Professional Documents
Culture Documents
واليقاع الموسيقي
تأليف
حسن شعراوي
hasansalehsharawy@yahoo.com
hsharawy2010@gmail.com
وهذا ل يتأتى للشعر إل بالموسيقى التي تتفاعل فيها الموسيقى الخارجية الناتجة عن الوزن الشعري ،وأنظمة
تشكيل القوافي ،مع الموسيقى الداخلية المنبثقة من جوانية النسق المش ّ
كل للدوال التعبيرية ،بكافة مجالته بدأ
بتضام الصوت إلى الصوت ،مرورا بتعانق الكلمة بالكلمة ،وانتهاء بتشابك الجملة بالجملة ،مع ما ينضاف إلى ذلك
من تسخير لطاقات البنى الدللية حيث تكون مادتها اللغة :صوتا ومعنى محاور استبدالية ،تتوظف فيها المعادلت
الصوتية واليقاعية وسواهما ،ومن خلل توزيع النغم الصوتي على وحدات زمانية بتناسق مخصوص ،ينتج اليقاع
الشعري المموسق ،الذي يثير النفس البشرية ،ويبعث فيها مشاعر منشطة أو مهدئة حسب طبيعة التجاوب النغمي
شدة ولين ،واليقاع الموسيقي بهذا المعنى ،يضفي إلى عناصر التشكيل قوة جمالية ،يكاد يفتقدها الشعر إن لم
م الوحدات الصوتية ،وتهندس التشكيلت اليقاعية ،وتوزعها توجد فيه عناصر الموسيقى بكافة أشكالها ،التي ت ُن َظ ّ ُ
على حيز من الزمن يستفرغ الشحنات العاطفية ،والدفقات الشعورية بما يصاحبها من إثارة الفكر والخيال في
سب َْر أغواره السحيقة واستكناه أسرارها.وبذلك تعتبر
خضم التجربة الشعرية ،فيندفع المتلقي مع الشاعر محاول َ
الموسيقى "وسيلة من أقوى وسائل اليحاء ،وأقدرها على التعبير عن كل ما هو عميق وخفي في النفس مما ل
ه؛ ولهذا فهي من أقوى وسائل اليحاء سلطانا على النفس وأعمقها تأثيرا فيها. يستطيع الكلم أن ُيعّبر عن ُ
وتكون براعة الشاعر في قدرته على صياغة قالبه الشعري ،مازجا فيه بين كافة المكانيات التصويرية المكانية حيث
تشكيل الصورة ل ينفصل عن تشكيل الحيز الزماني متمثل في التوقيعات الّنغمية التي تثري الدللة وتعمقها،
بإيحاءاتها الثرية المتنوعة ،التي تتضافر مع كافة المكانيات لبلورة جماليات النص في نسق تشكيله النهائي ،فاليقاع
علقة بين الكلمات والحروف والمفردة ،وما يجاورها من أنساق صوتية وتعبيرية ،وحالة نفسية تنشأ عن صوت
وتوقع وعن علقات غامضة تثيرها جوانية اللغة ،كما يثيرها النغم ،والشاعر ينجح بقدر ما يستطيع تفعيل دور
الموسيقى الخارجية بإيقاعاتها المميزة ،في الوقت ذاته الذي يستطيع فيه أن يمزج بين عناصر الموسيقى الداخلية
منتجا إيقاعا مميزا لكل حالة شعورية.
وفي هذا السياق ينبغي التنبيه إلى أن امتلك القدرة على التشكيل اليقاعي موهبة عظيمة تحتاج إلى صقل وتنمية
متواصلة ،وحس مرهف يوائم بين جماليات النسق؛ فتتآلف الصور مع اليقاع لتنتج صورة كلية متكاملة تدهش وتنتج
دللت متشظية في بنية النص تكتشف بالحتكاك والقراءة مرة تلو مرة.
معني الشعر في موسيقاه
الشاعر والمفكر الكبير احمد عبدالمعطي حجازي
اود ان اعرب لكم عن اعجابي الشديد بمقالتكم الخيره عن قصيده النثر ,وهو اعجاب لم ينتقص منه اختلفي
معكم حول بعض التفاصيل التي جاءت بهذه المقالت ,اذ ان التفاصيل هنا ل تهم مادمنا نتفق علي الصول والفكار
الرئيسيه .ومناط اعجابي ان مقالتكم قد واجهت بجراه وبكثافه ما يمكن ان نسميه بسلطه قصيده النثر في حياتنا
الدبيه ,وكشفت بطريقه التعريه عن ازمه حقيقيه في واقعنا الدبي والثقافي عموما ..ازمه ل تكمن فحسب في
مساله قصيده النثر علي نحو يستدعي مساءلتها ,وانما تتجاوز ذلك لتكمن في مساله الوعي بماهيه الشعر فضل
عن الوعي بماهيه البداع الفني عموما.
وفي هذا الشان ,اود ان ابدي الملحظات التاليه التي قد تضيء بعضا من المسكوت عنه في مقالتكم:
ان ما يمكن ان نسميه بسلطه قصيده النثر هي من قبيل تلك المحاولت الدءوبه في تحديد البداع الدبي والفني
عموما في اسلوب او شكل فني ما ,وفي مجال الشعر خصوصا فان هناك جيوشا من المشتغلين بالشعر يمارسون
قصيده النثر ,ويدعون الي سلطتها ,بدعوي تحرير النص الشعري من القواعد والقيود التي تحكم تشكيل النص الذي
يسمونه تقليدا ,وبدعوي الحداثه تاره ومابعد الحداثه تاره اخري ,وما شابه ذلك من مفاهيم غالبا ما يجهلون كنهها
واصولها الفلسفيه التي انتجتها.
ومن المفارقات العجيبه ان هولء الذين يدعون الي التحرر في البداع هم الذين يمارسون في الوقت نفسه سلطه
علي البداع .حينما يدعون ان هذا الشكل او السلوب الفني هو السلوب الوحيد الجدير باسم البداع الشعري.
ومثل هولء ينسون او يتناسون ان المنظور او الشكل الفني ليس سوي اسلوب المبدع في رويه الشياء والعالم,
اما العالم نفسه فل يفرض ايه اساليب ول يتشبث باي منها) كما بين لنا ميرلوبونتي في دراساته العميقه
المسهبه( ..فما يغيب عن بال تلك الكثره الهائله من المشتغلين بالشعر ل اقول الشعراء ,لن الشعراء الحقيقيين
هم دائما احاد في كل عصر وان ما يغيب عن بالهم ان المنظورات والشكال الفنيه ل ينفي او يستبعد بعضها بعضا,
وانما هي توجد جنبا الي جنب بشكل مشروع مادامت كانت تمارس في اطار ماهيه الفن المقصود ,فلتجافي روحه
وطبيعته المميزه له فضل عن طبيعه البداع الفني في عمومه.
ولشك ان هناك محاولت محدوده لشعراء حقيقيين كتبوا ما يسمي بقصيده النثر بشيء من روح الشعر .ولكن
مكمن الخطوره ان هذه المحاولت المحدده في ممارسه هذا الشكل الفني تحديدا ,الذي يقوم علي التحرر التام
من كل وزن او قافيه ,هي محاولت تمثل دعوه صريحه للمتشاعرين والطامحين الي ممارسه تجربه الشعر لكي
يتجراوا علي فن الشعر ,دون ان يتمرسوا عليه باعتباره فنا من فنون القول او اللغه ينبغي معرفه اسراره واصوله,
تماما مثلما ان المصور ينبغي ان يعرف ويتعلم اسرار اللون واساليب تشكيله التي يمكن ان تصنع لوحه.
ومثل هذه المعرفه هي ما يتنصل منه اغلب كتاب قصيده النثر بدعوي التحرر من القيود والقواعد ,وهم بذلك
يجهلون او يتجاهلون ان التجديد او التجريب في البداع الفني غير ممكن اصل ال باعتباره تجاوزا لسلوب فني
مارسناه وعانينا خبرته من قبل .اعني ان الشاعر الذي لم يتمرس علي النظم ولم يحسن كتابته لن يستطيع ان
يكتب قصيده النثر ,وان شيئا شبيها بهذا يحدث في سائر الفنون :وهل يظن ظان ان بيكاسو احد رواد التكعيبيه
العظام كان يجهل قواعد المنظور الكلسيكي في فن التصوير ,او كان جاهل باصول التشريح حينما كان يعمد الي
تشويه شخوصه المصوره؟! وهل يشك شاك في ان ثوره شونبرج في مجال الموسيقي لم تكن سوي محاوله
لتجاوز اصول الموسيقي الكلسيكيه التي كان يعرف ادق اسرارها؟! غير ان هذا التجاوز من خلل التجريب قد
يكتب له النجاح) كما حدث بالنسبه لبيكاسو( او الخفاق) كما حدث بالنسبه لشونبرج(.
للشاعر اذن الحق في ان يستخدم ويجرب ماشاء من اساليب الكتابه ,بشرط ان يعي في المقام الول ان هذه
الساليب ينبغي ان تظل اساليب شعريه ,فل تنكر ماهيه الشعر او تتنكر لها .وبشرط ان يعي في المقام الثاني ان
الخروج علي اسلوب او شكل فني شعري ما ل يعني نبذه اوانكاره ,وانما يعني فقط تجاوزه ,وهو تجاوز ل يمكن ان
يحدث ال من خلل معاناه وخبره حقيقيه بما نريد ان نتجاوزه ,بل اننا يمكن ان نزيد علي ذلك فنقول مع هيجل اننا
في تجاوزنا لشيء ما ل نملك ال ان نبقي عليه ونحفظه معنا.
ومعني هذا ان ما نتجاوزه ل يتم نفيه وانكاره او استبعاده ,وانما يتم رفعه الي حاله حضور متخذا صوره او شكل
جديدا من خلل اندماجه اوانصهاره مع شيء اخر .فما الذي ينبغي ان يبقي دائما معنا في ممارسه الساليب
المختلفه من فنون القول الشعري؟ والي اي حد تحفظ قصيده النثر شعريه القصيده؟ هذاالسوال يضعنا مباشره
في قلب مساله الشعريه او ماهيه الشعر:
الشعر كما افهمه هو فن القول في المقول :وفن القول هو فن الكلم او اللغه التي تقول فتفصح حينماتعني او
تصور شيئا ما ,غير ان ما يميز الشعر عن غيره من فنون القول ان ماتعنيه وتصوره لغه الشعر ل يوجد ول يحيا ال
في الكلم المقول او المنطوق ,حتي وان لم ينطقه احد وظل مكتوبا.
فالشاعر هو الذي يستنطق اللغه لتعلن عن حضورها الصوتي والموسيقي الذي يتم فيه ومن خلله فقط الفصاح
عن معني او تصوير شيءما.
وهكذا فان الصوره الشعريه ل يمكن فهمها او الحساس بها ال من خلل المنطوق الشعري نفسه ,فاللغه هنا ل
تتجه ابدا خارجها ,وانما تحيلني الي ذاتها :انها تجلب الخارج الي الداخل او تجلب الوجود ذاته الي بيت اللغه ,علي
حد قول هيدجر.
وعلي هذا النحو ,فان الكلمه الشعريه تظل دائما غير قابله للستبدال ,لن معناها يكون حاضرا في تاثيرها الصوتي
الموسيقي الذي يتشكل من خلل علقته العضويه بالسياق الصوتي الكلي للجمله الشعريه .فالكلمه الشعريه من
خلل حضورها الصوتي الموسيقي يكون لها نفس كثافه الحضور الحسي الذي يكون للشياء والذي يتبدي في
ملمسها ومذاقها :انها تشبه ملمس ثمره الخوخ ومذاق ثمره الكمثري وحضور العشب والشجار ,وغير ذلك مما
ليمكن وصفه او استبداله.
تلك هي الشعريه ,وهي خاصيه يمكن محاكاتها بدرجات متفاوته في كثير من فنون القول او لغه النثر ,ولكن فن
الشعر هو الذي يحفظ هذه الخاصيه ويبقي عليها باعتبارها عين ماهيته ,اما فنون القول او النثر الخري كالروايه مثل
فانها تحاول ان تحاكي هذه الخاصيه لتضفي قيمه جماليه علي قيمها الجماليه الخاصه بها والتي تستمد منها قوامها.
والشعر يحفظ خاصيه الشعريه هذه ويرفعها الي ذروه تالقها من خلل الوزن والقافيه .صحيح انه ل يكفي ان يكون
الشعر موزونا ومقفي لكي يكون شعرا حقيقيا ,ولكن هذا ل يحدث ال في قصائد المتشاعرين الذين يفهمون الوزن
والقافيه باعتبارهما حليه شكليه ,ل باعتبارهما جزءا من نسيج الشعر ,وبالتالي جزءا جوهريا في موسيقي اللغه
الشعريه التي تاتي مشربه بمعناها او ياتي معناها مشربا بها.
اما الشاعر الصيل ,فان اوزان قصائده وقوافيها تاتي بل تكلف او اصطناع كما لو كانت تاتي وفقا للحان سماويه.
وفي هذا يقول شوبنهاور عن القافيه :ان الماره التي يميز بها المرء علي الفور الشاعر الصيل ..هي تلقائيه
قوافيه ..فقوافيه تاتي من تلقاءنفسها كما لو انها قد جاءت وفقا لترتيب الهي ,فافكاره تاتي اليه مقفاه جاهزه .اما
الشخص النثري الركيك ,فانه علي العكس من ذلك يبحث عن القافيه لجل الفكر ,بينما الدجال يبحث عن الفكر
لجل القافيه) شوبنهاور :العالم اراده وتمثل ,الجزء الثالث ,ص.(207
ولو نظرنا لقصيده النثر في ضوء هذا كله فماذا نحن واجدون؟
ان قصيده النثر في اعلي صورها الممكنه تحاول ان توجد ايقاعا للغه الشعريه بمناي عن الوزن والقافيه .وبذلك
فانهاتحاول ان توجد موسيقي الشعر بادوات موسيقيه اقل عددا وعده :فايقاع البناء اللغوي ذاته الذي يعتمد علي
تداعي الكلمات والتقديم والتاخير والعاده والتكرار والتكثيف ..وكل ذلك هو مما يمكن تحقيقه في النظم علي
افضل نحو ,ولذلك نجد ان التعريفات التي تقدم لقصيده النثر تظل دائما تعريفات لشكل فني سالب او منقوص,
فهي دائما ما تعرف في الموسوعات علي انها ليست كذا ..وغير كذا ..وبل كذا ..وتفتقر الي كذا :فهي كالقصيده
الغنائيه القصيره ولكنها بلوزن او قافيه ,وتختلف عن الشعر الحر في افتقادها الي الوقفات في نهايه السطر
واليقاع المنتظم الذي ياخذ شكل التفعيله .وحينما يتم تعريف قصيده النثر تعريفا ايجابيا ,ياتي هذا التعريف فضفاضا
غائما بل هويه كان يقال :انها شيء مضطرب ايحاءاته ل نهائيه ..وخلق حر خارج عن كل تحديد ..وتوتر وحيويه
وتمرد .وكل هذا بالفعل من قبيل التمرد ,ولكنه ليس تمردا اصيل ,لنه ل يبقي علي هويه الشعر او يحملها معه.
ا .د .سعيد توفيق
اداب القاهره
نقل ً عن جريدة الهرام
بالمس القريب احتفت الوساط الدبية في مصر ببلوغ الشاعر "احمد عبدالمعطي حجازي" الستين من عمره
الجميل ،والشاعر الذي بدأ حياته قائل" :انا اصغر فرسان الكلمة " صار رائدا كبيرا من رواد حركة الشعر الحر،
ومازال محتفظا بحيوية الشباب وحكمة التجوال في الزمن .وطوال هذا الحوار الذي امتد الى قرابة الساعتين كان
للمدينة حضورها الشعري والنساني كما كان الشاعر متكئا على جراحات جيل ذهب مع الحلم حتى أخر الطريق
التي أدت الى انتحار ،وصمت ،وجنون بعض أفراده المبرزين.
* كان الخروج من "تل" الى "القاهرة " فكانت "مدينة بل قلب " ..فما دواعي الخروج ،وكيف اختلفت الرؤية
الشعرية للمدينة ؟
* دواعي الخروج من القرية للمدينة كانت طبيعية ،لن الريف المصري طارد ،وهو ل يطرد فئة معينة ،ولكنه يطرد
كثيرا من الفئات ،والمدينة تمثل حلما ،او فرصة أغنى للتقدم بشكل عام ،ولذلك نجد ان كثيرا من ابناء الفلحين
عرفوا الهجرة الى المدن منذ الربعينات ،هذه الهجرة حدثت هن قبل -بلشك -ولكنها لم تكن ظاهرة .فالهجرة
الواسعة بدأت -ربما -منذ الربعينات ،وباعثها ان الصناعة المصرية عرفت شيئا من الزدهار بسبب ظروف الحرب
العالمية الثانية التي منعت حركة الصادرات والواردات بين مصر والدول الوروبية فتشجع الرأسماليون المصريون
أو تشجعت فئات واسعة على دخول مجال الصناعة سواء في إطار مشروعات كبرى أو صغري ،فانتشرت مصانع
الحلج والغزل والنسج ،وقامت هذه المصانع او معظمها على اطراف المدن ،فشدت ابناء الفلحين الفقراء ليعملوا
فيها ،وفي مقدمتهم ابناء "المنوفية " .والفئة الخرى التي كان لبد لها ان تهاجر من الريف الى المدن هي فئة
المثقفين ،واعني المتعلمين الذين يكملون دراستهم الولية في مدارس القرية -وهي ل تعدو ان تكون مدارس
ابتدائية -ثم يذهبون الى المدن القريبة لقطع مرحلة التعليم الثانوي وبعد ذلك يمكنهم ان يذهبوا الى القاهرة
لستكمال دراستهم العالية ،او يذهبوا الى "السكندرية " لنها كانت قد بدأت نشاطها الجامعي بجامعة "فاروق الول
" وانا من هؤلء فبعد ان انتهيت من المرحلة البتدائية بـ "تل" ذهبت الى "شبين الكوم " لكمل دراستي بمدرسة
المعلمين التي كانت الدراسة بها آنذاك ست سنوات ،وتخرجت سنة 1955ولكن سلطات المن لم توافق على
تعييني مدرسا لني كنت قد اعتقلت لمدة شهر في نوفمبر 1954بعد مشاركتي في مظاهرة بـ "شبين الكوم ".
* كان ذلك في اعقاب أزمة مارس 1954وما تلها ،بالضافة الى انه كان لي نشاط وطني بشكل عام ،ففي تلك
الفترة كان المد الثوري على أشده ،وكانت المدارس والجامعات تشارك في العمل الوطني ،واي حدث كان يقع في
القاهرة كنت تجد له اصداء بالقاليم ،لكن في نوفمبر كانت ذكرى "محمد فريد" واتخذنا منها ذريعة للخروج في
مظاهرة واعتقلت لمدة شهر ثم أفرج عني لنه لم يكن هناك سبب يؤدي لستمرار العتقال ،واكملت دراستي
وحصلت على دبلوم المعلمين ،ورغم ان ترتيبي كان الول على المدرسة والخامس عل القطر ،فلم أعين ،وعندئذ
فكرت في البحث عن عمل بالقاهرة ،اي ان السبب الرئيسي كان هو البحث عن عمل ،لكن السبب الحقيقي
مختلط ،فأول قصيدة نشرت لي في مارس 1955بمجلة "الرسالة الجديدة " ،وكان حلم الظهور والوصول الى
منابر النشر بالقاهرة ،والتصال بالحركة الثقافية والشعرية على وجه الخصوص دافعا اساسيا آخر للخروج ،ولكنني
كنت اعتقد بإمكانية تحقيق هذا التصال بصرف النظر عن مكان وجودي فالشاعر يستطيع ان يكون موجودا بأسوان
ومتصل بالحياة الثقافية في ذات الوقت ويستطيع ان ينشر في اي مكان لنه ل ينشر بشخصه ولكن بقيمة انتاجه،
وفي تلك الفترة كنا نتابع في مجلة "الرسالة الجديدة " قصائد ومقالت المصريين الذين يعيشون في العاصمة
والقاليم على السواء ،والعرب الذين يعيشون خارج مصر في سوريا أو لبنان أو العراق ،لكنني كنت أعلم ان
وجودي بالقاهرة اكثر جدوى حيث يتاح لي التصال المباشر بالحياة الثقافية .كنت على مفترق طرق ،إما ان اشتغل
بعيدا عن القاهرة ،واجعل الشعر اهتماما ثانويا ،واما ان اذهب الى العاصمة لعطي نفسي تماما للشعر ،وهذا ما
كنت في حاجة اليه ،ليس فقط لنشر اشعاري ،ولكن لنغمس في الحركة الثقافية وأتعلم منها واطور موهبتي،
واكمل ثقافتي التي كانت ل تزال محدودة ،في هذه الفترة كان علي ان اتقدم بسرعة او تفرض علي ظروف الحياة
الشخصية العامة ايقاعا أبطأ ،فلو كنت أعيش خارج القاهرة لصبحت فكرة الزواج مطروحة ،وبالتالي سيؤدي ذلك
الى النشغال في الحياة ال سرية والعملية ،ومن حسن الصدف انني واجهت مشكلة في التعيين فكان لبد من
المجرة الى القاهرة ،وخلل شهور تالية من تاريخ نشر قصيدتي الولى نشرت لي أربع قصائد واستقبلها النقاد
بحماسة ،أذكر منهم الناقد "أنور المعداوي" والدكتور "عبدالقادر القط " و" رجاء النقاش " الذي كان طالبا أنذاك،
وقدمني هؤلء النقاد لبعض الصحفيين المعروفين آنذاك مثل "مرسي الشافعي" وعن طريقه عملت مصححا لمدة
خمسة عشر يوما بدار الهلل ثم انتقلت للعمل بمجلة "صباح الخير" في ذات الفترة التي عمل بها الشاعر "صلح
عبدالصبور" كنا نحرر بابا اسمه "عصير الكتب " ،ونتابع الحياة الثقافية ،وفي مرحلة متقدمة انتقلت للعمل "-روز
اليوسف " اما عن صورة "القاهرة " فقد كانت في خيالي صورة مركبة من الواقع والخيال ،من السطورة
والعناصر الفلكلورية الموروثة من الريف لن صورة المدينة الكبرى )القاهرة بالذات ( عند الريفيين صورة سيئة،
ولول اوليا ،الله )المام الشافعي والحسين والسيدة زينب ( لكانت مجرد بؤرة فساد ملعونة ،وهذه الصورة لها
أسبابها الجتماعية والقتصادية والخلقية ،لكن لم يكن هذا هو الوجه الوحيد للقاهرة ،فالوجه الخر هو الوجه
المشرق لعاصمة الثقافة العربية الحديثة ،وهذه الصورة بوجهيها موجودة في شعري الول :فالقاهرة هي المدينة
التي ل يعرف فيها احد احدا ،المدينة التي هي صورة من صور الجحيم بالنسبة لشاب ريفي بريء ،يكاد يكون طفل
يبحث عن الدف ء والصداقة والخوة ...الخ.
القاهرة آنذاك كانت في نظري مدينة معادية للنسان ،تبني نفسها على اشلئه ،مدينة كبرى لن النسان فيها صفه.
النسان ضئيل والعمارات عالية ،هذا ما تجده في شعري الذي كتبته خلل الفترة الولى التي قضيتها في القاهرة،
تجد البراءة في مواجهة العنف والقوة المستفحلة لكل ما هو آلي وصناعي ومصطنع ،ل شجر ول زهور ول حقول
بالمدينة ،ل قمر في سماء المدينة ول فجر فيها أيضا .أما الوجه الخر المشرق للقاهرة فكان ناتج عنصرين مؤثرين
في تكوين صورتها ،خصوصا في المرحلة الولى وهما :الحركة الثورية الجديدة فقد كان هناك مشروع ثوري ينقي
المدينة ويطهرها من أثامها ،يحولها الى مدينة للنسان ل ضد النسان وهذا ترده في قصائدي التي كتبتها عن "جمال
عبدالناصر" في الفترة الولى ،وعن الثورة العربية في سوريا والعراق والجزائر .اما العنصر الخر فهو الحب الذي
يعني الخروج من الوحشة الفردية الى اقامة علقة بالمعنى المباشر بين رجل وامرأة ،وايضا الحب بمعنى الصداقة
وأظن انه لم يحتفل -في جيلي على القل -شاعر كما احتفلت انا بالصداقة فكثير من قصائدي تتحدث عن اصدقاء
او تبدأ بيا أصدقاء .المدينة كانت مرفوضة ومكروهة وكنت اعتبر نفسي عدوا لها وعلقتي بها تتوزع بين السلب
واليجاب ،فالمدينة ترفضني وأنا ارفضها كذلك ،وهذا الموقف عبرت عنه في قصائد مثل )سلة ليمون -مقتل صبي
-الطريق الى السيدة -الى اللقاء ...الخ ( بعد ذلك تغيرت الصورة تماما ،وهناك قصيدة اسمها )حب في الظلم (
تضمنت لول مرة عبارة اقول فيها) :أحس كأن المدينة تدخل قلبي( هذه هي الفترة التي بدأت تشهد تطورا ايجابيا
في علقتي بالقاهرة.
* في نوفمبر 1954كان اعتقالك وكانت الساحة تفلي بتيارات سياسية ،هل كنت منخرطا في نشاط سياسي او
ممنهجا بشكل يؤدي لتكرار اعتقالك مرة ثانية ؟
* كان عمري ثلثة عشر عاما سنة 1948ومنذ هذا التاريخ حتى سنة 1951كنت متعاطفا مع الخوان المسلمين
لسببين :الول ،انهم شاركوا في حرب فلسطين ،اما الثاني فهو انهم كانوا مضطهدين آنذاك .بعد ذلك ما كدت
انصرف بجد للقراءة والكتابة حتى انتهت علقتي العاطفية بهم لنني كنت اكتب واقرأ بكثافة )ربما كنت اكتب كل
يوم قصيدة ( واصبح حصاد قراءاتي الدبية والفكرية آنذاك يبعدني تماما عن هذا التيار ،لنني انصرفت لقراءة توفيق
الحكيم -البدايات مع المنفلوطي والرافعي -والعقاد وقليل من طه حسين ،وبداية من 1957توجهت لقراءة
"عبدالرحمن بدوي" في سلسلة اعماله الفلسفية ابتداء من الفلسفة اليونانية وانتهاء بالفلسفة اللمانية الحديثة ،ثم
القليل جدا من "سلمة موسى" لنني لم اكن احب لغته ،ول ازال اعتقد ان لغته لغة تعليمية ،صحفية خالية من
الجمال ،وبسيطة ل ترضي غرور شاعر )وأنا في ذلك الوقت كنت شاعرا( .بالضافة الى المناهج الدراسية الدبية
التي كانت منظمة من العصر الجاهلي الى العصر الحديث ،وانهمكت في قراءة الرومانتيكيين خصوصا ..علي
محمود طه وابراهيم ناجي ومحمود حسن اسماعيل وصالح الشر نوبي ومحمد عبدالمعطي الهمشري وايضا
الرومانتيكيين العرب مثل المهجريين :ايليا ابوماهي وليس جبران خليل جبران فقد كان احساسي نحو لفته ان بها
جمال وبساطة ودفئا وعفوية تلقائية ولكن بها قدرا من الركاكة التي دخلتها عن طريق العامية اللبنانية من ناحية،
ومن ناحية أخرى عن طريق اللغة النجيلية التوراتية ،وامتدت قراءاتي الى جورج صياح وميخائيل نعيمة شعره وكتبه
النثرية خاصة كتابه الول )الغربال ( كما امتدت الى قراءة الرومانتيكيين المقيمين بالبلد العربية مثل الياس ابو
شبكة اللبناني وابوا لقاسم الشابي التونسي ،هذه القراءات ابعدتني تماما عن فكر الخوان المسلمين وكان زملئي
في ذلك الوقت يرون ان هذه القراءات افسدت عقيدتي ،وجهات المن كانت تعتبرني من الخوان المسلمين رغم
اني لم أنتم في فترة الصبا لي حزب ،فلم أكن شيوعيا ول من اتباع مصر الفتاة ،اذ كانت الحزاب التقليدية قد
انتهت بحلها سنة ،1953اما بعد ذلك فقد تعاطفت مع البعثيين والناصريين خصوصا بين ،1956رم و م
* من "القاهرة " الى مدن الخرين كان الخروج الثاني الى "باريس " الذي استمر سبعة عشر عاما ،فكيف كنت
ترى المدينة !
* "باريس" كانت بالنسبة لي مدينة محايدة ،فهي ليست وطنا ،وبالتالي ل اخشي فيها على نفسي بحكم أني فيها
زائر ،واقامتي ايا كانت مؤقتة حتى لو طالت ،وعندما قررت السفر لم يكن في ذهني انني سوف أبقى هذه الفترة
فقد كانت )فسحة ( اكثر مما هي معاناة ،لم تكن في ذهني فكرة العمل او القامة الطويلة لذا كانت "باريس "
باستمرار خيال جميل على عكس صورة القاهرة التي خرجت بها من الريف .لكن صورة باريس التي خرجت بها من
القاهرة هي الصورة التي قدمها توفيق الحكيم واحمد الصاوي محمد وطه حسين فهي مدينة النور ،لذلك كانت
عكسية تماما ولم تنقلب مع طول القامة رأسا على عقب ،وكل ما هنالك انها لم تعد مدينة زيارة انما تحولت من
مجرد فكرة خيالية او حلم الى مدينة حية اعرفها من الداخل عن طريق العمل واعيش فيها .وبشكل عام تجربتي
في باريس تجربة ايجابية .وليست هذه هي الصورة الموضوعية لباريس ،فهي تختلف من شخص لخر لني ما كدت
اصل الى باريس في اول مارس 1974او بعد وصولي بشهر حتى ظهرت مقالة عني في صحيفة )الليموند( -اكبر
صحيفة فرنسية -كتبها الشاعر والروائي المغربي الطاهر بن جلون ومقالة أخرى في صحيفة )ليوما نتيه ( -وهي
صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي -كتبها "هنري الج " ودعيت للقاء بطلب واساتذة قسم الدراسات العربية
بجامعة )باريس (8واللقاء الذي كان مقررا له ساعتان امتد الى اربع ساعات ،وعلى اثر هذا اللقاء عرض علي
العمل بالجامعة ،واستمر العمل بين هذه الجامعة وجامعة باريس ) 3السوربون الجديدة ( بداية من العام الدرامي
1975 -1974الى ان رحلت عن باريس في آخر سنة ،1990كل شيء كان مفتوحا :العمل من ناحية ،والقامة
والسكن بأجر معتدل عن طريق بلدية "باريس " ،والصداقات التي نشأت بيني وبين اساتذة الجامعة خصوصا "جاك
بيرك " الذي تعرفت عليه بمصر ثم توثقت علقتي به في باريس ،كذلك "جمال بن شيخ " ،ويعد اكبر استاذ للدب
العربي في فرنسا وهو شاعر وناقد من اصل جزائري فباريس تحولت من ان تكون "كارت بوستال " جميل الى
مدينة تدخل في تكوين إحساسي بالمواطنة ،اصبحت مصدرا اساسيا من مصادري الروحية والثقافية ثم ساهمت
في تكويني من جديد عن طريق اكتساب اللغة والصداقات القوية التي نشأت بيني وبين الفرنسيين ،ثم المعرفة
الوثيقة بدروبها لن حياتي في فرنسا لم تكن فقط في "باريس " كنا نخرج من آن لخر الى الريف -البحر -الجبل،
كذلك عن طريق الولد ،فاثنان من ابنائي الربعة مولودان في "باريس " وقد تشكل وعيهم جميعا هناك ،واكتسبوا
الجنسية الفرنسية الى جانب الجنسية المصرية ،اصبحت باريس امتدادا للوطن ،هذا هو تحولها من فكرة شعرية
الى عنصر اساسي في التكوين.
* بالنسبة لسنوات الخروج الشعري والنقدي من مصر في السبعينات ،هناك اتهامات بالهرب والتخلي ،فكيف ترى
حصادها الممثل الن في الساحة الشعرية ؟
* الثقافة المصرية بداية من السبعينات نتيجة لنقلب كامل في الحياة المصرية الثقافية والسياسية والجتماعية
والقتصادية ،وهذا النقلب لم يكن ايجابيا لنه كان استمرارا واستطرادا للكارثة التي وقعت في ،1967وكانت
النتيجة حصادا شقيا وهجرة واسعة للمثقفين المصريين ،مصر اصبحت طاردة لمثقفيها ،في ذلك الوقت خرج "علي
الراعي" " -الفريد فرج " – "محمود امين العالم -بهاء طاهر -سعد اراش -كرم مطاوع -امير اسكندر -غالي
شكري" )خرج الى بيروت اول ثم الى باريس لم كذلك عدد كبير من اساتذة الجامعة مثل عبدالرحمن بدوي )خرج
في اوائل السبعينات ( ،عدد ل بأس به من الكتاب والشعراء هاجروا الى بلد عربية ،وقليلون ذهبوا الى اوروبا
وآخرون انتقلوا من بلد عربية الى فرنسا حتى الفنانين التشكيليين "آدم حنين " وجورج البهجوري وعدلي رزق الله
ورجائي وحتى الموسيقيين رمزي يس وعاطف حليم .هذا الخروج ادى الى خلخلة الحياة الثقافية في مصر خاصة
بعد ان تولى المسؤولية "يوسف السباعي" و" عبدالقادر حاتم " ولم تكن علقتهما بالمثقفين وبالجيال الجديدة
علقة طيبة ،كانت علقة حادة وعنيفة ،فالمثقفون لدى هؤلء المسؤولين اما ناصريون او يساريون ،كذلك كان
بالنسبة للجيال التالية لجيلي اما الجيال الجديدة التي ظهرت في اوائل السبعينات فقد فقدت علقتها بالجيل الذي
هاجر ،ولم يكن لها أدنى علقة بالمسؤولين عن الثقافة في ذلك الوقت مما أدى الى ظهورهم عن طريق مجلت
"الماستر" فهم رافضون للثقافة الرسمية رفضهم للهزيمة ولنتائجها ،وقد حدثت جفوة بينهم وبين الجيال السابقة
فهي في نظرهم مسؤولة عن الهزيمة ،حتى المثقفون الذين ظلوا بمصر ولم يهاجروا لم يسلموا من هذا التهام اذ
كانوا مضطرين للعسل في اطار المؤسسات الموجودة ،مثل صلح عبدالصبور كرئيس تحرير لمجلة الكاتب ورئيس
الهيئة المصرية العامة للكتاب ثم مستشار ثقافي في الهند ،كذلك يوسف ادريس ولويس عوض فضل عن توفيق
الحكيم وحسين فوزي.
* ولكن كان هناك احتفا 0بالجيال الجديدة من قبل مجلة الكاتب عن طريق صلح عبدالصبور كذلك قدمهم رجاء
النقاش بمجلة الهلل.
* كان اجتهادا فرديا ،ومحاولة لنشاء جسور لم تكن موجودة لن العلقة العاطفية والفكرية لم تكن موجودة
وبالتالي لو نشرت قصيدة او اثنتان او عدد خاص لم يكن ذلك ليقيم علقة ،فالسياسة العامة كانت تدرجهم ضمن
تيارات اليسار ،ولم تكن هناك لفة مشتركة بينهم وبين الموجودين ،كان سوء الفهم متبادل ،مثل اعتبر صلح
عبدالصبور في ذلك الوقت حكوميا وليس معنى ذلك انه كان يؤيد سياستها او يعتبر وجها من وجوهها ،كما ان لويس
عوض ايد الرئيس السادات لكنه فصل من الهرام ومنع من نشر دراسته عن جمال الدين الفغاني واصبح موضوعا
لهجوم عنيف ،هذا الخلل الشديد لم يؤد فقط الى هجرة جيل وعزلة جيل جديد ،انما كانت له نتائج فاجعة لن اربعة
مبدعين انتحروا :صلح جاهين ومحمود دياب ونجيب سرور الذي كف عن العمل وجلس على المقهى غارقا في
الشراب حتى مات ،وصمت نعمان عاشور ،صلح عبدالصبور مات بالمستشفى القريب من بيتي ولم تكن المشادة
التي حدثت بينه وبين بهجت عثمان ال القشة التي قصمت ظهر البعير لن السنوات العشر السابقة على هذه
الحادثة بالنسبة له كانت حصارا وانتحارا بطرق مختلفة ،هناك جيل سحق وأصيب منه من أصيب بالجنون والنتحار،
اي حصاد يكون حين يصبح الوطن وطنا آخر؟ يسقط الحلم سقوطا نهائيا ول يبقى شيء يضيء الطريق للجيال
التي عاشت في صباها الباكر حلم الستينات ،ثم ان الجيال السابقة -التي كانت في حكم النموذج او المثل الذي
كان يتعلم منه جيل السبعينات -هاجر معظمها والجزء الباقي انتحر بطريقة من الطرق ،والنتيجة ان الجيال
الجديدة وجدت نفسها في اليتم لن الجميع تخلوا عنها :الوطن والثورة والجيال السابقة ،وجاءت التربية الفنية
ضعيفة فلم يجدوا ما يتلقونه ،كما ان حافز التلقي كان يتمثل في رفض كل ما له علقة بالتربية وبالنظام ،فعبر هذا
الجيل عن نفسه برفض النحو واللغة والعروض والمعجم فعنصر الرفض والتمرد سمة أساسية من سمات عمل هذا
الجيل ولكن عنصر التربية -وهو الساس عندي -كان من الممكن ان يتفجر حتى تظهر منه اعظم الثمار ،لكن لم
يكن موجودا حتى يكون هناك ابداع حقيقي ،ولذلك اشك في الكثير من النتائج التي وصل اليها هذا الجيل ،فما نواه
الن فقرا في المعجم ،الجملة العربية عنده ليست مستقيمة فيها قدر كاف من الركاكة ،والركاكة ليست بالقياس
الى نموذج بالذات ولكن بالقياس الى متن اللفة كما نعرفها ،وليس ذلك بالقياس الى لفة في عصر ما ،بل بالقياس
الى ما يمكن ان نسميه قوانين اللغة وطريقتها الخاصة في التعبير ،ل في عمو معين بل في مختلف العصور .هناك
ايضا الموقف من الموسيقى واليقاع ،وأنا ل اتحدث عن نظام عروض خاص ،ولكني اتحدث عن موسيقى الشعر
بشكل عام فمن السهل ان افهم ان النسان ل يرتاح الى ايقاع له طابع كلسيكي سواء كان قادما من التجارب
الشعرية القديمة أو من الشعر الحديث لنه من الممكن أيضا ان يصبح ايقاع الشعر الحر كلسيكيا الن بحيث إن
الشاعر الشاب ل يجد نفسه فيه ،عندئذ يصبح مواجها بضرورة البحث عن ايقاع آخر ،وهذا اليقاع الخر لبد ان
يكون ايقاعا خاصا بالشعر ،فالنشر ايضا له ايقاعاته ولبد ان يكون مقبول لدى المتحدثين بهذه اللغة حتى يصبح
النتاج الجديد جزءا من السياق ل خارجه.
* هل هذا الرأي ينسحب على كل افراد جيل السبعينات الممثل في شعراء "اضاءة "77؟
* انا ل اتحدث عن كل فرد ،هناك استثناءات باستمرار من الفراد او من عمل هؤلء الذين أتحدث عنهم ،فيصبح ان
يكون لي هذا الرأي في جانب من شعر )فلن ( لكني أعتقد ان جانبا ثانيا يخرج عن هذا الوصف عند نفس الشاعر،
أنا أتحدث عن ظاهرة ،وفي ظني ايضا ان الجيل الذي تل جيل السبعينات موقفه أسوأ لنه جيل متروك ومهمل ،هو
جيل رافض ،علقاته مقطوعة بالجيل السابق عليه ،فهو مهمل ومهمل ،هاجر ومهجور ،بالضافة الى هذا هناك خطر
عنيف واجه هذه الجيال عامة ،وهو انتقال مركز الجاذبية من مصر الى بلد عربية أخرى ،جاذبيتها ل تعود الى
الثقافة بقدر ما تعود الى الثروة ،وقد ادى هذا الى فساد مزدوج ،أول :فساد الموهبة لنهم ل يجدون ما يتعلمونه
خارج مصر ،ثانيا :التكالب على جمع الهوال والثروة ،وساهم في صنع ذلك سهولة الوصول الى الصحيفة والمجلة،
والمشاركة في المهرجانات والمؤتمرات ،والسفر الى الخارج ،سمعت ان المعويين كانوا يدعون الى مهرجان
"المربد" بالعشرات ،ومن الطبيعي ال يكون كل هؤلء المدعوين شعراء ،والنتيجة ان يعاملوا معاملة غير لئقة ،وان
يضطر بعضهم للرضا بأقل القليل ،وهذا يحدث ايضا في بلد أخرى .هذا فساد اخلقي وفكري ،وتأتي النتائج غير
مرضية فيكون العجز ،والتغطية عليه بالدعاء ،هناك شعراء لم يحاولوا قراءة ثلث صفحات في الحماسة ،ل يعرفون
شاعرا اسمه "صالح الشرنوبي" او "الهمشري" ول يعرفون ان هناك قصائد لعلي محمود طه غير التي غناها له
محمد عبدالوهاب ،ويعتقدون ان المازني والعقاد لم يكتبا شعرا في حياتهما ،هؤلء يتكلمون عن "رولن بارت "
و"جولدمان " بعد قراءة كلمتين في الترجمات التي تظهر هنا وهناك ،ويجدون من يشجعهم ،وهذا ما آخذه على
بعض النقاد والكتاب ! إن هذا الجيل الجديد في حاجة الى من يعلمه ،روح الجد ،والشعور الحقيقي بالمسؤولية،
والصراحة مع النفس ،والقدرة على تقبل النقد ،والرغبة في الوصول الى شيء رفيع ،ل مجرد الندراج ضمن
الكتاب والشعراء ،لبد ان يكون لكل واحد منهم مشروع يكبر به كالمشاريع التي صنعت توفيق الحكيم ،ونجيب
محفوظ وطه حسين ،لقد اصبح المثل العلى غير موجود والمستوى الفني صار هابطا في كل أجهزة العلم ومنابر
النشر ،بالضافة الى التزييف ففلن في الصحف والمجلت شاعر ،وهو ليس كذلك ،أما الشاعر فيمشي في الشارع
دون أن يعوفه احد!
* رغم وضوح البعاد الملحمية والد رامية في شعرك على وجه الخصوص في ديوان "اوراس " وقصائد أخرى يمثل
الحوار جزءا هاما منها ،فلماذا لم تكتب المسرح الشعري؟
* هذا جزء من برنامجي ،وانا اعتقد ان القصيدة لبد أن تكون غنائية ،أما الدراما او القصة فهي أشكال أخرى
تختلف عن القصيدة الغنائية وعلى ذلك فبالمكان ان تتضمن القصيدة الغنائية عناصر دراسية او قصصية.
* أنا اقبلها عندما تكون تجربة ،وأرفضها تماما اذا تصور البعض أنها افضل الشكال أو اكثرها حداثة ،ولنها في هذه
الحالة تصبح وباء كاسحا ،انها شكل يعتمد على لغة فقيرة من ناحية المعجم ،بسيطة ساذجة من ناحية التركيب،
نثرية من ناحية اليقاع.
قبل 46عاما جاء ديوان أحمد عبدالمعطي حجازي الول 'مدينة بل قلب' ليثير شيئا أشبه بالعاصفة في عالم
القصيدة العربية ،لم يكن موقفا مختلفا ومغايرا في فنيات الشعر وجمالياته وإنما أيضا في رؤية الشاعر ..هو ليس
ذلك النبي الذي تسقط عليه الكلمات من السماء وحيا فيتيه بها فخرا ،إنما شخص عادي يصارع المدينة الظالمة
القاسية التي ترفض فتح أبوابها أمامه ..هو الغريب وبائع الليمون والفتي الذي يكلم المساء ..تمرد علي كل التاريخ
العربي السابق ،قال :لن أخاطب ذلك الجالس في القصر بعد الن ،قصائدي ليست له ،كلماتي لكائنات مملكة
الليل :الصعاليك والمهمشين وأولئك الذين انكسرت قلوبهم.
بعد كل تلك السنوات ،بعد هذا الصراع الطويل ...حجازي في السبعين ومدينته لم تعد قاسية وباردة كما كانت قبل..
كلهما هده الحزن ،غير أن القلب مازال مشتعل بالرفض والغضب والحب.
أحمد وائل
أحمد ناجي
الثلثاء الماضي ،السابعة والنصف بأتيليه القاهرة ..كان حجازي جالسا بأناقته البسيطة وابتسامته الهادئة محاطا
بالصدقاء والمحبين الذين ملوا قاعة التيليه وأتوا لمشاركته في احتفالية بعيد ميلده السبعين.
حجازي الذي أنصت له الجمهور وهو يلقي بصوته المميز قصيدة 'طردية' و'سلة الليمون' و'آيات من سورة اللون'
ود جمهوره بروح منطلقة محافظا علي قيم الصعلكة ،حالما كالمعتاد بالعدالة الجتماعية والحرية. كان حاضرا كما ع ٌ
الحتفالية التي استمرت لكثر من ثلث ساعات بدأت بكلمة لسامة عرابي مقرر لجنة الدب بأتيليه القاهرة الذي
رحب بالحضور وعبر عن سعادته بالحتفال بسبعين حجازي العامر بالعطاء الفني وقال عرابي في كلمته أن
الحتفال بحجازي هو احتفال بشاعر لم يتنكر يوما لتراثه الشعري بل انكب عليه ليصقله ويرعاه ويطوره مدفوعا
دائما بروح المغامرة والتجديد.
فاروق شوشة قال' :إن هذه المسية تعيدنا إلي أنسام من العمر الجميل حين كنا جميعا قادمين إلي المدينة نشعر
بالنسحاق من جراء قسوتها ،علقتنا النسانية الحميمة في القرية تتآكل ،نبحث فيمن حولنا عمن يأخذ بثأرنا من تلك
المدينة العصرية ،حتى جاء حجازي فأحسسنا أن هناك من أخذ ثأرنا'.
شوشة أشار في كلمته إلي أن هناك من الشعراء قبله من عبروا عن صدمة المدينة لكن حجازي كان أكثرهم تميزا
حيث عبر عن تلك الصدمة بأصدق تعبير في أكثر من قصيدة له وضرب مثال علي ذلك بقصيدة حجازي 'أنا والمدينة'
حيث شعر شوشة في تلك القصيدة بأن حجازي قد انتصر علي المدينة وأمسك بزمام الواقع لتتبلور شخصية
حجازي الصعلوك بالمعني السامي للصعلكة والصعاليك في بحثهم الدائم عن العدالة الجتماعية ودفاعهم عن
الحرية ،وهو ما تجسد في ماضي حجازي كله وحاضره حتى في مقاله الخير في الهرام الذي بدأ فيه مخلصا
لمعني الصعلكة ولبحثه الدائم عن العدالة والحرية.
تعرض شوشة بعد ذلك في حديثه لجدلية التعامل مع التراث التي يطرحها حجازي في شعره ،وهي جدلية كما يري
شوشة تقوم علي الحوار والمعرفة والختلف لذلك فنحن نجد حجازي وقد عارض سينيه 'شوقي وسينيه' البحتري
ونونيه العقاد.
وعن تجارب حجازي الشعرية الولي وبداياته الولي مع أبناء جيله قال شوشة' :كنت أحس أن التجارب الولي لرواد
الحداثة هي تجارب جريئة ومقتحمة كتبت بلغة هشة تذكرني بالشعر المترجم فكنت أحس أن تجارب عبدالصبور
الولي مكتوبة بلغة الشاعر والسوق ،وكنت أبرر ذلك بأنهم أبناء المدرسة الواقعية ،فلم أكن أميز في قصائد البياتي
الولي السباب من الشعر ،لكن هذه الهشاشة لم ينج منها سوي السياب في العراق وحجازي في مصر ،فحين كنا
نقرأ قصائد حجازي كنا نحس أن قصائد حجازي أكثر اتصال بتراث الشعر العربي وخلوه من التعريب والترجمة ،كنا
نحس أن حجازي هو ابن البرية وابن الفطرة الشعرية الخالصة.
كان عبدالصبور يبهرنا بفكر الشعر وفي كل قصيدة يقول لنا بطرق مختلفة أنا مفكر ،بينما كان حجازي منطلقا
بفطرته ينشأ كلسيكيته الشعرية الحديثة.
وفي نهاية كلمته عبر فاروق شوشة عن اندهاشه من الصوات التي ترتفع بين الحين والحين لتقول حجازي لم يعد
يكتب شعرا ،حجازي كاتب مقال ،حجازي أصبح ناقدا ..حيث استنكر شوشة مثل هذه الصوات واستغرب كيف
ي بيننا وليعش سبعين عاما أخرييمكن أن نطالب مبدعا بأن يخرج لنا كل سنة كتابا ،فمنجز حجازي الشعري ح ٌ
فقيمته لن تتبدل حتى لو لم يكتب من الن ولقيام الساعة حرفا واحدا.
بعد ذلك تقدم الفنان هناء عبدالفتاح وطالب الحضور بالوقوف دقيقة حداد علي زملئه المسرحيين ضحايا محرقة
بني سويف ثم قام بإلقاء قصيدة 'مرثية لعب السيرك' بأداء فني جميل ،تبعته د .كاميليا صبحي التي قدمت مداخلة
بسيطة تحدثت فيها عن شعر حجازي الرقيق والبسيط في مفرداته الذي يصيغ من 'سلة ليمون' أو 'لعب سيرك'
عالم شعري يأثر قارئه.
***
بهذه العبارة وصف د .محمد عبدالمطلب الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي حين قابله للمرة الولي عام 1963
حينما كان يلقي شعره في كلية دار العلوم ،وهي العبارة التي يري عبدالمطلب أنها المفتاح لفهم شعر حجازي.
عبدالمطلب الذي قال إنه أتي لكي يحيي حجازي ل لكي يتحدث عنه قال إن هناك ركائز أساسية في الشعر العربي
وهي الموسيقي ،اللغة ،الخيال ،والمعني وهي الركائز التي يري أن كل مراحل الشعر العربي حافظت عليها مع
التغير في شكلها ومضمونها ..وفي شعر حجازي يبرز المعني كركيزة أولي فحجازي هو شاعر الشعراء في الصيغة
الشعرية التي ل نجدها إل عنده.
وعن رؤيته لشعر حجازي حكي عبدالمطلب كيف أخذ يبحث عن المعني في شعر حجازي فأخذ يقرأ أعماله
الشعرية الكاملة ،ويبحث عن السفر الذي رأي أنه يسكن الشاعر فأحصي مفردات السفر في مجمل دواوينه
ليجدها 20مفردة عن السفر واندهش حينها كيف يحس دائما أن حجازي شاعر مسافر ومع ذلك ل تتجاور مفردات
السفر في شعره مفردة ،ليعلم بعدها أن السفر عند حجازي ليس هو السفر الذي يحدده المعجم ،بل السفر عند
حجازي هو الحياة ،فحجازي هو المسافر البدي فكل العمر عند حجازي أسفار.
فحجازي يرحل من مكان لمكان لنه في رحيله يجد الحياة ،ورحيل حجازي هو رحيل بالساس في الداخل ..داخل
نفسه.
قال المفكر محمود أمين العالم :إن هذا هو العيد ال 30أو ال 40علي صداقته لحجازي ،وبأنهما عمل سويا منذ
هجرة أحمد عبدالمعطي حجازي إلي القاهرة من قريته ،وجمعتهما مجلة 'روزاليوسف' ،وفي باريس ،وخاضا معا
الكثير من المعارك ،ووصف شعره بأنه تعبير فني عن جوهر شخصية 'حجازي' ول يشكل خطا جامدا بل تعبر حياته
التعبيرية /اللغوية /الفكرية بجلء عن مواقفه وحياته.
وأضاف أن الشعر عند حجازي بنية فنية محتشدة بالحماس والتدفق النفعالي للبلغة الشكلية واللغوية يغلب عليها
الطابع الحكائي ،والطابع التاريخي.
وحجازي بالنسبة للعالم ل يبحث عن تكامل لرصيد معرفي بقدر ما يسعي لختراق لكل ما هو قائم وما كان ينبغي
أن يقوم ،وأن تجربة حجازي الشعرية تمتلئ بالدللت المحرضة والفعالة ،وتتسم شعريته بالتعبير بالصور ،فهو يفكر
شعريا ويعبر عن المشاعر بالصورة ،فهو يحول المجردات إلي محسوسات.
يظهر في شعر حجازي¬ والحديث مازال للعالم¬ الظل الشكلي للتراث ،ومع ذلك تتجلي حركة البداع في
التصوير واللغة لقتحام ما هو أعمق ،وما هو أكثر استنارة ،متواصل مع ذاتيتنا وانسانيتنا ،فما تظهره تجربة حجازي
الشعرية أن حرية فما البداع تحقق لنا إبداع الحرية.
الفنان التشكيلي عدلي رزق الله قال :إن الطريقة المثلى للحتفاء بحجازي¬ وقد سبق أن أشار إلي ذلك في
ستينية حجازي¬ هي وضع شعر حجازي بين يدي أبنائنا.
وذكر رزق الله إرادة حجازي وتصميمه أثناء تواجدهما في باريس بالسبعينيات فقد صمم حجازي علي الستزادة من
اللغة الفرنسية التي واظب علي دراستها بمدرسة الصداقة الفرنسية وكان حجازي في عقده الربعين¬ أكثر من
فصل في اليوم الواحد .وذكر رزق الله أيضا أجمل ليالي باريس الليلة التي تزوج بها الفن التشكيلي بالشعر¬
حسب تعبيره¬ حيث عرض حامد عبدالله علي عدلي أن يكتب حجازي قصيدة كمقدمة لمعرض فني لعدلي رزق
الله¬ ويعتبر أول معرض شخصي للفنان¬ ومن هنا تولدت قصيدة 'آيات من سورة اللون' وقد ترجمها إلي
الفرنسية جمال الدين بن شيخ ،وألقي حجازي القصيدة بأسلوبه الذي يمثل الروعة في النشاد العربي ،وإبن شيخ
ترجمتها ،وقد كان الجمهور الفرنسي أكثر إنصاتا من الجمهور العربي للقصيدة ،وبعد ذلك سهرنا في مطعم يوناني
وبهذا اكتملت أجمل ليالي باريس ،وكانت ملكة هذه الليلة السيدة 'سهير' زوجة الشاعر التي مثلت المرأة المصرية
حين تحتفي بشاعرها.
وأضاف عدلي رزق الله انه بصدد إعداد كتاب عن حجازي ،وهو يعقد محاورة بين الفن التشكيلي والقصيدة ،مشيرا
إلي تقاطع في قصيدة 'كائنات مملكة الليل' حيث يظهر بها إيقاع تشكيلي ،والكتاب سيهديه إلي حجازي في عيد
ميلده الحادي والسبعين )يذكر أن عدلي قد أعد من قبل كتاب من نفس النوعية مع شعر صلح عبدالصبور(.
واختلف الشاعر حسن طلب مع فاروق شوشة في مسألة التصال بالتراث واللغة ،فشعر حجازي¬ في رأيه¬ ينحو
إلي غربة ،ليست غربة في المكان بل غربة في الزمن ،وقال :الزمن الذي أقصده ليس زمنا معدودا وكمي ،وليس
الزمن المنصوص في التراث المعدود والمقدر ،بل هو الزمن المفقود ،ولهذا فإن اتصال حجازي بالتراث المتمثل
في اللغة ل يهدف إلي نفس الستخدام التراثي للزمن.
وأضاف أن شعرية حجازي ترتبط بالوجود وليس بقومية رغم تغنيه بالعروبة في البدايات فشعره يخاطب عقولنا
وعقول البشر أجمعين .وحجازي يريد بالشعر تحقيق المستحيل مثل الشعراء المجيدين ،واتفق طلب مع شوشة في
مسألة توقف حجازي عن كتابة الشعر ،فحجازي فعل ما كان لبد أن يفعله كل فنان عظيم ،بأل يخضع لسيف
ضرورية الكتابة.
وتحدث طلب عن صحبته لحجازي في مجلة 'إبداع' ،وكيفية تطبيقه لشعار الديمقراطية ،فكل المواد مطروحة
للمناقشة ،والفيصل في المر هو القتناع.
الشاعر حلمي سالم ألقي قصيدة من ديوانه 'الغرام المسلح' وهي قصيدة 'مرثية للعمر الجميل' التي استوحي
عنوانها من عنوان قصيدة لحجازي في ذكري عبدالناصر.
وتحدث الفنان التشكيلي وجيه وهبة عن مقالت أحمد عبدالمعطي حجازي في الهرام ،فقد أسهمت تلك
المقالت¬ كما قال¬ في تغيير الكثير من آراء القراء وجعلتهم أكثر تقبل للثقافة وانفتاحا للمعرفة.
م..
يا ع ّ
ق؟من أين الطري ْ
أين طريق 'السيدة'؟
ن قليل ،ثم أيسر يا بجن َ ٌْ
ي أيم ْ
ي!قال ..ولم ينظر إل ٌ
ل المدينة وسْرت يالي َ
أرقرق اله َ الحزينة
َأجّر ساقي المجهدة
للسيدة
بل نقودي ،جائع حتى العياْء
بل رفيق
كأنني طفل رمته خاطئة
ق
فلم يعره العابرون في الطري ْ
حتى الرثاء!
ق السيدة إلي رفا ِ
أجّر ساقي المجهدة
ح
والنورج حولي في فر ْ
ح
قوس قز ْ
وأحرف مكتوبة من الضياء
'حاتي الجلء'
ن ،بدء خريف ِ ْ يه وبعض ريحي
ل عقصة مغَيمة تجزي ذ َي َ َ
ومهمهَ ٌ
ف
علي كت ْ
ف
ق والصد ْ من العقي ِ
ف
ب الشفي ْ تهفهف الثو َ
صْر
وفارس شد ّ قواما فارعا ،كالمنت ِ
ح في ِذراع أنثي ،كالقمْر ذراعه ،يرتا ْ
ب! وفي ذراعي سلة ،فيها ثيا ْ
ن
والناسج حولي ساهمو ْ
نضهم ..ل يعرفو ْ ل يعرفون بع َ
بهذا الكئي ْ
ب
لعله مثلي غري ْ
م؟أليس يعرف الكل ْ
يقول لي ..حتى ..سلم!
ق!يا للصدي ْ
يكاد يلعن الطريق
ما وجهته؟
ما قصته
د!
لو كان في جيبي نقو ْ
ل ..لن أعود ْ
ل لن أعود َ ثانيا بل نقود
يا قاهرة!
أيا قبابا متخمات قاعدة
يا مئذنات ملحدة
يا كافرة
أنا هنا ل شيَء ،كالموتى ،كرؤيا عابرة
أجّر ساقي المجهدة
للسيدة!
للسيدة!
نوفمبر 1955
***
مقتل صبي
الموت في الميدان ط َ ٌ
ن
نف ْ الصمت ح ّ
ط كالك َ َ
ت ذبابة خضراْء وأقبل ْ
جاءت من المقابرِ الريفية الحزينة
ت جناحها علي صبٌيي مات في المدينة ول َوَل َب َ ْ
وما بكت عليه عين
ن
الموت في الميدان ط ّ
تفرت ،توقف ْ ص ّالعجلت َ
ن؟ م ْ ن َ قالوا :أي ْ
َ
حد ْ بأ َ ولم يج ْ
فليس يعرج اسمه هنا سواه
يا ولداه!
نقيلت ،وغاب القائل الحزي ْ
ن
والتقت العيون بالعيو ْ
ولم يجب أحد ْ
دد
ن الكبرى ع َ َ فالناسج في المدائ ِ
جاء ولد ْ
د!مات ول ْ
همد ْ
الصدر كان قد َ
بض في الترا ْ وارتد ٌ كفج ع ّ
ب
ن في ارتعا ْ ت عينا ِ وحملق ْ
ن!ف ْ ج ْ وظلتا بغير َ
ن!
ت أن تست َك ِ ْ ق التي َتشَرد ْ
قد آن للسا ِ
وعندما ألقوه في سيارة بيضاْء
ب بالدماْء حامت علي مكان ِهِ المخضو ِ
ة خضراْء
ذباب ْ
يناير 1958
***
أنا ..والمدينة
هذا أنا
وهذه مدينتي
ف اللي ْ
ل عند انتصا ِ
لن ،والجدران ت ٌ رحابة الميدا ِ
يبين ثم يختفي وراء ت ٌ
ل
حط ّ ْ
ت ،ثم ت ،ثم َ ح داَر ْ وريقة في الري ِ
بت في الدرو ْ ضاع َ ْ
بظل يذو ْ
ليمتد ظ ِ ْ
م ْ
ل يم ِ ول
َ ٌ فض ح
ِ مصبا وعين
ت
مَرْر ْعه لما َدست على شعا ِ
وجاش وجداني بمقطع حزين
تدأته ،ثم سك ٌْ بَ َ
ت؟من أنت يا ..من أن ْ
الحارس الغبي ل يعي حكايتي
م
ردت اليو ْ لقد ط ِ
من غرفتي
وصرت ضائعا بدون اسم
هذا أنا
وهذه مدينتي
يونيو 1957
***
مارس 1957
***
السجن
ه
لي ليلة في ِ
وك ّ
ل جِيلنا الشهيد
ه
عاش ليالي ِ
فالسجن باب ،ليس عنه من محيد!
ن ودود
ن إنسا ِ
ب ،دو َ ش دون حج ٌ وأن نعي َ
ت خلفنا ب البيو ِ نغِلق أبوا َ
م أهَلنا ليست لنا لن أرضا ل تض ّ
والوجه إن لم يحتفل بنا،
بدا مسطحا ..بل خدود
ضاعت معانِيه
ه
فلم يعد في ِ
باب يقودنا لدفئه البعيد!
ه
ن أين آتي ِم ِْ
حبي الوحيد
ه
من أين آتي ِ
والليل يغلق الحدود!
***
فبراير الحزين
جَهه وجوهَنا؟
أين سنخفي حين نلقي و ْ
ماذا نقول عندما يسألنا؟
ل عامل عام حين يأتي ..ك َ
وك ٌ
ماذا نقول عندما يسألنا؟
ل عامنا حراموك ٌ
ب المكان
وفي الصباح حين سدت خيلهم با َ
وجاء يطلب الحصان
أنكرته أنا الجبان
وحين جاء في مساء اليوم يطلب المان
هل تذكرين يا دمشق ما فعلت؟
لقد بكيت
واغتاله سبتمبر الماضي أمام منزلي
أنا الجبان!
فبراير 1962
***
الموت فجأة
م هاتفيحملت رقْ َ
واسمي ،وعنواني
حتى إذا سقطت فجأة تعرفتم ع َل َ ٌ
ي
وجاء إخواني!
1964
***
بالله يا من سَتلقي
في ذات يوم حبيبي
أخبره أني انتظرت
ت!
م ّ
ح ..و ِ
إلي الصبا ِ
1970
***
1966
***
ي
شمس تسقط في أفقي شتو ْ
شمس حمراْء
والغيم رصاص ٌْ
ي
تنفذ منه حزم الضواء
ي وأنا طفل ريف َ
يدهمني الليل!
ط السفلت كانت سيارتنا تلتهم الخي َ
الصاعد َ من قريتنا لمدينتنا
ت
حين تمني ْ
لو أني أقذف نفسي
فوق العشب المبتل!!
شمس تسقط في أْفقي شتو ٌ
ي
قصر مسحوْر
بوابة نوْر
ي
تفضي لزماني أسطور َ
ف خضبت بالحناء كَ ّ
طاووس يصعد في الجوزاء
حي المنشوْر! بالذيل القَز ٌ
1967
***
آه يا سيدي،
ب،
كم عشنا إلي زمن يأخذ القل َ
قلنا لك أصْنع كما تشتهي،
ل،وأعد ْ للمدينة لؤلؤة العد ِ
ل الفريدة لؤلؤة َ المستحي ِ
ع!
صاح بي صائح ل تباي ْ
ولكنني كنت أضرب أوتاَر قيثارتي،
باحثا عن قرارة صوت قديم!
لم أكن أتحدث عن مِلكي،
كنت أبحث عن رجل،
أخبَر القلب أن بأمته أوشكت،
كيف أعرف أن لدي بايعته المدينة،
دتنا السماء؟! ليس الذي وَع َ َ
والسماء خلء
ت المجاعة وأهاج المدينةِ غرقي يموتون تح َ
وق المآذن ويصيحون فَ ْ
ة
ت مغلق ْ أن الحواني َ
وصلة الجماعة
باطلة ،والفرنجة قادمة
فالنجاَء النجاْء!
ووقفت على شرفات المدينةِ أشهدها،
وهي تشحب بين يديْ كطفل،
جدهاهج المتصاعد حول مسا ِ ويختلط الر َ
بالبكاء
ت،
ي من يوم أن وجل ِد ْ ْ وأنا العاشق المستحث قواف ّ
دها وسوسات القلدة واستدارت علي جي ِ
تهت فيها ،وضاع دليلي
يا تجري هل هو الموت؟
هل هو ميلدها الحق؟
من يستطيع الشهادة
أنا ل!
لم أكن شاهدا أبدا
إنني قاتل أو قتيل!
محتج عشرين موتا،
وأهلكت عشرين عمرا،
وآخيت روح الفصول
تتوارى عصوركم وأظل أغني لمن سوف يأتي،
فترجعك قرطبة وتجوز الشفاعة
ت!
صاح بي صائح :أنج أن َ
ق
ولكنني كنت في دم ِ قرطبة أتمز ْ
عبَر المخاض الليم
كنت أضرب أوتار قيثارتي،
باحثا عن ِقرارة صوتي قديم
ت.. ت بي أن َ ح َ ص ْ
ِ
ت أنت؟! هل كن َ
آه! ل تسألوني جوابا،
أنا لم أكن شاهدا أبدا
إنني قاتل أو قتيل
م،وأنا طالب الد ِ
طالب لؤلؤةِ المستحيل
كان بيتي بقرطبة
ِبعت قيثارتي ،ثم جزت المضيق
قاصدا مكة ،والطريق
راِئع ..كنت وحدي وكانت بلد دليلي
وكان محمد فوق المآذن يمسك طرف الهلل
وينير سبيلي
جة ويوقف خيل الفرن ِ
يمسخها شجرا أخضرا في التلل!
ن.إنني أحلم ال َ
بيتي ،كان بغرناطة
بعت قيثارتي ،واشتريت طعاما
ورحلت إلي بلدي لست أدري اسمها،
جعت فيها
وانضممت لطائفة الفقراء بها،
واتخذت إماما
هل هو الوحي؟
أم أنه الرأي يا سيدي والمكيدة.
ف؟هل أمرنا بأن نرَفع السي َ
د؟طي الخ ْ أم نع َ
ك؟ أم نتفرق في الصحراء؟! هل نغصب المل َ
ت الذي قلت لي: ولقيتك ،أن َ
عد لغرناطة ،وادع أهل الجزيرةِ أن يتبعوني،
ي العقيدة! وأح ِ
ن. إنني أحلم ال َ
ت
لم تأ ِ
ة
بل جاء جيش الفرنج ِ
فاحتملونا إلي البحر نبكي علي الملك.
ل ،لست أبكي علي الملك،
ن علي عمر ضائعي لم يكن غيَر وهمي جميل! لك ْ
فوداعا هنا يا أميري!
آن لي أن أعود َ لقيثارتي،
وأواصل ملحمتي وعبوري
تلك غرناطة تختفي
ويلف الضباب مآذَنها
وتغطي المياه سفائ َِنها
ك الملكي بها، وتعود إلي قبرِ َ
وأعود إلي قدري ومصيري
من تجري يعلم الن في أي أرضي أموت؟
وفي أي أرض يكون نشوري؟
إنني ضائع في البلد
ل،ضائع بين تاريخي المستحي ِ
خي المستعاد وتاري َ
حامل في دمي نكبتي
حامل خطئي وسقوطي
م،هل تجري أتذكر صوتي القدي َ
فيبعثني الله من تحت هذا الرماد
ت،
ت أن َ أم أغيب كما غب َ
وتسقط غرناطة في المحيط!
سبتمبر 1971
***
غربة
يهبط اللون
ت
من الياقو ِ
ة،
للفض ِ
ب،لعش ِ
ويعلو
تسلم الصو ِ
فقاقيعَ من الضواِء
ل تلبث حتى تنفجر
ن
أهو اللون ،أم اليقاع ما يحملك ال َ
علي هذا البكاء الفذ؟
أم بعد الصور؟!
حْر
س َ
ت ال ّ
ينفر الديك نجيما ِ
يرقص البحارة الغراب في الملهي
ويبكون فرادى
مْر
ويعودون ز َ
ت تراه؟
أهوَ اللون الذي كن َ
ت؟أهوَ ذات الصو ِ
مْر
ض الغيم ِ في وجه الق َ
ك ل تملك أن توقف رك َ لكن َ
فانتظر أن َيرجعَ الصيف
وحاول مرة أخري مع الضوِء
الذي ل ينتظر
18/1/1974
***
و
ن من الصح ِ قطرتا ِ
ن من الظ ْ
ل في قطرتي ِ
في قطرة من ندي
قل هو اللون!
نفي البدء كا َ
وسوف يكون غدا
ح
فاجرح السط َ
إن غدا مفَعم
ولسوف يسيل الدم!
سنغني لكم أيها السادة الغرباء
غناء رتيبا
ه
على وتري مفردي يتردد بين مداري ْ ِ
ي
كالقمر العرب ٌ
هو البيض السود ،اللؤلؤ المعتم
سنغني أغانَينا الخضر
لكننا سنفاجئكم بقناَبل موقوتة
كان أسلفنا خَبأوها مع الخبزِ والخمرِ
تفي خشب الموميا ْ
نِ ْ فالد غرف لكي تتفجَر في
حين تحين مواعيد عودتهم للحياةْ
وردة أم فمج
ن صدري
هذه الورقات التي تسمح ال َ
وقبرة تتنفس تحت الصابِع
أم برعم
َنهدها؟
و
قطرتان من الصح ِ
في قطرتين من الظ ْ
ل
في قطرة من ندي
ها هو الهرم
حمَر ِ
فتعالوا نولده ول َ َ
دا!
و
قطرتان من الصح ِ
في قطرتين من الظل
في قطرة من ندي
ح في أَثر اللو ِ
ن تركب الريشة الري َ
تلقطه شذرة َ شذرةَ
من مسامير أحذيةِ الجندِ
ت السحيقة ج الذكريا ِ من رهَ ِ
ن ن أرْزةِ لبنا َ تدخل في إثره بط َ
سغا فَن َ ْ
سغا ة نَ ْ ف نطفته المستكن ّ َ تشت ّ
وتجمع أشلَءه حزمة حزمة
س
ثم تدعوه أن يتنف َ
لكن سدى!
ن
إن لونا هنا ينقص اللو َ
س
كي يتنف َ
ح الذي ل يجري كحب اللقا ِ لون َ
ق
ِ الف ِ دَ ب ز
َ في غاب الذي كالوز
قل إنه الطين
مم خلقناه! فلينظر الطين ِ
قل هو ماء
وما هو ماء ،ولكن دمج
تنخلة أن ِ
أم سلم
وأنا خنجر طالع
ب
أم هلل تحدَر بين الترائ ِ
ب
حتى اختفي في الذوائ ِ
ثم بدا
جسدا
وارتدي جسدا!
قل هو اللون
ن
في البدِء كا َ
وسوف يكون غدا
ح
فاجرح السط َ
إن غدا مفعم
ف يسيل الدم ولسو َ
5يناير 1977
***
بطالة
ابريل 1974
***
سفر
زمن من مطْر
من رذاذي رتيبي
يسح بغير انقطاعي
أفي الليل ،أم في النهاِر
تجري ،كان هذا السفْر؟!
مدن للعبورِ فحسب
وأرصفة للصدى المعدني
تن الهامشيةِ ما يوقظ الذكريا ِ وفي المد ِ
ه
وبين القرى ومدافنها شب َ َ
ب درب م في العش ِثَ ٌ
حِ الريا لمرور ومتسع
ت
وبين القرى ومدافنها ينفذ الضوء في ورق الشجرا ِ
ول يتجسد!
بينهما شهوة غير مرئية
تلفحة من بياض الطلِء الذي يتردد بين البيو ِ
ر
وبين المقاب ِ
مرتجفا في مياه النهَْر!
ن
التفاصيل تفقد أسماَءها ال َ
واللحظات التي سرقتني انتهت
والذي كان يفصل ما بيننا يختفي
ت مث َ
ل نافورة سكت َ ْ
ن يواجه كل أخاه ول يتقدمِ ْ
في الطر علي نبقي ثم
29/5/1977
***
ة
ن تطرد عنها المدين َ ها هي ال َ
فها باَبها
تغلق من خل ِ
وتضم الستاْر
حها في النهاْرثم تشعل مصبا َ
تلك أشياؤها
حد ِْتهاحيوانات و َ
تشرِئب لها في الزوايا
وفوق الجداْر
م موقد غازي ثَ ٌ
مغسلةو َ
ورفوف لوضع المؤوِنة.
منفي صغير
وفي العمق َثم سرير
ومنضدة
وشموع صغاْر
***
طليطلة
ي!
يا صاحب ّ
سكماأخمْر في كئو ِ
م وَتذكار! َ
م في كئوسكما هَ ّ أ ْ
ت َ
وما الذي تنفع الذكري إذا َنكأ ْ
منا ل دواء له في القلب جرحا ،عل ْ
د،
حتى نعو َ
ت
وما يبدو أن اقترب ْ
أ َّيام عوِدتنا ،والجرح ن َّغار
منا
هذا دخان قراها يقتفي د َ َ
منا زرع ،وأجنحة ملء أحل ِ
و ِ
ش له
منا ذئب ن َهَ ّ
ملء أحل ِو ِ
نسقيه من كأسنا الذاوي،
ونسأله عنها،
وننهار!
باريس 1979
***
العودة من المنفي
***
أشجار السمنت
باريس 20/3/1979
***
خمرية
وكان ثم رفات
ت
ت أدَبر ْ
يسيل بين محطا ِ
تومحطات أقبل ْ
وجسوِر
ولت حين نشوِر!
م؟
من ينزل الغَي ْ َ
َ
لي فيه وردة
أزهرت وحدها هنا َ
ك ،وأبقت
ت
جذوَرها راعيا ِ
في جسمي المهجوِر
باريس 1984
لفت نظرى عنوان كتاب الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازى "قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء" ،الذي يوزع
مجانا مع مجلة "دبي الثقافية" ،كتاب ذو إخراج فني رائع يشجع فعل على القراءة ،ويعكس عدم بخل ناشره الذي
قدمه مع مجلة رائعة تحمل كتابات لعدد من كبار الكتاب بالوطن العربي ،بخمسة جنيهات فقط ،أي أقل من تكلفة
غلفه.
بعد تصفح سريع للمجلة شرعت في قراءة الكتاب الذي يتحدث عن موضوع يهمى لهمية الموضوع خاصة عندما
يتعرض له الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي ،الذي يعتبر "قصيدة النثر" قضية عمره ،ومعركته الشخصية،
سنة التطور تقتضي بأن يزيح الجديد القديم ليحل محله ،وهذه الزاحة إما تتم بشكل تدريجي أو بشكل مفاجئ،
لكن في الثقافي فإن التطور ل يعني أن يقضي الجديد على القديم ،لكن يتعايشا معا ،فقد ظهرت مدارسس فنية
عديدة -في الشعر خاصة -وتعايشت جنب إلى جنب ،بل تناولها الفنان جميعها معا ،فنجد من كتب الشعر الموزون
المقفى وكتب أيضا قصيدة التفعيلة ،ونجد من كتب التفعيلة بجانب الشعر الحر أو قيدة النثر ،ول أرى مبررا لما
يخوضه شاعرنا حجازي ضد قصيدة النثر من حرب شعواء وكأنها جاءت لتجتث قصيدة التفعيلة التي تفوق فيها من
جذورها وتمحوها وتمحو من ذاكرة الشعر العربي.
إل إذا كان –هو -يراها خطرا على شعر التفعيلة ،خاصة بعدما اتجه إليها من شعراء كبار كتبوا التفعيلة ونجحوا فيها،
وأثبتوا كذب الدعاء بأن شعراء النثر ل يقدرون على الوزن أو يكتبون التفعيلة استسهال ،والخوف هنا خوف إنساني
غريزي من التحول من بؤرة الضوء إلى ظلل الماضي.
لم يستفزني الكتاب أو عنوانه الذي وصف قصيدة النثر بالـ"قصيدة الخرساء" ،لسببين :أول لنه دون أن يدري
وصف شعر النثر بالقصيدة ،ول يهم الن إن كانت خرساء أو حتى عرجاء ،وهو اعتراف صريح منه بها ،بغض النظر
عن مستواها الذي يضعها في خانة "الخرس" ،المهم أن هناك قصيدة أى هناك شعر.
السبب الثاني :أن تأويل مختلف للفظ "القصيدة الخرساء" يمكن أن يساعد في تعريف قصيدة النثر ،أو على القل
يفتح الباب لشرح ذلك "الخرس" الذي يشعره حجازي ،ومن هذه التأويلت:
-1إما أن يكون "الخرس" الذي يقصده حجازي هو صوت القصيدة وموسسيقاه الخافتة التي ل تظهر أمام موسيقى
التفعيلة الرنانة ،ووقتها أقول له أن ناقدا بحجم الدكتور الراحل عز الدين إسماعيل قال في كتابه القيم "فن
الشعر" أن قصيدة النثر ل تفتقر للموسيقى ،إنما كل ما في المر أنها تحمل موسيقاها في وحدات صغيرة ،فعندما
كان البيت وحدة بناء القصيدة العمودية ،كانت موسيقاها أقوي وأوضح من موسيقى شعر التفعيلة الذي اعتمد
السطر الشعري وحدة له ،وهو ما يعني أن قصيدة النثر ليست خرساء وإنما خافتة الموسيقى ،هامسة اليقاع تحتاج
فقط لمن ل يزال يحتفظ بقوة حواسه ،وقادر على إرهاف السمع.
-2وإما أن يكون المقصود بالخرس عدم قابلية قصيدة النثر لللقاء والتداول الشفهي مثل شعر التفعيلة ،وفي هذه
الحالة أقول إن الخطابية والموسيقى العالية هي التي تمنح النص القابلية لللقاء مثل "مقطوعات سطيح النثرية"
حرم منها شعر النثر ،على العكس التي يحفظها لنا التراث العربي القديم ،فاللقاء إذا ليس ميزة للشعر الموزون ُ
فإذا كانت القصيدة الموزونة تحمل جزءا كبيرا من أهميتها في نغماتها ومتعة التمايل مع البل أثناء سماعها ،فإن
قصيدة النثر وجهت هذا الهتمام للمعنى وإعمال الذهن والحساس.
-3وإخيرا إذا كان المقصود بالخرس هنا "الخرس النقدي" حيث يرى حجازي أن شعر النثر لم يعرب عن نفسه حتى
الن نقديا ،ولم تتحدد ملمحها الشكلية في قالب مجدد وواضح وثابت ،فأقول إن هذا الطلب الذي يلح عليه حجازي
ويراه عيبا في قصيدة النثر ل يمكن تحقيقه لسبب بسيط وهو أنه إذا تحقق شكل وقالب وشروط لقصيدة النثر
ستفقد سبب وجودها وميزتها واختلفها عن الشعر "المقولب" ،فمن يريد قالبا مرسوما محددا واضحا ثابتا ،مثل
"حساب المثلثات" فليجلس أمام أوراقه ممسكا بالقلم ويكتب طلع قصيدته ،ثم يحاول إكمالها في نفس "القالب"
أو البحر الذي جاء منه مطلعها ،وعندما يعييه الوزن يلجأ إلى "زحافات" و"علل" الخليل بن أحمد الفراهيدي.
حاول حجازي في كتابه أن يسلك مسلكا موضوعيا ،محاول طرح مقدمات وتعريفات يراها منطقية ليخلص منها إلى
نتائج ،وهو ما أراه فشل فشل زريعا في تحقيقه ،فضل عن أنه من الغريب أن ينصب مبدع نفسه ناقدا يرفض أشكال
فنية وينحاز لشكال أخرى ،فكونه قامة شعرية كبيرة في فترة ازدهار شعر التفعيلة ل يمنحه الحق في مهاجمه
غيره من الشعراء ،فإذا كان يرفض قصيدة النثر فليرفضها كما يحلو له ،فرفضه أو قبوله لها لن يضر أو يفيد.
ولننا بدأنا كلمنا عن كتابه "القصيدة الخرساء" فلنتحدث عنه بشيء من التفصيل ،وأرجو من الستاذ حجازي أن
ينحي موضوع "القصيدة الخرساء" جانبا ويتفرغ لشرح طلسم كتابه ،الذي عندما حاول فيه أن يمنطق رأيه
وانطباعه الشخصي ،خرج نص مشوه مليء بالتناقضات ففي الوقت الذي يقول فيه بالنص في صفحة رقم ):(20
"نحن نعلم علم اليقين أن الشعر والنثر نقيضان ،ومع أن اللغة هى المادة الولى في الجنسين ،فلغة النثر غير لغة
الشعر ،لن وظيفة الولى غير وظيفة الثانية" ،.يعود سريعا مناقضا نفسه في صفحة رقم ) (22قائل...." :قد رأينا
أول أن الشعر والنثر مؤتلفان في كل نص وفي كل كلم ،لن اللغة هى المادة الولية في الشعر والنثر اللذين
يوجدان معا في أصلها".
كما خلط الستاذ بين النثر الموظف شعرا في "قصيدة النثر" والنثر السردي التقريري فقال" :إن لغة النثر كما
يقول باحث إيراني هى لغة الضرورة في مقابل لغة الشعر التي هى لغة الحرية" ،ثم جاء وتحدث عن تحرر الشعر
)يقصد الموزون( من القيود التي يلتزم بها النثر ،وضرب مثل بضرورة الوقوف على السكون في النثر ،بينما الشعر
يمكنه الوقوف على السكون والحركة ،فإذا كنت إلى هذه الدرجة تعتبر أن اللتزام بالقواعد النجوية قيدا على
البداع ،فلماذا تتمسك بقواعد وقيود الموسيقى الرنانة التفعيلية ،رغم أن الحديث عن وقوف النثر على السكون
الذي ضرب به مثل خاص بالنثر ل بقصيدة النثر.
وفي صفحة ) (84قال بالنص" :ل أريد ول أستطيع ،ول يستطيع غيري أن يمنع أحدا من كتابة قصيدة النثر ،أو ينكر
ما نجده في بعضها من جمال رشيق وفطنة عصرية ،لكن المتعة التي جدها فيها ليست هى المتعة التي نجدها في
القصيدة الموزونة."....
فإذا كنت مقتنعا بما تقول فالمر إذا ل يتعدى كونك تطرب أكثر للشعر الموزون وبالتالي يعنى أن هناك غيرك
يميلون أكثر إلى الشعر الشعر أو إلى قصيدة النثر ،فلماذا إذا مهاجمتها واتهامها بالخرس؟! خاصة أنك عدت لتسرد
قصة ذهابك لمهرجان الشعر العربي الفرنسي الذي نظمه معهد العالم العربي بباريس ،ووجدت أنك كنت الوحيد
بين الشعراء العرب الثلثة عشر الذي يكتب التفعيلة ،وأن دعوتك تمت لكونك عضوا مؤسسا للجنة المهرجان ،أي
أنك تأكدت عمليا من وجود المتذوقين لقصيدة النثر ،ويبدو أنه -رغم نفيك -أغضبك فررت النتقام ربما عن دون
قصد أن تمنع شعراء النثر من مؤتمر الشعر الذي تجهز له بالقاهرة ،بل وأخذت في سكتك شعراء العامية ،ليكون
"مؤتمر شعر التفعيلة" وليس "مؤتمر الشعر".
أما الفصل الذي أفرده حجازي بعنوان "شرف ل أدعيه وتهمة ل أنكرها" ليشبه ما يكتبه بمعركة شعراء التفعيلة مع
الستاذ الكبير عباس محمود العقاد ،عندما أحال أعمالهم إلى لجنة النثر رافضا تصنيفها شعرا من أساسه ،والذي
قال في ختامه محاول استعادة التاريخ -الذي يحيى به وفيه -ليجلس هذه المرة على مقعد الستاذ العقاد قائل:
"ولنفرض في النهاية أني أكرر العقاد ،فمن ذا الذي يكررني؟!" ،فأرى أنه ليس هناك معركة أصل ،وإن كانت هناك
ثمة معركة فهى في ذهن الستاذ حجازي وحده ،يحارب فيها أعداء وهميون ل يشعون به ،وبمعركته أو يشاركونه
فيها ،فالعقاد لن يتكرر يا أستاذ حجازي -للسف -أما عن دورك ،فل أظن أن أحدا من شعراء قصيدة النثر يقبل
القيام به.
جدير بالذكر أن أحمد عبد المعطي حجازي شاعر وكاتب بجريدة الهرام ،ولد عام 1935بمدينة تل ،محافظة
المنوفية ،مصر ،حفظ القرآن الكريم ،وتدرج في مراحل التعليم حتى حصل على دبلوم دار المعلمين ،1955ثم
حصل على ليسانس الجتماع من جامعة السوربون الجديدة ،ودبلوم الدراسات المعمقة في الدب العربي ،1979
عمل مدير تحرير مجلة صباح الخير ثم سافر إلى فرنسا حيث عمل أستاذا ً للشعر العربي بجامعاتها ثم عاد إلى
القاهرة لينضم إلى أسرة تحرير الهرام ويرأس تحرير مجلة إبداع .عضو نقابة الصحفيين المصرية ولجنة الشعر
بالمجلس العلى للثقافة ،والمنظمة العربية لحقوق النسان.
دعي للقاء شعره في المهرجانات الدبية ،كما أسهم في العديد من المؤتمرات الدبية في كثير من العواصم
العربية ،ويعد من رواد حركة التجديد في الشعر العربي المعاصر.
دواوينه الشعرية :مدينة بل قلب ،1959أوراس ،1959لم يبق إل العتراف ،1965مرثية العمر الجميل ،1972
كائنات مملكة الليل ،1978أشجار السمنت .1989
مؤلفاته منها :محمد وهؤلء -إبراهيم ناجي ،خليل مطران ،حديث الثلثاء ،الشعر رفيقي -مدن الخرين -عروبة مصر-
أحفاد شوقي.
حصل على جائزة كفافيس اليونانية المصرية .1989ترجمت مختارات من قصائده إلى الفرنسية والنجليزية
والروسية والسبانية واليطالية واللمانية وغيرها.
هذه العلقة الحميمة التي ربطت بين فؤاد زكريا وفن الموسيقي ,ربما بدت لبعضنا غريبة بعض الشيء ,أو محتاجة
لتفسير ..ففؤاد زكريا مفكر يشتغل بفن يعد أقرب فنون الفكر للمعرفة الموضوعية التي يتجرد فيها النسان من
ميوله وعواطفه ,ليعرف الموضوع الذي يتصدي له معرفة صحيحة بالمقاييس المشتركة بين البشر جميعا علي
اختلف ثقافاتهم ,وهي المقاييس العقلية المنطقية التي نستخدمها في طرح السئلة وتحديد المشكلت والوصول
إلي إجابات صحيحة مقنعة.
وفي هذا تختلف الفلسفة عن العلم التجريبي الذي نتعرف به علي الوقائع الجزئية ونسيطر به علي الطبيعة,
وتختلف عن الفن الذي نتلقاه بكل ملكاتنا ,فنتذكر ونتخيل وننفعل ونتصل اتصال حميما بالعالم وبما وراء العالم..
الفلسفة عقل صارم ,والفن انفعال ووجدان ..فكيف اجتمعا في فؤاد زكريا؟
ولو أن فؤاد زكريا كان مجرد مستمع يحب الموسيقي ويتذوقها ويجمع بينها وبين اشتغاله بالفلسفة ,لما أثار
استغراب أحد ,لن المتعة الفنية حاجة إنسانية مشتركة ,مهما يكن النشاط الذي يتخصص كل منا فيه ويجعله عمله
الول وحرفته الساسية.
ونحن نعرف أن كبار الفلسفة اهتموا بالموسيقي وتحدثوا عن مكانها في الحضارة ودورها في حياة الفرد والجماعة,
وإذا كانت الحضارة النسانية قد ميزت في مراحل نضجها بين ما نعرفه بالعقل ,وما نعرفه بالقلب ,وما نعرفه
بالتجربة ,فهذه المعارف كلها وجوه متعددة للنشاط العقلي .ونحن نطرب للمنطق السديد ,ونقتنع بالنغمة الرائعة.
ولقد كان سقراط نحاتا ,أخذ فن النحت عن أبيه ..فلما صار فيلسوفا كان يحلم بأن يصبح موسيقيا ,وقد اشتغل
الفلسفة بالطب ,فالحكيم طبيب ,والطبيب حكيم ..ومكان الشعر في الفلسفة ل يقل عن مكان المنطق فيها ,وكما
أن للفن مكانه في حياة الفلسفة وفي إنتاجهم ,فالفلسفة لها مكانها في حياة الدباء والفنانين وفي أعمالهم ..وهل
نستطيع أن نفصل بين شعر المعري وفلسفته؟ ..أو نفصل في أوبرات فاجنر بين اللحان والشعار والمناظر؟ ..بل
لقد جمع فاجنر بين موهبة الشاعر ,وموهبة الملحن ,وموهبة الناقد والفيلسوف.
وربما كانت الموسيقي أقرب الفنون إلي الفلسفة ,لن الموسيقي أصوات مجردة ول تعني بذاتها أي شيء.
والفلسفة كذلك أفكار مجردة تعلو علي الوقائع الجزئية والحالت الفردية.
وبوسعنا إذن أن نفهم تلك العلقة التي ربطت بين فؤاد زكريا والموسيقي مند كان صبيا في العاشرة من عمره.
ففي تلك السن نجح في صنع آلة موسيقية بدائية ـ كما يصفها ـ من صندوق مستطيل من الصفيح شد عليه خيوطا
من الجلد المطاط الرقيق وراعي في الشد أن يكون متدرجا بما يجعل كل خيط مناظرا لنغمة في السلم
الموسيقي ..وقد استطاع أن يعزف علي هذه اللة البدائية ألحانا شجية مما كان شائعا في ثلثينيات القرن الماضي.
واستطاع فؤاد زكريا بعد ذلك بسنوات أن يقنع أسرته بشراء مندولين كان يجيد العزف عليه ..كما تعلم أن يقرأ
المدونات الموسيقية ,وأن يدون اللحان التي يسمعها ..وهكذا ظل يتقدم في هذا الطريق بخطي واسعة حتي انفتح
له عالم الموسيقي السيمفونية ,خصوصا بعد أن التحق بقسم الفلسفة في كلية الداب بجامعة فؤاد الول.
تلك هي السنوات الذهبية ـ أربعينيات القرن الماضي ـ التي بدا فيها أن النخبة المصرية المثقفة قد نجحت في خلق
مناخ فكري تستطيع مصر فيه أن تتحرر من ماضيها العبودي البائس ,وتلحق بالركب النساني المتقدم وتأخذ مكانها
فيه ..وهو المل الذي بددته أحداث السنوات التالية.
لكن التحاق فؤاد زكريا بقسم الفلسفة في كلية الداب فرض عليه أن يختار بين النصراف للفلسفة والنصراف
للموسيقي ,فاختار الفلسفة ,وإن ظل عاشقا وفيا للموسيقي ..ذكرياته حافلة بالعمال التي استمع إليها ,والفرق
التي حضر حفلتها في عواصم عالمية مختلفة ,ومكتبته حافلة بالتسجيلت والمراجع التي تتحدث عن الموسيقي
والموسيقيين ..وقد أصدر هو نفسه ثلثة كتب عن هذا الفن الذي عشقه ولم يستطع أن يشتغل به.
وقد بدأ فؤاد زكريا هذه الصدارات بكتاب عن التعبير الموسيقي ,ثم أتبعه بكتابه مع الموسيقي ,الذي تحدث فيه
عن علقته بهذا الفن وذكرياته معه ,كما تحدث عن اليقاع حديثا مستفيضا رائعا ,وعن الموسيقي الشعبية,
ومستقبل الموسيقي في مصر ,أما كتابه الخير فقد اختار له موضوعات تتصل فيه الموسيقي بالفلسفة ,هذا
الموضوع هو الموسيقار اللماني ريتشارد فاجنر ,الذي تتلمذ علي شوبنهور ,وجمعت بينه وبين نيتشه صداقة حميمة
تأثر فيها كل منهما بالخر ,وأفسح له مكانا في إنتاجه ,فكلهما قومي ألماني متحمس ..وكلهما شديد العجاب
بالتراث اليوناني ..وكلهما ساخط علي تراث الساميين.
ولقد بدا لي كتاب فؤاد زكريا عن فاجنر استكمال لدراسته الفلسفية عن نيتشه أو تعبيرا آخر عن فهمه لهذا
الفيلسوف ولثقافة القرن التاسع عشر الوروبي بشكل عام ..فثقافة القرن التاسع عشر هي ثقافة الثورة التي
شملت كل مجال ,وسعت إلي تحرير النسان من العصور الوسطي وثقافتها الخرافية ونظمها المستبدة.
في القرن التاسع عشر استطاعت الثورة الفرنسية أن تهز العروش ,وتحطم الغلل ,وترفع علي الرض راية
الحرية ,والمساواة والخاء.
وفي القرن التاسع عشر انتصرت الدولة الوطنية علي الدولة الدينية ,وانتصر العلم علي الخرافة ,والرومانتيكية
علي الكلسيكية ..ووقف فيكتور يدافع عن الجمهورية في فرنسا ..وألف بتهوفن سيمفونيته الثالثة يحيي فيها
نابليون رسول الثورة قبل أن يصبح إمبراطورا فينقلب عليه وكما وقف بتهوفن إلي جانب الثوار الفرنسيين ,وقف
فاجنر إلي جانب الثوار اللمان.
أريد في النهاية أن أقول إن المثل العقلنية الرفيعة التي قادت فؤاد زكريا ليشتغل بالفلسفة ,هي المثل الرفيعة
التي قادته للموسيقي الكلسيكية ,وجعلته واحدا من أخلص عشاقها ومحبيها.
الفلسفة أخلق بالمعني العميق لهذه الكلمة ..والموسيقي أيضا أخلق بهذا المعني ..فل غرابة إذن في أن يكون
محب الحكمة محبا للموسيقي!
ولد أحمد عبد المعطي حجازي عام 1935بمدينة تل -محافظة المنوفية -مصر - .حفظ القرآن الكريم ،وتدرج في
مراحل التعليم حتى حصل على دبلوم دار المعلمين ،1955ثم حصل على ليسانس الجتماع من جامعة السوربون
الجديدة ،ودبلوم الدراسات المعمقة في الدب العربي .1979
-عمل مدير تحرير مجلة صباح الخير ثم سافر إلى فرنسا حيث عمل أستاذا ً للشعر العربي بجامعاتها ثم عاد إلى
القاهرة لينضم إلى أسرة تحرير "الهرام" ويرأس تحرير مجلة "إبداع".
-عضو نقابة الصحفيين المصرية ولجنة الشعر بالمجلس العلى للثقافة ،والمنظمة العربية لحقوق النسان.
-دعي للقاء شعره في المهرجانات الدبية ،كما أسهم في العديد من المؤتمرات الدبية في كثير من العواصم
العربية ،ويعد من رواد حركة التجديد في الشعر العربي المعاصر.
-دواوينه الشعرية :مدينة بل قلب -1959أوراس -1959لم يبق إل العتراف -1965مرثية العمر الجميل -1972
كائنات مملكة الليل -1978أشجار السمنت .1989
-مؤلفاته منها :محمد وهؤلء -إبراهيم ناجي ،خليل مطران ،حديث الثلثاء ،الشعر رفيقي -مدن الخرين -عروبة
مصر -أحفاد شوقي -وله الن :الثقافة ليست بخير 2005
-حصل على جائزة كفافيس اليونانية المصرية .1989
-ترجمت مختارات من قصائده إلى الفرنسية والنجليزية والروسية والسبانية واليطالية واللمانية وغيرها.
من أشعاره:
العودة من المنفى
خمرية
أصدقائي..
هذا هو ما استطعت لملمته من للئ هذا المبدع
ولول أن يتحول الموضوع إلى موضوع شعري بحت لستطردت أكثر..
تحياتي..
__________________
ل يهمني اسمك
ليهمني عنوانك
ليهمني لونك ول ميلدك..
مكانك..
يهمني النسان
ولو ما لوش عنوان
يا ناس يا مكبوته ...هيه دي الحدوته
ظاهرة الشعر الحديث
أحمد المجاطي
مداخل لدراسة الم َ
ؤلف :
يعتبر النقد عملية وصفية تنطلق مباشرة بعد البداع ،و تكون غايتها قراءة الثر الدبي،و مقاربته بهد ف استقصاء
مواطن الجودة و النقص فيه.
و يرتبط النقد في الغالب بالوصف و التفسير و التأويل و الكشف و التحليل و التقويم ،و ينصب كل ذلك على النص
أو الثر المنقود.
و يمر العمل النقدي عبر مجموعة من الخطوات و المراحل ،يمكن ترتيبها مثل ما يلي:
* قراءة النص أو الثر المنقود و ملحظته.
* تحليل مضمونه وشكله.
* تقويمه إيجابا و سلبا.
* توجيه المبدع من خلل عملية تغذية راجعة ¬) ،(feed backيمده بها العمل النقدي.
و من أهم وظائف النقد توجيه دفة البداع ،وإضاءة الطريق للمبدعين المبتدئين و لكبار الكتاب على حد سواء.
وكشف مواطن القوة و الضعف في الثر البداعي ،و التمييز بين الجودة و الرداءة ،و الطبع و التكلف ،و الصنعة و
التصنع .كما يعرف النقد المبدعين بما وصل إليه البداع من تطور ،في النظرية و الممارسة ،و يجلي لهم طرائق
التجديد و مدارسه و تصوراته الجمالية و الفلسفية و الفنية ،قصد إبعادهم عن التقليد .
إذا كان النقد الدبي فاعلية قرائية بعدية تتطلب مادة إبداعية قبلية تقرأها و تشتغل عليها و تستولد منها و حولها
أسئلتها و تأملتها و إشكالتها البانية لخطابها و المحركة لوتائرها ،و هو يتطلب "وعيا" نظريا و منهجيا ،يضبط صنيعه
و يجعله على بينة كافية بالصنيع الدبي الذي يتعامل معه ،فإنه لم يكن بالمكان ،قبل ستينيات القرن العشرين،
الحديث عن "مشهد نقدي" في المغرب ،وإنما كانت هناك كتابات لبعض الدباء المغاربة هي عبارة عن ردود عفوية
و ملحظات انطباعية تقييمية ،أكثر منها كتابات نقدية .ومن هؤلء الدباء نذكر :عبد الله كنون ،و أحمد زياد ،و عبد
الرحمان الفاسي ،و محمد بلعباس القباج...
كانت ستينيات ق ،20نقطة انطلق "الوعي" النقدي الحديث في المغرب ،و كانت وراء هذه النطلقة عوامل و
ملبسات سوسيوثقافية ،يمكن تلخيصها في التي :
/1حصول المغرب على استقلله السياسي و تفرغه لمشاكله الداخلية.
/2انطلقة الجامعة المغربية ،و تأسيس كلية الداب و العلوم النسانية.
/3ظهور أعمال أدبية تنتمي لجناس أدبية حديثة.
/4الزدهار النسبي للصحافة الدبية ) ملحق ثقافية ،مجلت أدبية متخصصة(
/5انفتاح المغرب على لحركة الثقافية و الدبية في المشرق العربي )القاهرة ،بيروت ،بغداد(.
/6تأسيس اتحاد كتاب المغرب ،و مساهمته في التحسيس بسؤال الثقافة و الدب .
تضافر هذه العوامل وغيرها ،كان حافزا للوعي النقدي الحديث في المغرب ،و كان صدور بعض العمال الروائية و
الشعرة على الخصوص ،أوائل ستينيات ق ،20فرصة سانحة أطلقت النقد المغربي الحديث ،و لعل أبرز من مثل
هذه الحقبة هم :محمد برادة ،و أحمد اليابوري ،و محمد السرغيني ،و أحمد المجاطي ،و حسن المنيعي ،و إبراهيم
السولمي.
لقد تخرج على أيدي هؤلء الساتذة و غيرهم ،مع طلئع سبعينيات ق ،20جيل جديد من النقاد و المبدعين هم
الذين سيؤثثون المشهد النقدي المغربي بعطائهم،و هم الذين سيملون فضاءه بأصواتهم و أفكارهم ،و ستتفرع
معهم النحاء التي انتحاها النقد في المغرب بعد ذلك ،من نقد شفوي ،و صحفي ،و جمعوي ،و جامعي ،و سجالي...
و قد ساهمت هذه الجهود ،بل شك ،في التأسيس لوعي نقدي جديد ،يتوخى إعادة النظر في شروط القراءة و أدبية
النص المقروء ،لكنها لم تخل من هنات أجملها ذ .نجيب العوفي في أربع هي :
/1المنهاجوية :ويقصد بها ارتهان الناقد غير المشروط للمنهج على حساب النص المقروء.فيستعاض عن المبدإ
المعروف) النص و ل شئ غير النص( بمبدإ مضاد ) المنهج و ل شئ سوى المنهج( .فتكون النتيجة الحتمية آخر
المطاف هي اغتراب النص ،و المنهج ،و الناقد ،و المتلقي.
/2الرتحال السريع بين المناهج و النماذج :الذي تحول عند البعض إلى قطيعة قسرية بين المحطات المنهجية ،و
إلى سلسلة من النواسخ و المنسوخات.
/3غياب النقد عن النقد :و هيمنة النزعة الوصفية التحليلية على النزعة التقييمية التأويلية ،مما يجعلنا ،في آخر
التحليل ،تجاه خطاب علموي شكلني متعال ،غايته الولى ة الخيرة ،أن يعيد كتابة النص و يفكك أجزاءه و عناصره،
ثم يعيدها إلى أماكنها أو يتركها لحما على وضح .و من تم تتساوى النصوص المقروءة و توضع في سلة واحدة.
/4غياب شخصية الناقد في قراءته و ارتباك لغته النقدية ،معجما و مصطلحا.
و قد استمر النقد العربي في المغرب ،على عواهنه ،يصارع كل أشكال النقص فيه ،و يحاول أن يؤسس هويته
العربية المغربية ،لكن طريقه لتحقيق ذلك ل زال يبدو طويل ،و مليئا بالشواك ،والمطبات ،التي نتمنى أن
يتجاوزها من سيأتي في هذا القرن الواحد و العشرين.
جمع أحمد المجاطي بين خاصيتي البداع و النقد لذلك جاءت كتاباته مفيدة و مقنعة في آن معا .و كان قد ولد في
الدار البيضاء سنة ،1936تلقى دراسته بين الدار البيضاء و الرباط ودمشق .و درس بكل من جامعة محمد بن عبد
الله بفاس و جامعة محمد الخامس بالرباط .اعتبر من المؤسسين لحركة الحداثة الشعرية بالمغرب .فاز بجائزة ابن
زيدون للشعر التي يمنحها المعهد السباني /العربي للثقافة بمدريد عام ،1985كما فاز بجائزة المغرب الكبرى
للشعر سنة .1987
توفي أحمد المجاطي سنة ،1995مخلفا وراءه عطاًء متميزا في الشعر و النقد و التدريس.
يعتبر كتاب " ظاهرة الشعر الحديث" دراسة نقدية تتبع مسار تطور الشعر العربي الحديث ،و البحث في العوامل
التي جعلت الشاعر العربي الحديث ينتقل من مرحلة الحياء و الذات إلى مرحلة التحرر من قيود التقليد ،مع رصد
العوامل و التجارب التي غذت التجديد في الشعر العربي :
• على مستوى المضمون :من خلل تجربة الغربة و الضياع ،و تجربة الموت ،مع ما ميز كل تجربة من
مظاهر و خصوصيات.
• على مستوى الشكل و البناء الفني :في اللغة و السياق و آليات التعبير و خاصة الصورة الشعرية و السس
الموسيقية.
دراســـــة الـــكـــتـــاب
الـقراءة الـمضمونــيـة:
الفصـــــــل الول :التطور التدريجي في الشعر الحدـيث.
و يعتبر محمود سامي البارودي أهم زعماء هذا التيار ،إذ نظم شعره متوسل بالبيان الشعري القديم ،مما جعل هذا
التيار حركة تقليدية محافظة جراء مجاراتها طرائق التعبير عند الشعراء القدامى ،و وضعف اطلع أصحابه على
الداب الجنبية.
• التيار الذاتي:
تداخلت عدة عوامل سياسية و اجتماعية و تاريخية ،للدفع نحو تجاوز شعار العودة إلى التراث ،و الخذ بشعار البحث
عن الذات الفردية و العلء من شأنها ،مما أنتج تيارا ذاتيا في الكتابة الشعرية العربية الحديثة ،تشكل عبر
الجماعات الدبية التية:
)أ(جماعة الديوان:
و تضم كل من العقاد و شكري و المازني ،الذين آمنوا بأن الشعر وجدان ،لكنهم اختلفوا في التعبير عن هذا اليمان،
مما أعطى تمايزا في مضامين إبداعهم الشعري ،يمكن تجسيده كالتي:
العقاد
" -مفكر قبل أن يكون شاعرا"
-غلب التفكير على الوجدان و الشعور
-قصيدة"الحبيب" غلب فيها المنطق العقلي على ما هو وجداني داخلي.
شكري
-من طبيعة الشعر عنده أن ينطلق من النفس بصورة طبيعية.
-تعامل مع الشياء تعامل مباشرا أساسه النفعال المباشر دون تدخل من العقل أو توغل في أعماق النفس
المازني
-تأمل في أعماق الذات ،و انصرف عن الهتمام بالعقل الخالص.
-المعاني جزء من النفس تدرك بالقلب ل بالعقل،مما أنتج لديه شعر الستبطان و استكناه أغوار الذات
نصل مما سبق إلى أن ميزة الشعر الذاتي عند جماعة الديوان هي التمايز و التفرد و التغني بشعر الشخصية،و
ليس دعوة لبداع شعر متشابه الوسائل و الغايات .و لعل مرجع اهتمام الجماعة بالعنصر الذاتي أمران:
إعادة العتبار للذات المصرية التي كانت تعاني من النهيار التام .
انتشار الفكر الحر بين مثقفي و مبدعي مصر ،فعبروا عن أنفسهم باعتبارها قيما إنسانية ذات وزن.
جبران
-انقطع إلى التأمل في نفسه ،مؤمنا بأن ملكوت الله في داخل النسان.
-ل مجال لمحاولة التحرر من الفساد
-الصلح و الطلح شيء واحد ،ووجودهما ضروري كوجود الليل و النهار.
نعيمة
-آثر حياة الفطرة على تعقد الحضارة.
-هرب بأحلمه إلى الغاب.
-قدم عن المجتمع المتحضر صورة حافلة بالضجيج و الحتجاج و الخصومة.
أبو ماضي
-استعصم بالخيال و ركن إلى القناعة و الرضى.
-فر من الحضارة المعقدة إلى القفر أو إلى الغاب.
-عاد إلى نفسه ليتأسى روحيا.
رغم معاصرة شاعر الرابطة القلمية للمد القومي العربي ،إل أنه ظل حبيس الذات و المضامين السلبية مثل اليأس
و الخنوع و الستسلم و القناعة ،مخالفا حقيقة الوعي القومي المستلزم للفعال اليجابية و التغيير الثوري و ترجمة
المشاعر إلى الواقع العملي.
)ج( جماعة أبوللو:
أسسها الدكتور أحمد زكي أبو شادي سنة ،1932ارتكزت في مفهومها للشعر على التغني بالذات و الوجدان ،إذ
رأت في ذات الشاعر مصدر ما ينتج من شعره ،بشكل يسمح بتعرف هذه الذات من خلل النظر في شعر صاحبها.
يرى أحمد المجاطي أن معاني الشعر عند أصحاب هذه الجماعة تتميز بالسلبية نظرا لتعاطيهم مع مواضيع الطبيعة
و الهروب من الحياة الواقعية إلى الذات المنكمشة ،و من المدينة نحو الغاب ،و اصطباغ شعرهم بالخيبة و الحرمان
و اليأس بالمرارة و المعاناة من الغتراب.
انتهت جماعة أبوللو بالنفصال و التمزق و الهجرة و الفرار ،فتعددت التجاهات المختلفة التفاصيل ،و المتحدة عند
انفصال الشاعر المصري عن مجتمعه.
هذه المحاولت التجديدية انحصرت على مستوى الشكل بفعل الحملة التي شنها النقاد المحافظون على هذه
الحركة التجديدية النامية و محاولتها المستهدفة للغة و الوزان و القوافي و الصور البيانية.
اصطبغت نهاية هذه التيارات التجديدية بالحزن إن على صعيد المضمون أو الشكل:
فعلى صعيد المضمون :انحدر إلى مستوى البكاء و النين و التفجع و الشكوى ،و هي معان ممعنة
في الضعف وتكشف عما وراءها من مرض و خذلن.
و على صعيد الشكـــل :فشل في مسيرته نحو الوصول إلى صورة تعبيرية ذات مقومات خاصة
و مميزات مكتملة ناضجة ،و كان فشله بفعل النقد المحافظ الذي استمد قوته مما كان الوجود العربي التقليدي
يتمتع به من تماسك و مناعة قبل نكبة فلسطين ،و الذي سيتغير بعد النكبة.
بكل ذلك غدا الشعر العربي الحديث وسيلة لستكشاف النسان و العالم تعبر عن ثمار الرؤيا الحضارية الجديدة
التي استقرت عند بعض الشعراء المحدثين الكبار ،من أمثال السياب و نازك الملئكة و البياتي و صلح عبد الصبور
و خليل حاوي و أدونيس و غيرهم.
و من الموضوعات التي تسجل حضورها بكثرة في الشعر العربي الحديث ،تجربة الغربة و الضياع التي يرجع
الدارسون عوامل بروزها إلى ثلثة هي:
)أ ( التأثر بشعر توماس إليوت ،خاصة في قصيدته " الرض الخراب"
)ب( التأثر بأعمال بعض المسرحيين و الروائيين الوجوديين أمثال :ألبير كامو ،و جون بول سارتر،
و بعض النقاد مثل :كولن ولسون ،خاصة في دراسته عن اللمنتمي ،و هي أعمال ترجمت إلى اللغة العربية و
ساعدت في تبني الشباب موجة من القلق و الضجر انعكست في أشعارهم
)ج( عامل المعرفة ،باعتبار المعرفة سلح الشاعر الحديث.
إل أن أحمد المجاطي ل يقر بكون هذه المصادر هي الوحيدة التي شكلت سبب نغمة الكآبة و الضياع و التمزق ،بل
هو يرى أن هناك جذورا لهذه النغمة تتمثل في تربة الواقع العربي الذي حولته النكبة إلى خرائب و أطلل ،ذلك أن
النكبة في نظره أهم عامل في الدفع نحو آفاق الضياع و الغربة بالشعر العربي الحديث ،فليس المر مجرد نغمة
سوداء استقدمها الشعراء بقدر ما هو مأساة حقيقية مصدرها هذا الواقع المنحل و ذلك التاريخ الملوث اللذين قدر
على الشاعر العربي الحديث أن يحمل لعنتهما مما يؤكد أصالة هذه التجربة و ضرورة البحث عن جذورها في
الواقع ،و تصوير أهم مظاهرها البارزة في القصيدة العربية الحديثة ،و التي نذكر منها :
.1الغربة في الكون:
حين حلت النكبة ،و طرد العربي الفلسطيني من أرضه ،و نفي من أمجاده و تاريخه ،و حاصرته المهانة و الذل ،و
ة ،أبلغ من
م ،مال إلى الشك في كل شيٍء ،و كان الشاعر بفعل حساسيته المفرط ِ انفصل عما حوله من أشياَء و قي ٍ
جسد هذا الميل حين جرب أن يحس بوحدته و تفرده في الكون ،و تولى أمر نفسه بنفسه ،فشكك في الحقائق و
مال إلى التفلسف الوجودي ) النطولوجي ( ،و تفسير الكون عقل ومنطقا ،بفعل إحساسه بالعبث و القلق و
المرارة المظلمة ،و ممن جسد هذا الميل نذكر :صلح عبد الصبور ،و السياب ،و أدونيس ،و يوسف الخال .
.2الغربة في المدينة:
آمن الشاعر العربي الحديث بأن هدف الشعر هو تفسير العالم و تغييره ،لذا وجد في المدينة المجال النسب
لتحقيق هدفه ،على اعتبار أنها تمثل الوجه الحضاري للمة بكل أبعاده الذاتية و الموضوعية ،و تتخذ قناعا سياسيا و
اجتماعيا و ثقافيا و اقتصاديا .
لكن المدينة العربية فقدت كثيرا من مظاهر أصالتها ،حين غزتها المدينة الوربية ،فأضحت بمصانعها الحديثة
و عماراتها الشاهقة و طرقاتها الفسيحة ،قالبا ل يناسب واقع المة العربية المهزومة مما غذى إحساس الشاعر
العربي الحديث بالغربة في علقته بالمدينة مكانا و ناسا وقيما و أشياَء ،فكان أن سلك في تصوير هذه المدينة
طرقا متعددة ،فقد صورها في ثوبها المادي و حقيقتها المفرغة من كل محتوى إنساني ،كما فعل أحمد عبد المعطي
حجازي في ديوانه )مدينة بل قلب(.كما اهتم الشاعر العربي الحديث بالناس في المدينة ،فقدمهم صامتين يثقلهم
الحساس بالزمن ،مشغولين بأنفسهم ،ل يكاد يلتفت الواحد منهم إلى الخر.
و رغم هذه المواقف السلبية من المدينة فإن الشاعر الحديث لم يستطع الهروب منها إلى الريف أو الغاب ،كما
فعل الرومانسيون ،فقد وجد أن المدينة تحاصره ،كما عند السياب مع بغداد ،إذ وجد أن الخلص منها يكمن في
الموت ،كما عند صلح عبد الصبور في قصيدة )الخروج(.
.3الغربة في الحب:
ل ثالث يضاف إلى فشل الشاعر العربي الحديث في فهم أسرار الكون و في التأقلم مع المدينة ،إنه فشله في فَ َ
ش ٌ
الحب الذي بات زيفا مصطنعا و بريقا واهما ،ذلك أن هموم الشاعر العربي الحديث كثيرة متنوعة ،و تركيبته
النفسية معقدة ل ينفع معها ترياق الحب بمفهومه الروحي أو المادي ،فلم تعد المرأة بجسدها و أنوثتها و رقتها و
جمالها قادرة على تخليصه من همه القاتل ،بل إن العلقة بين الزوجين تحولت إلى عداوة و قتال كما عند خليل
حاوي في قصيدته )الجروح السود( من ديوانه )نهر الرماد( ،و الحب يموت كما عند عبد المعطي حجازي ،أو يصاب
بالختناق كما عند صلح عبد الصبور.
.4الغربة في الكلمة:
كانت رغبة الشاعر العربي الحديث أن تكون كلمته قوة و حركة وفعل ،غير أن الزمن لم يلبث أن حول الكلمة على
لسانه إلى حجر كما قال أدونيس في قصيدة )السماء الثامنة( من ديوان )المسرح و المرايا( ،فعاشت الكلمة بذلك
غربتها الذاتية في واقع ل يربي سوى الصدى و خنق الجهر ،و قتل الكلم الصارخ ،مما جعل الشاعر يلوذ بالصمت،
كما فعل البياتي في قصيدة )إلى أسماء( من ديوان )سفر الفقر و الثورة( رغم كونه عذاب و سكون و حزن ،حين
اكتشف أن نضاله بالكلمة لن يتجاوز تصوير الواقع البشع الذي خلقته الهزيمة و حكمت عليه بمعاناته و الكتواء
بناره ،دون أن تمتلك الكلمة ميزة الحركة و الفعل.
خلصة الفصل:
هكذا شكلت هذه التنويعات الربعة البعاد المختلفة لتجربة الغربة لدى الشاعر العربي الحديث و التي تبلورت في
مفهوم دال واحد هو :الغربة في الواقع الحضاري ،سواء تمظهرت من خلل جانب واحد أو أكثر ،فقد كان هدفه
الساس هو البحث عن الخلص الكلي إيمانا منه أن وراء كل ظلمة نورًا ،و أن الموت نفسه وسيلة إلى الحياة حين
ل تبقى أية وسيلة أخرى ،فكان هناك ارتباط وثيق بين معاني الضياع و الغربة و معاني اليقظة و التجدد و البعث ،و
حصل تداخل بين بين المعاني جميعها في قصائد الشعراء المحدثين.
لم يكن حال المة العربية كله مدعاة لليأس و الغربة و الضياع و السأم و الحزن ،ذلك أن العشرين سنة التي تلت
النكبة قد شهدت هزات عنيفة و تغيرات واسعة شملت العالم العربي كله ،مما ولد حال آخر ممثل في إيقاع المل
و الحياة و اليقظة و التجدد ،بسبب ما تم إنجازه واقعيا و سياسيا بدءا ً بثورة مصر سنة مرورا بتأميم قناة السويس
و رد العدوان الثلثي وصول إلى استقلل أقطار العالم العربي...الشيء الذي انعكس في أشعار بعض شعراء هذه
المرحلة ،ذكر منهم أحمد المجاطي أربعة هم :بدر شاكر السياب و خليل حاوي و أدونيس 1952و عبد الوهاب
البياتي.
ل بموت تكون معه الحياة،فعانق بذلك لقد رفض الشاعر من هؤلء الموت ،موت الحياة الذي ليس بعده بعث ،و َقب َ
الرفض و الثورة و النضال ،و التجدد و المل و التحول و الحياة.
يرى المجاطي أن هؤلء الشعراء هم أفضل من يمثل هذا التجاه ،و يعدد الخصائص التي توحد بينهم في ما يلي:
• ارتباط تجربتهم بالحياة و الموت.
• ارتباط تجربتهم بالواقع الحضاري للمة.
• رغبتهم في النتصار على جميع التحديات التي تواجه الذات و الكون و الزمن و الجماعة.
• استخدامهم للمنهج السطوري.
• استشراف المستقبل.
لقد استفاد الشاعر الحديث من مجموعة من الساطير و الرموز الدالة على البعث و التجدد ،استلهمها من الوثنية
البابلية و اليونانية و الفينيقية و العربية ،و من المعتقدات المسيحية و من الفكر النساني عامة ،و من هذه الساطير
نذكر :تموز ،و عشتار ،و أورفيوس ،و طائر الفينيق ،و مهيار الدمشقي ،و العنقاء ،و السندباد ،و عمر الخيام ،
و الحلج ...مما أرز منهجا نقديا و أدبيا و فلسفيا يسمى بالمنهج السطوري ،يصوغ فيه الشاعر مشاعره و رؤاه ،و
مجمل تجربته في صور رمزية ،يتم بواسطتها التواصل عن طريق التغلغل إلى اللشعور حيث تكمن رواسب
المعتقدات و الفكار المشتركة.
أدونيس:
ركز الكاتب في دراسته لدونيس على ديوانيه) كتاب التحولت و الهجرة في أقاليم النهار و الليل( و ) المسرح و
المرايا ( ،فلحظ أن ما يميز تجربة الحياة و الموت عند أدونيس ،من خللهما ،هو صدورها عن ذات محتقنة بفحولة
التاريخ العربي،في واقع يفتقر إلى الفحولة و الخصب،و محتقنة بجموح الحضارة العربية قبل أن يسلط سيف
الستعمار على عنقها.
كان موقف أدونيس من الواقع العربي المنهار هو موقف الرافض للموت ،لذلك كان في شعره اتجاهان:
• اتجاه ينطلق من الحيرة و التساؤل ،و البحث عن وسيلة للبعث.
• اتجاه ينطلق من اكتشاف مفهوم التحول بصفته وسيلة لدفع الواقع العربي نحو البعث و التجدد.
و التجاهان معا متكاملن منسجمان مع موقف احتقان الذات بفحول التاريخ العربي و إمكانية البعث ،و بإمكانية
التحول التي تدور حولها معاني الحياة و الموت عند أدونيس.
لقد كان المنهج السطوري بارزا جليا في شعر أدونيس ،عكس مفهوم التحول الذي انفلت من إطار هذا المنهج
أحيانا ،ليؤسس عالما شعريا ل نهاية فيه للعمليات الكيميائية بين عناصر الذات و الشياء ،و الروح و المادة و الحياة
و الحصاد ،من أجل أن يتحقق النصر الكامل للحياة ،مما جعل شعر أدونيس أقل ارتباطا بحركة التاريخ العربي ،إذ
أمعن في تخطيها و تجاوزها طمعا في إقامة حوار غريب مع زمن لم يجئ بعد.
خليل حاوي:
عبر خليل حاوي في دواوينه الثلثة ) نهر الرماد ( و ) الناي و الريح ( و بيادر الجوع ( ،عن مبدإ آخر غير مبدإ
التحول ،هو مبدأ المعاناة ،الحاضر في مقدمات قصائده و في شعره ،معاناة الموت و معاناة البعث ،على إيقاع من
المل و اليأس بصور الخراب و الدمار و الجفاف و العقم ،و قد وظف في شعره أسطورة تموز و أسطورة العنقاء ،
دللة على الخراب الحضاري و التجدد مع العنقاء.
و يرى أحمد المجاطي في تجربة الشاعر خليل حاوي ،تجربة عظيمة قائمة على التوافق بينها و بين حركة الواقع
في حقبة من تاريخ المة العربية ،و على قدرته على تجاوز ذلك الواقع و تخطيه ،و على معاينة ملمح الواقع
المرعب المنتظر.
بدر شاكر السياب:
تناول السياب في الكثير من قصائده معاني الموت و البعث ،فعبر عن طبيعة الفداء في الموت ،معتقدا أن الخلص
ل يكون إل بالموت ،بمزيد من الموات و الضحايا كما في قصيدة " النهر و الموت"
لقد عمل السياب على استثمار الطار السطوري ليحول الموت إلى فداء ،ليجعل الفداء ثمنا للموت ،كما فعل في
قصيدة " المسيح بعد الصلب " مثل حين استخدم رمز المسيح للتعبير عن فكرة الخلص.
و يرى الكاتب أن إدراك السياب لجدلية الحياة و الموت ،و تحويل الموت إلى فداء ،قد يكون له علقة بمزاجه ،أو
التركيب الغريب لعقله الباطن ،و يقر الكاتب أن السياب عرف كيف يفيد من ذلك في تتبع معاني الحياة و الموت
على مستوى الواقع الذاتي و الحضاري.
عبد الوهاب البياتي:
تحمل أشعار البياتي قضية الصراع بين الذات و موت الحضارة و بعثهما ،من خلل جدلية المل و اليأس ،و قد تمت
صياغة هذه القضية في أشعار البياتي من خلل ثلثة منحنيات هي:
.1منحنى المل :و فيه انتصار ساحق للحياة على الموت ،و تمثله العمال الشعرية التالية ) :كلمات ل تموت /
النار و الكلمات /سفر الفقر و الثورة ( ،إذ يظهر الشاعر مناضل يعيش المل لصالح الحياة ،فيغدو السقوط حياة ً و
ة.
الهزيمة انتصارا و الموت حيا ً
.2منحنى النتظار :و فيه تتكافأ الحياة مع الموت و يمثله ديوان )الذي يأتي و ل يأتي (و فيه أربعة خطوط هي :خط
الحياة و خط الموت و خط الستفهام و خط الرجاء و التمني.
.3منحنى الشك :يتم فيه انتصار الموت على الحياة ،و يمثله ديوان )الموت و الحياة( ،و هو يكشف زيف النضال
العربي ،لنه ل موت بدون نضال و ل بعث بدون موت.
يصل الكاتب إلى حكم مفاده أن قدرة البياتي على كشف الواقع هي سبب اهتمامه بالموت ،و أن اهتمامه بالحياة
مصدره إيمانه بالثورة ،و الصراع بين الحياة و الموت .و أنه من كل ذلك تفجرت صور المل و اليأس و صور القلق
و النتظار.
خلصة الفصل:
لم يغفل المجاطي ،و هو ينهي مقاربته هذه التجربة ،التنويه بإضافتها النوعية المتمثلة في المضامين و كشف الواقع
و استشراف المستقبل ،مما جعل منها تجربة مرتبطة بحركة التاريخ خلل العشرين سنة الفاصلة بين النكبة و
النكسة ،رغم كونها لم تأت أكلها ،و يحدد الكاتب العوامل التي حالت دون وصول هذه التجربة للجماهير العربية في:
.1عامل ديني قومي :الخوف مما يمكن أن تمثله هذه التجربة من تطاول على التراث باسم الشعر.
.2عامل ثقافي :وقوف جماعة من الشعراء و النقاد في وجه ما هو جديد.
.3خوف الحكام من المضامين الثورية لهذه التجربة ،مما جعلهم يلجأون إلى المصادرة و المنع و السجن و النفي.
و يرى الكاتب في آخر الكتاب أن الحداثة من العوامل التي كانت وراء وصف الشعر العربي الحديث بالغموض ،إلى
جانب ما تتطلبه القصيدة الحديثة من إعمال للجهد و استلزام لذوق قرائي جديد ،ثم انفصال هذا الشعر عن
الجماهير ما دام ل ينزل معها إلى ساحة المقاتلة و النضال و الصراع ضد قوى الستغلل و البطش و ل يشاركها في
معاركها الحضارية .
إن قراءة كتاب أحمد المجاطي تجعلنا نقف على جملة قضايا نقدية عمل الكاتب على طرحها و مناقشتها و إبداء
رأيه وفيها ،و يمكن إجمال أهم هذه القضايا في ما يلي :
.1دور التجربة الذاتية:
يخلص المجاطي إلى أن تطور الشعر عموما يتنج عن تحقق عاملين يتمثلن في الحتكاك بالثقافات و الداب
الجنبية ،و توفر مقدار من الحرية للشعراء يمكنهم من التعبير عن تجاربهم .و قد أدى تفاعل هذين العاملين في
الشعر العربي الحديث إلى ظهور تيارات مختلفة في الخصائص و متفقة في الهدف ) إخراج الشعر العربي من
إطار التقليد إلى حدود التعبير عن التجربة الذاتية كما يعيشها الشاعر( ،منها الديوان و أبوللو و الرابطة القلمية ...و
قد أرجع المجاطي سبب الهتمام بقضية الذات في الشعر العربي إلى :
• ظهور البورجوازية الصغيرة على مسرح الحداث في مصر ،و اللتحام بيم الجيال الصاعدة و بين الحضارة
الحديثة.
• معاناة شخصية الفرد المصري من انهيار تام ،و محاولة إعادة العتبار إلى ذاته المسحوقة.
• تشبع شعراء هذه التيارات بالفكر الحر ،مما مكنهم من فرص التعبير عن أنفسهم بكل حرية.
و إذا كان شعراء هذه التيارات قد استطاعوا التمرد على بنية القصيدة التقليدية و موضوعاتها ،فإنهم قد ظلوا
حبيسي معاني اليأس و التردد و القناعة و الستسلم ،رافضين النفتاح على الحياة المتجددة ،حتى أثروا في من
جدة و الطرافة.جاء بعدهم ،فتشابهت التجارب ،و كثر الجترار ،وقلت فرص ال ِ
.2الغتـــراب:
يرى بعض الدارسين أن قضية الغتراب في شعرنا الحديث ليست إل نوعا من التأثر بأحزان الشاعر الوروبي
الحديث)شعر ت.س.إليوت( ،إل أن المجاطي ينظر إلى هذه القضية في شموليتها و كليتها ،ذلك أن الشاعر العربي
الحديث إذا كان قد تأثر بهذه الرؤية الوافدة ،فإنه قد استجاب لها لن الواقع العربي يتوفر على مشيرات كافية
تسمح له بذلك.
إن أبعاد قضية الغتراب و الحزن في شعرنا العربي الحديث تدور كلها حول موقف الذات الواعية من الكون و من
المجتمع و من نفسها .و هي في محاولتها التوازن تبحث عن كل وسيلة ،تبحث عن الموت نفسه ،كما تبحث عن
الجنون ،فإن عز منالها فإنها تبحث عن الحب ،و لكن الحب نفسه يكون قد مات مع فقدان القدرة عليه ،فل يبقى إل
الضياع.
و الحق أن نزعة الغتراب و الحزن في شعرنا الحديث قد أضافت إلى التجربة الشعرية بعامة آفاقا جديدة زادتها
ثراًء و خصبًا ،كما أنها ولدت طاقات تعبيرية لها أصالتها و قيمتها .
دا!
أحمد عبد المعطي حجازي يكتب :آن يا شعر أن نفك قيو ً
ل يكفي أن يوصف لنا الطعام الجيد لنشبع ،أو يقال لنا إن سيمفونية بتهوفن التاسعة ألفت من مقام ري صغير ،أو
أن معابد الكرنك أقيمت قبل أربعة آلف عام لعبادة آمون -ل يكفي أن يقال لنا هذا لتعرف السيمفونية أو المعبد،
وإنما يجب أن نتصل بهما اتصال ً مباشًرا .ونتلقاهما بكل ما نملك من حواس وطاقات وملكات لننفعل بهما ،وندرك
ما فيهما من روعة وجمال.
وكذلك في الشعر .فليس يكفي أن يقول لنا النقاد إن معلقة طرفة بن العبد منظومة في بحر الطويل ،وإنها يحدث
تقويمه إيجابا وسلبا.
عن الحب والموت والحياة ،أو إن قصيدة شارل ودلير »القطط« كتبت في قالب السونيت ،وأن القطط في هذه
توجيه النقد وظائف أهم ومن النقدي. العمل بها يمده (،feed back ) راجعة تغذية عملية خلل من
كانت تعبيًرا عن النطواء والحرية ،وبالتالي ربما كانت القطة رمًزا للشاعر -ل يكفي أن يقال لنا هذا المبدع
توجيهربما
القصيدة
والضعف في القوة مواطن وكشف سواء. حد على الكتاب ولكبار المبتدئين للمبدعين الطريق وإضاءة
المعلقة أو القصيدة ،وإنما يجب أن نقرأهما علي النحو ،الذي نستطيع به أن نحس الشعر وننفعل به البداع، دفة
لنتذوق
المبدعين بما
وفي هذا النقدبأن يعاش. كمال يعرف
يعرف إل والتصنع.
الحياة والصنعة
مثله مثل والتكلف،قلت
والطبعالفن كما والرداءة،
والرموز ،لن الجودة
المعاني بينمن والتمييز
نستطيع البداعي ،ما
ونستخرج منهالثر
وتصوراتهليالجمالية
المعتصم: حولومدارسه
الموسيقي .قال التجديد
طرائقحوار ويجلي لهم
المعتصم من والممارسة،
الخليفة النظريةبينه وبين
فيعما دار إسحق تطور،
الموصلي البداع من المعنيإليه
يحدثنا وصل
التقليد. عن إبعادهم قصد والفنية،
أخبرني عن معرفة النغم وبينها لي .فقلت :إن من الشياء أشياء تحيط بها المعرفة ول تؤديها الصفة! والفلسفية
دا لم يسبقه في صنعة الغناء والضرب علي العود ،وكان فضل ً عن ذلك ،أديًبا الذي يقال عنه إن أح ً الثاني: المدخل
الموصلي إسحق
العشرينيستطاع وصفه من فن الموسيقي وتأثير هذا الفن ،ل لنه وصف مال القرنفيعن المغرب
بعجزه أن يقر فيفيالدبي
النقديحر ً
جا المسارل يجد
فا،
مثق ً
وحولها هو
فحسب ،بلوتستولد منها
ليس إتقاًنا عليها
الفنوتشتغل
تقرأهافي هذا
العجازقبليةإبداعية أن تتطلب مادة
أسراره ،ويعلم ويعرف بعدية قرائية
حقيقته فاعلية
يدرك الدبيلنه
بالعكس النقد
كان بل
يجهله،إذا
وهويتطلب )وعيا( نظريا ومنهجيا ،يضبط صنيعه يعاش! لوتائرها،
يوصف بلوالمحركة
لخطابهاحال ل
البانيةالطرب وإشكالتها
موهبة ،وأن وتأملتها
روحية أو طاقة أسئلتها
ضا
أي ً
ويجعله على بينة كافية بالصنيع الدبي الذي يتعامل معه ،فإنه لم يكن بالمكان ،قبل ستينيات القرن العشرين،
الحديث عن )مشهد نقدي( في المغرب ،وإنما كانت هناك كتابات لبعض الدباء المغاربة هي عبارة عن ردود عفوية ***
وملحظات انطباعية تقييمية ،أكثر منها كتابات نقدية .ومن هؤلء الدباء نذكر :عبد الله كنون ،وأحمد زياد ،وعبد
الرحمان الفاسي ،ومحمد بلعباس القباج. . .
لكن لدينا من قراء الشعر وحتي من نقاده ،من يختصر هذه المعرفة الحية وينزل بها إلي أدني مستوياتها ،فيكتفي
فا ،ويفرغ منه علي عجل ليقرر بهذه القراءة السطحية رأيه فيه بقراءة ما يصادفه من شعر الشاعر يخطفه خط ً
عوامل يروج النطلقة
الكلم الذي وراء هذه
سمعه من وكانت
قرأه أو المغرب،بما
شعر الشاعر الحديث في
عن قراءة النقدي
هؤلء )الوعي(
الواحد منانطلق وقدنقطة
يستغني عليه،20.
ستينيات ق
ويبني حكمهكانت
: التي في تلخيصها
في بعض الفترات لسباب ل علقة لها بالشعر ،فيقف هذا الكلم الرائج بين الناس وبين موضوعه يحجبه عنهم، يمكن سوسيوثقافية، وملبسات
الداخلية. لمشاكله
نفسه. وتفرغههو عن
السياسي يقدمه
استقلله عنه ل بما
علىبما يشاع المغربيروه
عليهم أن حصول
ويفرض /1
/2انطلقة الجامعة المغربية ،وتأسيس كلية الداب والعلوم النسانية.
/3ظهور أعمال أدبية تنتمي لجناس أدبية حديثة.
متخصصة(التقليد والمحاكاة بما تثيره هذه غالًبا لمعني الذهن
أدبية مجلتفينصرفتقليدي،ثقافية،
شاعر ملحق للصحافةإنه
الدبية ) حافظ إبراهيم
النسبي عن يقال مثل ً
الزدهار /4
تلون هذه القراء ة أو إبراهيم، حافظ شعر قراءة علي تشجع ل سلبية انطباعات
انفتاح المغرب على لحركة الثقافية والدبية في المشرق العربي )القاهرة ،بيروت ،بغداد(.من الرائجة السهلة الوصاف /5
وغيرها،منكان
تتميز به شاعريته ،وما
العوامل تضافر هذه اكتشاف
والدب.الثقافةفي
ول يجتهدبسؤاللغيره، تقليد حافظ
التحسيس يري في المغرب،في أن
ومساهمته فيجتهد القارئ المضللة
اتحاد كتاب تأسيسبألوانها
/6
والحقائق التي واجهته،
الخصوص ،أوائل والمشكلتعلى العمالوالسئلة
الروائية والشعرة بعض حافظ، ظهر فيه
صدور الذي
وكانالعصر
المغرب،معرفته عن
الحديث في لبد من خاصة ،وما
النقدي ملمح للوعيحافزا
ستينيات ق ،20فرصة سانحة أطلقت النقد المغربي الحديث ،ولعل أبرز من مثل هذه الحقبة هم :محمد برادة، بها. انفعل التي والموضوعات
وأحمد اليابوري ،ومحمد السرغيني ،وأحمد المجاطي ،وحسن المنيعي ،وإبراهيم السولمي.
التقليد عند الكثيرين ل ينصرف إل للمحاكاة ،مع أن المحاكاة معني واحد من معانيه ،وإذا وصف الشاعر أو الفنان
هم الذي
الذين الشكل، في إطار
والمبدعين يبدع
النقاد جديدأيمن
التقاليد،
يحترم جيل
أنهق ،20 نفهمه هو
سبعينيات ينبغي أن
طلئع الساتذةأو الذي
وغيرهم ،مع المقصود، المعني
هؤلء كانأيديتقليديعلى
بأنه تخرج لقد
أردنا أن
وستتفرعإذامعهم
إبراهيم .أما فيه حافظ
وأفكارهم، فضاءه عاش
بأصواتهم العصر الذيسيملونوحتي الماضية،
الذين في العصور
بعطائهم ،وهم النقديالعرب
المغربي الشعراء سيؤثثون غالبية
المشهد أبدع فيه
وجامعي ،وسجالي . . .وقد تقليدي. وصحفي،نقول
وجمعوي، شفوي،مقلد ،ولنقول إنهمنأننقدالحالة
هذهذلك، في بعد فيفعلينا
المغرب غيره، يقلد
النقد را بأنه
انتحاها النحاءشاع ً
التي نصم
ساهمت هذه الجهود ،بل شك ،في التأسيس لوعي نقدي جديد ،يتوخى إعادة النظر في شروط القراءة وأدبية النص
الناقد غير ارتهان
بالذات. ويقصد بها
شاعًرا المنهاجوية:أن يقلد
اتبعها/1أسلفه دونالتي هي:
في أربع العوفي
التقاليد نجيبضمن النظم يتقن ذ.
أجملهاكانهنات
دا. يكن من
مقل ً لم تخلإبراهيم لم
المقروء ،لكنها
وحافظ
بمبدإ
مكانالنص( كقارئشئ غير
متذوق إلي النص ول المعروف)
مكانه المبدإانتقل من
عنوربما فيستعاض به،
غيره وينفعل المقروء. شعرهالنص
يتأثر بشعر حساب فيعلى
بعض للمنهج
أنه كانالمشروط
ولشك
لستاذهوالناقد، والمنهج،
أهداها قصيدتهالنص،
الدالية التي من اغترابمقطعهي
المطاف الحتميةمثل ً
آخرفي النتيجةكما فعل
بطريقتهفتكون المنهج(.
صياغتها سوىفأعاد نظم شئ
القصيدة المنهج ول مضاد )
الشاعر الذي
والمتلقي.بعد عودته من منفاه ،وفي هذا المقطع يقول: البارودي
بين لح ُ
المناهج والنماذج :الذي تحول عند البعض إلى قطيعة قسرية بين المحطات المنهجية ،وإلى
ظها السريع
القلب الرتحال
أوحي إلي وفّ/تانةٍ
2
سلسلة من النواسخ والمنسوخات.
فراح علي اليمان بالوحي واغتدي
/3غياب النقد عن النقد :وهيمنة النزعة الوصفية التحليلية على النزعة التقييمية التأويلية ،مما يجعلنا ،في آخر
علموي شكلني متعال ،غايته الولى ة الخيرة ،أن يعيد كتابة النص ويفكك أجزاءه وعناصره، خطاب
غير زيه التحليل ،تجاه
والليل في ممتها
تي ّ
ثم يعيدها إلى أماكنها أويتركها لحما على وضح .ومن تم تتساوى النصوص المقروءة وتوضع في سلة واحدة.
صدا
ب ُر ّ
الكواك ُ وهل حذرت قبلي
المدخل الثالث:
صـاحــب المــــ َ
ؤلــــف
الموت يقبل
خاصيتي البداع والنقد لذلك جاءت كتاباته مفيدة ومقنعة في آن معا .وكان قد ولد في رأوني أبصروا
المجاطي بين فلما
جمع أحمد
الدار البيضاء سنة ،1936تلقى دراسته بين الدار البيضاء والرباط ودمشق .ودرس بكل من جامعة محمد بن عبد
الخامس بالرباط .اعتبر من المؤسسين لحركة الحداثة الشعرية بالمغرب .فاز بجائزة ابن قضاًءمحمد
تجسدا وجامعة الله بفاس
أبصروا إل وما
زيدون للشعر التي يمنحها المعهد السباني /العربي للثقافة بمدريد عام ،1985كما فاز بجائزة المغرب الكبرى
للشعر سنة .1987توفي أحمد المجاطي سنة ،1995مخلفا وراءه عطاًء متميزا في الشعر والنقد والتدريس.
فقال كبير القوم قد ساء فألنا
دا
ف تقل ّالرابعٍ :
فا بحتالمدخل ً
فإّنا نري حت
طبــــيعــة المــؤ ََلف
يعتبر كتاب )ظاهرة الشعر الحديث( دراسة نقدية تتبع مسار تطور الشعر العربي الحديث ،والبحث في العوامل
الشاعرسبيله
العربي الحديث ينتقل من مرحلة الحياء والذات إلى مرحلة التحرر من قيود التقليد ،مع إل اتقاء فليس لنا
جعلت التي
ددا
فحدثت نفسي والضمير تر ّ
ة
ت وليل ٍ
ويارب يوم ٍ قد لهو ُ
ل خ ّ
ط تمثا ِ بآنسة كأنها َ
ش وجُهها لضجيعها
فرا َ
يضيء ال ِ
ت في قناديل ذ ُّبا ِ
ل كمصباح زي ٍ
ل
بيثرب أدني دارها نظر عا ِ
فال
ق ّ
بل ُ
مصابيح رهبان ُتش ّ
ضحي
ه إنك فا َ
فقالت سباك الل ُ
ولو ق ّ
طعوا رأسي لديك وأوصالي!
من المؤكد أن قصيدة امرئ القيس كانت في خيال حافظ وفي ذاكرته وهو ينظم قصيدته في البحر ،الذي نظم فيه
امرؤ القيس قصيدته وهو طويل ،فالتجربة واحدة .عاشق محب يذهب بعدما أرخي الليل سدوله ليلقي حبيبته في
حيها ،مخترًقا إليها منازل أهلها الذين يقفون له بالمرصاد .لكن كلم حافظ في هذه التجربة المشتركة يختلف اختلًفا
حا عن كلم امرئ القيس. واض ً
فاتنة حافظ إبراهيم امرأة سماوية تضيء كما يضيء القمر الذي يحسدها علي جمالها ،ولهذا يسلط نوره علي
عشاقها فيفضحهم .وآنسة امرئ القيس جسد جميل يضيء كما يضيء مصباح الزيت ،فهو -أعني المصباح -جسد
آخر يقابل جسد المرأة التي شبه الشاعر وجهها به .ومع أن العاشق في أبيات امرئ القيس يتنور حبيبته وهي في
ما من أذرعات في بلد الشام ،فالعلقة التي يصورها لنا تتميز بكثافتها الحسية.يثرب ،أي يتصورها ويقصد إليها قاد ً
إنه يتقدم إليها وقد نام أهلها تحت نجوم تتلل كأنها مصابيح رهبان أشعلوها في أديرتهم الصحراوية لتهدي السارين
العائدين إلي ذويهم في الليل .وشتان بين مصابيح الرهبان والمصباح الذي شبه به الشاعر وجه حبيبته .مصابيح
الرهبان هي المقابل الروحاني لوجه الحبيبة المضيء بما يتفجر فيه من رغبة جسدية .إنها المقابلة التي تزيد
التجربة عرامة وكثافة.
فا .ولهذا يمضي والنور يغمره في طريقه ،الذي أما في أبيات حافظ إبراهيم فالعاشق فارس مقتحم .سيف تقلد سي ً
كمن له فيه أعداؤه غير خائف ول حذر ،لنه كوكب ساطع ،والكواكب ل تخشي الراصدين لنها من سكان السماء .
والشارة واضحة لليات القرآنية التي جاءت في سورة الجن عن الشهب الراصدة التي تحرس السماء من الجن
المتطفلة .وهي بالضافة إلي الشارة الولي لكلم العيون الشبيه بالوحي السماوي ،تمنح التجربة التي يتحدث عنها
فا تراوده
ضا عفي ً
عا مغامًرا ،لكننا نجده أي ً
حافظ إبراهيم نفحة روحية نقية ،هكذا نجد العاشق في أبيات حافظ شجا ً
حبيبته فيرده عنها ضميره .علي حين نراه في أبيات امرئ القيس حذًرا ل يخاطر بحياته ،وهو مع ذلك شهواني يشد
إليه حبيبته ويطفئ في أحضانها ما عاناه من عطش في سفره الطويل.
لكن ما هي علقة البارودي بهذه المغامرة ،التي استوحاها حافظ من امرئ القيس ونظمها في عشرين بيتا ً تزيد
علي عدد البيات التي مدح بها البارودي؟
علقة البارودي بهذه المغامرة هي علقته بامرئ القيس وبالشعر العربي القديم .فقد أراد حافظ أن يباري أستاذه
في التعبير عن افتتانه بهذا الشعر وفي التزامه تقاليده الموروثة ،وأن يمتعه بكتابة جديدة لتلك المغامرة ،القديمة
التي قدمها امرؤ القيس تشترك معها في الشكل وتختلف عنها في الموضوع .الشكل هو المغامرة التي استوحاها