You are on page 1of 49

‫الفيلسوف‬

‫الرباني‬

‫تأليف‬
‫فض يلة الشي خ ‪ :‬س لما ن ب ن ف هد ا لعو دة‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪2‬‬
‫الرباني‬

‫المقـدمة‬
‫‪3‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫الحمععد ل الذي خلق السععموات والرض‪ ،‬وجعععل‬


‫الظلمات والنور ثعم الذيعن كفروا بربهعم يعدلون‪ ،‬والحمعد‬
‫ل الذي ل يؤدى شكععر نعمععة مععن نعمععه إل بنعمععة منععه‬
‫توجعب على مؤدي ماضعي نعمعه بأداءهعا نعمعة حادثعة‬
‫يجعب عليعه شكره بهعا‪ ،‬ول يبلغ الواصعفون كنعه عظمتعه‬
‫الذي هعو كمعا وصعف نفسعه وفوق معا يصعفه بعه خلقعه‪،‬‬
‫أحمده حمدًا كمعععا ينبغعععي لكرم وجهعععه وععععز جلله‪،‬‬
‫وأسعععتعينه اسعععتعانة معععن ل حول له ول قوة إل بعععه‪،‬‬
‫واسعععتهديه بهداه الذي ل يضعععل معععن أنععععم بعععه عليعععه‪،‬‬
‫واستغفره لما أزلفت وأخرت استغفار من يقر بعبوديته‬
‫ويعلم أنه ل يغفر ذنبه ول ينجيه منه إل هو‪ ،‬وأشهد أن‬
‫ل إله إل ال وحده ل شريعععععععععععك له و أن محمداً عبده‬
‫ورسوله‪.‬‬
‫بهذه الكلمات النيرة اسععععععتفتح المام الشافعععععععي‬
‫المطلبي كتابه الخالد العظيم‪ ،‬كتاب الرسالة في أصعول‬
‫الفقعععه‪ ،‬صعععنعه فعععي مكعععة‪ ،‬وذاع فعععي بغداد‪ ،‬وأعيدت‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪4‬‬
‫الرباني‬
‫صعياغته بمصعر‪ ،‬قال عبعد الرحمعن بعن مهدي‪( :‬وال معا‬
‫صليت صلة إل وأنا أدعو للشافعي فيها)‪.‬‬
‫فموضوعنععا عععن الفيلسععوف الربانععي محمععد بععن‬
‫إدريس الشافعي‪.‬‬
‫ومعععن الطريعععف أن هذا العنوان ليعععس معععن بنات‬
‫أفكاري‪ ،‬إنمعا هعو معن ثناء المام أحمعد بعن حنبعل على‬
‫الشافعععي‪ ،‬فقععد قال رحمععه ال‪ :‬الشافعععي فيلسععوف فععي‬
‫أربعة أشياء ‪-:‬‬
‫* فيلسوف في اللغة ‪.‬‬
‫* فيلسوف في المعاني ‪.‬‬
‫* فيلسوف في الفقه ‪.‬‬
‫* فيلسوف في اختلف الناس ‪.‬‬
‫رواه البيهقي وابن عساكر في مناقب الشافعي ‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫ومععن الظاهععر أن المام لم يكععن يقصععد مجرد علم‬


‫الشافععي بهذه المسعائل بعل معا وراء ذلك معن عمعق اللغعة‬
‫وإحاطة بالفقه‪.‬‬
‫ول غرابة أن يكون الشافعي بذلك فيلسوفاً‪.‬‬
‫أمععا كونععه ربانياً‪ ،‬فقععد كان يقسععم الليععل أثلثًا ثلث‬
‫لطلب العلم‪ ،‬وثلث للصلة والتهجد‪ ،‬وثلث للنوم‪.‬‬
‫وأكثعر معن هذا فإن المام أحمعد قعد رشعح الشافععي‬
‫لمنصعب المجدديعة الذي وععد بعه النعبي صعلى ال عليعه‬
‫وسعلم فعي الحديعث الصعحيح‪" :‬إن ال يبععث لهذه المعة‬
‫على رأس كعل مائة سعنة معن يجدد دينهعا" أخرجعه أبعو‬
‫داود (‪ )4291‬معن حديعث أبعي هريرة – رضعي ال عنعه‬
‫‪ -‬فقال المام أحمعد‪ :‬نظرنعا فعي رأس المئة الولى فإذا‬
‫هو عمر بن عبد العزيز ورأس الثانية الشافعي ‪.‬‬
‫منعععذ سعععنين طويلة عقدت مجلسعععًا ععععن إمام دار‬
‫الهجرة مالك بععن أنععس ‪ -‬رحمععه ال ‪ -‬ثععم عقدت مجلسعاً‬
‫آخعر فعي الحديعث ععن إمام أهعل السعنة أحمعد بعن حنبعل ‪-‬‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪6‬‬
‫الرباني‬
‫رحمه ال ‪ -‬وكان يدور في نفسي أن أعقد مجلسًا يدور‬
‫فعي الحديعث ععن الشافععي‪ ،‬وآخعر فعي الحديعث ععن أبعي‬
‫حنيفعة حتعى يكتمعل عقعد الئمعة الربععة المتبوعيعن‪ .‬فإن‬
‫هؤلء الئمعة عع الذيعن بقعي لهعم هذا الخلود والتميعز فعي‬
‫تاريععخ المععة ععع قمععم شامخععة حافلة بمواضععع التأسععي‬
‫والقدوة‪ ،‬ولذا فإن تدارس سعيرهم ذو أثعر وفائدة كعبيرة‪،‬‬
‫ومعن ثعم جاء الحديعث ععن الفيلسعوف الربانعي سعائلً ال‬
‫أن يغفر لنا ولهم ويرفع في درجات الجنان نزلهم "ربنا‬
‫اغفر لنا ولخواننا الذين سبقونا باليمان ول تجعل في‬
‫قلوبنا غلً للذين آمنوا ربنا إنك غفور رحيم"‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫السيرة الذاتية‬
‫الشافعي أول من كتب في سيرته الذاتية بعيداً عن‬
‫الفتخار والدعاء الكاذب‪ ،‬يقول‪ :‬أحععععععق الناس بالقدر‬
‫معععن عرف قدر نفسعععه‪ .‬فوجدت له كلمات جميلة ععععن‬
‫طفولته‪.‬‬
‫يقول الشافعي‪ :‬ولدت بعسقلن ‪ -‬بلدة بفلسطين في‬
‫قطاع غزة ‪ -‬ولما أتت عليّ سنة حملتني أمي إلى مكة‪.‬‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪8‬‬
‫الرباني‬
‫وقععد ولد الشافعععي فععي العام الذي مات فيععه أبععو‬
‫حنيفععة‪ ،‬بععل قال بعضهععم‪ :‬فععي اليوم الذي مات فيععه أبععو‬
‫حنيفة‪ .‬وقد ورد هذا بسند جيد‪ ،‬لكن قد يحمل اليوم على‬
‫مطلق اليوم ل على اليوم المحدد‪.‬‬
‫وقال رحمعه ال‪ :‬كنعت ألزم الرمعي حتعى تدربعت‬
‫عليعه‪ ،‬فكنعت أصعيب معن كعل عشرة أسعهم تسععة‪ ،‬وكنعت‬
‫يتيماً فععي حجععر أمععي ولم يكععن لهععا مععا تعطينععي للمعلم‪،‬‬
‫فرضعي المعلم منعي أن أقوم على الصعبيان فأخفعف عنعه‬
‫فععي غيابععه‪ ،‬وحفظععت القرآن وأنععا ابععن سععبع سععنين‪،‬‬
‫وحفظت موطأ مالك وأنا ابن عشر‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬أقمت في بطون العرب عشرين سنة آخذ‬
‫من أشعارها ولغاتها‪.‬‬
‫بععد ذلك اسعتدعي الشافععي إلى بغداد سنة ‪184‬هع‬
‫وكان ذلك بناء على وشايعة وصعلت إلى هارون الرشيعد‬
‫عنععه وعععن جماعععة مععن العلوييععن‪ ،‬فكان متهماً بالتآمععر‬
‫على الدولة العباسية‪ ،‬ضربت بين يديه تسع رقاب كان‬
‫‪9‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫آخرهعم شابًا معن أهعل المدينعة قال للرشيعد‪ :‬ل أعود إلى‬
‫ما كنت عليه‪ .‬ثم توسل إليه أن يتركه حتى يراسل أمه‬
‫فعععي المدينعععة ولكنعععه لم يسععععفه فقتله‪ ،‬ولمعععا جاء دور‬
‫الشافععي قال له‪ :‬يعا أميعر المؤمنيعن أنعا لسعت بطالبعي ول‬
‫علوي وإنمععععا أدخلت وسععععط هؤلء القوم بغيععععا وظلماً‬
‫وعدواناً‪ ،‬وإنمعا أنعا رجعل معن بنعي عبعد المطلب بعن عبعد‬
‫مناف وعلى حظ من العلم والفقه والقاضي يعرف ذلك‪.‬‬
‫وكان القاضي محمد بن الحسن الشيباني قاعدًا بين يدي‬
‫الرشيعد‪ ،‬فقال له‪ :‬يعا أميعر المؤمنيعن نععم أنعا أعرف ذلك‬
‫وله مععن العلم محععل كععبير‪ ،‬وليععس الذي رفععع إليععك مععن‬
‫شأنععه‪ .‬فقال الرشيععد‪ :‬خذه حتععى أبحععث فععي أمره‪ .‬فأخذه‬
‫القاضعي وكان هذا سعبب خلصعه كمعا قال‪ :‬لمعر أراده‬
‫ال ععز وجعل‪ .‬وكانعت هذه الحادثعة سعبباً لبقاء الشافععي‬
‫في بغداد لسنتين أو أكثر‪ ،‬وتتلمذ خللها على محمد بن‬
‫الحسن الشيباني‪ ،‬أما أبو يوسف فلم يلقه ولم يأخذ عنه‪،‬‬
‫فقعععد مات أبعععو يوسعععف قبعععل أن يقدم الشافععععي بغداد‪،‬‬
‫فالرواية أنه قابله وناظره رواية مكذوبة موضوعة‪.‬‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪10‬‬
‫الرباني‬
‫رجعع الشافععي إلى الحجاز وصعار بععد وفاة مالك‬
‫أشهعر المفتيعن فيعه نحوًا معن تسعع سعنوات‪ ،‬ثعم قدم بععد‬
‫ذلك إلى بغداد والتقعى بأحمعد بعن حنبعل هناك‪ ،‬وكان قعد‬
‫التقعى بعه وال أعلم قبعل ذلك بمكعة‪ ،‬وبععد سعنتين رحعل‬
‫إلى مصر حيث كان يحبه واليها ومكث بها حتى توفي‬
‫سنة ‪204‬هع عن ‪ 54‬سنة‪.‬‬
‫تخلل هذا العمعر القصعير رحلت عديدة إلى اليمعن‬
‫وقبائل العرب كلهععا‪ ،‬وكان حريصععًا على جمععع العلوم‬
‫الفقه والطب واللغة والفراسة‪.‬‬

‫عقــله ولسـانه‬
‫إذا كان المرء بأصعععغريه عقله ولسعععانه فلقعععد كان‬
‫الشافعععععي على أوج التمام فععععي ذلك‪ ،‬كان حكيماً عاقلً‬
‫‪11‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫بعيد الغور شهد له بالعقل كثيرون‪ ،‬حتى قال أبو عبيدة‪:‬‬


‫ما رأيت أحداً أعقل من الشافعي‪.‬‬
‫وكذا قال يونس بن عبد العلى‪ ،‬حتى إنه قال‪ :‬لو‬
‫جمعت له أمة لوسعهم عقله‪.‬‬
‫وقال المام أحمعد لبععض أصعحابه‪ :‬إن فاتعك عقعل‬
‫هذا الفتى أخشى أل تجد مثله‪.‬‬
‫وقال يونس الصدفي‪ :‬ما رأيت أعقل من الشافعي‪،‬‬
‫ناظرتعه يوماً فعي مسعألة واختلفعت مععه ثعم افترقنعا فلقينعي‬
‫معن الغعد وأخعذ بيدي ثعم قال‪ :‬يعا أبعا موسعى أل يسعتقيم أن‬
‫نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة‪.‬‬
‫قال الذهعععععبي تعليقاً على ذلك‪ :‬هذا يدل على كمال‬
‫عقل هذا المام وفقه نفسه‪ ،‬فما زال النظراء يختلفون‪.‬‬
‫وهذه إحدى المسععائل التععي اسععتوقفتني فععي سععيرة‬
‫الشافعععي‪ ،‬فإن قوله للرجععل‪ :‬أل يسععتقيم أن نكون إخواناً‬
‫ل على فقعه نفسعه وسععة‬
‫وإن لم نتفعق فعي مسعألة‪ .‬يدل فع ً‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪12‬‬
‫الرباني‬
‫عقله ونبله‪ ،‬فإنعه يدرك أن الناس ل يمكعن أن يتفقوا فعي‬
‫عقولهعععم ول فعععي مداركهعععم ول فعععي علمهعععم ول فعععي‬
‫شخصعياتهم فل يمكعن أن يتفقوا على كعل شيعء‪ ،‬وليعس‬
‫أمامهعم إل أحعد طريقيعن؛ إمعا أن يختلفوا اختلفعا بعيداً‪،‬‬
‫وإمعععا أن يضعوا لنفسعععهم قواععععد عامعععة يتفقون على‬
‫جميعها ويقبلون الخلف في جزيئاتها وفروعها‪.‬‬
‫متى يتأدب الصالحون بهذا الدب؟‬
‫ومتعى تتسعع صعدورهم لمعن يخالفونهعم‪ ،‬ويقدمون أصعل‬
‫الخوة اليمانية على طارئ الخلف الفرعي؟‬
‫وهل يمكن أن يتفق الناس؟‬
‫وهل يسع من رأى شيئاً غير ما ترى أن يكتم دينه الذي‬
‫يدين ال به من أجل خاطرك ؟‬
‫وهل يجوز له أن يعصي ال ورسوله ليطيعك ؟‬
‫وهل تريد منه ما ل تصنعه أنت لنفسك؟‬
‫‪13‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫فإنععك لو كنععت تعتقععد أمراً مععن المور لم يكععن لك‬


‫ديناً ول عقلً ول مروءة أن تجامععل فيمععا تقول‪ ،‬أو تراه‬
‫مععن أجععل هذا أو ذاك فكيععف تريععد لهععم أمرًا ل ترضاه‬
‫لنفسك؟‬
‫إن مععن عقععل الشافعععي رحمععه ال أن يؤصععل هذه‬
‫القاعدة في فقه الخلف بين المسلمين‪.‬‬
‫ومععن عقله أيضاً قوله‪ :‬نظرت إلى العقععل فوجدت‬
‫له حدًا ينتهي إليه‪ ،‬كما أن للبصر حدًا ينتهي إليه‪.‬‬
‫فهععو رحمععه ال يدرك أن العقععل الفطري المركععب‬
‫فععي النسععان هععو آلة للفهععم والدراك والنظععر‪ ،‬كمععا أن‬
‫البصعر آلة للرؤيعة والدراك ‪ ،‬وكمعا أن البصعر له حعد‬
‫ينتهعي إليعه كبععد المسعافة والحدود والجدران وغيعر ذلك‬
‫فإن العقعل كذلك له حعد ينتهعي إليعه‪ ،‬فإن العقعل إذا وضعع‬
‫في غير محله فسد‪.‬‬
‫وإلى جوار سععة عقله رحمعه ال فقعد كان فصعيحاً‬
‫متمكنععا مععن ناصععية اللغععة مشهوداً له‪ ،‬حتععى عدّ العلماء‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪14‬‬
‫الرباني‬
‫قول الشافععي ونطقعه حجعة فعي اللغعة العربيعة‪ ،‬وشهعد له‬
‫بذلك الئمععة الفحول كثعلب والمععبرد‪ ،‬وأبععي منصععور‬
‫الزهري وابععععن هشام‪ ،‬بععععل قال الجاحععععظ المعتزلي‪:‬‬
‫نظرت فعي كتعب هؤلء النبغعة الذيعن نبغوا فعي العلم فلم‬
‫أر أحسن تأليفًا من الشافعي المطلبي كأنه ينظم الدرر‪.‬‬
‫يقول يونعس بعن عبعد العلى‪ :‬معا كان الشافععي إل‬
‫سععاحراً‪ ،‬مععا كنععا ندري مععا يقول إذا قعدنععا حوله كأن‬
‫ألفاظه سكر‪ ،‬كان قد أوتي عذوبة منطق وحسن بلغة‬
‫وفرط ذكاء وسعععيلن ذهعععن وكمال فصعععاحة وحضور‬
‫حجة‪.‬‬
‫قيععل للشافعععي رحمععه ال‪ :‬كيععف شهوتععك للدب؟‬
‫قال‪ :‬أسعمع الحرف منعه ممعا لم أسعمعه معن قبعل فتشدنعي‬
‫أعضائي كلهععا كأن لكععل عضععو منهععا أذناً تسععمع فتلتععذ‬
‫بذلك كمعا تلتععذ الذن‪ .‬قيععل‪ :‬كيععف حرصعك عليعه؟ قال‪:‬‬
‫حرص الجموع المنوع على المال‪ .‬قيععل‪ :‬كيععف طلبععك‬
‫له؟ قال‪ :‬طلب المرأة المضيعة ولدها ليس لها غيره‪.‬‬
‫‪15‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫إذن لقعد جمعع الشافععي فقهًا وعقلً وأدباً وحكمعة‪،‬‬


‫وجمععع إلى ذلك فصععاحة وبلغععة‪ ،‬وهذا يحدونععا إلى أن‬
‫ننظععر فواصععل مععن قوله‪ ،‬أذكععر بعععض مععا كان يقول‬
‫رحمه ال‪:‬‬
‫ليععس بعععد أداء الفرائض شيععء أفضععل مععن طلب‬
‫العلم‪ .‬قيل له‪ :‬ول الجهاد في سبيل ال؟ قال‪ :‬ول الجهاد‬
‫في سبيل ال ‪.‬‬
‫ونقل عنه ابن عيينة أنه قال‪ :‬لم يعط أحد في الدنيا‬
‫أفضعل معن النبوة‪ ،‬ولم يععط لحعد بععد النبوة أفضعل معن‬
‫طلب العلم ‪ -‬وكأنعه يشيعر بذلك إلى أن طلب العلم سعبيل‬
‫إلى معرفعة معا جاء بعه النعبياء عليهعم السعلم ‪ -‬ولم يععط‬
‫أحد في الخرة أفضل من الرحمة‪.‬‬
‫قال الربيعع بعن سعليمان ععن الشافععي‪ :‬المراء فعي‬
‫العلم يقسي القلب ويورث الضغائن‪.‬‬
‫لقد كان الشافعي كارهًا للمراء والجدل الذي كثيراً‬
‫مععععا يثور بيععععن طلبععععة العلم‪ ،‬فيختلفون فععععي مسععععائل‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪16‬‬
‫الرباني‬
‫فيتناظرون ويتجادلون ويصعبح هعم كعل منهعم أن يظهعر‬
‫بالحجة وأن ينتصر على غيره‪ ،‬وقد يتكثر في المجالس‬
‫بهذه الغلوطات والمسععائل التععي ل ثمرة مععن ورائهععا‪،‬‬
‫ولذلك قال رحمعه ال‪ :‬معن إذلل العلم أن تناظعر كعل معن‬
‫ناظرك وتقاول كعل مععن قاولك‪ .‬فإن كثيرًا مععن المسععائل‬
‫ينبغععععي لطالب العلم أن يكرم نفسععععه ويصععععونها عععععن‬
‫الخوض فيها‪.‬‬
‫قال أبععععو ثور‪ :‬قلت للشافعععععي‪ :‬ضععععع كتاباً فععععي‬
‫الرجاء‪ .‬قال‪ :‬دع عنك هذا‪ .‬وكأنه ذم الكلم؛ لنه شعر‬
‫أن هذه المسعائل ليسعت المراد بهعا العلم المقرب إلى ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫ومعع ذلك فقعد نقعل الربيعع عنعه قوله‪ :‬لو أردت أن‬
‫أكتععب عععن كععل مخالف كتابًا لفعلت‪ ،‬ولكععن ليععس الكلم‬
‫من شأني‪ ،‬ول أحب أن ينسب إليّ منه شيء‪.‬‬
‫يقول الذهععبي‪ :‬وهذا النفععس الزكععي متواتععر عععن‬
‫المام الشافعي‪.‬‬
‫‪17‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫ومععع ذلك فقععد كان الشافعععي يناظععر للمصععلحة‬


‫بكلمات معدودة ولكنه فصل في المقال ‪.‬‬
‫جاء رجععل للشافعععي فقال‪ :‬مععا تقول فععي اليمان؟‬
‫فنظععر الشافعععي فععي وجهععه فعرف أن الرجععل صععاحب‬
‫جدل‪ ،‬فقال‪ :‬ما تقول أنت؟ قال‪ :‬أقول‪ :‬اليمان في القلب‬
‫فحسعععب‪ .‬قال‪ :‬ومعععا دليلك؟ قال‪ :‬إن ال تعالى قال‪" :‬إن‬
‫الذيععن آمنوا وعملوا الصععالحات" قال‪ :‬والواو تدل على‬
‫التفريععق وأنهمععا شيئان‪ .‬فقال‪ :‬فأنععت ترى أن الواو تدل‬
‫على التفريععق؟ فقال الرجععل‪ :‬نعععم‪ .‬قال‪ :‬فأنععت إذن تعبععد‬
‫إلهين؛ لن ال يقول‪" :‬رب المشرقين ورب المغربين"‪.‬‬
‫فنكص الرجل ورجع عن قوله ‪.‬‬
‫من أقواله رحمه ال‪.‬‬
‫يقول‪ :‬ما ناظرت أحدًا على الغلبة‪ ،‬ما ناظرته إل‬
‫على حق عندي‪ ،‬ما ناظرته إل على النصيحة‪.‬‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪18‬‬
‫الرباني‬
‫فمعن يسعتطيع أن يبلغ هذا المسعتوى؟ وهذا يذكرنعا‬
‫بمعا نسعب إليعه معن قوله‪ :‬وددت لو أن الخلق تعلموا هذا‬
‫ي منه حرف واحد‪.‬‬
‫العلم‪ ،‬وأنه لم ينسب إل ّ‬
‫إنه يدرك طبيعة النفس البشرية وحظ النسان من‬
‫نفسععععه‪ ،‬وأن كثيرًا مععععن الناس يتفاخرون بالعلم كمععععا‬
‫يتفاخرون بالدنيععععا وكمععععا يتفاخرون بالمال ‪ ..‬بالغلبععععة‬
‫خصعوصاً فعي مياديعن الصعراع والجدل والقيعل والقال‪،‬‬
‫ويتكاثرون بالتباع‪ ،‬ولذلك كان يجهععععععر بهذه الكلمات‬
‫لتعبيين منهجعه وطريقتعه ويربعي عليهعا معن حوله‪ .‬ويقول‬
‫أيضاً‪ :‬مععا ناظرت أحدًا إل تمنيععت أن يظهععر ال الحععق‬
‫على لسعععانه‪ ،‬ومعععا ناظرت أحداً إل أحببعععت أن يوفعععق‬
‫ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من ال تعالى‪.‬‬
‫هذا هععو المسععتوى الرفيععع الراقععي الذي ينبغععي أن‬
‫نفاخر به إلى يوم القيامة‪ ،‬وأن نجعل هذا قدوة لنا أيضاً‬
‫فعي أحاديثنعا معع الناس وفعي نشرنعا للعلم وفعي مناظرتنعا‬
‫لمعن نختلف مععه فل ننفره وأل نحشره فعي زاويعة‪ ،‬وأل‬
‫‪19‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫نعتقعد أن التضييعق عليعه هعو الذي يقربعه إلى الحعق؛ لن‬


‫الهدف معن المناظرة الدعوة وليعس النتصعار‪ ،‬كمعا ذكعر‬
‫ععن رجعل كان يناظعر داود الصعفهاني فلمعا ناظره فعي‬
‫مسعألة قال‪ :‬إن كنعت قلت‪ :‬كذا‪ .‬فإنعك قعد كفرت والحمعد‬
‫ل‪ .‬قال‪ :‬كيعف تحمعد ال على كفعر مسعلم؟ كان يسععك أن‬
‫تقول‪ :‬ول حول ول قوة إل بال‪ ،‬أو إنعععا ل وإنعععا إليعععه‬
‫راجعون‪ .‬أمعا الحمعد فإنعه يدل على تجدد نعمعة حصعلت‬
‫لك فهل تحمد ال على كفر مسلم؟‬
‫ولم يكعن الشافععي يجزم بصعواب رأيعه مطلقاً‪ ،‬إنمعا‬
‫كان يقول قولتعععه المشهورة التعععي أصعععبحت دسعععتوراً‬
‫للمتناظرين من الناحية النظرية‪ ،‬وإن كانت من الناحية‬
‫العمليععة أبعععد مععا تكون عععن الواقععع‪ ،‬كان يقول‪ :‬قولي‬
‫صعععواب يحتمعععل الخطعععأ وقول غيري خطعععأ يحتمعععل‬
‫الصواب‪.‬‬
‫هذه حكمة تاريخية يتغنى بها الكثيرون لفظا لكنهم‬
‫يخالفونهعا فعلً‪ ،‬فيرون قولهعم صعواباً ل يحتمعل الخطعأ‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪20‬‬
‫الرباني‬
‫ويرون قول غيرهم خطأ ل يحتمل الصواب‪ ،‬وقد حدث‬
‫للشافعي قصة طريفة وجميلة لها تعلق بهذا المقام ‪.‬‬
‫جاء المام أحمعد بمكعة إلى حلقعة سعفيان بعن عيينعة‬
‫فأشار إلى إسععحاق بععن راهويععه وكانوا يعدونععه أميععر‬
‫ل معا‬
‫المؤمنيعن فعي الحديعث‪ ،‬فقال له‪ :‬قعم حتعى أريعك رج ً‬
‫رأت عيناك مثله‪ .‬فأخععععذ بيده حتععععى جاءوا إلى مجلس‬
‫الشافعععي فجلسععوا‪ ،‬وتحدثوا قليلً‪ ،‬ثععم قال إسععحاق‪ :‬هلم‬
‫لنذهب إلى الرجل الذي لم تر عيناك مثله‪.‬‬
‫فقال أحمد‪ :‬هذا هو الشافعي‪ .‬فغضب إسحاق وقال‬
‫لحمعد‪ :‬أقمتنعا معن عنعد رجعل يقول‪ :‬قال الزهري‪ .‬فمعا‬
‫توهمعت إل أنعك سعتأتي بنعا إلى رجعل مثعل الزهري أو‬
‫قريبعا منعه‪ ،‬فإذا بعك تأتعي بنعا إلى هذا الشاب! قال أحمعد‬
‫لسعععحاق‪ :‬اقتبعععس منعععه فمعععا رأت عيناك مثله‪ .‬فجلس‬
‫إسععحاق يناظععر الشافعععي‪ ،‬فناظره فععي مسععألة فععي دور‬
‫مكعععة‪ ،‬وكان الشافععععي ناظره فعععي جلود الميتعععة‪ ،‬فكان‬
‫الشافععي يسعتدل بقول رسعول ال صعلى ال عليعه وسعلم‬
‫‪21‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫وإسععحاق يقول‪ :‬قال فلن وفلن‪ .‬فقال الشافعععي رحمععه‬


‫ال‪ :‬مععا أحقععك أن تكون فععي غيععر هذا المكان أقول لك‪:‬‬
‫قال رسععول ال صععلى ال عليععه وسععلم وتقول لي‪ :‬قال‬
‫فلن وفلن‪ .‬فنظعر إسعحاق إلى الذيعن مععه ورطعن لهعم‬
‫بلغتعه التعي ل يعلمهعا الشافععي‪ ،‬وقال كلمعة معناهعا‪ :‬هذا‬
‫إنسععان متعالم‪ ،‬فعرف الشافعععي أن الكلم فيععه مععا فيععه‬
‫ولكنعه أعرض عنعه‪ ،‬ولمّاع تأمعل إسعحاق كلم الشافععي‬
‫ندم أشدّ الندم وقال‪ :‬لمعا تدبرت معا قال الشافععي علمعت‬
‫أنه قد علم ما غاب عنا‪ ،‬واحيائي من محمد بن إدريس‪،‬‬
‫ورجع إسحاق إلى مذهب الشافعي‪.‬‬
‫لقد كان التعصب للقوال هو أكبر الدلة عند من‬
‫ل ينظرون فععي حجععة المخالف بقدر مععا يعععبرون عععن‬
‫تعصععععبهم وتمسععععكهم بهذا القول الذي قرع أسععععماعهم‬
‫وتشربته عقولهم‪ ،‬كما كان النحياز إلى أحد التجاهات‬
‫أو المذاهب هو ما يعنيه ويعول عليه الذي ل يتأمل في‬
‫الدلة‪.‬‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪22‬‬
‫الرباني‬
‫أمععا الحياد فهععو ربيبععة العالم‪ ،‬فإن العالم ل يميععل‬
‫لشيعء ول يأخعذ بشيعء إل بحجعة وبرهان معن ال ععز‬
‫وجعل‪ ،‬ربمعا تكون هذه المسعألة أو تلك عنعد غيعر العالم‬
‫مقطوعاً بهعا ل تحتاج إلى نظعر ول تأمعل‪ ،‬ولكنهعا عنعد‬
‫العالم قعد تكون خطعأ أو تحتاج إلى نظعر وتأمعل أو على‬
‫أحسعن الحوال هعي صعواب يحتمعل الخطعأ‪ ،‬لذلك يقول‬
‫حرملة إن الشافععي كان يقول لهعم‪ :‬كعل معا قلتعه لكعم ولم‬
‫تشهد به عقولكم أو تقبله فل تقبلوه واضربوا به عُرض‬
‫الحائط‪ ،‬فإن العقل مضطر لقبول الحق‪.‬‬
‫إن كثيرًا مععععن الطلبععععة إذا اختلفوا مععععع شخعععص‬
‫تنقصعوه وهجروه وربمعا تمنوا هلكعه‪ ،‬أو أن تنععزل بعه‬
‫فضيحعة فعي علمعه أو دينعه أو فعي دنياه‪ ،‬حتعى يشمتوا بعه‬
‫لفرط ما تشربت قلوبهم من ذلك ‪.‬‬
‫وهذا معن سعوء الرأي وضيعق الفعق وقلة الديعن ‪،‬‬
‫وقد بلغ الشافعي رحمه ال أن رجلً كان يدعو عليه في‬
‫‪23‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫سعجوده يقول‪ :‬اللهعم أمعت الشافععي حتعى ل يذهعب علم‬


‫مالك رحمه ال‪.‬‬
‫لن الشافعي خالف مالكاً في مسائل‪ ،‬وكتب بذلك‬
‫كتاباً فقال الشافعي رحمه ال ‪:‬‬
‫فتلك سبيل لست فيها بأوحد‬ ‫تمنى رجـال أن أموت وإن أمـت‬

‫تهيأ لخرى مثلها فكـأن قد‬ ‫فقــــل للذي يبغــــي خلف الذي‬
‫مضى‬

‫لن مـــت مـــا الداعـــي علي‬ ‫وقــــد علموا لو ينفــــع العلـــــم‬


‫بمخلدِ‬ ‫عندهم‬

‫ويقول الشافعي رحمه ال‪ :‬ما ضحك أحد من خطأ‬


‫رجل إل ثبت صوابه في قلبه‪.‬‬
‫لقعععد لحظعععت أن الشافععععي رحمعععه ال كان عالماً‬
‫خعبيراًَ فعي النفوس متجرداً ل ععز وجعل‪ ،‬فهعو يشيعر إلى‬
‫الطرق والوسعائل التعي معن شأنهعا أن تجععل الخعر يقبعل‬
‫الحععق كمععا يشيععر إلى السععباب التععي تجعلهععم يرفضون‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪24‬‬
‫الرباني‬
‫الحععق وينصععرفون عنععه يقول‪ :‬إذا ضحكععت مععن خطععأ‬
‫رجعل ثبعت صعوابه فعي قلبعه‪ ،‬يعنعي شععر بأنعك سعخرت‬
‫منعه وازدريتعه وتنقصعته فصعار عنده فعي داخله تمسعك‬
‫بهذا الشيء الذي قاله وإصرار عليه‪ ،‬وثبت صوابه في‬
‫قلبعه‪ ،‬لقعد كان الشافععي خعبيراً فعي أدواء النفوس عليماً‬
‫فعي كثيعر مسعاربها ومسعالكها‪ ،‬وكان يسعلك ذلك لدعوة‬
‫الناس وإيصال العلم إليهم ‪.‬‬
‫إن روح الحوار الموضوعععععععي الرزيععععععن الذي‬
‫يسععتهدف الوصععول إلى الحععق وليععس النتصععار للنفععس‬
‫يحتاج إلى ترسععيخ وتدعيععم‪ ،‬وهذه قيمنععا الصععولية فععي‬
‫الحوار تعععبرز لنعععا على يدي رجعععل معععن أئمعععة الفكعععر‬
‫السععلمي الصععيل ‪ ،‬فهععو يرسععخ بقوله وبفعله قبععل أن‬
‫يكون الحوار لغعععة عالميعععة تطرح اليوم فعععي المجامعععع‬
‫العالميعة‪ ،‬ونحتاجهعا نحعن المسعلمين أكثعر ممعا يحتاجهعا‬
‫غيرنععا؛ فنحععن ل نملك القوة لكننععا نملك الحععق‪ .‬والحععق‬
‫إنمعا يظهعر معن خلل الحوار باللغعة الهادئة‪ ،‬والسعلوب‬
‫‪25‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫الجيععد‪ ،‬والحجععة التععي تقرع أسععماع الناس‪ ،‬فإذا فقدنععا‬


‫الحوار وفقدنا القوة فماذا بقي لنا؟‬
‫إننععععي أقترح بجععععد على المدارس والمؤسععععسات‬
‫العلميععة والثقافيععة والمراكععز التربويععة أن تحرص على‬
‫تدريب شبابنا على لغة الحوار وأسلوبه وأدب المناظرة‬
‫وكيفيعععة فهعععم الخريعععن والرد عليهعععم‪ ،‬وإعداد كتعععب‬
‫وأشرطعة ووسعائل تعليميعة فعي ذلك؛ فقعد تحول الحوار‬
‫إلى صعععراخ وضجيعععج وصعععخب ونوع معععن السعععباب‬
‫والمشاتمة‪ ،‬ولو كانت هذه هي لغة الحوار وهي الحجة‬
‫لكان الجهال أولى بها من العلماء‪.‬‬
‫إن ذلك نوع معععن التردي الخلقعععي والسعععلوكي‬
‫والعلمععي‪ ،‬يحتاج إلى اسععتدراك مععن المربيععن والعلماء‬
‫والمخلصين والدعاة والمهتمين بأمر هذه المة ‪.‬‬
‫وهنعا كلمعة لبعن الجوزي ل بعد معن الشارة إليهعا‬
‫حول موضوع الحوار والخلف بيععععن الفقهاء وطلبععععة‬
‫العلم‪ ،‬يقول‪ :‬رأيعععت جماععععة معععن المنتسعععبين إلى العلم‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪26‬‬
‫الرباني‬
‫يعملون عمععل العوام‪ ،‬فإذا صععلى الحنبلي فععي مسععجد‬
‫شافععي (يعنعي صعلى إماماً) ولم يجهعر بالبسعملة غضعب‬
‫الشافعيععة عليععه‪ ،‬وإذا صععلى شافعععي فععي مسععجد حنبلي‬
‫وجهععر غضبععت الحنابلة عليععه‪ ،‬وهذه مسععألة اجتهاديععة‬
‫والعصبية فيها مجرد هوى يمنع منه العلم ‪.‬‬
‫قال أبو الوفاء ابن عقيل‪ :‬رأيت الناس ل يعصمهم‬
‫مععععععن الظلم إل العدل‪ ،‬ول أقول العوام بععععععل العلماء‪.‬‬
‫ويقول‪ :‬كانعععت أيدي الحنابلة مبسعععوطة فعععي أيام ابعععن‬
‫يوسعف فكانوا يتسعلطون بالبغعي على أصعحاب الشافععي‬
‫في الفروع؛ حتى ل يمكنوهم من الجهر والقنوت وهي‬
‫مسعألة اجتهاديعة‪ ،‬قال‪ :‬فلمعا جاءت أيام النظام ومات ابعن‬
‫يوسعععف‪ ،‬وزالت شوكعععة الحنابلة اسعععتطال أصعععحاب‬
‫الشافععععي على الحنابلة اسعععتطالة السعععلطين الظلمعععة‪،‬‬
‫فاستعدوا عليهم بالسجن وآذوا العوام بالسعايات‪ ،‬وآذوا‬
‫الفقهاء بالنبذ‪ ،‬فكانوا يعيرون الحنابلة بذلك؛ لنهم كانوا‬
‫يثبتون السماء والصفات‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫قال‪ :‬فتدبرت أمععر فريقيععن فإذا بهععم لم تعمععل بهععم‬


‫آداب العلم‪ ،‬وهعععل هذه إل أفعال الجناد يصعععولون أيام‬
‫دولتهم ويلزمون المساجد أيام بطالتهم؟‬
‫وهذا الكلم يذكرنعععععععععي بمقولة مشهورة‪ ،‬تقول‪:‬‬
‫الخلق الجيدة إنمعا تظهعر فعي أوقات القوة‪ .‬يعنعي كعل‬
‫إنسععان إذا ضعععف أي إذا افتقععر مثل مععن الدنيععا تظاهععر‬
‫بالزهعد وتظاهعر بالعراض ععن الدنيعا‪ ،‬وإنمعا هعو زهعد‬
‫مععن حاول جهده أن يصععل إليهععا فأبععت عليععه‪ ،‬وإنمععا إذا‬
‫كان النسعان كريمعا وتخلى ععن الدنيعا كمعا قيعل‪ :‬ليعس‬
‫الزاهد فلن وإنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته‬
‫الدنيا فأعرض عنها‪.‬‬

‫فواصل في سلوك المام‬


‫الشافعي‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪28‬‬
‫الرباني‬
‫بعدمعا ذكرنعا فواصعل أقواله فإن هناك معن ينظعر‬
‫للخلق الفاضل الجميل أحسن نظر‪ ،‬ويتكلم عنه كأطيب‬
‫ما يكون الكلم‪ ،‬ولكنه يخفق على المحك العملي وربما‬
‫ل أن تظفعععععععر بمواقعععععععف‬
‫لول وهله‪ ،‬ولهذا كان جمي ً‬
‫شخصععية مععن المام الشافعععي تدل على أخذه نفسععه بمععا‬
‫يقتضيه العلم من الخلق الكريم‪.‬‬
‫سأله رجل من أهل العراق فقال‪ :‬ما تقول في أبي‬
‫حنيفة؟ قال‪ :‬سيدهم‪ .‬قال‪ :‬ما تقول في أبي يوسف؟ قال‪:‬‬
‫أتبعهعم للحديعث‪ .‬قال‪ :‬معا تقول فعي محمعد بعن الحسعن؟‬
‫قال‪ :‬أكثرهم تفريعاً‪ .‬قال‪ :‬ما تقول في زفر؟ قال‪ :‬أحدّهم‬
‫قياساً‪.‬‬
‫لقعد أعطعى المام الشافععي كعل ذي حعق حقعه‪ ،‬ولم‬
‫يمنععه الخلف معع بععض الئمعة أن يثنعي عليهعم بخيعر‬
‫وقعد كان يختلف معهعم‪ ،‬نععم أخعذ ععن محمعد بعن الحسعن‬
‫ومع ذلك كتب كتاباً يتبع فيه اختيارات محمد بن الحسن‬
‫ويرد عليه بالحديث الشريف‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫كمعا قال ولد الشافععي‪ :‬معا سعمعت أبعي يناظعر أحداً‬


‫فيرفععع صععوته قععط‪ .‬لن الصععراخ والصععياح هععو بدايععة‬
‫إعلن الفشعل والخفاق‪ ،‬قال المزنعي ‪ -‬وهعو معن تلميعذ‬
‫الشافععي يوماً ‪ -‬أمامعه‪ :‬قال فلن معن الرواة كذاب‪ .‬قال‬
‫له الشافعي‪ :‬اكس ألفاظك‪ .‬ل تقل فلن كذاب‪ .‬قل حديثه‬
‫ليس بشيء‪ .‬والنتيجة واحدة‪.‬‬
‫خرج المام الشافعععي يومًا إلى السععوق فإذا رجععل‬
‫يسععفه على رجععل مععن أهععل العلم ويعيره ويتكلم فيععه‪،‬‬
‫فالتفت الشافعي إلى التلميذ وقال لهم‪ :‬نزهوا أسماعكم‬
‫ععن الخنعا كمعا تنععزهون ألسعنتكم ععن النطعق بعه‪ ،‬فإن‬
‫المستمع شريك القائل وإن السفيه ينظر إلى أخبث شيء‬
‫في وعائه‪ ،‬ويحرص أن يفرغه في أوعيتكم‪.‬‬
‫ومطعمُ المأكولِ كالكلِ‬ ‫فسام ُع الش ّر شريكٌ لهُ‬
‫أسرعُ منْ منحدرٍ سائلِ‬ ‫مقالة ُ السوءِ إلى أهلها‬
‫ذمّوهُ بالحقّ وبالباطععلِ‬ ‫ومنْ دعا النّاس إلى ذمّهِ‬
‫يقول الربيعع ‪ :‬دخلت يومعا على الشافععي فقلت له‪:‬‬
‫كيععف أصععبحت؟ وكان الشافعععي كثيععر المراض‪ ،‬قال‪:‬‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪30‬‬
‫الرباني‬
‫أصعبحت ضعيفعا‪ .‬قال ‪ :‬قلت له‪ :‬قوّى ال ضعفعك‪ .‬قال‪:‬‬
‫يععا ربيعع أجاب ال قلبععك ول أجاب ال لسعانك؛ إن قوى‬
‫ال ضعفعععي علي عّع قتلنعععي‪ ،‬ولكعععن قعععل‪ :‬قواك ال على‬
‫ضعفعك‪ .‬قال له‪ :‬الربيعع وال يعا إمام معا أردت إل الخيعر‬
‫‪ .‬قال‪ :‬أجل يا بني إني أعلم‪ .‬في هذا إشارة إلى أن كلم‬
‫الناس ل يؤخعذ بألفاظعه وإنمعا يؤخعذ بمعانيعه ومقاصعده‬
‫ومراداته ‪.‬‬
‫يقول الربيعععععع أيضاً‪ :‬قرأت كتاب الرسعععععالة على‬
‫المام الشافععي ‪ -‬والربيعع هعو الذي روى هذا الكتاب ‪-‬‬
‫ثلثيعن مرة فمعا معن مرة إل وكان الشافععي يصعححه ثعم‬
‫قال فعععي المرة الخيرة؛ أبعععى ال تعالى أن يكون كتاب‬
‫صحيح إل كتابه‪.‬‬
‫إن الشافععععي رحمعععه ال رد على مالك ورد على‬
‫محمععد بععن الحسععن وغيرهععم‪ ،‬وكان فععي مذهبععه الجديععد‬
‫والقديعم‪ .‬فإن الشافععي صعحح الرسعالة بمكعة ثعم صعححها‬
‫فععي العراق‪ ،‬ثععم انتقلت إلى مصععر وصععاغها الصععياغة‬
‫‪31‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫الخيرة‪ ،‬ول يعرف بيععن الناس إل كتاب الرسععالة الذي‬


‫صاغه في مصر وهكذا فإن القوال والجتهادات محل‬
‫مراجعة ومناقشة ونظر وتصحيح‪.‬‬

‫مروءات الشافعي ومكارمه‬


‫كان الشافعي من أهل المروءة والكرم‪ ،‬ومما يدل‬
‫على ذلك أقواله‪ :‬قال‪ :‬معن أحعب أن يقضعى له بالحسعنى‬
‫فليحسععن الظععن بالناس‪ .‬وقال‪ :‬للمروءة أربعععة أركان؛‬
‫حسععن الخلق‪ ،‬والسععخاء‪ ،‬والتواضععع‪ ،‬والنسععك‪ .‬وقال‪:‬‬
‫النبسعععاط إلى الناس مجلبعععة لقرناء السعععوء‪ ،‬والبتعاد‬
‫عنهععم مكسععب للعداوة فكععن بيععن ذلك‪ .‬وقال‪ :‬بئس الزاد‬
‫إلى المعاد العدوان على العباد‪ .‬وقال‪ :‬ليععس بأخيععك مععن‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪32‬‬
‫الرباني‬
‫احتجعت إلى مداراتعه وقال‪ :‬ل تبذل وجهعك لمعن يهون‬
‫عليه رده‪.‬‬
‫وقال رجععل للشافعععي‪ :‬انصععحني‪ .‬فقال له‪ :‬إن ال‬
‫تعالى خلقك حراً فكن كما خلقك ال‪.‬‬
‫وهذه المواضععع الجيدة التععي تععبين بهععا أن الفقهاء‬
‫المتقدميعن كانوا يسعتخدمون كلمعة الحريعة بمعنعى آخعر‬
‫غير الحرية من الرق‪.‬‬
‫وقال أيضاً‪ :‬الحريعععععة هعععععي الكرم والتقوى‪ ،‬فإذا‬
‫اجتمعتعا فعي شخعص فهعو حعر‪ .‬وقال‪ :‬الفتوة هعي حليعة‬
‫الحرار‪ .‬ويقصععد بالفتوة معانععي مععن الكرم والشجاعععة‬
‫والنجدة كانت معروفة عند طلبة العلم والفتيان‪.‬‬
‫وقال أيضاً‪ :‬لو أن رجلً س ُع ّويَ حتععى صععار مثععل‬
‫القِدْح لكان له في الناس من يعيبه ويعانده‪.‬‬
‫وكان رجلن يتعاتبان عنعععد الشافععععي رحمعععه ال‬
‫فقال الشافععي لحدهمعا‪ :‬إنعك ل تقدر أن ترضعي الناس‬
‫‪33‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫كلهعم‪ ،‬فأصعلح معا بينعك وبيعن ال ععز وجعل‪ ،‬ثعم ل تبالي‬


‫ح ْبتُ‬
‫معععا وراء ذلك معععن الناس‪ .‬وقال رحمعععه ال‪ :‬صععَا َ‬
‫الصععوفيةَ عشععر سععنين‪ ،‬فمععا اسععتفدت منهععم إل هذيععن‬
‫الحرفين‪ :‬الوقت سيف‪ ،‬ومن العصمة أل تقدر ‪.‬‬
‫لقععد صععاحب الشافعععي الصععوفية‪ ،‬وكان ينصععحهم‬
‫ويعلمهم ويؤدبهم كما ثبت عنه ذلك في سيرته ‪.‬‬
‫كما أنه رحمه ال وإن كان ينتقد الصوفية‪ ،‬إل أنه‬
‫معع ذلك ذكعر أنعه اسعتفاد منهعم أن الوقعت سعيف‪ ،‬ومعن‬
‫العصععمة أن ل تقدر‪ ،‬أي أن النسععان يكون راغباً فععي‬
‫شعر ولكعن ال سعبحانه وتعالى ل يمكنعه معن ذلك‪ .‬وكان‬
‫يقول‪ :‬الوقار فععي النعععزهة سععُخف‪ .‬أي إذا ذهبععت فععي‬
‫نععزهة معع أسعرتك أو أصعحابك فمعن السعخف أن تكون‬
‫متوقراً معهم‪ ،‬بل ل بد أن تطرح التوقر وتتبسط لهم‪.‬‬
‫أطرف تلميذه ببعععض الطرائف‪ ،‬فمنهععا أنععه كان‬
‫ل يكتب‬
‫يقول‪ :‬رأيت من عجائب الدنيا ثلثة؛ رأيت رج ً‬
‫بشماله فيسععبق الذيععن يكتبون بأيمانهععم‪ .‬ورأيععت رجلً‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪34‬‬
‫الرباني‬
‫ل يدور‬
‫سعجنه القاضعي فعي مديعن معن نوى‪ .‬ورأيعت رج ً‬
‫على الجواري يعلمهععن الغناء‪ ،‬فإذا جاء وقععت الصععلة‬
‫صلى جالساً‪.‬‬
‫وقال رحمه ال في مجلس آخر‪ :‬إن رجلً من أهل‬
‫المدينععة بعععث غلماً له متخلّفاً وقال له‪ :‬اشتععر لي عّ حبلً‬
‫طوله ثلثون ذراعاً‪ .‬فقال له ولده‪ :‬طوله ثلثون ذراع‬
‫بعرض كم؟ قال له‪ :‬بعرض مصيبتي فيك‪.‬‬
‫ومعن أخلق الشافععي أنعه كريعم حتعى يقال‪ :‬إنعه تعم‬
‫إفلسعه ثلث مرات على كثرة معا كان يأتيعه معن أموال‪،‬‬
‫لنه كان يصرفها على طلب العلم والمحتاجين‪.‬‬

‫مكانتـه وآثاره العلـمية‬


‫‪35‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫كان العلماء فعععي عصعععر المام الشافععععي شديدي‬


‫التعظيعم له ‪ ،‬ومنهعم المام أحمعد‪ .‬وقعد عاتعب يحيعى بعن‬
‫معيععن المام أحمععد فععي هذا التعظيععم‪ ،‬حيععث أخععذ برأس‬
‫بغلتععه وأكرمععه وأنعععزله وكان يناديععه‪ :‬يععا أبععا عبععد ال‪،‬‬
‫ويجله ويعظمعه‪ ،‬فقال يحيعى بعن معيعن‪ :‬إنعك بالغعت فعي‬
‫تعظيم الشافعي! قال أحمد ليحيى‪ :‬إن أردت الفقه فالزم‬
‫ذيل البغلة‪.‬‬
‫كان بععض طلبعة العلم فعي عصعره منحرفيعن عنعه‬
‫لسعبب أو لخعر‪ ،‬فاتهموه بأنعه كان متشيعاً وحاشاه‪ ،‬ولم‬
‫يكعن الشافععي كذلك وإنمعا كان يحعب أهعل البيعت وكلنعا‬
‫يحعب أهعل البيعت‪ ،‬وله فعي ذلك قصعيدته الشهيرة التعي‬
‫يقول فيها ‪.‬‬
‫واهتف بقاعد خيفنا‬ ‫يا راكبا قف بالمحصب من‬
‫والناهض‬ ‫منى‬
‫فيضًا كملتطم الفرات‬ ‫سحراً إذا فاض الحجيج إلى‬
‫الفائض‬ ‫منى‬
‫فليشعهد الثقلن أني‬ ‫إن كان رفضاً حب آل‬
‫رافضي‬ ‫محمد‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪36‬‬
‫الرباني‬
‫فقيععل للمام أحمععد رحمععه ال‪ :‬إن هناك مععن يتهععم‬
‫المام الشافععي بالتشيعع ومنهعم فلن وفلن! فقال المام‬
‫أحمعد رحمعه ال‪ :‬أنعا ل أدري معا يقولون‪ ،‬ولكعن وال معا‬
‫رأيعت معن الرجعل إل خيراً‪ ،‬وإن الرجعل معن أهعل العلم‬
‫إذ آتاه ال تعالى ومنحععه شيئاً وحرم أقرانععه منععه فإنهععم‬
‫يحسعدونه على ذلك ويرمونعه بمعا ليعس فيعه‪ .‬وهذه شهادة‬
‫عظيمة للمام الشافعي على لسان المام أحمد لم يحابها‬
‫أقرب الناس إليه‪ ،‬وإن المام كان يشير إلى بعض طلبة‬
‫الحديث الذين وجدوا على الشافعي ما وجدوا ‪.‬‬
‫وكانعت التهمعة بأن الشافععي متشيعع ربمعا كان لهعا‬
‫علقعة بالخلفيعة السعابقة‪ ،‬لنعه اسعتدعي إلى الرشيعد كمعا‬
‫سبق ‪.‬‬
‫أيضعا اتهعم الشافععي رحمعه ال بالعتععزال‪ ،‬وذلك‬
‫لنعه تتلمعذ على يعد رجعل معن أهعل المدينعة اسعمه إبراهيعم‬
‫بعن أبعي يحيعى أخعذ عنعه فعي حداثعة سعنه‪ ،‬يوم كان يأخعذ‬
‫عععن المام مالك رحمععه ال‪ ،‬وكان الشافعععي احتاج إلى‬
‫‪37‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫مرويات إبراهيعم هذا لمعا كان فعي مصعر فعي آخعر عمره‬
‫وكان ينقعععل عنعععه ويقول‪ :‬حدثنعععي المام إبراهيعععم‪ ،‬أو‬
‫حدثني الثقة و‪...‬إلخ ‪.‬‬
‫كان إبراهيععم بععن أبععي يحيععى متروكًا عنععد أهععل‬
‫الحديععث‪ ،‬أمععا الشافعععي فكان له فيععه رأي آخععر وكان‬
‫يروي عنه‪ ،‬ولما كان فيه من العتعزال‪ ،‬ألصق البعض‬
‫هذه التهمة بالشافعي‪.‬‬
‫ويكفععي فععي نفععي هذه التهمععة وردهععا أن الشافعععي‬
‫رحمه ال كان من أكثر العلماء ذما لعلم الكلم‪ ،‬وكلمه‬
‫فعي ذلك كثيعر‪ ،‬وقعد شنّعع عليهعم حتعى كان يقول‪ :‬حكمعي‬
‫فععي أهععل الكلم أن يضربوا بالجريععد والنعال‪ ،‬ويطاف‬
‫بهعم فعي السعواق ويقال لهعم‪ :‬هذا جزاء معن خالف كتاب‬
‫ال عز وجل‪ ،‬وسنة محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وكان يصعرح بأنعه يثبعت أسعماء ال تعالى وصعفاته‬
‫على معا قال ال تعالى‪ ،‬وعلى معا قاله رسعول ال صعلى‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪38‬‬
‫الرباني‬
‫ال عليعععه وسعععلم‪ ،‬وعلى معععا عليعععه أصعععحاب محمعععد‬
‫والتابعون لهم بإحسان ‪.‬‬
‫فكان الرجععل سععليم السععريرة نقععي الطويععة صععالح‬
‫العتقاد سليم السلوك‪ ،‬ولكن القوم حسدوه كما قيل ‪.‬‬
‫فالناس أعداء له‬ ‫حسدوا الفتى إذ لم ينالوا‬
‫وخصوم‬ ‫سعيه‬
‫حسداً وبغضًا إنه لدميم‬ ‫كضرائر الحسناء قلن‬
‫لوجهها‬
‫لقععد تحامععل على الشافعععي أيضععا بعععض المالكيععة‪،‬‬
‫خصععوصًا لمععا جاء إلى مصععر فظنوا أنععه سععوف ينشععر‬
‫مذهععب مالك‪ ،‬فوجدوا أن الشافعععي ل يفعععل ذلك وإنمععا‬
‫يكتب كتابًا ينتقد مالك في مسائل منها ‪:‬‬
‫قول مالك فعي إجماع أهعل المدينعة‪ ،‬حيعث كان يعده‬
‫إجماعاً ويأخعذ بعه‪ ،‬فخالفعه بذلك الشافععي وقال‪ :‬معا نقله‬
‫أهعل المدينعة ععن رسعول ال صعلى ال عليعه وسعلم فهعو‬
‫حديعث يروى كمعا يروى ععن غيرهعم‪ ،‬ومعا قالوا بعه معن‬
‫عند أنفسهم فهو اجتهاد يخطئ ويصيب‪.‬‬
‫‪39‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫وكذلك خالف الشافعي المام مالك في مسائل رأى‬


‫الشافعي أن الحديث صح فيها بخلف ما قاله مالك‪.‬‬
‫وربمععا كان مععن قصععد الشافعععي أنععه رأى تعظيماً‬
‫لمالك أكثر مما ينبغي‪ ،‬خصوصاً في بلد الندلس‪.‬‬
‫وربمععا بلغععه شيععء مععن ذلك حتععى كان بعضهععم‬
‫يتعععععبركون بآثاره ويبالغون فعععععي ذلك ويتعدون حعععععد‬
‫العتدل‪ ،‬فرأى نوعا من الفراط في محبعة المام مالك‬
‫وتعظيمعه‪ ،‬وهذا ل شعك فعي ميدان تضععف فيعه العقول‬
‫عن النقد وعن التصحيح‪ ،‬وكثير من العوام يبتلون بمثل‬
‫هذا‪ ،‬فأراد أن يعيععععد الميزان إلى اعتداله‪ ،‬فكتععععب كتاباً‬
‫خلف مالك‪ ،‬ونقعععد مالك فعععي هذه الشياء معععع حفظعععه‬
‫لقدره ومكانته‪ ،‬ولشك أن الشافعي مات رحمه ال وهو‬
‫يعتععبر نفسععه أحععد التلميععذ الوفياء لهذا المام العظيععم‬
‫الذي تلقى عنه وحفظ عليه‪ ،‬وكان كتابه الموطأ أول ما‬
‫باشر عقل الشافعي وقلبه من العلم ‪.‬‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪40‬‬
‫الرباني‬

‫تأصيل علـم الصول‬


‫كان الشافعي رحمه ال إماماً حجةً‪ ،‬وأقر له بالعلم‬
‫أهعععل زمانعععه‪ ،‬وأخذوا عنعععه واعتعععبروه مرجعًا للفتوى‬
‫والعلم والفقه والصول وغيرها‪.‬‬
‫وكان أعظعم عمعل قام بعه الشافععي رحمعه ال وخلد‬
‫ال تعالى بعععه ذكره هعععو (كتاب الرسعععالة) وهعععو كتاب‬
‫‪41‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫مطبوع‪ ،‬وأفضل طبعاته ما كان بتحقيق الشيخ العلمة‬


‫أحمد محمد شاكر‪ ،‬وهو في مجلد ضخم‪.‬‬
‫هذه الرسعالة هعي فعي أصعول الفقعه‪ ،‬وقعد دوّن فيهعا‬
‫القوانين التي تحكم الفقه أو الستنباط‪ ،‬وهي عبارة عن‬
‫أصعول مسعلمة بالجملة ل شبهعة فيهعا‪ ،‬أو قواععد يتمكعن‬
‫بهععا الطالب مععن الفهععم والسععتنباط مععن كتاب ال تعالى‬
‫وسعنة رسعوله صعلى ال عليعه وسعلم‪ ،‬وهعو علم منطعق‬
‫العرب فعي مقابعل منطعق اليونان الذي وضععه أرسعطو‪،‬‬
‫فكان الشافعي يشير إلى أن علم أصول الفقه هو منطق‬
‫ل وأكثرهعم‬
‫العرب‪ ،‬وكان يعتعبر العرب أحدّ الناس عقو ً‬
‫ذكاء‪ ،‬ومن قواعد هذه الصول‪:‬‬
‫أنعععه معععا معععن مسعععألة إل والحكعععم فيهعععا ال تعالى‬
‫ولرسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫"وكل شيء فصلناه تفصيل" فكل مسألة فلله فيها‬
‫حكعم إمعا تحريعم أو جواز أو إباحعة هذا معن حيعث الجملة‬
‫‪.‬‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪42‬‬
‫الرباني‬
‫أنعه ل حكعم إل بدليعل‪ ،‬فل يحعل لحعد أن يقول فعي‬
‫شيء بحكم معين إل بدليل ‪.‬‬
‫إما القرآن أو الحديث أو الجماع أو القياس ‪.‬‬
‫هذه هععي الصععول العامععة‪ ،‬ثععم شرع رحمععه ال‬
‫يفصل في هذه الصول‪ ،‬ويبين الخاص والعام والناسخ‬
‫والمنسععوخ والمطلق والمقيععد وغيععر ذلك‪ ،‬ويبععن أيضععا‬
‫الصحيح من الضعيف سواء في الحديث أو القياس وقد‬
‫قال رحمععه ال بإبطال السععتحسان الذي كان يقول بععه‬
‫الحناف وغيرهعععم‪ ،‬وبهذا العمعععل الجليعععل الذي عمله‬
‫الشافععععي فقعععد قدّم خدمعععة عظيمعععة لتقريعععب المدارس‬
‫الفقهيعة؛ ففعي عصعره كانعت مدرسعتان مدرسعة الرأي‪،‬‬
‫ويقصععد بهععا أهععل الكوفععة‪ ،‬ومدرسععة الحديععث وكانععت‬
‫موجودة فععي الحجاز وغيرهععا‪ ،‬فكان بينهمععا فرق كععبير‬
‫ونوع من التراكمات والتباعد‪ ،‬فلما جاء المام الشافعي‬
‫ووضععع الرسععالة قرّب أهععل الرأي إلى الحديععث وقرّب‬
‫‪43‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫أهل الحديث إلى أهل الرأي‪ ،‬فإنه بيّن الحديث الضعيف‬


‫الذي ل يحل الستدلل به ‪.‬‬
‫فنجععى بذلك أهععل الحديععث مععن السععتدلل ببعععض‬
‫الحاديعث الضعيفعة كمعا نجعى أهعل الرأي معن السعتدلل‬
‫ل لمدرسة‬
‫بالقياس الفاسد أو الباطل‪ ،‬وبذلك وضع أصو ً‬
‫وسععطية تنتفععع مععن أهععل الحديععث كمععا تنتفععع مععن أهععل‬
‫الرأي‪ ،‬ولم يكععن هذا غريباً على إمام درس فععي حداثععة‬
‫سععنه على المام مالك‪ ،‬وهععو مععن أئمععة أهععل الحديععث‪،‬‬
‫ودرس بععد ذلك على محمعد بعن الحسعن وكان معن أئمعة‬
‫أهل الرأي‪.‬‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪44‬‬
‫الرباني‬
‫لماذا تغـير مـذهب المـام‬
‫الشافعي ؟‬
‫من المعروف أن المام الشافعي رحمه ال كان له‬
‫مذهعب فعي العراق‪ ،‬فلمعا ذهعب إلى مصعر غيعر مذهبعه‪،‬‬
‫واسععتحدث أقوالً جديدة‪ ،‬وهذا أوجععد للشافعععي قوليععن‬
‫القديم والجديد‪.‬‬
‫تغير مذهبه‪ ،‬أولً‪ :‬بسبب الجتهاد فإن العالم يظل‬
‫مجتهدًا إلى أن يموت‪ ،‬والجتهاد معععن العبادة "واعبعععد‬
‫ربعك حتعى يأتيعك اليقيعن" [الحجعر‪ ،]99:‬فالجتهاد إذاً‬
‫مععن الثوابععت التععي ل تتغيععر‪ ،‬وإن كانععت نتائج الجتهاد‬
‫مععن المتغيرات التععي يجوز فيهععا أن تختلف بيععن وقععت‬
‫وآخر ‪.‬‬
‫ثانععععياً ‪ :‬لن الشافععععي رحمعععه ال جالس العلماء‬
‫المصعريين وأخعذ عنهعم وسعمع حديثهعم‪ ،‬وكان ممعن أخعذ‬
‫عنهم الشافعي في مصر تلميذ الليث بن سعد الذي كان‬
‫‪45‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫في المدينة وزامل المام مالك‪ ،‬ووجد عندهم من حديث‬


‫العلم وجديده ما أضافه إلى علمه القديم ‪.‬‬
‫ثالعثًا ‪ :‬أن المام الشافعي بصر في مصر بحالت‬
‫جديدة معععن الوضاع العمليعععة والعلميعععة والجتماعيعععة‬
‫ولّدت عنده نوعًا معن الفهعم الجديعد‪ ،‬ولذلك تجعد فعي كتبعه‬
‫التي كتبها في مصر ما ينم عن الحوال والمور التي‬
‫كانت موجودة في مصر ل يعلمها أهل العراق ‪.‬‬
‫رابعععاً ‪ :‬لن الشافععي زاد عقله وتعم نضجعه ونمعت‬
‫تجربته بالسن‪ ،‬وبمخالطة الناس ورجال العلم‪.‬‬
‫ولذلك قال المام أحمعد لمعن سعأله ‪ :‬عليعك بالكتعب‬
‫التي وضعها الشافعي في مصعر فإنه وضع هذه الكتب‬
‫بالعراق معن قبعل ولم يحكمهعا أو يضبطهعا‪ ،‬ثعم رجعع إلى‬
‫مصر فأحكم ذلك وضبطه‪.‬‬
‫ولهذا ولمعععا جبعععل عليعععه الشافععععي معععن الصعععدق‬
‫والخلص والنيععة الصععالحة فععي طلب العلم وتعليمععه‪،‬‬
‫ولمعا كان عليعه معن حسعن الدب والتربيعة والتعليعم لمعن‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪46‬‬
‫الرباني‬
‫حوله‪ ،‬ولمعا عنده معن سععة العلم والفهعم والطلع على‬
‫نصوص الكتاب والسنة ‪.‬‬
‫ولمعا أصعله معن القواععد التعي احتاج إليعه معن بعده‪،‬‬
‫حتى ظل كتابه (الرسالة) إلى اليوم هو أفضل كتاب في‬
‫أصععععول الفقععععه‪ ،‬وكأن هذا الكتاب ولد متكاملً أو على‬
‫القل ترك بعد وفاة الشافعي مكتملً ل يحتاج إلى مزيد‬
‫‪.‬‬
‫لذلك كله كتعععب ال تعالى للمام الشافععععي القبول‬
‫عند الناس وصار أحد الئمة المتبوعين ‪.‬‬
‫ول يضر المام الشافعي في بعض من تبعوه نوع‬
‫معن التعصعب‪ ،‬فإنعه كان أبععد الناس ععن ذلك‪ ،‬ولهذا قال‬
‫الحميدي‪ :‬رأيععت الشافعععي يوماً يسععتدل بحديععث عععن‬
‫رسعول ال صعلى ال عليعه وسعلم‪ ،‬فقلت له‪ :‬يعا إمام هعل‬
‫تقول أنععت بهذا؟ قال‪ :‬فغضععب‪ ،‬وقال لي‪ :‬هععل رأيتنععي‬
‫خارجًا مععن كنيسععة أقول لك‪ :‬قال رسععول ال صععلى ال‬
‫عليه وسلم‪ .‬وتقول لي‪ :‬هل تقول به!‬
‫‪47‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫وصعح عنعه قوله‪ :‬إذا صعح الحديعث فهعو مذهعبي‪.‬‬


‫وهذا منقول عن غيره من الئمة‪.‬‬
‫فالواجععب على الطلبععة والتباع أن يسععتفيدوا منععه‬
‫وأل يتعصعععبوا له؛ فكعععل يؤخعععذ معععن قوله ويترك إل‬
‫صاحب ذاك القبر صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫نسععأل ال أن يجعلنععا مععن أتباعععه ويحشرنععا فععي‬
‫زمرتعه‪ ،‬ويرزقنعا وإياكعم العلم النافعع والعمعل الصعالح‪،‬‬
‫وأن نتحلى بآداب وأخلق العلماء ‪.‬‬
‫وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى‬
‫آله وصحبه وسلم ‪.‬‬

‫‪‬‬
‫الفيلسوف‬ ‫‪48‬‬
‫الرباني‬

‫الفهــرس‬
‫الصفح‬ ‫الموضوع‬
‫ة‬
‫‪3‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪..........................................................................‬‬
‫‪7‬‬ ‫السيرة الذاتية ‪..............................................................‬‬
‫‪10‬‬ ‫عقله ولسانه ‪................................................................‬‬

‫‪25‬‬ ‫فواصل في سلوك المام الشافعي‬


‫‪.................................‬‬

‫‪28‬‬ ‫مروءات الشافعي ومكارمه‬


‫‪.........................................‬‬

‫‪31‬‬ ‫مكانته وآثاره العلمية‬


‫‪..................................................‬‬
‫‪36‬‬ ‫تأصيل علم الصول‬
‫‪....................................................‬‬
‫‪39‬‬ ‫لماذا تغير مذهب الشافعي؟‬
‫‪49‬‬ ‫الفيلسوف الرباني‬

‫‪..........................................‬‬
‫‪43‬‬ ‫‪.......................................................................‬‬ ‫الفهرس‬
‫‪‬‬

You might also like