Professional Documents
Culture Documents
الطحاوية
تأليف
فضيلة الشيخ عبدالرحمن
بن ناصر البراك
إعداد
عبدالرحمن بن صالح السديس
2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ،وصلى الله وسلم
على محمد عبد ِ الله ورسوِله ،أرسله بين يدي الساعة بشيرا
ونذيرا ،فبلغ الرسالة ،وأدى المانة ،ونصح المة ،وجاهد في الله
حق جهاده حتى أتاه اليقين ،وعلى آله وصحبه والتابعين لهم
أما بعد: بإحسان إلى يوم الدين.
م السنة م ،لزو ُ
م نعمة على العبد بعد السل ِ فإن أعظ َ
والجماعة ،والسلمة من البدع والهواء؛ فقد وقع في هذه المة
ما أخبر به النبي من التفرق ،والبتداع في الدين ،ـ كما وقع
في من قبلها ـ فانحرفت هذه الفرق عن الصراط المستقيم ،ولم
يستقيموا على سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وأئمة
الهدى؛ بل اتبعوا أهواءهم ،وقدموا عقولهم القاصرة ،وجعلوها
حكما على الشريعة في مسائل أصول الدين ،وهم في هذا
النحراف متفاوتون؛ فمنهم الغالي ،ومنهم دون ذلك ،ومنهم
المعاند المتعصب لبدعته ،ومنهم المجتهد المخطئ ،فتصدى أئمة
السنة للرد على المبتدعين ،وكشف شبهاتهم ،مع العدل في
م َفاع ْد ُِلوْا{]النعام[152:ذا قُل ْت ُ ْ
أحكامهم عمل بقوله تعالى} :وَإ ِ َ
فكتبوا في ذلك ،وفي بيان مذهب أهل السنة كتبا كثيرة ،مطولة
م أبو جعفر الطحاوي ـ وقصيرة ،وكان من هؤلء العلم ِ الما ُ
رحمه الله ـ ،فقد كتب رسالة في عقيدة أهل السنة والجماعة،
صغيرة الحجم كثيرة المعاني ،ذكر فيها جمل من أصول مذهب
أهل السنة من غير تفصيل ول تدليل.
وقد تصدى لشرحها جمع من العلماء منهم :العلمة أبو
الحسن علي بن علي بن محمد المشهور بابن أبي العز الحنفي
المتوفى سنة 792هـ ـ رحمه الله ـ ،وقد اعتمد في أكثر شرحه
على كتب شيخ السلم ابن تيمية والعلمة ابن القيم ـ رحمهما
الله ـ ،فجاء شرحا عظيما ،حافل بالتقريرات النفيسة ،والبحوث
المتينة ،والردود الشافية على أهل البدع.
وكان ممن تولى شرحها للطلب في هذا العصر :فضيلة
الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك ـ حفظه الله ـ فشرحها في
مجالس علمية متعددة ،ومن ذلك شرحه لها في جامع المام
علي بن المديني ـ رحمه الله ـ في مدينة الرياض ضمن الدورات
العلمية المكثفة في الصيف في أربعة أعوام من عام 1422إلى
عام 1425هـ.
ت على الشيخ ـ حفظه الله ـ فكرة العناية بهذا فعرض ُ
الشرح ،وتهيئته للطباعة؛ لما يرجى من نفع ذلك ،فوافق على
طلبي ،أجزل الله مثوبته.
3
فاستعنت بالله على ذلك ،وسار العمل في الخراج على
ما يلي :
-1كتابة ما في الشرطة من الشرح ،ولم أدخل السئلة.
-2صححت المكتوب وهيئته ونسقته ليناسب الطباعة.
-3أثبت نصوص الحاديث والثار والنقول على ما جاءت في
مصادرها.
-4عزوت اليات إلى مواضعها من كتاب الله ،وخرجت
الحاديث ،والثار،
والطريقة في التخريج ما يلي:
)أ( إذا كان الحديث في الصحيحين ،أو أحدهما اقتصرت في
العزو عليه.
)ب( إذا كان الحديث في غير الصحيحين خرجته من أشهر
وأهم المصادر من غير استيعاب ،ونقلت ما تيسر من كلم أهل
العلم عليه تصحيحا ،أو تضعيفا باختصار ،إذ ليس هذا موضع
استقصاء ،وقد أحيل للكتب المتخصصة في التخريج لمن أراد
التوسع والزيادة في المواضع التي تحتاج لذلك.
-5وثقت النقول ،وأحلت في مواضع كثيرة من الشرح إلى
كتب الئمة خصوصا شيخ السلم ابن تيمية زيادة في التوثيق،
والفائدة لمن أرد التوسع.
-6اعتمدت في متن العقيدة الطحاوية على طبعة الرئاسة
العامة لدارات البحوث العلمية والفتاء والدعوة والرشاد عام
1404هـ مع مراجعة المتن الذي مع شرح ابن أبي العز ،وبعض
المخطوطات عند الحاجة ،والفرق الذي ل يترتب عليه اختلف
في المعنى لن أنبه عليه حفظا لوقت القارئ ،وقد ميزت المتن
بتعريض الخط ووضعه بين أقواس صغيرة كهذه »«.
-7وضعت عناوين في بداية المقاطع المشروحة من المتن
في إطار للتوضيح.
-8قرأت الشرح كامل على الشيخ ـ حفظه الله ـ فأضاف،
دل ،وغّير ما رآه مناسبا.وحذف ،وع ّ
-9وضعت بين يدي الكتاب ترجمة مختصرة للمام
الطحاوي وأخرى للشيخ البراك.
-10وضعت فهرسا للحاديث ،وقائمة بالمراجع التي عزوت
لها ،وفهرسا شامل لمسائل الكتاب ،وفهرسا إجماليا لموضوعات
الكتاب.
هذا وأسأل الله أن يجزي الشيخ عبد الرحمن البراك خير
الجزاء ،وأن يمد في عمره على طاعته ،وأن ينفع به المسلمين،
إنه تعالى جواد كريم.
4
كتبه
عبد الرحمن بن صالح بن عبد الله السديس
الرياض/
assdais@gmail.com
5
رحل إلى الشام سنة 268هـ ،ولقي القاضي أبا خازم عبد
الحميد بن عبد العزيز ،وتفقه عليه ،وتنقل بين مدن الشام وسمع
من جماعة من المحدثين.
مذهبه الفقهي:
كان الطحاوي في أول أمره شافعيا ،ثم تحول إلى مذهب
أبي حنيفة ،وسببه:
أنه كان يقرأ على خاله المزني الفقيه الشافعي ،فمرت
مسألة دقيقة فلم يفهمها أبو جعفر ،فبالغ المزني في تقريبها،
فلم يتفق ذلك ،فغضب المزني ،فقال :والله ل جاء منك شيء،
فغضب أبو جعفر من ذلك ،وانتقل إلى مجلس القاضي الحنفي
ابن أبي عمران.
وقال الخليلي :سمعت عبد الله بن محمد الحافظ يقول:
سمعت أحمد بن محمد الشروطي يقول :قلت للطحاوي :لم
خالفت خالك واخترت مذهب أبي حنيفة ؟ قال :لني كنت أرى
خالي يديم النظر في كتب أبي حنيفة ،فلذلك انتقلت إليه .
وقال أبو سليمان بن َزْبر :قال لي الطحاوي :أول من كتبت
عنه الحديث :المزني ،وأخذت بقول الشافعي ،فلما كان بعد
سنين ،قدم أحمد بن أبي عمران قاضيا على مصر ،فصحبته،
وأخذت بقوله.
مؤلفاته:
له مؤلفات كثيرة منها» :شرح مشكل الثار« ،و » معاني
الثار «و»اختلف العلماء « و » الشروط « ،و »المختصر« و
»أحكام القرآن « و»الوصايا« و »شرح الجامع الكبير« »شرح
الجامع الصغير« و »الفرائض« وغيرها.
تلميذه:
يوسف بن القاسم الميانجي ،وأبو القاسم الطبراني ،وأبو
بكر بن المقرئ ،وأحمد بن عبد الوارث الزجاج ،وعبد العزيز بن
محمد الجوهري قاضي الصعيد ،ومحمد بن المظفر الحافظ،
وخلق سواهم من الرحالين في الحديث.
ثناء العلماء عليه :
قال ابن يونس :كان ثقة ثبتا فقيها عاقل ،لم يخلف مثله.
قال مسلمة بن قاسم :كان ثقة جليل القدر ،فقيه البدن،
عالما باختلف العلماء ،بصيرا بالتصنيف ،وكان يذهب مذهب أبي
حنيفة ،وكان شديد العصبية فيه.
قال الخليلي في الرشاد :للطحاوي كتب مصنفات في
الحديث ،وكان عالما بالحديث.
6
وقال ابن عبد البر :كان من أعلم الناس بسير القوم ـ أي:
أبي حنفيو أصحابه ـ وأخبارهم؛ لنه كان كوفي المذهب ،وكان
عالما بجميع مذاهب الفقهاء.
وقال السمعاني :وكان ثقة ثبتا فقيها عالما لم يخلف مثله.
وقال الذهبي :المام العلمة الحافظ الكبير ،محدث الديار
المصرية وفقيهها ،وقال :من نظر في تواليف هذا المام علم
محله من العلم ،وسعة معارفه.
وقال ابن كثير :الفقيه الحنفي صاحب المصنفات المفيدة
والفوائد ،وهو أحد الثقات الثبات ،والحفاظ الجهابذة.
وفاته:
توفي بمصر ليلة الخميس مستهل ذي القعدة سنة 321هـ.
مصادر الترجمة:
الرشاد في معرفة علماء الحديث ص ،110وجامع بيان
العلم ،2/78والنساب 4/73و ، ،9/53وتاريخ دمشق ،5/369
ووفيات العيان ،1/71وسير أعلم النبلء ،15/27والبداية
والنهاية ،15/72والجواهر المضية ،1/271ولسان الميزان
.1/415
7
عبد الرحمن بن ناصر بن براك بن إبراهيم البراك ،ينحدر
نسبه من بطن العرينات من قبيلة سبيع .
ميلده ونشأته :
ولد الشيخ في بلدة البكيرية من منطقة القصيم في شهر
ذي القعدة سنة 1352هـ .
وتوفي والده وعمره سنة ،فنشأ في طفولته في بيت أخواله
مع أمه ،فتربى خير تربية .
ولما بلغ الخامسة من عمره سافر مع أمه إلى مكة ،وكان
في كفالة زوج أمه محمد بن حمود البراك .
وفي مكة التحلق الشيخ بالمدرسة الرحمانية ،وهو في السنة
الثانية البتدائية قدر الله أن يصاب بمرض في عينيه تسبب في
ذهاب بصره ،وهو في العاشرة من عمره.
طلبه للعلم ومشايخه:
عاد من مكة إلى البكيرية مع أسرته ،فحفظ القرآن
وعمره عشر سنين تقريبا على عمه عبد الله بن منصور البراك،
ثم قرأ على مقرئ البلد عبد الرحمن بن سالم الكريديس رحمهم
الله.
وفي حدود عام 1364و 1365هـ بدأ الشيخ حضور الدروس
والقراءة على العلماء ،فقرأ على الشيخ عبد العزيز بن عبد الله
السبيل جملة من كتاب »التوحيد« ،و»الجرومية« ،وقرأ على
الشيخ محمد بن مقبل »الثلثة الصول« .
ثم سافر إلى مكة مرة أخرى في عام 1366هـ تقريبا،
ومكث بها ثلث سنين ،فقرأ في مكة على الشيخ عبد الله بن
محمد الخليفي إمام المسجد الحرام في »الجرومية« ،وهناك
التقى بعالم فاضل من كبار تلميذ العلمة محمد بن إبراهيم،
وهو :الشيخ صالح بن حسين العلي العراقي ـ رحمه الله ـ ،وكان
من أصدقاء المام عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ فجالسه
واستفاد منه ،ولما ع ُّين الشيخ صالح بن حسين العلي العراقي
مديرا للمدرسة العزيزة في بلدة الدلم أحب الشيخ صالح أن
يرافقه الشيخ عبد الرحمن حفاوة به ،فصحبه لطلب العلم على
الشيخ ابن باز حين كان قاضيا في بلدة الدلم ،فرحل معه في
ربيع الول من عام 1369هـ ،والتحق بالمدرسة العزيزة بالصف
الرابع ،وكان من أهم ما استفاده في تلك السنة اللمام بقواعد
التجويد الساسية.
وفي نفس السنة سافر مع جمع من الطلب مع الشيخ ابن
باز إلى الحج ،وبعد عودته ترك الدراسة في المدرسة العزيزة،
وآثر حفظ المتون مع طلب الشيخ عبد العزيز بن باز ،ولزم
8
دروس الشيخ ابن باز المتنوعة ،فقد كان ُيقرأ عليه في :كتاب
»التوحيد« ،و»الصول الثلثة« ،و»عمدة الحكام« ،و»بلوغ
المرام« ،و»مسند أحمد« ،و»تفسير ابن كثير« ،و»الرحبية«،
و»الجرومية«.
ومكث في الدلم في رعاية الشيخ صالح العراقي ،فقد كان
مقيما في بيته ،ودرس عليه علم العروض.
فظ في بلدة الدلم كتاب »التوحيد« ،و»الصول الثلثة«، ح ِ
و َ
و»الجرومية« ،و»قطر الندى« ،و»نظم الرحبية« ،وقدرا من
»ألفية ابن مالك« ،ومن »ألفية العراقي« في علوم الحديث.
وبقي في الدلم إلى أواخر سنة ،1370وكانت إقامته في
الدلم لها أثر كبير في حياته العلمية.
ثم لما فتح المعهد العلمي في الرياض في عام 1370هـ
انتقل إليه كثير من طلب المشايخ ،ومنهم طلب الشيخ عبد
العزيز ابن باز ،فاضطر الشيخ للتسجيل فيه ،وبدأت دراسة أول
دفعة فيه في محرم 1371هـ ،وكانت الدراسة في المعهد تتكون
من مرحلتين :تمهيدي للمبتدئين الصغار ،وثانوي لمن بعدهم،
والتحق به كثير من طلب العلم في وقتها ،وكانت الدراسة
الثانوية أربع سنوات فتخرج عام 1374هـ ،والتحق بكلية
الشريعة ،وتخرج فيها سنة 1378هـ .
وتتلمذ في المعهد والكلية على مشايخ كثيرين من أبرزهم:
العلمة عبد العزيز ابن باز ،والعلمة محمد المين الشنقيطي
ـ رحمه الله ـ ،ودّرسهم في المعهد في التفسير ،وأصول الفقه،
والعلمة عبد الرزاق عفيفي ـ رحمه الله ـ ودّرسهم في التوحيد،
والنحو ،وأصول الفقه ،والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة ،والشيخ
عبد العزيز بن ناصر الرشيد ،والشيخ عبد الرحمن الفريقي،
والشيخ عبد اللطيف سرحان درس عليه النحو ،وآخرين رحمهم
الله جميعا.
وكان في تلك المدة يحضر بعض دروس العلمة محمد بن
إبراهيم آل الشيخ في المسجد.
و أكبر مشايخه عنده ،وأعظمهم أثًرا في نفسه المام
العلمة عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ فقد أفاد منه أكثر من
خمسين عاما بدءا من عام 1369هـ إلى وفاته في عام 1420هـ،
ثم شيخه العراقي الذي استفاد منه حب الدليل ،ونبذ التقليد،
والتدقيق في علوم اللغة ،كالنحو ،والصرف ،والعروض.
العمال التي تولها :
عّين الشيخ مدرسا في »المعهد العلمي« في مدينة الرياض
عام 1379هـ وبقي فيه ثلثة أعوام ،ثم ُنقل إلى »كلية الشريعة«
9
بالرياض ،وتولى تدريس العلوم الشرعية ،ولما افتتحت كلية
صّنف الشيخ في أعضاء هيئة التدريس أصول الدين عام 1396هـ ُ
في قسم »العقيدة والمذاهب المعاصرة« ،ونقل إليها ،وتولى
كليتين إلى أن تقاعد في عام 1420هـ ،وأشرف التدريس في ال ُ
خللها على عشرات الرسائل العلمية .
وبعد التقاعد رغبت الكلية التعاقد معه؛ فعمل مدة ثم تركه،
كما طلب منه سماحة الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ أن يتولى
العمل في الفتاء مرارا فتمّنع ،فرضي منه الشيخ ابن باز أن ينيبه
على الفتاء في دار الفتاء في الرياض في فصل الصيف حين
ينتقل المفتون إلى مدينة الطائف ،فأجاب الشيخ حياًء ،إذ تولى
العمل في فترتين ثم تركه.
وبعد وفاة الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ طلب منه سماحة
المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ أن يكون عضوا في الفتاء،
َ
ح عليه في ذلك فامتنع ،وآثر النقطاع للتدريس في المساجد. وأل َ ّ
جهوده في نشر للعلم:
جلس الشيخ للتعليم في مسجده الذي يتولى إمامته ـ
مسجد الخليفي بحي الفاروق ـ ،ومعظم دروسه فيه ،وقرئ عليه
عشرات الكتب في شتى الفنون؛ كالفقه وأصوله ،والتفسير
وأصوله ،والحديث ،والعقيدة ،والنحو ،وغيرها ،كما أنه له دروسا
في بيته مع بعض خاصة طلبه ،وله دروس منتظمة في مساجد
أخرى في مدينة الرياض ،وله مشاركات متكررة في الدورات
العلمية المكثفة التي تقام في الصيف ،إضافة للقائه كثيرا من
المحاضرات والكلمات الدعوية ،وإجابته على السئلة المعروضة
عليه من عدد من أشهر المواقع السلمية في الشبكة العالمية.
طلبه :
تصدى الشيخ لنشر قبل نصف قرن تقريبا ،وتتلمذ عليه أمم
من طلب العلم يتعذر على العاد حصرهم ،وكثير من أساتذة
جامعاتنا الشرعية ،والدعاة المعروفين ،قد تتلمذوا عليه.
وبعد أن يسر الله جملة من الوسائل الحديثة ،كالشبكة
العالمية تمكن كثير من طلب العلم في خارج البلد من متابعة
دروس الشيخ على الهواء مباشرة ،عن طريق موقع البث
السلميwww.liveislam.net :
احتسابه :
للشيخ جهود كبيرة في المر بالمعروف والنهي عن المنكر،
ومناصحة المسؤلين ،والكتابة لهم ،والصلح بين الناس ،والتحذير
من البدع ،وسائر النحرافات والمخالفات ،وله في ذلك فتاوى
10
كثيرة ،وله مشاركة مع بعض المشايخ في عدد من البيانات
والنصائح الموجهة لعموم المسلمين.
اهتمامه بأمور المسلمين:
للشيخ ـ حفظه الله ـ اهتمام بالغ بأمور المسلمين في جميع
أنحاء العالم ،فيتابع لخبارهم ،ويحزن ويتألم لما يحدث لهم من
نكبات ،وفي أوقات الزمات يبادر بالدعاء لهم ،والدعاء على
أعدائهم ،ويبذل النصح والتوجيه لهم ،وللمسلمين فيما يجب
نحوهم.
إنتاجه العلمي :
الشيخ انصرف عن التأليف مع توفر آلته ،وبذل معظم وقته
في تعليم العلم ،والجابة على السئلة ،وقد ُقرئت عليه عشرات
الكتب في مختلف الفنون ،وقد سجل بعضها ،وما لم يسجل
أكثر ،ول زالت دروسه عامرة كما كانت.
وقد صدر للشيخ من المطبوعات» :شرح الرسالة
التدمرية« ،و»جواب في اليمان ونواقضه« ،و»موقف المسلم
من الخلف« ،و»التعليقات على المخالفات العقدية في فتح
الباري« ،و»توضيح مقاصد الواسطية«.
وفي حياة الشيخ جوانب كثيرة مشرقة أعلم أنه يكره ذكرها،
أسأل الله أن يبارك في عمره ،و يمد فيه على الطاعة ،وينفع
المسلمين بعلمه ،إنه سميع قريب.
]المقدمة[
الحمد لله رب العالمين ،وصلى الله وسلم وبارك على عبده
ورسوله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .أما بعد:
فالعقيدة المعروفة بـ » الطحاوية « ـ نسبة إلى مؤلفها
المام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله ـ من المؤلفات المختصرة
في عقيدة أهل السنة والجماعة ،وأهل العلم درجوا على التأليف
11
في أصناف علوم الشريعة على مناهج متنوعة؛ فمنهم من ينهج
نهج البسط والتفصيل والتدليل ،ومنهم من ينهج طريق الختصار،
ولكل منهما خصائصه ومزاياه.
والمختصرات تتميز بأنها ميسورة الحفظ ،ويمكن اللمام بها
ل المسائل على سبيل الختصار ج ّم الطالب ب ِ ُبوقت قصير ،فَي ُل ّ ُ
في وقت وجيز ،فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يمدنا وإياك
بالتوفيق والفتح منه سبحانه وتعالى ،وأن يعلمنا ما ينفعنا ،وأن
يهدينا سواء السبيل.
)قال العلمة حجة السلم أبو جعفر الوراق الطحاوي ـ
بمصرـ رحمه الله:
هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء
الملة :أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ،وأبي يوسف يعقوب
بن إبراهيم النصاري ،وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني
رضوان الله عليهم أجمعين ،وما يعتقدون من أصول الدين
وَيدينون به رب العالمين(.
َ
هذه مقدمة مختصرة تناسب المضمون والمؤلف المختصر.
قوله » :هذا ذكر عقيدة أهل السنة والجماعة « أي :ذكر ما
يعتقده أهل السنة والجماعة ،وأكثر ما يعبر أهل العلم بالعتقاد،
والمراد بالعقيدة والعتقاد :نفس عقد القلب ،وجزمه ويقينه.
قد المعلوم ،فتقول وتارة يطلق العتقاد على نفس الشيِء المعت َ
في الول :إن فلنا اعتقاده قوي ،واعتقاده سليم ،واعتقاده
جازم.
ويقال في الثاني :ـ مثل ـ اعتقاد أهل السنة والجماعة :هو
اليمان بالله وملئكته ...كما قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه
الله في العقيدة الواسطية » :فهذا اعتقاد الفرقة الناجية
المنصورة إلى قيام الساعة ـ أهل السنة والجماعة ـ :اليمان
بالله وملئكته وكتبه ورسله ] « ...الواسطية ص . [21ففسر
العتقاد باليمان بالله وملئكته وكتبه ورسله ...إلخ.
قد،
وكذلك العقيدة فعيلة بمعنى مفعولة أي :الشيء المعت َ
فتقول هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة ،يقول المام الطحاوي:
» على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي،
وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم النصاري ،وأبي عبد الله محمد
بن الحسن الشيباني « لو قال :على مذهب فقهاء الملة منهم:
أبو حنيفة ،وأبو يوسف ،ومحمد بن الحسن كان أولى؛ لن هؤلء
الئمة لشك أنهم من فقهاء المة ،لكن ليست المامة والفقه
ظر إلى كونه ينتمي إلى أبي حنيفة ،وقد محصورة فيهم ،ولكنه ن َ
ذكر في ترجمته أنه كان شافعيا ،ثم تمذهب على مذهب أبي ُ
12
حنيفة وتفقه على فقه أبي حنيفة ،وهو فقيه محدث ،كما يدل
على ذلك كتاباه» :معاني الثار« ،و»شرح مشكل الثار« ،فرحمه
الله ،ورحم أئمة الدين ،وجزاهم الله عن السلم والمسلمين
خيرا.
يقول » :وما يعتقدون في أصول الدين ،ويدينون به رب
العالمين « هذا هو المقصود :بيان ما يعتقدونه في أصول الدين،
ويدينون به لرب العالمين ،وغلب على تعبير كثير من أهل العلم
إطلق أصول الدين على مسائل العتقاد ،والواقع أن أصول
الدين ل تختص بأمور العتقاد ،بل أصول الدين منها :اعتقادية
كأصول اليمان الستة ،وهي :اليمان بالله ،وملئكته ،وكتبه،
ورسله ،واليوم الخر ،والقدر هذه من أصول الدين العتقادية
العلمية.
ومنها :عملية كأصول السلم الخمسة ،وهي :شهادة أن ل إله إل
الله وأن محمدا رسول الله ،وإقام الصلة وإيتاء الزكاة ،وصوم
رمضان ،والحج ،وهذه أوصل الدين العملية؛ لن مسائل الدين
نوعان :مسائل علمية ،ومسائل عملية ،فكل من القسمين له
ذا؛ ل يختص اسم أصول الدين في مسائل أصول وله فروع ،إ ً
العتقاد ،ول يختص اسم الفروع بالمسائل العملية ،كما حرر ذلك
شيخ السلم ابن تيمية ] منهاج السنة ، 5/87ومجموع الفتاوى
6/56و ، [19/207وأنكر على من يجعل جميع مسائل العتقاد
من أصول الدين ،بل الدين له أصول وله فروع علمية وعملية،
اعتقادية وعبادات عملية.
]قول أهل السنة في التوحيد[
يقول رحمه الله) :نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق
الله :إن الله واحد ل شريك له ،ول شيء مثله ،ول شيء ُيعجزه،
ول إله غيره(.
يقول رحمه الله » :نقول « هذا شروع في بيان ما قصد إليه
» نقول « نحن أهل السنة ،هو يعبر عن نفسه ،وعمن ذكر من
الئمة وغيرهم من أئمة الدين » نقول « بألسنتنا » معتقدين «
بقلوبنا ،فجمع بين القرار باللسان ،والعتقاد بالجنان » نقول في
توحيد الله « يعني نقول في موضوع التوحيد ،و الصل في معنى
التوحيد جعل الشيء واحدا ،واعتقاده واحدا ،والمراد بتوحيد الله
يعني في شأن وحدانيته تعالى واعتقاد تفرده فهو تعالى واحد،
والتوحيد :هو اليمان بأنه واحد في ربوبيته وإلهيته وأسمائه
وصفاته ،وتخصيصه وإفراده بالعبادة ،هذا هو توحيد الله.
فالتوحيد صفة العبد وفعله.
13
أما الوحدانية فصفة الرب تعالى كما يدل على ذلك اسمه
الواحد والحد فهو واحد في كل شؤونه سبحانه وتعالى.
والله تعالى يوحد نفسه بمعنى أنه يثني على نفسه بذلك،
ه إ ِلّ شهد الل َ
ه ل إ ِل َ َ ه أن ّ ُُ وُيعّلم عباده بأنه واحد ،كما قال تعالىَ ِ َ ) :
ة (]آل عمران [18:فهذه شهادة منه تعالى لنفسه ملئ ِك َ ُ هُوَ َوال ْ َ
بالوحدانية تتضمن علمه بأنه واحد ،وذكره لنفسه بتفرده باللهية،
وأمره عباده بذلك ،وقد ذكر ابن أبي العز ـ رحمه الله ـ في
الشرح كلما مستفيضا على هذه الية ،وهو منقول من مدارج
السالكين لبن القيم؛ فليرجع إليه].شرح الطحاوية ص ،44
ومدارج السالكين [3/418
يقول » :نقول في توحيد الله معتقدين « هذا فيه تنبيه على
أنه ل بد من الجمع بين اعتقاد القلب وإقرار اللسان ،فل يكفي
أحدهما دون الخر ،ل بد في التوحيد من اعتقاد القلب وهو :العلم
والتصديق الجازم بأنه تعالى واحد ،وإقرار اللسان بذلك.
ثم يقول » :بتوفيق الله « هذه لها دللة عظيمة ،وهي :أن
إيماننا وقولنا واعتقادنا إنما يتحقق لنا بتوفيقه سبحانه وتعالى
وهدايته ،فنحن نقول ونعتقد ما نعتقده بتوفيقه سبحانه ،وهذا
يتضمن اليمان بالشرع والقدر جميعا.
) إن الله واحد ل شريك له ( هذا هو ما نقوله وما نعتقده في
وحدانيته الله تعالى ) :إن الله واحد ل شريك له( واحد اسم من
و
أسمائه جاء في القرآن في مواضع مقرونا باسمه القهار ) وَهُ َ
َ ََ
خي ٌْر أم ِ الل ّ ُ
ه ن َفّرُقو َ مت َ َ
ب ُ قّهاُر ( ]الرعد )) ،[16:أأْرَبا ٌ حد ُ ا ل ْ َ وا ِال ْ َ
قّهاُر ((]يوسف ،[39:فهو الواحد قال تعالى )) :وَإ ِل َهُك ُ ْ
م حد ُ ا ل ْ َ وا ِال ْ َ
نم ْ ما ِ م ((]البقرة )) [163:وَ َ حي ُن الّر ِ م ُح َ ه إ ِّل هُوَ الّر ْ
حد ٌ ل إ ِل َ َ ه َوا ِ إ ِل َ ٌ
حد ٌ ((]المائدة.[73: ه َوا ِ إ ِل َهٍ إ ِّل إ ِل َ ٌ
) إن الله واحد( هو واحد ،والوحدة تنافي الشريك ،ولهذا
بأكدها بقوله) :ل شريك له( ،فهو متفرد عن الشركاء ،فهو الر ُ
ل شيء ،فهو واحد في ربوبيته في بك ِ ب غيره ،فهو ر ُ ول ر َ
أفعاله ،فل خالق ول رازق ول مدبر لهذا الوجود سواه ،وهو واحد
في إلهيته فل إله غيره ،ول شريك له ،ول معبود بحق سواه ،وهو
واحد في أسمائه وصفاته ،فل شبيه له في شيء من صفاته
وأفعاله.
) إن الله واحد ل شريك له ( إذًا؛ هذه الجملة ضمنها المؤلف
أصل الدين ،وهو التوحيد ،فالتوحيد بكل معانيه هو أصل دين
الرسل من أولهم إلى آخرهم ،خصوصا توحيد العبادة.
وقد أخبر سبحانه وتعالى عن الرسل إجمال وتفصيل بذلك
َ َ
حي إ ِل َي ْهِ أن ّ ُ
ه ل إ ِّل ُنو ِسو ٍن َر ُ م ْ ك ِ ن قَب ْل ِ َم ْسل َْنا ِ
ما أْر َ
قال تعالى )) :وَ َ
14
ن ((]النبياء [25:وقال تعالى )) :وَل َ َ َ
قد ْ ب َعَث َْنا دو ِ ه إ ِّل أَنا َفاع ْب ُ ُ ل إ ِل َ َ
جت َن ُِبوا ال ّ َ في ك ُ ّ ُ
ت ((]النحل: غو َ طا ُ ه َوا ْ دوا الل ّ َ ن اع ْب ُ ُ سول ً أ ِ مةٍ َر ُ لأ ّ ِ
،[36وأخبر عن أنبيائه :نوح وهود وصالح وشعيب أنهم قالوا
ن إ ِل َهٍ غ َي ُْره ُ (( ]المؤمنون : م ْ م ِ ما ل َك ُ ْ ه َ دوا الل ّ َ لقوامهم )) :اع ْب ُ ُ
23والعراف65 :و 73و [85
فالتوحيد هو أصل دين الرسل ،وهو أول واجب على
المكلفين ،كما قال ) : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن
ل إله إل الله وأن محمدا رسول الله( ]رواه البخاري )،(25
ومسلم ) (22من حديث ابن عمر رضي الله عنهما [ .مع شهادة
أن محمدا رسول الله؛ لن الشهادتين متلزمتان ل تصح إحداهما
إل بالخرى ،فلبد منهما جميعا ،ولهذا قال النبي ) :بني
السلم على خمس :شهادة أن ل إله إل الله وأن محمدا رسول
الله( ]رواه البخاري ) ،(8ومسلم ) (16من حديث ابن عمر رضي
الله عنهما [.فَعَد ّ هذه الشهادة واحدا من المباني الخمسة.
فالكافر الصلي أو النصراني أو اليهودي أو المشرك إنما
يدخل في السلم بإقراره بالشهادتين :شهادة أن ل إله إل الله،
وأن محمدا رسول الله ،مع التزامه بالشرائع الخرى كما قال
َ
م (( سِبيل َهُ ْ خّلوا َ كاة َ فَ َ وا الّز َ صلة َ َوآت َ ُ موا ال ّ ن َتاُبوا وَأَقا ُ تعالى )) :فَإ ِ ْ
َ
م ِفي وان ُك ُ ْ خ َ كاة َ فَإ ِ ْوا الّز َ صلة َ َوآت َ ُ موا ال ّ ن َتاُبوا وَأَقا ُ ]التوبة )) ،[5:فَإ ِ ْ
ن ((]التوبة [11:وقال بعض أهل الكلم ]درء تعارض العقل دي ِ ال ّ
7/352و 405و ،8/3ومدارج السالكين : [3/412إن أول واجب
هو النظر ،ويريدون بالنظر التفكر في الدلة الكونية مثل ،فقالوا:
إن أول واجب هو النظر ،وبعضهم تنطع وقال :بل أول واجب
القصد إلى النظر ،وأقبح من هذا وذاك من قال منهم :إن أول
واجب هو الشك! يعني أول واجب أن يشك النسان في الحقائق،
فيشك في وجود الله وفي إلهيته ،ثم بعد ذلك ينظر في الدلة!
ن جعلوا الكفر هو أول واجب؛ لن الشك بالله بئس ما قالوا أ ْ
كفر.
وهذه القوال ظاهرة الفساد والبطلن.
والنظر مشروع لكن ل يقال :إنه أول واجب ،والنظر قد
ندب الله إليه العباد ،فمن كان عنده توقف أو شك مثل حال
الكفار فعليه أن ينظر ويتأمل في الدلة ،وينظر في اليات ويتفكر
َْ َ
ن
م ْه ِ خل َقَ الل ّ ُ ما َ ض وَ َ ت َوالْر َِ ماَوا ِ س َ ت ال ّ كو ِ مل َ ُ م ي َن ْظ ُُروا ِفي َ )) أوَل َ ْ
َ
م ((]الروم: سهِ ْ ف ِ فك ُّروا ِفي أن ْ ُ م ي َت َ َ يٍء ((]العراف )) ،[185:أوَل َ ْ ش ْ َ
.[8
والنظر من السباب التي َيقوى بها إيمان المؤمن ،ولهذا
أثنى الله على أولياءه أولي اللباب أثنى عليهم بالتفكر
15
ما َْ ن ِفي َ ْ فك ُّرو َ
ض َرب َّنا َ ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ ق ال ّ خل ِ بالمخلوقات )) وَي َت َ َ
ب الّنارِ ((]آل عمران [191:و ذا َ قَنا ع َ َ ك فَ ِ حان َ َ سب ْ َ ذا َباط ِل ً ُ ت هَ َ ق َ خل َ َْ
كان النبي إذا قام من الليل يرفع بصره إلى السماء ،ويقرأ
هذه اليات ويتفكر ]رواه البخاري ) ،(4569ومسلم ) (763من
حديث ابن عباس رضي الله عنهما[ ،فالتفكر في اليات الكونية،
والتدبر لليات الشرعية القرآنية هما من روافد اليمان ،ومما
يسقي شجرة اليمان ،فاليمان يزيد بالتفكر في مخلوقات الله.
المقصود :أن النظر مشروع ،لكن ل يقال :إنه أول واجب،
بل أول واجب هو شهادة أن ل إله إل الله.
يقول المؤلف ) :إن الله واحد ل شريك له ( فالله تعالى نزه
ن (( كو َ شر ُ ما ي ُ ْ ن الل ّهِ ع َ ّ حا َ سب ْ َنفسه عن الشركاء في مواضع )) ُ
شْيئا ً خل ُقُ َ ما ل ي َ ْ ن َ كو َ شرِ ُ ]الطور ،[43:وفي الية الخرى )) أ َي ُ ْ
لن ((]العراف ، [191:وقال سبحانه وتعالى )) :وَقُ ِ قو َ خل َ ُ
م يُ ْ وَهُ ْ
ك (( مل ْ ِ ك ِفي ال ْ ُ ري ٌ ش ِه َ ن لَ ُ م ي َك ُ ْ خذ ْ وََلدا ً وَل َ ْ م ي َت ّ ِ ذي ل َ ْ مد ُ ل ِل ّهِ ال ّ ِ ح ْ ال ْ َ
]السراء ،[111:أي ل شريك له في ملكه ول شريك له في
ن
م ْ م ِ مت ُ ْ ن َزع َ ْ ذي َ عوا ال ّ ِ ل اد ْ ُ تدبيره ،ول شريك له في إلهيته )) ،قُ ِ
َ ْ
ما
ض وَ َ ت َول ِفي الْر ِ ماَوا ِ س َ ل ذ َّرةٍ ِفي ال ّ قا َ مث ْ َ ن ِ كو َ مل ِ ُن الل ّهِ ل ي َ ْ دو ِ ُ
ةفاع َ ُ ش َ فعُ ال ّ ن ظ َِهيرٍ * َول ت َن ْ َ م ْ م ِ من ْهُ ْه ِ ما ل َ ُ ك وَ َ شْر ٍ ن ِ م ْ ما ِ م ِفيهِ َ ل َهُ ْ
َ
ه ((]سـبأ [23-22:هذه الية قد قيل فيها» : ن لَ ُ ن أذ ِ َ م ْ عن ْد َه ُ إ ِّل ل ِ َ ِ
إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب «]كتاب التوحيد
للمام محمد بن عبد الوهاب ص ،[33فليس لشرك المشركين
أي شبهة يمكنهم التعويل عليها فكلها باطلة ،فشركاؤهم ل
يملكون مثقال ذرة ،وليس لهم شرك في ذرة من السماوات
والرض ،وليس أحد منهم معينا لله ،ول أحد منهم يملك أن يشفع
عند الله إل بإذنه.
الملئكة ل أحد منهم يشفع عند الله إل بإذنه كما قال سبحانه
شْيئا ً م َ فاع َت ُهُ ْ ش َ ت ل ت ُغِْني َ ماَوا ِ س َك ِفي ال ّ مل َ ٍ ن َ م ْ م ِ وتعالى )) :وَك َ ْ
ْ َ
ضى((]النجم.[26: شاُء وَي َْر َ ن يَ َ م ْه لِ َ ن الل ّ ُ ن ي َأذ َ َ ن ب َعْد ِ أ ْ م ْ إ ِّل ِ
]أقسام التوحيد[
في هذا المقام يحسن ذكر أقسام التوحيد ،فأهل السنة
والجماعة يقسمون التوحيد ثلثة أقسام ]انظر :كتاب المختصر
المفيد في بيان دلئل أقسام التوحيد[ ،ومنهم من يجعل التوحيد
قسمين وهما طريقتان متفقتان ل منافاة بينهما ،فمنهم من
يقول :إن التوحيد ثلثة :توحيد الربوبية ،توحيد العبادة ،وتوحيد
السماء والصفات.
ما معنى توحيد الربوبية؟
16
معناه :توحيد الله في شؤون الربوبية؛ كالخلق والرزق
والتدبير والحياء والماتة ،ولهذا يعبر عنه بتوحيد الرب بأفعاله،
وذلك بالقرار بأنه ل شريك له في أفعاله.
وتوحيد اللهية :هو إفراد الله بالعبادة ،هو القرار بأنه ل
معبود بحق سواه ،فهو الله الحق الذي ل يستحق العبادة سواه،
وتحقيق ذلك بالفعل وهو :تخصيصه تعالى بالعبادة.
وتوحيد السماء والصفات هو القرار بتفرده سبحانه وتعالى
بما له من السماء والصفات ،بأنه متفرد ل شبيه له في ذاته ول
في صفاته ول في أفعاله .
أما من يجعل التوحيد قسمين ـ والعبارات تختلف لكن
المؤدى واحد ]مدارج السالكين ،3/417واجتماع الجيوش
السلمية ص [93ـ يقول :توحيد في المعرفة والثبات ،وبعبارة
أخرى :توحيد في العلم والقول ،أو :التوحيد العلمي الخبري ،هذه
كلها عبارات عن شيء واحد ،هو التوحيد العتقادي ،توحيد علمي
اعتقادي معرفي ،وهذا القسم يشمل :توحيد الربوبية وتوحيد
السماء والصفات ،فاندرج قسمان من الثلثة في هذا القسم،
في التوحيد العلمي الخبري ،أو في توحيد المعرفة والثبات؛ لن
توحيد الربوبية وتوحيد السماء والصفات كل منهما توحيد يتعلق
بالعلم ،فهو اعتقادي علمي فقط ،والنصوص الدالة عليهما كلها
نصوص خبرية ،يعني من نوع الخبر؛ لن الكلم قسمان :خبر
وإنشاء.
القسم الثاني على الطريقة الثانية :توحيد اللهية ،أو توحيد
العبادة ،أو توحيد الرادة والقصد والعمل ،أو التوحيد الطلبي؛ لن
ل هُو الل ّ َ
حد ٌ * الل ّ ُ
ه هأ َ ُ نصوصه طلبيه ،انظر سورة الخلص }قُ ْ َ
َ
د{ ]سورة ح ٌ
وا أ َ ف ًه كُ ُ كن ل ّ ُم يَ ُ م ُيول َد ْ * وَل َ ْ
م ي َل ِد ْ وَل َ ْ
مد ُ * ل َ ْ
ص َ
ال ّ
الخلص [4-1:جمل خبرية ،كل نصوص السماء والصفات تجدها
دوا خبرية ،لكن توحيد العبادة اليات الواردة فيها إنشاء )) َواع ْب ُ ُ
شيًئا ((]النساء )) [36:وقَضى رب َ َ
دواك أّل ت َعْب ُ ُ َ ّ َ َ كوا ب ِهِ َ ْ شرِ ُ ه َول ت ُ ْ الل ّ َ
َ َ
ن (( مو َ م ت َعْل َ ُ دا وَأن ْت ُ ْ دا ً جعَُلوا ل ِل ّهِ أن َ إ ِّل إ ِّياه ُ ((]السراءَ )) [23:فل ت َ ْ
خل َ َ َ
م ((]البقرة: قك ُ ْ ذي َ م ال ّ ِ دوا َرب ّك ُ ُس اع ْب ُ ُ ]البقرةَ )) [22:يا أي َّها الّنا ُ
[21فل منافاة بين الطريقتين ،فمن يجعل التوحيد قسمين يدرج
توحيد الربوبية وتوحيد السماء والصفات في التوحيد في المعرفة
والثبات الذي هو التوحيد العلمي الخبري ،فلحظ هذا ول يشكل
عليك تنوع التقسيم.
وهذا التقسيم مستمد من استقراء النصوص ،وبعض أهل
البدع يشنع على أهل السنة ويقول :إن هذا التقسيم مبتدع ،وهذا
تشنيع باطل]انظر :كتاب المختصر المفيد في بيان دلئل أقسام
17
التوحيد[ ،نعم العبارات والتقسيمات هي اصطلح جديد كما
قسم الفقهاء ـ مثلـ أفعال الصلة إلى :أركان وواجبات وسنن،
أخذا من الدلة؛ لن أفعال الصلة ليست على مرتبة واحدة،
وكذلك أفعال الحج :أركان وواجبات وسنن ،أخذا من الدلة،
كذلك في مسائل العتقاد هذه التقسيمات مستمدة من
النصوص.
وقد دلت النصوص على وجوب توحيد الله في ربوبية ،وذلك
باعتقاد أنه رب كل شيء ومليكه ،وأن ما شاء كان ،وما لم يشأ
لم يكن ،هذا حق.
ودلت النصوص على وجوب اعتقاد أنه الله الحق الذي ل
يستحق العبادة سواه كما قال تعالى في خطابه لموسى عليه
ه إ ِّل أ ََنا َفاع ْب ُد ِْني ((]طه ، [14:وقال ه ل إ ِل َ َ
َ
السلم )) :إ ِن ِّني أَنا الل ّ ُ
حد ٌ ((]المائدة ،[73:وقال تعالى: ه َوا ِ ن إ ِل َهٍ إ ِّل إ ِل َ ٌ
م ْ ما ِتعالى )) :وَ َ
حد ٌ ((]البقرة.[163: ه َوا ِ م إ ِل َ ٌ)) وَإ ِل َهُك ُ ْ
و
ل هُ َ وفي باب السماء والصفات قال سبحانه وتعالى)) :قُ ْ
الل ّ َ
و
يٌء وَهُ َ ش ْ مث ْل ِهِ َس كَ ِ حد ٌ ((]الخلص ،[1:وقال تعالى )) :ل َي ْ َ هأ َ ُ
هَ
نل ُ ُ
م ي َك ْ َ
صيُر ((]الشورى ،[11:وقال تعالى )) :وَل ْ ميعُ الب َ ِ س ِ ال ّ
حد ٌ ((]الخلص.[4: َ كُ ُ
وا أ َ ف ً
ذا؛ هذا تقسيم مستمد من الكتاب والسنة ،دال على أنه إ ً
تعالى واحد في هذا كله ،وهل التقسيم له ثمرة؟
نعم؛ بهذا عرفنا أن القرار بتوحيد الربوبية وحده ل يكفي،
فإن المشركين كانوا مقرين بهذا التوحيد قال تعالى )) :وَل َئ ِ ْ
ن
َ
َ
ه ((]لقمان[25: ن الل ّ ُ
قول ُ ّ ض ل َي َ ُ
ت َوالْر َ وا ِ م َ س َ خل َقَ ال ّ ن َ م ْ م َ سأل ْت َهُ ْ َ
ذا؛لكنهم جعلوا مع الله آلهة أخرى ،وعبدوا مع الله آلهة سواه ،إ ً
النحراف الذي عندهم هو في توحيد العبادة ،ولهذا قال أهل
العلم » :إن توحيد العبادة هو الذي وقعت فيه الخصومة بين
الرسل وأممهم« ] كتاب التوحيد للمام محمد بن عبد الوهاب
ص ، [6كما قال المشركون ـ لما قال لهم الرسول » :
ن هَ َ
ذا ة إ ِل ًَها َوا ِ جعَ َ َ
دا إ ِ ّح ً ل الل ِهَ َ قولوا :ل إله إل الله « ـ )) :أ َ
ب ((]ص] .[5:رواه أحمد ،1/227وصححه الترمذي ) جا ٌ يٌء ع ُ َ ش ْ لَ َ
،(3232و ابن حبان ) ،(6686والحاكم 2/432من حديث ابن
عباس رضي الله عنهما[.
وهؤلء المبتدعة الطاعنون على أهل السنة في هذا التقسيم
يقسمون التوحيد تقسيما مبتدعا مشتمل على الباطل ،كما ذكر
شيخ السلم عن كثير من أهل الكلم أنهم يقولون » :إن التوحيد
اسم لثلثة :توحيد الذات ،وتوحيد الصفات ،وتوحيد الفعال،
فيقولون :إن الله تعالى واحد في ذاته ل قسيم له ،وواحد في
18
صفاته ل شبيه له ،وواحد في أفعاله ل شريك له « ]درء تعارض
العقل والنقل ،1/225والرسالة التدمرية ص ، [ 440والكلم
على هذا يطول ،ولكن خلصة القول :إن هذا التقسيم على
طريقتهم قد أدخلوا في التوحيد ما ليس فيه ،فأدخلوا في مسمى
التوحيد نفي الصفات ،وهذا إلحاد ،وأخرجوا عن مسمى التوحيد
توحيد العبادة فل ذكر له عندهم ،وأحسن ما يذكرون هو توحيد
الربوبية ،وهو توحيد الرب بأفعاله ،فيقولون :هو واحد في أفعاله
ل شريك له ،وهو أن خالق العالم واحد ،وهذا حق] .انظر :تقسيم
الطوائف للتوحيد في :التدمرية ص ،440ومجموع الفتاوى
،4/150ومدارج السالكين [3/415
]نفي المثل عن الله تعالى [
وقوله) :ول شيء مثله( نلحظ أن الجمل التالية كأنها تفصيل
للجملة الولى ،فالجملة الولى فيها نوع من الشمول ،لكن
الجمل التي تلتها هي تفصيل لها ،من ذلك قوله) :ول شيء مثله(
هذه الجملة قد دلت على نفي المثل عن الله ،وأنه ل مثيل له
مث ْل ِ ِ
ه من خلقه ،ل شيء يماثله ،ودليل ذلك قوله تعالى )) :ل َي ْ َ
س كَ ِ
يٌء ((]الشورى [11:وهذا نص في نفي مشابهة المخلوق ش ْ َ
ن لَ ُ
ه للخالق ،فل شيء يماثله سبحانه ،وقوله تعالى )) :وَل َ ْ
م ي َك ُ ْ
فوا له ،وقال تعالى: حد ٌ ((]الخلص [4:أي ليس أحد ك ُ ُ َ كُ ُ
وا أ َ ف ً
َ
دا ((]البقرة[22:؛ لنه تعالى ل ند له ول مثل جعَُلوا ل ِل ّهِ أن َ
دا ً )) َفل ت َ ْ
له ،والند والكفو والمثل والسمي ألفاظ متقاربة كلها تفسر
بالنظير والشبيه ونحو ذلك.
)ل شيء مثله( هذا من اعتقاد أنه سبحانه وتعالى واحد ل
شريك له ،فمضمون هذه الجملة في الحقيقة يندرج في الجملة
الولى.
يجب اليمان بأنه تعالى موصوف بصفات الكمال ،وأن إثبات
صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ليست من التشبيه في
شيء خلفا للمعطلة من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم؛ فإنهم
يزعمون أن إثبات الصفات تشبيه ]منهاج السنة ،2/105ومجموع
الفتاوى ،4/150و 5/110و ، [6/33فينفونها بهذه الشبهة،
وبشبهٍ أخرى لكن هذه من أشهر شبههم ،فينفون عن الله ما
وصف به نفسه زاعمين أن إثبات هذه الصفات يستلزم التشبيه،
والله تعالى منزه عن التشبيه ،حقا إنه منزه عن التشبيه ،ولكن
ة إثبات ليس إثبات الصفات من التشبيه في شيء ،وتسمي ُ
الصفات تشبيها هذا من التلبيس والتمويه ،وأصل هذه الشبهة
قولهم :المخلوق يوصف بأنه عليم وأنه سميع وأنه بصير وأنه حي
19
وأنه يرضى ويغضب ويحب ،فلو أثبتنا هذه الصفات لله كان مماثل
للمخلوق.
وقد رد عليهم أهل السنة]الرسالة التدمرية ص ،96ومنهاج
السنة [2/111واحتجوا عليهم بما يفحمهم ،ومن ذلك أن يقال:
يلزمكم أن تقولوا :إن وصفه تعالى بالوجود تشبيه ،فالمخلوق
موجود ،وهذا ظاهر الفساد والبطلن ،فالله تعالى موجود
والمخلوق موجود ،ولكل منهما وجود يخصه ،وليس الموجود
كالموجود.
وإن كان بين الوجودين قدر مشترك ،وهو مطلق الوجود
الذي هو ضد العدم ،ونقول مثل ذلك في سائر ما سمى ووصف
به نفسه سبحانه ،فالله تعالى الحي ،والمخلوق الحي ،قال
ت ((]الفرقان ،[58:وقال مو ُ ذي ل ي َ ُ ي ال ّ ِ ح ّ ل ع ََلى ال ْ َ تعالى )) :وَت َوَك ّ ْ
ي{ ] الروم: ح ّ ن ال ْ َم َ ت ِ ج ال ْ َ
مي ّ َ خرِ ُ ت وَي ُ ْ مي ّ ِ ن ال ْ َ م َ ي ِ ج ال ْ َ
ح ّ خرِ ُ تعالى}ي ُ ْ
[19ولكن ليس الحي كالحي ،فالله تعالى الحي بحياة تخصه
وهي الحياة التامة ،وهي الحياة الواجبة وهي الحياة التي ل
ذي ل ي ال ّ ِ ّ ل ع ََلى ال ْ َ
ح يعتريها نقص ول نوم ول سنة )) وَت َوَك ّ ْ
ْ
ة َول خذ ُه ُ ِ
سن َ ٌ ت ((]الفرقان [58:وقال سبحانه وتعالى )) :ل ت َأ ُ مو ُيَ ُ
م ((]البقرة [255:والمخلوق يوصف بالحياة التي تناسبه وهي ن َوْ ٌ
ن
فُرو َ ف ت َك ْ ُ الحياة المحدثة بعد موت والمتبوعة بالموت )) ،ك َي ْ َ
َ كنت َ
م ((]البقرة[28: حِييك ُ ْم يُ ْم ثُ ّ ميت ُك ُ ْم يُ ِ م ثُ ّ حَياك ُ ْ واًتا فَأ ْ م َ
مأ ْ ِبالل ّهِ وَ ُ ُ ْ
وهي حياة ناقصة ،وهي حياة موهوبة للمخلوق ،فالله هو الذي
يحيي ويميت ،وأما حياة الرب فليست كحياة المخلوق ،بل حياة
لزمة لذاته ،وهي أكمل حياة.
وإن اتفق السمان عند الطلق بمعنى أن كل من السمين
يدل على الحياة التي تقابل الموت ،فليس الحي كالحي ،وقُ ْ
ل
مثل هذا في بقية السماء والصفات.
ذا؛ إثبات السماء والصفات لله ل يقتضي تشبيها ،والقدر إ ً
المشترك بين اسم الخالق واسم المخلوق أو بين صفة الخالق
وصفة المخلوق ليست من التشبيه في شيء ،فإن القدر
المشترك ل يمكن نفيه عن الموجودات ،فكل الموجدات تشترك
في مطلق الوجود ,وكل الحياء تشترك في مطلق الحياة ،وكل
المحسوسات تشترك في مطلق الحس ،كما بين ذلك أهل العلم
وبسطوه.
]نفي العجر عن الله تعالى[
)ول شيء يعجزه( ل شيء يعجز الرب ،هذا فيه نفي العجز
المنافي لكمال القدرة عن الله ، ،وقد صرح الله سبحانه وتعالى
ت َول وا ِ م َ س َ يٍء ِفي ال ّ ش ْ ن َ م ْ جَزه ُ ِ ه ل ِي ُعْ ِن الل ّ ُ كا َما َ في قوله )) :وَ َ
20
ديًرا ((]فاطر ،[44:وقال تعالى: ما قَ ِ
ن ع َِلي ً كا َ ه َ ض إ ِن ّ ُ ِ ِفي ال َْر
ما َ َ خل َ ْ )) وَل َ َ
ست ّةِ أّيام ٍ وَ َ ما ِفي ِ ما ب َي ْن َهُ َ ض وَ َ ت َوالْر َ وا ِ م َس َ قَنا ال ّ قد ْ َ
ما ((فظ ُهُ َ ح ْب ((]ق ،[38:وقال تعالىَ )) :ول ي َُئود ُه ُ ِ ن ل ُُغو ٍ م ْ سَنا ِ م ّ َ
]البقرة ،[255:يعني ل يتعبه ول يشق عليه ول يلحقه كلل ول
تعب ول إعياء ،وذلك لكمال القدرة.
سنة والنوم واللغوب فالله تعالى يوصف بنفي النقائص؛ كال ِ
والعجز والظلم والغفلة والنسيان ،لكن كل ما يوصف الله به من
النفي فإنه متضمن لثبات كمال ،هذه قاعدة ،فالله تعالى ل
يوصف بنفي محض ل يدل على ثبوت؛ فإن النفي المحض ليس
فيه مدح ،وإنما المدح في النفي المتضمن للكمال] .التدمرية ص
،184ومجموع الفتاوى ،10/250وجواب أهل العلم واليمان
17/109و ،142ومنهاج السنة ،2/319ودرء تعارض العقل
والنقل [6/167
فكل ما جاء في صفات الكمال من النفي فإنه متضمن
مل قّيو ُي ال ْ َح ّه إ ِّل هُوَ ال ْ َ ه ل إ ِل َ َ لثبات كمال الضد ،قال تعالى )) :الل ّ ُ
ْ
سنة والنوم متضمنة م ((]البقرة [255:فنفي ال ِ ة َول ن َوْ ٌ سن َ ٌ خذ ُه ُ ِ ت َأ ُ
ب (( ن ل ُُغو ٍ م ْسَنا ِ م ّ ما َ لكمال حياته وقيوميته ،وقوله تعالى )) :وَ َ
]ق [38:متضمن لثبات كمال قدرته ونهاية قوته ،وقوله تعالى:
ل ذ َّرةٍ ((]سبأ [3:يتضمن كمال العلم ،ونف ُ
ي قا ُ مث ْ َه ِ ب ع َن ْ ُ )) ل ي َعُْز ُ
ذي ل ي ال ّ ِ
ح ّ ل ع ََلى ال ْ َ الظلم يتضمن كمال العدل )) ،وَت َوَك ّ ْ
ت ((]الفرقان [58:نفي الموت عن الله يتضمن كمال الحياة، مو ُ يَ ُ
ونفي العجز يتضمن كمال القدرة.
أما المعطلة فإنهم يصفونه بالنفي المحض؛ لنهم قد
يقولون :إن الله ل يجهل ،وقد يقولون :إن الله ل يعجز ،فيصفونه
بالنفي ،لكنهم ل يثبتون الضداد ،فيصفونه بالنفي المحض.
ولهذا جاء في المناظرة التي جرت بين عبد العزيز الكناني
]عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم الكناني المكي:
سمع من سفيان بن عيينة والشافعي ،وقدم بغداد في أيام
المأمون ،وجرى بينه وبين بشر المريسي مناظرة في القرآن،
وكان من أهل الفضل والعلم ،وله مصنفات عدة ،وكان ممن
تفقه بالشافعي واشتهر بصحبته ،توفي بعد الثلثين ومائتين .تاريخ
بغداد ،10/449وتقريب التهذيب ص [617ـ رحمه الله ـ وبين
سي أنه لما طالبه بوصف الله بالعلم قال :أقول الله مرِي ْ ِ بشر الـ َ
ل يجهل! ]الحيدة ص [31لن عنده أن نفي الجهل ل يستلزم
إثبات علم ،فيقول :الله ل يجهل.
فهذه قاعدة لبد من ملحظتها ،وهي :أن الله موصوف
بالثبات والنفي ،إثبات الكمال ونفي النقائص والعيوب والفات
21
ومماثلة المخلوقات ،فإثبات الكمالت يتضمن نفي أضدادها،
فوصفه بالعلم يتضمن نفي الجهل عنه ونفي النسيان ونفي
الغفلة ،ووصفه بالسمع والبصر يتضمن نفي الصمم والعمى عن
الله ،قال النبي » : إنكم ل تدعون أصما ول غائبا إنما تدعون
سميعا بصيرا «]رواه البخاري) (6610ـ واللفظ له ـ ،ومسلم)
(2704من حديث أبي موسى الشعري ، [فالنصوص
اشتملت على وصف الله بالكمالت ،وعلى تنزيهه عن النقائص،
فالله تعالى موصوف بالثبات والنفي ،فيجب إثبات ما أثبته الله
لنفسه من السماء والصفات من غير تحريف ول تعطيل ول
تكييف ول تمثيل ،وتنزيهه تعالى عن النقائص بنفي ما نفاه عن
نفسه ونفاه عنه رسوله .
]كلمة التوحيد وما تتضمنه[
قال المؤلف) :ول إله غيره( هذه كلمة التوحيد ،ولما سبق
ذكر السم الشريف الذي هو لفظ الجللة » الله « رد المؤلف
الضمائر إلى ذلك السم الظاهر ،وهذه الكلمة يأتي فيها ذكر الله
بالسم الظاهر ،وبضمير المتكلم والخاطب والغائب ،قال تعالى
ه إ ِّل أ ََنا فاعبدني((]طه ،[14:وقال يونس عليه لموسى )) :ل إ ِل َ َ
َ
شهِد َ الل ّ ُ
ه ت ((]النبياء [87:وقال تعالى } َ ه إ ِّل أن ْ َالسلم )) :ل إ ِل َ َ
َ
و{ ]آل عمران [18 :فإذا خاطب النسان ربه قال: ه ل َ إ ِل َ َ
ه إ ِل ّ هُ َ أن ّ ُ
ل إله إل أنت ،وإذا كان يخبر يقول :ل إله إل الله ،أو يقول :ل إله
إل هو ،أو يقول :ل إله غيره.
أما إذا أراد أن يذكر ربه فيقول :ل إله إل الله ،سبحان الله ،
م َل إ ِل َ َ
ه ل ل َهُ ْ
ذا ِقي َ م َ
كاُنوا إ ِ َ والحمد لله فيأتي بالسم الظاهر ))إ ِن ّهُ ْ
ن((]الصافات.[35: ست َك ْب ُِرو َ ه يَ ْ إ ِّل الل ّ ُ
وأما الذكر باللفظ المفرد أو بالضمير فهو ذكر مبتدع كما
يفعل الصوفية ]العبودية ،10/226وطريق الهجرتين ص [339
يذكرون الله بالسم المفرد )الله( ويكررونها ،أو )هو( ويكررونها،
ويعتبرون هذا ذكرا !
وهذا ذكر مبتدع باطل لغة وعقل وشرعا ،فقول) :هو هو( أو
)الله الله( ليس فيه ذكر ،ول إيمان ،ول كفر ،فكلمة )الله( وحدها
ل تفيد حكما بالنسبة للعبد ،فمن سمعناه يقول )الله( ل نقول:
إنه يذكر ربه ،ول نقول :إنه يسبح .
فكلمة )الله( يقولها الموحد إذا جعلها في كلم مركب فيقول
)سبحان الله( أو )ل إله إل الله( أو )الله أكبر( ،ويقولها الكافر إذا
قال :الله ل وجود له ،فيكون بهذا كافرا ملحدا.
ذا؛ يجب أن يكون الذكر بالجملة التامة :ل إله إل الله، إ ً
وسبحان الله ،والحمد لله ،والله أكبر.
22
مفعول ،مثل كتاب )ل إله غيره( إله على وزن ِفعال بمعنى َ
بمعنى مكتوب ،فإله بمعنى مألوه ،من َأله َيأله بمعنى ع ََبد،
فمعنى )ل إله إل الله( أي :ل معبود َ إل الله ،أو ل معبود َ غيُر الله،
لكن يرد على هذا بأن في الكون معبودات كثيرة مثل آلهة
ما َ ل َيا أ َي َّها ال ْ َ المشركين ،قال تعالى )) :قُ ْ
ن * ل أع ْب ُد ُ َ كافُِرو َ
ة إ ِل ًَها ل الل ِهَ َ جعَ َ َ
ن ((]الكافرون ،[2-1:وقال تعالى )) :أ َ دو َ ت َعْب ُ ُ
ذا؛ هذا التقدير ل يستقيم، دا ((]ص [5:فلهم معبودات ،إ ً ح ً َوا ِ
در :ل إله حق ،أو :ل معبود بحق ،أما المعبودات والصواب أن ُيق ّ
بباطل؛ فهي منتشرة في الرض ،كل طائفة لهم معبود ،ويقول
الله تعالى لهم يوم القيامة »:لتتبع كل أمة ما كانت تعبد«].رواه
البخاري ) ، (4581ومسلم ) (183من حديث أبي سعيد ، [
فمنهم من يعبد الشمس ،ومنهم من يعبد القمر ،ومنهم من يعبد
البقر ،ومنهم من يعبد الصنام المختلفة ،ومنهم من يعبد الصليب،
لكن ل معبود بحق إل الله سبحانه وتعالى.
ذا؛ هذه الجملة مركبة من النفي والثبات ،نفي اللهية بحق إ ً
عن كل أحد إل الله ،فالله تعالى هو الله الحق ،وكل معبود سواه
َ باطل ،قال تعالى )) :ذ َل َ َ
ن
م ْ ن ِ عو َ ما ي َد ْ ُ ن َ حقّ وَأ ّ ه هُوَ ال ْ َ ن الل ّ َ ك ب ِأ ّ ِ
ي ال ْك َِبيُر ((]الحج [62:فالنفي دون ِه هُو ال ْباط ُ َ
ه هُوَ ال ْعَل ِ ّ ن الل ّ َ ل وَأ ّ ُ ِ َ َ ِ
هو الكفر بالطاغوت ،والثبات هو اليمان بالله قال تعالى )) :ل
ت
غو ِ طا ُ فْر ِبال ّ ن ي َك ْ ُ م ْ ي فَ َ ن الغَ ّ م َ شد ُ ِ ن الّر ْ ن قَد ْ ت َب َي ّ َ إ ِك َْراه َ ِفي ال ّ
دي ِ
قى ((]البقرة.[256: ك ِبال ْعُْروَةِ ال ْوُث ْ َ س َ م َ ست َ ْ قد ِ ا ْ ن ِبالل ّهِ فَ َ م ْ وَي ُؤ ْ ِ
)ل إله إل الله( بما تتضمنه من إيمان وكفر ،تتضمن اليمان
بالله والكفر بالطاغوت ،وتتضمن التولي لله ومحبته وإجلله،
والبراءة من كل معبود سواه كما قال الخليل لبيه وقومه:
ن (( دي ِ سي َهْ ِه َ ذي فَط ََرِني فَإ ِن ّ ُ ن * إ ِّل ال ّ ِ دو َ ما ت َعْب ُ ُم ّ )) إ ِن ِّني ب ََراٌء ِ
َ َ
ما ك ُن ْت ُ ْ
م م َ ]الزخرف [27-26:وفي آية أخرى يقول )) :أفََرأي ْت ُ ْ
َ َ
ن
مي َب ال َْعال َ ِ م ع َد ُوّ ِلي إ ِّل َر ّ ن * فَإ ِن ّهُ ْ مو َ م القْد َ ُ م َوآَباؤ ُك ُ ُ ن * أن ْت ُ ْ دو َ ت َعْب ُ ُ
ة ُ قد ْ ب َعَث َْنا ِفي ك ُ ّ ((]الشعراء ،[77-75:وقال تعالى )) :وَل َ َ
م ٍ لأ ّ
جت َن ُِبوا ال ّ َ
ت ((]النحل [36:فما بعث غو َ طا ُ ه َوا ْ دوا الل ّ َ ن ا ُع ْب ُ ُ سوًل أ ِ َر ُ
الله به رسله متضمن لمضمون هذه الكلمات ،فقوله تعالى:
ت ((]النحل [36:هو معنى )ل إله إل غو َ جت َن ُِبوا ال ّ
طا ُ ه َوا ْ دوا الل ّ َ ))ا ُع ْب ُ ُ
الله( فـ)اعبدوا الله( مقتضى الثبات ،و)اجتنبوا الطاغوت(
َ
جت َن ُِبوا ه َوا ْ دوا الل ّ َ ن ا ُع ْب ُ ُ مقتضى النفي ،فتضمنت هذه الية )أ ِ
ت( آمنوا بالله وخصوه بالعبادة ،واجتنبوا عبادة ما سواه غو َ طا ُ ال ّ
واكفروا به .
]دوام الرب تعالى أزل وأبدا[
23
قوله ) :قديم بل ابتداء ،دائم بل انتهاء ،ل يفنى ول يبيد ،و ل
يكون إل ما يريد ،ل تبلغه الوهام ،ول تدركه الفهام ،ول يشبه
النام (
لما ذكر المام الطحاوي بعض ما يجب تنزيه الله تعالى عنه
قدم ن مما يجب إثباته لله ال ِ جر ،ذكر أ ّ من :الشريك والشبيه والعَ ْ
والدوام ـ أي ـ دوام الوجود أزل وأبدا ،فهو تعالى دائم أزل وأبدا،
فل ابتداء ول نهاية لوجوده .
مَرق َوالقديم في اللغة ضد الحديث ،كما قال تعالىَ} :وال ْ َ
م{ ]يس ،[39:وقال عن دي ِ ق ِن ال ْ َجو ِ كال ْعُْر ُ
عاد َ َ
حّتى َ ل َ مَنازِ َقَد ّْرَناه ُ َ
َ َ َ
م َوآَباؤ ُك ُ ُ
م ن * أنت ُ ْ دو َ م ت َعْب ُ ُ ما ُ
كنت ُ ْ ل أفََرأي ُْتم ّ إبراهيم َ} :قا َ
َ
ن{ ]الشعراء75:و ،[76وأصل القديم المتقدم على غيره مو َ اْلقْد َ ُ
فيشمل التقدم المطلق ،والتقدم النسبي؛ فالتقدم النسبي
للمخلوقات فبعضها متقدم على بعض ،وأما التقدم المطلق فهو
لله تعالى ،فهو سابق في وجوده لكل شيء ،ول بداية لوجوده،
ولهذا احتاج المؤلف أن يقول) :بل ابتداء( .ويقال :أزلي ،فالزل:
هو الماضي الذي ل حد له ،فالزل والبد متقابلن هذا في
الماضي ،وهذا في المستقبل.
وهذان الوصفان حق؛ فالله تعالى دائم البقاء أزل وأبدا ،لكن
ليس هذان السمان من أسمائه الحسنى التي يثنى عليه بها،
ويدعى بها ،فل يقال :يا قديم ،أو سبحان القديم ،كما ل يقال :يا
موجود ،أو سبحان الموجود؛ فإن هذا ل يحصل به التخصيص
والتعيين؛ بل يقال :سبحان الله ،سبحان ذي الملك والملكوت،
والعزة والجبروت ،سبحان الحي الذي ل يموت.
فإن القديم والدائم لم يردا في الكتاب والسنة ،وإنما الوارد:
ظاه ُِر َوال َْباط ِ ُ
ن خُر َوال ّ ل َواْل ِ الول والخر ،كما قال تعالى} :هُوَ اْل َوّ ُ
م{ ] الحديد ،[3:وفي السنة ـ في دعاء النبي يٍء ع َِلي ٌ
ش ْ ل َ وَهُوَ ب ِك ُ ّ
ـ » :اللهم أنت الول فليس قبلك شيء ،وأنت الخر فليس
بعدك شيء«] ،رواه مسلم ) (2713من حديث أبي هريرة
.[وهذا الحديث يفسر الية .
فهذان اسمان من أسمائه الحسنى التي سمى الله بها
نفسه ،وسماه بها رسوله أعلم الخلق به.
وغلب على أهل الكلم إطلق لفظ )القديم( على الله تعالى
فيقولون :هذا يجوز على القديم ،وهذا ل يجوز على القديم؛
فجعلوه اسما لله تعالى ،وهذا من أغلطهم ،والواجب أن يقولوا:
هذا يجوز على الله؛ فالله هو اسم رب العالمين.
لكن القديم والدائم يصح الخبار بهما عن الله مثل أن تقول:
الله موجود ،والله شيء ،والله له ذات ،والله قديم ،والله دائم،
24
لكن ل تقل :من أسمائه )قديم( بل من أسمائه )الول( قال
ماء ال ْ ُ َ
سَنى َفاد ْ ُ
عوه ُ ب َِها { ففي الدعاء إنما ح ْ تعالى) :وَل ِل ّهِ ال ْ
س َ
يدعى الله بما سمى به نفسه ،أو سماه به رسوله ]. مجموع
الفتاوى [6/142
قوله) :ل يفنى ول يبيد( هذه تأكيد لقوله )بل انتهاء( ومن
أجل تحصيل السجع مع ما بعده ،والفناء والبيد معناهما واحد قال
ن ((]الرحمن ،[26:وقال الكافر صاحب ن ع َل َي َْها َفا ٍ م ْ ل َ تعالى )):ك ُ ّ
دا ((]الكهف) ،[35:ل يفنى ول َ الجنة )) :ما أ َظ ُ َ
ن ت َِبيد َ هَذ ِهِ أب َ ً نأ ْ ّ َ
يبيد( سبحانه ،وإنما الذي يفنى الخلق .
]إثبات الرادة لله تعالى[
د{ ري ُ ما ي ُ ِ ل لّ َ قوله) :و ل يكون إل ما يريد( فإنه تعالى }فَّعا ٌ
]سورة البروج ، [16:وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ،وهو
رب كل شيء ،وهو الخالق لكل شيء ،فما شاء الله كونه ل بد
َ شيٍء إ َ َ
ن (( كو ُ ن فَي َ ُ ه كُ ْ ل لَ ُ قو َ ن نَ ُ ذا أَرد َْناه ُ أ ْ ما قَوْل َُنا ل ِ َ ْ ِ أن يكون )) إ ِن ّ َ
دا. ]النحل ،[40:وما لم يشأ ل يكون أب ً
ذا؛ كل ما يجري في الوجود من :حركات الفلك ،وجريان إ ً
النجوم ،والشمس والقمر ،وتقلب الليل والنهار ،وأمواج البحار
بمشيئة الله ،وكل ما يقع من العباد ،فما تلفظ ول تحرك شفتيك
إل بمشيئة الله ،ول تفتح عينك إل بمشيئة الله ولو شاء الله ما
فتحت عينك.
)ول يكون إل ما يريد(.
والرادة هنا هي الرادة الكونية الشاملة للوجود ،ونقول:
الرادة الكونية؛ لن الرادة المضافة لله نوعان :إرادة كونية،
وإرادة شرعية] .مجموع الفتاوى ،8/188والفرقان بين أولياء
الرحمن وأولياء الشيطان ،11/266وشفاء العليل ص [280
َ
ن
هأ ْ ن ي ُرِد ِ الل ّ ُ م ْ فمن شواهد الرادة الكونية :قوله تعالى )) :فَ َ
َ
مال لِ َ ه (( وقوله )) :فَّعا ٌ ضل ّ ُ ن يُ ِ ن ي ُرِد ْ أ ْ م ْ ه (( ،وقوله )):وَ َ ي َهْد ِي َ ُ
َ
ريد ُ (( ،وفي معناه المشيئة ن يُ ِ م ْ دي َ ه ي َهْ ِن الل ّ َ ريد ُ (( وقوله )) :وَأ ّ يُ ِ
شاُء (( ن يَ َ م ْ دي َ شاُء وَي َهْ ِ ن يَ َ م ْ ل َ ض ّ شاُء (( )) ي ُ ِ ما ي َ َ ل َ فعَ ُ ه يَ ْ ن الل ّ َ )) إ ِ ّ
ما. فالرادة الكونية بمعنى المشيئة تما ً
ريد ُ الل ّ ُ
ه والرادة الشرعية من شواهدها :قوله تعالى )) :ي ُ ِ
ض
ن ع ََر َ دو َ ري ُ سَر (( وقوله تعالى )) :ت ُ ِ م ال ْعُ ْ ريد ُ ب ِك ُ ُ سَر َول ي ُ ِ م ال ْي ُ ْ ب ِك ُ ُ
ريد ُه يُ ِ م (( )) َوالل ّ ُ ن ل َك ُ ْ ه ل ِي ُب َي ّ َ ريد ُ الل ّ ُ خَرة َ (( )) ي ُ ِ ريد ُ اْل ِ ه يُ ِ الد ّن َْيا َوالل ّ ُ
َ
م (( .فهذه إرادة شرعية. ب ع َل َي ْك ُ ْ ن ي َُتو َ أ ْ
والفرق بين الرادتين منوجهين:
25
الول :أن الرادة الكونية :عامة لكل ما يكون ل يخرج عنها
شيء ،فتشمل ما يحبه الله وما يبغضه الله.
فإيمان المؤمنين وطاعة المطيعين ،وكفر الكافرين ومعصية
العاصين ،كل ذلك بإرادته الكونية.
وأما الرادة الشرعية :فإنها تختص بما يحبه الله سبحانه
وتعالى.
ذا؛ الرادة الكونية عامة ،وهذه خاصة. إ ً
الرادة الكونية ل تستلزم المحبة ،وأما الرادة الشرعية فإنها
تستلزم المحبة.
والفرق الثاني :أن الرادة الكونية ل يتخلف مرادها أبدا ،وأما
الرادة الشرعية :فإنه ل يلزم منها وقوع المراد.
وتجتمع الرادتان في إيمان المؤمن ،فهو مراد ٌ لله كونا،
ومراد ٌ شرعا ،فهو مراد ٌ بالرادتين.
وتنفرد الرادة الكونية في كفر الكافر ومعصية العاصي ،فهو
مراد ٌ بالرادة الكونية ل الشرعية ،إذ ليس ذلك بمحبوب بل
مسخوط ومبغوض لله سبحانه.
وتنفرد الرادة الشرعية في إيمان الكافر الذي لم يقع؛ لنا
نقول :إنه مراد ٌ من أبي جهل أن يؤمن بالرادة الشرعية ،لكنه لم
يقع .
لكن الرادة الشرعية ل تفسر بالمشيئة ،فل نقول :إن الله
شاء اليمان من أبي جهل ،لكن نقول :إن الله أراد منه اليمان،
يعني :الرادة الشرعية ،وأمره باليمان المر الشرعي ،وبهذه
المناسبة الصحيح أن المشيئة ل تنقسم ،فل يقال :إن المشيئة
نوعان شرعية وكونية.
بل المشيئة كونية فقط ،وليس لمن قال) :إن المشيئة
نوعان( ما يدل على قوله؛ بل المشيئة كونية فقط ،وهي عامة
)ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن(.
وتقسيم الرادة إلى كونية ،وشرعية يجري مثله في معاني
متعددة في القرآن ،فمما يضاف إلى الله الذن ،وهو :شرعي
وقدري ـ والقدري هو الكوني ـ والقضاء ،والتحريم ،والبعث،
والرسال ،وغيرها كلها يجري فيها هذا التقسيم].الفرقان بين
أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ،11/265وشفاء العليل ص
. [280
مثل :الذن منه كوني وشرعي ،قال الله تعالى في شأن
ن الل ّهِ ((]البقرة: السحرة )) وما هُم بضارين به م َ
حد ٍ إ ِّل ب ِإ ِذ ْ ِ
نأ َْ ِ َ ّ َ ِ ِ ِ ْ َ َ
[102فالسحرة ل يضرون أحدا بسحرهم إل بإذنه الكوني.
26
من ّلين َةٍ أ َْو ما قَط َعُْتم ّ وأما الذن الشرعي فقوله تعالى )) َ
ن الل ّهِ (( ] الحشر[5: ُ
صول َِها فَب ِإ ِذ ْ ِ ة ع ََلى أ ُ م ً ها َقائ ِ َ مو َ ت ََرك ْت ُ ُ
بل ِفي ال ْك َِتا ِ سرائي َ ضي َْنا إ َِلى ب َِني إ ِ ْ والقضاء :قال تعالى )) :وَقَ َ
ن ((]السراء [4:هذا قضاء كوني ،وقال َْ ل َت ُ ْ
م َّرت َي ْ ِ ض َ ن ِفي الْر ِ سد ُ ّ ف ِ
دوا إ ِّل إ ِّياه ُ ((]السراء [23:هذا ك أّل ت َعْب ُ ُ ضى َرب ّ َ تعالى )) وَقَ َ
القضاء الشرعي .
ضعَ (( هذا تحريم مَرا ِ ْ َ
مَنا ع َلي ْهِ ال َ حّر ْ والتحريم :قال تعالى )) وَ َ
تم ْ حّر َ ة (( و)) ُ مي ْت َ ُ م ال ْ َت ع َل َي ْك ُ ُ م ْ حّر َكوني ،لكن قوله تعالى )) ُ
ع َل َيك ُ ُ
م (( هذا تحريم شرعي. مَهات ُك ُ ْ مأ ّ ْ ْ
المقصود :أن قول الطحاوي ) :ول يكون إل ما يريد( فيه
تقرير واثبات للرادة الكونية ،وفي هذا رد على المعتزلة؛ فإنهم
ينفون الرادة الكونية ،ومن أصولهم الباطلة ما يسمونه بالعدل،
ويدرجون فيه نفي القدر ،ومن نفيهم للقدر ،نفيهم عموم
المشيئة ،فعندهم أن مشيئة الله ليست عامة ،فكل أفعال العباد
عندهم ليست بمشيئة الله] ،التدمرية ص [488فالنسان يقوم
ويقعد ،ويذهب ويجيء ،ويقاتل كل ذلك ليس بمشيئة الله! تًبا
لهم تًبا لهم ،ما أضلهم ،فقد أخرجوا عن ملك الله كثيرا مما في
ب العالمين إلى العجز ،تعالى الله عن قولهم الوجود ،ونسبوا ر َ
وا كبيًرا. عل ً
بل أفعال العباد ل خروج لها عن حكم سائر الموجودات،
وكل الموجودات محكومة بمشيئة الله وقدرته سبحانه وتعالى.
]تنزيه الله تعالى عن الحاطة به[
قوله ) :ل تبلغه الوهام ،ول تدركه الفهام(.
ضا ،وتقدم بعض ما يجب تنزيه الله تعالى هذا فيه تنزيه أي ً
عنه لكن المؤلف ي ُث َّني ،فيذكر بعض ما يجب تنزيه الله تعالى
عنه ،وما يجب إثباته له سبحانه وتعالى.
)ل تبلغه الوهام( يعني الظنون والخيال ،فل تبلغه ظنون
الظانين ،ول خيال المتخيلين ،فل يمكن للعباد أن يدركوا حقيقة
ذات الرب أو شيٍء من صفاته بوهم وتخيل أبدا.
)ول تدركه الفهام( فالعباد يعرفون ربهم بما هداهم سبحانه
وتعالى به من الوحي ،ومن اليات الكونية ،لكنهم ل يحيطون به
علما؛ لذلك قال) :ل تدركه( الدراك فيه الحاطة ،ولم يقل ل
تعرفه الفهام ول يعرفه العباد ! ل ،العباد ُ يعرفون ربهم على
حسب مراتبهم في معرفة ربهم لكنهم ل يحيطون به علما ،قال
عْلما ً حي ُ َ
ن ب ِهِ ِ طو َ صاُر (( وقال تعالىَ )) :ول ي ُ ِ ه اْلب ْ َ تعالى )) :ل ت ُد ْرِك ُ ُ
يٌء (( وهذا يتضمن أن ش ْ مث ْل ِهِ َ س كَ ِ (( والله سبحانه وتعالى )) :ل َي ْ َ
27
ط بما يعرفه ،والله تعالى تخيل النسان وظنونه إنما هو مرتب ٌ
ليس كمثله شيء.
ويقول بعض المتكلمين) :كل ما خطر ببالك فإن الله تعالى
بخلف ذلك( ]الرد على الجهمية والزنادقة ص ، 99والستقامة
[118
ظ مبتدع لم يأت في نص من كتاب ول سنة، م ولف ٌ
وهذا كل ٌ
فيجب أن يحكم عليه بحكم اللفاظ المبتدعة المجملة .
)كل ما خطر ببالك( إن أراد من الكيفيات فصحيح ،والله
بخلف ذلك؛ لن كل ما يخطر ببالك من الكيفيات فإنه راجعٌ إلى
مث ْل ِ ِ
ه شيء من المخلوقات ،والله تعالى بخلف ذلك )) ل َي ْ َ
س كَ ِ
يٌء (( . َ
ش ْ
فكيفية ذات الرب وكيفية صفاته ل سبيل للعباد إلى
معرفتها .
أما ما خطر ببالك من أنه فوق السماوات فهذا علم وحق،
وليس بخاطر ،ويجب اليمان بأنه فوق السماوات ،وما يخطر
ببالك أنه سبحانه وتعالى ينزل كما أخبر الرسول ] بقوله» :
ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل
الخر « ...رواه البخاري ) ، (1145ومسلم ) (758من حديث
أبي هريرة [فهذا حق ،فكل ما يخطر ببالك من المعاني الثابتة
فهو حق.
ذا؛ هذا التعبير ل يصح على الطلق ،فهو لفظ مبتدع مجمل، إ ً
فل بد فيه من التفصيل ،فالخواطر إما أن تكون مما يعلم بطلنه،
أو مما يعلم صحته ،أو مما ل يعلم صحته ول بطلنه ،فيمسك
عنه ،ول يقال :إن الله بخلف ذلك.
]تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه[
28
)ل يشبه النام( في حاشية الشرح ]ص [88أن في بعض
النسخ )ول يشبهه النام( وكأن الشارح ابن أبي العز رجح هذه
النسخة ،وعندي أن الصواب بدون الضمير )ول يشبه النام( لنك
ى جديد ٌإذا قلت) :ول يشبهه النام( ل يكون في العبارة معن ً
ي لتمثيل يختلف عن قوله) :ل شيء مثله( فـ)ل شيء مثله( نف ٌ
المخلوق بالخالق.
و التمثيل الذي يجب نفيه عن الله نوعان :
تمثيل الخالق بالمخلوق ،وتمثيل المخلوق بالخالق ،وضابط
ه للخالق ذلك :وصف الخالق بخصائص المخلوق هذا تشبي ٌ
ه للمخلوقين بالمخلوق ،ووصف المخلوق بخصائص الخالق تشبي ٌ
بالخالق.
ذا؛ فكل المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة أخرى قد إ ً
شبهوا المخلوق بالخالق؛ لنهم شبهوا ما يعبدونه برب السماوات
والرض فجعلوا لذلك المخلوق ما هو من خصائص الرب وهو
اللهية ،ومن وصف الله بالفقر أو العجز والبخل ـ كما قالت
اليهود ـ فقد شبه الخالق بالمخلوق؛ لن العجز و البخل كل هذه
من خصائص المخلوق.
ي لتمثيل المخلوق إذًا؛ فقول المؤلف )ول شيء مثله( هذا نف ٌ
ي لمماثلة الخالق للمخلوق، بالخالق ،وقوله )ول يشبه النام( نف ٌ
فاختلف مدلول الجملتين ،وأفادت الجملتان نفي التشبيه أو نفي
التمثيل بنوعيه ،وهذا هو المطلوب.
]إثبات الحياة والقيومية لله تعالى[
29
ل ع ََلى وأما الحي فقد ورد غير مقرون بهذا السم )) وَت َوَك ّ ْ
ن
صي َ خل ِ ِ م ْ عوه ُ ُ ه إ ِّل هُوَ َفاد ْ ُ
ي َل إ ِل َ َح ّت (( }هُوَ ال ْ َ مو ُ ذي ل ي َ ُ ي ال ّ ِ ال ْ َ
ح ّ
ن{ فمن أسمائه الحسنى أنه مي َ ب ال َْعال َ ِ مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ ن ال ْ َ
ح ْ دي َ ه ال ّ لَ ُ
الحي القيوم ،واسمه الحي يدل على إثبات الحياة له ،فهو الحي
والحياة صفته ،فله الحياة التامة التي ل تشبه حياة المخلوق،
الحياة المتضمنة لكل ما هو كمال للحياة ،وهو القيوم ،وقيل في
معناه ]تفسير الطبري ،4/529والكافية الشافية ص :[182أنه
القائم بنفسه ،فليس مفتقًرا إلى غيره في وجوده ،ول في شيء
من صفاته وأفعاله سبحانه وتعالى ،وقيل :بأنه القائم
بالمخلوقات]تفسير الطبري ،4/529والكافية الشافية ص ،[182
فكل المخلوقات ل قيام لها ،ول وجود لها ،ول بقاء لها ،ول صلح
دا إل به سبحانه ،فهو المبدع الخالق لها ،وهو الممد لها بما لها أب ً
تحتاج ،وهو المبقي لما شاء بقاءه ،وهو القائم على كل نفس بما
كسبت.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ :إن هذين السمين يتضمنان
جميع الصفات ،فاسمه الحي يتضمن جميع الصفات الذاتية من:
العلم ،والسمع ،والبصر ،والقدرة والعزة ،والحكمة ،والرحمة.
واسمه القيوم يتضمن جميع الصفات الفعلية من :الخلق،
والتدبير ،والحياء ،والماتة ،والعزاز والذلل ،والعطاء والمنع،
والخفض والرفع .معنى كلمه] .بدائع الفوائد ،2/678والكافية
الشافية ص [45-44
والله تعالى لما ذكر هذين السمين أكد مضمونهما بقول:
ْ
م ((. ة َول ن َوْ ٌ سن َ ٌخذ ُه ُ ِ )) ل ت َأ ُ
فنفي السنة والنوم عن الله يتضمن ويؤكد كمال الحياة
سنة التي هي مبادئ النوم والقيومية؛ لن النوم أخو الموت ،وال ِ
ذي ل ي ال ّ ِح ّل ع ََلى ال ْ َ نقص ،وأكد ذلك في آية أخرى )) وَت َوَك ّ ْ
ت (( فأثبت لنفسه الحياة ،ونفى عنه كل ما يضاد الحياة. مو ُ يَ ُ
ي ل يموت ،قيوم ل ينام( وهذا تفريق منه يقول المؤلف) :ح ٌ
حين ربط نفي الموت بإثبات الحياة ،ونفي النوم بإثبات القيومية،
وإل فالله تعالى ربط نفي النوم بالسمين جميعا فقال )) :ل
ْ
م (( ؛ لن النوم ينافي كمال السمين ،والصواب ة َول ن َوْ ٌ سن َ ٌخذ ُه ُ ِ ت َأ ُ
ة ول ي ل يموت ،ول ينام ،ول تأخذه سن ٌ أن نقول :إنه تعالى ح ٌ
نوم ،فالموت والسنة والنوم كلها تنافي هذين السمين.
]تنزيه الله تعالى عن الحاجة والخوف والمشقة[
قوله) :خالقٌ بل حاجة ،رازقٌ بل مؤونة ( خالقٌ للخلق بدون
ه لم يخلق الخلق ليتكّثر بهم من قلة ،أو يتعزز حاجةٍ إليهم ،الل ُ
تق ُ خل َ ْ
ما َ بهم من ذلة ،أو ليستغني بهم من فقر ،قال تعالى )) وَ َ
30
َ ُ ُ
ن
ما أِريد ُ أ ْ ق وَ َ ن رِْز ٍ م ْ م ِ من ْهُ ْ ما أِريد ُ ِ ن* َ دو ِ س إ ِّل ل ِي َعْب ُ ُ ن َواْل ِن ْ َ ج ّ ال ْ ِ
ن (( فهو الذي ُيطعم مِتي ُ قوّةِ ال ْ َ ذو ال ْ ُ ه هُوَ الّرّزاقُ ُ ن الل ّ َ ن * إِ ّ مو ِ ي ُط ْعِ ُ
م َ ول يطعم ،وهو الرزاق ذو القوة المتين )) َيا أ َي َّها الّنا
س أن ْت ُ ُ ُ
ْ قراُء إَلى الل ّه والل ّه هو ال ْغني ال ْحميد * إن ي َ ْ ال ْ ُ
ت م وَي َأ ِ شأ ي ُذ ْه ِب ْك ُ ْ َ ِ ُ ِ ْ َ ِ َ ُ ُ َ َِ ّ ِ ف َ َ
ديد ٍ وما ذلك على الله بعزيز ((. ج ِ ق َ بِ َ ْ
خل ٍ
فالخلق كلهم فقراء إليه في وجودهم ،وفي جميع أحوالهم،
ي الغنى التام عن كل ما سواه. وشؤونهم ،والله تعالى غن ٌ
ذي ه ال ّ ِ )رازقٌ بل مؤونة( فالله هو الخالق الرازق )) الل ّ ُ
ن
م ْ م َ كائ ِك ُ ْ شَر َ ن ُ م ْ ل ِ م هَ ْ حِييك ُ ْ م يُ ْ م ثُ ّ ميت ُك ُ ْ م يُ ِ م ثُ ّ م َرَزقَك ُ ْ م ثُ ّ قك ُ ْ خل َ َ َ
يٍء (( رازق بل مؤنه ،أي :بل كلفة ول ش ْ ن َ م ْ م ِ ن ذ َل ِك ُ ْ م ْ ل ِ فعَ ُ يَ ْ
َ
ل رِْزقََها الل ّ ُ
ه م ُ ح ِ داب ّةٍ ل ت َ ْ ن َ م ْ ن ِ مشقة يرزق كل العباد )) وَك َأي ّ ْ
َ
ن ن َْرُزقُهُ ْ
م ح ُ ق نَ ْ مل ٍ ة إِ ْ شي َ َ خ ْ م َ قت ُُلوا أْولد َك ُ ْ م (( )) َول ت َ ْ ي َْرُزقَُها وَإ ِّياك ُ ْ
ض إ ِّل ع ََلى الل ّهِ رِْزقَُها (( والله َْ
داب ّةٍ ِفي الْر ِ ن َ م ْ ما ِ م (( )) ،وَ َ وَإ ِّياك ُ ْ
تعالى خير الرازقين ،وفي الصحيحين » يمين الله ملى ل يغيضها
نفقة سحاء الليل والنهار« ] .رواه البخاري ) ،(7419ومسلم )
(993من حديث أبي هريرة [
ث بل مشقة( الله تعالى منزهٌ ت بل مخافة ،باع ٌ قوله ) :ممي ٌ
ل لما يريد ،يميت من عن الخوف ،فل يخاف من أحد وهو فعا ٌ
يشاء ،فلو شاء أن يميت العالم كله؛ فإنه ل يخاف ،فليس فوقه
أحد؛ بل هو تعالى المالك لكل شيء.
ولعل مما يستشهد به في هذا المعنى قوله تعالى:
ها (( قَبا َ ف عُ ْ خا ُ ها * َول ي َ َ وا َ س ّم فَ َ م ب ِذ َن ْب ِهِ ْ م َرب ّهُ ْ م ع َل َي ْهِ ْ مد َ َ )) فَد َ ْ
]الشمس.[15-14:
) باعث بل مشقة( سيبعث الموات في اليوم الموعود )) ألَ
يظ ُن ُأول َئ ِ َ َ
ب
س ل َِر ّ م الّنا ُ قو ُ م يَ ُ ظيم ٍ * ي َوْ َ ن * ل ِي َوْم ٍ ع َ ِ مب ُْعوُثو َ م َ ك أن ّهُ ْ َ ّ
ن* ْ َ ْ ن ((]المطففين )) [6-4:قُ ْ ال َْعال َ ِ
ري َ خ ِ ن َوال ِ ن الوِّلي َ ل إِ ّ مي َ
معُْلوم ٍ ((]الواقعة [50-49:يبعث ت ي َوْم ٍ َ قا ِ مي َ ن إ َِلى ِ عو َ مو ُ ج ُ م ْ لَ َ
الموات من أولهم إلى آخرهم من غير أن تلحقه مشقة ،ولهذا
َ
م ي ُِعيد ُهُ خل ْقَ ث ُ ّ ه ال ْ َ ف ي ُب ْد ِئُ الل ّ ُ م ي ََرْوا ك َي ْ َ يقول سبحانه وتعالى)) :أوَل َ ْ
ة
حد َ ٍ س َوا ِ ف ٍ م إ ِّل ك َن َ ْ م َول ب َعْث ُك ُ ْ قك ُ ْ خل ْ ُما َ سيٌر(( )) َ ك ع ََلى الل ّهِ ي َ ِ ن ذ َل ِ َ إِ ّ
ن ع َل َي ْهِ ((]الروم: َ ُ
م ي ُِعيد ُه ُ وَهُوَ أهْوَ ُ خل ْقَ ث ُ ّ ذي ي َْبدأ ال ْ َ (( )) وَهُوَ ال ّ ِ
[27وهذا في الحتجاج على المكذبين بالبعث بأن الذي بدأ
الخلق هو على العادة أقدر إنما أريد به أنه أقدر في معقول
الناس ) أن العادة أهون من البدء( ولكن بالنسبة إلى الله ليس
ن وأهون ،ول يقال :إن الله على كذا أقدر منه في الشياء هي ٍ
على كذا ،بل قدرته على كل شيء واحدة ،فقدرته تعالى على
31
خلق السماوات والرض ،أو خلقه لذرة من المخلوقات واحدة،
بمعنى أنه ل يعجزه شيء ،فليس شيٌء أهون عليه من شيء.
ن ع َل َي ْهِ (( فقد قيل :إن )أهون( بمعنى َ
أما قوله تعالى )) :وَهُوَ أهْوَ ُ
هين ،وهو هين عليه ،فيكون من أفعل التفضيل الذي على غير
بابه .كما يقول النحاة ] .شرح ابن عقيل ،1/406و شرح الرضي
على الكافية [3/460
أو إن هذا من خطاب العباد بما يعقلونه وما يدركونه ،فالناس
مفطورون على إن العادة أهون من البتداء فخوطبوا على
حسب معقولهم ،ومفهومهم].زاد المسير ،6/155والجامع
لحكام القرآن [ 16/418
ولهذا الله تعالى يحتج عليهم في إنكارهم للبعث بالنشأة
ي
م وَه ِ َ حِيي ال ْعِ َ
ظا َ ن يُ ْم ْل َ ه َقا َ
ق ُخل ْ َي َ س َ ب ل ََنا َ
مث َل ً وَن َ ِ ضَر َالولى )) وَ َ
م (( ْ مّرةٍ وَهُوَ ب ِك ُ ّ َ
ها أوّ َ َ َ
ذي أن ْ َ ّ م * قُ ْ
ق ع َِلي ٌ
خل ٍ ل َ ل َ شأ َ حِييَها ال ِ
ل يُ ْ مي ٌ
َر ِ
]ّيـس [79:واليات في هذا كثيرة.
32
صيرًا( )) ،إن الله
ميعا ً ب َ ِ
س ِ
ن َكا َ ن الل ّ َ
ه َ قال الله تعالى )) :إ ِ ّ
كان عزيزا ً حكيما ً (( )) ،إن الله كان عليما ً حكيما ً (( )) ،إن الله
كان غفورا ً رحيما ً (( كان هذه في مثل هذا تفيد الستمرار ،كان
ول يزال؛ لن حدوث الكمال يستلزم سبق النقص ،والله تعالى
منزه ٌ عن النقص ،فحياته لم تسبق بموت تعالى الله ،وعلمه لم
يسبق بجهل ،فل يقال :إنه تعالى علم بعد أن لم يكن عالما،
وكان سميعا بعد أن لم يكن ،أو بصيرا بعد أن لم يكن تعالى الله،
فهذا شأن المخلوق ،فهو الذي كان بعد أن لم يكن ،وتكلم بعد أن
لم يكن متكلما ،أما الخالق سبحانه وتعالى فلم يزل عالما ،ولم
يزل سميعا بصيرا ،عزيزا حكيما ،غفورا رحيما ،حيا قيوما ،لم يزل
فعال لما يريد لم يزل على كل شيء قدير ،لم يزل متكلما إذا
شاء بما شاء ول يزل كذلك.
وهذه كلمة عامة من المصنف في كل الصفات )مازال
بصفاته( ،لم يخص شيئا من الصفات.
]صفات الله نوعان :ذاتية وفعلية[
وصفات الله نوعان :صفات ذاتية ،وهي :اللزمة لذات الرب
ـ التي ل تنفك عن الذات ـ كـالعلم ،والسمع ،والبصر ،والحياة،
ت ذاتية.
والقدرة ،والعزة ،والرحمة ،والقّيومّية ،فهي صفا ٌ
ت فعلية مثل :الستواء على العرش ،و النزول ،و وصفا ٌ
المجيء ،والغضب .
فكل ما تستطيع أن تقول فيه )مازال كذا( فهي ذاتية.
وضابط الذاتية والفعلية )أن الذاتية ل تتعلق بها المشيئة،
وأما الفعلية فتتعلق بها المشيئة(.
فتقول :إن الله تعالى ينزل إذا شاء ،واستوى على العرش
حين شاء ،ويجيء يوم القيامة إذا شاء ،فهذه فعلية.
ولكن ل يصح أن تقول :إنه يعلم إذا شاء ،ويسمع إذا شاء،
ي إذا شاء؛ لن هذه من لوازم ذاته سبحانه وتعالى. وهو ح ٌ
وهناك صفات ذاتية فعلية]مجموع الفتاوى ،[12/435مثل:
الكلم ،والخلق ،والَرزق.
فيصح أن تقول :إنه مازال متكلما إذا شاء؛ لن الكلم من
جهة القدرة عليه معنى ذاتي ،فيقال للمتكلم مازال متكلما ،وهو
ة ،خلفا لمن قال :إن كلم الله قديم مطلقا. يتكلم بمشيئ ٍ
والمعطلة المبتدعة أنواع]مجموع الفتاوى :[6/51
الجهمية نفوا كل الصفات ـ الذاتية والفعلية ـ ،ولم يثبتوا إل
ذاتا مجردة ،وتبعهم المعتزلة في ذلك.
فقوا واضطربوا أخذوا من هذا في جانب، وهناك طوائف ل ّ
ومن هذا في جانب مثل :الك ُّلبية ينفون الصفات الفعلية ،وهي
33
المتعلقة بالمشيئة ،وكذلك الشاعرة ينفون كثيرا من الصفات ـ
الذاتية والفعلية ـ فيقولون :إنه تعالى ل تقوم به الفعال
الختيارية.
الفعال الختيارية :هي المتعلقة بالمشيئة ،مثل :النزول
)فعل اختياري( يفعله الرب بمشيئته ،والستواء )فعل اختياري(
يفعله الرب بمشيئته ،والغضب والرضا والحب ،فيغضب إذا شاء،
من شاء إذا شاء. ويرضى إذا شاء ،ويحب َ
وُنفاة الفعال الختيارية بنوه على شبهة باطلة ل أصل لها.
قالوا :إنه تعالى منـزه عن حلول الحوادث ،فيقال :هذا لف ٌ
ظ
محدث فليس في القرآن ول في السنة أن الله تعالى منـزه عن
حلول الحوادث .
ظ مجمل يحتمل حقا وباطل؛ فمن قال :الله وهو أيضا :لف ٌ
منـزه عن حلول الحوادث ،نقول :ما معنى قولك) :منـزه عن
حلول الحوادث( ؟
فإن قال :الله منـزه أن يحل فيه شيٌء من المخلوقات.
ه ل يحل في ذاته شيء من نقول :نعم هذا حق ،الل ُ
مخلوقاته.
وإن قال :إنه منـزه ٌ ـ أيضاـ عن أن تقوم به الفعال الحادثة
التي تكون بالمشيئة.
نقول :هذا باطل ،الله تعالى يفعل ما يشاء ،إذا شاء ،كيف
شاء ،فهو تعالى فّعال لما يريد.
وأهل البدع منهم من نفى الفعال الختيارية مطلقا حذرا مما
صلوه وهو نفي حلول الحوادث. أ ّ
ومنهم من يثبت الفعال لكن يقول :إنها ل تتعلق بها
المشيئة ،وهم الكلبية ،فيقولون :إنه يتكلم ويغضب ويرضى ل
بمشيئة؛ بل هذه الصفات قديمة ،فهو لم يزل متكلما ،وغاضبا عن
من هو أهل للغضب ،و راضيا عن من هو أهل للرضا.
والشاعرة ينفون ،ول يثبتون إل الصفات السبع على ما في
ب واضطراب . إثباتهم من تذبذ ٍ
والجهمية ،والمعتزلة يقولون :إنه صار متكلما بعد أن لم يكن
ـ ليس متكلما بمعنى أنه يقوم به الكلم ـ بل يريدون أنه خلق
كلما؛ لن الكلم عندهم مخلوق ،والقرآن مخلوق ،وصار فاعل
بعد أن لم يكن ،وليس معنى ذلك أنه يقوم به الفعل ،وأنه يفعل
فعل ً يقوم بذاته ،ولهذا يقول ابن القيم في الشافية الكافية ]ص
[26عن الجهم :
ن
ها ِم ِبه ب ِل َ ُبر َ
ِفعل ً َيقو ُ ل * ع ٍ ن الله َلي َ
س بفا ِ وَقَ َ
ضى ِبأ ّ
34
فقضى بأن الله ليس بفاعل فعل يقوم به؛ بل الفعل عند
جهم ،والمعتزلة ،والشاعرة هو نفس المفعول.
والحق المعقول أن المور ثلثة) :فعل ،وفاعل ،ومفعول(
فالمفعول يقتضي فاعل ،وفعل يقوم به ،هذا هو الشيء البدهي
غرست في قلبه المعقول ،ول يعمى عن هذا إل من ل ُّبس عليه ،و ُ
الشبهات ،وعاش على التقليد ،والتبعية.
وهؤلء الجهمية ،والمعتزلة ،ومن تبعهم في نفي قيام الفعال
الختيارية به سبحانه وتعالى قالوا :إنه يجب أن تكون لجنس
المخلوقات بداية ،وقبل هذه البداية يمتنع دوام الحوادث ،أو
تسلسل المخلوقات ،أو دوام المخلوقات ،أو حوادث ل أول لها،
قالوا :هذا مستحيل ،ممتنع لذاته ،وإذا كان دوام الحوادث ممتنعا
فالرب تعالى غير قادرٍ على أن يخلق في الزل! و كفى بهذا
تنقصا لرب العالمين !
لن الممتنع ل تتعلق به القدرة .
ومن يقول :إن دوام الحوادث ممتنع ،والرب لم يزل قادرا
عليها؛ فقد جمع بين النقيضين؛ لن كونه قادرا يقتضي أن يكون
دوام الحوادث ممكنا ،فكأنه يقول :إن دوام الحوادث ممكن
ممتنع ،وهذا جمعٌ بين النقيضين.
وجمهور المتكلمين على امتناع دوام الحوادث في الماضي.
لكن ينبغي فهم معنى دوام الحوادث ،أو تسلسل الحوادث ـ
أي :المخلوقات ـ أو حوادث ل أول لها فمعناه :هل يمكن أن
يكون ما من مخلوق إل قبله مخلوق ،وقبل المخلوق مخلوق،
وقبل المخلوق مخلوق إلى ما ل نهاية له ،هل هذا ممتنع ؟ هذا
هو معنى الكلم.
وفي تسلسل المخلوقات ثلثة مذاهب] :انظر :منهاج السنة
،1/146ودرء تعارض العقل والنقل ،1/351وموقف ابن تيمية
من الشاعرة ،3/996وِقدم العالم وتسلسل الحوداث[
قال جهم :بامتناع دوام الحوادث في الماضي والمستقبل
فجنس الحوادث عنده لها بداية ،ويمتنع دوامها في المستقبل،
ولهذا قال بفناء الجنة والنار.
وجمهور المتكلمين قالوا بامتناع دوام الحوادث في الماضي،
وجوازه في المستقبل.
ة عليهم،
ج ٌح ّوإقرارهم بدوام الحوادث في المستقبل ُ
والصواب هو :جواز دوام الحوادث في الماضي والمستقبل؛ لنه
جائز ـ أي :ممكن ل مانع منه ـ فإذا كان الرب لم يزل على كل
شيٍء قدير ،فلم يزل الفعل ممكنا ،ومن يقول :إنه لم يخلق في
الزل فعليه الدليل.
35
والمر الذي نقطع ببطلنه قول من يقول :بامتناع دوام
الحوادث في الماضي.
ل لما يريد فهذا هو الحق، أما إذا قيل :إنه ممكن ،والله فعا ٌ
وأهم شيء أن تعلم أن هذا ل يستلزم محذورا كما ضنه الضانون
والجاهلون؛ لنه على هذا التقدير ـ دوام الحوادث ـ معناه:أن كل
مخلوق فإنه مسبوق بعدم نفسه .ـ أي محدث بعد أن لم يكن ـ
والله تعالى متقدم على كل شيء ،مهما ُيفرض من مخلوقات
متسلسلة فالله تعالى سابق لها ،فكل مخلوق فالله تعالى خالقه،
ث والله تعالى لم يزل.والمخلوق محد ٌ
كل على كثير من الناس؛ لكن يجب أن وهذه في الحقيقة ُتش ِ
تؤمن أيها المسلم بأن الله لم يزل على كل شيء قدير ،ولم يزل
فعال لما يريد ،وإذا آمنت بأن الله لم تحدث له قدرة ـ أي ـ لم
يصر قادرا بعد أن لم يكن قادرا ،ولم يصر فعال بعد أن لم يكن
فعال ،فإذا آمنت بهذا حصل المطلوب سواء فهمت المسألة أو ما
فهمت.
لكن نقول لك :إذا استقر في نفسك هذا فهمت أن هذا
يقتضي جواز وإمكان دوام الحوادث في الماضي ،مادام أن ربك
لم يزل على كل شيء قدير ،ولم يزل فعال لما يريد.
وأهم شيء هو الصل :اليمان بكمال ودوام قدرة وفاعلية
الرب ،وأنه تعالى لم يزل فعال لما يريد ،ولم يزل على كل شيء
قدير ،هذا هو الذي يجب أن تستمسك به.
والمسلمون هذه فطرتهم ،وهذه عقيدتهم ،ول يتكلمون في
مسألة التسلسل ،لكن ألجأ إلى الكلم في ذلك أهل البدع
المعطلة ـ الجهمية ،والمعتزلة ،والذين تأثروا بهم ـ حين تكلموا
وقالوا :يمتنع دوام الحوادث!
فلزم بيان الحق ،وهو أن الله تعالى لم يزل على كل شيء
قدير ،ولم يزل فعال لما يريد ،ولم يزل خالقا ،ولم يزل قادرا،
وهكذا )مازال بصفاته قديما قبل خلقه(
بعد هذه الجملة العامة المجملة ،ذكر بعد ذلك جمل تفصيلية
فيقول:
36
هو الخالق والخّلق ولو لم يخلق ،والخالق البارئ اسمان
ق ه ال ْ َ
خال ِ ُ من أسمائه الحسنى التي سمى بها نفسه }هُوَ الل ّ ُ
صوُّر { ال َْبارِئُ ال ْ ُ
م َ
خلق( :يأتي بمعنى التقدير ،وبمعنى اليجاد. و)ال َ
و)البارئ( :هو الذي يحدث الشيء من العدم إلى الوجود .
يقول) :له معنى الربوبية ول مربوب ،ومعنى الخالق ول
مخلوق( و هذه الجملة من جنس التي قبلها ،فهو سبحانه
موصوف بالربوبية ،والخالقّية ،ولو لم يكن هناك مخلوق ول
مربوب ،فليس مفتقرا في أسمائه وصفاته إلى خلقه.
قوله) :وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا ،استحق هذا
السم قبل إحيائهم ،كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم،
ي قدير( كما أنه استحق السم )محيي ذلك بأنه على كل ش ٍ
الموتى( قبل إحياء الموتى ،كذلك استحق اسم )الخالق( قبل
إنشائهم.
ن
وفي هذه العبارة :تدليل وتعليل وتفصيل لما تقدم من أ ّ
أسماَءه ،وصفاته ل تتوقف على ما يخلقه أو ما يفعله ،فهو تعالى
مستحقٌ لوصفه بإحياء الموتى ،وأنه يحيي ويميت قبل إحياء
الموتى.
وقوله) :ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق(
يحتمل أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي؛ لنه حين
يقول) :ليس بعد خلق الخلق() ،وله معنى الربوبية ول مربوب(
كأنه يفهم منه أن لجنس المخلوقات بداية.
لكن هل يقول :إن دوام الحوادث ممتنع ؟ أو يقول :إنه
ممكن لكنه غير واقع ؟
فيه احتمال.
والمنكر هو القول بامتناع تسلسل الحوادث في الماضي،
لكن هل هو واقع ـ أي :أن المخلوقات لم تزل فعل ً ـ أو يمكن
دوامها وتسلسلها في الماضي لكنه لم يقع ؟
المر في هذا واسع.
37
ه ع ََلى ك ُ ّ
ل ن الل ّ ُ كا َ ديٌر (( )) وَ َ م قَ ِ ه ع َِلي ٌ ن الل ّ َ ديٌر (( )) إ ِ ّ يٍء قَ ِ ش ْ َ
َ
من ذاًبا ّ م عَ َث ع َل َي ْك ُ ْ قاد ُِر ع ََلى أن ي َب ْعَ َ ل هُوَ ال ْ َ درا ً (( ))قُ ْ قت َ ِم ْ يٍء ُ ش ْ َ
م(( الية. فَوْقِك ُ ْ
وِذكر هذا السم في القرآن كثير جدا فهو القادر ،وهو
القدير ،وهو المقتدر سبحانه وتعالى .والدلة على كمال قدرته
ت ماَوا ِس َ قَنا ال ّ خل َ ْ ت أخرى متنوعة قال تعالى )) :وَل َقَد ْ َ بدلل ٍ
َ
ض (( فإخباره تعالى بخلق السماوات والرض ،وخلق كل َواْلْر َ
ت
ماَوا ِ س َ قَنا ال ّ خل َ ْ قد ْ َ شيء يستلزم إثبات كمال قدرته )) وَل َ َ
َ َ
ق[38: ب ((] ّ ن ل ُُغو ٍ م ْ سَنا ِ م ّ ما َ ست ّةِ أّيام ٍ وَ َ ما ِفي ِ ما ب َي ْن َهُ َ ض وَ َ َواْلْر َ
و
حد َةٍ (( )) وَهُ َ س َوا ِ ف ٍ م إ ِّل ك َن َ ْ م َول ب َعْث ُك ُ ْ قك ُ ْ خل ْ ُ
ما َ قال سبحانهَ )) :
َ ذي ي َْبدأ ُ ال ْ َ
ن عليه ((. م ي ُِعيد ُه ُ وَهُوَ أهْوَ ُ خل ْقَ ث ُ ّ ال ّ ِ
)ذلك بأنه على كل شيء قدير( فل خروج لشيء عن قدرته؛
فكل الموجودات إنما وجدت بمشيئته وقدرته سبحانه وتعالى ،ول
خروج لشيء عن قدرته ،وفي هذا رد ٌ على القدرية؛ كالمعتزلة،
الذين يخرجون أفعال العباد عن قدرة الله وعن مشيئته،
]الرسالة التدمرية ص [488فأفعال العباد عندهم ل تتعلق بها
بمشيئة الله وقدرته وخلقه! فالعباد هم الخالقون لفعالهم
دا،
يتصرفون بدون مشيئة الله ،والله ل يقدر أن يجعل القائم قاع ً
ما ،ول المؤمن كافرا ،ول الكافر مؤمنا ،فكل ما يجري والقاعد قائ ً
في الوجود من أفعال العباد ،بل وأفعال الحيوان ،خارج عن
مشيئة الله ،والله تعالى ل يقدر على أن يمنع شيئا من هذه
المور! فالقتال الذي يجري بين الناس لمختلف السباب
والدوافع ليس بمشيئة الله بزعمهم ،والله تعالى يقول )) وَل َ ْ
و
ريد ُ ((]البقرة[253: ما ي ُ ِ ل َ فعَ ُه يَ ْ ن الل ّ َ ما اقْت َت َُلوا وَل َك ِ ّ ه َ شاَء الل ّ ُ َ
َ
م شَر َ
كاؤ ُهُ ْ م ُ ل أْولد ِه ِ ْ ن قَت ْ َ كي َشرِ ِ م ْ ن ال ْ ُ م َ ن ل ِك َِثيرٍ ِ ك َزي ّ َ )) وَك َذ َل ِ َ
ما
م وَ َ ما فَعَُلوه ُ فَذ َْرهُ ْ ه َ شاَء الل ّ ُ م وَل َوْ َ م ِدين َهُ ْ سوا ع َل َي ْهِ ْ م وَل ِي َل ْب ِ ُ دوهُ ْ ل ِي ُْر ُ
ن ((]النعام[137: فت َُرو َ يَ ْ
هذا مضمون هذا المذهب القبيح المنكر.
س َ
وقوله) :وكل شيٍء إليه فقير( قال تعالىَ )) :يا أي َّها الّنا ُ
قَراُء (( كل شيء إليه فقير وهو الغني بذاته عن كل من ف َ م ال ْ ُ َ
أن ْت ُ ُ
سواه.
فالغنى المطلق من لوازم ذات الرب تعالى ،والفقر من
لوازم المخلوق ،فالفقر صفة ذاتية للمخلوق ،والغنى صفة ذاتية
للخالق.
فالمخلوق فقير إلى الله من جميع الوجوه ،والله غني عن
َ َ
قَراُء إ َِلى الل ّ ِ
ه ف َم ال ْ ُ س أن ْت ُ ُ خلقه من جميع الوجوه )) َيا أي َّها الّنا ُ
ميد ُ ((]فاطر.[15: ح ِي ال ْ َ ه هُوَ ال ْغَن ِ ّ َوالل ّ ُ
38
فكل شيٍء مفتقر إلى الله في وجوده ،وفي بقائه ،وفي
مصالحه ،وفي كل شؤونه.
وقوله) :وكل شيٍء عليه يسير(
كل شيٍء عليه هين ،وهذا يؤكد أنه على كل شيٍء قدير،
ن
م ْجَزه ُ ِ ن الل ّ ُ
ه ل ِي ُعْ ِ ما َ
كا َ فليس هناك ما يصعب عليه ،ويعجزه )) وَ َ
َ َْ
م ي ََرْوا ك َي ْ َ
ف ي ُب ْد ِئُ ض (( )) أوَل َ ْ ت َول ِفي الْر ِ ماَوا ِ س َيٍء ِفي ال ّ ش ْ َ
سيٌر ((]العنكبوت.[19: ك ع ََلى الل ّهِ ي َ ِ
ن ذ َل ِ َ
م ي ُِعيد ُه ُ إ ِ ّخل ْقَ ث ُ ّ
ه ال ْ َ
الل ّ ُ
وقوله) :ل يحتاج إلى شيء(
هذا يؤكد كمال غناه ،فهو الغني بذاته عن كل ما سواه.
لو قال المؤلف) :ذلك بأنه على كل شيٍء قدير ،وكل شيٍء
عليه يسير ،وكل شيٍء إليه فقير ل يحتاج إلى شيء( لكان أكثر
تناسبا؛ لن الجملة الثالثة مناسبة للجملة الولى ،والجملة الرابعة
مناسبة للجملة الثانية ،لكن كأنه فعل ذلك لمراعاة السجع.
39
وهو )السميع البصير( اسمان من أسمائه الحسنى داّلن
على صفتين من صفاته العلى ،فهو السميع وهو ذو السمع ،وهو
البصير و ذو بصر ،فتدل الية على إثبات السمين ،وما تضمناه
من صفة السمع ،والبصر.
40
فالجهمية ينفون عن الله أسماَءه وصفاِته ويقولون :هذه
السماء إضافتها إلى الله مجاز ،وإل فهي أسماء لبعض
المخلوقات.
والمعتزلة ينفون الصفات ،ويقولون :اسمه عليم لكنه بل
ة قائمة به ،وقدير بل قدرة ،وسميع بصير علم ،فليس العلم صف ً
بل سمع ول بصر! كذا حكى أهل العلم عنهم ]التمهيد ،7/145
والتدمرية ص ،92ومجموع الفتاوى ،3/335والنبوات .[1/577
وأما الحق الذي دل عليه كتاب الله ،وسنة رسوله ، rودل
عليه العقل ،وأجمع عليه سلف المة ،والذين اّتبعوهم بإحسان
فهو أنه عليم بعلم ،وأن العلم صفته سبحانه وتعالى ،وجاء ذكر
العلم في القرآن ،قال تعالى)) :أنزله بعلمه(( )) ول يحيطون
سّنة ،قال النبي » :اللهم إني بشيٍء من علمه (( ،وفي ال ُ
أستخيرك بعلمك « ]رواه البخاري ) (1162من حديث جابر [t
وهذا تصريح بلفظ العلم ،ولو لم ترد هذه النصوص لكان ذكر
السم كافيا في الدللة على إثبات الصفة.
وعلمه تعالى أزلي ل يتجدد ـ بمعنى ـ أنه يصير عالما ً بعد أن
لم يكن ،ويعلم الشيء بعد أن لم يكن عالما به! فهذا نقص ،والله
منزه عنه ،كما تقدم ]ص[ في التنبيه على دوام كماله )ما زال
في صفاته قديما قبل خلقه(.
فنقول :ما زال بكل شيٍء عليما ،وعلمه تعالى مطابق
للواقع؛ لن ما لم يطابق الواقع جهل.
وأما ما جاء في القرآن مما قد يفهم منه تجدد العلم ،كقوله
ع
ن ي َت ّب ِ ُ
م ْ ت ع َل َي َْها إ ِّل ل ِن َعْل َ َ
م َ ة ال ِّتي ُ
كن َ قب ْل َ َ
جعَل َْنا ال ْ ِ
ما َ
تعالى )) وَ َ
ل((]البقرة [143:وقوله تعالى )) :أفحسبتم أن تدخلوا سو َ الّر ُ
الجنة ولما يعلم الله (( ،وقوله تعالى )):أحسب الناس أن يتركوا
أن يقولوا آمنا وهم ل يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم
فليعلمن الله الذين صدقوا (( ،فالمراد به علمه تعالى بالشيء
موجودًا.
ولهذا بعضهم يعّبر عنه بـ)علم الظهور ،أوعلم الوجود(.
فالله تعالى قبل أن يخلق الخلق يعلم أحوالهم ،وصفاتهم،
ومن يطيعه ،ومن يعصيه ،لكن هل يعلمهم موجودين ؟ ل؛ بل
يعلم أن ذلك الشيء سيكون ،فإذا وجد علمه موجودًا.
فهو تعالى يعلم من يجاهد ،ومن ل يجاهد ،ومن يصبر ،ومن
ل يصبر ،ويعلم من يقبل تشريعه في أمر القبلة ،ومن ل يقبل،
ومن يتبع الرسول ،ومن ل يتبع الرسول ...إلخ
41
يعلم أنه سيكون وهم غير موجودين ،فإذا وجدوا علمهم
ب على ما يوجد بالفعل ،هذا موجودين ،والثواب والعقاب مرت ٌ
مقتضى عدله وحكمته.
فالله ل يجزي العباد بموجب علمه قبل خلقهم؛ بل يجزيهم
على ما وقع منهم بالفعل.
والله تعالى يعلم ما ل يكون لو كان كيف يكون ،وشاهد هذا
دوا لعادوا لما نهوا عنه (( في القرآن قوله تعالى )) :ولو ُر ّ
م ع ََلى قَْري َ ٍ
ة حَرا ٌ دون )) وَ َ ]النعام ،[28:وقد حكم الله بأنهم ل ُير ّ
ن ((]النبياء[95: أ َهْل َك ْنا َ َ
جُعو َ م ل ي َْر ِ ها أن ّهُ ْ َ
وكما دل السمع على إثبات صفة العلم؛ دل العقل عليها،
وبيان ذلك :أن إيجاد المخلوقات وإحكام هذا الخلق العظيم
الواسع لبد أن يكون عن علم يقوم بالرب تعالى ،ول يتصور أن
ما يقول الجاهلون علوا كبيرا. يكون بل علم تعالى الله ع ّ
ومن الطرق العقلية ـ أيضا ـ أن العلم يوصف به المخلوق
على يليق به ،وهو صفة كمال ،فلو لم يتصف الخالق سبحانه
بالعلم لزم أن يكون المخلوق أكمل من الخالق؛ وهذا ممتنع
ة.
بداه ً
در لهم أقدارا( قال تعالى )) :وخلق كل شيٍء وقوله) :وق ّ
فقدره تقديرا ً (( )) إنا كل شيٍء خلقناه بقدر ((.
وجاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي
در الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والرض rقال) :ق ّ
بخمسين ألف سنة(] .رواه أحمد 2/169ـ والفظ له ـ ،ومسلم )
،(2653والترمذي ) ،(2156وابن حبان ) (6138وصححاه ،وعند
مسلم» :كتب«[
مقادير تكون من جهة الزمان ،والمكان ،والذات ،فكل إنسان
َ
مى (( س ّم َل ُ ج ٍشاُء إ َِلى أ َ ما ن َ َحام ِ َ قّر ِفي ال َْر َقدر الله له زمنا )) وَن ُ ِ
در ،هذا ستة ]الحج [5:يعني مقدار ل ُْبث الجنين في الرحم مق ّ
أشهر ،وذا تسعة ،وذا عشرة ،وذا أكثر.
در جميع الشياء. در ،وق ّ در ،ورزقهم مق ّ وعملهم مق ّ
در الله المقادير( كلمة قصيرة لكن مفهومها وقوله ) ق ّ
واسع جدا ،ل نحيط به ول نتصوره لكن نفهمه إجمال.
وقوله) :وضرب لهم آجال(
وعطف هذه الجملة على التي قبلها من عطف الخاص على
العام) ،ضرب لهم آجال( حدد للخلق أجال ،والجل :يطلق على
نهاية المدة المقدرة ،أو على نفس المدة المقدرة كلها ،فالدنيا
ن ثُ ّ
م طي ٍن ِ م ْم ِ خل َ َ
قك ُ ْ ذي َ لها أجل ،ينتهي بيوم القيامة )) هُوَ ال ّ ِ
َ َ
عن ْد َه ُ ((]النعام.[2: مى ِ س ّ م َل ُ جًل وَأ َ
ج ٌ ضى أ َ قَ َ
42
َ َ والمم لها آجال )) ل ِك ُ ّ ُ
م َفل جل ُهُ ْ
جاَء أ َ ذا َ ل إِ َ ج ٌمة ٍ أ َلأ ّ
ن ((]يونس [49:كل أمة لها أجل ْ
مو َ قد ِ ُ ست َ ْ
ة َول ي َ ْ ساع َ ً ن َ خُرو َ ست َأ ِ يَ ْ
ثم تنتهي كيف شاء الله ،وفي تاريخ المسلمين ،الدولة الموية لها
تاريخ وانتهت ،ثم الدولة العباسية وانتهت ،وهكذا غيرها.
وكذلك آجال مختصة بكل فرد مثل ما جاء في حديث ابن
مسعود tعن النبي ) :rفيؤمر بأربع كلمات :بكتب رزقه وأجله(
ما]رواه البخاري ) ،(3208ومسلم ) ،[(2643قال تعالى )) :وَ َ
جًل ((]آل عمران: َ
ن الل ّهِ ك َِتاًبا ُ
مؤ َ ّ ت إ ِّل ب ِإ ِذ ْ ِ مو َ ن تَ ُسأ ْ ف ٍ ن ل ِن َ ْ كا َ َ
.[145
ذا؛ بأي شيء يموت النسان ؟ إ ً
ن َ ما َ
سأ ْ ف ٍن ل ِن َ ْ
كا َ هو ميت بأجله ،وفي الوقت المحدود )) وَ َ
جًل ((]آل عمران [145:فالمقتول مؤ َ ّ ن الل ّهِ ك َِتاًبا ُ ت إ ِّل ب ِإ ِذ ْ ِ مو َ تَ ُ
سّنة ،خلفا ً للمعتزلة ،فإنهم يقولون: ميت بأجله هذا عند أهل ال ُ
إن المقتول قد قطع القاتل عليه أجله ،فيمكن أنه سيعيش مائة
سنة لكن اعتدى عليه القاتل فقتله وهو ابن عشرين سنة فضّيع
عليه القاتل ثمانين سنة! ]مجموع الفتاوى [8/516
نعوذ بالله من الجهالة ،والضللة؛ بل المقتول ميت بأجله،
والجال جعل الله لنقضائها أسبابا؛ فمن الناس من يموت
ببأسباب سماوية ل دخل لحد ٍ من الناس فيها ،ومنها ماله تسب ٌ
ب مبين ،معلوم لرب ل في كتا ٍ من الناس؛ مثل المقتول ،وك ٌ
مرِهِ إ ِّل ِفي ن عُ ُ م ْ
ص ِ ق ُ مرٍ َول ي ُن ْ َ معَ ّ ن ُ م ْمُر ِ ما ي ُعَ ّ العالمين )) ،وَ َ
ب ((]فاطر.[11: ك َِتا ٍ
فالجال ،والعمار كلها مقدرة ،ودلت النصوص على أن
لطول العمر وقصره أسبابا كونية ،و شرعية ،فمن السباب
الشرعية :صلة الرحم ،وبر الوالدين ،ففي الصحيحين عن النبي
) :من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل
رحمه( ]البخاري ) ،(5986ومسلم ) (2557من حديث أنس [
و في الحديث الخر قال النبي ) :ول يزيد في العمر إل البر(
]أحمد ،5/277وابن ماجه ) ، (90وصححه ابن حبان )(872
والحاكم ،1/493وحسنه العراقي فيما نقله البوصيري في
مصباح الزجاجة ) (33من حديث ثوبان [والتحقيق أنه ل ينافي
القدر ،فليس معناه أن هذا سبق في علم الله وكتابه أن عمره
ستون سنة ،ثم يحدث أنه يبر بوالديه فيزاد في عمره ،ل؛ بل هذا
مد الله في عمره جزاًء له؛ قد سبق في علم صل رحمه ،و َ الذي و َ
الله وفي كتابه أنه يطول عمره بهذا السبب ،وكل المور جارية
على السباب والمسببات ،ومندرجة في قدر الله التام.
43
ض أهل البدع يقول :الدعاء ل ويقال مثل هذا في الدعاء ،وبع ُ
در هذا المطلوب فل حاجة للدعاء ،فهو فائدة منه؛ فإن كان الله ق ّ
حاصل دعوت أو لم تدع ،وإن كان غير مقدر فل فائدة في
الدعاء؛ لنه لن يحدث!
وهذا فهم باطل مبني على عدم تأثير السباب في مسب ََباتها،
ويلزمهم أن يقولوا مثل هذا في كل السباب.
در سببه ،وقد ل وما قدر الله حصوله في هذا الدعاء قد ُيق ّ
يقدر ،فما لم يقدر سببه ل يحصل بالدعاء ،وما قدر سببه يحصل
ب.
السبب ،والمسب َ َ
فتارة يقدر الله السبب ،ولم يقدر المسَبب.
وتارة يقدر هذا المر بدون هذا السبب.
در السبب ،والمسَبب ،وهذا موضوع معناه وتارة يكون المق ّ
واسع جدا ،فالرزق للنسان يحصل بسبب الطلب والكدح ،و
أحيانا يحصل بدون سعي ول جهد].مجموع الفتاوى 8/192و
[14/143
وهذا كله يرجع إلى اليمان بالقدر أحد أصول اليمان،
در لهم أقدارا ،وضرب والمؤلف لما قال ) :خلق الخلق بعلمه ،وق ّ
لهم آجال( يريد تقرير الصل السادس ،وإن كان سُيثّني ويردد
الكلم في القدر.
ثم أكد المصنف قوله) :خلق الخلق بعلمه ،وقدر لهم أقدارا،
وضرب لهم آجال( بقوله) :لم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم(
أكده بالنفي ،فالول إثبات ،والثاني سلب.
ثم قال) :وعلم ما هم عاملون( وهذا أيضا تأكيد ،لكن الجملة
مة.
الولى عا ّ
)علم ما هم عاملون( سبق علمه بأعمالهم :المؤمن،
والكافر ،والمطيع ،والعاصي قبل أن يخلقهم ،وكتب ذلك وقضاه
دره في أم الكتاب. وق ّ
وفي التقدير الثاني :قال النبي ) :فيؤمر بأربع كلمات :
بكتب رزقه ،وأجله ،وعمله ( ]تقدم تخرجه في ص[
44
َ
شي ًْئا (( كوا ب ِهِ َ شرِ ُ ه َول ت ُ ْ دوا الل ّ َ دا ((]البقرةَ )) [22:واع ْب ُ ُ دا ً
أن َ
]النساء )) [36:وقَضى رب َ َ
ن دوا إ ِّل إ ِّياه ُ وَِبال ْ َ
وال ِد َي ْ ِ ك أّل ت َعْب ُ ُ َ ّ َ َ
ساًنا ((]السراء.[23: ح َ إِ ْ
ل بد للستقامة على الصراط المستقيم في هذا المقام من
اليمان بالشرع ،والقدر جميعا.
أما اليمان بالقدر فهو الصل السادس ،وأما اليمان بالشرع
فهو موجب اليمان بكتب الله ورسله.
فأهل الهدى والفلح يؤمنون بهذا وهذا ،ويؤمنون بحكمة
الرب في شرعه وقدره.
وأما فرق الضلل فالمشركون ،وأتباعهم من الجبرّية فإنهم
يثبتون القدر ،ولكنهم ينكرون الشرع أو يعرضون عن الشرع كما
ما
ه َشاء الل ّ ُ كوا ْ ل َوْ َ شَر ُ ن أَ ْ ذي َ ل ال ّ ِ قو ُ سي َ ُ قال الله عن المشركينَ } :
شَرك َْنا {]النعام[148: أَ ْ
قولهم ) :لو شاء الله ما أشركنا( هذا يتضمن أنهم ُيقّرون
بالقدر ،وبمشيئة الله ،ولكنها كلمة حق أريد بها باطل ،فهم
ة لما جاءت به الرسل من المر بعبادة الله يقولون ذلك معارض ً
وحده ل شريك له ،ونهيهم عن الشرك به.
والجبرية ـ المنتسبين للمسلمين ـ يقال لهم :مشركّية؛ لنهم
بمنهجهم ذلك شابهوا المشركين الذين قالوا )) :لو شاء الله ما
أشركنا ((.
ويقابلهم المجوسية وهم) :القدرية( كالمعتزلة فإنهم ينفون
تعلق مشيئة الله بأفعال العباد ،ويخرجون أفعال العباد عن
مشيئته وقدرته ،وملكه ،مع أنهم يقرون بالشرع.
وأسلفهم الولون الذين ظهروا في عهد الصحابة ينفون
القدر كله بمراتبه الربع :العلم ،والكتابة ،والمشيئة ،والخلق.
وطائفة قالت :إن الشرع والقدر فيهما تناقض ،وإن أثبتتهما ،
فطعنت في حكمة الرب سبحانه ،وتسمى :البليسية ؛ فزعيمهم
في هذا إبليس ،فهو الذي أعترض على الرب ،وطعن في
حكمته ،مع إقراره بخلق الله وأمره ،فكان هو إمام هذه الطائفة
المخذولة .
هذه فرق الضلل من الخائضين في القدر كما ُيعّبـر شيخ
السلم ابن تيمية رحمه الله] .الرسالة التدمرية ص [488
]إثبات عموم مشيئة الله تعالى[
قال رحمه الله تعالى) :وكل شيء يجري بتقديره ومشيئِته،
ومشيئُته تنفذ ل مشيئة للعباد إل ما شاء لهم ،فما شاء لهم كان،
وما لم يشأ لم يكن ،يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضل ،ويضل
من يشاء ويخذل ويبتلي عدل(.
45
يقرر المؤلف في هذه الجملة عموم مشيئة الله ،وأنها
شاملة لكل شيء ،فكل شيٍء يجري بتقديره ومشيئته؛ كحركات
الفلك ،وتصريف الرياح ،وحركات الناس كلها تجري بعلمه
وبمشيئته قد سبق بها العلم ،والكتاب.
)ل مشيئة للعباد إل ما شاء لهم( فالعباد لهم مشيئة،
وأفعالهم نوعان:
اختيارية؛ فالنسان يذهب ويجيء ،ويأكل ويشرب ،ويتكلم،
ويضرب ،هذه حركات اختيارية.
وأفعال ل اختيارية كحركة النائم ،و المرتعش ،فهذه يقال
لها :ل إرادية.
شاَء ن َ م ْ ومشيئة العباد مقيدة بمشيئة الله ،قال تعالى )) :ل ِ َ
َ منك ُ َ
نن إ ِّل أ ْ شاُءو َ ما ت َ َ م (( بإثبات المشيئة للعباد )) وَ َ قي َ ست َ ِ ن يَ ْ مأ ْ ِ ْ ْ
ن ((]التكوير [29:ففي هذه الية رد على مي َ َ
ب الَعال ِْ ه َر ّ ّ
شاَء الل ُ يَ َ
َ
ن
مأ ْ من ْك ُ ْ شاَء ِ ن َ م ْ طائفتين :الجبرية ،والقدرية؛ فقوله )) :ل ِ َ
َ
ه (( رد على شاَء الل ّ ُ ن يَ َ م (( رد على الجبرية ،وقوله )) :إ ِّل أ ْ قي َ ست َ ِيَ ْ
القدرية نفاةِ القدر.
)ل مشيئة للعباد إل ما شاء لهم( وهذا الذي نعّبر عنه بقولنا:
ما شاء الله كان ،أما مشيئة النسان فقد تتحقق ،وقد ل تتحقق،
فيشاء العبد ما ل يكون ،كالعاجز يريد شيئا ول يكون ،وقد يكون
ما ل يريد ،كالمكره يجري عليه من المور ما ل يريده.
أما الرب القدير على كل شيء فما شاء كان ،وما لم يشأ ل
يكون ،سبحانه وتعالى.
وقوله) :يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضل(
ريد ُ ما ي ُ ِ ل لِ َ أدلة هذا في القرآن كثيرة ،قال الله تعالى )) :فَّعا ٌ
((]البروج [16:هذا دليل عام.
شاُء ((]النحل: ن يَ َ م ْ دي َ شاُء وَي َهْ ِ ن يَ َ م ْ ل َ ض ّ وقال تعالى )) :ي ُ ِ
ْ
ط
صَرا ٍ ه ع ََلى ِ جعَل ْ ُ شأ ي َ ْ ن يَ َم ْ ه وَ َ ضل ِل ْ ُه يُ ْ شإ ِ الل ّ ُ ن يَ َ م ْ َ )) [93
قيم ٍ ((]النعام[39: ست َ ِ م ْ ُ
وقوله) :يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضل( يوفق من
يشاء لسبل الخيرات ،والعمال الصالحات ،ويعصم من الوقوع
في الزّلت والسيئات ،ويعافي من يشاء ،وكل ذلك بفضله تعالى:
م م وَك َّره َ إ ِل َي ْك ُ ُ ه ِفي قُُلوب ِك ُ ْ ن وََزي ّن َ ُ ما َ لي َ
م ا ُِ ب إ ِل َي ْك ُ ُ حب ّ َ ه َ ن الل ّ َ )) وَل َك ِ ّ
ن الل ّ ِ
ه م َ ضًل ِ ن * فَ ْ دو َ ش ُ م الّرا ِ ك هُ ُ ن أوْل َئ ِ َ صَيا َ سوقَ َوال ْعِ ْ ف ُ فَر َوال ْ ُ ال ْك ُ ْ
ن ل من الله )) وَل َك ِ ّ م((]الحجرات [8-7:فض ٌ كي ٌ ح ِ م َ ه ع َِلي ٌ ة َوالل ّ ُ م ً وَن ِعْ َ
شاُء ((]إبراهيم[11: ن يَ َ م ْ ن ع ََلى َ م ّ ه يَ ُ الل ّ َ
فهو يهدي من يشاء بفضله وحكمته فيضع وليته في موضعها
م (( كي ٌ ح ِ م َ ه ع َِلي ٌ فضل منه وحكمة ،ولهذا قال سبحانهَ )) :والل ّ ُ
46
]النساء )) ، [26:الل ّ َ
ه ((]النعام،[124: سال َت َ ُ
ل رِ َ جعَ ُ ث يَ ْ حي ْ ُ م َ ه أع ْل َ ُ ُ
ما ((]النساء.[70: فى ِباللهِ ع َِلي ً ّ َ
ن اللهِ وَك َ ّ م َ ل ِ ض ُ ف ْك ال ْ َ )) ذ َل ِ َ
وقوله) :ويضل من يشاء( هذا قد نص الله عليه في كتابه
في مواضع]الرعد ،27:والنحل ،93 :وفاطر [8:كما قال تعالى:
شاُء(( ]إبراهيم.[4: ن يَ َ م ْ دي َ شاُء وَي َهْ ِ ن يَ َ م ْ ه َ ل الل ّ ُ ض ّ )) فَي ُ ِ
وقوله) :ويخذل ويبتلي عدل( الخذلن :عدم التوفيق ،ويبتلي:
يصيب من يشاء بالبلء ،عدل :أي :بعدله وحكمته .
والهداية المضافة إلى الله المتعلقة بالمكلف نوعان :
هداية عامة ـ للمؤمن ،والكافر ـ وهي :هداية الدللة ،والبيان،
ن (( جد َي ْ ِوالرشاد لسبيل الخير والشر ،قال تعالى )):وَهَد َي َْناه ُ الن ّ ْ
م ((]فصلت [17:أي :دّلـُهم، َ
مود ُ فَهَد َي َْناهُ ْ ما ث َ ُ ]البلد )) ،[10:وَأ ّ
حاصال ِ ًم َ خاهُ ْ مود َ أ َ َ سل َْنا إ َِلى ث َ ُ
وبين لهم بإرسال رسوله )) ول َ َ َ
قد ْ أْر َ َ ّ
ّ َ
ن ((]النمل.[45: مو َ ص ُ خت َ ِ ن يَ ْ قا ِ ري َ م فَ ِ ذا هُ ْ ه فَإ ِ َ دوا الل َ ن اع ْب ُ ُ أ ِ
والنوع الثاني :هداية التوفيق لقبول الحق ،وإلهام الرشد،
ح ه يَ ْ وشرح الصدر ،قال تعالى )) :فَمن يرد الل ّ َ
شَر ْ ن َيهد ِي َ ُ هأ ْ ُ َ ْ ُ ِ ِ
ّ َ
سلم ِ صد َْره ُ ل ِل ِ ْ ه َ ح الل ُ شَر َ ن َ م ْ سلم ِ ((]النعام )) [125:أفَ َ صد َْره ُ ل ِل ِ ْ َ
ن َرب ّهِ ((]الزمر [22:فهاتان هدايتان: م ْ فَهُوَ ع َلى ُنورٍ َِ
الولى تسمى) :الهداية العامة( ،والثانية) :الهداية الخاصة(.
أما الهداية الخاصة فل يملكها إل الله تعالى.
وأما الهداية العامة فالله قد جعلها للرسل ـ أيضا ـ قال
قيم ٍ ((]الشورى،[52: ست َ ِ م ْ ط ُ صَرا ٍ دي إ َِلى ِ ك ل َت َهْ ِ تعالى )) :وَإ ِن ّ َ
َ
ن
م ْ دي َ ه ي َهْ ِ ن الل ّ َ ت وَل َك ِ ّ حب َب ْ َ نأ ْ م ْدي َ ك ل ت َهْ ِ وقال تعالى )) :إ ِن ّ َ
شاُء((]القصص [56:نفى عنه أن يهدي من يحب ،وأثبتها لنفسه يَ َ
سبحانه وتعالى ،فبين اليتين تعارض في الظاهر ،والجمع بينهما
بمراعاة التقسيم.
وأنكرت المعتزلة هداية التوفيق؛ لنهم أخرجوا أفعال العباد
دس ،فعندهم أن الله ل يقدر عن مشيئة الرب وقدرته تعالى وتق ّ
أن يهدي أحدا ،وإنما أثبتوا الهداية العامة :هداية الدللة والرشاد.
كم له بالهداية، ح َ وقالوا) :يضل( و)يهدي( أي :من اهتدى َ
ومن ضل سماه ضال ،أما أنه يجعل هذا مهتديا أو هذا ضال فل!
تعالى عن قول الظالمين والمفترين علوا كبيرا.
47
شاء ،وعدله حيث شاء له الحكمة البالغة ،فالله يهدي من يشاء
بفضله وحكمته ،ويضل من يشاء بعدله وحكمته.
فالحكمة معتبرة وجارية وواقعة في الكل له الحكمة البالغة
في هدايته لمن شاء من عباده ،وخذلنه لمن شاء ،وكان من
المناسب أن ينبه المؤلف إلى هذا.
والدلة على حكمة الرب كثيرة فاسمه الحكيم يدل على
فى ِبالل ّ ِ
ه ن الل ّهِ وَك َ َم َل ِض ُ ف ْ ك ال ْ َ الحكمة ،وكذلك قوله )) :ذ َل ِ َ
َ
ه ((]النعام: سال َت َ ُ ل رِ َ جعَ ُث يَ ْحي ْ ُ
م َ ه أع ْل َ ُ ما ((]النساء )) [70:الل ّ ُ
ع َِلي ً
.[124
وأفعال الرب معللة ]منهاج السنة ،1/141وشفاء العليل ص
،190وانظر :ص عند قوله :تعالى عن الحدود والغايات[ لكن من
العلل والحكم ما نعلمه بالنص عليه في الكتاب أو السنة ،ومنها
ما ُيهتدى إليه بالتدّبر ،ومنها ما ل يعلم؛ فالعباد ل يحيطون بحكمة
الرب كما ل يحيطون بسائر الصفات.
فكل الخلق يتقلبون بين فضله وعدله ،حتى في الساعة
الواحدة يكون للنسان حظ من فضل الرب سبحانه وتعالى
بالتوفيق ،أو يكون في حالة ابتلء وخذلن ،واقرأ ما كتبه ابن
القيم ـ رحمه الله ـ في مدارج السالكين ]»]1/414فالعبيد
متقلبون بين توفيقه وخذلنه؛ بل العبد في الساعة الواحدة ينال
نصيبه من هذا وهذا .فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره بتوفيقه
له ،ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلنه له ،فهو دائر
بين توفيقه وخذلنه؛ فإن وفقه فبفضله ورحمته ،وإن خذله
فبعدله وحكمته ،وهو المحمود على هذا وهذا له أتم حمد وأكمله،
ولم يمنع العبد شيئا هو له ،وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه
وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله« [[.في مشاهد الخلق في
المعصية في مشهد التوفيق والخذلن.
48
فل ضد يضاد أمره وحكمه سبحانه وتعالى.
49
شأن محمد معتقدين بتوفيق الله :إن محمدا عبده المصطفى
ن ( ؛ لنها مقو ُ
ل القول. بكسر همزة ) إ ّ
وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد
مناف الهاشمي القرشي من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما
وعلى نبينا الصلة والسلم.
ومحمد هو أشهر أسمائه ، وإل فله أسماء فإنه قال » :
أنا محمد ،وأنا أحمد ،وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر ،وأنا
الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي ،وأنا العاقب« والعاقب
الذي ليس بعده نبي] .رواه البخاري ) ،(4896ومسلم ) (2354ـ
واللفظ له ـ من حديث جبير بن مطعم [
وأسماؤه أعلم وصفات ،فاسمه محمد علم وصفة يدل
مد،
ح ّ
على كثرة محامده ،وكثرة حامديه؛ لنه اسم مفعول من ُ
مد ] .انظر :جلء الفهام ص [.183 ح ِ
وهو أبلغ من ُ
50
المرتضى(؛ فإن هذا موافق لما جاء في القرآن ،فقد قال سبحانه
فى (( صط َ َ نا ْ ذي َ عَباد ِهِ ال ّ ِم ع ََلى ِ سل ٌ مد ُ ل ِل ّهِ وَ َ ح ْل ال ْ َ وتعالى )) :قُ ِ
]النمل [59:وفي سورة النعام لما ذكر الله إبراهيم ،ومن هدى
حا هَد َي َْنا ب ك ُّل هَد َي َْنا وَُنو ً قو َ حاقَ وَي َعْ ُ س َه إِ ْ الله من ذريته )) :وَوَهَب َْنا ل َ ُ
من آَبائ ِهِ ْ م ْ ن ذ ُّري ّت ِهِ ((]النعام [84:قال بعد ذلك )) :وَ ِ م ْ ن قَب ْ ُ
ل وَ ِ م ْ ِ
م ((]النعام [87:فوصف هؤلء جت َب َي َْناهُ ْم َوا ْ وان ِهِ ْخ َ م وَإ ِ ْوَذ ُّرّيات ِهِ ْ
الصفوة من النبياء بالجتباء.
ن
م ْ ضى ِ ن اْرت َ َ م ِ وأما الرتضاء ففي قوله تعالى )) :إ ِّل َ
ل ((]الجن ،[27:فكأنه استوحى هذا من اليات. سو ٍ َر ُ
ي ورسول ،والله خاطبه بـ )يا أيها النبي( والنبي محمد ٌ نب ٌ
في آيات ]وعددها ) (13آية ،منها» :النفال64:و 65و ،[«70
وبـ)يا أيها الرسول( في آيتين ]المائدة41:و [67فخاطبه
بالصفتين :النبوة ،والرسالة.
نبي؛ لنه منبأ ،فقد أنزل الله عليه النبأ العظيم ـ القرآن ـ .
س إ ِّني َ ل إلى الناس كافة )) :قُ ْ وهو رسول مرس ٌ
ل َيا أي َّها الّنا ُ
ك إ ِّلسل َْنا َ َ
ما أْر َ ميًعا ((]العراف )) [158:وَ َ ج ِ م َ ل الل ّهِ إ ِل َي ْك ُ ْسو ُ َر ُ
َ
فى ِبالل ّ ِ
ه سوًل وَك َ َ س َر ُ ك ِللّنا ِ سل َْنا َ
س ((]سبأ )) [28:وَأْر َ ة ِللّنا ِ كافّ ً َ
دا (( ]النساء.[79: شِهي ً َ
وأكثر ما ُيذكر بصفة الرسالة؛ لنها هي المتعلقة
بالمكلفين ،والمقتضية للبلغ.
لكن ما الفرق بين النبي والرسول؟
فإن الله سبحانه وتعالى قال )) :ولقد فضلنا بعض النبيين على
بعض وأتينا داود زبورا ً (( وقال سبحانه وتعالى )) :تلك الرسل
فضلنا بعضهم على بعض (( فنجد آيات فيها ذكر النبياء وآيات
فيها ذكر الرسل.
والفرق المشهور بين النبي والرسول :أن النبي من أوحي
إليه بشرٍع ولم يؤمر بتبليغه.
والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.
فلفظة نبي ل تشعر بالتبليغ ،وكأن هذا التعريف مستمد من
لفظة )نبي( ،ولفظة )رسول( ليس إل ،وهذا تعريف غير مستقيم؛
لن قولهم :إن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه.
فيه ملحظتان :
الولى :أنه أوحي إليه بشرع يدل على أنه يكون على شريعة
يستقل بها.
وثانيا :أنه ل يؤمر بالتبليغ؛ بل إنما هو مكلف بنفسه؛ فكأن
صه ،هذا ة به فيتدين بدين يخ ّ الشريعة التي أوحي بها إليه مختص ٌ
ما يفيده هذا التعريف ،ومعناه أنه ل يؤمر ،ول يدعو ،ول ينهى!
51
وهذا خلف ما وصف الله به النبياء؛ كأنبياء بني إسرائيل ،قال
َ
حك ُ ُ
م ب َِها سبحانه وتعالى} :إ ِّنا أنَزل َْنا الت ّوَْراة َ ِفيَها هُ ً
دى وَُنوٌر ي َ ْ
دوْا{ ]) (44سورة المائدة[ فكان النبيون ال ّذي َ
ها ُ
ن َ ذي َ موا ْ ل ِل ّ ِ
سل َ ُ
نأ ِْ َ ِّّ َ
أنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة ،وكانوا يسوسون الناس كما
جاء في الحديث عن النبي ) :كانت بنو إسرائيل تسوسهم
النبياء كلما هلك نبي خلفه نبي ،وإنه ل نبي بعدي(] .رواه
البخاري ) ،(3455ومسلم )[(1842
ل مأمور بالتبليغ ،لكن الرسال والصواب :أن كل نبي رسو ٌ
على نوعين :
هم ،والحكم ِ بينهم. مِهم ،وفتوا ُ الرسال إلى قوم مؤمنين بتعلي ِ
والرسال إلى قوم كفار مكذبين لدعوتهم إلى الله.
وبهذا يحصل الفرق بين النبي ،والرسول.
وهذا هو التعريف الذي اعتمده شيخ السلم ابن تيمية في
كتاب » النبوات« ]. [2/714
ذا؛ فالرسال الشرعي فيه هذا التفصيل قال الله تعالى: إ ً
ل ول نبي (( فأثبت الرسال )) وما أرسلنا من قبلك من رسو ٍ
للنبي أيضا ،فإذا ورد ذكر النبياء بإطلق فإنه يشمل الرسل ،وإذا
ذكر الرسل بإجمال فإنه يشملهم كلهم.
فإذا جاء ذكر نبي ورسول فل بد من هذا التفصيل ،كما قال
الله تعالى )) :تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض (( وهذا
يشمل نوحا ومن بعده ،وكذلك قول الله تعالى )) :ولقد فضلنا
بعض النبيين على بعض (( يشمل نوحا ومن بعده.
مى الله تعالى أنبياء بني إسرائيل رسل )) :ولقد أتينا ولذا س ّ
موسى بالكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم
ل بما ل تهوى البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جائكم رسو ٌ
أنفسكم استكبرتم((
فإذا أردنا أن نصنف في ضوء التعريف المختار؛ فنوح ،وهود،
وصالح ،وإبراهيم ،ولوط ،وشعيب ،وموسى ،وعيسى؛ هؤلء رسل
قص الله علينا أخبارهم مع أممهم.
وزكريا ،ويحيى ،وداود ،سليمان وأيوب أنبياء .
وذهبت المعتزلة أن النبوة ل تثبت إل بالمعجزات ،مثل:
عصى موسى ،ويده ،وغيرهما من اليات ،ومثل :انشقاق القمر
لمحمد .
وهذا باطل؛ فإن من النبياء من لم يذكر الله لهم آيات ،لكن
قال النبي ) :ما من النبياء نبي إل أعطي ما مثُله آمن عليه
البشر( ]رواه البخاري) ،(4981ومسلم) (152من حديث أبي
52
دعي م ّ هريرة [ فالنبوة تثبت بغير المعجزات ،بأدلة من حال ال ُ
للنبوة ،ومن حال ما جاء به ،وما يدعوا إليه.
ففي الصحيحين أن خديجة رضي الله عنها لما جاءها النبي
يرجف ويقول » :إني خشيت على نفسي« قالت له » :كل،
أبشر ،فوالله ل يخزيك الله أبدا ،إنك لتصل الرحم ،وتصدق
الحديث ،وتحمل الكل ،وتكسب المعدوم ،وتقري الضيف ،وتعين
على نوائب الحق«] .رواه البخاري) ،(4953ومسلم) (160من
حديث عائشة رضي الله عنها[
فاستدّلت على صدقه ،وحفظ الله له ،ووقايته من شر
الشيطان بما هو عليه من الفضائل العظيمة .
ج به على النبوة في القرآن أنه عاش بين وكذلك مما احت ُ ّ
أهله ولم ُيجرب عليه كذب ،قال تعالى )) :وإذا تتلى عليهم آياتنا
دله قل بينات قال الذين ل يرجون لقائنا إئت بقرآن غير هذا أو ب ّ
ه من تلقاء نفسي إن أتبع إل ما يوحى إلي دل ُ ما يكون لي أن أب ّ
إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم ٍ عظيم * قل لو شاء الله ما
تلوته عليكم ول أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا ً من قبله أفل
تعقلون ((
س أربعين سنة من عمره ] .رواه البخاري) فإنه ن ُّبأ على رأ ٍ
،(3547ومسلم ) (2347من حديث أنس [
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن هرقل استدل على
نبوته بما تضمنه جواب المسائل العشر التي سأل عنها أبا
سفيان بن حرب] .البخاري) ،(7ومسلم)[(1773
وعقلء الناس يفرقون بين النبي الصادق ،والمتنبي الكاذب،
ت ،لكن من له وإن كان المتنبي يمكن أن يأتي بخوارقَ وشعوذا ٍ
صادق؛ بل ذاب بالنبي ال ّ عقل حسن ل يلتبس عليه المتنبي الك ّ
يعرف ذلك من ملمحه] ،قال عبد الله بن رواحة يمدح النبي
:
ر.
خب َ ِ ه ُتنبي َ
ك ِبال َ ة * كاَنت َبديهَت ُ ُ مب َي ّن َ ٌ
ت ُ
كن فيهِ آيا ٌ َلو َلم ت َ ُ
الصابة [4/75ومن سيرته ،ومن أقواله ،ومن أفعاله ،قال تعالى:
ك أثيم )) هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أّفا ٍ
* يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ((.
فالصواب :أن النبوة تثبت بأدلةٍ كثيرة ،ول يتوقف إثبات
النبوة على مجرد المعجزات.
وتأمل قوَله سبحانه وتعالى )) :وما كنت تتلوا من قبله من
كتاب ول تخطه بيمينك إذا ً لرتاب المبطلون (( فمن أدلة صدقه
إنه جاء بهذا الكتاب العظيم ،وهو أمي ل يقرأ ول يكتب؛ بل
ب ويقرأ له أصحاُبه رضي الله عنهم. يكت ُ
53
فكونه بهذه المثابة من الصدق ،والمانة ،والطهر ،والشرف،
والفضائل ،ول يقرأ ،ول يكتب ،ول اتصل بأحد يمكن أن يتلقى
عنه ،ثم يأتي بهذا القرآن العظيم المحكم؛ هذا أعظم دليل على
ت من ربه قل صدقه ،قال تعالى )) :وقالوا لو ل أنزل عليه آيا ٌ
إنما اليات عند الله وإنما أنا نذيٌر مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا
عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم ٍ
يؤمنون ((.
54
ومن اعتقد أن اليهود والنصارى ل يلزمهم اتباع محمد ٍ فهو
كافر ،قال النبي ) :والذي نفس محمد بيده ل يسمع بي أحد
من هذه المة يهودي ول نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي
أرسلت به إل كان من أصحاب النار ( ]رواه مسلم ) (153من
حديث أبي هريرة ،[وقال ): لو كان موسى حيا ما وسعه إل
اتباعي( ]رواه ابن أبي شيبة ،13/459وأحمد 3/338من حديث
جابر ، وانظر :إرواء الغليل [6/34
وعيسى عليه السلم ينزل في آخر الزمان ،ويحكم بشريعة
محمد ] رواه مسلم ) (155من حديث أبي هريرة .[
فشريعة محمد ،ودعوة محمد لزمة لجميع البشرية ،ول
ج عن شريعته . دا الخرو ُ
يسع أح ً
55
م
هي َ ح وَإ ِب َْرا ِ من ّنو ٍ ك وَ ِ من َ م وَ ِ ميَثاقَهُ ْ ن ِ ن الن ّب ِّيي َم َ خذ َْنا ِتعالى} :وَإ ِذ ْ أ َ َ
ظا{ ]الحزاب: ميَثاًقا غ َِلي ً من ُْهم ّ خذ َْنا ِ م وَأ َ َمْري َ َ ن َ سى اب ْ ِ عي َ سى وَ ِ مو َ وَ ُ
ذي حا َوال ّ ِ صى ب ِهِ ُنو ً ما وَ ّ ن َ دي ِ ن ال ّ م َ كم ّ شَرع َ ل َ ُ ،[7وقوله تعالىَ } :
سى { ]الشورى: حي َْنا إ ِل َي ْ َ َ
عي َ سى وَ ِ مو َ م وَ ُهي َ صي َْنا ب ِهِ إ ِب َْرا ِ ما وَ ّ ك وَ َ أوْ َ
ذا؛ فأفضل النبياء والرسل هم أولوا العزم ،وأفضلهم [13إ ً
خذ َ الل ّ ُ
ه الخليلن ،فالله تعالى قد أخبر أنه اتخذ إبراهيم خليل }َوات ّ َ
ل{ ]النساء ،[125:وأخبر النبي أن الله اتخذه خليل خِلي ً م َ هي َ إ ِب َْرا ِ
كما اتخذا إبراهيم خليل ]سيذكره بلفظه في ص )بعد صفحة([
أما ما جاء من النهي عن التفضيل في قوله قال) :ل
تفضلوا بين أنبياء الله( فهذا محمول عند أهل العلم بالتفضيل
قص الخر ،كما يبينه سبب على وجه التّعصب الذي يتضمن تن ّ
الحديث الصحيح :أن يهوديا عرض سلعة له فأعطي بها شيئا
كرهه فقال :ل والذي اصطفى موسى عليه السلم على البشر،
فسمعه رجل من النصار فلطم وجهه ،قال :تقول والذي
اصطفى موسى عليه السلم على البشر ورسول الله بين
أظهرنا ،فذهب اليهودي إلى رسول الله فقال :يا أبا القاسم
إن لي ذمة وعهدا ،وقال :فلن لطم وجهي ،فقال رسول الله :
» لم لطمت وجهه «؟ قال :قال يا رسول الله :والذي اصطفى
موسى عليه السلم على البشر ،وأنت بين أظهرنا ،قال :فغضب
رسول الله حتى عرف الغضب في وجهه ،ثم قال » :ل
تفضلوا بين أنبياء الله ،فإنه ينفخ في الصور ،فيصعق من في
السماوات ومن في الرض إل من شاء الله ،قال :ثم ينفخ فيه
أخرى فأكون أول من بعث فإذا موسى عليه السلم آخذ بالعرش
فل أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أو بعث قبلي«] .رواه
البخاري ) ،(3414ومسلم ) (2373من حديث أبي هريرة [
فالنهي عن التفضيل على سبيل التّعصب ،أو الذي يتضمن
قص النبياء ،أما التفضيل لبيان الواقع ولعتقاد الحق ،وإنزال تن ّ
كل منزلته فهذا ل بد منه ،فالرسول نوه بفضله؛ لنه ل يعلم
إل من جهته أو من القرآن ،والله تعالى نص على التفاضل بين
م الل ّ ُ
ه من ك َل ّ َ من ُْهم ّ ض ّ م ع َلى ب َعْ ٍ
ضه ُ ْ َ ضل َْنا ب َعْ َ ل فَ ّ س ُ ك الّر ُ النبياء }ت ِل ْ َ
َ
ح
ت وَأي ّد َْناه ُ ب ُِرو ِ م ال ْب َي َّنا ِمْري َ َن َ سى اب ْ َ عي َ ت َوآت َي َْنا ِ جا ٍ م د ََر َ ضهُ ْ وََرفَعَ ب َعْ َ
س{ ]البقرة[253: قد ُ ِ ال ْ ُ
56
تعالى؛ فإن الله تعالى يحب المتقين ،والتوابين ،والمتطهرين،
ن ب ال ّ ِ
ذي َ ح ّ ه يُ ِ ن الل ّ َ والمقسطين ،والصابرين ،والمجاهدين )) إ ِ ّ
َ
ص ((]الصف [4:إ ً
ذا؛ صو ٌ مْر ُ ن َ
م ُبنَيا ٌفا ك َأن ّهُ ْ
ص ّ
سِبيل ِهِ َ قات ُِلو َ
ن ِفي َ يُ َ
وصفه بأنه حبيب رب العالمين ل تظهر فيه خصوصية؛ فكل
نبي ،وكل مؤمن فهو حبيب لرب العالمين ،فمثل :علي حبيب
رب العالمين قال النبي ) :يحب الله ورسوله ،ويحبه الله و
رسوله( ]رواه البخاري) ،(3009ومسلم ) (2406من حديث
سهل بن سعد ،[ولهذا كان اللئق بالمؤلف أن يقول :وخليل
رب العالمين؛ لن المحبة مشتركة بين جميع المؤمنين ،وعباد
الله الصالحين.
أما الخلة فمن خصائصه مع إبراهيم عليه السلم ،والخلة
أعلى مراتب المحبة؛ فالخليل هو أحب العباد إلى الله ،والله أخبر
خِلي ً
ل{ م َ هي َه إ ِب َْرا ِخذ َ الل ّ ُفي كتابه أن الله اتخذ إبراهيم خليل }َوات ّ َ
]النساء [125:وثبت في السنة الصحيحة أن الله اتخذ محمدا
خليل ،ففي الحديث الصحيح أن النبي قال) :أل إني أبرأ إلى
خله ،ولو كنت متخذا خليل لتخذت أبا بكر خليل إن خل من ِكل ِ
صاحبكم خليل الله( ]رواه مسلم ) (2383من حديث ابن مسعود
،[(وفي الحديث الخر) :إن الله اتخذني خليل كما اتخذ إبراهيم
خليل( ]رواه مسلم ) (532من حديث جندب [فإبراهيم ومحمد
خليل رب العالمين ،ففيه إثبات صفة المحبة لله ،وأنه يحب
إبراهيم ومحمدا محبة تامة ،وذلك؛ لنهما أكمل النبياء توحيدا،
ومباعدة من الشرك والمشركين ،فكان المناسب أن يقول
المؤلف :وخليل رب العالمين.
وكثيٌر من الصوفية يعبر عن الرسول بأنه )حبيب الله(
ويرددون مثل هذا ،ول يعلمون أن هذه ليس فيها خصوصية،
ومزّية بّينة].العبودية ،10/204وروضة المحبين ص ،47وانظر:
ص[
وقد روي أن النبي قال ) :إن إبراهيم خليل الله ...وأنا
حبيب الله ول فخر( ]رواه الدارمي ) ،(47والترمذي ) (3616ـ
وقال :حديث غريب ـ من طريق :زمعة بن صالح عن سلمة بن
ضّعف ،وخصوصا إن روى عنه وهرام ،وزمعة ضعيف ،وسلمة ُ
زمعة .تهذيب التهذيب ،1/635و [ 2/79فجعل الخلة لبراهيم،
والمحبة له ،وهو حديث ضعيف معارض للحاديث الصحيحة ،ول
يصح سندا ول متنا.
57
ي وإبطال ي وهوى( هذا نف ٌ قوله) :وكل دعوى النبوة بعده فغ ٌ
لدعوى النبوة بعد النبي ،وهذا هو مقتضى أنه خاتم النبياء،
فإذا علم بالضرورة أنه خاتم النبياء ،فيعلم بالضرورة أن كل
دعوى للنبوة بعده فهي دعوى باطلة ،وهي من الغي ضد الرشد،
ومن الهوى ضد الهدى.
فكل دعوى النبوة بعد مبعثه سواء كانت في حياته أو بعد
مماته فهي دعوى باطلة ،ومن يدعي النبوة بعد رسالته فهو
من أكذب و أظلم الخلق قال الله تعالى )) :وم َ
ن
م ِم ّ
م ِ ن أظ ْل َ َُ َ ْ
ن
م ْيٌء وَ َ َ َ
ح إ ِلي ْهِ ش ْ ي وَل َ ْ
م ُيو َ ي إ ِل َ ّ ل ُأو ِ
ح َ افْت ََرى ع ََلى الل ّهِ ك َذ ًِبا أ َوْ َقا َ
ه ((]النعام.[93: ل الل ّ ُما َأنَز َ ل َ مث ْ َ
ل ِسُأنزِ ُ َقا َ
ل َ
وقد ادعى النبوة في حياته مسيلمة الكذاب ،والسود
العنسي ]البخاري )3620و (3621ومسلم )2273و ، [(2274
وادعاها غيرهما بعده ، وأخبر عن ذلك في حديث ثوبان:
)وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلثون كلهم يدعون أنهم نبي،
وأنه ل نبي بعدي( ]تقدم ص[ فكل من يدعي النبوة فهو كذاب،
ول نحتاج إلى أن ننظر في ما عنده إل لبيان كذبه لمن قد يلتبس
عليه أمره.
58
وفي سورة الرحمن ذكر الله خلق الثقلين ،وخاطبهما وذكر
جزاءهما قال تعالى )) :يا معشر الجن والنس (( )) ،يرسل
س ول ظ من نار (( )) ،فيومئذ ٍ ل يسأل عن ذنبه إن ٌ عليكما شوا ٌ
جان (( ،وفي الثواب )) ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلء
ربكما تكذبان (( إل آخر السورة.
ل إلى ويظهر من آيات الحقاف أن موسى كذلك مرس ٌ
نمُعو َ ست َ ِن يَ ْ ج ّ ن ال ْ ِ م َ فًرا ِ ك نَ َ صَرفَْنا إ ِل َي ْ َ الجن قال تعالى )) :وَإ ِذ ْ َ
َ
م
مهِ ْ وا إ َِلى قَوْ ِ ي وَل ّ ْ ض َ ما قُ ِ صُتوا فَل َ ّ ضُروه ُ َقاُلوا أن ْ ِ ح َ ما َ ن فَل َ ّ قْرآ َ ال ْ ُ
سى مو َ ن ب َعْد ِ ُ م ْ ل ِ معَْنا ك َِتاًبا أ ُن ْزِ َ س ِ مَنا إ ِّنا َ ن * َقاُلوا َيا قَوْ َ من ْذ ِِري َ ُ
ن ي َد َي ْهِ ((]الحقاف.[30-29: ما ب َي ْ َ صد ًّقا ل ِ َ م َ ُ
واختلف الناس هل من الجن رسل ،أم الرسل كلهم من
النس؟
جمهور أهل العلم على أن الرسل من البشر ،وأما الجن
ذر] ،تفسير الطبري ،9/561ومجموع الفتاوى دعاة ،ون ُ ُ فمنهم ُ
،4/234وطريق الهجرتين ص [416قال تعالى )) :وما أرسلنا
من قبلك إل رجال ً نوحي إليهم من أهل القرى (( وإذا صح وعلم
ل إلى الجن ،وموسى كذلك؛ علم أن بالوحي أن الرسول مرس ٌ
إرسال النس إلى الجن يحصل به قيام الحجة عليهم.
شَر معْ َ واستدل أهل القول الثاني بقول الله تعالىَ )) :يا َ
ْ َ
م آَياِتي ن ع َل َي ْك ُ ْ صو َ ق ّ م يَ ُ من ْك ُ ْل ِ س ٌ م ُر ُم ي َأت ِك ُ ْ س أل َ ْ لن ِ ن َوا ِ ج ّ ال ْ ِ
ذا ((]النعام [130:فخوطب الجميع: م هَ َمك ُ ْ قاَء ي َوْ ِ م لِ َ وَُينذ ُِرون َك ُ ْ
ل منكم. الجن والنس ألم يأتكم رس ٌ
والجمهور قالوا :إن هذه الية محتملة ،وليست صريحة،
والمراد من المجموع؛ لن الخطاب للجميع.
والمر في هذا سهل ،والمقصود إن الجن والنس كلهم
مكلفون ،وقد خلقهم الله لعبادته ،وأقام الحجة عليهم ،وكلهم
منهم المؤمن والكافر ،والصالح ،والطالح.
م غيب وإن ظهروا للناس وتمثلوا بأشكال مختلفة، والجن عال َ ُ
وهم كثير ،ويعيشون على الرض مع الناس ،ولهم صفاتهم،
ويأكلون ويشربون ،ومنهم الذكور والناث ،ويتوالدون ،قال تعالى:
َ
م
دوهُ ْ ن فََزا ُ ج ّن ال ْ ِ م َ ل ِ جا ٍ ن ب ِرِ َ ذو َ س ي َُعو ُ لن ِ نا ِ م َ ل ِ جا ٌ ن رِ َ كا َ ه َ )) وَأن ّ ُ
قا ((]الجن [6:وفي القرآن وفي السنة من الخبار عنهم شيٌء َرهَ ً
كبير ،ومن ينكر وجود الجن؛ فهو كافر.
]فضل رسالته ،وكمال شريعته [
وقوله) :بالحق والهدى ،وبالنور والضياء(
أي فمحمد مرسل بالحق والهدى ،والنور والضياء،
ل إليهم بالحق ،وهو ضد والمؤلف ينوع في التعبير ،فهو مرس ٌ
59
الباطل ،والهدى ،وهو ضد الضلل ،وبالنور والضياء ،يدل على
ذلك قوله تعالى )) :هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ((
وقال سبحانه وتعالى )) :إنا أرسلناك بالحق بشيرا ً ونذيرا ً ((
بالحق في المور العتقادية ،والعملية ،وهذا الحق الذي جاء به
نور وهدى للناس )) فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ((
)) فالذين آمنوا به وعّزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه
أولئك هم المفلحون (( نوٌر يبصر به المهتدون طريق السعادة،
ومن حرم هذا النور؛ تخبط في ظلمات :الجهل ،والغفلة ،والكفر،
وأكثر البشرية تتخبط في الظلمات فل طريق لمعرفة الحقائق،
والحق من الباطل ،والحلل والحرام إل من طريق الوحي.
فهذا الذي ذكره المؤلف جملة من خصائص الرسول ،وله
ضل بها على سائر النبياء ،منها ما يختص به، خصائص كثيرة فُ ّ
ومنها ما يتعلق بأمته ،مثل قوله ) :أعطيت خمسا لم يعطهن
أحد قبلي :نصرت بالرعب مسيرة شهر ،وجعلت لي الرض
مسجدا وطهورا؛ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلة فليصل،
وأحلت لي المغانم ولم تحل لحد قبلي ،وأعطيت الشفاعة ،وكان
النبي يبعث إلى قومه خاصة ،وبعثت إلى الناس عامة( ]رواه
البخاري ) (335ـ واللفظ له ـ ،ومسلم ) (521من حديث جابر
ت على النبياء بست :أعطيت جوامع ضل ُ [وفي حديث آخر ) :فُ ّ
الكلم ،ونصرت بالرعب ،وأحلت لي الغنائم ،وجعلت لي الرض
طهورا ومسجدا ،وأرسلت إلى الخلق كافة ،وختم بي النبيون(
]رواه مسلم ) (523من حديث أبي هريرة [وخصائص
عني أهل العلم بجمعها ]كـ » بداية السول في الرسول كثيرة ُ
تفضيل الرسول « للعز بن عبد السلم،و »الخصائص الكبرى«
للسيوطي ،و»خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء « للدكتور
الصادق بن محمد[
فأما حقه على أمته فهو اليمان به ،وبما جاء به ،ومحبته
فوق محبة الهل والولد ،والمال ،والنفس ،قال النبي ) :ثلث
من كن فيه وجد حلوة اليمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه
ث] .رواه البخاري ) ، (16ومسلم )(43 مما سواهما ( ...الحدي َ
من حديث أنس [
و قال ) :ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده
وولده والناس أجمعين( ]رواه البخاري ) ، (15ومسلم ) (44من
حديث أنس [
وتحقيق متابعته بامتثال أمره ،واجتناب نهيه ،وتصديقه
بكل ما أخبر به ،والتقيد في عبادة الله بشريعته وما جاء به ،
ومن ذلك تحكيمه والتحاكم إلى شريعته ،قال تعالى )) :فل
60
وربك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم ل يجدوا في
أنفسهم حرجا ً مما قضيت ويسلموا تسليما ً ((
والناس في شأن الرسول ثلثة أقسام:
منهم :من يغلو فيه ويجعل له بعض خصائص اللهية.
ومنهم :الجافون المقصرون ،وشرهم المكذبون له ،وكذلك
المعرضون عن سنته ،والمقصرون في تحقيق متابعته ،وطاعته،
وتحكيمه .
والوسط من آمن به ،وصدقه ،واتبع أمره ،وترك نهيه ،وعَبد
الله بشرعه .
61
من( في هذه اليات لبتداء الغاية ،فنزول القرآن من ربك (( فـ) ِ
مبتدأ من الله نزل به الروح المين جبريل عليه السلم.
وقوله) :بل كيفية( يعني :كيفية معقولة لنا ،ل بد من هذا
التقييد ،فل نقول :إن الله تكلم على هيئة كذا وكذا ،أو بصفة كذا
وكذا.
كد لقوله) :منه بدا بل كيفية( ،أي :بدا ل( مصدٌر مؤ ِ وقوله) :قو ً
دا ،وأهل ل ،وبلغه محم ً من الله كلما مسموعا ،سمعه جبري ُ
ل غير مخلوق ،منه بدا، السنة يقولون» :إن القرآن كلم الله منز ٌ
وإليه يعود «] .الواسطية ص ،[197ومعنى إليه يعود ،ما ورد في
الثار أن القرآن ُيسرى عليه في آخر الزمان ،ويرفع من الصدور
والمصاحف ،فل يبقى له وجود ٌ في الرض ] ،مصنف عبد الرزاق
،3/362ومصنف ابن أبي شيبة ،15/528وسنن الدارمي
،2/895و انظر :الدر المنثور .336-5/334وذكر شيخ السلم
في مناظرة الواسطية :3/174أن الحافظ أبا الفضل بن ناصر،
مَعا ما في ذلك من الثار عن ج َ
والحافظ أبا عبد الله المقدسي َ
النبي ،والصحابة ،والتابعين [.وهذا عندما يعطل ،وينتهي الجل
المعدود ،والمحدود بتكليف العباد ،وأمرهم ونهيهم بهذا القرآن .
وقوله) :وأنزله على رسوله وحًيا( بدأ من الله قول ،وأنزله
حًيا على رسوله محمد ٍ بواسطة الرسول جبريل عليه و ْ
السلم ،قال تعالى )) :نزل به الروح المين * على قلبك لتكون
ي مبين (( وقال سبحانه وتعالى: ن عرب ٍ
من المنذرين * بلسا ٍ
)) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما ً ل ُد ّا ً ((.
قا( صدق المؤمنون وقوله) :وصدقه المؤمنون على ذلك ح ً
الرسول فيما جاء به تصديقا ،والنبي لما أرسله الله ودعا
فهوه ،ووصفوه بالشعر ،والكهانة ،والجنون، الناس رموه وس ّ
دقه من صدقه ،وأول من صدقه خديجة بنت خويلد والسحر ،وص ّ
رضي الله عنها أم المؤمنين السيدة العظيمة ،وفازت بهذا
الفضل العظيم ،ثم آمن به بعض الناس على قلة من الحرار
والعبيد :واحد ،واثنين ،وثلثة ،حتى تتابع الناس على اليمان ،حتى
دقوا بأن القرآن دخلوا في دين الله أفواجا ،وهؤلء المؤمنون ص ّ
كلم الله ،وأن محمدا رسول الله ،وأن ما جاء به من عند
الله.
كد لقوله )صدقوه(؛ كأنه قال :صدقوه وقوله )حقا( مصدر مؤ ِ
كد يشترط أن يكون من لفظ الفعل ،كما تصديقا ،والمصدر المؤ ِ
إذا قلت :قمت قياما ،أو من معناه كما إذا قلت :قمت وقوفا.
وقوله) :وأيقنوا أنه كلم الله تعالى بالحقيقة ،ليس بمخلوق
دقوا :أنه كلم الله ككلم البرية(أي :وأيقن المؤمنون الذين ص ّ
62
على الحقيقة ل المجاز؛ فإن المعطلة من الجهمّية ،والمعتزلة
يقولون :إنه كلم الله ،لكنه مخلوق ،فإضافته إلى الله إضافة
ق إلى خالقه ،فليس هو كلم الله على الحقيقة؛ لنهم مخلو ٍ
يعتقدون أن الله ل يتكلم!
ذا؛ فالقرآن عندهم ليس كلما تكلم الله به ،ول يخصون إ ً
القرآن بهذا؛ فكل كلم الله عندهم مخلوق حتى الخطاب الذي
نودي به موسى عليه السلم في الوادي المقدس زعموا أن الله
خلق كلما في الشجرة سمعه موسى!
ورد ّ عليهم أهل السنة بأن هذا يقتضي أن الشجرة هي التي
قالت )) :إني أنا الله ل إله إل أنا ((؛ لن الله إذا خلق كلما في
بعض مخلوقاته؛ فالكلم ل يوصف به إل من قام به الكلم.
وهذه المسألة هي التي نشأت عنها فتنة القول بخلق
حن حمل الناس على هذه البدعة بالقوة ،وامت ُ ِ القرآن ،حتى ُ
م أحمد ـ رحمه الله م أهل السنة الما ُالعلماُء ،وعلى رأسهم إما ُ
ـ ] .انظر" :ذكر محنة المام أحمد" لحنبل بن إسحاق ،و"مناقب
المام أحمد" لبن الجوزي ص ،432و"سير أعلم النبلء"
[11/232
والقول بخلق القرآن قول مبتدع باطل مبني على باطل ،فهو
ة.
ل الجهميةِ والمعتزل ِ مبني على أن الله ل يقوم به كلم ،وهذا قو ُ
والشاعرة ُ مذهبهم في القرآن ملفق ،فيثبتون الكلم لله ،
ويقولون :إنه تعالى متكلم ،والكلم يقوم به] .انظر مذاهب
الناس في كلم الله ،وتقرير مذهب أهل السنة في :منهاج السنة
،2/358ومجموع الفتاوى ،12/162والكافية الشافية ص ،47
ومختصر الصواعق [ 4/1302
لكن ما هو الكلم الذي يثبتونه ؟ يقولون :إن كلم الله معنى
نفسي قديم واحد.
ى واحد ٌ قديم هذا ضابط كلم الله عندهم ،فهو عندهم :معن ً
م لذاته ل تتعلق به المشيئة ،ليس بحروف قائم به سبحانه لز ٌ
وأصوات ،ول يسمع من الله ،هذا تحرير مذهبهم.
وعلى هذا؛ فالقرآن المسموع ،المتلو ،المحفوظ ،المكتوب؛
عبارة عن ذلك المعنى النفسي!
ذا؛ فحقيقة قولهم :إن هذا القرآن مخلوقٌ للدللة على ذلك إ ً
المعنى النفسي.
فالجهمية والمعتزلة ،والشاعرة ،كلهم يقولون :القرآن كلم
ل على أصله. الله ،لكن ك ٌ
فالجهمية ،والمعتزلة :يريدون أنه مخلوقٌ لله ،وإضافته إلى
الله من إضافة المخلوق إلى الخالق .والشاعرة يقولون :إنه
63
ل على المعنى كلم الله ،فهذا الكلم المكتوب في المصاحف دلي ٌ
النفسي ،وفي هذه يقتربون جدا من الجهمية ،والمعتزلة ،فليس
ق؛ لن النزاع في هذا القرآن الذي يحفظه بينهم كبير فر ٍ
المسلمون ،ويسمعونه ،ويتلونه ،ويكتبونه.
وأهل السنة والجماعة عندهم :أن القرآن كلم الله على
وا.
الحقيقة كيف ما تصرف :مكتوبا ،ومحفوظا ،ومسموعا ،ومتل ّ
فالكلم المكتوب في المصاحف هو كلم الله ،وما في صدوِر
فظ َةِ القرآن هو كلم الله ،وما يتلوه التالون هو كلم الله ،لكنح َ
َ
الصوت صوت القارئ ،والكلم المتلو كلم البارئ ،وكل عاقل
يفرق بين الكلم الذي يبتدؤه المتحدث ،وبين كلم غيره حين
ة إلى من قاله مبتدئا ل إلى من يقرأه ،فالكلم إنما يضاف حقيق ً
قاله مبلغا مؤديا.
فإذا سمعت إنسانا يقرأ حديث » إنما العمال بالنيات «
]رواه البخاري ) ،(1ومسلم ) (1907من حديث عمر [تقول:
هذا قول الرسول ،ول تقول هذا كلم الذي قرأ الحديث؛ لن
القارئ يقرأ كلم النبي .
وإذا سمعته ينشد قصيدة للشاعر امرئ القيس فإنك ل
تقول :هذا كلم فلن الذي ينشد القصيدة بل تقول :هذا كلم
امرئ القيس] .درء تعارض العقل والنقل ،1/259ومناظرة
الواسطية [3/176
فالقرآن هو )كلم الله تعالى بالحقيقة ،ليس بمخلوق( ،كما
تقول :الجهمية ،والمعتزلة ،والشاعرة )ككلم البرية( فالبشر
وكلمهم ،وأفعالهم ،وصفاتهم مخلوقة.
وقوله) :فمن سمعه فزعم أنه كلم البشر فقد كفر ،وقد
ذمه الله وعابه ،وأوعده بسقر حيث قال تعالى} :سأصليه سقر{
(.
من سمع القرآن فزعم أنه كلم البشر ،أنشأه محمد فهو
كافر ،مكذب للرسول ، مفتر على الله تعالى ،وعلى رسوله
.
ويشير المؤلف إلى اليات من سورة المدثر النازلة في
الوليد بن المغيرة ،فإنه جاء إلى النبي فسمع القرآن فرق له،
فجاء إلى قريش فأثنى على القرآن ،فعابوه ،فلما عيروه بذلك
أراد أن يحتفظ بمكانته ـ نسأل الله العافية ـ فقال ما أخبر الله به
عنه )) :ذرني ومن خلقت وحيدا ً * وجعلت له مال ً ممدودا ً * وبنين
شهودا ً * ومهدت له تمهيدا ً * ثم يطمع أن أزيد * كل إنه كان
لياتنا عنيدا ً * سأرهقه صعودا ً * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر *
64
ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر
* فقال إن هذا إل سحٌر يؤثر * إن هذا إل قول البشر * سأصليه
ة للبشر * سقر * وما أدراك ما سقر * ل تبقي ول تذر * لواح ٌ
عليها تسعة عشر ((] .رواه الطبري في تفسيره ،23/429
والحاكم 2/506ـ وصححه من حديث ابن عباس ـ وعنه البيهقي
في دلئل النبوة ،2/198وقال :هكذا حدثناه موصول ،وفي حديث
حماد بن زيد ،عن أيوب ،عن عكرمة قال :جاء الوليد بن
المغيرة ...وهذا فيما رواه يوسف بن يعقوب القاضي ،عن
سليمان بن حرب ،عن حماد ،هكذا مرسل .وكذلك رواه معمر
عن عباد بن منصور ،عن عكرمة مرسل .ورواه أيضا :معتمر بن
سليمان ،عن أبيه ،فذكره أتم من ذلك مرسل .وكل ذلك يؤكد
بعضه بعضا[
وقوله) :فلما أوعد الله بسقر لمن قال )) :إن هذا إل قول
البشر (( علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ،ول يشبه قول البشر(
عد من قال :إنه قول البشر؛ علمنا م وتو ّ لما علمنا أن الله ذ ّ
أنه قول رب العالمين ،ل قول البشر ،ول يشبه قول البشر ،ولهذا
كان القرآن معجزا تحدى الله الثقلين أن يأتوا بمثله ،أو بعشر
سور ،أوبسورةٍ من مثله قال تعالى )) :قل لئن اجتمعت النس
والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ل يأتون بمثله ولو كان
َ
ن افْت ََراه ُ قُ ْ
ل قوُلو َم يَ ُ ض ظهيرا ً (( ،وقال تعالى} :أ ْ بعضهم لبع ٍ
ن
دو ِْ من ُ ست َط َعُْتم ّنا ْ م ِعوا ْ َت َواد ْ ُ
فت ََرَيا ٍ
م ْمث ْل ِهِ ُ
سوَرٍ ّ شرِ ُ فَأ ُْتوا ْ ب ِعَ ْ
ل فَأُتوا ْ َ
ن افْت ََراه ُ قُ ْقوُلو َ م يَ ُ ن{ وقال تعالى} :أ ْ صاد ِِقي َ م َ كنت ُ ْالل ّهِ ِإن ُ
م ن الل ّهِ ِإن ُ
كنت ُ ْ دو ِ من ُ ست َط َعُْتم ّ
نا ْ عوا ْ َ
م ِ مث ْل ِهِ َواد ْ ُ سوَرةٍ ّ بِ ُ
ب مما نّزلنا على عبدنا ن{ وقال تعالى )) :وإن كنتم في ري ٍ صاد ِِقي َ َ
فأتوا بسورةٍ من مثله ((
وقوله) :ول يشبه قول البشر( ل في بيانه وفصاحته ،ول في
معناه؛ لشتماله على المعاني العظيمة في أخباره ،فقد بلغ الغاية
م
ل من حكي ٌ في الصدق في أخباره ،والعدل في أحكامه )) تنـزي ٌ
ل من الرحمن الرحيم (( )) تنـزيل الكتاب من حميد (( )) تنـزي ٌ
ل البشر ،مع أنه كلم ،وقول الله العزيز الحكيم (( ،ل يشبه قو َ
البشر كلم ،ولذا قال بعض أهل العلم ]الكشاف ،1/69والجامع
لحكام القرآن ،1/238وتفسير ابن كثير :[ 1/160إن افتتاح
السور بالحروف المقطعة فيه تنبيه على العجاز ،وأن القرآن
ف من هذه الحروف التي يتألف منها سائر الكلم) :ا ل كلم مؤل ٌ
م رص ط هـ ك ع ق ( فهو حروف وكلمات ،وسور وآيات.
65
وقوله) :ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر،
فمن أبصر هذا اعتبر ،وعن مثل قول الكفار انزجر ،وعلم أنه
بصفاته ليس كالبشر(
يعني من شبه الله بخلقه فقد كفر؛ لنه تكذيب لقوله تعالى:
)) ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (( )) ،ولم يكن له كفوا ً
أحد ((.
فالله تعالى ليس كمثله شيء ل في ذاته ول في صفاته ول
في أفعاله ،قال المام نعيم بن حماد]نعيم بن حماد الخزاعي
المام العلمة صاحب التصانيف كان صلبا في السنة شديدا على
الجهمية ،روى عن ابن المبارك والفضيل وابن عيينة ،وغيرهم .
وروى عنه يحيى بن معين ،والبخاري وأبو داود وغيرهم .قال
الخطيب :إن أول من جمع المسند وصنفه نعيم .توفي عام
229هـ .سير أعلم النبلء ) :[10/595من شبه الله بخلقه كفر،
ومن جحد ما وصف الله به نفسه كفر ،وليس في ما وصف الله
به نفسه ول رسوله تشبيه(] .شرح أصول اعتقاد أهل السنة ص
،587وتاريخ دمشق ،62/163والعلو [2/1093
وقوله ) :فمن أبصر هذا اعتبر(
من أبصر هذا بعقله وبصيرته اعتبر وحذر من حال المكذبين،
وانزجر عن المقالت الباطلة ،كقول الوليد بن المغيرة ،وقول
الجهمّية والمعتزلة والشاعرة.
فالقرآن كلم الله ،والله تعالى يتكلم بما شاء إذا شاء ،وكلم
الله يسمعه من شاء الله بل واسطة.
والدلة على إثبات كلم الله كثيرة ومتنوعة ففي القرآن قال
لقو ُ ه يَ ُ م{ }َوالل ّ ُ صد ْقُهُ ْن ِ صاد ِِقي َ فعُ ال ّ م َين َ ذا ي َوْ ُ ه هَ َ ل الل ّ ُ تعالىَ} :قا َ
ت ال ْ َ َ
مقو ْ َ ن ائ ْ ِ
سى أ ِ مو َ ك ُ دى َرب ّ َ ل{ }وَإ ِذ ْ َنا َ سِبي َ دي ال ّ حقّ وَهُوَ ي َهْ ِ ال ْ َ
ل ما َ َ
ن{ )) وكلم سِلي َمْر َ م ال ْ ُ
جب ْت ُ ُذا أ َ قو ُ َ م فَي َ ُم ي َُناِديهِ ْ ن{ }وَي َوْ َ مي َظال ِ ِ ال ّ
الله موسى تكليما ً (( )) ولما جاء موسى بميقاتنا وكلمه ربه ((
م{ حي ُ ب الّر ِ وا ُ ه هُوَ الت ّ ّ ب ع َل َي ْهِ إ ِن ّ ُ ت فََتا َ ما ٍ من ّرب ّهِ ك َل ِ َ م ِ قى آد َ ُ }فَت َل َ ّ
فقد جاء ذكر الكلم بلفظ القول ،والكلم ،والكلمات ،والنداء،
والمناجاة.
والله كلم موسى ،وناداه ،وناجاه ناداه بصوت مرتفع ،وناجاه
بصوت خفي ،قال تعالى )) :وناديناه من جانب الطور اليمن
وقربناه نجّيا (( فموسى كليم الله ،ونجي الله؛ لن الله ناجاه،
وهو تعالى يوصف بالمناداة ،والمناجاة ،والتكليم.
والمخلوق يوصف بالمناداة ،والمناجاة ،والتكليم ،ولكن نقول:
ليس التكليم كالتكليم ،ول المناداة كالمناداة ،ول المناجاة
كالمناجاة ،كما نقول :إن حياته سبحانه وتعالى ليست كحياة
66
المخلوقين ،ول علمه كعلمهم ،ول قدرته كقدرتهم ،فالقول في
الصفات واحد ول فرق ،وهذا أصل معقول صحيح.
67
ديا »بنفسه« فيكون بمعنى النتظار ،قال تعالى: يأتي متع ّ
ْ
ه ((]العراف [53:أي :هل ينتظرون إل ن إ ِّل ت َأِويل َ ُ ل َينظ ُُرو َ )) هَ ْ
تأويله.
ديا بـ»في« فيكون معناه :التفكر ،قال تعالى: ويأتي متع ّ
مل َ ُ َ
ت والرض ((]العراف[185: وا ِ م َ س َت ال ّ كو ِ م َينظ ُُروا ِفي َ )) أوَل َ ْ
م ((]الروم.[8: سهِ ْف ِفك ُّروا ِفي َأن ُ م ي َت َ َ َ
وقال تعالى )) :أوَل َ ْ
دا بـ »إلى« فُيراد ُ به نظر العين ،قال تعالى: مع ّ ويأتي ُ
َ َ
م ((]ق [6:وقال تعالى )) :أَفل ماِء فَوْقَهُ ْ س َ م ي َن ْظ ُُروا إ َِلى ال ّ )) أفَل َ ْ
ل ((]الغاشية.[17: ن إ َِلى ال ِب ِ ِ ي َن ْظ ُُرو َ
ل بها على إثبات الرؤية من القرآن قوُله تعالى: ومما أسُتد ّ ُ
)) ل ِل ّذي َ
سَنى وَزَِياد َة ٌ ((]يونس ،[26:وقد بّين النبي r ح ْ سُنوا ال ْ ُ ح َ نأ ْ ِ َ
أن الزيادة :هي النظر إلى وجه الله الكريم ]رواه مسلم )(181
عن صهيب ،tوانظر :حادي الرواح ،[2/609وفي معناها :قوله
زيد ٌ ((]ق] [35:شرح ن ِفيَها وَل َد َي َْنا َ
م ِ شاُءو َ ما ي َ َ م َ تعالى )) :ل َهُ ْ
أصول اعتقاد أهل السنةص ،519وحادي الرواح ،2/617
وتفسير ابن كثير [7/407
كما استدل أهل السنة بقوله تعالى في الكفار )) :ك َّل إ ِن ّهُ ْ
م
ن (( ]المطففين ،[15:فلو كان جوُبو َ ح ُ مئ ِذ ٍ ل َ َ
م ْ م ي َوْ َ
ن َرب ّهِ ْ عَ ْ
المؤمنون ل يرونه؛ لستووا هم والكفار.
ك َ
ل به من القرآن قوله تعالى )) :ع ََلى الَرائ ِ ِ ومما اسُتد ّ
ضَرة َ الن ِّعيم ِ (( قيل :ينظر بعضهم م نَ ْ جوه ِهِ ْ ف ِفي وُ ُ ن * ت َعْرِ ُ َينظ ُُرو َ
ذبون ،فيغتبطون هم ُيع ّإلى بعض ،وقيل :ينظرون إلى الكفار و ُ
جاهم وعافاهم ،وقيل :ينظرون إلى ما بنعمة الله عليهم أن ن ّ
أعطاهم الله من النعيم ،وقيل :ينظرون إلى ربهم ،أقاويل في
تفسيرها للسلف ]الجامع لحكام القرآن [22/150كما هي
ل عليه الية ،قال ابن القيم ـ رحمه عادتهم يذكرون بعض ما تد ّ
الله ـ :ولقد هضم معنى الية من قال :ينظرون إلى أعدائهم
يعذبون ،أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم ،أو ينظر بعضهم
إلى بعض ،وكل هذا عدول عن المقصود إلى غيره ،وإنما المعنى:
ينظرون إلى وجه ربهم ،ضد حال الكفار الذين هم عن ربهم
لمحجوبون] .إغاثة اللهفان [1/41
وأما السنة فقد تواترت النصوص عن النبي في إثبات
الرؤية ،ومن ذلك قوله :حين سألوه :هل نرى ربنا؟ قال ) :هل
تضاّرون في القمر ليلة البدر؟ قالوا :ل يا رسول الله ،قال :فهل
ُتضاّرون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا :ل يا رسول الله،
قال :فإنكم ترونه كذلك( ]رواه البخاري )7437و ،(7438
ومسلم ) (182من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله
68
عنهما ،[.وقال ) :إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ل
مون في رؤيته ( ]رواه البخاري ) ، (554ومسلم ) (633من ُتضا ُ
حديث جرير بن عبد الله [.
ذا؛ رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ثابتة بالكتاب والسنة إ ً
وإجماع أهل السنة ،وهي من مطالب المؤمنين ،ومما يرجون
الفوز به ،ولهذا جاء في دعاء النبي ) :أسألك لذة النظر إلى
وجهك ( ]رواه أحمد ،30/265والنسائي ،3/62وصححه ابن
خزيمة في التوحيد ص ،12وابن حبان ) (1971والحاكم 1/524
من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما ،ورواه أحمد
،35/520وصححه ابن خزيمة في التوحيد ص ،14والحاكم
1/516من حديث زيد بن ثابت .[
س عليهم الشيطان، ي عنها من لب ّ َ
عم َومع هذه الدلة قد َ
فأضّلهم عن سواء السبيل من الجهمية والمعتزلة ،ومن وافقهم
فقالوا :إنه تعالى ل ُيرى ،وهذا ليس غريبا منهم ،فالذين ينفون
عن الله كل الصفات حقيق بأن يقولوا :إنه تعالى ل ُيرى ،بل لعل
قولهم :إنه ل ُيرى هو من لوازم نفيهم لجميع الصفات؛ لن نفي
جميع الصفات يستلزم نفي الذات ،والمعدوم ل ُيرى ،فقولهم
ب لمذهبهم في التعطيل. بنفي الرؤية مناس ٌ
ومن شبهاتهم في ذلك استدللهم بقوله تعالى )) :ل ت ُد ْرِك ُ ُ
ه
صاُر ((]النعام [103:فقالوا :معناه ل تراه البصار. َ
الب ْ َ
وُأجيب]منهاج السنة ،2/317وبيان تلبيس الجهمية ،4/420
وعنه في حادي الرواح [2/618عن هذا بأن قوله تعالى )) :ل
َ
صاُر (( نفي للحاطة ،ونفي الخص ل يستلزم نفي ه الب ْ َ ت ُد ْرِك ُ ُ
العم ،وعلى هذا فالية دالة على إثبات الرؤية ل على نفيها،
لكنها دالة على إثبات الرؤية من غير إحاطة.
و قد قيل في تفسير هذه الية :ل ُتدركه البصار في الدنيا،
أو ل ُتدركه أبصار الكفار ]تفسير الطبري ،[465-9/464وهذان
تفسيران مرجوحان:
ص من مطلق الرؤية ،وليس المنفي أول :لن الدراك أخ ّ
الرؤية.
ثانيا :إنه على هذا التفسير لبد من التقييد أو التخصيص ،أما
على التفسير الول ل تدركه ،فالية على إطلقها.
ومن صفات ربنا أنه ل ُتدركه البصار ،وهذه صفة سلبية،
وتقدم ]ص عند قول الطحاوي :ول يعجزه شيء[ أن النفي الذي
من صفات الله تعالى لبد أن يتضمن ثبوتا ،فأما النفي الذي ل
ي في صفاته ن ثبوتا؛ ل يدخل في صفاته تعالى ،بل ك ّ
ل نف ٍ م ُ يتض ّ
69
ت كمال ن إثبا َ م ُن لثبات ،فنفي إدراك البصار له يتض ّ م ٌ
متض ّفإنه ُ
ل عظمته ل ُتدركه البصار. عظمته سبحانه ،فِلكما ِ
من لثبات مدح ،قال شيخ السلم ابن متض ّ ذا؛ فهذا نفي ُ إ ً
تيمية ـ رحمه الله ـ » :ومعلوم أن كونه الشيء ل ُيرى ليس صفة
مدح؛ لن النفي المحض ل يكون مدحا إن لم يتضمن أمرا ثبوتيا؛
ولن المعدوم ل ُيرى ،والمعدوم ل ُيمدح ،فعلم أن مجرد نفي
الرؤية ل مدح فيه«].منهاج السنة [2/319
أما اليات؛ التي فيها إثبات الرؤية فإنهم ُيحّرفونها ،فأظهر آية
ضَرة ٌ * إ َِلى َرب َّهامئ ِذ ٍ َنا ِ
جوه ٌ ي َوْ َ
في الدللة على إثبات الرؤية )) :وُ ُ
سرون َناظ َِرة ٌ ((]القيامة [23:قالوا :ناظرة إلى ثواب ربها ،أو ُيف ّ
النظر بالنتظار!
و تقدم ]ص[ إن هذا ل يتفق مع قاعدة اللغة.
و قد جاء في الحديث :تشبيه رؤية المؤمنين لربهم برؤية
ه الرؤية الشمس والقمر ،فالمشّبه والمشّبه به هو الرؤية ،فشب ّ َ
بالرؤية ،ولم ُيشّبه المرئي بالمرئي ،فل ُيقال :إن الله تعالى
كالشمس والقمر ،فقوله ) :إنكم سترون ربكم كما ترون(
يعني :ترون ربكم رؤية كرؤيتكم للشمس والقمر ،ووجه الشبه
بين الرؤيتين:
أول :إنها رؤية بصرية ل علمية ،ونفاة الرؤية يفسرون هذه
الرؤية بالرؤية العلمية ،ـ أي ـ يزداد علمهم بالله يوم القيامة ،ل
أنهم يرونه بأبصارهم.
ثانيا :إنهم يرونه في العلو كما ُيرى القمران في العلو.
ثالثا :إنها رؤية من غير إحاطة ،فالمؤمنون يرون ربهم يوم
القيامة من غير إحاطة ،كما أن الناس في الدنيا يرون الشمس
والقمر من غير إحاطة.
فماذا يصنعون بهذا الحديث وغيره ؟!
يزعمون أنها أخبار آحاد ،ومن أصولهم الباطلة :أن أخبار
ج بها في مسائل العتقاد! الحاد ل ُيحت ّ
أو يردونها ،طاعنين في بعض رواتها ،مع أنهم ليسوا أهل أن
يتكّلموا في ذلك.
ل باطل مردود بالكتاب والسنة فقول الجهمية والمعتزلة قو ٌ
والجماع ،وإنكار الرؤية كفر؛ لنه إنكار لمر معلوم من دين
السلم بالضرورة ،إذ إنه جحد لما دّلت عليه هذه النصوص
المستفيضة من القرآن ،ومن الحديث ،ولما اتفق عليه الصحابة
والتابعون لهم بإحسان.
وأما الشاعرة :فيقولون :إنه ُيرى ل في جهة! فل ُيرى من
فوق ول تحت ،ول يمين ول شمال ،ول أمام ول خلف!
70
فأضحكوا عليهم العقلء ،وفتحوا باًبا للمعتزلة فاحتجوا
عليهم ،وكأنهم ما أثبتوا الرؤية .فقول الشاعرة فيه تلفيق ،وهذه
عادتهم ،فهم في باب الصفات يثبتون بعضا من الصفات ،وينفون
كثيًرا منها ،وفي الكلم ـ كما تقدم ـ ]ص[ يثبتون الكلم ،لكن
ليس على الوجه المعقول الذي دّلت عليه نصوص الكتاب
والسنة.
وهكذا الرؤية إثباتهم ليس على ما دلت عليه نصوص الكتاب
والسنة ،بل ول على الوجه المعقول.
وهذا يرجع إلى أن من أصولهم الباطلة نفي علو الله على
خلقه ،ويقولون :إن الرؤية تحتاج إلى مقابلة.
نعم فليكن ،الله تعالى في العلو والعباد ينظرون إلى ربهم
كيف شاء سبحانه وتعالى.
71
في دينه إل من سّلم لله عز وجل ولرسوله ،ورد ّ علم ما
اشتبه عليه إلى عالمه (
يعني :ما جاء عن الله تعالى في كتابه هو على ما أراده
ح من سنته؛ فهو كما قال ،فقد مه ،وما جاء عن النبي وص ّ وع َل ِ َ
قال ) :إنكم سترون ربكم ( فسنرى ربنا كما قال ،وهذا معناه
التصديق ،فما جاء عن النبي من الحديث الصحيح فهو ح ّ
ق
كما أخبر ،هذا معنى )كما قال( فنحن نؤمن به مصدقين لخبر الله
تعالى ،و خبر رسوله ،وهذا بيان لوجوب اليمان بما أخبر الله
به ،وما أخبر به رسوله في هذه المسألة وغيرها.
وقوله) :ومعناه على ما أراد( الكلم في هذا كالكلم فيما
قبله ،فقوله ) :إنكم سترون ربكم ( ماذا أراد ؟ أراد الرؤية
ض،
البصرية ،ونعلم أنه أراد ذلك يقينا ،وليس المقصود ُ التفوي َ
فنقول :الله أعلم بمراده ومراد رسوله؛ بل نقول :نعم هو كما
قال ،ومعناه على ما أراد ،ونحن نعلم المعنى الذي أراده من
قوله ) :إنكم سترون ربكم (؛ لنه ُيخاطبنا بكلم واضح مبين
سر ل إجمال فيه ول إبهام ،فل يجوز أن يكون المراد مف ّ
ستعلمون ربكم؛ لن العباد يعلمون ربهم وهم في الدنيا قبل أن
ما ((]طه [110:يعرفون ربهم أنه عل ْ ً
ن ب ِهِ ِ حي ُ
طو َ يموتواَ )) :ول ي ُ ِ
خالقهم ،وخالق كل شيء ،وأنه الله الذي ل إله غيره ،فل يجوز
أن ُيراد بقوله ) : سترون ربكم( يعني :تعلمون ،وتكون الرؤية
علمية؛ فإنه قال) :كما ترون الشمس ..كما ترون القمر(..
هذا كلم واضح قاطع مبطل لكل التحريفات.
وهذه الكلمات توهم التفويض ،لكن ل يصح أن نقول :إن
وض في هذه النصوص؛ لن التفويض ل يجري إل على المصنف ُيف ّ
مذهب من ينفي حقيقة الرؤية ،والمصنف بريء من هذا ،فإنه
يثبت الرؤية.
وقوله) :ل ندخل في ذلك متأولين بآرائنا(
التأول بمعنى التأويل ،فل ندخل في ذلك متأولين لتلك
النصوص برأينا المحض فنؤولها على خلف ظاهرها.
قال المام ابن تيمية » :إن التأويل صار مستعمل في ثلثة
معان:
الول :التأويل في اصطلح كثير من المتأخرين المتكلمين
في الفقه وأصوله :صرف اللفظ عن الحتمال الراجح إلى
احتمال مرجوح لدليل يقترن به.
الثاني :التأويل بمعنى :التفسير وهذا هو الغالب على
اصطلح المفسرين.
72
الثالث :التأويل بمعنى :الحقيقة التي يؤول إليها الكلم«.
]التدمرية ص 262باختصار[
والمأثور من هذه المعاني هو الثاني والثالث ،وأما الول فهو
اصطلح حادث ،وهو نوع ٌ من التفسير ،لكن الصل إن الكلم
ُيحمل على ظاهره ،ول يجوز صرفه عن ظاهره إل بدليل يجب
المصير إليه ،فهذه النصوص ل يجوز صرفها عن ظاهرها ،بل
يجب إجراؤها على ظاهرها ،كالقول في سائر نصوص الصفات،
وظاهرها هو إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة عيانا
ة
بأبصارهم ،ول يجوز صرفها عن هذا الظاهر؛ لنه ليس هناك حج ٌ
صحيحة توجب صرف هذه النصوص عن ظاهرها.
متأّول؛ معناه :أنه
مأّول ،أو ُ
وإذا قال الصوليون :هذا ُ
مصروف عن ظاهره إلى غيره ،لكن تارة يكون بحجة صحيحة،
ة
فيكون هذا التأويل صحيحا ،وتارة يكون ذلك التأويل بغير حج ٍ
صحيحة ،كتأويل المبتدعة للنصوص المخالفة لصولهم ،فكل
تأويلت المبتدعة للنصوص المخالفة لصولهم من نوع التأويل
الباطل ،والسم المطابق لتأويلهم ،هو التحريف؛ فإن صرف
ل مرجوح ،أو صرفه عن اللفظ عن الحتمال الراجح إلى احتما ٍ
ظاهره إلى غيره بغير دليل يوجب ذلك ،هو من تحريف الكلم عن
مواضعه.
73
علمه إلى عالمه ،هذا هو الواجب على المؤمن إذا ورد عليه آية
من كتاب الله ،أو حديث صحيح عن رسوله يجب عليه أن
يؤمن به فورا ول يتوقف ،فهم معناه أو لم يفهمه ،يجب أن يقابل
ما أخبر الله به ورسوله باليمان والذعان.
فإنه ما سلم عبد ٌ في دينه؛ إل إذا انقاد لله بالتصديق وإخلص
العبادة ،وانقاد للرسول بالتصديق والمتابعة ،ومن عارض
النصوص بعقله فليس عابدا لله تعالى ،ول متبعا لرسوله ،بل
وى ما ت َهْ َ ن وَ َ ن إ ِّل الظ ّ ّ ن ي َت ّب ُِعو َمتبع لهواه ،قال الله تعالى )) :إ ِ ْ
س ((]النجم [23:وكل أهل الباطل ينطلقون من هذين ف ُ ال َن ْ ُ
الصلين :الظن ،أو الهوى.
خرص ،و ليست مبنية على فمذاهبهم مبنية على الظنون ،وال َ
ن
حجج وبينات ،بل على شبهات واهيات ،وعلى الهوى )) :إ ِ ْ
َ وى ال َن ْ ُ
ن ِفي م ْ ن ت ُط ِعْ أك ْث ََر َ
س (( )) ،وَإ ِ ْ ف ُ ما ت َهْ َ
ن وَ َ ن إ ِّل الظ ّ ّ ي َت ّب ُِعو َ
م إ ِّل ن هُ ْ ن وَإ ِ ْ ن إ ِّل الظ ّ ّ ن ي َت ّب ُِعو َ ل الل ّهِ إ ِ ْ سِبي ِ ن َ ك عَ ْ ضّلو َ ض يُ ِ ِ ال َْر
ك َفاع ْل َ َ جيُبوا ل َ َ
ما
م أن ّ َ ْ ست َ ِم يَ ْن لَ ْ ن ((]النعام )) ،[116:فَإ ِ ْ صو َ خُر ُ يَ ْ
م ((]القصص [50:فإنهم قد يكونون على علم َ
واَءهُ ْ
ن أهْ َ ي َت ّب ُِعو َ
بالحق ،لكن يمنعهم من اتباعه الهوى ،وقد يضلون عن الحق
بسبب ظنونهم ،وآرائهم ،وشبهاتهم ،وفي كثير من الحيان يجتمع
ة والهوى؛ فالذين ل الشبه ُ ث على ذلك الباط ِ المران :فيكون الباع ُ
كمون عقولهم ـ مثل ـ في باب الصفات؛ كالجهمية والمعتزلة ُيح ّ
أصلهم هو تحكيم العقل الفاسد؛ لن العقل الصحيح ل ُيناقض
كموا كموا عقولهم الفاسدة ،ولو ح ّ دا ،لكنهم ح ّ النقل الصحيح أب ً
العقل الصريح لكان موافقا لما جاءت به الرسل » ،فإن الرسل
دا ،لكن قد ُيخبرون بما ل تدركه ه العقول أب ً ل يأتون بما ُتحيل ُ ُ
العقول ،أو بما تحار فيه العقول ،ول يأتون بما تقطع العقول
السليمة ببطلنه«] .مجموع الفتاوى 2/312و ،17/444والفرقان
،11/243ودرء تعارض العقل والنقل 5/297و ،7/327
والصواعق المرسلة [3/829فما تأتي به الرسل إما أن يكون
العقل شاهدا ومصدقا على صدقه وحسنه ،أو يكون العقل واقفا
جاهل ،والجاهل عليه أن ينقاد و ُيسّلم.
فأخبار الرسل دائرة بين المرين ،أما شيء ُيحيله العقل فل
والله ل تأتي به الرسل؛ لن العقل الصريح والقضايا العقلية
القطعية ل تتناقض ،والحق ل يتناقض ،وهذه القضية الكبيرة
أعني :الوفاق بين العقل والنقل ،أّلف فيها المام العلم شيخ
السلم ابن تيمية كتابه العظيم) :العقل والنقل( أو )درء تعارض
العقل والنقل( الذي قال فيه ابن القيم:
74
ظيٌر َثا ِ
ن جود ِ ل َ ُ
ه نَ ِ ما ِفي الوُ ُ
ذيل ال ِ
َ ل َوالّنق ِب الَعق َِواقَرأ ك َِتا َ
]الكافية الشافية ص [197
يعني في بابه.
وقوله ) :فإنه ما سلم في دينه إل من سلم لله عز وجل
علم ما اشتبه عليه إلى عالمه(. ولرسوله rورد ِ
هذا فيه تقرير وجوب التسليم لله ،والنقياد لحكمه ،وحكم
الله نوعان:
حكم كوني.
وحكم شرعي.
ويجب على العبد الرضا عن الله في تدبيره وحكمه الكوني
وحكمه الشرعي ،فل يعارض حكم الله برأي ول ذوق ول
استحسان ،هذا بالنسبة للحكم والقضاء الكوني.
وأما المور المكونة والمقضية فهذه يجب أن يعمل فيها من
حيث الستسلم والدفع والطلب بموجب الشرع ،فيحكم شرع
الله ،فما أمره الله بفعله فعله ،وما أمره بتركه تركه ،فيحب ما
أحبه الله ،ويبغض ما أبغضه الله ،ويأتي ما أمره الله به ،ويذر ما
نهاه الله تعالى عنه ،ويصبر على ما أوجب الله عليه فيه الصبر،
ويدفع ما أوجب الله عليه دفعه من المكروهات.
وهذه العمال من طلب أو دفع للمقدرات تجري فيها
الحكام التكليفية :الواجب والمحرم والمكروه والمستحب
والمباح.
فل بد من التسليم لحكم الله؛ بالرضا بحكمه وتدبيره ،وأنه
حكيم عليم ،وذلك بعدم العتراض عليه في قضائه الكوني
وقضائه الشرعي.
وجهلة الصوفية وغلتهم يرون أن من التسليم للقدر
الستسلم لكل ما يجري على النسان ،بحيث ل يطلب خلف ما
يجري عليه ،ول يدفع شيئا من المكروه ،حتى يقول قائلهم :إن
العارف ل حظ له! أو إنه يصير كالميت بين يدي الغاسل!
قال المام ابن تيمية » :فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته
التي لم يؤمر بها ،وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه ،وأنه كالميت
في طلب ما لم يؤمر بطلبه ،وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه«.
]التدمرية ص [518وهذا كلم باطل ،ول يمكن تحقيقه في الواقع
أبدا.
75
وقوله) :ما سِلم في دينه إل من سّلم لله عز وجل ولرسوله
(rكأنه يظهر من سياق الكلم أنه يريد التسليم لشرع الله في
المسائل العلمية العتقادية ،وفي المسائل العملية؛ فإن الدين
يتضمن قسمين:
هَ س َ َ ّ
سول ُ ل َر ُ ذي أْر َ اعتقادات ،وأعمال ،قال تعالى )) :هُوَ ال ِ
حقّ ((]التوبة [33:الهدى هو :العلم النافع ،ودين ن ال ْ َ ِ دى وَِدي ِبال ْهُ َ
ما ً ((]النعام،[114: َ َ
حك َ َ الحق :العمل الصالح )) ،أفَغَي َْر الل ّهِ أب ْت َِغي َ
ك ِفي شرِ ُ م إ ِّل ل ِل ّهِ ((]النعام ،[57:قال تعالىَ )) :ول ي ُ ْ حك ْ ُ ن ال ْ ُ )) إ ِ ِ
حد َا ً ((]الكهف ،[26:قال تعالى في تحكيم الرسولَ )) :فل َ
مه ِ أ َ حك ْ ُِ
دوا ِفي ج ُ م ل يَ ِ م ثُ ّ جَر ب َي ْن َهُ ْ ش َما َ ك ِفي َ مو َ حك ّ ُحّتى ي ُ َن َ مُنو َ ك ل ي ُؤ ْ ِ وََرب ّ َ
ما ً ((]النساء [65:ل بد سِلي َموا ت َ ْ سل ّ ُ
ت وَي ُ َ ضي ْ َما قَ َ م ّجا ً ِحَر َ م َ سه ِ ْ ف ِ َأن ُ
من التسليم لحكم رسول الله ،rوقبوله بانشراح صدر ،وطيب
مو َ
ك حك ّ ُ حّتى ي ُ َ نفس ،ل يتحقق اليمان كامل إل بهذه الشروطَ )) :
(( وذلك باليمان به ،وأن ما جاء به حق من عند الله ،وأن ما
حكم به في كل مسائل الدين هو الحق والعدل والصواب ،فإنه r
طاع َ الل ّ َ
ه قد ْ أ َ َ ل فَ َ سو َ ن ي ُط ِِع الّر ُ م ْ
إنما يحكم بشرع الله وحكمهَ )) ،
ه
م ع َن ْ ُ ما ن ََهاك ُ ْ ذوه ُ وَ َ خ ُ ل فَ ُسو ُ م الّر ُ ما آَتاك ُ ُ ((]النساء )) ،[80:وَ َ
َ
ما م ّ جا ً ِ حَر َ م َ سه ِ ْ ف ِ دوا ِفي أن ُ ج ُم ل يَ ِ َفان ْت َُهوا ((]الحشر )) ،[7:ث ُ ّ
ما ً ((]النساء.[65: سِلي َ
موا ت َ ْ سل ّ ُ ت وَي ُ َ ضي ْ َ قَ َ
وقد خرج عن هذا السبيل المبتدعة على اختلف بدعهم ،فلم
يقنعوا بما جاء به الرسول ،rفالمعطلة يرون أن كل ما في
القرآن والسنة من صفات الرب سبحانه وتعالى؛ ليس المراد
منها ظاهرها ،وأهل التفويض يرون أنها ل معنى لها ،وهذا خروج
عن تحكيم الرسول ،rوعن الرضا بحكمه ،والتسليم له ،فعندهم
أن الحق في معرفة الله ،وفيما يجوز عليه وما ل يجوز عليه؛ هو
ما عرفوه بعقولهم ،ومضمون هذا الكلم أن الرسول rلم يبين
للناس ما يجب أن يعتقدوه في ربهم ،فترك هذا العلم العظيم
الذي هو أهم العلوم وأجل المطالب بل بيان.
وقد فند شيخ السلم ابن تيمية في مقدمة العقيدة الحموية
]ص [195هذا التصور الساقط الباطل ،وذكر وجوها من دللت
العقل على بطلن هذا القول ،فكيف يبين الرسول rكل صغير
وكبير للناس حتى آداب قضاء الحاجة ،ثم ل يبين ما يجب على
العباد أن يعتقدوه في ربهم؟! هذا من أبطل الباطل.
ومن الوجوه التي ذكر» :إن كان ما يقوله هؤلء المتكلمون
المتكلفون هو العتقاد الواجب وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته
على مجرد عقولهم وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل
76
عليه الكتاب والسنة نصا أو ظاهرا؛ لقد كان ترك الناس بل كتاب
ول سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير؛ بل كان وجود الكتاب
والسنة ضررا محضا في أصل الدين« ]ص [235؛لنهم يقولون:
إن نصوص السماء والصفات ظاهرها التشبيه ،ثم يلجئون
للتخلص من ذلك إما بالتفويض فيقولون :هذه نصوص الله أعلم
بمراده منها ،فنحن ل نفهمها وليس علينا أن نتدبرها ،بل علينا أن
نتلوها ألفاظا ،والكثرون منهم يسلكون طريق التأويل ،وهو
تفسير النصوص بمعان بعيدة مخالفة لظاهرها ،ولما دلت عليه
سائر النصوص الخرى الموضحة لها ،فكل اليات والحاديث
الواردة ـ مثل ـ في اليدين مؤولة عندهم بخلف ظاهرها،
فيجعلون ذلك كله من قبيل المجاز والتخييل ،وهذا كله ضد
التسليم للرسول ،rفحكموا عقولهم ،ولم يحكموا النبي ،r
فضلوا ضلل بعيدا ،وهذا ما يتضمنه قول المؤلف) :فإنه ما سلم
في دينه إل من سلم لله عز وجل ولرسوله ،rورد ما اشتبه عليه
علمه إلى عالمه( وهذا هو الواجب ،فما خفي على النسان فهمه
وأشكل عليه؛ فعليه أن يقول :الله أعلم ،والله تعالى يعلم نبيه r
َ
م ((]الكهف )) ،[22:قُ ِ
ل ل َرّبي أع ْل َ ُ
م ب ِعِد ّت ِهِ ْ ويعلمنا بقوله )) :قُ ْ
س لَ َ الل ّ َ
ه
ك بِ ِ ما ل َي ْ َ
ف َ ما ل َب ُِثوا ((]الكهفَ )) ،[ 26:ول ت َ ْ
ق ُ ه أع ْل َ ُ
م بِ َ ُ
م ((]السراء [36:فالواجب على المكلف فيما لم يعلم أن عل ْ ٌ
ِ
يفوض علم ذلك إلى الله.
وقوله) :ورد ما اشتبه عليه علمه إلى عالمه( فهناك أمور
استأثر الله بعلمها ،كحقائق ما أخبر الله سبحانه عن نفسه من
أسمائه وصفاته ،وحقائق اليوم الخر ،فهذا كله مما يخفى على
العباد ول يمكنهم معرفته؛ فالواجب في هذا هو التفويض ،ورد
علم ذلك إلى الله.
أما معاني النصوص؛ فالصل أنها كلها يمكن فهمها ،فما أخبر
الله به عن نفسه ،وما أخبر به عن اليوم الخر هذه ل بد أن تكون
معلومة لنا من جهة معانيها ،لكن قد يخفى بعضها على بعض
الناس في بعض الحوال ،فهنا قبل أن يعرف المراد ،يرد ما
اشتبه عليه؛ فيقول :الله أعلم به ،ثم هذا ل يمنع التدبر والبحث
لمعرفة المراد ،ولهذا ذكر شيخ السلم ابن تيمية في القاعدة
الخامسة من الرسالة التدمرية ]ص » [251إنا نعلم ما أخبرنا به
من وجه دون وجه«
وقوله) :ورد ما اشتبه عليه علمه إلى عالمه( هذا أدب رفيع،
وهو مقتضى علم العبد بربه وعلمه بنفسه ،فل يتجاوز حده
فيدعي علم ما ل علم له به ،ول يتكلف في البحث عما ل سبيل
77
إلى معرفته ،فما علمه قال به واعتقده وآمن به ،وما خفي عليه
رد علمه إلى عالمه.
وقوله ـ رحمه الله ـ) :ول تثبت قدم السلم إل على ظهر
التسليم والستسلم ،فمن رام علم ما حظر عنه علمه ،ولم يقنع
بالتسليم فهمه ،حجبه مرامه عن خالص التوحيد ،وصافي
المعرفة وصحيح اليمان(
هذا تعبير فيه شيء من التشبيه والستعارة على طريقة أهل
البيان ،فقوله) :ل يثبت قدم السلم إل على ظهر التسليم(
م بأنه
م كأن له قدم يقوم عليها ،والتسلي َ ف السل َ فيصور المؤل ُ
مركب ثابت إذا اعتمد النسان عليه استقر وأمن من السقوط
والضطراب.
فل يستقر إسلم العبد ،وتحصل له الطمأنينة إل إذا ثبتت
تلك القدم على ظهر التسليم.
ن
م ْوالستسلم ،والتسليم معناهما متقارب ،قال تعالى )) :وَ َ
ن ((]لقمان[22: س ٌ
ح ِ ه إ َِلى الل ّهِ وَهُوَ ُ
م ْ جه َ ُ
م وَ ْ
سل ِ ْ
يُ ْ
السلم :الستسلم والنقياد ،وهذا يقتضي عدم المنازعة؛
لن من ينازع لم يسلم ،وهذا الكلم يؤكد قوَله السابق) :فإنه ما
سلم في دينه إل من سلم لله عز وجل ولرسوله .(
صلت أصل الدين :اليمان بالله والتسليم أصل مهم ،فإذا أ ّ
ورسوله وكتابه ،واليمان بالله يتضمن أنه تعالى هو الله الحق
الذي ل يستحق العبادة سواه ،وأنه تعالى رب كل شيء ومليكه،
وأنه سبحانه وتعالى موصوف بالكمال منزه عن النقص ،فل ظلم
ول عبث في خلقه وشرعه وقدره؛ بل هو تعالى حكيم في ذلك
كله ،إذا حققت هذا؛ فكل ما يرد عليك عن الله تعالى وعن
رسوله فل بد أن يقوم على التسليم؛ لن المعارضة والمنازعة
ما تجيء إل من ضعف اليمان بعدل الرب ،ومن ضعف اليمان
بحكمة الرب.
وكل ما يعارض الحق فهو باطل؛ لكن تارة تكون المعارضة
وقحة صريحة ،كما يفعل الكفرة أو الذين قد تزلزل إيمانهم ،أو
كاد أن يزول ،فهؤلء يتكلمون بالمعارضات في شرع الله وقدره،
وأحياًنا ل يتكلم بها لكن تكون في النفس.
والمسلم يجب عليه أن يدفع كل المعارضات التي تخطر
بباله ،أو يسمعها على ألسن الشياطين ،أو ألسن الجاهلين ،يدفع
ذلك باليمان بأن الله تعالى حكم عدل ،حكيم عليم.
وهذا ل يقتضي أن الشرع مخالف للعقل؛ بل العقل الصريح
ل يناقض النقل الصحيح؛ لكن العقل مع النقل له طاقة وله
78
حدود ،فل يمكن لعقل النسان أن يدرك ويحيط بكل شيء؛ بل له
حدود يقف عندها؛ لن النسان ناقص ،فل يمكن أن كل سؤال
تجيب عليه ،أو يجاب عليه ،فل بد من أن تقول :الله أعلم ،الله
حكيم عليم.
فإذا سلم النسان استراح كثيرا وأراح ،وما يرد عليك من
المعارضات:
إما أن تدفعه بالبينات والحجج الكاشفة لزيف تلك الشبهات
الواردة.
وإن لم يتهيأ ذلك لقلة العلم فادفعه بهذا الصل وقل :آمنت
بالله ورسوله ،فإن الشيطان يلقي الوساوس في النفوس.
والرسول ما ترك شيئا يقرب أمته إلى الجنة ،ويبعدهم
من النار إل دلهم عليه ،ول ترك أمرا يحتاجون إليه في دينهم إل
ن أحدكم فيقول :من خلق كذا، بينه ،وقد قال ) : يأتي الشيطا ُ
من خلق كذا ،حتى يقول :من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله
ولينته(] .رواه البخاري ) ،(3276ومسلم ) (134من حديث أبي
هريرة [
وفي لفظ آخر) :فليقل :آمنت بالله ورسله( ]عند مسلم في
الموضع السابق[
فهل بعد هذا الوسواس وسواس؟!
فإن ورد عليك ادفعه بسرعة بالعلج النبوي:
فقاطع الوسواس ،ول تسترسل معه ،واترك التفكير ،وقل:
أعوذ بالله من الشيطان ،آمنت بالله ورسله؛ فأنك إذا تفكرت فيه
زاد وطمع الشيطان فيك؛ لنه وجد عندك قابلية للوسواس.
وانظر إلى إيمان الصحابي الذي وجد مثل هذا ،فجاء مذعورا
يتذمر ،ويقول ) :يا رسول الله ،إني أحدث نفسي بالشيء ما لو
أخر من السماء أحب إلي من أن أتكلم به .فقال النبي :الله
أكبر ،الله أكبر ،الله أكبر ،الحمد لله الذي رد كيده إلى
الوسوسة { ]رواه أحمد 1/235ـ واللفظ له ـ ،وأبو داود )
،(5112وصححه ابن حبان ) (147من حديث ابن عباس [
وقال في لفظ آخر } :ذاك صريح اليمان { ]رواه مسلم )
(132من حديث أبي هريرة [
والمراد كراهة هذا الوسواس ،وبغضه والخوف منه ،وهذا
نابع من اليمان ،فبقدر إيمان العبد وقوته يكون موقفه من تلك
الفكار والوساوس.
وهذا كله يرجع إلى التسليم فأي شبهة ،أو فكر ،أو خاطر ،أو
قول يعارض الحق فهو باطل ،وهذا المبدأ عصمة للمسلم من
كثير من الشرور والشبهات والضللت.
79
فالتسليم لله ولرسوله ،معتصم للمسلم أمام كل باطل
وكل مجادل ،فل يعط لعقله الحرية التي تسمى حرية العقل،
وليست حرية للعقل؛ بل عبودية للشيطان ،وخروج عن عبودية
الله ،فليكن هذا الصل على بالك ،فكل ما يخالف الحق الذي جاء
عن الله تعالى ورسوله ؛ فهو باطل من الوهلة الولى ،وليس
بلزم أن يكون النسان عنده القدرة على تزييف تلك الشبهة،
المهم أن الحق عنده ثابت ،فما ُيدعى أن هذا يعارضه فهو مردود
مدفوع ،فاعتصم بالحق واثبت عليه واطرح كل ما خالفه.
وأحببت أن أؤكد على هذا فإنه ينفع المسلم ويريح باله عند
ورود الشبهات على قلبه]،اليمان الكبير ،7/282ومفتاح دار
السعادة [1/140فقد انفتح على الناس أبواب شر في هذا
العصر ممثلة في وسائل العلم ،وفي الشبكة العنكبوتية ،فهي
وسائل عظيمة الثر في الخير والشر؛ ولكن أكثر ما تستعمل في
الشر؛ لن أكثر الناس على غير هدى ،فكن على حذر مما يطرح
في هذه الوسائل ،فقد أصبح الناس في فتنة مدلهمة ،فكل
يستطيع أن يتكلم بما يريد ،الملحد والمبتدع والذي ينتسب للسنة
فإن من المنتسبين للسنة من تسربت إليه أفكار وتوجهات
فيحملها ويحمل لواءها ،فيصير ـ والعياذ بالله ـ داعي فتنة ،سواء
مما يتعلق بالعتقادات أو بالسلوكيات.
وقوله رحمه الله) :فمن رام علم ما حظر عنه علمه ،ولم
يقنع بالتسليم فهمه ،حجبه مرامه عن خالص التوحيد ،وصافي
المعرفة ،وصحيح اليمان( .
هذا بيان لثر عدم التسليم) ،من رام( يعني :طلب )ما حظر
عنه علمه( يعني :حجب عنه ومنع من علمه) ،ولم يقنع بالتسليم(
فهو كثير العتراض والسؤال ،فيقول :ـ مثل ـ لم خلق الله
الحشرات؟ لم خلق الله هذه المؤذيات؟ لم خلق الله الناس هذا
دميم ،و هذا قصير؟ لم أضل من أضل من الخلق؟ لم أغنى هذا
كم الله في تقديراته ،ففي نفسه ح ِ
وأفقر هذا؟ في تساؤلت عن ِ
اعتراضات!
ومن الشياء التي تجري على بعض اللسن ـ وهي نابعة من
عدم التسليم ـ) :فلن والله ما يستحق أنه يبتلى بهذه المراض
والوجاع والمصائب أو يبتلى بالفقر( هذا اعتراض على تدبير
أحكم الحاكمين.
وقوله) :فمن رام علم ما حظر عنه علمه ولم يقنع بالتسليم(
فيريد أن يفهم كل شيء ،وهذا ل يمكن؛ لن عقل النسان له
كم الله فيح ِ
حد ،فل يمكن أن يعرف أسرار الوجود ،وتفاصيل ِ
أقداره ،وإن لم يسلم لله؛ )حجبه مرامه عن خالص التوحيد
80
وصافي المعرفة وصحيح اليمان( هذه هي النتيجة ) ،حجبه
مرامه( أي :منعه طلبه وتكلفه ،معرفة ما هو محجوب عنه ،عن
خالص التوحيد وصحيح اليمان ،فالتكلف وطلب ما ل سبيل إلى
معرفته ينافي تحقيق التوحيد ،فتحقيق التوحيد يقتضي التسليم؛
لن التسليم والستسلم لله هو موجب التوحيد واليمان الصحيح
ن عل ْ ٌ
م إِ ّ س لَ َ
ك ب ِهِ ِ ما ل َي ْ َ
ف َ ق ُ والمعرفة الحقة ،قال تعالىَ )) :ول ت َ ْ
سُئول ً ((]السراء: َ م ْ ه َ ن ع َن ْ ُ كا َ ك َل أ ُوْل َئ ِ َ
ؤاد َ ك ُ ّ صَر َوال ْ ُ
ف َ معَ َوال ْب َ َ
س ْ
ال ّ
َ
ن ((]البقرة [169:ومما مو َ ما ل ت َعْل َ ُقوُلوا ع ََلى الل ّهِ َ ن تَ ُ
)) ،[36وَأ ْ
ن أن يقول النسان على الله ما ل يعلم. يأمر به الشيطا ُ
81
والله سبحانه وتعالى أقدره على أن يوسوس للنسان ،والقلب
بين حالتين:
مةِ الشيطان؛ فلمة الملك لقلب المؤمن مةِ الملك ،وَلـ ّ
بين َلـ ّ
المسلم ،أما الكافر فقد أحاط الشيطان به ،وليس للملك فيه
لمة » ،فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ،ولمة الشيطان
إيعاد بالشر وتكذيب بالحق« ]،رواه الترمذي ) ،(2988والبزار )
،(2027والنسائي في الكبرى ) ،(11051وابن حبان ) (997من
حديث ابن مسعود ،ورجح الئمة وقفه ،انظر :علل الترمذي
الكبير ) ،(654والعلل لبن أبي حاتم ) ،(2224ومصادر التخريج[
فالشيطان يوسوس ،فيبقى هذا المتكلف الذي لم يوفق للتسليم
متذبذبا موسوسا ،فقلبه في هذه الوساوس فتجعله في تردد،
ن ((دو َ
م ي َت ََرد ّ ُ كما قال سبحانه في المنافقين )) :فَهُ ْ
م ِفي َري ْب ِهِ ْ
]التوبة [45:فهو يتقلب ،فتارة يكون مؤمنا ،وتارة كافرا ،وتارة
حائرا.
82
والشكوك ،وإما أن يقوى في قلبه سلطان الباطل؛ فيصير إلى
الكفر دائما ول يكون عنده تردد .
وقوله) :ل مؤمنا مصدقا ول جاحدا مكذبا ،ول يصح اليمان
بالرؤية لهل دار السلم لمن اعتبرها منهم بوهم ،أو تأولها بفهم،
إذ كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ـ
بترك التأويل ،ولزوم التسليم ،وعليه دين المسلمين(.
هذا كأنه كلم معترض من قوله) :ل ندخل في ذلك متأولين
بآرائنا ول متوهمين بأهوائنا فإنه ما سلم في دينه (...واسترسل
في هذه الكلمات في التأكيد والحث على التسليم والستسلم
والتحذير من ضد ذلك ،وبيان الثار المترتبة على عدم التسليم
والستسلم ،فكل هذا الكلم معترض في ثنايا كلمه في تقرير
رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ،وب َّين أن من أثبت الرؤية على
خلف ظاهر النصوص ،أو تخيل كيفيتها بوهم ،أو تأولها بفهم ،كما
صنع المعطلة نفاة الرؤية ،فل يصح إيمانه برؤية المؤمنين
لربهم .
وقوله) :إذ كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف إلى
الربوبية ـ بترك التأويل ولزوم التسليم ،وعليه دين المسلمين(.
فالصراط المستقيم والمنهج القويم :بترك التأويل الذي
معناه :صرف الكلم عن ظاهره إلى غيره ،أو صرف اللفظ عن
الحتمال الراجح إلى احتمال مرجوح.
فتأويل الرؤية يعني :تفسيرها ،وتفسير كل معنى يضاف إلى
الرب من صفاته سبحانه وتعالى بترك التفسير ،ومثل هذه
العبارة توهم ـ أيضا ـ التفويض ،كقول السلف» :أمروها كما
جاءت بل كيف« ،فتفسيرها بترك تفسيرها ،وهذا ل يقصده
السلف ،فإنه قد علم أن أهل السنة يثبتون حقيقة الرؤية ،وأنها
رؤية بصرية ،ويصرحون بذلك ،ويثبتون لله الصفات بالمعاني
المعقولة المفهومة من النصوص ،فإذا جاءت مثل هذه العبارات
فل بد أن نفهمها على وجهها الصحيح ،أمروها كما جاءت :أجروها
على ظاهرها ،مثبتين لما دلت على ثبوته ،بل بحث عن الكيفية،
ول تحديد ل ِك ُن ْهِ تلك الصفات ،وليس المقصود :أمروها ألفاظا من
غير فهم للمعنى! هذا باطل؛ لن معناه أننا ما أثبتنا شيئا.
فتفسيرها أن نجريها على ظاهرها بترك صرفها عن ظاهرها،
بترك التأويل في اصطلح المتأخرين ،ونجد في كلم بعض الئمة
مثل نحو هذه الكلمة :الواجب في هذه النصوص عدم تأويلها ،أو
إجراؤها على ظاهرها بترك التأويل.
83
ك التفسير مطلقا ،فيكون كلما ل يفهم ك التأويل ليس تر َ
وتر ُ
معناه؛ لن الكلم الذي ل يفهم معناه ل فائدة منه ،تعالى الله
عما يقول الجاهلون والظالمون علوا كبيرا.
المقصود :أن عبارة الطحاوي من جنس عبارات بعض
السلف التي توهم أنه يقرر التفويض وليس كذلك ،إذ كيف يقول:
)الرؤية حق لهل الجنة( إذا كانت الرؤية ل تفسر ول تفهم ،فل
معنى لقوله) :حق(.
فمن يقول :إن الله خاطب عباده بما ل يفهم منه شيء ل
يجوز أن يتكلم في النصوص بأنها تدل على كذا ،أو ل تدل على
كذا ،كما أوضح ذلك شيخ السلم ابن تيمية في آخر القاعدة
الخامسة من الرسالة التدمرية ،يقول) :وهؤلء( يعني :أهل
التفويض )قد يظنون أنا خوطبنا في القرآن بما ل يفهمه أحد ،أو
بما ل معنى له ،أو بما ل يفهم منه شيء ،وهذا مع أنه باطل فهو
متناقض( إلى آخره] .التدمرية ص [329
84
نفسه كفر ،وليس فيما وصف الله به نفسه ول رسوله تشبيه(
]تقدم[ليس إثبات الصفات من التشبيه في شيء؛ بل إثبات
الصفات هو التوحيد.
وقوله) :ومن لم يتوق( يجتنب ويحذر )من النفي( نفي
السماء والصفات ،وهو التعطيل) ،والتشبيه( من لم يجتنب
ويحذر هذين المذهبين الباطلين )زل( زلت قدمه عن الصراط
المستقيم )ولم يصب التنزيه( يعني :المعطلة زعموا أنهم ينزهون
الله ،وما نزهوا الله؛ بل تنقصوه تعالى أعظم تنقص ،والمشبهة
الذين قالوا :إن الله له سمع كسمعنا ،هؤلء وإن كان مذهبهم
باطل؛ فإنهم خير من المعطلة النفاة ،ولهذا قال بعض أهل العلم:
)إن المعطل يعبد عدما ،والمشبه يعبد صنما( ]مجموع الفتاوى
[5/261؛ لن نفي السماء والصفات يستلزم نفي الذات ،فكلهم
مبطلون؛ لكن الذي يعبد موجودا أعقل من الذي يعبد معدوما.
85
)تعالى( تنزه وتقدس ،وهذه اللفاظ التي استعملها المام
الطحاوي ـ عفا الله عنا وعنه ـ لم ترد في كتاب ول سنة ،فليس
في شيء من النصوص هذا النوع من النفي ،فليته لم يأت بهذه
العبارات التي هي من جنس عبارات أهل البدع؛ فإنهم يأتون
بألفاظ محدثة ومجملة ،والقاعدة في اللفاظ المحدثة المجملة:
التوقف عن الحكم على قائلها أو عليها إل بعد الستفصال؛ فإن
قا قبلنا ما أراد ،وإن أراد باطل؛ رددنا الباطل ،وإن
أراد منها ح ً
أراد حقا وباطل؛ وقفنا اللفظ ،وقبلنا الحق ،ورددنا الباطل.
]التدمرية ص ،204ومجموع الفتاوى ،3/347و ،5/305و
،12/114ومنهاج السنة 2/217و ،554ودرء تعارض العقل
1/76و [238
وهذا الموقف هو موقف العدل والنصاف ،فإن الموافقة
على مثل ذلك يؤدي إلى الوقوع في الباطل وموافقة المبطل،
والمبادرة بالرد يؤدي إلى رد الحق؛ لن المتكلم بذلك قد يريد
حقا ،فكان التوقف والستفصال فيه مخرج من التورط برد الحق،
أو الموافقة على الباطل ،هذه قاعدة مقررة معروفة ،وهي منهج
من مناهج الجدل والمناظرة.
ونأتي لهذه الكلمات) :تعالى عن الحدود( هذا لفظ مجمل،
والحد يطلق ويراد به تحديد الماهية ،مثل الحد عند المناطقة،
أي :التعريف الذي يتضمن تحديد كنه الشيء وماهيته؛ فإن أريد
هذا فهو ممتنع ،إذ ل سبيل إلى تحديد الرب تعالى وذكر حقيقته،
فتعالى عن أن يحده الحادون ،وأن يصلوا إلى معرفة كنهه
وحقيقته ،قال شيخ السلم» :أهل العقول هم أعجز عن أن
يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها« ]التدمرية
ص ، [179فهذا المعنى حق ،تعالى الله عن أن يدرك أحد حقيقة
ذاته أو حقيقة صفاته.
ويأتي لفظ )الحد( ويراد به أنه سبحانه وتعالى ليس ساريا
في العالم حال في المخلوقات؛ بل هو فوق سماواته ،وهذا
المعنى جاء عن المام ابن المبارك ،لما قيل له :بماذا نعرف
ربنا؟ قال» :بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه .قيل:
بحد؟ قال :بحد« ]نقض عثمان بن سعيد ص 57والرد على
الجهمية ص ،48والسنة لعبد الله بن أحمد ،1/174والبانة
، 3/158وانظر :بيان تلبيس الجهمية [3/42
وقوله) :والغايات( الغاية تطلق ويراد بها النهاية ،وتطلق
ويراد بها المقصود من الفعل ،أي :الحكمة منه ،فإذا أريد أن الله
تعالى منزه عن أن تكون له غايات في أفعاله؛ فهذا باطل؛ لن
الله له الحكمة البالغة في خلقه وفي شرعه ،يقول شيخ السلم
86
ـ رحمه الله ـ في التدمرية ]ص » :[123والغايات المحمودة في
مفعولته ومأموراته ـ وهي ما تنتهي إليه مفعولته ومأموراته من
العواقب الحميدة ـ تدل على حكمته البالغة«.
ومن العلل والحكم ما علمناه بالنص عليه في الكتاب أو
السنة ،ومنها ما ُيهتدى إليه بالتدّبر والتفكر ،ومنها ما طوى الله
علمه عن عباده ؛ فالعباد ل يحيطون بحكمته تعالى] .وانظر :ص[
عند قوله :وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله[
وكذلك إذا أريد بنفي الغايات :نفي أن يكون الله في السماء
فوق العرش؛ وأنه في كل مكان ،كقول الجهمية الحلولية.
فنفي الغايات من النفي المحدث لمعان أو ألفاظ مجملة.
وقوله) :والركان والعضاء والدوات( ل حول ول قوة إل
بالله! عفا الله عن المؤلف وغفر الله لنا وله! ماذا يريد بالركان
و العضاء والدوات؟! لقد كان في غنى عن هذا الكلم ،أين الية
أو الحديث الذي فيه هذا اللفاظ؟
الركان :الجوانب ،والعضاء التي في النسان والحيوان هي
أجزاؤه التي يمكن أن تتبعض والمخلوق يتبعض ،فالنسان يتجزأ،
وأجزاؤه يقال لها :أعضاء؛ لنه يمكن انفصالها.
فنفي العضاء بمعنى تعالى أنه منزه عن التجزؤ ،حق فالله
دثمنزه عن التجزؤ ،فهو تعالى أحد صمد؛ لكن هذا التعبير المح َ
يمكن أن يفهم منه المبطل نفي بعض الصفات؛ لن قوله:
)والعضاء( يحتمل نفي بعض الصفات الذاتية كالوجه والعينين
واليدين ،فيقول المبطل :هذه أعضاء ،فننفي العضاء ،وهذا
باطل ،ونرجو أن المؤلف لم يرد هذا ،وإنما أراد نفي ما يحصل ما
به مماثلة المخلوق للخالق ،لسيما أنه قال) :موصوف بصفات
الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية ،ليس في معناه أحد من
البرية( فهو في مقام تنزيه الله عن مماثلة المخلوقات.
87
قال شيخ السلم رحمه الله » :لفظ الجهة قد يراد به شيء
موجود غير الله فيكون مخلوًقا ،كما إذا أريد بالجهة نفس
العرش ،أو نفس السماوات .وقد يراد به ما ليس بموجود غير
الله تعالى ،كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم«] .التدمرية ص
،205وانظر :منهاج السنة 2/321و 558و ،648وبيان تلبيس
الجهمية ،3/305ودرء تعارض العقل 5/58و [7/15
فإذا ُأريد بالجهة ما وراء العالم فالنافي للجهة مبطل ،إذ
ليس وراء العالم شيء مخلوق؛ بل وليس وراء العالم شيء
موجود إل الله تعالى.
وإذا أريد بالجهة شيء مخلوق ،مثل أن يراد بالجهة نفس
السماء أو العرش ،وأن الرب سبحانه حال في ذلك؛ فالنافي لهذا
محق والمثبت له مبطل.
فإذا أريد بكلمة )الجهات( أشياء موجودة مخلوقة؛ فالله منزه
من أن يحيط به شيء من المخلوقات؛ بل هو تعالى أعظم وأكبر
من أن يحيط به شيء من المخلوقات؛ لنه تعالى العظيم الذي ل
ض (( َ سعَ ك ُْر ِ
ت َوالْر َ وا ِ م َ س َه ال ّ سي ّ ُ أعظم منه فهو الذي )) وَ ِ
ن ت َُزول (( َ َ س ُ
ضأ ْ ت َوالْر َ وا ِ م َس َك ال ّ م ِ]البقرة ،[255:وهو الذي )) ي ُ ْ
م ال ْ ِ َ
ت
سماَوا ُ مةِ َوال ّقَيا َ ه ي َوْ َ ميًعا قَب ْ َ
ضت ُ ُ ج ِ
ض َ]فاطر} [41:واْلْر ُ
ه{]الزمر [67:ل يحيط به شيء من الجهات؛ لكنه مين ِ ِ مط ْوِّيا ٌ
ت ب ِي َ ِ َ
في العلو فوق جميع المخلوقات ،بائن من خلقه ،ليس في ذاته
شيء من مخلوقاته ،ول في المخلوقات شيء من ذاته.
وقد وقف الشارح ابن أبي العز ـ رحمه الله ـ في هذا
الموضع ]ص ، [260وتكلم على هذه اللفاظ ،فجزاه الله خيرا
على ما فعل ،وقد أحسن كثيرا بهذا الشرح ،الذي لزم فيه منهج
أهل السنة.
88
صَله المؤلف عما تقدم والمعراج مما يتصل بخصائص نبينا ،فَ َ
من كلمه ]ص[ في رسالة نبينا محمد ،وما ذكره من بعض
خصائصه.
معَْراج( في اللغة :آلة العروج ]في القاموس وأصل كلمة ) ِ
صَعد[ ،والعروج :الصعود، م ْ سّلم وال َ ج :ال ُ مْعرا ُ ص :253ال ِ
فتقول:عرج إلى السطح وإلى الجبل وإلى السماء ،أي :صعد،
ح ((]المعارج [4:وفي الحديث: ة َوالّرو ُ ملئ ِك َ ُ ج ال ْ َ قال تعالى )) :ت َعُْر ُ
)ثم يعرج الذين باتوا فيكم( ]رواه البخاري ) ،(555ومسلم )
(632من حديث أبي هريرة [.وليس المراد هو إثبات اللة أو
الوسيلة التي عرج بها النبي ؛ بل إثبات عروج النبي إلى
السماوات ،وإلى حيث شاء الله من العل ،فكأن المصنف يقول:
وعروج نبينا إلى ما شاء الله حق؛ لكن صار لفظ )اِلمعراج(
ع ََلم على هذا المر.
وقد أشار الله إلى العروج بالنبي في القرآن في سورة
ما ي ََرى * وَل َ َ َ َ
قد ْ ه ع ََلى َ ماُرون َ ُما َرأى * أفَت ُ َ ؤاد ُ َ ف َب ال ْ ُ ما ك َذ َ َ النجمَ )) :
من ْت ََهى ((]النجم [14-11وقد ثبت ْ
سد َْرةِ ال ُ عن ْد َ ِ خَرى * ِ ة أُ ْ
َرآه ُ ن َْزل َ ً
خِلق عليها له في الصحيح ) :أنه رأى جبريل على صورته التي ُ
ستمائة جناح ،مرتين ( ]البخاري ) ،(4855ومسلم )[.(177
والمراد بالسراء هو :الذهاب بالنبي ليل من المسجد
الحرام إلى المسجد القصى في بيت المقدس ،قال الله تعالى:
حَرام ِ إ َِلى َ
جد ِ ا ل ْ َس ِ ن ال ْ َ
م ْ م َ سَرى ب ِعَب ْد ِهِ ل َي َْل ً ِ ذي أ ْ ن ال ّ ِ حا َسب ْ َ )) ُ
َ
ه ((]السراء[1: حوْل َ ُ ذي َباَرك َْنا َ صى ال ّ ِ جد ِ القْ َ س ِ م ْ ال ْ َ
مْعراج في أحاديث؛ لكن الغالب أنها وقد جاء ِذكُر صفات ال ِ
ليست من الحاديث المعتمدة ،لكن السراء بالنبي ،والعروج
به إلى السماوات هذا أمر معلوم ،ومجمع عليه بين أهل السنة،
ودلت عليه الحاديث الصحاح المتواترة ]نظم المتناثر ص ،219
وانظر :تفسير ابن كثير 5/6فقد ساق روايات كثيرة جدا[.
وقد اختلف الناس في حقيقة السراء والمعراج ـ مع التفاق
على ثبوتهما ـ على أي وجه وقع ؟
والحق أنه قد أسري بالنبي بروحه وبدنه ،وعرج به إلى
حيث شاء الله من العل يقظة ل مناما ،ولهذا نص المؤلف على
عرج بشخصه في اليقظة( ذلك بقوله) :وقد أسري بالنبي ،و ُ
ذي ن ال ّ ِ
حا َ
سب ْ َ
وهذا هو الذي يدل عليه ظاهر الدلة ،قال تعالىُ )) :
سَرى ب ِعَب ْد ِهِ ((]السراء [1:والعبد اسم للروح والبدن. َ
أ ْ
وتصدير هذه الية بالتسبيح دال على عظم المر ،والسراء
كان بروحه وبدنه يقظة ل مناما؛ فإن الذهاب والنتقال في النوم
أمر ليس بمستغرب ول مستنكر ،فهو يحدث لسائر الناس.
89
ومما يؤكد هذه الحقيقة ما جاء في الحديث الصحيح أن
الرسول لما أخبر قريشا استعظموا ذلك وكذبوه ،وسألوه عن
ما ك ُرِب ْ ُ
ت ة َت ك ُْرب َ ً أشياء من بيت المقدس ،قال النبي » :فَك ُرِب ْ ُ
يٍء إ ِّل ط ،فَرفَعه الل ّه لي أ َنظ ُر إل َيه ما ي َ
ش ْ ن َ سأُلوِني ع َ ْ ْ ُ ِ ْ ِ َ َ ْ ُ ِ َ َ ُ ه قَ ّ مث ْل َ ُ
ْ
ِ
ه« ]رواه مسلم ) [(172فهذا كله يؤكد أن السراء كان َ
م بِ ِأن ْب َأت ُهُ ْ
بروحه وبدنه يقظة ل مناما.
وكذلك العروج به إلى ما شاء الله من العل كان بشخصه
يقظة ل مناما ،فهذا هو المر الخارق العظيم أن يقطع هذه
المسافات ويعود في ليلة.
وفي حديث السراء والمعراج أمور كثيرة ،فيها أن جبريل
عليه السلم صعد به واستفتح له السماء ،ثم فتح له ،فلقي
النبياء :آدم وعيسى ويحيى ويوسف وإدريس وهارون وموسى
وإبراهيم عليهم الصلة والسلم ،وعند كل سماء يستفتح ،فكل
سماء لها أبواب وحراس من ملئكة الله ،وكل ذلك من الغيب ،ل
نتصوره ول ندرك حقائقه ،فيستفتح جبريل عليه السلم ،فيقول
له الملك الموكل بباب السماء :من؟ فيقول :جبريل .فيقول:
ومن معك؟ فيقول :محمد .فيقول :وهل أرسل إليه؟ فيقول:
نعم ،فيقول :مرحبا ولِنعم المجيء جاء ،عند كل سماء يتجاوزها
حتى بلغ سدرة المنتهى ،وفرض الله عليه الصلوات الخمس.
]حديث السراء روي في الصحيحين في مواضع من رواية عدد
من الصحابة منها :البخاري ) (3207ومسلم ) (164من حديث
مالك بن صعصعة [
وقال بعضهم :إنه كان مناما! واحتجوا برواية شريك بن عبد
الله ابن أبي نمر » :واستيقظ وهو في المسجد الحرام«
]البخاري ) (7517من روايته عن أنس [ورد ذلك المحققون
وقالوا :إن هذا وهم من شريك ،وقد وهم في هذا الحديث في
مواضع عدة] .انظر :صحيح مسلم ) ،(162وزاد المعاد ،3/42
وتفسير ابن كثير ،5/7وفتح الباري [13/485
وهذا قول باطل ليس بشيء ،فلو قال الرسول لقريش:
إني رأيت في المنام ،لم يكذبوه؛ لنه أمر عادي يحصل لحاد
الناس.
وُنسب إلى عائشة ومعاوية رضي الله عنهما ]ذكره الطبري
في تفسيره 14/445ونقضه ،وانظر :زاد المعاد [3/40أن
السراء والمعراج كان بروحه دون جسده .وهو رأي عندي غير
مقبول ،وي َرِد ُ عليه ما يرد على القول بأنه كان مناما ،فإذا كان
جسده باقيا عندهم فل يكون بينه وبين رؤيا المنام كبير فرق ،وما
90
معنى أن جبريل يأتيه بالبراق ،ويحمله عليه ويسير به ،ويصلي
بالنبياء؟
فهذا القول فيه نظر ،وهو خلف ظاهر الدلة.
ومن اختار هذه القوال من العلماء أراد أن يوفق بين
الروايات فيقول :إن السراء كان مرة يقظة ومرة مناما ،ومرة
في مكة ومرة في المدينة!
وهذا وهنه العلمة ابن القيم ،وقال » :هذه طريقة ضعفاء
الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف
سياق بعض الروايات جعلوه مرة أخرى ،فكلما اختلفت عليهم
الروايات عددوا الوقائع! والصواب الذي عليه أئمة النقل :أن
السراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة ،ويا عجبا لهؤلء الذين
زعموا أنه مرارا ،كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض
عليه الصلة خمسين ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير
خمسا ،ثم يقول » :أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي« ثم
يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها عشرا عشرا«.
]زاد المعاد[3/42
فالصواب :أن السراء والمعراج حدث مرة واحدة والنبي
في مكة قبل الهجرة ،وفرضت عليه الصلوات الخمس ،وقد اتفق
أهل العلم :أن الصلوات الخمس قد فرضت عليه وهو في مكة
قبل الهجرة ،والمشهور أن ذلك قبل الهجرة بثلث سنوات،
وقيل :بأقل ،وقيل :بأكثر] .التمهيد [8/48
وفي قصة السراء والمعراج الدللة على عظم شأن الصلة
حيث فرضت على النبي بل واسطة وفرضت عليه وهو في
أعلى المقامات فوق السماوات.
وفي قصة السراء والمعراج دللة على علو الله تعالى على
ة ج ال ْ َ
ملئ ِك َ ُ خلقه ،فإنه عرج به إلى ربه ،كما قال تعالى )) :ت َعُْر ُ
ح إ ِل َي ْهِ ((]المعارج [4:الملئكة والرواح تعرج إلى الله؛ لنه َوالّرو ُ
في العلو.
وفيها إثبات صفة الكلم والتكليم لله تعالى ،وتكليمه لنبينا
محمد بل واسطة.
وفي ذلك فضيلة لنبينا حيث أكرمه الله ورفعه على سائر
النبيين والمرسلين ،حتى تجاوز كل النبياء ،حتى إبراهيم عليه
السلم لقيه في السماء السابعة وتجاوز إلى مكان فوق ذلك
يسمع فيه صريف القلم ] .رواه البخاري ) ،(349ومسلم )(163
حّبة النصاري رضي الله عنهما[ من حديث ابن عباس وأبي َ
سبحان الله مع هذه البعاد العظيمة يتم هذا في ليلة ،هذا
أمر خارق ،ول تقل :كيف؟
91
الن أَتى الله للناس بشيء ما كان يخطر ببالهم ،هذا الصوت
الن في أقصى الدنيا ،يقول لك :السلم عليكم ،فتقول :وعليكم
السلم ،فتسمعه وترد عليه ،والذين يصعدون في المراكب
ضا مع البعد العظيم الذي تنتهي إليه تلك المراكب، الفضائية أي ً
يتكلمون مع من يكلمهم في الرض ،ويصل الصوت في نفس
الوقت ،فهذا مثال أصغر للحدث العظيم حدث السراء والمعراج،
م
ريهِ ْ سن ُ ِ
سبحان الله! هذه أمثلة وآيات لعلها تدخل في عمومَ )) :
فسهم حتى يتبين ل َه َ َ
حقّ (( ه ال ْ َم أن ّ ُ ق وَِفي أن ْ ُ ِ ِ ْ َ ّ َ َ َ ّ َ ُ ْ آَيات َِنا ِفي الَفا ِ
]فصلت.[53:
وأي أمر تستعظمه مما أخبرت به الرسل فرده إلى كمال
ديٌر (( يٍء قَ ِ ش ْ ل َ ه ع ََلى ك ُ ّ ن الل ّ َ
دا )) ،إ ِ ّالقدرة يسهل عليك ج ً
ن شيًئا من ذلك ،فذلك لنقص ]البقرة [20:ومتى استبعد النسا ُ
جَزهُه ل ِي ُعْ ِ ّ
ن الل ُ كا َما َ إيمانه بكمال قدرة الرب تعالى وتقدس )) ،وَ َ
ديَرا ً (( ما ً ق َ ِ ه َ َ ن َ
ن ع َِلي َ كا َ ض إ ِن ّ ُ
ت َول ِفي الْر ِ وا ِ م َ
س َ
يٍء ِفي ال ّ
ش ْ م ْ ِ
]فاطر[44:
92
والحوض في عرصات القيامة ،قبل دخول الجنة ،يرد عليه
المستمسكون بسنته ،فمن شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا
]نفس تخريج حديث سهل وأبي سعيد السابق[؛ لنه يصير إلى
حى ((]طه: ك ل تظ ْ ُ الجنة ،وعنده أنهارها )) :وَأ َن ّ َ
ض َ
مأ ِفيَها َول ت َ ْ َ َ
[119فليس فيها ظمأ ول جوع؛ لن كل مطالب النفوس
َ
ماب وَِفيَها َ وا ٍ ب وَأك ْ َ ن ذ َهَ ٍ م ْف ِ حا ٍ ص َ م بِ ِ ف ع َل َي ْهِ ْ طا ُ موجودة )) ،ي ُ َ
جن ّةِ ال ِّتي ل ال ْ َ َ شت َهيهِ ا َ
مث َ ُ ن ((]الزخرفَ } ،[71: س وَت َل َذ ّ الع ْي ُ ُ ف ُ لن ُ تَ ْ ِ
َ َ
م ي َت َغَي ّْر ن لّ ْ سن وَأن َْهاٌر ِ ّ
من لب َ ٍ ماء غ َي ْرِ آ ِ َ ٍ من ّ ن ِفيَها أن َْهاٌر ّ قو َ عد َ ا ل ْ ُ
مت ّ ُ وُ ِ
مرٍ ل ّذ ّةٍ ّلل ّ َ
فى ص ّ
م َ ل ّ س ٍ ن عَ َ م ْ ن وَأن َْهاٌر ّ شارِِبي َ خ ْ ن َ م ْ ه وَأن َْهاٌر ّ م ُ ط َعْ ُ
م
حت ِهِ ُن تَ ْ م ْ ري ِ ج ِ ت{]محمد )) [15:ت َ ْ مَرا ِ ل الث ّ َ من ك ُ ّ م ِفيَها ِ وَل َهُ ْ
ال َن َْهاُر ((]العراف [43:في آيات كثيرة.
ومما جاء في أحاديث الحوض أنه» :يشخب فيه ميزابان مــن
الجنــة« ]رواه مســلم ) (2300عــن أبــي ذر ، و ) (2301عــن
ثوبان [ ميزابان يصبان فيه ـ اللــه أعلــم بقــدرهما وصــفتهما ــ
ك ال ْك َـوْث ََر من نهر الكوثر الذي أعطاه الله وأكرمه به )) إ ِّنا أ َع ْط َي َْنا َ
((]الكوثر [1:والمعتمد في تفسيره :أنــه نهــر فــي الجنــة أكرمــه
الله بـه ،ففــي حــديث أنــس أن النــبي قـال » :أتــدرون مـا
الكوثر ؟ فقلنا :الله ورسوله أعلم ،قال :فــإنه نهــر وعــدنيه ربــي
عز وجل عليه خير كثير ،هو حوض تــرد عليــه أمــتي يــوم القيامــة
آنيته عدد النجوم«] .رواه مسلم ) (400من حديث أنس [
فيجب اليمان بما دلت عليه هذه الخبار ،وأهل السنة
والجماعة يؤمنون بذلك ،ولهذا قال الطحاوي ) :والحوض الذي
أكرمه الله تعالى به ـ غياًثا لمته ـ حق( .
وورد في حديث رواه الترمذي أن النبي قال ) :إن لكل
نبي حوضا( ]الترمذي ) ،(2443وقال :حديث غريب ،وقد روى
الشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي
مرسل ،ولم يذكر فيه عن سمرة ،وهو أصح ،وانظر :فتح الباري
،11/467والسلسلة الصحيحة )[(1589؛ ولكن أعظمها حوض
نبينا ؛ لن المؤمنين من أمته هم أضعاف أضعاف المؤمنين
من سائر المم ،فكثرة أتباعه والمؤمنين به يقتضي أن يكون
حوضه أعظم الموارد.
وتكلم بعض العلماء في شأن ترتيب الحوض مع بعض أمور
القيامة ،هل يكون قبل الميزان أو بعده؟ وهل هو قبل الصراط أو
بعده ؟
والشارح ابن أبي العز ]ص [282نقل عن القرطبي]التذكرة
:[2/702أنه قبل الميزان ،وعلل هذا بأن الناس يبعثون من
قبورهم عطاشا ،فيقدم قبل الميزان والصراط.
93
وهذا ل يكفي دليل ،وما الدليل على أن المؤمنين الذين هم
أهل الورود يبعثون عطاشا ؟!
فهذه المسألة يجب المساك عن الكلم فيها ،فل نقول :قبل
ول بعد ،فالله أعلم ،هذه أمور غيبية ،ول يجزم بشيء منها إل
بحجة وبرهان.
وأما كونه قبل الصراط أو بعد الصراط فهذا فيه تأمل ،و
رد عليه من يذاداستدل من قال :إنه قبل الصراط :بأنه ثبت أنه ي َ ِ
عنه ممن استوجب العذاب ،وهؤلء ل يجاوزون الصراط.
واختار ابن القيم :بعد أن حكى القولين أنه ل يمتنع أن يكون
قبل الصراط وبعده ،فإن طوله شهر وعرضه شهر ،فإذا كان بهذا
الطول والسعة ،فما الذي يحيل امتداده إلى ما وراء الصراط،
فيردونه قبل وبعد] .زاد المعاد [3/683
والمر محَتمل .والله أعلم.
94
والثانية :شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة ،فبعدما
يجوزون الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فإذا هُذ ُّبوا
قوا أذن لهم بدخول الجنة ]رواه البخاري ) (2440من حديث ون ُ ّ
أبي سعيد ،[.ثم إنهم ل يدخلون إل بشفاعته ] رواه مسلم )
(195من حديث أبي هريرة ، ومعناه ) (196من حديث أنس
.[
وهاتان الشفاعتان خاصتان به .
والثالثة :شفاعته فيمن دخل النار من عصاة الموحدين أن
يخرج منها ،وهذا جاء صريحا في الحاديث ،وأنه يشفع أربع
مرات وفي كل مرة) :يسجد لربه ويدعو ويستشفع فيقال له:
ارفع رأسك ،وقل تسمع ،وسل تعطه ،واشفع تشفع ،ثم أشفع:
دا فأخرجهم من النار {] .رواه البخاري )،(6565 حد ّ لي ح ً في َ ُ
ومسلم ) (193من حديث أنس [
وتواترت الحاديث ]الموضع السابق في المتواتر[ بأنه يخرج
من النار بهذه الشفاعات من قال :ل إله إل الله ،وفي قلبه
مثقال خردلة ،أو شعيرة ،أو ب ُّرة أو ذرة من إيمان ،وأنهم
قون ما ـ أي :مثل الفحم ـ فَي ُل ْ َ م ً حـ َيخرجون من النار وقد صاروا ُ
في نهر بأفواه الجنة يقال له :نهر الحياة ،فَي َن ْب ُُتون كما تنبت
حّبة في حميل السيل] .رواه البخاري ) ،(7439ومسلم )(183 ال ِ
من حديث أبي سعيد الخدري [
وهذه الشفاعة في أهل التوحيد ل تختص بالرسول لكن
له من ذلك النصيب الكبر والعظم ،فمن يخرج بشفاعته أكثر
ممن يخرج بشفاعة غيره ،وإل فإنه تشفع الملئكة ،ويشفع
النبيون ،ويشفع المؤمنون كل يشفع حسب ما يحد له ،فإنه ل
أحد يشفع عنده إل بإذنه سبحانه وتعالى].المرجع السابق[
وهذه الشفاعة تنكرها الخوارج والمعتزلة]مجموع الفتاوى
1/116واقتضاء الصراط المستقيم [2/359؛ لنها تناقض مذهبهم
في تخليد أهل الكبائر في النار ،فهم يقولون :إن أهل الكبائر
مخلدون في النار ،ويستحيل أن يخرجوا منها ،واستدلوا بمثل
ن ((]المدثر،[48: شافِِعي َة ال ّ فاع َ ُ م َ
ش َ فعُهُ ْما ت َن ْ َقوله تعالى )) :فَ َ
طاع ُ ((]غافر.[18: فيع ي ُ َ ميم ٍ َول َ ما ِلل ّ
ش ِ ٍ ح ِ ن َ م ْ ن ِمي َظال ِ ِ )) َ
والشفاعة في إخراج عصاة الموحدين هي التي أشار إليها
المؤلف؛ لنها هي محل النزاع بين أهل السنة والخوارج
والمعتزلة.
والرابعة :شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي
طالب ،فقد سأله عمه العباس فقال :يا رسول الله هل
نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال:
95
) نعم ،هو في ضحضاح من نار ،ولول أنا لكان في الدرك السفل
من النار ( ]رواه البخاري ) ،(6208ومسلم )[(209
فأبو طالب بشفاعته صار من أهون أهل النار عذابا.
وبهذه ُيعلم أن الشفاعة التي تذكر لها الشروط هي الشفاعة
في خروج أهل التوحيد من النار ،وهي متوقفة على شرطين:
ن الله للشافع ،ورضاه عن المشفوع له ،وذلك بأن يكون إ ِذ ْ ُ
تل وا ِ م َ
س َ ك ِفي ال ّ مل َ ٍ ن َ م ْم ِ من أهل التوحيد ،قال تعالى )) :وَك َ ْ
ْ َ
شاُء ن يَ َ م ْ ه لِ َن الل ّ ُ ن ي َأذ َ َ ن ب َعْد ِ أ ْ
م ْ شي ْئ َا ً إ ِّل ِ
م َ
فاع َت ُهُ ْش َت ُغِْني َ
عن ْد َه ُ إ ِّل ب ِإ ِذ ْن ِهِ ((فعُ ِ ش َذي ي َ ْ ذا ال ّ ِ ن َم ْضى ((]النجمَ )) ،[26: وَي َْر َ
ه
شي َت ِ ِخ ْن َ م ْ م ِ ضى وَهُ ْ ن اْرت َ َ ّ ]البقرةَ )) ،[255:ول ي َ ْ
م ِ ن إ ِل ل ِ َ فُعو َ ش َ
ن ((]النبياء ،[28:فل يرد على ذلك شفاعة النبي في قو َ م ْ
ش فِ ُ ُ
أبي طالب؛ فإنها ليست شفاعة في خروجه من النار بل هي
شفاعة في تخفيف العذاب عنه.
96
ابن كثير ،3/501والدر المنثور ،3/598وانظر :السلسلة
الصحيحة ) ،[(1623وبعضها يشهد لبعض؛ لكن الرواية التي فيها
أنه استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم فيها مقال لهل الحديث؛
فمنهم من ل يثبت هذه الرواية كما ذكر الشارح ابن أبي العز
]ص ، [310وأصح ما ورد في شأن الميثاق الحديث الذي في
الصحيحين عن أنس عن النبي ) :إن الله يقول لهون أهل
النار عذابا :لو أن لك ما في الرض من شيء كنت تفتدي به؟
قال :نعم ،قال :فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب
آدم :أن ل تشرك بي ،فأبيت إل الشرك(] .البخاري )،(3334
ومسلم )[(2805
الشاهد ) :قد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب
آدم :أن ل تشرك بي ،فأبيت إل الشرك ( ،هذا أصح ما استدل به
على الميثاق الول.
ومن الناس من ل يثبت هذا الميثاق ويقول :هذا الميثاق ل
يذكره أحد من الناس ،وليس فيه حجة على أحد.
والجواب عن هذا :نعم ليس حجة وحده ،ول يستوجب من
خالفه بمجرده العذاب ،إنما يستوجب العذاب من جاءته الرسل،
وبل َغَْته دعوة الحق.
وأما الية ففيها نزاع ،هل هي في الميثاق الول الذي أخذه
الله على آدم وذريته يوم استخرجهم من ظهره؟
في ذلك رأيان:
أكثر المفسرين على أنها في هذا الشأن.
ومنهم من يرى أنها في معنى آخر ،وأن المراد منها ميثاق
الفطرة التي فطر الله عليها عباده.
ورجح ذلك ابن القيم بوجوه ]الروح ص ،[260منها:
م (( ولم يقل: ن ب َِني آد َ َ
م ْ
ك ِ أن الله تعالى قال )) :وَإ ِذ ْ أ َ َ
خذ َ َرب ّ َ
من آدم.
م (( ولم يقل :من ظهره. ن ظ ُُهورِه ِ ْ م ْوقال تعالىِ )) :
م(( ولم يقل :ذريته. وقال تعالى)) :ذ ُّري ّت َهُ ْ
والمراد استخراجهم جيل بعد جيل ،من ظهور آبائهم
م (( بما نصبه من الدلة على ربوبيته سهِ ْ ف ِ م ع ََلى َأن ُ ))وَأ َ ْ
شهَد َهُ ْ
سبحانه وإلهيته ،وفطر عباده على وحدانيته ،وقال النبي ) :ما
من مولود إل يولد على الفطرة ( ]رواه البخاري )،(1358
ومسلم ) (2658من حديث أبي هريرة .[
فالية في ميثاق الفطرة ،ومع ذلك هذا الميثاق لم يجعله
الله بمجرده هو الحجة على العباد ،نعم هو من جملة الحجج؛ لكن
ن ما ك ُّنا ُ
معَذ ِّبي َ الحجة الكبرى هي :إرسال الرسل ،قال تعالى )) :وَ َ
97
سَل ً
سوَل ً ((]السراء [15:وقال سبحانهُ )) :ر ُ ث َر ُ حّتى ن َب ْعَ َ َ
ل (( س ِة ب َعْد َ الّر ُ ج ٌ ح ّ ّ َ
س ع َلى اللهِ ُ ُ ّ
ن ل ِئ َل ي َكو َ مب َ ّ
ن ِللّنا ِ منذ ِِري َ
ن وَ ُ
ري َ ش ِ ُ
]النساء ،[165:فبالرسل قطع الله المعذرة ،وقال النبي ) :ل
أحد أحب إليه العذر من الله ،ومن أجل ذلك بعث المبشرين
والمنذرين( ]رواه البخاري ) ،(7416ومسلم ) (1499من حديث
ة لحجةِ العباد على ربهم المغيرة بن شعبة ، [فالحج ُ
ة القاطع ُ
هي :إرسال الرسل ،وما هذه المواثيق ،وهذه اليات إل من حجج
الرسل عليهم ،ولهذا يحتج الرسل على أممهم فيما أنكروه بما
أقروا به ،فيحتجون عليهم بإقرارهم بربوبيته تعالى ،وأنه خالقهم
وخالق السماوات والرض يحتجون عليهم بهذا القرار على
مما ل َك ُ ْه َدوا الل ّ َ وجوب عبادته تعالى وحده دون ما سواه )) اع ْب ُ ُ
ن إ ِل َهٍ غ َي ُْره ُ ((]العراف.[59: م ْ ِ
ومما تقدم يتبين أن ما ذكر الله هو موجب الدليل ،كما في
حديث أنس في الصحيحين ]ص[ ،وكما دلت عليه الشواهد
من الحاديث الخرى ،فالميثاق الول حق ،ولكن ليس هو الحجة
ج به الرسل حت َ ُالقاطعة للمعذرة على المكلفين ،وإنما هو مما ي َ ْ
على أممهم ،وذلك بتذكيرهم إياه وإخبارهم به.
98
َْ تعالى} :أ َل َم تعل َ َ
ن ذ َل ِ َ
ك ض إِ ّ ماء َوالْر ِ س َما ِفي ال ّ م َ ه ي َعْل َ ُ ن الل ّ َ مأ ّ ْ َْ ْ
هّ
سيٌر{ ] الحـج [70:وقولهَ} :والل ُ ّ َ
ن ذ َل ِك ع َلى اللهِ ي َ ِ َ ب إِ ّ ِفي ك َِتا ٍ
َ
نم ْ ل ِ م ُ ح ِما ت َ ْ
جا وَ َ م أْزَوا ً جعَل َك ُ ْ م َ فة ٍ ث ُ ّ من ن ّط ْ َ م ِ ب ثُ ّ من ت َُرا ٍ كم ّ ق ُخل َ َ َ
َ ْ ّ َ ُ
ه
مرِ ِ ن عُ ُ م ْ ص ِ ق ُ مرٍ وَل ُين َ معَ ّمن ّ مُر ِ ما ي ُعَ ّ مه ِ و َ َ ضعُ إ ِل ب ِعِل ِ أنَثى وَل ت َ َ
ب{ ]فاطر[11: إ ِّل ِفي ك َِتا ٍ
المرتبة الثالثة :اليمان بعموم مشيئة الله :وهو أنه ل خروج
لشيء عن مشيئة الله ،فكل ما يجري في الوجود فهو بمشيئة
الله ،فكل حركة وسكون ،وكل تغير بوجود أو عدم أو زيادة أو
مال لّ َ نقص على أي وجه كل ذلك بمشيئة الله ،قال تعالى} :فَّعا ٌ
شاء{ ]إبراهيم: ما ي َ َ ه َ ل الل ّ ُ فعَ ُ د{ ] البروج [16:وقوله } :وَي َ ْ ري ُ يُ ِ
َ
ه{]النسان.[30: شاء الل ّ ُ ن إ ِّل أن ي َ َ ؤو َ شا ُ ما ت َ َ ،[27وقوله} :وَ َ
والمرتبة الرابعة :اليمان بعموم خلقه ،ومعناه :أن الله خالق
ق
خال ِ ُ ه َ كل شيء ،فكل موجود فهو مخلوق لله ،قال تعالى )) :الل ّ ُ
ق
خال ِ ُ ه إ ِّل هُوَ َ م ل إ ِل َ َ ه َرب ّك ُ ْ م الل ّ ُ يٍء (( ]الزمر )) ،[62:ذ َل ِك ُ ُ ش ْ ل َ كُ ّ
يٍء ((]النعام.[102: ش ْ ل َ كُ ّ
هذه أربع مراتب ل بد أن تكون مستقرة في ذهن المسلم،
والمؤلف ذكر عبارات كثيرة تتعلق بتقرير اليمان بالقدر في
وع العبارات وذكر جزئيات حدود هذه المراتب المذكورة؛ لكنه ن ّ
وتفصيلت ،وفرق الكلم في القدر ،فقد تقدم ]ص[ قوله) :خلق
ف عليه خ َ الخلق بعلمه ،وقدر لهم أقدارا ،وضرب لهم آجال ،ولم ي َ ْ
شيء قبل أن يخلقهم ،وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم(
وذكر المشيئة ]ص[ وأن ) كل شيء يجري بتقديره ومشيئته،
ومشيئته تنفذ ل مشيئة للعباد إل ما شاء لهم( ،وهنا ذكر أيضا
بعض التفصيلت في إطار مراتب القدر المتقدمة ،فقال) :وقد
علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل
النار جملة واحدة فل يزاد في ذلك العدد ول ينقص منه(؛ لنه إذا
زاد أو نقص لزم منه تغير علم الله ،وأن الله لم يعلم ما سيكون،
ل ،بل قد ُفرغ من المر ،كما في الحديث الصحيح عن النبي
أنه قال) :ما من نفس منفوسة إل وقد كتب الله مكانها من الجنة
والنار (] .رواه البخاري ) ،(1362ومسلم ) (2647من حديث
علي [
وهذا المعنى الذي ذكره مستمد من النصوص ،قال تعالى)) :
ن الل ّ َ
ه م ((]النفال ،[75:وقال تعالى )) :إ ِ ّ يٍء ع َِلي ٌ ش ْ ل َ ه ب ِك ُ ّ ن الل ّ َ إِ ّ
صفه تعالى بالعلم التام يقتضي أنه م ((]التوبة ،[28:فوَ ْ كي ٌ ح ِ م َ ع َِلي ٌ
سبحانه يعلم ما سيكون تماما من كل الوجوه ،يعلم من يدخل
الجنة وعددهم ومنازلهم ومراتبهم بعلم مفصل ،وليس علما
إجماليا.
99
وقوله ) :فل يزاد في ذلك العدد ول ينقص منه(.
بل العدة قد انقضت ،فعدة البشر قد سبق علم الله وكتابه
بها من آدم إلى آخر من يخلقه الله من هذا الجنس البشري.
وقوله) :وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه(.
وكذلك علم أفعالهم :طاعاتهم ومعاصيهم و ما ليس بطاعة
يٍء ع َد َد َا ً ((]الجن.[28: ل َ صى ك ُ ّ َ
ش ْ ح َ ول معصية ،قد أحصاه )) وَأ ْ
وقوله) :وكل ميسر لما خلق له (.
لما أخبر الرسول بأنه ) ما من نفس إل وقد علم مكانها
من الجنة ومكانها من النار ،قال رجل :أفل نتكل على كتابنا وندع
العمل؟ فقال :اعملوا فكل ميسر ،أما أهل السعادة فييسرون
لعمل أهل السعادة ،وأما أهل الشقاوة ،فييسرون لعمل أهل
الشقاوة( ]تقدم[ وسئل النبي ) :أرأيت ما يعمل الناس اليوم
ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق
أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟
فقال :ل؛ بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم ،وتصديق ذلك في
كتاب الله عز وجل) :ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها(
]رواه مسلم ) (2650من حديث عمران بن حصين [ومعنى
ذلك أن الله تعالى يجري المور على ما وفق ما سبق به علمه
وكتابه ،فُييسير للعبد طريقه ويجعله مهيئا سالكا وهو يسلكه
باختياره ومشيئِته ،ولكن مشيئُته واختياره محكومان بمشيئة
َ
به َر ّشاَء الل ّ ُ ن إ ِّل أ ْ
ن يَ َ شاُءو َما ت َ َ الرب كما قال تعالى )) :وَ َ
ر
ق وتيسي ٍ ن ((]التكوير ،[29:فإذا أطاع العبد ربه فبتوفي ٍ ال َْعال َ ِ
مي َ
منه تعالى لعبده ،وإذا فعل العبد المعصية فبعدم ذلك التوفيق،
م هذا التوفيق هو تيسيٌر لذلك العمل. وعد ُ
وهناك سؤال يجري على ألسن بعض الناس يقولون:
النسان مسير أم مخير؟
وهذا من اللفاظ التي لم ترد في النصوص فل بد فيها من
التفصيل ،فمن أراد أنه )مخير( بمعنى أنه له مشيئة واختيار؛
فنعم ،وإن أراد أنه مخير أنه يتصرف بمحض مشيئته خارجا عن
مشيئة الله وقدرته فهذا باطل ،فل خروج لحد عن قدرة الله
ومشيئته ،وكذلك )مسير(؛ فإن أراد بميسر أنه في جميع أموره
يتحرك بتدبير الله وتقديره ومشيئته فنعم ،وإن أراد أنه مسير ل
اختيار له ول مشيئة؛ بل هو مجبور؛ فهذا باطل.
وقوله) :والعمال بالخواتيم(.
أي :أن المعتبر في مصير العبد هو ما يختم له به ،فقد يعيش
النسان عمرا طويل وهو في أعمال الكفر والضلل والعصيان ،ثم
يدركه ما سبق به الكتاب ،فيؤمن ويموت ،فيختم له باليمان
100
والعمل الصالح كحادثة سحرة فرعون أمضوا حياتهم كلها في
عبادة فرعون ،وعمل السحر ،ولما رأوا اليات أشرق اليمان في
ُ
ن* مي َ ب ال َْعال َ ِ مّنا ب َِر ّ ن * َقاُلوا آ َ دي َ ج ِ سا ِ حَرة ُ َ س َي ال ّ ق َ قلوبهم )) فَأل ْ ِ
ن ((]الشعراء [48-46:وقوله تعالى :حكاية هاُرو َ سى وَ َ مو َ ب ُ َر ّ
ُ
نم ّ ل وَل َت َعْل َ ُخ ِ ذوِع الن ّ ْ ج ُم ِفي ُ صل ّب َن ّك ُ ْعن قول فرعون لهم )) :وََل َ
تن ال ْب َي َّنا ِ م َ جاَءَنا ِ ما َ ك ع ََلى َ ن ن ُؤ ْث َِر َ قى * َقاُلوا ل َ ْ ذاب َا ً وَأ َب ْ َ أ َي َّنا أ َ َ
شد ّ ع َ َ
ض ((]طه [72-71 :تحولوا من َ
قا ت نوال ّذي فَط َرنا َفاقْض ما أ َ
ٍ َ ْ ِ َ َ َ َ ِ
الكفر الذي هو من أغلظ الكفر إلى هذه المرتبة من اليمان،
فصاروا إلى كرامة الله فختم لهم بذلك العمل ،وشواهد هذا
كثيرة.
وكم من كافر يسلم ثم ينضم إلى صف المسلمين فيقاِتل
وُيقَتل ولم يعمل قبلها شيئا؛ لكنه آمن بالله ورسوله إيمانا صادقا،
وفي الحديث الصحيح عن النبي أنه قال) :يضحك الله إلى
رجلين يقتل أحدهما الخر يدخلن الجنة ،يقاتل هذا في سبيل الله
فيقتل ،ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد( ]رواه البخاري )
،(2826ومسلم ) (1890من حديث أبي هريرة [وفي حديث
ابن مسعود في الصحيحين :حدثنا رسول الله وهو الصادق
المصدوق ) :إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما
نطفة ،ثم يكون علقة مثل ذلك ،ثم يكون مضغة مثل ذلك ،ثم
يرسل إليه الملك ،فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات :بكتب
رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد .قال :فوالله الذي ل إله
غيره ،إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها
إل ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ،وإن
الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إل ذراع
فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها( ]تقدم[
فالعبرة بالخواتيم ،ماذا ينفع من كان دأبه الحسان إذا تحول
وتغير وانقلب من الحسان إلى العدوان فبعد أن كان محسنا
مصلحا صار ظالما مفسدا ،فمن كان مؤمنا مدة طويلة ،ثم صار
كافرا ،فكفره يحبط ما قبله.
ولهذا من أهم ما يجب أن يهتم به المسلم أمر الخاتمة،
فيسأل ربه الثبات أول؛ لن الحي ل تؤمن عليه الفتنة ،ومن دعائه
النبي ) :يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك( ]رواه أحمد
،3/112والبخاري في الدب المفرد ) ،(684والترمذي ) (2140ـ
وقال :حسن ـ وصححه الحاكم 1/526والضياء في المختارة
6/211من حديث أنس وروي من حديث غيره من الصحابة[
وهذا يتضمن سؤال حسن الخاتمة ،والله تعالى يقولَ )) :يا أ َي َّها
َ
ن (( مو َ سل ِ ُ م ْم ُ ن إ ِّل وَأن ْت ُ ْ
موت ُ ّ
قات ِهِ َول ت َ ُ حقّ ت ُ َ ه َ قوا الل ّ َ مُنوا ات ّ ُ نآ َ ذي َ ال ّ ِ
101
]آل عمران [102:أي :استقيموا على السلم حتى يأتيكم الموت
ن ((]الحجر[99: قي ُ حّتى ي َأ ْت ِي َ َ
ك ال ْي َ ِ ك َ وأنتم على ذلكَ )) ،واع ْب ُد ْ َرب ّ َ
ومن دعاء الصالحين :سؤال الوفاة على السلم كما قال
َ
ن ((]العراف: مي َ سل ِ ِم ْ صب َْرا ً وَت َوَفَّنا ُ
السحرةَ )) :رب َّنا أفْرِغ ْ ع َل َي َْنا َ
قِني ما ً وَأ َل ْ ِ
ح ْ سل ِ َ
م ْ ،[126ويوسف عليه السلم يقول )) :ت َوَفِّني ُ
ن ((]يوسف [101:وهذا كله من سؤال الله حسن حي َ
صال ِ ِ
ِبال ّ
الخاتمة.
102
ومقام الكلم في القدر من المقامات العظيمة التي تموج
صم الذي به النجاة من فيها الفكار والقوال موجا؛ ولكن المعت َ
الزلل في هذه المسالك ،وهذه المتاهات التي ضل فيها أكثر
الخلق هو كتاب الله وسنة رسوله ،فإذا أشكل عليك أمر ولم
تدركه بعقلك الناقص القاصر؛ فاعتصم بالله وبكتابه ،وحسبك.
وهذا الصل العظيم مع ما يذكر فيه من تفاصيل بعض
المسائل يقوم على المراتب الربعة المتقدمة ،ول بد مع اليمان
بالقدر من اليمان بالشرع واليمان بحكمة الرب ،فهذه ثلثة
أصول ل بد من التحقق بها ،اليمان بالقدر بمراتبه الربع،
واليمان بشرع الله كما تقدم أن المؤلف ذكر الصلين :اليمان
بالشرع والقدر بعدما ذكر بعض الجوانب في القدر قال) :ولم
ف عليه شيء قبل أن يخلقهم ،وعلم ما هم عاملون قبل أن يخ َ
يخلقهم ،وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته( ]ص[.
103
والمقربون من الملئكة لم يطلعوا على سر القدر ،فهذا يؤكد أن
ذلك مما استأثر الله به واختص بعلمه ،فسر القدر من الغيب
المطلق؛ لن الغيب نوعان:
غيب مطلق ،وغيب نسبي.
فالغيب النسبي :الذي يعلمه بعض الخلق دون بعض ،فهو
غيب بالنسبة لمن لم يعلمه ،و في الدعاء المعروف) :أسألك بكل
اسم هو لك ،سميت به نفسك ،أو أنزلته في كتابك ،أو علمته
أحدا من خلقك ،أو استأثرت به في علم الغيب عندك( ]رواه
أحمد ،1/391وابن حبان ) (972والحاكم 1/509من حديث ابن
مسعود ،وقال الدارقطني في العلل :5/200إسناد ليس
بالقوي ،[ .فالسر القدري من الغيب المطلق الذي اختص الله
طلع عليه ملكا مقربا ول نبيا مرسل؛ لنهم ل علم لهم إل به ،لم ي ُ ْ
ما ع َل ّ ْ
مت ََنا ((]البقرة: م ل ََنا إ ِّل َ
عل ْ َ
كل ِ حان َ َ ما علمهم اللهَ)) :قاُلوا ْ ُ
سب ْ َ
ن ال ْعِل ْم ِ إ ِّل قَِليَل ً ((]السراء: ُ
م َ
م ِ
ما أوِتيت ُ ْ ،[32وقال تعالى )) :وَ َ
.[85
104
ل وهم ي َ سأ َ ُ
ن (( سأُلو َ فعَ ُ َ ُ ْ ُ ْ
ما ي َ ْ
ل عَ ّ كما قال تعالى في كتابه )) :ل ي ُ ْ
]النبياء.( [23:
يؤكد المؤلف ما سبق ،بعدما بين خطورة الخوض في أسرار
القدر بالكلمات السابقة قال :فالحذر كل الحذر من التعمق
والبحث في أسرار القدر )نظرا وفكرا ووسوسة( والنظر والفكر
بمعنى :التفكير.
والوسوسة دون ذلك ،فقد تكون بداية التفكر والنظر،
)فالحذَر( منصوب على الغراء ،أي :الزم الحذر والخوف أيها
المسلم العاقل الناصح لنفسك.
والوسوسة هي :إلقاء المعاني في القلب ،فالشيطان
يوسوس فيلقي معاني الشبهات ،ومعاني الشهوات في القلب
مثل البذر ،فوساوس الشيطان هي البذرة الولى للشرور كلها؛
لكن هذه الوساوس قد تموت في مكانها إذا وفق النسان
لدفعها ،وتعوذ بالله منه فإنها تنتهي ،وقد يثمر تفكيرا وتفكرا ،ثم
قد يثمر كلما وعمل ،فكل الشرور التي تشاهد بالعيون وتسمع
بالذان كلها نابتة من ذلك الوسواس ،والله تعالى قد أنزل سورة
عوذ ُل أَ ُليتحصن بها المسلم من ذلك الوسواس الخناس )) :قُ ْ
سوا ِ س َشّر ال ْوَ ْ
ن َ
م ْ
س* ِ َ
س * إ ِلهِ الّنا ِ ك الّنا ِمل ِ ِ
س * َ ب الّنا ِ
ب َِر ّ
س (( س * من الجنة والّنا ِ دورِ الّنا ِ ص ُس ِفي ُ سو ِ ُذي ي ُوَ ْ س * ال ّ ِ
خّنا ِال ْ َ
]الناس ،[6 -1:وسبقت الشارة ]ص[ إلى الحديث الذي ورد في
ن أحدكم فيقول :من خلق كذا، شأن الوسواس) :يأتي الشيطا ُ
من خلق كذا ،حتى يقول :من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله
ولينته( فالشيطان يلقي في القلوب أخبث الوساوس؛ لكن
المؤمن الموفق يدفعها باعتصامه بربه وبلجوئه إلى موله،
ويقول :أعوذ بالله من الشيطان ،فإن الله هو الذي خلق
الشيطان وهو قادر على أن يصرفه عنك.
وقوله) :فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه( عن
خليقته )ونهاهم عن مرامه( هذا تأكيد لما سبق من قوله) :وأصل
القدر سر الله تعالى في خلقه ،لم يطلع على ذلك ملك مقرب
ول نبي مرسل( فالمؤلف ـ رحمه الله ـ أراد أن يؤكد هذا المر
العظيم بهذه المؤكدات) :فإن الله طوى علم القدر عن أنامه(
طوى علمه :اختص به ،ولم يطلعهم عليه) ،ونهاهم عن مرامه(
أي :طلبه ،فعلم أسرار القدر من العلم الذي ل يجوز أن يطلب.
لكن هل يجوز البحث في القدر؟
نعم ،فنحن الن نبحث ونتكلم في القدر ،وهذا الذي نتكلم
فيه ليس هو الذي ُنهينا عنه ،نحن الن نتكلم في معرفة ما يجوز
وما ل يجوز من الكلم في القدر ،فاليمان بالقدر أحد أصول
105
اليمان ،واليمان بالقدر ل يعارض اليمان بالشرع ،بل ل بد من
الجمع بينهما ،كما أن اليمان بالقدر ل يعارض إثبات السباب،
فالسباب والمسببات كلها جارية بقدر الله ،فل بد أن تنتبه لهذا.
إذًا؛ الشيء الذي ل يجوز البحث فيه هو البحث في أسرار
ل(( فعَ ُ
ما ي َ ْ ل عَ ّ سأ َ ُم؟! فقد قال تعالى )) :ل ي ُ ْ م؟! ل ِ َ القدر ،ل ِ َ
]النبياء [23:ل ُيسأل تعالى عن ما يفعل لكمال حكمته ،والعباد
يسألون ))وهم ي َ
ن ((]النبياء [23:وهذا من النفي غير سأُلو َ َ ُ ْ ُ ْ ُ
ل نفي في صفات الله تعالى فإنه يتضمن ثبوتا. المحض ،وك ُ
م فعل؟(. وقوله) :فمن سأل :ل ِ َ
م خلق م هدى هذا؟ وأضل هذا؟ وأفقر هذا؟ ل ِ َ فمن سأل :ل ِ َ
م خلق الشياطين؟يسأل على وجه العتراض. الشرور؟ ل ِ َ
فإن السؤال يكون على وجهين:
سؤال اعتراض ومعارضة بالعقل.
وسؤال طلب للمعرفة.
فالمنكر العظيم :السؤال على وجه العتراض ،أو السؤال
عن أمر ل سبيل إلى معرفته.
فالول :ظاهر الفساد ،؛ لنه اعتراض على أحكم الحاكمين.
والثاني :تكلف وبحث عما استأثر الله بعلمه وطوى علمه
عن العباد.
وقوله) :فقد رد حكم الكتاب ،ومن رد حكم الكتاب كان من
الكافرين( حكم الكتاب هو حكم الله ،ومن رد حكم الله كان
م إ ِّل ل ِل ّهِ ((]يوسف،[40: حك ْ ُن ال ْ ُ
كافرا به سبحانه وتعالى ))،إ ِ ِ
َ َ
ن ((]التين: مي َ حاك ِ ِحك َم ِ ال ْ َ س الل ّ ُ
ه ب ِأ ْ ن * أل َي ْ َ دي ِك ب َعْد ُ ِبال ّ ما ي ُك َذ ّب ُ َ)) فَ َ
.[8-7
106
أن نقول :فهذا جملة اعتقاد من قلبه ن َّير ،واليمان في القلب
نور؛ لن النور نوعان:
نور حسي :يرى بالبصار.
ض َ ّ
ت َوالْر ِ وا ِ م َ س َ ه ُنوُر ال ّ ونور معنوي :قال الله تعالى )) :الل ُ
ة
ج ُ جا َ جةٍ الّز َ جا َ ح ِفي ُز َ صَبا ُ م ْ ح ال ْ ِ صَبا ٌ م ْ كاةٍ ِفيَها ِ ش َ م ْ ل ُنورِهِ ك َ ِ مث َ ُ َ
َ
مَباَركةٍ َزي ُْتون ِةٍ ل شْرقِي ّةٍ َول َ َ َ َ َ َ َ
جَرةٍ ُ نش َ م ْ ب د ُّريّ ُيوقد ُ ِ كأن َّها كوْك ٌ
دي ه َناٌر ُنوٌر ع َلى ُنورٍ ي َهْ ِ َ س ُس ْ م َ م تَ ْ َ َ
ضيُء وَلوْ ل ْ كاد ُ َزي ْت َُها ي ُ ِ غ َْرب ِي ّةٍ ي َ َ
َ
يءٍ ش ْ ل َ ه ب ِك ُ ّ س َوالل ّ ُ ل ِللّنا ِ مَثا َ ه ال ْ ب الل ّ ُ ضرِ ُ شاُء وَي َ ْ ن يَ َ م ْ ه ل ُِنورِهِ َ الل ّ ُ
ل ُنورِهِ ((]النور [35:أي :مثل مث َ ُ م ((]النور ،[35:الشاهدَ )) : ع َِلي ٌ
نور الله في قلب عبده المؤمن.
فاليمان نور في القلب ،والله تعالى سمى الوحي المنزل
ذي َأنَزل َْنا ((]التغابن[8: سول ِهِ َوالّنورِ ال ّ ِ مُنوا ِبالل ّهِ وََر ُ نوًراَ )) :فآ ِ
َ َ
حي َي َْناهُ مي ْت َا ً فَأ ْ ن َ كا َ ن َ م ْ واليمان والعلم في القلوب نور )) :أوَ َ
ه ُنوَرا ً ((]النعام [122:أي :في قلبه. جعَل َْنا ل َ ُ وَ َ
وهذه معان عظيمة ت ُن َّبه إليها هذه النصوص؛ ولكن ما حظك
من هذا المر العظيم؟ وفي دعاء النبي ) :اللهم اجعل في
قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا
وعن يساري نورا وفوقي نورا وتحتي نورا وأمامي نورا وخلفي
نورا واجعل لي نورا( ]رواه البخاري ) ،(6316ومسلم ) (763من
حديث ابن عباس رضي الله عنهما[ المؤمن الكامل اليمان في
قلبه نور ،وفي سمعه ،وفي بصره ،والنور محيط به؛ والنور
مي ْت َا ً ن َ َ
ن َ كا َ م ْ المعنوي هو :نور العلم واليمان قال تعالى )) :أوَ َ
َ
ه ِفي مث َل ُ ُ ن َ م ْ س كَ َ شي ب ِهِ ِفي الّنا ِ م ِ ه ُنوَرا ً ي َ ْ جعَل َْنا ل َ ُ حي َي َْناه ُ وَ َ فَأ ْ
مُنوا نآ َ ذي َ ي ال ّ ِ ه وَل ِ ّ ت ((]النعام [122:وقال تعالى )) :الل ّ ُ ما ِ الظ ّل ُ َ
ت إ َِلى الّنورِ ((]البقرة [257:يخرجهم من ما ِ ن الظ ّل ُ َ م َ م ِ جه ُ ْ خرِ ُ يُ ْ
ظلمات الكفر والغفلة والمعصية والجهل ،إلى نور اليمان والعلم
والبصيرة.
والقلوب لها أحوال كما جاء في الحديث عن النبي :
دا ،فأي قلب دا عو ً )تعرض الفتن على القلوب كالحصير عو ً
أشربها نكت فيه نكتة سوداء ،وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة
بيضاء ،حتى تصير على قلبين ،على أبيض مثل الصفا فل تضره
دا كالكوز مْرَبا ّ فتنة ما دامت السماوات والرض ،والخر أسود ُ
خيا ،ل يعرف معروفا ،ول ينكر منكرا إل ما أشرب من هواه( ج ّ م َ ُ
]رواه مسلم ) (144من حديث حديفة [
وقد دلت النصوص على أن القلوب ثلثة أقسام ]إغاثة
اللهفان :[.1/7
قلب حي سليم ،وهو قلب المؤمن.
107
وقلب ميت ،وهو قلب الكافر.
وقلب مريض ،فيه مادة حياة ،ومادة موت ،أي :فيه صحة
ومرض ،وهو لما غلب عليه منهما.
واقرأ ما ذكر ابن القيم في »اجتماع الجيوش السلمية« في
مثل النور في قلب المؤمن ]ص [39واقرؤوا كلمه على قوله
ش َ
كاةٍ ((]النور [35:في »الوابل الصيب« ل ُنورِهِ ك َ ِ
م ْ مث َ ُ
تعالىَ )) :
]ص [119فقد أجاد في الكلم عليها وأحسن .
108
)وادعاء العلم المفقود كفر(؛ لنه ادعاء لعلم الغيب ،فتكييف
صفات الرب كفر؛ لنه قول على الله بل علم؛ لكن الذي يسأل
عن الكيف ،كمن يقول :كيف استوى؟ فهذا مبتدع يجب النكار
عليه ،كما أنكر الئمة عليه كمالك ـ رحمه الله ـ حين رد بتلك
الجمل التي صارت قاعدة) :الستواء معلوم ،والكيف غير
معقول ،واليمان به واجب ،والسؤال عنه بدعة ،ول أراك إل رجل
سوء ،فأمر به فأخرج( ] .صح هذا الثر عن المام ربيعة بن أبي
عبد الرحمن ،والمام مالك رحمهما الله .انظر :شرح أصول
اعتقاد أهل السنة والجماعةص ،442-440وعقيدة السلف
أصحاب الحديث ص ،37وذم التأويل ص ،25و الثر المشهور
عن المام مالك ـ رحمه الله ـ في صفة الستواء ص 84و
[.123
وقوله) :ول يثبت اليمان إل بقبول العلم الموجود ،وترك
طلب العلم المفقود(.
ل يثبت اليمان ول يستقر ول يسلم )إل بقبول العلم
الموجود( وهو اليمان بما بعث الله به رسوله )وترك طلب العلم
ع
م َس ْ ن ال ّ م إِ ّ عل ْ ٌك ب ِهِ ِس لَ َ ما ل َي ْ َ ف َ ق ُ المفقود( ،قال تعالىَ )) :ول ت َ ْ
سُئوَل ً ((]السراء ،[36:والله م ْ ه َ ن ع َن ْ ُ كا َ ك َ ل أ ُوْل َئ ِ َ
ؤاد َ ك ُ ّ
ف َصَر َوال ْ ُ َوال ْب َ َ
َ
ن الل ّ ِ
ه خَزائ ِ ُدي َ عن ِم ِ ل ل َك ُ ْ
ل ل أُقو ُ تعالى علم نبيه فقال )) :قُ ْ
ك ((]النعام [50:وفي الية مل َ ٌ م إ ِّني َ ل ل َك ُ ْ ب َول أ َُقو ُ م ال ْغَي ْ َ
َ
َول أع ْل َ ُ
ن ال ْ َ َ
ي
سن ِ َ م ّ ما َ خي ْرِ وَ َ م َت ِ ست َك ْث َْر ُ
بل ْ م ال ْغَي ْ َ ت أع ْل َ ُ كن ُالخرى )) :وَل َوْ ُ
سوُء ((]العراف.[188: ال ّ
109
سقيما ،لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما وعاد بما
قال فيه أفاكا أثيما(
كل هذا دائر على موضوع القدر ،والمصنف أطنب في الكلم
على موضوع القدر وذلك لهميته ،وفرق الكلم فيه كما تقدم؛
لن قوله هناك ]ص[) :ول يكون إل ما يريد( ،وقوله أيضا ]ص[:
)خلق الخلق بعلمه( ،كل هذا مما يتصل بالقدر ،والموضوع ل
شك أنه جدير بزيادة التقرير والتأكيد ،وبيان ما يقتضيه اليمان
ن بالقدر بمراتبه الربع، جماع َ المرِ اليما ُ ن ِ بالقدر ،وتقدم ]ص[ أ ّ
ن يتضمن التسليم لحكم الله ولقدره ،وترك المعارضة، واليما ُ
والمساك عن الخوض فيما طوى الله علمه عن العباد.
ويقول هنا) :ونؤمن باللوح والقلم ،وبجميع ما فيه قد ُرِقم(
من توابع اليمان بالقدر اليمان باللوح ،واللوح المحفوظ ذكره
ح َ
الله تعالى بهذا اللفظ في سورة البروج ،قال تعالىِ )) :في لوْ ٍ
حو م ُ ظ ((]البروج [22:واللوح المحفوظ هو :أم الكتاب ))ي َ ْ فو ٍ ح ُ م ْ َ
ب(( ]الرعد ،[39:وهو الكتاب ْ ُ ْ َ ّ
م الك َِتا ِ عند َه ُ أ ّ ت وَ ِما ي َشاء وَي ُثب ِ ُ ه َ الل ُ
س إ ِل ِفي ّ ْ
ب َول َياب ِ ٍ المبين المذكور في قوله تعالىَ )) :ول َرط ٍ
ن قْرآ ٌ ه لَ ُ
ن ((]النعام [59:وهو الكتاب المكنون )) :إ ِن ّ ُ مِبي ٍ ب ُ ك َِتا ٍ
ن ((]الواقعة [78-77:فقد ذكر بأسماء مك ُْنو ٍ ب َ م * ِفي ك َِتا ٍ ري ٌ كَ ِ
َ َ
ماِءس َ ما ِفي ال ّ م َ ه ي َعْل َ ُ
ن الل ّ َ
مأ ّ م ت َعْل َ ْ
متعددة في القرآن )) :أل َ ْ
سيٌر ((]الحج.[70: ك ع ََلى الل ّهِ ي َ ِ ن ذ َل ِ َ ب إِ ّ ن ذ َل ِ َ َ
ك ِفي ك َِتا ٍ ض إِ ّ َوالْر ِ
فيجب اليمان باللوح المحفوظ تصديقا لخبر الله تعالى،
وخبر رسوله ،وهو الذي كتب الله فيه مقادير كل ما هو كائن
إلى يوم القيامة) ،وبالقلم( أي :قلم المقادير الذي ورد فيه حديث
عبادة بن الصامت أن الرسول قال) :أول ما خلق الله القلم
قال له :اكتب .قال :ما أكتب؟ قال :ما هو كائن إلى يوم القيامة(
]رواه أحمد ،5/317وأبو داود ) ،(4700والترمذي ) (2155ـ
وقال :حسن صحيح غريب من هذا الوجه ـ ،وابن جرير في
تاريخه ،1/28وصححه ،والضياء في المختارة في مواضع منها:
[.353-8/351فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ،وهذا
القلم هو قلم المقادير الول ،والمقادير أو التقديرات أنواع ،وكل
َقدر له قلم يناسبه؛ لن الكتابة تكون بالقلم.
فالقدر الول هو القدر العام لجميع المخلوقات.
والتقدير الثاني الذي قدر الله فيه أمور آدم وذريه ،وهو الذي
ُأشير إليه في حديث احتجاج آدم وموسى ،وأن آدم عليه السلم
مصى آد َ ُ قال لموسى عليه السلم ) :هل وجدت في التوراة) :وَع َ َ
ت عمل كتبه وى(؟ قال :نعم .قال :أفتلومني على أن عمل ُ ه فَغَ َ َرب ّ ُ
ي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ قال رسول الله عل ّ
110
الله : فحج آدم موسى"] .رواه البخاري ) ،(6614ومسلم )
(2652ـ واللفظ له ـ من حديث أبي هريرة .[
والتقدير الثالث :وهو التقدير المختص بكل إنسان ،كما في
الحديث المتفق على صحته عن النبي ":أنه قال ـ في الجنين
عندما يبلغ أربعة أشهرـ :فيأتيه الملك فينفخ فيه الروح ،ويؤمر
بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ]تقدم[.
والتقدير الرابع ،وهو التقدير الحولي :وهو ما يكون في ليلة
َ
فَرقُ ك ُ ّ
ل ن * ِفيَها ي ُ ْ
منذ ِِري َ القدر} :إ ِّنا أنَزل َْناه ُ ِفي ل َي ْل َةٍ ّ
مَباَرك َةٍ إ ِّنا ك ُّنا ُ
م{]الدخان ،[4-3:وسميت ليلة القدر؛ لنه يقدر فيها ما َ
كي ٍ ح ِ
مرٍ َ
أ ْ
يكون في السنة إلى مثلها.
وهذه التقديرات ل تخالف ول تناقض التقدير الول العام.
فنؤمن باللوح والقلم ول نتكلم في كيفية اللوح ،وكيفية
القلم ،وكيفية تلك الكتابة ،فالله أعلم كيف كانت تلك الكتابة ،كل
ذلك غيب يجب أن نمسك عنه ،ول نخوض فيه ،ول نفكر فيه.
وقوله) :وبجميع( أي :ونؤمن بجميع )ما فيه قد ُرقم( أي:
ك ُِتب ،فنؤمن إيمانا مجمل بأن الله كتب فيه مقادير الخلق ،لكن
هل نعلم ما ُرِقم فيه وما ك ُِتب فيه؟ ل نعلم؛ إل ما أخبر الله تعالى
به ورسوله ؛ لكن نعلم أن كل ما يقع في الوجود فهو مكتوب؛
لكن قبل الوقوع ل ندري إل أن يأتي فيه خبٌر من معصوم.
وقوله) :لو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه
أنه كائن ،ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه ،ولو اجتمعوا كلهم
على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائًنا لم يقدروا عليه[
يعني :لو اجتمع الخلق على أن يغيروا ما سبق به علم الله وكتابه
لم يقدروا ،وهذا معلوم بالضرورة أن الخلق ل يقدرون على تغيير
قدر الله ،ومن أدلة ذلك ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله
عنهما عن النبي ) : واعلم أن المة لو اجتمعت على أن
ينفعوك بشيء لم ينفعوك إل بشيء قد كتبه الله لك ،ولو
اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إل بشيء قد كتبه
الله عليك ،رفعت القلم وجفت الصحف( ]رواه أحمد ،1/293و
الترمذي ) (2516ـ وقال :حسن صحيح ـ ،والضياء في المختارة
، 25-10/22وحسنه الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم
ص [345فالمر قد فرغ منه ،وهذا يوجب للعبد أن يعلق رجاءه
وخوفه بربه ل بالسباب ول بالعباد؛ لن العباد إن نفعوك فالله هو
ة على أيديهم ،وأقدرهم عليها ،وجعلهم الذي أجرى تلك المنفع َ
يريدونها ،وهيأ لهم أسبابها ،وإن حصلت لك مضرة على يد أحد؛
ل عن الله وتعلقْ قلبك بهم فاعلم أن هذا بتقدير الله ،فل تغف ْ
111
ل آمنا بالل ّه فَإ َ ُ
ذا أوذ ِيَ ِفي الل ّ ِ
ه قو ُ َ ّ ِ ِ ِ ن يَ ُم ْ
س َن الّنا ِ م َ
فتخافهم )) وَ ِ
ب الل ّهِ ((]العنكبوت.[10: س ك َعَ َ
ذا ِ ة الّنا ِ جعَ َ
ل فِت ْن َ َ َ
وقوله) :جف القلم بما هو كائن( جاء في الحديث عن النبي
ق( ]رواه البخاري تعليقا ) (5076من ) :جف القلم بما أنت ل ٍ
حديث أبي هريرة [جف القلم :هذه كناية عن الفراغ من المر
الذي سبق به القدر ،فكل ما يجري في الوجود فقد سبق به علم
الله وكتابه ،لكن نؤكد على أن الله قضى بحكمته وعلمه وكتابه،
إن هذه القدار متربط بعضها ببعض ،ومن قدر الله ترتيب
المسب ََبات على السباب ،ما يجيء لك ولد إل إذا تزوجت ،ول
ن كتب الله لي ولدا فسيأتي ولو لم أتزوج! أو يعقل أن تقول :إ ْ
ن كتب الله لي رزقا سيأتيني وأنا تترك طلب الرزق وتقول :إ ْ
نائم! نعم قد يكون؛ لكن ليس هذا موجب العقل والفطرة
والشرع؛ بل موجب العقل والفطرة والشرع :أن تسعى في
طلب الرزق ،ولو توكلت على الله ،فل بد لك من الخذ بالسباب،
وأعظم من ذلك أمر السعادة ،فل تكون السعادة إل بأسبابها
دا
وهي اليمان والعمل الصالح ،ول يمكن أن يكون النسان سعي ً
إل بالسباب ،فمن تحققت له أسباب السعادة فنعلم بذلك أنه قد
سبق علم الله وكتابه بسعادته.
112
هذه الجملة تؤكد ما سبق ،وهي أعم من قوله ]ص[) :وقد
علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة ،وعدد من
يدخل النار جملة واحدة ،فل ُيزاد في ذلك العدد ،ول ُينقص منه(
فهذه الجملة بخصوص عدد من يدخل الجنة ،وعدد من يدخل
النار ،وقد علم الله ذلك كله؛ لكن هنا المؤلف يؤكد ما يتعلق
بالمرتبة الولى من مراتب القدر ,فل بد أن يعلم العبد أنه قد
سبق علم الله بكل ما هو كائن ،وسبق قضاؤه وحكمه قضاء
مغَّير ول ناقض ،ول زائد ول ناقص لعلمه مبرما محكما ،فل ُ
وتقديره تعالى ،وهذه الجملة شاملة يدخل فيها ـ مثل ـ الملئكة،
فقد سبق علم الله وكتابه وتقديره للملئكة بأعدادهم وصفاتهم
ومنازلهم وفضائلهم وأعمالهم وأقوالهم ،وقد سبق علمه سبحانه
وتعالى وكتابه بعدد الشجار وأنواعها وأجناسها وثمارها وأوراقها،
ما ِفي م َ مَها إ ِّل هُوَ وَي َعْل َ ُب ل ي َعْل َ ُ ح ال ْغَي ْ ِ
فات ِ ُم َ
عن ْد َه ُ َ
قال تعالى )) :وَ ِ
تما ِ حب ّةٍ ِفي ظ ُل ُ َ مَها َول َ ن وََرقَةٍ إ ِّل ي َعْل َ ُ م ْ ط ِ ق ُ س ُما ت َ ْ ال ْب َّر َوال ْب َ ْ
حرِ وَ َ
َ
ن((]النعام[59: مِبي ٍب ُ س إ ِّل ِفي ك َِتا ٍ ب َول َياب ِ ٍ ض َول َرط ْ ٍ الْر ِ
تأمل ماذا يتساقط من أوراق وحبوب الزروع والشجار
المأكولة وغير المأكولة في القفار وفي الديار؟!
س( فإنها تشمل كل شيء من ب َول َياب ِ ٍ وتأمل قوله )َول َرط ْ ٍ
هذه الكائنات.
وقس سائر المخلوقات على هذين المثالين المذكورين.
ولسيد قطب ـ رحمه الله ـ في تفسيره كلم وتصوير بديع
لدللة هذه الية ،وما فيها من الشمولية العظيمة ،والدللة على
العجاز] .في ظلل القرآن [2/1111
وقوله) :وذلك من عقد اليمان ،وأصول المعرفة(.
العلم بأن الله قد سبق علمه في كل كائن ،وقدر ذلك تقديرا
محكما هذا من عقد اليمان ،وباختصار نقول :اليمان بالقدر بكل
كز هنا على المرتبة الولى والثانية :مرتبة مراتبه؛ ولكن المؤلف ر ّ
كز عليها وأ ّ
كد اليمان بالعلم السابق الزلي ،ومرتبة الكتاب فر ّ
عليها ،بقوله) :وذلك كله من عقد اليمان( الذي يجب عقد القلب
عليه ،واليمان اعتقاد يعقد النسان قلبه عليه.
وقوله) :والعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته(.
لحظ أن اليمان بالقدر هو من توحيد الربوبية؛ لننا نقول
في توحيد الربوبية هو :اليمان بأنه تعالى رب كل شيء ومليكه،
وأنه على كل شيء قدير ،وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن،
وأنه خالق كل شيء ،هكذا نفسر توحيد الربوبية ،وهذا يتضمن
اليمان بالقدر ،وهو أن كل شيء جارٍ بقدر الله وبمشيئة الله
على وفق علمه وتقديره السابق ،ولهذا روي عن ابن عباس
113
حد الله رضي الله عنهما) :اليمان بالقدر نظام التوحيد ،فمن و ّ
ذب بالقدر نقض تكذيُبه وآمن بالقدر فقد تم توحيده ،ومن ك ّ
توحيده( ] أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة ،2/422والفريابي
في القدر ص ،143والجري في الشريعة ص 183و ،184وابن
بطة في البانة 2/159و ،160والللكائي في شرح أصول اعتقاد
أهل السنة ص ،742بمعناه [.فالمكذب بالقدر لم يحقق توحيد َ
الربوبية؛ فإن كان من الغلة جحد علم الله وتقديره السابق،
ونفى عموم المشيئة وعموم الخلق ،وإن كان من مقتصدي
النفاة القدرية فهو ُيخرج أفعال العباد عن مشيئة الله وعن قدرته
وخلقه وملكه.
ذب بالقدر ذا؛ اليمان بالقدر من توحيد الربوبية ،فمن ك ّ إ ً
ده ،وهذا يوضح قول المؤلف) :وذلك من عقد نقض تكذيُبه توحي َ
اليمان ،وأصول المعرفة(.
يٍء فَ َ
قد َّرهُ ش ْ ل َ خل َقَ ك ُ ّ
وقوله) :كما قال تعالى في كتابه )) :وَ َ
مُر اللهِ قَد ََرا ً َ قد ِي َْرا ً ((]الفرقان ،[2:وقال تعالى )) :وَ َ
نأ ْ كا َ تَ ْ
ً
قد ُوَْرا ((]الحزاب[(. م ْ َ
هذان دليلن من الدلة الدالة على اليمان بالقدر ،وأنه تعالى
خلق كل شيء على وفق ما سبق به قدره.
114
ه خل َ ْ
قت َ ُ من ّنارٍ وَ َ خل َ ْ
قت َِني ِ ه َ
من ْ ُ بالسجود لدم فأبى وقال)) :أ َن َا ْ َ
خي ٌْر ّ
ن((] العراف.[12:طي ٍ
من ِ
ِ
115
وقوله) :والعرش والكرسي حق ،وهو مستغن عن العرش
وما دونه(.
مما يجب اليمان به عرش رب العالمين الذي تمدح الرب
سبحانه وتعالى بربوبيته له ،واستوائه عليه ،فقال تعالى:
بوى{ ]طـه [5:وقال تعالىَ )) :ر ّ ست َ َ
شا ْ ْ م ُ َ
ن ع َلى العَْر ِ ح َ ))الّر ْ
جيد ُ ((]البروج: م ِ ش ال ْ َذو العَْر ِ
ظيم ((]التوبةْ ُ )) ،[129:
ش العَ ِ ِ
ْ
العَْر ِ
ْ
ش َرب ّ َ
ك ل ع َْر َ م ُح ِ ،[15وأضافه تعالى إلى نفسه ،فقال )) :وَي َ ْ
ة ((]الحاقة.[17: مئ ِذ ٍ ث َ َ
مان ِي َ ٌ م ي َوْ َ فَوْقَهُ ْ
وقد جاء ذكر العرش في القرآن في مواضع كثيرة.
بمَ )) :ر ّ وأخبر الله عن صفة العرش بأنه عرش عظي ٌ
م((ري ِ ش ال ْك َ ِ م )) َر ّ ْ
ب العَْر ِ ظيم ِ ((]التوبة ،[129:وكري ٌ ش ال ْعَ ِ العَْر ِ
ْ
جيد ِ (( م ِ ش ال ْ َ ]المؤمنون [116:ومجيد ٌ على قراءة الجر )) ُ ْ
ذو العَْر ِ
]البروج] .[15:هي قراءة حمزة والكسائي وخلف العاشر.
التيسير ص ،221والنشر [.2/339
ش ((]غافر: ن ال ْعَْر َ مُلو َ ح ِن يَ ْ ذي َ وأخبر تعالى أن له حملة )) :ال ّ ِ
ة ((]الحاقة.[17: مان ِي َ ٌمئ ِذ ٍ ث َ َ
م ي َوْ َك فَوْقَهُ ْ ش َرب ّ َ
ل ع َْر َ م ُ ح ِ )) ،[7وَي َ ْ
وأخبر سبحانه وتعالى عن استوائه على العرش في سبعة
مواضع من القرآن ]في سورة العراف آية ،54وسورة يونس
آية ،3وسورة الرعد آية ،2وسورة طه آية ،5وسورة الفرقان
آية ،59وسورة السجدة آية ، 4وسورة الحديد آية ، [4وجاء في
السنة وصف العرش بأنه فوق السماوات ]رواه أحمد ،1/206
وأبو داود ) (4723والترمذي ) (3320ـ وقال :حسن غريب ـ ،
وابن ماجه ) (193وابن خزيمة في التوحيد ص ،101والحاكم
2/412و 500ـ وصححه ،وتعقبه الذهبي ـ من حديث العباس ،
وصححه الجوزجاني في الباطيل ،1/79وقواه ابن تيمية في
الحموية ص ،222ومناظرة الواسطية ،3/192و ابن القيم في
تهذيب السنن ،7/92وجاء هذا المعنى في أحاديث أخر[ ،وأن له
قوائم]روى البخاري ) (2412من حديث أبي سعيد الخدري أن
النبي قال » :ل تخيروا بين النبياء فإن الناس يصعقون يوم
القيامة ،فأكون أول من تنشق عنه الرض فإذا أنا بموسى آخذ
بقائمة من قوائم العرش« .الحديث[ ،وكل هذا يجب اليمان به
من غير تحديد لكيفيته ،فنحن ل نتصور كيفية العرش؛ لنه غيب.
وأهل السنة والجماعة يثبتون العرش لله ،ويثبتون استواء
الله تعالى على العرش ،ويثبتون كل ما ورد في صفة العرش،
على أساس اليمان بالله وبكتابه ورسوله ، وأما المعطلة نفاة
الصفات كالجهمية والمعتزلة؛ فإنهم ل يثبتون حقيقة العرش التي
دلت عليها النصوص ،فيفسرون العرش بالملك ،ويقولون:
116
ش ((]العراف [54:استولى على الملك، ْ َ
وى ع َلى العَْر ِ
ست َ َ)) ا ْ
فالعرش عبارة عن كل المخلوقات.
ُورد عليهم بأن هذا التفسير ل يستقيم مع ما ورد في وصف
ن ال ْعَْر َ
ش (( مُلو َ
ح ِ
ن يَ ْ العرش بأن له حملة ،قال تعالى )) :ال ّ ِ
ذي َ
]غافر [7:أيكون معناه يحملون الملك؟! هذا ل يستقيم؛ لن حملة
العرش من جملة ملك الله ،وفي الحديث عن النبي ) :فإذا أنا
بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش( ]تقدم ص[ فتفسير
العرش بالملك من تحريفات أهل البدع.
وأما الكرسي فلم يرد في القرآن إل في آية الكرسي التي
هي أعظم آية في كتاب الله ،كما صح بذلك الحديث عن النبي
ع
س َ]رواه مسلم ) ،[(810وسميت بهذا لذكر الكرسي فيها )) :وَ ِ
ه ((]البقرة [255:فأضاف الله الكرسي إليه ،وإضافة ك ُْر ِ
سي ّ ُ
العرش والكرسي إليه تعالى من إضافة المخلوق إلى خالقه،
وفي هذا تشريف للعرش والكرسي ،وورد في السنة ذكر
الكرسي ،وأن العرش أعظم منه ،كما في الحديث عن النبي :
)ما السماوات السبع مع الكرسي إل كحلقة ملقاة بأرض فلة،
وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلة على الحلقة( ] رواه
بن حبان ) (361وانظر :السلسلة الصحيحة ) ،[(109فالكرسي
عظيم وواسع ،ومع سعته فالعرش أعظم منه.
وقد اختلف المفسرون ]تفسير الطبري 4/537و [539في
الكرسي المذكور في الية فقيل :علم الله تعالى ،وعلى هذا
القول فل يكون في الية دللة على إثبات الكرسي الذي هو
شيء قائم بنفسه موصوف بسعته للسماوات والرض.
وقيل :إن الكرسي هو العرش ،وعلى هذا فليس هناك
شيئان ،فما هو إل العرش.
وقيل :وهو الصحيح عن ابن عباس ]السنة لعبد الله بن أحمد
،1/301وصححه ابن خزيمة في التوحيد ص ،107والحاكم
،2/282والضياء في المختارة ،10/311وقال العلمة الزهري
في تهذيب اللغة :10/33الصحيح عن ابن عباس في الكرسي:
ما رواه الثوري وغيره عن عمار الدهني عن مسلم البطين عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال » :الكرسي موضع
القدمين ،وأما العرش فل ُيقدر قدره« .وهذه الرواية اتفق أهل
العلم على صحتها ،والذي عن ابن عباس في الكرسي أنه العلم
فليس مما يثبته أهل المعرفة بالخبار .وانظر :فتح الباري
،[8/199والمشهور من مذهب أهل السنة أن الكرسي مخلوق
عظيم ،وهو موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى] .انظر :أصول
117
السنة ص ،96والفتوى الحموية ص [351وهذا أرجح القوال في
تفسير الكرسي.
وبهذا يتبين أن العرش أعظم من الكرسي بكثير ،كما يظهر
ذلك من ورود النصوص بذكر العرش وتنوعها ،والله سبحانه
وتعالى هو العلي العظيم ،هو العلي بكل معاني العلو ،فله العلو
ذاتا وقدرا وقهرا ،وهو العظيم الذي ل أعظم منه ،فالمخلوقات
ق
ح ّ
ه َما قَد َُروا الل ّ َ
كلها صغيرة في جنب عظمته ،قال تعالى )) :وَ َ
َ
مط ْوِّيا ٌ
ت ت َ وا ُسم َمةِ َوال ّ
قَيا َم ال ْ ِ
ه ي َوْ َضت ُ ُميعَا ً قَب ْ َ
ج ِض َقَد ْرِهِ َوالْر ُ
ن ((]الزمر.[67: كو َ شرِ ُ ما ي ُ ْ ه وَت ََعاَلى ع َ ّ حان َ ُ
سب ْ َ
مين ِهِ ُ
ب ِي َ ِ
118
محيط بكل شيء ،وفوق كل شيء ،الله تعالى وصف نفسه
حي ٌ
ط م ِم ُ ن وََرائ ِهِ ْ م ْه ِ بالحاطة في آيات كثيرة كقوله تعالىَ )) :والل ّ ُ
ط (( حي ٌ م ِ ن ُ مُلو َ ما ي َعْ َه بِ َ ((]البروج ،[20:وفي الية الخرىَ )) :والل ّ ُ
ه ع ََلى ك ُ ّ َ
ل ن الل ّ َموا أ ّ ]النفال ،[47:وقال سبحانه وتعالى )) :ل ِت َعْل َ ُ
ما ً ((]الطلق،[12: َ َ
عل ْ َ يٍء ِ ش ْ ل َط ب ِك ُ ّحا َ ن الل ّ َ
ه قَد ْ أ َ ديٌر وَأ ّ يٍء قَ ِش ْ َ
هذا الذي جاء في القرآن الحاطة العلمية ،ومعناها :أنه ل يخرج
عن علمه تعالى شيء ،والشيء المحيط بغيره هو الذي يكون
محيط به من جميع الجوانب ،فعلم الله محيط بكل شيء ،فهو
يٍءش ْ ل َ ه ع ََلى ك ُ ّ تعالى محيط بكل شيء علما وقدرة )) إ ِن ّ ُ
م ((]البقرة. [29: يٍء ع َِلي ٌ ش ْل َ ديٌر ((]فصلت )) ،[39:وَهُوَ ب ِك ُ ّ قَ ِ
أما الحاطة الذاتية بمعنى أنها كإحاطة الفلك بما فيه فل،
فالله تعالى فوق كل شيء ،وليس في ذاته شيء من مخلوقاته؛
بل هو بائن من خلقه ،ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ،ول في
مخلوقاته شيء من ذاته.
وقوله) :وفوقه( ذكر الشارح ابن أبي العز ]ص [373أن في
بعض النسخ )محيط بكل شيء فوقه( بدون واو ،وحينئذ ٍ يكون
المعنى :محيط بكل شيء فوق العرش.
وأما النسخة التي اعتمدها الشارح بإثبات الواو؛ ]وهي
الصواب :وقد نقلها بإثبات الواو :الذهبي في العلو ،2/1237
ى
وابن القيم في اجتماع الجيوش ص [.223فتكون مفيدة لمعن ً
آخر ،وهو :أنه تعالى محيط بكل شيء ،وفوق كل شيء ،فتفيد
الجملة أمرين :إثبات الحاطة وإثبات الفوقية.
والفوقية قد جاء ذكرها في القرآن في مواضع مثل قوله
عَباد ِهِ ((]النعام ،[18:وقال تعالى: قاه ُِر فَوْقَ ِ تعالى )) :وَهُوَ ال ْ َ
م ((]النحل ،[50:وفي الحديث عن ن فَوْقِهِ ْ م ْ م ِ خاُفو َ
ن َرب ّهُ ْ )) ي َ َ
النبي ) :والله فوق العرش( ] .تقدم قبل صفحة :رواه أحمد ،1/206
وأبو داود ) (4723والترمذي ) (3320ـ وقال :حسن غريب ـ ،وابن ماجه ) (193وابن خزيمة في
التوحيد ص ،101والحاكم 2/412و 500ـ وصححه ،وتعقبه الذهبي ـ من حديث العباس ، وصححه
الجوزجاني في الباطيل ،1/79وقواه ابن تيمية في الحموية ص ،222ومناظرة الواسطية ،3/192و
ابن القيم في تهذيب السنن [7/92
والقول في الفوقية كالقول في العلو ،فهي ثلثة أنواع
كالعلو:
علو الذات ،وعلو القدر ،وعلو القهر لكل شيء.
كذلك الفوقية يقال:
فوقية الذات ،وفوقية القدر ،وفوقية القهر.
ففوقية القدر هي :فوقية الصفات ،والنزاع الذي بين أهل
السنة والمبتدعة إنما هو في علو وفوقية الذات؛ فإن نفاة العلو
والفوقية يفسرون علو الذات بعلو القدر ،فيقولون :قوله تعالى:
119
عَباد ِهِ ((]النعام [18:كقولك :الذهب فوق قاه ُِر فَوْقَ ِ )) وَهُوَ ال ْ َ
الفضة ،من حيث القدر والقيمة.
وآيات الفوقية هي من جملة الدلة على علو الله تعالى
عَباد ِهِ ((]النعام،[18: قاه ُِر فَوْقَ ِ بذاته ،فالله فوق عباده )) وَهُوَ ال ْ َ
م ((]النحل ،[50:وأدلة ن فَوْقِهِ ْ م ْ م ِ ن َرب ّهُ ْخاُفو َ وقال تعالى )) :ي َ َ
علو الله في ذاته على المخلوقات كثيرة جدا ،وذكر ابن القيم
]الكافية الشافية ص ،103وإعلم الموقعين [2/281أنها أنواع،
وكل نوع تحته أفراد ،فمنها:
-1التصريح بوصفه تعالى بالعلو ،كقوله تعالى )) :وَهُوَ ال ْعَل ِ ّ
ي
م ((]البقرة [255:في آيات كثيرة. ظي ُ ال ْعَ ِ
م ((]النحل: ن فَوْقِهِ ْ م ْ م ِ ن َرب ّهُ ْخاُفو َ -2التصريح بالفوقية )) ي َ َ
.[50
ماِء (( َ َ
س َ ن ِفي ال ّ م ْ م َ منت ُ ْ
-3التصريح بأنه في السماء )) :أأ ِ
]الملك [16:وقال النبي ) :أل تأمونني وأنا أمين من في
السماء( ]رواه البخاري ) ، (4351ومسلم ) (1064من حديث
أبي سعيد الخدري .[
هه الل ّ ُ ل َرفَعَ ُ -4الخبار برفع بعض المخلوقات إليه )) :ب َ ْ
إ ِل َي ْهِ ((]النساء.[158:
ملئ ِك َ ُ
ة ج ال ْ َ -5الخبار بعروج بعض المخلوقات إليه )) :ت َعُْر ُ
ح إ ِل َي ْهِ ((]المعارج.[4: َوالّرو ُ
م صعَد ُ ال ْك َل ِ ُ -6الخبار بصعود بعض المور إليه )) :إ ِل َي ْهِ ي َ ْ
ه ((]فاطر.[10: ح ي َْرفَعُ ُصال ِ ُ
ل ال ّ م ُب َوال ْعَ َ الط ّي ّ ُ
عن ْد َ
ن ِ ذي َ ن ال ّ ِ -7الخبار عن بعض المخلوقات بأنها عنده )) :إ ِ ّ
عن ْد َه ُ ل ن ِ م ْ عَباد َت ِهِ ((]العراف )) ،[206:وَ َ ن ِ ن عَ ْ ست َك ْب ُِرو َ ك ل يَ ْ َرب ّ َ
ن ((]النبياء [19:ويستدل سُرو َ ح ِ ست َ ْ عَباد َت ِهِ َول ي َ ْن ِ ن عَ ْ ست َك ْب ُِرو َ يَ ْ
أهل السنة بهذا على العلو؛ لن المبتدعة الذين ينفون علو الله
يقولون :إنه في كل مكان ،وإذا كان في كل مكان ـ تعالى الله
عن ذلك ـ فل تكون بعض المخلوقات عنده دون بعض؛ بل تصبح
كل المخلوقات عنده؛ لنه في كل مكان ،فل يختص الملئكة
بقرب ول يوجد قريب وبعيد!
ذا؛ الله تعالى ليس في كل مكان ،وإذا لم يكن في كل إ ً
مكان ـ وهو كذلك ـ فل بد أن يكون في أكمل المور والحوال
وهو العلو ل في السفل.
كما يستدلون بالسؤال عنه بـ)أين(؛ لن من أدلة أهل السنة
على إثبات علو الله على خلقه صحة السؤال عنه بـ)أين( كما
قال النبي للجارية ) :أين الله؟ قالت :في السماء( ] رواه
مسلم ) (537من حديث معاوية بن الحكم ،[ونفاة العلو ل
120
يجوز عندهم السؤال عن الله بـ)أين( إنما ُيسأل بـ)أين( عمن هو
في مكان ،والله عندهم ليس في مكان ،ويقولون المقولة التي
فيها التضليل والتزوير ) :كان الله ول عرش ،وهو على ما عليه
كان ( ويتوصلون بهذا التعبير إلى نفي الستواء على العرش.
]الستقامة ص ،137وسير أعلم النبلء ،18/474واجتماع
الجيوش ص [ 275
وإذا قلنا :إنه تعالى ليس في كل مكان؛ بل هو في العلو
فليس معناه :أنه في مكان موجود محيط به؛ بل هو فوق العالم،
وليس فوق العالم كله موجود إل الله تعالى ،فالله تعالى ل يحيط
به شيء من مخلوقات؛ بل هو تعالى فوق سماواته على عرشه
بائن من خلقه ،فتضمن قول الطحاوي) :محيط بكل شيء
وفوقه( إثبات صفة الحاطة وإثبات العلو لله تعالى ،وبين إثبات
العرش وإثبات العلو تناسب؛ لنه تعالى مستوٍ على العرش ،بل
نصوص إثبات الستواء هي من جملة ما يستدل به على علو الله
تعالى بذاته.
121
الله اتخذني خليل كما اتخذ إبراهيم خليل ( ]تقدم ص[ وقال :
)إن صاحبكم خليل الله( ]تقدم ص[.
وأهل السنة يثبتون المحبة ويثبتون الكلم لله ،ويقولون :إن
ه ((]المائدة,[54: حّبون َ ُ م وَي ُ ِ
حب ّهُ ْحب ،قال تعالى )) :ي ُ ِ حب وي ُ َ الله ي ُ ِ
ن
واِبي َ ب الت ّ ّ ح ّه يُ ِ ن الل ّ َ ن ((]التوبة )) ،[4:إ ِ ّ قي َ مت ّ ِب ال ْ ُ ح ّ ه يُ ِ ن الل ّ َ )) إ ِ ّ
ن ((]البقرة ،[222:وي ُك َّلم وي َت َك ََلم ،فيثبتون صفة ري َ مت َط َهّ ِ ب ال ْ ُ ح ّ وَي ُ ِ
المحبة وصفة الكلم.
خّلة هي أكمل المحبة ،فإبراهيم خليل الله ،فله من وال ُ
خّلة التي هي :أعلى درجات المحبة، محبة الله ما تبوأ به منزلة ال ُ
ونبينا خليل الله أيضا ،فإبراهيم ومحمد هما خليلن لله تعالى،
وأما ما ورد في الحديث أن النبي قال) :إن إبراهيم خليل
الله ...وأنا حبيب الله ول فخر( فهو حديث ضعيف ]تقدم في
ص[ ،وقد تعلق به بعض الجهلة وأهل الغلو ،فيسمون الرسول
خّلة، :حبيب الله ]انظر :ص[ ،وكأن المحبة عندهم أعلى من ال ُ
وهذا خلف اللغة ،وخلف دللت النصوص ،فالمحبة ثابتة للنبياء
والمؤمنين والملئكة ،كل على منزلته من محبة الله سبحانه
ه ((]آل م الل ّ ُ حب ِب ْك ُ ُ
ه َفات ّب ُِعوِني ي ُ ْ ن الل ّ َ حّبو َم تُ ِ ن ك ُن ْت ُ ْ ل إِ ْ وتعالى )) ،قُ ْ
ن الل ّ َ
ه ن ((]التوبة )) ،[4:إ ِ ّ قي َ مت ّ ِب ال ْ ُ ح ّه يُ ِن الل ّ َ عمران )) ،[31:إ ِ ّ
ن ((]البقرة ،[195:فالمحبة مشتركة بين سائر سِني َ ح ِ م ْ ب ال ْ ُ ح ّ يُ ِ
المؤمنين ،كل له حظه من محبة الله بحسب إيمانه وتقواه،
فوصف الرسول بأنه :حبيب الله فقط ليس فيه خصوصية ول
تميز ،فكل مؤمن هو حبيب الله ـ أي ـ :محبوب لله.
وتقدم ذكر ]ص المحبة عند قوله وحبيب رب العالمين وفي هذه الصفحة،
ص[ الدلة على إثبات صفة المحبة ،وصفة الكلم لله تعالى.
والمعطلة من الجهمية والمعتزلة ]مجموع الفتاوى [10/66
حب ومن تبعهم ينفون هذه الصفات ،فالجهمية يقولون :إنه ل ي ُ ِ
حب؛ لن المحبة ميل الشيء إلى ما يناسبه ،ول تناسب بين ول ي ُ َ
الخالق والمخلوق ،وهذا ـ إن صح أن يكون تفسيرا للمحبة ـ
ل هو ضد البغض، ى معقو ٌ يختص بمحبة المخلوق ،فالمحبة معن ً
والله تعالى أخبر بأنه يحب أولياءه ويحب المؤمنين والمقسطين
َ
نم ْ ت الل ّهِ أك ْب َُر ِ ق ُ م ْوالتوابين ،وأخبر بأنه يمقت الكافرين )) :ل َ َ
م ((]غافر.[10: سك ُ ْ ف َ م أ َن ْ ُ قت ِك ُ ْ م َْ
ونفاة المحبة منهم من يفسر المحبة من الله بإرادة النعام،
أو يفسرها بنفس النعم المخلوقة ،ويفسر البغض بإرادة النتقام،
أو بنفس العقوبة ،المهم عندهم نفي حقيقة المحبة عن الله،
وينفون محبة المخلوق للخالق سبحانه ويقولون :إن المحبة هي
122
محبة ثوابه ،أو محبة طاعته ،والمحبة عندهم ل تتعلق إل
بالمخلوق.
ومن المبتدعة من أثبت المحبة من جهة المخلوق،
كالصوفية؛ فإنهم يبالغون في إثبات محبة المخلوق للخالق حتى
يعبرون عن محبتهم لله بالعشق ،وكذلك الفلسفة يطلقون
العشق على الله تعالى ].مجموع الفتاوى ،10/131والرد على
المنطقيين ص 258و ،359ودرء تعارض العقل والنقل 1/100و
231والرسالة الصفدية ص 125و [ 297
والحق :ما دل عليه كتاب الله ،ودلت عليه الفطر والعقول
حب؛ يحب ملئكته وأنبياءه حب وي ُ َ بأنه سبحانه وتعالى ي ُ ِ
والصالحين من عباده ،كما أخبر تعالى بذلك عن نفسه ،ويحبه
َ
نذي َأولياؤه كما في الية التي جمعت بين المرينَ )) :يا أي َّها ال ّ ِ
ْ
م
حب ّهُ ْقوْم ٍ ي ُ ِ ه بِ َف ي َأِتي الل ّ ُ ن ِدين ِهِ فَ َ
سو ْ َ م عَ ْ من ْك ُ ْن ي َْرت َد ّ ِ م ْ مُنوا َ آ َ
ن الل ّ َ
ه حّبو َ م تُ ِ ن ك ُن ْت ُ ْ ه ((]المائدة [54:وقوله تعالى )) :قل إ ِ ْ حّبون َ ُ
وَي ُ ِ
ه ((]آل عمران. [31: م الل ّ ُ حب ِب ْك ُ َُفات ّب ُِعوِني ي ُ ْ
وكل صفة تثبت لله تعالى فليست مثل صفة المخلوق،
فليس حبه تعالى كحبنا ،وليس كلمه وتكليمه ككلمنا ،والقول
يٌء (( ش ْ مث ْل ِهِ َ س كَ ِ في بعض الصفات كالقول في بعض ،فـ)) ل َي ْ َ
]الشورى [11:ل في ذاته ول في صفاته ول في أفعاله ،فكما أنه
تعالى له علم ل كعلمنا ،وسمع ل كسمعنا ،فله محبة ل كمحبتنا ،و
ضانا. ضا ل كرِ َ رِ ً
وأما ما ذكره الشارح ابن أبي العز ]ص [396من الكلم في
خّلة ،وقول الشاعر]البيت لبشار بن برد في ديوانه :[2/475 ال ُ
قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليل
خّلة التي هي صفة المخلوق ،وكذلك قوله: فهذا تفسير لل ُ
خّلة ل تقبل الشركة ،فهذا فيه نظر؛ لن الله ]ص [397إن ال ُ
اتخذ إبراهيم خليل واتخذ محمدا خليل ،نعم من كان الله
خليله فل يكون أحد من الخلق خليله ،كما في الحديث الصحيح
أن النبي ) لو كنت متخذا من أهل الرض خليل لتخذت ابن
أبي قحافة خليل ،ولكن صاحبكم خليل الله( ]تقدم وهو حديث
ابن مسعود[ فدل على أن المانع له من أن يتخذ أبا بكر خليل أن
الله اتخذه خليل ،وهذا يقتضي أن يكون الله خليله ،وإن لم يرد ـ
فيما أعلم ـ وصف الله بأنه خليل إبراهيم ،أو خليل محمد ،لكن
هذا الحديث يشعر بهذا ،وأن الله حين اتخذ محمدا خليل لم يكن
للرسول خليل من الخلق ،وأن ذلك يقتضي أن الله خليله،
وهذا من الدلة على أن أبا بكر هو أفضل هذه المة على
123
الطلق ،فهو صديق المة وخيرها بعد نبيها؛ لنه قال) :لو كنت
متخذا من أهل الرض خليل لتخذت ابن أبي قحافة خليل( .
124
ما ل بِ َ سو ُ ن الّر ُ م َ ضلَل ً ب َِعيد َا ً ((]النساء ،[136:وقال سبحانه )) :آ َ َ
ه
سل ِ ِ ُ
ملئ ِكت ِهِ وَكت ُب ِهِ وَُر ُ َ ن ِباللهِ وَ َ ّ م َ لآ َ نك ّ ُ مُنو َ مؤ ْ ِ ْ
ن َرب ّهِ َوال ُ م ْ ل إ ِلي ْهِ ِ َ ُأنزِ َ
سل ِهِ ((]البقرة [285:فنؤمن بالملئكة فرقُ بي َ
ن ُر ُ م ْ حد ٍ ِ نأ َ َْ َ ل نُ َ ّ
ُ
الذين وصفهم الله بصفات كريمة ،فقال تعالى عنهم )) :وََقالوا
ل قو ْ ِ ه ِبال ْ َ قون َ ُ سب ِ ُن * ل يَ ْ مو َ مك َْر ُ عَباد ٌ ُ ل ِ ه بَ ْ حان َ ُ سب ْ َ ن وَل َد َا ً ُ م ُ ح َ خذ َ الّر ْ ات ّ َ
خل ْ َ َ َ
ن فُعو َ ش َ م َول ي َ ْ فهُ ْ ما َ م وَ َ ديهِ ْ ن أي ْ ِ ما ب َي ْ َ م َ ن * ي َعْل َ ُ مُلو َ مرِهِ ي َعْ َ م ب ِأ ْ وَهُ ْ
ن ((]النبياء.[28-26: قو َ ش فِ ُ م ْ شي َت ِهِ ُ خ ْ ن َ م ْ م ِ ضى وَهُ ْ ن اْرت َ َ م ِ إ ِّل ل ِ َ
وقد أخبر الله تعالى أن الملئكة أصناف منهم :ملك الموت،
م إ َِلى م ثُ ّ ل ب ِك ُ ْ ذي وُك ّ َ ت ال ّ ِ مو ْ ِ ك ال ْ َ مل َ ُ كم ّ ل ي َت َوَّفا ُ قال تعالى )) :قُ ْ
ن(( ]السجدة.[11: جُعو َ م ت ُْر َ َرب ّك ُ ْ
ومنهم الملئكة الذين هم من أعوان ملك :ملئكة الرحمة
وملئكة العذاب ،وقد أضاف الله إليهم التوفي كما أضافه إلى
ت
مَرا ِ ن ِفي غ َ َ مو َ ظال ِ ُ ملك الموت ،قال تعالى )) :وَل َوْ ت ََرى إ ِذ ِ ال ّ
ن
جَزوْ َ م تُ ْ م ال ْي َوْ َ سك ُ ُ ف َ جوا ْ َأن ُ خرِ ُ م أَ ْ ديهِ ْ
ة باس ُ َ
طوا ْ أي ْ ِ ملئ ِك َ ُ َ ِ ت َوال ْ َ مو ْ ِ ال ْ َ
ه
ن آَيات ِ ِ م عَ ْ كنت ُ ْ حقّ وَ ُ ن ع ََلى الل ّهِ غ َي َْر ال ْ َ قوُلو َ م تَ ُ كنت ُ ْ ما ُ ن بِ َ ب ال ُْهو ِ ذا َ عَ َ
من ت َت َوَّفاهُ ُ ذي َ ن(( ]النعام ،[93:وقال تعالى )) :ال ّ ِ ست َك ْب ُِرو َ تَ ْ
مكنت ُ ْ ما ُ ة بِ َ جن ّ َ خُلوا ْ ال ْ َ م اد ْ ُ م ع َل َي ْك ُ ُ سل ٌ ن َ قوُلو َ ن يَ ُ ة ط َي ِّبي َ ملئ ِك َ ُ ال ْ َ
ن(( ]النحل.[32: مُلو َ ت َعْ َ
نومنهم الملئكة الموكلون بحفظ وكتابة أعمال العباد )) وَإ ِ ّ
ن ((]النفطار.[10: ظي َ حافِ ِ م لَ َ ع َل َي ْك ُ ْ
حة ِبالّرو ِ ملئ ِك َ َ ل ال ْ َ ومنهم الملئكة الموكلون بالوحي )) ي ُن َّز ُ
مرِهِ ((]النحل.[2: م َ
نأ ْ ِ ْ
ل وميكائيل وقد سمى الله من الملئكة في القرآن جبري َ
ملئ ِك َت ِ ِ
ه ن ع َد ُّوا ل ّل ّهِ وَ َ كا َ من َ ومالك خازن النار ،قال تعالىَ )) :
ن(( ]البقرة[98: ري َ كافِ ِ ه ع َد ُوّ ل ّل ْ َ ن الل ّ َ ل فَإ ِ ّ كا َ مي َ ل وَ ِ ري َ جب ْ ِ سل ِهِ وَ ِ وَُر ُ
ك ((]الزخرف.[77: ض ع َل َي َْنا َرب ّ َ ق ِ ك ل ِي َ ْ مال ِ ُ وقال تعالى )) :وََناد َْوا َيا َ
وجاء في السنة تسمية إسرافيل ومنكر ونكير ،ففي حديث
عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يستفتح في قيام الليل:
)اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل( ] رواه مسلم )[(770
ّ
ن يسألن وروى الترمذي عن النبي تسمية الملكين الذ َي ْ ِ
المقبور :بـ»المنكر والنكير« (1071)] .ـ وقال :حسن غريب ـ ،
وابن حبان ) (3117من حديث أبي هريرة .[
والملئكة خلق من خلق الله فيجب اليمان بأنهم عباد
مخلوقون مربوبون مدبرون ليسوا بآلهة كما ظن المشركون،
ك ال ْب ََنا ُ
ت م أ َل َِرب ّ َ فت ِهِ ْ ست َ ْ وليسوا بنات الله كما افترى المفترون ))َفا ْ
َ َ
نم ْ م ِ ن * أل إ ِن ّهُ ْ دو َ شاه ِ ُ م َ ة إ َِناث َا ً وَهُ ْ ملئ ِك َ َ قَنا ال ْ َ خل َ ْ م َ ن*أ ْ م ال ْب َُنو َ وَل َهُ ُ
ن ((]الصافات-149: كاذ ُِبو َ م لَ َ ه وَإ ِن ّهُ ْ ن * وَل َد َ الل ّ ُ قوُلو َ م ل َي َ ُ إ ِفْك ِهِ ْ
125
[152فمن الناس من ينكر وجودهم ،ومنهم المتأول الذي يقول:
الملئكة هي القوى اَلخّيرة في النسان ،والشياطين هي القوى
الشريرة في النسان ،فليسوا خلقا قائمين بأنفسهم ،وهذا خلف
ما أخبر الله به في كتابه من أمر الملئكة ،فهم عباد عابدون لله
مطيعون في غاية من العبودية والطاعة لله رب العالمين:
ن ((]النبياء )) ،[20:ل فت ُُرو َ ل َوالن َّهاَر ل ي َ ْ ن الل ّي ْ َ حو َ سب ّ ُ)) ي ُ َ
ن ((]العراف: دو َ ج ُ س ُ ه يَ ْ َ
ه وَل ُ حون َ ُ سب ّ ُعَباد َت ِهِ وَي ُ َ ن ِ ن عَ ْ ست َك ْب ُِرو َ يَ ْ
،[206وذكر الله ما دار بينه وبين الملئكة في أمر خلق آدم:
َ َ
جعَ ُ
ل ة َقاُلوا أت َ ْ ف ً
خِلي َ ض َ ل ِفي الْر ِ ع ٌ جا ِ ملئ ِك َةِ إ ِّني َ ك ل ِل ْ َ ل َرب ّ َ )) وَإ ِذ ْ َقا َ
ماَء ((]البقرة [30:إلى آخر ك الد ّ َ ف ُ س ِسد ُ ِفيَها وَي َ ْ ف ِ ن يُ ْ م ْ ِفيَها َ
القصة.
وأما النبياء فكذلك يجب اليمان بهم إجمال ،ويجب اليمان
بمن سمى الله منهم تفصيل ،وقد ذكر الله اليمان بالرسل في
اليات الثلث التي تقدمت ]في الصفحة السابقة[ ،وذكروا في آيات
جا ً وَذ ُّري ّ ً ك وجعل ْنا ل َه َ أخرى )) :ول َ َ َ
ة (( م أْزَوا َ ن قَب ْل ِ َ َ َ َ َ ُ ْ م ْ سَل ً ِ سل َْنا ُر ُ قد ْ أْر َ َ
م َ
سل ً ل ْ َ ل وَُر ُ ن قَب ْ ُم ْ ك ِ َ
م ع َلي ْ َ صَناهُ ْ ص ْ سل ً قَد ْ قَ َ َ ]الرعد )) ،[38:وَُر ُ
ك ((]النساء ،[164:فرسل الله وأنبياؤه كثيرون؛ م ع َل َي ْ َ صه ُ ْص ْ ق ُ نَ ْ
لكن منهم من قص الله علينا من أخبارهم ،ومنهم من لم يقصهم
ل خبره ،مثل :ذي ذكر اسمه ولم يذكر تفصي َ علينا ،ومنهم من َ
الكفل وإدريس واليسع ،وقص الله علينا أخبار أنبياء كثيرين؛ كنوح
وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وموسى ،فيجب اليمان بما
أخبر الله به عن النبياء والمرسلين إجمال وتفصيل؛ فأما اليمان
بهم مجمل؛ فهو فرض عين ،وأما معرفة أخبارهم تفصيل فهو
فرض كفاية ،ويجب على من علم شيئا من تفصيل أخبارهم أن
يؤمن به.
وبمناسبة ذكرِ المؤلف ـ رحمه الله ـ )ونؤمن بالملئكة
والنبيين ،والكتب المنزلة على المرسلين( ترد مسألة الفرق بين
النبي والرسول ،وقد سبق الكلم عليها عند قول المؤلف) :وإن
محمدا عبده المصطفى ،ونبيه المجتبى ،ورسوله المرتضى(
]ص[.
والصل الثالث من أصول اليمان في عبارة المؤلف ـ رحمه
الله ـ هو اليمان بالكتب ،فإنه قال) :ونؤمن بالملئكة والنبيين
دم ذكر النبياء على الكتب، وبالكتب المنزلة على المرسلين( وق ّ
مع أن الذي في اليات والحاديث تقديم ذكر الكتب على الرسل،
ملئ ِك َ ِ
ة خرِ َوال ْ َ ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ م َ نآ َ م ْن ال ْب ِّر َ قال تعالى )) :وَل َك ِ ّ
ملئ ِك َت ِ ِ
ه ن ِبالل ّهِ وَ َ م َ لآ َ ن ((]البقرة )) ،[177:ك ُ ّ ب َوالن ّب ِّيي َ َوال ْك َِتا ِ
126
سل ِهِ ((]البقرة[285:؛ لكن الظاهر أن المؤلف قدم وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ
وأخر ،مراعاة لتناسب الجمل.
فيجب اليمان بالكتب الــتي أنزلهــا اللــه علــى مــن شــاء مــن
رسله ،والله أخبر في آيــات كــثيرة أنــه أنــزل الكتــب وســمى لنــا
دقا ً صــ ّم َ حقّ ُ ب ِبال ْ َك ال ْك َِتا َ ل ع َل َي ْ َ التوراة والنجيل ،قال تعالى )) :ن َّز َ
ل((]آل عمـران ،[3:والزبـور جيـ َ لن ِل الّتـوَْراة َ َوا ِ ن َيـد َي ْهِ وََأنـَز َ ما ب َي ْ َ لّ َ
داوُد َ َزب ُــوًرا(( ]الســراء ،[55:وصــحف إبراهيــم وموســى )) َوآت َي َْنا َ
سى (( ]العلى ،[19:فيجب اليمــان بكتــب مو َ م وَ ُ هي َ ف إ ِب َْرا ِ ح ِ ص ُ)) ُ
الله إجمال ،وهذا فرض عين ،وبما سمى الله منها تفصــيل وتعيينــا
فنـؤمن بـالتوراة المنزلـة علـى موسـى ،وبالنجيـل المنـزل علـى
عيسى ،وبالزبور المنزل علــى داود ،وبصــحف موســى وإبراهيــم،
ونؤمن بأنها كلم الله ،فالكتب المنزلة كلها كلم الله.
واليمان بالكتب يندرج في اليمان بالرسل؛ لنهم هــم الــذين
مــا ل إ ِل َي ْن َــا وَ َ مــا ُأن ـزِ َ مّنا ِبالل ّهِ وَ َ جاءوا بها قال الله تعالىُ )) :قوُلوا آ َ
مــا ط وَ َ سـَبا ِ َ
ب َوال ْ قــو َ حاقَ وَي َعْ ُ سـ َ ل وَإ ِ ْ عي َ ما ِ سـ َ م وَإ ِ ْ هيـ َ ل إ َِلى إ ِب َْرا ِ ُأنزِ َ
فرقُ بي َ ُ ُ
حد ٍ نأ َ َْ َ م ل نُ َ ّ ن َرب ّهِ ْ م ْ ن ِ ي الن ّب ِّيو َ ما أوت ِ َ سى وَ َ عي َ سى وَ ِ مو َ ي ُ أوت ِ َ
ن ((]البقرة [136:ل نفرق بين الرســل ول مو َ سل ِ ُ م ْ ه ُ ن لَ ُ ح ُ م وَن َ ْ من ْهُ ْ ِ
َ
ن نأ ْ دو َ ري ـ ُ س ـل ِهِ وَي ُ ِ ن ب ِــالل ّهِ وَُر ُ فُرو َ ن ي َك ْ ُ ذي َ ن ال ّ ِ نفرق بين الكتب )) إ ِ ّ
ض ف ـُر ب ِب َعْـ ٍ ض وَن َك ْ ُ ن ب ِب َعْـ ٍ م ُ ن ن ُـؤ ْ ِ قول ُــو َ س ـل ِهِ وَي َ ُ ن الل ّـهِ وَُر ُ فّرقُــوا ب َي ْـ َ يُ َ
ق ـا ً ُ َ
ح ّن َ م ال ْك َــافُِرو َ ك هُـ ُ سـِبيَل ً * أوْل َئ ِ َ ك َ ن ذ َل ِـ َ ذوا ب َي ْـ َ خ ُ ن ي َت ّ ِنأ ْ دو َ ري ُ وَي َُ ِ
م س ـل ِهِ وَل َـ ْ من ُــوا ب ِــالل ّهِ وَُر ُ نآ َ ذي َ مِهين َـا ً * َوال ّـ ِ ذاب َا ً ُ ن عَ َ ري َ وَأع ْت َد َْنا ل ِل ْ َ
كا َفِ ِ
م ((]النساء.[152-150: من ْهُ ْحد ٍ ِ نأ َ فّرُقوا ب َي ْ َ يُ َ
وأنكر الله على اليهود إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض.
وهــذه الصــول يتعلــق بهــا كــثير مــن مســائل العتقــاد ،نــص
المصنف ـ رحمه اللــه ــ علـى بعضـها ،فيمــا تقـدم ،وكمـا سـيأتي
بعضها.
127
]تسمية أهل القبلة بالمسلمين[
وقوله) :ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ،ما داموا بما
جاء به النبي معترفين ،وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين(.
أهل القبلة :هم الذين يستقبلون الكعبة في صلتهم ،فنسمي
كل من يستقبل الكعبة) :مسلمين( ،فجميع الفرق السلمية
يسمون أهل القبلة؛ لن القبلة تجمع المسلمين ،وليس فيها
خلف بينهم.
وأما قوله) :مؤمنين( هذا جارٍ على عدم الفرق بين السلم
م ،وأنهما اسمان ن مسل ٌ ل مؤم ٍ ن وك َ ل مسلم ٍ مؤم ٌ نك َ واليمان ،وأ ّ
ى واحد ،وهي مسألة معروفة وكبيرة: لمسم ً
ى واحد. فمن أهل العلم من يقول :إنهما اسمان لمسم ً
ومنهم من يقول :بل هما متغايران ومختلفان.
والقول الوسط هو :أن السلم واليمان إذا أفردا اتحد
معناهما ،وإذا اقترنا وذكرا جميًعا اختلف معناهما ،كقوله تعالى:
ت ((]الحزاب: مَنا ِ ن َوال ْ ُ
مؤ ْ ِ مِني َ ت َوال ْ ُ
مؤ ْ ِ ما ِ
سل ِ َ ن َوال ْ ُ
م ْ مي َ
سل ِ ِ ن ال ْ ُ
م ْ )) إ ِ ّ
،[35فإذا ذكر اليمان والسلم كان المراد بالسلم العمال
الظاهرة ،وباليمان اعتقاد القلب ،ولهذا فرق بين السلم
واليمان في حديث جبريل ،فلما قال) :أخبرني عن السلم(
أخبره بأصول العمال الظاهرة ،وهي أركان السلم ،وعندما
قال) :أخبرني عن اليمان؟ ( ،فسره له بأصول العتقاد وهي
الصول الستة.
ل أحد ٍ مسلما مؤمنا؛ بل فعلى القول بالفرق ل نسمي ك َ
الفاسق ل نعطيه السم المطلق بل نقول :هو مسلم ،وإذا
وصفناه باليمان نقول :هو مؤمن ناقص اليمان ،أو مؤمن بما
معه من اليمان.
وقوله) :ما داموا بما جاء به النبي معترفين ،وله بكل ما
قاله وأخبر مصدقين( ما داموا يشهدون أن ل إله إل الله ،وأن
دا رسول الله ،واستقاموا واستمروا على الشهادتين شهادة محم ً
أن ل إله إل الله وأن محمدا ً رسول الله ،وقوله) :وله بكل ما قاله
وأخبر مصدقين( تأكيد للجملة الولى؛ لنها داخلة فيها.
والرسول جاء بأمرين:
َ
دىه ِبال ْهُ َ
سول َ ُل َر ُس َ ذي أْر َ بعلم ،وعمل ،قال تعالى )) :هُوَ ال ّ ِ
حقّ ((]الفتح [28:فالهدى هو :العلم النافع ،ودين الحق ن ال ْ َ وَِدي ِ
هو :العمل الصالح ،والدين دائر على هذين الصلين :العلم
والعمل؛ فاليمان بما جاء به الرسول يشمل :اليمان بما جاء
به من مسائل العتقاد ،ونسميها :المسائل العلمية.
128
وبما جاء به من الشرائع والحكام ،ونسميها :المسائل
العملية.
فنسمي أهل القبلة مسلمين ما لم يكن منهم ما يوجب
علمت ردته من المنتسبين للسلم فليس من أهل الردة ،ومن ُ
القبلة؛ بل هو مرتد ،مثل :القائل بوحدة الوجود ،أو من يقول
بنبوة أحد غير الرسول ؛ كالقاديانية الذين يقولون بنبوة مرزا
غلم أحمد الهندي ]الموسوعة الميسرة ،1/419وفتاوى اللجنة
الدائمة ،[2/312فهؤلء ليسوا من أهل القبلة ،وليسوا بمسلمين
ول مؤمنين ،وإن انتسبوا للسلم ،فهم كفار وليسوا بمسلمين ول
مؤمنين.
129
َ
م ((]العنكبوت ،[46:فالجدال من ْهُ ْموا ِ ن ظ َل َ ُ ذي َن إ ِّل ال ّ ِ س ُ ح َ أ ْ
بالبينات ،وبالحجج الظاهرات ،والدلة العقلية والسمعية ،كل هذا
من طرق الدعوة إلى الله ومن الجدال بالتي هي أحسن ،وما
خالف ذلك فهو من المراء المذموم.
وقوله) :ول نجادل في القرآن( يظهر أن هذا يدخل في قوله:
)ل نماري في دين الله( لكن عطفها على ما قبلها من عطف
الخاص على العام ،فل نماري في دين الله ،ول نماري في
القرآن ،أي :ل نجادل فيه تكذيبا ،ول نجادل في معانيه تحريفا،
لكن نحتج به ونستدل به؛ وهناك فرق بين السلوبين ،فنجادل
بالقرآن ،أي :يكون القرآن هو السلح الذي نجادل به ،ونرد به
ة لخباره أو أحكامه، على أهل الباطل؛ لكن ل نجادل فيه معارض ً
أو تكذيبا أو تأويل له وصرفا له عن ظاهره ،فكل هذا من سبل
الباطل ،فأهل الباطل هم الذين يجادلون في آيات الله ،كما قال
فُروا (( ن كَ َ ذي َ ت الل ّهِ إ ِّل ال ّ ِ ل ِفي آَيا ِ جاد ِ ُ ما ي ُ َسبحانه وتعالىَ )) :
]غافر [4:فيقولون :هذا سحر ،هذا شعر ،هذا كهانة ،تكذيبا له،
قت َا ً ِ طا َ
عن ْد َ م ْ م ك َب َُر َ ن أَتاهُ ْ سل ْ َ ٍ ت الل ّهِ ب ِغَي ْرِ ُ ن ِفي آَيا ِ جاد ُِلو َ ن يُ َ ذي َ )) ال ّ ِ
مت َك َب ّ ٍ
ر ب ُ ل قَل ْ ِ ه ع ََلى ك ُ ّ ك ي َط ْب َعُ الل ّ ُ مُنوا ك َذ َل ِ َ نآ َ ذي َعن ْد َ ال ّ ِالل ّهِ وَ ِ
ت الل ّهِ ب ِغَي ْ ِ
ر ن ِفي آَيا ِ جاد ُِلو َن يُ َ ذي َ ن ال ّ ِ جّبارٍ ((]غافر )) ،[35:إ ِ ّ
َ
َ
هّ
ست َعِذ ْ ِبالل ِ م ب َِبال ِِغيهِ َفا ْ ما هُ ْ ّ
م إ ِل ك ِب ٌْر َ دورِه ِ ْ ص ُ ن ِفي ُ م إِ ْن أَتاهُ ْ َ
سلطا ٍ ْ ُ
صيُر ((]غافر.[56: ْ
ميعُ الب َ ِ س ِ ه هُوَ ال ّ إ ِن ّ ُ
وقوله) :ونشهد أنه كلم رب العالمين ،نزل به الروح المين،
دا صلى عليه وعلى آله أجمعين ،وهو فعلمه سيد المرسلين محم ً
كلم الله تعالى ،ل يساويه شيء من كلم المخلوقين ،ول نقول
بخلقه ،ول نخالف جماعة المسلمين(.
هذا من شواهد ما تقدم ذكره ]ص[ من أن المصنف لم
يرتب الكلم في مسائل العتقاد ،ويجمع كل صنف ويضمه إلى
جنسه ،بل فرق الكلم في أصول اليمان.
فهذه الجملة المذكورة تتعلق بالقرآن ،وقد تقدم ]ص[ القول
في عقيدة أهل السنة في القرآن ،وأن القرآن كلم الله حقيقة
منزل غير مخلوق ،منه بدأ وإليه يعود ،وأنه كلم الله على
الحقيقة وليس ككلم البشر ،والناس في القرآن منهم الكفار
ل ذا إ ِّل قَوْ ُ ن هَ َ المكذبون للقرآن الذين قالوا :إنه كلم محمد )) :إ ِ ْ
شرِ ((]المدثر ،[25:ومنهم من يؤمن بتنزيل القرآن لكنه يتأوله ال ْب َ َ
على غير تأويله ،ويفسره بما يوافق هواه وأصوله الباطلة كما
فعل القدرية والجهمية والرافضة فكل طائفة تؤول القرآن على
ما يوافق مذهبها وأصولها.
وقوله) :ونشهد أنه كلم رب العالمين(.
130
نشهد ونؤمن ظاهرا وباطنا ،ونقر بقلوبنا وألسنتنا أن هذا
ة ،وأنه كلم الله حروفه القرآن كلم ربنا ،تكلم به سبحانه حقيق ً
ومعانيه ،هو كلم الله تعالى مكتوبا في المصاحف ،أو محفوظا
في الصدور ،أو متلوا باللسن ،أو مسموعا بالذان ،فالذي يقرأه
ن القارئ نقول :هذا كلم الله ،أي :المتلو )) وإ َ
م َ حد ٌ ِ نأ َ َِ ْ
شركين استجار َ َ
م الل ّهِ ((]التوبة[6: كل َ معَ َ س َحّتى ي َ ْ جْره ُ َ ك فَأ ِ م ْ ِ ِ َ ْ َ َ َ ال ْ ُ
لكن نحن نسمع كلم الله من صوت القارئ ،كما سمع الصحابة
القرآن بصوت الرسول ،وسمعه الرسول من جبريل عليه
السلم ،وسمعه جبريل من رب العالمين.
وقوله) :نزل به الروح المين( جبريل عليه السلم هو:
الروح المين ،وهو روح القدس.
وقوله) :فعلمه سيد المرسلين محمدا صلى عليه وعلى آله
أجمعين(.
ه
م ُ حى * ع َل ّ َ ي ُيو َ ح ٌ ن هُوَ إ ِّل وَ ْ كما قال سبحانه وتعالى )) :إ ِ ْ
َ ُ
م د ََنا ق الع َْلى * ث ُ ّ وى َ * وَهُوَ ِبا َلفُ ِ ست َ َ مّرةٍ َفا ْ ذو ِ وى * ُ ق َ ديد ُ ال ْ ُ ش ِ َ
َ َ
حى ما أوْ َ حى إ َِلى ع َب ْد ِهِ َ ن أوْ أد َْنى * فَأوْ َ سي ْ ِ ب قَوْ َ ن َقا َ كا َ فَت َد َّلى * فَ َ
((]النجم [10-4:فجبريل هو الموكل بالوحي ،ولهذا أضاف الله
القرآن إلى الرسول من البشر محمد ،وأضافه إلى الرسول
من الملئكة وهو جبريل عليه السلم ،كما قال تعالىَ )) :فل
ه لَ َ ُ
ريم ٍ * ل كَ ِ سو ٍ ل َر ُ قو ْ ُ ن * إ ِن ّ ُ صُرو َ ما ل ت ُب ْ ِ ن * وَ َ صُرو َ ما ت ُب ْ ِ م بِ َ س ُ أقْ ِ
ما ن قَِليَل ً َ كاه ِ ٍ ل َ قو ْ ِ ن * َول ب ِ َ مُنو َ ما ت ُؤ ْ ِ عرٍ قَِليَل ً َ شا ِ ل َ قو ْ ِ ما هُوَ ب ِ َ وَ َ
ل ع َل َي َْنا ب َعْ َ
ض قو ّ َ ن * وَل َوْ ت َ َ مي َ ب ال َْعال َ ِ ن َر ّ م ْ ل ِ زي ٌ ن * َتن ِ ت َذ َك ُّرو َ
ن((]الحاقة [45-38:فالمراد بالرسول مي ِ ه ِبال ْي َ ِ من ْ ُخذ َْنا ِ ل * َل َ َ الَقاِوي ِ
َ
في هذه اليات :محمد ،وقال سبحانه في سورة التكوير:
ُ
س* سعَ َ ذا ع َ ْ ل إِ َ س * َوالل ّي ْ ِ ْ
وارِ الك ُن ّ ِ ج َ س * ال ْ َ خن ّ ِ م ِبال ْ ُ س ُ )) َفل أقْ ِ
عن ْد َ ِذي ريم ٍ * ِذي قُوّةٍ ِ ل كَ ِ سو ٍ ل َر ُ قو ْ ُ ه لَ َ س * إ ِن ّ ُ ف َ ذا ت َن َ ّ ح إِ َ صب ْ َِوال ّ
َ م َ ْ
ن ((]التكوير [21-15:وهذا جبريل مي ٍ مأ ِ طاٍع ث َ ّ ن* ُ كي ٍ م ِ ش َ العَْر ِ
عليه السلم.
وقوله) :وهو كلم الله تعالى ل يساويه شيء من كلم
المخلوقين(.
هذا تأكيد لما سبق أنه كلم الله ،ول يساويه شيء من كلم
س
لن ُ تا ِ معَ ِ جت َ َنا ْ العالمين ،ولهذا تحدى الله به الثقلين )) :قُ ْ َ
ل لئ ِ ِ ْ ْ َ
نكا َ مث ْل ِهِ وَل َوْ َ ن بِ ِ ن ل ي َأُتو َ قْرآ ِ ذا ال ْ ُ ل هَ َ مث ْ ِ ن ي َأُتوا ب ِ ِ ن ع ََلى أ ْ ج ّ َوال ْ ِ
ض ظ َِهيًرا((]السراء.[88: م ل ِب َعْ ٍ ضهُ ْ ب َعْ ُ
وقوله) :ول نقول بخلقه ،ول نخالف جماعة المسلمين(.
ول نقول بخلق القرآن كما قالت المعطلة المبتدعة كالجهمية
والمعتزلة ومن وافقهم؛ بل نقول :إنه كلم الله حقيقة حروفه
131
ومعانيه ،ليس كلم الله الحروف دون المعاني ول المعاني دون
الحروف.
وقوله) :ول نخالف جماعة المسلمين(.
جماعة المسلمين في الصدر الول ،وإل فالمسلمون بعد
الصدر الول قد تفرقوا واضطربوا واختلفوا في القرآن ،فنحن ل
نخالف جماعة السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم
بإحسان.
132
رمضان ،وجحد تحريم المحرمات المعلوم حكمها بالضرورة من
دين السلم؛ كتحريم الزنا ،والخمر؛لنه يكون مكذبا للقرآن
والسنة المتواترة ،وما أجمع عليه المسلمون ،ومن اعتقد حل ما
حرمه الله مما تحريمه معلوم من دين السلم بالضرورة فهو
كافر حتى ولو لم يفعله؛ لنه ليس من شرط ثبوت الردة
بالستحلل فعل المكلف لما استحله من الحرام.
133
المحرمات ،وترتب العقاب على فعل المحرمات وترك الواجبات،
فالذنوب عندهم تضر مرتكبها ،و يستحق العقاب الذي توعد الله
به في كتابه ،أو أخبر به الرسول .
فرون أهل الكبائر،وأهل السنة وسط في هذا المقام فل ُيك ّ
مُنوَنهم من العقاب ،و يرون أن مرتكب الكبيرة في الدنيا ول ي ُؤ َ ِ
مؤمن بما معه من اليمان ،فاسق بما ارتكب من الكبيرة ،وما
ورد في النصوص من إطلق اسم الكفر على بعض العمال ،أو
بعض العاملين مما هو دون الشرك ،فهو محمول على الكفر
الصغر الذي يعبر عنه بكفر دون كفر ،كقول النبي ) :سباب
المسلم فسوق وقتاله كفر ( ]رواه البخاري ) (48ومسلم )(64
من حديث ابن مسعود ،[وقوله ) :اثنتان في الناس هما بهم
كفر :الطعن في النسب ،والنياحة على الميت( ]رواه مسلم )
(67من حديث أبي هريرة [وما أشبه ذلك ،وفي الخرة هو
تحت مشيئة الله ،هذا حكمهم في الخرة ،كما سيأتي تقرير حكم
أهل الكبائر في قول الطحاوي) :وأهل الكبائر من أمة محمد
في النار ل يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون وإن كانوا غير تائبين(.
134
يريد أهل الحسان الذين حسن إسلمهم واستقاموا عليه،
فهؤلء أهل الحسان العظيم يرجى لهم من العفو والرحمة
والمغفرة ما ل يرجى لغيرهم؛ لن الحسنات يذهبن السيئات.
135
لكن هذا خطاب لجماعة من خيار الصحابة رضي الله عنهم،
فل يتأتى اعتبار أي جماعة من الناس أن شهادتهم للشخص
توجب الشهادة له بالجنة ،إذا شهدوا له بالخير والصلح؛ لكن
شهادة المسلمين والصالحين مما يستبشر به ،ومما يبشر بالخير
ويبعث على الرجاء ،أما أن يشهد له بالجنة بناء على هذا فل،
وهذا المثنى عليه خيرا لم يعلم أنه في الجنة إل بقول الرسول
» :وجبت « ،وهذا ل يتأتى لغيره من الناس.
وقوله) :ونستغفر لمسيئهم ،ونخاف عليهم ،ول نقنطهم(.
نرجو للمحسنين أن يعفو الله عنهم ويدخلهم الجنة ،ول نأمن
عليهم ول نشهد لهم بالجنة ،ونستغفر للمسيئين ،قال تعالى:
ت((]محمد [19:فالله ندب مَنا ِ مؤ ْ ِن َوال ْ ُ مِني َ مؤ ْ ِك وَل ِل ْ ُ فْر ل ِذ َن ْب ِ َ ست َغْ ِ)) َوا ْ
نبيه أن يستغفر ربه لذنبه وللمؤمنين ،وهذه سنة النبياء فقد
خ َ
ل ن دَ َ م ْ وال ِد َيّ وَل ِ َ فْر ِلي وَل ِ َ ب اغ ْ ِ ذكر الله عن نوح أنه قالَ )) :ر ّ
ن ((]نوح [28:وعن إبراهيم أنه قالَ)) :رب َّنا مِني َ مؤ ْ ِمن َا ً وَل ِل ْ ُمؤ ْ ِ ي ُب َي ْت ِ َ
ب(( ]إبراهيم[41: سا ُ ح َم ال ْ ِ قو ُ م يَ ُ ن ي َوْ َمِني َ مؤ ْ ِوال ِد َيّ وَل ِل ْ ُ فْر ِلي وَل ِ َ اغ ْ ِ
وقد أثنى الله على الذين يستغفرون لخوانهم الذين سبقوهم
فْر ل ََنا ن َرب َّنا اغ ْ ِ قوُلو َ م يَ ُ ن ب َعْد ِه ِ ْ م ْ جاُءوا ِ ن َ ذي َ باليمانَ )) :وال ّ ِ
ن
ذي َ ل ِفي قُُلوب َِنا ِغّل ً ل ِل ّ ِ جعَ ْ ن َول ت َ ْ ما ِ لي َ
قوَنا ِبا ِ سب َ ُ ن َ ذي َ وان َِنا ال ّ ِخ َوَِل ِ ْ
م ((]الحشر ،[10:فينبغي أن يكون هذا حي ٌ ف َر ِ ك َرُءو ٌ مُنوا َرب َّنا إ ِن ّ َ آ َ
دأب المسلم فيستغفر ربه لنفسه ولخوانه المسلمين.
وقوله) :ونخاف عليهم( في المحسنين قال) :ول نأمن
عليهم( مع إحسانهم ،وهنا قال) :ونستغفر لمسيئهم ،ونخاف
عليهم ،ول نقنطهم( فنخاف على المسيئين من عقاب الله ،ول
نؤمنهم كحال المرجئة الذين يقولون) :ل يضر مع اليمان ذنب(،
ول نقنطهم كحال الخوارج الذين يقولون) :ل يرجى لهم مغفرة
ول رحمة ول يدخلون الجنة( ،وهذا مسلك أهل السنة رضي الله
عنهم ورحمهم فهم وسط بين هذه الفرق ،وسط في باب
السماء والصفات ،وسط في أفعال العباد ،وسط في أسماء
اليمان والدين ،وسط في أهل الكبائر ،وسط في الصحابة ،فكل
هذه العبارات تتضمن تقرير التوسط في أمر أهل الذنوب ،فل
نكفرهم ،ول نقول :ل يضر مع اليمان ذنب لمن عمله.
136
ْ ْ َ ن أ َهْ ـ ُ َ َ
ن* م ي َل ْعَب ُــو َحى وَهُ ـ ْ ضـ ً س ـَنا ُ م ب َأ ُن ي َـأت ِي َهُ ْق ـَرى أ ْ ل ال ْ ُ َ مـ
* أوَ أ ِ
ْ َ َ
ن (( س ـُرو َ خا ِ م ال ْ َق ـو ْ ُ مك ْـَر الل ّـهِ إ ِّل ال ْ َ ن َ م ُ مك ْـَر الل ّـهِ َفل ي َـأ َ مُنوا َ أفَ ـأ ِ
]العراف [99-97 :والمن من عذاب الله يتضمن التكذيب بوعيد
الله ،وهو مقتضى قول غلة المرجئة) :ل يضر مع اليمــان ذنــب(،
وهذا إذا كان عن اعتقاد أنه في مأمن من عذاب اللــه ،ل إن كــان
ناتجا عن غفلة ،كحــال كــثير مــن النــاس ،إذ لــو كــان يخــاف مــن
العذاب ويستحضره لوجب ذلــك خــوفه مــن اللــه ،وإقبــاله عليــه،
وقيامه بالواجبات ،واجتنابه للمحرمات ،فهذا ليس من المن الذي
جاء في شأنه الوعيد.
وضد المن من عذاب الله وبأسه ومكره ،اليــأس مـن رحمـة
الله ،والياس :هــو اليــأس ،وهــو ضــد الرجــاء ،وقــد قــال ســبحانه
ن (( كــافُِرو َ م ال َ قــوْ ُ ح الّلــهِ إ ِّل ال ْ َ ن َروْ ِ مــ ْ س ِ ه ل ي َي ْئ َ ُ وتعــالى )) :إ ِّنــ ُ
]يوسف [87:وقريب من معنى اليأس القنوط ،وهو أشــد اليــأس،
مــةِ َرّبــهِ ح َ ن َر ْ م ْط ِ قن َ ُ ن يَ ْم ْكما قال تعالى عن إبراهيم أنه قال)) :وَ َ
ن ((]الحجر.[56: ضاّلو َ إ ِّل ال ّ
والقنوط واليأس يتضمن إنكار التوبة ،وأن الله ل يتوب علــى
من تاب ،وفي هذا تكذيب لخبر الله أنه يتوب على التــائبين ،قــال
حا ً ((]الفرقــان،[70: صــال ِ َمَل ً َ ل عَ َ م َ ن وَع َ ِ م َ ب َوآ َ ن َتا َ م ْ تعالى )) :إ ِّل َ
جَهال َـةٍ ((]النســاء: ســوَء ب ِ َ ن ال ّ مل ُــو َن ي َعْ َ ذي َ ة ع ََلى الل ّهِ ل ِل ّ ِ ما الت ّوْب َ ُ)) إ ِن ّ َ
،[17وهذا هو مقتضى مذهب الخوارج ،فإن مــذهبهم يتضــمن أن
مرتكب الكبيرة يخرج عن السلم ،وأن مات على ذلــك مــن غيــر
توبة؛ فهو مخلد في النار كسائر الكفار ،وهذا تقنيط للعصــاة مــن
رحمة الله ،ولهذا قال الطحاوي) :والمن والياس ينقلن عن ملة
السلم( ومقتضى هذا أنهما ردة عن السلم ،ول شــك فــي كفــر
من قال :إن الله ل يتوب على مــن تــاب ،لمخالفــة وتكــذيب خــبر
الله سبحانه وتعالى في كتابه ،وخبر رسوله .r
ويلحظ أن المن غلو في الرجاء ،والياس غلو فــي الخــوف،
فالغلو في الخوف ينتهي إلى اليأس والتيئيس والتقنيط من رحمة
الله ،والغلو في الرجاء يفضي إلى المن مــن عــذاب اللــه؛ ولكــن
إذا كان هذا اليأس عارضا للنسان ليس عن اعتقاد؛ بل اســتعظم
ذنبه ،وخاف منه ،وبلغ به المر أنه ظن بجهله أنه ل يغفر له؛ فهذا
قد يعذر بــأنه يســيء الظــن بنفســه ،وأن اللــه ل يغفــر لــه لســوء
عمله؛ مثل الذي أمر أولده أن يحرقوه إذا مات لشدة خوفه مــن
عذاب الله ]رواه البخاري ) ،(3481ومسلم ) (2756مــن حــديث
أبي هريرة .[
137
)وسبيل الحق بينهما ( الصراط المستقيم بين المن واليأس،
فالواجب على العبد أن يكون خائفا راجيا ،فالرجــاء مــن مقامــات
من ُــوا نآ َ ذي َ ن ال ّـ ِ الــدين ،وممــا أثنــى اللــه بــه علــى المــؤمنين )) :إ ِ ّ
ة مـ َح َ ن َر ْ جــو َ ك ي َْر ُ ل الل ّـهِ أ ُوْل َئ ِ َ س ـِبي ِ
دوا فِــي َ جاهَ ـ ُجُروا وَ َ ن هَــا َ َوال ّـ ِ
ذي َ
همت َـ ُ ح َ ن َر ْ جــو َ الل ّهِ ((]البقرة ،[218:وقال ســبحانه وتعــالى )) :وَي َْر ُ
ه ((]السراء.[57: ذاب َ ُن عَ َ خاُفو َ وَي َ َ
والخوف من مقامات الدين ،واللــه أثنــى علــى أوليــائه بــأنهم
معَا ً ((]الســجدة،[16: خوْفَا ً وَط َ َ
م َ ن َرب ّهُ ْ عو َ يخافونه ويرجونه )) :ي َد ْ ُ
عون ََنا َرغ َب َـا ً ت وَي َـد ْ ُ خي ْـَرا ِ ن فِــي ال ْ َ عو َ سارِ ُ وقال سبحانه وتعالى )) :ي ُ َ
ن ّ ُ
وََرهََبــا ً ((]النبيــاء ،[90:وقــال ســبحانه وتعــالى )) :أوْلئ ِ َ
َ
ذي َك الــ ِ
ة أ َيهـ َ
همت َـ ُح َ ن َر ْ جــو َ ب وَي َْر ُ م أقْـَر ُ ســيل َ َ ّ ُ ْ م ال ْوَ ِ ن إ ِل َــى َرب ّهِـ ُ ن ي َب ْت َُغو َعو َي َد ْ ُ
ه ((]السراء [57:فهذا هو الصراط المســتقيم فــي ذاب َ ُن عَ َ خاُفو َ وَي َ َ
هذا المقام فل أمن ول يأس.
والمــور المقتضــية للعمــل ثلثــة أمــور :المحبــة ،والرجــاء،
والخوف ،فالرسل وأتباعهم يعبدون ربهــم حبــا لــه تعــالى ،ورجــاء
لرحمته وفضله وثوابه ،وخوفا من سخطه وعقابه ،فيعبــدونه بكــل
هذه الحوال والمقامات.
أمــا أهــل الضــلل فمنهــم مــن يعبــده بــالحب فقــط؛ كجهلــة
الصوفية وغلِتهم ،ويستخفون بمقام الرجاء والخوف.
ومنهــم مــن يعبــده بالرجــاء كــالمرجئة ،ومنهــم مــن يعبــده
بالمبالغة في الخوف كالخوراج ،ولهذا قال بعض أهل العلم) :مــن
عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ،ومن عبده بالرجـاء وحــده فهــو
مرجئ ،ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ،ومن عبده بــالحب
والخوف والرجــاء فهــو مــؤمن موحــد( ]التحفــة العراقيــة 10/81
والعبودية [10/207من كانت عبادته لربه فقط بــالحب ل يخــاف
ول يرجو ،فهذا ضد طريق الرســل ،فــالله ذكــر أســماَءه وصــفاِته
المقتضية للرجاء والخوف ،وأثنى على رسله بالرجاء والخوف.
و)حروري( أي :من الخوارج) ،ومــن عبــده بــالحب والخــوف
والرجاء فهو مؤمن موحد( لن هذا هو الصراط المستقيم في هذا
دل الرجاء، المقام ،ل أمن ول إياس ،بل خوف ورجاء ،فالخوف ي ُعَ ّ
دل الخوف. والرجاء ي ُعَ ّ
فالواجب على النسان أن يسير إلى الله في هذه الحياة بين
الخوف والرجاء ،فيرجو ويخاف ،وفي الثر ) :ل يرجو عبد إل ربه،
ول يخاف إل ذنبه ( ]قاله علي .رواه العدني في اليمان رقم )
،(19وأبو نعيم في الحلية ،1/76وابن عبد البر في جامع العلــوم
والحكــم ،1/90وانظــر شــرح هــذا الثــر فــي مجمــوع الفتــاوى
.[8/161
138
]ما يخرج به المسلم من اليمان[
وقوله) :ول َيخرج العبد ُ من اليمان إل بجحود ما أدخله فيه(.
أي :ل يصير كافرا مرتدا بعد أن صار مسلما مؤمنا إل بجحــود
ما أدخلــه فيــه ،وهــذه الجملــة خطيــرة جــدا؛ لن النســان يــدخل
السلم بالشهادتين :شهادة أن ل إله إل اللــه وأن محمــدا رســول
الله ،فالكافر إذا شهد أن ل إله إل الله ،وأن محمدا رســول اللــه،
ظاهرا وباطنــا ،صــار مســلما؛ فــإن شــهد بهــا بلســانه فقــط فهــو
منافق ،وإن شــهد بهـا فـي بـاطنه دون ظـاهره فهـو جاحـد ،قـال
ن (( دو َ
ح ُ ج َت الل ّهِ ي َ ْ ن ِبآَيا ِ
مي َ ن ال ّ
ظال ِ ِ ك وَل َك ِ ّ
م ل ي ُك َذ ُّبون َ َ
تعالى )) :فَإ ِن ّهُ ْ
م َ
س ـه ُ ْ
ف ُقن َت َْها أن ْ ُ
س ـت َي ْ َ
دوا ب ِهَــا َوا ْ حـ ُ
ج َ
]النعام ،[33:وقــال تعــالى )) :وَ َ
م ـا ً وَع ُل ُـوّا ً ((]النمــل [14:فل بــد أن يشــهد الشــهادتين ظــاهرا ظ ُل ْ َ
وباطنا ،عن علم وانقياد وإقرار ،بذلك يدخل في السلم حقيقة.
فقوله) :إل بجحود ما أدخله فيــه( معنــى ذلــك أن ينكــر تفــرد
الله باللهية ،فيصير بها مشركا ،أو ينكر رســالة الرســول إلــى
مكذبا للرسول ،هذا معنى هذه الجملة. جميع الناس ،فيصير ُ
فإذا كان يخرج عن السلم بجحود التوحيد أو جحود الرسالة،
فلن يخرج عن السلم بالتكذيب أو الشك أولــى ،وعلــى هــذا فل
يخرج عن السلم إل بالتكذيب ،أو الشك في الباطن ،أو بــالجحود
سواًء مع تكذيب وشك أو مع تصديق.
ويمكن أن يقال :إن هذه العبارة تقتضي أنه ل يكفر بأي فعل
بعد ذلك إذا لم يجحد ،وهذا ل يستقيم؛ بل من تكلم بما هــو كفــر؛
فإنه يكفر ولو لم يجحد؛ كمن يســتهزئ بالرســول مــع إقــراره
برسالته؛ فهل يقال :إنه جحد الرسالة؟ ل ،ومــن ذبــح لغيــر اللــه؛
فإنه يكفر ،ولو قال :ل إله إل الله وأن الله هو الله الحق الــذي ل
يستحق العبادة سواه ،فهذا غير جاحد ،فكفره بالفعل ،وقد ســبق
]ص[ أن الكفر يكون قول وفعل واعتقــادا ،فهــذه العبــارة ل تصــح
على هذا الطلق؛ فإنه حصر الحكم بالكفر بالجحود ،وهي تساوي
قولك :ل يكفر المسلم إل بالجحود .والله أعلم.
139
وهــو عمــل القلــب ،وعمــل الجــوارح ،فاليمــان يشــمل كــل هــذه
الجوانب ،وهذا هو الذي دلــت عليــه النصــوص ،قــال اللــه تعــالى:
ت ذا ت ُل ِي َـ ْم وَإ ِ َت قُل ُــوب ُهُ ْ جل َـ ْ ه وَ ِ ذا ذ ُك ِـَر الل ّـ ُ ن إِ َ ذي َن ال ّـ ِ من ُــو َ مؤ ْ ِما ال ْ ُ )) إ ِن ّ َ
ن ((]النفــال،[2: ُ
م ي َت َوَك ّلــو َ َ ً
مان َـا وَع َلــى َرب ّهِـ ْ م ِإي َ ه َزاد َت ْهُـ ْم آيــات ُ ُ ع َل َي ْهِ ْ
وقال الله في الصلة التي صلها المسـلمون إلـى بيـت المقـدس
ع
ضــي َ ه ل ِي ُ ِ ن الّلــ ُ كــا َ مــا َ ومــات مــن مــات قبــل نســخ القبلــة )) :وَ َ
م ((]البقرة [143:إي :صلتكم إلــى بيــت المقــدس ،وعقــد مان َك ُ ْ ِإي َ
البخاري ـ رحمه الله ـ أبوابا عديدة فــي كتــاب اليمــان ت َْرجــم بهـا
لمختلف العمال :باب :الجهاد مــن اليمــان [1/16] ،بــاب :صــوم
رمضان احتســابا مــن اليمــان [1/16] ،بــاب :اتبــاع الجنــائز مــن
اليمــان[1/18]،بــاب :أداء الخمــس مــن اليمــان ] ،[1/20ومــن
الحاديث الجامعة قول النبي ) :اليمان بضع وســبعون أو بضــع
وستون شعبة(].رواه البخاري ) ،(9ومسلم ) (35ـ واللفــظ لــه ـ ـ
من حديث أبي هريرة .[فالصلة والصــيام والحــج والجهــاد وبــر
الوالدين والمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اليمــان ،وقــال
النبي ) :من رأى منكم منكرا فليغيــره بيــده فــإن لــم يســتطع
فبلسانه ،فــإن لــم يســتطع فبقلبــه وذلــك أضــعف اليمــان(].رواه
مسلم ) (49من حديث أبي سعيد الخدري [
ومسألة مسمى اليمان مسالة كبيرة ،وقد خالف أهل الســنة
والجماعة طوائف المرجئة ،فمنهم مرجئة الفقهاء وهم الذين ذكر
الطحــاوي مــذهبهم :أن اليمــان هــو» :تصــديق القلــب وإقــرار
اللسان« ،وبعضهم يجعل اليمان هو» :تصديق القلب« ،والقــرار
شرط فيه ،وليس من مسماه ،فل يصــح إيمــان القلــب إل بــإقرار
اللسان.
والقول الخر قول الجهمية ومن تبعهم» :اليمــان هــو مجــرد ُ
ة والتصــديقُ فــي نظــري ة« ،والمعرف ـ ُ ق أو مجــرد المعرف ـ ِ التصدي ِ
محصلهما متقارب ،فعلى تقريرهم :إذا كــان المكلــف يعــرف ربــه
فهو مــؤمن ،والكفــر هــو جحــود الخــالق ،فأمـا القــرار بالنســان،
وعمل الجوارح ،وعمل القلب؛ فالكل ليس مــن مســمى اليمــان،
وهذا يقتضي أن كل طوائف الكفر مؤمنون؛ لنهــم يعرفــون اللــه،
َ
خَلــ َ
ق ن َ مــ ْ م َ ســأل ْت َهُ ْ ن َ حــتى كفــار قريــش ،قــال تعــالى )) :وَل َئ ِ ْ
َ
ه ((]لقمان ،[25:وأخبر الله عن عادٍ ن الل ّ ُ قول ُ ّض ل َي َ ُ
ت َوالْر َ وا ِ م َ س َ ال ّ
ة ((]فصــلت،[14: ملئ ِك َـ ً َ
شــاَء َرب ّن َــا َلنـَز َ وثمود َ أنهم قالوا )) :ل َوْ َ
ل َ
ة ((]المؤمنــون،[24: ملئ ِك َ ً لنَز َ شاَء الل ّه َ َ وقوم نوح قالوا )) :ول َوْ َ
ل َ ُ
إلى غير ذلك ،فهذا أفسد أقوال الناس في مسمى اليمان.
ومن القوال الباطلة قول الكرامية :أن اليمان هو» :القــرار
باللسان« ،فالمنافق عندهم مؤمن ،لكنه إذا مات فهو مخلــد فــي
140
النار ،يقول شيخ السلم ـ رحمه الله ـ تعليقا على هذا» :فخالفوا
الجماعة في السم دون الحكم« ]التدمريــة ص ،[462فالمنــافق
عند المسلمين ليس بمؤمن؛ لنه يبطن التكذيب والشــك والبــاء،
مــا
خ ـرِ وَ َمّنا ِبالل ّهِ وَِبال ْي َوْم ِ ال ِلآ َ قو ُن يَ ُم ْس َ ن الّنا ِ
م َقال تعالى )) :وَ ِ
ن ((]البقرة [8:ويقول شيخ السلم عن قولهم ) :قول مؤ ْ ِ
مِني َ م بِ ُ
هُ ْ
منكر لم يسبقهم إليه أحد( ]الموضع السابق[
لم هــذه القــوا ِ فهذه أربعة مذاهب في مسمى اليمان ،وأه ـ ُ
ل مــرجئة الفقهــاء :اليمــان هــو »:التصــديق ،وإقــرار المخالفةِ قو ُ
اللســان« ،وأن العمــال ليســت مــن اليمــان ،ولهــم علــى ذلــك
شــبهات كــثيرة ،وقــد أجــاب عنهــا شــيخ الســلم ابــن تيميــة فــي
»اليمان الكبير« و»اليمان الوسط« وغيرهما.
والمقصود :أنه قـول مخـالف لمـا دل عليــه القــرآن ،والســنة
الصحيحة أن اليمان اسم لكل أمــور الــدين :العتقاديــة والعمليــة
والقولية ،كما في الحديث) :اليمان بضــع وســتون شــعبة( ]تقــدم
ص[ ،وإن كــان مــا فــي القلــب أصــل لعمــال الجــوارح كمــا فــي
الحديث الصحيح عــن النــبي ) :أل وإن فــي الجســد مضــغة :إذا
صَلحت صَلح الجسد كُله وإذا فسدت فســد الجســد كل ُــه أل وهــي
القلــب( (].رواه البخــاري ) ،(52ومســلم ) (1599مــن حــديث
النعمان بن بشير رضي الله عنهما[ .فالجوارح تابعة للقلب صلحا
وفسادا ،وهو بالنسبة لها بمثابة الملك مع جنوه.
ومن شبهات المــرجئة قــولهم :إن اليمــان معنــاه فــي اللغــة
العربية :التصديق.
وقد رد ذلك ابن تيمية ]اليمان الكبير [7/289بوجوه كثيرة،
منها:
أنه ليــس كــذلك فــي اللغــة العربيــة؛ بــل اليمــان أخــص مــن
مطلق التصديق ،وهو اليمــان بــالمر الغــائب الــذي يــؤتمن عليــه
ت لـك ،بـل المخِبر ،فل تقول لمن قال لك :طلعت الشــمس :آمنـ ُ
صدقُتك ،لكن من أخبرك بــأمر ل تــدركه ول تعرفــه بحســك نعــم،
َ
ن (( ن ل ََنا وَل َوْ ك ُّنــا َ
صــاد ِِقي َ م ٍمؤ ْ ِ
ت بِ ُ
ما أن ْ َكما قال إخوة يوسف )) :وَ َ
ق ،لكــن ليــس ك ـ ُ
ل ن في اللغة العربية تصــدي ٌ ]يوسف [17:فاليما ُ
ق يكون إيمانا. تصدي ٍ
وهكــذا بالنســبة للســتعمال ،فـــ)آمــن( يتعــدى بــاللم وبالبــاء
من بــه ،وآمنــت لــه تقول :آمنت بــه ،هــذا بالنســبة للخــبر أو المــؤ َ
دقه، صــ ّ
دق( فإنه يتعدى بنفسه ،فتقولَ : ص ّ
بالنسبة للمخِبر ,وأما ) َ
فهو يختلف عن اليمان من جهة اللفــظ والســتعمال ،ومــن جهــة
المعنى والمضمون ،وسيأتي لهذا مزيد بحث عنــد قــول المؤلــف:
)واليمان واحد وأهله في أصله سواء(].ص[
141
]وجوب اليمان والعمل بكل ما صح عن النبي [
وقوله) :وجميع ما صح عن رسول الله من الشرع والبيان
كله حق(.
أي :مــا رواه الثقــات العــدول حســب قواعــد أهــل الحــديث؛
فالروايــات عــن الرســول مرويــة بالســانيد ،وهــي قســمان:
متواتر ،وآحاد] .روضة الناظر ،1/347ونزهة النظر ص [37
فالمتواتر :هو الذي يرويه عــدد كــثير تحيــل العــادة تواطــؤهم
على الكذب ،عن مثلهم إلى أن يبلغ النبي .
والحاد هو :ما يروى بأسانيد معــدودة ،وقســمه العلمــاء إلــى
مشهور وعزيز وغريب.
لكن القسمة العامة :متواتر وآحاد.
أما المتواتر فكل الطوائف متفقة على ثبوته.
والحاد تنقسم إلى:صحيح ،وحسن ،وضعيف.
أمــا الضــعيف فهــو مــردود ل يعتمــد عليــه ،لكــن الشــأن فــي
المقبول الذي يشمل الصحيح والحســن ،فأهــل الســنة والجماعــة
يقبلون ما توافرت فيه شروط القبول ،ولو كان واحدًا ،في جميــع
أمور الدين ،في المور العتقادية؛ كصفات الرب سبحانه وتعالى،
وأفعاله ،أو ما يتعلق باليوم الخر ،وفــي المــور العمليــة؛ كأحكــام
الطهارة والصلة والزكاة والمعاملت.
وهــذه قضــية أصــولية عقديــة ،وهــي :حجيــة خــبر الواحــد،
والصــواب :أن خــبر الواحــد حجــة فــي مســائل الــدين العتقاديــة
والعملية ،والدلة على قبول خبر الحاد كثيرة في السنة ،منها :أن
دا].انظر :الرســالة ص ، 401 الرسول كان يرسل الرسل آحا ً
وصحيح البخاري ،9/86ومختصر الصواعق [4/1465
وعند أهل البدع من المتكلمين :أن خبر الواحد ل يحتج به في
العقائد ،فيردون كثيرا من النصوص الواردة في صفات الله تعالى
بحجة أنها خبر آحاد.
والتفريــق بيــن مســائل العتقــاد ومســائل العمــل مــن حيــث
الثبات بدعة ،فكل مسائل الدين ما ثبت به هذا ثبت به ذاك ،فمــا
تثبــت بــه الحكــام الشــرعية الحلل والحــرام تثبــت بــه مســائل
العتقاد ،ثم إن أهل البدع ليــس مقصــودهم فقــط الحتيــاط فــي
الثبــوت ،إنمــا مقصــودهم رد النصــوص المخالفــة لصــولهم ،فمــا
استطاعوا رده ردوه بقــولهم :إن هــذه آحــاد ل تثبــت بهــا مســائل
العتقاد؛ لكن إذا جاء متواتًرا فماذا يصنعون؟
يقولون :نعم .هذا قطعي الثبوت؛ لكن نفس النصــوص ظنيــة
الدللة ،ويقولون :إن مسائل العتقاد ل تثبت بالدلة اللفظية!
142
والدلة السمعية :اليات والحاديث كلها أدلة لفظية في مقابل
الدلة العقلية ،وعندهم :إن العقائد ل تثبت إل بالدلئل العقلية،
هذا هو الصل الفاسد والطاغوت الكبر الذي أفضى بهم إلى
التلعب بكلم الله تعالى ،وكلم رسوله ،وإلى رد كثير من
كلم الرسول وأخباره ،فردوا نصوص الصفات ،ونفوا الصفات
بالشبهات العقلية التي هي بزعمهم حجج ،ولهذا يقول شيخ
السلم فيهم » :ولكنهم من أهل المجهولت المشبهة
بالمعقولت ،يسفسطون في العقليات ،ويقرمطون في
السمعيات«] .التدمرية ص [94
فلما أصلوا نفي الصفات وقفوا من النصوص أحد ثلثة
مواقف:
الول :الرد لما قدروا على رده؛ كأخبار الحــاد قــالوا :هــذه ل
تثبت بها العقائد.
الموقــف الثــاني :التأويــل لمــا ل يســتطيعون رده؛ كــالقرآن،
فسلكوا فيــه طريــق التأويــل ،وهــو صــرف ألفــاظ النصــوص عــن
ظاهرها.
والثالث :مسلك التفويض ،وهو إمــرار النصــوص ألفاظــا مــن
غير فهم لمعناها ومراد الله منها؛ بل إمرارها ألفاظــا دون توقــف
في تدبرها ،وفهم دللتها.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما أخــبر اللــه تعــالى بــه،
ورسوله ،من الشرع والبيــان ،وهــو يشــمل :مســائل العتقــاد،
ومسائل الحكام ،فكلها حق من عند الله.
143
ن ن ك َــا َ ل إِ ْ وبغض شــديد ،وحــب وحــب شــديد ،قــال تعــالى )) :قُـ ْ
َ َ َ
ل وا ٌ مـــ َ م وَأ ْ شـــيَرت ُك ُ ْ م وَع َ ِ جك ُـــ ْ م وَأْزَوا ُ وان ُك ُ ْ خـــ َم وَإ ِ ْ م وَأب ْن َـــاؤ ُك ُ ْ آب َـــاؤ ُك ُ ْ
َ
م ب إ ِل َي ْك ُ ْ ح ّضوْن ََها أ َ ن ت َْر َ ساك ِ ُ م َ ها وَ َ ساد َ َ ن كَ َ شوْ َ خ َ جاَرة ٌ ت َ ْ ها وَت ِ َ مو َ اقْت ََرفْت ُ ُ
سول ِهِ ((]التوبة ،[24:وقال النبي ) :ل يؤمن أحدكم ن الل ّهِ وََر ُ م َ ِ
حتى أكون أحب إليه من ولــده ووالــده والنــاس أجمعيــن( ]تقــدم
ص[ ،فهو أمر محسوس ل يستطيع المنصف العاقل أن ينكــره أو
أن يتجاهله.
أمــا أعمــال الجــوارح فالزيــادة فيهــا والنقــص ظــاهر للعيــان،
ل ن قَــا َ ذي َ واليات الدالة على الزيادة كثيرة؛ كقــوله ســبحانه)) :ال ّـ ِ
مان ـًا(( م ِإي َ م فََزاد َهُ ـ ْ ش ـوْهُ ْ خ َ م َفا ْ مُعوا ْ ل َك ُ ْ ج َ س قَد ْ َ ن الّنا َ س إِ ّ م الّنا ُ ل َهُ ُ
ماَنــا ً (( م ِإي َ ه َزاد َت ُْهــ ْ م آيــات ُ ُ ت ع َل َي ِْهــ ْ ذا ت ُل َِيــ ْ ]آل عمــران )) ،[173:وَإ ِ َ
داد َ م ((]الفتــح )) ،[4:وَي َـْز َ مان ِهِ ْمعَ ِإي َ مان َا ً َ دوا ِإي َ دا ُ]النفال )) ،[2:ل ِي َْز َ
ّ َ
م من ُــوا فََزاد َت ْهُ ـ ْ نآ َ ذي َ مــا ال ـ ِ مان َا ً ((]المــدثر )) ،[31:فَأ ّ مُنوا ِإي َ نآ َ ذي َال ّ ِ
ن ((]التوبة.[124: شُرو َ ست َب ْ ِ م يَ ْ مان َا ً وَهُ ْ ِإي َ
144
وعلى قولهم :يكون إيمان أفسق النــاس الــذي معــه اليمــان
وإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما سواء!
وقــوله) :والتفاضــل بينهــم فــي الخشــية والتقــى ،ومخالفــة
لولى( الهوى ،وملزمة ا َ
ن
مـ ْ ه ِشــى الل ّـ َ خ َ مــا ي َ ْأي :الخشية من الله ،قــال تعــالى )) :إ ِن ّ َ
شـــوِْني (( خ َ م َوا ْ شـــوْهُ ْ خ َ مـــاُء ((]فـــاطرَ )) ،[28:فل ت َ ْ عب َـــاد ِهِ ال ْعُل َ َ ِ
]البقرة.[150:
و)التقى( التقوى ،وهي :أن يجعل العبد بينه وبين غضب اللــه
وعقابه وقاية بفعل أمره وترك معصيته.
ن َ
م ْ ما َ ة لله ورسوله ،قال تعالى )) :وَأ ّ و)مخالفة الهوى( طاع ً
وى ((]النازعــات،[40: ن ال ْهَ ـ َ س عَ ـ ِ فـ َ م َرب ّـهِ وَن َهَــى الن ّ ْ قــا َ م َ ف َ خــا َ َ
َ َ
وى واه ُ ((]الفرقــانَ )) ،[43:ول ت َت ّب ِـِع ال ْهَ ـ َ ه هَ َخذ َ إ ِل َهَ ُ ن ات ّ َ م ِ ت َ )) أَرأي ْ َ
ك َ
جيُبوا ل ـ َ س ـت َ ِم يَ ْ ن لـ َْ ل الل ـهِ ((]ص )) ،[26:فَـإ ِ ْ ّ س ـِبي ِ ن َ ك ع َـ ْ ض ـل ّ َفَي ُ ِ
َ َ َ
دى هــ ً واه ُ ب ِغَْيــرِ ُ ن ات ّب َعَ هَ َ م ِم ّ ل ِ ض ّ نأ َ م ْ
م وَ َ واَءهُ ْ ن أهْ َ ما ي َت ّب ُِعو َ م أن ّ َ َفاع ْل َ ْ
ن ((]القصص.[50: مي َ م ال ّ
ظال ِ ِ قو ْ َدي ال ْ َ ه ل ي َهْ ِ ن الل ّ َ ن الل ّهِ إ ِ ّ م َ ِ
و)ملزمة الولى( المحافظة على ما هو الولــى بــه ،هــذا هــو َ
مجال التفاضل عندهم ،أما اليمان الذي هو التصديق فليــس فيــه
تفاضل ول زيادة ول نقص ،وبهذا يعلم أن الخلف بين أهل الســنة
والمرجئة ليس خلفا لفظيا؛ لن الخلف اللفظــي يقــال :ل خلف
فيه.
كيــف يكــون الخلف لفظيــا وتبــذل فيــه هــذه الجهــود مــن
المؤلفات ،وتقرير الدلئل ،ورد الشبهات ،ويشتد النكار على مــن
اخرج العمال عن مسمى اليمان ؟!
ل ،ليس الخلف لفظيا؛ بل هو حقيقــي ،ترتــب عليــه :مسـألة
زيادة اليمان ونقصانه ،ومسألة الستثناء في اليمان.
145
أولياء الله إجمال طبقتان] :الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء
الشيطان [11/176
مقربون ،ومقتصدون.
فـــالمقربون :هـــم الـــذين يفعلـــون الفـــرائض والنوافـــل
والمســـتحبات ،ويجتنبـــون المحرمـــات والمكروهـــات وفضـــول
المباحات ،وهم المسارعون في الخيرات.
والمقتصدون :هم الذين يؤدون الفرائض ويجتنبون المحــارم،
وليس لهم تميز في النوافل ،وليــس معنــى ذلــك أنهــم ل يفعلــون
شيئا مع النوافل.
ه ّ
فالمؤمنون هم أولياء الله ،وهو وليهم ،قــال تعــالىَ )) :والل ـ ُ
ن ((]آل عمران ،[68:والكافرون والمنافقون أعداؤه مِني َ ي ال ْ ُ
مؤ ْ ِ وَل ِ ّ
ن ((]البقــرة: ري َه ع َـد ُوّ ل ِل ْك َــافِ ِ ن الل ّـ َ وهو عدوهم ،قال تعالى )) :فَـإ ِ ّ
.[98
وقوله) :وأكرم أولياء الله أطوعهم( أكرم أولياء الله عند الله
هو :أطوعهم لله تعالى ولرســوله ) ،أطــوعهم( أفعــل تفضــيل،
أي :أكملهم طاعة وامتثال للوامر ،واجتنابا للمنهيات.
وقوله) :وأتبعهم للقرآن( هذا من التنويع في التعبير؛ لن مــن
كان أطوع فهو أتبع ،ومن كان أتبع فهو أطوع ،ول طاعة إل باتبــاع
م (( عْنــد َ الّلــهِ أ َت ْ َ
قــاك ُ ْ م ِ كــ ْم ُن أك َْر َ
القــرآن ،قــال اللــه تعــالى )) :إ َ
ِ ّ
]الحجرات [13:فالمؤمنون متفاضــلون تفاضــل ل يعلمــه إل اللــه،
فالنبيــاء بعضــهم أفضــل مــن بعــض ،والصــديقون متفاضــلون،
والشهداء متفاضلون.
واتباع القرآن يكون بامتثال ما فيه من الوامــر ،واجتــاب مــا
فيه من المناهي ،واليمان بكل ما فيه من الخبار مما يتعلق بالله
وأسمائه وصفاته ،أو بما كان وما سيكون ،والله تعالى ذكر التباع
قى ((]طــه،[123: ش َ ل وََل ي َ ْ ض ّ دايَ فََل ي َ ِ ن ات ّب َعَ هُ َ م ِ في مواضع )) :فَ َ
َ ما ُأنزِ َ
مادون ِهِ أوْل َِياء قَِليل ً ّ من ُ م وَل َ ت َت ّب ُِعوا ْ ِ من ّرب ّك ُ ْ كم ّ ل إ ِل َي ْ ُ ))ات ّب ُِعوا ْ َ
ن(( ]العراف [3:فأمر الله باتباع القرآن ،واتبــاع الرســول: ت َذ َك ُّرو َ
ن ((]العراف [158:فل رأي لحــد مــع مــا دو َ م ت َهْت َ ُ )) َوات ّب ُِعوه ُ ل َعَل ّك ُ ْ
جاء في القرآن ،ول رأي لحد مع بيان الرســول ؛ بــل يجــب أن
يكون العبد تابعــا لكتــاب اللــه تعــالى ،وســنة رســوله ،ل يقــدم
عليهما هوىً ول رأيا.
146
فسر الطحاوي اليمان في هذا الموضع بما فســره بـه النــبي
،فـي حـديث جبريـل ]تقــدم ص[ ،فهـذه الصــول السـتة هــي:
أركــان اليمــان ،أو أصــوله ،أو أصــول العتقــاد :اليمــان بــالله،
واليمان بالملئكة ,واليمان بالكتب ,واليمــان بالرســل ,واليمــان
باليوم الخر ,واليمان بالقدر ،وهذا هو اليمــان بــالمعنى الخــاص،
فإن اليمان ُيطلق إطلقين:
إطلقا عاما يشمل جميع أمور الدين العلميــة والعمليــة ،فهــو
اعتقــاد ،وقــول ،وعمــل ،قــول القلــب واللســان ،وعمــل القلــب
واللسان والجوارح.
ويطلق إطلقا خاصا ويراد به هذا الصول الستة.
وهذا هو مــا يفســر بــه اليمــان إذا قــرن بالســلم ،كمــا فــي
حديث جبريل حينما ســأله عــن الســلم ،ثــم ســأله عــن اليمــان،
ففسر السلم بمبانيه الخمــس ،وفســر اليمــان بأصــوله الســت،
وقال الطحاوي فيما تقدم) :اليمان هو القرار باللسان والتصديق
بالجنان( ]ص[ ،وهنا قال) :اليمان هو اليمان بالله (...فيما تقدم
أراد أن يــبين مســمى اليمــان ،وأنــه يكــون بتصــديق بــالقلب
وبالقرار ،وهنا أراد أن يفسر اليمان ببيان ما يتعلق به فالتصديق
بالجنان والقرار باللسان ،بأي شــيء؟ فكــأنه يقــول :اليمــان هــو
التصديق بالجنــان والقــرار باللســان بهــذه المــور الســتة ،وهــذه
الصول الستة هي أصــول اعتقــاد أهــل الســنة ،ولهــذا قــال شــيخ
السلم ابن تيمية في مطلع العقيــدة الواســطية » :فهــذا اعتقــاد
الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة ـ أهل السنة والجماعة
ـ :اليمان بالله وملئكته ورســله والبعــث بعــد المــوت ،واليمــان
بالقدر خيره وشره « ]الواسطية ص ،[21فاليمان بهذه الصول
إجمال فــرض عيــن علــى كــل مكلــف ،أمــا اليمــان والعلــم بهــذه
الصول تفصيل فهو من فروض الكفاية؛ لكن من علم بشيء مــن
علم التفصيل؛ وجب عليه اليمان به ،وهذا الكلم فيه تكــرار؛ لن
الطحاوي ـ رحمه الله ــ ذكــر الصــول الثلثــة فيمــا تقــدم بقــوله:
)ونــؤمن بالملئكــة ،والنــبيين ،والكتــب المنزلــة علــى المرســلين(
]ص[ وسبق الكلم على هــذه الصــول الثلثــة :الملئكــة والكتــب
والرسل هناك ،وتقدم ما يتعلق باليمان بالله عند قوله ) :إن الله
واحد ل شريك له( ]ص[.
وأما اليمان باليوم الخر ،فهــو الصــل الخــامس مــن أصــول
صــل الخــبر عنــه تفصــيل اليمــان ،وقــد ذكــره اللــه فــي كتــابه وف ّ
عظيما ،لم يتقدم مثله في كتاب من كتب الله المنزلة ،فذكر الله
اليمان باليوم الخر على ســبيل الجمــال ،كمــا فــي قــوله تعــالى
بملئ ِك َـةِ َوال ْك ِت َــا ِ
خ ـرِ َوال ْ َن ب ِــالل ّهِ َوال ْي َـوْم ِ ال ِ
مـ َ
نآ َ ن ال ْب ِـّر َ
مـ ْ }وَل َك ِـ ّ
147
مل َئ ِك َت ِـهِ وَك ُت ُب ِـ ِ
ه مــن ي َك ْفُـْر ب ِــالل ّهِ وَ َ ن (( ]البقــرة )) ،[177:وَ َ َوالن ّب ِّييـ َ
دا(( ]النساء.[136: ضل َل ً ب َِعي ً ل َ ض ّ قد ْ َ خرِ فَ َ سل ِهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ وَُر ُ
أما التفصيل؛ فكثير جدا؛ فســورة الواقعــة والحاقــة والتكــوير
والنفطار والنشقاق والزلزلة والقارعــة كلهــا فــي شــأن القيامــة
وما يجري في ذلك اليوم من التغيــرات والتحــولت ،ولهــذا اليــوم
أســماء متعــددة :يــوم القيامــة ،والحاقــة ،والغاشــية ،والصــاخة،
والطامة الكبرى ،ويوم الحساب ،ويـوم النشـور ،والسـاعة ،ويـوم
الدين.
ويدخل في اليمان باليوم الخر :اليمان بكل ما أخبر الله بــه
ورسوله بعد الموت ،من فتنــة القــبر وعــذاب القــبر ،واليمــان
بالقيامة الكبرى ،والمراد بهــا :قيــام النــاس مــن قبــورهم وبعثهــم
صــيُر * م ِ ت وَإ ِل َي ْن َــا ال ْ َ مي ـ ُ حي ِــي وَن ُ ِ ن نُ ْ حـ ُ ونشرهم ،قال تعالى )) :إ ِّنا ن َ ْ
ســيٌر ((]ق-43: شٌر ع َلي ْن َــا ي َ ِ َ ح ْ ك َ ً
سَراع َا ذ َل ِ َ م ِ َ م تَ َ
ض ع َن ْهُ ْ ققُ الْر ُ ش ّ ي َوْ َ
م ،[44ومن الخبر المفصل عن اليوم الخـر قـوله تعــالى )) :وََيـوْ َ
مُلــوا َ
مُنــوا وَع َ ِ نآ َ ذي َ مــا اّلــ ِ ن * فَأ ّ فّرُقــو َ مئ ِذ ٍ ي َت َ َ ة َيــوْ َ ســاع َ ُ م ال ّ قــو ُ تَ ُ
فـُروا وَ َ ن كَ َ ّ َ
كـذ ُّبوا ذي َ مــا الـ ِ ن * وَأ ّ حب َـُرو َ ض ـة ٍ ي ُ ْ م ِفي َروْ َ ت فَهُ ْ حا ِ صال ِ َ ال ّ
ن ((]الــروم-14: ك ِفي ال ْعَ ـ َ ُ
خَرةِ فَأوْل َئ ِ َ
ض ـُرو َ ح َ م ْ ب ُ ذا ِ قاِء ال ِ ِبآَيات َِنا وَل ِ َ
م ـةِ َفل قَيا َ ط ل ِي َـوْم ِ ال ْ ِ سـ َ ق ْ ن ال ْ ِ واِزي َ مـ َ ض ـعُ ال ْ َ [16وقوله تعالى )) :وَن َ َ
َ
فى ب َِنا ل أت َي َْنا ب َِها وَك َ َ خْرد َ ٍ ن َ م ْ حب ّةٍ ِ ل َ قا َ مث ْ َ ن ِ كا َ ن َ شي ْئ َا ً وَإ ِ ْ س َ ف ٌ م نَ ْ ت ُظ ْل َ ُ
ن ((]النبياء. [47: سِبي َ حا ِ َ
ومن أهم ما يجب اليمان به من أمر اليوم الخر هــو اليمــان
بالبعث ،والجنة والنار؛ لن البعث هو الذي أنكره الكفار مــن عهــد
نــوح إلــى عهــد محمــد ول يــؤمن بــه إل المنتســبون إلــى ديــن
الرسل ،كاليهود والنصارى؛ لكن اعتقادهم للبعث فيه خلــل؛ لكــن
بعــث النــاس مــن قبــورهم هــذا قــدر مشــترك ،يــؤمن بــه جميــع
المســلمين ،ول ينكــره إل الخــارجون عــن أديــان الرســل ،ولهــذا
المكــذبون للرســل مكــذبون بــاليوم الخــر ،قــال تعــالى )) :ق
ل ال ْ َ َ
نكافُِرو َ قا َ م فَ َ من ْهُ ْ من ْذ ٌِر ِ م ُ جاَءهُ ْ ن َ جُبوا أ ْ ل عَ ِ جيد ِ * ب َ ْ م ِ ن ال ْ َ قْرآ ِ َوال ْ ُ
جعٌ ب َِعيــد ٌ ((]ق،[3-1: ك َر ْ مت َْنا وَك ُّنا ت َُراب َا ً ذ َل ِ َ ذا ِ ب * أ َإ ِ َ جي ٌ يٌء ع َ ِ ش ْ ذا َ هَ َ
ثم جاء الرد عليهم فــي نفـس السـورة فالسـورة مـن أولهـا إلــى
آخرها في شأن القيامة ،وهذا المعنى ث ُّني في القرآن كثيرا ،وأمر
ن م ال ّ ِ
ذي َ الله نبيه أن يقسم على البعث في ثلثة مواضعَ )) :زع َ َ
ل ن ((]التغــابن )) ،[7:وَقَــا َ ل ب ََلى وََرّبي ل َت ُب ْعَث ُ ن ي ُب ْعَُثوا قُ ْ ن لَ َ كَ َ
ّ ْ فُروا أ ْ
ْ ْ
م ((]سبأ)) ،[3 : ل ب ََلى وََرّبي ل َت َأت ِي َن ّك ُ ْ ة قُ ْ ساع َ ُ فُروا ل ت َأِتيَنا ال ّ ن كَ َ ذي َ ال ّ ِ
َ ويستنبُئون َ َ
ن (( زي ـ َ ج ِ معْ ِ م بِ ُ ما أن ْت ُـ ْ حقّ وَ َ ه لَ َ ل ِإي وََرّبي إ ِن ّ ُ حقّ هُوَ قُ ْ كأ َ ََ ْ َِْ َ
]يــونس ،[53:فحكــى اللــه إنكــار الكفــار للبعــث والنشــور ومعــاد
148
الجساد ،وأنكر عليهم ذلك وأبطل دعواهم ،وذكــر الدلــة العقليــة
على إمكان البعث ووقوعه في آيات كثيرة.
وأظهر طرق القرآن في تقرير إمكان البعث أربعة:
-1الستدلل بخلق السماوات والرض.
-2الستدلل بإحياء الرض بعد موتها.
-3الستدلل بالنشأة الولى.
-4الستدلل بما وقع من إحياء الموتى فيما سبق.
تجد هذه الربع تثنى في القرآن فــي آيــات كــثيرة ،فمثل فــي
سورة ق ،لما ذكر اللــه عــن المكــذبين إنكــار البعــث ،ذكــر الدلــة
الدالــة علــى بطلن قــولهم ،وبيــان صــحة وإمكــان البعــث ،فقــال
في ـ ٌ َ
ظ* ح ِب َ عن ْـد ََنا ك ِت َــا ٌ م وَ ِ من ْهُـ ْ ض ِ ص الْر ُ ق ُ ما ت َن ْ ُ مَنا َ تعالى )):قَد ْ ع َل ِ ْ
م ي َن ْظ ُُروا إ َِلى َ َ
ج * أفَل َ ْ ٍ ريم ِ مرٍ َ م ِفي أ ْ م فَهُ ْ جاَءهُ ْ ما َ حقّ ل َ ّ ل ك َذ ُّبوا ِبال ْ َ بَ ْ
َ ما ل َهَــا ِ م ك َي ْ َ
ض ج * َوالْر َ ن فُ ـُرو ٍ مـ ْ ها وَ َ
َ
ها وََزي ّّنا َ ف ب َن َي َْنا َ ماِء فَوْقَهُ ْ
َ
س َ ال ّ
ج* ج ب َِهيـ ٍ ل َزوْ ٍ ن ك ُـ ّ مـ ْ ي وَأن ْب َت ْن َــا ِفيهَــا ِ سـ َ قي ْن َــا ِفيهَــا َرَوا ِ ها وَأل ْ َ مـد َد َْنا َ َ
ب ((]ق .[8-4:هذا الدليل الول. مِني ٍ ّ
صَرة ً وَذ ِكَرى ل ِكل ع َب ْد ٍ ُ ُ ْ ت َب ْ ِ
َ ً ْ
ب حـ ّ ت وَ َ جن ّــا ٍ مَباَرك َـا فَأن ْب َت ْن َــا ب ِـهِ َ مــاًء ُ ماِء َ سـ َ ن ال ّ مـ َ )) وَن َّزلن َــا ِ
َ
حي َي َْنا ِبــهِ ضيد ٌ * رِْزقَا ً ل ِل ْعَِباد ِ وَأ ْ ت ل ََها ط َل ْعٌ ن َ ِ قا ٍ س َ ل َبا ِ خ َ صيد ِ * َوالن ّ ْ ح ِ ال ْ َ
ج((]ق .[11-9:هــذا الــدليل الثــاني .أي: خ ـُرو ُ ك ال ْ ُ مي ْت َـا ً ك َـذ َل ِ َ ب َل ْـد َة ً َ
الخروج من القبور كإخراج هذا النبات من الرض.
م فِــي ل هُ ـ ْ ل ب َـ ْ ق الوّ ِ
َ الدليل الثالث بعد ذلك )) :أ َفَعَِييَنا ب ِــال ْ َ ْ
خل ِ
ديد ٍ ((]ق.[15: ج ِ ق َ ن َ ْ َ
خل ٍ م ْ س ِ لب ْ ٍ
فتارة يذكر الله هذه الدلــة فــي ســياق واحــد ،أوفــي ســورة
واحدة ،وتارة يذكر الله منها اثنين ،وأحيانا يذكر واحــدا ،فمثل فــي
َ
ث فَإ ِن ّــا ن ال ْب َعْ ـ ِ مـ َ ب ّ م فِــي َري ْـ ٍ كنت ُـ ْ س ِإن ُ سورة الحجَ)) :يا أي َّها الّنا ُ
ة
ضـغَ ٍ م ْ مـن ّ م ِ قـةٍ ُثـ ّ ن ع َل َ َ مـ ْ م ِ فـةٍ ُثـ ّ مـن ن ّط ْ َ م ِ ب ُثـ ّ من ت َُرا ٍ كم ّ قَنا ُ خل َ ْ َ
َ َ
ل ج ٍ شاء إ َِلى أ َ ما ن َ َ حام ِ َ قّر ِفي اْلْر َ م وَن ُ ِ ن ل َك ُ ْ قةٍ ل ّن ُب َي ّ َ خل ّ َ م َ قةٍ وَغ َي ْرِ ُ خل ّ َ م َ ّ
فًل((]الحج [5:الية ،هذا اســتدلل بالنشــأة م طِ ْ جك ُ ْ خرِ ُ م نُ ْ مى ث ُ ّ س ّ م َ ّ
َ
ذا أنَزلن َــا ع َلي ْهَــا ْ َ م ـد َة ً فَـإ ِ َ َ
ها ِ ض َ الولى ،ثم قال تعالى )) :وَت َـَرى الْر َ
َ َ
و
ه هُ ـ َ ن الل ّـ َ ك ب ِـأ ّ ج * ذ َل ِ َ ٍ ج ب َِهي ٍ ل َزوْ ن كُ ّ م ْ ت ِ ت وَأن ْب َت َ ْ ت وََرب َ ْ ماَء اهْت َّز ْ ال ْ َ
َ ه ع ََلى ك ُ ّ َ َ
ةســاع َ َ ن ال ّ ديٌر * وَأ ّ يٍء َقــ ِ ش ْ ل َ موَْتى وَأن ّ ُ ي ال ْ َ ِ ح
ه يُ ْ حقّ وَأن ّ ُ ال ْ َ
ن ِفي ال ْ ُ َ
قُبورِ ((]الحج [7-5:وهذا م ْ ث َ ه ي َب ْعَ ُ ن الل ّ َ ب ِفيَها وَأ ّ ة ل َري ْ َ آت ِي َ ٌ
استدلل بإحياء الرض بعد موتها.
ك َ
ن آَيات ِهِ أن ّ َ م ْ وهذا المعنى تجده ـ أيضا ـ في قوله تعالى )) :وَ ِ
ة فَإ َ َ َ
ذي ن ال ّـ ِ ت إِ ّ ت وََرب َـ ْ ماَء اهْت َّز ْ ذا أنَزل َْنا ع َل َي َْها ال ْ َ شعَ ً ِ خا ِ ض َ ت ََرى الْر َ
ه ع ََلى ك ُ ّ َ
ديٌر ((]فصلت.[39: يٍء قَ ِ ش ْ ل َ موَْتى إ ِن ّ ُ ي ال ْ َ ح ِ م ْ ها ل َ ُ حَيا َ أ ْ
149
وهذا المعنى هو المذكور في قوله تعالىَ )) :فانظ ُْر إ َِلى آَثــاِر
َ
و
موَْتى وَهُ َ ي ال ْ َ ح ِ م ْ ك لَ ُ ن ذ َل ِ َ موْت َِها إ ِ ّ ض ب َعْد َ َ ي الْر َ ح ِ ف يُ ْ مةِ الل ّهِ ك َي ْ َ ح َ َر ْ
ديٌر ((]الروم. [50: يٍء قَ ِ ش ْ ل َ ع ََلى ك ُ ّ
َ
ض م الْر ُ ة ل َهُـ ُ وجاءت هذه المعــاني فــي ســورة يــسَ )) :وآي َـ ٌ
ْ
ة ن ((]يسَ )) [33:وآي َ ٌ ه ي َأك ُُلو َ من ْ ُ حب ّا ً فَ ِ من َْها َ جَنا ِ خَر ْ ها وَأ َ ْ حي َي َْنا َ ةأ ْ
ال ْميت ُ َ
َ َْ
مل ْن َــا َ
ح َ م أن ّــا َ ة ل َهُـ ْ ه الن ّهَــاَر ((]يــسَ )) ،[37:وآي َـ ٌ من ْ ُ خ ِ سل َ ُ ل نَ ْ م الل ّي ْ ُ ل َهُ ُ
ن ((]يس [41:كلها فيهــا الــدلئل علــى حو ِ ش ُ م ْ ك ال ْ َ فل ْ ِ م ِفي ال ْ ُ ذ ُّري ّت َهُ ْ
َ
م ي ََر القدرة؛ لكن في آخر السورة ذ ِك ٌْر خاص لهذه القضية )) :أوَل َ ْ
ب ل َن َــا ض ـَر َ ن * وَ َ مِبي ـ ٌ م ُ صــي ٌ خ ِ ذا هُوَ َ فةٍ فَإ ِ َ ن ن ُط ْ َ م ْ قَناه ُ ِ خل َ ْ ن أ َّنا َ سا ُ لن َ ا ِ
م ((]يــس-77: مي ـ ٌ ي َر ِ م وَه ِـ َ َ
ي العِظــا َ ْ ح ِ ن يُ ْ م ْ ل َ ه َقا َ ق ُ خل َ ْ ي َ س َ مث َل ً وَن َ ِ َ َ
[78جــاء الــرد فــي نفــس اليــة قبــل التصــريح بمقالــة الكــافر:
ه ((]يــس [78:فــذكر الحجــة علــى قـ ُ خل ْ َ ي َ س َ مث ََل ً وَن َ ِ ب ل ََنا َ ضَر َ )) وَ َ
ة ها أوّ َ َ َ ذي أن َ َ ّ إبطال الدعوى قبل ذكرها )) ،قُ ْ
م ـّر ٍ ل َ ش ـأ َ حِييهَــا ال ـ ِ ل يُ ْ
م ((]يــس [79:وهــذا اســتدلل بـذكر النشــأة ق ع َِليـ ٌ ٍ خل ْـ ل َ وَهُوَ ب ِك ُـ ّ
َ َ
قــاد ٍِر ض بِ َ ت َوالْر َ وا ِ م َ سـ َ خل َقَ ال ّ ذي َ س ال ّ ِ الولى ،إلى قوله )) :أوَل َي ْ َ
َ
م ((]يـس ،[81:ومـن خّلقُ ال ْعَِليـ ُ هـوَ ال ْ َ م ب ََلى وَ ُ مث ْل َهُ ْ خل ُقَ ِ ن يَ ْ ع ََلى أ ْ
ن َ ْ َ َ
ق خل ِ م ْ ض أك ْب َُر ِ ت َوالْر ِ وا ِ م َ س َ خل ْقُ ال ّ هذا القبيل قوله تعالى )) :ل َ َ
س ((]غافر [57:وهو استدلل بخلق الســماوات والرض ،وأن الّنا ِ
من أبدعها أقدر على خلق الناس وإعادتهم.
وأما الستدلل بمـا كــان مـن إحيـاء المـوتى فــذكر اللــه فـي
سورة البقرة خمس وقائع:
ه حت ّــى ن َـَرى الل ّـ َ ك َ ن ل َـ َ م َ سى َلن ن ّـؤ ْ ِ مو َ م َيا ُ الولى )) :وَإ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ
ق ُ َ َ
مـن ب َعْـدِ كم ّ م ب َعَث َْنـا ُ ن * ُثـ ّ م َتنظ ُـُرو َ ة وَأنت ُـ ْ ع َ صـا ِ م ال ّ خذ َت ْك ُ ُ جهَْرة ً فَأ َ َ
ن(( ]البقرة[56-55: شك ُُرو َ م تَ ْ م ل َعَل ّك ُ ْ موْت ِك ُ ْ َ
ّ ْ ً ْ
ه م ِفيهَــا َواللـ ُ داَرأت ُ ْ سـا فَــا ّ م ن َفْ َ الثانية :قال تعــالى )) :وَإ ِذ ْ قَت َلت ُـ ْ
ه ي الل ّـ ُ حـ ِ ك يُ ْ ض ـَها ك َـذ َل ِ َ ضرُِبوه ُ ب ِب َعْ ِ قل َْنا ا ْ ن * فَ ُ مو َ م ت َك ْت ُ ُ كنت ُ ْ ما ُ ج َ خرِ ٌ م ْ ُ
ن ((]البقرة،[73-72: قُلو َ م ت َعْ ِ م آَيات ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ ريك ُ ْ موَْتى وَي ُ ِ ال ْ َ
َ
م ن د ِي َــارِه ِ ْ مـ ْ جــوا ِ خَر ُ ن َ ذي َ م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ الثالثة :قوله تعالى )) :أل َ ْ
ل ل َهم الل ّه موتوا ث ُ َ م أ ُُلو ٌ
م ((]البقرة: حَياهُ ْ مأ ْ ّ ُ ُ ُ قا َ ُ ُ ت فَ َ مو ْ ِ حذ ََر ال ْ َ ف َ وَهُ ْ
.[243
َ
ة خاوَِيـ ٌ ي َ يـةٍ وَه ِـ َ مّر ع ََلى قَْر َ ذي َ كال ّ ِ الرابعة :قوله تعالى )) :أوْ َ
َ ع ََلى ع ُروشها َقا َ َ
ة مئ َ َ ه ِ ه الّلــ ُ مــات َ ُ موْت َِها فَأ َ ه ب َعْد َ َ حِيي هَذ ِهِ الل ّ ُ ى يُ ْ َ ل أن ّ ُ ِ َ
َ
ل َبـل ض َيـوْم ٍ قَــا َ مـا أوْ ب َعْـ َ ت ي َوْ ً ل ل َب ِث ْ ُ ت َقا َ م ل َب ِث ْ َ ل كَ ْ ه َقا َ م ب َعَث َ ُ عام ٍ ث ُ ّ َ
ه َوانظــْر إ ِلــىَ ُ سن ّ ْ م ي َت َ َ كل ْ َ شَراب ِ َ ك وَ َ م َ َ
عام ٍ َفانظْر إ ِلى طَعا ِ َ ُ ة َ مئ َ َ ت ِ ل ّب ِث ْ َ
م ها ث ُـ ّ ش ـُز َ ف ُنن ِ ظام ِ ك َي ْـ َ ة ّللّناس َوانظ ُْر إ َِلى العِ َ ك آي َ ً جعَل َ َ ك وَل ِن َ ْ مارِ َ ح َ ِ
َ َ ِ
يٍء شـ ْ ل َ ه ع َل َــى ك ُـ ّ ن الّلـ َ مأ ّ ل أع ْل َـ ُ ه قَــا َ ن َلـ ُ ما ت َب َي ّـ َ ما فَل َ ّ ح ً ها ل َ ْ سو َ ن َك ْ ُ
ديٌر(( ]البقرة.[259: قَ ِ
150
مـوَْتى حِيـي ال ْ َ ب أ َرِِنـي ك َْيـ َ
ف تُ ْ م َر ّ هيـ ُ ل إ ِب َْرا ِ الخامسة)) :وَإ ِذ ْ َقا َ
َ ن قَل ِْبي َقا َ َقا َ َ
ن
مــ َ ة ّ خذ ْ أْرب َعَ ًل فَ ُ كن ل ّي َط ْ َ
مئ ِ ّ ل ب ََلى وَل َ ِ من َقا َ ل أوَل َ ْ
م ت ُؤ ْ ِ
نم اد ْع ُهُ ّ جْزًءا ث ُ ّ ن ُمن ْهُ ّ
ل ّ
جب َ ٍ
ل َ ل ع ََلى ك ُ ّ جعَ ْ ما ْ ك ثُ ّ ن إ ِل َي ْ َ
صْرهُ ّ ال ْط ّي ْرِ فَ ُ
َ
م{ ]البقرة[260: كي ٌح ِزيٌز َ ه عَ ِ ن الل ّ َمأ ّ سعًْيا َواع ْل َ ْ ك َ ي َأِتين َ َ
فهذا بعض ما يتعلق باليمان باليوم الخر.
151
لشك أن المقدرات المخلوقات فيها خيــر وشــر وحلــو ومــر،
فيها النعم والمصائب ،فيهــا طيــب وخــبيث ،وحســن وقبيــح ،هــذه
المخلوقات فيها هذا التنويع.
فإذا أريد بالقــدر :المقــدر فهــذا أمــر ظــاهر ،نــؤمن بــأن كــل
مقدرة مخلوقة لله ،واقعة بقدرة الله ومشــيئته ،ل يخــرج الشياء ُ
شيء منها عن ملك الله ،فكــل مــا يجــري فــي الوجــود مــن خيــر
وشر؛ فهو بمشيئة الله وخلق لله ،ومقدر بتقدير الله ،وهو مقضي
بحكم الله وقضائه.
وه ومّره( كأن هذا التعبير مــن تنويــع الكلم؛ لن وقوله):وحل ُ
المور المقدرة منها ما هو حلــو فــي حــس وذوق النــاس؛ كــالنعم
والشياء المستطابة ،والمر الشياء الكريهــة كالمصــائب؛ لن لهــا
مرارة في النفوس.
ويفسر الخير باللذات وأسبابها ،والشر باللم وأســبابها ،لكـن
هناك لذات في نفسها لكنها أسباب للم طويلة ،فتكون في ذاتها
خيــرا ،لكنهــا شــر باعتبــار مــا تفضــي إليــه ،فالمعاصــي شــر وإن
استلذتها النفوس؛ لنها تفضي إلى أعظم اللم.
والطاعات خير في ذاتهـا ومآلهـا ،وإن اشـتملت علـى بعـض
المشاق والك َُلف ،لكنها خير؛ لنها نفسها مصالح ومنــافع عظيمــة،
وفي الصحيح عن النبي » :حفت الجنة بالمكاره ،وحفت النــار
بالشهوات« ]رواه البخاري ) ،(6487ومسلم ) (2823ـــ واللفــظ
له ـ من حديث أبي هريرة ،[والله تعالى اقتضت حكمته تنويــ َ
ع
ق ،وخْلـقَ الضـداد فـي هـذا الوجـود ،فخَلـقَ الخيـر والشـر، ْ
الخلـ ِ
والنافع والضار ،والحسن والقبيح في الذوات والصفات والفعــال،
فخلق النور والظلمات ،وخلق الملئكة والشياطين ،وخلق الصحة
محي َــاة َ ل ِي َب ْل ُـوَك ُ ْ
ت َوال ْ َ خل َقَ ال ْ َ
م ـو ْ َ والمرض والحياة والموت )) :ال ّ ِ
ذي َ
مَل ً ((]الملك. [2: أ َيك ُ َ
ن عَ َ
س ُ
ح َمأ ْ ّ ْ
إذًا؛ الشــياء المخلوقــة فيهــا خيــر وشــر واللــه خــالق الخيــر
والشر ،أما فعل الرب ســبحانه :حكمــه وقضــاؤه وتقــديره؛ فكلــه
ة ول ما ،ول صــف ً خير ،ليس فيه شر ،والشر ل يضاف إلى الله اس ـ ً
فعل ،فالشر ل يكون في أســمائه فكلهــا حســنى ،ول فــي صــفاته
فكلهــا صــفات كمــال وحمــد ،ول فــي أفعــاله فكلهــا أفعــال عــدل
وحكمة ،وإنما يكون في مفعولته ،أي :مخلوقاته.
وهذا ما ُفسر به قول النبي ) : والشــر ليــس إليــك( ]رواه
مسلم ) (771من حديث علي بن أبي طالب [
أنــه تعــالى ل يخلــق شــرا محضــا؛ بــل كــل الشــر الــذي فــي
ضا ،وهذا يرجع إلــى اليمــان المخلوقات شر نسبي ليس شًرا مح ً
بحكمته سبحانه وتعالى ،وأنه حكيم ،ما خلق شيئا عبثا ،لــم يخلــق
152
ح وحكم ٍ يعلمها سبحانه ،وليس من شــرط ذلــك أن شيئا إل لمصال َ
تكون عائدة للعبد ،بل قد يكون فيها شر لبعض الناس ،وهــو شــر
جزئي إضافي ،فأما شر كلي ،أو شر مطلــق؛ فــالله تعــالى منــزه
عنه.
وكل ما خلقه الله إمــا أن يكــون خيــرا محضــا ،أو أن وجــوده
خير من عدمه باعتبار الحكمة العامــة ،فــالله خلــق هــذه الضــداد
حكمــه تعــالى فــي خلقــه :البتلء ،قــال تعــالى: لحكم بالغة ،ومن ِ
م ((]الملك [2:وقــال تعــالى )) :إ ِن ّــا حَياة َ ل ِي َب ْل ُوَك ُ ْ ت َوال ْ َ موْ َ خل َقَ ال ْ َ )) َ
مَل ً (( َ َ َ
ن عَ َ ســ ُ ح َ مأ ْ م أي ُّهــ ْ ة ل ََهــا ل ِن َب ُْلــوَهُ ْ ض ِزيَنــ ً ِ مــا ع ََلــى الْر جعَل َْنــا َ َ
َ َ َ ّ
س ـت ّةِ أي ّــام ٍ ض فِــي ِ ت َوالْر َ ماَوا ِ
َ
س َخلق ال ّ
َ
ذي َ ]الكهف ) ،[7:وَهُوَ ال ِ
مل ً ( ]هود.[7: ن عَ َ س ُح َ مأ ْ م أي ّك ُ ْ ماء ل ِي َب ْل ُوَك ُ ْ ه ع ََلى ال ْ َ ش ُن ع َْر ُ كا َوَ َ
والشر الذي في المخلوقات ل يضاف إلــى اللــه مفــردا أبــدا؛
ن مـ ْ ل ِ ل ك ُـ ّ بل إما يدخل في عموم المخلوقات كقوله تعالى )) :قُ ْ
يٍء (( شـ ْ ل َ خــال ِقُ ك ُـ ّ ه َ عن ْـد ِ الل ّـهِ ((]النســاء ،[78:وكقــوله )) :الل ّـ ُ ِ
]الرعد ،[16:يعني :الخير والشر.
َ
وإما بصيغة البناء للمفعول ،كقوله تعالى عن الجن )) :وَأّنـا ل
ض ((]الجــن ، [10:وإمــا أن يضــاف ن فِــي ال َْر ندري أ َ َ ُ
ِ م ْ شّر أِريد َ ب ِ َ َ ْ ِ
ب ال ْ َ َ َ إلى خلقه سبحانه ،كقوله تعالى)) :قُـ ْ
ن مـ ْ ق* ِ فلـ ِ ل أع ُــوذ ُ ب ِـَر ّ
خل َقَ ((]الفلق].[2:منهاج السنة ،5/410ومجموع الفتاوى ما َ شّر َ َ
،266 /14وبدائع الفوائد [2/724
هذه الوجوه التي يعبر بها في إضافة الشر المخلوق.
وعلى هذا فل ينبغي أن تقول :اللــه خــالق الشــر ،لكــن قــل:
الله خالق كل شيء ،وهذا معنى التعبير بالعموم ،وقل :فلن أريد
به السوء ،ول تقل :أراد الله به.
وكذلك إذا أردت أن تخبر عن خلق الله للمخلوقات ،قل :الله
خالق كل شيء ،اللــه خــالق الســماوات والرض ومــن فيهــن ،ول
تقل :الله خــالق الحشــرات وخــالق الكلب ،أو :اللــه رب الكلب،
هذا منكر؛ بل قل :رب الســماوات والرض ،رب كــل شــيء ،هــذا
ب دح ســبحانه وتعــالى بــذلك )) َر ّ مــ ّ الــذي فيــه التعظيــم ،كمــا ت َ َ
ظيم ِ ((]المؤمنون.[86: ش ال ْعَ ِ ب العَْر ِ
سب ْع وََر ّ ْ
ت ال ّ ِ وا ِم َ س َال ّ
وهكذا في النفع والضر فل تقل :الله هو الضار؛ بل قل :اللــه
هو النافع الضار ،وهذا من جنس الول في التعبير بالعموم.
م ومن هذا ما ذكر الله من قول إبراهيم عليه السلم )) :فَإ ِن ّهُ ْ
و
ذي هُ ـ َ ن * َوال ّـ ِ دي ِ قِني فَهُوَ ي َهْ ـ ِ خل َ َذي َ ن * ال ّ ِ مي َ ب ال َْعال َ ِ ع َد ُوّ ِلي إ ِّل َر ّ
ن ((]الشعراء[80-77: في ِ ش ِ ت فَهُوَ ي َ ْ ض ُ مرِ ْ ذا َ ن * وَإ ِ َ قي ِ س ِمِني وَي َ ْ ي ُط ْعِ ُ
ولم يقل :وإذا أمرضني شفاني ،وهذا من الدب فــي الخبــار عــن
الله سبحانه وتعالى.
153
ومما يتعلق بهذا الجمعُ بين آيتي ســورة النســاء ،وهــي قــوله
عند ِ الل ّهِ وَِإن ن ِ م ْقوُلوا ْ هَذ ِهِ ِ ة يَ ُ سن َ ٌ ح َ م َ صب ْهُ ْ سبحانه وتعالى)) :وَِإن ت ُ ِ
عن ْـد ِ الل ّـهِ ((]النســاء: ن ِ مـ ْ ل ِ ك كُ ّ عند ِ َ ن ِ م ْ قوُلوا ْ هَذ ِهِ ِ ة يَ ُ سي ّئ َ ٌ م َ صب ْهُ ْ تُ ِ
ة صــاب َ َ َ
س ـن َ ٍ ح َ ن َ مـ ْ ك ِ مــا أ َ [78وقوله تعالى في الية التي تليهــاَ )) :
َ
ك ((]النســاء[79: سـ َ ف ِ ن نَ ْ مـ ْ س ـي ّئ َةٍ فَ ِ ن َ مـ ْ ك ِ صــاب َ َ مــا أ َ ن الل ّـهِ وَ َ مـ َ فَ ِ
فظاهر الية الولى أن الحسنة والسيئة كلها من عند الله ،ومعنى
أن الحسنة والسيئة من عند الله أنهما بمشيئته وتقديره وتــدبيره،
وليس في تقديره شر سبحانه وتعالى؛ بل حكمة وعدل.
َ
مــا ن الل ّـهِ وَ َ مـ َ س ـن َةٍ فَ ِ ح َ ن َ مـ ْ ك ِ صــاب َ َ مــا أ َ وأما قوله تعــالىَ )) :
سـ َ صاب َ َ َ
ك ((]النسـاء [79:فـالمعنى :بسـبب ف ِ ن نَ ْ مـ ْ سـي ّئ َةٍ فَ ِ ن َ م ْ ك ِ أ َ
نفسك ،والحسنة والسيئة تطلق في القرآن إطلقين:
ت وسيئات الجزاء ،وهــي :النعــم والمصــائب ،ومنــه -1حسنا ُ
ت ((]العراف.[168: سي َّئا ِ ت َوال ّ سَنا ِ ح َ ْ
م ِبال َ َ
قوله تعالى )) :وَب َلوَْناهُ ْ
نت وســيئات العمــال ،ومنــه قــوله تعــالى )) :إ ِ ّ -2حســنا ُ
ت ((]هود.[114: سي َّئا ِ ن ال ّ ت ي ُذ ْه ِب ْ َ سَنا ِ ح َ ال ْ َ
وأما الحسنة والسيئة في اليتين:
ففي الية الولى :النعمة والمصيبة.
وفي الثانية :كذلك على الصــحيح ،وفســرت الحســنة بالنصــر
والخصب ،والسيئة بالهزيمة أو بالمصيبة وبالجدب وما أشبه ذلك،
س َ صاب َ َ َ
ك ((]النســاء[79: ف ِ ن نَ ْ م ْ سي ّئ َةٍ فَ ِ ن َ م ْ ك ِ ما أ َ فتكون الية )) :وَ َ
َ َ َ َ
ذا م أّنى هَ ـ َ مث ْل َي َْها قُل ْت ُ ْ م ِ صب ْت ُ ْ ة قَد ْ أ َ صيب َ ٌ م ِ م ُ صاب َت ْك ُ ْ ما أ َ من جنس )) أوَل َ ّ
ما م ((]آل عمران [165:وقوله تعالى )) :وَ َ سك ُ ْ ف ِ عن ْد ِ أ َن ْ ُ ن ِ م ْ ل هُوَ ِ قُ ْ
َ َ
م ((]الشورى.[30: ديك ُ ْ ت أي ْ ِ سب َ ْ ما ك َ َ صيب َةٍ فَب ِ َ م ِ ن ُ م ْ م ِ صاب َك ُ ْ أ َ
وقــد قــرر شــيخ الســلم ابــن تيميــة ]منهــاج الســنة ،5/410
ومجموع الفتاوى [266 /14وابن القيم ]بــدائع الفــوائد ،2/710
وشفاء العليل ص [159هذا المعنـى تقريـرا حسـنا ،ونقـل بعضـه
الشارح ابن العز في شرحه ]ص [515فجزاهم الله خيرا .
وقوله) :من الله تعـالى( أي :كلـه بخلـق اللـه ،وبقـدرة اللـه،
وبمشيئة الله ،ل خروج لشيء عن ذلك.
وقوله) :ونحن مؤمنون بذلك كله ل نفرق بين أحد من رسله،
ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به(.
أي :بكل ما تقدم من مسائل العتقاد التي ذكرها مما يتعلــق
باليمان بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر والقدر.
)ل نفرق بين أحد من رسله( بل نؤمن بهم جميعا ،كما وصف
سـل ِهِ ل ملئ ِك َت ِـهِ وَك ُت ُب ِـهِ وَُر ُ ن ِبـالل ّهِ وَ َ مـ َ لآ َ الله المؤمنين بذلك )) :ك ُ ّ
سـل ِهِ ((]البقــرة ،[285:فالكفــار هــم الــذين فرقُ بي َ
ن ُر ُ مـ ْ ح ـد ٍ ِ نأ َ َْ َ نُ َ ّ
ن ب ِــالل ّ ِ
ه ف ـُرو َ ن ي َك ْ ُذي َ ن ال ّـ ِ فرقــوا بينهــم ،وكفرهــم اللــه بــذلك )) :إ ِ ّ
154
ورسل ِه ويريدو َ
ض
ن ب ِب َْعـ ٍ م ُ ن ن ُؤ ْ ِ قوُلو َسل ِهِ وَي َ ُن الل ّهِ وَُر ُ فّرُقوا ب َي ْ َ ن يُ َ نأ ْ َُ ُ ِ َُ ِ ُ َ
َ َ ُ ً َ َ َ وَن َك ْ ُ
مسـِبيل * أوْلئ ِك هُـ ُ ن ذ َل ِـك َ ذوا ب َْيـ َخـ ُ ن ي َت ّ ِ
نأ ْ دو َ ريـ ُ ض وَي ُ َِ
فـُر ب ِب َعْـ ٍ
مِهين َـا ً ((]النســاء-150: ذاب َا ً ُ
ن ع َـ َ ري َق ـا ً وَأع ْت َـد َْنا ل ِل ْك َــافِ ِح ّ ال ْك َــافُِرو َ
ن َ
.[151
)ونصدقهم بكل ما جــاءوا بــه( فكمــا نــؤمن بجميــع الرســل،
نؤمن بكل ما جاءوا به ،فمن آمن ببعض الرسل وكفر ببعض؛ فهو
ب ذب رســول واحــدا؛ فهــو كالمك ـذ ّ ِ كافر ل ينفعه إيمــانه ،ومــن كـ ّ
لجميعهم ،وكذلك من آمن بالرسول الواحد ولكنه كفــر ببعــض مــا
جاء به؛ فهو كافر ل ينفعه إيمانه ،فلو آمــن أحــد بكــل مــا جــاء بــه
الرسول إل مسألة واحدة مع ثبوتها وقطعيتها ،ول يحمله علــى
ذلك التوقف في ثبوتها؛ فإنه كافر ،فلو قال :أنا أؤمن بالقرآن كله
إل هذه الية؛ فهو كافر ،أنا أؤمن بكــل أحكــام الســلم إل تحريــم
الخمر؛ فإنه كافر.
155
ن حد ٍ للكبيرة أنها » :كل ذنب ُرّتب عليه حد في الدنيا، وأحس ُ
عد فاعله بلعن أو غضب أو نار ،أو ُنفي اليمان عــن صــاحبه، أو ت ُوُ ِ
أو تبرأ منه النبي .«
ومثال ما رتب عليه الحــد فــي الــدنيا :الســرقة ،قــال تعــالى:
َ
ما(( ]المائدة.[38: ة َفاقْط َُعوا ْ أي ْد ِي َهُ َ سارِقَ ُ سارِقُ َوال ّ ))َوال ّ
نذي َ ن ال ّ ِ ومثال ما لعن فاعله :قذف المحصنة ،قال تعالى)) :إ ِ ّ
ة
خـَر ِ ت ل ُعِن ُــوا فِــي الـد ّن َْيا َوال ِ
ْ من َــا ِ مؤ ْ ِت ال ْ ُ ت ال َْغافَِل ِ صَنا ِ ح َ م ْ ن ال ْ ُ مو َ ي َْر ُ
م(( ]النــور.[23: ظي ٌ ب عَ ِ ذا ٌ م عَ َ وَل َهُ ْ
عــد فــاعله بالغضــب :التــولي يــوم الزحــف ،قــال ومثال ما ت ُوُ ِ
َ ً َ ّ ً
حي ّــزا إ ِلــى مت َ َ
ل أوْ ُ قت َــا ٍ
حّرفا ل ِ مت َ َ مئ ِذ ٍ د ُب َُره ُ إ ِل ّ ُ
م ي َوْ َ من ي ُوَل ّهِ ْ تعالى)) :وَ َ
ن الل ّهِ (( ]النفال[16: م َ ب ّ ض ٍ قد ْ َباء ب ِغَ َ فِئ َةٍ فَ َ
عد فاعله بالنــار :أكــل مــال اليــتيم ،قــال تعــالى: ومثال ما ت ُوُ ِ
ُ ُ ْ ْ ُ ْ َ ْ
م ن فِــي ب ُطــون ِهِ ْ ما َيـأك ُلو َ ما إ ِن ّ َ مى ظل ً ل الي ََتا َ وا َ م َ نأ ْ ن ي َأك ُُلو َ ذي َ ن ال ّ ِ ))إ ِ ّ
سِعيًرا(( ]النساء[10: ن َ صل َوْ َ سي َ ْ َناًرا وَ َ
ومثال ما ُنفي عن صاحبه اليمان :الزانــي ،كقــول النــبي :
)ل يزني الزاني حين يزني وهو مــؤمن( ]رواه البخــاري )،(2475
ومسلم ) (57من حديث أبي هريرة [
ش فليس مني( من غ ّ ومثال ما تبرأ منه النبي ،قوله َ ) :
]رواه مسلم ) (102من حديث أبي هريرة [وقــوله ) :ليــس
منا من ضرب الخدود ،أو شق الجيوب ،أو دعا بدعوى الجاهليــة(.
]رواه البخاري ) ،(1297ومسلم ) (103من حــديث ابــن مســعود
[
والكبائر نفسها متفاوتة ،ليست علــى حــد ســواء ،بــل بعضــها
أكبر من بعض ،حتى تنتهي الذنوب إلى أكبر الكبائر ،وهو الشرك،
ومن الدلــة علــى هــذا :حــديث أبــي بكــرة عــن النــبي ) :أل
أنبئكم بأكبر الكبــائر؟ )ثلثــا( :الشــراك بــالله ،وعقــوق الوالــدين،
وشــهادة الــزور ،وكــان رســول اللــه متكئا فجلــس ،فمــا زال
يكررها حتى قلنا :ليته سكت(] .رواه البخاري ) ،(2654ومسلم )
[(87
وبهذا يتبين أن النهي المجرد يدل على التحريم؛ فإن ورد فيه
تغليظ فهو كبيرة.
فأما الذنوب الصغيرة فمثل ما ورد في حديث أبي هريــرة
السابق ]ص[ ،ومثــل ســرقة الشــيء الحقيــر الــذي ل قطــع فيــه،
ومثل كذبة الم على طفلهـا إذا قـالت :تعـال أعطيــك كـذا ،ثــم ل
تعطيه.
فهذه الصغائر جاء في الحاديث الصحيحة أنها تكفر بالعمال
جت َن ِب ُــوا ن تَ ْ الصالحة وباجتناب الكبــائر ،كمــا فــي قــوله تعــالى )) :إ ِ ْ
156
م ـا ً (( خَل ً ك َ ِ
ري َ مد ْ َ خل ْك ُ ْ
م ُ سي َّئات ِك ُ ْ
م وَن ُد ْ ِ فْر ع َن ْك ُ ْ
م َ ه ن ُك َ ّ
ن ع َن ْ ُ ك ََبائ َِر َ
ما ت ُن ْهَوْ َ
]النساء [31:وقول النــبي ) :الصــلوات الخمــس والجمعــة إلــى
الجمعــة ورمضــان إلــى رمضــان مكفــرات مــا بينهــن إذا اجتنبــت
الكبائر( ]رواه مسلم ) (233من حديث أبي هريرة [
و قوله ) :ما اجتنبت الكبائر( قيل :إن هذا شرط في تكفير
الصغائر ،فل تكفر الصغائر إل بشرط اجتناب الكبائر ،ومنهــم مــن
قــال :إنهــا تكفــر مــا بينهــا إل الكبــائر] .فتــح البــاري لبــن رجــب
،4/223وفتح الباري لبن حجر 2/12و 372و [8/357
أمــا الكبــائر فإنهــا ل تغفــر إل بالتوبــة النصــوح ،أو بالحــدود
المقدرة؛ فإن الحدود كفارات لهلها ،أو برجحان الحســنات ،فقــد
يكون للعبد حسنات عظيمة ترجح بما عليه من سيئات.
هذا ما يتعلق بالكبائر.
أما مرتكب الكبيرة فله حكم فــي الــدنيا وحكــم فــي الخــرة،
فحكمه في الدنيا تقدمت الشارة إليه ]ص[ ،وأن مرتكب الذنوب
التي دون الشرك ل يكفر بذلك خلفا للخوارج؛ بل ول يخــرج مــن
اليمان خلفا للمعتزلة؛ بل هو مؤمن ناقص اليمان.
أما حكمه في الخــرة فأهــل الســنة والجماعــة يقولــون :إنــه
تحت مشيئة الله إن شاء غفر له ولم يدخله النار ،وإن شاء عــذبه
ثــم أخرجــه مــن النــار برحمتــه وبشــفاعة الشــافعين مــن أهــل
الطاعات.
157
وليس مقصوده أنهم ل بد لهم من دخول النار ولكنهــم ل يخلــدون
فيها.
وقوله) :إذا ماتوا وهم موحدون ،وإن كــانوا غيـَر تــائبين( هــذا
قيد ل بد منه ،وهذا هو محل الخلف بين طوائف المســلمين ،أمــا
التائب فقد اتفقوا أن من تاب تاب اللــه عليــه ،لكــن الخلف فــي
ض للوعيــد؛ معَّر ُمن مات مصرا على ذنبه لم يتب منه ،فهذا هو ال ُ
أما من تاب توبة نصوحا مستوفية للشروط إقلعا ونــدما وعزمــا؛
فإنه مغفور له ،وليس هو من أهل الوعيد.
والطحاوي هنا بّين مذهب أهل الســنة والجماعــة فــي حكــم
أهل الكبائر في الخرة :أنهــم مســتحقون للوعيــد؛ ولكنهــم تحــت
مشيئة الله ،إن شاء غفر لهم ،وإن شاء عذبهم ،ومن عذبه منهــم
فل بد أن يخرجه من النار؛ لنه ل يخلد أحد مــن أهــل التوحيــد ،إذ
)من قال :ل إله إل الله ،وفي قلبه مثقــال خردلــة ،أو شــعيرة ،أو
ب ُّرة أو ذرة من إيمان( لبــد أن يخــرج مــن النــار ،كمــا تقــدم فــي
أحاديث الشفاعة] .ص[
أما الخوارج والمعتزلة فقد اتفقوا على حكم مرتكب الكــبيرة
في الخرة ،وهو :أنه لبد من دخول النار ،وعنــدهم أن مــن دخــل
النار؛ فإنه ل يخرجون منها .
وقوله) :بعد أن لقوا الله عارفين( أي :مؤمنين بربهم اليمان
الصحيح ،وعلق الشارح ابن أبي العز على قـوله) :عـارفين( بـأنه:
» لو قال) :مؤمنين( لكن أولى؛ لن من عرف الله ولم يــؤمن بــه
فهو كافر ،ثم قال :وكأنه يريد المعرفة التامة المستلزمة للهتداء
التي يشير إليها أهل الطريقة ،وحاشـا أولئك أن يكونـوا مـن أهـل
الكبائر؛ بل هم سادة الناس وخاصتهم«] .ص [527
لن أهل الكبائر ليســوا مــن أهــل العلــم التــام بــالله ســبحانه
وتعالى ،وإنما يريد مطلــق المعرفــة ،إذا مــاتوا بعــد أن لقــوا اللــه
عارفين موحدين.
قوله) :وهم فــي مشــيئته وحكمــه ،إن شــاء غفــر لهــم وعفــا
ن ذ َل ِـ َ
ك دو َمــا ُ
فُر َعنهم بفضله ،كما ذكر عز وجل في كتابه )) :وَي َغْ ِ
شاُء ((]النساء ،[48:وإن شاء عذبهم فــي النــار بعــدله ،ثــم ن يَ َ
م ْ
لِ َ
يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته(.
أي :في الخرة هم في مشيئة الله وحكمه ،يحكــم فيهــم بمــا
شاء ،وهو الحكيم العدل الجــواد المتفضــل ســبحانه وتعــالى ،وإذا
مــل؛ فإمـا أن يغفــر اللـه لهــم كانوا تحت مشيئة اللـه فــالمر محت َ
ويدخلهم الجنة بل عذاب ،وإما أن يعــذبهم بالنــار حســبما تقتضــيه
حكمته ومشيئته ،ثم يخرجهم منهــا برحمتــه وبشــفاعة الشــافعين
158
هل ن الّلـ َ من أهل الطاعات ،والدليل علــى هـذا قـوله تعــالى )) :إ ِ ّ
شـاُء ((]النسـاء[48: ن يَ َ ن ذ َل ِ َ شَر َ ن يُ ْ َ
مـ ْ ك لِ َ دو َ ما ُ فُر َ ك ب ِهِ وَي َغْ ِ فُر أ ْ ي َغْ ِ
ودلت هذه الية على أن الذنوب قسمان:
ن َ ّ
ه ل ي َغْفِ ـُر أ ْ ن الل ـ َ قســم ل ُيغفــر ،وهــو الشــرك الكــبر )) ،إ ِ ّ
ه((]النساء [48:خص الشــرك بــأنه ل يغفــر .وقســم دون ك بِ ِ شَر َ يُ ْ
شــاُء ((]النســاء [48:وقي ّــد ن يَ َمـ ْ ك لِ َ ن ذ َل ِـ َ دو َ مــا ُ فُر َالشرك )) وَي َغْ ِ
غفرانه بالمشيئة.
ي
عب َــاد ِ َ ل ي َــا ِويشكل على ظاهر هذه الية قوله تعــالى )) :قُ ـ ْ
فُر ن الل ّ َ
ه ي َغْ ِ مةِ الل ّهِ إ ِ ّ ح َ ن َر ْ م ْ طوا ِ قن َ ُ م ل تَ ْ سه ِ ْ ف ِ سَرُفوا ع ََلى أ َن ْ ُ نأ ْ
ال ّذي َ
ِ َ
ميعَا ((]الزمر [53:فيهــا الطلق والتعميــم ،فعــم حيــث ً ج ِب َ الذ ُّنو َ
ميعَا ً (( ،وأطلق حيث لم تقيد هذه المغفرة بالمشيئة. ج ِقالَ )) :
فالتعارض بين اليتين ظاهر ،في آية الزمر عم وأطلق ،وفي
آية النساء خص وقيد.
والجمع بين اليتين :أن آية النساء في شأن من لم يتب ،وآية
الزمر في التــائب ،فمــن تــاب تــاب اللــه عليــه ،ومغفــرة الــذنوب
بالتوبة جاءت مطلقة غيــر مقيــدة ،فل نقيــدها ،ول نقــول :إن مــن
تاب تاب الله عليه إذا شاء ،فمن تاب توبة نصوحا تاب الله عليــه،
ســوَء ن ال ّ مل ُــو َ ن ي َعْ َ ذي َ ة ع َل َــى الل ّـهِ ل ِل ّـ ِ مــا الت ّوْب َـ ُ وعــدا ل يخلــف )) إ ِن ّ َ
ُ
هن الل ّـ ُ م وَك َــا َ ه ع َل َي ْهِ ـ ْ ب الل ّ ُ ك ي َُتو ُ ب فَأوْل َئ ِ َ ري ٍ ن قَ ِ م ْ ن ِم ي َُتوُبو َ جَهال َةٍ ث ُ ّ بِ َ
ما ً ((]النساء ،[17:فمن لم يتب إن كــان ذنبــه الشــرك؛ كي َ ح ِ ما ً َ ع َِلي َ
فــإنه ل يغفــر اللــه لــه ،وإن كــانت ذنــوبه دون ذلــك فإنهــا تحــت
المشيئة ،هذا من لم يتب ،أما مــن تــاب فيتــوب اللــه عليــه مهمــا
كانت ذنوبه ك َِبرا وكثرة ،كما في قصة الذي قتــل تســعة وتســعين
نفسا ،ثم كمل المائة ،ثم تاب توبة نصوحا؛ فقبل اللــه منــه وغفــر
له] .رواه البخاري ) ،(3470ومسلم ) (2766وسيأتي بلفظه في
ص[
فهذا هو الدليل على هذا التفصــيل ،وأن مــن مــات مــن أهــل
الكبائر من غير توبة؛ فإنه تحت مشيئة الله إن شاء اللــه غفــر لــه
وإن شاء عذبه.
والذين يخرجهــم اللــه ســبحانه مــن النــار منهــم مــن يخرجــه
بشفاعة الشافعين ،وأعظم الناس حظا من أهل الشفاعة هو نبينا
،فالله يخرج بشفاعته من النار ما ل يخرجه بشفاعة غيره مــن
الملئكة والنــبيين والصــالحين؛ فــإن الملئكــة يشــفعون ،والنبيــاء
يشفعون ،والمؤمنون يشفعون ،ويخرج سبحانه من شاء من النــار
ب من جهة بعض العباد ،ومرد المر كله إلى بمحض رحمته ل بسب ٍ
الله ،فالله هو الذي يأذن للشافع بالشفاعة ،وهو الذي يقبلها منه،
فمرد المر كله إليه] .انظر :ص[
159
وقوله) :ثم يبعثهم إلى جنته(.
بعدما يخرجهم من النار يبعثهم إلى الجنة ،كما فــي الحــديث:
قــون فــي نهــر ما ،فَي ُل ْ َم ً
حـ ـ َ
» وأنهم يخرجون من النار وقد صاروا ُ
حب ّــة فــي بأفواه الجنة يقال له :نهر الحياة ،فَي َن ْب ُت ُــون كمــا تنبــت ال ِ
حميل السيل ...فيدخلون الجنة« ]تقدم في ص[ ،بفضله ســبحانه
وتعالى.
وقوله) :وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته(.
هــذا تعليــل لقــوله ــ فــي أهــل الكبائرـــ) :وهــم فــي مشــيئته
وحكمه ،إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضــله ...وإن شــاء عــذبهم
في النار بعدله ،ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشــافعين مــن
َ أهل طاعته( )) ذ َل َ َ
نل ن ال ْك َــافِ ِ
ري َ من ُــوا وَأ ّ نآ َ ذي َموَْلى ال ّـ ِ ه َ ن الل ّ َ ك ب ِأ ّ ِ
م ((]محمد [11:فالله ولي المؤمنين ،وكل عبد مؤمن له موَْلى ل َهُ ْ َ
حظ ونصيب من ولية الله سبحانه بقدر ما معه من إيمان وعمــل
م
هـ ْم َول ُ ف ع َل َي ِْهـ ْ خـوْ ٌ ن أ َوْل َِيـاَء الّلـهِ ل َ َ
صالح ،قــال تعـالى )) :أل إ ِ ّ
ن ((]يونس.[63-62: قو َكاُنوا ي َت ّ ُ مُنوا وَ َ نآ َ ذي َن * ال ّ ِ حَزُنو َ يَ ْ
والمعرفة هنا كالمعرفة فــي قــوله الســابق ]ص[) ،عــارفين(
أي :مطلق المعرفة ومطلق اليمان ،ل المعرفة التامة الــتي هــي
كمال العلم بالله.
وقوله) :ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته(.
اللــه ســبحانه تــولى أهــل معرفتــه ولــم يجعلهــم فــي الــدنيا
والخرة كأهل نكرته ،فالفاســق فــي الــدنيا أخ للمــؤمنين ،فقــوله
ع
ل جميـ َ خـوَة ٌ ((]الحجــرات [10:يشــم ُ ن إِ ْ من ُــو َ مؤ ْ ِمــا ال ْ ُ تعالى )) :إ ِن ّ َ
المــؤمنين صــالحهم وفاســقهم ،وقــال تعــالى فــي شــأن القاتــل:
يٌء ((]البقـرة [178:فجعـل القاتــل شـ ْ خيـهِ َ ن أَ ِ م ْ ه ِ ي لَ ُف َ ن عُ ِ )) فَ َ
م ْ
أخـــا للمقتـــول ،فالفاســـق ل يجعلـــه كالكفـــار المنكريـــن لـــه،
أوالمشركين به.
وقوله) :الذين خــابوا مــن هــدايته( هــم الكفــار والمشــركون،
فليس لهم حظ أبدا من الهداية.
وقوله) :ولم ينالوا من وليته(.
عبارة المؤلف دقيقة ،فلم يقل) :ولم ينــالوا وليتــه( ،فيشــعر
بالكمال؛ بل قال) :ولم ينالوا مــن وليتــه( فمــا نــالوا حظــا ،وهــذا
منطبق على الكفار.
وقوله) :اللهم يا ولي السلم وأهله ،ثبتنا على الســلم حــتى
نلقاك به(.
ختم الكلم في حكم أهــل الكبــائر فــي الخــرة ،وأنهــم تحــت
مشيئة الله ،وأن الله ميزهم فلم يجعلهم كالكفار الذين هــم أهــل
النار ،بقوله) :اللهم يا ولي السلم وأهله ،ثبتنا على السلم حــتى
160
نلقاك به( وهذا يتضمن سؤال الله حسن الخاتمــة ،والثبــات علــى
َ
ه
قات ِ ِ
حقّ ت ُ َ ه َ قوا الل ّ َ مُنوا ات ّ ُ نآ َ ذي َالسلم ،قال الله تعالىَ )) :يا أي َّها ال ّ ِ
َ
ن ((]آل عمران [102:يعني :استقيموا مو َسل ِ ُم ْ م ُ ن إ ِّل وَأن ْت ُ ْ
موت ُ ّ
َول ت َ ُ
على السلم حتى يأتيكم الموت وأنتم علــى ذلــك ،وهكــذا ينبغــي
للمسلم أن يسأل ربه الثبات على السلم ،والستقامة عليه حتى
الممات؛ فإن العمال بالخواتيم ،ومــن دعــاء النبيــاء والصــالحين:
سؤال الثبات والوفاة على السلم كما قال يوسف عليه الســلم:
ن ((]يوســف ،[101:وقــال حي َ صــال ِ ِ
قن ِــي ِبال ّ ح ْما ً وَأ َل ْ ِ
س ـل ِ َ )) ت َـوَفِّني ُ
م ْ
َ
ن (( مي َس ـل ِ ِم ْ ص ـب َْرا ً وَت َوَفّن َــا ُ الســحرة بعــد التوبــة )) :أفْ ـرِغ ْ ع َل َي ْن َــا َ
]العراف ،[126:وذكر الشارح ابن أبي العز أن بعضهم» :استدل
بهاتين اليتين علــى جــواز تمنــي المــوت ،ول دليــل لــه فيــه؛ فــإن
الــدعاء إنمــا هــو بــالموت علــى الســلم ،ل بمطلــق المــوت ،ول
بالموت الن« ]ص [529بل هو من سـؤال اللـه حسـن الخاتمـة،
ن (( حي َ صــال ِ ِ
قن ِــي ِبال ّ ما ً وَأ َل ْ ِ
ح ْ س ـل ِ َم ْ والوفاة علــى الســلم )) َتـوَفِّني ُ
]يوسف ،[101:أما تمنــي المــوت فل يجــوز لنهــي النــبي عنــه
بقوله » :ل يتمنين أحدكم الموت لضــر نــزل بــه ،فــإن كــان ل بــد
متمنيا فليقل :اللهم أحيني ما كانت الحياة خيــرا لــي ،وتــوفني إذا
كانت الوفاة خيرا ً لي«] .رواه البخاري ) ،(6351ومسلم )(2680
من حديث أنس [ .
161
وظلمهم كما صلى ابن عمر رضي الله عنهمــا خلــف الحجــاج بــن
يوسف المعروف بظلمــه] ،رواه البخــاري ) ،(1660وانظــر :فتــح
الباري لبــن رجــب [195-6/186وفــي الصــحيح عــن أبــي ذر
قال :قال لي رسول الله »: كيف أنت إذا كــانت عليــك أمــراء
صـ ّ
ل يؤخرون الصلة عن وقتها ؟ قال :قلت :فما تأمرني ؟ قــالَ :
الصلة لوقتها؛ فإن أدركتها معهــم فَ َ
صـ ّ
ل؛ فإنهــا لــك نافلــة( ]رواه
مسلم ) [(648فهذا يدل على صــحة الصــلة خلفهــم؛ لنهــا تصــح
نافلة.
وترك إقامة الجمع والعياد خلــف المــام لفجــوره مــن منهــج
المبتدعة ،ولهذا نص أهل العلم على هذه المسألة في هذا الباب،
وإل فالصل أن هذه المسألة عملية من الحكام الفقهية؛ لكن لما
لم يكن الخلف في هذا بين أهل السنة؛ بل أجمعوا علــى الصــلة
خلف الئمة أبرارا كــانوا أم فجــارا ،نصــوا عليــه فــي بيــان أصــول
ومنهج أهل السنة؛ لكن إذا كان هناك إمام عدل وفاســق ،فالــذي
ينبغـي الصـلة خلـف العـدل ،وأمـا الصـلة خلـف الفاسـق؛ فإنهـا
صحيحة كما قلنا؛ لكن ينبغي هجر وترك الصلة خلفه إذا أمكن أن
ُيصلى خلف غيره؛ بــل ينبغــي الســعي فــي عزلــه إذا أمكــن ذلــك
بدون مفسدة؛ لنه ل يجوز تولية الفــاجر والفاســق فــي المامــة،
فمن له قدرة على عزله وإبـداله بالعـدل وجـب عليـه ،وهـذا مـن
إنكار المنكــر ،لكــن محــل قولنــاُ) :يصــلى خلفــه( إذا لمــن تمكــن
الصلة خلف غيره ،أما إذا أمكنت الصلة خلف غيره فهي الولى،
وأولــى مــن الصــلة خلــف الفــاجر الصــلة خلــف المخــالف فــي
المذهب ،فيجوز أن تصلي خلــف مــن يخالفــك فــي بعــض أحكــام
الصلة ،فيجوز أن تصلي خلف من يرى أن أكل لحم الجــزور غيــر
ناقض ،وأنت تعتقد أن أكل لحم البل ناقض ،فأنت لو أكلت لحــم
الجزور لرأيت أن صلتك ل تصح بدون وضــوء ،لكــن هــذا صــاحب
المــذهب الخــر صــلته صــحيحة؛ لن هــذا الــذي أداه إليــه علمــه
واجتهاده ،فل ُتترك الصــلة للخلف المــذهبي فــي بعــض شــروط
الصلة؛ لن في ترك الصلة لذلك تفريــق بيـن المســلمين ،وهــذه
مفسدة كبرى ،وفساد عريض ،فل تترك الصلة خلف مخالفك في
المذهب فيجوز للحنبلــي أن يصــلي خلــف الحنفــي أو المــالكي أو
الشافعي ،وكذا العكس.
وقوله) :من أهل القبلة( أي :من المسلمين.
أما من ظهر ـ والعياذ بالله ـ منـه مـا يـوجب ردتـه فل يصـلى
خلفه ،وإن كان ينتسب للسلم ،ومن هذا النوع :القبوريون الذين
يدعون الموات ،كالرافضة فهم قبورية مشــركون ،يــدعون علي ًــا
162
والحسين ـ رضــي اللــه عنهمــا ــ وغيَرهمـا ،ويســتغيثون بهــم فـي
الشدائد.
وقوله) :وعلى من مات منهم(.
أي :ونرى صلة الجنازة على من مات مــن المســلمين ،فــإن
الصلة على الميت فرض كفاية ،وهي مستحبة لغيــر مــن تحصــل
ث ضعيف عن النــبي ) :صــلوا علــى بهم الكفاية ،وقد ُروي حدي ٌ
من قال :ل إلــه إل اللــه ،وصــلوا خلـف مــن قــال :ل إلــه إل اللــه(
]رواه الدارقطني في سننه ) (1763-1761من حديث ابــن عمــر
رضي الله عنهما ،وقال :ليس يثبت منها شيء ،وضــعفها الــبيهقي
الســنن الكــبرى ،4/19وانظــر :نصــب الرايــة ،2/27والتلخيــص
الحبير [2/934لكن معناه صحيح دلت عليه نصوص أخرى.
ويخص من هذا شهيد في المعركة على خلف في ذلك؛ لنــه
ثبت أن النبي » أمر بدفن قتلى أحد في دمائهم ،ولــم يغســلوا،
ل عليهم « ]رواه البخاري ) (1343مــن حــديث جــابر بــن ولم يص ّ
عبدالله رضي الله عنهما[ ،كما أنه ينبغي للمام والعالم والرجــل
الصالح المشهور أن يترك الصلة على الفجار والفساق زجرا عن
حالهم وأعمالهم ،ودليل هذا حــديث جــابر بــن ســمرة قــال» :
ل عليــه« ]رواه مســلم ) ُأتي النبي برجل قتل نفسه فلــم يص ـ ّ
،[(978بل كان النبي يترك الصلة على من مات وعليــه ديــن
لم يترك له وفاء ]رواه البخــاري ) ،(6731ومســلم ) (1619مــن
حديث أبي هريرة ،[زجرا عن تحمل الديون من غير أن يكــون
لها وفاء.
163
أحدا من أهل القبلة بذنب ما لــم يســتحله( ،فل نحكــم علــى أحــد
بالكفر إل أن يظهر منه ما يوجب الردة ،فمتى ظهر منه ما يوجب
الردة قلنا :إنــه كــافر ،ونحكــم عليــه تعيينــا إذا تــوفرت الشــروط،
وانتفت الموانع ،فلو سمعنا إنسانا يتكلم بكلمة الكفر ،فنتثبت أهو
ح أم مجنون ،أم سكران ،فإن كان معه عقله؛ فننظر ماذا يريد صا ٍ
بهذه الكلمة ،فقــد تكــون محتملــة ،فــإذا تحققنــا أنــه قالهــا عالمــا
بمعناها ،مختارا غير مكــره ،ذاكــرا مــن غيــر ســبق لســان حكمنــا
بكفره.
) ونذر سرائرهم إلى الله تعالى(.
فل ندخل في سرائر الناس ،ول نتهمهم ونقول :هــذا مــرائي،
هذا منــافق ،فأحكــام الــدنيا تجــري علــى الظــواهر ،فالرســول
ب عــن قلــوب النــاس ،أو مْر أن أ ُن َ ّ
ق َ
ُ
أعلم الخلق يقول) :إني لم أو َ
أشــق بطــونهم( ]رواه البخــاري ) ،(4351ومســلم ) (1063مــن
حديث أبي سعيد الخدري ،[وقال النبي ) :أمــرت أن أقاتــل
الناس حتى يشهدوا أن ل إلــه إل اللــه ،وأن محمــدا رســول اللــه،
ويقيمــوا الصــلة ،ويؤتــوا الزكــاة ،فــإذا فعلــوا ذلــك عصــموا منــي
دماءهم وأموالهم إل بحق السلم وحسابهم على الله( ]تقدم في
ص[ .
164
فإنهم يقاتلون لتعطيلهم شعيرة من شعائر الســلم ،وقــد » كــان
النبي يغير إذا طلع الفجر ،وكان يستمع الذان؛ فإن سمع أذانــا
أمسك ،وإل أغار« ]رواه مسلم ) (312من حديث أنس [
وكذا الطائفة الممتنعة المانعة للزكاة يجب قتالها حتى تــؤدي
الزكاة ،فقد قال عمر للصديق :كيف تقاتل الناس وقد قال
رسول الله »:أمــرت أن أقاتــل النــاس حــتى يقولــوا ل إلــه إل
الله ،فمن قالها فقد عصم منــي مــاله ونفســه إل بحقــه وحســابه
على الله ؟ فقال أبو بكر :والله لقاتلن من فــرق بيــن الصــلة
والزكاة؛ فإن الزكـاة حــق المـال ،واللـه لـو منعـوني عناقـا كـانوا
يؤدونها إلى رسول الله لقــاتلتهم علــى منعهــا ،قــال عمــر :
فوالله ما هو إل أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبــي بكــر للقتــال
فعرفت أنه الحــق«] .رواه البخــاري ) ،(6924ومسـلم ) (20مـن
حديث أبي هريرة [
وكـذلك أجمـع الصــحابة علـى قتــال الخــوارج بـأمر النــبي
]تقدم تخريجه في ص[ ،وترغيبه في ذلك لما اجتمعــوا ،وأظهــروا
بدعتهم.
165
م ((]النساء ،[59:وكذلك الرسول قال) :من أطاعني فقــد من ْك ُ ْ
ِ
أطاع الله ومن عصاني فقد عصى اللــه ومــن أطــاع أميــري فقــد
أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني( ]رواه البخاري )،(7137
ومسلم ) (1835مــن حــديث أبــي هريــرة ،[وقــال ) : علــى
المــرء المســلم الســمع والطاعــة فيمــا أحــب وكــره إل أن يــؤمر
بمعصية فإن أمر بمعصية فل سـمع ول طاعـة{] ،رواه البخــاري )
،(7144ومسلم ) (1839من حديث ابن عمر رضي الله عنهما[،
وقال في الحديث الصــحيح } :إنمـا الطاعــة فــي المعــروف {
]رواه البخاري ) ،(7145ومسلم ) (1840من حديث علي بن أبي
طالب ،[وقال } :من رأى من أميره شــيئا يكرهــه فليصــبر
عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إل مات ميتــة جاهليــة{.
]رواه البخاري ) ،(7054ومسلم ) (1849من حديث ابــن عبــاس
رضي الله عنهما[ ،وفي الحديث الصحيح عنــه ) :خيــار أئمتكــم
الذين تحبونهم ويحبونكم ،ويصلون عليكم وتصلون عليهم ،وشرار
أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ،وتلعنونهم ويلعنونكم ،قــالوا:
يا رسول الله أفل ننابذهم عنــد ذلــك؟ فقــال :ل مــا أقــاموا فيكــم
ل فرآه يـأتي شــيئا مـن معصــية اللـه، َ
الصلة ،أل من ولي عليه وا ٍ
فليكره ما يأتي من معصية الله ،ول ينزعن يدا مــن طاعــة( ]رواه
مسلم ) (1855من حديث عوف بن مالك ،[وفي حديث عبادة
بن الصامت قال»:بايعنا علــى الســمع والطاعــة فــي منشــطنا
ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينـا وأن ل ننـازع المـر أهلــه إل
أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان«] .رواه البخــاري )
،(7056ومسلم ) (1709من حديث عبادة بن الصامت [وفي
رواية» :وعلى أن نقول بالحق أينما كنـا ل نخـاف فـي اللــه لومــة
لئم«] .رواه البخاري ) ،(7200ومسلم ) [(1709والحاديث فــي
المر بطاعة ولة المــر بـالمعروف ،والنهــي عــن الخــروج عليهــم
كثيرة مستفيضة.
ل السنة في هذا الصــل ،فالمعتزلــة مــن ة أه َ
وخالف المعتزل ُ
أصــولهم المــر بــالمعروف والنهــي عــن المنكــر ،ويــدخلون فــي
مفهومه :الخروج على الــولة الظلمــة ،ويجعلــون الخــروج عليهــم
واجبا؛ لنه من المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وهــذا مخــالف
لما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة المستفيضة عن النبي
،ومخالف لما عليه أهل السنة والجماعة ،وهو مخالف لقاعــدة
المــر بــالمعروف والنهــي عــن المنكــر؛ فــإنه يقــوم علــى قاعــدة
احتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلهما ،فإنكــار المنكــر المقصــود
منه هو إزالة المنكر أو تخفيفه ،فإذا كان إنكار المنكر يــؤدي إلــى
منكر أعظم لم يجز النكار ،ول شك أن الخروج على الئمة يؤدي
166
إلى إهلك الحــرث والنســل ،وفســاد ديــن النــاس ودنيــاهم ،فهــذا
التشريع هو مقتضى الحكمة ،فليس تحريــم الخــروج علــى الئمــة
ضا بظلمهم وفجورهم؛ بل درءا لما هو أعظم من ذلك ،والواقــع ر ً
شاهد بأن ما جاءت به الشريعة هـو الغايـة فـي الحكمـة وتحقيـق
المصالح العادلة.
وقوله) :ول ندعو عليهم(.
الدعاء لهم بالصــلح ،هــذا مــوجب النصــيحة ،قــال النــبي :
)الدين النصيحة .قلنا :لمن ؟ قال :للــه ولكتــابه ولرســوله ولئمــة
المسلمين وعامتهم( ]رواه مسلم ) (55من حديث تميــم الــداري
[والنصيحة أن تدعو لهم بالصلح ،اللهم أصلحهم ،اللهم أصــلح
بطانتهم ،اللهــم اهــدهم صــراطك المســتقيم ،ادع ُ لهــم لعــل اللــه
يصلح حالهم ،لكن جرت عادة الناس أنهم ل يلتزمون بهذا المنهج،
وقول النبي فــي الحــديث »:وشــرار أئمتكــم الــذي تبغضــونهم
ويبغضــونكم وتلعنــونهم ويلعنــونكم« ]تقــدم فــي ص[ ليــس هــذا
ســق علــى وجــه إقرارا ،وإنما هذا من قبيل الخبار بالواقع ،ولــم ي ُ َ
التسويغ والتجويز له ،فأهل العلم واليمان ،والصلح والتجرد عــن
الهوى وإيثار الدنيا يحبــون الخيــر لخــوانهم المســلمين ،ول ســيما
ولة المر سواء أعطوهم من الدنيا أم لم يعطوهم ،وفي الحديث
الصحيح » :ثلثة ل يكلمهم اللــه يــوم القيامــة ول ينظــر إليهــم ول
يزكيهم ولهم عذاب أليم« ـ وذكر منهم ـ ... »:ورجل بايع إمامــا ل
يبــايعه إل لــدنيا فــإن أعطــاه منهــا وفــى وإن لــم يعطــه منهــا لــم
ف«]رواه البخــاري ) ،(7212ومســلم ) (108مــن حــديث أبــي يـ ِ
هريرة ،[فهــو دائر مـع الـدنيا ،وهـذا واقــع ،فــأكثر النـاس إنمـا
ينكرون على الولة أمر الدنيا ل أمر الدين ،فل ينقمون تقصــيرهم
في حقــوق اللــه ،إنمــا نقمتهــم الثــرة ،ويطلبــون منافســتهم فــي
الــدنيا ،ولهــذا أوصــى النــبي أصــحابه النصــار فقــال ) :إنكــم
ستلقون بعدي أثرة؛ فاصبروا حتى تلقوني علــى الحــوض(] .رواه
البخاري ) ،(4330ومسلم ) (1061من حديث عبــد اللــه بــن زيــد
رضي الله عنهما [
وقــوله ) :أثــرة( :اســتبداد بالوليــات وبالمــال .وقــوله :
)فاصبروا( أي :ل تنازعوا ولة المر من أجل ذلك.
وكثير ما يكون الخروج على الولة مــن أجــل المنازعــة علــى
السلطة باسم الصلح الــدنيوي أيضــا؛ فينتــج عنــه شــر مســتطير
على الناس ،فتسفك الدماء وتنتهــك الحرمــات ،وتــذهب المــوال،
وينتشر الفساد ،خصوصـا إذا لـم يكــن هنــاك اســتقرار فــي المــر
فتعم الفوضى ،ويتمكــن كــل مجــرم مــن بلــوغ مرامــه ،واقــتراف
إجرامه.
167
وقوله) :ول ننزع يدا من طاعتهم(.
ل ننزع يدا من طاعتهم؛ بل نــدين للــه بطــاعتهم بــالمعروف،
عمل بأمر الله تعالى ،ورسوله .
وقوله) :ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة(.
منل َ نرى طاعتهم بالمعروف واجبة؛ لنها من طاعة الله؛ فَك ُ ُ
أمر الله بطاعته فطاعتهم من طاعته ،فالرسول تجب طــاعته
مــن ســواه ممــن مطلقا بل قيد؛ لن طاعته طاعة للــه مطلقــة ،و َ
أمر الله بطاعته يطاع لكن بقيد ،وهو أل تكون فــي معصــية ،قــال
النــبي ) :إنمــا الطاعــة فــي المعــروف( ]تقــدم فــي ص[.فــإذا
النسان أطاع ولي المر بــالمعروف إيمانــا واحتســابا أثيــب علــى
ذلك ،أما إذا أطاعهم خوفا من عقوبتهم ،فهذا ليــس بمطيــع للــه؛
عاد ِّية قهرية.لن هذه ليست طاعة اختيارية تعبدية؛ بل طاعة َ
168
فرقة( وقوله) :ونجتنب الشذوذ وال ُ
بمخالفة ما أجمع عليه المسلمون وبمخالفة ما دلت عليه
سنة الرسول ،ونحذر من أسباب الفرقة ،وقد أمر الله بهذا
فّرُقوا ((]آل ميعَا ً َول ت َ َ ج ِل الل ّهِ َ حب ْ ِموا ب ِ َ ص ُ في قولهَ )) :واع ْت َ ِ
فواخت َل َ ُ
فّرُقوا َوا ْ ن تَ َ ذي َ كال ّ ِ كوُنوا َ عمران ،[103:وقال تعالىَ )) :ول ت َ ُ
ت ((]آل عمران ،[105:وقال ) :إن م ال ْب َي َّنا ُ جاَءهُ ُ ما َ ن ب َعْد ِ َ
م ْ ِ
هذه المة ستفترق على ثلث وسبعين فرقة كلها في النار إل
واحدة ،قيل :من هي يا رسول الله ؟ قال :من كان على مثل ما
أنا عليه اليوم ،وأصحابي(] .رواه الترمذي ) (2641ـ وقال :هذا
حديث مفسر غريب ل نعرفه مثل هذا إل من هذا الوجه ـ،
والحاكم 1/128من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
ورواه الطبراني في الوسط 8/22من حديث أنس ، وقال:
لم يرو هذا الحديث عن يحيى بن سعيد إل عبد الله بن سفيان
المدني ،وياسين الزيات [.وفي لفظ ) وهي الجماعة ( ] .رواه
أحمد ،4/102وأبو داود ) (4597من حديث معاوية .وأحمد
3/145وابن ماجه ) (3993من حديث أنس .وابن ماجه )
(3992من حديث عوف بن مالك .وصححه شيخ السلم كما
في مجموع الفتاوى ،359-3/345وعلق عليه بتعليق طويل،
وذكره الكتاني في كتابه نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص
[57
لهذا قال الطحاوي ـ رحمه الله ـ في بيان منهج أهل السنة:
)ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ( فمن شذ عن جماعة
ن
م ْ المسلمين شذ عن الصراط المستقيم ،قال تعالى )) :وَ َ
لسِبي ِدى وَي َت ّب ِعْ غ َي َْر َه ال ْهُ َ ن لَ ُما ت َب َي ّ َ ن ب َعْد ِ َ م ْل ِ سو َ ق الّر ُ شاقِ ِ يُ َ
صيَرا ً ((]النساء: م ِت َ ساَء ْم وَ َ جهَن ّ َ
صل ِهِ َ ما ت َوَّلى وَن ُ ْ ن ن ُوَل ّهِ َ مؤ ْ ِ
مِني َ ال ْ ُ
.[115
وهذه الية مما احتج بها الشافعي ـ رحمه الله ـ على حجية
الجماع] .أحكام القرآن للشافعي [1/52
169
البخــاري ) ،(660ومســلم ) (1031مــن حــديث أبــي هريــرة ،[
وهذا من الحب في اللــه ،فنحــب مــن يحبــه اللــه مــن المــؤمنين
َ
ب حــــ ّ ن الل ّــــ َ
ه يُ ِ طوا إ ِ ّ ســــ ُ والمقســــطين ،قــــال تعــــالى )) :وَأقْ ِ
ن ((]الحجرات [9:أي :العادلين ،ونحب التوابين ،ونحــب طي َ
س ِ ق ِ ال ْ ُ
م ْ
الصالحين ،وننزل كل منزلته ،وهذا هو الواجب على المــؤمنين أن
يتحابوا في الله ،قال النبي } :ثلث مــن كــن فيــه وجــد حلوة
اليمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما ســواهما ،وأن يحــب
المرء ل يحبه إل الله { ]تقدم في ص[ ،ومــن شــواهد ذلــك قــوله
} :والذي نفسي بيده ل تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ،ول تؤمنــوا
حتى تحابوا ،أول أدلكم علـى شـيء إذا فعلتمـوه تحـاببتم :أفشـوا
السلم بينكــم {]رواه مســلم ) (54مــن حــديث أبــي هريــرة ،[
وفي الحديث عن النبي } :أوثق ع َُرى اليمان :الحب في اللــه
والبغض في الله {]رواه الطيالسي) ،(376وابــن أبــي شــيبة فــي
المصنف ،15/630والحاكم 2/480من حــديث ابــن مســعود ،
وسأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث ،فقال... :الحديث منكر
ل يشــبه حــديث أبــي إســحاق .العلــل ) ،(1977وانظــر :الضــعفاء
الكـــبير ،3/408والكامـــل فـــي ضـــعفاء الرجـــال .7/100ورواه
الطيالسي ) ،(783وابن أبي شيبة في المصــنف ،19/74وأحمــد
4/286من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهمــا ،وفيــه ليــث
ابــن أبــي سـليم وهــو ضـعيف ــ تهـذيب التهــذيب 3/484ــ ،ولـه
شواهد من حديث عدد من الصحابة ،وانظر :السلسلة الصحيحة )
(998و) ،[(1728ولهذا قال الطحاوي ـ رحمــه اللــه ـــ) :ونبغــض
أهــل الجــور والخيانــة( نبغضــهم لجــورهم ،ل لغراضــنا وشــهواتنا
وأهوائنا وعدم حصولنا على ما نريد ،ل؛ بل نبغضهم في الله ولله،
ومن باب أولــى نبغــض الكفــار ،وأهــل الفســق والعصــيان ،واللــه
َ
م قت ِ ُ
كـ ْ م ْن َ مـ ْ ت الّلـهِ أك َْبـُر ِ م قْ ُتعالى أخبر بأنه يمقت الكافرين )) :ل َ َ
لكــ ّب ُ حــ ّ م ((]غافر ،[10:وأخبر أنه سبحانه وتعالى )) :ل ي ُ ِ سك ُ ْ ف َ أ َن ْ ُ
ن (( ]القصــص: دي َ سـ ِ
ف ِ ب ال ْ ُ
م ْ حـ ّ فورٍ ((]الحــج ،[38:و)) ل ي ُ ِ ن كَ ُ وا ٍ خ ّ َ
قــوْم ِ ن ال ْ َ عــ ِ ضــى َ [77بــل يبغضــهم ســبحانه وتعــالى و )) :ل ي َْر َ
ن ((]التوبة.[96:قي َ س ِفا ِ ال ْ َ
والناس في هذا الواجب ثلثة أقسام:
الول :ولي لله تجب محبته مطلقا.
والثاني :عدو لله يجب بغضه مطلقا.
والثالث :المخلط؛ كالفاسق من المسلمين يحب بحســب مــا
معه من اليمان والطاعة ،ويبغض بحسب مــا معــه مــن الفســوق
والمعصية.
170
والوالي الظالم والجائر ُيبغَــض لمــا معــه مــن الجــور لظلمــه
وجوره وخيانته ،ويحــب بحســب مــا معــه مــن اليمــان ،فالمســلم
الفاجر والظالم ل يسوى بالكافر فــي بغضــه ،ل؛ فمطلــق الخــوة
اليمانية موجــودة كمــا تقــدمت الشــارة ]ص[ إلــى قــوله تعــالى:
خيهِ ((]البقــرة [178:فســمى المقتــول أخــا ن أَ ِ
م ْ ي لَ ُ
ه ِ ف َ
ن عُ ِ )) فَ َ
م ْ
للقاتل ،فكونه قتله هــذا ل يبطــل الخــوة الســلمية الــتي بينهمــا؛
فإن من العدل فـي الحكـم والمعاملـة أن تفــرق بيـن النـاس ،فل
تعط الناس حكما واحدا؛ بل تنزل النــاس منــازلهم بحســب حكــم
الله تعالى ورسوله .
171
م َوال ْب َغْـ َ
ي ن َوال ِْثـ َ مـا ب َط َـ َ
من َْهـا وَ َ ما ظ َهَـَر ِ ش َ ح َ وا ِف َي ال ْ َ
م َرب ّ َ
حّر َ ما َ إ ِن ّ َ
قول ُــوا َ َ
طان َا ً وَأ ْ
ن تَ ُ س ـل ْ َ
ل ب ِـهِ ُ ما ل َ ْ
م ي ُن َـّز ْ كوا ِبالل ّهِ َ
شرِ ُ ن تُ ْ حقّ وَأ ْ ب ِغَي ْرِ ال ْ َ
ن ((]العراف.[33: مو َ ما ل ت َعْل َ ُ ع ََلى الل ّهِ َ
172
على ذلــك ســنة الرســول القوليــة والفعليــة ،كمــا فــي حــديث
المغيرة بن شعبة في الصحيحين ،أنه كان مع النــبي ،قــال:
} فأهويت لنزع خفيه ،فقــال :دعهمــا فــإني أدخلتهمــا طــاهرتين،
فمسح عليهما {]رواه البخاري ) ،(206ومســلم ) ،[(274وهكــذا
في حديث حذيفة في الصحيح أن النبي بال فتوضأ ومســح
على خفيه ]رواه مسلم ) ،[(273وسئل علي عن المسح على
الخفين؟ فقال) :جعل رسول الله ثلثة أيام بلياليهن للمسافر،
ويوما وليلة للمقيم( ]رواه مسلم ) ،[(276وغيرها.
فأحاديث المسح على الخفين متواترة ،ولهذا كان من مذهب
أهل السنة والجماعة المسح على الخفين ،وغسل الرجلين إذا لم
يكونا في خفين ،خلفا للرافضة؛ فإن الرافضة خالفوا الســنة فــي
الحالين ،فقالوا :إن فرض الرجلين هو المسح علــى أعلــى القــدم
من الصابع إلى العظم الناتئ في ظهر القدم ]المبسوط في فقه
المامية ،1/22وشرائع الســلم ،[1/17وإذا كانــا فــي خفيــن فل
يمسحون عليهمــا ]المبســوط فــي فقــه الماميــة ،1/22وشــرائع
الســلم ،[1/17فخــالفوا الســنة مــن الــوجهين ،حيــث قــالوا :إن
فرض الرجلين هو المسح ،ول مسح على الخفين ،ومذهبهم باطل
مخالف للنصوص.
والمسح على الخفين مشروع في السفر والحضر ،فقد دلــت
السنة على التفريق في حكم المسح على الخفين بيــن المســافر
والمقيــم حيــث رخــص النــبي للمقيــم أن يمســح يومــا وليلــة
وللمسافر ثلثة أيام بلياليها.
وكما تقدم ]ص[ أن بعض هــذه المســائل هــي مــن المســائل
الفقهية العملية؛ لكن لما لم يخالف فيها إل المبتدعــة نــص عليهــا
فهي مما يتميز به أهل السنة من المبتدعة.
173
وترتيب الحراسات؛ وما يحتاجون إليه من الغذية وعلف الــدواب،
وغيرها؛ فلهذا ذكر العلماء الحج مع الجهاد.
وذكر الطحــاوي وغيــره هــذه المســألة للتنــبيه علــى مخالفــة
الرافضــة ،فالرافضــة عنــدهم أنــه ل جهــاد إل مــع إمــام معصــوم
]المبسوط ،2/8وشرائع السلم ،[1/232وهـم يقولـون بعصـمة
الئمة الثني عشر أولهم علي ثم الحسن ثم الحسين رضــي اللــه
عنهم ...وآخرهم محمد بن الحسن العسكري ،وهو الذي يسمونه
المام والمهدي المنتظر ،ويقولــون :إنــه دخــل فــي ســرداب فــي
سامراء ،وهم ينتظرونه إلى الن ،ويرون أنه ل جهاد إل معه ،وهذا
المام معدود ل حقيقة له؛ لنه زعمــوا أنــه دخــل الســرداب ســنة
ستين ومائتين أو قريبــا مــن ذلــك ،وهــو دون التمييــز ابــن خمــس
سنين أو أقل ]منهاج السنة ،[1/114ول يــزال حيــا ،وهــذا المــام
كما يقول شيخ السلم ) :لــم ينفعهـم فــي ديــن ول دنيـا( ]منهــاج
السنة .[1/80
فُنص على هذه المسألة للتنبيه على بطلن مذهب الرافضــة،
ثم إنهم لم ينتفعوا بهؤلء الئمة الثني عشر ،سوى علــي فهــو
الذي تولى الخلفــة ،والحســن كــانت لــه مــدة قصــيرة ،أمــا بقيــة
الئمة الذين يدعون لهم العصمة وأنهم أحق بالمامة من كل أحد؛
فلم ينتفعوا بهم ولم تكن لهم ولية ،وهــؤلء الئمــة حكمهــم عنــد
أهل السنة ،كحكم غيرهم بحسب حالهم في دينهم وعلمهم ،وهم
متفاضلون ،فمنهم العلماء؛ كعلي بــن الحســين ،وابنــه محمــد بــن
علي ،وابنه جعفر بن محمد ـ رحمهم اللــه ـ ـ فهــؤلء مــن العلمــاء
الصالحين المعروفين]انظر تراجمهم على الترتيب في سير أعلم
النبلء ،4/386 :و ،401و ،[6/255وفوقهم من له فضل الصحبة
وفضــل القرابــة كعلــي ،وولــديه :الحســن والحســين رضــي اللــه
عنهم.
174
وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة ،وإذا أراد أن يعمل حســنة
فلم يعملها فاكتبوهــا لــه حســنة؛ فــإن عملهــا فاكتبوهــا لــه بعشــر
أمثالها إلى سبع مائة ضعف{] .رواه البخاري ) (7501من حديث
أبي هريرة [
وقد دل القرآن ودلت السنة على كتابة أعمــال العبــاد ،ومــن
ن
ن وَع َـ ِ ن ال ْي َ ِ
مي ـ ِ ن ع َـ ِ مت َل َ ّ
قي َــا ِ قــى ال ْ ُ أدلة ذلــك قــوله تعــالى} :إ ِذ ْ ي َت َل َ ّ
د{ ]ق-17: ب ع َِتيـ ٌ ل إ ِّل ل َـد َي ْهِ َرِقيـ ٌ من قَوْ ٍ ف ُ
ظ ِ ما ي َل ْ ِل قَِعيد ٌ * َما ِ ال ّ
ش َ
، [18ومــن شــواهد ذلــك قــول النــبي } :إذا مــرض العب ـد ُ أو
حا { ]رواه البخاري ) ما صحي ً ل ما كان يعمل مقي ً كتب له مث ُ سافَر ُ
(2996من حديث أبي موسى الشعري [
فهم يكتبون الحسنات والسيئات؛ بل ويكتبون ما سوى ذلــك،
ت ((]الرعــد: شاُء وَي ُث ْب ِ ُ ما ي َ َه َ حوا الل ّ ُ م ُ وقد قيل في قوله تعالى )) :ي َ ْ
[39أي :مــا فــي صــحف الملئكــة ،فيمحــو مــا ل ثــواب فيــه ول
عقاب ،ويثبت ما يترتب عليه الثواب والعقــاب ،أو يمحــو مــا تــاب
منه العبد وتجاوز عنــه ســبحانه وتعــالى].تفســير البغــوي ،4/325
وزاد المسير [4/259
واليمان بالحفظة الكاتبين داخل فــي اليمــان بالملئكــة كمــا
تقدم ]ص[ ،فمن اليمان بالملئكة اليمــان بأصــنافهم وأعمــالهم،
ومنهم الكرام الكاتبون.
175
الشمس ،معهم كفن من أكفان الجنة ،وحنوط من حنــوط الجنــة،
حتى يجلسوا منه مد البصر ،ثم يجيء ملك الموت عليــه الســلم،
حتى يجلس عند رأسه ،فيقول :أيتها النفس الطيبــة اخرجــي إلــى
مغفرة من الله ورضوان قال فتخـرج تسـيل كمـا تسـيل القطـرة
من في السقاء ،فيأخذها ،فإذا أخذها لم يــدعوها فــي يــده طرفــة
عين حتى يأخذوها ،فيجعلوها في ذلك الكفن وفــي ذلــك الحنــوط
ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت علــى وجــه الرض ،قــال:
فيصعدون بها فل يمرون يعني بها على مل من الملئكة إل قــالوا:
ما هذا الروح الطيب؟ فيقولــون :فلن بــن فلن بأحســن أســمائه
التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ،ـ إلى أن قال ـ وإن العبد الكافر
إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال مــن الخــرة ،نــزل إليــه مــن
السماء ملئكة سود الوجوه ،معهم المسـوح ،فيجلسـون منـه مـد
البصر ،ثم يجيء ملك المــوت حــتى يجلــس عنــد رأســه ،فيقــول:
أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى ســخط مــن اللــه وغضــب ،قــال:
سـفود مـن الصـوف فتفــرق فـي جسـده ،فينتزعهـا كمـا ينـتزع ال ّ
المبلول ،فيأخذها ،فإذا أخذها لــم يــدعوها فــي يــده طرفــة عيــن،
حتى يجعلوها في تلــك المســوح ،ويخــرج منهــا كــأنتن ريــح جيفــة
وجدت على وجه الرض ،فيصعدون بهــا فل يمــرون بهــا علــى مل
من الملئكة إل قالوا :ما هذا الروح الخــبيث؟ فيقولــون :فلن بــن
فلن بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ] (...رواه أحمد
4/287ـ واللفظ له ـ ،وأبــو داود ) ،(4753وصــححه ابــن خزيمــة
في التوحيد ص ،119وابن جرير في تهذيب الثارـ مسند عمــر
ـ ،-2/491والحاكم ،1/37من حديث البراء مطول ،وصححه ـ
أيضا ـ ابن القيــم فــي الــروح ص ، 88وإعلم المــوقعين ،1/178
وتهذيب السنن [7/139
الشاهد :أن السنة قد دلــت علــى إثبــات هــذه الصــناف مــن
الملئكة :ملك الموت وملئكة الرحمة وملئكة العذاب.
وفي الصحيحين عن النبي » :كان فيمن كان قبلكــم رجــل
قتل تسعة وتسعين نفسا ،فسأل عن أعلم أهل الرض ،فدل على
راهب ،فأتاه فقال :إنه قتل تسعة وتســعين نفســا! فهــل لــه مــن
توبة ؟ فقال :ل ،فقتله فكمل به مــائة ،ثــم ســأل عــن أعلــم أهــل
الرض ،فدل على رجل عالم ،فقال :إنه قتل مائة نفس! فهل لــه
من توبة ؟ فقال :نعم ،ومن يحول بينه وبين التوبــة؟ انطلــق إلــى
أرض كذا وكذا ؛ فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبــد اللــه معهــم ول
ف
صـ َ ترجــع إلــى أرضــك؛ فإنهــا أرض ســوء ،فــانطلق حــتى إذا ن َ َ
الطريــق أتــاه المــوت ،فاختصــمت فيــه ملئكــة الرحمــة وملئكــة
العذاب ،فقالت :ملئكة الرحمة جــاء تائبــا مقبل بقلبــه إلــى اللــه،
176
وقالت ملئكة العذاب :إنه لم يعمل خيرا قــط ،فأتــاهم ملــك فــي
صورة آدمي ،فجعلوه بينهم ،فقال :قيسوا ما بين الرضــين فــإلى
أيتهما كان أدنى فهو له ،فقاسوه ،فوجدوه أدنى إلى الرض الــتي
أراد فقبضــته ملئكــة الرحمــة «] .البخــاري ) ،(3470ومســلم )
(2766ـ واللفظ له ـ من حديث أبي سعيد الخدري [
ويلحظ أن التوفي جاء في القرآن منسوبا إلى اللــه )) :الل ّـ ُ
ه
ك ال ِّتي س ُ م ِ مَها فَي ُ ْ مَنا ِ ت ِفي َ م ْ م تَ ُ موْت َِها َوال ِّتي ل َ ْ ن َ حي َ س ِ ف َ ي َت َوَّفى ال َن ْ ُ
خَرى((]الزمر.[42: ل ال ُ ْ س ُت وَي ُْر ِ مو ْ َضى ع َل َي َْها ال ْ َ قَ َ
ذي ت ال ّـ ِ م ـو ْ ِ ك ال ْ َ مل َ ُ م َ ل ي َت َوَّفاك ُ ْ ومنسوبا إلى ملك الموت )) :قُ ْ
م ((]السجدة.[11: ل ب ِك ُ ْوُك ّ َ
ة ((]النحــل: كــ ُملئ ِ َ م ال ْ َ ن ت َت َوَّفاهُ ُ ذي َ ومنسوبا إلى الملئكة )) :ال ّ ِ
ذا؟ [28فمن المتوفي إ ً
والجواب :أن الله سبحانه وتعالى هو المتوفي؛ لنــه ســبحانه
ه قــاه ُِر فَـوْقَ ِ
عب َــاد ِ ِ هو الــذي أمــر بــه وبمشــيئته يكــون )) ،وَهُـوَ ال ْ َ
ســل َُنا (( َ
ه ُر ُ ت ت َوَفّت ْ ُ مو ْ ُ م ال ْ َ
حد َك ُ ُ جاَء أ َ ذا َ حّتى إ ِ َ ة َ فظ َ ًح َ
م َ ل ع َل َي ْك ُ ْ س ُ وَي ُْر ِ
]النعام [61:فالملئكة رسل مــن عنــد اللــه يرســلهم لقبــض روح
من شاء من عباده.
ض وأضيف التوفي إلى ملك الموت؛ لنه هو الــذي يتــولى قب ـ َ
س وأخذها أول ما تخرج من الجسد. النف ِ
وأضيف إلى الملئكــة باعتبــار أنهــم يقبضــونها ويتولونهــا بعــد
ذلك.
ل لثبــوت ذلــك علــى الــوجه فكلها حق ،فُنسب التوفي إلى ك ّ
الذي يناسبه.
ن هذه النفــس الكــثيرة الــتي تمــوت فــي وإنها لية عظيمة أ ّ
اللحظة الواحدة يتوفاها ويتولها ملك واحــد ،فهـذا يفيــدنا أن أمـر
الغيب ل تحيط به العقول البشرية ،ول يقــاس علــى المحســوس،
فل ينفع أن تقيس الغائب على الشاهد.
وقد حدث في هذا العصر من المخترعات الباهرة مــا يقــرب
بعض أمور الغيب؛ كالحاسوب ،والشبكة المعلوماتية ،وغيرها ممــا
من و إلى أمكان متباعدة. يرسل الصور والصوات ويستقبلها ِ
177
ل للناس ،فقد خــاض فيــه النــاس ث طوي ٍ ح موضوع ُ حدي ٍ والرو ُ
كثيرا بالحق وبالباطل ،والنـاس فـي شـأن الـروح وحقيقتهـا ثلثـة
مذاهب:
قوم قالوا :إنهــا جــزء مــن البــدن ،أو صــفة مــن صــفاته :إمــا
فس الذي تتردد فـي البـدن ،ومنهـم مـن قـال :إنهـا الحيـاة ،أو الن َ َ
المزاج ،أو نفــس البــدن ،وهــذه القــوال منســوبة إلــى كــثير مــن
المتكلمين.
وقابلهم الفلســفة فقــالوا :إن الــروح ل تقــوم بــه أيــة صــفة،
فالروح ليست داخل البدن ول خــارجه ،ول مباينــة لــه ول مداخلــة
له ،ول متحركة ول ساكنة ،ول تصعد ول تهبط ،ول هــي جســم ول
ع ََرض ،وليس لها أية صفة ،قال شيخ السلم ـ رحمه اللــه ــ فــي
التدمرية) :يصفونها بما يصفون به واجــب الوجــود عنــدهم ،وهــي
أمور ل يتصف بها إل ممتنع الوجود( ]ص [169
فهذان القولن على طرفي نقيض ،وكل منهما باطل.
والقول الوسـط :إن الـروح حقيقـة موجـودة قائمـة بنفسـها،
ولها وجود مستقل عن البدن ،فليست كالعرض الــذي ل يقــوم إل
بجسم؛ لكنها تتصل بالبدن وتنفصل عنه ،وتسري فيه سريانا على
وجــه التقريــب كســريان النــار فــي الفحــم ،وســريان الــدهن فــي
الزيتون ،وسريان المــاء فــي العــود ،المهــم أن لهــا كيانــا يخصـها،
وهي موصوفة بصفات ثبوتية وسلبية ،مثــل :أنهــا تــذهب وتجيــء،
ن
حيـ َ س ِ فـ َ ه ي َت َـوَّفى ال َن ْ ُ
وُتقبض وترسل ،وهذا بنص القرآن )) :الل ّـ ُ
ت ضى ع َل َي َْها ال ْ َ
م ـو ْ َ ك ال ِّتي قَ َ س ُ مَها فَي ُ ْ
م ِ مَنا ِ
ت ِفي َ م ْ موْت َِها َوال ِّتي ل َ ْ
م تَ ُ َ
خَرى ((]الزمــر [42:وفــي الصــحيح عــن النــبي فــي ُ
ل ال ْ س ُ
وَي ُْر ِ
ب وضــعت جنــبي وبــك أرفعــه ،إن الذكر عند النــوم } :باســمك ر ّ
أمسكت نفســي فارحمهــا وإن أرســلتها فاحفظهــا بمــا تحفــظ بـه
عبــادك الصــالحين { ]البخــاري ) ،(6320ومســلم ) (2714مــن
حــديث أبــي هريــرة ،[وهــي مغــايرة فــي حقيقتهــا للجســام
المشهودة.
فهـذا هـو القـول الوســط الـذي دلــت عليـه نصـوص الكتــاب
والسنة ،وهذا مذهب أهل السنة :أن الروح شيء موجــود متميــز،
وهي حقيقة قائمــة بنفســها ،وموصــوفة بصــفات ثبوتيــة وســلبية،
وهي مغايرة في ماهيتها وحقيقتها للجسام المشهودة.
ويتعلق بالروح مسائل كــثيرة اعتنـى بـذكرها ابـن القيــم فــي
صل القول فيها. كتابه »الروح« ،وف ّ
منها :الكلم في خلق الروح فقد قيل :إنها قديمة ،أي :ليست
محدثة ،فل بداية لوجودها ،وهذا باطل؛ بل هــي محدثــة ومخلوقــة
178
كسائر المخلوقات ،فالنســان مخلــوق :روحــه وبــدنه].الــروح ص
[226
ومنهــا :هــل تمــوت الــروح أو ل تمــوت؟ فيــه خلف ،والــذي
رجحه ابن القيم ]الروح ص ،[70وهو الصــواب :أن مــوت الرواح
هو مفارقتها لجسادها؛ فإن أريد هذا القدر فهي ذائقة الموت فـ :
ت ((]آل عمران [185:وإن أريد أنها تصير موْ ِ ة ال ْ َق ُ س َ
ذائ ِ َ ف ٍ )) ك ُ ّ
ل نَ ْ
ما بعد فراقها للبدن فل؛ فالروح باقية؛ إما في نعيم أو عذاب. عد ً
ومن المســائل الــتي طرقهــا ابــن القيــم كــذلك :الفــرق بيــن
النفس والــروح ]الــروح ص ،[325وبّيـن أن النفـس تطلــق علـى
معان متعددة ،والروح تطلــق علــى معــان متعــددة ،وتتفقــان فــي
بعض المواضع ،فإذا قيل ـ مثلـ :خرجت نفسه أو خرجــت روحــه؛
فالمعنى واحد.
ومنها :هل النفس واحدة أو ثلث؟ ]الروح ص [330
الصــحيح :أنهــا واحــدة؛ لكــن ذكرهــا بلفــظ :النفــس المــارة
بالســوء ،والنفــس المطمئنــة ،والنفــس اللوامــة إنمــا هــو باعتبــار
صفاتها ،وإل فهي نفس واحدة.
ومن الناس من يقول :لم الخوض والكلم في الــروح مــع أن
ر
مـ ِ
ك ع َـن ال ـروح قُ ـل ال ـروح م ـ َ
نأ ّْ ُ ِ ْ ِ ّ ِ ِ س ـأ َُلون َ َ
الله تعالى يقول )) :وَي َ ْ
َرّبي ((]السراء [85:؟
والجــواب :أن هــذه اليــة ليــس فيهــا النهــي عــن الكلم فــي
الروح.
ثم إن الروح في الية قد اختلف فيه ،فقيل :إنه الروح المين
جبريل عليه السلم.
وقيل :إنه ملك آخر.
وقيل :المراد بــالروح الــوحي] .تفســير البغــوي ،5/125وزاد
المسير [5/60
وإذا كان المــراد :الــروح الــتي هــي النفــس ،فــإن اللــه قــال:
مرِ َرّبي ((]السراء [85:وليس فــي هــذا النهــي )) قُل الروح م َ
نأ ْ ِ ّ ُ ِ ْ
عن الكلم في الروح ،والواجب هــو الكلم فيهــا بعلــم ،أمــا الكلم
فيها بغير علم؛ فهذا هو المحذور ،وفي كل مقام أيضا ،أمــا الكلم
في الروح في حدود ما جاء في الكتاب والسنة؛ فهذا حــق وبيــان
لكتاب الله تعالى ،وسنة رسوله .
والكلم والبحث في الروح له فائدتان:
الولى :معرفة الحق من الباطل من أقوال الناس.
والثانية :معرفة ما ورد في الكتاب والسنة في شأن الروح.
وضرب شيخ السلم ابـن تيميـة فـي الرسـالة التدمريـة ]ص
[169بها المثل لبيان وتقرير أن قيام الصفات بالموصوف ل يلزم
179
منه المشابهة لغيره ،ليقرر بذلك أن إثبات صفات الله ل يســتلزم
معرفة كنهــه ول تشـبيهه بخلقــه ،فــالروح مـع أنهـا موصـوفة فــي
النصوص بصفات ثبوتية وســلبية؛ فــالعقول عــاجزة عــن تكييفهــا،
وهي عن تكييف الرب أعجــز ،وهــي مباينــة للجســام المشــهودة،
ن متضــمن لفحــام ومباينة الله لخلقه أعظم ،وهــو كلم ناصــع بي ّـ ٌ
المبطلين المعطلين.
180
ملئ ِك َـ ُ
ة ت َوال ْ َ م ـو ْ ِت ال ْ َ مـَرا ِ ن فِــي غ َ َ مو َ تعالى )) :وَل َوْ ت َـَرى إ ِذ ِ الظ ّــال ِ ُ
ن (( ب ال ْهُــو ِ ذا َ ن عَـ َ ج ـَزوْ َ م تُ ْ م ال ْي َـوْ َ س ـك ُ ُ ف َ جوا َأن ُ خرِ ُ م أَ ْديهِ ْ
باس ُ َ
طوا أي ْ ِ َ ِ
ب ذا ِ ن ال ْعَ ـ َ مـ َ م ِ قن ّهُ ْ ذي َ ]النعام ،[93:ومن ذلك قــوله تعــالى )) :وَل َن ُـ ِ
َ ال َد َْنــى ُ
ن ((]الســجدة،[21: جُعــو َ م ي َْر ِ ب الك َْبــرِ ل َعَل ُّهــ ْ ذا ِ ن ال َْعــ َدو َ
َ
نمـ ْ ن وَ ِ قو َ من َــافِ ُب ُ ن الع َْرا ِ م َ م ِ حوْل َك ُ ْ ن َ م ْ م ّ وكذلك قوله تعالى )) :وَ ِ
َ
م ســن ُعَذ ّب ُهُ ْم َ مُهــ ْ ن ن َعْل َ ُ ح ُم نَ ْ مه ُ ْق ل ت َعْل َ ُ فا ِ دوا ع ََلى الن ّ َ مَر ُدين َةِ َ ل ال ْ َ
م ِ أهْ ِ
ظيـم ٍ ((]التوبــة [101:وهــو عــذاب ب عَ ِ ذا ٍ ن إ َِلى ع َـ َ دو َ م ي َُر ّ ن ثُ ّ مّرت َي ْ ِ
َ
النار.
ومن أدلة عذاب القبر ونعيمــة مــا ثبــت فــي الصــحيحين عــن
النــبي ) : إن أحــدكم إذا مــات عــرض عليــه مقعــده بالغــداة
والعشي ،إن كان من أهل الجنة فمن أهــل الجنــة ،وإن كــان مــن
أهل النار فمن أهل النار ،يقال :هذا مقعدك حتى يبعثك اللــه يــوم
القيامة( ]البخاري ) ،(1379ومسلم ) (2866من حديث ابن عمر
رضي الله عنهما[ وفي حديث البراء عن النبي :قــال ) :إن
المؤمن ُيفتح له باب إلى الجنة ،فيأتيه من روحها وطيبها ،ويفسح
له في قبره مد بصره ،وأن الكافر يفتح له باب إلى النــار ،فيــأتيه
من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيــه أضــلعه(
]تقدم في ص[ وقال النبي ) :إنه أوحي إلى أنكــم تفتنــون فــي
قبوركم مثل أو قريبا مــن فتنــة المســيح الــدجال :فيــوتى أحــدكم
فيقال :ما علمك بهذا الرجل ؟ فأمــا المــؤمن فيقــول :هــو محمــد
رسول اللــه جاءنــا بالبينــات والهــدى ،فأجبنــا واتبعنــا ،فيقــال :نــم
ن كنت لموقنا به ،وأما المنافق فيقــول :ل أدري صالحا قد علمنا إ ْ
ســمعت النــاس يقولــون شــيئا ؛ فقلتــه( ]رواه البخــاري )،(86
ومسلم ) (905من حديث أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما[.
ومن أدلة عذاب القبر ما ورد من الســتعاذة بــالله منــه ،كمــا
في الذكر بعد التشهد ففي حديث أبي هريرة قال :قال رسول
الله ) :إذا فرغ أحــدكم مــن التشــهد الخــر؛ فليتعــوذ بـالله مــن
أربــع :مـن عـذاب جهنــم ،ومـن عــذاب القــبر ،ومـن فتنـة المحيــا
والممات ،ومــن شــر المســيح الــدجال( ]رواه البخــاري )،(1377
ومسلم ) (588ـ واللفظ له ـ عن أبي هريرة [
وأحاديث كــثيرة فيهــا الســتعاذة بــالله مــن عــذاب فــي النــار
وعـذاب فـي القـبر] .كحـديث عائشـة فـي البخـاري )،(1372
ومسلم ) ،(586وحديث أنس في البخاري ) ،(2823ومسلم )
،(2706وحديث سعد بن أبي وقــاص فــي البخــاري )،(6730
وحديث ابن مسعود في مسلم ) ،(2723وحديث أم حبيبــة
في مسلم ) ،(2663وغيرها[
181
وأكثر الحاديث فيها) :أنــه يــأتيه ملكــان( ]كحــديث الــبراء
وقد تقدم في ص ،وحديث أنــس وقــد تقــدم فــي ص [ ،وجــاء
عند الترمذي تسميتهما) :المنكر والنكير( ]تقدم فــي ص[ ،وســئل
المام أحمد عن ذلك فأثبت تسمية هذين الملكيــن].فــي طبقــات
الحنابلة :1/135قال أحمد بن القاسم :يا أبا عبد الله تقر بمنكر
ونكير ،وما يروى من عذاب القبر؟ فقال :نعم ،سبحان اللــه! نقــر
بذلك ونقوله ،قلت :هذه اللفظة منكر ونكير تقول هــذا ،أو تقــول
ب القبر [. ن ،وعذا ُ ملكين؟ قال :نقول :منكٌر ونكيٌر ،وهما ملكا ِ
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا كله ،واليمان بفتنة القــبر
وعذابه ونعيمه من اليمان باليوم الخر؛ فإن اليمان باليوم الخــر
يدخل فيه ما يكون بعد الموت.
واليمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه مـن اليمـان بـالغيب؛ لن
الله ستر عن الخلق أحوال أهل القبور ،وربمــا كشــف لمــن شــاء
بعض ذلك ،وقـد أطلـع اللـه سـبحانه نـبيه علـى حـال صـاحبي
مـّر بهمــا } :إنهمــا ليعــذبان ومــا يعــذبان فــي القبرين فقــال لمــا َ
كــبير {]رواه البخــاري ) ،(216ومســلم ) (292مــن حــديث ابــن
عباس رضي الله عنهمــا [.فــأطلعه تعــالى علــى حالهمــا ،وســبب
عذابهما ،ولما سمع ذات يــوم صــوتا قــال ) :يهــود تعــذب فــي
قبورها(].رواه البخاري ) ،(1375ومسلم ) (2869عن أبي أيــوب
[
قد ُيكشف لبعض العباد شيء من أحــوال أهــل القبــور ،وفــي
هذا أخبار كثيرة ،يــذكرها المعنيــون بهــذا مــن أهــل العلــم]انظــر:
مجموع الفتــاوى ،4/296و ،24/376وشــرح حــديث النــزول ص
،399والروح ص ،119وأهوال القبور ص ،[61وفيها تصديق لما
أخبر به ، وثبت عنه أنه قال) :لول أل تـدافنوا لــدعوت اللــه
أن ُيسمعكم من عذاب القبر ما أسمع( ]رواه مسلم ) (2868من
حديث أنس [لو كشف للناس أحوال أهل القبور لفروا وهــاموا
على وجوههم ،ولما دفنوا موتاهم.
وأنكر عذاب القبر ونعيمه وسؤاله وفتنتــه الملحــدة الزنادقــة
]الروح ص ،105وَرد ّ عليهم في ص [111ويلزم على قول مــن
يقول :إن الروح عرض وليست شيئا قائما بنفسه؛ أنه ليس هنــاك
عــذاب ول نعيــم؛ لنهــا معدومــة ،ولهــذا قــال ابــن القيــم فــي
النونية]ص [25ـ لما ذكر أمر الرواح وبقاءها ـ :
م وَل َ ب َِلىسو ُ َتبَلى ال ُ
ج ُ ماح ل َ َتبَلى ك َ َ ك الرَوا ُ كذل ِ َ وَ َ
ن الّلح َ
ما ِ
ندا ِ
ن الب َ ة عَ ِ ج ً
خارِ َ
ح َ أرَوا ِ م بالـ جه ُ قّر ال َك لم ي ُ ِل ذ َل ِ َ
َولج ِ
غاي َةِ الُبطل َ ِ
ن ذا في َ مت وَ َ َقا َ ض ب َِها
ض أعَرا ٍ من َبع ِ ل َك ِن َّها ِ
182
نشا ِ م َ داَننا َواللهِ أعظ َ ُ أب َ ح َبعد َ فراقَِها ن للروا ِ شأ ُ فال ّ
نحا ِ ح والّري َ َقد ن ُّعمت ِبالّرو ِ مدائ ِ ٌ
م َ ب أو ن َِعي ٌ ذا ٌ ما ع َ إ ّ
نحَيوا ِ جن ّةِ ال َ تجني الّثماَر ب ِ َ مع شكل َِها ساِرحا ً َ وتصيُر طيرا ً َ
نما ِ جث ْ َ ك ال ُ حّتى ت َُعود َ ل ِذ َل ِ َ َ ل َوارد َة ً لنَهارٍ ِبها وَت َظ َ ّ
ن
ضرٍ َرّيا ِ طيرٍ أخ َ ف َ جو ِ ِفي َ دوا ن اسُتشهِ ُ ح الذي َ ن أروا َ ل َك ِ ّ
ن
دا ِ ح والب َ مِهم ِللّرو ِ ون َِعي ِ شِهم عي ِ ة في َ ك مزي ّ ٌ ذا َ فلُهم ب َ
ر
طي ِ ك ال ّ م تل َ سا َأج َ ضُهم عا َ م لرب ِّهم فأ َ سو َ ج ُ ب َذ َُلوا ال ُ
نسا ِ بالح َ
ن
سا ِ لن َ نا ِ ساك ِ ِ م َ مأوَىً ل ََها ك َ َ َ ل إليَها َتنت َِهي وَل ََها قََناِدي ٌ
دارِ في ذي ال ّ منَها ب ِهَ ِ حال َةٍل َ م ُ ت أك َ ح َبعد َ المو ِ فالّرو ُ
ن
ما ِ جث َ ُ
ن
صاُرنا ب ِعَِيا ِ عايَنت أب َ قد َ ذي ن ال ِ م َ
ها أشد ّ ِ قا َ ب أش َ َوع َ
ذا ُ
ن
ذي ُنكرا ِ ه ت َّبا ل ِ ِ ذا ك ُل ّ ُ
َ ض أَبوا ن ِبأن َّها ع ََر ٌ قائ ُِلو َ وال َ
وقوله) :لمن كان له أهل( عذاب القبر ليس لكل واحد ،وجاء
التصريح بعذاب القبر ونعيمه للمؤمن والكافر ،أما العاصــي؛ فــإن
أكثر النصوص لم تتعرض له ،كما هو ظاهر فــي أمــر فتنــة القــبر،
إنما ذكر المؤمن الذي ينعم بعد الفتنــة ،والكــافر والمنــافق الــذي
سكت عنــه يعذب بعدها ،لكن العاصي ُيخاف عليه العذاب ،فالذي ُ
هذا على خطر ،فالمعاصي سبب للعذاب في الــدنيا وفــي الــبرزخ
وفي الخرة ،والعاصي تحت المشــيئة إن شـاء اللـه غفــر لـه وإن
ج من العذاب ،وهو من أهـل شاء عذبه ،وأما المؤمن التقي فهو نا ٍ
النعيم والثواب.
ومسائل القبر هذه ،هي التي بنى عليها الشيخ محمد بن عبد
الوهاب ـ رحمه الله ـ رسالته المعروفة بـ»ثلثة الصول«.
وقد بلغ المر ببعض من يعظمون الوطن إلى درجــة العبــادة،
أن يقول:
ت في الدنيا بنو وطني سأذكرهم * متى ما عش ُ
وفي قبري أقول له * إذا ما جاء يسألني
م بنو وطني! م ديني * وديني ه ْ بنو وطني ه ُ
]هذه البيات للشاعر السوداني عبدالرحمن شوقي ،ونشرت
في جريدة القصيم ،العدد الرابع ،في جمادى الولى عام 1379
هـ ،كذا أفادني الشيخ ،وهذه الجريدة توقفت منذ زمن بعيد ،ولم
أجد هذا العدد[.
183
وقوله) :عن ربه ودينه ونبيه على ما جاءت به الخبار عــن
رسول الله ،وعن الصحابة رضوان الله عليهم(.
هذا هو المعتمد ،فإنما إثبتنا هذه المور الغيبية لــورود الخبــار
الصحيحة بها ،فنؤمن بذلك تصديقا لله تعالى ،ورسوله ،واتباعا
لسلف هذه المة.
وقوله) :والقبر روضة مــن ريــاض الجنــة أو حفــرة مــن حفــر
النيران(] .هذا لفظ حديث رواه الترمذي ) (2460من حديث أبـي
هريرة عن النبي ،وقال :غريب ل نعرفه إل من هذا الــوجه،
وضعفه العراقي فــي المغنــي ،1/468والســخاوي فــي المقاصــد
الحسنة ) [ (758هذا تكميل للموضوع ،وفيه إشارة إلــى النعيــم؛
لنه في العبارة السابقة لم يقل :بعذاب القبر ونعيمه ،ففــي هــذه
الجملة تنبيه على النعيم) ،والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة
من حفر النيران( ،هذه أحوال الناس في القبر ،منهم :من هو في
نعيم وفي سرور ،في روضة مــن ريــاض الجنــة يــأتيه مــن روحهــا
وطيبها ،كما يشاء الله سبحانه وتعالى على ما يليق بحال البرزخ؛
لن الدور ثلثة:
دار الدنيا ،وهي :دار البتلء والعمل.
ودار البرزخ ،وهي :ما بين المــوت إلــى البعــث ،وهــي :محــل
عذاب القبر ونعيمه.
والدار الخرة التي بعد البعث ،وهي :دار القرار ،وليــس فيهــا
نقلة ول رحيل ول تحول.
أما القبر ،فليس هو كما يجري على ألســن النــاس إذا دفنــوا
الميت قالوا :انتقل إلى مثواه الخير؛ فإن القبر ليس هــو المثــوى
الخير ،بل بعده رحيل وانتقال من دار البرزخ إلــى الــدار الخــرة:
إلى الجنة أو النار ،واســتنبط بعـض أهــل العلــم هـذا المعنــى مـن
َ
م ((]التكــاثر[2-1: كــاث ُُر * حــتى ُزْرُتــ ُ م الت ّ َ قــوله تعــالى )) :أل َْهــاك ُ ُ
والزائر ل بد لــه مــن انصــراف؛ لنــه غيــر مقيــم ]الجــامع لحكــام
القرآن ،22/450وتفسير ابن كثير ،[8/474فأهل القبــور ليســوا
بمقيميــن أبــدا فــي قبــورهم؛ بــل سينصــرفون عنــدما يــدعوهم
مب * ي َـوْ َ ري ـ ٍ مك َــا ٍ
ن قَ ِ ن َ مـ ْ من َــاد ِ ِم ي ُن َــاد ِ ال ْ ُ
معْ ي َـوْ َ س ـت َ ِ الــداعيَ )) :وا ْ
خف َ ج ((]ق )) ،[42-41:وَن ُ ِ ِ خُروم ال ْ ُ ك ي َوْ ُ حقّ ذ َل ِ َ ة ِبال ْ َ ح َصي ْ َ
ن ال ّمُعو َ س َ يَ ْ
َ
شاَء ن َ م ْض إ ِّل َن ِفي الْر ِ م ْ ت وَ َ وا ِ م َس َن ِفي ال ّ م ْ صعِقَ َ صورِ فَ َ ِفي ال ّ
ُ
ن ((]الزمر.[68: م ي َن ْظ ُُرو َ م قَِيا ٌ ذا هُ ْ خَرى فَإ ِ َ خ ِفيهِ أ ْ ف َ
م نُ ِه ثُ ّالل ّ ُ
184
كل هذه المعاني والمسائل مندرجة في اليمان باليوم الخر،
ل الملــل الثلث :المســلمون واليمان بالبعث مما أجمــع عليــه أهـ ُ
واليهـود والنصـارى ،وممـا اتفقـت عليـه الرسـل مـن أولهـم إلـى
آخرهم ،وليس فيه اختلف بين فرق المة.
ول ينكــر بعــث الجســاد إل الفلســفة الملحــدة]درء تعــارض
العقــل والنقــل ،5/250والجــواب الصــحيح ،3/281ومجمــوع
الفتاوى 4/283و ،314والصــواعق المرســلة ، [4/1209ومنهــم
من دخل في السلم وادعى ذلك على الشريعة ،كــابن ســينا]درء
تعــــارض العقــــل والنقــــل 1/8و ،10/59وســــير أعلم النبلء
،17/531والكافية الشافية ص ، [108يقول :إن البعث والجزاء
روحاني ل جسماني ،فأنكر معاد الجســاد ،فجعلــوا مــا جــاء فــي
النصوص أمورا روحانية ،وهذا إنكار مع تلبيس.
ويوم القيامة اسمه يوم البعث؛ لن فيه البعث ،ويوم الجمــع؛
لن الله يجمع الولين والخرين للحساب.
وسبق الكلم على أدلة البعث عند قول الطحاوي) :واليمان:
هو اليمان بالله ،وملئكته ،وكتبه ،ورسله ،واليوم الخر( ]ص[.
ومن القوال الباطلــة المعروفــة عــن المتكلميــن قــولهم :إن
البعث يكون بجمع تلك الجزاء ،وهذا يرجــع إلــى مقولــة معروفــة
هي :إن الجسام مركبة من جــواهر مفــردة ،والجــوهر الفــرد هــو
الجزء الذي ل يتجــزأ ،وهــم منــازعون فــي دعــوى وجــود الجــوهر
الفرد.
والتحقيق أنــه مــا مــن جــزء إل ويتجــزأ حــتى يبلــغ إلــى غايــة
صغيرة فيستحيل أو يعدم ،كما قال شيخ السلم ـ رحمــه اللــه ـــ.
]مجموع الفتــاوى ،16/270و ،17/246ومنهــاج الســنة 1/212و
2/139و [210
فهؤلء القــائلون بنظريــة الجــوهر الفــرد يقولــون :إن البعــث
يكون بجمع تلك الجــزيئات :فــإذا مــات الميــت وتفرقــت جزيئاتــه
فيكون البعث بجمع تلك الجزيئات.
وهذا باطل؛ فإن الجسام تستحيل وتتغير وتتحول من طبيعــة
إلى طبيعة ،ثم يقال :إنه لو كان البعث بجمع تلك الجزيئات علــى
فرض صحة الدعوى؛ للزم أن يكون كل إنسان يبعث علــى هيئتــه
التي كان عليها ،الكبير الهرم على هيئتــه ،والصــغير كــذلك ،وهــذا
مخالف للنصوص التي بي ّــن اللــه تعــالى فيهــا أنــه يعيــد مــا تفــرق
واستحال ،ثــم ينشــئها ســبحانه وتعــالى كمــا يشــاء نشــأة أخــرى:
َ َ ك وَأ َب ْ َ َ َ َ
تما َه هُوَ أ َ كى * وَأن ّ ُ ح َ
ض َ
ه هُوَ أ ْ من ْت ََهى * وَأن ّ ُك ال ْ ُ
ن إ َِلى َرب ّ َ )) وَأ ّ
َ َ
من َــى *ذا ت ُ ْ ن ن ُط ْ َ
ف ـة ٍ إ ِ َ م ْ ن الذ ّك ََر َوال ُن َْثى * ِ جي ْ ِخل َقَ الّزوْ َ ه َ حَيا * وَأن ّ ُوَأ ْ
وأ َن عل َيــه الن ْ َ
خــَرى ((]النجــم ،[47-42:وقــال تعــالى: شــأة َ ال ُ ْ َ ّ َ ْ ِ ّ
185
ن ال ْ َ قــون َ ََ َ َ
ن حـ ُ ن * نَ ْ قو َ خــال ِ ُ حـ ُ م نَ ْ هأ ْ خل ُ ُ َ ُ م تَ ْ ن * أأن ْت ُـ ْ من ُــو َ ما ت ُ ْ م َ )) أفََرأي ْت ُ ْ
قَدرنا بينك ُم ال ْموت وما نحن بمسبوقين * ع ََلى أ َن نبــد َ َ
مَثــال َك ُ ْ
م لأ ْ ْ َُ ّ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ِ َ ْ ُ ِ َ ّْ َ ََْ ُ
ن ((]الواقعــة [61-58:ننشــئكم نشــأة ل مو َ ما ل ت َعْل َ ُ م ِفي َ شئ َك ُ ْ وَن ُن ْ ِ
تعلمونها ول تتخيلونها.
وقد ثبت في النصوص ذكر خلقة من يدخل الجنة ومن يدخل
النار ،وأن أجسامهم تكون ليست علــى هيئة أجســام النــاس فــي
هذه الدنيا؛ بل تختلف اختلفا كبيرا ]في صحيح البخاري )،(6551
و مسلم) (2852عن النبي » :ما بيــن منكــبي الكــافر مســيرة
ثلثة أيام للراكــب المســرع« ،وفــي صــحيح البخــاري ) ،(3326و
مســلم) (2841عــن النــبي » : خلــق اللــه آدم وطــوله ســتون
ذراعا ...فكل من يدخل الجنة علــى صــورة آدم« ،[.ينشــئها اللــه
نشأة أخرى تليق بالحيــاة الخــرة عــذابها ونعيمهــا ،وليــس البعــث
دا من عدم؛ بل البعث إعادة ،وهــذا هــو الــذي أنكــره الكفــار، إيجا ً
فإنهم ل ينكرون أن الله يخلق مثلما خلق ،فهم يشاهدون أن الله
يخلق الجيال ،إنما ينكرون أن يعيد الله مـا اسـتحال مـن أبـدانهم
ق ذا ك ُن ّــا ت َُراب َـا ً أ َإ ِن ّــا ل َفِــي َ ْ وتفرق من أجسادهم أن يعيــده )) :أ َإ ِ َ
خل ـ ٍ َ
نمب ُْعوث ُــو َ ما ً وَُرَفات َا ً أإ ِن ّــا ل َ َ ظا َ ع َ ذا ك ُّنا ِ ديد ٍ ((]الرعد )) ،[5:وََقاُلوا أ َإ ِ َ ج ِ َ
َ َ
مــا ي َك ْب ُـُر فِــي م ّ قا ً ِ خل ْ َ ديد َا ً * أوْ َ ح ِ جاَرة ً أوْ َ ح َ كوُنوا ِ ل ُ ديد َا ً * قُ ْ ج ِ قا ً َ خل ْ َ َ
َ َ ّ ُ
مـّرةٍ (( ل َ م أوّ َ ذي فَطَرك ُـ ْ ل ال ـ ِ ن ي ُِعيـد َُنا قُـ ِ مـ ْ ن َ قولو َ سي َ ُ م فَ َ دورِك ُ ْ ص ُُ
دي ـد ٍ (( ج ِ ق َ ْ َ ]السراء [51-49:اليات )) ،ب َ ْ
خل ـ ٍ ن َ مـ ْ س ِ م ِفي لب ْ ٍ ل هُ ْ
]ق ،[15:ولهذا أنكر العلماء على جهم بن صفوان ومن وافقه بأن
المعاد هو أن يخلق الله الخلق خلقا جديدا ليس بإعادة ،يقول ابن
القيم ـ في فصل طويل في الشافية الكافيــة ]ص [23عــن جهــم
ومقالته ـ :
جودا ً َثاني ه وُ ُ دما ً ويقل ِب ُ ُ عَ َ ه
ق ُ خل َ ل َ ه َيجعَ ُ ن الل َ ضى ِبأ ّ وَقَ َ
ك والفل ُ
ك أمل ُ ح والـ ي والروا ُ س ّ كر ِ ش وال ُ الَعر ُ
ن
مَرا ِ ق َ وال َ
من ض وَ ِ ض والَبحُر المحي ُ
من ع ََر ٍ ن ِ وا ِ أك َ ط وسائ ُِر الـ والر ُ
ن ما ِ جث َ ُ
نل َفا ِ ه أث ٌَر ك َظ ِ ّ قى ل َ ُ َيب َ ضل مح َ سُيفِنيهِ الفَناَء ال َ ل َ كُ ّ
ن
ما ِ عاد َة ً ب َِز َ ض الوجود ِ إ َ مح َ َ م أيضا ً ثانيا ً دو َ مع ُ ذا ال َ وي ُِعيد ُ َ
ن
سُبوه للقرآ ِ جهم ٍ وقد ن َ َ َ دى دا ل َ َ مب َ ك ال َ هذا المعاد ُ َوذل ِ َ
ن
كفَرا ِ قال ََته إلى ال ُ م َ َقاُلوا َ ن سيَنا وال َُلى ذي َقأد َ اب َ هذا ال ِ َ
ن
ليما ِ ل ع ََناه ُ ِبا ِ سو َ ن الّر ُ أ ّ موا ذا وَتوهّ ُ ن َ ل الذها ُ لم َتقب َ ِ َ
هان؟ عبد ُه ُ المبُعوث بالُبر َ أو َ ذا؟ ل َ ب اللهِ أّنى َقا َ كتا ُ هذا ِ َ
ولهذا جعل الله من حجته على المكذبين أن العادة في نظر
النسان وبالنسبة لقــدرة النســان أهــون مــن البتــداء )) ،أ َفَعَِيين َــا
186
ديــد ٍ ((]ق،[15: ج ِ ق َ ن َ ْ َ ل َبــ ْ َ ِبــال ْ َ ْ
خلــ ٍ مــ ْ س ِ م ِفــي لْبــ ٍ هــ ْ ل ُ ق الوّ ِ خل ِ
م* مي ٌ
ي َر ِ
م وَه ِ َ
ظا َي ال ْعِ َ ح ِ
ن يُ ْم ْ ل َ ه َقا َ ق ُخل ْ َي َ س َ مث ََل ً وَن َ ِ
ب ل ََنا َضَر َ )) وَ َ
ل َ ْ َ َ َ
م ((]يس-78: ق ع َِلي ٌ
خل ٍ مّرةٍ وَهُوَ ب ِك ُ ّ ل َ ها أوّ َ شأ َ ذي أن َ حِييَها ال ّ ِ
ل يُ ْ قُ ْ
[79وهذا أحد أدلة البعث الــتي فيهــا الــرد علــى المكــذبين ،وقــد
تقدم ذكرها] .ص عند قوله :باعث بل مشقة[
187
ن ذي َ جـَزى ال ّـ ِ سـي ّئ َةِ فََل ي ُ ْ
جــاء ِبال ّ مــن َ من ْهَــا وَ َخي ْـٌر ّ ه َ سن َةِ فَل َ ُح َجاء ِبال ْ َ َ
ن((]القصــص ،[84:وفــي اليــة ُ
ملــو َ َ
ما كــاُنوا ي َعْ َ ّ
ت إ ِل َ سي َّئا ِملوا ال ّ ُ عَ ِ
َ
سـي ّئ َ ِ
ة جــاَء ِبال ّ ن َ مـ ْمَثال َِها وَ َ
شُر أ ْ ه عَ ْ سن َةِ فَل َ ُ ح َ جاَء ِبال ْ َ ن َ م ْ الخرىَ )) :
ن ((]النعــام ،[160:ول يعــذب مــو َ َ ْ
م ل ي ُظل ُ مث ْلهَــا وَهُـ ْ َ جَزى إ ِّل ِ َفل ي ُ ْ
خ ـَرى (( ُ
أحــد بــذنب غيــره يقــول تعــالىَ )) :ول ت َـزُِر َوازَِرة ٌ وِْزَر أ ْ
ة
]النعام [164:والله تعالى ينبه إلــى أن دخــول أهــل الجنـةِ الجنـ َ
ن ((]الســجدة[17: مُلــو َ مــا َ
كــاُنوا ي َعْ َ جــَزاًء ب ِ َ بســبب أعمــالهم )) َ
و)البــاء( ســببية ،فاليمــان والعمــل الصــالح ســبب دخــول الجنــة،
ن (( سُبو َ كاُنوا ي َك ْ ِما َ جَزاًء ب ِ َوالكفر والمعاصي سبب دخول النار )) َ
]التوبة ،[95:وتفصيل هذا في القرآن كثير جدا.
188
مــا ك َــاُنوا ك ل َنسـأ َل َنه َ
ن * عَ ّ مِعيـ َ ج َمأ ْ العمال ،قال تعــالى )) :فَوََرب ّـ َ َ ْ ّ ُ ْ
مم إ ِن ُّهــ ْ فــوهُ ْ ن ((]الحجــر ،[93-92:وقــال تعــالى )) :وَقِ ُ مُلــو َ ي َعْ َ
ْ
فــى ك كَ َ ن ((]الصــافات ،[24:وقــال تعــالى )) :اقْ ـَرأ ك َِتاب َـ َ سُئوُلو َ م ْ َ
َ ً َ
م ع َلي ْ َ ْ س َ
مــا سيب َا ((]السراء ،[14:وقــال تعــالى)) :فَأ ّ ح ِ ك َ ك الي َوْ َ ف ِ ب ِن َ ْ
ســيَرا ً * وََين َ ُ
ب قِلــ ُ ساب َا ً ي َ ِ ح َ ب ِ س ُ حا َ ف يُ َ سو ْ َ مين ِهِ * فَ َ ه ب ِي َ ِ
ي ك َِتاب َ ُ ن أوت ِ َ م ْ َ
ف س ـو ْ َ َ َ ُ َ َ َ
ه وََراَء ظهْـرِهِ * ف َ ي ك ِت َــاب َ ُ ن أوت ِـ َ مـ ْ ما َ سُروًرا * وَأ ّ م ْ إ ِلى أهْل ِهِ َ
ً َ ً َ ً
سـُروَرا (( م ْن فِــي أهْل ِـهِ َ ه ك َــا َ سـِعيَرا * إ ِن ّـ ُ صـلى َ عو ث ُب ُــوَرا * وَي َ ْ ي َـد ْ ُ
]النشقاق.[13-7:
ومن الحساب ما فيه مناقشة كما قال الرسول ) :من
ذب( ]تقدم في ص[. نوقش الحساب ع ُ ّ
ومن المحاسبة ما جـاء فــي الحـديث عـن الرسـول قــال:
ت كــذا فــه عليــه ،فيقــول :عمل ـ َ دكم من رّبه حتى يضع كن َ َ )يدنو أح ُ
ت كــذا وكــذا؟ فيقــول :نعــم، وكــذا؟ فيقــول :نعــم ،ويقــول :عمل ـ َ
فيقرره ،ثم يقول :إني سترت عليك في الــدنيا ،فأنــا أغفرهــا لــك
اليوم( ]رواه البخاري ) (6070ـ واللفــظ لــه ـــ ،ومســلم )(2768
من حديث ابن عمر رضــي اللــه عنهمــا ،[.حســاب يســير وعــرض
للعمال ،ليس فيه مناقشة.
هذا كله يدخل في إطــار الحســاب ،وهنــاك ســؤال يمكــن أن
ل أ َك َـذ ّب ُْتم ؤوا قَــا َ جــا ُ ذا َ حت ّــى إ ِ َ يدخل في الحســاب ،قــال تعــالىَ )) :
َ
ن((]النمــل،[84: مل ُــو َ م ت َعْ َ كنُتـ ْ ذا ُ مـا َ مـا أ ّ عل ْ ً حيط ُــوا ب َِهـا ِ م تُ ِ ِبآَياِتي وَل َ ْ
ل ما َ َ
ن((]القصص.[65: سِلي َ مْر َ م ال ْ ُ جب ْت ُ ُ ذا أ َ قو ُ َ م فَي َ ُ م ي َُناِديهِ ْ ))وَي َوْ َ
فأحوال القيامة وأهوالها عظيمة ،فيا له من يوم مــا أعظمــه!
))أ ََل يظ ُن ُأول َئ ِ َ َ
ظيم ٍ ((]المطففيــن[5-4: ن * ل ِي َوْم ٍ ع َ ِ مب ُْعوُثو َ ك أن ُّهم ّ َ ّ
م ن وََراءهُـ ْ ة وَي َـذ َُرو َ جل َـ َ ن ال َْعا ِ حب ّــو َ ن هَؤ َُلء ي ُ ِ وثقيل ،قال تعالى )) :إ ِ ّ
قيًل{ ]النسان [27:وعسير؛ لكن على الكافرين ،أمــا علــى ما ث َ ِ ي َوْ ً
أهل اليمان والتقى فهو عليهم يسير ،ولهذا يقول تعالى )) :ع ََلــى
سيرٍ ((]المدثر ،[10:وفي اليــة الخــرى )) :وَك َــا َ
ن ن غ َي ُْر ي َ ِ ري َ كافِ ِ ال ْ َ
سيَرا ً ((]الفرقان.[26: ن عَ ِ ري َ كافِ ِ ما ً ع ََلى ال ْ َ ي َوْ َ
189
كم ع َل َي ْـ َك ال ْي َوْ َ س َ ف ِفى ب ِن َ ْ ك كَ َ شوَرا ً * اقَْرأ ْ ك َِتاب َ َ من ُ
قاه ُ َمةِ ك َِتاب َا ً ي َل ْ َ قَيا َال ْ ِ
عو ك ُ ّ ُ
ن
مــ ْ م فَ َ مه ِ ْما ِ س ب ِإ ِ َل أَنا ٍ م ن َد ْ ُسيب َا ً ((]السراء )) ،[14-13:ي َوْ َ ح ِ َ
ن فَِتيَل ً (( ُ ُ
مــو َ م َول ي ُظ ْل َ ُ ن ك ِت َــاب َهُ ْ ق ـَرُءو َ مين ِـهِ فَ ـأوْل َئ ِ َ
ك يَ ْ ه ب ِي َ ِ ي ك ِت َــاب َ ُأوت ِ َ
]السراء [71:وغيرها من اليات.
وكل هذا مما يدخل في اليمان باليوم الخر ،ويجــب اليمــان
به.
وقوله ) :والميزان(
أي :ميزان العمال ،واليــات فــي هـذا ظـاهرة وكـثيرة ،قـال
ط ليــوم القيامــة ((]النبيــاء،[47: سـ َ ق ْ ن ال ْ َِ واِزي
َ ضعُ ال ْ َ
م تعالى )) :وَن َ َ
ُ
ن
مــ ْ
ن * وَ َ
حو َ
فل ِ ُ م ال ْ ُ
م ْ ك هُ ُ ه فَأوْل َئ ِ َ
واِزين ُ ُم َ
ت َ قل َ ْ ن ثَ ُ م ْ وقال تعالى )) :فَ َ
م ((]العــراف،[9-8: س ـه ُ ْ
ف َ س ـُروا َأن ُ خ ِ ن َ ذي َ ك ال ّ ِه فَأ ُوْل َئ ِ َ
واِزين ُ ُ
م َ
ت َ
ف ْ
خ ّ
َ
إلى غير ذلك من اليات.
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بالميزان ،وأنه ميزان حقيقــي
حسي ،توزن به العمال ،كما جاء فـي الحـاديث ،قـال النـبي :
)كلمتان خفيفتان على اللسان ،ثقيلتان في الميزان ،حبيبتان إلــى
190
الرحمــن ،ســبحان اللــه وبحمــده ،ســبحان اللــه العظيــم(] رواه
البخــاري) ،(6682ومســلم ) (2694مــن حــديث أبــي هريــرة [
وفي الحديث الخر عن الرسول ) :والحمد للــه تمل الميــزان(
]رواه مسلم ) (223من حديث أبي مالك الشعري .[
ل وإن كــانت ل ،والعما ُ فدل الكتاب والسنة على وزن العما ِ
حسنا ومداركنا ل تقبل الوزن؛ لكنا نســلم أعراضا ،والعراض في ِ
ونؤمن بما أخبر الله به من وزن العمال ،واللــه تعــالى علــى كــل
شيء قدير ،وفي حديث صاحب البطاقة الذي يــأتي يــوم القيامــة
جل مــد البصــر ،وكلهــا سـ ّجل ،كــل ِ
سـ ّ
فينشر لــه تســعة وتســعين ِ
سيئات ،فُيبهت فُتخرج له بطاقة فيها الشهادتان ،فتوضع البطاقــة
في كفة والسجلت في كفة ،قــال) :فطاشــت الســجلت وثقلــت
البطاقة(] .رواه أحمد ،2/213والترمذي ) (2639ـ وقال :حســن
غريــب ــ ،وصــححه ابــن حبــان ) ،(225والحــاكم 1/6و 529مــن
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما[ دليل علــى
أن صــحائف العمــال تــوزن ،ويســتدل بــه علــى فضــل التوحيــد
مــا اقــترن بهــذه الكلمــة مــن الصــدق والخلص الخــالص ،فهــذا ل ِ
والصفاء وحسن النية؛ إذ الكلمــات والعبــادات وإن اشــتركت فــي
الصورة الظــاهرة؛ فإنهــا تتفــاوت بحســب أحــوال القلــوب تفاوتــا
فرت سيئاته ،وإل فأهل الكبــائر الــذين دخلــوا عظيما ،لجل ذلك ك ّ
النار كلهم كانوا يقولون :ل إلـه إل اللـه ،ولـم يرجـح قـولهم علـى
جه به شيخ السلم ابن تيمية، سيئاتهم كصاحب البطاقة .هذا ما و ّ
هذا الحديث]مجمــوع الفتــاوى 7/488و ،10/735ومنهــاج الســنة
[6/219وأمثاله ]كحديث :أبي هريرة أن رسول الله قــال:
)بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق ،فأخره
فشكر الله له فغفر له( رواه البخــاري ) ،(652ومســلم )،(1914
ف ب َِرك ِي ّةٍ كــاد يقتلــه وحديثه عن النبي قال) :بينما كلب ي ُ ِ
طي ُ
موقَهَــا
العطش؛ إذ رأتــه بغــي مــن بغايــا بنــي إســرائيل ،فنزعــت ُ
فسقته فغفر لها به( .رواه البخاري ) ،(3467ومسلم ).[(2245
وقد دلت النصوص على أن العمال توزن ،وصــحف العمــال
ن عبـد اللـه بـن تـوزن؛ بـل والعامـل يـوزن كمـا فـي الحـديث ) أ ّ
مسعود كان يجتني سواكا من الراك ـ وكان دقيق الســاقين ــ
ه ،فضحك القوم منــه ،فقــال رســول اللــه : فؤ ُ ُفجعلت الريح ت َك ْ َ
مم تضحكون؟ قالوا :يا نبي الله مــن دقــة ســاقيه ،فقــال :والــذي
نفسي بيــده لهمــا أثقــل فــي الميــزان مــن أحــد(] .رواه أبــو داود
الطيالســي ) ،(354وأحمـد 1/420مـن حــديث ابــن مسـعود ،
ونحوه عند ابن أبي شيبة ،17/194وأحمد ،1/114والبخاري في
الدب المفرد )[(237
191
ن ]كالمعتزلة ،انظر :مقالت ل البدِع الميزا َض أه ِ وأنكر بع ُ
السلميين ص ،472ودرء تعارض العقل 5/348ـ وذكر أنه قول
البغداديين من المعتزلة دون البصريين ـ ،وفتح الباري [13/538
وقالوا :ليس المراد ميزانا حسيا توزن به العمال ،إنما هو كناية
عن عدل الرب سبحانه وتعالى ،لكن النصوص ظاهرة بأنه ميزان
ن ((]النبياء.[47:واِزي َ ضعُ ال ْ َ
م َ حسي )) وَن َ َ
وقيل :إن الميزان واحد ،توزن به أعمال العباد) ،والله على
كل شيء قدير( وقيل :إنها موازين ،وهو ظاهر القرآن ،ومن قال:
إنه ميزان واحد ،قال :الموازين المراد بها الموزونات ،فالتعدد
في الموزونات والميزان واحد ،والله أعلم.
المهم اليمان بوزن العمال].التذكرة [2/734
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمــه اللــه ــ فــي بــاب
)فضل التوحيد وما يكفــر مــن الــذنوب( مــن مســائل حــديث أبــي
سعيد ) :لو أن السماوات السبع والرضين السبع في كفــة ،ول
إلــه إل اللــه فــي كفــة( ]رواه النســائي فــي الكــبرى )10670و
،(10980وابــن حبــان ) (6218والحــاكم ،1/528وصــححه ابــن
حجر في الفتح :[11/208معرفة أن الميزان لــه كفتــان] .كتــاب
التوحيد [6/9
لن الميزان يتضمن المعادلة بين السيئات والحســنات ،فمــن
رجحــت حســناته علــى ســيئاته نجــا ،ومــن رجحــت ســيئاته علــى
حسناته فقد يعذب ،والكلم في المســلم الــذي لــه حســنات ،أمــا
الكفار فليس لهم حسنات ،ولهذا يقول شــيخ الســلم ابــن تيميــة
في العقيدة الواسطية) :وأما الكفار؛ فل يحاســبون محاســبة مــن
توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم ل حسنات لهم ،ولكن تعــد أعمــالهم
وتحصى ،فيوقفون عليها ،ويقررون بها ،ويجزون بها(] .ص [216
192
والحق الــذي ل ريــب فيــه :أن الجنــة والنــار مخلوقتــان الن،
والدلة على هذا من الكتاب والســنة ل تحصــى كــثرة ،فكــل أدلــة
عذاب القبر ونعيمه ،هي من أدلة وجود الجنــة والنــار؛ لن عــذاب
القبر هو من النار ،ونعيم القبر من الجنــة ،ومــن أدلــة ذلــك قــوله
ة
جّنــ ُ ها َ عن ْد َ َ
من ْت ََهى * ِ سد َْرةِ ال ْ ُ عن ْد َ ِ خَرى * ِ ة أُ ْقد ْ َرآه ُ ن َْزل َ ًتعالى)) :وَل َ َ
ن ع َل َي ْهَــا ال ْ ْ
ضــو َ مأَوى ((]النجم ،[15-13:وقال تعــالى )) :الن ّــاُر ي ُعَْر ُ َ
ْ َ ُ َ ً ً
ب (( ذا ِ شد ّ العَ َ نأ َ ل فِْرع َوْ َ خلوا آ َ ة أد ْ ِساع َ ُ
م ال ّ قو ُ م تَ ُ شي ّا وَي َوْ َغ ُد ُوّا وَع َ ِ
خُلوا ن َــاَرا ً (( ُ ُ
م أغ ْرُِقوا فَأد ْ ِ طيَئات ِهِ ْخ ِ ما َ م ّ]غافر ،[46:وقال تعالىِ )) :
]نوح. [25:
وفي الحديث أن النبي قــال) :إن أحــدكم إذا مــات عــرض
عليه مقعده بالغداة والعشي ،إن كان من أهــل الجنــة فمــن أهــل
الجنة ،وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ،يقال :هــذا مقعــدك
حتى يبعثك الله يوم القيامة( ]تقدم في ص[ ،وفي حــديث الــبراء
أن النبي قال ) :إن المؤمن ُيفتح له باب إلى الجنة ،فيــأتيه
من روحها وطيبها ،ويفسح لـه فـي قـبره مـد بصـره ،وأن الكــافر
يفتح له باب إلى النار ،فيأتيه مــن حرهــا وســمومها ويضــيق عليــه
قبره حتى تختلف فيه أضلعه( ]تقدم في ص[
ن الصحابة رضي وفي حديث صلة النبي صلة الكسوف أ ّ
الله عنهم قالوا :يا رسول الله رأينــاك تنــاولت شــيئا فــي مقامــك
هذا ثم رأيناك كففـت؟ فقـال ) :إنـي رأيـت الجنـة فتنـاولت منهـا
عنقودا ولو أخذته لكلتم منه ما بقيت الدنيا ،ورأيــت النــار فلــم أَر
كاليوم منظرا قط( ]رواه البخاري ) ،(1052ومســلم ) (907مــن
حديث ابن عباس رضي الله عنهما[ وهذا يقتضي أنها حقيقة.
وفي الحــديث عــن النــبي ) :لمــا خلــق اللــه الجنــة والنــار
أرسل جبريل إلى الجنة ،فقال :انظر إليها وإلى ما أعددت لهلهــا
فيها ،قال :فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لهلها فيهــا ،قــال:
فرجع إليه قال :فوعزتــك ل يســمع بهــا أحــد إل دخلهــا ،فــأمر بهــا
فحفت بالمكاره ،فقال :ارجع إليها فانظر إلــى مــا أعــددت لهلهــا
فيها ،قال :فرجع إليها فإذا هي قــد حفــت بالمكــاره ،فرجــع إليــه،
فقال :وعزتك لقد خفت أن ل يدخلها أحد ،قال :اذهــب إلــى النــار
فانظر إليها وإلى ما أعددت لهلهــا فيهــا فــإذا هــي يركــب بعضــها
بعضا ،فرجع إليه ،فقال :وعزتك ل يسمع بها أحــد فيــدخلها ،فــأمر
بهـا فحفــت بالشــهوات ،فقــال :ارجــع إليهــا ،فرجــع إليهــا ،فقــال:
وعزتك لقد خشيت أن ل ينجو منهــا أحــد إل دخلهــا{ ]رواه أحمــد
،2/332وأبو داود ) ،(4744والترمــذي ) (2560ـ ـ وقــال :حســن
صحيح ــ والنســائي ،7/3وصــححه ابــن حبــان ) ،(7394والحــاكم
1/26من حديث أبي هريرة وقال الحافظ فــي الفتــح :6/320
193
إســناده قــوي [.ومثــل حــديث النــبي ) :تحــاجت النــار والجنــة،
فقالت النار :أوثرت بالمتكبرين والمتجــبرين ،وقــالت الجنــة :فمــا
م؟ فقــال اللــه جُزهُ ـ ْ قط ُهُ ْ
م وَع َ َ س َ لي ل يدخلني إل ضعفاء الناس ،وَ َ
للجنة :أنت رحمتي أرحم بك من أشــاء مـن عبــادي ،وقــال للنــار:
أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبــادي ،ولكــل واحــدة منكمــا
ها( ]رواه البخاري ) ،(4850ومسلم ) (2846ـ واللفــظ لــه ـ ـ مل ْؤ ُ َ
ِ
من حديث أبي هريرة .[
فهذا هو الحق الذي ل ريب فيه ،والقول بأنهما لم تخلقا قول
باطل مناقض لنصوص الكتاب والسنة.
قال العلمة ابن القيم في النونية :
ة علــى ت غاليـ ٌ بــل أن ـ ِ ة
ت رخيص ـ ً ن لسـ ِ ة الرحمـ ِ سـل ْعَ َ
يا ِ
ن
الكسل ِ
في اللف إل واحد ٌ ل اثنان ُ
يا سلعة الرحمن ليس ينالها
إل أول ُــو التقــوى مــع ُ ؤهــا ن ذا كف ُ مـ ْ يــا ســلعة الرحمــن َ
اليمان
ةَ
فل ِســ ْ ل ِ بيــن الراذ ِ ســد ٌســوُقك كا ِ يــا ســلعة الرحمــن ُ
الحَيوان
ت بأيسـر عرضـ ِ فلقـد ُ يا سـلعة الرحمـن أيـن المشـتري
الثمان
ت ذو ب فــالمهُر قبــل المــو ِ من خاط ِ ٍ يا سلعة الرحمن هل ِ
إمكان
م ذ َُوو ك وَهُ ـ ْ ب ع َن ْـ ِ خط ّــا ُ ُ صب َّر الـ ـيا سلعة الرحمن كيف ت َ َ
إيمان
كارِهِ النسان م َ ل َ ت بك ّ جب َ ْح ِ ُ يا سلعة الرحمن لول أّنها
ت داُر الجزاِء الثاني وتعطل ْ فخل ّ ٍ مت َ َمن ُ ط ِ ما كان عنها ق ّ
واني مت َ َ مب ْط ِ ُ
ل الـ ُ صد ّ عنها الـ ُ ل ِي ُ َ ريهَةٍل كَ ِ ت بك ّ جب َ ْ
ح ِ لكنها ُ
ب العُل َــى بمشــيئ ِ
ة ُرت َـ ِ مو إلــى سـ ُ م الــتي ت َ ْ وَتناَلهــا اِله َ
مـ ُ
الرحمن ]الكافية الشافية [297
194
ن (( جي ـ َ خَر ِ م ْمن ْهَــا ب ِ ُم ِ مــا هُ ـ ْ ((]التوبــة [21:وقــال تعــالى )) :وَ َ
]الحجر.[48:
وكــذلك النــار جــاء فيهــا مــا يــدل علــى الــدوام ،قــال تعــالى:
ب ذا ٌعــ َ م َ من َْها وَل َهُ ْ ن ِ جي َ خارِ ِ هم ب ِ َ
ما ُ ن الّنارِ وَ َم َ جوا ْ ِ ن َأن ي َ ْ
خُر ُ دو َ ري ُ
))ي ُ ِ
م
ت زِد َْنــاهُ ْ خَبــ ْ مــا َ م((]المــائدة ،[37:وقــال تعــالى )) :ك ُل ّ َ قيــ ٌ م ِ ّ
م َ َ َ ّ ُ ً
ن غـ ّ مـ ْ من ْهَــا ِ جــوا ِ خُر ُ ن يَ ْدوا أ ْ ما أَرا ُسِعيَرا ((]السراء )) ،[97:كل َ َ
دوا ِفيَها ((]الحج.[22: عي ُ أُ ِ
وذهبت الجهم بن صفوان ومن تبعه إلــى فنــاء الجنــة والنــار،
فعندهم أن المخلوقات يمتنع دوامها في الماضي ،وكــذلك دوامهــا
في المستقبل.
وأجمع أهل السنة إجماعا قطعيا وسائر الفرق ما عدا الفرقة
الضالة الجهمية إلى دوام الجنة ،وأما النــار فجمهــور أهــل الســنة
وسائر الطوائف على دوامها كــذلك ،وفيهــا قــول آخــر ذكــره ابــن
عنــي ـ ـ رحمــه اللــه ـ ـ بــالكلم علــى هــذه المســألة القيــم ،فقــد ُ
]و»حـــادي الرواح« ،792-2/730و»شـــفاء العليـــل« ص -254
،264و»مختصر الصــواعق« ،685-2/637وقبلــه شــيخ الســلم
في كتابه »الرد على من قــال بفنــاء الجنــة والنــار«[ كعــادته فــي
البحــث إذا بحــث مســألة أبــدع فيهــا ،وأتــى بكــل مــا يمكــن مــن
الستدلل والحــوار ،والجــواب والمناقشــات فــي ســائر المســائل
الخلفيــة الــتي يتعــرض لهــا ،يــذكر كــل مــا للطــائفتين مـن حجــج
واستدللت وتوجيهــات ،ويقابــل بينهمــا ويناقشــهما ،فتــارة يرجــح
ترجيحــا ظــاهرا وبقــوة ،وتــارة يعــرض ويقــف ،وإذا عــرض لحــد
القولين يقول القائل :إنه يختار هذا ،فإذا عرض القول الخر قال:
كأنه يختار الثاني ،والذي يظهر أنه هكذا وقع له في هذه المسألة،
فلما ذكر حجــج القــولين يظــن الظــان إذا قــرأ اســتدللته للقــول
الخر يظن أنه قائل به].وقال في آخر البحــث فــي حــادي الرواح
:2/791فــإن قيــل إلــى أيــن انتهــى قــدمكم فــي هــذه المســالة
ريد ُ { ما ي ُ ِ ل لّ َك فَّعا ٌ ن َرب ّ َ العظيمة الشأن؟ قيل :إلى قوله تعالى}:إ ِ ّ
]هـــود ،[107:ونحـــوه فـــي شـــفاء العليـــل ص ،264ومختصـــر
الصــواعق ،2/663ولــه كلمــة مختصــرة عــابرة فــي »الوابــل
الصيب« ص ،42صرح فيها ببقاء النار وعدم فنائها[
وأكثر ما نقوله هنا :إن القول بفناء النار قول مرجــوع ،ولكــن
دع مــن دع من قال به ،ومن الناس من بــ ّ ل يقال :إنه بدعة ،ول ُيب ّ
قال به ،ومنهم من رمى ابن تيمية بــالقول بــه ،وجــزم بــأنه قــال:
بفناء النار ،وقالوا :إنه له اعتقادات فاسدة ،وهذا يقوله المتجنــون
على شيخ السلم ابن تيمية من خصومه الذين خالفهم فــي كــثير
من مسائل العتقاد ،وقد ذكر ابن القيم أنــه ســأل شــيخ الســلم
195
عن مسألة فناء النار ،فقال :هذه المسألة عظيمة كبيرة ،ثم ذكر
فيها القولين] ،السؤال في شفاء العليل ص ،264وجــوابه :فقــال
شيخ السلم :هذه المسألة عظيمة كبيرة ،ولم يجب فيها بشيء،
فمضى على ذلــك زمــن حــتى رأيــت فــي تفســير عبــد بــن حميــد
ت ،فأرســلت إليــه الكتــاب وهــو الكشي بعض تلك الثار التي ذكر ُ
في محبسه الخير ،وعّلمت على ذلك الموضــع ،وقلــت للرســول:
قل له هذا الموضـع يشـكل عليـه ول يـدري مـا هـو؟ فكتـب فيهـا
مصنفه المشهور رحمة الله عليه [.ولم يذكر عن شيخه أنه ذهــب
إلى القول بفنــاء النــار خلفــا لمــن ينســب إليــه ذلــك].كالحصــني
والسبكي ،انظر :دعاوى المناوئين لشيخ السلم ص [ 608
وقال أفاض شيخنا الشيخ محمد المين الشنقيطي في تقرير
القول بدوام الجنة والنار والجواب عمــا اســتدل بــه للقــول بفنــاء
ري ـد ُ ((مــا ي ُ ِل لِ َك فَعّــا ٌن َرب ّـ َ ك إِ ّشاَء َرب ّ َ النار كقوله تعالى )) :إ ِّل َ
ما َ
مكي ـ ٌح ِك َ ن َرب ّـ َ شــاَء الل ّـ ُ
ه إِ ّ مــا َ]هــود ،[107:وقــوله تعــالى )) :إ ِّل َ
م ((]النعام [128:ذكر هذه المسألة عند هذه الية في سورة ع َِلي ٌ
النعام من كتـابه »دفـع إيهـام الضـطراب عـن آي الكتـاب« ]ص
،133وانظـــر» :مجـــالس مـــع فضـــيلة الشـــيخ محمـــد الميـــن
الشنقيطي« ص .[51
شــاَء مــا َ وقــد أجيــب بأجوبــة كــثيرة عــن قــوله تعــالى )) :إ ِّل َ
ه ((]النعــام [128:وأن المــراد بهــذا الســتثناء :مكثهــم فــي الّلــ ُ
القبور ،أو لبثهــم فــي الــدنيا ،أو فــي مواقــف القيامــة ،هــذه كلهــا
أقــوال ليســت بالظــاهرة؛ لن المــراد بيــان خلــودهم بعــد ذلــك:
َ
ك (( شـاَء َرّبـ َ مـا َ ض إ ِّل َت َوالْر ُ وا ُ م َ
سـ َ
ت ال ّ
مـ ِ دا َ
مـا َ
ن ِفيَها َ
دي َ
خال ِ ِ )) َ
]هود [107:وأحسن ما قيل :إن المراد بيــان أن بقـاءهم إنمــا هــو
بمشيئة الله ،كما أن بقاء أهل الجنة فـي الجنــة إنمـا هــو بمشـيئة
الله ،فبقاء الرب تعالى ودوام وجوده ذاتي ،أمــا بقــاء أهــل الجنــة
أبد الباد فبإبقائه سبحانه وتعالى ومشيئته.
]سبق القدر فيمن يصير إلى الجنة ،ومن يصير إلى النار[
وقوله) :وأن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلــق ،وخلــق
لهما أهل ،فمن شاء منهم إلى الجنة فضل منــه ،ومــن شــاء منهــم
إلى النار عدل منه ،وكل يعمل لما قد فُرِغ َ له وصائر إلى ما ُ
خل ِــق
له(
هذا دخول في مسائل متعلقة بالقدر ،وقد فّرق الشيخ الكلم
في القدر ،كما فرق المســائل المتعلقــة بأصــول اليمــان؛ فيــذكر
مسائل تتعلــق باليمــان بــالله ،أو الملئكــة ،أو الرســل ،أو بــاليوم
الخــر ،وهــذه المســائل التيــة متعلقــة بالقــدر ،وبالمســألة الــتي
196
تقدمت وهي :خلق الجنة والنار يقول) :وأن الله خلق الجنة والنار
قبل الخلق( هذا ظاهر ،ول يريد بالخلق جميع المخلوقات ،الظاهر
أنه يريد قبــل خلــق النــاس؛ لن الخلــق تــارة يطلــق علــى جنــس
المخلوقات ،وتارة يطلــق علــى خصــوص المكلفيــن ،ولهــذا قــال:
وخلق لهما أهل ،أي :خلق الجنة والنار ،ثــم خلــق لهمــا خلقــا مــن
الجن والنس ،خلق آدم وحواء ،ثــم خلــق ذريتهمــا إلــى آخــر مــن
يشاء الله تعالى خلقه من هذا الجنس البشر ،ومن الجن.
در ويحتمل أن يكون مراده من قوله) :وخلق لهما أهل( أي :ق ّ
در( ،والول لهما أهل ،فـ)خلـق( يـأتي بمعنـى )أوجـد( وبمعنـى )قـ ّ
أظهر.
وقوله) :فمن شاء منهم إلى الجنة فضل منه ،ومن شاء منهم
إلى النار عدل منه(.
هــذا شــروع فــي تقســيم الخلــق ،وأن اللــه ســبحانه وتعــالى
جعلهم فريقين :سعداء وأشــقياء ،فمــن العبــاد مــن خلقــه للجنــة،
وبعمل أهل الجنة يعمل ،ومنهم من خلقه للنار ،وبعمل أهل النــار
يعمل ،نعوذ بالله من النار.
فمن شاء الله له منهم أن يكون من أهــل الجنــة كــان كــذلك
فضل من الله سبحانه وتعالى ،والله يؤتي فضله من يشــاء ،ومــن
شاء الله منهم إلى النار عدل ،فحكمه في عباده دائر بين الفضــل
والعدل ،وهذا المعنى ثناه المؤلف ـ رحمه الله ـ فقــد تقــدم ]ص[
قوله) :يهدي من يشاء ويعصم ويعــافي فضــل ،ويضــل مــن يشــاء
ويخذل ويبتلي عدل(.
ْ َ
م كــ ْ م ُ ح ْ شــأ ي َْر َ ن يَ َ م إِ ْ م ب ِك ُ ْ م أع ْل َ ُ والله تعالى أعلم بعباده )) َرب ّك ُ ْ
كيَل ً ((]الســراء،[54: َ أ َو إن ي َ ْ
م وَ ِ ك ع َل َي ْهِ ـ ْ س ـل َْنا َ مــا أْر َ م وَ َ ش ـأ ي ُعَ ـذ ّب ْك ُ ْ ْ ِ ْ َ
م ُ َ
م وَك ـّره َ إ ِلي ْك ـ ُ َ ُ ُ
ه فِــي قُلــوب ِك ْ ن وََزي ّن َ ُ ما َ لي َ م ا ُِ ُ َ
ب إ ِلي ْك ُ حب ّ َ ه َ ّ
ن الل َ )) وَل َك ِ ّ
ن الّلــ ِ
ه مــ َ ضَل ً ِ ن * فَ ْ دو َ ش ُ م الّرا ِ ك هُ ُ ن أوْل َئ ِ َ صَيا َ سوقَ َوال ْعِ ْ ف ُ فَر َوال ْ ُ ال ْك ُ ْ
ه ن ي ُط ِـِع الل ّـ َ مـ ْ م ((]الحجــرات )) ،[8-7:وَ َ كي ـ ٌ ح ِ م َ ه ع َِلي ـ ٌ ة َوالل ّ ُ م ً وَن ِعْ َ
َ ُ
ن ن الن ّب ِّييــ َ مــ َ م ِ ه ع َل َي ِْهــ ْ م الّلــ ُ ن أن َْعــ َ ذي َ مــعَ اّلــ ِ ك َ ل َفــأوْل َئ ِ َ ســو َ َوالّر ُ
ك ق ـا ً * ذ َل ِـ َ ك َرِفي َ ُ
ن أوْل َئ ِ َ ن َوال ّ
سـ َ ح ُ ن وَ َ حي َ صــال ِ ِ داِء َوال ّ شــهَ َ قي َ دي ِ صــ ّ َوال ّ
مــا م ـا ً ((]النســاء )) ،[70-69:وَ َ فــى ب ِــالل ّهِ ع َِلي َ ن الل ّـهِ وَك َ َ م َ ل ِ ض ُ ف ْ ال ْ َ
َ
شاُء ن يَ َ م ْ
ه َ ل الل ّ ُ ض ّ م فَي ُ ِ ن ل َهُ ْ مهِ ل ِي ُب َي ّ َ ن قَوْ ِ سا ِ ل إ ِّل ب ِل ِ َ سو ٍ ن َر ُ م ْ سل َْنا ِ أْر َ
م ((]إبراهيم ،[4:هذا كله يرجع كي ُ ح ِ زيُز ال ْ َ شاُء وَهُوَ ال ْعَ ِ ن يَ َ م ْ دي َ وَي َهْ ِ
إلى اليمان بالقدر :اليمان بعلم الله السابق لكل شيء ،واليمان
بكتابته لمقادير الشياء فــي أم الكتــاب ،واليمــان بعمــوم مشــيئة
الله ،وأنه ل خــروج لشــيء عــن مشــيئته ،وأنــه تعــالى خــالق كــل
شــيء ،فبفضــله تعــالى اهتــدى المهتــدون ،وبعــدله تعــالى ضــل
ط ال ّـذي َ صـَرا َ
ت مـ َ ن أن ْعَ ْ ِ َ م* ِ قي َ سـت َ ِ م ْ ط ال ْ ُ صـَرا َ الضــالون )) :اهْـد َِنا ال ّ
197
ن ((]الفاتحــة [7-5:هــذا ضــاّلي َ
م َول ال ّ ب ع َل َي ْهِ ْ
ضو ِ
مغْ ُ م * غ َي ْرِ ال ْ َ ع َل َي ْهِ ْ
دعاء حقيق بــأن نعــرف معنــاه وقــدره وضــرورتنا إلــى مضــمونه،
ط شــاُء إ ِل َــى ِ
ص ـَرا ٍ ن يَ َ
مـ ْ
دي َ ســلم ِ وَي َهْ ـ ِ
دارِ ال ّ عو إ ِل َــى َ ه ي َـد ْ ُ)) َوالل ّـ ُ
قيم ٍ ((]يونس.[25: ست َ ِ
م ْ ُ
فيجب اليمان بالقدر ،واليمان بالقدر يشمل اليمان بأن الله
قد علم أهل الجنة من أهــل النــار ،وكتــب ذلــك ،ولهــذا لمــا أخــبر
الرسول بأنه ) ما مــن نفــس إل وقــد علــم مكانهــا مــن الجنــة
ومكانها من النار ،قال رجل :أفل نتكل على كتابنــا ونــدع العمــل؟
فقال :اعملوا فكل ميسر ،أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهــل
السعادة ،وأمــا أهــل الشــقاوة ،فييســرون لعمــل أهــل الشــقاوة(
]تقدم[ ،وسئل النبي ) :أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون
فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قــدر قــد ســبق أو فيمــا
يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجــة عليهــم؟ فقــال :ل؛
بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم ،وتصديق ذلك في كتاب اللــه
عز وجل) :ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها(] .تقدم[
والنظر للقدر في أمر اليمان والكفر ،والطاعة والمعصية
من أعظم مداخل الشيطان؛ لن الشيطان يوسوس ويقول :ما
دام المر قد مضى وسبق به القدر؛ فإن كنت من أهل الجنة
فستكون من أهل الجنة! ل لن تكون من أهل الجنة إل إذا عملت
بسبب دخول الجنة ،فلن يدخل الجنة إل نفس مؤمنة ،فمن سبق
علم الله وكتابه بأنه من أهل الجنة ،فل بد أن يقوم به سبب
دخولها ،وإن لم يقم به سبب دخولها فوالله ل يدخلها ،وكل
مكلف ل بد أن يقوم بأحد السببين :سبب دخول الجنة أو سبب
دخول النار ،كما تقدم ]ص[) :والعمال بالخواتيم(.
خِلق له(. ل يعمل لما قد فُرِغ َ له ،وصائر إلى ما ُ وقوله) :وك ٌ
ل( التنــوين ل من المكلفين يعمل لما قد فُرِغ َ له منه ،و)ك ُـ ٌ وك ٌ
ض عن )أحد() ،يعمل لما قد فُرِغ َ له( منه )وصائر إلى مــا عو ٌ فيها ِ
خِلق له( هذا شرح وتبسيط لما قبله ،وهذا معنى قوله ) :فكل ُ
ميسر لما خلــق لــه( ]تقــدم[ )كــل يعمــل لمــا قــد فُـرِغ َ لــه( منــه
خِلق له( فمن خلق للجنة فصائر إلى الجنة ،ومــن )وصائر إلى ما ُ
خلق للنار فصائر إلى النار ،ولكن بالسباب التي جعلها الله لذلك،
فالنار أعدها الله للكافرين ،ولن يخلد فيهــا إل الكــافرون ،والجنــة
أعدت للمتقين ،ولن يدخلها إل نفس مؤمنة.
والخذ بالسباب هو فطرة فطر الله عليها العباد؛ لكـن هنـاك
أشياء ما ينظر بعض الناس للقدر فيها:
طلب الــرزق فهــو مــن جنــس مــا ســبق بــه القــدر مــن أمــر
السعادة والشقاوة ،أفيقول عاقل :أنــا أجلــس ول أطلــب الــرزق؛
198
لنه سيأتيني؟! ل؛ بل إذا أصبح النــاس نهضــوا وانتشــروا يطلبــون
الرزق.
نعم! قد يقوله الكسول تبريًرا لكسله وخموله ود َع َِته.
جب الشــرع، جب العقل والفطرة ،فهو أيضــا مــو َ وكما أنه مو َ
َ
شــوا فِــيم ُض ذ َل ُــوَل ً َفا ْم الْر َ ل ل َك ُـ ُ
جعَـ َ ذي َ قــال تعــالى )) :هُـوَ ال ّـ ِ
صــلةُت ال ّ ض ـي َ ِذا قُ ِ
ن رِْزقِ ـهِ ((]الملــك )) ،[15:فَ ـإ ِ َ مـ ْ مَناك ِب َِها وَك ُُلوا ِ َ
ل اللهِ ((]الجمعة[10: ّ ن فَ ْ َ َفانت َ ِ
ض ِ م ْض َواب ْت َُغوا ِ شُروا ِفي الْر ِ
فكيف يأتي هــذا لخطــر الشــياء ويقــول :إذا كنــت مــن أهــل
الجنة فسأترك العمل! ل والله ،من ترك اليمــان والطاعــة اتكــال
على القدر ،علمنا أنه إن مات على ذلك فهو من أهل النار ،وكــذا
كتب لــي أجــر فســيجيئني من نام عن صلة الفجر وقال :إن كان ُ
بدون أن أقوم وأصلي! فهل سيكتب له أجر؟!
الله سبحانه رتب المسببات على السباب ،فهنــاك مســببات
ل تكــون إل بأســباب معينــة ،ول يمكــن تحصــيلها إل بهــذا الســبب
المعين ،كالولد ،فل يمكن لحد أن ُيولد له إل بنكاح ووطء؟!
أما الرزق فله أسباب متعددة ،وطــرق كســب كــثيرة ،بخلف
الولد؛ فل يوجد إل سبب واحد معين.
كذلك الجنة والنار ،الجنة ل يمكن دخلوها إل باليمان والعمــل
الصالح ،فمن فقد هذا السبب فإلى الضد والنقيض .نعوذ بالله!
فهذه مقامات عظيمة على المسلم أن يلجأ إلى ربه ،ويسأله
طص ـَرا َ
ح بهــذا الــدعاء )) :اهْ ـد َِنا ال ّ الثبات والتوفيق والهدايــة ،وي ُل ِـ ّ
م ((]الفاتحة ،[5:ويسأل اللــه حســن الخاتمــة )) :ت َـوَفِّني قي َ
ست َ ِم ْ ال ْ ُ
ن ((]يوسف.[101: حي َ
صال ِ ِقِني ِبال ّ ما ً وَأ َل ْ ِ
ح ْ سل ِ َ
م ْ ُ
199
ة
مـ ٍح َن َر ْ مـ ْ س ِ
ه ِللّنا ِ ح الل ّ ُ فت َ ِ
ما ي َ ْ
[ وتفصيل ذلك في مثل قولهَ )) :
زيـُزن ب َعْـد ِهِ وَهُـوَ ال ْعَ ِ
مـ ْ ه ِل ل َـ ُ سـ َ ك َفل ُ
مْر ِ س ْ
م ِ ك ل ََها وَ َ
ما ي ُ ْ س َ
م ِم َْفل ُ
م ((]فاطر ،[2:وقال النبي ) :من يهده الله فل مضل لــه، كي ُ ال ْ َ
ح ِ
ومن يضلل فل هادي لــه( ]رواه مســلم ) (867مــن حــديث جــابر
،[وقال لبن عباس رضي الله عنهما) :واعلــم أن المــة لــو
اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لــم ينفعــوك إل بشــيء قــد كتبــه
الله لــك ،ولــو اجتمعــوا علــى أن يضــروك بشــيء لــم يضــروك إل
بشيء قد كتبه الله عليك( ]تقدم في ص[ لكن كــل هــذا ل ينــافي
الخذ بالسباب ،ولهذا الناس بسبب الجهل ،وعدم العتصام بهدى
الله ،اضطربوا؛ فمنهم:
مــن أنكــر القــدر ،ونفــى تعلــق علــم الــرب وكتــابه ومشــيئته
بأفعال العباد ،وقالوا :إنه ل يعلم الشياء إل بعد وقوعها.
وآخرون أخرجوا أفعال العباد عن مشيئة الله وخلقه وقدرته.
وآخرون أثبتوا القدر وأنكروا السباب.
عوفي من هذه الضللت فليحمد الله. ومن ُ
فالذين ينكرون السباب يقولون :إذا شربت ورويــت؛ فالمــاء
تل له أثر في الري ،وأكلك ل له أثر في الشبع ،ولكن حين شــرب َ
ه لك الشبع! ت خلقَ الل ُ وأكل َ
والنار إذا أشعلتها فــي الحطــب ،فليســت هــي الــتي أحرقــت
الحطب؛ لكن لما جــاءت النــار عنــد الحطــب خلــق اللــه الحــراق
فيها!
ب( مجازا ل حقيقة! ت الناُر الحط َ فيكون قولك) :أحرق ِ
وإنكــار الســباب قــول مشــهور عــن الشــاعرة] .مجمــوع
الفتاوى ،8/128والتدمرية ص ،493وشفاء العليل ص [188
]أنواع الستطاعة[
وقوله) :والستطاعة التي يجب بها الفعل ،من نحــو التوفيــق
الــذي ل يجــوز أن يوصــف المخلــوق بــه فهــي مــن الفعــل ،وأمــا
الستطاعة من جهــة الصــحة والوســع والتمكــن وســلمة الدوات
فهي َقبل الفعل ،وبها يتعلق الخطاب ،وهو كما قــال تعــالى )) :ل
سعََها ((]البقرة.([286: سا ً إ ِّل وُ ْف َ ف الل ّ ُ
ه نَ ْ ي ُك َل ّ ُ
الســتطاعة هــي :القــدرة ،تقـول :فلن يقــدر علــى كــذا أو ل
يقــدر ،وجــاءت النصــوص فيهــا ذكــر الســتطاعة ،قــال ســبحانه
م ((]التغابن )) ،[16:وَل ِل ّهِ ع ََلــى
ست َط َعْت ُ ْ ما ا ْ ه َقوا الل ّ َ وتعالىَ )) :فات ّ ُ
سِبيَل ً ((]آل عمران ،[97:وقال طاع َ إ ِل َي ْهِ َ
ست َ َ
نا ْ م ِ
ت َ ج ال ْب َي ْ ِح ّس ِالّنا ِ
ْ
) :إذا أمرتكم بأمر فَأُتوا منــه مــا اســتطعتم( ] رواه البخــاري )
،(7288ومسلم ) ،[(1337وقال لعمران بن حصين ) :ص ّ
ل
200
قائما؛ فإن لــم تســتطع فقاعــدا؛ فــإن لــم تســتطع فعلــى جنــب(.
مــا] رواه البخاري ) [(1117وقال سبحانه وتعالى في الكفارَ )) :
ن ((]هود.[20: صُرو َ ما َ
كاُنوا ي ُب ْ ِ معَ وَ َ س ْن ال ّ طيُعو َ ست َ ِ كاُنوا ي َ ْ َ
والستطاعة نوعان:
نوع قبل الفعل.
ونوع مع الفعل.
فالستطاعة التي قبل الفعــل هــي منــاط التكليــف ،فــإذا لــم
توجد فل تكليف ،إذ ل واجب مع العجز.
والقدرة والستطاعة التي قبل الفعل ،مثل :الصحة ،وســلمة
اللت ،وحصول السباب التي ل بد منهــا فــي الفعــل ،فهــذه هــي
نمـ ِ ت َج ال ْب َي ْـ ِ حـ ّس ِ َ ّ
مناط التكليف ،قال تعالى )) :وَل ِلـهِ ع َلــى الن ّــا ِ
سـِبيَل ً ((]آل عمـران [97:السـبيل :الـزاد والراحلــة، طاع َ إ ِل َي ْهِ َ ست َ َا ْ
وكذلك القدرة البدنية ل بد منها ،فل يجب المضــي للحــج إل علــى
من تـوفرت لـه القـدرة البدنيـة والماليـة ،فهـذه السـتطاعة هـي
مناط التكليـف ،ويقـر بهـا جميـع الطـوائف ،ويسـتوي فيهـا جميـع
الناس :المطيع والعاصي كلهم مستطيع ،فمن أمر بالصلة ـــ مثل
ـــ وهــو ســليم العقــل والحــواس وقــادر إن صــلى أو تــرك فهــو
مستطيع.
والنوع الثاني :الستطاعة التي تكون مع الفعــل ،ويكــون بهــا
الفعل ،فهذه ليست مناطا للتكليف؛ بل يمنحهــا اللــه لمــن يشــاء،
وهي التي تحصل بالتوفيق والهدايــة الخاصــة ،وهــي المنفيــة عــن
مــا
معَ وَ َ سـ ْ ن ال ّ طيُعو َ ما ك َــاُنوا ي َ ْ
س ـت َ ِ الكفار في مثل قوله تعالىَ )) :
ن
ري َ مئ ِذ ٍ ل ِل ْك َــافِ ِ
م ي َـوْ َجهَن ّـ َض ـَنا َ
ن ((]هــود )) ،[20:وَع ََر ْ
َ
ص ـُرو َ كاُنوا ي ُب ْ ِ َ
ري وَك َــاُنوا ل ن ذ ِك ْـ ِم فِــي ِغط َــاٍء ع َ ـ ْ ت أع ْي ُن ُهُ ـ ْ ن ك َــان َ ْذي َ ض ـا ً * ال ّـ ِ ع َْر َ
معَا ً ((]الكهف ،[101-100:وليس المعنى أنهم صم س ْن َ طيُعو َ ست َ ِيَ ْ
ل يســمعون ،فالصــم معــذور إذا لــم يســمعْ مــا يجــب ســماعه،
والعمى معذور إذا لم يبصْر ما يجب إبصاره؛ لنه غيــر مســتطيع؛
لكن الستطاعة المنفيــة عنهــم هــي الســتطاعة الــتي تكــون مــع
الفعــل ،و هــي ليســت مناطــا للتكليــف ،فهــم مســتطيعون لكــن
صرفهم الهوى والشهوات عن النقياد.
فمثل :بعض الناس ،يقال له :اترك شرب الدخان ،فيقــول :ل
أســتطيع! ل يســتطيع بســبب غلبــة شــهوته ،وهــو فــي الحقيقــة
مستطيع.
أو قيل له :حافظ على صلة الفجر مــع الجماعــة ،فيقــول :ل
أستطيع ،أهو ل يستطيع؟! ل والله ،مستطيع ،ولو كان عنــده أمــر
فيه مصلحة تهمه لنهض إليها ،وظهرت استطاعته!
وغلط في هذا المقام طائفتان:
201
من لم يثبت إل الستطاعة التي َقبل الفعل ،وهم المعتزلة.
فقد نفوا الستطاعة الثانية؛ لن الله عندهم ل يقدر أن يهدي
أحدا ول يضل أحدا؛ بل العبد هو الذي يتصرف في نفسه.
والطائفة الثانية :حكى قولهم ابن أبي العــز فــي الشــرح]ص
[633فقال :إن طائفة من أهل السنة ـ ولــم يعينهــم ]قــال شــيخ
السلم ابن تيمية :فقوم جعلوا الستطاعة مع الفعل فقــط وهــذا
هو الغالب علـى مثبتــة القـدر المتكلميـن مـن أصــحاب الشـعري
ومــن وافقهــم مـن أصـحابنا وغيرهـم .مجمـوع الفتــاوى ،8/371
وتســميتهم فــي [.8/299ـــ قــالوا) :الســتطاعة ل تكــون إل مــع
الفعــل( ،وهــذا غلــط؛ فــإن قــولهم هــذا يقتضــي أن معنــى قــوله
م ((]التغــابن [16:اتقــوا اللــه إذاسـت َط َعْت ُ ْ
ما ا ْ قوا الل ّ َ
ه َ تعالىَ )) :فات ّ ُ
اتقيتم الله ،فل تجب التقوى إل على من اتقى ،ول يجب الحــج إل
على من حج ،وهذا ظاهر الفساد.
وقوله) :من نحو التوفيق الذي ل يجــوز أن يوصــف المخلــوق
به(.
التوفيق هو صــفة اللــه تعـالى يوفــق ويهــدي مـن يشـاء ،أمــا
الستطاعة فهــي أثــر هــذا التوفيــق ،أمــا قــوله) :الــذي ل يوصــف
المخلوق به فهي مع الفعل( أي :الستطاعة هــي صــفة للمخلــوق
لكن بمنح الله له ،يمنحها من يشاء.
202
وقالت القدرية نفاة القدر :إن العباد هم الخــالقون لفعــالهم،
فأفعال العباد مخلوقة لهم ،وليســت بمشــيئة اللــه ول بقــدرته ول
بخلقه .وقالت الجبريــة :إن أفعــال العبــاد مخلوقــة للــه ،والعبــد ل
فعل له؛ بل أفعاله مجبور عليها كحركة المرتعش ،وكالريشة فــي
مهب الريح ،وحركة الشجار.
فأثبتوا القدر وعموم خلــق اللــه ،لكنهــم ســلبوا العبــد قــدرته
واختيــاره وأفعــاله ،وقــالوا :إن نســبة الفعــال إلــى العبــاد مجــاز،
ومعناه :أنه ليس هو الراكع والساجد؛ لنه ما فعل هذا بقــدرته؛ إذ
ل مشيئة له ول قدرة.
فهذان قولن على طرفي نقيض.
لب القدرية والجبرية قــو ُ وقد دل على إبطال المذهبين :مذه ِ
م ((]التكوير ،[28:فــأثبت شاَء منك ُ َ ن َ
قي َست َ ِ
ن يَ ْ مأ ْ ِ ْ ْ م ْ
الله تعالى )) :ل ِ َ
ن (( َ ْ ّ ن يَ َ َ ّ ما ت َ َ
مي َ
ب العَــال ِ
ه َر ّشاَء الل ـ ُ ن إ ِل أ ْ شاُءو َ المشيئة للعباد )) ،وَ َ
]التكــوير[29:فجعــل مشــيئة العبــد موقوفــة علــى مشــيئة رب
العالمين سبحانه وتعالى.
ق ْ
وجاءت الشاعرة فلفقوا كعادتهم وقالوا :أفعال العبــاد خلــ ٌ
لله ،وكسب من العباد ،لكن مفهوم الكســب عنــدهم هــو :الفعــل
المقــارن للقــدرة المحدثــة ،وهــذا بنــوه علــى مــذهبهم فــي نفــي
السباب.
فيرون أن العلقة بين السباب والمسب ََبات ،وبين قدرة العبــد
وأفعاله مجرد القتران ،فيقولون :إن الله يفعــل عنــد الســباب ل
بها ،فليس عندهم باء سببية؛ بل يرونها للمصاحبة.
قُرُبون في هذا من قول الجبريــة؛ لن قــولهم يتضــمن: فهم ي َ ْ
أنه ل أثر لقدرتهم في وجود أفعالهم ،كما تقدم في ذكر ذلك فــي
السباب ]ص[ وقولهم :إن الماء ل أثر لـه فــي حصـول الـّري ،ول
شبع ،ول أثــر لقــدرة العبــد فــي حصــول أثر للطعام في حصول ال ّ
ب الشــعري مــن الشــياء ذكر كس ُ فعله .هذا قول الشاعرة ،وقد ُ
التي ل حقيقة لهــا] .قــالوا :عجــائب الكلم ثلثــة :طفــرة النظــام،
وأحـــوال أبـــي هاشـــم ،وكســـب الشـــعري .مجمـــوع الفتـــاوى
،8/128ومنهاج الســنة 1/459و ،2/297وشــفاء العليــل ص 50و
[122
والله أعلــم بمــراد الطحــاوي؛ لن كلمــة الكســب فــي اللغــة
ن ((]النعام،[129: سُبو َكاُنوا ي َك ْ ِ ما َ والشرع تطلق على الفعل )) ب ِ َ
ن ((]النعام[108: مُلو َ كاُنوا ي َعْ َما َ
)) ب ِ َ
203
ها {]الطلق [7:وقال ما آَتا َ سا إ ِّل َ ف ً ف الل ّ ُ
ه نَ ْ ]البقرةَ} [286:ل ي ُك َل ّ ُ
مل ْن َــا سبحانه وتعالى ـ في الدعاء الذي علمه لعباده ـَ} :رب َّنا وَل َ ت ُ َ
ح ّ
ه{]البقرة [286:قال اللــه تعــالى» :قــد فعلــت«. ة ل ََنا ب ِ ِ ما ل َ َ
طاقَ َ َ
]رواه مسلم ) (126من حديث ابن عباس رضي الله عنهما[.
وهذا من رحمة اللــه بعبــاده ،وحكمتــه فــي شــرعه،وهــو مــن
ريد ُ ب ِك ُـ ُ
م م ال ْي ُ ْ
سَر وَل َ ي ُ ِ ه ب ِك ُ ُريد ُ الل ّ ُ
اليسر الذي أراده الله بعباده} :ي ُ ِ
سَر{ ]البقرة ،[135:وبهذا اليسر رفع الحرج عن عبــاده ،قــال ال ْعُ ْ
ج{]الحـــج [78:فلــه حـَر ٍ ن َ مـ ْ ن ِ دي ِم ِفي الـ ّ ل ع َل َي ْك ُ ْ
جعَ َ ما َ تعالى} :وَ َ
الحمد على ذلك كثيرا.
وقوله) :ول يطيقون إل ما كلفهم(
هذه العبارة فيها نظر ،فالعباد يطيقون أكثر مما كلفهم اللــه؛
إذ لـو كــانوا ل يطيقــون إل مـا كلفهــم؛ فمعنــاه :أنــه كلفهــم غايـة
طاقتهم ،فل يقدرون على شيء بعدها؛ بل ما كلفهم الله هو أقــل
مما يستطيعونه ،ولله الحمد ،فقد كلفهم صيام شهر فــي الســنة،
أليسوا يطيقون أن يصوموا شهرين؟ بل يطيقون أن يصوموا ثلثة
لو كلفهم بذلك.
204
]كل ما يجري في الكون بمشيئة الله[
وقوله) :وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضــائه
ل كَلهــا، ت كَلها ،وغلب قضاؤه الحيـ َ وقدره ،غلبت مشيئُته المشيئا ِ
حيــن، يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبدا ،تقــدس عــن كــل ســوء و َ
مل وَهُ ْ فعَ ُ ما ي َ ْ
ل عَ ّسأ َ ُ
شين ،قال تعالى )) :ل ي ُ ْ وتنزه عن كل عيب و َ
ي َ
ن ((]النبياء.( [23: سأُلو َ ُ ْ
هذا يتضمن المرتبة الثالثة من مراتب اليمان بالقدر ،والمام
الطحاوي ـ رحمه الله ـ في هذه العقيــدة فــرق الكلم فــي القــدر
وأبدا فيه وأعاد ،فقد مضى كلم كثير ،ونصوص كثيرة من عباراته
تتضمن تقرير اليمان بالقدر ،وما يوجبه هذا اليمــان ]ص و و و[ ،
ول شك أن اليمــان بالقــدر ــ وهــو الصــل الســادس مــن أصــول
اليمان ـ من الهمية بمكان ،وقــد زلــت فيــه أقــدام ،وضــلت فيــه
ل الســنة ق أه ـ َ أفهام ،وتحير فيه المتحيرون ،وهدى الله إلــى الح ـ ِ
والجماعة أهل الهدى والفلح ،فهــم أســعد النــاس فــي كــل حــق،
وهم أسعد الناس بإصابة الصواب فــي هــذا البــاب ،فهــم يؤمنــون
بأن مشيئة الله عامة ،ل خروج لشيء عــن مشــيئته ،فكــل شــيء
مــن الحــوادث والحركــات والســكنات العلويــة والســفلية ،حركــة
الفلك والملئكة والجن والنس والجمادات ،وكــل صــغير وكــبير؛
فهو يجري بمشيئته تعالى وقضائه وتقديره ،يجــب أن نــؤمن بــأنه
قد سبق به علم الله القديم ،وسبق بــه كتــابه الول ،وجــرت فيــه
مشيئته ،وهذا تحقيق كمال ملكه ،فله الملك كله ،ل خروج لشيء
ك مل ْـ ُ
ه ُ عــن ملكــه ،فلــه التــدبير والتقــدير ،ســبحانه وتعــالى )) :ل َـ ُ
ض ((]البقرة [107:وتجــد هــذا المعنــى ُيثنــى فــي َ
ت َوالْر ِ وا ِم َس َ ال ّ
القرآن كثيرا.
وقوله) :وعلمه وقضائه وقدره(.
كل شيء يجري بمشيئته النافــذة الشــاملة )وعلمــه( القــديم
)وقضائه( النافذ )وقدره( أي :تقــديره ،الســابق ،قــال النــبي :
در الله المقــادير قبــل أن يخلــق الســماوات والرض بخمســين )ق ّ
ألف سنة( ]تقدم في ص[.
ت كَلها ،وغلب قضــاؤه الحيــ َ
ل وقوله) :غلبت مشيئُته المشيئا ِ
كَلها(.
مشيئة الله تعالى نافــذة وإن خالفتهــا مشــيئات الخلــق ،فمــا
شاء الله كان وإن لم يشإ الخلق ،وما شاءه العباد ل يكون إن لــم
يشإ الله ،كما قال المام الشافعي ـ رحمه الله ـ:
ن لم تشأ لم تإ ْ وما شئ ُ ت كان وإن لم أشأ ما شئ َ
ن
يك ْ
205
ت ففي العلم ِ يجري الفتى ت العباد َ على ما علم َ خلق َ
والمسن
ت وذا لم ُتعن وهذا أعن َ تت وهذا خذل َ على ذا منن َ
ح ومنهم حسن ومنهم قبي ٌ ي ومنهم سعيد فمنهم شق ٌ
]شرح أصول اعتقاد أهل السنة ،4/777والسماء والصفات
ص [171
وقضاؤه وحكمه نافذ غالب لحيل الخلق ،كما في الدعاء عــن
ل في قضاؤك( ]تقــدم بلفــظ :أســألك مك ،عد ٌ ض في حك ُ النبي ) :ما ٍ
بكل اسم هو لك[ ومهما فعل الخلق ومهما دبروا؛ فلن يتــم لهــم شــيء
ن كان قضاء الله مخالفا له ،ولن يمضي ولن يتــم إل حكــم اللــه إ ْ
وقضاؤه؛ لكن الخلق يقــدرون علــى فعــل الســباب ،فالحيــل مـن
السباب ،والنسان مأمور بفعل السباب والحيل التي توصل إلــى
ما أمر اللــه بــه أو أبــاحه لعبــاده؛ ولكــن هــذه الســباب محكومــة
بقضاء الله ،ولن يتم بأي سبب وبأي حيلة أثر لي سبب أوحيلة إل
ما قضاه الله سبحانه ،وفي وصايا النبي لبن عباس رضي الله
عنهما) :واعلم أن المة لو اجتمعوا علــى أن ينفعــوك بشــيء لــن
ينفعوك إل بشيء قد كتبه الله لك ،وإن اجتمعوا على أن يضــروك
بشيء لن يضروك إل بشــيء قــد كتبــه اللــه عليــك ،جفــت القلم
وطويت الصحف(].تقدم[
دا(.
وقوله) :يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أب ً
يفعل سبحانه ما يشاء ،فيعطي ويمنع ،ويخفض ويرفــع ،ويعــز
مــَر ((]يــونس،[3: َ
ويذل ،ويهدي ويضل ،ويحيي ويميت )) ،ي ُد َب ُّر ال ْ
نمـ ْب َقد ُِر ((]الرعــد ،[26:و)) ي ُعَ ـذ ّ ُ شاُء وَي َ ْن يَ َ
م ْ ط الّرْزقَ ل ِ َس ُ )) ي َب ْ ُ
شاُء ((]العنكبوت ،[21:كل ذلك جارٍ على وفــق ن يَ َ م ْم َح ُ
شاُء وَي َْر َ يَ َ
حكمته تعالى ،فله الحكمة فــي كــل تــدبير ،كمــا تقــدم فــي قــول
الطحاوي) :يهدي مــن يشــاء ويعصــم ويعــافي فضــل ،ويضــل مــن
يشاء ويخذل ويبتلي عدل( ]ص[.
فهو يهدي من يشاء بفضله وحكمتــه ،ويضــل ويخــذل ويبتلــي
من يشاء بعدله وحكمته ،فالحكمة ثابتة في كل تــدبير ،فهــو يضــع
فضله في مواضعه؛ لن الظلم :وضع الشــيء فــي غيــر موضــعه،
والعدل :وضع الشياء في مواضعها ،فالله تعالى يضــع فضــله فــي
مواضعه حيث شاء على وفق الحكمة ،خلفا لقول الجهميــة ومــن
تبعهم كالشاعرة :إن كل ما يجري بمحض المشيئة دون أن تكون
له تعالى حكمة فــي هــذا التقــدير والتــدبير ،وقــد تقــدم نحــو هــذا
المعنى] .ص[
المقصود :أنه يجب اليمان بأن أفعاَله سبحانه وتعالى جاريــ ٌ
ة
على وفق العدل والحكمــة ،فأفعــاله دائرة بيــن الفضــل والعــدل،
206
ك ب ِظ َّلم ٍ ل ِل ْعَِبي ـد ِ (( مــا َرب ّـ َ
والظلم مما يجب تنزيهه تعالى عنه )) وَ َ
َ
ه ل َ ي َظ ِْلــ ُ
م ن الل ّ َ ما أَنا ب ِظ َّلم ٍ ل ِل ْعَِبيد ِ ((]ق) [29:إ ِ ّ ]فصلت )) ،[46:وَ َ
ل ذ َّرةٍ (]النساء[40:واليــات فــي تنزيهــه تعــالى عــن الظلــم قا َ
مث ْ َ
ِ
كثيرة.
فل يعذب أحدا بغير ذنب ،ول يعذب أحــدا بــذنب غيــره ،وجــاء
ذب أهل ســماواته في الحديث عن النبي ) :لو أن الله تعالى ع ّ
وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم( ]تقدم تخريجه عند طرفه :واعلــم
أن ما أصابك لم يكن ليخطئك[ فلن يعذبهم إل بما يقتضي تعــذيبهم ،وهــو
قادر أن يعذب من شاء بغير ذنب ،أو يعذب من شاء بذنب غيــره؛
لكنه ل يفعل ذلك لكمال عــدله ســبحانه ،وقــد حــرم الظلــم علــى
نفسه كما في الحديث القدسي عن أبي ذر عن النبي :قال:
قال الله تعالى) :يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلتــه
بينكم محرما؛ فل تظاَلموا( ] رواه مسلم ) [(2577فهــو ل يظلــم
ول يرضى الظلم من أحد من العباد ،ولذا حرمه علــى عبــاده فــي
شرائعه التي أنزلها على رسله.
حك ّــم وإذا عرض للنسان شــيء مــن الحــوادث فعليــه أن ل ي ُ َ
عقله الناقص ،فكثير من الخلق لقصــور علمهــم وضــعف إيمــانهم
يعترضون في نفوسهم ،أو يتكلمون بألسنتهم على تدبيره تعــالى،
دا ببلء ـ) :فلن واللــه مــا فتسمع بعضهم يقول ـ إذا ابتلى الله عب ً
يستاهل( ،وهي عبارة مشهورة عند العامة ،وهــي تعنــي :أن اللــه
ابتلى هذا العبد ،وهو ليـس أهل لهـذا ،وهـذا اعــتراض علـى تـدبير
الرب؛ بل يجب اليمان بحكمــة الــرب فــي تــدبيره وكمــال عــدله
سبحانه وتعالى ،هذا أصل يجب العناية به علما وتفكيــرا وتقريــرا،
وهو اليمان بكمال عدل الرب سبحانه وتعــالى فــي خلقــه وأمــره
م كان كــذا؟ م جرى كذا؟ ول ِ َ وجزائه ،فل تعارض قدر الله بقولك :ل ِ َ
فأي خاطر يتضمن العتراض على تدبير الله فيجب على المــؤمن
أن يدفعه بإيمانه بأن الله تعالى حكيم له الحكمة البالغة فــي كــل
تدبير وتقدير] .انظر :كلما نفيسا في هذا المعنى لبن القيــم فــي
زاد المعاد [3/235
حيــن ،وتنــزه عــن كــل عيــب ســوء و َ وقوله) :تقدس عن كــل ُ
شين(. و َ
تقدس وتنزه ،عبارتان بمعنى واحد ،والشيخ الطحــاوي كــثيرا
ما ينوع ويتفنن في العبارات ،وهذه المادة )تقدس( موجــودة فــي
س(]الحشــر ،[23:وقــالت دو ُ قـ ّ القــرآن كــثيرا فاســمه تعــالى) :ال ْ ُ
ك ((]البقــرة[30: س ل َـ َك وَن ُقَ ـد ّ ُ م ـد ِ َح ْ
ح بِ َ
س ـب ّ ُ
ن نُ َحـ ُالملئكــة )) :وَن َ ْ
فالتســبيح والتقــديس والتنزيــه كلهــا تــدل علــى نفــي المعــائب،
207
فالقدوس :المنزه عن كل سوء وعيب ،ومن عبارات السلف فــي
تفسير القدوس :الطاهر] .تفسير الطبري .[ 1/505
شين(. حين ،وتنزه عن كل عيب و َ سوء و َ وقوله) :عن كل ُ
شين ،عبارات كلهـا معناهــا :المــور حين والعيب وال ّ السوء وال َ
المذمومة ،فهو تعالى منزه عن كــل عيــب وســوء ووصــف قبيــح،
فهو منزه عن القبيح في أسمائه وصــفاته وأفعــاله ،فلــه الســماء
الحسنى والصفات العل ،وأفعاله كلها كمال ،كما تقــدم ]ص[ فــي
الحديث في دعاء الستفتاح) :والشر ليــس إليــك( فهــو ل يضــاف
إلــى اللــه اســما ول صــفة ول فعل؛ لكــن الســوء والشــر والزيــن
والشين يوجد في مفعـولت اللـه ــ أي :مخلوقـاته ــ ،أمـا أفعـاله
تعالى فكلها عدل وحكمة ،فخلقــه تعــالى للشــياء المتضــادة مــن
الحسن والقبيح والنافع والضار ،والملئكــة والشــياطين ،والصــحة
والمرض ،والمــوت والحيــاة ،كــل ذلــك علــى وفــق الحكمــة ،فلــه
الحكمة البالغة في خلقه للضداد.
ومن حكمه ما بينــه لنــا تعــالى ،ومنهــا مــا يظهــر لنــا بالتأمــل
والتدبر والتفكر ،وما خفــي علينــا منهــا ــ وهــو الكثرـ ـ فعلينــا أن
نفوض ذلك إلى علمه ســبحانه ،ونــؤمن بــأن لــه الحكمــة البالغــة،
مــا ً (( عل ْ َ ن ب ِهِ ِ طو َحي ُ وتفاصيل ذلك ل تحيط به عقول العباد )) َول ي ُ ِ
]طه [110:سبحانه وتعالى ،فل نحيط بحكمته كما ل نحيــط علمــا
بمخلوقاته.
َ َ
ن (( س ـأُلو َ م يُ ْل وَهُ ـ ْفعَ ـ ُ مــا ي َ ْل عَ ّسأ ُ وقوله) :قال تعالى )) :ل ي ُ ْ
]النبياء.( [23:
ختــم الشــيخ هــذه العبــارات المتعلقــة بالقــدر بهــذه الجملــة
َ س ـأ َ ُ
ن (( س ـأُلو َ م يُ ْل وَهُـ ْ فعَـ ُ مــا ي َ ْل عَ ّ المقتبسة مــن القــرآن )) :ل ي ُ ْ
]النبياء ،[23:هذا مما وصف الله به نفســه ،وتقــدم ]ص[ أن كــل
نفي يوصف الله به؛ فل بــد أن يتضــمن إثبــات كمــال ،فل يوصــف
تعالى بـالنفي المحــض الــذي ل يتضـمن ثبــوت كمــال؛ لن النفــي
المحض ليس فيه مدح ول كمال ،فمما وصف الله بــه نفســه مــن
النفي :أنه ل ُيسأل عما يفعل ،ل يتوجه إليه السؤال ،وذلك لكمال
حكمته ،وليس هذا لقــوته وقــدرته وســلطانه ،فمــن كـان معروفــا
م كــان منــك كــذا؟ لنــه ت كذا؟ ول ِـ َ م فعل َ بكمال الحكمة ل يقال :ل ِ َ
حكيم ،وأما العباد فإن أقوالهم وأفعــالهم عرضــة للنقــص والخلــل
والعيب والنحراف فهم ُيســألون عــن أفعــالهم فــي الــدنيا بحكــم
َ
سـأل َن ّهُ ْ
م ك ل َن َ ْ الشرع ،وُيسألون فــي الخــرة ،قــال تعــالى )) :فَوََرب ّـ َ
َ
ن ((]الحجر ،[93-92:وقــال النــبي : مُلو َ ما َ
كاُنوا ي َعْ َ ن * عَ ّمِعي َ
ج َ
أ ْ
)ل تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفنــاه،
ل به ،وعن ماله مــن أيــن اكتســبه وفيــم أنفقــه، وعن علمه ما َفع َ
208
وعن جسمه فيم أبله(] .رواه الدارمي ) ،(543وعنــه الترمــذي )
(2417ـ وقال :حسن صحيح ـ من حديث أبي برزة السلمي ،
وانظر :السلسلة الصحيحة )[(946
م
فالعبــاد ُيســألون ،أمــا اللــه تعــالى فل ُيســأل ،فل ُيقــال :ل ِـ َ
ت؟ على وجه العتراض ،أما السؤال لمزيد المعرفة فل مــانع فعل َ
م شــرع اللــه كــذا؟ منه كأن يقول النسان :ما الحكمة في كذا؟ ل ِ َ
ليعرف الحكمة ل على وجه العتراض على التشريع والتدبير.
والملئكة لم يكن سؤالهم لربهم عندما قال سبحانه وتعــالى:
َ ل ِفي ال َْر
سـد ُ ِفيهَــاف ِن يُ ْ
مـ ْل ِفيَها َ ة َقاُلوا أت َ ْ
جعَ ُ ف ًخِلي َض َ ِ ع ٌ جا ِ)) إ ِّني َ
مــا َ َ ك َقا َ َ
سل َ مد ِ َ ف ُ
م َ ل إ ِّني أع ْل ُ قد ّ ُ ك وَن ُ َ ح ْ ح بِ َسب ّ ُ
ن نُ َ ح ُماَء وَن َ ْك الد ّ َ س ِ وَي َ ْ
ن ((]البقرة [30:على وجــه العــتراض علــى تــدبير اللــه، مو َ ل ت َعْل َ ُ
إنما تحيروا في معرفة الحكمة في خلق هذا المخلوق الذي يكون
ذكر من الفساد وسفك الدماء . منه ما ُ
209
ة عليهــا(] .رواه ف صــدق ٌ خ ـَرا َ ن حــائطي ال ْ ِ
م ْ قال :فــإني أشــهدك أ ّ
البخاري )[(2762
واتفق أهل السنة علــى أن المــوات ينتفعــون بــدعاء الحيــاء
وبالصــدقة عنهــم] ،التمهيــد ،20/27ومجمــوع الفتــاوى 7/498و
فــق عنــه24/306و ،366والروح ص [190سواء كان المال المن َ
صــدقة علــى فقيــر ،أو قضــاء ديــن عــن معســر ،أو النفــاق علــى
أعمال الخير؛ كتعليم القرآن.
واقتصــر الطحــاوي علــى )دعــاء الحيــاء وصــدقاتهم (؛ لنــه
مذهب أبي حنيفة ،أو أنه قصد ما اتفــق عليــه أهــل الســنة اتفاقــا
تاما.
وكذلك الحج ـ أيضا ـ مما اتفق أهل السنة على وصول ثــوابه
ضوب ]العــاجز إلى الميت وانتفاعه به؛ بل والحج عن الحي اْلـــ َ
معْ ُ
ض ل ُيرجى برؤه .القناع [ 1/543 عن الحج لك ِب ِرٍ أو َزمانةٍ أو مر ٍ
فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهمــا ،قــال :
م عام حجة الوداع ،قالت :يــا رســول اللــه، خث ْعَ َ
»جاءت امرأة من َ
إن فريضة الله على عباده في الحــج أدركــت أبــي شــيخا كــبيرا ل
يستطيع أن يستوي على الراحلة ،فهل يقضي عنه أن أحــج عنــه؟
قال :نعم(] .البخاري ) ،(1854ومسلم ) ، [(1335وفي الصحيح
ن امــرأة مــن جهينــة جــاءت إلــى النــبي عنه ـ أيضــا ــ ) : أ ّ
فقالت :إن أمي نذرت أن تحج ،فلم تحج حتى ماتت ،أفأحج عنها؟
تقال» :نعم حجــي عنهــا ،أرأيــت لــو كــان علــى أمــك ديــن ،أكن ـ ِ
ة؟ اقضوا الله ،فالله أحق بالوفاء«] .البخاري )[(1852 قاضي ً
وعنــه ـ ـ أيضــا ـ ـ أن النــبي ســمع رجل يقــول :لبيــك عــن
مــن شــبرمة؟ قــال :أخ لــي أو قريــب لــي ،قــال: شــبرمة ،قــالَ :
حججت عن نفسك؟ قال :ل ،قال :حج عــن نفســك ،ثــم حــج عــن
شبرمة(].رواه أبو داود ) ،(1811وابــن مــاجه ) ،(2903وصــححه
ابن خزيمة ) ،(3039وابن حبــان ) (3988والــبيهقي فــي الكــبرى
،4/336وانظر :تنقيــح التحقيــق ،3/392ونصــب الرايــة ،3/155
والتلخيص الحبير [4/1511
وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة :إنما يصل للميــت
ثواب النفقة ،أما ثواب الحج فهو للحاج].بدائع الصنائع [2/455
وهذا خلف ظاهر الدلة؛ لن قوله للخثعمية حيــن قــالت:
فهل يقضي عنه أن أحج عنه ،قال » :نعم« ،وقوله للجهنية» :
حجــي عنهــا « ،وقــوله » :حـج عــن شــبرمة« ظــاهره الطلق،
وصحة الحج عنه ،وأن الثواب للمحجوج عنه.
210
ثم بعــد ذلــك اختلــف العلمــاء فــي ســائر العبــادات ،كالصــلة
والصيام وتلوة القرآن والذكر ،هـل يصــل ثوابهــا إلـى الميــت ،إذا
عملها الحي عنه؟
أكثر أهل العلم على أن هذه العبادات يصل ثوابها فينتفــع بهــا
الميت؛ بل توسع بعــض أهــل العلــم ،وقــالوا :إن أي قربــة يفعلهــا
النسان عن الحي أو الميت؛ فإن ذلك يصل إليه ،كما في نص زاد
ت مســلم أو حــي المستقنع » :وأيّ قربةٍ فعلها وجعل ثوابهــا لمي ـ ٍ
نفعه ذلك« ]ص .[72وهذا توسع كبير.
والذي يعنينا في هذا المقام انتفــاع المــوات بســعي الحيــاء،
فأكثر العلماء على أن الموات ينتفعون بهذه العبادات ،فإذا صــام
أو صلى عن الميت ولو تطوعا ،أو قرأ قرآنا ،أو سّبح وهّلل وكب ّــر،
يريد أن يكـون ذلــك عـن الميـت؛ فــإنه ينفعـه ذلــك ،قياســا لهــذه
العبادات على ما وردت به النصوص ،وهؤلء ل فــرق عنــدهم بيــن
فرض ونفل أو نذر ،فينتفع الميت بها جميعا.
وفي هذا تفصيل؛ فأمـا الصـيام فقـد ثبــت فـي الصـحيح عــن
النــبي أنــه قــال) :مــن مــات وعليــه صــيام صــام عنــه وليــه(.
]البخاري ) ،(1952ومسلم ) (1147عائشة [
وهنا اختلف أهل العلم على مذاهب ،فمنهم من قال :ل ُيصام
عن الميت مطلقا ،وإنما ُيطعم عنه عمل بما صح عن ابــن عبــاس
رضي الله عنهما أنه قال) :ل يصلي أحد عن أحد ،ول يصــوم أحــد
مــدا مــن حنطــة( ] رواه عن أحد ،ولكن يطعم عنه مكان كل يوم ُ
النسائي في الكــبرى ) (2918وصــححه ابــن حجــر فــي التلخيــص
الحبير ،3/1464وانظر :نصب الراية [2/463
وهذه النصوص ربما أجابوا عنها بالنسخ ،ول شك أن هذا الثر
ل يقــاوم النصــوص الصــحيحة الصــريحة ،والمشــهور عــن المــام
أحمد :أنه ُيصـام عـن الميـت النـذر خاصـة ،أمـا الفـرض؛ كقضـاِء
ت؛ ككفارة القتــل فل تصــام عــن الميــت ،وإنمــا رمضان ،والكفارا ِ
ُيطعــم عنــه ]ســنن أبــي داود ) ،(2400والمغنــي ،4/398وإعلم
الموقعين 4/390وتهذيب السنن [ 3/279على ما جاء فــي أثــر
ابن عباس رضي الله عنهما ،ولكن الحديث لفظه عام» :من مات
وعليه صيام صام عنه وليه«.
وإذا كــان ســبب الحــديث هــو الســؤال عــن صــوم النــذر؛
فـ»العبرة بعموم اللفظ ل بخصوص السبب«.
وأما الصلة وتلوة القرآن والذكر؛ فلم يرد فيهــا شــيء ،إنمــا
عمدة من قال بوصول ثوابها وجواز فعلها عن الميت هــو قياســها
على ما ورد في النصوص من الحج والصيام.
211
وأهل السنة في جملة هذه القضية طرفــان ووســط؛ فمنهــم
ب. قَر ِ من يرى جواز إهداء جميع ال ُ
والذي دلت عليه النصوص ليس إهداء الثــواب؛ بــل هــو فعــل
العبادات عن الغير ،وهذا ل بد فيه من نية فعل العبادة عــن الغيــر
عند ابتداء العمل؛ كالحج عن المغضــوب والميــت ،كمــا نبــه علــى
ذلك ابن القيم ]الروح ص ، [212فليس الوارد أن النسان بعدما
يحج يقول :اللهم اجعل ثواب حجتي هذه لفلن ،أو بعدما يتصــدق
يقول :اللهم اجعل ثواب هــذه الصــدقة لفلن ،أو يصــوم يومــا ثــم
يقول :اللهم اجعل ثواب صومي هذا لفلن؛ بل مــن أصــل العمــل
من يريد الحسان إليه. ينوي فعله ع ّ
ثم إن العامل إذا عمل ل يعلم هل ك ُِتب له ثواب عنــد اللــه أو
ل ،فكيف يقول :اللهم اجعل ثواب هذا العمل لفلن؟!
لكن الفقهاء لعلهم نظروا إلى أن المقصود من فعــل العبــادة
عن الميت هو نفع الميت بما يترتب على ذلك من ثواب.
ومنهم مــن قصــر ذلــك علــى الــدعاء والصــدقة والحــج علــى
خلف.
وأظهر هذه المذاهب هو الوقوف عند ما ورد ،فنقــول :ينتفــع
الميت بدعاء الحي ،وهذا محــل إجمــاع ،وكــذلك الصــدقة والحــج،
ولسيما الحج الواجب ،هــذا ل كلم فــي وصــوله ،وكــذلك الصــوم
الواجب »من مات وعليه صــيام صــام عنــه وليــه« ،وكــذا إذا نــذر
ص بما نذر؛ فإن الدلة تدل النسان عبادة ً ثم أدركه الموت ولم يو ِ
على فعلها عنه كالــدين؛ فالنــذر ديــن والــتزام مــن المكلــف ،ومــا
ســوى ذلــك؛ فــإن إلحــاقه بمــا وردت فيــه النصــوص محــل نظــر
واجتهاد.
وفي مقابل مذهب أهل السنة والجماعة الذي قصد المؤلــف
التنبيه عليه ،قول المبتدعة :إن الميت ل ينتفع بشــيء مــن ســعي
الحياء ،حتى قيل عن بعضهم :ل ينتفع بشــيء مــن ســعي الحيــاء
ول الدعاء.
ول شك أن هذا باطل ومن شبهاتهم استدللهم بقوله سبحانه
َ
سـَعى ((]النجــم ،[39:وقــوله ما َ ن إ ِّل َ سا ِ
لن َس لِ ِ ن ل َي ْ َ
وتعالى )) :وَأ ْ
ن ((]يــس[54: مل ُــو َ
م ت َعْ َ مــا ُ
كنت ُـ ْ ن إ ِّل َ جـَزوْ َسبحانه وتعالىَ )) :ول ت ُ ْ
ن ((مل ُــو َ
م ت َعْ َ مــا ُ
كنت ُـ ْ ن َ جـَزوْ َ مــا ت ُ ْونظائرها في القــرآن كــثير )) :إ ِن ّ َ
]الطور [16:أي :ما تجزون إل ما كنتم تعملون ،ومن أدلتهم قــول
) :إذا مــات النســان انقطــع عنــه عملــه إل مــن ثلثــة :إل مــن
صدقة جاريــة ،أو علــم ينتفــع بــه ،أو ولــد صــالح يــدعو لــه(].رواه
مسلم ) (1631من حديث أبي هريرة [
212
وأجيب عن استدللت القائلين بعدم انتفــاع المــوات بســعي
الحياء ،أما الــدعاء فمعلــوم بالضــرورة مــن ديــن الســلم انتفــاع
الميت بالصلة عليه ،والمقصود من الصلة على الميت هو الدعاء
له ،هذا ركنها العظم ،وكذلك الدعاء لهم عند زيارة القبــور ]رواه
مسلم ) (975من حــديث بريــدة ،وتقــدم فــي ص :اســتغفروا
لخيكــم[ ،وكــذلك انتفــاعهم بالصــدقة كمــا تقــدم ]ص[ ،فقــولهم
مردود بهذه النصوص.
َ
سـَعى ((]النجــم[39: مــا َ ن إ ِّل َســا ِ لن َ
س لِ ِ ن ل َي ْ َ وأما الية )) :وَأ ْ
فأجيب عنهــا بأجوبــة ،قــال شــارح الطحاويــة ابــن أبــي العــز ]ص
:[669إن أصحها جوابان:
الول» :أن النســـان بســـعيه وحســـن عشـــرته اكتســـب
الصدقاء ،وأولد الولد ،ونكح الزواج ،وأسدى الخير وتودد إلــى
الناس ،فترحموا عليه ،ودعوا له ،وأهــدوا لــه ثــواب الطاعــات ،
فكان ذلك أثر سعيه ،بل دخول المسلم مع جملة المسلمين فــي
عقــد الســلم مــن أعظــم الســباب فــي وصــول نفــع كــل مــن
المسلمين إلى صاحبه ،في حياته وبعد مماته«] .نقل ابــن القيــم
في الروح ص 205هذا الجواب عن ابن عقيل[
وأظهر من هذا هو الجواب الثاني :وهو أن المنفي فــي اليــة
ن َ
هو ملك النسان لسعي غيره ،فالنسان ل يملك إل عمله )) ،وَأ ْ
سا ً إ ِّل
ف َ ف الل ّ ُ
ه نَ ْ سَعى ((]النجم )) ،[39:ل ي ُك َل ّ ُ ما َ ن إ ِّل َسا ِلن َس لِ ِل َي ْ َ
ت ((]البقــرة [286:فليــس ما اك ْت َ َ
س ـب َ ْ ت وَع َل َي َْها َ ما ك َ َ
سب َ ْ سعََها ل ََها َ
وُ ْ
للنسان إل عمله ،وليس له عمل غيره ،ونفي اســتحقاق النســان
لعمل غيره ل يستلزم نفي انتفاعه بعمــل غيــره إذا فعلــه عنــه أو
أهدى ثوابه له ،كما يقال :ليس للنسان إل ماله ،أما أموال الناس
فليست له ،ول يلزم من نفي ملكه لمال غيــره نفــي النتفــاع بــه،
فيمكــن أن يهــديه ،أو أن يتصــدق عليــه ،أو ينتفــع بــه بــوجه مــن
الوجوه ،فالنتفاع أعم من الملك ،فل يلزم من نفــي الملــك نفــي
النتفاع ،وهذا جواب سديد قريب بّين ]ذكر ابن القيــم معنــى هــذا
الجــواب فــي الــروح ص 206وقــال :وكــان شــيخنا يختــار هــذه
الطريقة ويرجحها ،وانظر :مجموع الفتـاوى ،[24/312كمــا دلـت
على ذلك هذه النصوص ،الصــدقة عــن الميــت ،والصــوم الــواجب
عن الميت ،والحج عن الميت ،والدعاء؛ بل وقضاء الدين ،كما في
حديث أبي قتادة عندما ضمن الدين عن الميت؛ فبرئت ذمتــه،
وصلى عليه النبي ] .رواه البخاري ) (2289مــن حــديث ســلمة
بن الكوع [
ن ((]يــس: مل ُــو َ
م ت َعْ َ ما ُ
كنت ُـ ْ ن إ ِّل َ جَزوْ َ وأما قوله تعالىَ )) :ول ت ُ ْ
[54وأشباهها من القرآن فيقال فيها ما قيل في الية التي قبلها:
213
إن النسان ل ُيجزى إل بعمله ،هذا الذي يستحقه بوعد اللـه ،وهـو
ل ينفي أن ينتفع بعمل غيره إذا أهداه إليه ،وتصدق به عليه.
وأولى من هذا الجــواب بالنســبة لهــذه اليــة :أن يقــال :هــذه
اليات إذا تأملنا القرآن نجد أن كل ما ورد فيه بهذا المعنى يختص
ن ش ـي ْئ َا ً َول ت ُ ْ
ج ـَزوْ َ س َ
فـ ٌ
م نَ ْم ل ت ُظ ْل َ ُ
بالجزاء على السيئاتَ )) :فال ْي َوْ َ
َ
واءٌ سـ َ
ص ـب ُِروا َ ن ((]يسَ )) ،[54:فا ْ
ص ـب ُِروا أوْ ل ت َ ْ مُلو َم ت َعْ َكنت ُ ْ ما ُ إ ِّل َ
ن ((]الطــور [16:وهــذا المعنــى مُلو َ
م ت َعْ َ ما ُ
كنت ُ ْ ن َ جَزوْ َما ت ُ ْم إ ِن ّ َع َل َي ْك ُ ْ
في القرآن كثير ،فيكون موافقا لقوله ســبحانهَ )) :ول َتــزُِر َوازَِرةٌ
خــَرى ((]النعــام ،[164:فالنســان ل يعــاقب إل بــذنبه ،ل وِْزَر أ ُ ْ
يعاقب بذنب غيره.
ومسألة انتفاع الموات بسعي الحياء ذكرهـا ابـن القيـم فـي
كتابه »الروح« ]ص [226-190وبسط القول فيهــا ،وذكــر أقــوال
الناس ،وما ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية هو ملخص من
ذلك الكتاب ،وذهب ابن القيم ،فيــه إلــى القــول بانتفــاع المــوات
بسعي الحياء مطلقا ،وعلى هذا فمــن أخــذ بهــذا عــن اجتهــاد ،أو
تقليد لمن يذهب إلى ذلك؛ فل شيء عليه.
214
(866و) ،(894والضياء في المختارة 5/9و ،10وانظر :السلســلة
الضعيفة ).[(1362
فل تحقر المور الصــغيرة وتجعــل دعــاءك فقــط فــي المــور
الكبيرة؛ لكن قل» :اللهم أصــلح لــي شــأني كلــه« ،فينبغــي علــى
المسلم أن يدعو ربه بقلبــه ولسـانه ،ويعتمـد فــي قضــاء حـوائجه
عليــه ،ول يعتمــد علــى الســباب؛ بــل يعتمــد علــى ربــه ويــدعوه،
فالدعاء أعظم السباب؛ لنه التجاٌء إلــى اللــه فــي جلــب المنــافع
ودفع المضار ،فهو ينفع فــي رفــع البلء وفــي دفعــه ،وهــذا ديــدن
الخلق كلهم ،حتى الكفار يدعون اللــه ،كمـا أخــبر ســبحانه عنهــم،
ن لَ ُ
ه صي َخل ِ ِم ْه ُوا الل ّ َ ذا َرك ُِبوا ِفي ال ْفُل ْ ِ
ك د َع َ ُ لسيما في الشدة )) :فَإ ِ َ
ن ((]العنكبوت ،[65:ومتى وقع المخلوق في ضرورة؛ فــإنه ل دي َ
ال ّ
بد أن يلجأ إلى الله ،إل مــن فســدت فطرتــه واســتحكم فســادها؛
فإنه تنقطع صلته بربه.
ب إلى وذكر الشارح ابن أبي العز عن ابن عقيل» :أن الله ن َد َ َ
ن: الدعاء ،وفي ذلك معا ٍ
أحدها :الوجود ،فإن من ليس بموجود ل يدعى .
الثاني :الغنى ،فإن الفقير ل يدعى .
الثالث :السمع؛ فإن الصم ل يدعى .
الرابع :الكرم؛ فإن البخيل ل يدعى .
الخامس :الرحمة؛ فإن القاسي ل يدعى .
السادس :القدرة؛ فإن العاجز ل يدعى« ]ص.[678
فكلها تدخل فــي اليمــان بــالله ،فــدعاء العبــد لربــه يتضــمن
اليمان بأنه ســميع قــدير غنــي كريــم رحيــم ،فينبغــي للــداعي أن
يستحضر هذا.
والدعاء كغيره من الســباب ل بــد لحصــول أثــره مــن تــوافر
الشروط وانتفاء الموانع ؛ فــإن كــل الســباب الكونيــة والشــرعية
يتوقف أثرها على وجود الشروط وانتفاء الموانع.
فل بد في الــدعاء مــن اليمــان بــالله والخلص لــه ،والتوكــل
عليه سبحانه وتعالى ،بحيــث يــدعو النســان وهــو مــوقن بالجابــة
طامع في فضل الله.
ومن موانع الجابة مــا جــاء فــي الحــديث عــن النــبي » :ل
يــزال يســتجاب للعبــد مــا لــم يــدع بــإثم أو قطيعــة رحــم مــا لــم
يستعجل ،قيل :يا رســول اللــه مــا الســتعجال؟ قــال :يقــول :قــد
دعوت ،وقد دعــوت ،فلــم أر يســتجيب لــي فيستحســر عنــد ذلـك
ويدع الدعاء«] .رواه البخاري) ،(6340ومسلم ) (2735ـ واللفظ
له ـ من حديث أبي هريرة ،[وما جــاء فــي مســلم مــن حــديث
ثش ـعَ َل يطيــل الســفر أ ْ أبي هريرة عن النبي أنه » ذكر الرج ـ َ
215
م،ب ،ومطعمــه حــرا ٌ ب يــا ر ّ أغ َب َـَر يم ـد ُ يــديه إلــى الســماء :يــا ر ّ
م ،وغ ُـذ ِيَ بــالحرام فــأنى يســتجاب م ،وملبســه حــرا ٌ ومشربه حرا ٌ
لذلك« ]مسلم ) [(1015ومن الموانع كذلك العتداء ،قال تعالى:
ن{]العراف،[55: دي َ ب ال ْ ُ
معْت َ ِ ح ّه ل َ يُ ِة إ ِن ّ ُ
في َ ً
خ ْ
عا وَ ُ
ضّر ً
م تَ َعوا ْ َرب ّك ُ ْ
}اد ْ ُ
وفي الحديث :أن عبد الله بن مغفل ســمع ابنــه يقــول :اللهــم
ي
إني أسألك القصر البيض عن يمين الجنــة إذا دخلتهــا ،فقــال :أ ْ
ة ،وتعوذ به من النار؛ فإني سمعت رسول اللــه ه الجن َل الل َ يس ِ ب ُن َ ّ
يقول» :إنه سيكون في هذه المة قــوم يعتــدون فــي الطهــور
والدعاء«] .رواه أحمد ،4/87وأبو داود ) (96وابن حبان )6763و
،(6764والحاكم [1/540
وفي الحديث الصـحيح :أن النـبي قـال » :مـا مـن مسـلم
يدعو بدعوة ليس فيهــا إثــم ول قطيعــة رحــم إل أعطــاه اللــه بهــا
إحــدى ثلث :إمــا أن تعجــل لــه دعــوته ،وإمــا أن يـدخرها لــه فــي
ذا ن ُك ْث ِــر،
الخرة ،وإما أن يصرف عنــه مــن الســوء مثلهــا ،قــالوا :إ ً
قال :الله أكثر«].رواه أحمد ،3/18والبخاري في الدب المفــرد )
(711والحاكم 1/493من حديث أبي سعيد الخدري [
فإجابة الــدعاء أعــم مــن قضــاء الحاجــة ،فل يلــزم مــن عــدم
حصول المطلوب أن الله لم يجــب دعــاءك ،فتقــول :إن اللــه لــم
يستجب لي! وما يــدريك؟ لعــل اللــه أعطــاك إحــدى هــذه الثلث،
ص مــن ت :إن قــوله) :ويقضــي الحاجــات( أخـ ُ ومن أجل ذلــك قلـ ُ
قوله) :والله تعالى يجيب الدعوات(.
شــرع تعبــدا فقــط، ومن المبتدعة من قــال :إن الــدعاء إنمــا ُ
وليس له أثر في حصول المطلوب؛ لن المطلوب إن كان مقــدرا
وسيحصل؛ فل حاجة إلى الدعاء ،وإن كان لم يقدر؛ فل فائدة فــي
ع!الدعاء؛ لنه لن يحصل سواًء دعوت أم لم تد ُ
فيقال لهم :هنــاك قســم ثــالث ،وهــو :مــا قــدر اللــه حصــوله
بالدعاء ،فما قدر الله حصوله بسبب لن يحصــل إل بهــذا الســبب،
وهذه الشبهة طردهــا أن يقــال لهــم :قولــوا مثــل هــذا فــي ســائر
السباب ،فيقال لمن حرث و أراد الــزرع والثمــر :حرثــك وزرعــك
هذا ل فائدة منه؛ فإن كــان الثمــر قــد قــدره اللــه فستحصــل لــك
بدون عملك هذا ،وإن لم يقدر لك فل فائدة في عملك!
وهكذا يقال في لمن سعى لطلب الرزق :الرزق الذي تسعى
ع ،وإن كــان غيــر إليه إن كان مكتوبا لــك فسيحصــل ولــو لــم تسـ َ
مقدر؛ فل فائدة في سعيك ،ول أثر له!
وهذه الشبهة تقتضــي تعطيــل الســباب الشــرعية والكونيــة،
وهذا معلوم الفساد؛ فإن الله قد فطر العباد على فعــل الســباب
وعلى رجاء أثرها ، ،فالمذموم هــو العتمــاد علــى الســباب ،كمــا
216
قال بعضهم » :اللتفات إلى السباب شرك فــي التوحيــد ،ومحــو
الســباب أن تكــون أســبابا نقــص فــي العقــل ،والعــراض عــن
السباب بالكلية قدح في الشرع « ]نسبه شيخ السلم في منهاج
السنة ،5/336وبغيــة المرتـاد ص :262إلـى أبــي حامــد الغزالـي
وابن الجوزي ،وهو بمعناه في إحيــاء علــوم الــدين ،4/374ولعــل
كلم ابن الجوزي في مختصر الحياء »منهاج القاصدين« وهو غير
موجود ،[.فالسباب خلقها اللــه وقــدرها وشــرعها وجعلهــا مــؤثرة
في حصول أسبابها،
ولكن كل ذلك مرده إلى قدرة الله ومشيئته سبحانه وتعــالى
وتقديره وتدبيره.
واليات والحاديث في الترغيب فــي الــدعاء كــثيرة معلومــة،
فالله تعالى ندب عباده إلى الدعاء ورغبهم فيه؛ لن حوائج العبــاد
كلها لديه ،فبيده الملك وبيده الخير ،وهو المعطي المانع ،فل مانع
لما أعطى ول معطي لما منع ،وقد ضــمن اللــه الجابــة لكــل مــن
َ
م ((]غافر [60:وعد والله ل ب ل َك ُ ْ
ج ْ
ست َ ِ
عوِني أ ْ ل َرب ّك ُ ُ
م اد ْ ُ دعا )) وََقا َ
يخلف الميعاد.
217
َ َ
خــاُفون َهُ ْ
م واٌء ت َ َ
سـ َ م ِفيـهِ َ مـا َرَزقْن َــاك ُ ْ
م فَـأن ْت ُ ْ كاَء ِفي َ شَر َ ن ُ م ْ م ِ مان ُك ُ ْأي ْ َ
مل ّك ُــه م ((]الــروم [28:لكــن يكــون مالكــا لمــا ي ُ َ سـك ُ ْ ف َ م َأن ُ فت ِك ُـ ْ خي َ كَ ِ
مّلـك العبـاد مـا ك من شـاء مـا شـاء كمـا ي ُ َ مل ّ ُ
سيده ،والله تعالى ي ُ َ
كمال ِـ َ م َ ّ
ل اللهُـ ّ يعطيهم من الرزاق يقــول ســبحانه وتعــالى )) :قُـ ِ
شــاُء ((]آل ن تَ َمـ ْ م ّ ك ِ مل ْـ َ شــاُء وَت َن ْـزِع ُ ال ْ ُ ن تَ َمـ ْك َ مل ْـ َ ك ت ُـؤ ِْتي ال ْ ُ مل ْـ ِال ْ ُ
عمران [26:وقوله) :ول غنى عن الله تعالى طرفة عين(.
ل غنــى لحــد عــن اللــه طرفــة عيــن ،فــالخلق كلهــم فقــراء
مفتقرون إلى الله افتقارا ذاتيا ،فليس لشيء من ذاتــه إل العــدم،
فالفتقار صفة ذاتية للمخلوق ،فالخلق فقــراء إلــى اللــه فــي كــل
لحظة ،ول يستغني أحد عن الله طرفة عين ،بل هــم دائمــا وأبــدا
مفتقرون إلى اللــه فــي وجــودهم ،وفــي كــل شــؤونهم )) ي َــا أ َي ّهَــا
َ
ميد ُ ((]فـاطر[15: ي ال ْ َ
ح ِ ه هُوَ ال ْغَن ِ ّ قَراُء إ َِلى الل ّهِ َوالل ّ ُ م ال ْ ُ
ف َ س أن ْت ُ ُ الّنا ُ
ن بغناه عن كل ن بربوبيته سبحانه وتعالى اليما ُ ومن تحقيق اليما ِ
ما سواه ،وبفقر كل ما سواه إليه ،فهو تعالى الغني بذاته عن كل
ما سواه وكل شيء فقير إليه ،مفتقــر إليــه ،فل غنــى للــه طرفــة
عين.
من استغنى عن الله طرفة عين ،فقد كفــر وصــار وقوله ) :و َ
حين(. من أهل ال َ
في الواقع ل يمكن لحد أن يســتغني عــن اللــه طرفــة عيــن،
لكن الستغناء الذي يقع من بعض الخلق هو استغناء شعوري كما
يحصــل مــن أهــل الكفــر ،فالكــافر والغافــل هــو الــذي يمكــن أن
يستشعر في ذهنه أنــه مســتغن عــن اللــه ،وهــو فــي الواقــع غيــر
مستغن ،لكــن هــذا الســتغناء هــو بحســب مــا يتخيلــه ،وهــذا مــن
ن ل َي َط ْغَــى * ســا َ لن َ نا ِ طغيان العبد وجهله واغتراره بنفسه )) ك َّل إ ِ ّ
ست َغَْنى ((]العلق [7-6:إذا رأى نفسه غنيا بما أوتي أوجب َ
ن َرآه ُ ا ْ أ ْ
له ذلك الطغيان والغرور ،كما حصل من قارون ،ولهذا من يصاب
بهذا الداء ل يلجأ إلى الله ول يتوجه إليه ول يعــترف بربــوبيته؛ بــل
ينظر إلى ما هو عليه ،وما أوتي من قوة وأسباب وحيلة.
ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفــر وصــار مــن أهــل
الحين ،أي :من أهل الهلك.
218
ت كا ِ شـــرِ َ م ْ ن َوال ْ ُ كي َ شـــرِ ِ م ْ ت َوال ْ ُ قـــا ِ مَنافِ َ ن َوال ْ ُ قي َ من َـــافِ ِ ب ال ْ ُ )) وَي ُعَـــذ ّ َ
م ه ع َل َي ْهِ ـ ْ ب الل ّـ ُ ض َ سوِْء وَغ َ ِ دائ َِرة ُ ال ّ م َ سوِْء ع َل َي ْهِ ْ ن ال ّ ن ِبالل ّهِ ظ َ ّ ظاّني َ ال ّ
َ
صيًرا ((]الفتح،[6: م ِ ت َ ساَء ْ م وَ َ جهَن ّ َ م َ م وَأع َد ّ ل َهُ ْ وَل َعَن َهُ ْ
ب ع َل َــى ضـ ٍ قــال ســبحانه وتعــالى فــي اليهــود )) :فَب َــاُءوا ب ِغَ َ
م فعلوا ب الله على قو ٌ ب ((]البقرة [90:وقال ) :اشتد غض ُ ض ٍ غَ َ
ل يقُتلــه ب اللــه علــى رجـ ٍ عي َِته ـ ـ اشــتد غض ـ ُ بنبيه ـ يشير إلى َرب َــا ِ
ل اللــه( ]رواه البخــاري ) ،(4073ومســلم ) ل الله فــي ســبي ِ رسو ُ
(1793من حديث أبــي هريــرة ،[وقــال ) :مــن حلــف علــى
ئ مسلم ٍ هــو فيهــا فــاجٌر لقــي اللــه ل امر ٍ قت َط ِعُ بها ما َ صب ْرٍ ي َ ْ ن َ مي ِ يَ ِ
وهو عليه غضــبان( ]رواه البخــاري ) ،(4549ومســلم ) (138مـن
ن حديث ابن مسعود [فــي حــديث الشــفاعة فــي الصــحيحين أ ّ
م وموسى وعيسى عليهم الصــلة والســلم قــال حا وإبراهي َ م نو ً آد َ
َ
ب قبله مثله، َ كل واحد منهم ) :إن ربي غضب اليوم غضًبا لم يغض ْ
ب بعده مثَله ( ]البخــاري ) ،(4712ومســلم ) (194مــن ن يغض َ ول ْ
حديث أبي هريرة .[
وكذلك وصف الله تعالى نفسه بالرضا في آيات كثيرة ،فقال
ه ((]المائدة،[119: ضوا ع َن ْ ُ م وََر ُ ه ع َن ْهُ ْ ي الل ّ ُ ض َ سبحانه وتعالىَ )) :ر ِ
ضـاةِ الّلـ ِ
ه مْر َ ك اب ْت َِغـاَء َ ل ذ َِلـ َ فَعـ ْ ن يَ ْ مـ ْ وقـال سـبحانه وتعـالى )) :وَ َ
َ ما ((]النساء ،[114:وقـال )) :ذ َِلـ َ َ
م ك ِبـأن ّهُ ُ ظي ً جًرا ع َ ِ ف ن ُؤ ِْتيهِ أ ْ سو ْ َ فَ َ
َ َ َ
م ((]محمــد: مــال َهُ ْ ط أع ْ َ حب َ َ ه فَأ ْ وان َ ُ ض َهوا رِ ْ ه وَك َرِ ُ ط الل ّ َ خ َ س َما أ ْ ات ّب َُعوا َ
َ
م (( ظي ـ ُ ف ـوُْز ال ْعَ ِ ك ه ُ ـو َ ال ْ َ ن الل ّهِ أك ْب َُر ذ َل ِـ َ م َ ن ِ وا ٌ ض َ ،[28وقال )) :وَرِ ْ
]التوبة ،[72:وفــي الصــحيحين عــن أبــي ســعيد الخــدري عــن
ل عليكــم حـ ُ النبي قال :إن اللــه تعــالى يقــول لهــل الجنــة ) :أ ُ ِ
دا (] .البخــاري )،(6549 ط عليكــم بعــده أبــ ً خ ُ ســ َ ضــواني فل أ ْ رِ ْ
ومسلم )[(2829
فدلت هــذه النصــوص مــن الكتــاب والســنة علــى أنــه تعــالى
يغضب ويرضى ،كيف شاء ،ورضاه وغضبه ليــس كرضــا المخلــوق
وغضب المخلوق ،كمــا هــي القاعــدة المطــردة فــي صــفاته فهــو
تعالى يحب ويرضى ويســخط ويغضــب ،والمخلــوق يوصــف بهــذه
الصــفات وليســت صــفاته تعــالى كصــفات المخلــوق ،ول صــفات
المخلــوق كصــفاته ،وهــذا معنــى قــول الطحــاوي) :ل كأحــد مــن
يٌء شـ ْ مث ْل ِـهِ َ س كَ ِ الورى( أي :الخلق ،على حد قــوله تعــالى )) :ل َي ْـ َ
يٌء ش ْ مث ْل ِهِ َ س كَ ِ صيُر ((]الشورى [11:فقوله )) :ل َي ْ َ ميعُ الب َ ِ س ِوَهُوَ ال ّ
ع
مي ُ سـ ِ ((]الشــورى [11:رد للتشــبيه والتمثيــل ،وقــوله )) :وَهُـوَ ال ّ
صــيُر ((]الشــورى [11:رد لللحــاد والتعطيــل ،فليــس ســمعه الب َ ِ
كسمع المخلــوق ،ول بصــره كبصــر المخلــوق ،ول حبــه كحبــه ،ول
سخطه كسخطه ،ول غضبه كغضبه ،وأهل السنة والجماعة يثبتون
219
الغضب والرضى لله تعالى ،ويقولون :إنهمــا مــن صــفاته الفعليــة
التابعة لمشيئته؛ فإنه سبحانه وتعــالى يغضــب إذا شــاء علــى مــن
من شاء. شاء ،ويرضى إذا شاء ع ّ
وخالف في ذلــك المعطلــة كالجهميــة والمعتزلــة والشــاعرة
فنفوا حقيقة الغضب والرضــى عــن اللــه ،وقــالوا :إن إثبــات هــذه
الصفات لله يستلزم التشبيه؛ لنهم يفسرون الغضب :بأنه غليــان
دم القلب طلبا للنتقــام ،أو نحــوه ،ومــن أجــل ذلــك نفــوا حقيقــة
المحبة وحقيقة الرضا ،وحقيقة الغضب والسخط والكراهة.
ثم منهم من فسر هذه المور بأشياء مخلوقة؛ ففسر المحبــة
والرضــا بــالنعم المخلوقــة ،وفســر الغضــب والســخط والكراهــة
بالعقوبات التي ينزلها الله بالعصاة.
ومنهم من فســرها بــالرادة مثــل الشــاعرة فســروا المحبــة
والرضــا بــإرادة النعــام ،والغضــب والســخط والكراهــة بــإرادة
النتقام؛ لن الرادة مما يثبتونه من الصفات السبع.
أما أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يثبتــون هــذه الصــفات علــى
حقيقتها لله تعالى على ما يليق به ســبحانه ،علــى الــوجه الــذي ل
يماثل فيه صفات المخلوقين.
ومن الطوائف من أثبت الغضــب والرضــى للــه تعــالى ،لكــن
قال :إنها صفات ذاتية قديمة ل تتعلق بها المشيئة كما ذهــب إلــى
ذلــك الكلبيــة ،فقــالوا :إنــه تعــالى يغضــب ويرضــى ،لكــن غضــبه
ورضاه لزمان لذاته؛ كحياته وعلمه ،ول يتعلقان بمشيئته.
وهذا باطل؛ بل هو تعالى يغضب ويرضــى بمشــيئته ،ولغضــبه
ورضاه أسباب يحدثها سبحانه وتعالى.
ضــب ن ربــي غ َ ِوفي الحديثين السابقين :حديث الشــفاعة ) :إ ّ
اليوم غضبا( رد عليهم؛ فهذا الحــديث نـص علـى أن هـذا الغضـب
إنما كان في ذلك اليوم.
حـ ُ
ل ُ
وحديث أبي سعيد ،وقول الله تعالى لهــل الجنــة ) :أ ِ
دا( دليل على أنه تعــالى ط عليكم بعده أب ً خ ُ س َ
ضواني فل أ ْ عليكم رِ ْ
يحل رضوانه في ذلك الوقت ،وأنه قد يحل رضــوانه ثــم يســخط،
كما أنه تعالى يسخط ثم يرضى على من شاء من عباده.
وينبغــي أن يعلــم أنــه ل تلزم بيــن محبتــه ورضــاه ،أو غضــبه
وسخطه تعالى وبيــن مشــيئته ،فليــس كــل مــا شــاءه اللــه يكــون
محبوبا له كما تزعم الجبرية؛ فعندهم :أن كل ما شاءه فقد أحبه،
ذا فكل شيء محبوب له! وكل شيء يجري بمشيئة الله؛ إ ً
ة نفـاة ُ القــدر فقــالوا :إن مـا أحبــه اللــه فقــد وقابلهم القدري ُ
ه ،فعندهم :أن كل ما أمر الله بـه مـن ْ شاءه ،وما ل يحبه فلم ي َ َ
شأ ُ
220
اليمان والطاعة فقد شاءه ،وكل ما نهى عنه وأبغضه مــن الكفــر
والمعاصي؛ فإنه ل يشاؤه.
فســوت الطــائفتين بيــن المشــيئة والمحبــة ،فالجبريــة أثبتــوا
المشيئة على حقيقتها وجعلوا المحبة لزمة لــه ،والمعتزلــة أثبتــوا
المحبة ،وجعلوها بمعنى المشيئة.
وأمــا أهــل الســنة والجماعــة فقــالوا :ل تلزم بيــن المحبــة
والمشيئة؛ فإن الله يشاء ما ل يحــب ،فمــا يقــع فــي الوجــود مــن
المور المسخوطة كالكفر والمعاصي؛ فإنه واقع بمشيئته سبحانه
وتعالى وليست محبوبة له ،وقد يحب سبحانه ما ل يشاء كاليمان
والطاعة ممن لم يوفقه لذلك ،ولم يشْأه منه.
ن وطاعة المطيِع، فتجتمع المحبة والمشيئة :في إيمان المؤم ِ
ة المطيــع اجتمــع فيهمــا المشــيئة والرادة، ن المؤمن وطاعـ ُ فإيما ُ
فهي واقعة بمشيئته سبحانه وتعالى ،وهي محبوبة له.
وتنفــرد المشــيئة فــي كفــر الكــافر ومعصــية العاصــي ،فهــي
واقعة بالمشيئة وليس ذلك محبوبا له تعالى.
وتفرد الرادة الشرعية في ما لم يقع مـن اليمــان والطاعــة،
كما تقدم ذلك مفصل] .ص[
221
ك بعض ـه َ ُ
ض ((]النفــال[72: م أوْل ِي َــاُء ب َعْ ـ ٍ ص ـُروا أوْل َئ ِ َ َ ْ ُ ُ ْ ن آَووا وَن َ َ ذي َ َوال ّ ِ
م (( ريــ ٌ فَرة ٌ وَرِْزقٌ ك َ ِ مغْ ِ م َ قا ل َهُ ْ ح ّ ن َ مُنو َ مؤ ْ ِ م ال ْ ُ ك هُ ُ إلى قوله )) :أ ُوْل َئ ِ َ
ي الّلــ ُ
ه ضــ َ قد ْ َر ِ ]النفال ،[74:ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى )) :ل َ َ
م مــا فِــي قُل ُــوب ِهِ ْ م َ جَرةِ فَعَل ِـ َ شـ َ ت ال ّ حـ َ ك تَ ْ ن إ ِذ ْ ي َُباي ُِعون َـ َ مِني َ مؤ ْ ِ ن ال ْ ُ عَ َ ِ
َ
ريب ًــا ((]الفتــح ،[18:وقــال ِ حــا قَ م فَت ْ ً م وَأث َــاب َهُ ْ ة ع َل َي ْهِـ ْ كين َ َس ِ ل ال ّ فَأن َْز َ
داُء ع َل َــى ال ْك ُ ّ َ
فــاِر شـ ّ هأ ِ مَعـ ُ ن َ ذي َ ل الّلـهِ َوال ّـ ِ ســو ُ مـد ٌ َر ُ ح ّ م َ تعــالىُ )) :
واًنا (( ضـ َ ن الل ـهِ وَرِ ْ ّ م َ ضل ِ ً ن فَ ْ دا ي َب ْت َُغو َ ج ً س ّ م ُرك ًّعا ُ م ت ََراهُ ْ ماُء ب َي ْن َهُ ْ ح َ ُر َ
]الفتح [29:إلى آخر السورة ،ومــن الســنة مــا جــاء فــي الحــديث
الصحيح عن الرسول ) :خير الناس قرني ثــم الــذين يلــونهم (
]روه البخاري ) ، (2652ومسلم ) (2533من حديث ابن مســعود
ت فيــه( [ وفي الحــديث الخــر ) :خيـُر أمــتي القــرن الــذي ب ُِعثـ ُ
]رواه مسلم ) (2534مــن حــديث أبــي هريــرة [وهــم أصــحاب
الرسول ،وقال ) :ل تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيــده لــو
أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ول نصيفه(] .رواه
البخاري ) (3673ـ واللفظ له ـ ،ومسلم ) (2541من حديث أبي
سعيد الخدري [
ومن ذلك قوله ) :لعل اللــه اطلــع علــى أهــل بــدر فقــال:
اعملــوا مــا شــئتم فقــد غفــرت لكــم ( ]روه البخــاري )(3007ـ ،
ومسلم ) (2494من حديث علي بن أبـي طـالب [ ومـن ذلـك
ل النــاَر أحـد ٌ ممــن بــايع قوله في أهل بيعة الرضــوان) :ل يـدخ ُ
ل تحت الشجرة( ]تقدم في ص[ وجاءت نصــوص تــدل علــى فض ـ ِ
أعيــان منهــم؛ كــأبي بكــر وعمــر وعثمــان وعلــي ،وبقيــة العشــرة
المبشرين بالجنة ]تقدم في ص[ ،والحســن والحســين]تقــدم فــي
ماس]تقــدم فــي ص[ ،وعكاشــة بــن ص[ ،وثابت بن قيس بن شـ ّ
محصــن ]روه البخــاري ) ، (5752ومســلم ) (220مــن حــديث
عبدالله بن عباس رضي الله عنهما[ ،وغيرهم.
فالدلة على فضلهم منهـا مـا هـو عـام فـي جنـس الصـحابة،
ومنها ما هو أخص من ذلك ،ومن الدلة علــى فضــلهم وتفاضــلهم
ح فْتــ ِل ال ْ َ ن قَب ْ ِ م ْفقَ ِ ن أ َن ْ َ م ْ م َ من ْك ُ ْ وي ِ ست َ ِ قوله سبحانه وتعالى )) :ل ي َ ْ
ن ب َعْ ـد ُ وَقَــات َُلوا (( َ ل أ ُول َئ ِ َ َ
مـ ْ قــوا ِ ف ُن أن ْ َ ذي َ ن ال ّـ ِ مـ َ ة ِ ج ً
م د ََر َ ك أع ْظ َ ُ وََقات َ َ ْ
]الحديد ،[10:والمراد بالفتح :صلح الحديبية الذي عقــده الرســول
مع المشركين بمكة في السنة السادسة مــن الهجــرة ،ســماه
الله فتحا؛ لن هــذا الصــلح صــارت عــاقبته خيــرا للســلم وأهلــه.
]تفسير الطبري [22/393
َ
ن م ْ فقَ ِ ن أن ْ َ م ْ م َ من ْك ُ ْوي ِ ست َ ِ وفيها تصريح بنفي التساوي )) ،ل ي َ ْ
َ ُ
م ك أع ْظ َـ ُ ل ((ثم تصريح بــالتفوق والفضــل )) ،أوْل َئ ِ َ ح وََقات َ َ فت ْ ِ ل ال ْ َ قَب ْ ِ
ن ب َعْد ُ وََقات َُلوا(( وهم من أسلم بعد صــلح َ
م ْ قوا ِ ف ُن أن ْ َ ذي َ ن ال ّ ِ م َ ة ِ ج ً د ََر َ
222
الحديبية ،والذين أسلموا بعد الصلح وقبل فتح مكــة أفضــل ممــن
أسلم يوم فتح مكة ،وهم المعروفون بالطلقاء.
وأحســن مــا قيــل فــي بيــان المــراد بالســابقين الوليــن مــن
ن
قو َســاب ِ ُ
المهاجرين والنصار ،الذين ذكرهــم بقــوله تعــالىَ )) :وال ّ
ن ((]التوبة :[100:إنهم الذين أنفقوا وقاتلوا ري َ
ج ِ ن ال ْ ُ
مَها ِ م َن ِ ال َوُّلو َ
قبــل صــلح الحديبيــة ،وأهــل بيعــة الرضــوان كلهــم منهــم؛ وصــلح
الحديبية حد فاصل بين مرحلتين ،ونوعين من المسلمين] .نســب
شيخ السلم هذا القول إلى جمهور العلماء .منهاج السنة [2/26
وقيل :المراد بالسابقين هـم مـن صـلى إلـى القبلـتين ،وهـذا
قول ضعيف؛ لنه ل دليل على تخصيص من صــلى إلــى القبلــتين،
ثم كل من صلى إلى القبلة المشروعة فقد أطاع اللــه ،لكــن مــن
ن من صلى إلى القبلــتين لبــد أن يكــون متقــدم قال ذلك لحظ أ ّ
السلم.
ولكن هذا يخرج من مات قبل نسخ القبلة الولــى ،وهــو مــن
الســابقين قطعــا ،ويخــرج مــن أســلم بعــد نســخ اســتقبال بيــت
المقدس ،ونسخ الستقبال كان في السنة الثانيــة ،فــإنه قــد ثبــت
ة عشــر أو س ســت َت المقد ِ أن النبي بعدما هاجر »صلى إلى بي ِ
ة عشر شهرا«] .روه البخاري ) ،(4486ومســلم ) (525مــن سبع َ
حديث البراء بن عازب رضي اللــه عنهمــا[ فهــذا ل يصــلح ضــابطا
للسبق.
وقد اختلف الناس في أصحاب الرسول إلى ثلثة طــوائف
طرفــان ووســط ،فغل فيهــم أو فــي بعضــهم قــوم ،وجفــا فيهــم
آخرون ،وتوسط فيهم أهل السنة والجماعة ،فأهـل السـنة وسـط
في أصحاب رســول اللــه بيــن الرافضــة والخــوارج؛ فــالخوارج
والنواصب مع الروافض على طرفي نقيض ،فــالروافض يبغضــون
أصحاب رسول الله ،ويسبونهم ويخصون أبا بكر وعمــر بمزيــد
مــن الســب ،ويغلظــون فيــه ،فيبغضــون الصــحابة عمومــا ،ول
يستثنون منهم إل القليل ،وفي المقابــل يغلــون فــي أهــل الــبيت،
ولسيما فـي علـي وذريتـه مـن فاطمـة رضـي اللـه عنهـم ،فمـن
الروافض من يكفر الصحابة ،ومنهم مــن يفســقهم ،فجمعــوا بيــن
ضــللتين :ظللــه العــداوة والبغضــاء لجمهــور الصــحابة ،وظللــه
التعصب والغلو في آل البيت.
وأما الخوارج فضللهم في أصحاب الرسول حيــث كفــروا
علًيا وعثمــان وأصــحاب الجمــل وأهــل التحكيــم ،فنصــبوا العــداوة
ي ،وكــذلك مــن تبعهــم مــن ل عل ـ ّ
ت الرســو ِ ل بي ـ ِ ل أه ِ لفض َ
النواصب الذين يؤذون أهل البيت ويسبونهم بدوافع سياسية.
223
وأهل السنة والجماعة بين ذلك يحبون أصـحاب الرسـول ،
ويتولونهم جميعا ،وينزلونهم منازلهم ،ويعرفون لكل فضله عموما
وخصوصا ،ويتبرؤون من ضللة الروافض ،والخوارج ،والنواصب.
فأهل السنة والجماعة وسط بين الفرق في جميع مسائل
الدين ،كما نص على ذلك شيخ السلم ابن تيمية في العقيدة
الواسطية ،فقال » :هم الوسط في فَِرق المة ،كما أن المة هي
الوسط في المم.
فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى ،بين أهل
التعطيل الجهمية ،وبين أهل التمثيل المشبهة.
وهم وسط في باب أفعال الله بين القدرية ،والجبرية.
وفي باب وعيد الله بين المرجئة وبين الوعيدية :من القدرية
وغيرهم.
وفي باب اليمان والدين بين الحرورية والمعتزلة ،وبين
المرجئة والجهمية.
وفي أصحاب رسول الله بين الروافض وبين الخوارج«.
]ص [177
والطحاوي ـ رحمه اللـه ــ أتــى بالعبـارات المتضـمنة لمعتقـد
ومنهج أهل السنة والجماعة في أصـحاب رسـول اللـه ، حيـث
ب أصحاب رسول الله ( وحب الصحابة رضــي اللــه قال) :ونح ُ
عنهــم ،هــو مــن الحــب فــي اللــه ،والحــب فــي اللــه واجــب لكــل
المسلمين؛ فكل من آمن بالله ورسوله تجب محبته على قدر مــا
يعرف به من اليمان والتقوى والعمل الصالح ،وأحـق النـاس مـن
ذلك الواجب هم أصــحاب الرســول ؛ لمـا خصــهم اللــه بـه مـن
فضيلة صحبتهم للرسول التي ل يشركهم فيها أحــد ممــن جــاء
بعدهم.
ط في حب أحد منهم( فرِ ُ
وقوله) :ول ن ُ ْ
ب العتـدال والتوسـط، الفراط :الغلو وتجـاوز الحـد ،والـواج ُ
بعــدم الفــراط والتفريــط ،فكــل انحــراف؛ فــإنه يعــود إلــى أحــد
المرين :إما انحــراف بــإفراط وتجــاوز وغلــو ،أو تفريــط وتقصــير
وجفاء ،وكلهما انحراف عن الصراط ،والحــق مــا وافــق الصــراط
المستقيم.
ُ
وقوله) :ول نتبرأ من أحد منهم(
ول نتبرأ من أحد منهم كما تفعــل الروافــض أو الخــوارج؛ بــل
نواليهم جميعا ،وعند الرافضة مقولة» :ل ولء إل ببراء« فل يكون
النسان عندهم مواليا لهل بيت الرسول إل إذا تبرأ من أبـي بكـر
وعمر ،فعندهم أن من والى أبا بكر وعمر؛ فقد أبغض عليا ،ومــن
أبغض عليا فهو ناصبي.
224
نعم من أبغض عليا فهو ناصبي هذا صحيح ،لكــن زعمهــم :أن
من والى أبا بكر وعمر فقد أبغض عليا هذا عين الباطل؛ بل أهــل
السنة يوالون الصحابة عموما ،ويعرفون لهم فضــلهم ،وينزلــونهم
منازلهم ،فل يتبرؤون من أحد منهم.
والتبري يتضمن :التخلي عنهم ،وكراهتهم ومعاداتهم.
ضهم(.ض من يبغِ ُ وقوله) :ونبغِ ُ
هذا تأكيد لقوله) :نحب أصحاب رســول اللــه ،ول نفــرط فــي
رط في حب أحد منهم خلفا للرافضــة ،ول ف ِ
حب أحد منهم( ،فل ن ُ ْ
نبغض أحدا منهم خلفا للخوارج والروافض والنواصــب؛ بــل ل بــد
أن نبغض من يبغضهم ،فيجب بغض الرافضة والخوارج لضــللتهم
وبدعهم وبغضهم أصحاب الرسول .
وقوله) :وبغير الخير يذكرهم(
ب والــذمة بالسـ ِكما تفعل الرافضة؛ فــإنهم يــذكرون الصــحاب َ
واللعن والتنقص وأنواع الطعن ،وكما تفعل الخوراج بتكفيرهم.
لكن أشقى الناس في هذا هـم الرافضــة ،فهـم شـر طـوائف
المة على الطلق ،فجمعوا إلى أصولهم الكفريــة البدعيــة بعــض
أصول الطوائف الخرى ،فدخل عليهــم مــذهب العــتزال فصــاروا
رافضة ومعتزلة في آن واحد ،وهم الصــل فــي نشــوء الغلــو فــي
القبور في هذه المة ،فهم أصحاب بنــاء المشــاهد والقبــاب علــى
القبور على معظميهم ممن يعدونهم في أئمتهم أو في عظمائهم،
فدينهم يقوم على الشرك ،والغلو.
وقوله) :ول نذكرهم إل بخير(.
فنـــذكرهم بصـــحبتهم للرســـول ،وفضـــائلهم ،وأعمـــالهم
الصــالحة ،كــالهجرة ،والنصــرة ،ويــدخل فــي ذلــك الكــف عــن
مساويهم ،وما وقع بينهم مما هو من لوازم البشــرية ،ســواء كــان
اختلفا جماعيا كما حصل في عهد علي ،أو كــان خلفــا فرديــا،
كالذي حدث بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمــن بــن عــوف
ب خالد ٌ عبد َ الرحمــن ،فقــال النــبي فقد كان بينهم شيء؛ فس ّ
لخالد ) :ل تسبوا أصحابي ( ]تقدم في ص[يريد النــبي عبــد
الرحمن بن عوف ،وأمثاله من السابقين الولين ،وخالد بن الوليــد
ممن أسلم بعد الفتح ،أي :صلح الحديبية.
فمن منهج أهــل الســنة والجماعــة المســاك عمــا جــرى بيــن
الصحابة ،فل يجعلونهم موضع كلم وقيــل وقــال ،فــإن هــذا يــوغر
الصدور ،ويسبب ســوء ظــن بالصــحابة رضــي اللــه عنهــم ،واقــرأ
العبارات الحكيمة الدقيقة لشيخ السلم ابــن تيميــة فــي العقيــدة
الواسطية في قوله» :ومن أصول أهــل السـنة والجماعـة ســلمة
قلوبهم ،وألسنتهم لصحاب محمد ـ إلى أن قال :ـ ويمســكون
225
ما شجر بيــن الصــحابة ،ويقولــون :إن هــذه الثــار المرويــة فــي ع ّ
مساوئهم منها :ما هو كذب ،ومنها :ما قــد زيــد فيــه ونقــص وغ ُي ّـَر
عــن وجهــه ،والصــحيح منــه :هــم فيــه معــذورن؛ إمــا مجتهــدون
مصيبون ،وإما مجتهدون مخطئون .وهم مــع ذلــك ل يعتقــدون أن
كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الثم وصغائره؛ بل تجــوز
عليهــم الـذنوب فـي الجملـة ،ولهـم مـن السـوابق والفضــائل مـا
يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صــدر ،حــتى إنــه يغفــر لهــم مــن
السيئات ما ل يغفر لمن بعدهم؛ لن لهم من الحسنات التي تمحو
الســيئات مــا ليــس لمــن بعــدهم ،وقــد ثبــت بقــول رســول اللــه
»: إنهم خير القرون«] .تقــدم ص وهــو حــديث ابــن مســعود[ ،
»وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهب ًــا
ممن بعدهم«] .تقدم في ص[ ثم إذا كــان قــد صــدر عــن أحــدهم
ذنب ،فيكون قد تـاب منـه ،أو أتـى بحسـنات تمحـوه ،أو غفـر لـه
بفضــل ســابقته ،أو بشــفاعة محمــد الــذين هــم أحــق النــاس
فر به عنه؛ فإذا كــان هــذا فــي بشفاعته ،أو اب ُْتلي ببلء في الدنيا ك ُ ّ
الذنوب المحققة ،فكيف بالمور التي كــانوا فيهــا مجتهــدين؛ فــإن
أصابوا فلهم أجران ،وإن أخطئوا ،فلهم أجر واحد ،والخطأ مغفور
لهم«.
]ص [273-259وهذا رصين جدير بالحفظ.
وقوله) :وحبهم دين وإيمــان وإحســان ،وبغضــهم كفـر ونفـاق
وطغيان(.
هذا تأكيد لما قاله أول ،فحب الصحابة من الدين ،قــال النــبي
» آية اليمان حب النصار ،وآية النفاق بغــض النصــار « ]رواه
البخاري) ،(17ومسـلم ) (74عــن أنـس ،[فــإذا كـان هــذا فــي
النصار فالمهاجرون من باب أولى؛ لنهم في جملتهم أفضل مــن
النصار.
فــإذا كــان الحــب فــي اللــه والبغــض فــي اللــه أوثــق عــرى
اليمان ،ومن أســباب ذوق طعــم اليمــان وحلوتــه ،فمــن أفضــل
وأكمل وأعظم ذلك هو حب الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله) :حب الصحابة دين وإيمان( ي َرِد ُ على مــا تقــدم ]ص[
من تفسيره لليمان؛ لن الحب عمــل قلــبي ،فمـن قــال :اليمــان
هو :تصديق القلب وإقرار اللسان ،أو قال :هو تصديق القلــب ،أو
قال :هو المعرفة ،فموجب قــوله :أن أعمــال القلــوب فضــل عــن
أعمال الجوارح ل تدخل في مسمى اليمان ،فهــذا الكلم يعــارض
تعريفه لليمان؛ إل أن تكون هذه العبارة على وجــه المجــاز؛ فــإن
المــرجئة يقولــون :إطلق اســم اليمــان علــى العمــال كمــا فــي
النصوص المصرحة بذلك مــن بــاب المجــاز ،كقــوله ) :اليمــان
226
بضع وستون شعبة ( ]تقدم فــي ص[ وعلــى كــل حــال فمــا قــاله
الطحاوي في شــأن الصــحابة كلم حــق عظيــم رصــين ،بي ّــن فيــه
مذهب أهل الســنة والجماعــة فــي أصــحاب الرســول اعتقــادا
وعمل.
227
فالرســول كــان هــو إمــام المســلمين عمومــا وخصوصــا؛ فهــو
إمــامهم فــي الصــلة ،وهــو إمــامهم فــي تــدبير أمــورهم ووليــة
شؤونهم.
ومن ذلك أنه أراد في مرض موته أن يكتب لبــي بكــر كتابــا،
فقال لعائشة ) :لقد هممت أو أردت أن أرســل إلــى أبــي بكــر
وابنه ،فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ،ثم قلت :يأبى
اللــه ويــدفع المؤمنــون ،أو يــدفع اللــه ويــأبى المؤمنــون(] .رواه
البخاري ) ،(5666ــ واللفــظ لــه ــ ومســلم ) (2387مــن حــديث
عائشة [
وفي الحديث الصحيح» :أن امرأة أتت النبي فكلمتــه فــي
شيء ،فأمرها أن ترجع إليه ،قالت :يا رسول الله أرأيــت إن جئت
ن لــم تجــديني فـأتي أبـا ولم أجدك ؟ ـ كأنها تريد الموت ـ قـال :إ ْ
بكر« ]رواه البخاري ) ،(7220ومسلم ) (2386من حــديث جــبير
بن مطعم [
وما ثبت في الصحيح :أنه قال» :بينا أنا نائم رأيتنــي علــى
قليب عليها دلوٌ فنزعت منهــا مــا شــاء اللــه ،ثــم أخــذها ابــن أبــي
قحافة فنزع بها ذ َُنوبا أو ذ َُنوبين وفي نزعه ضعف ،والله يغفــر لــه
ضعفه ،ثم استحالت غ َْربا فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا مــن
ن(] .رواه البخــاري َ
زع نزع عمر ،حتى ضرب الناس بعَط ـ ٍ الناس ي َن ْ ِ
) ،(3664ومسلم ) (2392من حديث أبي هريــرة [أي :ســقى
للناس ،وهذا مــا وقــع فــي خلفتــه مــن اســتقرار المــر ،وانتشــار
السلم ،وكثرة الفتوح.
فتأولها أهــل العلــم ]المنهــاج ،15/157وفتــح البــاري [7/38
على أمر الولية والخلفة من بعده ، فأبو بكر ولــي المــر بعــد
الرسول مدة قصيرة سنتين وأشهر ،وحصــل فــي وليتــه خيــر
كثير ومن أعظم ذلك تثبيت أمر السلم ودولته ،وقتال المرتدين،
ورد كثيرا منهم إلى السلم.
وأظهر القوال عندي فيما ثبت به أمر الخلفة هــو أنهــا ثبتــت
بالنص الخفي والشارة؛ إذ ليس هناك نـص جلــي يقـول :الخليفــة
من بعدي هو أبو بكر ،لكن هــذه النصــوص بمجموعهــا تــدل دللــة
بينة على أن أبا بكر هو الحق بالمر ،وأنه الخليفــة مــن بعــده ،
ثم وفق الله أصحاب رسول الله لختياره عندما اجتمع النصار
في سقيفة بني ساعدة ،وقال قائل منهم للمهاجرين» :منــا أميــر
ومنكم أمير ،فقال أبو بكر :نحن المراء وأنتم الوزراء ،فبــاِيعوا
عمر أو أبا عبيدة بن الجراح ،فقال :عمــر بــل نبايعــك أنــت فــأنت
سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول اللــه فأخــذ عمــر بيــده فبــايعه
228
وبايعه النــاس«] .رواه البخــاري ) (3668مــن حــديث عائشــة،
وهذا اللفظ مختصر[
ولم يخالف في ذلك من يعتد بخلفه ،فل نــزاع بيــن الصــحابة
في أن أبا بكر أفضلهم ،كما في حديث عمــرو بــن العــاص ،
قلت يا رسول الله) :أي الناس أحب إليك؟ قــال :عائشــة ،قلــت:
من؟ قــال :عمــر فَعَ ـد ّ رجــال(. من الرجال؟ قال :أبوها ،قلت :ثم َ
]رواه البخاري ) ،(3662ومسلم )[(2384
َ
مّنهم عليه في صحبته فهو أحب الناس إلى الرسول وأ َ
وماله ،فهو أحق بالمر من بعده؛ فلذلك كان من عقيدة أهل
السنة والجماعة أن الحق بالمر بعد رسول الله هو أبو بكر.
ولشيخ السلم ـ رحمه الله ـ في هذا الموضع جمع حسن،
قال» :خلفة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على
صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله له بها ،وانعقدت بمبايعة
المسلمين له واختيارهم إياه ،اختياًرا استندوا فيه إلى ما علموه
من تفضيل الله ورسوله ،وأنه أحقهم بهذا المر عند الله ورسوله
فصارت ثابتة بالنص والجماع جميعا« ]منهاج السنة [1/524
وأما قول عمر » :إن أستخلف فقد استخلف من هــو خيــر
مني أبو بكر ،وإن أترك فقد ترك من هــو خيــر منــي رســول اللــه
].«رواه البخــاري ) ،(7218ومســلم ) (1823مــن حــديث ابــن
عمر رضي الله عنهما[
فقد حمل على أن الرســول لــم يســتخلف بعهــد مكتــوب،
ونص صريح كما تقدم.
وأهل السنة يثبتون الخلفة بعد أبــي بكــر لعمــر ، وهــذا
موضع اتفاق ،وكانت خلفته بعهد من أبي بكر ،فانتقل أمــر وليــة
المسلمين إلى عمر ،ولم يكــن هنــاك أي اختلف ،ول ريــب أن
عمر هو الحق بــالمر مــن بعــده ،فهــو قرين ُــه فــي النصــوص
الدالة على فضل أبي بكــر ،فقــد كــان رســول اللــه يقــول:
»جئت أنا وأبو بكر وعمر ،ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ،وخرجت أنــا
وأبو بكر وعمــر« ]رواه البخــاري ) ،(3677ومســلم ) (2389مــن
حديث ابن عباس عن علي رضي الله عنهــم[وكــذلك فــي حــديث
الرؤيا المتقدم] .ص[
فأهل السنة يثبتون الخلفة لبي بكر ثــم عمــر ول ينــازع فــي
هذا إل الرافضة ،فالرافضــة ينــازعون فــي خلفــة الخلفــاء الثلثــة
كلهم ،وعندهم أن خلفتهم باطلة وظلم ،واغتصــاب للحــق؛ لنهــم
يزعمــون أن الوصــي بعــد رســول اللــه هــو علــي ، وأن
الصحابة رضي الله عنهم ظلموه واغتصــبوا حقــه وجحــدوا وصــية
الرسول !
229
ول نزاع بين أهل السنة في أن الحق بالمر بعد الرســول
الثلثة على مراتبهم :أبو بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهــم،
ثم علي هو الحق بالمر بعد عثمان ،فإن عمر جعــل المــر
شورى بين الستة الذين قال» :إن رسول الله مات وهو عنهم
راض« ]رواه البخاري ) ،(3700ومسلم ) ،[(567فبعـدما تشـاورا
س قــال» :لـم أرهــم يعـدلون بعثمـان، وشــاور عبـد ُ الرحمـن النــا َ
فبايعه عبد الرحمن وبــايعه النــاس :المهــاجرون والنصــار وأمــراء
ســوَِر م ْ الجناد والمسلمون« ]رواه البخاري ) (7207من حديث ال ِ
بــن مخرمــة رضــي اللــه عنهمــا[ ،فتــم المــر واســتقرت الخلفــة
لعثمان من بعد عمر رضي الله عنهما ،وبعد الفتنة ومقتل عثمــان
ل أحد ينافس عليا في الفضل ،ول أحد يدعي أنه أحــق بــالمر
منه.
وأهــل الســنة والجماعــة يرتبــون الخلفــاء فــي الفضــل علــى
ترتيبهم في الخلفة ،فيقولون :أفضل هذه المة أبو بكر ثــم عمــر
خّيـُرثم عثمان ثم علي ،وقد ثبت عن ابن عمـر أنـه قـال » :كنـا ن ُ َ
بين الناس في زمن النبي فنخير أبا بكر ثم عمر بــن الخطــاب
ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم« ]رواه البخاري ) (3655من
حديث ابن عمر رضي الله عنهما[
قال شيخ السلم رحمه الله » :بعض أهل السنة كانوا قد
اختلفوا في عثمان وعلي ،بعد اتفاقهم على أبي بكر وعمر أيهما
م
دم قو ٌن ،وسكتوا ،أو رب ُّعوا بعلي ،وق ّ م عثما َ دم قو ٌ
أفضل ،فق ّ
عليا ،وقوم توقفوا .لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم
عثمان ،وإن كانت هذه المسألة ـ مسألة عثمان وعلي ـ ليست
ضّلل المخاِلف فيها عند جمهور أهل السنة، من الصول التي ي ُ َ
ضّلل المخالف فيها مسألة الخلفة ،وذلك لكن المسألة التي ي ُ َ
أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله أبو بكر ،ثم عمر ،
ثم عثمان ،ثم علي ،ومن طعن في خلفة أحد من هؤلء الئمة؛
فهو أضل من حمار أهله « ]الواسطية ص [260
دم عليا على عثمان وجاء عن بعض السلف أنه قال» :من ق ّ
فقد أزرى بالمهاجرين والنصار« ]روي هذا عن أيوب السختياني
وأحمد بن حنبل والدارقطني رحمهم الله .السنة للخلل ،2/392
ومجموع الفتاوى 4/426و 435ومنهاج السنة [2/73
أي :تنقصهم واستخف بعقولهم وسفه رأيهم؛ لنهم أطبقوا
على تولية عثمان ،من طعن في خلفة عثمان فقد أزرى
بالمهاجرين والنصار ،فهؤلء الربعة هم الخلفاء الراشدون ،وإذا
أطلق الخلفاء الراشدون؛ فإنه ينصرف إليهم ،فخلفتهم خلفة
230
نبوة ،وهذا ل ينفي أن يقال في بعض من ولي أمر المسلمين إنه
خليفة راشد ،كما قيل ذلك في عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
وعلي وإن لم يتم له المر على جميع المسلمين فهذا ل
ينفي اعتباره من الخلفاء الراشدين ،ول ينفي أن تكون خلفته
من قبله في خلفة نبوة ،لكن ل ريب أن خلفته ليست كخلفة َ
أثرها على السلم والمسلمين ،كما أن عثمان دون عمر .
ولكن على كل حال هم الخلفاء الراشدون المهديون كما في
الحديث المعروف أن النبي قال ) :عليكم بسنتي ،وسنة
ضوا عليهاالخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها ،وع َ ّ
جذ ،وإياكم ومحدثات المور؛ فإن كل بدعة ضللة ( ]تقدم بالنوا ِ
تخريجه في ص[
واعتمد أهل العلم في اعتبار ما سنه الخلفاء على هذا
الحديث.
ن من بعدي أبي وقال في أبي بكر وعمر ) :اقتدوا بالذ َي ْ ِ
بكر وعمر(] .رواه أحمد ، 5/382والترمذي ) (3662ـ وقال:
حسن ـ ،وابن حبان ) (6902والحاكم 3/75من حديث حذيفة
[
فأمر بالقتداء بهما ،واتباع سنة الخلفاء الراشدين ،فكل
ما سّنوه مما ل يخالف ما جاء عن الرسول ؛ فإن على المة
أن يتبعوهم في سنتهم ،فهم أحرى بالصواب من غيرهم ،حتى
قال بعض أهل العلم» :إن إجماع الخلفاء الربعة حجة« ]روضة
الناظر ،2/474وأصول الفقه [2/412؛ لنهم ل يكادون يجمعون
على خطأ ،ول أذكر أنهم أجمعوا في مسألة وكان الصواب في
خلفها.
231
بشهادته إيمانا وتصديقا له ،وأن ما أخبر به هو الحــق ،فقــد
ثبت من حديث سعيد بن زيد أن النــبي قــال) :عشــرة فــي
الجنة :أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وعبد الرحمن
وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد(] .تقدم في ص[
وقد ورد لكل منهم فضيلة ،بل فضائل ،جاءت فــي الحــاديث
كفضائل أبي بكر وعمر خاصة ،وفضائل لعثمــان ولعلــي ،والزبيــر،
وهكذا ،ومن ذلك ما أشار إليه الطحاوي مــن قــوله ) :أبــو عبيــدة
أمين هذه المة ( ففي حديث حذيفة » : جاء أهـل نجـران إلــى
ن إليكــم رجل النبي فقالوا :ابعــث لنــا رجل أمينــا ،فقــال :لبعثـ ّ
ح ـقّ أميــن ،فاستشــرف لــه النــاس فبعــث أبــا عبيــدة بــن أمينــا َ
الجراح«] .رواه البخــاري ) ،(4381ومســلم ) [(2420فهــذا يــدل
على فضيلةٍ له ،وأن له تميزا في هذا الشــأن ،وإل فالمانــة صــفة
كل مؤمن.
وقد ثبت تبشير أبي بكر وعمر وعثمان بالجنــة فــي غيــر هــذا
الحديث ففي حــديث أبــي موســى فــي الصــحيحين )كنــت مـع
النبي في حــائط مــن حيطــان المدينــة ،فجــاء رجــل فاســتفتح
فقال النبي :افتح له وبشره بالجنة ،ففتحت له فــإذا أبــو بكــر،
فبشرته بما قال النبي ، فحمد اللــه ،ثــم جــاء رجــل فاســتفتح،
فقال النبي :افتح له وبشره بالجنة ،ففتحت له فــإذا هــو عمــر
فأخبرته بما قال النبي ،فحمد اللــه ،ثــم اســتفتح رجــل ،فقــال
لــي :افتــح لــه وبشــره بالجنــة علــى بلــوى تصــيبه ،فــإذا عثمــان،
فــأخبرته بمــا قــال رســول اللــه ،فحمــد اللــه ثــم قــال :اللــه
المستعان( ]رواه البخاري ) ،(3693ومسلم )[(2403
وقد وقع كما أخبر فقد ابتلي عثمــان بأهــل الفتنــة الــذين
ثاروا عليه ،وطعنوا فـي وليتـه ،وحاصـروه فـي داره حـتى انتهـى
أمرهم إلى قتله.
فهــؤلء العشــرة رضــي اللــه عنهــم لهــم فضــيلة علــى ســائر
الصحابة ،وأفضلهم الخلفاء وترتيبهم في الفضــل حســب ترتيبهــم
في الخلفة ،وأما بالنسبة للستة فل يفضــل بعضــهم علــى بعــض،
هذا هو ظاهر هذه الحاديث؛ لن التفضيل موقوف على الدليل.
وقد تقدمت هذه المســألة ،لكــن هنــا بمناســبة ذكــر الخلفــاء
الراشدين وبقية العشرة ،فهم مــن جملــة مــن يشــهد لــه بالجنــة،
وليست هذه الفضيلة مختصة بهم ،بل شهد الرسول لثابت بن
قيــس] ،تقــدم فــي ص[ والحســن والحســين]تقــدم فــي ص[ ،
وعكاشة بن محصن]تقدم في ص[ ؛ بــل نشــهد بالجنــة لكــل مــن
ن
مِني َ ن ال ْ ُ
مؤ ْ ِ ي الل ّ ُ
ه َع َ ِ ض َ قد ْ َر ِشهد بيعة الرضوان؛ لقوله تعالى )) :ل َ َ
ة
كين َ َ
سـ ِ ل ال ّ م فَـأن َْز َ مــا فِــي قُل ُــوب ِهِ ْ جَرةِ فَعَل ِ َ
م َ ت ال ّ
ش َ ح َ إ ِذ ْ ي َُباي ُِعون َ َ
ك تَ ْ
232
ل النــاَر أح ـد ٌ ممــن بــايع م ((]الفتح[18:؛ ولقوله ) :ل يــدخ ُ ع َل َي ْهِ ْ
تحت الشجرة(] .تقدم في ص[
والرافضة يبغضون العشرة إل عليا ،فهم يبغضون التســعة
من العشرة ،ومن حماقاتهم أنهم صاروا يكرهــون رقــم العشــرة،
ويتشاءمون به ،ويتجنبونه مبالغة في بغض أولئك العشرة ،مــع أن
العدد ليس متعَلقــا لمــدح ول ذم ،فقــد يكــون لمحمــود ومــذموم،
وطرد هذا أن يبغض رقم تسعة بسبب التسعة الذين هم من قوم
َ
ض َول ن فِــي الْر ِ دو َ سـ ُ ف ِ ط يُ ْة َرهْ ـ ٍ س ـعَ ُدين َةِ ت ِ ْ م ِن ِفي ال ْ َ كا َصالح )) وَ َ
ن ((]النمــل [48:أفيصــح فــي عقــل عاقــل أن يهجــر عــدد حو َ صل ِ ُ
يُ ْ
التسعة ،وأن يتشاءم به؛ من أجل أنه عدد أولئك الرهط؟!
هذه جهالة وحماقة ،وهذه الحماقة من الرافضة ذكرهــا شــيخ
السلم ـ رحمه الله ـ في أول منهاج أهل السنة ،في معرض ذكر
حماقات الرافضة وناقشها فقال» :بل اسم العشرة قد مدح اللــه
ج ـد ْ
م يَ ِ مــن ل ّـ ْ مسماه في مواضع ،كقوله تعالى في متعة الحج} :فَ َ
مَلــ ٌ م ت ِل ْ َ َ
ة{ كا ِ شَرة ٌ َ ك عَ َ جعْت ُ ْ سب ْعَةٍ إ ِ َ
ذا َر َ ج وَ َ ح ّ م َثلث َةِ أّيام ٍ ِفي ال ْ َ صَيا ُ فَ ِ
ةن ل َي َْلــ ً ســى ث َل َِثيــ َ مو َ عــد َْنا ُ ] البقــرة [196:وقــال تعــالى} :وََوا َ
ن ل َي ْل َـ ً َ َ
ة {] العــراف[142: ت َرب ّـهِ أْرب َِعيـ َ قا ُ مي َ م ِ شرٍ فَت َ ّ ها ب ِعَ ْ
مَنا َ م ْوَأت ْ َ
ر{]الفجــر [1/40] «[2-1:إلــخ ش ٍ ل عَ ْ جرِ * وَل ََيا ٍ ف ْ وقال تعالى }َوال ْ َ
كلمه.
233
خويلد وقد توفيت في حياته بمكة قبــل الهجــرة ،وزينــب بنــت
خزيمــة أم المســاكين وقــد تــوفيت فــي حيــاته ،وبقيــة التســع
]وهن :عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وميمونة بنت الحارث
وصفية بنت حيي وزينب بنت جحش وسودة بنت زمعــة وجويريــة
ن في عصمته. بنت الحارث رضي الله عنهن[ مات النبي وه ّ
ي ومما جاء في بيان فضــلهن قــوله ســبحانه وتعــالى )) :الن ّب ِـ ّ
م ((]الحــزاب[6: فس ـهم وأ َزواج ـ ُ أ َوَلى بــال ْمؤ ْمِنين م ـ َ
مهَــات ُهُ ْ هأ ّ ن أن ْ ُ ِ ِ ْ َ ْ َ ُ ُ ِ ُ ِ َ ِ ْ ْ
َ َ
ه
ن ب َْعــد ِ ِ م ْ ه ِ ج ُحوا أْزَوا َ ن ت َن ْك ِ ُ ويحرم نكاحهن؛ لحق النبي َ )) ول أ ْ
َ
ما ((]الحزاب [53:فــأزواج النــبي ظي ً عن ْد َ الل ّهِ ع َ ِ ن ِ م َ
كا َ ن ذ َل ِك ُ ْ دا إ ِ ّ أب َ ً
أمهــات المــؤمنين فــي الحرمــة والتحريــم ،ولســن أمهــات
المؤمنين في المحرمية].منهاج السنة [4/369
ْ
ة
مب َي ّن َـ ٍ ش ـة ٍ ُ ح َ فا ِ ن بِ َ من ْك ُـ ّ ت ِ ن ي َأ ِ م ْ ي َ ساَء الن ّب ِ ّ وقال تعالىَ )) :يا ن ِ َ
ن مـ ْ ســيًرا * وَ َ ّ
ك ع َلــى اللـهِ ي َ ِ َ ن ذ َل ِـ َ كا َ ن وَ َ في ْ ضعْ َ ب ِ ذا ُ ف ل ََها ال ْعَ َ ضاع َ ْ يُ َ
َ َ ِ
ن وَأع ْت َد َْنا مّرت َي ْ ِ ها َ جَر َ حا ن ُؤ ْت َِها أ ْ صال ِ ً َ م ْ
ل سول ِهِ وَت َعْ َ ن ل ِل ّهِ وََر ُ ّ من ْك ُت ِ قن ُ ْ يَ ْ
َ
ن قي ْت ُـ ّن ات ّ َ ســاِء إ ِ ِ ن الن ّ َ م َ حد ٍ ِ ن ك َأ َ ست ُ ّ ي لَ ْ ساَء الن ّب ِ ّ ما * َيا ن ِ َ ري ً ل ََها رِْزًقا ك َ ِ
ن قَـوًْل ض وَقُل ْـ َ مـَر ٌ ذي فِــي قَل ْب ِـهِ َ مـعَ ال ّـ ِ ل فَي َط ْ َ قو ْ ِ ن ب ِــال ْ َ ضـعْ َ خ َ َفل ت َ ْ
ُ
جاه ِل ِي ّـةِ الول َــى ج ال ْ َ ن ت َب َـّر َ جـ َ ن َول ت َب َّر ْ ن فِــي ب ُي ُــوت ِك ُ ّ معُْروفًــا * وَقَـْر َ َ
ه لـّ ال د ريـ ي مـا ن إ ه َ ل سـو ر و ه لـ ّ ال ن ع ط َ أو ة كاَ ز ال ن تي وآ ة لَ ص ال ن َ
ُ ُ ِّ َ ُ ِ ُ َ ََ ُ ّ َ َ ِ َ ّ َ َ ِْ َ وَ ِ ْ َ
م ق أ
م ت َط ِْهيًرا * َواذ ْ ُ َ
مــا ن َ كــْر َ ت وَي ُط َهَّرك ُ ْ ل ال ْب َي ْ ِ س أهْ َ ج َ م الّر ْ ب ع َن ْك ُ ُ ل ِي ُذ ْه ِ َ
فــا طي ً ن لَ ِ ه ك َــا َ ن الل ّـ َ م ـة ِ إ ِ ّ حك ْ َ ت الل ّـهِ َوال ْ ِ ن آي َــا ِ مـ ْ ن ِ ي ُت َْلى فِــي ب ُي ُــوت ِك ُ ّ
خِبيًرا ((]الحزاب.[34-30: َ
فنساء النبي لهـن مـن الفضـل مـا ليــس لغيرهــن؛ لعظــم
ن خديجة وعائشــة فقــد ثبــت صلتهن وصحبتهن للنبي ،وأفضله ّ
لهما من الفضائل ما ليس لسائر أمهات المؤمنين ،فهن يشــتركن
في أنهن أزواج النبي ،وأنهن أمهات المؤمنين ،ويشــملهن هــذا
َ
ســاِء ((]الحــزاب [32:فمــن ن الن ّ َ مـ َ ح ـد ٍ ِ ن ك َأ َ ست ُ ّ الثناء العطر )) :ل َ ْ
العلماء من قال :خديجة أفضل]فتح الباري ،7/139ورجحه ،وهــو
اختيـــار المؤلـــف فـــي شـــرح الواســـطية ص [271؛ لنهـــا أول
المؤمنات ،بل قيل :إنها أول من آمن به كما جاء في قصة بدء
الوحي ]رواه البخاري ) ،(3ومسلم ) (160من حديث عائشة [
،وثبت في الصحيح »:أن جبريل أتى النبي ،فقــال :يــا رســول
الله هذه خديجة قد أتت معهــا إنــاء فيــه إدام أو طعــام أو شــراب
فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلم من ربهــا ومنــي ،وبشــرها بــبيت
ب(] .رواه البخــاري ) صـ َ ب فيــه ول ن َ َ خ َ صـ َ بل َ صـ ٍ في الجنة من قَ َ
،(3820ومسلم ) (2432من حديث أبي هريرة [وقــال النــبي
» :خير نسائها مريم بنــت عمــران وخيــر نســائها خديجــة بنــت
234
خويلــد« ]رواه البخــاري ) ،(3432ومســلم ) (2430مــن حــديث
علي [
ضل بعض أهل العلم عائشة؛ لنها عاصرت الدعوة ونــزول وف ّ
الشرائع ،وتلقت وحفظت من العلم الذي جاء به النبي مــا لــم
تدركه خديجة ،وجاء في فضلها مثل قوله لمــا قيــل لــه) :مــن
أحــب النــاس إليــك؟ قــال :عائشــة ( ]تقــدم فــي ص[ وجــاء فيهــا
الحديث الصحيح ) :فضل عائشة على النساء كفضل الثريــد علــى
ســائر الطعــام (] .رواه البخــاري ) (3411ومســلم ) (2431مــن
حديث أبي موسى الشعري [
وجمع بعض أهل العلم بين القولين فقال :إن خديجــة أفضــل
مــن وجــه ،فلهــا تــأثير فــي أول الســلم بنصــر وتأييــد النــبي
ومواساته ،ولها منه المنزلة العالية ،وهي أم أكثر أولده ،وكان
ت على أحــد مــن يذكرها وينوه بها ،حتى قالت عائشة » :ما ِغْر ُ
نساء النبي ما غرت على خديجة وما رأيتها ،ولكـن كــان النـبي
يكثر ذكرها ،وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ،ثم يبعثها فــي
ت له :كأنه لم يكن فــي الــدنيا امــرأة إل صدائق خديجة ،فربما قل ُ
خديجة! فيقول» :إنها كانت وكــانت ،وكــان لــي منهــا ولــد«].رواه
البخاري ) (3818ـ واللفظ له ـ ومسلم ) [(2435وعائشة أفضل
من جهة حمل العلم وتبليغه إلى المة وإدراكها من العلــم مــا لــم
تشركها فيه خديجة ] .هذا اختيار شيخ السلم ابــن تيميــة ،وابــن
القيــم .مجمــوع الفتــاوى ،4/393وبــدائع الفــوائد 3/1104وجلء
الفهام ص [263
فهذا بعض ما يتعلق بزوجات النبي ،وهــن مــبرآت ،وليــس
معنى ذلك أنهن معصومات ،فليس أحد معصوم بعد النبي .
وقوله) :وذّرّياته المقدسين مــن كــل رجــس ،فقــد بــرئ مــن
النفاق(.
ذرية الرسول هم :أولده من صلبه وكلهم ماتوا في حياته
ضلى أولد النبي . إل فاطمة فُ ْ
ولشك أن ذريته يصدق عليهم هذا الوصف وأنهم مبرؤون
من الرجاس والعيوب التي تدنس الخلق ،ويدخل في هذا السم
مــن ذريــة النــبي أولد فاطمــة ومــا تناســل منهــم ،فذريــة
الحسن والحسين كلهم من ذرية النبي ،قــال اللــه تعــالى فــي
ب ك ُّل قــو َ حاقَ وَي َعْ ُ سـ َ ه إِ ْإبراهيم الخليل عليه الســلم )) :وَوَهَب ْن َــا ل َـ ُ
َ
ب ن وَأّيـو َ ما َ سـل َي ْ َ
داوُد َ وَ ُ ن ذ ُّري ِّتـهِ َ مـ ْ ل وَ ِن قَْبـ ُ
مـ ْهـد َي َْنا ِ
حـا َ هـد َي َْنا وَُنو ً َ
ن * وََزك َرِي ّــا س ـِني َ ح ِ م ْزي ال ْ ُ جـ ِ ك نَ ْ ن وَك َـذ َل ِ َســى وَهَــاُرو َ مو َ ف وَ ُ سـ َوَُيو ُ
ع
سـ َ ل َوال ْي َ َ عي َ ما ِ سـ َ ن * وَإ ِ ْ حي َ صــال ِ ِ ن ال ّ م َل ّ سى وَإ ِل َْيا َ
س كُ ّ عي َ حَيى وَ ِ وَي َ ْ
ن{ ]النعــام [86-84:كــل مي َ ضل َْنا ع ََلى ال ْعَــال َ ِطا وَك ُل ّ ف ّ س وَُلو ً وَُيون ُ َ
235
هؤلء النبياء الذين جاءوا متأخرين عدهم الله مــن ذريــة إبراهيــم
عليه السلم.
فهكذا ما تناسل من أولد الحسن والحسين رضي الله عنهما
كلهــم مــن ذريــة النــبي ،وبهــذا نحتــاج إلــى احــتراز؛ لن قــول
الطحاوي) :وذّرّياته المقدسين من كل رجس( ليس على إطلقه؛
لن فيهم المحسن والمسيء ،كما قال تعالى سبحانه وتعالى في
ن * وََباَرك ْن َــا حي َصــال ِ ِ ن ال ّ مـ َ حاقَ ن َب ِي ّــا ِ سـ َ شْرَناه ُ ب ِإ ِ ْ ذرية إبراهيم )) :وَب َ ّ
ن (( مِبي ـ ٌ س ـه ِ ُ ف ِم ل ِن َ ْن وَظ َــال ِ ٌ س ٌ ح ِ م ْ ما ُ ن ذ ُّري ّت ِهِ َ م ْ حاقَ وَ ِ س َ ع َل َي ْهِ وَع ََلى إ ِ ْ
]الصافات.[113-112:
ت مــا ٍ ه ب ِك َل ِ َم َرب ّـ ُ هي ـ َ َ
وقــال ســبحانه وتعــالى )) :وَإ ِذ ِ اب ْت َلــى إ ِب َْرا ِ
ن ذ ُّري ِّتي َقا َ ما َقا َ عل ُ َ ن َقا َ َ
ل ل ل ي ََنا ُ م ْ ل وَ ِ ما ً س إِ َ ك ِللّنا ِ جا ِ ل إ ِّني َ مهُ ّ فَأت َ ّ
ن ((]البقــرة [124:فمــن ذريــة إبراهيــم المــؤمن مي َ دي الظ ّــال ِ ِ ع َهْ ـ ِ
والكــافر ،فبنــو إســرائيل كلهــم مــن ذريــة إبراهيــم وكــذلك ذريــة
إسماعيل هم من ذرية إبراهيم ومنهم المؤمن والكافر ،والمحسن
والمسيء.
وهكذا ذريــة محمــد وهــم مــن تناســل مــن ذريــة الحســن
والحسين فيهم العلماء والصالحون ،وفيهــم مــن هــو خلف ذلــك،
فليس كل مـن كـان مـن ذريـة الحسـن والحسـين ــ وهـم الـذين
س ـّلم بهــذا ً
مون بالشــراف ـ ـ يكــون مــبرأ ،فهــذه عبــارة ل ت ُ َ ُيس ـ َ
الطلق ،فيجب قصرها على ذرية الرسول الدنين ممــن ثبــت
فضــلهم ،أمــا مــن بعــدهم فهــم كغيرهــم مــن النــاس معرضــون،
ومتنوعون.
وقوله) :فقد بريء من النفاق(.
لن بغض الصحابة والطعــن فيهــم ،وفــي أزواج النــبي ول
سيما عائشة ،ورميها بما برأها الله منه؛ هو من شــأن المنــافقين،
ن ُ
وقد حمل عبء الفــك رأس المنــافقين عبــد اللــه بــن أبــي )) إ ِ ّ
خْيــٌر هــوَ َ ل ُ م بَ ْ شّرا ل َك ُ ْ سُبوه ُ َ ح َ م ل تَ ْ من ْك ُ ْة ِ صب َ ٌك عُ ْ جاُءوا ِبال ِفْ ِ ن َ ذي َ ال ّ ِ
م من ْهُ ْذي ت َوَّلى ك ِب َْره ُ ِ ن ال ِث ْم ِ َوال ّ ِ م َ ب ِ س َ ما اك ْت َ َ م َ من ْهُ ْئ ِ مرِ ٍ لا ْم ل ِك ُ ّ ل َك ُ ْ
م ((]النور.[11: ظي ٌ ب عَ ِ ذا ٌه عَ َ لَ ُ
وأشار الشارح ابن أبي العز ]ص [738إلى أن أصل الرفــض
الذي هو بغــض الصــحابة وتكفيرهــم والغلــو فــي علــي وذريتــه
أسسه المنافقون ،والمؤسس الول لمذهب الرفض هو عبد اللــه
بن سبأ اليهودي الذي ب َذ ََر بذرت الفتنــة بيــن النــاس وألبهــم علــى
عثمان حتى قتل ،ثم سعى فــي فتنــة أخــرى وهــي الغلــو فــي
علي .
سبحان الله العظيم! فــي ذلــك العصــر الزاهــي وقــرب عهــد
النبوة ظهر هذا المذهب الكفري ،وهو تأليه علي ،فحرق علــي
236
قوما أتوه فقالوا :أنت هو! فقال :من أنــا؟ فقــالوا :أنــت ربنــا!
فأمر بنار فأججت فألقوا فيها .وفيهم قال علي :
لما رأيت المر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا
]انظر :التنبيه والرد ص ،29والفصل ،3/120ومجموع الفتاوى
،35/185ومنهاج السنة ،1/29وأصل قصة التحريق في البخاري
) (3017عن ابن عباس رضي الله عنهما ،وانظر فتح الباري
[6/151
وبقي هذا المذهب الملعون مذهب الرفض والغلــو فــي علــي
وأهل البيت ،واسمهم الذي يتسمون به قديما وحديثا :الشيعة.
والشــيعة يقســمهم العلمــاء ثلثــة أقســام إجماليــة ]مجمــوع
الفتاوى ،4/407ومنهاج السنة ، [3/470وإل فهم فرق كثيرة:
الولــى :الغلة ،وهــم طــوائف منهــم :الســبأية والقرامطــة،
والسماعيلية ،والنصيرية.
الثانية :المامية ،ومنهم :الثني عشرية ،وهم كذلك طوائف.
الثالثة :ويعرفون بالمفضلة.
وهذه القسام الثلثـة كـانت قـد ظهـرت فـي عهـد علـي ،
فالغلة المؤلهون لعلي .
والطائفة الثانية :السبابة الذين يسبون أبا بكــر وعمــر ،وكــان
رأسهم عبد الله بن سبأ ،فلما بلــغ عليــا ذلــك طلــب قتلــه فهــرب
منه.
والثالثة :المفضلة الذين يفضلون عليا علــى أبــي بكــر وعمــر
لكنهم ل يسبونهما ،وقد قال علي ) :ل أوتى بأحد يفضلني على
أبي بكر وعمر إل جلدته حد المفتري(] .رواه في السنة عبد اللــه
بن أحمد ،2/562وابن أبي عاصم في السنة ) ،(1291والــبيهقي
في العتقاد ص [504
وقد ذكر العلماء أن ســبب تســمية الرافضــة بهــذا الســم أن
الشيعة الغلة طلبوا من زيد بن علــي بــن الحســين أن يتــبرأ مــن
أبـي بكـر وعمـر ،فقـال :كيـف أتـبرأ منهمـا وهمـا وزيـرا جـدي؟!
فرفضــوه فسـموا :الرافضــة] .مجمـوع الفتـاوى ،4/435ومنهـاج
السنة 1/35و ،2/96والبداية والنهاية [ 13/106
وزيد بن علي بن الحسين هو الذي تنتسب إليه فرقة الزيديــة
.
والرافضة الغلة هم الذين تعرف طــوائفهم بالباطنيــة؛ لنهــم
يظهرون السلم ،كما يقول بعض أهل العلــم) :يظهــرون الرفــض
ويبطنون الكفر المحــض( ]مجمــوع الفتــاوى 9/134و 11/581و[
فحقيقة أمر الباطنية أنهم ل يؤمنون بالله ،ول بملئكتــه ول رســله
ول يؤمنون بمبدأ ول معاد ،ول يؤمنون بالنبياء ول يؤمنــون بفضــل
237
أحد ،حتى ل يؤمنون ول يعــترفون بفضــل علــي ؛ فــإذا جحــدوا
وكفروا بالرسالت فهل يبقى شيء؟ فما يدعونه من موالة علــي
وتعظيمه والغلو فيه كل هذا تضليل للسذج من الناس ،وإل فليس
عندهم شيء من ذلك.
ولهذا نقل الشارح ابن أبي العــز عــن القاضــي أبــي بكــر بــن
الطيب طريقة الباطنية في دعوتهم ،أنهم »قالوا للــداعي :يجــب
عليك إذا وجدت من تدعوه مسلما أن تجعل التشــيع عنــده دينــك
وشعارك ،واجعل المدخل من جهة ظلــم الســلف لعلــي ،وقتلهــم
الحسين والتبري من ت َي ْــم وعــدي وبنــي أميــة وبنــي العبــاس ،وأن
عليا يعلم الغيب! ُيفـوض إليــه خلــق العــالم! ...فــإذا أنســت مـن
بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشدا أوقفته علــى مثــالب علــي
وولده« ]ص .[740
لن مهمة الباطنية هو إخراج المسلم عن ملة السلم ،لكنهم
يعمقون فيه مبدأ النفاق والتقية ،ولهذا مــذاهبهم وأقــوالهم تكــون
أسرارا.
وقد ذكر العلماء أقوالهم ومذاهبهم في كتب الملــل والنحــل،
كـ»الملل والنحل« للشهرستاني ] ،[1/140وألف فيهــم مؤلفــون
كالغزالي له كتاب» :فضائح الباطنيـة«] .وهـو مطبـوع ،وقـد ذكـر
شيخ السلم جملة من الكتب التي ردت عليهم .مجموع الفتــاوى
9/134و ،27/174ودرء التعــارض ،5/8والــرد علــى المنطقييــن
ص [.184
وســموا بالباطنيــة؛ لنهــم يزعمــون أن للنصــوص وللشــرائع
معاني باطنة تخــالف ظاهرهــا ،فيجعلــون للشــرائع معــاني باطنــة
تخــالف مــا يعرفــه المســلمون منهــا ،فيفســرون القــرآن بمعــاني
ن ((]الرحمــن: ن ي َل ْت َ ِ
قي َــا ِ حَري ْـ ِج ال ْب َ ْمـَر َباطنة ،مــن ذلــك قــولهمَ )) :
ن ((جــا ُ مــا الل ّؤ ُْلــؤ ُ َوال ْ َ
مْر َ من ْهُ َ
ج ِ خــُر ُ[19أي :علــي وفاطمــة )) ي َ ْ
]الرحمن[22:أي :الحسن والحسين.
َ
ب ((]المسد [1:أبو بكر وعمــر! فهــذه مــن دا أِبي ل َهَ ٍ
ت يَ َ
)) ت َب ّ ْ
تفسيرات الباطنية.
ومـن تـأويلتهم للشـرائع قـولهم :الصـيام هـو كتمـان أسـرار
الباطنية ،والصلة هو معرفة تلك السرار ،والحج هو الســفر إلــى
طواغيتهم وشيوخهم] .حكاه عنهم شيخ السلم في :مقدمــة فــي
أصــول التفســير ص ،220ورســالة فــي علــم الظــاهر والبــاطن
،13/230ومنهاج السنة ،3/404والصفدية ص [51
ذا؛ الباطنية ملحدة منافقون ،وكفرهم أغلظ من كفر اليهود إ ً
والنصارى] .التدمرية ص [160
238
]احترام علماء المة من السلف ومن اقتفى أثرهم[
وقــوله) :وعلمــاء الســلف مــن الســابقين ،ومــن بعــدهم مــن
التابعين ـ أهل الخير ]رأيت في مخطوطة للمتن» :والخــبر« وهــو
محتمل ،لكــن الشــيخ مــال إلــى مــا أثبــت [.والثــر ،وأهــل الفقــه
والنظر ـ ل ي ُذ ْك َُرون إل بالجميل ،ومن ذكرهم بسوء فهو على غير
السبيل(
أهل العلم من الصحابة والتابعين وتــابعيهم مــن أئمــة الهــدى
يجــب أن يعــرف لهــم قــدرهم ،ويجــب أن يعــاملوا بمــا تســتوجبه
منازلهم من العلم والدين ،وِذكُر الطحاوي حق العلمــاء فــي هــذه
الجملة مناسب جدا؛ فإنه ذكر ما يجب للصحابة رضي الله عنهــم،
وأهل بيت الرسول ثم أردف ذلك بذكر مــا يجــب لعلمــاء هــذه
المة من السلف مــن الصــحابة ،ومــن جــاء بعــدهم ،ولهــذا قــال:
)ومن بعدهم من التابعين ،أهل الخير والثر( .أهــل الخيــر :العمــل
الصالح ،وأهل الثار :الذين يقتفون آثار النبي ويقتفون آثار من
سلف قبلهم من أهــل العلــم والــدين ،وأهــل الفقــه والنظــر فهــم
العلماء الفقهاء العباد الصلحاء.
وه بفضــل العلمــاء فــي كتــابه حيــث قــال: والله تعــالى قــد ن َـ ّ
ُ شهد الل ّ َ
ط
س ِ ق ْ ما ِبال ْ ِ
ة وَأوُْلوا ال ْعِل ْم ِ َقائ ِ ً ه إ ِّل هُوَ َوال ْ َ
ملئ ِك َ ُ ه ل إ ِل َ َ ه أن ّ ُُ )) َ ِ َ
((]آل عمران [18:أولــوا العلــم :أصــحاب العلــم الشــرعي ،وهــم
على مراتب ،فيدخل فيهم النبياء ،كمـا يـدخل فيهـم العلمـاء مـن
ممن ْك ُـ ْمُنـوا ِ نآ َ ذي َه ال ّـ ِأتباعهم ،وقال سبحانه وتعــالى )) :ي َْرَفـِع الّلـ ُ
وال ّذي ُ
ت ((]المجادلة.[11: جا ٍ م د ََر َ ن أوُتوا ال ْعِل ْ َ َ ِ َ
مــا
فخص العلماء برفع الدرجات ،وقال سبحانه وتعــالى )) :إ ِن ّ َ
ماُء ((]فاطر [28:فخص وحصر خشيته عَباد ِهِ ال ْعُل َ َ ن ِ م ْ ه ِ شى الل ّ َ خ َ
يَ ْ
بالعلماء ـ أي :العلماء بالله وشرعه ـ وكل دليل يــدل علــى فضــل
العلم؛ هو دليل على فضل العلماء ،وفــي حــديث أبــي الــدرداء
عــن النــبي الــذي رواه الترمــذي وغيــره وفيــه» :وإن العــالم
ليستغفر له من في السموات ومن في الرض حتى الحيتــان فــي
المــاء ،وفضــل العــالم علــى العابــد كفضــل القمــر علــى ســائر
الكواكب ،وإن العلماء ورثة النبياء وإن النبياء لم يورثوا دينارا ول
درهما ،إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر« ]رواه أحمــد
،5/196وأبــو داود ) ،(3641والترمــذي ) ،(2682وابــن مــاجه )
(223وابــن حبــان ) ،(88وقــال الحــافظ فــي الفتــح :1/160
حا مــن »أخرجــه أبــو داود والترمــذي وابــن حبــان والحــاكم مصــح ً
حــديث أبــي الــدرداء ،وحســنه حمــزة الكنــاني وضــعفه غيرهــم
بالضطراب في سنده لكن له شواهد يتقوى بهــا« وانظــر :العلــل
239
للدارقطني ،6/216وتهذيب السنن للمنذري ،5/243والتلخيــص
الحبير ،5/2300والمقاصد الحسنة )[(703
فالصحابة فيهم علماء ،وفي التــابعين وتــابعيهم علمــاء ،وهــم
حملة هذا الدين فــإنه )يحمــل هــذا العلــم مــن كــل خلــف عــدوله
ينفون عنه تحريف الغالين ،وانتحال المبطلين ،وتأويــل الجــاهلين(
]روي هذا مرفوعا عند العقيلي في الضــعفاء 1/9و ،10و 4/256
وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ،2/17والطبراني فــي مســند
الشــاميين ،1/344وابــن عــدي فــي الكامــل ، 2/273و ،3/457
والــبيهقي فــي الســنن الكــبرى ،10/209والخطيــب فــي شــرف
أصحاب الحديث ص 28و 29من مرســل إبراهيــم العــذري ،ومــن
حديث عدد من الصحابة رضي الله عنهم .ونقل الخطيب تصحيحه
عن المام أحمد ،ونقــل الســخاوي فــي فتــح المغيــث 2/169عــن
عدد من الئمة تضعيفه [.فهم المبلغون عن الله دينه ،والقــائمون
بأمره على مراتبهم في العلم والدين.
وقــد ضــرب النــبي المثــل للعلــم والعلمــاء ،كمــا فــي
الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي قال) :مثــل مــا
بعثني الله به من الهدى والعلم ،كمثل الغيث الكثير أصاب أرضــا،
فكان منها طائفة طيبة قِبلت الماء فأنبتت الكل والعشــب الكــثير،
وكانت منها أجاِدب أمسكت الماء ،فنفع الله بهــا النــاس فشــربوا
وسقوا وزرعوا ،وأصــابت منهــا طائفــة أخــرى إنمــا هــي ِقيعــان ل
ه في دين اللــه ونفعــه تمسك ماًء ول تنبت كل ،فذلك مثل من فَ ُ
ق َ
ما بعثني الله به؛ فعَِلم وع َّلم ،ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ،ولــم
يقبل هدى الله الذي أرسلت به(] .رواه البخاري ) ،(79ومســلم )
[(2282
قال العلماء في شرح هذا الحديث :إن حملة العلم نوعان:
علماء نقل وروايــة ،وعلمــاء فقهــاء ،وليــس المــراد بالفقهــاء
أولئك المعنيون بأقوال من يتبعونه من الئمة؛ فــإن الغــالب علــى
هــؤلء التقليــد؛ بــل المــراد الفقهــاء الــذين جمعــوا بيــن معرفــة
النصــوص والفقــه والفهــم والســتنباط .فقــوله ) :فكــان منهــا
طائفة طيبة قِبلت الماء فأنبتت الكل والعشــب الكــثير( هــذا مثــل
للعلماء الفقهاء.
وقوله) :وكان منها أجادب أمســكت المــاء( هــذا مثــل حفــاظ
السنة.
ولهذا قال الرسول عندما خطــب بمنــى) :فَل ْي ُب َل ّـغْ الشــاهد ُ
َ
مع( ]رواه البخــاري ) ،(1741ــ مب َل ٍّغ أْوعــى مــن سـا ِ ب فَُر ّ
ب ُ الغائ ِ َ
ه واللفظ له ـ ومسلم )[(1679ولهذا قال ) :فذلك مثل من فَ ُ
قـ َ
في دين الله ونفعه ما بعثني الله به(.
240
أما من أعرض فمثله في قوله ) :طائفــة أخــرى إنمــا هــي
ِقيعان ل تمسك ماًء ول تنبت كل ( فلم تنتفــع بهــذا الغيــث ،ولهــذا
قال) :ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولــم يقبــل هــدى اللــه الــذي
أرسلت به(.
فيجب على ســائر المــة أن يعرفــوا لهـؤلء العلمـاء فضــلهم؛
لنهم حملة هــذا الــدين ،والقــائمون بــه ،فتجــب محبتهــم لعلمهــم
ودينهم وإيمانهم ،والحب في الله واجب لجميــع المســلمين ،لكــن
يجب إنزال كل أحد منزله ،الصحابة لهـم منزلــة ،وحبهــم هــو مـن
الحب في اللــه ،ولكــن يجــب لهــم مــن المحبــة والتقــدير والــذكر
الجميل ما ليس لغيرهم ،وهكذا العلمــاء يســتوجبون مــن المحبــة
والجلل والذكر الجميل والثناء العاطر ما ل يستحقه مــن دونهــم،
وأصل الحب في الله تابع لمحبة الله ،فمن كان أقــرب إلــى اللــه
وأقوم بدين الله ،وأتقى لله كان له من المحبة والكرام مــا يليــق
بمقامه.
وقد انقسم الناس في العلماء ثلث أقسام:
طرفان ووسط ،فطائفة تغلوا في مــن تعظمــه مــن العلمــاء؛
لن لكل طائفة من المقلدين إماما ينتمون إليه ،وهذا الغلو يتمثل
بالتعصب لقوالهم ،وتقديمها على أقوال غيرهم؛ فالمتعصبون من
المتمــذهبين ل يعتــبرون أقــوال الئمــة الخريــن إنمــا يتمســكون
رض نصوص الشــرعية علــى بأقوال إمامهم الذي يقلدونه؛ بل وي َعْ ِ
قول إمامه فما وافقها قبله ،وما خالفها تــأوله ،وتلمــس لــه أنــواع
التفســـير والتأويـــل؛ ليـــدفع معارضـــتها لقـــول المـــام ،وهـــؤلء
م خـ ُ َ
حب َــاَرهُ ْ
ذوا أ ْ مذمومون ،ولهم شبه بمــن قــال اللــه فيهــم )) :ات ّ َ
ن الل ّهِ ((]التوبة.[31: ورهْبانه َ
دو ِ
ن ُم ْ
م أْرَباًبا ِ
َُ َ َُ ْ
قد َ المام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ بابا في ولهذا ع َ َ
كتاب »التوحيد« عنوانه» :بــاب مــن أطــاع العلمــاء والمــراء فــي
تحريم ما أحل الله ،وتحليل ما حرم الله فقــد اتخــذهم أربابــا مــن
دون الله«] .ص [72
من ل يعرف للعلماء قدرهم ،ول يعتبر أقوالهم، ويقابل هؤلءَ :
ول ينظر فيما استنبطوه من نصوص الكتــاب والســنة؛ بــل يجعــل
دا لهـم؛ بـل يتنقصـهم فيمـا يخـالف هـواه ورأيـه ،ويطعـن نفسه ن ً
رم حـ ِ
عليهم فيما اجتهدوا فيه واستنبطوه من النصوص ،وهذا قــد ُ
من النتفاع بهم؛ لنه متبع لهواه متعصب لرأيــه ،وإنمــا يأخــذ مــن
أقوال العلماء ما وافق رأيه.
مثلما يفعــل الخــرون فــي النصــوص حيــن يأخــذون منهــا مــا
يوافق آراءهم ومذاهبهم ،فتجد أحــدهم يســتدل باليــة أو الحــديث
حين يوافق المذهب الــذي مشــى عليــه ،ومــا جـاء مـن النصــوص
241
معارضا لمذهبه ورأيه د َفََعه بكــل وســيلة؛ إمــا بالتكــذيب أو الــرد،
وإما بالتحريف الذي يسمونه تأويل ،كما تفعل طــوائف المبتدعــة،
فهــذا منهجهــم فــي النصــوص ،وهــو منهــج المتعصــبين مــن أهــل
المذاهب بالنسبة لما خالف مذهبهم.
فهــذان فريقــان علــى طرفــي نقيــض :المتعصــبون للئمــة
المقدمون لقوالهم على كتاب اللــه وســنة رســوله ،والمتنقصــون
المســتخفون بأهــل العلــم مــن الســلف الصــالح ومـن ســار علــى
منهجهم وطريقتهم ،وبين ذلك القول الوسط ،وهو الذي عّبر عنــه
المام الطحاوي وقصد إليه ،وهو العتراف بفضل العلماء ،وإنزال
كل منزلته ،والنتفاع بعلومهم وفهــومهم ،فمــن كــان قاصــرا عــن
فهم الدلة؛ فليس له إل أن يقلد من يثــق بعلمــه ودينــه مــن أهــل
العلم.
لكن الشأن في من يقدر على فهم النصوص؛ فهــذا عليــه أن
ينتفع بفهم العلماء ،ويرجـع إلــى أقــوالهم ،ول يقصـر نفسـه علـى
معين يقلده ول يخرج عن أقواله ول يلتفت إلــى أقــوال غيــره ،ل؛
بل عليه أن يستفيد من كل الئمة ،ويأخذ من أقوالهم ما تشهد له
الدلة من الكتاب والسنة ،فأقوال الئمة تنقسم إلى ثلثة أقسام:
الول :ما دل عليه الــدليل مـن الكتــاب والســنة فهــذا واجــب
التباع؛ لنه يستند إلى الصل الصحيح مهما كان قائله منهم.
والثاني :ما خالف الــدليل فيجــب تركــه ،وهــذا مــا أوصــى بــه
عون تلميــذهم] .انظــر :آداب الشــافعي ومنــاقبه ص ة المت ُْبو ُ
الئم ُ
،93ومختصر المؤمل ص ،88وإعلم الموقعين [2/200
والثالث :أقوال لم تظهر مخالفتهــا للدلــة ،ول موافقتهــا لهــا،
فهذه يقول فيها المحققون :إنها سائغة التباع ،ل واجبة التباع ول
ممنوعة التباع؛ لنها موضع اجتهاد.
ومما يجب اعتقاده أن هؤلء العلماء ليسوا معصومين ،فلهــذا
يصيبون تارة ويخطئون أخرى.
ولكن الئمة المعروفون يجب اعتقاد أنهم ل يتعمدون مخالفة
الــدليل حاشــاهم مــن ذلــك ،ومــن ظــن ذلــك فهــو متجــن عليهــم
ومسيء للظن بهم ،فــإذا ثبــت عــن أحــدهم أنــه خــالف دليل مــن
كتاب أو سنة ،فيجب العتذار عنه بما يمكن.
وقد ألف شيخ السلم ابن تيمية رسالة صغيرة اسمها» :رفع
الملم عــن الئمــة العلم« ]مطبوعــة مفــردة مــرارا ،وضــمن
مجموع الفتاوى ،[290-20/231وذكر أعذار العلماء في مخالفــة
بعضهم لبعــض الدلــة ،وأهمهــا :عــدم بلــوغ الــدليل ،فقــد يخــالف
الدليل؛ لنه لم يبلغه.
أو بلغه من طريق ضعيف ،فيعتقد أن النبي لم يقله.
242
أو بلغه وصح عنده لكنه ل يعتقــد أن المــراد بــه هــذا الحكــم؛
فيفهمه فهما قد يكون خلف مــا يقتضــيه ظــاهره ،فيكــون متــأول
للحديث باجتهاد ل عن هوى.
أو يعرض له ما يجعله يظن أنه منسوخ.
فهــذه أهــم العــذار الــتي يعتــذر بهــا عــن العلمــاء إذا خــالف
أحدهم دليل من كتاب أو سنة.
ومعــروف أن مخالفــة اليــة ل تكــون إل بتــأول؛ لن القــرآن
قطعي الثبوت.
وقوله) :ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل(
ه َ
ن لـ ُ مــا ت َب َي ّـ َ
ن ب َعْـد ِ َ
مـ ْ ل ِ ســو َ ق الّر ُ ن يُ َ
شــاقِ ِ مـ ْ قال تعالى )) :وَ َ
مجهَن ّـ َصـل ِهِ َ مــا ت َـوَّلى وَن ُ ْ ن ن ُـوَل ّهِ َمِني َم ـؤ ْ ِ ل ال ْ ُسـِبي ِ دى وَي َت ّب ِـعْ غ َي ْـَر َ ال ْهُ َ
صيًرا ((]النساء.[115: م ِ ت َ ساَء ْوَ َ
فهذا وعيد لمن انحرف عن سبيل أهل العلــم والــدين ،وهــذه
الية قد استدل بها الشافعي على حجية الجماع ]تقدم فــي ص[،
فمن عدل عن سبيل ما أجمع عليه المؤمنــون؛ فــإنه متوعــد بهــذا
الوعيد .
قال الشارح ابن أبي العز ]ص [741في معــرض ثنــائه علــى
العلماء وأن الله »:جعلهم بمنزلة النجوم يهدى بهــم فــي ظلمــات
البر والبحر ،وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهــم؛ إذ كــل
أمة قبل مبعــث محمــد علماؤهــا شــرارها إل المســلمين؛ فــإن
علماءهم خيارهم؛ فإنهم خلفاء الرسول من أمته ،والمحيــون لمــا
مات من سنته«.
وهذه المقولة ليست مستقيمة عندي؛ فالمم الماضــية كبنــي
جعَل َْنــا إسرائيل فيهم العلماء المهديون المهتدون ،قال تعالى )) :وَ َ
َ منه ـ َ
ن (( ص ـب َُروا وَك َــاُنوا ِبآَيات ِن َــا ُيوقِن ُــو َ مــا َ مرِن َــا ل َ ّ ن ب ِأ ْ دو َ
ة ي َهْ ـ ُمـ ً م أئ ِ ّ ِ ُْ ْ
ُ
ه
حقّ وَب ِـ ِ ن ب ِــال ْ َ
دو َة ي َهْ ـ ُمـ ٌســى أ ّ مو َ ن َقــوْم ِ ُ مــ ْ ]الســجدة )) ،[24:وَ ِ
ن ((]العــراف ،[159:وكــذلك بــالعكس فهــذه المــة فيهــم ي َعْـد ُِلو َ
العلماء المهديون المهتدون المقتدى بهم الذين يصدق عليهــم مــا
جاء من الثناء على أهل العلم وأنهم ورثــة النبيــاء ،وفيهــم علمــاء
السوء؛ مثل أئمة أهل البدع؛ فإنهم ليس لهم حظ من الثناء الــذي
جاء في الكتاب والسنة للعلماء ،فهذه المة فيها فرق ضالة ،فلــو
خص هذا بعلماء أهــل الســنة فنعــم ،أمــا علــى الطلق أن علمــاء
المســلمين هــم خيــارهم فل يصــح ،ولشــك أن العلمــاء المعنيــون
الذين اقتفوا آثــار نــبيهم وآثــار أصــحابه هــم خيــر هــذه المــة بعــد
الصحابة رضي الله عنهم.
فينبغي أن نتواصى بتحصيل المزيد من علم الكتاب والســنة،
ومهما بلغ النسان من التحصيل والعلم؛ فإنه ل يزال يطلب العلم
243
والفائدة ويسأل العلمــاء ،والعلمــاء يســأل بعضــهم بعضــا ،ويرجــع
بعضهم لبعض كما كان يفعل الئمة الكبار في صدر هذه المة.
وينبغي للمسلم أن يكــون متواضــعا ل يــأنف عــن أن يســتفيد
ممن فوقه ،أو مثله ،أو دونه ،فقد يجد الفائدة عند من هــو دونــه
في العلم وفي السن ،كما كان الئمة يفعلون ذلك ،فالحق والعلم
ضالة المؤمن ،فأين وجدها قبلها وأخذها.
ويجــب التعويــل فــي تحصــيل العلــم علــى الكتــب الموثوقــة،
ككتــب الســلف الصــالح ،والعلمــاء المعروفيــن الموثــوقين ،فــإن
الكتب والمؤلفات كثيرة ومتنوعة ،ودخلتها أفكار ومذاهب بدعيــة،
فيجب على طالب العلم أن يكون عنده أصل يميز به بيــن النــافع
والضار والحق والباطل ،فإن المذاهب البدعيــة دخلــت فــي كــثير
من كتب التفسير وشروح الحديث ،وفي سائر المصنفات.
فينبغي لطــالب العلــم أن يجتهــد ويتحــرى الكتــب الموثوقــة،
كتــب الئمــة المشــهورين بــالعلم والــدين والتحقيــق والصــالة
والسلفية ،كما أن عليه أيضا أن يستفيد ويرجع إلى من يثق بعلمه
ودينه ،وبتحريه للحق ،وطريق السلف الصالح.
244
ما أعظمها من فرية! وما أجرأ هذا الملحد على القوال
الباطلة المناقضة للشرع والعقل!
يزعم أن للولياء خاتما ،وليس للولياء خاتم معين يقال :فلن
هو خاتم الولياء كما نقول :خاتم النبياء محمد بن عبد الله ،
لكن خاتم الولياء هو آخر من يخلقه الله من أوليائه ،لكنه ليس
معروفا على وجه التعيين.
ويزعم أنه تابع في الشرع الظاهر للنبي وغير تابع له في
العلم الباطن؛ فإنه بزعمه يأخذ من المعدن الذي يأخذه منه
المَلك!
وهل هناك معدن يأخذ منه ؟! فإن عنده الوجود كله شيء
واحد وعين واحدة ،فوجود كل موجود هو عين رب الوجود
سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والملحدون علوا كبيرا.
وذكر الشارح ابن أبي العز » وقال ابن عربي في فصوصه:
ولما مثل النبي النبوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إل
موضع لبنة فكان هو موضع اللبنة ،وأما خاتم الولياء فل بد له
من هذه الرؤية فيرى ما مثله النبي ويرى نفسه في الحائط
في موضع لبنتين! ويرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين
فيكمل الحائط! والسبب الموجب لكونه يراها لبنتين :أن الحائط
لبنة من فضة ولبنة من ذهب ،واللبنة الفضة هي ظاهره وما يتبعه
فيه من الحكام ،كما هو أخذ عن الله في السر ما هو في
الصورة الظاهرة متبع فيه؛ لنه يرى المر على ما هو عليه ،فل بد
أن يراه هكذا ،وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن! فإنه يأخذ
من المعدن الذي يأخذ منه المَلك الذي يوحى إليه إلى الرسول
قال :فإن فهمت ما أشرنا إليه ،فقد حصل لك العلم النافع!
فمن أكفر ممن ضرب لنفسه المثل بلبنة ذهب ،وللرسول
المثل بلبنة فضة ،فيجعل نفسه أعلى وأفضل من الرسل؟! تلك
ه{] غافر[56: هم ب َِبال ِِغي ِ ما ُ م إ ِّل ك ِب ٌْر ّ
دورِه ِ ْ ص ُ أمانيهمِ } :إن ِفي ُ
وكيف يخفى كفر من هذا كلمه ؟«]ص [ 744
فلهذا يقول الطحاوي ـ رحمه الله ـ) :ول نفضل أحدا من
ي واحد ٌ الولياء على أحد من النبياء عليهم السلم ،ونقول :ن َب ِ ٌ
أفضل من جميع الولياء(.
والنبي والولي والرسول بين هذه المراتب الثلثة عموم
ي ،فالرسل هم أفضل ي ول ٌ ل نب ٍ ي ،وك ُ ل نب ٌ ل رسو ٍ وخصوص ،فك ُ
النبياء ،وهم جميعا أفضل الولياء ،وليس كل ولي نبيا ،والله
ن
حَزُنو َ م يَ ْ
م َول هُ ْ ف ع َل َي ْهِ ْخو ْ ٌن أ َوْل َِياَء الل ّهِ ل َ َ
تعالى قد قال )) :أل إ ِ ّ
ن ((]يونس [63-62:فهذا هو تعريف قو َ مُنوا وَ َ
كاُنوا ي َت ّ ُ نآ َ * ال ّ ِ
ذي َ
الولي :كل مؤمن تقي؛ فهو ولي ـ وأما تعريف النبي والرسول
245
فقد تقدم ]ص[ ـ ،وهذا وصف ينطبق على النبياء بما فيهم
الرسل ،وينطبق على الصديقين والشهداء والصالحين ،وهذه الية
ل نقول :إنها في خصوص الولي الذي ليس بنبي ،ل؛ بل هي عامة
ن ((]يونس[62: حَزُنو َ م يَ ْم َول هُ ْ ف ع َل َي ْهِ ْ خوْ ٌ ن أ َوْل َِياَء الل ّهِ ل َ )) أل إ ِ ّ
َ
وأولى الناس بهذا الوصف هم النبيون والمرسلون.
فالنبوة والرسالة تستلزم الولية ،ومطلق الولية ل تستلزم
النبوة والرسالة؛ لنه ليس كل من يكون وليا لله يكون نبيا ،فإذا
قلنا :الولي :كل مؤمن تقي؛ فإن ذلك يعم النبياء والمرسلين
وغيرهم ،لكن إذا قلنا :الرسول والنبي والولي؛ فإنا نريد بالولي:
كل مؤمن تقي سوى النبيين والمرسلين.
ذا؛ فالولي في عبارة الطحاوي) :ول نفضل أحدا من الولياء إ ً
على أحد من النبياء( من غير النبياء.
وتقدم ]ص[ أن أولياء الله طبقتان :مقتصدون وسابقون ،أو
نقول :مقربون وأصحاب يمين ،كما ذكر الله ذلك في مواضع من
َ
ة ن َِعيم ٍ جن ّ ُن وَ َ حا ٌ ن * فََروْ ٌ
ح وََري ْ َ قّرِبي َ م َ ن ال ْ ُ م َ ن ِ كا َن َ ما إ ِ ْالقرآن )) :فَأ ّ
كم َ كان م َ َ
بحا ِ ص َنأ ْ م لَ َ ِ ْ سل ٌ ن * فَ َ مي ِ ب ال ْي َ ِ حا ِ ص َ نأ ْ ن َ َ ِ ْ ما إ ِ ْ * وَأ ّ
ن ((]الواقعة [91-88:وهكذا في أول السورة ،وفي سورة ِ مي ال ْي َ ِ
جَها َ س َ ْ ن ال َب َْراَر ي َ ْ
كاُفوًرا * مَزا ُ ن ِكا َ ن ك َأ ٍ م ْ ن ِ شَرُبو َ النسان )) :إ ِ ّ
جيًرا ((]النسان،[6-5: ف ِ جُرون ََها ت َ ْ ف ّ عَباد ُ الل ّهِ ي ُ َ ب ب َِها ِ شَر ُ ع َي ًْنا ي َ ْ
ن
وهكذا في سورة المطففين ذكر الله هذا التصنيف للولياء )) :إ ِ ّ
ن ـ إلى قوله ـ :وَِفي ذ َل ِ َ
ك ك َينظ ُُرو َ في ن َِعيم ٍ * ع ََلى ال ََرائ ِ ِ ال َب َْراَر ل َ ِ
ب ب َِها شَر ُ سِنيم ٍ * ع َي ًْنا ي َ ْ ن تَ ْ م ْ ه ِ ج ُمَزا ُ ن * وَ ِ سو َمت ََنافِ ُ س ال ْ ُ
فَلي َت ََنافَ ِ
ْ
ن ((]المطففين.[28-22: قّرُبو َ م َ ال ْ ُ
246
ومعنى المعجزة في اللغة يعم كل خارق سواء كان على يد
ي ،فكل خارق؛ فهو معجز لمن لم يجره الله ي أو على يد ول ّ نب ّ
على يده ،مما ل يدخل في قدرة العبد بحكم العادة.
ولكن خوارق النبياء وهي دلئل على نبوتهم ورسالتهم
اسمها الشرعي :البينات واليات والبراهين ،كما ذكر الله ذلك
في كتابه في مواضع )) :ل َ َ َ
ت ((]الحديد: سل ََنا ِبال ْب َي َّنا ِسل َْنا ُر ُ
قد ْ أْر َ
ت ((]النمل: سِع آَيا ٍ ،[25ويقول تعالى في شأن موسىِ )) :في ت ِ ْ
ك ((]القصص.[32: ن َرب ّ َم ْ ن ِ هاَنا ِ ك ب ُْر َ ذان ِ َ
)) [12فَ َ
ولكن في اصطلح المتكلمين خوارق النبياء يسمونها
معجزات ،حتى إن المعتزلة يقولون :إن النبوة ل تثبت إل
بالمعجزة ،فقصروا ما تثبت به النبوة على المعجزة ،وهي المر
الخارق للعادات ،ونتج عن قولهم ذلك ـ مع بطلنه وتقدم تفنيده
]ص[ ـ نفي كرامات الولياء ،فقالوا :ل يجوز خرق العادة إل لنبي؛
لنه لو خرقت العادة لغير نبي للتبس على الناس أمر النبي
بالولي ،فل يحصل التمييز.
وأجيب عن هذه الشبهة :بأن الولي الذي تحصل على يديه
الكرامة ،وهي :المر الخارق للعادات ل يدعي النبوة إذ لو ادعى
النبوة لم يكن وليا ،ولم يكن ما جرى على يده كرامة؛ بل هو
خَرقة وفتنة. م ْ َ
فلهذا كان من المسائل التي ينبه عليها أنها من مذهب أهل
السنة :إثبات كرامات الولياء ،والمقصود :إثبات جنس الكرامات؛
لنه ليس كل ما يذكر يكون ثابتا ،ويجب التسليم به.
فما يروى ويذكر من كرامات الولياء منها ما هو ثابت في
القرآن أو في السنة أو في أخبار صحيحة ،ومنه ما يروى ولم
تحقق صحته ول كذبه؛ فهذا ل يلزم التصديق به ،كما ل يجوز نفيه
بغير حجة.
ومن كرامات الولياء التي في القرآن ما في قصة مريم
وولدتها لعيسى عليه السلم؛ فإن ولدتها لعيسى بل أب خارق
للعادات.
ومن كرامات الولياء التي في القرآن ما جاء في قصة
أصحاب الكهف حيث بقوا في كهفهم مدة طويلة ،قال تعالى:
سًعا ((]الكهف: دوا ت ِ ْ دا ُ
ن َواْز َ سِني َ مائ َةٍ ِ ث ِ م َثل َ فه ِ ْ )) وَل َب ُِثوا ِفي ك َهْ ِ
م ُرُقود ٌ
ظا وَهُ ْقا ً م أ َي ْ َسب ُهُ ْ ح َ [25بقوا في كهفهم يقلبهم ربهم )) :وَت َ ْ
ل ((]الكهف [18:وعاشوا هذه ما ِ ش َ ت ال ّ ذا َ ن وَ َ مي ِ ت ال ْي َ ِذا َ م َقل ّب ُهُ ْوَن ُ َ
المدة الطويلة ،بل طعام ول شراب ،وبعد ذلك يستيقظون
َ
ض
ما أوْ ب َعْ َ ويتحدثون ولم يشعروا بما جرى لهم )) َقاُلوا ل َب ِث َْنا ي َوْ ً
ي َوْم ٍ ((]الكهف.[19:
247
وجماع صفات الكمال :الغنى والعلم والقدرة ،ويستشهد لهذا
بأن الله تعالى أمر نبيه أل يدعي شيئا منها إل ما أعطاه الله:
ب َول أ َُقو ُ
ل م ال ْغَي ْ َ
َ
ن الل ّهِ َول أع ْل َ ُ خَزائ ِ ُ دي َ عن ِ
م ِ ل ل َك ُ ْل ل أ َُقو ُ )) قُ ْ
َ
حى إلي((]النعام ،[50:وهكذا قال ما ُيو َ ن أت ّب ِعُ إ ِّل َ ك إِ ْ مل َ ٌم إ ِّني َل َك ُ ْ
َ نوح لقومهَ )) :ول أ َُقو ُ
ب َول م ال ْغَي ْ َ ن الل ّهِ َول أع ْل َ ُ خَزائ ِ ُ
دي َ عن ِ م ِ ل ل َك ُ ْ
ك ((]هود.[31: مل َ ٌ
ل إ ِّني َ أ َُقو ُ
فأول الرسل وآخرهم تبرءوا من دعوى هذه المور إل ما
أعطاهم الله منها ،والمقصود من ذكر هذا المعنى :بيان أن
خوارق العادات مدارها على هذه الثلث :إما أن ترجع إلى القدرة
والتأثير ،أو العلم ،أو الغنى.
وتسمى الخوارق العلمية المتعلقة بالعلم :الخوارق الكشفية؛
لن خرق العادة بعِل ْم ِ أمرٍ مستورٍ هو كشف لغائب.
وهذه المعاني ترجع إلى كل الخوارق سواء كانت على يد
أنبياء أو أولياء فمثل :عصا موسى ترجع إلى القدرة والتأثير،
وكذلك فلق البحر يرجع للقدرة والتأثير.
ما ذكر الله عن أصحاب الكهف يرجع إلى الغنى؛ لن الله
أغناهم عن الطعام والشراب تلك المدة الطويلة ،وكلما يخبر به
النبياء من أمور غائبة هو من الخوارق العلمية ،وهكذا دلئل نبوة
محمد راجعة إلى هذه ،فقد أخبر بأمور مستقبلة غائبة ل
تزال تظهر بين حين وآخر ،فهي من أعلم نبوته .
وذكر شيخ السلم :أن »عدم الخوارق علما وقدرة ل تضر
المسلم في دينه ،فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات ،ولم
يسخر له شيء من الكونيات ل ينقصه ذلك في مرتبته عند الله؛
بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه«]مجموع الفتاوى
،[11/323لذا ل يستدل بعدم حصول كرامة على عدم الولية،
كما ل يستدل بحصول خارق على الولية؛ بل ضابطها :اليمان
م َول ف ع َل َي ْهِ ْ خو ْ ٌ ن أ َوْل َِياءَ الل ّهِ ل َ َ
والتقوى ،كما قال تعالى )) :أل إ ِ ّ
ن ((]يونس.[62: حَزُنو َ
م يَ ْ هُ ْ
فإن الخوارق قد تجري في الظاهر على يدي الكهان
والسحرة ،وهي :مخاريق ،وأكاذيب ،ولهذا جاء عن بعض السلف
أنه قال » :لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرفع
في الهواء؛ فل تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند المر
والنهي ،وحفظ الحدود ،وأداء الشريعة«] .قاله أبو يزيد
البسطامي .حلية الولياء ،10/40ونحوه عن المامين الليث بن
سعد والشافعي كما في آداب الشافعي ومناقبه ص ،184
وانظر :ومجموع الفتاوى ،11/466والفرقان بين أولياء الرحمن
وأولياء الشيطان [11/173
248
فل تغتر بمن حصل له شيء من ذلك حتى تعرض حاله
وعمله على الكتاب والسنة؛ فإن الشياطين قد تحمل أولياءهم
حتى يظن أنه يسير في الماء أو يطير في الهوى ،وإنما حمله
الشيطان ووضع له ما يسير عليه في الماء.
والكرامة قد تكون لحاجة العبد ،فيخرق الله العادة لحاجته،
وقد تكون لقامة الحجة ،وكل كرامة وخارق للعادة على يدي
من هذا الولي تابع لشريعته . ولي؛ فإنه دليل على نبوة َ
من خوارق العادات التي جرت على يد بعض النبياء ـ
وتسمى :المعجزات ـ ما جرى لخليل الله إبراهيم عليه السلم
عندما ألقي في النار فصارت عليه بردا وسلما ،حين قال الله
م((]النبياء [69:فهل هي َما ع ََلى إ ِب َْرا ِ سَل ً دا وَ َكوِني ب َْر ًلهاَ)) :يا َناُر ُ
استحالت النار وصارت روضة بحيث لو دخلها غيره لم تضره ؟ ل؛
بل هي على إبراهيم عليه السلم فقط.
وهذا دليل على نبوته ،فخرق العادة لبراهيم هو للحاجة
والحجة ،للحاجة؛ لنه ألقي فيها ،فهو محتاج إلى أن ينجيه الله
ن َقاُلوا َ
مهِ إ ِّل أ ْ
ب قَوْ ِ
وا َ ج َن َ كا َ ما َ من النار ،فنجاه الله منها )) ،فَ َ
َ َ
ن الّنارِ ((]العنكبوت [24:وللحجة؛ م َ ه ِ جاه ُ الل ّ ُ اقْت ُُلوه ُ أوْ َ
حّرُقوه ُ فَأن َ
لن هذا دليل على صدق نبوته حيث نجاه الله من النار.
وقد يدعي بعض الدجاجلة أنه يدخل النار ول تحرقه! وحدث
هذا في زمن شيخ السلم ابن تيمية فتحداهم في مناظرة كبيرة
بحضور المراء والعلماء والعامة وقال » :أنا أخاطب كل أحمدي
من مشرق الرض إلى مغربها :أي شيء فعلوه في النار؛ فأنا
من احترق فهو مغلوب ،وربما قلت: أصنع مثل ما تصنعون! و َ
فعليه لعنة الله ،ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار،
فسألني المراء والناس عن ذلك؟ فقلت :لن لهم حيل في
التصال بالنار يصنعونها من أشياء :من دهن الضفادع ،وقشر
النارنج ،وحجر الطلق« فبهتوا ولم يفعلوا ،فقال الناس» :فوقع
الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين«
]انظر أحداث القصة وتفصيلها في مجموع الفتاوى -11/445
[475
ولعل هذا القدر مما يتعلق بالكرامات يكفي ،وتقدم أنه :إنما
يجب اليمان بجنس الكرامات ،ويجب اليمان بما صح؛ مما جاء
في القرآن أو جاء في السنة أو في أخبار صحيحة.
وقد نقل الشارح ابن أبي العز في هذا الموضع ]ص -742
[754كلما كثيرا ،وكلمه قد غ ََرَفه من بحر شيخ السلم ابن
تيمية؛ فإنه شرح غالب العقيدة الطحاوية بكلم المامين شيخ
249
السلم ابن تيمية وابن القيم ،وشيء من كلم غيرهما ـ رحمهم
الله جميعا ـ .
250
وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن
النبي » :إن أول اليات خروجا طلوع الشمس من مغربها،
وخروج الدابة على الناس ضحى ،وأيهما ما كانت قبل صاحبتها؛
فالخرى على إثرها قريبا«] .رواه مسلم )[(2941
وفي حديث حذيفة بن أسيد قال » :اطلع النــبي علينــا
ونحن نتذاكر ،فقال :ما تذاكرون؟ قالوا :نذكر الساعة ،قــال :إنهــا
لن تقوم حتى ترون قبلها عشــر آيــات؛ فــذكر الــدخان ،والــدجال،
والدابة ،وطلوع الشمس من مغربهــا ،ونــزول عيســى ابــن مريــم
،ويأجوج ومأجوج ،وثلثة خسوف :خســف بالمشــرق ،وخســف
بالمغرب ،وخسف بجزيرة العرب ،وآخر ذلك :نار تخرج من اليمن
تطرد الناس إلى محشرهم«].رواه مسلم )[(2901
وهذه يسميها العلماء علمات الساعة الكبرى؛ لن هذه
الحداث تكون قرب قيام الساعة ،وقرب الساعة الذي ذكره الله
ليس مقدرا بزمن ،ول يمكن لحد أن يتخيل قدره ،فقد يخطر
ببال الناس في حياة النبي أو بعده :إن الساعة بعد مائة أو
مائتين أو ثلثمائة سنة ،ولكن مضى الن أربعة عشر قرنا من
الزمن ،ول ندري ماذا بقي؛ فإن موعد قيام الساعة من الخمس
التي استأثر الله بعلمها ،فل يعلمها ملك مقرب ول نبي مرسل:
ْ َ
ة ((]العراف: م إ ِّل ب َغْت َ ً ض ل ت َأِتيك ُ ْ ت َوالْر ِ وا ِ م َ
س َت ِفي ال ّ قل َ ْ )) ث َ ُ
.[187
ونص المام الطحاوي على أربع من هذه العلمات العشر:
الدجال ،ونزول المسيح ،طلوع الشمس من مغربها ،وخروج دابة
الرض ،وهذه العلمات منها ما ذكر في القرآن نصا أو إشارة،
م ل ع َل َي ْهِ ْ ذا وَقَعَ ال ْ َ
قو ْ ُ فأما خروج الدابة ،فقد قال تعالى )) :وَإ ِ َ
ة من ال َرض تك َل ّمه َ أَ ْ
كاُنوا ِبآَيات َِنا ل س َ ن الّنا َ مأ ّ ْ ِ ُ ُ ُ ْ داب ّ ً ِ َ م َ جَنا ل َهُ ْخَر ْ
ن ((]النمل.[82: ُيوقُِنو َ
وأما طلوع الشمس من مغربها فقد أشير إليها في قوله
ْ
م ت َك ُ ْ
ن مان َُها ل َ ْ سا ِإي َ ف ً فعُ ن َ ْ
ك ل َين َ ت َرب ّ َ ض آَيا ِم ي َأِتي ب َعْ ُ سبحانه )) :ي َوْ َ
َ
خي ًْرا ((]النعام.[158: مان َِها َت ِفي ِإي َ ل أوْ ك َ َ
سب َ ْ ن قَب ْ ُم ْ ت ِ من َ ْ آ َ
وثبت في الصحيح عن النبي أنه قال » :ل تقوم الساعة
حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت من مغربها آمن
الناس كلهم أجمعون ،فيومئذ ل ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت
من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا«] .رواه البخاري )، (4635
ومسلم ) (157من حديث أبي هريرة .[
فهذا الحديث تفسير للبعض الذي في الية وهو :طلوع
الشمس من مغربها.
251
وهكذا نزول المسيح فقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه
ن أن ينزل فيكم ابن مريم قال » :والذي نفسي بيده ليوشك ّ
حكما مقسطا؛ فيكسر الصليب ،ويقتل الخنزير ،ويضع الجزية،
ويفيض المال حتى ل يقبله أحد «].رواه البخاري )، (2222
ومسلم ) (155من حديث أبي هريرة [
ونزوله عيسى عليه السلم أشير إليه في القرآن ،كما جاء
ن ب َِها (( ساع َةِ َفل ت َ ْ
مت َُر ّ ه ل َعِل ْ ٌ
م ِلل ّ في تفسير قوله تعالى )) :وَإ ِن ّ ُ
]الزخرف] [61:تفسير الطبري ،20/631والجامع لحكام القرآن
،19/69وابن كثير ،7/236وأضواء البيان [7/280وقرئ) :وإنه
ن ب َِها(] .هذه قراءة شاذة ،رويت عن بعض ساع َةِ َفل ت َ ْ
مت َُر ّ ل َعَل َ ٌ
م ِلل ّ
الصحابة رضي الله عنهم ،وعن غيرهم كالعمش .انظر :الجامع
لحكام القران ،19/70والبحر المحيط ،8/26وإتحاف فضلء
البشر ص [496
أما الدجال فلم يأت له ذكر في القرآن ،وإنما تواترت
بالخبار عنه سنة الرسول ] .نظم المتناثر ص [240
ن النبي أنذر أمتــه المســيح الــدجال فقــال »: مــا منها أ ّ
ي إل أنذر قــومه العــور الكــذاب ،إنــه أعــور ،وإن بعث الله من نب ّ
ربكم ليــس بــأعور ،مكتــوب بيــن عينيــه كــافر«] .رواه البخــاري )
، (7408ومسلم ) (2933من حديث أنس [
ومنها الدعاء الذي أرشدنا لقوله في كل صلة فقال» :إذا
فرغ أحدكم من التشهد الخر؛ فليتعوذ بالله من أربع :مــن عــذاب
جهنم ،ومن عذاب القبر ،ومن فتنــة المحيــا والممــات ،ومــن شــر
المسيح الدجال« ]تقدم تخريجه في ص[
والمام الطحاوي نص على هذه الربعة؛ لنها أمور عظيمة
ومشتملة على خرق العادة.
وبين نزول المسيح وخروج الدجال تناسب؛ لنهما حدثان في
ح
ل المسي َ ح الهدى يقت ُ ح ابن مريم مسي ُ زمن متقارب ،والمسي ُ
ح الضللة. الدجال مسي َ
المقصود :أن أهل السنة يؤمنون بهذه المور الخارقة للعادة،
فطلوع الشمس من مغربها أمر خارق للعادة ،فمنذ خلق الله
الشمس وأجراها وهي تأتي من المشرق وتذهب للمغرب ،وفي
طلوعها من المغرب خرق لهذه العادة ،وهكذا خروج دابة الرض
التي تكلم الناس حدث عظيم وهو خارق للعادة ،وخروج الدجال
بما معه من خوارق حقيقية يجريها الله على يده فتنة وابتلًء،
ولهذا كانت فتنته أعظم فتنة ،فقد صح أن النبي قال عن
الدجال إنه » :يأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون
ربة خ ِله ،فيأمر السماء فتمطر ،والرض فتنبت« وأنه » يمر بال َ
252
فيقول لها :أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها «وأنه »يدعو رجل
ة ال ْغََرض ،ثم
مي َ َ
ن َر ْ ممتلئا شبابا ،فيضربه بالسيف ،فيقطعه َ َ
جْزلت َي ْ ِ
يدعوه فيقبل ،ويتهلل وجهه يضحك« ]رواه مسلم ) (2137من
سمعان رضي الله عنهما[ حديث النواس بن َ
هذه كلها أحداث عظيمة ،وأهل السنة يؤمنون بذلك كله
دوق ،أما الذين يحكمون عقولهم؛ ص ُ
م ْ
تصديقا لخبر الصادق ال َ
فإنهم يستبعدون ذلك كله؛ فإما أن يكذبوا به ،أو يتأولوه بأنواع
التأويل ،وليس هذا من أهل الضلل بغريب.
والعلم بأن هذا من أشراط الساعة ينبني على العلم بما جاء
عن النبي ،والعلم بالواقع ،فقد يكون النسان قد عرف أن من
أشراط الساعة كذا وكذا ،ولكنه لم يعلم بوقوعه ،فكم من
أشراط الساعة وعلماتها وأحداث الزمان مما حدث وكثير من
الناس غافل عنه؟!
فأشراط الساعة منها ما حدث وانقضى ،ومنها ما سيحدث،
ومنها ما حدث ويتكرر ،ومنها العلمات الكبرى المذكورة في
حديث حذيفة بن أسيد الذي تقدم].ص[
253
المور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها كالمسروق ...
ومعرفة مكان الضالة«] .قاله البغوي في شرح السنة [12/182
وقال شيخ السلم ابن تيمية» :والعراف قد قيل :إنه اسم عام
للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في تقدم المعرفة
بهذه الطرق ،ولو قيل :إنه في اللغة اسم لبعض هذه النواع؛
فسائرها يدخل فيه بطريق العموم المعنوي«] .مجموع الفتاوى
[35/173
ذا؛ العراف أعم من الكاهن ،فالكاهن عراف ،والمنجم إ ً
عراف ،والرمال الذي يضرب بالحصى ويخط بالرض عراف؛ لن
عراف صيغة مبالغة من المعرفة ،فيكون عطف العراف على
الكاهن في كلم الطحاوي من عطف العام على الخاص.
فهؤلء الكذابون ل يجوز سؤالهم مطلقا؛ فإن سؤالهم ينبئ
عن العتراف بهم ،ويجر إلى تصديقهم ،وكيف يسألون وهم
دعون العلم بمغيبات ،والله تعالى قد تفرد بعلم الغيب كما قال ي ّ
َ
ه (( ب إ ِّل الل ّ ُ ض ال ْغَي ْ َ ت َوالْر ِ وا ِ
م َس َ ن ِفي ال ّ م ْ م َ ل ل ي َعْل َ ُتعالى )) :قُ ْ
]النمل.[65:
مالون من المفسدين في الرض، ن والمنجمون والر ّ فالكها ُ
دعون ،فيجب على ومن أشرار الخلق الذين يضلون الناس بما ي ّ
ولة المر أن يمنعوهم من إظهار منكرهم ،وأن يضربوا على
ر ن إ َِلى ال ْ َ أيديهم عمل بقوله تعالى )) :ول ْتك ُن منك ُ ُ
خي ْ ِ عو َ ة ي َد ْ ُم ٌ مأ َّ َ ْ ِ ْ ْ
ْ
من ْك َرِ ((]آل عمران [104:فل ن ال ْ ُ
ن عَ ِ
ف وَي َن ْهَوْ َ معُْرو ِ ن ِبال ْ َ
مُرو َوَي َأ ُ
يجوز إقرارهم ،ويجب على المسلمين أن يحذروا من سؤالهم.
والمنجم هو الذي ينظر في النجوم ويستدل باجتماعها
وافتراقها وبما يحدث عند طلوعها ويستدل بذلك على ما يحدث
في الرض؛ فمنهم من يفعل ذلك دجل ،ومنهم من يعتقد أن
للنجوم تأثيرا فيما يحدث في الرض من خير وشر ،وما يحصل
للفراد من أحوال ،فيضلون الناس ويوهمونهم ،بما عندهم من
ن من يولد في النجم الفلني يحصل له قواعد ومصطلحات :أ ّ
كذا ،من السْعد أوالنحس!
وهذا تخرص وكذب؛ فالنجوم جعلها الله لثلثة أشياء ،كما
قال قتادة ـ رحمه الله ـ» :خلق هذه النجوم لثلث :جعلها زينة
للسماء ،ورجوما للشياطين ،وعلمات يهتدى بها؛ فمن تأول فيها
غير ذلك أخطأ ،وأضاع نصيبه ،وتكلف ما ل علم له به«].رواه
قا بصيغة الجزم ،والطبري في تفسيره معل ً البخاري ُ 4/107
[14/193
والتنجيم ضرب من السحر ،كما في حديث ابن عباس عن
شْعبة من السحر ما من النجوم ِ اقتبس ُ عل ًس ِ النبي » :من اقتب َ
254
زاد َ ما زاد«] .رواه أحمد ،1/227وأبو داود ) ،(3905وابن ماجه
) ،(3726وصححه النووي في رياض الصالحين )،(1671
والعراقي في المغني [4/181
وأما الكاهن فهو الذي تخبره الشياطين بالخبار ،سواًء من
أخبار الرض التي يطلعون عليها ،أو مما يسترقون من السمع،
ها جعَل َْنا َح وَ َ صاِبي َ م َماَء الد ّن َْيا ب ِ َ س َ قال الله تعالى )) :وَل َ َ
قد ْ َزي ّّنا ال ّ
جعَل َْنا ِفي قد ْ َ ن ((]الملك [5:وقال تعالى )) :وَل َ َ طي ِشَيا ِ ما ِلل ّ جو ً ُر ُ
نطا ٍ شي ْ َ ل َ ن كُ ّ م ْها ِ فظ َْنا َ ح ِ
ن * وَ َ ري َ
ها ِللّناظ ِ ِ جا وََزي ّّنا َ ماِء ب ُُرو ًس َال ّ
َ
ن ((]الحجر-16: مِبي ٌب ُ شَها ٌ ه ِ معَ فَأت ْب َعَ ُ س ْ ست ََرقَ ال ّ نا ْ م ِجيم ٍ * إ ِّل َ َر ِ
.[18
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي » : إذا
ضَعاًنا خ ْ قضى الله المر في السماء ضربت الملئكة بأجنحتها ُ
لقوله ،كأنه سلسلة على صفوان ،فإذا }فزع عن قلوبهم قالوا
ماذا قال ربكم قالوا{ للذي قال}:الحق وهو العلي الكبير{
فيسمعها مسترق السمع ،ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض
دد بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة، ـ ووصف سفيان بكفه فحرفها وب ّ
فيلقيها إلى من تحته ،ثم يلقيها الخر إلى من تحته ،حتى يلقيها
ب قبل أن على لسان الساحر أو الكاهن ،فربما أدركه الشها ُ
يلقيها ،وربما ألقاها قبل أن يدركه ،فيكذب معها مائة كذبة،
صد ّقُ بتلك فيقال :أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا :كذا وكذا ،فَي ُ َ
مَعت من السماء«].رواه البخاري )[(4800 س ِالكلمة التي ُ
والمقصود :أن مما يجب على المسلمين الحذر من تصديق
هؤلء ومن إقرارهم على ما يدعونه؛ بل يجب النكار عليهم،
ومنعهم وكف شرهم ،ومنع ذهاب الناس إليهم ،وقد كثروا في
هذا العصر ،لكنهم إنما يكثرون في المواضع التي يغلب فيها
الجهل وضعف الدين ،فإذا غلب الجهل على الناس وضعف دينهم
كثرت الشرور ،وراج الباطل على الناس كما هو الواقع.
أما إذا ظهر العلم الشرعي وقوي سلطان الحق؛ اختفت
هذه الشرور؛ لن العلم يكشفها ويفضحها ،وسلطان الحق
يقمعها.
وقوله) :ول من يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع
المة(.
أي :ونحن أهل السنة ل نصدق من يدعي شيئا يخالف الكتاب
والسنة وإجماع المة؛ بل كل من أدعى من يخالف كتاب الله
تعالى وسنة رسوله يجب الرد والنكار عليه ،وهذا يتناول ما
يدعيه المتصوفة من الحوال والقدرة والكشوف والدعاوى
255
العريضة ،كدعوى بعضهم أنه يسعه التدين بغير هدي رسول الله
!
واليمان بكتاب الله وسنة رسوله يستلزم رد كلما خالف
ذلك ،فلهذا قال الطحاوي) :ول نصدق كاهنا ول عرافا ،ول من
يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع المة(.
256
وذكر شيخ السلم ابن تيمّية» :أن الختلف الواقع بين
الناس نوعان :اختلف تنوع ،و اختلف تضاد؛ فاختلف التنوع في
الحقيقة ليس من الختلف ،ولهذا اسمه تنوع.
ون من بغي بعضهم ولكن المختلفين اختلف تنوع إنما ُيؤت َ ْ
قّر
على بعض ،والواجب في المختلفين اختلف التنوع ،أن ي ُ ِ
بعضهم بعضا؛ كالختلف في القراءات ،وأنواع الذان،
والستفتاحات والتشهدات ،وما أشبه ذلك؛ لنهم مصيبون جميعا.
وأما اختلف التضاد ،فقد يكون الصواب في أحد الجانبين،
وقد يكونون جميعا على الباطل ،كاختلف ملل الكفر ،وأهل
البدع ،فكلهم مخطئ ،كما قال سبحانه﴿ :وإن الذين اختلفوا في
الكتاب لفي شقاق بعيد﴾ ،فالمختلفون اختلف تضاد قد يكونون
مذمومين كلهم ،كاختلف أهل الباطل في باطلهم ،وقد يكون أحد
المختلفين محمودا والخر مذموما ،كالختلف بين المخطئ
والمصيب ،كما قال سبحانه وتعالى﴿ :ولو شاء الله ما اقتتل الذين
من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ،ولكن اختلفوا فمنهم من
آمن ،ومنهم من كفر﴾ ،فالختلف بين المؤمنين والكفار اختلف
تضاد ،والحق والصواب في جانب المؤمنين.
وأما اختلف التضاد الذي يكون بين علمــاء المــة؛ فــالحق أن
المصيب من المجتهدين واحد ،لكن المخطئ مأجور على اجتهاده
كمــا فــي الحــديث المشــهور عــن النــبي » :إذا حكــم الحــاكم
فاجتهد ،ثم أصاب ،فله أجران ،وإذا حكم فاجتهــد ،ثــم أخطــأ فلــه
أجــر « ]رواه البخــاري ) ،(7352ومســلم ) (1716مــن حــديث
عمرو بن العاص ،[فكلهم محمود؛ المصيب منهــم والمخطــئ؛
ن
لنهم مجتهدون ،طالبون للحق ،محمودون على اجتهــادهم ،ولكـ ّ
الله تعالى يوفق من شاء للصواب ،كما ذكر الله ســبحانه وتعــالى
عــن النــبيين داود وســليمان ـــ عليهمــا الســلم ـــ فقــال﴿ :وداود
وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيــه غنــم القــوم وكنــا
لحكمهـم شـاهدين ،ففهمناهـا ســليمان ،وكل ً آتينــا حكمـا ً وعلمـا ً﴾،
فشــهد لهمــا جميعــا ،بــالحكم والعلــم«] .ملخــص مــن كلم شــيخ
السلم في اقتضاء الصراط المستقيم [155-1/149
257
حقيقة دين السلم :عبادة الله وحده ل شريك له ،وطاعته
سبحانه وتعالى ،وهذه الحقيقة يدين بها أهل السماوات من
ملئكة الله ،وهي :دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم ،فدين
الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم هو السلم ،يدل لذلك قوله
ي ،المعتبر تعالى﴿ :إن الدين عند الله السلم﴾أي :الدين المرض ّ
في حكمه سبحانه وتعالى هو السلم ،ويوضح ذلك قوله تعالى﴿ :
ومن يبتغ غير السلم دينا ً فلن يقبل منه﴾ ،وهذه ليست خاصة بما
جاء به محمد ؛ بل هذا عام في الولين والخرين؛ من ابتغى
غير دين السلم فلن يقبل منه.
وقال تعالى﴿ :يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا
إني بما تعملون عليــم * وإن هـذه أمتكــم أمـة واحـدة وأنـا ربكـم
فاتقون﴾ .وقوله » :أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الــدنيا
والخـرة ،والنبيـاء إخـوة ل ِعَّلت ،أمهـاتهم شـتى ،ودينهـم واحـد«.
]رواه البخاري ) ،(3443ومسلم ) (2365من حديث أبــي هريــرة
[
فنوح عليه السلم جاء بالسلم؛ لنه جاء يدعو إلى عبادة
الله وحده ل شريك له ،وذكر الله عنه أنه قال لقومه﴿ :أل تعبدوا
إل الله﴾]هود﴿ ،[26:أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون﴾]نوح﴿ ،[3:
وأمرت أن أكون من المسلمين﴾ ]يونس ،[72:وهكذا من جاء
بعده من الرسل ،كإبراهيم ويعقوب قال الله تعالى عن
إبراهيم﴿ :إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين *
ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم
الدين فل تموتن إل وأنتم مسلمون﴾ ،ويوسف عليه السلم قال﴿ :
توفني مسلما﴾ ،وموسى عليه السلم قال ﴿ :يا قوم إن كنتم
آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين﴾ ،والسحرة لما آمنوا ﴿
قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين﴾ ،وهكذا الحواريون
أتباع المسيح ﴿قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون﴾.
فالسلم دين الله ،لكن يجب أن يعلم أنه بعد أن بعث الله
محمدا صار السلم هو ما جاء به ،وكل من لم يؤمن بشريعة
محمد ويلتزم بمتابعته؛ فليس على السلم مهما تدين ،حتى
ولو لم يشرك.
فاليهود ،والنصارى وإن انتسبوا إلى النبياء ،وإلى التوراة،
والنجيل ،فليسو بمسلمين؛ لنهم جمعوا بين أنواع من الكفر،
والشرك؛ وانضاف إلى ذلك كفرهم برسالة محمد ؛ فالنصارى
يقوم دينهم الباطل على الشرك ،قال تعالى﴿ :لقد كفر الذين
قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل
اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه
258
الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار * لقد كفر الذين قالوا
إن الله ثالث ثلثة﴾.
واليهود كفروا بما ارتكبوا من العظائم؛ كتحريف كتب الله،
والتلعب بدينه ،وقتل النبياء ،وقد ذكر الله بعض قبائحهم ،قال
تعالى﴿ :فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم النبياء
بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فل
يؤمنون إل قليل * وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما﴾.
اليات.
ولهذا جاء في الصحيح أن النبي قال » :والذي نفس
محمد بيده ل يسمع بي أحد من هذه المة يهودي ول نصراني ثم
يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إل كان من أصحاب النار «
]تقدم تخريجه في ص[.
ومن يقول :إن اليهود والنصارى على دين صحيح؛ فإنه كافر؛
لن ذلك يناقض ما وصفهم الله به ،وأخبر عنهم ،وهذه قضية
ينبغي التنبه لها؛ لنه قد اشتهر في هذا العصر الدعوة إلى وحدة
الديان ،واعتقاد أن اليهود والنصارى والمسلمين كلهم على دين
صحيح!
ودين السلم توسط واعتدال ،بين الغلو والتقصير .والغلو:
مجاوزة الحد .والتقصير :هو نقص فيما يجب القيام به .فهذان
مدخلن للشيطان على النسان ،فالشيطان؛ إما أن يحمل
النسان على الغلو في الدين؛ فيقع في التجاوز؛ فيبتدع في الدين
ما لم يأذن به الله.
أو يحمله على التقصير بترك واجب ،أو فعل محرم.
والواجب الوقوف عند حدود الله ،قال تعالى﴿ :تلك حدود الله
فل تعتدوها﴾أي :بالتجاوز وهو الغلو.
وقال سبحانه﴿ :تلك حدود الله فل تقربوها﴾ وهي :المحرمات؛
فقربانها تقصير ،وقد يجتمع في الشخص الغلو والفراط في
جانب والتفريط والتقصير في جانب آخر؛ فيجمع بين الغلو
والتقصير.
َ
بل ال ْك َِتا ِ
وهذا كثير في الفراد والطوائف ،قال تعالىَ} :يا أهْ َ
ق{ ] النساء،[171: قوُلوا ْ ع ََلى الل ّهِ إ ِل ّ ال ْ َ
ح ّ ل َ ت َغُْلوا ْ ِفي ِدين ِك ُ ْ
م وَل َ ت َ ُ
وقال سبحانه وتعالى﴿:يا أيها الذين آمنوا ل تحرموا طيبات ما أحل
الله لكم ﴾ فتحريم الحلل من البتداع والتنطع والغلو في الدين﴿ ،
ول تعتدوا إن الله ل يحب المعتدين﴾ وهذا تقصير.
وقد أنكر النبي على الذين أرادوا أن يتبتلوا ،وأن ينقطعوا
للعبادة حين »:سألوا أزواج النبي عن عمله في السر ،فقال
بعضهم :ل أتزوج النساء ،وقال بعضهم :ل آكل اللحم ،وقال
259
بعضهم :ل أنام على فراش! فحمد الله وأثنى عليه ،فقال :ما بال
أقوام قالوا :كذا وكذا ،لكني أصلي وأنام ،وأصوم وأفطر ،وأتزوج
النساء ،فمن رغب عن سنتي فليس مني«] .رواه البخاري )
،(745ومسلم ) (1401ـ واللفظ له ـ من أنس [
والغلو يجري في مسائل الدين كلها :العتقادية والعملية.
وقوله) :بين الغلو والتقصير ،وبين التشبيه والتعطيل ،وبين
ف هذه المتقابلت من الجبر والقدر ،وبين المن والياس( عط ُ
قبيل عطف الخاص على العام؛ فإن التشبيه والتعطيل يندرجان
في الغلو والتقصير؛ فالتشبيه غلو في إثبات الصفات ،فالمشبهة
يقول أحدهم :لله سمع كسمعي ،وبصر كبصري ،ويد كيدي!
فيشبه الله بخلقه ،ويشبه صفاته بصفات خلقه.
ويقابل التشبيه التعطيل ،والتعطيل نفي الصفات ،ونفيها
تقصير فيما يجب إثباته لله تعالى؛ فإنه تعالى أوجب على عباده
اليمان بما أخبر به عن نفسه من أسمائه وصفاته ،قال تعالى:
) فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير(.
والتشبيه والتعطيل كلهما يتضمن الغلو والتقصير؛ فالتشبيه
غلو في الثبات وتقصير في التنزيه ،والتعطيل غلو في التنزيه،
وتقصير في الثبات ،فالمعطلة غلوا في التنزيه حتى نفوا صفات
الرب تعالى زاعمين أنهم قالوا ذلك تنزيها لله عن مشابهة
المخلوقات ،فجمعوا بين التعطيل والتشبيه وبين الفراط
والتفريط.
وأهل السنة وسط في باب أسماء الله وصفاته بين أهل
التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة ،ومذهبهم هو دين
السلم في هذا الباب.
وقوله) :وبين الجبر والقدر(
الجبر هو مذهب الجهمية ،ومن وافقهم ،وحقيقته :أن العبد ـ
عندهم ـ مجبور على أفعاله ،وأنه يتصرف بغير مشيئة ول اختيار
ول قدرة ؛ كحركة الريش في مهب الريح ،وحركة المرتعش،
وحركة الشجار.
ويقابله القول بالقدر ،وهو مذهب المعتزلة القدرية،
ويسمون :القدرية ،كما أن الجبرية يقال لهم :قدرية أيضا ،لكن
هذا السم أشهر في القدرية النفاة الذين ينفون عموم مشيئة
الله ،وعموم خلقه؛ فيخرجون أفعال العباد عن أن تكون مخلوقة
لله وواقعة بمشيئته وقدرته.
والجبرية يسلبون العبد فاعليته وقدرته ومشيئته ،والقدرية
النفاة يقولون :إن العبد هو الذي يخلق فعله بمحض قدرته
ومشيئته ،ول أثر ول تأثير لمشيئة الله في أفعالهم.
260
فالجبرية غلو في إثبات القدر وإثبات فاعلية الله ،وقصروا
في إثبات فعل العبد وفاعليته واختياره حيث سلبوا العبد قدرته
ومشيئته واختياره وفاعليته.
والقدرية غلو في إثبات فاعلية العبد حتى قالوا :إنه هو الذي
يخلق فعله بمحض مشيئته وقدرته ،وقصروا في إثبات ربوبيته
تعالى حيث نفوا تعلق مشيئة الله وقدرته وخلقه بأفعال العباد،
فأخرجوا كل أفعال العباد من أقوال وحركات سواء كانت
محمودة أو مذمومة عن مشيئة الله وخلقه وقدرته وملكه!
وقد تقدم ذكر بعض شبهات هذين المذهبين ومناقشتهما
والرد عليهما ،وهذه الكلمات جاءت أخيرا في كلم الطحاوي
كالتلخيص لبعض ما تقدم].في مواضع ص[
والقول بالجبر مغالطة وإنكار ،وهنا بهذه المناسبة يسأل
بعض الناس ويقول :هل النسان مخير أو مسير؟ فنقول :ل يصح
إطلق أحد الكلمتين؛ لن كل منهما يحتمل حقا وباطل؛ فإن أردت
أن النسان مخير ،أي :له اختيار ومشيئة؛ فيقوم ويقعد و يتكلم
بمشيئة ،فهذا حق.
وإن أردت أنه مخير ،أي :أن له مشيئة وقدرة ل ترتبط
بمشيئة الله ،فهذا باطل ،قال تعالى) :وما تشاءون إل أن يشاء
الله( أو أراد أن له الحرية المطلقة في أفعاله؛ فهو مخير بين
الفعل والترك ،كما يفهمه بعض الغالطين من قوله تعالى) :وقل
الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( فإن هذا
ليس تخييرا؛ بل هذا أسلوب تهديد ووعيد شديد ،ولذا قال تعالى
بعدها) :إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها(.
وهكذا قول القائل هل العبد مسير؟ نقول :إذا كنت تريد أنه
مسير ،أي :أنه ل اختيار له ول مشيئة فهذا باطل ،وهذا هو الجبر.
وإن أردت أنه مسير ،أي :أن أفعاله تسير على وفق قدر الله
ومشيئته ،وأنه ميسر لما خلق له ،كما جاء في الحديث عن النبي
» :اعملوا فكل ميسر«] .تقدم تخريجه في ص[ فهذا حق.
والخلصة :أن الكلمتين لم تردا في النصوص ول يصح
إطلقهما نفيا ول إثباتا لما فيهما من احتمال الحق والباطل.
وقوله) :وبين المن والياس(.
دين السلم وسط في باب الوعد والوعيد ،بين المن
والياس ،والله قد وصف عباده وأولياءه بالخوف والرجاء ،قال
عون ََنا َرغ ًَبا وََرهًَبا ت وَي َد ْ ُ ن ِفي ال ْ َ
خي َْرا ِ عو َ سارِ ُ م َ
كاُنوا ي ُ َ تعالى} :إ ِن ّهُ ْ
ُ
ن
ذي َ ك ال ّ ِ
ن{ ]النبياء [90:وقال تعالى}:أول َئ ِ َ شِعي َ خا ِ كاُنوا ل ََنا َ وَ َ
ة أ َيه َ
ه
مت َ ُ
ح َن َر ْ جو َ ب وَي َْر ُ م أقَْر ُ سيل َ َ ّ ُ ْم ال ْوَ ِن إ َِلى َرب ّهِ ُ ن ي َب ْت َُغو َ
عو َ
ي َد ْ ُ
ذوًرا{ ]السراء ،[57:وقال ح ُم ْ ن َ ك َ
كا َ ب َرب ّ َ ذا َن عَ َ ه إِ ّ ن عَ َ
ذاب َ ُ خاُفو َوَي َ َ
261
خوًْفا وَط َ َ
مًعا م َ ن َرب ّهُ ْ عو َ جِع ي َد ْ ُ ضا ِ م َ ن ال ْ َ م عَ ِ جُنوب ُهُ ْ جاَفى ُ تعالى}:ت َت َ َ
ن{]السجدة [16:فالوسطية ما دلت عليه قو َ م ُينفِ ُ ما َرَزقَْناهُ ْ م ّ وَ ِ
هذه اليات ،فل أمن ول إياس ،والمن واليأس من كبائر الذنوب،
ن{ ضآّلو َ مةِ َرب ّهِ إ ِل ّ ال ّ ح َ من ّر ْ ط ِ قن َ ُمن ي َ ْ قال سبحانه وتعالى} :وَ َ
ح الل ّهِ إ ِل ّ من ّرو َ ه ل َ ي َي ْأ
ِ ْ س ِ ُ ]الحجر [56:وقال سبحانه وتعالى}:إ ِن ّ ُ
مُنوا ْ َ َ م ال ْ َ ال ْ َ
ن {]يوسف [ 87:وقال سبحانه وتعالى} :أفَأ ِ كافُِرو َ قو ْ ُ
ْ
ن{ ]العراف[99: سُرو َ خا ِ م ال ْ َ مك َْر الل ّهِ إ ِل ّ ال ْ َ
قو ْ ُ ن َ م ُ مك َْر الل ّهِ فَل َ ي َأ َ َ
فالمن هو سبيل المرجئة الغلة ،والياس سبيل الوعيدية
طون مرتكب الكبيرة من دخول الجنة فيقولون :بوجوب قن ّ ُ الذين ي ُ َ
إنفاذ الوعيد ،وأنه ل يجوز أن يغفر الله لهل الكبائر؛ بل ل بد أن
يعذبهم ،وإذا دخلوا النار فلن يخرجوا منها ،وهذا يتضمن تيئيس
الموحدين من أهل الكبائر.
فدين الله )بين الغلو والتقصير ،وبين التشبيه والتعطيل،
وبين الجبر والقدر ،وبين المن والياس( وهو صراط مستقيم ل
اعوجاج فيه ،أما سائر الطرق والسبل؛ فإنها منحرفة إلى
ما َفات ّب ُِعوه ُ وَل َ ن هَ َ َ
قي ً ست َ ِ م ْ طي ُ صَرا ِ ذا ِ الطرف ،قال تعالى} :وَأ ّ
كم ب ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ
م صا ُ م وَ ّ سِبيل ِهِ ذ َل ِك ُ ْ عن َ م َ فّرقَ ب ِك ُ ْ ل فَت َ َ ت َت ّب ُِعوا ْ ال ّ
سب ُ َ
ن{ ]النعام.[153: قو َ ت َت ّ ُ
ومذهب أهل السنة والجماعة وسط في كل مسائل الدين .
262
أي :نقر به بألسنتنا ،ونصدقه بأفعالنا ،ونعتقده بقلوبنا ،وإنما
ينفع اليمان والدين إذا تطابق الظاهر والباطن ،فدين السلم
يتعلق بالباطن :اعتقادا وعمل؛ فالعتقاد :التصديق واليقين.
والعمل :الخوف والرجاء والتوكل والحب والبغض.
ح فعل ن إقراًرا ،وبالجوار ِ ويتعلق بالجوارح؛ باللسا ِ
دق ما يقوله العبد بلسانه، ص ّ
للمأمورات ،وتركا للمنهيات ،مما ي ُ َ
ولهذا قال) :هذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا(.
وقوله) :ونحن براء إلى الله تعالى من كل من خالف الذي
ذكرناه وبيناه(
أي :ونحن نبرأ إلى الله ونعادي وننابذ ونباعد كل من خالف
ما تقدم ِذكره وتقريره؛ لنه مستمد من كتاب الله وسنة رسوله
،ويعني :البراءة من طوائف المبتدعين الذين خالفوا الكتاب
والسنة ،وقد أوضح ذلك ببيان البراءة من المشبهة ،والمعتزلة،
والجهمية ،والجبرية ،والقدرية ،فهؤلء هم الذين يعنيهم بقوله:
)ونحن براء إلى الله تعالى من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه(
لنها مذاهب مبتدعة رديئة مفتراة ،ومخالفة لما جاء في كتاب
الله سبحانه ،وسنة رسوله .
وقوله) :ونسأل الله أن يثبتنا على اليمان ،ويختم لنا به(
وهذا ختم للكلم بالدعاء بالثبات على السلم ،وهو أمر مهم،
فنسأل الله أن يثبتنا على السلم واليمان والعتقاد الحق ،والعبد
فقير إلى تثبيت ربه وهدايته وعصمته حتى يلقاه ،قال تعالىَ}:يا
ن إ ِل ّ وََأنُتم قات ِهِ وَل َ ت َ ُ
موت ُ ّ حقّ ت ُ َ قوا ْ الل ّ َ
ه َ مُنوا ْ ات ّ ُ نآ َ ذي َأي َّها ال ّ ِ
َ
ن{ ] آل عمران [102:ومن دعاء النبياء والصالحين: مو َ سل ِ ُ
م ْ ّ
ن {]العراف: مي َ سل ِ ِ
م ْما{ ] يوسف} [101:وَت َوَفَّنا ُ سل ِ ً
م ْ } ت َوَفِّني ُ
[126ومن دعائه » يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك«.
]تقدم تخريجه في ص[ فالدعاء بالثبات على السلم حتى
الممات من أنفع وأهم وأحوج ما يكون للعبد.
وقوله) :ويعصمنا من الهواء المختلفة ،والراء المتفرقة،
والمذاهب الردية(
الستقامة على الصراط إنما تكون بعصمة الله وهدايته ،ولذا
طصَرا َ م* ِ قي َمست َ ِ ط ال ُ صَرا َ أمرنا أن نقول في كل صلة} :اهد َِنا ال ّ
ال ّذي َ
ن{]الفاتحة: ضاّلي َ م وَل َ ال ّ ب ع ََليهِ ْ ضو ِ مغ ُ غيرِ ال َ م َ ت ع ََليهِ ْ ن أنَعم َ ِ َ
] [7-6عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهما أن رسول الله
قال »:ل صلة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب « رواه البخاري )
(756ومسلم ) [.(394فالعبد فقير إلى أن يعصمه ربه من هذه
الضللت ،يقول ابن القيم ـ لما ذكر مذاهب المبتدعين ـ:
263
ن أصاب ِِع
ب َبي َ * َفال َ
قل ُ مثل َُهم
ت أيضا ً ِ ك ُ
كن َ َلو َ
شاَء َرب ّ َ
ن ]الكافية الشافية ص [31 م ِالّرح َ
فمن عافاه الله مما عليه أهل الضلل؛ كالمشركين
والرافضة والجهمية والصوفية والقدرية؛ فليعلم أن ذلك بتوفيق
من الله ل بحوله ول بقوته ،وعلى المسلم أن يلهج دائما بسؤال
العصمة والوقاية من طرائق المضلين من أصحاب الهواء
والمناهج المنحرفة عن هدى الله؛ فإن هذه المذاهب الردية
متناقضة مختلفة ومضطربة وأهلها متبعون لهوائهم ومتفرقون،
كل حزب بما لديهم فرحون .
وقوله) :مثل المشبهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية
وغيرهم(
هذه أسماء أبرز الطوائف المنحرفة في مسائل العتقاد؛
فالجهمية وإمامهم جهم بن صفوان ،قد جمعوا بين ثلث بدع
كبرى :التعطيل في باب السماء الصفات ،والجبر في باب أفعال
العباد والقدر ،والرجاء في باب اليمان] .مقالت السلميين ص
279والملل والنحل [1/61
والمعتزلة على النقيض من الجهمية في باب القدر ،وباب
اليمان ،وهم قريبون منهم في باب السماء والصفات؛ فالمعتزلة
يثبتون السماء وينفون ما تدل عليه من الصفات ،ولهم أصول
خمسة:
-1التوحيد ،ويقصدون به :نفي الصفات فعندهم إثبات
الصفات تشبيه وتجسيم وشرك ،ونفي الصفات هو التوحيد.
-2العدل ،ويدخلون فيه نفي القدر؛ لن عندهم أن الله
تعالى لو شاء أفعال العباد ،وكانت ذنوبهم بمشيئته كان تعذيبه
لهم ظلما! فلهذا لم يجدوا مخرجا إل بنفي تعلق مشيئة الله بها،
فمذهبهم يتضمن أنه يكون في ملكه تعالى ما ل يشاء ،فجميع ما
يجري من حركات العباد وأفعالهم وتصرفاتهم وكلمهم كل ذلك
بغير مشيئته ،فعندهم أن الله تعالى ل يقدر على أن يجعل
المؤمن كافرا أو الكافر مؤمنا ،أو المطيع عاصيا أو العاصي
مؤمنا؛ بل ول يقدر أن يجعل القائم قاعدا والقاعد قائما،
والمتكلم ساكتا والساكت متكلما؛ لن هذه الفعال ل تتعلق بها
مشيئته ول قدرته ول خلقه.
-3المنزلة بين المنزلتين ،وهي :أن مرتكب الكبيرة في
الدنيا في منزلة بين المنزلتين ،وهي منزلة الفاسق ،فليس
بمؤمن ول كافر ،لكنه في الخرة مع الكافرين.
264
-4إنفاذ الوعيد ،ويعنون به :أنه يجب على الله إنفاذ وتحقيق
ما توعد به العاصين ،فل يجوز عندهم أن يعفو عن من مات
مصرا على شيء من الذنوب.
-5المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ويدخلون فيه الخروج
على الئمة الظلمة بحجة إنكار المنكر] .مقالت السلميين ص
،278-155والتنبيه والرد ص ،49ومجموع الفتاوى [13/386
وقد جاءت الشريعة بالنهي عن ذلك لما يفضي إليه من
الفساد العريض ،والمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم على
قاعدة» :ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلهما ،وتفويت أدنى
المصلحتين لتحصيل أعلهما«
فإنكار المنكر إذا كان يفضي إلى زيادة المنكر ،أو إلى منكر
أعظم كان النكار منكرا.
وقوله) :من الذين خالفوا الجماعة ،وحالفوا الضللة ،ونحن
منهم براء ،وهم عندنا ضلل وأردياء ،وبالله العصمة والتوفيق(
هذه هي الحقيقة ،فهؤلء قد خالفوا جماعة المسلمين ،التي
هي الفرقة الناجية) ،وحالفوا الضللة( أي :لزموا الضللة ،واتبعوا
أهواءهم ،فهم أصحاب الهواء؛ لنهم حكموا عقولهم وقدموها
على المنقول.
فأهل السنة منهم ومن بدعهم يتبرؤن ،ويرون أنهم قد ضلوا
وحادوا عن الصراط المستقيم بهذه المذاهب الباطلة.
نســأله ســبحانه وتعــالى أن يعافينــا مــن المحــدثات واتبــاع
الهواء ،ونسـأله تعالى أن يعصمنا منها ،وأن يهــدينا إلــى صــراطه
المستقيم ،وقد أوجب الله على عباده هذا الدعاء فــي كــل ركعــة
ت ط ال ّـذي َ
صـَرا َ صـَرا َ
ن أنَعمـ َ
ِ َ م* ِقي َمسـت َ ِط ال ُ من الصــلة }اهـد َِنا ال ّ
ن{]الفاتحــة] [7-6:تقــدم ضــاّلي َ م وَل َ ال ّب ع ََليهِ ْ
ضو ِ مغ ُ ع ََليهِ ْ
م َ
غيرِ ال َ
في ص[ وإن كان المراد بالمغضوب عليهم والضالين في الصــل
اليهود والنصارى ،فهذه الفرق منها مــا يكــون مشــابها للمغضــوب
عليهم ،ومنها من هو مشــابه للضــالين ،كمــا قــال بعــض الســلف:
»من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ،ومن فسد من عبادنا
ففيه شبه من النصارى« ]نسبه شيخ السلم ابن تيمية وابن كثير
إلى سفيان بن عيينة ـ رحمه اللــه ـــ .مجمــوع الفتــاوى ،16/567
وتفسير ابن كثير [4/138هذا ،وصلى الله وسلم وبارك على نبينا
محمد ،والحمد لله رب العالمين.
265
266