You are on page 1of 43

‫الشعر الحديث‬

‫واليقاع الموسيقي‬

‫تأليف‬
‫حسن شعراوي‬

‫حسن صالح أبو المعاطي محمد الشعراوي‬


‫‪E-mail‬‬

‫‪hasansalehsharawy@yahoo.com‬‬

‫‪hsharawy2010@gmail.com‬‬

‫أهمية موسيقى الشعر‬

‫بقلم‪ /‬الشاعر خضر محمد أبو جحجوح‬


‫عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين‬
‫ص الشعري‪ ،‬حيث تتضافر الصوات اللغوية‪ ،‬وفق نظام‬ ‫تؤثر الموسيقى تأثيرا فّعال في بلورة التشكيل الجمالي للن ّ‬
‫خاص في النسق النصي لتحدث إيقاعا يعبر عن مختزنات الحالة الشعورية‪ ،‬ويكون محببا ً إلى النفس النسانية‪ ،‬التي‬
‫تميل إلى كل ما يثير فيها إحساسا ويدغدغ فيها أوتار شفافيتها‪.‬‬

‫وهذا ل يتأتى للشعر إل بالموسيقى التي تتفاعل فيها الموسيقى الخارجية الناتجة عن الوزن الشعري‪ ،‬وأنظمة‬
‫تشكيل القوافي‪ ،‬مع الموسيقى الداخلية المنبثقة من جوانية النسق المش ّ‬
‫كل للدوال التعبيرية‪ ،‬بكافة مجالته بدأ‬
‫بتضام الصوت إلى الصوت‪ ،‬مرورا بتعانق الكلمة بالكلمة‪ ،‬وانتهاء بتشابك الجملة بالجملة‪ ،‬مع ما ينضاف إلى ذلك‬
‫من تسخير لطاقات البنى الدللية حيث تكون مادتها اللغة ‪ :‬صوتا ومعنى محاور استبدالية‪ ،‬تتوظف فيها المعادلت‬
‫الصوتية واليقاعية وسواهما ‪ ،‬ومن خلل توزيع النغم الصوتي على وحدات زمانية بتناسق مخصوص‪ ،‬ينتج اليقاع‬
‫الشعري المموسق‪ ،‬الذي يثير النفس البشرية‪ ،‬ويبعث فيها مشاعر منشطة أو مهدئة حسب طبيعة التجاوب النغمي‬
‫شدة ولين‪ ،‬واليقاع الموسيقي بهذا المعنى‪ ،‬يضفي إلى عناصر التشكيل قوة جمالية‪ ،‬يكاد يفتقدها الشعر إن لم‬
‫م الوحدات الصوتية‪ ،‬وتهندس التشكيلت اليقاعية‪ ،‬وتوزعها‬ ‫توجد فيه عناصر الموسيقى بكافة أشكالها‪ ،‬التي ت ُن َظ ّ ُ‬
‫على حيز من الزمن يستفرغ الشحنات العاطفية‪ ،‬والدفقات الشعورية بما يصاحبها من إثارة الفكر والخيال في‬
‫سب َْر أغواره السحيقة واستكناه أسرارها‪.‬وبذلك تعتبر‬
‫خضم التجربة الشعرية‪ ،‬فيندفع المتلقي مع الشاعر محاول َ‬
‫الموسيقى "وسيلة من أقوى وسائل اليحاء‪ ،‬وأقدرها على التعبير عن كل ما هو عميق وخفي في النفس مما ل‬
‫ه؛ ولهذا فهي من أقوى وسائل اليحاء سلطانا على النفس وأعمقها تأثيرا فيها‪.‬‬ ‫يستطيع الكلم أن ُيعّبر عن ُ‬

‫وتكون براعة الشاعر في قدرته على صياغة قالبه الشعري‪ ،‬مازجا فيه بين كافة المكانيات التصويرية المكانية حيث‬
‫تشكيل الصورة ل ينفصل عن تشكيل الحيز الزماني متمثل في التوقيعات الّنغمية التي تثري الدللة وتعمقها‪،‬‬
‫بإيحاءاتها الثرية المتنوعة‪ ،‬التي تتضافر مع كافة المكانيات لبلورة جماليات النص في نسق تشكيله النهائي‪ ،‬فاليقاع‬
‫علقة بين الكلمات والحروف والمفردة‪ ،‬وما يجاورها من أنساق صوتية وتعبيرية‪ ،‬وحالة نفسية تنشأ عن صوت‬
‫وتوقع وعن علقات غامضة تثيرها جوانية اللغة‪ ،‬كما يثيرها النغم‪ ،‬والشاعر ينجح بقدر ما يستطيع تفعيل دور‬
‫الموسيقى الخارجية بإيقاعاتها المميزة‪ ،‬في الوقت ذاته الذي يستطيع فيه أن يمزج بين عناصر الموسيقى الداخلية‬
‫منتجا إيقاعا مميزا لكل حالة شعورية‪.‬‬

‫وفي هذا السياق ينبغي التنبيه إلى أن امتلك القدرة على التشكيل اليقاعي موهبة عظيمة تحتاج إلى صقل وتنمية‬
‫متواصلة‪ ،‬وحس مرهف يوائم بين جماليات النسق؛ فتتآلف الصور مع اليقاع لتنتج صورة كلية متكاملة تدهش وتنتج‬
‫دللت متشظية في بنية النص تكتشف بالحتكاك والقراءة مرة تلو مرة‪.‬‬
‫معني الشعر في موسيقاه‬
‫الشاعر والمفكر الكبير احمد عبدالمعطي حجازي‬
‫اود ان اعرب لكم عن اعجابي الشديد بمقالتكم الخيره عن قصيده النثر‪ ,‬وهو اعجاب لم ينتقص منه اختلفي‬
‫معكم حول بعض التفاصيل التي جاءت بهذه المقالت‪ ,‬اذ ان التفاصيل هنا ل تهم مادمنا نتفق علي الصول والفكار‬
‫الرئيسيه‪ .‬ومناط اعجابي ان مقالتكم قد واجهت بجراه وبكثافه ما يمكن ان نسميه بسلطه قصيده النثر في حياتنا‬
‫الدبيه‪ ,‬وكشفت بطريقه التعريه عن ازمه حقيقيه في واقعنا الدبي والثقافي عموما‪ ..‬ازمه ل تكمن فحسب في‬
‫مساله قصيده النثر علي نحو يستدعي مساءلتها‪ ,‬وانما تتجاوز ذلك لتكمن في مساله الوعي بماهيه الشعر فضل‬
‫عن الوعي بماهيه البداع الفني عموما‪.‬‬
‫وفي هذا الشان‪ ,‬اود ان ابدي الملحظات التاليه التي قد تضيء بعضا من المسكوت عنه في مقالتكم‪:‬‬

‫ان ما يمكن ان نسميه بسلطه قصيده النثر هي من قبيل تلك المحاولت الدءوبه في تحديد البداع الدبي والفني‬
‫عموما في اسلوب او شكل فني ما‪ ,‬وفي مجال الشعر خصوصا فان هناك جيوشا من المشتغلين بالشعر يمارسون‬
‫قصيده النثر‪ ,‬ويدعون الي سلطتها‪ ,‬بدعوي تحرير النص الشعري من القواعد والقيود التي تحكم تشكيل النص الذي‬
‫يسمونه تقليدا‪ ,‬وبدعوي الحداثه تاره ومابعد الحداثه تاره اخري‪ ,‬وما شابه ذلك من مفاهيم غالبا ما يجهلون كنهها‬
‫واصولها الفلسفيه التي انتجتها‪.‬‬
‫ومن المفارقات العجيبه ان هولء الذين يدعون الي التحرر في البداع هم الذين يمارسون في الوقت نفسه سلطه‬
‫علي البداع‪ .‬حينما يدعون ان هذا الشكل او السلوب الفني هو السلوب الوحيد الجدير باسم البداع الشعري‪.‬‬
‫ومثل هولء ينسون او يتناسون ان المنظور او الشكل الفني ليس سوي اسلوب المبدع في رويه الشياء والعالم‪,‬‬
‫اما العالم نفسه فل يفرض ايه اساليب ول يتشبث باي منها) كما بين لنا ميرلوبونتي في دراساته العميقه‬
‫المسهبه(‪ ..‬فما يغيب عن بال تلك الكثره الهائله من المشتغلين بالشعر ل اقول الشعراء‪ ,‬لن الشعراء الحقيقيين‬
‫هم دائما احاد في كل عصر وان ما يغيب عن بالهم ان المنظورات والشكال الفنيه ل ينفي او يستبعد بعضها بعضا‪,‬‬
‫وانما هي توجد جنبا الي جنب بشكل مشروع مادامت كانت تمارس في اطار ماهيه الفن المقصود‪ ,‬فلتجافي روحه‬
‫وطبيعته المميزه له فضل عن طبيعه البداع الفني في عمومه‪.‬‬

‫ولشك ان هناك محاولت محدوده لشعراء حقيقيين كتبوا ما يسمي بقصيده النثر بشيء من روح الشعر‪ .‬ولكن‬
‫مكمن الخطوره ان هذه المحاولت المحدده في ممارسه هذا الشكل الفني تحديدا‪ ,‬الذي يقوم علي التحرر التام‬
‫من كل وزن او قافيه‪ ,‬هي محاولت تمثل دعوه صريحه للمتشاعرين والطامحين الي ممارسه تجربه الشعر لكي‬
‫يتجراوا علي فن الشعر‪ ,‬دون ان يتمرسوا عليه باعتباره فنا من فنون القول او اللغه ينبغي معرفه اسراره واصوله‪,‬‬
‫تماما مثلما ان المصور ينبغي ان يعرف ويتعلم اسرار اللون واساليب تشكيله التي يمكن ان تصنع لوحه‪.‬‬
‫ومثل هذه المعرفه هي ما يتنصل منه اغلب كتاب قصيده النثر بدعوي التحرر من القيود والقواعد‪ ,‬وهم بذلك‬
‫يجهلون او يتجاهلون ان التجديد او التجريب في البداع الفني غير ممكن اصل ال باعتباره تجاوزا لسلوب فني‬
‫مارسناه وعانينا خبرته من قبل‪ .‬اعني ان الشاعر الذي لم يتمرس علي النظم ولم يحسن كتابته لن يستطيع ان‬
‫يكتب قصيده النثر‪ ,‬وان شيئا شبيها بهذا يحدث في سائر الفنون‪ :‬وهل يظن ظان ان بيكاسو احد رواد التكعيبيه‬
‫العظام كان يجهل قواعد المنظور الكلسيكي في فن التصوير‪ ,‬او كان جاهل باصول التشريح حينما كان يعمد الي‬
‫تشويه شخوصه المصوره؟! وهل يشك شاك في ان ثوره شونبرج في مجال الموسيقي لم تكن سوي محاوله‬
‫لتجاوز اصول الموسيقي الكلسيكيه التي كان يعرف ادق اسرارها؟! غير ان هذا التجاوز من خلل التجريب قد‬
‫يكتب له النجاح) كما حدث بالنسبه لبيكاسو( او الخفاق) كما حدث بالنسبه لشونبرج(‪.‬‬

‫للشاعر اذن الحق في ان يستخدم ويجرب ماشاء من اساليب الكتابه‪ ,‬بشرط ان يعي في المقام الول ان هذه‬
‫الساليب ينبغي ان تظل اساليب شعريه‪ ,‬فل تنكر ماهيه الشعر او تتنكر لها‪ .‬وبشرط ان يعي في المقام الثاني ان‬
‫الخروج علي اسلوب او شكل فني شعري ما ل يعني نبذه اوانكاره‪ ,‬وانما يعني فقط تجاوزه‪ ,‬وهو تجاوز ل يمكن ان‬
‫يحدث ال من خلل معاناه وخبره حقيقيه بما نريد ان نتجاوزه‪ ,‬بل اننا يمكن ان نزيد علي ذلك فنقول مع هيجل اننا‬
‫في تجاوزنا لشيء ما ل نملك ال ان نبقي عليه ونحفظه معنا‪.‬‬
‫ومعني هذا ان ما نتجاوزه ل يتم نفيه وانكاره او استبعاده‪ ,‬وانما يتم رفعه الي حاله حضور متخذا صوره او شكل‬
‫جديدا من خلل اندماجه اوانصهاره مع شيء اخر‪ .‬فما الذي ينبغي ان يبقي دائما معنا في ممارسه الساليب‬
‫المختلفه من فنون القول الشعري؟ والي اي حد تحفظ قصيده النثر شعريه القصيده؟ هذاالسوال يضعنا مباشره‬
‫في قلب مساله الشعريه او ماهيه الشعر‪:‬‬

‫الشعر كما افهمه هو فن القول في المقول‪ :‬وفن القول هو فن الكلم او اللغه التي تقول فتفصح حينماتعني او‬
‫تصور شيئا ما‪ ,‬غير ان ما يميز الشعر عن غيره من فنون القول ان ماتعنيه وتصوره لغه الشعر ل يوجد ول يحيا ال‬
‫في الكلم المقول او المنطوق‪ ,‬حتي وان لم ينطقه احد وظل مكتوبا‪.‬‬
‫فالشاعر هو الذي يستنطق اللغه لتعلن عن حضورها الصوتي والموسيقي الذي يتم فيه ومن خلله فقط الفصاح‬
‫عن معني او تصوير شيءما‪.‬‬

‫وهكذا فان الصوره الشعريه ل يمكن فهمها او الحساس بها ال من خلل المنطوق الشعري نفسه‪ ,‬فاللغه هنا ل‬
‫تتجه ابدا خارجها‪ ,‬وانما تحيلني الي ذاتها‪ :‬انها تجلب الخارج الي الداخل او تجلب الوجود ذاته الي بيت اللغه‪ ,‬علي‬
‫حد قول هيدجر‪.‬‬
‫وعلي هذا النحو‪ ,‬فان الكلمه الشعريه تظل دائما غير قابله للستبدال‪ ,‬لن معناها يكون حاضرا في تاثيرها الصوتي‬
‫الموسيقي الذي يتشكل من خلل علقته العضويه بالسياق الصوتي الكلي للجمله الشعريه‪ .‬فالكلمه الشعريه من‬
‫خلل حضورها الصوتي الموسيقي يكون لها نفس كثافه الحضور الحسي الذي يكون للشياء والذي يتبدي في‬
‫ملمسها ومذاقها‪ :‬انها تشبه ملمس ثمره الخوخ ومذاق ثمره الكمثري وحضور العشب والشجار‪ ,‬وغير ذلك مما‬
‫ليمكن وصفه او استبداله‪.‬‬

‫تلك هي الشعريه‪ ,‬وهي خاصيه يمكن محاكاتها بدرجات متفاوته في كثير من فنون القول او لغه النثر‪ ,‬ولكن فن‬
‫الشعر هو الذي يحفظ هذه الخاصيه ويبقي عليها باعتبارها عين ماهيته‪ ,‬اما فنون القول او النثر الخري كالروايه مثل‬
‫فانها تحاول ان تحاكي هذه الخاصيه لتضفي قيمه جماليه علي قيمها الجماليه الخاصه بها والتي تستمد منها قوامها‪.‬‬
‫والشعر يحفظ خاصيه الشعريه هذه ويرفعها الي ذروه تالقها من خلل الوزن والقافيه‪ .‬صحيح انه ل يكفي ان يكون‬
‫الشعر موزونا ومقفي لكي يكون شعرا حقيقيا‪ ,‬ولكن هذا ل يحدث ال في قصائد المتشاعرين الذين يفهمون الوزن‬
‫والقافيه باعتبارهما حليه شكليه‪ ,‬ل باعتبارهما جزءا من نسيج الشعر‪ ,‬وبالتالي جزءا جوهريا في موسيقي اللغه‬
‫الشعريه التي تاتي مشربه بمعناها او ياتي معناها مشربا بها‪.‬‬
‫اما الشاعر الصيل‪ ,‬فان اوزان قصائده وقوافيها تاتي بل تكلف او اصطناع كما لو كانت تاتي وفقا للحان سماويه‪.‬‬
‫وفي هذا يقول شوبنهاور عن القافيه‪ :‬ان الماره التي يميز بها المرء علي الفور الشاعر الصيل‪ ..‬هي تلقائيه‬
‫قوافيه‪ ..‬فقوافيه تاتي من تلقاءنفسها كما لو انها قد جاءت وفقا لترتيب الهي‪ ,‬فافكاره تاتي اليه مقفاه جاهزه‪ .‬اما‬
‫الشخص النثري الركيك‪ ,‬فانه علي العكس من ذلك يبحث عن القافيه لجل الفكر‪ ,‬بينما الدجال يبحث عن الفكر‬
‫لجل القافيه) شوبنهاور‪ :‬العالم اراده وتمثل‪ ,‬الجزء الثالث‪ ,‬ص‪.(207‬‬

‫ولو نظرنا لقصيده النثر في ضوء هذا كله فماذا نحن واجدون؟‬
‫ان قصيده النثر في اعلي صورها الممكنه تحاول ان توجد ايقاعا للغه الشعريه بمناي عن الوزن والقافيه‪ .‬وبذلك‬
‫فانهاتحاول ان توجد موسيقي الشعر بادوات موسيقيه اقل عددا وعده‪ :‬فايقاع البناء اللغوي ذاته الذي يعتمد علي‬
‫تداعي الكلمات والتقديم والتاخير والعاده والتكرار والتكثيف‪ ..‬وكل ذلك هو مما يمكن تحقيقه في النظم علي‬
‫افضل نحو‪ ,‬ولذلك نجد ان التعريفات التي تقدم لقصيده النثر تظل دائما تعريفات لشكل فني سالب او منقوص‪,‬‬
‫فهي دائما ما تعرف في الموسوعات علي انها ليست كذا‪ ..‬وغير كذا‪ ..‬وبل كذا‪ ..‬وتفتقر الي كذا‪ :‬فهي كالقصيده‬
‫الغنائيه القصيره ولكنها بلوزن او قافيه‪ ,‬وتختلف عن الشعر الحر في افتقادها الي الوقفات في نهايه السطر‬
‫واليقاع المنتظم الذي ياخذ شكل التفعيله‪ .‬وحينما يتم تعريف قصيده النثر تعريفا ايجابيا‪ ,‬ياتي هذا التعريف فضفاضا‬
‫غائما بل هويه كان يقال‪ :‬انها شيء مضطرب ايحاءاته ل نهائيه‪ ..‬وخلق حر خارج عن كل تحديد‪ ..‬وتوتر وحيويه‬
‫وتمرد‪ .‬وكل هذا بالفعل من قبيل التمرد‪ ,‬ولكنه ليس تمردا اصيل‪ ,‬لنه ل يبقي علي هويه الشعر او يحملها معه‪.‬‬
‫ا‪ .‬د‪ .‬سعيد توفيق‬
‫اداب القاهره‬
‫نقل ً عن جريدة الهرام‬

‫بالمس القريب احتفت الوساط الدبية في مصر ببلوغ الشاعر "احمد عبدالمعطي حجازي" الستين من عمره‬
‫الجميل‪ ،‬والشاعر الذي بدأ حياته قائل‪" :‬انا اصغر فرسان الكلمة " صار رائدا كبيرا من رواد حركة الشعر الحر‪،‬‬
‫ومازال محتفظا بحيوية الشباب وحكمة التجوال في الزمن‪ .‬وطوال هذا الحوار الذي امتد الى قرابة الساعتين كان‬
‫للمدينة حضورها الشعري والنساني كما كان الشاعر متكئا على جراحات جيل ذهب مع الحلم حتى أخر الطريق‬
‫التي أدت الى انتحار‪ ،‬وصمت‪ ،‬وجنون بعض أفراده المبرزين‪.‬‬

‫* كان الخروج من "تل" الى "القاهرة " فكانت "مدينة بل قلب "‪ ..‬فما دواعي الخروج‪ ،‬وكيف اختلفت الرؤية‬
‫الشعرية للمدينة ؟‬

‫* دواعي الخروج من القرية للمدينة كانت طبيعية‪ ،‬لن الريف المصري طارد‪ ،‬وهو ل يطرد فئة معينة‪ ،‬ولكنه يطرد‬
‫كثيرا من الفئات‪ ،‬والمدينة تمثل حلما‪ ،‬او فرصة أغنى للتقدم بشكل عام‪ ،‬ولذلك نجد ان كثيرا من ابناء الفلحين‬
‫عرفوا الهجرة الى المدن منذ الربعينات‪ ،‬هذه الهجرة حدثت هن قبل ‪ -‬بلشك ‪ -‬ولكنها لم تكن ظاهرة‪ .‬فالهجرة‬
‫الواسعة بدأت ‪ -‬ربما ‪ -‬منذ الربعينات‪ ،‬وباعثها ان الصناعة المصرية عرفت شيئا من الزدهار بسبب ظروف الحرب‬
‫العالمية الثانية التي منعت حركة الصادرات والواردات بين مصر والدول الوروبية فتشجع الرأسماليون المصريون‬
‫أو تشجعت فئات واسعة على دخول مجال الصناعة سواء في إطار مشروعات كبرى أو صغري‪ ،‬فانتشرت مصانع‬
‫الحلج والغزل والنسج‪ ،‬وقامت هذه المصانع او معظمها على اطراف المدن‪ ،‬فشدت ابناء الفلحين الفقراء ليعملوا‬
‫فيها‪ ،‬وفي مقدمتهم ابناء "المنوفية "‪ .‬والفئة الخرى التي كان لبد لها ان تهاجر من الريف الى المدن هي فئة‬
‫المثقفين‪ ،‬واعني المتعلمين الذين يكملون دراستهم الولية في مدارس القرية ‪ -‬وهي ل تعدو ان تكون مدارس‬
‫ابتدائية ‪ -‬ثم يذهبون الى المدن القريبة لقطع مرحلة التعليم الثانوي وبعد ذلك يمكنهم ان يذهبوا الى القاهرة‬
‫لستكمال دراستهم العالية‪ ،‬او يذهبوا الى "السكندرية " لنها كانت قد بدأت نشاطها الجامعي بجامعة "فاروق الول‬
‫" وانا من هؤلء فبعد ان انتهيت من المرحلة البتدائية بـ "تل" ذهبت الى "شبين الكوم " لكمل دراستي بمدرسة‬
‫المعلمين التي كانت الدراسة بها آنذاك ست سنوات‪ ،‬وتخرجت سنة ‪ 1955‬ولكن سلطات المن لم توافق على‬
‫تعييني مدرسا لني كنت قد اعتقلت لمدة شهر في نوفمبر ‪ 1954‬بعد مشاركتي في مظاهرة بـ "شبين الكوم "‪.‬‬

‫* هل جاء اعتقالك ضمن تداعيات مارس ‪1954‬؟‬

‫* كان ذلك في اعقاب أزمة مارس ‪ 1954‬وما تلها‪ ،‬بالضافة الى انه كان لي نشاط وطني بشكل عام‪ ،‬ففي تلك‬
‫الفترة كان المد الثوري على أشده‪ ،‬وكانت المدارس والجامعات تشارك في العمل الوطني‪ ،‬واي حدث كان يقع في‬
‫القاهرة كنت تجد له اصداء بالقاليم‪ ،‬لكن في نوفمبر كانت ذكرى "محمد فريد" واتخذنا منها ذريعة للخروج في‬
‫مظاهرة واعتقلت لمدة شهر ثم أفرج عني لنه لم يكن هناك سبب يؤدي لستمرار العتقال‪ ،‬واكملت دراستي‬
‫وحصلت على دبلوم المعلمين‪ ،‬ورغم ان ترتيبي كان الول على المدرسة والخامس عل القطر‪ ،‬فلم أعين‪ ،‬وعندئذ‬
‫فكرت في البحث عن عمل بالقاهرة‪ ،‬اي ان السبب الرئيسي كان هو البحث عن عمل‪ ،‬لكن السبب الحقيقي‬
‫مختلط‪ ،‬فأول قصيدة نشرت لي في مارس ‪ 1955‬بمجلة "الرسالة الجديدة "‪ ،‬وكان حلم الظهور والوصول الى‬
‫منابر النشر بالقاهرة‪ ،‬والتصال بالحركة الثقافية والشعرية على وجه الخصوص دافعا اساسيا آخر للخروج‪ ،‬ولكنني‬
‫كنت اعتقد بإمكانية تحقيق هذا التصال بصرف النظر عن مكان وجودي فالشاعر يستطيع ان يكون موجودا بأسوان‬
‫ومتصل بالحياة الثقافية في ذات الوقت ويستطيع ان ينشر في اي مكان لنه ل ينشر بشخصه ولكن بقيمة انتاجه‪،‬‬
‫وفي تلك الفترة كنا نتابع في مجلة "الرسالة الجديدة " قصائد ومقالت المصريين الذين يعيشون في العاصمة‬
‫والقاليم على السواء‪ ،‬والعرب الذين يعيشون خارج مصر في سوريا أو لبنان أو العراق‪ ،‬لكنني كنت أعلم ان‬
‫وجودي بالقاهرة اكثر جدوى حيث يتاح لي التصال المباشر بالحياة الثقافية‪ .‬كنت على مفترق طرق‪ ،‬إما ان اشتغل‬
‫بعيدا عن القاهرة‪ ،‬واجعل الشعر اهتماما ثانويا‪ ،‬واما ان اذهب الى العاصمة لعطي نفسي تماما للشعر‪ ،‬وهذا ما‬
‫كنت في حاجة اليه‪ ،‬ليس فقط لنشر اشعاري‪ ،‬ولكن لنغمس في الحركة الثقافية وأتعلم منها واطور موهبتي‪،‬‬
‫واكمل ثقافتي التي كانت ل تزال محدودة‪ ،‬في هذه الفترة كان علي ان اتقدم بسرعة او تفرض علي ظروف الحياة‬
‫الشخصية العامة ايقاعا أبطأ‪ ،‬فلو كنت أعيش خارج القاهرة لصبحت فكرة الزواج مطروحة‪ ،‬وبالتالي سيؤدي ذلك‬
‫الى النشغال في الحياة ال سرية والعملية‪ ،‬ومن حسن الصدف انني واجهت مشكلة في التعيين فكان لبد من‬
‫المجرة الى القاهرة‪ ،‬وخلل شهور تالية من تاريخ نشر قصيدتي الولى نشرت لي أربع قصائد واستقبلها النقاد‬
‫بحماسة‪ ،‬أذكر منهم الناقد "أنور المعداوي" والدكتور "عبدالقادر القط " و" رجاء النقاش " الذي كان طالبا أنذاك‪،‬‬
‫وقدمني هؤلء النقاد لبعض الصحفيين المعروفين آنذاك مثل "مرسي الشافعي" وعن طريقه عملت مصححا لمدة‬
‫خمسة عشر يوما بدار الهلل ثم انتقلت للعمل بمجلة "صباح الخير" في ذات الفترة التي عمل بها الشاعر "صلح‬
‫عبدالصبور" كنا نحرر بابا اسمه "عصير الكتب "‪ ،‬ونتابع الحياة الثقافية‪ ،‬وفي مرحلة متقدمة انتقلت للعمل ‪"-‬روز‬
‫اليوسف " اما عن صورة "القاهرة " فقد كانت في خيالي صورة مركبة من الواقع والخيال‪ ،‬من السطورة‬
‫والعناصر الفلكلورية الموروثة من الريف لن صورة المدينة الكبرى )القاهرة بالذات ( عند الريفيين صورة سيئة‪،‬‬
‫ولول اوليا‪ ،‬الله )المام الشافعي والحسين والسيدة زينب ( لكانت مجرد بؤرة فساد ملعونة‪ ،‬وهذه الصورة لها‬
‫أسبابها الجتماعية والقتصادية والخلقية‪ ،‬لكن لم يكن هذا هو الوجه الوحيد للقاهرة‪ ،‬فالوجه الخر هو الوجه‬
‫المشرق لعاصمة الثقافة العربية الحديثة‪ ،‬وهذه الصورة بوجهيها موجودة في شعري الول ‪ :‬فالقاهرة هي المدينة‬
‫التي ل يعرف فيها احد احدا‪ ،‬المدينة التي هي صورة من صور الجحيم بالنسبة لشاب ريفي بريء‪ ،‬يكاد يكون طفل‬
‫يبحث عن الدف ء والصداقة والخوة‪ ...‬الخ‪.‬‬

‫القاهرة آنذاك كانت في نظري مدينة معادية للنسان‪ ،‬تبني نفسها على اشلئه‪ ،‬مدينة كبرى لن النسان فيها صفه‪.‬‬

‫النسان ضئيل والعمارات عالية‪ ،‬هذا ما تجده في شعري الذي كتبته خلل الفترة الولى التي قضيتها في القاهرة‪،‬‬
‫تجد البراءة في مواجهة العنف والقوة المستفحلة لكل ما هو آلي وصناعي ومصطنع‪ ،‬ل شجر ول زهور ول حقول‬
‫بالمدينة‪ ،‬ل قمر في سماء المدينة ول فجر فيها أيضا‪ .‬أما الوجه الخر المشرق للقاهرة فكان ناتج عنصرين مؤثرين‬
‫في تكوين صورتها‪ ،‬خصوصا في المرحلة الولى وهما‪ :‬الحركة الثورية الجديدة فقد كان هناك مشروع ثوري ينقي‬
‫المدينة ويطهرها من أثامها‪ ،‬يحولها الى مدينة للنسان ل ضد النسان وهذا ترده في قصائدي التي كتبتها عن "جمال‬
‫عبدالناصر" في الفترة الولى‪ ،‬وعن الثورة العربية في سوريا والعراق والجزائر‪ .‬اما العنصر الخر فهو الحب الذي‬
‫يعني الخروج من الوحشة الفردية الى اقامة علقة بالمعنى المباشر بين رجل وامرأة‪ ،‬وايضا الحب بمعنى الصداقة‬
‫وأظن انه لم يحتفل ‪ -‬في جيلي على القل ‪ -‬شاعر كما احتفلت انا بالصداقة فكثير من قصائدي تتحدث عن اصدقاء‬
‫او تبدأ بيا أصدقاء‪ .‬المدينة كانت مرفوضة ومكروهة وكنت اعتبر نفسي عدوا لها وعلقتي بها تتوزع بين السلب‬
‫واليجاب‪ ،‬فالمدينة ترفضني وأنا ارفضها كذلك‪ ،‬وهذا الموقف عبرت عنه في قصائد مثل )سلة ليمون ‪ -‬مقتل صبي‬
‫‪ -‬الطريق الى السيدة ‪ -‬الى اللقاء‪ ...‬الخ ( بعد ذلك تغيرت الصورة تماما‪ ،‬وهناك قصيدة اسمها )حب في الظلم (‬
‫تضمنت لول مرة عبارة اقول فيها‪) :‬أحس كأن المدينة تدخل قلبي( هذه هي الفترة التي بدأت تشهد تطورا ايجابيا‬
‫في علقتي بالقاهرة‪.‬‬

‫* في نوفمبر ‪ 1954‬كان اعتقالك وكانت الساحة تفلي بتيارات سياسية‪ ،‬هل كنت منخرطا في نشاط سياسي او‬
‫ممنهجا بشكل يؤدي لتكرار اعتقالك مرة ثانية ؟‬

‫* كان عمري ثلثة عشر عاما سنة ‪ 1948‬ومنذ هذا التاريخ حتى سنة ‪ 1951‬كنت متعاطفا مع الخوان المسلمين‬
‫لسببين ‪ :‬الول‪ ،‬انهم شاركوا في حرب فلسطين‪ ،‬اما الثاني فهو انهم كانوا مضطهدين آنذاك‪ .‬بعد ذلك ما كدت‬
‫انصرف بجد للقراءة والكتابة حتى انتهت علقتي العاطفية بهم لنني كنت اكتب واقرأ بكثافة )ربما كنت اكتب كل‬
‫يوم قصيدة ( واصبح حصاد قراءاتي الدبية والفكرية آنذاك يبعدني تماما عن هذا التيار‪ ،‬لنني انصرفت لقراءة توفيق‬
‫الحكيم ‪ -‬البدايات مع المنفلوطي والرافعي ‪ -‬والعقاد وقليل من طه حسين‪ ،‬وبداية من ‪ 1957‬توجهت لقراءة‬
‫"عبدالرحمن بدوي" في سلسلة اعماله الفلسفية ابتداء من الفلسفة اليونانية وانتهاء بالفلسفة اللمانية الحديثة‪ ،‬ثم‬
‫القليل جدا من "سلمة موسى" لنني لم اكن احب لغته‪ ،‬ول ازال اعتقد ان لغته لغة تعليمية‪ ،‬صحفية خالية من‬
‫الجمال‪ ،‬وبسيطة ل ترضي غرور شاعر )وأنا في ذلك الوقت كنت شاعرا(‪ .‬بالضافة الى المناهج الدراسية الدبية‬
‫التي كانت منظمة من العصر الجاهلي الى العصر الحديث‪ ،‬وانهمكت في قراءة الرومانتيكيين خصوصا‪ ..‬علي‬
‫محمود طه وابراهيم ناجي ومحمود حسن اسماعيل وصالح الشر نوبي ومحمد عبدالمعطي الهمشري وايضا‬
‫الرومانتيكيين العرب مثل المهجريين ‪ :‬ايليا ابوماهي وليس جبران خليل جبران فقد كان احساسي نحو لفته ان بها‬
‫جمال وبساطة ودفئا وعفوية تلقائية ولكن بها قدرا من الركاكة التي دخلتها عن طريق العامية اللبنانية من ناحية‪،‬‬
‫ومن ناحية أخرى عن طريق اللغة النجيلية التوراتية‪ ،‬وامتدت قراءاتي الى جورج صياح وميخائيل نعيمة شعره وكتبه‬
‫النثرية خاصة كتابه الول )الغربال ( كما امتدت الى قراءة الرومانتيكيين المقيمين بالبلد العربية مثل الياس ابو‬
‫شبكة اللبناني وابوا لقاسم الشابي التونسي‪ ،‬هذه القراءات ابعدتني تماما عن فكر الخوان المسلمين وكان زملئي‬
‫في ذلك الوقت يرون ان هذه القراءات افسدت عقيدتي‪ ،‬وجهات المن كانت تعتبرني من الخوان المسلمين رغم‬
‫اني لم أنتم في فترة الصبا لي حزب‪ ،‬فلم أكن شيوعيا ول من اتباع مصر الفتاة‪ ،‬اذ كانت الحزاب التقليدية قد‬
‫انتهت بحلها سنة ‪ ،1953‬اما بعد ذلك فقد تعاطفت مع البعثيين والناصريين خصوصا بين ‪ ،1956‬رم و م‬

‫* من "القاهرة " الى مدن الخرين كان الخروج الثاني الى "باريس " الذي استمر سبعة عشر عاما‪ ،‬فكيف كنت‬
‫ترى المدينة !‬

‫* "باريس" كانت بالنسبة لي مدينة محايدة‪ ،‬فهي ليست وطنا‪ ،‬وبالتالي ل اخشي فيها على نفسي بحكم أني فيها‬
‫زائر‪ ،‬واقامتي ايا كانت مؤقتة حتى لو طالت‪ ،‬وعندما قررت السفر لم يكن في ذهني انني سوف أبقى هذه الفترة‬
‫فقد كانت )فسحة ( اكثر مما هي معاناة‪ ،‬لم تكن في ذهني فكرة العمل او القامة الطويلة لذا كانت "باريس "‬
‫باستمرار خيال جميل على عكس صورة القاهرة التي خرجت بها من الريف‪ .‬لكن صورة باريس التي خرجت بها من‬
‫القاهرة هي الصورة التي قدمها توفيق الحكيم واحمد الصاوي محمد وطه حسين فهي مدينة النور‪ ،‬لذلك كانت‬
‫عكسية تماما ولم تنقلب مع طول القامة رأسا على عقب‪ ،‬وكل ما هنالك انها لم تعد مدينة زيارة انما تحولت من‬
‫مجرد فكرة خيالية او حلم الى مدينة حية اعرفها من الداخل عن طريق العمل واعيش فيها‪ .‬وبشكل عام تجربتي‬
‫في باريس تجربة ايجابية‪ .‬وليست هذه هي الصورة الموضوعية لباريس‪ ،‬فهي تختلف من شخص لخر لني ما كدت‬
‫اصل الى باريس في اول مارس ‪ 1974‬او بعد وصولي بشهر حتى ظهرت مقالة عني في صحيفة )الليموند( ‪ -‬اكبر‬
‫صحيفة فرنسية ‪ -‬كتبها الشاعر والروائي المغربي الطاهر بن جلون ومقالة أخرى في صحيفة )ليوما نتيه ( ‪-‬وهي‬
‫صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي ‪ -‬كتبها "هنري الج " ودعيت للقاء بطلب واساتذة قسم الدراسات العربية‬
‫بجامعة )باريس ‪ (8‬واللقاء الذي كان مقررا له ساعتان امتد الى اربع ساعات‪ ،‬وعلى اثر هذا اللقاء عرض علي‬
‫العمل بالجامعة‪ ،‬واستمر العمل بين هذه الجامعة وجامعة باريس ‪) 3‬السوربون الجديدة ( بداية من العام الدرامي‬
‫‪ 1975 -1974‬الى ان رحلت عن باريس في آخر سنة ‪ ،1990‬كل شيء كان مفتوحا‪ :‬العمل من ناحية‪ ،‬والقامة‬
‫والسكن بأجر معتدل عن طريق بلدية "باريس "‪ ،‬والصداقات التي نشأت بيني وبين اساتذة الجامعة خصوصا "جاك‬
‫بيرك " الذي تعرفت عليه بمصر ثم توثقت علقتي به في باريس‪ ،‬كذلك "جمال بن شيخ "‪ ،‬ويعد اكبر استاذ للدب‬
‫العربي في فرنسا وهو شاعر وناقد من اصل جزائري فباريس تحولت من ان تكون "كارت بوستال " جميل الى‬
‫مدينة تدخل في تكوين إحساسي بالمواطنة‪ ،‬اصبحت مصدرا اساسيا من مصادري الروحية والثقافية ثم ساهمت‬
‫في تكويني من جديد عن طريق اكتساب اللغة والصداقات القوية التي نشأت بيني وبين الفرنسيين‪ ،‬ثم المعرفة‬
‫الوثيقة بدروبها لن حياتي في فرنسا لم تكن فقط في "باريس " كنا نخرج من آن لخر الى الريف ‪ -‬البحر ‪ -‬الجبل‪،‬‬
‫كذلك عن طريق الولد‪ ،‬فاثنان من ابنائي الربعة مولودان في "باريس " وقد تشكل وعيهم جميعا هناك‪ ،‬واكتسبوا‬
‫الجنسية الفرنسية الى جانب الجنسية المصرية‪ ،‬اصبحت باريس امتدادا للوطن‪ ،‬هذا هو تحولها من فكرة شعرية‬
‫الى عنصر اساسي في التكوين‪.‬‬

‫* بالنسبة لسنوات الخروج الشعري والنقدي من مصر في السبعينات‪ ،‬هناك اتهامات بالهرب والتخلي‪ ،‬فكيف ترى‬
‫حصادها الممثل الن في الساحة الشعرية ؟‬

‫* الثقافة المصرية بداية من السبعينات نتيجة لنقلب كامل في الحياة المصرية الثقافية والسياسية والجتماعية‬
‫والقتصادية‪ ،‬وهذا النقلب لم يكن ايجابيا لنه كان استمرارا واستطرادا للكارثة التي وقعت في ‪ ،1967‬وكانت‬
‫النتيجة حصادا شقيا وهجرة واسعة للمثقفين المصريين‪ ،‬مصر اصبحت طاردة لمثقفيها‪ ،‬في ذلك الوقت خرج "علي‬
‫الراعي" ‪" -‬الفريد فرج " – "محمود امين العالم ‪ -‬بهاء طاهر ‪ -‬سعد اراش ‪ -‬كرم مطاوع ‪ -‬امير اسكندر ‪ -‬غالي‬
‫شكري" )خرج الى بيروت اول ثم الى باريس لم كذلك عدد كبير من اساتذة الجامعة مثل عبدالرحمن بدوي )خرج‬
‫في اوائل السبعينات (‪ ،‬عدد ل بأس به من الكتاب والشعراء هاجروا الى بلد عربية‪ ،‬وقليلون ذهبوا الى اوروبا‬
‫وآخرون انتقلوا من بلد عربية الى فرنسا حتى الفنانين التشكيليين "آدم حنين " وجورج البهجوري وعدلي رزق الله‬
‫ورجائي وحتى الموسيقيين رمزي يس وعاطف حليم‪ .‬هذا الخروج ادى الى خلخلة الحياة الثقافية في مصر خاصة‬
‫بعد ان تولى المسؤولية "يوسف السباعي" و" عبدالقادر حاتم " ولم تكن علقتهما بالمثقفين وبالجيال الجديدة‬
‫علقة طيبة‪ ،‬كانت علقة حادة وعنيفة‪ ،‬فالمثقفون لدى هؤلء المسؤولين اما ناصريون او يساريون‪ ،‬كذلك كان‬
‫بالنسبة للجيال التالية لجيلي اما الجيال الجديدة التي ظهرت في اوائل السبعينات فقد فقدت علقتها بالجيل الذي‬
‫هاجر‪ ،‬ولم يكن لها أدنى علقة بالمسؤولين عن الثقافة في ذلك الوقت مما أدى الى ظهورهم عن طريق مجلت‬
‫"الماستر" فهم رافضون للثقافة الرسمية رفضهم للهزيمة ولنتائجها‪ ،‬وقد حدثت جفوة بينهم وبين الجيال السابقة‬
‫فهي في نظرهم مسؤولة عن الهزيمة‪ ،‬حتى المثقفون الذين ظلوا بمصر ولم يهاجروا لم يسلموا من هذا التهام اذ‬
‫كانوا مضطرين للعسل في اطار المؤسسات الموجودة‪ ،‬مثل صلح عبدالصبور كرئيس تحرير لمجلة الكاتب ورئيس‬
‫الهيئة المصرية العامة للكتاب ثم مستشار ثقافي في الهند‪ ،‬كذلك يوسف ادريس ولويس عوض فضل عن توفيق‬
‫الحكيم وحسين فوزي‪.‬‬

‫* ولكن كان هناك احتفا ‪0‬بالجيال الجديدة من قبل مجلة الكاتب عن طريق صلح عبدالصبور كذلك قدمهم رجاء‬
‫النقاش بمجلة الهلل‪.‬‬

‫* كان اجتهادا فرديا‪ ،‬ومحاولة لنشاء جسور لم تكن موجودة لن العلقة العاطفية والفكرية لم تكن موجودة‬
‫وبالتالي لو نشرت قصيدة او اثنتان او عدد خاص لم يكن ذلك ليقيم علقة‪ ،‬فالسياسة العامة كانت تدرجهم ضمن‬
‫تيارات اليسار‪ ،‬ولم تكن هناك لفة مشتركة بينهم وبين الموجودين‪ ،‬كان سوء الفهم متبادل‪ ،‬مثل اعتبر صلح‬
‫عبدالصبور في ذلك الوقت حكوميا وليس معنى ذلك انه كان يؤيد سياستها او يعتبر وجها من وجوهها‪ ،‬كما ان لويس‬
‫عوض ايد الرئيس السادات لكنه فصل من الهرام ومنع من نشر دراسته عن جمال الدين الفغاني واصبح موضوعا‬
‫لهجوم عنيف‪ ،‬هذا الخلل الشديد لم يؤد فقط الى هجرة جيل وعزلة جيل جديد‪ ،‬انما كانت له نتائج فاجعة لن اربعة‬
‫مبدعين انتحروا‪ :‬صلح جاهين ومحمود دياب ونجيب سرور الذي كف عن العمل وجلس على المقهى غارقا في‬
‫الشراب حتى مات‪ ،‬وصمت نعمان عاشور‪ ،‬صلح عبدالصبور مات بالمستشفى القريب من بيتي ولم تكن المشادة‬
‫التي حدثت بينه وبين بهجت عثمان ال القشة التي قصمت ظهر البعير لن السنوات العشر السابقة على هذه‬
‫الحادثة بالنسبة له كانت حصارا وانتحارا بطرق مختلفة‪ ،‬هناك جيل سحق وأصيب منه من أصيب بالجنون والنتحار‪،‬‬
‫اي حصاد يكون حين يصبح الوطن وطنا آخر؟ يسقط الحلم سقوطا نهائيا ول يبقى شيء يضيء الطريق للجيال‬
‫التي عاشت في صباها الباكر حلم الستينات‪ ،‬ثم ان الجيال السابقة ‪-‬التي كانت في حكم النموذج او المثل الذي‬
‫كان يتعلم منه جيل السبعينات ‪ -‬هاجر معظمها والجزء الباقي انتحر بطريقة من الطرق‪ ،‬والنتيجة ان الجيال‬
‫الجديدة وجدت نفسها في اليتم لن الجميع تخلوا عنها‪ :‬الوطن والثورة والجيال السابقة‪ ،‬وجاءت التربية الفنية‬
‫ضعيفة فلم يجدوا ما يتلقونه‪ ،‬كما ان حافز التلقي كان يتمثل في رفض كل ما له علقة بالتربية وبالنظام‪ ،‬فعبر هذا‬
‫الجيل عن نفسه برفض النحو واللغة والعروض والمعجم فعنصر الرفض والتمرد سمة أساسية من سمات عمل هذا‬
‫الجيل ولكن عنصر التربية ‪ -‬وهو الساس عندي ‪ -‬كان من الممكن ان يتفجر حتى تظهر منه اعظم الثمار‪ ،‬لكن لم‬
‫يكن موجودا حتى يكون هناك ابداع حقيقي‪ ،‬ولذلك اشك في الكثير من النتائج التي وصل اليها هذا الجيل‪ ،‬فما نواه‬
‫الن فقرا في المعجم‪ ،‬الجملة العربية عنده ليست مستقيمة فيها قدر كاف من الركاكة‪ ،‬والركاكة ليست بالقياس‬
‫الى نموذج بالذات ولكن بالقياس الى متن اللفة كما نعرفها‪ ،‬وليس ذلك بالقياس الى لفة في عصر ما‪ ،‬بل بالقياس‬
‫الى ما يمكن ان نسميه قوانين اللغة وطريقتها الخاصة في التعبير‪ ،‬ل في عمو معين بل في مختلف العصور‪ .‬هناك‬
‫ايضا الموقف من الموسيقى واليقاع‪ ،‬وأنا ل اتحدث عن نظام عروض خاص‪ ،‬ولكني اتحدث عن موسيقى الشعر‬
‫بشكل عام فمن السهل ان افهم ان النسان ل يرتاح الى ايقاع له طابع كلسيكي سواء كان قادما من التجارب‬
‫الشعرية القديمة أو من الشعر الحديث لنه من الممكن أيضا ان يصبح ايقاع الشعر الحر كلسيكيا الن بحيث إن‬
‫الشاعر الشاب ل يجد نفسه فيه‪ ،‬عندئذ يصبح مواجها بضرورة البحث عن ايقاع آخر‪ ،‬وهذا اليقاع الخر لبد ان‬
‫يكون ايقاعا خاصا بالشعر‪ ،‬فالنشر ايضا له ايقاعاته ولبد ان يكون مقبول لدى المتحدثين بهذه اللغة حتى يصبح‬
‫النتاج الجديد جزءا من السياق ل خارجه‪.‬‬

‫* هل هذا الرأي ينسحب على كل افراد جيل السبعينات الممثل في شعراء "اضاءة ‪"77‬؟‬

‫* انا ل اتحدث عن كل فرد‪ ،‬هناك استثناءات باستمرار من الفراد او من عمل هؤلء الذين أتحدث عنهم‪ ،‬فيصبح ان‬
‫يكون لي هذا الرأي في جانب من شعر )فلن ( لكني أعتقد ان جانبا ثانيا يخرج عن هذا الوصف عند نفس الشاعر‪،‬‬
‫أنا أتحدث عن ظاهرة‪ ،‬وفي ظني ايضا ان الجيل الذي تل جيل السبعينات موقفه أسوأ لنه جيل متروك ومهمل‪ ،‬هو‬
‫جيل رافض‪ ،‬علقاته مقطوعة بالجيل السابق عليه‪ ،‬فهو مهمل ومهمل‪ ،‬هاجر ومهجور‪ ،‬بالضافة الى هذا هناك خطر‬
‫عنيف واجه هذه الجيال عامة‪ ،‬وهو انتقال مركز الجاذبية من مصر الى بلد عربية أخرى‪ ،‬جاذبيتها ل تعود الى‬
‫الثقافة بقدر ما تعود الى الثروة‪ ،‬وقد ادى هذا الى فساد مزدوج‪ ،‬أول‪ :‬فساد الموهبة لنهم ل يجدون ما يتعلمونه‬
‫خارج مصر‪ ،‬ثانيا‪ :‬التكالب على جمع الهوال والثروة‪ ،‬وساهم في صنع ذلك سهولة الوصول الى الصحيفة والمجلة‪،‬‬
‫والمشاركة في المهرجانات والمؤتمرات‪ ،‬والسفر الى الخارج‪ ،‬سمعت ان المعويين كانوا يدعون الى مهرجان‬
‫"المربد" بالعشرات‪ ،‬ومن الطبيعي ال يكون كل هؤلء المدعوين شعراء‪ ،‬والنتيجة ان يعاملوا معاملة غير لئقة‪ ،‬وان‬
‫يضطر بعضهم للرضا بأقل القليل‪ ،‬وهذا يحدث ايضا في بلد أخرى‪ .‬هذا فساد اخلقي وفكري‪ ،‬وتأتي النتائج غير‬
‫مرضية فيكون العجز‪ ،‬والتغطية عليه بالدعاء‪ ،‬هناك شعراء لم يحاولوا قراءة ثلث صفحات في الحماسة‪ ،‬ل يعرفون‬
‫شاعرا اسمه "صالح الشرنوبي" او "الهمشري" ول يعرفون ان هناك قصائد لعلي محمود طه غير التي غناها له‬
‫محمد عبدالوهاب‪ ،‬ويعتقدون ان المازني والعقاد لم يكتبا شعرا في حياتهما‪ ،‬هؤلء يتكلمون عن "رولن بارت "‬
‫و"جولدمان " بعد قراءة كلمتين في الترجمات التي تظهر هنا وهناك‪ ،‬ويجدون من يشجعهم‪ ،‬وهذا ما آخذه على‬
‫بعض النقاد والكتاب ! إن هذا الجيل الجديد في حاجة الى من يعلمه‪ ،‬روح الجد‪ ،‬والشعور الحقيقي بالمسؤولية‪،‬‬
‫والصراحة مع النفس‪ ،‬والقدرة على تقبل النقد‪ ،‬والرغبة في الوصول الى شيء رفيع‪ ،‬ل مجرد الندراج ضمن‬
‫الكتاب والشعراء‪ ،‬لبد ان يكون لكل واحد منهم مشروع يكبر به كالمشاريع التي صنعت توفيق الحكيم‪ ،‬ونجيب‬
‫محفوظ وطه حسين‪ ،‬لقد اصبح المثل العلى غير موجود والمستوى الفني صار هابطا في كل أجهزة العلم ومنابر‬
‫النشر‪ ،‬بالضافة الى التزييف ففلن في الصحف والمجلت شاعر‪ ،‬وهو ليس كذلك‪ ،‬أما الشاعر فيمشي في الشارع‬
‫دون أن يعوفه احد!‬

‫* رغم وضوح البعاد الملحمية والد رامية في شعرك على وجه الخصوص في ديوان "اوراس " وقصائد أخرى يمثل‬
‫الحوار جزءا هاما منها‪ ،‬فلماذا لم تكتب المسرح الشعري؟‬

‫* هذا جزء من برنامجي‪ ،‬وانا اعتقد ان القصيدة لبد أن تكون غنائية‪ ،‬أما الدراما او القصة فهي أشكال أخرى‬
‫تختلف عن القصيدة الغنائية وعلى ذلك فبالمكان ان تتضمن القصيدة الغنائية عناصر دراسية او قصصية‪.‬‬

‫* قصيدة النثر صارت هما أساسيا من هموم الجيل‬

‫* أنا اقبلها عندما تكون تجربة‪ ،‬وأرفضها تماما اذا تصور البعض أنها افضل الشكال أو اكثرها حداثة‪ ،‬ولنها في هذه‬
‫الحالة تصبح وباء كاسحا‪ ،‬انها شكل يعتمد على لغة فقيرة من ناحية المعجم‪ ،‬بسيطة ساذجة من ناحية التركيب‪،‬‬
‫نثرية من ناحية اليقاع‪.‬‬

‫حاوره‪ :‬عزمي عبدالوهاب)كاتب من مصر(‬

‫احتفالية العمر الجميل‪ ،‬أحمد عبدالمعطي حجازي‬

‫قبل ‪ 46‬عاما جاء ديوان أحمد عبدالمعطي حجازي الول 'مدينة بل قلب' ليثير شيئا أشبه بالعاصفة في عالم‬
‫القصيدة العربية‪ ،‬لم يكن موقفا مختلفا ومغايرا في فنيات الشعر وجمالياته وإنما أيضا في رؤية الشاعر‪ ..‬هو ليس‬
‫ذلك النبي الذي تسقط عليه الكلمات من السماء وحيا فيتيه بها فخرا‪ ،‬إنما شخص عادي يصارع المدينة الظالمة‬
‫القاسية التي ترفض فتح أبوابها أمامه‪ ..‬هو الغريب وبائع الليمون والفتي الذي يكلم المساء‪ ..‬تمرد علي كل التاريخ‬
‫العربي السابق‪ ،‬قال‪ :‬لن أخاطب ذلك الجالس في القصر بعد الن‪ ،‬قصائدي ليست له‪ ،‬كلماتي لكائنات مملكة‬
‫الليل‪ :‬الصعاليك والمهمشين وأولئك الذين انكسرت قلوبهم‪.‬‬
‫بعد كل تلك السنوات‪ ،‬بعد هذا الصراع الطويل‪ ...‬حجازي في السبعين ومدينته لم تعد قاسية وباردة كما كانت قبل‪..‬‬
‫كلهما هده الحزن‪ ،‬غير أن القلب مازال مشتعل بالرفض والغضب والحب‪.‬‬

‫علي مدي ثلث ساعات بأتيليه القاهرة‪:‬‬

‫مظاهرة حب لحجازي في سبعينه‬

‫أحمد وائل‬
‫أحمد ناجي‬

‫الثلثاء الماضي‪ ،‬السابعة والنصف بأتيليه القاهرة‪ ..‬كان حجازي جالسا بأناقته البسيطة وابتسامته الهادئة محاطا‬
‫بالصدقاء والمحبين الذين ملوا قاعة التيليه وأتوا لمشاركته في احتفالية بعيد ميلده السبعين‪.‬‬
‫حجازي الذي أنصت له الجمهور وهو يلقي بصوته المميز قصيدة 'طردية' و'سلة الليمون' و'آيات من سورة اللون'‬
‫ود جمهوره بروح منطلقة محافظا علي قيم الصعلكة‪ ،‬حالما كالمعتاد بالعدالة الجتماعية والحرية‪.‬‬ ‫كان حاضرا كما ع ٌ‬
‫الحتفالية التي استمرت لكثر من ثلث ساعات بدأت بكلمة لسامة عرابي مقرر لجنة الدب بأتيليه القاهرة الذي‬
‫رحب بالحضور وعبر عن سعادته بالحتفال بسبعين حجازي العامر بالعطاء الفني وقال عرابي في كلمته أن‬
‫الحتفال بحجازي هو احتفال بشاعر لم يتنكر يوما لتراثه الشعري بل انكب عليه ليصقله ويرعاه ويطوره مدفوعا‬
‫دائما بروح المغامرة والتجديد‪.‬‬
‫فاروق شوشة قال‪' :‬إن هذه المسية تعيدنا إلي أنسام من العمر الجميل حين كنا جميعا قادمين إلي المدينة نشعر‬
‫بالنسحاق من جراء قسوتها‪ ،‬علقتنا النسانية الحميمة في القرية تتآكل‪ ،‬نبحث فيمن حولنا عمن يأخذ بثأرنا من تلك‬
‫المدينة العصرية‪ ،‬حتى جاء حجازي فأحسسنا أن هناك من أخذ ثأرنا'‪.‬‬
‫شوشة أشار في كلمته إلي أن هناك من الشعراء قبله من عبروا عن صدمة المدينة لكن حجازي كان أكثرهم تميزا‬
‫حيث عبر عن تلك الصدمة بأصدق تعبير في أكثر من قصيدة له وضرب مثال علي ذلك بقصيدة حجازي 'أنا والمدينة'‬
‫حيث شعر شوشة في تلك القصيدة بأن حجازي قد انتصر علي المدينة وأمسك بزمام الواقع لتتبلور شخصية‬
‫حجازي الصعلوك بالمعني السامي للصعلكة والصعاليك في بحثهم الدائم عن العدالة الجتماعية ودفاعهم عن‬
‫الحرية‪ ،‬وهو ما تجسد في ماضي حجازي كله وحاضره حتى في مقاله الخير في الهرام الذي بدأ فيه مخلصا‬
‫لمعني الصعلكة ولبحثه الدائم عن العدالة والحرية‪.‬‬
‫تعرض شوشة بعد ذلك في حديثه لجدلية التعامل مع التراث التي يطرحها حجازي في شعره‪ ،‬وهي جدلية كما يري‬
‫شوشة تقوم علي الحوار والمعرفة والختلف لذلك فنحن نجد حجازي وقد عارض سينيه 'شوقي وسينيه' البحتري‬
‫ونونيه العقاد‪.‬‬
‫وعن تجارب حجازي الشعرية الولي وبداياته الولي مع أبناء جيله قال شوشة‪' :‬كنت أحس أن التجارب الولي لرواد‬
‫الحداثة هي تجارب جريئة ومقتحمة كتبت بلغة هشة تذكرني بالشعر المترجم فكنت أحس أن تجارب عبدالصبور‬
‫الولي مكتوبة بلغة الشاعر والسوق‪ ،‬وكنت أبرر ذلك بأنهم أبناء المدرسة الواقعية‪ ،‬فلم أكن أميز في قصائد البياتي‬
‫الولي السباب من الشعر‪ ،‬لكن هذه الهشاشة لم ينج منها سوي السياب في العراق وحجازي في مصر‪ ،‬فحين كنا‬
‫نقرأ قصائد حجازي كنا نحس أن قصائد حجازي أكثر اتصال بتراث الشعر العربي وخلوه من التعريب والترجمة ‪ ،‬كنا‬
‫نحس أن حجازي هو ابن البرية وابن الفطرة الشعرية الخالصة‪.‬‬
‫كان عبدالصبور يبهرنا بفكر الشعر وفي كل قصيدة يقول لنا بطرق مختلفة أنا مفكر‪ ،‬بينما كان حجازي منطلقا‬
‫بفطرته ينشأ كلسيكيته الشعرية الحديثة‪.‬‬
‫وفي نهاية كلمته عبر فاروق شوشة عن اندهاشه من الصوات التي ترتفع بين الحين والحين لتقول حجازي لم يعد‬
‫يكتب شعرا‪ ،‬حجازي كاتب مقال‪ ،‬حجازي أصبح ناقدا‪ ..‬حيث استنكر شوشة مثل هذه الصوات واستغرب كيف‬
‫ي بيننا وليعش سبعين عاما أخري‬‫يمكن أن نطالب مبدعا بأن يخرج لنا كل سنة كتابا‪ ،‬فمنجز حجازي الشعري ح ٌ‬
‫فقيمته لن تتبدل حتى لو لم يكتب من الن ولقيام الساعة حرفا واحدا‪.‬‬
‫بعد ذلك تقدم الفنان هناء عبدالفتاح وطالب الحضور بالوقوف دقيقة حداد علي زملئه المسرحيين ضحايا محرقة‬
‫بني سويف ثم قام بإلقاء قصيدة 'مرثية لعب السيرك' بأداء فني جميل‪ ،‬تبعته د‪ .‬كاميليا صبحي التي قدمت مداخلة‬
‫بسيطة تحدثت فيها عن شعر حجازي الرقيق والبسيط في مفرداته الذي يصيغ من 'سلة ليمون' أو 'لعب سيرك'‬
‫عالم شعري يأثر قارئه‪.‬‬

‫***‬

‫'هذا شاعر قادم من سفر راحل لسفر'‪..‬‬

‫بهذه العبارة وصف د‪ .‬محمد عبدالمطلب الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي حين قابله للمرة الولي عام ‪1963‬‬
‫حينما كان يلقي شعره في كلية دار العلوم‪ ،‬وهي العبارة التي يري عبدالمطلب أنها المفتاح لفهم شعر حجازي‪.‬‬
‫عبدالمطلب الذي قال إنه أتي لكي يحيي حجازي ل لكي يتحدث عنه قال إن هناك ركائز أساسية في الشعر العربي‬
‫وهي الموسيقي‪ ،‬اللغة‪ ،‬الخيال‪ ،‬والمعني وهي الركائز التي يري أن كل مراحل الشعر العربي حافظت عليها مع‬
‫التغير في شكلها ومضمونها‪ ..‬وفي شعر حجازي يبرز المعني كركيزة أولي فحجازي هو شاعر الشعراء في الصيغة‬
‫الشعرية التي ل نجدها إل عنده‪.‬‬
‫وعن رؤيته لشعر حجازي حكي عبدالمطلب كيف أخذ يبحث عن المعني في شعر حجازي فأخذ يقرأ أعماله‬
‫الشعرية الكاملة‪ ،‬ويبحث عن السفر الذي رأي أنه يسكن الشاعر فأحصي مفردات السفر في مجمل دواوينه‬
‫ليجدها ‪ 20‬مفردة عن السفر واندهش حينها كيف يحس دائما أن حجازي شاعر مسافر ومع ذلك ل تتجاور مفردات‬
‫السفر في شعره مفردة‪ ،‬ليعلم بعدها أن السفر عند حجازي ليس هو السفر الذي يحدده المعجم‪ ،‬بل السفر عند‬
‫حجازي هو الحياة‪ ،‬فحجازي هو المسافر البدي فكل العمر عند حجازي أسفار‪.‬‬
‫فحجازي يرحل من مكان لمكان لنه في رحيله يجد الحياة‪ ،‬ورحيل حجازي هو رحيل بالساس في الداخل‪ ..‬داخل‬
‫نفسه‪.‬‬
‫قال المفكر محمود أمين العالم‪ :‬إن هذا هو العيد ال ‪ 30‬أو ال ‪ 40‬علي صداقته لحجازي‪ ،‬وبأنهما عمل سويا منذ‬
‫هجرة أحمد عبدالمعطي حجازي إلي القاهرة من قريته‪ ،‬وجمعتهما مجلة 'روزاليوسف'‪ ،‬وفي باريس‪ ،‬وخاضا معا‬
‫الكثير من المعارك‪ ،‬ووصف شعره بأنه تعبير فني عن جوهر شخصية 'حجازي' ول يشكل خطا جامدا بل تعبر حياته‬
‫التعبيرية‪ /‬اللغوية‪ /‬الفكرية بجلء عن مواقفه وحياته‪.‬‬
‫وأضاف أن الشعر عند حجازي بنية فنية محتشدة بالحماس والتدفق النفعالي للبلغة الشكلية واللغوية يغلب عليها‬
‫الطابع الحكائي‪ ،‬والطابع التاريخي‪.‬‬
‫وحجازي بالنسبة للعالم ل يبحث عن تكامل لرصيد معرفي بقدر ما يسعي لختراق لكل ما هو قائم وما كان ينبغي‬
‫أن يقوم‪ ،‬وأن تجربة حجازي الشعرية تمتلئ بالدللت المحرضة والفعالة‪ ،‬وتتسم شعريته بالتعبير بالصور‪ ،‬فهو يفكر‬
‫شعريا ويعبر عن المشاعر بالصورة‪ ،‬فهو يحول المجردات إلي محسوسات‪.‬‬
‫يظهر في شعر حجازي¬ والحديث مازال للعالم¬ الظل الشكلي للتراث‪ ،‬ومع ذلك تتجلي حركة البداع في‬
‫التصوير واللغة لقتحام ما هو أعمق‪ ،‬وما هو أكثر استنارة‪ ،‬متواصل مع ذاتيتنا وانسانيتنا‪ ،‬فما تظهره تجربة حجازي‬
‫الشعرية أن حرية فما البداع تحقق لنا إبداع الحرية‪.‬‬
‫الفنان التشكيلي عدلي رزق الله قال‪ :‬إن الطريقة المثلى للحتفاء بحجازي¬ وقد سبق أن أشار إلي ذلك في‬
‫ستينية حجازي¬ هي وضع شعر حجازي بين يدي أبنائنا‪.‬‬
‫وذكر رزق الله إرادة حجازي وتصميمه أثناء تواجدهما في باريس بالسبعينيات فقد صمم حجازي علي الستزادة من‬
‫اللغة الفرنسية التي واظب علي دراستها بمدرسة الصداقة الفرنسية وكان حجازي في عقده الربعين¬ أكثر من‬
‫فصل في اليوم الواحد‪ .‬وذكر رزق الله أيضا أجمل ليالي باريس الليلة التي تزوج بها الفن التشكيلي بالشعر¬‬
‫حسب تعبيره¬ حيث عرض حامد عبدالله علي عدلي أن يكتب حجازي قصيدة كمقدمة لمعرض فني لعدلي رزق‬
‫الله¬ ويعتبر أول معرض شخصي للفنان¬ ومن هنا تولدت قصيدة 'آيات من سورة اللون' وقد ترجمها إلي‬
‫الفرنسية جمال الدين بن شيخ‪ ،‬وألقي حجازي القصيدة بأسلوبه الذي يمثل الروعة في النشاد العربي‪ ،‬وإبن شيخ‬
‫ترجمتها‪ ،‬وقد كان الجمهور الفرنسي أكثر إنصاتا من الجمهور العربي للقصيدة‪ ،‬وبعد ذلك سهرنا في مطعم يوناني‬
‫وبهذا اكتملت أجمل ليالي باريس‪ ،‬وكانت ملكة هذه الليلة السيدة 'سهير' زوجة الشاعر التي مثلت المرأة المصرية‬
‫حين تحتفي بشاعرها‪.‬‬
‫وأضاف عدلي رزق الله انه بصدد إعداد كتاب عن حجازي‪ ،‬وهو يعقد محاورة بين الفن التشكيلي والقصيدة‪ ،‬مشيرا‬
‫إلي تقاطع في قصيدة 'كائنات مملكة الليل' حيث يظهر بها إيقاع تشكيلي‪ ،‬والكتاب سيهديه إلي حجازي في عيد‬
‫ميلده الحادي والسبعين )يذكر أن عدلي قد أعد من قبل كتاب من نفس النوعية مع شعر صلح عبدالصبور(‪.‬‬
‫واختلف الشاعر حسن طلب مع فاروق شوشة في مسألة التصال بالتراث واللغة‪ ،‬فشعر حجازي¬ في رأيه¬ ينحو‬
‫إلي غربة‪ ،‬ليست غربة في المكان بل غربة في الزمن‪ ،‬وقال‪ :‬الزمن الذي أقصده ليس زمنا معدودا وكمي‪ ،‬وليس‬
‫الزمن المنصوص في التراث المعدود والمقدر‪ ،‬بل هو الزمن المفقود‪ ،‬ولهذا فإن اتصال حجازي بالتراث المتمثل‬
‫في اللغة ل يهدف إلي نفس الستخدام التراثي للزمن‪.‬‬
‫وأضاف أن شعرية حجازي ترتبط بالوجود وليس بقومية رغم تغنيه بالعروبة في البدايات فشعره يخاطب عقولنا‬
‫وعقول البشر أجمعين‪ .‬وحجازي يريد بالشعر تحقيق المستحيل مثل الشعراء المجيدين‪ ،‬واتفق طلب مع شوشة في‬
‫مسألة توقف حجازي عن كتابة الشعر‪ ،‬فحجازي فعل ما كان لبد أن يفعله كل فنان عظيم‪ ،‬بأل يخضع لسيف‬
‫ضرورية الكتابة‪.‬‬
‫وتحدث طلب عن صحبته لحجازي في مجلة 'إبداع'‪ ،‬وكيفية تطبيقه لشعار الديمقراطية‪ ،‬فكل المواد مطروحة‬
‫للمناقشة‪ ،‬والفيصل في المر هو القتناع‪.‬‬
‫الشاعر حلمي سالم ألقي قصيدة من ديوانه 'الغرام المسلح' وهي قصيدة 'مرثية للعمر الجميل' التي استوحي‬
‫عنوانها من عنوان قصيدة لحجازي في ذكري عبدالناصر‪.‬‬
‫وتحدث الفنان التشكيلي وجيه وهبة عن مقالت أحمد عبدالمعطي حجازي في الهرام‪ ،‬فقد أسهمت تلك‬
‫المقالت¬ كما قال¬ في تغيير الكثير من آراء القراء وجعلتهم أكثر تقبل للثقافة وانفتاحا للمعرفة‪.‬‬

‫مختارات من أشعار أحمد عبدالمعطي حجازي‬

‫الطريق إلى السيدة‬

‫م‪..‬‬
‫يا ع ّ‬
‫ق؟‬‫من أين الطري ْ‬
‫أين طريق 'السيدة'؟‬
‫ن قليل‪ ،‬ثم أيسر يا بجن َ ٌْ‬
‫ي‬ ‫أيم ْ‬
‫ي!‬‫قال‪ ..‬ولم ينظر إل ٌ‬
‫ل المدينة‬ ‫وسْرت يالي َ‬
‫أرقرق اله َ الحزينة‬
‫َأجّر ساقي المجهدة‬
‫للسيدة‬
‫بل نقودي‪ ،‬جائع حتى العياْء‬
‫بل رفيق‬
‫كأنني طفل رمته خاطئة‬
‫ق‬
‫فلم يعره العابرون في الطري ْ‬
‫حتى الرثاء!‬
‫ق السيدة‬ ‫إلي رفا ِ‬
‫أجّر ساقي المجهدة‬
‫ح‬
‫والنورج حولي في فر ْ‬
‫ح‬
‫قوس قز ْ‬
‫وأحرف مكتوبة من الضياء‬
‫'حاتي الجلء'‬
‫ن‪ ،‬بدء خريف‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫ه‬ ‫وبعض ريحي‬
‫ل عقصة مغَيمة‬ ‫تجزي ذ َي َ َ‬
‫ومه‬‫مهَ ٌ‬
‫ف‬
‫علي كت ْ‬
‫ف‬
‫ق والصد ْ‬ ‫من العقي ِ‬
‫ف‬
‫ب الشفي ْ‬ ‫تهفهف الثو َ‬
‫صْر‬
‫وفارس شد ّ قواما فارعا‪ ،‬كالمنت ِ‬
‫ح في ِذراع أنثي‪ ،‬كالقمْر‬ ‫ذراعه‪ ،‬يرتا ْ‬
‫ب!‬ ‫وفي ذراعي سلة‪ ،‬فيها ثيا ْ‬

‫سراعا‬ ‫والناسج يمضون ِ‬


‫حفلون‬
‫ل يَ ْ‬
‫أشباحهم تمضي تباعا‬
‫ن‬‫ل ينظرو ْ‬
‫م‬
‫حتى إذا مٌر الترا ْ‬
‫م‬
‫بين الزحا ْ‬
‫ن‬
‫ل يفزعو ْ‬
‫م‬‫لكنني أخشي الترا ْ‬
‫ل غريبي ههنا يخشي الترام!‬ ‫ك ّ‬
‫ت سيارة مجنحة‬ ‫وأقبل ْ‬
‫كأنها صدر القدْر‬
‫تقل ناسا يضحكون في صفاْء‬
‫أسنانهم بيضاء في لون الضياْء‬
‫رؤوسهم مرّنحة‬
‫وجوههم مجلوة مثل الّزهْر‬
‫كانت بعيدا‪ ،‬ثم مرت‪ ،‬واختفت‬
‫م السيدة‬ ‫َ‬
‫لعلها الن أما َ‬
‫ل أجّر ساقي المجهدة!‬ ‫ولم أز ْ‬

‫ن‬
‫والناسج حولي ساهمو ْ‬
‫ن‬‫ضهم‪ ..‬ل يعرفو ْ‬ ‫ل يعرفون بع َ‬
‫ب‬‫هذا الكئي ْ‬
‫ب‬
‫لعله مثلي غري ْ‬
‫م؟‬‫أليس يعرف الكل ْ‬
‫يقول لي‪ ..‬حتى‪ ..‬سلم!‬
‫ق!‬‫يا للصدي ْ‬
‫يكاد يلعن الطريق‬
‫ما وجهته؟‬
‫ما قصته‬
‫د!‬
‫لو كان في جيبي نقو ْ‬
‫ل‪ ..‬لن أعود ْ‬
‫ل لن أعود َ ثانيا بل نقود‬
‫يا قاهرة!‬
‫أيا قبابا متخمات قاعدة‬
‫يا مئذنات ملحدة‬
‫يا كافرة‬
‫أنا هنا ل شيَء‪ ،‬كالموتى‪ ،‬كرؤيا عابرة‬
‫أجّر ساقي المجهدة‬
‫للسيدة!‬
‫للسيدة!‬

‫نوفمبر ‪1955‬‬

‫***‬

‫مقتل صبي‬

‫الموت في الميدان ط َ ٌ‬
‫ن‬
‫ن‬‫ف ْ‬ ‫الصمت ح ّ‬
‫ط كالك َ َ‬
‫ت ذبابة خضراْء‬ ‫وأقبل ْ‬
‫جاءت من المقابرِ الريفية الحزينة‬
‫ت جناحها علي صبٌيي مات في المدينة‬ ‫ول َوَل َب َ ْ‬
‫وما بكت عليه عين‬

‫ن‬
‫الموت في الميدان ط ّ‬
‫ت‬‫فرت‪ ،‬توقف ْ‬ ‫ص ّ‬‫العجلت َ‬
‫ن؟‬ ‫م ْ‬ ‫ن َ‬ ‫قالوا‪ :‬أي ْ‬
‫َ‬
‫حد ْ‬ ‫بأ َ‬ ‫ولم يج ْ‬
‫فليس يعرج اسمه هنا سواه‬
‫يا ولداه!‬
‫ن‬‫قيلت‪ ،‬وغاب القائل الحزي ْ‬
‫ن‬
‫والتقت العيون بالعيو ْ‬
‫ولم يجب أحد ْ‬
‫دد‬
‫ن الكبرى ع َ َ‬ ‫فالناسج في المدائ ِ‬
‫جاء ولد ْ‬
‫د!‬‫مات ول ْ‬
‫همد ْ‬
‫الصدر كان قد َ‬
‫ب‬‫ض في الترا ْ‬ ‫وارتد ٌ كفج ع ّ‬
‫ب‬
‫ن في ارتعا ْ‬ ‫ت عينا ِ‬ ‫وحملق ْ‬
‫ن!‬‫ف ْ‬ ‫ج ْ‬ ‫وظلتا بغير َ‬
‫ن!‬
‫ت أن تست َك ِ ْ‬ ‫ق التي َتشَرد ْ‬
‫قد آن للسا ِ‬
‫وعندما ألقوه في سيارة بيضاْء‬
‫ب بالدماْء‬ ‫حامت علي مكان ِهِ المخضو ِ‬
‫ة خضراْء‬
‫ذباب ْ‬

‫يناير ‪1958‬‬

‫***‬

‫أنا‪ ..‬والمدينة‬

‫هذا أنا‬
‫وهذه مدينتي‬
‫ف اللي ْ‬
‫ل‬ ‫عند انتصا ِ‬
‫ل‬‫ن‪ ،‬والجدران ت ٌ‬ ‫رحابة الميدا ِ‬
‫يبين ثم يختفي وراء ت ٌ‬
‫ل‬
‫حط ّ ْ‬
‫ت‪ ،‬ثم‬ ‫ت‪ ،‬ثم َ‬ ‫ح داَر ْ‬ ‫وريقة في الري ِ‬
‫ب‬‫ت في الدرو ْ‬ ‫ضاع َ ْ‬

‫ب‬‫ظل يذو ْ‬
‫ل‬‫يمتد ظ ِ ْ‬
‫م ْ‬
‫ل‬ ‫يم ِ‬ ‫ول‬
‫َ ٌ‬ ‫فض‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫مصبا‬ ‫وعين‬
‫ت‬
‫مَرْر ْ‬‫عه لما َ‬‫دست على شعا ِ‬
‫وجاش وجداني بمقطع حزين‬
‫ت‬‫دأته ‪ ،‬ثم سك ٌْ‬ ‫بَ َ‬
‫ت؟‬‫من أنت يا‪ ..‬من أن ْ‬
‫الحارس الغبي ل يعي حكايتي‬
‫م‬
‫ردت اليو ْ‬ ‫لقد ط ِ‬
‫من غرفتي‬
‫وصرت ضائعا بدون اسم‬
‫هذا أنا‬
‫وهذه مدينتي‬

‫يونيو ‪1957‬‬

‫***‬

‫هذا المساء يا عزيزتي جميل‬

‫ل تسأليني إن أتيت في مساء غد ْ‬


‫وفي مساء بعد غد ْ‬
‫ماذا تريد؟‬
‫لنني سأدعي أني نسيت عندكم كتاب‬
‫ة الحد‬ ‫ن ليل َ‬‫أني نسيت علبة الدخا ِ‬
‫أني‪ ،‬نعم أريد‪ .‬ما الذي أريد‬
‫ستلمحين فكريَ الشريد‬
‫من خلف عيني حائرا يبحث عن جواب‬
‫وأمضغ السى‪ ،‬ول أرد ٌ‬
‫ل توقفيني هكذا‪،‬‬
‫فقد شبعت وقفة بكل باب‬
‫أسأل عن خبزي‪،‬‬
‫ب‪،‬‬‫وعن حج ٌِ‬
‫ول جواب‬
‫غير صدي صوتي يضيع في السكون‬
‫ك قولي لي‪ :‬استرح!‬ ‫أرجو ِ‬
‫أو‪ :‬انتظر!‬
‫جعة‬ ‫ة مش ٌ‬ ‫وابتسمي ابتسام َ‬
‫جر‬
‫ك الض َ‬
‫لنني لن أسترَيح لو بدا في وجه ِ‬
‫وإنني أراك سوف تفعلين‬
‫أتذكرين؟‬
‫ليلة أن كٌنا نسير‪ ،‬ذات ليلة‪،‬‬
‫وقد تدٌَثر الطريق بالظلم‬
‫أنا أكاد أذكر الوقت وأذكر الكلم‬
‫لنها أّول مرة نسير وحدنا‬
‫ل شيء‬‫وكنت أستطيع أن أقول كج ٌَ‬
‫لكنني لست من الذين يتقنون صنعة الغرام‬
‫أنا أكاد أذكر الوقت وأذكر الكلم‬
‫كنا نسير والطريق مظلم‬

‫والناس أشباح تمّر‬


‫تبدو إذا سّيارة مرت بهم‬
‫تمد ّ فيهم إصبعين أزرقين من ضياء‬
‫وتختفي فيختفون!‬
‫مها كنا نعيش في الظلم‬ ‫أيا َ‬
‫كانت سماؤنا ِببومي ينشر الخراب‬
‫علي بيوتنا التي بنى سقوَفها العرق‬
‫علي حقولنا التي تخضّر كل فصل‬
‫ف والرعاة‬ ‫وتفرش الظلل للخرا ِ‬
‫وترضع المساَء قطرة من الندي‪،‬‬
‫وخفقة من الورق‬
‫أيامها حتى الندي احترق‬
‫وقلت في نفسي اعطها يدك‬
‫ففي ليالي الحرب تأمن البنات للرجال‬
‫دها!‬‫وقلت ل‪ ،‬فقد تر ّ‬
‫لكنني وددت أن يتوه دربنا‬
‫فل نري خيال دار‬
‫ب الليل الخلود َ كٌله‪،‬‬ ‫ويشر َ‬
‫فل يري النهار‬
‫وكان حراس الطريق والجنود يعبرون‬
‫وقد تقلصت أكفهم علي السلح‬
‫س التي تأتي بفكرة ابتسام‬ ‫وكنت أطرد الهواج َ‬
‫سم‬
‫ورَبما لولك ما فكرت أبت ِ‬
‫هربت من خواطري‬
‫كأنني استيقظت من حلم‬
‫ثم استدرت نحو وجهك الذي يفيض بالجمال‬
‫والعذاب‬
‫وقلت‪:‬‬
‫هذا المساء يا عزيزتي جميل!‬

‫الفق صلبان من الشرر‬


‫تقاطعت علي الدجى‬
‫والطلقات تنهش السكون‬
‫ل تفزعي!‬
‫ل تفزعي‪ ،‬نحن معا‬
‫نحن معا نخوض في المنون‬
‫ول نموت!‬
‫أحسست أنني أحب‬
‫فٌِتت الصخور‬ ‫أحسست أن إصبعي ي َ‬
‫وصدري العاري يطيش حوله الرصاص‬
‫وفي دقيقةِ يصير لي جناح‬
‫أمشي به علي الرياح‬
‫إذا شربت جرعة من نبعك النمير‬
‫أحسست عندما اقتربنا من طريق منزلك‬
‫ت!‬‫ي السهاد ِ والغناِء أقبل ْ‬‫أن ليال َ‬
‫جة إليك‬
‫أني بحا ِ‬
‫أني أريد‪ ،‬ما الذي أريد‬
‫هربت من خواطري كأنني استيقظت من حلم‬
‫ثم التفتح نحو وجهك الذي يفيض بالجمال‬
‫والعذاب‬
‫وقلت‪:‬‬
‫هذا المساء يا عزيزتي جميل!‬

‫مارس ‪1957‬‬
‫***‬

‫السجن‬

‫ه‬
‫لي ليلة في ِ‬
‫وك ّ‬
‫ل جِيلنا الشهيد‬
‫ه‬
‫عاش ليالي ِ‬
‫فالسجن باب‪ ،‬ليس عنه من محيد!‬

‫والسجن ليس دائما سورا‪ ،‬وبابا من حديد‬


‫فقد يكون واسعا بل حدود‬
‫ه‬
‫كالليل‪ ..‬كالتي ِ‬
‫نظل نعدو في فيافيه‬
‫حتى يصيَبنا الهمود؟‬
‫جفنا‪ ،‬قاتم الهداب نرخيه‬ ‫وقد يكون السجن َ‬
‫وننطوي تحت الجلود‬
‫ه!‬
‫م العمرِ في صمتي‪ ،‬ونخفي ِ‬ ‫نجتر حل َ‬
‫والساق سجن‪ ،‬حين ل تقوي علي غير القعود‬
‫ه‬
‫يشدها مكانها‪ ..‬والقلب ترميهِ مرامي ِ‬
‫لعالم يعطي المني‪ ،‬ول يزيد!‬

‫ن ودود‬
‫ن إنسا ِ‬
‫ب‪ ،‬دو َ‬ ‫ش دون حج ٌ‬ ‫وأن نعي َ‬
‫ت خلفنا‬ ‫ب البيو ِ‬ ‫نغِلق أبوا َ‬
‫م أهَلنا ليست لنا‬ ‫لن أرضا ل تض ّ‬
‫والوجه إن لم يحتفل بنا‪،‬‬
‫بدا مسطحا‪ ..‬بل خدود‬
‫ضاعت معانِيه‬
‫ه‬
‫فلم يعد في ِ‬
‫باب يقودنا لدفئه البعيد!‬
‫ه‬
‫ن أين آتي ِ‬‫م ْ‬‫ِ‬
‫حبي الوحيد‬
‫ه‬
‫من أين آتي ِ‬
‫والليل يغلق الحدود!‬

‫***‬

‫فبراير الحزين‬

‫قلنا انتهى‪ ..‬فلن يعود‬


‫اغتاله سبتمبر الماضي علي أبواِبنا‬
‫ن من أيدي الجنود‬ ‫فما خرجنا نمنع المسكي َ‬
‫لكنه عاد إلينا‪ ..‬فالزمان‬
‫ليس إذن مثلي جبانا‬
‫أيها الخ الجبان!‬

‫جَهه وجوهَنا؟‬
‫أين سنخفي حين نلقي و ْ‬
‫ماذا نقول عندما يسألنا؟‬
‫ل عام‬‫ل عام حين يأتي‪ ..‬ك َ‬
‫وك ٌ‬
‫ماذا نقول عندما يسألنا؟‬
‫ل عامنا حرام‬‫وك ٌ‬

‫ومٌر وجهه الحزين‬


‫يرنو إلي أطفاِلنا فيجهشون بالبكاء‬
‫ويمسحون عن ثيابه مراحل الشتاء‬
‫ويتبعون بالعيون سيره إلي دمشق‬

‫حل وحيد‬ ‫من يرحم الشهَر النبي َ‬


‫ل وهو َرا ِ‬
‫د‪ ،‬أو نشيد‬
‫بغير جن ِ‬
‫بغير أنصاري‪ ،‬وكم غٌني له الراديو وقال‬
‫يا أيها الشهر السعيد!‬
‫أين انتهت أصداء أغنَياتنا‬
‫حين أتانا قبل أعوامي قصار‬
‫ل أطفال صغار‬ ‫حين تحلقنا عليه مث َ‬
‫ه مولود جديد!‬ ‫يستطلعون وج َ‬

‫هل تذكرون يومها ماذا فعلت؟‬


‫لقد رقصت‬
‫في شارعي ل رقص فيه‬
‫سكيري تعيسي أو مهرج صفيق‬ ‫إل ل ِ‬
‫ن المرور‬
‫َ‬ ‫قواني‬ ‫تحديت‬ ‫لقد‬
‫وكيف يا علمة حمراء في وجه الطريق‬
‫أن توقفي بحَر السرور؟!‬

‫ب المكان‬
‫وفي الصباح حين سدت خيلهم با َ‬
‫وجاء يطلب الحصان‬
‫أنكرته أنا الجبان‬
‫وحين جاء في مساء اليوم يطلب المان‬
‫هل تذكرين يا دمشق ما فعلت؟‬
‫لقد بكيت‬
‫واغتاله سبتمبر الماضي أمام منزلي‬
‫أنا الجبان!‬

‫كيف تركت ِهِ وحيدا يا دمشق؟‬


‫أنت التي حملته فوقَ السنين‬
‫وأين تهربين منه يا دمشق!‬
‫ن جرحك الدامي الثخين‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬
‫ة خوفا يا دمشق‬ ‫لن تتركي أنهار َ‬
‫ك السبع َ‬
‫منه‪ ،‬من الوجهِ الحزين‬
‫فأين منه تهربين؟!‬

‫فبراير ‪1962‬‬

‫***‬

‫الموت فجأة‬

‫م هاتفي‬‫حملت رقْ َ‬
‫واسمي‪ ،‬وعنواني‬
‫حتى إذا سقطت فجأة تعرفتم ع َل َ ٌ‬
‫ي‬
‫وجاء إخواني!‬

‫وروا لو أنكم لم تحضروا‬ ‫تص ٌ‬


‫ماذا يكون؟!‬
‫ل ليلتين‬‫طوا َ‬
‫ل في ثلجة الموتى ِ‬ ‫أظ ّ‬
‫ف البارد ِ في الليل‪ ،‬ويبدأ الرنين‬ ‫يهتز سلك الهات ِ‬
‫بل جوابي‪ ..‬مرة ومرت َْين!‬
‫يذهب إنسان إلي أمي‪ ..‬وينعاني‬
‫أمي تلك المرأة الريفية الحزينة‬
‫كيف تسير وحدها في هذه المدينة‬
‫تحمل عنواني!‬
‫كيف ستقضي ليَلها بجانبي‬
‫هة الشاملة السكينة‬ ‫في الرد ِ‬
‫تقهرها وحدتها‬
‫يريحها انفراجها بحزنها‬
‫دها‬
‫حيث تظل تستعيد وح َ‬
‫أحزاَنها الدفينة‬
‫تنسج من دموعها السوداء أكفاني!‬

‫يا ليت أمي و َ‬


‫شمتني في اخضرار ساعدي‬
‫كيل أتوه‬
‫ن والدي‬
‫كيل أخو َ‬
‫ي الثاني!‬‫ي الول تحت وجه َ‬ ‫كيل يضيع وجه َ‬
‫ل والنساَء يخرجون صامتين‬ ‫حين أرى أن الرجا َ‬
‫من بعد ما ظلوا أمامي ساعتين‪ ،‬ما تبادلنا النظر‬
‫ول تغيرت أمامنا الصورة‬
‫ت من الجنون‬ ‫خل َ ْ‬
‫حين أرى أن الحياة َ قد َ‬
‫ف فوقٌ الكل طائر السكون‬ ‫ور ٌ‬
‫ت فعل‪ ،‬واضطجعت صامتا‬ ‫م ّ‬
‫أحس أني ِ‬
‫أرقب هذا العالم الفاني!‬

‫‪1964‬‬

‫***‬

‫من نشيد النشاد‬

‫خرجت أطلب في الليل من أحبته نفسي‬


‫مخت رأسي‬
‫ض ّ‬
‫وضعت وشمي على جبهتي‪ ،‬و َ‬

‫قابلني العسس الساري في هواء المدينة‬


‫فشق صدري وأبقي قلبي لديه رهينة‬

‫بالله يا من سَتلقي‬
‫في ذات يوم حبيبي‬
‫أخبره أني انتظرت‬
‫ت!‬
‫م ّ‬
‫ح‪ ..‬و ِ‬
‫إلي الصبا ِ‬

‫‪1970‬‬

‫***‬

‫مرثية لعب سيرك‬

‫في العالم المملوِء أخطاَء‬


‫ك أل تخطئا‬ ‫مطالب وحد َ‬
‫ك النحي ْ‬
‫ل‬ ‫لن جسم َ‬
‫لو مرة أسرع َ أو أبطأ َ‬
‫َ‬
‫ض أشلَء!‬ ‫هوي‪ ،‬وغطي الر َ‬

‫يٌ ليلة تجري يقبع ذلك الخطأ‬ ‫في أ ِ‬


‫في هذه الليلة! أو في غيرها من الليال‬
‫حين يغيض في مصابيح المكان نورجها وتنطفئ‬
‫حهم‪،‬‬‫ويسحب الناسج صيا َ‬
‫مك المفروش أضواَء!‬ ‫علي مقد ِ‬
‫ف في مدينته‬‫ل فارسي يجيل الطْر َ‬ ‫حين تلوح مث َ‬
‫س‪ ،‬في صمتي نبيل‬ ‫مودعا‪ .‬يطلب وجد النا ِ‬
‫ل الحبال‪،‬‬
‫ثم تسير نحو أوٌ ِ‬
‫مئا‬
‫مستقيما مو ِ‬
‫وك الطبول‬ ‫وهم يدقون علي إيقاع خط ِ‬
‫ب الواسعَ ضوضاَء‬ ‫ويملون الملع َ‬
‫ثم يقولون‪ :‬ابتدئ!‬
‫في أي ليلة تجري يقبع ذلك الخطأ!‬

‫ف والمغامرة‬‫ب الخو ِ‬ ‫حين يصير الجسم نه َ‬


‫وتصبح القدام والذرع أحياَء‬
‫تمتد وحدها‬
‫سَها‬ ‫وتستعيد من قاع المنون نف َ‬
‫ت‪،‬‬‫ن حيات تلو ْ‬ ‫كأ ّ‬
‫حشت‪ ،‬سوداَء بيضاَء‬ ‫قططا تو ّ‬
‫ط الدائرة‬ ‫ت علي محي ِ‬ ‫ت وافترق ْ‬ ‫تعارك ْ‬
‫ب الَء وألَء‬ ‫وأنت تبدي فّنك المرع َ‬
‫م اللحظة المدمرة‬ ‫تستوقف الناس أما َ‬
‫جج عابثا مجترئا‬ ‫وأنت في منازل الموت َتل ّ‬
‫ل للحيال‬ ‫وأنت تفلت الحبا َ‬
‫تركت ملجأ‪ ،‬وما أدركت بعد ملجأ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫فيجمد الرعب على الوجوه لذة‪ ،‬وإشفاقا وإصغاَء‬
‫حتى تعود مستقرا هادئا‬
‫ترفع كفيك على رأ' المل‬
‫في أي ليلة تجري يقبع ذلك الخطأ!‬
‫ة‪،‬‬‫ممددا تحتك في الظلم ِ‬
‫يجتٌر انتظاَره الثقيل‬
‫فج بشر‬ ‫كأنه الوحش الخرافي الذي ما روضت ك ّ‬
‫فهو جميل!‬
‫كأَنه الطاووس‬
‫جذاب كأفعى‪،‬‬
‫ورشيق كالِنمر!‬
‫وهو جليل!‬
‫ة الخطر‬ ‫كالسد الهادئ ساع َ‬
‫وهو مخاتل‪ ،‬فيبدو نائما‬
‫بينا يجعد نفسه لوثبة المستعرة‬
‫وهو خفي ل يري‬
‫لكنه تحتك يعلك الحجر‬
‫ك المنتظرة‬ ‫منتظرا سقطت َ‬
‫و‬
‫ِ‬ ‫الخط‬ ‫حساب‬ ‫عن‬ ‫فيها‬ ‫تغفل‬ ‫في لحظتي‬
‫ة المبادرة‬ ‫أو تفقد فيها حكم َ‬
‫إذ تعرض الذكري!‬
‫تغطي عرَيها المفاجئا‬
‫وحيدة معتذرة‬
‫ك طيرا‪،‬‬‫أو يقف الزهو على رأس َ‬
‫شاربا ممتلئا!‬
‫ت‪ ،‬مذهول عن الرجوحةِ المنحدرة‬ ‫منتشيا بالصم ِ‬
‫حين تدور الدائرة!‬
‫تنبض تحتك الحبال مثلما أنبض رامي وتَره‬
‫تنغرس الصرخة في الليل‪،‬‬
‫ص خنجره‬ ‫كما طوح ل ّ‬
‫حين تدور الدائرة!‬
‫ض المرتطم‬ ‫يرتبك الضوء علي الجسم ِ المهي ِ‬
‫علي الذراع المتهدل الكسيرِ والقدم‬
‫وتبتسم!‬
‫ت أشياء‬ ‫كأّنما عرف َ‬
‫ت النبْأ!‬‫وصدق َ‬

‫‪1966‬‬

‫***‬

‫تعليق علي منظر طبيعي‬

‫ي‬
‫شمس تسقط في أفقي شتو ْ‬
‫شمس حمراْء‬
‫والغيم رصاص ٌْ‬
‫ي‬
‫تنفذ منه حزم الضواء‬
‫ي‬ ‫وأنا طفل ريف َ‬
‫يدهمني الليل!‬
‫ط السفلت‬ ‫كانت سيارتنا تلتهم الخي َ‬
‫الصاعد َ من قريتنا لمدينتنا‬
‫ت‬
‫حين تمني ْ‬
‫لو أني أقذف نفسي‬
‫فوق العشب المبتل!!‬
‫شمس تسقط في أْفقي شتو ٌ‬
‫ي‬
‫قصر مسحوْر‬
‫بوابة نوْر‬
‫ي‬
‫تفضي لزماني أسطور َ‬
‫ف خضبت بالحناء‬ ‫كَ ّ‬
‫طاووس يصعد في الجوزاء‬
‫حي المنشوْر!‬ ‫بالذيل القَز ٌ‬

‫في الماضي كان الله‬


‫س‬
‫يظهر لي حين تغيب الشم ْ‬
‫في هيئةِ بتساَني‬
‫ي‬
‫يتجول في الفق الورد َ‬
‫ويرش الماَء علي الدنيا الخضراء‬
‫الصورة ماثلة‬
‫م‬
‫ل الرسا ْ‬ ‫لكن الطف َ‬
‫م!‬
‫طحنته اليا ْ‬

‫‪1967‬‬

‫***‬

‫مرثية للعمر الجميل‬

‫في ذكري عبدالناصر‬

‫هذه آخر الرض!‬


‫لم يبقَ إل الفراق‬
‫سأسوي هنالك قبرا‪،‬‬
‫ة من لوائ َ‬
‫ك‪،‬‬ ‫مزق َ‬‫وأجعل شاهده ِ‬
‫ثم أقول سلما!‬
‫زمن الغزوات مضي‪ ،‬والرفاق‬
‫ذهبوا‪ ،‬ورجعنا يتامى‬
‫هل سوي زهرتين أضمهما فوق قبرك‪،‬‬
‫ثم أمزق عن قدمي الوثاق‬
‫م‪،‬‬
‫ل الحل ِ‬ ‫إنني قد تبعتك من أو ِ‬
‫ه‪،‬‬
‫من أول اليأس حتى نهايت ِ‬
‫ووفيت الذماما‬
‫ورحلت وراءك من مستحيل إلي مستحيل‬
‫ن عينيك‪،‬‬ ‫ن اشتهي أن أري لو َ‬ ‫لم أك ْ‬
‫أو أن أميط اللثاما‬
‫كنت أمشي وراء دمي‬
‫فأري مدنا تتلل مثل البراعم‪،‬‬
‫حيث يغيم المدى ويضيع الصهيل‬
‫ن تساقط حولي‪،‬‬ ‫والحصو َ‬
‫م‪،‬‬
‫ِ‬ ‫بيو‬ ‫يوم‬ ‫الناس!‬ ‫في‬ ‫أصرخ‬
‫وقرطبة الملتقي والعناق‬
‫آه! هل يخدع الدمج صاحبه‬
‫قْتك حراما!‬ ‫عش َ‬ ‫هل تكون الدماء التي َ‬
‫تلك غرناطة سقطت!‬
‫ح‪،‬‬
‫ِ‬ ‫جرا‬ ‫ك تسقط دون‬ ‫ورأيت َ‬
‫كما يسقط النجم دون احتراق!‬
‫فحملتك كالطفل بين يدي وهرولت‪،‬‬
‫منا أن تدوس عليها الخيول‬ ‫أكرم أيا َ‬
‫وتسللت عبر المدينةِ حتى وصلت إلي البحر‪،‬‬
‫ه‪،‬‬
‫كهل يسير بجثةِ صاحب ِ‬
‫في ختام السباق!‬

‫من تجري يحمل الن عبَء الهزيمةِ فينا‬ ‫َ‬


‫المغني الذي طاف يبحث للحلم عن جسد ِ يرتديه‬
‫سد فيه‬
‫م المغني تج ّ‬ ‫أم هو الملك المدعي أن حل َ‬
‫ك صاحب المنتظْر‬ ‫هل خدعت بملكك حتى حسبت َ‬
‫أم خدعت بأغنيتي‪،‬‬
‫ك به ثم لم تنتصر‬‫وانتظرت الذي وعدت ْ َ‬
‫ب الزمان الجميل؟!‬ ‫أم خدعنا معا بسرا ِ‬
‫كان بيتي بقرطبة‪،‬‬
‫والسماء بساط‪،‬‬
‫وقلبي إبريق خمري‪،‬‬
‫وبين يدي النجوم‬
‫دق!‬ ‫صاح بي صائح‪ :‬ل تص ٌِ‬
‫ولكنني كنت أضرب أوتاَر قيثارتي‪،‬‬
‫باحثا عن قراره صوت قديم‬
‫لم أكن بالمصدق‪ ،‬أو بالمكذ ٌِ ِ‬
‫ب‪،‬‬
‫كنت أغني‪ ،‬وكان الندامى‬
‫يملون السماء رضا وابتساما!‬
‫والسماء صحاري‪،‬‬
‫وظهر مدينتنا صهوة‬
‫والطريق‬
‫من القدس للقادسية جد طوِيل‬
‫قلت لي‪:‬‬
‫كيف نمضي بغير دليل‬
‫قلت‪:‬‬
‫ة تحت َ‬
‫ك‪،‬‬ ‫ها َ‬
‫ك المدين َ‬
‫ن‪،‬‬
‫فانظر وجوه َ سلطينها الغابري َ‬
‫ق الله فينا!‬ ‫معلقة فوق أبوابها‪ ،‬وات ِ‬
‫كنت أحلم حينئذي‬
‫كنت في قلعة من قلع المدينةِ ملقي سجينا‬
‫كنت أكتب مظلمة‪،‬‬
‫ي‬
‫ك الذهب ْ‬ ‫وأراقب موكب َ‬
‫فتأخذني نشوة ‪ ،‬وأمزق مظلمتي‪،‬‬
‫ثم أكتب فيك قصيدة‬

‫آه يا سيدي‪،‬‬
‫ب‪،‬‬
‫كم عشنا إلي زمن يأخذ القل َ‬
‫قلنا لك أصْنع كما تشتهي‪،‬‬
‫ل‪،‬‬‫وأعد ْ للمدينة لؤلؤة العد ِ‬
‫ل الفريدة‬ ‫لؤلؤة َ المستحي ِ‬
‫ع!‬
‫صاح بي صائح ل تباي ْ‬
‫ولكنني كنت أضرب أوتاَر قيثارتي‪،‬‬
‫باحثا عن قرارة صوت قديم!‬
‫لم أكن أتحدث عن مِلكي‪،‬‬
‫كنت أبحث عن رجل‪،‬‬
‫أخبَر القلب أن بأمته أوشكت‪،‬‬
‫كيف أعرف أن لدي بايعته المدينة‪،‬‬
‫دتنا السماء؟!‬ ‫ليس الذي وَع َ َ‬
‫والسماء خلء‬
‫ت المجاعة‬ ‫وأهاج المدينةِ غرقي يموتون تح َ‬
‫وق المآذن‬ ‫ويصيحون فَ ْ‬
‫ة‬
‫ت مغلق ْ‬ ‫أن الحواني َ‬
‫وصلة الجماعة‬
‫باطلة‪ ،‬والفرنجة قادمة‬
‫فالنجاَء النجاْء!‬
‫ووقفت على شرفات المدينةِ أشهدها‪،‬‬
‫وهي تشحب بين يديْ كطفل‪،‬‬
‫جدها‬‫هج المتصاعد حول مسا ِ‬ ‫ويختلط الر َ‬
‫بالبكاء‬
‫ت‪،‬‬
‫ي من يوم أن وجل ِد ْ ْ‬ ‫وأنا العاشق المستحث قواف ّ‬
‫دها وسوسات القلدة‬ ‫واستدارت علي جي ِ‬
‫تهت فيها‪ ،‬وضاع دليلي‬
‫يا تجري هل هو الموت؟‬
‫هل هو ميلدها الحق؟‬
‫من يستطيع الشهادة‬
‫أنا ل!‬
‫لم أكن شاهدا أبدا‬
‫إنني قاتل أو قتيل!‬
‫محتج عشرين موتا‪،‬‬
‫وأهلكت عشرين عمرا‪،‬‬
‫وآخيت روح الفصول‬
‫تتوارى عصوركم وأظل أغني لمن سوف يأتي‪،‬‬
‫فترجعك قرطبة وتجوز الشفاعة‬
‫ت!‬
‫صاح بي صائح‪ :‬أنج أن َ‬
‫ق‬
‫ولكنني كنت في دم ِ قرطبة أتمز ْ‬
‫عبَر المخاض الليم‬
‫كنت أضرب أوتار قيثارتي‪،‬‬
‫باحثا عن ِقرارة صوتي قديم‬
‫ت‪..‬‬ ‫ت بي أن َ‬ ‫ح َ‬ ‫ص ْ‬
‫ِ‬
‫ت أنت؟!‬ ‫هل كن َ‬
‫آه! ل تسألوني جوابا‪،‬‬
‫أنا لم أكن شاهدا أبدا‬
‫إنني قاتل أو قتيل‬
‫م‪،‬‬‫وأنا طالب الد ِ‬
‫طالب لؤلؤةِ المستحيل‬
‫كان بيتي بقرطبة‬
‫ِبعت قيثارتي‪ ،‬ثم جزت المضيق‬
‫قاصدا مكة‪ ،‬والطريق‬
‫راِئع‪ ..‬كنت وحدي وكانت بلد دليلي‬
‫وكان محمد فوق المآذن يمسك طرف الهلل‬
‫وينير سبيلي‬
‫جة‬ ‫ويوقف خيل الفرن ِ‬
‫يمسخها شجرا أخضرا في التلل!‬
‫ن‪.‬‬‫إنني أحلم ال َ‬
‫بيتي‪ ،‬كان بغرناطة‬
‫بعت قيثارتي‪ ،‬واشتريت طعاما‬
‫ورحلت إلي بلدي لست أدري اسمها‪،‬‬
‫جعت فيها‬
‫وانضممت لطائفة الفقراء بها‪،‬‬
‫واتخذت إماما‬
‫هل هو الوحي؟‬
‫أم أنه الرأي يا سيدي والمكيدة‪.‬‬
‫ف؟‬‫هل أمرنا بأن نرَفع السي َ‬
‫د؟‬‫طي الخ ْ‬ ‫أم نع َ‬
‫ك؟ أم نتفرق في الصحراء؟!‬ ‫هل نغصب المل َ‬
‫ت الذي قلت لي‪:‬‬ ‫ولقيتك‪ ،‬أن َ‬
‫عد لغرناطة‪ ،‬وادع أهل الجزيرةِ أن يتبعوني‪،‬‬
‫ي العقيدة!‬ ‫وأح ِ‬
‫ن‪.‬‬ ‫إنني أحلم ال َ‬
‫ت‬
‫لم تأ ِ‬
‫ة‬
‫بل جاء جيش الفرنج ِ‬
‫فاحتملونا إلي البحر نبكي علي الملك‪.‬‬
‫ل‪ ،‬لست أبكي علي الملك‪،‬‬
‫ن علي عمر ضائعي لم يكن غيَر وهمي جميل!‬ ‫لك ْ‬
‫فوداعا هنا يا أميري!‬
‫آن لي أن أعود َ لقيثارتي‪،‬‬
‫وأواصل ملحمتي وعبوري‬
‫تلك غرناطة تختفي‬
‫ويلف الضباب مآذَنها‬
‫وتغطي المياه سفائ َِنها‬
‫ك الملكي بها‪،‬‬ ‫وتعود إلي قبرِ َ‬
‫وأعود إلي قدري ومصيري‬
‫من تجري يعلم الن في أي أرضي أموت؟‬
‫وفي أي أرض يكون نشوري؟‬
‫إنني ضائع في البلد‬
‫ل‪،‬‬‫ضائع بين تاريخي المستحي ِ‬
‫خي المستعاد‬ ‫وتاري َ‬
‫حامل في دمي نكبتي‬
‫حامل خطئي وسقوطي‬
‫م‪،‬‬‫هل تجري أتذكر صوتي القدي َ‬
‫فيبعثني الله من تحت هذا الرماد‬
‫ت‪،‬‬
‫ت أن َ‬ ‫أم أغيب كما غب َ‬
‫وتسقط غرناطة في المحيط!‬

‫سبتمبر ‪1971‬‬

‫***‬
‫غربة‬

‫من يعيدنا إلي بلدنا‬ ‫يا َ‬


‫بلدنا العميقة الخضرة‬
‫نبكي‪ ،‬ولو مرة‬
‫من قلبنا!‬

‫آيات من سورة اللون‬


‫‪ 1‬إلي الرسام سيف وانلي‬
‫يرقد العالم في بلورة يغسلها ماء المطر‬
‫ها هي اللحظة تأتي‪.‬‬
‫أهو اللون‪ ،‬أم اليقاع ما تصطاده‪،‬‬
‫أو ربما تسلمه نفس َ‬
‫ك‬
‫د‪،‬‬
‫حتى يغمَر الموج التجاعي َ‬
‫ت ال ّ‬
‫شعَْر!‬ ‫صْيل ِ‬
‫ويلهو ب َ‬

‫يهبط اللون‬
‫ت‬
‫من الياقو ِ‬
‫ة‪،‬‬
‫للفض ِ‬
‫ب‪،‬‬‫لعش ِ‬
‫ويعلو‬
‫ت‬‫سلم الصو ِ‬
‫فقاقيعَ من الضواِء‬
‫ل تلبث حتى تنفجر‬

‫ن‬
‫أهو اللون‪ ،‬أم اليقاع ما يحملك ال َ‬
‫علي هذا البكاء الفذ؟‬
‫أم بعد الصور؟!‬

‫يرقد العالم في الزاويةِ الخرى من المرسم ِ‬


‫عل نادرا‬ ‫وَ ْ‬
‫ينعم باللفةِ والدفِء‬
‫فك َْر‬‫ويجتّر ال ِ‬
‫حْزم ِ‬
‫تدخل العاشقة الفندقَ في َ‬
‫ل المملوِء صمتا‬ ‫دها للرج ِ‬‫وتعطي نه َ‬
‫فْر‬
‫همه وقت الس َ‬ ‫قبل أن يد َ‬

‫حْر‬
‫س َ‬
‫ت ال ّ‬
‫ينفر الديك نجيما ِ‬
‫يرقص البحارة الغراب في الملهي‬
‫ويبكون فرادى‬
‫مْر‬
‫ويعودون ز َ‬

‫ت تراه؟‬
‫أهوَ اللون الذي كن َ‬
‫ت؟‬‫أهوَ ذات الصو ِ‬
‫مْر‬
‫ض الغيم ِ في وجه الق َ‬
‫ك ل تملك أن توقف رك َ‬ ‫لكن َ‬
‫فانتظر أن َيرجعَ الصيف‬
‫وحاول مرة أخري مع الضوِء‬
‫الذي ل ينتظر‬

‫‪18/1/1974‬‬

‫***‬

‫‪ 2‬إلي الرسام عدلي رزق الله‬

‫و‬
‫ن من الصح ِ‬ ‫قطرتا ِ‬
‫ن من الظ ْ‬
‫ل‬ ‫في قطرتي ِ‬
‫في قطرة من ندي‬
‫قل هو اللون!‬
‫ن‬‫في البدء كا َ‬
‫وسوف يكون غدا‬
‫ح‬
‫فاجرح السط َ‬
‫إن غدا مفَعم‬
‫ولسوف يسيل الدم!‬
‫سنغني لكم أيها السادة الغرباء‬
‫غناء رتيبا‬
‫ه‬
‫على وتري مفردي يتردد بين مداري ْ ِ‬
‫ي‬
‫كالقمر العرب ٌ‬
‫هو البيض السود‪ ،‬اللؤلؤ المعتم‬
‫سنغني أغانَينا الخضر‬
‫لكننا سنفاجئكم بقناَبل موقوتة‬
‫كان أسلفنا خَبأوها مع الخبزِ والخمرِ‬
‫ت‬‫في خشب الموميا ْ‬
‫ن‬‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ف‬‫الد‬ ‫غرف‬ ‫لكي تتفجَر في‬
‫حين تحين مواعيد عودتهم للحياةْ‬

‫وردة أم فمج‬
‫ن صدري‬
‫هذه الورقات التي تسمح ال َ‬
‫وقبرة تتنفس تحت الصابِع‬
‫أم برعم‬
‫َنهدها؟‬
‫و‬
‫قطرتان من الصح ِ‬
‫في قطرتين من الظ ْ‬
‫ل‬
‫في قطرة من ندي‬

‫ت‬‫هكذا يزرعون البيو َ‬


‫ب‬‫ل الكرن ِ‬ ‫فتكبر مث َ‬
‫طحلبي‬‫أليس سوي الخضرِ ال ّ‬
‫ي؟‬
‫أو الصفر المعدن ٌ‬
‫ض‬
‫ن كما نشتهي هذه الر َ‬ ‫تعالوا نلو ْ‬
‫ل الناَر فيها‬‫أو نشع ِ‬
‫كما يشعلون الصواري َ‬
‫خ في ليلةِ المولد ِ النبوي‬
‫فتحملنا وتطير‬
‫مطرا قزحيا‬ ‫وتسقطنا َ‬
‫وتزرعنا شجرا موقدا‬

‫ها هو الهرم‬
‫حم‬‫َر ِ‬
‫فتعالوا نولده ول َ َ‬
‫دا!‬

‫و‬
‫قطرتان من الصح ِ‬
‫في قطرتين من الظل‬
‫في قطرة من ندي‬

‫ح في أَثر اللو ِ‬
‫ن‬ ‫تركب الريشة الري َ‬
‫تلقطه شذرة َ شذرةَ‬
‫من مسامير أحذيةِ الجندِ‬
‫ت السحيقة‬ ‫ج الذكريا ِ‬ ‫من رهَ ِ‬
‫ن‬ ‫ن أرْزةِ لبنا َ‬ ‫تدخل في إثره بط َ‬
‫سغا فَن َ ْ‬
‫سغا‬ ‫ة نَ ْ‬ ‫ف نطفته المستكن ّ َ‬ ‫تشت ّ‬
‫وتجمع أشلَءه حزمة حزمة‬
‫س‬
‫ثم تدعوه أن يتنف َ‬
‫لكن سدى!‬
‫ن‬
‫إن لونا هنا ينقص اللو َ‬
‫س‬
‫كي يتنف َ‬
‫ح الذي ل يجري‬ ‫كحب اللقا ِ‬ ‫لون َ‬
‫ق‬
‫ِ‬ ‫الف‬ ‫ِ‬ ‫د‬‫َ‬ ‫ب‬ ‫ز‬
‫َ‬ ‫في‬ ‫غاب‬ ‫الذي‬ ‫كالوز‬
‫قل إنه الطين‬
‫مم خلقناه!‬ ‫فلينظر الطين ِ‬
‫قل هو ماء‬
‫وما هو ماء‪ ،‬ولكن دمج‬
‫ت‬‫نخلة أن ِ‬
‫أم سلم‬
‫وأنا خنجر طالع‬
‫ب‬
‫أم هلل تحدَر بين الترائ ِ‬
‫ب‬
‫حتى اختفي في الذوائ ِ‬
‫ثم بدا‬
‫جسدا‬
‫وارتدي جسدا!‬
‫قل هو اللون‬
‫ن‬
‫في البدِء كا َ‬
‫وسوف يكون غدا‬
‫ح‬
‫فاجرح السط َ‬
‫إن غدا مفعم‬
‫ف يسيل الدم‬ ‫ولسو َ‬

‫‪ 5‬يناير ‪1977‬‬

‫***‬

‫بطالة‬

‫أنا‪ ،‬والثورة العربية‬


‫س‬
‫نبحث عن عملي في شوارع باري َ‬
‫ن غْرفة‬
‫نبحث ع ْ‬
‫نتسكع في شمس ابري َ‬
‫ل‬
‫إن زمانا مضي‬
‫وزمانا يجيء!‬
‫ة‪:‬‬‫قلت للثورةِ العربي ِ‬
‫ت‬‫لبد أن ترجعي أن ِ‬
‫أما أنا‬
‫فأنا هالك‬
‫تحت هذا الرذاذ ِ الدفيْء!‬

‫ابريل ‪1974‬‬

‫***‬

‫سفر‬

‫بْيننا‪ ،‬ي َت ََغير لون الشجْر‬


‫يتوغل طير المسافات في بحرِ هدأت ِهِ‬
‫ل‬
‫ط التي تتقاطع في خضرة السه ِ‬ ‫عالقا بالخيو ِ‬
‫أو تتوازي‬
‫ويتصل البحر بالليل‪ ،‬ينقص وجه القمْر!‬

‫زمن من مطْر‬
‫من رذاذي رتيبي‬
‫يسح بغير انقطاعي‬
‫أفي الليل‪ ،‬أم في النهاِر‬
‫تجري‪ ،‬كان هذا السفْر؟!‬
‫مدن للعبورِ فحسب‬
‫وأرصفة للصدى المعدني‬
‫ت‬‫ن الهامشيةِ ما يوقظ الذكريا ِ‬ ‫وفي المد ِ‬
‫ه‬
‫وبين القرى ومدافنها شب َ َ‬
‫ب درب‬ ‫م في العش ِ‬‫ثَ ٌ‬
‫ح‬‫ِ‬ ‫الريا‬ ‫لمرور‬ ‫ومتسع‬
‫ت‬
‫وبين القرى ومدافنها ينفذ الضوء في ورق الشجرا ِ‬
‫ول يتجسد!‬
‫بينهما شهوة غير مرئية‬
‫ت‬‫لفحة من بياض الطلِء الذي يتردد بين البيو ِ‬
‫ر‬
‫وبين المقاب ِ‬
‫مرتجفا في مياه النهَْر!‬

‫ن‬
‫التفاصيل تفقد أسماَءها ال َ‬
‫واللحظات التي سرقتني انتهت‬
‫والذي كان يفصل ما بيننا يختفي‬
‫ت‬ ‫مث َ‬
‫ل نافورة سكت َ ْ‬
‫ن يواجه كل أخاه ول يتقدم‬‫ِ‬ ‫ْ‬
‫في‬ ‫الطر‬ ‫علي‬ ‫نبقي‬ ‫ثم‬

‫يا أيهذا الجمال ج الذي ظل محتفظا بالصبا‬


‫أيهذا الجمال الذي ظل محتميا بالحجْر!‬

‫‪29/5/1977‬‬

‫***‬

‫غرفة المرأة الوحيدة‬

‫ة‬
‫ن تطرد عنها المدين َ‬ ‫ها هي ال َ‬
‫فها باَبها‬
‫تغلق من خل ِ‬
‫وتضم الستاْر‬
‫حها في النهاْر‬‫ثم تشعل مصبا َ‬

‫تلك أشياؤها‬
‫حد ِْتها‬‫حيوانات و َ‬
‫تشرِئب لها في الزوايا‬
‫وفوق الجداْر‬
‫م موقد غازي‬ ‫ثَ ٌ‬
‫مغسلة‬‫و َ‬
‫ورفوف لوضع المؤوِنة‪.‬‬
‫منفي صغير‬
‫وفي العمق َثم سرير‬
‫ومنضدة‬
‫وشموع صغاْر‬

‫ل شيِء له موضع ل يبارحه‬‫ك ّ‬


‫وحضور‬
‫ت خبز وماء‬‫له من خطى الوق ِ‬
‫ومن ظلها المتأرجح إعفاءة ودثاْر‪.‬‬

‫ل شيِء له معها شهوة وبكاء‬ ‫ك ّ‬


‫له نكهة الجسد ِ المتعود ِ وحدَته‬
‫ل في ذاِته‪.‬‬ ‫المتأم ِ‬
‫ل شيِء مرايا‬ ‫ك ّ‬
‫لها وجهها‬
‫ن حميمية وانكساْر‬ ‫م ْ‬
‫ولها ما لعضاِئها ِ‬

‫ت في طفولتها بمكاني كهذا‬ ‫ربما ع َب ََر ْ‬


‫بضوء‬
‫ش ناصِع‬
‫ِ‬ ‫مفر‬ ‫على‬ ‫منها‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫الظ‬ ‫يسقط‬ ‫وآنية‬
‫ت روحا‬
‫ة‪ ،‬والشمعدانا ِ‬‫ربما استحضَرت بالعقود ِ المدل ِ‬
‫ة‬
‫ن هارب ِ‬‫تعود بها لبساتي َ‬
‫ه‬
‫لينابيعَ تجري علي أوج ِ‬
‫ة‬
‫تترجرج تحت المياه النقي ِ‬
‫باسمة في القراْر!‬

‫لم أكن أنا‬


‫كانت تكلم غيري‬
‫وتنظر في وجهه المستعار‬
‫‪ 24‬إبريل ‪1978‬‬

‫***‬

‫طليطلة‬

‫ذبا‪ ،‬وكان لنا‬ ‫مدى ع َ ْ‬ ‫كان الحنين َ‬


‫من وجهها كوكب في الليل سيار‬
‫هذا دخان القرى‪ ،‬مازال يتبعنا‬
‫وملء أحلمنا زرع‪ ،‬وأجنحة‬
‫وصْبية‬
‫ل إلي الموتى‬ ‫ِ‬ ‫الحقو‬ ‫في‬ ‫وطريق‬
‫وصبار‬
‫ق الذي اشتعلت‬ ‫ض بالف ِ‬ ‫فملتقي الر ِ‬
‫ألوانه شفقا‬
‫ة‬
‫فالقاطرات التي غابت مولول َ‬
‫في بؤرة الضوِء‪،‬‬
‫ت‬‫فالحزن الذي هَط َل َ ْ‬
‫علي أمطاره يوما‬
‫صرت إلى طيري‪،‬‬ ‫ف ِ‬
‫ي إلي‬ ‫ن الصب ِ ٌ‬ ‫وسافرت من حز ِ‬
‫ل العمرِ أسفار‬ ‫ل‪ ،‬فكج ّ‬ ‫ن الرجا ِ‬
‫حجز ِ‬

‫ي ِقفا!‬ ‫يا صاحب ِ ٌ‬


‫فالشمس قد رجعت‪،‬‬
‫دي‬ ‫ولم ت َِعد بغَ ِ‬
‫ت‬‫ل المقاهي انتظار‪ .‬ساَء ما َفعل َ ْ‬ ‫كج ّ‬
‫ب َِنا السنون التي تمضي‪،‬‬
‫ونحن علي موائدي في الزوايا‪،‬‬
‫ت البلٌلوَر واهنة‬ ‫ضارعين إلي شمسي تخّلل ِ‬
‫دنا المعتل‪ ،‬وانحسرت‬ ‫ت جل َ‬ ‫مس ْ‬ ‫ول َ‬
‫ع َ ٌَنا إلي جارنا‪،‬‬
‫منا‪ ،‬ولم ي َْنعم بها الجار‬ ‫فما ن َعِ ْ‬

‫ي!‬
‫يا صاحب ّ‬
‫سكما‬‫أخمْر في كئو ِ‬
‫م وَتذكار!‬ ‫َ‬
‫م في كئوسكما هَ ّ‬ ‫أ ْ‬

‫ت‬ ‫َ‬
‫وما الذي تنفع الذكري إذا َنكأ ْ‬
‫منا ل دواء له‬ ‫في القلب جرحا‪ ،‬عل ْ‬
‫د‪،‬‬
‫حتى نعو َ‬
‫ت‬
‫وما يبدو أن اقترب ْ‬
‫أ َّيام عوِدتنا‪ ،‬والجرح ن َّغار‬

‫رط فوق النهرِ وردَتنا‬ ‫ها نحن نف ِ‬


‫وتلك أوراقها تنأى‪ ،‬ويأخذها‬
‫منا موج وتيار‬ ‫وراد َ أحل ِ‬
‫ي!‬‫يا صاحب ّ‬
‫ت‬‫سعَ ْ‬
‫أحقا أَنها و ِ‬
‫أعداَءها!‬
‫فت أبناَءها الدار؟!‬ ‫وج َ‬
‫لو أَنها حوصرت حتى النهاِية‪،‬‬
‫ت‬‫حب َ ْ‬
‫ت‪ ،‬لو س َ‬ ‫حتى المو ِ‬
‫ل‪،‬‬
‫علي مفات ِِنها غللة من مياهِ الني ِ‬
‫ه!‬‫ع ِ‬‫ت في قا ِ‬ ‫طجع ْ‬ ‫واض َ‬
‫ت‬‫مَر ْ‬‫فْتها الريح فاْنط َ‬ ‫لو س َ‬
‫ت‬‫مل واْندلعَ ْ‬ ‫في الر ِ‬
‫من كل وردةِ جرحي وردة‬
‫وار‬ ‫فالمدى عشب ون ّ‬

‫منا‬
‫هذا دخان قراها يقتفي د َ َ‬
‫منا زرع‪ ،‬وأجنحة‬ ‫ملء أحل ِ‬
‫و ِ‬
‫ش له‬
‫منا ذئب ن َهَ ّ‬
‫ملء أحل ِ‬‫و ِ‬
‫نسقيه من كأسنا الذاوي‪،‬‬
‫ونسأله عنها‪،‬‬
‫وننهار!‬

‫باريس ‪1979‬‬

‫***‬

‫العودة من المنفي‬

‫ت المدينة عدت من‬‫ما تحرر ِ‬ ‫لَ ّ‬


‫ي‪،‬‬‫منفا َ‬
‫س عن‬
‫أبحث في وجوه النا ِ‬
‫صحبي‪،‬‬
‫حدى‪،‬‬‫عثر على أ َ‬‫فلم أ َ ْ‬
‫ل‬‫وأدركني الكل ْ‬

‫فسألت عن أهلي‪ ،‬وعن دارِ لنا‬


‫فاستغرب الناسج السؤا ْ‬
‫ل‬
‫شجري قديمي‪،‬‬ ‫وسألت عن َ‬
‫كان يكتنف الطريقَ إلي التل ْ‬
‫ل‬
‫ل‬‫ب الناسج السؤا ْ‬ ‫فاستغر َ‬
‫وبحثت عن نهرِ المدينةِ دون جدوى‪،‬‬
‫وانتبهت إلي رماد ِ ناِزلي‬
‫شمس التي كانت تميل إلي الزوا ْ‬
‫ل‬ ‫رة ال ّ‬ ‫من جم ِ‬
‫ل مدينتي‬ ‫زعت حين رأيت أه َ‬ ‫وفَ ِ‬
‫يتحدثون بلكنةِ عجماء متجهين نحوي‪،‬‬
‫فابتعدت‪،‬‬
‫وهم أمامي يتبعون تراجعي بخطي ِثقا ْ‬
‫ل‬
‫حتى خرجت من المدينة مثقل بحقائبي‬
‫وانهرت مثل عمود ِ ملحي‬
‫في الرما ْ‬
‫ل‬

‫باريس نوفمبر ‪1979‬‬

‫***‬

‫أشجار السمنت‬

‫يقبل الوقت ويمضي‬


‫دون أن ينتقل الظ ّ‬
‫ل‬
‫وهذا شجر السمنت ينمو‬
‫فط ْ ِ‬
‫ر‪،‬‬ ‫كنبات ال ِ‬
‫ض‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الر‬ ‫قشرة‬ ‫يكسو‬
‫ب‪،‬‬‫فل موضعَ للعش ِ‬
‫ق‪،‬‬
‫ول معنى لهذا المطر الداف ِ‬
‫ت‪،‬‬‫م ِ‬ ‫فوق الحجرِ المص َ‬
‫ل ينبت إل صدأ‬
‫أو طحلبا دون جذوْر‬

‫تقبل الريح وتمضي‬


‫ت‪،‬‬
‫دون أن ت َْعبَر هذا الصم َ‬
‫أو تقوي علي حمل استغاثات القرى‬
‫والسفن الغرَقى‪،‬‬
‫ن‬
‫وهذا شجر السمنت في كل مكا ِ‬
‫طى ‪ ،‬ويخوْر‬ ‫يتم َ‬
‫ن‪،‬‬
‫ِ‬ ‫كالشياطي‬
‫ويصطاد العصافيَر التي تسقط كالحجار‪،‬‬
‫زة الراداِر‪،‬‬ ‫في أجه ِ‬
‫أو تشنق من أعناقها الّزغب‪،‬‬
‫سمِع‪،‬‬ ‫َ‬
‫ق ال َ‬ ‫ك آلت استرا ِ‬ ‫علي أسل ِ‬
‫في تلك السموات التي نعرف من شرفاتنا‬
‫أن العصافير تموت الن فيها‬
‫حينما يرتطم السرب‪،‬‬
‫ج في الضوِء الخيْر‬ ‫ها ِ‬ ‫ن الو َ‬
‫فتهتز قرون المِعد ِ‬
‫يقبل الليل ويمضي‬
‫دون أن نشبع من نومي‪،‬‬
‫ف علينا‪.‬‬ ‫وهذا شجر السمنت يلت ّ‬
‫ت‬‫والمواليد الذين اعتاد آباؤهم الصم َ‬
‫يجيئون قصارا‬
‫ة‪،‬‬
‫ناقصي الخلق ِ‬
‫ل خرج من أفواههم صوت‬
‫خصاهم‪.‬‬ ‫ول تنمو ِ‬
‫ح‬
‫والنفايات التي تلفظها الشهوة في كل صبا ِ‬
‫شب ََعا‬‫سَأما‪ ،‬ل َ‬
‫ب‪،‬‬ ‫َ‬
‫توضع أكداسا علي البوا ِ‬
‫مرا‬‫خ ْ‬‫واللت تلقي غيرها زبدا‪ ،‬و َ‬
‫عة‪،‬‬‫في النهيرات التي تفضي إلي البا ِ‬
‫والرض تدوْر!‬

‫باريس ‪20/3/1979‬‬

‫***‬

‫خمرية‬

‫الصدقاء الحميمون أقبلوا‬


‫في ثيابي جديدة‬
‫من بلدي بعيدة‬
‫وقبوِر‬
‫ن‬
‫ساقوا سماَء إلي البهو من دخا ِ‬
‫وشدوا‬
‫مها بخيوطي‬ ‫نجو َ‬
‫ورفرفوا كالطيوِر‬

‫بعيدة كأسنا الولي‪،‬‬


‫والوجوه عليها من النهارِ انطفاءات‬
‫مت أسواَقها‬ ‫والمدينة ض َ‬
‫وتهاوت‬
‫ر‬
‫ج المطي ِ‬‫ِ‬ ‫الزجا‬ ‫تحت‬

‫بعيدة هذه الكأس‪ ،‬والنهار بعيد‬


‫وعن يميني بساتيننا التي ل نراها‬
‫كبنا عليهم أسواَرها‪ ،‬ودخلنا‬ ‫لما ر ِ‬
‫كانت هناك تلل‬
‫ر‪،‬‬
‫من خالص الٌتب ِ‬
‫كانت من النساء عذارى‬
‫كلؤلؤي منثوِر‬
‫ر‬
‫ورجب ظبيي غري ِ‬
‫ري!‬ ‫دعوته لسري ِ‬

‫وكان ثم رفات‬
‫ت‬
‫ت أدَبر ْ‬
‫يسيل بين محطا ِ‬
‫ت‬‫ومحطات أقبل ْ‬
‫وجسوِر‬
‫ولت حين نشوِر!‬

‫م؟‬
‫من ينزل الغَي ْ َ‬
‫َ‬
‫لي فيه وردة‬
‫أزهرت وحدها هنا َ‬
‫ك‪ ،‬وأبقت‬
‫ت‬
‫جذوَرها راعيا ِ‬
‫في جسمي المهجوِر‬

‫بعيدة هذه الكأس‪ ،‬مَثل شمسي شتائية‬


‫تدور‪ ،‬وتفتر عن سني مقروِر‬
‫ونحن بين المرايا‬
‫ض‪،‬‬ ‫نعشو لها بمهي ِ‬
‫ر‬
‫ح‪ ،‬كسي ِ‬ ‫من الجنا ِ‬
‫محاصرين بأشباحنا‪،‬‬
‫راَر‪،‬‬‫نبادلها الكٌر والف ِ‬
‫إلى أن مضي الزمان فقمنا‬
‫ل كجل لمثواه في الظلم ِ الخير‬ ‫وانس ْ‬

‫الصدقاء الحميمون اقبلوا‬


‫ة‬
‫في ثيابي جديد ِ‬
‫من بلد بعيدة‬
‫وقبوِر‬
‫ن‬
‫ساقوا سماَء إلي البهو من دخا ِ‬
‫وشدوا‬
‫نجومها بخيوط‬
‫ورفرفوا كالطيوِر‬

‫باريس ‪1984‬‬

‫أخبار الدب‪ 25-‬سبتمبر ‪2005‬‬

‫لفت نظرى عنوان كتاب الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازى "قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء"‪ ،‬الذي يوزع‬
‫مجانا مع مجلة "دبي الثقافية"‪ ،‬كتاب ذو إخراج فني رائع يشجع فعل على القراءة‪ ،‬ويعكس عدم بخل ناشره الذي‬
‫قدمه مع مجلة رائعة تحمل كتابات لعدد من كبار الكتاب بالوطن العربي‪ ،‬بخمسة جنيهات فقط‪ ،‬أي أقل من تكلفة‬
‫غلفه‪.‬‬

‫بعد تصفح سريع للمجلة شرعت في قراءة الكتاب الذي يتحدث عن موضوع يهمى لهمية الموضوع خاصة عندما‬
‫يتعرض له الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي‪ ،‬الذي يعتبر "قصيدة النثر" قضية عمره‪ ،‬ومعركته الشخصية‪،‬‬
‫سنة التطور تقتضي بأن يزيح الجديد القديم ليحل محله‪ ،‬وهذه الزاحة إما تتم بشكل تدريجي أو بشكل مفاجئ‪،‬‬
‫لكن في الثقافي فإن التطور ل يعني أن يقضي الجديد على القديم‪ ،‬لكن يتعايشا معا‪ ،‬فقد ظهرت مدارسس فنية‬
‫عديدة ‪-‬في الشعر خاصة‪ -‬وتعايشت جنب إلى جنب‪ ،‬بل تناولها الفنان جميعها معا‪ ،‬فنجد من كتب الشعر الموزون‬
‫المقفى وكتب أيضا قصيدة التفعيلة‪ ،‬ونجد من كتب التفعيلة بجانب الشعر الحر أو قيدة النثر‪ ،‬ول أرى مبررا لما‬
‫يخوضه شاعرنا حجازي ضد قصيدة النثر من حرب شعواء وكأنها جاءت لتجتث قصيدة التفعيلة التي تفوق فيها من‬
‫جذورها وتمحوها وتمحو من ذاكرة الشعر العربي‪.‬‬

‫إل إذا كان –هو‪ -‬يراها خطرا على شعر التفعيلة‪ ،‬خاصة بعدما اتجه إليها من شعراء كبار كتبوا التفعيلة ونجحوا فيها‪،‬‬
‫وأثبتوا كذب الدعاء بأن شعراء النثر ل يقدرون على الوزن أو يكتبون التفعيلة استسهال‪ ،‬والخوف هنا خوف إنساني‬
‫غريزي من التحول من بؤرة الضوء إلى ظلل الماضي‪.‬‬

‫لم يستفزني الكتاب أو عنوانه الذي وصف قصيدة النثر بالـ"قصيدة الخرساء"‪ ،‬لسببين‪ :‬أول لنه دون أن يدري‬
‫وصف شعر النثر بالقصيدة‪ ،‬ول يهم الن إن كانت خرساء أو حتى عرجاء‪ ،‬وهو اعتراف صريح منه بها‪ ،‬بغض النظر‬
‫عن مستواها الذي يضعها في خانة "الخرس"‪ ،‬المهم أن هناك قصيدة أى هناك شعر‪.‬‬

‫السبب الثاني‪ :‬أن تأويل مختلف للفظ "القصيدة الخرساء" يمكن أن يساعد في تعريف قصيدة النثر‪ ،‬أو على القل‬
‫يفتح الباب لشرح ذلك "الخرس" الذي يشعره حجازي‪ ،‬ومن هذه التأويلت‪:‬‬

‫‪ -1‬إما أن يكون "الخرس" الذي يقصده حجازي هو صوت القصيدة وموسسيقاه الخافتة التي ل تظهر أمام موسيقى‬
‫التفعيلة الرنانة‪ ،‬ووقتها أقول له أن ناقدا بحجم الدكتور الراحل عز الدين إسماعيل قال في كتابه القيم "فن‬
‫الشعر" أن قصيدة النثر ل تفتقر للموسيقى‪ ،‬إنما كل ما في المر أنها تحمل موسيقاها في وحدات صغيرة‪ ،‬فعندما‬
‫كان البيت وحدة بناء القصيدة العمودية‪ ،‬كانت موسيقاها أقوي وأوضح من موسيقى شعر التفعيلة الذي اعتمد‬
‫السطر الشعري وحدة له‪ ،‬وهو ما يعني أن قصيدة النثر ليست خرساء وإنما خافتة الموسيقى‪ ،‬هامسة اليقاع تحتاج‬
‫فقط لمن ل يزال يحتفظ بقوة حواسه‪ ،‬وقادر على إرهاف السمع‪.‬‬

‫‪ -2‬وإما أن يكون المقصود بالخرس عدم قابلية قصيدة النثر لللقاء والتداول الشفهي مثل شعر التفعيلة‪ ،‬وفي هذه‬
‫الحالة أقول إن الخطابية والموسيقى العالية هي التي تمنح النص القابلية لللقاء مثل "مقطوعات سطيح النثرية"‬
‫حرم منها شعر النثر‪ ،‬على العكس‬ ‫التي يحفظها لنا التراث العربي القديم‪ ،‬فاللقاء إذا ليس ميزة للشعر الموزون ُ‬
‫فإذا كانت القصيدة الموزونة تحمل جزءا كبيرا من أهميتها في نغماتها ومتعة التمايل مع البل أثناء سماعها‪ ،‬فإن‬
‫قصيدة النثر وجهت هذا الهتمام للمعنى وإعمال الذهن والحساس‪.‬‬

‫‪ -3‬وإخيرا إذا كان المقصود بالخرس هنا "الخرس النقدي" حيث يرى حجازي أن شعر النثر لم يعرب عن نفسه حتى‬
‫الن نقديا‪ ،‬ولم تتحدد ملمحها الشكلية في قالب مجدد وواضح وثابت‪ ،‬فأقول إن هذا الطلب الذي يلح عليه حجازي‬
‫ويراه عيبا في قصيدة النثر ل يمكن تحقيقه لسبب بسيط وهو أنه إذا تحقق شكل وقالب وشروط لقصيدة النثر‬
‫ستفقد سبب وجودها وميزتها واختلفها عن الشعر "المقولب"‪ ،‬فمن يريد قالبا مرسوما محددا واضحا ثابتا‪ ،‬مثل‬
‫"حساب المثلثات" فليجلس أمام أوراقه ممسكا بالقلم ويكتب طلع قصيدته‪ ،‬ثم يحاول إكمالها في نفس "القالب"‬
‫أو البحر الذي جاء منه مطلعها‪ ،‬وعندما يعييه الوزن يلجأ إلى "زحافات" و"علل" الخليل بن أحمد الفراهيدي‪.‬‬

‫حاول حجازي في كتابه أن يسلك مسلكا موضوعيا‪ ،‬محاول طرح مقدمات وتعريفات يراها منطقية ليخلص منها إلى‬
‫نتائج‪ ،‬وهو ما أراه فشل فشل زريعا في تحقيقه‪ ،‬فضل عن أنه من الغريب أن ينصب مبدع نفسه ناقدا يرفض أشكال‬
‫فنية وينحاز لشكال أخرى‪ ،‬فكونه قامة شعرية كبيرة في فترة ازدهار شعر التفعيلة ل يمنحه الحق في مهاجمه‬
‫غيره من الشعراء‪ ،‬فإذا كان يرفض قصيدة النثر فليرفضها كما يحلو له‪ ،‬فرفضه أو قبوله لها لن يضر أو يفيد‪.‬‬

‫ولننا بدأنا كلمنا عن كتابه "القصيدة الخرساء" فلنتحدث عنه بشيء من التفصيل‪ ،‬وأرجو من الستاذ حجازي أن‬
‫ينحي موضوع "القصيدة الخرساء" جانبا ويتفرغ لشرح طلسم كتابه‪ ،‬الذي عندما حاول فيه أن يمنطق رأيه‬
‫وانطباعه الشخصي‪ ،‬خرج نص مشوه مليء بالتناقضات ففي الوقت الذي يقول فيه بالنص في صفحة رقم )‪:(20‬‬
‫"نحن نعلم علم اليقين أن الشعر والنثر نقيضان‪ ،‬ومع أن اللغة هى المادة الولى في الجنسين‪ ،‬فلغة النثر غير لغة‬
‫الشعر‪ ،‬لن وظيفة الولى غير وظيفة الثانية"‪ ،.‬يعود سريعا مناقضا نفسه في صفحة رقم )‪ (22‬قائل‪...." :‬قد رأينا‬
‫أول أن الشعر والنثر مؤتلفان في كل نص وفي كل كلم‪ ،‬لن اللغة هى المادة الولية في الشعر والنثر اللذين‬
‫يوجدان معا في أصلها"‪.‬‬

‫كما خلط الستاذ بين النثر الموظف شعرا في "قصيدة النثر" والنثر السردي التقريري فقال‪" :‬إن لغة النثر كما‬
‫يقول باحث إيراني هى لغة الضرورة في مقابل لغة الشعر التي هى لغة الحرية"‪ ،‬ثم جاء وتحدث عن تحرر الشعر‬
‫)يقصد الموزون( من القيود التي يلتزم بها النثر‪ ،‬وضرب مثل بضرورة الوقوف على السكون في النثر‪ ،‬بينما الشعر‬
‫يمكنه الوقوف على السكون والحركة‪ ،‬فإذا كنت إلى هذه الدرجة تعتبر أن اللتزام بالقواعد النجوية قيدا على‬
‫البداع‪ ،‬فلماذا تتمسك بقواعد وقيود الموسيقى الرنانة التفعيلية‪ ،‬رغم أن الحديث عن وقوف النثر على السكون‬
‫الذي ضرب به مثل خاص بالنثر ل بقصيدة النثر‪.‬‬

‫وفي صفحة )‪ (84‬قال بالنص‪" :‬ل أريد ول أستطيع‪ ،‬ول يستطيع غيري أن يمنع أحدا من كتابة قصيدة النثر‪ ،‬أو ينكر‬
‫ما نجده في بعضها من جمال رشيق وفطنة عصرية‪ ،‬لكن المتعة التي جدها فيها ليست هى المتعة التي نجدها في‬
‫القصيدة الموزونة‪."....‬‬

‫فإذا كنت مقتنعا بما تقول فالمر إذا ل يتعدى كونك تطرب أكثر للشعر الموزون وبالتالي يعنى أن هناك غيرك‬
‫يميلون أكثر إلى الشعر الشعر أو إلى قصيدة النثر‪ ،‬فلماذا إذا مهاجمتها واتهامها بالخرس؟! خاصة أنك عدت لتسرد‬
‫قصة ذهابك لمهرجان الشعر العربي الفرنسي الذي نظمه معهد العالم العربي بباريس‪ ،‬ووجدت أنك كنت الوحيد‬
‫بين الشعراء العرب الثلثة عشر الذي يكتب التفعيلة‪ ،‬وأن دعوتك تمت لكونك عضوا مؤسسا للجنة المهرجان‪ ،‬أي‬
‫أنك تأكدت عمليا من وجود المتذوقين لقصيدة النثر‪ ،‬ويبدو أنه ‪-‬رغم نفيك‪ -‬أغضبك فررت النتقام ربما عن دون‬
‫قصد أن تمنع شعراء النثر من مؤتمر الشعر الذي تجهز له بالقاهرة‪ ،‬بل وأخذت في سكتك شعراء العامية‪ ،‬ليكون‬
‫"مؤتمر شعر التفعيلة" وليس "مؤتمر الشعر"‪.‬‬

‫أما الفصل الذي أفرده حجازي بعنوان "شرف ل أدعيه وتهمة ل أنكرها" ليشبه ما يكتبه بمعركة شعراء التفعيلة مع‬
‫الستاذ الكبير عباس محمود العقاد‪ ،‬عندما أحال أعمالهم إلى لجنة النثر رافضا تصنيفها شعرا من أساسه‪ ،‬والذي‬
‫قال في ختامه محاول استعادة التاريخ ‪-‬الذي يحيى به وفيه‪ -‬ليجلس هذه المرة على مقعد الستاذ العقاد قائل‪:‬‬
‫"ولنفرض في النهاية أني أكرر العقاد‪ ،‬فمن ذا الذي يكررني؟!"‪ ،‬فأرى أنه ليس هناك معركة أصل‪ ،‬وإن كانت هناك‬
‫ثمة معركة فهى في ذهن الستاذ حجازي وحده‪ ،‬يحارب فيها أعداء وهميون ل يشعون به‪ ،‬وبمعركته أو يشاركونه‬
‫فيها‪ ،‬فالعقاد لن يتكرر يا أستاذ حجازي ‪-‬للسف‪ -‬أما عن دورك‪ ،‬فل أظن أن أحدا من شعراء قصيدة النثر يقبل‬
‫القيام به‪.‬‬

‫ماذا تمثل الثقافة عامة والشعر على وجه الخصوص بالنسبة لك ؟‬


‫الثقافة هي الوعي والعمل‪ ،‬الوعي بما يحدث حولك والعمل على تغيير الجانب السلبي في هذا الواقع‪ .‬الثقافة هي‬
‫الوعاء لتاريخ أي بلد وهي البوصلة التي توجهنا‪ .‬أما الشعر فأرى انه قلب الثقافة‪ ،‬والذي تتضح فيه ملمح وسمات‬
‫الثقافة بوضوح‪ ،‬فهو الفكر والفن والبداع والحرية والوضوح ‪ .‬الشعر هو قيمة أخلقية فنية يعبر عنها الشاعر الذي‬
‫يجب أن يكون له مثل أعلى يبغي الوصول إليه‪ ،‬هذا المثل ل يوجد في الواقع‪ ،‬لذلك فالشاعر يبحث فيما وراء‬
‫الواقع‪.‬‬
‫رغم بدايتك المبكرة في الشعر‪ ،‬إل انك لم تصدر حتى الن سوى سبع مجموعات الشعرية ؟‬
‫بدأت حياتي الدبية عندما جئت إلى القاهرة عام ‪ 1955‬والتحقت برابطة الدب الحديث التي كان يرأسها في ذلك‬
‫الوقت الشاعر محمد ناجي‪ ،‬وكنت أنشر قصائدي في مجلة الداب البيروتية التي كانت تفسح صفحاتها للشعراء‬
‫الشباب‪ .‬مجموعاتي الشعرية التي أصدرتها والتي منها ‪" :‬مملكة الليل" ‪" ،‬أشجار السمنت" ‪" ،‬مدينة بل قلب"‪" ،‬لم‬
‫يبق إل العتراف" و "مرثية العمر الجميل" ‪ ،‬أنا أصدر عادة كل ثماني سنوات مجموعة شعرية وهذا بالنسبة لي أمر‬
‫جيد‪.‬‬
‫البعض يرى أن اهتمامك بالكتابات الدبية والنثر هو السبب في قلة إنتاجك الشعري ؟‬
‫بالعكس فأنا أرى نفس بالدرجة الولى شاعرا‪ ،‬فالشعر هو ذاتي وكياني وهو مقصدي الول والخير‪.‬‬
‫نعلم أنك أقمت في فرنسا مدة طويلة امتدت إلى ‪ 16‬عاما‪ ،‬هل أثرت هذه الفترة على توجهاتك الدبية ؟‬
‫بداية أود أن أسجل أن تلك الفترة كانت من أخصب فترات حياتي في الطلع والمعرفة‪ ،‬فكنت استكمل دراستي‬
‫في الشعر العربي في جامعة فرنسا‪ ،‬وقرأت خلل تلك الفترة في علوم كثيرة منها الفلسفة العربية والتاريخ والنثر‬
‫العربي والدب الفرنسي لكبار الدباء من أمثال فيكتور هوجو‪ .‬الحقيقة أنها كانت فترة عهدت فيها إلى تثقيف نفسي‬
‫في مختلف فروع الداب والعلم مما زاد من أفقي الثقافي والمعرفي‪.‬‬
‫ما رأيك فى قول البعض بأن الثقافة الفرنسية هي أحد روافد الثقافة العربية ؟‬
‫هذا القول فيه كثير من التجني على الثقافة الفرنسية‪ ،‬فالتاريخ والثقافة الفرنسية ل يمكن أن ينكره أحد‪ ،‬فهي‬
‫الثقافة الحرة والرائدة في أوروبا‪ .‬ولكن يمكن القول أن الثقافة العربية تأثرت بشدة بالثقافة الفرنسية نظرا لن‬
‫معظم الدباء والمثقفين العرب درسوا في فرنسا وقرءوا لدبائها‪.‬‬
‫كيف ترى حال الثقافة العربية في عصرنا الحاضر ؟‬
‫نحن الن في مختلف الدول العربية نعيش في أزمة تواجهها الثقافة‪ ،‬فهناك ضعف في الحركة الشعرية والثقافية‬
‫على الرغم من وجود كثير من الشعراء والدباء فهناك فرق بين الحركة الدبية‪ ،‬ومدى توافر الدباء ‪.‬‬
‫كيف يمكن الخروج من هذه الزمة ؟‬
‫إن ازدهار الحركة الدبية والثقافية يتوقف على معادلة لها أربعة أطراف هم ) المبدع‪ ،‬الناقد‪ ،‬المنبر أو الوسيلة‪،‬‬
‫القراء ( ‪ .‬بالنسبة للمبدعين‪ ،‬فالوطن العربي مليء بهم من مختلف الطياف الدبية‪ ،‬فليس هناك أزمة في‬
‫المبدعين ‪ .‬أما الزمة فهي في باقي أطراف المعادلة‪ ،‬فالناقد العربي انصرف إلى الدراسة الكاديمية وانفصل عن‬
‫الواقع وعن مواكبة التيارات الحديثة في النقد الدبي ‪ .‬كذلك هناك أزمة في المنبر أوالوسيلة الدبية التي تهتم‬
‫بالثقافة والدب‪ ،‬وأود أن أسجل هنا أنه لول مجلة الداب البيروتية لما استطاع عدد كبير من شعراء الخمسينات‬
‫والستينات أن يظهر بشعره ويجاهر به‪ ،‬فقد عملت هذه المجلة على الهتمام بشباب الشعراء مثل نزار قباني‬
‫ونازك الملئكة وصلح عبد الصبور والفيتوري وغيرهم ‪.‬‬
‫أما بالنسبة للقراء‪ ،‬فالقارئ العربي ينقصه الثقافة العامة والهتمام بالداب وأنا ل أحمله المسؤولية كاملة‪ ،‬فهو‬
‫تحت واقع شديد الصعوبة وأحداث جسام تمر بها المة‪ ،‬تجعله يهتم بحياته الذاتية أكثر من اهتمامه بالثقافة ‪.‬‬
‫كيف ترى القصائد التي يتم نشرها في الصحف والمجلت ؟‬
‫القصائد المنشورة في العديد من الجرائد والمجلت وأتابعها‪ ،‬تدل على أن المسؤولين عن صفحات الثقافة في‬
‫حاجة إلى مراجعة‪ ،‬فالمشرف على تلك الصفحات يجب أن يكون متخصصا في الداب والثقافة‪ ,‬أما أغلب‬
‫المشرفين الحاليين على تلك الصفحات ليسوا متخصصين وهذا يضعف من قيمة صفحة الثقافة ‪.‬‬
‫تطور الشعر مرهون بتطور اللغة‪ ،‬فما رأيك في الحالة التي آلت إليها اللغة العربية الن ؟‬
‫اللغة مرآة للواقع‪ ،‬تتأثر به جل تأثر ‪ .‬فنحن في البلد العربية نعيش حالة من التخبط مما آثر بالسلب على اللغة‬
‫العربية‪ ،‬فظهرت كلمات خاصة على لسان الشباب تعكس مدى اليأس والحباط الذي يتعرض له ‪ .‬والتطور ل يبدأ‬
‫من اللغة‪ ،‬بل إنه يبدأ من الواقع والرتقاء به وبالتالي تتطور اللغة ‪.‬‬
‫ما هي أكثر مراحل حياتك الدبية ثراء ؟‬
‫أعتقد أن فترة إقامتي في فرنسا من انضج الفترات الثقافية والبداعية في حياتي فقد أنجزت فيها الكثير من‬
‫الكتابات والعمال النثرية ‪.‬‬
‫خضت في حياتك الدبية كثير من المعارك‪ ،‬فكيف ترى معركتك مع عباس العقاد ؟‬
‫بداية أؤكد أن عباس محمود العقاد من القامات الدبية والفكرية العربية التي ل يمكن الخلف عليها أو تجاهل دوره‬
‫في تطور الثقافة العربية ‪ .‬أما عن خلفي معه فيرجع ذلك إلى الرؤية الشخصية لكل منا في الشعر والقالب‬
‫الشعري ‪ .‬فالعقاد يرى أن شعر التفعيلة هو الشكل الوحد للشعر العربي والذي يجب أن نلتزم به ‪ .‬أما أنا فأعتقد‬
‫أن الشعر حالة من النفعال والمثل العلى يعبر عنها الشاعر بأي أسلوب وأي شكل‪ ،‬لذلك كتبت القصيدة العمودية‬
‫بجانب النثر وشعر التفعيلة ‪.‬‬
‫يطلق عليك بعض النقاد شاعر الصدمة أو شاعر اللحظات النسانية‪ ،‬لماذا ؟‬
‫أنا في شعري ل اهتم كثيرا بالحب والهجر ووصف المحبوب‪ ،‬لكني أهتم باللحظات النسانية شديدة الخصوصية‬
‫والتي تتمتع بالصدق الخالص ‪ .‬ففي قصيدتي " مرثية لعب سيرك " مثل أعبر عن حالة لعب السيرك الذي يواجه‬
‫الموت في كل لحظة من حياته ‪.‬‬
‫الساحة الشعرية تمتلئ بشعراء مختلفين من حيث الشكل على القل‪ ،‬فهناك القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة‬
‫والقصيدة النثرية ‪.‬‬
‫كيف ترى مستقبل القصيدة العربية في ظل هذا التنوع ؟‬
‫قصيدة التفعيلة هي الشكل الساسي للشعر العربي منذ الزل‪ ،‬وقد ظهرت القصيدة العمودية كرد فعل لها وكشكل‬
‫جديد يمكن من خلله أن يعبر الشاعر عن أفكاره ومشاعره‪ ،‬والن ظهرت القصيدة النثرية لدى جيل شباب‬
‫الشعراء كشكل جديد‪ ،‬فكل عصر له خصوصيته الذاتية واعتقد أن الثقافة والدب العربي له قدرة كبيرة على‬
‫استيعاب هذه الشكال وأي أشكال أخرى يمكن أن تظهر في المستقبل ‪.‬‬
‫هل هناك قصيدة لها خصوصية لديك ؟‬
‫في سنة ‪ 1958‬كتبت قصيدة تنبأت فيها بما يحدث الن في العراق كان عنوانها ) بغداد والموت ( أقول فيها ‪:‬‬
‫من قبل أن يذبح‬
‫***‬
‫كان ميتا يبكي بغداد زمانا ميتا‬
‫يبحث عن حجابه‬
‫***‬
‫عن شاعر ببابه يسمعه أنت الفتى‬
‫***‬

‫جدير بالذكر أن أحمد عبد المعطي حجازي شاعر وكاتب بجريدة الهرام‪ ،‬ولد عام ‪ 1935‬بمدينة تل‪ ،‬محافظة‬
‫المنوفية‪ ،‬مصر ‪ ،‬حفظ القرآن الكريم‪ ،‬وتدرج في مراحل التعليم حتى حصل على دبلوم دار المعلمين ‪ ،1955‬ثم‬
‫حصل على ليسانس الجتماع من جامعة السوربون الجديدة‪ ،‬ودبلوم الدراسات المعمقة في الدب العربي ‪،1979‬‬
‫عمل مدير تحرير مجلة صباح الخير ثم سافر إلى فرنسا حيث عمل أستاذا ً للشعر العربي بجامعاتها ثم عاد إلى‬
‫القاهرة لينضم إلى أسرة تحرير الهرام ويرأس تحرير مجلة إبداع‪ .‬عضو نقابة الصحفيين المصرية ولجنة الشعر‬
‫بالمجلس العلى للثقافة‪ ،‬والمنظمة العربية لحقوق النسان‪.‬‬
‫دعي للقاء شعره في المهرجانات الدبية‪ ،‬كما أسهم في العديد من المؤتمرات الدبية في كثير من العواصم‬
‫العربية‪ ،‬ويعد من رواد حركة التجديد في الشعر العربي المعاصر‪.‬‬
‫دواوينه الشعرية‪ :‬مدينة بل قلب ‪ ،1959‬أوراس ‪ ،1959‬لم يبق إل العتراف ‪ ،1965‬مرثية العمر الجميل ‪،1972‬‬
‫كائنات مملكة الليل ‪ ،1978‬أشجار السمنت ‪.1989‬‬
‫مؤلفاته منها‪ :‬محمد وهؤلء‪ -‬إبراهيم ناجي‪ ،‬خليل مطران‪ ،‬حديث الثلثاء‪ ،‬الشعر رفيقي‪ -‬مدن الخرين‪ -‬عروبة مصر‪-‬‬
‫أحفاد شوقي‪.‬‬

‫حصل على جائزة كفافيس اليونانية المصرية ‪ .1989‬ترجمت مختارات من قصائده إلى الفرنسية والنجليزية‬
‫والروسية والسبانية واليطالية واللمانية وغيرها‪.‬‬

‫حوار ‪ :‬أحمد حمدي‬


‫‪editor@moheet.com‬‬
‫‪22/1/2006‬‬
‫شبكة الخبار العربية محيــط‬
‫الفلسفة والموسيقي‬

‫بقلم أحمد عبدالمعطي حجازي‬

‫هذه العلقة الحميمة التي ربطت بين فؤاد زكريا وفن الموسيقي‪ ,‬ربما بدت لبعضنا غريبة بعض الشيء‪ ,‬أو محتاجة‬
‫لتفسير‪ ..‬ففؤاد زكريا مفكر يشتغل بفن يعد أقرب فنون الفكر للمعرفة الموضوعية التي يتجرد فيها النسان من‬
‫ميوله وعواطفه‪ ,‬ليعرف الموضوع الذي يتصدي له معرفة صحيحة بالمقاييس المشتركة بين البشر جميعا علي‬
‫اختلف ثقافاتهم‪ ,‬وهي المقاييس العقلية المنطقية التي نستخدمها في طرح السئلة وتحديد المشكلت والوصول‬
‫إلي إجابات صحيحة مقنعة‪.‬‬

‫وفي هذا تختلف الفلسفة عن العلم التجريبي الذي نتعرف به علي الوقائع الجزئية ونسيطر به علي الطبيعة‪,‬‬
‫وتختلف عن الفن الذي نتلقاه بكل ملكاتنا‪ ,‬فنتذكر ونتخيل وننفعل ونتصل اتصال حميما بالعالم وبما وراء العالم‪..‬‬
‫الفلسفة عقل صارم‪ ,‬والفن انفعال ووجدان‪ ..‬فكيف اجتمعا في فؤاد زكريا؟‬

‫ولو أن فؤاد زكريا كان مجرد مستمع يحب الموسيقي ويتذوقها ويجمع بينها وبين اشتغاله بالفلسفة‪ ,‬لما أثار‬
‫استغراب أحد‪ ,‬لن المتعة الفنية حاجة إنسانية مشتركة‪ ,‬مهما يكن النشاط الذي يتخصص كل منا فيه ويجعله عمله‬
‫الول وحرفته الساسية‪.‬‬

‫ونحن نعرف أن كبار الفلسفة اهتموا بالموسيقي وتحدثوا عن مكانها في الحضارة ودورها في حياة الفرد والجماعة‪,‬‬
‫وإذا كانت الحضارة النسانية قد ميزت في مراحل نضجها بين ما نعرفه بالعقل‪ ,‬وما نعرفه بالقلب‪ ,‬وما نعرفه‬
‫بالتجربة‪ ,‬فهذه المعارف كلها وجوه متعددة للنشاط العقلي‪ .‬ونحن نطرب للمنطق السديد‪ ,‬ونقتنع بالنغمة الرائعة‪.‬‬

‫ولقد كان سقراط نحاتا‪ ,‬أخذ فن النحت عن أبيه‪ ..‬فلما صار فيلسوفا كان يحلم بأن يصبح موسيقيا‪ ,‬وقد اشتغل‬
‫الفلسفة بالطب‪ ,‬فالحكيم طبيب‪ ,‬والطبيب حكيم‪ ..‬ومكان الشعر في الفلسفة ل يقل عن مكان المنطق فيها‪ ,‬وكما‬
‫أن للفن مكانه في حياة الفلسفة وفي إنتاجهم‪ ,‬فالفلسفة لها مكانها في حياة الدباء والفنانين وفي أعمالهم‪ ..‬وهل‬
‫نستطيع أن نفصل بين شعر المعري وفلسفته؟‪ ..‬أو نفصل في أوبرات فاجنر بين اللحان والشعار والمناظر؟‪ ..‬بل‬
‫لقد جمع فاجنر بين موهبة الشاعر‪ ,‬وموهبة الملحن‪ ,‬وموهبة الناقد والفيلسوف‪.‬‬

‫وربما كانت الموسيقي أقرب الفنون إلي الفلسفة‪ ,‬لن الموسيقي أصوات مجردة ول تعني بذاتها أي شيء‪.‬‬
‫والفلسفة كذلك أفكار مجردة تعلو علي الوقائع الجزئية والحالت الفردية‪.‬‬

‫وبوسعنا إذن أن نفهم تلك العلقة التي ربطت بين فؤاد زكريا والموسيقي مند كان صبيا في العاشرة من عمره‪.‬‬
‫ففي تلك السن نجح في صنع آلة موسيقية بدائية ـ كما يصفها ـ من صندوق مستطيل من الصفيح شد عليه خيوطا‬
‫من الجلد المطاط الرقيق وراعي في الشد أن يكون متدرجا بما يجعل كل خيط مناظرا لنغمة في السلم‬
‫الموسيقي‪ ..‬وقد استطاع أن يعزف علي هذه اللة البدائية ألحانا شجية مما كان شائعا في ثلثينيات القرن الماضي‪.‬‬

‫واستطاع فؤاد زكريا بعد ذلك بسنوات أن يقنع أسرته بشراء مندولين كان يجيد العزف عليه‪ ..‬كما تعلم أن يقرأ‬
‫المدونات الموسيقية‪ ,‬وأن يدون اللحان التي يسمعها‪ ..‬وهكذا ظل يتقدم في هذا الطريق بخطي واسعة حتي انفتح‬
‫له عالم الموسيقي السيمفونية‪ ,‬خصوصا بعد أن التحق بقسم الفلسفة في كلية الداب بجامعة فؤاد الول‪.‬‬

‫تلك هي السنوات الذهبية ـ أربعينيات القرن الماضي ـ التي بدا فيها أن النخبة المصرية المثقفة قد نجحت في خلق‬
‫مناخ فكري تستطيع مصر فيه أن تتحرر من ماضيها العبودي البائس‪ ,‬وتلحق بالركب النساني المتقدم وتأخذ مكانها‬
‫فيه‪ ..‬وهو المل الذي بددته أحداث السنوات التالية‪.‬‬

‫لكن التحاق فؤاد زكريا بقسم الفلسفة في كلية الداب فرض عليه أن يختار بين النصراف للفلسفة والنصراف‬
‫للموسيقي‪ ,‬فاختار الفلسفة‪ ,‬وإن ظل عاشقا وفيا للموسيقي‪ ..‬ذكرياته حافلة بالعمال التي استمع إليها‪ ,‬والفرق‬
‫التي حضر حفلتها في عواصم عالمية مختلفة‪ ,‬ومكتبته حافلة بالتسجيلت والمراجع التي تتحدث عن الموسيقي‬
‫والموسيقيين‪ ..‬وقد أصدر هو نفسه ثلثة كتب عن هذا الفن الذي عشقه ولم يستطع أن يشتغل به‪.‬‬

‫وقد بدأ فؤاد زكريا هذه الصدارات بكتاب عن التعبير الموسيقي‪ ,‬ثم أتبعه بكتابه مع الموسيقي‪ ,‬الذي تحدث فيه‬
‫عن علقته بهذا الفن وذكرياته معه‪ ,‬كما تحدث عن اليقاع حديثا مستفيضا رائعا‪ ,‬وعن الموسيقي الشعبية‪,‬‬
‫ومستقبل الموسيقي في مصر‪ ,‬أما كتابه الخير فقد اختار له موضوعات تتصل فيه الموسيقي بالفلسفة‪ ,‬هذا‬
‫الموضوع هو الموسيقار اللماني ريتشارد فاجنر‪ ,‬الذي تتلمذ علي شوبنهور‪ ,‬وجمعت بينه وبين نيتشه صداقة حميمة‬
‫تأثر فيها كل منهما بالخر‪ ,‬وأفسح له مكانا في إنتاجه‪ ,‬فكلهما قومي ألماني متحمس‪ ..‬وكلهما شديد العجاب‬
‫بالتراث اليوناني‪ ..‬وكلهما ساخط علي تراث الساميين‪.‬‬

‫ولقد بدا لي كتاب فؤاد زكريا عن فاجنر استكمال لدراسته الفلسفية عن نيتشه أو تعبيرا آخر عن فهمه لهذا‬
‫الفيلسوف ولثقافة القرن التاسع عشر الوروبي بشكل عام‪ ..‬فثقافة القرن التاسع عشر هي ثقافة الثورة التي‬
‫شملت كل مجال‪ ,‬وسعت إلي تحرير النسان من العصور الوسطي وثقافتها الخرافية ونظمها المستبدة‪.‬‬

‫في القرن التاسع عشر استطاعت الثورة الفرنسية أن تهز العروش‪ ,‬وتحطم الغلل‪ ,‬وترفع علي الرض راية‬
‫الحرية‪ ,‬والمساواة والخاء‪.‬‬

‫وفي القرن التاسع عشر انتصرت الدولة الوطنية علي الدولة الدينية‪ ,‬وانتصر العلم علي الخرافة‪ ,‬والرومانتيكية‬
‫علي الكلسيكية‪ ..‬ووقف فيكتور يدافع عن الجمهورية في فرنسا‪ ..‬وألف بتهوفن سيمفونيته الثالثة يحيي فيها‬
‫نابليون رسول الثورة قبل أن يصبح إمبراطورا فينقلب عليه وكما وقف بتهوفن إلي جانب الثوار الفرنسيين‪ ,‬وقف‬
‫فاجنر إلي جانب الثوار اللمان‪.‬‬

‫أريد في النهاية أن أقول إن المثل العقلنية الرفيعة التي قادت فؤاد زكريا ليشتغل بالفلسفة‪ ,‬هي المثل الرفيعة‬
‫التي قادته للموسيقي الكلسيكية‪ ,‬وجعلته واحدا من أخلص عشاقها ومحبيها‪.‬‬

‫الفلسفة أخلق بالمعني العميق لهذه الكلمة‪ ..‬والموسيقي أيضا أخلق بهذا المعني‪ ..‬فل غرابة إذن في أن يكون‬
‫محب الحكمة محبا للموسيقي!‬

‫ولد أحمد عبد المعطي حجازي عام ‪ 1935‬بمدينة تل‪ -‬محافظة المنوفية‪ -‬مصر‪ - .‬حفظ القرآن الكريم‪ ،‬وتدرج في‬
‫مراحل التعليم حتى حصل على دبلوم دار المعلمين ‪ ،1955‬ثم حصل على ليسانس الجتماع من جامعة السوربون‬
‫الجديدة‪ ،‬ودبلوم الدراسات المعمقة في الدب العربي ‪.1979‬‬
‫‪ -‬عمل مدير تحرير مجلة صباح الخير ثم سافر إلى فرنسا حيث عمل أستاذا ً للشعر العربي بجامعاتها ثم عاد إلى‬
‫القاهرة لينضم إلى أسرة تحرير "الهرام" ويرأس تحرير مجلة "إبداع"‪.‬‬
‫‪ -‬عضو نقابة الصحفيين المصرية ولجنة الشعر بالمجلس العلى للثقافة‪ ،‬والمنظمة العربية لحقوق النسان‪.‬‬
‫‪ -‬دعي للقاء شعره في المهرجانات الدبية‪ ،‬كما أسهم في العديد من المؤتمرات الدبية في كثير من العواصم‬
‫العربية‪ ،‬ويعد من رواد حركة التجديد في الشعر العربي المعاصر‪.‬‬
‫‪ -‬دواوينه الشعرية‪ :‬مدينة بل قلب ‪ -1959‬أوراس ‪ -1959‬لم يبق إل العتراف ‪ -1965‬مرثية العمر الجميل ‪-1972‬‬
‫كائنات مملكة الليل ‪ -1978‬أشجار السمنت ‪.1989‬‬
‫‪ -‬مؤلفاته منها‪ :‬محمد وهؤلء‪ -‬إبراهيم ناجي‪ ،‬خليل مطران‪ ،‬حديث الثلثاء‪ ،‬الشعر رفيقي‪ -‬مدن الخرين‪ -‬عروبة‬
‫مصر‪ -‬أحفاد شوقي ‪ -‬وله الن‪ :‬الثقافة ليست بخير ‪2005‬‬
‫‪ -‬حصل على جائزة كفافيس اليونانية المصرية ‪.1989‬‬
‫‪ -‬ترجمت مختارات من قصائده إلى الفرنسية والنجليزية والروسية والسبانية واليطالية واللمانية وغيرها‪.‬‬

‫من أشعاره‪:‬‬
‫العودة من المنفى‬

‫لما تحررت المدينة عدت من‬


‫منفاي‪،‬‬
‫أبحث في وجوه الناس عن‬
‫صحبي‪،‬‬
‫د‪،‬‬
‫فلم أعثر على أح ٍ‬
‫وأدركني الكلل‬
‫فسألت عن أهلي‪ ،‬وعن دارٍ لنا‬
‫فاستغرب الناس السؤال‬
‫م‪،‬‬
‫وسألت عن شجرٍ قدي ٍ‬
‫كان يكتنف الطريق إلى التلل‬
‫فاستغرب الناس السؤال‬
‫وبحثت عن نهر المدينة دون جدوى‪،‬‬
‫ل‬
‫وانتبهت إلى رماد ٍ ناز ٍ‬
‫من جمرة الشمس التي كانت تميل إلى الزوال‬
‫وفزعت حين رأيت أهل مدينتي‬
‫يتحدثون بلكنةٍ عجماء متجهين نحوي‪،‬‬
‫فابتعدت‪،‬‬
‫ى ِثقال‬
‫ً‬ ‫بخط‬ ‫تراجعي‬ ‫يتبعون‬ ‫أمامي‬ ‫وهم‬
‫حتي خرجت من المدينة مثقل ً بحقائبي‬
‫ح‬
‫وانهرت مثل عمود مل ٍ‬
‫في الرمال ‪.‬‬
‫الرجل والقصيدة‬

‫ماحيلتي؟ وخطاي أقصر من خطاك*‬


‫قا‪ ،‬فتسبقني‪ ،‬وتنأى‪،‬‬ ‫تروح مستب ً‬
‫ثم ل ألقاك إل في نهايات الطريق‬
‫ن‪،‬‬
‫ح فات ٌ‬‫وعليك من ذكر المغامرة افتضا ٌ‬
‫وعليك أصوات‪ ،‬وألوان‪،‬‬
‫قطوف من بواكير الخليقة‪،‬‬
‫أو رؤىً مما تزخرف فيك ألسنة الحريق!‬
‫وأنت تبعث من رمادك طيبا‬
‫وتعود للمقهى‪،‬‬
‫فتشرب كأسنا‪ ،‬وتموت‪،‬‬
‫هل هو موتك المنشود‪،‬‬
‫أم موت القصيدة مشتهاك؟‬
‫ج لرفيقه‬ ‫وكلكما متبر ٌ‬
‫ئ على طرف السرير‪،‬‬ ‫وكلكما ذاٍو‪ ،‬ومنطف ٌ‬
‫وأنت تبحث في صباها‪ ،‬دون جدوى‪،‬‬
‫عن صباك! ‪.‬‬
‫خبأت كنزى فيك‪ ،‬أيتها الصبية‪ ،‬وارتحلت‬
‫علمت جسمك لون جسمي‪،‬‬
‫صوته الجياش‪،‬‬
‫ة‪ ،‬وذاكرة‪،‬‬ ‫حتى سرت لي لغ ٌ‬
‫وها أنا مذ رجعت‬
‫عاًٍر‪،‬‬
‫أفتش فيك عن وجهي القديم‪،‬‬
‫ي من خلف الحجاب سواك أنت! ‪.‬‬ ‫فل يطل عل ّ‬
‫هي وردة الليل الفريدة‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وتمنحه بهاء الكل‪،‬‬ ‫تصطفي رج ً‬
‫تسكنه سريرتها‪ ،‬وترضعه الخليا والعروق‬
‫وهل تنيلك منتهاها‪،‬‬
‫قبل أن تنجاب عنك وجوهك الخرى‪،‬‬
‫وتدرك منتهاك‬
‫ذب‬ ‫ي‪ ،‬وع ْ‬ ‫وأنت وحش ٌ‬
‫كنت تجفل حين توشك أن تنال‪،‬‬
‫ئ هناك‬ ‫وكنت مشدودا ً إلى ش ٍ‬
‫ً‬
‫وكنت تفتنها بحزنك‪ ،‬ثم ترحل هاربا منها‪،‬‬
‫وتعبر في فيافي الروح من ضيق لضيق‬
‫وتعود للمقهى‪،‬‬
‫فتشرب كأسنا‪ ،‬وتموت‬
‫هل هو موتك المنشود‪،‬‬
‫أم موت القصيدة مشتهاك؟ ‪.‬‬

‫خمرية‬

‫الصدقاء الحميمون أقبلوا‬


‫في ثياب جديدةٍ‬
‫من بلد ٍ بعيدةٍ‬
‫وقبور‬
‫ن‬
‫ساقوا سماًء إلى البهو من دخا ٍ‬
‫وشدوا‬
‫ط‬
‫نجومها بخيو ٍ‬
‫ورفرفوا كالطيور‬
‫بعيدة كأسنا الولى‪،‬‬
‫والوجوه عليها من النهار انطفاءات‪،‬‬
‫والمدينة ضمت أسواقها‬
‫وتهاوت‬
‫تحت الزجاج المطير‪.‬‬
‫بعيدة هذه الكأس‪ ،‬والنهار بعيد‬
‫وعن يمين بساتيننا التي لنراها‬
‫لما ركبنا عليهم أسوارها‪ ،‬ودخلنا‬
‫كانت هناك تلل‬
‫من خالص التبر‪ ،‬كانت‬
‫من النساء عذارى‬
‫كلؤلؤٍ منثور‬
‫ي غرير‬ ‫ورب ظب ٍ‬
‫دعوته لسرير!‬
‫وكان َثم رفات‬
‫ت أدبرت‪،‬‬ ‫يسيل بين محطا ٍ‬
‫ت أقبلت‬ ‫ومحطا ٍ‬
‫وجسور‬
‫ولت حين نشور!‬
‫من ينزل الغيم؟‬
‫لي فيه وردة‬
‫أزهرت وحدها هناك‪ ،‬وأبقت‬
‫ت‬‫جذورها راعيا ٍ‬
‫في جسمي المهجور ‪.‬‬
‫س شتائيةٍ‬‫بعيدة هذه الكأس‪ ،‬مثل شم ٍ‬
‫ى مقرور‬ ‫تدور‪ ،‬وتفتر عن سن ً‬
‫ونحن بين المرايا‬
‫نعشو لها بمهيض‪،‬‬
‫من الجناح‪ ،‬كسير‬
‫محاصرين بأشباحنا‪،‬‬
‫نبادلها الكر والفرار‪،‬‬
‫إلى أن مضى الزمان فقمنا‬
‫وانسل كل لمثواه في الظلم الخير‬
‫الصدقاء الحميمون أقبلوا‬
‫ب جديدةٍ‬ ‫في ثيا ٍ‬
‫من بلد ٍ بعيدةٍ‬
‫وقبور‬
‫ن‬
‫ساقوا سماًء إلى البهو من دخا ٍ‬
‫وشدوا‬
‫ط‬
‫نجومها بخيو ٍ‬
‫ورفرفوا كالطيور ‪.‬‬

‫أصدقائي‪..‬‬
‫هذا هو ما استطعت لملمته من للئ هذا المبدع‬
‫ولول أن يتحول الموضوع إلى موضوع شعري بحت لستطردت أكثر‪..‬‬
‫تحياتي‪..‬‬

‫__________________‬
‫ل يهمني اسمك‬
‫ليهمني عنوانك‬
‫ليهمني لونك ول ميلدك‪..‬‬
‫مكانك‪..‬‬
‫يهمني النسان‬
‫ولو ما لوش عنوان‬
‫يا ناس يا مكبوته‪ ...‬هيه دي الحدوته‬
‫ظاهرة الشعر الحديث‬
‫أحمد المجاطي‬
‫مداخل لدراسة الم َ‬
‫ؤلف ‪:‬‬

‫المدخل الول ‪ :‬النقد من حيث هو مفهوم‬

‫يعتبر النقد عملية وصفية تنطلق مباشرة بعد البداع‪ ،‬و تكون غايتها قراءة الثر الدبي‪،‬و مقاربته بهد ف استقصاء‬
‫مواطن الجودة و النقص فيه‪.‬‬
‫و يرتبط النقد في الغالب بالوصف و التفسير و التأويل و الكشف و التحليل و التقويم‪ ،‬و ينصب كل ذلك على النص‬
‫أو الثر المنقود‪.‬‬
‫و يمر العمل النقدي عبر مجموعة من الخطوات و المراحل ‪ ،‬يمكن ترتيبها مثل ما يلي‪:‬‬
‫* قراءة النص أو الثر المنقود و ملحظته‪.‬‬
‫* تحليل مضمونه وشكله‪.‬‬
‫* تقويمه إيجابا و سلبا‪.‬‬
‫* توجيه المبدع من خلل عملية تغذية راجعة ¬)‪ ،(feed back‬يمده بها العمل النقدي‪.‬‬
‫و من أهم وظائف النقد توجيه دفة البداع‪ ،‬وإضاءة الطريق للمبدعين المبتدئين و لكبار الكتاب على حد سواء‪.‬‬
‫وكشف مواطن القوة و الضعف في الثر البداعي‪ ،‬و التمييز بين الجودة و الرداءة‪ ،‬و الطبع و التكلف‪ ،‬و الصنعة و‬
‫التصنع‪ .‬كما يعرف النقد المبدعين بما وصل إليه البداع من تطور‪ ،‬في النظرية و الممارسة‪ ،‬و يجلي لهم طرائق‬
‫التجديد و مدارسه و تصوراته الجمالية و الفلسفية و الفنية‪ ،‬قصد إبعادهم عن التقليد ‪.‬‬

‫المدخل الثاني‪ :‬المسار النقدي الدبي في المغرب في القرن العشرين‬

‫إذا كان النقد الدبي فاعلية قرائية بعدية تتطلب مادة إبداعية قبلية تقرأها و تشتغل عليها و تستولد منها و حولها‬
‫أسئلتها و تأملتها و إشكالتها البانية لخطابها و المحركة لوتائرها‪ ،‬و هو يتطلب "وعيا" نظريا و منهجيا‪ ،‬يضبط صنيعه‬
‫و يجعله على بينة كافية بالصنيع الدبي الذي يتعامل معه‪ ،‬فإنه لم يكن بالمكان ‪ ،‬قبل ستينيات القرن العشرين‪،‬‬
‫الحديث عن "مشهد نقدي" في المغرب‪ ،‬وإنما كانت هناك كتابات لبعض الدباء المغاربة هي عبارة عن ردود عفوية‬
‫و ملحظات انطباعية تقييمية‪ ،‬أكثر منها كتابات نقدية‪ .‬ومن هؤلء الدباء نذكر‪ :‬عبد الله كنون‪ ،‬و أحمد زياد‪ ،‬و عبد‬
‫الرحمان الفاسي‪ ،‬و محمد بلعباس القباج‪...‬‬

‫كانت ستينيات ق ‪ ،20‬نقطة انطلق "الوعي" النقدي الحديث في المغرب‪ ،‬و كانت وراء هذه النطلقة عوامل و‬
‫ملبسات سوسيوثقافية‪ ،‬يمكن تلخيصها في التي ‪:‬‬
‫‪ /1‬حصول المغرب على استقلله السياسي و تفرغه لمشاكله الداخلية‪.‬‬
‫‪ /2‬انطلقة الجامعة المغربية‪ ،‬و تأسيس كلية الداب و العلوم النسانية‪.‬‬
‫‪ /3‬ظهور أعمال أدبية تنتمي لجناس أدبية حديثة‪.‬‬
‫‪ /4‬الزدهار النسبي للصحافة الدبية ) ملحق ثقافية‪ ،‬مجلت أدبية متخصصة(‬
‫‪ /5‬انفتاح المغرب على لحركة الثقافية و الدبية في المشرق العربي )القاهرة‪ ،‬بيروت‪ ،‬بغداد(‪.‬‬
‫‪ /6‬تأسيس اتحاد كتاب المغرب‪ ،‬و مساهمته في التحسيس بسؤال الثقافة و الدب ‪.‬‬
‫تضافر هذه العوامل وغيرها‪ ،‬كان حافزا للوعي النقدي الحديث في المغرب‪ ،‬و كان صدور بعض العمال الروائية و‬
‫الشعرة على الخصوص‪ ،‬أوائل ستينيات ق ‪ ،20‬فرصة سانحة أطلقت النقد المغربي الحديث‪ ،‬و لعل أبرز من مثل‬
‫هذه الحقبة هم‪ :‬محمد برادة‪ ،‬و أحمد اليابوري‪ ،‬و محمد السرغيني‪ ،‬و أحمد المجاطي‪ ،‬و حسن المنيعي‪ ،‬و إبراهيم‬
‫السولمي‪.‬‬

‫لقد تخرج على أيدي هؤلء الساتذة و غيرهم‪ ،‬مع طلئع سبعينيات ق ‪ ،20‬جيل جديد من النقاد و المبدعين هم‬
‫الذين سيؤثثون المشهد النقدي المغربي بعطائهم‪،‬و هم الذين سيملون فضاءه بأصواتهم و أفكارهم‪ ،‬و ستتفرع‬
‫معهم النحاء التي انتحاها النقد في المغرب بعد ذلك‪ ،‬من نقد شفوي‪ ،‬و صحفي‪ ،‬و جمعوي‪ ،‬و جامعي‪ ،‬و سجالي‪...‬‬
‫و قد ساهمت هذه الجهود‪ ،‬بل شك‪ ،‬في التأسيس لوعي نقدي جديد‪ ،‬يتوخى إعادة النظر في شروط القراءة و أدبية‬
‫النص المقروء‪ ،‬لكنها لم تخل من هنات أجملها ذ‪ .‬نجيب العوفي في أربع هي ‪:‬‬
‫‪ /1‬المنهاجوية ‪ :‬ويقصد بها ارتهان الناقد غير المشروط للمنهج على حساب النص المقروء‪.‬فيستعاض عن المبدإ‬
‫المعروف) النص و ل شئ غير النص( بمبدإ مضاد ) المنهج و ل شئ سوى المنهج(‪ .‬فتكون النتيجة الحتمية آخر‬
‫المطاف هي اغتراب النص‪ ،‬و المنهج‪ ،‬و الناقد‪ ،‬و المتلقي‪.‬‬
‫‪ /2‬الرتحال السريع بين المناهج و النماذج ‪ :‬الذي تحول عند البعض إلى قطيعة قسرية بين المحطات المنهجية‪ ،‬و‬
‫إلى سلسلة من النواسخ و المنسوخات‪.‬‬
‫‪ /3‬غياب النقد عن النقد ‪ :‬و هيمنة النزعة الوصفية التحليلية على النزعة التقييمية التأويلية‪ ،‬مما يجعلنا‪ ،‬في آخر‬
‫التحليل‪ ،‬تجاه خطاب علموي شكلني متعال‪ ،‬غايته الولى ة الخيرة‪ ،‬أن يعيد كتابة النص و يفكك أجزاءه و عناصره‪،‬‬
‫ثم يعيدها إلى أماكنها أو يتركها لحما على وضح‪ .‬و من تم تتساوى النصوص المقروءة و توضع في سلة واحدة‪.‬‬
‫‪ /4‬غياب شخصية الناقد في قراءته و ارتباك لغته النقدية‪ ،‬معجما و مصطلحا‪.‬‬
‫و قد استمر النقد العربي في المغرب‪ ،‬على عواهنه‪ ،‬يصارع كل أشكال النقص فيه‪ ،‬و يحاول أن يؤسس هويته‬
‫العربية المغربية ‪ ،‬لكن طريقه لتحقيق ذلك ل زال يبدو طويل‪ ،‬و مليئا بالشواك‪ ،‬والمطبات ‪ ،‬التي نتمنى أن‬
‫يتجاوزها من سيأتي في هذا القرن الواحد و العشرين‪.‬‬

‫المدخل الثالث ‪ :‬صـاحــب المــــ َ‬


‫ؤلــــف‬

‫جمع أحمد المجاطي بين خاصيتي البداع و النقد لذلك جاءت كتاباته مفيدة و مقنعة في آن معا‪ .‬و كان قد ولد في‬
‫الدار البيضاء سنة ‪ ،1936‬تلقى دراسته بين الدار البيضاء و الرباط ودمشق ‪ .‬و درس بكل من جامعة محمد بن عبد‬
‫الله بفاس و جامعة محمد الخامس بالرباط‪ .‬اعتبر من المؤسسين لحركة الحداثة الشعرية بالمغرب‪ .‬فاز بجائزة ابن‬
‫زيدون للشعر التي يمنحها المعهد السباني‪ /‬العربي للثقافة بمدريد عام ‪ ،1985‬كما فاز بجائزة المغرب الكبرى‬
‫للشعر سنة ‪.1987‬‬
‫توفي أحمد المجاطي سنة ‪ ،1995‬مخلفا وراءه عطاًء متميزا في الشعر و النقد و التدريس‪.‬‬

‫المدخل الرابع ‪ :‬طبــــيعــة المــؤ ََلف‬

‫يعتبر كتاب " ظاهرة الشعر الحديث" دراسة نقدية تتبع مسار تطور الشعر العربي الحديث‪ ،‬و البحث في العوامل‬
‫التي جعلت الشاعر العربي الحديث ينتقل من مرحلة الحياء و الذات إلى مرحلة التحرر من قيود التقليد‪ ،‬مع رصد‬
‫العوامل و التجارب التي غذت التجديد في الشعر العربي ‪:‬‬
‫• على مستوى المضمون‪ :‬من خلل تجربة الغربة و الضياع‪ ،‬و تجربة الموت ‪ ،‬مع ما ميز كل تجربة من‬
‫مظاهر و خصوصيات‪.‬‬
‫• على مستوى الشكل و البناء الفني‪ :‬في اللغة و السياق و آليات التعبير و خاصة الصورة الشعرية و السس‬
‫الموسيقية‪.‬‬

‫دراســـــة الـــكـــتـــاب‬
‫الـقراءة الـمضمونــيـة‪:‬‬
‫الفصـــــــل الول ‪ :‬التطور التدريجي في الشعر الحدـيث‪.‬‬

‫القسم الول‪ :‬نحو مضمون ذاتي‪.‬‬


‫• الشعر العربي القديم‪:‬‬
‫أمران مهمان يحددان التطور في الشعر العربي‪،‬عند أحمد المجاطي‪ ،‬هما‪ :‬الحرية و الحتكاك بالثقافة الجنبية‪.‬‬
‫و في الشعر العربي القديم لم يتحقق هذا التطور إل جزئيا‪ ،‬في مرحلتين‪:‬‬
‫◄ في العصر العباسي‪ ،‬مع شعراء رفعوا لواء الحداثة الشعرية و التحول‪ ،‬أمثال‪ :‬أبي نواس‪،‬‬
‫و أبي تمام‪ ،‬و المتنبئ‪.‬‬
‫◄ في شعر الموشحات الندلسية خاصة على مستوى اليقاع العروضي‪.‬‬
‫و مع هيمنة معايير القصيدة العمودية التي كان يدافع عنها نقاد اللغة ظل هذا التجديد محدودا و ضئيل‪.‬‬
‫نستنتج أن الشعر العربي القديم ظل – في مجمله ‪ -‬ثابتا و محافظا على الصول‪ ،‬و لم يحقق تطورا ملحوظا بسبب‬
‫انعدام الحرية البداعية و ضعف الحتكاك بالثقافات و الداب الجنبية‪.‬‬
‫• التيار الحيائي ‪:‬‬
‫كانت العودة إلى التراث الشعري العربي في مراحل إشراقه‪ ،‬أهم مرتكز يقوم عليه التيار الحيائي قصد‬
‫تجاوز ركود عصر النحطاط و مخلفات كساد شعره و الخروج من الزمة الشعرية التي عاشها شعراء عصر النهضة‪.‬‬

‫و يعتبر محمود سامي البارودي أهم زعماء هذا التيار‪ ،‬إذ نظم شعره متوسل بالبيان الشعري القديم‪ ،‬مما جعل هذا‬
‫التيار حركة تقليدية محافظة جراء مجاراتها طرائق التعبير عند الشعراء القدامى‪ ،‬و وضعف اطلع أصحابه على‬
‫الداب الجنبية‪.‬‬
‫• التيار الذاتي‪:‬‬
‫تداخلت عدة عوامل سياسية و اجتماعية و تاريخية‪ ،‬للدفع نحو تجاوز شعار العودة إلى التراث‪ ،‬و الخذ بشعار البحث‬
‫عن الذات الفردية و العلء من شأنها‪ ،‬مما أنتج تيارا ذاتيا في الكتابة الشعرية العربية الحديثة‪ ،‬تشكل عبر‬
‫الجماعات الدبية التية‪:‬‬
‫)أ(جماعة الديوان‪:‬‬
‫و تضم كل من العقاد و شكري و المازني‪ ،‬الذين آمنوا بأن الشعر وجدان‪ ،‬لكنهم اختلفوا في التعبير عن هذا اليمان‪،‬‬
‫مما أعطى تمايزا في مضامين إبداعهم الشعري‪ ،‬يمكن تجسيده كالتي‪:‬‬

‫العقاد‬
‫‪" -‬مفكر قبل أن يكون شاعرا"‬
‫‪ -‬غلب التفكير على الوجدان و الشعور‬
‫‪ -‬قصيدة"الحبيب" غلب فيها المنطق العقلي على ما هو وجداني داخلي‪.‬‬
‫شكري‬
‫‪ -‬من طبيعة الشعر عنده أن ينطلق من النفس بصورة طبيعية‪.‬‬
‫‪ -‬تعامل مع الشياء تعامل مباشرا أساسه النفعال المباشر دون تدخل من العقل أو توغل في أعماق النفس‬

‫المازني‬
‫‪ -‬تأمل في أعماق الذات‪ ،‬و انصرف عن الهتمام بالعقل الخالص‪.‬‬
‫‪ -‬المعاني جزء من النفس تدرك بالقلب ل بالعقل‪،‬مما أنتج لديه شعر الستبطان و استكناه أغوار الذات‬

‫نصل مما سبق إلى أن ميزة الشعر الذاتي عند جماعة الديوان هي التمايز و التفرد و التغني بشعر الشخصية‪،‬و‬
‫ليس دعوة لبداع شعر متشابه الوسائل و الغايات‪ .‬و لعل مرجع اهتمام الجماعة بالعنصر الذاتي أمران‪:‬‬
‫إعادة العتبار للذات المصرية التي كانت تعاني من النهيار التام ‪.‬‬
‫انتشار الفكر الحر بين مثقفي و مبدعي مصر‪ ،‬فعبروا عن أنفسهم باعتبارها قيما إنسانية ذات وزن‪.‬‬

‫)ب( تيار الرابطة القلمية ‪:‬‬


‫تجاوز مفهوم الوجدان مع شعراء الرابطة القلمية‪ ،‬الذات ليشمل الحياة و الكون في إطار وحدة الوجود الصوفية‪،‬‬
‫فقالوا بوجود روابط خفية‪ ،‬تشد الكائن الفرد إلى الكون جملة‪ ،‬و أن من شأن هذه الروابط الرفع من مكانة الفرد‪،‬‬
‫و تقريبه من الذات اللهية حتى تغدو العودة إلى الذات عبارة عن تفتح العالم بكلياته و جزئياته‪ ،‬و قد اختلفت سبل‬
‫العودة إلى الذات عند كل من جبران خليل جبران‪ ،‬و ميخائيل نعيمة‪ ،‬و إيليا أبي ماضي‪.‬‬

‫جبران‬
‫‪ -‬انقطع إلى التأمل في نفسه‪ ،‬مؤمنا بأن ملكوت الله في داخل النسان‪.‬‬
‫‪ -‬ل مجال لمحاولة التحرر من الفساد‬
‫‪ -‬الصلح و الطلح شيء واحد‪ ،‬ووجودهما ضروري كوجود الليل و النهار‪.‬‬
‫نعيمة‬
‫‪ -‬آثر حياة الفطرة على تعقد الحضارة‪.‬‬
‫‪ -‬هرب بأحلمه إلى الغاب‪.‬‬
‫‪ -‬قدم عن المجتمع المتحضر صورة حافلة بالضجيج و الحتجاج و الخصومة‪.‬‬

‫أبو ماضي‬
‫‪ -‬استعصم بالخيال و ركن إلى القناعة و الرضى‪.‬‬
‫‪ -‬فر من الحضارة المعقدة إلى القفر أو إلى الغاب‪.‬‬
‫‪ -‬عاد إلى نفسه ليتأسى روحيا‪.‬‬

‫رغم معاصرة شاعر الرابطة القلمية للمد القومي العربي‪ ،‬إل أنه ظل حبيس الذات و المضامين السلبية مثل اليأس‬
‫و الخنوع و الستسلم و القناعة‪ ،‬مخالفا حقيقة الوعي القومي المستلزم للفعال اليجابية و التغيير الثوري و ترجمة‬
‫المشاعر إلى الواقع العملي‪.‬‬
‫)ج( جماعة أبوللو‪:‬‬
‫أسسها الدكتور أحمد زكي أبو شادي سنة ‪ ،1932‬ارتكزت في مفهومها للشعر على التغني بالذات و الوجدان‪ ،‬إذ‬
‫رأت في ذات الشاعر مصدر ما ينتج من شعره‪ ،‬بشكل يسمح بتعرف هذه الذات من خلل النظر في شعر صاحبها‪.‬‬
‫يرى أحمد المجاطي أن معاني الشعر عند أصحاب هذه الجماعة تتميز بالسلبية نظرا لتعاطيهم مع مواضيع الطبيعة‬
‫و الهروب من الحياة الواقعية إلى الذات المنكمشة‪ ،‬و من المدينة نحو الغاب‪ ،‬و اصطباغ شعرهم بالخيبة و الحرمان‬
‫و اليأس بالمرارة و المعاناة من الغتراب‪.‬‬
‫انتهت جماعة أبوللو بالنفصال و التمزق و الهجرة و الفرار‪ ،‬فتعددت التجاهات المختلفة التفاصيل‪ ،‬و المتحدة عند‬
‫انفصال الشاعر المصري عن مجتمعه‪.‬‬

‫القسم الثاني‪ :‬نحو شكل جديد‪.‬‬


‫اتخذ تطور القصيدة العربية منحى متكامل‪ ،‬ارتكز على مبدإ العودة إلى الذات‪ ،‬إذ أدرك الشاعر الوجداني أن كل‬
‫تجربة جديدة ل تعبر عنها إل لغة تستوفي صيغتها التعبيرية و صورها البيانية و إيقاعاتها الموسيقية من التجربة‬
‫نفسها‪ .‬و من تم راح يعتمد للتعبير عن تجربته الذاتية أشكال تختلف في خصائصها عما ألفه التيار التقليدي من‬
‫أشكال كان مصدرها امتلء الذاكرة و تقليد النموذج‪.‬‬
‫و يمكن إجمال خصائص الشكل في القصيدة الوجدانية في ما يلي‪:‬‬
‫• سهولة التعبير‪ :‬راح الشاعر الوجداني الحديث يقترب من أحاديث الناس‪ ،‬موظفا لغة الحديث المألوف و لغة‬
‫الشارع كما عند العقاد في قصيدة"أصداء الشارع" من ديوان "عابر سبيل"‪ ،‬إذ أصبحت السهولة صفة أساسية في‬
‫أسلوبه‪.‬‬
‫• الصورة البيانية‪ :‬صارت تعبيرية و انفعالية و ذاتية ملتصقة بتجربة الشاعر الرومانسي‪ ،‬يريد بها شرح عاطفة أو‬
‫بيان حالة‪ ،‬بعد أن كانت عند الحيائيين زخارف و أصباغا تراد لذاتها‪.‬‬
‫• الوحدة العضوية‪ :‬ابتغى الشاعر الوجداني ربط العواطف و الحاسيس و الفكار ببعضها ربطا يظهر القصيدة‬
‫بمظهر الكائن الحي‪ ،‬لكل عضو من أعضائه دور هام يحدده مكانه من الجسد‪ ،‬فربط القافية و الوزن‪ ،‬مثل‪ ،‬بالفكار‬
‫و العواطف الجزئية ل بموضوع القصيدة بوصفه كل موحدا‪ ،‬فنظموا قصائد ذات موضوع واحد و قواف متعددة و‬
‫أوزان مختلفة‪.‬‬

‫هذه المحاولت التجديدية انحصرت على مستوى الشكل بفعل الحملة التي شنها النقاد المحافظون على هذه‬
‫الحركة التجديدية النامية و محاولتها المستهدفة للغة و الوزان و القوافي و الصور البيانية‪.‬‬
‫اصطبغت نهاية هذه التيارات التجديدية بالحزن إن على صعيد المضمون أو الشكل‪:‬‬
‫فعلى صعيد المضمون‪ :‬انحدر إلى مستوى البكاء و النين و التفجع و الشكوى‪ ،‬و هي معان ممعنة‬
‫في الضعف وتكشف عما وراءها من مرض و خذلن‪.‬‬
‫و على صعيد الشكـــل ‪ :‬فشل في مسيرته نحو الوصول إلى صورة تعبيرية ذات مقومات خاصة‬
‫و مميزات مكتملة ناضجة‪ ،‬و كان فشله بفعل النقد المحافظ الذي استمد قوته مما كان الوجود العربي التقليدي‬
‫يتمتع به من تماسك و مناعة قبل نكبة فلسطين‪ ،‬و الذي سيتغير بعد النكبة‪.‬‬

‫الفصـــــــــل الثاني ‪ :‬تجربة الغربة و الضياع‪.‬‬


‫ن الشاعر العربي الحديث بمعزل عن المؤثرات العامة المحيطة به‪ ،‬بدءا ً بواقع الهزيمة السود مع نكبة‬ ‫لم يك ِ‬
‫فلسطين عام ‪ ،‬مرورا بالمد القومي الوليد‪ ،‬وصول إلى انهيار الواقع العربي و ما أحدثه من زرع الشكوك في نفوس‬
‫المثقفين و المبدعين‪ ،‬و إسقاط كل الوثوقيات العربية التقليدية و الثوابت المقدسة و الطابوهات‪ .‬لقد مكنت كل‬
‫هذه الهتزازات الشاعر العربي الحديث من خلخلة الثوابت‪ ،‬و النفتاح على ثقافات العالم‪ ،‬شرقه و غربه‪ ،‬و كذا‬
‫على التراث العربي‪ ،‬فكان ‪:‬‬
‫‪ /1‬استيعاب الروافد الروافد الفكرية القادمة من الشرق‪ ) ،‬مذاهب صوفية‪ ،‬تعاليم متحدرة من الديانات‬
‫الهندية و الفارسية و الصابئة‪(...‬‬
‫‪ /2‬الستفادة من الفلسفات الغربية الحديثة ‪ ،‬من وجودية و اشتراكية‪...‬‬
‫‪ /3‬التفاعل مع أشعار‪ :‬بابلو نيرودا‪ ،‬و بول ايليوار‪ ،‬و لويس أراكون‪ ،‬و كارسيا لوركا‪،‬‬
‫و ماياكوفسكي‪ ،‬و ناظم حكمت‪ ،‬و توماس إليوت‪....‬‬
‫‪ /4‬التأثر بأشعار جلل الدين الرومي‪ ،‬و عمر الخيام‪ ،‬و فريد العطار‪ ،‬و طاغور‪....‬‬
‫‪ /5‬النفتاح على الثقافات الشعبية ) سيرة عنترة بن شداد‪ ،‬سيرة سيف بن ذي يزن‪،‬سيرة‬
‫أبي زيد الهللي‪ ،‬كتاب ألف ليلة و ليلة‪(....‬‬
‫‪ /6‬التعمق في القرآن الكريم‪ ،‬و في الحديث النبوي الشريف‪.‬‬
‫‪ /7‬التمعن في الشعر العربي القديم‪.‬‬

‫بكل ذلك غدا الشعر العربي الحديث وسيلة لستكشاف النسان و العالم تعبر عن ثمار الرؤيا الحضارية الجديدة‬
‫التي استقرت عند بعض الشعراء المحدثين الكبار‪ ،‬من أمثال السياب و نازك الملئكة و البياتي و صلح عبد الصبور‬
‫و خليل حاوي و أدونيس و غيرهم‪.‬‬

‫و من الموضوعات التي تسجل حضورها بكثرة في الشعر العربي الحديث‪ ،‬تجربة الغربة و الضياع التي يرجع‬
‫الدارسون عوامل بروزها إلى ثلثة هي‪:‬‬
‫)أ ( التأثر بشعر توماس إليوت‪ ،‬خاصة في قصيدته " الرض الخراب"‬
‫)ب( التأثر بأعمال بعض المسرحيين و الروائيين الوجوديين أمثال‪ :‬ألبير كامو‪ ،‬و جون بول سارتر‪،‬‬
‫و بعض النقاد مثل‪ :‬كولن ولسون‪ ،‬خاصة في دراسته عن اللمنتمي ‪ ،‬و هي أعمال ترجمت إلى اللغة العربية و‬
‫ساعدت في تبني الشباب موجة من القلق و الضجر انعكست في أشعارهم‬
‫)ج( عامل المعرفة‪ ،‬باعتبار المعرفة سلح الشاعر الحديث‪.‬‬

‫إل أن أحمد المجاطي ل يقر بكون هذه المصادر هي الوحيدة التي شكلت سبب نغمة الكآبة و الضياع و التمزق‪ ،‬بل‬
‫هو يرى أن هناك جذورا لهذه النغمة تتمثل في تربة الواقع العربي الذي حولته النكبة إلى خرائب و أطلل‪ ،‬ذلك أن‬
‫النكبة في نظره أهم عامل في الدفع نحو آفاق الضياع و الغربة بالشعر العربي الحديث‪ ،‬فليس المر مجرد نغمة‬
‫سوداء استقدمها الشعراء بقدر ما هو مأساة حقيقية مصدرها هذا الواقع المنحل و ذلك التاريخ الملوث اللذين قدر‬
‫على الشاعر العربي الحديث أن يحمل لعنتهما مما يؤكد أصالة هذه التجربة و ضرورة البحث عن جذورها في‬
‫الواقع‪ ،‬و تصوير أهم مظاهرها البارزة في القصيدة العربية الحديثة‪ ،‬و التي نذكر منها ‪:‬‬

‫‪ .1‬الغربة في الكون‪:‬‬

‫حين حلت النكبة‪ ،‬و طرد العربي الفلسطيني من أرضه‪ ،‬و نفي من أمجاده و تاريخه‪ ،‬و حاصرته المهانة و الذل‪ ،‬و‬
‫ة‪ ،‬أبلغ من‬
‫م‪ ،‬مال إلى الشك في كل شيٍء‪ ،‬و كان الشاعر بفعل حساسيته المفرط ِ‬ ‫انفصل عما حوله من أشياَء و قي ٍ‬
‫جسد هذا الميل حين جرب أن يحس بوحدته و تفرده في الكون‪ ،‬و تولى أمر نفسه بنفسه‪ ،‬فشكك في الحقائق و‬
‫مال إلى التفلسف الوجودي ) النطولوجي (‪ ،‬و تفسير الكون عقل ومنطقا‪ ،‬بفعل إحساسه بالعبث و القلق و‬
‫المرارة المظلمة‪ ،‬و ممن جسد هذا الميل نذكر‪ :‬صلح عبد الصبور‪ ،‬و السياب‪ ،‬و أدونيس‪ ،‬و يوسف الخال ‪.‬‬

‫‪ .2‬الغربة في المدينة‪:‬‬

‫آمن الشاعر العربي الحديث بأن هدف الشعر هو تفسير العالم و تغييره‪ ،‬لذا وجد في المدينة المجال النسب‬
‫لتحقيق هدفه‪ ،‬على اعتبار أنها تمثل الوجه الحضاري للمة بكل أبعاده الذاتية و الموضوعية‪ ،‬و تتخذ قناعا سياسيا و‬
‫اجتماعيا و ثقافيا و اقتصاديا ‪.‬‬
‫لكن المدينة العربية فقدت كثيرا من مظاهر أصالتها‪ ،‬حين غزتها المدينة الوربية‪ ،‬فأضحت بمصانعها الحديثة‬
‫و عماراتها الشاهقة و طرقاتها الفسيحة‪ ،‬قالبا ل يناسب واقع المة العربية المهزومة مما غذى إحساس الشاعر‬
‫العربي الحديث بالغربة في علقته بالمدينة مكانا و ناسا وقيما و أشياَء‪ ،‬فكان أن سلك في تصوير هذه المدينة‬
‫طرقا متعددة‪ ،‬فقد صورها في ثوبها المادي و حقيقتها المفرغة من كل محتوى إنساني‪ ،‬كما فعل أحمد عبد المعطي‬
‫حجازي في ديوانه )مدينة بل قلب(‪.‬كما اهتم الشاعر العربي الحديث بالناس في المدينة‪ ،‬فقدمهم صامتين يثقلهم‬
‫الحساس بالزمن‪ ،‬مشغولين بأنفسهم‪ ،‬ل يكاد يلتفت الواحد منهم إلى الخر‪.‬‬
‫و رغم هذه المواقف السلبية من المدينة فإن الشاعر الحديث لم يستطع الهروب منها إلى الريف أو الغاب‪ ،‬كما‬
‫فعل الرومانسيون‪ ،‬فقد وجد أن المدينة تحاصره‪ ،‬كما عند السياب مع بغداد‪ ،‬إذ وجد أن الخلص منها يكمن في‬
‫الموت‪ ،‬كما عند صلح عبد الصبور في قصيدة )الخروج(‪.‬‬

‫‪ .3‬الغربة في الحب‪:‬‬

‫ل ثالث يضاف إلى فشل الشاعر العربي الحديث في فهم أسرار الكون و في التأقلم مع المدينة‪ ،‬إنه فشله في‬ ‫فَ َ‬
‫ش ٌ‬
‫الحب الذي بات زيفا مصطنعا و بريقا واهما‪ ،‬ذلك أن هموم الشاعر العربي الحديث كثيرة متنوعة‪ ،‬و تركيبته‬
‫النفسية معقدة ل ينفع معها ترياق الحب بمفهومه الروحي أو المادي‪ ،‬فلم تعد المرأة بجسدها و أنوثتها و رقتها و‬
‫جمالها قادرة على تخليصه من همه القاتل‪ ،‬بل إن العلقة بين الزوجين تحولت إلى عداوة و قتال كما عند خليل‬
‫حاوي في قصيدته )الجروح السود( من ديوانه )نهر الرماد(‪ ،‬و الحب يموت كما عند عبد المعطي حجازي‪ ،‬أو يصاب‬
‫بالختناق كما عند صلح عبد الصبور‪.‬‬

‫‪ .4‬الغربة في الكلمة‪:‬‬

‫كانت رغبة الشاعر العربي الحديث أن تكون كلمته قوة و حركة وفعل‪ ،‬غير أن الزمن لم يلبث أن حول الكلمة على‬
‫لسانه إلى حجر كما قال أدونيس في قصيدة )السماء الثامنة( من ديوان )المسرح و المرايا(‪ ،‬فعاشت الكلمة بذلك‬
‫غربتها الذاتية في واقع ل يربي سوى الصدى و خنق الجهر‪ ،‬و قتل الكلم الصارخ‪ ،‬مما جعل الشاعر يلوذ بالصمت‪،‬‬
‫كما فعل البياتي في قصيدة )إلى أسماء( من ديوان )سفر الفقر و الثورة( رغم كونه عذاب و سكون و حزن‪ ،‬حين‬
‫اكتشف أن نضاله بالكلمة لن يتجاوز تصوير الواقع البشع الذي خلقته الهزيمة و حكمت عليه بمعاناته و الكتواء‬
‫بناره‪ ،‬دون أن تمتلك الكلمة ميزة الحركة و الفعل‪.‬‬

‫خلصة الفصل‪:‬‬

‫هكذا شكلت هذه التنويعات الربعة البعاد المختلفة لتجربة الغربة لدى الشاعر العربي الحديث و التي تبلورت في‬
‫مفهوم دال واحد هو ‪ :‬الغربة في الواقع الحضاري‪ ،‬سواء تمظهرت من خلل جانب واحد أو أكثر‪ ،‬فقد كان هدفه‬
‫الساس هو البحث عن الخلص الكلي إيمانا منه أن وراء كل ظلمة نورًا‪ ،‬و أن الموت نفسه وسيلة إلى الحياة حين‬
‫ل تبقى أية وسيلة أخرى‪ ،‬فكان هناك ارتباط وثيق بين معاني الضياع و الغربة و معاني اليقظة و التجدد و البعث‪ ،‬و‬
‫حصل تداخل بين بين المعاني جميعها في قصائد الشعراء المحدثين‪.‬‬

‫الفصل الثالث تجربة الحياة و الموت‬

‫لم يكن حال المة العربية كله مدعاة لليأس و الغربة و الضياع و السأم و الحزن‪ ،‬ذلك أن العشرين سنة التي تلت‬
‫النكبة قد شهدت هزات عنيفة و تغيرات واسعة شملت العالم العربي كله ‪ ،‬مما ولد حال آخر ممثل في إيقاع المل‬
‫و الحياة و اليقظة و التجدد ‪ ،‬بسبب ما تم إنجازه واقعيا و سياسيا بدءا ً بثورة مصر سنة مرورا بتأميم قناة السويس‬
‫و رد العدوان الثلثي وصول إلى استقلل أقطار العالم العربي‪...‬الشيء الذي انعكس في أشعار بعض شعراء هذه‬
‫المرحلة‪ ،‬ذكر منهم أحمد المجاطي أربعة هم ‪ :‬بدر شاكر السياب و خليل حاوي و أدونيس ‪ 1952‬و عبد الوهاب‬
‫البياتي‪.‬‬
‫ل بموت تكون معه الحياة‪،‬فعانق بذلك‬ ‫لقد رفض الشاعر من هؤلء الموت‪ ،‬موت الحياة الذي ليس بعده بعث‪ ،‬و َقب َ‬
‫الرفض و الثورة و النضال ‪ ،‬و التجدد و المل و التحول و الحياة‪.‬‬
‫يرى المجاطي أن هؤلء الشعراء هم أفضل من يمثل هذا التجاه‪ ،‬و يعدد الخصائص التي توحد بينهم في ما يلي‪:‬‬
‫• ارتباط تجربتهم بالحياة و الموت‪.‬‬
‫• ارتباط تجربتهم بالواقع الحضاري للمة‪.‬‬
‫• رغبتهم في النتصار على جميع التحديات التي تواجه الذات و الكون و الزمن و الجماعة‪.‬‬
‫• استخدامهم للمنهج السطوري‪.‬‬
‫• استشراف المستقبل‪.‬‬

‫لقد استفاد الشاعر الحديث من مجموعة من الساطير و الرموز الدالة على البعث و التجدد‪ ،‬استلهمها من الوثنية‬
‫البابلية و اليونانية و الفينيقية و العربية‪ ،‬و من المعتقدات المسيحية و من الفكر النساني عامة‪ ،‬و من هذه الساطير‬
‫نذكر‪ :‬تموز ‪ ،‬و عشتار ‪ ،‬و أورفيوس ‪ ،‬و طائر الفينيق ‪ ،‬و مهيار الدمشقي ‪ ،‬و العنقاء ‪ ،‬و السندباد ‪ ،‬و عمر الخيام ‪،‬‬
‫و الحلج‪ ...‬مما أرز منهجا نقديا و أدبيا و فلسفيا يسمى بالمنهج السطوري‪ ،‬يصوغ فيه الشاعر مشاعره و رؤاه‪ ،‬و‬
‫مجمل تجربته في صور رمزية‪ ،‬يتم بواسطتها التواصل عن طريق التغلغل إلى اللشعور حيث تكمن رواسب‬
‫المعتقدات و الفكار المشتركة‪.‬‬

‫أدونيس‪:‬‬

‫ركز الكاتب في دراسته لدونيس على ديوانيه) كتاب التحولت و الهجرة في أقاليم النهار و الليل( و ) المسرح و‬
‫المرايا (‪ ،‬فلحظ أن ما يميز تجربة الحياة و الموت عند أدونيس‪ ،‬من خللهما‪ ،‬هو صدورها عن ذات محتقنة بفحولة‬
‫التاريخ العربي‪،‬في واقع يفتقر إلى الفحولة و الخصب‪،‬و محتقنة بجموح الحضارة العربية قبل أن يسلط سيف‬
‫الستعمار على عنقها‪.‬‬
‫كان موقف أدونيس من الواقع العربي المنهار هو موقف الرافض للموت‪ ،‬لذلك كان في شعره اتجاهان‪:‬‬
‫• اتجاه ينطلق من الحيرة و التساؤل‪ ،‬و البحث عن وسيلة للبعث‪.‬‬
‫• اتجاه ينطلق من اكتشاف مفهوم التحول بصفته وسيلة لدفع الواقع العربي نحو البعث و التجدد‪.‬‬
‫و التجاهان معا متكاملن منسجمان مع موقف احتقان الذات بفحول التاريخ العربي و إمكانية البعث‪ ،‬و بإمكانية‬
‫التحول التي تدور حولها معاني الحياة و الموت عند أدونيس‪.‬‬
‫لقد كان المنهج السطوري بارزا جليا في شعر أدونيس ‪ ،‬عكس مفهوم التحول الذي انفلت من إطار هذا المنهج‬
‫أحيانا‪ ،‬ليؤسس عالما شعريا ل نهاية فيه للعمليات الكيميائية بين عناصر الذات و الشياء‪ ،‬و الروح و المادة و الحياة‬
‫و الحصاد‪ ،‬من أجل أن يتحقق النصر الكامل للحياة‪ ،‬مما جعل شعر أدونيس أقل ارتباطا بحركة التاريخ العربي‪ ،‬إذ‬
‫أمعن في تخطيها و تجاوزها طمعا في إقامة حوار غريب مع زمن لم يجئ بعد‪.‬‬

‫خليل حاوي‪:‬‬

‫عبر خليل حاوي في دواوينه الثلثة ) نهر الرماد ( و ) الناي و الريح ( و بيادر الجوع (‪ ،‬عن مبدإ آخر غير مبدإ‬
‫التحول‪ ،‬هو مبدأ المعاناة‪ ،‬الحاضر في مقدمات قصائده و في شعره‪ ،‬معاناة الموت و معاناة البعث‪ ،‬على إيقاع من‬
‫المل و اليأس بصور الخراب و الدمار و الجفاف و العقم‪ ،‬و قد وظف في شعره أسطورة تموز و أسطورة العنقاء ‪،‬‬
‫دللة على الخراب الحضاري و التجدد مع العنقاء‪.‬‬
‫و يرى أحمد المجاطي في تجربة الشاعر خليل حاوي‪ ،‬تجربة عظيمة قائمة على التوافق بينها و بين حركة الواقع‬
‫في حقبة من تاريخ المة العربية‪ ،‬و على قدرته على تجاوز ذلك الواقع و تخطيه‪ ،‬و على معاينة ملمح الواقع‬
‫المرعب المنتظر‪.‬‬
‫بدر شاكر السياب‪:‬‬

‫تناول السياب في الكثير من قصائده معاني الموت و البعث‪ ،‬فعبر عن طبيعة الفداء في الموت‪ ،‬معتقدا أن الخلص‬
‫ل يكون إل بالموت‪ ،‬بمزيد من الموات و الضحايا كما في قصيدة " النهر و الموت"‬
‫لقد عمل السياب على استثمار الطار السطوري ليحول الموت إلى فداء‪ ،‬ليجعل الفداء ثمنا للموت‪ ،‬كما فعل في‬
‫قصيدة " المسيح بعد الصلب " مثل حين استخدم رمز المسيح للتعبير عن فكرة الخلص‪.‬‬
‫و يرى الكاتب أن إدراك السياب لجدلية الحياة و الموت‪ ،‬و تحويل الموت إلى فداء‪ ،‬قد يكون له علقة بمزاجه‪ ،‬أو‬
‫التركيب الغريب لعقله الباطن‪ ،‬و يقر الكاتب أن السياب عرف كيف يفيد من ذلك في تتبع معاني الحياة و الموت‬
‫على مستوى الواقع الذاتي و الحضاري‪.‬‬
‫عبد الوهاب البياتي‪:‬‬

‫تحمل أشعار البياتي قضية الصراع بين الذات و موت الحضارة و بعثهما‪ ،‬من خلل جدلية المل و اليأس‪ ،‬و قد تمت‬
‫صياغة هذه القضية في أشعار البياتي من خلل ثلثة منحنيات هي‪:‬‬
‫‪ .1‬منحنى المل ‪ :‬و فيه انتصار ساحق للحياة على الموت‪ ،‬و تمثله العمال الشعرية التالية ‪ ) :‬كلمات ل تموت ‪/‬‬
‫النار و الكلمات ‪ /‬سفر الفقر و الثورة (‪ ،‬إذ يظهر الشاعر مناضل يعيش المل لصالح الحياة‪ ،‬فيغدو السقوط حياة ً و‬
‫ة‪.‬‬
‫الهزيمة انتصارا و الموت حيا ً‬
‫‪ .2‬منحنى النتظار‪ :‬و فيه تتكافأ الحياة مع الموت و يمثله ديوان )الذي يأتي و ل يأتي (و فيه أربعة خطوط هي‪ :‬خط‬
‫الحياة و خط الموت و خط الستفهام و خط الرجاء و التمني‪.‬‬
‫‪ .3‬منحنى الشك‪ :‬يتم فيه انتصار الموت على الحياة‪ ،‬و يمثله ديوان )الموت و الحياة(‪ ،‬و هو يكشف زيف النضال‬
‫العربي‪ ،‬لنه ل موت بدون نضال و ل بعث بدون موت‪.‬‬
‫يصل الكاتب إلى حكم مفاده أن قدرة البياتي على كشف الواقع هي سبب اهتمامه بالموت‪ ،‬و أن اهتمامه بالحياة‬
‫مصدره إيمانه بالثورة‪ ،‬و الصراع بين الحياة و الموت‪ .‬و أنه من كل ذلك تفجرت صور المل و اليأس و صور القلق‬
‫و النتظار‪.‬‬

‫خلصة الفصل‪:‬‬

‫لم يغفل المجاطي‪ ،‬و هو ينهي مقاربته هذه التجربة‪ ،‬التنويه بإضافتها النوعية المتمثلة في المضامين و كشف الواقع‬
‫و استشراف المستقبل‪ ،‬مما جعل منها تجربة مرتبطة بحركة التاريخ خلل العشرين سنة الفاصلة بين النكبة و‬
‫النكسة‪ ،‬رغم كونها لم تأت أكلها‪ ،‬و يحدد الكاتب العوامل التي حالت دون وصول هذه التجربة للجماهير العربية في‪:‬‬
‫‪ .1‬عامل ديني قومي‪ :‬الخوف مما يمكن أن تمثله هذه التجربة من تطاول على التراث باسم الشعر‪.‬‬
‫‪ .2‬عامل ثقافي‪ :‬وقوف جماعة من الشعراء و النقاد في وجه ما هو جديد‪.‬‬
‫‪ .3‬خوف الحكام من المضامين الثورية لهذه التجربة‪ ،‬مما جعلهم يلجأون إلى المصادرة و المنع و السجن و النفي‪.‬‬

‫الفصل الرابع الشـكـــل الجـــديـــد‬


‫تقديـــــــــــــــم‪:‬‬
‫إذا كان لكل تجربة شعرية إطارها السوسيوتاريخي‪ ،‬فإن لها كذلك أدواتها التعبيرية و وسائلها الفنية التي تمدها‬
‫بالقيمة الجمالية لتجعل منها تجربة متميزة متكاملة في البناء العام للقصيدة و اللغة و طريقة التعبير و توظيف‬
‫الصور البيانية و الرموز و الساطير ‪.‬‬
‫و لن الشكل الفني ليس قالبا أو نموذجا أو قانونا ‪ ،‬بل هو حياة تتحرك أو تتغير‪ ،‬فقد حرص الشاعر العربي الحديث‬
‫على تجاوز الشكل القديم‪ ،‬فأقام بناًء من التحولت التي خلخلت العناصر الساسية للشكل الشعري‪ ،‬مثل اللغة و‬
‫اليقاع و التصوير‪ ...‬و هي تحولت كان لها أثر كبير على سياق القصيدة و بنائها العام أيضا‪.‬‬
‫فما التحولت التي رأى المجاطي أنها أصابت عناصر الشكل الشعري في القصيدة العربية الحديثة ؟ ‪.‬‬

‫‪ /1‬تطور اللغة في الشعر الحديث‪:‬‬


‫يرى أحمد المجاطي أن لغة الشعر الحديث تتصف بكثير من الخصائص التي ليمكن أن تظهر من دراسة ديوان‬
‫واحد‪ ،‬بل تحتاج لكثير من التأمل و البحث في لغة الشعر الحديث‪ ،‬و هي الخصائص التي يسميها الناقد ب‬
‫) المميزات الثورية للغة الشعر الجديد( و منها ‪:‬‬
‫• النفس التقليدي في لغة الشعر الحديث‪ :‬لغة جزلة و عبارة فخمة و سبك متين‪ ،‬على غرار الشعر القديم ‪ ،‬وتبدو‬
‫هذه الخاصية عند السياب في دواوينه القديمة و المتأخرة‪ ،‬خاصة قصيدته " مدينة بل مطر" و قصيدة " منزل‬
‫القنان" ‪.‬‬
‫• البعد عن لغة الحديث اليومية‪ :‬كما عند أدونيس و البياتي و محمد عفيفي مطر و صلح عبد الصبور‪ ،...‬إذ تبتعد‬
‫لغة الشعر عندهم عن لغة الحديث الحية بعدا يمنح مفرداتها قيما و دللت مغايرة لما تحمله في الستعمال الشائع‪.‬‬
‫• السياق الدرامي للغة الشعر الحديث‪ :‬كما نجد عند محمد مفتاح الفيتوري في قصيدته " معزوفة لدرويش‬
‫متجول" إذ يشغل لغة درامية متوترة نابعة من صوت داخلي منبثق من أعماق الذات‪ ،‬و متجها إليها‪.‬‬

‫‪ /2‬التعبير بالصورة في الشعر الحديث‪:‬‬


‫لقد تجاوز الشاعر الحديث الصور البيانية المرتبطة بالذاكرة التراثية عند الشعراء الحيائيين‪ ،‬و الصور المرتبطة‬
‫بالتجارب الذاتية عند الرومانسيين ‪ ،‬إلى صور تقوم على توسيع مدلول الكلمات من خلل تحريك الخيال و التخييل و‬
‫تشغيل النزياح و الرموز و الساطير و توظيف الصورة‪ /‬الرؤيا و تجاوز اللغة التقريرية المباشرة إلى لغة اليحاء‪.‬‬
‫و لعل تجاوز الشاعر للصورة البيانية قد ساهم في إبعاد تجاربه الشعرية عن دوق عامة الناس‪ ،‬مما منحهم نوعا من‬
‫التبرير لوصف الشعر الحديث بالغموض‪.‬‬

‫‪ /3‬تطور السس الموسيقية للشعر الحديث‪:‬‬


‫إن الشاعر الحديث و هو يسعى إلى بناء نظام موسيقي جديد‪ ،‬لم يكن يهدف إلى هدم الصول الموسيقية الموروثة‪،‬‬
‫بل كان غرضه أن يتحرر من بعض القيود بالقدر الذي يمنح له من الحرية ما يسعفه في التعبير عن عواطفه و‬
‫أحاسيسه و فكره‪ ...‬و لشك في أن ذلك القدر من الحرية الذي تمتع به قد أتاح له أن يطوع تلك القوانين و أن‬
‫يطورها ‪ ،‬و أن يضيف إلى الخصائص الجمالية للبحور التقليدية ‪ ،‬خصائص جمالية أخرى تستمد أصولها من التطور‬
‫الذي أصاب المضامين الشعرية نفسها‪.‬‬
‫لقد وجد الشاعر نفسه‪ ،‬قديما‪ ،‬متقبل خاضعا لقيود صرامة البيت و سياقه الهندسي‪ ،‬مما عطل تطور نظام‬
‫موسيقى الشعر حتى أواخر العقد الخامس من القرن العشرين‪ ،‬حيث تحققت تطورات في الطار الموسيقي‬
‫للقصيدة العربية منها‪:‬‬
‫• تجاوز نظام الشطرين لصالح السطر الشعري‪.‬‬
‫• السطر الشعري قد يطول و قد يقصر بحسب ما يتضمن من نسق شعوري أو فكري‪.‬‬
‫• طول ذلك السطر قد يتراوح ما بين تفعيلة واحدة و تسع تفعيلت‪.‬‬
‫• إذا كان عدد التفعيلت في أية قصيدة تراثية محددا ً و محصورا ً تتوزعه العجاز و الصدور‪ ،‬فإن التفعيلت في‬
‫القصيدة الحديثة تمثل عددا ً ل يحيط به الحصر‪.‬‬
‫• ينظم الشاعر الحديث على ستة بحور هي المعروفة بالصافية و هي‪ :‬الهزج )مفاعيلن(‪ ،‬و الرمل )فاعلتن(‪ ،‬و‬
‫المتقارب )فعولن(‪ ،‬و المتدارك )فاعلن(‪ ،‬و الرجز )مستفعلن(‪ ،‬و الكامل )متفاعلن(‪.‬‬
‫د‪.‬‬
‫• أصبح بمقدور الشاعر أن يستخرج من البحر الواحد أكثر من بناٍء موسيقي واح ٍ‬
‫• امتاز نظام التفعيلة بالمرونة و الطواعية‪.‬‬
‫• الخلط بين البحور داخل قصيدة واحدة‪ ،‬في محاولة لتفتيت وحدة البيت فيها‪ ،‬كما عند السياب في قصائده من‬
‫ديوان " شناشيل ابنة الجلبي"‪ ،‬و أدونيس في قصيدة" مرآة لخالدة" من ديوان " المسرح و المرايا"‪.‬‬
‫يرى أحمد المجاطي أن البحور المختلطة رغم ما تتوفر عليه من طاقات موسيقية كبيرة فهي لم تستغل لسباب‬
‫منها‪:‬‬
‫س بالرتابة و الملل ناتج عن اعتماد التفعيلة كوحدة إيقاعية ثابتة‪ ،‬و لتكسير حد‬ ‫ٌ‬ ‫إحسا‬ ‫تولد‬ ‫‪:‬‬ ‫الزحاف‬ ‫مسألة‬ ‫‪.1‬‬
‫القافية و منحها مزيدا من التنوع و التلوين‪ ،‬لجأ الشاعر الحديث إلى الكثار من استعمال الزحاف‪ ،‬فكان أن حصل‬
‫الشاعر على أكثر من إيقاع من دون أن يلجأ إلى البحور المختلطة‪.‬‬
‫‪ .2‬تنويع الضرب ‪ :‬بهدف التنويع في اليقاع و التلوين في النغم‪ ،‬عمد الشاعر الحديث إلى‪:‬‬
‫د‪ ،‬كما في أبيات عبد الصبور ) مستفعلن (‪.‬‬ ‫• توظيف تفعيلت تعود إلى أصل واح ٍ‬
‫• تنويع الضرب دون الكتراث بقيود القافية‪.‬‬
‫د‪ ،‬مثل‪ :‬الرجز و السريع‪.‬‬‫• إدماج بعض البحور المتشابهة في بحر واح ٍ‬
‫‪ .3‬فاعل في حشو الخبب ‪ :‬تظل مسألة تنويع الضرب و القافية تلوينات مقبولة و ملتزمة بقوانين علم‬
‫العروض‪ ،‬إل أن الخروج عن هذه القوانين يتمثل في استعمال )فاعل( بدل )فاعلن( في حشو بعض‬
‫أبيات الشعر الحديث‪ ،‬و هو خروج أصبح متفشيا في كثير من قصائد الشعر المعاصر الجديد‪ ،‬و مستساغا من قبل "‬
‫الرأي العام" على حد تعبير كل من محمد النويهي و عز الدين إسماعيل‪.‬‬
‫‪ .4‬مسألة التدوير ‪ :‬إن حركة المشاعر و الفكار و الخيلة قد تأخذ شكل دفقة تتجاوز‪ ،‬في اندفاعها‪،‬‬
‫حدود الشطر أو البيت الشعريين‪ ،‬مما نتج عنه نتيجتين‪:‬‬
‫• الولى‪ :‬تبرز في التعبير عن الدفقة دون الوقوع في التدوير‪ ،‬و بالتالي اللجوء إلى استعمال تفعيلة خماسية أو‬
‫تساعية كما ورد عند نازك الملئكة و خليل حاوي‪.‬‬
‫• الثانية‪ :‬و تظهر في اتساع الدفقة الشعورية و بالتالي الوقوع في التدوير الذي يتخلص من صرامة البيت ذي‬
‫الشطرين و من انتظامه في نسق هندسي رتيب‪.‬‬

‫‪ /4‬نظام القافية في الشعر الحديث‪:‬‬


‫يمكن تلخيص التغييرات التي مست القافية باعتبارها جزءا ً من البناء العام للقصيدة في ما يلي‪:‬‬
‫د‪.‬‬
‫• اللتزام بالقافية باعتبارها نظاما إيقاعيا دون اللتزام بحرف روي واح ٍ‬
‫• الربط بين إيقاع البيت و إيقاع القافية‪.‬‬
‫• التخلي عن القافية باعتبارها المرمى الفقي النهائي للجمل المختلفة‪ ،‬و جعلها محطة وقوف اختيارية تستجمع‬
‫فيها الدفقة الشعورية أنفاسها‪.‬‬
‫• جعل القافية لبنة حية في البناء الموسيقي العام للقصيدة‪.‬‬
‫• إخضاع البناء الموسيقي لحركة المشاعر و الفكار‪.‬‬
‫عرفت بها القوالب الموسيقية التقليدية ‪.‬‬ ‫• البتعاد عن النزعة الهندسية الحادة التي ُ‬

‫و يرى الكاتب في آخر الكتاب أن الحداثة من العوامل التي كانت وراء وصف الشعر العربي الحديث بالغموض‪ ،‬إلى‬
‫جانب ما تتطلبه القصيدة الحديثة من إعمال للجهد و استلزام لذوق قرائي جديد ‪ ،‬ثم انفصال هذا الشعر عن‬
‫الجماهير ما دام ل ينزل معها إلى ساحة المقاتلة و النضال و الصراع ضد قوى الستغلل و البطش و ل يشاركها في‬
‫معاركها الحضارية ‪.‬‬

‫القضايا النقدية في كتاب " ظاهرة الشعر الحديث"‬

‫إن قراءة كتاب أحمد المجاطي تجعلنا نقف على جملة قضايا نقدية عمل الكاتب على طرحها و مناقشتها و إبداء‬
‫رأيه وفيها‪ ،‬و يمكن إجمال أهم هذه القضايا في ما يلي ‪:‬‬
‫‪ .1‬دور التجربة الذاتية‪:‬‬
‫يخلص المجاطي إلى أن تطور الشعر عموما يتنج عن تحقق عاملين يتمثلن في الحتكاك بالثقافات و الداب‬
‫الجنبية‪ ،‬و توفر مقدار من الحرية للشعراء يمكنهم من التعبير عن تجاربهم‪ .‬و قد أدى تفاعل هذين العاملين في‬
‫الشعر العربي الحديث إلى ظهور تيارات مختلفة في الخصائص و متفقة في الهدف ) إخراج الشعر العربي من‬
‫إطار التقليد إلى حدود التعبير عن التجربة الذاتية كما يعيشها الشاعر(‪ ،‬منها الديوان و أبوللو و الرابطة القلمية‪ ...‬و‬
‫قد أرجع المجاطي سبب الهتمام بقضية الذات في الشعر العربي إلى ‪:‬‬
‫• ظهور البورجوازية الصغيرة على مسرح الحداث في مصر‪ ،‬و اللتحام بيم الجيال الصاعدة و بين الحضارة‬
‫الحديثة‪.‬‬
‫• معاناة شخصية الفرد المصري من انهيار تام ‪ ،‬و محاولة إعادة العتبار إلى ذاته المسحوقة‪.‬‬
‫• تشبع شعراء هذه التيارات بالفكر الحر‪ ،‬مما مكنهم من فرص التعبير عن أنفسهم بكل حرية‪.‬‬
‫و إذا كان شعراء هذه التيارات قد استطاعوا التمرد على بنية القصيدة التقليدية و موضوعاتها‪ ،‬فإنهم قد ظلوا‬
‫حبيسي معاني اليأس و التردد و القناعة و الستسلم‪ ،‬رافضين النفتاح على الحياة المتجددة‪ ،‬حتى أثروا في من‬
‫جدة و الطرافة‪.‬‬‫جاء بعدهم‪ ،‬فتشابهت التجارب‪ ،‬و كثر الجترار‪ ،‬وقلت فرص ال ِ‬

‫‪ .2‬الغتـــراب‪:‬‬
‫يرى بعض الدارسين أن قضية الغتراب في شعرنا الحديث ليست إل نوعا من التأثر بأحزان الشاعر الوروبي‬
‫الحديث)شعر ت‪.‬س‪.‬إليوت( ‪ ،‬إل أن المجاطي ينظر إلى هذه القضية في شموليتها و كليتها‪ ،‬ذلك أن الشاعر العربي‬
‫الحديث إذا كان قد تأثر بهذه الرؤية الوافدة ‪ ،‬فإنه قد استجاب لها لن الواقع العربي يتوفر على مشيرات كافية‬
‫تسمح له بذلك‪.‬‬
‫إن أبعاد قضية الغتراب و الحزن في شعرنا العربي الحديث تدور كلها حول موقف الذات الواعية من الكون و من‬
‫المجتمع و من نفسها ‪ .‬و هي في محاولتها التوازن تبحث عن كل وسيلة‪ ،‬تبحث عن الموت نفسه‪ ،‬كما تبحث عن‬
‫الجنون‪ ،‬فإن عز منالها فإنها تبحث عن الحب‪ ،‬و لكن الحب نفسه يكون قد مات مع فقدان القدرة عليه‪ ،‬فل يبقى إل‬
‫الضياع‪.‬‬
‫و الحق أن نزعة الغتراب و الحزن في شعرنا الحديث قد أضافت إلى التجربة الشعرية بعامة آفاقا جديدة زادتها‬
‫ثراًء و خصبًا‪ ،‬كما أنها ولدت طاقات تعبيرية لها أصالتها و قيمتها ‪.‬‬

‫‪ .3‬اللغة في الشعر الوجداني‪:‬‬


‫يرى المجاطي أن سهولة اللغة تعتبر من خصائص الشكل في القصيدة الوجدانية الحديثة‪ ،‬و المقصود بالسهولة‬
‫القتراب من لغة الحديث المألوف‪ .‬و أن الشاعر الوجداني لم يكن يلجأ إليها للتعبير عن همومه اليومية الصغيرة‬
‫فحسب‪ ،‬بل عبر بها عن تجارب أعمق و أشد تجريدا‪.‬‬
‫كانت بواعث الشعراء الوجدانيين في هذا السياق تتمثل في التحرر من الرؤية التقليدية في التعامل مع اللغة‬
‫العربية بالتراث الشعري و النثري‪ .‬فإذا كانت بواعث الحياء موضوعية مرتبطة بالبحث عن مخرج من وهاد التخلف‬
‫التي آل إليها الدب العربي عموما في عصور النحطاط‪ ،‬فإن بواعث الشعراء الوجدانيين ذاتية تهم اختيار أنسب‬
‫الوسائل اللغوية للتعبير عن حقيقة الذات و جوهرها دون تكلف أو تقليد‪.‬‬

‫‪ .4‬موضوعة الحياة و الموت ‪:‬‬


‫اقتنع العديد من الشعراء العرب بأن موت الحضارة العربية ليس موتا نهائيا‪ ،‬بل هو المرحلة الضرورية التي تسبق‬
‫البعث و النبعاث‪ ،‬و هو فاتحة لعصر جديد‪ .‬و قد وجدوا في الساطير و الرموز الحضارية التي تعتبر أن النبعاث يأتي‬
‫بعد الموت ) أساطير‪ :‬الفينيق أو عشتار أو الخضر‪ ،(...‬مجال واسعا لتأكيد تصورهم ذاك‪ ،‬إل أن تعامل شعراء‬
‫الحداثة مع هذا الموضوع تم بطرق مختلفة ‪ ) :‬أدونيس‪ :‬التحول عبر الموت (‪ ) ،‬خليل حاوي‪ :‬معاناة الموت و الحياة‬
‫(‪ ) ،‬السياب‪ :‬الفداء في الموت (‪ ) ،‬البياتي‪ :‬جدلية اليأس و المل(‪.‬‬

‫‪ .5‬الشعر الحديث رؤيا ‪:‬‬


‫يقدم مضمون الشعر العربي الحديث رؤى استشرافية متراوحة بين المل واليأس حسب طبيعة الشعراء و‬
‫خلفياتهم‪ ،‬و كيفية تفاعلهم مع الواقع ‪ .‬و قد دافع المجاطي عن رؤيا شعراء الحداثة و رفض تحميلهم جزءا ً من‬
‫أسباب النكبة‪.‬‬
‫و تبدو قضية الرؤيا مرتبطة بمدى تأثير القصيدة الحديثة على المتلقي العربي‪ ،‬هذا التأثير الذي كان ضعيفا لن‬
‫الصلة بين هذا الشعر و القارئ العربي لم تكن موصولة لدواٍع سياسية و دينية و قومية‪.‬‬

‫‪ .6‬الغموض في الشعر الحديث ‪:‬‬


‫يرى المجاطي أن هذا الشعر ليس غامضا في ذاته‪ ،‬و أن مرد هذا الغموض المفترض إلى تجديد شكل القصيدة و‬
‫التغيير في نظامها اليقاعي و تطوير صورها و كذا توظيف الرموز و الساطير و النفتاح على الثقافة النسانية مع‬
‫ما يتطلبه المر من وجود قارئ مؤهل و ملم بهذه المرجعيات‪ ،‬إضافة إلى عدم تواصل الجماهير مع هذا الشعر‬
‫لسباب دينية و سياسية و قومية‪ .‬كل هذه السباب و غيرها أدى إلى الحكم علي هذا الشعر بالغموض‪.‬‬

‫‪ .7‬الشعر الحديث و الثورة و الجماهير‪:‬‬


‫يعتقد المجاطي أن الثورية الموجودة في الشعر العربي الحديث كانت واحدة من العوامل التي دفعت الحاكمين إلى‬
‫التخوف منه‪ ،‬و العمل على خلق فجوة بينه وبين الجماهير‪ .‬يضاف إلى ذلك التخوف القومي و الديني الذي اعتبر أن‬
‫هذا الشعر يعمل على تحطيم المرتكزات الساسية للمة‪ ،‬و التخوفات السياسية المرتبطة بالخوف من المضامين‬
‫الثورية لهذا الشعر‪ ،‬المتماهية مع مفهوم اللتزام الذي ساعد في توجيه حركة الحداثة الشعرية في بداياتها‪ ،‬و جعلها‬
‫تبحث عن التفاعل مع القضايا العامة‪ ،‬و تبحث عن مقومات تساعد على تطوير المكونات الفنية‪.‬‬

‫‪ .8‬مقومات التطوير في القصيدة الحديثة‪:‬‬


‫ينطلق تصور الكاتب من أن التجديد ينبغي أن يكون كليا‪ ،‬و إل فإنه ليس تجديدًا‪ .‬و لذلك نجده ينتصر للقصائد التي‬
‫طورت المضامين و الشكال و اللغة و الصور‪ ،‬على حساب تلك التي جددت المضامين و اللغة و أهملت الجوانب‬
‫الخرى‪.‬‬
‫لقد دافع المجاطي عن التطوير الشامل‪ ،‬لكنه ظل معتدل في تناوله لبعض الجوانب مثل ‪:‬‬
‫• اللغة الشعريــة‪ :‬التي أكد أنها ل ينبغي أن تكون مماثلة للغة اليومية‪ ،‬لن ذلك سيجعلها أكثر اقترابا من السطحية‪.‬‬
‫• موسيقى الشعر‪ :‬رفض المجاطي اعتبار الشعر الحديث ظاهرة عروضية ‪ ،‬و أكد أن ما أصبح يتحكم في هذه‬
‫الموسيقى هو الدفقة الشعورية التي توجه الجمل الشعرية و السطر الشعرية و البيات‪.‬‬
‫• الصور البيانية‪ :‬عرفت تطورا مهما باعتمادها الرموز و الساطير‪ ،‬و لم تعد مجرد صور جزئية متفرقة‪ ،‬بل غدت‬
‫صورا مرتبطة بالقصيدة كلها ‪ ،‬وبشعر الشاعر ككل‪.‬‬

‫القراءة الهيكلية الجهاز المفاهيمي المعتمد في الكتاب‬


‫تـــقــديـــم‪:‬‬
‫تعتمد كل دراسة نقدية كل جهاز مفاهيمي يوظفه الكاتب في مقاربة موضوعه ‪ ،‬و هذا الجهاز يتميز بوجود شكل من‬
‫أشكال التطابق و النسجام بين الموضوع المدروس و الدوات و الوسائل المنهجية المعتمدة‪.‬‬
‫و لن الجهاز المفاهيمي في كتاب " ظاهرة الشعر الحديث" للستاذ أحمد المجاطي ‪ ،‬جهاز متشعب ‪ ،‬يستحيل جرد‬
‫كافة مفاهيمه‪ ،‬في مقاربة مثل هاته‪ ،‬فسنكتفي باستخراج المفاهيم المحورية و الكثر إفادة في دراسة الكتاب‪ ،‬و‬
‫التي يمكن أن نذكر منها‪:‬‬
‫‪ .1‬الشكل الجديد‪:‬‬
‫يقصد به الكاتب الحالة الجديدة التي أصبحت عليها القصيدة العربية الحديثة إثر تغير مضامينها و محتوياتها‪ ،‬مما‬
‫يثبت العلقة الجدلية بين الشكل و المضمون في البداع الدبي ‪ ،‬فكلما تحول مجال اهتمام المضامين‪ ،‬و تغيرت‬
‫طبيعة القضايا الصادرة عنها‪ ،‬كلما تحول الشكل التعبيري و الصياغة الفنية و الجمالية التي تعرض من خللها هذه‬
‫المضامين‪ .‬و تتمثل المكونات البنائية التي مسها التحول و التغيير في ‪:‬‬
‫* لغة القصيدة‪ * .‬صور القصيدة ‪ * .‬بناء القصيدة ‪ * .‬موسيقى القصيدة‪.‬‬
‫‪ .2‬الغربة ‪ /‬الغتراب‪:‬‬
‫يعتبر هذا المفهوم من أكثر المفاهيم تداول في الكتابات التي تطرح مشاكل المجتمع الحديث‪ .‬و رغم تعدد و تباين‬
‫تعاريف هذا المفهوم‪ ،‬فإن هناك عناصر مشتركة بينها هي ‪ :‬النسلخ عن المجتمع‪ /‬العزلة أو النعزال‪ /‬العجزعن‬
‫التلؤم ‪ /‬الخفاق في التكيف مع الوضاع السائدة‪ /‬اللمبالة‪ /‬عدم الشعور بالنتماء‪ /‬عدم الشعور بمغزى الحياة ‪.‬‬
‫إن الغربة التي أحس بها الشاعر الحديث ناتجة عن إحساسه بأنه يعيش وسط أبناء جنسه غريبا عنهم‪ ،‬إنه اغتراب‬
‫عن مجتمع انعدمت فيه القيم ‪ .‬و الشاعر الحديث‪ ،‬إذ يشعر بالغتراب عن منابع ذاته الحقيقية‪ ،‬يشعر في الوقت‬
‫نفسه بالخيبة و اللم ‪ ،‬فينمو لديه شعور حاد برفض النظام الذي يسير عليه العالم‪ ،‬وبرفض نفاق العصر و مجتمع‬
‫الحياد و اللمبالة‪ ،‬مجتمع الوهام و الحقائق المزيفة و العلم الميت‪ .‬و من تم يجد الشاعر نفسه عاجزا عن توكيد‬
‫ذاته في الديمومة أو التاريخ ‪ .‬إنه يتحرك في زمن جزئي متقطع يسحقه و يبعثره‪ .‬لذلك فالشعر عنده يبقى خيمة‬
‫مسكونة بالحسرات‪ ،‬و فضاًء مملوءا ً بالتجاويف و صدإ ِ الغي ِ‬
‫ث‪.‬‬
‫‪ .3‬اللشعور الجمعي‪:‬‬
‫و هو مفهوم صاغه كارل غوستاف يونغ‪ ،‬و يعني أن اللشعور يستمد تجاربه من الموروث النساني العام ‪ ،‬و ليس‬
‫من تجارب الفرد الشخصية فقط‪ .‬و هذا ما جعل الحديث عن هذا المفهوم برتبط بالحديث عن الرموز التي كررها‬
‫النسان في كل زمان و مكان‪ ،‬و شكلت النماذج الصلية التي كثيرا ما توجه السلوكات و التمثلت البشرية شأنها‬
‫في ذلك شأن الساطير التي تشكل خلصة التجربة البشرية عبر كل الزمنة‪ ،‬لذلك لم يكن مستغربا أن يجد القارئ‬
‫تشابها بين مضامين الكثير من الساطير و الرموز‪.‬‬
‫‪ .4‬لغة الشعر‪:‬‬
‫مصطلح يطلق على اللغة التي تمنح البداع ما يميزه عن الكلم اليومي و المتداول‪ ،‬فرغم أن المواد التي يعتمدها‬
‫الشاعر هي نفسها التي يستعملها كل متكلم‪ ،‬إل أن الوظائف التي تؤديها لغة القصيدة تختلف عن غيرها‪ .‬ذلك أن‬
‫المواد الصوتية و المعجمية و التركيبية و الدللية توظف بطريقة تمنح للوظيفة الشعرية الولوية على غيرها من‬
‫الوظائف الخرى‪ ،‬وذلك بخلقها أثرا جماليا يجعلها منزاحة عن اللغة اليومية أو اللغة العلمية أو غيرها من اللغات‬
‫التي تبحث عن تواصل مباشر و شفاف‪.‬‬
‫‪ .5‬الرؤيا‪:‬‬
‫يقصد بشعر الرؤيا ذلك النمط من البداع الشعري القائم على إنتاج نصوص بوعي مسبق يرفض محاكاة النماذج‬
‫الشعرية السابقة‪ ،‬و يؤمن بأن البداع يقع خارج المتداول و المألوف‪ ،‬و أنه ليس تصويرا للواقع‪ ،‬بل هو كشف جديد‬
‫لعلقاته الضمنية و غير المباشرة‪ ،‬و أن الشياء المادية و المحسوسة و المعيشة ليست سوى تفاصيل و جزئيات‬
‫يتجاوزها شاعر الرؤيا بتشييده لرؤياه التي تغوص في أعماق الحقائق غير المرئية مستحضرة تجربة الذات في‬
‫تفاعلها مع التجربة المجتمعية و النسانية و هو ما يفسر توظيفه للرموز و الساطير‪.‬‬

‫دا!‬
‫أحمد عبد المعطي حجازي يكتب‪ :‬آن يا شعر أن نفك قيو ً‬

‫‪٢٠٠٧ /١٢ /١١‬‬


‫في الفن كما في الحياة‪ ،‬ل يكفي أن توصف لنا التجربة‪ ،‬وإنما يجب أن نعيشها‪.‬‬

‫ل يكفي أن يوصف لنا الطعام الجيد لنشبع‪ ،‬أو يقال لنا إن سيمفونية بتهوفن التاسعة ألفت من مقام ري صغير‪ ،‬أو‬
‫أن معابد الكرنك أقيمت قبل أربعة آلف عام لعبادة آمون ‪ -‬ل يكفي أن يقال لنا هذا لتعرف السيمفونية أو المعبد‪،‬‬
‫وإنما يجب أن نتصل بهما اتصال ً مباشًرا‪ .‬ونتلقاهما بكل ما نملك من حواس وطاقات وملكات لننفعل بهما‪ ،‬وندرك‬
‫ما فيهما من روعة وجمال‪.‬‬

‫وكذلك في الشعر‪ .‬فليس يكفي أن يقول لنا النقاد إن معلقة طرفة بن العبد منظومة في بحر الطويل‪ ،‬وإنها يحدث‬
‫تقويمه إيجابا وسلبا‪.‬‬
‫عن الحب والموت والحياة‪ ،‬أو إن قصيدة شارل ودلير »القطط« كتبت في قالب السونيت‪ ،‬وأن القطط في هذه‬
‫توجيه‬ ‫النقد‬ ‫وظائف‬ ‫أهم‬ ‫ومن‬ ‫النقدي‪.‬‬ ‫العمل‬ ‫بها‬ ‫يمده‬ ‫(‪،‬‬‫‪feed‬‬ ‫‪back‬‬ ‫)‬ ‫راجعة‬ ‫تغذية‬ ‫عملية‬ ‫خلل‬ ‫من‬
‫كانت تعبيًرا عن النطواء والحرية‪ ،‬وبالتالي ربما كانت القطة رمًزا للشاعر ‪ -‬ل يكفي أن يقال لنا هذا‬ ‫المبدع‬
‫توجيهربما‬
‫القصيدة‬
‫والضعف في‬ ‫القوة‬ ‫مواطن‬ ‫وكشف‬ ‫سواء‪.‬‬ ‫حد‬ ‫على‬ ‫الكتاب‬ ‫ولكبار‬ ‫المبتدئين‬ ‫للمبدعين‬ ‫الطريق‬ ‫وإضاءة‬
‫المعلقة أو القصيدة‪ ،‬وإنما يجب أن نقرأهما علي النحو‪ ،‬الذي نستطيع به أن نحس الشعر وننفعل به‬ ‫البداع‪،‬‬ ‫دفة‬
‫لنتذوق‬
‫المبدعين بما‬
‫وفي هذا‬ ‫النقدبأن يعاش‪.‬‬ ‫كمال يعرف‬
‫يعرف إل‬ ‫والتصنع‪.‬‬
‫الحياة‬ ‫والصنعة‬
‫مثله مثل‬ ‫والتكلف‪،‬قلت‬
‫والطبعالفن كما‬ ‫والرداءة‪،‬‬
‫والرموز‪ ،‬لن‬ ‫الجودة‬
‫المعاني‬ ‫بينمن‬ ‫والتمييز‬
‫نستطيع‬ ‫البداعي‪ ،‬ما‬
‫ونستخرج منه‬‫الثر‬
‫وتصوراتهليالجمالية‬
‫المعتصم‪:‬‬ ‫حولومدارسه‬
‫الموسيقي‪ .‬قال‬ ‫التجديد‬
‫طرائقحوار‬ ‫ويجلي لهم‬
‫المعتصم من‬ ‫والممارسة‪،‬‬
‫الخليفة‬ ‫النظريةبينه وبين‬
‫فيعما دار‬ ‫إسحق تطور‪،‬‬
‫الموصلي‬ ‫البداع من‬ ‫المعنيإليه‬
‫يحدثنا‬ ‫وصل‬
‫التقليد‪.‬‬ ‫عن‬ ‫إبعادهم‬ ‫قصد‬ ‫والفنية‪،‬‬
‫أخبرني عن معرفة النغم وبينها لي‪ .‬فقلت‪ :‬إن من الشياء أشياء تحيط بها المعرفة ول تؤديها الصفة!‬ ‫والفلسفية‬

‫دا لم يسبقه في صنعة الغناء والضرب علي العود‪ ،‬وكان فضل ً عن ذلك‪ ،‬أديًبا‬ ‫الذي يقال عنه إن أح ً‬ ‫الثاني‪:‬‬ ‫المدخل‬
‫الموصلي‬ ‫إسحق‬
‫العشرينيستطاع وصفه من فن الموسيقي وتأثير هذا الفن‪ ،‬ل لنه‬ ‫وصف مال‬ ‫القرن‬‫فيعن‬ ‫المغرب‬
‫بعجزه‬ ‫أن يقر‬ ‫فيفي‬‫الدبي‬
‫النقديحر ً‬
‫جا‬ ‫المسارل يجد‬
‫فا‪،‬‬
‫مثق ً‬
‫وحولها هو‬
‫فحسب‪ ،‬بل‬‫وتستولد منها‬
‫ليس إتقاًنا‬ ‫عليها‬
‫الفن‬‫وتشتغل‬
‫تقرأهافي هذا‬
‫العجاز‬‫قبلية‬‫إبداعية أن‬ ‫تتطلب مادة‬
‫أسراره‪ ،‬ويعلم‬ ‫ويعرف‬ ‫بعدية‬ ‫قرائية‬
‫حقيقته‬ ‫فاعلية‬
‫يدرك‬ ‫الدبيلنه‬
‫بالعكس‬ ‫النقد‬
‫كان بل‬
‫يجهله‪،‬‬‫إذا‬
‫وهويتطلب )وعيا( نظريا ومنهجيا‪ ،‬يضبط صنيعه‬ ‫يعاش!‬ ‫لوتائرها‪،‬‬
‫يوصف بل‬‫والمحركة‬
‫لخطابهاحال ل‬
‫البانيةالطرب‬ ‫وإشكالتها‬
‫موهبة‪ ،‬وأن‬ ‫وتأملتها‬
‫روحية أو‬ ‫طاقة‬ ‫أسئلتها‬
‫ضا‬
‫أي ً‬
‫ويجعله على بينة كافية بالصنيع الدبي الذي يتعامل معه‪ ،‬فإنه لم يكن بالمكان‪ ،‬قبل ستينيات القرن العشرين‪،‬‬
‫الحديث عن )مشهد نقدي( في المغرب‪ ،‬وإنما كانت هناك كتابات لبعض الدباء المغاربة هي عبارة عن ردود عفوية‬ ‫***‬
‫وملحظات انطباعية تقييمية‪ ،‬أكثر منها كتابات نقدية‪ .‬ومن هؤلء الدباء نذكر‪ :‬عبد الله كنون‪ ،‬وأحمد زياد‪ ،‬وعبد‬
‫الرحمان الفاسي‪ ،‬ومحمد بلعباس القباج‪. . .‬‬
‫لكن لدينا من قراء الشعر وحتي من نقاده‪ ،‬من يختصر هذه المعرفة الحية وينزل بها إلي أدني مستوياتها‪ ،‬فيكتفي‬
‫فا‪ ،‬ويفرغ منه علي عجل ليقرر بهذه القراءة السطحية رأيه فيه‬ ‫بقراءة ما يصادفه من شعر الشاعر يخطفه خط ً‬
‫عوامل يروج‬ ‫النطلقة‬
‫الكلم الذي‬ ‫وراء هذه‬
‫سمعه من‬ ‫وكانت‬
‫قرأه أو‬ ‫المغرب‪،‬بما‬
‫شعر الشاعر‬ ‫الحديث في‬
‫عن قراءة‬ ‫النقدي‬
‫هؤلء‬ ‫)الوعي(‬
‫الواحد من‬‫انطلق‬ ‫وقدنقطة‬
‫يستغني‬ ‫عليه‪،20.‬‬
‫ستينيات ق‬
‫ويبني حكمه‬‫كانت‬
‫‪:‬‬ ‫التي‬ ‫في‬ ‫تلخيصها‬
‫في بعض الفترات لسباب ل علقة لها بالشعر‪ ،‬فيقف هذا الكلم الرائج بين الناس وبين موضوعه يحجبه عنهم‪،‬‬ ‫يمكن‬ ‫سوسيوثقافية‪،‬‬ ‫وملبسات‬
‫الداخلية‪.‬‬ ‫لمشاكله‬
‫نفسه‪.‬‬ ‫وتفرغههو عن‬
‫السياسي يقدمه‬
‫استقلله عنه ل بما‬
‫علىبما يشاع‬ ‫المغربيروه‬
‫عليهم أن‬ ‫حصول‬
‫ويفرض‬ ‫‪/1‬‬
‫‪ /2‬انطلقة الجامعة المغربية‪ ،‬وتأسيس كلية الداب والعلوم النسانية‪.‬‬
‫‪ /3‬ظهور أعمال أدبية تنتمي لجناس أدبية حديثة‪.‬‬
‫متخصصة(التقليد والمحاكاة بما تثيره هذه‬ ‫غالًبا لمعني‬ ‫الذهن‬
‫أدبية‬ ‫مجلت‬‫فينصرف‬‫تقليدي‪،‬ثقافية‪،‬‬
‫شاعر ملحق‬ ‫للصحافةإنه‬
‫الدبية )‬ ‫حافظ إبراهيم‬
‫النسبي‬ ‫عن‬ ‫يقال مثل ً‬
‫الزدهار‬ ‫‪/4‬‬
‫تلون هذه القراء ة‬ ‫أو‬ ‫إبراهيم‪،‬‬ ‫حافظ‬ ‫شعر‬ ‫قراءة‬ ‫علي‬ ‫تشجع‬ ‫ل‬ ‫سلبية‬ ‫انطباعات‬
‫انفتاح المغرب على لحركة الثقافية والدبية في المشرق العربي )القاهرة‪ ،‬بيروت‪ ،‬بغداد(‪.‬‬‫من‬ ‫الرائجة‬ ‫السهلة‬ ‫الوصاف‬ ‫‪/5‬‬
‫وغيرها‪،‬منكان‬
‫تتميز به‬ ‫شاعريته‪ ،‬وما‬
‫العوامل‬ ‫تضافر هذه‬ ‫اكتشاف‬
‫والدب‪.‬‬‫الثقافةفي‬
‫ول يجتهد‬‫بسؤال‬‫لغيره‪،‬‬ ‫تقليد حافظ‬
‫التحسيس‬ ‫يري في‬ ‫المغرب‪،‬في أن‬
‫ومساهمته‬ ‫فيجتهد القارئ‬ ‫المضللة‬
‫اتحاد كتاب‬ ‫تأسيس‬‫بألوانها‬
‫‪/6‬‬
‫والحقائق‬ ‫التي واجهته‪،‬‬
‫الخصوص‪ ،‬أوائل‬ ‫والمشكلتعلى‬ ‫العمالوالسئلة‬
‫الروائية والشعرة‬ ‫بعض حافظ‪،‬‬ ‫ظهر فيه‬
‫صدور‬ ‫الذي‬
‫وكان‬‫العصر‬
‫المغرب‪،‬‬‫معرفته عن‬
‫الحديث في‬ ‫لبد من‬ ‫خاصة‪ ،‬وما‬
‫النقدي‬ ‫ملمح للوعي‬‫حافزا‬
‫ستينيات ق ‪ ،20‬فرصة سانحة أطلقت النقد المغربي الحديث‪ ،‬ولعل أبرز من مثل هذه الحقبة هم‪ :‬محمد برادة‪،‬‬ ‫بها‪.‬‬ ‫انفعل‬ ‫التي‬ ‫والموضوعات‬
‫وأحمد اليابوري‪ ،‬ومحمد السرغيني‪ ،‬وأحمد المجاطي‪ ،‬وحسن المنيعي‪ ،‬وإبراهيم السولمي‪.‬‬
‫التقليد عند الكثيرين ل ينصرف إل للمحاكاة‪ ،‬مع أن المحاكاة معني واحد من معانيه‪ ،‬وإذا وصف الشاعر أو الفنان‬
‫هم الذي‬
‫الذين‬ ‫الشكل‪،‬‬ ‫في إطار‬
‫والمبدعين‬ ‫يبدع‬
‫النقاد‬ ‫جديدأيمن‬
‫التقاليد‪،‬‬
‫يحترم جيل‬
‫أنهق ‪،20‬‬ ‫نفهمه هو‬
‫سبعينيات‬ ‫ينبغي أن‬
‫طلئع‬ ‫الساتذةأو الذي‬
‫وغيرهم‪ ،‬مع‬ ‫المقصود‪،‬‬ ‫المعني‬
‫هؤلء‬ ‫كانأيدي‬‫تقليديعلى‬
‫بأنه تخرج‬ ‫لقد‬
‫أردنا أن‬
‫وستتفرعإذامعهم‬
‫إبراهيم‪ .‬أما‬ ‫فيه حافظ‬
‫وأفكارهم‪،‬‬ ‫فضاءه عاش‬
‫بأصواتهم‬ ‫العصر الذي‬‫سيملون‬‫وحتي‬ ‫الماضية‪،‬‬
‫الذين‬ ‫في العصور‬
‫بعطائهم‪ ،‬وهم‬ ‫النقديالعرب‬
‫المغربي‬ ‫الشعراء‬ ‫سيؤثثون غالبية‬
‫المشهد‬ ‫أبدع فيه‬
‫وجامعي‪ ،‬وسجالي‪ . . .‬وقد‬ ‫تقليدي‪.‬‬ ‫وصحفي‪،‬نقول‬
‫وجمعوي‪،‬‬ ‫شفوي‪،‬مقلد‪ ،‬ول‬‫نقول إنه‬‫منأننقد‬‫الحالة‬
‫هذهذلك‪،‬‬ ‫في بعد‬ ‫فيفعلينا‬
‫المغرب‬ ‫غيره‪،‬‬ ‫يقلد‬
‫النقد‬ ‫را بأنه‬
‫انتحاها‬ ‫النحاءشاع ً‬
‫التي‬ ‫نصم‬
‫ساهمت هذه الجهود‪ ،‬بل شك‪ ،‬في التأسيس لوعي نقدي جديد‪ ،‬يتوخى إعادة النظر في شروط القراءة وأدبية النص‬
‫الناقد غير‬ ‫ارتهان‬
‫بالذات‪.‬‬ ‫ويقصد بها‬
‫شاعًرا‬ ‫المنهاجوية‪:‬أن يقلد‬
‫اتبعها‪/1‬أسلفه دون‬‫التي هي‪:‬‬
‫في أربع‬ ‫العوفي‬
‫التقاليد‬ ‫نجيبضمن‬ ‫النظم‬ ‫يتقن ذ‪.‬‬
‫أجملها‬‫كان‬‫هنات‬
‫دا‪.‬‬ ‫يكن من‬
‫مقل ً‬ ‫لم تخل‬‫إبراهيم لم‬
‫المقروء‪ ،‬لكنها‬
‫وحافظ‬
‫بمبدإ‬
‫مكان‬‫النص(‬ ‫كقارئشئ غير‬
‫متذوق إلي‬ ‫النص ول‬ ‫المعروف)‬
‫مكانه‬ ‫المبدإانتقل من‬
‫عنوربما‬ ‫فيستعاض به‪،‬‬
‫غيره وينفعل‬ ‫المقروء‪.‬‬ ‫شعرهالنص‬
‫يتأثر بشعر‬ ‫حساب‬ ‫فيعلى‬
‫بعض‬ ‫للمنهج‬
‫أنه كان‬‫المشروط‬
‫ولشك‬
‫لستاذه‬‫والناقد‪،‬‬ ‫والمنهج‪،‬‬
‫أهداها‬ ‫قصيدتهالنص‪،‬‬
‫الدالية التي‬ ‫من اغتراب‬‫مقطعهي‬
‫المطاف‬ ‫الحتميةمثل ً‬
‫آخرفي‬ ‫النتيجةكما فعل‬
‫بطريقته‬‫فتكون‬ ‫المنهج(‪.‬‬
‫صياغتها‬ ‫سوىفأعاد‬ ‫نظم شئ‬
‫القصيدة‬ ‫المنهج ول‬ ‫مضاد )‬
‫الشاعر الذي‬
‫والمتلقي‪.‬بعد عودته من منفاه‪ ،‬وفي هذا المقطع يقول‪:‬‬ ‫البارودي‬

‫بين لح ُ‬
‫المناهج والنماذج‪ :‬الذي تحول عند البعض إلى قطيعة قسرية بين المحطات المنهجية‪ ،‬وإلى‬
‫ظها‬ ‫السريع‬
‫القلب‬ ‫الرتحال‬
‫أوحي إلي‬ ‫وف‪ّ/‬تانةٍ‬
‫‪2‬‬
‫سلسلة من النواسخ والمنسوخات‪.‬‬
‫فراح علي اليمان بالوحي واغتدي‬
‫‪ /3‬غياب النقد عن النقد‪ :‬وهيمنة النزعة الوصفية التحليلية على النزعة التقييمية التأويلية‪ ،‬مما يجعلنا‪ ،‬في آخر‬
‫علموي شكلني متعال‪ ،‬غايته الولى ة الخيرة‪ ،‬أن يعيد كتابة النص ويفكك أجزاءه وعناصره‪،‬‬ ‫خطاب‬
‫غير زيه‬ ‫التحليل‪ ،‬تجاه‬
‫والليل في‬ ‫ممتها‬
‫تي ّ‬
‫ثم يعيدها إلى أماكنها أويتركها لحما على وضح‪ .‬ومن تم تتساوى النصوص المقروءة وتوضع في سلة واحدة‪.‬‬

‫وحاسدها في الفق يغري بي الِعدا‬


‫‪ /4‬غياب شخصية الناقد في قراءته وارتباك لغته النقدية‪ ،‬معجما ومصطلحا‪ .‬وقد استمر النقد العربي في المغرب‪،‬‬
‫على عواهنه‪ ،‬يصارع كل أشكال النقص فيه‪ ،‬ويحاول أن يؤسس هويته العربية المغربية‪ ،‬لكن طريقه لتحقيق ذلك ل‬
‫بالشواك‪،‬دٍوالمطبات‪ ،‬التي نتمنى أن يتجاوزها من سيأتي في هذا القرن الواحد والعشرين‪.‬‬
‫وكانوا بمرص‬ ‫أحذر‪،‬‬
‫ومليئا‬ ‫ت‪ ،‬ولم‬
‫سري ُ‬
‫يبدوطويل‪،‬‬ ‫زال‬

‫صدا‬
‫ب ُر ّ‬
‫الكواك ُ‬ ‫وهل حذرت قبلي‬
‫المدخل الثالث‪:‬‬
‫صـاحــب المــــ َ‬
‫ؤلــــف‬
‫الموت يقبل‬
‫خاصيتي البداع والنقد لذلك جاءت كتاباته مفيدة ومقنعة في آن معا‪ .‬وكان قد ولد في‬ ‫رأوني أبصروا‬
‫المجاطي بين‬ ‫فلما‬
‫جمع أحمد‬
‫الدار البيضاء سنة ‪ ،1936‬تلقى دراسته بين الدار البيضاء والرباط ودمشق‪ .‬ودرس بكل من جامعة محمد بن عبد‬
‫الخامس بالرباط‪ .‬اعتبر من المؤسسين لحركة الحداثة الشعرية بالمغرب‪ .‬فاز بجائزة ابن‬ ‫قضاًءمحمد‬
‫تجسدا‬ ‫وجامعة‬ ‫الله بفاس‬
‫أبصروا إل‬ ‫وما‬
‫زيدون للشعر التي يمنحها المعهد السباني‪ /‬العربي للثقافة بمدريد عام ‪ ،1985‬كما فاز بجائزة المغرب الكبرى‬
‫للشعر سنة ‪ .1987‬توفي أحمد المجاطي سنة ‪ ،1995‬مخلفا وراءه عطاًء متميزا في الشعر والنقد والتدريس‪.‬‬
‫فقال كبير القوم قد ساء فألنا‬

‫دا‬
‫ف تقل ّ‬‫الرابع‪ٍ :‬‬
‫فا بحت‬‫المدخل ً‬
‫فإّنا نري حت‬
‫طبــــيعــة المــؤ ََلف‬
‫يعتبر كتاب )ظاهرة الشعر الحديث( دراسة نقدية تتبع مسار تطور الشعر العربي الحديث‪ ،‬والبحث في العوامل‬
‫الشاعرسبيله‬
‫العربي الحديث ينتقل من مرحلة الحياء والذات إلى مرحلة التحرر من قيود التقليد‪ ،‬مع‬ ‫إل اتقاء‬ ‫فليس لنا‬
‫جعلت‬ ‫التي‬

‫ل السيف منا ّ وأوردا‬


‫وال أع ّ‬

‫فغطوا جميًعا في المنام ليصرفوا‬


‫ورحت إلي حيث المني تبعث المني‬

‫وحيث حدا بي من هوي النفس ماحدا‬

‫فمالت لتغريني ومالها الهوي‬

‫ددا‬
‫فحدثت نفسي والضمير تر ّ‬

‫مت فأذكر أنني‬


‫م كما ه ّ‬
‫أهُ ّ‬

‫فتاك فيدعوني هداك إلي الهدي!‬

‫حا أيها الطلل‬


‫هذا المقطع يذكرنا بالمقطع الذي يقول فيه امرؤ القيس من قصيدته التي مطلعها »أل عم صبا ً‬
‫البالي«‪:‬‬

‫ة‬
‫ت وليل ٍ‬
‫ويارب يوم ٍ قد لهو ُ‬

‫ل‬ ‫خ ّ‬
‫ط تمثا ِ‬ ‫بآنسة كأنها َ‬

‫ش وجُهها لضجيعها‬
‫فرا َ‬
‫يضيء ال ِ‬

‫ت في قناديل ذ ُّبا ِ‬
‫ل‬ ‫كمصباح زي ٍ‬

‫ورُتها من أذرعات وأهلها‬


‫تن ّ‬

‫ل‬
‫بيثرب أدني دارها نظر عا ِ‬

‫نظرت إليها والنجوم كأنها‬

‫فال‬
‫ق ّ‬
‫بل ُ‬
‫مصابيح رهبان ُتش ّ‬

‫سموت إليها بعدما نام أهُلها‬

‫ب الماِء حال ً علي حا ِ‬


‫ل‬ ‫موّ حبا ِ‬
‫س ُ‬
‫ُ‬

‫ضحي‬
‫ه إنك فا َ‬
‫فقالت سباك الل ُ‬

‫ت تري السماَر والناس أحوالي‬


‫ألس َ‬

‫فقلت يمين أبرح قاعدا‬

‫ولو ق ّ‬
‫طعوا رأسي لديك وأوصالي!‬

‫من المؤكد أن قصيدة امرئ القيس كانت في خيال حافظ وفي ذاكرته وهو ينظم قصيدته في البحر‪ ،‬الذي نظم فيه‬
‫امرؤ القيس قصيدته وهو طويل‪ ،‬فالتجربة واحدة‪ .‬عاشق محب يذهب بعدما أرخي الليل سدوله ليلقي حبيبته في‬
‫حيها‪ ،‬مخترًقا إليها منازل أهلها الذين يقفون له بالمرصاد‪ .‬لكن كلم حافظ في هذه التجربة المشتركة يختلف اختلًفا‬
‫حا عن كلم امرئ القيس‪.‬‬ ‫واض ً‬

‫فاتنة حافظ إبراهيم امرأة سماوية تضيء كما يضيء القمر الذي يحسدها علي جمالها‪ ،‬ولهذا يسلط نوره علي‬
‫عشاقها فيفضحهم‪ .‬وآنسة امرئ القيس جسد جميل يضيء كما يضيء مصباح الزيت‪ ،‬فهو ‪ -‬أعني المصباح ‪ -‬جسد‬
‫آخر يقابل جسد المرأة التي شبه الشاعر وجهها به‪ .‬ومع أن العاشق في أبيات امرئ القيس يتنور حبيبته وهي في‬
‫ما من أذرعات في بلد الشام‪ ،‬فالعلقة التي يصورها لنا تتميز بكثافتها الحسية‪.‬‬‫يثرب‪ ،‬أي يتصورها ويقصد إليها قاد ً‬
‫إنه يتقدم إليها وقد نام أهلها تحت نجوم تتلل كأنها مصابيح رهبان أشعلوها في أديرتهم الصحراوية لتهدي السارين‬
‫العائدين إلي ذويهم في الليل‪ .‬وشتان بين مصابيح الرهبان والمصباح الذي شبه به الشاعر وجه حبيبته‪ .‬مصابيح‬
‫الرهبان هي المقابل الروحاني لوجه الحبيبة المضيء بما يتفجر فيه من رغبة جسدية‪ .‬إنها المقابلة التي تزيد‬
‫التجربة عرامة وكثافة‪.‬‬

‫فا‪ .‬ولهذا يمضي والنور يغمره في طريقه‪ ،‬الذي‬ ‫أما في أبيات حافظ إبراهيم فالعاشق فارس مقتحم‪ .‬سيف تقلد سي ً‬
‫كمن له فيه أعداؤه غير خائف ول حذر‪ ،‬لنه كوكب ساطع‪ ،‬والكواكب ل تخشي الراصدين لنها من سكان السماء ‪.‬‬
‫والشارة واضحة لليات القرآنية التي جاءت في سورة الجن عن الشهب الراصدة التي تحرس السماء من الجن‬
‫المتطفلة‪ .‬وهي بالضافة إلي الشارة الولي لكلم العيون الشبيه بالوحي السماوي‪ ،‬تمنح التجربة التي يتحدث عنها‬
‫فا تراوده‬
‫ضا عفي ً‬
‫عا مغامًرا‪ ،‬لكننا نجده أي ً‬
‫حافظ إبراهيم نفحة روحية نقية‪ ،‬هكذا نجد العاشق في أبيات حافظ شجا ً‬
‫حبيبته فيرده عنها ضميره‪ .‬علي حين نراه في أبيات امرئ القيس حذًرا ل يخاطر بحياته‪ ،‬وهو مع ذلك شهواني يشد‬
‫إليه حبيبته ويطفئ في أحضانها ما عاناه من عطش في سفره الطويل‪.‬‬

‫لكن ما هي علقة البارودي بهذه المغامرة‪ ،‬التي استوحاها حافظ من امرئ القيس ونظمها في عشرين بيتا ً تزيد‬
‫علي عدد البيات التي مدح بها البارودي؟‬

‫علقة البارودي بهذه المغامرة هي علقته بامرئ القيس وبالشعر العربي القديم‪ .‬فقد أراد حافظ أن يباري أستاذه‬
‫في التعبير عن افتتانه بهذا الشعر وفي التزامه تقاليده الموروثة‪ ،‬وأن يمتعه بكتابة جديدة لتلك المغامرة‪ ،‬القديمة‬
‫التي قدمها امرؤ القيس تشترك معها في الشكل وتختلف عنها في الموضوع‪ .‬الشكل هو المغامرة التي استوحاها‬

You might also like