Professional Documents
Culture Documents
مقالت
)أدبيات أحمد مطير غير الشعرية (
-الدودة والعلف
)-بل عنوان(
-مرشح رئاسي
-لوحة سريالية
مستتب! -المن ُ
-كل الطرق تؤدي إلي قبرص!
صة المظلومة -الق ّ
-هتلر
-فروض الواجب
-الشيخ العرياني!
-العصا واِلهراوة
-رقابة ذاتية!
-الّتهمة!
-لعزاء للسّيئات!
-الوليمة
-النفط ..مقابل البغاء!
-مفتي الهلل!
-إسلم َأباد!
-قلب كبير
-دوائر
-الزاليا الحمراء )(1/3
-الزاليا الحمراء )(2/3
-الزاليا الحمراء 3/3
-خط بين نقطتين
-سوق الخطف
سيرك -في خدمة ال ّ
كرة عاقل! -أوراق من مف ّ
-شرف سعيد أفندي
-ساعة شيطان )مرافعة خصاونّية(
-بلد الربعة!
عمي -ال َ
-تخليص البريز
-الّرجل الّتصويري!
-صدقات
-ثلج
-المنبوذ
سّلم
-المرأة علي ال ّ
-الحكيم الخضر
-أصدقاء رائعون
-الوهم
-الخ الكبر ..إلي البد!
-جامعة الصفار
-من أين يبدأ مسعود؟
1
-أصل وصورة
-منبع الخوف
سير -عكس ال ّ
-قائد الطّيارة الورقّية
-مداواة الحنين
صادر ..والوارد -ال ّ
-ثقافة الرهاب
دية للضمير المستتر -ه ّ
-بدايات خالدة
-النجليز يتمرغون بتراب الميري
-أفلم أصيلة
-ل تأكل فيل!ً
-كانت لدينا مواسم للمشمش
-تحيا مصر
-ل توجد أدلة!
-الشيخ عبد يؤبن!
-استطلعات
قربة؟! -أين هي ال ِ
-أرزقنا مقاومة غير شريفة!
-الّرجل الموسوعة!
-منهج في النتحال!
-المسيسّبي!
-المحروم!
مخّيلة -دور ال ُ
فق ش َ -نطاق ال ّ
-مشكلة ..في جميع أحواله!
-الهاربان!
قها! قهاَ .. َ -
-ترام بجنيهين!
مشارط وأقلم َ -
صين!... ّ ال في -ولو
-للكتب أرواح!
-رواية تنعي كاتبتها!
-يا خالق الجرادة!
-العهد الّزاهر!
-بالمشمش )) (3-1رجل المن(
-بالمشمش )) (2/3رجل الّرقابة(
سلطة( -بالمشمش ) 3/3رجل ال ّ
مت الموافقة -ت ّ
-كتب مشاكسة!
-البطة التي ماتت من الضحك
-الموت لنا
-لغة الضداد !
-البحث عن الذات
-فلم واقعي
-وجه
-يحدث في بلدنا
-قضية دعبول
-ما بعد الزوال
-مكان شاغر على القمة
-نوع العقوبة
2
ق في الفؤاد ..وكلمة فوق اللسان ..
-مابين خف ٍ
دودة والعلف
ال ّ
الطغيان دودة.
أين توجد هذه الدودة؟
آخر المعلومات تفيد أنها توجد فقط في أعماق كل نفس بشرية.
العمر التقريبي لهذه الدودة يحسب بالدقائق ،لكنها فور حصولها علي العلف ،تتحول
إلي بقرة أو فيل أو ربما كرة أرضية!
أين يوجد هذا العلف؟
المعلومات المتوفرة حتي الن تقول إنه محصور فقط في كل نفس بشرية.
ن دودة الطاغية متجانسة مع دودة الخنوع لدي جماهير الشعب بعبارة موجزة :إ ّ
العظيم.
ل ذنب للطاغية سوي دودته ،الذنب كل الذنب في منتجي أعلفها ،المتطوعين للخنوع،
والمبالغين في الخنوع ،والمبالغين في المبالغة.
ماذا يمكن للطاغية أن يكون؟ ديناصورًا؟
حتي الديناصورات انقرضت حين لم تجد العلف.
من فرعنك يا فرعون؟
ً
من حق فرعون أن يتساءل أيضا :ألكم عين لتسألوني مثل هذا السؤال ،بعد أن فتقتم
دودتي من فرط التخمة؟!
قال الشاعر القديم ..ابن القديمة:
)ما شئت ل ما شاءت القداُر
م ،فأنت الواحد القهار(! فاحك ْ
أعطه يا غلم ألف درهم.
ألف درهم يا غبي؟ كل هذه المعلبات الكافية لطعام مليون دودة ..نظير ألف درهم
فقط؟!
ّ
احتاج الشاعر الغبي بضعة قرون حّتي يتعلم بعض قواعد القتصاد ..لكّنه لم يستطع
برغم ذلك أن يبالغ في مطالبه لن الدودة قد تحولت إلي دّبابة وصار غاية ما يعطيه
)الغلم( هو نعمة البقاء علي قيد الحياة.
)لولك يا محقان ما طلع القمر
لولك يا محقان ما هطل المطر
لولك يا محقان ما نبت الشجر
خلقَ البشر(. لولك يا محقان ..ما ُ
دس من خلق والدنا آدم -رحمة الّله عليه -هو إطعام ّ المق الهدف خلصة القول ان
دودة محقان !
م ل؟ هنيئا وعافية. ول َ
ن في الشاعر دودة ؟!عندما غضب محقان الموقر وأتدهشنا دودة محقان ،ول ُيدهشنا أ ّ
علي بائع العلف ،صاح بصوته الجهوري :يا غلم ..اقطع لسانه.
ما الفائدة؟ أبعد َ استهلك العلف؟
كر )كافور( إل ّ وتفيض خياشيمه برائحة المسك .دخل مصر منا )المتنبي( ل يتذ ّكان ع ّ
حاذا ً ول كسيحا ً ول مظلوماً. فلم يَر فيها ش ّ
معه حق :رائحة المسك ُتسكر .هل يستطيع أن يري والمسك واقف في عينيه قال:
3
عفوهُ فني بذنبك َ )أبوالمسك لي َ
ه(
ولكنه يفني بعذرك حقد ُ ُ
ما للمسك! وبنظرة سريعة إلي طبيعة هذا العلف ،يجوز لنا أن نعتبر دودة كافور أ ُ
ّ
هل نمسك الخشب؟ ليس ضروريًا ،أصابت العين ،وانكشف الحسد.
أغلب الظن أن دودة كافور -برغم انتفاخها ما شاء الله -لم تشكر النعمة.
ماء ُ
يا غلم ...أعطه أذنا ص ّ
أهكذا؟ اسمع إذن:
ُ
ل إذا كنت حافيا(. ل ،إّنني رأيُتك ذا نع ٍ ك في الّنع ِ )وتعجبني ِرجل َ
منا ،هذه المّرة .لن )كافور(يلبس حذاًء ..إذ كيف يجوز هذا وِرجل كافور جب ع ّ تع ّ
نفسها حذاء؟!
منا علي قفاه!ّ ع ركل الذي الحذاء نفس أنه فنعتقد ما نحن أ ّ
ما الفائدة؟ أبعد استهلك العلف؟
مّرة استوقف قاطع طريق رجل ً وامرأته.
قال للزوج :أذبحكما ،أو ترقص لي زوجتك.
قال الزوج :ارقصي وخّلصينا.
رقصت الزوجة ساعة ،وعفا عنهما قاطع الطريق.
ت؟ت ما فعل ِ قال الزوج بعد هذا :لماذا فعل ِ
أجابته مندهشة :أنت أمرتني بذلك!
قال لها :أردتك أن تخّلصينا ،ل أن تنافسي سهير زكي !
كان هناك رجل اسمه طالب عاش في مطلع هذا القرن في بلد واق الواق .قيل إنه
فكر بترشيح نفسه لمنصب الحاكم ،وانطلق يزور المناطق باذل ً المال لستجماع
النصار .فماذا حصل؟
كادت دودته الناشئة تموت من ثقل الوجبة.
أول طبق مقّبلت قدمته الجماهير العظيمة كان عبارة عن أهزوجة تقول:
)ثلث لّله وثلثين لطالب وثلث الّله يطالب بيه طالب(!
السؤال الذي يطرح نفسه :هل كان بمقدور الشيطان الرجيم أن يأتي بمثل هذه
الهزوجة؟
ن طالب نال المنصب ،فاستولي علي الثلث والسؤال الذي يجمع نفسه :ماذا لو أ ّ
الباقي؟ أين يذهب الّله؟!
والسؤال الذي يضرب نفسه علي عجيزته :ما ذنب الدودة؟!
ن أحد الولة كان لديه جمل يحّبه جدًا ،وكان يطلقه في السواق ،فيعبث ويدمر قيل إ ّ
ً
كما يحلو له ،طردا للكآبة والضجر ،حّتي ضاق به الناس ذرعا ،وعقدوا العزم علي ً
شكايته للوالي.
ً
اجتمع التجار وانتخبوا خمسين رجل من ذوي الرأي والشجاعة ،وأرسلوهم إلي قصر
الوالي لعرض الشكوي.
ّ
بعد دقائق من مسير الوفد تملص ثلثة .وفي منتصف الطريق كان الوفد قد أصبح
ل ،وعند الوصول كانوا خمسة! ثلثين رج ً
ّ
صاح رئيس الوفد :يا حضرة الوالي المعظم..
ل الوالي من شرفة القصر :نعم ..ماذا تريد؟ أط ّ
التفت الرجل فلم يجد من جماعته سوي اثنين.
ظم.. قال :جملكم ،يا حضرة الوالي المع ّ
مولي؟! مولي؟ ماذا جري لج ّ تساءل الوالي :ج ّ
التفت الرجل فلم يجد صاحبيه!
مولي مسكين يا حضرة الوالي .ل نراه إل حزينا ً وساهمًا .إنها الوحدة حينئذ قال :ج ّ
مولي يحتاج إلي ناقة تؤنس وحشته .أما آن الوان لن تزوجوه؟ قاتلها الّله .ج ّ
يا غلم ..أعطه خمسين ُقبلة.
أما جماهير أمتنا العظيمة ..فيا غلم أعطها مليار دودة!
4
)بل عنوان(
مة ما ان تح ّ
ل العطلة الصيفية ،حتي يبدأ دوامنا ،أنا وصديقي ناصر ،في المكتبة العا ّ
بمحّلة الجمهورية.
لم نكن أنهينا البتدائية ،وكان ولعنا هذا بزيارة المكتبة مثار غيظ وسخرية أقراننا ،لكّننا
ألفنا أن نتقّبل سخريتهم باعتبارها ثمنا ً معقول ً لما نستثيره فيهم من غيظ.
كّنا نمكث في المكتبة حتي الظهر ،لنغادرها علي طريق طويل مترب إلي بيت ناصر
دي ونعبث أو نغفو قلي ً
ل ،ثم نعود قية ،أو نواصل حتي بيتنا في الصمعي ،فنتغ ّ
في الموف ّ
عصرا ً إلي قطع الطريق ثانية إلي المكتبة.
وفي واحدة من أوباتنا ،حيث كانت شمس الظهيرة تنفخ الّلهب في تراب الطريق ،لح
لنا علي ُبعد عشرات المتار بريق ساطع يخطف البصر ،سرعان ما تبّين لنا أّنه انعكاس
سد التراب.
ضوء الشمس علي زجاجة ساعة يد أنيقة تتو ّ
في تلك اليام ،كان العثور علي مثل هذه الّلقية بمثابة العثور علي كنز ،فأق ّ
ل ثمن لتلك
الساعة كان يعادل ثلثة أضعاف مصروفنا نحن الثنين طيلة عام كامل!.
-ساعة!.
-ليس عندي شك في سلمة نّيتك ..لكنني ل أستطيع الثقة في نّيات الخرين ،خاصة
أولئك الغرباء الذين لم نتشرف برؤيتهم من قبل.
-انظر بعفوية إلي جانبي الطريق ،وقل لي ..أل تري أحدا ً جالسا ً هناك؟
-هناك أربعة شّبان علي الجانب اليمن ،يجلسون مستندين إلي الحائط.
قلت له بثقة:
مسون في هذا الوقت درءا ً للبرد القارس؟ إّنهم -هل تعتقد أّنهم قد جلسوا يتش ّ
ُ
ينتظروننا يا صاحبي .وأنا سوف لن أخّيب ظّنهم.
تساءل ناصر:
-ماذا ستفعل؟
-ستري ..ك ّ
ل ما عليك هو أن تمشي ببطء.
ذرًا:
أصبحنا علي بعد خطوتين من الساعة .قلت لناصر مح ّ
جبًا ،لكنني صعقته بما هو أعجب ،إذ رفعت رجلي عاليا ً بسرعة خاطفة،حملق بي متع ّ
ً
وة ،فاستحال زجاجها نثارا ،واندفعت النوابض
ثم هويت بقدمي علي الساعة بكل ق ّ
والتروس من جوفها نحو ك ّ
ل الجهات.
-من كان يدريني أنها ساعتك؟ إّنها ملقاة هنا علي التراب ..ل بد أنها قد وقعت من
أحد.
6
وم في يده
-إّنها ساعتي أنا ..انظر ..إنها مربوطة بخيطي أنا ..كان طرف الخيط المتك ّ
مربوطا ً بالساعة فعل ..صرخت به أنا هذه المّرة:
-إذن فقد ربطتها لتجذبها عندما ننحني للتقاطها؟ أليس كذلك؟ تريد أن تضحك ...ها؟
اضحك الن حَتي تشبع.
ولّنه فقد شهيته للضحك ،فقد بادر هو والثلثة الخرون إلي محاولة استيفاء ثمن
الساعة من جسدينا الضئيلين ،لكّننا بعد استيفاء القسط الّول ،استطعنا أن نتمّلص
ونطلق سيقاننا للّريح.
فوا عن مطاردتنا إل ّ بعد اقترابنا من بيوت الموّفقية ،وعندئذ أبطأنا من سرعتنا، لم يك ّ
سس كدماتنا الحارقة ..لكننا سرعان ما طفقنا نضحك. ّ نتح لهاثنا، أثناء في ورحنا،
قلت لناصر:
دد:
قلت بل تر ّ
-لنني خبير في مثل هذه المعارك ..لقد سبق لي منذ شهور أن ربطت ربع دينار
بخيط ،ورابطت عند الحائط منتظرا ً الفريسة.
لم تكن فريسة واحدة .لقد كان هناك ثلثة شّبان يمشون بك ّ
ل وقار ،لكنهم ما ان رأوا
الورقة النقدية حتي زال وقارهم كّله ،وانحنوا في وقت واحد ،وسقطوا علي الرض
معًا ..إذ أنني ولّله الحمد كنت سريعا ً جدا ً في جذب الخيط.
سألني بذهول:
-ونجوت؟!.
قلت له:
وأضفت متّنهدًا:
-كما تري ،فإنني في تلك المّرة أيضا ً خسرت المعركة وكسبت الحرب.
وج ضحكته:
قال ناصر وهو يم ّ
-نصيحة لوجه الّله ..حاول أن تخسر بعض الحروب من وقت لخر ،وإل ّ فإ ّ
ن انتصاراتك
فيها دائما ً سوف لن تبقي في جسدك عظما ً واحدا ً يصلح للستعمال.
مر ّ
شح رئاسي
7
منذ مائة وخمسة وعشرين عاما ً بالضبط ،أي في عام 1879،ارتأي الكاتب المريكي
ح نفسه لمنصب الرئاسة في بلده .ولم يكن ،بالطبع، الساخر )مارك توين( أن ُيرش ّ
ن الفساد هو جوهر جميع المرشحين لهذا جاد ّا ً في هذا المر ،لكّنه أراد الشارة إلي أ ّ
ن سّر التفاوت بينهم يكمن في كون بعضهم يستخدم مساحيق التجميل المنصب ،وأ ّ
بمهارة كافية لطمس ماضيه السود!
وعليه فإن النقطة الساسية التي ارتكز عليها )توين( في خطاب ترشيحه ،هي أنه أكثر
المرشحين جدارة بالثقة ،لنه أّول وآخر مر ّ
شح يعلن عن مفاسده منذ البداية!
وفي ما يلي خطاب الترشيح المنشور في كتاب قصصه ومقالته ضمن سلسلة
الكلسيكيات التي تصدرها دار )بنغوين(:
ن أية محاولة لتشويه سمعته إذا كنت تعرف منذ البداية أسوأ الشياء عن المر ّ
شح ،فإ ّ
سوف تكون فاشلة .إنني ،الن ،أدخل الساحة بملف مفتوح .سأعترف مقدما ً بكل
ت أية لجنة في الكونغرس لها موقف الشياء الشريرة التي اقترفتها .وعليه فإذا ف ّ
كر ْ
قب في سيرتي بأمل العثور علي صنيع أسود ومميت أخفيته، عدائي مني ،أن تن ّ
فلتفعل.
دي المصاب ج ّ
في المقام الّول أعترف بأنني ،في شتاء عام 1850م ألجأت َ
بالروماتيزم إلي تسّلق شجرة .لقد كان عجوزا ً وغير حاذق في صعود الشجار ،لكّنني
بشخصيتي الوحشية الممّيزة جعلته يعدو مسرعًا ،بثياب النوم ،خارج الباب المامي،
متحاميا ً من الخردق الذي كنت أطلقه عليه من بندقيتي ،مما ساعده علي أن ينطلق
قب ،حيث أمضي الليلة كّلها هناك ،فيما كنت أس ّ
دد قي ْ َ
مة شجرة ال َ
فة ورشاقة إلي ق ّ
بخ ّ
الطلقات نحو ساقيه.
فوا هذهاعترف صراحة بأنني هربت من معركة غيتيسبرغ .لقد حاول أصدقائي أن يلط ّ
غل في الغابةالحقيقة بتأكيدهم علي أنني فعلت ذلك بهدف محاكاة واشنطن الذي تو ّ
ن هذه كانت حيلة بائسة منهم ،لن خلل معركة فالي فورغ ،من أجل تأدية صلواته .لك ّ
السبب في انطلقي خارج مدار السرطان هو أنني كنت خائفًا .إنني أحب إنقاذ بلدي،
ضل أن يتم إنقاذها علي يد شخص آخر .ول أزال أفضل هذا الخيار حتي الن. لكنني أف ّ
إذا كان إحراز المرء لفقاعة السمعة الطيبة ل يتم إل بمواجهة فوهة المدفع ،فأنا
مستعد للذهاب إلي هناك ،علي شرط أن تكون فوهة المدفع فارغة.
أما إذا كانت محشوة بالذخيرة فإن هدفي الخالد الذي ل يمكن تغييره هو أن أقفز فوق
د ،لكنها ليست
السياج وأمضي إلي البيت .أفكاري المالية واضحة الملمح إلي أبعد ح ّ
واعدة ،ربما ،بزيادة شعبيتي بين المدافعين عن التضخم.
صر علي التميز الخاص للنقود الورقية أو النقود المعدنية ،فالمبدأ الساسي
أنا ل أ ّ
العظيم في حياتي هو أن أستولي علي أيّ نوع استطيع أن أصل إليه.
الشاعة التي تقول انني دفنت عمتي الميتة تحت عريشة العنب ..صحيحة.
8
متي كان لب ُد ّ لها أن ُتدفن ،وعلي هذا فقد كّرستها
العريشة كانت تحتاج إلي سماد ،وع ّ
سامي .هل في هذا ما يجعلني غير لئق للرئاسة؟ إن دستور بلدنا ل لذلك الهدف ال ّ
يقول ذلك ،وليس هناك مواطن ،علي الطلق ،قد اعُتبر غير مستحق لهذا المنصب
ذي عريشة عنبه بجثث أقربائه المّيتين .فلماذا ينبغي انتقائي كأّول ضحية بسبب كونه غ ّ
ً
سخيف؟! أعترف أيضا بأنني لست صديقا للفقير .فأنا أنظر لهذا الحكم المجحف وال ّ
مضّيعة.إلي الفقير ،في حالته الّراهنة ،باعتباره كمّية كبيرة من المادة الخام ال ُ
جزر الكانابال،كان ُوبتقطيعه وتعليبه كما ينبغي قد تكون له فائدة في تسمين س ّ
وكذلك في تطوير سوق صادراتنا مع تلك المنطقة .إنني سوف أتقدم بمشروع قانون
حول هذا الموضوع في أّول رسالة لي .شعار حملتي سيكون) :احفظوا العامل الفقير،
ففوه وحولوه إلي سجق هذه تقريبا ً هي أسوأ الشياء في ملفي ،وبها أتقدم لمواجهة ج ّ
بلدي.
وإذا كانت بلدي ل تريدني ،فإنني سأرجع علي أعقابي .لكنني أعتبر نفسي الّرجل
الجدير بالثقة -الرجل الذي يبدأ من الساس الشامل للفساد ،ويعتزم أن يبقي شريرا ً
حتي النهاية!
وهكذا ..يمكننا أن نري أن )توين( برغم مبالغته في السخرية ،قد عرض لنا صورة
فاضلة عن زمانه .إذ لو أنه عاش حتي يومنا هذا ،ورأي رؤساء من نوعية كلنتون وبوش
البن ،فأي شيطان كان سينجد خياله في السخرية؟
مة الميتة ..أمام دفن شعوب كاملة وهي علي قيد الحياة؟
وماذا سيكون دفن الع ّ
وهل كان سيتحدث عن فساده الشخصي لو سمع بقصة مونيكا والرئيس الذي يفعل ما
يفعل فقط لنه يستطيع أن يفعل؟
وهل كان سيذكر شيئا عن فساده المالي ،حين يري عصابة تخطف الوليات المتحدة
وتستخدم جيشها لتدمير كل مكان ،فقط لكي تمل أرصدتها؟!
لوحة سريالية
دثنا الروائي الكولومبي غابرييل ماركيز في مذكراته )عشت لروي( عن أّنه حضر،يح ّ
في شبابه ،عرضا ً غريبا ً بطله جندب كان يقوم بأداء حركات راقصة وفق إشارات من
9
مدّربه ،وكان في نهاية العرض ينحني كأيّ نجم استعراض لتحية الجمهور وسط
عواصف التصفيق.
ن فّنانا ً تشكيليا ً كبيرا ً من بين حضور هذا العرض ،مد ّ يده والتقط
وينتهي ماركيز إلي أ ّ
َ َ
سه في فمه ..وأكله! مد ّ )الجندب( من جناحيه ،ث ّ
ن الحياة المهنية البارعة والنهاية المأساوية لذلك )النجم( تتجاوزان كثيرا ً تخوم
إ ّ
ن الراويّ أ من الرغم علي المتحركة، الرسوم نطاق في لتدخل السحرية الواقعية
جل وقائع حياته التي عاشها فعل ً علي الرض ،بعيدا ً عن الفنتازيا الروائية التي اعتاد
يس ّ
أن يسطّرها علي الورق.
ن ما يراه الناسن ماركيز قد صّرح مّرة بأ ّ دق أّنه ل يبالغ ل بد ّ لنا أن نتذ ّ
كر أ ّ ولكي نص ّ
ً
ل بكثير من غرابة ما يجري واقعيا في أمريكا اللتينية. غرائبيا ً في كتاباته هو أق ّ
ن ما نراه
دقهما دون أن نطالبهما بشهود إثبات ،ل ّ أعتقد أّنه وجب علينا ،الن ،أن نص ّ
ما ً
م أعيننا من وقائع تجري أمامنا يوميا في جميع أنحاء العالم ،يبدو أكثر غرابة م ّبأ ّ
ما بفضل العولمة -يمتاز بكونه خليطا ً عجيبا من الواقعية السحرية ّ رب - هو بل يرويانه،
والسريالية والتجريدية وأفلم الكارتون.
ل شيء ،منذ زمن خخ ك ّونستند في ذلك ،أّول ما نستند ،إلي قاعدة )القاعدة( التي تف ّ
طويل ،لقتل الناس بل تمييز :من توراعورا إلي الفّلوجة والعوجة إلي نيويورك إلي
مدريد إلي بالي إلي الرياض إلي الدار البيضاء إلي ما شاء الرعب من بقاع الرض..
وة ،فتزعق عجلت لكّنها ما أن تصل إلي بوابة فلسطين ..حّتي تدوس كوابحها بك ّ
لق ّ
وث ثوبها الطاهر بدم الصهاينةقطارها بشرر التوّقف العنيف ،شاكرة رّبها علي عدم تل ّ
الرجاس!.
ل مكان ما عدا المكان الوحيد الذي يجب أنالقاعدة لدي القاعدة هي الجهاد في ك ّ
يجاهد فيه النسان من أجل قضّية واضحة وعادلة وصارخة بأن أهلها هم أكثر حاجة من
غيرهم ..لغيرة أهلهم!
ومن صور هذا الخليط العجيب الذي تندهش منه الدهشة ويضحك منه البكاء ،ما نشرته
دعيجريدة )السبيل( الردنية من أن مجموعة إسلمية مجهولة قد أرسلت إليها بيانا ً ت ّ
مان ،مرفقة بيانها ب )فوارغ فيه مسؤوليتها عن اغتيال اثنين من الغربيين في ع ّ
الّرصاصات( المستخدمة في عملية الغتيال كدليل علي براءة المحكومين بالعدام في
هذه القضّية.
ومن وراء المحيط ،يفاجئنا المدير الجديد لتلفزيون BBCالبريطاني )مارك تومسون(
ل وظيفته منصاعا ً لصوت ضميره ،وذلك مثلما فعلت سونيا غاندي في الهند!.بأّنه قَب ِ َ
ن هذا العلمي ل يعلم سعة التناقض بين صوت ضميره وصوت ضمير والمفارقة هي أ ّ
ل( وظيفة ستظ ّ
ل صغيرة مهما كبرت ،بينما هي )رفضت( أكبر وظيفة سونيا ،فهو )قَب ِ َ
ّ ً
في بلد كبير جدا بمساحته وبعدد سكانه وبقدم ديمقراطيته!.
10
ن حكاية سونيا غاندي ل تبتعد هي أيضا ً عن غرائبية الخلطة العجيبة ،فعلي
ومع ذلك ،فإ ّ
ما تبعثه تلك الحكاية من مشاعر التقدير والعجاب ،فإّنها تنطوي في الوقت الرغم م ّ
نفسه علي مفارقة كارتونية باعثة علي الضحك:
امرأة من أصل إيطالي تفوز برئاسة وزراء أكبر دولة آسيوية ،وتتخّلي عن منصبها
سم تنصيبه أمام رئيس مسلم ،في بلد غالبية لرجل سيخي يضطره البروتوكول لتلوة قَ َ
س ّ
كانه من الهندوس!.
صة معاهدة
نق ّدة أعوام ،وإل ّ فإ ّ
حسن حظ )هاّنا( و)باربيرا( أّنهما ماتا قبل ع ّ من ُ
ماها في فيلم كارتوني ،كانت ستبدو لهما ّ قد التي وسبايك( وجيري )توم بين الصلح
حفل ً جنائزيا ً أمام كوميديا هذه الحكاية الجارية فعل ً في واقع البشر.
ما ً وهو
حسن حظ )سلفادور دالي( أّنه لم يعش حتي وقتنا الراهن ،وإل ّ لمات غ ّ ومن ُ
ن
ّ أ يري عندما ة ص
ّ ً خا اللوحات.. في الذائبة( )ساعاته مع ة
ً باهت تسيح سرياليته يري
ساعاتنا ،نحن العرب ،تسيح علي عماها ،دون عقارب أو أرقام!.
مستتب!
المن ُ
أمل الغد
وة من المخبرين ثلثة مخبرين من أهل المخبر المنتحر ..كان تقريره قد أكد ّ إقتادت ق ّ
وة المخبرين القابضة ،ينتظرون بأمل فرصة القبض عليهم ّ ق أفراد بقي فيما خيانتهم،
بناء علي تقارير المخبرين الخرين.
وكما ينتهي أغلب الفلم بميلد طفل كرمز للمل في البقاء والتواصل ..يسّرنا ،هنا ،أن
نؤكد للجماهير المتطلعة إلي غد مشرق سعيد ،أن مخبرة من أهل الزقاق ،وهي
ظ حامل في شهرها الخير ،شعرت بآلم المخاض ،ولم تلبث أن انطلقت لحسن الح ّ
من بين فخذيها صرخة تقرير مؤنث.
فساد
مي بالبكاء.
انفجرت أ ّ
قال أبي بحرقة :إذا لم ينفجر هذا الصاروخ الملعون ويقتلنا ،فسُيقبض علينا وُنعدم
بتهمة حيازة ممتلكات عائدة للدولة.
قلت لبي مواسيًا :سنقول لهم إّننا كّنا مستعدين تمامًا ،لك ّ
ن الصاروخ هو الذي رفض
أن ينفجر.
قال أبي :سيتّهموننا بإعاقة عمل صاروخ أثناء تأدية واجبه الرسمي.
داهم بيتنا خبراء المتفجرات ،وحملوا الصاروخ وهم في غاية الشعور بالخيبة
والمتعاض.
قال لنا الضابط الكبير :ل تخرجوا ..امكثوا في البيت ..سنرسل ،في الوقت المناسب،
طائرة لقصفكم.
وفيما كّنا ننتظر الطائرة الموعودة ،سمعنا في الذاعة خطابا ً تاريخيا ً للرئيس ،تكّلم فيه
بغضب وضراوة عن صفقة الصواريخ الفاسدة!.
12
كل الطرق تؤدي إلي قبرص!
ل يهمني أن تظل قضية قبرص بل حل الي أبد البدين ،لكنني ،مع ذلك ،مضطر الي
متابعة تطوراتها بسبب اضطراري الي حلقة شعري كل شهر ذلك لن حلقي قبرصي
يوناني ،وهو ينتظرني بفارغ الصبر ليناقش معي ،حال جلوسي علي الكرسي ،آخر
مستجدات تلك القضية ،ولبد لي من مجاراته ،لكي أستطيع من خلل تعاطفي ان
ألفت نظره ،بين الحين والخر ،الي الهتمام بالقضية ذات الولوية التي جئت من
أجلها :حلقة شعري!
كان ولدي بصحبتي حين توجهت الي الحلق في المرة الخيرة ،ووجدتني أشكو اليه
بّثي كأنني مقبل علي كارثة:
-ل أدري ماذا أصنع؟ إن اسابيع مرضي الطويلة شغلتني عن متابعة أهم ما يتعلق
بقضية بلدي ،فما بالك بقضية قبرص؟
13
تساءل ولدي بدهشة:
قلت له:
إنه شأني يا ولدي ..وستري ان صديقي جورج سيبدأ المعزوفة حتي قبل أن أجلس
علي الكرسي .إن شعري مبرمج علي ذلك ،إذ ل يمكن لجورج ان يقص لي شعري
دون ان يقص علي قضيته .بادرني ولدي بطوق نجاة:
-اسبقه أنت هذه المرة .اخترع فاجعة من أي نوع واشغله بها حتي النهاية.
وجدتها فكرة جيدة ،فبدأت أبرم خيوط مأساة قابلة للستطالة ،حتي اذا دخلنا الصالون
ووجدناه خاليا ً من الزبائن ،ساورني القلق ،فهمست لولدي:
حييت جورج ،وانطلقت رأسا ً نحو المغسلة ،فتبعني وهو يسألني عن الحوال ،وتلك هي
عادته قبل ان يبدأ العزف ..فاغتنمت الفرصة حال ً واطلقت زفرة حارقة:
-أوه يا جورج ..ل تسأل .إنها كارثة .كارثة بكل المعاني .لم يبق لي من كل اسرتي
سوي أمي ،وهي عجوز متهالكة ل أظنها ستعيش بعد هذه الصدمة .تباطأ جورج وهو
يصب الشامبو في كفه استعدادا ً لفرك شعري ،وتساءل بهلع واضح:
-ماذا حدث؟!
-ل أدري من أين أبدأ ..لقد وقع انفجار في البصرة فأودي بحياة جميع أهلنا في
العمارة.
صفر جورج متأثرا ً وأبدي جميع ألوان الحزن والسي وكفت يداه عن فرك شعري،
لكنني في اللحظة نفسها ،كنت مشفقا ً علي ولدي الذي أعلم انه كان يحاول جاهدا ً ان
يكتم ضحكته .فالمسافة بين البصرة والعمارة تستغرق ساعتين بالسيارة ،اذا انطلقت
بأقصي سرعتها .قلت بحسرة:
-شكرا ً لله علي أن أمي لم تكن في العمارة عند وقوع النفجار .ل أحد يعلم علي وجه
اليقين من هم الوغاد الذين وراءه.
فرك جورج شعري بعصبية ،ومضي الي التضامن معي الي أقصي حد ،اذ بادر متطوعا ً
بأريحية الي كشف الغموض عن هذه القضية.
-إنهم التراك ..صدقني .هذا ما يفعلونه دائمًا .انهم يغتنمون أية فرصة لكي يقوموا
بالتخريب ،ول تنس ان البواب مشرعة امامهم بسبب علقتهم القوية بأمريكا
واسرائيل .سلني عنهم.
-من باعتقادك وراء النفجارات الخيرة في أثينا؟ انهم هم ..لقد ساءهم ان يصوت
القبارصة اليونانيون ضد انضمامهم الي التحاد الوروبي .هم يحسبوننا أغبياء لنقول نعم
..كل ،عليهم ان يدفعوا الثمن أول ً برفع أيديهم عنا .نحن القبارصة اليونانيين والتراك ل
شأن لنا بتركيا ..ليرفعوا أيديهم عنا.
14
ومضي يطقطق بالمقص ليصنع توازنا ً بينه وبين طقطقة فكيه.
ولمحت في المرآه وجه ولدي ،ورأيته يرفع يديه وحاجبيه معًا ،اشارة الي ان ل فائدة
علي الطلق من طوق النجاة ،المر الذي حفزني علي مقاومة الغرق بكل ما أوتيت
من قوة ،فخبطت الموج بيد العاريتين ،محول ً الموضوع نحو جهة بعيدة جدًا:
اسمع يا صديقي جورج ..لدينا نكتة تروي عن صاحب الجمل .إنه تلميذ مهووس
بالجمل ،فمهما كان موضوع درس النشاء فانه لبد ان يتحول بين يديه الي حديث عن
الجمل ..وقد وجد المدرس ان الحل الوحيد لهذه المعضلة هو ان يوجه التلميذ لكتابة
ل :إن الكمبيوتر جهاز الكتروني حديث موضوع عن الكمبيوتر ،فبدأ صاحبنا موضوعه قائ ً
قد انتشر في جميع مدن العالم ،لكنه لم يصل الي الصحراء ،فأهل الصحراء ل يتمتعون
بخدمة الكهرباء ،وهم يعيشون متنقلين طلبا ً للعشب ،ووسيلة نقلهم هو الجمل،
والجمل حيوان يستطيع ان يختزن في جوفه الماء والطعام لفترة طويلة ..وهكذا.
ولم يبق أمام المدرسة ،بعد هذا ،إل ان تطرد هذا التلميذ ،فكتب شكوي الي وزير
التربية قال فيها :إنني علي الرغم من ظلم المدرس لي ،فقد تحملت هذا الظلم
ل ،وصبرت عليه صبر الجمل .والجمل كما تعرف سعادتك هو حيوان يعيش في طوي ً
الصحراء ،ويتصف بالصبر والقدرة علي اختزان الماء في جوفه لفترة طويلة.
انفجر جورج ضاحكًا ،ونسي كل ما كان من كارثتي التي ُتبكي الحجر ،فحمدت الله
علي نجاتي ،وغمزت لبني في المرآة ،فوجدته يبتسم فرحا ً لقدرتي علي النتصار
أخيرًا .وطقطق جورج بالمقص فالتهم خصلة من شعري ،لكنه لم يلبث أن توقف،
وقال وهو ل يزال يضحك.
-أتعرف؟ لقد أصبت الهدف تمامًا .إن صاحب الجمل هذا مثل تركيا بالضبط .كلما
حاولنا ان ننجو بأنفسنا باعتبارنا دولة اسمها قبرص ،عضت علينا بأسنانها باعتبار ان
نصف القبارصة أتراك.
ومضي في معزوفته حتي نهايتها المعهودة ،وهو ل يكف عن الضحك بين الفينة
والخري ،من صاحب الجمل ،دون ان يخطر في باله انه هو نفسه صاحب الجمل.
-لم يعد في القوس منزع ..إما ان تحل قضية قبرص ،واما ان أبدل هذا الحلق.
والمشكلة هي انني ل أستطيع تبديله ..فهو حلق جيد.
قال ولدي ،وقد تأكد من ان جورج محصن ضد أية خطة حربية مهما كانت بارعة:
15
صة المظلومة
الق ّ
العمل الّول لدي أيّ مبدع هو المعّبر المثل عنه ،وهو القرب إلي قلبه مهما مسح
ضا ً أو ِغّرا ً ساذجا ً أو
تعاقب الّيام الغبار المتراكم علي صورته الطفولية ،فبدا ضئيل ً غ ّ
ضعيف البنية مثّرم السنان.
إّنه البن الّول ،وحسبه لموقعه هذا أن يستأثر بالقسط الوفر من المحّبة والحنان ،ولو
لحقون وفاقوه وسامة وعافية.تكاثر أشقاؤه ال ّ
صة المصرية والعمل الّول للقاص الّراحل محمود طاهر لشين -أحد أبرز رّواد الق ّ
والعربية -هو واحد من هؤلء البناء الوائل المحفوفين من آبائهم بالمحبة الفائقة ،لكن
ن أباه كان رائدا ً في مجاله، حسن ح ّ
ظه هذا قد أورده أسوأ المهالك ،ل لشيء إل ّ ل ّ
ً ً
المر الذي اقتضاه جهدا كبيرا في التأسيس والتجريب والعادة والتعديل ،لكي يضمن
لقصصه )أبنائه( بلوغ الغاية المثلي من العافية والوسامة والنضج ،والوصول بها إلي
الكمال الفني المطلوب شكل ً وموضوعًا.
صة لشين كانت ل تستقر علي الورق إل ّ بعد مخاضات كثيرة ،تبدأ من نق ّ وإذا علمنا أ ّ
م المضي بها تقليبا ً وتعديل ً
ّ ث الدباء، أصدقائه من للعديد روايتها ثم ً
ا، ذهني عليها اشتغاله
صته
وتشذيبا حتي مستودعها الخير ،فإننا سنعلم مقدار ما كابده من جهد في كتابة ق ّ ً
صة حديثة مكتملة الشروط كأختها صح( حيث لم يكن أمامه أيّ نموذج عربي لق ّ الولي ) َ
الوروبية التي سبقتها إلي التأسيس والكتمال بعقود طويلة.
صح( التي كتبها لشين قبل ثمانين عامًاُ ،تعد ّ نموذجا ً رائعا ً للق ّ
صة الحديثة، ن قصة ) َ
إ ّ
ل جهدها في التجريب ،وبلغت لحقة ك ّ حتي بمقاييس أّيامنا ،حيث استنفدت الجيال ال ّ
ور.
صة أقصي ما تستطيع من آفاق التط ّبالق ّ
صة مدّرس حساب رفيع الخلق ،يموت شقيقه فيضطر إلي صح( ق ّيحكي لشين في ) َ
القتران بأرملته ،ليكفل لها الكرامة والستر ،وليكفل لولدها ما يستحق من الرعاية.
16
دراسة ،لكّنه يبقي
ويبلغ الولد مبلغ الشباب ويدخل في سلك الموظفين بعد إتمامه ال ّ
مه دوما ً بالرعاية الح ّ
قة. مقيما ً مع ع ّ
مه الذي أحاطه وأ ّ
من يقوم علي شؤونهما ،فيستأذن العم ابن أخيه،وحين تموت الزّوجة ،يخلو البيت م ّ
دد الشاب في الموافقة.قبل أن يتزوج بامرأة ثانية ،فل يتر ّ
ب الفتي،
صة ،حيث تكون الزوجة الجديدة شابة ،فيخفق قلبها بح ّ وهنا تبدأ عقدة الق ّ
وة المشاعرّ ق برغم هما
ّ لن نفسيهما، جماح يكبحان نهما ّ لك بها،
ّ بح ويخفق قلب الفتي
ً
ما ،ويعترفان بنبله وفضله ،ويحترمانه إلي أبعد حد. ً
الفطرية ،يحّبان الّرجل حب ّا ج ّ
مه
ولكي يقمع أية زلة محتملة ،يقرر الفتي في النهاية أن يغادر المنزل ،وحين يصارح ع ّ
و ،ل يقتنع الخير بتلك السباب ،ويحاول ،فيما
برغبته في السفر إلي بلد آخر لتغيير الج ّ
ّ ً
هو منهمك بتصحيح الدفاتر ،أن يثنيه عن عزمه ،طالبا منه أن يترّيث ويفكر في
الموضوع.
سلة إليه
وينقلب الفتي إلي حجرته ،فتهمس له الزوجة من وراء الباب شبه باكية ،متو ّ
أل ّ يسافر ،فُيدخلها بسرعة ،ليصارحها بأّنه متعّلق بها ،وهو يعلم أّنها متعلقة به أيضاً،
مه صاحب الفضل عليه .فتعترف لكّنه مستعد لمكابدة الهوال ،علي أن يسيء إلي ع ّ
له بأّنها تحترم زوجها كثيرًا ،ول يمكن أن ُتقدم علي اقتراف أيّ فعل ُيسيء إليه ..لك ّ
ن
أمر المحّبة ليس في يدها.
وفي تلك اللحظة ،يقرع باب الحجرة ،ويلوح العم وراء الباب.
ل شيء ،لكّنه يحاول جاهدا ً أن ُيعقل عواصف نفسه .وبعد إطراقة كان العم قد سمع ك ّ
ن الذنب ليس ذنبهما ،وعليهما
صمت طويلة محتدمة بالمشاعر المتضاربة ،يقول لهما إ ّ
ل حادث حديث. أن يأويا إلي فراشيهما ،وفي الصباح سيكون لك ّ
ن صدمته ما ويعود إلي تصحيح دفاتر المتحانات ،حانقا ً حائرا ً مثقل ً بالفكار السوداء ،لك ّ
ملساعات ،أن تفتر ،وما يلبث الصفاء أن يعاود نفسه ،فيقّرر بعد تأ ّ تلبث ،علي مّر ال ّ
ن ما حدث ليس غريبًا ،ويقول في سّره) :الشاّبة للشاب ..وهذا هو قانون طويل أ ّ
الفطرة(.
صح(.
دةَ ) :
ويتناول أّول دفتر أمامه ،فيفتحه ،ويكتب تحت الجابة بضربة حا ّ
صة،
دية في الق ّ ن طاهر لشين المولع بالتغيير والتعديل ،قد أعاد التفكير بج ّ لكن يبدو أ ّ
سف في إجراء مثل تلك النهاية وتمعن في ورأي ،بعد عام من نشرها ،أّنه قد تع ّ
شخصيات القصة فوجدها جميعا ً شخصّيات بريئة لم تقترف إحداها جرما ً يقتضي أن
صب نفسه قاضيا ً قاسيا ً مبرم الحكام ،ليصدر الحكم سريعا ً وباترا ً لصالح إحداها علي ُين ّ
الخري.
ب جميع شخصيات قصصه ،حتي الخاطئة والمجرمة منها، قاريء لشين يعرف أّنه يح ّ
ويعاملها بحيادية نابعة من عطفه علي ضعف النسان .فكيف يمكن لكاتب كهذا أن
يقترف جريرة إبداء حكم قاطع في قضّية جميع أطرافها أبرياء يواجهون قدرا ً ل حيلة
لهم أمامه؟
صة في دفع لشين إلي ن مخاض تأنيب الضمير ،قد أفلح بعد عام من نشر الق ّ يبدو أ ّ
صة نفسها تظهر منشورة مّرة أخري في مجّلة )الفجر( عام ، ّ بالق فإذا الحكم، نقض
صة بل ً
1925لكن بزيادة سطرين علي أّولها ،وبحذف نهايتها تماما ..ليكون عنوانها )ق ّ
نهاية(!.
17
دة موهبة لشين ،وعظيم مهارته في التجريب،
صة بصورتها الجديدة ،تكشف عن ح ّ الق ّ
ص
دة براعته في توجيه الصياغة والموضوع وجهة أخري ،برغم عدم اختلف الن ّ وش ّ
الثاني عن الّول إل ّ بلمسات طفيفة.
صة التي لم تنته يكون الّراوي قد اشتري طعاما ً في قرطاس ،وبعدما استكمل ففي الق ّ
صة ذاتها،التهامه ،فَرد َ القرطاس فإذا هو ورقة من مجلة قديمة طبعت عليها الق ّ
شابين تكون السطور في م لل ّ
فقرأها كما هي ،لكن عندما يصل إلي مشهد مواجهة الع ّ
الورقة قد انتهت ..ورّبما كانت تكملتها موجودة في ورقة أخري من المجلة نفسها ،وقد
ولت بدورها لدي البائع إلي قرطاس آخر بيعَ فيه الطعام إلي زبون آخر.تح ّ
أيّ براعة!
لقد تخّلص من النهاية تماما ً بهذه الحيلة الفنية الجميلة ،ونأي بنفسه عن الت ّ
دخل في
أقدار شخصياته.
صين معًا..
ن هذه البراعة المذهلة ل يظهر سحرها إل ّ بقراءة الن ّ
ن المشكلة أ ّ
لك ّ
ص الثاني هو وثيقة
ن الن ّ َ
ص الّول ينبغي أن يختفي بعد أن جري تعديله ،ول ّ
ن الن ّ
ول ّ
التعديل التي ل تملك وحدها الفصاح عن البراعة الفّنية التي أبداها الكاتب عند
التعديل ،فقد كتب علي الّنصين معا ً أن يبقيا إلي اليوم مبعدين عن مجموعات لشين
مة أرشيف العمال غير المنشورة في كتب. القصصية الثلث ،ومركونين في ذ ّ
ولم يكن ممكنا ً للقاريء أن يقع علي هذا اللون من البراعة الفنية ،ويستذوق جماله
مة الناقد المرموق الدكتور صبري حافظ ،الذي بذل جهدا ً ملحوظا ً وسحره ،لول ه ّ
ومشكورا ً في جمع أعمال لشين كاملة ،ضمن سلسلة )رّواد الفن القصصي( وأضاف
إلي فضله هذا ،فضل تزيينها بثاقب فكره تعريفا ً ونقدًا.
18
هتلر
كان قد مضي عام علي تعيين أخي الكبر مدرسا ً في العاصمة ،عندما عقدت النّية علي
صة أّنه قد وصف لنا في زيارته ،مؤمل ً أن أجده متوائما مع وظيفته ومح ّ
ل إقامته ،خا ّ
إحدي رسائله المدينة النموذجية التي يقطنها ،فأبلغنا برغم حيادّية الوصف أّنها جّنة
علي الرض.
كان منزل أخي فيّلل واسعة ،تفعم رائحة الورد طابقها الّول القائم بين حديقتين
جميلتين ،وتلمس أهداب الشجار سماء طابقها الثاني ،حيث تقّر المدينة الصغيرة كّلها
صباح
جة المساء المحيطة بها ،وتفتح في إشراقة ال ّ ف غابة رائعة تحبس ض ّفي ك ّ
مغاليق القلوب.
جلسنا في عصر اليوم الّول لوصولي في الحديقة المامية ،حول طاولة بيضاء
حدث ونحن نحتسي القهوة. مغروسة في العشب البليل ،ورحنا نت ّ
-إّنها الجّنة.
-تستطيع أن تأخذها مّني مقابل قطعة صغيرة من جهنم ،شريطة أن تكون خالية من
ضجر.
ال ّ
وبرغم انني أعرف جيدا ً طبع السخرية في أخي ،فقد أدهشني قوله ،ولذلك فقد
جًا:
محت ّ
تساءلت ُ
-كيف يجد الضجر سبيل ً إلي قلب إنسان يقطن مثل هذه البقعة من الفردوس؟!
-تعرف أنني حملت معي إلي هنا عددا ً ل بأس به من الكتب .لقد احتميت بها من
ن ضآلة راتبي ل تسمح ليالضجر خلل شهرين كاملين ،ثم أعدت قراءتها مّرتين .ول ّ
19
بشراء كتب جديدة ،فقد اضطررت في النهاية إلي مواجهة قدري ..فبدأت أجالس
الصدقاء.
تساءلت بدهشة:
كان علي ما يبدو منشغل ً عّني بمراقبة رجل قادم من الناصية البعيدة.
قال ضاحكًا:
حي في
-هاك ..ذلك واحد من أصدقائي .إّنه الستاذ توفيق مسؤول المركز الص ّ
فردوسنا المفقود.
بدا الّرجل وهو يقترب شخصا ً مهمًا ،بقامته المديدة الممتلئة ،وشعره السود المفروق
لمع تحت طبقة ثقيلة من الّزيت ،وببذلته الكحلية النيقة ،ووجهه البيضبعناية وال ّ
ي المشرب بالحمرة ،وبشاربه المعقود علي جانبي فمه علي هيئة حزمتين العف ّ
غليظتين من شعرات الذهب ،بطرفين معقوفين إلي العلي كذنب العقرب علي
الطريقة التركية.
قلت لخي:
-لو كان صديقك هذا راكبا ً سّيارة تجري أمامها دّراجة نارية لحسبُته رئيس الدولة ذاته.
وحا ً
قب أخي بغير ابتسامة باردة ،ورفع يده بالتحية للستاذ توفيق ،الذي ابتدرنا مل ّ لم يع ّ
سلم ّ بال تلويحته ليشفع ريثّ ت الحديقة سياج حاذي ماّ ل ثم ً
ا. مسرع نحونا دم
ّ يتق وهو
ً
ف صوُته الرفيع جدا نصف هيبته الرئاسية. علينا ،فخس َ
ددا ً عندما دعاه أخي للنضمام إلينا واحتساء القهوة معنا ،لكّنه سرعان ما دفع
بدا متر ّ
الباب ودخل ،فنهضنا لمصافحته ،وجذب له أخي كرسيا ً فجلس وهو ل يزال ير ّ
دد
ي بفضول ،ثم سأل:التحّيات ،وينظر إل ّ
أجاب أخي:
-صدقت.
في الواقع لم يكن الستاذ صادقا ً البّتة ..إذ لم يكن هناك أدني شبه بيني وبين أخي ل
في الملمح ول في اللون ول في مقاسات الجثث ول حّتي في نبرة الصوت ،لذلك فقد
بدا لي تصديق أخي القاطع علي ذلك نوعا ً من المجاملة الف ّ
جة التي تأبي إخجال تواضع
الصديق ذي الفراسة الخائبة.
20
تساءل الستاذ توفيق:
دت عّني ضحكة قمعها أخي حال ً بغمزة من طرف عينه ،وواصل قائ ً
ل: ن ّ
ن اسمي هذا لم َيبد ُ غريبا ً بالنسبة لضيفنا الفخم ،ولم يظهر علي ملمحه أ ّ
ي العجيب أ ّ
ة لمصافحتي
دهشة أو الستغراب ،بل أّنه تقّبل السم كشيء مألوف ،ومد ّ يده ثاني ً أثر لل ّ
قائل ً بتسليم:
تشّرفنا .
مال البلدية الكفاء فقد كان كأيّ عسكري ن أبي لم يكن ُينجب .ولّنه كان من ع ّ -إ ّ
ّ
منضبط معجبا بالقادة العسكريين المشهورين في العالم ،ولذلك فقد نذر لوجه الله إذا
ميه هتلر .وقد تقّبل الّله نذر أبي.
رزقه بولد أن يس ّ
ي قائ ً
ل: م أشار إل ّ
ث ّ
ماه هتلر!
ما ُرزق بأخي أحمد هذا ..س ّ
-فل ّ
-أرأيت؟!
دة:
ثم أردف وهو يطبطب علي ظهر الستاذ توفيق بمرح ومو ّ
ي مواصل ً كلمه:
م نظر إل ّ
ث ّ
21
ل ،ورأيته يأخذ يد أخي بكفّيه معا ً وهو ينهض ليغادر قائل ً بامتنان
توّرد وجه الستاذ خج ً
حقيقي:
-معي في الحقيبة خمسة كتب جديدة سأتركها لك .لكن ماذا عساك أن تفعل بعدها
للفرار من ضجر هذه الجّنة اللعينة؟!
22
فروض الواجب
في وقت متأخر من الليل ،دقّ جرس الهاتف في منزل رئيس المخابرات .واستيقظت
خر من الليل ،والتي لم
زوجة رئيس المخابرات التي كانت نائمة في ذلك الوقت المتأ ّ
يكن زوجها نائما ً معها في ذلك الوقت المتأ ّ
خر من الليل.
-آلو...
مية. -أيقظيه حا ً
ل ..المسألة في غاية اله ّ
دد غير قصير ،تساءلت بصوت مضطرب ،وهي تلقي نظرة جامدة إلي الرجل
وبعد تر ّ
النائم بجوارها:
من ..حضرتك؟
َ -
دة والترحيب:
صَعداء ،وألبست صوتها غللة من المو ّ
ست ال ُ
عندئذ تنف ّ
ل ليلة ،ل يعود إل ّ في مطلع الصباح. ل مكان يا فخامة الرئيس ..تلك عادته ك ّ
-في ك ّ
ن واجبه يفرض عليه أن ينبش الرض ،شبرا ً شبرًا ،بحثا ً عن ال َ
خونة!. يقول إ ّ
23
الشيخ العرياني!
في رواية الطريق الوحيد للكاتب التركي الساخر عزيز نيسين ،نواجه نمطا ً عجيبا ً من
البطال ،إذ نعدو وراء مغامراته بشوق ولهفة ،عبر ما يزيد علي خمسمائة صفحة ،دون
أن نعرف من هو بالضبط ،ودون أن نعرف ما اسمه ..ذلك لنه هو نفسه يعترف لنا منذ
بداية الرواية بأنه يغلط في بعض الحيان بشخصيته الحقيقية وباسمه الحقيقي لكثرة
ما انتحل من شخصيات و أسماء طول حياته ،حتي لم يعد يستطيع تعداد الشخصيات
المزورة التي تقمصها!
وكان من الطبيعي أن يمضي هذا النصاب عدة أعوام في السجون ،وقد كسب في
إحدي فترات سجنه مبلغا ً من المال ،عن طريق النصب أيضًا ،وهو داخل السجن ،ففكر
بأن يسافر إلي بلدة بعيدة ويفتح له دكانا ً فيها ..لكنه ،كغيره من ركاب الحافلة التي
دته من ماله ،فاضطر إلي السير في الجبال طاع طرق جر ّ استقلها ،وقع ضحية عصابة ق ّ
تحت المطار الغزيرة ،واهتدي إلي كهف في أطراف إحدي القري ،فدخله عاريا ً بعد أن
ترك ثيابه فوق شجيرات في الخارج حتي تجف .وبعد فترة ،جاء بعض أفراد العصابة
ي كبير ،ومنحوه إلي حيث يختبيء ،لكنهم بدل ً من أن يقتلوه ،حّيوه باحترام يليق بصوف ّ
شيئا ً من الطعام والغطية.
ولم يمض وقت حتي شاع أمره في القرية المجاورة ،فأقبل البسطاء إليه طلبا ً
لكراماته ،وصاروا يسمونه الشيخ العرياني .
ومضت اليام وهو مستمتع بعطايا المساكين المؤمنين بكراماته ،حتي حلت به ذات يوم
لحظة عصيبة ،حين أبلغه بعض مريديه بأن البيك يطلب الذن بزيارته ليأخذ بركة دعائه
و البيك هذا هو مالك لعشرات من القري التي يلوذ الّفاق بإحداها.
ن البيك أبدي للعرياني عند لقائه به كل معاني الخضوع والولء ،ولم يتردد عن تقبيل
لك ّ
يده والمساك بلجام حصانه أمام الناس ،ثم دعاه لزيارة قصره فلبي الدعوة مضطراً،
لنه برغم كل ما يبدو عليه من مظاهر الهيبة ،كان ينطوي علي أسراره القبيحة التي
يخاف افتضاحها.
وعندما انفرد الشيخ العرياني بمضيفه بعد العشاء ،دعاه الخير إلي شرب كأس من
ه علي وضوء ،فصرخ البيك عندئذ :أعلينا هذه المظاهر؟
الخمر ،فصعق ،واعتذر بأن ّ
اشرب يا كافر !
وحين لم يجد المحتال مفرًا ،كرع الكأس تحت طائلة الخوف ،فامتدحه البيك قائ ً
ل:
أحسنت يا كبير الدّيوثين ..لو لم تشرب لهويت بقبضتي علي نقرة رأسك ،وعندئذ
سيخرب وضؤوك بجد ،لنك ستعملها في ثيابك .
ونفهم من ذلك أن البيك كان علي علم بحقيقة المحتال ،لنه ،علي حد قوله ،ل يطير
طائر في تلك المنطقة دون علمه ..ونعرف بعد ذلك أنه هو الذي أمر أتباعه بأن يجعلوا
صاب شيخًا ،بعدما عرّوه من كل شيء ،لن القري بعد زوال شيخها من هذه الن ّ
السابق ،كانت بحاجة إلي شيخ آخر تلتمس عنده الحاجات ،ويمكنه أن يمل الفراغ الذي
ل وقت عند ذوي الملك لملئه.
24
يقول البيك :ليس عند إنسان هذه المنطقة طبيب ،ول قابلة ،ول دواء ،ول عمل ،ول
نقود ..وعندما ل يكون عنده شيء يقول لو كان عندي شيخ علي القل .
ونعلم أن سبب زوال الشيخ القديم هو أنه حمي عصابة إجرام وخّبأ أفرادها عنده ،بينما
كان القائمقام التابع للمالك قد قضي علي كل عصابات قطاع الطرق ،وأبقي علي
عصابة واحدة فقط لسد حاجة المنطقة للمجرمين! ،ولذلك فقد وّبخ الشيخ السابق
ل :كيف تحمي عصابة مجرمين ،بينما لدينا عصابتنا؟ ثم طرده من المشيخة بتهمة قائ ً
معارضة الجمهورية والثورة !
أتأمل مشهد المالك مع الشيخ العرياني ،فتحضر في ذهني طائفة من الشيوخ العريانين
مها أيضا ً ،في نسق غير متناسق ُ
المتناثرين علي طول الخريطة التي تضم القري وأ ّ
من اللغات والسحنات والزياء.
وحسبنا أن نتذ ّ
كر ،علي سبيل المثال ،نورييغا بنما ،وجرذ تكريت ،والبهلوان الخضر،
كنماذج للذين يرفعون عصّيهم ،بكل بسالة ،لقطعان البشر في القري التي هم رعاتها..
لكنهم يخفضون مؤخراتهم -بكل تهذيب -لعصا المالك الذي أكرم عريهم بالمشيخة،
ونثرهم كالنجوم في مربع أزرق وضع تحته خطوطا ً حمراء ،تذكيرا ً بالمصير الدامي لمن
يجتاز حدوده ،ول يواصل السير علي الصراط المستقيم!
25
العصا واِلهراوة
ح بيه..
ص ْ
م ينفع ل ن ِ ِ
ل َتعلو ْ
ب هذا..
در ْ
أقول له :ال ّ
ل ول يخليني أدّليه !
ل ِيند ْ
هذا مطلع أغنية عراقية قديمة ،وجدته يتدفق في ذهني كالضرورة ،ليغيثني من صعوبة
التعبير عن أحوال وأوحال أنظمتنا العربية التي لم يكفها أن تؤلمنا بأفعالها اللئيمة
المستديمة ،بل تعدت ذلك إلي إيلمنا بأقوالها الطازجة السقيمة.
هذه النظمة المنبطحة حتي الرض السابعة ،ملكت الجرأة أخيرا ً لتصرح بأنها ترفض
أي إصلح ُيفرض عليها من الخارج .وأكاد أجزم بأنها لم تنطق بذلك إل بعد أن
أستأذنت الخارج وهو أمريكا بالتحديد ..بتزيين إذعانها ،الذي لبد منه ،بزركشة كلمية
توحي بالتمنع ،وهو ما ل تملكه تلك النظمة ولن تملكه أبدًا ،لنها تعلم ،قبل غيرها ،أن
مبدأ وجودها وفنائها بيد ذلك الخارج.
إن شرعية العصا ل يمكن أن تنصاع إل لدستور الهراوة .وهذا ما يحدث أمامنا ،نحن
الديكورات المسماة شعوبًا ،علي مسرح الستربتيز العربي الرسمي.
وبالعودة إلي الغنية يحسن بنا أن ننبه إلي أنها مجرد مقاربة ل أكثر ،ومبتغانا منها
الخاتمة ل غير ،فالنظام العربي ليس محبوب القلب ،بل هو في أفضل أحواله محبوب
الكلب ،وهو كذلك ليس مما يطلب المرء أن يخليه الله ،بل آخر دعوانا هي الله ل
يخليه .
لكننا بعد هذا نستطيع أن نشمله بمكرمة الشطر الثاني من مطلع الغنية ،حيث أمضينا
ما يزيد علي نصف قرن ،ونحن نئن تحت وطأته ،داعين إياه إلي الصلح ،بإرشاده
تارة ،وبنصحه طورًا ،وهو في كل أحواله منشغل عن الصلح الداخلي بالصمود
والتصدي لمؤامرات الخارج المبريالية التي لولها لما كان له وجود إطلقا ً !
ت أصواتنا ونحن نقول لهذا النظام الطالح بأن عليه أن يحفظ رأسه قبل لحانا، ح ْ
بُ ّ
وتقطعت أوتارنا الصوتية ونحن نقترح عليه أن يشتري المحراث بدل ً من البندقية ..غير
أنه لم يفهم هذه المور البسيطة جدًا ،إل بعد أن وقفت هراوة سيده فوق عصاه
المنصوبة فوقنا ..فإذا بالبهلوان الخضر يصرح فورا ً بأنه قرر استبدال البندقية
بالمحراث ،وإذا بالبهلوان القاتي يدخل دورة حلقين ،بعدما أدرك حكمة أن يحلق المرء
شعر رأسه بيده!
بالله عليكم ،أيها الرافضون الصلح المفروض من الخارج ،هل أطلعتمونا علي برنامج
إصلحكم المفترض من الداخل؟!
خمسون عاما ً ونحن لم نرمن الصلح الداخلي إل ما رآه اللتينيون من إصلحات ذلك
الجنرال الثوري المجنون ،الذي فرض علي الناس أن يرتدوا ألبسة داخلية نظيفة،
ولكي يتأكد من انصياعهم للقانون أوجب عليهم أن يرتدوها فوق ملبسهم الخارجية!
26
طون بغلط مطبعي صحيح يكتمون أنفاسنا، محنطون أو المنح ّخمسون عاما ً وأولئك ال ُ
ويبعثرون أموالنا ،ويصحرون أرضنا ،ولم يصلحوا شيئا ً سوي قوائم كراسيهم المتهالكة..
ومع ذلك ..تندلق حكمة القرون علي لسان أحدهم ،عند أول تشويحة للهراوة ،فيقرر
أن الديمقراطية ل تتم بكبسة زر !
كبسة زر؟!
أينك يا آينشتاين لكي تنورنا عن نوع ومقدار هذه الحركة التي لم تفلح بعد خمسين
عاما ً في استكمال كبسة الزر ؟!
أحسب أن غلطا ً مطبعيا ً قد وقع لتلك العبارة ،وأغلب ظني أن مولنا كان يريد أن يقول
إنها كبسة ُرّز .
قر بأن التصريح صحيح وفصيح ..فمن يرجع إلي وفي هذه الحالة ينبغي أن ن ُ ّ
ً
انسيكلوبيديا المطبخ الخليجي سيتحقق تماما من أن متعاطي هذا النوع من الكبسة ل
يمكن أن يفيق إل علي نفير يوم القيامة!
رقابة ذاتية!
***
27
الكاتب :أريد كتابة مقال حول الحرية والديمقراطية وحقوق النسان.
المحرر :ل مانع ..لكن عليك أن تكون رقيبا ً ذاتيا ً علي نفسك ..استعمل ضميرك رجاء.
الكاتب :بالطبع.
الكاتب :كوارث؟!
المحرر :بدل ً من الشرح المفصل ،دعني أدرب ضميرك علي العمل ..إن الكتابة حول
حقوق النسان هي تدخل في شؤون الغير..تقول لي كيف؟ أقول لك إن هناك منظمة
مختصة بهذا الشأن ،والتدخل في شغلها صفاقة ..أليس كذلك؟
المحرر :والكتابة عن الديمقراطية ليست سوي دوران في حلقة مفرغة ..فإذا كنت ضد
الديمقراطية فأنت عديم الضمير ،وإذا كنت مع الديمقراطية فأنت سخيف ،لنك تزمع
الخوض في مسألة لتزال في طور التحضير .قل لي بربك أليس من السخافة أن
تصف بيتا ً قبل أن ُيبني؟!
المحرر :لكن الحرية قائمة يا أخ ..فها هي الرقابة علي النشر قد رفعت ،فماذا تريد
بعد هذا؟
المحرر :هذا نفاق وتملق .إن حرية التعبير ليست منة من أحد .إنها حق أصلي من
حقوق النسان ،ثم ل تنس أن لهذه الحقوق منظمة مختصة.
ول..
ح ْ
الكاتب :أريد ،إذن ،كتابة مقال َ
المحرر :رجاء ..دعني أواصل تدريب ضميرك علي العمل ..كيف يرضي هذا الضمير أن
يكتب مقال ً حول فراغ؟ هل هذا ما يفترض أن يقدمه الكاتب الشريف للجماهير ،في
زمن الحرية وحقوق النسان والتحضير للديمقراطية؟
حّر.
المحرر :ل دخل لحد في إرادتك ..أنت ُ
المحرر :هذا أمر راجع لك ،نحن ل نملي عليك ما ُتريد أومال ُتريد ..نحن فقط نبين لك
حقوقك ،ونبشرك بالتحضير للديمقراطية ،وندربك علي كيفية استعمال ضميرك عندما
ت! تريد التعبير بحرية ،خاصة أن الرقابة علي الصحف قد ُرفع ْ
28
الّتهمة!
منذ جئتها ،في منتصف الثمانينات ،وأنا أشهد في عالم سياستها ،ك ّ
ل يوم ،ما يشهده
الريفي عند دخوله المدينة لّول مّرة.
دة الوجيزة بحساب التاريخ ،رأيت خمسة قادة لحزب المحافظين يتعاقبون في هذه الم ّ
مثل دوالي الناعور ،ورأيت علي الجانب الخر أربعة قادة لحزب العمال يتعاقبون
بسلسة دوران عقارب الساعة.
29
وة ،وهو حزب الحرار الديمقراطيين، ما الحزب الثالث الوسيط الراكض خلفهما بق ّ أ ّ
وة وشبابا ً ّ
فلم يتخلف عنهما فبعد اثنين من قادته التاريخيين أخلي المكان لرجل أكثر ق ّ
وته وتألقه ،أن وقف جانبا ً مخليا ًهو بادي أشداون ،ولم يلبث الخير وهو في عّز ق ّ
ً
صر أبدا ،إذ أفلح الطريق لقائد جديد أكثر منه شبابا ً وهمة هو تشارلز كيندي الذي لم يق ّ
دم الذي أحرزه سلفه ،وأن يجعل من حزبه رقما ً مي التق ّفي فترة وجيزة في أن ين ّ
صعبا ً في النتخابات البريطانية.
متخّلفون عّنا
ن البريطانيين ُ خصها أ ّ
مل ّ
كلت ،بالنسبة لي ،أعجوبة كبري ُ تلك العاجيب ش ّ
بسنوات ضوئية ..فهم مع إيمانهم بالقيادة التاريخّية يجهلون تماما ً كيفية جعلها قيادة
دية في ثباتها الزلزل صمغ السوبر ،متح ّجغرافية أيضًا ،بحيث تلتصق في مواقعها بال ّ
والفات والعلل الماحقة.
ل ذلك لم يعد شيئا ً مذكورا ً أمام العجيبة الجديدة التي دهمتني ،مؤخرًا ،فأعادتني
نك ّ
لك ّ
إلي مرّبع الدهشة الّول ،وأنبأتني بأنني سأظل في ما يتعلق بالسياسة البريطانية جاهل ً
بامتياز مع مرتبة الشرف.
ن المرض -وهو أمر غير إرادي وغير مرغوب ول مطلوب -يمكن لّول مّرة أكتشف أ ّ
دي ذلك إلي اعتباره
أن يكون فضيحة بجلجل بالنسبة للسياسي البريطاني ،بل قد يتع ّ
جنحة مخّلة بالمباديء ،أو تهمة موازية لتهمة الخيانة!.
لكّنه ،للسف الشديد ،توّرط قبل أسابيع بارتكاب جريمة لم يغفرها له العلم ول
أعضاء البرلمان ول رفاقه في الحزب.
ماذا فعل؟!
ن فايروسا ً داهم معدته فأقعده مريضا ً لعدة أيام ،لم يستطع خللها حضور
يقال إ ّ
مناقشة الميزانية في البرلمان!.
وظننت أّنه سيتّلقي المديح لبطولته هذه ،أو التعاطف علي القل ،لحرصه علي أن
يكون حاضرا ً وفاعل ً برغم المرض.
ن المر كان علي النقيض ،من ذلك ..لقد قامت قيامة الصحف في اليوم التالي، لك ّ
وأسرف المعّلقون والمحّللون في تأنيبه علي وقوفه خطيبا ً في مثل ذلك الوضع
دد عدد من رفاقه في الحزب عن المطالبة باستقالته!.
المزري ،ولم يتر ّ
ورأيت الرجل ،بعين حانية وقلب متحّرق ،وهو يحاول جاهدا ً أن يدفع عن نفسه ذلك
دج هو أقرب إلي البكاء منه إلي التصّريح) :أنا لست
دد بصوت مته ّ
العار ..وسمعته ير ّ
مريضًا ..لقد أصبت بوعكة فقط ..أنا لست مريضا(.
ً
المسكين ..كأّنه كان يتعاطي المرض إدمانًا ،أو كأنه اقترف المرض عامدا ً مع سبق
صد!.
الصرار والتر ّ
30
ملعون أبوالقيادة التي ل تعطي السياسي المصاب بوعكة فرصة شهر واحد علي
القل ،يستطيع خلله تعديل أوضاعه ،وإصلح أخلقه ،وإبراء ذمته من أي قصد مسبق
للوقوع تحت وطأة المرض!.
لو جري المر لدينا علي المنوال نفسه -وهو لن يجري ولو انتقل القطب الشمالي الي
ن جغرافيتنا كّلها قد أقفرت تماما ً من جميع
خط الستواء -لصبحنا ذات يوم فوجدنا أ ّ
القيادات التاريخية ،وهي عندنا كّلها تاريخية والحمدلله ،فأغلب قادتنا الشبان -سواء
في الحكم أو المعارضة -قد مضي علي وقوفهم ممسكين بالتاريخ خشية سقوطه،
دة صلحية بعضهم قد انتهت منذ زمن بعيد حتي دخل نم ّأكثر من ثلثين عامًا ،بل إ ّ
التقويم الّنوحي )نسبة إلي سّيدنا نوح( بحيث لم تعد حتي الجن قادرة علي أن تستدل
ن دابة الرض ماتت من التخمة ،منذ زمان ،وهي تأكل منسأته علي غيابه ،برغم أ ّ
وتأكله معها!.
لعزاء للسّيئات!
كّلنا يعرف رّيا و سكينة الّلتين ملتا قلوب نساء مصر بالّرعب في العقد الثاني من
القرن الفائت ،واّللتين ُأعدمتا عام 19، 21لقتلهما سبع عشرة امرأة معظمهن من
ساقطات ،بمشاركة أربعة رجال وامرأة أخري. ال ّ
وبرغم مرور مايزيد علي ثمانين عاما ً علي إعدامهما ،لتزال ذكري هاتين الس ّ
فاحتين
تثير الفزع في نفوس الناس جيل ً بعد جيل ،وترسم لهما في الذهان صورة بالغة
البشاعة مؤ ّ
طرة بالكراهية والمقت.
لماذا استأثرت هاتان المرأتان وحدهما بصفة البشاعة التي لتمحوها الّيام؟
هل لنهما لم تكونا علي حظ من الحصافة ،لتقّررا توزيع ثلث ما تسرقانه من ضحاياهما
علي مجاميع من الصحافيين ،أو أصحاب غرز التحشيش حيث لم تكن الفضائيات قد
عت بعد أو رجال الشرطة كممّثلين رمزيين لمسؤولي السلطة؟! اخُتر َ
خذ ضحايا رّيا وسكينة السبع عشرة ،واضربهن بمائة وخمسين ألفَا،لكي تري حجم
دام الرجيم.
الفرق الهائل بين رقم جرائمهما ورقم جرائم ص ّ
وخذ حصاد ما سرقتاه من ضحاياهما ،واضرب ثمنه بعشرات المليارات ،لكي تعرف
صيتهما ولصوصّية حامي البوابة الشرقية!
الفرق العظيم بين لصو ّ
وبعد أن ُتنبئك آلتك الحاسبة بفارق الصفار المديد بين جريمة بائتة ،وجرائم طازجة لم
ي الضمير ،ستتمني لو كان قلبك بضخامة جبل تنشف دماؤها بعد ،فإّنك ،إذا كنت ح ّ
متنا
نأ ّ
ص الصدمة ،حين تكتشف في غمرة فجيعتك ،أ ّ رضوي،حّتي تستطيع ان تمت ّ
الواحدة ذات الّرسالة الخالدة تحتاج إلي ألف سنة لكي تبلغ وجه الحضيض،لّنها واقعة
تحته بمسافة آلف الميال!
مة لتشعر بالعار من شعورها بالعار عند إلقاء القبض علي قاتل الملييننأ ّذلك ل ّ
مة لتستحق حتي شرف النتماء للحضيض! ّ أ هي المليارات، وسارق
وابة
دم ،دعك من الب ّلم تكن سكينة مهيبة ركن ،ولم تزعم الدفاع عن بوابة بيتها المته ّ
وة يوم اعدامها ،من قائدنا الضرورة يوم الشرقية كّلها،لكّنها كانت أكثر تماسكا ً وق ّ
القبض عليه.
فاحة السبع عشرة تقول أمام المشنقة أنا جدعة ..ضحكت علي الحكومة
كانت س ّ
وقتلت 17ست ..وهاتشنق زي الجدعان !
دسة ور ّ
شاشاته ،يلعلع فاح المليين القابع كالجرذ في حفرته بصحبة مس ّ فيما كان س ّ
قائل :ل تطلقوا الّنار ..أريد التفاوض !
ن المئات من حماةصيحة ،ل ّ فاح المليين لم ُيتعب نفسه باطلق مثل هذه ال ّ نس ّفإ ّ
ي من الصالحين !
عوه..إّنه ول ّ
صراخ :د َ ُ
وعوا نيابة عنه لل ّ ّ
العدالة حماها الله منهم قد تط ّ
ن
ليس قصدي من ذكر هذه المفارقات عند المقارنة ان أرد ّ العتبار للسفاحتين ،ذلك ل ّ
سفاحين في الرض منذ قابيل حّتي دام هي بمثابة رد ّ اعتبار لجميع ال ّ
ضخامة جرائم ص ّ
ساقطات ّ ال باستدراج صصتا
ّ تخ لتينّ ال وسكينة يا
ّ بر العمر طال لو نيتاليوم ..لكنني تم ّ
وقتلهن ،لكي تشهدا كيف تغّير الزمان ،فأصبح للسقوط اّتحاد يستدرج الضحايا
لحسابهما مربوطين بحبل القانون!
32
الوليمة
مص حا ً
ل. دكة .سآتيك بالح ّ
-اجلس علي ال ّ
حبًا.
ابتسم وهو يسّلم علي البائع الذي بادله البتسام مر ّ
التفت البائع إلي الولد مبتسمًا ،وقال وهو ُيعبيء الكيس بالح ّ
مص:
-حاضر.
رفع البائع الملقط ،وجذب علبتي الشاي ووضعهما فوق الطاولة ،ثم غمس المغرفة
فة الميزان. في زكيبة الس ّ
كر ،وراح يعّبيء كيسا من الخيش علي ك ّ
-لطفا ..اذا فرغت ،ناولني اربعة اكياس شعرية ..تبدو لي من نوعية جّيدة.
سوق.
-أحسن نوعية في ال ّ
-ك ّ
ل ما تشتهيه نفسك .عندنا هنا حلوة طحينية.
وهنا حلوة رملية .وعندما ايضا بقلوة ممتازة .انظركم هي شهّية ..لقد خرجت من
الفرن قبل ساعة فقط.
-زن لي كيلوين من ك ّ
ل نوع من الحلوي ،وثلثة كيلوات من البقلوة.
صينية:
قال البائع مازحا ،وهو يقتطع الحلوي من ال ّ
-ليست وليمتي يا سّيدي :انها وليمة المحروس ..لقد ختم القرآن امس .اقول..
اعطني قطعتي بقلوة من اجله.
-اشكرك.
-معي عربة.
اشار الرجل الي شاب يقف وراء عربة يد ،وطلب منه حمل الكياس الي العربة ..ثم
التفت الي البائع.
-ياسر ..لحظة واحدة .اعد الحاجات الي العتبة .يبدو انني نسيت المحفظة في البيت.
قال البائع:
-أبيتك بعيد؟
-كل ..في الزاوية اليسري من الشارع الثالث مسافة عشر دقائق ل اكثر .اعتقد انه
ينبغي ان اذهب لحضار محفظتي .لن أتأخر.
-ليذهب لحضار النقود .ول داعي لنزال الحاجات .دعه يذهب بها الي البيت ،ما دام
ل الحوال. سيحملها في ك ّ
مص الولد وحلوته هدية من المحل .يستاهل ..خاتم كتاب الله .بارك الله فيك.
فلس .ح ّ
كل علي الله .ل -أشكرك .اسمع ياياسر .قل لخالتك ان تعطيك خمسين دينارا .تو ّ
خر .في الفترة التي غاب فيها ياسر ،استغرق الّرجل بالحديث مع البائع عن وقائع
تتأ ّ
الحرب العالمية وسنوات الكساد .وحين لم يعد الشاب بعد مرور ساعة ،ساور الرجل
القلق..
ن أمرا ً غير عادي قد وقع لياسر .اّنه يعرف موقع البيت كما يعرفدثني بأ ّ
-قلبي يح ّ
خر كل هذا الوقت؟ يشاركه البائع قلقه،
فه ،والمسافة ليست بعيدة ،فلماذا تأ ّ ظاهر ك ّ
ما رأي الرجل يتململ في وقفته قلقًا ،دعاه لن ّ ول بالسلمة، العاقبة تأتي ان وتمّني
يذهب لستطلع المر.
وذات:
قال الرجل بعد ان فرغ من تلوة المع ّ
مص.
هّز الولد رأسه علمة اليجاب ،فيما كان يواصل قضم حّبات الح ّ
دكان ،واستعرض الشارع من بعد ساعتين ،خرج البائع الي بسطة الرصيف امام ال ّ
ك رأسه حائرا ،وقبل ان يعود بخطي بطيئة الي داخل دكانه ،التفت نحو نهايتيه .كان يح ّ
الصغير قائل في ما يشبه الّزفرة:
خر.
-أبوك تأ ّ
35
مص يتطاير من فمه:
قال الولد ورشاش الح ّ
صعِقَ البائع.
ُ
-ما ادري.
مد .كنت ألعب مع اصحابي في ذاك الشارع ،ومّر بنا هذا الّرجل وسألني هل -انا مح ّ
س بطنك . ّ
مص المملح؟ قلت له نعم ،قال تعال اترِ ْ
تحب الح ّ
36
النفط ..مقابل البغاء!
كنت أستيقظ يوميا علي أصوات النائحات بمختلف اللغات وهن يندبن أطفال العراق..
لكن ما أن سقط نظام صدام الرجيم حتي انقطعت أو كادت تلك الصوات الزاعقة
التي احتلت من صباحاتي ،لعوام طويلة ،دور الديك الفصيح والساعة المنبهة!
ماذا جري؟
الحتمالن الحاضران لخفوت الرنة هما :إما أن يكون الحتلل الميركي قد أوقف
برحمته المعهودة وفيات الطفال العراقيين ،وإما أن يكون هؤلء الطفال قد انقرضوا
عن بكرة أبيهم ،فلم يعد هناك ما يوجب البكاء.
وكل الحتمالين باطل ،فل أميركا رحيمة ،ول الطفال انقرضوا ،بدليل أنهم مازالوا
يتساقطون نتيجة الجوع والمرض وانعدام المياه النظيفة ،ونتيجة الجهاد المقدس الذي
يشملهم ببركاته وهو في طريقه لمقارعة العلوج!
ثمة احتمال ثالث كان مجرد ظن شبيه بالثم ،لول أن صدقت عليه جريدة المدي
العراقية بنشرها حزمة صغيرة من وثائق الرشوة التي صاحبت برنامج النفط مقابل
الغذاء .
إن مبيعات مرحلة واحدة فقط من ذلك البرنامج سمحت بمسح ذلك الظن ،وجعلته
حقيقة ساطعة خالية إل من آثام الراشي والمرتشين.
ذلك إذن هو سبب خفوت النواح ،فالنائحات ل يندبن ميتا ً حبا ً فيه ،ولكن طمعا ً في
الجرة المستفادة من ذويه ،ولما كان ذوو الميت.
وهم قاتلوه بالمناسبة قد غادروا حفرتهم إلي حبسهم ،فقد استحال البكاء احتجاجا ً
تصرخ به الجيوب ل الفواه ،ليس علي تغييب البرياء في المقابر الجماعية ،ولكن علي
تغييب القاتل في الحبس ،واحتباس الجرة عن النادبات!
أحصيت براميل نفط أطفال العراق التي وهبها من ل يملكها لمن ل يستحقونها ،فإذا
بها تبلغ في المرحلة الثالثة فقط من ذلك البرنامج الفكاهي بليونا ً وخمسمائة وثمانية
وسبعين مليونا ً من البراميل ..توزعت علي مائتين وسبعين مرتشيا ً من خمسين دولة..
هم بمعظمهم رؤساء أحزاب ونواب ووزراء وشخصيات مؤثرة.
ولم أعجب لوجود مرتشين من 16دولة عربية ضمن القائمة ،ذلك لنني حفظت
أسماء وأصوات أغلبهم وهي تلعلع بالصوت العريض دفاعا ً عن شرعية صدام المنتخب
بنعال أبو تحسين بنسبة مائة بالمائة!
لكن ما أدهشني هو وجود مرتشين من جميع دول مجلس التعاون الخليجي ،ماعدا
الكويت!
37
ولعل التجربة القاسية التي مرت بها الخيرة هي التي منعت اكتمال نصاب التعاون
علي البر والتقوي وما يثير الدهشة أكثر أن القائمة تضمنت أسماء أفراد من بعض
السر الحاكمة في دول الخليج ،وهم في كل الحوال ليسوا بحاجة ملحة إلي المال،
وليسوا مضطرين إطلقا ً إلي ترجمة عواطفهم الحارة تجاه ذلك النظام عبر معجم
البرميل المحيط!
المرتشون العرب حصلوا في المرحلة الثالثة للبرنامج علي أربعمائة وواحد وثمانين
مليون برميل نفط فقط لغير ..أي علي ثلث الرشوة الضخمة التي رصدت لشراء
المواقف والضمائر وتسويق قباحات نظامه الهدام.
وبعد انكشاف المستور ،فتحت دول الغرب أبواب التحقيق مع المنتفعين من
مواطنيها ..وليس ببعيد أن النائب العمالي البريطاني جورج غالوي قد طرد من حزبه
لمجرد ظهور وثيقة ،عند نهاية الحرب ،تدينه بالستفادة من نظام صدام.
أما علي الضفة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة ،فلم نسمع ،حتي الن ،أن تحقيقا ً
جري بشأن واحد من المناضلين ذوي الحناجر الصقيلة ،كما لم نسمع من أحدهم نفيا ً
قاطعا ً لضلوعه في هذه الصفقات المريبة ..بل علي العكس سمعنا من بعضهم ما يؤكد
تلقيه للرشوة ،لكنه يغلفها بمسوغات ل تجوز علي عقل الطفل الرضيع ،وهي بمجملها
مسوغات تعمق التهمة وتحمل لصاحبها الدانة القاطعة.
واحد من هؤلء نشر بيانا ً يدعي فيه أنه يتعرض لما دعاه باغتيال الشخصية ،ويؤكد
بالحرف الواحد :كنا نتابع مصالح لنا في العراق !
ول أحد ادعي غير ذلك ،فالوثائق تقول إن المرتشين كانوا يتابعون مصالحهم ..أما
الخلط بين المصلحة الشخصية وإدعاء الدفاع عن قضية ما ،وقيادة قطعان الغافلين-
تحت سقف الرشوة -لتمجيد نظام أباد المليين من مواطنيه ،فهو عهر صراح ل
تطهره سبعة بحار من الديتول.
والشخصية التي تشارك ،عامدة ،في الغتيال المادي لمليين البرياء ،ل يجوز لها بأية
حال أن تشكو من الغتيال المعنوي.
وهناك من ادعي أنه كان مجرد وسيط لوسيط آخر بدافع الصداقة ..وأنه لم يجن أية
أرباح من هذه الصفقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه :لماذا لم يذهب الوسيط الخر بنفسه مادام المر موضع
اختصاصه؟ ولماذا قبلت وساطتك أنت بالذات؟ ولماذا توسطت ،أص ً
ل ،في قضية كهذه
هي ليست من اختصاصك؟ إن هذا يذكرني بصاحب جريدة كويتي ،تفرغ خلل الحرب
العراقية اليرانية لتوريد البساطير العسكرية للجيش العراقي ..مما أكسبه صفة
الريادة في تطعيم العمل العلمي بالحذية ،متجاوزا ً بذلك دخول نعل أبو تحسين
لدائرة الخبار بإثني عشر عامًا!
والكثر صفاقة بين الجميع ..ذلك المخلوق الذي دافع عن نفسه باتهام نفسه حين قال:
إن الحكومة العراقية لم تدفع من جيبها لي شخص ،بل كانت تحدد فقط من يشتري
النفط من الشركات والفراد الذين يأخذون بدورهم هامش ربح بسيطا ً !
وأمام صلبة وجه كهذه ،ل يملك المرء إل أن يقول :ل حول ول قوة إل بالله.
إن أحدا ً لم يقل بأن الحكومة العراقية البائدة كانت تدفع من جيبها ..بل علي العكس
فإن تلك الحكومة القذرة كانت تدفع من جيب العراقيين المغيبين في الزنازين أو تحت
الرض أو في المنافي ،أو المشردين علي أرصفة أشقائهم الذين يستوفون منهم
الغرامة بشكل يومي إذا انتهت مدة القامة الممنوحة لهم في جنات النعيم !
38
ويواصل هذا الضعيف مرافعته قائل ً إنه عمل كوسيط لبيع ما بين ثمانية وتسعة مليين
برميل نفط ..بهامش ربح بسيط ل يتجاوز خمسة سنتات للبرميل الواحد .
تأمل كيف أن ذاكرة هذا الشريف ضعيفة إلي الحد الذي ل يؤهلها لتحديد عدد
البراميل ،فهي ما بين ثمانية وتسعة مليين ..أي أن أخانا يسهو عن مليون برميل،
وكأن الرقم الهائل هذا مجرد إبرة في كومة قش ،وليس معادل ً لثلثين مليون دولر
بالتمام والكمال!
وتأمل كيف يستهين بعقلك وعقلي ،عندما يقلل من شأن عمولته بوصفها هامش ربح ل
يتعدي السنتات الخمسة ،وكأن الزني مرة واحدة يعد كرامة مقابل الزني عشر مرات!
ومع ذلك ..فإن هامش الربح البسيط هذا إذا أسندناه إلي تسعة مليين برميل قيمة
الواحد منها ،حينذاك ،ثلثون دولرًا ،سيبوح لنا برقم يجعل من تواضع صاحبنا إهانة
بالغة لكل ذي عقل.
السنتات الخمسة تعني دولرا ً ونصف الدولر عن كل برميل ..وهي تعني بالتالي ثلثة
عشر مليون دولر ونصف المليون دولر 000.500.13عن الصفقة كاملة!
شخصيا ً لن أسأل هذا الطفيلي الهامشي البسيط عما قدمه لطفال العراق من هذا
الربح ،ول عما دفعه من غرامات العراقيين المشردين علي أرصفة بلده.
لكنني أسأل قطعان البشر التي ل تزال تهتف للطاغية اللص بتأثير هؤلء اللصوص:
أما آن لكم أن تكفوا عن هذه الحماقة ،وأن تستديروا إلي تجار الدماء هؤلء لتستردوا
منهم أدمغتكم؟
إن كراهية أميركا ل تجيز للعاقل أبدا ً أن يصطف إلي جانب صنيعتها ..بل ينبغي أن نكر
من أميركا ،أول ما نكره ،جريمة وضعها هؤلء الطغاة علي صدورنا ،وتدميرنا بهم
وتدمير بلدنا مرة أخري بأقوي أسلحتها ،بذريعة وجود هؤلء الشياطين الذين لم يكونوا
لولها.
لقد آن لنا أن نصطف مع أنفسنا ،وأن نتصالح مع ذواتنا الجريحة ،فل نقف مع شيطان
لمواجهة شيطان آخر.
39
مفتي الهلل!
في عدد يونيو الماضي من مجّلة )الهلل( قرأت ما أضحكني من العماق ،علي رغم
ل بلوغ هذه المجّلة الوقورة مرحلة الخرف
ل جانب ..ولع ّ
المآسي المحيطة بي من ك ّ
في عامها الرابع بعد المائةُ ،يعد ّ واحدة من أكبر هذه المآسي.
سأترك جانبا ً كل ما يمكن أن يقال عن نزوع المجّلة في أعدادها الخيرة إلي تقليد
كمة ،وغير لئقةفة والفضيحة ،بتبنيها موضوعات مثيرة غير مح ّ لت وصحف الخ ّ مج ّ
بمجّلة رصينة ل تتطلب النتشار بالثارة المجانية ،مثلما فعلت بنشر أوراق علنية علي
ّ
أنها سرّية تحاول اليحاء بعمالة الكاتب اللبناني الشهير أمين الريحاني للمخابرات
المريكية.
وسأترك جانبا ً مقالت رئيس تحريرها الجديد التي تلوي أعناق المناسبات علي اختلفها
ل عدد تقريبًا ،وإقامة موالد
من أجل نشر صورة للرئيس المؤبد ،في افتتاحية ك ّ
التصفيق والهتاف والتسبيح بحمده.
وسأترك جانبا ً عدم التناغم في الموضوعات المنشورة ،وتراوحها بين الجودة العالية
ن كل والرداءة التامة ،وكأنها مرصوصة )عليك يا الله( ،كما نقول في العامية ،أي أ ّ
موضوع معّلق بذمة كاتبه ،فإذا كان ذلك الكاتب متمكنا ً بدا الموضوع رصينا ً وخاليا من
ً
دة أمكن القاريء أن يزن الغلط في الخطاء اللغوية والملئية ،وإذا كان فقير الع ّ
الموضوع بالكيلوغرامات ،وكفي الله هيئة المجلة عناء التحرير!.
ل ذلك جانبًا ،وأدخل في صلب النكتة التي أضحكتني جدًا ،فهي تعكس بإيجاز
سأترك ك َ
بليغ ما آل إليه حال هذه المجلة العريقة التي ظَلت علي مدي قرن من الزمان مدرسة
ثقافية للعديد من الجيال العربية.
في باب )أنت والهلل( الذي يحرَره مدير التحرير ،قرأت ما يلي:
)رسالة للهلل من قم :رسالة رقيقة وصلت إلينا من قم بجمهورية إيران السلمية
ننشرها كما بعث بها مفتي الشيعة هناك:
إذا كان بمقدوركم أن ترسلوا إلينا بعض أعداد مجلة الهلل أكون شاكرا ً لكم ،كما
أتمني أن أشارك ببعض المقالت.
سيد عبدالله
مفتي الشيعة
مدينة قم
40
)نشكر لمفتي الجمهورية السلمية اليرانية مشاعره الطيبة نحو مجلة الهلل وفي
انتظار مقالتك وإسهاماتك التي سننشرها فورًا .كما سيصلك قريبا ً أعداد من إصدارات
مجلتنا(.
ن في نشر تلك الرسالة والرد عليها ما ينم عن الخفة وانعدام المعرفة وعدمإ َ
الكتراث بسؤال العارفين.
ن هناك علماءفأصل ً ليس هناك منصب رسمي للفتاء لدي الشيعة في أي مكان ،بل أ َ
مون مراجع التقليد ..يسعي إليهم أتباعهم بطلب الفتوي ،دون ارتباطبالعشرات يس َ
ل ،قد يأخذ الفتوي من عالم لبناني ،والشيعين الشيعي البحريني ،مث ًبالدولة ،أي أ ّ
ن مرشد الجمهورية السلمية اليرانية ً ً
اليراني قد يستفتي عالما عراقيا ..وعليه فإ َ
نفسه ل يستطيع الدعاء أنه مفتي الشيعة ،فما بالك برجل مجهول اسمه سيد
عبدالله ،وهو من يمكن أن يكون له ألف سمي في إيران وحدها؟!.
ن العنوان الذي سجله سيد عبدالله في ذيل رسالته ،يدل بوضوح علي أنه نكرة، ثم أ ّ
وأنه ،شأن أي بائع متجول ،ل يملك عنوانا ً محددا ً أو مشهورًا ،ولذلك اختار أن يلفت
انتباه ساعي البريد إلي أنه يسكن مقابل جامعة الزهراء ،مثلما يفعل سكان القري
بالشارة إلي عناوين معروفة يتلقون رسائلهم بدللتها ،كمركز البريد أو نقطة الشرطة
أو المستوصف ..أو غيرها.
وفي حالة مفتينا العتيد ،كان ينبغي لجامعة الزهراء أن تشير في مراسلتها إلي أنها تقع
مقابل المفتي سيد عبدالله ،ل العكس ،إذ ل يمكن أن تكون تلك الجامعة أشهر من دار
الفتاء!.
كرني بالطرفة التي تروي عن شاب عراقي كردي ع ُّين عند تجنيده في ن ذلك يذ ّ
إ َ
وزارة الدفاع ببغداد ،فطلب من أهله مراسلته علي العنوان التالي :بغداد -وزارة
الدفاع ،مقابل محلت لبن أربيل!.
وبالعودة إلي رسالة المفتي التي تصفها مجلة الهلل بأنها رقيقة ،سنري أنها ليست
رقيقة ول غليظة ،بل هي مجرد سطرين يطلب فيهما كاتبهما أعداد المجلة ويتمني أن
ينشر فيها بعض المقالت.
غير أن رد ّ المجلة العجيب الغريب هو الطافح بالرقة الفادحة ..فهو أول ً لم يحاول جرح
رداءة السلوب ،فآثر أن تكون صياغته ركيكة ،وهو ثانيا ً لم يتوقف متسائل ً عن حقيقة
صفة هذا السيد عبدالله ،بل بصم بالعشرة علي قرار تنصيبه مفتيا ً للشيعة ،وهو ثالثا ً
فعل ما ل تفعله أكثر المجلت خفة ،إذ أوقف المجلة في محطة القطار انتظارا ً
لمقالت وإسهامات سيد عبدالله ،لكي تنشرها فورًا ..هكذا ،دون قيد أو شرط ،وفق
ن الرد لم يجرح مشاعر المفتي ،ولو قاعدة عليك يا الله التي أشرنا إليها آنفًا ..ذلك ل ّ
برّقة ،باشتراط أن يكون ما يرسله صالحا ً للنشر!.
وكانت أعيننا تفيض بالدمع من فرط الضحك ونحن نسمع المذيع يتم ّ
طق برصانة قائل:
ل من لوكس فردوسي وتركية غازي )أسماء وطلب أغنية زهور حسين من البصرة ك ّ
أربع ماركات للسجاير( ويهديانها إلي حسنة ملص وزهرة الطويلة )عاهرتان شهيرتان(
وإلي مأخوذ مرته شاهي )شتيمة فاقعة لزوجة الشاه(!.
41
وقد مّر وقت طويل قبل أن تكتشف الذاعة وقاحة صاحبنا فتمتنع عن إذاعة طلباته.
أحمد مطر
بريطانيا العظمي
إسلم َأباد!
42
ن حافلة ُنسفت في الّليلة الحادية والعشرين قالت شهر زاد :بلغني أّيها الملك ال ّ
سعيد أ ّ
ن أسرة من كانوا فيها والحمدلّله .وأ ّ حم جميع َ بإذن الّله ،في وسط العاصمة ،وقد تف ّ
ن ل حياء في الجهاد كما يقول قائد المجموعة المؤمنة بأكملها ذبحت بمّنة الّله ،ل ّ
ن عشرات الطفال قد ُقتلوا وهم في طريقهم إلي المدرسة ،برصاص آبائهم بالله ..وأ ّ
خخة انفجرت بعون الله ،أمام مركز لسعاف عباد الّله.. ن سّيارة مف ّ في الّله ..وأ ّ
قالت شهرزاد بلمبالة :أقصد يا زوجي في الّله ،أّنه يكفيك ما رويته لك حّتي الن..
ذلك لنني لن أواصل تأليف الكاذيب من أجل تسليتك..
من يضمن لي أنني لن ُأقتل برصاص إخواني في الّله ،وأنا خارجة وعلم أتعب نفسي؟ َ
من عندك في الليلة الثانية بعد اللف إن شاء الّله؟!
قلب كبير
ليس هناك زمان قبيح وزمان جميل ..بل هناك إنسان قبيح وإنسان جميل.
43
ف يجري بحياد ،مثل المرأة ،وهو في جريانه لالّزمان ليس صورة ثابتة .إنه نهر صا ٍ
ُيبدي صورته الخاصة ،ولكن يعكس صور الّناس الذين يمّرون به ،ويبقي علي حياده،
صور.
علي الّرغم من اسرافهم في تحمليه صفات هذه ال ّ
صور المنعكسة علي هذه المرآة ،تبدو لنا ،من بعيد ،صورة عام 1916، ومن تلك ال ّ
حيث تنطبع علي جانب منها مشاهد الهول والدمار وإهراق النسان لدم أخيه النسان،
في ذروة الحرب العالمية الولي.
صية من الجانب الخر فيها وجه فّنان في لكّننا ،في الوقت نفسه ،نشاهد في زاوية ق ّ
ميه أصدقاؤه بيب تحّببًا ،وتعبيرا ً عن براءة ملمحه الطفولّية.
العشرينات من عمره ،يس ّ
صامتة في كان بيب في ذلك الوقت يعمل لدي شركة )فيم كوميدي( لنتاج الفلم ال ّ
فلوريدا ،وكانت أدواره ثانوية وبسيطة ،لكنه ثابر من أجل ان يفوز بأدوار أكبر وأكثر
ن في أحد المسارح ،لي ً
ل ،لّنه كان يحب الغناء أكثر تأثيرًا ،دون ان ينقطع عن عمله كمغ ّ
من أيّ شيء اخر.
وقد جمع له علمه المزدوج شعبية كبيرة ،كان من نتائجها ان تضاعف راتبه لدي شركة
دخل الكبير ،أول ً
دد في إنفاق ذلك ال ّ
التمثيل ،فارتفع دخله بصورة كبيرة .لكّنه لم يتر ّ
بأّول ،ليس بدافع السراف والتبذير ،ولكن بدافع سخائه الذي ل حد ّ له ،المر الذي
جعل حّتي معارفه العابرين يستغّلون طبعه الجميل هذا ،فكانوا يقترضون منه المال،
دد ،لكنهم سرعان ما يتناسون ،ببساطة، علي وعد بتسديد القرض في موعد مح ّ
سداد ،فيما كان هو بسبب من رّقة قلبه ورهافة احساسه ،ل يجرؤ ،إطلقًا، تعهدهم بال ّ
ديون.
علي تذكيرهم بتلك ال ّ
إن سخاء بيب المفرط ،كان نابعا ً من تجربته المّرة في صباه ،عندما عرف -وهو يتيم
م مكافحة -كيف ان كل قرش يكسبه المرء يمكن ان تكون له قيمة كبري. في كنف أ ّ
وعلي هذا كان يحمل في أعماقه تعاطفا ً فطريا ً مع أيّ انسان يعاني من ضائقة مالّية.
كان بيب وغالبية العاملين معه في الشركة يقيمون في فندق )أتلنتك( بمنطقة
جاكسونفيل.
دي
وفي أحد الفنادق المجاورة ،كان هناك شاب موهوب يعمل في غسل الطباق ،ويؤ ّ
طائفة أخري من العمال التافهة من أجل توفير لقمة العيش.
شاب الواقف علي حافة الفقر ،والذي يحدوه المل بدخول علم الستعراضات وذلك ال ّ
ً ً ً
ن ،كان متزوجا حديثا من شابة مغّنية أيضا ،وكانا يسافران من مكان الي آخر، كمغ ّ
دة فقرهما ،يضطران كثيرا ً الي
علي دّراجة نارّية متهالكة ،بحثا عن عمل .وكانا ،لش ّ
النوم ليل ً علي مقاعد الحدائق العا ّ
مة.
عندما سمع بيب بحكاية هذا الشاب شعر بصدمة عنيفة تهّزه من العماق ،إذ لم يصدق
أبدا ً انه يمكن ليّ إنسان أن ينحدر الي وهدة حياة بائسة كهذه.
وعلي الفور ،انطلق لدعوة ذلك العامل الشاب وزوجته للقامة في فندق )أتلنتك(،
دة ثلثة أشهر ،وبسرعة غير عادية استطاع وأصّر علي أن يدفع أجرة غرفتهما مقدما ً لم ّ
ان يجد للشاب عمل ً جديدا ً لئقًا ،ثم وضع في يده خمسين دولرا )هي ثروة في تلك
ً
شده أل ّ يف ّ
كر بإعادة المبلغ اليه! اليام( لكي يقضي بها حاجاته الراهنة ،ورجاه ب ّ
44
ده اليك .
-لكن يا سّيدي ..إنني يجب أن أر ّ
ما رأي بيب اصرار الشاب علي ذلك ،قال له لبطف بالغ:
ول ّ
ن بيب الذي رحل عن الدنيا في عامه الثاني والستين ،بعد ان أصبح نجما ً كبيرا ً
إ ّ
ً
ل حّتي آخر لحظة من حياته محتفظا بطبعه الجميل هذا، وطبقت شهرته الفاق ،ظ ّ
وبوجهه الطفولي البريء ،وبروحه الطفولية البريئة نفسها.
واذا لم يكن في وسعه ان يسخو علي جميع البشر من جيبه ،فاّنه استطاع ،بالفعل ،ان
يسخو عليهم من فّنة بهبات وافرة جد ّا ً من السعادة والضحك ،بقيت تتدّفق ،من بعده
صدقة الجارية. علي الّناس في ك ّ
ل أنحاء العالم ،كال ّ
لم يكن بيب هذا غير أوليفر هاردي الممّثل الكوميدي البدين ذي الوجه الطفولي ،الذي
أسعد العالم مع زميله ستان لوريل بسلسلة أفلمهما الهزلية التي حملت اسم )لوريل
وهاردي(!
دوائر
نظرت من نافذتي في الطابق الثالث .كان الشارع ساكنًا ،وبدت المحلت علي جهته
حركون عليالمقابلة متراصفة مع سكونه مثل التوابيت .وكان الماّرة القليلون يت ّ
حرك موجات النهر المتكاسلة امام هّبة ريح خفيفة. الرصيف ببطء وضجر ،مثلما تت ّ
خطرت في ذهني المترع بكآبة ل حد ّ لها ،صورة حجر مقذوف كالطلقة ،يكشط ،في
م ل يلبث أن يخّلف من بعده
جة من حوله ،ث ّ
تسارعه ،وجه الماء الساكن ،ويستثير الض ّ
دوائر تترادف وتّتسع إلي ما لنهاية.
45
ن تلك الغيوم إذا ما بصقت حمولتها علي وجه الشارع فلن تبعث فيه وفكّرت في أ ّ
جوة .سيسطع البرق للحظة ،ربما ،وسيزأر الّرعد لثوان ،ربما ،لكن هذا هو الحياة المر ّ
ن خرير المطر الموحش سيكتسح أمامه حّتي موجات ّ فإ المقابل وفي ل شيء. ك ّ
ف عن تثاؤبها.
العابرين المتكاسلة ،وسيجبر حّتي البواب القليلة المفتوحة علي الك ّ
***
)كرااااش(!
بلمح البصر خرج الخّباز حانقًا ،وفي يده لوح الرغفة الخشبي ،وجري من ورائه جميع
مال المخبز.
ع ّ
شمة تمامًا:
صاح الخّباز وهو يري الواجهه مه ّ
-أولد الكلب.
ي مطأطيء نحو الرض يبحث عن درهمه الذي سقط منه .تّله دكان صب ّكان أمام ال َ
الخّباز من ياقته ،وألهب وجهه بصفعة رّنانة ،أردفها بالصّراخ:
ضة المفاجأة،
ي بين َيديّ الخّباز .وبعد هنيهة من صمته المطبق نتيجة خ ّ
ارتعش الصب ّ
أطلق عقيرته بصراخ يمّزق الذان.
-ابني!!
-جبان .جبان.
مال استخلص الّلوح من يدها ،فسقطت علي الرض ،واندلع غضبها، حاول أحد الع ّ
ما كان.
حينئذ ،أعنف م ّ
كان الّرجل ،في عجلته للنزول ،ل يرتدي غير سروال بيجامته ،وكان وجهه ل يزال
مغ ّ
طي بالصابون.
46
صاح الّناس برعب:
عا ،وامتدت الذرع للمساك بالّرجل الغاضب الذي كان يصرخ ،وفي
تراجع العامل فز ً
يده تلتمع شفرة الحلقة:
-قتلني!
توّقفت ال ّ
سيارات في الشارع ،وراحت تنفخ أبواقها دون جدوي ،حيث لم يكن هناك
سبيل إلي تفريق الناس.
فارات شرطة المرور تزغرد آمرة بالتحّرك ،لكن لم يكن وبين الفينة والخري ،كانت ص ّ
تفي وسع السائقين إل ّ مواساتها بنفخ البواق وضخ البنزين ودوس الكوابح بسط ُ
ّ
ساحر في ي علي طوار النافذة ،مصيخا ً إلي ض ّ
جة الحياة التي بعثها ذلك الحجر ال ّ ذراع ّ
ّ ّ
سكون نهر الشارع ،ورحت أرقب بشغف ،تلك الدوائر التي خلفها وهي تترادف وتّتسع.
فارات الشرطة:
قلت وأنا أسمع ص ّ
ولم يلبث صوت سّيارة السعاف أن أتي يتأّود من بعيد ،وارتفع بالتدّريج كصرخة
المفجوع.
حة.
-ها هي ذي دائرة الص ّ
صل مصحوب برنين ثم ضحكت حّتي دمعت عيناي ،حين امتل ال ّ
شارع بعويل مت ّ
الجراس.
ي منتشيًا:
قلت وأنا أغمض عين ّ
ي لري الماّرة يتراجعون صائحين ،أمام لهب النار ،ورجال الطفاء يقتحمونفتحت عين ّ
ّ
بخراطيمهم دكان الخباز الذي اندلع فيه الحريق.
47
د ،وكانت
دخان ورائحة الحتراق .وكان الّزحام يشت ّ
فنة بال ّ
ب وتخبو مك ّكانت الّنار تش ّ
جة ترتفع وترتفع. الض ّ
تركت النافذة ،وفتحت الباب .رأيت أمامي شرطيا ً عابسًا ،وإلي جانبه رجل غاضب،
ووراءهما حشد من الّناس.
ي:
قال الّرجل الغاضب وهو يشير إل ّ
ي هاتين ،من نافذتي علي الجانب الخر ،وهو يقذف الحجر نحو واجهة
لقد رأيته بعين ّ
المخبز.
-ها نحن قد وصلنا ،الن ،إلي دائرة القضاء! ورحت أتخّيل ميلد دوائر أخري وأخري،
ن الدوائر التي يصنعها ارتطام الحجر بالماء الساكن ستظ ّ
ل فأنا أعلم علم اليقين أ ّ
تترادف وتّتسع بل نهاية.
دة من الّريف لزيارة أسرة ابنتها في شنغهاي ،حاملة معها للسرة ،علي
جاءت الج ّ
سبيل الهدّية ،دجاجة صغيرة.
دة فقرها لم تعددة كانت مضطّرة لجلب هذه الهدية الثمينة ،فهي لش ّ ن الج ّ
ويبدو أ ّ
ن قلبها لم
ّ فإ يومين عمرها كان منذ رعتها قد نها
ّ ول للدجاجة، الطعام توفير تستطيع
يطاوعها علي ذبحها وطبخها.
ن رّبة السرة رفضت أن تذبحها، دجاجة أن تبقي علي قيد الحياة ،ل ّ وقد ُ
كتب لهذه ال ّ
دجاجة تزحم البيت برائحة مخّلفاتها،لكي ُتجّنب أطفالها رؤية مشهد القتل ،فظّلت ال ّ
حتي قّررت السرة أن تبيعها لتتخّلص منها ،لكّنها تراجعت عن هذا القرار عندما وضعت
الدجاجة بيضتها الولي.
كين ،وقبضت عليوفي الصباح هّيأت البنة الكبري )آنتشي( الماء الساخن والس ّ
ست بقرب أجلها ،قفزت هاربة إلي غصن ن هذه عندما أح ّدجاجة بغية ذبحها ،لك ّ
ال ّ
قلت صاعدة من غصن إلي آخر ،حتي بلغت ذروة الشجرة، شجرة في باحة البيت ،وتن ّ
في الوقت الذي كان فيه المسؤول الحزبي يقرع جرس الباب.
دجاجة الهاربة وبين المسؤول المنتظر ،حاولت جاهدة أن وفي حيرة )آنتشي( بين ال ّ
فق عذرا ً مقبول ً تدفع به عن أسرتها تهمة العصيان .لكّنها في تلك اللحظة بال ّ
ذات، تل ّ
سمعت صوت ارتطام الدجاجة بالرض ،والتفتت فرأتها تنتفض ،ثم ما لبثت أن سكنت
إلي البد.
لقد كانت هذه أّول دجاجة في التاريخ ُتقدم علي النتحار احتجاجا ً علي استبداد
سلطة!.ال ّ
دجاجة في ظ ِ ّ
ل ذلك النظام الشمولي المطلق ،فكيف ،إذن، وإذا كان هذا هو حال ال ّ
كان حال النسان؟!
الكاتبة الصينّية )آنتشي مين( تعرض لنا في كتابها الفريد )الزاليا الحمراء( صورا ً بليغة
لمأساة النسان في صين )ماو( ،هي في الحقيقة نسخ صينية لمآسي الناس في ظ ّ
ل
جميع النظمة الشمولية في هذا العالم.
فتها مغنية الوبرا سابقا ً وزوجة )ماو( عنوان الكتاب مستمد ّ من عنوان الوبرا التي أل ّ
لحقا ً )زيانغ تشنغ( التي كان لها موقع مؤّثر في حياة الكاتبة .وهي في اختيارها لهذا
ل وحيدا ً منفردا ً
شمولي ،يظ ّ ل النظام ال ّ ل إنسان في ظ ّ نك ّالعنوان أرادت القول بأ ّ
مستوحشا ً مثل نبتة )الزاليا( الصحراوية ،برغم امتزاجه بمئات المليين من الناس.
ن عاطفة الحب في ذلك العهد كانت صواب في اختيارها هذا ،إذا علمنا أ ّ وهي لم ت َعْد ُ ال ّ
ن
ُتعد ّ من المحظورات ،ومن الّتهم التي قد تودي بصاحبها إلي التهلكة ..ولهذا فإ َ
ذات،كزت علي هذه النقطة بال ّ دمتها التي لم تستغرق سوي سبعة أسطر ،قد ر ّ مق ّ
باعتبارها السلك الذي ينتظم عقد مئات من الصفحات الحافلة بمختلف الحداث
المؤلمة.
ولدت )آنتشي مين( في شنغهاي عام 1957،وفي طفولتها أصبحت عضوا ً مثاليا ً في
شاق في )طلئع الحرس الحمر( ..وعندما بلغت السابعة عشرة التحقت بالعمل ال ّ
المزارع الجماعية .ومن هناك التقطها مرافقو زوجة )ماو( لتكون نجمة في أفلم
الدعاية الشيوعية.
49
لكن بعد وفاة )ماو( عام 1976شعرت آنتشي بالخزي والمرارة ،فقّررت أن تغادر
فذ قرارها بمساعدة صين إلي الوليات المتحدة .وقد أمكنها في عام 1984أن تن ّ
ال ّ
بعض الصدقاء.
عندما غادرت )آنتشي( الصين ،كانت معرفتها بالّلغة النجليزية محدودة ،ولذلك فقد
حاولت أن تكتب سيرتها هذه بلغتها الصلية ،لكّنها وجدت المر صعبًا ،ورأت أّنها لن
تجد الطريقة المناسبة للتعبير عن معني الحرّية إل ّ بعاطفة حّرة مستمدة من لغة
جديدة!.
كنت من الكتابة بالّلغة النجليزية ،لتنشر سيرتها في عام ، ولهذا فقد صبرت حتي تم ّ
1993كشهادة مهمة علي عهد جائر ،تضاف إلي الشهادات القليلة التي كتبها صينّيون
من واقع تجربتهم الحّية التي بدت أبعد وأقوي تأثيرا ً من أجمل الّروايات المتخّيلة ،لنها
كتبت بدم أصحابها. شهادات ُ
م ،لّنها
وإذا لم يكن للستبداد من سّيئة أكثر من جعله المرء يشعر بالنفور من لغته ال ّ
سوء الذي ل عاشت علي لسانه وهو عبد ،فّإن ذلك وحده يكفي لصبغ الستبداد بال ّ
تغسله ك ّ
ل بحار الرض.
كان الصغار والكبار جميعا ً أبناًء للحزب ،وهو وحده الذي يقرر كيف يعيشون وكيف
يموتون كتروس في آلة مشاريعه الحكيمة والصحيحة دائمًا!
تقول الكاتبة الصينّية )آنتشي مين( في سيرتها الشخصية )الزاليا الحمراء( التي تروي
فيها تجربتها خلل سنوات الثورة الثقافية في الصين:
ن تسميتهم وحدها كانت مغامرة جريئة من دث عن اسمها وأسماء أخوتها ،لتبّين أ ّ وتتح ّ
شرا علي غرابة أطوارهما وسباحتهما ضد ّ الّتيار. ً والديها ،ومؤ ّ
50
تقول :لقد اّتخذ والداي خيارات تسميتنا بشكل غير مألوف ،إذ أطلقا علينا نحن البنات
أسماء أحجار كريمة ،فأنا )آنتشي( ،وأختي الثانية )المزهرة( ،وأختي الصغر )حجر
ذين دان شا ّما أخي فقد سمّياه )فاتح الفضاء( ..وكانا من هذه الناحية ُيع ّ المرجان( ،أ ّ
ّ
موا أبناءهم علي النحو التالي :حارس اللون ن جيراننا كانوا قد س ّ
بالنسبة للخرين ،ل ّ
الحمر ،الوثبة العظيمة ،المسيرة الطويلة ،النجم الحمر ،التحرير ،الثورة ،الصين
ذ ،إلخ ! الجديدة ،طريق روسيا ،مقاوم المريكان ،الوطني الّرائد ،الجندي الشيوعي الف ّ
مياها في البداية )لن -شوان( وُتبدي ملحظة لب ُد ّ منها حول اسمها قائلة إن والديها س ّ
أي )الشمس المشرقة فوق الجبال( ..لكّنهما سرعان ما انتبها إلي زّلتهما ،وبادرا فورا ً
كرا أن الزعيم )ماو( كان يعتبر الشمس الوحيدة في هذا إلي إلغاء هذا السم ،حين تذ ّ
العالم!
ما اسم أخيها وبعد تفكير طويل أطلقا عليها اسم )آنتشي( ومعناه )حجر السلم( .أ ّ
)فاتح الفضاء( فقد اختاره أبوها لسببين :أول ً لنه كان يحب علم الفلك وثانيا لكي يؤكدّ
تفاعله مع تصريح )ماو( الذي أعلن فيه عن أن الصين ستبني قريبا ً جدا ً مركبتها
الفضائية الخاصة! وعن فترة أمومتها لخوتها وهي طفلة في الّروضة ،تقول إنها برغم
خوفها من الزّقة المظلمة ومن عبور الشوارع المزدحمة ،عند اصطحابها لش ّ
قائها،
فإّنها تعلمت أل ُتظهر خوفها ،لنها كان مفروضا ً عليها أن تكون قدوة أعلي للطفال،
وأن تعطيهم مثل ً علي ما تعنيه الشجاعة.
وبعد أن توصلهم إلي البيت ،كانت تذهب إلي المطبخ لعداد العشاء .وكانت دائما ً
تستغرق وقتا ً طويل ً من أجل إشعال الموقد .وعن ذلك تقول :لم أكن أفهم أن الخشب
أو الفحم يحتاجان إلي هواء لكي يشتعل .وعلي ذلك فإنني كنت أحشو الموقد
دة مقاطع مقتبسة ُ
دخان منه بل نار ،وكنت في الوقت نفسه أغّني ع ّ
بالحطب ،ليندفع ال ّ
من تعاليم )ماو( !
خص معاني الحياة كلها .إذ ل يمكن للنار أنسر التي تل ّنعم) ..الهواء( ..تلك هي كلمة ال ّ
تشتعل بترديد تعاليم )ماو( ..بل بالهواء تشتعل .وكذلك ل يمكن للحياة أن تتحقق بغناء
قق!
تعاليم الّزعيم الوحد ..ولكن بهواء الحرّية تتح ّ
وعند انتقالها إلي المرحلة البتدائية ،وانضمامها إلي )طلئع الحرس الحمر( كانت
مة إعلء شأن الشيوعية.)آنتشي( غاطسة ليل نهار في مه ّ
تقول :في تلك الّيام كنت أرسم الشعارات الثورّية علي الجدران واللواح ،وكنت أقود
زملئي وزميلتي لجمع قطع النقد الصغيرة التي ل تتعدي قيمتها بضعة بنسات ،وذلك
لكي نتبّرع بها لعالة الطفال الجائعين في أمريكا !
وتضيف :لقد كّنا فخورين بهذا العمل ،وكنا واثقين من أّننا بهذا نضع نقطا ً )حمراء(
جديدة علي خارطة العالم ،وأننا نناضل من أجل السلم النهائي لكوكب الرض !
دعاية الحزبية اللئيمة بأذهان الطفال ،فتغسلها من المنطق الذي ذلك ما تصنعه ال ّ
ً
ينبغي أن يكون حاضرا في الذهان عند إجراء المقارنة بين الشيء ونقيضه ،بين حياة
دق أولئك عليهمصين المرّفهين وحياة أطفال أمريكا الفقراء الذين يتص ّ أطفال ال ّ
بالبنسات من أجل إشباع جوعهم!
ف
تقول )آنتشي( :عندما التحقت بمدرسة السعادة البتدائية ،كانت رفيقاتي في الص ّ
يسخرن مّني ،لنني كنت دائمًا ،أرتدي نفس المعطف المطّرز بالثقوب من ك ّ
ل جهة،
مي ! وهو أصل ً واحد من الثياب القديمة التي تل ّ
قيتها من ابنة ع ّ
51
ي
ن أختي )المزهرة( كانت ،في العادة ،ترتدي ملبسي التي تضيق عل ّ وتواصل قولها :إ ّ
ما أختي )حجر و ،ولكن بعد أن توضع لها رقع علي الياقات والمرافق .أ ّ بفعل النم ّ
المرجان( فقد كانت ترث الملبس نفسها من )المزهرة( بعد أن تضاف إليها رقع
جديدة أخري ،بحيث تبدو تلك الملبس عليها وكأنها ذائبة ،برغم حرصها الشديد علي
ن شقيقنا )فاتح الفضاء( ينتظر دوره في ارتدائها!
العناية بها ،لعلمها بأ ّ
فذة حرفيا ً لشتراكية السمال ،كان منن هذه السرة المن ّوعلي الرغم من ذلك ،فإ ّ
ي
ّ أ منها يغضب أن بمجرد بورجوازية(، )أسرة بأنها بساطة، بكل المحتمل جدا ً أن ت ُّتهم،
ّ
رفيق ..وعلي المرء أن يتخّيل ضخامة حجم هذه الحتمالت ،إذا تذكر أن الصين كانت
ج بما يزيد علي مليار رفيق! تع ّ
في عام 1967انتقلت أسرة )آنتشي( من مسكنها بسبب ما كابدته من أذي الجيران
دوام لكون الطابق الذي تقطنهفي الطابق السفل ..إذ كان هؤلء غاضبين علي ال ّ
أسرتها يتألف من غرف أكثر ،ولهذا كانوا ل يتوّرعون عن دلق دلء )مخّلفاتهم( فوق
أسّرة النوم في بيت آنتشي.
طت باب المبني إلي ي من العمل ،ذات يوم ،وتخ ّتقول )آنتشي( :عندما عادت أم ّ
ً
صا .لقد رأيتهما تتصارعان الداخل ،قفزت )البنت الثانية( فوقها ،مشهرة في وجهها مق ّ
مي دفعة عنيفة جعلتها تترّنح وتهوي مرتطمة ببلط الرضية، قت أ ّ في بئر السّلم ،ث ّ
م تل ّ
ي
ص .كانت صدمة بالنسبة لي .وقفت إلي جانب أم ّ وعلي وجهها وذراعها طعنات المق ّ
ن صوتي كان قد هرب مّني. ّ لك أصرخ، أن حاولت دم يتدّفق من جراحها. التي كان ال ّ
صها ،ثم
ما )البنت الثانية( فقد نزلت إلي الطابق السفل ،وجرحت رسغيها بمق ّ أ ّ
جهة نحو حشد الفضوليين ،وراحت تصرخ رافعة اندفعت إلي الخارج بعجلة وعنف ،متو ّ
ي ..إنني عاملة ،وقد هوجمت من قبل الطبقة داميين عاليًا :انظروا إل ّ
رسغيها ال ّ
البورجوازية .أّيها الّرفاق ،إّنها جريمة سياسّية !
أهذه نكتة؟ ربما ..لكنني ل أراها كذلك ،لنني كعراقي أعرف كثيرا ً من هذه المواقف
في عهد صدام الرجيم ،حيث كانت تهمة الخيانة تهدي إلي المواطن ليّ سبب ،مرفقة
جب علي أهل المواطن تسديدها بعد قتله! بطلقة وفاتورة بثمنها يتو ّ
مقعد
ي في دولة المنظمة السرّية أن يتّهم حتي العمي وال ُ
كان يمكن للرفيق الفاش ّ
سس لصالح المبريالية!
بالتج ّ
والعراقي الذي يعرف هذا لن يستطيع أن يضحك من الواقعة التي ترويها )آنتشي
مين( ،لكّنه يستطيع بك ّ
ل تأكيد أن يتذكّر ،بوحي هذه الواقعة ،طائفة كبيرة مثلها أو
من يساعده بقدر إضافي من أسوأ منها ،فيحتاج حينئذ إلي البكاء ..ويحتاج في ذلك إلي َ
الدموع!
52
الزاليا الحمراء 3/3
وفي صين )ماو( كان الختصاص العلمي شيئًا ،والختصاص الحزبي شيئا ً آخر ،وإذا وقع
ن كلمة الخير هي الخلف في مسألة علمية دقيقة بين العاِلم والمسؤول الحزّبي ،فإ ّ
الّراجحة ،حَتي ولو كان هذا ل يعرف الّتمييز بين اللف وكوز ال ّ
ذرة!.
صية )الزاليا الحمراء( صورا ًترسم الكاتبة الصينّية )آنتشي مين( في سيرتها الشخ ّ
ل حكم شمولي خانق كان ُيحَتم علي النسان أن عديدة لمثل هذه الحالت في ظ ِ ّ
دوام ،حذر الوقوع في وة فاغرة ،علي حبال أعصابه المشدودة علي ال ّ يمشي فوق ه َ
زّلة غير مقصودة قد تسلمه إلي العدم!.
طلب منها ،ذات يوم ،أن تكتب شعارا ً يقول ة ،وقد ُ مدّرس ً
ن والدتها كانت تعمل ُ تقول إ ّ
)عشرة آلف سنة من الحياة التي ل تنتهي للّزعيم ماو( ..لكنها تحت وطأة إصابتها
شعار ،إذ نسيت سماح لها بأخذ إجازة للّراحة ،أخطأت في كتابة ال ّ
دم ،وعدم ال ّبضغط ال ّ
مت دعوتها -بسبب زيغ عينيها -أن تكتب كلمة )ل( المّتصلة بكلمة )تنتهي( ..وعندئذ ت ّ
إلي اجتماع حزبي في اليوم التالي ،لمحاكمتها عن تهمة كونها تحمل )نّيات شريرة(
تقضي بمعاملتها كمجرمة!.
53
مها في الرد ّ علي الّتهمة
وفي المساء ،تدّبرت )آنتشي( كتابة مرافعة لتستخدمها أ ّ
جهة إليها ،مستفيدة من أقوال )ماو( في الكتاب الحمر المختصر الذي تحفظه عن المو ّ
ظهر قلب.
ن
سسوا رؤوسهم عند سماع هذه المرافعة ،إذ أ ّ ن المسؤولين الحزبيين قد تح ّ
ويبدو أ ّ
والدة )آنتشي( نجت بأعجوبة من مصير أسود ،بعد أن قرأتها ..لكّنها ،في مناسبة
أخري ،لم تسعد بامتلك مثل هذا الح ّ
ظ.
ففي ذلك الزمن السعيد ،لم يكن في طاقة الناس أن يشتروا )ورق التواليت( ،ولذلك
فقد كانوا يستخدمون قصاصات ورق الصحف لهذا الغرض .وقد حكم الح َ
ظ العاثر علي
دم ،أن تستخدم،م المسكينة ،وهي تحت وطأة نوبة شديدة من نوبات ضغط ال ّ هذه ال َ
حمام ،قصاصة من جريدة كانت عليها صورة )ماو(!.
ّ ال دخولها عند
وة في الرض أن في هذه المّرة كانت الجريمة ثابتة الركان ،ولم يكن بوسع أّية ق ّ
م فصل والدة )آنتشي( من مهنة التدريس ،وإرسالها للعمل ال ّ
شاق تغفرها ،وعلي هذا ت ّ
في مصنع للحذية!.
ما والد )آنتشي( المختص بعلوم التكنولوجيا ،فقد طرد من عمله في متحف شنغهاي أ ّ
خططات للعلوم الطبيعية ،بعد اختلفه في الّرأي مع مسؤوله الحزبي حول أحد الم ّ
م بموجبها طرده من العمل هي أّنه يستغل )العلوم(
التكنولوجية .وكانت التهمة التي ت ّ
لمهاجمة )الحزب الشيوعي(!.
كان الناس مجّرد تروس في آلة الحزب العظيم ،وكان عليهم أن يدوروا وفق اّتجاه
حركة اللة بل نقاش ،سواء أكانوا علماء أم مدّرسين أم طلبة أم أمّيين .وسواء أكانوا
أطفال ً أم طاعنين في الغيبوبة.
دي )آنتشي( أن ُيمارسا علوم اللغة والتكنولوجيا في مصانع الحذية، وإذا كان علي وال ِ َ
فقد كان علي )آنتشي( التي بلغت السابعة عشرة أن تترك المدرسة مرغمة لتلتحق
لحين!.صين قد أقفرت من الف ّ ن ال ّ
بالمزارع الجماعية ..وكأ ّ
وفي المزارع أيضا ً لم يكن عمل المرء شفيعه بل رضا المسؤول الحزبي ،ولم يكن
اختصاص ذلك المسؤول في الفلحة شفيعه بل اختصاصه في حفظ أقوال )ماو(!.
دث )آنتشي( عن المسؤولة القاسية في المزرعة التي عملت فيها ،فتقول إّنها تتح ّ
دد دائمًا :إنني ل أمانع في أن أكون خرقة تستخدم لمسح أكثر زوايا المطبخ
ّ تر كانت
قذراة ..من أجل الحزب الشيوعي !.
54
وهذه المسؤولة )الخرقة( كانت قد وضعت نظاما ً للعمل أمرت فيه بعدم السماح لحد
بدخول المرحاض إل ّ مّرتين في اليوم فقط ،علي أل ّ يمكث فيه أكثر من خمس دقائق.
كر كم هو سهل علي هذه المسؤولة أن تكتب عّني تقريرا ً كاذبا ً تقول )آنتشي( :كنت أف ّ
في ،حيث ل يؤذن إل ّ لرؤساء الحزب بالوصول ُتدخل بواسطته كلمات غامضة إلي مل ّ
ف فإّنها لن تتغّير أبداً،
إليها ..كلمات يمكن أن تدفنني حّية ..كلمات إذا ما دخلت المل ّ
من أنا وماذا سأكون ،وتلك دد َ
ف هو الذي ُيح ّ وستظ ّ
ل تتبعني حَتي بعد الموت .فالمل َ
ً
الكلمات هي التي ستصنع صورتي الوحيدة التي يعتبرها الحزب جديرة بالّثقة حقا !.
تقول )آنتشي( :عندما أستأذنت والدي قال :ل ..إنني ل أريد ممارسة الّثورة حتي في
المنزل .وقد فاجأني هذا الرد ّ وصدمني ،فأمضيت الّليلة كّلها أتساءل ع ّ
ما إذا كان
سلطات ً
ي أن أكتب تقريرا لل ّ جب عل ّ ما إذا كان يتو ّ والدي معاديا ً في ال ّ
سر للثورة ،وع ّ
عنه أم ل؟ !.
و)آنتشي( لم تتحّرر من عبودية المزارع الجماعية ،إل ّ بعد اختيارها لعبودية التمثيل في
ن المليين من أبناء جيلها لم ُيقّيض لهم أن يذقوا سينما الدعاية الحزبية الممجوجة ،لك ّ
سنة ..فها هي أختها )المزهرة( التي كانت في المرحلة طعم هذه العبودية المح ّ
سل إلي مدرسة مهنية ،فكان ل ب ُد ّ من إسقاط )إقامتها( في المتوسطة قد َتقّرر أن ُتر َ
شنغهاي هي الخري )وكأّنها ليست جزءا ً من بلدها(!.
م لتلوم ابنتها علي ذلك ،لَنها كانت مقتنعة فعل ً بأن ل سبيل لنجاة البنة إل ّلم تكن ال ّ
م المنكودة نفسها عندما عادت من العمل ذات يوم مخطوفة َ ال فهذه الطريقة، بهذه
ن الفحوص الطبّية أثبتت أّنها مصابة الّلون ومنهارة تماما ،عّبرت عن سعادتها البالغة ل َ
ً
ن هذا المر وحده هو الذي سيمنحها الفرصة للّراحة في البيت قلي ً
ل، سل ..ذلك ل ّبال ّ
والهتمام بشؤون أبنائها!.
55
ب المنايا أن يك ُ ّ
ن س ُ
ح ْ
أكثر ..أّولهما يقول) :كفي بك داًء أن تري الموت شافيا -وَ َ
أمانيا(.
كل النجازات الباهرة في الدنيا كانت وراءها أفكار صغيرة .ومن الطبيعي أن يحتاج
تنفيذها وارساؤها علي أرض الواقع الي الفطنة والموهبة والجهد ،لكن كل هذه الشياء
ل تشفع للمرء في تحقيق أدني النجاح اذا لم يكن مؤمنا حقا بما يفعل ،ومتدرعا
بالصرار وعدم التسليم بالفشل مهما طالت التجربة ،ومهما كانت المعوقات.
إن هذا هو مؤشر التمايز بين الناس ،واذا كان لنا ان نندب سوء أوضاعنا وتخلفنا عن
الخرين ،فينبغي ان ندرك ان ليس مرد ذلك الي كوننا فقراء الي المواهب والطاقات،
ولكن لكون الخرين أطول منا نفسا ،وأكثر صبرا ،وأكبر قدرة علي التحدي والمواصلة.
اننا نتناقل جيل بعد جيل ،حكاية القائد المغلوب الذي ألهمته النملة باصرارها علي نقل
كسرة خبز ثقيلة ونجاحها بعد طول الجهد والمحاولة ،ان يجمع فلول جيشه المهزوم
وينتصر في النهاية.
لكن الحكاية تبقي معنا مجرد طرفة نزجي بها ليالي السمر ،فيما هي عند الخرين
تجربة حية وحثيثة علي أرض الواقع.
كذلك كانت تلك الحكاية بالنسبة للصبي جيمس وات الذي رأي غطاء ابريق الشاي
يرتفع حاليا بتأثير تصاعد البخار ،فكان ان اخترع المحرك البخاري الحديث ،وكذلك
كانت بالنسبة لبائع الصحف الصغير توماس أديسون الذي أضاء لنا ليلنا باختراعه
المصباح ،لكي نقطعه بالسمر وترديد حكاية القائد المغلوب والنملة ،مضيفين اليها
والي اللف غيرها حكايته وحكاية صاحبه وات ايضا.
منذ زمن طويل كان هناك شاب صغير من مدينة كنساس مولع بالرسم ،لم يترك
جريدة ال وتقدم اليها محاول بيع رسومه الكاريكاتيرية ،لكن المحررين جميعا جابهوه
56
بالبرود ،بل وبالرفض القاطع ،مصرحين له بغلظة بأنه عديم الموهبة وان عليه ان
ينسي تماما أمر الشتغال في هذا المجال.
لكن ذلك لم يثبط الشاب ،بل راح يواصل الرسم والبحث عن اية فرصة متاحة
لستثمار امكاناته.
وفي النهاية عرض عليه أحد القساوسة ان يرسم للكنيسة اعلناتها في المناسبات لقاء
أجر زهيد .لكن الشاب الغر أعرب عن حاجته الي مرسم ..وهو في الواقع كان بحاجة
اليه ل للرسم فقط بل للنوم ايضا ،اذ لم يكن لديه مكان يأوي اليه!
ويبدو انه كان لدي الكنيسة مرآب مهمل تزحمه الفئران ،فأشار القس علي الشاب ان
يقيم فيه .لكن ..من يصدق ان واحدا من تلك الفئران سيصبح فيما بعد اشهر فأر في
التاريخ ،وان ذلك الشاب سيصبح واحدا من اشهر الفنانين في العالم؟!
ذلك الفأر معروف الن لدي المليين باسم ميكي ماوس ،اما الشاب فهو والت
ديزني .
وتلك حكاية اخري تضاف الي غيرها من المسامرات الليلية ..وحظنا منها ان نسمعها
بانبهار واعجاب ،ول شيء غير ذلك ،لن نظرتنا اليها ستظل مقتصرة علي نقطتي البدء
والنهاية وحدهما .أما حظ الخرين فهو السير الواقعي علي الخط المتعرج الطويل
القائم بينهما :خط اليمان بالفكرة والثقة بالنفس والتجربة الدائبة والجهد الحثيث
لتذليل العقبات والصرار علي النجاح وعدم العتراف بالفشل علي الرغم من تكرره.
سوق الخطف
ت ،منذ عدة أعوام ،حكاية عن لصوص يسطون علي بيت فل يجدون فيه كنت قد كتب ُ
سوي امرأة عجفاء بصحبة نصف دزينة من الطفال الجاذعين الذين يفترشون معها
العراء ،ويتراشقون بالشتائم ال ّ
ذاوية لشدة ما بهم من وهن!
ن البيت كان فارغا ً حتي من قدر ،فإن المرأة التي تخففت من واجب الهاءوحيث ا ّ
أولدها بطبخ الحصي ،كما في الحكاية التراثية ،لم تفزع ،بل رأت في مقدم هؤلء
اللصوص بارقة أمل ،فانتشلت واحدا ً من الولد وقدمته لهم هدية ،لكي ل يخرجوا من
بيتها فارغي اليدي!
غير ان اللصوص اعتذروا عن عدم قبول الهدية ،وصارحوها بأنهم لم يحترفوا السطو إل
بسبب كثرة العيال وضيق ذات اليد ،وان أخذ ولدها لن يفيدهم في شيء ،بل سيحملهم
هما ً اضافيًا ،وذلك لنهم سيضطرون الي اطعامه دون ان ينتظروا من ورائه فدية!
ولم أتخيل أبدا ً ان مبالغتي الساخرة هذه ستكون عرضة لسخرية ما يجري واقعيا ً في
عراق اليوم الذي فتحت فيه عصابات العنف العمي الهاّبة من الجهات الربع ،سوقا ً
عمياء للخطف يتداول بضائعها تجار يملكون رأس المال نفسه الذي يملكه اللصوص
في حكايتي ،لكنهم ،غالبًا ،ل يملكون حنكتهم في عدم قبول البضاعة الفاسدة!روت لي
صديقة كويتية ان خطيب اختها -وهو عراقي يعيش في الكويت مع أهله ذوي الدخل
المحدود -كان قد غادر الي البصرة ،بعد زوال نظام جرذ تكريت ،لكنه اختطف في
الطريق من قبل عصابة طالبت أهله بفدية مقابل إطلقه.
وعبثا ً حاول أهله اقناع العصابة بأنهم عراقيون علي مد ّ الله ،وانهم ل يملكون حتي
رائحة المبلغ المطلوب ،فلما يئسوا اسلموا امرهه وأمرهم الي الله.
57
وطال الوقت بالخاطفين وهم ينقصون من مقدار الفدية مرة بعد مرة ،دون ان يجدوا
اذنا ً صاغية ..حتي استحال المخطوف الي ورطة بالنسبة لهم ،فتفتقت اذهانهم عن
فكرة بيعه الي عصابة أخري ،ولم يكن حظ هذه أفضل من حظ سابقتها ،فاضطرت
في النهاية الي الستحواذ علي ثياب الرهينة واطلقه بملبسه الداخلية!
وحكي لي صديق عائد من العراق حديثا ً ان ابن جارهم قد تعرض للختطاف ،وتلقي
والده رسالة من الخاطفين تطالبه بفدية من اجل انقاذه ،ولن الوالد كان -كما يؤكد
صديقي -في حالة مالية مزرية ،فقد أرسل من يسأل الخاطفين عما اذا كان يطعمون
ولده جيدًا ،فجاءه الرد باليجاب ،وعندئذ أرسل اليهم متوسل ً ان يخطفوه هو ايضا ً مع
اولده الخرين!
وانهي الصديق حديثه بأن الولد عاد سالما ً الي البيت في الليلة ذاتها.
وحين أعربت عن دهشتي من غباء مثل هؤلء الخاطفين الذين يحاولون سرقة الحذية
من الحفاة ،طمأنني الصديق الي ان السوق ل تخلو من التجار الذكياء العارفين الذين
يعملون حساباتهم بالقلم والمسطرة.
وقال لي ،في هذا السياق ،إن عصابة خطفت ولدا ً آخر وحاول أبوه تقليد جارهم،
فادعي انه ل يملك من حطام الدنيا شيئًا ،لكنه فوجيء بالعصابة وهي ترسل اليه كشفا ً
دقيقا ً بجميع ممتلكاته!
ولكونه تاجرا ً حاذقًا ،فقد جّرب طريقته المعتادة في المساومة ،للوصول بمبلغ الفدية
الي أدني مستوياته ،مقفل ً الموضوع بقوله ان الذي خلق ولده هو الكفيل بأخذ روحه أو
إعادته حيًا.
ويبدو انه كان في ضلله القديم ،اذ أبلغه الخاطفون بأنهم لن يقتلوا ولده ،لكنهم
سيقطعون ذراعه قبل ان يعيدوه اليه .وعندئذ أذعن ودفع المبلغ الثقيل بالدولر.
عندما لمح الصديق علئم الشحوب علي وجهي ،حاول ان يواسيني بقوله :انها مجرد
حوادث شاذة ليست من صميم طبيعة مجتمعنا ،وستزول باذن الله ،بعد ان يسترد
الوطن عافيته ..وهي تبقي أكثر رحمة من أعمال خاطفي السلم و خاطفي الوطنية
والقومية الذين يخطفون أرواح الناس لمجرد إرواء عطشهم للدماء ،ثم بعد ذلك فقط
قد يفكرون في تسليم الجثث المقطعة الوصال الي أهلها لقاء فدية مخفضة -لوجه
الله -وبالدولر أيضًا!
58
سيرك
في خدمة ال ّ
الّروائي النرويجي كنوت هامسون الحائز علي نوبل 1920،وصاحب رواية )الجوع(
الشهيرة ،كان قد كتب في بواكير تجربته الدبية عددا ً من القصص القصيرة التي ش ّ
كل
بعضها نواة ً أو تخطيطا ً أولي ّا ً لهم رواياته الكبيرة اللحقة.
وقد كان أغلب تلك القصص مستلهما ً من تجربته في أمريكا التي مارس فيها ،لبضعة
أعوام ،مهنا ً مختلفة كقاطع تذاكر في القطارات ،أو عامل بسيط في المزارع
الشاسعة.
ومن ضمن هذه القصص هناك واحدة ذات لمسة محلية خالصة ،تعكس بشكل خاص،
وضعية المثقف النرويجي في نهايات القرن التاسع عشر ،وتترك في قارئها أثرا ً واضحا ً
علي رغم تباعد الزمنة والماكن.
قف شاب يعاني من ضائقة مالية، صة المحاضرة هذه يروي هامسون حكاية مث ّ في ق ّ
ول يملك من سبيل للخروج منها إل ّ عن طريق إلقاء المحاضرات خارج العاصمة .وعلي
هذا فإّنه ُيعد ّ محاضرة في الدب الحديث ،وبما لديه من نقود قليلة يستقل القطار
متوجها ً إلي مدينة درامن التي ل يعرف فيها أحدا ً ول يعرفه فيها أحد ،من أجل أن
ظه هناك ،مؤمل ً أن تهّز محاضرته الوساط الثقافية ،وأن تكون حديث الناس. يجّرب ح ّ
عند وصوله إلي المدينة ،يزور إحدي الصحف المحّلية للتعريف بنفسه وبما أتي من
أجله ،وللسؤال عن أفضل وأوسع القاعات التي يمكن أن تستوعب رّواد محاضرته،
ن شابا ً قد جاء في العام الماضي للقاء محاضرة ثقافية،
فيبلغه المحّرر المندهش بأ ّ
لكّنه فوجيء بأن عدد الحاضرين لم يتجاوز أصابع اليدين ،فعاد من حيث أتي بعد يومه
الّول.
كز اهتمامه في معرفة المبلغ المطلوبن صاحبنا الواثق من نفسه لم ُيبال بذلك ،ور ّ لك ّ
ن أوسع القاعات هي قاعة لستئجار أكبر قاعة في المدينة .وعندئذ طمأنه المحّرر بأ ّ
دث العمدة مباشرة في هذا المر. ن بإمكانه أن يح ّ
البلدية ،وأ ّ
59
دده إذا استطاع
يوافق العمدة علي تأجير القاعة للمثقف الشاب لقاء مبلغ معقول يس ّ
قق ربحا ً من المحاضرة.أن يح ّ
ن صاحبنا لم يكن قادرا ً علي دفع ثمن إعلنات عن المحاضرة ،فقد اكتفي بتوزيعول ّ
خمسمائة بطاقة شخصية كانت في حوزته أص ً
ل ،علي الناس في الفنادق والبارات
حلت التجارية.
والم ّ
وتوفيرا ً للنفقات اكتفي بالسكن في فندق رخيص جدا ً تتضمن خدماته تقديم وجبة
جانًا.
الفطار م ّ
وفي يوم المحاضرة يستعين صاحبنا برجل للقيام بمهمة قطع تذاكر الدخول .وقبيل
دد أصداء خطواته عالية في جنباتها الواسعة، الموعد بقليل يمضي إلي القاعة ،فتتر ّ
ففة من ثقل أيّ إنسان!.متح ّ
ُ ّ
لها ك فيجدها الكثيرة وُيجيل بصره في صفوف المقاعد
ن الموعد لم يحن بعد ،لكن حتي بعد حلول الموعد ومرور قف نفسه بأ ّ وُيطمئن المث ّ
وقت طويل عليه لم يحظ برؤية أيّ إنسان .وفي اللحظة التي يداخله فيها اليأس
والغيظ يسمع صوت رجل آتيا ً من عند شباك التذاكر ،فيخرج بلهفة الفضول لرؤيته،
ن ذلك الّرجل هو محّرر الصحيفة التي زارها ،وقد جاء لقطع تذكرة من لكّنه ُيفاجأ بأ ّ
باب التشجيع!.
دم الليل دون أن يحضر أحد ،يقفل صاحبنا عائدا ً إلي الفندق الرخيص ،ماّرا ًوحين يتق ّ
دم فيه البهلوان عروضه ،فيصدمه ازدحام الحضور، في طريقه بالمسرح الذي يق ّ
وتصفعه عواصف هياجهم وتصفيقهم.
في تلك الليلة يعاود البهلوان إغراءه ،راجيا ً منه أن يشاركه ،في الليلة المقبلة ،كتابة
فقرات البرنامج وتقديمها بطريقته ،لقاء بعض المال.
ن صاحبنا يكتشف أّنه لم يعد يملك حتي ثمن تذكرة العودة بالقطار إلي العاصمة،ول ّ
فإّنه يوافق علي مضض ،ويعكف علي كتابة التعليق بأسلوب بليغ وجميل ،ثم يمضي
في مساء اليوم التالي إلي تقديم العروض علي المسرح ،فيندهش لنبهار الحضور
بالوصف الذي يتلوه عليهم ،وينتشي لهياجهم وتصفيقهم بعد انتهائه من وصف ك ّ
ل
فقرة!.
قف
وبهذا العمل وحده ،ل بمحاضرته الدبية التي استنفد فيها خليا ذهنه ،استطاع المث ّ
أن يحظي بالعجاب والتصفيق ،وأن يتدّبر ثمن تذكرة العودة!.
صة ،وأف ّ
كر في حال الثقافة العربية وحال مثقفينا ..فأتساءل :كم مل هذه الق ّ
أتأ ّ
من معيشته وأجرة مسكنه وتذكرة مواصلته بالبداع الذي ً
محظوظا استطاع أن يؤ ّ
يحسنه ويؤمن به ويحّبه ويرضاه ،دون أن يضطر إلي ملمسة حلبة السيرك؟!.
ويْتسع تساؤلي ليكون :أهي الثقافة التي تشتغل ،عندنا ،في السيرك ،أم هو السيرك
الذي يشتغل في الثقافة؟!
60
أوراق من مف ّ
كرة عاقل!
مضت سنة كاملة علي هروبي من مستشفي المجانين ..أنا الن في منتهي السعادة..
مطاِردين.
وسأعمل المستحيل لكي ل أقع في أيدي ال ُ
هؤلء اّلذين وّفروا لي مكانا ً للختباء ،كانوا قد فّروا من المستشفي قبلي .هذا ما قاله
ُ
ت ثانية إلي )شلغم( .لذلك فهم ُيدركون جّيدا ً فظاعة ما سألقاه إذا ُقبض عل ّ
ي وأعد ُ
هناك.
ن زملئي في المخبأ قد اّتبعوا الخطة ذاتها التي أتّبعتها مع مرور الّيام اكتشفت أ ّ
كر بالطريقة نفسها؟! للهرب .قلت في نفسي سبحان الّله ..كيف تأّتي لنا جميعا ً أن نف ّ
فقوا مع رجلين تبدو عليهما سيماء الجدّية والحزم .جاء الّرجلن وهمان أهلي ات ّ أتذ ّ
كر أ ّ
ً
مرضين .ألبساني قميصا بالمقلوب وربطا أكمامه من خلفي ،ثم يرتديان ثياب الم ّ
بمنتهي السرعة والحذق ألقيا بي داخل سّيارة تشبه سّيارات السعاف ،وانطلقنا ..ويو
ويو ويو ويو .
كر أحيانًا :ماذا أفادني الهرب؟ ها أنا محبوس في هذا المخبأ منذ عام .أهذه حرّية أم
أف ّ
سجن؟
لكّنني أعود فأقول لنفسي :ألم يكن مستشفي المجانين سجنا ً هو أيضًا؟ هنا علي القل
ل شيء .ليس هنالك أجمل أجد أصدقاء طّيبين يشعرون بأهمّيتي ،ويضحكون برغم ك ّ
من وجودك بين أصدقاء عقلء يحترمون عقلك.
61
ل يوم ،مختلف الوسائل لسعادك .اليوم ،مث ً
ل ،كان الّراديو الوحيد هنا يبتكر الخوة ،ك ّ
ّ
لدينا يلعلع بخطاب الرئيس .قام )شلغم( وحمله علي رأسه بكل خشوع ،ثم هوي به
فجأة إلي الرض فتح ّ
طم وتناثرت شظاياه في ك ّ
ل ناحية.
يا جماعة ..البقاء في حياتكم .الرئيس فطس .قوموا ننصب فاتحة .
سر من السلم
راح )شلغم( يلطم ،فيما كان الجميع يقرأون علي روح المرحوم ما تي ّ
الجمهوري.
ظريف )شلغم( رغم عصبّيته الّزائدة .لقد شبعنا ضحكا ً علي روح المرحوم.
مي قد ثرثرت هنا أوشلل .أخشي أن تكون أ ّ القلق يأكل أعصابي ويصيب ذهني بال ّ
هناك .آخر مّرة ،عندما جاءت خفية لرؤيتي ،قالت إّنها ل تستطيع الصبر علي هذه
دولة .رّباه ..أرجو أل ّ تكون قد فعلت ذلك.
فع لي لدي ال ّالحال ،ولعّلها قالت إّنها ستتش ّ
ي.
سيعرفون مكاني ويقبضون عل ّ
مي اليوم .همست في أذني :سآخذك إلي البيت غدًا .لن يعرف أحد .كن جاءت أ ّ
ل شيء سيكون علي ما يرام . مستعدًا .ول تطلع الخرين علي المر .ك ّ
ما كدنا ننطلق من المخبأ ،حتي فوجئنا برجل عند الباب يسد ّ طريقنا.
كل خطرا ً
ن شلغم لم يعد يش ّ عجبا ً لعصاب أ ّ
مي .قالت له بك ّ
ل برود :نعم يا سّيد ..إ ّ
علي أحد .لقد سمحوا له بالمغادرة .انظر هذه شهادة اللجنة الطبّية .
نفس الشوارع ..نفس الجيران ..نفس الملصقات ..نفس الشعارات ..نفس الجماهير.
ول أحد من زملء المخبأ.
خدعتني أمي .كنت أحسبها تحّبني .ها أنا ،بفضلها ،أعود ثانية إلي مستشفي المجانين!.
62
شرف سعيد أفندي
في سيرته السينمائية )استذكارات بين الظلم والضوء( الصادرة حديثا ً عن دار
الفارابي ،يستعرض الفنان العراقي المعروف يوسف العاني التجارب السينمائية في
العراق منذ أواخر اربعينيات القرن الماضي .ومن خلل الحديث عن دوره الشخصي
د ،بالنسبة
في تلك التجارب ،يركز بصفة خاصة علي فيلم )سعيد أفندي( الذي ُيع ّ
للكثيرين ،أيقونة السينما العراقية.
وقد استوقفتني ،في ذلك الحديث ،لمحة إنسانية عابرة ،قد ل يلتفت إليها البعض في
خضم المادة الساسية المكوّنة للسيرة ،لكّنها ،علي بساطتها وعفويتها ،تترك في
النفس أثرا ً كبيرا ً من حيث كونها تلخيصا ً لجوهر كينونة الفّنان ،في صلبته أمام
اغراءات اللحظة ،وقدرته المبدئية علي النتصاف من نفسه حتي للنظام الزائل الذي
كان يناوئه.
لم يكن )سعيد أفندي( أول فيلم عراقي ،فقد سبقه بثماني سنوات فيلم )عليا وعصام(
الذي أدي الدور الول فيه الفنان الراحل إبراهيم جلل ،لكنه كان أّول فيلم عراقي
خالص بطاقمه الفني وقصته وإخراجه وتصويره ،وبتبنّيه أسلوب )الواقعية الجديدة(
الذي برع فيه المخرج اليطالي )دي سيكا( بالخروج من الستوديو إلي الشارع،
وإشراك الناس العاديين في تمثيل أحداث الفيلم.
در ليوسف العاني أن يتحمل القسط الوفر من مسؤولية هذا الفيلم المأخوذ عن وقد قُ ّ
ً
صة سينمائيا ،وكتابته
صة )شجار( للكاتب العراقي أدمون صبري ،وذلك بإعداده الق ّ ق ّ
السيناريو والحوار ،وأدائه الدور الول فيه.
عرض )سعيد أفندي( عام 1957م ،أي قبل عام واحد من ثورة 14تموز التي أنهت
ن الناس الذين تفاعلوا معه وأحّبوه قددة صدقه الفني أ ّالعهد الملكي .وقد بلغ من ش ّ
ن الرقابة قد حذفتها!
تخّيلوا مشاهد لم تكن موجودة فيه ،وأوهموا أنفسهم بأ ّ
دثونك -عندما تذكر فيلم سعيد أفندي -وحتي هذا اليوم ،تجد كثيرا ً من العراقيين يح ّ
ن )السمكة جايفة من
عن مشهد ذهب فيه الستاذ سعيد ليشتري سمكة ،وقال للبائع إ ّ
دون ذلك أبلغ تعريض بالحكومة في ذلك الوقت. الرأس( ..ويع ّ
ل ،والطرف منه أنن مشهدا ً كهذا غير موجود في الفيلم أص ًالطريف في المر أ ّ
هزم في نقاش مع متفرج عراقي - ُ قد كان وبطله، الفيلم صانع يوسف العاني نفسه،
قابله في الخارج -حين ألح الخير علي وجود هذا المشهد وأّنه رآه في النسخة الصلية
63
ن الّرقابة
قبل أن تقتطعه الّرقابة ..بل وأضاف مشاهد أخري غير موجودة وزعم أ ّ
حذفتها .وعبثا ً حاول العاني إقناعه بعدم ص ّ
حة ذلك!
ن الفيلم قد خاطب ضمير الّناس وفي تحليله لهذا المر يقول العاني إّنه أدرك أ ّ
ف بك ّ
ل طت أو عّبرت عن حاجة في النفس ،لكّنها لم ت َ ِ مشاهده قد غ ّن َ
وإحساسهم ،وأ ّ
ن الناس كانوا يريدون المزيد من الكشف عن حالت جديرة بأن يكشف الحاجة ،أي أ ّ
عنها.
ن
معت قضايا كثيرة غير موجودة في الفيلم ظّنوا أّنها كانت موجودة لك ّوهكذا تج ّ
الرقيب حذفها.
وبعد عودة يوسف العاني إلي بغداد كان النظام الملكي قد سقط وقام مكانه النظام
الجمهوري ،وذات ليلة من ليالي الترحيب به طرحت عليه فكرة بدت له غريبة أّول
المر ،بل حسبها دعابة ،وذكّرته حال ً بالّرجل العراقي الذي ناقشه حول الفيلم عندما
كان في الخارج.
ن الفكرة كانت تتمثل في أن نضيف مشاهد جديدة تشبع حاجة المتفّرج، يقول العاني :إ ّ
وبعد أن ُأمّثلها تضاف إلي الفيلم الذي عرض علي الناس ..ولكن بعد أن نعلن ونقول
يعرض سعيد أفندي بعد أن أعيدت إليه اللقطات التي حذفها الرقيب .
ويضيف :هنا كان لي موقف حاسم وعنيف ..أن أرفض باستنكار وصلبة هذه
الطروحات ،وأن أبذل الجهد لكي ألتقي بالستاذ )ممتاز العمري( الذي كان مدير
الداخلية العامة ،الّرجل الفذ ّ الذي أجاز الفيلم بكامل مشاهده ولقطاته وحواره بعد
قق لي
صة طويلة ومثيرة ،وذلك لكي أشكره وأعّبر له عن احترامي لموقفه .وقد تح ّ ق ّ
ذلك بعد أشهر .
هي لمحة بسيطة ،لكّنها جميلة جدا ً ومؤثرة جدًا ،لّنها تمّثل نجاحا ً للجوهر النساني عند
ل إغراءات القوة والقدرة وسنوح الفرصة. وضعه أمام اختبار النصاف ،وهو مدّرع بك ّ
64
ساعة شيطان )مرافعة خصاونّية(
أعلم أّنه كسر أنفك .ما كان ينبغي أن يفعل ذلك .هذا عمل شرير ،ولك الحقّ في أن
ن المر قد جري في ساعة شيطان، تغضب .لكن لو نظرت من زاوية أخري لوجدت أ ّ
ب
شر .العوض علي ر ّ والشيطان شاطر .لعنة الّله علي الشيطان .سامحه واكسر ال ّ
فس من فمك .دعني ُأقّبل أنفك المكسور. العالمين .نحمده علي سلمة فمك .تن ّ
سامحه.
ن هذا من أعرف أّنه سرق مصاغ زوجتك وسرق نقودك وسرق الثاث حّتي .ل ش ّ
كأ ّ
ن رّبك لبالمرصاد .كن أحسن منه .اكسر عينه
عمل اللصوص ،لكن دعه لرّبك .إ ّ
وسامحه .العافي حبيب الّله.
أعلم أّنه قتل ابنك .أين يذهب من الله؟ الّلهم اجعله في الشهداء والصالحين .أعني
ل العوض برأسك، المرحوم ابنك .كيف فعل الملعون ذلك؟ ل أعني ابنك .علي ك ّ
سلم .مات جميع أبنائه، سلم .قل عليه ال ّوالصبر طّيب .لست أحسن من أّيوب عليه ال ّ
فصبر وشكر .جعلك الّله قرينه في الصبر والشكر ،وزادك عليه في العفو .العفو
ظ عظيم .ولو نظرت إلي القضّية من زاوية أخري فأنت قاه ،إل ّ ذو ح ّ
جميل ،ول يل ّ
ّ ّ
الّرابح .ابنك شهيد .توكل علي الله وسامحه .ستسامحه ،أليس كذلك؟
نعم .أدري أّنه قتل ابنك الثاني أيضًا .أسأل الّله أن يزيدك صبرا ً وأجرًا ،وأن يهبك ثلثة
أبناء ..اثنان منهم علي سبيل التعويض ،والثالث اكرامية.
كرت الن أّنه خطف ابنك الثالث .إذن اصرف النظر عن الكرامية .وإذا آه ،صحيح .تذ ّ
خّلفت ثلثة ،بإذن الله ،فاعتبرهم جميعا علي سبيل التعويض .أنت مؤمن ول ينبغي أن
ً ّ
صالحين؟ فبهداهم اقتده ..قال ما أنا
ما جري للنبياء وال ّيكون قلبك أسود .أين أنت م ّ
صانع بكم؟ قالوا أخ كريم وابن أٍخ كريم.
65
طلقاء .أتري؟ أين أنت من عفو رسول الّله؟ سامحه .هاه.
قال اذهبوا فأنتم ال ّ
نعم لم يغب عن ذهني أّنه هتك عرض ابنتك .الّلهم اخزه يوم الحساب .هذا هو الّزني
ل غضبك لن بعينه .المر لّله .ماذا يمكنك أن تفعل؟ لقد وقع الفأس في الرأس ،وك ّ
فة المحروسة فل تضّيع العفو من يديك. يرجع ما ضاع .دعه لرّبك .ضاعت ع ّ
صلح خير.
ماذا تجني من العداوة؟ ما جري قد جري ،وال ّ
ل هذه العوام التي حبسك فيها تحت الرض وجّرب قك أن تتأّلم بعد ك ّ إي والّله .من ح ّ
ل .فضفض عن نفسك .لكن إّياك أن تسرف في ك قلي ً
ل صنوف التعذيب .اب ِ فيك ك ّ
وث لسانك .ل تفجر .ليس المؤمن بطّعان ول لّعان ول فاحش ول بذيء. النفعال فتل ّ
ما
ّ أ مبتلي.
ُ فالمؤمن إيمانك، علي شهادة هو جري ما ن أ
ّ ّ م ث هذا، أنت أكبر من
جلهم ليوم تشخص فيه البصار .سامحه إذن وكّثر ذنبه عند الله. الظالمون فإّنما يؤ ّ
قل إّنك سامحته .بحقّ معّزتي عندك قل إنك سامحته .ما بالك ل ترد؟ قل شيئًا ..ما
هذا؟ إّنا لّله وإّنا إليه راجعون .منذ متي فاضت روحك أّيها الطّيب؟
66
بلد الربعة!
في بلد بعيد ..بعيد جدًا ،غير مرسوم في الخرائط ،وليس مذكورا ً في أيّ كتاب ،ول
علقة له ،من أيّ نوع ،بأيّ بلد عربي ..التقيت مجموعة من الّرجال في مقهي العاصمة
الوحيد.
نرّبما يسأل سائل عن الهدف أو الدافع لوصولي إلي مثل ذلك البلد البعيد ..وأقول إ ّ
صدفة ،حتي أنني ل اعرف كيف وصلت او لماذا ..هكذا ،وضعت حرف جّر المر تم بال ّ
م ّ
غير مكّرر )وإل لكان راقصة( وألحقت به الميم والقاف والهاء واللف المقصورة ،فت ّ
كرت في البداية بإسقاط صرف هي أنني ف ّ لي الجلوس )في مقهي( ..والحقيقة ال ّ
م التحطيم وقتل الناس ،ما دمت في طائرة كنت علي متنها ،لكني قلت لنفسي :عل َ
النهاية سأنجو لكمل الحكاية ،وما دام بإمكاني الوصول الي ذلك البلد بكتابة العبارة
علي الوجه التالي) :التقيت مجموعة من الّرجال في مقهي العاصمة الوحيد(؟
أنا حّر في ان اصل الي أيّ بلد وبأّية طريقة ،ودون ابداء السباب ،وبشكل غامض
ل سؤال. ومبهم ومسدود المسالك علي ك ّ
ن أّول ما خطر لي هو استطلع احوال الحّرية هناك ..أو ليس هذا هو ما وللمناسبة ..فإ ّ
ل واحد مّنا عندما تقذفه ظروف التأليف أو التلفيق من جّنة بلده الحّرةيشغل بال ك ّ
الي مثل ذلك البلد البعيد؟
مل
صدمني جواب الّرجل ،وحّرضني علي استطلع حال الّناس .فإذا كان الشاي ُيعا َ
مل المواطن؟!
بهذه الطريقة ،فكيف ُيعا َ
قال لي الّرجل:
ما
ما عبد مأمور ،وإ ّ
ما مأمور ،وإ ّ -المواطنون عندنا ،والحمد لّله ،أربعة انواع :إ ّ
ما عبد ،وإ ّ
عبد المأمور.
سألته مشفقًا:
-أنا مأمور.
67
-لماذا؟
-لنني عبد.
-أعندكم مدارس؟!
سجن مدرسة(.
-مدارس كثيرة) ..ال ّ
م مدرسة(!
-في بلدنا) .ال َ
سجن ليس حكرا ً علي أحد .جميع المواطنين يجب ان يكونوا متعلمين.
ال ّ
-لنني مأمور.
ذهلت لهذا التقسيم الطبقي الملتبس ،فسألت الّرجال :ما الفارق بين الثنين؟!
قال لي أحدهم :المأمور لّنه عبد هو الّنشط الذي يقوم بالخدمة حتي قبل ان يسمع
ما العبد لّنه مأمور فهو الذي ينتظر حّتي يسمع الوامر ..ل فارق كبيرا ً بين
الوامر ..أ ّ
الثنين ،إّنه كما تري قليل من الكسل.
أشرت الي الّنادل بإصبعي فأقبل كالّريح ،فخمّنت أّنه من الفئة الّنشطة.
بلع ريقه وأردف :ثم إنني أرجوك وأقّبل قدميك ..ل تقل لي )رجاًء( مّرة ثانية .إذا
رجوتني فسيدخلونني المدرسة مّرة أخري ..سيقولون إنني تجاوزت طبقتي ..أرجوك يا
سّيدي ..ما أنا إل ّ عبد المأمور.
من المأمور؟
-و َ
دنيا كّله
قلت وانا اشعر بغيظ ال ّ
68
-كيف ترضون بهذا الواقع؟
ل ..لقد خلقكم الّله أحرارًا .أنتم أحرار ..عليكم ان تغّيروا هذا الواقع.
صرخت فيه :ك ّ
قفوا أنفسكم..
قلت :اقرؤوا ..ث ّ
اعرفوا حقوقكم.
اقرؤوا الدستور.
-اقرؤوا الكتب.
-انشروا كتبًا.
صحف.
-انشروا آراءكم في ال ّ
-الصحيفة الوحيدة لدينا ل تستخدم الحروف ،لّنها ل تؤمن بالكتابة ..هي عبارة عن
صفحة واحدة تحمل صورة سّيدنا )العبد العظم(.
دول العظمي.
ن عبودية سيدنا العظم مستوردة من ال ّ
دية مقامات يا سّيدي ..إ ّ
-العبو ّ
-اذن ..اصرخوا.
ة عنكم.
-سأصرخ نياب ً
قال العجوز الوقور :إذا شئت ان تكون مواطنا ً صالحا ً وسالما ً في الوقت نفسه ،فإنني
انصحك يا سّيدي بالتزام الهدوء والسكينة .إذا صرخت فستقلق راحة البلد ،وعندئذ
سيحملونك الي )المدرسة(.
قال :يجب ان تكون ..القاعدة هنا هي ان تكون مواطنا ً صالحًا ،أو مواطنا ً مقتو ً
ل ..هل
تريد ان ُتقَتل؟!
69
صحت به غاضبا :ك ّ
ل ..اريد ان ارحل.
سفر ممنوع.
-لن تستطيع ان ترحل ..ال ّ
حّر
سفر ..انا رجل ٌ
ضحكت ضحكة باردة هازئة :هذا ما تظّنه ..ل احد يمكنه منعي من ال ّ
من بلد حّرة.
أخرجت قلمي ودفتر ملحظاتي ،ففغر الّرجال افواههم ،وأبعدوا ايديهم عن الطاولة
بسرعة خوفا ً من التل ّ
وث بهاتين الّتهمتين.
قلت وصدري ممتليء بالفخر :انظروا ..ما دام عندي قلم ودفتر ،فل احد في الرض
يمكنه ان يمنعني من أيّ شيء ..انظروا..
وكتبت بسرعة ..) :وبشكل ما ،استطعت الفرار من ذلك البلد البعيد المخيف(.
ف ..كْلما تذكرت تفاصيل لقائي بمجموعة الّرجال في مقهي العاصمة الوحيد في ذلك أُ ّ
ي ،ووضعت يدي علي قلبي شاكرا ً السماء صعداء ،وأغمضت عين ّست ال ّالبلد البعيد ،تنف ّ
عش في بلد مثل ذلك البلد. علي أنني لم ٌأخَلق أو أ ِ
َ
عجيب أن يحيا المرء في بلد مواطنوه أربعة :عبد ،أو مأمور ،أو عبد مأمور ،أو عبد
المأمور! أليس ذلك عجيبًا؟!
عمي
ال َ
في منتصف السّتينات من القرن الفائت ،عندما كان الكاتب )ألبرتو مانغويل( يافعا ً
يعمل بعد المدرسة في إحدي مكتبات بوينس آيرس ،التقي ،لّول مّرة ،بالكاتب
الرجنتيني الشهير )بورخيس( عند زيارته للمكتبة برفقة والدته المسّنة ،حيث كان في
تلك الفترة يقترب من العمي التام.
70
ن بورخيس كان يطلب الكتب ،وبنهم القاريء القديم المدمن يقّرب ويتذ ّ
كر مانغويل أ ّ
فس الحروف التي لم يعد صفحاتها من عينيه حتي تلصق أنفه ،كما لو أّنه يريد أن يتن ّ
قادرا ً علي رؤيتها!.
ما إذا كان يملك وقت فراغ ويقول إّنه ،في فترة لحقة عندما فقد بصره تمامًا ،سأله ع ّ
ن والدته المسّنة قد بلغت الغاية من في المساء يمكنه خلله أن يزوره ليقرأ له ،ل ّ
التعب.
صه به
وقد أبدي مانغويل موافقته ،دون أن يدرك في ذلك الوقت ،عظم المتياز الذي خ ّ
ذلك الكاتب الكبير.
وأثناء تلك العلقة كان مانغويل ،في كثير من الحيان ،يرافق بورخيس إلي دور
السينما ،ليروي له أحداث الفلم ،وسط تأّفف وغضب المتفّرجين الخرين الذين كان
صة أن بورخيس يزعجهم صوت الّراوي الشاب وهو يقطع عليهم متعة المشاهدة ،خا ّ
لم يكن ليقنع بوصف الحداث والصور ،بل كان يطلب من مانغويل أن يضيف إليها من
عنده ما يعّزز الوصف ،كأن يصف مشاعر الشخصيات ،وزوايا الصور ،من قبيل :إّنه
عدا ً جدا ً من طريقة دخوله الغرفة أو الكاميرا الن ُتظهر بانوراما المدينة
يبدو متو ّ
بشكل رائع ومؤّثر .
عندئذ تخّيل مانغويل فيلما ً وثائقيا ً )اقترحه كما يقول علي ريك يانغ الذي كان في ذلك
الحين ينتج أفلما ً في كندا( ..ويتمّثل هذا الفيلم في تصوير معالم الحاضر في بوينس
آيرس مرفقة بصوت بورخيس وهو يصف معالم المدينة نفسها في الماضي ،حين كان
ول في الشوارع قبل عقدين من الّزمن. يتج ّ
بالنسبة لي شخصيا ً أستطيع أن أتفّهم دهشة مانغويل واستثارته ،حين كان يري المدينة
بعينيه ،ويسمع بأذنيه ،في الوقت نفسه ،وصفا ً آخر لها مغايرا ً تماما ً لما يراه.
أّول مّرة شاهدت فيها )البصرة( بعد مغادرتها منذ ثلثين عامًا ،كانت من خلل لقطات
ولون فيها بأعقاب الحرب الخيرة .وكنت في تلك سريعة لمراسلي التلفزيون ،وهم يتج ّ
الثناء أتبع الكاميرا بغيظ ولهفة وأكاد أستوقفها لكي أقبض علي موضع من مدينتي
في .لكن عبثا ً حاولت الوصول
الجميلة التي أعرف جميع دروبها كما أعرف خطوط ك ّ
إليها .وعدت علي أعقابي مسربل ً بحزن وحيرة التائه الغريب في مدينة ل يعرفها قط!.
صبا ما
ل في وصفهم لمرابع ال ّ وتبع ذلك استنجادي بمن هناك ،عن طريق الهاتف ،لع ّ
يؤ ّ
كد هوية مدينتي المرسومة في قلبي بكامل جمالها وأناقتها ،وبأدقّ تفاصيلها
71
ن أقرب ما سمعته من وصف
المغتسلة في ذاكرتي بوضوح أصفي من البلور .غير أ ّ
كان يبدو لي كصفحة من كتاب قديم تراكم فوقها الغبار حتي كاد يطمس السطور.
دثونني عن أماكن ل
وفي الونة الخيرة كنت ألتقي ببعض العائدين من هناك ،فكانوا يح ّ
أعرفها أبدًا ،وأسألهم بحرقة عن أماكن تنتصب شابة ملء قلبي ،فينكرون وجودها..
وفي أفضل الحوال يعتقدون أّنها رّبما شاخت واندثرت.
يا إلهي!!
ويا إلهي..
تخليص البريز
الغضب الساطع :في الوقت الذي يبدأ فيه ثمانية آلف معتقل وأسير فلسطيني في
سلطة الفلسطينية تستنفر جميعسجون إسرائيل إضرابا ً مفتوحا ً عن الطعام ..ال ّ
مار حسن( الفلسطيني المشارك في البرنامج الغنائي وزاراتها وأجهزتها لدعم )ع ّ
)سوبر ستار(!.
72
ذافي( تصدر بيانا ً تتوعد ّ
دام( ..جماعة )فدائّيي الق ّ
َبندقة المحراث :بعد زوال )فدائّيي ص ّ
صدر( الذي اختفي خلل زيارته إلي ل من يحاول إثارة موضوع المام )موسي ال ّ فيه ك ّ
ليبيا عام .!1978
عجلة الصلح تدور :قرار سوري بتغيير لقب العضو الحزبي من )رفيق( إلي )سّيد(!.
ذافي لح ّ
ل مشكلة دارفور!. خل الق ّ
خذوا الحكمة :الّرئيس السوداني يطلب تد ّ
اجتثاث الفساد) :قريع( يصدر بيانا ً يعلن فيه منع تناول )الفطائر( في اجتماعات
الحكومة!.
َوصلة حزن :الّراقصة )دينا( تعتزل الّرقص )مؤقتا( حزنا ً علي وفاة والدها!.
|||
خلصة :كان بطل رواية )الجوع( للكاتب النرويجي كنوت هامسون يصف ظلم غرفة
بات فيها ذات ليلة بقوله :الظلم يتوالد من حولي ..الحلكة ال ّ
لنهائية ل يمكن سبر
ص بها ول تستطيع لفظها.
غورها ،حّتي أن أفكاري تغ ّ
لقد بذلت محاولت يائسة من أجل العثور علي كلمة سوداء بما يكفي لوصف هذه
وث فمي !.
ن من شأنها أن ُتل ّ
سواد بحيث أنني إذا نطقتها فإ ّ
الظلمة ..كلمة بالغة ال ّ
لو كان المؤلف حي ّا ً لنصحته ،من أجل إنهاء معاناة بطله ،بأن يضع علي لسانه عبارة
)الوضع العربي(!.
الّرجل الّتصويري!
73
-اسمع يا نعمان .نحن لسنا في غابة .إّننا والحمدّلله نعيش في مدينة ،والمدينة فيها
شرطة وقوانين ..وعليه فإنني سأطلب َرد ّ اعتباري من الحكومة نفسها.
ح بيديه:
شو ّ َ
أكد ّ ج ّ
لوي وهو يحاول أن يستوقفني ،ويستوقف نعمان الّراكض في أثري:
وحين لم يفلح في إيقافنا ،جارانا في الهرولة ،وعندئذ توّقفت وطلبت منه العودة ،لكّنه
أصّر علي مرافقتنا إلي الشرطة كشاهد.
قلت له متحاميا ً م ّ
ما ل تحمد عقباه:
ُ -
كن في شأنك يا ج ّ
لوي ..إنني أستطيع الدفاع عن نفسي.
ديًا:
قال نعمان متح ّ
انفجرت حانقًا:
نج ّ
لوي لم يرجع ،بل زاد من سرعته وكأنه ينافسنا في سباق .وقال من خلل لك ّ
لهاثه:
ن أولد جاري هذا ل شغل لهم سوي الّرقص فوق سّيارتي طول -المسألة وما فيها أ ّ
ّ
اليوم .إّنهم ل يختارون من جميع السّيارات التي في ساحة العمارة إل سّيارتي أنا
فوا عن
سلت إليهم أن يك ّليقيموا فوقها دبكتهم ..وقد تعبت ،دون جدوي ،من كثرة ما تو ّ
ن المشكلة لم تنته أبدًا .واليوم جاءني جاري
هذا العبث ،ولطالما شكوتهم لوالدهم لك ّ
دعي أنني ضربت أولده .أقسم لك أنني لم أفعل غير أن أشرت لهم بأن ينزلوا هذا وا ّ
من علي سّيارتي ..لكّنه أزبد وأرعد وشتم وبصق وصفع ..إنني يا سّيدي أطلب أن
دوا لي اعتباري.
قي منه وأن تر ّ تأخذوا بح ّ
74
دة
-قولي أّنه ضرب أولدي .حلفوا لي أنه ضربهم .والدليل أّنهم كانوا يبكون من ش ّ
الوجع..
سعا ً بذراعيه الفجوة ما بيني وبين نعمان ،حتي التصق في هذه اللحظة اندفع ج ّ
لوي مو ّ
قق ،تاركا ً إّيانا خلفه ،وصاح بصوت مجلجل:بطاولة المح ّ
ق.
-أقول الحقّ ول شيء غير الح ّ
من أنت؟!
َ -
قال ج ّ
لوي بأدب:
قق. -أنا ج ّ
لوي يا حضرة المح ّ
-أنا شاهد.
ل شيء من التيسي للفيسي للّريسي .أقسم بالّله العظيم ل شيء وسمعت ك ّ رأيت ك ّ
ن الولد قد افتروا علي هذا الّرجل الطّيب .رأيتهم بعيني قبل أن يخرج وهم يتقافزون
أ َ
ل ما فعله أّنه قال لهم بيده )كيش كيش كيش(.. فوق السّيارة )زيق فيق بيق( ..وك ّ
وعندما لم ينزلوا أعطاهم )شاك طراك طراك(.
قق حانقًا:
استوقفه المح ّ
-صار يخبط علي السّيارة بغضب لكي ينزلوا ..ويبدو أّنهم خافوا حينئذ ،إذ أّنهم
)تشرمب تشرمب تشرمب( واحدا ً بعد الخر.
قال ج ّ
لوي بك ّ
ل تهذيب:
75
-أقول يا سّيدي إّنهم قفزوا إلي الرض ..وما هي إل ّ لحظات حّتي جاء الخ نعمان يهّز
وة فوق زجاج النافذة،لق ّم( ومن دون سلم أو كلم )طراااخ( بك ّ م دُ ْ الرض هّزا ً )د ُ ْ
م دُ ْ
جه لهذا الّرجل الطّيب بك ّ
ل ما في الدنيا من )كذا وكذا ما كذلك(. ثم تو ّ
-لقد دّوختني .احك ما رأيت بل موسيقي تصويرية ..ماذا تعني بهذه الكذاءات؟!
مه سّيدي.
بأ ّ
-كان يسّبه ويس ّ
-كان بإمكانك أن تقول هذا .تكّلم باختصار وإل ّ فسأضطر لن ألعن كذا ما كذاك..
ل ..ماذا جري بعد ذلك؟.ص ْ
وا ِ
قال ج ّ
لوي ،وقد استعاد جلبابه وهدوءه:
وية سامحه
شرر من عيني .كانت صفعته ق ّ م يا سّيدي لم أنتبه إل ّ )تشاك( وطار ال ّ
-ث ّ
الّله ..ولم يكتف بهذا بل نزل علينا )تفو ..تفوو ..تفوووه(..
قق صارخًا:
استوقفه المح ّ
-خذ هذا اليربوع واحبسه في غرفة النظارة ،وبعد أن تقفل الباب عليه ،اذهب إلي بيت
نعمان وأحضر أولده.
هتفت بانشراح:
-عليك الن أن تعتذر من الخ ،وعليك بعد ذلك أن تحسن تربية أولدك .وإذا تكّرر عبث
الولد فإنني سأضعك في الحبس لمدة شهر مع الغرامة.
قق:
قال المح ّ
سلمة.
ضلوا الن ..مع ال ّ
-تف ّ
قلت له:
76
-وماذا عن ج ّ
لوي؟!.
خل ّ ْ
ص شاهدك. َ -
-عشنا ورأينا ..حكومة شيطي بيطي ميطي ،تحبس الشاهد وتطلق المّتهم!! تَرررم
ب ََررم ط َْنطن ..أهذا قانون أم كمنجة؟!.
صدقات
ن قارئا ً سمع أّني مريض فكتب يقول) :شفاك الّله وعافاك وأعادك من مثل ذلك أ ّ
وضنا عنك(!.ّ ويع منك يبدلنا أن نسأله نا
ّ فإن ّ لوإ قرائك.. سالما ً إلي
ن أداة الشرط هنا تعني أّنه احتسبني عند الّله وأغلق تربتي بالفاتحة
ول يخفي أ ّ
)آمين(!.
ولقد ذ ّ
كرني ذلك بما رواه الباحث التراثي الكويتي عادل العبدالمغني عن صديق له
بشأن طرق الّتداوي والعلج في الكويت القديمة.
77
دة أّيام ،دون أنيقول ذلك الصديق إّنه أصيب ،في ذلك الّزمن ،بصداع حاد ّ تواصل لع ّ
كنات المعروفة ،فنصحه المجّربون بزيارة شيخ يقال له )العَْيدروس( ل المس ّ
تنفع معه ك ّ
ليقرأ علي رأسه ويكتب له تعويذة.
بعد التعازيم والتمتمات والتهويمات ،اختلي الشيخ ساعة ،ثم عاد وفي يده تعويذة طلب
من عبدالّله أن يعّلقها في رقبته.
صداع زال في الحال ،ولم يعاوده قط ،فدفعه الفضول إلي استجلء يقول عبدالّله إ ّ
ن ال ّ
وقت علي جميع المس ّ
كنات ،ففتحها ،وإذا به يقرأ سّر هذه التميمة العجيبة التي تف ّ
التالي) :ياني عبدالّله بن قماشه ،وشايل بإيده طاسه ،ويقول يَعوره راسه ..إذا طاب
دي(!.
دي ..وإذا ما طاب عند ي َ ّ وُ ّ
ومن طريف ما أتذكره في هذا الصدد حكاية صديق عراقي قال إّنه ،في وقت من
جري وس ،إذ كان يمارس ال َ الوقات ،كان مهتما ً بص ّ
حته البدنية والنفسية إلي درجة الهَ َ
ظم وجبات طعامه وفق القواعد ل يوم ،وين ّ
سباحة ويؤدي التمارين السويدية صباح ك ّ وال ّ
سلم ّ
الصحّية التي يجدها في مجلة )طبيبك( وأشباهها ،وأّنه في رحلة بحثه عن ال ّ
الّروحي اكتشف رياضة اليوغا فلم ينقطع عن ممارستها ،وفوق هذا فإّنه قرأ كتاب دايل
كارنيجي )دع القلق وابدأ الحياة( أكثر من مّرة ،وحرص علي تطبيق ما قرأه علي ك ّ
ل
شأن من شؤونه.
حة وعافية وفي غاية البهجة والقبال علي الحياة، يقول صديقي :باختصار ..كنت بص ّ
دة ،فإذا به ُيحّييني بصوت صاعق ُيفّزز
عندما التقيت مصادفة بصديق لم أره منذ م ّ
الموتي) :هل بالبطل ..شلونك وردة؟!(.
لكّنه بعد أن حضنني وقّبل وجنتي ،بدا كما لو أنه ندم علي تقليدي وسام البطولة
ومنحي رتبة الوردة ،فصار يبعد عينيه عني ويقّربهما مّني كمن يدّقق في لوحة
انطباعية ،ولو استطاع لقّلبني وجها ً علي قفا مثل أّية بضاعة ،ثم صرخ بحرقة أ ّ
م ثكلي:
)هاي شبيك مصوفر وزايع عافيتك ..جّنك ديج منشول؟(.
قال صديقي ضاحكا ً إّنه منذ ذلك اللقاء وقع مريضا ً ثلثة أشهر ،وحتي بعد شفائه لم
يفلح كارنيجي ول الطبيب القّباني ول تمريناته الرياضية في إعادته إلي سابق لياقته
وبهجته!.
78
ثلج
جبات حاول )كا( باعتباره صحفيًا ،أن يستطلع أسباب ظاهرة انتحار بعض الفتيات المح ّ
في إحدي المدن التركية النائية ،فوصفه السلميون بأنه ملحد يريد إرواء غليل
العلمانيين في أنقرة .وفي الوقت ذاته اّتهمه العلمانيون بالتعاطف مع الرهابيين الذين
ما الكراد الذين لم يترددوا لن يتوّرعوا عن قطع رأسه إذا ما استولوا علي السلطة .أ ّ
عن الشكوي إليه من بطالتهم واضطهاد السلطة لهم ،فقد كانوا علي ريبة من صلته
بذوي النزعة القومية العنصرية من العلمانيين والسلميين علي حد ّ سواء .وبالنسبة
لرفاقه القدماء من العسكر الذين كانوا ينتقدون صلته بكل أولئك ،كان مفترضا ً به
وجوبا ً أن يكون مشاركا ً لهم في انقلبهم المحدود للحفاظ علي المباديء التاتوركية.
ل هؤلء كانت دائرة المخابرات تعتبره مجّرد آلة تسجيل ينبغي أن وفي معزل عن ك ّ
ُتفّرغ المعلومات منها حول جميع تلك التّيارات ،ولو تحت طائلة التعذيب!.
ن )كا( لم يكن مؤمنا ً فيما مضي ،لكّنه انتهي ،فيما بعد ،إلي أن يري قدرة الّله والواقع أ ّ
صل في آخر المر إلي أن يكون ّ تو ثم سماء،
ّ ال من النازلة الثلج بةّ ح في حتي سدةمج ّ
ّ
مجّرد )مواطن( متطلع إلي سعادة الرتباط بجميع المواطنين علي اختلف توجهاتهم
برباط المواطنة ومباديء الخاء والحرية والعدل والمساواة .لكّنه ،في توجهه هذا ،لم
شموليات( من حوله .ذلك أّنه بدل ً من دد فيها )ال ّيجد له مكانا ً آمنا ً أبدا ً وسط غابة تتع ّ
دة الجميع له واعترافهم به ،وجدهم يرفضون نموذجه الوسطي أن يحظي بمو ّ
والموضوعي ،علي الرغم من ألحان الوجد التي تطلقها شعاراتهم عن الحرية ،وعلي
الرغم من إدعائهم الوصل جميعا ً بليلي الخاء والمساواة.
ددية في مثل هذا المناخ ليست منافسة بين تيارات اجتماعية مختلفة من أجل التع ّ
الوصول إلي تحقيق الحرية للجميع والمساواة بين الجميع ،بل هي سباق بين
شعارات وأصابع الديناميت معًا ،للوصول الي
ديناصورات حديثة تحمل بين أنيابها ال ّ
ديمقراطية )القبيلة المنفردة بالسلطة( وتحقيق أقصي درجات العدل في توزيع بركات
ل التيارات الخري!. البادة علي ك ّ
79
دمها الّروائي التركي أورهان باموق في روايته الخيرة
تلك هي خلصة محنة )كا( كما يق ّ
)ثلج( ..ولعّلنا ل نبالغ إذا قلنا إّنها محنة باموق نفسه ،ومحنة جميع الخارجين علي
حظائر فرعون أو هامان أو قارون ..في هذا الشرق السعيد.
ح علي باموق في معظم أعماله هي محاولة فهم حالة بلده تركيا التي المسألة التي ُتل ّ
شاءت القدار لها ،جغرافيا ً وتاريخيًا ،أن تكون كتوأمين سياميين أحدهما رجله في آسيا
صل إلي صيغة حياة ممكنة ل تفّرط في والخر رجله في أوروبا .ومن ثم محاولة التو ّ
الموروث الشرقي ول تستغني عن مستجدات الحضارة الغربية التي يري فيها إغناًء
دمللموروث ،واستنهاضا ً له للمشاركة ،بعد سبات طويل ،في صنع الحياة ،والتق ّ
بالحضارة النسانية إلي المام.
لقد عالج باموق هذه العلقة المتوّترة في روايته الشهيرة )اسمي أحمر( بقالب فّني
استدعي فيه تاريخ فنون التشكيل لدي الغربيين والشرقيين.
ما في روايته القرب إلي نفسه )الحياة الجديدة( فقد اختار أن يعالج الموضوع نفسه أ ّ
دد ،خلل ذلك ،عن الحتجاج بوضوح وبصوت عن طريق الفنتازيا البوليسية ،دون أن يتر ّ
حاد ّ النبرة ضد ّ المنسلخين من الهوية الشرقية من جهة ،وضد ّ المتقوقعين في قمقم
ن الفريقين ل يختاران طريقين مختلفين للوصول وية من جهة أخري ،إذ يري أ ّ تلك اله ّ
إلي )الحياة( ..بل هما يختاران مكانين مختلفين لملقاة )الموت( ..ول فرق حينئذ،
بالنسبة له ،بين أن ينتحر المرء في بيته أو أن ينتحر في عرض الشارع العام.
في أثناء عمله علي رواية )ثلج( صّرح أورهان باموق بإّنها ستجّر عليه المتاعب.
ن تصريحه بذلك كان نوعا ً من الّنبوءة ،فقد كان واضحا ً له ،كما أصبح ول أحسب أ ّ
واضحا لنا بعد قراءة الّرواية ،أّنه بالصيغة الفنّية الجديدة التي عالج بها موضوعه الثير،
قد دخل إلي أرض الواقع المعيش والحي والمعروف ،وهو يعرف أّنها أرض مزروعة
ن الحيل الفنّية ،مهما اتسعت ،لن تستطيع مراوغة آفاقها حتي هامتها باللغام ،وأ ّ
ل جماعة فيها تؤمن من صميم قلبها بديمقراطية )الفرقة الناجية(!. الضّيقة ،حيث ك ّ
ولم ينج )باموق( من غضب جميع الطراف .لكّننا ،باللحاح ،علي إدانة هذه الحالة،
سوف ننجو جميعا ً في النهاية.
80
المنبوذ
في عامه السادس والسبعين ،يبدو شيخ كّتاب أمريكا اللتينية )غابرييل غارسيا ماركيز(
وكأنه قد عاد الي صباه ،فمثل أيّ تلميذ كسول ومشاغب يطرد من الصف ،يواجه
ماركيز ،الن ،قرار منعه من المشاركة في المؤتمر العالمي لّلغة السبانية الذي
دول الناطقة بالسبانية. ينظمه ،ك ّ
ل أربع سنوات ،مجمع ال ّ
ح هذا الخبر المدهش والمؤسف الذي نشرته )الغارديان( البريطانية قبل أّيام،
إذا ص ّ
ن الناس هناك ليس عندهم )كبير( حين تصل المور إلي حد ّ المساس بهيبة فهو يعني أ ّ
الّلغة.
ن ماركيز ،عندما اقترح رمي الملء في مقلب النفايات ،لم يكن يتوقع أن يصبح
ويبدو أ ّ
منبوذا ً إلي هذا الحد ..لكن هذا هو ما حصل.
وقد استفز قرار منعه زميله الّروائي البرتغالي الحاصل علي جائزة نوبل )خوزيه
صة به الي من ّ
ظمي المؤتمر ،إذا ساراماغو( الذي صّرح بأّنه سيعيد بطاقة الدعوة الخا ّ
ح خبر منع ماركيز من الحضور. ص ّ
ل ..فالملء ليس زائدة دودية تلحق باللغة .إّنه اللغة نفسها ،وعلي الكاتب أن يبذلك ّ
الجهد من أجل إتقانه ،إذا كان يعد نفسه للكتابة بالقلم ،ل للرواية باللسان.
81
ما سبب دعوة ماركيز الغريبة إذن؟
السبب ،ببساطة شديدة ،هو ضعف ماركيز الشخصي في الملء ،وتلك مشكلة رافقته
مثل كعب أخيل طيلة حياته.
وقد اعترف ماركيز في سيرته )عشت لروي( بضجره من الملء ،لّنه ل يحسنه ،وروي
دراسي ،حين كان عليه أن يكتب الخطاب الفتتاحي لحد احتفالت حكاية من ماضيه ال ّ
المعهد الرسمية ،فقال إّنه بعد أن قابل المدير لعرض الخطاب عليه ،نّبهه الخير
بفظاظة إلي عدد من الخطاء الملئية التي ارتكبها.
ن أكثر ما أّثر بي في تلك المقابلة هو مواجهتي ،مّرة أخري ،لمأساتي يقول ماركيز :إ ّ
ي
ّ إل جهّ يو أن أساتذتي أحد حاول وقد فهمه. أستطع لم فأنا الملء. صية فيالشخ ّ
ل تلك المجاد ،بسبب ن سيمون بوليفار ل يستحق ك ّ الضربة القاضية ،عندما قالي لي إ ّ
أخطائه الملئية .بينما حاول آخرون مواساتي بالقول إّنه داء يصيب كثيرين .وحّتي
ممو تجاربي المطبعية اليوم ،بعد أن صار لي سبعة عشر كتابا ً منشورًا ،ما زال مص ّ
ٌيشّرفونني بكياسة تصويب أخطائي الملئية ،علي أّنها مجّرد أخطاء مطبّعية !
ويبدو أن ماركيز كان يحتمي بشيخوخته وبطول قامته البداعية ،عندما واتته الجرأة
علي المطالبة أخيرا ً بإعدام ذلك )الرهابي( الذي رافقه منذ الطفولة .لكن لم يدر
من له القدرة علي طرده، ل هذا العمر وك ّ
ل هذه الشهرة ،سيواجه َ بخلده أّنه ،بعد ك ّ
صف! ببساطة ،من ال ّ
لو كنت في مكان ماركيز لهززت يدي في وجوه سدنة اللغة السبانية ،ولقلت لهم
ي أمري .ماذابمنتهي الستخفاف :ما هذا الهراء؟ لم يبق إل ّ أن تطلبوا مني إحضار ول ّ
ل غضبكم هذا؟ إّنه إملء ليس إ ّ
ل ..مجّرد إملء. فعلت يا سنيورات حتي أستحق ك ّ
أأهون عليكم من أجل هذا الشيء التافه؟ ماذا سيقول عنكم إخوانا العرب إذا وصل
ن صبيانهم هناك قد تجاوزوا من زمان مسألة ضرب جركم وقّلة عقلكم؟ إ ّ
إليهم خبر تح ّ
الملء علي مؤخرته .إّنهم الن ل يتوّرعون عن المطالبة بإعدام النحو والصرف ،بل
ل سلسة وعذوبة إلي تجريد الكلمات من معانيها ،وإنهم ليتساءلون ويعمدون بك ّ
مّرة :ما حكاية المعاني هذه التي جاءتنا علي آخر الّزمن؟بسخرية ُ
ومع ذلك فإن لغتهم الرؤوم تبدو سعيدة بهم ،ول يهمها شيء سوي ألم فراقهم الغالي
عليهم ،ول تزال تناغيهم بك ّ
ل حنان:
ن
م ٌ
)أنا البحر في أحشائه الد ّّر كا ِ
صدفاتي؟(
واص عن َ
فهل سألوا الغ ّ
واص عن صدفاتها وعن وهي علي يقين تام من أنهم ،عندما يكبرون ،سيسألون الغ ّ
ددة أن تطبخ )الكامخ( بالّربيان ،حينالّربيان أيضًا ،لكي تستطيع مجامعهم اللغوية المج ّ
تعد ّ لهم الشاطر والمشطور في العوام المقبلة!
82
سّلم
المرأة علي ال ّ
ذكّية ..أليست كذلك؟ ومن حقّ زوجها الصالح أن يغتبط لذكائها ..أليس كذلك؟ ومن
سامعين الكرام أن نرسل إليهما من مجامع قلوبنا أسمي آيات التهنئة
واجبنا نحن ال ّ
والعجاب ..أليس كذلك؟
نعم ..هو كذلك ،عندما يتعّلق المر بنا كقطعان ماشية ،لننا في الواقع نسخ من صورة
صالحة ،ومن شأننا أن نسعد جدا ً بقدرة أمثالنا علي ممارسة أسوأ أشكال تلك المرأة ال ّ
ل بأعلي درجات ال ّ
ذكاء! الذ ّ
ن المر ليس كذلك إطلقًا ،إذا كّنا علي سوية البشر الحرار .ذلك لن المكانلك ّّ
والحدث والشخوص ستتيح لنا ،حينئذ ،رؤية المر بصورة أفضل ،وستفتح في جدران
تلك الطرفة نوافذ خيارات أخري غير ذلك الخيار الذي ل يؤدي إل إلي عيادة الكسور
في مستشفي العظام،ول يعود إل إلي حظيرة ذلك الفحل الصالح الذي في يده عقدة
عقد الدنيا الخري.
الطلق ..وكل ُ
ن ذلك ثمن
ل ريب أن الطرفة ستفقد طرافتها إذا نحن فتحناها علي خيارات أخري ،لك ّ
ويتنا النسانية.
بخس مقابل استعادة الدنيا لبهجتها ،واستعادتنا نحن لس ّ
ل لمشكلتها، ح ّ
ن المرأة ليست ذكّية بما يكفي ،ولذلك فإنها وقفت لتفكر في َ
لنفرض أ ّ
ولنفرض أن الّزوج رأي أنها استغرقت من الوقت ما جعلها في حالة الوقوف الّناجز..
ل ،إذ ليس علي المرأة إل ّ أن تزغرد منح ّ
متها قد وجدت ال َ
عندئذ ستكون المشكلة بر ّ
صميم قلبها ،لخلصها من مثل هذا الّرجل الحمق.
أو ..لتبق المرأة ذكّية -كما هي في الطرفة -لكي يمكننا الفتراض أنها بادرت فورا
إلي النزول ثم حزمت أمتعتها ،واستدارت في طريقها إلي الباب ،لتشكر الذي في يده
كره بأنه يعرف مكان بيت أهلها ،وعليه فإنه لن يجد عناء في ايصالعقدة الُعقد ،ولتذ ّ
ورقة الطلق السعيد إليها.
ك سيعرف طريقه أما إذا كان البيت ملكها ،فما عليها إل أن تفتح له الباب ،وهو بل ش ّ
جيدا ً إلي الشارع ..لكّننا سنظل في َ
ش ّ
ك بالنسبة لهذا الحتمال ،لن من ل يملك البيت
عقده النفسيةسيكون أعقل قليل ً من اللعب بعقدة الطلق ،وأكثر مهارة في ترويض ُ
المتراكبة.
هناك خيار آخر أمام المرأة ،هو أن تصعد إلي الطابق الثاني لنتقاء أحد خيارين :فإما
ما أن تّتصل بمستشفي المجانين أن تتصل بالقاضي طالبة منه تأديب ذلك البهلوان ،وإ ّ
83
ددة بالضبط مقاس بعلها ،لكي ل يكون قميص المستشفي ضّيقا ً بحيث يصعب معهمح ّ
ربط أردانه من ورائه بسهولة.
ولن المرأة ذكية كما تقول الطرفة ،فإنها ستستبعد خيار التصال بالقاضي ،لخشيتها
من أنه كفحل وكفقيه ،سوف لن تسهل عليه التضحية بتلك الطرفة الفقهية الّرائعة من
أجل سواد عينيها.
وعليه فنحن نميل إلي العتقاد بأنها ستدير قرص الهاتف ،لتقول للطرف الخر:
) ..(52ونفهم من هذا أنها قد أضافت ثلث درجات مضاعفة إلي مقاس زوجها ،لتضمن
أن يكون القميص )مرحرحًا( بصورة كافية لتقييده جيدًا.
نحن هنا نتحدث عن زوجة شرعية اختارت ذلك البعل بمحض إرادتها وبرضا أهلها ،ل
عن امرأة مخطوفة ومغتصبة ،فهذه الخيرة ل ينفعها أن تكون بطلة طرفة ..بل هي
تستأهل أن تكون بطلة مأساة اغريقية ،وذلك لن مثلها لن تفوز أبدا ً بعرض الطلق
ي هذا من مختطفها ،وعليه فإن خياراتها المفترضة هي أن تتوسل إليه راجية أن السخ ّ
يعتقها ،أو أن تتحّين الفرصة للهرب أو التصال بالشرطة ،أو أن تشعل النار في البيت،
وتقفز حا ً
ل ..من الناقذة.
وحتي بالنسبة لحالة هذه المرأة المنكودة ،تبدو حالتنا ،نحن السامعين الكرام ،أسوأ..
كبة في أعقاب بنادقهم .ول فنحن ل نستطيع اقناع خاطفينا بعتقنا ،لن أدمغتهم مر ّ
مذ َّلة!( .ول نستطيع التصال بالشرطة لننستطيع الهرب من البيت لن )الغربة َ
التصال بالخارج عمالة وخيانة عظمي .ول نستطيع ،في النهاية ،إحراق البيت ،لنه
مرملكنا نحن ،وحتي لو فعلنا فإننا سوف لن ننجو من الحتراق لن الخاطف قد س ّ
جميع النوافذ والبواب ،في لحظة استيلئه علي البيت وعلينا.
خسائرنا بالجملة علي كل اتجاه ،وهذا ما يوضح سبب انحيازنا لمرأة الطرفة الفقهّية،
لنها تمنحنا فرصة للدعاء بأننا اخترنا هؤلء الخاطفين )الملهمين( بمحض إرادتنا،
وبملء روحنا الّرياضية والفكاهية ..فبذلك وحده سيمكننا ،بل حرج أو حياء ،أن نواصل
سّلم!
دم( إلي مشاء الّله ..من فوق ال ّ
القفز )بالرّوح وال ّ
84
الحكيم الخضر
كانوا ثلثة إخوة يسيحون في أرض الّله طلبا ً للحكمة .وقد ألقوا عصا الّترحال ،ذات
ظهيرة ،في بلدة هادئة ،وجدوا في أحد طرقاتها المقفرة من الماّرة ،شيخا ً طاعنا ً في
ذهول ،يجلس مستندا ً إلي حائط بيت ،تحت لهب الشمس الحامية ،وكأّنه يستظ ّ
ل ال ّ
منها بها!.
كانت للشيخ لحية خضراء ،وعليه ثوب أخضر ،وتحت إبطه كتاب أخضر.
سلم ،بل وضع إصبعه عموديا ً علي شفتيه ،طالبا ً سّلم الخوة عليه ،فلم يرد ّ عليهم ال ّ
صمت ،فألقوا عصا الّترحال أمامه ،وتحّلقوا من حوله منهم بالشارة أن يلتزموا ال َ
صامتين ،وفي يقينهم أّنهم قد بلغوا الغاية.
قام الخوة الثلثة ينفضون التراب عن ثيابهم ،وقّبلوا يد الشيخ تباعًا ،ث ّ
م التقطوا عصا
ترحالهم وانصرفوا.
م استقّر فوق
م بكي ث ّ
سم ث ّ ن الموت مصير ك ّ
ل حي ..ألم ترياه قد تب ّ -بل أنبأنا بأ ّ
الحفرة؟!
ن فدخلوه .وبعد أن سار الخوة طول الظهر يترّنحون تحت الشمس ،حتي لح لهم خا ٌ
جبهم منّ تع وأبدوا صوا علي صاحب الخان حكاية الشيخ، استراحوا وطعموا وارتووا ،ق ّ
م سألوه عن اسم الشيخ ّ
ترك حكيم مثله يقتعد الطريق في عراء الظهيرة دون ظلة .ث ّ
بغية التّبرك بذكره والدعاء له.
85
سألهم صاحب الخان:
هتف أحد الخوة :يا سبحان الّله ..ها هي ذي حكمته قد ترّبعت بعد تثليث!.
عقد العجب لسان صاحب الخان ،لكّنه استطاع أن يقول بعد حين:
عميران( معكم؟
-لماذا ل تأخذون ) ُ
86
أصدقاء رائعون
من وحي صورة فوتغرافية يعود تاريخ التقاطها إلي عام 1962،كتب الّروائي والشاعر
البريطاني سي.جي .درايفر مقالة تشبه رواية مكّثفة ،في العدد الثمانين من مجّلة
)غرانتا( الدبية الفصلية.
ص
دم الن ّالمقالة عنوانها )كّنا أصدقاء رائعين( وهو بالضبط ما تعكسه الصورة التي تتق ّ
ّ
متحلقون طه درايفر من وحيها :تسعة أصدقاء في العشرينات من أعمارهمُ ، الذي خ ّ
حول مائدة في مطعم .جميعهم تقريبا ً يبتسمون ابتسامات عريضة ،وهم يتطّلعون إلي
وة المطمئنة في ربيع العمر ودعة الحياة.
عين الكاميرا ،بزهو الفت ّ
ب تدريجي ّا ً في تلك الصورة الجامدة ،تبعا ً لسحر حركة القلم في يد ن الّروح تد ّ
غير أ ّ
الكاتب ،فإذا ما وصل المرء إلي النقطة الخيرة في الصفحة العشرين من المقالة،
تجّلي له ما كان مخبوءا ً وراء تلك الوجوه الناعمة المبتهجة ،من مصائر عاصفة بالمحن.
فإذا بأولئك الفتيان المبتسمين قد تفّرقوا علي دروب نهايات مريرة ،تبدأ بالعتقال
خذها بعضهم أوطانا ً إلي البد، وتمّر بالتعذيب أو القتل ،وتنتهي إلي المنافي التي ات ّ
ومنهم درايفر نفسه ،الذي لول حضوره في )الصورة( وتواصله ،بطريقة أو بأخري ،مع
دم عنهم شهادة سر لهؤلء الشّبان من يق ّ ضمتهم ،ولول كفاءته الدبية ،لما تي ّ من ّ َ
منصفة نظير ما بذلوه من أنفسهم من أجل النصاف !.
ن الصورة التقطت لمناسبة احتفال أحد الصدقاء منذ السطور الولي ينبئنا درايفر بأ َ
الظاهرين فيها ،بعيد ميلده الحادي والعشرين ،وذلك في مطعم صيني في كيب تاون
بجنوب أفريقيا .وينّبهنا كذلك ،بغيظ واضح ،إلي عدم وجود أيّ شخص أسود معهم،
ن بعضهم يرتبط بصداقات مع شّبان سود ،وذلك لّنه ،في ذلك الزمن ،لم يكن برغم أ ّ
في كيب تاون كّلها سوي مطعمين فقط يسمحان باستقبال البيض والسود معًا ،ولم
يكن ذلك المطعم الصيني واحدا ً منهما.
دة الوعي النسانيما يجمع أولئك الصدقاء -وهم جميعا ً من الفريكان البيض -هو ح ّ
لديهم بمشكلة السود في جنوب أفريقيا ،ووقوفهم جميعا ً ضد َ الفصل العنصري،
درجهم في ذلك الموقف من التعاطف عن بعد ،إلي التضامن الفعلي ،إلي الحتجاج وت ّ
اللفظي ،إلي النضال الحقيقي الذي أورد بعضهم المهالك ،وقضي علي بعضهم
بالعتقال الطويل والتعذيب ،ودفع البعض الخر للهرب إلي الخارج بعد العتقال ،ومنهم
كاتب المقالة الذي استقر نهائيا ً في بريطانيا واّتخذها موطنا ً له.
سطور..
يختتم درايفر مقالته بكلمات مشحونة بالعاطفة ،تمشي كنشيد جنائزي فوق ال ّ
دمة الصورة وهو يبتسم بعنفوان:
هي كلمات رثاء لصديقه الظاهر في مق ّ
من أراه بك ّ
ل وضوح هو ريك ن َ
)عندما أنظر إلي تلك الوجوه التسعة النابضة بالحياة ،فإ ّ
ة ،اللحظة التي ُقرع فيها جرس باب بيته ،فقام من الريكة ،حيث تيرنر وأتخّيل ،ثاني ً
جه نحو الباب المامي الذي كان يقف وراءه شخص مبهم يحمل كان يجلس ،وتو ّ
دد؟ ليس هناك جواب ممكن ،وليس هناك بندقية ..إنني أتساءل :هل أدرك؟ هل تر ّ
جواب ضروري(.
87
ل هذا ،فما أكثر الصور التي لم تجد راويا ً يبعث
دثتنا بك ّ
وإذا كانت صورة واحدة قد ح ّ
جلت
الحياة فيها ،وما أكثر الصور التي لم تلتقطها عدسات الكاميرات ،أو أشرطة مس ّ
الصوت؟
ضية النسان.
ليس في الدنيا ما هو أجمل وأرقي من العدل والنصاف والخلص لق ّ
كرا ً من هو أطول عمرا ً م ّ
من ينحاز إلي هذه المعاني ،حتي لو مات مب ّ دنيا َ
وليس في ال ّ
من أجلها.
دم في أمثال هؤلءكرات نيلسون مانديل الذي ق َ لقد أعادتني كلمات درايفر إلي مذ ّ
من غطس طيلة حياته في هوان العبودية تحت الشّبان شهادة رائعة ،يصعب أن تصدر م ّ
ّ
من وهبهم الله جمال العدل والنصاف والخلص مقارع عنصرية البيض ..لكّنه واحد م ّ
لقضّية النسان.
ل ما كابده مانديل من مرارة العذاب في سجنه البغيض طيلة سبعة فعلي رغم ك ّ
ً
وعشرين عاما ،لم يفته أن يري -ولو لثانية واحدة -براءة النسان الفطرية ،حتي في
دخر رؤيته تلك ،علي ضآلتها -لتدعيم ثقته بالجنسجانيه ،فا ّ
نظرات أو سلوك بعض س ّ
جانين
دخرها كذلك لهؤلء الس ّالنساني ،ولترميم ذاته في أشد ّ حالت انهيارها ،وا ّ
وغ للصفح ونسيان الماضي من أجل التطّلع للمستقبل. كمس ّ
دد عن التأكيد علي أّنه مجّرد إنسان و مانديل الذي ل يجهل أّنه أصبح أسطورة ،ل يتر ّ
من لقوا حتفهم في عاديّ صنعت ظروف الظلم أسطورته ،وأّنه مدين بذلك للكثيرين م ّ
سبيل ،ول يتوّرع عن أن يضع في رأس قائمة هؤلء البطال عددا ً كبيرا ً من هذه ال َ
البيض )الفريكان( الذين قاتلوا وسجنوا وتشّردوا وماتوا وهم يواجهون قومهم ،من
سود ،وتحرير أرض هؤلء من سطوة إجرام القّلية أجل تحرير مواطني جنوب أفريقيا ال ّ
البيضاء.
ن
وفي ذلك يقول مانديل إّنه كان يقاتل من أجل رفع الظلم عن شعبه الفريقي ،لك ّ
أولئك البيض كانوا يقاتلون شعبهم البيض من أجل رفع الظلم عن شعب مانديل ..
وع.
وشّتان بين موقف المضطر وموقف المتط ّ
88
الوهم
سلم.
-ل يحتاج المر إلي أيّ نقاش .أنا كلب وال ّ
-علي رسلك .لست الوحيد الذي يعاني من مشاكل في هذا البلد .ك ّ
ل واحد مّنا عنده
من أنت؟ دث .قل لي أوّ ً
لَ : جبال من المشاكل .إهدأ قلي ً
ل ،ودعنا نتح ّ
-كلب.
-أعني ما اسمك؟
-اسمي كلب.
-السّيد الوالد كلب .ل تدّوخني يا دكتور .فأنا كما قلت لك :كلب ابن كلب.
ت كلبًا.
-لكّنك لس َ
سنًا؟!
ح َ
َ -
م ماذا؟
-سمعتك .ث ّ
مي الكلب؟!
-وماذا تس ّ
-الكلب حيوان.
89
-ل يا عزيزي ..أنت إنسان.
وة؟!
-بالق ّ
-أري كلبًا.
-شعور كاذب.
-أنت بيزنطي يا دكتور .إذا كنت ل تعرف شعور الكلب ،فلماذا تّتهم شعوري بالكذب؟
لماذا تهين كلبّيتي؟
-كفي يا ابن آدم .لقد فلقتني .إنني أحاول منذ الصباح أن أضبط أعصابي .ل تثرني
ي يسترك الله.
أرجوك .بيني وبين النفجار مجّرد شعرة .استر عل ّ
-دعني أسألك ،إذن ،ياحضرة الكلب :هل تستطيع أن تنبح متي تشاء؟
-ل.
ض اللصوص؟
-هل تستطيع أن تع ّ
-ل.
-ل.
90
-هل تستطيع أن تعبر الحدود دون جواز سفر؟
-ل.
-ل.
-ل.
-هل تستطيع أن تأكل وتشرب دون أن تعمل بثلث وظائف وعمل إضافي؟
-مستحيل.
مل. -أنا ل أك ّ
ذب ..ولكن أتج ّ
ن جورج أورويل عندما اخترع مصطلح )الخ الكبر( للتعبير عن قسوة من المؤ ّ
كد أ ّ
سلطة المستّبدة لدقائق حياة المواطن ،لم يكن يقصد من إشارته لهذه متابعة ال ّ
ّ ً
خاذها برنامجا ل ِلهو والمتعة .بل هو ،علي العكس من الحقيقة أن يغري المجتمعات بات ّ
ذلك ،أراد أن يثير رعب المجتمعات منها ،بغية الثورة عليها وإلغائها نهائي ّا ً من برنامج
الحياة الواقعّية.
ن صانعيوإذا كان أورويل قد بني بعض أعماله الدبية علي أساس هذه الفكرة ،فإ ّ
فيلم ترومان شو قد ترجموها سينمائيا ً بشجاعة نادرة ،فوضعونا مباشرة أمام حالتنا
91
الّرهيبة الّراهنة كأرقام تعيش وتموت تحت وطأة رقابة السلطة الجّبارة المسيطرة،
مي )العالم(!.دة بإتقان ضمن نطاق موقع تصوير واسع يس ّ
وسط ديكورات مع ّ
خصا ً لل ّ
صورة ن هذه الصورة المتخّيلة التي حاولت أن تعرض للناس مل ّ
العجيب أ ّ
الحقيقية البشعة التي يحيون داخل إطارها ،قد استحالت إلي ملهاة يعشقها الناس
ل البلدان ،ل تستحي من أن تحمل ويتابعونها بدأب وشغف ،عبر برامج مستنسخة في ك ّ
بفخر واعتزاز عنوان )الخ الكبر( ،ول تتوّرع عن التفاق بأجمعها علي إصابة النسان
سويّ بالصدمة والشعور بالغثيان!.
ال َ
عندما شاهدت فيلم ترومان شو أدهشتني شجاعة منتجيه ،وأسعدني أن أري السينما
وة ،مجال إثارة الوعي بدل ً من تغييبه .وزعمت أّنه المريكّية وهي تقتحم ،بهذه الق ّ
مة وضرورية ،واستطاع ،بشكل ّ مه رسالة الناس الي يكفي هذا الفيلم نجاحا ً أّنه حمل
ي ومقنع ،أن يضعهم أمام حقيقة وجودهم المخيفة محلي ّا ً ودولي ّاً. ذك ّ
مِلهما بصورة عكسية ،ولم أتوّقع أن يبلغلكن لم يخطر في بالي مطلقا ً أن يكون ُ
شغف القطعان بالّزريبة المتخي َّلة حد ّا ً يدعوها إلي إعادة انتاجها ووضعها ثانية داخل
الّزريبة المخيفة القائمة أصل ً في الواقع ،علي نسق ال ّ
دمي الروسّية !
يقول منتجو البرنامج إّنه سيّتم انتقاء أفضل مجموعة من الناس ،للعيش في هذا
المكان الذي يعتبر مزيجا ً من فيلم ترومان شو و عالم ديزني ،وسيكون جميع أفراد
المجموعة التي ستتجاوز المئات ..عاطلين عن العمل ،حيث سيمكنهم ،هناك ،أن
هلهم للنجاح في العمال يتعّلموا الّلغات ،وأن ُيؤ ّ
دوا مختلف الختبارات المهنّية التي تؤ ّ
التي سوف يختارونها.
ن هؤلء المنتجين يأملون في إغراء الشركات بفتح فروع لها في المدينة منولهذا فإ ّ
أجل تشغيل س ّ
كانها العاطلين ،مثلما يأملون في إغراء المدّرسين والطباء بالعيش
فيها.
ن فكرة إنشاء هذه المدينة اللمانية مأخوذة أصل ً من تجربةوالجواب علي ذلك هو أ ّ
ص )جّنة
ّ الخا برنامجها المنحي هذا في أنتجت التي المريكية، قناة فوكس التلفزيونية
عدن إلي البد( واّتخذت لقامة المشاركين فيه واحدة من الجزر الكاريبية.
92
وكان مقررا ً أن يبقي عرض هذا البرنامج غامضا ً وغير مح ّ
دد المد ،لكّنه ،ولسباب غير
معلومة ،ألغي في أبريل الماضي بعد أن ب ُّثت منه ثلث حلقات فقط.
ث ،بسرعة عجيبة، ث هذه الحلقات لم يكن عبثًا ،فقد كان من شأنها أن تب ّ نب ّ
غير أ ّ
نعمة دماره الشامل إلي أبعد مدي ،لتلتقطها ألمانيا ،ولتلتقطها من ألمانيا -كما هو
متوّقع -جميع دول عالمنا الحّر السعيد!.
مي )الخ الكبر إلي البد( لن تكون مطابقة ن فكرة هذا البرنامج الذي سيس ّ يقال إ ّ
دة تلفزيونّية تعرض علي الّناسحرفيا ً لعالم ترومان الذي كان يجهل منذ ولدته أّنه ما ّ
دخول إليهان مدينة هذا البرنامج ستمنح المعجبين حقَ ال ّ أربعا ً وعشرين ساعة ،وذلك ل ّ
ن المنهج الذي سي ُّتبع في هذا المشروع سوف لن يختلف عن منهج لزيارة س ّ
كانها .لك ّ
برنامج )الخ الكبر( من حيث اهتمامه بمتابعة حالت المصاعب الجنسية ،ونوازع
الفتتان التي تنطوي عليها طبيعة البشر!.
صص في سايكولوجيا العلم ،عّبر عن قلقه حيال هذا عالم النفس جو غرايبل المتخ ّ
دة
ّ م طول كان ومهما البرنامج، مدينة في سيمكثون الذين ن الّناس
المشروع بقوله إ ّ
إقامتهم ،سيجدون صعوبة فيما بعد في التكّيف مع )العالم الواقعي(.
سيبسط ن هذا البرنامج بعد اجتذابه المشاهدين وتواصل عرضهَ ،لكنني أعلم جيدا ً أ ّ
جاذبيته علي جميع قنوات العرب الفضائية )السّباقة إلي فعل الخيرات( وستعمل بأمانة
دد أيضا ً عن متناهية للحفاظ علي ك ّ
ل ما يحتويه من شوائب أخلقية ،لكّنها سوف لن تتر َ
صتها في إنماء بنائه الحضاري ،وذلك بأن تضيف إلي البرنامج لمسة المساهمة بح ّ
تجديدية خاصة نابعة من صميم تقاليد العالم التالف .وتلك اللمسة ستتمّثل في جعل
كان المدينة المفترضة ..من رجال المخابرات. نصف س َ
صحيح أّنهم لن يستطيعوا ممارسة أعمال التعذيب المعهودة تحت رقابة مليين
ن لهم مليين الوسائل الخري غير المنظورة التي يستطيعون بها أن
الشهود ،لك ّ
ينتزعوا المعلومات!.
جامعة الصفار
في عام 1974،التقي الصحفي سليم زّبال بالسّيد عبد الرحمن عّزام ..باشا أّول أمين
دول العربّية ،وكان الّرجل معتكفا ً في منزل ابنه ببيروت ،بعد أن بلغعام لجامعة ال ّ
الثمانين من عمره .وقد سأله ،في ذلك اللقاء ،عن ظروف وكيفية ولدة الجامعة،
ل :كّنا نبحث عن عروبتنا تحت وطأة الحتلل النجليزي والفرنسي واليطالي فأجاب قائ ً
ل مّنا ل يعرف الخر، ل شبر من أرض وطننا العربي الكبير ..كان ك ّالمسيطر علي ك ّ
دثت مّرة مع وكنا مختلفين في الّرأي والتفكير وحّتي في معني العروبة ..وأذكر أنني تح ّ
ل) :صفر + ي قائ ًِ
الملك فيصل الّول )ملك العراق حينذاك( عن الوحدة العربّية ،فرد ّ عل ّ
93
صفر ..كم تساوي يا عّزام؟( ..أجبته 1+1+1) :تساوي (3فقال) :عندما تصبح ك ّ
ل
دولة عربية واحدا ً صحيحًا ،تعال وكّلمني يا عّزام(!
ذي تغّير إلي الحسن منذ ذلك الحين؟ ومن دي ،وأتساءل :ما ال ّ مل رأي مليكنا المف ّ أتأ ّ
أين لنا ،الن ،برجل متواضع وحصيف وصريح مثله ،ليختزل الحالة بمثل ذلك القول
ن الختلف في الّرأي والتفكير ،وحتي في معني المختصر والمغني عن ك ّ
ل تعليق؟ إ ّ
العروبة لم يعد أمرا ً ذا أهمية أمام الئتلف في الكوارث الكبري التي بدأت بالنقلبات
وية والغزوات المتبادلة شأن الجاهلية الولي ،ومّرت بالختلف في معني السلم الدم ّ
م تفصيله وبيعه في سوق التجزئة علي مقاس كل ذي ساطور ،وانتهت نفسه الذي ت ّ
كام عليشعوب ،وتوقيت الدساتير علي نسق القنابل الموقوتة ،وتأبيد الح ّ بإلغاء ال ّ
نسق الحكام المؤّبدة ،وجملكة الجمهورّيات علي صدور الجماهير التي ل رؤوس لها
ول أقدام ،ول نفوس بها ول أحلم ،وتوريث المسالخ كاملة لبناء الجّزارين ،وإرساء
ل شبر من أرض وطننا العربي الكبير ، النظمة علي )قواعد( أمريكية صلبة في ك ّ
والسعي إلي الصلح الذاتي باستبدال المحراث بالبندقية بالنسبة للشؤون الخارجية،
واستبدال البندقية بالمحراث بالنسبة للشؤون الداخلية ،والتخلي عن أسلوب )العصا
ضال من أجل والجزرة( البغيض ،باستبعاد الجزرة نهائيا ً عن الموضوع ،ومواصلة الن ّ
متنا المجيدة!د ،في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ أ ّ تثخين العصا إلي أبعد ح ّ
في الساعة الثالثة ودقيقتين وأربع وعشرين ثانية من عصر الجمعة المقبل ،يكون
مسعود قد بلغ الثانية والخمسين من عمره.
94
ل امريء عاقل وحصيف ومجّرد من النانية ،لب ُد ّ أن يقّرر ،مثل مسعود ،كتابةك ّ
ً ً ّ
مذكراته يوما ما .واليوم ،وهو الحد المصادف يوما ما ،قّرر مسعود وهو بكامل شعوره
بالمسؤولية ،أن يتخلي للجيال الطالعة عن ثمار نصف قرن من التجارب والعبر.
البداية هي أصعب ما يمكن أن يواجهه المرء عندما يريد أن يكتب .فدون بداية جّيدة
عليه أن يتوّقع أ ّ
نك ّ
ل شيء سينتهي نهاية سّيئة.
سميع عبد القادر محمد آغا الموصلي ،شكا من التهاب لنفرض ،مثل ً أ ّ
ن السّيد عبد ال ّ
سميع ل يشكو هذه الّيام من أيّ شيء ،ولن البواسير ..مجّرد فرض ،فالسّيد عبد ال ّ
ن الجار مخبر
ّ أ له ين
ّ تب جاره، أخلق سوء من يشكو أبدًا ،لّنه في آخر مّرة شكا فيها
خرته ،ومنذ ذلك اليوم شفي تماما من سّري ،فوصفت له إدارة المن زجاجة في مؤ ّ
الشكوي ومن احتمالت الصابة بالبواسير!
م تشكو؟
م ّ
ِ -
خرتي.
-من آلم في مؤ ّ
-افتح فمك.
-آآآآ
-قل آه
-آآآه
-اسعل
-كح كح كح.
-ركلتين إل ّ صفعة.
-أربعة مقالب.
ب قبُر(
ن قفرٍ وليس بقرب قبر حر ٍ -حاول أن تقول بسرعة )َقبُر حر ٍ
ب بمكا ٍ
ن قبر حرب لم يعد في مكان قفر ..فالقفر كّله مزروع بالقبور من شمال َ
-صعبة .ثم أ ّ
الوطن حّتي جنوبه.
95
شارع العام المزمع -خالد ليس عنده حوش .هدمته البلدية .تبّين أّنه يقع في منتصف ال ّ
ّ
ن خالد لم ينتقل إلي حوش جديد .كل ما فعله افتتاحه في المستقبل ..واعلم يا دكتور أ ّ
صدفة داخل ّ بال ً اموجود الهدم، عملية أثناء هو أنه انتقل إلي رحمة الّله .لقد كان ،في
الحوش.
ديكي.
سعال ال ّ
ب الحديث للقضاء علي ال ّ -بال ّ
شفاء ..هذا آخر مكتشفات الط ّ
كتابة الطّباء ،عمومًا ،كتابة ركيكة ،لّنهم ل يحسنون اختيار البداية .وفي قضّيتنا هذه
خرةكان علي الطبيب أن يبدأ من النهاية لكي تكون كتابته صحيحة ،أي أن يبدأ من مؤ ّ
سميع مباشرة. عبد ال ّ
م عن حكمة بالغة.
ن تساؤل مسعود ين ّ
من هنا فإ ّ
-بداية جّيدة يا مسعود .جّيدة وذكّية ول تخّر الماء .ضّيعت نصف قرن في البدايات
الغبّية .فرصتك الن أن تختم المر ببداية ممتازة.
يتعب من العتراف فيناولونه وجبة من التعذيب ،ويفرجون عنه في الّليلة نفسها ..بعد
أربعة أعوام.
ل مّرة ل تحسن البداية .أنت الن وحدك .ليس معك إل ّ ضميرك .ل تخذل -في ك ّ
ً
نفسك ،لست مضطرا إلي تسريح دماغك .ابدأ كما تشاء ،العب بذيلك كما تشاء .هو
ذيلك وأنت حّر فيه يا أخي.
96
انتصف الّليل ومسعود منهمك في هرش رأسه.
كتب مسعود:
) -أنا أبو الّريح ..وقد واجهت كثيرا ً من الهوال في حياتي،وذكرياتي عن هذه الهوال
لتزال مطبوعة بالّنار في روحي وفي جسدي ..عزيزي القاريء ..أكتفي بهذا القدر من
مت(! مذ ّ
كراتي المؤلمة هذه ،وقد أكملت كتابتها في يوم ما ..التوقيع :أبو الّريح -ت ّ
أصل وصورة
دم نيك نايجل موضوعا ً طريفا ً عنعلي القناة الّرابعة في التلفزيون البريطاني ،ق ّ
ً الناس ذوي السماء المتشابهة ،أولئك ال ّ
ذين يكون الواحد منهم سمي ّا للخر )
.(Namesakes
وقد بدأت فكرة الموضوع لديه عندما قرأ رواية )نجم أمريكي( للكاتبة جاكي كولنز ،
وره الّرواية، فوجد أن بطلها يحمل اسمه كامل ً )نيك نايجل( ،ول ّ
ن هذا البطل ،كما تص ّ
صاحب سيرة جنسّية فظيعة ،فقد شعر نايجل بما يشبه الغماء بسبب الضطراب
ي الخيالي.
سمّيه القصص ّ والثارة معًا ،وهو يتابع سلوك َ
سمي ّا ًما يحدث في الواقع ،عندما يجد المرء نفسه َ وانطلقا ً من هذه النقطة ،تساءل ع ّ
لشخص مشهور ،وعن مدي ما يعكسه تشابه السماء من تشابه في الطباع ،وعن الثر
ي
سم ّصة إذا وجد الواحد منهم أّنه َ
النفسي الذي يحمله هذا التشابه للمغمورين ،خا ّ
لشخص ترتكز شهرته علي سوء السمعة؟.
وفي بحثه عن إجابات لهذه السئلة ،عمد نايجل إلي التّنقيب في )كشوف الناخبين
البريطانّيين( ،فإذا به يقع علي مهرجان من الطرافة.
97
ن الجزر البريطانّية تحفل بالعديد من الّناس الذين يحملون )أصلي ًّا( أسماء
لقد وجد أ ّ
المشاهير.
من يحملون اسم في البدء تتّبع السماء المألوفة جدًا ،فاكتشف أ ّ
ن هناك كثيرين م ّ
توني بلير و جورج بوش و مايكل جاكسون .
لكّنه سرعان ما دخل مغامرة البحث عن أسماء أخري ليس من الوارد التفكير بها،
ن هناك ثلثة فطبع علي محّرك البحث في جهاز الكمبيوتر اسم دونالد دك ،فظهر أ ّ
يحملون هذا السم.
وعندئذ لم يترك اسما ً مشهورا ً من الماضي أو الحاضر ،ومن الواقع أو الخيال ،إل ّ
صل إلي عدد كبير من السماء المتشابهة ،وعلي وعرضه علي محّركات البحث ،فتو ّ
ذلك قّرر أن يقابل هؤلء الناس الذين يحملون أسماء المشاهير ،فبدأ بالكتابة إليهم ،أو
صال بهم ،وانتهي إلي الوقوف علي عتباتهم والطرق علي أبوابهم .وقد حفل هذا الت ّ
المر بالكثير من المواقف المضحكة والمحرجة.
ي شخصية سم ّ
أّول شخص حاول نايجل أن يلتقيه هو السّيد فريد فلنتستون ..وهو َ
الكارتون المشهورة التي اخترعها الثنائي )هاّنا -باربيرا( والتي تعيش في العصر
الحجري بمواصفات العيش في المدينة الحديثة.
ن السّيد عندما وصل إلي عنوانه في )فولهام بالس رود( أخبره أحد الس ّ
كان أ ّ
قي
ن صاحبة المنزل ما زالت تتل ّفلنتستون لم يعد يقيم في هذا العنوان ،برغم أ ّ
الّرسائل الواردة إليه وتعيدها إلي مصدرها.
ي الشخصّية الكارتونية في أفلم ديزني ،فقد وجده يعيش سم ّما دونالد دك أو بطوط َ أ ّ
في الطراف النائية من مرتفعات سكوتلندا ،وهو طبيب عام متقاعد ذو منزلة رفيعة،
ويتمّتع بروح دعابة عالية .وقد قال إّنه لم يخطر في باله أن يغّير اسمه ،لّنه وجده
ل الحوال ،هو السبق ،إذ ولد قبل عشرة أعوام من م أَنه ،في ك ّ
مدعاة للفكاهة ،ث َ
ميلد شخصّية ديزني الكارتونّية.
وفي رحلة الستكشاف هذه وجد نايجل زوجين عجوزين يحملن اسم دنيس و
ط في وجهه،صل بهما أغلقا الخ ّ
دا علي رسالته ،وحين ات ّ مارغريت ثاتشر .وهما لم ير ّ
صل به ابنهما المتزّوج ليقول له بجفاء) :نعم ،لقد تلقيا رسالتك ،وقد ثم سرعان ما ات ّ
ماعة بعنف ،دون أن يترك ة( ،وصفق الس ّ مي ثاني ً
مّزقتها بنفسي .رجاًء ل تزعج أبي وأ ّ
ما إذا كان اسمه مارك أيضا ً مثل ابن رئيسة الوزراء السابقة!. لنايجل فرصة لسؤاله ع ّ
وهناك اثنتان أخريان اسمهما مارغريت ثاتشر قالتا له إّنه خلل النتخابات في
الثمانينات كان بعض الناس يوقظونهما في منتصف اللّيل لكي يوّبخوهما بسبب
سياسات حزب المحافظين!.
وفي مهرجان الطرافة هذا كان مدّرس الجغرافيا ديفيد بيكهام من )سكاربره( ،قد
م طرد اللعب دده ،بعد أن ت ّ
دة أسابيع مكالمات هاتفية تشتمه وته ّ
قي علي مدي ع ّ
تل ّ
ديفيد بيكهام من المباراة لسوء تصّرفه في بطولة كأس العالم لكرة القدم عام
.1996
98
ي( أن
م ّ
س ِ
إّنها مسألة تبدو كنوع من سحر )الفودو( ،حيث يمكن للمشعوذ بإيذاء )ال َ
مي!.مس ّيؤذي ال ُ
في القائمة أيضا ً نتعّرف علي نعومي كامبل الخري ،وهي مسؤولة تغذية في مدرسة
دث بمرح عن الفرق بإحدي ضواحي لندن ،ولها من طيبة النفس ما يكفي لن تتح ّ
الشاسع بينها وبين عارضة الزياء الشهيرة.
فهي قالت بك ّ
ل بساطة) :إّنني لست جميلة ،ولست طويلة ،ولست سمراء ،وفوق هذا
جدًا(.
فأنا بدينة َ
وإلي جانب هذه المفارقات الفكاهية ،كانت هناك قصص أخري تحمل غصص أصحابها،
ن أسماءهم هي أسماؤهم.
إذ يعاني أكثرهم من صعوبة إقناع الخرين بأ ّ
ما جنكيز خان مراقب المستودعات في برمنغهام ،والبالغ من العمر سبعة وعشرين أ ّ
ن اسمه يمّثل بالنسبة له عاما ،فقد اعترف بالثر الموجع لسمه عليه ،وأشار إلي أ ّ ً
)كابوسًا( أو )فايروسًا( ،لّنه رجل مسالم وذو روح ساخرة ،ويقف فطّريا ً ضد ّ الحروب.
ديا ً بتغيير اسمه. دراسة ،ف ّ
كر ج ّ وقال إّنه ،في سنوات ال ّ
ن
سمعة ،في البلد نفسه ،إذ أ ّ مي ّا ً لشخص رديء ال ّ ن الكثر بؤسا ً هو من يجد نفسه َ
س ِ لك ّ
كل له متاعب عبر الحدود الدولّية ،أوالسمعة الّرديئة هذه تلحقه أينما ذهب ،وقد تش ّ
مصاعب في الحصول علي عمل.
واحدة من هؤلء الفتيات وجدت نفسها مضطّرة للّزواج ،فقط ،لكي تتخّلص من اسمها
حين تحمل لقب زوجها!.
99
ما جعله مبعثا ً للخوف وللشفقة
كان ذلك الصغير -وراثيا ً وبيئي ّا ً -أشبه بفأر مدهوس ،م ّ
معًا.
ما كشف عن جّثته المفزعة ،جفل الكاتب وارتد ّ إلي الوراء قائل ً بل مواربة أو تر ّ
دد: ول ّ
ن أحدا ً منهم لم يسّبب لي أّية مشكلة .لكنني سأكون أكثر سعادة إذا
وأنا سعيد ل ّ
ن اسمي لم ُيلحق بأحدهم أيّ أذي!. علمت أ َ
منبع الخوف
في سالف العوام ،كان صاحبنا إبراهيم يقطع المسافة الطويلة المظلمة بين محّلتنا
وعة عالية ومتلحقة .حكمته حلة المجاورة ،وهو يركض بسرعة ،مطلقا ً صرخات متن ّ
والم ّ
ن هناك حشدا ً في ذلك هي أّنه لكي ل يخاف ،كان يوهم الخوف بأّنه ليس وحده ،بل أ ّ
من الناس يركض معه ويصرخ.
عندما سمع عبدون الزّبال بذلك ضحك كثيرًا ،وتساءل بدهشة :لماذا يخاف هذا الولد
حّريا ً به أن يشعر بالخوف أكثر لوجود هذا الحشد من الناس
ي من وحدته؟ كان َ
الغب ّ
الّراكضين معه !
كانت مارلين ديتريتش ساحرة السينما المريكية في مطلع القرن العشرين ،قد بلغت
ما إذا كانت
أرذل العمر ،حين سألها صحفي من وراء الباب الذي رفضت فتحه ،ع ّ
دد :الموت؟ ك ّ
ل ،علي الطلق .إن ما أخشاه هو الحياة ! تخشي الموت ،فأجابت بل تر ّ
ومثلها ،في مصر ،كانت النجمة فاطمة رشدي بطلة فيلم )العزيمة( قد رفضت في
أعوامها الخيرة أن تفتح بابها لحد من الناس ،حيث وجدت أن الوحدة هي ملذها المن
من الخرين.
جله الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر وليس بعيدا ً ذلك المغزي العميق الذي س ّ
ن
م عليه ،يوم الحساب ،بالذهاب إلي الجحيم ،فوجد أ ّ
حك َ
ب عن المذنب الذي ُ حين كت َ
100
الجحيم مكان جميل ومريح وفيه كل ما يحتاجه المرء ،لكّنه كان أيضا ً يكتظ بالناس
ولون حياة بعضهم البعض إلي عذاب حقيقي ل ُيطاق ،فاكتشف، المناكفين الذين ُيح ّ
ن الجحيم هو )الخرون(! عبدون الزّبال ،ومارلين ديتريتش ،وفاطمة رشدي، عندئذ ،أ ّ
صلوا إلي النتيجة نفسها ،بعد أنوجان بول سارتر ،علي رغم تباعد الزمنة والماكن ،تو ّ
وقفوا أمامها وجها ً لوجه ،وأدركوها جّيدًا.
صل إليها فيما بعد ،لم يتسع له الوقت أبدًا ،لكي يدركها. لك ّّ
ن إبراهيم المسكين حين تو ّ
د ،ذلك النوع المتفردالوحدة لم تقتل إبراهيم ،والظلم لم يقتله .قتله النسان المستب ّ
بين جميع الحيوانات ،الذي ل يتوّرع عن قتل أبناء النوع الذي ينتمي إليه!
سير
عكس ال ّ
في مدينة بيرن السويسرية ،كان رجل في السادسة والثمانين من عمره ،يقود سّيارته
علي الطريق السريع.
جاه
ن ذلك الّرجل كان يسير في الت ّ
ن الغريب هو أ ّ
وهذا أمر ليس فيه أّية غرابة ،لك ّ
الخطأ بمواجهة طوفان من السيارات المسرعة!
ض في الطريق الخطأ؟
هل أدرك أّنه ما ٍ
جاه،
من كانوا يسيرون عكس الت ّسائقين الخرين هم َ ل ..بل كان مقتنعا ً بأ ّ
ن جميع ال ّ ك ّ
ولذلك فإّنه كان يشعل المصابيح العالية في وجوه أولئك الحمقي القادمين نحوه
لتنبيههم إلي خطأهم!
ن الشارع كان يبدو له مزدحما ً بعدد هائل من هؤلء المجانين الذين يقودون ول ّ
ن الّرجل الثمانيني الحكيم ما أن رأي دورية
صحيح ،فإ ّ
ّ ال غير تجاه
ّ ال في ياراتهم
س ّ
ّ ّ
للشرطة متوقفة علي جانب الطريق حتي توقف
سائقين الخرين! بلطف شديد ،انتزع رجال الدورّية وعّبر لهم عن شكواه من مخالفة ال ّ
م أوصلوه بسّيارتهم إلي بيته. مفاتيح سّيارة العجوز ،ث ّ
تلك كانت هي الطريقة الوحيدة لنقاذ الّرجل من نفسه ،وإنقاذ الَناس من رعونته.
101
ل صغيرا ً
ن حجم الكارثة التي كان ممكنا ً أن تتسّبب فيها قيادة هذا الّرجل ،يظ ّ ومع أ ّ
جد ّا ً بالمقارنة مع قيادة أمثاله لوطان بكامل ما فيها من مليين البشر ،فإنّنا إذ نضحك
جين ،إذا ما انتزعت
محت ّ
دنيا ،ونصرخ ُ ساخرين من رعونة العجوز ،نشعر بك ّ
ل عار ال ّ
دورية -أّية دورّية -مفاتيح القيادة من سائق مجنون يقود الوطن بأكمله علي طريق
قق! الهلك المح ّ
حسن ح ّ
ظ الّرجل السويسري الّثمانيني أّنه لم يصطحب معه هيئة قضائية تشجب من ُ
شرطة. تصّرف رجال ال ّ
منين بالكوبونات،
مس ّ ظ الّناس أّنه لم يسحب وراءه قطيعا ً من الُعربان ال ُ حسن ح ّ ومن ُ
دم( التي فتحوهاّ وال روحّ )ال حنفية ية ّ الدور تغلق أن مستنكرين معه، ً ا تضامن ليتظاهروا
دسة.
علي آخرها فداًء لكوارثه المق ّ
ل ،شاهدت ،علي شاشة التلفزيون ،جّزار شيلي البغيض )أوغستوبينوشيه( فبالمس ،مث ً
ما فعلته .لكن
مّني العتذار ع ّ الذي كاد يبلغ الّتسعين ،وهو ُيصّرح قائ ً
ل) :إّنهم يريدون ِ
ماذا فعلت لكي أعتذر؟!(
ن الدورية قد سحبت منه المفاتيح ورخصة إّنه برغم انتزاعه للف الرواح ،وبرغم أ ّ
دة أعوام ،وبرغم كونه يستحق العدام ألف مّرة ،لقاء حوادث القتل التي القيادة منذ ع ّ
ن جميع ضحاياه الموات جاه الصحيح ،وأ ّ
ارتكبها ..ما زال يعتقد أّنه كان يسير في الت ّ
سائرون في الَتجاه الخطأ!والحياء ،هم ال ّ
علي أحد رفوف قسم الّروايات والقصص بإحدي المكتبات اللندنّية الكبري ،لفت
طويَ غلفه من منتصفه بورقة حمراء عريضة كادت تأكل سط الحجم ُ انتباهي كتاب متو ّ
العنوان كّله وصورة الغلف.
)رائعة ..إّنها واحدة من تلك القصص التي ل ُتنسي ،والتي تبقي منطبعة في الّنفس
علي مدي سنوات.
تساءلت مأخوذًا :ما هذه الّرواية التي أخذت بمجامع قلب ألّليندي؟ و َ
من هذا الّروائي
الذي استطاع أن يهّز فروع هذه الشجرة الشاهقة الّراسخة؟ وأّية حرارة إبداعية هذه
ل ما عداها يبدو باردا ً بالنسبة لهذه المبدعة الكبيرة؟!.
التي جعلت ك ّ
102
ما المؤلف فهو )خالد حسيني(.
أ ّ
هو طبيب أفغاني شاب يعيش في أمريكا ،والّرواية هي عمله البداعي الّول ،وقد رسم
فيها ،بقدرة عالية ،صور مأساة الفغان ،علي مّر العهود الحديثة ،ابتداًء من أواخر العهد
شيوعي والحتلل الّروسي ودويلت بارونات الجهاد ،وانتهاء الملكي ،مرورا ً بالحكم ال ّ
ل ذلك من خلل حكاية صبّيين ينتميان بالهجوم المريكي وسقوط إمارة طالبان ..وك ّ
إلي قطبين اجتماعيين متنافرين )البشتون والهزارة( ويعيشان علقة ملتبسة تفضي
إلي أحداث مستقبلّية أكثر التباسًا.
ولّنه اختار أن يكون البطل هو الّراوي ،فقد استطاع بحذق ومهارة ،أن يوهم القاريء
صية .لكّنه أكد ّ في إحدي المقابلت التي
ن الّرواية هي سيرته الشخ ّ
بأّنه هو البطل ،وأ ّ
صة بشخوصها وأحداثها هي من نسج خياله ،برغم كونها تستمد ّ الق ن
أجريت معه ،أ ّ
حبكتها من وقائع معروفة.
وقال ،في هذا الشأن ،إّنه إذا كان قد استطاع ،فعل ً أن يوهم القاريء بأن الشخصيات
ن الحداث كّلها حقيقّية ،فهذا يعني أّنه )ك ّ
ذاب كبير(.. حّية وملموسة إلي هذا الحد ،وأ ّ
أي أّنه بعبارة أخري )راوٍ جّيد(.
والحقّ أّنه راوٍ جّيد بالفعل ،بل هو راوٍ من طراز فريد .وحّتي لو لم يكتب بعد هذه
ف أفضل الّروائيين فيلئق في ص ّ هله لحجز مكانه ال ّ الّرواية شيئا آخر ،فإّنها وحدها تؤ ّ
ن نواحينا ل تفتقر إلي المواهب ً
العالم ،وهي في الوقت نفسه تكفينا دليل علي أ ّ
الجبارة لكنها تفتقر إلي البيئة الثقافية المتحّررة من )شمولّيات( أعداء الّله وأعداء
دعون أّنهم يحكمون بتفويض من الّله ،أو أولئك الذين النسان ،سواء أولئك ال ّ
ذين ي ّ
يزعمون أّنهم يحكمون بتفويض من النسان!.
ذي كتب الّرواية بالنجليزية كواحد من أهلها، ن )حسيني( ال ّ ومن جميل ما نلحظه فيها أ ّ
من كثيرا ً من سرده وحواراته عبارات هي من ّ فض مسلم، ويته كأفغاني
سه ّ
لم ين َ
صميم بيئته ،وهي في معظمها عبارات عربّية خالصة ،ترجمها للخرين في سياق عفويّ
سرد .ولعّله وجد في استخدامها )كما هي بلسانه( حاجة لتحقيق ل يؤّثر في مجري ال ّ
ما ل تستطيع التعبير عنه أّية لغة
هج والحرارة المعّبرين عن روح وهوّية الّرواية ،م ّ التو ّ
أخري.
وفي خضم رحلتي هذه كان المؤلف يقودني ،صعودا ً وهبوطًا ،عبر مختلف النفعالت
النسانية ،فينجح ،بفعل حرارة صدقه الفّني ،في استثارة غضبي هنا ،أو انتزاع ضحكتي
هنالك ،أو إشعال كراهيتي هناك.
103
صته ،قد دد عن العتراف بأّنه في واحدة من ُ
ذرا تلك الحوادث المحورّية في ق ّ ول أتر ّ
أسلمني إلي البكاء!.
ن بعيدًا .ليست الّرواية فيلما ً هنديًا ،فلو أّنها كانت كذلك لوّفرت علي ن الظ ّ
كل ..ل يذهب ّ
بطلها الكثير من العناء ،ولسعفته بحلول جاهزة للعقد المستحكمة التي واجهها ،فتمّني
-وتمّنينا معه -لو أّنه كان شخصّية في واحد من تلك الفلم الهندية التي طالما
شاهدها ،والتي يعرف علي وجه الدّقة بأّية حركة أو سلوك أو قول سيمكن للبطل فيها
ن ما يجري سف ل ّمر في ذهنه مثل هذه الخواطر ،يتأ ّ أن يخرج من محنته ،لكّنه ،إذ ت ّ
ما يجري في تلك الفلم. ً
في الواقع هو شيء مختلف تماما ع ّ
ولمناسبة ذكر الفلم ،أود ّ أن أجتزيء هنا لمحة من الّرواية ،يدخل فيها البطل مح ّ
ل
أشرطة فيديو في أمريكا ،فيسأله أحد الّزبائن عن رأيه بفيلم )العظماء السبعة( الذي
مرات عديدة حين كان في ن البطل كان قد شاهد هذا الفيلم َ ينوي استعارته .ول ّ
أفغانستان ،فقد أسهب في إطرائه ،إلي حد ّ أّنه روي للّزبون قصته كاملة ،مما جعل
ذة مشاهدةن البطل أفسد عليه ل ّميز غيظا ً بدل ً من أن يبدي امتنانه ،وذلك ل ّ
الّزبون يت ّ
الفيلم!.
أردت ،باجتزائي هذه اللمحة ،أن أبّين السبب الذي دعاني للحجام عن تلخيص مسار
الّرواية أو عرض محاورها ،أو نقل بعض تفاصيلها المؤّثرة .إّنه الحرص علي عدم إفساد
ذة قراءتها بالنسبة للقاريء العربي ..وهو حرص يصاحبه المل بترجمتها قريبا ً إلي ل ّ
اللغة العربّية ،ويسبقه اللم لصدور طبعتين إنجليزيتين وطبعتين أمريكّيتين منها حّتي
الن ،إضافة إلي صدور ترجماتها للسبانية واللمانية والهولندية والسويدّية
سينما ،فيما لم أسمع لها أيّ صدي في والدانماركية ..واهتمام هوليوود بإعدادها لل ّ
ساعة!.جنبات عالمنا الثقافي حّتي هذه ال ّ
أتمّني ذلك من ك ّ
ل قلبي.
مداواة الحنين
دثت عن رواية )قائد الطّيارة الورقّية( للكاتب كنت ،في السبوع الماضي ،قد تح ّ
صة ،المر الذي أوهم كثيرا ً ً
الفغاني خالد حسيني ،وذكرت أّنه جعل )البطل( راويا للق ّ
ن روايته متخّيلة تمامًا، من القّراء بأّنه هو نفسه البطل ،فيما أكد ّ في إحدي المقابلت أ ّ
مة بينه دة من الواقع الفغاني ،وبرغم نقاط الشبه العا ّ ن حبكتها مستم ّ علي الّرغم من أ ّ
قبوبين البطل من حيث البيئة وظروف التربية أو ظروف النزوح ..وعلي ذلك ع ّ
ن الشخصّيات حّية والحوادث مفاخرا ً بأّنه إذا كان قد استطاع أن يوهم القاريء بأ ّ
ذاب كبير( أو بعبارة أخري )راوٍ جّيد(. حقيقّية ،فمعني ذلك أّنه )ك ّ
وقد وجدت خالد حسيني يعود قبل أّيام إلي إغناء هذا الموضوع ،في مقالة له في
الملحق الثقافي لجريدة )الغارديان(.
104
جج الفضول لدي
ن ذلك الوهم لدي القاريء قد أ ّفي هذه المقالة ُينبئنا )حسيني( بأ ّ
الّراوي ،إذ قّرر الخير أن يتبع خطي بطله علي أرض الواقع ،في محاولة لستكشاف
صل إلي نتائج مثيرة للدهشة. أوجه ال ّ
شبه بينهما ،فإذا به يتو ّ
من ُيخبركم بأّنه ليس النبل ول الشجع بين ن أمير سيكون أّول َ
يقول )حسيني() :إ ّ
شجاعةالّرجال .لكّنه ،قبل ثلث سنوات مضت ،قد قام بعمل جامع لصفَتي الّنبل وال ّ
معًا .فهو قد عاد إلي أفغانستان -التي كانت آنذاك تحت حكم طالبان -من أجل تصفية
حساب قديم .عاد بعد عشرين عاما ً من الغياب ،للتكفير عن خطيئة كان قد اقترفها
ي ،وذلك بإنقاذ طفل لم يعرفه من قبل ،وإنقاذ نفسه من الّلعنة.وهو صب ّ
شخص الذي أرسله وقد كادت رحلته تلك أن تكّلفه حياته ..والمسألة هنا هي أنّني أنا ال ّ
من اخترع )أمير(.. مة ،وقد كان المر سهل ً عل ّ
ي ،لنني ،في النهاية ،أنا َ في هذه المه ّ
فهو بطل روايتي )قائد الطّيارة الورقّية(.
دة الْرواية ،وجدت نفسيل) :لكّنني ،بعد وضع الّلمسات الخيرة علي مسو ّ ويواصل قائ َ
ً
سم خطي بطلي ،فأخذت مكاني في الطائرة عائدا إلي في مارس 2003،أتر ّ
دت سبعة وعشرين عاما ً تقريبًا.
ّ امت طويلة أفغانستان ،بعد غيبة
ف السابع عندما غادرت بلدي كنت في نحو الحادية عشرة ،صبي ّا َ نحيف البنية في الص ّ
البتدائي ،وها أنا أعود إليها وعمري ثمانية وثلثون عامًا ،بوصفي رجل ً متّزوجا ً وأبا ً
لطفلين ،حيث أعمل طبيبا ً وكاتبًا ،وأقيم في شمال كاليفورنيا(.
ددت في ذهن )حسيني( بضعة أسطر من ما أن هبطت الطائرة في كابول حّتي تر ّ
ن أنّني قد نسيت
الّرواية ،فإذا بأفكار )أمير( قد أصبحت ،فجأة ،أفكاره هو) :كنت أظ ّ
ل أفغانستان لم تكن قد نسيتني هي أيضَا(. ن هذا لم يحدث .لع ّ
هذه الرض ..لك ّ
وفي غمرة ذهوله من هذا الحساس الغريب الذي جعله يتماهي مع بطله ،يقول
ما في
ن الُعرف القديم في الكتابة يقول إّنك تكتب حول ما جّربته .أ ّ )حسيني() :إ ّ
سلفًا(!
َ كتبته ما لتجربة ً ا ذاهب كنت حالتي أنا فقد
يقول) :مثل أمير ،كنت ممتلئا ً بإحساس العائد إلي وطنه للقاء صديق قديم .لكن مثل
أمير أيضا ً شعرت قليل ً بأنّني مثل سائح في بلدي ..كلنا لم يشارك في الحروب ،كلنا
لم ينزف دمه مع الفغانيين الخرين .لقد كتبت عن شعور أمير بال ّ
ذنب ..وها أنا الن
أجَربه بنفسي(.
س في داخله بانكسار حاد ،كذلك وحين يعثر ،بعد جهد ،علي بيت أسرته القديمُ ،يح ّ
سه بطله تماما ً عند العودة إلي المنزل القديم .هو يعيد علينا ما جّربهالنكسار الذي أح ّ
صدمة والحزن ،إزاء الماكن التي تعيش رحبة وشامخة في الكثيرون مّنا من شعور بال ّ
ذاكرتنا ،ثم نراها ،بعد طول غياب ،صغيرة ومتضائلة.
سيارات ُيغ ّ
طي أرض مرآب بيتهم القديم بالصورة لكّنه ُيقسم أّنه رأي حّتي آثار زيت ال ّ
نفسها التي رسمها خياله لمرآب بيت أمير.
دعا ً بيته القديم بقلب مفعم بالحزن ،أدرك )حسيني( أمرا ً غير عاد ّ
ي، وحين استدار مو ّ
ّ
هو أَنه لو لم يكتب )قائد الطيارة الورقّية( لكانت مشاهدته الخيرة لبيت أبويه أشد ّ
وطأة علي نفسه ،وأكثر إيلما ً لمشاعره .يقول) :في النهاية كنت قد مررت بهذه
105
وابة منزل والديه ،وجّربت شعوره التجربة سلفًا :لقد وقفت ،من قبل ،مع أمير أمام ب ّ
سقفدقنا معا ً في ال ّ
بالفقد ،ورأيته وهو يضع يديه فوق القضبان الحديدّية الصدئة ،وح ّ
المتداعي ،وفي درجات السللم المكسورة.
صادر ..والوارد
ال ّ
كنت قد بدأت تناول غدائي للّتو ،عندما دخل )هادي( ذو السنوات الخمس البيضاء،
طخ بالوحل.صالة مثل بسطار عسكريّ مل ّ وانتصب في باب ال ّ
مي تريدك(.
قال) :أ ّ
طلبت مّني الجلوس علي البساط ،فجلست ،ومضت هي إلي زاوية الحجرة ،وغمست
يدها في صندوق من الكرتون ،ما لبثت أن أخرجت منه مظروفا ً وقلما ً ودفترا ً مدرسي ًّا.
106
عادت لتجلس قبالتي .رمت المظروف والقلم في حجري ،وانتزعت ورقة من الدفتر
ثم سوتها فوقه ووضعته فوق ركبتي.
ب(.
قالت بعجلة ولهفة) :اكت ْ
دها ،وتنّهدت قائلة) :بسم الله الرحمن الرحيم ..صباح الخير .إن
ت قبضتها علي خ ّ ص ْ
ر ّ
ً
كان صباحا ..ومساء الخير إن كان مساء ..حضرة جناب الخ المحترم والدي العزيز أبو
زهرة (..توّقف ُ
ت عن الكتابة.
ب(.
نخزتني بسّبابتها محتجة ومستحثة) :اكت ْ
قالت بحسم) :وهل أنا من فطر الحائط؟ أنا أيضا ً ابنته ..اكت ْ
ب(.
خشيت أن أواصل الجدل فيضيع رزقي ،فعملت بكل ما أملكه من رداءة في الملء
علي تصريف طوفان أحزانها ولوعتها وشكواها من نزق جواد وهادي ،ومن فراق زوجها
الجندي الذي ل ُترجي عودته من حرب الشمال ،ومن عداوة الجيران ،ومن سوء كل
شيء تقريبًا.
دموع.
وحين انتهيت ،ورفعت رأسي عن الورقة ،رأيت عينيها الحمراوين طافحتين بال ّ
شرعت أثقب الورقة من أطرافها بجمرة السيجارة ،محاذرا ً من اندلع اللهب فيها،
وحين انتهيت ،بدأت في طيها ،فانتبهت إلي أن ظهرها ممتليء بالكلمات المكررة:
)نار ..نيران ..نور -دار ..دور -قدري قاد بقرنا(!.
ن الخالة قد انتزعت هذه الورقة من دفتر جواد ،وعليها واجب القراءة. ت حال ً أ ّ
أدرك ُ
ق من تب
ُ ِ ولم دور،
ّ ال في ت
ّ َ بوش درس،
ّ ال نار أحرقت قد السيجارة نار أن واكتشفت
)بقرنا( سوي حروف الباء!
فكرت في أن أمام جواد ثلث سنوات ليصبح مثلي في الصف الرابع البتدائي ،وعندئذ
سيتولي وظيفتي ويقطع رزقي.
دي
لم يمض أكثر من شهر ،حتي انتصب )هادي( في باب الصالة ،وقال باقتضاب) :ج ّ
يريدك(.
107
مرة دون خوف من حنق
كنت قد تعشيت منذ ساعتين ،ولذلك فقد انطلقت هذه ال ّ
أمي ،ودون حرج من تكليفها بحراسة طعامي.
كان جالسا ً فوق البساط وسط الحوش ،متكئا ً علي وسادة غليظة ،وكانت )أم جواد(
جالسة أمامه ُتعد ّ الشاي علي منقلة الفحم.
س يده في جيبه وأخرج مظروفا ً مغلقًا ،وقال لي بما يشبه الغمغمة) :تعال يا سبع..
د ّ
اقرأ لي هذا المكتوب(.
ما أن شرعت بالقراءة حتي صرخت )أم جواد( كالملدوغة) :هذا مكتوبي!( رفع )أبو
زهرة( يده مسكتا ً إّياها بالشارة ،لكي يستطيع مواصلة الستماع ،وكان في أثناء ذلك
يهّز رأسه بتأثر واضح.
م سوي رائحة احتراق بقرنا! حمدت الله لنه لم يفتحه ،إذ لو أنه فعل لما َ
ش ّ
مددت يدي والتقطت العشرة بفرحة مشوبة بالخجل) .عشرتان لمكتوب واحد( ..هكذا
قلت في نفسي وأنا أشعر بغبطة عارمة.
ت بقلبوضعت العشرة في جيبي ،ومضيت نحو الباب ،لكّنني قبل أن أخرج ،التف ّ
خافق بالطمع ،وسمعت صوتي الخفيض يتأّود بوقاحة مثقلة بالحياء) :هل تريد أن أكتب
لك جوابا ً علي المكتوب؟(.
108
ثقافة الرهاب
ة ،رواية
يحكي الكاتب الوروغواني إدواردو جاليانو في )كتاب المعانقات( أنه قرأ ،مر ً
يلتقي في أحد فصولها جد مسن جدا ً بأصغر أحفاده.
الجد الطاعن في السن هذا خرف تماما ً )أفكاره هي لون الماء ..كما تصفه الرواية(،
وهو يبتسم ابتسامات لهية تشبه ابتسامات حفيدة المولود حديثًا.
الجد الكبر سعيد لنه فاقد الذاكرة ،وحفيده الصغر سعيد لنه لم يمتلك ،بعد ،أية
ذاكرة.
ل يريد جاليانو نصيبا ً من هذه السعادة ،لنها في الواقع سعادة البلهاء ،أي أنها ،بعبارة
أخري ،سعادة المواطنين الصالحين بالنسبة للنظمة الديكتاتورية ومن الطبيعي بالنسبة
لرجل مثله ،أمضي أعواما ً عديدة من عمره بين المنافي والسجون ،بسبب دفاعه عن
الحرية ،أن يرفض هذا الصلح الفاسد ،وأن يستخدم كل مواهبه من أجل تعريته ،سواء
أجاء بوجه أجنبي أم بوجه وطني.
هذا النوع من السعادة ،عنده ،هو معادل الرهاب الذي يتحول علي يد السلطة
المستبدة الي )ثقافة( قائمة بذاتها ،حيث تستخدم كل الوسائل الممكنة من أجل
تجذيرها في بنية المجتمع ،حتي تثمر ،مع اليام ،يقينا ً عاما ً بأنها جزء ل يتجزأ من كينونة
هذا المجتمع.
ولعل هذا هو ما يفسر لنا اختلط المشاعر الذي يدعو المضطهدين الي الخوف من
التحرر المفاجيء ،أو يحمل الضحايا علي البكاء ،لدي زوال جلديهم فجأة!
إن )ثقافة الرهاب( تتحول ،بعد تجذرها ،الي حلقة تبادلية فعالة ،تنتج الطغيان من
العلي ،وتنتج الطغاة من السفل!
إن الستعمار الواضح يشوهك دون أية ذريعة :إنه يمنعك من الكلم ،يمنعك من الفعل،
ويمنعك من الوجود.
109
أما الستعمار الخفي ،فهو يقنعك ،بأية طريقة ،بأن العبودية هي قدرك ،وأن العجز هو
طبيعتك :إنه يقنعك بأن من غير الممكن أن تنطق ،من غير الممكن أن تفعل ،ومن غير
الممكن أن توجد !
إن الكاتب ل يفاضل ،هنا ،بين جور وجور آخر ،لكنه يصفع بشدة وجوه أولئك الذين
يعتقدون ان الخضوع لسلطة القمع الداخلي هو البديل الوحيد والهون عن الوقوع
فريسة للغزو الخارجي ،في محاولة ليقاظهم علي حقيقة مروعة :هي أن الفرق بين
الستعمار الخارجي والستعمار الداخلي ،هو أنهم في الثاني يشاركون ،باقتناع تام ،في
حفلة اعدامهم!
ويسوق مثال ً علي تلقيم الخنوع ،وتحويل المواطن الي مجرد رقم ،من كتاب مدرستي
كان يستعمل حتي وقت قريب في مدارس أورغواي) :في ما يتعلق بالطفل المثالي:
الطفلة نفسها تبدو مثل دمية :جميلة جدًا ،وطيبة ،ول تزعج أي أحد(.
دمي حقيقية
إن صدي مثل هذا التأليف المدرسي المجرد يتردد في الواقع علي شكل ُ
حية.
وذلك ما نجد مثاله في حكاية فتاة اسمها راميونا كارابالو كان أسيادها قد وهبوها الي
بعض الناس كهدية ،عندما كانت بالكاد تتعلم المشي!
وفي عام 1950،إذ كانت تلك الفتاة ل تزال طفلة ،اشتغلت كعبدة في أحد بيوت
مونتيفيديو عاصمة الوروغواي ،حيث كانت تعمل كل شيء مقابل ل شيء.
وذات يوم جاءت جدتها لزيارتها ،ولم تكن راميونا تعرفها أو تتذكرها .وكان علي الجدة
القادمة من الريف أن تعود الي قريتها بسرعة ،ولهذا فإنها شرعت ،حال دخولها البيت،
بإنجاز مهمتها ،إذ حملت السوط وراحت تجلد حفيدتها جلدا ً مبرحًا ،ثم انصرفت ،تاركة
الطفلة تنحب وتنزف.
) -إنني ل أضربك بسبب ذنب ارتكبته ..إنني أضربك بسبب ما سوف ترتكبينه(!
هل ثمة فرق بين ما فعلته تلك الجدة وبين ما تفعله جميع السلطات في أوطاننا
السعيدة ،أو ما تفعله أمريكا علي مستوي العالم كله؟!
ان الفّعالية التي تتحرك بها دائرة التبادل بين الطغيان وضحاياه ،ل تقتصر علي تلك
النماذج الناتئة الواضحة ،لن ذلك التلقين المقدس يتناسل حتي في الماكن التي يظنها
المرء خارج هذه الدائرة.
يعدد جاليانو في هذا التجاه ،طائفة من )المكرمات( :البتزاز ،الهانة ،التهديد ،الصفع،
الضرب ،الجلد ،الغرفة المظلمة ،الدوش المثلج ،التجويع ،التخام بالقوة ،الحرمان من
مغادرة البيت ،الحرمان من قول ما تعتقد ،الحرمان من فعل ما ترغب ،الذلل
العلني ..ثم يقرر بشكل صاعق أن تلك الشياء كلها هي بعض مناهج العقاب التقليدية
في الحياة السرية!
110
فمن أجل معاقبة التمرد ،وتهذيب السلوك الخارج عن اللياقة ،يعمد التقليد السري الي
تخليد )ثقافة الرهاب( التي تهين المرأة ،وتعلم الطفل علي الكذب ،وتنشر حولها وباء
الخوف.
ولهذا فإن أندريس دومينغيز أحد أصدقاء جاليانو لم يتعد الصواب حين قال له مرة :إن
حقوق النسان يجب أن تبدأ في البيت .
إن هذه البداية الصحيحة هي التي يمكن أن تحقق للنسان حصانة ضد الوبئة المدمرة
كلها ،وفي مقدمتها وسائل العلم التي لم يسبق لعصر أن ابتلي بسيطرتها التامة
والواسعة مثل عصرنا المنكود.
فإذا كان الناس علي دين ملوكهم ،فإن ملك هذا الزمان ،بل منازع ،هو العلم ،وان
سلطته الجبارة القوي من أية سلطة ،هي في أغلبها لسان صدق في فم الكذاب ،إذا
تأكد شرط امتلكه للقوة!
ولعل الحكاية النموذجية التالية التي يرويها جاليانو كافية تماما ً لظهار صورة الدمار
الهائل الذي يخلفه هذا الوباء:
يقول جاليانو انه اطلع لدي محام ٍ يدعي بيدرو ألغورتا علي ملف ضخم حول جريمة قتل
امرأتين نفذت بالسكين في نهاية عام 1982،في احدي ضواحي مونتيفيديو .
المتهمة ألما دي أغوستو كانت قد اعترفت بجريمتها المزدوجة ،وقد مر علي ايداعها
حكم عليها بأن تتعفن هناك حتي آخري أنها قد ُ
السجن أكثر من عام ،وكان من الجل ّ
لحظة من حياتها.
وكما جرت العادة ،فإن رجال الشرطة اغتصبوها وعذبوها ،وبعد شهر من مواصلة
ضربها بقسوة ،استطاعوا ان ينتزعوا منها :عدة اعترافات!
لم تكن اعترافات ألما متطابقة ،وبدت كما لو أنها ارتكبت الجريمة بطرق كثيرة
مختلفة ،فقد كان هناك أشخاص مختلفون يظهرون في كل اعتراف مثل خيالت وهمية
ل أسماء لها ول عناوين.
وذلك لن التعذيب كان من شأنه أن يحول أي شخص الي مؤلف قصصي كثير النتاج.
والكثر من ذلك فإن هذا المؤلف يقدم حكاياته برشاقة لعب أولمبي ،وبزينة مهرجان
أمازوني ،وببراعة مصارع ثيران محترف!
لكن الكثر اثارة للدهشة كان غني التفاصيل .ففي كل اعتراف كانت ألما تصف بدقة
بالغة :الملبس ،اليماءات ،الجواء المحيطة ،المواقع ،والشياء.
الدهي من ذلك أن جيران المتهمة الذين يعرفونها جيدا ً ويحبونها كثيرًا ،كانوا مقتنعين
تماما ً بأنها هي القاتلة.
سألهم المحامي:
-لماذا؟!
111
-ولكن الراديو قال ذلك أيضًا ..والتلفزيون !
هل يحق للغالبية العظمي منا أن ترفع اصبع اللوم في وجه أولئك الجيران؟
كل ..لننا في الواقع مثلهم تمامًا ،خيوط مرتبة بكل نعومة وتناسق في نسيج )ثقافة
الرهاب( الشاملة!
الّزلزال السيوي قتل ما يقارب مائة وسبعين ألفا ً من الّناس في إثني عشر بلدًا.
الخسائر التي خّلفها دمار الّزلزال السيوي قدرت بما يقرب من مائتي بليون دولر.
وة مليون
وة التدميرية للّزلزال السيوي ،حسب تقديرات العلماء ،كانت تعادل ق ّ
الق ّ
قنبلة ذرية.
تلك أرقام بسيطة ل تحتاج إلي تحليل ،ول تحتمل الّتحايل ..نضعها بك ّ
ل تقدير أمام
أنظار جميع الخصاونة الكرام ..لنسألهم بعد هذا:
112
بدايات خالدة
ليس هناك حصر للقصص والروايات الرائعة التي خلفها المبدعون ،شرقا وغربا ،علي
مختلف العصور .لكن هناك مايشبه الجماع علي روعة وتميز عدد محدود من البدايات
التي افتتح بها بعض المبدعين اعمالهم القصصية.
وليس المقصود هنا قدرة الكاتب علي جذب قارئه وتشويقه منذ الصفحة الولي
للكتاب ،اذ لحصر ايضا ،للموهوبين القادرين علي ذلك ،خاصة ان البداية الجيدة
والمحكمة كانت ،ولتزال ،الهم الكبر لجميع القصصيين ،باعتبارها المؤشر الول
لنشداد القاريء أو تردده او تركه العمل الدبي برمته.
لكن المقصود هو تلك البدايات التي لتتعدي فقرة صغيرة ،او جملة قصيرة قد لتكون
غريبة او ذات بلغة عالية ،لكنها مع ذلك تملك من السحر وقوة التأثير ،ما يجعلها تترك
بصمتها المميزة في نفس القاريء ،سواء بحمولتها الخاصة وحدها ،او بأثر النص كله
بعدما ينتهي القاريء من مطالعته ،فاذا ترددت علي مسمعه عبارة الفتتاح تلك ،في
العوام اللحقة ،احس بحرارة الميسم التي احسها عند قراءة العمل الدبي من قبل،
وعادت الي ذهنه حرارة العمل كله.
ولكي نعلم مقدار اثر مثل تلك البدايات التي تحولت الي مايشبه )اليقونات( علينا ان
نصغي باهتمام لما يقوله واحد من اعظم الروائيين في عصرنا ،عن شدة الثر الذي
طبعه في نفسه المفتتح لقصة فرانز كافكا )المسخ(:
)عندما استيقظ غريغور سامسا ذات صباح من احلمه المزعجة ،وجد نفسه وقد
تحول ،في فراشه ،الي حشرة ضخمة جدا(.
يقول غابرييل غارسيا ماركيز انه عندما قرأ هذا في بداياته ،ادرك ،من خلل دهشته
وانبهاره ،ان كل شيء ممكن في القص.
ولعله وجد في ذلك حافزا ليرد علي أن يمضي في سبيله بجرأه غير معهودة ،ليطلع
علينا في النهاية بشيء لعهد لنا به من قبل اسمه )الواقعية السحرية(.
ولعل ماركيز يعلم ايضا ان جملته الولي في عمله الكبير )مائة عام من العزلة( قد
كان لها ،علي بساطتها ،التأثير ذاته في نفوس قرائه ،مما سيجعلها واحدة من البدايات
الخالدة:
بعد أعوام عديدة ،فيما كان يواجه كتيبة العدام ،تذكر العقيد أورلياندو بوينديا عصر
ذلك اليوم البعيد الذي اخذه فيه والده لمشاهدة الثلج(.
113
لكن هل كان الكاتب النرويجي كنوت هامسون يتخيل ان تعبيره الفتتاحي عن اثر
مدينة كريستيانا علي نفس بطل روايته )الجوع( سيكون له الوقع ذاته علي نفوس
قراء الرواية علي مر العوام؟ .يفتتح هامسون روايته هكذا:
)حدث هذا في تلك اليام التي كنت فيها مشردا اتضور جوعا في مدينة كريستيانا ،تلك
المدينة العجيبة التي ليغادرها احد قبل ان تسمه بسماتها وتترك عليه آثارها(.
وكذلك ليغادر احد رواية )الجوع( دون ان تسمه بسماتها وتترك عليه آثارها ،بحيث
يكفي ان يسمع الفقرة الفتتاحية ،لكي يستعيد الثر الموجع للرواية كلها ،مهما تباعدت
العوام ،اذ ان تلك الفقرة هي تلخيص مكثف للمرارة التي احتوتها الرواية ،حيث
انتصب التشرد والجوع بطلين اساسيين فيها.
وفي رأس قائمة تلك البدايات التي لتنسي ،تأتي بداية رواية )آنا كارنينا( لتولستوي:
)كل السر السعيدة متشابهة ،أما السر التعيسة فلكل منها تعاستها الخاصة المميزة(.
انها واحدة من )اليقونات( التي تكرست علي مر العهود ،سواء من قبل القراء
العاديين او من قبل المبدعين الكبار .فعلي الرغم من عظمة جميع اعمال تولستوي،
تبقي )آنا كارنينا( في قمة هذه العمال ،وفي قمة جميع العمال الدبية الوروبية ايضا،
كما رأي ديستويفسكي وتبقي افتتاحيتها في الصف الول من تلك الفتتاحيات ذات
الثر الدائم.
اما الكاتب النجليزي تشارلز ديكنز فيأخذ مكانه في هذا الصف بفعل البداية الرائعة
لروايته الخالدة )قصة مدينتين(:
كان عصر الحكمة ،وكان عصر الحماقة .كان عهد اليمان ،وكان عهد الشك .كان
موسم النور ،وكان موسم الظلم .كان ربيع المل ،وكان شتاء القنوط .كنا نملك كل
شيء أمامنا ،وكنا لنملك شيئا مما امامنا.
كنا جميعا ذاهبين مباشرة الي الجنة ،وكنا جميعا ذاهبين في التجاه الخر(!.
ان قراء ديكنز قد ينسون كثيرا من تفاصيل قصصه المؤثرة ،وقد ينسون حتي الموقف
الموجع للصغير اليتيم الجائع أوليفر في مفتتح رواية )أوليفر تويست( وهو يطالب
بمزيد من الحساء ..لكنهم ليمكن ان ينسوا مطلع )قصة مدينتين( الحافل بكل
المتناقضات ،والعابر من تشخيص حال مدينتين هما لندن وباريس ،الي تشخيص موجز
وحاد ومؤلم لحال الجنس النساني الذي تنفصم مدينته نفسها الي مدينتين وينقسم
زمنه ذاته الي زمنين!.
البدايات القصصية المميزة قد تكرست ،غالبا ،نتيجة تطاول العهود ،وازدحام المارة
علي دروب العمال الدبية المذكورة علي مختلف الزمان ،واذا كنت قد ذكرت تلك
البدايات فليس لنها البدايات المميزة حصرا ،اذ لريب ان هناك كثيرا مثلها ،لكنني
انحزت الي النماذج التي وجدتها اكثر شيوعا.
نتيجة متابعتي ،وهي متابعة محكومة بسقف قراءاتي الذي اعترف بانه ليس عاليا ً بما
يكفي للحاطة بكل تلك البدايات.
بقي القول ان الحافز الذي حرك في ذهني شرارة هذا الموضوع هو مفتتح رواية
طعم الذي)انتظار( للكاتب الصيني )ها-جن( ..إذ إنني حال وقوع عيني علي هذا ال ُ
114
وضعه لصطياد القاريء ،وجدته مؤهل لدخول موسوعة البدايات المميزة من اوسع
ابوابها ،اذا اتسعت شهرة الرواية ،وتعددت منافذ ترجمتها الي مختلف اللغات.
كل صيف ،كان لن كونغ يعود إلي قرية البجع من أجل تطليق زوجته شو -يو !.
هل يمكن لمثل هذه البداية أن تمر علي القاريء دون ان تنطبع في ذاكرته إلي البد؟
ل أعتقد
النجليز يتمرغون بتراب الميري
قبل أربعين عاما ً بالضبط حصلت إنجلترا ،للمرة الولي والخيرة ،علي كأس العالم
لكرة القدم ،نتيجة هدف بقي طول تلك العوام مشكوكا ً في صحته ،حتي أثبتت
الجهزة الدقيقة ،حديثا ً وبشكل قاطع ،انه بالفعل هدف غير صحيح.
ومنذ ذلك الوقت ظل منتخب إنجلترا يواصل الشتراك في البطولة العالمية قانعا ً من
الغنيمة بالياب في كل مرة.
وفي البطولة الخيرة ،لم يخالف المنتخب تقاليده العريقة في الخروج من التصفيات
مبكرًا.
وعلي الرغم من ان انجلترا هي التي اخترعت كرة القدم الحديثة ،ونشرت قواعدها
في جميع انحاء العالم ،فإن منتخباتها علي مّر العوام ،لم تكن لتهدد أحدا ً أو لتحظي
بتنبؤات الفوز بالكأس ،كغيرها من منتخبات أوروبا أو أمريكا اللتينية.
وقد اعتاد الناس علي عودة منتخب إنجلترا ساحبا ً ذيله بين رجليه ،مثلما اعتادوا علي
تصريحاته النارية التي تضع الحق دائما ً علي الطليان !
لكنه في الدورة الخيرة وضع الحق ،لول مرة ،علي مدربه السويدي إريكسون ،وهو،
للمناسبة ،مستحق تماما ً لكبر كمية من اللوم والتعنيف.
بعبارة أكثر وضوحا ً ان النجليز آمنوا بأن فوز إيطاليا بالكأس هو ،بصورة أو بأخري ،فوز
محقق لنجلترا نفسها!
كيف؟!
ُيحكي ان هناك لعبا ً ضمن صفوف المنتخب اليطالي اسمه سيمون بيروتا كان قد
ولد ،ذات مصادفة عمياء ،في مانشستر!
نعم ..هكذا ،ومن يبحث عن صورة كاملة للهوان وقلة الحياء ،يجد في هذه الصورة
غاية الكتمال.
115
ولن نعرف أبدا ً سر هذه التركيبة النجليزية السحرية التي تجعل المواطنة عرقًا ،هذا
إذا صح في الصل انه مواطن بريطاني!
فعلي مساحة ثلث صفحات كاملة ،نشرت احدي الصحف النجليزية تحقيقا ً عن هذا
اللعب بالكلم والصور ،غايته استدراج تاريخ ميلده لللتصاق بالعرق النجلوسكسوني،
أو محاولة ذلك العرق اللحاق بميري سيمون أو التمرغ في ترابه ..لكن التحقيق ،مع
دعي
ذلك ،لم يخرج ،برغم الجهد ،إل بنتيجة واحدة مذلة ومخجلة ،وهي أن ليلي التي ي ّ
النجليز وصل ً بها ،ل تعرف من لغة الغرام سوي الهجران!
اسم الولد أول ً سيمون وليس سايمون ،واسم عائلته بيروتا هو اسم إيطالي صرف..
وعليه ،فمنذ المطلع ل يجد المرء أية دللة سكسونية في قصيدة هذا اللعب.
وثانيا ً ان أبويه اليطاليين كانا قد وصل إلي بريطانيا في منتصف الستينات ثم عادا إلي
موطنهما الصلي القح في بداية الثمانينات .وفي أثناء إقامتهما المؤقتة أنجبا دّرة التاج
هذا ،ثم غادرا وهو لم يبلغ الخامسة من عمره ،حيث عاش ثلثة وعشرين عاما ً هناك،
في موطنه الصلي .وعليه فإنه لم يتوفر له الوقت الكافي حتي ليكون مجرد مواطن
بريطاني.
وثالثة الثافي هي ان الحوار مع اللعب ووالديه قد أعطي الثلثة فرصة لرفع العلم
اليطالي عاليا ً علي الخلفية النجليزية ،ولخرق بالون التحقيق بمسمار غليظ وتفريغه
من محتواه تمامًا.
سيمون قال :انني ل أتذكر من إنجلترا سوي ان السماء كانت رمادية وممطرة علي
الدوام .أما في إيطاليا ،فإن الطقس مشمس دائما ً لحسن الحظ ،فأنا ل استطيع
العيش دون ذلك.
وأضاف :أتمني لو كنت استطيع التحدث بالنجليزية لكنني ل أعرف كيف ،فصحيح انني
ولدت في بريطانيا ،لكنني غادرتها وأنا في الخامسة فقط.
ولقد قيل لي ،بناء علي هذا ،انني استطيع ان ألعب للمنتخب النجليزي ،لكن ليس
هناك أي شك ،بالنسبة لي في انني أحب أن ألعب ليطاليا ،وانني لفخور جدا ً لني
مواطن إيطالي!
وبعد هذا الهدف الساحق ،تطوع أبوه لتسجيل الهدف الثاني في مرمي التحقيق ،إذ
قال فرانسيسكو بيروتا :من الطبيعي ان يشعر ابني قليل ً بأنه بريطاني ،لكن ليس إلي
حد كبير.
ثم اختتمت والدته آنا ماريا الشوط الثاني من التحقيق بهدف إيطالي ثالث ،عندما
قالت :لقد تلقي سيمون منذ سنوات عرضا من نادي أفرتون النجليزي ،لكنه قرر
البقاء في إيطاليا .ان ابني قد ولد في بريطانيا لكنني أعرف انه فخور بانتمائه ليطاليا.
وبرغم جميع هذه الركلت الموجهة من الثلثي إلي خاصرة النجليز ،ظلت الصحيفة
تعلن ،بين فقرة وأخري ،ذلك الدعاء :إن إنجلترا ل تزال قادرة علي حمل كأس العالم
هذه المرة ،والشكر كل الشكر في ذلك ..لسيمون بيروتا!
هناك مثل يتحدث عن قرعاء تفاخر بشعر ابنة اختها ،وأنا لم أعرف إل الن أن هذه
القرعاء هي إنجلترا بجلدها وعظمها.
إن سيمون وانجلترا يلخصان حال الدنيا في إقبالها وإدبارها ،ولو كانا يفهمان العربية،
لوجهت إلي سيمون الشطر الول من القول العربي المأثور:
116
د.
م علي الوت ْ
إذا أقبلت ..باض الحما ُ
د!!
ت ..بال الحماُر علي الس ْ
وإن أدبر ْ
أفلم أصيلة
معظم الفلم العربية الجيدة -إذا استثنينا منها المأخوذة عن نصوص أصلّية -قد
عاشت طول عمرها تقتات فضلت مائدة السينما الغربّية ،والمريكية منها علي وجه
الخصوص .فقد أتيح لي خلل السنوات العشرين الخيرة أن أشاهد عددا ً كبيرا ً من
أفلم الفترة الذهبية لهوليوود ،وكثيرا ً ما انكسرت متعتي تحت وطأة الغيظ حين
يذكرني الفيلم الذي أشاهده بأننا سلخناه وقدمناه علي أنه من بنات أفكارنا.
إنني لست في معرض الحصاء ،ولو تطّلب المر مّني ذلك لمكنني أن أشير إلي أفلم
عربية كثيرة وشهيرة هي ليست إل ّ تقليدا ً حرفي ّا ً لفلم أمريكية قديمة جدا ً -ربما لم
تشاهدها الغالبية العظمي من جمهور الترسو -لكنني مع ذلك أجد ما يشفع لها تجاوزا ً
ن هوليوود -قبل أن يسيطر عليها المحاسبون ،وقبل أن فتقليد الفن هو فن أيضًا ،إذ أ ّ
دم أفلما ً توازن بدقة بالغة بين
تستهلكها المؤثرات الخاصة وحيل الكمبيوتر -كانت تق ّ
ما الن ،فمن بين أكثر من أربعمائة فيلم تنتجها الكفاءة التقنية والحمولة النسانية ،أ ّ
هوليوود سنويًا ،ل تعثر إل ّ علي أفلم تعد ّ علي أصابع اليدين ،تحمل ذلك التوازن الدقيق
بين القدرة التكنولوجية والبعد النساني.
ولننا ل نستطيع مجاراة البهار التقني للسينما المريكية ،فقد وقف جهدنا علي
مشارف تقليد التفاهات وحدها ،أو اصطناع تفاهاتنا الخاصة التي ل تحتاج إلي جهد
كبير ،لحسن الحظ ،فهي تكاد تكون صفة أصلية فينا!.
العّلة ،كما أري ،ل تكمن في العوائق المالية أو الرقابية أو التقنية ،بل في الزحف
المغولي الهوج علي مواقع الفن الخالص والفنانين المخلصين ،وانكفاء الطاقات
الصلّية عن النضال )نعم النضال( لستنقاذ جوهرة الفن من أيدي الغوغاء ،واستسلمها
ن الموت الحقيقي للفنان
لهذا الدجل الفاقع من أجل إشباع بطونها دون أن تعلم أ ّ
يكمن في جوعه إلي الفن أكثر من جوعه إلي الطعام.
سر لي في الفترة الخيرة أن أشاهد ثلثة أفلم من أقطار يحكمها فقر المكانات لقد تي ّ
التقنية واستبداد الرقابة وندرة السواق ،لكنها كانت تخفي وراء الصور كنوزا ً من
المشاعر النسانية النبيلة ،والنقد الجتماعي الذي يذبح بريشة النعامة.
الفيلم الول صيني ،عنوانه )معًا( ،كاتب قصته ومخرجه هو تشين كيج ،وبرغم قّلة
أشخاصه فقد كان ممتلئا ً بالحركة .وهو يحكي ،عبر ثلثة رجال وصبي ،حكاية عامل
ل جهده وماله من أجل توفير مدرسين أكفاء لولده الموهوب بعزف بسيط يبذل ك ّ
الكمان .ومع الموسيقي التي لها دور بطولة ل مناص منه ،هناك امرأة جميلة أيضًا،
ص والخراج -ننصرف عن وجهها وملبسها الحديثة ،لندخل ،بفعل لكننا -لبراعة الن ّ
خاذ.
موهبة التمثيل العالية ،إلي أعماقها ونشهد جمال الروح ال ّ
ما الفيلم الثاني فهو إيراني ،عنوانه )أين بيت صديقي؟( ،كاتب قصته ومخرجه عباس
أ ّ
صة تلميذ صغير يحاول أن يرجع دفتر زميله الذي نسيه معه
كيارستمي ،وهو يحكي ق ّ
117
في زحمة الخروج من الصف ،وهو يعلم أن المدّرس سيعاقبه في اليوم التالي إذا لم
يكن قد كتب واجبه المدرسي ،وذلك لنه قد كّرر نسيان دفاتره أكثر من مّرة.
ن بيته يقع خلف التلل البعيدة، ن بطل الفيلم ل يعرف عنوانا ً محددا ً لزميله سوي أ ّ
ول ّ
فإن استغراقه في البحث عن العنوان طول اليوم ،يأخذنا معه في رحلة إنسانية رائعة،
عمادها الشخصيات المبثوثة في البيت والطرقات والقري النائية .وفي غضون ذلك
س بأثرها عميقا ً دون أنتعمل مباضع النقد الجتماعي البّناء برهافة في الفيلم ،فنح ّ
ن هناكّ أ وهي بها، ينطق نراها تسيل دمًا .ونخلص إلي حقيقة قالها الفيلم دون أن
اثنين في المجتمع ل يجدان من يصغي إليهما :الطفل والمرأة.
أما الفيلم الثالث فهو تركي عنوانه )بعيد( ،وكاتب قصته ومخرجه أيضا ً هو نوري
صة استقاه المخرج من حياته الشخصية وتجاربه وقراءاته.جيلن ..وجوهر الق ّ
ن هناك شخصيتين رئيسيتين فقط ،طول الفيلم ،غير أن المشاهد ،مع ذلك، والعجيب أ ّ
صة الفيلم تدور حول رجل يعيش وحيدا ً في شقته باسطنبول ،حتي ّ وق بالملل. ل يشعر
يأتيه يوما ً شاب من أقاربه في الريف باحثا ً عن عمل في العاصمة ،فيقيم معه مؤقتاً.
وهنا تبدأ العقدة ،إذ يقع الرجل في صراع بين شعوره بانتهاك خصوصيته ،وبين واجبه
في إكرام ضيفه ..وعلي مدار الّيام التي يقضيها الشاب معه ،قبل أن يغادره فجر أحد
اليام تحت وطأة سوء طبعه ،نعيش دراسة تشريحية حّية علي الصعد النفسية
والجتماعية والخلقية ،فنكاد نلمس عناصرها بأصابعنا ،ونكاد نري جوانب كثيرة من
أنفسنا فيها.
الفلم الثلثة السالفة كلها لم تعتمد علي أية مؤثرات خاصة ،بل اعتمدت علي عين
وقلب المخرج ،وعدسة آلة التصوير العادية .ولم تعّر جسد امرأة لكنها عّرت خفايا
مة ،والكثر من هذا إنها بأجمعها لم تحرق علما ً أمريكيا ً مث ً
ل، النفس النسانية ببراعة تا ّ
ّ
لكنها -وليس عندي أي شك -قد أحرقت قلب السينما المريكية ،لمقدرتها علي صنع
فيلم ل يملك مئات المليين من الدولرات ،لكّنه في النهاية ينثر غناه الفّني الفاحش
علي كل الشاشات ويحصد جوائز المهرجانات السينمائية المحترمة ،بقرارات نخبة
قاد ،وهي قرارات برغم كونها متطلبة ،ل تمنع من أن يكون الفيلم شعبيا ً ومحققا ً الن ّ
لمتعة الناس ..جميع الناس.
مة )اقرأ( ل تقرأ ،وتحلف بالطلق علي أل ّ تقرأ ،فإننا سنظل بحاجة دائمة إلي
ولن أ ّ
إحراق المزيد من العلم ..والفلم!.
118
ل تأكل في ً
ل!
منذ أكثر من ألف عام كان العرب يروون القصص ،لكنهم يسمونها أخبارًا ،غير عابئين
بتطوير تقنياتها الفنية ،فهي في تراكيبها تكاد تكون واحدة ،لول اختلف الموضوعات.
وذلك لنهم لم يطلبوا من ورائها سوي ال ّ
طرافة والغرابة والفكاهة ،باعتبارها وسائل
الترفيه الوحيدة المتاحة لسواد الناس المضغوطين بين مدينة خانقة يزحمها عسس
الخليفة وجباته ،وصحراء قاحلة تتحكم فيها غزوات القبائل وهجمات الضواري.
وكانت تلك الخبار تروي علي أنها أحداث حقيقية وقعت لشخاص حقيقيين ،خاصة ان
المصنفين هم رجال أفاضل ل ترقي إليهم شبهة الختلق والكذب .والحق أن كثيرا ً من
تلك الحكايات يمكن قبوله علي انه حقائق بالفعل ،لكن جانبا ً كبيرا ً منها أيضا ً ل يمكن
لعاقل أن يسلم بصحة وقوعه ،وحيث انه ل يمكنه كذلك أن ُيكذب صاحب الخبر ،فإنه
سيحيله إلي الحذق وسعة الخيال ..أي انه سيدخله في دائرة الكذب الجميل الذي
نسميه فنًا.
غير أن أكذب تلك الحكايات هي تلك التي وردت في الجزء الثالث من )نشوار
سن بن علي التنوخي ،وهي مروّية عنالمحاضرة وأخبار المذاكرة( للقاضي المح ّ
واص الصوفي. ّ الخ الطبري عن جعفر الخلدي عن أبي اسحاق
وعاب عليه الجماعة هزله في مثل هذا الموقف ،فقال بصراحة :والله ما تعمدت
الهزل ،ولكني منذ بدأتم صرت أعرض علي نفسي شيئا أدعه لله عز وجل ،فل
تطاوعني نفسي إلي غير هذا الذي تلفظت به ،وما قلت إل ما اعتقدته.
المهم أن الجماعة انتشروا يبحثون عن طعام ،فوقعوا -ويا للمصادفة الهندية! -علي
فرخ فيل ،فاحتالوا فيه حتي ذبحوه وشووه ،ووقعوا فيه نهشًا ،ودعوا الخواص
لمشاركتهم فأبي ،متعلل ً بأنه قد تركه منذ ساعة لله ،ولعل الله قد أراد هلكه بهذا وهو
راض بما قدره البارئ.
فلم يكن إل ساعة ،وإذا بفيل أقبل من الموضع الذي استخرجوا منه الفرخ ،وهو ينعر
وقد امتلت الرض بنعيره وشدة وطأته .وراح ذلك الفيل يتشمم الجماعة واحدا ً واحداً،
ثم يشيل إحدي قوائمه ويضعها علي الرجل حتي يفسخه فإذا علم انه قد مات تركه
إلي غيره ،وهكذا فعل بالجميع ،فلما وصل الدور إلي الخواص تشممه من سائر
فه بخرطومه ورفعه في الهواء وأقعده علي ظهره، أعضائه ،وبعد وقت من التفحص ل ّ
وجعل يهرول ويسرع إلي أن أضاء الفجر ،فوقف وأنزله برفق إلي الرض ،ثم تركه
وانقلب عائدا ً في الطريق التي جاء منها.
119
فلما بُعد الفيل ،تأمل الخواص موضعه فإذا هو علي القرب من بلد عظيم من بلدان
الهند .فقصده وفاز بالحياة .وعندما روي قصته للناس هناك زعموا له أن الفيل قد سار
به في تلك الليلة الواحدة مسيرة عدة أيام!
انتهت الحكاية ..ولنا الن أن نأتي للنظر في عناصرها العجيبة :إن هذا الخواص
الصوفي هو في نظري أكبر خّباص ،فعلي الرغم من صوفيته فان نفسه لم تطاوعه
علي نذر العبادة التي هي هواه الطبيعي ،ولم يجد في موقفه العصيب من شيء يتركه
لربه إذا نجا إل التعهد بعدم أكل لحم فيل!
أما جماعته -الذين تقربوا إلي الله بأفضل ما يتقرب به العبد -فلم يجدوا لطعامهم إل
ابن الفيل
وأما الفيل الب -أو الم -فقد كان من حقه ان يثأر من آكلي ضناه ..لكنه بالغ كثيرا
في إكرام ذلك الخواص الخباص .وقد كان يكفيه ان يتركه ليموت في موضعه أو ليجد
من رحمة البارئ ما ينزل عليه من السماء دجاجة مشوية ..نظير نذره السخيف.
إن ذلك الفيل المنتقم ،تحول في لحظة واحدة من قاتل إلي راهب في إرسالية خيرية،
ومن فيل إلي طائرة كونكورد ..وهي معجزات ل سبب لها ول ضرورة إل إنقاذ ذلك
الخواص البهلوان!
هناك فائدة واحدة يمكن ان نستخلصها من هذه الحكاية المثقلة بالدسم ..وهي تختص
بنوع النذر الذي نذره ذلك الصوفي ..إذ حصر كل وعوده لله في امتناعه عن أكل لحم
الفيل.
ليت جميع حكامنا المؤبدين وزعماء أحزابنا التوابيت يقتصرون في شعاراتهم ووعودهم
لجماهير أمتنا المجيدة علي وعد واحد يتمثل بعدم أكل لحم الفيل .ولن الطعمة علي
اختلفها ،متاحة في الواقع دون لحم الفيل فإننا سنحظي ،لول مرة في التاريخ،
بساسة ل يكذبون في وعودهم ،أما إذا أراد الله أل يتوفر طعام سوي لحم الفيل ،فإنهم
سيموتون جوعًا ،وعندئذ سنسعد بالتخلص منهم سلميا ً إلي البد!
120
كانت لدينا مواسم للمشمش
قال لي أحد الصدقاء ضاحكًا ،بعد أن قرأ الجزء الخاص برجل السلطة من نص
بالمشمش الذي نشر هنا في السابيع الماضية:
-الن عرفت سبب ما أنت فيه من آلم ..إنك تبالغ في أحلمك وآمالك إلي حد السرف
المهلك ،كمن يطلب قرص الشمس من أجل أن يقلي فوقه بيضة .الدنيا ظلمة دامسة
وأنت تريد منها أن تمنحك سراجين اثنين ..العاقل يا صاحبي يطلب عقب شمعة أو
حتي عود ثقاب.
قاطعته:
-علي رسلك ..ما ضيرك أو ضير الدنيا من أن أحلم بسيادة المور الصحيحة؟
ضحك مجددًا:
-لكنك ل تتذكر أبدا ً أن هناك حدا ً أدني للمور .إنك حتي لم تطلب الحد العلي ،بل
بالغت فتجاوزته إلي طلب ما فوق العادة بأميال ..يا رجل ،كيف استطعت أن توقف
رئيس الجمهورية وهو عجوز وقور في الطابور الطويل أمام مخزن التموين شأنه شأن
عبادالله الخرين؟ ثم كيف بالغت في تعريضه للسخرية من قبل شاب نزق واقف في
الطابور هو أيضًا ،ويتبين لنا أنه ابن وزير الداخلية ،ومع ذلك فهو ل يعرف رئيس
الجمهورية؟! قلت بجد:
-من أين له أن يعرف؟ الشوارع والمكاتب خالية من صور وتماثيل الرئيس ،والصحف
ل تضيع صفحاتها الولي في استعراض صورته يوميًا ،والتلفزيونات ل تخنق أنفاس
الفضاء باستقبالته وتوديعاته ..إنه مجرد موظف .صحيح أن وظيفته كبيرة ومتعبة ،لكنها
تبقي وظيفة كغيرها من الوظائف ،فلماذا يتميز عن بقية الموظفين بجعل صورته قرينة
للشمس والقمر؟
إذا كان لبد من ظهور الرئيس فإن أعماله هي التي تملك حق الظهور ،وإذا كان لبد
أن يتحدث فإن نتائج أعماله هي التي يجب أن تتحدث.
استغرق صديقي في الضحك ،ثم أقفل الموضوع قائ ً
ل:
-اسمع ..لقد قلتها أنت ،وها أنا أقولها لك :بالمشمش!
قلت علي الفور:
-عسانا علي خير إذن ،فلعلك ل تدري أنه كانت لدينا بالفعل مواسم حقيقية
للمشمش؟ إنني حين أحلم لست أبالغ في طلب المستحيلت ،بل أوسع المل في
اجتلب تلك المواسم.
هاك مثل ً هو ليس إل حبة في مسبحة أمثال :ذات زمان استعماري بغيض ،كان لدينا
رئيس جعلته منشورات الثوريين أخا ً بالرضاعة للشيطان ،لكنه مع ذلك كان ينطوي
علي كثير من شمائل رئيس الجمهورية الذي ذكرُته في رجل السلطة .
كان ذلك الرجل ضابطا ً كبيرا ً مشاركا ً في الثورة العربية ضد العثمانيين .وعند تأسيس
الدولة الحديثة ،شارك في هندسة بنائها بحرفنة بالغة ،وأثبت أنه رجل دولة من الطراز
الول.
أما علي الصعيد الجتماعي فقد كان من صفوة أبناء الصول الرفيعة ،وموقعه علي
سلم الطبقات كان يقف به علي رتبة الباشا .
وعلي الرغم من خطورةمنصبه ،وكثرة أعدائه من اليساريين والقوميين في الداخل
والخارج ،فقد كان بيت ذلك الرجل ملصقا ً لبيوت الناس العاديين .وكان ل يطيب له أن
يأكل لقمته إل مما تخبزه نساء الجيران ،دون أن يقف في بلعومه متذوق فدائي يأكل
نصف الرغيف قبله ،خوفا ً من أن يكون السم معجونا ً به لقتل الباشا.
والطرف من هذا هو أن ذلك الرئيس الخطير كان ينزل من بيته في الصباح ،مرتديا ً
الروب فوق بيجامته ،حامل ً زنبيل ً مثل كل الناس البسطاء ،ليتجول في السوق ويبتاع
احتياجات بيته اليومية ،ول تكاد تميزه أبدا ً عن غيره من المتسوقين ،فليس من أمامه
مدرعة ،ول من خلفه قطيع حماية.
121
رجل علي سجيته ،يتزاحم بالمناكب مع الناس ويفاصل الباعة علي أسعار البضائع بل
حرج ،ثم يعود إلي بيته ويرتدي ملبس الوظيفة ،ويذهب إلي عمله ،ليدير شؤون بلد
بكامله ببراعة منقطعة النظير.
حسنًا ..لقد أسقطت الثورة المباركة عهد ذلك الرجل ،لتفتح الباب واسعا لعهود رهيبة
ً
من حكم أولد الشوارع والشطار والعيارين.
لكنه عندما أحاط به العامة الذين تخصصوا في التمثيل بجثث الموتي بعد استلمها من
أيدي الجنود .أخرج مسدسه وأطلق النار علي نفسه بكل شجاعة ،فمات بكرامة مثلما
عاش بكرامة ،وهو المر الذي لم تسمح أصول صدام الرجيم ول تربيته بأن يفعله ،فقد
ُقبض عليه في بالوعة ،ورشاشته معه مذخورة لوقت الشدة !
سألني صاحبي وهو بين مصدق ومكذب:
-عمن تتحدث؟!
أجبته بنبرة هادئة وقاطعة ومفعمة بالوجع:
-أتحدث عن صنيعة الستعمار وربيب المبريالية العميل الخائن نوري السعيد رئيس
وزراء العراق المزمن في العهد الملكي ،رحمة الله عليه ..وعلينا.
122
تحيا مصر
بعد وفاة محمد علي باشا ،مؤسس الدولة المصرية الحديثة ،توالت علي الحكم من
بعده سلسلة من ذرّيته.
ً ً
ن النظام كان ملكي ّا وراثيا ،فقد تسّني للمصريين -وياللعجب -أن وعلي الرغم من أ ّ
يشهدوا خلل أعوام حكم السرة فواصل ترفيهية كثيرة تمّثلت في التغييرات السريعة
وة العزل وة الموت وحدها ،ولكن بق ّ كام .ولم يكن بق ّ أو متوسطة السرعة لوجوه الح ّ
كام سابقين أحياء ،وهو ما ما أتاح للجيال الغاربة المحظوظة أن تتمّتع برؤية ح ّ أيضًا ،م ّ
لم تحظ الجيال اللحقة برؤيته حّتي في الحلم.
كام الملكّيين والجمهوريين في مصر، جل الح ّ لقد دفعني الفضول الي استطلع س ّ
دة المتوارثة العميلة شاسع بين وقائع النظمة الغريبة المستب ّ فهالني الفارق ال ّ
شرة بالغد الفضل ،وهو للستعمار ،وبين مزاعم النظمة الثورية الوطنية المستقّلة المب ّ
فارق لم يكن علي الطلق في صالح الوطنية والستقلل:
مد علي :حكم تسعة أشهر فقط) ..مارس -1848نوفمبر .(1848 إبراهيم باشا بن مح ّ
ً
عّباس حلمي الّول :حكم ست سنوات تقريبا) ..نوفمبر -1848يوليو .(1854
مد سعيد باشا :حكم ثماني سنوات وسبعة أشهر) ..يوليو -1854يناير .(1863 مح ّ
ً
الخديوي إسماعيل :حكم خمسة عشر عاما وستة أشهر) ..يناير -1863يونيو .(1879
مد توفيق :حكم أحد عشر عاما ً وستة أشهر )يونيو - 1879يناير .(1892 الخديوي مح ّ
الخديوي عّباس حلمي الثاني :حكم إحدي وعشرين سنة وتسعة أشهر) ..يناير -1892
سبتمبر .(1914
السلطان حسين كامل :حكم سنتين وعشرة أشهر) ..ديسمبر - 1914اكتوبر .(1917
الملك فؤاد الّول :حكم ثمانية عشر عاما ً وستة أشهر) ..أكتوبر - 1917أبريل .(1936
الملك فاروق :حكم ستة عشر عاما ً وثلثة أشهر) ..أبريل -1936يوليو .(1952
الملك أحمد فؤاد الثاني :حكم أحد عشر شهرا ً فقط) ..يوليو -1952يونيو .(1953
أما الحكام الجمهوريون فقد كان سجلهم كالتالي:
محمد نجيب :حكم خسة عشر شهرًا ،ويمكن اعتبار فترة حكمه القصيرة التي ل تليق
بعسكري ثوري ،مجرد غلطة مطبعية خارجة عن إرادته وداخله في إرادة قيادة الثورة
التي صححتها بأخذ مكانه في المقعد البدي حتي الموت من أجل غد مشرق وضاء
)في تلك اللحظات الحاسمة من تاريخ أمتنا المجيدة ..التي نسأل الله أن يعافيها من
أمجادها ،وأن يعافي التاريخ من وجودها كزائدة دودية في خاصرته(.
جمال عبدالناصر :حكم ستة عشر عامًا.(1970-1954) ..
أنور السادات :حكم أحد عشر عامًا.(1981-1970) ..
حسني مبارك :حكم ،حتي الن ،أربعة وعشرين عاما ً )أي أكثر من أي حاكم ملكي أو
جمهوري سبقه( ول يزال يحكم ،وسيظل يحكم إلي ما شاء الباريء ،وإني لدعو الله
مخلصا ً أن يمنحه عمر نوح ،وأن يرزقه كثيرا ً من الحفاد الصحاء ،لكي يواصلوا ،بعده
وبعد بنيه ،حمل شعلة القيادة الحكيمة التي لم ُيخلق مثلها في البلد ،حتي يصلوا بها
إلي أبواب يوم القيامة ،تحقيقا ً للفتة المستفّزة التي رفعها صاحب مخزن في القاهرة،
والتي تقول) :نعم لمبارك ولبن ابن مبارك(!
م ل؟ ول ِ َ
من في البلد أحسن من هذا الولد؟! َ
أحزاب المعارضة؟
أهي أحزاب )الياميش( و)الفرقع لوز( التي طلعت علينا فجأة من باطن الرض مثل
الفطر ،مرتدية الستر الخاكية فوق الجلبيب المخططة كفرق حسب الله ،لتشارك في
زفة الحزب الحاكم؟!
أم هي تلك الحزاب الرضية التي يمكن عد أفرادها علي طريقة جحا في عد ّ غنمه،
والتي ل تتعدي عدتها :صحيفة تصدر في المناسبات السعيدة ،ومقهي يفتح في
المناسبات التعيسة؟
123
أم هي تلك الحزاب السماوية التي ل علقة لها بالدنيا ،وكل علقتها بالرض مستمدة
من استنباطها حكمة الحياة من رميم الموتي الغابرين؟
إن تلك الحزاب كلها ،وعلي تنوع جعجعاتها ،هي صور مزورة عن صورة السلطة:
قادتها مومياءات نسي الثريون اكتشافها ،وأهدافها المغّلفة بطبقة رقيقة من السكر،
هي في النهاية استبدادية خالصة تحاول نقل الحكم البدي من اليمين إلي اليسار أو
إلي الوراء أو إلي أسفل سافلين.
أما الشعب المهمش برغم كونه جوهر المسألة ،فيبدو أنه قد استدار بعيدا ً جدا ً عن
ضجة هذه الكرنفالت الخاوية.
لقد تعود هذا الشعب ،دائمًا ،علي الخروج من المر إلي المر منه ،ولذلك فإنه لم يعد
فق من جديد بين دواليب المرارات. في طاقته ول في رغبته أن يراوح أو يص ّ
ل توجد أدلة!
124
قال الطبيب الشرعي :لم نتوصل حتي الن إلي دليل واحد علي أن ابنك مات نتيجة
التعذيب .تساءل والد الضحية :كيف مات إذن؟
قال الطبيب :هذا ما يحيرني ..المشكلة ،يا سيد ،هي أن من المستحيل علينا أن نعثر
علي أي دليل بغياب الجثة.
تساءل الوالد مذهو ً
ل :لكن الجثة عندكم!
قال الطبيب بلهجة قاطعة :كل يا سيد ..ليس لدينا سوي الرأس.
صرخ الوالد :أليس هذا دليل ً مؤكدا ً علي أنه مات تحت التعذيب؟!
من يدرينا؟ ربما كانت الجثة سليمة ..لو وجدنا جثته لمكننا بفحصها أن قال الطبيبَ :
نعرف ما إذا كان قد مات تحت التعذيب أم ل.
صاح الوالد :افحصوا الرأس.
قال الطبيب ببرود علمي خالص :فحصناه يا سيد ،لكننا لم نتوصل إلي أية نتيجة .من
الصعب جدا ً أن يظهر فيه أي دليل ..إنه مهشم تمامًا.
مات القصاب عبدالباري بن مزبان صبيحة يوم الجمعة الموافق ...الحق أن كل إنسان
وكل شيء في منطقتنا موافق حتي اليام.
مات القصاب عبدالباري بن مزبان عن عمر يناهز الخامسة والربعين ،قضاه في البر
والتقوي ،كما يزعم العلن المنشور في الجريدة التي أطلعنا عليها المعلم أيوب.
125
مات القصاب عبدالباري بن مزبان ول أحد يدري من دفع ثمن إعلن وفاته ،ول أحد
يعلم لماذا أعلنوا عن وفاته .إن بقاء المرء حيا ً في بلدنا هو وحده الشيء العجيب
الموجب لتنبيه الغافلين.
مات القصاب عبدالباري بن مزبان وترك موته حسرة عظيمة في قلوب عدد كبير من
عارفيه ومحبيه ،ذلك أن منطقتنا تكاد تكون الولي بين المناطق في قدرتها علي
استيعاب الكلب السائبة.
مات القصاب عبدالباري بن مزبان لكي ل يكون له أي دور فاعل في هذه الحكاية ،فها
هو يظهر فيها ساعة موته ..كأي مشروع حكومي ،وها نحن نحتفل بسيرته بعد وفاته..
كأي رجل عظيم .وللمناسبة فإننا ل نجانب الواقع كثيرًا ،فإن لم يكن عبدالباري من
الرجال العظام حقًا ،فإن كلب المنطقة تشهد له بأنه كان من رجال العظام بل منازع.
مات عبدالباري بن مزبان وإشارة شك كبيرة تدور حول حقيقة انتمائه إلي منطقتنا،
فمجرد نظرة عابرة إلي اسمه تؤكد أن جده لم يستشر الشيخ عبد في شأن تسمية
أبيه ،مثلما تؤكد أن ذلك الجد الذي ل نعرف اسمه لم يكن ذا موهبة في اختيار
السماء ،و لول ذلك لتغير شيء ما في التاريخ ..شيء ليس مهما ً كثيرًا ،لكنه كان كفيل ً
ل ،علي النحو التالي: بأن يساعدنا علي قراءة العبارة ،مث ً
مات القصاب عبدالباري بن لؤي !
وتبقي المسألة ،علي أية حالة ،مسألة تجميل ل أكثر ،فعبدالباري مات ،ومزبان لن
يستفيد من ذلك التغيير التاريخي قطعًا ،لنه مات قبل عبدالباري بزمن بعيد .أما الشيخ
عبد الذي ينبغي أن يموت ذات يوم ،فقد عوض وقفته المفترضة عند ميلد مزبان،
بوقفته المؤكدة الن لتأبين عبدالباري.
أول مظهر للصنعة اقتضي أن يقف الشيخ عبد صامتا ً محتقن الوجه ،قبل أن يغافل
الحاضرين فينسف اسماعهم بصرخة جزع حادة:
-ل ااااا .
واشرأبت العناق إليه ،فواصل صراخه كالمجنون:
-عبدالباري مات؟ ل ااااا ،عبدالباري ما مات .
والتمعت الدموع في حدقتيه الفاغرتين:
-هيهات .مستحيل .ل يمكن .ل أصدق .من قال إنه مات؟ هاه؟ من قال؟ كل ثم كل..
عبدالباري ما مات .
لم يكن ما يقوله الشيخ صحيحا ً أبدًا ،لكن كان علي الحاضرين أن يهزوا رؤوسهم
مؤمنين علي قوله ،تأميما ً للكذب المقدس المفترض احترامه في مثل هذه المناسبة
الجليلة .غير أن أحدا ً ل يستطيع التحكم في آلية العطار حميد ذي السنان الغاربة ،فبعد
الصمت العميق الذي أعقب الصرخة العميقة ،تطوع العطار بتصحيح المعلومة .قال
ببرود تام:
ً
-والله العظيم مات .الطبيب الشرعي أكد ذلك .وإذا لم يكن قد فطس فعل فلماذا
نحن هنا؟ إذا كنت في شك من المر فاسأل زوجته بدرية .
صرخ الشيخ بأعلي ما يستطيع:
-ل اااا ..مثل عبدالباري ل يموت .
قال العطار محتدًا:
ً ً
-بل يموت ويشبع موتا .يموت ورجله علي رقبته ..لماذا ل يموت؟ يموت غصبا عن
الذين خلفوه .هل هو أحسن من النبياء؟! .
صرخ الشيخ:
-مستحيل .ل يمكن .
قال العطار بتسليم اليائس:
ل وحدك مهمة إرجاعه الليلة إلي مخدع -حسنا ً يا شيخ عبد ،كما تحب .لكن تو ّ
الزوجية .إن بدرية لن تغفر له ول لك .
ً
جذبه الحاج عبدالعزيز ،وطلب منه أن يسكت ،موضحا له بالشارة أن هذه ليست
ساعة الحقائق.
عندئذ استرسل الشيخ عبد في رثائه:
-يقولون إنك مت يا حبيبنا ..وهل يموت مثلك؟ أنت الورع التقي الطيب الصادق
الشريف المحسن ،كيف تموت؟! .
ردد الحاضرون ببكائية مفرطة:
126
-إي والله ..إي والله .
قال الشيخ:
-هب أنك كنت تسكر وتعربد ..وماذا في ذلك؟ الله غفور رحيم .وهل كنت تسكر إل
بسبب العذاب النفسي الذي كنت تعانيه وأنت تري ابتعاد الناس عن دينهم؟ آه وألف
آه ..كم كنت تأسي لذنبك ،ول تنجو من سوء الظنون بك حتي وأنت تقوم بالحسان.
أتذكر عندما أوقفك الشرطي ماهود قبل سنتين ،وأنت خارج من بيت العاهرات؟ ماذا
كنت تعمل هناك يا عبدالباري؟ آه من وساوس الشيطان ومن لؤم النسان ..ماذا كان
يعتقد الشرطي؟ لكن مصير الحق أن يظهر ،وإن الباطل كان زهوقًا .لقداقتنع ماهود
بأنك كنت توزع الصدقات هناك فأطلقك واعتذر منك .هل شملته هو أيضا ً بصدقاتك يا
عبدالباري؟! أل رحمة الله عليك ،كم كنت عطوفا ً وكريمًا!
ماذا أقول فيك؟ ماذا أقول عنك؟ قالوا ،وبئس ما قالوا ،إنك كنت تذبح ،في بعض
اليام ،كلبًا .أشهد .إي والله أشهد ..لكن آه من لؤم البشر ،لماذا لم يصدقوك عندما
أعلنت أنك تذبحها لطعام الكلب المسكينة الضالة التي ليس لها معيل؟ مازال صدي
حكمتك يرن في أذني ..كأني أسمع صوتك الن .هل تذكر؟ هل تذكر؟
اندفع العطار من جديد:
-يذكر ماذا؟ قلنا لك إنه ميت يا شيخ .
صاح الجميع:
-هش .
وواصل الشيخ:
-هل تذكر يوم قلت :الكلب للكلب والخراف للخراف؟ أنت وربك يا عبدالباري .إذا
أراد الله أن يرحمك فماذا يطلع في أيدينا؟ ربما كنت من الصادقين .نعم يا عزيزنا..
الكلب للكلب والخراف للزبائن .
صاح النجار سبتي .
-ل ..لقد قال إن الخراف للخراف .
قاطعه المعلم أيوب :
-كان ابن نكتة .
قلت:
-هذا افتراء .أبوه مزبان لم يكن نكتة ..مزبان القبيح الكئيب كان نكبة .
قال المعلم أيوب :
-لم أقصد هذا .
قلت:
-أدري ..لكنني أنكت ..
ل الشيخ عبد متوعدًا: َولو َ
-أتنكتون في هذا الموقف العصيب؟ أتنكتون وجثة الميت لم تبرد بعد؟! .
قاطعه العطار متهل ً
ل:
ً
-نشكر الله علي أنك صدقت أخيرا أنه قد مات .لكن من قال إن جثته لم تبرد؟
ي هاتين وهم يضعونه في ثلجة صدقني ..إنها الن قالب ثلج .أنا شاهدتهم بعين ّ
المستشفي .
هز الشيخ يده واستطرد:
-رحمة الله عليك ،كم ظلمناك .لقد اتهمناك بسرقة لحاف أم جوني ،ولم يخطر في
بال أحد منا أنك كنت تنوي تجديده لدي النداف ..آه من لؤم البشر .لك الجنة يا عبد
الباري ،ولم جوني العوض في لحافها ،ول أقول فيك إل كما قال الشاعر:
مكر مفر مقبل مدبر معا ً
كجلمود صخر حطه السيل من عل .
همس المعلم أيوب في أذني ونحن خارجان من مجلس التأبين:
-لقد كانت تلك أروع خطبة تأنيب سمعتها في حياتي !
127
استطلعات
نستورد كل شيء من الغرب ،وعلي رغم ارتفاع الكلفة وطول الستعمال ،فإننا ل
نحسن ،إطلقًا ،تنمية أو تطوير أو إصلح ما نستورده ،لكننا نستطيع تخريبه بكل
جدارة ..وهل في الدنياة أمة أقدر منا علي التخريب أو علي الحتفاء بالخراب؟
من ذلك ظاهرة استطلعات الرأي في وسائل العلم العربية.
إن استطلع الرأي و حده يعد أمرا ً غريبا ً في عالم لم يتعود أهله علي أن ُيسألوا عن ر
أيهم ،ولم يملكوا منذ ألف وخمسمائة عام فرصة التفكير وإنتاج الراء ،لكن الغرب من
من يجرون الستطلعات -في هذه الحفلة التنكرية -هم في الغلب أغبياء هذا هو أن َ
128
بالفطرة الطبيعية ،أو متغابون بالفطرة الحكومية .،المر الذي ينتج عنه ما يحرق قلب
الضحك من الحزن ،ويجري دموع الحزن من شدة الضحك.
المسألة في هذا الشأن -و في كل شأن -أننا بتقليدنا العمي أو المتعامي ،نبدو كطفل
يلبس حذاء أبيه ،فهو في الظاهر يبدو مرتديا ً الحذاء ،لكن منظره المثير للضحك يقول
لمنهما يعطل فاعلية الخر. إن الحذاء هو الذي يرتديه .وأيا ً كان اللبس ،فإن ك ً
مرة قرأت استطلعا ً في جريدة سلطوية ،لمناسبة البدء بمفاوضات سلم بين السلطة
والمعارضة المتهمة باستنادها إلي دعم غربي .وكان الستطلع علي النحو التالي:
بمناسبة بدء الحوار بين الحكومة والجبهة الفلنية العميلة ،هل تري أن الجبهة :مستندة
إلي ضغوط غربية مشبوهة ،أم مدفوعة بتكتيك خياني؟
إن الجريدة ،بعد أن عبأت القاريء سلفا ً بالعداوة للمعارضة ،وأبدت رأيها العدواني قبل
أن تسأله ،وضعته أمام إجابتين هما في الواقع إجابة واحدة ،وهي إجابة ستنزل
بالمعارضة إلي الحضيض ،حتي لو كان المشاركون في الستطلع قارئا ً واحدا ً فقط!
وفي صحيفة أخري كان الستطلع ثقافيا ً أنصح القاريء الحصيف أن يغطي دماغه في
هذه المناسبة لكي ل يخجل إذا تذكر أننا أمة أميةحتي النخاع ،وهو استطلع يسأل
القراء عن أعظم كاتب عربي ،لكنه لم يضع لهم للختيار سوي اسمي كاتبين اثنين
فقط فلن ..أم علن؟ ..وهناك خانة يتيمة مرمية بعيدا ً مثل برميل قمامة ،تقول لهم:
أم ل أحد منهما؟ .
وقد جاءت النتيجة بالطبع :ل أحد منهما.
والسؤال المهم هنا :من العظم إذن؟!
إن صيغة الستطلع غبية أو متغابية ،وهي ل ُتحمد في الحالتين ،ووجودها مثل عدمها
تمامًا ،إذ لم تستفد الصحيفة ولم يستفد القاريء ولم تستفد الثقافة ..فعلم كان
الستطلع؟!
وحتي لو أن الصحيفة تركت المر مشاعا ً ليختار كل قاريء الكاتب الذي يراه عظيمًا،
فإن استطلعا ً كهذا أبعد ما يكون عن الثقافة وأقرب ما يكون إلي لعبة اللوتو .إذ ماذا
تستفيد الثقافة إذا اختار سبعة من اثني عشر قارئًا ،كاتبا ً ما واعتبروه العظم؟
وفي الصحيفة نفسها ظهر استطلع جديد فرضته سطوة الرهاب ،وهو برغم ما يوحيه
موضوعه من رعب ،صالح لن ُيؤتي من بلد بعيدة لُيضحك ربات الحداد البواكيا كما
قال المتنبي.
يقول الستطلع :هل تعتبر الرهاب عمل ً سيئا ً إذا :وقع عليك ..أم إذا وقع علي غيرك؟
إن هذا هو أغبي استطلع رأيته في حياتي ،ولو لم أكن موقنا ً بأن الصحيفة ضد
الرهابيين لقر في يقيني أن الذهنية المنتجة له هي ذهنية إرهابي خالص.
مثل هذا المر ،وبصيغته النفة ،ل ُيسأل عنه عامة الناس ،لن الغالبية العظمي منهم
ل ،سواء أوقع هي علي فطرتها السوية ،وهم بأغلبيتهم يرفضون الرهاب جملة وتفصي ً
عليهم أم و قع علي غيرهم ،وأن اختيارهم لحد الجوابين ل يتيح لهم أبدا ً أن يكونوا
بشرا ً أسوياء ،فهم إما أن يكونوا أدنياء أنانيين ،وإما أن يكونوا متوحشين كارهين
لحياتهم.
ولو أن الصحيفة طلبت رأيي ،لنصحتها بتوجيه ذلك السؤال إلي مكائن فتاوي الرهاب
وحدهم ..لن واقع الحال قد أرانا من قبيح أفعالهم ما ينم عن بهجتهم للختيار بين
السيئين.
ومن نماذج هؤلء واحد دعاه انفجار بعض أصابع اللعاب النارية في بلده إلي تركيب
ل ،من أجل تصعيد استنكاره للسماء السابعة ،لكن مكبر صوت لحنجرته المكبرة أص ً
سقوط عشرات اللف من المدنيين العراقيين البرياء ضحايا للتفجيرات الحقيقية التي
يقوم بها مجرمون حقيقيون ،لم يحرك شعرة واحدة من هدبه!
وواحد آخر جرف مئات الشبان الغرار في غفلة من ذويهم ،لكي يقتلوا البرياء في
العراق ويقتلوا أنفسهم ،لكنه ما أن سمع أن ولده سيذهب في ركابهم -وكان الولد
يمزح -حتي رمي دفتر فتاواه ،وركض نحو رجال أمن بلده لهثًا ،متوسل ً إليهم أن
يعتقلوا الولد العاق الذي يريد أن يثكله بارتكاب الجهاد في سبيل الله .
مثل هذا الستطلع يجب أن يوجه إلي أمثال هؤلء وحدهم فقط ..فالسؤال الوحشي
المتلفح بثوب الستطلع ل يليق إل بالوحوش المتسترة بثوب الدين.
ولعل الستطلع المثل الذي يليق بالقاريء السوي ،والذي ينسجم مع نمط
الستطلعات العربية ،هو التالي:
129
هل تري أن العلم العربي الدميم اللئيم المستعير من الببغاء تقليده للصوات ،ومن
القرد تقليده للحركات :كذاب ..أم مزيف للحقائق ..أم كلهما؟!
قربة؟!
أين هي ال ِ
المؤتمر القطري العاثر للحزب القائد بل توقف نحو الهاوية ،أعلن عن توقفه
الضطراري عند محطة التغيير ،بعد رحلة استغرقت أكثر من أربعين عاما ً علي طريق
الصمود والتصدي .
وفي هذه المناسبة التاريخية ،بشرنا بأنه قد أعطي الركاب كامل الحرية في أن
يتزودوا من المكاسب التي طال انتظارهم للحصول عليها ،وعلي رأسها :دخول قفص
الزوجية ،ودخول ساحة المدرسة ،ودخول صالون الحلقة ..دون حاجة إلي الخروج من
الدنيا إذا لم يستأذنوا المخابرات قبل ذلك!
كل من تابع الخبار وغص بها يعلم أنني ل أسخر ،بل أنقل القرارات الجادة التي تمخط
عنها المؤتمر ،كما هي .وهو أمر يعني أن الحزب القائد قد تغير فع ً
ل ،فها هو ،لول مرة
في تاريخه المجيد ،يسخر من نفسه علنا ً نيابة عن جميع الساخرين!
130
ومثلما مارس ،قبل التغيير ،نظرية خميس كمش خشم حبش فأغلق صحيفة
الدومري ،ها هو الن ،وبكل شجاعة ،يمارس بالعكس منها نظرية حبش كمش خشم
خميس فيغلق صحيفة المبكي !
وربما يتبادر إلي ظن ذوي النيات الحسنة أن الحزب القائد ل يحب أن يبكي الناس في
محطة التغيير الزاهرة ،وأنه قد عزم جديا ً علي السماح للركاب بأن يتزودوا حتي من
الضحك دون إذن المخابرات ..لكن هذا ظن كله إثم ،فقد علمنا أن أخاه شهاب الدين
القائد البدي في الناحية الخري ،قد أغلق من قبل صحيفة أضحك للدنيا ،مما يعني أن
الضحك في جميع أدبيات الصلحات الداخلية الشفافة هو عيب وقلة أدب ..لسبب أو
لغير سبب.
وعليه فلماذا ينزعج الحزب ممن يساعده علي إبكاء الناس تطوعا ً لوجه الله و علي
حسابه الخاص؟
الجواب علي ذلك ،كما أعتقد ،متضمن في السؤال نفسه ..وهو أن المبكي قاتله الله،
قد انتحل ،مع سبق الصرار صفة هي من صلب اختصاص الحزب القائد وحده ل شريك
له!
ل :ك ُ ّ
ف عما أنت فيه .إنها أمة موات،و أنت يا كل هذا وصاحبي الطيب يعاتبني قائ ً
صاحبي تنفخ في قربة مثقوبة.
لقد ذابت منذ زمان بعيد ..وأنا ،الن ،إنما أنفخ في ثقبها الذي لم يبق منها سواه!
أحمد مطر.....عندما اسُتخرج صدام من الكنيف الذي كان يختبئ فيه ،جري وصف
حفرته في التقارير العلمية بأنها )حفرة العنكبوت( .وعلي الرغم مما يحمله هذا
الوصف من تحقير للقائد الضرورة ،فإن بعض مؤرخي الحروب قد احتجوا علي تحقير
ن تعبير )حفرة العنكبوت( قد برز خلل حرب الحفرة بإقرانها بذلك الجبان ،وقالوا إ ّ
فيتنام ،وقد كانت الحفرة عبارة عن كمين ضيق يختبئ فيه مقاتل فيتنامي شجاع،
ليباغت الجنود المريكيين فيطلق النار عليهم ثم يلقي مصرعه .أي أن الحفرة جزء من
ميدان معركة يقيم فيها جندي انتحاري لمواجهة جنود معتدين .وذلك منتهي الشرف
للمقاتل وللحفرة ،وهو ما لم يكن متحققا ً إطلقا ً في حالة )سيف العرب(!.
وفي أعقاب تلك الحتجاجات ،تصاعدت أصوات علماء الحشرات دفاعا ً عن كرامة
العنكبوت ،فقالوا إن أهم ما تمتاز به حفرة العنكبوت هو انها بالغة النظافة ،وهو ما لم
ل ،وهي أكثر قذارة لوجوده فيها!يكن متحققا في حفرة صدام ،فهي قذرة أص ً
131
نحن الن في مأزق جديد -وهذه ال نحن عائدة إلي العربان المترعين بالمقاومة
الشريفة علي طريقة الفاضلتين حسنة ملص وزهرة الطويلة! )مع استبعاد المحامية
بشري وجوقتها المشغولين بالنضال علي جبهة تنظيف سجل القائد السود ،وهي
مقاومة من نوع يصعب علي الكلمات وصفه!( -فها هي وكالة النباء الفرنسية تطرح
تقريرا ً من اليابان يبدي فيه الحياء اليابانيون من انتحاريي الحرب العالمية الثانية
)الكاميكاز( احتجاجهم الشديد وشعورهم بالهانة وغضبهم العارم ،لتلويث مبادئهم
القتالية بتشبيههم بالنتحاريين السفلة الذين يستهدفون المدنيين البرياء في العراق
خصوصا ً وفي غيره من القطار عمومًا ،بدعوي كونهم مقاومة ضد قوات الحتلل!
الكاميكاز )هيروشي شينجو( ،البالغ من العمر ثلثة وثمانين عامًا ،والذي انتهت الحرب
ل :انني أشعر بالهانةقبل أن ينفذ مهمته النتحارية ،يعبر عن غضبه في هذا الصدد قائ ً
عندما توصف مهماتنا وكأنها شيء يشبه العتداءات النتحارية التي تنفذ باسم السلم..
إن ما قمنا به كان في غمار الحرب ،وكنا مقاتلين في مواجهة مقاتلين ،أما ما يقوم به
هؤلء المتشددون فهو هجمات عمياء ترمي إلي قتل البرياء! .
أما نظيره )شيغي يوشي( البالغ من العمر واحدا ً وثمانين عاما ً فيقول ل يحق لحد أن
يقتل البرياء ،وخصوصا ً الطفال ..والفرق هائل بين ما كنا نفعله وما يفعله الرهابيون
في هذه اليام ،ذلك أن مهماتنا قد انتهت مع انتهاء الحرب ،لكن الرهاب ل نهاية له .
مشكلة اليابانيين انهم ل يعرفون لغتنا ،ولم يدرسوا في عشرات اللف من المدارس
)الدينية( في باكستان ،ولم يتمولوا من الفكر المظلم كأقرانهم هؤلء مصحوبا ً
بمليارات الدولرات المنزوعة من جلود الفقراء المضطهدين في )سفينة الصحراء
البرمائية( .ولو كانوا كذلك لستطاعوا ببساطة أن يعرفوا طريقتنا العجيبة في تشطير
معاني المفردات وتحويلها -بعمامة ولحية ساحر -إلي تشكيلة واسعة من اللوان
السوداء .إذ يصبح الشرف قرينا ًَ للجبن والجريمة ،و المن دائرة لفنون التعذيب ،و
التنمية تأميما ً للجوع ،و الصلح تأبيدا ً للحاكم ،وحيث تصبح الديمقراطية بلفظها الصلي
- Democracyحسب تفسير عميد الحكماء -ديمومة الجلوس علي الكراسي ..وهلم
جرا وزحفا ً وانبطاحًا.
قرأت قبل عامين خبرا ً عن رجل ياباني يعمل دفانا ً للموتي ،كان قد التقط مضربا ً
للغولف وانهال به ضربا ً علي رأس عمته حتي ماتت ..وعند القبض عليه أفاد بأنه قد
فعل ذلك لنه كان بحاجة إلي عمل!
دفان ،لنه ياباني من سللة )الساموراي( الذين يعتبر الشرف عندهم مسكين هذا ال ّ
كعود الكبريت ل كولعة كارتيير مثلما هو عندنا ،وإل لحظي بدعاء مكائن الفتاوي في
طول و عرض البلد العربية ،وبتصفيق فضائيات رّيا وسكينة ،وبتطبيل مرتادي أحزاب
العصر الحجري ،لن ما فعله -بقياسات كل هؤلء -ل يمكن أن يوصف إل بكونه
)مقاومة شريفة(!
132
الّرجل الموسوعة!
بعد تخّرجه في الجامعة ،عمل المريكي )أي.جي.جيكوب( محّررا ً في مجّلة فنّية تعني
ل شاردة بشؤون السينما والتليفزيون والموسيقي .وعلي مّر السنوات اكت ّ
ظ ذهنه بك ّ
وواردة من أخبار الفنانين والفّنانات ،إلي حد ّ دعاه إلي التوّقف ومساءلة نفسه ع ّ
ما آل
قش. قف وذكي إلي مجّرد كيس ممتليء بال َ إليه من طالب مث ّ
وإذ تنّبه ،وهو في منتصف الثلثينات ،إلي أّنه بات يعرف عن )هومر سيمبسون( بطل
ما يعرف عن )هومر( الشاعر الغريقي المعروف،
المسلسل الكارتوني الشهير أكثر م ّ
أدرك أّنه ماض إلي وهدة الجهل المطلق.
وعند هذه النقطة قّرر بحسم أن يشرع بعملية تنظيف لدماغه من تفاهات عمله ،وأن
يعيد تأثيثه بأكبر قدر من الحقائق والمعلومات في هذا العالم.
ماذا فعل؟
دة،
ل ،أن يختمها في غضون عام واحد ..أي أّنه ،في هذه الم ّ وبعناد عجيب أمكنه ،فع ً
م ثلثة وثلثين ألف صفحة ،وخمسة وستين قرأ بعناية وتركيز اثنين وثلثين مجّلدًا ،تض ّ
ألف ماّدة ،وأربعة وعشرين ألف لوحة ،وأربعة وأربعين مليون كلمة!
133
ص الذي يتألف من تسعةما كانت المم المّتحدة قد عّرفت )الكتاب( بكونه الن َ ّ ول ّ
ً ً
ن )جيكوب( وفقا لهذا التعريف قد قرأ 673كتابا في وأربعين صفحة علي القل ،فإ ّ
ذلك العام ،أي بواقع كتابين تقريبا ً في اليوم الواحد!
ل شيء( ذّيله بعنوان عن تجربته المدهشة هذه ،أّلف )جيكوب( كتابا ً بعنوان )العارف بك ّ
فرعي يقول) :مطلب متواضع لرجل يريد أن يكون أذكي شخص في العالم(.
من قدرا ً كبيرا ً من المعلومات وكما يوحي عنوان الكتاب الذي صدر هذا العام ،فقد تض ّ
دم لنا مؤلفه كاتبا ً
ّ وتق ً
ا، مبيع المدهشة التي ستجعله ،دون شك ،واحدا ً من أكثر الكتب
جديدا ً من نمط )بيل برايسون( صاحب الكتب الغرائبية المشهورة مثل )صنع في
صتهن روح الفكاهة والسخرية التي عرض بها ق ّ ل شيء تقريبًا( ..لك ّ
أمريكا( و)تاريخ ك ّ
وعّلق بها علي المعلومات التي أوردها في الكتاب ،تكشف -بعيدا عن المعارف
ً
المكتسبة -عن موهبة )جيكوب( الصيلة والعالية في ميدان الكتابة الساخرة.
ل شخص ،وبخاصة من ل شيء ومن ك ّ علي مّر صفحات الكتاب يسخر )جيكوب( من ك ّ
نفسه ،حيث ينبئنا بأّنه منذ بدئه بقراءة مادة الحرف الّول من )النسيكلوبيديا( ،صار
يغتنم أّية فرصة للمباهاة بمعلوماته ،وإذا لم يجد مثل هذه الفرصة فإّنه يخترعها .وهو
إذ يروي لنا قصص انتصاراته في بعض المناسبات ،ل يتوّرع عن ذكر انتكاساته وخيباته
وهزائمه المذّلة في مناسبات أخري.
ن )جيكوب( ليس نسيج وحده في الغرائبية ،فهناك أبوه وفي هذا السياق نعلم أ ّ
ّ ً ّ
المهندس المتقاعد الذي ألف سبعة وعشرين كتابا في مجال اختصاصه ،وهي كلها
دي ربع الصفحة ،فيما يلتهم الهامش ثلثة أرباعها ،المر الذي ن المتن فيها ل يتع ّتمتاز بأ ّ
يستغرب معه )جيكوب( من عدم دخول كتب أبيه موسوعة )غينيس( للرقام القياسية،
باعتبارها الكتب ذات الهوامش الطول في التاريخ! وهناك أيضا ً ابن أخته )دوغلس(
دي الحادية عشرة من عمره ،والذي يحتفظ في جيبه دائما ً بكتّيب لشوارد الذي ل يتع ّ
ححا ً له
ّ مص مناسبة، ية
ّ أ وفي شخص ّ يأ بلعوم في يقف بحيث اللغوية، القواعد
العبارات الخارجة عن القواعد ،ولم تنج من تصحيحاته حتي أستاذته في المدرسة!
وبين هذين القوسين )الب وابن الخت( كثيرا ً ما وقع )جيكوب( في حرج الهزيمة من
دنيا! غير احتساب ،برغم تدّرعه بك ّ
ل معلومات ال ّ
ففي إحدي الجلسات العائلية التي حضرها هذا )الولد النحو( حاول )جيكوب( أن يقوم
ن ) (ghفي كلمة ) (Lightفي
بضربة استباقية ،تلجم ابن أخته عن أيّ هجوم ،فقال إ ّ
النجليزية القديمة لم تكن صامتة ،بل كانت تنطق ،وما زال بعض أهالي اسكتلندا
ينطقونها ).(Licht
134
ن من الصعب جدا ً إن لم يكن من
جي له كلمة من خمسة وأربعين حرفًا ،مع أ ّ
وته ّ
المستحيل نطقها.
ثم شرحها قائل ً إّنها اسم المرض الذي يسّببه غبار ثاني أكسيد السليكون الناشيء عن
انفجار البراكين!
وفي أحد العياد ،التأم شمل العائلة في بيت أبوي )جيكوب( ،وكان من بين الحاضرين
أخته وزوجها )بيريل( الذي يطابق اسمه اسم أحد الحجار الكريمة.
دم )جيكوب( هدية لزوج أخته مرفقة ببطاقة كتب فيها) :إلي
وعند تبادل الهدايا ،ق ّ
عزيزي.Be3 Al2 (sio3)6) :
وعندما قرأها الّرجل تساءل :أهذه البطاقة لي؟! أجاب )جيكوب( مزهوًا :نعم..
والمكتوب فيها هو الّرمز الكيمياوي لحجر البيريل الكريم!
فيس وجدت في البرازيل ،وكان ن واحدة من أكبر قطع هذا المعدن الن ّ م واصل قائ ً
ل :إ ّ ث ّ
وزنها مئتي طن ..وعلي هذا فإَنك بالمقارنة معها ..مجّرد شيء ضئيل جد ًّا! ولم يكد
)جيكوب( يستكمل ارتشاف حلوة زهوه بمعلوماته ،حّتي عاجله أبوه قائ ً
ل:
دة
ن أباه قاطعه :نعم هذا صحيح .لكن هل تعرف كم سرعة الضوء بالقامة في م ّ
لك ّ
نصف شهر؟
وقبل أن يخرج )جيكوب( من ذهوله أخبره أبوه بأنه قد حسب هذه السرعة بالقامة في
دة ،وعلي هذا فإّنه يعتبر نفسه الشخص الوحيد في العالم الذي يعرف هذه
هذه الم ّ
المعلومة.
ددها له قائ ً
ل) :إّنها!1.98x1014) : مح ّ
ث ّ
لقد تقّبل )جيكوب( هذه النكبة صاغرًا ،متذّرعا ً بما تفرضه روح ال ّ
سماحة في العياد
دسة!المق ّ
ن الحقائق والمعلومات أضخم من أن تستوعبها أكبر ولعّله أراد بذلك أن يقول لنا بأ ّ
ل بحاجة إلي التعّلم دائماً.
ن المرء مهما تدّرع بالعلم ،يظ ّ دائرة للمعارف ،وأ ّ
ورّبما أمكننا استخلص هذه الحكمة من المعلومة التالية التي وردت في الكتاب:
135
سر ،خلل صنعه ،بفعل حرارة
ن ذلك الجرس لم تصدر عنه حتي رّنة واحدة ..فقد تك ّ
لك ّ
الّنار!
ن الّرشاقة وفصاحة
ن ذلك الجرس الضخم بقي مجّرد عملق كسيح وأخرس ،لك ّ إ ّ
)الّرنين( كانتا من نصيب الجراس الصغر.
منهج في النتحال!
في روايته الغريبة والممتعة )أوبابا كواك( يمارس الكاتب الباسكي المشاغب )برناردو
مستخدما ً ما يقطفه عضادا ٍ
ت أتشاغا( هواية اقتطاف القصص من حقول الخرينُ ،
ن تلك القصص المقتطفة هي نفسها منتحلة في الصل لحبكته ،معتذرا ً في أثناء ذلك بأ ّ
ن وجود المنتحلين المبدعين هو سبب ن الحكايات تتكاثر بالنتحال ،وأ ّ أيضًا ،حيث يري أ ّ
غزارة القصص علي مّر الزمان ..والعجب من هذا أّنه ل يتوّرع ،في هذا السبيل ،عن
سس فيه أحد شخوص الرواية )منهجا ً في النتحال( ..فل يعود تخصيص فصل كامل يؤ ّ
النتحال عند ذلك أمرا ً مشروعا ً فقط ،بل ينتصب كعلم له قواعده وأصوله!
صة:
تقول الق ّ
)كان يا ما كان ،في مدينة بغداد ،خادم يعمل في خدمة تاجر غني .وفي أحد الّيام
ن ذلك الصباح لمسوق لشراء لوازم البيت .ولك ّ
جه الخادم منذ الصباح الباكر إلي ال ّ
تو ّ
136
ن الموت
يكن مثل غيره من الصباحات الخري ،لّنه رأي في ذلك الصباح الموت ،ول ّ
أومأ إليه ،فقد رجع الخادم مذعورا ً إلي بيت التاجر وقال له:
-سّيدي ،أعطني أسرع حصان في البيت .أريد أن أبتعد عن بغداد هذه الّليلة .أريد
ال ّ
ذهاب إلي مدينة أصفهان البعيدة.
عدًا.
سوق وأومأ لي متو ّ
-لّني رأيت الموت في ال ّ
أشفق التاجر عليه وأعطاه الحصان ،فانطلق الخادم آمل ً في الوصول إلي أصفهان في
الليل.
وفي المساء خرج التاجر نفسه إلي السوق ،ورأي الموت هو أيضًا ،فقال له وهو يدنو
منه:
عدًا؟
-أّيها الموت ..لماذا أومأت إلي خادمي متو ّ
عد ،وإنما إيماءة استغراب ودهشة،عدًا؟ ل ،لم تكن إيماءة تو ّ -أتقول إّني أومأت متو ّ
ي أن أقبض روح خادمك هذه
ّ عل جب ّ يتو نه
ّ ل أصفهان، عن ً ابعيد فقد فوجئت برؤيته هنا،
الليلة في أصفهان(!
ن بطل رواية أتشاغا المؤمن بضرورة صة بجميع أزيائها وألسنتها ،غير أ ّ هكذا تنتهي الق ّ
صة ،فهو يراها قدّرية
ّ الق بقدرية الطلق علي مؤمن غير يبدو ً
ا، مبدع المنتحل أن يكون
ن مصير المرء ل ترحم ،بتصويرها الحياة مثل رمية )نرد( ،وكأنها تريد أن تقول بأ ّ
ن إرادته ل تفيد في شيء. محسوم منذ الولدة ،وأ ّ
صة من طرفها ثنية صغيرة ،فكان أن انتحلها بجدارة وجعلها لم يفعل سوي أن يثني الق ّ
خل إرادة
ّ تتد أن الممكن من أصبح ً
ا، ماحق القدر يكون صة أخري ،إذ بدل ً من أن
ق ّ
النسان في تغييره .وشّتان ما بين نهاية أبوابها مؤدية للستسلم لقبضة الموت ،ونهاية
أبوابها مفتوحة علي أشواق الحياة.
-ل تيأس ..إذا استطعت البقاء حي ّا ً حتي شروق الشمس فسوف تنجو .إذا كان الموت
صل إلي تحقيق هدفه ،فإّنه لن يستطيع ذلك
مم علي أخذك هذه الليلة ولم يتو ّ قد ص ّ
مطلقًا .هذا هو القانون.
وة.. م الموت آلف الّروائح ،وفي الحال اكتشف مخبأ الخادم ،ففتح باب الد ّ
كان بالق ّ َ
ش ّ
ن الدهشة ملت عينيه ،لّنه رأي أكثر من عشرة خدم يشبهون ذلك الذي يبحث عنه! ّ لك
كانت أولي خيوط الشمس قد بدأت تلمع ،ولم يبق أمام الموت وقت للستقصاء،
فقبض علي واحد من أولئك الخدم وخرج إلي الشارع.
137
ن مخبأ
ن الموت لم يحمل معه عند خروجه سوي )مرآة( ،وذلك ل ّ صباح نعلم أ ّ
وفي ال ّ
ّ
ن صورته كانت منطبعة عليها كلها. ً ّ
الخادم كان دكانا للمرايا ،وأ ّ
المسيسّبي!
ل علي ارتداء القميص ذي كان البرد قارسا ً في الخارج ،فحرصت قبل مغادرة المح ّ
م انطلقت إلي الشركة للمّرة الثانية.النفحة الّتاريخية فوق قميصي المّيت .ث ّ
قال لي المو ّ
ظف البدين:
دبة:
دة مؤ ّ
قلت له بح ّ
-أنت مخطيء يا سّيد .لم يسبق لي أن وطئت عتبة شركتكم الموقرة أبدًا .أل تري
شاربي وقميصي؟
قال باسمًا:
السابقة أيضا ً رأيت قميصك ولو جئت ألف مّرة لمكنني أن أري قميصك .الّناس ل
يأتون إلينا عراة.
كيف أمكنك أن تري ما في الغيب؟ انظر ،انظر ،إّنه .قاطعني قائل ً ببرود:
م سألني:
ي قبالته ،ث ّ
طلب مّني أن أجلس علي كرس ّ
جًا:
قيت صفعة عنيفة ،فلم أملك إل ّ أن أصرخ به محت ّ
شعرت كأنّني تل ّ
-ماذا تريدون أن تصنعوا بالمسيسّبي؟! ماذا يفيدكم إذا كان طوله مليون ميل أو أربعة
أشبار؟
سئلت هذا السؤال عندما كنت حليق الشارب ،وقلت ل أعرف ..فأيّ ضرر سيحيق لقد ُ
بشركتكم إذا لم أعرف؟ أنتم تبيعون أدوات كهربائية ل أكثر ،وأنا أطلب وظيفة فّراش
ن تقدير طوله
ل أكثر ..وحّتي لو كنتم تريدون مّني تحضير الشاي بماء المسيسّبي فإ ّ
لن يش ّ
كل أّية عقبة ..يمكنكم أن تسحبوا المياه من أّية نقطة فيه..
-رجاًء ،رجاًء ،رجاًء ..إنّني أّتبع قواعد الشركة .أجب عن السؤال أو اترك الفرصة
لغيرك .هل تعرف ما طول المسيسّبي؟
-ل أعرف.
139
قال بلطف:
-انتهت المقابلة.
في اللحظة ذاتها نزل من الطابق العلي شاب أنيق ،بدا لي أنّني رأيته من قبل .وفيما
كرته ..لقد كان أغبي تلميذ في دم نحونا ،أعملت ذهني بضراوة ،وسرعان ما تذ ّ
هو يتق ّ
فنا البتدائي.
ص ّ
وبسرعة ومضت في ذهني واقعة إجابته في امتحان الّتاريخ عن سؤال يتعّلق بجيوش
دد
ن الحلفاء الّراشدين أربعة ،وع ّ
الحلفاء ،إذ كان الوحيد من بيننا الذي انفرد بالقول إ ّ
أسماءهم بكل دقة! وجدتني أندفع نحوه مأخوذا ً بمفاجأة لقائه ،وابتسمت وأنا أبسط
ي إليه تهيئة لحتضانه.
ذراع ّ
-عدنان؟!
-نعم؟
وع المو ّ
ظف لستنقاذه من براثن إلحاحي: تط ّ
ف عن مضايقة الستاذ ..الستاذ ل يعرفك ،وقد أعطاك فرصة ثانية ولم تنجح .تو ّ
كل -كُ ّ
علي الّله.
الستاذ؟!
ظف ،وأحسست بالرض تميد من تحتي .لكنني اجتهدت ما صعقت لما قاله المو ّ
ض عليه انقضاضًا .جذبته من جانبي وسعتني ال ّ
طاقة أن أحتفظ بتوازني ،ووجدتني أنق ّ
سترته ورحت أهزه بعنف:
-أنا ماجد الشاوي يا أستاذ عدنان ..ماجد الذي لم ينجح بالفرصة .كيف ل تتذ ّ
كرني؟
ن آفته اللئيمة قد أكلتك تماما ً فلم تعد تذكر حّتي الحلفاء
قاتل الّله النسيان .يبدو أ ّ
الّراشدين!
140
ظف البدينل ناحية ،وجّروني بمساعدة المو ّ تداعي الموظفون والسعاة ،فجأة ،من ك ّ
دلفت فأري عدنان يع ّكالخرقة البالية خارج مبني الشركة .وكنت في تلك الثناء أتل ّ
سترته ،مرسل ً نحوي نظرة تحمل مزيجا ً من الغضب والحتقار والستغراب.
ابتعدت عن مبني الشركة بخطي حثيثة ،وأنا مفعم بالكرامة .كان لي من شفاء الغليل
ما أنساني الهانة ،وكان لي من فوران دمي مدفأة حامية أنستني البرد القارس.
حص محتوياتها:
استندت إلي الجدار ،ورحت اتف ّ
ن بالجّنة ،رزمة
بطاقتان شخصيتان ،عدد من بطاقات الئتمان ،صور فتيات ل أمل له ّ
كبيرة من الوراق النقدية.
هطل المطر بغزارة ،لكّنني واصلت المشي تحت وابله ببطء شديد وكأنّني في نزهة.
141
المحروم!
في غضارة الثمانينات من عمره ،يرحل )رينيه الثالث( أمير موناكو ،وهو جاهل تماما ً
مقّبلته. بك ّ
ل ما فاته من أطايب الحكم و ُ
حل ناظريه ،يومًا،بعد ستة وخمسين عاما ً في الحكم ..يرحل رينيه المسكين دون أن تك ّ
عبارة في صحيفة ،ودون أن ُتشّنف أذنيه عبارة من بوق تذ ّ
كره بأّنه )قيادة تاريخية(!
يرحل )الّرجل المير( دون أن يتذّوق في حياته طعم القضاء علي أّية )مؤامرة دنيئة(،
ذذ في عمره كّله حّتي بوجبة إعدام واحدة لخائن واحد من عملءودون أن يتل ّ
وارع عندنا أن ُينشيء جيشا ً مليوني ّا ً
ّ الش أولد من واحد أتفه يستطيع فيما المبريالية..
دة!
دة حكمه ،وأن يقتل مليونين في ربع تلك الم ّفي نصف م ّ
دده الموتييرحل رينيه المنكود دون أن يخطر في سمعه أبدا ً النشيد القومي الذي ير ّ
ن نشيدا ً
دم نفديك يا رينيه( ..رّبما ل ّ عندنا للقتلة الحياء ،والمقبورين أيضًا) :بالّروح بال ّ
ّ
ن شعب موناكو كله )بروحه ودمه( ل يكاد يمل كهذا كان سيبدو نكتة أو فضيحة ،ل ّ
حي بنفسه فداًء لرينيه؟! نصف ملعب كرة قدم ،فكيف إذا ض ّ
يرحل رينيه المغبون دون أن يسمح له عدد مواطنيه الذي ل يزيد كثيرا ً عن ثلثين ألفًا،
ف هي حبيبة ن إمارته التي بحجم الك ِ مظ ،ولو مّرة ،بكونه )حبيب المليين( ،مع أ ّ بأن يتل ّ
المليين فعل ً )باليورو والدولر(.
وبرغم خّلو إمارته من أّية ثروة طبيعية أو ثورة اصطناعية ،فإّنه لم يتنّعم َقط بثمار أية
ن )ربط الحزمة( شف( ،ولم يخطر في ذهنه اطلقا ً أ ّ طة خمسية( أو ببركات أيّ )تق ّ )خ ّ
و)تأميم المجاعة( هما توأمان سياميان!.
ظفيها ،وهي ل تحتاج لكثر من مجلس إمارة رينيه بشعبها ليست أكبر من شركة بمو ّ
دنيا ،وها هو يغادر
إدارة لتصريف شؤونها لكّنه ،واحسرتاه ،أتي إلي الدنيا وعاش في ال ّ
الدنيا ،وتلك المارة ُتدار بواسطة حكومة منتخبة!
يرحل رينيه وإمارته التي بحجم الكف بقيت عصّية علي الترويض في محيط القوياء،
دون مارشات عسكرية في الذاعة ،وظّلت مستقلة دون شعارات ثورية علي الجدران،
ل ذلك دون وحجزت لمؤخرتها مقعدا ً في المم المّتحدةبحجم مقعد الصين بالضبط ،وك ّ
دم كوبون نفط لهذا أو كوبون دم لذاك. أن يق ّ
142
يرحل رينيه ،دون أن يمّتع قلبه أبدا ً بلعبة )تمديد فترة الحكم( لّنها ،واأسفاه ،ممتدة
أصل ً بحكم الدستور ،ودون أن يترك من بعده )مجلس خّياطين(
صل منه بذلة علي مقاس ابنه المحروس.. منتخبا ً بالتعيين ،لكي يقصقص الدستور ويف ّ
ن ميراث البن محفوظ هو أيضا ً بحكم الدستور ،بل النكي من ذلك أ ّ
ن الدستور ذلك ل ّ
نفسه محفوظ من ك ّ
ل فنون الّتفصيل والخياطة.
وأخيرًا ،وليس آخرًا ،يرحل رينيه المسكين بحسرته دون أن تسعده القدار بض ّ
م
)موناكو( إلي )جامعة الدول المونيكّية( ،بشفاعة القيادات التاريخّية التي طالما وضعت
ظه ويقظة منّيته ،حارما ً شعبه
دماءنا علي موائد القمار في إمارته ..فيمضي بغفلة ح ّ
ضرورة( من فكاهات عميده )المجيد( من قمم التخت الشرقي ،وحارما ً نفسه )ال ّ
الخضر!
143
مخّيلة
دور ال ُ
دث الفيلسوف والّروائي اليطالي أمبرتو إيكو صاحب في إحدي مقالته النقدية تح ّ
ص الدبي ،فمنح القاريء
ّ والن القاريء بين المفترضة يةّ الصح )اسم الوردة( عن العلقة
مله إّياها ..وهي مسؤولية تتطلب منه أل ّ مكانة ممّيزة علي قدر المسؤولية التي ح ّ
ص ،وشرط ذلك هو أن َ ّ نال من ً اجزء يكون يكون مجّرد تابع أو مسافر منقاد ،بل أن
ً
مخّيلة وحدها يستطيع القاريء أن يكون جزءا من مخّيلة واسعة .فبهذه ال ُ يكون ذا ُ
الّنص الذي يقرؤه.
ولفرط ثقته بهذا القاريء المفترض ،ل يكتفي )إيكو( باعتباره جزءا ً من الّنص ،بل إّنه
يكافئه ،نظير سعة خياله ،باعتباره شريكا ً في التأليف أيضًا!
ويضرب مثل ً علي ذلك بقوله إّننا عند النظر إلي الخريطة يمكننا أن نتخّيل رحلت
خارقة ومغامرات عظيمة بين بحار وجزر مجهولة ،لكن الخريطة في هذه الحالة هي
مجّرد محّرض أو ملهم ،بينما قاريء الخريطة هو الّراوي الحقيقي لتلك المغامرات.
يبدو هذا المثل عويصا ً ومبهما ً مثل متاهة المكتبة في رواية )اسم الوردة( .ذلك ل ّ
ن
ماء وبين العوالم الّلصيقة بالواقع
الفرق شاسع جدا ً بين خطوط الخريطة الص ّ
والشخصيات الحّية التي نكاد نسمع أصواتها في العمال القصصّية.
ن صور الماكن والشخصّيات التي يرسمها الّراوي ،تكتسب لدي قد يمكن القول ،مث ً
ل ،إ ّ
صة ،لكّنه
لوملمح وطبائع إضافية مستقاة من تجربته الحياتية الخا ّ القاريء ألوانا ً وأشكا ً
دي حدود هذه المشاركة الرمزية التي تجعله كمن يمل الّرسوم ل يمكن أن يتع ّ
المخطوطة بألوانه الثيرة ،وبخلف هذا ليس له إل ّ أن يكون تابعا ً طائعا ً علي قدر
سطوة سّيد الحبكة.
ن هذا الجواب هو آخر ما يتوقع المرء سماعه من كاتب كبير مثل )أمبرتو إيكو( ،وهو إ ّ
ً
جبا :هل يحتاج كاتب موهوب واسع الخيال إلي لب ُد ّ أن يدفع المرء لن يتساءل متع ّ
منَ علي السهل من أليس أصحابها؟ قصص يل
ّ يتخ أسماء دليل الهاتف لكي يمكنه أن
سيبتدع عددا ً غير نهائي من القصص ،أن يختلق قبل هذا عددا غير نهائي من السماء؟
ً
ن الكاتب الموهوب ل يحتاج في جزيرته النائية إل ّ إلي قلم وأوراق ..ما دام رأسه
إ ّ
معه.
ش َ
فق نطاق ال ّ
144
في أوائل سّتينات القرن الماضي ،ابتكر المريكي )رود سيرلنغ( سلسلة من القصص
دمها التلفزيون علي شكل حلقات تمثيلّية ،كان )سيرلنغ( يشارك في
الغرائبّية ،ق ّ
مشاهد ك ّ
ل َ من واحد في والسريع المفاجيء ظهوره خلل من ً
ا، ّ يشخص عليها التعليق
حلقة.
وقد استقطبت تلك الحلقات التي تجاوزت المائة والخمسين ،جمهورا ً عريضا ً سواء من
حرفية عالية قصصا ً دم ب ِ المريكيين أو غيرهم من س ّ
كان المعمورة ،وذلك لّنها كانت تق ّ
جميلة وقصيرة وفائقة الغرابة ،يؤديها عدد كبير من نجوم هوليوود.
وقد اشتهرت تلك الحلقات بعنوان )توايليت زون( أو ما يمكن ترجمته إلي )نطاق
ن أحداث القصص تقع في ذلك النطاق شفق( .والدللة المتضمنة في العنوان هي أ ّال ّ
الغامض المبهم الذي تتداخل فيه الزمنة والمكنة علي نحو غير معقول ،وكأّنه نطاق
سة السادسة بالنسبة سادس يضاف إلي أقاليم الرض المعروفة ،شأنه شأن الحا ّ
س النسان الخمس. لحوا ّ
ن غرائبية )توايليت زون( غير مجانّية ،فهي ليست مؤّلفة لبهار المتفرجين فقط، إ ّ
ولكّنها تترك وراءها سلسلة من التساؤلت حول حقيقة ومقاصد الوجود النساني،
وحول موقع النسان في كوكب الرض من هذا الكون الفسيح الغامض ..وتترك في
ل منها مغزي حي ّا ً وعميقًا ،يتمّثله المرء ببساطة في مجري حياته البسيطة ،دون
نهاية ك ّ
ّ
حاجة منه إلي اللهاث في صحاري الفلسفة الجاّفة.
تبدو قصص )توايليت زون( سهلة المأخذ ،أليفة وممتعة ،لكّنها في ألفتها تقود المتفّرج
وابة الغرابة والحيرة .وهي في ذلك تشبه -علي المطمئن خطوة خطوة ،حّتي تدخله ب ّ
ً ً
ل جزء من تلك اللوحات يبدو طبيعيا ومألوفا ،لكنه وجه ما -لوحات سلفادور دالي ،فك َ
صاله بالجزاء الخري التي تبدو ،هي أيضًا ،طبيعية ومعقولة ول إلي غرائبي عند ات ّ يتح ّ
ُ
إذا فصلت عن اللوحة الكلّية!
ب القراءةفي واحدة من حلقات )توايليت زون( يضعنا )سيرلنغ( أمام محنة عجوز يح ّ
ب .ففي البيت تحرص زوجته ل من حوله يمنعه من ممارسة هذا الح ّ نك ّجدًا ،لك ّ
ّ
ّ
قب عن أيّ كتاب يخفيه لكي تلطخ ّ
المتسلطة علي إخفاء أيّ كتاب أو صحيفة ،وتن ّ
طرد كّلمادده رئيسه بال ّ صفحاته بالحبر ..وفي عمله كمحاسب في أحد المصارف ،يه ّ
رأي في يده كتابا ً أو مجّلة .ولذلك فهو يحاول دائما ً أن يضع كتابا ً صغيرا ً مفتوحا ً فوق
ركبتيه ،ليسترق إليه نظرة ،من وراء نظارته السميكة ،كّلما خل من خدمة زبون ..المر
طرد. الذي يكتشفه رئيسه فينذره ،لخر مّرة ،بال ّ
كبة هذه ،يغتنم الّرجل فرصة الغداء ،فيحمل جريدته ويختبيء في خزانة وفي بلّيته المر ّ
درعة ،مستغنيا ً عن الكل بالقراءة .وفي تلك الجريدة يقرأ خبرا ً
المصرف الكبري الم ّ
ج لها الخزانة الثقيلة
عن احتمال هجوم نوّوي ..وبعد ذلك بلحظات يشعر بهّزة عنيفة ترت ّ
المدّرعة.
ل ما حوله خراب في نك ّ وعند انتهاء فرصة الغداء ،يخرج صاحبنا من الخزانة ،فيري أ ّ
ن ،وأّنهامبا
َ ٍ ركام ّ
لها ك المدينة خراب .ويأخذ طريقه بين النقاض ،ليكتشف ،مذعورًا ،أ ّ
ن
145
خالية من البشر ،فيسعي كالغريب الّتائه بين حطام المتاجر التي تناثرت فيها كمّيات
دة
هائلة من علب الطعام المحفوظ ،فيطمئن إلي أّنه سيكون بمنأي عن الجوع م ّ
ن اطمئنانه هذا ل يعود شيئا ً مذكورا ً إزاء بهجته برؤية أبواب الجنة مفتوحةطويلة ،لك ّ
ً ً
أمامه ..ذلك لّنه يجد نفسه وجها لوجه أمام ذخائر المكتبات الملقاة أكداسا من الكتب
التي طالما تمّني قراءتها!
ن أعظم ما فيها هو المغزي الذي صة طريفة وممتعة ومؤلمة في الوقت ذاته ،لك ّ الق ّ
تنطوي عليه .دعك من الثر الموجع الذي تتركه في نفس القاريء المدمن ،فليس
ن المغزي هنا يمكن أن ينطلق علي مختلف الموجات: جميع الناس قّراًء شرهين .لك ّ
سياسيا ً واجتماعيا ً واقتصاديًا ،حيث ينشطر إلي عدد غير محدود من التساؤلت ،مثل:
ل الّناس؟ وما جدوي امتلكما معني أن يكون النسان حّرا ً إذا كان شاهدا ً علي فناء ك ّ
المرء للطعام بعد تهّتك معدته وسقوط أسنانه؟ وأَية فائدة ترجي من حصول المريض
علي دوائه في ساعة موته:؟!
صة امرأة دخلت المستشفي لجراء جراحة تجميل لنستعرض ،علي عجالة ،مثل ً آخر :ق ّ
جراح وطاقمه ،وهم كّلهم يعملون في مكان شبه معتم، ن الطبيب ال ّ
لوجهها ،ولك ّ
ً
ن الطبيب ُيمضي وقتا لتهيئة المرأة لمواجهة هذا
ن العملّية لم تنجح ،ولذلك فإ ّ يدركون أ ّ
المر ،ويدّربها علي التعايش مع قبحها.
دد مع نفسه بمرارةعند نزع الربطة عن وجه المرأة يتأكد ّ للطبيب فشل العملية ،فير ّ
ن وجه المرأة باهر الجمال،أّنه كان يعلم ذلك .لكّننا بعد اكتمال نزع الربطة نري أ ّ
فنعجب من رأي الطبيب ،وندهش أكثر من صرخة الفزع التي تطلقها المرأة حين تري
صورتها في المرآة.
بعد هذه اللقطة ..نري ،لّول مّرة ،وجه الطبيب ووجوه طاقمه ،ووجوه العاملين
والمرضي ،ووجوه الّناس في الشوارع ،فإذا نحن أمام مسوخ يبدو وجه ك ّ
ل منهم خلطة
من ملمح القرد والخنزير والنسان!
ل الحوال .وتلكصة يمكن أن ُيحمل علي ألف محمل ،وسيبدو ثمينا ً في ك ّ ن مغزي الق ّ إ ّ
صف بها أعمال )سيرلنغ( ،وذلك هو سّر نجاحه .والدليل علي ّ تت التي حرّ الس لمسة هي
ن حلقات كثيرة جدا ً من )توايليت زون( انتجت باللوان ،بعد وفاة سيرلنغ، ذلك هو أ ّ
ورت بالبيض والسود ..المر ص
ُ ّ التي أعماله من ً اواحد ً ل عم تضارع ل بأجمعها لكّنها
ّ ً
الذي يقنعنا تماما بصواب المثل القائل بإعطاء الخبز لخّبازه ،وهذا مغزي كلي آخر
تقرّره أعمال)سيرلنغ( بالجملة.
146
مشكلة ..في جميع أحواله!
ضرورة مخزن أضرار ..ويبدو أّننا سنظل نواجه بسببه موجات ل تنتهي من
هذا القائد ال ّ
الحراجات ،حتي وهو معتقل.
ديمل كالبقرة بين ي َ َفبعد أن أعرب أحد رجال الفاتيكان عن حزنه وهو يري مهيبنا ُيعا َ
ما
ّ فل والفاتيكان.. هولندا البيطري ،وضعت يدي علي قلبي ..إذ توّقعت نشوب أزمة بين
مّر المر بسلم تذكّرت ،فورًا ،صورة البقرة الضاحكة فأرجعت هدوء الوضاع إلي أ ّ
ن َ
البقار بطبيعتها مسالمة ومتسامحة.
لكن سرعان ما اكتشفت أن توّقعاتي انتظرت البلء من الشرق ،فإذا به يجيء من
الغرب!
حرر الواشنطن بوست يمضي ُقدما ً في استقصاء التعبيرات فها هو ليبي كوبلند م َ
دث ّ المتح استخدمها التي العنكبوت حفرة بعبارة ً امدفوع العسكرية الملتبسة،
صدام.
العسكري الميركي في وصف الحفرة التي انتشل منها ّ
صلن عبارة حفرة العنكبوت لم ُتف ّوفي بدء حملته الستقصائية ينّبهنا كوبلند إلي أ ّ
دام ،بل هي قديمة ،وتعود إلي فترة الحرب العالمية الثانية ،وقد خصيصا ً من أجل ص ّ
وات مشاة البحرية الميركية أثناء القتال في المحيط الهادي. استخدمتها ،لّول مّرة ،ق ّ
ن حفر العناكب
تقول ليندا رايور الستاذ المساعد في علم الحشرات بجامعة كورنيل :إ ّ
باردة ومدّثرة بالحرير ونظيفة جدًا ،علي عكس حفرة ّ
صدام القذرة.
ست بالنزعاج عند سماعها لعبارة حفرة العنكبوت بعدوأعربت رايور عن أنها أح ّ
صدام ،واعتبرت هذا الوصف إساءة للعناكب!. اعتقال ّ
وإذا كّنا قد عرفنا رأي علماء الحشرات في هذه القضّية ،فإننا ننتظر أن نعرف رأي
دجاجة!.
علماء الدواجن بالنسبة لوصف أخينا بال ّ
متزامنة مع استقصاءات
وفي الوقت الذي تدور هذه الستقصاءات في أميركا ُ
العراقيين عن قوائم العدامات لدي مراكز التوثيق ،وعن عظام قتلهم في المقابر
147
الجماعية ،يدور الحديث أيضا ً عن عزم اّتحاد المحامين العرب إرسال فريق من أعضائه
صدام الّرجيم خلل محاكمته المرتقبة!. للدفاع عن ّ
الهاربان!
سفارات.
جلسا علي مقعد في الحديقة القريبة من شارع ال ّ
148
مه ّ
ذبة بيضاء ،وكان الثاني مربوع القامة ضاء الوجه ذا لحية ُكان الّول طويل القامة و ّ
سحنة ذا لحية مه ّ
ذبة غّراء. ضاح ال ّ
و ّ
قال الثاني :الحمد لّله .لقد وافقوا علي لجوئي إنسانيا ً إلي هولندا ..وأنت؟
قال الّول :هذا خبر طّيب .سنكون قريبين من بعضنا ،وسيمكننا أن نتزاور بين وقت
سويد.
وآخر ،فقد حصلت أنا علي حق اللجوء إلي ال ّ
زفر الثاني مبتئسًا :أل تري أّننا كان يمكن أن نمكث هنا بسلم لو أننا التزمنا بأدب
الصحوة ولم نفعل ما فعلنا؟
مرًا :لقد فات أوان الندم .ونحمد الّله علي أّننا وجدنا من ُيلجئنا ،وإل ّ فل قال الّول متذ ّ
أمل لنا بالّنجاة إذا بقينا هنا.
ت عبوس القوم هل كان ضروريا ً أن )تبتسم( ونحن خارجان من المسجد؟ لقد ع ّ
كر َ
وكدت توردنا التّهلكة!
اندفع الّرجل الجالس قبالتهما إلي القول دون استئذان :أل تستحيان أن تفعل ذلك
وأنتما إسلميان؟
قال الّرجل الطويل :لباسنا هو لباس عصرنا ..ول علقة لهيئة الثوب بجوهر المعتقد .ثم
دي مظاهرها في فعل الخير وال ّْرحمة .إّنه ن السلم عقيدة تستقر في القلب ،وتتب ّأ ّ
سب(. َ ّ نال )ياء بوس
ّ بد صدره علي المرء يشبكها ي
ّ حزب انتساب بطاقة ليس
قهاَ ..
قها! َ
و)الدومري( كلمة شاعت في العهد العثماني ،وكانت تطلق علي الشخص المكّلف
ل رسام الكاريكاتير المعروف )علي فرزات( ورفاقه بإيقاد مصابيح الشوارع ..ولع ّ
دللة علي إشاعة نور
ّ لل العنوان هذا اختاروا قد الجريدة المشاركين معه في إصدار
صريح بين الناس ،إضافة إلي إعادة الضوء إلي هذا النوع المنقرض من الوعي والنقد ال ّ
حد الرسمية. ّ المو زيّ ال مطبوعات عن ً ا تمام تختلف المطبوعات التي
150
سحبتم إطفاؤه في بدء شروعه بإشعال المصابيح .إذ ُ ن هذا )الدومري( نفسه قد ت ّ لك ّ
رخصته في زمن الصلح السعيد ،قبل إتمام سنته الثالثة في الوظيفة ،علي الّرغم من
جهة
دي هذه الوظيفة وهو يمشي علي حبل مشدود .وكانت التهمة المو ّ أّنه كان يؤ ّ
للمطبوعة هي أّنها قد خالفت )قانون المطبوعات( ..وهي تهمة ل تعني في الّتفسير
النهائي إل ّ أ ّ
ن المطبوعة قد خالفت قانون الّتعتيم!
ن الصحيفة نشرت تحقيقا ً حول تشابه السماء بين بعض ن سبب )العدام( هو أ ّ وقيل إ ّ
معد ّه ُ إلي
المواطنين المصريين البسطاء والرئيس المصري ونجله ،وهو تحقيق رجع ُ
ن هناك موظفا ً بسيطا ً وبائع خبز يحملن اسم نجل الرئيس جمال )دليل الهاتف( ليجد أ ّ
مبارك )رضي الّله عنهما(!
ي المنشأ ،بل هو منسوخ حرفي ّا ً ن هذا التحقيق ليس أصل ّ سياق ،ا ّ
ينبغي القول ،في ال ّ
ل شيء( من تحقيق تلفزيوني مماثل قام به الصحفي البريطاني )نيك )كعادتنا في ك ّ
دة أشهر ،وقد سبق لي في حينه أن استعرضت تفاصيله الطريفة في نايجل( قبل ع ّ
ً
منتها عاصفة )نايجل( الصحفية التي لم توّفر رئيسا أو مقالة بعنوان )أصل وصورة( ض ّ
ن الّناس في بريطانيا -بمختلف طبقاتهم -قد استقبلوا تلك أميرا ً أو خفيرًا ..غير أ ّ
ن البريطانيين -وياللغرابة -ينظرون إلي
العاصفة بعاصفة من الضحك ،وذلك ل ّ
الشخاص البارزين ،مهما علت مقاماتهم ،باعتبارهم بشرا ً يأكلون الطعام ويمشون في
صالح أو أنظمة
سلف ال ّ
السواق ،ل باعتبارهم آلهة ،مثلما تنظر إليهم عندنا أحزاب ال ّ
الخلف ال ّ
طالح!
كر نكتة جرت علي لسان الفّنان الراحل )يوسف وهبي( في أحد الفلم ،عن مسافر أتذ ّ
ً ّ
نسي اسم المحطة التي يريد الوصول إليها ،وبعد أن فرك رأسه مفكرا استطاع أن
ص ضحكة(.ي زي ما بتكون ن ّسفر) :ه ّ
يقول لرفيقه في ال ّ
فرد ّ عليه رفيقه) :قصدك تقول مح ّ
طة ..قها(!
ضحك للدنيا 0بمقاييس الصلح الداخلي -ل يعني سوي عدد واحد ،فإنني وما دام ال ّ
سُبه
ح ْ
ميها )قها( ..و َ
أقترح علي ناشر الصحيفة السّيد عادل المصري ،أن يتواضع فيس ّ
ضحكة أفضل كثيرا ً من الحسرة الكاملة!
ن نصف ال ّ أ ّ
151
ترام بجنيهين!
نضحك كثيرا ً من طرفة القروي المصري الذي اشتري الترام ،ونعجب كثيرا ً من فرط
حمقه وغفلته .ومشكلة هذا الكروي هي أّنه ُوجد في بيئة ووقت يساعدان بغلظتهما
علي تجريده من نقوده وعقله..
لكن لو أن خلل ً بسيطا ً اعتري حركة الزمان والمكان ،فألقي بهذا الكروي في الريف
البريطاني خلل ثلثينات القرن الماضي ،لمكنه ،بك ّ
ل بساطة ،أن يشتري ذلك الترام،
بل لمكنه ،فوق ذلك ،ان يشتريه بجنيهين ل أكثر!
نعم .ليس في المر أّية مبالغة ..أو هذا في القل ما يؤكده لنا الكاتب البريطاني )وليم
نيوتن( في روايته الجميلة )ترام بجنيهين(!
ن هذه هي
ما نعرفه عن )وليم نيوتين( هو أّنه طبيب متقاعد من )أكسفورد شاير( ،وأ ّ
روايته الولي التي نال بها عند صدورها قبل عامين ،جائزة )ساجترياس( التي تمنح
لّول عمل روائي لمؤلف فوق السّتين.
ن )نيوتن(ن بطل الّرواية الذي يتوّلي سرد أحداثها ينتهي إلي أن يكون طبيبًا ،فإ ّلكن ل ّ
ن تلك الحداث ل تعدو كونها ذكرياته صل إلي إثارة ش ّ
كنا في أّنه هو البطل ،وأ ّ يتو ّ
صبا ..فعلي الّرغم من احتواء الّرواية علي وقائع تبدوصة عن مرحلتي الطفولة وال ّ الخا ّ
152
سرد ،تنبيء بأنها في جوهرها ن الحميمّية والصدق والبساطة في ال ّ
غير مألوفة ،فإ ّ
حكايته الشخصية التي سكنت أعماقه طيلة العمر ،وأّنه قّرر ،بعد اختمارها ،أن يطرحها
كتعويذة في وجه الشيخوخة ،وأن يقيم بواسطتها معادل ً نفسيا ً بين عالم العشرينات
ل بساطته وبراءته ،وبين عالم المتغّيرات الف ّ
ظ الذي يحياه والثلثينات الذي عاشه بك ّ
اليوم.
تتحدث الرواية عن شقيقين من الّريف البريطاني هما )ويلفريد( و)دانكن( ولدا في
ديالعشرينات وترعرعا في الثلثينات ،في كنف والدين لم تكن صلتهما بهما تتع ّ
مشاركتهما الطعام في بعض الحيان ،في حين كانا يقضيان معظم أوقاتهما ،بعد
ول خلل الحقول لصطياد الطيور والحيوانات البرّية ،أو لصطياد المدرسة ،في التج ّ
الفراشات من أجل تحنيطها.
وفي أثناء ممارستهما لهوايتهما الخيرة ،يسوقهما الجري وراء فراشة نادرة إلي اجتياز
ممتلكات ثريّ ألماني مقيم في الجوار هربا ً من الّنازي ،فيقبض عليهما مدّبر المنزل،
صين.
ويحاولن جاهدين إقناع ذلك الثريّ بأّنهما جامعا فراشات وليسا ل ّ
وتنتهي المشكلة بعد ان يهدياه الفراشة النادرة ،حين يعلمان أّنه جامع فراشات
صالت دولّية في هذا المجال ..فتنشأ بينه وبينهما صداقة متينة تكونن له ات ّ محترف وأ ّ
ملذا ً لهما في سنوات محنتهما التي تبدأ في أّول بلوغهما ،إذ يضطرب عالمهما الهاديء
در
مهما من حياتهما فجأة والي البد ،بعد انفصالها عن أبيهما الذي يك ّالمعهود باختفاء أ ّ
أّيامهما ،بعدها ،بسلسلة من النساء القاسيات ،ثم ينتهي في واحدة من ثورات غضبه
إلي طردهما نهائيا ً من المنزل.
ن الخ الكبر )دانكن( الذي كان قد أصيب ما زاد في قسوة تشردهما المب ّ
كر أ ّ وم ّ
ً
سحايا ونجا منه بأعجوبة ،لم يعد بعد شفائه قادرا علي النطق ،المر الذي
بالتهاب ال ّ
طر الخوين إلي اختراع لغة خاصة يتفاهمان بها بواسطة الشارات. اض ّ
منذ بدء الّرواية نعلم أن الخوين كان يحتفظان بقصاصة إعلن اقتطعاها من إحدي
الصحف ،تحتوي علي صورة ترام قديم خارج الخدمة ،معروض للبيع ،في مح ّ
طة
بادنغتون ،بجنيهين استرلينيين.
دخران من
وقدكان هذا العلن حلمهما الذي يتعلقان به في ساعات النوم واليقظة ،وي ّ
مع لهما ،بعد طول توفير ،جنيهان وبضعة شلنات. أجله ك ّ
ل بنس ينالنه ،حّتي تج ّ
وفي اللحظة التي طردا فيها من المنزل ،انطلقا نحو الحلم ،قاطعين عشرات الميال
من مقاطعة ساسكس إلي محطة بادنغتون في لندن ،سيرا ً علي القدام.
وعند وصولهما وجدا الترام المعروض في العلن ،رابضا ً ضمن مجموعة أخري من
ن المرن من المستحيل نقله من مكانه ،ل ّالعربات القديمة ،لكنهما اكتشفا حال ً أ ّ
كة والي شريط كهربائي ..فقنعا بالستعاضة عنه بترام آخر من جيل يحتاج إلي س ّ
ل الطرق ،وبالشلنات الباقية استطاعا انما تجره الخيول علي عجلت فوق ك ّ سابق م ّ
يشتريا حصانا ً عجوزًا ،فربطاه بالعربة وعادا إلي مقاطعتهما عبر خطوط الترام القديمة
ة ومصدر رزق ومأوي لهما. خذا من الترام مركب ًالمهملة ..ليت ّ
ل الحكاية ،بل هو في الحقيقة بداية فصول تتلطم فيها المغامرات العجيبة ذلك ليس ك ّ
والحوادث المضحكة المبكية في عالم يصفه المؤلف بأّنه )عالم قد صار إلي زوال(..
ل تفاصيله التي قد يصعب تصديق بعضها، لكنه برغم زواله يبدو حاضرا ً وحي ّا ً وبهي ّا ً بك ّ
ّ
ص التي تطرز الوقائع بتخييل قادر علي لجم صديق بفعل براعة الق ّ ل قابلة للت ّلكّنها تظ ّ
أيّ تكذيب.
153
وسواء أكانت الّرواية ذكريات حقيقية أم خيال ً محضًا ،فإن مؤّلفها الستيني )وليم نيوتن(
ن التقاعد عن العمل ل يعني التقاعد عن مة مفادها أ ّ
يرسل إلينا من خللها إشارة مه ّ
ن مراحل صة والسعيد هو من يستطيع أن يرويها ،وأ ّ ل إنسان ق ّن لدي ك ّ
الحياة ،وأ ّ
ّ
العمر علي اختلفها صالحة لتحقيق رغبات الذات العميقة ،إذا ترك المرء وراء ظهره
ن شراء ل قلبه بأ ّد ،مؤمنا ً من ك ّ
ل احتمالت الخفاق ،ومضي إلي هدفه بعزيمة وج ّ ك ّ
ً
الترام ليس من الحتم أن يكون نكتة دائما ،بل يمكن ،مع بذل الجهد ،أن يكون رواية
ممتازة.
مشارط وأقلم
َ
هناك مشهدان مستقران في نفسي للعلقة بين الطبيب والمريض ،رسمهما كاتبان
خلل سردهما لتجاربهما العملية الولي في العقد الثاني من القرن العشرين ،عندما
وضعتهما الظروف كشاهدين علي تلك العلقة.
قي( رحمه الّله ،في كتابه )خّليها علي الّله( تجربة لقائه،
يروي الديب العظيم )يحيي ح ّ
مه الثراء العاجل خلل فترة عمله كوكيل إدارة في الرياف ،بطبيب مركز كان ك ّ
له ّ
بأيّ ثمن ..فيقول:
)ل تبرح ذهني ذكري جلسة لي مع هذا الطبيب فوق مقعدين علي الجسر عند القرية،
فنا ليلة غطيسة غابت نجومها ..وجري بيننا -دفعا ً للنقباض-
سيارة .تل ّ
ننتظر إصلح ال ّ
سمر لذيذ ،تتخّلله الضحكات العالية ،ثم إذا بأذني تسمع من تحت الجسر صوتا ً خفيضا ً
سل ذليل:يهمس بتو ّ
قطع الدكتور كلمه لي والتفت الي مصدر الصوت -وأنا ل أري صاحبه -وصرخ:
154
-هات الّريال وتعال..
-ما عنديش الليلة دي ،ما احكمش علي قرش واحد ،من فضلك وإحسانك ..أنا تعبان
بالحيل ..حاتفرتك.
سألت الدكتور عن الذي يطلبه منه الّرجل ،والعجيب أّنه أجابني بل خجل وهو يضحك..
لح عنده حصوة في المثانة ،تتحّرك أحيانا ً فتمنعه من التب ّ
ول ،فإذا حدث له هذا اّنه ف ّ
جري اليه في المركز فسلك له مجري البول بالقسطرة لقاء ريال ك ّ
ل مرة.
-أيوه..
-يا دكتور سايق عليك النبي ،أنا ح اتفرتك(! وفي الفترة ذاتها علي الجانب الخر من
المحيط ،كانت هناك تجربة أخري جمعت الّروائي المريكي الشهير )أرسكين كالدويل(
صاحب )طريق الّتبغ( بطبيب محّلي من الجنوب ،وهو يرويها عرضا ً في كتاب سيرته
مها خبرة( .يقول كالدويل:
س ّ
المهنية ككاتب ) َ
)في فترة مبكّرة من صيف 1919بدأت أقوم بجولت يومّية خلل الرياف ،بصحبة
طبيب محّلي ،كان مرضاه منتشرين في أماكن متباعدة قد تفصل الواحد منهم والخر
دة أميال.
ع ّ
متي هي أن أقود السّيارة دون مقابل ،ودون أن أتقاضي حتي تكاليف كانت مه ّ
الصلحات الصغيرة التي كانت تحتاجها السّيارة .كما لم أكن أتوّقع أّية مكافأة من وراء
ل اهتمامي منحصرا ً في رؤية كيف يعيش الّناس في الرياف ،وقد ذلك ،فقد كان مح ّ
كنت سعيدا ً بأن ُتتاح لي فرصة كهذه.
ولم يكن ذلك الطبيب ليمّيز بين أولئك الذين يستطيعون دفع ثمن خدمته أو أولئك
الذين ل يستطيعون .فإضافة إلي عدم تقاضيه أجرا ً عن فحص المرضي المعوزين ،كان
كثيرا ً ما يوّفر لهم الدوية الضرورية كذلك ،وغالبا ً ما رأيته يضع دولرا ً أو دولرين علي
كرسي أو منضدة قبل أن يغادر بيتا ً من بيوت هؤلء(!.
وبعيدا ً عن هذين المشهدين المتنافرين لوقوف الكاتب بين الطبيب والمريض ،تلوح في
الذهن ذكري لقاء آخر بين هذه الطراف الثلثة ،تم في فترة سابقة قليل ً علي اللقاءين
سالفين ،في صقيع بعيد من أصقاع شرق أوروبا.ال ّ
155
فالكاتب ،في هذا المشهد ،إنسان عظيم الموهبة بالغ الّنبلُ ،يجري الكلمات علي
الورق لحنا ً إنسانيا ً خالد الثر في جميع الّناس قّراًء وكّتابًا ..والطبيب كذلك إنسان كبير
القلب فائض الّرقةُ ،يطفيء صحته من أجل رعاية مرضاه ،وغالبا ً ما يأخذ سمت ذلك
الطبيب المريكي في تجربة )كالدويل(.
ساس جدًا ،وعلي معرفة دقيقة بتفاصيل مرضه، ما المريض فهو إنسان رقيق جدا ً وح ّ
أ ّ
ً ّ
ولعله لذلك لم يستطع مقاومة المرض ،المر الذي جعله يرحل شهيدا ،ويجّر معه الي
بارئه الكاتب الشاهد والطبيب المشهود!
حد ،لم يستطع القلم في هذه الحالة أن يكتب شهادته علي ورّبما بسبب من هذا التو ّ
حدة جعلت
ل هذه الطراف المو ّ المشرط والعّلة .لكن آثار الفيض النساني لك ّ
وعون لكتابة هذه الشهادة في صفحات ل الكثيرين ،في مشارق الرض ومغاربها ،يتط ّ
ب والتقدير.انقطاع لها ملؤها الح ّ
صين!...
ولو في ال ّ
كنت بعد فراغي من قراءة كتاب )بجعات برّية( للكاتبة الصينية )يونغ تشانغ( الذي
تناول محنة ثلثة أجيال من أسرتها ،وبعده كتب )آنتشي مين( الخمسة التي تناولت
سماء حتي قيام امبراطورية أولد أحوال الصين منذ غروب امبراطورية أبناء ال ّ
ت ،بإصرار ،رحلة جديدة إلي ربوع الوجاع المر ّ
كبة ،عبر كتاب )ورقة الشوارع ..قد بدأ ُ
في الّريح القارسة( للكاتبة )تنغ -هسنغ يي(.
ن مصيبتي لم تهن -ل في عهد سللة الهان ول في عهد رفاق الهوان -فإنني ومع أ ّ
ّ
كنت أواسي النفس ،خلل رحلتي المؤلمة ،بأنّني ل أري في ما أري إل مآتم الغرباء،
وحسبي من ذلك أن أتشاغل ،ولو إلي حين ،عن مآتمي الشخصّية التي عشت عمري
ك ُّله وأنا أراها منصوبة في طول وعرض )بلد الُعرب أوطاني( بفضل عدد من قُ ّ
طاع
ججين بالنياشين والوسمة! الطرق المّيين المد ّ
طنت نفسي علي إغماض غير أنني لم أنعم حتي بهذه المواساة المصطنعة التي و ّ
ل حصافته ولطفه وثقافته ولياقته ،وقدرتهي وبلعها ..إذ أنني وجدته أمامي ،بك ّ
عين ّ
الهائلة علي إشعاري بالخجل من نفسي ،وبأثر رجعي ،ل لشيء إل ّ لنتسابي إلي الرض
نفسها التي ابتليت به وبأمثاله.
156
تخمتي باللم التي صّبتها )يونغ تشانغ( و)آنتشي مين( في نفسي قد جعلتني أعتقد
أنني قد أحطت بالمأساة الصينية كّلها ولم أعد بحاجة إلي مزيد.
لن أستعرض هذا الكتاب ،لنني إذا شئت ذلك فسأحتاج إلي تأليف كتاب جديد ،لكّنني
ن ما نلقاه من عنت وعذاب تحت أيدي ما العبرة فهي أ ّ
سأكتفي بعبرة ونموذج ..فأ ّ
طاع طرق الصلح الداخلي عندنا هو ليس إل ّ ترجمات عربية رديئة ،مزيدة أحيانًا، ق ّ
ً
حة دائما ،للنسخة الصينية المترجمة بدورها عن أسوأ ً
ومكّبرة أحيانا أخري ،وغير منق ّ
نسخ الشموليات البغيضة في الشرق أو في الغرب.
ما النموذج فهو ظاهرة هيام الطغاة باللوان ،علي الّرغم من كونهم أبناء الظلم
وأ ّ
وحارسيه!
مّرة ،قام الّلون الحمر بديل ً لبوذا ،وانتصب الكتاب الحمر بديل ً في تجربة الصين ال ُ
دس الذي انتظم أسماء البشر ،والمعاني، ّ المق لونّ ال هو الحمر لكونفوشيوس.
والمباني ،وجميع المناسبات.
ولعد ،الن ،إلي ذكر البلء الذي فاجأني بطّلته فيما كنت أحاول التشاغل عنه بمواجهة
بلء الخرين :لقد انتهت )تنغ -هسنغ يي( في أواخر تجربتها المريرة ،إلي العمل
مترجمة للوفود الرسمّية الّزائرة للصين .وهو عمل كانت تقوم به تحت سطوة رقباء
عليهم هم أيضا ً رقباء ل يغفلون!
تروي الكاتبة بعض وقائع مرافقتها لمسؤولين أجانب كبار ،وشخصيات ملكّية من
الشرق والغرب ،فتدهشنا بذكر بساطة هؤلء الّناس وعفويتهم وتواضعهم ،وتمّيز
زياراتهم بالّلطف والهدوء ،وانصرافهم كمقدمهم مثل نسمات عذبة.
ن ملكة إسبانيا شكرت كاتب مخزن لّنه لفت نظرها إلي تنسيل في ومن أمثلة ذلك أ ّ
ن السيدة شولتز .زوجة وزير خارجية أمريكا كانت امرأة لطيفة وودودة،
جواربها ،وأ ّ
ن إيد كوغ عمدة نيويورك ،لم يتوّرع عن مغافلة حّراسه ،ليجّرب كنس أحد شوارع وأ ّ
شنغهاي بمكنسة من صنع صيني ،لتجربتها من أجل عقد صفقة لشراء عدد منها
لمدينته!
ذافي ،فقد كان يمّثل نوعا ً آخر من المشاكل ..كنت ما القائد الّليبي العقيد الق ّ
تقول) :أ ّ
أتطّلع إلي رؤية رجل سمعت عنه كثيرا ،ووصفته البلدان الغربية بأّنه مجنون ،بينما
ً
قي صين صديقا ً عظيما ً )قرين الشيء منجذب إليه( ..ففي خريف 1982تل ّ اعتبرته ال ّ
ترحيبا ً حاّرا ً عندما زار بكين .وقبل عودته إلي ليبيا أقيمت وليمة كبري علي شرفه في
ّ
ذافين الق ّشنغهاي بدعوة من عمدة المدينة .وعندما وصلت إلي قاعة الولئم علمت أ ّ
كين .وكان رفضه حالة غير مسبوقة رفض الحضور .كان غير راض عن المحادثات في ب ّ
ٍ
في خرق البروتوكول ..وقد حاول أناس مختلفون ثنيه عن قراره ،ففشل الجميع،
ل ما رأيت منه هو ذافي زيارته وغادر في اليوم التالي ،وفي المطار كان ج ّ واختصر الق ّ
فة وهو يركب الطائرة(! حركة عباءته السوداء الملت ّ
ما عن خرقه البروتوكول فذلك أمر ل يدهشني ،لنني وجميع العرب الكرام نعلم أّنه
أ ّ
ً
قا في ما جري ح ّ ّ
من أصحاب السوابق واللواحق في خرق كل شيء ..لكنني أتساءل ع ّ
157
محادثاته مع المسؤولين الصينيين في بكين ،حّتي بلغ به المر هذا الحد ّ من عدم الّرضا،
ول أستطيع منع نفسي من التفكير في مسألة اللوان ..فهل يكون قد نمي إلي علمه
داخلي لشارات المرور ،فشعر من جّراء ذلك بالهانة صينية بالصلح ال ّ
تفكير القيادة ال ّ
ّ
الشاملة التي تنسف كل المكاسب الثورّية التي بذل الغالي والنفيس من أجل أن يحيا
ساحة إلي الّزحف إلي الكتاب إلي الّليبيون في نعمها الخضراء ..من الثورة إلي ال ّ
تفسيرات الكتاب؟!
نح ّ
ظها ل شيء في ليبيا كان ول يزال أخضر ..إل ّ ليبيا ،وسبب ذلك بالتأكيد هو أ ّ
ك ّ
ً
العاثر الذي جعلها من مكاسبه ،لم يجعله في يوم من الّيام واحدا من مكاسبها!
للكتب أرواح!
مد ٌُ
ن حية حافلة في صباي المبكر كان يداخلني دائما ً إحساس غريب ولذيذ بأن الكتب ُ
بأنواع الماكن وأصناف الناس ،وكنت أتخيل أن انطباق أغلفتها ل يوقف علي الطلق
ما فيها من ضجة الصوات وحركة الناس والمركبات ،أوإيناع النبات وذبوله ،بل أن
الغلفة ل تعدو كونها أبوابا ً تخفت بإغلقها الضجة وتختفي من ورائها الصور.
كان المر بالنسبة لي سرا ً شخصيًا ،إذ كنت من خلل الحروف السوداء الصماء أري
الصور بكل اللوان ،وأسمع الصوات بكل النبرات .لكنني ،في الوقت نفسه ،كنت
أضمر أن كل قاريء شغف ربما كان ينطوي هو أيضا ً علي سره الشخصي المماثل،
لكنه يري ألوانه الخاصة ويسمع أصواته المميزة.
وقد صدق اعتقادي هذا بعد أعوام طويلة ،عندما قرأت كلمات لحد النقاد ،علق فيها
علي أول فيلم للطفال مأخوذ من قصص المغامرات المصورة التي برع بانجازها
الرسام البلجيكي العبقري هيرجيه وجعل بطلها صحفيا ً شابا ً اسمه تان تان ..وهي
القصص التي قرأتها بكاملها في صباي وأوائل شبابي ،ومازلت إلي اليوم أعود إليها بين
الحين والخر بدافع الحنين.
أتذكر مما ورد في تعليق ذلك الناقد أن أحد الطفال الذين شاهدوا الفيلم ،خرج من
صالة العرض متعلقا ً بيد أبيه ،وقد بدا ساهما ً وحزينا ً وممتلئا ً بالخيبة.
واختتم الناقد تعليقه بالقول :إنه إذا لم يكن هيرجيه قدحظي بأي نوع من التقدير علي
أعماله ،فإن كلم هذا الصغير هو جائزته الكبري التي تغنيه عن كل جوائز التقدير
وكلمات الثناء ..لنه بخطوط ريشته وبكلماته المكتوبة قد استطاع أن يسمع ذلك
الصغير صوت شخصيته القصصية!
158
الواقع أن شخصيات الكتب ليست وحدها التي تبدو حية للقاريء الولوع ،بل إن الكتب
بحد ذاتها تبدو للمتعلقين بها كائنات حية يستمدون منها الحياة ،بالقدر الذي يمدونها فيه
بالحياة.
ولعل أصدق تعبير وأدق تصوير لهذه الحالة هو ما نجده في مفتتح رواية ظل الريح
للكاتب السباني كارلوس رويث ثافون الذي يضع علي لسان الراوي حديثا ً عن كيفية
عثوره علي نص تلك الرواية ،يخبرنا فيه أنه في طفولته عاش مع أبيه بعد وفاة أمه
في شقة تعلو محل ً لبيع الكتب المستعملة يملكه الب ..وعند بلوغه العاشرة أخذه أبوه
ذات يوم ،قبل بزوغ الفجر ،لزيارة مكان خاص ،من أجل أن يضع خطواته الولي علي
طريق وراثته في المهنة ،قائل ً له :إنه يريد أن يريه مقبرة الكتب المنسية ..وبعد
مسيرة طويلة عبر دروب وأزقة ضيقة ،يقفان أمام باب خشبي ضخم منحوت ،فيقرع
الب الباب ويفتح له ..وما يكادان يعبران ممرا ً فخما ً ومديدا ً حتي يفاجأ الطفل
بوصولهما إلي باحة واسعة تطرزها الممرات ،وتنعقد علي جدرانها العالية رفوف
طويلة غاصة بالكتب ترتفع حتي تلمس السقوف البعيدة جدًا.
عندئذ يبتسم الب قائل ً لولده :أهل ً بك يا دانيال في مقبرة الكتب المنسية .
ثم يبدأ في تلقينه ما تعلمه هو نفسه من أبيه ،موضحا ً له أن هذا المكان هو موضع
السرار ،وهو علي ذلك موضع مقدس :إن كل كتاب تراه هنا له روح ..هي روح
الشخص الذي كتبه ،ومعها أرواح أولئك الذين قرؤوه وعاشوا معه وحلموا به ..وفي كل
مرة تتبادل فيها اليدي كتابًا ،أو تجري فوق صفحاته نظرات شخص ما ،فإن روح
الكتاب تزداد نموا ً وقوة .
في هذا المكان كتب لم تعد في ذاكرة أحد ،وكتب فقدت مع الزمن ،تعيش هنا إلي
البد في انتظار اليوم الذي تصل فيه إلي أيدي قراء جدد .
وينبهه إلي حقيقة مهمة ،تغرب برغم بساطتها عن أذهان جميع الناس :إننا في المكتبة
نبيع الكتب ونشتريها ،لكن الحقيقة هي أن الكتب ل مالك لها .فكل كتاب هنا كان ذات
يوم أفضل صديق لشخص ما ،لكنها ،الن ،ليس لها سوانا ..أتعرف ما أفضل شيء
نصنعه بها؟ طبقا ً للتقاليد فإن أي شخص يزور هذا المكان لول مرة ،عليه أن يختار
كتابا ً ثم يتبناه ،وأن يكون واثقا ً من قدرته علي حمايته من الختفاء ،فذلك ما سيبقيه
حيًا .إنه تعهد في غاية الهمية ينبغي للمرء أن يلتزم به مدي الحياة ..وعليك اليوم أن
تؤدي هذا الدور .
وعن سعيه لتأدية دوره الذي قد حان ،يقول الراوي :أخذت أتجول بين تلل الكتب
المرصوفة بحثا ً عن كتاب أتبناه أو يتبناني ،فيما كان الناس خارج جدران هذا المكان
يسمحون للحياة بأن تتبدد عبر مشاهدة مباريات كرة القدم أو الستماع إلي التمثيليات
الذاعية ،وهم ل يفعلون شيئا ً سوي التحديق إلي مواضع حبل السرة في بطونهم!
وبعد نصف ساعة من التجوال ،ظهر لي العنوان بالحرف المذهبة :ظل الريح ..بقلم
جوليان كاركاس ..ولم أكن قد سمعت بهذا العنوان ول بمؤلفه من قبل ،لكنني لم
أهتم ،فقد اتخذت قراري وأنزلت الكتاب بكل عناية وحذر ،وحالما حررته من سجن
الرف ومن سحابة الغبار ،شعرت بالغبطة لختياري ،فوضعته تحت ذراعي وانقلبت
علي أعقابي خلل ممرات المكتبة والبتسامة تعلو شفتي ..لقد كنت واثقا ً من أن ظل
الريح كان ينتظرني هنا منذ أعوام ،ومن المحتمل أنه كان ينتظرني من قبل أن أولد !
159
إن ما مر بنا في مفتتح رواية كارلوس ثافون ،ينتهك في أذهاننا غشاوة العادة التي
فرضت علينا رؤية الكتاب باعتباره مجرد ورق و حبر ،وينقل إلينا عدوي اليقين بأن
الكتاب كائن حي يعيش حرا ً برغم تعدد مالكيه ،وأنه معرض للنسيان أو المرض أو
الموت ،وأنه قابل للتبني و الرعاية والحماية.
قد يبدو هذا مجرد خيال ،أو لعبا ً في ساحة المجازات ،لكن تجربة الكاتبة البريطانية
مارغريت فورستر خلل كتابتها لسيرة دافني دومورييه مؤلفة الرواية الشهيرة ربيكا ..
تضعنا أمام حقائق واقعية مذهلة من هذه الناحية ،ل نملك معها سوي التسليم بأن
الكتب ،علي نحو ما ،هي كائنات حية بالفعل!
قال بائع الكتب المستعملة لولده الصغير :إن كل كتاب تراه هنا له روح ..هي روح
الشخص الذي كتبه وأرواح القراء الذين تداولوه وعاشوا معه وحلموا به .
ذلك ما ورد في مفتتح رواية ظل الريح للسباني كارلوس ثافون ..ومثل هذا التعبير عن
أرواح الكتب كثيرا ً ما يلوح لنا علي صفحات العديد من المؤلفات ،وعلي ألسنة العديد
من المشتغلين بالكتابة أو القراء المدمنين ،ول ريب أن كل واحد منا ،مهما بلغت درجة
اقتناعه بصدق التعبير ،سيسارع إلي إدخاله في درج المقاربة المجازية ،إذ ليس من
المعقول أن يبلغ القتناع بالمرء حد التصديق ،واقعيًا ،بأن الكتاب كائن حي بالفعل
يمكنه مثل ً أن يحمل للخرين رسالة من صاحبه ،أو ينعيه لهم وهو علي فراش الموت
مذكرا ً إياهم بأن الوقت قد حان لتأبينه.
لكن ماذا نقول إذا علمنا أن كتاب ربيكا لدافني دومورييه قد فعل ذلك بالضبط؟!
تضمن كتاب حيوان للبيع لمارك بوستريدج ،حكاية الكاتبة مارغريت فورستر عن
تجربتها في كتابة سيرة دافني دومورييه وهي روائية بريطانية معروفة لها كثير من
العمال المميزة التي تحول معظمها إلي أفلم سينمائية ،مثل :الطيور ،نزل جامايكا،
بيت علي الشاطيء ،ربيكا ..وغيرها.
لكن ربيكا تظل أشهر رواياتها وأبقاها أثرًا ،وقد نال الفيلم الذي اقتبس منها بالعنوان
نفسه وأخرجه الفريد هيتشكوك جائزة الوسكار كأفضل فيلم لعام .1940
تقول فورستر إنها في يوم الحد 16أبريل 1989كانت تحاول أن تتناول كتابا ً من علي
رف المكتبة ،عندما سقط كتاب آخر علي الرض ،وحين التقطت ذلك الكتاب وجدت
أنه رواية ربيكا ..التي سبق أن قرأتها وهي في نحو الثالثة عشرة من عمرها ،ولم
تعاود قراءتها بعد ذلك.
160
وقفت في مكانها ،وبدأت تقرأ الرواية من جديد ،مستعيدة الثارة التي اعترتها أثناء
قراءتها أول مرة ..ثم وجدت نفسها تتساءل عما إذا كانت دافني دومورييه لتزال علي
قيد الحياة ،وما إذا كان هناك أي كتاب سيرة عنها.
ولن لها تجارب في كتابة السير ،فقد رغبت فورستر أن تستطلع هذا المر ،مؤملة بأن
تكون أول من يحظي بإذن كتابة سيرتها لكي يكون لها الحق الحصري بالطلع علي
كل أوراق الكاتبة.
وفي الحال كتبت بطاقة إلي ناشرة كتبها تبدي لها فيها رغبتها في كتابة سيرة دافني،
وتسألها عما إذا كان ذلك سيروق لدار النشر.
في صباح اليوم التالي وضعت البطاقة في البريد ،ثم عكفت علي إعادة قراءة أعمال
دافني ..وفي يوم الثلثاء تلقت ردا ً من الناشرة أبدت فيه ترحيبها بالفكرة ،وأنبأتها بأن
دافني لتزال حية ،وأنها تعرف وكيل أعمالها ،وستتصل به لترتيب المر.
الصدفة الغريبة هي أن سقوط رواية ربيكا من رف المكتبة بدا كما لو أنه إشارة إلي
أن دافني كانت قد بدأت تستعد لموتها!
ففي يوم الحد 16أبريل نفسه ،عندما استيقظت دافني من النوم قالت إنها تريد أن
تذهب إلي الشاطيء حيث كانت ربيكا بطلة الرواية قد واجهت منيتها.
وبالرغم من أن الوقت كان ربيعًا ،فإن الطقس كان متوحشا ً في ذلك اليوم كما في
الرواية ،حيث هبت الرياح هوجاء ،وهطل المطر بغزارة وشدة.
وقفت دافني هناك لفترة تحدق في البحر كشاخص تراجيدي ضئيل وصامت ،ثم عادت
لزيارة عدد من الصديقات من أجل توديعهن .
وفي اليوم نفسه الذي و صلتها فيه بطاقة الناشرة ،تلقت فورستر اتصالين من راديو 4
وصحيفة صاندي تايمز يطلبان منها فيهما كتابة نعي لدافني دمورييه التي ماتت للتو!
تلك ثلث مصادفت غريبة تتصل بنفس الروائية منذ سقطت روايتها من علي الرف..
وبفورستر التي فكرت بكتابة سيرتها!
تقول فورستر :لم أكن ،بالطبع ،أعرف أي شيء عن هذا ،عندما طلبت أن أكون الكاتبة
المخولة لسيرة دافني ،لكنني أحببت الحساس بأن القدر قد تدخل ،بطريقة ما ،في
هذا المر ..فاحتفظت ببطاقة الناشرة بطوابعها المؤرخة بوضوح ،وذلك خوفا ً من أن
يداخلني العتقاد بأنني أنا من اختلقت هذه البداية .
بعد أربعة أعوام ،حين نشرت سيرة دافني كان علي مارغريت فورستر أن تهيئ نفسها
للظهور في المناسبات الخاصة بترويج الكتاب .وقد حملها ذلك علي أن تتجول بين
المحلت لشراء ثياب جديدة لرتدائها في زياراتها لتسع مدن كان مقررا ً أن تتحدث فيها
عن كتابها.
وبعد جولة طويلة علي محلت اللبسة وقع اختيارها علي سترة أعجبتها لكنها لم تكن
تحمل بطاقة توضح ثمنها ،فتوجهت فورستر إلي البائعة وسألتها عن الثمن ،فقالت لها
إنه موجود علي الرقعة الخاصة بالمقاييس وهي داخل جيب السترة ،ثم سحبتها من
الجيب لكي تريها إياها.
161
رأت فورستر الثمن علي جانب من الرقعة ،لكن الغريب أن الجانب الخر من الرقعة
الخاص باسم مصممة الزياء ،كان يحمل اسم ..ربيكا !
تقول فورستر عن هذه المصادفة المذهلة أنها لتزال تود العتقاد بأنها لم تكن مصادفة
إطلقًا .إن هذا يذكرني بفلسفة الروائي المريكي المميز بول أوستر التي تقول بأن
أحداث الحياة الواقعية هي ليست إل سلسلة من المصادفات.
وعلي أساس هذه النظرة ،فإن ترادف المصادفات في حكاية فورستر إنما يشكل
حقائق واقعية خالصة ،المر الذي قد يقنعنا بأن للكتب أرواحا ً بالفعل!
طل ل يحسن أّية صنعة وليس له مي بليد متب ّ هناك حكاية شعبية عراقية عن رجل أ ّ
ظ من المعرفة .وكانت له زوجة اسمها )جرادة( هي علي النقيض منه تمامًا، أدني ح ّ
راجحة العقل سريعة الفهم.
سحر وقراءة الطالع، ّ ال يمتهن بأن بعلها علي )جرادة( أشارت ولكي تخرجه من بطالته
سوق ويعلن للناس فهي مهنة ل تحتاج إلي كفاءة ،إذ ليس عليه سوي أن يجلس في ال ّ
ظ بواسطة التمائم .وليس مّهما ً إذا كان أّنه يطرد الحسد ويشفي المراض ويجلب الح ّ
ً ً
ذج ،وأّية خربشة علي الورق ستبدو لهم طلسما سري ّا!. س ّ
ن الّناس ُ ل يعرف الكتابة ،ل ّ
وانصاع البليد لمشورة جرادة فكسب كثيرا ً من المال ،وذاعت شهرته في الفاق.
مة من الفلم الهندية ،فقد تهّيأت للبليد سلسلة من ن الحكايات الشعبية أوسع ذ ّ ول ّ
المصادفات التي جعلته يكشف عن خاتم الخليفة الضائع ،وعن صندوق مجوهراته
المسروق ،فأمر له بمنزل جميل وراتب ثابت ،وقّربه ،وصار يباهي به بين المراء،
ما مثل بين يديه فرغب أحدهم مّرة في أن يشهد بعض خوارقه ،فاستدعاه الخليفة ،ول ّ
ة وسأله) :ماذا في يدي؟(. مد ّ له قبضته مضموم ً َ
ظه اّلذي أوصله إلي هذا عندئذ ارتمي البليد علي الرض منهارا ً جزعا ً يندب سوء ح ّ
خ أخيرا ً يا جرادة(.ل) :لقد وقعنا في الف ّ المأزق ،وصار يبكي قائ ً
ن الخليفة ما أن فتح وهنا أيضا ً يطيب للحكاية أن تمسح الرض بجميع أفلم الهند ،إذ أ ّ
قبضته حّتي طارت منها جرادة كان ُيخفيها!.
وبعد هذه المحنة ،طلب البليد من )جرادة( أن تجد له مخرجا ً من المآزق التية،
م له أن ينعم بالمنزل والما بعيدا ً عن أ ّ
ي دعي الجنون ..وبهذا ت ّ فأشارت عليه بأن ي َ ّ
خطر.
ّ
ن حظنا علي هامش تلك الحكاية ،نستعيد حكاية غبّينا العاطل عن أّية قيمة ،فيبدو لنا أ ّ
العاثر قد وهبه حظ ّا ً لم يحلم به غبي الحكاية الشعبية علي الطلق.
ل الفرق بينها سرت له جرادة أمريكية بدينة ،تضع وترفع وتبلع ول تبشع ،وك ّ غبّينا هذا تي ّ
ن بليدها الفذ ّ ّ أ تعلم لنها الناس، سذاجة الي تستند لم نها
ّ أ هو الحكاية وبين جرادة
ً
ليس سوي نفاية في مقلب زبالة مهد الحضارة النسانية ،ولذلك فإنها بدل من أن
دسًا ،فكان كفيل ً بأن ُيحدث أثرا ً أقوي من تعطيه قلما ً ليخربش ،وضعت في قبضته مس ّ
ن.
ل خوارق الج ّ جميع طلسم البشر ،ومن ك ّ
نّ لك واحدة. مفيدة جملة يقيم أن الجاهل هذا يستطع في جميع خطبه النحاسّية ،لم
عشرات الكتب والطروحات الجامعية تناولت شرح فكره الثاقب وفلسفته العميقة!.
162
ولم يخدم هذا البليد الّرعديد يوما ً واحدا ً في الجيش ،إذ كان هاربا ً أبدي ّا ً من التجنيد،
لكّنه حمل فجأة أرفع رتبة عسكرية في العالم ،توجب علي )رومل( و)مونتغمري( لو
ديا له التحّية!. قاما من قبريهما أن يؤ ّ
ً
دين ،لم يكن قادرا علي أداء أبسط وعندما احتاج ،مضطّرًا ،إلي ارتداء قناع ال ّ
ن
دد خاشعا )نريد أن نكون عند حسن ظ ّ ً مقتضياته ،فقد كان يسجد دون ركوع ،وير ّ
ن ..وهو الول والخر والظاهر والباطن وهو ن الّله يظ ّ نأ ّ ن هذا الفدم يظ ّ الّله( ..أي أ ّ
بكل شيء عليم!.
دين لكي ينجو من مآزق حمقه ،فقّرر أن ّ
بل حّتي عندما تمادي في التدثر بعباءة ال ّ
طه علي علم البلد عبارة )الّله أكبر( ..جعل همزة لفظ الجلة همزة قطع. يكتب بخ ّ
ومع ذلك فقد جاءته وفود القنافذ السلحيين )بإلحاء ل بالميم رجاًء( لتبايعه خليفة
مي )عبدالّله المؤمن( ،وحمل تسعة وتسعين اسما ً ل تنقص عن أسماء س ّ
للمسلمين ،و ُ
ّ
فرون عباد الله حتي علي الله الحسني .ولم يجرؤ أيّ واحد من أولئك القنافذ الذين ُيك ّ
حح له همزة لفظ شرب الماء ،أن يشير علي خليفته بالّركوع قبل السجود ،أو أن يص ّ
الجللة علي العلم ،فظّلت همزة القطع كما هي يكّررها الخطاطون بكل تقديس حّتي
دة الخلفة!. بعدما قطع الّله دابره ،وأكرمنا بوصول )غير المحافظين الجدد( إلي س ّ
هل أضمرت )جرادة( المريكية ،كعادتها مع سحرتها الفلين ،أن تدعه ينجو؟ وهل
كرت ،من أجل ذلك ،في صياغة دعوي جنونه بسلسلة من المضحكات المبكيات؟ ف ّ
كل شيء ممكن ..ففي البداية أخرجته من الكنيف بما هو أسوأ من هيئة المجنون. ّ
ن النهار يحتاج إلي جلت محاكمته ما يزيد علي عامين ،بدعوي جمع الدَلة ..وكأ ّ مأ ّ ث ّ
دليل!.
م عرضته علينا مربوطا ً بالسلسل ،وهو يضحك لحارس المحكمة )نعم يضحك( وكأ ّ
ن ث ّ
أحدا يدغدغه!. ً
م لم تلبث أن ّ ث للخصاونة(، ً ا إكرام بما
ّ )ر داخلي ّ ال لباسه من إل ً ا عاري به م جاءت إلينا ث ّ
جانيه وهو يعدهم فيه بدعوتهم إلي القصر عندما يعود إلي ً
نشرت أخيرا حديثه إلي س ّ
سلطة!. ال ّ
ّ
نحن ل نحتاج إلي كل هذا لنعلم أّنه مجنون .نحن لم نعش في عذاب مقيم إل لننا كّنا ّ
ن تحت قحف رأسه كومة تبن ،وإل ّ لننا أردنا أن يكون عصف نؤمن إيمانا ً قاطعا ً بأ ّ
جنونه علي أهله وحدهم ل علينا.
ي الحكاية قد نجا بجنونه فهنيئا ً له ..لّنه ،فوق كونه خيالي ًّا ،لم يقتل أحدًا، وإذا كان غب ّ
ّ
ن مجنوننا هذا قد زرع البلد كلها ولم يسرق مال أحد ،ولم يهتك عرض أحد ..لك ّ
داعية إلي بالمقابر الجماعّية ،حتي أصبحت القبور المفردة المعلومة نوعا ً من البدع ال ّ
جب والستغراب. التع ّ
ن جميع قوانين السماء والرض ،ل تبيح أبدا ً البقاء علي وحّتي إذا عددناه كلبا ً شرسًا ،فإ ّ
حياة الكلب المسعور.
في القول العراقي الشائع) :لك بها إرادة يا خالق الجرادة( ..ونحن نحمدالّله علي أ ّ
ن
)إرادته بها( قد خّلصتنا من صنيعتها الجاهل الّفاق ..لكن حاشي لها أن تبقيه علي قيد
ن من قتل نفسا ً بغير نفس أو فساد في الرض فكأّنما قتل الناس جميعًا.. الحياة ،ل ّ
ً
فكيف بمن قتل الناس جميعا؟!.
163
العهد الّزاهر!
تناقشت مع المدير ،هذا الصباح ،حول خرائط المبني الجديد ..لم يعجبه الشكل
الهندسي الذي و ضعته للكافتيريا الملحقة بالمبني.
سألني بازدراء :ما هذا؟!
قلت له موضحًا :قدرت أن تصميم الكافتيريا علي شكل شبه منحرف سيوفر في مادة
البناء من ناحية ،وسيجعلها أكثر حميمية ودفئا ً من ناحية أخري .صاح محتجًا :اخرس يا
وغد ..ل مكان ،في هذا العهد الزاهر ،للنحراف أو شبه النحراف ..إن هذه المباني ل
توجد إل في عهد الستعمار .اذهب ونظف أفكارك ،واحذر أن تلوث الخريطة ثانية بأي
شكل من أشكال العمالة والرجعية ..اخرج.
خرجت مكفهرًا ..لحظ رئيس القسم علمات الضيق علي وجهي.
سألني :ماذا حصل؟
قلت له :يبدو أن المدير منحرف المزاج هذا اليوم.
صرخ في وجهي :اخرس يا وغد ..ل تصف المدير بمثل هذا الوصف القبيح ..لقد ولي
النحراف مع عهد الستعمار البغيض .مديرنا رجل وطني مخلص وأمين .قلت مدافعا ً
عن نفسي :إنني أصف مزاجه فقط ..لقد عاملني بمنتهي العنف لتفه سبب.
قال رئيس القسم :بإمكانك ،إذن ،أن تقول إنه عنيف ..خليق بمدير وطني مثله أن
يكون عنيفا ً في زمن العنف الثوري.
أستأذنت لمراجعة الطبيب ..طلبت سيارة أجرة ،قلت للسائق ،وأنا أشير إلي مدخل
العمارة التي تقع فيها العيادة:
انحرف إلي اليمين رجاء.
ً
أوقف السائق سيارته فجأة ،والتفت إلي معنفا :أخرس يا وغد ..انني سائق وطني
مخلص من زمن الستقلل .إنني قد أستدير ألف مرة ،لكنني لن أنحرف ولو ذقت
الموت .لقد ولي زمان النحراف مع أسيادك المستعمرين .أنزل هنا .لقد لوثت
سيارتي.
ً
قطعت المسافة المتبقية سيرا علي قدمي ..وصلت إلي العيادة وأنا ألهث .لبس
الطبيب ابتسامته ،وسألني :مم تشكو؟
قلت :أشكو من انحراف في الصحة يا دكتور.
نزع الطبيب ابتسامته فورًا ،وضرب الطاولة بجمع كفه :اخرس يا وغد ..الصحة ل
تنحرف في هذا العهد الزاهر ..الصحة قد تمرض ،قد تسوء ،قد تنعدم ،لكن أن تنحرف
164
فل وكل ولن ..لقد ولي النحراف مع جلوزة الستعمار .اخرج من عندي .أنا ل أعالج
العملء أمثالك.
ل ..مشيت كالنائم .كانت شاحنة مسرعة قد انحرفت عن الخط، خرجت من العيادة مثق ً
واندفعت قاطعة الرصيف في اتجاهي ..قفزت مبتعدا ً عن طريقها بكل ما أستطيع من
سرعة ،ونجوت باعجوبة.
خرج بائع الخضار الذي ارتطمت بصناديق دكانه.
سألني بهلع :ماذا حصل؟
فكرت هذه المرة قبل أن أجيب.
قلت له :لقد أستقامت الشاحنة عن الطريق ،وكادت تدهسني.
قطب البائع حاجبيه :استقامت عن الطريق؟ ماذا تعني؟!
قلت وأنا أنهض مبتعدًا :كما قلت لك ..ل تجرجرني بالكلم .كل شيء مستقيم في هذا
العهد الزاهر .الشاحنات ل تنحرف عن طريقها ..افهم هذا جيدًا.
صفق البائع بكفيه ،ثم رفعهما عاليًا:
اللهم اكفنا شر الجنون.
لمسني علي الرصيف المقابل طن من الصباغ متنكر بهيئة امرأة ..كانت شفتاها
تؤرجحان العلكة ببطء واتساع .غمزتني ،وشقت حلقها ضاحكة.
تجاهلتها ،لكنها لم تتجاهلني ..مشت بإزائي وهي تصفر ،ثم لم تلبث أن قرصتني
بلطف ،وسألتني بلهجة مذيعة فضائية :ما رأي بعض الناس في الحب؟
رددت بسأم :ماذا تريدين مني؟
قهقهت برقاعة وصفعت كتفي :أريدك كلك.
ابتسمت بمرارة :هذه ارادة مكلفة.
قالت :أقبل بأي مبلغ تدفعه.
شعرت بالحرارة تشوي وجهي :ماذا تقولين؟!
قالت :بأي مبلغ.
صرخت بوجهها :أنت عديمة الدب.
ضحكت بل مبالة :هذا صحيح ..أنا منحرفة.
استوقفتها محققًا :ماذا؟
قالت بكل ثقة :أنا منحرفة.
صرخت بكل قوتي :اخرسي يا وغدة ..ل تنطقي بمثل هذا الكلم القبيح .قولي إنك
عاهرة ..عاهرة وطنية مخلصة من زمن الستقلل ..ل توجد عاهرة منحرفة في هذا
العهد الزاهر .النحراف ولي مع الستعمار.
165
بالمشمش )) (3-1رجل المن(
التفت أحدهما فجأة ،وصرخ في وجه الرجل الغامض الذي كان يتبعهما:
-مكانك .من أنت؟ وما هدفك من السير وراءنا منذ تركنا المقهي؟
قال الرجل بهدوء وثقة:
ً
-أنا رجل أمن يا سيد .وهدفي واضح جدا .أريد أن أعرف بالضبط ما هي وجهتكما،
وماذا تنويان أن تفعل.
-ما الذي دعاك إلي هذا؟
-أنتما دعوتماني .صوتكما كان خافتا ً للغاية .لم أستطع أن أفهم من كلمكما شيئًا .كل
ما سمعته منكما هو ..لبد من فعل شيء ما .حسنًا .أنا وراءكما لكي أعرف هذا
الشيء ألما .أعتقد أني معذور يا سيد .لو لم أتبعكما علي الفور لضحك مني حتي
الطفال.
-معك حق ..في الواقع يا أخ ..نحن لدينا مؤامرة .نريد أن نسقط نظام الحكم بأية
طريقة .أرجوك أل تلحقنا ،فالطريق طويل وسوف تتعب .مكان اجتماعنا مع قادة
المجموعة يقع علي أطراف البساتين.
تنهد رجل المن:
-أخزي الله شيطانك .أما كان بإمكانكما أن تتحدثا بصوت أكثر ارتفاعًا؟ لو فعلتما ذلك
لما داخلني سوء الظن ،ولما تورمت قدماي من طول المشي وراءكما .لقد حسبتكما
تدبران لعملية سطو أو قتل .سامحكما الله .الن فقط طمأنتني .مع السلمة.
ل ..أل يهمك أن نتآمر لسقاط النظام؟! -مه ً
-كل .ل يهمني علي الطلق .واجبي هو أن أحفظ أمن الناس ل أمن النظام .النظام
كفيل بالحفاظ علي نفسه ،ثم أنكم لن تستطيعوا إسقاطه إذا كان مستندا ً إلي تأييد
الناس وحبهم ،لن الناس سيسقطونكم في الحال .أما إذا استطعتم أن تسقطوه
بسهولة ،ولم يفكر الناس بإسقاطكم ،فذلك يعني أن النظام متهريء وبغيض وجدير
بالسقوط .وفي هذه الحالة ..ألف مبروك لكم ،وشكر الله سعيكم!
166
بالمشمش )(2/3
)رجل الّرقابة(
جبًا:
قال الكاتب متع ّ
-لننا لم نجد فيه شيئًا .بصراحة يا أخ ،كتابك تافه .وإذا شئت الدّقة ..كتابك نوع من
الّزبالة النظيفة.
لقد سكبت فيه عصارة قلبي من أجل إبراز منجزات الثورة العظيمة.
-آسف .لم نجد فيه عصارة قلب ،بل وجدنا فيه ما يشبه عصارة شيء آخر!
-انشره.
167
-ك ّ
ل ..ليس هذا من عاداتنا.
سلطة(
بالمشمش ) 3/3رجل ال ّ
168
شاب النيق ،فجأة ،إلي مقدمة الطابور الطويل أمام مخزن التموين. قفز ال ّ
ارتفعت أصوات الواقفين بالحتجاج ،وحاولوا دفعه إلي الوراء دون جدوي.
من منتصف الطابور اشرأب عجوز وقور وناداه بلطف:
ّ
دور يا ولدي .نحن واقفون هنا منذ ساعتين ،وليس من العدل أن تتخطانا إلي -بال ّ
وك.ّ لت جئت وقد دمة المق ّ
قهقه الشاب ساخراً:
دي.
-العدل في وزارة العدل يا ج ّ
صاح العجوز:
-أعلم ذلك ..وينبغي أن يكون العدل في الطابور أيضًا.
عفط الشاب ،ولزم مكانه.
شاب بتؤدة ،حّتي إذا حاذاه قال بصوت عندئذ ترك العجوز موضعه ،ومشي نحو ال ّ
خفيض:
ما فعلت.ّ ع راضين غير ً ا جميع نحن الطابور. آخر في ّ
لك مح -خذ
شاب وأمسك بياقة العجوز: نفر ال ّ
من أنا؟ َ تعرف هل الرض. بك فسأمسح ّ ل وإ مكانك، إلي عد والن رسالتك. وصلتنا -
ن ما فعلته خطأ. من أنت ،لكنني أعرف أ ّ -ل أعرف َ
-اقفل فمك ،وعد إلي مكانك قبل أن تندم.
-لن أندم علي قول الحقّ أبدًا.
من أنا. -أنصحك لوجه الّله أن تغرب عن وجهي ،وإل ّ فإَنك ستبول بملبسك إذا عرفت َ
من أنت؟ -سامحك الّله .ليس فعلك وحده القبيح ..أقوالك أقبح .للمناسبةَ ..
داخلية؟! -أنا ابن وزير ال ّ
داخلية؟! -ابن وزير ال ّ
داخلية. -نعم ..وزير ّ
ال
-يا للويل .لم يخطر في بالي شيء من هذا علي الطلق ..يا للويل.
-ألم أقل لك إّنك ستندم؟
ً
-صدقت .ليس في الدنيا من هو أكثر ندما مّني.
استدر يا ولدي وطأطئ؟!
وة تكفي لرسالك إلي أحضان أبيك الذي لم -نعم ..تطأطئ ،لكي استطيع أن أركلك بق ّ
يعرف كيف يربّيك.
شرر من عينيه: ً
شاب غضبا ،وتطاير ال ّ احتقن وجه ال ّ
ت عمرك. يع
ّ َ ض عمرك.. ت -ضّيع َ
-نعم .ضّيعته مع أمثالكم.
نّ تظ من َ الطريقة؟ بهذه مخاطبتي علي الجرأة تواتيك كيف -أّيها العجوز الخرف،
نفسك؟!
ن نفسي .إنّني أعرفها حقّ المعرفة.. ّ أظ -إّنني ل
أنا رئيس الجمهورية!
مت الموافقة
ت ّ
قفا .من فوق أم منقالوا يا عبد المجيد أحضر صورتين للوجه .أحضرت .وصورتين لل َ
تحت؟ من فوق يا قليل الدب .فعلت يا أخي .تنفع .أل تنفع؟ منعا ً لللتباس .علي القل
صفعات علي حجم قفاي. إذا أرادوا صفعي ،ذات مّرات ،فستكون ال ّ
169
ي .حسنًا ،ارفعوها .قالوا ارف ْ
ع ولوني إلي قسم البصمات .رفعوا بصمات أصابع يد ّ ح ّ
ي ،مع أنهما غير مشمولتين ُ
ضر .مغطوا أذن ّ رجليك .قلت لهم هذا ل يحدث في بلد متح ّ
برفع البصمات .ل بأس .تنفع أل تنفع؟ علي القل صرت أسمع وأطيع بشكل أفضل.
ي فرفعوا بصماتهما ،وعرفت حينئذ ٍ أّنه رفع من أجل الّرفع.
رفعت رجل ّ
حسن السلوك يا عبد المجيد .ل بأس .وإن كنت سأدفع ربع دينار استخرج شهادة ُ
للمختار من أجل ذلك .يا مختار ما رأيك بسلوكي؟ سلوكك جّيد يا عبد المجيد .إذن،
أشهد أّنه جّيد .حاضر ..الناس للناس .وربع الدينار لك يا مختار .ماذا تقول يا وسخ؟ أنا
آخذ منك ربع دينار؟ ليس أقل من خمسة دنانير .كيف تظن يا مختار أنني أملك خمسة
يء يا عبد المجيد .وستري أّنهن سلوكي جّيد؟ إذن سلوكك س ّ دنانير ،مع أنك تشهد بأ ّ
سّيئ حتي لو شهدت لك مجانًا .الخرون سيطلبون أكثر .آخرون؟ هل هناك آخرون؟
طبعا ً يا عبد المجيد ،كأّنك لست من هذا البلد .وراءك مركز الشرطة ،وبيت الحزب،
ودائرة المن ،وشعبة العمل الوطني ،وقسم الهجرة ،والتحاد النسائي .سامحك الّله يا
مختار ..أنا لست امرأة.
ن المرأة يا مختار
ما لها المرأة يا ولد؟ المواطنون سواسية مثل أسنان الرئيس .لك ّ
ناقصة عقل ودين .وهل عندك أنت عقل ودين؟ إّياك أن تبوح بهذا لحد .إياك .نصيحة
لوجه الّله .سوف تضيع يا ولد.
بماذا سيشهد التحاد النسائي يا مختار؟ من باب الحتياط يا بني .سيعرضون صورتك
علي جميع نساء البلد من يدري ..ربما كنت قد تحرشت بواحدة .أيّ الصورتين يا
دت من قُُبل فقد صدقت وأنت من الكاذبين. مختار؟ كلهما يا حمار .فإذا كانت ثيابك قُ ّ
مدبر عنها .أأنا مجنون؟ طبعا ً مجنون يا ُ وأنت وما شأن قفاي؟ ربما تكون قد غازلتها
معطيها ظهرك ..ماذا تكون سوي مجنون؟ علي رسلك عبد المجيد .تغازل امرأة وأنت ُ
ل نساء البلد يا مختار؟ طبعًا.
يا مختار .أنا لم أفعل شيئا ً كهذا .فقط أنبهك يا ُبني .ك ّ
متي ستنتهي الشهادة إذن؟ تنتهي وقتما تنتهي ،لماذا العجلة؟ قوانين الدولة أكبر من
رأس الذي خلفك.
ت سريرنا يا أخي .وعندئذ اقتنع المختار بحسن سلوكي .قلت لنفسي وأنا أتخيل بع ُ
القائمة :ماذا أبيع أكثر؟ لم أحتج إلي بيع أي شيء .تبين أن المختار سيء السلوك .لم
ذاب .كادوا يحبسونني حين هممت بفتح الموضوع .ل يقبلون ُيطالبني الخرون بشيء .ك ّ
الرشوة .موظفون عقائديون .كل ما طلبوه مني هو أن أكون )متعاونًا( ..قلت لهم أنا
مؤمن جدا ً بالتعاون) ..قوم تعاونوا ماذّلوا( .قالوا بارك الّله فيك .وانهالت البركة أكثر
من؟ عن الخونة ي أن أكتب تقريرا ً يوميا ً لكل دائرة علي حدة .ع ّمما يجب .كان عل ّ
أعداء الجماهير .كيف أعرف الخونة يا جماعة؟ الخونة معروفون يا عبد المجيد.
المواطن الجيد يعرف الخائن من نظرات عينيه .ما علمة ذلك؟ العلمة تدركها
صافي.بضميرك اليقظ ال ّ
وكان علي ضميري أن ُيدرك .المسألة يا أخي مثل التّنور .حطب ،حطب ،حطب .لبد
ل يوم .ثلثمائة وخمسة وستون خائنا ً في السنة ،بخلف السنوات
أن تلقي حطبا ً ك ُ ّ
الكبيسة .للمناسبة دعني أنظر في عينيك.
قالوا في مركز الشرطة أأنت مجنون يا عبد المجيد؟ تجاوزت الثلثين ولم تستخرج
حتي الن شهادة الجنسّية.
قلت معي الجنسية .قالوا ل تنفع .يجب أن تكون لديك شهادة للجنسية والشهادة من
دم.
يشهد لها؟ قالوا ل تتصنع خفة ال ّ
170
أربعة أشهر يا أخي .بحثوا في كشوف المواليد من حمورابي وفرعون الكبر مرورا ً
ن جنسّيتي هي من ُقطز هذا؟ أربعة أشهر ومائة دينار حتي شهدوا أ ّ بقطز .للمناسبة َ
ن المبرياليين أعداء الجماهير يكتفون ببطاقة الهوية.
جنسيتي ،مع أ ّ
أمل هذه الستمارة يا عبد المجيد .هذه عشر استمارات كل ّ إنّها واحدة يا عبد المجيد.
ت عبد المجيد .السم الكامل حتي الجد السابع استمارة واحدة من عشر صفحات .ومل ُ
مه وخاله ،ول تنس والثلثين .اسم أبيك وجميع إخوانه .إنه وحيد أبويه .اذكر أولد ع ّ
أشقاءك وأولد عمك وخالك .وأمي؟ وأمك وجميع أقاربها .اذكر انتماءات الجميع،
وميولهم ،واتجاهاتهم عنوانك الحالي والسابق والذي قبله .أين كان يسكن أهلك قبل
دد نوعية الزفر .أين أن تولد؟ ولماذا؟ ماذا كان يطبخ جيرانكم في ساعة مولدك؟ ح ّ
بدأت الدراسة؟ وأين أنهيتها؟ إذا كنت لم تبدأ الدراسة اذكر أين لم تبدأها؟ ماذا كان
يفعل المدرس إذا انقطع رباط حذائه؟ ولماذا؟ اذكر سبعة أبيات للشنفري .لم أعرف
ل هذا التاريخ العريق إل بعدما انتهيت من ملء الستمارة .استحق ن لعائلتي ك ّ
يا أخي أ ّ
الدكتوراه بامتياز علي الجهد الذي بذلته .ومع ذلك كدت ارتكب الخيانة العظمي.
نسيت ،وجل من ل ينسي .سامحوني بعد أن دبغوا جلدي ،وأضافوا المعلومة الناقصة
ت
عن قطتنا التي أنجبت قبل ثلث سنوات وماتت لها هّرة بعد أيام من الولدة .نسي ُ
طوطة(.اسم الهّرة ،لكنهم مازالوا يتذكرونه .قلت لهم إنها )قطقوطة( .قالوا كل ّ إنها )ق ّ
قلت لنفسي :آه يا ُقطز .إذن هم الذين بّلعوك القاف .كنت أظنها قاف الّتشبيه .ويلك
ن كل مواطن شريف يا )ط ُّز( ..إنها قاف هّرتنا المرحومة .قالوا لي في بيت الحزب إ ّ
هو عضو في الحزب وإن لم ينتم .طعنوني في شرفي يا أخي جعلوني )عضوًا(!
لم تشهد لي شعبة العمل الوطني حتي تطوعت في مصنع النسيج ،وفي هيئة
المجاري ،وفي مصلحة اللبان لمدة ثلثة أشهر.
أصبح عندي طن من الورق .حملته في شاحنة إلي المؤسسة العامة للجهزة الدقيقة.
قلت لهم :ها هي الموافقة .قالوا نفدت الكمية .انتظر دورك يا عبد المجيد .وانتظرت
يا عبد المجيد .تسعة أشهر يا عبد المجيد ،وحين جاء دوري يا عبد المجيد ،عطوني
)اللة الطابعة( ولم يعطوني الشريط!
ن
كيف أطبع يا جماعة؟ ماذا تريد أن تطبع يا عبد المجيد؟ الحقيقة نسيت .يا جماعة لك ّ
ل سأطبع به تقاريري اليومّية عن الخونة .عيب يا عبد الشريط ينفع .أل ينفع؟ علي الق ّ
المجيد .العتماد علي النفس فضيلة .لماذا خلق الّله الصابع يا عبد المجيد؟
كتب مشاكسة!
أحمد مطر......
ن بعض الكتب تمارس علي مؤلفيها نوعا ً
من الظواهر الغريبة في عالم التأليف ،أ ّ
عقد شراك يصعب التخّلص منها ،أو إلي ُ
غليظا ً من المشاكسة ،وتستحيل أحيانا ً إلي ِ
مستحكمة ترافق الكاتب طول حياته دون أن يفلح في حّلها برغم كثرة المحاولت.
171
وأطرف ما في هذه الظاهرة هو أنها تختص بالكتب الناجحة جدًا .والمفارقة هنا هي أ ّ
ن
ن نجاح الكتابصة الفشل ،ذلك ل ّ فرحة الكاتب بنجاحه تشبه إلي حد ٍ بعيد شعوره بغ ّ
يقوم كحائط سميك من الكونكريت يحجب وراءه جميع البداعات التالية للكاتب ،أو
رّبما يتطاول حتي يحجب الكاتب نفسه.
وتلك الظاهرة قد تتعّلق بروعة مضمون الكتاب بأكمله ،أو بروعة بناء إحدي شخصياته.
ن السير آرثر كونان دويل مبتكر شخصّية شرلوك هولمز قد بلغ من خذ مثل ً علي ذلك أ ّ
النجاح حدا ً جعله أسيرا بالفعل لهذا المفتش الخاص المختلق ،ذلك أّنه بعد سلسلة
ً
طويلة من القصص حاول أن يستريح ،فدّبر محاولة لقتل هولمز ،لكّنه لم يدرك عقم
محاولته هذه إل ّ عندما وجد أن جمهور القّراء قد حاصر بيته في مظاهرة احتجاج منددا ً
ج دويل من غضب الجمهور فيها ،بجدية بالغة ،بدويل المجرم الذي قتل هولمز ،ولم ين ُ
إل حين ابتكر ،برغم أنفه ،حيلة أدبية ،أعاد فيها شخصية هولمز إلي الحياة ،وربط رقبته
في حبلها إلي آخر حياته!.
قي ،
ومن أمثلة هذا ،عندنا ،تلك العقدة الحادة التي عاناها الديب العظيم يحيي ح ّ
صة القصيرة في صته )قنديل أم هاشم( ..فعلي رغم كونه أحد أبرز رّواد الق ّ بسبب ق ّ
العالم العربي ،وله منها رصيد ضخم ومهم ،وعلي رغم إبداعه للعديد من القصص
مة الخري ،وعلي رغم إتحافه المكتبة العربية بعشرات الكتب التي الطويلة المه ّ
منت مئات المقالت في شّتي النواحي التاريخية والدبية والفنّية ،فإّنه عاش ومات تض ّ
ّ
صة ،ول يشار إليه إل بأّنه )صاحب القنديل(!.
وهو مدموغ بهذه الق ّ
وأحسب أنني قرأت له في أكثر من موضع تعبيره عن الضيق والنفور من هذا الوصف
الخانق الذي ل يريد أن يتزحزح قليل ً ليفسح المجال لبروز إبداعاته الخري .ومن
طريف ما قرأت ،في هذا المجال ،كتاب )فرنسا والفرنسيون ..علي لسان الرائد
طومسون( للكاتب الفرنسي بيير دانينوس ..فهذا الكتاب الذي نقله إلي العربية
كل نجاحها مقلبا ًالدكتور ثروت عكاشة ،يقف في مثابة واحدة مع تلك الكتب التي ش ّ
لصحابها!.
كان دانينوس قد نشر فصول هذا الكتاب عام 1954كمقالت متتابعة في صحيفة
م ما لبث أن أصدرها في كتاب في السنة ذاتها ،فإذا به ينجح نجاحا ً
فيجارو الباريسية ،ث ّ
ل ،ويترجم إلي العديد من اللغات ،ويباع من طبعته الفرنسية وحدها ،في ذلك مذه ً
الوقت ،أكثر من أربعة مليين نسخة.
وأعجب ما في أمر هذا الكتاب هو أّنه ليس عمل ً روائيًا ،بل مجرد مقالت تستقصي
بالنقد الساخر جميع ما وقع للمؤلف عن فرنسا والفرنسيين ،لكّنه ،مع ذلك ،أ ُ ِ
عد ّ ليصبح
ول بعد ذلك إلي فيلم سينمائي!. جل علي اسطوانات ،وتح ّ
س ّ
م ُ
مسرحية ،ث ّ
ن دانينوس قد خشي من غضبة الجمهور الفرنسي عليه إذا هو صارحه بآرائه ،فإنه ول ّ
ابتكر شخصية ضابط انجليزي متقاعد اسمه )طومسون وليام مارماديوك( ،وزّوجه من
م وضع علي لسانه جميع الراء الساخرة في امرأة فرنسية ،وجعله يعيش في باريس ،ث ّ
الحياة الجتماعية الفرنسية ،واكتفي بأن يكون مساعدا ً للضابط المتقاعد ومترجما ً
لمذ ّ
كراته!.
ولّنه نجح جدا ً في بناء شخصّية طومسون ،ونجح إلي حد بعيد في رصد تفاصيل الحياة
ن شخصّية ذلك الرائد النجليزي
الفرنسية وتناولها بالنقد بأسلوب ساخر بالغ الروعة ،فإ ّ
قد طغت علي شخصيته جدًا ،بل استطاعت أن تمحوه تماما ،علي الرغم من كونه قد
ً
حاول ،من خلل شخصيته كمساعد ومترجم فرنسي ،أن يرصد حياة النجليز وسلوكهم
بالنقد الساخر في موازاة نقده للفرنسيين.
172
ن الناس باتوا يذكرونه وينسون المؤلف،وبلغ من طغيان شخصية الرائد طومسون ،أ ّ
ً
ن سفير بريطانيا في باريس قد كتب إليه بعد صدور الكتاب قائل) :كم أنا شاكرحتي أ ّ
لو أبلغت تهنئتي للرائد طومسون ،وكم كنت سأكون سعيدا ً لو أّني رأيت توقيعه علي
الهداء(!.
بل إن إحدي القارئات الفرنسيات ضاقت ذرعا ً بعبارات النقد الساخرة التي وجهها ذلك
الضابط النجليزي )الخيالي( إلي الفرنسيين ،فعابت علي دانينوس اهتمامه بترجمة
ذلك الكتاب الذي ل ُيقبل فرنسي علي ترجمته إل ّ إذا كان مرتشيًا!.
ومن الطبيعي ،بعد ذلك ،أن تصبح شخصية طومسون المختلقة مثيرة لغيرة دانينوس
لّنها استأثرت بالشهرة من دونه ..وهذا ما عّبر عنه في كلمته أمام إحدي الجمعيات
حمقي حين استضفت البريطانية التي استضافته في ذلك الوقت ..إذ قال) :ما أشد ّ ُ
حيني جانبا ً ليأخذ مكانه في الكتاب ،وإذا أنا ل مكان لي
إنجليزيا ً في كتابي ،فإذا هو ين ّ
ت أتساءل عن دعوتكم :هل كانت لي أم للرائد طومسون؟(!. فيه ،حتي ب ّ
مبتلي هو أيضا ً وكلمة دانينوس هذه تذ ّ
كرنا بكلمة مماثلة للكاتب الكبير الطّيب صالح ،ال ُ
بنجاح روايته )موسم الهجرة إلي الشمال( التي حجبت بشهرتها رواياته وكتبه الرائعة
الخري.
ففي منتصف الثمانينيات كان الطّيب صالح قد دعي إلي تونس ،وكان حينذاك موظفا ً
ن رجل ً عربيا ً استوقفه ذات يوم ليسأله:
في اليونسكو ،فروي في كلمته أمام مضيفيه أ ّ
أأنت أبوصالح الطّيب؟
وتجاوز الطّيب عن ذلك التصحيف الذي لحق باسمه ،وأجاب :نعم ..أية خدمة؟
فإذا بذلك الرجل يسرف في إبداء حفاوته بالكاتب قائل ً إّنه من أشد ّ المعجبين به وإّنه
قرأ له ديوان شعر اسمه )هجرة الشمال إلي الجنوب( وقد ُأعجب به كثيرًا!.
وبعد هذه اللخبطة التي سببتها شهرة روايته حتي جعلت رجل ً لم يقرأه يح ّ
ولها إلي
ديوان شعر بعنوان مختلف ولمؤلف مختلف ،خلص كاتبنا إلي مخاطبة مضيفيه قائ ً
ل :إن
ن هناك رجل ً آخر يحمل السم هناك موظفا ً في اليونسكو اسمه الطّيب صالح ،كما إ ّ
جهوا الدعوة إلي الول ذاته يكتب القصص وما إلي ذلك ..وإنه يخشي أن يكونوا قد و ّ
فجاءهم الثاني!.
الب ّ
طة التي ماتت من الضحك
عثر رجل فقير على )بيضة( ،وعلى الرغم من كونه جائعا ً جدًا ،فإنه امتنع عن أكلها،
واستخدم الذّرة الوحيدة الباقية من عقله لستعادة الحكمة الصينية القائلة بتعلم الصيد
بدل ً من ابتلع السمكة المهداة من الصياد.
قال لنفسه :ليس عندي أكثر من وقت الفراغ ،ولذلك سأجلس فوق هذه البيضة الى
أن تفقس ،وكل ما سيأتي منها سأتبناه.
173
وفكر في المر على النحو التالي :إذا كان الوليد فرخ دجاج فسأطعمه أفخر انواع
الديدان ليكبر ويصبح دجاجة سمينة تبيض لي بيضا ً كثيرا ً آكل بعضه وأبيع بعضه الخر
للملحنين ليسلقوه ويقدموه أغاني شبابية.
ً
وإذا تبّين انه ديك فسأبيعه لحد احزاب المعارضة ليتخذه رمزا له ،كأن يضعه فوق
مزبلة لكي يصيح ،فالديك مثل تلك الحزاب تمامًا ،يؤمن بأن الشمس ل تشرق إل
استجابة لصياحه.
وإذا تبّين ان الوليد أوّزة ،فسأهديها لحد معسكرات الحركات التصحيحية من أجل ان
ما إذا كانت من تلك الوزات التي تبيض ذهبًا، يتدرب القادة على )مشية الوزة( ..أ ّ
فستصادرها السلطة مني ،وستعطيني بدل ً منها وساما ً من النحاس ،وهو كل ما
ينقصني في هذه الحياة.
وإذا تبّين أن الوليد أفعى ،فستلدغني قبل ان أتبّناها ،وعندئذ سأدخل الجنة باعتباري
من شهداء العمليات الجهادية )المتتّرسة( كأيّ واحد من أطفال العراق السعداء.
ما إذا كان الوليد سلحفاة ،فسأهديها الى وزارة القتصاد ،من أجل دفع عجلة التنمية، أ ّ
وبذلك سأكسب الجر والثواب ،اضافة الى تنمية ثوبي برقعة جديدة.
طة صغيرة جدًا ،وبرغم مرور أشهر بعد أسابيع من جلوسه فوق البيضة ،فقست عن ب ّ
طة ضامرة وبائسة مثل كرة مضرب .وتبّين للفقير على خروجها من القشرة ،بقيت الب ّ
أنها معاقة وعاقر وحولء أيضا ً ول تعرف السباحة على الطلق ،لكّنها ،والحقّ ُيقال،
كانت تستطيع أن تقول) :واك(.
رضي الرجل بقسمته صاغرًا ،وقال في نفسه :إنها ابنتي على كل حال ،وإذا أنكرت
ل من لقمة .وعليه فإنني سأبقيها معي لكي تؤنسني. وتها فإنني لن أهنأ بأكلها لنها أق ّ بن ّ
ولم يدر الرجل ذو النية الطيبة بما تخبئه له القدار ،فما أن سمعت وسائل العلم بخبر
طة المعاقة الحولء ،حتى هّبت جميعها في منافسة حامية من أجل توقيع عقود عمل الب ّ
معها.
وفي النهاية فازت فضائية )آكلك منين يابطة( بتوقيع عقد مع الرجل تدفع له بمقتضاه
مبلغا ً ضخما ً من المال ،مقابل ان تحتكر طّلة البطلة المعجزة على شاشتها )حصريًا(
كقائدة للتغيير ،من خلل تقديمها للبرنامج الجتماعي الهادف )أكاديمية الب ّ
ط(.
ن شرط لكن المحطة نّبهت الرجل الى أنه ليس بالـ ) واك( وحده يحيا الب ّ
ط ،وأ ّ
المذيعة الناجحة هو أن تضحك عند إطللتها على الجمهور ..حّتى لو كانت تذيع خبرا ً عن
ن القناة تضع مسألة الضحك ،في مصرع مائة طفل بانفجار سيارة مفخخة .وأبلغته بأ ّ
هذه الحالة ،ضمن بند )شر البلّية(.
طة على الضحك ،لكي تستكمل وأمام هذا الشرط اضطّر الرجل إلى تدريب الب ّ
ل مؤهلتها الصلية المؤهلت الضرورية للنجاح الفني ،خاصة أنها جاءت إلى الدنيا وك ّ
معها :عارية ..وتهّز.
ظل يكّرر عليها صبح مساء) :قاه قاه قاه( ..وبعد وقت طويل وجهد جهيد تعلمت كيف
تضحك .لكن لنها معاقة وغبية وحولء ،فقد تعّلمت أن تضحك بالمقلوب) :هاق ..هاق(.
وقد كان هذا نذير كارثة لم تكن في الحسبان ،إذ لم يمض زمن حّتى سمعتها إحدى
الحركات الجهادية ،فاختطفتها على الفور ،وحكمت باعدامها لنها سكرانة !
وفي مفاوضة يائسة حاول الرجل اقناع هيئة عملء المسلحين -التي كانت تتوسط بينه
ن بطته عندما قالت )هاق هاق( لم تكن سكرانة ،لكنها غبية تضحك وبين المجاهدين -بأ ّ
بالمقلوب.
ولم تصل المفاوضات الى نهاية طيبة ،ذلك لن الضحك في مفهوم المجاهدين لم يكن
أقل إثما ً من السكر!
ّ
وعلى الفور قامت المجموعة الخاطفة بذبح البطة ،وأرسلت شريط ذبحها إلى فضائية
)الذئب الوديع( ..لكن الخيرة امتنعت عن عرض الشريط ،لنه ،حسب تصريح الناطق
ط ،المر الذي يعتبر خروجا ً باسمها ،يصدم المشاعر النسانية ،ويحّرض على قتل الب ّ
على القواعد المهنية !
174
الموت لنا
176
ططون ويتراقصون على جانب ،لكنهم في الوقت ذاته كانوا منهمكين لقد كان القوم يتن ّ
في شأن أدمغتهم على الجانب الخر ،وكانوا يلهثون بنفس الطريقة في سباق ترشيح
الكتب التي طالعوها وأّثرت فيهم.
وق منها م خضوعها للتصفيات ليتف ّ م اختيار آلف العناوين ،وت ّ دة أسابيع ،ت ّ على مدى ع ّ
مائة عنوان ،وليفوز من بينها عنوان واحد بكونه الكتاب الكثر قراءة.
حلت أشرطة الكاسيت لدينا ،تعرض في دة أسابيع ،والمكتبات التي بعدد م ّ على مدى ع ّ
ل ،لتكون في متناول واجهاتها الكتب المرشحة ،وتجري حسما ً على أثمانها الرخيصة أص ً
القراء.
دة أسابيع والدنيا قائمة وقاعدة في بريطانيا ،وموضوع قيامها وقعودها هو على مدى ع ّ
الكتاب ول شيء غيره!.
ألم تسمع عروبتنا بذلك؟
من به ت كلماته َ من صوت المتنبي الذي أسمع ْ ن الضجيج كان أقوى ِ بل سمعت .ل ّ
صمم.
مة بدأ الوحي لديها بكلمة )إقرأ( وكأنه يلهب ظهرها بالسوط ن المشكلة هي أننا أ ّ لك ّ
مة )إقرأ( التي ل تقرأ ..ل تستحق ّ أ ن
ّ إ النخاع. حتى يةّ أم مةّ أ تكون بأن ياهاّ إ ً اآمر
الحياة.
ة نسبة المّية فيها 43بالمائة ،بعد عشرات العوام من النفط والستقلل م ً نأ ّ إ ّ
مة ل تستحق الوطني والقومية العربية والشرعية الثورية والصحوة الظلمية هي أ ّ
الحياة.
مة ل تستحق الحياة...لّننا أنهينا الخلفة الّراشدة بالغتيال ،ووضعنا السلم بعدها نحن أ ّ
في صندوق ربطناه بمليون سلسلة ورميناه في بحر الظلمات ،وجعلنا القرآن العظيم
صة الشهود ليحلفوا في المحاكم على أن جرد آيات تتلى في المآتم ،ووضعناه على من ّ م ّ
ق ،وهو الشيء الذي لم نعرفه قط ،منذ قتلنا السلم غيلة واستبدلناه بشيء ّ الح يقولوا
ل علقة له بالسماء ول بالرض ،إكراما ً لعيون السفلة المستبدين المستحوذين علي
خير الناس ورقاب الناس.
واحد من أبطالنا الميامين الذين أعلنوا مسؤوليتهم عن نسف مئات البرياء في قطار
مدريد ،أعلن بعد حمد الّله والثناء عليه ،عن وقف العمليات حتى حين في بلد
الندلس .
بلد الندلس؟!
أكانت ملك الذين خّلفوكم؟!
لماذا ل يصّر الصهاينة المجرمون علي تسمية أرض فلسطين بإسرائيل ،إذا كّنا ل نزال،
دعي ملكية أرض ليست لنا ،احتللناها ظلما ً حتى بعد خيبتنا التي طولها سبعمائة سنة ،ن ّ
ل فعل قبيح ل وعدوانا ً باسم السلم البريء الذي اغتلناه ،ومضينا نوّقع ببصمة إبهامه ك ّ
تصدر فتواه إل ّ من شيطان؟
علي مدي سبعة قرون ،لم نترك في أرض الناس تلك علما ً ول عدالة ول لغة ول ديناً،
بل انهمكنا في امتصاص خيراتها قطرة قطرة ،واستعباد أبنائها ،واستحياء نسائها،
وتبادلهن إماًء بيعا ً وإهداًء للتسرية عن أمير المؤمنين المثقل بالجهاد الليلي الوثير،
والمتحّلي من الدين كّله بمجرد ختم على رقعة يلعلع دون حاجة أو مناسبة :ل غالب إل ّ
الّله .
ميتنا عن وجه تلك الرض ،فثابت ل قبائحنا وفجورنا وأ ّ وقد صدق الّله وعده ،فكنسنا بك ّ
إلى نفسها ،وكأّننا لم نكن قد أثقلناها بوجودنا لسبعة قرون!.
البطل الميمون الذي أجزم أّنه لم يقرأ في حياته أكثر من ثلثة كتب تكفيرية ،يرفع يده
ضل ً عن بلد الندلس!. متف ّ
ن بصقتها نفحة حياة ل ً
ضلة لو بصقت في وجهه احتقارا ،ل ّ وهي بلد ستكون متف ّ
يستحقها مّيت مثله ،يمشي ليوّزع الموت بين الحياء.
مر لها مؤيدة ً تقارير الصندوق العربي تقول تقارير صندوق المم المتحدة للتنمية ،وتز ّ
ن ما ترجمته إسبانيا من الكتب خلل عام واحد يعادل عدد الكتب التي ترجمتها للتنمية إ ّ
ّ
الدول العربية كلها في ألف عام!.
هذا في إسبانيا وحدها ..فماذا إذن عن أمريكا وبريطانيا وفرنسا ..ودول الغرب الخرى
فار ،ونحرمهم من بركة ومع ذلك فإننا نخرج ألسنتنا بكل وقاحة في وجوه هؤلء الك ّ
177
رضانا ونتركهم كاليتامى في فسطاطهم البائس ،مستفيدين لوحدنا بنعمة فسطاط
اليمان!.
محسنا ً يكرمها بالدفن ،تتباهى على الحياء بعفنها، ُ تجد لم التي دسة
ّ المك الجثث نحن
وتعتدي على رب السماوات والرض بحيازة رحمته بأيديها ،لتوّزعها بمعرفتها وبمزاجها
على من تشاء وتحرم منها من تشاء.
من إذن للموتى بامتلك مقادير الحياة؟!َ
لغة الضداد!
ل .إّنهم فقط يفعلون ذلك نكاية بي.دين حقا في مسألة الوحدة .ك ّ الوروبّيون ليسوا جا ّ
دم ،خلطة متنافرةل دولة لها في رقبة الخرى طوفان من ال ّ دول مثل سوق الخردة ،ك ّ
مت هؤلء الخبثاء حول الطاولة، ّ يتس ذلك، ومع كالكوتا.. من اللسن مثل بهارات
دة واللفة ،وينفقون الوقت والمال والجهد ،ولهدف لهم من وراء ذلك ويتصّنعون المو ّ
مم من الغيظ. ّ أتس إل ّ أن يجعلوني
صحف ،ولن هراء .لن اترك لهم فرصة للفتك بي .لن اشاهد التلفزيون ،ولن أقرأ ال ّ
اسمح بدخول )اليورو( الي مطبخنا حّتى لومتنا من الجوع .دعهم يكملوا وحدتهم .دعهم
مميخسروا الوقت والمال والجهد ،ليكتشفوا في النهاية انني لم أَر ولم اسمع ولم أتس ّ
من الغيظ ،وأن مؤامرتهم لم تنجح.
م تعالوا ..لماذا اغتاظ؟ث ّ
178
ما عندنا؟ ماذا عندهم احسن م ّ
عندهم )بطاطا(؟ عندنا )بتاتا( ،واحذية )باتا( ايضا! عندهم شبكات مواصلت متلحمة؟ ً
ل ثلث او اربع خانات تقف في بلعومها خانة سوداء: عندنا شبكات كلمات متقاطعة :ك ّ
)الموت للخونة(!
-أفقيا :يحاول زيارة بلد شقيق )ملحوظة :اسمك على الكومبيوتر .هل تود ّ الّرجوع من
سواد؟(: دخول في هذه الخانة الناصعة ال ّ ضل ال ّ حيث جئت ،ام ُتف ّ
حبس(! أربعة حروف) :ي ُ َ
-عموديا :يطمح إلى المعالي :اربعة حروفُ) :يشنق(!
ماذا عندهم؟ هاه؟ قوس )الّرخام؟ عندنا قوس قزح ،ونجوم الظهر ايضا .عندهم
)انتخابات(؟ عندنا )انتحابات( .عندهم بيتزا؟ عندنا خارطة الوطن العربي! هل عندهم
ط في وجهك )لغة ضاد(؟ هيهات .نحن فقط عندنا ،ومرفق طّيها شاعر أشعث أيضا ً ين ّ
كّلما فتحت الطلس:
دنا حد ّ ُيباع ُ فل َ
ُ
ن ُيفّرقنا ول دي ٌ
ضاد ِ يجمعنا ن ال ّ ِلسا ُ
ن
ن وقحطا ِ بعدنا ِ
دين الذي ل يفّرقنا فمعلوم! ما ال ّ أ ّ
ّ
ضاد( فنحن بفضل الباري ننطق به مثل الكناري :في الخليج والعراق ٌندلله ما )ال ّ وأ ّ
ما في المغارب المزيانة ّ أ ء(.
ً )طا فنجعله ً ا أيض ه
ُ للّ ند والشام مصر وفي ء(.ً )ظا فنجعله
داد؟(.ف)..إشنو يعني ال ّ
ممهًّا .المهم أن الضاد يجمعنا بعدنان وقحطان .ولننا اسرّيون جدا ،فنحن ل هذا ليس ُ
نجتمع في العادة ال في )بيت خالتنا(!
قل لي ..هل عند الوروبيين اسماء اضداد؟
مة عندها اسماء )زهيرية( أكثر مّنا. مستحيل .ليس على وجه الرض أ ّ
ل :مولى :سّيد مطاع ،وأيضا عبد مملوك. مث ً
ل :سليم :صحيح البدن ،وايضا ملدوغ. مث ً
جونه أبيض خالص ،وايضا اسود خالص. لُ : مث ً
مثل :مهيب :رتبة عليا للعسكري الصيل المخضرم في الجندية ،وايضا لبن الشوارع
جرا..هلم ّالهارب من التجنيد ..و َ
ً
جّرا حتى لو جّرا( .المواطن عندهم ل يأتي َ ً م َ ُ
وعلى فكرة ،ليس لدى الوروبيين )هَل ّ
حته!أرادت اجهزة المخابرات ان تطمئن على ص ّ
ل هذا ،والمرحوم عبدالله القصيمي ظل يردد حتى آخر حياته ان العرب ظاهرة ك ّ
صوتية!
غفرالله لك يا رجل .هذا افتراء فمتى كان لنا صوت حتى يكون ظاهرة؟!
الصوت الوحيد الذي امكن للعرب ان يطلقوه خلل اربعة عشر قرنا ً هو) ..صوت
السهارى(!
البحث عن الذات
179
***
قل دون هوية أو جواز سفر، -أيها الحمار الطيب..أريد أن انهق بحرية مثلك ،وأن أتن ّ
مثلك .
قال الحمار :
-لكي تفعل هذا..يجب أن تكون حمارا ً مثلي .هل أنت حمار ؟
-ماذا تعتقد ؟
ل على أنك حمار . دقني..هيئتك ل تد ّ -قل عني حمارا ً يا ولدي ،لكن ص ّ
-فماذا أكون ؟
ة مني ! لعلك بغل . -إذا كنت ل تعرف ماذا تكون..فأنت أكثر حموري ّ ً
***
مل كل هذا القهر، ّ أتح أن أستطيع لكي مثلك، ً ا قوي أكون أن الصنديد..أريد البغل أيها -
ما أراه في هذا الوطن . ً
وأريد أن أكون بليدا مثلك ،لكي ل أتألم م ّ
قال البغل :
من يمنعك ؟ نَ .. كـ ْ ُ -
دة طاعتي . ّ
-تمنعني ذلتي وش ّ
-إذن أنت لست بغل ً.
-وماذا أكون ؟
-أعتقد أنك كلب .
***
من ُيغضبني مثلك . -أيها الكلب الُهمام..أريد أن اطلق عقيرتي بالنباح مثلك ،وأن اعقر َ
-هل أنت كلب ؟
-ل أدري..طول عمري أسمع المسؤولين ينادونني بهذا السم ،لكنني ل أستطيع النباح
أو العقر .
-لماذا ل تستطيع ؟
-ل أملك الشجاعة لذلك..إنهم هم الذين يبادرون إلى عقري دائما ً .
-ما دمت ل تملك الشجاعة فأنت لست كلبا ً .
ذن فماذا أكون ؟ -إ َ
-هذا ليس شغلي..إعرف نفسك بنفسك..قم وابحث عن ذاتك .
-بحثت كثيرا ً دون جدوى .
ت تافها ً إلى هذا الحد..فل ب ُد ّ أنك من جنس َزَبد البحر . -ما دم َ
***
فني من هذه الرض أيها البحر العظيم . -أّيها البحر العظيم..إنني تافه إلى هذا الحد..إن ِ
إحملني فوق ظهرك واقذفني بعيدا ً كما تقذف الّزَبد .
قال البحر :
-أأنت َزَبد ؟
-ل أدري..ماذا تعتقد ؟
ة واحدة..دعني أبسط موجتي لكي أستطيع أن أراك في مرآتها ..هـه..حسنًا، -لحظ ً
ن قليل ً. أد ُ
أوووه..اللعنة..أنت مواطن عربي !
-وما العمل ؟
-تسألني ما العمل ؟! أنت إذن مواطن عربي جدا ً .بصراحة..لو كنت مكانك لنتحرت .
-إبلعني ،إذن ،أيها البحر العظيم .
-آسف..ل أستطيع هضم مواطن مثلك .
-كيف أنتحر إذن ؟
-أسهل طريقة هي أن تضع إصبعك في مجرى الكهرباء .
-ليس في بيتي كهرباء .
ق بنفسك من فوق بيتك . -أل ِ
-وهل أموت إذا ألقيت بنفسي من فوق الرصيف ؟!
-مشّرد إلى هذه الدرجة ؟! لماذا ل تشنق نفسك ؟
-ومن يعطيني ثمن الحبل ؟
-ل تملك حتى حبل ً ؟ أخنق نفسك بثيابك .
180
-أل تراني عاريا ً أيها البحر العظيم ؟!
-إسمع..لم تبقَ إل ّ طريقة واحدة .إنها طريقة مجانية وسهلة ،لكنها ستجعل انتحارك
مدوي ّا ً .
ُ
-أرجوك أيها البحر العظيم..قل لي بسرعة..ماهي هذه الطريقة ؟
حّيـا ً !
-إبقَ َ
فيلم واقعي
قّرر كاتب السيناريو أن يصنع فيلما ً واقعيا ً حقا ً .وقرر الناقد السينمائي أن ينقد
السيناريو نقدا ً واقعيا ً حقا ً .
جلس الكاتب ،وجلس الناقد .
الكاتب) :منظر خارجي -نهار :الموظف يحمل أكياس فاكهة ،واقف يقرع باب بيته(
الناقد :بداية سيئة .في الواقع ،ليس هناك موظف يعود إلى بيته نهارًا .ل بد له أن يدوخ
الدوخات السبع بين طوابير الجمعيات ومواقف الباصات ،فإذا هبط المساء وعاد إلى
بيته -إذا عاد في هذا الزمن المكتظ بالمؤامرات والخونة -فليس إل ّ مجنونا ً ذلك الذي
دق أنه يحمل أكياس فاكهة ! يص ّ
الواقع اّنه مفلس على الدوام .وإذا تصادف انه أخذ رشوة في ذلك اليوم ،فالواقع أن
الفاكهة غير موجودة في السوق .
الكاتب) :منظر خارجي -ليل :الموظف يقف ليقرع باب بيته( .
181
الناقد :هذا أحسن..وإذا أردت رأيي فالفضل أن ُتزّوده ُ بمفتاح .ل داعي لقرع الباب في
هذا الوقت .انت تعرف أن قرع الباب -في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والخونة -
يرعب أهل الدار ويجعل قلوبهم في بلعيمهم .الموظف نفسه لن يكون واقعيا ً إذا فعل
سك بمسألة قرع الباب ،على شرط أن تبدل ل يوم .نعم..يمكنك التم ّ ذلك بأهله ك ّ
الموظف بشرطي أو مخبر .
الكاتب) :منظر خارجي -ليل:الموظف يضع المفتاح في قفل باب بيته ويدخل (..لكن
يا صديقي الناقد ،ما ضرورة هذا المنظر؟ إنه يستهلك ثلثين مترا ً من الفيلم الخام بل
فائدة .لماذا ل أضع الموظف في البيت منذ البداية ؟
الناقد :هذا ممكن ،لكن الفضل أن ُتبقي على هذا المنظر .فالواقع ان جاره يراقب
أوقات خروجه وعودته ،وإذا لم يظهر عائدًا ،وفي نفس موعد عودته كل يوم ،فإنك
تفترض أن تقرير الجار سيكون ناقصًا .وهذا في الواقع أمر غير واقعي ،بل ربما سيدعو
الجار إلى اختلق معلومات ل أصل لها .
الكاتب) :منظر داخلي -متوسط :الموظف يخطو داخل الممر(...
الناقد :خطأ ،خطأ ..ينبغي أن يدخل مباشرة إلى غرفة النوم .
ن هذا غير واقعي على الطلق ! الكاتب :لك ّ
الناقد :بل واقعي على الطلق .أنت غير الواقعي .إنك تفترض دخول الموظف إلى
بيت ،وهنا وجه الخطأ .الموظف عادة ً يدخل إلى وجر كلب .نعم .هذا هو الواقع .البيت
ول .فهو غرفة غرفة واحدة تبدأ من الشارع..دعك من أدونيس ،البيت ثابت لكّنه متح ّ
النوم وهو المطبخ وهو حجرة الجلوس وهو الحوش .
الكاتب) :منظر داخلي -قريب :الموظف يخطو على أجساد أولده النائمين -تنتقل
الكاميرا إلى وجه الزوجة وهي تبدو واقفة وسط البيت "كلوزآب" تبدو الزوجة
مبتسمة ،وعلى وجهها امارات الطيبة...
ل ..مساء الورد( ل ..أه ً الزوجة :أه ً
الناقد :إقطع ..بدأت بداية حسنة لكنك طّينتها .في الواقع ليس هناك زوجات طيبات،
صة زوجات الموظفين..ثم ماهذا الحوار الذي مثل قّلته؟ والزوجات أصل ً ل يبتسمن ،خا ّ
من هذه التي تقول لزوجها أهل ً ثم تكرر الهل ثم تشفع كل هذا بمساء الورد ؟!
ً َ
أّية واقعّية في هذا ؟ دعها تنهض من بين أولدها نصف مغمضة ،مشعثة الشعر ،بالعة
نصف كلمها ضمن وجبة كاملة من التثاؤب ..ثم اتركها تولول كالمعتاد..
ت في هذه الساعة )الزوجة :هذا أنت؟ إييه ماذا عليك؟ الولد ناموا بل عشاء ،وأنت آ ٍ
ويداك فارغتان .مصيبتك بألف ياسنّية(..
الكاتب :انظر ماذا فعلت..لو تركتني أزّوده بكيس واحد من الفاكهة على القل ،لما
اضطّر إلى مواجهة أناشيد سنّية .
الناقد :زّوده يا أخي .لكنك لن تكون واقعيًا .ثم أن أناشيد سنّية لن تنقص حرفا ً
واحدًا..بل ستزيد .إن كيس الفاكهة ليس حذاًء جديدا ً لبنته التي تهّرأ حذاؤها ،ول هو
مصروفات الجامعة لبنه الكبر ،ول أجرة الرحلة المدرسية التي عجز ابنه الوسط عن
دفعها حتى الن .
ل لها في وقة بوجود مثل هذه المشاكل التي ل ح ّ ّ المش الحبكة بناء الكاتب :يصعب
الواقع .
د..حاول أن تتخّلص من أولده قبل مجيئه . الناقد :اجته ْ
ل .ماذا أفعل بهم أكثر من ذلك ؟ الكاتب :إنهم نائمون أص ً
ل .هذا منتهى الواقعّية .ل الناقد :دعهم نائمين..ولكن في مكان آخر .في السجن مث ً
ّ
يمكن أن يكونوا في هذا العمر ولم ينطقوا حتى الن بكلمة معكرة لمن الدولة !
ة في هذه الحالة . ن اناشيدها ستكون أشد ّ حماس ً الكاتب :وماذا أفعل بسنّية؟ إ ّ
ة باعتقال الناقد :اقتْلها بالسكتة القلبية..من الواقعي أن تموت الم الرؤوم مصدوم ً
ة واحدة . جميع أبنائها دفع ً
الكاتب :ماذا يبقى من الفيلم إذن ؟!
الناقد :عندك الموظف .
الكاتب :ماذا أفعل بالموظف ؟
مةّ ذ في الزوجة واحدة. بضربة الجميع من صْ ّ ل تخ . يفعل ل أنت..د َع ْ جاره الناقد :ل تفع ْ
ت ّ
مة الدولة .ونصيحتي أن تقف عند هذا الحد .فإذا فكر َ الله ،والموظف وأولده في ذ ّ
أن تذهب أبعد من هذا فستلحق بهم .
182
الكاتب :كأّنك تقول لي ضع كلمة )النهاية( في بداية الفيلم .أيّ فيلم هذا؟ ل يا أخي،
دعنا نواصل حبكتنا كما كنا ،وبعيدا ً عن السياسة .
الناقد :كما تشاء .واصل .
الكاتب) :كلوز -وجه الزوجة وهي غاضبة(
ت كالبغل في مثل هذه )الزوجة :هذا أنت؟ إييه ماذا عليك؟ الولد ناموا جائعين ،وأنت آ ٍ
م موسى .مصيبتك سوداء يا سنّية( الساعة ويداك فارغتان كقلب أ ّ
)قطع -الكاميرا على وجه الزوج -يبدو هادئًا(
) الموظف :ماذا أفعل يا عزيزتي؟ هذا قدرنا .الصبر طّيب .نامي يا عزيزتي .الصباح
رباح(
ّ ً
الناقد :هراء..هذا ليس موظفا .هذا نبي ! بشرفك هل بإمكانك أن تتحلى بمثل هذه
الرّقة حين تختتم يومك الشاق بوجه سنّية؟ إنقل الكاميرا إلى وجه الموظف .كلوز
رجاًء ،حتى أريك كيف تكون الواقعّية...
ل ليلة تفتحين لي عدنا يا سنّية يا بنت ال..؟ أك ّ دمُ : جر بال ّ )الموظف حانقا ً يكاد وجهه يتف ّ
باب جهنم؟ أل يكفيني يوم كامل من العذاب؟ تعبت يا بنت السعالي .تعبت .إذهبي إلى
ت طالق طالق طالق .طالق باللف .طالق بالمليون ..هه( الجحيم)يصفعها(إذهبي ..أن ِ
مة الحكومات .وتصرخ :وآآآآي.. )الزوجة تتسع عيناها كمصائب الوطن العربي ،أو كذ ّ
وآآآآي(
)الكاميرا تنتقل إلى الولد .يستيقظون مذعورين على صوت امهم الحنون .يصرخ
الولد .يزداد صراخ الموظف .قرع على الباب ولغط وراءه .تنتقل الكاميرا إلى الباب
لكنها ل تلحق ،الباب ينهدم تحت ضغط الجيران ،وتمتلئ الغرفة بهم ،ويتعّلق بعضهم
بالمروحة لضيق المكان .ضجة الجيران تعلو.أحد الجيران -ولعّله الذي يكتب التقارير -
يحاول تهدئة الموقف(
)الجار :ماذا حصل؟ ماذا حصل يا أخي؟ ماذا حصل يا أختي ؟
الموظف :لعنة الله عليها .
وذ من الشيطان..ماالحكاية ؟ الجار :تع ّ
ّ
ملته منه ،طلقني . ّ
قني..بعد كل المّر الذي تح ّ ّ
الزوجة :هووووء .طل َ
الجار :ل .انت عاقل يا أخي .ليس الطلق أمرا ً بسيطا ً .
ل يوم .لعنة الله عليها . الموظف :أبسط من مقابلتها ك ّ
ت له؟ الزوجة :إسألوه يا ناس..ماذا فعل ُ
الموظف :انقبري .
الجار :لكل مشكلة حل يا جماعة .
الموظف :ل حل .
الزوجة :يا ناس .يابني آدم .هل هي جريمة أن اقول له ل تشتم الرئيس ؟!
دق في وجه الموظف..إظلم( )الجار فاغر الفم والعينين..يح ّ
الكاتب :وبعد ؟!
ة لتعيلالناقد :ليست هناك مشكلة ..بعد إعدام الزوج ،سيمكن الزوجة أن تعمل خادم ً
ف يا أخي .دع أحدا ً من الولد أولدها قبل إلقاء القبض عليهم في المستقبل .تصّر ْ
يترك الدراسة ليعمل سمكري ًّا .أدخله في النقابة وعّلمه كتابة التقارير .أو دعه يواصل
دراسته ،لكن اجعل اخته تنخرط في الّتحاد النسائي .بحبحها يا أخي .كل هذه المور
واقعية .
الكاتب :واقعية ُتوقع المصائب على رأسي ..أّية رقابة ستجيز هذا السيناريو ؟!
ن الرقابة لن توافق . الناقد :إذا أردت الواقع..أعترف لك بأ ّ
الكاتب :ما العمل إذن ؟
ّ
الناقد :الواقعّية المأمونة هي أل يعود الموظف ،ول توجد سنّية وأولدها ،ول يوجد البيت
.
الكاتب :هذا أفضل .
يرفع الكاتب يده عن الدفتر..ويرفع الناقد لسانه عن النقد .
***
في اليوم التالي ..يرفع الكاتب رجليه على الفلقة ،ويرفع الناقد رجليه على المروحة .
مراَقب ! ل شيء ُ في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والخونة ..ك ّ
183
وجه
184
هو -في الحقيقة -لم يكن يعرف أين وقع ،لنه ،هو أيضًا ،لم يكن يحمل فانوسًا ،لغلء
النفط كما ذكرنا ،ولنه ،من شدة جوعه لم يكن يحمل رأسًا ،وذلك -في الحقيقة -
لغلء الطعام ،كما لم نذكر .
ً
وعندما طلع الصباح ،كان الرجل الول قد وصل إلى مبنى البلدية يقطر زفتا..أما
الرجل الثاني فقد وصل بعده وهو يحمل بطيخة .
ن الرجل الثالث لم يصل إل ّ بعد ساعات من انعقاد المجلس البلدي . لك ّ
لم يكن يقطر زفتا ً ،ولم يكن يحمل بطيخة .
سأله رئيس البلدية :ماذا وجدت ؟
أطبق عينيه من فرط التعب ،وزفر قائل ً ) :ل شيء ( .
ل ،ثم رفع رأسه ببطء ،وأعلن بمنتهى الهدوء والحسم : عندئذ أطرق رئيس البلدية قلي ً
معنى هذا ،أيها الخوة ،أن للحقيقة أكثر من وجه .ومنذ ذلك الوقت ،نشأت في بلدنا
ظاهرة التحزب .
ونت الحكومة .ّ تك للزفت..ومنهم ً ا حزب ّ
كلوا ش الول بحقيقة المؤمنون
ً ّ
والمؤمنون بحقيقة الثاني شكلوا حزبا للبطيخ..ومنهم تكونت المعارضة .
كلوا حزبا ً محايدًا ،جيبه يستعطي الزفت ،وقلبه ما المؤمنون بحقيقة الثالث فقد ش ّ أ ّ
يتعاطى البطيخ ،ورأسه يعطي ) اللشيء ( .
ومن هؤلء تكونت ) الحداثة ( !
يحدث في بلدنا
قضّية دعبول
استلقى "دعبول" على الرض ،وشرع في تقويس ظهره ببراعة لعب "يوغا"..وظل
وسه شيئا ً فشيئًا ،حتى تم له في النهاية أن ُيطبق رجليه على فمه . يتدرج في تق ّ
وحالما استكمل شكله الدائري ،فتح شدقيه بشهية بالغة ،ثم ابتلع نفسه .
***
ولن العالم أصبح قرية صغيرة ،فإن الخبر وصل إلى القطب الشمالي ،حتى قبل أن
يصل إلى "دعبول" نفسه !
جاءت ،على الفور ،وفود من شتى أنحاء العالم ،واكتظ بيت دعبول على اتساعه
بالصحافيين وعدسات التصوير وكاميرات التلفزيون وميكروفونات الذاعات ولجان
الحقوق المختلفة ،حتى دعت الحاجة إلى تعطيل حركة المرور..ذلك لن بيت دعبول
هو رصيف الشارع العام .
ّ
كانت أنظار العالم كلها مصوبة إلى دعبول..وكان دعبول كله عبارة عن كرة مبهمة
راقدة بسكون وسط الضجة العارمة .
***
صرخت مندوبة الجمعية العالمية للدفاع عن حقوق الحذية :
من حق هذا المتوحش أن يفعل بنفسه مايريد ،لكن ليس من حقه أن يبتلع الحذية
ل..منالمسكينة..إنني أطالبه ،باسم جمعيتنا الموقرة ،بأن يطلق سراح الفردتين حا ً
غير نقصان نعل أو مسمار .
***
ً
وفي تلك الثناء أصدر صندوق النقد الدولي احتجاجا شديد اللهجة على هذا العمل
الوحشي الجبان..وقال ناطق طلب عدم ذكر اسمه أن وراء احتجاج الصندوق أسبابا ً
ط توضيحات أكثر . تنافسية ،لكنه لم ُيع ِ
186
***
ً
وأصدر رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الزرار بيانا استنكر فيه العمل البربري الذي
قام به دعبول ،وركز على ضرورة إنقاذ الزرار بأسرع وقت ممكن ،كما ناشد الضمير
العالمي الوقوف وقفة حازمة بوجه مثل هذه العمال الل مسؤولة .وختم بيانه
بالقول :إننا نحترم رغبة هذا الدعبول في ابتلع قميصه وبنطلونه ،بل وحتى
حذائه..لكن ما ذنب هذه الزرار الصغيرة المغلوبة على أمرها ،والتي ل تستطيع النطق
أو الدفاع عن نفسها بأية وسيلة ؟!
***
ن هذا وفي كواللمبور..أعدمت السلطات رجل ً حاول أن يقّلد دعبول..وقال مسؤولون إ ّ
العمل ُيعطي صورة بشعة للغربيين عن تخّلف سكان آسيا ،وذلك حين يشاهدون واحدا ً
كين !منا وهو يأكل نفسه دون استعمال الشوكة والس ّ
***
وأدلى مندوب جمعية الدفاع عن المصارين بحديث لذاعة مونت كارلو ،قال فيه إن
جمعيته تندد بهذا العمل الثم..وتطالب دعبول بالخروج حال ً من مصارينه الدقيقة
والغليظة على حد سواء .
ومما جاء في الحديث قوله :إنني لم أَر في حياتي كلها مثل هذه القسوة..ول أدري
كيف تأّتى لهذا البغل أن يخنق هذه المصارين الرقيقة بحشر نفسه فيها ! هل يظن
نفسه قالبا ً من "اليس كريم" ؟!
***
ّ
ماه ب"دابولز سيتيويشن"..وحذر من ولة ما س ّ وناقش البيت البيض ،في جلسات مط ّ
لئمة احتمالت أن تعطل هذه المسألة مسيرة السلم في الشرق الوسط..وأنحى بال ّ
ذر إيران من مغّبة اللعب بالنار . على بكين ،كما ح ّ
كد فيه أن "بلعة ً
وفي الوقت نفسه أصدر مكتب رئيس الوزراء السرائيلي بيانا أ ّ
دعبول" تعتبر تهديدا ً صارخا ً لمن إسرائيل .
***
دل له منذ سبع سنوات ،فيما انخفضت أسهم نفط وارتفع سعر الدولر إلى أعلى مع ّ
ما إذا كانّ ع معلومات أية الفور على تتوفر ولم بحر الشمال إلى أدنى معدل لها،
لقضية دعبول تأثير مباشر في هذا الشأن .
***
وأدلى مندوب لجنة الدفاع عن حقوق القمشة بتصريح قال فيه :ل يهمنا نوع قماش
قميصه أو بنطلونه..إنها مسألة مبدأ بالنسبة لنا ،ل فرق إن كان قميصه من الحرير أو
من الخيش..كّلها في النهاية ،أقمشة بكماء ضعيفة ل تحسن الدفاع عن نفسها..وعليه
فإننا نطالب هذا الدعبول الجرب بالفراج عن قميصه وبنطلونه فورا ً .
إن أنظار العالم تراقب معنا ،بقلق شديد ،معاناة هذه القمشة المرتهنة في جوف هذا
الحمق .
***
وأعلن أكثر من فصيل عربي معارض مسؤوليته عن بلع دعبول لنفسه ،دون أن يتعّرض
أيّ منها إلى مسألة بلع الموال من أّية جهة كانت..فيما نفت جميع الحكومات العربية
أن يكون لها أي دور في مثل هذه)البلعة( .
ي تصريح لدبلوماسي غربي)رفض فقدان عمولته( حيث قال أن خبرته وعزّز هذا النف َ
الطويلة في الشؤون العربية تجعله يعتقد بأن هذا النوع من البلع غير متعارف عليه
رسميا ً لدى جميع حكومات المنطقة .
***
دة
وأعربت الهيئة الدولية للدفاع عن حقوق)البنكرياس(عن قلقها البالغ على مصير الغ ّ
المسكينة ،واتخذت بالتعاون مع حركة الدفاع عن حقوق)النزيمات(إجراءات فورية
لتقديم شكوى عاجلة إلى منظمة)الفيفا(على اعتبار أن دعبول في شكله الكروي
الراهن ،يدخل ضمن مسؤوليتها .
***
وفيما كان العالم يتابع هذه القضية بذهول وترّقب وقلق..بدا فجأة ،أن كرة دعبول قد
دد..
أخذت تتم ّ
187
وعلى حين غّرة ،انطلق منها صوت صاعق أقرب ما يكون إلى)تفوووو(..ثم استوى
دعبول قائما ً على قدميه حافيا ً عاريا ً !
بهت الجمهور الغفير..ولمعت فلشات أجهزة التصوير ،وتراكض مندوبو وسائل العلم
لتسجيل صورة إفراج دعبول عن نفسه..لحظة بلحظة .
زمجر دعبول :يا أولد الكلب المحترمين...ما أنا إل ّ جائع ،عارٍ ،مشّرد ،عاطل عن
العمل..فماذا أفعل سوى أن آكل نفسي ،لكون أنا طعامي وأنا بيتي ؟!
دت ونفت وأعلنت إنني ضحّية كل هذه الجهات التي أنكرت واستنكرت واحتجت وند ّ
ذرت ،في الوقت الذي كان فمي مغلقا ً بجسمي ،ول قدرة لي على الشكوى دعت وح ّوا ّ
أو نفي التهامات .
لقد تشّرفت ،هذا اليوم ،برؤية منظمات للدفاع عن حقوق كل شيء في هذه القرية
الصغيرة..وها أنتم ترون أن الحذية بخير ،والقمشة بخير ،والمصارين بخير،
والبنكرياس بخير ،وإسرائيل بخير..وأنا الوحيد الذي ليس بخير..فلماذا ل أرى ،وسط
كل هذه القيامة ،منظمة واحدة للدفاع عن حقوق دعبول ؟!
ن الضغط الدولي قد أجبرني على الفراج عن ستقولون ،يا أولد الكلب المحترمين ،إ ّ
جسمي .
ً َ
ل والله ..إنني،ببساطة شديدة ،تقّيأت نفسي قَرفا من هذا العالم !
***
ّ
تقول أنباء غير مؤكدة إن السلطات أجبرت دعبول على ابتلع نفسه..عقوبة له لوقوفه
عاريا ً وسط الشارع..المر الذي يعتبر خدشا ً للحياء العام !
قى بعد المذبحة الرضية .التراب تحت ل من تب ّكان بين النقاض ثلثة رجال ،هم ك ّ
أرجلهم رماد ،والسماء فوق رؤوسهم دخان .
مروها .لم يعيشوا ولم يتركوا البرياء يعيشون .ها الول :فعلها الشرار .طمعوا بها فد ّ
كر في طريقة للحياة . نحن أولء وحدنا على هذه الرض .دعونا نف ّ
خن .الثاني :أشتهي أن أد ّ
خن كما تشاء..الهواء كّله تحت أمرك . الول :د ّ
الثاني :كل ّ .أريد سيجارة .حّبذا لو كانت سيجارة أجنبية .
الثالث :ليس في الرض أجانب يصنعون السجاير .نحن وحدنا الحياء ،وليس بيننا أجنبي
.
ل .ليس هذا وقته .المهم الن أن نجد ما نأكله . الول :كفاكما جد ً
الثالث :هذا صحيح .يجب أن نجد ما نأكله .
الثاني :أنا جائع في الحقيقة ،لكن ل تظّنا أنني سأنسى رغبتي إذا ما شبعت .التدخين
يكون أشهى بعد الطعام .ثم إنني أرغب في كوب من الشاي بعد أن آكل .
الول :أّيها الطيبان ،هذه كماليات .المر الضروري هو أن نجد ما نأكله .لحظا أننا
سيمكننا مواصلة العيش بل تبغ أو شاي ،لكننا لن نعيش بل طعام .
الثالث :السجاير أصل ً اختراع هولندي .هي أصل الشر .ليست سوى وسيلة من وسائل
الستعمار .
الول :والشاي كذلك .صحيح انه اختراع صيني ،إل ّ أن النجليز برعوا في جعله وسيلة
من وسائل الستعمار .
الثاني :يسقط الستعمار .
188
ل ،لكّنه واأسفاه أسقط الدنيا كّلها معه . الول :لقد سقط فع ً
ذن على شرف سقوط الستعمار . خن إ َ الثاني :لند ّ
كر في طريقة لستعمار الرض . الول :حاول أن تصبر يا صديقي ،ودعنا الن نف ّ
ت جوعا ً . م ّ كر وحدك .لن أسلك طريق المبريالية حتى لو ِ الثاني :ف ّ
الول :أنت مخطئ يا عزيزي .الستعمار عمل عظيم .الستعمار هو أصل وجود آدم
وهوا سمعته . ن قراصنة الغرب هم الذين ش ّ على هذه الرض ،لك ّ
وه السمعة . الثاني :إذن فهو مش ّ
سنها على أيدينا . الول :لنبدأ سمعته من جديد .دعونا نح ّ
سن سمعته على أيدينا . وه السمعة .نعم..دعونا نح ّ الثالث :نعم .إنه مش ّ
الثاني :إرفع قدمك عن أعصابي .إنك تؤلمني .أأنت معي أم معه ؟
الثالث :أنا معكما .
الول :وأنا أيضا ً معكما .
ما هذا فليس لديه وجهة نظر..ولذلك الثاني :أنا أكره وجهة نظرك ،لكنني أحترمها .أ ّ
فأنا مضطر لن أكرهه .
الول :ينبغي أل ّ يكره أحدنا الخر .أل ترون أن الكراهية هي التي أوصلت الرض إلى
هذه النتيجة ؟
الثاني :إذن ،أنا مضطر لن ل أكرهه ،وأحسب أن هذا المر سيجعلني محتاجا ً إلى
التدخين .
الثالث :التدخين مضر بالصحة .
حتي ؟ حتك أم ص ّ الثاني :ص ّ
حتك طبعًا .لكنني أتضايق أيضا ً من رائحة التبغ . الثالث :ص ّ
خن .بإمكانك مثل ً أن تخرج إلى القطب الشمالي . الثاني :إبتعد عّني حين أد ّ
الول :في الواقع نحن ل نعرف موقعنا على الرض بالضبط .رّبما نحن في القطب
الشمالي فعل ً !
الثاني :ليذهب إلى خط الستواء .هناك سعة لمن ل يحب رائحة التبغ .
الول :أووه..ل يعنيني تدخينك ،ول كراهيته للتدخين .إنني مهتم الن بتحديد موقعنا على
هذه الرض .
ً
قا ؟ ّ
الثاني :هل أنت متأكد من أننا فوق الرض ح ّ
الول :وأين يمكن أن نكون ؟!
الثاني :على المّريخ مثل ً .
الثالث :ل يمكن .ليس على المريخ حياة .
ّ
الثاني :اسكت أنت .ماذا نعرف عن المريخ ؟ كل ما نعرفه الن هو أن ليس على
الرض حياة .
الثالث :عليها..نحن الثلثة ل نزال أحياء .
من يستطيع أن يؤكد أننا َ ثم الرض. فوق الثاني :أيها الغبي ،لم نتحقق بعد من أننا
أحياء ؟!
الول :أعتقد أننا أحياء .فالموتى ل يتكلمون .
ت من قبل لتعرف أن الموتى ل يتكلمون ؟ رّبما لم نكن نفهم كلم م ّ الثاني :هل ِ
الموتى لننا كنا أحياء .وها نحن أولء يفهم بعضنا بعضا ً لننا ميتون !
هل تتذكرون ؟ عندما كنا نحيا في الوطن العربي لم نكن نتكلم إطلقا ً .
الثالث :هذا صحيح ،أذكر ذلك جيدا ً .
ل المسائل نسبّية يا جماعة . الثاني :إذن فليس الموتى وحدهم الذين ل يتكلمون .ك ّ
الثالث :ل أتفق معك .فنحن مازلنا عربًا..ومع ذلك فنحن نتكلم .
ّ
ل عربيًا .إسمع يا رجل ،ينبغي أن صر على أن تظ ّ الثاني :طبعا ً ل تتفق معي ،لّنك م ّ
ً
تدرك أنك تتكلم الن لنك لم تعد عربيا .أنت الن عالمي .إذا أردت الدّقة أنت الن
ثلث نفوس العالم .
الثالث :أيّ عالم ؟
الثاني :إذا لم نكن على المريخ ،وإذا كّنا أحياء ،فليس عندي شك في أنك العالم الثالث
!
الول :نحن جميعا في موقع واحد .ً
الثاني :في اللحظة الراهنة نعم .لكنني أعتقد أنه جاءنا لجئًا .أل ترى أنه بل رأي ؟
189
الول :لقد عّبر عن رأيه بكل وضوح .
ً
دد ما أقوله أو ما تقوله .لم يقل شيئا سوى أن التدخين مضر الثاني :أيّ رأي؟ إنه ير ّ
حة . بالص ّ
ً
الثالث :وبالبيئة أيضا .
الثاني :البيئة ؟!
ّ
خن الن .ينبغي أن نفكر ريثما يزول هذا الدخان . الول :اسكتا..البيئة نفسها تد ّ
الثاني :ل أستطيع التفكير وهذا)الخضر( مغروز في خاصرتي .قل له أن يشفق على
أعصابي بقدر إشفاقه على البيئة .
الول :إذا واصلنا الجدال فسنهلك .
الثاني :ل بأس ،إذا كان الهلك سيخلصني من هذا الببغاء .
الول :الجدل مفيد إذا كان مفيدا ً .
الثالث :حكمة والله !
ظم تفكيرنا وحوارنا . الول :علينا أن نن ّ
الثاني :الختلف قائم ل محالة .
ظم تفكيرنا .الثالث :نعم نحن نختلف ل محالة .علينا أن نن ّ
الثاني :وحوارنا كما قال .
الثالث :وحوارنا .
الثاني :ألم أقل إنك ببغاء ؟!
الول :إننا ندور في حلقة مفرغة .لماذا ل ننتخب واحدا ً مّنا ليكون هو القائد ،ويكون
خرين احترام رأيه ؟ على ال َ
من يضمن لي أن يجري النتخاب دون تزوير ؟ الثانيَ :
ً
الول :أنا أضمن ذلك .إننا لم نعد في الوطن العربي ،كما اننا جميعا سنراقب العملية
عن كثب .
الثالث :نحتاج إلى صندوق .
الثاني :ما حاجتنا للصندوق ؟!
الثالث :هه..كيف يجري النتخاب دون صندوق للقتراع ؟
االثاني :إذا عثرنا على صندوق فأول ما سأفعله هو أن أضعك فيه وأشّيعك إلى مثواك
الخير .
الثالث :أنت دكتاتور .
ل..هو ديمقراطي . الول :ك ّ
الثالث :لماذا يقف ضد ّ فكرة صندوق القتراع ؟
الثاني :يا كائن .أل ترى أنه ل يوجد صندوق ؟
الثالث :نبحث عن صندوق .
الول :حسنًا..لننتخب أحدنا ليقود عملية البحث .
الثالث :هذا أحسن حل .
الثاني :كيف ننتخب ؟!
الول :بالقتراع .
الثالث :نحتاج إلى صندوق .
الول :نحن نحاول انتخاب أحدنا ليقود عملية البحث عن صندوق .
الثالث :حل جّيد .
الثاني :سأقتل هذا الببغاء .
الول :ل تشتبكا .بإمكاننا في هذه المّرة أن نجري النتخاب بالتصويت المباشر .
الثالث :في هذه المرحلة فقط .
شح نفسي . الثاني :أنا أر ّ
شح نفسي . الول :وأنا ار ّ
ّ
الثالث :وأنا أرشح نفسي .
الثاني :أنت ل .
الثالث :لماذا؟ أأنتما أحسن مّني ؟!
شحنا جميعا ً فمن سيراقب سير النتخاب؟ لبد ّ أن يتوّلى أحدنا مهمة الثاني :إذا ر ّ
الرقابة .
الثالث :لننتخب أحدنا لهذه المهمة .
190
وت لصالحك . شحك وأص ّ الثاني :أنا أر ّ
ده . وت ض ّ الول :سأص ّ
الثاني :إذن ،أعّينك أنت رئيسا ً للجنة الرقابية .
ل..يجب أن يجرى انتخاب . من أنت حتى تعّينه؟ ك ّ الثالثَ :
شح قيادة للبحث عن صندوق الول :ل شأن لي بانتخابات رئاسة اللجنة الرقابية ،أنا مر ّ
اقتراع لنتخابات القيادة العامة .
الثاني :أنا منسحب .
ّ
الول :في هذه الحالة رشح نفسك لنتخابات اللجنة الرقابية .
شح في أي انتخاب . الثاني :لن أر ّ
ل بصوتك كمواطن عادي . الثالث :إذن إد ِ
ل..ما هو برنامجك النتخابي ؟ شح .أنت مث ً الثاني :ل ثقة لي بأي مر ّ
الثالث :برنامجي ؟!
الول... :ومن أبرز أهدافي أن أكون في خدمة هذين الرفيقين الطيَبين .وأعد بشرفي
ن وإخلص لتحقيق المكاسب التالية: م انتخابي ،سأعمل بكل طاقاتي وبتفا ٍ انني إذا ت ّ
أول ً :العثور على صندوق للقتراع ،ثانيًا:إجراء انتخابات حرة مستندة إلى صندوق
صف ومحاربة المّية وتوفير الوظائف وإطلق حرية الرأي . القتراع ،ثالثًا:توحيد ال ّ
الثالث :ماذا يقول ؟!
الثاني :أحسن منك .رجل عنده برنامج .
الثالث :أهذا هو البرنامج ؟
الثاني :نعم .هذا هو .أم كنت تظنه برنامج)ما يطلبه المستمعون( ؟
الثالث :ويحي .هذا سهل .أنا أيضا ً أستطيع أن أقول مثل هذا البرنامج .
الثاني :هات ما عندك .
الثالث.. :ومن أبرز أهدافي أن أكون في خدمة هذين الرفيقين الثلثة .وأقسم بشرفي
ل :العثور على صندوق ،ثانيًا :العثور على طعام ،ثالثًا: أن أحقق المنجزات التالية :أو ً
توحيد الصف ومحاربة المبريالية .
الول :حسنًا..أمامك برنامجان .
الثاني :ليس في البرنامجين ما يغريني بانتخاب أحدكما .لم يتطرق أيّ منكما إلى
ضرورة توفير السجاير لي .
الول :الطعام أوّل ً .
حة . الثالث :السجاير مضيعة للمال والص ّ
الثاني :انتخبا لوحدكما .
الول :وماذا ستفعل أنت ؟
الثاني :مقاطعة النتخابات .
الول :موقف غير حضاري .ل يجوز للمواطن الصيل أن يتخذ موقفا ً سلبي ّا ً من قضّية
النتخابات .
ً
الثاني :لست سلبيا .أنا على الحياد .الحياد اليجابي .
الول :أعتقد أن ل مفر من القيادة الجماعية .
الثالث :كنا هكذا منذ البداية !
مي
ّ نس أن نستطيع فإننا ية،
ّ القض تبلورت وقد الن ما
ّ أ بدائية. الول :نعم .لكن بطريقة
أنفسنا مجلس قيادة .
من ؟! الثاني :نقود َ
الول :أنفسنا .
الثاني :هذه بدعة عربية .نحن الن عالميون .
الول :ماذا نفعل إذن ؟
الثاني :احسن شيء هو أن يمضي كل واحد منا في اتجاه .
الثالث :فكرة جيدة..لكنها أيضا ً فكرة عربية .
ً
قدان من العروبة؟ لماذا ل نكون عربا وعالميين في الوقت نفسه؟ الول :لماذا انتما مع ّ
أل يكفي العرب كرامة عند الله أن يكون منهم الثلثة الوحيدون الذين بقوا على قيد
الحياة فوق الرض ؟!
191
الثاني :على قيد الحياة؟ من قال إننا أحياء حقًا؟ فوق الرض؟ من قال إن هذه هي
الرض حقًا؟ كرامة؟ أينبغي أن يزول جميع البشر لكي يستطيع ثلثة من العرب أن
يشعروا بكرامتهم ؟!
الثالث :إثنان فقط .أنا ل أشعر بالكرامة .كيف أشعر بها وأنت عاكف على إهانتي ؟
الثاني :إذا كانت كلمتي ثقيلة عليك فبإمكانك أن تطلب حقّ اللجوء من هذا..
ت في طلبات اللجوء قبل النتخابات . الول :ل تحرجني .أنت تعلم أنني ل أستطيع الب ّ
الثاني :أقترح في هذه الحالة أن تجرى انتخابات مب ّ
كرة .
الثالث :سنحتاج إلى صندوق..
الول :وإلى ناخبين..
الثاني :وإلى لجنة رقابية...
قى الكاتب الشهير رسالة من كاتب ناشىء ،يشكو فيها بمرارة من ثقل شعوره تل ّ
ً
بالخفاق على الرغم من بذله غاية الجهد ،قائل إنه قد أرسل العديد من قصصه
القصيرة إلى جميع المجلت المعروفة ،لكّنه ،مع طول انتظاره ،لم يحظ بنشر أّية
واحدة منها ،المر الذي جعله يفقد الثقة في نفسه .ولنه ل يعرف ماذا يصنع ،فقد
جه إليه طالبا ً منه النصيحة. تو ّ
مة لكاتب جّيد جديد. ً ً
وقد رد ّ عليه الكاتب الشهير قائل :هناك دائما مكان شاغر على الق ّ
مثلى للوصول إلى هناك هي أن تبدأ من أسفل السفح .وإذا لم تكن ممن والطريقة ال ُ
يروق لهم البتداء من السفل ،فهذا يعني أّنك لست ممن يروق لهم اّتخاذ الكتابة مهنة.
وعلى أّية حال ،فإن هناك آلفا ً من الصحف السبوعية ،والمطبوعات التجارية،
لت الصغيرة ،والمنشورات العلنية ،ولبد ّ لمن كانت لديه درجة معقولة من والمج ّ
القدرة على الكتابة ،أن يجد ،ذات يوم ،فرصة للنشر في واحدة منها.
م شيء في حياتك هو أن يظهر عملك بالحرف المطبعية ،فإن المر سيبدو وإذا كان أه ّ
لك جيدًا ،مهما كان المكان الذي يظهر فيه .وإذا بدا ذلك العمل جيدا ً للقارىء أيضًا،
فإنك لب ُد ّ أن تجد كثيرا ً من المحّررين والناشرين الذين يرغبون في مساعدتك على
مة. دما ً إلى الق ّ
الصعود قُ ُ
ّ
تلك هي نصيحة الروائي المريكي الكبير )أرسكين كالدويل( لواحد من قرائه
ده على مجموعة من السئلة المتطّلعين لن يكونوا ك ُّتابًا ،وقد جاءت في سياق ر ّ
معت لديه عبر سنوات عمله ،فأفرد لها فصل ً ختامي ّا ً في كتابه )س ّ
مها الشائعة التي تج ّ
خبرة( ،الذي روى فيه تفاصيل تجربته الشخصّية في تعّلم الكتابة.
ن تلك الجابات هي ليست سوى خلصات لوقائع تجربته المريرة التي حفر والواقع أ ّ
خللها الصخر بأظافره ،من أجل أن يستوي أخيرا ً على مقعد الشهرة والكتفاء المالي.
192
ي ،لتطمين أبناء الشقاء المتزاحمين في إّنه ل يطرح المواعظ الجوفاء من برجه العاج ّ
ً
أسفل المبنى .ولكّنه يخبرهم بتواضع خالص ،بأنه كان واقفا ،ذات يوم ،في مثابتهم،
وقد اقتضاه الوصول إلى موقعه الحالي أن يدفع كل الضرائب المترّتبة على من يبتغي
الوصول ..وهي كما يرويها كانت ضرائب فادحة .أي أنه يقول لهم باختصار" :من
الممكن أن تصبحوا مثلي اليوم ،إذا استطعتم أن تكونوا مثلي بالمس".
ل يوم ،في البرد أو لقد عاش هذا الرجل أعواما ً طويلة وهو جالس وراء آلته الكاتبة ،ك ّ
في الحر ،لينتج مئات القصص ويرسلها إلى مئات المطبوعات ،لتلقى نهايتها في سلل
المهملت ،دون أن يداخله اليأس أو الملل .وكان ،عاما ً بعد عام ،يختصر نفقات
الطعام ،ليزيد في نفقات الطوابع التي يحتاجها لرسال قصصه.
والعمل الوحيد الذي استطاع أن يحصل عليه ،من أجل أن يعيش ،هو كتابة عروض
لت التي كانت ترسل إليه رزما ً منها ك ّ
ل سريعة للكتب الجديدة ،لحساب إحدى المج ّ
شهر ،غير أّنها بدل ً من أن تدفع له مال ً نظير ما يكتبه ،كانت تسمح له بأن يحتفظ
جار الكتب المستعملة مقابل بضعة بالكتب المرسلة إليه ،فكان بدوره يبيع بعضها لت ّ
ل كتاب.سنتات لك ّ
وللمرء أن يتخّيل بشاعة ما كان يعانيه من فاقة ،حين يقرأ البهجة العارمة في السطور
قيه ثلثة دولرات مكافأة عنها من المجّلة صة له ،وتل ّالتي يصف فيها ذكرى نشر أول ق ّ
التي نشرتها ،إذ يقول " :لقد ُأتيح لنا في ذلك اليوم أن نتذّوق طعم اللحم ،بعد زمن
طويل من الحرمان " !
ن على من يريد أن يكون كاتبًا ،أن يكون ل كاتب ،فهو يقّرر أ ّوالكتاب بجملته درس لك ّ
مخلصا ً للكتابة حتى الرمق الخير ،على الرغم من كل العوائق والمحبطات.
ل جوابه القصير على سؤال حول مقدار المال الذي يكسبه من عمله ،يبّين لنا ولع ّ
بإيجاز المعنى الكبير للرسالة التي تضمنها كتابه.
يقول أرسكين كالدويل " :ليس لي دخل منتظم ،لن ما أكسبه يعتمد على المكافآت
التي أتقاضاها لقاء ما أكتبه .فأحيانا ً أكسب عشرة دولرات في عام كامل ،وأحيانا ً
أكسب ثلثة آلف دولر في أسبوع " !
ً
ما أن يكون النشر منتظرا لدى الباب، ً والمعنى الكامن وراء هذه الجابة هو أنه ليس مه ّ
وليس مهما ً أن يكون المكسب في متناول اليد ..بل المهم هو أن تكتب وتكتب
ن الكتابة ،بحد ّ ذاتها ،هي الوسيلة والغاية معًا. وتكتب ،مضمرا ً في قرارة نفسك أ ّ
193
نوع العقوبة
في عام 1973قام الجنرال الشيلي السفاح )أوغستو بينوشيه( بانقلب عسكري ،بدأه
بإطلق نيران المدفعية علي بيت الرئيس المنتخب )سلفادور ألليندي( ..مما ادي الي
مصرع الخير وغرق شيلي في مستنقع الرعب والقتل الجماعي طيلة اعوام لم تنته إل
في وقت قريب ،بعد ان كنست عواصف التغيير شيخوخة الجنرال ونظامه الي مزبلة
التاريخ.
وقد كاد هذا الوحش يواجه العقاب في لندن مؤخرا ،بعد احتجازه للمحاكمة بدعاوي
اهل ضحاياه وانصارهم ،لول ان شفعت له عمالته القديمة ،يوم ان سخر ارض بلده
للبريطانيين في )حرب الفوكلند( ..فتم تهريبه من العقاب ،تحت جنح ظلم العدالة!
الروائية الشيلية الفذة )إيزابيل ألليندي( ،وهي ابنة عم الرئيس المغدور سلفادور،
وواحدة من ضحايا بينوشيه ،قررت عقوبة للدكتاتور علي طريقتها ،ففي مقابلة لها مع
سئلت في شيلي مؤخرا عن النهاية التي أود صحيفة )التايمز( البريطانية قالت :لقد ُ
كتابتها للجنرال بينوشيه ،فأجبت بأنني اتمني له ان يصبح عجوزا جدا جدا ،حتي يتجاوز
عمره المائة عام ،وان يكون طيلة هذا الوقت محاطا بأشباح ضحاياه ممن خانهم
اوأرهبهم او قتلهم ،ومحاطا ايضا بأبناء هؤلء حتي آخر لحظة من حياته الطويلة .
وقاطعها المحرر قائل :انت تفترضين ان السفاح يمتلك نوعا من الضمير .
فردت :لو كان يملك ضميرا حقا ،لما كانت هناك حاجة لحاطته بالشباح !
أتأمل كلمها ،ويخطر في ذهني رئيسنا المناضل ،الذي اخرجه الميركان من جحره
علي هيئة نشال ،وبصحبته مسدسه ورشاشاته التي كان يدخرها لوقت الشدة الذي لم
يأت ابدا!!
194
وأتساءل في نفسي :بأية اشباح سنخيف هذا الشعث الغبر الذي كان نائما في حفرة
ضب بصحبة الجرذان؟ انه برغم ذلته وهوانه ما زال يسمي ضحاياه من الهل والجيران
لصوصا وخونة وغوغاء.
ثم ماذا سيفيدنا عذابه بهذه الطريقة الرومانسية ،اذا كنا ل نزال غارقين في توابع
زلزاله من المرتزقة النذال الذين يرقصون علي دمائنا في وسائل العلم ،ومن الجهلة
الذين ما زالوا يصدقونهم برغم ظهور كل محتويات جحيمنا للقاصي والداني؟ بالنسبة
لي ..اتمني انا ايضا لهذا السفاح ان يعيش مائة عام فوق عمره ،بشرط ان يوزع علي
جميع الدول العربية ،ليحكمها دوريا )علي طريقة مجلس حكمنا النتقالي( ..لكن بواقع
خمس سنوات لكل دولة ،علي ان يوظف يتاماه الطبالون اعضاء في مجلس قيادته.
أخمن ان سنة واحدة ستكون كافية ووافية تماما ،لكي يعرف شعب كل دولة ان الله
حق ،وان الشعب العراقي )معجزة( بالتأكيد ..حين استطاع ان يبقي حيا ،وهو علي قيد
الوفاة طيلة ستة وثلثين عاما!
أما اعضاء مجلس قيادته ،فانهم سوف لن يعرفوا اطلقا ما ستعرفه الشعوب ،وذلك
لن الصورة ستخلو منهم تدريجيا بارسالهم الي السماء -بنظام الشفتات -حسب
)حسابات الحاضر والماضي( كما كان يقول مهيبنا الهارب من الخدمة العسكرية!
فاذا اكمل القائد دورات حكمه ،وامكن ان يجدوا فيه نفسا يتردد ،بعد استخراجه من
الحفرة العشرين ،فل بأس ،عندئذ ،من البدء بمحاكمته.
195
ق في الفؤاد ..وكلمة فوق اللسان ..
مابين خف ٍ
في أول هدأة للمرض كنت أنوي أن أنفض الليل المطبق على الوراق وأشرع في
الكتابة ،مهما كلفني ذلك من جهد ،أنا الذي وجدتني أخوض صراعات شاقة من أجل
ل لتخفيف القيام بأمور معتادة وبسيطة كالصلة ،أو القراءة أو حتى مشاهدة فيلم مس ّ
مى الوقت. ح ّ
كنت سأقول :أليس من الغريب أن يصطفي المرض من عمري سنواته القسى
مه فيها؟ سس ّوالكثر ألما ً ويد ّ
أن يتسّلل على أطراف أصابعه ويعبث بكريات دمي فيما أنا واقف على أطراف
أصابعي أتأمل من نافذة غربتي "عراقي" الحزين ،وقد آل إلى ضياع جديد ،وأفكر في
جدوى أن أعرق كلما ارتفعت حرارة الوطن فيما العصابات هناك تعيث في روحه
فسادا ً وتسرق الحياة من شرايينه؟
كنت سأقول :أليس من المؤلم جدًا ،ولم تمض أربعة أشهر بعد ،على كتابتي قصيدة
)ثلثون( ،تلك السيرة القصيرة الطويلة التي ضبطت نفسي وأنا أغالب عبرتي أثناء
من المرض على رحلة السندباد ويهديني زوبعة جديدة بغرض التلّهي عن كتابتها ،أن يؤ ّ
الزوبعة الولى ربما؟
هل يملك من يحمل في داخله وطنا ً كالعراق طاقة إضافية للصراع مع مرض آخر ،وهل
يستطيع حقا ً أن ينشغل بعلج بدنه عن علج روحه؟
كنت سأقول وأسهب عن موسم واحد ٍ فقط يعرفه سرير المرض وهو موسم الشتاء،
فل صيف ول ربيع ول حتى خريف وإنما برودة ضارية تتخلل الغطية البيضاء وتوسع
قاموس الدوية والمضادات وتحيل حتى كأس الماء إلى قطعة جليد.
ن ) سبتمبر( ،الذي وعيت فيه على مرضي ،هو أقسى الشهور وليس كنت سأقول أ ّ
ن "إليوت" مات قبل أن يرى الرض الخراب الحقيقية. ) أبريل( ،وإ ّ
كنت سأضحك من شّر البلية وأنا في البرزخ بين جرعة علج وأخرى وقد رجتني
ي وأسترخي قليل ً كأن ألوذ بالتفكير في شيء جميل "فكر مثل ً الطبيبة أن أغمض عين ّ
في بلدك "..قالت ذلك قبل أن تستدرك وهي ترى معالم الدهشة على وجهي وتتذكر
أنني من البلد الذي يلعب الن دور البطولة التراجيدية على شاشات التلفزيون " ل ل ..
كر في أي شيء آخر عدا بلدك!" ثم تتحول الضحكة إلى نوبة نشيج مكتوم عندما بل ف ّ
يعيد ابني الكبر على إخوته رواية الحادثة مرة واثنتين وثلثًا!
دد – صادقا ً – أنني لم أعتد على الستسلم ،منذ كنت كنت سأقول ألست أنا من أر ّ
طفل ً غّرًا ،وأنني أستطيع الوقوف وحيدا ً في وجه أقسى الهزائم لحيلها إلى انتصارات
ل يوما ً عن إيماني العميق برحمة الله التي أنجتني أيضًا ،منذ تشبه إرادتي ،وأنني لم أتخ ّ
ن هذه الشهر هي اختبار ل مفّر منه لصلبة نفسي؟ ّ وأ الله، كنت يافعًا ،من شّر خلق
ً
كنت سأقول إنه لو كان للمرض من حسنة فهي أنه أبعدني – قسرا -عن الستماع إلى
نشرات الخبار وعن قراءة الصحف وعن كل ما له صلة بالموت هناك ،سواء بوجهه
الفيزيائي من خلل المجازر التي ترتكب بشكل يومي أو بوجهه الخر المتبدي جليا ً في
ن الخبار تتسلل ،رغم الضمائر الملوثة التي تبيع وتشتري باسم الوطن والوطنية ،لول أ ّ
حيطة المقربين ،عن طريق ملحظة عابرة أو هامش صغير أو تداع لكلمة من هنا
وصوت من هناك أو عنوان رئيسي لصحيفة مهملة ،وأن كل ذلك كاف ليقاظ اللم
196
ي أن أضرب عرض الحائط بكل سل إل ّالتي تتصّنع الغفوة داخلي وعودة أبنائي إلى التو ّ
شيء وأفكر فقط في نفسي "على القل في فترة مرضك ،حاول أن تنسى كل ما من
شأنه أن يثير انفعالك وأساك"!
كنت سأقول أشياء كثيرة عن خطورة المرض والشروط القاسية التي يمليها على
أبسط طقوس الحياة وعن جبهته الواسعة والمفتوحة على معارك شتى ،وعن الوطن
ل جانب، الذي يبتعد كلما اقتربت وعن اللصوص المتنفذين بداخله والمحيطين به من ك ّ
وعن الرادة والوقت وأشياء أخرى مصطفة بأدب جم في انتظار أن أفضح صمتها ،غير
ل هذه الشياء ،كلها دون استثناء ،يمكن تأجيلها ،أو بالحرى يجب عليها أن تجلس أن ك ّ
ف الول، ن ممتلئة بالمتنان لصحاب الص ّ ف الثاني وتشخص بأعي ٍ على كراسي الص ّ
ً ً
أولئك الذين رافقوني مع أسرتي طيلة الرحلة الصعبة ،فكانوا وطنا آمنا وشفاًء ،وكانوا
كل ما يجب أن يقال الن في هذه اللحظة :صحيفة الراية ورئيس تحريرها الصديق
ف عن السؤال والطمئنان ،والذي احتوى فترة الستاذ يوسف درويش ،الذي لم يك ّ
مرضي وانقطاعي الطويل عن الكتابة بكثير من الُنبل والريحية وأصّر على أن أبقى
ن صوتي لم ن قلمي لم يتوقف عن النبض لحظة وكأ ّ بينهم حاضرا ً في الغياب وكأ ّ
يتحشرج لثانية.
ثم ثّلة الصدقاء والصديقات الذين تركوا العواصم المتباعدة خلفهم وطووا المسافات
الطويلة لكي يغتالوا وحشتي بحضورهم ويمدوا أيديهم ،ولو لبضع ساعات ،إلى كتفي
ل المرض يسمعهم فينكمش خج ً
ل :إننا هنا يا أحمد. ويهمسوا في أذني لع ّ
ً
ومثلهم ذلك الجيش الملئكي الذي أسميه مجازا )قرائي( ،وهم شعب من الجناس
المختلفة والعمار المختلفة والمستويات المختلفة وربما القلوب المختلفة أيضًا ،الذين
بلغني أنهم يتابعون أخباري بكل الوسائل المتاحة لديهم ،وهي أكثر صدقا ً ونقاء من
جميع وسائل العلم العربية ،ويتبادلون الدعاء من أجلي عبر رسائلهم الهاتفية،
ويلحقون أنباء صحتي في مواقعهم الشخصية على النترنت ،والذين اجتمعوا على أن
ل يعلمون جيدا ً ي حّبهم وكلماتهم ودعواتهم التي كان لها فعل السحر عند رج ٍ يوصلوا إل ّ
أنه أعزل!
أنتم جميعا ،أيها العزاء ،سندي وقّرة عيني ،وأنتم الرهان الذي ل يخيب ،وأنتم الوطنً
الخافق في الفؤاد والساكن تحت المداد.
هذا تماما ً ما أريد قوله في أول هدأة للمرض ،ومن دفء هذا الحساس يمكنني أن
ل عابر. أقتبس النور في بلد ٍ ل تزوره الشمس إل بشك ٍ
من كل قلبي :شكرا ً لكم.
أحمد مطر
197
198