Professional Documents
Culture Documents
تلخيص:
أفنان المحيسن
إن الحمد لله ،نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا مللن يهللده الللله
فل مضل له ،ومن يضلل فل هادي له ،وأشهد أل إله إل الله وحده ل شريك للله ،وأشللهد أن محمللدا ً عبللده
ورسوله.
أما بعد...
فإن كتاب التفسير الشهير الموسوم بل )فتح القدير الجامع بين فني الدراية والرواية مللن عللم
التفسير( المام العلمة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله تعالى ،هو من التفاسير الشائعة بين طلبة
العلم و هو من الكتب المقرر دراستها في بعض الكليات الشرعية ،وهو تفسير عظيم النفع من كل ناحية
و يجد الباحث و طالب العلم بغيته ومراده في الغالب ،حيث إن مؤلفه رحمه الله مجتهد اجتهللادا ً مطلقلًا،
متبحر في العلوم الشرعية ،ويعتبر تفسيره هذا أصل ً من أصول التفسير ،ومرجعا ً مهما ً من مراجعه ،فهللو
تفسير جامع بين التفسير بالدراية والتفسير بالرواية ،وقد أحسن حيث فسر بالدراية ،وتوسع حيللث فسللر
بالرواية ,1وأما عن طريقته في تفسيره هذا أن يقسم السورة إلى مقاطع ويفسر كلل مقطلع درايلة ثلم
يفسره رواية ,ولنه من اليسر للطلب والطالبات أن يكون تفسير كل آيللة علللى حللدة ...اسللتعنت بللالله
وبدأت بفعل ذلك في تفسير سورتي النور والحجرات ,ملخصة له فحذفت السانيد والتخريجات ,والبيات
الشعرية ,وحذفت بعض العرابات والقراءات التي رأيت أنها ل تؤثر على المعنللى كللثيرا ,وأعللدت ترتيللب
بعضها ,وبسطت بعض المعلومات بالسهم تارة ,وبترقيمها تارة ,بالضافة أني جعلت تفسير كل كلمللة أو
جملة من الية في سطر جديد وكتبتها بالسود العريض وسطرتها...
أسأل الله أن يعينني على إكمال ما بدأت به ويتقبله مني ..إنه ولي ذلك والقادر عليه ..وصلى الللله علللى
نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
ت ّلَعّلُكْم َتَذّكُرو َ
ن ت َبّيَنا ٍ
ضَناَها َوَأنَزْلَنا ِفيَها آَيا ٍ
سوَرٌة َأنَزْلَناَها َوَفَر ْ
ُ
1
من مقدمة )عذب الغدير في بيان التأويلت في كتاب فتح القدير لـ د .محمد الخميس(
2
تفسير الية دراية:
"سورة" :السورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة ،ولذلك سميت السورة من القرآن سورة
خبرا ً لمبتدأ محذوف:أي هذه السورة ،قالوا :لنها نكرة ،ول يبتدأ بالنكرة في كل موضع. بالرفع
"الزانية والزاني" ويكون المعنى :السورة مبتدأ وجاز البتداء بالنكرة لكونها موصوفة بقوله" :أنزلناه" والخبر
المنزلة المفروضة كذا وكذا.
محذوف على تقدير :فيما أوحينا إليك سورة قرأت "سورة "
مقدر غير مفسر بما بعده ،تقديره اتل سورة ،أو اقرأ سورة ,وجملة أنزلناها في محل مفعول به والفعل بالنصب
نصب على أنها صفة لسورة
مضمر يفسره ما بعده ,أي أنزلنا سورة أنزلناها ،فل محل لنزلناها هاهنا لنها جملة مفسرة.
على الغراء :أي دونك سورة ورده بعضهم بأنه ل يجوز حذف أداة الغراء.
على الحال من ضمير أنزلناها ،والحال من المكنى يجوز أن تتقدم عليه ،وعلى هذا فالضمير في أنزلناها ليس
عائدا ً على سورة ،بل على
الحكام ،كأنه قيل :أنزلنا الحكام حال كونها سورة من سور القرآن.
بالتشديد :أي قطعناها في النزال نجما ً نجمًا ،والفرض القطع ويجوز أن يكون التشديد للتكثير أو المبالغة قرأت "وفرضناها"
أوجبناها وجعلناها مقطوعا ً بها. بالتخفيف :أي
ألزمناكم العمل بها
قدرنا ما فيها من الحدود ،والفرض التقدير ،ومنه "إن الذي فرض عليك القرآن"
"وأنزلنا فيها" :أي أنزلنا في غضونها وتضاعيفها.
"آيات بينات" :واضحة الدللة على مدلولها
"وأنزلنا" :التكريرلكمال العناية بإنزال هذه السورة ،لما اشتملت عليه من الحكام.
تفسير الية رواية:
روي عن ابن عباس في قوله" :سورة أنزلناها وفرضناها" قال:بيناها
ن
طاِئَفٌة ّم َ
عَذاَبُهَما َ
شَهْد َ
خِر َوْلَي ْ
لِ
ل َواْلَيْوِم ا ْ
ن ِبا ِّ
ل ِإن ُكنُتْم ُتْؤِمُنو َ
ن ا ِّ
خْذُكم ِبِهَما َرْأَفٌة ِفي ِدي ِ
جْلَدٍة َوَل تَْأ ُ
حٍد ّمْنُهَما ِمَئَة َ
جِلُدوا ُكّل َوا ِ
الّزاِنَيُة َوالّزاِني َفا ْ
اْلُمْؤِمِني َ
ن
تفسير الية دراية:
3
ثم شرع في تفصيل ما أجمل من اليات البينات فقال:
"الزانية والزاني" :الزنا هو وطء الرجل للمرأة في فرجها من غير نكاح ول شبهة نكاح .وقيل هو إيلج فرج في فرج مشتهى طبعا ً
محرم شرعا ً
والزانية هي المرأة المطاوعة للزنا الممكنة منه كما تنبئ عنه الصيغة ل المكرهة ،وكذلك الزاني.
ووجه تقديم الزانية على الزاني هاهنا:
أن الزنا في ذلك الزمان كان في النساء أكثر حتى كان لهن رايات تنصب على أبوابهن ليعرفهن من أراد الفاحشة منهن. .1
وقيل وجه التقديم أن المرأة هي الصل في الفعل، .2
وقيل لن الشهوة فيها أكثر وعليها أغلب ،وقيل لن العار فيهن أكثر إذ موضوعهن الحجبة والصيانة ،فقدم ذكر الزانية .3
تغليظا ً واهتماماً.
"فاجلدوا" :دخول الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط على مذهب الخفش ,والجلد الضرب ،يقال :جلده إذا ضرب جلده،
مثل بطنه إذا ضرب بطنه ،ورأسه إذا ضرب رأسه.
"مائة جلدة":
مائة جلدة وثبت بالسنة زيادة على هذا الجلد ،وهي تغريب عام. حد الزاني أوالزانية الحر البالغ البكر .1
جلد كل واحد منهما خمسون جلدة لقوله سبحانه" :فإن أتين بفاحشة فعليهن حد المملوك والمملوكة .2
نصف ما على المحصنات من العذاب"
وهذا نص في الماء ،وألحق بهن العبيد لعدم الفارق.
الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة وبإجماع أهل العلم بل وبالقرآن المنسوخ لفظه حد المحصن .3
الباقي حكمه وهو )الشيخ والشيخة
إذا زنيا فارجموهما البتة( وزاد جماعة من أهل العلم مع الرجم جلد مائة ,وهذه الية ناسخة
لية الحبس وآية الذى
والخطاب في هذه الية للئمة ومن قام مقامهم ،وقيل للمسلمين أجمعين ،لن إقامة الحدود واجبة عليهم جميعًا ،والمام ينوب عنهم،
إذ ل يمكنهم الجتماع على إقامة الحدود
"ول تأخذكم بهما رأفة" :يقال رأف يرأف رأفة على وزن فعلة ،ورآفة على وزن فعالة ،مثل النشأة والنشاءة وكلهما بمعنى الرقة
والرحمة ،وقيل هي أرق الرحمة.
ً ً
"في دين الله" :في طاعته وحكمه -كما في قوله" :ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك" ثم قال مثبتا للمأمورين ومهيجا لهم:
"إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الخر" :كما تقول للرجل تحضه على أمر :إن كنت رجل ً فافعل كذا :أي إن كنتم تصدقون بالتوحيد
والبعث الذي فيه جزاء العمال فل تعطلوا الحدود
"وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" :أي ليحضره زيادة في التنكيل بهما وشيوع العار عليهما وإشهار فضيحتهما ،والطائفة
الفرقة التي تكون حافة حول الشيء ،من الطوف ،وأقل الطائفة ثلثة ،وقيل اثنان ،وقيل واحد ،وقيل أربعة ،وقيل عشرة.
4
تفسير الية رواية:
أثر أن جارية لبن عمر زنت فضرب رجليها وظهرها ،فقلت" :ول تأخذكم بهما رأفة في دين الله" قال :يا بني ورأيتني .1
أخذتني بها رأفة؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها ول أن أجلد رأسها ،وقد أوجعت حيث ضربت.
عن ابن عباس "وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" قال :الطائفة رجل فما فوقه. .2
عَلى اْلُمْؤِمِني َ
ن ك َ
حّرَم َذِل َ
ك َو ُ
شِر ٌ
ن َأْو ُم ْ
حَها ِإّل َزا ٍ
شِرَكًة َوالّزاِنَيُة ل َينِك ُ
ح ِإّل َزاِنَيًة َأْو ُم ْ
الّزاِني ل َينِك ُ
تفسير الية دراية:
ثم ذكر سبحانه شيئا ً يختص بالزاني والزانية ،فقال:
"الزاني ل ينكح إل زانية أو مشركة":
ل ينكح :الوطء ل العقد :أي الزاني ل يزني إل بزانية ،والزانية ل تزني إل بزان فالمقصود تشنيع الزنا وتشنيع أهله وأنه .1
محرم على المؤمنين ، ،وزاد ذكر المشركة والمشرك لكون الشرك أعم في المعاصي من الزنا.
أن الية هذه نزلت في امرأة خاصة فتكون خاصة بها. .2
أنها نزلت في رجل من المسلمين ،فتكون خاصة به. .3
أنها نزلت في أهل الصفة ،فتكون خاصة بهم. .4
أن المراد بالزاني والزانية المحدودان )يتزوج( .5
أن الية هذه منسوخة بقوله سبحانه" :وأنكحوا اليامى منكم" .6
أن هذا الحكم مؤسس على الغالب .والمعنى :أن غالب الزناة ل يرغب إل في الزواج بزانية مثله ،وغالب الزواني ل .7
يرغبن إل في الزواج بزان مثلهن ،والمقصود زجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا ،وهذا أرجح القوال ،وسبب
النزول يشهد له كما سيأتي.
وقد اختلف في جواز تزوج الرجل بامرأة قد زنى هو بها ،فقال الشافعي وأبو حنيفة بجواز ذلك .وروي عن ابن عباس ،وروي عن عمر
وابن مسعود وجابر أنه ل يجوز .قال ابن مسعود :إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدًا ،وبه قال مالك ،ومعنى
"وحرم ذلك على المؤمنين" :أي نكاح الزواني ،لما فيه من التشبه بالفسقة والتعرض للتهمة والطعن في النسب .وقيل هو
مكروه فقط ،وعبر بالتحريم عن كراهة التنزيه مبالغة في الزجر.
تفسير الية رواية:
سبب النزول:
عن مجاهد في قوله" :الزاني ل ينكح إل زانية" قال :كن نساء في الجاهلية بغيات ،فكانت منهن امرأة جميلة تدعى أم .1
جميل ،فكان الرجل من المسلمين يتزوج إحداهن لتنفق عليه من كسبها ،فنهى الله سبحانه أن يتزوجهن أحد من المسلمين،
عن ابن عباس قال :كانت بغايا في الجاهلية بغايا آل فلن ،وبغايا آل فلن ،فقال الله" :الزاني ل ينكح إل زانية" الية، .2
فأحكم الله ذلك في أمر الجاهلية"
5
عن عبد الله بن عمرو قال :كانت امرأة يقال لها أم مهزول ،وكانت تسافح وتشترط أن تنفق عليه ،فأراد رجل من .3
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها ،فأنزل الله" :الزانية ل ينكحها إل زان أو مشرك".
"كان رجل يقال له مرثد ،يحمل السارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة ،وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق ،وكانت .4
ً ً
صديقة له ،وذكر قصة وفيها :فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت :يا رسول الله أنكح عناقا؟ فلم يرد علي شيئا حتى
نزلت "الزاني ل ينكح إل زانية" الية ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :يا مرثد "الزاني ل ينكح إل زانية أو مشركة
والزانية ل ينكحها إل زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين" فل تنكحها".
عن عبد الله بن عمرو في الية قال :كن نساء معلومات ،فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوج المرأة منهن لتنفق .5
عليه ،فنهاهم الله عن ذلك.
عن ابن عباس :أنها نزلت في بغايا معلنات كن في الجاهلية وكن زواني مشركات ،فحرم الله نكاحهن على المؤمنين. .6
عن ابن عباس في قوله" :الزاني ل ينكح" قال :ليس هذا بالنكاح ،ولكن الجماع ،ل يزني بها حين يزني إل زان أو مشرك .1
"وحرم ذلك على المؤمنين" يعني الزنا.
عن الضحاك في الية قال إنما عنى بذلك الزنا ولم يعن به التزويج .وعن سعيد بن جبير وعكرمة نحوه. .2
عن ابن عباس في هذه الية قال :الزاني من أهل القبلة ل يزني إل بزانية مثله من أهل القبلة أو مشركة من غير أهل .3
القبلة ،والزانية من أهل القبلة ل تزني إل بزان مثلها من أهل القبلة أو مشرك من غير أهل القبلة ،وحرم الزنا على المؤمنين.
عن شعبة مولى ابن عباس قال :كنت مع ابن عباس فأتاه رجل فقال :إني كنت أتبع امرأة فأصبت منها ما حرم الله علي، .4
وقد رزقني الله منها توبة فأردت أن أتزوجها ،فقال الناس :الزاني ل ينكح إل زانية أو مشركة ،فقال ابن عباس :ليس هذا موضع
هذه الية ،إنما كن نساء بغايا متعالنات يجعلن على أبوابهن رايات يأتيهن الناس يعرفن بذلك ،فأنزل الله هذه الية ،تزوجها فما
كان فيها من إثم فعلي .وأخرج أبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وابن مردويه و
الحاكم عن أبي هريرة قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" :ل ينكح الزاني المجلود إل مثله". .5
ً
عن علي بن أبي طالب أن رجل تزوج امرأة ،ثم إنه زنى فأقيم عليه الحد ،فجاءوا به إلى علي ففرق بينه وبين امرأته، .6
وقال :ل تتزوج إل مجلودة مثلك.
سُقو َ
ن ك ُهُم اْلَفا ِ
شَهاَدًة َأَبًدا َوُأوَلِئ َ
جْلَدًة َول َتْقَبُلوا َلُهْم َ
ن َ
جِلُدوُهْم َثَماِني َ
شَهَداء َفا ْ
ت ُثّم َلْم َيْأُتوا ِبَأْرَبَعِة ُ
صَنا ِ
ح َ
ن اْلُم ْ
ن َيْرُمو َ
َواّلِذي َ
تفسير الية دراية:
"والذين يرمون" :استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفاً،
"المحصنات" :المراد بالمحصنات هنا العفائف
المراد بالمحصنات النساء ،وخصهن بالذكر لن قدفهن أشنع والعار فيهن أعظم ،ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بل .1
خلف بين علماء هذه المة.
6
وقيل إن الية تعم الرجال والنساء ،والتقدير :والنفس المحصنات ،ويؤيد هذا قوله تعالى في آية أخرى" :والمحصنات من .2
النساء" فإن البيان بكونهن من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء وإل لم يكن للبيان كثير معنى.
وقيل أراد بالمحصنات الفروج كما قال" :والتي أحصنت فرجها" فتتناول الية الرجال والنساء. .3
ً
وقيل إن لفظ المحصنات وإن كان للنساء لكنه هاهنا يشمل النساء والرجال تغليبا ،وفيه أن تغليب النساء على الرجال .4
غير معروف في لغة العرب.
ً
وذهب الجمهور من العلماء أنه ل حد على من قذف كافرا أو كافرة .وقيل :إنه يجب عليه الحد.
وذهب الجمهور أيضا ً أن العبد يجلد أربعين جلدة .قيل :يجلد ثمانين.
وأجمع العلماء على أن الحر ل يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما ،وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أن من
ثم ذكر سبحانه شرطا ً لقامة الحد على من قذف قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إل أن يكون كما قال.
المحصنات فقال:
"ثم لم يأتوا بأربعة شهداء" :أي يشهدون عليهن بوقوع الزنا منهن ،ولفظ ثم يدل على أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في
غير مجلس القذف ،وظاهر الية أنه يجوز أن يكون الشهود مجتمعين ومفترقين ،وإذا لم تكمل الشهود أربعة كانوا قذفة يحدون بحد
القذف .وقيل إنه ل حد على الشهود ول على المشهود عليه ،ويرد ذلك ما وقع في خلفة عمر رضي الله عنه من جلده للثلثة الذين
ثم بين سبحانه ما يجب على القاذف فقال: شهدوا على المغيرة بالزنا ،ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم.
"فاجلدوهم ثمانين جلدة" :الجلد الضرب ،والمجادلة المضاربة في الجلود أو بالجلود ،ثم استعير للضرب بالعصا والسيف
وغيرهما.
ً
"ول تقبلوا لهم شهادة أبدا" :الجملة معطوفة على اجلدوا :أي فاجمعوا لهم بين المرين :الجلد ،وترك قبول الشهادة ،لنهم قد
صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به في آخر هذه الية ,ومعنى "أبدًا" :ما داموا في الحياة .ثم بين سبحانه حكمهم
بعد صدور القذف منهم وإصرارهم عليه وعدم رجوعهم إلى التوبة فقال" :وأولئك هم الفاسقون" :الفسق هو الخروج عن
الطاعة ومجاوزة الحد بالمعصية،
حيٌم
غُفوٌر ّر ِ
ل َ
ن ا َّ
حوا َفِإ ّ
صَل ُ
ك َوَأ ْ
ن َتاُبوا ِمن َبْعِد َذِل َ
ِإّل اّلِذي َ
تفسير الية دراية:
ثم بين سبحانه أن هذا التأبيد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة فقال:
"إل الذين تابوا من بعد ذلك" :من بعد اقترافهم لذنب القذف
"وأصلحوا" :إصلح أعمالهم التي من جملتها ذنب القذف ومداركة ذلك بالتوبة والنقياد للحد.
وقد اختلف أهل العلم في هذا الستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله؟ هي جملة عدم قبول الشهادة ،وجملة الحكم عليها بالفسق ،أم
إلى الجملة الخيرة؟ وهذا الختلف بعد اتفاقهم على أنه ل يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصر ،وبعد إجماعهم أيضا ً على أن
هذا الستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق فمحل الخلف هل يرجع إلى جملة عدم قبول الشهادة أم ل؟
7
فقال الجمهور :إن هذا الستثناء يرجع إلى الجملتين ،فإذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه الفسق ،لن سبب ردها هو ما كان
متصفا ً به من الفسق بسبب القذف ،فإذا زال بالتوبة بالجماع كانت الشهادة مقبولة.
وقيل :إن هذا الستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق ،ل إلى جملة عدم قبول الشهادة فيرتفع بالتوبة عن القاذف وصف الفسق ول
تقبل شهادته أبدًا.
وذهب بعضهم إلى التفصيل فقال :ل تقبل شهادته وإن تاب إل أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان ،فحينئذ تقبل شهادته.
وقول الجمهور هو الحق ،لن تخصيص التقييد بالجملة الخيرة دون ما قبلها مع كون الكلم واحدا ً في واقعة شرعية من متكلم واحد
خلف ما تقتضيه لغة العرب ،ومما يؤيد ما قررناه ويقويه أن المانع من قبول الشهادة ،وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال ،فلم
يبق ما يوجب الرد للشهادة.
واختلف العلماء في صورة توبة القاذف ،فقال عمر بن الخطاب والشعبي والضحاك وأهل المدينة :إن توبته ل تكون إل بأن يكذب
نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه وأقيم عليه الحد بسببه.
وقالت فرقة منهم مالك وغيره :إن توبته تكون بأن يحسن حاله ،ويصلح عمله ،ويندم على ما فرط منه ،ويستغفر الله من ذلك ،ويعزم
على ترك العود إلى مثله ،وإن لم يكذب نفسه ول رجع عن قوله .ويؤيد هذا اليات والحاديث الواردة في التوبة فإنها مطلقة غير
مقيدة بمثل هذا القيد.
وقد أجمعت المة على أن التوبة تمحو الذنب ،ولو كان كفرا ً فتمحو ما هو دون الكفر بالولى ,وليس من رمى غيره بالزنا بأعظم جرما ً
من مرتكب الزنا ،والزاني إذا تاب قبلت شهادته ،لن التائب من الذنب كمن ل ذنب له ،وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد
بالقبول أولى ،مع أن مثل هذا الستثناء موجود في مواضع من القرآن منها قوله " :إنما جزاء الذين يحاربون الله " إلى قوله" :إل
الذين تابوا" ول شك أن هذا الستثناء يرجع إلى الجميع .وليس القاذف بأشد جرما ً من الكافر ،فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته
وقوله" :أبدًا" أي ما دام قاذفًا ،كما يقال ل تقبل شهادة الكافر أبدا ً فإن معناه :ما دام كافرًا.
"إن الله غفور رحيم" :تعليل لما تضمنه الستثناء من عدم المؤاخذة للقاذف بعد التوبة وصيرورته مغفورا ً له ،مرحوما ً من الرحمن
الرحيم ،غير فاسق ول مردود الشهادة ،ول مرفوع العدالة.
تفسير الية رواية:
عن ابن عباس في قوله" :إل الذين تابوا" قال :تاب الله عليهم من الفسوق ،وأما الشهادة فل تجوز. .1
عن عمر بن الخطاب أنه قال لبي بكرة :إن تبت قبلت شهادتك. .2
وعنه قال :توبتهم إكذابهم أنفسهم ،فإن أكذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم. .3
عن ابن عباس قال :من تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل. .4
صاِدِقي َ
ن ن ال ّ
ل ِإّنُه َلِم َ
ت ِبا ِّ
شَهاَدا ٍ
حِدِهْم َأْرَبُع َ
شَهاَدُة َأ َ
سُهْم َف َ
شَهَداء ِإّل َأنُف ُ
جُهْم َوَلْم َيُكن ّلُهْم ُ
ن َأْزَوا َ
ن َيْرُمو َ
َواّلِذي َ
تفسير الية دراية:
ذكر سبحانه بعد ذكره لحكم القذف على العموم حكم نوع من أنواع القذف ،وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح فقال:
8
"والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إل أنفسهم" :أي لم يكن لهم شهداء يشهدون بما رموهن من الزنا إل
أنفسهم
"فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله" قرأت برفع "أربع" على أنها خبر لقوله" :فشهادة أحدهم" أي فشهادة أحدهم التي تزيل
عنه حد القذف أربع شهادات.
وقرأت أربع بالنصب على المصدر ،ويكون "فشهادة أحدهم" خبر مبتدأ محذوف :أي فالواجب شهادة أحدهم ،أو مبتدأ محذوف الخبر:
أي فشهادة أحدهم واجبة.
وقيل إن "أربع" منصوب بتقدير :فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات.
"إنه لمن الصادقين" :جملة المشهود به.
تفسير الية رواية:
سبب النزول:
"أن هلل بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء ،فقال النبي صلى الله عليه وسلم :البينة ،وإل حد
في ظهرك ،فقال :يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجل ً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
البينة وإل حد في ظهرك ،فقال هلل :والذي بعثك بالحق إني لصادق ،ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ،ونزل جبريل فأنزل عليه
"والذين يرمون أزواجهم" حتى بلغ "إن كان من الصادقين" فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما ،فجاء هلل فشهد،
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت ،فلما كانت عند الخامسة وقفوها
وقالوا إنها موجبة ،فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ،ثم قالت :ل أفضح قومي سائر اليوم فمضت ،فقال النبي صلى الله عليه
وسلم :أبصروها ،فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء ،فجاءت به كذلك ،فقال النبي صلى
الله عليه وسلم :لول ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" .وفي آخر القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له" :اذهب فل
سبيل لك عليها ،فقال :يا رسول الله مالي ،قال :ل مال لك ،إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها ،وإن كنت كذبت عليها
فذاك أبعد لك منها".
"جاء عويمر إلى عاصم بن عدي ،فقال ،سل رسول الله :أرأيت رجل ً وجد مع امرأته رجل ً فقتله ،أيقتل به أم كيف يصنع؟ .1
فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم :فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل ،فقال عويمر :والله لتين
رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألنه ،فأتاه فوجده قد أنزل عليه ،فدعا بهما فلعن بينهما .قال عويمر :إن انطلقت بها يا
رسول الله لقد كذبت عليها ،ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة للمتلعنين ،فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم :أبصروها ،فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الليتين فل أراه إل قد صدق ،وإن جاءت به أحيمر كأنه
وحرة فل أراه إل كاذبًا ،فجاءت به مثل النعت المكروه"
عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود ،قالوا ل يجتمع المتلعنان أبدًا. .2
9
ن اْلَكاِذِبي َ
ن ن ِم َ
عَلْيِه ِإن َكا َ
ل َ
ت ا ِّ
ن َلْعَن َ
سُة َأ ّ
خاِم َ
َواْل َ
تفسير الية دراية:
"والخامسة" :وتشهد الشهادة الخامسة.
"إن كان من الكاذبين" :أي فيما رماها به من الزنا.
ن اْلَكاِذِبي َ
ن ل ِإّنُه َلِم َ
ت ِبا ِّ
شَهاَدا ٍ
شَهَد َأْرَبَع َ
ن َت ْ
ب َأ ْ
عْنَها اْلَعَذا َ
َوَيْدَرُأ َ
تفسير الية دراية:
"ويدرأ عنها العذاب" :أي عن المرأة ،والمراد بالعذاب :الدنيوي ،وهو الحد ،وفاعل يدرأ قوله:
"أن تشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين" :المعنى :أنه يدفع عن المرأة الحد شهادتها أربع شهادات بالله :أن الزوج
لمن الكاذبين.
صاِدِقي َ
ن ن ال ّ
ن ِم َ
عَلْيَها ِإن َكا َ
ل َ
ب ا ِّ
ض َ
غ َ
ن َ
سَة َأ ّ
خاِم َ
َواْل َ
تفسير الية دراية:
"والخامسة " :قرأت بالنصب عطفا ً على أربع :أي وتشهد الخامسة ،وقرأت على البتداء
"أن غضب الله عليها إن كان" :الزوج "من الصادقين" فيما رماها به من الزنا ،وتخصيص الغضب بالمرأة للتغليظ عليها لكونها
أصل الفجور ومادته ،ولن النساء يكثرن اللعن في العادة ،ومع استكثارهن منه ل يكون له في قلوبهن كبير موقع بخلف الغضب.
حِكيٌم
ب َ
ل َتّوا ٌ
ن ا َّ
حَمُتُه َوَأ ّ
عَلْيُكْم َوَر ْ
ل َ
ضُل ا ِّ
َوَلْول َف ْ
تفسير الية دراية:
"ولول فضل الله عليكم ورحمته" :جواب لول محذوف .و المعنى ولول فضل الله لنال الكاذب منهما عذاب عظيم .ثم بين
سبحانه كثير توبته على من تاب وعظيم حكمته البالغة فقال:
"وأن الله تواب حكيم" :أي يعود على من تاب إليه ،ورجع عن معاصيه بالتوبة عليه والمغفرة له ،حكيم فيما شرع لعباده من
اللعان وفرض عليهم من الحدود.
10
ظيٌم
عِ
ب َ
عَذا ٌ
ن الِْثِم َواّلِذي َتَوّلى ِكْبَرُه ِمْنُهمْ َلُه َ
ب ِم َ
س َ
ئ ّمْنُهم ّما اْكَت َ
خْيٌر ّلُكْم ِلُكّل اْمِر ٍ
شّرا لُّكم َبْل ُهَو َ
سُبوُه َ
ح َ
صَبٌة ّمنُكْم ل َت ْ
ع ْ
ك ُ
جاُؤوا ِباِلْف ِ
ن َ
ن اّلِذي َ
ِإ ّ
تفسير الية دراية:
" إن الذين جاؤوا بالفك " :الفك أسوأ الكذب وأقبحه ،وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه .فالفك هو الحديث
المقلوب ،وقيل هو البهتان وأجمع المسلمون على أن المراد بما في الية ما وقع من الفك على عائشة أم المؤمنين ،وإنما وصفه
الله بأنه إفك ،لن المعروف من حالها رضي الله عنها خلف ذلك ،ومعنى القلب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك النفر أن عائشة
رضي الله عنها كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة وشرف النسب والسبب ل القذف ،فالذين رموها بالسوء قلبوا المر
عن وجهه ،فهو إفك قبيح وكذب ظاهر.
"عصبة منكم" :العصبة هم الجماعة من العشرة إلى الربعين ،وقيل من عشرة إلى خمسة عشر ،وأصلها في اللغة الجماعة الذي
يتعصب بعضهم لبعض
والمراد بهم هنا عبد الله بن أبي رأس المنافقين ،وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن
ساعدهم .وقيل العصبة من الثلثة إلى العشرة.
"ل تحسبوه شرا ً لكم بل هو خير" :خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة وصفوان بن المعطل الذي قذف مع أم
المؤمنين وتسلية لهم .والشر ما زاد ضره على نفعه ،والخير ما زاد نفعه على ضره ،وأما الخير الذي ل شر فيه فهو الجنة ،والشر
الذي ل خير فيه فهو النار ،ووجه كونه خيرا ً لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أم المؤمنين وصيرورة قصتها هذه
شرعا ً عاما ً .
" لكل امرىء منهم ما اكتسب من الثم " :أي بسبب تكلمه بالفك.
"والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم" :قرأت بضم الكاف أي أكبره أي معظم الفك ،وقرأت بكسرها أي :الثم وقيل
البداءة به .وقيل هما لغتان .،فالمعنى :إن الذي تولى معظم الفك من العصبة له عذاب عظيم في الدنيا أو في الخرة أو فيهما.
واختلف في هذا الذي تولى كبره من عصبة الفك من هو منهم؟ فقيل هو عبد الله بن أبي ،وقيل هو حسان ،والول هو الصحيح .وقد
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الفك رجلين وامرأة ،وهم مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش .وقيل
جلد عبد الله بن أبي وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ولم يجلد مسطحًا ،لنه لم يصرح بالقذف ،ولكن كان يسمع ويشيع من غير
تصريح .وقيل لم يجلد أحدا ً منهم .والمشهور من الخبار والمعروف عند العلماء أن الذين حدوا :حسان ومسطح وحمنة .ولم يسمع
بحد لعبد الله بن أبي ،ويؤيد هذا ما ورد عن عائشة ،قالت :لما نزل عذري ،قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتل القرآن،
فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم ،وسماهم :حسان ،ومسطح بن أثاثة ،وحمنة بنت جحش .واختلفوا في وجه
تركه صلى الله عليه وسلم لجلد عبد الله بن أبي ،فقيل لتوفير العذاب العظيم له في الخرة ،وحد من عداه ليكون ذلك تكفيرا ً لذنبهم
كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحدود أنه قال" :إنها كفارة لمن أقيمت عليه" وقيل ترك حده تألفا ً لقومه واحتراما ً لبنه ،فإنه
كان من صالحي المؤمنين وإطفاء لنائرة الفتنة ،فقد كانت ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه.
تفسير الية رواية:
11
سبب النزول :هو ما وقع من أهل الفك الذين تقدم ذكرهم في شأن عائشة رضي الله عنها ،وذلك أنها خرجت من هودجها تلتمس
عقدا ً لها انقطع من جزع ،فرحلوا وهم يظنون أنها في هودجها ،فرجعت وقد ارتحل الجيش والهودج معهم ،فأقامت في ذلك المكان
ومر بها صفوان بن المعطل ،وكان متأخرا ً عن الجيش ،فأناخ راحلته وحملها عليها ،فلما رأى ذلك أهل الفك قالوا ما قالوا ،فبرأها الله
مما قالوه.
عن عائشة قالت :لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذلك وتل القرآن ،فلما نزل أمر .1
برجلين وامرأة فضربوا حدهم ,ووقع عند أبي داود تسميتهم :حسان بن ثابت ،ومسطح بن أثاثة ،وحمنة بنت جحش.
عن ابن عباس قال :الذين افتروا على عائشة عبد الله بن أبي بن سلول ومسطح وحسان وحمنة بنت جحش. .2
عن الزهري قال :كنت عند الوليد بن عبد الملك ،فقال الذي تولى كبره منهم علي ،فقلت ل ،حدثني سعيد بن المسيب .3
وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول :الذي تولى كبره منهم
عبد الله بن أبي ،قال فقال لي :فما كان جرمه؟ قلت :حدثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبو بكر
بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول :كان مسيئا ً في أمري.
دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له :يا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال :عبد الله بن أبي. .4
قال :كذبت هو علي .قال :أمير المؤمنين أعلم بما يقول ،فدخل الزهري فقال :يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟ فقال :ابن
أبي .قال :كذبت هو علي .قال :أنا أكذب؟ ل أبا لك ،والله لو نادى مناد من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت.
عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي. .5
وتصبح غرثى من لحوم عن مسروق دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال :حصان رزان ما تزن بريبة .6
الغوافل
قالت :لكنك لست كذلك ،قلت :تدعين مثل هذا يدخل عليك ،وقد أنزل الله "والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم" .7
فقالت :وأي عذاب أشد من العمى؟.
ك ّمِبي ٌ
ن خْيًرا َوَقاُلوا َهَذا ِإْف ٌ
سِهْم َ
ت ِبَأنُف ِ
ن َواْلُمْؤِمَنا ُ
ن اْلُمْؤِمُنو َ
ظّ
سِمْعُتُموُه َ
َلْول ِإْذ َ
تفسير الية دراية:
ثم صرف سبحانه الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى المؤمنين بطريق اللتفات فقال:
"لول إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا" :لول هذه هي التحضيضية تأكيدا ً للتوبيخ والتقريع ومبالغة في
معاتبتهم :أي كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم ،فإن كان ذلك يبعد فيهم ،فهو في أم
المؤمنين أبعد .وقيل :معنى بأنفسهم بأهل دينهم ،لن المؤمنين كنفس واحدة أل ترى إلى قوله" :ول تقتلوا أنفسكم" ولذلك يقال
للقوم الذي يقتل بعضهم بعضا ً إنهم يقتلون أنفسهم ومثله قوله سبحانه" :فاقتلوا أنفسكم" ،فأوجب الله سبحانه على المسلمين إذا
سمعوا رجل ً يقذف أحدا ً ويذكره بقبيح ل يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه .قال العلماء :إن في الية دليل ً على أن درجة اليمان
والعفاف ل يزيلها الخبر المحتمل وإن شاع" .وقالوا هذا إفك مبين" :أي قال المؤمنون عند سماع الفك هذا إفك ظاهر مكشوف.
12
تفسير الية رواية:
عن بعض النصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الفك ما قالوا :أل تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال :بلى وذلك
الكذب ،أكنت أنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت ل والله ،قال :فعائشة والله خير منك وأطيب ،إنما هذا كذب وإفك باطل ،فلما نزل
القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل الفك .ثم قال" :لول إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ً
وقالوا هذا إفك مبين" أي كما قال أبو أيوب وصاحبته.
ل ُهُم اْلَكاِذُبو َ
ن عنَد ا ِّ
ك ِ
شَهَداء َفُأوَلِئ َ
شَهَداء َفِإْذ َلْم َيْأُتوا ِبال ّ
عَلْيِه ِبَأْرَبَعِة ُ
جاُؤوا َ
َلْول َ
تفسير الية دراية:
" لول جاؤوا عليه بأربعة شهداء " :الجملة من تمام ما يقوله المؤمنون :أي وقالوا هل جاء الخائضون بأربعة شهداء يشهدون
على ما قالوا
" فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك " :أي الخائضون في الفك
"عند الله هم الكاذبون" :أي في حكم الله تعالى هم الكاذبون الكاملون في الكذب.
ظيٌم
عِعَذابٌ َ
ضُتْم ِفيِه َ
سُكْم ِفي َما َأَف ْ
خَرِة َلَم ّ
حَمُتُه ِفي الّدْنَيا َوال ِ
عَلْيُكْم وََر ْ
ل َ
ضُل ا ِّ
َوَلْول َف ْ
تفسير الية دراية:
"ولول فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والخرة" :هذا خطاب السامعين ،وفيه زجر عظيم "ولول" هذه هي لمتناع الشيء
لوجود غيره
" لمسكم في ما أفضتم فيه " :أي بسبب ما خضتم فيه من حديث الفك ،يقال أفاض في الحديث ،واندفع وخاض .والمعنى :لول
أني قضيت عليكم بالفضل في الدنيا بالنعم التي من جملتها المهال والرحمة في الخرة بالعفو ،لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه
من حديث الفك .وقيل المعنى :لول فضل الله عليكم لمسكم العذاب في الدنيا والخرة معًا ،ولكن برحمته ستر عليكم في الدنيا
ويرحم في الخرة من أتاه تائبًا.
ظيٌم
عِل َ
عنَد ا ِّ
سُبوَنُه َهّيًنا َوُهوَ ِ
ح َ
عْلٌم َوَت ْ
س َلُكم ِبِه ِ
ن ِبَأْفَواِهُكم ّما َلْي َ
سَنِتُكْم َوَتُقوُلو َ
ِإْذ َتَلّقْوَنُه ِبَأْل ِ
تفسير الية دراية:
"إذ تلقونه بألسنتكم" :قرأت:
قي ،والصل تتلقونه فحذف إحدى التاءين .المعنى يرويه بعضكم عن بعض .وذلك أن الرجل منهم قونه" من الت ّل َ َِ
"إذ ت َل َ ّ .1
ً
يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا ويتلقونه تلقيا .وقيل معناه :يلقيه بعضكم إلى بعض.
13
وقرأت بضم التاء وسكون اللم وضم القاف ،من اللقاء ،ومعنى هذه القراءة واضح. .2
وقرأت بفتح التاء وكسر اللم وضم القاف وهذه القراءة مأخوذة من قول العرب ولق يلق ولقًا :إذا كذب .وقيل أصل .3
الولق السراع بالشيء بعد الشيء كعدد في إثر عدد ،وكلم في إثر كلم.
وقرأت بقراءات أخرى معناها كمعنى إحدى القراءات السابقة.
"وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم" :المعنى أن قولهم هذا مختص بالفواه من غير أن يكون واقعا ً في الخارج معتقدا ً
في القلوب ،وقيل إن ذكر الفواه للتأكيد كما في قوله" :يطير بجناحيه" ونحوه.
"وتحسبونه هينًا" :أي شيئا ً يسيرا ً ل يلحقكم فيه إثم ،والضمير في تحسبونه راجع إلى الحديث الذي وقع الخوض فيه والذاعة له
"وهو عند الله عظيم" :أي عظيم ذنبه وعقابه.
ظيٌم
عِ
ن َ
ك َهَذا ُبْهَتا ٌ
حاَن َ
سْب َ
ن َلَنا َأن ّنَتَكّلَم ِبَهَذا ُ
سِمْعُتُموُه ُقْلُتم ّما َيُكو ُ
َوَلْول ِإْذ َ
تفسير الية دراية:
"ولول إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا" :هذا عتاب لجميع المؤمنين :أي هل إذ سمعتم حديث الفك قلتم تكذيبا ً
للخائضين فيه المفترين له ما ينبغي لنا ول يمكننا أن نتكلم بهذا الحديث ول يصدر ذلك منا بوجه من الوجوه.
"سبحانك هذا بهتان عظيم" :قول )سبحانك( هنا للتعجب من أولئك الذين جاءوا بالفك ،وأصله التنزيه لله سبحانه ،ثم كثر حتى
استعمل في كل متعجب منه ،والبهتان هو أن يقال في النسان ما ليس فيه :أي هذا كذب عظيم لكونه قيل في أم المؤمنين رضي
الله عنها ،وصدوره مستحيل شرعا ً من مثلها.
14
حِكيٌم
عِليٌم َ
ل َ
ت َوا ُّ
ل َلُكُم الَيا ِ
ن ا ُّ
َوُيَبّي ُ
تفسير الية دراية:
"ويبين الله لكم اليات" :في المر والنهي لتعملوا بذلك وتتأدبوا بآداب الله وتنزجوا عن الوقوع في محارمه
"والله عليم" بما تبدونه وتخفونه "حكيم" في تدبيراته لخلقه.
حيٌم
ف َر ِ
ل َرُؤو ٌ
نا ّ
حَمُتُه َوَأ ّ
عَلْيُكْم َوَر ْ
ل َ
ضُل ا ِّ
َوَلْول َف ْ
تفسير الية دراية:
ً
"ولول فضل الله عليكم ورحمته" :هو تكرير لما تقدم تذكيرا للمنة منه سبحانه على عباده بترك المعالجة لهم
"وأن الله رؤوف رحيم" :ومن رأفته بعباده أن ل يعاجلهم بذنوبهم ،ومن رحمته لهم أن يتقدم إليهم بمثل هذا العذار والنذار
وجملة :وأن الله رؤوف رحيم معطوفة على فضل الله ،وجواب لول محذوف لدللة ما قبله عليه :أي لعاجلكم بالعقوبة.
16
"والله غفور رحيم" :أي كثير المغفرة والرحمة لعباده مع كثرة ذنوبهم ،فكيف ل يقتدي العباد بربهم في العفو والصفح عن
المسيئين إليهم.
تفسير الية رواية:
سبب النزول:
ً
عن عائشة قالت :كان مسطح بن أثاثة ممن تولى كبره من أهل الفك ،وكان قريبا لبي بكر وكان في عياله ،فحلف أبو بكر أن ل ينيله
خيرا ً أبدًا ،فأنزل الله " ول يأتل أولو الفضل منكم والسعة " الية ،قالت :فأعاده أبو بكر إلى عياله وقال :ل أحلف على يمين فأرى
غيرها خيرا ً منها إل تحللتها وأتيت الذي هو خير.
عن ابن عباس في قوله" :ول يأتل" الية ،يقول :ل يقسموا أن ل ينفعوا أحدًا.
ظيٌم
عِ
ب َ
عَذا ٌ
خَرِة َوَلُهْم َ
ت ُلِعُنوا ِفي الّدْنَيا َوال ِ
ت اْلُمْؤِمَنا ِ
ت اْلَغاِفل ِ
صَنا ِ
ح َ
ن اْلُم ْ
ن َيْرُمو َ
ن اّلِذي َ
ِإ ّ
تفسير الية دراية:
"إن الذين يرمون المحصنات" :قد مر تفسير المحصنات وذكرنا الجماع على أن حكم المحصنين من الرجال حكم المحصنات من
النساء في حد القذف ,والمراد بالغافلت اللتي غفلن عن الفاحشة بحيث ل تخطر ببالهن ول يفطن لها ،وفي ذلك من الدللة على
كمال النزاهة وطهارة الجيب ما لم يكن في المحصنات ،وقيل هن السليمات الصدور النقيات القلوب.
وقد اختلف في هذه الية هل هي خاصة أو عامة؟ فقيل :هي خاصة بعبد الله بن أبي رأس المنافقين ,وقيل :هي خاصة فيمن رمى
عائشة رضي الله عنها ,وقيل :هذه الية هي في عائشة وسائر أزواج النبي دون سائر المؤمنين والمؤمنات ،فمن قذف إحدى
أزواج النبي فهو من أهل هذه الية وعلى هذا القول يكون ل توبة لمن رمى إحدى أزواجه ،ومن قذف غيرهن فقد جعل الله له
التوبة كما تقدم في قوله" :إل الذين تابوا" ,وقيل إن هذه الية خاصة بمن أصر على القذف ولم يتب ،وقيل إنها تعم كل قاذف
ومقذوف من المحصنات والمحصنين ،وهو الموافق لما قرره أهل الصول من أن العتبار بعموم اللفظ ل بخصوص السبب .وقيل
إنها خاصة بمشركي مكة ،لنهم كانوا يقولون للمرأة إذا خرجت مهاجرة إنما خرجت لتفجر .قال أهل العلم :إن كان المراد بهذه الية
المؤمنون من القذفة ،فالمراد باللعنة البعاد وضرب الحد وهجر سائر المؤمنين لهم وزوالهم عن رتبة العدالة والبعد عن الثناء الحسن
على ألسنة المؤمنين ،وإن كان المراد بها من قذف عائشة خاصة كانت هذه المور في جانب عبد الله بن أبي رأس المنافقين ،وإن
كانت في مشركي مكة فإنهم ملعونون "في الدنيا والخرة ولهم عذاب عظيم"
تفسير الية رواية:
عن ابن عباس في قوله" :إن الذين يرمون المحصنات" الية ،قال :نزلت في عائشة خاصة. .1
ً
وعنه أيضا في الية قال :هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ،ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة ،وجعل لمن .2
رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة ،ثم قرأ "والذين يرمون المحصنات" إلى قوله" :إل
الذين تابوا".
17
جُلُهم ِبَما َكاُنوا َيْعَمُلو َ
ن سَنُتُهْم َوَأْيِديِهْم َوَأْر ُ
شَهُد عََلْيِهْم َأْل ِ
َيْوَم َت ْ
تفسير الية دراية:
"يوم تشهد عليهم ألسنتهم" هذه الجملة مقررة لما قبلها مبينة لوقت حلول ذلك العذاب بهم وتعيين اليوم لزيادة التهويل بما فيه من
العذاب الذي ل يحيط به وصف .والمعنى :تشهد ألسنة بعضهم على بعض في ذلك اليوم ،وقيل تشهد عليهم ألسنتهم في ذلك اليوم
بما تكلموا به
"وأيديهم وأرجلهم" بما عملوا بها في الدنيا ،وإن الله سبحانه ينطقها بالشهادة عليهم ،والمشهود محذوف وهو ذنوبهم التي
اقترفوها :أي تشهد هذه عليهم بذنوبهم التي اقترفوها ومعاصيهم التي عملوها.
تفسير الية رواية:
عن أبي سعيد أن رسول الله قال" :إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم ،فيقال :هؤلء جيرانك يشهدون عليك
فيقول :كذبوا ،فيقال :أهلك وعشيرتك ،فيقول :كذبوا ،فيقال :احلفوا فيحلفون ،ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم ،ثم
يدخلهم النار" .وقد روي عن النبي ما يتضمن شهادة الجوارح على العصاة.
ق اْلُمِبي ُ
ن ح ّ
ل ُهَو اْل َ
ن ا َّ
ن َأ ّ
ق َوَيْعَلُمو َ
ح ّ
ل ِديَنُهُم اْل َ
َيْوَمِئٍذ ُيَوّفيِهُم ا ُّ
تفسير الية دراية:
"يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق" أي يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله جزاءهم عليها موفرًا ،فالمراد بالدين
هاهنا الجزاء ،وبالحق الثابت الذي ل شك في ثبوته .وقرأت "الحق" بالرفع على أنه نعت لله ،وقرأ الباقون بالنصب على أنه نعت
لدينهم.
"ويعلمون أن الله هو الحق المبين" أي ويعلمون عند معاينتهم لذلك ووقوعه على ما نطق به الكتاب العزيز أن الله هو الحق
الثابت في ذاته وصفاته وأفعاله ،المبين المظهر للشياء كما هي في أنفسها ،وإنما سمي سبحانه الحق لن عبادته هي الحق دون
عبادة غيره .وقيل سمي بالحق :أي الموجود لن نقيضه الباطل وهو المعدوم.
تفسير الية رواية:
عن ابن عباس في قوله سبحانه" :يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق" قال :حسابهم ،وكل شيء في القرآن فهو الحساب.
عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم ".
ق َكِريٌم
ن َلُهم ّمْغِفَرٌة َوِرْز ٌ
ن ِمّما َيُقوُلو َ
ك ُمَبّرُؤو َ
ت ُأْوَلِئ َ
طّيَبا ِ
ن ِلل ّ
طّيُبو َ
ن َوال ّ
طّيِبي َ
ت ِلل ّ
طيَّبا ُ
ت َوال ّ
خِبيَثا ِ
ن ِلْل َ
خِبيُثو َ
ن َواْل َ
خِبيِثي َ
ت ِلْل َ
خِبيَثا ُ
اْل َ
تفسير الية دراية:
ثم ختم سبحانه اليات الواردة في أهل الفك بكلمة جامعة فقال:
"الخبيثات للخبيثين والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " :أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال :أي مختصة بهم
ل تتجاوزهم ،وكذا الخبيثون مختصون بالخبيثات ل يتجاوزونهن ،وهكذا قوله" :والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات" ,فالية
مبنية على قوله" :الزاني ل ينكح إل زانية" فالخبيثات الزواني ،والطيبات العفائف ،وكذا الخبيثون والطيبون ،وقال أكثر المفسرين:
18
المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلمات ،والكلمات الطيبات من القول
للطيبين من الناس ،والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات .فمعناه ل يتكلم بالخبيثات إل الخبيث من الرجال والنساء ،وهذا ذم
للذين قذفوا عائشة بالخبيث ومدح للذين برأوها.
" أولئك مبرؤون مما يقولون " والشارة هنا إلى الطيبين والطيبات :أي هم مبرأون مما يقوله الخبيثون والخبيثات ،وقيل الشارة
إلى أزواج النبي ،وقيل إلى رسول الله وعائشة وصفوان بن المعطل ،وقيل عائشة وصفوان فقط.
"لهم مغفرة" :أي هؤلء المبرأون لهم مغفرة عظيمة لما ل يخلوا عنه البشر من الذنوب "ورزق كريم" هو رزق الجنة.
تفسير الية رواية:
عن ابن عباس في قوله" :الخبيثات" قال :من الكلم "للخبيثين" قال :من الرجال "والخبيثون" من الرجال "للخبيثات" .1
من الكلم "والطيبات" من الكلم "للطيبين" من الناس "والطيبون" من الناس "للطيبات" من الكلم ،نزلت في الذين قالوا في
زوجة النبي ما قالوا من البهتان.
عن ابن زيد في الية قال :نزلت في عائشة حين رماها المنافقون بالبهتان والفرية فبرأها الله من ذلك ،وكان عبد الله بن .2
أبي هو الخبيث ،فكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها ،وكان رسول الله طيبًا ،فكان أولى أن تكون له الطيبة،
وكانت عائشة الطيبة ،وكانت أولى بأن يكون لها الطيب ،وفي قوله " :أولئك مبرؤون مما يقولون " قال :هاهنا برئت عائشة.
عن عائشة قالت :لقد نزل عذري من السماء ،ولقد خلقت طيبة وعند طيب ،ولقد وعدت مغفرة وأجرا ً عظيمًا. .3
عن ابن عباس في قوله" :حتى تستأنسوا" قال :أخطأ الكاتب حتى تستأذنوا "وتسلموا على أهلها". .1
عن إبراهيم النخعي قال في مصحف عبد الله " حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ". .2
عن ابن عباس قال :الستئناس :الستئذان. .3
عن أبي أيوب قال" :قلت يا رسول الله :أرأيت قول الله تعالى "حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها" هذا التسليم قد .4
عرفناه فما الستئناس؟ قال :يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت".
عن أبي أيوب أن النبي قال" :الستئناس أن يدعو الخادم حتى يستأنس أهل البيت الذين يسلم عليهم". .5
أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ وضغابيس والنبي بأعلى الوادي ،قال :فدخلت عليه ولم أسلم ولم أستأذن، .6
فقال النبي : ارجع فقل :السلم عليكم أأدخل؟"
استأذن رجل من بني عامر على النبي وهو في بيت ،فقال :أألج؟ فقال النبي وسلم لخادمه :اخرج إلى هذا فعلمه .7
الستئذان ،فقل له :قل السلم عليكم أأدخل؟".
عِليٌم
ن َ
ل ِبَما َتْعَمُلو َ
جُعوا ُهَو َأْزَكى َلُكْم َوا ُّ
جُعوا َفاْر ِ
ن َلُكْم َوِإن ِقيَل َلُكُم اْر ِ
حّتى ُيْؤَذ َ
خُلوَها َ
حًدا َفل َتْد ُ
جُدوا ِفيَها َأ َ
َفِإن ّلْم َت ِ
تفسير الية دراية:
"فإن لم تجدوا فيها أحدا ً فل تدخلوها حتى يؤذن لكم" :أي فإن لم تجدوا في البيوت التي لغيركم أحدا ً ممن يستأذن عليه
فل تدخلوها حتى يؤذن لكم بدخولها من جهة من يملك الذن .فالمراد بالحد المذكور أهل البيوت الذي يأذنون للغير بدخولها ،ل متاع
الداخلين إليها
"وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا" :أي إن قال لكم أهل البيت ارجعوا فارجعوا ،ول تعاودوهم بالستئذان مرة أخرى ،ول تنتظروا
بعد ذلك أن يأذنوا لكم بعد أمرهم لكم بالرجوع .ثم بين سبحانه أن الرجوع أفضل من اللحاح وتكرار الستئذان والقعود على الباب
فقال:
"هو أزكى لكم" أي أفضل "وأطهر" من التدنس بالمشاحة على الدخول لما في ذلك من سلمة الصدر ،والبعد من الريبة ،والفرار
من الدناءة
"والله بما تعملون عليم" :ل تخفى عليه من أعمالكم خافية.
تفسير الية رواية:
20
عن أبي سعيد الخدري قال :كنت جالسا ً في مجلس من مجالس النصار فجاء أبو موسى فزعًا ،فقلنا له :ما أفزعك قال: .1
أمرني عمر أن آتيه فأتيته ،فاستأذنت ثلثا ً فلم يؤذن لي ،فقال :ما منعك أن تأتيني؟ فقلت :قد جئت فاستأذنت ثلثا ً فلم يؤذن لي،
وقد قال رسول الله" :إذا استأذن أحدكم ثلثا ً فلم يؤذن له فليرجع" .قال :لتأتيني على هذا بالبينة ،فقالوا :ل يقوم إل أصغر
القوم ،فقام أبو سعيد معه ليشهد له ،فقال عمر لبي موسى :إني لم أتهمك ،ولكن الحديث عن رسول الله شديد.
اطلع رجل من جحر في حجرة النبي ومعه مدرى يحك بها رأسه ،قال :لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك ،إنما .2
جعل الستئذان من أجل البصر.
عن أنس قال :قال رجل من المهاجرين :لقد طلبت عمري كله في هذه الية ،فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني، .3
فيقول لي ارجع ،فأرجع وأنا مغتبط لقوله :وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم.
21
زائدة ,وقيل لبيان الجنس ,وقيل لبتداء الغاية ,وقيل وجه التبعيض أنه يعفى للناظر أول نظرة تقع من غير قصد .وقيل الفض
النقصان ،يقال غض فلن من فلن :أي وضع منه ،فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو مغضوض منه ومنقوص فتكون "من" صلة للغض.
وفي هذه الية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحل النظر إليه.
"ويحفظوا فروجهم" :المعنى أنه يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم .وقيل المراد ستر فروجهم عن أن يراها ن ل تحل له
رؤيتها ،ول مانع من إرادة المعنيين .فالكل يدخل تحت حفظ الفرج .قيل ووجه المجيء بمن في البصار دون الفروج أنه موسع في
النظر فإنه ل يحرم منه إل ما استثنى ،بخلف حفظ الفرج فإنه مضيق فيه ،فإنه ل يحل منه إل ما استثنى .وقيل الوجه أن غض البصر
كله كالمعتذر ،بخلف حفظ الفرج فإنه ممكن على الطلق
"ذلك" :الشارة إلى ما ذكر من الغض والحفظ" ،أزكى لهم" أي أظهر لهم من دنس الريبة وأطيب من التلبس بهذه الدنيئة
"إن الله خبير بما يصنعون" :ل يخفى عليه شيء من صنعهم وفي ذلك وعيد لمن لم يغض بصره ويحفظ فرجه.
تفسير الية رواية:
سبب النزول :عن علي بن أبي طالب قال ":مر رجل على عهد رسول الله في طريق من طرقات المدينة ،فنظر إلى المرأة
ونظرت إليه ،فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الخر إل إعجابا ً به ،فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر
إليها ،إذ استقبله الحائط فشق أنفه ،فقال :والله ل أغسل الدم حتى آتي رسول الله فأعلمه أمري ،فأتاه فقص عليه قصته ،فقال
النبي:هذا عقوبة ذنبك ،وأنزل الله "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم" الية".
عن ابن عباس "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم" قال :يعني من شهواتهم مما يكره الله. .1
عن بريدة قال :قال رسول الله " :ل تتبع النظرة النظرة ،فإن الولى لك وليست لك الخرى" .2
عن جرير البجلي قال" :سألت رسول الله عن نظرة الفجأة ،فأمرني أن أصرف بصري" .3
قال رسول الله : إياكم والجلوس على الطرقات ،فقالوا :يا رسول الله ما لنا من مجالسنا نتحدث فيها ،فقال:إن أبيتم .4
فأعطوا الطريق حقه ،قالوا :وما حقه يا رسول الله؟ قال:غض البصر ،وكف الذى ،ورد السلم ،والمر بالمعروف ،والنهي عن
المنكر".
عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال "قلت :يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال:احفظ عورتك إل من .5
زوجتك ،أو ما ملكت يمينك .قلت :يا نبي الله إذا كان القوم بعضهم في بعض ،قال :إن استطعت أن ل يراها أحد فل يرينها،
قلت :إذا كان أحدنا خاليًا ،قال :فالله أحق أن يستحيا منه من الناس"
قال رسول الله " :كتب الله على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ل محالة ،فزنا العين النظر ،وزنا اللسان النطق ،وزنا .6
الذنين السماع وزنا اليدين البطش ،وزنا الرجلين الخطو ،والنفس تتمنى ،والفرج يصدق ذلك أو يكذبه".
قال رسول الله " :النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة ،فمن تركها من خوف الله أثابه الله إيمانا ً يجد حلوته في .7
قلبه" والحاديث في هذا الباب كثيرة.
23
وآباء الباء وآباء المهات وإن علوا ،وكذلك أبناء البعولة وإن سفلوا ،وكذلك أبناء الخوة والخوات .وذهب الجمهور إلى أن العم والخال
كسائر المحارم في جواز النظر إلى ما يجوز لهم ،وليس في الية ذكر الرضاع ،وهو كالنسب .وقيل :ليس العم والخال من المحارم،
"أو نسائهن" :هن المختصات بهن الملبسات لهن بالخدمة أو الصحبة ،ويدخل في ذلك الماء ،ويخرج من ذلك نساء الكفار من أهل
الذمة وغيرهم ،فل يحل لهن أن يبدين زينتهن لهن لنهن ل يتحرجن عن وصفهن للرجال .وفي هذه المسألة خلف بين أهل العلم،
وإضافة النساء إليهن تدل على اختصاص ذلك بالمؤمنات
"أو ما ملكت أيمانهن" :ظاهر الية يشمل العبيد والماء من غير فرق بين أن يكونوا مسلمين أو كافرين ،وبه قال جماعة من أهل
العلم ،وقيل :إنما عنى بها الماء ولم يعن بها العبيد .وكره بعضهم أن ينظر المملوك إلى شعر مولته.
"أو التابعين غير أولي الربة من الرجال" :المراد بالتابعين هم الذين يتبعون القوم فيصيبون من طعامهم ل همة لهم إل ذلك
ول حاجة لهم في النساء ,وأصل الربة والرب والمأربة الحاجة والجمع مآرب :أي حوائج ،ومنه قوله سبحانه" :ولي فيها مآرب أخرى",
وقيل المراد بغير أولي الربة من الرجال الحمقى الذين ل حاجة لهم في النساء ،وقيل البله ،وقيل العنين ،وقيل الخصي ،وقيل
المخنث ،وقيل الشيخ الكبير ،ول وجه لهذا التخصيص ،بل المراد بالية ظاهرها وهم من يتبع أهل البيت ،ول حاجة له في النساء ،ول
يحصل منه ذلك في حال من الحوال ،فيدخل من هؤلء من هو بهذه الصفة ويخرج من عداه
"أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء" :الطفل يطلق على المفرد والمثنى والمجموع ،أو المراد به هنا الجنس
الموضوع موضع الجمع بدللة وصفه بوصف الجمع ،يقال للنسان طفل ما لم يراهق الحلم ومعنى لم يظهروا :لم يطلعوا ،من الظهور
بمعنى الطلع ،وقيل معناه :لم يبلغوا حد الشهوة للجماع ،يقال ظهرت على كذا :إذا غلبته وقهرته .والمعنى :لم يطلعوا على عورات
النساء ويكشفوا عنها للجماع ،أو لم يبلغوا حد الشهوة للجماع.
واختلف العلماء في وجوب ستر ما عدا الوجه والكفين من الطفال ،فقيل ل يلزم لنه ل تكليف عليه وهو الصحيح ،وقيل يلزم لنها قد
تشتهي المرأة .وهكذا اختلف في عروة الشيخ الكبير الذي قد سقطت شهوته ،والولى بقاء الحرمة كما كانت ،فل يحل النظر إلى
العورة ول يحل له أن يكشفها.
وقد اختلف العلماء في حد العروة :أجمع المسلمون على أن السوءتين عورة من الرجل والمرأة ،وأن المرأة كلها عورة إل وجهها
ويديها على خلف ذلك .وقال الكثر :إن عورة الرجل من سرته إلى ركبته
"ول يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن" أي ل تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليسمع صوت خلخالها من يسمعه
من الرجال فيعلمون أنها ذات خلخال ,وقيل :سماع هذه الزينة أشد تحريكا ً للشهوة من إبدائها .ثم أرشد عباده إلى التوبة عن
المعاصي فقال سبحانه:
" وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون" فيه المر بالتوبة ،ول خلف بين المسلمين في وجوبها وأنها فرض من فرائض الدين.
ثم ذكر ما يرغبهم في التوبة ،فقال:
"لعلكم تفلحون" :أي تفوزون بسعادة الدنيا والخرة ،وقيل إن المراد بالتوبة هنا هي عما كانوا يعملونه في الجاهلية.
تفسير الية رواية:
سبب النزول :كانت أسماء بنت يزيد في نخل لها لبني حارثة ،فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات فيبدو ما في أرجلهن ،يعني
الخلخل ،وتبدو صدورهن وذوائبهن ،فقالت أسماء :ما أقبح هذا ،فأنزل الله ذلك "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن" الية
24
.1عن ابن مسعود في قوله" :ول يبدين زينتهن" قال :الزينة السوار والدملج والخلخال والقرط والقلدة "إل ما ظهر منها" قال:
الثياب والجلباب.
.2وعنه قال :الزينة زينتان زينة ظاهرة وزينة باطنة ل يراها إل الزوج ،فأما الزينة الظاهرة فالثياب ،وأما الزينة الباطنة فالكحل
السوار والخاتم.
.3عن أنس في قوله" :إل ما ظهر منها" قال :الكحل والخاتم.
.4عن ابن عباس "ول يبدين زينتهن إل ما ظهر منها" قال :الكحل والخاتم والقرط والقلدة .وعنه :هو خضاب الكف والخاتم ,وعنه:
إل ما ظهر منها وجهها وكفاها والخاتم ,وعنه قال :رقعة الوجه وباطن الكف ,وعنه الزينة الظاهرة الوجه وكحل العينين وخضاب
الكف والخاتم ،فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها .ثم قال" ،ول يبدين زينتهن إل لبعولتهن أو آبائهن" الية ،والزينة التي تبديها
لهؤلء قرطها وقلدتها وسوارها ،فأما خلخالها ومعضدها ونحرها وشعرها فإنها ل تبديه إل لزوجها.
.5عن ابن عمر قال :الزينة الظاهرة الوجه والكفان.
.6عن عائشة أنها سئلت عن الزينة الظاهرة قال :القلب والفتخ وضمت طرف كمها.
.7عن عائشة :أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي وعليها ثياب رقاق ،فأعرض عنها وقال :يا أسماء إن المرأة إذا بلغت
المحيض لم تصلح أن يرى منها إل هذا ،وأشار إلى وجهه وكفه.
.8عن عائشة :قالت :رحم الله نساء المهاجرات الولت لما أنزل الله "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" شققن أكثف مروطهن
فاختمرن به.
.9عن ابن عباس "أو نسائهن" قال :هن المسلمات ل تبديه ليهودية ول نصرانية وهو النحر والقرط والوشاح ،وما يحرم أن يراه إل
محرم .عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة :أما بعد ،فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء
أهل الشرك ،فانه من قبلك عن ذلك ،فإنه ل يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الخر أن ينظر إلى عورتها إل أهل ملتها.
عن ابن عباس قال :ل بأس أن يرى العبد شعر سيدته. .10
.11عن أنس "أن النبي أتى فاطمة بعبد قد وهب لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنع به رأسها لم يبلغ رجليها ،وإذا غطت رجليها لم
يبلغ رأسها ،فلما رأى النبي ما تلقى قال :إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلمك"
.12عن أم سلمة أن رسول الله قال" :إذا كان لحداكن مكاتب ،وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه"
.13عن ابن عباس في قوله" :أو التابعين غير أولي الربة من الرجال" قال :هذا الذي ل تستحي منه النساء .وعنه في الية :هذا
الرجل يتبع القوم وهو مغفل في عقله ،ل يكترث للنساء ول يشتهي النساء .وعنه في الية قال :كان الرجل يتبع الرجل في الزمان
الول ل يغار عليه ول ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده ،وهو الحمق الذي ل حاجة له في النساء .وعنه أيضا ً في الية قال :هو
المخنث الذي ل يقوم زبه.
.14عن عائشة قالت " :كان رجل يدخل على أزواج النبي مخنث ،فكانوا يدعونه من غير أولي الربة ،فدخل النبي يوما ً وهو
عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال :إذا أقبلت أقبلت بأربع ،وإذا أدبرت أدبرت بثمان ،قال النبي :أل أرى هذا يعرف ما هاهنا ل
يدخلن عليكم فحجبوه".
25
.15عن ابن عباس في قوله" :ول يضربن بأرجلهن" وهو أن تقرع الخلخال بالخر عند الرجال ،أو يكون في رجلها خلخل فتحركهن
عند الرجال ،فنهى الله عن ذلك ،لنه من عمل الشيطان.
عِليٌم
سٌع َ
ل َوا ِ
ل ِمن َفضِْلِه َوا ُّ
عَباِدُكْم َوِإَماِئُكْم ِإن َيُكوُنوا ُفَقَراء ُيْغِنِهُم ا ُّ
ن ِ
ن ِم ْ
حي َ
صاِل ِ
حوا اَلَياَمى ِمنُكْم َوال ّ
َوَأنِك ُ
تفسير الية دراية:
مناسبة اليات لما قبلها :لما أمر سبحانه بغض البصار وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى ما يحل للعباد من النكاح الذي يكون به
قضاء الشهوة وسكون دواعي الزنا ويسهل بعده غض البصر عن المحرمات وحفظ الفرج عما ل يحل فقال:
"وأنكحوا اليامى منكم" اليم التي ل زوج لها بكرا ً كانت أو ثيبًا ،والجمع أيامى والصل أيايم ،بتشديد الياء ،ويشمل الرجل والمرأة.
وهو كالمستعار في الرجال ,والخطاب في الية للولياء ،وقيل للزواج ،والول أرجح ،وفيه دليل على أن المرأة ل تنكح نفسها.
واختلف أهل العلم في النكاح هل مباح ،أو مستحب ،أو واجب؟ فذهب إلى الول الشافعي وغيره ،وإلى الثاني مالك وأبو حنيفة ،وإلى
الثالث بعض أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك ،فقالوا :إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية وجب عليه وإل فل .والظاهر أن
القائلين بالباحة والستحباب ل يخالفون في الوجوب مع تلك الخشية ،وبالجملة فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة لقوله في
الحديث الصحيح بعد ترغيبه في النكاح" :ومن رغب عن سنتي فليس مني" ولكن مع القدرة عليه ،وعلى مؤنه كما سيأتي قريبًا،
والمراد باليامى هنا الحرار والحرائر ،وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله:
"والصالحين من عبادكم وإمائكم" الصلح هو اليمان .وذكر سبحانه الصلح في المماليك دون الحرار لن الغالب في الحرار
الصلح بخلف المماليك ،وفيه دليل على أن المملوك ل يزوج نفسه ،وإنما يزوجه مالكه .وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن
يكره عبده وأمته على النكاح .وقال مالك :ل يجوز .ثم رجع سبحانه إلى الكلم في الحرار فقال:
"إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" :أي ل تمتنعوا من تزويج الحرار بسبب فقر الرجل والمرأة أو أحدهما ،فإنهم إن
يكونوا فقراء يغنهم الله سبحانه ويتفضل عليهم بذلك .فحث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر ،ول يلزم أن يكون هذا حاصل ً
لكل فقير إذا تزوج فإن ذلك مقيد بالمشيئة ،وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء ل يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا .وقيل المعنى :إنه
يغنيه بغنى النفس ،وقيل المعنى :إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلل ليتعففوا عن الزنا .والوجه الول أولى،
ويدل عليه قوله سبحانه" :وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء" فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك،
"والله واسع عليم" :مؤكدة لما قبلها ومقررة لها ،والمراد أنه سبحانه ذو سعة ل ينقص من سعة ملكه غنى من يغنيه من عباده
عليم بمصالح خلقه ،يغني من يشاء ويفقر من يشاء.
تفسير الية رواية:
عن ابن عباس في قوله " :وأنكحوا اليامى " الية قال :أمر الله سبحانه بالنكاح ورغبهم فيه ،وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم .1
وعبيدهم ،ووعدهم في ذلك الغنى فقال" :إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله".
عن أبي بكر الصديق قال :أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى ،قال تعالى" :إن يكونوا .2
فقراء يغنهم الله من فضله".
26
عن عمر بن الخطاب قال ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في الباءة ،وقد وعد الله فيها ما وعد ،فقال" :إن يكونوا فقراء .3
يغنهم الله من فضله".
عن عائشة قالت :قال رسول الله " أنكحوا النساء ،فإنهن يأتينكم بالمال". .4
عن أبي هريرة قال :قال رسول الله ": ثلثة حق على الله عونهم :الناكح يريد العفاف ،والمكاتب يريد الداء ،والغازي .5
في سبيل الله".
27
"وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" :في هذه الية المر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة ،إما بأن يعطوهم شيئا ً من
المال وبأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه ،وظاهر الية عدم تقدير ذلك بمقدار ،وقيل الثلث ،وقيل الربع ،وقيل العشر ،ولعل وجه
تخصيص الموالي بهذا المر هو كون الكلم فيهم ،وسياق الكلم معهم فإنهم المأمورون بالكتابة .وقيل :إن الخطاب بقوله :وآتوهم
لجميع الناس.
ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك ،نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على
الزنا فقال:
ً
"ول تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " :المراد بالفتيات هنا الماء وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الحرار
في مواضع أخر .والبغاء :الزنا ،مصدر بغت المرأة تبغي بغاًء إذا زنت ،وهذا مختص بزنا النساء ،فل يقال للرجل إذا زنا إنه بغي ،وشرط
الله سبحانه هذا النهي بقوله" :إن أردن تحصنًا" لن الكراه ل يتصور إل عند إرادتهم للتحصن ،فإن من لم ترد التحصن ل يصح أن يقال
لها مكرهة على الزنا ،والمراد بالتحصن هنا :التعفف والتزوج .وقيل إن هذا القيد راجع إلى اليامى .وقيل هذا الشرط .ملغى .وقيل إن
هذا الشرط باعتبار ما كانوا عليه ،فإنهم كانوا يكرهونهن وهن يردن التعفف ،وليس لتخصص النهي بصورة إرادتهن التعفف .وقيل إن
هذا الشرط خرج مخرج الغالب ،لن الغالب أن الكراه ل يكون إل عند إرادة التحصن ،فل يلزم منه جواز الكراه عند عدم إرادة
التحصن ،وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه ،فإن المة قد تكون غير مريدة للحلل ول للحرام كما فيمن ل رغبة لها في النكاح ،والصغيرة
فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن ،فل يتم ما قيل من أنه ل يتصور الكراه إل عند إرادة التحصن ،إل أن يقال إن
ثم علل سبحانه المراد بالتحصن هنا مجرد التعفف ،وأنه ل يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن وهو بعيد.
هذا النهي بقوله:
ً
"لتبتغوا عرض الحياة الدنيا" وهو ما تكسبه المة بفرجها ،وهذا التعليل أيضا خارج مخرج الغالب ،والمعنى :أن هذا العرض هو
الذي كان يحملهم على إكراه الماء على البغاء في الغالب ،لن إكراه الرجل لمته على البغاء ل لفائدة له أصل ً ل يصدر مثله عن
العقلء ،فل يدل هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها ،إذا لم يكن مبتغيا ً بإكراهها عرض الحياة الدنيا .وقيل إن هذا التعليل للكراه
هو باعتبار أن عادتهم كانت كذلك ،ل أنه مدار للنهي عن الكراه لهن ،وهذا يلقي المعنى الول ول يخالفه.
"ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" :هذا مقرر لما قبله ومؤكد له،والمعنى أن عقوبة الكراه راجعة إلى
المكرهين ل إلى المكرهات ،كما تدل عليه قراءة :فإن الله غفور رحيم لهن .قيل وفي هذا التفسير بعد ،لن المكرهة على الزنا غير
أثمة .واجيب بأنها وإن كانت مكرهة ،فربما ل تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة إما بحكم الجبلة البشرية ،أو يكون الكراه
قاصرا ً عن حد اللجاء المزيل للختيار .وقيل إن المعنى :فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم :إما مطلقًا ،أو بشرط التوبة.
تفسير الية رواية:
أسباب النزول:
عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال :كنت مملوكا ً لحويطب بن عبد العزى ،فسألته الكتابة فأبى ،فنزلت " والذين يبتغون .1
الكتاب " الية.
كان عبد الله بن أبي يقول لجارية له :اذهبي فابغينا شيئًا،وكانت كارهة ،فأنزل الله " ول تكرهوا فتياتكم على البغاء إن .2
أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم " هكذا كان يقرأها
28
عن علي بن أبي طالب في الية قال :كان أهل الجاهلية يبغين إماءهم ،فنهوا عن ذلك في السلم. .3
عن ابن عباس قال :كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا ،يأخذون أجورهن فنزلت الية. .4
عن ابن عباس في قوله" :وليستعفف الذين ل يجدون نكاحًا" قال :ليتزوج من ل يجد فإن الله سيغنيه. .1
عن أنس بن مالك قال :سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه ،فأتى عمر بن الخطاب فأقبل علي بالدرة وقال :كاتبه وتل .2
ً
"فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا" فكاتبته.
ً
قال :قال رسول الله "":فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا" قال إن علمتم فيهم حرفة ،ول ترسلوهم كل على الناس .3
ً ً
عن ابن عباس "إن علمتم فيهم خيرا" قال :المال .وعنه في الية قال :أمانة ووفاء .وعنه أيضا قال :إن علمت مكاتبك .4
يقضيك .وعنه في الية قال :إن علمتم لهم حيلة ،ول تلقوا مؤنتهم على المسلمين "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" يعني
ضعوا عنهم في مكاتبتهم.
كان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة ويقول :يطعمني من أوساخ الناس .وأخرج .5
عن ابن عباس في قوله" :وآتوهم من مال الله" الية :أمر المؤمنين أن يعينوا في الرقاب .وقال علي بن أبي طالب :أمر .6
الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه .وهذا تعليم من الله ليس بفريضة ،ولكن فيه أجر.
عن بريدة في الية قال :حث الناس عليه أن يعطوه. .7
وقد ورد النهي منه صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن. .8
ظًة ّلْلُمّتِقي َ
ن عَخَلْوا ِمن َقْبِلُكْم َوَمْو ِ
ن َ
ن اّلِذي َ
ت َوَمَثل ّم َ
َوَلَقْد َأنَزْلَنا ِإَلْيُكْم آَياتٍ ّمَبّيَنا ٍ
تفسير الية دراية:
لما فرغ سبحانه من بيان تلك الحكام ،شرع في وصف القرآن بصفات ثلث :الولى أنه آيات مبينات :أي واضحات في أنفسهن أو
موضحات ،فتدخل اليات المذكورة في هذه الصورة دخول ً أوليًا.
والصفة الثانية كونه مثل ً من الذين خلوا من قبل هؤلء :أي مثل ً كائنا ً من جهة أمثال الذين مضوا من القصص العجيبة ،والمثال
المضروبة لهم في الكتب السابقة ،فإن العجب من قصة عائشة رضي الله عنها ،هو كالعجب من قصة يوسف ومريم وما أتهما به ،ثم
تبين بطلنه وبراءتهما سلم الله عليهما.
والصفة الثالثة كونه "موعظة"ينتفع بها المتقون خاصة ،فيقتدون بما فيه من الوامر ،وينزجرون عما فيه من النواهي .وأما غيز
المتقين ،فإن الله قد ختم على قلوبهم ،وجعل على أبصارهم غشاوة عن سماع المواعظ والعتبار بقصص الذين خلوا ،وفهم ما
تشتمل عليه اليات البينات.
شْرِقّيٍة
جَرٍة ّمَباَرَكٍة زَْيُتوَنٍة ّل َ
شَي ُيوَقُد ِمن َ ب ُدّر ّ
جُة َكَأّنَها َكْوَك ٌ
جا َ
جٍة الّز َ
جا َح ِفي ُز َ
صَبا ُ
ح اْلِم ْ
شَكاٍة ِفيَها ِمصَْبا ٌ
ض َمَثُل ُنوِرِه َكِم ْ
ت َواَلْر ِ سَماَوا ِ ل ُنوُر ال ّ
ا ُّ
عِليٌم
يٍء َ
ش ْل ِبُكّل َس َوا ُّ لُ اَلْمَثاَل ِللّنا ِ
با ّ ضِر ُ
شاء َوَي ْ ل ِلُنوِرِه َمن َي َعَلى ُنوٍر َيْهِدي ا ُّسُه َناٌر ّنوٌر َ
س ْضيُء َوَلْو َلْم َتْم َ
غْرِبّيٍة َيَكاُد َزْيُتَها ُي َِول َ
تفسير الية دراية:
29
لما بين سبحانه من الحكام ما بين أردف ذلك بكونه سبحانه في غاية الكمال فقال:
"الله نور السماوات والرض" :هذه الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها ،والسم الشريف مبتدأ ،ونور السماوات والرض خبره ،إما
على حذف مضاف :أي ذو نور السماوات والرض ،أو لكون المراد المبالغة في وصفه سبحانه بأنه نور لكمال جلله وظهور عدله
وبسطه أحكامه ،كما يقال فلن نور البلد وقمر الزمن وشمس العصر ،ومعنى النور في اللغة :الضياء ،وهو الذي يبين الشياء ويري
البصار حقيقة ما تراه ،فيجوز إطلق النور على الله سبحانه على طريقة المدح ،ولكونه أوجد الشياء المنورة وأوجد أنوارها ونورها،
ور السماوات والرض" على صيغة الفعل الماضي ،منيرتين باستقامة أحوال أهلهما وكمال تدبيره ويدل على هذا المعنى قراءة "الله ن ّ
ور البلد.
عز وجل لمن فيهما ،كما يقال الملك ن ّ
"مثل نوره" :مبتدأ وخبره "كمشكاة" أي صفة نوره الفائض عنه ،الظاهر على الشياء كمشكاة ،والمشكاة الكوة في الحائط غير
النافذة ،ووجه تخصيص المشكاة أنها أجمع للضوء الذي يكون فيه من مصباح أو غيره ،وأصل المشكاة الوعاء الذي يجعل فيه الشيء.
وقيل المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة .والول أولى.
"فيها مصباح" وهو السراج "المصباح في زجاجة" :النور في الزجاج وضوء النار أبين منه في كل شيء وضوءه يزيد في
الزجاج ،ووجه ذلك :أن الزجاج جسم شفاف يظهر فيه النور أكمل ظهور .ثم وصف الزجاجة فقال:
"الزجاجة كأنها كوكب دري" أي منسوب إلى الدر لكون فيه من الصفاء والحسن ما يشابه الدر .وقرأت "دري" بكسر الدال من
درأت النجوم تدرأ إذا اندفعت ,والدراري هي المشهورة من الكواكب كالمشتري والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت .ثم وصف
المصباح بقوله:
"يوقد من شجرة مباركة زيتونة" :ومن هذه هي البتدائية :أي ابتداء إيقاد المصباح منها ،وقيل هو على تقدير مضاف :أي يوقد
من زيت شجرة مباركة ،والمباركة الكثيرة المنافع .وقيل المنماة ،والزيتون من أعظم الثمار نماء ،قيل ومن بركتها أن أغصانها تورق
من أسفلها إلى أعلها ،وهي إدام ودهان ودباغ ووقود ،وليس فيها شيء إل وفيه منفعة ،ثم وصفها بأنها
"ل شرقية ول غربية" :وقد اختلف المفسرون في معنى هذا الوصف ،فقيل :إن الشرقية هي التي تصيبها الشمس إذا شرقت.
ول تصيبها إذا غربت .والغربية هي التي تصيبها إذا غربت ،ول تصيبها إذا شرقت .وهذه الزيتونة هي في صحراء بحيث ل يسترها عن
الشمس شيء ل في حال شروقها ول في حال غروبها ،وما كانت من الزيتون هكذا فثمرها أجود .وقيل إن المعنى :إنها شجرة في
دوحة قد أحاطت بها ،فهي غير منكشفة من جهة الشرق ،ول من جهة الغرب ،وهذا ل يصح لن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها،
وذلك مشاهد في الوجود .وقيل :ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا ،وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ولو كانت في الدنيا لكانت إما
شرقية وإما غربية .ورد :بأن القرآن أفصح بأنها من شجر الدنيا ،لن قوله زيتونة بدل من قوله شجرة .وقيل :إنها من شجر الشام،
فإن الشام ل شرقي ول غربي ،والشام هي الرض المباركة.
ت بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الزجاجة دون المصباح ،وقرأت "يوقد" بالتحتية مضمومة وتخفيف القاف "توقد" :قُ ِ
رأ ْ
وضم الدال ,وقرأت "توقد" بالفوقية مفتوحة وفتح الواو وتشديد القاف وفتح الدال على أنه فعل ماض من توقد يتوقد ،والضمير في
ثم وصف الزيتونة هاتين القراءتين راجع إلى المصباح .وهو أشبه بهذا الوصف لنه الذي ينير ويضيء ،وإنما الزجاجة وعاء له.
بوصف آخر فقال:
30
"يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار" :المعنى :أن هذا الزيت في صفائه وإنارته يكاد يضيء بنفسه من غير أن تمسه النار
أص ً
ل.
"نور على نور" :المعنى :هو نور كائن على نور .قيل المراد النار على الزيت .وقيل المصباح نور ،والزجاجة نور وقيل :نور اليمان
ونور القرآن
"يهدي الله لنوره من يشاء" :من عباده :أي هداية خاصة موصلة إلى المطلوب ،وليس المراد بالهداية هنا مجرد الدللة
"ويضرب الله المثال للناس" :أي يبين الشياء بأشباهها ونظائرها تقريبا ً لها إلى الفهام وتسهيل ً لدراكها ،لن إبراز المعقول في
هيئة المحسوس وتصويره بصورته يزيده وضوحا ً وبيانا ً
"والله بكل شيء عليم" :ل يغيب عنه شيء من الشياء معقول ً كان أو محسوسًا ،ظاهرا ً أو باطنًا.
تفسير الية رواية:
عن ابن عباس في قوله" :الله نور السموات والرض" قال :يدبر المر فيهما نجومهما وقمرهما .وعنه في قوله" :الله .1
نور السموات والرض مثل نوره" الذي أعطاه المؤمن "كمشكاة" وقال في تفسير" :زيتونة ل شرقية ول غربية" إنها التي في
سفح جبل ل تصيبها الشمس إذا طلعت ول إذا غربت "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور" فذلك مثل قلب
المؤمن نور على نور .وعنه في الية قال :يقول مثل نور من آمن بالله كمشكاة ،وهي الكوة .وعنه "مثل نوره" قال :هي خطأ
من الكاتب هو أعظم من أن يكون مثل نوره المشكاة ،قال :مثل نور المؤمن كمشكاة .وعنه أيضا ً "الله نور السموات
والرض" قال :هادي أهل السموات والرض "مثل نوره" مثل هداه في قلب المؤمن "كمشكاة" يقول موضع الفتيلة كما يكاد
الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار ،فإذا مسته النار ازداد ضوءا ً على ضوئه ،كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل
أن يأتيه العلم ،فإذا جاءه العلم ازداد هدىً على هدى ونورا ً على نور .وعنه أن اليهود قالوا لمحمد :كيف يخلص نور الله من
دون السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره فقال" :الله نور السموات والرض مثل نوره كمشكاة" المشكاة كوة البيت فيها
مصباح ،وهو السراج يكون في الزجاجة ،وهو مثل ضربه الله لطاعته ،فسمى طاعته نورًا ،ثم سماها أنواعا ً شتى "ل شرقية ول
غربية" قال :وهي وسط الشجر ل تنالها الشمس إذا طلعت ول إذا غربت ،وذلك أجود الزيت "يكاد زيتها يضيء" بغير نار "نور
على نور" يعني بذلك إيمان العبد وعلمه "يهدي الله لنوره من يشاء" وهو مثل المؤمن.
عن أبي بن كعب "الله نور السموات والرض مثل نوره" قال :هو المؤمن الذي قد جعل اليمان والقرآن في صدره .2
فضرب الله مثله ،فقال" :نور السموات والرض مثل نوره" فبدأ بنور نفسه ،ثم ذكر نور المؤمن ،فقال مثل نور من آمن به،
فكان أبي بن كعب يقرأها مثل نور من آمن به فهو المؤمن ،جعل اليمان والقرآن في صدره "كمشكاة" قال :فصدر المؤمن
المشكاة "فيها مصباح المصباح" النور ،وهو القرآن واليمان الذي جعل في صدره "في زجاجة" و "الزجاجة" قلبه "كأنها كوكب
دري" يقول كوكب مضيء "يوقد من شجرة مباركة" والشجرة المباركة :أصل المبارك الخلص لله وحده وعبادته ل شريك له
"زيتونة ل شرقية ول غربية" قال :فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر ،فهي خضراء ناعمة ل تصيبها الشمس على أي حال
كانت ،ل إذا طلعت ول إذا غربت ،فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن.
31
عن ابن عمر في قوله" :كمشكاة فيها مصباح" قال :المشكاة في جوف محمد ،والزجاجة قلبه ،والمصباح النور الذي .3
في قلبه "يوقد من شجرة مباركة" الشجرة إبراهيم "زيتونة ل شرقية ول غربية" ل يهودية ول نصرانية ،ثم قرأ "ما كان إبراهيم
يهوديا ً ول نصرانيا ً ولكن كان حنيفا ً مسلما ً وما كان من المشركين".
جاء ابن عباس إلى كعب الحبار ،فقال حدثني عن قوله الله" :الله نور السموات والرض مثل نوره" قال :مثل نور محمد .4
ً
كمشكاة قال :المشكاة الكوة ضربها الله مثل لقمة فيها مصباح ،والمصباح قلبه "المصباح في زجاجة" والزجاجة صدره "كأنها
كوكب دري" شبه صدر محمد بالكوكب الدري ،ثم رجع المصباح إلى قلبه فقال " :يوقد من شجرة مباركة زيتونة ل شرقية
ول غربية يكاد زيتها يضيء " قال :يكاد محمد يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي ،كما يكاد الزيت أن يضيء ولو لم تمسسه نار.
وأقول :إن تفسير النظم القرآني بهذا ونحوه مما تقدم عن أبي بن كعب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ليس على ما
تقتضيه لغة العرب ،ول ثبت عن رسول الله ما يجوز العدول عن المعنى العربي إلى هذه المعاني التي هي شبيهة باللغاز
والتعمية ،ولكن هؤلء الصحابة ومن وافقهم ممن جاء بعدهم استبعدوا تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة ،ولهذا
قال ابن عباس :هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة كما قدمنا عنه ،ول وجه لهذا الستبعاد .فإنا قد قدمنا في أول
البحث ما يرفع الشكال ويوضح ما هو المراد على أحسن وجه وأبلغ أسلوب ،وعلى ما تقتضيه لغة العرب ويفيده كلم الفصحاء ،فل
وجه للعدول عن الظاهر ،ل من كتاب ول من سنة ول من لغة .وأما ما حكي عن كعب الحبار في هذا كما قدمنا ،فإن كان هو سبب
عدول أولئك الصحابة الجلء عن الظاهر في تفسير الية ،فليس مثل كعب رحمه الله ممن يقتدى به في مثل هذا .وتفسير
الصحابي إذا كان مستنده الرواية عن أهل الكتاب كما يقع ذلك كثيرًا ،فل تقوم به الحجة ول يسوغ لجله العدول عن التفسير
العربي ،نعم إن صحت قراءة أبي بن كعب ،كانت هي المستند لهذه التفاسير المخالفة للظاهر ،وتكون كالزيادة المبينة للمراد ،وإن
لم تصح فالوقوف على ما تقتضيه قراءة الجمهور من السبعة وغيرهم ممن قبلهم وممن بعدهم هو المتعين.
صاِل
ح َلُه ِفيَها ِباْلُغُدّو َوال َ
سّب ُ
سُمُه ُي َ
ل َأن ُتْرَفَع َوُيْذَكَر ِفيَها ا ْ
ن ا ُّ
ت َأِذ َ
ِفي ُبُيو ٍ
تفسير الية دراية:
"في بيوت " :اختلف بما هو متعلق ،فقيل متعلق بما قبله :أي كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد ،كأنه قيل مثل نوره
كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت ،وقيل متعلق بمصباح .وقيل :هو حال للمصباح والزجاجة والكوكب،
كأنه قيل :وهي في بيوت ،وقيل متعلق يتوقد ،أي توقد في بيوت ،وقد قيل متعلق بما بعده ،وهو "يسبح" أي يسبح له رجال في
بيوت ،وعلى هذا يكون قوله" :فيها" تكريرا ً كقولك ،زيد في الدار جالس فيها .وقيل إنه منفصل عما قبله ،كأنه قال :الله في بيوت أذن
الله أن ترفع ,وبذلك جاءت الخبار أنه من جلس في المساجد فإنما يجالس ربه.
وقد قيل على تقدير تعلقه بمشكاة أو مصباح أو بتوقد ما الوجه في توحيد المصباح والمشكاة وجمع البيت؟ ول تكون المشكاة
الواحدة ول المصباح الواحد إل في بيت واحد .وأجيب بأن هذا من الخطاب الذي يفتح أوله بالتوحيد ،ويختم بالجمع كقوله سبحانه "يا
أيها النبي إذا طلقتم النساء" ونحوه ,وقيل معنى في بيوت :في كل واحد من البيوت ،فكأنه قال :في كل بيت ،أو في كل واحد من
البيت.
32
واختلف الناس في البيوت ،على أقوال :الول أنها المساجد ،الثاني أنها بيوت بيت المقدس ،الثالث أنها بيوت النبي ،الرابع هي
البيوت كلها ،الخامس أنها المساجد الربعة :الكعبة ،ومسجد قباء ،ومسجد المدينة ،ومسجد بيت المقدس ،والقول الول أظهر لقوله:
"يسبح له فيها بالغدو والصال"
"أذن الله أن ترفع": :أمر وقضى ،ومعنى ترفع تبنى ،ومنه قوله سبحانه "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" وقيل :معنى ترفع
تعظم ويرفع شأنها وتطهر من النجاس والقذار ،وقيل المراد بالرفع هنا مجموع المرين.
"ويذكر فيها اسمه" :كل ذكر لله عز وجل ،وقيل هو التوحيد ،وقيل المراد تلوة القرآن ،والول أولى.
" يسبح له فيها بالغدو والصال .رجال":
بفعل مقدر يسبحه رجال مرفوع القائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثلثة سّبح" مبنيا ً للمفعول
"ي ُ َ قرأت "يسبح"
وكأنه جواب سؤال مقدر من يسبحه؟
على أنه خبر مبتدأ محذوف.
وفاعل "يسبح" "رجال" سّبح" مبنيا ً للفاعل "ي ُ َ
واختلف في هذا التسبيح ما هو؟ فالكثرون حملوه على الصلة المفروضة ،قالوا :الغدو صلة الصبح ،والصال صلة الظهر والعصر
والعشاءين ،لن اسم الصال يشملها ،ومعنى بالغدو والصال :بالغداة والعشي وقيل صلة الصبح والعصر ،وقيل المراد صلة الضحى،
وقيل المراد بالتسبيح هنا معناه الحقيقي ،وهو تنزيه الله سبحانه عما ل يليق به في ذاته وصفاته وأفعاله ،ويؤيد هذا ذكر الصلة
والزكاة بعده ،وهذا أرجح مما قبله ،لكونه المعنى الحقيقي مع وجود دليل على خلف ما ذهب إليه الولون .وهو ما ذكرناه
تفسير الية رواية:
عن ابن عباس "في بيوت أذن الله أن ترفع" قال :هي المساجد تكرم وينهى عن اللغو فيها ،ويذكر فيها اسم الله ،يتلى .1
فيها كتابه "يسبح له فيها بالغدو والصال" صلة الغداة وصلة العصر ،وهما أول ما فرض الله من الصلة فأحب أن يذكرهما
ويذكر بهما عباده.
وعنه قال :إن صلة الضحى لفي القرآن وما يغوص عليها إل غواص في قوله" :في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها .2
اسمه يسبح له فيها بالغدو والصال".
صاُر
ن َيْوًما َتَتَقّلبُ ِفيِه اْلُقُلوبُ َواَلْب َ
خاُفو َ
صلِة َوِإيَتاء الّزَكاِة َي َ
ل َوِإَقاِم ال ّ
عن ِذْكِر ا ِّ
جاَرٌة َول َبْيٌع َ
جاٌل ّل ُتْلِهيِهْم ِت َ
ِر َ
تفسير الية دراية:
"ل تلهيهم تجارة ول بيع " :هذه الجملة صفة لرجال :أي ل تشغلهم التجارة والبيع عن الذكر ،وخص التجارة بالذكر لنها أعظم ما
يشتغل به النسان عن الذكر.والتجارة لهل الجلب ،والبيع ما باعه الرجل على بدنه ،وخص قوم التجارة هاهنا بالشراء لذكر البيع
بعدها ،والتجار هم الجلب المسافرون والباعة هم المقيمون.
"عن ذكر الله" :هو ما تقدم في أوله "ويذكر فيها اسمه" وقيل المراد الذان ،وقيل عن ذكره بأسمائه الحسنى :أي يوحدونه
ويمجدونه .وقيل المراد عن الصلة ،ويرده ذكر الصلة بعد الذكر هنا.
33
"وإقام الصلة :إقامتها لمواقيتها من غير تأخير ،وحذفت التاء لن الضافة تقوم مقامها ,وقد احتاج من حمل ذكر الله على الصلة
المفروضة أن يحمل إقام الصلة على تأديتها في أوقاتها فرارا ً من التكرار.
"وإيتاء الزكاة" :المراد بالزكاة المذكورة هي المفروضة ،وقيل المراد بالزكاة طاعة الله والخلص ،إذ ليس لكل مؤمن مال.
"يخافون يومًا" :أي يوم القيامة .ثم وصف هذا اليوم بقوله:
"تتقلب فيه القلوب والبصار" :أي تضطرب وتتحول ،قيل المراد بتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فل ترجع إلى
أماكنها ول تخرج ،والمراد بتقلب البصار هو أن تصير عمياء بعد أن كانت مبصرة .وقيل المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين
الطمع في النجاة والخوف من الهلك ،وأما تقلب البصار فهو نظرها من أي ناحية يؤخذون ،وإلى أي ناحية يصيرون .وقيل المراد
تحول قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه من الشك إلى اليقين ،ومثله قوله" :فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" فما كان يراه
في الدنيا غيا ً يراه في الخرة رشدًا .وقيل المراد التقلب على جمر جهنم ،وقيل غير ذلك.
تفسير الية رواية:
عن أبي هريرة عن رسول الله في قوله" :رجال ل تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر الله" قال :هم الذين يضربون في .1
الرض يبتغون من فضل الله.
عن ابن عباس في الية ،قال :كانوا رجال ً يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون ،فإذا سمعوا النداء بالصلة ألقوا ما في .2
أيديهم وقاموا إلى المسجد فصلوا.
وعنه في الية ،قال :ضرب الله هذا المثل قوله" :كمشكاة" لولئك القوم الذين ل تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر الله، .3
وعنه أيضا ً عن ذكر الله قال :عن شهود وكانوا أتجر الناس وأبيعهم ،ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم ول بيعهم عن ذكر الله.
الصلة.
عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلة فأغلقوا حوانيتهم ،ثم دخلوا المسجد ،فقال ابن عمر فيهم نزلت" :رجال .4
ل تلهيهم تجارة ول بيع عن ذكر الله".
عن ابن مسعود أنه رأى ناسا ً من أهل السوق سمعوا الذان فتركوا أمتعتهم ،فقال :هؤلء الذي قال الله فيهم" :ل تلهيهم .5
تجارة ول بيع عن ذكر الله".
سا ٍ
ب ح َ
شاء ِبَغْيِر ِ
ق َمن َي َ
ل َيْرُز ُ
ضِلِه َوا ُّ
عِمُلوا َوَيِزيَدُهم ّمن َف ْ
ن َما َ
سَح َ
ل َأ ْ
جِزَيُهُم ا ُّ
ِلَي ْ
تفسير الية دراية:
"ليجزيهم الله أحسن ما عملوا" :أي يفعلون ما يفعلون من التسبيح والذكر وإقام الصلة وإيتاء الزكاة "ليجزيهم الله أحسن ما
عملوا" :أي أحسن جزاء أعمالهم حسبما وعدهم من تضعيف ذلك إلى عشرة أمثاله وإلى سبعمائة ضعف ،وقيل المراد بما في هذه
الية ما يتفضل سبحانه به عليهم زيادة على ما يستحقونه ،والول أولى لقوله:
"ويزيدهم من فضله" :فإن المراد به التفضل عليهم بما فوق الجزاء الموعود به
"والله يرزق من يشاء بغير حساب" :أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه ،أو أن عطاءه سبحانه ل نهاية له،والجملة مقررة لما
سبقها من الوعد بالزيادة.
34
تفسير الية رواية:
عن أسماء بنت يزيد قالت :قال رسول الله " :يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي ينفذهم البصر ،فيقوم
مناد فينادي :أين الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ،ثم يعود فينادي :أين
الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادى :ليقم الذين كانوا ل تلهيهم
تجارة ول بيع عن ذكر الله ،فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ،ثم يقوم سائر الناس فيحاسبون".
سا ِ
ب ح َ
سِريُع اْل ِ
ل َ
ساَبُه َوا ُّ
ح َ
عنَدهُ َفَوّفاُه ِ
ل ِ
جَد ا َّ
شْيًئا َوَو َ
جْدُه َ
جاَءُه َلْم َي ِ
حّتى ِإَذا َ
ن َماء َ
ظْمآ ُ
سُبُه ال ّ
ح َ
ب ِبِقيَعٍة َي ْ
سَرا ٍ
عَماُلُهْم َك َ
ن َكَفُروا َأ ْ
َواّلِذي َ
تفسير الية دراية:
مناسبة اليات لما قبلها :لما ذكر سبحانه حال المؤمنين وما يؤول إليه أمرهم ذكر مثل ً للكافرين فقال:
"والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة" :المراد بالعمال هنا :هي العمال التي من أعمال الخير كالصدقة والصلة وفك العاني
وعمارة البيت وسقاية الحاج ،والسراب :ما يرى في المفاوز من لمعان الشمس عند اشتداد حر النهار على صورة الماء في ظن من
يراه ،وسمي سرابا ً لنه يسرب :أي يجري كالماء ،إل أنه يرتفع عن الرض حتى يصير كأنه بين السماء والرض ،والقيعة جمع قاع :وهو
الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء .وهو القاع المستوي من الرض،
" يحسبه الظمآن ماء " :هذه صفة ثانية لسراب ،والظمآن العطشان ،وتخصيص الحسبان بالظمآن مع كون الريان يراه كذلك،
لتحقيق التشبيه المبني على الطمع
"حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا" :أي إذا جاء العطشان ذلك الذي حسبه ماء لم يجده شيئا مما قدره وحسبه ول من غيره ،والمعنى:
ً
أن الكفار يعولون على أعمالهم التي يظنونها من الخير ويطمعون في ثوابها ،فإذا قدموا على الله سبحانه لم يجدوا منها شيئًا ،لن
ثم ذكر الكفر أحبطها ومحا أثرها ،والمراد بقوله" :حتى إذا جاءه" مع أنه ليس بشيء أنه جاء الموضع الذي كان يحبسه فيه.
سبحانه ما يدل على زيادة حسرة الكفرة ،وأنه لم يكن قصارى أمرهم مجرد الخيبة كصاحب السراب فقال:
"ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب" :أي وجد الله بالمرصاد فوفاه حسابه :أي جزاء عمله ،وقيل وجد وعد
الله بالجزاء على عمله ،وقيل وجد أمر الله عند حشره ،وقيل وجد حكمه وقضاءه عند المجيء ،وقيل عند العمل والمعنى متقارب.
تفسير الية رواية:
عن ابن عباس في قوله" :والذين كفروا أعمالهم كسراب" قال :هو مثل ضربه الله كرجل عطش فاشتد عطشه فرأى سرابا ً فحسبه
ماء ،فطلبه فظن أنه قدر عليه حتى أتى ،فلما أتاه لما يجده شيئًا ،وقبض عند ذلك ،يقول :الكافر كذلك السراب إذا أتاه الموت لم يجد
عمله يغني عنه شيئًا ،ول ينفعه إل كما نفع السراب العطشان "أو كظلمات في بحر لجي" قال :يعني بالظلمات العمال ،وبالبحر
اللجي قلب النسان "يغشاه موج" يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر .وعنه بقيعة :بأرض مستوية.
عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الكفار يبعثون يوم القيامة وردا ً عطاشا ً فيقولون أين الماء؟ فيتمثل لهم السراب
فيحسبونه ماء ،فينطلقون إليه فيجدون الله عنده فيوفيهم حسابه والله سريع الحساب"
35
ل َلُه ُنوًرا َفَما
جَعِل ا ُّ
ج َيَدهُ َلْم َيَكْد َيَراَها َوَمن ّلْم َي ْ
خَر َ
ض ِإَذا َأ ْ
ق َبْع ٍ
ضَها َفْو َ
ت َبْع ُ
ظُلَما ٌ
ب ُ
حا ٌ
سَج ّمن َفْوِقِه َ
ج ّمن َفْوِقِه َمْو ٌ
شاُه َمْو ٌ
ي َيْغ َ
جّ
حٍر ّل ّ
ت ِفي َب ْ
ظُلَما ٍ
َأْو َك ُ
َلُه ِمن ّنوٍر
تفسير الية دراية:
ً
"أو كظلمات" :معطوف على كسراب ،ضرب الله مثل آخر لعمال الكفار كما أنه تشبه السراب الموصوف بتلك الصفات ،فهي
أيضا ً تشبه الظلمات .فأعلم الله سبحانه أن أعمال الكفار إن مثلت بما يوجد فمثلها كمثل السراب ،وإن مثلت بما يرى فهي كهذه
الظلمات التي وصف .فأو للباحة حسبما تقدم من القول في "أو كصيب".
ً
وقيل :الية الولى في ذكر أعمال الكفار ،والثانية في ذكر كفرهم ،ونسق الكفر على أعمالهم لنه أيضا من أعمالهم.
"في بحر لجي" :اللجة معظم الماء ،والجمع لجج وهو الذي ل يدرك لعمقه .ثم وصف سبحانه هذا البحر بصفة أخرى فقال:
"يغشاه موج" :أي يعلو هذا البحر موج فيستره ويغطيه بالكلية ،ثم وصف هذا الموج بقوله:
"من فوقه سحاب" :أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب ،فيجتمع حينئذ عليهم خوف البحر وأمواجه والسحاب المرتفعة فوقه.
وقيل إن المعنى :يغشاه موج من بعده موج ،فيكون الموج يتبع بعضه بعضا ً حتى كأن بعضه فوق بعض ،والبحر أخوف ما يكون إذا
توالت أمواجه ،فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه زاد الخوف شدة ،لنها تستر النجوم التي يهتدي بها من في البحر ،ثم إذا
أمطرت تلك السحاب وهبت الريح المعتادة في الغالب عند نزول المطر تكاثفت الهموم وترادفت الغموم ،وبلغ المر إلى الغاية التي
ليس وراءها غاية ،ولهذا قال سبحانه:
"ظلمات بعضها فوق بعض" :أي هي ظلمات ،أو هذه ظلمات متكاتفة مترادفة ،ففي هذه الجملة بيان لشدة المر وتعاظمه.
ومن غرائب التفاسير أنه سبحانه أراد بالظلمات :أعمال الكافر ،وبالبحر اللجي :قلبه :وبالموج فوق الموج :ما يغشى قلبه من الجهل
والشك والحيرة .والسحاب الرين والختم والطبع على قلبه ،وهذا تفسير هو عن لغة العرب بمكان بعيد .ثم بالغ سبحانه في هذه
الظلمات المذكورة بقوله:
"إذا أخرج يده لم يكد يراها" :وفاعل أخرج ضمير يعود على مقدر دل عليه المقام :أي إذا أخرج الحاضر في هذه الظلمات أو من
ابتلي بها .المعنى لم يرها ولم يكد .وقيل :يعني لم يرها إل من بعد الجهد .وأصح القوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها ،فإذن لم
يرها رؤية بعيدة ول قريبة
ً
"ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور" :الجملة مقررة لما قبلها من كون أعمال الكفرة على تلك الصفة ،والمعنى :ومن
لم يجعل الله له هداية فما له من هداية .ذلك في الدنيا ،والمعنى :من لم يهده الله لم يهتد ،وقيل المعنى من لم يجعل له نورا ً يمشي
به يوم القيامة فما له من نور يهتدي به إلى الجنة.
صيُر
ل اْلَم ِ
ض َوِإَلى ا ِّ
ت َواَلْر ِ
سَماَوا ِ
ك ال ّ
ل ُمْل ُ
َو ِّ
تفسير الية دراية:
ثم بين سبحانه أن المبدأ منه والمعاد إليه فقال،
ثم ذكر سبحانه "ولله ملك السماوات والرض" :أي له ل لغيره "وإليه المصير" ل إلى غيره ،والمصير :الرجوع بعد الموت.
دليل ً آخر من الثار العلوية فقال:
شاء
ب ِبِه َمن َي َ
صي ُ
جَباٍل ِفيَها ِمن َبَرٍد َفُي ِ
سَماء ِمن ِ
ن ال ّ
خلِلِه َوُيَنّزُل ِم َن ِ ج ِم ْ
خُر ُق َي ْ
جَعُلُه ُرَكاًما َفَتَرى اْلَوْد َ
ف َبْيَنُه ُثّم َي ْ
حاًبا ُثّم ُيَؤّل ُ
سَجي َ
ل ُيْز ِ
ن ا َّ
َأَلْم َتَر َأ ّ
صاِر
ب ِباَلْب َ
سَنا َبْرِقِه َيْذَه ُ
شاء َيَكاُد َعن ّمن َي َ صِرُفُه َ َوَي ْ
تفسير الية دراية:
37
ل ،والمعنى :أنه سبحانه يسوق السحاب سوقا ً رقيقا ً إلى حيث يشاء"ألم تر أن الله يزجي سحابًا" :الزجاء :السوق قليل ً قلي ً
"ثم يؤلف بينه" :أي بين أجزائه ،فيضم بعضه إلى بعض ويجمعه بعد تفرقه ليقوى ويتصل ويكثف.
"ثم يجعله ركاما ً" :أي متراكما ً يركب بعضه بعضًا .والركم :جمع الشيء ،يقال ركم الشيء يركمه ركمًا :أي جمعه وألقى بعضه على
بعض وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع ،والركمة :الطين المجموع ،والركام :الرمل المتراكب
"فترى الودق يخرج من خلله" :الودق :المطر عند جمهور المفسرين ،يقال ودقت السحاب فهي وادقة ودق المطر يدق :أي
قطر يقطر ،وقيل إن الودق البرق ،والول أولى .ومعنى "من خلله" من فتوقه التي هي مخارج القطر.
"وينزل من السماء من جبال فيها من برد" :المراد بقوله من سماء :من عال ،لن السماء قد تطلق على جهة العلو ،معنى
الية :وينزل من السماء من جبال برد فيها" .فيصيب به من يشاء" :أي يصيب بما ينزل من البرد من يشاء أن يصيبه من عباده "
ويصرفه عن من يشاء " منهم ،أو يصيب به مال من يشاء ويصرفه عن مال من يشاء.
" يكاد سنا برقه يذهب بالبصار " :السنا الضوء :أي يكاد ضوء البرق الذي في السحاب يذهب بالبصار من شدة بريقه وزيادة
لمعانه ،وهو كقوله" :يكاد البرق يخطف أبصارهم" فالسنا بالقصر ضوء البرق وبالمد الرفعة ،وقرأت سناء برقه بالمد على المبالغة في
شدة الضوء والصفاء ،فأطلق عليه اسم الرفعة والشرف .ومعنى ذهاب البرق بالبصار :خطفه إياها من شدة الضاءة وزيادة البريق.
تفسير الية رواية:
عن ابن عباس في قوله " :يكاد سنا برقه "يقول :ضوء برقه .
صاِر
ك َلِعْبَرًة ُّلوِلي اَلْب َ
ن ِفي َذِل َ
ل الّلْيَل َوالّنَهاَر ِإ ّ
ب ا ُّ
ُيَقّل ُ
تفسير الية دراية:
"يقلب الله الليل والنهار" :أي يعاقب بينهما ،وقيل يزيد في أحدهما وينقص الخر ،وقيل يقبلهما باختلف ما يقدره فيهما من خير
وشر ونفع وضر ،وقيل بالحر والبرد ،وقيل المراد بذلك تغيير النهار بظلمة السحاب مرة وبضوء الشمس أخرى ،وتغيير الليل بظلمة
السحاب تارة وبضوء القمر أخرى.
"إن في ذلك لعبرة لولي البصار":الشارة إلى ما تقدم ،ومعنى العبرة :الدللة الواضحة التي يكون بها العتبار ،والمراد بل
"أولي البصار" كل من له بصر يبصر به.
ثم ذكر سبحانه دليل ً ثالثا ً من عجائب خلق الحيوان وبديع صنعته فقال:
عَلى ُكّل
ل َ
ن ا َّ
شاء ِإ ّ
ل َما َي َ
ق ا ُّ
خُل ُ
عَلى َأْرَبٍع َي ْ
شي َ
ن َوِمْنُهم ّمن َيْم ِ
جَلْي ِ
عَلى ِر ْ شي َ طِنِه َوِمْنُهم ّمن َيْم ِ
عَلى َب ْ
شي َ
ق ُكّل َداّبٍة ِمن ّماء َفِمْنُهم ّمن َيْم ِ
خَل َ
ل َ
َوا ُّ
يٍء َقِديٌر
ش ْ
َ
تفسير الية دراية:
"والله خلق كل دابة من ماء" :الدابة :كل ما دب على الرض من الحيوان ،يقال دب يدب فهو داب ،والهاء للمبالغة ،ومعنى "من ماء"
من نطفة ،وهي المني ،كذا قال الجمهور .وقال جماعة :إن المراد الماء المعروف ،لن آدم خلق من الماء والطين .وقيل في الية
38
تنزيل الغالب منزلة الكل على القول الول ،لن في الحيوانات ما يتولد ل عن نطفة ،ويخرج من هذا العموم الملئكة فإنهم خلقوا من
نور ،والجان فإنهم خلقوا من نار .ثم فصل سبحانه أحوال كل دابة فقال:
" فمنهم من يمشي على بطنه " :وهي الحيات والحوت والدود ونحو ذلك" .ومنهم من يمشي على رجلين" :النسان
والطير.
"ومنهم من يمشي على أربع" سائر الحيوانات ،ولم يتعرض لما يمشي على أكثر من أربع لقلته ،وقيل لن المشي على أربع
فقط وإن كانت القوائم كثيرة ،وقيل لعدم العتداد بما يمشي على أكثر من أربع؟ وقيل ليس في القرآن ما يدل على عدم المشي
على أكثر من أربع ،لنه لم ينف ذلك ول جاء بما يقتضي الحصر ،وفي مصحف أبي ومنهم من يمشي على أكثر فعم بهذه الزيادة جميع
ما يمشي على أكثر من أربع كالسرطان والعناكب وكثير من خشاش الرض.
"يخلق الله ما يشاء" :مما ذكره ها هنا ومما لم يذكره كالجمادات مركبها وبسيطها ناميها وغير ناميها.
"إن الله على كل شيء قدير" :ل يعجزه شيء بل الكل من مخلوقاته داخل تحت قدرته سبحانه.
تفسير الية رواية:
عن ابن عباس قال) :كل شيء يمشي على أربع إل النسان( .والكلية المروية عنه رضي الله عنه ل تصح فالطيور على اختلف أنواعها
تمشي على رجلين.
سَتِقيٍم
ط ّم ْ
صَرا ٍ
شاء ِإَلى ِ
ل َيْهِدي َمن َي َ
ت َوا ُّ
ت ّمَبّيَنا ٍ
َلَقْد َأنَزْلَنا آَيا ٍ
تفسير الية دراية:
"لقد أنزلنا آيات مبينات" :أي القرآن ،فإنه قد اشتمل على بيان كل شيء وما فرطنا في الكتاب من شيء ،وقد تقدم بيان مثل
هذا في غير موضع.
"والله يهدي من يشاء" :بتوفيقه للنظر الصحيح وإرشاده إلى التأمل الصادق.
"إلى صراط مستقيم" :إلى طريق مستوي ل عوج فيه ،فيتوصل بذلك إلى الخير التام وهو نعيم الجنة.
ك ِباْلُمْؤِمِني َ
ن ك َوَما ُأْوَلئِ َ
ق ّمْنُهم ّمن َبْعِد َذِل َ
طْعَنا ُثّم َيَتَوّلى َفِري ٌ
سوِل َوَأ َ
ل َوِبالّر ُ
ن آَمّنا ِبا ِّ
َوَيُقوُلو َ
تفسير الية دراية:
شرع سبحانه في بيان أحوال من لم تحصل له الهداية إلى الصراط المستقيم فقال:
"ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا" :هؤلء هم المنافقون الذين يظهرون اليمان ويبطنون الكفر ويقولون بأفواههم ما
ليس في قلوبهم ،فإنهم كما حكى الله عنهم ها هنا ينسبون إلى أنفسهم اليمان بالله وبالرسول والطاعة لله ولرسوله نسبة بمجرد
اللسان ،ل عن اعتقاد صحيح .ولهذا قال:
"ثم يتولى فريق منهم" أي من هؤلء المنافقين القائلين هذه المقالة "من بعد ذلك" أي من بعد ما صدر عنهم ما نسبوه إلى
أنفسهم من دعوى اليمان والطاعة.
39
"وما أولئك بالمؤمنين" :أي ما أولئك القائلون هذه المقالة بالمؤمنين على الحقيقة ،فيشمل الحكم بنفي اليمان جميع القائلين،
ويندرج تحتهم من تولى اندراجا ً أوليًا .وقيل إن الشارة بقوله "أولئك" راجع إلى من تولى ،والول أولى .والكلم مشتمل على حكمين:
الحكم الول على بعضهم بالتولي ،والحكم الثاني على جميعهم بعدم اليمان .وقيل أراد بمن تولى :من تولى عن قبول حكمه صلى
الله عليه وسلم ،وقيل أراد بذلك رؤساء المنافقين ،وقيل أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين ،ول ينافي ما تحتمله هذه الية
باعتبار لفظها ورودها على سبب خاص كما سيأتي بيانه.
تفسير الية رواية:
عن قتادة في قوله" :ويقولون آمنا بالله" الية قال :أناس من المنافقين وأظهروا اليمان والطاعة ،وهم في ذلك يصدون عن سبيل
الله وطاعته وجهاد مع رسوله .
ضو َ
ن ق ّمْنُهم ّمْعِر ُ
حُكَم َبْيَنُهْم ِإَذا َفِري ٌ
سوِلِه ِلَي ْ
ل َوَر ُ
عوا ِإَلى ا ِّ
َوِإَذا ُد ُ
تفسير الية دراية:
ثم وصف هؤلء المنافقين بأن فريق منهم يعرضون عن إجابة الدعوة إلى الله وإلى رسوله في خصوماتهم ،فقال:
"وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم" :أي ليحكم الرسول بينهم ،فالضمير راجع إليه لنه المباشر للحكم وإن كان الحكم
في الحقيقة لله سبحانه ،ومثل ذلك قوله تعالى" :والله ورسوله أحق أن يرضوه"
"إذا فريق منهم معرضون"" :إذا" هي الفجائية :أي فاجأ فريق منهم العراض عن المحاكمة إلى الله والرسول.
تفسير الية رواية:
عن الحسن قال :إن الرجل كان يكون بينه وبين الرجل خصومة أو منازعة على عهد رسول الله ،فإذا دعي إلى النبي وهو محق
أذعن وعلم أن النبي سيقضي له بالحق ،وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي أعرض وقال :أنطلق إلى فلن ،فأنزل سبحانه:
"وإذا دعوا إلى الله ورسوله" إلى قوله" :هم الظالمون" فقال رسول الله " :من كان بينه وبين أخيه شيء فدعاه إلى حكم من
حكام المسلمين فلم يجب ،فهو ظالم ل حق له".
عِني َ
ن ق َيْأُتوا ِإَلْيِه ُمْذ ِ
ح ّ
َوِإن َيُكن ّلُهُم اْل َ
تفسير الية دراية:
ثم ذكر سبحانه أن إعراضهم إنما هو إذا كان الحق عليهم وأما إذا كان لهم فإنهم يذعنون لعلمهم بأن رسول الله ل يحكم إل بالحق
فقال:
"وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين" :الذعان السراع مع الطاعة ،يقال أذعن لي بحقي :أي طاوعني لما كنت ألتمس منه
وصار يسرع إليه ،ومذعنين مقرين وخاضعين.
ظاِلُمو َ
ن ك ُهُم ال ّ
سوُلُه َبْل ُأْوَلِئ َ
عَلْيِهْم َوَر ُ
ل َ
ف ا ُّ
حي َ
ن َأن َي ِ
خاُفو َ
ض َأِم اْرَتاُبوا َأْم َي َ
َأِفي ُقُلوِبِهم ّمَر ٌ
تفسير الية دراية:
40
ثم قسم المر في إعراضهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم فقال:
"أفي قلوبهم مرض" :وهذه الهمزة للتوبيخ والتقريع لهم ،والمرض النفاق :أي أكان هذا العراض منهم بسبب النفاق الكائن في
قلوبهم.
"أم ارتابوا" :وشكوا في أمر نبوته وعدله في الحكم" .أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله" والحيف الميل في
الحكم ،يقال حاف في قضيته :أي جار فيما حكم به.
ثم أضرب عن هذه المور التي صدرها بالستفهام النكاري فقال:
"بل أولئك هم الظالمون" :أي ليس ذلك لشيء مما ذكر ،بل لظلمهم وعنادهم ،فإنه لو كان العراض لشيء مما ذكر لما أتوا إليه
مذعنين إذا كان الحق لهم ،وفي هذه الية دليل على وجوب الجابة إلى القاضي العالم بحكم الله العادل في حكمه لن العلماء ورثة
النبياء ،والحكم من قضاة السلم العالمين بحكم الله العارفين بالكتاب والسنة ،العادلين في القضاء هو حكم بحكم الله وحكم
رسوله ،فالداعي إلى التحاكم إليهم قد دعا إلى الله وإلى رسوله :أي إلى حكمهما .ما لم يعلم أن الحاكم فاسق .أو مقصر ل يعلم
بأحكام الكتاب والسنة ،ول يعقل حجج الله ومعاني كلمه وكلم رسوله.
حو َ
ن ك ُهُم اْلُمْفِل ُ
طْعَنا َوُأوَلِئ َ
سِمْعَنا َوَأ َ
حُكَم َبْيَنُهْم َأن َيُقوُلوا َ
سوِلِه ِلَي ْ
ل َوَر ُ
عوا ِإَلى ا ِّ
ن ِإَذا ُد ُ
ن َقْوَل اْلُمْؤِمِني َ
ِإّنَما َكا َ
تفسير الية دراية:
ثم لما ذكر ما كان عليه أهل النفاق أتبع بما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا دعوا إلى حكم الله ورسوله فقال:
"إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم " قدمنا الكلم على الدعوة إلى الله ورسوله للحكم بين
المتخاصمين وذكرنا من تجب الجابة إليه.
" أن يقولوا سمعنا وأطعنا" :أي أن يقولوا هذا القول ل قول ً آخر ،وهذا وإن كان على طريقة الخبر فليس المراد به ذلك ،بل
المراد به تعليم الدب الشرعي عند هذه الدعوة من أحد المتخاصمين للخر .والمعنى :أنه ينبغي للمؤمنين أن يكونوا هكذا بحيث إذا
سمعوا الدعاء المذكور قابلوه بالطاعة والذعان .يقولون سمعنا قول النبي وأطعنا أمره ،وإن كان ذلك فيما يكرهونه ويضرهم.
ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله:
ثم أردف الثناء عليهم بثناء "وأولئك" أي المؤمنون الذين قالوا هذا القول "هم المفلحون" أي الفائزون بخير الدنيا والخرة.
آخر فقال:
ك ُهُم اْلَفاِئُزو َ
ن ل َوَيّتْقِه َفُأوَلِئ َ
ش ا َّ
خ َ
سوَلُه َوَي ْ
ل َوَر ُ
طِع ا َّ
َوَمن ُي ِ
تفسير الية دراية:
"ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون" :هذه الجملة مقررة لما قبلها من حسن حال المؤمنين
وترغيب من عداهم إلى الدخول في عدادهم والمتابعة لهم في طاعة الله ورسوله والخشية من الله عز وجل والتقوى له.
"فأولئك هم الفائزون" :الشارة إلى الموصوفين بما ذكر من الطاعة والخشية والتقوى أي هم الفائزون بالنعيم الدنيوي والخروي
ل من عداهم.
41
خِبيٌر ِبَما َتْعَمُلو َ
ن لَ َ
نا ّ
عٌة ّمْعُروَفٌة ِإ ّ
طا َ
سُموا َ
ن ُقل ّل ُتْق ِ
جّخُر ُ
ن َأَمْرَتُهْم َلَي ْ
جْهَد َأْيَماِنِهْم َلِئ ْ
ل َ
سُموا ِبا ِّ
َوَأْق َ
تفسير الية دراية:
ثم حكى سبحانه عن المنافقين أنهم لما كرهوا حكمه أقسموا بأنه لو أمرهم بالخروج إلى الغزو لخرجوا فقال:
"وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن" :أي لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن ,ومعنى جهد أيمانهم :طاقة
ولما كانت ما قدروا أن يحلفوا ،مأخوذ من قولهم جهد نفسه :إذا بلغ طاقتها وأقصى وسعها .وجواب القسم قوله "ليخرجن"
مقالتهم هذه كاذبة وأيمانهم فاجرة رد الله عليهم ،فقال:
"قل ل تقسموا" :أي رد عليهم زاجرا ً لهم ،وقل لهم ل تقسموا :أي ل تحلفوا على ما تزعمونه من الطاعة والخروج إلى الجهاد إن
أمرتم به ،وهاهنا تم الكلم .ثم ابتدأ فقال" :طاعة معروفة" :وارتفاع "طاعة" على أنها خبر مبتدأ محذوف :أي طاعتهم طاعة
معروفة بأنها طاعة نفاقية لم تكن عن اعتقاد ,ويجوز أن تكون ميتدأ ،لنها قد خصصت بالصفة ،ويكون الخبر مقدرًا :أي طاعة معروفة
أولى بكم من أيمانكم.
"إن الله خبير بما تعملون" :من العمال وما تضمرونه من المخالفة لما تنطق به ألسنتكم ،وهذه الجملة تعليل لما قبلها من كون
طاعتهم طاعة نفاق.
تفسير الية رواية:
سبب النزول :عن ابن عباس قال :أتى قوم للنبي فقالوا :يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا ،فأنزل الله:
"وأقسموا بالله جهد أيمانهم" الية.
.1عن مقاتل في الية قال :ذلك شأن الجهاد ،قال يأمرهم أن ل يحلفوا على شيء "طاعة معروفة" قال أمرهم أن يكون منهم
طاعة معروفة للنبي من غير أن يقسموا.
.2عن مجاهد "طاعة معروفة" يقول :قد عرفت طاعتهم :أي إنكم تكذبون به.
غ اْلُمِبي ُ
ن سوِل ِإّل اْلَبل ُ
عَلى الّر ُ
طيُعوُه َتْهَتُدوا َوَما َ
حّمْلُتْم َوِإن ُت ِ
عَلْيُكم ّما ُ
حّمَل َو َ
عَلْيِه َما ُ
سوَل َفِإن َتَوّلْوا َفِإّنَما َ
طيُعوا الّر ُ
ل َوَأ ِ
طيُعوا ا َّ
ُقْل َأ ِ
تفسير الية دراية:
ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يأمرهم بطاعة الله ورسوله فقال:
"قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" طاعة ظاهرة وباطنة بخلوص اعتقاد وصحة نية ،وهذا التكرير منه تعالى لتأكيد وجوب
الطاعة عليهم ،فإن قوله" :قل ل تقسموا طاعة معروفة" في حكم المر بالطاعة ،وقيل إنهما مختلفان ،فالول نهي بطريق الرد
والتوبيخ ،والثاني أمر بطريق التكليف لهم واليجاب عليهم
"فإن تولوا" خطاب للمأمورين ،وأصله فإن تتولوا فحذف إحدى التاءين تخفيفًا ،وفيه رجوع من الخطاب مع رسول الله إلى
الخطاب لهم لتأكيد المر عليهم والمبالغة في العناية بهدايتهم إلى الطاعة والنقياد ،وجواب الشرط قوله:
"فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم" :أي فاعلموا أنما على النبي ما حمل مما أمر به من التبليغ وقد فعل ،وعليكم ما
حملتم :أي ما أمرتم به من الطاعة ،وهو وعيد لهم ،كأنه قال لهم :فإن توليتم فقد صرتم حاملين للحمل الثقيل.
42
"وإن تطيعوه" :فيما أمركم به ونهاكم عنه "تهتدوا" إلى الحق وترشدوا إلى الخير وتفوزوا بالجر،
"وما على الرسول إل البلغ المبين" :الجملة مقررة لما قبلها ،واللم إما للعهد فيراد بالرسول نبينا ،وإما للجنس فيراد كل
رسول ،والبلغ المبين :التبليغ الواضح أو الموضح.
تفسير الية رواية:
قدم زيد بن أسلم على رسول الله فقال :أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق ول يعطونا؟ قال:فإنما عليهم ما .1
حملوا وعليكم ما حملتم".
عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل :إن كان علي إمام فاجر فلقيت معه أهل ضللة أقاتل أم ل؟ قال :أقاتل أهل الضللة .2
أينما وجدتهم ،وعلى المام ما حمل وعليكم ما حملتم.
عن ابن عباس "يعبدونني ل يشركون بي شيئًا" قال :ل يخافون أحدا ً غيري .وأخرج .1
عن مجاهد قال" :ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" العاصون. .2
عن أبي العالية قال :كفر بهذه النعمة ،ليس الكفر بالله. .3
حُمو َ
ن سوَل َلَعّلُكْم ُتْر َ
طيُعوا الّر ُ
صلَة َوآُتوا الّزَكاَة َوَأ ِ
َوَأِقيُموا ال ّ
تفسير الية دراية:
"وأقيموا الصلة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول" :الجملة معطوفة على مقدر يدل عليه ما تقدم ،كأنه قيل لهم فآمنوا واعملوا
صالحا ً وأقيموا الصلة ،وقيل معطوف على "وأطيعوا الله" وقيل التقدير :فل تكفروا وأقيموا الصلة .وقد تقدم الكلم على إقامة
44
الصلة وإيتاء الزكاة ،وكرر المر بطاعة الرسول للتأكيد وخصه بالطاعة ،لن طاعته طاعة لله ،ولم يذكر ما يطيعونه فيه لقصد التعميم
كما يشعر به الحذف على ما تقرر في علم المعاني من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم
"لعلكم ترحمون" :أي افعلوا ما ذكر من إقامة الصلة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول راجين أن يرحمكم الله سبحانه.
صيُر
س اْلَم ِ
ض َوَمْأَواُهُم الّناُر َوَلِبْئ َ
ن ِفي اَلْر ِ
جِزي َ
ن َكفَُروا ُمْع ِ
ن اّلِذي َ
سَب ّ
ح َ
ل َت ْ
تفسير الية دراية:
" ل تحسبن الذين كفروا معجزين في الرض" :ومعجزين معناه :فائتين..
تفسير الية رواية:
عن قتادة "معجزين في الرض" قال :سابقين في الرض.
ظِهيَرةِن ال ّ
ن ِثَياَبُكم ّم َ
ضُعو َن َت َ حي َجِر َو ِلةِ اْلَف ْ
صَت ِمن َقْبِل َث َمّرا ٍ
ل َ
حُلَم ِمنُكْم َث َ
ن َلْم َيْبُلُغوا اْل ُ
ت َأْيَماُنُكْم َواّلِذي َ
ن َمَلَك ْ
سَتْأِذنُكُم اّلِذي َ
ن آَمُنوا ِلَي ْ َيا َأّيَها اّلِذي َ
عِليٌم
ل َت َوا ُّلَيا ِ
ل َلُكُم ا ْ
ن ا ُّ
ك ُيَبّي ُض َكَذِل َ
عَلى َبْع ٍ ضُكْم َ
عَلْيُكم َبْع ُ
ن َ
طّواُفو َ
ن َ ح َبْعَدُه ّجَنا ٌ
عَلْيِهْم ُ عَلْيُكْم َوَل َس َ ت ّلُكْم َلْي َعْوَرا ٍث َ ل ُشاء َث َ لِة اْلِع َ
صََوِمن َبْعِد َ
حِكيٌم
َ
تفسير الية دراية:
مناسبة الية لما قبلها:
لما فرغ سبحانه من ذكر ما ذكره من دلئل التوحيد رجع إلى ما كان فيه من الستئذان فذكره ها هنا على وجه أخص
"يا أيها الذين آمنوا" :الخطاب للمؤمنين وتدخل المؤمنات فيه تغليبا ً كما في غيره من الخطابات.
قال العلماء :هذه الية خاصة ببعض الوقات.
منسوخة
المر فيها للندب ل للوجوب
كان ذلك واجبا ً حيث كانوا ل أبواب لهم ،ولو عاد الحال لعاد الوجوب قيل المراد بقوله" :ليستأذنكم"
المر هاهنا للوجوب ،فالية محكمة غير منسوخة ،وحكمها ثابت على الرجال والنساء ،وهو قول أكثر أهل
العلم.
خاصة بالنساء
خاصة بالرجال دون النساء
"ملكت أيمانكم" :العبيد والماء.
"والذين لم يبلغوا الحلم" :الصبيان "منكم" أي من الحرار.
45
على الظرفية الزمانية :أي ثلثة أوقات في اليوم والليلة ،وعبر بالمرات عن الوقات لن أصل وجوب
الستئذان هو بسبب مقارنة تلك
الوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين ل نفس الوقات ،ثم فسر تلك الوقات بقوله" :من قبل صلة الفجر"
إلخ.
"ثلث مرات" منصوبة
على المصدرية :أي ثلث استئذانات ،وقالوا :هو الظاهر من قوله" :ثلث مرات" ثلث استئذانات ،لنك إذا
قلت ضربتك ثلث مرات ل
يفهم منه إل ثلث ضربات .ويرد بأن الظاهر هنا متروك للقرينة المذكورة ،وهو التفسير بالثلثة الوقات.
"من قبل صلة الفجر" :لنه وقت القيام عن المضاجع ،وطرح ثياب النوم ،ولبس ثياب اليقظة ،وربما يبيت عريانًا ،أو على حال ل
يحب أن يراه غيره فيها.
"وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة" :حين تضعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار من شدة حر الظهيرة وذلك عند انتصاف
النهار ،فإنهم قد يتجردون عن الثياب لجل القيلولة.
"ومن بعد صلة العشاء" :وذلك لنه وقت التجرد عن الثياب والخلوة بالهل.
"ثلث عورات لكم" :إجمال بعد تفصيل ,وعورات جمع عورة ،والعورة في الصل الخلل ،ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهم حفظه
ويتعين ستره :أي هي ثلث أوقات يختل فيها الستر ,والجملة مستأنفة مسوقة لبيان علة وجوب الستئذان.
"ليس عليكم ول عليهم" :أي ليس على المماليك ول على الصبيان.
"جناح" :أي إثم في الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة المر والطلع على العورات.
" بعدهن" :بعد كل واحدة من هذه العورات الثلث ،وهي الوقات المتخللة بين كل اثنتين منها.
وقيل "بعدهن" أي بعد استئذانهم فيهن ،ثم حذف حرف الجر والمجرور فبقي بعد استئذانهم ،ثم حذف المصدر وهو الستئذان،
والضمير المتصل به .ورد بأنه ل حاجة إلى هذا التقدير الذي ذكره ،بل المعنى ما سبق.
"طوافون عليكم" :أي يطوفون عليكم ،ومنه الحديث في الهرة "إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات" أي هم خدمكم فل
بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الوقات بغير إذن ,والجملة مستأنفة مبينة للعذر المرخص في ترك الستئذان.
"بعضكم على بعض" :بعضكم يطوف أو طائف على بعض ،وهذه الجملة بدل مما قبلها أو مؤكدة لها .والمعنى أن كل ً منكم يطوف
على صاحبه العبيد على الموالي والموالي على العبيد.
وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الوقات الثلثة بغير استئذان ،لنها كانت العادة أنهم ل يكشفون عوراتهم في غيرها.
"كذلك يبين الله لكم اليات" :أي مثل ذلك التبيين يبين الله لكم اليات الدالة على ما شرعه لكم من الحكام.
"والله عليم حكيم" :كثير العلم بالمعلومات وكثير الحكمة في أفعاله.
تفسير الية رواية:
سبب النزول:
46
أن رجل ً من النصار وامرأته أسماء بنت مرشدة صنعا للنبي طعامًا ،فقالت أسماء :يا رسول الله ما أقبح هذا إنه .1
ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد غلمهما بغير إذن ،فأنزل الله في ذلك "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين
ملكت أيمانكم" يعني العبيد والماء "والذين لم يبلغوا الحلم منكم" قال :من أحراركم من الرجال والنساء.
كان أناس من أصحاب رسول الله يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ،ثم يخرجوا إلى الصلة، .2
فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن ل يدخلوا عليهم في تلك الساعات إل بإذن.
سئل رسول الله عن العورات الثلث ،فقال:إذا أنا وضعت ثيابي بعد الظهيرة لم يلج علي أحد من الخدم من الذين لم .1
يبلغوا الحلم ول أحد لم يبلغ الحلم من الحرار إل بإذن ،وإذا وضعت ثيابي بعد صلة العشاء ،ومن قبل صلة الصبح".
عن ابن عباس قال :إنه لم يؤمن بها أكثر الناس :يعني آية الذن ،وإني لمر جاريتي هذه ،لجارية قصيرة قائمة على رأسه .2
أن تستأذن علي.
عن ابن عباس قال :ترك الناس ثلث آيات لم يعملوا بهن "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" ،والية .3
التي في سورة النساء "وإذا حضر القسمة" الية ،والية التي في الحجرات "إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
وعنه أيضا ً في الية قال :إذا خل الرجل بأهله بعد العشاء فل يدخل عليه صبي ول خادم إل بإذنه حتى يصلي الغداة ،وإذا .4
خل بأهله عند الظهر فمثل ذلك ،ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن ،وهو قوله" :ليس عليكم ول عليهم جناح
بعدهن" فأما من بلغ الحلم ،فإنه ل يدخل على الرجل وأهله إل بإذن على كل حال ،وهو قوله" :وإذا بلغ الطفال منكم الحلم
فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم"
وعنه أيضًا :أن رجل ً سأله عن الستئذان في الثلث العورات التي أمر الله بها في القرآن ،فقال ابن عباس :إن الله ستير .5
يحب الستر وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ول حجاب في بيوتهم ،فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيم في حجره
وهو على أهله ،فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله ،ثم جاء الله بعد بالستور ،فبسط عليهم في الرزق،
فاتخذوا الستور واتخذوا الحجاب ،فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الستئذان الذي أمروا به.
وعن ابن عمر في قوله" :ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" قال :هي على الذكور دون الناث ،ول وجه لهذا التخصيص، .6
فالطلع على العورات في هذه الوقات كما يكرهه النسان من الذكور يكرهه من الناث.
و عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الية قالت :نزلت في النساء أن يستأذن علينا. .7
وعن علي في الية قال :النساء فإن الرجال يستأذنون. .8
وسئل الشعبي عن هذه الية أمنسوخة هي؟ قال :ل. .9
حِكيٌم
عِليٌم َ
ل َ
ل َلُكْم آَياِتِه َوا ُّ
ن ا ُّ
ك ُيَبّي ُ
ن ِمن َقْبِلِهْم َكَذِل َ
ن اّلِذي َ
سَتْأَذ َ
سَتْأِذُنوا َكَما ا ْ
حُلَم َفْلَي ْ وِإَذا َبَلَغ اَْل ْ
طَفاُل ِمنُكُم اْل ُ
تفسير الية دراية:
مناسبة الية لما قبلها:
47
لما بين فيما مر حكم الطفال الذين لم يبلغوا الحلم في أنه ل جناح عليهم في ترك الستئذان فيما عدا الوقات الثلثة يين سبحانه
هاهنا حكم الطفال الحرار إذا بلغوا الحلم
" فليستأذنوا " :يعني الذين بلغوا الحلم إذا دخلوا عليكم.
" كما استأذن" :أي استئذانا كما استأذن الذين من قبلهم.
"الذين من قبلهم" :أي الذين قيل لهم "ل تدخلوا بيوتا ً غير بيوتكم حتى تستأنسوا" الية .والمعنى :أن هؤلء الذين بلغوا الحلم
يستأذنون في جميع الوقات كما استأذن الذين من قبلهم من الكبار الذين أمروا بالستئذان من غير استثناء.
"كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم" :كرر لتأكيد ما تقدم.
فواجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا أحرارا ً كانوا أو عبيدًا ,فيستأذن الرجل على أمه.
تفسير الية رواية:
سئل ابن عباس أأستأذن على أختى؟ قال :نعم ،قلت :إنها في حجري وإني أنفق عليها وإنها معي في البيت أأستأذن .1
عليها؟ قال :نعم إن الله يقول" :ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم" الية ،فلم يؤمر هؤلء بالذن إل
في هؤلء العورات الثلث ،قال" :وإذا بلغ الطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم" فالذن واجب على كل
خلق الله أجمعين.
وعن ابن مسعود قال :عليكم إذن على أمهاتكم. .2
وعنه قال :يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخيه وأخته ,وعن جابر نحوه. .3
وعن عطاء بن يسار "أن رجل ً قال :يا رسول الله أأستأذن على أمي؟ قال:نعم ،قال :إني معها في البيت ،قال:استأذن .4
عليها ،قال :إني خادمها أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال:أتحب أن تراها عريانة؟ قال :ل ،قال:فاستأذن عليها" وهو مرسل.
عِليٌم
سِميٌع َ
ن َوالُّ َ
خْيٌر ّلُه ّ
ن َ
سَتْعِفْف َ
ت ِبِزيَنٍة وََأن َي ْ
جا ٍ
غْيَر ُمَتَبّر َ
ن َ
ن ِثَياَبُه ّ
ضْع َ
ح َأن َي َ
جَنا ٌ
ن ُ
عَلْيِه ّ
س َ
حا َفَلْي َ
ن ِنَكا ً
جو َ
ساء اّللِتي ل َيْر ُ
ن الّن َ
عُد ِم َ
َواْلَقَوا ِ
تفسير الية دراية:
"والقواعد من النساء" :العجائز اللتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر ،واحدتها قاعد بل هاء ليدل حذفها على أنه قعود الكبر،
كما قالوا :امرأة حامل ليدل بحذف الهاء على أنه حمل حبل ،ويقال :قاعدة في بيتها وحاملة على ظهرها ,وهن اللتي قعدن عن
التزويج.
ً
"اللتي ل يرجون نكاحا" :أي ل يطمعن فيه لكبرهن ,اللتي قعدن عن الولد ،وليس هذا بمستقيم ،لن المرأة تقعد عن الولد وفيها
مستمتع.
ثم ذكر سبحانه حكم القواعد فقال:
"فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن" :أي الثياب التي تكون على ظاهر البدن كالجلباب ونحوه ،ل الثياب التي على العورة
الخاصة ،وإنما جاز لهن ذلك لنصراف النفس عنهن إذ ل رغبة للرجال فيهن ،فأباح الله سبحانه لهن ما لم يبحه لغيرهن .وقرأ بعضهم
" أن يضعن ثيابهن " بزيادة من.
ثم استثنى حالة من حالتهن فقال:
48
"غير متبرجات بزينة" :أي غير مظهرات للزينة التي أمرن بإخفائها في قوله" :ول يبدين زينتهن" والمعنى :من غير أن يردن بوضع
الجلبيب إظهار زينتهن ول متعرضات بالتزين لينظر إليهن الرجال .والتبرج التكشف والظهور للعيون ،ومنه "بروج مشيدة" وبروج
السماء ،ومنه قولهم :سفينة بارجة :أي ل غطاء عليها.
"وأن يستعففن خير لهن" :أي وأن يتركن وضع الثياب فهو خير لهن من وضعها ، .وقرأ بعضهم " :وأن يستعففن " بغير سين.
"والله سميع عليم" :كثير السماع والعلم أو بليغهما.
تفسير الية رواية:
عن ابن عباس "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن" الية ،فنسخ واستثنى من ذلك "والقواعد من النساء اللتي ل .1
ً
يرجون نكاحا" الية.
وعنه قال :هي المرأة ل جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار وتضع عليها الجلباب ما لم تتبرج بما يكرهه الله ،وهو .2
قوله" :فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة".
عن ابن عباس أنه كان يقرأ " :أن يضعن ثيابهن " ويقول :هو الجلباب. .3
عن ابن مسعود "أن يضعن ثيابهن" قال :الجلباب والرداء. .4
ت ُأّمَهاِتُكْم َأوْ
ت آَباِئُكْم َأْو ُبُيو ِسُكْم َأن َتْأُكُلوا ِمن ُبُيوِتُكْم َأْو ُبُيو ِ عَلى َأنُف ِ ج َول َ حَر ٌ
ض َ ج َول عََلى اْلَمِري ِ حَر ٌج َ عَر ِعَلى اَل ْ ج َول َ حَر ٌعَمى َ عَلى اَل ْ س ََلْي َ
عَلْيُكْم
س َ صِديِقُكْم َلْي َحُه َأْو َ خالِتُكْم َأْو َما َمَلْكُتم ّمَفاِت َت َ خَواِلُكْم َأْو ُبُيو ِ
ت َأ ْ
عّماِتُكْم َأْو ُبُيو ِ
ت َ
عَماِمُكْم َأْو ُبُيو ِ
ت َأ ْ
خَواِتُكْم َأْو ُبُيو ِ ت َأ َخَواِنُكْم َأْو ُبُيو ِ
ت ِإ ْ
ُبُيو ِ
ت َلَعّلُكْم َتْعِقُلون
ل َلُكُم الَيا ِ ن ا ُّك ُيَبّي ُ
طّيَبًة َكَذِل َ
ل ُمَباَرَكًة َ
عنِد ا ِّ
ن ِ حّيًة ّم ْ
سُكْم َت ِ
عَلى َأنُف ِسّلُموا َ
خْلُتم ُبُيوًتا َف َ
شَتاًتا َفِإَذا َد َ
جِميًعا َأْو َأ ْ
ح َأن َتْأُكُلوا َ جَنا ٌ
ُ
تفسير الية دراية:
"ليس على العمى حرج ول على العرج حرج ول على المريض حرج":
اختلف أهل العلم في هذه الية هل هي محكمة أو منسوخة؟ قال بالول جماعة من العلماء ،وبالثاني جماعة.
سبب نزولها:
قيل إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم ،وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم :قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في
بيوتنا ،فكانوا يتحرجون من ذلك وقالوا :ل ندخلها وهم غيب ،فنزلت هذه الية رخصة لهم.
فمعنى الية :نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيوت أقاربهم أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو .وهذا القول من
أجل ما روي في الية لما فيه من الصحابة والتابعين من التوقيف.
ً ً
وقيل إن هؤلء المذكورين كانوا يتحرجون من مؤاكلة الصحاء حذارا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم فنزلت.
وقيل إن الله رفع الحرج عن العمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر ،وعن العرج فيما يشترط في التكليف به القدرة
الكاملة على المشي على وجه يتعذر التيان به مع العرج ،في تأخرهم عن الغزو.
49
وقيل كان الرجل إذا أدخل أحدا ً من هؤلء الزمنى إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ً يطعمهم إياه ذهب بهم إلى بيوت قرابته ،فيتحرج الزمنى
من ذلك فنزلت.
"ول على أنفسكم" :عليكم وعلى من يماثلكم من المؤمنين.
"أن تأكلوا" :أنتم ومن معكم ،وهذا ابتداء كلم :أي ول عليكم أيها الناس .والحاصل أن رفع الحرج عن العمى والعرج والمريض إن
كان باعتبار مؤاكلة الصحاء ،أو دخول بيوتهم فيكون "ول على أنفسكم" متصل ً بما قبله ،وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار
التكاليف التي يشترط فيها وجود البصر وعدم العرج وعدم المرض ،فقوله " :ول على أنفسكم " ابتداء كلم غير متصل بما قبله .
"من بيوتكم" :البيوت التي فيها متاعهم وأهلهم فيدخل بيوت الولد كذا قال المفسرون ،لنها داخلة في بيوتهم لكون بيت ابن
الرجل بيته ،فلذا لم يذكر سبحانه بيوت الولد وذكر بيوت الباء وبيوت المهات ومن بعدهم ,وعارض بعضهم هذا فقال :هذا تحكم على
كتاب الله سبحانه بل الولى في الظاهر أن يكون البن مخالفا ً لهؤلء .ويجاب عن هذه المعارضة بأن رتبة الولد بالنسبة إلى الباء ل
تنقص عن رتبة الباء بالنسبة إلى الولد ،بل للباء مزيد خصوصية في أموال الولد لحديث "أنت ومالك لبيك" وحديث "ولد الرجل
من كسبه" ثم قد ذكر الله سبحانه هاهنا بيوت الخوة والخوات ،بل بيوت العمام والعمات ،بل بيوت الخوال والخالت ،فكيف ينفي
سبحانه الحرج عن الكل من بيوت هؤلء ،ول ينفيه عن بيوت الولد؟ وقد قيد بعض العلماء جواز الكل من بيوت هؤلء بالذن منهم.
ل ،فإن كان محرزا ً دونهم لم يجز لهم أكله.
وقال آخرون :ل يشترط الذن .قيل وهذا إذا كان الطعام مبذو ً
"أو ما ملكتم مفاتحه" :أي البيوت التي تملكون التصرف فيها بإذن أربابها ،وذلك كالوكلء والعبيد والخزان ،فإنهم يملكون التصرف
في بيوت من أذن لهم بدخول بيته وإعطائهم مفاتحه .وقيل المراد بها بيوت المماليك.
"أو صديقكم" :أي ل جناح عليكم أن تأكلوا من بيوت صديقكم وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة ،فإن الصديق في الغالب يسمح
لصديقه بذلك وتطيب به نفسه ،والصديق يطلق على الواحد والجمع.
"ليس عليكم جناح أن تأكلواجميعا ً أو أشتاتًا" :انتصاب جميعا ً وأشتاتا على الحال .والشتات جمع شت ،والشت المصدر:
ً
بمعنى التفرق ،يقال شت القوم :أي تفرقوا ،وهذه الجملة كلم مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر من جنس ما قبله :أي ليس
عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم مجتمعين أو متفرقين ،وقد كان بعض العرب يتحرج أن يأكل وحده حتى يجد له أكيل ً يؤاكله فيأكل
معه ،وبعض العرب كان ل يأكل إل مع ضيف.
ثم شرع في بيان أدب به عباده فقال:
"فإذا دخلتم بيوتًا" ::أي إذا دخلتم بيوتا غير البيوت التي تقدم ذكرها فهي المساجد ,وقيل المراد البيوت المذكورة سابقا .وقيل
ً ً
المراد بالبيوت هنا هي كل البيوت المسكونة وغيرها ،والقول بالعموم في البيوت هو الصحيح.
"فسلموا على أنفسكم" :أي على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم .وعلى القول الول في البيوت المراد سلموا على من فيها من
صنفكم ،فإن لم يكن في المساجد أحد ،فقيل يقول :السلم على رسول الله ،وقيل يقول :السلم عليكم مريدا ً للملئكة ،وقيل يقول:
السلم علينا وعلى عباد الله الصالحين ،وعلى القول الثالث في البيوت فيسلم على أهل المسكونة ،وأما غير المسكونة فيسلم على
نفسه.
"تحية" :أي تحية ثابتة وهي منصوبة على المصدرية
"من عند الله" :أي إن الله حياكم بها .وقيل :أي إن الله أمركم أن تفعلوها طاعة له.
50
"مباركة" :وصف لهذه التحية أي كثيرة البركة والخير دائمتهما
"طيبة" :أي تطيب بها نفس المستمع ،وقيل حسنة جميلة .وقيل :أعلم الله سبحانه أن السلم مبارك طيب لما فيه من الجر
والثواب،
ً
"كذلك يبين الله لكم اليات" التكرار هنا تأكيدا لما سبق .وقد قدمنا أن الشارة بذلك إلى مصدر الفعل
"لعلكم تعقلون" :تعليل لذلك التبيين برجاء تعقل آيات الله سبحانه وفهم معانيها.
تفسير الية رواية:
أسباب النزول:
لما نزلت "يا أيها الذين آمنوا ل تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" قالت النصار :ما بالمدينة مال أعز من الطعام كانوا .1
يتحرجون الكل مع العرج يقولون الصحيح
يسبقه إلى المكان ول يستطيع أن يزاحم ،ويتحرجون الكل مع المريض يقولون ل يستطيع أن يأكل مثل الصحيح ،وكانوا
يتحرجون أن يأكلوا في بيوت أقاربهم،
فنزلت "ليس على العمى" يعني في الكل مع العمى.
كان الرجل يذهب بالعمى أو العرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه أو بيت عمه أو بيت عمته أو بيت خاله أو بيت .2
خالته .فكان الزمنى يتحرجون من ذلك يقولون إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم ،فنزلت هذه الية رخصة لهم.
كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فيدفعون مفاتيحهم إلى أمنائهم ويقولون لهم قد .3
أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه ،فكانوا يقولون إنه ل يحل لنا أن نأكل إنهم أذنوا لنا من غير طيب نفس ،وإنما نحن زمنى،
فأنزل الله "ول على أنفسكم أن تأكلوا" إلى قوله" :أو ما ملكتم مفاتحه".
لما نزلت "يا أيها الذين آمنوا ل تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" قال المسلمون :إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا .4
بالباطل والطعام هو أفضل الموال فل يحل لحد منا أن يأكل عند أحد فكف الناس عن ذلك ،فأنزل الله "ليس على العمى
حرج" إلى قوله" :أو ما ملكتم مفاتحه" وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته ،والذي رخص الله أن يأكل من ذلك الطعام والتمر
ويشرب اللبن ،وكانوا أيضا ً يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره ،فرخص الله لهم فقال" :ليس عليكم
جناح أن تأكلوا جميعا ً أو أشتاتًا".
كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي ل يخالطهم في طعامهم أعمى ول مريض ول أعرج ل يستطيع المزاحمة على .5
الطعام ،فنزلت رخصة في مؤاكلتهم.
سئل الزهري عن قوله" :ليس على العمى حرج" ما بال العمى والعرج والمريض ذكروا هنا؟ فقال :أخبرني عبيد الله .6
بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفهم زمانهم ،وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما
في بيوتنا ،وكانوا يتحرجون من ذلك يقولون ل ندخلها وهم غيب ،فأنزل الله هذه الية رخصة لهم.
كان هذا الحي من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهلية ،حتى إن كان الرجل .7
يسوق الزود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه ،فأنزل الله "ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا ً أو أشتاتًا".
كانت النصار إذا نزل بهم الضيف ل يأكلون حتى يأكل الضيف معهم ،فنزلت رخصة لهم. .8
51
خرج الحارث غازيا ً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف على أهله خالد بن يزيد ،فحرج أن يأكل من طعامه ،وكان .9
مجهودا ً فنزلت.
عن قتادة في قوله" :أو صديقكم" قال :إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته ،ثم أكلت من طعامه بغير إذنه لم يكن .1
بذلك بأس.
عن ابن زيد في قوله" :أو صديقكم" قال :هذا شيء قد انقطع ،إنما كان هذا في أوله ولم يكن لهم أبواب ،وكانت الستور .2
مرخاة ،فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد ،فربما وجد الطعام وهو جائع فسوغه الله أن يأكله .وقال :ذهب ذلك اليوم
البيوت فيها أهلها ،فإذا خرجوا أغلقوا فقد ذهب ذلك.
عن ابن عباس في قوله" :فإذا دخلتم بيوتا ً فسلموا على أنفسكم" يقول :إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أنفسكم "تحية .3
من عند الله" وهو السلم ،لنه اسم الله وهو تحية أهل الجنة.
عن جابر بن عبد الله قال :إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله "مباركة طيبة". .4
عن ابن عباس في قوله" :فسلموا على أنفسكم" قال :هو المسجد إذا دخلته فقل :السلم علينا وعلى عباد الله .5
الصالحين.
عن ابن عمر قال :إذا دخل البيت غير المسكون أو المسجد فليقل :السلم علينا وعلى عباد الله الصالحين. .6
سوِلِه
ل َوَر ُ
ن ِبا ِّ
ن ُيْؤِمُنو َ
ك اّلِذي َ
ك ُأْوَلِئ َسَتْأِذُنوَن َ
ن َي ْن اّلِذي َسَتْأِذُنوُه ِإ ّ
حّتى َي ْجاِمٍع َلْم َيْذَهُبوا َ
سوِلِه َوِإَذا َكاُنوا َمَعُه عََلى َأْمٍر َل َوَر ُن آَمُنوا ِبا ِّ
ن اّلِذي َ
ِإّنَما اْلُمْؤِمُنو َ
حيٌمل غَُفوٌر ّر ِ ن ا َّ
ل ِإ ّسَتْغِفْر َلُهُم ا َّت ِمْنُهْم َوا ْ
شْئ َ
شأِْنِهْم َفْأَذن ّلَمن ِ
ض َك ِلَبْع ِ سَتْأَذُنو َ
َفِإَذا ا ْ
تفسير الية دراية:
"إنما المؤمنون" :جملة مستأنفة مسوقة لتقدير ما تقدمها من الحكام ،و "إنما" من صيغ الحصر .والمعنى ل يتم إيمان ول يكمل
حتى يكون "بالله ورسوله"
"وإذا كانوا معه على أمر جامع" :جملة معطوفة على آمنوا داخلة معه في حيز الصلة :أي إذا كانوا مع رسول الله على أمر
جامع :أي على أمر طاعة يجتمعون عليها ،نحو الجمعة والنحر والفطر والجهاد وأشباه ذلك ،وسمي المر جامعا ً مبالغة ,والمر الجامع
أو الجميع هو الذي يعم نفعه أو ضرره ،وهو المر الجليل الذي يحتاج إلى اجتماع أهل الرأي والتجارب.
"لم يذهبوا حتى يستأذنوه" :قال المفسرون :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن
يخرج من المسجد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يقوم بحيال النبي صلى الله عليه وسلم حيث يراه ،فيعرف أنه إنما قام ليستأذن فيأذن
لمن يشاء منهم ,وإذن المام يوم الجمعة أن يشير بيده ,فأعلم الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيه فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم
يذهبوا حتى يستأذنوه ،وكذلك ينبغي أن يكونوا مع المام ل يخالفونه ول يرجعون عنه في جمع من جموعهم إل بإذنه .قال العلماء :كل
أمر اجتمع عليه المسلمون مع المام ل يخالفونه ول يرجعون عنه إل بإذن
"فأذن لمن شئت منهم" :فللمام أن يأذن وله أن ل يأذن على ما يرى
52
"إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله" :فبين سبحانه أن المستأذنين :هم المؤمنون بالله ورسوله كما
حكم أول ً بأن المؤمنين الكاملين اليمان :هم الجامعون بين اليمان بهما وبين الستئذان.
"فإذا استأذنوك لبعض شأنهم" :أي إذا استأذن المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض المور التي تهمهم فإنه يأذن
لمن شاء منهم ويمنع من شاء على حسب ما تقتضيه المصلحة التي يراها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"واستغفر لهم الله" :أرشده الله سبحانه إلى الستغفار لهم ،وفيه إشارة إلى أن الستئذان إن كان لعذر مسوغ ،فل يخلو عن
شائبة تأثير أمر الدنيا على الخرة.
"إن الله غفور رحيم" :أي كثير المغفرة والرحمة بالغ فيهما إلى الغاية التي ليس وراءها غاية.
تفسير الية رواية:
سبب نزول:
لما أقبلت قريش عام الحزاب نزلوا بمجمع السيال من رومة بئر بالمدينة ،قائدها أبو سفيان ،وأقبلت غطفان حتى نزلوا بنقمى إلى
جانب أحد ،وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر ،فضر الخندق على المدينة وعمل فيه المسلمون ،وأبطأ رجال من المنافقين،
وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ،فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ول إذن ،وجعل الرجل من
المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي ل بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق لحاجته فيأذن
له ،فإذا قضى حاجته رجع ،فأنزل الله في أولئك "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله" الية.
53
"قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ً" :التسلل :الخروج في خفية ،يقال تسلل فلن من بين أصحابه :إذا خرج من بينهم،
واللواذ من الملوذة ،وهو أن تستتر بشيء مخافة من يراك ،وأصله أن يلوذ هذا بذلك وذاك بهذا ،واللوذ ما يطيف بالجبل ،وقيل اللواذ
الزوغان من شيء إلى شيء في خفية .وفي الية بيان ما كان يقع من المنافقين ،فإنهم كانوا يتسللون عن صلة الجمعة متلوذين
يضم بعضهم إلى بعض استتار من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقد كان يوم الجمعة أثقل يوم على المنافقين لما يرون من
الجتماع للصلة والخطبة فكانوا يفرون عن الحضور ويتسللون في خفية ويستتر بعضهم ببعض وينضم إليه .وقيل اللواذ :الفرار من
الجهاد "فليحذر الذين يخالفون عن أمره" :الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها :أي يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم
بترك العمل بمقتضاه وقيل الضمير لله سبحانه لنه المر بالحقيقة.
وعدي فعل المخالفة بعن مع كونه متعديا ً بنفسه لتضمينه معنى العراض أو الصد ،وقيل:عن في هذا الموضع زائدة .وقيل ليست
بزائدة ،بل هي بمعنى بعد ،كقوله" :ففسق عن أمر ربه" أي بعد أمر ربه ،والولى ما ذكرناه من التضمين.
"أن تصيبهم فتنة" :مفعول يحذر ،وفاعله الموصول .والمعنى :فليحذر المخالفون عن أمر الله أو أمر رسوله أو أمرهما جميعا ً
إصابة فتنة لهم والفتنة التي حذرهم من إصابتها لهم هي في الدنيا ,والفتنة هنا غير مقيدة بنوع من أنواع الفتن ،وقيل من القتل ،وقيل
الطبع على قلوبهم.
" أو يصيبهم عذاب أليم " :أي في الخرة ,وكلمة أو لمنع الخلو .واحتج الفقهاء على أن المر للوجوب بهذه الية ،ووجه ذلك أن
الله سبحانه قد حذر من مخالفة أمره ،وتوعد بالعقاب عليها بقوله" :أن تصيبهم فتنة" الية ،فيجب امتثال أمره وتحرم مخالفته.
تفسير الية رواية:
سبب النزول:
كان ل يخرج أحد لرعاف أو أحداث حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بأصبعه التي تلي البهام ،فيأذن له النبي صلى
الله عليه وسلم يشير إليه بيده ،وكان من المنافقين من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد ،فكان إذا استأذن رجل من
المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به حتى يخرج .فأنزل الله "الذين يتسللون منكم لواذا" الية.
عن سعيد بن جبير في قوله" :ل تجعلوا دعاء الرسول" الية قال :يعني كدعاء أحدكم إذا دعا أخاه باسمه ،ولكن وقروه .1
وقولوا له :يا رسول الله يا نبي الله.
و عنه أيضا ً في الية قال :ل تصيحوا به من بعيد يا أبا القاسم ،ولكن كما قال الله في الحجرات "إن الذين يغضون .2
أصواتهم عند رسول الله".
عِليمٌ
يٍء َ
ش ْ
ل ِبُكّل َ
عِمُلوا َوا ُّ
ن ِإَلْيِه َفُيَنّبُئُهم ِبَما َ
جُعو َ
عَلْيِه َوَيْوَم ُيْر َ
ض َقْد َيْعَلُم َما َأنُتْم َ
ت َواَلْر ِ
سَماَوا ِ
ل َما ِفي ال ّ
ن ِّ
َأل ِإ ّ
تفسير الية دراية:
"أل إن لله ما في السموات والرض" :من المخلوقات بأسرها ،فهي ملكه.
"قد يعلم ما أنتم عليه" :أيها العباد من الحوال التي أنتم عليها فيجازيكم بحسب ذلك ،ويعلم هاهنا بمعنى علم
54
"ويوم يرجعون إليه" :معطوف على ما أنتم عليه :أي يعلم ما أنتم عليه ويعلم يوم يرجعون إليه فيجازيكم فيه بما عملتم ،وتعليق
علمه سبحانه بيوم يرجعون ل بنفس رجعهم لزيادة تحقيق علمه ،لن العلم بوقت وقوع الشيء يستلزم العلم بوقوعه على أبلغ وجه
" فينبئهم بما عملوا " :أي يخبرهم بما عملوا من العمال التي من جملتها مخالفة المر ،والظاهر من السياق أن هذا الوعيد
للمنافقين
"والله بكل شيء عليم" :ل يخفى عليه شيء من أعمالهم.
تفسير الية رواية:
عن عقبة بن عامر قال :رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الية في خاتمة سورة النور وهو جاعل أصبعيه تحت
عينيه يقول :بكل شيء بصير.
عِليٌم
سِميٌع َ
ل َ
ن ا َّ
ل ِإ ّ
سوِلِه َواّتُقوا ا َّ
ل َوَر ُ
ي ا ِّ
ن َيَد ِ
ن آَمُنوا ل ُتَقّدُموا َبْي َ
َيا َأّيَها اّلِذي َ
:تفسير الية دراية
فعل متعد وحذف مفعوله لقصد التعميم ,أو ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل كقولهم هو يعطي دموا
ُتق ّ
ويمنع
ً
جه فتكون القراءتان بنفس المعنى أي ل تقطعوا أمرا دون الله ورسوله ول تعجلوا به. ه وت َوَ ّ
ج َفعل لزم نحو وَ ّ
وقيل
معنى بين يدي فلن بحضرته ،لن ما يحضره النسان فهو بين يديه .قرأت "تقدموا":
دموا تَ َ
ق ّ
.واتقوا الله" :في كل أموركم ،ويدخل تحتها الترك للتقدم بين يدي الله ورسوله دخول ً أوليا ً"
:ثم علل ما أمر به من التقوى بقوله
.إن الله سميع" :لكل مسموع "عليم" بكل معلوم"
:تفسير الية رواية
55
:سبب النزول
قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم ،فقال أبو بكر :أمر القعقاع بن معبد ،وقال عمر :بل أمر القرع .1
بن حابس ،فقال أبو بكر ما أردت إل خلفي ،فقال عمر :ما أردت خلفك ،فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ،فأنزل الله" :يا أيها
الذين آمنوا ل تقدموا بين يدي الله ورسوله" حتى انقضت الية".
كان أناس يتقدمون بين يدي رمضان بصيام :يعني يوما ً أو يومين ،فأنزل الله" :يا أيها الذين آمنوا ل تقدموا بين يدي الله .2
ورسوله".
ً
أن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى الله عليه وسلم ،فأنزل الله" :يا أيها الذين آمنوا" الية. .3
عن ابن عباس في قوله" :ل تقدموا بين يدي الله ورسوله" قال :نهوا أن يتكلموا بين يدي كلمه. .1
عن عائشة في الية قالت :ل تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. .2
شُعُرو َ
ن عَماُلُكْم َوَأنُتْم ل َت ْ
ط َأ ْ
حَب َ
ض َأن َت ْ
ضُكْم ِلَبْع ٍ
جْهِر َبْع ِ
جَهُروا َلُه ِباْلَقْوِل َك َ
ي َول َت ْ
ت الّنِب ّ
صوْ ِ
ق َ
صَواَتُكْم َفْو َ
ن آَمُنوا ل َتْرَفُعوا َأ ْ
َيا َأّيَها اّلِذي َ
:تفسير الية دراية
ل ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" :يحتمل أن المراد حقيقة رفع الصوت ،لن ذلك يدل على قلة الحتشام وترك الحترام"،
لن خفض الصوت وعدم رفعه من لوازم التعظيم والتوقير .ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلم ومزيد اللغط ،والول أولى.
والمعنى ل ترفعوا أصواتكم إلى حد يكون فوق ما يبلغه صوت النبي صلى الله عليه وسلم .قال المفسرون :المراد من الية تعظيم
النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وأن ل ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا ً
ول تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض" :أي ل تجهروا بالقول إذا كلمتموه كما تعتادونه من الجهر بالقول إذا كلم بعضكم"
بعضًا .أمرهم الله بتجليل نبيه وأن يغضوا أصواتهم ويخاطبوه بالسكينة والوقار ،وقيل المراد بقوله" :ول تجهروا له بالقول" ل تقولوا يا
محمد ويا أحمد ،ولكن يا نبي الله ويا رسول الله توقيرا ً له ،وليس المراد برفع الصوت وبالجهر في القول هو ما يقع على طريقة
الستخفاف فإن ذلك كفر ،وإنما المراد أن يكون الصوت في نفسه غير مناسب لما يقع في مواقف من يجب تعظيمه وتوقيره.
:والحاصل أن النهي هنا وقع عن أمور
.الول عن التقدم بين يديه بما ل يأذن به من الكلم
.والثاني عن رفع الصوت البالغ إلى حد يكون فوق صوته سواء كان في خطابه أو في خطاب غيره
والثالث ترك ]الجفاء[ في مخاطبته ولزوم الدب في مجاورته ،لن المقاولة المجهورة إنما تكون بين الكفاء الذين ليس لبعضهم على
.بعض مزية توجب احترامه وتوقيره
:ثم علل سبحانه ما ذكره بقوله
أن تحبط أعمالكم" :أي نهاكم الله عن الجهر خشية أن تحبط ،أو كراهة أن تحبط ،أو علة للمنهي :أي ل تفعلوا الجهر فإنه يؤدي"
.إلى الحبوط
56
وأنتم ل تشعرون" :في محل نصب على الحال ،وفيه تحذير شديد ووعيد عظيم ,وليس المراد وأنتم ل تشعرون يوجب أن يكفر"
.النسان وهو ل يعلم ،فكما ل يكون الكافر مؤمنا ً إل باختياره اليمان على الكف ،كذلك ل يكون الكافر كافرا ً من حيث ل يعلم
:تفسير الية رواية
عن أبي هريرة قال :لما نزلت "إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله" قال أبو بكر :والذي أنزل عليك الكتاب يا .1
رسول الله ل أكلمك إل كأخي السرار حتى ألقى الله.
لما نزلت "يا أيها الذين آمنوا ل ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" إلى قوله" :وأنتم ل تشعرون" وكان ثابت بن قيس بن .2
شماس رفيع الصوت فقال :أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله ،حبط عملي ،أنا من أهل النار وجلس في بيته حزيناً،
ففقده رسول الله ،فانطلق بعض القوم إليه فقالوا :فقدك رسول الله مالك؟ قال :أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي
وأجهر له بالقول ،حبط عملي ،أنا من أهل النار ،فأتوا النبي فأخبروه بذلك ،فقال :ل ،بل هو من أهل الجنة ،فلما كان يوم
اليمامة قتل".
عن ابن مسعود في قوله" :ل ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" الية :قال :نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. .3
عن أبي هريرة في قوله" :أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :منهم .4
ثابت بن قيس بن شماس.
ظيٌم
عِجٌر َ
ل ُقُلوَبُهْم ِللّتْقَوى َلُهم ّمْغِفَرٌة َوَأ ْ
ن ا ُّ
حَن اْمَت َ
ك اّلِذي َ
ل ُأْوَلِئ َ
سوِل ا ِّ
عنَد َر ُ
صَواَتُهْم ِ
ن َأ ْ
ضو َ
ن َيُغ ّ
ن اّلِذي َ
ِإ ّ
:تفسير الية دراية
:ثم رغب سبحانه في امتثال ما أمر به فقال
إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله" :أصل الغض النقص من كل شيء ،ومنه نقص الصوت
أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" :أخلص قلوبهم للتقوى كما يمتحن الذهب بالنار ،فيخرج جيده من رديئه ويسقط"
خبيثه .وقيل :اختصها للتقوى ،وقيل طهرها من كل قبيح ،وقيل وسعها وسرحها ،من امتنحت الديم :إذا وسعته .وقيل :كل شيء جهدته
فقد منحته ,واللم في للتقوى متعلقة بمحذوف :أي صالحة للتقوى كقولك أنت صالح لكذا ،أو للتعليل الجاري مجرى بيان السبب،
كقولك جئتك لداء الواجب :أي ليكون مجيئي سببا ً لداء الواجب
.لهم مغفرة وأجر عظيم" :أي أولئك لهم ،فهو خبر آخر لسم الشارة ،ويجوز أن يكون مستأنفا ً لبيان ما أعد الله لهم في الخرة"
ت َأْكَثُرُهْم ل َيْعِقُلو َ
ن جَرا ِ
حُك ِمن َوَراء اْل ُ
ن ُيَناُدوَن َ
ن اّلِذي َ
ِإ ّ
:تفسير الية دراية
،إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم ل يعقلون" هم جفاة بني تميم كما سيأتي بيانه"
57
و"من وراء الحجرات" :خارجها وخلفها :والحجرات جمع حجرة ،كالغرفات جمع غرفة ،والظلمات جمع ظلمة ،وقيل الحجرات جمع
حجرة ،والحجر جمع حجرة ،فهو جمع الجمع :والحجرة الرقعة من الرض المحجورة بحائط يحوط عليها ،وهي فعيلة بمعنى مفعولة .
.ومن في من وراء لبتدائه الغاية ،ول وجه للمنع من جعلها لهذا المعنى
.أكثرهم ل يعقلون" :لغلبة الجهل عليهم وكثرة الجفاء في طباعهم"
:تفسير الية رواية
:سبب النزول
عن القرع بن حابس "أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :يا محمد اخرج إلينا ،فلم يجبه ،فقال :يا محمد إن حمدي .1
زين وإن ذمي شين ،فقال ذاك الله ،فأنزل الله" :إن الذين ينادونك من وراء الحجرات"".
ً
عن زيد بن أرقم قال :اجتمع ناس من العرب فقالوا :انطلقوا إلى هذا الرجل فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به ،وإن يك .2
ملكا نعش بجناحه ،فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا ،فجاءوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه يا محمد يا محمدً
فأنزل الله" :إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم ل يعقلون" فأخذ رسول الله بأذني وجعل يقول :لقد صدق الله
قولك يا زيد ،لقد صدق الله قولك يا زيد.
حيٌم
غُفوٌر ّر ِ
ل َ
خْيًرا ّلُهْم َوا ُّ
ن َ
ج ِإَلْيِهْم َلَكا َ
خُر َ
حّتى َت ْ
صَبُروا َ
َوَلْو َأّنُهْم َ
:تفسير الية دراية
ً
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم" :أي لو انتظروا خروجك ولم يعجلوا بالمناداة لكان أصلح لهم في دينهم"
ورعاية جانبه الشريف والعمل بما يستحقه من التعظيم والتجليل ، .ودنياهم ،لما في ذلك من رعاية حسن الدب مع رسول الله
.نصفهم وفادى نصفهم ،ولو صبروا لعتق الجميع وقيل إنهم جاءوا شفعاء في أسارى ،فأعتق رسول الله
.والله غفور رحيم" :كثير المغفرة والرحمة بليغهما ل يؤاخذ مثل هؤلء فيما فرط منهم من إساءة الدب"
صَيا َ
ن ق َواْلِع ْ
سو َ
ن َوَزّيَنُه ِفي ُقُلوبُِكْم َوَكّرَه ِإَلْيُكُم اْلُكْفَر َواْلُف ُ
ب ِإَلْيُكُم اِليَما َ
حّب َ
ل َن ا َّ
ن اَلْمِر َلَعِنّتْم َوَلِك ّ
طيُعُكْم ِفي َكِثيٍر ّم َ
ل َلْو ُي ِ
سوَل ا ِّ
ن ِفيُكْم َر ُ
عَلُموا َأ ّ
َوا ْ
شُدو َ
ن ك ُهُم الّرا ِ
ُأْوَلِئ َ
:تفسير الية دراية
:ثم وعظهم الله سبحانه فقال
ً ً
واعلموا أن فيكم رسول الله" :فل تقولوا قول باطل ول تتسرعوا عند وصول الخبر إليكم من غير تبين ،وأن وما في حيزها"
.سادة مسد مفعولي اعلموا
لو يطيعكم في كثير من المر لعنتم" :المعنى :لو يطيعكم في كثير مما تخبرونه به من الخبار الباطلة ،وتشيرون به عليه من"
الراء التي ليست بصواب لوقعتم في العنت ،وهو التعب والجهد .والثم والهلك ،ولكنه ل يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح
.وجهه له ،ول يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه
ولكن الله حبب إليكم اليمان" :أي جعله أحب الشياء إليكم ،أو محبوبا ً لديكم فل يقع منكم إل ما يوافقه ويقتضيه من المور"
الصالحة وترك التسرع في الخبار وعدم التثبت فيها ،قيل والمراد بهؤلء من عدا الولين لبيان براءتهم عن أوصاف الولين ،والظاهر
.أنه تذكير للكل بما يقتضيه اليمان وتوجبه محبته التي جعلها الله في قلوبهم
وزينه في قلوبكم " :أي حسنه بتوفيقه حتى جروا على ما يقتضيه في القوال والفعال "
ً
وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان" :أي جعل كل ما هو من جنس الفسوق ومن جنس العصيان مكروها عندكم .وأصل"
الفسق الخروج عن الطاعة ،والعصيان جنس ما يعصى الله به ،وقيل أراد بذلك الكذب خاصة ،والول أولى
أولئك هم الراشدون" :أي الموصوفون بما ذكرهم الراشدون .والرشد :الستقامة على طريق الحق مع تصلب ،مع الرشادة":
.وهي الصخرة
59
حِكيٌم
عِليٌم َ
ل َ
ل َوِنْعَمًة َوا ُّ
ن ا ِّ
ضل ّم َ
َف ْ
:تفسير الية دراية
فضل ً من الله ونعمة" :أي لجل فضله وإنعامه ،والمعنى :أنه حبب إليكم ما حبب وكره ماكره لجل فضله وإنعامه ،أو جعلكم"
.راشدين لجل ذلك
.والله عليم" :بكل معلوم "حكيم" في كل ما يقضي به بين عباده ويقدر لهم"
حوا َبْيَنهَُما
صِل ُ
ت َفَأ ْ
ل َفِإن َفاَء ْ
حّتى َتِفيَء ِإَلى َأْمِر ا ِّ
خَرى َفَقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي َ عَلى اُل ْحَداُهَما َت ِإ ْ
حوا َبْيَنُهَما َفِإن َبَغ ْ
صِل ُ
ن اْقَتَتُلوا َفَأ ْ
ن اْلُمْؤِمِني َ
ن ِم َ
طاِئَفَتا ِ
َوِإن َ
طي َ
ن سِ ب اْلُمْق ِ
ح ّ ل ُي ِ
ن ا َّطوا ِإ ّ
سُِباْلَعْدِل َوَأْق ِ
:تفسير الية دراية
"فأصلحوا بينهما" :بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضى بما فيه لهما وعليهما
.فإن بغت إحداهما" :وطلبت ما ليس لها ولم ترجع إلى الصلح والبغي :التعدي بغير حق والمتناع من الصلح الموافق للصواب"
فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله" :حتى ترجع إلى طاعة الله والصلح الذي أمر الله به ,والفيء :الرجوع"
والمعنى :أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم ويدعوهم إلى حكم الله ،فإن حصل بعد ذلك
التعدي من إحدى الطائفتين على الخرى ولم تقبل الصلح ول دخلت فيه كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية حتى ترجع
إلى أمر الله وحكمه ،فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه ،فعلى المسلمين أن يعدلوا بين
الطائفتين في الحكم ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله ويأخذوا على يد الطائفة ]الظالمة[ حتى تخرج من الظلم وتؤدي ما يجب
.عليها للخرى
:ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا العدل الخاص بالطائفتين المقتتلتين فقال
.وأقسطوا إن الله يحب المقسطين" أي واعدلوا إن الله يحب العادلين ،ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء"
:تفسير الية رواية
:سبب النزول
ً
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم "لو أتيت عبد الله بن أبي ،فانطلق إليه وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة،
فلما انطلق إليه قال :إليك عني ،فوالله لقد آذاني ريح حمارك ،فقال رجل من النصار :والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم
أطيب ريحا ً منك ،فغضب لعبد الله رجال من قومه ،فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد واليدي والنعال ،فنزلت
".فيهم "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" الية
عن ابن عمر قال :ما وجدت في نفسي من شيء ما وجت في نفسي من هذه الية ،إني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما .1
أمرني الله.
60
عن ابن عباس في الية قال :إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين أن .2
يدعوهم إلى حكم الله وينصف بعضهم من بعض ،فإذا أجابوا حكم فيهم بحكم كتاب الله حتى ينصف المظلوم ،فمن أبى منهم
أن يجيب فهو باغ ،وحق على إمام المؤمنين والمؤمنين أن يقاتلوهم حتى يفيئوا إلى أمر الله ويقروا بحكم الله.
عن ابن عباس "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" الية .قال :كان قتال بالنعال والعصي ،فأمرهم أن يصلحوا بينهما. .3
عن عائشة قالت .ما رأيت مثل ما رغبت عنه هذه المة في هذه الية" :وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا .4
بينهما".
حُمو َ
ن ل َلَعّلُكْم ُتْر َ
خَوْيُكْم َواّتُقوا ا َّ
ن َأ َ
حوا َبْي َ
صِل ُ
خَوٌة َفَأ ْ
ن ِإ ْ
ِإّنَما اْلُمْؤِمُنو َ
:تفسير الية دراية
إنما المؤمنون إخوة" :الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها من المر بالصلح ،والمعنى :أنهم راجعون إلى أصل واحد وهو اليما",
وقيل :الدين يجمعهم ،فهم إخوة إذا كانوا متفقين في دينهم فرجعوا بالتفاق في الدين إلى أصل النسب لنهم لدم وحواء
فأصلحوا بين أخويكم" :يعنى كل مسلمين تخاصما وتقاتل ،وتخصيص الثنين بالذكر لثبات وجوب الصلح فيما فوقهما بطريق"
.الولى
واتقوا الله" :في كل أموركم"
.لعلكم ترحمون" بسبب التقوى ،والترجي باعتبار المخاطبين :أي راجين أن ترحموا"
وفي هذه الية دليل على قتال الفئة الباغية إذا تقرر بغيها على المام ،أو على أحد من المسلمين ،وعلى فساد قول من فال بعدم
الجواز مستدل ً بقوله " :قتال المسلم كفر" فإن المراد بهذا الحديث وما ورد في معناه قتال المسلم الذي لم يبغ .قال ابن جرير :لو
كان الواجب في كل اختلف يكون بين فريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حق ،ول أبطل باطل ولوجد أهل
النفاق والفجور سببا ً إلى استحلل كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم بأن يتحزبزا عليهم،
ولكف المسلمين أيديهم عنهم ،وذلك مخالف لقوله " :خذوا على أيدي سفهائكم" .قال ابن العربي :هذه الية أصل في قتال
المسلمين ،وعمدة في حرب المتأولين ،وعليها عول الصحابة ،وإليها لجأ العيان من أهل الملة ،وإياها عنى النبي بقوله" :تقتل
عمارا ً الفئة الباغية" ،وقوله في شأن الخوارج" :يخرجون على حين فرقة من الناس تقتلهم أولى الطائفتين بالحق"
"ول تنابزوا باللقاب" :التنابز :التفاعل من النبز بالتسكين وهو المصدر ،والنبز بالتحريك اللقب ،والجمع أنباز ،واللقاب جمع لقب،
وهو اسم غير الذي سمي به النسان،
والمراد هنا لقب السوء ،والتنابز باللقاب أن يلقب بعضهم بعضًا ,قال المفسرون :هو أن يقول لخيه المسلم يا فاسق يا منافق ،أو
يقول لمن أسلم يا يهودي يا نصراني ,وهو كل شيء أخرجت به أخاك من السلم ،كقولك يا كلب يا حمار يا خنزير .قيل :كان الرجل
يعير بكفره ،فيقال له يا يهودي يا نصراني فنزلت.
بئس السم الفسوق بعد اليمان" :أي بئس السم الذي يذكروا بالفسق بعد دخولهم في اليمان ،والسم هنا بمعنى الذكر ,أي"
بئس أن يسمى الرجل كافرا ً أو زانيا ً بعد إسلمه وتوبته .وقيل المعنى :أن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبذ فهو فاسق.
ويستثنى من هذا من غلب عليه الستعمال كالعرج والحدب ولم يكن له سبب يجد في نفسه منه عليه ،فجوزته الئمة واتفق على
.قوله أهل اللغة
ومن لم يتب" :عما نهى الله عنه"
فأولئك هم الظالمون " :لرتكابهم ما نهى الله عنه وامتناعهم من التوبة ،فظلموا من لقبوه ،وظلمهم أنفسهم بما لزمهم من "
.الثم
:تفسير الية رواية
:سبب النزول
نزلت في قوم من بني تميم استهزؤا من بلل وسليمان وعمار وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة. .1
نزلت في بني سلمة "ول تنابزوا باللقاب" قدم رسول الله وليس فينا رجل إل وله اسمان أو ثلثة ،فكان إذا دعا واحدا ً .2
منهم باسم من تلك السماء قالوا :يا رسول الله إنه يكرهه ،فنزلت "ول تنابزوا باللقاب".
عن ابن عباس في قوله" :ول تلمزوا أنفسكم" قال :ل يطعن بعضكم على بعض. .1
عن ابن عباس قال :التنابز باللقاب :أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق ،فنهى الله أن يعير بما .2
سلف من عمله.
62
عن ابن مسعود في الية قال :إذا كان الرجل يهوديا ً فأسلم فيقول :يا يهودي يا نصراني يا مجوسي ،ويقول للرجل .3
المسلم :يا فاسق.
خِبيٌر
عِليٌم َ
ل َ
ن ا َّ
ل َأْتَقاُكْم ِإ ّ
عنَد ا ِّ
ن َأْكَرَمُكْم ِ
شُعوًبا َوَقَباِئَل ِلَتَعاَرُفوا ِإ ّ
جَعْلَناُكْم ُ
خَلْقَناُكم ّمن َذَكٍر َوُأنَثى َو َ
س ِإّنا َ
َيا َأّيَها الّنا ُ
:تفسير الية دراية
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" :هما آدم وحواء ،والمقصود أنهم متساوون لتصالهم بنسب واحد وكونه يجمعهم أب"
واحد وأم واحدة ،وأنه ل موضع للتفاخر بينهم بالنساب ،وقيل المعنى :أن كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء
وجعلناكم شعوبا ً وقبائل" :الشعوب جمع شعب بفتح الشين ،وهو الحي العظيم :مثل مضر وربيعة ،والقبائل دونها كبني بكر من"
ربيعة ،وبني تميم من مضر .سموا شعبا ً لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة ،والشعب من أسماء الضداد :يقال شعبته :إذا
جمعته :وشعبته إذا فرقته ،ومنه سميت المنية شعوبا ً لنها مفرقة ،فأما الشعب بالكسر فهو الطريق في الجبل .والشعب ما تشعب
من قبائل العرب والعجم ،والجمع الشعوب .فالشعوب البعيد من النسب ،والقبائل دون ذلك .وقيل الشعوب النسب والقرب .وقيل
إن الشعوب عرب اليمن من قحطان ،والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان .وقيل الشعوب بطون العجم ،والقبائل بطون العرب.
.والشعب أكثر من القبيلة ،ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة
لتعارفوا" :اللم متعلقة بخلقناكم :أي خلقناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضًا .والفائدة في التعارف أن ينتسب كل واحد منهم إلى"
نسبه ول يعتري إلى غيره .والمقصود من هذا أن الله سبحانه خلقهم كذلك لهذه الفائدة ل للتفاخر بأنسابهم ودعوى أن هذا الشعب
.أفضل من هذا الشعب ،وهذه القبيلة أكرم من هذه القبيلة ،وهذا البطن أشرف من هذا البطن
:ثم علل سبحانه ما يدل عليه الكلم من النهي عن التفاخر فقال
إن أكرمكم عند الله أتقاكم" :أي إن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى ،فمن تلبس بها فهو المستحق لن يكون أكرم ممن لم"
يلتبس بها وأشرف وأفضل ،فدعوا ما أنتم فيه من التفاخر بالنساب ،فإن ذلك ل يوجب كرما ً ول يثبت شرفا ً ول يقتضي فض ً
ل .قرأ
الجمهور "إن أكرمكم" بكسر إن .وقرأ ابن عباس بفتحها :أي لن أكرمكم
64
.إن الله عليم" :بكل معلوم ومن ذلك أعمالكم "خبير" بما تسرون وما تعلنون ل ]تخفى[ عليه من ذلك خافية"
:تفسير الية رواية
:مما قيل في سبب النزول
لما كان يوم الفتح رقي بلل فأذن على الكعبة ،فقال بعض الناس :أهذا العبد السود يؤذن على ظهر الكعبة .وقال .1
بعضهم :إن يسخط الله هذا يغيره ،فنزلت "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى".
أمر رسول الله بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا :يا رسول الله ،أنزوج بناتنا موالينا؟ فنزلت هذه الية. .2
عن عمر بن الخطاب أن هذه الية "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" هي مكية ،وهي للعرب خاصة الموالي :أي .1
قبيلة لهم ،وأي شعاب ،وقوله" :إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فقال :أتقاكم للشرك.
عن ابن عباس قال :الشعوب القبائل العظام ،والقبائل البطون. .2
وعنه قال :الشعوب الجماع ،والقبائل الفخاذ التي يتعارفون بها. .3
"سئل رسول الله أي الناس أكرم؟ قال :أكرمهم عند الله أتقاهم .قالوا :ليس عن هذا نسألك ،قال :فأكرم الناس .4
يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله .قالوا ليس عن هذا نسألك .قال:فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا
نعم .قال :خيارهم في الجاهلية خيارهم في السلم إذا فقهوا".
حيٌم
غُفوٌر ّر ِ
ل َ
شْيًئا ِإنّ ا َّ
عَماِلُكْم َ
ن َأ ْ
سوَلُه ل َيِلْتُكم ّم ْ
ل َوَر ُ
طيُعوا ا َّ
ن ِفي ُقُلوِبُكْم َوِإن ُت ِ
خِل اِليَما ُ
سَلْمَنا َوَلّما َيْد ُ
ب آَمّنا ُقل ّلْم ُتْؤِمُنوا َوَلِكن ُقوُلوا َأ ْ
عَرا ُ
ت اَل ْ
َقاَل ِ
:تفسير الية دراية
:مناسبة الية لما قبلها
ولما ذكر سبحانه أن أكرم الناس عند الله أتقاهم له وكان أصل التقوى اليمان ذكر ما كانت تقوله العرب من دعوى اليمان ليثبت لهم
:الشرف والفضل فقال
أن يرد عليهم قالت العراب آمنا" :وهو بنو أسد أظهروا السلم في سنة مجدبة يريدون الصدقة ،فأمر الله سبحانه رسوله"
:فقال
ً ً
قل لم تؤمنوا" :أي لم تصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية وطمأنينة"
ولكن قولوا أسلمنا" :أي استسلمنا خوف القتل والسبي أو للطمع في الصدقة ،وهذه صفة المنافقين لنهم أسلموا في ظاهر"
.المر ولم تؤمن قلوبهم
:ولهذا قال سبحانه
ولما يدخل اليمان في قلوبكم" :أي لم يكن ما أظهرتموه بألسنتكم عن مواطأة قلوبكم ،بل مجرد قول باللسان من دون"
اعتقاد صحيح ول نية خالصة ،والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها ،أو في محل نصب على الحال ،وفي لما معنى التوقع .والسلم
إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي ،وبذلك يحقن الدم ،فإن كان مع ذلك الظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك اليمان وصاحبه
المؤمن .وقد أخرج هؤلء من اليمان بقوله" :ولما يدخل اليمان في قلوبكم" أي لم تصدقوا وإنما أسلمتم تعوذا ً من القتل
65
وإن تطيعوا الله ورسوله" :طاعة صحيحة صادرة عن نيات خالصة ،وقلوب مصدقة غير منافقة"
.ل يلتكم من أعمالكم شيئًا" :يقال لت يلت :إذا نقص ،ولته يليته ويلوته :إذا نقصه ،والمعنى :ل ينقصكم من أعمالكم شيئا ً"
.إن الله غفور" :أي بليغ المغفرة لمن فرط منه ذنب "رحيم" بليغ الرحمة لهم"
:تفسير الية رواية
عن مجاهد في قوله" :قالت العراب آمنا" قال أعراب بني أسد وخزيمة ،وفي قوله" :ولكن قولوا أسلمنا" مخافة القتل .1
والسبي.
عن قتادة أنها نزلت في بني أسد. .2
صاِدُقو َ
ن ك ُهُم ال ّ
ل ُأْوَلِئ َ
سِبيلِ ا ِّ
سِهْم ِفي َ
جاَهُدوا ِبَأْمَواِلِهْم َوَأنُف ِ
سوِلِه ُثّم َلْم َيْرَتاُبوا َو َ
ل َوَر ُ
ن آَمُنوا ِبا ِّ
ن اّلِذي َ
ِإّنَما اْلُمْؤِمُنو َ
تفسير الية دراية:
:مناسبة الية لما قبلها
لما ذكر سبحانه أن أولئك الذين قالوا آمنا لم يؤمنوا ول دخل اليمان في قلوبهم بين المؤمنين المستحقين لطلق اسم اليمان عليهم
:فقال
ً ً ً
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله " :يعني إيمانا صحيحا خالصا عن مواطأة القلب واللسان"
ثم لم يرتابوا"] :أي[ لم يدخل قلوبهم شيء من الريب ول خالطهم شك من الشكوك"
وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله" :أي في طاعته وابتغاء مرضاته ،ويدخل في الجهاد العمال الصالحة التي أمر"
.الله بها ،فإنها من جملة ما يجاهد المرء نفسه حتى يقوم به ويؤيده كما أمر الله سبحانه
أولئك هم الصادقون" :الشارة إلى الجامعين بين المور المذكورة وهو مبتدأ ،وخبره هم الصادقون أي الصادقون في التصاف"
بصفة اليمان والدخول في عداد أهله ،ل من عداهم ممن أظهر السلم بلسانه .وادعى أنه مؤمن ،ولم يطمئن باليمان قلبه ،ول وصل
.إليه معناه ،ول عمل بأعمال أهله ،وهم العراب الذين تقدم ذكرهم وسائر أهل النفاق
عِليٌم
يٍء َ
ل ِبُكّل شَ ْ
ض َوا ُّ
ت َوَما ِفي اَلْر ِ
سَماَوا ِ
ل َيْعَلُم َما ِفي ال ّ
ل ِبِديِنُكْم َوا ُّ
ن ا َّ
ُقْل َأُتَعّلُمو َ
:تفسير الية دراية
:أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لولئك العراب وأمثالهم قول ً آخر لما ادعوا أنهم مؤمنون فقال
قل أتعلمون الله بدينكم" :التعليم هاهنا بمعنى العلم ،ولهذا دخلت الباء في بدينكم :أي أخبرونه بذلك حيث قلتم آمنا"
والله يعلم ما في السموات وما في الرض" :فكيف يخفى عليه بطلن ما تدعونه من اليمان ،والجملة في محل النصب على"
الحال من مفعول تعلمون
والله بكل شيء عليم" :ل تخفى عليه من ذلك خافية ،وقد علم ما تبطنونه من الكفر وتظهرونه من السلم لخوف الضراء ورجاء"
.النفع
66
صاِدِقي َ
ن ن ِإن ُكنُتْم َ
ليَما ِ
ن َهَداُكْم ِل ِ
عَلْيُكْم َأ ْ
ن َ
ل َيُم ّ
سلَمُكم َبِل ا ُّ
ي ِإ ْ
عَل ّ
سَلُموا ُقل ّل َتُمّنوا َ
ن َأ ْ
ك َأ ْ
عَلْي َ
ن َ
َيُمّنو َ
:تفسير الية دراية
:ثم أخبر الله سبحانه رسوله بما يقوله لهم عند المن عليه منهم بما يدعونه من السلم فقال
يمنون عليك أن أسلموا" :أي يعدون إسلمهم منة عليك حيث قالوا جئناك بالثقال والعيال ،ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلن وبنو"
فلن
:قل ل تمنوا علي إسلمكم" :أي ل تعدوه منة علي ،فإن السلم هو المنة التي ل يطلب وليها ثوابا ً لمن أنعم بها عليه ،ولهذا قال"
.بل الله يمن عليكم أن هداكم لليمان" :أي أرشدكم إليه وأراكم طريقه سواء وصلتم إلى المطرب أم تصلوا إليه"
.إن كنتم صادقين" :فيما تدعونه ،والجواب محذوف يدل عليه ما قبله :أي إن كنتم صادقين فلله المنة عليكم"
:تفسير الية رواية
".أن ناسا ً من العرب قالوا :يا رسول الله أسلمنا ولم نقاتلك بنو فلن ،فأنزل الله "يمنون عليك أن أسلموا
67