You are on page 1of 67

‫تيسير العليم الرحيم‬

‫بتلخيص تفسير سورتين من القرآن الكريم‬

‫تلخيص‪:‬‬
‫أفنان المحيسن‬

‫‪‬‬
‫إن الحمد لله‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا مللن يهللده الللله‬
‫فل مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له‪ ،‬وأشهد أل إله إل الله وحده ل شريك للله‪ ،‬وأشللهد أن محمللدا ً عبللده‬
‫ورسوله‪.‬‬
‫أما بعد‪...‬‬
‫فإن كتاب التفسير الشهير الموسوم بل )فتح القدير الجامع بين فني الدراية والرواية مللن عللم‬
‫التفسير( المام العلمة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله تعالى‪ ،‬هو من التفاسير الشائعة بين طلبة‬
‫العلم و هو من الكتب المقرر دراستها في بعض الكليات الشرعية‪ ،‬وهو تفسير عظيم النفع من كل ناحية‬
‫و يجد الباحث و طالب العلم بغيته ومراده في الغالب‪ ،‬حيث إن مؤلفه رحمه الله مجتهد اجتهللادا ً مطلقلًا‪،‬‬
‫متبحر في العلوم الشرعية‪ ،‬ويعتبر تفسيره هذا أصل ً من أصول التفسير‪ ،‬ومرجعا ً مهما ً من مراجعه‪ ،‬فهللو‬
‫تفسير جامع بين التفسير بالدراية والتفسير بالرواية‪ ،‬وقد أحسن حيث فسر بالدراية‪ ،‬وتوسع حيللث فسللر‬
‫بالرواية‪ ,1‬وأما عن طريقته في تفسيره هذا أن يقسم السورة إلى مقاطع ويفسر كلل مقطلع درايلة ثلم‬
‫يفسره رواية‪ ,‬ولنه من اليسر للطلب والطالبات أن يكون تفسير كل آيللة علللى حللدة‪ ...‬اسللتعنت بللالله‬
‫وبدأت بفعل ذلك في تفسير سورتي النور والحجرات‪ ,‬ملخصة له فحذفت السانيد والتخريجات‪ ,‬والبيات‬
‫الشعرية‪ ,‬وحذفت بعض العرابات والقراءات التي رأيت أنها ل تؤثر على المعنللى كللثيرا‪ ,‬وأعللدت ترتيللب‬
‫بعضها‪ ,‬وبسطت بعض المعلومات بالسهم تارة‪ ,‬وبترقيمها تارة‪ ,‬بالضافة أني جعلت تفسير كل كلمللة أو‬
‫جملة من الية في سطر جديد وكتبتها بالسود العريض وسطرتها‪...‬‬
‫أسأل الله أن يعينني على إكمال ما بدأت به ويتقبله مني‪ ..‬إنه ولي ذلك والقادر عليه‪ ..‬وصلى الللله علللى‬
‫نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‪..‬‬

‫تفسير سورة النور‬


‫مدنية‪ ،‬وآياتها أربع وستون‪.‬‬ ‫هي‬
‫عائشة مرفوعًا‪" :‬ل تنزلوهن الغرف ول تعلموهن الكتابة‪ :‬يعني النساء‪ ،‬وعلموهن الغزل وسورة النور"‪.‬‬ ‫عن‬
‫مجاهد قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪":‬علموا رجالكم سورة المائدة‪ ،‬وعلموا نساءكم سورة النور" وهو مرسل‪.‬‬ ‫عن‬
‫حارثة بن مضرب قال‪ :‬كتب إلينا عمر بن الخطاب أن تعلموا سورة النساء والحزاب والنور‪.‬‬ ‫عن‬

‫ت ّلَعّلُكْم َتَذّكُرو َ‬
‫ن‬ ‫ت َبّيَنا ٍ‬
‫ضَناَها َوَأنَزْلَنا ِفيَها آَيا ٍ‬
‫سوَرٌة َأنَزْلَناَها َوَفَر ْ‬
‫ُ‬
‫‪1‬‬
‫من مقدمة )عذب الغدير في بيان التأويلت في كتاب فتح القدير لـ د‪ .‬محمد الخميس(‬
‫‪2‬‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"سورة"‪ :‬السورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة‪ ،‬ولذلك سميت السورة من القرآن سورة‬

‫خبرا ً لمبتدأ محذوف‪:‬أي هذه السورة‪ ،‬قالوا‪ :‬لنها نكرة‪ ،‬ول يبتدأ بالنكرة في كل موضع‪.‬‬ ‫بالرفع‬
‫"الزانية والزاني" ويكون المعنى‪ :‬السورة‬ ‫مبتدأ وجاز البتداء بالنكرة لكونها موصوفة بقوله‪" :‬أنزلناه" والخبر‬
‫المنزلة المفروضة كذا وكذا‪.‬‬
‫محذوف على تقدير‪ :‬فيما أوحينا إليك سورة‬ ‫قرأت "سورة "‬

‫مقدر غير مفسر بما بعده‪ ،‬تقديره اتل سورة‪ ،‬أو اقرأ سورة‪ ,‬وجملة أنزلناها في محل‬ ‫مفعول به والفعل‬ ‫بالنصب‬
‫نصب على أنها صفة لسورة‬
‫مضمر يفسره ما بعده‪ ,‬أي أنزلنا سورة أنزلناها‪ ،‬فل محل لنزلناها هاهنا لنها جملة مفسرة‪.‬‬
‫على الغراء‪ :‬أي دونك سورة ورده بعضهم بأنه ل يجوز حذف أداة الغراء‪.‬‬
‫على الحال من ضمير أنزلناها‪ ،‬والحال من المكنى يجوز أن تتقدم عليه‪ ،‬وعلى هذا فالضمير في أنزلناها ليس‬
‫عائدا ً على سورة‪ ،‬بل على‬
‫الحكام‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬أنزلنا الحكام حال كونها سورة من سور القرآن‪.‬‬

‫بالتشديد‪ :‬أي قطعناها في النزال نجما ً نجمًا‪ ،‬والفرض القطع ويجوز أن يكون التشديد للتكثير أو المبالغة‬ ‫قرأت "وفرضناها"‬
‫أوجبناها وجعلناها مقطوعا ً بها‪.‬‬ ‫بالتخفيف‪ :‬أي‬
‫ألزمناكم العمل بها‬
‫قدرنا ما فيها من الحدود‪ ،‬والفرض التقدير‪ ،‬ومنه "إن الذي فرض عليك القرآن"‬
‫"وأنزلنا فيها" ‪:‬أي أنزلنا في غضونها وتضاعيفها‪.‬‬
‫"آيات بينات"‪ :‬واضحة الدللة على مدلولها‬
‫"وأنزلنا"‪ :‬التكريرلكمال العناية بإنزال هذه السورة‪ ،‬لما اشتملت عليه من الحكام‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫روي عن ابن عباس في قوله‪" :‬سورة أنزلناها وفرضناها" قال‪:‬بيناها‬

‫ن‬
‫طاِئَفٌة ّم َ‬
‫عَذاَبُهَما َ‬
‫شَهْد َ‬
‫خِر َوْلَي ْ‬
‫لِ‬
‫ل َواْلَيْوِم ا ْ‬
‫ن ِبا ِّ‬
‫ل ِإن ُكنُتْم ُتْؤِمُنو َ‬
‫ن ا ِّ‬
‫خْذُكم ِبِهَما َرْأَفٌة ِفي ِدي ِ‬
‫جْلَدٍة َوَل تَْأ ُ‬
‫حٍد ّمْنُهَما ِمَئَة َ‬
‫جِلُدوا ُكّل َوا ِ‬
‫الّزاِنَيُة َوالّزاِني َفا ْ‬
‫اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ن‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫ثم شرع في تفصيل ما أجمل من اليات البينات فقال‪:‬‬
‫"الزانية والزاني"‪ :‬الزنا هو وطء الرجل للمرأة في فرجها من غير نكاح ول شبهة نكاح‪ .‬وقيل هو إيلج فرج في فرج مشتهى طبعا ً‬
‫محرم شرعا ً‬
‫والزانية هي المرأة المطاوعة للزنا الممكنة منه كما تنبئ عنه الصيغة ل المكرهة‪ ،‬وكذلك الزاني‪.‬‬
‫ووجه تقديم الزانية على الزاني هاهنا‪:‬‬
‫أن الزنا في ذلك الزمان كان في النساء أكثر حتى كان لهن رايات تنصب على أبوابهن ليعرفهن من أراد الفاحشة منهن‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫وقيل وجه التقديم أن المرأة هي الصل في الفعل‪،‬‬ ‫‪.2‬‬
‫وقيل لن الشهوة فيها أكثر وعليها أغلب‪ ،‬وقيل لن العار فيهن أكثر إذ موضوعهن الحجبة والصيانة‪ ،‬فقدم ذكر الزانية‬ ‫‪.3‬‬
‫تغليظا ً واهتماما‪ً.‬‬
‫"فاجلدوا"‪ :‬دخول الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط على مذهب الخفش‪ ,‬والجلد الضرب‪ ،‬يقال‪ :‬جلده إذا ضرب جلده‪،‬‬
‫مثل بطنه إذا ضرب بطنه‪ ،‬ورأسه إذا ضرب رأسه‪.‬‬
‫"مائة جلدة"‪:‬‬
‫مائة جلدة وثبت بالسنة زيادة على هذا الجلد‪ ،‬وهي تغريب عام‪.‬‬ ‫حد الزاني أوالزانية الحر البالغ البكر‬ ‫‪.1‬‬
‫جلد كل واحد منهما خمسون جلدة لقوله سبحانه‪" :‬فإن أتين بفاحشة فعليهن‬ ‫حد المملوك والمملوكة‬ ‫‪.2‬‬
‫نصف ما على المحصنات من العذاب"‬
‫وهذا نص في الماء‪ ،‬وألحق بهن العبيد لعدم الفارق‪.‬‬
‫الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة وبإجماع أهل العلم بل وبالقرآن المنسوخ لفظه‬ ‫حد المحصن‬ ‫‪.3‬‬
‫الباقي حكمه وهو )الشيخ والشيخة‬
‫إذا زنيا فارجموهما البتة( وزاد جماعة من أهل العلم مع الرجم جلد مائة‪ ,‬وهذه الية ناسخة‬
‫لية الحبس وآية الذى‬

‫والخطاب في هذه الية للئمة ومن قام مقامهم‪ ،‬وقيل للمسلمين أجمعين‪ ،‬لن إقامة الحدود واجبة عليهم جميعًا‪ ،‬والمام ينوب عنهم‪،‬‬
‫إذ ل يمكنهم الجتماع على إقامة الحدود‬
‫"ول تأخذكم بهما رأفة"‪ :‬يقال رأف يرأف رأفة على وزن فعلة‪ ،‬ورآفة على وزن فعالة‪ ،‬مثل النشأة والنشاءة وكلهما بمعنى الرقة‬
‫والرحمة‪ ،‬وقيل هي أرق الرحمة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫"في دين الله"‪ :‬في طاعته وحكمه‪ -‬كما في قوله‪" :‬ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك" ثم قال مثبتا للمأمورين ومهيجا لهم‪:‬‬
‫"إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الخر"‪ :‬كما تقول للرجل تحضه على أمر‪ :‬إن كنت رجل ً فافعل كذا‪ :‬أي إن كنتم تصدقون بالتوحيد‬
‫والبعث الذي فيه جزاء العمال فل تعطلوا الحدود‬
‫"وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين"‪ :‬أي ليحضره زيادة في التنكيل بهما وشيوع العار عليهما وإشهار فضيحتهما‪ ،‬والطائفة‬
‫الفرقة التي تكون حافة حول الشيء‪ ،‬من الطوف‪ ،‬وأقل الطائفة ثلثة‪ ،‬وقيل اثنان‪ ،‬وقيل واحد‪ ،‬وقيل أربعة‪ ،‬وقيل عشرة‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫أثر أن جارية لبن عمر زنت فضرب رجليها وظهرها‪ ،‬فقلت‪" :‬ول تأخذكم بهما رأفة في دين الله" قال‪ :‬يا بني ورأيتني‬ ‫‪.1‬‬
‫أخذتني بها رأفة؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها ول أن أجلد رأسها‪ ،‬وقد أوجعت حيث ضربت‪.‬‬
‫عن ابن عباس "وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" قال‪ :‬الطائفة رجل فما فوقه‪.‬‬ ‫‪.2‬‬

‫عَلى اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ن‬ ‫ك َ‬
‫حّرَم َذِل َ‬
‫ك َو ُ‬
‫شِر ٌ‬
‫ن َأْو ُم ْ‬
‫حَها ِإّل َزا ٍ‬
‫شِرَكًة َوالّزاِنَيُة ل َينِك ُ‬
‫ح ِإّل َزاِنَيًة َأْو ُم ْ‬
‫الّزاِني ل َينِك ُ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ثم ذكر سبحانه شيئا ً يختص بالزاني والزانية‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"الزاني ل ينكح إل زانية أو مشركة"‪:‬‬
‫ل ينكح‪ :‬الوطء ل العقد‪ :‬أي الزاني ل يزني إل بزانية‪ ،‬والزانية ل تزني إل بزان فالمقصود تشنيع الزنا وتشنيع أهله وأنه‬ ‫‪.1‬‬
‫محرم على المؤمنين‪ ، ،‬وزاد ذكر المشركة والمشرك لكون الشرك أعم في المعاصي من الزنا‪.‬‬
‫أن الية هذه نزلت في امرأة خاصة فتكون خاصة بها‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫أنها نزلت في رجل من المسلمين‪ ،‬فتكون خاصة به‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫أنها نزلت في أهل الصفة‪ ،‬فتكون خاصة بهم‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫أن المراد بالزاني والزانية المحدودان )يتزوج(‬ ‫‪.5‬‬
‫أن الية هذه منسوخة بقوله سبحانه‪" :‬وأنكحوا اليامى منكم"‬ ‫‪.6‬‬
‫أن هذا الحكم مؤسس على الغالب‪ .‬والمعنى‪ :‬أن غالب الزناة ل يرغب إل في الزواج بزانية مثله‪ ،‬وغالب الزواني ل‬ ‫‪.7‬‬
‫يرغبن إل في الزواج بزان مثلهن‪ ،‬والمقصود زجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا‪ ،‬وهذا أرجح القوال‪ ،‬وسبب‬
‫النزول يشهد له كما سيأتي‪.‬‬
‫وقد اختلف في جواز تزوج الرجل بامرأة قد زنى هو بها‪ ،‬فقال الشافعي وأبو حنيفة بجواز ذلك‪ .‬وروي عن ابن عباس‪ ،‬وروي عن عمر‬
‫وابن مسعود وجابر أنه ل يجوز‪ .‬قال ابن مسعود‪ :‬إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدًا‪ ،‬وبه قال مالك‪ ،‬ومعنى‬
‫"وحرم ذلك على المؤمنين"‪ :‬أي نكاح الزواني‪ ،‬لما فيه من التشبه بالفسقة والتعرض للتهمة والطعن في النسب‪ .‬وقيل هو‬
‫مكروه فقط‪ ،‬وعبر بالتحريم عن كراهة التنزيه مبالغة في الزجر‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫سبب النزول‪:‬‬
‫عن مجاهد في قوله‪" :‬الزاني ل ينكح إل زانية" قال‪ :‬كن نساء في الجاهلية بغيات‪ ،‬فكانت منهن امرأة جميلة تدعى أم‬ ‫‪.1‬‬
‫جميل‪ ،‬فكان الرجل من المسلمين يتزوج إحداهن لتنفق عليه من كسبها‪ ،‬فنهى الله سبحانه أن يتزوجهن أحد من المسلمين‪،‬‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬كانت بغايا في الجاهلية بغايا آل فلن‪ ،‬وبغايا آل فلن‪ ،‬فقال الله‪" :‬الزاني ل ينكح إل زانية" الية‪،‬‬ ‫‪.2‬‬
‫فأحكم الله ذلك في أمر الجاهلية"‬
‫‪5‬‬
‫عن عبد الله بن عمرو قال‪ :‬كانت امرأة يقال لها أم مهزول‪ ،‬وكانت تسافح وتشترط أن تنفق عليه‪ ،‬فأراد رجل من‬ ‫‪.3‬‬
‫أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها‪ ،‬فأنزل الله‪" :‬الزانية ل ينكحها إل زان أو مشرك"‪.‬‬
‫"كان رجل يقال له مرثد‪ ،‬يحمل السارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة‪ ،‬وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق‪ ،‬وكانت‬ ‫‪.4‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صديقة له‪ ،‬وذكر قصة وفيها‪ :‬فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‪ :‬يا رسول الله أنكح عناقا؟ فلم يرد علي شيئا حتى‬
‫نزلت "الزاني ل ينكح إل زانية" الية‪ ،‬فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ :‬يا مرثد "الزاني ل ينكح إل زانية أو مشركة‬
‫والزانية ل ينكحها إل زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين" فل تنكحها"‪.‬‬
‫عن عبد الله بن عمرو في الية قال‪ :‬كن نساء معلومات‪ ،‬فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوج المرأة منهن لتنفق‬ ‫‪.5‬‬
‫عليه‪ ،‬فنهاهم الله عن ذلك‪.‬‬
‫عن ابن عباس‪ :‬أنها نزلت في بغايا معلنات كن في الجاهلية وكن زواني مشركات‪ ،‬فحرم الله نكاحهن على المؤمنين‪.‬‬ ‫‪.6‬‬

‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬الزاني ل ينكح" قال‪ :‬ليس هذا بالنكاح‪ ،‬ولكن الجماع‪ ،‬ل يزني بها حين يزني إل زان أو مشرك‬ ‫‪.1‬‬
‫"وحرم ذلك على المؤمنين" يعني الزنا‪.‬‬
‫عن الضحاك في الية قال إنما عنى بذلك الزنا ولم يعن به التزويج‪ .‬وعن سعيد بن جبير وعكرمة نحوه‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫عن ابن عباس في هذه الية قال‪ :‬الزاني من أهل القبلة ل يزني إل بزانية مثله من أهل القبلة أو مشركة من غير أهل‬ ‫‪.3‬‬
‫القبلة‪ ،‬والزانية من أهل القبلة ل تزني إل بزان مثلها من أهل القبلة أو مشرك من غير أهل القبلة‪ ،‬وحرم الزنا على المؤمنين‪.‬‬
‫عن شعبة مولى ابن عباس قال‪ :‬كنت مع ابن عباس فأتاه رجل فقال‪ :‬إني كنت أتبع امرأة فأصبت منها ما حرم الله علي‪،‬‬ ‫‪.4‬‬
‫وقد رزقني الله منها توبة فأردت أن أتزوجها‪ ،‬فقال الناس‪ :‬الزاني ل ينكح إل زانية أو مشركة‪ ،‬فقال ابن عباس‪ :‬ليس هذا موضع‬
‫هذه الية‪ ،‬إنما كن نساء بغايا متعالنات يجعلن على أبوابهن رايات يأتيهن الناس يعرفن بذلك‪ ،‬فأنزل الله هذه الية‪ ،‬تزوجها فما‬
‫كان فيها من إثم فعلي‪ .‬وأخرج أبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وابن مردويه و‬
‫الحاكم عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬ل ينكح الزاني المجلود إل مثله"‪.‬‬ ‫‪.5‬‬
‫ً‬
‫عن علي بن أبي طالب أن رجل تزوج امرأة‪ ،‬ثم إنه زنى فأقيم عليه الحد‪ ،‬فجاءوا به إلى علي ففرق بينه وبين امرأته‪،‬‬ ‫‪.6‬‬
‫وقال‪ :‬ل تتزوج إل مجلودة مثلك‪.‬‬

‫سُقو َ‬
‫ن‬ ‫ك ُهُم اْلَفا ِ‬
‫شَهاَدًة َأَبًدا َوُأوَلِئ َ‬
‫جْلَدًة َول َتْقَبُلوا َلُهْم َ‬
‫ن َ‬
‫جِلُدوُهْم َثَماِني َ‬
‫شَهَداء َفا ْ‬
‫ت ُثّم َلْم َيْأُتوا ِبَأْرَبَعِة ُ‬
‫صَنا ِ‬
‫ح َ‬
‫ن اْلُم ْ‬
‫ن َيْرُمو َ‬
‫َواّلِذي َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"والذين يرمون"‪ :‬استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفا‪ً،‬‬
‫"المحصنات"‪ :‬المراد بالمحصنات هنا العفائف‬
‫المراد بالمحصنات النساء‪ ،‬وخصهن بالذكر لن قدفهن أشنع والعار فيهن أعظم‪ ،‬ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بل‬ ‫‪.1‬‬
‫خلف بين علماء هذه المة‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫وقيل إن الية تعم الرجال والنساء‪ ،‬والتقدير‪ :‬والنفس المحصنات‪ ،‬ويؤيد هذا قوله تعالى في آية أخرى‪" :‬والمحصنات من‬ ‫‪.2‬‬
‫النساء" فإن البيان بكونهن من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء وإل لم يكن للبيان كثير معنى‪.‬‬
‫وقيل أراد بالمحصنات الفروج كما قال‪" :‬والتي أحصنت فرجها" فتتناول الية الرجال والنساء‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫ً‬
‫وقيل إن لفظ المحصنات وإن كان للنساء لكنه هاهنا يشمل النساء والرجال تغليبا‪ ،‬وفيه أن تغليب النساء على الرجال‬ ‫‪.4‬‬
‫غير معروف في لغة العرب‪.‬‬
‫ً‬
‫وذهب الجمهور من العلماء أنه ل حد على من قذف كافرا أو كافرة‪ .‬وقيل‪ :‬إنه يجب عليه الحد‪.‬‬
‫وذهب الجمهور أيضا ً أن العبد يجلد أربعين جلدة‪ .‬قيل‪ :‬يجلد ثمانين‪.‬‬
‫وأجمع العلماء على أن الحر ل يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما‪ ،‬وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أن من‬
‫ثم ذكر سبحانه شرطا ً لقامة الحد على من قذف‬ ‫قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إل أن يكون كما قال‪.‬‬
‫المحصنات فقال‪:‬‬
‫"ثم لم يأتوا بأربعة شهداء"‪ :‬أي يشهدون عليهن بوقوع الزنا منهن‪ ،‬ولفظ ثم يدل على أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في‬
‫غير مجلس القذف‪ ،‬وظاهر الية أنه يجوز أن يكون الشهود مجتمعين ومفترقين‪ ،‬وإذا لم تكمل الشهود أربعة كانوا قذفة يحدون بحد‬
‫القذف‪ .‬وقيل إنه ل حد على الشهود ول على المشهود عليه‪ ،‬ويرد ذلك ما وقع في خلفة عمر رضي الله عنه من جلده للثلثة الذين‬
‫ثم بين سبحانه ما يجب على القاذف فقال‪:‬‬ ‫شهدوا على المغيرة بالزنا‪ ،‬ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم‪.‬‬
‫"فاجلدوهم ثمانين جلدة"‪ :‬الجلد الضرب‪ ،‬والمجادلة المضاربة في الجلود أو بالجلود‪ ،‬ثم استعير للضرب بالعصا والسيف‬
‫وغيرهما‪.‬‬
‫ً‬
‫"ول تقبلوا لهم شهادة أبدا"‪ :‬الجملة معطوفة على اجلدوا‪ :‬أي فاجمعوا لهم بين المرين‪ :‬الجلد‪ ،‬وترك قبول الشهادة‪ ،‬لنهم قد‬
‫صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به في آخر هذه الية‪ ,‬ومعنى "أبدًا"‪ :‬ما داموا في الحياة‪ .‬ثم بين سبحانه حكمهم‬
‫بعد صدور القذف منهم وإصرارهم عليه وعدم رجوعهم إلى التوبة فقال‪" :‬وأولئك هم الفاسقون"‪ :‬الفسق هو الخروج عن‬
‫الطاعة ومجاوزة الحد بالمعصية‪،‬‬

‫حيٌم‬
‫غُفوٌر ّر ِ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫حوا َفِإ ّ‬
‫صَل ُ‬
‫ك َوَأ ْ‬
‫ن َتاُبوا ِمن َبْعِد َذِل َ‬
‫ِإّل اّلِذي َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ثم بين سبحانه أن هذا التأبيد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة فقال‪:‬‬
‫"إل الذين تابوا من بعد ذلك"‪ :‬من بعد اقترافهم لذنب القذف‬
‫"وأصلحوا"‪ :‬إصلح أعمالهم التي من جملتها ذنب القذف ومداركة ذلك بالتوبة والنقياد للحد‪.‬‬
‫وقد اختلف أهل العلم في هذا الستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله؟ هي جملة عدم قبول الشهادة‪ ،‬وجملة الحكم عليها بالفسق‪ ،‬أم‬
‫إلى الجملة الخيرة؟ وهذا الختلف بعد اتفاقهم على أنه ل يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصر‪ ،‬وبعد إجماعهم أيضا ً على أن‬
‫هذا الستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق فمحل الخلف هل يرجع إلى جملة عدم قبول الشهادة أم ل؟‬

‫‪7‬‬
‫فقال الجمهور‪ :‬إن هذا الستثناء يرجع إلى الجملتين‪ ،‬فإذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه الفسق‪ ،‬لن سبب ردها هو ما كان‬
‫متصفا ً به من الفسق بسبب القذف‪ ،‬فإذا زال بالتوبة بالجماع كانت الشهادة مقبولة‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن هذا الستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق‪ ،‬ل إلى جملة عدم قبول الشهادة فيرتفع بالتوبة عن القاذف وصف الفسق ول‬
‫تقبل شهادته أبدًا‪.‬‬
‫وذهب بعضهم إلى التفصيل فقال‪ :‬ل تقبل شهادته وإن تاب إل أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان‪ ،‬فحينئذ تقبل شهادته‪.‬‬
‫وقول الجمهور هو الحق‪ ،‬لن تخصيص التقييد بالجملة الخيرة دون ما قبلها مع كون الكلم واحدا ً في واقعة شرعية من متكلم واحد‬
‫خلف ما تقتضيه لغة العرب‪ ،‬ومما يؤيد ما قررناه ويقويه أن المانع من قبول الشهادة‪ ،‬وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال‪ ،‬فلم‬
‫يبق ما يوجب الرد للشهادة‪.‬‬
‫واختلف العلماء في صورة توبة القاذف‪ ،‬فقال عمر بن الخطاب والشعبي والضحاك وأهل المدينة‪ :‬إن توبته ل تكون إل بأن يكذب‬
‫نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه وأقيم عليه الحد بسببه‪.‬‬
‫وقالت فرقة منهم مالك وغيره‪ :‬إن توبته تكون بأن يحسن حاله‪ ،‬ويصلح عمله‪ ،‬ويندم على ما فرط منه‪ ،‬ويستغفر الله من ذلك‪ ،‬ويعزم‬
‫على ترك العود إلى مثله‪ ،‬وإن لم يكذب نفسه ول رجع عن قوله‪ .‬ويؤيد هذا اليات والحاديث الواردة في التوبة فإنها مطلقة غير‬
‫مقيدة بمثل هذا القيد‪.‬‬
‫وقد أجمعت المة على أن التوبة تمحو الذنب‪ ،‬ولو كان كفرا ً فتمحو ما هو دون الكفر بالولى‪ ,‬وليس من رمى غيره بالزنا بأعظم جرما ً‬
‫من مرتكب الزنا‪ ،‬والزاني إذا تاب قبلت شهادته‪ ،‬لن التائب من الذنب كمن ل ذنب له‪ ،‬وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد‬
‫بالقبول أولى‪ ،‬مع أن مثل هذا الستثناء موجود في مواضع من القرآن منها قوله‪ " :‬إنما جزاء الذين يحاربون الله " إلى قوله‪" :‬إل‬
‫الذين تابوا" ول شك أن هذا الستثناء يرجع إلى الجميع‪ .‬وليس القاذف بأشد جرما ً من الكافر‪ ،‬فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته‬
‫وقوله‪" :‬أبدًا" أي ما دام قاذفًا‪ ،‬كما يقال ل تقبل شهادة الكافر أبدا ً فإن معناه‪ :‬ما دام كافرًا‪.‬‬
‫"إن الله غفور رحيم"‪ :‬تعليل لما تضمنه الستثناء من عدم المؤاخذة للقاذف بعد التوبة وصيرورته مغفورا ً له‪ ،‬مرحوما ً من الرحمن‬
‫الرحيم‪ ،‬غير فاسق ول مردود الشهادة‪ ،‬ول مرفوع العدالة‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬إل الذين تابوا" قال‪ :‬تاب الله عليهم من الفسوق‪ ،‬وأما الشهادة فل تجوز‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫عن عمر بن الخطاب أنه قال لبي بكرة‪ :‬إن تبت قبلت شهادتك‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫وعنه قال‪ :‬توبتهم إكذابهم أنفسهم‪ ،‬فإن أكذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬من تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل‪.‬‬ ‫‪.4‬‬

‫صاِدِقي َ‬
‫ن‬ ‫ن ال ّ‬
‫ل ِإّنُه َلِم َ‬
‫ت ِبا ِّ‬
‫شَهاَدا ٍ‬
‫حِدِهْم َأْرَبُع َ‬
‫شَهاَدُة َأ َ‬
‫سُهْم َف َ‬
‫شَهَداء ِإّل َأنُف ُ‬
‫جُهْم َوَلْم َيُكن ّلُهْم ُ‬
‫ن َأْزَوا َ‬
‫ن َيْرُمو َ‬
‫َواّلِذي َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ذكر سبحانه بعد ذكره لحكم القذف على العموم حكم نوع من أنواع القذف‪ ،‬وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح فقال‪:‬‬
‫‪8‬‬
‫"والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إل أنفسهم"‪ :‬أي لم يكن لهم شهداء يشهدون بما رموهن من الزنا إل‬
‫أنفسهم‬
‫"فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله" قرأت برفع "أربع" على أنها خبر لقوله‪" :‬فشهادة أحدهم" أي فشهادة أحدهم التي تزيل‬
‫عنه حد القذف أربع شهادات‪.‬‬
‫وقرأت أربع بالنصب على المصدر‪ ،‬ويكون "فشهادة أحدهم" خبر مبتدأ محذوف‪ :‬أي فالواجب شهادة أحدهم‪ ،‬أو مبتدأ محذوف الخبر‪:‬‬
‫أي فشهادة أحدهم واجبة‪.‬‬
‫وقيل إن "أربع" منصوب بتقدير‪ :‬فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات‪.‬‬
‫"إنه لمن الصادقين"‪ :‬جملة المشهود به‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫سبب النزول‪:‬‬
‫"أن هلل بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء‪ ،‬فقال النبي صلى الله عليه وسلم‪ :‬البينة‪ ،‬وإل حد‬
‫في ظهرك‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجل ً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫البينة وإل حد في ظهرك‪ ،‬فقال هلل‪ :‬والذي بعثك بالحق إني لصادق‪ ،‬ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد‪ ،‬ونزل جبريل فأنزل عليه‬
‫"والذين يرمون أزواجهم" حتى بلغ "إن كان من الصادقين" فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما‪ ،‬فجاء هلل فشهد‪،‬‬
‫والنبي صلى الله عليه وسلم يقول‪ :‬الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت‪ ،‬فلما كانت عند الخامسة وقفوها‬
‫وقالوا إنها موجبة‪ ،‬فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع‪ ،‬ثم قالت‪ :‬ل أفضح قومي سائر اليوم فمضت‪ ،‬فقال النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ :‬أبصروها‪ ،‬فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء‪ ،‬فجاءت به كذلك‪ ،‬فقال النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم‪ :‬لول ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن"‪ .‬وفي آخر القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‪" :‬اذهب فل‬
‫سبيل لك عليها‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول الله مالي‪ ،‬قال‪ :‬ل مال لك‪ ،‬إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها‪ ،‬وإن كنت كذبت عليها‬
‫فذاك أبعد لك منها"‪.‬‬

‫"جاء عويمر إلى عاصم بن عدي‪ ،‬فقال‪ ،‬سل رسول الله‪ :‬أرأيت رجل ً وجد مع امرأته رجل ً فقتله‪ ،‬أيقتل به أم كيف يصنع؟‬ ‫‪.1‬‬
‫فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ :‬فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل‪ ،‬فقال عويمر‪ :‬والله لتين‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألنه‪ ،‬فأتاه فوجده قد أنزل عليه‪ ،‬فدعا بهما فلعن بينهما‪ .‬قال عويمر‪ :‬إن انطلقت بها يا‬
‫رسول الله لقد كذبت عليها‪ ،‬ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة للمتلعنين‪ ،‬فقال رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ :‬أبصروها‪ ،‬فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الليتين فل أراه إل قد صدق‪ ،‬وإن جاءت به أحيمر كأنه‬
‫وحرة فل أراه إل كاذبًا‪ ،‬فجاءت به مثل النعت المكروه"‬
‫عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود‪ ،‬قالوا ل يجتمع المتلعنان أبدًا‪.‬‬ ‫‪.2‬‬

‫‪9‬‬
‫ن اْلَكاِذِبي َ‬
‫ن‬ ‫ن ِم َ‬
‫عَلْيِه ِإن َكا َ‬
‫ل َ‬
‫ت ا ِّ‬
‫ن َلْعَن َ‬
‫سُة َأ ّ‬
‫خاِم َ‬
‫َواْل َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"والخامسة"‪ :‬وتشهد الشهادة الخامسة‪.‬‬
‫"إن كان من الكاذبين"‪ :‬أي فيما رماها به من الزنا‪.‬‬

‫ن اْلَكاِذِبي َ‬
‫ن‬ ‫ل ِإّنُه َلِم َ‬
‫ت ِبا ِّ‬
‫شَهاَدا ٍ‬
‫شَهَد َأْرَبَع َ‬
‫ن َت ْ‬
‫ب َأ ْ‬
‫عْنَها اْلَعَذا َ‬
‫َوَيْدَرُأ َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"ويدرأ عنها العذاب"‪ :‬أي عن المرأة‪ ،‬والمراد بالعذاب‪ :‬الدنيوي‪ ،‬وهو الحد‪ ،‬وفاعل يدرأ قوله‪:‬‬
‫"أن تشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين"‪ :‬المعنى‪ :‬أنه يدفع عن المرأة الحد شهادتها أربع شهادات بالله‪ :‬أن الزوج‬
‫لمن الكاذبين‪.‬‬

‫صاِدِقي َ‬
‫ن‬ ‫ن ال ّ‬
‫ن ِم َ‬
‫عَلْيَها ِإن َكا َ‬
‫ل َ‬
‫ب ا ِّ‬
‫ض َ‬
‫غ َ‬
‫ن َ‬
‫سَة َأ ّ‬
‫خاِم َ‬
‫َواْل َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"والخامسة "‪ :‬قرأت بالنصب عطفا ً على أربع‪ :‬أي وتشهد الخامسة‪ ،‬وقرأت على البتداء‬
‫"أن غضب الله عليها إن كان"‪ :‬الزوج "من الصادقين" فيما رماها به من الزنا‪ ،‬وتخصيص الغضب بالمرأة للتغليظ عليها لكونها‬
‫أصل الفجور ومادته‪ ،‬ولن النساء يكثرن اللعن في العادة‪ ،‬ومع استكثارهن منه ل يكون له في قلوبهن كبير موقع بخلف الغضب‪.‬‬

‫حِكيٌم‬
‫ب َ‬
‫ل َتّوا ٌ‬
‫ن ا َّ‬
‫حَمُتُه َوَأ ّ‬
‫عَلْيُكْم َوَر ْ‬
‫ل َ‬
‫ضُل ا ِّ‬
‫َوَلْول َف ْ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"ولول فضل الله عليكم ورحمته"‪ :‬جواب لول محذوف‪ .‬و المعنى ولول فضل الله لنال الكاذب منهما عذاب عظيم‪ .‬ثم بين‬
‫سبحانه كثير توبته على من تاب وعظيم حكمته البالغة فقال‪:‬‬
‫"وأن الله تواب حكيم"‪ :‬أي يعود على من تاب إليه‪ ،‬ورجع عن معاصيه بالتوبة عليه والمغفرة له‪ ،‬حكيم فيما شرع لعباده من‬
‫اللعان وفرض عليهم من الحدود‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫ظيٌم‬
‫عِ‬
‫ب َ‬
‫عَذا ٌ‬
‫ن الِْثِم َواّلِذي َتَوّلى ِكْبَرُه ِمْنُهمْ َلُه َ‬
‫ب ِم َ‬
‫س َ‬
‫ئ ّمْنُهم ّما اْكَت َ‬
‫خْيٌر ّلُكْم ِلُكّل اْمِر ٍ‬
‫شّرا لُّكم َبْل ُهَو َ‬
‫سُبوُه َ‬
‫ح َ‬
‫صَبٌة ّمنُكْم ل َت ْ‬
‫ع ْ‬
‫ك ُ‬
‫جاُؤوا ِباِلْف ِ‬
‫ن َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ِإ ّ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫" إن الذين جاؤوا بالفك "‪ :‬الفك أسوأ الكذب وأقبحه‪ ،‬وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه‪ .‬فالفك هو الحديث‬
‫المقلوب‪ ،‬وقيل هو البهتان وأجمع المسلمون على أن المراد بما في الية ما وقع من الفك على عائشة أم المؤمنين‪ ،‬وإنما وصفه‬
‫الله بأنه إفك‪ ،‬لن المعروف من حالها رضي الله عنها خلف ذلك‪ ،‬ومعنى القلب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك النفر أن عائشة‬
‫رضي الله عنها كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة وشرف النسب والسبب ل القذف‪ ،‬فالذين رموها بالسوء قلبوا المر‬
‫عن وجهه‪ ،‬فهو إفك قبيح وكذب ظاهر‪.‬‬
‫"عصبة منكم"‪ :‬العصبة هم الجماعة من العشرة إلى الربعين‪ ،‬وقيل من عشرة إلى خمسة عشر‪ ،‬وأصلها في اللغة الجماعة الذي‬
‫يتعصب بعضهم لبعض‬
‫والمراد بهم هنا عبد الله بن أبي رأس المنافقين‪ ،‬وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن‬
‫ساعدهم‪ .‬وقيل العصبة من الثلثة إلى العشرة‪.‬‬
‫"ل تحسبوه شرا ً لكم بل هو خير" ‪ :‬خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة وصفوان بن المعطل الذي قذف مع أم‬
‫المؤمنين وتسلية لهم‪ .‬والشر ما زاد ضره على نفعه‪ ،‬والخير ما زاد نفعه على ضره‪ ،‬وأما الخير الذي ل شر فيه فهو الجنة‪ ،‬والشر‬
‫الذي ل خير فيه فهو النار‪ ،‬ووجه كونه خيرا ً لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أم المؤمنين وصيرورة قصتها هذه‬
‫شرعا ً عاما ً ‪.‬‬
‫" لكل امرىء منهم ما اكتسب من الثم "‪ :‬أي بسبب تكلمه بالفك‪.‬‬
‫"والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم"‪ :‬قرأت بضم الكاف أي أكبره أي معظم الفك‪ ،‬وقرأت بكسرها أي‪ :‬الثم وقيل‬
‫البداءة به‪ .‬وقيل هما لغتان‪ .،‬فالمعنى‪ :‬إن الذي تولى معظم الفك من العصبة له عذاب عظيم في الدنيا أو في الخرة أو فيهما‪.‬‬
‫واختلف في هذا الذي تولى كبره من عصبة الفك من هو منهم؟ فقيل هو عبد الله بن أبي‪ ،‬وقيل هو حسان‪ ،‬والول هو الصحيح‪ .‬وقد‬
‫روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الفك رجلين وامرأة‪ ،‬وهم مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش‪ .‬وقيل‬
‫جلد عبد الله بن أبي وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ولم يجلد مسطحًا‪ ،‬لنه لم يصرح بالقذف‪ ،‬ولكن كان يسمع ويشيع من غير‬
‫تصريح‪ .‬وقيل لم يجلد أحدا ً منهم‪ .‬والمشهور من الخبار والمعروف عند العلماء أن الذين حدوا‪ :‬حسان ومسطح وحمنة‪ .‬ولم يسمع‬
‫بحد لعبد الله بن أبي‪ ،‬ويؤيد هذا ما ورد عن عائشة‪ ،‬قالت‪ :‬لما نزل عذري‪ ،‬قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتل القرآن‪،‬‬
‫فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم‪ ،‬وسماهم‪ :‬حسان‪ ،‬ومسطح بن أثاثة‪ ،‬وحمنة بنت جحش‪ .‬واختلفوا في وجه‬
‫تركه صلى الله عليه وسلم لجلد عبد الله بن أبي‪ ،‬فقيل لتوفير العذاب العظيم له في الخرة‪ ،‬وحد من عداه ليكون ذلك تكفيرا ً لذنبهم‬
‫كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحدود أنه قال‪" :‬إنها كفارة لمن أقيمت عليه" وقيل ترك حده تألفا ً لقومه واحتراما ً لبنه‪ ،‬فإنه‬
‫كان من صالحي المؤمنين وإطفاء لنائرة الفتنة‪ ،‬فقد كانت ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬

‫‪11‬‬
‫سبب النزول‪ :‬هو ما وقع من أهل الفك الذين تقدم ذكرهم في شأن عائشة رضي الله عنها‪ ،‬وذلك أنها خرجت من هودجها تلتمس‬
‫عقدا ً لها انقطع من جزع‪ ،‬فرحلوا وهم يظنون أنها في هودجها‪ ،‬فرجعت وقد ارتحل الجيش والهودج معهم‪ ،‬فأقامت في ذلك المكان‬
‫ومر بها صفوان بن المعطل‪ ،‬وكان متأخرا ً عن الجيش‪ ،‬فأناخ راحلته وحملها عليها‪ ،‬فلما رأى ذلك أهل الفك قالوا ما قالوا‪ ،‬فبرأها الله‬
‫مما قالوه‪.‬‬

‫عن عائشة قالت‪ :‬لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذلك وتل القرآن‪ ،‬فلما نزل أمر‬ ‫‪.1‬‬
‫برجلين وامرأة فضربوا حدهم‪ ,‬ووقع عند أبي داود تسميتهم‪ :‬حسان بن ثابت‪ ،‬ومسطح بن أثاثة‪ ،‬وحمنة بنت جحش‪.‬‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬الذين افتروا على عائشة عبد الله بن أبي بن سلول ومسطح وحسان وحمنة بنت جحش‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫عن الزهري قال‪ :‬كنت عند الوليد بن عبد الملك‪ ،‬فقال الذي تولى كبره منهم علي‪ ،‬فقلت ل‪ ،‬حدثني سعيد بن المسيب‬ ‫‪.3‬‬
‫وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول‪ :‬الذي تولى كبره منهم‬
‫عبد الله بن أبي‪ ،‬قال فقال لي‪ :‬فما كان جرمه؟ قلت‪ :‬حدثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبو بكر‬
‫بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول‪ :‬كان مسيئا ً في أمري‪.‬‬
‫دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له‪ :‬يا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال‪ :‬عبد الله بن أبي‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫قال‪ :‬كذبت هو علي‪ .‬قال‪ :‬أمير المؤمنين أعلم بما يقول‪ ،‬فدخل الزهري فقال‪ :‬يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟ فقال‪ :‬ابن‬
‫أبي‪ .‬قال‪ :‬كذبت هو علي‪ .‬قال‪ :‬أنا أكذب؟ ل أبا لك‪ ،‬والله لو نادى مناد من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت‪.‬‬
‫عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي‪.‬‬ ‫‪.5‬‬
‫وتصبح غرثى من لحوم‬ ‫عن مسروق دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال‪ :‬حصان رزان ما تزن بريبة‬ ‫‪.6‬‬
‫الغوافل‬
‫قالت‪ :‬لكنك لست كذلك‪ ،‬قلت‪ :‬تدعين مثل هذا يدخل عليك‪ ،‬وقد أنزل الله "والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم"‬ ‫‪.7‬‬
‫فقالت‪ :‬وأي عذاب أشد من العمى؟‪.‬‬

‫ك ّمِبي ٌ‬
‫ن‬ ‫خْيًرا َوَقاُلوا َهَذا ِإْف ٌ‬
‫سِهْم َ‬
‫ت ِبَأنُف ِ‬
‫ن َواْلُمْؤِمَنا ُ‬
‫ن اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫ظّ‬
‫سِمْعُتُموُه َ‬
‫َلْول ِإْذ َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ثم صرف سبحانه الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى المؤمنين بطريق اللتفات فقال‪:‬‬
‫"لول إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا"‪ :‬لول هذه هي التحضيضية تأكيدا ً للتوبيخ والتقريع ومبالغة في‬
‫معاتبتهم‪ :‬أي كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم‪ ،‬فإن كان ذلك يبعد فيهم‪ ،‬فهو في أم‬
‫المؤمنين أبعد‪ .‬وقيل‪ :‬معنى بأنفسهم بأهل دينهم‪ ،‬لن المؤمنين كنفس واحدة أل ترى إلى قوله‪" :‬ول تقتلوا أنفسكم" ولذلك يقال‬
‫للقوم الذي يقتل بعضهم بعضا ً إنهم يقتلون أنفسهم ومثله قوله سبحانه‪" :‬فاقتلوا أنفسكم" ‪ ،‬فأوجب الله سبحانه على المسلمين إذا‬
‫سمعوا رجل ً يقذف أحدا ً ويذكره بقبيح ل يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه‪ .‬قال العلماء‪ :‬إن في الية دليل ً على أن درجة اليمان‬
‫والعفاف ل يزيلها الخبر المحتمل وإن شاع‪" .‬وقالوا هذا إفك مبين"‪ :‬أي قال المؤمنون عند سماع الفك هذا إفك ظاهر مكشوف‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن بعض النصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الفك ما قالوا‪ :‬أل تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال‪ :‬بلى وذلك‬
‫الكذب‪ ،‬أكنت أنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت ل والله‪ ،‬قال‪ :‬فعائشة والله خير منك وأطيب‪ ،‬إنما هذا كذب وإفك باطل‪ ،‬فلما نزل‬
‫القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل الفك‪ .‬ثم قال‪" :‬لول إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ً‬
‫وقالوا هذا إفك مبين" أي كما قال أبو أيوب وصاحبته‪.‬‬

‫ل ُهُم اْلَكاِذُبو َ‬
‫ن‬ ‫عنَد ا ِّ‬
‫ك ِ‬
‫شَهَداء َفُأوَلِئ َ‬
‫شَهَداء َفِإْذ َلْم َيْأُتوا ِبال ّ‬
‫عَلْيِه ِبَأْرَبَعِة ُ‬
‫جاُؤوا َ‬
‫َلْول َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫" لول جاؤوا عليه بأربعة شهداء "‪ :‬الجملة من تمام ما يقوله المؤمنون‪ :‬أي وقالوا هل جاء الخائضون بأربعة شهداء يشهدون‬
‫على ما قالوا‬
‫" فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك "‪ :‬أي الخائضون في الفك‬
‫"عند الله هم الكاذبون"‪ :‬أي في حكم الله تعالى هم الكاذبون الكاملون في الكذب‪.‬‬

‫ظيٌم‬
‫عِ‬‫عَذابٌ َ‬
‫ضُتْم ِفيِه َ‬
‫سُكْم ِفي َما َأَف ْ‬
‫خَرِة َلَم ّ‬
‫حَمُتُه ِفي الّدْنَيا َوال ِ‬
‫عَلْيُكْم وََر ْ‬
‫ل َ‬
‫ضُل ا ِّ‬
‫َوَلْول َف ْ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"ولول فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والخرة"‪ :‬هذا خطاب السامعين‪ ،‬وفيه زجر عظيم "ولول" هذه هي لمتناع الشيء‬
‫لوجود غيره‬
‫" لمسكم في ما أفضتم فيه "‪ :‬أي بسبب ما خضتم فيه من حديث الفك‪ ،‬يقال أفاض في الحديث‪ ،‬واندفع وخاض‪ .‬والمعنى‪ :‬لول‬
‫أني قضيت عليكم بالفضل في الدنيا بالنعم التي من جملتها المهال والرحمة في الخرة بالعفو‪ ،‬لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه‬
‫من حديث الفك‪ .‬وقيل المعنى‪ :‬لول فضل الله عليكم لمسكم العذاب في الدنيا والخرة معًا‪ ،‬ولكن برحمته ستر عليكم في الدنيا‬
‫ويرحم في الخرة من أتاه تائبًا‪.‬‬

‫ظيٌم‬
‫عِ‬‫ل َ‬
‫عنَد ا ِّ‬
‫سُبوَنُه َهّيًنا َوُهوَ ِ‬
‫ح َ‬
‫عْلٌم َوَت ْ‬
‫س َلُكم ِبِه ِ‬
‫ن ِبَأْفَواِهُكم ّما َلْي َ‬
‫سَنِتُكْم َوَتُقوُلو َ‬
‫ِإْذ َتَلّقْوَنُه ِبَأْل ِ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"إذ تلقونه بألسنتكم"‪ :‬قرأت‪:‬‬
‫قي‪ ،‬والصل تتلقونه فحذف إحدى التاءين‪ .‬المعنى يرويه بعضكم عن بعض‪ .‬وذلك أن الرجل منهم‬ ‫قونه" من الت ّل َ َِ‬
‫"إذ ت َل َ ّ‬ ‫‪.1‬‬
‫ً‬
‫يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا ويتلقونه تلقيا‪ .‬وقيل معناه‪ :‬يلقيه بعضكم إلى بعض‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫وقرأت بضم التاء وسكون اللم وضم القاف‪ ،‬من اللقاء‪ ،‬ومعنى هذه القراءة واضح‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫وقرأت بفتح التاء وكسر اللم وضم القاف وهذه القراءة مأخوذة من قول العرب ولق يلق ولقًا‪ :‬إذا كذب‪ .‬وقيل أصل‬ ‫‪.3‬‬
‫الولق السراع بالشيء بعد الشيء كعدد في إثر عدد‪ ،‬وكلم في إثر كلم‪.‬‬
‫وقرأت بقراءات أخرى معناها كمعنى إحدى القراءات السابقة‪.‬‬
‫"وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم"‪ :‬المعنى أن قولهم هذا مختص بالفواه من غير أن يكون واقعا ً في الخارج معتقدا ً‬
‫في القلوب‪ ،‬وقيل إن ذكر الفواه للتأكيد كما في قوله‪" :‬يطير بجناحيه" ونحوه‪.‬‬
‫"وتحسبونه هينًا"‪ :‬أي شيئا ً يسيرا ً ل يلحقكم فيه إثم‪ ،‬والضمير في تحسبونه راجع إلى الحديث الذي وقع الخوض فيه والذاعة له‬
‫"وهو عند الله عظيم"‪ :‬أي عظيم ذنبه وعقابه‪.‬‬

‫ظيٌم‬
‫عِ‬
‫ن َ‬
‫ك َهَذا ُبْهَتا ٌ‬
‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬
‫ن َلَنا َأن ّنَتَكّلَم ِبَهَذا ُ‬
‫سِمْعُتُموُه ُقْلُتم ّما َيُكو ُ‬
‫َوَلْول ِإْذ َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"ولول إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا"‪ :‬هذا عتاب لجميع المؤمنين‪ :‬أي هل إذ سمعتم حديث الفك قلتم تكذيبا ً‬
‫للخائضين فيه المفترين له ما ينبغي لنا ول يمكننا أن نتكلم بهذا الحديث ول يصدر ذلك منا بوجه من الوجوه‪.‬‬
‫"سبحانك هذا بهتان عظيم"‪ :‬قول )سبحانك( هنا للتعجب من أولئك الذين جاءوا بالفك‪ ،‬وأصله التنزيه لله سبحانه‪ ،‬ثم كثر حتى‬
‫استعمل في كل متعجب منه‪ ،‬والبهتان هو أن يقال في النسان ما ليس فيه‪ :‬أي هذا كذب عظيم لكونه قيل في أم المؤمنين رضي‬
‫الله عنها‪ ،‬وصدوره مستحيل شرعا ً من مثلها‪.‬‬

‫ل َأن َتُعوُدوا ِلِمْثِلِه َأَبًدا ِإن ُكنُتم ّمْؤِمِني َ‬


‫ن‬ ‫ظُكُم ا ُّ‬
‫َيِع ُ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ثم وعظ سبحانه الذي خاضوا في الفك‪.‬‬
‫"يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدًا"‪ :‬أي ينصحكم الله‪ ،‬أو يحرم عليكم‪ ،‬أو ينهاكم كراهة أن تعودوا‪ ،‬أو من أن تعودوا‪ ،‬أو في أن‬
‫تعودوا لمثل هذا القذف مدة حياتكم‬
‫"إن كنتم مؤمنين"‪ :‬فإن يقتضي عدم الوقوع في مثله ما دمتم‪ ،‬وفيه تهييج عظيم وتقريع بالغ‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫ً‬
‫عن ابن عباس "يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا" قال‪ :‬يحرج الله عليكم‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫حِكيٌم‬
‫عِليٌم َ‬
‫ل َ‬
‫ت َوا ُّ‬
‫ل َلُكُم الَيا ِ‬
‫ن ا ُّ‬
‫َوُيَبّي ُ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"ويبين الله لكم اليات"‪ :‬في المر والنهي لتعملوا بذلك وتتأدبوا بآداب الله وتنزجوا عن الوقوع في محارمه‬
‫"والله عليم" بما تبدونه وتخفونه "حكيم" في تدبيراته لخلقه‪.‬‬

‫ل َيْعَلُم َوَأنُتْم ل َتْعَلُمو َ‬


‫ن‬ ‫خَرِة َوا ُّ‬
‫ب َأِليٌم ِفي الّدْنَيا َوال ِ‬
‫عَذا ٌ‬
‫ن آَمُنوا َلُهْم َ‬
‫شُة ِفي اّلِذي َ‬
‫ح َ‬
‫شيَع اْلَفا ِ‬
‫ن َأن َت ِ‬
‫حّبو َ‬
‫ن ُي ِ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ِإ ّ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ثم هدد سبحانه القاذفين ومن أراد أن يتسامع الناس بعيوب المؤمنين وذنوبهم فقال‪:‬‬
‫"إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا"‪ :‬أي يحبون أن تفشو الفاحشة وتنتشر‪ ،‬من قولهم شاع الشيء يشيع‬
‫شيوعا ً وشيعا ً وشيعانًا‪ :‬إذا ظهر وانتشر‪ ،‬والمراد بالذين آمنوا المحصنون والعفيفون‪ ،‬أو كل من اتصف بصفة اليمان‪ ،‬والفاحشة هي‬
‫فاحشة الزنا والقول السيء‬
‫"لهم عذاب أليم في الدنيا"‪ :‬بإقامة الحد عليهم "والخرة" بعذاب النار "والله يعلم" جميع المعلومات "وأنتم ل تعلمون"‬
‫إل ما علمكم به وكشفه لكم‪ ،‬ومن جملة ما يعلمه الله عظم ذنب القذف‪ ،‬وعقوبة فاعله‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن علي بن أبي طالب قال‪ :‬القائل الفاحشة والذي شيع بها في الثم سواء‬

‫حيٌم‬
‫ف َر ِ‬
‫ل َرُؤو ٌ‬
‫نا ّ‬
‫حَمُتُه َوَأ ّ‬
‫عَلْيُكْم َوَر ْ‬
‫ل َ‬
‫ضُل ا ِّ‬
‫َوَلْول َف ْ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ً‬
‫"ولول فضل الله عليكم ورحمته"‪ :‬هو تكرير لما تقدم تذكيرا للمنة منه سبحانه على عباده بترك المعالجة لهم‬
‫"وأن الله رؤوف رحيم"‪ :‬ومن رأفته بعباده أن ل يعاجلهم بذنوبهم‪ ،‬ومن رحمته لهم أن يتقدم إليهم بمثل هذا العذار والنذار‬
‫وجملة‪ :‬وأن الله رؤوف رحيم معطوفة على فضل الله‪ ،‬وجواب لول محذوف لدللة ما قبله عليه‪ :‬أي لعاجلكم بالعقوبة‪.‬‬

‫حَمُتُه َما َزَكا ِمنُكم‬


‫عَلْيُكْم َوَر ْ‬
‫ل َ‬
‫ضُل ا ِّ‬
‫شاء َواْلُمنَكِر وََلْول َف ْ‬‫ح َ‬
‫ن َفِإّنُه َيْأُمُر ِباْلَف ْ‬
‫طا ِ‬
‫شْي َ‬
‫ت ال ّ‬
‫طَوا ِ‬ ‫خُ‬‫ن َوَمن يَّتِبْع ُ‬ ‫طا ِ‬
‫شْي َ‬
‫ت ال ّ‬
‫طَوا ِ‬
‫خُ‬‫ن آَمُنوا ل َتّتِبُعوا ُ‬
‫َيا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫عِليٌم‬
‫سِميٌع َ‬‫ل َ‬‫شاء َوا ُّ‬ ‫ل ُيَزّكي َمن َي َ‬ ‫ن ا َّ‬
‫حٍد َأَبًدا َوَلِك ّ‬
‫ن َأ َ‬
‫ّم ْ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫‪15‬‬
‫"يا أيها الذين آمنوا ل تتبعوا خطوات الشيطان"‪ :‬الخطوات جمع خطوة‪ ،‬وهي ما بين القدمين‪ :‬أي ل تتبعوا مسالك الشيطان‬
‫ومذاهبه ول تسلكوا طرائقه التي يدعوكم إليها‪.‬‬
‫"ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر"‪ :‬قيل جزاء الشرط محذوف أقيم مقامه ما هو علة له‪ ،‬كأنه‬
‫قيل‪ :‬فقد ارتكب الفحشاء والمنكر لن دأبه أن يستمر آمرا ً لغيره بهما‪ ،‬والفحشاء ما أفرط قبحه‪ ،‬والمنكر ما ينكره الشرع‪ ،‬وضمير إنه‬
‫للشيطان‪ ،‬وقيل للشأن‪ ،‬والولى أن يكون عائدا ً إلى من يتبع خطوات الشيطان‪ ،‬لن من اتبع الشيطان صار مقتديا ً به في المر‬
‫بالفحشاء والمنكر‪.‬‬
‫"ولول فضل الله عليكم ورحمته"‪ :‬قد تقدم بيانه وجواب لول هو قوله‪:‬‬
‫ً‬
‫" ما زكا منكم من أحد أبدا " أي لول التفضل والرحمة من الله ما طهر أو ما صلح أحد منكم نفسه من دنسها ما دام حيا على‬
‫قراءة "زكى" بالتخفيف‪ ،‬وقرأت بالتشديد أي ما طهره الله‪.‬‬
‫"ولكن الله يزكي من يشاء"‪ :‬أي من عباده بالتفضل عليهم والرحمة لهم‪.‬‬
‫"والله سميع" لما يقولونه "عليم" بجميع المعلومات وفيه حث بالغ على الخلص‪ ،‬وتهييج عظيم لعباده التائبين‪ ،‬ووعيد شديد لمن‬
‫يتبع الشيطان ويحب أن تشيع الفاحشة في عباد الله المؤمنين‪ ،‬ول يزجر نفسه بزواجر الله سبحانه‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن ابن عباس في قوله‪ " :‬ما زكا منكم من أحد أبدا " قال‪ :‬ما اهتدى أحد من الخلئق لشيء من الخير‪.‬‬

‫ل َلُكْم َوا ُّ‬


‫ل‬ ‫ن َأن َيْغِفَر ا ُّ‬
‫حّبو َ‬
‫حوا َأل ُت ِ‬
‫صَف ُ‬
‫ل َوْلَيْعُفوا َوْلَي ْ‬
‫سِبيِل ا ِّ‬
‫ن ِفي َ‬
‫جِري َ‬
‫ن َواْلُمَها ِ‬ ‫ساِكي َ‬
‫سَعِة َأن ُيْؤُتوا ُأوِلي اْلُقْرَبى َواْلَم َ‬
‫ضِل ِمنُكْم َوال ّ‬
‫َول َيْأَتِل ُأْوُلوا اْلَف ْ‬
‫حيٌم‬
‫غُفوٌر ّر ِ‬ ‫َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"ول يأتل"‪ :‬أي يحلف وزنه يفتعل من اللية‪ ،‬وهي اليمين‪ ،‬ومنه قوله سبحانه‪" :‬للذين يؤلون من نسائهم" وقالت فرقة‪ :‬هو من ألوت‬
‫ل"‪ ,‬والول أولى بدليل سبب النزول‪ ،‬وهو ما سيأتي‬‫في كذا إذا قصرت‪ ،‬ومنه لم آل جهدًا‪ :‬أي لم أقصر‪ ،‬وكذا منه قوله‪" :‬ل يألونكم خبا ً‬
‫"أولوا الفضل منكم والسعة"‪ :‬والمراد بالفضل الغنى والسعة في المال‬
‫"أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله" أي على أن ل يؤتوا‪ .‬وقيل‪ :‬المعنى ل يحلفوا على أن ل‬
‫يحسنوا إلى المستحقين للحسان الجامعين لتلك الوصاف‪ ،‬وعلى الوجه الخر يكون المعنى‪ :‬ل يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن‬
‫كانت بينهم شحناء لذنب اقترفوه‪ .‬ثم علمهم سبحانه أدبا ً آخر فقال‪:‬‬
‫"وليعفوا"‪ :‬عن ذنبهم الذي أذنبوه عليهم وجنايتهم التي اقترفوها‪ ،‬من عفا الربع‪ :‬أي درس‪ ،‬والمراد محو الذنب حتى يعفو كما يعفو‬
‫أثر الربع‬
‫ثم ذكر سبحانه ترغيبا ً عظيما ً لمن عفا وصفح فقال‪:‬‬ ‫"وليصفحوا"‪ :‬بالغضاء عن الجاني والغماض عن جنايته‪.‬‬
‫"أل تحبون أن يغفر الله لكم"‪ :‬بسبب عفوكم وصفحكم عن الفاعلين للساءة عليكم‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫"والله غفور رحيم"‪ :‬أي كثير المغفرة والرحمة لعباده مع كثرة ذنوبهم‪ ،‬فكيف ل يقتدي العباد بربهم في العفو والصفح عن‬
‫المسيئين إليهم‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫سبب النزول‪:‬‬
‫ً‬
‫عن عائشة قالت‪ :‬كان مسطح بن أثاثة ممن تولى كبره من أهل الفك‪ ،‬وكان قريبا لبي بكر وكان في عياله‪ ،‬فحلف أبو بكر أن ل ينيله‬
‫خيرا ً أبدًا‪ ،‬فأنزل الله " ول يأتل أولو الفضل منكم والسعة " الية‪ ،‬قالت‪ :‬فأعاده أبو بكر إلى عياله وقال‪ :‬ل أحلف على يمين فأرى‬
‫غيرها خيرا ً منها إل تحللتها وأتيت الذي هو خير‪.‬‬

‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬ول يأتل" الية‪ ،‬يقول‪ :‬ل يقسموا أن ل ينفعوا أحدًا‪.‬‬

‫ظيٌم‬
‫عِ‬
‫ب َ‬
‫عَذا ٌ‬
‫خَرِة َوَلُهْم َ‬
‫ت ُلِعُنوا ِفي الّدْنَيا َوال ِ‬
‫ت اْلُمْؤِمَنا ِ‬
‫ت اْلَغاِفل ِ‬
‫صَنا ِ‬
‫ح َ‬
‫ن اْلُم ْ‬
‫ن َيْرُمو َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ِإ ّ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"إن الذين يرمون المحصنات"‪ :‬قد مر تفسير المحصنات وذكرنا الجماع على أن حكم المحصنين من الرجال حكم المحصنات من‬
‫النساء في حد القذف‪ ,‬والمراد بالغافلت اللتي غفلن عن الفاحشة بحيث ل تخطر ببالهن ول يفطن لها‪ ،‬وفي ذلك من الدللة على‬
‫كمال النزاهة وطهارة الجيب ما لم يكن في المحصنات‪ ،‬وقيل هن السليمات الصدور النقيات القلوب‪.‬‬
‫وقد اختلف في هذه الية هل هي خاصة أو عامة؟ فقيل‪ :‬هي خاصة بعبد الله بن أبي رأس المنافقين‪ ,‬وقيل‪ :‬هي خاصة فيمن رمى‬
‫عائشة رضي الله عنها‪ ,‬وقيل‪ :‬هذه الية هي في عائشة وسائر أزواج النبي ‪ ‬دون سائر المؤمنين والمؤمنات‪ ،‬فمن قذف إحدى‬
‫أزواج النبي ‪ ‬فهو من أهل هذه الية وعلى هذا القول يكون ل توبة لمن رمى إحدى أزواجه ‪ ،‬ومن قذف غيرهن فقد جعل الله له‬
‫التوبة كما تقدم في قوله‪" :‬إل الذين تابوا"‪ ,‬وقيل إن هذه الية خاصة بمن أصر على القذف ولم يتب‪ ،‬وقيل إنها تعم كل قاذف‬
‫ومقذوف من المحصنات والمحصنين‪ ،‬وهو الموافق لما قرره أهل الصول من أن العتبار بعموم اللفظ ل بخصوص السبب‪ .‬وقيل‬
‫إنها خاصة بمشركي مكة‪ ،‬لنهم كانوا يقولون للمرأة إذا خرجت مهاجرة إنما خرجت لتفجر‪ .‬قال أهل العلم‪ :‬إن كان المراد بهذه الية‬
‫المؤمنون من القذفة‪ ،‬فالمراد باللعنة البعاد وضرب الحد وهجر سائر المؤمنين لهم وزوالهم عن رتبة العدالة والبعد عن الثناء الحسن‬
‫على ألسنة المؤمنين‪ ،‬وإن كان المراد بها من قذف عائشة خاصة كانت هذه المور في جانب عبد الله بن أبي رأس المنافقين‪ ،‬وإن‬
‫كانت في مشركي مكة فإنهم ملعونون "في الدنيا والخرة ولهم عذاب عظيم"‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬إن الذين يرمون المحصنات" الية‪ ،‬قال‪ :‬نزلت في عائشة خاصة‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫ً‬
‫وعنه أيضا في الية قال‪ :‬هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة‪ ،‬وجعل لمن‬ ‫‪.2‬‬
‫رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة‪ ،‬ثم قرأ "والذين يرمون المحصنات" إلى قوله‪" :‬إل‬
‫الذين تابوا"‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫جُلُهم ِبَما َكاُنوا َيْعَمُلو َ‬
‫ن‬ ‫سَنُتُهْم َوَأْيِديِهْم َوَأْر ُ‬
‫شَهُد عََلْيِهْم َأْل ِ‬
‫َيْوَم َت ْ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"يوم تشهد عليهم ألسنتهم" هذه الجملة مقررة لما قبلها مبينة لوقت حلول ذلك العذاب بهم وتعيين اليوم لزيادة التهويل بما فيه من‬
‫العذاب الذي ل يحيط به وصف‪ .‬والمعنى‪ :‬تشهد ألسنة بعضهم على بعض في ذلك اليوم‪ ،‬وقيل تشهد عليهم ألسنتهم في ذلك اليوم‬
‫بما تكلموا به‬
‫"وأيديهم وأرجلهم" بما عملوا بها في الدنيا‪ ،‬وإن الله سبحانه ينطقها بالشهادة عليهم‪ ،‬والمشهود محذوف وهو ذنوبهم التي‬
‫اقترفوها‪ :‬أي تشهد هذه عليهم بذنوبهم التي اقترفوها ومعاصيهم التي عملوها‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن أبي سعيد أن رسول الله ‪ ‬قال‪" :‬إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم‪ ،‬فيقال‪ :‬هؤلء جيرانك يشهدون عليك‬
‫فيقول‪ :‬كذبوا‪ ،‬فيقال‪ :‬أهلك وعشيرتك‪ ،‬فيقول‪ :‬كذبوا‪ ،‬فيقال‪ :‬احلفوا فيحلفون‪ ،‬ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم‪ ،‬ثم‬
‫يدخلهم النار"‪ .‬وقد روي عن النبي ‪ ‬ما يتضمن شهادة الجوارح على العصاة‪.‬‬
‫ق اْلُمِبي ُ‬
‫ن‬ ‫ح ّ‬
‫ل ُهَو اْل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ن َأ ّ‬
‫ق َوَيْعَلُمو َ‬
‫ح ّ‬
‫ل ِديَنُهُم اْل َ‬
‫َيْوَمِئٍذ ُيَوّفيِهُم ا ُّ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق" أي يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله جزاءهم عليها موفرًا‪ ،‬فالمراد بالدين‬
‫هاهنا الجزاء‪ ،‬وبالحق الثابت الذي ل شك في ثبوته‪ .‬وقرأت "الحق" بالرفع على أنه نعت لله‪ ،‬وقرأ الباقون بالنصب على أنه نعت‬
‫لدينهم‪.‬‬
‫"ويعلمون أن الله هو الحق المبين" أي ويعلمون عند معاينتهم لذلك ووقوعه على ما نطق به الكتاب العزيز أن الله هو الحق‬
‫الثابت في ذاته وصفاته وأفعاله‪ ،‬المبين المظهر للشياء كما هي في أنفسها‪ ،‬وإنما سمي سبحانه الحق لن عبادته هي الحق دون‬
‫عبادة غيره‪ .‬وقيل سمي بالحق‪ :‬أي الموجود لن نقيضه الباطل وهو المعدوم‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن ابن عباس في قوله سبحانه‪" :‬يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق" قال‪ :‬حسابهم‪ ،‬وكل شيء في القرآن فهو الحساب‪.‬‬
‫عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم "‪.‬‬

‫ق َكِريٌم‬
‫ن َلُهم ّمْغِفَرٌة َوِرْز ٌ‬
‫ن ِمّما َيُقوُلو َ‬
‫ك ُمَبّرُؤو َ‬
‫ت ُأْوَلِئ َ‬
‫طّيَبا ِ‬
‫ن ِلل ّ‬
‫طّيُبو َ‬
‫ن َوال ّ‬
‫طّيِبي َ‬
‫ت ِلل ّ‬
‫طيَّبا ُ‬
‫ت َوال ّ‬
‫خِبيَثا ِ‬
‫ن ِلْل َ‬
‫خِبيُثو َ‬
‫ن َواْل َ‬
‫خِبيِثي َ‬
‫ت ِلْل َ‬
‫خِبيَثا ُ‬
‫اْل َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ثم ختم سبحانه اليات الواردة في أهل الفك بكلمة جامعة فقال‪:‬‬
‫"الخبيثات للخبيثين والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات "‪ :‬أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال‪ :‬أي مختصة بهم‬
‫ل تتجاوزهم‪ ،‬وكذا الخبيثون مختصون بالخبيثات ل يتجاوزونهن‪ ،‬وهكذا قوله‪" :‬والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات"‪ ,‬فالية‬
‫مبنية على قوله‪" :‬الزاني ل ينكح إل زانية" فالخبيثات الزواني‪ ،‬والطيبات العفائف‪ ،‬وكذا الخبيثون والطيبون‪ ،‬وقال أكثر المفسرين‪:‬‬
‫‪18‬‬
‫المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلمات‪ ،‬والكلمات الطيبات من القول‬
‫للطيبين من الناس‪ ،‬والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات‪ .‬فمعناه ل يتكلم بالخبيثات إل الخبيث من الرجال والنساء‪ ،‬وهذا ذم‬
‫للذين قذفوا عائشة بالخبيث ومدح للذين برأوها‪.‬‬
‫" أولئك مبرؤون مما يقولون " والشارة هنا إلى الطيبين والطيبات‪ :‬أي هم مبرأون مما يقوله الخبيثون والخبيثات‪ ،‬وقيل الشارة‬
‫إلى أزواج النبي ‪ ،‬وقيل إلى رسول الله ‪ ‬وعائشة وصفوان بن المعطل‪ ،‬وقيل عائشة وصفوان فقط‪.‬‬
‫"لهم مغفرة"‪ :‬أي هؤلء المبرأون لهم مغفرة عظيمة لما ل يخلوا عنه البشر من الذنوب "ورزق كريم" هو رزق الجنة‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬الخبيثات" قال‪ :‬من الكلم "للخبيثين" قال‪ :‬من الرجال "والخبيثون" من الرجال "للخبيثات"‬ ‫‪.1‬‬
‫من الكلم "والطيبات" من الكلم "للطيبين" من الناس "والطيبون" من الناس "للطيبات" من الكلم‪ ،‬نزلت في الذين قالوا في‬
‫زوجة النبي ‪ ‬ما قالوا من البهتان‪.‬‬
‫عن ابن زيد في الية قال‪ :‬نزلت في عائشة حين رماها المنافقون بالبهتان والفرية فبرأها الله من ذلك‪ ،‬وكان عبد الله بن‬ ‫‪.2‬‬
‫أبي هو الخبيث‪ ،‬فكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها‪ ،‬وكان رسول الله ‪ ‬طيبًا‪ ،‬فكان أولى أن تكون له الطيبة‪،‬‬
‫وكانت عائشة الطيبة‪ ،‬وكانت أولى بأن يكون لها الطيب‪ ،‬وفي قوله‪ " :‬أولئك مبرؤون مما يقولون " قال‪ :‬هاهنا برئت عائشة‪.‬‬
‫عن عائشة قالت‪ :‬لقد نزل عذري من السماء‪ ،‬ولقد خلقت طيبة وعند طيب‪ ،‬ولقد وعدت مغفرة وأجرا ً عظيمًا‪.‬‬ ‫‪.3‬‬

‫خْيٌر ّلُكْم َلَعّلُكْم َتَذّكُرو َ‬


‫ن‬ ‫عَلى َأْهِلَها َذِلُكْم َ‬
‫سّلُموا َ‬
‫سوا َوُت َ‬
‫سَتْأِن ُ‬
‫حّتى َت ْ‬
‫خُلوا ُبُيوًتا غَْيَر ُبُيوِتُكْم َ‬
‫ن آَمُنوا ل َتْد ُ‬
‫َيا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫مناسبة اليات لما قبلها‪ :‬لما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان‬
‫لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء‪ ،‬فربما يؤدي إلى أحد المرين المذكورين‪ ،‬وأيضا ً إن النسان يكون في بيته ومكان خلوته على‬
‫حالة قد ل يحب أن يراه عليها غيره‪ ،‬فنهى الله سبحانه عن دخول بيوت الغير إلى غاية‬
‫"حتى تستأنسوا"‪ :‬الستئناس الستعلم والستخبار‪ :‬أي حتى تستعلموا من في البيت‪ ،‬والمعنى‪ :‬حتى تعلموا أن صاحب البيت قد‬
‫علم بكم وتعلموا أنه قد أذن بدخولكم‪ ،‬فإذا علمتم ذلك دخلتم‪ ،‬ومنه قوله‪" :‬فإن آنستم منهم رشدًا" أي علمتم‪ .‬والستئناس‬
‫الستكشاف‪ ،‬من أنس الشيء إذا أبصره كقوله‪" :‬إني آنست نارًا" أي أبصرت‪ .‬وقيل‪ :‬إنه بمعنى وتؤنسوا أنفسكم من الستئناس الذي‬
‫هو خلف الستيحاش‪ ،‬لن الذي يطرق باب غيره ل يدري أيؤذن له أم ل؟ فهو كالمستوحش حتى يؤذن له‪ ،‬فإذا أذن له استأنس‪ .‬فنهى‬
‫سبحانه عن دخول تلك البيوت حتى يؤذن للداخل‪ .‬وقيل هو من النس‪ ،‬وهو أن يتعرف هل ثم إنسان أم ل؟ وقيل معنى الستئناس‬
‫الستئذان‪ :‬أي ل تدخلوها حتى تستأذنوا‪.‬‬
‫ً‬
‫"وتسلموا على أهلها"‪ :‬قد بينه النبي ‪ ‬كما سيأتي بأن يقول‪ :‬السلم عليكم أدخل؟ مرة أو ثلثا كما سيأتي‪ .‬واختلفوا هل يقدم‬
‫الستئذان على السلم أو العكس‪ ،‬فقيل يقدم الستئذان‪ ،‬فيقول‪ :‬أدخل سلم عليكم‪ ،‬لتقديم الستئناس في الية على السلم‪ .‬وقال‬
‫الكثرون‪ :‬إنه يقدم السلم على الستئذان فيقول‪ :‬السلم عليكم أدخل‪ ،‬وهو الحق‪ ،‬لن البيان منه ‪ ‬للية كان هكذا‪ .‬وقيل إن وقع‬
‫بصره على إنسان قدم السلم‪ ،‬وإل قدم الستئذان‬
‫‪19‬‬
‫"ذلكم خير لكم"‪ :‬الشارة إلى الستئناس التسليم‪ :‬أي دخولكم مع الستئذان والسلم خير لكم من الدخول بغتة‬
‫"لعلكم تذكرون"‪ :‬أن الستئذان خير لكم‪ ،‬وهذه الجملة متعلقة بمقدر‪ :‬أي أمرتم بالستئذان‪ ،‬والمراد بالتذكر التعاظ‪ ،‬والعمل بما‬
‫أمروا به‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫سبب النزول‪ :‬عن رجل من النصار قال‪ :‬قالت امرأة‪ :‬يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحالة التي ل أحب أن يراني عليها أحد‬
‫ولد ول والد‪ ،‬فيأتيني الب فيدخل علي فكيف أصنع؟ فنزلت‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل تدخلوا بيوتا ً غير بيوتكم" الية‪.‬‬

‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬حتى تستأنسوا" قال‪ :‬أخطأ الكاتب حتى تستأذنوا "وتسلموا على أهلها"‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫عن إبراهيم النخعي قال في مصحف عبد الله " حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها "‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬الستئناس‪ :‬الستئذان‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫عن أبي أيوب قال‪" :‬قلت يا رسول الله‪ :‬أرأيت قول الله تعالى "حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها" هذا التسليم قد‬ ‫‪.4‬‬
‫عرفناه فما الستئناس؟ قال‪ :‬يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت"‪.‬‬
‫عن أبي أيوب أن النبي ‪ ‬قال‪" :‬الستئناس أن يدعو الخادم حتى يستأنس أهل البيت الذين يسلم عليهم"‪.‬‬ ‫‪.5‬‬
‫أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ وضغابيس والنبي ‪ ‬بأعلى الوادي‪ ،‬قال‪ :‬فدخلت عليه ولم أسلم ولم أستأذن‪،‬‬ ‫‪.6‬‬
‫فقال النبي‪ : ‬ارجع فقل‪ :‬السلم عليكم أأدخل؟"‬
‫استأذن رجل من بني عامر على النبي ‪ ‬وهو في بيت‪ ،‬فقال‪ :‬أألج؟ فقال النبي ‪ ‬وسلم لخادمه‪ :‬اخرج إلى هذا فعلمه‬ ‫‪.7‬‬
‫الستئذان‪ ،‬فقل له‪ :‬قل السلم عليكم أأدخل؟"‪.‬‬

‫عِليٌم‬
‫ن َ‬
‫ل ِبَما َتْعَمُلو َ‬
‫جُعوا ُهَو َأْزَكى َلُكْم َوا ُّ‬
‫جُعوا َفاْر ِ‬
‫ن َلُكْم َوِإن ِقيَل َلُكُم اْر ِ‬
‫حّتى ُيْؤَذ َ‬
‫خُلوَها َ‬
‫حًدا َفل َتْد ُ‬
‫جُدوا ِفيَها َأ َ‬
‫َفِإن ّلْم َت ِ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"فإن لم تجدوا فيها أحدا ً فل تدخلوها حتى يؤذن لكم"‪ :‬أي فإن لم تجدوا في البيوت التي لغيركم أحدا ً ممن يستأذن عليه‬
‫فل تدخلوها حتى يؤذن لكم بدخولها من جهة من يملك الذن‪ .‬فالمراد بالحد المذكور أهل البيوت الذي يأذنون للغير بدخولها‪ ،‬ل متاع‬
‫الداخلين إليها‬
‫"وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا"‪ :‬أي إن قال لكم أهل البيت ارجعوا فارجعوا‪ ،‬ول تعاودوهم بالستئذان مرة أخرى‪ ،‬ول تنتظروا‬
‫بعد ذلك أن يأذنوا لكم بعد أمرهم لكم بالرجوع‪ .‬ثم بين سبحانه أن الرجوع أفضل من اللحاح وتكرار الستئذان والقعود على الباب‬
‫فقال‪:‬‬
‫"هو أزكى لكم" أي أفضل "وأطهر" من التدنس بالمشاحة على الدخول لما في ذلك من سلمة الصدر‪ ،‬والبعد من الريبة‪ ،‬والفرار‬
‫من الدناءة‬
‫"والله بما تعملون عليم"‪ :‬ل تخفى عليه من أعمالكم خافية‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫‪20‬‬
‫عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬كنت جالسا ً في مجلس من مجالس النصار فجاء أبو موسى فزعًا‪ ،‬فقلنا له‪ :‬ما أفزعك قال‪:‬‬ ‫‪.1‬‬
‫أمرني عمر أن آتيه فأتيته‪ ،‬فاستأذنت ثلثا ً فلم يؤذن لي‪ ،‬فقال‪ :‬ما منعك أن تأتيني؟ فقلت‪ :‬قد جئت فاستأذنت ثلثا ً فلم يؤذن لي‪،‬‬
‫وقد قال رسول الله‪" :‬إذا استأذن أحدكم ثلثا ً فلم يؤذن له فليرجع"‪ .‬قال‪ :‬لتأتيني على هذا بالبينة‪ ،‬فقالوا‪ :‬ل يقوم إل أصغر‬
‫القوم‪ ،‬فقام أبو سعيد معه ليشهد له‪ ،‬فقال عمر لبي موسى‪ :‬إني لم أتهمك‪ ،‬ولكن الحديث عن رسول الله ‪ ‬شديد‪.‬‬
‫اطلع رجل من جحر في حجرة النبي ‪ ‬ومعه مدرى يحك بها رأسه‪ ،‬قال‪ :‬لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك‪ ،‬إنما‬ ‫‪.2‬‬
‫جعل الستئذان من أجل البصر‪.‬‬
‫عن أنس قال‪ :‬قال رجل من المهاجرين‪ :‬لقد طلبت عمري كله في هذه الية‪ ،‬فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني‪،‬‬ ‫‪.3‬‬
‫فيقول لي ارجع‪ ،‬فأرجع وأنا مغتبط لقوله‪ :‬وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم‪.‬‬

‫ل َيْعَلُم َما ُتْبُدونَ َوَما َتْكُتُمو َ‬


‫ن‬ ‫ع ّلُكْم َوا ُّ‬
‫سُكوَنٍة ِفيَها َمَتا ٌ‬
‫غْيَر َم ْ‬
‫خُلوا ُبُيوًتا َ‬
‫ح َأن َتْد ُ‬
‫جَنا ٌ‬
‫عَلْيُكْم ُ‬
‫س َ‬
‫ّلْي َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا ً غير مسكونة فيها متاع لكم"‪ :‬أي ل جناح عليكم في الدخول بغير استئذان إلى البيوت‬
‫التي ليست بمسكونة‪ .‬وقد اختلف الناس في المراد بهذه البيوت‪ ،‬فقيل‪ :‬هي الفنادق التي في الطرق السابلة الموضوعة لبن السبيل‬
‫يأوي إليها‪ .‬وقيل‪ :‬هي حوانيت القيساريات‪ ،‬لنهم جاءوا ببيوعهم فجعلوها فيها‪ ،‬وقالوا للناس هلم‪ .‬وقيل‪ :‬المراد بها الخرب التي يدخلها‬
‫الناس للبول والغائط‪ ،‬ففي هذا أيضا ً متاع‪ .‬وقيل هي بيوت مكة ولكن قد قيد سبحانه هذه البيوت المذكورة هنا بأنها غير مسكونة‪.‬‬
‫والمتاع‪ :‬المنفعة عند أهل اللغة‪ ،‬فيكون معنى الية‪ :‬فيها منفعة لكم‪ ،‬ومنه قوله‪" :‬ومتعوهن" وقولهم‪ :‬أمتع الله بك‪ ،‬وقد فسر بعضهم‬
‫المتاع بالعيان التي تباع‪ .‬وقيل وليس المراد بالمتاع الجهاز‪ ،‬ولكن ما سواه من الحاجة‪.‬‬
‫"والله يعلم ما تبدون وما تكتمون"‪ :‬أي ما تظهرون وما تخفون‪ ،‬وفيه وعيد لمن لم يتأدب بآداب الله في دخول بيوت الغير‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫ً‬
‫عن ابن عباس قال‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها" فنسخ من ذلك فقال‪" :‬ليس‬
‫عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا ً غير مسكونة فيها متاع لكم"‪.‬‬
‫صَنُعو َ‬
‫ن‬ ‫خِبيٌر ِبَما َي ْ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ك َأْزَكى َلُهْم ِإ ّ‬
‫جُهْم َذِل َ‬
‫ظوا ُفُرو َ‬
‫حَف ُ‬
‫صاِرِهْم َوَي ْ‬
‫ن َأْب َ‬
‫ضوا ِم ْ‬
‫ن َيُغ ّ‬
‫ُقل ّلْلُمْؤِمِني َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫مناسبة اليات لما قبلها‪ :‬لما ذكر سبحانه حكم الستئذان‪ ،‬أتبعه بذكر حكم النظر على العموم‪ ،‬فيندرج تحته غض البصر من‬
‫المستأذن‪ ،‬كما قال‪" :‬إنما جعل الذن من أجل البصر"‬
‫"قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم"‪ :‬خص المؤمنين مع تحريمه على غيرهم‪ ،‬لكون قطع ذرائع الزنا التي منها النظر هم أحق‬
‫من غيرهم بها وأولى بذلك ممن سواهم‪ .‬وقيل إن في الية دليل ً على أن الكفار غير مخاطبين بالشرعيات كما يقوله بعض أهل العلم‪،‬‬
‫وفي الكلم حذف‪ ،‬والتقدير "قل للمؤمنين" غضوا "يغضوا" ومعنى غض البصر‪ :‬إطباق الجفن على العين بحيث تمتنع الرؤية‪ ،‬ومن في‬
‫قوله‪" :‬من أبصارهم" هي التبعيضية‪ ،‬وإليه ذهب الكثرون‪ ،‬وبينوه بأن المعنى غض البصر عما يحرم والقتصار به على ما يحل‪ ,‬وقيل‬

‫‪21‬‬
‫زائدة‪ ,‬وقيل لبيان الجنس‪ ,‬وقيل لبتداء الغاية‪ ,‬وقيل وجه التبعيض أنه يعفى للناظر أول نظرة تقع من غير قصد‪ .‬وقيل الفض‬
‫النقصان‪ ،‬يقال غض فلن من فلن‪ :‬أي وضع منه‪ ،‬فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو مغضوض منه ومنقوص فتكون "من" صلة للغض‪.‬‬
‫وفي هذه الية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحل النظر إليه‪.‬‬
‫"ويحفظوا فروجهم"‪ :‬المعنى أنه يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم‪ .‬وقيل المراد ستر فروجهم عن أن يراها ن ل تحل له‬
‫رؤيتها‪ ،‬ول مانع من إرادة المعنيين‪ .‬فالكل يدخل تحت حفظ الفرج‪ .‬قيل ووجه المجيء بمن في البصار دون الفروج أنه موسع في‬
‫النظر فإنه ل يحرم منه إل ما استثنى‪ ،‬بخلف حفظ الفرج فإنه مضيق فيه‪ ،‬فإنه ل يحل منه إل ما استثنى‪ .‬وقيل الوجه أن غض البصر‬
‫كله كالمعتذر‪ ،‬بخلف حفظ الفرج فإنه ممكن على الطلق‬
‫"ذلك"‪ :‬الشارة إلى ما ذكر من الغض والحفظ‪" ،‬أزكى لهم" أي أظهر لهم من دنس الريبة وأطيب من التلبس بهذه الدنيئة‬
‫"إن الله خبير بما يصنعون"‪ :‬ل يخفى عليه شيء من صنعهم وفي ذلك وعيد لمن لم يغض بصره ويحفظ فرجه‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫سبب النزول‪ :‬عن علي بن أبي طالب قال‪ ":‬مر رجل على عهد رسول الله ‪ ‬في طريق من طرقات المدينة‪ ،‬فنظر إلى المرأة‬
‫ونظرت إليه‪ ،‬فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الخر إل إعجابا ً به‪ ،‬فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر‬
‫إليها‪ ،‬إذ استقبله الحائط فشق أنفه‪ ،‬فقال‪ :‬والله ل أغسل الدم حتى آتي رسول الله ‪ ‬فأعلمه أمري‪ ،‬فأتاه فقص عليه قصته‪ ،‬فقال‬
‫النبي‪:‬هذا عقوبة ذنبك‪ ،‬وأنزل الله "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم" الية"‪.‬‬
‫عن ابن عباس "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم" قال‪ :‬يعني من شهواتهم مما يكره الله‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫عن بريدة قال‪ :‬قال رسول الله ‪" :‬ل تتبع النظرة النظرة‪ ،‬فإن الولى لك وليست لك الخرى"‬ ‫‪.2‬‬
‫عن جرير البجلي قال‪" :‬سألت رسول الله ‪ ‬عن نظرة الفجأة‪ ،‬فأمرني أن أصرف بصري"‬ ‫‪.3‬‬
‫قال رسول الله ‪ : ‬إياكم والجلوس على الطرقات‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسول الله ما لنا من مجالسنا نتحدث فيها‪ ،‬فقال‪:‬إن أبيتم‬ ‫‪.4‬‬
‫فأعطوا الطريق حقه‪ ،‬قالوا‪ :‬وما حقه يا رسول الله؟ قال‪:‬غض البصر‪ ،‬وكف الذى‪ ،‬ورد السلم‪ ،‬والمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن‬
‫المنكر"‪.‬‬
‫عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال "قلت‪ :‬يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال‪:‬احفظ عورتك إل من‬ ‫‪.5‬‬
‫زوجتك‪ ،‬أو ما ملكت يمينك‪ .‬قلت‪ :‬يا نبي الله إذا كان القوم بعضهم في بعض‪ ،‬قال‪ :‬إن استطعت أن ل يراها أحد فل يرينها‪،‬‬
‫قلت‪ :‬إذا كان أحدنا خاليًا‪ ،‬قال‪ :‬فالله أحق أن يستحيا منه من الناس"‬
‫قال رسول الله ‪" :‬كتب الله على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ل محالة‪ ،‬فزنا العين النظر‪ ،‬وزنا اللسان النطق‪ ،‬وزنا‬ ‫‪.6‬‬
‫الذنين السماع وزنا اليدين البطش‪ ،‬وزنا الرجلين الخطو‪ ،‬والنفس تتمنى‪ ،‬والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"‪.‬‬
‫قال رسول الله ‪" :‬النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة‪ ،‬فمن تركها من خوف الله أثابه الله إيمانا ً يجد حلوته في‬ ‫‪.7‬‬
‫قلبه" والحاديث في هذا الباب كثيرة‪.‬‬

‫ن ِإلّ‬‫ن ِزيَنَتُه ّ‬‫ن َول ُيْبِدي َ‬‫جُيوِبِه ّ‬‫عَلى ُ‬ ‫ن َ‬ ‫خُمِرِه ّ‬‫ن ِب ُ‬


‫ضِرْب َ‬
‫ظَهَر ِمْنَها َوْلَي ْ‬
‫ن ِإّل َما َ‬ ‫ن ِزيَنَتُه ّ‬
‫ن َول ُيْبِدي َ‬ ‫جُه ّ‬
‫ن ُفُرو َ‬ ‫ظَ‬ ‫حَف ْ‬
‫ن َوَي ْ‬ ‫صاِرِه ّ‬‫ن َأْب َ‬‫ن ِم ْ‬
‫ضَ‬‫ض ْ‬ ‫ت َيْغ ُ‬ ‫َوُقل ّلْلُمْؤِمَنا ِ‬
‫ن أَِو‬
‫ت َأْيَماُنُه ّ‬
‫ن َأْو َما َمَلكَ ْ‬
‫ساِئِه ّ‬
‫ن َأْو ِن َ‬
‫خَواِتِه ّ‬
‫ن َأْو َبِني َأ َ‬
‫خَواِنِه ّ‬‫ن َأْو َبِني ِإ ْ‬
‫خَواِنِه ّ‬
‫ن َأْو ِإ ْ‬
‫ن َأْو َأْبَناء ُبُعوَلِتِه ّ‬
‫ن َأْو َأْبَناِئِه ّ‬
‫ن َأْو آَباء ُبُعوَلِتِه ّ‬
‫ن َأْو آَباِئِه ّ‬
‫ِلُبُعوَلِتِه ّ‬
‫‪22‬‬
‫ن ِمن ِزيَنِتِهنّ َوُتوُبوا ِإَلى الِّ‬
‫خِفي َ‬
‫ن ِلُيْعَلَم َما ُي ْ‬
‫جِلِه ّ‬
‫ن ِبَأْر ُ‬
‫ضِرْب َ‬
‫ساء َول َي ْ‬ ‫ت الّن َ‬‫عْوَرا ِ‬‫عَلى َ‬ ‫ظَهُروا َ‬ ‫ن َلْم َي ْ‬
‫طْفِل اّلِذي َ‬
‫جاِل َأِو ال ّ‬
‫ن الّر َ‬
‫غْيِر ُأوِلي اِلْرَبِة ِم َ‬
‫ن َ‬
‫الّتاِبِعي َ‬
‫حو َ‬
‫ن‬ ‫ن َلَعّلُكْم ُتْفِل ُ‬
‫جِميًعا َأّيَها اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن"‪ :‬خص سبحانه الناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد لدخولهن تحت خطاب المؤمنين‬
‫تغليبا ً كما في سائر الخطابات القرآنية‪ ،‬وبدأ سبحانه بالغض في الموضعين قبل حفظ الفرج‪ ،‬لن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج‪،‬‬
‫والوسيلة مقدمة على المتوسل إليه‪ ،‬ومعنى‪ :‬يغضضن من أبصارهن كمعنى يغضوا من أبصارهم‪ ،‬فيستدل به على تحريم نظر النساء‬
‫إلى ما يحرم عليهن‪ ،‬وكذلك يجب عليهن حفظ فروجهن على الوجه الذي تقدم في حفظ الرجال لفروجهم‬
‫"ول يبدين زينتهن"‪ :‬أي ما يتزين به من الحلية وغيرها‪ ،‬وفي النهي عن إبداء مواضعها من أبدانهن بالولى‪ .‬ثم استثنى سبحانه من‬
‫هذا النهي‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"إل ما ظهر منها"‪ :‬واختلف الناس في ظاهر الزينة ما هو؟ فقيل‪ :‬ظاهر الزينة هو الثياب‪ .‬وقيل‪ :‬الوجه والكفان‪ .‬وقيل‪ :‬ظاهر‬
‫الزينة هو الكحل والسواك والخضاب إلى نصف الساق ونحو ذلك‪ ،‬فإنه يجوز للمرأة أن تبديه‪ .‬وقيل إن المرأة ل تبدي شيئا ً من الزينة‬
‫وتخفي كل شيء من زينتها‪ ،‬ووقع الستثناء فيما يظهر منها بحكم الضرورة‪ .‬ول يخفى عليك أن ظاهر النظم القرآني النهي عن إبداء‬
‫الزينة إل ما ظهر منها كالجلباب والخمار ونحوهما‪ ،‬وإن كان المراد بالزينة مواضعها كان الستثناء راجعا ً إلى ما يشق على المرأة‬
‫ستره كالكفين والقدمين ونحو ذلك‪ .‬وهكذا إذا كان النهي عن إظهار الزينة يستلزم النهي عن إظهار مواضعها بفحوى الخطاب‪ ،‬فإنه‬
‫يحمل الستثناء على ما ذكرناه في الموضعين‪ ،‬وأما إذا كانت الزينة تشمل مواضع الزينة وما تتزين به النساء فالمر واضح‪ ،‬والستثناء‬
‫يكون من الجميع‪ .‬والزينة على قسمين‪ :‬خلقية‪ ،‬ومكتسبة‪ ،‬فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة‪ ،‬والزينة المكتسبة ما تحاوله المرأة في‬
‫تحسين خلقها كالثياب والحلي والكحل والخضاب‪ ،‬ومنه قوله تعالى "خذوا زينتكم"‬
‫"وليضربن بخمرهن على جيوبهن"‪ :‬الخمر جمع خمار‪ ،‬وهو ما تغطي به المرأة رأسها‪ ،‬ومنه اختمرت المرأة وتخمرت‪ .‬والجيوب‪:‬‬
‫جمع جيب‪ ،‬وهو موضع القطع من الدرع والقميص‪ ،‬مأخوذ من الجوب وهو القطع‪ .‬قال المفسرون‪ :‬إن نساء الجاهلية كن يسدلن‬
‫خمرهن من خلفهن‪ ،‬وكانت جيوبهن من قدام واسعة‪ ،‬فكانت تنكشف نحورهن وقلئدهن‪ ،‬فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب‬
‫لتستر بذلك ما كان يبدوا‪ ،‬وفي لفظ الضرب مبالغة في اللقاء الذي هو اللصاق‪ .‬وقيل‪ :‬إن معنى على "جيوبهن"‪ :‬على صدورهن‪،‬‬
‫فيكون في الية مضاف محذوف‪ :‬أي على مواضع جيوبهن‪ .‬ثم كرر سبحانه النهي عن إبداء الزينة لجل ما سيذكره من الستثناء فقال‪:‬‬
‫"ول يبدين زينتهن إل لبعولتهن"‪ :‬البعل هو الزوج والسيد في كلم العرب‪ ،‬وقدم البعولة لنهم المقصودون بالزينة‪ ،‬ولن كل بدن‬
‫الزوجة والسرية حلل لهم‪ ،‬ومثل قوله سبحانه‪ " :‬والذين هم لفروجهم حافظون * إل على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير‬
‫ملومين " ثم لما استثنى سبحانه الزوج أتبعه باستثناء ذوي المحارم فقال‪:‬‬
‫"أو آبائهن أو آباء بعولتهن" إلى قوله‪" ،‬أو بني أخواتهن" فجوز للنساء أن يبدين الزينة لهؤلء لكثرة المخالطة وعدم خشية‬
‫الفتنة لما في الطباع من النفرة عن القرائب‪ .‬وقد روي عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا ل ينظران إلى أمهات‬
‫المؤمنين ذهابا ً منهما إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الية التي في أزواج النبي ‪ ‬وهي قوله‪" :‬ل جناح عليهن في آبائهن" والمراد‬
‫بأبناء بعولتهن ذكور أولد الزواج‪ ،‬ويدخل في قوله‪" :‬أو أبنائهن" أولد الولد وإن سفلوا وأولد بناتهن وإن سفلوا‪ ،‬وكذا آباء البعولة‬

‫‪23‬‬
‫وآباء الباء وآباء المهات وإن علوا‪ ،‬وكذلك أبناء البعولة وإن سفلوا‪ ،‬وكذلك أبناء الخوة والخوات‪ .‬وذهب الجمهور إلى أن العم والخال‬
‫كسائر المحارم في جواز النظر إلى ما يجوز لهم‪ ،‬وليس في الية ذكر الرضاع‪ ،‬وهو كالنسب‪ .‬وقيل‪ :‬ليس العم والخال من المحارم‪،‬‬
‫"أو نسائهن"‪ :‬هن المختصات بهن الملبسات لهن بالخدمة أو الصحبة‪ ،‬ويدخل في ذلك الماء‪ ،‬ويخرج من ذلك نساء الكفار من أهل‬
‫الذمة وغيرهم‪ ،‬فل يحل لهن أن يبدين زينتهن لهن لنهن ل يتحرجن عن وصفهن للرجال‪ .‬وفي هذه المسألة خلف بين أهل العلم‪،‬‬
‫وإضافة النساء إليهن تدل على اختصاص ذلك بالمؤمنات‬
‫"أو ما ملكت أيمانهن"‪ :‬ظاهر الية يشمل العبيد والماء من غير فرق بين أن يكونوا مسلمين أو كافرين‪ ،‬وبه قال جماعة من أهل‬
‫العلم‪ ،‬وقيل‪ :‬إنما عنى بها الماء ولم يعن بها العبيد‪ .‬وكره بعضهم أن ينظر المملوك إلى شعر مولته‪.‬‬
‫"أو التابعين غير أولي الربة من الرجال"‪ :‬المراد بالتابعين هم الذين يتبعون القوم فيصيبون من طعامهم ل همة لهم إل ذلك‬
‫ول حاجة لهم في النساء‪ ,‬وأصل الربة والرب والمأربة الحاجة والجمع مآرب‪ :‬أي حوائج‪ ،‬ومنه قوله سبحانه‪" :‬ولي فيها مآرب أخرى"‪,‬‬
‫وقيل المراد بغير أولي الربة من الرجال الحمقى الذين ل حاجة لهم في النساء‪ ،‬وقيل البله‪ ،‬وقيل العنين‪ ،‬وقيل الخصي‪ ،‬وقيل‬
‫المخنث‪ ،‬وقيل الشيخ الكبير‪ ،‬ول وجه لهذا التخصيص‪ ،‬بل المراد بالية ظاهرها وهم من يتبع أهل البيت‪ ،‬ول حاجة له في النساء‪ ،‬ول‬
‫يحصل منه ذلك في حال من الحوال‪ ،‬فيدخل من هؤلء من هو بهذه الصفة ويخرج من عداه‬
‫"أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء"‪ :‬الطفل يطلق على المفرد والمثنى والمجموع‪ ،‬أو المراد به هنا الجنس‬
‫الموضوع موضع الجمع بدللة وصفه بوصف الجمع‪ ،‬يقال للنسان طفل ما لم يراهق الحلم ومعنى لم يظهروا‪ :‬لم يطلعوا‪ ،‬من الظهور‬
‫بمعنى الطلع‪ ،‬وقيل معناه‪ :‬لم يبلغوا حد الشهوة للجماع‪ ،‬يقال ظهرت على كذا‪ :‬إذا غلبته وقهرته‪ .‬والمعنى‪ :‬لم يطلعوا على عورات‬
‫النساء ويكشفوا عنها للجماع‪ ،‬أو لم يبلغوا حد الشهوة للجماع‪.‬‬
‫واختلف العلماء في وجوب ستر ما عدا الوجه والكفين من الطفال‪ ،‬فقيل ل يلزم لنه ل تكليف عليه وهو الصحيح‪ ،‬وقيل يلزم لنها قد‬
‫تشتهي المرأة‪ .‬وهكذا اختلف في عروة الشيخ الكبير الذي قد سقطت شهوته‪ ،‬والولى بقاء الحرمة كما كانت‪ ،‬فل يحل النظر إلى‬
‫العورة ول يحل له أن يكشفها‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء في حد العروة‪ :‬أجمع المسلمون على أن السوءتين عورة من الرجل والمرأة‪ ،‬وأن المرأة كلها عورة إل وجهها‬
‫ويديها على خلف ذلك‪ .‬وقال الكثر‪ :‬إن عورة الرجل من سرته إلى ركبته‬
‫"ول يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن" أي ل تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليسمع صوت خلخالها من يسمعه‬
‫من الرجال فيعلمون أنها ذات خلخال‪ ,‬وقيل‪ :‬سماع هذه الزينة أشد تحريكا ً للشهوة من إبدائها‪ .‬ثم أرشد عباده إلى التوبة عن‬
‫المعاصي فقال سبحانه‪:‬‬
‫" وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون" فيه المر بالتوبة‪ ،‬ول خلف بين المسلمين في وجوبها وأنها فرض من فرائض الدين‪.‬‬
‫ثم ذكر ما يرغبهم في التوبة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"لعلكم تفلحون"‪ :‬أي تفوزون بسعادة الدنيا والخرة‪ ،‬وقيل إن المراد بالتوبة هنا هي عما كانوا يعملونه في الجاهلية‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫سبب النزول‪ :‬كانت أسماء بنت يزيد في نخل لها لبني حارثة‪ ،‬فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات فيبدو ما في أرجلهن‪ ،‬يعني‬
‫الخلخل‪ ،‬وتبدو صدورهن وذوائبهن‪ ،‬فقالت أسماء‪ :‬ما أقبح هذا‪ ،‬فأنزل الله ذلك "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن" الية‬

‫‪24‬‬
‫‪ .1‬عن ابن مسعود في قوله‪" :‬ول يبدين زينتهن" قال‪ :‬الزينة السوار والدملج والخلخال والقرط والقلدة "إل ما ظهر منها" قال‪:‬‬
‫الثياب والجلباب‪.‬‬
‫‪ .2‬وعنه قال‪ :‬الزينة زينتان زينة ظاهرة وزينة باطنة ل يراها إل الزوج‪ ،‬فأما الزينة الظاهرة فالثياب‪ ،‬وأما الزينة الباطنة فالكحل‬
‫السوار والخاتم‪.‬‬
‫‪ .3‬عن أنس في قوله‪" :‬إل ما ظهر منها" قال‪ :‬الكحل والخاتم‪.‬‬
‫‪ .4‬عن ابن عباس "ول يبدين زينتهن إل ما ظهر منها" قال‪ :‬الكحل والخاتم والقرط والقلدة‪ .‬وعنه‪ :‬هو خضاب الكف والخاتم‪ ,‬وعنه‪:‬‬
‫إل ما ظهر منها وجهها وكفاها والخاتم‪ ,‬وعنه قال‪ :‬رقعة الوجه وباطن الكف‪ ,‬وعنه الزينة الظاهرة الوجه وكحل العينين وخضاب‬
‫الكف والخاتم‪ ،‬فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها‪ .‬ثم قال‪" ،‬ول يبدين زينتهن إل لبعولتهن أو آبائهن" الية‪ ،‬والزينة التي تبديها‬
‫لهؤلء قرطها وقلدتها وسوارها‪ ،‬فأما خلخالها ومعضدها ونحرها وشعرها فإنها ل تبديه إل لزوجها‪.‬‬
‫‪ .5‬عن ابن عمر قال‪ :‬الزينة الظاهرة الوجه والكفان‪.‬‬
‫‪ .6‬عن عائشة أنها سئلت عن الزينة الظاهرة قال‪ :‬القلب والفتخ وضمت طرف كمها‪.‬‬
‫‪ .7‬عن عائشة‪ :‬أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي ‪ ‬وعليها ثياب رقاق‪ ،‬فأعرض عنها وقال‪ :‬يا أسماء إن المرأة إذا بلغت‬
‫المحيض لم تصلح أن يرى منها إل هذا‪ ،‬وأشار إلى وجهه وكفه‪.‬‬
‫‪ .8‬عن عائشة‪ :‬قالت‪ :‬رحم الله نساء المهاجرات الولت لما أنزل الله "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" شققن أكثف مروطهن‬
‫فاختمرن به‪.‬‬
‫‪ .9‬عن ابن عباس "أو نسائهن" قال‪ :‬هن المسلمات ل تبديه ليهودية ول نصرانية وهو النحر والقرط والوشاح‪ ،‬وما يحرم أن يراه إل‬
‫محرم‪ .‬عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة‪ :‬أما بعد‪ ،‬فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء‬
‫أهل الشرك‪ ،‬فانه من قبلك عن ذلك‪ ،‬فإنه ل يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الخر أن ينظر إلى عورتها إل أهل ملتها‪.‬‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬ل بأس أن يرى العبد شعر سيدته‪.‬‬ ‫‪.10‬‬
‫‪ .11‬عن أنس "أن النبي ‪ ‬أتى فاطمة بعبد قد وهب لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنع به رأسها لم يبلغ رجليها‪ ،‬وإذا غطت رجليها لم‬
‫يبلغ رأسها‪ ،‬فلما رأى النبي ‪ ‬ما تلقى قال‪ :‬إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلمك"‬
‫‪ .12‬عن أم سلمة أن رسول الله ‪ ‬قال‪" :‬إذا كان لحداكن مكاتب‪ ،‬وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه"‬
‫‪ .13‬عن ابن عباس في قوله‪" :‬أو التابعين غير أولي الربة من الرجال" قال‪ :‬هذا الذي ل تستحي منه النساء‪ .‬وعنه في الية‪ :‬هذا‬
‫الرجل يتبع القوم وهو مغفل في عقله‪ ،‬ل يكترث للنساء ول يشتهي النساء‪ .‬وعنه في الية قال‪ :‬كان الرجل يتبع الرجل في الزمان‬
‫الول ل يغار عليه ول ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده‪ ،‬وهو الحمق الذي ل حاجة له في النساء‪ .‬وعنه أيضا ً في الية قال‪ :‬هو‬
‫المخنث الذي ل يقوم زبه‪.‬‬
‫‪ .14‬عن عائشة قالت‪ " :‬كان رجل يدخل على أزواج النبي ‪ ‬مخنث‪ ،‬فكانوا يدعونه من غير أولي الربة‪ ،‬فدخل النبي ‪ ‬يوما ً وهو‬
‫عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال‪ :‬إذا أقبلت أقبلت بأربع‪ ،‬وإذا أدبرت أدبرت بثمان‪ ،‬قال النبي‪ :‬أل أرى هذا يعرف ما هاهنا ل‬
‫يدخلن عليكم فحجبوه"‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫‪ .15‬عن ابن عباس في قوله‪" :‬ول يضربن بأرجلهن" وهو أن تقرع الخلخال بالخر عند الرجال‪ ،‬أو يكون في رجلها خلخل فتحركهن‬
‫عند الرجال‪ ،‬فنهى الله عن ذلك‪ ،‬لنه من عمل الشيطان‪.‬‬

‫عِليٌم‬
‫سٌع َ‬
‫ل َوا ِ‬
‫ل ِمن َفضِْلِه َوا ُّ‬
‫عَباِدُكْم َوِإَماِئُكْم ِإن َيُكوُنوا ُفَقَراء ُيْغِنِهُم ا ُّ‬
‫ن ِ‬
‫ن ِم ْ‬
‫حي َ‬
‫صاِل ِ‬
‫حوا اَلَياَمى ِمنُكْم َوال ّ‬
‫َوَأنِك ُ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫مناسبة اليات لما قبلها‪ :‬لما أمر سبحانه بغض البصار وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى ما يحل للعباد من النكاح الذي يكون به‬
‫قضاء الشهوة وسكون دواعي الزنا ويسهل بعده غض البصر عن المحرمات وحفظ الفرج عما ل يحل فقال‪:‬‬
‫"وأنكحوا اليامى منكم" اليم التي ل زوج لها بكرا ً كانت أو ثيبًا‪ ،‬والجمع أيامى والصل أيايم‪ ،‬بتشديد الياء‪ ،‬ويشمل الرجل والمرأة‪.‬‬
‫وهو كالمستعار في الرجال‪ ,‬والخطاب في الية للولياء‪ ،‬وقيل للزواج‪ ،‬والول أرجح‪ ،‬وفيه دليل على أن المرأة ل تنكح نفسها‪.‬‬
‫واختلف أهل العلم في النكاح هل مباح‪ ،‬أو مستحب‪ ،‬أو واجب؟ فذهب إلى الول الشافعي وغيره‪ ،‬وإلى الثاني مالك وأبو حنيفة‪ ،‬وإلى‬
‫الثالث بعض أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية وجب عليه وإل فل‪ .‬والظاهر أن‬
‫القائلين بالباحة والستحباب ل يخالفون في الوجوب مع تلك الخشية‪ ،‬وبالجملة فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة لقوله ‪ ‬في‬
‫الحديث الصحيح بعد ترغيبه في النكاح‪" :‬ومن رغب عن سنتي فليس مني" ولكن مع القدرة عليه‪ ،‬وعلى مؤنه كما سيأتي قريبًا‪،‬‬
‫والمراد باليامى هنا الحرار والحرائر‪ ،‬وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله‪:‬‬
‫"والصالحين من عبادكم وإمائكم" الصلح هو اليمان‪ .‬وذكر سبحانه الصلح في المماليك دون الحرار لن الغالب في الحرار‬
‫الصلح بخلف المماليك‪ ،‬وفيه دليل على أن المملوك ل يزوج نفسه‪ ،‬وإنما يزوجه مالكه‪ .‬وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن‬
‫يكره عبده وأمته على النكاح‪ .‬وقال مالك‪ :‬ل يجوز‪ .‬ثم رجع سبحانه إلى الكلم في الحرار فقال‪:‬‬
‫"إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله"‪ :‬أي ل تمتنعوا من تزويج الحرار بسبب فقر الرجل والمرأة أو أحدهما‪ ،‬فإنهم إن‬
‫يكونوا فقراء يغنهم الله سبحانه ويتفضل عليهم بذلك‪ .‬فحث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر‪ ،‬ول يلزم أن يكون هذا حاصل ً‬
‫لكل فقير إذا تزوج فإن ذلك مقيد بالمشيئة‪ ،‬وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء ل يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا‪ .‬وقيل المعنى‪ :‬إنه‬
‫يغنيه بغنى النفس‪ ،‬وقيل المعنى‪ :‬إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلل ليتعففوا عن الزنا‪ .‬والوجه الول أولى‪،‬‬
‫ويدل عليه قوله سبحانه‪" :‬وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء" فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك‪،‬‬
‫"والله واسع عليم"‪ :‬مؤكدة لما قبلها ومقررة لها‪ ،‬والمراد أنه سبحانه ذو سعة ل ينقص من سعة ملكه غنى من يغنيه من عباده‬
‫عليم بمصالح خلقه‪ ،‬يغني من يشاء ويفقر من يشاء‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن ابن عباس في قوله‪ " :‬وأنكحوا اليامى " الية قال‪ :‬أمر الله سبحانه بالنكاح ورغبهم فيه‪ ،‬وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم‬ ‫‪.1‬‬
‫وعبيدهم‪ ،‬ووعدهم في ذلك الغنى فقال‪" :‬إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله"‪.‬‬
‫عن أبي بكر الصديق قال‪ :‬أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى‪ ،‬قال تعالى‪" :‬إن يكونوا‬ ‫‪.2‬‬
‫فقراء يغنهم الله من فضله"‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫عن عمر بن الخطاب قال ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في الباءة‪ ،‬وقد وعد الله فيها ما وعد‪ ،‬فقال‪" :‬إن يكونوا فقراء‬ ‫‪.3‬‬
‫يغنهم الله من فضله"‪.‬‬
‫عن عائشة قالت‪ :‬قال رسول الله ‪" ‬أنكحوا النساء‪ ،‬فإنهن يأتينكم بالمال"‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول الله ‪": ‬ثلثة حق على الله عونهم‪ :‬الناكح يريد العفاف‪ ،‬والمكاتب يريد الداء‪ ،‬والغازي‬ ‫‪.5‬‬
‫في سبيل الله"‪.‬‬

‫خْيًرا َوآُتوُهم ّمن ّماِل ا ِّ‬


‫ل‬ ‫عِلْمُتْم ِفيِهْم َ‬
‫ن َ‬‫ت َأْيَماُنُكْم َفَكاِتُبوُهْم ِإ ْ‬
‫ب ِمّما َمَلَك ْ‬‫ن اْلِكَتا َ‬
‫ن َيْبَتُغو َ‬
‫ضِلِه َواّلِذي َ‬
‫ل ِمن َف ْ‬ ‫حّتى ُيْغِنَيُهْم ا ُّ‬
‫حا َ‬ ‫ن ِنَكا ً‬‫جُدو َ‬‫ن ل َي ِ‬‫ف اّلِذي َ‬
‫سَتْعِف ِ‬
‫َوْلَي ْ‬
‫حيٌم‬
‫ن غَُفوٌر ّر ِ‬
‫ل ِمن َبْعِد ِإْكَراِهِه ّ‬
‫ن ا َّ‬‫ن َفِإ ّ‬
‫حَياِة الّدْنَيا َوَمن ُيْكِرهّه ّ‬ ‫ض اْل َ‬
‫عَر َ‬ ‫صًنا ّلَتْبَتُغوا َ‬‫ح ّ‬‫ن َأَرْدنَ َت َ‬
‫عَلى اْلِبَغاء ِإ ْ‬ ‫اّلِذي آَتاُكْم َول ُتْكِرُهوا َفَتَياِتُكْم َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ً‬
‫ثم ذكر سبحانه حال العاجزين عن النكاح بعد بيان جواز مناكحتهم إرشادا لهم إلى ما هو الولى فقال‪:‬‬
‫"وليستعفف الذين ل يجدون نكاحًا"‪ :‬استعف طلب أن يكون عفيفًا‪ :‬أي ليطلب العفة عن الزنا والحرام من ل يجد نكاحا أي‬
‫ً‬
‫سبب نكاح‪ ،‬وهو المال‪ .‬وقيل النكاح هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة كاللحاف اسم لما يلتحف به‪ ،‬واللباس اسم لما يلبس‪،‬‬
‫وقيد سبحانه هذا النهي بتلك الغاية‪ ،‬وهي‬
‫"حتى يغنيهم الله من فضله" أي يرزقهم رزقا ً يستغنون به ويتمكنون بسببه من النكاح‪ ،‬وفي هذه الية ما يدل على تقييد‪ ،‬الجملة‬
‫الولى‪ :‬وهي أن يكونوا فقراء يغنهم الله بالمشيئة كما ذكرنا‪ ،‬فإنه لو كان وعدا ً حتما ً ل محالة في حصوله لكان الغنى والزواج‬
‫متلزمين‪ ،‬وحينئذ ل يكون للمر بالستعفاف مع الفقر كثير فائدة‪ ،‬فإنه سيغنى عند تزوجه ل محالة‪ ،‬فيكون في تزوجه مع فقره تحصيل‬
‫للغنى‪ ،‬إل أن يقال‪ :‬إن هذا المر بالستعفاف للعاجز عن تحصيل مبادىء النكاح‪ ،‬ول ينافي ذلك وقوع الغنى له من بعد أن ينكح‪ ،‬فإنه‬
‫قد صدق عليه أنه لم يجد نكاحا ً إذا كان غير واجد لسبابه التي يتحصل بها‪ ،‬وأعظمها المال‪.‬‬
‫ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والماء‪ ،‬أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الحرار فقال‪:‬‬
‫"والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم"‪ :‬أي وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب‪ :‬والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة‪ ،‬يقال‪ :‬كاتب‬
‫يكاتب كتابا ً ومكاتبة‪ ،‬كما يقال قاتل يقاتل قتال ً ومقاتلة‪ .‬وقيل الكتاب هاهنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه الشيء‪ ،‬وذلك لنهم كانوا‬
‫إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتابًا‪ ،‬فيكون المعنى الذين يطلبون كتاب المكاتبة‪ .‬ومعنى المكاتبة في الشرع‪ :‬أن‬
‫يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجمًا‪ ،‬فإذا أداه فهو حر‬
‫"فكاتبوهم"‪ :‬ظاهره أن العبد إذا طلب الكتابة من سيده وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫"إن علمتم فيهم خيرًا" والخير هو القدرة على أداء ما كوتب عليه وإن لم يكن له مال‪ ،‬وقيل هو المال فقط‪ ،‬أي إن رجوتم‬
‫عندهم وفاء وتأدية للمال‪ .‬ولما قال "فيهم" كان الظهر الكتساب‪ ،‬والوفاء وأداء المانة‪ .‬وقيل‪ :‬إن الخير الدين والمانة‪ .‬وقيل‪ :‬إقامة‬
‫الصلة‪ .‬وقيل‪ :‬إن علمتم فيهم الدين والصدق‪.‬‬
‫ظاهر ما يقتضيه المر المذكور في الية من الوجوب‪ ,‬فيجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك وعلم فيه خيرًا‪ .‬وقال‬
‫ثم أمر سبحانه الموالي بالحسان إلى المكاتبين‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫الجمهور من أهل العلم‪ :‬ل يجب ذلك‪ ،‬والحق ما قاله الولون‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫"وآتوهم من مال الله الذي آتاكم"‪ :‬في هذه الية المر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة‪ ،‬إما بأن يعطوهم شيئا ً من‬
‫المال وبأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه‪ ،‬وظاهر الية عدم تقدير ذلك بمقدار‪ ،‬وقيل الثلث‪ ،‬وقيل الربع‪ ،‬وقيل العشر‪ ،‬ولعل وجه‬
‫تخصيص الموالي بهذا المر هو كون الكلم فيهم‪ ،‬وسياق الكلم معهم فإنهم المأمورون بالكتابة‪ .‬وقيل‪ :‬إن الخطاب بقوله‪ :‬وآتوهم‬
‫لجميع الناس‪.‬‬
‫ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك‪ ،‬نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على‬
‫الزنا فقال‪:‬‬
‫ً‬
‫"ول تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا "‪ :‬المراد بالفتيات هنا الماء وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الحرار‬
‫في مواضع أخر‪ .‬والبغاء‪ :‬الزنا‪ ،‬مصدر بغت المرأة تبغي بغاًء إذا زنت‪ ،‬وهذا مختص بزنا النساء‪ ،‬فل يقال للرجل إذا زنا إنه بغي‪ ،‬وشرط‬
‫الله سبحانه هذا النهي بقوله‪" :‬إن أردن تحصنًا" لن الكراه ل يتصور إل عند إرادتهم للتحصن‪ ،‬فإن من لم ترد التحصن ل يصح أن يقال‬
‫لها مكرهة على الزنا‪ ،‬والمراد بالتحصن هنا‪ :‬التعفف والتزوج‪ .‬وقيل إن هذا القيد راجع إلى اليامى‪ .‬وقيل هذا الشرط‪ .‬ملغى‪ .‬وقيل إن‬
‫هذا الشرط باعتبار ما كانوا عليه‪ ،‬فإنهم كانوا يكرهونهن وهن يردن التعفف‪ ،‬وليس لتخصص النهي بصورة إرادتهن التعفف‪ .‬وقيل إن‬
‫هذا الشرط خرج مخرج الغالب‪ ،‬لن الغالب أن الكراه ل يكون إل عند إرادة التحصن‪ ،‬فل يلزم منه جواز الكراه عند عدم إرادة‬
‫التحصن‪ ،‬وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه‪ ،‬فإن المة قد تكون غير مريدة للحلل ول للحرام كما فيمن ل رغبة لها في النكاح‪ ،‬والصغيرة‬
‫فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن‪ ،‬فل يتم ما قيل من أنه ل يتصور الكراه إل عند إرادة التحصن‪ ،‬إل أن يقال إن‬
‫ثم علل سبحانه‬ ‫المراد بالتحصن هنا مجرد التعفف‪ ،‬وأنه ل يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن وهو بعيد‪.‬‬
‫هذا النهي بقوله‪:‬‬
‫ً‬
‫"لتبتغوا عرض الحياة الدنيا" وهو ما تكسبه المة بفرجها‪ ،‬وهذا التعليل أيضا خارج مخرج الغالب‪ ،‬والمعنى‪ :‬أن هذا العرض هو‬
‫الذي كان يحملهم على إكراه الماء على البغاء في الغالب‪ ،‬لن إكراه الرجل لمته على البغاء ل لفائدة له أصل ً ل يصدر مثله عن‬
‫العقلء‪ ،‬فل يدل هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها‪ ،‬إذا لم يكن مبتغيا ً بإكراهها عرض الحياة الدنيا‪ .‬وقيل إن هذا التعليل للكراه‬
‫هو باعتبار أن عادتهم كانت كذلك‪ ،‬ل أنه مدار للنهي عن الكراه لهن‪ ،‬وهذا يلقي المعنى الول ول يخالفه‪.‬‬
‫"ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم"‪ :‬هذا مقرر لما قبله ومؤكد له‪،‬والمعنى أن عقوبة الكراه راجعة إلى‬
‫المكرهين ل إلى المكرهات‪ ،‬كما تدل عليه قراءة‪ :‬فإن الله غفور رحيم لهن‪ .‬قيل وفي هذا التفسير بعد‪ ،‬لن المكرهة على الزنا غير‬
‫أثمة‪ .‬واجيب بأنها وإن كانت مكرهة‪ ،‬فربما ل تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة إما بحكم الجبلة البشرية‪ ،‬أو يكون الكراه‬
‫قاصرا ً عن حد اللجاء المزيل للختيار‪ .‬وقيل إن المعنى‪ :‬فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم‪ :‬إما مطلقًا‪ ،‬أو بشرط التوبة‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫أسباب النزول‪:‬‬
‫عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال‪ :‬كنت مملوكا ً لحويطب بن عبد العزى‪ ،‬فسألته الكتابة فأبى‪ ،‬فنزلت " والذين يبتغون‬ ‫‪.1‬‬
‫الكتاب " الية‪.‬‬
‫كان عبد الله بن أبي يقول لجارية له‪ :‬اذهبي فابغينا شيئًا‪،‬وكانت كارهة‪ ،‬فأنزل الله " ول تكرهوا فتياتكم على البغاء إن‬ ‫‪.2‬‬
‫أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم " هكذا كان يقرأها‬

‫‪28‬‬
‫عن علي بن أبي طالب في الية قال‪ :‬كان أهل الجاهلية يبغين إماءهم‪ ،‬فنهوا عن ذلك في السلم‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا‪ ،‬يأخذون أجورهن فنزلت الية‪.‬‬ ‫‪.4‬‬

‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬وليستعفف الذين ل يجدون نكاحًا" قال‪ :‬ليتزوج من ل يجد فإن الله سيغنيه‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫عن أنس بن مالك قال‪ :‬سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه‪ ،‬فأتى عمر بن الخطاب فأقبل علي بالدرة وقال‪ :‬كاتبه وتل‬ ‫‪.2‬‬
‫ً‬
‫"فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا" فكاتبته‪.‬‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬قال رسول الله ‪"":‬فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا" قال إن علمتم فيهم حرفة‪ ،‬ول ترسلوهم كل على الناس‬ ‫‪.3‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عن ابن عباس "إن علمتم فيهم خيرا" قال‪ :‬المال‪ .‬وعنه في الية قال‪ :‬أمانة ووفاء‪ .‬وعنه أيضا قال‪ :‬إن علمت مكاتبك‬ ‫‪.4‬‬
‫يقضيك‪ .‬وعنه في الية قال‪ :‬إن علمتم لهم حيلة‪ ،‬ول تلقوا مؤنتهم على المسلمين "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" يعني‬
‫ضعوا عنهم في مكاتبتهم‪.‬‬
‫كان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة ويقول‪ :‬يطعمني من أوساخ الناس‪ .‬وأخرج‬ ‫‪.5‬‬
‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬وآتوهم من مال الله" الية‪ :‬أمر المؤمنين أن يعينوا في الرقاب‪ .‬وقال علي بن أبي طالب‪ :‬أمر‬ ‫‪.6‬‬
‫الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه‪ .‬وهذا تعليم من الله ليس بفريضة‪ ،‬ولكن فيه أجر‪.‬‬
‫عن بريدة في الية قال‪ :‬حث الناس عليه أن يعطوه‪.‬‬ ‫‪.7‬‬
‫وقد ورد النهي منه صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن‪.‬‬ ‫‪.8‬‬

‫ظًة ّلْلُمّتِقي َ‬
‫ن‬ ‫عَ‬‫خَلْوا ِمن َقْبِلُكْم َوَمْو ِ‬
‫ن َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ت َوَمَثل ّم َ‬
‫َوَلَقْد َأنَزْلَنا ِإَلْيُكْم آَياتٍ ّمَبّيَنا ٍ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫لما فرغ سبحانه من بيان تلك الحكام‪ ،‬شرع في وصف القرآن بصفات ثلث‪ :‬الولى أنه آيات مبينات‪ :‬أي واضحات في أنفسهن أو‬
‫موضحات‪ ،‬فتدخل اليات المذكورة في هذه الصورة دخول ً أوليًا‪.‬‬
‫والصفة الثانية كونه مثل ً من الذين خلوا من قبل هؤلء‪ :‬أي مثل ً كائنا ً من جهة أمثال الذين مضوا من القصص العجيبة‪ ،‬والمثال‬
‫المضروبة لهم في الكتب السابقة‪ ،‬فإن العجب من قصة عائشة رضي الله عنها‪ ،‬هو كالعجب من قصة يوسف ومريم وما أتهما به‪ ،‬ثم‬
‫تبين بطلنه وبراءتهما سلم الله عليهما‪.‬‬
‫والصفة الثالثة كونه "موعظة"ينتفع بها المتقون خاصة‪ ،‬فيقتدون بما فيه من الوامر‪ ،‬وينزجرون عما فيه من النواهي‪ .‬وأما غيز‬
‫المتقين‪ ،‬فإن الله قد ختم على قلوبهم‪ ،‬وجعل على أبصارهم غشاوة عن سماع المواعظ والعتبار بقصص الذين خلوا‪ ،‬وفهم ما‬
‫تشتمل عليه اليات البينات‪.‬‬

‫شْرِقّيٍة‬
‫جَرٍة ّمَباَرَكٍة زَْيُتوَنٍة ّل َ‬
‫شَ‬‫ي ُيوَقُد ِمن َ‬ ‫ب ُدّر ّ‬
‫جُة َكَأّنَها َكْوَك ٌ‬
‫جا َ‬
‫جٍة الّز َ‬
‫جا َ‬‫ح ِفي ُز َ‬
‫صَبا ُ‬
‫ح اْلِم ْ‬
‫شَكاٍة ِفيَها ِمصَْبا ٌ‬
‫ض َمَثُل ُنوِرِه َكِم ْ‬
‫ت َواَلْر ِ‬ ‫سَماَوا ِ‬ ‫ل ُنوُر ال ّ‬
‫ا ُّ‬
‫عِليٌم‬
‫يٍء َ‬
‫ش ْ‬‫ل ِبُكّل َ‬‫س َوا ُّ‬ ‫لُ اَلْمَثاَل ِللّنا ِ‬
‫با ّ‬ ‫ضِر ُ‬
‫شاء َوَي ْ‬ ‫ل ِلُنوِرِه َمن َي َ‬‫عَلى ُنوٍر َيْهِدي ا ُّ‬‫سُه َناٌر ّنوٌر َ‬
‫س ْ‬‫ضيُء َوَلْو َلْم َتْم َ‬
‫غْرِبّيٍة َيَكاُد َزْيُتَها ُي ِ‬‫َول َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫‪29‬‬
‫لما بين سبحانه من الحكام ما بين أردف ذلك بكونه سبحانه في غاية الكمال فقال‪:‬‬
‫"الله نور السماوات والرض"‪ :‬هذه الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها‪ ،‬والسم الشريف مبتدأ‪ ،‬ونور السماوات والرض خبره‪ ،‬إما‬
‫على حذف مضاف‪ :‬أي ذو نور السماوات والرض‪ ،‬أو لكون المراد المبالغة في وصفه سبحانه بأنه نور لكمال جلله وظهور عدله‬
‫وبسطه أحكامه‪ ،‬كما يقال فلن نور البلد وقمر الزمن وشمس العصر‪ ،‬ومعنى النور في اللغة‪ :‬الضياء‪ ،‬وهو الذي يبين الشياء ويري‬
‫البصار حقيقة ما تراه‪ ،‬فيجوز إطلق النور على الله سبحانه على طريقة المدح‪ ،‬ولكونه أوجد الشياء المنورة وأوجد أنوارها ونورها‪،‬‬
‫ور السماوات والرض" على صيغة الفعل الماضي‪ ،‬منيرتين باستقامة أحوال أهلهما وكمال تدبيره‬ ‫ويدل على هذا المعنى قراءة "الله ن ّ‬
‫ور البلد‪.‬‬
‫عز وجل لمن فيهما‪ ،‬كما يقال الملك ن ّ‬
‫"مثل نوره"‪ :‬مبتدأ وخبره "كمشكاة" أي صفة نوره الفائض عنه‪ ،‬الظاهر على الشياء كمشكاة‪ ،‬والمشكاة الكوة في الحائط غير‬
‫النافذة‪ ،‬ووجه تخصيص المشكاة أنها أجمع للضوء الذي يكون فيه من مصباح أو غيره‪ ،‬وأصل المشكاة الوعاء الذي يجعل فيه الشيء‪.‬‬
‫وقيل المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة‪ .‬والول أولى‪.‬‬
‫"فيها مصباح" وهو السراج "المصباح في زجاجة" ‪ :‬النور في الزجاج وضوء النار أبين منه في كل شيء وضوءه يزيد في‬
‫الزجاج‪ ،‬ووجه ذلك‪ :‬أن الزجاج جسم شفاف يظهر فيه النور أكمل ظهور‪ .‬ثم وصف الزجاجة فقال‪:‬‬
‫"الزجاجة كأنها كوكب دري" أي منسوب إلى الدر لكون فيه من الصفاء والحسن ما يشابه الدر‪ .‬وقرأت "دري" بكسر الدال من‬
‫درأت النجوم تدرأ إذا اندفعت‪ ,‬والدراري هي المشهورة من الكواكب كالمشتري والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت‪ .‬ثم وصف‬
‫المصباح بقوله‪:‬‬
‫"يوقد من شجرة مباركة زيتونة"‪ :‬ومن هذه هي البتدائية‪ :‬أي ابتداء إيقاد المصباح منها‪ ،‬وقيل هو على تقدير مضاف‪ :‬أي يوقد‬
‫من زيت شجرة مباركة‪ ،‬والمباركة الكثيرة المنافع‪ .‬وقيل المنماة‪ ،‬والزيتون من أعظم الثمار نماء‪ ،‬قيل ومن بركتها أن أغصانها تورق‬
‫من أسفلها إلى أعلها‪ ،‬وهي إدام ودهان ودباغ ووقود‪ ،‬وليس فيها شيء إل وفيه منفعة‪ ،‬ثم وصفها بأنها‬
‫"ل شرقية ول غربية"‪ :‬وقد اختلف المفسرون في معنى هذا الوصف‪ ،‬فقيل‪ :‬إن الشرقية هي التي تصيبها الشمس إذا شرقت‪.‬‬
‫ول تصيبها إذا غربت‪ .‬والغربية هي التي تصيبها إذا غربت‪ ،‬ول تصيبها إذا شرقت‪ .‬وهذه الزيتونة هي في صحراء بحيث ل يسترها عن‬
‫الشمس شيء ل في حال شروقها ول في حال غروبها‪ ،‬وما كانت من الزيتون هكذا فثمرها أجود‪ .‬وقيل إن المعنى‪ :‬إنها شجرة في‬
‫دوحة قد أحاطت بها‪ ،‬فهي غير منكشفة من جهة الشرق‪ ،‬ول من جهة الغرب‪ ،‬وهذا ل يصح لن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها‪،‬‬
‫وذلك مشاهد في الوجود‪ .‬وقيل‪ :‬ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا‪ ،‬وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ولو كانت في الدنيا لكانت إما‬
‫شرقية وإما غربية‪ .‬ورد‪ :‬بأن القرآن أفصح بأنها من شجر الدنيا‪ ،‬لن قوله زيتونة بدل من قوله شجرة‪ .‬وقيل‪ :‬إنها من شجر الشام‪،‬‬
‫فإن الشام ل شرقي ول غربي‪ ،‬والشام هي الرض المباركة‪.‬‬
‫ت بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الزجاجة دون المصباح‪ ،‬وقرأت "يوقد" بالتحتية مضمومة وتخفيف القاف‬ ‫"توقد" ‪ :‬قُ ِ‬
‫رأ ْ‬
‫وضم الدال‪ ,‬وقرأت "توقد" بالفوقية مفتوحة وفتح الواو وتشديد القاف وفتح الدال على أنه فعل ماض من توقد يتوقد‪ ،‬والضمير في‬
‫ثم وصف الزيتونة‬ ‫هاتين القراءتين راجع إلى المصباح‪ .‬وهو أشبه بهذا الوصف لنه الذي ينير ويضيء‪ ،‬وإنما الزجاجة وعاء له‪.‬‬
‫بوصف آخر فقال‪:‬‬

‫‪30‬‬
‫"يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار"‪ :‬المعنى‪ :‬أن هذا الزيت في صفائه وإنارته يكاد يضيء بنفسه من غير أن تمسه النار‬
‫أص ً‬
‫ل‪.‬‬
‫"نور على نور"‪ :‬المعنى‪ :‬هو نور كائن على نور‪ .‬قيل المراد النار على الزيت‪ .‬وقيل المصباح نور‪ ،‬والزجاجة نور وقيل‪ :‬نور اليمان‬
‫ونور القرآن‬
‫"يهدي الله لنوره من يشاء"‪ :‬من عباده‪ :‬أي هداية خاصة موصلة إلى المطلوب‪ ،‬وليس المراد بالهداية هنا مجرد الدللة‬
‫"ويضرب الله المثال للناس"‪ :‬أي يبين الشياء بأشباهها ونظائرها تقريبا ً لها إلى الفهام وتسهيل ً لدراكها‪ ،‬لن إبراز المعقول في‬
‫هيئة المحسوس وتصويره بصورته يزيده وضوحا ً وبيانا ً‬
‫"والله بكل شيء عليم"‪ :‬ل يغيب عنه شيء من الشياء معقول ً كان أو محسوسًا‪ ،‬ظاهرا ً أو باطنًا‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬الله نور السموات والرض" قال‪ :‬يدبر المر فيهما نجومهما وقمرهما‪ .‬وعنه في قوله‪" :‬الله‬ ‫‪.1‬‬
‫نور السموات والرض مثل نوره" الذي أعطاه المؤمن "كمشكاة" وقال في تفسير‪" :‬زيتونة ل شرقية ول غربية" إنها التي في‬
‫سفح جبل ل تصيبها الشمس إذا طلعت ول إذا غربت "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور" فذلك مثل قلب‬
‫المؤمن نور على نور‪ .‬وعنه في الية قال‪ :‬يقول مثل نور من آمن بالله كمشكاة‪ ،‬وهي الكوة‪ .‬وعنه "مثل نوره" قال‪ :‬هي خطأ‬
‫من الكاتب هو أعظم من أن يكون مثل نوره المشكاة‪ ،‬قال‪ :‬مثل نور المؤمن كمشكاة‪ .‬وعنه أيضا ً "الله نور السموات‬
‫والرض" قال‪ :‬هادي أهل السموات والرض "مثل نوره" مثل هداه في قلب المؤمن "كمشكاة" يقول موضع الفتيلة كما يكاد‬
‫الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار‪ ،‬فإذا مسته النار ازداد ضوءا ً على ضوئه‪ ،‬كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل‬
‫أن يأتيه العلم‪ ،‬فإذا جاءه العلم ازداد هدىً على هدى ونورا ً على نور‪ .‬وعنه أن اليهود قالوا لمحمد‪ :‬كيف يخلص نور الله من‬
‫دون السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره فقال‪" :‬الله نور السموات والرض مثل نوره كمشكاة" المشكاة كوة البيت فيها‬
‫مصباح‪ ،‬وهو السراج يكون في الزجاجة‪ ،‬وهو مثل ضربه الله لطاعته‪ ،‬فسمى طاعته نورًا‪ ،‬ثم سماها أنواعا ً شتى "ل شرقية ول‬
‫غربية" قال‪ :‬وهي وسط الشجر ل تنالها الشمس إذا طلعت ول إذا غربت‪ ،‬وذلك أجود الزيت "يكاد زيتها يضيء" بغير نار "نور‬
‫على نور" يعني بذلك إيمان العبد وعلمه "يهدي الله لنوره من يشاء" وهو مثل المؤمن‪.‬‬
‫عن أبي بن كعب "الله نور السموات والرض مثل نوره" قال‪ :‬هو المؤمن الذي قد جعل اليمان والقرآن في صدره‬ ‫‪.2‬‬
‫فضرب الله مثله‪ ،‬فقال‪" :‬نور السموات والرض مثل نوره" فبدأ بنور نفسه‪ ،‬ثم ذكر نور المؤمن‪ ،‬فقال مثل نور من آمن به‪،‬‬
‫فكان أبي بن كعب يقرأها مثل نور من آمن به فهو المؤمن‪ ،‬جعل اليمان والقرآن في صدره "كمشكاة" قال‪ :‬فصدر المؤمن‬
‫المشكاة "فيها مصباح المصباح" النور‪ ،‬وهو القرآن واليمان الذي جعل في صدره "في زجاجة" و "الزجاجة" قلبه "كأنها كوكب‬
‫دري" يقول كوكب مضيء "يوقد من شجرة مباركة" والشجرة المباركة‪ :‬أصل المبارك الخلص لله وحده وعبادته ل شريك له‬
‫"زيتونة ل شرقية ول غربية" قال‪ :‬فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر‪ ،‬فهي خضراء ناعمة ل تصيبها الشمس على أي حال‬
‫كانت‪ ،‬ل إذا طلعت ول إذا غربت‪ ،‬فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫عن ابن عمر في قوله‪" :‬كمشكاة فيها مصباح" قال‪ :‬المشكاة في جوف محمد ‪ ،‬والزجاجة قلبه‪ ،‬والمصباح النور الذي‬ ‫‪.3‬‬
‫في قلبه "يوقد من شجرة مباركة" الشجرة إبراهيم "زيتونة ل شرقية ول غربية" ل يهودية ول نصرانية‪ ،‬ثم قرأ "ما كان إبراهيم‬
‫يهوديا ً ول نصرانيا ً ولكن كان حنيفا ً مسلما ً وما كان من المشركين"‪.‬‬
‫جاء ابن عباس إلى كعب الحبار‪ ،‬فقال حدثني عن قوله الله‪" :‬الله نور السموات والرض مثل نوره" قال‪ :‬مثل نور محمد‬ ‫‪.4‬‬
‫ً‬
‫‪‬كمشكاة قال‪ :‬المشكاة الكوة ضربها الله مثل لقمة فيها مصباح‪ ،‬والمصباح قلبه "المصباح في زجاجة" والزجاجة صدره "كأنها‬
‫كوكب دري" شبه صدر محمد ‪ ‬بالكوكب الدري‪ ،‬ثم رجع المصباح إلى قلبه فقال‪ " :‬يوقد من شجرة مباركة زيتونة ل شرقية‬
‫ول غربية يكاد زيتها يضيء " قال‪ :‬يكاد محمد ‪‬يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي‪ ،‬كما يكاد الزيت أن يضيء ولو لم تمسسه نار‪.‬‬
‫وأقول‪ :‬إن تفسير النظم القرآني بهذا ونحوه مما تقدم عن أبي بن كعب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ليس على ما‬
‫تقتضيه لغة العرب‪ ،‬ول ثبت عن رسول الله ‪ ‬ما يجوز العدول عن المعنى العربي إلى هذه المعاني التي هي شبيهة باللغاز‬
‫والتعمية‪ ،‬ولكن هؤلء الصحابة ومن وافقهم ممن جاء بعدهم استبعدوا تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة‪ ،‬ولهذا‬
‫قال ابن عباس‪ :‬هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة كما قدمنا عنه‪ ،‬ول وجه لهذا الستبعاد‪ .‬فإنا قد قدمنا في أول‬
‫البحث ما يرفع الشكال ويوضح ما هو المراد على أحسن وجه وأبلغ أسلوب‪ ،‬وعلى ما تقتضيه لغة العرب ويفيده كلم الفصحاء‪ ،‬فل‬
‫وجه للعدول عن الظاهر‪ ،‬ل من كتاب ول من سنة ول من لغة‪ .‬وأما ما حكي عن كعب الحبار في هذا كما قدمنا‪ ،‬فإن كان هو سبب‬
‫عدول أولئك الصحابة الجلء عن الظاهر في تفسير الية‪ ،‬فليس مثل كعب رحمه الله ممن يقتدى به في مثل هذا‪ .‬وتفسير‬
‫الصحابي إذا كان مستنده الرواية عن أهل الكتاب كما يقع ذلك كثيرًا‪ ،‬فل تقوم به الحجة ول يسوغ لجله العدول عن التفسير‬
‫العربي‪ ،‬نعم إن صحت قراءة أبي بن كعب‪ ،‬كانت هي المستند لهذه التفاسير المخالفة للظاهر‪ ،‬وتكون كالزيادة المبينة للمراد‪ ،‬وإن‬
‫لم تصح فالوقوف على ما تقتضيه قراءة الجمهور من السبعة وغيرهم ممن قبلهم وممن بعدهم هو المتعين‪.‬‬

‫صاِل‬
‫ح َلُه ِفيَها ِباْلُغُدّو َوال َ‬
‫سّب ُ‬
‫سُمُه ُي َ‬
‫ل َأن ُتْرَفَع َوُيْذَكَر ِفيَها ا ْ‬
‫ن ا ُّ‬
‫ت َأِذ َ‬
‫ِفي ُبُيو ٍ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"في بيوت "‪ :‬اختلف بما هو متعلق‪ ،‬فقيل متعلق بما قبله‪ :‬أي كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد‪ ،‬كأنه قيل مثل نوره‬
‫كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت‪ ،‬وقيل متعلق بمصباح‪ .‬وقيل‪ :‬هو حال للمصباح والزجاجة والكوكب‪،‬‬
‫كأنه قيل‪ :‬وهي في بيوت‪ ،‬وقيل متعلق يتوقد‪ ،‬أي توقد في بيوت‪ ،‬وقد قيل متعلق بما بعده‪ ،‬وهو "يسبح" أي يسبح له رجال في‬
‫بيوت‪ ،‬وعلى هذا يكون قوله‪" :‬فيها" تكريرا ً كقولك‪ ،‬زيد في الدار جالس فيها‪ .‬وقيل إنه منفصل عما قبله‪ ،‬كأنه قال‪ :‬الله في بيوت أذن‬
‫الله أن ترفع‪ ,‬وبذلك جاءت الخبار أنه من جلس في المساجد فإنما يجالس ربه‪.‬‬
‫وقد قيل على تقدير تعلقه بمشكاة أو مصباح أو بتوقد ما الوجه في توحيد المصباح والمشكاة وجمع البيت؟ ول تكون المشكاة‬
‫الواحدة ول المصباح الواحد إل في بيت واحد‪ .‬وأجيب بأن هذا من الخطاب الذي يفتح أوله بالتوحيد‪ ،‬ويختم بالجمع كقوله سبحانه "يا‬
‫أيها النبي إذا طلقتم النساء" ونحوه‪ ,‬وقيل معنى في بيوت‪ :‬في كل واحد من البيوت‪ ،‬فكأنه قال‪ :‬في كل بيت‪ ،‬أو في كل واحد من‬
‫البيت‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫واختلف الناس في البيوت‪ ،‬على أقوال‪ :‬الول أنها المساجد‪ ،‬الثاني أنها بيوت بيت المقدس‪ ،‬الثالث أنها بيوت النبي ‪ ،‬الرابع هي‬
‫البيوت كلها‪ ،‬الخامس أنها المساجد الربعة‪ :‬الكعبة‪ ،‬ومسجد قباء‪ ،‬ومسجد المدينة‪ ،‬ومسجد بيت المقدس‪ ،‬والقول الول أظهر لقوله‪:‬‬
‫"يسبح له فيها بالغدو والصال"‬
‫"أذن الله أن ترفع"‪: :‬أمر وقضى‪ ،‬ومعنى ترفع تبنى‪ ،‬ومنه قوله سبحانه "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" وقيل‪ :‬معنى ترفع‬
‫تعظم ويرفع شأنها وتطهر من النجاس والقذار‪ ،‬وقيل المراد بالرفع هنا مجموع المرين‪.‬‬
‫"ويذكر فيها اسمه"‪ :‬كل ذكر لله عز وجل‪ ،‬وقيل هو التوحيد‪ ،‬وقيل المراد تلوة القرآن‪ ،‬والول أولى‪.‬‬
‫" يسبح له فيها بالغدو والصال‪ .‬رجال"‪:‬‬
‫بفعل مقدر يسبحه‬ ‫رجال مرفوع‬ ‫القائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثلثة‬ ‫سّبح" مبنيا ً للمفعول‬
‫"ي ُ َ‬ ‫قرأت "يسبح"‬
‫وكأنه جواب سؤال مقدر من يسبحه؟‬
‫على أنه خبر مبتدأ محذوف‪.‬‬
‫وفاعل "يسبح" "رجال"‬ ‫سّبح" مبنيا ً للفاعل‬ ‫"ي ُ َ‬
‫واختلف في هذا التسبيح ما هو؟ فالكثرون حملوه على الصلة المفروضة‪ ،‬قالوا‪ :‬الغدو صلة الصبح‪ ،‬والصال صلة الظهر والعصر‬
‫والعشاءين‪ ،‬لن اسم الصال يشملها‪ ،‬ومعنى بالغدو والصال‪ :‬بالغداة والعشي وقيل صلة الصبح والعصر‪ ،‬وقيل المراد صلة الضحى‪،‬‬
‫وقيل المراد بالتسبيح هنا معناه الحقيقي‪ ،‬وهو تنزيه الله سبحانه عما ل يليق به في ذاته وصفاته وأفعاله‪ ،‬ويؤيد هذا ذكر الصلة‬
‫والزكاة بعده‪ ،‬وهذا أرجح مما قبله‪ ،‬لكونه المعنى الحقيقي مع وجود دليل على خلف ما ذهب إليه الولون‪ .‬وهو ما ذكرناه‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن ابن عباس "في بيوت أذن الله أن ترفع" قال‪ :‬هي المساجد تكرم وينهى عن اللغو فيها‪ ،‬ويذكر فيها اسم الله‪ ،‬يتلى‬ ‫‪.1‬‬
‫فيها كتابه "يسبح له فيها بالغدو والصال" صلة الغداة وصلة العصر‪ ،‬وهما أول ما فرض الله من الصلة فأحب أن يذكرهما‬
‫ويذكر بهما عباده‪.‬‬
‫وعنه قال‪ :‬إن صلة الضحى لفي القرآن وما يغوص عليها إل غواص في قوله‪" :‬في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها‬ ‫‪.2‬‬
‫اسمه يسبح له فيها بالغدو والصال"‪.‬‬

‫صاُر‬
‫ن َيْوًما َتَتَقّلبُ ِفيِه اْلُقُلوبُ َواَلْب َ‬
‫خاُفو َ‬
‫صلِة َوِإيَتاء الّزَكاِة َي َ‬
‫ل َوِإَقاِم ال ّ‬
‫عن ِذْكِر ا ِّ‬
‫جاَرٌة َول َبْيٌع َ‬
‫جاٌل ّل ُتْلِهيِهْم ِت َ‬
‫ِر َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"ل تلهيهم تجارة ول بيع "‪ :‬هذه الجملة صفة لرجال‪ :‬أي ل تشغلهم التجارة والبيع عن الذكر‪ ،‬وخص التجارة بالذكر لنها أعظم ما‬
‫يشتغل به النسان عن الذكر‪.‬والتجارة لهل الجلب‪ ،‬والبيع ما باعه الرجل على بدنه‪ ،‬وخص قوم التجارة هاهنا بالشراء لذكر البيع‬
‫بعدها‪ ،‬والتجار هم الجلب المسافرون والباعة هم المقيمون‪.‬‬
‫"عن ذكر الله"‪ :‬هو ما تقدم في أوله "ويذكر فيها اسمه" وقيل المراد الذان‪ ،‬وقيل عن ذكره بأسمائه الحسنى‪ :‬أي يوحدونه‬
‫ويمجدونه‪ .‬وقيل المراد عن الصلة‪ ،‬ويرده ذكر الصلة بعد الذكر هنا‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫"وإقام الصلة‪ :‬إقامتها لمواقيتها من غير تأخير‪ ،‬وحذفت التاء لن الضافة تقوم مقامها‪ ,‬وقد احتاج من حمل ذكر الله على الصلة‬
‫المفروضة أن يحمل إقام الصلة على تأديتها في أوقاتها فرارا ً من التكرار‪.‬‬
‫"وإيتاء الزكاة"‪ :‬المراد بالزكاة المذكورة هي المفروضة‪ ،‬وقيل المراد بالزكاة طاعة الله والخلص‪ ،‬إذ ليس لكل مؤمن مال‪.‬‬
‫"يخافون يومًا"‪ :‬أي يوم القيامة‪ .‬ثم وصف هذا اليوم بقوله‪:‬‬
‫"تتقلب فيه القلوب والبصار"‪ :‬أي تضطرب وتتحول‪ ،‬قيل المراد بتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فل ترجع إلى‬
‫أماكنها ول تخرج‪ ،‬والمراد بتقلب البصار هو أن تصير عمياء بعد أن كانت مبصرة‪ .‬وقيل المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين‬
‫الطمع في النجاة والخوف من الهلك‪ ،‬وأما تقلب البصار فهو نظرها من أي ناحية يؤخذون‪ ،‬وإلى أي ناحية يصيرون‪ .‬وقيل المراد‬
‫تحول قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه من الشك إلى اليقين‪ ،‬ومثله قوله‪" :‬فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" فما كان يراه‬
‫في الدنيا غيا ً يراه في الخرة رشدًا‪ .‬وقيل المراد التقلب على جمر جهنم‪ ،‬وقيل غير ذلك‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن أبي هريرة عن رسول الله ‪ ‬في قوله‪" :‬رجال ل تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر الله" قال‪ :‬هم الذين يضربون في‬ ‫‪.1‬‬
‫الرض يبتغون من فضل الله‪.‬‬
‫عن ابن عباس في الية‪ ،‬قال‪ :‬كانوا رجال ً يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون‪ ،‬فإذا سمعوا النداء بالصلة ألقوا ما في‬ ‫‪.2‬‬
‫أيديهم وقاموا إلى المسجد فصلوا‪.‬‬
‫وعنه في الية‪ ،‬قال‪ :‬ضرب الله هذا المثل قوله‪" :‬كمشكاة" لولئك القوم الذين ل تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر الله‪،‬‬ ‫‪.3‬‬
‫وعنه أيضا ً عن ذكر الله قال‪ :‬عن شهود‬ ‫وكانوا أتجر الناس وأبيعهم‪ ،‬ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم ول بيعهم عن ذكر الله‪.‬‬
‫الصلة‪.‬‬
‫عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلة فأغلقوا حوانيتهم‪ ،‬ثم دخلوا المسجد‪ ،‬فقال ابن عمر فيهم نزلت‪" :‬رجال‬ ‫‪.4‬‬
‫ل تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر الله"‪.‬‬
‫عن ابن مسعود أنه رأى ناسا ً من أهل السوق سمعوا الذان فتركوا أمتعتهم‪ ،‬فقال‪ :‬هؤلء الذي قال الله فيهم‪" :‬ل تلهيهم‬ ‫‪.5‬‬
‫تجارة ول بيع عن ذكر الله"‪.‬‬

‫سا ٍ‬
‫ب‬ ‫ح َ‬
‫شاء ِبَغْيِر ِ‬
‫ق َمن َي َ‬
‫ل َيْرُز ُ‬
‫ضِلِه َوا ُّ‬
‫عِمُلوا َوَيِزيَدُهم ّمن َف ْ‬
‫ن َما َ‬
‫سَ‬‫ح َ‬
‫ل َأ ْ‬
‫جِزَيُهُم ا ُّ‬
‫ِلَي ْ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"ليجزيهم الله أحسن ما عملوا"‪ :‬أي يفعلون ما يفعلون من التسبيح والذكر وإقام الصلة وإيتاء الزكاة "ليجزيهم الله أحسن ما‬
‫عملوا"‪ :‬أي أحسن جزاء أعمالهم حسبما وعدهم من تضعيف ذلك إلى عشرة أمثاله وإلى سبعمائة ضعف‪ ،‬وقيل المراد بما في هذه‬
‫الية ما يتفضل سبحانه به عليهم زيادة على ما يستحقونه‪ ،‬والول أولى لقوله‪:‬‬
‫"ويزيدهم من فضله"‪ :‬فإن المراد به التفضل عليهم بما فوق الجزاء الموعود به‬
‫"والله يرزق من يشاء بغير حساب"‪ :‬أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه‪ ،‬أو أن عطاءه سبحانه ل نهاية له‪،‬والجملة مقررة لما‬
‫سبقها من الوعد بالزيادة‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن أسماء بنت يزيد قالت‪ :‬قال رسول الله ‪" :‬يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي ينفذهم البصر‪ ،‬فيقوم‬
‫مناد فينادي‪ :‬أين الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب‪ ،‬ثم يعود فينادي‪ :‬أين‬
‫الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادى‪ :‬ليقم الذين كانوا ل تلهيهم‬
‫تجارة ول بيع عن ذكر الله‪ ،‬فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب‪ ،‬ثم يقوم سائر الناس فيحاسبون"‪.‬‬

‫سا ِ‬
‫ب‬ ‫ح َ‬
‫سِريُع اْل ِ‬
‫ل َ‬
‫ساَبُه َوا ُّ‬
‫ح َ‬
‫عنَدهُ َفَوّفاُه ِ‬
‫ل ِ‬
‫جَد ا َّ‬
‫شْيًئا َوَو َ‬
‫جْدُه َ‬
‫جاَءُه َلْم َي ِ‬
‫حّتى ِإَذا َ‬
‫ن َماء َ‬
‫ظْمآ ُ‬
‫سُبُه ال ّ‬
‫ح َ‬
‫ب ِبِقيَعٍة َي ْ‬
‫سَرا ٍ‬
‫عَماُلُهْم َك َ‬
‫ن َكَفُروا َأ ْ‬
‫َواّلِذي َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫مناسبة اليات لما قبلها‪ :‬لما ذكر سبحانه حال المؤمنين وما يؤول إليه أمرهم ذكر مثل ً للكافرين فقال‪:‬‬
‫"والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة"‪ :‬المراد بالعمال هنا‪ :‬هي العمال التي من أعمال الخير كالصدقة والصلة وفك العاني‬
‫وعمارة البيت وسقاية الحاج‪ ،‬والسراب‪ :‬ما يرى في المفاوز من لمعان الشمس عند اشتداد حر النهار على صورة الماء في ظن من‬
‫يراه‪ ،‬وسمي سرابا ً لنه يسرب‪ :‬أي يجري كالماء‪ ،‬إل أنه يرتفع عن الرض حتى يصير كأنه بين السماء والرض‪ ،‬والقيعة جمع قاع‪ :‬وهو‬
‫الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء‪ .‬وهو القاع المستوي من الرض‪،‬‬
‫" يحسبه الظمآن ماء "‪ :‬هذه صفة ثانية لسراب‪ ،‬والظمآن العطشان‪ ،‬وتخصيص الحسبان بالظمآن مع كون الريان يراه كذلك‪،‬‬
‫لتحقيق التشبيه المبني على الطمع‬
‫"حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا"‪ :‬أي إذا جاء العطشان ذلك الذي حسبه ماء لم يجده شيئا مما قدره وحسبه ول من غيره‪ ،‬والمعنى‪:‬‬
‫ً‬
‫أن الكفار يعولون على أعمالهم التي يظنونها من الخير ويطمعون في ثوابها‪ ،‬فإذا قدموا على الله سبحانه لم يجدوا منها شيئًا‪ ،‬لن‬
‫ثم ذكر‬ ‫الكفر أحبطها ومحا أثرها‪ ،‬والمراد بقوله‪" :‬حتى إذا جاءه" مع أنه ليس بشيء أنه جاء الموضع الذي كان يحبسه فيه‪.‬‬
‫سبحانه ما يدل على زيادة حسرة الكفرة‪ ،‬وأنه لم يكن قصارى أمرهم مجرد الخيبة كصاحب السراب فقال‪:‬‬
‫"ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب"‪ :‬أي وجد الله بالمرصاد فوفاه حسابه‪ :‬أي جزاء عمله‪ ،‬وقيل وجد وعد‬
‫الله بالجزاء على عمله‪ ،‬وقيل وجد أمر الله عند حشره‪ ،‬وقيل وجد حكمه وقضاءه عند المجيء‪ ،‬وقيل عند العمل والمعنى متقارب‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬والذين كفروا أعمالهم كسراب" قال‪ :‬هو مثل ضربه الله كرجل عطش فاشتد عطشه فرأى سرابا ً فحسبه‬
‫ماء‪ ،‬فطلبه فظن أنه قدر عليه حتى أتى‪ ،‬فلما أتاه لما يجده شيئًا‪ ،‬وقبض عند ذلك‪ ،‬يقول‪ :‬الكافر كذلك السراب إذا أتاه الموت لم يجد‬
‫عمله يغني عنه شيئًا‪ ،‬ول ينفعه إل كما نفع السراب العطشان "أو كظلمات في بحر لجي" قال‪ :‬يعني بالظلمات العمال‪ ،‬وبالبحر‬
‫اللجي قلب النسان "يغشاه موج" يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر‪ .‬وعنه بقيعة‪ :‬بأرض مستوية‪.‬‬
‫عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الكفار يبعثون يوم القيامة وردا ً عطاشا ً فيقولون أين الماء؟ فيتمثل لهم السراب‬
‫فيحسبونه ماء‪ ،‬فينطلقون إليه فيجدون الله عنده فيوفيهم حسابه والله سريع الحساب"‬

‫‪35‬‬
‫ل َلُه ُنوًرا َفَما‬
‫جَعِل ا ُّ‬
‫ج َيَدهُ َلْم َيَكْد َيَراَها َوَمن ّلْم َي ْ‬
‫خَر َ‬
‫ض ِإَذا َأ ْ‬
‫ق َبْع ٍ‬
‫ضَها َفْو َ‬
‫ت َبْع ُ‬
‫ظُلَما ٌ‬
‫ب ُ‬
‫حا ٌ‬
‫سَ‬‫ج ّمن َفْوِقِه َ‬
‫ج ّمن َفْوِقِه َمْو ٌ‬
‫شاُه َمْو ٌ‬
‫ي َيْغ َ‬
‫جّ‬
‫حٍر ّل ّ‬
‫ت ِفي َب ْ‬
‫ظُلَما ٍ‬
‫َأْو َك ُ‬
‫َلُه ِمن ّنوٍر‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ً‬
‫"أو كظلمات"‪ :‬معطوف على كسراب‪ ،‬ضرب الله مثل آخر لعمال الكفار كما أنه تشبه السراب الموصوف بتلك الصفات‪ ،‬فهي‬
‫أيضا ً تشبه الظلمات‪ .‬فأعلم الله سبحانه أن أعمال الكفار إن مثلت بما يوجد فمثلها كمثل السراب‪ ،‬وإن مثلت بما يرى فهي كهذه‬
‫الظلمات التي وصف‪ .‬فأو للباحة حسبما تقدم من القول في "أو كصيب"‪.‬‬
‫ً‬
‫وقيل‪ :‬الية الولى في ذكر أعمال الكفار‪ ،‬والثانية في ذكر كفرهم‪ ،‬ونسق الكفر على أعمالهم لنه أيضا من أعمالهم‪.‬‬
‫"في بحر لجي"‪ :‬اللجة معظم الماء‪ ،‬والجمع لجج وهو الذي ل يدرك لعمقه‪ .‬ثم وصف سبحانه هذا البحر بصفة أخرى فقال‪:‬‬
‫"يغشاه موج"‪ :‬أي يعلو هذا البحر موج فيستره ويغطيه بالكلية‪ ،‬ثم وصف هذا الموج بقوله‪:‬‬
‫"من فوقه سحاب"‪ :‬أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب‪ ،‬فيجتمع حينئذ عليهم خوف البحر وأمواجه والسحاب المرتفعة فوقه‪.‬‬
‫وقيل إن المعنى‪ :‬يغشاه موج من بعده موج‪ ،‬فيكون الموج يتبع بعضه بعضا ً حتى كأن بعضه فوق بعض‪ ،‬والبحر أخوف ما يكون إذا‬
‫توالت أمواجه‪ ،‬فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه زاد الخوف شدة‪ ،‬لنها تستر النجوم التي يهتدي بها من في البحر‪ ،‬ثم إذا‬
‫أمطرت تلك السحاب وهبت الريح المعتادة في الغالب عند نزول المطر تكاثفت الهموم وترادفت الغموم‪ ،‬وبلغ المر إلى الغاية التي‬
‫ليس وراءها غاية‪ ،‬ولهذا قال سبحانه‪:‬‬
‫"ظلمات بعضها فوق بعض"‪ :‬أي هي ظلمات‪ ،‬أو هذه ظلمات متكاتفة مترادفة‪ ،‬ففي هذه الجملة بيان لشدة المر وتعاظمه‪.‬‬
‫ومن غرائب التفاسير أنه سبحانه أراد بالظلمات‪ :‬أعمال الكافر‪ ،‬وبالبحر اللجي‪ :‬قلبه‪ :‬وبالموج فوق الموج‪ :‬ما يغشى قلبه من الجهل‬
‫والشك والحيرة‪ .‬والسحاب الرين والختم والطبع على قلبه‪ ،‬وهذا تفسير هو عن لغة العرب بمكان بعيد‪ .‬ثم بالغ سبحانه في هذه‬
‫الظلمات المذكورة بقوله‪:‬‬
‫"إذا أخرج يده لم يكد يراها"‪ :‬وفاعل أخرج ضمير يعود على مقدر دل عليه المقام‪ :‬أي إذا أخرج الحاضر في هذه الظلمات أو من‬
‫ابتلي بها‪ .‬المعنى لم يرها ولم يكد‪ .‬وقيل‪ :‬يعني لم يرها إل من بعد الجهد‪ .‬وأصح القوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها‪ ،‬فإذن لم‬
‫يرها رؤية بعيدة ول قريبة‬
‫ً‬
‫"ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور"‪ :‬الجملة مقررة لما قبلها من كون أعمال الكفرة على تلك الصفة‪ ،‬والمعنى‪ :‬ومن‬
‫لم يجعل الله له هداية فما له من هداية‪ .‬ذلك في الدنيا‪ ،‬والمعنى‪ :‬من لم يهده الله لم يهتد‪ ،‬وقيل المعنى من لم يجعل له نورا ً يمشي‬
‫به يوم القيامة فما له من نور يهتدي به إلى الجنة‪.‬‬

‫عِليٌم ِبَما َيْفَعُلو َ‬


‫ن‬ ‫ل َ‬
‫حُه َوا ُّ‬
‫سِبي َ‬
‫صلَتُه َوَت ْ‬
‫عِلَم َ‬
‫ت ُكّل َقْد َ‬
‫صاّفا ٍ‬
‫طْيُر َ‬
‫ض َوال ّ‬
‫سَماَواتِ َواَلْر ِ‬
‫ح َلُه َمن ِفي ال ّ‬
‫سّب ُ‬
‫ل ُي َ‬
‫ن ا َّ‬
‫َأَلْم َتَر َأ ّ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والرض"‪ :‬الخطاب لكل من له أهلية النظر‪ ،‬أو للرسول ‪ ‬وقد علمه من جهة‬
‫الستدلل‪ ،‬ومعنى "ألم تر" ألم تعلم‪ ،‬والهمزة للتقرير‪ :‬أي قد علمت علما ً يقينيا ً شبيها ً بالمشاهدة‪ ،‬والتسبيح التنزيه في ذاته وأفعاله‬
‫وصفاته عن كل ما يليق به‪ ،‬ومعنى "من في السماوات والرض" من هو مستقر فيهما من العقلء وغيرهم‪ ،‬وتسبيح غير العقلء ما‬
‫‪36‬‬
‫يسمع من أصواتها ويشاهد من أثر الصنعة البديعة فيها‪ .‬وقيل إن التسبيح هنا هو الصلة من العقلء والتنزيه من غيرهم‪ .‬قد قيل إن‬
‫هذه الية تشمل الحيوانات والجمادات‪ ،‬وأن أثار الصنعة اللهية في الجمادات ناطق ومخبر باتصافه سبحانه بصفات الجلل والكمال‬
‫وتنزهه عن صفات النقص‪ ،‬وفي ذلك تقريع للكفار وتوبيخ لهم حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له‬
‫يعبدونها كعبادته عز وجل‪ .‬وبالجملة فإنه ينبغي حمل التسبيح على ما يليق بكل نوع من أنواع المخلوقات على طريقة عموم المجاز‪.‬‬
‫"والطير صافات"‪ :‬مفعول صافات محذوف‪ :‬أي أجنحتها‪ ،‬وخص الطير بالذكر مع دخولها تحت من في السماوات والرض لعدم‬
‫استمرار استقرارها في الرض وكثرة لبثها وهو ليس من السماء ول من الرض‪ ،‬ولما فيها من الصنعة البديعة التي تقدر بها تارة على‬
‫الطيران‪ ،‬وتارة على المشي بخلف غيرها من الحيوانات‪ ،‬وذكر حالة من حالت الطير‪ ،‬وهي كون صدور التسبيح منها حال كونها‬
‫صافات لجنحتها‪ ،‬لن هذه الحالة هي أغرب أحوالها‪ ،‬فإن استقرارها في الهواء مسبحة من دون تحريك لجنحتها ول استقرار على‬
‫الرض من أعظم صنع الله الذي أتقن كل شيء‪ .‬ثم زاد في البيان فقال‪:‬‬
‫"كل قد علم صلته وتسبيحه"‪ :‬أي كل واحد مما ذكر‪ ،‬والضمير في علم يرجع إلى كل‪ .‬والمعنى‪ :‬أن كل واحد من هذه المسبحات‬
‫لله قد علم صلة المصلي وتسبيح المسبح‪ .‬وقيل المعنى‪ :‬أن كل مصلي ومسبح قد علم صلة نفسه وتسبيح نفسه‪ .‬ويجوز أن يكون‬
‫الضمير في علم لله سبحانه‪ :‬أي كل واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلته وتسبيحه إياه والول أرجح‪ ,‬وفائدة الخبار بأن كل‬
‫واحد قد علم ذلك أن صدوره منها على طريقة التفاق بل روية‪ ،‬وفي ذلك زيادة دللة على بديع صنع الله سبحانه وعظيم شأنه‪ ،‬كونه‬
‫جعلها مسبحة له عالمة بما يصدر منها غير جاهلة له‪.‬‬
‫قيل والصلة هنا بمعنى التسبيح‪ ،‬وكرر للتأكيد‪ ،‬والصلة قد تسمى تسبيحًا‪ .‬وقيل المراد بالصلة هنا الدعاء‪ :‬أي كل واحد قد علم دعاءه‬
‫وتسبيحه‪.‬‬
‫"والله عليم بما يفعلون"‪ :‬هذه الجملة مقررة لما قبلها‪ :‬أي ل تخفى عليه طاعتهم ول تسبيحهم‪،‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن ابن عباس في قوله "كل قد علم صلته وتسبيحه" قال‪ :‬الصلة للنسان والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫وعنه في قوله "والطير صافات" قال‪ :‬بسط أجنحتهن‬ ‫‪.2‬‬

‫صيُر‬
‫ل اْلَم ِ‬
‫ض َوِإَلى ا ِّ‬
‫ت َواَلْر ِ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ك ال ّ‬
‫ل ُمْل ُ‬
‫َو ِّ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ثم بين سبحانه أن المبدأ منه والمعاد إليه فقال‪،‬‬
‫ثم ذكر سبحانه‬ ‫"ولله ملك السماوات والرض"‪ :‬أي له ل لغيره "وإليه المصير" ل إلى غيره‪ ،‬والمصير‪ :‬الرجوع بعد الموت‪.‬‬
‫دليل ً آخر من الثار العلوية فقال‪:‬‬

‫شاء‬
‫ب ِبِه َمن َي َ‬
‫صي ُ‬
‫جَباٍل ِفيَها ِمن َبَرٍد َفُي ِ‬
‫سَماء ِمن ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫خلِلِه َوُيَنّزُل ِم َ‬‫ن ِ‬ ‫ج ِم ْ‬
‫خُر ُ‬‫ق َي ْ‬
‫جَعُلُه ُرَكاًما َفَتَرى اْلَوْد َ‬
‫ف َبْيَنُه ُثّم َي ْ‬
‫حاًبا ُثّم ُيَؤّل ُ‬
‫سَ‬‫جي َ‬
‫ل ُيْز ِ‬
‫ن ا َّ‬
‫َأَلْم َتَر َأ ّ‬
‫صاِر‬
‫ب ِباَلْب َ‬
‫سَنا َبْرِقِه َيْذَه ُ‬
‫شاء َيَكاُد َ‬‫عن ّمن َي َ‬ ‫صِرُفُه َ‬ ‫َوَي ْ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫‪37‬‬
‫ل‪ ،‬والمعنى‪ :‬أنه سبحانه يسوق السحاب سوقا ً رقيقا ً إلى حيث يشاء‬‫"ألم تر أن الله يزجي سحابًا"‪ :‬الزجاء‪ :‬السوق قليل ً قلي ً‬
‫"ثم يؤلف بينه"‪ :‬أي بين أجزائه‪ ،‬فيضم بعضه إلى بعض ويجمعه بعد تفرقه ليقوى ويتصل ويكثف‪.‬‬
‫"ثم يجعله ركاما ً"‪ :‬أي متراكما ً يركب بعضه بعضًا‪ .‬والركم‪ :‬جمع الشيء‪ ،‬يقال ركم الشيء يركمه ركمًا‪ :‬أي جمعه وألقى بعضه على‬
‫بعض وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع‪ ،‬والركمة‪ :‬الطين المجموع‪ ،‬والركام‪ :‬الرمل المتراكب‬
‫"فترى الودق يخرج من خلله"‪ :‬الودق‪ :‬المطر عند جمهور المفسرين‪ ،‬يقال ودقت السحاب فهي وادقة ودق المطر يدق‪ :‬أي‬
‫قطر يقطر‪ ،‬وقيل إن الودق البرق‪ ،‬والول أولى‪ .‬ومعنى "من خلله" من فتوقه التي هي مخارج القطر‪.‬‬
‫"وينزل من السماء من جبال فيها من برد"‪ :‬المراد بقوله من سماء‪ :‬من عال‪ ،‬لن السماء قد تطلق على جهة العلو‪ ،‬معنى‬
‫الية‪ :‬وينزل من السماء من جبال برد فيها‪" .‬فيصيب به من يشاء"‪ :‬أي يصيب بما ينزل من البرد من يشاء أن يصيبه من عباده "‬
‫ويصرفه عن من يشاء " منهم‪ ،‬أو يصيب به مال من يشاء ويصرفه عن مال من يشاء‪.‬‬
‫" يكاد سنا برقه يذهب بالبصار "‪ :‬السنا الضوء‪ :‬أي يكاد ضوء البرق الذي في السحاب يذهب بالبصار من شدة بريقه وزيادة‬
‫لمعانه‪ ،‬وهو كقوله‪" :‬يكاد البرق يخطف أبصارهم" فالسنا بالقصر ضوء البرق وبالمد الرفعة‪ ،‬وقرأت سناء برقه بالمد على المبالغة في‬
‫شدة الضوء والصفاء‪ ،‬فأطلق عليه اسم الرفعة والشرف‪ .‬ومعنى ذهاب البرق بالبصار‪ :‬خطفه إياها من شدة الضاءة وزيادة البريق‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن ابن عباس في قوله ‪ " :‬يكاد سنا برقه "يقول ‪ :‬ضوء برقه ‪.‬‬

‫صاِر‬
‫ك َلِعْبَرًة ُّلوِلي اَلْب َ‬
‫ن ِفي َذِل َ‬
‫ل الّلْيَل َوالّنَهاَر ِإ ّ‬
‫ب ا ُّ‬
‫ُيَقّل ُ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"يقلب الله الليل والنهار"‪ :‬أي يعاقب بينهما‪ ،‬وقيل يزيد في أحدهما وينقص الخر‪ ،‬وقيل يقبلهما باختلف ما يقدره فيهما من خير‬
‫وشر ونفع وضر‪ ،‬وقيل بالحر والبرد‪ ،‬وقيل المراد بذلك تغيير النهار بظلمة السحاب مرة وبضوء الشمس أخرى‪ ،‬وتغيير الليل بظلمة‬
‫السحاب تارة وبضوء القمر أخرى‪.‬‬
‫"إن في ذلك لعبرة لولي البصار"‪:‬الشارة إلى ما تقدم‪ ،‬ومعنى العبرة‪ :‬الدللة الواضحة التي يكون بها العتبار‪ ،‬والمراد بل‬
‫"أولي البصار" كل من له بصر يبصر به‪.‬‬
‫ثم ذكر سبحانه دليل ً ثالثا ً من عجائب خلق الحيوان وبديع صنعته فقال‪:‬‬

‫عَلى ُكّل‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫شاء ِإ ّ‬
‫ل َما َي َ‬
‫ق ا ُّ‬
‫خُل ُ‬
‫عَلى َأْرَبٍع َي ْ‬
‫شي َ‬
‫ن َوِمْنُهم ّمن َيْم ِ‬
‫جَلْي ِ‬
‫عَلى ِر ْ‬ ‫شي َ‬ ‫طِنِه َوِمْنُهم ّمن َيْم ِ‬
‫عَلى َب ْ‬
‫شي َ‬
‫ق ُكّل َداّبٍة ِمن ّماء َفِمْنُهم ّمن َيْم ِ‬
‫خَل َ‬
‫ل َ‬
‫َوا ُّ‬
‫يٍء َقِديٌر‬
‫ش ْ‬
‫َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"والله خلق كل دابة من ماء"‪ :‬الدابة‪ :‬كل ما دب على الرض من الحيوان‪ ،‬يقال دب يدب فهو داب‪ ،‬والهاء للمبالغة‪ ،‬ومعنى "من ماء"‬
‫من نطفة‪ ،‬وهي المني‪ ،‬كذا قال الجمهور‪ .‬وقال جماعة‪ :‬إن المراد الماء المعروف‪ ،‬لن آدم خلق من الماء والطين‪ .‬وقيل في الية‬

‫‪38‬‬
‫تنزيل الغالب منزلة الكل على القول الول‪ ،‬لن في الحيوانات ما يتولد ل عن نطفة‪ ،‬ويخرج من هذا العموم الملئكة فإنهم خلقوا من‬
‫نور‪ ،‬والجان فإنهم خلقوا من نار‪ .‬ثم فصل سبحانه أحوال كل دابة فقال‪:‬‬
‫" فمنهم من يمشي على بطنه "‪ :‬وهي الحيات والحوت والدود ونحو ذلك‪" .‬ومنهم من يمشي على رجلين"‪ :‬النسان‬
‫والطير‪.‬‬
‫"ومنهم من يمشي على أربع" سائر الحيوانات‪ ،‬ولم يتعرض لما يمشي على أكثر من أربع لقلته‪ ،‬وقيل لن المشي على أربع‬
‫فقط وإن كانت القوائم كثيرة‪ ،‬وقيل لعدم العتداد بما يمشي على أكثر من أربع؟ وقيل ليس في القرآن ما يدل على عدم المشي‬
‫على أكثر من أربع‪ ،‬لنه لم ينف ذلك ول جاء بما يقتضي الحصر‪ ،‬وفي مصحف أبي ومنهم من يمشي على أكثر فعم بهذه الزيادة جميع‬
‫ما يمشي على أكثر من أربع كالسرطان والعناكب وكثير من خشاش الرض‪.‬‬
‫"يخلق الله ما يشاء"‪ :‬مما ذكره ها هنا ومما لم يذكره كالجمادات مركبها وبسيطها ناميها وغير ناميها‪.‬‬
‫"إن الله على كل شيء قدير"‪ :‬ل يعجزه شيء بل الكل من مخلوقاته داخل تحت قدرته سبحانه‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن ابن عباس قال‪) :‬كل شيء يمشي على أربع إل النسان(‪ .‬والكلية المروية عنه رضي الله عنه ل تصح فالطيور على اختلف أنواعها‬
‫تمشي على رجلين‪.‬‬

‫سَتِقيٍم‬
‫ط ّم ْ‬
‫صَرا ٍ‬
‫شاء ِإَلى ِ‬
‫ل َيْهِدي َمن َي َ‬
‫ت َوا ُّ‬
‫ت ّمَبّيَنا ٍ‬
‫َلَقْد َأنَزْلَنا آَيا ٍ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"لقد أنزلنا آيات مبينات"‪ :‬أي القرآن‪ ،‬فإنه قد اشتمل على بيان كل شيء وما فرطنا في الكتاب من شيء‪ ،‬وقد تقدم بيان مثل‬
‫هذا في غير موضع‪.‬‬
‫"والله يهدي من يشاء"‪ :‬بتوفيقه للنظر الصحيح وإرشاده إلى التأمل الصادق‪.‬‬
‫"إلى صراط مستقيم"‪ :‬إلى طريق مستوي ل عوج فيه‪ ،‬فيتوصل بذلك إلى الخير التام وهو نعيم الجنة‪.‬‬

‫ك ِباْلُمْؤِمِني َ‬
‫ن‬ ‫ك َوَما ُأْوَلئِ َ‬
‫ق ّمْنُهم ّمن َبْعِد َذِل َ‬
‫طْعَنا ُثّم َيَتَوّلى َفِري ٌ‬
‫سوِل َوَأ َ‬
‫ل َوِبالّر ُ‬
‫ن آَمّنا ِبا ِّ‬
‫َوَيُقوُلو َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫شرع سبحانه في بيان أحوال من لم تحصل له الهداية إلى الصراط المستقيم فقال‪:‬‬
‫"ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا"‪ :‬هؤلء هم المنافقون الذين يظهرون اليمان ويبطنون الكفر ويقولون بأفواههم ما‬
‫ليس في قلوبهم‪ ،‬فإنهم كما حكى الله عنهم ها هنا ينسبون إلى أنفسهم اليمان بالله وبالرسول والطاعة لله ولرسوله نسبة بمجرد‬
‫اللسان‪ ،‬ل عن اعتقاد صحيح‪ .‬ولهذا قال‪:‬‬
‫"ثم يتولى فريق منهم" أي من هؤلء المنافقين القائلين هذه المقالة "من بعد ذلك" أي من بعد ما صدر عنهم ما نسبوه إلى‬
‫أنفسهم من دعوى اليمان والطاعة‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫"وما أولئك بالمؤمنين"‪ :‬أي ما أولئك القائلون هذه المقالة بالمؤمنين على الحقيقة‪ ،‬فيشمل الحكم بنفي اليمان جميع القائلين‪،‬‬
‫ويندرج تحتهم من تولى اندراجا ً أوليًا‪ .‬وقيل إن الشارة بقوله "أولئك" راجع إلى من تولى‪ ،‬والول أولى‪ .‬والكلم مشتمل على حكمين‪:‬‬
‫الحكم الول على بعضهم بالتولي‪ ،‬والحكم الثاني على جميعهم بعدم اليمان‪ .‬وقيل أراد بمن تولى‪ :‬من تولى عن قبول حكمه صلى‬
‫الله عليه وسلم‪ ،‬وقيل أراد بذلك رؤساء المنافقين‪ ،‬وقيل أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين‪ ،‬ول ينافي ما تحتمله هذه الية‬
‫باعتبار لفظها ورودها على سبب خاص كما سيأتي بيانه‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن قتادة في قوله‪" :‬ويقولون آمنا بالله" الية قال‪ :‬أناس من المنافقين وأظهروا اليمان والطاعة‪ ،‬وهم في ذلك يصدون عن سبيل‬
‫الله وطاعته وجهاد مع رسوله ‪.‬‬

‫ضو َ‬
‫ن‬ ‫ق ّمْنُهم ّمْعِر ُ‬
‫حُكَم َبْيَنُهْم ِإَذا َفِري ٌ‬
‫سوِلِه ِلَي ْ‬
‫ل َوَر ُ‬
‫عوا ِإَلى ا ِّ‬
‫َوِإَذا ُد ُ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ثم وصف هؤلء المنافقين بأن فريق منهم يعرضون عن إجابة الدعوة إلى الله وإلى رسوله في خصوماتهم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم"‪ :‬أي ليحكم الرسول بينهم‪ ،‬فالضمير راجع إليه لنه المباشر للحكم وإن كان الحكم‬
‫في الحقيقة لله سبحانه‪ ،‬ومثل ذلك قوله تعالى‪" :‬والله ورسوله أحق أن يرضوه"‬
‫"إذا فريق منهم معرضون"‪" :‬إذا" هي الفجائية‪ :‬أي فاجأ فريق منهم العراض عن المحاكمة إلى الله والرسول‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن الحسن قال‪ :‬إن الرجل كان يكون بينه وبين الرجل خصومة أو منازعة على عهد رسول الله ‪ ،‬فإذا دعي إلى النبي ‪ ‬وهو محق‬
‫أذعن وعلم أن النبي ‪ ‬سيقضي له بالحق‪ ،‬وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي ‪ ‬أعرض وقال‪ :‬أنطلق إلى فلن‪ ،‬فأنزل سبحانه‪:‬‬
‫"وإذا دعوا إلى الله ورسوله" إلى قوله‪" :‬هم الظالمون" فقال رسول الله ‪" :‬من كان بينه وبين أخيه شيء فدعاه إلى حكم من‬
‫حكام المسلمين فلم يجب‪ ،‬فهو ظالم ل حق له"‪.‬‬

‫عِني َ‬
‫ن‬ ‫ق َيْأُتوا ِإَلْيِه ُمْذ ِ‬
‫ح ّ‬
‫َوِإن َيُكن ّلُهُم اْل َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ثم ذكر سبحانه أن إعراضهم إنما هو إذا كان الحق عليهم وأما إذا كان لهم فإنهم يذعنون لعلمهم بأن رسول الله ‪‬ل يحكم إل بالحق‬
‫فقال‪:‬‬
‫"وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين"‪ :‬الذعان السراع مع الطاعة‪ ،‬يقال أذعن لي بحقي‪ :‬أي طاوعني لما كنت ألتمس منه‬
‫وصار يسرع إليه‪ ،‬ومذعنين مقرين وخاضعين‪.‬‬

‫ظاِلُمو َ‬
‫ن‬ ‫ك ُهُم ال ّ‬
‫سوُلُه َبْل ُأْوَلِئ َ‬
‫عَلْيِهْم َوَر ُ‬
‫ل َ‬
‫ف ا ُّ‬
‫حي َ‬
‫ن َأن َي ِ‬
‫خاُفو َ‬
‫ض َأِم اْرَتاُبوا َأْم َي َ‬
‫َأِفي ُقُلوِبِهم ّمَر ٌ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫‪40‬‬
‫ثم قسم المر في إعراضهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم فقال‪:‬‬
‫"أفي قلوبهم مرض"‪ :‬وهذه الهمزة للتوبيخ والتقريع لهم‪ ،‬والمرض النفاق‪ :‬أي أكان هذا العراض منهم بسبب النفاق الكائن في‬
‫قلوبهم‪.‬‬
‫"أم ارتابوا"‪ :‬وشكوا في أمر نبوته ‪ ‬وعدله في الحكم‪" .‬أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله" والحيف الميل في‬
‫الحكم‪ ،‬يقال حاف في قضيته‪ :‬أي جار فيما حكم به‪.‬‬
‫ثم أضرب عن هذه المور التي صدرها بالستفهام النكاري فقال‪:‬‬
‫"بل أولئك هم الظالمون"‪ :‬أي ليس ذلك لشيء مما ذكر‪ ،‬بل لظلمهم وعنادهم‪ ،‬فإنه لو كان العراض لشيء مما ذكر لما أتوا إليه‬
‫مذعنين إذا كان الحق لهم‪ ،‬وفي هذه الية دليل على وجوب الجابة إلى القاضي العالم بحكم الله العادل في حكمه لن العلماء ورثة‬
‫النبياء‪ ،‬والحكم من قضاة السلم العالمين بحكم الله العارفين بالكتاب والسنة‪ ،‬العادلين في القضاء هو حكم بحكم الله وحكم‬
‫رسوله‪ ،‬فالداعي إلى التحاكم إليهم قد دعا إلى الله وإلى رسوله‪ :‬أي إلى حكمهما‪ .‬ما لم يعلم أن الحاكم فاسق‪ .‬أو مقصر ل يعلم‬
‫بأحكام الكتاب والسنة‪ ،‬ول يعقل حجج الله ومعاني كلمه وكلم رسوله‪.‬‬

‫حو َ‬
‫ن‬ ‫ك ُهُم اْلُمْفِل ُ‬
‫طْعَنا َوُأوَلِئ َ‬
‫سِمْعَنا َوَأ َ‬
‫حُكَم َبْيَنُهْم َأن َيُقوُلوا َ‬
‫سوِلِه ِلَي ْ‬
‫ل َوَر ُ‬
‫عوا ِإَلى ا ِّ‬
‫ن ِإَذا ُد ُ‬
‫ن َقْوَل اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ِإّنَما َكا َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ثم لما ذكر ما كان عليه أهل النفاق أتبع بما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا دعوا إلى حكم الله ورسوله فقال‪:‬‬
‫"إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم " قدمنا الكلم على الدعوة إلى الله ورسوله للحكم بين‬
‫المتخاصمين وذكرنا من تجب الجابة إليه‪.‬‬
‫" أن يقولوا سمعنا وأطعنا"‪ :‬أي أن يقولوا هذا القول ل قول ً آخر‪ ،‬وهذا وإن كان على طريقة الخبر فليس المراد به ذلك‪ ،‬بل‬
‫المراد به تعليم الدب الشرعي عند هذه الدعوة من أحد المتخاصمين للخر‪ .‬والمعنى‪ :‬أنه ينبغي للمؤمنين أن يكونوا هكذا بحيث إذا‬
‫سمعوا الدعاء المذكور قابلوه بالطاعة والذعان‪ .‬يقولون سمعنا قول النبي ‪ ‬وأطعنا أمره‪ ،‬وإن كان ذلك فيما يكرهونه ويضرهم‪.‬‬
‫ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله‪:‬‬
‫ثم أردف الثناء عليهم بثناء‬ ‫"وأولئك" أي المؤمنون الذين قالوا هذا القول "هم المفلحون" أي الفائزون بخير الدنيا والخرة‪.‬‬
‫آخر فقال‪:‬‬

‫ك ُهُم اْلَفاِئُزو َ‬
‫ن‬ ‫ل َوَيّتْقِه َفُأوَلِئ َ‬
‫ش ا َّ‬
‫خ َ‬
‫سوَلُه َوَي ْ‬
‫ل َوَر ُ‬
‫طِع ا َّ‬
‫َوَمن ُي ِ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون"‪ :‬هذه الجملة مقررة لما قبلها من حسن حال المؤمنين‬
‫وترغيب من عداهم إلى الدخول في عدادهم والمتابعة لهم في طاعة الله ورسوله والخشية من الله عز وجل والتقوى له‪.‬‬
‫"فأولئك هم الفائزون" ‪:‬الشارة إلى الموصوفين بما ذكر من الطاعة والخشية والتقوى أي هم الفائزون بالنعيم الدنيوي والخروي‬
‫ل من عداهم‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫خِبيٌر ِبَما َتْعَمُلو َ‬
‫ن‬ ‫لَ َ‬
‫نا ّ‬
‫عٌة ّمْعُروَفٌة ِإ ّ‬
‫طا َ‬
‫سُموا َ‬
‫ن ُقل ّل ُتْق ِ‬
‫جّ‬‫خُر ُ‬
‫ن َأَمْرَتُهْم َلَي ْ‬
‫جْهَد َأْيَماِنِهْم َلِئ ْ‬
‫ل َ‬
‫سُموا ِبا ِّ‬
‫َوَأْق َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ثم حكى سبحانه عن المنافقين أنهم لما كرهوا حكمه أقسموا بأنه لو أمرهم بالخروج إلى الغزو لخرجوا فقال‪:‬‬
‫"وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن"‪ :‬أي لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن‪ ,‬ومعنى جهد أيمانهم‪ :‬طاقة‬
‫ولما كانت‬ ‫ما قدروا أن يحلفوا‪ ،‬مأخوذ من قولهم جهد نفسه‪ :‬إذا بلغ طاقتها وأقصى وسعها‪ .‬وجواب القسم قوله "ليخرجن"‬
‫مقالتهم هذه كاذبة وأيمانهم فاجرة رد الله عليهم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"قل ل تقسموا"‪ :‬أي رد عليهم زاجرا ً لهم‪ ،‬وقل لهم ل تقسموا‪ :‬أي ل تحلفوا على ما تزعمونه من الطاعة والخروج إلى الجهاد إن‬
‫أمرتم به‪ ،‬وهاهنا تم الكلم‪ .‬ثم ابتدأ فقال‪" :‬طاعة معروفة"‪ :‬وارتفاع "طاعة" على أنها خبر مبتدأ محذوف‪ :‬أي طاعتهم طاعة‬
‫معروفة بأنها طاعة نفاقية لم تكن عن اعتقاد‪ ,‬ويجوز أن تكون ميتدأ‪ ،‬لنها قد خصصت بالصفة‪ ،‬ويكون الخبر مقدرًا‪ :‬أي طاعة معروفة‬
‫أولى بكم من أيمانكم‪.‬‬
‫"إن الله خبير بما تعملون"‪ :‬من العمال وما تضمرونه من المخالفة لما تنطق به ألسنتكم‪ ،‬وهذه الجملة تعليل لما قبلها من كون‬
‫طاعتهم طاعة نفاق‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫سبب النزول‪ :‬عن ابن عباس قال‪ :‬أتى قوم للنبي ‪ ‬فقالوا‪ :‬يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا‪ ،‬فأنزل الله‪:‬‬
‫"وأقسموا بالله جهد أيمانهم" الية‪.‬‬
‫‪ .1‬عن مقاتل في الية قال‪ :‬ذلك شأن الجهاد‪ ،‬قال يأمرهم أن ل يحلفوا على شيء "طاعة معروفة" قال أمرهم أن يكون منهم‬
‫طاعة معروفة للنبي ‪ ‬من غير أن يقسموا‪.‬‬
‫‪ .2‬عن مجاهد "طاعة معروفة" يقول‪ :‬قد عرفت طاعتهم‪ :‬أي إنكم تكذبون به‪.‬‬

‫غ اْلُمِبي ُ‬
‫ن‬ ‫سوِل ِإّل اْلَبل ُ‬
‫عَلى الّر ُ‬
‫طيُعوُه َتْهَتُدوا َوَما َ‬
‫حّمْلُتْم َوِإن ُت ِ‬
‫عَلْيُكم ّما ُ‬
‫حّمَل َو َ‬
‫عَلْيِه َما ُ‬
‫سوَل َفِإن َتَوّلْوا َفِإّنَما َ‬
‫طيُعوا الّر ُ‬
‫ل َوَأ ِ‬
‫طيُعوا ا َّ‬
‫ُقْل َأ ِ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ثم أمر الله سبحانه نبيه ‪ ‬أن يأمرهم بطاعة الله ورسوله فقال‪:‬‬
‫"قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" طاعة ظاهرة وباطنة بخلوص اعتقاد وصحة نية‪ ،‬وهذا التكرير منه تعالى لتأكيد وجوب‬
‫الطاعة عليهم‪ ،‬فإن قوله‪" :‬قل ل تقسموا طاعة معروفة" في حكم المر بالطاعة‪ ،‬وقيل إنهما مختلفان‪ ،‬فالول نهي بطريق الرد‬
‫والتوبيخ‪ ،‬والثاني أمر بطريق التكليف لهم واليجاب عليهم‬
‫"فإن تولوا" خطاب للمأمورين‪ ،‬وأصله فإن تتولوا فحذف إحدى التاءين تخفيفًا‪ ،‬وفيه رجوع من الخطاب مع رسول الله ‪ ‬إلى‬
‫الخطاب لهم لتأكيد المر عليهم والمبالغة في العناية بهدايتهم إلى الطاعة والنقياد‪ ،‬وجواب الشرط قوله‪:‬‬
‫"فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم"‪ :‬أي فاعلموا أنما على النبي ما حمل مما أمر به من التبليغ وقد فعل‪ ،‬وعليكم ما‬
‫حملتم‪ :‬أي ما أمرتم به من الطاعة‪ ،‬وهو وعيد لهم‪ ،‬كأنه قال لهم‪ :‬فإن توليتم فقد صرتم حاملين للحمل الثقيل‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫"وإن تطيعوه"‪ :‬فيما أمركم به ونهاكم عنه "تهتدوا" إلى الحق وترشدوا إلى الخير وتفوزوا بالجر‪،‬‬
‫"وما على الرسول إل البلغ المبين"‪ :‬الجملة مقررة لما قبلها‪ ،‬واللم إما للعهد فيراد بالرسول نبينا ‪ ،‬وإما للجنس فيراد كل‬
‫رسول‪ ،‬والبلغ المبين‪ :‬التبليغ الواضح أو الموضح‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫قدم زيد بن أسلم على رسول الله ‪ ‬فقال‪ :‬أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق ول يعطونا؟ قال‪:‬فإنما عليهم ما‬ ‫‪.1‬‬
‫حملوا وعليكم ما حملتم"‪.‬‬
‫عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل‪ :‬إن كان علي إمام فاجر فلقيت معه أهل ضللة أقاتل أم ل؟ قال‪ :‬أقاتل أهل الضللة‬ ‫‪.2‬‬
‫أينما وجدتهم‪ ،‬وعلى المام ما حمل وعليكم ما حملتم‪.‬‬

‫ضى َلُهْم َوَلُيَبّدَلّنُهم ّمن‬


‫ن َلُهْم ِديَنُهُم اّلِذي اْرَت َ‬‫ن ِمن َقْبِلِهْم َوَلُيَمّكَن ّ‬ ‫ف اّلِذي َ‬
‫خَل َ‬
‫سَت ْ‬
‫ض َكَما ا ْ‬‫خِلَفّنُهم ِفي اَلْر ِ‬
‫سَت ْ‬
‫ت َلَي ْ‬‫حا ِ‬ ‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬
‫ن آَمُنوا ِمنُكْم َو َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫عَد ا ُّ‬
‫َو َ‬
‫سُقو َ‬
‫ن‬ ‫ك ُهُم اْلَفا ِ‬ ‫ك َفُأوَلِئ َ‬
‫شْيًئا َوَمن َكَفَر َبْعَد َذِل َ‬
‫ن ِبي َ‬ ‫شِرُكو َ‬
‫خْوِفِهْم َأْمًنا َيْعُبُدوَنِني ل ُي ْ‬
‫َبْعِد َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات"‪ :‬هذه الجملة مقررة لما قبلها من أن طاعتهم لرسول الله ‪ ‬سبب لهدايتهم‪،‬‬
‫وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله وعمل العمال الصالحات بالستخلف لهم في الرض لما استخلف الذين من قبلهم من‬
‫المم‪ ،‬وهو وعد يعم جميع المة‪ .‬وقيل هو خاص بالصحابة‪ ،‬ول وجه لذلك‪ ،‬فإن اليمان وعمل الصالحات ل يختص بهم‪ ،‬بل ويمكن وقوع‬
‫ذلك من كل واحد من هذه المة‪ ،‬ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله فقد أطاع الله ورسوله‪،‬‬
‫"ليستخلفنهم في الرض"‪ :‬اللم في جواب لقسم محذوف‪ ،‬أو جواب للوعد بتنزيله منزلة القسم‪ ،‬لنه ناجز ل محالة‪ ،‬ومعنى‬
‫ليستخلفهم في الرض‪ :‬ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف الملوك في مملوكاتهم‪ ،‬وقد أبعد من قال إنها مختصة بالخلفاء‬
‫الربعة‪ ،‬أو بالمهاجرين‪ ،‬أو بأن المراد بالرض أرض مكة‪ ،‬وقد عرفت أن العتبار بعموم اللفظ ل بخصوص السبب‪.‬‬
‫"كما استخلف الذين من قبلهم"‪ :‬ظاهره كل من استخلفه الله في أرضه فل يخص ذلك ببني إسرائيل ول أمة من المم دون‬
‫غيرها‪.‬‬
‫"وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم"‪:‬الجملة معطوفة على ليستخلفنهم داخلة تحت حكمه كائنة من جملة الجواب‪ ،‬والمراد‬
‫بالتمكين هنا‪ :‬التثبيت والتقرير‪ :‬أي يجعله الله ثابتا ً مقررا ً ويوسع لهم في البلد ويظهر دينهم على جميع الديان‪ ،‬والمراد بالدين هنا‪:‬‬
‫ل‪ ،‬وهو جعلهم ملوكًا‪ ،‬وذكر التمكين ثانيًا‪،‬‬
‫السلم‪ ،‬كما في قوله‪" :‬ورضيت لكم السلم دينًا" ذكر سبحانه وتعالى الستخلف لهم أو ً‬
‫فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض والطرو‪ ،‬بل على وجه الستقرار والثابت‪ ،‬بحيث يكون الملك لهم ولعقبهم من‬
‫بعدهم‪،‬‬
‫"وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ً"‪ :‬الجملة معطوفة على التي قبلها‪ .‬قرأت "ليبدلنهم" بالتخفيف من أبدل‪ ،‬وبالتشديد من بدل‪,‬‬
‫وهما لغتان‪ ،‬وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى‪ ،‬وقيل بين التخفيف والتثقيل فرقًا‪ ،‬وأنه يقال بدلته‪ :‬أي غيرته‪ ،‬وأبدلته‪ :‬أزلته وجعلت‬
‫غيره‪ .‬والمعنى‪ :‬أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من العداء أمنًا‪ ،‬ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه‬
‫بحيث ل يخشون إل الله سبحانه ول يرجون غيره‪ .‬وقد كان المسلمون قبل الهجرة وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين‪ ،‬ل‬
‫‪43‬‬
‫يخرجون إل في السلح ول يمسون ويصبحون إل على ترقب لنزول المضرة بهم من الكفار‪ ،‬ثم صاروا في غاية المن والدعة وأذل الله‬
‫لهم شياطين المشركين وفتح عليهم البلد‪ ،‬ومهد لهم في الرض ومكنهم منها‪ ،‬فلله الحمد‪،‬‬
‫"يعبدونني"‪ :‬الجملة في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة للثناء عليهم‪.‬‬
‫"ل يشركون بي شيئا ً"‪ :‬في محل نصب على الحال من فاعل يعبدونني‪ :‬أي يعبدونني‪ ،‬غير مشركين بي في العبادة شيئا من‬
‫ً‬
‫الشياء‪ ،‬وقيل معناه‪ :‬ل يراءون بعبادتي أحدًا‪ ،‬وقيل معناه‪ :‬ل يخافون غيري‪ ،‬وقيل معناه ل يحبون غيري‪.‬‬
‫"ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون"‪ :‬أي من كفر هذه النعم بعد ذلك الوعد الصحيح‪ ،‬أو من استمر على الكفر‪ ،‬أو من‬
‫كفر بعد إيمان‪ ،‬فأولئك الكافرون هم الفاسقون‪ ،‬أي الكاملون في الفسق‪ .‬وهو الخروج عن الطاعة والطغيان في الكفر‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫سبب النزول‪:‬‬
‫عن البراء في قوله‪" :‬وعد الله الذين آمنوا منكم" الية‪ .‬قال‪ :‬فينا نزلت ونحن في خوف شديد‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫ً‬
‫عن أبي العالية قال‪ " :‬كان النبي ‪ ‬وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وعبادته وحده ل شريك له‬ ‫‪.2‬‬
‫سرًا‪ ،‬وهم خائفون ل يؤمرون بالقتال‪ ،‬حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة فقدموا المدينة‪ ،‬فأمرهم الله بالقتال‪ ،‬وكانوا بها خائفين‬
‫يمسون في السلح ويصبحون في السلح‪ ،‬فغبروا بذلك ما شاء الله‪ ،‬ثم إن رجل ً من أصحابه قال‪ :‬يا رسول الله أبد الدهر نحن‬
‫خائفون هكذا؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع فيه السلح؟ فقال رسول الله ‪ :‬لن تغبروا إل يسيرا ً حتى يجلس الرجل منكم‬
‫في المل العظيم محتبيا ً ليست فيهم حديدة‪ ،‬فأنزل الله‪" :‬وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الرض"‬
‫إلى آخر الية"‪ ،‬فأظهر الله نبيه ‪ ‬على جزيرة العرب‪ ،‬فأمنوا ووضعوا السلح‪ .‬ثم إن الله قبض نبيه فكانوا كذلك آمنين في‬
‫إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا وكفروا النعمة‪ ،‬فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم‪ ،‬واتخذوا الحجر‬
‫والشرط‪ ،‬وغيروا فغير ما بهم‪.‬‬
‫عن أبي بن كعب‪ .‬قال‪ :‬لما قدم رسول الله ‪ ‬المدينة وآوتهم النصار رمتهم العرب عن قوس واحد‪ ،‬فكانوا ل يبيتون إل‬ ‫‪.3‬‬
‫في السلح ول يصبحون إل فيه‪ ،‬فقالوا‪ :‬أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين ل نخاف إل الله‪ ،‬فنزلت "وعد الله الذين‬
‫آمنوا منكم وعملوا الصالحات" الية‪.‬‬

‫عن ابن عباس "يعبدونني ل يشركون بي شيئًا" قال‪ :‬ل يخافون أحدا ً غيري‪ .‬وأخرج‬ ‫‪.1‬‬
‫عن مجاهد قال‪" :‬ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" العاصون‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫عن أبي العالية قال‪ :‬كفر بهذه النعمة‪ ،‬ليس الكفر بالله‪.‬‬ ‫‪.3‬‬

‫حُمو َ‬
‫ن‬ ‫سوَل َلَعّلُكْم ُتْر َ‬
‫طيُعوا الّر ُ‬
‫صلَة َوآُتوا الّزَكاَة َوَأ ِ‬
‫َوَأِقيُموا ال ّ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"وأقيموا الصلة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول"‪ :‬الجملة معطوفة على مقدر يدل عليه ما تقدم‪ ،‬كأنه قيل لهم فآمنوا واعملوا‬
‫صالحا ً وأقيموا الصلة‪ ،‬وقيل معطوف على "وأطيعوا الله" وقيل التقدير‪ :‬فل تكفروا وأقيموا الصلة‪ .‬وقد تقدم الكلم على إقامة‬
‫‪44‬‬
‫الصلة وإيتاء الزكاة‪ ،‬وكرر المر بطاعة الرسول للتأكيد وخصه بالطاعة‪ ،‬لن طاعته طاعة لله‪ ،‬ولم يذكر ما يطيعونه فيه لقصد التعميم‬
‫كما يشعر به الحذف على ما تقرر في علم المعاني من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم‬
‫"لعلكم ترحمون"‪ :‬أي افعلوا ما ذكر من إقامة الصلة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول راجين أن يرحمكم الله سبحانه‪.‬‬

‫صيُر‬
‫س اْلَم ِ‬
‫ض َوَمْأَواُهُم الّناُر َوَلِبْئ َ‬
‫ن ِفي اَلْر ِ‬
‫جِزي َ‬
‫ن َكفَُروا ُمْع ِ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫سَب ّ‬
‫ح َ‬
‫ل َت ْ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫" ل تحسبن الذين كفروا معجزين في الرض"‪ :‬ومعجزين معناه‪ :‬فائتين‪..‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن قتادة "معجزين في الرض" قال‪ :‬سابقين في الرض‪.‬‬

‫ظِهيَرةِ‬‫ن ال ّ‬
‫ن ِثَياَبُكم ّم َ‬
‫ضُعو َ‬‫ن َت َ‬ ‫حي َ‬‫جِر َو ِ‬‫لةِ اْلَف ْ‬
‫صَ‬‫ت ِمن َقْبِل َ‬‫ث َمّرا ٍ‬
‫ل َ‬
‫حُلَم ِمنُكْم َث َ‬
‫ن َلْم َيْبُلُغوا اْل ُ‬
‫ت َأْيَماُنُكْم َواّلِذي َ‬
‫ن َمَلَك ْ‬
‫سَتْأِذنُكُم اّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا ِلَي ْ‬ ‫َيا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫عِليٌم‬
‫ل َ‬‫ت َوا ُّ‬‫لَيا ِ‬
‫ل َلُكُم ا ْ‬
‫ن ا ُّ‬
‫ك ُيَبّي ُ‬‫ض َكَذِل َ‬
‫عَلى َبْع ٍ‬ ‫ضُكْم َ‬
‫عَلْيُكم َبْع ُ‬
‫ن َ‬
‫طّواُفو َ‬
‫ن َ‬ ‫ح َبْعَدُه ّ‬‫جَنا ٌ‬
‫عَلْيِهْم ُ‬ ‫عَلْيُكْم َوَل َ‬‫س َ‬ ‫ت ّلُكْم َلْي َ‬‫عْوَرا ٍ‬‫ث َ‬ ‫ل ُ‬‫شاء َث َ‬ ‫لِة اْلِع َ‬
‫صَ‬‫َوِمن َبْعِد َ‬
‫حِكيٌم‬
‫َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫مناسبة الية لما قبلها‪:‬‬
‫لما فرغ سبحانه من ذكر ما ذكره من دلئل التوحيد رجع إلى ما كان فيه من الستئذان فذكره ها هنا على وجه أخص‬
‫"يا أيها الذين آمنوا"‪ :‬الخطاب للمؤمنين وتدخل المؤمنات فيه تغليبا ً كما في غيره من الخطابات‪.‬‬
‫قال العلماء‪ :‬هذه الية خاصة ببعض الوقات‪.‬‬
‫منسوخة‬
‫المر فيها للندب ل للوجوب‬
‫كان ذلك واجبا ً حيث كانوا ل أبواب لهم‪ ،‬ولو عاد الحال لعاد الوجوب‬ ‫قيل المراد بقوله‪" :‬ليستأذنكم"‬
‫المر هاهنا للوجوب‪ ،‬فالية محكمة غير منسوخة‪ ،‬وحكمها ثابت على الرجال والنساء‪ ،‬وهو قول أكثر أهل‬
‫العلم‪.‬‬
‫خاصة بالنساء‬
‫خاصة بالرجال دون النساء‬
‫"ملكت أيمانكم"‪ :‬العبيد والماء‪.‬‬
‫"والذين لم يبلغوا الحلم"‪ :‬الصبيان "منكم" أي من الحرار‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫على الظرفية الزمانية‪ :‬أي ثلثة أوقات في اليوم والليلة‪ ،‬وعبر بالمرات عن الوقات لن أصل وجوب‬
‫الستئذان هو بسبب مقارنة تلك‬
‫الوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين ل نفس الوقات‪ ،‬ثم فسر تلك الوقات بقوله‪" :‬من قبل صلة الفجر"‬
‫إلخ‪.‬‬
‫"ثلث مرات" منصوبة‬
‫على المصدرية‪ :‬أي ثلث استئذانات‪ ،‬وقالوا‪ :‬هو الظاهر من قوله‪" :‬ثلث مرات" ثلث استئذانات‪ ،‬لنك إذا‬
‫قلت ضربتك ثلث مرات ل‬
‫يفهم منه إل ثلث ضربات‪ .‬ويرد بأن الظاهر هنا متروك للقرينة المذكورة‪ ،‬وهو التفسير بالثلثة الوقات‪.‬‬
‫"من قبل صلة الفجر" ‪ :‬لنه وقت القيام عن المضاجع‪ ،‬وطرح ثياب النوم‪ ،‬ولبس ثياب اليقظة‪ ،‬وربما يبيت عريانًا‪ ،‬أو على حال ل‬
‫يحب أن يراه غيره فيها‪.‬‬
‫"وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة"‪ :‬حين تضعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار من شدة حر الظهيرة وذلك عند انتصاف‬
‫النهار‪ ،‬فإنهم قد يتجردون عن الثياب لجل القيلولة‪.‬‬
‫"ومن بعد صلة العشاء"‪ :‬وذلك لنه وقت التجرد عن الثياب والخلوة بالهل‪.‬‬
‫"ثلث عورات لكم"‪ :‬إجمال بعد تفصيل‪ ,‬وعورات جمع عورة‪ ،‬والعورة في الصل الخلل‪ ،‬ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهم حفظه‬
‫ويتعين ستره‪ :‬أي هي ثلث أوقات يختل فيها الستر‪ ,‬والجملة مستأنفة مسوقة لبيان علة وجوب الستئذان‪.‬‬
‫"ليس عليكم ول عليهم"‪ :‬أي ليس على المماليك ول على الصبيان‪.‬‬
‫"جناح"‪ :‬أي إثم في الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة المر والطلع على العورات‪.‬‬
‫" بعدهن"‪ :‬بعد كل واحدة من هذه العورات الثلث‪ ،‬وهي الوقات المتخللة بين كل اثنتين منها‪.‬‬
‫وقيل "بعدهن" أي بعد استئذانهم فيهن‪ ،‬ثم حذف حرف الجر والمجرور فبقي بعد استئذانهم‪ ،‬ثم حذف المصدر وهو الستئذان‪،‬‬
‫والضمير المتصل به‪ .‬ورد بأنه ل حاجة إلى هذا التقدير الذي ذكره‪ ،‬بل المعنى ما سبق‪.‬‬
‫"طوافون عليكم"‪ :‬أي يطوفون عليكم‪ ،‬ومنه الحديث في الهرة "إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات" أي هم خدمكم فل‬
‫بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الوقات بغير إذن‪ ,‬والجملة مستأنفة مبينة للعذر المرخص في ترك الستئذان‪.‬‬
‫"بعضكم على بعض"‪ :‬بعضكم يطوف أو طائف على بعض‪ ،‬وهذه الجملة بدل مما قبلها أو مؤكدة لها‪ .‬والمعنى أن كل ً منكم يطوف‬
‫على صاحبه العبيد على الموالي والموالي على العبيد‪.‬‬
‫وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الوقات الثلثة بغير استئذان‪ ،‬لنها كانت العادة أنهم ل يكشفون عوراتهم في غيرها‪.‬‬
‫"كذلك يبين الله لكم اليات"‪ :‬أي مثل ذلك التبيين يبين الله لكم اليات الدالة على ما شرعه لكم من الحكام‪.‬‬
‫"والله عليم حكيم"‪ :‬كثير العلم بالمعلومات وكثير الحكمة في أفعاله‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫سبب النزول‪:‬‬

‫‪46‬‬
‫أن رجل ً من النصار وامرأته أسماء بنت مرشدة صنعا للنبي ‪ ‬طعامًا‪ ،‬فقالت أسماء‪ :‬يا رسول الله ما أقبح هذا إنه‬ ‫‪.1‬‬
‫ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد غلمهما بغير إذن‪ ،‬فأنزل الله في ذلك "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين‬
‫ملكت أيمانكم" يعني العبيد والماء "والذين لم يبلغوا الحلم منكم" قال‪ :‬من أحراركم من الرجال والنساء‪.‬‬
‫كان أناس من أصحاب رسول الله ‪ ‬يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا‪ ،‬ثم يخرجوا إلى الصلة‪،‬‬ ‫‪.2‬‬
‫فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن ل يدخلوا عليهم في تلك الساعات إل بإذن‪.‬‬

‫سئل رسول الله ‪ ‬عن العورات الثلث‪ ،‬فقال‪:‬إذا أنا وضعت ثيابي بعد الظهيرة لم يلج علي أحد من الخدم من الذين لم‬ ‫‪.1‬‬
‫يبلغوا الحلم ول أحد لم يبلغ الحلم من الحرار إل بإذن‪ ،‬وإذا وضعت ثيابي بعد صلة العشاء‪ ،‬ومن قبل صلة الصبح"‪.‬‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬إنه لم يؤمن بها أكثر الناس‪ :‬يعني آية الذن‪ ،‬وإني لمر جاريتي هذه‪ ،‬لجارية قصيرة قائمة على رأسه‬ ‫‪.2‬‬
‫أن تستأذن علي‪.‬‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬ترك الناس ثلث آيات لم يعملوا بهن "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم"‪ ،‬والية‬ ‫‪.3‬‬
‫التي في سورة النساء "وإذا حضر القسمة" الية‪ ،‬والية التي في الحجرات "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"‪.‬‬
‫وعنه أيضا ً في الية قال‪ :‬إذا خل الرجل بأهله بعد العشاء فل يدخل عليه صبي ول خادم إل بإذنه حتى يصلي الغداة‪ ،‬وإذا‬ ‫‪.4‬‬
‫خل بأهله عند الظهر فمثل ذلك‪ ،‬ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن‪ ،‬وهو قوله‪" :‬ليس عليكم ول عليهم جناح‬
‫بعدهن" فأما من بلغ الحلم‪ ،‬فإنه ل يدخل على الرجل وأهله إل بإذن على كل حال‪ ،‬وهو قوله‪" :‬وإذا بلغ الطفال منكم الحلم‬
‫فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم"‬
‫وعنه أيضًا‪ :‬أن رجل ً سأله عن الستئذان في الثلث العورات التي أمر الله بها في القرآن‪ ،‬فقال ابن عباس‪ :‬إن الله ستير‬ ‫‪.5‬‬
‫يحب الستر وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ول حجاب في بيوتهم‪ ،‬فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيم في حجره‬
‫وهو على أهله‪ ،‬فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله‪ ،‬ثم جاء الله بعد بالستور‪ ،‬فبسط عليهم في الرزق‪،‬‬
‫فاتخذوا الستور واتخذوا الحجاب‪ ،‬فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الستئذان الذي أمروا به‪.‬‬
‫وعن ابن عمر في قوله‪" :‬ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" قال‪ :‬هي على الذكور دون الناث‪ ،‬ول وجه لهذا التخصيص‪،‬‬ ‫‪.6‬‬
‫فالطلع على العورات في هذه الوقات كما يكرهه النسان من الذكور يكرهه من الناث‪.‬‬
‫و عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الية قالت‪ :‬نزلت في النساء أن يستأذن علينا‪.‬‬ ‫‪.7‬‬
‫وعن علي في الية قال‪ :‬النساء فإن الرجال يستأذنون‪.‬‬ ‫‪.8‬‬
‫وسئل الشعبي عن هذه الية أمنسوخة هي؟ قال‪ :‬ل‪.‬‬ ‫‪.9‬‬

‫حِكيٌم‬
‫عِليٌم َ‬
‫ل َ‬
‫ل َلُكْم آَياِتِه َوا ُّ‬
‫ن ا ُّ‬
‫ك ُيَبّي ُ‬
‫ن ِمن َقْبِلِهْم َكَذِل َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫سَتْأَذ َ‬
‫سَتْأِذُنوا َكَما ا ْ‬
‫حُلَم َفْلَي ْ‬ ‫وِإَذا َبَلَغ اَْل ْ‬
‫طَفاُل ِمنُكُم اْل ُ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫مناسبة الية لما قبلها‪:‬‬

‫‪47‬‬
‫لما بين فيما مر حكم الطفال الذين لم يبلغوا الحلم في أنه ل جناح عليهم في ترك الستئذان فيما عدا الوقات الثلثة يين سبحانه‬
‫هاهنا حكم الطفال الحرار إذا بلغوا الحلم‬
‫" فليستأذنوا "‪ :‬يعني الذين بلغوا الحلم إذا دخلوا عليكم‪.‬‬
‫" كما استأذن"‪ :‬أي استئذانا كما استأذن الذين من قبلهم‪.‬‬
‫"الذين من قبلهم"‪ :‬أي الذين قيل لهم "ل تدخلوا بيوتا ً غير بيوتكم حتى تستأنسوا" الية‪ .‬والمعنى‪ :‬أن هؤلء الذين بلغوا الحلم‬
‫يستأذنون في جميع الوقات كما استأذن الذين من قبلهم من الكبار الذين أمروا بالستئذان من غير استثناء‪.‬‬
‫"كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم"‪ :‬كرر لتأكيد ما تقدم‪.‬‬
‫فواجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا أحرارا ً كانوا أو عبيدًا‪ ,‬فيستأذن الرجل على أمه‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫سئل ابن عباس أأستأذن على أختى؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قلت‪ :‬إنها في حجري وإني أنفق عليها وإنها معي في البيت أأستأذن‬ ‫‪.1‬‬
‫عليها؟ قال‪ :‬نعم إن الله يقول‪" :‬ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم" الية‪ ،‬فلم يؤمر هؤلء بالذن إل‬
‫في هؤلء العورات الثلث‪ ،‬قال‪" :‬وإذا بلغ الطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم" فالذن واجب على كل‬
‫خلق الله أجمعين‪.‬‬
‫وعن ابن مسعود قال‪ :‬عليكم إذن على أمهاتكم‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫وعنه قال‪ :‬يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخيه وأخته‪ ,‬وعن جابر نحوه‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫وعن عطاء بن يسار "أن رجل ً قال‪ :‬يا رسول الله أأستأذن على أمي؟ قال‪:‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬إني معها في البيت‪ ،‬قال‪:‬استأذن‬ ‫‪.4‬‬
‫عليها‪ ،‬قال‪ :‬إني خادمها أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال‪:‬أتحب أن تراها عريانة؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪:‬فاستأذن عليها" وهو مرسل‪.‬‬

‫عِليٌم‬
‫سِميٌع َ‬
‫ن َوالُّ َ‬
‫خْيٌر ّلُه ّ‬
‫ن َ‬
‫سَتْعِفْف َ‬
‫ت ِبِزيَنٍة وََأن َي ْ‬
‫جا ٍ‬
‫غْيَر ُمَتَبّر َ‬
‫ن َ‬
‫ن ِثَياَبُه ّ‬
‫ضْع َ‬
‫ح َأن َي َ‬
‫جَنا ٌ‬
‫ن ُ‬
‫عَلْيِه ّ‬
‫س َ‬
‫حا َفَلْي َ‬
‫ن ِنَكا ً‬
‫جو َ‬
‫ساء اّللِتي ل َيْر ُ‬
‫ن الّن َ‬
‫عُد ِم َ‬
‫َواْلَقَوا ِ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"والقواعد من النساء"‪ :‬العجائز اللتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر‪ ،‬واحدتها قاعد بل هاء ليدل حذفها على أنه قعود الكبر‪،‬‬
‫كما قالوا‪ :‬امرأة حامل ليدل بحذف الهاء على أنه حمل حبل‪ ،‬ويقال‪ :‬قاعدة في بيتها وحاملة على ظهرها‪ ,‬وهن اللتي قعدن عن‬
‫التزويج‪.‬‬
‫ً‬
‫"اللتي ل يرجون نكاحا"‪ :‬أي ل يطمعن فيه لكبرهن‪ ,‬اللتي قعدن عن الولد‪ ،‬وليس هذا بمستقيم‪ ،‬لن المرأة تقعد عن الولد وفيها‬
‫مستمتع‪.‬‬
‫ثم ذكر سبحانه حكم القواعد فقال‪:‬‬
‫"فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن"‪ :‬أي الثياب التي تكون على ظاهر البدن كالجلباب ونحوه‪ ،‬ل الثياب التي على العورة‬
‫الخاصة‪ ،‬وإنما جاز لهن ذلك لنصراف النفس عنهن إذ ل رغبة للرجال فيهن‪ ،‬فأباح الله سبحانه لهن ما لم يبحه لغيرهن‪ .‬وقرأ بعضهم‬
‫" أن يضعن ثيابهن " بزيادة من‪.‬‬
‫ثم استثنى حالة من حالتهن فقال‪:‬‬
‫‪48‬‬
‫"غير متبرجات بزينة"‪ :‬أي غير مظهرات للزينة التي أمرن بإخفائها في قوله‪" :‬ول يبدين زينتهن" والمعنى‪ :‬من غير أن يردن بوضع‬
‫الجلبيب إظهار زينتهن ول متعرضات بالتزين لينظر إليهن الرجال‪ .‬والتبرج التكشف والظهور للعيون‪ ،‬ومنه "بروج مشيدة" وبروج‬
‫السماء‪ ،‬ومنه قولهم‪ :‬سفينة بارجة‪ :‬أي ل غطاء عليها‪.‬‬
‫"وأن يستعففن خير لهن"‪ :‬أي وأن يتركن وضع الثياب فهو خير لهن من وضعها‪ ، .‬وقرأ بعضهم‪ " :‬وأن يستعففن " بغير سين‪.‬‬
‫"والله سميع عليم"‪ :‬كثير السماع والعلم أو بليغهما‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن ابن عباس "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن" الية‪ ،‬فنسخ واستثنى من ذلك "والقواعد من النساء اللتي ل‬ ‫‪.1‬‬
‫ً‬
‫يرجون نكاحا" الية‪.‬‬
‫وعنه قال‪ :‬هي المرأة ل جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار وتضع عليها الجلباب ما لم تتبرج بما يكرهه الله‪ ،‬وهو‬ ‫‪.2‬‬
‫قوله‪" :‬فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة"‪.‬‬
‫عن ابن عباس أنه كان يقرأ‪ " :‬أن يضعن ثيابهن " ويقول‪ :‬هو الجلباب‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫عن ابن مسعود "أن يضعن ثيابهن" قال‪ :‬الجلباب والرداء‪.‬‬ ‫‪.4‬‬

‫ت ُأّمَهاِتُكْم َأوْ‬
‫ت آَباِئُكْم َأْو ُبُيو ِ‬‫سُكْم َأن َتْأُكُلوا ِمن ُبُيوِتُكْم َأْو ُبُيو ِ‬ ‫عَلى َأنُف ِ‬ ‫ج َول َ‬ ‫حَر ٌ‬
‫ض َ‬ ‫ج َول عََلى اْلَمِري ِ‬ ‫حَر ٌ‬‫ج َ‬ ‫عَر ِ‬‫عَلى اَل ْ‬ ‫ج َول َ‬ ‫حَر ٌ‬‫عَمى َ‬ ‫عَلى اَل ْ‬ ‫س َ‬‫َلْي َ‬
‫عَلْيُكْم‬
‫س َ‬ ‫صِديِقُكْم َلْي َ‬‫حُه َأْو َ‬ ‫خالِتُكْم َأْو َما َمَلْكُتم ّمَفاِت َ‬‫ت َ‬ ‫خَواِلُكْم َأْو ُبُيو ِ‬
‫ت َأ ْ‬
‫عّماِتُكْم َأْو ُبُيو ِ‬
‫ت َ‬
‫عَماِمُكْم َأْو ُبُيو ِ‬
‫ت َأ ْ‬
‫خَواِتُكْم َأْو ُبُيو ِ‬ ‫ت َأ َ‬‫خَواِنُكْم َأْو ُبُيو ِ‬
‫ت ِإ ْ‬
‫ُبُيو ِ‬
‫ت َلَعّلُكْم َتْعِقُلون‬
‫ل َلُكُم الَيا ِ‬ ‫ن ا ُّ‬‫ك ُيَبّي ُ‬
‫طّيَبًة َكَذِل َ‬
‫ل ُمَباَرَكًة َ‬
‫عنِد ا ِّ‬
‫ن ِ‬ ‫حّيًة ّم ْ‬
‫سُكْم َت ِ‬
‫عَلى َأنُف ِ‬‫سّلُموا َ‬
‫خْلُتم ُبُيوًتا َف َ‬
‫شَتاًتا َفِإَذا َد َ‬
‫جِميًعا َأْو َأ ْ‬
‫ح َأن َتْأُكُلوا َ‬ ‫جَنا ٌ‬
‫ُ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"ليس على العمى حرج ول على العرج حرج ول على المريض حرج"‪:‬‬
‫اختلف أهل العلم في هذه الية هل هي محكمة أو منسوخة؟ قال بالول جماعة من العلماء‪ ،‬وبالثاني جماعة‪.‬‬
‫سبب نزولها‪:‬‬
‫قيل إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم‪ ،‬وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم‪ :‬قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في‬
‫بيوتنا‪ ،‬فكانوا يتحرجون من ذلك وقالوا‪ :‬ل ندخلها وهم غيب‪ ،‬فنزلت هذه الية رخصة لهم‪.‬‬
‫فمعنى الية‪ :‬نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيوت أقاربهم أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو‪ .‬وهذا القول من‬
‫أجل ما روي في الية لما فيه من الصحابة والتابعين من التوقيف‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وقيل إن هؤلء المذكورين كانوا يتحرجون من مؤاكلة الصحاء حذارا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم فنزلت‪.‬‬
‫وقيل إن الله رفع الحرج عن العمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر‪ ،‬وعن العرج فيما يشترط في التكليف به القدرة‬
‫الكاملة على المشي على وجه يتعذر التيان به مع العرج‪ ،‬في تأخرهم عن الغزو‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫وقيل كان الرجل إذا أدخل أحدا ً من هؤلء الزمنى إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ً يطعمهم إياه ذهب بهم إلى بيوت قرابته‪ ،‬فيتحرج الزمنى‬
‫من ذلك فنزلت‪.‬‬
‫"ول على أنفسكم"‪ :‬عليكم وعلى من يماثلكم من المؤمنين‪.‬‬
‫"أن تأكلوا"‪ :‬أنتم ومن معكم‪ ،‬وهذا ابتداء كلم‪ :‬أي ول عليكم أيها الناس‪ .‬والحاصل أن رفع الحرج عن العمى والعرج والمريض إن‬
‫كان باعتبار مؤاكلة الصحاء‪ ،‬أو دخول بيوتهم فيكون "ول على أنفسكم" متصل ً بما قبله‪ ،‬وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار‬
‫التكاليف التي يشترط فيها وجود البصر وعدم العرج وعدم المرض ‪ ،‬فقوله ‪ " :‬ول على أنفسكم " ابتداء كلم غير متصل بما قبله ‪.‬‬
‫"من بيوتكم"‪ :‬البيوت التي فيها متاعهم وأهلهم فيدخل بيوت الولد كذا قال المفسرون‪ ،‬لنها داخلة في بيوتهم لكون بيت ابن‬
‫الرجل بيته‪ ،‬فلذا لم يذكر سبحانه بيوت الولد وذكر بيوت الباء وبيوت المهات ومن بعدهم‪ ,‬وعارض بعضهم هذا فقال‪ :‬هذا تحكم على‬
‫كتاب الله سبحانه بل الولى في الظاهر أن يكون البن مخالفا ً لهؤلء‪ .‬ويجاب عن هذه المعارضة بأن رتبة الولد بالنسبة إلى الباء ل‬
‫تنقص عن رتبة الباء بالنسبة إلى الولد‪ ،‬بل للباء مزيد خصوصية في أموال الولد لحديث "أنت ومالك لبيك" وحديث "ولد الرجل‬
‫من كسبه" ثم قد ذكر الله سبحانه هاهنا بيوت الخوة والخوات‪ ،‬بل بيوت العمام والعمات‪ ،‬بل بيوت الخوال والخالت‪ ،‬فكيف ينفي‬
‫سبحانه الحرج عن الكل من بيوت هؤلء‪ ،‬ول ينفيه عن بيوت الولد؟ وقد قيد بعض العلماء جواز الكل من بيوت هؤلء بالذن منهم‪.‬‬
‫ل‪ ،‬فإن كان محرزا ً دونهم لم يجز لهم أكله‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬ل يشترط الذن‪ .‬قيل وهذا إذا كان الطعام مبذو ً‬
‫"أو ما ملكتم مفاتحه"‪ :‬أي البيوت التي تملكون التصرف فيها بإذن أربابها‪ ،‬وذلك كالوكلء والعبيد والخزان‪ ،‬فإنهم يملكون التصرف‬
‫في بيوت من أذن لهم بدخول بيته وإعطائهم مفاتحه‪ .‬وقيل المراد بها بيوت المماليك‪.‬‬
‫"أو صديقكم"‪ :‬أي ل جناح عليكم أن تأكلوا من بيوت صديقكم وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة‪ ،‬فإن الصديق في الغالب يسمح‬
‫لصديقه بذلك وتطيب به نفسه‪ ،‬والصديق يطلق على الواحد والجمع‪.‬‬
‫"ليس عليكم جناح أن تأكلواجميعا ً أو أشتاتًا"‪ :‬انتصاب جميعا ً وأشتاتا على الحال‪ .‬والشتات جمع شت‪ ،‬والشت المصدر‪:‬‬
‫ً‬
‫بمعنى التفرق‪ ،‬يقال شت القوم‪ :‬أي تفرقوا‪ ،‬وهذه الجملة كلم مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر من جنس ما قبله‪ :‬أي ليس‬
‫عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم مجتمعين أو متفرقين‪ ،‬وقد كان بعض العرب يتحرج أن يأكل وحده حتى يجد له أكيل ً يؤاكله فيأكل‬
‫معه‪ ،‬وبعض العرب كان ل يأكل إل مع ضيف‪.‬‬
‫ثم شرع في بيان أدب به عباده فقال‪:‬‬
‫"فإذا دخلتم بيوتًا"‪ ::‬أي إذا دخلتم بيوتا غير البيوت التي تقدم ذكرها فهي المساجد‪ ,‬وقيل المراد البيوت المذكورة سابقا‪ .‬وقيل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫المراد بالبيوت هنا هي كل البيوت المسكونة وغيرها‪ ،‬والقول بالعموم في البيوت هو الصحيح‪.‬‬
‫"فسلموا على أنفسكم"‪ :‬أي على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم‪ .‬وعلى القول الول في البيوت المراد سلموا على من فيها من‬
‫صنفكم‪ ،‬فإن لم يكن في المساجد أحد‪ ،‬فقيل يقول‪ :‬السلم على رسول الله‪ ،‬وقيل يقول‪ :‬السلم عليكم مريدا ً للملئكة‪ ،‬وقيل يقول‪:‬‬
‫السلم علينا وعلى عباد الله الصالحين‪ ،‬وعلى القول الثالث في البيوت فيسلم على أهل المسكونة‪ ،‬وأما غير المسكونة فيسلم على‬
‫نفسه‪.‬‬
‫"تحية"‪ :‬أي تحية ثابتة وهي منصوبة على المصدرية‬
‫"من عند الله"‪ :‬أي إن الله حياكم بها‪ .‬وقيل‪ :‬أي إن الله أمركم أن تفعلوها طاعة له‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫"مباركة"‪ :‬وصف لهذه التحية أي كثيرة البركة والخير دائمتهما‬
‫"طيبة"‪ :‬أي تطيب بها نفس المستمع‪ ،‬وقيل حسنة جميلة‪ .‬وقيل‪ :‬أعلم الله سبحانه أن السلم مبارك طيب لما فيه من الجر‬
‫والثواب‪،‬‬
‫ً‬
‫"كذلك يبين الله لكم اليات" التكرار هنا تأكيدا لما سبق‪ .‬وقد قدمنا أن الشارة بذلك إلى مصدر الفعل‬
‫"لعلكم تعقلون"‪ :‬تعليل لذلك التبيين برجاء تعقل آيات الله سبحانه وفهم معانيها‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫أسباب النزول‪:‬‬
‫لما نزلت "يا أيها الذين آمنوا ل تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" قالت النصار‪ :‬ما بالمدينة مال أعز من الطعام كانوا‬ ‫‪.1‬‬
‫يتحرجون الكل مع العرج يقولون الصحيح‬
‫يسبقه إلى المكان ول يستطيع أن يزاحم‪ ،‬ويتحرجون الكل مع المريض يقولون ل يستطيع أن يأكل مثل الصحيح‪ ،‬وكانوا‬
‫يتحرجون أن يأكلوا في بيوت أقاربهم‪،‬‬
‫فنزلت "ليس على العمى" يعني في الكل مع العمى‪.‬‬
‫كان الرجل يذهب بالعمى أو العرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه أو بيت عمه أو بيت عمته أو بيت خاله أو بيت‬ ‫‪.2‬‬
‫خالته‪ .‬فكان الزمنى يتحرجون من ذلك يقولون إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم‪ ،‬فنزلت هذه الية رخصة لهم‪.‬‬
‫كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فيدفعون مفاتيحهم إلى أمنائهم ويقولون لهم قد‬ ‫‪.3‬‬
‫أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه‪ ،‬فكانوا يقولون إنه ل يحل لنا أن نأكل إنهم أذنوا لنا من غير طيب نفس‪ ،‬وإنما نحن زمنى‪،‬‬
‫فأنزل الله "ول على أنفسكم أن تأكلوا" إلى قوله‪" :‬أو ما ملكتم مفاتحه"‪.‬‬
‫لما نزلت "يا أيها الذين آمنوا ل تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" قال المسلمون‪ :‬إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا‬ ‫‪.4‬‬
‫بالباطل والطعام هو أفضل الموال فل يحل لحد منا أن يأكل عند أحد فكف الناس عن ذلك‪ ،‬فأنزل الله "ليس على العمى‬
‫حرج" إلى قوله‪" :‬أو ما ملكتم مفاتحه" وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته‪ ،‬والذي رخص الله أن يأكل من ذلك الطعام والتمر‬
‫ويشرب اللبن‪ ،‬وكانوا أيضا ً يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره‪ ،‬فرخص الله لهم فقال‪" :‬ليس عليكم‬
‫جناح أن تأكلوا جميعا ً أو أشتاتًا"‪.‬‬
‫كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي ‪‬ل يخالطهم في طعامهم أعمى ول مريض ول أعرج ل يستطيع المزاحمة على‬ ‫‪.5‬‬
‫الطعام‪ ،‬فنزلت رخصة في مؤاكلتهم‪.‬‬
‫سئل الزهري عن قوله‪" :‬ليس على العمى حرج" ما بال العمى والعرج والمريض ذكروا هنا؟ فقال‪ :‬أخبرني عبيد الله‬ ‫‪.6‬‬
‫بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفهم زمانهم‪ ،‬وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما‬
‫في بيوتنا‪ ،‬وكانوا يتحرجون من ذلك يقولون ل ندخلها وهم غيب‪ ،‬فأنزل الله هذه الية رخصة لهم‪.‬‬
‫كان هذا الحي من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهلية‪ ،‬حتى إن كان الرجل‬ ‫‪.7‬‬
‫يسوق الزود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه‪ ،‬فأنزل الله "ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا ً أو أشتاتًا"‪.‬‬
‫كانت النصار إذا نزل بهم الضيف ل يأكلون حتى يأكل الضيف معهم‪ ،‬فنزلت رخصة لهم‪.‬‬ ‫‪.8‬‬

‫‪51‬‬
‫خرج الحارث غازيا ً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف على أهله خالد بن يزيد‪ ،‬فحرج أن يأكل من طعامه‪ ،‬وكان‬ ‫‪.9‬‬
‫مجهودا ً فنزلت‪.‬‬

‫عن قتادة في قوله‪" :‬أو صديقكم" قال‪ :‬إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته‪ ،‬ثم أكلت من طعامه بغير إذنه لم يكن‬ ‫‪.1‬‬
‫بذلك بأس‪.‬‬
‫عن ابن زيد في قوله‪" :‬أو صديقكم" قال‪ :‬هذا شيء قد انقطع‪ ،‬إنما كان هذا في أوله ولم يكن لهم أبواب‪ ،‬وكانت الستور‬ ‫‪.2‬‬
‫مرخاة‪ ،‬فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد‪ ،‬فربما وجد الطعام وهو جائع فسوغه الله أن يأكله‪ .‬وقال‪ :‬ذهب ذلك اليوم‬
‫البيوت فيها أهلها‪ ،‬فإذا خرجوا أغلقوا فقد ذهب ذلك‪.‬‬
‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬فإذا دخلتم بيوتا ً فسلموا على أنفسكم" يقول‪ :‬إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أنفسكم "تحية‬ ‫‪.3‬‬
‫من عند الله" وهو السلم‪ ،‬لنه اسم الله وهو تحية أهل الجنة‪.‬‬
‫عن جابر بن عبد الله قال‪ :‬إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله "مباركة طيبة"‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬فسلموا على أنفسكم" قال‪ :‬هو المسجد إذا دخلته فقل‪ :‬السلم علينا وعلى عباد الله‬ ‫‪.5‬‬
‫الصالحين‪.‬‬
‫عن ابن عمر قال‪ :‬إذا دخل البيت غير المسكون أو المسجد فليقل‪ :‬السلم علينا وعلى عباد الله الصالحين‪.‬‬ ‫‪.6‬‬

‫سوِلِه‬
‫ل َوَر ُ‬
‫ن ِبا ِّ‬
‫ن ُيْؤِمُنو َ‬
‫ك اّلِذي َ‬
‫ك ُأْوَلِئ َ‬‫سَتْأِذُنوَن َ‬
‫ن َي ْ‬‫ن اّلِذي َ‬‫سَتْأِذُنوُه ِإ ّ‬
‫حّتى َي ْ‬‫جاِمٍع َلْم َيْذَهُبوا َ‬
‫سوِلِه َوِإَذا َكاُنوا َمَعُه عََلى َأْمٍر َ‬‫ل َوَر ُ‬‫ن آَمُنوا ِبا ِّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ِإّنَما اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫حيٌم‬‫ل غَُفوٌر ّر ِ‬ ‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬‫سَتْغِفْر َلُهُم ا َّ‬‫ت ِمْنُهْم َوا ْ‬
‫شْئ َ‬
‫شأِْنِهْم َفْأَذن ّلَمن ِ‬
‫ض َ‬‫ك ِلَبْع ِ‬ ‫سَتْأَذُنو َ‬
‫َفِإَذا ا ْ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"إنما المؤمنون"‪ :‬جملة مستأنفة مسوقة لتقدير ما تقدمها من الحكام‪ ،‬و "إنما" من صيغ الحصر‪ .‬والمعنى ل يتم إيمان ول يكمل‬
‫حتى يكون "بالله ورسوله"‬
‫"وإذا كانوا معه على أمر جامع"‪ :‬جملة معطوفة على آمنوا داخلة معه في حيز الصلة‪ :‬أي إذا كانوا مع رسول الله على أمر‬
‫جامع‪ :‬أي على أمر طاعة يجتمعون عليها‪ ،‬نحو الجمعة والنحر والفطر والجهاد وأشباه ذلك‪ ،‬وسمي المر جامعا ً مبالغة‪ ,‬والمر الجامع‬
‫أو الجميع هو الذي يعم نفعه أو ضرره‪ ،‬وهو المر الجليل الذي يحتاج إلى اجتماع أهل الرأي والتجارب‪.‬‬
‫"لم يذهبوا حتى يستأذنوه"‪ :‬قال المفسرون‪ :‬كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن‬
‫يخرج من المسجد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال النبي صلى الله عليه وسلم حيث يراه‪ ،‬فيعرف أنه إنما قام ليستأذن فيأذن‬
‫لمن يشاء منهم‪ ,‬وإذن المام يوم الجمعة أن يشير بيده‪ ,‬فأعلم الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيه فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم‬
‫يذهبوا حتى يستأذنوه‪ ،‬وكذلك ينبغي أن يكونوا مع المام ل يخالفونه ول يرجعون عنه في جمع من جموعهم إل بإذنه‪ .‬قال العلماء‪ :‬كل‬
‫أمر اجتمع عليه المسلمون مع المام ل يخالفونه ول يرجعون عنه إل بإذن‬
‫"فأذن لمن شئت منهم"‪ :‬فللمام أن يأذن وله أن ل يأذن على ما يرى‬

‫‪52‬‬
‫"إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله"‪ :‬فبين سبحانه أن المستأذنين‪ :‬هم المؤمنون بالله ورسوله كما‬
‫حكم أول ً بأن المؤمنين الكاملين اليمان‪ :‬هم الجامعون بين اليمان بهما وبين الستئذان‪.‬‬
‫"فإذا استأذنوك لبعض شأنهم" ‪ :‬أي إذا استأذن المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض المور التي تهمهم فإنه يأذن‬
‫لمن شاء منهم ويمنع من شاء على حسب ما تقتضيه المصلحة التي يراها رسول الله صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫"واستغفر لهم الله"‪ :‬أرشده الله سبحانه إلى الستغفار لهم‪ ،‬وفيه إشارة إلى أن الستئذان إن كان لعذر مسوغ‪ ،‬فل يخلو عن‬
‫شائبة تأثير أمر الدنيا على الخرة‪.‬‬
‫"إن الله غفور رحيم"‪ :‬أي كثير المغفرة والرحمة بالغ فيهما إلى الغاية التي ليس وراءها غاية‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫سبب نزول‪:‬‬
‫لما أقبلت قريش عام الحزاب نزلوا بمجمع السيال من رومة بئر بالمدينة‪ ،‬قائدها أبو سفيان‪ ،‬وأقبلت غطفان حتى نزلوا بنقمى إلى‬
‫جانب أحد‪ ،‬وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر‪ ،‬فضر الخندق على المدينة وعمل فيه المسلمون‪ ،‬وأبطأ رجال من المنافقين‪،‬‬
‫وجعلوا يورون بالضعيف من العمل‪ ،‬فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ول إذن‪ ،‬وجعل الرجل من‬
‫المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي ل بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق لحاجته فيأذن‬
‫له‪ ،‬فإذا قضى حاجته رجع‪ ،‬فأنزل الله في أولئك "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله" الية‪.‬‬

‫عن سعيد بن جبير في الية قال‪ :‬هي في الجهاد والجمعة والعيدين‪.‬‬


‫قوله‪" :‬على أمر جامع" قال‪ :‬من طاعة الله عام‪.‬‬

‫صيَبُهْم ِفْتَنٌة َأوْ‬


‫ن َأْمِرِه َأن ُت ِ‬
‫عْ‬
‫ن َ‬
‫خاِلُفو َ‬
‫ن ُي َ‬
‫حَذِر اّلِذي َ‬
‫ن ِمنُكْم ِلَواًذا َفْلَي ْ‬‫سّلُلو َ‬
‫ن َيَت َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫ضا َقْد َيْعَلُم ا ُّ‬
‫ضُكم َبْع ً‬
‫عاء َبْع ِ‬
‫سوِل َبْيَنُكْم َكُد َ‬
‫عاء الّر ُ‬
‫جَعُلوا ُد َ‬
‫ل َت ْ‬
‫ب َأِليٌم‬
‫عَذا ٌ‬
‫صيَبُهْم َ‬‫ُي ِ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫ً‬
‫"ل تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا"‪ :‬وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها‪:‬‬
‫أي ل تجعلوا دعوته إياكم كالدعاء من بعضكم لبعض في التساهل في بعض الحوال عن الجابة أو الرجوع بغير استئذان‬ ‫‪.1‬‬
‫أو رفع الصوت‪.‬‬
‫وقيل المعنى قولوا يا رسول الله في رفق ولين‪ ،‬ول تقولوا يا محمد بتجهم‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫وقيل أمرهم أن يشرفوه ويفخموه‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫وقيل المعنى‪ :‬ل تتعرضوا لدعاء الرسول عليكم بإسخاطه‪ ،‬فإن دعوته موجبة‬ ‫‪.4‬‬

‫‪53‬‬
‫"قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ً"‪ :‬التسلل‪ :‬الخروج في خفية‪ ،‬يقال تسلل فلن من بين أصحابه‪ :‬إذا خرج من بينهم‪،‬‬
‫واللواذ من الملوذة‪ ،‬وهو أن تستتر بشيء مخافة من يراك‪ ،‬وأصله أن يلوذ هذا بذلك وذاك بهذا‪ ،‬واللوذ ما يطيف بالجبل‪ ،‬وقيل اللواذ‬
‫الزوغان من شيء إلى شيء في خفية‪ .‬وفي الية بيان ما كان يقع من المنافقين‪ ،‬فإنهم كانوا يتسللون عن صلة الجمعة متلوذين‬
‫يضم بعضهم إلى بعض استتار من رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وقد كان يوم الجمعة أثقل يوم على المنافقين لما يرون من‬
‫الجتماع للصلة والخطبة فكانوا يفرون عن الحضور ويتسللون في خفية ويستتر بعضهم ببعض وينضم إليه‪ .‬وقيل اللواذ‪ :‬الفرار من‬
‫الجهاد "فليحذر الذين يخالفون عن أمره"‪ :‬الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها‪ :‬أي يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫بترك العمل بمقتضاه وقيل الضمير لله سبحانه لنه المر بالحقيقة‪.‬‬
‫وعدي فعل المخالفة بعن مع كونه متعديا ً بنفسه لتضمينه معنى العراض أو الصد‪ ،‬وقيل‪:‬عن في هذا الموضع زائدة‪ .‬وقيل ليست‬
‫بزائدة‪ ،‬بل هي بمعنى بعد‪ ،‬كقوله‪" :‬ففسق عن أمر ربه" أي بعد أمر ربه‪ ،‬والولى ما ذكرناه من التضمين‪.‬‬
‫"أن تصيبهم فتنة"‪ :‬مفعول يحذر‪ ،‬وفاعله الموصول‪ .‬والمعنى‪ :‬فليحذر المخالفون عن أمر الله أو أمر رسوله أو أمرهما جميعا ً‬
‫إصابة فتنة لهم والفتنة التي حذرهم من إصابتها لهم هي في الدنيا‪ ,‬والفتنة هنا غير مقيدة بنوع من أنواع الفتن‪ ،‬وقيل من القتل‪ ،‬وقيل‬
‫الطبع على قلوبهم‪.‬‬
‫" أو يصيبهم عذاب أليم "‪ :‬أي في الخرة‪ ,‬وكلمة أو لمنع الخلو‪ .‬واحتج الفقهاء على أن المر للوجوب بهذه الية‪ ،‬ووجه ذلك أن‬
‫الله سبحانه قد حذر من مخالفة أمره‪ ،‬وتوعد بالعقاب عليها بقوله‪" :‬أن تصيبهم فتنة" الية‪ ،‬فيجب امتثال أمره وتحرم مخالفته‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫سبب النزول‪:‬‬
‫كان ل يخرج أحد لرعاف أو أحداث حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بأصبعه التي تلي البهام‪ ،‬فيأذن له النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم يشير إليه بيده‪ ،‬وكان من المنافقين من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد‪ ،‬فكان إذا استأذن رجل من‬
‫المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به حتى يخرج‪ .‬فأنزل الله "الذين يتسللون منكم لواذا" الية‪.‬‬

‫عن سعيد بن جبير في قوله‪" :‬ل تجعلوا دعاء الرسول" الية قال‪ :‬يعني كدعاء أحدكم إذا دعا أخاه باسمه‪ ،‬ولكن وقروه‬ ‫‪.1‬‬
‫وقولوا له‪ :‬يا رسول الله يا نبي الله‪.‬‬
‫و عنه أيضا ً في الية قال‪ :‬ل تصيحوا به من بعيد يا أبا القاسم‪ ،‬ولكن كما قال الله في الحجرات "إن الذين يغضون‬ ‫‪.2‬‬
‫أصواتهم عند رسول الله"‪.‬‬

‫عِليمٌ‬
‫يٍء َ‬
‫ش ْ‬
‫ل ِبُكّل َ‬
‫عِمُلوا َوا ُّ‬
‫ن ِإَلْيِه َفُيَنّبُئُهم ِبَما َ‬
‫جُعو َ‬
‫عَلْيِه َوَيْوَم ُيْر َ‬
‫ض َقْد َيْعَلُم َما َأنُتْم َ‬
‫ت َواَلْر ِ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ل َما ِفي ال ّ‬
‫ن ِّ‬
‫َأل ِإ ّ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫"أل إن لله ما في السموات والرض"‪ :‬من المخلوقات بأسرها‪ ،‬فهي ملكه‪.‬‬
‫"قد يعلم ما أنتم عليه"‪ :‬أيها العباد من الحوال التي أنتم عليها فيجازيكم بحسب ذلك‪ ،‬ويعلم هاهنا بمعنى علم‬
‫‪54‬‬
‫"ويوم يرجعون إليه"‪ :‬معطوف على ما أنتم عليه‪ :‬أي يعلم ما أنتم عليه ويعلم يوم يرجعون إليه فيجازيكم فيه بما عملتم‪ ،‬وتعليق‬
‫علمه سبحانه بيوم يرجعون ل بنفس رجعهم لزيادة تحقيق علمه‪ ،‬لن العلم بوقت وقوع الشيء يستلزم العلم بوقوعه على أبلغ وجه‬
‫" فينبئهم بما عملوا "‪ :‬أي يخبرهم بما عملوا من العمال التي من جملتها مخالفة المر‪ ،‬والظاهر من السياق أن هذا الوعيد‬
‫للمنافقين‬
‫"والله بكل شيء عليم"‪ :‬ل يخفى عليه شيء من أعمالهم‪.‬‬
‫تفسير الية رواية‪:‬‬
‫عن عقبة بن عامر قال‪ :‬رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الية في خاتمة سورة النور وهو جاعل أصبعيه تحت‬
‫عينيه يقول‪ :‬بكل شيء بصير‪.‬‬

‫تفسير سورة الحجرات‬

‫عِليٌم‬
‫سِميٌع َ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫سوِلِه َواّتُقوا ا َّ‬
‫ل َوَر ُ‬
‫ي ا ِّ‬
‫ن َيَد ِ‬
‫ن آَمُنوا ل ُتَقّدُموا َبْي َ‬
‫َيا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫فعل متعد وحذف مفعوله لقصد التعميم‪ ,‬أو ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل كقولهم هو يعطي‬ ‫دموا‬
‫ُتق ّ‬
‫ويمنع‬
‫ً‬
‫جه فتكون القراءتان بنفس المعنى أي ل تقطعوا أمرا دون الله ورسوله ول تعجلوا به‪.‬‬ ‫ه وت َوَ ّ‬
‫ج َ‬‫فعل لزم نحو وَ ّ‬
‫وقيل‬
‫معنى بين يدي فلن بحضرته‪ ،‬لن ما يحضره النسان فهو بين يديه‬ ‫‪.‬قرأت "تقدموا"‪:‬‬
‫دموا‬ ‫تَ َ‬
‫ق ّ‬
‫‪.‬واتقوا الله"‪ :‬في كل أموركم‪ ،‬ويدخل تحتها الترك للتقدم بين يدي الله ورسوله دخول ً أوليا ً"‬
‫‪:‬ثم علل ما أمر به من التقوى بقوله‬
‫‪.‬إن الله سميع"‪ :‬لكل مسموع "عليم" بكل معلوم"‬
‫‪:‬تفسير الية رواية‬

‫‪55‬‬
‫‪:‬سبب النزول‬
‫قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬أمر القعقاع بن معبد‪ ،‬وقال عمر‪ :‬بل أمر القرع‬ ‫‪.1‬‬
‫بن حابس‪ ،‬فقال أبو بكر ما أردت إل خلفي‪ ،‬فقال عمر‪ :‬ما أردت خلفك‪ ،‬فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما‪ ،‬فأنزل الله‪" :‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا ل تقدموا بين يدي الله ورسوله" حتى انقضت الية"‪.‬‬
‫كان أناس يتقدمون بين يدي رمضان بصيام‪ :‬يعني يوما ً أو يومين‪ ،‬فأنزل الله‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل تقدموا بين يدي الله‬ ‫‪.2‬‬
‫ورسوله"‪.‬‬
‫ً‬
‫أن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فأنزل الله‪" :‬يا أيها الذين آمنوا" الية‪.‬‬ ‫‪.3‬‬

‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬ل تقدموا بين يدي الله ورسوله" قال‪ :‬نهوا أن يتكلموا بين يدي كلمه‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫عن عائشة في الية قالت‪ :‬ل تصوموا قبل أن يصوم نبيكم‪.‬‬ ‫‪.2‬‬

‫شُعُرو َ‬
‫ن‬ ‫عَماُلُكْم َوَأنُتْم ل َت ْ‬
‫ط َأ ْ‬
‫حَب َ‬
‫ض َأن َت ْ‬
‫ضُكْم ِلَبْع ٍ‬
‫جْهِر َبْع ِ‬
‫جَهُروا َلُه ِباْلَقْوِل َك َ‬
‫ي َول َت ْ‬
‫ت الّنِب ّ‬
‫صوْ ِ‬
‫ق َ‬
‫صَواَتُكْم َفْو َ‬
‫ن آَمُنوا ل َتْرَفُعوا َأ ْ‬
‫َيا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫ل ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي"‪ :‬يحتمل أن المراد حقيقة رفع الصوت‪ ،‬لن ذلك يدل على قلة الحتشام وترك الحترام‪"،‬‬
‫لن خفض الصوت وعدم رفعه من لوازم التعظيم والتوقير‪ .‬ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلم ومزيد اللغط‪ ،‬والول أولى‪.‬‬
‫والمعنى ل ترفعوا أصواتكم إلى حد يكون فوق ما يبلغه صوت النبي صلى الله عليه وسلم‪ .‬قال المفسرون‪ :‬المراد من الية تعظيم‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وأن ل ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا ً‬
‫ول تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض"‪ :‬أي ل تجهروا بالقول إذا كلمتموه كما تعتادونه من الجهر بالقول إذا كلم بعضكم"‬
‫بعضًا‪ .‬أمرهم الله بتجليل نبيه وأن يغضوا أصواتهم ويخاطبوه بالسكينة والوقار‪ ،‬وقيل المراد بقوله‪" :‬ول تجهروا له بالقول" ل تقولوا يا‬
‫محمد ويا أحمد‪ ،‬ولكن يا نبي الله ويا رسول الله توقيرا ً له‪ ،‬وليس المراد برفع الصوت وبالجهر في القول هو ما يقع على طريقة‬
‫الستخفاف فإن ذلك كفر‪ ،‬وإنما المراد أن يكون الصوت في نفسه غير مناسب لما يقع في مواقف من يجب تعظيمه وتوقيره‪.‬‬
‫‪:‬والحاصل أن النهي هنا وقع عن أمور‬
‫‪.‬الول عن التقدم بين يديه بما ل يأذن به من الكلم‬
‫‪.‬والثاني عن رفع الصوت البالغ إلى حد يكون فوق صوته سواء كان في خطابه أو في خطاب غيره‬
‫والثالث ترك ]الجفاء[ في مخاطبته ولزوم الدب في مجاورته‪ ،‬لن المقاولة المجهورة إنما تكون بين الكفاء الذين ليس لبعضهم على‬
‫‪.‬بعض مزية توجب احترامه وتوقيره‬
‫‪:‬ثم علل سبحانه ما ذكره بقوله‬
‫أن تحبط أعمالكم" ‪ :‬أي نهاكم الله عن الجهر خشية أن تحبط‪ ،‬أو كراهة أن تحبط‪ ،‬أو علة للمنهي‪ :‬أي ل تفعلوا الجهر فإنه يؤدي"‬
‫‪.‬إلى الحبوط‬

‫‪56‬‬
‫وأنتم ل تشعرون"‪ :‬في محل نصب على الحال‪ ،‬وفيه تحذير شديد ووعيد عظيم‪ ,‬وليس المراد وأنتم ل تشعرون يوجب أن يكفر"‬
‫‪.‬النسان وهو ل يعلم‪ ،‬فكما ل يكون الكافر مؤمنا ً إل باختياره اليمان على الكف‪ ،‬كذلك ل يكون الكافر كافرا ً من حيث ل يعلم‬
‫‪:‬تفسير الية رواية‬
‫عن أبي هريرة قال‪ :‬لما نزلت "إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله" قال أبو بكر‪ :‬والذي أنزل عليك الكتاب يا‬ ‫‪.1‬‬
‫رسول الله ل أكلمك إل كأخي السرار حتى ألقى الله‪.‬‬
‫لما نزلت "يا أيها الذين آمنوا ل ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" إلى قوله‪" :‬وأنتم ل تشعرون" وكان ثابت بن قيس بن‬ ‫‪.2‬‬
‫شماس رفيع الصوت فقال‪ :‬أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله ‪ ،‬حبط عملي‪ ،‬أنا من أهل النار وجلس في بيته حزينا‪ً،‬‬
‫ففقده رسول الله ‪ ،‬فانطلق بعض القوم إليه فقالوا‪ :‬فقدك رسول الله ‪ ‬مالك؟ قال‪ :‬أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي‬
‫وأجهر له بالقول‪ ،‬حبط عملي‪ ،‬أنا من أهل النار‪ ،‬فأتوا النبي ‪ ‬فأخبروه بذلك‪ ،‬فقال‪ :‬ل‪ ،‬بل هو من أهل الجنة‪ ،‬فلما كان يوم‬
‫اليمامة قتل"‪.‬‬
‫عن ابن مسعود في قوله‪" :‬ل ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" الية‪ :‬قال‪ :‬نزلت في ثابت بن قيس بن شماس‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫عن أبي هريرة في قوله‪" :‬أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ :‬منهم‬ ‫‪.4‬‬
‫ثابت بن قيس بن شماس‪.‬‬

‫ظيٌم‬
‫عِ‬‫جٌر َ‬
‫ل ُقُلوَبُهْم ِللّتْقَوى َلُهم ّمْغِفَرٌة َوَأ ْ‬
‫ن ا ُّ‬
‫حَ‬‫ن اْمَت َ‬
‫ك اّلِذي َ‬
‫ل ُأْوَلِئ َ‬
‫سوِل ا ِّ‬
‫عنَد َر ُ‬
‫صَواَتُهْم ِ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ضو َ‬
‫ن َيُغ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ِإ ّ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫‪:‬ثم رغب سبحانه في امتثال ما أمر به فقال‬
‫إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله"‪ :‬أصل الغض النقص من كل شيء‪ ،‬ومنه نقص الصوت‬
‫أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى"‪ :‬أخلص قلوبهم للتقوى كما يمتحن الذهب بالنار‪ ،‬فيخرج جيده من رديئه ويسقط"‬
‫خبيثه‪ .‬وقيل‪ :‬اختصها للتقوى‪ ،‬وقيل طهرها من كل قبيح‪ ،‬وقيل وسعها وسرحها‪ ،‬من امتنحت الديم‪ :‬إذا وسعته‪ .‬وقيل‪ :‬كل شيء جهدته‬
‫فقد منحته‪ ,‬واللم في للتقوى متعلقة بمحذوف‪ :‬أي صالحة للتقوى كقولك أنت صالح لكذا‪ ،‬أو للتعليل الجاري مجرى بيان السبب‪،‬‬
‫كقولك جئتك لداء الواجب‪ :‬أي ليكون مجيئي سببا ً لداء الواجب‬
‫‪.‬لهم مغفرة وأجر عظيم"‪ :‬أي أولئك لهم‪ ،‬فهو خبر آخر لسم الشارة‪ ،‬ويجوز أن يكون مستأنفا ً لبيان ما أعد الله لهم في الخرة"‬

‫ت َأْكَثُرُهْم ل َيْعِقُلو َ‬
‫ن‬ ‫جَرا ِ‬
‫حُ‬‫ك ِمن َوَراء اْل ُ‬
‫ن ُيَناُدوَن َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ِإ ّ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫‪،‬إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم ل يعقلون" هم جفاة بني تميم كما سيأتي بيانه"‬

‫‪57‬‬
‫و"من وراء الحجرات"‪ :‬خارجها وخلفها‪ :‬والحجرات جمع حجرة‪ ،‬كالغرفات جمع غرفة‪ ،‬والظلمات جمع ظلمة‪ ،‬وقيل الحجرات جمع‬
‫حجرة‪ ،‬والحجر جمع حجرة‪ ،‬فهو جمع الجمع‪ :‬والحجرة الرقعة من الرض المحجورة بحائط يحوط عليها ‪ ،‬وهي فعيلة بمعنى مفعولة ‪.‬‬
‫‪.‬ومن في من وراء لبتدائه الغاية‪ ،‬ول وجه للمنع من جعلها لهذا المعنى‬
‫‪.‬أكثرهم ل يعقلون"‪ :‬لغلبة الجهل عليهم وكثرة الجفاء في طباعهم"‬
‫‪:‬تفسير الية رواية‬
‫‪:‬سبب النزول‬
‫عن القرع بن حابس "أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‪ :‬يا محمد اخرج إلينا‪ ،‬فلم يجبه‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد إن حمدي‬ ‫‪.1‬‬
‫زين وإن ذمي شين‪ ،‬فقال ذاك الله‪ ،‬فأنزل الله‪" :‬إن الذين ينادونك من وراء الحجرات""‪.‬‬
‫ً‬
‫عن زيد بن أرقم قال‪ :‬اجتمع ناس من العرب فقالوا‪ :‬انطلقوا إلى هذا الرجل فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به‪ ،‬وإن يك‬ ‫‪.2‬‬
‫ملكا نعش بجناحه‪ ،‬فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا‪ ،‬فجاءوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه يا محمد يا محمد‬‫ً‬
‫فأنزل الله‪" :‬إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم ل يعقلون" فأخذ رسول الله ‪ ‬بأذني وجعل يقول‪ :‬لقد صدق الله‬
‫قولك يا زيد‪ ،‬لقد صدق الله قولك يا زيد‪.‬‬

‫حيٌم‬
‫غُفوٌر ّر ِ‬
‫ل َ‬
‫خْيًرا ّلُهْم َوا ُّ‬
‫ن َ‬
‫ج ِإَلْيِهْم َلَكا َ‬
‫خُر َ‬
‫حّتى َت ْ‬
‫صَبُروا َ‬
‫َوَلْو َأّنُهْم َ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫ً‬
‫ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم"‪ :‬أي لو انتظروا خروجك ولم يعجلوا بالمناداة لكان أصلح لهم في دينهم"‬
‫ورعاية جانبه الشريف والعمل بما يستحقه من التعظيم والتجليل‪ ، .‬ودنياهم‪ ،‬لما في ذلك من رعاية حسن الدب مع رسول الله‬
‫‪.‬نصفهم وفادى نصفهم‪ ،‬ولو صبروا لعتق الجميع ‪ ‬وقيل إنهم جاءوا شفعاء في أسارى‪ ،‬فأعتق رسول الله‬
‫‪.‬والله غفور رحيم"‪ :‬كثير المغفرة والرحمة بليغهما ل يؤاخذ مثل هؤلء فيما فرط منهم من إساءة الدب"‬

‫حوا عََلى َما َفَعْلُتْم َناِدِمي َ‬


‫ن‬ ‫صِب ُ‬
‫جَهاَلٍة َفُت ْ‬
‫صيُبوا َقْوًما ِب َ‬
‫ق ِبَنَبٍإ َفَتَبّيُنوا َأن ُت ِ‬
‫سٌ‬‫جاَءُكْم َفا ِ‬
‫ن آَمُنوا ِإن َ‬
‫َيا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫"فتبينوا" من التبين‪ ،‬والمراد من التبين التعرف والتفحص‬ ‫‪.‬قرأت "فتبينوا"‪:‬‬
‫‪.‬فتثبتوا " من التثبت‪ ،‬والمراد من التثبت الناة وعدم العجلة‪ ،‬والتبصر في المر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر "‬
‫أن تصيبوا قوما ً بجهالة"‪ :‬مفعول له‪ :‬أي كراهة أن تصيبوا‪ ،‬أو لئل تصيبوا لن الخطأ ممن لم يتبين المر ولم يثبت فيه هو الغالب"‬
‫وهو جهالة‪ ،‬لنه لم يصدر عن علم‪ ،‬والمعنى‪ :‬ملتبسين بجهالة بحالهم‬
‫فتصبحوا على ما فعلتم"‪ :‬بهم من إصابتهم بالخطأ"‬
‫‪.‬نادمين"‪ :‬على ذلك مغتمين له مهتمين به"‬
‫‪:‬تفسير الية رواية‬
‫‪:‬سبب النزول‬
‫‪58‬‬
‫عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال‪ :‬قدمت على رسول الله ‪ ‬فدعاني إلى السلم‪ ،‬فدخلت فيه وأقررت به‪ ،‬ودعاني إلى الزكاة‬
‫فأقررت بها‪ ،‬وقلت‪ :‬يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى السلم وأداء الزكاة‪ ،‬فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلي يا‬
‫رسول الله رسول ً لبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة‪ ،‬فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ البان الذي أراد رسول‬
‫الله ‪ ‬أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت‪ ،‬فظن الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله‪ ،‬فدعا سروات قومه فقال‬
‫لهم‪ :‬إن رسول الله ‪ ‬كان وقت لي وقتا ً يرسل إلي رسوله إلى من سخطة‪ ،‬فانطلقوا فنأتي رسول الله‪ ،‬وبعث رسول الله ‪ ‬الوليد‬
‫بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة‪ ،‬فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع‪ ،‬فأتى رسول‬
‫الله ‪ ‬فقال‪ :‬إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي‪ ،‬فضرب رسول الله ‪ ‬البعث إلى الحارث‪ ،‬فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقل‬
‫البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث‪ ،‬فقالوا هذا الحارث؟ فلما غشيهم قال لهم‪ :‬إلى من بعثتم؟ قالوا إليك‪ .‬قال ولم؟ قالوا‪ :‬إن‬
‫رسول الله ‪ ‬بعث إليك الوليد بن عقبة‪ ،‬فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله‪ ،‬قال‪ :‬ل والذي بعث محمدا ً بالحق ما رأيته بتة ول أتاني‪،‬‬
‫فلما دخل الحارث على رسول الله ‪ ‬قال‪ :‬منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال‪ :‬ل والذي بعثك بالحق ما رأيته ول رآني‪ ،‬وما‬
‫أقبلت إل حين احتبس علي رسول رسول الله ‪ ‬خشيت أن تكون كانت سخطة من الله ورسوله‪ ،‬فنزل‪ " :‬يا أيها الذين آمنوا إن‬
‫جاءكم فاسق بنبإ " إلى قومه‪" :‬حكيم"‬

‫صَيا َ‬
‫ن‬ ‫ق َواْلِع ْ‬
‫سو َ‬
‫ن َوَزّيَنُه ِفي ُقُلوبُِكْم َوَكّرَه ِإَلْيُكُم اْلُكْفَر َواْلُف ُ‬
‫ب ِإَلْيُكُم اِليَما َ‬
‫حّب َ‬
‫ل َ‬‫ن ا َّ‬
‫ن اَلْمِر َلَعِنّتْم َوَلِك ّ‬
‫طيُعُكْم ِفي َكِثيٍر ّم َ‬
‫ل َلْو ُي ِ‬
‫سوَل ا ِّ‬
‫ن ِفيُكْم َر ُ‬
‫عَلُموا َأ ّ‬
‫َوا ْ‬
‫شُدو َ‬
‫ن‬ ‫ك ُهُم الّرا ِ‬
‫ُأْوَلِئ َ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫‪:‬ثم وعظهم الله سبحانه فقال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫واعلموا أن فيكم رسول الله"‪ :‬فل تقولوا قول باطل ول تتسرعوا عند وصول الخبر إليكم من غير تبين‪ ،‬وأن وما في حيزها"‬
‫‪.‬سادة مسد مفعولي اعلموا‬
‫لو يطيعكم في كثير من المر لعنتم"‪ :‬المعنى‪ :‬لو يطيعكم في كثير مما تخبرونه به من الخبار الباطلة‪ ،‬وتشيرون به عليه من"‬
‫الراء التي ليست بصواب لوقعتم في العنت‪ ،‬وهو التعب والجهد‪ .‬والثم والهلك‪ ،‬ولكنه ل يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح‬
‫‪.‬وجهه له‪ ،‬ول يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه‬
‫ولكن الله حبب إليكم اليمان"‪ :‬أي جعله أحب الشياء إليكم‪ ،‬أو محبوبا ً لديكم فل يقع منكم إل ما يوافقه ويقتضيه من المور"‬
‫الصالحة وترك التسرع في الخبار وعدم التثبت فيها‪ ،‬قيل والمراد بهؤلء من عدا الولين لبيان براءتهم عن أوصاف الولين‪ ،‬والظاهر‬
‫‪.‬أنه تذكير للكل بما يقتضيه اليمان وتوجبه محبته التي جعلها الله في قلوبهم‬
‫وزينه في قلوبكم "‪ :‬أي حسنه بتوفيقه حتى جروا على ما يقتضيه في القوال والفعال "‬
‫ً‬
‫وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان"‪ :‬أي جعل كل ما هو من جنس الفسوق ومن جنس العصيان مكروها عندكم‪ .‬وأصل"‬
‫الفسق الخروج عن الطاعة‪ ،‬والعصيان جنس ما يعصى الله به‪ ،‬وقيل أراد بذلك الكذب خاصة‪ ،‬والول أولى‬
‫أولئك هم الراشدون"‪ :‬أي الموصوفون بما ذكرهم الراشدون‪ .‬والرشد‪ :‬الستقامة على طريق الحق مع تصلب‪ ،‬مع الرشادة‪":‬‬
‫‪.‬وهي الصخرة‬
‫‪59‬‬
‫حِكيٌم‬
‫عِليٌم َ‬
‫ل َ‬
‫ل َوِنْعَمًة َوا ُّ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ضل ّم َ‬
‫َف ْ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫فضل ً من الله ونعمة"‪ :‬أي لجل فضله وإنعامه‪ ،‬والمعنى‪ :‬أنه حبب إليكم ما حبب وكره ماكره لجل فضله وإنعامه‪ ،‬أو جعلكم"‬
‫‪.‬راشدين لجل ذلك‬
‫‪.‬والله عليم"‪ :‬بكل معلوم "حكيم" في كل ما يقضي به بين عباده ويقدر لهم"‬

‫حوا َبْيَنهَُما‬
‫صِل ُ‬
‫ت َفَأ ْ‬
‫ل َفِإن َفاَء ْ‬
‫حّتى َتِفيَء ِإَلى َأْمِر ا ِّ‬
‫خَرى َفَقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي َ‬ ‫عَلى اُل ْ‬‫حَداُهَما َ‬‫ت ِإ ْ‬
‫حوا َبْيَنُهَما َفِإن َبَغ ْ‬
‫صِل ُ‬
‫ن اْقَتَتُلوا َفَأ ْ‬
‫ن اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ن ِم َ‬
‫طاِئَفَتا ِ‬
‫َوِإن َ‬
‫طي َ‬
‫ن‬ ‫سِ‬ ‫ب اْلُمْق ِ‬
‫ح ّ‬ ‫ل ُي ِ‬
‫ن ا َّ‬‫طوا ِإ ّ‬
‫سُ‬‫ِباْلَعْدِل َوَأْق ِ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫"فأصلحوا بينهما"‪ :‬بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضى بما فيه لهما وعليهما‬
‫‪.‬فإن بغت إحداهما"‪ :‬وطلبت ما ليس لها ولم ترجع إلى الصلح والبغي‪ :‬التعدي بغير حق والمتناع من الصلح الموافق للصواب"‬
‫فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله"‪ :‬حتى ترجع إلى طاعة الله والصلح الذي أمر الله به‪ ,‬والفيء‪ :‬الرجوع"‬
‫والمعنى‪ :‬أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم ويدعوهم إلى حكم الله‪ ،‬فإن حصل بعد ذلك‬
‫التعدي من إحدى الطائفتين على الخرى ولم تقبل الصلح ول دخلت فيه كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية حتى ترجع‬
‫إلى أمر الله وحكمه‪ ،‬فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه‪ ،‬فعلى المسلمين أن يعدلوا بين‬
‫الطائفتين في الحكم ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله ويأخذوا على يد الطائفة ]الظالمة[ حتى تخرج من الظلم وتؤدي ما يجب‬
‫‪.‬عليها للخرى‬
‫‪:‬ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا العدل الخاص بالطائفتين المقتتلتين فقال‬
‫‪.‬وأقسطوا إن الله يحب المقسطين" أي واعدلوا إن الله يحب العادلين‪ ،‬ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء"‬
‫‪:‬تفسير الية رواية‬
‫‪:‬سبب النزول‬
‫ً‬
‫قيل للنبي صلى الله عليه وسلم "لو أتيت عبد الله بن أبي‪ ،‬فانطلق إليه وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة‪،‬‬
‫فلما انطلق إليه قال‪ :‬إليك عني‪ ،‬فوالله لقد آذاني ريح حمارك‪ ،‬فقال رجل من النصار‪ :‬والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫أطيب ريحا ً منك‪ ،‬فغضب لعبد الله رجال من قومه‪ ،‬فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد واليدي والنعال‪ ،‬فنزلت‬
‫‪".‬فيهم "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" الية‬

‫عن ابن عمر قال‪ :‬ما وجدت في نفسي من شيء ما وجت في نفسي من هذه الية‪ ،‬إني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما‬ ‫‪.1‬‬
‫أمرني الله‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫عن ابن عباس في الية قال‪ :‬إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين أن‬ ‫‪.2‬‬
‫يدعوهم إلى حكم الله وينصف بعضهم من بعض‪ ،‬فإذا أجابوا حكم فيهم بحكم كتاب الله حتى ينصف المظلوم‪ ،‬فمن أبى منهم‬
‫أن يجيب فهو باغ‪ ،‬وحق على إمام المؤمنين والمؤمنين أن يقاتلوهم حتى يفيئوا إلى أمر الله ويقروا بحكم الله‪.‬‬
‫عن ابن عباس "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" الية‪ .‬قال‪ :‬كان قتال بالنعال والعصي‪ ،‬فأمرهم أن يصلحوا بينهما‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫عن عائشة قالت‪ .‬ما رأيت مثل ما رغبت عنه هذه المة في هذه الية‪" :‬وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا‬ ‫‪.4‬‬
‫بينهما"‪.‬‬

‫حُمو َ‬
‫ن‬ ‫ل َلَعّلُكْم ُتْر َ‬
‫خَوْيُكْم َواّتُقوا ا َّ‬
‫ن َأ َ‬
‫حوا َبْي َ‬
‫صِل ُ‬
‫خَوٌة َفَأ ْ‬
‫ن ِإ ْ‬
‫ِإّنَما اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫إنما المؤمنون إخوة"‪ :‬الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها من المر بالصلح‪ ،‬والمعنى‪ :‬أنهم راجعون إلى أصل واحد وهو اليما‪",‬‬
‫وقيل‪ :‬الدين يجمعهم‪ ،‬فهم إخوة إذا كانوا متفقين في دينهم فرجعوا بالتفاق في الدين إلى أصل النسب لنهم لدم وحواء‬
‫فأصلحوا بين أخويكم"‪ :‬يعنى كل مسلمين تخاصما وتقاتل‪ ،‬وتخصيص الثنين بالذكر لثبات وجوب الصلح فيما فوقهما بطريق"‬
‫‪.‬الولى‬
‫واتقوا الله"‪ :‬في كل أموركم"‬
‫‪.‬لعلكم ترحمون" بسبب التقوى‪ ،‬والترجي باعتبار المخاطبين‪ :‬أي راجين أن ترحموا"‬
‫وفي هذه الية دليل على قتال الفئة الباغية إذا تقرر بغيها على المام‪ ،‬أو على أحد من المسلمين‪ ،‬وعلى فساد قول من فال بعدم‬
‫الجواز مستدل ً بقوله ‪" :‬قتال المسلم كفر" فإن المراد بهذا الحديث وما ورد في معناه قتال المسلم الذي لم يبغ‪ .‬قال ابن جرير‪ :‬لو‬
‫كان الواجب في كل اختلف يكون بين فريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حق‪ ،‬ول أبطل باطل ولوجد أهل‬
‫النفاق والفجور سببا ً إلى استحلل كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم بأن يتحزبزا عليهم‪،‬‬
‫ولكف المسلمين أيديهم عنهم‪ ،‬وذلك مخالف لقوله ‪" :‬خذوا على أيدي سفهائكم"‪ .‬قال ابن العربي‪ :‬هذه الية أصل في قتال‬
‫المسلمين‪ ،‬وعمدة في حرب المتأولين‪ ،‬وعليها عول الصحابة‪ ،‬وإليها لجأ العيان من أهل الملة‪ ،‬وإياها عنى النبي ‪ ‬بقوله‪" :‬تقتل‬
‫عمارا ً الفئة الباغية"‪ ،‬وقوله ‪ ‬في شأن الخوارج‪" :‬يخرجون على حين فرقة من الناس تقتلهم أولى الطائفتين بالحق"‬

‫سُكْم َول َتَناَبُزوا‬


‫ن َول َتْلِمُزوا َأنُف َ‬
‫خيًْرا ّمْنُه ّ‬
‫ن َ‬‫سى َأن َيُك ّ‬ ‫ع َ‬
‫ساء َ‬ ‫ساء ّمن ّن َ‬ ‫خْيًرا ّمْنُهْم َول ِن َ‬
‫سى َأن َيُكوُنوا َ‬ ‫عَ‬ ‫خْر َقْوٌم ّمن َقْوٍم َ‬
‫سَ‬‫ن آَمُنوا ل َي ْ‬
‫َيا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫ظاِلُمو َ‬
‫ن‬ ‫ك ُهُم ال ّ‬
‫ب َفُأوَلِئ َ‬
‫ن َوَمن ّلْم َيُت ْ‬‫ق َبْعَد اِليَما ِ‬
‫سو ُ‬‫سُم اْلُف ُ‬
‫س اِل ْ‬
‫ب ِبْئ َ‬
‫ِباَلْلَقا ِ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫يا أيها الذين آمنوا ل يسخر قوم من قوم"‪ :‬السخرية‪ :‬الستهزاء‪ :‬سخرت به وضحكت به وهزأت به‪ .‬وسخرت منه وسخرت"‬
‫به‪ ،‬وضحكت منه وضحكت به‪ ،‬وهزأت منه وهزأت به‪ ،‬كل ذلك يقال‪ ،‬والسم السخرية والسخرى‪ ،‬وقرئ بهما في "ليتخذ بعضهم بعضا ً‬
‫‪.‬سخريًا"‪ ،‬ومعنى الية‪ :‬النهي للمؤمنين عن أن يستهزئ بعضهم ببعض‬
‫‪:‬وعلل هذا النهي بقوله‬
‫‪61‬‬
‫‪،‬عسى أن يكونوا خيرا ً منهم"‪ :‬أي أن يكون المسخور بهم عند الله خيرا ً من الساخرين بهم"‬
‫ول نساء من نساء"‪ :‬أي ول يسخر نساء من نساء‪ ,‬وأفرد النساء بالذكر لن السخرية منهن أكثر وقيل لما كان لفظ قوم مختصا ً"‬
‫‪.‬بالرجال‪ ،‬لنهم القوم على النساء أفرد النساء بالذكر‬
‫عسى أن يكن" المسخور بهن "خيرا ً منهن"‪ :‬يعني خيرا من الساخرات منهن"‬
‫ً‬
‫ول تلمزوا أنفسكم"‪ :‬اللمز العيب‪ ،‬واللمز باليد والعين واللسان والشارة‪ ،‬والهمز ل يكون إل باللسان‪ ،‬ومعنى "ل تلمزوا"‬
‫أنفسكم" ل يلمز بعضكم بعضا ً كما في قوله‪" :‬ول تقتلوا أنفسكم" وقوله ‪ " :‬فسلموا على أنفسكم "‪,‬قيل‪ :‬ل يطعن بعضكم على بعض‪,‬‬
‫‪.‬وقيل‪ :‬ل يلعن بعضكم بعضا‬

‫"ول تنابزوا باللقاب"‪ :‬التنابز‪ :‬التفاعل من النبز بالتسكين وهو المصدر‪ ،‬والنبز بالتحريك اللقب‪ ،‬والجمع أنباز‪ ،‬واللقاب جمع لقب‪،‬‬
‫وهو اسم غير الذي سمي به النسان‪،‬‬
‫والمراد هنا لقب السوء‪ ،‬والتنابز باللقاب أن يلقب بعضهم بعضًا‪ ,‬قال المفسرون‪ :‬هو أن يقول لخيه المسلم يا فاسق يا منافق‪ ،‬أو‬
‫يقول لمن أسلم يا يهودي يا نصراني‪ ,‬وهو كل شيء أخرجت به أخاك من السلم‪ ،‬كقولك يا كلب يا حمار يا خنزير‪ .‬قيل‪ :‬كان الرجل‬
‫يعير بكفره‪ ،‬فيقال له يا يهودي يا نصراني فنزلت‪.‬‬
‫بئس السم الفسوق بعد اليمان"‪ :‬أي بئس السم الذي يذكروا بالفسق بعد دخولهم في اليمان‪ ،‬والسم هنا بمعنى الذكر‪ ,‬أي"‬
‫بئس أن يسمى الرجل كافرا ً أو زانيا ً بعد إسلمه وتوبته‪ .‬وقيل المعنى‪ :‬أن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبذ فهو فاسق‪.‬‬
‫ويستثنى من هذا من غلب عليه الستعمال كالعرج والحدب ولم يكن له سبب يجد في نفسه منه عليه‪ ،‬فجوزته الئمة واتفق على‬
‫‪ .‬قوله أهل اللغة‬
‫ومن لم يتب"‪ :‬عما نهى الله عنه"‬
‫فأولئك هم الظالمون "‪ :‬لرتكابهم ما نهى الله عنه وامتناعهم من التوبة‪ ،‬فظلموا من لقبوه‪ ،‬وظلمهم أنفسهم بما لزمهم من "‬
‫‪.‬الثم‬
‫‪:‬تفسير الية رواية‬
‫‪:‬سبب النزول‬
‫نزلت في قوم من بني تميم استهزؤا من بلل وسليمان وعمار وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫نزلت في بني سلمة "ول تنابزوا باللقاب" قدم رسول الله ‪ ‬وليس فينا رجل إل وله اسمان أو ثلثة‪ ،‬فكان إذا دعا واحدا ً‬ ‫‪.2‬‬
‫منهم باسم من تلك السماء قالوا‪ :‬يا رسول الله إنه يكرهه‪ ،‬فنزلت "ول تنابزوا باللقاب"‪.‬‬

‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬ول تلمزوا أنفسكم" قال‪ :‬ل يطعن بعضكم على بعض‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬التنابز باللقاب‪ :‬أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق‪ ،‬فنهى الله أن يعير بما‬ ‫‪.2‬‬
‫سلف من عمله‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫عن ابن مسعود في الية قال‪ :‬إذا كان الرجل يهوديا ً فأسلم فيقول‪ :‬يا يهودي يا نصراني يا مجوسي‪ ،‬ويقول للرجل‬ ‫‪.3‬‬
‫المسلم‪ :‬يا فاسق‪.‬‬

‫خيِه َمْيًتا فََكِرْهُتُموُه َواّتُقوا‬


‫حَم َأ ِ‬
‫حُدُكْم َأن َيْأُكَل َل ْ‬
‫ب َأ َ‬
‫ح ّ‬
‫ضا َأُي ِ‬
‫ضُكم َبْع ً‬
‫سوا َول َيْغَتب ّبْع ُ‬ ‫سُ‬ ‫جّ‬ ‫ظنّ ِإْثٌم َول َت َ‬
‫ض ال ّ‬
‫ن َبْع َ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫ظّ‬‫ن ال ّ‬
‫جَتِنُبوا َكِثيًرا ّم َ‬
‫ن آَمُنوا ا ْ‬
‫َيا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫حيٌم‬‫ب ّر ِ‬
‫ل َتّوا ٌ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ا َّ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫ً‬
‫يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن"‪ :‬الظن هنا‪ :‬هو مجرد التهمة التي ل سبب لها كمن يتهم غيره بشيء من"‬
‫الفواحش ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك‪.‬وأمر سبحانه باجتناب الكثير ليفحص المؤمن عن كل ظن يظنه حتى يعلم وجهه‪ ،‬لن من‬
‫الظن ما يجب اتباعه‪ ،‬فإن أكثر الحكام الشرعية مبنية على الظن‪ ،‬كالقياس وخبر الواحد ودللة العموم‪ ،‬ولكن هذا الظن الذي يجب‬
‫العمل به قد قوي بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به فارتفع عن الشك والتهمة‪ .‬قيل‪ :‬هو أن يظن بأهل الخير سواءًا‪ ،‬فأما أهل السوء‬
‫والفسوق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم‪ .‬وقيل‪ :‬هو أن يظن بأخيه المسلم سوءًا‪ ،‬ول بأس به ما لم يتكلم به‪ ،‬فإن تكلم بذلك‬
‫‪.‬الظن وأبداه أثم‪ .‬والظن القبيح بمن ظاهره الخير ل يجوز‪ ،‬ول حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح‬
‫إن بعض الظن إثم"‪ :‬تعليل لما قبلها من المر باجتناب كثير من الظن‪ ،‬وهذا البعض هو ظن السوء بأهل الخير‪ ،‬والثم هو ما"‬
‫يستحقه الظان من العقوبة‪ .‬ومما يدل على تفييد هذا الظن المأمور باجتنابه بظن السوء قوله تعالى‪" :‬وظننتم ظن السوء وكنتم قوما ً‬
‫بورًا" فل يدخل في الظن المأمور باجتنابه بشيء من الظن المأمور باتباعه في مسائل الدين‪ ،‬فإن الله قد تعبد عباده باتباعه‪ ،‬وأوجب‬
‫العمل به جمهور أهل العلم‪ ،‬ولم ينكر ذلك إل بعض طوائف المبتدعة كيادا ً للدين وشذوذا ً عن جمهور المسلمين‪ ،‬وقد جاء التعبد بالظن‬
‫‪.‬في كثير من الشريعة المطهرة بل في أكثرها‬
‫‪:‬ثم لما أمرهم الله سبحانه باجتناب كثير من الظن نهاهم عن التجسس فقال‬
‫ول تجسسوا"‪ :‬التجسس‪ :‬البحث عما ينكتم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم‪ ،‬نهاهم الله سبحانه عن البحث عن معايب الناس"‬
‫ومثالبهم‪ .‬قرأت تجسسوا بالجيم‪ ،‬ومعناه ما ذكرنا‪ .‬وقرأت بالحاء‪ .‬وليس يبعد أحدهما من الخر‬
‫‪.‬لن التجسس بالجيم‪ :‬البحث عما يكتم عنك‪ ،‬والتحسس بالحاء‪ :‬طلب الخبار والبحث عنها‬
‫‪.‬وقيل إن التجسس بالجيم هو البحث‪ ،‬ومنه قيل رجل جاسوس‪ :‬إذا كان يبحث عن المور‪ ،‬وبالحاء ما أدركه النسان ببعض حواسه‬
‫وقيل إنه بالحاء فيما يطلبه النسان لنفسه‪ ،‬وبالجيم أن يكون رسول ً لغيره‬
‫ول يغتب بعضكم بعضا ً"‪ :‬أي ل يتناول بعضكم بعضا ً بظهر الغيب بما يسوءه‪ ،‬والغيبة‪ :‬أن تذكر الرجل بما يكرهه‪ ،‬كما في حديث"‬
‫قال‪" :‬أتدرون ما الغيبة؟ قالوا‪ :‬الله ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪ :‬ذكرك أخاك بما يكره‪ ،‬فقيل‪  :‬أبي هريرة الثابت في الصحيح أن رسول الله‬
‫"أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال‪ :‬إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته‪ ،‬وإن لم يكن فيه فقد بهته‬
‫أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ً"‪ :‬مثل سبحانه الغيبة بأكل الميتة‪ ،‬لن الميت ل يعلم بأكل لحمه‪ ،‬كما أن الحي ل يعلم"‬
‫بغيبة من اغتابه‪ .‬وفيه إشارة إلى أن عرض النسان كلحمه‪ ،‬وأنه كما يحرم أكل لحمه يحرم الستطالة في عرضه‪ ،‬وفي هذا من التنفير‬
‫عن الغيبة والتوبيخ لفاعلها والتشنيع عليه ما ل يخفى‪ ،‬فإن لحم النسان مما تنفر عن أكله الطباع النسانية‪ ،‬وتستكرهه الجبلة‬
‫البشرية‪ ،‬فضل ً عن كونه محرما ً شرعا ً‬
‫‪63‬‬
‫فكرهتموه"‪ :‬تقديره فقد كرهتموه فل تفعلوا‪ ،‬والمعنى‪ :‬فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا ً و الفاء في تقدير جواب كلم‪".‬‬
‫كأنه قال‪ :‬ل يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذن‪ .‬وقيل هو معطوف على محذوف تقديره‪ :‬عرض عليكم ذلك فكرهتموه‬
‫واتقوا الله"‪ :‬بترك ما أمركم باجتنابه"‬
‫‪.‬إن الله تواب رحيم"‪ :‬لمن اتقاه عما فرط منه من الذنب ومخالفة المر"‬
‫‪:‬تفسير الية رواية‬
‫عن ابن عباس في قوله ‪ ":‬يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن " قال ‪ :‬نهى الله المؤمن ان يظن بالمؤمن سوءا ‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫عن أبي هريرة قال رسول الله ‪" :‬إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث‪ ،‬ول تجسسوا ول تحسسوا ول تنافسوا ول‬ ‫‪.2‬‬
‫ً‬
‫تحاسدوا ول تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا‪ ،‬ول يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك"‪.‬‬
‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬ول تجسسوا" قال‪ :‬نهى الله المؤمن أن يتتبع عورات المؤمن‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫ً‬
‫أتى ابن مسعود فقيل هذا فلن تفطر لحيته خمرا‪ ،‬فقال ابن مسعود‪ :‬إنا قد نهينا عن التجسس‪ ،‬ولكن إن يظهر لنا شيء‬ ‫‪.4‬‬
‫نأخذه‪.‬‬
‫عن ابن عباس في قوله‪" :‬ول يغتب بعضكم بعضًا" الية قال‪ :‬حرم الله أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرم الميتة‪.‬‬ ‫‪.5‬‬

‫خِبيٌر‬
‫عِليٌم َ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل َأْتَقاُكْم ِإ ّ‬
‫عنَد ا ِّ‬
‫ن َأْكَرَمُكْم ِ‬
‫شُعوًبا َوَقَباِئَل ِلَتَعاَرُفوا ِإ ّ‬
‫جَعْلَناُكْم ُ‬
‫خَلْقَناُكم ّمن َذَكٍر َوُأنَثى َو َ‬
‫س ِإّنا َ‬
‫َيا َأّيَها الّنا ُ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى"‪ :‬هما آدم وحواء‪ ،‬والمقصود أنهم متساوون لتصالهم بنسب واحد وكونه يجمعهم أب"‬
‫واحد وأم واحدة‪ ،‬وأنه ل موضع للتفاخر بينهم بالنساب‪ ،‬وقيل المعنى‪ :‬أن كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء‬
‫وجعلناكم شعوبا ً وقبائل"‪ :‬الشعوب جمع شعب بفتح الشين‪ ،‬وهو الحي العظيم‪ :‬مثل مضر وربيعة‪ ،‬والقبائل دونها كبني بكر من"‬
‫ربيعة‪ ،‬وبني تميم من مضر‪ .‬سموا شعبا ً لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة‪ ،‬والشعب من أسماء الضداد‪ :‬يقال شعبته‪ :‬إذا‬
‫جمعته‪ :‬وشعبته إذا فرقته‪ ،‬ومنه سميت المنية شعوبا ً لنها مفرقة‪ ،‬فأما الشعب بالكسر فهو الطريق في الجبل‪ .‬والشعب ما تشعب‬
‫من قبائل العرب والعجم‪ ،‬والجمع الشعوب‪ .‬فالشعوب البعيد من النسب‪ ،‬والقبائل دون ذلك‪ .‬وقيل الشعوب النسب والقرب‪ .‬وقيل‬
‫إن الشعوب عرب اليمن من قحطان‪ ،‬والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان‪ .‬وقيل الشعوب بطون العجم‪ ،‬والقبائل بطون العرب‪.‬‬
‫‪.‬والشعب أكثر من القبيلة‪ ،‬ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة‬
‫لتعارفوا"‪ :‬اللم متعلقة بخلقناكم‪ :‬أي خلقناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضًا‪ .‬والفائدة في التعارف أن ينتسب كل واحد منهم إلى"‬
‫نسبه ول يعتري إلى غيره‪ .‬والمقصود من هذا أن الله سبحانه خلقهم كذلك لهذه الفائدة ل للتفاخر بأنسابهم ودعوى أن هذا الشعب‬
‫‪.‬أفضل من هذا الشعب‪ ،‬وهذه القبيلة أكرم من هذه القبيلة‪ ،‬وهذا البطن أشرف من هذا البطن‬
‫‪:‬ثم علل سبحانه ما يدل عليه الكلم من النهي عن التفاخر فقال‬
‫إن أكرمكم عند الله أتقاكم"‪ :‬أي إن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى‪ ،‬فمن تلبس بها فهو المستحق لن يكون أكرم ممن لم"‬
‫يلتبس بها وأشرف وأفضل‪ ،‬فدعوا ما أنتم فيه من التفاخر بالنساب‪ ،‬فإن ذلك ل يوجب كرما ً ول يثبت شرفا ً ول يقتضي فض ً‬
‫ل‪ .‬قرأ‬
‫الجمهور "إن أكرمكم" بكسر إن‪ .‬وقرأ ابن عباس بفتحها‪ :‬أي لن أكرمكم‬
‫‪64‬‬
‫‪.‬إن الله عليم"‪ :‬بكل معلوم ومن ذلك أعمالكم "خبير" بما تسرون وما تعلنون ل ]تخفى[ عليه من ذلك خافية"‬
‫‪:‬تفسير الية رواية‬
‫‪:‬مما قيل في سبب النزول‬
‫لما كان يوم الفتح رقي بلل فأذن على الكعبة‪ ،‬فقال بعض الناس‪ :‬أهذا العبد السود يؤذن على ظهر الكعبة‪ .‬وقال‬ ‫‪.1‬‬
‫بعضهم‪ :‬إن يسخط الله هذا يغيره‪ ،‬فنزلت "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى"‪.‬‬
‫أمر رسول الله ‪ ‬بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أنزوج بناتنا موالينا؟ فنزلت هذه الية‪.‬‬ ‫‪.2‬‬

‫عن عمر بن الخطاب أن هذه الية "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" هي مكية‪ ،‬وهي للعرب خاصة الموالي‪ :‬أي‬ ‫‪.1‬‬
‫قبيلة لهم‪ ،‬وأي شعاب‪ ،‬وقوله‪" :‬إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فقال‪ :‬أتقاكم للشرك‪.‬‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬الشعوب القبائل العظام‪ ،‬والقبائل البطون‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫وعنه قال‪ :‬الشعوب الجماع‪ ،‬والقبائل الفخاذ التي يتعارفون بها‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫"سئل رسول الله ‪‬أي الناس أكرم؟ قال‪ :‬أكرمهم عند الله أتقاهم‪ .‬قالوا‪ :‬ليس عن هذا نسألك‪ ،‬قال‪ :‬فأكرم الناس‬ ‫‪.4‬‬
‫يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله‪ .‬قالوا ليس عن هذا نسألك‪ .‬قال‪:‬فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا‬
‫نعم‪ .‬قال‪ :‬خيارهم في الجاهلية خيارهم في السلم إذا فقهوا"‪.‬‬

‫حيٌم‬
‫غُفوٌر ّر ِ‬
‫ل َ‬
‫شْيًئا ِإنّ ا َّ‬
‫عَماِلُكْم َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫سوَلُه ل َيِلْتُكم ّم ْ‬
‫ل َوَر ُ‬
‫طيُعوا ا َّ‬
‫ن ِفي ُقُلوِبُكْم َوِإن ُت ِ‬
‫خِل اِليَما ُ‬
‫سَلْمَنا َوَلّما َيْد ُ‬
‫ب آَمّنا ُقل ّلْم ُتْؤِمُنوا َوَلِكن ُقوُلوا َأ ْ‬
‫عَرا ُ‬
‫ت اَل ْ‬
‫َقاَل ِ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫‪:‬مناسبة الية لما قبلها‬
‫ولما ذكر سبحانه أن أكرم الناس عند الله أتقاهم له وكان أصل التقوى اليمان ذكر ما كانت تقوله العرب من دعوى اليمان ليثبت لهم‬
‫‪:‬الشرف والفضل فقال‬
‫أن يرد عليهم‪ ‬قالت العراب آمنا"‪ :‬وهو بنو أسد أظهروا السلم في سنة مجدبة يريدون الصدقة‪ ،‬فأمر الله سبحانه رسوله"‬
‫‪:‬فقال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قل لم تؤمنوا"‪ :‬أي لم تصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية وطمأنينة"‬
‫ولكن قولوا أسلمنا"‪ :‬أي استسلمنا خوف القتل والسبي أو للطمع في الصدقة‪ ،‬وهذه صفة المنافقين لنهم أسلموا في ظاهر"‬
‫‪.‬المر ولم تؤمن قلوبهم‬
‫‪:‬ولهذا قال سبحانه‬
‫ولما يدخل اليمان في قلوبكم"‪ :‬أي لم يكن ما أظهرتموه بألسنتكم عن مواطأة قلوبكم‪ ،‬بل مجرد قول باللسان من دون"‬
‫اعتقاد صحيح ول نية خالصة‪ ،‬والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها‪ ،‬أو في محل نصب على الحال‪ ،‬وفي لما معنى التوقع‪ .‬والسلم‬
‫إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي‪ ،‬وبذلك يحقن الدم‪ ،‬فإن كان مع ذلك الظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك اليمان وصاحبه‬
‫المؤمن‪ .‬وقد أخرج هؤلء من اليمان بقوله‪" :‬ولما يدخل اليمان في قلوبكم" أي لم تصدقوا وإنما أسلمتم تعوذا ً من القتل‬
‫‪65‬‬
‫وإن تطيعوا الله ورسوله"‪ :‬طاعة صحيحة صادرة عن نيات خالصة‪ ،‬وقلوب مصدقة غير منافقة"‬
‫‪.‬ل يلتكم من أعمالكم شيئًا"‪ :‬يقال لت يلت‪ :‬إذا نقص‪ ،‬ولته يليته ويلوته‪ :‬إذا نقصه‪ ،‬والمعنى‪ :‬ل ينقصكم من أعمالكم شيئا ً"‬
‫‪.‬إن الله غفور"‪ :‬أي بليغ المغفرة لمن فرط منه ذنب "رحيم" بليغ الرحمة لهم"‬
‫‪:‬تفسير الية رواية‬
‫عن مجاهد في قوله‪" :‬قالت العراب آمنا" قال أعراب بني أسد وخزيمة‪ ،‬وفي قوله‪" :‬ولكن قولوا أسلمنا" مخافة القتل‬ ‫‪.1‬‬
‫والسبي‪.‬‬
‫عن قتادة أنها نزلت في بني أسد‪.‬‬ ‫‪.2‬‬

‫صاِدُقو َ‬
‫ن‬ ‫ك ُهُم ال ّ‬
‫ل ُأْوَلِئ َ‬
‫سِبيلِ ا ِّ‬
‫سِهْم ِفي َ‬
‫جاَهُدوا ِبَأْمَواِلِهْم َوَأنُف ِ‬
‫سوِلِه ُثّم َلْم َيْرَتاُبوا َو َ‬
‫ل َوَر ُ‬
‫ن آَمُنوا ِبا ِّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ِإّنَما اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫تفسير الية دراية‪:‬‬
‫‪:‬مناسبة الية لما قبلها‬
‫لما ذكر سبحانه أن أولئك الذين قالوا آمنا لم يؤمنوا ول دخل اليمان في قلوبهم بين المؤمنين المستحقين لطلق اسم اليمان عليهم‬
‫‪:‬فقال‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله "‪ :‬يعني إيمانا صحيحا خالصا عن مواطأة القلب واللسان"‬
‫ثم لم يرتابوا"‪] :‬أي[ لم يدخل قلوبهم شيء من الريب ول خالطهم شك من الشكوك"‬
‫وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله"‪ :‬أي في طاعته وابتغاء مرضاته‪ ،‬ويدخل في الجهاد العمال الصالحة التي أمر"‬
‫‪.‬الله بها‪ ،‬فإنها من جملة ما يجاهد المرء نفسه حتى يقوم به ويؤيده كما أمر الله سبحانه‬
‫أولئك هم الصادقون"‪ :‬الشارة إلى الجامعين بين المور المذكورة وهو مبتدأ‪ ،‬وخبره هم الصادقون أي الصادقون في التصاف"‬
‫بصفة اليمان والدخول في عداد أهله‪ ،‬ل من عداهم ممن أظهر السلم بلسانه‪ .‬وادعى أنه مؤمن‪ ،‬ولم يطمئن باليمان قلبه‪ ،‬ول وصل‬
‫‪.‬إليه معناه‪ ،‬ول عمل بأعمال أهله‪ ،‬وهم العراب الذين تقدم ذكرهم وسائر أهل النفاق‬

‫عِليٌم‬
‫يٍء َ‬
‫ل ِبُكّل شَ ْ‬
‫ض َوا ُّ‬
‫ت َوَما ِفي اَلْر ِ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ل َيْعَلُم َما ِفي ال ّ‬
‫ل ِبِديِنُكْم َوا ُّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ُقْل َأُتَعّلُمو َ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫‪:‬أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لولئك العراب وأمثالهم قول ً آخر لما ادعوا أنهم مؤمنون فقال‬
‫قل أتعلمون الله بدينكم"‪ :‬التعليم هاهنا بمعنى العلم‪ ،‬ولهذا دخلت الباء في بدينكم‪ :‬أي أخبرونه بذلك حيث قلتم آمنا"‬
‫والله يعلم ما في السموات وما في الرض"‪ :‬فكيف يخفى عليه بطلن ما تدعونه من اليمان‪ ،‬والجملة في محل النصب على"‬
‫الحال من مفعول تعلمون‬
‫والله بكل شيء عليم"‪ :‬ل تخفى عليه من ذلك خافية‪ ،‬وقد علم ما تبطنونه من الكفر وتظهرونه من السلم لخوف الضراء ورجاء"‬
‫‪.‬النفع‬
‫‪66‬‬
‫صاِدِقي َ‬
‫ن‬ ‫ن ِإن ُكنُتْم َ‬
‫ليَما ِ‬
‫ن َهَداُكْم ِل ِ‬
‫عَلْيُكْم َأ ْ‬
‫ن َ‬
‫ل َيُم ّ‬
‫سلَمُكم َبِل ا ُّ‬
‫ي ِإ ْ‬
‫عَل ّ‬
‫سَلُموا ُقل ّل َتُمّنوا َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ك َأ ْ‬
‫عَلْي َ‬
‫ن َ‬
‫َيُمّنو َ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫‪:‬ثم أخبر الله سبحانه رسوله بما يقوله لهم عند المن عليه منهم بما يدعونه من السلم فقال‬
‫يمنون عليك أن أسلموا"‪ :‬أي يعدون إسلمهم منة عليك حيث قالوا جئناك بالثقال والعيال‪ ،‬ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلن وبنو"‬
‫فلن‬
‫‪:‬قل ل تمنوا علي إسلمكم"‪ :‬أي ل تعدوه منة علي‪ ،‬فإن السلم هو المنة التي ل يطلب وليها ثوابا ً لمن أنعم بها عليه‪ ،‬ولهذا قال"‬
‫‪.‬بل الله يمن عليكم أن هداكم لليمان"‪ :‬أي أرشدكم إليه وأراكم طريقه سواء وصلتم إلى المطرب أم تصلوا إليه"‬
‫‪.‬إن كنتم صادقين"‪ :‬فيما تدعونه‪ ،‬والجواب محذوف يدل عليه ما قبله‪ :‬أي إن كنتم صادقين فلله المنة عليكم"‬
‫‪:‬تفسير الية رواية‬
‫‪".‬أن ناسا ً من العرب قالوا‪ :‬يا رسول الله أسلمنا ولم نقاتلك بنو فلن‪ ،‬فأنزل الله "يمنون عليك أن أسلموا‬

‫صيٌر ِبَما َتْعَمُلو َ‬


‫ن‬ ‫ل َب ِ‬
‫ض َوا ُّ‬
‫ت َواَلْر ِ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ب ال ّ‬
‫غْي َ‬
‫ل َيْعَلُم َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ِإ ّ‬
‫‪:‬تفسير الية دراية‬
‫إن الله يعلم غيب السموات والرض"‪ :‬أي ما غاب فيهما"‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪.‬والله بصير بما تعملون"‪ :‬ل يخفى عليه من ذلك شيء‪ ،‬فهو مجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا "‬

‫‪‬‬
‫‪67‬‬

You might also like