الجزء الخامس من " :في ظلل القرآن " في الطبعة المشروعة التي )(6
تصدر عن دار الشروق .وكيف عجزت أميركا عن ذلك في كتاب " :ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " للسيد
أبي الحسن الندوي منقولً عن كتاب ( تنقيحات ) للسيد أبي العلى المودودي .
()28
يعدله ،أو يغيره من أساسه ..ومن ثم فهو ل يشرّع إل لحالت واقعة فعلً ،في مجتمع يعترف
إنه ليس " نظرية " تتعامل مع " الفروض " ! ..إنه " منهج " ،يتعامل مع " الواقع " ! ..
فل بد أولً أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة :أن ل إله إلّ ال ،وأن الحاكمية ليست إل
ل ويرفض أن يقر بالحاكمية لحد من دون ال ،ويرفض شرعية أي وضع ل يقوم على هذه
القاعدة ..
وحين يقوم هذا المجتمع فعلً ،تكون له حياة واقعية ،تحتاج إلى تنظيم والى تشريع ..
ل للنظم والشرائع
وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع لقوم مستسلمين أص ً
ول بد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من سلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ
النظام والشرائع في هذا المجتمع حتى يكون للنظام هيبته ،ويكون للشريعة جديتها ..فوق ما
يكون لحياة هذا المجتمع من واقعية تقتضي النظمة والشرائع من فورها ..
والمسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ول على مجتمعهم .وما كانت لهم حياة
واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة ال ..ومن ثم لم ينزّل ال لهم في هذه الفترة تنظيمات
وشرائع ،وإنما نزّل لهم عقيدة ،وخلقا منبثقا من هذه العقيدة بعد استقرارها في العماق البعيدة
..فلما أن صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان ،تنزلت عليهم الشرائع ،وتقرر لهم النظام
الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية ،والذي تكفل له الدولة بسلطاتها الجدية النفاذ .
ولم يشأ ال أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة ،ليختزنوها جاهزة حتى تطبق بمجرد
قيام الدولة في المدينة ! إن هذه ليست طبيعة هذا الدين ! ..إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية !
()29
..إنه ل يفترض المشكلت ليفترض لها حلولً ..إنما يواجه الواقع حين يكون واقع مجتمع مسلم
مستسلم لشريعة ال رافض لشريعة سواه بحجمه وشكله وملبساته وظروفه ،ليشرع له ،وفق
والذين يريدون من السلم اليوم أن يصوغ نظريات وأن يصوغ قوالب نظام ،وأن يصوغ
تشريعات للحياة ..بينما ليس على وجه الرض مجتمع قد قرر فعلً تحكيم شريعة ال وحدها ،
ورفض كل شريعة سواها ،مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه ..الذين يريدون من السلم
هذا ،ل يدركون طبيعة هذا الدين ،ول كيف يعمل في الحياة ..كما يريد له ال ..
إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه نظريات بشرية ،ومناهج بشرية ،
ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم ،رغبات إنما
تنشئـها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة ..يريدون منه أن يصوغ نفسه
في قالب نظريات وفروض ،تواجه مستقبلً غير موجود ..وال يريد لهذا الدين أن يكون كما
أراده ..عقيدة تمل القلب ،وتفرض سلطانها على الضمير ،عقيدة مقتضاها ألّ يخضع الناس
إلّ ل ،وألّ يتلقوا الشرائع إلّ منه دون سواه ..وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم ،
ويصبح لهم السلطان الفعلي في مجتمعهم ،تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية ،وتنظيم
هذا ما يريده ال لهذا الدين ..ولن يكون إل ما يريده ال ،مهما كانت رغبات الناس !
كذلك ينبغي أن يكون مفهوما لصحاب الدعوة السلمية أنهم حين يدعون الناس لعادة
،وتشهد لهم شهادات الميلد بأنهم مسلمون ! -يجب أن يعلموهم أن السلم هو " أولً " إقرار
عقيدة " :ل إله إل ال " -بمدلولها الحقيقي ،وهو رد الحاكمية ل في أمرهم كله ،وطرد
()30
المعتدين على سلطان ال بادعاء هذا الحـق لنفسهم ،إقرارها فـي ضمائرهم وشعائرهم ،
ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى السلم ،كانت هي أساس دعوتهم إلى
السلم أول مرة ..هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلثة عشر عاما كاملة ..فإذا
دخل في هذا الدين -بمفهومه هذا الصيل -عصبة من الناس ..فهذه العصبة هي التي يطلق
عليها إسم " المجتمع المسلم " ..المجتمع الذي يصلح لمزاولة النظام السلمي في حياته
الجتماعية ،لنه قرر بينه وبين نفسه أن تقوم حياته كلها على هذا الساس ،وأل يحكم في حياته
كلها إل ال .
وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام السلمي عليه ،كما يأخذ هذا
المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية ،في إطار السس العامة للنظام
السلمي ..فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج السلمي ..فهذا هو الترتيب الصحيح
ولقد يخيل لبعض المخلصين المتعجلين ،ممن ل يتدبرون طبيعة هذا الدين ،وطبيعة منهجه
الرباني القويم ،المؤسس على حكمة العليم الحكيم وعلمه بطبائع البشر وحاجات الحياة ..نقول :
لقد يخيل لبعض هؤلء أن عرض أسس النظام السلمي -بل التشريعات السلمية كذلك -على
الناس ،مما ييسر لهم طريق الدعوة ،ويحبب الناس في هذا الدين !
وهذا وَ ْهمٌ تنشئه العجلة ! وَ ْهمٌ كالذي كان يمكن أن يقترحه المقترحون :أن تقوم دعوة
رسول ال صلى ال عليه وسلم في أولها تحت راية قومية ،أو راية اجتماعية ،أو راية أخلقية ،
تيسيرا للطريق !
()31
ل ل ،وتعلن عبوديتها له وحده ،بقبول شرعه وحده ،
إن القلوب يجب أن تخلص أو ً
ورفض كل شرع آخر غيره ..من ناحية المبدأ ..قبل أن تخاطب بأي تفصيل عن ذلك الشرع
يرغبها فيه !
إن الرغبة يجب أن تنبثق من إخلص العبودية ل ،والتحرر من سلطان سواه ،ل من أن
النظام المعروض عليها ..في ذاته ..خير مما لديها من النظمة في كذا وكذا على وجه التفصيل
.
إن نظام ال خير في ذاته ،لنه من شرع ال ..ولن يكون شرع العبيد يوما كشرع ال ..
ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة .إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع ال وحده أيّا كان ،ورفض كل
شرع غيره أيّا كان ،هو ذاته السلم ،وليس للسلم مدلول سواه ،فمن رغب في السلم ابتداء
فقد فصل في القضية ،ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته ..فهذه إحدى بديهيات
اليمان !
وبعد ،فل بد أن نقول كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلل الثلثة عشر عاما ..
إنه لم يعرضها في صورة " نظرية " ول في صورة " لهوت " ! ولم يعرضها في صورة جدل
كل ! لقد كان القرآن الكريم يخاطب فطرة " النسان " بما في وجوده هو وبما في الوجود
حوله من دلئل وإيحاءات ..كان يستنقذ فطرته من الركام ،ويخلص أجهزة الستقبال الفطرية
مما ران عليها وعطل وظائفها ،ويفتح منافذ الفطرة ،لتتلقى الموحيات المؤثرة وتستجيب لها .
()32
هذا بصفة عامة 00وبصفة خاصة كان القرآن يخوض بهذه العقيدة معركة حية واقعية ..
كان يخوض بها معركة مع الركام المعطل للفطرة في نفوس آدمية حاضرة واقعة ..ومن ثم لم
يكن شكل " النظرية " هو الشكل الذي يناسب هذا الواقع الخاص .إنما هو شكل المواجهة الحية
للعقابيل والسدود والحواجز والمعوّقات النفسية والواقعية في النفوس الحاضرة الحية ..ولم يكن
الجدل الذهني -القائم على المنطق الشكلي -الذي سار عليه في العصور المتأخرة علم التوحيد ،
هو الشكل المناسب كذلك ..فلقد كان القرآن يواجه " واقعا " بشريّا كاملً بكل ملبساته الحية ،
ويخاطب الكينونة البشرية بجملتها في خضم هذا الواقع ..وكذلك لم يكن " اللهوت " هو الشكل
المناسب .فإن العقيدة السلمية ،ولو أنها عقيدة ،إل أنها تمثل منهج حياة واقعية للتطبيق العملي
،ول تقبع في الزاوية الضيقة التي تقبع فيها البحاث اللهوتية النظرية !
كان القرآن ،وهو يبني العقيدة في ضمائر الجماعة المسلمة ،يخوض بهذه الجماعة المسلمة
معركة ضخمة مع الجاهلية من حولها ،كما يخوض بها معركة ضخمة مع رواسب الجاهلية في
ضميرها هي وأخلقها وواقعها ..ومن هذه الملبسات ظهر بناء العقيدة ل في صورة " نظرية "
ول في صورة " لهوت " ،ول في صورة " جدل كلمي " ..ولكن في صورة تجمع عضوي
حيوي وتكوين تنظيمي مباشر للحياة ،ممثل في الجماعة المسلمة ذاتها ،وكان نمو الجماعة
المسلمة في تصورها العتقادي ،وفي سلوكها الواقعي وفق هذا التصور ،وفي دربتها على
مواجهة الجاهلية كمنظمة محاربة لها ..كان هذا النمو ذاته ممثلً تماما لنمو البناء العقيدي ،
وترجمة حية له ..وهذا هو منهج السلم الذي يمثل طبيعته كذلك .
وإنه لمن الضروري لصحاب الدعوة السلمية أن يدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه في
الحركة على هذا النحو الذي بينَّاه .ذلك ليعلموا أن مرحلة بناء العقيدة التي طالت في العهد المكي
على هذا النحو ،لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العملي للحركـة السلمية ،والبناء الواقعي
()33
للجماعة المسلمة .لم تكـن مرحلة تلقّي " النظرية " ودراستها ! ولكنها كانت مرحلة البناء
القاعدي للعقيدة وللجماعة وللحركة وللوجود الفعلي معا ..وهكذا ينبغي أن تكون كلما أريد إعادة
هكذا ينبغي أن تطول مرحلة بناء العقيدة ،وأن تتم خطوات البناء على مهل ،وفي عمق
وتثبت ..ثم هكذا ينبغي أل تكون مرحلة دراسة نظرية للعقيدة ،ولكن مرحلة ترجمة لهذه العقيدة
-أولً بأول -في صورة حية ،متمثلة في ضمائر متكيفة بهذه العقيدة ومتمثلة في بناء جماعي
وتجمع حركي ،يعبر نموه من داخله ومن خارجه عن نمو العقيدة ذاتها ،ومتمثلة في حركة
واقعية تواجه الجاهلية ،وتخوض معها المعركة في الضمير وفي الواقع كذلك ،لتتمثل العقيدة حية
وخطأ أي خطأ -بالقياس إلى السلم -أن تتبلور العقيدة في صورة " نظرية " مجردة
إن القرآن لم يقض ثلثة عشر عاما كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة الولى
..كل ! فلو أراد ال لنزل هذا القرآن جملة واحدة ،ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلثة عشر عاما ،
أو أكثر أو أقل ،حتى يستوعبوا " النظرية السلمية " .
ولكن ال -سبحانه -كان يريد أمرا آخر ،كان يريد منهجا معينا متفردا .كان يريد بناء
جماعة وبناء حركة وبناء عقيدة في وقت واحد ..كان يريد أن يبني الجماعة والحركة بالعقيدة ،
وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة ..كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الحركي
الفعلي ،وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو الصورة المجسمة للعقيدة ..وكان ال -
سبحانه -يعلم أن بناء النفوس والجماعات ل يتم بين يوم وليلة ،فلم يكن هنالك بد أن يستغرق
()34
بناء العقيدة المدى الذي يستغرقه بناء النفوس والجماعة ..حتى إذا نضج التكوين العقيدي كانت
هذه هي طبيعة هذا الدين -كما تستخلص من منهج القرآن المكي -ول بد أن نعرف
طبيعته هذه ،وأل نحاول تغييرها تلبية لرغبات معجلة مهزومة أمام أشكال النظريات البشرية !
فهو بهذه الطبيعة صنع المة المسلمة أول مرة ،وبها يصنع المة المسلمة في كل مرة يراد فيها
أن يعاد إخراج المة المسلمة للوجود كما أخرجها ال أول مرة .
يجب أن ندرك خطأ المحاولة وخطرها معا ،في تحويل العقيدة السلمية الحية التي تحب
أن تتمثل في واقع نَامٍ حي متحرك ،وفي تجمع عضوي حركي ..تحويلها عن طبيعتها هذه إلى "
نظرية " للدراسة والمعرفة الثقافية ،لمجرد أننا نريد أن نواجه النظريات البشرية الهزيلة بـ "
إن العقيدة السلمية تحب أن تتمثل في نفوس حية ،وفي تنظيم واقعي ،وفي تجمع
عضوي ،وفي حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها ،كما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس
أصحابها -بوصفهم كانوا من أهل الجاهلية قبل أن تدخل العقيدة إلى نفوسهم ،وتنتزعها من
الوسط الجاهلي -وهي في صورتها هذه تشغل من القلوب والعقـول -ومـن الحياة أيضـا -
مساحة أضخم وأوسع وأشمل مما تشغله " النظرية " .وتشمل -فيما تشمل -مساحة النظرية
إن التصور الٍسلمي لللوهية ،وللوجود الكوني ،وللحياة ،وللنسان ..تصور شامل
كامل .ولكنه كذلك تصور واقعي إيجابي .وهو يكره -بطبيعته -أن يتمثل في مجرد تصور
()35
ذهني معرفي ،لن هذا يخالف طبيعته وغايته .ويجب أن يتمثل في أناسى ،وفي تنظيم حي ،
وفي حركة واقعية ..وطريقته في التكون أن ينمو من خلل الناسى والتنظيم الحي والحركة
الواقعية ،حتى يكتمل نظريا في نفس الوقت الذي يكتمل فيه واقعيا -ول ينفصل في صورة "
النظرية " بل يظل ممثلً في صورة " الواقع " الحركي ..
وكل نمو نظري يسبق النمو الحركي الواقعي ،ول يتمثل من خلله ،هو خطأ وخطر كذلك
،بالقياس إلى طبيعة هذا الدين وغايته ،وطريقة تركيبه الذاتي .
فالفرق مقصود .والمكث مقصود كذلك ،ليتم البناء التكويني ،المؤلف من عقيدة في
يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيدا أنه -كما إنه في ذاته دين رباني -فإن منهجه في
العمل منهج رباني كذلك .متواف مع طبيعته ،وإنه ل يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في
العمل .
ويجب أن يعرفوا كذلك أن هذا الدين -كما إنه جاء ليغير التصور العتقادي ،ومن ثم
يغير الواقع الحيوي -فكذلك هو قد جاء ليغير المنهج الذي يبنى به التصور العتقادي ،ويغير به
الواقع الحيوي ..جاء ليبني عقيدة وهو يبني أمة ..ثم لينشئ منهج تفكير خاصا به ،بنفس
الدرجة التي ينشئ بها تصورا اعتقاديا وواقعا حيويا .ول انفصال بين منهج تفكيره الخاص ،
وتصوره العتقادي الخاص ،وبنائه الحيوي الخاص ..فكلها حزمة واحدة ..
()36
فإذا نحن عرفنا منهجه في العمل على النحو الذي بيناه ،فلنعرف أن هذا المنهج أصيل ،
وليس منهج مرحلة ول بيئة ول ظروف خاصة بنشأة الجماعة المسلمة الولى ،إنما هو المنهج
إنه لم تكن وظيفة السلم أن يغير عقيدة الناس وواقعهم فحسب ،ولكن كانت وظيفته كذلك
أن يغير منهج تفكيرهم ،وتناولهم للتصور وللواقع ،ذلك أنه منهج رباني مخالف في طبيعته كلها
ونحن ل نملك أن نصل إلى التصور الرباني وإلى الحياة الربانية ،إل عن طريق منهج
تفكير رباني كذلك ،المنهج الذي أراد ال أن يقيم منهج تفكير الناس على أساسه ،ليصح تصورهم
نحن ،حين نريد من السلم أن يجعل من نفسه " نظرية " للدراسة ،نخرج به عن طبيعة
منهج التكوين الرباني ،وعن طبيعة منهج التفكير الرباني كذلك ،ونخضع السلم لمناهج التفكير
البشرية ! كأنما المنهج الرباني أدنى من المناهج البشرية ! وكأنما نريد لنرتقي بمنهج ال في
إن وظيفة المنهج الرباني أن يعطينا -نحن أصحاب الدعوة السلمية -منهجا خاصا
للتفكير ،نبرأ به من رواسب مناهج التفكير الجاهلية السائدة في الرض ،والتي تضغط على
عقولنا ،وتترسب في ثقافتنا ..فإذا نحن أردنا أن نتناول هذا الدين بمنهج تفكير غريب عن طبيعته
،من مناهج التفكير الجاهلية الغالبة ،كنا قد أبطلنا وظيفته التي جاء ليؤديها للبشرية ،وحرمنا
()37
أنفسنا فرصة الخلص من ضغط المنهج الجاهلي السائد في عصرنا ،وفرصة الخلص من
والمر من هذه الناحية يكون خطيرا كذلك ،والخسارة تكون قاتلة .
إن منهج التفكير والحركة في بناء السلم ،ل يقل قيمة ول ضرورة عن منهج التصور
العتقادي والنظام الحيوي ،ول ينفصل عنه كذلك .ومهما يخطر لنا أن نقدم هذا التصور وهذا
النظام في صورة تعبيرية ،فيجب أل يغيب عن بالنا أن هذا ل ينشئ " السلم " في الرض في
صورة حركة واقعية ،بل يجب أل يغيب عن بالنا أنه لن يفيد من تقديمنا السلم في هذه الصورة
إل المشتغلون فعلً بحركة إسلمية واقعية ،وأن قصارى ما يفيده هؤلء أنفسهم من تقديم السلم
لهم في هذه الصورة هو أن يتفاعلوا معها بالقدر الذي وصلوا هم إليه فعلً في أثناء الحركة .
ومرة أخرى أكرر أن التصور العتقادي يجب أن يتمثل من فوره في تجمع حركي ،وأن
يكون التجمع الحركي في الوقت ذاته تمثيلً صحيحا وترجمة حقيقية للتصور العتقادي .
ومرة أخرى أكرر كذلك أن هذا هو المنهج الطبيعي للسلم الرباني ،وأنه منهج أعلى
وأقوم ،وأشد فاعلية ،وأكثر انطباقا على الفطرة البشرية من منهج صياغة النظريات كاملة
مستقلة وتقديمها في الصورة الذهنية الباردة للناس ،قبل أن يكون هؤلء الناس مشتغلين فعلً
بحركة واقعية ،وقبل أن يكونوا هم أنفسهم ترجمة حية ،تنمو خطوة خطوة لتمثيل ذلك المفهوم
النظري .
وإذا صح هذا في أصل النظرية فهو أصح بطبيعة الحال فيما يختص بتقديم أسس النظام
الذي يتمثل فيه التصور السلمي ،أو تقديم التشريعات المفصلة لهذا النظام .
()38
إن الجاهلية التي حولنا -كما أنها تضغط على أعصاب بعض المخلصين من أصحاب
الدعوة السلمية ،فتجعلهم يتعجلون خطوات المنهج السلمي -هي كذلك تتعمد أحيانا أن
تحرجهم .فتسألهم :أين تفصيلت نظامكم الذي تدعون إليه ؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ومن
دراسات ومن فقه مقنن على الصول الحديثة ! كأن الذي ينقص الناس في هذا الزمان لقامة
شريعة السلم في الرض هو مجرد الحكام الفقهية والبحوث الفقهية السلمية .وكأنما هم
مستسلمون لحاكمية ال راضون بأن تحكمهم شريعته ،ولكنهم فقط ل يجدون من " المجتهدين "
فقها مقننا بالطريقة الحديثة ! ..وهي سخرية هازلة يجب أن يرتفع عليها كل ذي قلب يحس لهذا
الدين بحرمة !
إن الجاهلية ل تريد بهذا الحراج إل أن تجد لنفسها تعلة في نبذ شريعة ال ،واستبقاء
عبوديـة البشر للبشر ..وإلّ أن تصرف العصبة المسلمة عن منهجها الرباني ،فتجعلها تتجاوز
مرحلة بناء العقيدة في صورة حركية ،وأن تحول منهج أصحاب الدعوة السلمية عن طبيعته
التي تتبلور فيها النظرية من خلل الحركة ،وتتحدد ملمح النظام من خلل الممارسة ،وتسن
ومن واجب أصحاب الدعوة السلمية أل يستجيبوا للمناورة ! من واجبهم أن يرفضوا إملء
منهج غريب على حركتهم وعلى دينهم ! من واجبهم أل يستخفهم الذين ل يوقنون !
ومن واجبهم أن يكشفوا مناورة الحراج ،وأن يستعلوا عليها ،وأن يرفضوا السخرية
الهازلة في ما يسمى " تطوير الفقه السلمي " في مجتمع ل يعلن خضوعه لشريعة ال ورفضه
لكل شريعة سواها .من واجبهم أن يرفضوا هذه التلهية عن العمل الجاد ..التلهية باستنبات البذور
()39
ومن واجبهم أن يتحركوا وفق منهج هذا الدين في الحركة .فهذا من أسرار قوته .وهذا هو
إن " المنهج " في السلم يساوي " الحقيقة " .ول انفصام بينهما .وكل منهج غريب ل
يمكن أن يحقق السلم في النهاية .والمناهج الغريبة يمكن أن تحقق أنظمتها البشرية .ولكنها ل
يمكن أن تحقق منهجنا .فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كل حركة
إسلمية ..
()40
سلِم َوخَصَائِصُه
نَشأَة المُجتَمع ال ُم ْ
إن الدعوة السلمية -على يد محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم -إنما تمثل الحلقة
الخيرة من سلسلة الدعوة الطويلة إلى السلم بقيادة موكب الرسل الكرام ..وهذه الدعوة على
مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمرا واحدا :هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق ،
وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق ..ولم يكن الناس -فيما عدا أفرادا معدودة في فترات
قصيرة -ينكرون مبدأ اللوهية ويجحدون وجود ال البتة ،إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة
ربهم الحق ،أو يشركون مع ال آلهة أخرى :إما في صورة العتقاد والعبادة ،وإما في صورة
الحاكمية والتباع ،وكلهما شرك كالخر يخرج به الناس من دين ال ،الذي كانوا يعرفونه على
يد كل رسول ،ثم ينكرونه إذا طال عليهم المد ،ويرتدّون إلى الجاهلية التي أخرجهم منها ،
ويعودون إلى الشرك بال مرة أخرى .إما في العتقاد والعبادة ،وإما في التباع والحاكمية .
هذه طبيعة الدعوة إلى ال على مدار التاريخ البشري .إنها تستهدف " السلم " ..إسلم
العباد لرب العباد ،وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة ال وحده ،بإخراجهم من سلطان العباد
في حاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم ،إلى سلطان ال وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن
من شؤون الحياة ..وفي هذا جاء السلم على يد محمد صلى ال عليه وسلم ،كما جاء على أيدي
الرسل الكرام قبله ..جاء ليرد الناس إلى حاكمية ال كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس ،فيجب
أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجوده ،فل يشذوا هم بمنهج وسلطان
()41
وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله .بل الذي يصرف وجودهم هم
أنفسهم في غير الجانب الرادي من حياتهم .فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع ال في
نشأتهم ونموهم ،وصحتهم ومرضهم ،وحياتهم وموتهم ،كما هم محكومون بهذه القوانين في
اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الختيارية ذاتها ،وهم ل يملكون تغيير سنة ال في
القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه .ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى السلم في الجانب
الرادي من حياتهم ،فيجعلوا شريعة ال هي الحاكمة في كل شأن من شؤون هذه الحياة ،تنسيقا
بين الجانب الرادي في حياتهم والجانب الفطري ،وتنسيقا بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين
()7
الوجود الكوني .
ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر ،والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني ،
والتصادم بين منهج الجانب الرادي في حياة النسان والجانب الفطري ..هذه الجاهلية التي
واجهها كل رسول بالدعوة إلى السلم ل وحده ،والتي واجهها رسول ال -صلى ال عليه وسلم
-بدعوته ..هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في " نظرية " مجردة .بل ربما أحيانا لم تكن لها "
نظرية " على الطلق ! إنما كانت متمثلة دائماً في تجمع حركي .متمثلة في مجتمع ،خاضع
لقيادة هذا المجتمع ،وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته .وهو مجتمع
عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولء والتعاون العضوي ،الذي يجعل هذا
المجتمع يتحرك -بإرادة واعية أو غير واعية -للمحافظة على وجوده ،والدفاع عن كيانه
والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان فـي أية صورة من صور
التهديد .
يراجع بتوسع في هذه النقطة كتاب " مبادئ السلم " للسيد أبي الأعلى المودي أمير الجماعة السلمية في )(7
باكستان .
()42
ومن أجل أن الجاهلية ل تتمثل في " نظرية " مجردة ،ولكن تتمثل في تجمع حركي على
هذا النحو ،فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية ،ورد الناس إلى ال مرة أخرى ،ل يجوز -ول
يجدي شيئا -أن تتمثل في " نظرية " مجردة .فإنها حينئذ ل تكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلً
والمتمثلة في تجمع حركي عضوي ،فضلً على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة
محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل لقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه
وفي كلياته وجزئياته .بل ل بد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمع عضوي حركي أقوى في
قواعده النظرية والتنظيمية ،وفي روابطه وعلقاته ووشائجه من ذلك المجتمع الجاهلي القائم فعلً
.
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها السلم -على مدار التاريخ البشري -هي قاعدة " :
والحاكمية ..إفراده بها اعتقادًا في الضمير ،وعبادة في الشعائر ،وشريعة في واقع الحياة .
فشهادة أن ل إله إل ال ،ل توجد فعلً ،ول تعتبر موجودة شرعا إلا في هذه الصورة المتكاملة
التي تعطيها وجودا جديا حقيقيا يقوم عليه اعتبار قائلها مسلما أو غير مسلم .
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية ..أن تعود حياة البشر بجملتها إلى ال ،ل
يقضون هم في أي شأن من شؤونها ،ول في أي جانب من جوانبها ،من عند أنفسهم ،بل ل بد
لهم أن يرجعوا إلى حكم ال فيها ليتبعوه ..وحكم ال هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم
إياه ،وهو رسول ال .وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن السلم الول " :شهادة أن
هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها السلم ويقوم عليها ..وهي تنشئ منهجا كاملً
للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها ،يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية
()43
والجماعية في داخل دار السلم وخارجها ،في علقاته بالمجتمع المسلم وفي علقات المجتمع
()8
المسلم بالمجتمعات الخرى .
ولكن السلم -كما قلنا -لم يكن يملك أن يتمثل في " نظرية " مجردة ،يعتنقها من يعتنقها
اعتقادا ويزاولها عبادة ،ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفرادا ضمن الكيان العضوي للتجمع
الحركي الجاهلي القائم فعلً .فإن وجودهم على هذا النحو -مهما كثر عددهم -ل يمكن أن
يؤدي إلى " وجود فعلي " للسلم ،لأن الفراد " المسلمين نظريا " الداخلين في التركيب العضوي
للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرون حتما للستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية ..سيتحركون
-طوعا أو كرها ،بوعي أو بغير وعي -لقضاء الحاجات الساسية لحياة هذا المجتمع
الضرورية لوجوده ،وسيدافعون عن كيانه ،وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه ،لأن
الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا ..أي أن الفراد "
المسلمين نظريا " سيظلون يقومون " فعلً " بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون " نظريا " لإزالته
،وسيظلون خليا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والمتداد ! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم
ونشاطهم ليحيا بها ويقوى ،وذلك بدلً من أن تكون حركتهم فـي اتجاه تقويض هذا المجتمع
ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للسلم ( أي العقيدة ) في تجمع عضوي حركي
منذ اللحظة الولى ..لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي ،منفصل
ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف السلم إلغاءه ،وأن يكون محور
التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول ال -صلى ال عليه وسلم -ومن بعده في
كل قيادة إسلمية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه
()44
وشريعته -وأن يخلع كل من يشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ولءه من التجمع
الحركي الجاهلي -أي التجمـع الذي جاء منه -ومن قيادة ذلك التجمع -في أية صورة كانت ،
سواء كانت في صورة قيادة دينية من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم ،أو في صورة
قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش -وأن يحصر ولءه في التجمع العضوي
ولم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الولى لدخول المسلم في الإسلم ،ولنطقه بشهادة أن
ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ،لأن وجود المجتمع المسلم ل يتحقق إل بهذا .ل يتحقق
بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم ،ل يتمثلون في تجمع عضوي
متناسق متعاون ،له وجود ذاتي مستقل ،يعمل أعضاؤه عملً عضويا -كأعضاء الكائن الحي -
على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه ،وفي الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده
وكيانه ،ويعملون هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي ،تنظم حركتهم وتنسقها ،
وتوجههم لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم السلمي ،ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الخر
الجاهلي .
وهكذا وجد السلم ..هكذا وجد متمثلً في قاعدة نظرية مجملة -ولكنها شاملة -يقوم
عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي ،مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا
المجتمع ..ولم يوجد قط في صورة " نظرية " مجردة عن هذا الوجود الفعلي ..وهكذا يمكن أن
يٍوجد السلم مرة أخرى ،ول سبيل لعادة إنشائه في المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي
وبعد :فإن السلم -وهو يبني المة المسلمة على هذه القاعـدة وفق هذا المنهج ،ويقيم
وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي ،ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة -إنما كان
()45
يستهدف إبراز " إنسانية النسان " وتقويتها وتمكينها ،وإعلءها على جميع الجوانب الخرى في
الكائن الإنساني ،وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه
وأحكامه ..
إن الكائن النساني يشترك مع الكائنات الحيوانية -بل الكائنات المادية -في صفات توهم
أصحاب " الجهالة العلمية ! " مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان ،ومرة بأنه مادة كسائر المواد !
ولكن النسان مع اشتراكه في هذه " الصفات " مع الحيوان ومع المادة له " خصائص " تميزه
وتفرده ،وتجعل منه كائنا فريدا ،كما اضطـر أصحاب " الجهالة العلمية ! " أخيرا أن يعترفوا
والحقائق الواقعيـة تلوي أعناقهم ليّا ،فيضطـرون لهذا العتراف فـي غير إخلص ول
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج السلمي في هذه القضية ،ولقامة التجمع
السلمي على آصرة العقيدة وحدها ،دون أواصر الجنس والرض واللون واللغة والمصالح
الرضية القريبة الحدود القليمية السخيفة ! ولبراز " خصائص النسان " في هذا التجمع وتنميتها
وإعلئها ،دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان .كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا
المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الجناس والقوام واللوان واللغات ،بل
عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة ! وإن صبّت في بوتقة المجتمع السلمي خصائص
الجناس البشرية وكفاياتها ،وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت ،وأنشأت مركبا عضويا فائقا
في فترة تعد نسبيا قصيرة ،وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة
تحوي خلصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة ،على بعد المسافات وبطء طرق التصال في
في مقدمة هؤلء جوليان هاكسلي من أصحاب " الدارونية الحديثة " . )(9
()46
لقد اجتمع في المجتمع السلمي المتفوق :العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي
والتركي والصيني والهندي والروماني والغريقي والأندونيسي والأفريقي ..إلى آخر القوام
والجناس .وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع السلمي
والحضارة السلمية .ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما " عربية " إنما كانت دائما "
إسلمية " ،ولم تكن يوما " قومية " إنما كانت دائما " عقيدية ".
ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة وبآصرة الحب ،وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة .
فبذلوا جميعهم أقصى كفاياتهم ،وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ،وصبوا خلصة تجاربهم
الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم
المساواة ،وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد ،وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بل عائق ،
لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع المبراطورية الرومانية مثلً .فقد
جمعت بالفعل أجناساً متعددة ،ولغات متعددة ،وألواناً متعددة ،وأمزجة متعددة ولكن هذا كله لم
يقم على " آصرة إنسانية " ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة ،لقد كان هناك تجمع طبقي على
أساس طبقة الشراف وطبقة العبيد في المبراطورية كلها من ناحية ،وتجمع عنصري على أساس
سيادة الجنس الروماني -بصفة عامة -وعبودية سائر الجناس الخرى .ومن ثم لم يرتفع قط
إلى أفق التجمع السلمي .ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع السلمي .
كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى ..تجمع المبراطورية البريطانية مثلً ..
ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه ! تجمعا قوميا استغللياً ،يقوم على أساس سيادة
()47
في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت ! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر ،يتخطى
حواجز الجنس والقوم والرض واللغة واللون ،ولكنها لم تقمه على قاعدة " إنسانية " عامة ،إنما
أقامته على القاعدة " الطبقية " .فكان هذا التجمع هو الوجه الخر للتجمع الروماني القديم ..هذا
تجمع على قاعدة طبقة " الشراف " وذلك تجمع على قاعدة طبقة " الصعاليك " ( البروليتريا ) ،
والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد السود على سائر الطبقات الخرى ! وما كان لمثل هذا
التجمع الصغير البغيض أن يثمر إل أسوأ ما في الكائن النساني ..فهو ابتداء قائم على أساس
إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن " المطالب الساسية " للنسان هي "
الطعام والمسكن والجنس " -وهي مطالب الحيوان الولية -وباعتبار أن تاريخ النسان هو
لقد تفرد السلم بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص النسان وتنميتها وإعلئها في
بناء المجتمع النساني .وما يزال متفردا ..والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر ،يقوم على أية
قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الرض أو الطبقة ..إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء
النسان حقا ! هم الذين ل يريدون لهذا النسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره
ال ،ول يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج
ن أَ ّنهُمْ
حسَبُو َ
سعْيُ ُهمْ فِي ا ْلحَيَا ِة الدّنْيَا وَ ُهمْ َي ْ
ض ّل َ
عمَالً ،الّذِينَ َ
خسَرِينَ أَ ْ
{ ُقلْ َهلْ نُنَبّ ُئ ُكمْ بِالْ َأ ْ
جهَنّ ُم ِبمَا َكفَرُوا وَا ّتخَذُوا آيَاتِي َو ُرسُلِي هُزُوا } [ الكهف ] 106 -103 :
ك جَزَاؤُ ُهمْ َ
وَزْنا ،ذَلِ َ
()48
الجِهَادُ في سَبِيْل ال
لخص المام ابن القيم سياق الجهاد في السلم في " زاد المعاد " في الفصل الذي عقده باسم
" :فصل في ترتيب هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي ال عزّ وجلّ " :
( أول ما أوحى به تبارك وتعالى ،أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ،وذلك أولى نبوته ،فأمره أن
يقرأ في نفسه " فأنذر " فنبأه بقوله " :اقرأ " وأرسله بـ " :يا أيها المدثر " ،ثم أمره أن ينذر
عشيرته القربين ،ثم أنذر قومه ،ثم أنذر من حولهم من العرب ،ثم أنذر العرب قاطبة ،ثم أنذر
العالمين .فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ول جزية ،ويؤمر بالكف
والصبر والصفح .ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال .ثم أمره أن يقاتل من قاتله ،ويكف
عمن اعتزله ولم يقاتله ،ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله ل ..ثم كان الكفار معه
بعد المر بالجهاد ثلثة أقسام :أهل صلح وهدنة ،وأهل حرب ،وأهل ذمة ..فأمر بأن يتم لهل
العهد والصلح عهدهم ،وأن يوفى لهم به ما استقاموا على العهد ،فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم
عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ،وأمر أن يقاتل من نقض عهده ..ولما نزلت سورة
براءة نزلت ببيان حكم هذه القسام كلها :فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية
،أو يدخلوا في السلم ،وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم فجاهد الكفار بالسيف
والسنان .والمنافقين بالحجة واللسان ،وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم ..
وجعل أهل العهد في ذلك ثلثة أقسام :قسماً أمره بقتالهم ،وهم الذين نقضوا عهده ،ولم يستقيموا
له ،فحاربهم وظهر عليهم .وقسماً لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه ،فأمره أن يتم
لهم عهدهم إلى مدتهم .وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه ،أو كان لهم عهد مطلق ،فأمر أن
()49
يؤجلهم أربعة أشهر ،فإذا انسلخت قاتلهم ..فقتل الناقض لعهده ،وأجل من ل عهد له أو له عهد
مطلق ،أربعة أشهر ،وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته ،فأسلم هؤلء كلهم ولم يقيموا
على كفرهم إلى مدتهم .وضرب على أهل الذمة الجزية ..فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول
براءة على ثلثة أقسام :محاربين له ،وأهل عهد ،وأهل ذمة ..ثم آلت حال أهل العهد والصلح
إلى السلم فصاروا معه قسمين :محاربين ،وأهل ذمة .والمحاربون له خائفون منه ،فصار
أهل الرض معه ثلثة أقسام :مسلم مؤمن به ،ومسالم له آمن ،وخائف محارب ..وأما سيرته
في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علنيتهم ،ويكل سرائرهم إلى ال ،وأن يجاهدهم بالعلم
والحجة ،وأمر أن يعرض عنهم ،ويغلظ عليهم ،وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ،ونهى أن
يصلى عليهم ،وأن يقوم على قبورهم ،وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر ال لهم ..فهذه سيرته
ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في السلم تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج
الحركي لهذا الدين ،جديرة بالوقوف أمامها طويلً ،ولكننا ل نملك هنا إل أن نشير إليها إشارات
مجملة :
السمة الولى :هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين ..فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً ..
وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي ..إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية ،تقوم عليها
أنظمة واقعية عملية ،تسندها سلطات ذات قوة مادية ..ومن ثم تواجه الحركة السلمية هذا
الواقع كله بما يكافئه ..تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات ،وتواجهه بالقوة
والجهاد لزالة النظمة والسلطات القائمة عليها ،تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح
بالبيان للمعتقدات والتصورات ،وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبّدهم لغير ربهم الجليل ..إنها
()50
حركة ل تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي ،كما إنها ل تستخدم القهر المادي لضمائر الفراد
..وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لخراج الناس من العبودية للعباد إلى
والسمة الثانية في منهج هذا الدين :هي الواقعية الحركية ..فهو حركة ذات مراحل ،كل
مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية ،وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها
..فهو ل يقابل الواقع بنظريات مجردة .كما أنه ل يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة ..
والذين يسوقون النصوص القرآنية للستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ،ول يراعون
هذه السمة فيه ،ول يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج ،وعلقة النصوص المختلفة
بكل مرحلة منها ..الذين يصنعون هذا يخلطون خلطا شديدا ويلبسون منهج هذا الدين لبسا
مضللً ،ويحملون النصوص ما ل تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية .ذلك أنهم يعتبرون كل
نص منها كما لو كان نصا نهائيا ،يمثل القواعد النهائية في هذا الدين ،ويقولون -وهم
مهزومون روحيا وعقليا تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من السلم
إل العنوان : -أن السلم ل يجاهد إل للدفاع ! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلً بتخليه
عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الرض جميعا ،وتعبيد الناس ل وحده ،وإخراجهم من
العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ! ل بقهرهم على اعتناق عقيدته ،ولكن بالتخلية بينهم
وبين هذه العقيدة ..بعد تحطيم النظمة السياسية الحاكمة ،أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن
استسلمها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة ،تعتنقها أو ل تعتنقها بكامل حريتها .
والسمة الثالثة :هي أن هذه الحركة الدائبة ،والوسائل المتجددة ،ل تخرج هذا الدين عن
قواعده المحددة ،ول عن أهدافه المرسومة .فهو -منذ اليوم الول -سواء وهـو يخاطب
العشيرة القربين ،أو يخاطب قريشا ،أو يخاطب العرب أجمعين ،أو يخاطب العالمين ،إنما
()51
يخاطبهم بقاعدة واحدة ،ويطلب منهم النتهاء إلى هدف واحد هو إخلص العبودية ل ،والخروج
من العبودية للعباد .ل مساومة في هذه القاعدة ول لين ..ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد
فـي خطة مرسومة ،ذات مراحل محددة ،لكل مرحلـة وسائلها المتجددة .على نحو ما أسلفنا
والسمة الرابعة :هي ذلك الضبط التشريعي للعلقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات
الخرى -على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن " زاد المعاد " -وقيام ذلك
الضبط على أساس أن السلم ل هو الصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه ،أو أن
تسالمه بجملتها فل تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي ،أو قوة مادية ،وأن تخلي بينه وبين
كل فرد ،يختاره أو ل يختاره بمطلق إرادته ،ولكن ل يقاومه ول يحاربه ! فإن فعل ذلك أحد
والمهزومون روحيا وعقليا ممن يكتبون عن " الجهاد في السلم " ليدفعوا عن السلم هذا "
التهام " يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الكراه على العقيدة ،وبين منهجه
في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه ،والتي تعبِّد الناس للناس ،وتمنعهم
من العبودية ل ..وهما أمران ل علقة بينهما ول مجال لللتباس فيهما ..ومن أجل هذا
التخليط ،وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة ! -يحاولون أن يحصروا الجهاد في السلم فيما
يسمونه اليوم " :الحرب الدفاعية " ..والجهاد في السلم أمر آخر ل علقة له بحروب الناس
اليوم ،ول بواعثها ،ول تكييفها كذلك ..إن بواعث الجهاد في السلم ينبغي تلمسها في طبيعة "
السلم " ذاته ودوره في هذه الرض ،وأهدافه العليا التي قررها ال ،وذكر ال أنه أرسل من
أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة ،وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالت .
()52
إن هذا الدين إعلن عام لتحرير " النسان " في " الرض " من العبودية للعباد -ومن
العبودية لهواه أيضا وهي من العبودية للعباد -وذلك بإعلن ألوهية ال وحده -سبحانه -
وربوبيته للعاليمن ! ..إن إعلن ربوبية ال وحده للعالمين معناها :الثورة الشاملة على حاكمية
البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ،والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء
الرض ،الحكم فيه للبشر بصورة من الصور ..أو بتعبير آخر مرادف :اللوهية فيه للبشر في
صورة من الصور ..ذلك أن الحكم الذي مردّ المر فيه إلى البشر ،ومصدر السلطات فيه هم
البشر ،هو تأليه للبشر ،يجعل بعضهم لبعض أربابا من دون ال .إن هذا العلن معناه انتزاع
سلطان ال المغتصب ورده إلى ال ،وطرد المغتصبين له ،الذين يحكمون الناس بشرائع من عند
أنفسهم ،فيقـومون منهم مقام الرباب ويقـوم الناس منهم مكان العبيد ..إن معناه تحطيم مملكة
سوَا ٍء بَيْنَنَا وَبَيْ َن ُكمْ أَلّا َنعْبُدَ إِلّا الّل َه وَل ُنشْ ِركَ ِب ِه شَيْئا
{ ُق ْل يَا أَ ْه َل ا ْلكِتَابِ َتعَا َلوْا إِلَى كَ ِل َمةٍ َ
. ] 64 :
ومملكة ال في الرض ل تقوم بأن يتولى الحاكمية في الرض رجال بأعيانهم -هم رجال
الدين -كما كان المر في سلطان الكنيسة ،ول رجال ينطقون باسم اللهة ،كما كان الحال فيما
يعرف باسم " الثيوقراطية " أو الحكم اللهي المقدس !! -ولكنها تقوم بأن تكون شريعة ال هي
الحاكمة ،وأن يكون مرد المر إلى ال وفق ما قرره من شريعة مبينة .
()53
وقيام مملكة ال في الرض ،وإزالة مملكة البشر ،وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من
العباد ورده إلى ال وحده ..وسيادة الشريعة اللهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية ..كل أولئك ل
يتم بمجرد التبليغ والبيان ،لن المتسلطين على رقاب العباد ،والمغتصبين لسلطان ال في الرض
،ل يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان ،وإل فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين ال
في الرض ! وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل -صلوات ال وسلمه عليهم -وتاريخ هذا الدين
إن هذا العلن العام لتحرير " النسان " في " الرض " من كل سلطان غير سلطان ال ،
بإعلن إلوهية ال وحده وربوبيته للعالمين ،لم يكن إعلناً نظرياً فلسفياً سلبياً ..إنما كان
إعلناً حركياً واقعياً إيجابياً ..إعلناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر
بشريعة ال ،ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية ل وحده بل شريك ..ومن ثم لم
يكن بد من أن يتخذ شكل " الحركة " إلى جانب شكل " البيان " ..ذلك ليواجه " الواقع " البشري
والواقع النساني ،أمس واليوم وغداً ،يواجه هذا الدين -بوصفه إعلناً عاما لتحرير "
النسان " في " الرض " من كل سلطان غير سلطان ال -بعقبات اعتقادية تصورية ،وعقبات
مادية واقعية ..وعقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية ،إلى جانب عقبات
العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة ..وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة
التعقيد .
وإذا كان " البيان " يواجه العقائد والتصورات ،فإن " الحركة " تواجه العقبات المادية
الخرى -وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل العتقادية التصورية والعنصرية
والطبقية والجتماعية والقتصادية المعقدة المتشابكة .. -وهما معاً -البيان والحركة -يواجهان
()54
" الواقع البشري " بجملته ،بوسائل مكافئة لكل مكوناته ..وهما معاً ل بد منهما لنطلق حركة
التحرير للنسان في الرض " ..النسان " كله في " الرض " كلها ..وهذه نقطة هامة ل بد من
إن هذا الدين ليس إعلناً لتحريـر النسان العربي ! وليس رسالة خاصة بالعرب ! ..إن
موضوعه هو " النسان " ..نوع " النسان " ..ومجاله هو " الرض " ..كل " الرض " .إن
ال -سبحانه -ليس رباً للعرب وحدهم ول حتى لمن يعتنقون العقيدة السلمية وحدهم ..إن ال
هو " رب العالمين " ..وهذا الدين يريد أن يرد " العالمين " إلى ربهم ،وأن ينتزعهم من العبودية
لغيره .والعبودية الكبرى -في نظر السلم -هي خضوع البشـر لحكام يشرعها لهم ناس من
البشر ..وهذه هي " العبادة " التي يقرر أنها ل تكون إل ل ،وأن من يتوجه بها لغير ال يخرج
من دين ال مهما ادعى أنه في هذا الدين .ولقد نص رسول ال -صلى ال عليه وسلم -على أن
" التّباع " في الشريعة والحكم هو " العبادة " التي صار بها اليهود والنصارى " مشركين "
أخرج الترمذي -بإسناده -عن عدي بن حاتم -رضي ال عنه -أنه لما بلغته دعوة
رسول ال -صلى ال عليه وسلم -فر إلى الشام ،وكان قد تنصر في الجاهلية ،فأسرت أخته
وجماعة من قومه ،ثم منّ رسول ال - -صلى ال عليه وسلم -على أخته فأعطاها ،فرجعت
إلى أخيها فرغّبته في السلم ،وفي القدوم على رسول ال -صلى ال عليه وسلم -فتحدث
الناس بقدومه ،فدخل على رسول ال -صلى ال عليه وسلم -وفي عنقه -أي " عدي " صليب
من فضة وكان النبي -صلى ال عليه وسلم -يقرأ هذه الية { ..ا ّتخَذُوا َأحْبَارَ ُهمْ َورُهْبَا َن ُهمْ
()55
..قال :فقلت :إنهم لم يعبدوهم ،فقال " :بلى ! إنهم حرّموا عليهم ()10
أَرْبَابا مِنْ دُونِ الّل ِه }
الحلل وأحلوا لهم الحرام ،فاتبعوهم ،فذلك عبادتهم إياهم " .
وتفسير رسول ال -صلى ال عليه وسلم -لقول ال سبحانه ،نص قاطع على أن الاتّباع
في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين ،وأنها هي اتخاذ بعض الناس أرباباً لبعض
..المر الذي جاء هذا الدين ليلغيه ،ويعلن تحرير " النسان " في " الرض " من العبودية لغير
ال ..
ومن ثم لم يكن بد للسلم أن ينطلق في " الرض " لزالة " الواقع " المخالف لذلك العلن
العام ..بالبيان وبالحركة مجتمعين ..وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبّد الناس لغير
ال - ..أي تحكمهم بغير شريعة ال وسلطانه -والتي تحول بينهم وبين الستماع إلى " البيان "
واعتناق " العقيدة " بحرية ل يتعرض لها السلطان .ثم لكي يقيم نظاماً اجتماعياً واقتصادياً
وسياسياً يسمح لحركة التحرر بالنطلق الفعلي -بعد إزالة القوة المسيطرة -سواء كانت سياسية
إنه لم يكن من قصد السلم قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته ..ولكن السلم ليس
مجرد " عقيدة " .إن السلم كما قلنا إعلن عام لتحرير النسان من العبودية للعباد .فهو يهدف
ابتداء إلى إزالة النظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية النسان
للنسان ..ثم يطلق الفراد بعد ذلك أحراراً -بالفعل -في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض
اختيارهم -بعد رفع الضغط السياسي عنهم ،وبعد البيان المنير لرواحهم وعقولهم -ولكن هذه
التجربة ليس معناهـا أن يجعلوا إلاههم هواهم ،أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيداً للعباد !
وأن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون ال ! ..إن النظام الذي يحكم البشر في الرض يجب أن
()56
تكون قاعدته العبودية ل وحده ،وذلك بتلقـي الشرائع منه وحده .ثم ليعتنق كل فرد -في ظل
هذا النظام العام -ما يعتنقه من عقيدة ! وبهذا يكون " الدين " كله ل .أي تكون الدينونة
والخضوع والتباع والعبودية كلها ل ..إن مدلول " الدين " أشمل من مدلول " العقيدة " .إن الدين
هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة ،وهو في السلم يعتمد على العقيدة ،ولكنه في عمومه
أشمل من العقيدة ..وفي السلم يمكن أن تخضع جماعات متنوعة لمنهجه العام الذي يقوم على
أساس العبودية ل وحده ولو لم يعتنق بعض هذه الجماعات عقيدة السلم .
والذي يدرك طبيعة هذا الدين -على النحو المتقدم -يدرك معها حتمية النطلق الحركي
للسلم في صورة الجهاد بالسيف -إلى جانب الجهاد بالبيان -ويدرك أن ذلك لم يكن حركة
دفاعية -بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلح " الحرب الدفاعية " كما يريد المهزومون
-أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر -أن يصوروا حركة الجهاد في
السلم -إنما كان حركة اندفاع وانطلق لتحرير " النسان " في " الرض " ..بوسائل مكافئة
لكل جوانب الواقع البشري ،وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة .
وإذا لم يكن بد أن نسمي حركة السلم الجهادية حركة دفاعية ،فل بد أن نغير مفهوم كلمة
" دفاع " ،ونعتبره " دفاعاً عن النسان " ذاته ،ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره
..هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات ،كما تتمثل في النظمة السياسية ،القائمة
على الحواجز القتصادية والطبقية والعنصرية ،التي كانت سائدة في الرض كلها يوم جاء
السلم ،والتي ما تزال أشكال منها سائدة في الجاهلية الحاضرة في هذا الزمان !
وبهذا التوسع في مفهوم كلمة " الدفاع " نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث النطلق السلمي
في " الرض " بالجهاد ،ونواجه طبيعة السلم ذاتها ،وهي أنه إعلن عام لتحرير النسان من
()57
العبودية للعباد ،وتقرير ألوهية ال وحده وربوبيته للعالمين ،وتحطيم مملكة الهوى البشري في
أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد السلمي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب
الدفاعية ،ومحاولة البحث عن أسانيد لثبات أن وقائع الجهاد السلمي كانت لمجرد صد العدوان
من القوى المجاورة على " الوطن السلمي " -وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب -فهي
محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين ،ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الرض .كما
أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر ،وأمام الهجوم الستشراقي الماكر على الجهاد
السلمي !
ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان -رضي ال عنهم -قد أمنوا عدوان الروم والفرس
على الجزيرة أكانوا يقعـدون إذن عن دفع المد السلمي إلى أطراف الرض ؟ وكيف كانوا
يدفعون هذا المد ،وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من أنظمة الدولة السياسية ،وأنظمة المجتمع
العنصرية والطبقية ،والقتصادية الناشئة من العتبارات العنصرية والطبقية ،والتي تحميها القوة
إنها سذاجة أن يتصـور النسان دعوة تعلن تحريـر " النسان " ..نوع النسان ..في "
الرض " ..كل الرض ..ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان ! ..إنها تجاهد
باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الفراد ،تخاطبهم بحرية ،وهم مطلقو السراح من جميع
تلك المؤثرات ..فهنا " ل إكراه في الدين " ..أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية ،فل
بد من إزالتها أولً بالقوة ،للتمكن من مخاطبة قلب النسان وعقله ،وهو طليق من هذه الغلل !
إن الجهاد ضرورة للدعوة ،إذا كانت أهدافها هي إعلن تحرير النسان إعلناً جاداً يواجه
الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه ،ول يكفي بالبيان الفلسفي النظري ! سواء كان
الوطن السلمي -وبالتعبير السلمي الصحيح :دار السلم -آمناً أم مهدداً من جيرانه .
()58
فالسلم حين يسعى إلى السلم ،ل يقصد تلك السلم الرخيصة ،وهي مجرد أن يؤمن الرقعة
الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة السلمية .إنما هو يريـد السلم التي يكون فيها الدين كله ل .
أي تكون عبودية الناس كلهم فيها ل ،والتي ل يتخذ فيها الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون ال
.والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في السلم -بأمر من ال -ل
بأوائل أيام الدعوة ول بأواسطها ..ولقـد انتهت هذه المراحل كما يقـول المام ابن القيم " :
فاستقر أمر الكفار معه -بعد نزول براءة -على ثلثة أقسام :محاربين له ،وأهل عهد ،وأهل
ذمة ..ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى السلم ..فصاروا معه قسمين :محاربين ،وأهل
ذمة .والمحاربون له خائفون منه ..فصار أهل الرض معه ثلثة أقسام :مسلم مؤمن به ،
ومسالم له آمن ( وهم أهل الذمة كما يفهم من الجملة السابقة ) وخائف محارب " ..
وهذه هي المواقف المنطقية مع طبيعة هذا الدين وأهدافه ،ل كما يفهم المهزومون أمام
ولقـد كف ال المسلمين عن القتال في مكة ،وفي أول العهد بالهجرة إلى المدينة ..وقيل
عَاقِ َب ُة الُْأمُورِ } ( ..)12ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقيل لهم :
()59
..ثم فرض عليهم قتال المشركين كافـة ،فقيل لهم ()13
{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الّل ِه الّذِينَ ُيقَاتِلُو َن ُكمْ }
.فكان القتال -كما يقول المام ابن القيم " - ()15
غرُونَ }
ن يَدٍ َو ُهمْ صَا ِ
حَتّى ُي ْعطُوا ا ْلجِزْ َي َة عَ ْ
محرماً ،ثم مأذوناً به ،ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال ،ثم مأموراً به لجميع المشركين " ..
إن جدّية النصوص القرآنية الواردة في الجهاد ،وجدية الحاديث النبوية التي تحض عليه ،
وجدية الوقائع الجهادية في صدر السلم ،وعلى مدى طويل من تاريخه ..إن هذه الجدية
الواضحة تمنع أن يجول في النفس ذلك التفسير الذي يحاوله المهزومون أمام ضغط الواقع
ومن ذا الذي يسمع قول ال سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله -صلى ال عليه وسلم -
ويتابع وقائع الجهاد السلمي ،ثم يظنه شأناً عارضاً مقيداً بملبسات تذهب وتجيء ،ويقف عند
لقد بين ال للمؤمنين في أول ما نزل من اليات التي أذن لهم فيها بالقتال أن الشأن الدائم
الصيل في طبيعة هذه الحياة الدنيا أن يدفع الناس بعضهم ببعض ،لدفع الفساد عن الرض :
صوَامِ ُع وَبِيَعٌ
ت َ
ضهُ ْم بِ َبعْضٍ َلهُ ّدمَ ْ
س َبعْ َ
ن َيقُولُوا رَبّنَا الّلهُ وَ َلوْل دَفْ ُع الّلهِ النّا َ
ق إِلّا أَ ْ
ِبغَيْرِ حَ ّ
()60
وإذن فهو الشأن الدائم ل الحالة العارضة .الشأن الدائم أن ل يتعايش الحق والباطل في هذه
الرض .وأنه متى قام السلم بإعلنه العام لقامة ربوبية ال للعالمين ،وتحرير النسان من
العبودية للعباد ،رماه المغتصبون لسلطان ال في الرض ولم يسالموه قط ،وانطلق هو كذلك
يدمر عليهم ليخرج الناس من سلطانهم ويدفع عن " النسان " في " الرض " ذلك السلطان
الغاصب ..حال دائمة ل يقف معها النطلق الجهادي التحريري حتى يكون الدين كله ل .
إن الكف عن القتال في مكة لم يكن إل مجرد مرحلة في خطة طويلة .كذلك كان المر أول
العهد بالهجرة .والذي بعث الجماعة المسلمة في المدينة بعد الفترة الولى للنطلق لم يكن مجرد
تأمين المدينة ..هذا هدف أولي ل بد منه ،ولكنه ليس الهدف الخير ..إنه هدف يضمن وسيلة
النطلق ،ويؤمن قاعدة النطلق ..النطلق لتحرير " النسان " ،ولزالة العقبات التي تمنع "
وكف أيدي المسلمين في مكة عن الجهاد بالسيف مفهوم .لنه كان مكفولً للدعوة في مكة
حرية البلغ ..كان صاحبها -صلى ال عليه وسلم -يملك بحماية سيوف بني هاشم ،أن يصدع
بالدعوة ،ويخاطب بها الذان والعقول والقلوب ،ويواجه بها الفراد ..لم تكن هناك سلطة
سياسية منظمة تمنعه من إبلغ الدعوة ،أو تمنع الفراد من سماعه ! فل ضرورة -في هذه
المرحلة -لستخدام القوة ،وذلك إلى أسباب أخرى لعلها كانت قائمة في هذه المرحلة .وقد
لخصتها في ظلل القرآن عند تفسير قوله تعالى { :أَ َلمْ تَ َر إِلَى الّذِينَ قِيلَ َلهُ ْم كُفّوا أَيْدِ َيكُمْ َوأَقِيمُوا
الصّلةَ وَآتُوا ال ّزكَاةَ [ } ..الية 77من سورة النساء ] .ول بأس في إثبات بعض هذا التلخيص
هنا :
" ربما كان ذلك لن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ،في بيئة معينة ،لقوم معينين ،
وسط ظروف معينة .ومن أهداف التربية والعداد في مثل هذه البيئة بالذات ،تربية نفس الفرد
()61
العربي على الصبر على ما ل يصبر عليه عادة من الضيم على شخصه أو على من يلوذون به ،
ليخلص من شخصه ،ويتجرد من ذاته ،ول تعود ذاته ول من يلوذون به محور الحياة في نظره
ودافع الحركة في حياته .وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ،فل يندفع لول مؤثر -كما هي
طبيعته -ول يهتاج لول مهيج ،فيتم العتدال في طبيعته وحركته .وتربيته على أن يتبع
مجتمعاً منظماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ،ول يتصرف إل وفق ما تأمره
به -مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته -وقد كان هذا هو حجر الساس في إعداد شخصية العربي
،لنشاء " المجتمع المسلم " الخاضع لقيادة موجهة ،المترقي المتحضر ،غير الهمجي أو القبلي !
" وربما كان ذلك أيضاً .لن الدعوة السلمية كانت أشد أثراً وأنفذ ،في مثل بيئة قريش .
ذات العنجهية والشرف .والتي قد يدفعها القتال معها -في مثل هذه المرحلة -إلى زيادة العناد ،
وإلى نشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة التي أثارت حرب داحس والغبراء ،
وحرب البسوس ،أعواماً طويلة ،تفانت فيها قبائل برمتها .وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة
في أذهانهم وذكرياتهم بالسلم ،فل تهدأ بعد ذلك أبداً ،ويتحول السلم من دعوة ودين إلى
ثارات وذحول تنسى معها وجهته الساسية ،وهو في مبدئه ،فل تذكر أبداً !
" وربما كان ذلك أيضاً ،اجتناباً لنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت .فلم تكن هناك
سلطة نظامية عامة ،هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم ،إنما كان ذلك موكولً إلى أولياء كل فرد
يعذبونه ويفتنونه " ويؤدبونه ! " ومعنى الذن بالقتال -في مثل هذه البيئة -أن تقع معركة ومقتلة
في كل بيت ..ثم يقال :هذا هو السلم ! ولقد قيلت حتى والسلم يأمر بالكف عن القتال ! فقد
كانت دعاية قريش في الموسم .في أواسط العرب القادمين للحج والتجارة :إن محمداً يفرق بين
الوالد وولده ،فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ،والمولى
()62
" وربما كان ذلك أيضاً لما يعلمه ال من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل
المسلمين عن دينهم ،ويعذبونهم ويؤذونهم ،هم بأنفسهم سيكونون جند السلم المخلص ،بل من
" وربما كان ذلك أيضاً ،لن النخوة العربية ،في بيئة قبلية ،من عادتها أن تثور للمظلوم
الذي يحتمل الذى ،ول يتراجع ! وبخاصة إذا كان واقعاً على كرام الناس فيهم ..وقد وقعت
ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة -في هذه البيئة -فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر -
وهو رجل كريم -يهاجر ويخرج من مكة ،ورأى في ذلك عاراً على العرب ! وعرض عليه
جواره وحمايته ..وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب ،
بعد ما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة ..بينما في بيئة أخرى من بيئات " الحضارة " القديمة
التي مردت على الذل ،قد يكـون السكوت على الذى مدعاة للهزء والسخرية والحتقار من
" وربما كان ذلك ،أيضاً ،لقلة عدد المسلمين حينذاك .وانحصارهم في مكة ،حيث لم
تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة أو بلغت أخبارها متناثرة ،حيث كانت القبائل تقف على الحياد من
معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها ،حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف .ففي مثل هذه
الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة ،إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة -حتى ولو قتلوا هم
أضعاف من سيقتل منهم -ويبقى الشرك ،وتنمحي الجماعة المسلمة ،ولم يقم في الرض
للسلم نظام ،ول وجد له كيان واقعي .وهو دين جاء ليكون منهاج حياة ،وليكون نظاماً
()63
فأما في المدينة -في أول العهد بالهجرة -فقد كانت المعاهدة التي عقدها رسول ال -
صلى ال عليه وسلم -مع اليهود من أهلها ومن بقي على الشرك من العرب فيها وفيما حولها ،
أولً :لن هناك مجالً للتبليغ والبيان ،ل تقف له سلطة سياسية تمنعه وتحول بين الناس
وبينه ،فقد اعترف الجميع بالدولة المسلمة الجديدة ،وبقيادة رسول ال -صلى ال عليه وسلم -
في تصريف شؤونها السياسية .فنصت المعاهدة على أل يعقد أحد منهم صلحاً ول يثير حرباً ،
ول ينشئ علقة خارجية إل بإذن رسول ال -صلى ال عليه وسلم -وكان واضحاً أن السلطة
الحقيقة في المدينة في يد القيادة المسلمة .فالمجال أمام الدعوة مفتوح ،والتخلية بين الناس وحرية
ثانياً :إن الرسول -صلى ال عليه وسلم -كان يريد التفرغ فـي ،هذه المرحلة -
لقريش ،التي تقوم معارضتها لهذا الدين حجر عثرة في وجه القبائل الخرى الواقعة في حالة
انتظار لما ينتهي إليه المر بين قريش وبعض بنيها ! لذلك بادر رسول ال -صلى ال عليه وسلم
-بإرسال " السرايا " وكان أول لواء عقده لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس
ثم توالت هذه السرايا ،على رأس تسعة أشهر .ثم على رأس ثلثة عشر شهراً .ثم على
رأس ستة عشر شهراً .ثم كانت سرية عبد ال بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً
،وهي أول غزاة وقع فيها قتل وقتال ،وكان ذلك في الشهر الحَرام ،والتي نزلت فيها آيات
شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِي ٌر وَصَدّ عَنْ سَبِي ِل الّلهِ َو ُكفْرٌ ِبهِ
ن ال ّ
ك عَ ِ
البقرة َ { :يسْأَلونَ َ
ن ُيقَاتِلُو َنكُمْ
ن ا ْلقَ ْتلِ وَل يَزَالُو َ
وَا ْل َمسْجِدِ ا ْلحَرَامِ َوِإخْرَاجُ أَ ْهِلهِ مِ ْنهُ َأكْبَ ُر عِنْ َد الّلهِ وَا ْلفِتْ َنةُ َأكْبَرُ مِ َ
()64
ثم كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان من هذه السنة ..وهي التي نزلت فيها سورة النفال
.
ورؤية الموقف من خلل ملبسات الواقع ،ل تدع مجالً للقول بأن " الدفاع " بمفهومه
الضيق كان هو قاعدة الحركة السلمية ،كما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر ،وأمام
إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد السلمي ،إنما يؤخذون بحركة
الهجوم الستشراقية ،في وقت لم يعد للمسلمين شوكة ،بل لم يعد للمسلمين إسلم ! -إل من
عصم ال ممن يصرون على تحقيق إعلن السلم العام بتحرير " النسان " في " الرض " من
كل سلطان إل من سلطان ال ،ليكون الدين كله ل -فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في
السلم !
والمد السلمي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها
ك وَلِيّا
ن لَدُنْ َ
ج َعلْ لَنَا مِ ْ
وَال ّنسَاءِ وَا ْلوِلْدَانِ الّذِينَ َيقُولُونَ رَبّنَا أَخْ ِرجْنَا مِنْ هَذِ ِه الْقَرْ َي ِة الظّا ِلمِ أَهُْلهَا وَا ْ
ن آمَنُوا ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الّل ِه وَالّذِينَ َكفَرُوا ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
ك نَصِيرا ،الّذِي َ
ن لَدُنْ َ
ج َعلْ لَنَا مِ ْ
وَا ْ
()65
ت الْ َأوّلِينَ ،
ن َيعُودُوا َفقَ ْد مَضَتْ سُنّ ُ
ن يَنْ َتهُوا ُيغْفَ ْر َل ُهمْ مَا قَ ْد سَلَفَ َوإِ ْ
ن كَفَرُوا إِ ْ
{ ُق ْل لِلّذِي َ
ن كُّلهُ ِلّلهِ َفإِنِ انْ َت َهوْا َفإِنّ الّل َه ِبمَا َي ْعمَلُونَ بَصِيرٌ َ ،وإِنْ
وَقَاتِلُو ُه ْم حَتّى ل َتكُونَ فِتْ َنةٌ وَ َيكُونَ الدّي ُ
َتوَّلوْا فَاعْ َلمُوا أَنّ الّل َه َموْل ُكمْ ِن ْعمَ ا ْل َموْلَى وَ ِن ْعمَ النّصِيرُ } [ النفال ] 40 - 38 :
غرُونَ ،وَقَالَتِ
ن يَ ٍد وَ ُهمْ صَا ِ
ن أُوتُوا ا ْلكِتَابَ حَتّى ُي ْعطُوا ا ْلجِزْ َي َة عَ ْ
ق مِنَ الّذِي َ
يَدِينُونَ دِينَ ا ْلحَ ّ
ن الّلهِ َذلِكَ َقوُْل ُهمْ بِأَ ْفوَا ِه ِهمْ يُضَاهِئُونَ َق ْولَ الّذِينَ
ت النّصَارَى ا ْل َمسِيحُ ابْ ُ
ن الّلهِ َوقَالَ ِ
الْ َيهُودُ عُزَ ْيرٌ ابْ ُ
ن } [ ...التوبة - 29 :
ن يُ ِتمّ نُورَ ُه وَ َلوْ كَرِ َه ا ْلكَافِرُو َ
طفِئُوا نُو َر الّلهِ ِبأَ ْفوَا ِه ِهمْ وَيَأْبَى الّل ُه إِلّا أَ ْ
ُي ْ
. ] 32
إنها مبررات تقرير ألوهية ال في الرض ،وتحقيق منهجه في حياة الناس ،ومطاردة
الشياطين ومناهج الشياطين ،وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس ،والناس عبيد ل وحده ،ل
يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه ! وهذا يكفي ..
مع تقرير مبدأ " :ل إكراه في الدين " ..أي ل إكراه على اعتناق العقيدة ،بعد الخروج من
سلطان العبيد ،والقرار بمبدأ أن السلطان كله ل ،أو أن الدين كله ل ،بهذا العتبار .
إنها مبررات التحرير العام للنسان في الرض .بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى
العبودية ل وحده بل شريك ..وهذه وحدها تكفي ..لقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس
الغزاة من المسلمين ،فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول :خرجنا ندافع عن وطننا
المهدد ! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين ! أو خرجنا نوسع رقعتنا
ونستكثر من الغنيمة !
()66
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر .وحذيفة بن محصن والمغيرة بن شعبة جميعاً
لرستم قائد جيش الفرس في القادسية ،وهو يسألهم واحدا بعد واحد في ثلثة أيام متوالية ،قبل
المعركة :ما الذي جاء بكم ؟ فيكون الجواب " :ال ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى
عبادة ال وحده .ومن ضيق الدنيا إلى سعتها .ومن جور الديان إلى عدل السلم ..فأرسل
رسوله بدينه إلى خلقه ،فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه ،وتركناه وأرضه .ومن أبى قاتلناه
إن هناك مبرراً ذاتياً في طبيعة هذا الدين ذاته ،وفي إعلنه العام ،وفي منهجه الواقعي
لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه ،في مراحل محددة ،بوسائل متجددة ..وهذا
المبرر الذاتي قائم ابتداء -ولو لم يوجد خطر العتداء على الرض السلمية وعلى المسلمين
فيها -إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته ،وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية ..
وإنه ليكفي لن يخرج المسلم مجاهداً بنفسه وماله " ..في سبيل ال " ..في سبيل هذه القيم
التي ل يناله هو من ورائها مغنم ذاتي ،ول يخرجه لها مغنم ذاتي ..
إن المسلم قبل أن ينطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الكبر في نفسه
مع الشيطان ..مع هواه وشهواته ..مع مطامعه ورغباته ..مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه
..مع كل شارة غير شارة السلم ..ومع كل دافع إل العبودية ل ،وتحقيق سلطانه في الرض
والذين يبحثون عن مبررات للجهاد السلمي في حماية " الوطن السلمي " يغضون من
شأن " المنهج " ويعتبرونه أقل من " الموطن " وهذه ليست نظرة السلم إلى هذه العتبارات .
إنها نظرة مستحدثة غريبة على الحس السلمي ،فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي
()67
يسود فيه هذا المنهج هي العتبارات الوحيدة في الحس السلمي .أما الرض -بذاتها -فل
اعتبار لها ول وزن ! وكل قيمة للرض في التصور السلمي إنما هي مستمدة من سيادة منهج
ال وسلطانه فيها ،وبهذا تكون محضن العقيدة وحقل المنهج و " دار السلم " ونقطة النطلق
وحقيقة إن حماية " دار السلم " حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج .
ولكنها ليست الهدف النهائي ،وليست حمايتها هي الغاية الخيرة لحركة الجهاد السلمي ،إنما
حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة ال فيها ،ثم لتخاذها قاعدة انطلق إلى الرض كلها وإلى النوع
النساني بجملته .فالنوع النساني هو موضوع هذا الدين والرض هي مجاله الكبير !
وكما أسلفنا فإن النطلق بالمذهب اللهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة ،
ونظام المجتمع ،وأوضاع البيئة ..وهذه كلها هي التي ينطلق السلم ليحطمها بالقوة ،كي يخلو
له وجه الفراد من الناس ،يخاطب ضمائرهم وأفكارهم ،بعد أن يحررها من الغلل المادية ،
يجب أل تخدعنا أو تفزعنا حملت المستشرقين على مبدأ " الجهاد " وأل يثقل على عاتقنا
ضغط الواقع وثقله في ميزان القوى العالمية ،فنروح نبحث للجهاد السلمي عن مبررات أدبية
خارجة عن طبيعة هذا الدين ،في ملبسات دفاعية وقتية ،كان الجهاد سينطلق في طريقه سواء
وجدت أم لم توجد !
ويجب ونحن نستعرض الواقع التاريخي أل نغفل عن العتبارات الذاتية في طبيعة هذا الدين
وإعلنه العام ومنهجه الواقعي ،وأل نخلط بينها وبين المقتضيات الدفاعية الوقتية ..
()68
حقاً إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له ،لن مجرد وجوده في صورة إعلن
عام لربوبية ال للعالمين ،وتحرير النسان من العبودية لغير ال ،وتمثل هذا الوجود في تجمع
تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية ،وميلد مجتمع مستقل متميز ل يعترف
لأحد من البشر بالحاكمية ،لن الحاكمية فيه ل وحده ..إن مجرد وجود هذا الدين في هذه
الصورة ل بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله -القائمة على قاعدة العبودية للعباد -أن
تحاول سحقه ،دفاعاً عن وجودها ذاته ،ول بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه ..
هذه ملبسة ل بد منها ،تولد مع ميلد السلم ذاته ،وهذه معركة مفروضة على السلم
فرضاً ،ول خيار له في خوضها ،وهذا صراع طبيعي بين وجودين ل يمكن التعايش بينهما
طويلً . ..
هذا كله حق ..ووفق هذه النظرة يكون ل بد للسلم أن يدافع عن وجوده ،ول بد أن
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة ..إن من طبيعة الوجود السلمي ذاته
أن يتحرك إلى المام ابتداء .لنقاذ " النسان " في " الرض " من العبودية لغير ال ،ول يمكن
أن يقف عند حدود جغرافية ،ول أن ينزوي داخل حدود عنصرية ،تاركاً " النسان " ..نوع
النسان ..في " الرض " ..كل الرض ..للشر والفساد والعبودية لغير ال .
إن المعسكرات المعادية للسلم قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه أل تهاجم السلم ،إذا
تركها السلم تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها القليمية ،ورضى أن يدعها وشأنها ولم
يمد إليها دعوته وإعلنه التحريري العام ! ولكن السلم ل يهادنها ،إل أن تعلن استسلمها
لسلطانه في صورة أداء الجزية ،ضماناً لفتح أبوابها لدعوته بل عوائق مادية من السلطات القائمة
فيها .
()69
هذه طبيعة هذا الدين ،وهذه وظيفته ،بحكم أنه إعلن عام لربوبية ال للعالمين ،وتحرير
وفرق بين تصور السلم على هذه الطبيعة ،وتصوره قابعاً داخل حدود إقليمية أو
عنصرية ،ل يحركه إل خوف العتداء ! إنه في هذه الصورة الخيرة يفقد مبرراته الذاتية في
النطلق !
إن مبررات النطلق السلمي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج ال
للحياة البشرية ،وليس منهـج إنسان ،ول مذهب شيعة من الناس ،ول نظـام جنس من
الجناس ! ..ونحن ل نبحث عن مبررات خارجية إل حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة ..
حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية ال وعبودية العباد ..إنه ل يمكن أن يستحضر إنسان ما
والمسافة قد ل تبدو كبيرة عند مفرق الطريق ،بين تصور أن السلم كان مضطراً
لخوض معركة ل اختيار له فيها ،بحكم وجوده الذاتي ووجود المجتمعات الجاهلية الخرى التي ل
بد أن تهاجمه ،وتصور أنه هو بذاته ل بد أن يتحرك ابتداء ،فيدخل في هذه المعركة ..
المسافة عند مفرق الطريق قد ل تبدو كبيرة ،فهو في كلتا الحالتين سيدخل المعركة حتماً ،
ولكنها في نهاية الطريق تبدو هائلة شاسعة ،تغير المشاعر والمفهومات السلمية تغييراً كبيراً
..خطيراً .
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار السلم منهجاً إلهياً ،جاء ليقرر ألوهية ال في الرض ،
وعبودية البشر جميعاً لله واحد ،ويصب هذا التقرير في قالب واقعي ،هو المجتمع النساني
الذي يتحرر فيه الناس من العبودية للعباد ،بالعبودية لرب العباد ،فل تحكمهم إل شريعة ال ،
()70
التي يتمثل فيها سلطان ال ،أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته ..فمن حقه إذن أن يزيل العقبات
كلها من طريقه ،ليخاطب وجدان الفراد وعقولهم دون حواجز ول موانع مصطنعة من نظام
الدولة السياسي ،أو أوضاع الناس الجتماعية ..إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار السلم على
هذا النحو ،واعتباره نظاماً محلياً في وطن بعينه فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل
حدوده القليمية !
هذا تصور ..وذاك تصور ..ولو أن السلم في كلتا الحالتين سيجاهد ..ولكن التصور
الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه ،يختلف اختلفاً بعيداً ،يدخل في صميم العتقاد كما
إن من حق السلم أن يتحرك ابتداء .فالسلم ليس نحلة قوم ،ول نظام وطن ،ولكنه
منهج إله ،ونظام عالم ..ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والوضاع التي تغل
من حرية " النسان " في الختيار .وحسبه أنه ل يهاجم الفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته ،
إنما يهاجم النظمة والوضاع ليحرر الفراد من التأثيرات الفاسدة ،المفسدة للفطرة ،المقيدة
من حق السلم أن يُخرج " الناس "من عبادة العباد إلى عبادة ال وحده ..ليحقق إعلنه
العام بربوبية ال للعالمين ،وتحرير الناس أجمعين ..وعبادة ال وحده ل تتحقق -في التصور
السلمي وفي الواقع العملي -إل في ظل النظام السلمي ،فهو وحده النظام الذي يشرع ال فيه
للعباد كلهم ،حاكمهم ومحكومهم ،أسودهم وأبيضهم ،قاصيهم ودانيهم ،فقيرهم وغنيهم ،تشريعاً
واحداً يخضع له الجميع على السواء ..أما في سائر النظمة ،فيعبد الناس العباد ،لنهم يتلقون
التشريع لحياتهم من العباد .وهو من خصائص اللوهية ،فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع
للناس من عند نفسه ،فقد ادّعى اللوهية اختصاصاً وعملً ،سواء ادّعاها قولً أم لم يعلن هذا
()71
الدعاء .وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق اللوهية ،سواء
والسلم ليس مجرد عقيدة ،حتى يقنع بإبلغ عقيدته للناس بوسيلة البيان .إنما هو منهج
يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس ،والتجمعات الخرى ل تمكّنه من
تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو ،ومن ثم يتحتم على السلم أن يزيل هذه النظمة بوصفها
معوقات للتحرير العام ،وهذا -كما قلنا من قبل -معنى أن يكون الدين كله ل ،فل تكون هناك
دينونة ول طاعة لعبد من العباد لذاته .كما هو الشأن في سائر النظمة التي تقم على عبودية
العباد للعباد !
إن الباحثين السلميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر وتحت الهجوم
الستشراقي الماكر ،يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة ،لن المستشرقين صوروا السلم حركة
قهر بالسيف للكراه على العقيدة .والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيداً أن هذه ليست هي
الحقيقة ،ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد السلمي بهذه الطريقة ..ومن ثم يقوم المنافحون -
المهزومون -عن سمعة السلم ،بنفي هذا التهام ،فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية !
ويغفلون عن طبيعة السلم ووظيفته ،وحقه في " تحرير النسان " ابتداء .
وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين -المهزومين -ذلك التصور الغربي لطبيعة "
الدين " ..وإنه مجرد " عقيدة " في الضمير ،ل شأن لها بالنظمة الواقعية للحياة .ومن ثم يكون
ولكن المر ليس كذلك في السلم ،فالسلم منهج ال للحياة البشرية ،وهو منهج يقوم
على إفراد ال وحده باللوهية -متمثلة في الحاكمية -وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلتها
اليومية ! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام .أما العقيدة فأمر موكول إلى حرية القتناع
()72
،في ظل النظام العام ،بعد رفع جميع المؤثرات ..ومن ثم يختلف المر من أساسه ،وتصبح له
وحيثما وجد التجمع السلمي ،الذي يتمثل فيه المنهج اللهي ،فإن ال يمنحه حق الحركة
والنطلق لتسلم السلطان وتقرير النظام ،مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان ،فإذا
كف ال أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد ،فهذه مسألة خطة ل مسألة مبدأ ،مسألة
مقتضيات الحركة ل مسألة عقيدة ..وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية
المتعددة ،في المراحل التاريخية المتجددة ،ول نخلط بين دللتها المرحلية ،والدللة العامة لخط
()73
ل إِله إِلّ الُ مَنْهَجُ حَيَاة
العبودية ل وحده هي شطر الركن الول في العقيدة السلمية المتمثل في شهادة :أن ل إله
إل ال .والتلقي عن رسول ال -صلى ال عليه وسلم -في كيفية هذه العبودية -هو شطرها
والقلب المؤمن المسلم هو الذي تتمثل فيه هذه القاعدة بشطريها ،لن كل ما بعدهما من
مقومات اليمان ،وأركان السلم ،إنما هو مقتضى لها .فاليمان بملئكة ال وكتبه ورسله
واليوم الخر والقدر خيره وشره ،وكذلك الصلة والزكاة والصيام والحج ،ثم الحدود والتعازير
والحل والحرمة والمعاملت والتشريعات والتوجيهات السلمية ...إنما تقوم كلها على قاعدة
العبودية ل وحده ،كما أن المرجع فيها كلها هو ما بلّغه لنا رسول ال -صلى ال عليه وسلم -
والمجتمع المسلم هو الذي تتمثل فيه تلك القاعدة ومقتضايتها جميعاً لنه بغير تمثل تلك
ومن ثم تصبح شهادة أن ل إله إل ال ،وأن محمداً رسول ال ،قاعدة لمنهج كامل تقوم
عليه حياة المة المسلمة بحذافيرها ،فل تقوم هذه الحياة قبل أن تقوم هذه القاعدة ،كما أنها ل
تكون حياة إسلمية إذا قامت على غير هذه القاعدة ،أو قامت على قاعدة أخرى معها ،أو عدة
()74
[ النساء ] 80 : ن ُيطِعِ ال ّرسُولَ َفقَدْ َأطَاعَ الّل َه } ..
{ مَ ْ
هذا التقرير الموجز المطلق الحاسم يفيدنا في تحديد كلمة الفصل في قضايا أساسية في حقيقة
إنه يفيدنا أولً في تحديد " طبيعة المجتمع المسلم " .
ويفيدنا ثانياً في تحديد " منهج نشأة المجتمع المسلم " .
ويفيدنا ثالثاً في تحديد " منهج السلم في مواجهة المجتمعات الجاهلية " .
ويفيدنا رابعاً في تحديد " منهج السلم في مواجهة واقع الحياة البشرية " .
وهي قضايا أساسية بالغة الخطورة في منهج الحركة السلمية قديماً وحديثاً .
إن السمة الولى المميزة لطبيعة ( المجتمع المسلم ) هي أن هذا المجتمع يقوم على قاعدة
العبودية ل وحده في أمره كله ..هذه العبودية التي تمثلها وتكيفها شهادة أن ل إله إل ال ،وأن
وتتمثل هذه العبودية في التصور العتقادي ،كما تتمثل في الشعائر التعبدية ،كما تتمثل في
سمَاوَاتِ
ن اثْنَيْنِ إِ ّنمَا ُهوَ إِ َل ٌه وَاحِدٌ فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ ،وَ َل ُه مَا فِي ال ّ
{ وَقَا َل الّلهُ ل تَ ّتخِذُوا إِ َلهَيْ ِ
()75
ليس عبداً ل وحده من يتقدم بالشعائر التعبدية لحد غير ال -معه أو من دونه :
ك ُأمِرْتُ َوأَنَا
ب الْعَا َلمِينَ ،ل شَرِيكَ َل ُه وَبِذَلِ َ
سكِي َو َمحْيَايَ َو َممَاتِي لِّلهِ رَ ّ
{ ُق ْل إِنّ صَلتِي وَ ُن ُ
وليس عبداً ل وحده من يتلقى الشرائع القانونية من أحد سوى ال ،عن الطريق الذي
{ َومَا آتَاكُمُ ال ّرسُولُ َفخُذُوهُ َومَا َنهَا ُكمْ عَ ْنهُ فَانْ َتهُوا } [ الحشر ] 7 :
هذا هو المجتمع المسلم .المجتمع الذي تتمثل العبودية ل وحده في معتقدات أفراده
وتصوراتهم ،كما تتمثل في شعائرهم وعبادتهم ،كما تتمثل في نظامهم الجماعي وتشريعاتهم ..
وأيما جانب من هذه الجوانب تخلف عن الوجود فقد تخلف السلم نفسه عن الوجود .لتخلف
ولقد قلنا :إن العبودية ل تتمثل في " التصور العتقادي " ..فيحسن أن نقول ما هو
التصور العتقادي السلمي ..إنه التصور الذي ينشأ في الدراك البشري من تلقيه لحقائق العقيدة
من مصدرها الرباني ،والذي يتكيف به النسان في إدراكه لحقيقة ربه ،ولحقيقة الكون الذي
يعيش فيه -غيبه وشهوده -ولحقيقة الحياة التي ينتسب إليها -غيبها وشهودها -ولحقيقة نفسه
..أي لحقيقة النسان ذاته ..ثم يكيف على أساسه تعامله مع هذه الحقائق جميعاً ،تعامله مع ربه
تعاملً تتمثل فيه عبوديته ل وحده ،وتعامله مع الكون ونواميسه ومع الحياء وعوالمها ،ومع
أفراد النوع البشري وتشكيلته تعاملً يستمد أصوله من دين ال -كما بَلّغَهَا رسول ال صلى
()76
ال عليه وسلم -تحقيقاً لعبوديته ل وحده في هذا التعامل ..وهو بهذه الصورة يشمل نشاط الحياة
كله .
فإذا تقرر أن هذا هو " المجتمع المسلم " ،فكيف ينشأ هذا المجتمع ؟ ما منهج هذه النشأة ؟
إن هذا المجتمع ل يقوم حتى تنشأ جماعة من الناس تقرر أن عبوديتها الكاملة ل وحده ،
وأنها ل تدين بالعبودية لغير ال ..ل تدين بالعبودية لغير ال في العتقاد والتصور ،ول تدين
لغير ال في العبادات والشعائر ..ول تدين بالعبودية لغير ال في النظام والشرائع ..ثم تأخذ
بالفعل في تنظيم حياتها كلها على أساس هذه العبودية الخالصة ..تنقي ضمائرها من العتقاد في
ألوهية أحد غير ال -معه أو من دونه -وتنقي شعائرها من التوجه بها لحد غير ال -معه أو
عندئذ -وعندئذ فقط -تكون هذه الجماعة مسلمة ،ويكون هذا المجتمع الذي أقامته مسلماً
كذلك ..فأما قبل أن يقرر ناس من الناس إخلص عبوديتهم ل -على النحو الذي تقدم -فإنهم ل
يكونون مسلمين ..وأما قبل أن ينظموا حياتهم على هذا الساس فل يكون مجتمعهم مسلماً ..ذلك
أن القاعدة الولى التي يقوم عليها السلم ،والتي يقوم عليها المجتمع المسلم -هي شهادة أن ل
وإذن فإنه قبل التفكير في إقامة نظام مجتمع إسلمي ،وإقامة مجتمع مسلم على أساس هذا
النظام ..ينبغي أن يتجه الهتمام أولً إلى تخليص ضمائر الفراد من العبودية لغير ال -في أي
صورة من صورها التي أسلفنا -وأن يتجمع الفراد الذين تخلص ضمائرهم من العبودية لغير ال
في جماعة مسلمة ..وهذه الجماعة التي خلصت ضمائر أفرادها من العبودية لغير ال ،اعتقاداً
()77
وعبادة وشريعة ،هي التي ينشأ منها المجتمع المسلم ،وينظم إليها من يريد أن يعيش في هذا
المجتمع بعقيدته وعبادته وشريعته التي تتمثل فيها العبودية ل وحده ..أو بتعبير آخر تتمثل فيها
هكذا كانت نشأة الجماعة المسلمة الولى التي أقامت المجتمع المسلم الول ..وهكذا تكون
إن المجتمع المسلم إنما ينشأ من انتقال أفراد ومجموعات من الناس من العبودية لغير ال -
معه أو من دونه -إلى العبودية ل وحده بل شريك ،ثم من تقرير هذه المجموعات أن تقيم نظام
حياتها على أساس هذه العبودية ..وعندئذ يتم ميلد جديد لمجتمع جديد ،مشتق من المجتمع
الجاهلي القديم ،ومواجه له بعقيدة جديدة ،ونظام للحياة جديد ،يقوم على أساس هذه العقيدة ،
وتتمثل فيه قاعدة السلم الولى بشطريه ..شهادة أن ل إله إل ال وأن محمداً رسول ال ..
وقد ينضم المجتمع الجاهلي القديم بكامله إلى المجتمع السلمي الجديد وقد ل ينضم ،كما
أنه قد يهادن المجتمع المسلم الجديد أو يحاربه ،وإن كانت السنة قد جرت بأن يشن المجتمع
الجاهلي حرباً ل هوادة فيها ،سواء على طلئع هذا المجتمع في مرحلة نشوئه -وهو أفراد أو
مجموعات -أو على هذا المجتمع نفسه بعد قيامه فعلً -وهو ما حدث في تاريخ الدعوة
السلمية منذ نوح عليه السلم ،إلى محمد عليه الصلة والسلم ،بغير استثناء .
وطبيعي أن المجتمع المسلم الجديد ل ينشأ ،ول يتقرر وجوده إل إذا بلغ درجة من القوة
يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي القديم ،قوة العتقاد والتصور ،وقوة الخلق والبناء النفسي ،
وقوة التنظيم والبناء الجماعي ،وسائر أنواع القوة التي يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي ويتغلب
()78
* * *
إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم ! وإذا أردنا التحديد الموضوعي
قلنا :إنه هو كل مجتمـع ل يخلص عبوديته ل وحده ..متمثلة هذه العبودية في التصور
وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار " المجتمع الجاهلي " جميع المجتمعات القائمة
أصلً ،ورجع الفاعلية في هذا الوجود إلى " المادة " أو " الطبيعة " ،ورجع الفاعلية في حياة
النسان وتاريخه إلى " القتصاد " أو " أدوات النتاج " ،ثانياً " :بإقامة نظام العبودية فيه للحزب
-على فرض أن القيادة الجماعية في هذا النظام حقيقة واقعة ! -ل ل سبحانه ! ثم ما يترتب
على ذلك التصور وهذا النظام من إهدار لخصائص " النسان " وذلك باعتبار أن " المطالب
الساسية " له هي فقط مطالب الحيوان ،وهي :الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس !
وحرمانه من حاجات روحه " النساني " المتميز عن الحيوان ،وفي أولها :العقيدة في ال ،
وحرية اختيارها ،وحرية التعبير عنها ،وكذلك حرية التعبير عن " فرديته " وهي من أخص
خصائص " إنسانيته " .هذه الفردية التي تتجلى في الملكية الفردية ،وفي اختيار نوع العمل
والتخصص ،وفي التعبير الفني عن " الذات " إلى آخر ما يميز " النسان " عن " الحيوان " أو
عن " اللة " إذ أن التصور الشيوعي والنظام الشيوعي سواء ،كثيراً ما يهبط بالنسان عن مرتبة
()79
وتدخل فيه المجتمعات الوثنية -وهي ما تزال قائمة في الهند واليابان والفلبين وأفريقية -
تدخل فيه -أولً :بتصورها العتقادي القائم على تأليه غير ال -معه أو من دونه -وتدخل فيه
ثانياً :بتقديم الشعائر التعبدية لشتى اللهة والمعبودات التي تعتقد بألوهيتها ..كذلك تدخل فيه
بإقامة أنظمة وشرائع ،المرجع فيها لغير ال وشريعته .سواء استمدت هذه النظمة والشرائع من
المعابد والكهنة والسدنة والسحرة والشيوخ ،أو استمدتها من هيئات مدنية " علمانية " تملك سلطة
التشريع دون الرجوع إلى شريعة ال ..أي أن لها الحاكمية العليا باسم ( الشعب ) أو باسم
( الحزب ) أو باسم كائن من كان ..ذلك أن الحاكمية العليا ل تكون إل ل سبحانه ،ول تزاول
وتدخل فيه المجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الرض جميعاً ..تدخل فيه هذه
المجتمعات أولً :بتصورها العتقادي المحرّف ،الذي ل يفرد ال -سبحانه -باللوهية بل
يجعل له شركاء في صورة من صور الشرك ،سواء بالبنوة أو بالتثليث ،أو بتصور ال سبحانه
على غير حقيقته ،وتصور علقة خلقه به على غير حقيقتها :
ت النّصَارَى ا ْل َمسِيحُ ابْنُ الّل ِه ذَلِكَ َقوُْل ُهمْ بِأَ ْفوَا ِه ِهمْ
عزَيْ ٌر ابْنُ الّل ِه وَقَالَ ِ
ت الْ َيهُودُ ُ
{ وَقَالَ ِ
يُضَاهِئُونَ َق ْولَ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ قَ ْبلُ قَاتَ َل ُهمُ الّلهُ أَنّى ُيؤْ َفكُونَ } [ ..التوبة ] 30 :
عمّا
ن إِ َلهٍ إِلّا إِ َلهٌ وَاحِدٌ َوإِنْ َلمْ يَنْ َتهُوا َ
ث ثَل َثةٍ َومَا مِ ْ
{ َلقَدْ َكفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ الّل َه ثَالِ ُ
ق كَيْفَ
ت الْ َيهُودُ يَ ُد الّلهِ َمغْلُو َلةٌ غُلّتْ أَيْدِي ِهمْ وَُلعِنُوا ِبمَا قَالُوا َب ْل يَدَاهُ مَ ْبسُوطَتَانِ يُ ْنفِ ُ
{ وَقَالَ ِ
()80
ت الْ َيهُودُ وَالنّصَارَى َنحْنُ أَبْنَا ُء الّلهِ َوَأحِبّاؤُهُ ُقلْ َفِلمَ ُيعَذّبُ ُكمْ بِذُنُو ِب ُكمْ َبلْ أَنْ ُتمْ َبشَرٌ
{ وَقَالَ ِ
وتدخل فيه كذلك بشعائرها التعبدية ومراسمها وطقوسها المنبثقة من التصورات العتقادية
المنحرفة الضالة ..ثم تدخل فيه بأنظمتها وشرائعها ،وهي كلها ل تقوم على العبودية ل وحده ،
بالقرار له وحده بحق الحاكمية ،واستمداد السلطان من شرعه ،بل تقيم هيئات من البشر ،لها
حق الحاكمية العليا التي ل تكون إل ل سبحانه ..وقديماً وصمهم ال بالشرك لنهم جعلوا هذا
الحق للحبار والرهبان ،يشرعون لهم من عند أنفسهم فيقبلون منهم ما يشرعونه :
وهم لم يكونوا يعتقدون في ألوهية الحبار والرهبان .ولم يكونوا يتقدمون لهم بالشعائر
التعبدية ،إنما كانوا فقط يعترفون لهم بحق الحاكمية ،فيقبلون منهم ما يشرعونه لهم ،بما لم يأذن
به ال ،فأولى أن يوصموا اليوم بالشرك والكفر ،وقد جعلوا ذلك لناس منهم ليسوا أحباراً ول
وأخيـرا يدخل فـي إطار المجتمـع الجاهلـي تلك المجتمعات التـي تزعم لنفسهـا أنها "
وهذه المجتمعات ل تدخل في هذا الطار لنها تعتقد بألوهية أحد غير ال ،ول لنها تقدم
الشعائر التعبدية لغير ال أيضاً ،ولكنها تدخل في هذا الطار لنها ل تدين بالعبودية ل وحده في
نظام حياتها .فهي -وإن لم تعتقد بألوهية أحد إل ال -تعطي أخص خصائص اللوهية لغير ال
()81
،فتدين بحاكمية غير ال ،فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها ،وشرائعها وقيمها ،وموازينها ،
ح ُكمْ ِبمَا أَنْ َز َل الّلهُ فَأُولَئِكَ ُهمُ ا ْلكَا ِفرُونَ } [ ..المائدة ] 44 :
ن َلمْ َي ْ
{ َومَ ْ
عمُونَ أَ ّن ُهمْ آمَنُوا ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ َومَا أُنْ ِزلَ مِنْ قَبِْلكَ ُيرِيدُونَ أَنْ
{ أَ َلمْ َترَ إِلَى الّذِينَ َيزْ ُ
ت وَقَ ْد ُأمِرُوا أَنْ َي ْكفُرُوا ِبهِ } ...إلى أن يقول { ...فَل َورَبّكَ ل ُي ْؤمِنُونَ
يَ َتحَا َكمُوا إِلَى الطّاغُو ِ
[ النساء ] 65 - 60 :
كما إنه -سبحانه -قد وصف اليهود والنصارى من قبل بالشرك والكفر والحيدة عن عبادة
ال وحده ،واتخاذ الحبار والرهبان أرباباً من دونه ،لمجرد أن جعلوا للحبار والرهبان ما
يجعله الذين يقولون عن أنفسهم أنهم " مسلمون " لناس منهم ! واعتبر ال سبحانه ذلك من اليهود
والنصارى شركاً كاتخاذهم عيسى ابن مريم رباً يؤلهونه ويعبدونه سواء .فهذه كتلك خروج من
وهذه المجتمعات بعضها يعلن صراحة " علمانيته " وعدم علقته بالدين أصلً ،وبعضها
يعلن أنه " يحترم الدين " ولكنه يخرج الدين من نظامه الجتماعي أصلً ،ويقول :إنه ينكر "
الغيبية " ويقيم نظامه على " العلمية " باعتبار أن العلمية تناقض الغيبية ! وهو زعم جاهل ل يقول
()82
وبعضها يجعل الحاكمية الفعلية لغير ال ويشرع ما يشاء ثم يقول عما يشرعه ()16
به إل الجهال
من عند نفسه :هذه شريعة ال ! ..وكلها سواء في أنها ل تقوم على العبودية ل وحده ..
وإذا تعين هذا ،فإن موقف السلم من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدد في عبارة واحدة
:
إنه يرفض العتراف بإسلمية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره .
إن السلم ل ينظـر إلى العنوانات واللفتات والشارات التي تحملها هذه المجتمعات على
اختلفهـا ..إنها كلها تلتقي في حقيقة واحدة ..وهي أن الحياة فيها ل تقـوم على العبودية
الكاملة ل وحده .وهي مـن ثم تلتقي -مع سائر المجتمعات الخرى -فـي صفة واحدة ..
وهذا يقودنا إلى القضية الخطيرة وهي منهج السلم في مواجهة الواقع البشري كله ..اليوم
وغداً وإلى آخر الزمان ..وهنا ينفعنا ما قررناه في الفقرة الولى عن " طبيعة المجتمع المسلم " ،
إن تحديد هذه الطبيعة يجيب إجابة حاسمة عن هذا السؤال :
-ما الصل الذي ترجع إليه الحياة البشرية وتقوم عليه ؟ أهو دين ال ومنهجه للحياة ؟ أم
()83
إن السلم يجيب على هذا السؤال إجابة حاسمة ل يتلعثم فيها ول يتردد لحظة ..إن الصل
الذي يجب أن ترجع إليه الحياة البشرية بجملتها هو دين ال ومنهجه للحياة ..إن شهادة أن ل إله
إل ال وأن محمداً رسول ال التي هي ركن السلم الول ،ل تقوم ول تؤدى إل أن يكون هذا
هو الصل ..وأن العبودية ل وحده مع التلقي في كيفية هذه العبودية عن رسول ال -صلى ال
عليه وسلم -ل تتحقق إل أن يعترف بهذا الصل ،ثم يتبع اتباعاً كاملً بل تلعثم ول تردد :
{ َومَا آتَاكُمُ ال ّرسُولُ َفخُذُوهُ َومَا َنهَا ُكمْ عَ ْنهُ فَانْ َتهُوا } [ الحشر] 7 :
ويجيب :
ل } ..
ن ا ْلعِ ْلمِ إِلّا قَلِي ً
ن } َ { ..ومَا أُوتِي ُتمْ مِ َ
{ وَالّلهُ َيعْ َلمُ َوأَنْ ُتمْ ل َتعْ َلمُو َ
والذي يعلم -والذي يخلق ويرزق كذلك -هـو الذي يحكم ..ودينه الذي هو منهجه للحياة
،هو الصل الذي ترجع إليه الحياة ..أما واقع البشر ونظرياتهم ومذاهبهم فهي تفسد وتنحرف ،
وتقوم على علم البشر الذين ل يعلمون ،والذين لم يؤتوا من العلم إل قليلً !
ودين ال ليس غامضا ،ومنهجه للحياة ليس مائعا ..فهو محدد بشطر الشهادة الثاني :
محمد رسول ال ،فهو محصور فيما بَلّغه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،من النصوص في
الُصول ..فإن كان هناك نص فالنص هو الحكم ،ول اجتهاد مع النص .وإن لم يكن هناك نص
فهنا يجيء دور الجتهاد -وفـق أصوله المقررة فـي منهج ال ذاته .ل وفق الهواء
والرغبات : -
()84
والصول المقررة للجتهاد والستنباط مقررة كذلك ومعروفة وليست غامضة ول مائعة ..
فليس لحد أن يقول لشرع يشرعه :هذا شرع ال ،إل أن تكون الحاكمية العليا ل معلنة ،وأن
يرجع إلى كتاب ال وسنة رسوله لمعرفة ما يريده ال ول يكون هذا لكل من يريد أن يدعي سلطانا
باسم ال .كالذي عرفته أوروبا ذات يوم باسم " الثيوقراطية " أو " الحكم المقدس " فليس شيء من
هذا في السلم .وما يملك أحد أن ينطق باسم ال إل رسوله -صلى ال عليه وسلم -وإنما
إن كلمة " الدين للواقع " يساء فهمها ،ويساء استخدامها كذلك .نعم إن هذا الدين للواقع .
ولكن أي واقع !
..إنه الواقع الذي ينشئه هذا الدين نفسه ،وفق منهجه ،منطبقا على الفطرة البشرية في
سوائها ،ومحققا للحاجات النسانية الحقيقية في شمولها .هذه الحاجات التي يقررها الذي خلق ،
والدين ل يواجه الواقع أيا كان ليقرّه ويبحث له عن سند منه ،وعن حكم شرعي يعلقه عليه
كاللفتة المستعارة ! إنما يواجه الواقع ليزنه بميزانه ،فيقر منه ما يقر ،ويلغي منه ما يلغي ،
وينشئ واقعا غيره إن كان ل يرتضيه ،وواقعه الذي ينشئه هو الواقع .وهذا هو المعنى بأن
السلم " :دين للواقع " ..أو ما يجب أن تعنيه في مفهومها الصحيح !
" أليست مصلحة البشر هي التي يجب أن تصوغ واقعهم ؟ " ! .
()85
ومرة أخرى نرجع إلى السؤال الذي يطرحه السلم ويجيب عليه :
ن}!
{-وَالّلهُ َيعْ َلمُ َوأَنْ ُتمْ ل َتعْ َلمُو َ
إن مصلحة البشر متضمنة في شرع ال ،كما أَنزله ال ،وكما بَلّغه عنه رسول ال ..فإذا
بدا للبشر ذات يوم أن مصلحتهم في مخالفة ما شرع ال لهم ،فهم ..أولً " :واهمون " فيما بدا
لهم .
ن َومَا َت ْهوَى الْأَ ْنفُسُ وَ َلقَدْ جَاءَ ُهمْ مِنْ رَ ّب ِهمُ ا ْلهُدَى َ ،أمْ لِ ْلإِ ْنسَانِ مَا
ن إِلّا الظّ ّ
{ إِنْ يَتّ ِبعُو َ
وهم ..ثانيا " :كافرون " ..فما يدعي أحد أن المصلحة فيما يراه هو مخالفا لما شرع ال ،
ثم يبقى لحظة واحدة على هذا الدين .ومن أهل هذا الدين ! .
()86
شَري َعةٌ كَـوْنِيّة
إن السلم حين يقيم بناءه العتقادي في الضمير والواقع على أساس العبودية الكاملة ل
وحده ،ويجعل هذه العبودية متمثلة في العتقاد والعبادة والشريعة على السواء ،باعتبار أن هذه
العبودية الكاملة ل وحده -في صورتها هذه -هي المدلول العملي لشهادة أن ل إله إل ال ..وأن
التلقي في كيفية هذه العبودية عن رسول ال -صلى ال عليه وسلم -وحده هو المدلول العملي
إن السلم حين يقيم بناءه كله على هذا الساس ،بحيث تمثل شهادة أن ل إله إل ال وأن
محمدا رسول ال منهج الحياة في السلم ،وتصور ملمح هذا المنهج ،وتقرر خصائصه ..إن
السلم حين يقيم بناءه على هذا النحو الفريد الذي يفرقه عن جميع النظمة الُخرى التي عرفتها
البشرية ..إنما يرجع إلى أصل أشمل فـي تقريره عن الوجود كله ،ل عن الوجود النساني
وحده .وإلى منهج للوجود كله ل منهج للحياة النسانية وحدها .
إن التصور السلمي يقوم على أساس أن هذا الوجود كله من خلق ال ،اتجهت إرادة ال
إلى كونه فكان ،وأودعه ال -سبحانه -قوانينه التي يتحرك بها ،والتي تتناسق بها حركة
أجزائه فيما بينها ،كما تتناسق بها حركته الكلية سواء .
()87
إن وراء هذا الوجود الكوني مشيئة تدبره ،وقدرا يحركه ،وناموسا ينسقه .هذا الناموس
ينسق بين مفردات هذا الوجود كلها ،وينظم حركاتها جميعا ،فل تصطدم ،ول تختل ،ول
تتعارض ،ول تتوقف عن الحركة المنتظمة المستمرة -إلى ما شـاءَ ال -كما إن هذا الوجود
خاضع مستسلم للمشيئة التي تدبره ،والقدر الذي يحركه ،والناموس الذي ينسقه ،بحيث ل يخطر
له في لحظة واحدة أن يتمرد على المشيئة ،أو أن يتنكر للقدر ،أو أن يخالف الناموس وهو لهذا
والنسان من هذا الوجود الكوني ،والقوانين التي تحكم فطرته ليست بمعزل عن ذلك
الناموس الذي يحكم الوجود كله ..لقد خلقه ال -كما خلق هذا الوجود -وهو في تكوينه المادي
من طين هذه الرض ،وما وهبه ال من خصائص زائدة على مادة الطين جعلت منه إنسانا ،إنما
رزقه ال إياه مقدرا تقديرا ،وهو خاضع من ناحية كيانه الجسمي للناموس الطبيعي الذي سنّه ال
له -رضى أم أبي -يعطى وجوده وخلقه ابتداء بمشيئة ال ل بمشيئته هو ول بمشيئة أبيه وأمه -
فهما يلتقيان ولكنهما ل يملكان أن يعطيا جنين وجوده -وهو يُولَد وفق الناموس الذي وضعه ال
لمدة الحمل وظروف الولدة .وهو يتنفس هذا الهواء الذي أوجده ال بمقاديره هذه ،ويتنفسه
بالقدر وبالكيفية التي أرادها ال له .وهو يحس ويتألم ،ويجوع ويعطش ،يأكل ويشرب ،ويمثل
الطعام والشراب ..وبالجملة يعيش ..وفق ناموس ال ،عن غير إرادة منه ول اختيار ،شأنه في
()88
هذا شأن هذا الوجود الكوني وكل ما فيه وكل من فيه ،في الخضوع المطلق لمشيئة ال وقدره
وناموسه ...
وال الذي خلق هذا الوجود الكوني وخلق النسان ،والذي أخضع النسان لنواميسه التي
أخضع لها الوجود الكوني ..هو -سبحانه -الذي سن للنسان " شريعة " لتنظيم حياته الرادية
تنظيما متناسقا مع حياته الطبيعية .فالشريعة -على هذا الساس -إن هي إل قطاع من الناموس
اللهي العام الذي يحكم فطرة النسان ،وفطرة الوجود العام ،وينسقها كلها جملةً واحدة .
وما من كلمة من كلمات ال ،ول أمر ول نهي ،ول وعد ول وعيد ،ول تشريع ول
توجيه . ..إل هي شطر من الناموس العام ،وصادقة في ذاتها صدق القوانين التي نسميها
القوانين الطبيعية -أي القوانين اللهية الكونية -التي نراها تتحقق في كل لحظة ،بحكم ما في
و " الشريعة " التي سنّها ال لتنظيم حياة البشر هي -من ثم -شريعة كونية .بمعنى أنها
متصلة بناموس الكون العام ،ومتناسقة معه ..ومن ثم فإن اللتزام بها ناشئ من ضرورة تحقيق
التناسق بين حياة النسان ،وحركة الكون الذي يعيش فيه ..بل من ضرورة تحقيق التناسق بين
القوانين التي تحكم فطرة البشر المضمرة والقوانين التي تحكم حياتهم الظاهرة .وضرورة اللتئام
ولما كان البشر ل يملكون أن يدركوا جميع السنن الكونية ،ول أن يحيطوا بأطراف
الناموس العام -ول حتى بهذا الذي يحكم فطرتهم ذاتها ويخضعهم له -رضوا أم أبوا -فإنهم -
من ثم -ل يملكون أن يشرعوا لحياة البشر نظاما يتحقق به التناسق المطلق بين حياة الناس
وحركة الكون ،ول حتى التناسق بين فطرتهم المضمرة وحياتهم الظاهرة .إنما يملك هذا خالق
الكون وخالق البشر ،ومدبر أمره وأمرهم ،وفق الناموس الواحد الذي اختاره وارتضاه .
()89
وكذلك يصبح العمل بشريعة ال واجبا لتحقيق ذلك التناسق ..وذلك فوق وجوبه لتحقق
السلم اعتقادا .فل وجود للسلم فـي حياة فرد أو حياة جماعة ،إل بإخلص العبودية ل
وحده ،وبالتلقي في كيفية هذه العبودية عن رسول ال وحده ،تحقيقا لمدلول ركن السلم الول :
وفي تحقيق التناسق المطلق بين حياة البشر وناموس الكون كل الخير للبشر ،كما أن فيه
الصيانة للحياة من الفساد ..إنهم -في هذه الحالة وحدها -يعيشون في سلم من أنفسهم ..فأما
السلم مع الكون فينشأ من تطابق حركتهم مع حركة الكون ،وتطابق اتجاههم مع اتجاهه ..وأما
السلم مع أنفسهم فينشأ من توافق حركتهم مع دوافع فطرتهم الصحيحة ،فل تقوم المعركة بين
المرء وفطرته ،لن شريعة ال تنسق بيـن الحركة الظاهرة والفطرة المضمرة ،فـي يسر
وهدوء ..وينشأ عن هذا التنسيق تنسيق آخر في ارتباط الناس ونشاطهم العام ،لنهم جميعا
يسلكون حينئذ وفق منهج موحد ،هو طرف من الناموس الكوني العام .
كذلك يتحقق الخير للبشرية عن طريق إهتدائها وتعرفها في يسر إلى أسرار هذا الكون ،
والطاقات المكنونة فيه والكنوز المذخورة في أطوائه ـ واستخدام هذا كله وفق شريعة ال ،
ن } [ ...المؤمنون :
ض َومَـنْ فِيهِ ّ
سمَاوَاتُ وَالْأَرْ ُ
{ وَ َلوِ اتّبَ َع ا ْلحَقّ أَ ْهوَاءَ ُه ْم َل َفسَـدَتِ ال ّ
. ] 71
ومن ثمّ توحد النظرة السلمية بين الحق الذي يقوم عليه هذا الدين ،والحق الذي تقوم عليه
السموات والرض .ويصلح عليه أمر الدنيا والخرة ،ويحاسب ال به ويجازي من يتعدونه ..
()90
فهو حق واحد ل يتعدد ،وهو الناموس الكوني العام الذي أراده ال لهذا الوجود فـي جميع
جعَلْنَا ُهمْ
عوَا ُهمْ حَتّى َ
ك دَ ْ
ت تِلْ َ
فِي ِه َو َمسَاكِ ِن ُكمْ َلعَّلكُمْ ُتسْأَلُونَ ،قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنّا كُنّا ظَا ِلمِينَ َ ،فمَا زَالَ ْ
طلِ فَيَ ْد َم ُغهُ فَإِذَا ُهوَ زَاهِقٌ وَ َل ُكمُ ا ْلوَ ْيلُ ِممّا
ن َ ،بلْ َنقْذِفُ بِا ْلحَقّ عَلَى الْبَا ِ
ن كُنّا فَاعِلِي َ
مِنْ لَدُنّا إِ ْ
حسِرُونَ ،
ن عِبَادَ ِت ِه وَل َيسْ َت ْ
ن عَ ْ
ن عِنْدَ ُه ل َيسْ َتكْبِرُو َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َومَ ْ
صفُونَ ،وَ َلهُ َمنْ فِي ال ّ
تَ ِ
وفطرة النسان تدرك هذا الحق في أعماقها ،فطبيعة تكوينه وطبيعة هذا الكون كله من
حوله ،توحي إلى فطرته بأن هذا الوجود قائم على الحق ،وأن الحق أصيل فيه ،وأنه ثابت على
الناموس ،ل يضطرب ،ول تتفرق به السبل ،ول تختلف دورته .ول يصطدم بعضه ببعض ،
ول يسير وفق المصادفة العابرة والفلتة الشاردة ،ول وفق الهوى المتقلب والرغبة الجامحة ! إنما
يمضي في نظامه الدقيق المحكم المقدر تقديرا ..ومن ثم يقع الشقاق -أول ما يقع -بين النسان
وفطرته عندما يحيد عن الحق الكامن في أعماقها ،تحت تأثير هواه ،وذلك عندما يتخذ شريعة
لحياته مستمدة من هذا الهوى ل من شريعة ال ،وعندما ل يستسلم ل استسلم هذا الوجود الكوني
الخاضع لموله !
ومثل هذا الشقاق يقع بين الفراد والجماعات والمم والجيال ،كما يقع بين البشر والكون
()91
وإذن فإن الهدف الظاهر من قيام شريعة ال في الرض ليس مجرد العمل للخرة .فالدنيا
والخرة معا مرحلتان متكاملتان ،وشريعة ال هي التي تنسق بين المرحلتين فـي حياة هذا
والتناسق مع الناموس ل يؤجْل سعادة الناس إلى الخرة ،بل يجعلها واقعة ومتحققة في
المرحلة الولى كذلك ،ثم تتم تمامها وتبلغ كمالها في الدار الخرة .
هذا هو أساس التصور السلمي للوجود كله ،وللوجود النساني فـي ظل ذلك الوجود
العام ،وهو تصور يختلف في طبيعته اختلفا جوهريا عن كل تصور آخر عرفته البشرية ،ومن
ثم تقوم عليه التزامات ل تقوم على أي تصور آخر في جميع النظمة والنظريات ..
إن اللتزام بشريعة ال -في هذا التصور -هو مقتضى الرتباط التام بين حياة البشر
وحياة الكون ،وبين الناموس الذي يحكم فطرة البشر ويحكم هذا الكون ،ثم ضرورة المطابقة بين
هذا الناموس العام والشريعة التي تنظم حياة بني النسان ،وتتحقق بالتزامها عبودية البشر ل
وحده ،كما أن عبودية هذا الكون ل وحده ل يدّعيها لنفسه إنسان .
وإلى ضرورة هذا التطابق والتناسق يشير الحوار الذي جرى بين إبراهيم -عليه السلم -
أبي هذه المة المسلمة -وبين " نمرود " المتجبر المدعي بحق السلطان على العباد في الرض ،
والذي لم يستطع -مع ذلك -أن يدعي بحق السلطان على الفلك والجرام في الكون ،وبهت
أمام إبراهيم عليه السلم ،وهو يقول له :إن الذي يملك السلطان في الكون هو وحده الذي ينبغي
أن يكون له السلطان في حياة البشر ،ولم يحر جوابا على هذا البرهان :
()92
ي الّذِي ُيحْيِي
ك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ َ
ج إِبْرَاهِيمَ فِي رَ ّبهِ أَنْ آتَا ُه الّلهُ ا ْلمُلْ َ
{ أَ َلمْ تَ َر إِلَى الّذِي حَا ّ
ت الّذِي كَفَ َر وَالّلهُ ل َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّا ِلمِينَ } [ ..البقرة . ] 258 :
فَ ُبهِ َ
جعُونَ
طوْعا َوكَرْها َوإِلَ ْيهِ يُ ْر َ
سمَاوَاتِ وَالْ َأرْضِ َ
{ أَ َفغَيْـ َر دِينِ الّل ِه يَ ْبغُونَ وَ َل ُه َأسْلَ َم مَنْ فِي ال ّ
()93
ا ِلسْلمُ ُهوَ الحَضَارَة
السلم ل يعرف إل نوعين اثنين من المجتمعات ...مجتمع إسلمي ،ومجتمع جاهلي ..
" المجتمع السلمي " هو المجتمع الذي يطبق فيه السلم ..عقيدة وعبادة ،وشريعة
ونظاما ،وخلقا وسلوكا ..و " المجتمع الجاهلي " هو المجتمع الذي ل يطبق فيه السلم ،ول
تحكمه عقيدته وتصوراته ،وقيمه وموازينه ،ونظامه وشرائعه ،وخلقه وسلوكه ..
ليس المجتمع السلمي هو الذي يضم ناسا ممن يسمون أنفسهم " مسلمين " ،بينما شريعة
السلم ليست هي قانون هذا المجتمع ،وإن صلى وصام وحج البيت الحرام ! وليس المجتمع
السلمي هو الذي يبتدع لنفسه إسلما من عند نفسه -غير ما قرره ال سبحانه ،وفصّله رسوله
و " المجتمع الجاهلي " قد يتمثل في صور شتى -كلها جاهلية : -
قد يتمثل في صورة مجتمع ينكر وجود ال تعالى ،ويفسر التاريخ تفسيرا ماديا جدليا ،
وقد يتمثل في مجتمع ل ينكر وجود ال تعالى ،ولكن يجعل له ملكوت السماوات ،ويعزله
عن ملكوت الرض ،فل يطبق شريعته في نظام الحياة ،ول يحكّم قيمه التي جعلها هو قيما ثابتة
في حياة البشر ،ويبيح للناس أن يعبدوا ال في البيَع والكنائس والمساجد ،ولكنه يحرّم عليهم أن
يطالبوا بتحكيم شريعة ال في حياتهم ،وهو بذلك ينكر أو يعطل ألوهية ال في الرض ،التي
وبذلك يكـون مجتمعا جاهليا ،ولو أقر بوجود ال سبحانه ولو ترك الناس يقدمون الشعائر
" المجتمع السلمي " -بصفته تلك -هو وحده " المجتمع المتحضر " ،والمجتمعات
الجاهلية -بكل صورها المتعددة -مجتمعات متخلفة ! ول بد من إيضاح لهذه الحقيقة الكبيرة .
لقـد كنت قـد أعلنتُ مرة عن كتاب لي تحت الطبع بعنوان " :نحو مجتمع إسلمي
متحضر " ..ثم عدت في العلن التالي عنه فحذفت كلمة " متحضر " مكتفيا بأن يكون عنوان
ولفت هذا التعديل نظر كاتب جزائري ( يكتبه بالفرنسية ) ففسره على أنه ناشئ من " عملية
دفاع نفسية داخلية عن السلم " وأسف لن هذه العملية -غير الواعية -تحرمني مواجهة "
أنا أعذر هذا الكاتب ..لقد كنت مثله من قبل ..كنت أفكر على النحو الذي يفكر هو عليه
الن ..عندما فكرت في الكتابة عن هذا الموضوع لول مرة ! ..وكانت المشكلة عندي -كما
لم أكن قد تخلصت بعد من ضغط الرواسب الثقافية في تكويني العقلي والنفسي ،وهي
رواسب آتية من مصادر أجنبية ..غريبة على حسي السلمي ..وعلى الرغم من اتجاهي
السلمي الواضح في ذلك الحين ،إل أن هذه الرواسب كانت تغبّش تصوري وتطمسه ! كان
()95
تصور " الحضارة " -كما هو الفكر الوروبي -يخايل لي ،ويغبش تصوري ،ويحرمني الرؤية
ثم انجلت الصورة " ..المجتمع المسلم " هو " المجتمع المتحضر " .فكلمة " المتحضر "
إذن لغو ،ل يضيف شيئا جديدا ..على العكس تنقل هذه الكلمة إلى حس القارئ تلك الظلل
الجنبية الغربية التي كانت تغبش تصوري ،وتحرمني الرؤية الواضحة الصيلة !
الختلف إذن هو على " تعريف الحضارة " ..ول بد من إيضاح إذن لهذه الحقيقة !
حين تكون الحاكمية العليا في مجتمع ل وحده -متمثلة في سيادة الشريعة اللهية -تكون
هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررا كاملً وحقيقيا من العبودية للبشر ..
وتكون هذه هي " الحضارة النسانية " لن حضارة النسان تقتضي قاعدة أساسية من التحرر
الحقيقي الكامل للنسان ،ومن الكرامة المطلقة لكل فرد في المجتمع ..ول حرية -في الحقيقة -
ول كرامة للنسان -ممثلً في كل فرد من أفراده -في مجتمع بعضه أرباب يشرعون وبعضه
عبيد يطيعون !
ول بد أن نبادر فنبيّن أن التشريع ل ينحصر فقط في الحكام القانونية -كما هو المفهوم
الضيق في الذهان اليوم لكلمة الشريعة -فالتصورات والمناهج ،والقيم والموازين ،والعادات
والتقاليد ..كلها تشريع يخضع الفراد لضغطه .وحين يصنع الناس -بعضهم لبعض -هذه
الضغوط ،ويخضع لها البعض الخر منهم في مجتمع ،ل يكون هذا المجتمع متحررا ،إنما هو
مجتمع بعضه أرباب وبعضه عبيد -كما أسلفنا -وهو -من ثم -مجتمع متخلف ..أو
()96
والمجتمع السلمي هو وحده المجتمع الذي يهيمن عليه إله واحد ،ويخرج فيه الناس من
عبادة العباد إلى عبادة ال وحده .وبذلك يتحررون التحرر الحقيقي الكامل ،الذي ترتكز إليه
حضارة النسان ،وتتمثل فيه كرامته كما قدرها ال له ،وهو يعلن خلفته في الرض عنه ،
وحين تكون آصرة التجمع الساسية فـي مجتمع هي العقيدة والتصور والفكرة ومنهج الحياة
،ويكون هذا كله صادرا من إله واحد ،تتمثل فيه السيادة العليا للبشر ،وليس صادرا من أرباب
أرضية تتمثل فيها عبودية البشر للبشر ..يكون ذلك التجمع ممثلً لعلى ما في " النسان " من
خصائص ..حصائص الروح والفكر ..فأما حين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي الجنس
واللون والقوم والرض ...وما إلى ذلك من الروابط ،فظاهر أن الجنس واللون والقوم والرض
ل تمثل الخصائص العليا للنسان ..فالنسان يبقى إنسانا بعد الجنس واللون والقوم والرض ،
ولكنه ل يبقى إنسانا بعد الروح والفكر ! ثم هو يملك -بمحض إرادته الحرة -أن يغير عقيدته
وتصوره وفكره ومنهج حياته ،ولكنه ل يملك أن يغير لونه ول جنسه ،كما إنه ل يملك أن يحدد
مولده في قوم ول في أرض ..فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة
واختيارهم الذاتي هو المجتمع المتحضر ..اما المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر خارج عن
إرادتهم النسانية فهـو المجتمع المتخلف ..أو بالمصطلح السلمي ..هو " المجتمع الجاهلي " !
والمجتمع السلمي وحده هو المجتمع الذي تمثل فيه العقيدة رابطة التجمع الساسية ،
والذي تعتبر فيه العقيدة هي الجنسية التي تجمع بين السود والبيض والحمر والصفر والعربي
والرومي والفارسي والحبشي وسائر أجناس الرض في أمة واحدة ،ربها ال ،وعبوديتها له
()97
وحده ،والكرم فيها هو التقى ،والكل فيها أنداد يلتقون على أمر شرعه ال لهم ،ولم يشرعه أحد
من العباد !
وحيـن تكـون " إنسانية " النسان هـي القيمة العليا فـي مجتمـع ،وتكـون الخصائص
" النسانية " فيه هي موضع التكريم والعتبار ،يكون هذا المجتمع متحضرا ..فأما حين تكون "
المادة " -في أية صورة -هي القيمة العليا ..سواء في صورة " النظرية " كما في التفسير
الماركسي للتاريخ ! أو في صور " النتاج المادي " كما في أمريكا وأوروبا وسائر المجتمعات
التي تعتبر النتاج المادي قيمة عليا تهدر في سبيلها القيم والخصائص والنسانية ..فإن هذا
إن المجتمع المتحضر ..السلمي ..ل يحتقر المادة ،ل في صورة النظرية ( باعتبارها
هي التي يتألف منها هذا الكون الذي نعيش فيه ونتأثر فيه ونؤثر فيه أيضا ) ول في صور "
النتاج المادي " .فالنتاج المادي من مقومات الخلفة في الرض عن ال -ولكنه فقط ل يعتبرها
هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص " النسان " ومقوماته ! ..وتهدر من أجلها حرية
الفرد وكرامته .وتهدر فيها قاعدة " الُسرة " ومقوماتها ،وتهدر فيها أخلق المجتمع وحرماته ..
إلى آخر ما تهدره المجتمعات الجاهلية من القيم العليا والفضائل والحرمات لتحقق الوفرة في
النتاج المادي !
وحين تكون " القيم النسانية " و " الخلق النسانية " التي تقوم عليها ،هي السائدة في
مجتمع ،يكون هذا المجتمع متحضرا .والقيم النسانية والخلق النسانية ليست مسألة غامضة
مائعة وليست كذلك قيما " متطورة " متغيرة متبدلة ،ل تستقر على حال ول ترجع إلى أصل ،كما
يزعم التفسير المادي للتاريخ ،وكا تزعم " الشتراكية العلمية " !
()98
إنها القيم والخلق التي تنمّي في النسان خصائص النسان التي يتفرد بها دون الحيوان ،
والتي ُتغَلّب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويعزوه عن الحيوان ،وليست هي القيم والخلق التي
وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم " وثابت " ل يقبل عملية
التمييع المستمرة التي يحاولها " التطوريون " ! و " الشتراكيون العلميون " !
عندئذ ل يكون اصطلح البيئة وعرفها هو الذي يحدد القيم الخلقية ،إنما يكون وراء
اختلف البيئة ميزان ثابت ..عندئذ ل يكون هناك قيم وأخلق " زراعية " وأخرى " صناعية " !
ول قيم وأخلق " رأسمالية " وأخرى " اشتراكية " ،ول قيم وأخلق " برجوازية " وأخرى "
صعلوكية " ! ول تكون هناك أخلق من صنع البيئة ومستوى المعيشة وطبيعة المرحلة ..إلى
آخر هذه التغيرات السطحية والشكلية ..إنما تكون هناك -من وراء ذلك كله -قيم وأخلق "
إنسانية " وقيم وأخلق " حيوانية " -إذا صح هذا التعبير ! -أو بالمصطلح السلمي :قيم
وأخلق " إسلمية " وقيم وأخلق " جاهلية " .
إن السلم يقرر قيمه وأخلقه هذه " النسانية " -أي التي تنمّي في النسان الجوانب التي
يهيمن عليها سواء كانت هذه المجتمعات في طور الزراعة أم في طور الصناعة ،وسواء كانت
مجتمعات بدوية تعيش على الرعي أو مجتمعات حضرية مستقرة ،وسواء كانت هذه المجتمعات
فقيرة أو غنية ..إنه يرتقي صعدا بالخصائص النسانية ،ويحرسها من النكسة إلى الحيوانية ..
لن الخط الصاعد في القيم والعتبارات يمضي من الدرك الحيواني إلى المرتفع النساني ..فإذا
انتكس هذا الخط -مع حضارة المادة -فلن يكون ذلك حضارة ! إنما هو " التخلف " أو هو "
الجاهلية " !
()99
* * *
وحين تكون " السرة " هي قاعدة المجتمع .وتقوم هذه السرة على أساس " التخصص "
بين الزوجين في العمل .وتكون رعاية الجيل الناشئ هي أهم وظائف السرة ..يكون هذا
المجتمع متحضرا ..ذلك أن السرة على هذا النحو -في ظل المنهج السلمي -تكون هي البيئة
التي تنشأ و ُت َنمّى فيها القيم والخلق " النسانية " التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة ،ممثلة في
الجيل الناشئ ،والتي يستحيل أن تنشأ في وحدة أخرى غير وحدة السرة ،فأما حين تكون
العلقات الجنسية ( الحرة كما يسمونها ) والنسل ( غير الشرعي ) هي قاعدة المجتمع ..حين
تقوم العلقات بين الجنسين على أساس الهوى والنزوة والنفعال ،ل على أساس الواجب
والتخصص الوظيفي في الُسرة ..حين تصبح وظيفة المرأة هي الزينة والغواية والفتنة ..وحين
تتخلى المرأة عن وظيفتها الساسية في رعاية الجيل الجديد ،و ُت ْؤثِر هي -أو ُي ْؤثِر لها المجتمع -
أن تكون مضيفة في فندق أو سفينة أو طائرة ! ..حين تنفق طاقتها في " النتاج المادي " و "
صناعة الدوات " ول تنفقها في " صناعة النسانية " ! لن النتاج المادي يومئذ أغلى وأعز
وأكرم من " النتاج النساني " ،عندئذ يكون هنا هو " التخلف الحضاري " بالقياس النساني ..أو
وقضية السرة والعلقات بين الجنسين قضية حاسمة في تحديد صفة المجتمع ..متخلف أم
متحضر ،جاهلي أم إسلمي ! ..والمجتمعات التي تسود فيها القيم والخلق والنزعات الحيوانية
في هذه العلقة ل يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة ،مهما تبلغ من التفوق الصناعي
والقتصادي والعلمي ! إن هذا المقياس ل يخطئ في قياس مدى التقدم " النساني " ..
وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفموم " الخلقي " ؛ بحيث يتخلى عن كل ما له
علقة بالتميز " النساني " عن الطابع " الحيواني " ! ففي هذه المجتمعات ل تعتبر العلقات
()100
الجنسية غير الشرعية -ول حتى العلقات الجنسية الشاذة -رذيلة أخلقية ..إن المفهوم
الخلقي يكاد ينحصر في المعاملت القتصادية -والسياسية أحيانا في حدود " مصلحة الدولة "
-ففضيحة كريستين كيلر وبروفيمو الوزير النجليزي -مثلً -لم تكن في عرف المجتمع
النجليزي فضيحة بسبب جانبها الجنسي ..إنما كانت فضيحة لن كريستين كيلر كانت صديقة
كذلك للملحق البحري الروسي .ومن هنا يكون هناك خطر على أسرار الدولة في علقة الوزير
بهذه الفتاة ! وكذلك لنه افتضح كذبه على البرلمان النجليزي ! والفضائح المماثلة في مجلس
الشيوخ المريكي ،وفضائح الجواسيس والموظفين النجليز والمريكان الذين هربوا إلى روسيا .
إنها ليست فضائح بسبب شذوذهم الجنسي ! ولكن بسبب الخطر على أسرار الدولة !
وال ُكتّاب والصحفيون والروائيون في المجتمعات الجاهلية هنا وهناك يقولونها صريحة
للفتيات والزوجات :إن التصالت ( الحرة ) ليست رذائل أخلقية .الرذيلة الخلقية أن يخدع
الفتى رفيقته أو تخذع الفتاة رفيقها ول تخلص له الود ،بل الرذيلة أن تحافظ الزوجة على عفتها
إذا كانت شهـوة الحب لزوجها قد خمدت ! والفضيلة أن تبحث لها عن صديق تعطيه جسدها
مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة ..غير متحضرة ..من وجهة نظر " النسان "
إن خط التقدم النساني يسير في اتجاه " الضبط " للنزوات الحيوانية ،وحصرها في نطاق "
السرة " على أساس " الواجب " لتؤدي بذلك " وظيفة إنسانية " ليست اللذة غايتها ،وإنما هي
إعداد جيل إنساني يخلف الجيل الحاضر في ميراث الحضارة " النسانية " التي يميزها بروز
الخصائص النسانية ..ول يمكن إعداد جيل يترقى في خصائص النسان ،ويبتعد عن خصائص
()101
الحيوان ،إل في محضن أسرة محوطة بضمانات المن والستقرار العاطفي ،وقائمة على أساس
الواجب الذي ل يتأرجح مع النفعالت الطارئة .وفي المجتمع الذي تنشئ تلك التوجيهات
واليحاءات الخبيثة المسمومة ،والذي ينحسر فيـه المفهوم الخلقي ،فيتخلى عن كل آداب
من أجل ذلك كله تكون القيم والخلق واليحاءات والضمانات السلمية هي اللئقة
بالنسان .ويكون " السلم هو الحضارة " ويكون المجتمع السلمي هو المجتمع المتحضر ..
وأخيرا فإنه حين يقوم " النسان " بالخلفة عن " ال " في أرضه على وجهها الصحيح :بأن
يخلص عبوديته ل ويخلص من العبودية لغيره ،وأن يحقق منهج ال وحده ويرفض العتراف
حكّم شريعة ال وحدها في حياته كلها وينكر تحكيم شريعة سواها ،
بشرعية منهج غيره ،وأن ُي َ
وأن يعيش بالقيم والخلق التي قررها ال له ويسقط القيم والخلق المدعاة .ثم بأن يتعرف بعد
ذلك كله إلى النواميس الكونية التي أودعها ال في هذا الكون المادي ،ويستخدمها في ترقية
الحياة ،وفي استنباط خامات الرض وأرزاقها وأقواتها التي أودعها ال إياها ،وجعل تلك
النواميس الكونية أختامها ،ومنح النسان القدرة على فض هذه الختام بالقدر الذي يلزم له في
الخلفة ..أي حين ينهض بالخلفة في الرض على عهد ال وشرطه ،ويصبح وهو يفجر ينابيع
الرزق ،ويصنع المادة الخامة ،ويقيم الصناعات المتنوعة ،ويستخدم ما تتيحه له كل الخبرات
الفنية التي حصل عليها النسان في تاريخه كله ..حين يصبح وهو يصنع هذا كله " ربانيا " يقوم
بالخلفة عن ال على هذا النحو -عبادة ال .يومئذ يكون هذا النسان كامل الحضارة ،ويكون
هذا المجتمع قـد بلغ قمة الحضارة ..فأما البداع المادي -وحده -فل يسمى في السلم
()102
حضارة ..فقد يكون وتكون معه الجاهلية ..وقد ذكر ال من هذا البداع المادي في معرض
طشْ ُتمْ
طشْتُمْ َب َ
ن َ ،وإِذَا َب َ
ن مَصَانِ َع َلعَّلكُمْ َتخْلُدُو َ
{ أَتَبْنُونَ ِب ُكلّ رِيعٍ آ َيةً َتعْبَثُونَ ،وَتَ ّتخِذُو َ
جَبّارِينَ ،فَا ّتقُوا الّلهَ َوَأطِيعُونِ ،وَاتّقُوا الّذِي َأمَ ّدكُ ْم ِبمَا َتعْ َلمُونَ َ ،أمَ ّد ُكمْ بِأَ ْنعَامٍ وَبَنِينَ َ ،وجَنّاتٍ
ن ،الّذِينَ
ن ،وَل ُتطِيعُوا َأمْ َر ا ْل ُمسْرِفِي َ
ن ا ْلجِبَالِ بُيُوتا فَا ِرهِينَ ،فَا ّتقُوا الّلهَ َوَأطِيعُو ِ
وَتَ ْنحِتُونَ مِ َ
. ] 45 - 44
س } [ .يونس . ] 24 :
ن بِالْ َأمْ ِ
ن َلمْ َتغْ َ
جعَلْنَاهَا حَصِيدا كَأَ ْ
َنهَارا َف َ
ولكن السلم -كما أسلفنا -ل يحتقر المادة ،ول يحتقرالبداع المادي ،إنما هو يجعل هذا
اللون من التقدم -في ظل منهج ال -نعمة من نعم ال على عباده ،يبشرهم به جزاء على طاعته
:
()103
ض وَ َلكِنْ كَذّبُوا
سمَا ِء وَالْأَرْ ِ
ن ال ّ
ن أَ ْهلَ ا ْلقُرَى آمَنُوا وَاتّ َقوْا َلفَ َتحْنَا عَلَ ْي ِهمْ َب َركَاتٍ مِ َ
{ وَ َلوْ أَ ّ
المهم هو القاعدة التي يقوم عليها التقدم الصناعي ،والقيم التي تسود المجتمع ،والتي يتألف
وبعد ..فإن قاعدة انطلق المجتمع السلمي ،وطبيعة تكوينه العضوي ،تجعلن منه
مجتمعا فريدا ل تنطبق عليه أية من النظريات التي تفسر قيام المجتمعات الجاهلية وطبيعة تكوينها
العضوي ..المجتمع السلمي وليد الحركة ،والحركة فيه مستمرة ،وهي التي تعين أقدار
والحركة التي يتولد عنها هذا المجتمع ابتداء حركة آتية من خارج النطاق الرضي ،ومن
خارج المحيط البشري ..إنها تتمثل في عقيدة آتية من ال للبشر ،تنشئ لهم تصورا خاصا
للوجود والحياة والتاريخ والقيم والغايات ،وتحدد لهم منهجا للعمل يترجم هذا التصور ..الدفعة
الولى التي تطلق الحركة ليست منبثقة من نفوس الناس ول من مادة الكون ..إنها -كما قلنا -
آتية لهم من خارج النطاق الرضي ،ومن خارج المحيط البشري ..وهذا هو المميز الول
إنه ينطلق من عنصر خارج عن محيط النسان وعن محيط الكون المادي .
وبهذا العنصر القدري الغيبي الذي لم يكن أحد من البشر يتوقعه أو يحسب حسابه ،ودون
أن يكون للنسان يد فيه -في ابتداء المر -تبدأ أولى خطوات الحركة في قيام المجتمع
السلمي ،ويبدأ معها عمل " النسان " أيضا .إنسان يؤمن بهذه العقيدة التية له من ذلك المصدر
()104
الغيبي ،الجارية بقدر ال وحده .وحين يؤمن هذا النسان الواحد بهذه العقيدة يبدأ وجود المجتمع
السلمي ( حكما ) ..إن النسان الواحد لن يتلقى هذه العقيدة وينطوي على نفسه ..إنه سينطلق
بها ..هذه طبيعتها ..طبيعة الحركة الحية ..إن القوة العليا التي دفعت بها إلى هذا القلب تعلم
أنها ستتجاوزه حتما ! ..إن الدفعة الحية التي وصلت بها هذه العقيدة إلى هذا القلب ستمضي في
وحين يبلغ المؤمنون بهذه العقيدة ثلثة نفر ،فإن هذه العقيدة ذاتها تقول لهم :أنتم الن
مجتمع ،مجتمع إسلمي مستقل ،منفصل عن المجتمع الجاهلي الذي ل يدين لهذه العقيدة ،ول
جدَ
تسود فيه قيمها الساسية -القيم التي أسلفنا الشارة إليها -وهنا يكون المجتمع السلمي قد ُو ِ
( فعلً ) !
والثلثة يصبحون عشرة ،والعشرة يصبحون مائة ،والمائة يصبحون ألفا ،واللف
وفي الطريق تكون المعركة قد قامت بين المجتمع الوليد الذي انفصل بعقيدته وتصوره ،
وانفصل بقيمه واعتباراته ،وانفصل بوجوده وكينونته ،عن المجتمع الجاهلي -الذي أخذ منه
أفراده -وتكون الحركة من نقطة النطلق إلى نقطة الوجود البارز المستقل قد ميزت كل فرد من
أفراد هذا المجتمع ،وأعطته وزنه ومكانه في هذا المجتمع -حسب الميزان والعتبار السلمي
-ويكون وزنه هذا متعرفا له به من المجمتع دون أن يزكي نفسه أو يعلن عنه بل إن عقيدته
وقيمه السائدة في نفسه وفي مجتمعه لتضغط عليه يومئذ ليوراي نفسه عن النظار المتطلعة إليه
في البيئة !
ولكن " الحركة " التي هي طابع العقيدة السلمية ،وطابع هذا المجتمع الذي انبثق منها ،ل
تدع أحدا يتوارى ! إن كل فرد من أفراد هذا المجتمع ل بد أن يتحرك ! الحركة في عقيدته ،
()105
والحركة في دمه ،والحركة في مجتمعه ،وفي تكوين هذا المجتمع العضوي ..إن الجاهلية من
حوله ،وبقية من رواسبها في نفسه وفي نفوس من حوله ،والمعركة مستمرة ،والجهاد ماض إلى
على إيقاعات الحركة ،وفي أثناء الحركة ،يتحدد وضع كل فرد في هذا المجتمع ،وتتحدد
وظيفته ،ويتم التكوين العضوي لهذا المجتمع بالتناسق بين مجموعة أفراده ومجموعة وظائفه .
هذه النشأة ،وهذا التكوين ،خاصيتان من خصائص المجتمع السلمي تُميزانه ،تُميزان
وجوده وتركيبه ،وتُميزان طابعه وشكله ،وتُميزان نظامه والجراءات التنفيذية لهـذا النظام
أيضا ،وتجعلن هذه الملمح كلها مستقلة ،ل تعالج بمفهومات اجتماعية أجنبية عنها ،ول تدرس
وفق منهج غريب عن طبيعتها ،ول تنفذ بإجراءات مستمدة من نظام آخر !
إن المجتمع السلمي -كما يبدو من تعرفينا المستقل للحضارة -ليس مجرد صورة
تاريخية ،يبحث عنها في ذكريات الماضي ،إنما هو طلبة الحاضر وأمل المستقبل .إنه هدف
يمكن أن تستشرفه البشرية كلها اليوم وغذا ،لترتفع به من وهدة الجاهلية التي تتردى فيها ،سواء
في هذه الجاهلية المم المتقدمة صناعيا واقتصاديا والمم المتخلفة أيضا .
إن تلك القيم التي أشرنا إليها إجمالً هي قيم إنسانية ،لم تبلغها النسانية إل في فترة "
الحضارة السلمية " ( .ويجب أن ننبه إلى ما نعنيه بمصطلح " الحضارة السلمية " ..إنها
الحضارة التي توافرت فيها تلك القيم ،وليست هي كل تقدم صناعي أو اقتصادي أو علمي مع
()106
وهذه القيم ليست " مثالية خيالية " إنما هي قيم واقعية عملية ،يمكن تحقيقها بالجهد البشري
-في ظل المفهومات السلمية الصحيحة ، -يمكن تحقيقها في كل بيئة بغض النظر عن نوع
الحياة السائدة فيها ،وعن تقدمها الصناعي والقتصادي والعلمي ..فهي ل تعارض -بل تشجع
بالمنطق العقيدي ذاته -التقدم في كافة حقول الخلفة ،ولكنها في الوقت ذاته ل تقف مكتوفة
اليدين في البلد التي لم تتقدم في هذه الحقول بعد .إن الحضارة يمكن أن تقوم في كل مكان وفي
كل بيئة ..تقوم بهذه القيم .أما أشكالها المادية التي تتخذها فل حد لها ،لنها في كل بيئة تستخدم
المجتمع السلمي إذن -من ناحية شكله وحجمه ونوع الحياة السائدة فيه -ليس صورة
تاريخية ثابتة ،لكن وجوده وحضارته يرتكنان إلى قيم تاريخية ثابتة ..وحين نقول " :تاريخية "
ل نعني إل أن هذه القيم قد عرفت في تاريخ معين ..وإل فهي ليست من صنع التاريخ ،ول
علقة لها بالزمن في طبيعتها ..إنها حقيقة جاءت إلى البشرية من مصدر رباني ..من وراء
والحضارة السلمية يمكن أن تتخذ أشكالً متنوعة في تركيبها المادي والتشكيلي ،ولكن
الصول والقيم التي تقوم عليها ثابتة ،لنها هي مقومات هذه الحضارة ( :العبودية ل وحده .
والتجمع على آصرة العقيدة فيه .واستعلء إنسانية النسان على المادة .وسيادة القيم النسانية
التي تنمي إنسانية النسان ل حيوانيته ..وحرمة السرة .والخلفة في الرض على عهد ال
إن " أشكال " الحضارة السلمية التي تقوم على هذه السس الثابتة ،تتأثر بدرجة التقدم
الصناعي والقتصادي والعلمي ،لنها تستخدم الموجود منها فعلً في كل بيئة ..ومن ثمّ ل بد أن
تختلف أشكالها ..ل بد أن تختلف لتضمن المرونة الكافية لدخول كافة البيئات والمستويات في
()107
الطار السلمي ،والتكيف بالقيم والمقومات السلمية ..وهذه المرونة -في الشكال الخارجية
للحضارة -ليست مفروضة على العقيدة السلمية التي تنبثق منها تلك الحضارة إنما هي من
طبيعتها .ولكن المرونة ليست هي التميع ..والفرق بينهما بينهما بعيد جدا !
لقد كان السلم ينشئ الحضارة في أواسط أفريقية بين العراة ..لنه بمجرد وجوده هناك
تكتسي الجسام العارية ويدخل الناس فـي حضارة اللباس التي يتضمنها التوجيه السلمي
المباشر ،ويبدأ الناس في الخروج كذلك من الخمول البليد إلى نشاط العمل الموجه لستغلل كنوز
الكون المادي ،ويخرجون كذلك من طور القبيلة -أو العشيرة -إلى طور المة ،وينتقلون من
عبادة الطوطم المنعزلة إلى عبادة رب العالمين ..فما هي الحضارة إن لم تكن هي هذا ؟ ..إنها
حضارة هذه البيئة ،التي تعتمد على إمكانياتها القائمة فعلً ..فأما حين يدخل السلم في بيئة
أخرى فإنه ينشئ -بقيمه الثابتة -شكلً آخر من أشكال الحضارة يستخدم فيه موجودات هذه
وهكذا ل يتوقف قيام الحضارة -بطريقة السلم ومنهجه -على درجة معينة من التقدم
الصناعي والقتصادي والعلمي .وإنْ كانت الحضارة حين تقوم تستخدم هذا التقدم -عند وجوده
-وتدفعه إلى المام دفعا ،وترفع أهدافه .كما إنها تنشئه إنشاءً حين ل يكون ،وتكفل نموه
واطراده ..ولكنها تظل في كل حال قائمة على أصولها المستقلة .ويبقى للمجتمع السلمي طابعه
الخاص ،وتركيبه العضوي ،الناشئان عن نقطة انطلقه الولى ،التي يتميز بها من كل
()108
صوّر ا ِلسْلمِيّ وَال َثقَافَة
التَ َ
العبودية المطلقة ل وحده هي الشطر الول لركن السلم الول ،فهي المدلول المطابق
لشهادة أن ل اله إل ال ،والتلقي في كيفية هذه العبودية عن رسول ال صلى ال عليه وسلم هو
الشطر الثاني لهذا الركن ،فهو المدلول المطابق لشهادة أن محمدا رسول ال -كما جاء فـي
والعبودية المطلقة ل وحده تتمثل في اتخاذ ال وحده إلها ..عقيدة وعبادة وشريعة ..فل
يعتقد المسلم أن " اللوهية " تكون لحد غير ال -سبحانه -ول يعتقد أن " العبادة " تكون لغيره
من خلقه ،ول يعتقد أن " الحاكمية " تكون لحد من عباده ..كما جاء في ذلك الفصل أيضا .
ولقد أوضحنا هناك مدلول العبودية والعتقاد والشعائر والحاكمية ،وفي هذا الفصل نوضح
إن مدلول " الحاكمية " في التصور السلمي ل ينحصر في تلقي الشرائع القانونية من ال
وحده .والتحاكم إليها وحدها .والحكم بها دون سواها ..أن مدلول " الشريعة " في السلم ل
ينحصر في التشريعات القانونية ،ول حتى في أصول الحكم ونظامه وأوضاعه .إن هذا المدلول
إن " شريعة ال " تعني كل ما شرعه ال لتنظيم الحياة البشرية ..وهذا يتمثل في أصول
العتقاد ،وأصول الحكم ،وأصول الخلق ،وأصول السلوك ،وأصول المعرفة أيضا .
()109
يتمثل في العتقاد والتصور -بكل مقومات هذا التصور -تصور حقيقة اللوهية ،وحقيقة
الكون ،غيبه وشهوده ،وحقيقة الحياة ،غيبها وشهودها ،وحقيقة النسان ،والرتباطات بين هذه
ويتمثل في الوضاع السياسية والجتماعية والقتصادية ،والصول التي تقوم عليها ،
ويتمثل في التشريعات القانونية ،التي تنظم هذه الوضاع .وهو ما يطلق عليه اسم "
الشريعة " غالبا بمعناها الضيق الذي ل يمثل حقيقة مدلولها في التصور السلمي .
ويتمثل في قواعد الخلق والسلوك ،في القيم والموازين التي تسود المجتمع ،ويقوم بها
ثم ..يتمثل في " المعرفة " بكل جوانبها ،وفي أصول النشاط الفكري والفني جملة .
والمر في " الحاكمية " -في مدلولها المختص بالحكم والقانون -قد يكون الن مفهوما بعد
والمر في قواعد الخلق والسلوك ،وفي القيم والموازين التي تسود المجتمع ،قد يكون
مفهوما كذلك إلى حد ما ! إذ أن القيم والموازين وقواعد الخلق والسلوك التي تسود في مجتمع
ما ترجع مباشرة إلى التصور العتقادي السائد في هذا المجتمع ،وتتلقى من ذات المصدر الذي
تتلقى منه حقائق العقيدة التي يتكيف بها ذلك التصور .
()110
أما المر الذي قد يكون غريبا -حتى على قراء مثل هذه البحوث السلمية ! -فهو
الرجوع في شأن النشاط الفكري والفني إلى التصور السلمي والى مصدره الرباني .
وفي النشاط الفني صدر كتاب كامل يتضمن بيان هذه القضية باعتبار أن النشاط الفني كله ،
وهو تعبير إنساني عن تصورات النسان وانفعالته واستجاباته ،وعن صورة الوجود والحياة في
نفس إنسانية ..وهذه كلها يحكمها -بل ينشئها -في النفس المسلمة تصورها السلمي بشموله
لكل جوانب الكون والنفس والحياة ،وعلقتها ببارئ الكون والنفس والحياة ! وبتصورها خاصة
لحقيقة هذا النسان ،ومركزه في الكون ،وغاية وجوده ،ووظيفته ،وقيم حياته ..وكلها متضمنة
في التصور السلمي ،الذي ليس هو مجرد تصور فكري .إنما هو تصور اعتقادي حي موح
مؤثر فعال دافع مسيطر على كل انبعاث في الكيان النساني (. )17
فأما قضية النشاط الفكري ،وضرورة رد هذا النشاط إلى التصور السلمي ومصدره
الرباني ،تحقيقا للعبودية الكاملة ل وحده ،فهذه هي القضية التي تقتضي منّا بيانا كاملً لنها قد
تكون بالقياس إلى ُقرّاء هذا البيان -حتى المسلمين منهم الذين يرون حتمية رد الحاكمية والتشريع
إن المسلم ل يملك أن يتلقى في أمر يختص بحقائق العقيدة ،أو التصور العام للوجود ،أو
يختص بالعبادة ،أو يختص بالخلق والسلوك ،والقيم والموازين ،أو يختص بالمبادئ والصول
في النظام السياسي ،أو الجتماعي ،أو القتصادي ،أو يختص بتفسير بواعث النشاط النساني و
كتاب " منهج الفن السلمي " لمحمد قطب . )(17
()111
بحركة التاريخ النساني ..إل من ذلك المصدر الرباني ،ول يتلقى في هذا كله إل عن مسلم يثق
ولكن المسلم يملك أن يتلقى في العلوم البحتة ،كالكيمياء ،والطبيعة ،والحياء ،والفلك ،
والطب ،والصناعة ،والزراعة ،وطرق الدارة -من الناحية الفنية الدارية البحتة -وطرق
العمل الفنية ،وطرق الحرب والقتال -من الجانب الفني -إلى آخر ما يشبه هذا النشاط ..يملك
أن يتلقى في هذا كله عن المسلم وغير المسلم ..وإن كان الصل في المجتمع المسلم حين يقوم ،
أن يسعى لتوفير هذه الكفايات في هذه الحقول كلها ،باعتبارها فروض كفاية ،يجب أن يتخصص
فيها أفراد منه .وإل أثم المجتمع كله إذا لم يوفر هذه الكفايات ،ولم يوفر لها الجو الذي تتكون فيه
وتعيش وتعمل وتنتج ..ولكن إلى أن يتحقق هذا فإن للفرد المسلم أن يتلقى في هذه العلوم البحتة
وتطبيقاتها العملية من المسلم وغير المسلم ،وأن ينتفع فيها بجهد المسلم وغير المسلم ،وأن يشغل
فيها المسلم وغير المسلم ..لنها من المور الداخلة في قول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :
أنتم أعلم بأمور دنياكم " ..وهي ل تتعلق بتكوين تصور المسلم عن الحياة والكون والنسان ،
وغاية وجوده ،وحقيقة وظيفته ،ونوع ارتباطاته بالوجود من حوله ،بخالق الوجود كله ،ول
تتعلق بالمبادئ والشرائع والنظمة والوضاع التي تنظم حياته أفرادا وجماعات .ول تتعلق
بالخلق والداب والتقاليد والعادات والقيم والموازين التي تسود مجتمعه وتؤلف ملمح هذا
المجتمع ..ومن ثم فل خطر فيها من زيغ عقيدته ،أو ارتداده إلى الجاهلية !
فأمـا ما يتعلق بتفسير النشاط النساني كله أفرادا أو مجتمعات ،وهـو التعلق بالنظرة إلى
" نفس " النسان وإلى " حركة تاريخه " ،وما يختص بتفسير نشأة هذا الكون ،ونشأة الحياة ،
ونشأة هذا النسان ذاته -من ناحية ما وراء الطبيعة ( -وهو ما ل تتعلق به العلوم البحتة من
كيمياء وطبيعة وفلك وطب ..إلخ ) فالشأن فيه ،شأن الشرائع القانونية والمبادئ والصول التي
()112
تنظم حياته ونشاطه ،مرتبـط بالعقيدة ارتباطا مباشرا ،فل يجوز للمسلم أن يتلقى فيه إل عن
مسلم ،يثق في دينه وتقواه ،ويعلم عنه أنه يتلقى في هذا كله عن ال ..والمهم أن يرتبط هذا في
حس المسلم بعقيدته ،وأن يعلم أن هذا مقتضى عبوديته ل وحده ،أو مقتضى شهادته :أن ل إله
إنه قد َيطّلِع على كل آثار النشاط الجاهلي .ولكن ل ِل ُيكَوّن منه تصوره ومعرفته في هذه
الشؤون كلها ،إنما ليعرف كيف تنحرف الجاهلية ! وليعرف كيف يصحح ويقوّم هذه النحرافات
البشرية ،بردّها إلى أصولها الصحيحة فـي مقومات التصور السلمي ،وحقائق العقيدة
السلمية .
إن اتجاهات " الفلسفة " بجملتها ،واتجاهات " تفسير التاريخ النساني " بجملتها ،واتجاهات
" علم النفس " بجملتها -عدا الملحظات والمشاهدات دون التفسيرات العامة لها -ومباحث "
الخلق " بجملتها ،واتجاهات دراسة " الديان المقارنة " بجملتها ،واتجاهات " التفسيرات
والمذاهب الجتماعية " بجملتها -فيما عدا المشاهدات والحصائيات والمعلومات المباشرة ،ل
النتائج العامة المستخلصة منها ول التوجيهات الكلية الناشئة عنها .. -إن هذه التجاهات كلها في
الفكر الجاهلي -أي غير السلمي -قديما وحديثا ،متأثرة تأثرا مباشرا بتصورات اعتقادية
جاهلية ،وقائمة على هذه التصورات ،ومعظمها -إن لم يكن كلها -يتضمن في أصوله
المنهجية عدا ًء ظاهرا أو خفيا للتصور الديني جملة ،وللتصور السلمي على وجه خاص !
والمر في هذه اللوان من النشاط الفكري – والعلمي ! -ليس كالمر في علوم الكيمياء
والطبيعة والفلك والحياء والطب ،وما إليها -ما دامت هذه في حدود التجربة الواقعية وتسجيل
النتائج الواقعية ،دون أن تجاوز هذه الحدود إلى التفسير الفلسفي في صورة من صوره ،وذلك
كتجاوز الداروينية مثلً لمجال إثبات المشاهدات وترتيبها في علم الحياء ،إلى محال القول -
()113
بغير دليل وبغير حاجة للقول كذلك إلّ الرغبة والهوى -إنه ل ضرورة لفتراض وجود قوة
إن لدى المسلم الكفاية من بيان ربه الصادق عن تلك الشؤون ،وفي المستوى الذي تبدو فيه
محاولت البشر في هذه المجالت هزيلة ومضحكة ..فضلً عن أن المر يتعلق تعلقا مباشرا
إن حكاية أن " الثقافة تراث إنساني " ل وطن له ول جنس ول دين ..هي حكاية صحيحة
عندما تتعلق بالعلوم البحتة وتطبيقاتها العلمية -دون أن تجاوز هذه المنطقة إلى التفسيرات
الفلسفية " الميتافيزيقية " لنتائج هذه العلوم ،ول إلى التفسيرات الفلسفية لنفس النسان ونشاطه
وتاريخه ،ول إلى الفن والدب والتعبيرات الشعورية جميعا .ولكنها فيما وراء ذلك إحدى مصايد
اليهود العالمية ،التي يهمها تمييع الحواجز كلها -بما في ذلك ،بل في أول ذلك حواجز العقيدة
والتصور -لكي ينفذ اليهود إلى جسم العالم كله ،وهو مسترخ مخدر ،يزاول اليهود فيه نشاطهم
الشيطاني ،وفي أوله نشاطهم الربوي ،الذي ينتهي إلى جعل حصيلة كد البشرية كلها ،تؤول إلى
ولكن السلم يعتبر أن هناك -فيما وراء العلوم البحتة وتطبيقاتها العملية -نوعين اثنين
من الثقافة :الثقافة السلمية القائمة على قواعد التصور السلمي ،والثقافة الجاهلية القائمة على
مناهج شتى ترجع كلها إلى قاعدة واحدة ..قاعدة إقامة الفكر البشري إلها ل يرجع إلى ال في
ميزانه .والثقافة السلمية شاملة لكل حقول النشاط الفكري والواقعي النساني ،وفيها من القواعد
ويكفي أن نعلم أن التجاه التجريبي ،الذي قامت عليه الحضارة الصناعية الوروبية
الحاضرة ،لم ينشأ ابتداء في أوروبا ،وإنما نشأ في الجامعات السلمية في الندلس والمشرق ،
()114
مستمدا أصوله من التصور السلمي وتوجيهاته ،إلى الكون وطبيعته الواقعية ،ومدخراته
وأقواته ..ثُم استقلت النهضة العلمية في أوروبا بهذا المنهج ،واستمرت تنميه وترقيه ،بينما ُر ِكدَ
وترك نهائيا في العالم السلمي بسبب ُبعْد هذا العالم تدريجيا عن السلم ،بفعل عوامل بعضها
كامن في تركيب المجتمع وبعضها يتمثل في الهجوم عليه من العالم الصليبي والصهيوني … ثم
قطعت أوروبا ما بين المنهج الذي اقتبسته وبين أصوله العتقادية السلمية ،وشردت به نهائيا
بعيدا عن ال ،في أثناء شرودها عن الكنيسة ،التي كانت تستطيل على الناس -بغيا وعدوا -
()18
باسم ال !
وكذلك أصبح نتاج الفكر الوروبي بجملته -شأنه شأن إنتاج الفكر الجاهلي في جميع
الزمان في جميع البقاع -شيئا آخر ،ذا طبيعة مختلفة من أساسها عن مقومات التصور السلمي
.ومعادية في الوقت ذاته عداء أصيلً للتصور السلمي ..ووجب على المسلم أن يرجع إلى
مقومات تصوره وحدها ،وأل يأخذ إل من المصدر الرباني إن استطاع بنفسه ،وإل فل يأخذ إل
عن مسلم تقي ،يعلم عن دينه وتقواه ما يطمئنه إلى الخذ عنه .
إن حكاية فصل " العلم " عن " صاحب العلم " ل يعرفها السلم فيما يختص بكل العلوم
المتعلقة بمفهومات العقيدة المؤثرة في نظرة النسان إلى الوجود والحياة والنشاط النساني ،
والوضاع ،والقيم ،والخلق ،والعادات ،وسائر ما يتعلق بنفس النسان ونشاطه من هذه
النواحي .
راجع فصل " :الفصام النكد " في كتاب :المستقبل لهذا الدين . )(18
()115
إن السلم يتسامح في أن يتلقى المسلم عن غير المسلم ،أو عن غير التقي من المسلمين ،
في علم الكيمياء البحتة ،أو الطبيعة ،أو الفلك ،أو الطب ،أو الصناعة ،أو الزراعة ،أو
العمال الدارية والكتابية ..وأمثالها .وذلك في الحالت التي ل يجد فيها مسلما تقيا يأخذ عنه
في هذا كله ،كما هو واقع من يسمون أنفسهم المسلمين اليوم ،الناشئ من ُب ْعدِهم عن دينهم
ومنهجهم وعن التصور السلمي لمقتضيات الخلفة في الرض -بإذن ال -وما يلزم لهذه
الخلفة من هذه العلوم والخبرات والمهارات المختلفة ..ولكنه ل يتسامح في أن يتلقى أصول
عقيدته ،ول مقومات تصوره ،ول تفسير قرآنه وحديثه وسيرة نبيه ،ول منهج تاريخه وتفسير
نشاطه ،ول مذهب مجتمعه ،ول نظام حكمه ،ول منهج سياسته ،ول موجبات فنه وأدبه
وتعبيره … إلخ ،من مصادر غير إسلمية ،ول أن يتلقى عن غير مسلم يثق في دينه وتقواه في
إن الذي يكتب هذا الكلم إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة .كان عمله الول فيها هو
القراءة والطلع فـي معظم حقول المعرفة النسانية ..ما هو من تخصصه وما هو مـن
هواياته ..ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره .فإذا هو يجد كل ما قرأه ضئيل ًضئيلً إلى جانب
ذلك الرصيد الضخم -وما كان يمكن أن يكون إل كذلك -وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين
سنة من عمره .فإنما عرف الجاهلية على حقيقتها ،وعلى انحرافها ،وعلى ضآلتها ،وعلى
قزامتها … وعلى جعجعتها وانتفاشها ،وعلى غرورها وادعائها كذلك !!! وعلم علم اليقين أنه ل
ومع ذلك فليس الذي سبق في هذه الفقرة رأيا لي أبديه ..إن المر أكبر من أن يفتى فيه
بالرأي ..إنه أثقل في ميزان ال من أن يعتمد المسلم فيه على رأيه ،إنما هو قول ال – سبحانه -
()116
وقول نبيه صلى ال عليه وسلم ..نحكّمه في هذا الشأن ،ونرجع فيه إلى ال والرسول ،كما
يقول ال -سبحانه -عن الهدف النهائي لليهود والنصارى فـي شأن المسلمين بصفة عامة
:
ص َفحُوا حَتّى يَأْ ِتيَ الّل ُه بِ َأمْرِ ِه إِنّ الّل َه عَلَى ُكلّ شَيْءٍ قَدِي ٌر } …
عفُوا وَا ْ
مَا تَبَيّنَ َل ُهمُ ا ْلحَقّ فَا ْ
ك الْ َيهُودُ وَل النّصَارَى حَتّى تَتّبِ َع مِلّ َت ُهمْ ُق ْل إِنّ هُدَى الّلهِ ُهوَ ا ْلهُدَى وَلَئِنِ
ن تَرْضَى عَنْ َ
{ وَلَ ْ
] 120
ن}
ن الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ يَرُدّو ُكمْ َبعْدَ إِيمَا ِن ُكمْ كَافِرِي َ
{ يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ ُتطِيعُوا فَرِيقا مِ َ
ويقول رسول ال -صلى ال عليه وسلم -فيما رواه الحافظ أبو يعلى عن حماد عن
" ل تسألوا أهل الكتاب عن شيءٍ ،فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ،وإنكم إما أن تصدقوا
بباطل ،وإما أن تكذبوا بحق ،وإنه وال لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حلّ له أن يتبعني " .
وحين يتحدد الهدف النهائي لليهود والنصارى في شأن المسلمين على ذلك النحو القاطع الذي
يقرره ال سبحانه ،يكون من البلهة الظن لحظة بأنهم يصدرون عن نية طيبة في أي مبحث من
المباحث المتعلقة بالعقيدة السلمية ،أو التاريخ السلمي ،أو التوجيه في نظام المجتمـع
()117
المسلم ،أو فـي سياسته أو اقتصاده ،أو يقصدون إلى خير ،أو إلى هدى ،أو إلى نور …
والذين يظنون ذلك فيما عند هؤلء الناس -بعد تقرير ال سبحانه -إنما هم الغافلون !
كذلك يتحدد من قول ال سبحانه ُ { :قلْ إِنّ هُدَى الّلهِ ُهوَ ا ْلهُدَى } ...المصدر الوحيد الذي
يجب على المسلم الرجوع إليه في هذه الشؤون ،فليس وراء هدى ال إل الضلل ،وليس في
غيره هدى ،كما تفيد صيغة القصر الواردة في النص " :قُل :إن هدى ال هو الهدى " … ول
سبيل إلى الشك في مدلول هذا النص ،ول إلى تأويله كذلك !
كذلك يرد المر القاطع بالعراض عمن يتولى عن ذكر ال ،ويقصر اهتمامه على شؤون
الحياة الدنيا ،وينص على أن مثل هذا ل يعلم إل ظنا ،والمسلم منهي عن اتباع الظن ،وأنه ل
والذي يغفل عن ذكر ال ،ول يريد إل الحياة الدنيا -وهو شأن جميع " العلماء ! " اليوم -
ل يعلم إل هذا الظاهر ،وليس هذا هو " العلم " الذي يثق المسلم في صاحبه فيتلقى عنه في كل
شأنه ،إنما يجوز أن يتلقى عنه في حدود علمه المادي البحت ،ول يتلقى منه تفسيرا ول تأويلً
عاما للحياة ،أو النفس ،أو متعلقاتها التصورية ..كما أنه ليس هو العلم الذي تشير إليه اليات
القرآنية وتثني عليه ،كقوله تعالى " :هل يستوي الذين يعلمون والذين ل يعلمون ؟ " كما يفهم
الذين ينتزعون النصوص القرآنية من سياقها ليشهدوا بها في غير مواضعها ؟ فهذا السؤال
()118
ح َمةَ رَ ّبهِ ُقلْ َهلْ َيسْ َتوِي
{ َأمّنْ ُهوَ قَا ِنتٌ آنَا َء اللّ ْيلِ سَاجِدا وَقَائِما َيحْذَ ُر الْآخِرَ َة وَيَ ْرجُو َر ْ
ن وَالّذِينَ ل َيعْ َلمُونَ إِ ّنمَا يَتَ َذكّ ُر أُولُو الْأَلْبَابِ } [ ..الزمر ] 9 :
الّذِينَ َيعْ َلمُو َ
فهذا القانت آناء الليل ،ساجدا وقائما ،يحذر الخرة ويرجو رحمة ربه ..هو هذا الذي يعلم
..وهذا هو العلم ..الذي تشير إليه الية ،العلم الذي يهدي إلى ال وتقواه ..ل العلم الذي يفسد
الفطر فتلحد في ال !
إن العلم ليس مقصورا على علم العقيدة والفرائض الدينية والشرائع ..فالعلم يشتمل على كل
شيء ،ويتعلق بالقوانين الطبيعية ..وتسخيرها في خلفة الرض تعلقه بالعقيدة والفرائض
والشرائع ..لكن العلم الذي ينقطع عن قاعدته اليمانية ليس هو العلم الذي يعنيه القرآن ويثني
على أهله ..إن هناك ارتباطا بين القاعدة اليمانية وعلم الفلك ،وعلم الحياء ،وعلم الطبيعة ،
وعلم الكيمياء ،وعلم طبقات الرض ..وسائر العلوم المتعلقة بالنواميس الكونية ،والقوانين
الحيوية .إنها كلها تؤدي إلى ال ،حين ل يستخدمها الهوى المنحرف للبتعاد عن ال ..كما اتجه
المنهج الوروبي في النهضة العلمية -مع السف -بسبب تلك الملبسات النكدة التي قامت في
التاريخ الوروبي خاصة ،بين المشتغلين بالعلم وبين الكنيسة الغاشمة ! ثم ترك آثاره العميقة في
مناهج الفكر الوروبي كلها ،وفي طبيعة التفكير الوروبي ،وترك تلك الرواسب المسممة بالعداء
لصل التصور الديني جملة -ل لصل التصور الكنسي وحده ول للكنيسة وحدها -في كل ما
أنتجه الفكر الوروبي ،في كل حقل من حقول المعرفة ،سواء كانت فلسفة ميتافيزيقية ،أو كانت
()19
بحوثا علمية بحتة ل علقة لها -في الظاهر -بالموضوع الديني !
يراجع فصل " :الفصام والنكد " في كتاب " المستقبل لهذا الدين " . )(19
()119
وإذا تقرر أن مناهج الفكر الغربي ،ونتاج هذا الفكر في كل حقول المعرفة ،يقوم ابتداء
على أساس تلك الرواسب المسممة بالعداء لصل التصور الديني جملة ،فإن تلك المناهج وهذا
النتاج أشد عدا ًء للتصور السلمي خاصة ،لنه يتعمد هذا العداء بصفة خاصة ،ويتحرى في
حالت كثيرة -في خطة متعمدة -تمييع العقيدة والتصور والمفهومات السلمية ،ثم تحطيم
ومن ثمّ يكون من الغفلة المزرية العتماد على مناهج الفكر الغربي ،وعلى نتاجه كذلك ،
في الدراسات السلمية ..ومن ثمّ تجب الحيطة كذلك في أثناء دراسة العلوم البحتة -التي ل بد
لنا في موقفنا الحاضر من تلقّيها من مصادرها الغربية -من أية ظلل فلسفية تتعلق بها ،لن هذه
الظلل معادية في أساسها للتصور الديني جملة ،وللتصور السلمي بصفة خاصة .وأي قدر
()120
عقِيدَتُه
سلِم َو َ
جِ ْنسِيّة ال ُم ْ
جاء السلم إلى هذه البشرية بتصور جديد لحقيقة الروابط والوشائج ،يوم جاءها بتصور
جديد لحقيقة القيم والعتبارات ،ولحقيقة الجهة التي تتلقى منها هذه القيم وهذه العتبارات .
جاء السلم ليرد النسان إلى ربه ،وليجعل هذه السلطة هي السلطة الوحيدة التي يتلقى
منها موازينه وقيمه ،كما تلقى منها وجوده وحياته ،والتي يرجع إليها بروابطه ووشائجه ،كما
جاء ليقرر أن هناك وشيجة واحدة تربط الناس في ال فإذا انبتّت هذه الوشيجة فل صلة ول
مودة :
وأن هناك حزبا واحدا ل ل يتعدد ،وأحزابا أخرى كلها للشيطان وللطاغوت :
وأن هناك طريقا واحدا يصل إلى ال وكل طريق آخر ل يؤدي إليه :
()121
وأن هناك نظاما واحدا هو النظام السلمي وما عداه من النظم فهو جاهلية :
ن } [ المائدة ] 50 :
حكْما ِل َق ْومٍ يُوقِنُو َ
ن الّلهِ ُ
حسَنُ مِ َ
ن َأ ْ
حكْمَ ا ْلجَا ِهلِ ّيةِ يَ ْبغُونَ َومَ ْ
{ أَ َف ُ
وأن هناك شريعة واحدة هي شريعة ال وما عداها فهو هوى :
شرِي َعةٍ مِنَ الْ َأ ْمرِ فَاتّ ِب ْعهَا وَل تَتّ ِبعْ أَ ْهوَا َء الّذِينَ ل َيعْ َلمُونَ } [ ...الجاثية
جعَلْنَاكَ عَلَى َ
{ ُثمّ َ
] 18 :
وأن هناك حقا واحدا ل يتعدد ،وما عداه فهو الضلل :
{ َفمَاذَا َبعْ َد ا ْلحَقّ إِلّا الضّللُ َفأَنّى تُصْ َرفُونَ } [ ..يونس ] 32 :
وأن هناك دارا واحدة هي دار السلم ،تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة ،فتهيمن عليها
شريعة ال ،وتقام فيها حدوده ،ويتولـى المسلمون فيها بعضهم بعضا ،وما عداها فهو دار
حرب ،علقة المسلم بها إما القتال ،وإما المهادنة على عهد أمان ،ولكنها ليست دار إسلم ،ول
صرُوا
س ِهمْ فِي سَبِيلِ الّل ِه وَالّذِينَ آ َووْا وَنَ َ
ن آمَنُوا وَهَاجَرُوا َوجَاهَدُوا بِ َأ ْموَا ِل ِهمْ َوأَنْ ُف ِ
{ إِنّ الّذِي َ
َوإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّينِ َفعَلَيْ ُكمُ النّصْ ُر إِلّا عَلَى َق ْومٍ بَيْ َنكُمْ وَبَيْ َن ُهمْ مِيثَاقٌ وَالّل ُه ِبمَا َت ْعمَلُونَ
ض إِلّا َت ْفعَلُوهُ َتكُنْ فِتْ َنةٌ فِي الْ َأرْضِ َو َفسَادٌ كَبِي ٌر ،وَالّذِينَ
ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َبعْ ٍ
بَصِي ٌر ،وَالّذِينَ َكفَرُوا َبعْ ُ
] 75
()122
بهذه النصاعة الكاملة ،وبهذا الجزم القاطع جاء السلم ..جاء ليرفع النسان ويخلصه من
وشائج الرض والطين ،ومن وشائج اللحم والدم -وهي من وشائج الرض والطين -فل وطن
للمسلم إل الذي تقام فيه شريعة ال ،فتقوم الروابط بينه وبين سكانه على أساس الرتباط في ال ،
ول جنسية للمسلم إل عقيدته التي تجعله عضوا في " المة المسلمة " في " دار السلم " ،ول
قرابة للمسلم إل تلك التي تنبثق من العقيدة في ال ،فتصل الوشيجة بينه وبين أهله في ال ...
ليست قرابة المسلم أباه وأمه وأخاه وزوجه وعشيرته ،ما لم تنعقد الصرة الولى في
ول يمنع هذا من مصاحبة الوالدين بالمعروف مع اختلف العقيدة ما لم يقفا في الصف
المعادي للجبهة المسلمة ،فعندئذ ل صلة ول مصاحبة ،وعبد ال بن عبد ال بن أبي يعطينا المثل
روى ابن جرير بسنده عن ابن زياد قال :دعا رسول ال -صلى ال عليه وسلم -عبد ال
بن عبد ال بن أبي قال :أل ترى ما يقول أبوك ؟ قال :ما يقول أبي ؟ -بأبي أنت وأمي -قال
:يقول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الذل .فقال :فقد صدق وال يا رسول ال .
أنت وال العز وهو الذل .أما وال لقد قدمت المدينة يا رسول ال وأن أهل يثرب ليعلمون ما
بها أحد أبر بوالده مني .ولئن كان يرضي ال ورسوله أن آتيهما برأسه لتيهما به .فقال رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :ل " ..فلما قدموا المدينة قام عبد ال بن عبد ال بن أبي على بابها
بالسيف لبيه ،قال :أنت القائل :لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الذل ؟ أما وال
لتعرفن العزة لك أو لرسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ وال ل يأويك ظلها ول تأويه أبدا إل بإذن
()123
من ال ورسوله .فقال :يا للخزرج ! ابني يمنعني بيتي ! يا للخزرج ابني يمنعني بيتي ! فقال :
وال ل يأويه أبدا إل بإذن منه .فاجتمع إليه رجال فكلموه فقال :وال ل يدخلن إل بإذن من ال
ورسوله .فأتوا النبي -صلى ال عليه وسلم -فأخبروه فقال " :اذهبوا إليه فقولوا له :خله
ومسكنه " .فأتوه فقال :أما إذ جاء أمر النبي صلى ال عليه وسلم فنعم ..
فإذا انعقدت آصرة العقيدة فالمؤمنون كلهم إخوة ،ولو لم يجمعهم نسب ول صهر { :إِ ّنمَا
صرُوا
س ِهمْ فِي سَبِيلِ الّل ِه وَالّذِينَ آ َووْا وَنَ َ
ن آمَنُوا وَهَاجَرُوا َوجَاهَدُوا بِ َأ ْموَا ِل ِهمْ َوأَنْ ُف ِ
{ إِنّ الّذِي َ
وهي ولية تتجاوز الجيل الواحد إلى الجيال المتعاقبة ،وتربط أول هذه المة بآخرها ،
ويضرب ال المثال للمسلمين بالرهط الكريم من النبياء الذين سبقوهم في موكب اليمان
ن َتكُونَ
عظُكَ أَ ْ
ن مَا لَيْسَ َلكَ ِب ِه عِ ْلمٌ إِنّي أَ ِ
ع َم ٌل غَيْ ُر صَا ِلحٍ فَل َتسْأَلْ ِ
ك إِ ّنهُ َ
ن أَهْلِ َ
س مِ ْ
ح إِ ّنهُ لَيْ َ
يَا نُو ُ
()124
حمْنِي َأكُنْ
ع ْلمٌ َوإِلّا َت ْغفِرْ لِي وَتَ ْر َ
س لِي ِبهِ ِ
ن َأسْأَلَكَ مَا لَيْ َ
ك أَ ْ
مِنَ ا ْلجَاهِلِينَ ،قَالَ رَبّ إِنّي أَعُوذُ بِ َ
س ا ْلمَصِيرُ } [ ...البقرة
ضطَرّهُ إِلَى عَذَابِ النّارِ وَبِئْ َ
ل ُثمّ أَ ْ
ن كَفَرَ فَُأمَ ّت ُعهُ قَلِي ً
وَالْ َيوْمِ الْآخِرِ قَالَ َومَ ْ
ويعتزل إبراهيم أباه وأهله حين يرى منهم الصرار على الضلل :
شقِيّا } ...
ن بِدُعَاءِ رَبّي َ
عسَى أَلّا أَكُو َ
ن الّلهِ َوأَدْعُو رَبّي َ
ن دُو ِ
{ َوأَعْتَزُِل ُكمْ َومَا تَ ْدعُونَ مِ ْ
[ مريم ] 48 :
ن الّلهِ َكفَرْنَا ِب ُكمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْ َن ُكمُ ا ْلعَدَاوَةُ وَالْ َبغْضَاءُ أَبَدا حَتّى ُت ْؤمِنُوا بِالّلهِ َوحْدَهُ
ن دُو ِ
َتعْبُدُونَ مِـ ْ
} [ .الممتحنة ] 4 :
والفتية أصحاب الكهف يعتزلون أهلهم وقومهم وأرضهم ليخلصوا ل بدينهم ،ويفرّوا إلى
ربهم بعقيدتهم ،حين عز عليهم أن يجدوا لها مكانا في الوطن والهل والعشيرة .
ى ،وَرَ َبطْنَا عَلَى ُقلُو ِبهِمْ إِذْ قَامُوا َفقَالُوا رَبّنَا رَبّ
{ إِ ّنهُمْ فِتْ َيةٌ آمَنُوا بِرَ ّب ِهمْ وَزِدْنَا ُهمْ هُد ً
()125
ن َأمْ ِر ُكمْ مِرْفَقا } [ ...
حمَ ِتهِ وَ ُيهَيّئْ َل ُكمْ مِـ ْ
شرْ َل ُكمْ رَ ّبكُمْ ِمنْ َر ْ
َيعْبُدُونَ إِلّا الّلهَ َف ْأوُوا إِلَى ا ْلكَهْفِ يَ ْن ُ
الكهف ] 16 - 13 :
وامرأة نوح وامرأة لوط يفرق بينهما وبين زوجيهما حين تفترق العقيدة :
ن } [ ..التحريم :
ن الّلهِ شَيْئا وَقِيلَ ا ْدخُل النّا َر مَ َع الدّاخِلِي َ
صَا ِلحَيْنِ َفخَانَتَا ُهمَا َفَلمْ ُيغْنِيَا عَ ْن ُهمَا مِـ َ
] 10
وهكذا تتعدد المثال في جميع الوشائج والروابط ..وشيجة البوة في قصة نوح ،ووشيجة
البنوة والوطن في قصة إبراهيم ،ووشيجة الهل والعشيرة والوطن جميعا في قصة أصحاب
الكهف ،ورابطة الزوجية في قصص امرأتي نوح ولوط وامرأة فرعون ..
وهكذا يمضي الموكب الكريم في تصوره لحقيقة الروابط والوشائج ..حتى تجيء المة
الوسط ،فتجد هذا الرصيد من المثال والنماذج والتجارب ،فتمضي على النهج الرباني للمة
المؤمنة ،وتفترق العشيرة الواحدة ،ويفترق البيت الواحد ،حين تفترق العقيدة ،وحيث تنبت
ك كَتَبَ فِي قُلُو ِب ِهمُ الْأِيمَانَ َوأَيّدَ ُهمْ ِبرُوحٍ مِ ْن ُه وَيُ ْدخُِلهُمْ
عشِيرَ َت ُهمْ أُولَئِ َ
خوَا َنهُمْ َأ ْو َ
َأوْ أَبْنَاءَ ُهمْ َأ ْو إِ ْ
()126
ب الّل ِه أَل إِنّ
ي الّلهُ عَ ْن ُهمْ وَرَضُوا عَ ْن ُه أُولَئِكَ حِزْ ُ
ن َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَا ُر خَالِدِينَ فِيهَا رَضِ َ
جَنّاتٍ َتجْرِي مِ ْ
وحين انبتّت وشيجة القرابة بين محمد -صلى ال عليه وسلم -وبين عمه أبي لهب ،وابن
عمه عمرو بن هشام ( أبو جهل ) وحين قاتل المهاجرون أهلهم وأقرباءهم وقتلوهم يوم بدر ..
حينئذ اتصلت وشيجة العقيدة بين المهاجرين والنصار ،فإذا هم أهل وإخوة ،واتصلت الوشيجة
بين المسلمين العرب وإخوانهم :صهيب الرومي ،وبلل الحبشي ،وسلمان الفارسي .وتوارت
عصبية القبيلة ،وعصبية الجنس ،وعصبية الرض .وقال لهم رسول ال -صلى ال عليه وسلم
" : -دعوها فإنها منتنة " ..وقال لهم " :ليس منّا من دعا إلى عصبية ،وليس منّا من قاتل على
عصبية ،وليس منّا من مات على عصبية " ..فانتهى أمر هذا النتن ..نتن عصبية النسب .
وماتت هذه النعرة ..نعرة الجنس ،واختفت تلك اللوثة ..لوثة القوم ،واستروح البشر أرج
الفاق العليا ،بعيدا عن نتن اللحم والدم ،ولوثة الطين والرض ..منذ ذلك اليوم لم يعد وطن
المسلم هو الرض ،إنما عاد وطنه هو " دار السلم " الدار التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها
شريعة ال وحدها ،الدار التي يأوي إليها ويدافـع عنها ،ويستشهد لحمايتها ومد رقعتها ..وهي
" دار السلم " لكل من يدين بالسلم عقيدة ويرتضي شريعته شريعة ،وكذلك لكل من يرتضي
شريعة السلم نظاما -ولو لم يكن مسلما -كأصحاب الديانات الكتابية الذين يعيشون في " دار
السلم " ..والرض التي ل يهيمن فيها السلم ول تحكم فيها شريعته هي " دار الحرب "
بالقياس إلى المسلم ،وإلى الذمي المعاهد كذلك ..يحاربها المسلم ولو كان فيها مولده ،وفيها
()127
وكذلك حارب محمد -صلى ال عليه وسلم -مكة وهي مسقط رأسه ،وفيها عشيرته وأهله
،وفيها داره ودور صحابته وأموالهم التي تركوها .فلم تصبح دار إسلم له ولمته إل حين دانت
هذا هو السلم ..هذا هو وحده ..فالسلم ليس كلمة تقال باللسان ،ول ميلدا في أرض
عليها لفتة إسلمية وعنوان إسلمي ! ول وراثة مولد في بيت أبواه مسلمان .
هذا هو وحده السلم ،وهذه هي وحدها دار السلم ..ل الرض ول الجنس ،ول النسب
لقد أطلق السلم البشر من اللصوق بالطين ليتطلعوا إلى السماء ،وأطلقهم من قيد الدم ..
وطن المسلم الذي يحن إليه ويدافع عنه ليس قطعة أرض ،وجنسية المسلم التي يعرف بها
ليست جنسية حكم ،وعشيرة المسلم التي يأوي إليها ويدفع عنها ليست قرابة دم ،وراية المسلم
التي يعتز بها ويستشهد تحتها ليست راية قوم ،وانتصار المسلم الذي يهفوا إليه ويشكر ال عليه
حمْدِ رَبّكَ
س يَ ْدخُلُونَ فِي دِينِ الّل ِه أَ ْفوَاجا َ ،فسَ ّبحْ ِب َ
{ إِذَا جَا َء نَصْ ُر الّلهِ وَا ْلفَ ْتحُ ،وَ َرأَيْتَ النّا َ
()128
إنه النصر تحت راية العقيدة دون سائر الرايات .والجهاد لنصرة دين ال وشريعته ل لي
هدف من الهداف ،والذياد عن " دار السلم " بشروطها تلك ل أية دار ،والتجرد بعد هذا كله
ل ،ل لمغنم ول لسمعة ،ول حمية لرض أو قوم ،أو ذود عن أهل أو ولد ،إل لحمايتهم من
عن أبي موسى رضي ال عنه قال :سئل رسول ال -صلى ال عليه وسلم -عن الرجل
يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء ،أي ذلك في سبيل ال ؟ فقال " :من قاتل لتكون كلمة ال
وفي هذا وحده تكون الشهادة ل في أية حرب لي هدف غير هذا الهدف الواحد ..ل ..
وكل أرض تحارب المسلم في عقيدته ،وتصدّه عن دينه ،وتعطل عمل شريعته ،فهي "
دار حرب " ولو كان فيها أهله وعشيرته وقومه وماله وتجارته ..وكل أرض تقوم فيها عقيدته
وتعمل فيها شريعته ،فهي " دار إسلم " ولو لم يكن فيها أهل ول عشيرة ،ول قوم ول تجارة .
الوطن :دار تحكمها عقيدة ومنهاج حياة وشريعة من ال ..هذا هـو معنى الوطـن اللئق
" بالنسان " .والجنسية :عقيدة ومنهاج حياة .وهذه هي الصرة اللئقة بالدميين .
إن عصبية العشيرة والقبيلة والقوم والجنس واللون والرض عصبية صغيرة متخلفة ..
عصبية جاهلية عرفتها البشرية في فترات انحطاطها الروحي ،وسماها رسول ال -صلى ال
عليه وسلم " -منتنة " بهذا الوصف الذي يفوح منه التقزز والشمئزاز .
ولما ادعى اليهود أنهم شعب ال المختار بجنسهم وقومهم ردّ ال عليهم هذه الدعوى ،ورد
ميزان القيم إلى اليمان وحده على توالي الجيال ،وتغاير القوام والجناس والوطان :
()129
{ وَقَالُوا كُونُوا هُودا َأوْ نَصَارَى َتهْتَدُوا ُقلْ َبلْ مِّل َة إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا َومَا كَانَ ِمنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ ،
سمِيعُ
شقَاقٍ َفسَ َي ْكفِيكَ ُهمُ الّل ُه وَ ُهوَ ال ّ
آمَنُوا ِبمِ ْثلِ مَا آمَنْ ُتمْ ِبهِ َفقَدِ اهْتَ َدوْا َوإِنْ َتوَّلوْا فَإِ ّنمَا ُهمْ فِي ِ
ن مِنَ الّل ِه صِ ْب َغةً وَ َنحْنُ َلهُ عَابِدُونَ } [ ...البقرة ] 138 - 135 :
حسَ ُ
ن أَ ْ
ا ْلعَلِيمُ ،صِ ْب َغةَ الّل ِه َومَ ْ
فأما شعب ال المختار حقا فهو المة المسلمة التي تستظل براية ال على اختلف ما بينها
ن بِالّل ِه }
ن ا ْلمُ ْنكَرِ وَ ُت ْؤمِنُو َ
ف وَتَ ْن َهوْنَ عَ ِ
ن بِا ْل َمعْرُو ِ
س تَ ْأمُرُو َ
ت لِلنّا ِ
{ كُنْتُ ْم خَيْرَ ُأ ّمةٍ ُأخْ ِرجَ ْ
المة التي يكون من الرعيل الول فيها أبو بكر العربي ،وبلل الحبشي ،وصهيب الرومي
،وسلمان الفارسي ،وإخوانهم الكرام .والتي تتوالى أجيالها على هذا النسق الرائع ..الجنسية
فيها العقيدة ،والوطن فيها هو دار السلم ،والحاكم فيها هو ال ،والدستور فيها هو القرآن .
هذا التصور الرفيع للدار وللجنسية وللقرابة هو الذي ينبغي أن يسيطر على قلوب أصحاب
الدعوة إلى ال ،والذي ينبغي أن يكون من الوضوح بحيث ل تختلط به أوشاب التصورات
الجاهلية الدخيلة ،ول تتسرب إليه صور الشرك الخفية :الشرك بالرض ،والشرك بالجنس ،
والشرك بالقوم ،والشرك بالنسب ،والشرك بالمنافع الصغيرة القريبة ،تلك التي يجمعها ال
سبحانه في آية واحدة فيضعها في كفة ،ويضع اليمان ومقتضياته في كفة أخرى ،ويدع للناس
الخيار :
()130
عشِيرَ ُتكُمْ َوَأ ْموَالٌ اقْتَ َرفْ ُتمُوهَا وَ ِتجَارَةٌ
جكُمْ وَ َ
خوَا ُنكُمْ َوأَ ْزوَا ُ
{ ُق ْل إِنْ كَانَ آبَا ُؤ ُكمْ َوأَبْنَاؤُ ُكمْ َوِإ ْ
كذلك ل ينبغي أن تقوم في نفوس أصحاب الدعوة إلى ال تلك الشكوك السطحية في حقيقة
الجاهلية وحقيقة السلم ،وفي صفة دار الحرب ودار السلم ..فمن هنا يؤتى الكثير منهم في
تصوراته ويقينه ..إنه ل إسلم في أرض ل يحكمها السلم ،ول تقوم فيها شريعته ،ول دار
إسلم إل التي يهيمن عليها السلم بمنهجه وقانونه ،وليس وراء اليمان إل الكفر ،وليس دون
()131
َنقْـــلةٌ بَعِيـــدَة
هناك حقيقة أولية ،ينبغي أن تكون واضحة في نفوسنا تماما ونحن نقدم السلم للناس :
الذين يؤمنون به والذين ل يؤمنون به على السواء ..هذه الحقيقة تنبثق من طبيعة الٍسلم ذاته ،
إن السلم تصور مستقل للوجود والحياة ،تصور كامل ذو خصائص متميزة ،ومن َثمّ
ينبثق منه منهج ذاتي مستقل للحياة كلها ،بكل مقوماتها وارتباطاتها ،ويقوم عليه نظام ذو
هذا التصور يخالف مخالفة أساسية سائر التصورات الجاهلية قديما وحديثا .وقد يلتقي مع
هذه التصورات في جزئيات عرضية جانبية ،ولكن الصول التي تنبثق منها هذه الجزئيات مختلفة
ووظيفة السلم الولى هي أن ينشئ حياة إنسانية توافق هذا التصور ،وتمثله في صورة
واقعية ،وأن يقيم في الرض نظاما يتبع المنهج الرباني الذي اختاره ال ،وهو يخرج هذه المة
ن بِالّل ِه }
ن ا ْلمُ ْنكَرِ وَ ُت ْؤمِنُو َ
ف وَتَ ْن َهوْنَ عَ ِ
ن بِا ْل َمعْرُو ِ
س تَ ْأمُرُو َ
ت لِلنّا ِ
{ كُنْتُ ْم خَيْرَ ُأ ّمةٍ ُأخْ ِرجَ ْ
()132
ف وَ َن َهوْا عَنِ
ن َمكّنّا ُهمْ فِي الْ َأرْضِ أَقَامُوا الصّلةَ وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ َوَأمَرُوا بِا ْل َمعْرُو ِ
{ الّذِينَ إِ ْ
وليست وظيفة السلم إذن أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الرض ،ول
الوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان ..لم تكن هذه وظيفته يوم جاء ،ولن تكون هذه وظيفته
وعن المنهج اللهي في الحياة ،واستنباط النظم والشرائع والقوانين والعادات والتقاليد والقيم
والموازين من مصدر آخر غير المصدر اللهي ..السلم وهو السلم ،ووظيفته هي نقل الناس
الجاهلية هي عبودية الناس للناس :بتشريع بعض الناس للناس ما لم يأذن به ال ،كائنة ما
والسلم هو عبودية الناس ل وحده بتلقيهم منه وحده تصوراتهم وعقائدهم وشرائعهم
هذه الحقيقة المنبثقة من طبيعة السلم ،وطبيعة دوره في الرض ،هي التي يجب أن نقدم
إن السلم ل يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية .ل من ناحية التصور ،ول من ناحية
الوضاع المنبثقة من هذا التصور ..فإما إسلم وإما جاهلية .وليس هنالك وضع آخر نصفه
إسلم ونصفه جاهلية ،يقبله السلم ويرضاه ..فنظرة السلم واضحة في أن الحق واحد ل
يتعدد ،وأن ما عدا هذا الحق فهو الضلل .وهما غير قابلين للتلبس والمتزاج .وأنه إما حكم
()133
ال وإما حكم الجاهلية ،وإما شريعة ال ،وإما الهوى ..واليات القرآنية في هذا المعنى متواترة
كثيرة :
ك } [ ..المائدة ] 49 :
الّلهُ إِلَيْ َ
ن } [ ..القصص ] 50 :
مِنَ الّل ِه إِنّ الّل َه ل َيهْدِي ا ْلقَ ْومَ الظّا ِلمِي َ
ن ُيغْنُوا
شرِي َعةٍ مِنَ الْ َأ ْمرِ فَاتّ ِب ْعهَا وَل تَتّ ِبعْ أَ ْهوَا َء الّذِينَ ل َيعْ َلمُونَ ،إِ ّن ُهمْ لَ ْ
جعَلْنَاكَ عَلَى َ
{ ُثمّ َ
] 19
ن } [ ..المائدة ] 50 :
حكْما ِل َق ْومٍ يُوقِنُو َ
ن الّلهِ ُ
حسَنُ مِ َ
ن َأ ْ
حكْمَ ا ْلجَا ِهلِ ّيةِ يَ ْبغُونَ َومَ ْ
{ أَ َف ُ
فهما أمران ل ثالث لهما .إما الستجابة ل والرسول ،وإما اتباع الهوى .إما حكم الجاهلية
.إما الحكم بما أنزل ال كله وإما الفتنة عما أنزل ال ..وليس بعد هذا التوكيد الصريح الجازم من
وظيفة السلم إذن هي إقصاء الجاهلية من قيادة البشرية ،وتولي هذه القيادة على منهجه
الخاص ،المستقل الملمح ،الَصيل الخصائص ..يريد بهذه القيادة الرشيدة الخير للبشرية
واليسر .الخير الذي ينشأ من رد البشرية إلى خالقها ،واليسر الذي ينشأ من التنسيق بين حركة
البشرية ،وتولي هذه القيادة منهجه الخاص ،المستقل ،ترتفع إلى المستوى الكريم الذي أراده ال
لها ،وتخلص من حكم الهوى .أو كما قال ربعي بن عامر حين سأله رستم قائد الفرس :ما الذي
()134
جاء بكم ؟ فكان جوابه " :ال ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة ال وحده ،ومن
ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والخرة ،ومن جور الديان إلى عدل السلم " .
لم يجيء السلم إذن ليربت على شهوات الناس الممثلة في تصوراتهم وأنظمتهم وأوضاعهم
وعاداتهم وتقاليدهم ..سواء منها ما عاصر مجيء السلم ،أو ما تخوض البشرية فيه الن ،في
الشرق أو في الغرب سواء ..إنما جاء هذا كله إلغاءً ،وينسخه نسخا ،ويقيم الحياة البشرية على
أسسه الخاصة .جاء لينشئ الحياة إنشاءً .لينشئ حياة تنبثق منه انبثاقا ،وترتبط بمحوره ارتباطا
.وقد تشابه جزئيات منه جزئيات في الحياة التي يعيشها الناس في الجاهلية .ولكنها ليست هي ،
وليست منها .إنما هي مجرد مصادفة هذا التشابه الظاهري الجانبي في الفروع .أما أصل
الشجرة فهو مختلف تماما .تلك شجرة تطلعها حكمة ال ،وهذه شجرة تطلعها أهواء البشر :
]
وهذه الجاهلية خبثت قديما وخبثت حديثا ..يختلف خبثها في مظهره وشكله ،ولكنه واحد
في مغرسه وأصله ..إنه هوى البشر الجهال المغرضين ،الذين ل يملكون التخلص من جهلهم
وغرضهم ،ومصلحة أفراد منهم أو طبقات أو أمم أو أجناس يغلبونها على العدل والحق والخير .
حتى تجيء شريعة ال فتنسخ هذا كله ،وتشرّع للناس جميعا تشريعا ل يشوبه جهل البشر ،ول
ولن هذا هو الفارق الَصيل بين طبيعة منهج ال ومناهج الناس ،فإنه يستحيل اللتقاء
بينهما في نظام واحد ،ويستحيل التوفيق بينهما في وضع واحد .ويستحيل تلفيق منهج نصفه من
هنا ونصفه من هناك .وكما أن ال ل يغفر أن يشرك به .فكذلك هو ل يقبل منهجا مع منهجه ..
هذه كتلك سواء بسواء .لن هذه هي تلك على وجه اليقين .
()135
هذه الحقيقة ينبغي أن تكون من القوة والوضوح في نفوسنا ونحن نقدم السلم للناس بحيث
ل نتلجلج في الدلء بها ول نتلعثم ،ول ندع الناس في شك منها ،ول نتركهم حتى يستيقنوا أن
السلم حين يفيئون إليه سيبدّل حياتهم تبديلً ..سيبدل تصوراتهم عن الحياة كلها .كما سيبدل
أوضاعهم كذلك .سيبدلها ليعطيهم خيرا منها بما ل يقاس .سيبدلها ليرفع تصوراتهم ويرفع
أوضاعهم ،ويجعلهم أقرب إلى المستوى الكريم اللئق بحياة النسان .ولن يبقى لهم شيئا من
أوضاع الجاهلية الهابطة التي هم فيها ،اللهم إل الجزيئات التي يتصادف أن يكون لها من جزئيات
النظام السلمي شبيه .وحتى هذه لن تكون هي بعينها ،لنها ستكون مشدودة إلى أصل كبير
يختلف اختلفا بيّنا عن الصل الذي هم مشدودون إليه الن :أصل الجاهلية النكد الخبيث ! وهو
في الوقت ذاته لن يسلبهم شيئا من المعرفة " العلمية البحتة " بل سيدفعها قوية إلى المام ..
يجب ألّ ندع الناس حتى يدركوا أن السلم ليس هو أي مذهب من المذاهب الجتماعية
الوضعية ،كما أنه ليس أي نظام من أنظمة الحكم الوضعية ..بشتى أسمائها وشياتها وراياتها
جميعا ..وإنما هو السلم فقط ! السلم بشخصيته المستقلة وتصوره المستقل ،وأوضاعه
المستقلة .السلم الذي يحقق للبشرية خيرا مما تحلم به كله من وراء هذه الوضاع .الٍسلم
وحين ندرك حقيقة السلم على هذا النحو ،فإن هذا الدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب
الناس ونحن نقدم لهم السلم ،في ثقة وقوة ،وفي عطف كذلك ورحمة ..ثقة الذي يستيقن أن ما
معه هو الحق وأن ما عليه الناس هو الباطل .وعطف الذي يرى شقوة البشر ،وهو يعرف كيف
يسعدهم .ورحمة الذي يرى ضلل الناس وهو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى !
لن نتدسس إليهم بالسلم تدسسا .ولن نربت على شهواتهم وتصوراتهم المنحرفة ..
سنكـون صرحاء معهم غاية الصراحة ..هـذه الجاهلية التي أنتم فيها نجس وال يريد أن
()136
يطهركم ..هذه الوضاع التي أنتم فهيا خبث ،وال يريد أن يطيّبكم ..هذه الحياة التي تحيونها
دون ،وال يريد أن يرفعكم ..هذا الذي أنتم فيه شقوة وبؤس ونكد ،وال يريد أن يخفف عنكم
ويرحمكم ويسعدكم ..والسلم سيغير تصوراتكم وأوضاعكم وقيمكم ،وسيرفعكم إلى حياة أخرى
تنكرون معها هذه الحياة التي تعيشونها ،وإلى أوضاع أخرى تحتقرون معها أوضاعكم في مشارق
الرض ومغاربها ،وإلى قيم أخرى تشمئزون معها مـن قيمكم السائدة فـي الرض جميعا ..
وإذا كنتم أنتم -لشقوتكم -لم تروا صورة واقعية للحياة السلمية ،لن أعداءكم -أعداء هذا
الدين -يتكتلون للحيلولة دون قيام هذه الحياة ،ودون تجسد هذه الصورة ،فنحن قد رأيناها -
والحمد ل ممثلة في ضمائرنا من خلل قرآننا وشريعتنا وتاريخنا وتصورنا المبدع للمستقبل الذي
ل نشك في مجيئه !
هكذا ينبغي أن نخاطب الناس ونحن نقدم لهم السلم .لن هذه هي الحقيقة ،ولن هذه هي
الصورة التي خاطب السلم الناس بها أول مرة .سواء في الجزيرة العربية أم في فارس أم في
نظر إليهم من عل ،لن هذه هي الحقيقة .وخاطبهم بلغة الحب والعطف لنها حقيقة كذلك
في طبيعته .وفاصلهم مفاصلة كاملة ل غموض فيها ول تردد لن هذه هي طريقته ..ولم يقل
لهم أبدا :إنه لن يمس حياتهم وأوضاعهم وتصوراتهم وقيمهم إل بتعديلت طفيفة ! أو أنه يشبه
نظمهم وأوضاعهم التي ألفوها ..كما يقول بعضنا اليوم للناس وهو يقدم إليهم السلم ..مرة
تحت عنوان " :ديمقراطية السلم " ! ومرة تحت عنوان " اشتراكية السلم " ! ومرة بأن
طفيفة !!! إلى آخر هذا التدسس الناعم والتربيت على الشهوات !
()137
كل .إن المر مختلف جدا .والنتقال من هذه الجاهلية التي تعم وجه الرض إلى السلم
نقلة واسعة بعيدة ،وصورة الحياة السلمية مغايرة تماما لصور الحياة الجاهلية قديما وحديثا .
وهذه الشقوة التي تعانيها البشرية لن يرفعها عنها تغييرات طفيفة في جزئيات النظم والوضاع .
ولن ينجي البشر منها إل تلك النقلة الواسعة البعيدة .النقلة من مناهج الخلق إلى منهج الخالق ،
ومن نظم البشر إلى نظام رب البشر ،ومن أحكام العبيد إلى حكم رب العبيد .
هذه حقيقة .وحقيقة مثلها أن نجهر بها ونصدع ،وأل ندع الناس في شك منها ول لبس .
وقد يكره الناس هذا في أول المر ،وقد يجفلون منه ويشفقون .ولكن الناس كذلك كرهوا
مثل هذا وأشفقوا منه في أول العهد بالدعوة إلى السلم .أجفلوا وآذاهم أن يحقر محمد -صلى
ال عليه وسلم -تصوراتهم ،ويعيب آلهتهم ،وينكر أوضاعهم ،ويعتزل عاداتهم وتقاليدهم ،
ويتخذ لنفسه وللقلة المؤمنة معه أوضاعا وقيما وتقاليد غير أوضاع الجاهلية وقيمها وتقاليدها .
ثم ماذا ؟ ثم فاؤوا إلى الحق الذي لم يعجبهم أول مرة ،والذي أجفلوا منه :
والذي حاربوه ودافعوه بكل ما يملكون من قوة وحيلة ،والذي عذبوا أهله عذابا شديدا وهم
ضعاف في مكة ،ثم قاتلوهم قتالً عنيدا وهم أقوياء في المدينة ..
ولم تكن الدعوة في أول عهدها في وضع أقوى ول أفضل منها الن ..كانت مجهولة
مستنكرة من الجاهلية ،وكانت محصورة في شعاب مكة ،مطاردة من أصحاب الجاه والسلطان
فيها ،وكانت غريبة في زمانها في العالم كله .وكانت تحف بها امبراطوريات ضخمة عاتية تنكر
كل مبادئها وأهدافها .ولكنها مع هـذا كله كانت قوية ،كما هـي اليوم قوية ،وكما هي غدا
قوية ..إن عناصر القوة الحقيقية كامنة في طبيعة هذه العقيدة ذاتها ،ومن َثمّ فهي تملك أن تعمل
()138
في أسوأ الظروف وأشدها حرجا .إنها تكمن في الحق البسيط الوضاح الذي نقوم عليه .وفي
تناسقها مع الفطرة التي ل تملك أن تقاوم سلطانها طويلً ،وفي قدرتها على قيادة البشرية صعدا
في طريق التقدم ،في أية مرحلة كانت البشرية من التأخر أو التقدم القتصادي والجتماعي
والعلمي والعقلي ..كما أنها تكمن في صراحتها هذه وهي تواجه الجاهلية بكل قواها المادية فل
تخرم حرفا واحدا من أصولها ،ول تربت على شهوات الجاهلية ،ول تتدسس إليها تدسسا .إنما
تصدع بالحق صدعا مع إشعار الناس بأنها خير ورحمة وبركة ..
وال الذي خلق البشر يعلم طبيعة تكوينهم ومداخل قلوبهم ويعلم كيف تستجيب حين تصدع
إن النفس البشرية فيها الستعداد للنتقال الكامل من حياة إلى حياة .وذلك قد يكون أيسر
عليها من التعديلت الجزئية في أحيان كثيرة ..والنتقال الكامل من نظام حياة إلى نظام آخر
أعلى منه وأكمل وأنظف ،انتقال له ما يبرره في منطق الننفس ..ولكن ما الذي يبرر النتقال من
نظام الجاهلية إلى نظام السلم ،إذا كان النظام السلمي ل يزيد إل تغييرا طفيفا هنا ،وتعديلً
طفيفا هناك ؟ إن البقاء على النظام المألوف أقرب إلـى المنطق .لنه على القل نظام قائم ،قابل
للصلح والتعديل ،فل ضرورة لطرحه ،والنتقال إلى نظام غير قائم ول مطبق ،مادام أنه
كذلك نجد بعض الذين يتحدثون عن السلم يقدمونه للناس كأنه منهم يحاولون هم دفع
التهمة عنه ! ومن بين ما يدفعون به أن النظمة الحاضرة تفعل كذا وكذا مما تعيب على السلم
مثله ،وأن السلم لم يصنع شيئا -في هذه المور -إل ما تصنعه " الحضارات " الحديثة بعد
إن السلم ل يتخذ المبررات له من النظم الجاهلية والتصرفات النكدة التي نبعث منها .
وهذه " الحضارات " التي تبهر الكثيرين وتهزم أرواحهم ليست سوى نظم جاهلية في صميمها .
وهي نظم معيبة مهلهلة هابطة حين تقاس إلى السلم ..ول عبرة بأن حال أهلها بخير من حال
السكان في ما يسمى الوطن السلمي أو " العالم السلمي " ! فهؤلء صاروا إلى هذا البؤس
بتركهم للسلم ل لنهم مسلمون ..وحجة السلم التي يدلى بها للناس :إنه خير منها بما ل
يقاس ،وإنه جاء ليغيّرها ل ليقرّها ،وليرفع البشرية عن وهدتها ل ليبارك تمرغها في هذا الوحل
فل تبلغ بنا الهزيمة أن نتلمس للسلم مشابهات في بعض النظمة القائمة ،وفي بعض
المذاهب القائمة ،وفي بعض الفكار القائمة .فنحن نرفض هذه النظمة في الشرق أو في الغرب
سواء ..إننا نرفضها كلها لنها منحطة ومتخلفة بالقياس إلى ما يريـد السلم أن يبلغ بالبشرية
إليه .
وحين نخاطب الناس بهذه الحقيقة ،ونقدم لهم القاعدة العقيدية للتصور السلمي الشامل ،
يكون لديهم في أعماق فطرتهم ما يبرر النتقال من تصور إلى تصور ،ومن وضع إلى وضع .
ولكننا ل نخاطبهم بحجة مقنعة حين نقول لهم :تعالوا من نظام قائم فعلً إلى نظام آخر غير مطبق
،ل يغير في نظامكم القائم إل قليلً .وحجته إليكم أنكم تفعلون في هذا المر وذاك مثلما يفعل هو
،ول يكلفكم إل تغيير القليل من عاداتكم وأوضاعكم وشهواتكم ،وسيبقى لكم كل ما تحرصون
هذا الذي يبدو سهلً فـي ظاهره ،ليس مغريا فـي طبيعته ،فضلً على أنه ليس هو
الحقيقة ..فالحقيقة أن السلم يبدل التصورات والمشاعر ،كما يبدل النظم والوضاع ،كما يبدل
()140
الشرائع والقوانين تبديلً أساسيا ل يمت بصلة إلى قاعدة الحياة الجاهلية ،التي تحياها البشرية ..
ويكفي أنه ينقلهم جملة وتفصيلً من عبادة العباد إلى عبادة ال وحده ..
ن } ..
ن الّلهَ غَنِيّ عَنِ ا ْلعَا َلمِي َ
{ َومَنْ َكفَرَ فَإِ ّ
والمسألة في حقيقتها هي مسألة كفر وإيمان ،مسألة شرك وتوحيد ،مسألة جاهلية وإسلم .
وهذا ما ينبغي أن يكون واضحا ..إن الناس ليسوا مسلمين -كما يدّعون -وهم يحيون حياة
الجاهلية .وإذا كان فيهم من يحب أن يخدع نفسه أو يخدع الخرين ،فيعتقد أن السلم يمكن أن
يستقيم مع هذه الجاهلية فله ذلك .ولكن انخداعه أو خداعه ل يغير من حقيقة الواقع شيئا ..ليس
هذا إسلما ،وليس هؤلء مسلمين .والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلء الجاهلين إلى السلم ،
ونحن ل ندعو الناس إلى السلم لننال منهم أجرا .ول نريد علوّا في الرض ول فسادا .
ول نريد شيئا خاصا لنفسنا إطلقا ،وحسابنا وأجرنا ليس على الناس .إنما نحن ندعو الناس إلى
السلم لننا نحبهم ونريد لهم الخير ..مهما آذونا ..لن هذه هي طبيعة الداعية إلى السلم ،
وهذه هي دوافعه ..ومن َثمّ يجب أن يعلموا منا حقيقة السلم ،وحقيقة التكاليف التي سيطلبها
إليهم ،في مقابل الخير العميق الذي يحمله لهم .كما يجب أن يعرفوا رأينا في حقيقة ما هم عليه
من الجاهلية ..إنها الجاهلية وليست في شيء من السلم ،إنها " الهوى " ما دام أنها ليست هي "
الشريعة " .إنها " الضلل " ما دام أنها ليست هي الحق ..فماذا بعد الحق إل الضلل !
()141
وليس في إسلمنا ما نخجل منه ،وما نضطر للدفاع عنه ،وليس فيه ما نتدسس به للناس
تدسسا ،أو ما نتلعثم في الجهر به على حقيقته ..إن الهزيمة الروحية أمام الغرب وأمام الشرق
وأمام أوضاع الجاهلية هنا وهناك هي التي تجعل بعض الناس " ..المسلمين " ..يتلمس للسلم
موافقات جزئية من النظم البشرية ،أو يتلمس من أعمال " الحضارة " الجاهلية ما يسند به أعمال
إنه إذا كان هناك من يحتاج للدفاع والتبرير والعتذار فليس هو الذي يقدم السلم للناس .
وإنما هو ذاك الذي يحيا في هذه الجاهلية المهلهلة المليئة بالمتناقضات وبالنقائض والعيوب ،ويريد
أن يتلمس المبررات للجاهلية .وهؤلء هم الذين يهاجمون السلم ويلجئون بعض محبيه الذين
يجهلون حقيقته إلى الدفاع عنه ،كأنه متهم مضطر للدفاع عن نفسه في قفص التهام !
بعض هؤلء كانوا يواجهوننا -نحن القلئل المنتسبين إلى السلم -في أمريكا في
السنوات التي قضيتها هناك -وكان بعضنا يتخذ موقف الدفاع والتبرير ..وكنت على العكس أتخذ
موقف المهاجم للجاهلية الغربية ..سواء في معتقداتها الدينية المهلهلة .أو في أوضاعها
الجتماعية والقتصادية والخلقية المؤذية ..هذه التصورات عن القانيم وعن الخطيئة وعن
الفداء ،وهي ل تستقيم في عقل ول ضمير ..وهذه الرأسمالية باحتكارها ورباها وما فيها من
بشاعة كالحة ..وهذه الفردية الثرة التي ينعدم معها التكافل إل تحت مطارق القانون ..وهذا
التصور المادي التافه الجاف للحياة ..وحرية البهائم التي يسمونها " حرية الختلط " ..وسوق
الرقيق التي يسمونها " حرية المرأة " ..والسخف والحرج والتكلف المضاد لواقع الحياة في نظم
الزواج والطلق ،والتفريق العنصري الحادّ الخبيث ..ثم ..ما في السلم من منطق وسمو
وإنسانية وبشاشة ،وتطلع إلى آفاق تطلع البشرية دونها ول تبلغها .ومن مواجهة الواقع في
الوقت ذاته ومعالجته معالجة تقوم على قواعد الفطرة النسانية السليمة .
()142
وكانت هذه حقائق نواجهها في واقع الحياة الغربية ..وهي حقائق كانت تخجل أصاحبها
حين تعرض في ضوء السلم ..ولكن ناسا -يدّعون السلم -ينهزمون أمام ذلك النتن الذي
تعيش فيه الجاهلية ،حتى ليتلمسون للسلم مشابهات في هذا الركاب المضطرب البائس في
ولست في حاجة بعد هذا إلى أن أقول :إننا نحن الذين نقدم السلم للناس ،ليس لنا أن
إن وظيفتنا الولى هي إحلل التصورات السلمية والتقاليد السلمية في مكان هذه
الجاهلية .ولن يتحقق هذا بمجاراة الجاهلية والسير معها خطوات في أول الطريق ،كما قد يخيل
إلى البعض منا ..إن هذا معناه إعلن الهزيمة منذ أول الطريق ..
إن ضغط التصورات الجتماعية السائدة ،والتقاليد الجتماعية الشائعة ،ضغط ساحق
عنيف ،وبخاصة في دنيا المرأة .ولكن ل بد مما ليس منه بد .ل بد أن نثبت أولً ،ول بد أن
نستعلي ثانيا ،ول بد أن نُرى الجاهلية حقيقة الدرك الذي هي فيه بالقياس إلى الفاق العليا
ولن يكون هذا بأن نجاري الجاهلية في بعض الخطوات ،كما أنه لن يكون بأن نقاطعها الن
وننزوي عنها وننعزل ..كل ،إنما هي المخالطة مع التميز ،والخذ والعطاء مع الترفع ،
والصدع بالحق في مودة ،والستعلء باليمان في تواضع .والمتلء بعد هذا كله بالحقيقة
الواقعة .وهي أننا نعيش في وسط جاهلية ،وأننا أهدى طريقا من هذه الجاهلية ،وإنها نقلة بعيدة
()143
واسعة ،هذه النقلة من الجاهلية إلى السلم ،وإنها هوة فاصلة ل يقام فوقها معبر لللتقاء في
منتصف الطريق ،ولكن لينتقل عليه أهل الجاهلية إلى السلم ،سواء كانوا ممن يعيشون فيما
يسمى الوطن السلمي ،ويزعمون أنهم مسلمون ،أو كانوا يعيشون فـي غير الوطن " السلمي
" ،وليخرجوا من الظلمات إلى النور ،ولينجوا من هذه الشقوة التي هم فيها ،وينعموا بالخير
الذي ذقناه نحن الذين عرفنا السلم وحاولنا أن نعيش به ..وإل فلنقل ما أمر ال سبحانه الرسول
ن } [ ...الكافرون ] 6 :
{ َل ُكمْ دِي ُنكُمْ وَِليَ دِي ِ
()144
اسْ ِتعْلءُ الِيمَان
أول ما يتبادر إلى الذهن من هذا التوجيه أنه ينصب على حالة الجهاد الممثلة في القتال ..
ولكن حقيقة هذا التوجيه ومداه أكبر وأبعد من هذه الحالة المفردة ،بكل ملبساتها الكثيرة .
إنه يمثل الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن وتصوره وتقديره للشياء
إنه يمثل حالة الستعلء التي يجب أن تستقر عليها نفس المؤمن إزاء كل شيء ،وكل وضع
،وكل قيمة ،وكل أحد ،الستعلء باليمان وقيمه على جميع القيم المنبثقة من أصل غير أصل
اليمان .
الستعلء على قوى الرض الحائدة عن منهج اليمان .وعلى قيم الرض التي لم تنبثق من
أصل اليمان .وعلى تقاليد الرض التي لم يصغها اليمان ،وعلى قوانين الرض التي لم
الستعلء ..مع ضعف القوة ،وقلة العدد ،وفقر المال ،كالستعلء مع القوة والكثرة
الستعلء الذي ل يتهاوى أمام قوة باغية ،ول عرف اجتماعي ول تشريع باطل ،ول
()145
وليست حالة التماسك والثبات في الجهاد إل حالة واحدة من حالت الستعلء التي يشملها
والستعلء باليمان ليس مجرد عزمة مفردة ،ول نخوة دافعة ،ول حماسة فائرة ،إنما هو
الستعلء القائم على الحق الثابت المركوز فـي طبيعة الوجود .الحق الباقي وراء منطق القوة ،
وتصور البيئة ،واصطلح المجتمع ،وتعارف الناس ،لنه موصول بال الحي الذي ل يموت .
إن للمجتمع منطقه السائد وعرفه العام وضغطه الساحق ووزنه الثقيل ..على من ليس
يحتمي منه بركن ركين ،وعلى من يواجهه بل سند متين . ..وللتصورات السائدة والفكار
الشائعة إيحاؤهما الذي يصعب التخلص منه بغير الستقرار على حقيقة تصغر في ظلها تلك
والذي يقف في وجه المجتمع ،ومنطقه السائد ،وعرفه العام ،وقيمه واعتباراته ،وأفكاره
وتصوراته ،وانحرافاته ونزواته ..يشعر بالغربة كما يشعر بالوهن ،ما لم يكن يستند إلى سند
وال ل يترك المؤمن وحيدا يواجه الضغط ،وينوء به الثقل ،ويهدّه الوهن والحزن ،ومن
يجيء هذا التوجيه .ليواجه الوهن كما يواجه الحزن .هما الشعوران المباشران اللذان
يساوران النفس في هذا المقام ..يواجههما بالستعلء ل بمجرد الصبر والثبات ،والستعلء الذي
()146
ينظر من عل إلى القوى الطاغية ،والقيم السائدة ،والتصورات الشائعة ،والعتبارات والوضاع
إن المؤمن هو العلى ..العلى سندا ومصدرا ..فما تكون الرض كلها ؟ وما يكون
الناس ؟ وما تكون القيم السائدة فـي الرض ؟ والعتبارات الشائعة عند الناس ؟ وهو من ال
وهو العلى إدراكا وتصورا لحقيقة الوجود ..فاليمان بال الواحد في هذه الصورة التي
جاء بها السلم هو أكمل صورة للمعرفة بالحقيقة الكبرى .وحين تقاس هذه الصورة إلى ذلك
الركام من التصورات والعقائد والمذاهب ،سواء ما جاءت به الفلسفات الكبرى قديما وحديثا ،وما
انتهت إليه العقائد الوثنية والكتابية المحرفة ،وما اعتفسته المذاهب المادية الكالحة ..حين تقاس
هذه الصورة المشرقة الواضحة الجميلة المتناسقة ،إلى ذلك الركام وهذه التعسفات ،تتجلى عظمة
العقيدة السلمية كما لم تتجل قط .وما من شك ان الذين يعرفون هذه المعرفة هم العلون على
. ()20
كل من هناك
وهو العلى تصورا للقيم والموازين التي توزن بها الحياة والحداث والشياء والشخاص .
فالعقيدة المنبثقة عن المعرفة بال ،بصفاته كما جاء بها السلم ،ومن المعرفة بحقائق القيم في
الوجود الكبير ل في ميدان الرض الصغير .هذه العقيدة من شأنها أن تمنح المؤمن تصورا للقيم
أعلى وأضبط من تلك الموازين المختلفة في أيدي البشر ،الذين ل يدركون إل ما تحت أقدامهم .
ول يثبتون على ميزان واحد في الجيل الواحد .بل في المة الواحدة .بل في النفس الواحدة من
يراجع فصل " تيه وركام " في كتاب :خصائص التصور السلمي ومقوماته . )(20
()147
وهو العلى ضميرا وشعورا ،وخلقا وسلوكا ..فإن عقيدته في ال ذي السماء الحسنى
والصفات المثلى ،هي بذاتها موحية بالرفعة والنظافة والطهارة والعفة والتقوى ،والعمل الصالح
والخلفة الراشدة .فضلً على إيحاء العقيدة عن الجزاء في الخرة .الجزاء الذي تهون أمامه
متاعب الدنيا وآلمها جميعا .ويطمئن إليه ضمير المؤمن ،ولو خرج من الدنيا بغير نصيب .
وهو العلى شريعة ونظاما .وحين يراجع المؤمن كل ما عرفته البشرية قديما وحديثا ،
ويقيسه إلى شريعته ونظامه ،فسيراه كله أشبه شيء بمحاولت الطفال وخبط العميان ،إلى جانب
الشريعة الناضجة والنظام الكامل .وسينظر إلى البشرية الضالة من عل في عطف وإشفاق على
بؤسها وشقوتها ،ول يجد في نفسه إل الستعلء على الشقوة والضلل .
وهكذا كان المسلمون الوائل يقفون أمام المظاهر الجوفاء ،والقوى المتنفجة ،والعتبارات
التي كانت تتعبد الناس في الجاهلية ..والجاهلية ليست فترة من الزمان ،إنما هي حالة من
الحالت تتكرر كلما انحرف المجتمع عن نهج السلم ،في الماضي والحاضر والمستقبل على
السواء ..
وهكذا وقف المغيرة ابن شعبة أمام صور الجاهلية وأوضاعها وقيمها وتصوراتها في
" عن أبي عثمان النهدي قال :لما جاء المغيرة إلى القنطرة ،فعبرها إلى أهل فارس
أجلسوه ،واستأذنوا رستم في إجازته ،ولم يغيروا شيئا من شارتهم تقوية لتهاونهم ،فأقبل المغيرة
ابن شعبة والقوم في زيهم ،عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب ،وبسطهم على غلوة
( والغلوة مسافة رمية سهم وتقدر بثلثمائة أو أربعمائة خطوة ) ل يصل إلى صاحبهم حتى يمشي
()148
عليها غلوة ،وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى يجلس على سريره ووسادته ،فوثبوا
،فقال :كانت تبلغنا عنكم الحلم ،ول أرى قوما أسفه منكم ، ()21
عليه فترتروه وأنزلوه ومغثوه
إنا معشر العرب سواء ل يستعبد بعضنا بعضا ،إل أن يكون محاربا لصاحبه ؛ فظننت أنكم
تواسون قومكم كما نتواسى .وكان أحسن مـن الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض
،وأن هذا المر ل يستقيم فيكم ،فل تصنعه ،ولم آتكم ولكن دعوتموني .اليوم علمت أن أمركم
مضمحل ،وأنكم مغلوبون ،وأن ملكا ل يقوم على هذه السيرة ول على هذه العقول " .
كذلك وقف ربعي بن عامر مع رستم هذا وحاشيته قبل وقعة القادسية :
" أرسل سعد بن أبي وقاص قبل القادسية ربعي بن عامر رسولً إلى رستم ،قائد الجيوش
الفارسية وأميرهم ،فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير ( ، )22وأظهر
اليواقيت والللىء الثمينة العظيمة ،وعليه تاجه ،وغير ذلك من المتعة الثمينة ،وقد جلس على
سرير من ذهب .ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة .ولم يزل راكبها حتى داس
بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد .وأقبل وعليه سلحه وبيضته على
رأسه .فقالوا له :ضع سلحك فقال :إني لم آتكم ،وإنما جئتكم حين دعوتموني ،فإن تركتموني
هكذا وإل رجعت .فقال رستم :ائذنوا له .فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق لخرق عامتها .
فقال له رستم :ما جاء بكم ؟ فقال :ال ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة ال
وحده ،ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والخرة ،ومن جور الديان إلى عدل السلم .
وتتبدل الحوال ويقف المسلم موقف المغلوب المجرد من القوة المادية ،فل يفارقه شعوره
بأنه العلى .وينظر إلى غالبه من عل ما دام مؤمنا .ويستيقن أنها فترة وتمضي ،وإن لليمان
()149
كرة ل مفر منها .وهبها كانت القاضية فإنه ل يحني لها رأسا .إن الناس كلهم يموتون أما هو
فيستشهد .وهو يغادر هذه الرض إلى الجنة ،وغالبه يغادرها إلى النار .وشتان شتان .وهو
س ا ْل ِمهَادُ َ ،لكِنِ
جهَنّمُ وَبِئْ َ
ب الّذِينَ َكفَرُوا فِي الْبِل ِد ،مَتَاعٌ قَلِيلٌ ُث ّم مَ ْأوَا ُهمْ َ
{ ل َيغُرّنّكَ َتقَلّ ُ
وتسود المجتمع عقائد وتصورات وقيم وأوضاع كلها مغاير لعقيدته وتصوره وقيمه
وموازينه ،فل يفارقه شعوره بأنه العلى ،وبأن هؤلء كلهم في الموقف الدون .وينظر إليهم من
عل في كرامة واعتزاز ،وفـي رحمة كذلك وعطف ،ورغبة في هدايتهم إلى الخير الذي معه ،
ويضج الباطل ويصخب ،ويرفع صوته وينفش ريشه ،وتحيط به الهالت المصطنعة التي
تغشي على البصار والبصائر ،فل ترى ما وراء الهالت مـن قبح شائه دميم ،وفجـر كالح
لئيم ..وينظر المؤمن مـن عل إلى الباطل المنتفش ،وإلى الجموع المخدوعة ،فل يهن ول
يحزن ،ول ينقص إصراره على الحق الذي معه ،وثباته على المنهج الذي يتبعه ،ول تضعف
ويغرق المجتمع فـي شهواته الهابطة ،ويمضي مع نزواته الخليعة ،ويلصق بالوحل
والطين ،حاسبا أنه يستمتع وينطلق من الغلل والقيود .وتعز في مثل هذا المجتمع كل متعة
بريئة وكل طيبة حلل ،ول يبقى إل المشروع السن ،وإل الوحل والطين ..وينظر المؤمن من
عل إلى الغارقين في الوحل اللصقين بالطين .وهو مفرد وحيد ،فل يهن ول يحزن ،ول تراوده
()150
نفسه أن يخلع رداءه النظيف الطاهر ،وينغمس في الحمأة ،وهو العلى بمتعة اليمان ولذة اليقين
.
ويقف المؤمن قابضا على دينه كالقابض على الجمر في المجتمع الشارد عن الدين ،وعن
الفضيلة ،وعن القيم العليا ،وعن الهتمامات النبيلة ،وعن كل ما هو طاهر نظيف جميل ..
ويقف الخرون هازئين بوقفته ،ساخرين من تصوراته ،ضاحكين من قيمه ..فما يهن المؤمن
وهو ينظر من عل إلى الساخرين والهازئين والضاحكين ،وهو يقول كما قال واحد من الرهط
الكرام الذين سبقوه في موكب اليمان العريق الوضيء ،في الطريق اللحب الطويل ..نوح عليه
السلم ..
وهو يرى نهاية الموكب الوضيء ،ونهاية القافلة البائسة في قوله تعالى :
ن َ ،وإِذَا َرَأوْ ُهمْ قَالُوا إِنّ َهؤُل ِء لَضَالّونَ َ ،ومَا أُ ْرسِلُوا عَلَ ْي ِهمْ
انْقَلَبُوا إِلَى أَ ْهِل ِهمُ انْقَلَبُوا َف ِكهِي َ
ب ا ْلكُفّا ُر مَا
ك يَ ْنظُرُونَ َ ،هلْ ُثوّ َ
حكُونَ ،عَلَى الْأَرَائِ ِ
ضَن ا ْلكُفّا ِر يَ ْ
ن آمَنُوا مِ َ
حَا ِفظِينَ ،فَالْ َي ْومَ الّذِي َ
ن خَيْرٌ َمقَاما
ن آمَنُوا َأيّ ا ْلفَرِيقَيْ ِ
علَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَا َل الّذِينَ َكفَرُوا لِلّذِي َ
{ َوإِذَا تُتْلَى َ
أي الفريقين ؟ الكبراء الذين ل يؤمنون بمحمد ؟ أم الفقراء الذين يلتفـون حوله ؟ أي
الفريقين ؟ النضر بن الحارث ،وعمرو بن هشام ،والوليد بن المغيرة ،وأبو سفيان بن حرب ؟
()151
أم بلل وعمار وصهيب وخباب ؟ أفلو كان ما يدعو إليه محمد خيرا أفكان أتباعه يكونون هم
هؤلء النفر ،الذين ل سلطان لهم في قريش ول خطر ،وهم يجتمعون في بيت متواضع كدار
الرقم ،ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب الندوة الفخمة الضخمة ،والمجد والجاه والسلطان ؟!
إنه منطق الرض ،منطق المحجوبين عن الفاق العليا في كل زمان ومكان .وإنها لحكمة
ال أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلء عاطلة من عوامل الغراء ،ل قربى من حاكم ،
ول اعتزاز بسلطان ،ول هتاف بلذة ،ول دغدغة لغريزة .وإنما هو الجهد والمشقة والجهاد
والستشهاد ..ليقبل عليها من يقبل ،وهو على يقين من نفسه أنه يريدها لذاتها خالصة ل من
دون الناس ،ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات ،ولينصرف عنها من يبتغي المطامع
والمنافع ،ومن يشتهي الزينة والبهة ،ومن يطلب المال والمتاع ،ومن يقيم لعتبارات الناس
إن المؤمن ل يستمد قيمه وتصوراته وموازينه من الناس حتى يأسى على تقدير الناس ،إنما
يستمدها من رب الناس وهو حسبه وكافيه ..إنه ل يستمدها من شهوات الخلق حتى يتأرجح مع
شهوات الخلق ،إنما يستمدها من ميزان الحق الثابت الذي ل يتأرجح ول يميل ..إنه ل يتلقاها
من هذا العالم الفاني المحدود ،وإنما تنبثق في ضميره من ينابيع الوجود ..فأنّى يجد في نفسه
وهنا أو يجد في قلبه حزنا ،وهو موصول برب الناس وميزان الحق وينابيع الوجود ؟
إنه على الحق ..فماذا بعد الحق إل الضلل ؟ وليكن للضلل سلطانه ،وليكن له هيله
وهيلمانه ،ولتكن معه جموعه وجماهيره ..إن هذا ل يغير من الحق شيئا ،إنه على الحق وليس
بعد الحق إل الضلل ،ولن يختار مؤمن الضلل على الحق -وهو مؤمن -ولن يعدل بالحق
()152
ك أَنْتَ ا ْلوَهّابُ ،رَبّنَا إِنّكَ
ح َمةً إِنّ َ
ن لَدُنْكَ َر ْ
{ رَبّنَا ل ُتزِغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِ ْ
()153
هَذَا ُهوَ الطَرِيْق
ب الُْأخْدُودِ ،
صحَا ُ
شهُودٍ ،قُ ِتلَ أَ ْ
ت الْبُرُوجِ ،وَالْ َي ْومِ ا ْل َموْعُودِ َ ،وشَاهِ ٍد َو َم ْ
سمَاءِ ذَا ِ
{ وَال ّ
شهِيدٌ ،
يءٍ َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَالّل ُه عَلَى ُكلّ شَ ْ
حمِيدِ ،الّذِي َلهُ مُ ْلكُ ال ّ
ن ُي ْؤمِنُوا بِالّل ِه ا ْلعَزِيزِ ا ْل َ
إِلّا أَ ْ
ب ا ْلحَرِيقِ ،إِنّ
جهَ ّنمَ وَ َل ُهمْ عَذَا ُ
ت ُثمّ َلمْ يَتُوبُوا فَ َل ُهمْ عَذَابُ َ
ن وَا ْل ُمؤْمِنَا ِ
إِنّ الّذِينَ فَتَنُوا ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
يُرِيدُ } ...
إن قصة أصحاب الخدود -كما وردت في سورة البروج -حقيقة بأن يتأملها المؤمنون
الداعون إلى ال في كل أرض وفي كل جيل .فالقرآن بإيرادها في هذا السلوب مع مقدمتها
والتعقيبات عليها ،والتقريرات والتوجيهات المصاحبة لها ..كان يخط بها خطوطا عميقة في
تصور طبيعة الدعوة إلى ال ،ودور البشر فيها ،واحتمالتها المتوقعة في مجالها الواسع -وهو
أوسع رقعة من الرض ،وأبعد مدى من الحياة الدنيا -وكان يرسم للمؤمنين معالم الطريق ،
ويعدّ نفوسهم لتلقي أي من هذه الحتمالت التي يجري بها القدر المرسوم ،وفق الحكمة المكنونة
إنها قصة فئة آمنت بربها ،واستعلنت حقيقة إيمانها .ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين
بطاشين مستهترين بحق " النسان " في حرية العتقاد بالحق واليمان بال العزيز الحميد ،
()154
وبكرامة النسان عند ال عن أن يكون لعبة يتسلى بها الطغاة بآلم تعذيبها ،ويتلهون بمنظرها في
وقد ارتفع اليمان بهذه القلوب على الفتنة ،وانتصرت فيها العقيدة على الحياة ،فلم ترضخ
لتهديد الجبارين الطغاة ،ولم تفتن عن دينها ،وهي تحرق بالنار حتى تموت .
لقد تحررت هذه القلوب من عبوديتها للحياة ،فلم يستذلها حب البقاء وهي تعاين الموت بهذه
الطريقة البشعة ،وانطلقت من قيود الرض وجواذبها جميعا ،وارتفعت على ذواتها بانتصار
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخيّرة الرفيقة الكريمة كانت هناك جبلت جاحدة شريرة
مجرمة لئيمة .وجلس أصحاب هذه الجبلت على النار .يشهدون كيف يتعذب المؤمنون ويتألمون
.جلسوا يتلهون بمنظر الحياة تأكلها النار ،والناسي الكرام يتحولون وقودا وترابا .وكلما ألقي
فتى أو فتاة ،صبية أو عجوز ،طفل أو شيخ ،مـن المؤمنين الخيرين الكرام في النار ،ارتفعت
هذا هو الحادث البشع الذي انتكست فيه جبلت الطغاة وارتكست في هذه الحمأة ،فراحت
تلتذ مشهد التعذيب المروع العنيف ،بهذه الخساسة التي لم يرتكس فيها وحش قط ،فالوحش
وهو ذاته الحادث الذي ارتفعت فيه أرواح المؤمنين وتحررت وانطلقت إلى ذلك الوج
()155
في حساب الرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على اليمان .وإن هذا اليمان الذي بلغ
الذروة العالية ،في نفوس الفئة الخيرة الكريمة الثابتة المستعلية ..لم يكن له وزن ول حساب في
ول تذكر الروايات التي وردت في هذا الحادث ،كما ل تذكر النصوص القرآنية ،أن ال قد
أخذ أولئك الطغاة في الرض بجريمتهم البشعة ،كما أخذ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم
شعيب وقوم لوط .أو كما أخذ فرعون وجنوده أخذ عزيز مقتدر .
أفهكذا ينتهي المر ،وتذهب الفئة المؤمنة التي ارتفعت إلى ذروة اليمان ؟ تذهب مع آلمها
الفاجعة في الخدود ؟ بينما تذهب الفئة الباغية ،التي ارتكست إلى هذه الحمأة ،ناجية ؟
ولكن القرآن يعلّم المؤمنين شيئا آخر ،ويكشف لهم عن حقيقة أخرى ،ويبصرهم بطبيعة
إن الحياة وسائر ما يلبسها من لذائذ وآلم ،ومن متاع وحرمان ..ليست هي القيمة
الكبرى في الميزان ..وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة .والنصر ليس
مقصورا على الغلبة الظاهرة .فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة .
إن القيمة الكبرى في ميزان ال هي قيمة العقيدة ،وإن السلعة الرائجة في سوق ال هي
سلعة اليمان .وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة ،وانتصار العقيدة على
اللم ،وانتصار اليمان على الفتنة ..وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف
()156
واللم ،وانتصرت على جواذب الرض والحياة ،وانتصرت على الفتنة انتصارا يشرف الجنس
إن الناس جميعا يموتون ،وتختلف السباب .ولكن الناس جميعا ل ينتصرون هذا النتصار
،ول يرتفعون هذا الرتفاع ،ول يتحررون هذا التحرر ،ول ينطلقون هذا النطلق إلى هذه
الفاق ..إنما هو اختيار ال وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت ،وتنفرد
دون الناس في المجد ،المجد في المل العلى ،وفي دنيا الناس أيضا .إذا نحن وضعنا في
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة ليمانهم .ولكن كم كانوا
يخسرون هم أنفسهم ؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر ؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى
الكبير ،معنى زهادة الحياة بل عقيدة ،وبشاعتها بل حرية ،وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على
إنه معنى كريم جدا ،ومعنى كبير جدا ،هذا الذي ربحوه وهم بعد في الرض ،ربحوه
وهم يجدون مس النار ،فتحرق أجسادهم الفانية ،وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار !
ثم إن مجال المعركة ليس هو الرض وحدها ،وليس هو الحياة الدنيا وحدها .وشهود
المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الجيال .إن المل العلى يشارك في أحداث الرض
ويشهدها ويشهد عليها ،ويزنها بميزان غير ميزان الرض في جيل من أجيالها ،وغير ميزان
الرض في أجيالها جميعا .والمل العلى يضم من الرواح الكريمة أضعاف أضعاف ما تضم
الرض من الناس ..وما من شك أن ثناء المل العلى وتكريمه أكبر وأرجح في أي ميزان من
()157
وبعد ذلك كله هناك الخرة .وهي المجال الصيل الذي يلحق به مجال الرض ،ول
ينفصل عنه ،ل في الحقيقة الواقعة ،ول في حس المؤمن بهذه الحقيقة .
فالمعركة إذن لم تنته ،وخاتمتها الحقيقية لم تجيء بعد ،والحكم عليها بالجزء الذي عرض
منها على الرض حكم غير صحيح ،لنه حكم على الشطر الصغير منها والشطر الزهيد .
والنظرة الثانية الشاملة البعيدة المدى هي التي يروض القرآن المؤمنين عليها ،لنها تمثل الحقيقة
ومن ثم وعد ال للمؤمنين جزاء على اليمان والطاعة ،والصبر على البتلء ،والنتصار
. ] 28
قال رسول ال -صلى ال عليه وسلم -إذا مات ولد العبد قال ال لملئكته :قبضتم ولد
عبدي ؟ فيقولون :نعم .فيقول :قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون :نعم .فيقول :ماذا قال عبدي ؟
فيقولون :حمدك واسترجع .فيقول :ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسمّوه بيت الحمد " [ ...أخرجه
الترمذي ] .
()158
وقال صلى ال عليه وسلم :يقول ال عز وجل :أنا عند ظن عبدي بي ،وأنا معه حين
يذكرني ،فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ،وإن ذكرني في مل ذكرته في مل خير منه .
ن لِلّذِينَ
حمْدِ رَ ّب ِهمْ وَ ُي ْؤمِنُونَ ِب ِه وَ َيسْ َتغْفِرُو َ
ن ِب َ
حوْ َلهُ ُيسَ ّبحُو َ
ن َ
ن ا ْلعَرْشَ َومَ ْ
حمِلُو َ
{ الّذِينَ َي ْ
جحِي ِم }
ن تَابُوا وَاتّ َبعُوا سَبِيَلكَ وَ ِق ِهمْ عَذَابَ ا ْل َ
غفِ ْر لِلّذِي َ
ح َم ًة وَعِلْما فَا ْ
سعْتَ ُكلّ شَيْءٍ َر ْ
آمَنُوا رَبّنَا َو ِ
[ غافر . ] 7 :
ن ِبمَا
ن الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الّل ِه َأ ْموَاتا َب ْل َأحْيَاءٌ عِنْدَ رَ ّب ِهمْ يُرْ َزقُونَ ،فَ ِرحِي َ
حسَبَ ّ
{ وَل َت ْ
كما كان وعده المتكرر بأخذ المكذبين والطغاة والمجرمين في الخرة والملء لهم في
الرض والمهال إلى حين ..وإن كان أحيانا قد أخذ بعضهم في الدنيا ..ولكن التركيز كله على
س ا ْل ِمهَادُ } [ آل
جهَنّمُ وَبِئْ َ
ب الّذِينَ َكفَرُوا فِي الْبِل ِد ،مَتَاعٌ قَلِيلٌ ُث ّم مَ ْأوَا ُهمْ َ
{ ل َيغُرّنّكَ َتقَلّ ُ
()159
شخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ،
ن إِ ّنمَا ُي َؤخّ ُر ُهمْ لِ َي ْومٍ َت ْ
عمّا َي ْعمَلُ الظّا ِلمُو َ
ل َ
ن الّلهَ غَافِ ً
حسَبَ ّ
{ وَل َت ْ
سهِمْ ل يَرْتَ ّد إِلَ ْي ِهمْ طَرْ ُف ُهمْ َوأَفْئِدَ ُت ُهمْ َهوَا ٌء } [ ..إبراهيم . ] 43 - 42 :
ن ُمقْنِعِي ُرؤُو ِ
ُم ْهطِعِي َ
وهكذا اتصلت حياة الناس بحياة المل العلى ،واتصلت الدنيا بالخرة ،ولم تعد الرض
وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر ،والحق والباطل ،واليمان والطغيان .ولم تعد
الحياة الدنيا هي خاتمة المطاف ،ول موعد الفصل في هذا الصراع ..كما أن الحياة وكل ما
يتعلق بها من لذائد وآلم ومتاع وحرمان ،لم تعد هي القيمة العليا في الميزان .
انفسح المجال في المكان ،وانفسح المجال في الزمان ،وانفسح المجال فـي القيم
والموازين ،واتسعت آفاق النفس المؤمنة ،وكبرت اهتماماتها ،فصغرت الرض وما عليها ،
والحياة الدنيا وما يتعلق بها ،وكبر المؤمن بمقدار ما رأى وما عرف من الفاق والحيوات ،
وكانت قصة أصحاب الخدود في القمة في إنشاء هذا التصور اليماني الواسع الشامل الكبير
الكريم .
هناك إشعاع آخـر تطلقه قصة أصحاب الخدود وسورة البروج حول طبيعة الدعوة إلى ال
لقد شهد تاريخ الدعوة إلى ال نماذج منوعة من نهايات في الرض مختلفة للدعوات ..
()160
شهد مصارع قوم نوح ،وقوم هود ،وقوم شعيب ،وقوم لوط ،ونجاة الفئة المؤمنة القليلة
العدد ،مجرد النجاة .ولم يذكر القرآن للناجين دورا بعد ذلك في الرض والحياة .وهذه النماذج
تقرر أن ال سبحانه وتعالى يريد أحيانا أن يعجّل للمكذبين الطغاة بقسط من العذاب في الدنيا ،أما
وشهد تاريخ الدعوة مصرع فرعون وجنوده ،ونجاة موسى وقومه ،مع التمكين للقوم في
الرض فترة كانوا فيها أصلح ما كانوا في تاريخهم .وإن لم يرتقوا قط إلى الستقامة الكاملة ،
وإلى إقامة دين ال في الرض منهجا للحياة شاملً ..وهذا نموذج غير النماذج الولى .
وشهد تاريخ الدعوة كذلك مصرع المشركين الذين استعصوا على الهدى واليمان بمحمد -
صلى ال عليه وسلم -وانتصار المؤمنين انتصارا كاملً ،مع انتصار العقيدة في نفوسهم انتصارا
عجيبا .وتم للمرة الوحيدة في تاريخ البشرية أن أقيم منهج ال مهيمنا على الحياة في صورة لم
وشهد نماذج أخرى أقل ظهورا في سجل التاريخ اليماني في القديم والحديث .وما يزال
يشهد نماذج تتراوح بين هذه النهايات التي حفظها على مدار القرون .
ولم يكن بدّ من النموذج الذي يمثله حادث الخدود ،إلى جانب النماذج الخرى .القريب
لم يكن بد من هذا النموذج الذي ل ينجو فيه المؤمنون ،ول يؤخذ فيه الكافرون ! ذلك
ليستقر في حس المؤمنين -أصحاب دعوة ال -أنهم قد يدعون إلى نهاية كهذه النهاية في طريقهم
إلى ال .وأن ليس لهم من المر شيء ،إنما أمرهم وأمر العقيدة إلى ال !
()161
إن عليهم أن يؤدوا واجبهم ،ثم يذهبوا ،وواجبهم أن يختاروا ال ،وأن يؤثروا العقيدة على
الحياة ،وأن يستعلوا باليمان على الفتنة وأن يصدقوا ال في العمل والنية .ثم يفعل ال بهم
وبأعدائهم ،كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء .وينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها
إنهم أجراء عند ال .أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا ،عملوا وقبضوا الجـر
المعلوم ! وليس لهم ول عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ،فذلك شأن صاحب المر ل شأن
الجير !
وهم يقبضون الدفعة الولى طمأنينة في القلب ،ورفعة في الشعور ،وجمالً في التصور ،
وانطلقا من الوهاق والجواذب ،وتحررا من الخوف والقلق ،في كل حال من الحوال .
وهم يقبضون الدفعة الثانية ثناء في المل العلى وذكرا وكرامة ،وهم بعد في هذه الرض
الصغيرة .
ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الخرة حسابا يسيرا ونعيما كبيرا .
ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعا .رضوان ال ،وانهم مختارون ليكونوا أداة لقدره
وهكذا انتهت التربية القرآنية بالفئة المختارة من المسلمين في الصدر الول إلى هذا
التطور ،الذي أطلقهم من أمر ذواتهم وشخوصهم .فأخرجوا أنفسهم من المر البتة ،وعملوا
أجراء عند صاحب المر ورضوا خيرة ال على أي وضع وعلى أي حال .
()162
وكانت التربية النبوية تتمشى مع التوجيهات القرآنية ،وتوجه القلوب والنظار إلى الجنة ،
وإلى الصبر على الدور المختار حتى يأذن ال بما يشاء في الدنيا والخرة سواء .
كان -صلى ال عليه وسلم -يرى عمارا وأمه وأباه -رضي ال عنهم -يعذبون العذاب
الشديد في مكة ،فما يزيد على أن يقول " :صبرا آل ياسر .موعدكم الجنة " ..
وعن خبّاب بن الرثّ -رضي ال عنه -قال :شكونا إلى رسول ال -صلى ال عليه
وسلم -وهو متوسد برده في ظل الكعبة ،فقلنا :أل تستنصر لنا ؟ أو تدعو لنا ؟ فقال " :قد كان
من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الرض فيجعل فيها ،ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه
فيجعل نصفين .ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه .ما يبعده ذلك عن دينه .وال
ليتممن ال تعالى هذا المر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ،فل يخاف إل ال ،
إن ل حكمة وراء كل وضع ووراء كل حال ،ومدبر هذا الكون كله ،المطلع على أوله
وآخره ،المنسق لحداثه وروابطه .هو الذي يعرف الحكمة المكونة في غيبه المستور ،الحكمة
وفي بعض الحيان يكشف لنا -بعد أجيال وقرون -عن حكمة حادث لم يكن معاصروه
يدركون حكمته ،ولعلهم كانوا يسألون لماذا ؟ لماذا يا رب يقع هذا ؟ وهذا السؤال نفسه هو الجهل
الذي يتوقاه المؤمن .لنه يعرف ابتداء أن هناك حكمة وراء كل قدر ،ولن سعة المجال في
تصوره ،وبعد المدى في الزمان والمكان والقيم والموازين تغنيه عن التفكير ابتداء في مثل هذا
()163
لقد كان القرآن ينشئ قلوبا يعدها لحمل المانة ،وهذه القلوب كان يجب أن تكون من
الصلبة والقوة والتجرد بحيث ل تتطلع -وهي تبذل كل شيء ،وتحتمل كل شيء -إلى شيء
في هذه الرض ،ول تنظر إل إلى الخرة ،ول ترجو إل رضوان ال ،قلوبا مستعدة لقطع رحلة
الرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية حتى الموت .بل جزاء في هذه الرض
قريب ،ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة ،وغلبة السلم وظهور المسلمين ،بل لو كان
هذا الجزاء هو هلك الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بالمكذبين الولين !
حتى إذا وجدت هذه القلوب ،التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الرض إل أن تعطي بل
مقابل -أي مقابل -وأن تنتظر الخرة وحدها موعدا للفصل بين الحق والباطل .حتى إذا وجدت
هذه القلوب ،وعلم ال منها صدق نيّتها على ما بايعت وعاهدت ،آتاها النصر في الرض ،
وائتمنها عليه .ل لنفسها ،ولكن لتقوم بأمانة المنهج اللهي وهي أهل لداء المانة منذ كانت لم
توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ،ولم تتطلع إلى شئ من الغنم في الرض تعطاه .وقد
وكل اليات التي ذكر فيها النصر ،وذكر فيها المغانم ،وذكر فيها أخذ المشركين في
الرض بأيدي المؤمنين نزلت في المدينة ..بعد ذلك ..وبعد أن أصبحت هذه المور خارج
برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه .وجاء النصر ذاته لن مشيئة ال اقتضت أن تكون لهذا المنهج
واقعية في الحياة النسانية ،تقرره في صورة عملية محددة تراها الجيال ..فلم يكن جزاء على
التعب والنصب والتضحية واللم ،إنما كان قدرا من قدر ال تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها
الن !
وهذه اللفتة جديرة بأن يتدبرها الدعاة إلى ال ،في كل أرض وفي كل جيل .فهي كفيلة بأن
تريهم معالم الطريق واضحة بل غبش ،وأن تثبّت خطى الذين يريدون أن يقطعوا الطريق إلى
()164
نهايته ،كيفما كانت هذه النهاية .ثم يكون قدر ال بدعوته وبهم ما يكون ،فل يتلفتون في أثناء
الطريق الدامي المفروش بالجماجم والشلء ،وبالعرق والدماء ،إلى نصر أو غلبة ،أو فيصل
بين الحق والباطل في هذه الرض ..ولكن إذا كان ال يريد أن يصنع بهم شيئا من هذا لدعوته
ولدينه فسيتم ما يريده ال ..ل جزاء على اللم والتضحيات ..ل ،فالرض ليست دار جزاء ..
وإنما تحقيقا لقدر ال في أمر دعوته ومنهجه على أيدي ناس من عباده يختارهم ليمضي بهم من
المر ما يشاء ،وحسبهم هذا الختيار الكريم ،الذي تهون إلى جانبه وتصغر هذه الحياة ،وكل ما
هنالك حقيقة أخرى يشير إليها أحد التعقيبات القرآنية على قصة الخدود في قوله تعالى :
حمِيدِ } ..
ن ُي ْؤمِنُوا بِالّل ِه ا ْلعَزِي ِز ا ْل َ
{ َومَا َن َقمُوا مِ ْن ُهمْ إِلّا أَ ْ
حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى ال في كل أرض وفي كل جيل .
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئا آخر على
الطلق .وإن خصومهم ل ينقمون منهم إل اليمان ،ول يسخطون منهم إل العقيدة ..
إنها ليست معركة سياسية ول معركة اقتصادية ،ول معركة عنصرية ..ولو كانت شيئا
من هذا لسهل وقفها ،وسهل حل إشكالها .ولكنها في صميمها معركة عقيدة -إما كفر وإما إيمان
ولقد كان كبار المشركين يعرضون على رسول ال -صلى ال عليه وسلم -المال والحكم
والمتاع في مقابل شيء واحد ،أن يدع معركة العقيدة وأن يدهن في هذا المر ! ولو أجابهم -
حاشاه -إلى شيء مما أرادوا ما بقيت بينهم وبينه معركة على الطلق !
()165
إنها قضية عقيدة ومعركة عقيدة ..وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدوا
لهم .فإنه ل يعاديهم لشيء إل لهذه العقيدة " إل أن يؤمنوا بال العزيز الحميد " ويخلصوا له وحده
الطاعة والخضوع !
وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة ،راية اقتصادية أو
سياسية أو عنصرية ،كي يموّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة ،ويطفئوا في أرواحهم شعلة
العقيدة .فمن واجب المؤمنين أل يُخدَعوا ،ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويه لغرض مبيت .
وأن الذي يغيّر راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلح النصر الحقيقي فيها ،النصر في أية
صورة من الصور ،سواء جاء في صورة النطلق الروحي كما وقع للمؤمنين في حادث الخدود
،أو في صورة الهيمنة -الناشئة من النطلق الروحي -كما حدث للجيل الول من المسلمين .
ونحن نشهد نموذجا من تمويه الراية في محاولة الصليبية العالمية اليوم أن تخدعنا عن
حقيقة المعركة ،وأن تزور التاريخ ،فتزعم لنا أن الحروب الصليبية كانت ستارا للستعمار ..
كل ..إنما كان الستعمار الذي جاء متأخرا هو الستار للروح الصليبية التي لم تعد قادرة على
السفور كما كانت في القرون الوسطى ! والتي تحطمت على صخرة العقيدة بقيادة مسلمين من
شتى العناصر ،وفيهم صلح الدين الكردي ،وتوران شاه المملوكي ،العناصر التي نسيت
حمِيدِ } .
ن ُي ْؤمِنُوا بِالّل ِه ا ْلعَزِي ِز ا ْل َ
{ َومَا َن َقمُوا مِ ْن ُهمْ إِلّا أَ ْ
()166
موقعنا على النترنت
منبر التوحيد والجهاد
http://www.tawhed.ws
http://www.almaqdese.com
http://www.alsunnah.info
)167(
الفهرس
()168
156 ……………………………………………… هذا هو الطريق
()169