Professional Documents
Culture Documents
ال يجوز استخدام أو إعادة طباعة أي جزء من هذا الكتاب بأي طريقة كانت بدون الحصول على الموافقة الخطية
من الناشر باستثناء في حالة االقتباسات المختصرة التي تتجسد في الدراسات النقدية أو المراجعات.
ISBN: 9781408810514
مقدمة
بيروت جزء أساس ،ركن ركين من تكوين كل مبدع عربي .وليس صدفة أن أول
قصة قصيرة نشرتها عام ،1963كانت في مجلة «األديب» البيروتية .بيروت مالذ
االبداع والمبدعين .لذلك بقدر ما تصحو وتنشط بقدر تكون عليه حال الثقافة
العربية .في بيروت بدأت المغامرات الرائدة في التجريب وارتياد اآلفاق .ومنها انطلقت
ونماها فضاء بيروت .هذا
المواهب الجديدة بال حدود ،بجرأه وفرها وشجّ ع عليها ّ
ما تفتح عليه وعي جيلي في ممارسته الكتابة.
كانت بيروت واحة حية محبة للحرية ،ومنطلقا للمبدعين وظهور األسماء
الجديدة ،لذلك ترجف النفس وتجزع إذا ما الحت بادرة ولو ضئيلة للتضييق أو
للحد .لكن من الذي يمكنه أن يضع خطوطًا تحاصر االفق حيث يلتقي البر و البحر،
الظل و الضوء.
هاهي «بيروت »39تؤكد دور المركز الرائد ،تقدم لنا مشهدًا نادرًا متكاملًا لحال
االبداع العربي في مطلع األلفية الثالثة ،حيث نقرأ نصوصًا رفيعة من العراق ،الذي
ال نعرف تمامًا ما يجري فيه اآلن .هذه النصوص التي تجسد الحيوية والقدرة على
التعبير ،من أقصى المغرب إلى أدنى المشرق تجعلنا نتوقف أمام النصوص الفائزة التي
أبدعها أدباء دون سن األربعين ،ليسوا من المقيمين في الوطن العربي فحسب ،وإنما
في المهاجر ايضا حيث يوجد اآلن عدة ماليين من العرب الموزعين على الكوكب،
يكتبون بلغات أجنبية مختلفة ،كما يحرص بعضهم على االبداع بالثقافة األم.
«بيروت »39توفر لنا رؤية ابداعية متكاملة من خالل أعمال الكتاب والشعراء
الشباب ،الذين تم اختيارهم عبر لجنة تحكيم رفيعة المستوى ،مثلما توفرت لهم
ظروف باهرة تكفل التعريف بأعمالهم على نطاق واسع ،ليس في اللغة العربية وحسب،
5
مقدمة
وإنما في اللغات االخرى أيضا ،انطالقا من اللغة اإلنكليزية وعبر دار نشر كبيرة .هذه
النصوص بثت في روحي نشوة وتفاؤلًا جميلًا عهدناه دائمًا من بيروت التي تمدنا
بالثراء الفكري والروحي وألق المستقبل.
جمال الغيطاني
القاهرة ،فبراير 2010
6
قائمة المحتويات
5 مقدم
ة
جمال الغيطاني
11 بيان لجنة تحكيم مسابقة بيروت 39
14 كلم
ة
عبده وازن
17 مالحظة من المحرر
صمويل شمعون
19 مطلع رواية فرانكنشتاين في بغداد
أحمد سعداوي
24 قصائد من يوتوبيا المقابر
أحمد يماني
30 لمن تحمل الوردة؟
إسالم سمحان
33 ثالث قصائ
د
باسم األنصار
38 مقطع من قصيدة جيولوجيا األنا
جمانة حداد
47 الم َّعلقة األخيرة
فصل من رواية ُ
حسين العبري
قائمة المحتويات
53 قصائ
د
حسين جلعاد
58 مقطع من رواية َّلذات سرية
ّ
الجزار حمدي
63 قصتا
ن
ديمة و ّنوس
72 مقطع من رواية أميركا
ربيع جابر
81 قصة بنايتي
جرار
رندا ّ
90 حراس الهواء
مطلع رواية ّ
روزا ياسين حسن
98 تسع قصائ
د
زكي بيضون
103 تسع قصائ
د
سامر أبو هواش
108 مقطع من رواية رائحة القرفة
سمر يزبك
114 األمازيغ
ي
الخصار
ّ عبد الرحيم
118 مقاطع من رواية جلدة الظل
عبد الرزاق بوكبة
123 فصل من رواية بدو على الحافة
عبد العزيز الراشدي
129 زيارة إلى المجزر ة
عبد القادر بن علي
قائمة المحتويات
233 قصائ
د
نجوان درويش
238 ثالث قصص قصيرة
هالة كوثراني
243 بطن ليل
ى ُ
هيام يارد
248 جريمة في شارع المطاعم
وجدي األهدل
262 قصتا
ن َّ
ياسين عدنان
270 مقطاعين من رواية ساق الغراب
يحيى أمقاسم
276 فصل من رواية المقامة الحاكمية أو المنتحر 20
يوسف رخا
284 المؤلفون
298 المترجمون
300 شكر و تقدير
بيان لجنة تحكيم مسابقة «بيروت »39
بعد اجتماعات عدة عقدتها لجنة تحكيم مسابقة «بيروت ،»39في عواصم عربية،
وأخيرًا في بيروت ،تم التوافق على األسماء التسعة والثالثين الذين سيشاركون
في المهرجان الذي تنظمه مؤسسة «هاي فيستيفال» تحت عنوان «بيروت »39
بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية وفي إطار االحتفال ببيروت عاصمة عالمية
للكتاب . 2009
وما تجدر اإلشارة إليه أيضًا هو غزارة المشاركة الشبابية في المسابقة ،إذ بلغ
عدد المشاركين أكثر من 450كاتبًا وكاتبة من معظم الدول العربية ،ومن المغترب
العربي ،األوروبي واألميركي.
وكان على أعضاء لجنة التحكيم التي ترأسها الناقد المصري الدكتور جابر عصفور،
والتي ضمت الروائية اللبنانية علوية صبح ،والشاعر العماني سيف الرحبي ،والشاعر
والناقد اللبناني عبده وازن ،أن تراجع أعدادًا كبيرة من الكتب التي أرسلها المؤلفون
والناشرون ،وتقرأها وتفرزها .وقد اعتمدت لجنة التحكيم منهج االختيار المتعاقب،
فاختارت في البدء مئة اسم ثم ستين اسمًا الى أن توصلت الى األسماء التسعة
والثالثين بعد نقاشات طويلة وعرض للكتب.
وكان النقاش يمتد أحيانًا ساعات نظرًا الى وفرة األسماء المهمة التي تستحق
الفوز ،وكان اختيار األسماء صعبًا وتطلب الكثير من الدقة والتأمل والتفكير.
األسماء التسعة والثالثون التي اختيرت تم اختيارها انطالقًا من رسوخ نتاجها
اإلبداعي ،روائيًا وقصصيًا وشعريًا ،وما يمثل من أصالة وتحديث في الوقت نفسه،
ومن استجابة للمعايير األدبية والنقدية .انها أصوات مبدعين شباب ،استطاعو
يكونوا شخصياتهم وأن يفرضوا تجاربهم ،متميزين بأساليبهم الخاصة ولغاتهم
أن ّ
11
بيان لجنة تحكيم مسابقة بيروت 39
ومقارباتهم ،ورؤاهم أو مواقفهم .لكن اختيار هؤالء ال يعني أن الئحة المشاركين لم
تحفل بأسماء أخرى مهمة ،فاألسماء التي كانت تستحق الفوز في المسابقة ليست
قليلة البتة ،لكن االلتزام بقاعدة المسابقة التي تتبعها مؤسسة «هاي فيستيفال»
باختيار 39اسمًا ،هو الذي جعل الحظ غير محالف لها كلها.
وختامًا ال بد من التنويه باألدب العربي الشاب الذي يتمتع بخصال الفتة وخصائص
فريدة .ولعل جيل الشباب هو الذي سيصنع مستقبل األدب العربي.
أما األسماء الفائزة فهي:
12
بيان لجنة تحكيم مسابقة بيروت 39
13
أدب عربي شاب
«بيروت »39خطوة فريدة غايتها رصد حركة األدب العربي الشاب ،جامعة أسماء
ووجوهًا شابة ،فاسحة أمامها المجال لتتعارف وتتبادل الخبرات واألفكار وتعمل
معًا في ما يشبه المحترفات األدبية.
لقد تخطى الك ّتاب العرب الشباب في عملهم اإلبداعي مفهوم المكان أو الهوية
ّ
تشكل مرجعهم األول واألخير. المحلية وباتوا ينضمون الى تيارات ومدارس أدبية
ويالحظ بوضوح مثلًا أن روائيين كثرًا من بلدان عربية مختلفة ،مشرقية ومغربية
ينتمون الى تيار واحد متخطين جدار اإلقليمية ،بل هم يتواصلون ويأتلفون على
رغم البعد الجغرافي ،وبات من السهل الكالم عن رواية شبابية واقعية أو واقعية
جديدة أو فانتازية أو ما بعد -حديثة يشارك كتاب شباب من كل الدول العربية
في ترسيخها .وقد غزا هذا األدب الشاب الجديد الساحات األدبية العربية حتى أصبح
من الصعب الكالم عن رواية لبنانية شابة ،أو رواية مصرية شابة أو سورية أو
تضم روائيين من كل
وهلم جرًا .تهيمن اآلن حركة روائية عربية شابة ّ
ّ سعودية
البلدان العربية وتهدف الى كسر الحدود اإلقليمية .ويشمل هذا الوصف ،الشعر.
أيضا .حيث لم يعد هناك شعر لبناني شاب يختلف عن شعر مصري شاب أو سعودي
أو عراقي أو فلسطيني ،فالشعراء يعملون معًا على ترسيخ أساليبهم الجديدة ولغتهم
يتفردون بها .وقد ساعد زمن االنترنت على ّ
تخطي المعوقات الجديدة ورؤيتهم التي ّ
التي تحول دون تواصل هؤالء الشعراء ،بعضهم مع بعض.
ولعل ما يجمع بين معظم الك ّتاب الشباب في العالم العربي هو نبرتهم االحتجاجية
وتمردهم على الثقافة التقليدية وعلى التراث الجامد .وقد أعلنوا عصيانهم األدبي ّ
ضد ّ
النزعة اإليديولوجية التي أنهكت األدب العربي في مرحلتي الستينات والسبعينات
14
من القرن الماضي .وقد تخطوا أيضًا مفهوم االلتزام الذي برز في المرحلتين السابقتين
والذي فرضه الفكر السياسي الحزبي والجماعي ،وسعوا الى حال الفردانية ،مركزين
على الفرد ،كإنسان يعيش ويعاني ويحلم ويبحث عن حريته المطلقة ،وقد أعلن
الكثيرون من الك ّتاب الشباب كراهيتهم لما يسمونه بالغة أو فصاحة .فهم يريدون
أن يعبروا عن همومهم الشخصية غالبًا كيفما كان لهم أن يع ّبروا ،بحرية وتلقائية.
فالمهم ان يحتجوا ويرفضوا ويعلنوا سأمهم من اللغة نفسها ،اللغة التي تختلف بين
الكتابة والكالم .انهم يريدون أن يكتبوا مثلما يتكلمون بعفوية تامة متجاوزين الرقابة
التي تفرضها اللغة نفسها أولًا ومن ثم الرقابات األخرى الدينية واألخالقية.
ويعتقد هؤالء ان العصر الحديث ،عصر المعلومات والكومبيوتر واالنترنت لم يترك
ّ
ليحلوا ألغاز القواعد والصرف والنحو .انهم يبحثون عن لغة الحياة .وال لهم وقتًا
يخشى هؤالء الك ّتاب ارتكاب األخطاء النحوية أو الصرفية .بعضهم ال يكمل الجمل
قصدًا ،بعضهم اآلخر يحب الركاكة ولغة الشارع واللهجة العامية.
يضم مختارات روائية وقصصية وشعرية لـ 39كاتبًا عربيًا شابًا
هذا الكتاب الذي ّ
يقدم صورة بانورامية عن األدب العربي الشاب ،هدفها مخاطبة القارئ ،أيًا تكن هويته
ومساعدته على تكوين فكرة عن هذا المشهد.
عبده وازن
عضو لجنة تحكيم بيروت 39
بيروت ،فبراير 2010
15
مالحظة من المحرر
صموئيل شمعون
برلين ،فبراير 2010
17
أحمد سعداوي
مطلع رواية
فرانكنشتاين في بغداد
اليوم أكمل الرقعة األخيرة في هذا الجسد الهجين الملقى على سطح البيت .كان
ينقصه األنف ،هذه الكتلة الشحمية اللدنة ،التي تكون َّأول الذاهبين في المعارك
بصلف
ٍ داخل األز َّقة أثناء الليل .تسقط سريعًا بالبلطات واألمواس التي يشهرها السكارى
مفاجئ في وجوه بعضهم ً
بعضا .يذوب األنف وكأنه من الشمع ليس إال ،ويذهب بهاء
أنف
الوجه مع أي لفحة حر النفجار أو حريق .لذا كان من الصعب عليه العثور على ٍ
واحد من الوجوه التي تعرض له أو يقفز فوقها وهي
ٍ سليم .لم يرغب بجدع أنف
ً
وحيدا ومهملًا ال مسجاة في لحظتها الختامية على الرصيف .كان يريد ً
أنفا مفردًا َّ
مهمته بالبحث عسيرة وصعبة. يرغب فيه أحد .وهذا ما جعل َّ
كانت الج َّثة الهجينة َّ
تتعفن .ولوال صقيع الليل البارد فوق السطح ،لكان فقدها منذ
وقت طويل ،ولكنها تتعفن رغم ذلك ،وكأنها تنهره بالرائحة الوليدة من ُّ
تغضنات
الشحوم وط َّيات الجلد التي خاطها بمهارة ،وتأمره بأن يكمل ما بدأ به.
واليوم وجدهً :
أنفا عظي ًما بمنخرين واسعين .تسابق مع رجال اإلطفاء الذين كانوا
يغسلون الدماء وبقايا الجثث ،واختطف األنف من الرصيف ،قبل أن يدفعه خرطوم
بعيدا إلى فتحة المنهول .سنسخر منه ،أو نضرب رقم هاتف الشرطة كيً المياه
ندلهم على مكانه.
ولكنه لم يسرق شي ًئا من أحد .لقد أخذ فقط ما بدا أنه نفاية ،وهو أمر يشبه
عمله المعتاد ،يجمع من األرصفة وأكوام األزبال ما يزهد به اآلخرون ،ويقوم ببيعه
المرة إلى التقاط بقايا الجثث
إلى باعة العتيق والسكراب .قد يكون اندفاعه هذه ّ
ولكن جوهر األمر واحد .إنه يجمع ْ نوعً ا من المبالغة في تقدير النفايات البشرية،
المهمالت كي تكون بالجمع شي ًئا نافعًا .ولكن ،ما النفع من ج َّثة أخرى؟ ما الفائدة من
19
أحمد سعداوي
مفرقًا على
هذا المسجّ ى بجسده العاري الغريب على سطح البيت؟ لماذا لم يدعه َّ
األرصفة والشوارع؟
مشوش ،وهو مجنون ،كما كانت تقول أ ُّمه قبلَّ جواب هذا ليس عنده اآلن .دماغه
وفاتها لجارتها األشورية أم دانيال .وكما كانت تراه أم دانيال ح ًقا والجيران اآلخرون
في زقاقهم الخرب في حي البتاوين في بغداد ،هذا الزقاق الذي ينتظر غضب اهلل منذ
زمن بعيد كما تقول أم دانيال .لذا لن يخاف اآلن من مداهمة الشرطة وعثورهم على
ويحب أن يبقى هكذا ،يضحك
ُّ الج َّثة الغريبة للرجل الغريب في بيته .فهو مجنون،
سره ألن ً
أحدا من الجيران لن يصدق امتالكه لهذه المهارة العالية في الخياطة في ّ
أمر مريحٌ ـ أنه صنع بإرادته
يصدق أحد ـ وهذا ٌِّ َّ
المخلفات .لن ورتق الفتوق وجمع
ً
كاملة من بقايا القتلى في «ساحة الطيران» و«الباب الشرقي». ج َّثة
***
لديه ّ
جثة كاملة اآلن على السطح بين أكياس الجنفاص المملوءة بعلب البيبسي
سيرا على
ً كيسا آخر مملو ًءا إلى النصف ،وهو يعود
المعدنية ،ويحمل على ظهره ً
الرصيف من ساحة األندلس ،حيث يأخذ قنينة «العرق» من مخزن إدوارد ،والباقالء
ِّ
المطل المسلوقة من عربة ياسر الصفيري ،وعشاءه من بائع ّ
التكة والفشافيش
على الساحة ،الذي ال يعرف اسمه .كان شارد الذهن ،وهو يرى الس َّيارات تخطف
يمر في العادة
مر بجوار فندق السدير نوفوتيلّ .
بأضوائها داخل العتمة والبرد حين ًّ
على الجانب اآلخر من الشارع تج ّن ًبا لتنبيهات الحرس ذوي الوجوه القلقة .خصوصً ا
أكياسا
ً فجر الكثيرون
كبيرا ومري ًبا على ظهره .لقد َّ
ً كيسا
وهو يحمل على الدوام ً
مشابهة أمام المحال والفنادق والدوائر الحكومية .لك َّنه الليلة شبه سكران ،وال
يهتم إال بخطواته وهي تعبر على البقع المائية واألزبال.
ُّ
نهض الحارس من مكانه وراء الكابينة الخشبية في المدخل العريض لبوّ ابة
وتقدم نحوه .تأ َّمل خلقته َّ
الرثة ،ورأى الملل في وجه هذا الحارس لموجز َّ الفندق
الرتيب من أمام البوابة الحديدية العريضة .وها هي ُنذر
من الثواني استغرقها مروره َّ
القدر الس ِّيئ الذي يعرفه في نفسه دائ ًما .شحطت س َّيارة أزبال تابعة ألمانة العاصمة
بجواره وغسلت سرواله بمياه األمطار وهي تتجه بسرعة إلى مدخل الفندق الذي
20
فرانكشتاين في بغداد
***
21
أحمد سعداوي
الزقاق .قال في نفسه« :سألقي بالج َّثة من السطح إلى الزقاق ليلًا ،ولن يعرف أحد
أنها كانت عندي وبحوزتي ،ولن يعرف أحد من قام بهذا العمل الشنيع والمجنون.
لن يبحث أحد عن ُهو َّية هذا القتيل ،فهو الوحيد هنا ،بين أحياء َّ
محلتي الشعبية
وأمواتهم ،من ال يملك أية ُهو َّية .سيبلغون الشرطة ،وتأتي سيّارتهم الحوضية .ينزل
بأكف بالستيكية بيضاء ،يرفعون الج َّثة برتابة وملل ويلقونها برمية واحدة
ٍ شرطيان
مد ًة من الزمن،
إلى حوض الس َّيارة ،وهناك في الطب العدلي ستبقى في الثالجة ّ
وحين ال يأتي أحد للسؤال عنها ،ستدفن في مقابر أمانة العاصمة مع رقعة صغيرة
تشير إلى كونها ج َّثة مجهولة ال ُهو َّية».
شرب كأسه األخيرة لهذه الليلة ،وبدأت أحشاؤه َّ
تتقلب ،إنها الطفيليات أو عدم
جودة الباقالء المسلوقة ،أو سوء التخمير لهذا المشروب .وقف أمام المغسلة بجوار
بالتبول استعدادًا للنوم .نظر إلى السطح المنار بضوء القمر غير المكتمل.
ُّ النافذة وبدأ
ولكن هذا ال عالقة له بما رأى .كانت الج َّثة هناك مستوية على قرميد
ْ كان سكرانًا،
السطح القذر وغير المكنوس منذ وفاة أ ِّمه .كانت الج َّثة جالسة تنظر إلى الزاوية
مستو باستقامة واضحة ،مثل
ٍ البعيدة للسطح .بدت وكأنها تفعل ذلك ح ًقا .والظهر
ظهر رجل نشيط نهض من نوم مشبع .ولكن ،لماذا يستيقظ هذا المسخ المعتوه في
فجرا؟!
الثالثة ً
***
ليلة شديدة
ٍ مقرفصا وملمومًا مثل جنين ،وكأنه عانى من
ً في الصباح ،وجده
البرودة .تجاهله وهو يغلق باب السطح الحديدي بالقفل ،وينزل على الدرج المعدني
إلى الزقاق مباشرة .كانت خطواته مؤلمة ،ورأسه مثقلًا بالكوابيس ووطأة الذنوب،
ً
بعيدا، وكأنه عوقب ليلة أمس على فعلته الشنيعة« .من األفضل رمي هذه الج َّثة
كل حين ».قال ذلك في نفسه حتى ال أحصل على سيارات تنفجر أمامي وخلفي َّ
وهو يواجه هبّات الهواء البارد عند الشارع العام.
كان يريد الذهاب إلى الطرف اآلخر من العاصمة ،من أجل جمع العلب المعدنية
للمشروبات الغازية في مقالع النفايات بين األحياء السكنية هناك .ولكن السماء ظلت
مل َّبدة بغيوم داكنة تنبئ بمطر غزير عند منتصف النهار ،وشعر بجوع رهيب وألم
22
فرانكشتاين في بغداد
في ِّ
كل مفاصله دخل إلى مقهى عزيز المصري ،خلف مص ِّور «النجوم» في منطقة
«الباب الشرقي» ،وهناك تناول إفطاره وسمع هاللًا مصلح الساعات السوداني يضحك
وفجر نفسه ليلة أمس أمام مدخل فندق السدير
على سوداني آخر أصيب بالجنون َّ
نوفوتيل .لقد فجّ ر سيّارة أزبال مليئة بالديناميت كان يقودها ،وهو ما صنع حفرة
بعمق ستة أمتار ـ لو كان اخذلو ب ُُطل عرق وشربو مع قحبة ما كان أشرفلو؟
يتقصد أن ال يتحدث
َّ ّ
المسلي من الحادثة ،وهو كان هالل السوداني يسرد الجزء
باللهجة السودانية ،فخرجت الكلمات من فمه هجينة ال تشبه أي لهجة .وكان
هناك شخص واحد في هذا المقهى لم يكن يضحك على الحكاية ،أو على لهجة
ّ
المسلي من هالل الغريبة ،شخص استمر في تناول إفطاره ولم يرغب بسماع الجزء
الحكاية ،ولم يجد رغبة لرواية الجزء السيّئ من الحكاية الذي كان أقرب شهوده.
نظر إلى النوافذ العريضة والقذرة للمقهى ،وشاهد كيف أن السماء انهمرت فجأة
ً
مباشرة إلى غرفته فوق بمطر شديد ،فوجد نفسه ،حين خرج من المقهى ،يتجِّ ه
سطح بيت المعزايات ،طاويًا كيس الجنفاص الفارغ تحت إبطه .لم ِّ
يفكر بالعمل هذا
وأحس برغبة االندساس في فراشه والنوم لبقية النهار.
َّ اليوم،
َّ
السلم الحديدي وفتح الباب كان السطح خال ًيا ومبللًا بمياه األمطار .لم حين صعد
تكن الج َّثة حيث تركها ،وهجمت على رأسه مجموعة من األفكار دفعة واحدة:
«ربما عبر أحد أبناء العواهر من األسطح المجاورة وأخذ الج َّثة .ربما جاءت
أخيرا بسبب إخباريّة من الجيران ونقلت الج َّثة إلى الطب العدلي ،ربما
ً الشرطة
استغاثت أم دانيال وهي تنشر مالبسها على السطح بأهل الرحم ،حين لمحت هذه
الج َّثة وتصورت أنها جثتي».
ولكن أم دانيال ،رغم خرفها ،لن تنشر المالبس على حبال السطح في يوم غائم
وممطر .خطفت ُّ
كل هذه األفكار في رأسه بلمح البصر ،وهو يتقدم بخطوات واسعة
على السطح المبلل نحو باب غرفته.
23
أحمد يماني
مقاطع من قصائد
يوتوبيا المقابر
١
24
يوتوبيا المقابر
٤
٥
أمي
أرجوك
عندما تعرفين أنني دخلت بيتي الجديد،
ال تبكي
ألنني أريد أن أختزن عينيك لأليام القادمة.
كوني هادئة
ِّ
وهزي رأسك ثالث مرات،
وأرسلي قبلة هوائية
وسأصخب مع أصدقائي هنا
وهم يهنئونني ببيتي الجديد،
وسأجعل الباب مواربًا،
في انتظار قبلتك.
25
أحمد يماني
٦
26
يوتوبيا المقابر
٨
27
أحمد يماني
الجنازة
الساعة الخامسة
ُّ
تحط زهرة ذابلة ُّ
يحط غراب وال ذبابة وال عصافير .على النافذة على النافذة ال
وقعت من الطابق األعلى وعلى المائدة ستبقى َطوال المساءّ .
أحدق فيها تحت إضاءة
تدمي العينين .على الحائط لوحة لـ «كليمت» بدت فيها الحياة البهيجة المل ّونة
ً
خافضة وهي تذوي أمام رسول الهالك الناظر باستعالء إلى األجساد الفائرة المكوّمة
رؤوسها ،م ِّيتة حتى قبل أن ينشب المالك حربته .أضع الزهرة في المسافة الفاصلة
العظمي للمالك وبين الكائنات المل ّونة ،لكنّ الزهرة تتململ ،تخفق أن
ّ بين الهيكل
ً
ذابلة هي األخرى؟ أزحزحها إلى العين الفارغة في رأس المالك جسرا .ألم تكن
ً تكون
مستريحة أكثر .لكنّ الزهرة لم تخلق لتمأل األعين الفارغة ،الزهرة خلقت ً فتقبع
إلي أل َّنها ماتت .إلى نافذتي
لتمأل شرفة الطابق األعلى ،لك َّنها ماتت .الحقيقة أنها نزلت ّ
يحط عليها غراب وال ذبابة وال عصافير. التي ال ُ
28
يوتوبيا المقابر
الدفتر األحمر
ّ
مستجد ألحد المصانع ،بقراءة مسترخية أبطئها كنت أزجي ليلي الطويل ،كحارس
صغيرا لبول أوستر «الدفتر األحمر» يروي
ً قدر ما أملك ،كي ينقضي ليلي .كان كتابًا
مصادفة إلى أخرى
ٍ مصادفات واقعية وال يرى المصادفة عمياء بتاتًا .كنت أنتقل من
حارسا مؤ َّق ًتا ألحد البيوت
ً حتى وقعت على هذه :كان بول أوستر في شبابه يعمل
الفرنسي مع صديقته لقاء المأوى.
ّ في ريف الجنوب
حارسا
ً ّ
بحثت سريعًا عن ورقة ألدوّ ن هذه المالحظة وأسلي نفسي بأن العمل
ّ
التحكم كان ليس سي ًئا تمامًا .كنت أبحث عن أية ورقة ملقاة وعلى مكتب غرفة
يقبع هناك منزويًا الدفتر األحمر الصغير.
قصيدة «يوتوبيا المقابر» نشرت في ديوان «شوارع األبيض واألسود» طبعة خاصة،
القاهرة 1995بقية القصائد من ديوان «أماكن خاطئة» ،دار ميريت ،القاهرة 2008
29
إسالم سمحان
قصيدة
30
لمن تحمل الوردة؟
31
إسالم سمحان
32
باسم األنصار
ثالث قصائد
ٌنزهة
إلى كاسبر تومسن
33
باسم األنصار
ُ
رأيت الراهب ِّ
يحدث الكواسر عن البالد المرفوعة بيد اهلل،
أعشاب الدرب تص ِّفق لخطوات الهاربين من الفردوس.
َ ُ
ورأيت
ها هي األرواح البه َّية تخرج من حربها مع األخالق،
وها هي أجراس المعبد الجديد ترنُّ فرحً ا لمقدمها.
ليس لي سوى أن أضع أطيافي في البيت الوحيد،
وليس لي سوى الغناء في الغابة عن اليوم العجيب.
-زايكو ،زايكو ،البحر هناك.
قيل ،إن أمطار الخريف ،أحرقت األناشيد،
وقيل ،إن الهوا َء ،داعب َّ
الشجرة الملقاة وحدها خارج الحقول.
لم أ َر القطار الراحل صوب الشمس،
ولم أسمع صوت الماء النازل من ّ
كف المرأة الريفية!
بكفيه وهو يطير في الهواء،رأيت أحدهم يداعب صورة الجوكر َّ
ُ
ويطرز ثوبًا من أوراق الشتاء.
ّ ُ
ورأيت آخر يجلس تحت شجرةٍ م ِّيتة،
ُ
رأيت البخار الصاعد من أكواب القهوة يرسم األحالم الضائعة،
ُ
ورأيت روّ اد المقهى يعزفون بأصابعهم على الطاوالت ،لحنَ الريف.
من يخبرنا عن العربة القادمة من الشمس؟
ومن يخبرنا عن موعد قدوم قافالت السيرك إلينا؟
البحر هناك.
ُ -زايكو ،زايكو،
ُ
شاهدت الرصاصات النازلة من القلوب،
ِّ
المحلقة من العيون. ُ
وشاهدت الطيور
َ
رائحة األفكار المزروعة في الفضاء، ُ
شممت
َ
رائحة األمطار النائمة في السجون. ُ
وشممت
تذكرت القيثار َة الملقاة وحدها في الصحراء،
ُ
وتذكرت السائرين نحو الكهوفً ،
بحثا عن الشموع. ُ
آه!
ُ
الغروب يخرج من مسامات الدرب، راح
َ
وجه األفق. ُ
وراحت األوحال ،تأكل
البحر لم يعُد هناك.
ُ -زايكو ،زايكو ،يا كلبي الحنون ل َنعُد،
34
ثالث قصائد
35
باسم األنصار
بانوراما الدهشة
أها!
يتلصصون على األرامل من ثقوب النهار،
الصبية َّ
والرجال يلعقون في ّ
أكف العرافات.
أها!
الجنود يأكلون بندق َّياتهم،
والباعة المتج ِّولون يحملون النجوم فوق عرباتهم.
أها!
المرأة الفض َّية تدخل إلى المرآة ،وتضع الغيوم في الحقائب.
أها!
الشيطان يخلق الفراشات من التراب،
ً
خانقة الطفل في فمها. ُّ
تلتف حول البرج واألفعى
أها!
تلعب حول منازلنا.
ُ الحرب
َ أرى
أها!
الحرب ،كينونة المتحاربين ،ودم الفكرة.
َ أرى
أها!
أرى األبدية مع الرائي عبر نافذة الحانة القديمة.
أها!
أمي تشتريَّ ،
عدة سنوات ،من فرن الزقاق.
أها!
إخوتي يُح ّنطون أرواحهم في فكرة ال ُهو َّية.
36
ثالث قصائد
أها!
بسكين ،ثم ي َّتجه نحو الموت من دون رغبة.
ٍ أبي يقطع رأس الحرب
أها!
أرى خمس زهرات على الرصيف ،وفي جانبها خنجر ّ
ملطخ بالدماء.
أها!
أرى طفلًا يخرج من المقبرة ،وهو يغني أغنية غامضة.
أها!
الطفل يختفي عن أنظاري فجأة بعد أن ينهي أغنيته.
أها!
37
جمانة حداد
مقطع من قصيدة
جيولوجيا األنا
ٌ
إنسان عارٍ» «القصيدة
بوب ديالن
وتسعمئة وسبعين
ٍ ألف
السادس من شهر كانون األول ،من سنة ٍ
ُ أنا اليو ُم
ُعيد الظهر ُ
الساعة األولى ب َ أنا
ُ
صرخات أمّي تلدني
ُ
وصرخاتها تلدها
رحمُ ها تقذفني ألخرج م ّني
وع ََر ُقها ّ
يحقق احتمالي
ُ
صفعة الطبيب التي أحي ْتني أنا
ْ
حاولت إحيائي قد ْأردتني) صفعة الحقة
ٍ ُّ
(كل
علي ُ
عيون العائلة َّ أنا
ّ
والجد والعمّ ة والخالة ُ
حدقات األب أنا
ُ
شاهد المح َت َملة وأنا ال َم
ُ
والجدران الوراء والستائر الوراء،
ُ الستائر تنزاح،
ُ أنا
لكل ما هو وراء يد ِّ وأنا التي ال اس َم وال َ
المعل ُ
قة تمائ َم حول عنقي َّ ُ
الفراغات ُ
المجهضة، ُ
المرجوّة م ّني ،األحال ُم ّ
التوق ُ
عات أنا
األحمر الضي ُّق
ُ ُ
المعطف وأنا
ُ
بكيت َّ
كلما ارتدي ُته
38
جيولوجيا األنا
39
جمانة حداد
ُ
الحرب وأنا
وج َّثة الرجل التي جرجرها المقاتلون أمامي
ور ْج ُله المخلوعة تحاول اللحاق به
ِ
أنا
ُ
وقرأتها ً
طفلة، الكتب التي لم تالئمني،
ُ
(والتي اآلن أكتبها وال تالئم)
أنا مراه ُ
َقة نهديَ األيمن
ُ
حكمة األيسر وأنا
ُ
جبروت النهدين تحت القميص الضيّق،
ثم وعيي لجبروتهما وهذا بد ُء االنحدار
ّ
المتأخر أنا مللي السريع ،سيجارتي األولى عنادي
مر ْت ُ
الفصول ّ أنا
ُ
حفيدة الطفلة التي كنت:
أنا افتقارها إلى غضبي وخيباتي وأظفاري ومتاهاتي وشهواتي وأكاذيبي وحروبي
وندوبي وانحرافاتي
ُ
الحنان أحمله رغ ًما مني ،وأنا إلهي وجشعي وغياباتي المألى بموتايَ ،وأنا أنا
كل فجر ُ
زفراتهم األخيرة على وسادتي َّ الالينامون وقتاليَ ّ
الالينامون ،وأنا موتايَ ّ
وأنا
َ
الوقت، ّ
جبن إلى أسوأ ،أنا انتظاراتي الالتَ ْفهَمُ تأففي وعدوايَ وخطري وهربي من ّ
ٍ
مت ،وصمتي الذي لم أتقنه بعد المسافة ،أنا صمتي الذي ّ
تعل ُ َ ّ
والالتَ ْفهَمُ
تدب فوق روحي كحشرة
وحدتي ّ
كنت: ُ
حفيدة الطفلة التي ُ أنا
افتقاري إلى الطيش الغافل
وإلى كمالها يصغي إلى ذاته
ُ
كارثة الحب أنا
وأقع
أنا ُ
ذئاب الشعر تركض في دمي
ً
حافية ،معها أركض وأنا،
40
جيولوجيا األنا
ُ
الباحثة عن صيّادها أنا
ال تجد صيّادها
ْ
أومأت إلى شهوتي َّ
أنا مياهي تفور كلما شهوتي
ب األلسنة ترتوي بفورانها أنا تَ ُ
عاق ُ
ً
مستبقة جوعَ األلسنة ُ
حمرة شفاهي أنا
ُ
وذاكرة حنقها، ذاكرة جروحها، ُ وأنا ً
أيضا :أظفاري وما تحتها وما به تنوء ،وأنا
ُ
وذاكرة قوتها التي ال تحتاج إلى برهان ،وأنا ق َِطعُ اللحم الصغيرة ُ
وذاكرة ضعفها،
مُغ َت َن ً
مة من ظهورهم في ِّ
كل نشوة
وأنا أسناني
وفخذايَ الشهيتان
ورغبات داعرة
وأنا ذنوبي وكم أحبّها
وأنا ذنوبي وكم تشبهني
وأنا
صديقتي التي خانتني
وشكرا
ً
وأنا عمودي الفقري نابحً ا
في وجوه الغادرين
وأنا عينايَ تريان في العتمة التي عتمتي
وأنا وجعي
(نعم وجعي)
وأنا صرختي في المنتصف
(أكتمها في اللحظة المناسبة)
وأنا ما أخفيه
ولكن أخفيه
ْ ما ال أريد أن أخفيه
وأنا ما أريد أن أخفيه وال
أنا ْ
«قل لي كم تحبّني»
وأنا «ال ّ
أصدق»
41
جمانة حداد
42
جيولوجيا األنا
ما لن ّ
أخلفه ورائي:
حماقة ولم أرتكبها
ٍ َّ
كل
ذهاب ولم ْ
أعد منه ٍ َّ
كل
وأنا
ابنتي التي لم ألدها
ُ
والمرأة التي سوف أكون
ُ
المرأة تقري ًبا أنا تلك
ُ
الرجل وأنا تقري ًبا ذلك
وأنا
نجحت في أالّ أكونه تمامًا
ُ ُ
الرجل ذاك الذي
وينقذني م ّني َّ
كل يوم
ُ
لست عليها اآلن وأنا َمن
والناس الذين كنتهم أمس
ُ وأنا األشيا ُء
و َمن أكونهم في الغد
ويصنعونني.
43
حسين العبري
فصل من رواية
المعلَّقة األخيرة
ُ
نظر عبداهلل إلى الساعة في معصمه ،كانت قد تجاوزت الثامنة ،ها هو إذن
يتأخر عن عمله .لقد أسقط في يده حين رأى أن زميليه في العمل ،محمد وسالم،
قد وصال قبله .لقد كان ناد ًرا ما يتأخر على العمل ،وقد ضبّط نفسه ليصل دائما
قبل الثامنة بقليل .لم يكن ذلك بسبب أنه يحب عمله هذا ،أو يحب ما يفعله طيلة
اليوم في مكتبه ،لكنه مع هذا ال يمكن أن يكون كار ًها لعمله أيضا .إن الميزة الوحيدة
ً
بعيدا عن ضوضاء المراجعين ،وليس من اختصاصه أو المتأتية من عمله أنه يبقى
من اختصاص زميليه أن يقوموا بأشياء تتطلب عملًا سريعًا وعاجلًا.
انتصب عبداهلل طويلًا أمام الالئحة بعد أن سلم على زميليه محدقًا في قصاصات
األوراق المثبّتة .كان الحبل المشنقة منتص ًبا في صورة كبيرة على جسر القرم،
متوترا .حك جسده أكثر من
ً وثمة حبل آخر منتصب على الجسر الجديد .كان
مرة ،وشعر أن ثمة إحساسا بألم خفيف يأكله على الكتفين وأعلى الظهر ،وقد بدأ
توتره يظهر على هيئة عرق خفيف بدأ ينتح على ظهره أولًا ثم على رقبته .فكر :ال
بد أن يحاول قدر اإلمكان أن يهدئ من نفسه وأن ال يظهر شيئا من قلقه لزميليه،
لكن اليوم،
مؤخرا أنه على غير ما يرامْ .
ً رغم معرفته أنهما ال بد أن يكونا قد الحظا
اليوم هو مختلف تمامًا .وانتبه إلى أنه كان يلبس َم َص َّر المناسبات األزرق الغامق
فزادت حرارة جسده وبدأت حكة داخلية تأكله.
كان ما يزال منتص ًبا أمام الالئحة حين قال له سالم« :يجب أن تغلق َّ
ملف هذه
القضية يا عبداهلل!» نظر عبداهلل ،متعجِّ ًبا ،إلى سالم ،وحاول أن يفهم ماذا يعني
بقوله «يجب أن تغلق ».هل حدث شيء ما أخيرا ،وهل يعرف زميله شيئا جديدا؟
هل الحظ التوتر الحاصل داخله ،وبالتالي كان يحاول أن ينصحه بهدوء أنه قد حان
44
المع َّلقة األخيرة
ُ
اآلوان ،لترك هذا العمل الهامشي والنظر في األمور األهم؟ كانت المشانق ما تزال
ً
متأرجحة في الهواء ،وكانت قصاصات الجرائد تتداخل في عينيه َّ
تتدلى في دماغه،
بائسا ،ما الذي يجب أن يفعله؟ ال يستطيع ًّ
حقا أن يعلم زميليه بما يجري وتحيله ً
في داخله ،ال ألنه ال يريد ذلك فحسب ،بل أيضا ألنه ال يعرف ًّ
حقا ما الذي يجري
داخله .نظر إلى زميليه نظرات بلهاء ال معنى لها ،ثم أمسك بإحدى القصاصات وأزال
الد ُّبوس عنها ،ثم فجأة التفت إلى زميليه« :نعم ،حان الوقت ألن نغلق هذه القضية.
ً
جديدا». بد أن نفعل شي ًئا سوف أزيل َّ
كل هذه القصاصات .ال َّ
تعود
تعجب زمياله من فعله لكنهما عادة ال يختلفان معه في شيء؛ فمع مرور الوقت َّ
َّ
كل واحد منهم أن يحترم رغبات اآلخرين ،وأن يدرك مزاياهم وعيوبهم ،ووصلوا ُّ
كل واحد منهم يعمل مع اآلخرين ،ومع نفسهإلى حالة من التأقلم والتواطؤ تجعل َّ
في ذات الوقتَّ .
وفكر عبداهلل أن محمد وسالم سوف يسأالنه أال يفعل ذلك ،أو أنهما
لكن شي ًئا من هذا لم يحدث ،ببساطة أل َّنهما انهمكا
سيعترضان بطريقة أو بأخرىَّ ،
في أحاديث أخرى بينهما بدت أكثر أهمية.
عاد إلى مكتبه يحمل قصاصات الجرائد والدبابيس ،وبدأ في التخريم .أخرج الملف
الذي كان قابعًا في أحد األدراج ،وبدأ في تصفيف القصاصات .كان قلقه واضحً ا في
تململه وعدم قدرته على الجلوس على كرس ِّيه طويلًا كما هي عادته ،وفي تحريكه
بد أنّه يعتمل رجليه بحركات سريعة غير هادفة .إنه ِّ
يفكر اآلن أن شيئا قويا ال َّ
َّ
مجددًا إلى الالئحة، داخله ،لك ّنه يجب أن يغلق هذه القضية التي طال أمدها .نظر
َّ
ومد يده وأخذ الملف ووضعه في الدرج حيث كان.
لم يبد على محمد وسالم أنهما كانا يرغبان في إثارة موضوع حبال المشانق،
فبالنسبة إليهما كانت القضية منتهية ،حتى لو كان ثمة شيء يمكن أن يحدث
ملحة في وضع االحتماالت ومناقشتها.
في المستقبل ،فلم تكن تراودهما أي رغبة َّ
تعوده منذ مدة طويلة ،وأنه بهذا ً
جديدا غير ما َّ صرا
لقد الحظا أن عبداهلل يلبس َم ًّ
بعدة أعمال غريبة عليه ،فهو قد تأخر عن موعد دوامه يكون قد قام في يوم واحد ّ
وأخيرا كان يبدو
ً ً
مختلفا، صرا
بحيث أنهما حضرا قبله إلى المكتب ،وكان يعتمر َم ًّ
كل القصاصات كله أن يقوم بجمع ِّكل ذلك القلق الواضح .لكن األغرب من هذا ِّ
عليه ُّ
أمرا ما يعتمل في
إن ًهكذا من على الالئحة من غير أن يتردَّد بمجرد اقتراح بسيطّ .
ً
مريضا؟ أم أن القضية المهمة بدأت تشغله وتقلقه إلى هذه الدرجة؟ داخله! أيكون
45
حسين العبري
بعيدا ،فإ َّنه لم يذهب إلى مكتبه مباشرة ،كما هي العادة ،بل ظل منتص ًبا
إن هذا ليس ً
أمام الالئحة قبل أن يقوم بنزع القصاصات ،وهذا ع ََرض واضح يدل على أنه مريض
بهذه القضية .نعم ،هناك شيء يتغ َّير في داخله ،وهما يعلمان أنه لن يفسر لهما األمر
حتى لو سأاله ،ففضال متواطئين على أن يعطياه هو القرار ،إن كان يريد إخبارهما
لكن عبداهلل قطع هذه التساؤالت حين قام من على المكتب وخرج.
بما يجريَّ .
تجول عبداهلل في أروقة الوزارة غير مدرك
لم يحدث شيء يذكر بعد ذلك ،فقد َّ
ًّ
حقا ما كان يفعله .والحق أن حبال المشانق كانت قد عادت للتأرجح داخله ،وكانت
المرة تتخذ َّ
كل شيء وأي شيء للتشبث :شاهدها تتأرجح من على الجسور، هذه ّ
ومن على لوحات الطرق ،ومن على شرفات األبنية ،بل إنه كان يخيل إليه أنه سوف
يجد مشنقة عند ِّ
كل باب من أبواب الوزارة وعلى ساللمها.
مرتين خرج إلى المقهى الخشبي المنتصب خلف الوزارة ،وحاول أن يأكل شي ًئا ّ
لك َّنه لم يجد شه َّي ًة لفعل ذلك.
يفكر في المستهتر ذاك ،ال َّ
بد أنه يريد أن يُوصل رسالة ما إلى الناس ،وإليه كان ِّ
كله بحكمة ،وهو يريد أن يقول شي ًئا. شخص ًيا .ال ،ليس هو مجنونًا ،إنه يفعل هذا َّ
بد لهذا الرجل أن يكتب لكن ماذا يمكن أن تكون رسالته؟ فكر عبداهلل أنه كان ال َّ ْ
شي ًئا ما في الجرائد ،كي يقول في النهاية الرسالة التي يريدها .حس ًنا ،قد يكون
غير قادر على فعل ذلك ألن الشرطة سوف تحتجزه بالتأكيد ،لكن من أين له -بعد
ُّ
التأكد أن رسالته قد وصلت إلى اآلخرين؟ ال يبدو أن ِّ
كل هذه الحبال المشانق-
بمس ،أو أنه يمزح
أحدا فهم أي شيء سوى أن ذلك المستهتر مجنون ،أو مصاب ّ
ً
خائفا بل إن الناس كانت متش ِّوقة فقط لمعرفة ما هو مزحات ساذجة ،فال أحد يبدو
مصير ذلك المستهتر .أما قضية المشنقة هذه فإنها لم تكن ترمز ألي شيء ،وإنها لم
تكن موجودة أصلًا في تاريخ البالد .إن المدانين بالجرائم ما كانوا يُقتلون بطريقة
الشنق .ال شيء من هذا ،ربما أُعدموا بالبندق َّيات ،برميهم من على الشرفات ،بدفنهم
لكن بمشنقة؟ بحبل؟ بتعليقهم على المأل؟ ال ،إن ذلك أمر بعيد ًّ
جدا عن هذه أحياءْ ،
المنطقة من العالم.
فكر عبداهلل باحتماالت ما يمكن أن يكون نهاية حقيقية لهذا الموضوع .هلَّ
يبعث الرجل رسالة يقول فيها إنه كان فعل ذلك لسبب معين وإنه متأسف؟ بالطبع
يستطيع حتى أال يتأسف ،بل يضع رسالته تلك على الجسر وينصرف ،فيعرف ال َّناس
46
المع َّلقة األخيرة
ُ
يكلف الرجل شي ًئا ،وسيكون قد أكمل أن القضية غدت منتهية .إن ذلك أمر لن ِّ
القضية التي بدأها .أما أن يجعل األمور َّ
معلقة هكذا وال أحد يستطيع أن يتكهَّن متى
وأين ستتدلى المشنقة التالية ،إن هذا هو حقا االستهتار بعينه.
لقد كان طيلة هذا اليوم يفكر بنوع من الحقد على الرجل المستهتر ،صاحب
المشانق ،لك َّنه اآلن بدأ في الشفقة عليه .ال بد أن يكون رجلًا ذا شأن حتى يفعل َّ
كل
كثرا ربما انطبقت
هذا .إننا ال نحترمه حين ننعته بلقب معتوه أو مستهتر .إن آخرين ً
لكن هذا الرجل ذو شأن آخر حت ًما ليفعل َّ
كل ما فعل. عليهم هذه الصفاتَّ ،
قام محمد من على مكتبه وأعلن أنه ذاهب .كانت الساعة ما تزال الثانية
وعشر دقائق .إنه الوقت الذي يخرج فيه .نظر سالم إلى عبداهلل ،وبدأ في تجميع
توجه إلى عبداهلل وسأله إن كان بخير ،فرد أغراضه هو اآلخر ،ثم قبل أن يخرج َّ
ّ ُّ
«كل األمور تمام ».كان ذلك غري ًبا ،فكر عبداهلل .هل كان سالم محرجً ا عبداهلل:
أن هذا معناه أنه يعرف ما يشغل عما يشغله منذ الصباح؟ أم ّ
من أن يسأل عبداهلل َّ
عبداهلل ،لك ّنه أراد فقط أن يطمئن عليه؟ وأيًّا كان األمر ،فإن عبداهلل ر َّدد أن
ً
متوعكا فقط .خرج سالم «كل شيء على ما يرام» وأنه ال داعي للقلق ،فقد كان َّ
من المكتب بعد أن ألقى نظرة ذات معنى على الالئحة الفارغة من القصاصات.
وحيدا خلف مكتبه بضع دقائق غارقًا في تساؤالته َّ
عما ً َّ
ظل عبداهلل في الغرفة
ينبغي فعله في مثل هذه األوقات العصيبة .إنه يكاد ينفجر من الداخل ،وهو ال يعرف
جن؟ أو أصابته لوثة؟ لو أنه
حقا ما الذي يدور هناك من أحداث ،أيكون فعلًا قد ًَّّ
بمس من الجان ،أو أن أحدهم قام
شك كاآلخرين أنه مصاب ٍّكان في قريته اآلن لكان ّ
ً
جسدا بال عقل ،آلة من غير توجيه ،أو آلة يوجهها بإلقاء سحر عليه فجعله هكذا
ساحر من بعد.
الملف َّ
وقلب القصاصات ،وقام بإخراجها واحدة بعد األخرى ،وهو َّ فجأة أخرج
يحاول أن يرى إن كان بإمكانه هو عبداهلل بن محمد معرفة من يكون هذا الرجل،
بكل هذا القلق .كيف يمكن لهذا الرجل أن ِّ
يفكر؟ وما الذي أقلق حياته وقذف عليه ِّ
هي الغرائز التي تحركه؟ لماذا يسعى هكذا إلى تدمير العالم وزرع الرعب في ِّ
كل
وأخيرا ،من دون أن يعرف لماذا ،قام عبداهلل بإعادة تثبيت القصاصات على
ً مكان؟
الالئحة بالدبابيس ،ونظر إليها مل ًّيا إلى أن كان موعد خروجه من الوزارةّ .
هدأت
ً
سيطرة هذه الحركة من ثورانه ،وأرجعت إليه شي ًئا من التوازن .كان اآلن أكثر
47
حسين العبري
48
المع َّلقة األخيرة
ُ
تمامًا لهذا اليوم ،وسوف يتس َّنى له معرفة النهاية المتو َّقعة عن طريق التلفاز أو
كل شيء في الجرائد ،حيث سيجلس كل ذلك إلى صباح الغد ويقرأ َّ
الراديو ،أو يرجئ َّ
مرة أخرى عبداهلل بن محمد المبرأ من هموم هذا على كرس ِّيه ،ويكون قد عاد ّ
الدوار ويتجّ ه لليسار ،حيث
َّ يلف ثالثة أرباع العالم.فكر أن بإمكانه اآلن ً
أيضا أن َّ
يستطيع الصعود على الجسر ،ويلقي نظرة أقرب إلى ما يحدث إن كان ثمة مشانق
وحبال متدلِّية.
يقرر اآلن وإال فاته الحدث .ودار نصف بدا األمر مقل ًقا وال ّ
بد له بعد هذا أن ِّ
دورة على الدوّ ار وأكمل ثالثة أرباع الدورة .لم يستطع أن يتجّ ه مباشرة في طريق
الهروب ،ولم يستطع كذلك أن يتجّ ه إلى قلب الحدث ،حيث الجسر .ثم أنه دار
المرة أطلق لسيارته العنان
مرة أخرى ،وأكمل نصف الدوار ثم ثالثة أرباعه ،وهذه ّ
ّ
ومضى بعناد في اتجاه الجسر.
لم يستطع االستمرار طويلًا ،فعند بداية الجسر كانت س َّيارة شرطة هناك ،وكان
رجال شرطة ي َُلوُ َحان في األفق وهما يركضان .كانت سيارتهما مفتوحة األبواب
ومركونة في الطريق وأضواؤها تلمع باألزرق .استطاع عبداهلل أن يتب َّين ما يحصل.
كان رجال الشرطة يالحقان أحدهم .إنه هو إذن :ال بد أن يكون هو ذلك الرجل
البطل ،الذي علق المشانق َّ
كل هذه الشهور.
أصبح عبداهلل متح ِّم ًسا ً
جدا وو ّد لو أنه أستطاع إلقاء نظرة على الجوار .كان
اآلخرون في س َّياراتهم يرقبون المشهد بفضول ،بينما خرج البعض ليرى بتفصيل
أكثر ما هو حاصلَّ .
فكر عبداهلل أن الشرطيين سيقومان بالقبض على الرجل حت ًما.
ونظر باتجاه الجسر ،لم يكن يستطيع من موقعه هذا أن يرى ما إن كانت هناك أية
مشنقة أو حبل.
كان يلزم أن يخرج من سيارته ويذهب إلى أعلى الجسر حتى ي ّ
ُطل على الشارع
َّ
مجددًا ليعلق مشنقة ،وإن الرئيس .كان يريد أن يعرف ما إن كان الرجل قد جاء
كان قد َّ
علقها أم أنه جاء لينهي هذه القضية .ال َّ
بد أنه هو اآلخر ،مثل عبداهلل ،قد
لكن الشرطة فاجأته.
أقلقه طول المدة ،وأراد أن ينهي القضية َّ
شاهد الرجل البطل يركض نزولًا من الجسر ،وعلى إثره رجال الشرطة .حاول
بعض السائقين أن يعرقلوا الرجل لكنه كان سريعًا ،وكان قد تخلص من نعليه
ورفع من دشداشته قليلًا ،لكي يصبح قاد ًرا أكثر على العدو بسرعة .اتجهت األنظار
49
حسين العبري
باتجاه المطاردة ،واستطاع الرجل االنطالق خلف الس َّيارات ،واالبتعاد باتجاه األشجار
للدوار الفرعي .وراءه ثالثة رجال آخرون اآلن تركوا سياراتهم
والحشائش المجاورة َّ
ليساعدوا رجال الشرطة ،مع أن األخيريْن كانا يصرخان فيهم أال يتدخلوا حتى ال
يوقعوا أنفسهم في المتاعب.
يحدق في عينيه. شاهد عبداهلل الرجل البطل قادمًا باتجاه السيارات وحاول أن ِّ
واستطاع لوهلة أن ينظر باتجاه عيني الرجل ،ونظر الرجل إليه .كان وجهه َّ
مغطى
بالعرق ،حاسر الرأس وتتدلّى خصالت شعره ملتصقة على جبينه .كان بو ّد عبداهلل
أن يفعل شي ًئا ،وينقذ الرجل المطارد ،لكن كيف؟ لو أن الطريق كان مفتوحً ا لربما
ً
بعيدا عن الجميع ،وسيكون استطاع إدخاله إلى سيارته ،واالنطالق بأقصى سرعته
قاد ًرا ،بعد أن يطمئن الرجل ويستريح ويجفف عرقه ،أن يسأله عن المغزى من ِّ
كل
السر الذي حدا به أن يقوم بهذا ِّ
كله. ِّ هذا ،عن
لكن ذلك صعب ،ولن يجرؤ عبداهلل على فعل مثل هذا ،حتى وإن كان الطريقَّ
ِّ
يشكله .ما الذي يدخله في مفتوحً ا .إن ذلك ضد ما هو عليه ،ضد شخصيته وما
الموضوع بر َّمته؟ وإذا كان الرجل إنما جاء ليقتل نفسه فهل سوف يساعده ،ويلقي
ً
مساعدا له في تحقيق ً
مربوطا بمشنقته الغليظة؟ فهو إنما يكون به من الجسر
رغبته العارمة التي شقي طويلًا لبلوغها .إن هذا الرجل الراكض خبر آخر في سبيله
لالنتهاء تمامًا.
لكن هل هو ًّ
حقا هذا الرجل؟ أليس من الممكن أنهم إنما يحاولون اآلن اإلمساك
ثمة واحدة ،ليس بالرجل الخطأ؟ ّ
وأن الرجل الذي وضع الحبل المشنقة ،إن كان َّ
ً
واحدا آخر استطاع االختفاء قبل أن تصل الشرطة؟ إن هذا الرجل هذا الرجل ،بل
المطارد يبدو مؤ َّدبًا وط ِّي ًبا من الخارج بلحية خفيفة وشعر ناعم .ال ،إن هذا ليس
وجه رجل خطير أو شرير .إنه وجه مثل وجوهنا ،وبشرة مثل بشرتنا .ال ،ليس
هو من افتعل َّ
كل تلك األحداث ،وبفضله تجمعت ُّ
كل تلك القصاصات .لكنه هو ،وإال
باللحاق به .ال بد أنهم شاهدوه وهو ِّ
يعلق الحبل المشنقة. ما قاموا َّ
خرج عبداهلل من س َّيارته واتجه نحو الجسر .كان الجميع آنذاك متجّ هين بأنظارهم
أحس
َّ إلى الرجال الثالثة ورجلي الشرطة الذين يركضون خلف المشتبه به.
عبداهلل أّن هذا هو الوقت المناسب ليلقي نظرة على الحبل المشنقة ،لك َّنه لم يكن
50
المع َّلقة األخيرة
ُ
51
حسين العبري
52
حسين جلعاد
قصائد
َّ
سكر قليل
ُ
فصرت أنام في الضوء دون أحالم. ُ
فزت بما تركه ُ
الد ُّب من عسل الغابة ،تقولين،
صرت ال أتو َّقع ً
أحدا في الزحام فال أرفع ُ َ
دونك تعبأ بالتلويح والرسائل. لم تعد يدي
ُ
سرت ،وأعرف الوجو َه من رائحة الشوارع والذكريات .كأننا نعتاد العالم ناظري إذا
الممرات.
َّ نمر أمام المرآة وال نلحظ أرواحنا وهي تذوي في
حين ُّ
صحيح.
ُ
ترجف من مرور الضوء على صفحة الظهر العاري ،صرنا نرتبك َ
لم تعد ُركبُنا
أما َم الدرج.
تهد ْ
لت أيدينا، ْ
سافرت إلى الغابات بعد أن َّ ً
خلسة في الصغر األشجار التي ّ
تسلقناها
واألعشاش تحتضن حصى ال تلمع أو حتى تسقط ،فيضحك من حولنا الهواء.
َ
جروحك، تأكد من َ
أفراحك الصغيرةَّ . ُ
خديعة األحالم ،تقولين ،فاحذر ُ
المدن الكبرى
كل ذلك الذهاب .اليست عتبات البيت أبهج من الرقص تذهب َّ
ْ فاألقمار هنا باردة .وال
َ
رأسك على ركبتي َّ
كل بسك َ
رك القليل كما اعتدنا ،أو ضع مع الغرباء .فاشرب قهوتي َّ
مساء كي أتن َّفس وجهك.
ً
صغيرة تخفي تحتها مفتا َح الجنة ،أو بابًا تكتب على إطاره: ً
سجادة هنا لن تجد
مرتين.
أح ُّبكِ َّ
53
حسين جلعاد
أجل.
ْ
مسحت ُصورنا القديمة ليست ألحد ،فنحن لم ْ
نعد في اإلطار ،ولن ننمو مجددًا إذا
الردم عن ضحكتنا الغائرة .النهر يجري إلى فيضانه ،واألرض قمر مؤ َّنث في تراب َّ
َ ٌ
يد
مرتين.
نتكرر َّ
َّ أصل الحكاية ،لك َّننا نقفز َّ
كل يوم من العالم وال
سعيدون بما ال يُرى ،تقولين ،بانخطافنا إلى آخر الدنيا .لك َّننا لن نصل إلى أنفسنا
في المرايا أخيرا ،كأننا نقيس بعد الخطوتين .أمامنا أمسنا وخلفنا بكاء الطفل في
نمر بالحقيقة ،فنبكي في الوالدة بيد تصفعنا كي ً
واحدة فقط ّ مر ًة
المستقبل الغاربّ .
َّ
نتنفس .األرض واسعة :مرح ًبا بالحياة.
وأصقل سيفي ّ
كل يوم َ لم أولد في السرير ذاته بعد مقتل أخيل ،ألخشى الكمال
ّ مرتين .لي قميص واحد أخلعه قبل النوم ،وأنساه بعد الحب َّ
معلقا على سرير َّ
الحبيبة ،فيلعنني الخطباء في األسواق ،وتشهق من خلف الشبابيك نساء ألجل فتى
جنّ قبل األوان.
األغنية ُّ
أخف من مناديل العرس ،تقولين ،واألضواء في صالة العرض كفيلة بإنهاء
متوجا بالدخان .أليست
ًّ َ
باسمك لتكون بطل الحكاية ،واخرج الفيلم ،قف واصرخ
أسماؤنا فقط ما يدوم من َّ
اللحن ،وال يكترث أحد بعدنا بالنهايات.
تحط أرواحنا خارجَّ النوافذ استعارة البيوت للسماء ،والضوء كسرة الخبز كي
العد بعد األلف ،وأحمل الباب معي َّ
كلما مرتين ،فأنا أخطئ في ِّ
عتمتها .ال أذكر الحب َّ
إلي .ال جغرافيا خارج أكتافي ،والمفاتيح خدعة األساطير ،كي ال
رحلت ،كي أدخل ُّ
ننا َم مطمئنين.
جرح ْت َك المرايا َ
أنت أيضا ،وتضحكين :األسرار ال تقال، ُ
تعبث كثيرا ،تقولين ،فقد َّ
فكيف تسرد سفر التكوين مثل قصص النوم أو ذكرى قديمة .لم تكن بين آدم ونفسه
ألذوق الغواية ،وأهيم َّ
كل قمر قرب َ َ
لتعرف البكاء بين يديَّ ،ولم أكن في ثوب األفعى
َ
رسائلك األولى قلبي الذي نسي ُته في اللغة القديمة ،وأعرف البحر بعينين حمراوين.
ُّ
تضك زغبي على عجل في المصاعد ومقاعد الحدائق َ
قميصك الحب من ذكرى أزرار
َّ
والركض بين المحطات.
األسرار تقال َّ
كل يوم لك َّننا ال نسمعها ،فمن يراكِ في القلب سواي ،وألف يد تلوح
يهز ظالل النفس،
قربكِ في النهار .العالم شأن شخصي إذن لو تريدين ،والنشيد باليد ُّ
54
قصائد
َ
تنبت القدمان في نشيد جديد. ويلقي بالجنى للجنى ،كي
َ
احتضنتك، ال أذكر روحي تطفو على ماء السماء ،تقولين ،وأكتفي بجناحين ينبتان إذا
َ
لتعرف أني ُ
وصفقت الباب خلفك .فاترك لي في الهامش حرفين ُ
غضبت ويضمران إذا
َ
يداك َ
تأخرت وتسحب األعذار خلفك. كلما َ
جبينك أمامي َّ أح ُّب َك حين أح ُّبك .وال تلطم
عليوتطل َُّّ أنك تطالع العالم بعينين، قبلك ٌ
قبل ،ولي ن َّية بعدك .ولي َ َ هما يداك ،ولي
كلما َ
انبيائك ،وال تكسر مهابتهم ،فتصر َخ باسمي َّ بخفة المجانين خلف بقلبك .فاذهب َّ
شئت خارج القداسة، َ ْ
وارتبك ما َ
سمائك مر بي كي تعود إلى َ
اشتقت أن تق ِّبلني .أوَّ :
ُ ّ
فأعطيك كل أسراري في حقيبة اليد الصغيرة .أتَ ْذكر!
َ أحد سوايَ .
تعال َ
يراك ٌ فلن
الحب األول
للحب صرختان:
شهقة البداية
وانطباق القلب.
هواتف آخر الليل ترنُّ في األحالم،
ليس لي من صوتكِ البعيد سوى انحسار المحيط عن صمتنا
وتشاغل اليد بسلك الهاتف،
أزرار تلمع في سماء الفوالذ.
ٌ ولكِ من قميصي القديم
ضفتي نهر
ْ مثل
نسير معًا َطوال الوقت
ُ
نصل! يصل النهر ،وال
هل كبرنا فجأة إلى هذا الحد:
أن أنام على ذراع حبيبة سواكِ ،
وأن تنجبي طفلتنا من مهاجر بولندي يتاجر بخيول الهنود الحمر في نيويورك!!
توسدها الموتى
السماء كانت لنا وللطائرات الورقية ،لكن غيمة الكنيسة القديمة َّ
55
حسين جلعاد
خواتمنا
مرآتكِ التي أصبحت مرآتنا
َّ
المعطرة وألوان الماء والخربشات الممحاة
الملونة
َّ أشرطة شعركِ
أغنيات عبدالحليم وإديث بياف
صورة عبد الناصر باألبيض واألسود
شارب نيتشه و«جحيم» سارتر
مريولك المدرسي
النمش على منحدر الكتف
سرة الحليب
َّ
الصيف!!
ويداي في أول ّ
للحب صرختان:
خف ًّيا يعبرنا مثل رائحة العطر
ويخرج من رموش العينين كآخر نفس!
ملكية
َّ عربات
56
قصائد
ونتوارى،
وصف رائحة األكباش في ضفائرنا َ ُ
األعوان َ
يطيل كي ال
بقمر هبط َّ
الشا َم من ثن َّيات الوداع. ٍ ونعلل الخشوع
ً
قساة مع ال ِّنسوة واألطفال، ك َّنا
والخيل لم تسلم من تج ُّهمنا
لم نشعل نا ًرا...
ولم نغتسل ألف عام،
أخيرا بملء ْ
شدقيه ً األمير
ُ حتى ضحك
ونام في معسكرات اإلنكليز!!
قصائد من ديوانه «كما يخسر االنبياء» ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت 2007
57
ّ
الجزار حمدي
مقطع من رواية
َّ
لذات سرية
ناسك
أراه ،فى ج َّبته وقفطانه وعمامته ،عمودًا كأعمدة الكهرباء الخشبية المندثرة ،طويلًا
عريض الصدر والكتفين ونحيلًا .جسده متين ،وجهه قاتم البنية مجدور ،ومنطفئ
العينين ،شاربه كث كشوارب الصعايدة ،ولحيته الطويلة ما زالت سوداء رغم سنوات
عمره الخمسينَّ .
عكازه الغاب األصفر مضموم بك ِّفه اليمنى ،يرتفع شا َّقا الهواء أمامه
لينقر األرض يسبق خطوته ،يمشي في ظلمته التا َّمة بقلب منير.
َ ويهبط
الساحة
كنت في نحو العاشرة من عمري ،وكان الشيخ حُ ب الدين إمام مسجد ّ
أحب األشياء
الرخيم هو ُّ
الرقيق َّ
البيومية وشيخ مكتب تحفيظ القرآن الملحق به ،صوته َّ
الي في طفولتي وصباي .على يديه حفظت نحو نصف القرآن الكريم في عامين.
ّ
سرادقات المآتم الكبرى ،التي عادة ال تقام ألحد في الجيزة سوى لألثرياء وكبار
العائالت ،ال يُدعى للتالوة فيها سوى الشيخ حب الدين.
يذهب الشيخ للتالوة كأنه ذاهب لعرس أو لحفلة موسيقى كالسيك ،يروح فى
كامل وقاره وأبّهته :صدريته وقفطانه وجبته نظيفة ومكوّية على الشعرة .مُرسي
المكوجي يولي مالبس الشيخ عناية خاصة ،عناية المريد ،المحب ،ال المهنيِّ .
ينظفها
ويكويها ويطيّبها بعطر المسك ،ويساعد الشيخ فى ارتدائها ،فال يُرى الشيخ فى المساجد
والسرادقات والشوارع إال وهو متأنق ،مهيب ،يفوح منه ومن مالبسه ريح الطيب.
الشيخ يقوده أحيانًا ولد صغير ،هو حفيد صديقه اللدود الحاج عيسى ،هو أنا.
ِّ
المصلين خلفه صالة العشاء في جامع الساحة البيومية .بعد الصالة أقترب ِّ
أصلي مع
منه وهو يختم ،أهمس بأدب «حرمًا يا سيّدنا» ،يبتسم ويواصل تمتمته ،يتكئ على
عصاه وكتفي ويقوم معي ً
واقفا ،كجمل.
ونحن خارجان من الباب الخشبى الكبير أساعده فى اجتياز العتبة المرتفعة،
58
َّ
لذات سرية
ِّ
وأعلقه تحت إبطي ،يضع يده اليسرى الثقيلة فوق كتفي ،ونسير وأحمل عنه ّ
عكازه
مخترقين قلب الجيزة .أزهو على أقراني بمرافقة الشيخ ،أكاد أخرج لهم لساني َّ
كلما
رأيت أحدهمُّ .
ألف به العطفات والحارات والشوارع من أبعد الطرق وأطولها ،ليراني
الجميع أقود سيدنا .هو ال يبإلى ،ال يمتعض ،وال يتململ .أرفع بصري إليه فال أرى
سوى وجه مطمئن ،يبدو لي كأنه يبتسم بسماحة من لؤمي وتفاخري .ال تتحرك
شفتاه بشيء .كالمه قليل وعزيز.
عندما نصل سرادق العزاء أُجلسه على َّ
دكة التالوة الخشبية المز َّينة بالقطيفة
الدكة ،فيقرفص فى جلسته مثل تمثال الكاتب المصريالزرقاء ،أرفع قدميه ليتربع فوق َّ
أصب له الماء فى الكوب أمامه ،وأحتفظ القديمّ ،
أعدل عمامته البيضاء وشاله بيديَّ ُّ ،
بزجاجة الماء البارد فى يدي حتى يطلب الشرب .أضبط الميكروفون أمام فمه ،أنقره
وأجربه ً
نافخا فيه« :اهلل...اهلل ».عندما اطمئن لسالمة الميكروفون وجودة الصوت ّ
أذني على اتساعهما.
أقعد عند قدميه ،متربِّعًا على السجادة مثله ،فاتحً ا له َّ
يهز القلوب ،بخضوع يحني الهامات ،صوته
الشيخ حُ ب الدين يتلو آيات اهلل بخشوع ُّ
خفي وباطن ،غامض كصوت دوران الكرة األرضية ،يصدر من القلب ّ موجود ،ظاهر،
والروح ،ال من الفم والبلعوم واألحبال الصوتية والحَ نجرة .أنصت إليه ِّ
بكل جوارحي،
ويتحرك لساني مر ِّددًا خلفه اآليات بنفس طريقة تالوته ،نفس طبقة الصوت ،نفس
َّ
أذني ،وأتمايل في جلستي
كفي عن آخرهما وأضعهما على ّ ّ
األداء والنبرة والورع .أفتح َّ
أهتز ،ويسري في جسدي لحن شديد العذوبة ،وتمتلئ
ُّ يمي ًنا ويسا ًرا مثله تمامًا.
عيني ويحلق قلبي بنزق طائر ،وتكاد ريالتي
َّ نفسي بصوته السماوي فأطرب ،أغمض
شفتي.
ّ تسيل من بين
بعيدا ،يغيب ِّ
بكليته ،ويترك لمستمعيه ً ً
بعيدا كان يتلو ،يصدح ككروان ،فيذهب
جسد ووجه رجل غائب ،طار من دنيانا إلى السماوات العُلى ،دخل الجنة فشرب
تقي باشر وعرف
من أنهار مائها ولبنها وعسلها وخمرها ،ورأى الحور العين ،مؤمن ّ
ولذ ًة فردوسية ال نظير لها ،هنا ،على هذه األرض.
متعة َّ
دائ ًما ،يبدأ الشيخ تالوة الربع األول من سورة «المؤمنون» ،في الربع الثاني يقرأ
َّ
المفضلة «يوسف» ،ثم يختم تالوته من«غافر» ،وفي الربع الثالث يتلو من سورته
بجوهرته «الرحمن» .نظام صارم ال ِّ
يبدله الشيخ وال يستبدله ،وال يذعن ألحد من
أجل تغييره ،فالشيخ لم يكن يعنيه من أمر مستمعيه أحد .كان يتلو لنفسه ،يشدو
59
ّ
الجزار حمدي
لمصلحته الخاصة فحسب ،لمزاجه وهواه .الغريب أن الناس أحبوه لهذا السبب
ُّ
وكف بصره يمنحه حريته كاملة، فحسب ،أل َّنه ينسى حضورهم وال يعبأ بوجودهم،
غائصا في أعماق ذاته غير مكترث بما حوله ،غير عابئ بشيء ،سوى صورة
ً يجعله
ّ
المعلقة بالكلمات المقدسة .وسواء كانت المناسبة عزاء راحل ثريّ ،أو روحه
ختمة نذر ،أو احتفالًا بمولد أحد األولياء ،فإن شيخنا ال يغير ذ َّمته وال ضميره وال
سوره الحبيبة.
بأربع سور فحسب صنع الشيخ حُ ب الدين شهرته العريضة فى الجيزة ،وتجاوزها
إلى الجنوب حتى قرى البدرشين والعيّاط ،وشمالًا حتى وصل صيته بشتيل والقناطر
الخيرية .وأينما ذهب ،أينما تال الشيخ سوره األربع تتصاعد «اهلل اهلل» في جوانب
وسقف السرادق ،تتوالى الزفرات واآلهات من السمّ يعة المأخوذين بالصوت الضارع
الخاشع ،وتردد األلسن «اهلل يفتح عليك يا شيخ» عقب ِّ
كل وقفة ،وسكتة ،وقفلة.
سيدنا يجلس للتحفيظ فى قاعة المكتب الصغيرة ،أعلى مسجد الساحة ،من بعد
صالة العصر حتى صالة المغرب .بعد الصالة يعود للبيت للراحة حتى قبل العشاء.
المرة أخترق السوق مباشرة من أقصر الطرق للوصول
أرافقه فى طريق العودة ،هذه ّ
إلى بيته ،فما زالت حواري وشوارع السوق عامرة بالناس.
كانت البائعات الجالسات على األرض أمام فرشات الجبن والعسل األسود ،والليمون
والخضراوات ،والواقفات أمام عربات اليد ،وخلف أقفاص الفاكهة ،وأمام أبواب
َّ
يتطلعن إلينا، المحالت والدكاكين ،والنسوان الجالسات على عتبات البيوت ،كن
يسلطن أبصارهن علينا ،يتغامزن ويحدقن فينا بال حياء ،بال أدب يليق بمرور ِّ
َّ
الخدين على الشيخ .أحيانًا يحدث ما هو أسوأ من ذلك ،تميل الواحدة منهن متوردة
تفتر شفتاها
األخرى ،وتهمس في أذنها بشيء ،وهي تبتسم ،فتخجل األخرى قليلًا ثم ُّ
عن ابتسامة عريضة ،تستمر المرأة األولى في الهمس باحتياط كأنها تبوح بأسرار
خطيرة حتى تضحك األخرى وهي تنظر ،من تحت لتحت ،إلى جسد سيدنا الفارع،
ساقي وحجر الشيخ ،وال تتزحزح .أنظر إليهن بحنق،
ّ ثم تستقر عيناها عند ما بين
ً
ساخطا ،غاض ًبا ،وهن مستمرات في البحلقة ،التهامس ،الغمز واللمز .أحاول زجرهن،
صام ًتا ،بحركة غاضبة من رأسي ورقبتي ،بوجه أحمر وأذنين ساخنتين ،فيبتسمن
هازئات بى ،ضاربات كفوفهن الواحدة باألخرى ،وضحكاتهن تتصاعد .أغضب وأل ِّوح
في وجوههن بعصا الشيخ فيزداد ضحكهن مياصة وارتفاعً ا .الشيخ يسمع ضحكهن
60
َّ
لذات سرية
الماجن وال يبدو عليه أنه سمع شي ًئا ،وال ينطق بشيء .أنظر إلى وجهه فال أرى فيه
سوى الطمأنينة والرضا ،وعلى وجهه شبهة ابتسامة مضيئة .برقة ،يضغط على
كتفي أن أهدأ ،وأن نواصل السير ،أش ِّيعهن بنظرة غضب ولعنات مبهمة ال تجاوز
فمي ،فال أسمع منهن سوى ضحك صاخب غزير ،خلف ظهرينا.
السرية في النكاح وعظم اآللة تكاد تساوي شهرته
كنت أعرف أن شهرة الشيخ ّ
المعلنة فى الورع والتقوى ،جمال الصوت وروعة التالوة .فالشيخ الذى ليس له ولد
أو بنت معروف بأنه «صاحب األرجل الثالث» .قيل ألنّه يسير على قدميه وعصاه،
السوقة الخبثاء أنه اشتهر بهذا اللقب عقب وفاة زوجته
وقيل غير ذلك .يُشيع ُ
استمرت عشر ساعات ،زلزلها الشيخ
َّ األخيرة ،متأثّرة بمتعة قصوىَّ ،
جراء مضاجعة
خاللها بقضيب ،في طول وعرض ساق رجل متوسط الطول! أنا ،لم أره سوى كهل
عذب ،رقيق ،ووحيد.
وفتوته .ال تع ِّمر واحدة
َّ كثيرا من النساء في مطلع شبابه
ً تزوج
كان الشيخ قد َّ
منهن معه ،وال تمكث في بيته أكثر من عام واحد ،بعده تنتهي ،فإما أن تتوارى
كلها ّ
مطلقة ،أو يشيّعها الناس إلى القبر حتى تزوج صبيحة، وترحل عن الجيزة ِّ
أيضا ولكنها كفته ،كلفت به ،ورعته بمح َّبة دافقة آخر زوجاته .لم تنجب هي ً
أبدا ،وصارت تالوته عدة سنوات حتى ماتت .بعد رحيلها لم يقرب الشيخ النساء ً َّ
وحيدا ،وأحيانًا في ُغ ْرزة «ب ُْح ُلق»
ً ً
وحزينة ،وصار يغ ِّني عندما يكون ً
خافتة شج َّي ًة،
بعطفة القسيس .فى جلساته الخاصة بالغرزة ،كان الشيخ ي َُس ِّري عن نفسه مع صحبة
قليلة :عمي موسى ،حسن األفندى الملحّ ن ،واألسطى مرسي ،واثنين ،ثالثة آخرين من
أحبابه.كان ينبسط ،يتمايل ويغ ِّني .يغ ِّني بسلطنة قصائد غ ّناها الشيخ علي محمود،
ُّ
ويرق صوته ويحنو بمواويل وأدوار لناظم الغزالي ،ويصدح بطقاطيق وقصائد لصباح
تيسر من فخري .ال يقرب البيرة ،المشروب األوحد بالغرزة ،فقط ّ
يدخن الجوزة بما َّ
أحجار الحشيش.
في ظلمة الليل ،نحو الثالثة صباحً ا ،يعود الشيخ إلى بيته مسحوبًا بذراعي ع ِّمي
والملحن حسن األفندي .يحكي لهما في السكة دائ ًما حكاية واحدة ،حكاية بكائه
وحيدا ،حزنًا على فراق صبيحة التي ماتت بين يديه ،وهي
ً المتواصل ،حين يكون
ُم ْن َكبّة علي يده تق ِّبلها ،وشوقه للحاق بها.
َّ
المحطة حيث يسكن، عند ناصية الشارع يتركهما األفندي ليسير في اتجاه شارع
61
ّ
الجزار حمدي
بينما يقود ع ِّمي الشيخ لبيته األخضر ذي الطابق الواحد المجاور لبيتنا ،يدخله غرفة
نومه ويتركه .بعد دقيقة أسمع وقع أقدام عمّ ي وهو يصعد درج بيتنا لش َّقته .من
كثرة ما دخلت بيت س ِّيدنا أعرف بيت الشيخ وغرفة نومه تامة الظلمة ،ال ينير فيها
حس. َ
صوت فيه وال َّ مصباح وال تدخلها الشمس .بيت خاو ال يشاركه فيه أحد ،ال
ً
وحيدا ،يتخ َّبط الشيخ بين السرير والدوالب طويلًا ،ليخلع قفطانه الثقيل وعمامته.
يغفو ساعتين على األكثر ،ويقوم من نفسه وحده ،ليذهب لمسجد الساحة ويؤ ِّذن
للفجر .كان الشيخ قد أقسم بعد عشر دقائق من وفاة صبيحة أال يقرب امرأة ما بقي
ٌ
قريبة أو خادمة .أعرف أنه يفتح المسجّ ل ،ويترك له من العمر ،فلم تدخل بيته
َّ
المخدة ،يئن بحشرجة خافتة، الشيخ رفعت يتلو ويتلو ،ويترك دموعه تنساب فوق
ويدع جسده القويَّ ينهار تحت أنين روحه.
هكذا يفعل َّ
كل ليلة قبل أن ينام مقلوبًا على بطنه ،محتض ًنا مرتبة سريره الخشنة،
فاردًا ذراعيه على امتدادهما ،تمامًا مثل مسيح مصلوب ،مثل مسيح نائم على فراش
ً
عاجزا ً
ضعيفا فحسب ،لكنه قد صار عمي موسى إن الشيخ كان بصره الشوك .يقول َّ
لكثرة ما بكى على فراق النساء.
62
ديمة ّ
ونوس
قصتان
جهاد
ٌ
رصيف بالطه مر َّتب ومصفوف بشكل محترم على عكس أرصفة الشوارع األخرى.
ي َّتكئ عليه سور حديد تخفي قسوته نباتات مضى زمن ،وهي تتعربش السور
الداخلي ،لتصل إلى القمة وتلمح إيقاع الحياة في الخارج .باب أسود شديد الضخامة
يتسع ألي س َّيارة تعبره إلى الداخل .خلف السور ،حديقة كبيرة أشجارها المعمّ رة
نس ُ
مة سافرت من المغرب وفرنسا لتسكن هنا .أزهار شديدة الكرم ،ما إن تلمسها ْ
صيف خجولة حتى تمنح رائحتها .األرض المعشوشبة مر َّتبة بطريقة بديعة ،فالعشب
ينمو بشكل جماعي ،وال يُسمح لعشبة أن تكبر أكثر من جارتها .باب البيت من
المارة الحاقدين والجاحدين.
َّ الخشب الثمين والنادر .فهو يحمي حياتهم من عيون
المارة الذين يحسدون باستمرار من أنعم اهلل عليهم بمال حالل وبأرزاق بللت
َّ
جباههم بغزارة حتى تراكمت.
ُ
الرخامية متخمةٌ ً
وراء الباب مباشرة ،صالون فسيح يمطر ترفًا وفخامة .أرضه
باألثاث اإليطالي والتحف المذهبة .تماثيل عارية تنتصب بفخر في زواياه .لوحات
أصلية َّ
معلقة على الجدران بعشوائية مفتعلة ،فاللوحة التي يغلب عليها اللون
األحمر مثلًا تتصدر الحائط الذي يسند األريكة الحمراء ،أما الكنبات الصفراء فترقد
كل ركن من أركانبسالم تحت لوحة عباد الشمس ،وهكذا .أربع طاوالت تتوسط َّ
تتدرج ألوانها
َّ الصالون .طاوالت من السنديان مستديرة خوفًا من الرؤوس .شتالت
بين األخضر الداكن واألخضر المائل إلى الصفرة واألحمر الخريفي الحار ،مبعثرة
في ِّ
كل مكان .أضواء خافتة تتسلل من تجويفات مخف َّية في السقف.
يتلصص من
َّ في تلك الزاوية ،حيث تتدلى شجرة األروكاريا ،والضوء المرهف
بين وريقاتها ،ليرسم انحناءات لطيفة على الجدار األبيض .هناك ،في تلك الزاوية
63
ديمة ونّوس
الملون .طاولته
َّ َّ
المفضل المصنوع من الخيزران ً
تحديدا ،جلس جهاد على كرسيّه
الصغيرة التي حملها من الهند تقف باستعداد عند قدميه .على سطحها منفضة،
سيجار ثخين ،أعواد كبريت طويلة وفنجان قهوة .بيده اليسرى ،حمل جهاد رواية
«بتوش الحلوة» لعزيز نيسن ،ويده اليمنى متفرغة تمامًا لتحمل فنجان القهوة بين
لتدس السيجار بين أصابعها الثخينة ،أو لتهوي بصفوته بشكل
َّ الفينة واألخرى أو
يصا للسيجار .تلك الرغبة
خص ً
آلي في المنفضة الزجاج َّية المستطيلة المصنوعة ّ
اللعينة بالتألّق تدفعه للقراءة .تغصبه على تصفح أحدث الكتب السياسية والروايات
والقصص والمسرحيات ،فقط ليخبر أصدقاءه المعدمين ،الذين ال يملكون في الواقع
أيضا يحب ِّ
االطالع ويمتلك شغفهم، ما يتباهون به سوى مخزونهم الثقافي ،أنه هو ً
التفوق عليه بأية عادة أو أي هاجس .ربما هي ليست رغبة ،وإنما
ُّ ولن يستطيعوا
ّ
عقدة تحفر روحه باستمرار وتذكره أنه جهاد مصطفى اآلغا :ابن أهم المسؤولين
المتقاعدين الذين حافظوا على مناصبهم ثالثين عامًا ،وأصبحوا متألقين كنجوم
السينما بالضبط .إن وجدوا في مكان عام ،يتدافع الناس من مقاعدهم للحصول
على توقيعهم ،أو اللتقاط صورة بقربهم ،أو لتأمل وجوههم السمحة على األقل.
يصر جهاد دائ ًما على انتزاع هذه الفكرة من رؤوس ِّ
كل من يعرفهم .لكنه لن ّ
ً
تحديد ا ،فتجعله يفلح بشلع ثالثين عا مًا تجري في دمائهم ،في محيط الفؤاد
ينبض بذعر وأسى .مصطفى آغا صار كالعطر ،ما إن يلفظ اسمه حتى تسري
قشعريرة في أجساد الناس ،ويتخبط يومهم .صار كاألسطورة في أذهانهم،
تمر ،ومصطفى آغا يجلس وراء طاولته في الوزارة ال تستطيع قوة
فالسنوات ُّ
على األرض أن تزحزحه ولو قليلًا من مكانه .الناس تمرض وتموت وتهاجر
وتغترب وتعود إلى الوطن ،ومصطفى آغا ينتظر عودتهم في مكانه المعتاد.
ً
صغيرة فوق رأس جهاد بدت ً
غيمة ً
تحديدا ،رسم دخان السيجار في تلك الزاوية
وكأنها الهالة الشفافة التي تعلو عادة رؤوس المالئكة .جهاد يتابع قراءته بمتعة تثير
مرة ينجح فيها جهاد بإبعاد زوجته عن مخيلته،كل ّ ٌ
مشكلة .في ِّ لكن هناك
الحسدْ ،
َّ
وتتدلل يتصورها وهي تدلِّل ضيوفه
َّ تعود من جديد لتلبس شخصية «بتوش الحلوة».
عليهم .تتحدث معهم ،وتساير ميولهم األدبية والسياسية واالقتصادية والفلكية،
وأحيانًا العاطفية .تزوّ جها وهي في الخامسة عشرة .كانت هزيلة وناعمة .طفلة ال
يهمها من الزواج سوى االنتقال من بيت أهلها ،في حلب ،إلى بيت زوجها في العاصمة:
ُّ
64
قصتان
دمشق .سكنت بيته ،تف َّتح جسدها ،صارت فجأة امرأة ضخمة .جسمها األسمر ممتلئ
ومربرب .قامتها طويلة وجذابة .عيناها زرقاوان .شعرها بلون الفحم كثيف وناعم.
ً
كرشا يبقيه ح ًّيا ألشهر دون طعام .لونه جهاد متوسط القامة ،نحيل لكنه يملك
حنطي مائل إلى األحمر .وجهه الناعم منقوش بالنمش .شعره البني خفيف ومجعد
قليلًا .عيناه لئيمتان إلى حد بعيد .يبدو أنفه تفصيلًا أضافه اهلل دون قصد ،فهو ككرة
صغيرة ثبّتت على عجل وقد تسقط في أي لحظة .شفتاه صغيرتان ولونهما باهت.
أسنانه قصيرة ومزدحمة في فمه فيبدو وكأنه لم يخسر أي سن منذ الطفولة وأن
أضراس العقل األربعة ولدت هي ً
أيضا واستقرت في فمه ،وستبقى في منصبها ثالثين
عامًا ،وف َّي ًة تلوك النعمة بشراسة فتصبح سهلة الهضم.
ال يملك جهاد سوى شركة ضخمة تضم معمل نسيج ومصنع لحوم معلبة
وخامسا للطالء .هذه األمالك المعلنة ،أما
ً وآخر لألحذية ورابعًا للورق المقوى
لكل مستلزمات غير المعلنة فهي مجرد رخصة مالبس إيطالية ومجمع ضخم ِّ
البيت من الطحين إلى األثاث وشركة تأجير سيارات ووكالة أحذية
فرنسية .وبهذا يكون جهاد من أهم المساهمين في دعم االقتصاد الوطني
ورفع مستوى المعيشة وتشغيل اليد العاملة .وبالتالي القضاء على البطالة.
تكح من دخان السيجار،
ُّ ً
تحديدا ،حيث بدأت شجرة األروكاريا في تلك الزاوية
كان جهاد ال يزال غارقًا في كتابه ،وخيال زوجته يرقص أمامه على خشبة
المسرح كـ«بتوش الحلوة» .تنحني بطريقة مثيرة فيتدلى نهداها ،وينهمر شعرها
الكثيف ،وتتساقط قطرات عرقها على الخشبة وتتبخر فو ًرا من حرارة خصرها،
خصرها الذي يهتز بمرونة عجيبة ،فيعطي االنطباع بأنه منفصل عن جسدها.
كل يوم ،فأمطرت حتى اآلن خمس ٌ
غيمة ينهمر منها عرق جبينه َّ في الحديقة،
سيارات مركونة تحت مظلة حديد تستلقي على سطحها دالية عنب مهملة:
س َّيارة كبيرة شبابيكها السوداء ترهق العين ،وتثير الغموض ،وأخرى صغيرة لونها
ِّ
الفضي يجعلها تبدو فسيحة .س َّيارة حمراء كبيرة .ورابعة زرقاء كانت هد َّية جهاد
للسيدة بتوش جهاد آغا في عيد ميالدها الثالثين ،تناسب لون عينيها البحريتين أو
السمائيتين .أما الس َّيارة األخيرة فهي مخصصة لنقل األطفال الخمسة إلى مدارسهم
وحفالتهم ونزهاتهم .لكن جهاد ال يتوقف عن تذكير أصدقائه ومعارفه بأن هذه
هب
وتدر عليهم ما َّ
ُّ األمالك واألموال ليست نطفا أفرزها منصب والده ،لتنمو وتكبر
65
ديمة ونّوس
ودب من النطف ،كال معاذ اهلل ،بل هي من عرق جبينه هو الذي يعمل من الساعة
َّ
السابعة صباحً ا حتى التاسعة مساء ،يلهث كأي مواطن ليطعم أوالده ويجمع لهم قليلًا
من المال يضمن لهم كرامتهم.
بعد مساهمته الب َّناءة في مساندة الدولة واألخذ بيدها في دعم االقتصاد الوطني،
أيضا بحاجة إلى قدراته وجهوده .واكتشف اآلخرون اكتشف جهاد فجأة أن الثقافة ً
فجأة أن جهادًا يعشق المسرح ،ولديه هاجس ال يفارقه ،حتى أثناء نومه ،وهو تمويل
أيضا ،فهرول إلى أهم مخرجعرض مسرحي ضخم .ثم ظهرت ميوله السينمائية ً
سينمائي أفالمه ممنوعة ك ُّلها لـ«أسباب فنية» طبعًا ،وطلب منه أن يكون َّ
عراب
فيلمه القادم .واقترح عليه أن تكون فكرة الفيلم األساسية هي جوع المواطن وفقره،
الغصة التي تخرش صوته المقموع .أن تكون فكرته
القهر الذي يعانيه من الكبتًّ ،
هي اإلهانة التي يشعر بها المواطن عندما يرى بأم عينه أمواله المسلوبة تنعم بها
شريحة دون أخرى .أن يروي الفيلم سيرة رجل يعمل موظفا وسائق تاكسي وعامل
تنظيفات وخي ً
ّاطا و«كهربجي» ،فقط ليسد جوع أسرته الكبيرة .فيلم يتحدث عن
السوري ،الذي يتمتع منذ
حاجتنا للتضامن والحوار لنحمي وطننا وطن الشعب ّ
األزل بجبهة مرفوعة إلى السماء ،وبكرامة ال يقوى الشيطان بنفسه على التقليل
من شأنها أو تحقيرها .لكن المخرج السينمائي الذي منعت ُّ
كل أفالمه ال يمتلك جرأة
جهاد وحماسه.
ً
وطنية تشيد بالمواقف ً
أغنية بعد أيام ،ولدت لدى جهاد موهبة غنائية ،فتب ّنى
الفتي ،وتشتم األعداء واألشرار ،فأنتجها وأشرف
ّ الثابتة و«قلب العروبة»
شخص ًيا على تصويرها في تدمر وبصرى وأفاميا والمدن الم ِّيتة في إدلب وقلعة
حلب وقلعة المرقب والحصن وصالح الدين .في طرطوس القديمة والجامع
ِّ
وكل الصروح البريئة تمامًا مما يحدث. األموي وسوق الحميدية وقلعة دمشق
ثم ،وأثناء مروره في شوارع دمشق التي يعشق ،سمع بكاءها على نهر بردى الذي جف
ومات من العطش واإلهمال ،فتبنى حملة لتنظيفه وتزيين ضفافه بالزهور والياسمين،
وصارت دمشق تفوح بعطر ساحر تمتصه خاليا الجسد فتتفتح بالحب والتسامح.
وها هي الحياة جميلة ونظيفة ،والوطن شاكر لألموال التي أرهقت جهادًا ،هو الذي
يفدي المواطن بروحه ودمه.
ً
تحديدا ،أشرفت رواية «بتوش الحلوة» على االنتهاء ،والسيجار في تلك الزاوية
66
قصتان
حنان
ما إن يُذكر اسمها حتى ترتسم على الوجوه ابتسامات تخفي في باطنها تفاصيل
كثيرة ،وتلتمع المقل بالغمز .إنها حنان :حنان الجذابة ،ذات العينين العسليتين،
الروسي المغرور ،والشفتين الخمر َّيتين ،والقامة الطويلة ،والجسد الممتلئ،
واألنف ّ
والشعر الكستنائي الطويل.
حنان التي تعاشر َّ
كل الناس بالحميمية ذاتها والو ِّد نفسه .تعشق الصخب والضجيج.
ٌ
كاملة في الصباح ليحتسي ٌ
ساعة ّ
المقدسة .زوجها تلزمه تمقت الطقوس والعادات
فنجان القهوة ،ويدخن أربع ،ويصغي لفيروز تغني من وراء الجدران .حنان تكره
وتدخن بسرعة ،تبحث ِّ هذا الطقس الصباحي .تستيقظ في العاشرة ،تشرب القهوة
في الراديو عن أغنية صاخبة ،تدندن مع اللحن وتبدأ يومها الذي يشبه َّ
كل األيام.
أسامة يعمل في البيت ،وناد ًرا ما يخرج في الصباح .يقرأ الصحف الرسمية الثالث
فجرا ،يتم َّعن في عناوينها ،يتأ َّمل مواضيع افتتاحياتها ثم يكتب مقالًا
ً التي تصله
ويرسله إلى الجريدة .حنان ال تعنيها أخبار الدنيا وال تقرأ الجرائد ،لكنها تقول
الصحف السورية تخدش الزجاج ،فنوعية تفضل «السفير» و«الحياة» ألن ُّ دائ ًما إنها ِّ
ً
اتساخا .كما أن الكلمات المتقاطعة في الورق س ِّيئة والحبر الرخيص يزيد الزجاج
ومكررة وال تزيدها سوى جهلًا. َّ الصحف السورية ممجوجة
مدت لسانها وتمسكت باألفق من يبدو هذا اليوم كغيره من األيام .الشمس كعادتها َّ
ناحية الشرق وبدأت تتسلقه شي ًئا فشي ًئا إلى أن حملتها السماء الصيفية كعادتها
ورمتها في منتصف صفحتها.
67
ديمة ونّوس
68
قصتان
الفنجان للحظات تلك التفاصيل .صارت تلمس حوا َّفه وكأنها ُّ
تمر على مالمح وجهه
َّ
الدقيقة .على جبهته العريضة ،إلى األسفل قليلًا ،تلمس ع ْبسة حاجبيه الساحرة،
تتدحرج بإصبعها أكثر فتصل إلى أنفه الطويل والعذب ،ثم تسقط يدها من الخوف
يعضهما .هنا ،عند مقطع شفتيه بالضبط، َّ
المشققتين من كثرة ما ُّ فتستقر على شفتيه
مرة يقرر كل شيء .لكنه في ِّ
كل ّ ترشف رشفة قهوة وتستعيد أنفاسها .أسامة يعرف َّ
فيها أن يبوح بعذابه ويضع ً
حدا لمراوغة حنان ،يتذكر شخصيّتها القوية وعينيها
النمريّتين وصوتها الواثق .يخاف من المواجهة ،يخاف أن يخسرها ،أن يفقد متعة
يتمدد بقربها َّ
كل مساء .يستنشق زفيرها وينام بطمأنينة. ّ العيش معها .على األقل هو
الحارة
َّ حنان ال تشبهه على اإلطالق ،لك ّنه أدمنها .شخصيتها الجريئة ومبادراتها
التسلل إلى حياة اآلخرين ،ساعدت أسامة في عمله وحمته .عالقتهاِّ وقدرتها على
صحافي في جريدته .عندما يذهب إلى العمل ُّ
الكل يتودد ّ بجابر جعلت من أسامة أهم
له ورئيس التحرير يستشيره ِّ
بكل إجراء جديد أو تعديل ما ،وأحيانًا كان يستشيره
حتى بألوان مالبسه أو بعالقته بزوجته ،التي تحولت إلى طاولة بعد الولد السادس،
أو بالطريقة األسلم لتربية األطفال.
شمت حنان رائحته تداعب أنفها الرفيع وتمأل تجويفاته .ليست مجرد
فجأةَّ ،
رائحة .تذكرت عندما كانا يرقصان ذلك المساء محاطين بحشد من أناس
يتصببون عرقًا وح ًبا .ذلك المساء ،عبق أنفها بروائح أجساد كثيرة ،برائحة
ً
لزجة ،تعشش في زوايا المكان ً
رطبة الزفير التي تخرج من أنوفهم وأفواههم
هاجسا أبد يًا .ذلك المساء ،استطاعت حنان أن تم ِّيز رائحة زفيره،
ً وتسكنه
أحست بعشق يبلبل أوردتها ،شعرت بأمان عظيم ،وجدت للحظة أن هذه الرائحة َّ
هي انتماؤها لروحها وجسدها ،انتماؤها لهذه الحياة الغريبة والقاسية أحيانًا.
استنشقتها وحفرتها في ذاكرتها وفي لفيفات دماغها فأصبحت تهجس بها َّ
كل يوم.
أدمنتها ولم تعد تقوى على اإلفالت من رغباتها وشغفها في أن تراه باستمرار.
فجابر لم يكن كقصي الصافي عجو ًزا سمجً ا ،وال كجعفر طه الذي تحول مع الوقت
إلى ممسحة قذرة تستخدم في األزمات .كما أنّه ال يبدو وال بأيِّ شكل من األشكال
كعيسى خضر ذلك المتقاعد الذي ال ينفع إال للبكاء على أطالل عزَّ ته وسلطته التي
َ
بريق عينيه خبا نورها .كان جابر شي ًئا آخر :شابًّا مفع ًما بالحياة .لم يفقد ُ
بعد
الترابيتين .جاذبيته نادرة وفيها خصوصية كبيرة ،فهو ليس من األشخاص المألوفين
69
ديمة ونّوس
70
قصتان
71
ربيع جابر
مقطع من رواية
أميركا
َّ
الذهاب إلى الحرب الكبرى
أنهكها السعال وسحقتها الحرارة .كانت الثلوج تذوب في الخارج والعصافير تزقزق
على األشجار ،لكنها قبعت في الداخل غارقة في رائحة المرض واألصوافَ .علِقت
في حمى مقفلة كقفص ال ترى ماض ًيا وال مستقبلًا .استعانت بفناجين النعناع المغلي
لعلها تقتل الجرثومة التي فتكت بصدرها .بينما تنحني وتسعل َّ
مخلعة األوصال في َّ
فيالدلفيا كان ابن عمها جو (خليل) ّ
حداد يُصارع من أجل الهواء في الطبقة الثالثة
مكان ما من المحيط األطلسي ...عدد ال يُحصى من الجنود
ٍ تحت سطح البحر ،في
يتكومون في بطن الباخرة ،باخرة تعقب باخرة ،قافلة بواخر تحرسها الفرقاطات
َّ
وطائرات االستطالع والقوارب المدرعة خوفًا من َّ
الغواصات األلمانية التي تتسلل
إلى مياه أميركا (جربوا إطالق ُطربيدات على مرفأ نيوبورت نيوز -فرجينيا حيث
ُتصنع بواخر حربية اآلن ...والجواسيس األلمان في أميركا -هكذا كتبت احدى
مرة من
مرة أخرى ...نجحوا ّ
الجرائد -حاولوا تفجير معامل الذخيرة في نيوجرسي ّ
قبل وعندما انفجر المصنع َّ
تحطم الزجاج وراء النهرُّ ،
كل مانهاتن السفلى تساقطت
ظن كثر أن الغزو األلماني بدأ!).
ذعرا شاملًاَّ :
ً دوي االنفجارات سبّب
ُّ نوافذها.
حداد الخائف مثل الجميعأشعلوا مصابيح في جوف الباخرة التي تخيف الحيتان .جو ّ
من غوّاصات األلمان القاتلة دار بين الصفوف والفرشات ،يبحث بين عد ٍد ال نهائي
من الوجوه واألقنعة عن صديقه جيفري ثورنتون .قبل أن يعثر عليه التقى ثالثة
سوريين من ماساتشوستس 322( .سوريًا من ماساتشوستس وحدها اشتركوا ضمن
صفوف الجيش األميركي في الحرب العالمية األولى) .أخبروه أنهم يبحثون عن رفاقهم،
72
أميركا
معظمهم من قرى الكورة السبع ،وصلوا إلى أميركا قبل سنوات قليلة ،ورحلة األطلسي
ما زالت ماثلة في ذاكرتهم :لم ينسوا ضيق الصدر والهواء القليل والشعور أنك في
زريبة ،خروف بين الخراف ،بال حول وال قوة .جو ّ
حداد ضحك وهو يقول :ال تقلقوا
سنعثر على رفاقكم ،وأنتم ساعدوني ً
أيضا ،ونادوا اسم صاحبي« :جيفري» .صاح
مرة معه ،ثم انتشروا بين
وأفزعهم ،وأفزع من حوله ،لكنهم ضحكوا بالعدوى وصاحوا ّ
كورس
ٍ يكررون االسم مرة تلو أخرى ،كأنهم ينشدون في
الصفوف والفرشات والوجوه ّ
كنسي« :جيفري!» لن يعثروا عليه .لك ّنه سيرى صديقه من جديد بعد شهور ،ولوال
مشوه الوجه اآلن ،محروق األذنين واألنف والرقبة.
َّ يتعرف إليه :كان
المصادفة لم َّ
حدث األمر هكذا :في 28أ َّيار (مايو) 1918خاض األميركيون معركتهم األولى الحقيقية
على “الجبهة الغربية” :أربعة آالف أميركي من الفرقة األولى ،الكتيبة الـ 28كاملة
العدد تقري ًبا (البعض سقط قبل بلوغ ،)Cantignyتقدمت بحماية 21دبابة فرنسية -
قصف كثيف متدحرج اشترك فيه
ٍ الدبابات في المقدمة والجنود يسيرون خلفها -بعد
368مدفعًا ثقيلًا .هذه التقن َّية المتط ِّورة في القصف كانت تهدف إلى حراثة األرض أمام
المهاجمين ،ومطاردة المدافعين الذين يحاولون االنسحاب فتتعقبهم القنابل .لم تتمكن
لكن المعركة
تحصينات كانتيغني من الصمود ،ونجح األميركيون في احتالل القريةَّ .
عندئذ .كانوا يجلسون إلى وجبة سريعة في أحد البيوت التي لم تتهدم
ٍ لم تنتهِ
تمامًا عندما بدأ القصف األلماني وانفجرت قنابل .صاحوا «! »Gasوأخرجوا األقنعة
حطمت رشقة رصاص من مدفع لويس Lewis المطاطية ولبسوها .في اللحظة نفسها َّ
نمسوي األكواب على الطاولة .ناجون ألمان ث َّ َبّتوا المدفع على حافة النافذة وأطلقوا النار
إلى الداخل .كانوا سيئي الحظ ألنهم لم يلبسوا أقنعة الغاز قبل ذلك :قتلهم الغاز األلماني!
زاحفا وابتعد قدر ما أمكنه عن الغيمة الصفراء ثم نزع القناع ً حداد خرججو ّ
الخانق .كان يلهث ،ويرى األشياء ورد َّية وحمراء أمامه .عندما انتبه أنه يغوص
في الماء استولى عليه الذعر ال خوفًا من الماء ولكن من الغاز ذاته :اكتشف خالل
يتجمع حيث األجسام المائية :البرك ،األنهار ،خزَّ انات
َّ الشهور الماضية أن الغاز
مر ة أخرى وزحف تحت رصاص انهمر من ثالث مياه الشرب ...ارتدى قناعه ّ
جهات دفعة واحدة .سقط في حفرة صنعتها القنابل وبقي في الحفرة .كان المكان
جامدا .هذا ك ُّله لم يعد صادمًا
ً ِّ
المتخشبة ،لكنه بقي ضي ًقا بسبب األشالء والجثث
بالنسبة اليه .هل ربّى جلد تمساح فوق جلده خالل الشهور الماضية؟ حارب
73
ربيع جابر
تحت إمرة اإلنكليز في بيكاردي Picardyعندما بدأ الهجوم األلماني مطلع الربيع.
عندئذ ،ورأى النار التي تهجم كالبركان ،وتأكل الخندق كاملًا.
ٍ كان في فرقة أخرى
ُ
فروا من الخندق كاألرانب البرية التي تطرد من أوكارها بالدخان وإحراق القش. ُّ
يفرون من نافثات اللهب .صارت هذه رعبه وتطارده إذا نام الرصاص يحصدهم وهم ّ
لحظة .نجا ولم يعرف كيف .تع َّفنت قدماه وهو يغوص في الوحل .لك َّنه َّ
ظل ح ًّيا.
جثث المانية وفرنسية ٍ ً
راقدا بين في كانتيغني ،بينما يبلع جرعة ماء من َ
مطرة
صلى أن يخرجه عهدا في أوصالها حرارةّ ،
وأميركية ،جثث قديمة وجثث أحدث ً
الرب سال ًما من هذه «الجورة» ،ثم من هذه القرية المد َّمرة على الهضبة السوداء،
ّ
تسمى «الجبهة»َّ ...
صلى أن يبقى ح ًّيا .أزاح القناع ثم من هذه األرض اللعينة التي َّ
عن وجهه .ورأى جس ًما يقع فوقه .يده بحثت عن الحربة وانتزعتها من حيث هي
وغمدتها في الجسم الذي سقط عليه .هذا ألماني ،عرفه من زيِّه الرمادي وق َّبعته
َّ
المسطحة .قلبه جان ًبا ثم برم الحربة إلى هذه الجهة وتلك وأخرجها .متى تدرب
فزاعة الحقول في معسكر يشبه ألعاب على هذا؟ في أميركا البعيدة وهو يهاجم ّ
األوالد؟ كانوا يطعنون دمى القش والمدرب يصيح ليس في الظهر ،تحت ،في ُ
الك ْلية.
وال تدخلوا النصل َّ
كله وإال لن يخرج .وال تشدُّ وا هكذا ،بل ابرموا الحديد .اللعين
يُقتل والنصل يخرج .لم َّ
يتعلم في المعسكر شي ًئا .هنا ،في الخنادق ،بينما الرصاص
تعلم شي ًئا؟ َّ
تعلم ما يكفي للبقاء؟ انحسر الرصاص تعلم .هل َّ
يرمي الخوذة عن رأسهَّ ،
بعضاَّ .
أطل بعينيه بينما المساء يهبط .سمع نداءات رفاقه .كانوا يبحثون عن بعضهم ً
سدد بندقيته وق ّوص .سقط ُّ
ظل ورأى ثالثة ظالل وم َّيز الزي البروسي األزرقَّ .
واحد ،ذاب في عتمة المساء ،ورفيقاه َّ
توغال بين أطالل مظلمة .قسطل البندقية
تفحص الجثث ً
بحثا عن شيء ال يعرف مقره من جديدَّ .
لسع أصابعه وهو ينزل إلى ِّ
يئن بال صوت تقري ًبا ،في زيِّه األخضر واألزرق.
ماذا يكون .اكتشف جريحً ا :كان ُّ
هذا بلجيكي .أعطاه ما ًء كي يشرب ،وسأله عن اسمه.
***
«جان-جاك» ،قال البلجيكي« ،جان-جاك سيمون ».ثم أغمض عينيه .بعد ذلك
لم يتحرك( .اسمه منقور على النصب التذكاري بين 526اس ًما في مدخل كانتيغني:
74
أميركا
نصف هؤالء ُقتلوا في المعركة والنصف اآلخر ُقتل بالغاز بعد احتالل القرية).
« -أنا جو ،جو ّ
حداد» ،قال للبلجيكي.
لم يعرف أنه م ِّيت إال بعد وقت .أخرج رأسه من الحفرة ورأى ظاللًا تتجمع ،سوداء.
تدوي،
بعيدا ،في األفق ،تشتعل السماء باألحمر .القصف ال يتوقف لحظة ،المدفعية ًِّ
واألفق يلتهب ،لكن كانتيغني -لهذه اللحظة -صامتة .ضرب يده على أذنه اليمنى
يطن وال يعرف من هؤالء كي يتوقف الطنين فانتقل هذا إلى األذن األخرىُّ .
كل رأسه ُّ
َّ
المحطمة :صديق أم عدو .رجع إلى «الجورة» فسمع الذي يتجمعون أمام الكاتدرائية
صوتًا .كان الصوت يتحدث اليه ،وخ َّيل إليه أنه يضحك:
-أنا اسمي ناثان ،أنا أسترالي.
أن الرجل ّ
يمد يده ويريد أن يصافحهَّ .
مد يده وقبض على األصابع القاتمة. اكتشف َّ
كانت لزجة .ورأى أن الدم يسيل من ذراعه وصدره .في الليل الذي ينتشر كالحبر
تتقطع .»Water« :لم يكن يطلب يده بل َ
مطرة الماء. ويمأل الحفرة سمع الضحكة َّ
سقاه .بينما الرجل يسعل ويبصق د مًا من رئتيه المصابتين بالغاز تجددت
االنفجارات .األلمان تأكدوا أن القرية سقطت وبدأوا القصف؟ أم العكس :الهجوم
مهتما بمعرفة الجواب.
ًّ فشل واآلن يقصف “الحلفاء” كانتيغني؟ في الحفرة لم يكن
األسترالي قال له عندما الحظ حركته « .»Stayأراد أن يبقى معه .امتألت رئتاه
حداد رأى القمر ،أصفر ،كامل الدائرة .عند حافة الحقول َّ
وكف عن التنفس .جو ّ بالماء
المقصوفة السوداء وقفت شجرة :كانت بيضاء ،مزهرة ،تشبه لطخة في هذا السواد.
الدوي فظيعًا ،ومع هذا سمع ندا ًء من
ُّ مرة أخرى ،يلتهب ثم يخبو ...كان
اشتعل األفق ّ
آخر الحفرة .كانت تتصل بحفر أخرى .عندما وقعت قنبلة قريبة تقطعت األشالء
متطايرة ّ
وغطاه التراب .لكنه لم يصب بأذى .تلمّس أعضاءه وعرف أ َّنه حي .من جديد ً
سمع النداء .رجل يسعل ،يتغرغر بالدم كأ َّنه يغسل فمه بالماء والملح ،وينادي.
زحف صوب الصوت .كان هذا أميرك ًيا ،مثله ،وأخبره أنه من الكتيبة الثامنة
حداد قال :أنا أعرفك .والرجل طلب ماء .سقاه ففرغت َ
المطرة .طلب والعشرين .جو ّ
الرجل شوكوال .عثر جو على لوح شوكوال في ثيابه وكسر له قطعة .فتح الرجل فمه،
وجو ألقى القطعة بين أسنانه .بعد ذلك استند بظهره إلى حائط الحفرة .عندما تدفق
شخصا آخر يتحرك .كان في اللباس األزرق .زحف اليه ً ضوء القمر فوق الجثث رأى
ّ
وسدد المسدس إلى رأسه .قبل أن يطلق النار قال األلماني:
75
ربيع جابر
Kamerad! -
هل كان يستسلم؟ ماذا كان يقول؟ دائ ًما يسمع هذه الصرخة عندما يجتاحون
مرة خندقًا ألمان ًيا مهجو ًرا للتو ،ورأى مائدة في غرفة محصنة تحت
خندقًا .دخل ّ
األرض ،بأكواب قهوة وخبز وجبن ولحم وعلبة سيجار من الصنف الفاخر .في زاوية
ِّ
يصدق .كان آت ًيا عثر على صندوق فيه تفاح وبرتقال وليمون .نظر إلى الفاكهة ولم
ِّ
المتحللة تسحق دماغه، خندق موحل تطفو عليه الجثث ،برائحة األحصنة
ٍ للتو من
ورأى الفاكهة والحياة العادية في غرفة تحت األرض ،وبخا ًرا يرتفع من أكواب القهوة!
ً
راكضا إلى النفق يطلق النار مثل أخوت .األلمان تساقطوا رافعين ثيابًا داخلية خرج
بيضاء .كانوا يهتفون بتلك الصرخة الغامضة «كومراد» ويقعون على جهتي النفق.
ناداه صوت .زحف ورأى أميرك ًيا من فرقته .عليه أن يضرب التح َّية العسكرية :هذا
يعلوه رتبة .قبل أن يضرب التحية قال الجريح:
-تستطيع أن تحملني؟ ?Can you carry me
بدا كأنه يسأل عن مقدار قوّته وحسب .مثل ولدين يلعبان في الساحة .جو ّ
هز
جذبة قو َّي ًة .صاح الرجل تلقائ ًيا كأنه
ً رأسه ّ
ومد ذراعيه وجذب الرجل من كتفيه
ُضرب .كان نصف جسمه (ظهره) مسحوقًا تا ّمًا ،ذائ ًبا وممتزجً ا بالمادة السوداء التي
تمأل أرض الحفرة .جو تركه وقال انه سيرجع.
َّ
يتحلقون َّ
المحطمة رأى جنودًا زحف أبعد فأبعد ثم ّ
أطل برأسه .داخل الكاتدرائية
حول نار صغيرة .لم يستطع أن يميّز ال اللباس وال الوجوه .كانوا بعيدين ،واللون
األحمر الغامض يغزو عينيه من جديد .مسح جبهته وتأكد أنه ال ينزف .مرة أخرى
تكاثفت االنفجارات َّ
وغطى الدخان وجه القمر .ساد الظالم الحفرة وسكن األنين .شعر
بحركة .التفت ورأى رجلًا محروق الوجه .كان وجهه يسيل ،وعندما رفع يده رأى
أن أصابعه تسيل ً
أيضا ،ثم هوى ً
أرضا .خرج جو من الحفرة ومشى إلى الكاتدرائية،
ودخل بال سالح ،وألقى التحية .كانوا أميركيين ،يب ُّلون البسكويت العسكري بالماء
الفاتر ،و ُيعدُّ ون طعام العشاء.
لم يفقد الوعي إال لحظة .ثم فتح عينيه من جديد ورآهم ينتشرون وراء
متاريس َّ
أعدها األلمان ثم تركوها .قال :يوجد جرحى في الحفرة .قبل أن ينهي
َّ
وحطمت التمثال األخير اقتراحه انفجرت قذيفة في مدخل الكاتدرائية
يمصها ويبعد العطش.
َّ الباقي للرب يسوع المسيح .أحدهم أعطاه ل ْيمُ ونة كي
76
أميركا
قصر بُني
ٍ تلوث بالغاز» ،قال الصوت وهو يبتعد .كان المكان ضخ ًما ،مثل
« -الماء َّ
عمروا هذا الصرح قبل قرون .في أميركا ناد ًرا ما
بأقواس وقناطر وعقود .ال بد أنهم َّ
يرى عمارات قديمة إلى هذا الحد .لم تعد االنفجارات تبلغه .كان يبتعد ،واألرض
الحجر َّية تتحرك ،تسيل كالماء ،وهو ينزلق ...انزلق حتى بلغ الخندق حيث َّ
تتكلم
الجثث مع الجرحى وحيث يطلب الجرحى ماء وشوكوال وحلي ًبا ،ويقول الذي يموت
َ
«ابق معي» ويمدُّ أحدهم يده ويطلب المطرة .انزلق أبعد ورأى شجرة الكرز النابتة
ًّ
وعشا مملو ًءا بالبيض. في قلب الجحيم .وانزلق أبعد ورأى جبلًا أخضر وعصافير
سمع السقسقة .ثم هوى التراب على عينيه وأنفه .هل يُدفن ح ًيا؟
قوته؟ فتح
غزيرا في جوف الكاتدرائية ...رجعوا؟ ماذا يحدث؟ أين َّ
ً سمع رصاصً ا
يأت من الخارج بال سالح؟) ،وأطلق النار على الرجل
عينيه وعثر على بندقيته (ألم ِ
الذي فتح النار على الجميع .هل أصيب بالجنون تحت هذا القصف؟ هل يُطلق النار
على رفاقه اآلن؟ كانت الحرارة تسحقه وعندما عرف بعد دهر أنه يُحمل على
محفة أدرك أنه لن يموت.
في المستشفى الميداني -غرف عميقة تحت األرض -خاف أن يختنق .كان الهواء
قليلًا ورأى رجلًا مبتور الذراعين يقف جنبه وينظر اليه .سعل وبصق شي ًئا أسود.
اقتربت امرأة تلبس زي الصليب األحمر وقالت انه ّ
تنشق قليلًا من الغاز ،ال يكفي كي
يقتله لكن يكفي كي يأخذ إجازة ويذهب إلى الخطوط الخلفية ويرتاح .كانت تبتسم
وتلفظ كلمات اعتادتها بمرور الوقت( .خلفها كانوا يحقنون ،تحت القناديل ،جرحى).
وهكذا في مستشفى فوق وجه األرض ،وراء الخطوط الخلفية ،التقى جو ّ
حداد
دخنا تب ًغا .ثم افترقا إلى األبد.
مرة أخرى .تبادال األخبارَّ .
صديقه جيفري ثورنتون ّ
***
جيفري قفز على ساق واحدة إلى باريس (ال نراه بعد اآلن وال أعرف ماذا حدث له
بعد ذلك) .وجو رجع إلى الجبهة .في الطريق إلى هناك توقف القطار الحربي أكثر من
ً
مقصفا ال مرة .نزل في إحدى المحطات – كانت السكة محطمة ويعاد مدُّ ها – ودخلّ
ِّ
ويدخن سيجارة تلو سيجارة. يرتاده إال الجنود .شرب نصف ق ّنينة نبيذ وهو يلف تب ًغا
في جيب معطفه عثر على بطاقة للجيش لم يكتب عليها أحد شي ًئاField Service .
77
ربيع جابر
َّ postcard
تذكر راهبات دير سان مارتن حائمات كالدجاج حوله .كان يستلقي على
ظهره ،وعلى بعد سريرين يحقنون أحد الجرحى بالمورفين ،ويغزو األبيض عينيه
بينما يتالشى .كانت هذه َّ
اللحظة من أغرب ما عرفه في حياته :شعر بأ َّنه يخرج
ويتعرف إليها وجهًا وجهًا – كأنه
َّ من جسمه ،ويطفو فوق األسرة .ينظر إلى الوجوه
ويتكلم معهم ...مع أن معظمهم نيامَّ .
(تذكر الجثث التي زحف فوقها ونام َّ عرفهم دائ ًما –
عليها َطوال الشهور الماضية؟ كانوا ينامون في خندق قريب من الخطوط األلمانية،
ٌ
جثث حفرا مرعبة وأخرجت من تحت األرضً وتساقطت عليهم القذائف .أحدثت
متع ِّفنة) .كان غارقًا في غيمة تبغه .نهض خارجً ا من الظلمة واقترب من الرجل
الذي يسكب الكؤوس وسأله هل عنده قلم؟ الرجل استدار وأجاب بالفرنسية:
Ah, oui -
أخرج قل ًما من تحت المنضدة وقبل أن يعطيه إياه اشترط عليه أن يردَّهّ .
هز جو
رأسه ،قال « ،»Sure, don’t worryوأخذ القلم .عاد إلى طاولته .انفتح الباب ودخل
ملطخون بالشحم .دخلت معهم رائحة الحرائق :كانوا يشعلون جنود وميكانيكيون َّ
أشيا َء ال أحد يعرف ماذا تكون في الخارج (مثل رائحة العظم وهو يحترق) .شرب ما
بقي في ال ِق ّنينة ثم كتب عنوان مرتا في فيالدلفيا على البطاقة ،وقرأه كي يتأكد أنه
لم يكتب خطأ .بعد ذلك و َّقع اسمه ،ورفع رأسه ،وصاح يسأل عن تاريخ اليوم .أجابته
األصوات من جميع الجهات ،لكن التواريخ وصلته متشابكة ومختلفة ،كأنه يعيش في
كرروا ما فعله كأنهم اتفقوا
اللحظة ذاتها أكثر من يوم واحد .شتم وضحك .واآلخرون َّ
َّ
المحطمة. على ذلك مسب ًقا .كانوا مثل وحش حزين واحد بعدد ال يحصى من الرؤوس
كأسا بفوطة إلى الروزنامة المعلقة على الحائط. ساكب الكؤوس َّ
دله وهو يفرك ً
ذهب إليها ونقل المكتوب وهو يشعر بدوخة خفيفة .سأله الفرنسي بلكنته
المضحكة من أين يأتي وإلى أين يذهب؟ كانت إنكليزيته بائسة لك َّنها تكفي
َّ
يتكلم عنه .أراد أن يضحك ولم يفعل .كان جيفري أمامه كي يفهم جو ما الذي
في تلك اللحظة يقفز على الساق الباقية ويشتم ويخبط بيديه .لماذا يفعل
ِّ
يصلي أن ينجو ويرجع إلى أميركا ذلك؟ لم يسأل في حديقة المستشفى .كان
َّ
ويتكلم معها .لكن شي ًئا غري ًبا حدث له بينما ساكب الكؤوس يبتسم ويرى مرتا
ويمد يده ويطلب القلم :شعر أنه مات وأن هذه هي النهاية .لم يرسل البطاقة.
بعد ذلك قاتل مع الفرقة الثانية األميركية في Soissonsثم في Fère-en-Tardenois
78
أميركا
(المقبرة هناك فيها شواهد لستة آالف جندي اميركي إضافة إلى نصب تذكاري لـ 241
َّ
احتلها األلمان في غزوة الربيع قبل أربعة شهور .أحد رفاقه طار اس ًما بال قبر) التي
ّ
المؤخرة ثم رجع إلى القتال .هذه في الهواء وسقط ح ًيا .حمله إلى المستشفى في
مرات ،وعندما انتهت المعركة كان يلهث كأنه يركض منذ
الحادثة تكررت ثالث ّ
سنوات .العريف طلب له وسامًا ،وعندما تأخر الوسام طمأنه أنه سيأتي بالتأكيد.
جو أصغى إليه بال اهتمام وطلب منه أال يقلق ثم أدى التح َّية وانصرف .في قرية
سيرجي Sergyأصابه الحرس البروسي برصاصة في يده .عالجوه في مستشفى
ميداني على ضفة نهرالمارن River Marneوحمل البندقية.
كانت إصابة طفيفة ولم تؤذ عص ًبا .سار في مرج أسود ثم في مرج أصفر ثم
في مرج أخضر ،وبينما يقطع المروج ،ويرى الرصاص يحصد السنابل والرؤوس،
شعر أنه ال يُقهر .في إحدى القرى المجاورة لـ Ypresرأى أسرى من األلمان
حُ بسوا في قفص مغلولين بالحديد كالحيوانات وركبهم تغوص في الوحل .كانوا
كأفراس النهر ،نصفهم السفلي تحت الوحل والعلوي في الهواء األزرق البارد .ش َّعت
الشمس بينما يقترب منهم وينظر إلى عيونهم الملونة ويحاول أن يستوعب
شي ًئا .أحد رفاقه أخرج من معطفه وسا مًا وقال« :انظر« ».ما هذا؟» سأله.
Victoria Cross -
وأخبره أنه وجد صندوقًا مملو ًءا باألوسمة في الخندق ،واآلن يوزع منها على
الجميع .كان يضحك ،وأخذ يسعل ،ويضرب على صدره ،ويقول شي ًئا عن الفالندرز
.Flandersنقلوا جو إلى كتيبة أخرى وحارب في سان ميهيل .St Mihielكان هاج ًما
ّ
وتعثر ووقع ،ومن دون أن ينتبه غرق في النوم .كان القصف يفتك بالجميع والمدافع
الرشاشة تحصد وتفرم وتقطع لك َّنه َّ
ظل نائ ًما .بعد المعركة طلب المزيد من الحبوب َّ
يعط حبوبًا« .هناك نقص في المواد الطبية ».فقد خوذته في Meuse- ألن يده تؤلمه .لم َ
Argonneلك َّنه غنم أخرى من ألماني .قالوا له« :هذا خطر ً
جدا ،ال تلبس خوذة العدو»،
ً
إجازة وأرسلوه لك َّنه لبسها .وقع على األرض في هجوم وعلق بأسالك ونزف .أعطوه
إلى بيوت مد َّمرة في Chateau-Thierryحيث دارت معركة عنيفة قبل وقت.
كثيرا
ً ِّ
ويدخنون .كان الطعام مشى بين جرحى توزعوا األطالل يشربون الكحول
ً
عاجزا عن األكل .منظر الجنود السكارى أثار فيه شعو ًرا هنا ،لكنه وجد نفسه
مقل ًقا .حاول أن يحدد شعوره ثم أدرك أن عقله صار في مكان آخر ،وأن تفكيره لم
79
ربيع جابر
ً
مربوطا بما يحدث له وال بما يحدث حوله .رجل رآه من قبل اقترب وسأله يعد
باإلنكليزية« :أنت جو دونت ووري ،ال؟» هز رأسه ولم يقل شي ًئا .أخبره الرجل
أنه كان في معركة Belleau Woodوأنه رأى عددًا ال يحصى من القتلى يتد ُّلون
لكن جو أبعده من دربه ومشى
من أشجار الغابة مثل القرود .انتظره كي يضحك َّ
من دون أن يفتح فمه .أين كان خليل حداد ذاه ًبا عندئذ؟ ماذا كان يرى أمام عينيه؟
ماذا نسي وماذا َّ
تذكر؟
80
جرار
رندا ّ
قصة قصيرة
قصة بنايتي
كنت في العاشرة من عمري ،عندما انتقلت أمس َّية لعب الورق إلى شقتنا ،في
حي الزرقا ،الذي يعتبر أفقر أحياء غزة .كنا نعيش في مجموعة متناثرة وممتدة
وممرضات ،وخ َّياطون ،وط َّباخون،
ِّ ومدرسون،
ِّ من البنايات ،التي يسكنها َّ
بقالون،
وصانعو أحذية .وفي الطابق العلوي من البناية الثالثة كان يقطن مترجم ل ُّلغة
الروسية :والدي.
كان الرجال يجتمعون في غرفة المعيشة ،التي سرعان ما كانت تمتلئ بالدخان،
وبرائحة شراب البوربون ،بينما تجلس الزوجات في غرفة الجلوس التي كانت
المكان األمثل للجلوس ،حيث كانت مر َّتبة على شكل «ديوان» .فعلى أرضيتها البالط
ُر َّصت الوسائد المستطيلة ،والطاوالت الخشبية المنخفضة التي توضع فوقها أكواب
يتجمعون في غرفة نومي،
َّ الشاي الصغيرة .كان أوالد وبنات عمومتنا وأصدقاؤنا
التي كنت أشارك فيها أختي ،التي كانت دومًا تشعر باالمتعاض الضطرارها مقاسمة
غرفتها مع صبي.
ّ
مدخ ًنا، شخصا
ً عدة ثوان نسمع كان الرجال يقهقهون ويقرعون أكوابهم ،وكل َّ
وهو يطقطق بالعجلة المعدنية لوالعة قديمة ترفض اإلذعان ألوامره .ك ّنا مولعين
بخدعة نستخدم فيها الوالعات :فلقد كنا نفرغ الغاز غير المرئي في قبضة يد مقفلة،
اللهب بسرعة ،ونفتح راحة يدنا ،فتبدو في تلك اللحظة كما لو كانت ثم نشعل َّ
مشتعلة بالنيرانَّ .
علمتنا بنات عمومتنا وصديقاتنا هذه الخدعة ،لذلك ظللنا ولعدة
أسابيع ِّ
نقدسهن بال أدنى مداراة.
81
جرار
رندا ّ
بعد مرور بضع ساعات من بدء أمس َّية الكوتشينة ،تكون النساء منغمسات في
الحكايات ،وفي ّ
دخان الشيشة ،بينما الرجال في حالة سكر ب ِّين .كنا ننطلق بحريتنا
َّ
المغطاة بالرمال ،والمحاطة بجدران زائفة من الحجر الجيري، في ساحة البنايات
َّ
نتسلق الدرج إلى السطح ،حيث تربِّي زوجة البواب الحمام .كنا مغرمين بذكر أو
حمام يشبه في ألوانه قوس قزح ،فأسميناه «الساحر» بسبب األلوان الالمعة التي
تتغير ،فتضيء عنقه ذا َّ
اللون األسود المشوب بالزرقة.
ومررناه من يد إلى يد ،بدا في
عندما فتحنا باب القفص ،وأخرجنا «الساحر»َّ ،
قبضة يدنا النقيض من اللهب .ماجدولين التي كانت أصغر بنات عمومتي قالت إنه
عندما يكون العنق ذهب ًّيا فهو يبدو مثل صورة «ق َّبة الصخرة» التي ألصقتها َّ
جدتها
نوقر ماجدولين بسبب على جدار مطبخها .وافقناها الرأي تأ ُّدبًا ،فلقد كنا جميعًا ِّ
وتهشم كوب زجاجي في َّ
شقتنا. َّ اسمها الغريب .هدل الساحر في قبضة ماجدولين،
سمعنا الرجال وهم يصيحون .ركضنا نازلين إلى أسفل ،أل َّننا لم نود أن يفوتنا الشجار،
ولك َّنني عندما فتحت الباب الخارجي ،رأيت ع ِّمي فوزي صانع األحذية يشهر عصاه
في وجه والدي.
قال فوزي« :لماذا تدافع عنهم يا ابن الكلب ،يا خائن؟»
قال بابا وهو يرفع ذراعيه ليحمي رأسه بكل ثقة ممكنة« :أنا أقول لك فقط إن
هذه حقيقة تاريخية ».كانت والدتي وصديقاتها ما يزلن في غرفة الجلوس ،وكنت
يهب بنسيمه نحونا ،مثل طيف أصابع تربِّت على أكتاف
شم رائحة تبغ التفاح ُّ
أستطيع َّ
الرجال.
«ال! أنت تدافع عن الصهاينة! هم يستخدمون هذه األمور تبريرا لالستيالء على
ِّ
تصدق كالمهم؟» أرضنا .لماذا
كانت مناقشة مألوفة لي إلى حد ما ،رغم أنني لم أدرك بوضوح من تكون
«المحرقة» أو «المذبحة» .تخ َّيلت أنهما من صديقات «بلفور» ،الذي كان اسمه
يُذكر كثيرا ،ولم أعرف من يكون هو ً
أيضا.
وضع الرجال اآلخرون أوراق الكوتشينة ذات الخلفية الزرقاء على الطاولة ،ولكن
والدي كان ما يزال يمسك بأوراقه مثل مروحة في يده اليسرى .تساءلت في نفسي
إذا كان يعتقد أنها سوف تحميه من ضربات عصا عمي فوزي ،التي كانت بنية اللون،
ولم تكن تبدو ضعيفة .كان الرجال يناشدون فوزي الهدوء ،ولكن دون حرارة مما
82
قصة بنايتي
زاد من اشتعال غضبه ،فلقد كانوا يشبهون الغاز غير المرئي في قبضة يده المشتعلة.
رآني بابا من طرف عينه التي كانت شبه عمياء ،فقد كان يكره ارتداء نظارته في
أمسية لعب الكوتشينة ،إذ كان يشعر أنه يبدو أكثر رجولة ومهابة دونها .ولكن
تقدمت إلى األمام وهو يقول« :أُنظروا!
ُ من الواضح أنه كان مخط ًئا في هذا الشأن.
ها هو مهند ».وانكمش وراء أوراق اللعب« .يا بني ،اذهب إلى المكتبة وهات لي
بابل .البابل يا مهند».
ركضت إلى الغرفة الصغيرة ،التي كانت أختي تتم َّنى لو لم تكن َّ
مغطاة بالكتب ،ولكن ُ
بملصقاتها وبفراشها (واألفضل بناموس َّية من ال ُتل األبيض) .غرفة النوم هذه َّ
تحولت
إلى مكتبة عندما انتقلنا إلى العيش هنا ،وكانت نوافذها مغلقة ،بسبب األرفف التي
ارتفعت عال ًيا حتى بوصة واحدة من السقف .عندما نقل بابا األرفف داخل الغرفة
(كان قد أحضرها من األردن) ورأى أنها تتناسب تمامًا مع الغرفة ،شعر أن هذا فأل
حسن مثل فراشة البشورة ،وبدأ ت ًّوا في العمل.
كرسي الكتابة الصغير الخشبي الذي يستخدمه والدي إلى جزء ألف – َّ ُ
سحبت
ُ
وصلت إلى حرف الباء ،وأدركت أنني جيم ،وغ َّ ّنيت أغنية األلف باء في رأسي حتى
لن أضطر إلى الغناء طويلًا .وجدت الباء ،واأللف ،ثم الباء ،ثم الالم ،وأمسكت ببابل.
ُ
وركضت ً
اعتراضا على هذه المعاملة، قفزت من الكرسي الذي أصدر صوت صرير
ُ
وأعطيت بابا الكتاب .في تلك اللحظة كان ع ِّمي فوزي قد تقهقر قليلًا، عبر الممر،
بالساحر في يدها.
وكان أصدقائي يقفون على الباب وماجدولين ما تزال ممسكة َّ
فتح بابا الكتاب الذي كان قد ترجمه وبدأ في القراءة .في البداية أصدر ع ِّمي فوزي
أصوات بصق كلما نطق بابا بكلمة «يهودي» .ثم ساد الهدوء بينما كنا نصغي إلى بابا،
َّ
وصفقنا عندما نال بابل المركز األول في وهو يقرأ قصة أول برج حمام يقتنيه بابل،
ُ
ذهبت مع كوزما إلى بيت مفتش الضرائب ،حيث وجد فصله ،وانتهت القصة «وهكذا
والداي ً
مالذا من المذابح» تململ الرجال في مقاعدهم وقالوا «اهلل!» ،كما يقولون
عند االستماع إلى السيدات وهن يغ ِّنين أغنيات جميلة في الراديو .كان بابا وبابل
والشرب ولعب الكوتشينة ،وصدر مثل س ِّيدة جميلة تغ ِّني .واصل الرجال التدخين ُ
ُ
وأضأت ُ
دخلت الغرفة لي األمر بإعادة الكتاب إلى غرفة المكتبة الممتلئة باألرفف.
َّ
«إوزتي ُ
وجلست تحت ضوئه ألقرأ .العنوان الذي جذبني كان مصباح القراءة لبابا
َّ
اإلوزة ،وعلى األولى» فبدأت في قراءة القصة ،ولكن فيما بعد شعرت بالحزن على
83
جرار
رندا ّ
ُ
وأخرجت ُ
ركضت إلى السطح، صاحبة المنزل ،فأعدت الكتاب الى مكانه بسرعة.
ً
حمامة أمسكتها في راحة يدي ،حتى تأكدت أن جميع الرجال قد غادروا المكان،
وأن غرفتي تنعم بالهدوء الكافي للنوم.
جميع الرجال في أسرتي كانوا ي َّتصفون بالخمول والكسل ،وكانوا يقومون بأي عمل
سواء كان ذلك العمل عملًا حس ًنا أم س ِّي ًئا بكل تباطؤ .هذا ما أخبرتني به ماما ،ولكنها
كانت ممتعضة من حظها في الحياة ،ومن حظ الرجال الذين كانوا يأتون لزيارتنا
من أعمام والدي وأبناء عمومتنا ،الذين يعيشون في بطالة ودون بيوت تؤويهم .ومع
ذلك كان عندي عمّ ان شهيران ،كانا شهيرين في أسرتنا على األقل .أحدهما اختطف
طائرة ففقد حياتهً ،
تاركا وراءه َّ
ست فتيات تزوّ جن جميعهن بعد ذلك تحت رعاية
منظمة التحرير الفلسطينية .إحدى الفتيات انتقلت إلى تونس ،وأصبحت المتحدثة
الصحفية لعرفات ،وكتبت كتابًا عن حياة والدها ترجم إلى اللغة الفرنس َّية ،وكان
بابا فخو ًرا بابنة أخيه ،على الرغم أنها كانت تكبره في العمر .العم اآلخر ،مصطفى،
صغيرا ملح ًقا
ً متجرا
ً وتوجه إلى ديترويت ،حيث اشترى َّ َّ
استقل طائرة في سالم،
بمحطة ملء الوقود .لم يكن يمتلك البنزين ،ولم يكسب الكثير من األموال ،وكان
مضطرا لحمل السالح في متجره ،ولكن
ً كل عمالئه من السود .كان ع ِّمي مصطفى
في ليلة من الليالي قتله رجل أسود بغرض السرقة .أرسلت لنا الشرطة األميركية
قوات الدفاع اإلسرائيلية احتجزته
بعض أغراضه في صندوق من ديترويت ،ولكن َّ
ِّ
وتسلمه لنا .كان الصندوق ِّ
فضي اللون، أخيرا
ً لثمانية شهور قبل أن تفرج عنه
ويبدو مثل نسخة معدنية من حقيبة أوراق بابا .بداخله وجدنا بطاقات عليها أرقام
ُ
أخذت أنا إحداها خلسة ،ووضعتها في ونقدية أميركية ،وصو ًرا لس ِّيدات عاريات
جيبي ،وأخذتها معي إلى السطح ،ك ْيما أريها للحمام .لم يتبق من الرجال في األسرة
سوى عمي حسن ،الذي كان يعيش في بيروت ،ويقوم بالتدريس في الجامعة اللبنانية،
َّ
المثقفين ضعفاء .سألتني يومًا« :هل ووالدي .ماما تعتقد بأنهما كسوالن ،ألنها تعتبر
مرة أن تضغط على ذراع شاعر؟ ستجدها نحيفة ،في نحافة ذراع فتاة صغيرة، جر َ
بت ّ ّ
وطراوتها ،ليست ذراع رجل .فهم ال يفعلون شي ًئا سوى أن يفكروا ،وأثقل عبء
متكلفة« :متى ضغطت على ذراع ِّ يحملونه هو أقالمهم ».فكان بابا يسألها في غيرة
خمسا وعشرين
ً شاعر؟» تفرقع ماما بلسانها أعلى سقف حلقها ،وتقول إنها عاشت
سنة قبل أن تلتقي به ،وضغطت على أذرع عدد ال بأس به من الشعراء .كان يضحك
84
قصة بنايتي
في وجهها ،فتقول إنه أكسل من أن يشعر بالغيرة الحقة ،أو أن يفرض أي نظام على
ومرة أخرى أطلقت عليه صفة الكسل. يكن يجيب على اإلطالقَّ ، البيت .هنا لم ْ
ُ
حفظت قضيت شهو ًرا طويلة أذاكر قبل امتحاناتي النهائية ،ألثبت أ َّنني لست كسولًا.
ُ
ورواحا
ً ً
جيئة ثالثة دواوين من الشعر بد ًءا بالمتن ِّبي حتى درويش ،وكنت أذرع الغرفة
على إيقاع أبيات الشعر ،ألنها كانت تساعدني على االستذكار أسرع .كنت أحيانًا أشعر
أكرر أبيات درويش« :فاخرجوا من
تتجمع على حافة عيني ،عندما ِّ
َّ بقطرات الدموع
برنا ...من بحرنا /من قمحنا ...من ملحنا ...من جرحنا ».وعندما ُ
أصل أرضنا /من ِّ
للمرة الخمسين ،أو الستين من تكرارها ،لم أكن أبكي على اإلطالق ،ولكنني كنت
ألقي األبيات بغضب وإيمان .كنت أفقد صوتي وال أجده سوى بعد أسبوع .كنت أتناول
ساندويتشات الجبن التي كانت ماما تتركها خارج الباب ،وأستيقظ في منتصف َّ
الليل،
َّ
وتتعقد داخل أحالمي ،فيصبح كل شيء في رأسي ألن ُ
الجمل واألبيات كانت تتشابك،
عقدة مربوطة شبيهة بشعر أختي في الصباح .لم أصعد إلى السطح ألرى حماماتي إال
ناد ًرا .سمعت ماجدولين تتدرب على العزف على آلة الناي ذات ظهيرة فوق السطح.
كانت أمها تبغض الموسيقى ،ولم تكن تسمح لها بالتدريب داخل الشقة ،فكانت تأخذ
دروسا مجانية
ً استج َدت والدها ليشتريه لهاّ ،
وتلقت ْ الناي العتيق المتداعي – الذي
لتتعلمه في مركز غزة للطفل – وتصعد به إلى السطح لتم ِّتع آذان الطيور.
في يوم 20يونيو من عام 2006عُ ِّلقت قائمة خارج مكتب ناظر المدرسة تحوي
أسماء جميع التالميذ ،وترتيبهم في النجاح .جاء ترتيبي األول .كان والدي يذهب
للنظر إلى تلك القائمة كل يوم .وفي أمسية لعب الكوتشينة اصطحب جميع الرجال
للذهاب معه إلى المدرسة ،لكي يشاهدوا اسمي مكتوبًًا فوق الورقة البيضاء .عادوا
وهم يغنُّون ،وسمعت صدى أغنية األبطال التي غنُّوها تأتي من ساحة المنزل.
ً
مستعدا لهم. أعددت نفسي لتهنئاتهم المخمورة ،وعندما وصلوا إلى الشقة كنت ُ
حلبة رقص مؤ َّقتة كانت غرفة معيشتنا منحملوني على األعناق ،وغنُّوا ،ورقصوا في ْ
شهيدا .قال إنّني ذكي ،ومتفوق ،وإن الوطن
ً قبل .قال عمّ ي فوزي إنني ينبغي أال أصبح
ُ
نزلت بأقدامي على يحتاجني على قيد الحياة .وافقه الرجال اآلخرون ،وسرعان ما
مرة أخرى .قال الرجال إنهم سيبنون لي برج حمام لالحتفال بنجاحي .قلت لهم
األرض ّ
كبيرا فوق السطح ،فقالوا لي إنه صغير ،وال يليق بمقام أمير مثلي .أراد
ً قفصا
إن عندي ً
عمي فوزي أن يصعد إلى السطح ليلقي نظرة عليه ،ولك َّنني َّ
توسلت له بعيني أن يظلوا
85
جرار
رندا ّ
السكر هذه وهم يتساقطون من حافة السطح ،مثل داخل البيت .تخ َّيلتهم في حالة ُ
ّ
تتخطى حافة السور ،ثم بعد لحظات شخصيات كرتونية تواصل سيرها ح ّتى بعد أن
مخلفة سحابة بيضاء حيث كانت أجسادها. معلقة في الهواء تهبطِّ ،من البقاء َّ
ولك َّنهم صعدوا على أية حال ،وارتقوا درجات َّ
السلم في طابور واحد .وقفوا حول
قفصي وشبكوا أذرعهم.
ومرة ال».
مرة َّ
قال أحدهم« :ال ،ال ،وألف َّ
وقال آخر« :ال».
وقال ع ِّمي فوزي« :ال» وقد بدا عاريًا دون عصاه.
قال بابا« :ال! سوف نبني لك برجً ا حقيق ًيا للحمام من الخشب .وسوف نطليه
وسيكون داخله عشش تكفي لعشر حمامات».
مرة أخرى إلى َّ
الشقة، شعرت بفرحة غامرة ،فقفزت ،ألحتضن بابا ،وأشكره ،ثم عدنا َّ
َّ
الشقة، بمجرد خروج ع ِّمي فوزي سمعنا طلقات رصاص في الشارع .دخلنا َّ ولكن
ْ
مرة أخرى بعد َّ
عدة دقائق ،ثم خ َّيم السكون والهدوء. وانتظرنا .انطلق الرصاص ّ
في بداية مساء اليوم التالي ذهبت للبحث عن الخشب والطالء لبرج حمامي .كان
بائع المياه يسير في الشارع دون أي ماء ،وهو يلعن بصوت مرتفع ،وعلى بُعد عدة
طاووسا .لمع الطاووس
ً مبان من شقتنا كان صب َّيان يط ِّيران طيارة زرقاء رسما فوقها
مبهرا مع خلفية السماء الرمادية؛ وكان الخيط الطويل يمر من قدمه
ً األزرق لمعانا
المرسومة إلى يد الصبي .التفت الط َّيارة ،وتأرجحت في الهواء.
في متجر المعدات ،واألدوات جلس أبو عالم في كرسي مهتز ،مستخدمًا منديله
الرجال سوف يصنعون لي برج حمام ،فقال إنه سيعد
األبيض مروحة .أخبرته أن ِّ
لهم الخشب ،والطالء الالزم في بداية األسبوع التالي .سألته :لماذا سيستغرق كل
هذا الوقت؟ أجابني بأن أنظر حولي« :األمور فظيعة! افتح عينيك!» ،وهذا ما فعلته.
جذبت جفوني إلى أعلى ،ونظرت إلى الشارع ،ولك ّنني رأيته كما دائ ًما على هيئته.
ُ
هززت كتفي ،وسرت حول البناية عبر صالون الحالقة ،ومتجر الطيور الذي كان
مغل ًقا ،وعبر الفساتين ،والبلوزات المتطايرة في السوق ،وعبر عمّ و خضر الجالس في
كرسيه المتحرك .كان في حجره علبة سجائر واحدة يحاول بيعها بالنداء عليها.
ُ
وبدأت طريق العودة إلى البيت ،قبل أن تنتاب ماما حالة القلق. اختفت الشمس،
في نهاية شارع المنصورة ،الذي يعتبر الشريان الرئيسي للحي ،رأيت طابو ًرا
86
قصة بنايتي
87
جرار
رندا ّ
ُ
هويت على ركبتي من رائحة الخرسانة التي قصفت واألجساد التي احترقت،
أصفر لونه.
ّ وبينما استلقيت فوق الركام انسابت أحشاء الساحر في حجري الذي
انتشرت أشالؤه الرقيقة فوق جسمي ،وفوق األجساد ،والقطع المتبقية من منزلي
القابعة تحتي .أقفل عيني ،وأغلق جفني بقوة معًا ،أغلق عيني اللتين طلب م ّني أبو
َّ
الممتد في عالم أن أفتحهما في متجر األدوات .لم أود أن أرى العالم الرمادي الباهت
كل مكان حولي .شعرت بشيء يلمس وجنتي ،وحاولت أن أتحسسه ،فلقد كان حادًا،
ُ
فوجئت بوخز من قطعة من وخش ًنا ،مثل منقار طائر ،ربما كان الناي ماجدولين.
الحجر البارد في مقعدتي ربما كانت رك ًنا من أركان الغرفة أو جز ًءا من السقف.
تشابكت أسالك تحت أقدامي ،وكان ريش الساحر ناع ًما في راحة يدي مثلما كان
في الماضي .واصلت إغالق عيني ،وضغطت بجسمي داخل الركام .هذا الحطام لم
يكن يشبه أي شيء ينتمي إلى الحياة ،أو مثل الورقة البيضاء التي كتب عليها اسمي
خارج مكتب الناظر ،أو مثل صوت بابا عندما كان يقرأ ترجماته ،أو مثل أمي وهي
تداعبه ،أو مثل أيدي ماجدولين .جلست هناك وتمنيت أن يبتلعني الركام داخل
فمه القاسي ،تمنيت لو انتميت إليه .األرض من تحتي تفوح برائحة قوية ،شممتها
عيني ثم فتحتهما ورأيت
ّ وبدأت في البكاء .رفعت يدي من فوق الساحر ومسحت
الجبل الذي أجلس فوقه .تركت الساحر فوق الجبل مع كل األشخاص اآلخرين من
البناية ومشيت عبر األنقاضَّ .
ذكرني ذلك بالوقت الذي سرت فيه عبر المقبرة حيث
ُدفن جدي .لم تكن هناك أية عالمات سوى شواهد القبور وكنا أختي وأنا دائ ًما قلقين
أننا سنخطو بأقدامنا فوق األموات .خطوت فوق األنقاض الرمادية الطباشيرية ،بكيت
وأنا أسير في الشارع.
مررت بعمو خضر وأردت أن أتصل بأسرتي هاتف ًيا ً
مرة أخرى .تخ َّيلت الهاتف األسود
مدفونًا يرن رنات مكتومة عبر جبل الموت الذي كان بنايتنا .ناداني عمو خضر فجأة
اتجهت نحو
«مهند! يا مهند! فوزي كان يبحث عنك وهو منتظرك عند أبو عالمَّ ».
متجر األدوات والمعدات حيث جلس عمي فوزي متك ًئا على عصاه« .أين كنت َطوال
َّ
الليل؟ هل كنت تطير مثل شعرة مشاكسة؟ هل رأيت ما حدث؟»
أومأت برأسي.
قال« :ال تقلق .كلهم ينتظرونك في بنايتي .لقد اعتقدوا جميعًا أنك مت!»
ذهبت ناحية عمي فوزي واحتضنت كتفه المقوس ،ور َّبت هو على ظهري .وقف
88
قصة بنايتي
ً
بعيدا عن المتجر ،وكم حسدت العصا وغرس عصاه في األرض البنية ،وسرنا معًا
التي يمسك بها وتمنيت لو كانت يدي هي التي بقبضته.
وهكذا ذهبت مع ع ِّمي فوزي إلى بنايته حيث وجد والداي ً
مالذا من القصف.
89
روزا ياسين حسن
مطلع رواية
حراس الهواء
ّ
90
حراس الهواء
ّ
ً
ضابطا مدن ًيا! يتخيّل
!!.... -بدا عليها االمتعاض والمضض.
-إنّه تاريخ طويل ّ
عشش في خاليا المخ ،وليس من السهل تغييره
()1
Well, I know that -
ّ -
الدقة في الترجمة هي المطلب األول ،لكن َط ْرقات قلوبهم تصلني من بعيد
كعصفور في قبضة صيّاد .هل تفهمينني مدام؟
ً
مصغية كانت دون أي تعبير كل ما كان ينضح به وجه مدام صوفي. االستغرابُّ ،
ّ
خاصة أن تغيير أية كلمة في واف!
ٍ آخر على مالمحها .ربما كان شرحي غير
الترجمة سيتطلب إقناعً ا أكبر بالتأكيد ،هذا إذا لم أطالَب برفع كتاب ِّ
خطي إلى
السفير.
مكتب ّ
حدقت مدام صوفي برهة في قبضتي المتش ِّنجة أمام وجهها والقابضة على عصفوري ّ
األثيري .كانت تعابير وجهها ّ
تدل على أنّها تصغي ،لك َّنها متجهِّمة وجد َّية على غير
بعيدا ع ِّني.
ً عادتها! اعتقدت للحظات أنها ستستدير من فورها ،لتعود إلى الهرولة
لكن قبضتي لم تكد تسترخي ،لتهوي إلى جنبي ،حتى ابتسمت مدام صوفي ببطء،
َّ
مدت يدها لتربِّت على كتفي. ثم َّ
-برافو أنات ...برافو ...أنت رائعة.
قالتها بعربية مجعلكة ،وأردفت:
إلي ،هذه المحبة في قلبك أهم من الد َّقة الحرفية للترجمة ..قلبك
-بالنسبة ّ
عطوف بين أضالعك الصغيرة.
قصدت أضالعي الضئيلة ربما!
أنهت جملتهاَّ ،
وبشرتني بابتسامتها العريضة التي تظهر كامل اصطفاف أسنانها
الالمعة .ابتسامة بيضاء كوجهها الذي ال يحمل أ َّية مالمح عربية.
Do whatever you think is best -
()2
ً َّ
شدت قبضتها على كتفي قبل أن تتركني ،وتبتعد في الممر الطويل ،مؤرجحة شعرها.
صحت ْ
بإثرها:
-مدام ...ما رأيك بكلمة ،Bossأليست أفضل؟
واستمرت في خطواتها
َّ إلي،
رفعت إبهامها عال ًيا عالمة «األوكي» دون أن تلتفت َّ
العجلى التي يسمع حفيفها فحسب بين الجدران الباردة .لوهلة بُعثت داخلي روحٌ
91
روزا ياسين حسن
طازجة ح َّي ٌة .غمرني فجأة إحساس بالبهجة بينما كنت واقفة في الممر الطويل
ٌ
ب ُغرفه المتناظرة المصطفة على الجانبين.
وافقت مدام صوفي على اقتراحي .هكذا بمنتهى البساطة!
ال أدري كيف تحمل تلك الكندية -الباردة ،البيضاء كالجبنة -هذه الروح! لديها
نقي خالص ،ربما كان الشيء الوحيد الذي ورثته عن أبيها اللبناني األصل. قلب ّ
قالت لي يومًا إنه قضى حياته يتنقل بين بلدان العالم في سيّارات اإلسعاف التابعة
للصليب األحمر .لم يشتعل نزاع في أي من مناطق العالم إال حضره ،لم تنشب حرب
إال كان بين الطاقم الط ِّبي فيها! ربما كان في األمر مبالغة ما! لك َّنه ،كما قالت لي
ً
شاهدا في حرب دارفور ،في البوسنة والهرسك ،وحتى في أفغانستان! صوفي ،كان
-ثم مات ،ويا لسخرية األمر ،في إحدى جائحات المالريا في إفريقيا.
!!...-
لم أعرف وقتئذ ما السخرية في الموضوع! هل كان ينبغي أن يموت عجوز مثله،
لكن مدام صوفي تعتقد
ساخرا؟! ْ
ً بقنبلة أو صاروخ ،كي يغدو األمر تراجيديًّا وليس
أن أباها دفن في إفريقيا في إحدى المقابر الجماعية الكثيرة المنتشرة هناك.
المهم ،إنجازي سيبدل يومي الس ِّيئ ،سيجعل األفكار السوداء ،التي رافقتني منذ
تتبدد ،تتالشى كغيمة زائفة .باستخدام كلمة Bossلن أُج َبر يومًا بعد يوم
الصباحَّ ،
على مراقبة عيونهم الفزعة ،وهم يقومون بتأدية التح َّية العسكر َّية أمام (الضابط)!
قوة ،كأنهم عساكر في مشهد كوميدي ضاربين األرض بأقدامهم ِّ
بكل ما أوتوا من َّ
أشبه بالتهريج.
***
92
حراس الهواء
ّ
َّ
السخانة على تصعيب األمر أكثر .كان المكيّف يضخُّ الحرارة في الغرفة ،كذلك
المدورة ،التي يضعها المدير قرب قدميه ،وتتصاعد منها ه َبلَة
َّ الكهربائية الصغيرة
القهوة في الركوة النحاسية.
المدير من دائرة الهجرة والتجنيس الكندية تفرزه المفوض َّية العليا لالجئين كي
يقوم بدراسة حاالت اللجوء بكافة أشكاله إلى كندا .وهو اآلنِّ -
ككل صباح منذ سنتين
يتفحص األوراق أمامه على المكتبَّ ،تلة من المص َّنفات
َّ ونصف وحتى َّ
اللحظة-
الملونة والرسومات .كان يبدو متضاي ًقا وحزي ًنا على غير عادته
َّ تغص باألوراق
ُّ
الصباح ِّية ،يرتشف قهوته العرب ِّية من كوب خزفي بحجم القبضة.
القهوة هي الشيء الوحيد الذي أح َّبه جوناثان غرين هنا ،إضافة إلى عيون
المكحلة ،حسب تعبيره .ح َّيته عنات:
َّ الدمشقيات
()3
Hi Jon; how are you? -
لم يجب.
رفع رأسه عن األوراق ،ظهرت على وجهه ابتسامة حزينة تحوّلت تدريج ًّيا إلى
تكشيرة ،ثم عاد يدفن رأسه في َّ
التلة! ال بد أنه يتفحّ ص التقرير الطبي لطالب اللجوء
الجديد الذي سيقابله للتو ،والذي على عنات إسماعيل أن تترجم مقابلته.
اقتربت منه حيث كرسيها المعدني يالصق كرسيه وراء المكتب ،ولمحت من
المص َّنف األزرق األنيق ورقة مليئة بالتواقيع ،وجان ًبا من صورة جسد محروق.
Uh, how is the baby? -
()4
ً
يدس الصورة بين األوراق ،ثم ربّت على بطنها ضاحكا.
صاح بلكنة ممطوطة وهو ّ
أحس بصدمتها حين لمحت الصورة أمامه ،أو بانزعاجها الواضح على مالمح
ّ ربما
وجهها ،ورائحة الغرفة تأتيها كمزيج من رائحة صديد ودم فاسد.
()5
Fine... -
تحسست بطنها التي تكتنف طفلها في بداية شهر الحمل
َّ اصطنعت االبتسام ،ثم
الثالث .على المكتب تقرير جديد للمفوض ِّية العليا لالجئين باللغة اإلنكليزية أدرجت
ّ
وتدخل المفوض ِّية .ربما رغبت فيه األعداد المقدرة لألشخاص المستحقين اهتمام
عنات ،عبر قراءتها له ،في الخروج من حالة الغثيان ،أن تنتقل من براثن عالمها
الصغير ،الذي يضغط على روحها وتفكيرها ،إلى عالم أكبر.
ملفت .أوروبا تأتي بعدها ،بما في
ٍ بشكل
ٍ العدد المقدر لالجئين في آسيا هو األكبر
93
روزا ياسين حسن
ذلك البوسنة والهرسك ،وفلول الشيوعية ،وما إلى ذلك .التقرير ذاك لم يكن مذيّلًا
سيمر هنا ،على األرجح ،كورقة
ُّ بتاريخ! لكن من الواضح أن زم ًنا طويلًا لم يفت عليه.
سلة المهمالت! لكنه بالتأكيد ال نف َع لها ،وربما رم ْت ُه العاملة بعد انتهاء الدوام في َّ
يمر في أماكنَ أخرى من العالم بمثل هذه السلبية.
لن ّ
بتر جون شروده ،شارحً ا لها بعض المعلومات عن طالب اللجوء األول لهذا اليوم
وقصته المكتوبة في التقرير .قرأت له ما ورد في التقرير.
اسمه سالفا كواجي .شاب سوداني مسيحي من الجنوب .كان منتم ًيا إلى الحركة
الشعبية لتحرير السودان ،حركة جون قرنق ،كما كانوا يطلقون عليها ،ثم انخرط
في الجيش الشعبي التابع لها ،في القوات الراجلة حاملة «األربيجي» ،ليخوض الحرب
األهلية التي امتدت أكثر من عشرين عامًا بين الشمال والجنوب .إثر ذلك بقي شهو ًرا
أسيرا في يد جنود البشير ،قبل أن يُطلَق سراحه في تبادل األسرى.
ً طويلة
وحيدا بعد أن ُقتل معظم أهله على مدار الحروب.
ً سالفا غير متزوج .يعيش
يخص القصص الجديدة،
ّ ً
ومأخوذا ،كما هي عادته دومًا فيما ً
منهمكا كان جوناثان
بينما أشعر في لحظة كهذه برغبة في التقيؤ ،بصداع لئيم يعتصر دماغي ،ويجعلني
أتهاوى على كرسيي الجلدي األسود.
ً ّ
إلي قل ًقا وأمسك بيدي ماطا إنكليزيته
يظهر أن وجهي بدا شاح ًبا كاألموات حتى التفت ّ
أكثر:
()6
If you are tired, Annat, we can postpone today's meetings -
()7
Don't worry, I'll be fine -
جوناثان غرين ،على الرغم من برودته التي تستفزني ،رفيقي شبه اليومي
وصديقي طيلة السنوات الثالث المنصرمة .سأحزن عليه حين يغادر قري ًبا ،وقت
ّ
المحددة هنا في السفارة. تنتهي مدة عمله
إلي .شعره كان فض ًّيا مع
حين التقينا للمرة األولى بدت قامته عمالقة بالنسبة ّ
قليل من الظالل السوداء ،فيما عيناه الزرقاوان جاحظتان مع كثير من البياض ،األمر
الذي يجعل نظراته أشبه بمشاريع لالنقضاض على فريسة.
اليوم أضحى شعر جوناثان أبيض تمامًا دون أي ظالل.
في اليوم التالي للقائنا األول دعاني ،بعد انتهاء العمل ،لنتناول العشاء معًا ،ومن ثم
كأسا من التيكيال .قال ،محاولًا إغرائي ،إنه سيجعلني أشربها على الطريقة
لنشرب ً
94
حراس الهواء
ّ
المكسيكيةُ ،
فألمّه أصول التينية من بلدة صغيرة على خليج المكسيك ،وهو يحمل
جينات جنوبية في دمه أكثر بكثير من تلك األميركية الشمالية .على الرغم من
عدم اقتناعي بتلك الكذبة ،قبلت الدعوة يومذاك .كان خوليو يمأل المكان بأغنيته
الشهيرة ، When I Need Youوأنا ّ
أحس بارتباك كبير لم أعهده قبلًا! طلبنا طبقين
من الدجاج مع شرائح البصل والفليفلة والفطر ،على الطريقة المكسيكية طبعًا.
وكان علي ،نزولًا عند أمر جون ،أن أفرغ كأس التيكيال الصغير في فمي ،كما فعل هو
تمامًا ،ثم أرشف بعده مباشرة شريحة الليمون المضمّخة بالملح ،والموضوعة فوق
ّ
ملتذة بمرارتها الالذعة! الكأس كغطاء ،وأمضغ قشرتها
ذاك السائل الناري الذي حرق جوفي بالكامل خالل مسيرته إلى معدتي جعل
جوناثان غرين ،الضخم كعمالق وذا العيون الزجاجية الجاحظة ،صديقي منذ تلك
ّ
الشكاكة تحاملت على نفسي ،مجاهدة أن أبتسم، اللحظة وحتى اليوم .ألريح تحديقاته
مجاهدة أن أستقيم مسندة ساعدي على المكتب ،استعدادًا الستقبال السوداني .ال
أبتغي أن تجتاحني عقدة الذنب اآلن ،ال أريد أن أشعر بها تجاه ِّ
كل أولئك المنتظرين
ً
بعيدا عن المكتب ،ورشفت ّ
السخانة بقدمي خارجً ا والذين هم بحاجة لي .دفعت
قليلًا من القهوة اللزجة الباردة من فنجان جون.
بدلًا من دخول شاب جسيم بعيون جريئة ،كما تخيلت سالفا كواجيُ ،ش َّق الباب
قليلًا ،وامتد منه رأس صغير أسود .لم يكن ي ّتضح من الكتلة المستديرة القاتمة إال
بريق عينين وديعتين وآسرتين ،يمور الندى داخلهما كنجوم محتشدة .كان سالفا
يتفحصنا واألثاث المحيط بريبة وهلع ،كأنه يدخل
َّ يدور بعينيه في فضاء الغرفة،
غرفة إعدامه .انتظرنا لحظات حتى سبر الشاب كامل التفاصيل البسيطة ،ثم دلف
التفر َس المحموم في ِّ
كل ما حوله. ُّ بتردد وصمت إلينا ،وعيناه ما تزاالن تتابعان
هنيهات..
ساترا وسطه
ً ً
مباعدا ساقيه، ثم بدا أن مالمحه أخذت باالنبساط .وقف في الوسط
بكفيه كالعب كرة قدم سيصدُّ للتو ضربة على مرماه.
()8
So.. Your name is Salva Quajee -
ابتسم جون مشجِّ عًا.
هزَّ الشاب رأسه .كانت وجنتاه فسيحتين تشغالن معظم مساحة وجهه .حلق
عرفته بعربية فصحى إلى جوناثان ،المدير الكندي الذي سيكون
لحيته بعنايةَّ .
95
روزا ياسين حسن
أحد مقرري مصير لجوئه ،ودعوته للجلوس على كرسي معدني بجلسة جلدية
أرجوانية قبالة المكتب.
ّ َّ
اطمأن سالفا ،استرخت مالمحه ،وهمّ بالجلوس .فجأة لمحت عيناه السخانة
الكهربائية الصغيرة جانب المكتب التي سبق أن أبعدتها بقدمي .انتفض ً
واقفا بشكل
مباغت ،وهو يشير برعب إليها ،ثم انطلق هاربًا خارج الغرفة كالممسوس وهو يهمهم
بكلمات غريبة.
إلي ،بل صاع ًقا .لك َّنه لدى جون لم يبد كذلكَّ .
طوح الموقف كان مفاج ًئا بالنسبة ّ
برأسه أسيانًا ،ثم طلب من الحاجبة أن تقدم لسالفا شي ًئا يشربه في الخارج ،لربما
َّ
هدأ ذلك من أعصابه .ثم صاح بعرب ِّية مضحكة:
-اللي بعدو.
مقربًا رأسه مني:
أما لي فقد همس ِّ
They tortured him with an electric heater, similar to this one… -
()9
!Look
وبسط أمامي صورة فوتوغرافية كبيرة لجذع سالفا األسود َّ
الل َّماع وقد شعّت عليه دائرة
قرمزية مائلة للبني وسمت كامل بطنه الضامر ،ونفرت قليلًا منه .كانت تبدو دقيقة
الخطوط كأنها رسمت بيد فنان! ًإذا هو الحرق الذي لمحت طرفه حين وصلت.
اجتاحني شعور الغثيان َّ
أشد مما كان .غدت الغرفة أضيق من قبر يضغط على
تحول إلى غرفة للتعذيب! ليس غري ًبا أن أفكر بالموت منذ الصباحصدري .العالم َّ
َّ
ووضعي هذا أسوأ منه! والعار يجعلني أتجلل به ألنِّي أخوض في الموت ،وأنا أكتنف
في أحشائي َّ
كل الجمال.
تعرض له طالب اللجوء! ّ
كل التقارير الطبية تبيّن دومًا التبعات الجسدية لما َّ
تحولت إلى التبعات الجسدية فحسب ،وربما التبعات النفسية الواضحة ،أي التي َّ
ثمة الكثير من طالبي اللجوء ش ِّوهوا ،م ُِّزقت
لكن َّ َّ
مشخصة جل َّيةْ ، أمراض عصبية
دواخلهم وعطبت أرواحهم ،دون أن تكون هناك عالمات على أجسادهم .كم كانت
فرصة أولئك أقل! ذلك أن َّ َ
كل ما يقولونه كان يوضع في زاوية التشكيك!
96
حراس الهواء
ّ
97
زكي بيضون
قصائد
رحيل السماء
98
قصائد
بائع الموت
طبق
أقدمـه غري ًبا من اللحظات الهاربة والهمسات المختنقة على ٍ أنا بائع الموتّ ،
من ْ
أن أملك وجهًا، أن َّ
أتكلم ،متواض ٌع أكثر ْ من ْ
من رخام .أنا بائع الموت ،صريحٌ أكثر ْ
اب عجوز. ً
فكرة ما تشبه الصمت النعس في رأس ب ّو ٍ أمارس
وحده الموت ال يكذبّ ،
ألن الزمن ليس سوى غفلة إله ال يجرؤ على االستيقاظ.
صوت البداية
ٌ
بحيرة من الرياح تلفح وجه العالم .وجهي ،ستار الجهة األخرى المنكشف وجهي،
فقط عند نافذة العينين .وجهي قناع األبدية ،صرختي الصامتة التي ستعبر أشد
دقيق من الضوء.
ٍ شعاع
ٍ العواصف صخ ًبا وجنونًا بصالبة
على القمّ ة ،هو الصمت وحده يسمعه العالم ...صوت البداية.
99
زكي بيضون
قرر اإلمبراطور األكبر أن يصل إلى حا َّفة الوجود ويبلغ نهاية الكون ،لذا جهَّز
ّ
جيوشه وانطلق على بركة اهلل.
ومجرات وثقوبًا سوداء.
َّ عبر جبالًا ووُ ديانًا وبالدًا وأفكا ًرا ،عبر سماوات وعوالم
كل شيء حتى بدا له كأ َّنه عبر العبور نفسه ،إلى أن وصل في النهاية إلى عبر َّ
حائط أسود وعظيم االمتداد .حاول اختراق الحائط بقنابله الذرية والهيدروجينية
ولم ينجح ،فعلى ما يبدو كان ذلك الحائط أصلب ما في الوجود باعتبار ّأنه ال شيء
جرد امبراطورنا العظيم حملة أخرى للبحث عن نهاية هذا الحائط.
خلفه .لذا فقد َّ
بعد سنوات فوجئ بأن تلك النهاية لم تكن سوى بداية حائط آخر .هكذا ولقرون
ً
حائطا اال ليبدأ آخر. الصماء ،ولم يكن ينهي
َّ طويلة َّ
ظل إمبراطورنا يصطدم بالحيطان
إال أنه في النهاية ،في نهاية النهاية وصل ولفرط دهشته إلى آخر ما كان يمكن أن
بوابة صغيرة يتوقعه في سعيه اإلمبراطوري العظيم .وجد نفسه وجهًا لوجه أمام َّ
من خشب السنديان ،وقف أمامها مذهولًا وتوقفت وراءه جيوشه الكون َّية .شي ًئا
فشي ًئا بدأت حيرة وفراغ الموقف تبدد ،عندها تل َّبست اإلمبراطور العظيم روح لطيفة،
البوابة برفق ،ثم همس« :من هناك؟»
تقدم وطرق َّ فخلع عنه هيبته اإلمبراطور َّيةّ ،
مما وراء الصمت« :نحن الحمقى الذين من األبد وإلى األبد
آت َّ ٌ
صوت عميق ٍ فأجابه
لن نخرج من هذه الغرفة».
خيانة
100
قصائد
الصالة
حينما أمشي أحاول أن أحاكي األفق ،ألن ال شيء أصغر من هذه اللحظة.
الخالق العجوز يطبخ جريمته على مهل .نافذة عمياء ال تنفك تقذف أمامها بفجاجة
فكرة هذا العالم.
ً
جيدا :األبد َّية طبخة ال تصلح إال على نار خفيفة. هذا ما يعرفه الكهنة
الصالة والصبر ،زاد المؤمنين.
طوبى للسماء ،ذلك العصفور األزرق الهائل والشامل ينطلق بال نهاية ،أف ًقا
جامحً ا تغيب فيه األمكنة.
طوبى للصمت ،كائن خجول ال ينفك يفسح الكالم لغيره.
طوبى للعالَم ،رجل ساذج بلغت به الحماقة أن سجن نفسه داخل نفسه.
لحقيقة ال تملك وجهًا ،ذلك الثقب الوحيد على هامش األرق ،رنين
ٍ طوبى
القلق ،عواء الوقت المستوحد.
ليس القمر الجريح ما يقلق الليل ،بل هو األلم الذي يستريح.
حينما أمشي أحاول أن أحاكي األفق ،ألن َّ
اللحظات المغتربة ليست سوى لهجة
ً
متنكرة ،وما األفق إال حافة النظر المتعب. القدر
«كوجيتو» شخصي
أخيرا ،وبعد اثنين وعشرين عامًا من االستغفال ،صرت أعرف ما أنا :أنا تلفزيون
ً
مشوشة.
َّ بحث ال تشبع عن قناة غير
ٍ ّ
معطل ...وحياتي عمل َّية
تجرها األزهار
عربة كسولة ُّ
101
زكي بيضون
كعربة كسولة
ٍ أمشي ،أبني قرى دافئة لنمالتي ،أجمع دموع الجدران المغلقة ،وأمشي
تجرها األزهار.
ُّ
القصائد من ديوانيه «ديوان جندي عائد من حرب البكالوريا» دار االنتشار العربي ،بيروت 2001
و«ملعب من الوقت النائم» دار النهضة العربية ،بيروت 2007
102
سامر أبو هواش
تسع قصائد
الذين رحلوا
أصدقائي
ولهم عيون تلمع
وتنظر بحنان
من وراء الغيوم
نهضوا فجأة
بثيابهم الحقيقية
وخرجوا
ِّ
بكل اعتيادية
تاركين لي الحياة
ً
بقشيشا سخ ًيا
على الطاولة.
األشياء المعدنية
103
سامر أبو هواش
يجر منزلًا قال إنه يريد أن يضعه على حافة البحر ،وامرأة جميلة ُ
شاهدت رجلًا ّ
تجر وراءها شع ًبا من األطفال العرج .وكلمات تنبح ،ومستويات مختلفة من
تعرجّ ،
تجرها الخيول .شاهدت أكياس نايلون سوداء تطير في الصحراء ،وشقراء
الصمتُّ ،
بشعر طويل ترفع نهدها إلى السماء ،وتبكي .شاهدت الصديق الذي مات في نومه،
يبتسم خلف المطر .شاهدت المطر ً
أيضا .شاهدت قطارات تقتحم غرف نوم ،ومرايا
صبي بالشورت يقفز ،ليلمس
ٌّ ّ
تتحطم وحدها .وكان براقة تحطمها النظرات .ونظرات
ّ
المستمر
ّ ّ
بالكز فراشة يحسبها غيمة .وكان عجائز سود يتدربون على «الراب»،
على أسنانهم .وكان فالسفة يحاولون ً
عبثا تفسير جوز الهند .شاهدت طي ًنا ينصب
ّ
تتقدم نحوي مادة ذراعيها، خيمة ،ووحلًا يحفر سراديب سرية .شاهدت الستينات
جدتيوعلى كتفيها غرابان أسودان .شاهدت السعادة عارية تقفز بالحبل .شاهدت َّ
ً
ورقية ً
طائرة تسبح في كأس .شاهدت أبي ينمو على جدار .شاهدت التسعينات
تذوب في ضباب.
فوتوشوب
بيدين من «فوتوشوب» أعلى المخيلة أحاول إصالح وجه عجوز عابر في المركز
التجاريّ ،
مفك ًرا في معنى عجوز عابر ،متأملًا في الحيّز الفيزيائي للحياةّ ،
مقطعًا
منتظرا
ً شخصا،
ً ً
غرضا أو الصورة إلى مربّعات ومستطيالت ،واضعًا في ّ
كل واحد منها
أن يأتي المعنى وحده ،مر ّددًا :سيأتي ،سيأتي المعنى ،ليس عليك سوى أن تنظر،
وتنتظر .أجعل ذئ ًبا يعوي في وجه طفل خائف ،وال يهمّ ني تفسير الذئب أو الطفل أو
مهرج.
الخوف .أضع مرآة على مؤخرة حسناء تمشي ،وأرسم فيها عيني دلفين وأنف ّ
أيضا ليدي، ً
فارغا .وأحسب الدموع نوعً ا من العرق الغامض .يمكن ً أترك مكان الفم
أعرف ،البكاء :يدي مستلقية
مستلقية على جذع شجرة عجوز ،أن تبكي .أشرحّ ،
على جذع شجرة عجوز .يمكن دائ ًما استخالص شيء من لحظة م ِّيتة .يمكن تأكيد
شيء ما بكبسة زر.
104
تسع قصائد
مصالحة
105
سامر أبو هواش
من ِّ
كل الجهات
باتجاه حفرة واحدة.
ال َّ
بد من أن يخرج في النهاية بنتيجة ما
رجل مثلي
ال يتعب من تأمل الوجوه
ال ألنه يحب ذلك
لك َّنه ٌّ
سر ما
يجعله ال ّ
يكف عن تأمل الوجوه
التي يعرف
أنها
في نهاية األمر
لن تقول شي ًئا.
وحيدا مع أغنية ّ
تطل على الشاطئ ً
106
تسع قصائد
الوحيدون
107
سمر يزبك
مقطع من رواية
رائحة القرفة
108
رائحة القرفة
في الغبطة التي تحسها بتأمل تفاصيل جسدها ،أمام المرآة .ترفع ثوبها القصير ،تتأمل
وكأن ما تشاهده هو جسد امرأة أخرى .تتلمس سطح المرآة .تنتقل َّ ردفيها بفضول،
تحس بالرضا للنعومة التي تشبه سطح المرآة ُّ تمسد خدها.
بأصابعها إلى وجههاِّ ،
الصقيل .تشرع في الضحك ،تضع كفها على فمها كتلميذة خجول.
تيقنت أن مدت يدها وأطفأت النور ،تفكر ِّ
بالظل الذي ستلمحه أمام المرآة ،بعد أن َّ َّ
وجهها بقي على حاله .لكنها غرقت فجأة في العتمة ،وانتبهت إلى أن الضوء المنبعث
من غرفة زوجها ،قد اختـفى ،والباب الموارب قد أُوصد .ارتجفت.
لصا اقتحم الفيال.
مر على بالها ،هو أن ًّ
حاولت أن تتماسك .االحتمال الوحيد الذي ّ
تنفست تتلمس األمانَّ .
تيبّس الصراخ في حنجرتها ،وبحثت وسط العتمة عن الجدارَّ ،
بصعوبةّ .ف َّكرت في الوصول إلى أقرب هاتف ،أل َّنها متأكدة أن زوجها لن يستيقظ
حتى ساعة متأخرة .وإذا حدثت معجزة وفعل ،فلن يُطفئ األنوار فجأة ،عندما يسمع
وقع خطواتها.
كورت جسدها وذراعيها ،كتمت أنفاسها.
التصقت بالحائط حتى صارت جز ًءا منهَّ .
عندما انقضت دقائق ،وهي ما تزال على هذه الحال ،سطع ضوء من الغرفة ،وعادت
ً
ثانية. الهسهسات
ً
محاولة هسهسات ناعمة ،ضحكات خافتة ،وأنين ملتاع .مشت ببطء وتثاقل،
التكهن بمصدر الصوت .جسدها يرتجف بشدة .وقفت أمام مقبض الباب ،التصقت
به ،فتحته بحركة عنيفة .صارت وجهًا لوجه ،أمام ما يحدث في الغرفة التي تحولت
إلى مسرح مظلم ،تضيئه بقعة ضوء شاحبة.
َّ
حواف سكاكين حادة ،برزت على شكل ب ُهق وجهها ،وتحولت مسام جلدها إلى
حبيبات ناعمة ،من أخمص قدميها حتى مفرق شعرها المنكوش .كان زوجها العاري
ُّ
وتغضنات ألم واضحة على وجهه .ليس األلم تمامًا .هذه التعابير َّ
ممددًا على السرير،
لم تعرفها من قبل .تعيد تشكيل مالمحه .لم يكن هو نفسه ،لك َّنه زوجها ،وهناك مثل
نفق عميق وسط الضوء الباهر ،كانت ...عليا .هذا ليس حل ًما؟ هي ليست مستلقية
تنز من كابوسها .إنها عليا التي تعرفها أكثر مما تعرف
على فراشها ،وقطرات العرق ُّ
نفسها! إنها هي!
ّ
عليا التي تتلوى لصق الزوج بغنج ،وقد تصلب جسدها فجأة ،عندما لمحت س ِّيدتها،
تحدق في عينيها بثبات حاد .كانت كلتاهما تمتصان ً
خيطا حا ّدًا من النور لك َّنها بقيت َ
109
سمر يزبك
المتوهج ،استقر في بياض عينيهما ،واخترق مسام الجلد كحد سيف .لم تتفوه أي
منهما بحرف .وجسد الزوج الفاصل بين جسديهما ،ساكن ،مفضوح بعريه الذي ال
تعرفه .عاشت عمرها معه ،وهي تعتقد أنه بال تفاصيل .حتى إحساسها بثقل جسده
عار!
إحساسا بالثقل فقط .لكنه اآلن ٍ
ً إحساسا أنثويًّا بوزن رجل .كان
ً فوقها ،لم يكن
متهالك ،ينظر إلى الفراغ ،ويبدو غير عابئ بما يحدث حوله .صالب يديه فوق بطنه،
وتنفس بعمق ،وكأنه يستعدُّ للغوص في محيط عميق .انزلقت عينا حنان سريعًا على
جسده .عادت للتحديق داخل عيني عليا وفي تأمل تفاصيل جسدها .األصابع التي
تعرفها ج ِّي ًدا يابسة ،شديدة الزرقة ،وعروقها الخضراء ترتجف وهي تحاول إفالت
قطعة اللحم الرخوة .ضمت حنان أصابعها ،أحست بتي ُّبسها .بدت عليا كما لو أنها
ستنطلق في سباق طويل ،منحنية ،متوثِّبة فوق السرير .لم تجرؤ على االستقامة.
شعرت أن ظهرها سينقصم إذا بقيت ثواني أخرى على هذه الحال .انحبس الهواء في
رئتيها ،وخافت أن تتنفس ،فتحدث كارثة ،وتقع جدران البيت على رأسها .وحنان
المتسرعة ،وتتنفس بصوت عال أقرب إلى حشرجة اختناق،
ِّ التي تسمع ضربات قلبها
أمسكت بطرف السرير ،وتقدمت خطوة .وفي اللحظة التي رفعت كفها في الهواء،
انزلقت عليا تحت السرير ،ومرت كسحل َّية من تحت أقدامها ،يلمع الضوء في عينيها،
تنفست قليلًا ،وهي تكاد تختنق. وتركض نحو غرفتها ،وهي تسعل بشدة ،بعد أن َّ
تتأمل حنان قبح عضو زوجها المتدلي كخرقة ،تصرخ :عليا.
لم تعرف من أين يخرج صوتها .من حلقها أم من مسام جلدها؟ أم من األثداء واألذرع
التي تطايرت فجأة في فضاء الغرفة!
أخذت ُّ
تدق بجنون ،باب غرفة الخادمة المغلق عليها من الخارج .تصرخ فيها الهثة.
وفجأة قررت أن تتماسك .توقفت أصابعها عن معالجة الباب ،وخطت نحو غرفتها،
بعد أن أصدرت بصالبة ،األمر للخادمة بالرحيل .أغلقت بابها وراءها .جلست تحاول
قررت أن تمحو عليا من حياتها نهائ ًيا،
السيطرة على لهاثها الذي يتصاعد من جديدَّ .
مدونة بقلم رصاص باهت ،جاهزة للمحو
وكأنها لم تكن يومًا هنا .ستشطبها مثل كلمة َّ
كلصة .تمضي إلى ذلك الزقاق
السريع .تسمع دبيب أقدامها في الممر ،وهي تنسحب َّ
الض ِّيق القذر الذي خرجت منه ،بين أكوام الصفيح ،وبكاء األطفال الحفاة ،األطفال
العراة الذين يلعقون مخاطهم ،ويتدلون من حاويات القمامة ،كأغصان برتقال محروق.
شعرت بارتياح َم ْن يستيقظ من كابوس ،وهي تسمع صرير باب السور الخارجي .ثم
110
رائحة القرفة
وتلصصت بخوف .تراقب خيال َّ ساد الصمت .فجأة ه َّبت إلى النافذة .أزاحت الستائر،
عليا ،وتتمنى أن يكون هذا الخيال حل ًما ً
أيضا ،مثل خط الضوء المائل .تحاول أن تفتح
النافذة بيديها المرتعشتين ،فتتحول إلى تمثال من الحجر ،وتأنف أن تصيح باسم
لوهلة َّ
فكرت بذلك ،لك َّنها تراجعت عن قرارها في اللحظة ٍ عليا ،وتطلب منها العودة.
ً
ثانية بقسوة حتى طقطقت عظامها ،وتأكدت أنها كائن من لحم ودم. نفسها .ضغطت
بقيت تراقب خيال عليا في الفجر األزرق ،وتذهب بعينيها إلى البعيد ،حيث الحت
أسراب من الطيور الغريبة ،وكأنها تودع الصغيرة المتعثرة في مشيتها .عندما اختفى
واندست في فراشها ،وهي تتشمم رائحة شراشف
َّ خيال عليا ،أغلقت الستائر،
الليلة الماضية ،رائحة القرفة.
***
إنه خط الضوء المائل! الضوء الذي سيجعل لياليها تغرق في العتمة ،بعد أن نسيت
َّ
انسلت من الطابق العلوي ،إلى غرفة الس ِّيد. إقفال باب غرفة الس ِّيدة ،عندما
في الوقت الذي كانت فيه حنان الهاشمي تنزل الدرج ،كانت عليا ترتجف من
أخيرا .توقفت عن الحركة،
ً الخوفَّ .
فكرت أن س ِّيدتها لحقت بها ،وستكشف أمرها
تنتظر أن ينفتح الباب ،وتلمح الظل الذي يتحرك وراءه .تي َّبست يدها ،وأرخت ثقلها
من فوق جسد الس ِّيد ،تهاوت بجواره .لم تستطع فك أصابعها المتشنجة حول شيئه.
ِّ
تفكر في القفز من النافذة ،أو االختباء تحت السرير ،لك ّنها لم تق َو على الحركة،
كأنها في حلم .كان خط الضوء هو الحقيقة التي جعلتها تمرق كسحلية من تحت
أقدام حنان الهاشمي.
تستغرب كيف طارت من سرير السيد إلى غرفتها .وفي اللحظة التي ارتطم
رأسها باألرض ،ظ َّنت أنها في كابوس تهوي فيه نحو حفرة ال قرار لها .لكن صوت
األقدام الذي يقترب من غرفتها ،جعلها تتأكد أن ما يحدث أمر واقع .وعندما أخذت
السيدة ُّ
تدق بعنف على الباب المقفل بإحكام ،أفاقت وعرفت أن وقت اللعب انتهى.
كانت تعرف أن س ِّيدتها تريد أن ِّ
تمزقها بأسنانها ،ألن صوت اصطكاك أسنانها كان
مسموعً ا كصرير باب عتيق .تنشج مثل طفلة ،تصرخ وتصفها بالمتس ِّولة القبيحة
ذات البثور السوداء.
111
سمر يزبك
قبل أن ترتدي ثوب النوم ،وتمضي من غرفة سيدتها إلى غرفتها ،كما طلبت منها
سر َّية ُتحوّل جسدها إلى كتلة من االرتعاشات
حنان الهاشمي ،كانت تشعر بغبطة ِّ
َّ
تتذكر كيف كانت عينا حنان تفوران بالرضى والحب. اللذيذة ،وهي
كيف تصفها اآلن ،بالمتس ِّولة القبيحة؟ كيف تحولت العينان الجميلتان إلى حريق؟
أخذت شفتاها ترتجفان ،وهي تجمع ثيابها ،بينما تهب من أطرافها رائحة برد غريب.
تنز قطرات العرق المالحة فوق الجلد،
عز الصيف الحارق ،عندما ُّ البرد غريب في ِّ
المشوش ،لحكايات الموت
َّ فينتفض جسد عليا بإحساس جليدي عن صور في ذهنها
بردًا ،وسط شارع خا ٍو ورصيف قذر .لذلك كانت تقضي نهاراتها تحلم بالليل الذي
سيح ِّولها إلى ملكةِّ .
تفكر بالتفاصيل ،تفاصيل الليل الذي تحبه ،وتنتظره .الليل الذي
تطلبها فيه س ِّيدتها بعد عودتها من إحدى سهراتها ،ليل التواطؤ القادر على مالمسة
شغاف قلبها.
تمسك صولجانها في النصف األول من الليل .تتحسس تاج سيادتها الالمرئي ،تغفو
مرة أخرى ،جاهزة الستدعاء الس ِّيدة .في
قليلًا ،وعندما تصحو تتناوم في سريرهاّ ،
َّ
تتسلل إلى غرفة س ِّيدها .تنام قربه عارية ،تعبث بلحمه المترهل. النصف الثاني،
ثم تغادره إلى غرفتها ،ال يتأفف من عبثها بجسده ،حين ال تفلح في جعله يستعيد
ً
بعضا من رجولته ،وهو ما لم يكن يعنيها في شيء ،ألنها ِّ
تفضل االستلقاء بحضنه،
مرة تفعل ذلك ،وقبل طلوع الفجر بقليل، واإلصغاء إلى أنفاسه المحروقة ...في ِّ
كل ّ
تعود إلى غرفتها .تستحم ،وتنام كقتيلة ،فهي تعرف أن النهار قادم ،وستخلع عنها
رداء السحر ،وتعود إلى تلقي األوامر .لم تدرك أن َّ
خط الضوء المائل الذي نسيته في
غفلة ،سيح ِّول مملكتها إلى خراب ،رغم أن عرشها ذاك ،لم يكن يحتاج إلى الكثير
من المهارة ،بعد أن َّ
تعلمت فنون الحياة ،وكيف تستطيع أن تكون األقوى في السرير.
التفكير بمرور س ِّيدتها الخاطف آخر الليل ،إلى غرفة الطابق
ُ وغاب عن خيالها،
السفلي ،بعد أن تركتها تعوم في نومها.
اللحظة التي نظرت فيها الشرر بعيني سيدتها ،قذفت بها إلى ذكريات خوف
استعادته تمامًا ،الخوف من شيء مجهول لم تعرف كنهه يومًا ،مع أن طعم الخوف
وهش ًة
َّ ً
رقيقة ً
غشاوة ً
غشاوة كانت تفصلها عنه، لكن
سكن قلبها منذ زمن بعيدَّ ،
كل التجارب التي ستعيشها في سنواتها القادمة .فهي محفورة ً
صالبة ُّ لن تزيدها
حتى أعمق نقطة في قلبها .ولم تستطع السنوات التي ابتعدت فيها عن عالم الطفولة،
112
رائحة القرفة
أن تمحو من عينيها ذلك االرتجاف القلق ،والتشنُّجات الحادة في وجهها ،التشنُّجات
التي وجدتها حنان الهاشمي مصدر جاذبيتها ،وهي نفسها التشنُّجات التي عادت
في لحظات ،إلى تشنُّجات رعب ،تتحرك عضالت وجهها بشراسة ...خدها األيمن
تعض األسنان
يعلو ،فيهبط الخد األيسر ،وتنفرج شفتاها عن أسنان صغيرة ،ثم ُّ
الشفتين ،وترتجف العينان ،وهي تحاول منع دموعها من التدفق ،فتختنق بها.
في ذلك الزمن الخاطف الطويل كمئة عام ،وهي تهرب إلى غرفتها ،تذكر كيف
اختفى الضوء من عينيها ،وكيف هربت بعريها من غرفة العجوز ،وشعرت بسقوط
في الهاوية ،فأقفلت الباب ،وألقت بنفسها على البالط ،وأجهشت ببكاء أوقفه صوت
حنان الهاشمي ،يأمرها بالرحيل.
تفكر لو أنها خرجت من غرفتها ،ورمت بنفسها في حضن س ِّيدتها ،فإنهاكانت ِّ
ستقلب السحر على الساحر ،وستجعل قلبها ُّ
يرق .فالليل ما يزال ليلًا ،والنهار لن
يطلع عما قريب ،وما تزال هي الملكة الوحيدة .وعندما يطلع النهار ،وتتحول إلى
خادمة من جديد ،سيكون لها شأن آخرَّ .
فكرت أنها تستطيع أن تفعل ذلك لثقتها
بسحر الليل ،لكن الشراسة التي رأتها في عيني س ِّيدتها منعتها ،فحملت حقيبتها
تنظر إلى الخلف .ولم تنتبه وهي تغادر ،أن حنان
َ َّ
وانسلت من الفيال ،دون أن بهدوء،
الهاشمي لم تزل واقفة وراء النافذة.
113
الخصار
ّ عبد الرحيم
قصيدة
األمازيغي
114
األمازيغي
ُّ
كل الكتب تروي دائ ًما عكس الحكاية
غير أني حين أنظر إلى وجه جدتي
كأنما أنظر إلى وجه امرأة من الهنود الحمر
قالت لي فيما مضى :أنت حفيد الجبال
فاتجهت إلى الجنوب ،كما يتجه أركيولوجي إلى صحراء بال خريطة
والعرافين والرعاة والحكماء
ّ سألت الشيوخ
سألت مطاريد الليل ،والباحثين عن الدفائن ،وحفاري اآلبار
تقفيت آثار الساللة في السفوح ،وعلى مقربة من األفالج
في منعرجات القرى ومشاعاتها ،في الكهوف والمداشر والمغارات
لم أسمع سوى رجع صوتي كهدير ركام من الثلج ينهار
خبّرتني عجوز تتكئ على عكازة ومئة عام وأكثر
أن جدي كان ّ
حطابًا ،لذلك حمل فأسه قبل الرحيل
وفي حمأة الغضب أسقط شجرة العائلة.
115
الخصار
ّ عبد الرحيم
116
األمازيغي
ً
صورة على جدار غرفتي والذي ال أملك له
فقط أتخيله شبيها برجال األساطير
بصولجان من عاج الفيلة ،وتاج من الريش والذهب
مرة في منامي بعمامة رجل كردي رأيته ّ
ٌ
كثيرة تربطني باألكراد ربما أشيا ُء
غير أني أتنفس هواء هاته البالد كما يحلو لي
وأدب كسائر الخلق في المنحدرات
ُّ
لك ّنها رغبة الماء في أن يعرف نبعه
قبل أن يجرفه الشالل
َ
ألتفت إلى الوراء رغبتي أنا في أن
كي أجلو وجهتي
لتبدو واضحة مثل صورتي في المرآة
من ديوان «أنظر وأكتفي بالنظر» ،دار الحرف للنشر ،الرباط 2008
117
عبد الرزاق بوكبة
مقاطع من رواية
جلدة الظل
١
118
جلدة الظل
ـ كذلك القرية ،أيها العاقل فالح ،تبقى ببقاء أهلها ،وتزول بانفراطهم عنها ،كح َّبات
السبحة هذه ،وعليه ...أقترح أن نجمع الفتيان ،فنحملَهم على أن يقسموا ،على
جدهم األول حسن بن جحيش ،أال يغادروا القرية ،حتى يدفنوا فيها. مصحف ِّ
واصل العاقل فالح ،بعد أن ّ
تلقى إشارة مدسوسة ،من العاقل حلفانة :يجب أال ننسى ،أن
ْ
ماعيه، أهل قرية أعلى الجبل ،كبروا وهم يعتقدون أن قبر جدتهم األولى واشية بنت
موجود في أوالد جحيشُ ،
وخل ِّو القرية من أبنائها ،فرصة لهم ،ليستولوا عليها.
تنحنح العاقل عصمان :قولوا هذا الكالم للفتيان ،أما نحن...
متعثرا في برنسه ،وانصرف دون أن يكمل جملته. ّ قام
٢
يتخلف فتى واحد ،من فتيان أوالد جحيش ،عن موعد العقالء ،تحت شجرة َّ لم
الخروب العليا ،لك َّنهم جاؤوا ،وهم ال يدرون أن الجماعة ،إنما دعتهم ،ليقسموا أال
ُّ
يغادروا القرية ،حتى يموتوا فيها .لذلك فقد كثرت الهمهمات بينهم ،عندما واجههم
العاقل حلفانة بذلك ،حتى إن بعضهم ،بيّت أال يُغضب الراعي ،وال يُج ّوع الذيب،
فيقس َم من غير أن يعقد الن َّية ،لكنهم تفاجأوا ،بأن القسم يكون على المصحف الذي
كتبه جدهم األول ،حسن بن جحيش قبل قرون ،فصحّ حوا الن َّيات ،لقد كبروا على
لعب ،مع مصحف الشيخ العزيز. ْ
أن ال َ
غير أن فرحة العقالء بهذا اإلنجاز ،لم تكن كاملة :الفتى ذياب ...تعمّ د أن يكون
ً
رافضا أن يقسم. األخير في الصف ،وضع يده على المصحف ،ثم سحبها، َ
٣
مات أبوه في إحدى الهجمات التي ش َّنتها قبيلة أعلى الجبل ،في ليلة ثلجية على
أوالد جحيش ،وقد ولد في اليوم نفسه الذي دفن فيه أبوه.
َّ
يتقدم منها. شيخا شديد بياض الشعر ِّ
واللحية والفرس، ً رأت أمه في المنام،
ً
هاربة من الشيخ أصيبت بالخوف على رضيعها ،وعلى نفسها ،فراحت تركض،
119
عبد الرزاق بوكبة
َ
يلحق بها ،إذ كانت تجري ،وذياب الغريب ،الذي َّ
حث فرسه ،على أن تسرع حتى
يهتز بين ذراعيها ،ويبكي.
-تو َّقفي يا مخلوقة ،تو َّقفي يا أ ّم ذياب.
زاد منسوب خوفها ودهشتها ،ألن الشيخ الذي لم تعرفه ،عرفها ورضي َعها الذي
ولد عشيّة اليوم فقط.
ظنته هو الموت جاء ليأخذه منها ،إذ كانت تسمع أن الموت بلون الكفن ،وعندما
لم تتوقف مثلما طلب منها ،أمر فرسه ،فطارت في السماء ،حتى سبقتها ،ثم هبطت
طائرا به ً
بعيدا في األعالي، ً مباشرة أمامهاَّ .
مد الشيخ يده إلى حِ ضنها ،وخطف الصبي،
الخروب العليا ،وإذا بالشجرة
ُّ بينما بقيت هي تنوح ،وتضرب رأسها إلى جذع شجرة
ِّ
تكلمها :ال تخافي يا أم ذياب ..فإن هذا الشيخ هو س ِّيدك حسن بن جحيش ،وقد أخذ
َّ
يشق رأسه ،ويضع أحسه أكثر أحفاده شبها به ،وسيعيده إليك ،بعد أن
ابنك ،ألنه ّ
مخه ،فيصبح َّ
بمخين. فيه َّ
فلما صحت في الصباح ،تف َّقدت رضيعها ،فوجدت رأسه قد أصبح أضخ َم مما كان
َّ
الرجيم ،وطلبت سي سالم رحمه اهللعليه ،فاستعاذت باهلل العظيم ،من الشيطان َّ
وقصت عليه منامها ،فقرأ
الخروب العلياَّ ،
ُّ معلم القرآن العظيم ،من تحت شجرة ِّ
تقص األمر ،حتى
مصها ،ثم عصرها في فم الصغير ،طالبا منها أال َّ
الفاتحة على تمرة َّ
على نفسها ،وإال فإنه سيصاب بسوء.
ً
منفوخا بالغضب: صاح كبير العقالء
-كيف ترفض أن تقسم على مصحف سيدك بن جحيش ،أال تغادر القرية ،مثلما
أقسم الجميع؟
انكمش ذياب في صمت كبير ،جاءه من صراع في رأسه ،بين َّ
مخيه ،إذ كان ُّ
كل
مخ يحاول أن يجيب عن السؤال.
المخُّ الكبير ِّ
للمخ الصغير :األرض ملك اهلل ،ونحن عباده ،ولنا حق فيما يملك ،بل
لذلك خلقنا ،فلماذا نحرم أنفسنا ،من أماكنَ أخرى ،يُتاح لنا أن نقيم فيها؟ ،الوطن
كل مكان نذهب التراب الذي نولد عليه ،بل هو ذاكرة التراب التي ترافقنا ،إلى ِّ
َ ليس
نفوسا جديدة ،عقولًا جديدة ،جبالًا جديدة ،وحين
ً إليه ،نعرف وجو ًها جديدة،
نحنّ ،نجلس في زاوية من زوايا َّ
الليل ،ونبكي في صمت لذيذ.
صاح كبير العقالء بغضب أكبر:
120
جلدة الظل
٤
121
عبد الرزاق بوكبة
122
عبد العزيز الراشدي
فصل من رواية
123
عبد العزيز الراشدي
السرعة؟ ثم أجمعوا ،حين زاغت االحتماالت ،على قوة الصدمة ،إذ اهتز لها ُّ
كل النيام
واختلط صداها بأحالم بعضهم .
ً
لقد وجد الحكاؤون األمر تسلية يقضون بها سحابة األيام التي ال تمنح جديدا .فهاهم
يتف َّ ّننون في إطالق التفسيرات :فقائل :إن بعض السائحين من النصارى * جاؤوا إلى
مرة أخرى
المكان فأصيبوا في الحادثة ثم عادوا إلى بلدهم وهم ،الشك ،سيؤوبون ّ
ِّ
ويؤكد أن النصارى ال يأبهون للمال والحديد ،وأن السترداد الس َّيارة .وآخر يقاطعه،
وقت ُنضجه ،لم
عودتهم محال .وقائل :هم لصوص جاؤوا يبتغون محصول التمر في ِ
يفقهوا سر المكان ،ولم يطلبوا ال ّتسليم ألهله ،فأصابتهم لعنة من تَ َخ ّفى من رجال البالد.
أفاض الناس في الحديث واألسئلة :من أين جاء الغرباء؟ ما قصدهم وما قصتهم؟
ألمت بهم الدهشة وهم ينفذون إلى سكون المكان؟ أم ع ّو ضت الصدمة هل َّ
دهشتهم؟ لـ َم َّ
ولوا األدبار تاركين س َّيارة غالية؟ مم كانوا يخافون؟ هل لصوصًا
وتوسلوا الفرار؟ أم
َّ كانوا؟ وهل من زعيم لهم؟ هل ْلملَموا جراحهم ،وقت االصطدام،
أن الصدمة من تدبيرهم لصرف األنظار؟ فلربما كانوا يرغبون في إخفاء شيء ما؟
لقد أفاض القرويون في األسئلة َطوال الوقت وفي ِّ
كل األمكنة ،ممضين سحائب
أيامهم في الثرثرة والخصام :في الحقول اليابسة منذ زمن ،حين يعمدون إلى
ربط الحمير إلى النُّخيالت الصغيرة ،مقرفصين كيفما اتفق ،أو مستلقين يسخن
بينهم الجدل .وأحيانا ،يتد ُّلون بأقدامهم فوق الساقية الطينية ،ويسترسلون.
متنقلين من موضوع إلى آخر :من قلة الماء التي تعذبّهم وتجعلهم يحدقون في ِّ
كل
األنحاء بشرود ،إلى غواية السفر والنساء .وقرب المسجد ،أمام الصومعة العالية
كل صالة يقتعدون الثرى. اإلسمنتية ،التي ال تتوافق مع المسجد الطينيُ ،د ب َُر ِّ
في أحيان أخرى ،حين يجنّ الليل ،يهرع البعض منهم ،من هواة السهر،
يفسرون الحادثة حسب
ِّ إلى الحانوت الوحيد ليكملوا كالمهم ويتحاجّ وا.
اعتقادهم ،تختلط تفاصيلها بأشجانهم ،ويركب بعضهم الشجاعة واالهتمام
وهو يتوغل ،فيومئ لعالقة مبهمة بالغرباء .وفي المطابخِّ ،
تقلب النساء الجمر
ضاجة بالدهشة ،وأصوات اختالفهن تتعالى فتطفئها الريح. َّ واالحتماالت ،عيونهن
تكلم «المحجوب» ،الوافد الجديد على ها قد تنافس الناس في تفسير الحادثة .ثم َّ ّ
القرية من الصحراء ،الساكن الذي لم يندمج ُ
بعد تماما مع إيقاع حياتهم ،المنبوذ،
فاستفاق الناس على الدهشة القصوى ،وتعجبوا كيف نَ ُسوا االحتمال األقرب .ثم
124
بدو على الحافة
125
عبد العزيز الراشدي
ِِّ
ليعدل المزاج فلم يصغوا ،فقرر المغامرة :ترك الس َّيارة النشوة ،طلب منهم التوقف
َّ
استل َّ
اطمأن للمسار السلس في فراغ الطريق الجنوبي المتواطئ، تقودهم بعد أن
ُ
نشوة الحشيش وضو ُء الوقيد قطعة الحشيش من جيبه ،وبدأ في حرقها ،غ َّيمت
الصو َر أمامه ،تناطحت أمام عينيه العوالم واألحالم ،فبدأت الس َّيارة تلعب مع الريح.
لم يكونوا لصوصً ا ،وال مرضى ببرد العظام جاؤوا إلى رمل الواحة التي ُتشفي .ولم
يكونوا مستكشفين كما أشاع البعض َّ
وقدر .هل تخبئ هذه الواحة جديدا غير
يباسها؟ كانوا عارفين بمبتغاهم ،لهم حكمتهم ورزانتهم ،يقودهم شيخ وقور حازم
مسيطر َّ
يتكلم باقتصاد.
لقد توقفوا ،حسب ما حكى «المحجوب» ،في محطات كثيرة ،قبل الوصول إلى
القرية ،تهامسوا في ما بينهمِّ ،
مدققين في الخرائط التي يعرفون ج ِّي ًدا كيف يقرؤونها،
مدركين بحصافتهم عناء الوصول إلى المبتغى ،وقد رجّ ح ،أن يكونوا سافروا بذاكراتهم
موسم أو
ٍ إلى حدود أزمنة أخرى ،إلى قبة قديمة لولي بركاته ال ُتحصى أو موعِ دِ
زاوية أو سوق شعبي اجتمعوا فيه على عجل ليتهامسوا حول المراد .إلى ٍ مكان
لصص، هناك حيث تقام النذور لألولياء وتقام األضاحي .إلى الكتب القديمة ،حيث ال ّت ّ
و ُدربتهم في إقناع الباعة من لصوص الذخائر والجلود القديمة.يدفعون الكثير للظفر
متحرقين
ِّ العرافات والنسوة الخوّافات، باألكثر .لقد َّ
تكلموا ،ال شك ،بخفوت كما تفعل ّ
شوقًا إلى امتالك الخرائط التي تفضي .زادهم صبر قليل ولهفة ُتحرق الدواخل .يا
الحر أو
ِّ ُّ
يفتضون المسافات في الليالي المظلمة ،وسط ل َ َت َع ِب ِهم اللذيذ المُ رعش وهم
تمرسوا بالحديث مع الجميع بحميميةِ بحثا عن الخرائط التي ُتنجي! غربا ٌء ّ
القرً ،
ِّ
الكذاب ،شارحين ما ليس قصدهم ليم ِّوهوا السبل ويتيه الفضولي ،يعرفون ج ِّيدا َّ
كل
التفاصيل .يعرفون أين يضعون الخطى .حكى َّ
كل شيء عنهم .من لون الثياب حتى
المسرة ،يَحِ نُّون
َّ األطعمة التي يح ُّبون :الدرهم حبيبهم .القدور القديمة تجلب لهم
إلى رائحة العتاقة في اصفرارها ،غنائمها ُترعش الفؤاد.
مروا تهكموا على النيام في ِّ
كل القرى التي ُّ وقال المحجوب إن الغرباء ،دون شكَّ ،
المرة ،لبساطة المباني في قرى الصحراء.
كثيرا ،بتواطؤ خفيف هذه ّ
ً وتأسفوا
َّ منها،
كم راقهم سكون الليل الوديع ونقاء الجو .جاؤوا عازمين على االنتصار في معركتهم،
يوحدهم الشوق للمال ،ال يركبون المخاطر إال ألنها تستحق .سالحهم المعول والفأسِّ
ُّ
سيفكون األلغاز والزرع الذي ينثرون ليدلهم على مكان ال َ ْ
حفر ،و َزا ُدهم الخرائط.
126
بدو على الحافة
ُهمهم زمان أو مكان .بدا الصحراوي متأثِّ ًرا وهو يحكي عن
ويعودون غانمين ،ال ي ُّ
هؤالء الغرباء ،كما لو كان معهم ،كما لو كانت قض َّيته .والناس يعرفون تخريفه ،حين
الحسانية ،ويتغنى بعالقات نسائية غامضة ،وصداقات تفوح منها روائح
َّ ينظم األشعار
العشوب والهجر ابتلعتها الرمال .يعرفون عومه العميق في بحور االستعارة حتى يبكي،
فقد كان شاعرا .يعرفون حكاياته عن الصحراء التي يختلط الجد فيها بالهزل ،لذلك
لم يهتموا .لكنّ اإلشاعات تتسرب ،والدخان ال ينمو دون نار ،وال يملك أحد إيقاف
األسئلة .حتى ّ
إن قائد الدرك -الذي يقضي سحابة أيامه ،في لعب الورق مع الدر ِك ّي ْين
منتظرا أن يغادر يوما ّ -
فكل ً الساهرين على األمن في الواحة ،وشرب الشاي الثقيل،
يفضلون َّ
حل مشاكلهم بينهم ،ويخشون القرى الملت َّفة حول النهر هادئة ،والناس ِّ
المخزن وال يثقون به ،أغرته الحكاية ،فبعث للحاكي خفية ،حسبما أُشيع.
أشرقت شموس ،وانطفأت أخرى .ومرت أيام وليال .وبين البداية والنهاية زمن
لكن رجال الدرك لم يرفعوا الس َّيارة .ظلت هامدة ،كلوحة ،يتأملها الرائح يتمددَّ ،
ً
مشهدا يوم ًيا في القرية الجنوبية النابتة في الخالء بين الرمال والغادي .أضحت
الرتابة في أيامهم ي ِّتخذونها لعبة .هاهم يتدربون والجبال ،ثم بدأ األطفال الذين ُت ِّ
عشش َّ
على السياقة ،يركب البعض ويدفع آخرون ،متناوبين على ذلك ،مُختصمين حول
أدوارهم َّ
كل الوقت.
ثم يجتمع الرجال ـ الذين يخبّئون أوالدهم حذر ما يقول ـ أمام الجامع ،بعد إدراكهم
فداحة األمر لسن القوانين :ال خروج بعد صالة العشاء ،ومن يخرج يُعط «النصاف»
ويطعم ستة أفراد من القبيلة في بيته حسب العرف القديم الدائم .وتبدأ المراقبة
يهتمون لدم
ُّ الدورية .لألطفال طبعا نصيب من ِّ
كل حكاية ،فأصحاب الس َّيارة
األطفال أكثر ،الدم وسيلتهم في اكتشاف المبتغى .لكن نصائح اآلباء وعقوباتهم ال
ُتهم ،واألطفال يلعبون.
ِّ
متذكرين كالم الحالق بعد الغروب متوجّ سين قليلًا من ِّ
كل غريب عليه آثار السفر،
كل زائر أو غريب ،من باعة المسك والزعفران على ببعض الرعشة .يحتاطون من ِّ
الخصوص ،ممن لهم مالمح ال تطالها السمرة ،الذين أصبحوا يتذ َّمرون من كثرة التحديق
واألسئلة .والرجل يحكي في ِّ
كل وقت يوميات الغرباء الذين جاؤوا بالس َّيارة ،يحلق
رؤوس الناس ويحكي ،يُصلح النعال ويحكي دون كلل :ما يشربون ،وما يأكلون ،وما
يفعلون .دون أن يسأله أحد أين يختبئون ،كي ال يفسد متعة الحكي .تكبر صورته
127
عبد العزيز الراشدي
في القرية ويصبح حديثها ،يضحك الناس من تخريفه المعتاد ويحسده البعض على
اتِّساع المخيلة.
ثم تسير األيام بالناس ،يستيقظون ليصنعوا يومهم ،منهم من ّ
عششت الحكاية في
جره الزمن واقتاده اليومي إلى ركن قصي .وقيل إن
ذهنه ،يحكيها ويزيد ،ومنهم من َّ
ُ
عريسا نزع مرآة الس َّيارة المهملة وأهداها لعروسه .عمود الكهرباء أصلِح ،والنُّور
ً
َّ
المتكرر ،والزمان يمحو كل شيء .لكن هل يتوقف المحجوبِّ عاد مع التوقف المعتاد
عن الكالم حرفته؟ بالطبع ال ،فلطالما أكد ،أمام الجامع وقرب حانوت البقال ،بجديِّة
واحد قريب ،وأن دم طفل
ٍ قل نظيرها أن الغرباء ،من فاتحي الكنوز ،وقد جاؤوا لفتح َّ
ليتجمع
َّ خطوط يده متطابقة يلزمهم :سيذبحونه وينثرون الزرع حول مكان الدم،
َّ
الحشاش ،أصغر الغرباء ،سبب حول مكان الكنز فيحفرون .وأضاف أن السائق األرعن
الحادثة .ثم يضيف – بينه وبين نفسه هذه المرة -إن الحياة ،إن األيام ،ستفضي
إلى هؤالء المخ َّنثين من أعيان القرية ،هؤالء الذين ال يعرفون قيمة الرجال ،ستفضي
إليهم قريبا بما كانوا يجهلون.
فصل من رواية «بدو على الحافة» ،منشورات دائرة الثقافة واالعالم ،الشارقة 2006
128
عبد القادر بن علي
قصة قصيرة
كانت األمور ستسير على نحو آخر ،لو لم يذهب مع أبيه لزيارة المسلخ .لو لم
يحدث ذلك َّ
لظل مقي ًما في نفس الحي الذي يقطنه أبواه ،ولربما تزوّج من ابنة خالته،
الفتاة التي أجرت عملية ألمعائها الدقيقة ،كما أخبرته أخته ،وجاهدت عائلتها على
إبقاء ذلك األمر طي الكتمان ،خوفًا من أن تضيع على الفتاة فرص الزواج ،إذ ال أحد
يرغب بالزواج من فتاة لديها شقُّ في بدنها.
استقر
َّ كان أبوه قد جاء إلى أوروبا في الستينيات ،في البدء إلى إسبانيا ففرنسا ثم
َّ
يتذكر ،بعد ذلك ،في أية سنة جاء إلى أوروبا. في هولندا ،ولم يعد
ال تحسب كم من الوقت مضى على مجيئك ،المهم أنك موجو ٌد هنا .لقد اندثرت
بدورها أسماء المدن التي عاش فيها .إنّهم يعيشون هنا اآلن ،وليس هناك .ويعنون
بكلمة (هناك) القرية الواقعة على البحر حيث ولد أسالفه.
أبوه ،عمران ،الذي زرعه في أحشاء أمّه عند قدومه البيت في إجازة ،لم يعد
َّ
يتذكر الكثير عن تلك السنين.
لتتحول ،فيما
َّ لقد مضت بسرعة مثل فصل رتيب لم تهطل فيه ُدفقة مطر واحدة
بعد ،إلى عالمة فارقة يمكن أن تخطر في الذهن.
لم تكن لوالده هوايات إلى جانب حرفة إصالح أجهزة الراديو «الترانسستور»
يحب
ُّ العاطلة .لم يكن مغرمًا بالموسيقى .لم يكن مولعًا بالسهر خارجً ا .لم يكن
يحب النوم المتواصل .في المنزل لم تكن توجد أجهزة
ُّ معاشرة الناس .وكان ً
أيضا ال
تنبيه .كان أبوه هو من يوقظه عندما يحين الوقت.
كلما استيقظ من النوم ،وجد أباه مشغولًا بإصالح جهاز ما .لقد َّ
تعلم كان االبنَّ ،
ّ
مجددًا أكثر من األب إصالح أجهزة الراديو العاطلة بعد أن دأب على ّ
فكها وإعادتها
129
عبد القادر بن علي
مرت بين يديه أجهزة عديدة ،أصبح يعرف األدوات من األلف إلى الياء،
مرة .وبعد أن ّ
ّ
والناس يقصدونه بأجهزتهم العاطلة ،حين يصيبهم اليأس من إمكانية إصالحها ،في
محاولة لمنحها فرصة أخيرة للعودة إلى الحياة ،ومنح أبيه فرصة إلثبات عبقر َّيته.
وبالفعل كان األب ينهمك في عمله بحماس عجيب ،وكأنه يحاول إصالح شيء ما
في نفسه.
ّ
ظل يصلح راديوات اآلخرين ،مجّ انًا حتى أدرك أنّه يستطيع شراء راديوات عاطلة،
يصلحها ثمّ يبيعها.
كان دائم التجوال في أسواق بيع األغراض القديمة ،كل أسبوع ،منذ أن تفتتح
في الصباح الباكر .وحين تقترب مواقيت انتهاء العمل في تلك األسواق ،يبدأ بسؤال
الباعة إن كانوا يرغبون إعطاءه ما بحوزتهم من أجهزة راديو عاطلة ،دون مقابل.
وغال ًبا ما كان يحصل على تلك األجهزة بأثمان ال تذكر ،حيث الباعة يسعدون ً
أيضا
حين يمكنهم الخالص من أعباء تلك األجهزة.
كانت تجارة ظريفة .ربما خمسة أجهزة في الشهر ،أو نحو ذلك .هكذا سارت
األمور على ما يرام إلى أن ظهرت األجهزة الحديثة (الديجتال) في األسواق.
قال األب:
ّ
« -هذه ال تحتاج التصليح ،ألنّها لن تتعطل أبدا».
وعندها بدأ األب بتصليح راديوات لن تباع ً
أبدا.
مرة في الشهر كانت تدهمه استثارة خفيفة .عندها يسرع بشكل جنوني للخروج ّ
ٌ
من المنزل .وحين يعود يستلقي مباشرة على األريكة وعالمات اإلنهاك بادية عليه .ولم
يتحدث األب ً
أبدا ،بحضور االبن ،عن المكان الذي ذهب إليه ،بينما االبن كان يالحظ
ومستعص.
ٍ أن أباه منفعل ،وكأنه خاض غمار نقاش حاد ،في موضوع شائك فقط ّ
« -خذني معك».
قال االبن ألبيه ذات ليلة أثناء جلوسهم إلى مائدة الطعام .تظاهر األب بأنه لم يسمع،
واستمر في المضغ دون انفعال.
َّ
« -خذني معك».
مرة أخرى بصوت أقوى.
قالها االبن ّ
« -إلى أين؟» سألته أ ُّمه.
130
زيارة إلى المجزرة
131
عبد القادر بن علي
132
زيارة إلى المجزرة
الذي يتر ّدد إليه ،أو ربما سألوه متى سيجلب ابنه معه ذات ّ
مرة».
كأسا من
لم يكن لديه ردٌّ مناسب .كالعادة ،غلبته ثريّا بذكائها .عادت وهي تحمل ً
عصير التفاح.
تفسيرا مقنعًا ،لماذا ال يريد أحد اطالعي على األمر ،لماذا
ً « -رائع! إذن أعطني
يتآمر الجميع ضدي؟»
احمرت أذناه من شدة الغضب .شربت أخته شي ًئا من العصير ثم جلست.
« -ال أدري ،بالتأكيد لدينا الرغبة أن نخبرك ،إذ ال أحد يعرف بالضبط لماذا نخفي
األمر عنك».
« -لماذا ال تخبريني؟ إذا كان األمر س ِّي ًئا ،إلى الحد الذي يمنعك من الحديث عنه،
فذلك أدعى أن تطلعيني عليه».
« -ليس األمر في غاية األهمية».
وتمرر المشط من خالل شعرها.
ِّ قالت األخت ذلك وهي تهرب بنظراتها
« -األمر ليس ذا أهمية كبيرة ،ولو أخبرناك به ،سيصبح فجأة ذا أهمية كبيرة،
وبالطبع ال أحد يرغب في ركوب تلك المخاطرة .هل فهمت صوت المنطق؟»
« -كال».
« -عظيم ،هذا هو المطلوب».
مفرطا في الطول بالمقارنة مع س ّنها .في الواقع كان ّ
كل ما فيها مفرط ً كان شعرها
مرة ،بغرض بالمقارنة مع س ِّنها .وبحسب رأي ِّ
معلمتها التي زارت المنزل ،ذات ّ
إخبارهم ّ
أن الفتاة مفرطة الذكاء .المعلمة كالرا كانت معجبة ًّ
جدا بثريا.
« -حساب ،لغة هولندية ،تاريخ ،أحياء ،تربية بدنية ،ابنتكم ممتازة ،ينبغي أن
تبعثوها إلى مدرسة ج ِّيدة».
ّ
المعلمة المنزل. قال األب بعد أن غادرت
« -ذلك ما نريده بالتأكيد».
« -ماذا قلت؟»
سألته زوجته.
« -نرسلها إلى مدرسة ج ِّيدة».
« -لقد نسيت منذ زمن حكايات تلك المرأة ،هل ترغب بسماع إجابتي ،أم انك
تعرفها مسب ًقا؟»
133
عبد القادر بن علي
134
زيارة إلى المجزرة
135
عبد القادر بن علي
أن أمه قالت ذلك أل َّنها لم تكن تعلم بوجوده في المكانَّ .
تحدثت لم يدرك االبن َّ
ّ
التقدم الذي أحرزته عائلة أختها بمزيج من القلق والغيرة والغضب، كذلك عن
للتصرف دون أن
َّ وهاجت أكثر حين أظهر زوجها تف ّهما لطموحات ابنته ،مما دفعها
تشعر بوجوده معهما.
لو كانت تعلم بوجوده فلربّما كانت استخدمت نبرة صوت أكثر نعومة ،ألنّها تشعر
أن دسيستها ال ينبغي أن تصل مسامع ابنها .فرغم أنّها ذهبت عمي ًقا في قناعاتها ّ
بأن ّ
كل السبل األخرى بإحكام ،فقدالتقاليد العظيمة يمكن أن تنجد ابنتها ،إذا سُ َّدت ّ
تصرح بذلكّ ،
بأن الطريقة التي تو ُّد بها بلوغ ِّ كانت تشعر في ذات الوقت ،دون أن
مرامها ال تخلو من الوحش َّية .لم يختلف عندها إن كان قرارها بتصغير حجم ابنتها
َّ
اختلت بسبب قهر الظروف التي ناج ًما عن دفاع انفعالي أو نتيجة لطبيعة بشرية
ّ
تحيط بها ،والتي ال تستطيع فهمها أو التعايش معها .كل شيء في أمّه غريزي ،هكذا
بدا له األمر .وهذا هو سبب نسيانها لوجوده .غريزتها سبقتها.
أن تخبر الوالد عن خططها الشائنة ،كان أهمّ من تفادي وصولها إلى مسامع ابنها.
« -دعنا نبعثها إلى مدرسة التدبير المنزليّ ،
تتعلم الطبخ والخياطة وتنظيف
ّ
خاصة بالبنات .في هذه االثناء سأبذل الصحون .المدرسة قريبة ،وهي مدرسة
كل جهدي ألحصل لها على عريس مناسب .سأتك َّفل بهذا الموضوع .تو َّقف عن
التفو ق في
ُّ اطراءاتك المستمرة عليها .تو َّقف عن المديح الذي تمطرها به عن
نحم
الدراسة .ابذل ما في وسعك وساعدني كي أوجّ ه اهتمامها إلى المنزل .دعنا ِ
ابنتنا .ليس لدينا غيرها».
َّ
يتمكن من استيعاب مال رأس االبن إلى الخلف ،من ِّ
شدة الذهول لما سمع .لم
تلبسته .في تلك اللحظة أدركت
ّ جد َّية األمر من جراء تلك القوة الشيطان َّية التي
األم وجوده معهم.
« -ماذا تفعل هنا؟ يجب أن تذهب إلى الفراش .بسرعة».
بعيدا وضحكت حين رأت تقاسيم وجهه. ً دفعته عنها
« -من حسن الحظ أن ّنا لن نواجه المشكلة نفسها معك».
قالت ،فأشعره ذلك بنوع من الغبطة.
من أجل أن يجعله يدافع عن نفسه ،دفعه أبوه إلى تع ُّلم لعبة الجودو.
136
زيارة إلى المجزرة
137
عبد القادر بن علي
ّ
«ألن قطعة من اللحم تنقصني». -
« -الزيادة والنقصان موضوع نسبي».
ّ
قالت أخته بتزمّت وأثلجت كلماتها صدره .فقد بدت وكانها تعرف عمّ ا تتحدث.
كان عليه أن يصغي إليها :إنها الشخص الوحيد الذي يمكن أن يحكي لها همّ ه.
« -من قال ّأنك قليل اللحم؟»
ّ
وكأن في الغرفة األخرى انشغل الوالد بإصالح راديو .كان منك ًبا على عمله بصمت،
تلك الطريقة هي التي تسمح للتناغم الدقيق بين أصابعه وروحه.
« -الشباب الذين يتابعون الدروس معي يقولون ذلك».
« -الجودو لعبة قديمة جدا».
قالت أخته:
ّ
« -من المؤسف أنها تستقطب هذا العدد الغفير من المتابعين».
« -لقد الحظت ذلك».
قال:
« -وأين هو الموضع الذي ّ
يقل فيه اللحم؟»
ّ
وكأن أحدا ما يدغدغها. أشار الى األسفل ،فانفجرت أخته بالضحك،
ذكرا! لن أخبرك عن معضالتنا
مرة أسمع فيها ما هو الضرر في أن تكون ً
« -هذه أول ّ
تمر بنا .دعنا ال نتحدث في هذا االمر :دع هذا الباب
نحن اإلناث ،وعن اإلشكاالت التي ّ
من المعرفة مغل ًقا عليك حتى الموت ،كمثل قلعة ال تستوجب الدخول إليها ً
أبدا ،قلعة
ّ
ومقززة .وال سيما للفتيات ذات إطاللة رائعة على الروابي المحيطة ،ولك ّنها باردة
من جلدتناّ ،
بكل قيودها وتطلعاتها البعيدة عن الواقع .بالنسبة لهن تشكل القلعة
اختبا ًرا حقيق ًيا ،عندما يغادرنها ،فعندها ال يمكن لهنّ أن ينسين وجودها حتى بعد
مرور السنين الطويلةّ ،
وأن عليهنّ العودة ذات يوم».
لم يفهم تمامًا ما ترمي إليه أخته .لم يفهم أنّها اختصرت له مستقبلهما معًا .ابتسمت
واحتضنته قبل أن ينفجر بالبكاء.
« -ستصبح كل هذه األشياء ذكريات .أنت ذكر .قطعة لحم أقل أو أكثر .في نهاية
المطاف كل شيء يتحوّل إلى ما هو ّ
ضده .الفتيان يحصلون على فرصة ثانية .ربّما
المرة القادمة أن ّ
تقدم لهم مفاجأة إذا أرادوا أن يضربوك من جديد». عليك في ّ
علي أن أفعل؟»
« -ماذا ّ
138
زيارة إلى المجزرة
« -ليس أمامك سوى أن تعيد الصفعة .أن تضرب بأعنف ما يمكن .بقبضتك».
وأرته كيف يك ّور قبضته.
« -لن أجرؤ».
ّ
ستفكر بي .ستراني أمامك. « -ستجرؤ .وهل تعرف لماذا ستجرؤ؟ ألنك
وستراني أهمس لك كيف يجب أن تضرب .هكذا مباشرة .هذه ليست جودو .هذه
مالكمة .فهمت؟»
أومأ باإليجاب .سيفعل ذلك .تعانقا وقبل أن يعرف ما الخبر نسي كل شيء.
نسي أنّه يتابع درس جودوّ ،أنه يضرب أو ال يضرب ،أن يسمح له أباه بمرافقته
إلى مكان غامض تبيّن الح ًقا أنّه مجزرة .نسي كل شيء وتم ّنى أن ال تكبر أخته
أبدا .وعندما ذهب مجددًا إلى دروس الجودو وبدأ األوالد يضربونه ،ظهرت أختهً
أمامه فانهال باللكمات.
139
عبد اهلل الطايع
قصة قصيرة
َّ
الرجل الجريح
َّ
ك َّنا تناولنا إفطار رمضان منذ قرابة الساعتين .كان الوقت ليلًا ،وكان ُّ
حي السالم
الشعبي من مدينة سال انتقلوا إلى
ِّ الحي
ِّ أن َّ
سكان هذا هادئًا على غير عادته .كما لو َّ
الضفة األخرى من نهر بورقراق ،غير بعيد عن شاطئ مدينة الرباط ،عدا عائلتي .لمَّ
يعد هناك أحد في الجوار .كان لدينا انطباع بأن شي ًئا استثنائ ًيا سيحدث بين لحظة
وأخرى ،فيقلب البلد ،واألرض ومن بقي هنا .عاصفة تحمل األمل والمطر وسنة
خير ...أو القيامة :النهاية الفورية.
نوم عميق.
تغط في ٍاركةُّ ، كانت أ َ ِّمي ،مْ َب ْ
ولكن على الرغم من تعب الصيام ،فقد كانت تحرص
ْ ً
منهكا لها. شهرا
ً كان رمضان
«المسمن» الشهيرة ،وحساء «الحريرة»
َّ على أن ُت َّ
عد بمفردها ويوم ًيا الحلويات وفطائر
كثير من الطماطم وعصير َّ
الليمون. ٍ جدا مع ً
حامضا ًّ بالطبع ،الذي كانت دائ ًما تح ُّبه
ً
كانت أخواتي في ما مضى يساعدنها طواعية على جعل كل يوم من هذا الشهر المبارك
احتفالًا روح ًيا ،وأيضا فرصة للتنعم باألكل ،احتفالًا ال ينتهي .أ َّما اليوم فالمنزل فارغ.
ً
بعيدا ،إلى مدينة مكان ما،ٍ سكانها .لقد ذهب الجميع إلى ثالثة طوابق فارغة من َّ
أتعرف إليهم ولن أقبلهم ً
أبدا في الحقيقة. بلد آخر ،مع غرباء ،أناس لن َّ
أخرى ،إلى ٍ
لم يكن في المنزل سوى أ ِّمي وأخي األصغر ،مصطفى ،الذي ال نراه في معظم األحيان،
وأنا .أصبحت مباركة في أغلب األحيان تخاف من البقاء وحيدة ،كانت تردِّد من حين
سم بطيء ومؤلم .وهذا ما كان يجعلني حزي ًنا ،حزي ًنا ًّ
جدا .لم أكن آلخر أن العزلة ٌّ
أستطيع أن أتقاسم معها معاناتها بالكامل .في المقابل ،كانت تنتابني رغبة في البكاء
كلما سمعتها تتحدث بتلك الطريقة .كانت ترجوني ،كل يوم ،أال أتأخر في المدينة بعدَّ
باكرا قبل انسدال ِّ
الليل ،وأن أركب االنتهاء من دروسي في جامعة الرباط ،وأن أعود ً
140
الرجل الجريح
َّ
الباص بسرعة وأعود ألمأل الفراغ ،أكون الى جانبها ،أشاركها أمور الحياة اليومية،
ِّ
وأسليها وأدفئها ،أعيد تشكيل عائلتنا قبل حلول الظالم. وأبهجها بحضوري،
في الليل ،حين يحين وقت االنفصال من جديد ،لم تكن تريد أن أنسحب إلى
أتحرك ح َّتى تنام .النوم هو الموت.
َّ غرفتي ،كانت تريد أن َّ
أظل إلى جوارها ،وأال
ومنذ الموت المفاجئ ألبي قبل عام ،أصيبت بنوبات من الخوف والهلع .ولذا كانت
يتصدر جهاز التلفاز .هي التي كانت تقول إ َّنها
َّ َّ
تتعلق بي .تنام في الصالون حيث
تحب هذه اآللة ،انتهى بها األمر إلى أن تجد فيها رفي ًقا أل َّيامها ،آلة تصدر أصواتًا
ُّ ال
وتطمئنها ،قليلًا ،وليس دائ ًما.
منذ فترة قريبة ،وبفضل الصحن الالقط ،الذي أصبح ثمنه في متناول معظم األسر،
همني بشكل خاص .كنت أشاهد ،حين كان باإلمكان التقاط القنوات الفرنسية التي ُت ُّ
طالب
ٌ شخص مهمٌ ،
ٌ أستطيع ذلك ،قناة «آرتي» وفي قرارة رأسي ،كان لديَّ انطباع بأنِّي
يهتم بأشيا َء يعتبرها اآلخرون ،من حوليَّ ،
مملة وصعبة .كنت ٌ
مثقف متاب ٌع للحدث ُّ
فخو ًرا .كنت أشعر بذلك بيني وبين نفسي.
كبيرا من أطباق
ً ُ
التهمت قس ًما ذلك هو الدور الذي كنت ألعبه ذلك المساء ،بعد أن
رمضان الشه َّية التي َّ
أعدتها أ ِّمي .فتحت التلفاز .كانت قناة «آرتي» تعرض فيل ًما.
فيل ًما بدأ قبل بعض الوقت .كان الممثل الفرنسي جان-هوغ أنغالند يبكي بدمع َه ُتون،
ً
منبوذا هو وقد سجن نفسه في مراحيض َّ
محطة قطار .كان يبدو أ َّنه يشعر بنفسه
رت بالممثل وبالشخصية ضد شيء ما ،العزلة ر َّبما .على الفور َّ
تأث ُ اآلخر ...يكافح َّ
نجحت في غضون دقيقة واحدة فقط ُ التي كان يمثلها .وبفضل معلوماتي عن السينما،
في التعرف إلى الفيلم ،الذي لم أره ً
أبدا من قبل .كان فيلم «الرجل الجريح» للمخرج
الفرنسي باتريس شيرو .وهو فيلم ظهر سنة .1984فيلم غدا مرجعًا .فيلم ممنوع.
كانت أ ِّمي ُّ
تغط في نوم عميق .والتلفاز يعرض هذا الفيلم ،دون أن يستطيع أيٌ
ُّ
التدخل إلعطاء درس في األخالق الدينية لهذا كان في المغرب فعل شي ٍء إليقافه ،أو
يحب
ُّ البطل الصغير الخارج عن القواعد وذي الشعر الطويل ،بعض الشيء ،والذي
الرجال .كان يحب رجلًا.
مستعدا لمشاهدة الفيلم حتى النهاية .مشاهدته ً كنت في مأزق ،في رغبة عارمة.
بخوف ،والبقاء متح ِّف ًزا .كان يمكن أن تستيقظ أ ِّمي ،ال َّنائمة خلفي ،في أ َّية لحظة
سري الوحيد ،نصفي اآلخر،
سريِّ ،
وتفاجئني بالجرم المشهود .ستعرف حينها ِّ
141
عبد اهلل الطايع
ً
مشكلة .وستحصل الفضيحة .سأشعر بالعار ،ولن أعرف موضوع عشقي .ستثير
ماذا أفعل وال بما سأجيبها.
ً
كثيرا في إفطار رمضان وأجد صعوبة في الهضم.
ً بطني يؤلمني .كنت قد أكلت
كنت مته ِّيجً ا من الرغبة التي تجتاح الفيلم ،والتي تسكن جان-هوغ أنغالد والممثلين
اآلخرين .لم يكونوا يعيشون إال ضمن هذه األشياء وعبرها :الجنس والحب ومخاطرهما.
يشعر الواحد بانجذاب نحو اآلخر ،يغازله ،يالطفه ،يشتريه ،يلعب معه ،يغتصبه،
يرميه ،ويذبحه شي ًئا فشي ًئا .كنت مسحو ًرا ،ومبهو ًرا بما كنت أراه .وأردت أنا ً
أيضا
ً
واحدا منهم .أريد أن أكون خارجً ا عن القانون. أن أفعل مثل هؤالء األشخاص ،وأكون
متوح ًشا .أداعب جسمي،ِّ ً
وحيدا أو مع آخر، أحب مثلما يح ُّبون،
َّ كنت أريد أن
أعضه ،أذهب نحو األقوى وأمنحه نفسي.ألحسهُّ ،
ً
خائفا َّ
يتصلب .وال أعرف ما أفعله ألني كنت على الدوام كان بطني ينتفخ .وقضيبي
رأسا على عقب،
قوة الرغبة التي تخرج من التلفاز باتجاهي ،لتقلبني ً
على الرغم من َّ
وتذهب بي بعدها إلى تخوم الجنون.
مرة أو ً
وضعيفا حي ًنا آخر .لك َّنه تو َّقف َّ شخيرا منتظ ًما ،قويًا حي ًنا
ً أ ِّمي تَ ْشخِ ر اآلن،
عندئذ غ َّيرت القناة فو ًرا .ولم أستطع منع نفسي من تفسير هذا التو ُّقف بأ َّنهٍ مرتين. َّ
عالمة على عودتها إلى الوعي ،وأنا أشاهد فيل ًما ممنوعً ا .هدأ روعي قليلًا بعد دقيقة
من االنتظار خلتها ال تنتهي ،كنت ألتفت خاللها نحو أمي َّ
ألتأكد من َّ
أن عينيها ال تزاالن
مغمضتين ،وأ َّنها ال تزال بعيدة ع ِّني وعن ُص َوري ،وعدت إلى «الرجل الجريح» وإلى
قصته .وعلى الفور عدت من جديد إلى رغبتي الجارفة وخوفي األول. َّ
كان جان–هوغ أنغالد عاش ًقا لرجل مديد القامة وجميل وأسمر على ما ُّ
أظن.
اسا
وحس ً
َّ يشبه قليلًا الممثل جيرارد ديبارديو في بداية الثمانينيات .كان رجلًا فحلًا
قوادًا. وقاس ًيا وعديم الشفقةً ،
ملكا ،ديكتاتو ًراَّ ...
ً
فصاعدا ،حول هذا أن رآه .سيتمحور العالم ،من اآلن وقع أنغالد في غرامه حال ْ
الرجل الذي أنساه كل الرجال اآلخرين .ولن يكون أحد بمثل أهم َّيته .منذ البداية
هجر كل شيء كي يتبعه ،ترك حياته السابقة وعائلته .ووجد نفسه في الشارع،
َّ
المحطات ،في المرائب ،يتبعه ويطارده ويحاول بشكل أخرق أن يغويه .أن يكون في
معه للحظة ،مع جسده .وموضع عشقه .بال جدوى .أنغالد يعيش الوجد المطلق،
مبرحا ومأساويًا.
الوجد الذي ال يمكنه سوى أن يكون ِّ
142
الرجل الجريح
َّ
فيلم باتريس شيرو ،كما اكتسحني بطريقة صاخبة وعنيفة في ذلك المساء وكما
ً
مفرطا في تصاعد حدة المشاعر الغرامية َّ
ظل ،منذ تلك الفترة ،في ذاكرتي ،كان
كل األجساد .في هذا ً
ومفرطا في الهيمنة التي يمارسها الجنس على ِّ التي يظهرها،
ٌ
وتهتك ٌ
وخالعة ٌ
ودموع ٌ
ومتاجرات من كل نوع ٌ
ومطاردات ٌ
وشجارات ٌ
صفعات الفيلم
مضرج بالدم،
َّ وموت .إ َّنه جري دون توقف لفتى
ٌ ووساوس
ُ ٌ
قذرة ومني وأشيا ُء
ٌّ ود ٌم
محكوم عليه مسب ًقا ،نحو الجريمة العاطفية.
ٍ
كل شيء ِّ
للتخلي عن ِّ ً
مستعدا نسيت اسمه .كنت معه .مح ًّبا ومحرومًا مثله.
ً
خائفا من أجل حلم كبير ،رجل قوي ،من أجل شعور نادر ،كائن استثنائي .وكنت
باستمرار .في بحث يائس عن موضوع الرغبة الوحيد ،الذي اختاره القلب .الذي
يطلق عليه األميركيون «النصف اآلخر» .The One
َّ
شخص وحيد وال أحد غيره .رجل أكبر س ًّنا م ِّني كي أتعلم منه ،أعيد معه إحياء
ماض ما ،عالقة ال يعترف بها أحد .فقيه ،معلم ،بائع خبز ،رجل مؤمن يؤدي صلواته
ٍ
الخمس كل يوم ،شخص ملهم ،قريب ،خال أو عم أو ابن عم...
كان الفيلم يجري أمام ناظري وهو يطبع في عيني ورأسي قوته ويأسه وديانته.
ً
ومريدا هذه الطريقة في الحياة ُ
أصبحت تابعًا ومتع ِّودًا ومن دون أن أعرف كنت قد
والرؤية والتيه وتدافع األجساد واالنغماس في الحياة ،قبل أن أصبح مجنونًا ،أكثر
َّ
استبدت به شجاعة يمس جسدي الهزيل الذي
المحرم هناك أماميُّ ،
َّ جنونًا .كان
المحرم أيضا ورائي.
َّ مفاجئة .كان
كان قضيبي ينتصب أكثر فأكثر ،وقلبي يزداد ظلمة .وأصبحت عيناي حمراوين.
سعيدا وحزي ًنا .مته ِّيجً ا ومتج ِّم ًدا كما لو اخترقني تيار هوائي قادم من الشمال،
ً كنت
الص َور ،وأشركها أكثر في هذا
من طنجة .وللحظة أردت أن أوقظ أ ِّمي وأريها هذه ُّ
َّ
المهذب بل يذهله .أردت الذهاب نحوها ،ألحتمي بها ،ألضع الفيلم الذي يؤثر في ابنها
وأحس بتنفسها في ظهري وعنقي ،وأشم
َّ نفسي في حِ ضنها ،وأضع يدها على بطني،
رائحتها بأنفي وجلدي .وأعود إلى األصول ،إلى الباب األول الذي أطللت منه على
العالم ،على الحياة ،على الضوء .وهناك في هذا المكان الذي بدأ فيه ُّ
كل شيء ،هذه
العتبة األصل َّية ،سأحفر مكانًا ،كرس ًّيا ،ثق ًبا ،وأبكي وأنا أواصل مشاهدة هذا الرجل
الحب ،وأبكي .أبكيه ،وأرافقه في
ِّ الجريح ،هذا الفتى ،هذا األخ الذي أربكه بريق
برفق ،ألحسهما ببطء ،الواحدة بعد األخرى ،ثم أشرب
ٍ بكائه ،وأتناول عينيه في فمي
143
عبد اهلل الطايع
َّ
الخدين وعلى الجلد. الماء المالح قليلًا الذي يخرج منهما ،الماء الذي يسيل على
كنت أتماهى ،وأحلم ،وأتخ َّيل .لم أكن أفكر .لم أعد أفكر .كنت أتألم :تؤلمني عيناي
وساقاي وركبتاي وقضيبي.
عدت إلى نفسي .كان الرجل الجريح ما يزال في درب صليب َّ
العشاق .كان قدر
هذا البطل يكتمل هنا ،في منزلنا ،في بيت من دون أب ،في صالون بيتنا شبه الفارغ،
في حميميتنا وفي صمتنا وعتمتنا.
ُ
اكتشفت ،وأنا أمام فيلم باتريس شيرو ألول ً
مثقفا. شخصا
ً ُ
كنت أعتبر نفسي
كنت ال أزال عاش ًقا ساذجً ا للسينما يتلقى األفالمَّ ،
كل األفالم ،بنفس الطريقة مرة ،أنِّي ُ
َّ
ترسخت فيالسابقة .في السابق ،أي في نهاية طفولتي التي برمجها اآلخرون ،عندما َّ
أعماقي إلى األبد ديانة اإلفالم الهندية وأفالم الكاراتيه الصينية ،كنت أُعيد اكتشاف
الصور في القاعات المظلمة والشعبية ،وسط المومسات واألوالدأعب ُّ
نفسي .كنت ُّ
تحررني من ضغوطات بلدي وتربطني بفنٍّ أصبح بالنسبة إلي ،شي ًئا
الس ِّيئين .كانت ِّ
فشي ًئا ،منطق حياة ،يدعوني لرؤية األشياء البعيدة والعليا .وللخروج وتجاوز العالم،
ألرى نفسي عاريًا وأنزل من جديد ألقاتل.
ثائرا ،قبيل ليلة القدر بعدة أيام.
لجة المعركة .كنت ً كنت في َّ
أي
أي صفير وال ُّ
أي صوت يخرج من فمها ،وال ُّ ً
فجأة .لم يعد ُّ تو َّقفت موسيقى أ ِّمي
تنفس .هل انقطع ُّ
تنفسها؟ هل ماتت ،دون خوف ،دون قلق ،ورحلت أي ُّ
أزيز ،وال ُّ
لتلتحق بأبي؟ هل استيقظت؟ هل تشاهد اآلن «الرجل الجريح» مثلي؟ هل تفهم
ً
دفعة شي ًئا من هذه الصور الغريبة ،اآلتية من عالم آخر ومن الجحيم؟ هل ستنهض،
ً
واحدة ،وتصرخ ،تصرخ في وجهي كما تفعل في األيام الصعبة ،وتجذبني من َش َعري،
تعاقبني وتقرصني وتلعنني؟ أم أ َّنها س َتخصيني على الفور؟
ُ
استدرت نحوها وفي قلبي فوضى عارمة .كانت عيناها مفتوحتين ،ولك َّنها ِّ
تحدق
ُ
اطمأننت بعض يخصها وحدها.
ُّ إلى السقف .كانت تحلم .وما تزال تتابع ُص َور حلم
الشيء ،وغ َّيرت القناة وسألتها بصوت خافت يفيض احترامًا إن كانت بحاجةِ شيء
ما .كانت إجابتها فورية كما لو أ َّنها م َّ ّ
ُعدة منذ فترة طويلة ،وهي ُّ
تغط في النوم« .كأس
ماء يا حبيبي» هرعت إلى المطبخ وأحضرت لها كأس ماء .كانت عطشى ًّ
جدا .كانت
«كأسا أخرى ،يا ولدي العزيز،
ً طلبت م ِّني ً
كأسا ثانية. ْ عائدة من رحلة طويلة.
وإال سأموت ...اهلل يــ .»..لم تكن في حاجة إلى أن ترجوني طويلًا .عدت مهرولًا
144
الرجل الجريح
َّ
مكررة
ستخصني به ،مثلما تفعل دائ ًما ،أدعية َّ
ُّ ٌ
سعيد بالدعاء الذي إلى المطبخ ،وأنا
تتحدث عن الفردوس كشيء أكيد ،وليس كخيالً ،
أبدا.
ولكن ،قبل أن تغلق
ْ بعد أن روت مْ َباركة عطشها ،عادت إلى نومها ،وإلى أحالمها.
في بلبلة إضافية« :شاهد ،يا ْ
أثارت َّ عينيها من جديد ،منحتني هذه ال َب َركة التي
بني ،شاهد التلفاز كما تشاء ...أنت ال ُتضايقني ...شاه ِْد ما تشاء”...
ُ
وانتظرت عودة شخير أ ِّمي كي ألتحق بـ«الرجل الجريح» ُ
خفضت صوت التلفاز
الحب من جانب واحد،
ُّ خائرا ،أتعبه
ً وبطله المكلوم وأعثر من جديد عليهما .كان
واإلهانات ،متع ًبا من التجوال لك َّنه كان دومًا عاش ًقا مجنونًا .وكاد الطريق نحو
الجريمة ،االمتالك األول واألخير للجسد المحبوب ،أن يصل تقريبا إلى نهايته .وحده
قصة هذا الفتى المأساوية وح َّبه األسمى، ُ
الموت والقتل باستطاعتهما أن يمنحا َّ
معنى وهدفًا وب ً
ِنية. ً
ً
كان عاريًا قرب الرجل الذي يحب ،منهمكا في خنقه بيديه ،يخنقه وهو يمارس
ً
وجلدا ودمًا ً
جسدا ،قل ًبا ،وعقلًا، الجنس معه .هكذا كان يستسلم له بشكل كامل:
ون َف ًسا .كان يمنح حياته من خالل أخذ حياة َم ْن رفض ح َّتى النهاية أن يتشارك معه
في نفس العناق ونفس ديانة األحاسيس.
كان األمر مأساويًا.
لحظات رائعة.
ٍ ً
وقوة في الحب تأ ُّل ًقا
ُّ ٌ
مأساة ،كما هي الحياة التي يمنحها هذا الحب
ُّ
ً
ثانية فيلم كنت أعرف ذلك بالحدس .كنت في العشرين من عمري .وذكرني بذلك
وعلي أن أقرر ،هل أتخلى عن
َّ تحذيرا
ً مرة وإلى األبد .كان ذلك
«الرجل الجريح»ّ ،
األمر؟ كالً ،
أبدا.
عيني .وظهر على الشاشة اسم الكاتب
ّ يمر أمام
كان شريط األسماء في نهاية الفيلم ُّ
كنت قد نسيتُ هيرفي غيبيرت ،الذي شارك باتريس شيرو في كتابة السيناريو.
قصته وحياته ،ونمط حياته الذي اكتشفته
القصة ،هما أيضا َّ
أن هذا الفيلم وهذه َّ
وعشقته في كتبه .كان قد مات منذ أربع أو خمس سنوات .سالت دموع من عيني .في
نهاية األمر ،لماذا؟ ومن أجل من؟ لم أعرف ،على وجه التحديد ،بِ َم أجيب ،بِ َم أجيب
نفسي .أمن أجل هيرفي غيبيرت الذي كنت أعرفه بشكل وثيق بفضل مؤلفاته؟ أمن
أخا ،صدي ًقا ،أصبح أنا؟ أمن أجل أبي الذي رحل
أجل بطل الفيلم الذي أصبح مجرمًاً ،
قصة مكتوبة؟ من أجل أمي التي تحو ُ
لت إلى كتاب ،وإلى َّ مبكرا ،قبل أن يراني وقد َّ
ً
145
عبد اهلل الطايع
عادت من جديد إلى مخاوف طفولتها؟ من أجل الحياة ،التي هي ،في الواقع ،حزينة
ومليئة بالوحدة بشكل رهيب ،على الرغم من مباهج رمضان؟
ِّ
ح َّتى يومنا هذا ال أعرف عن األمر شي ًئا .ح َّتى اليوم ،أبكي حين أفكر في هذه
اللحظة المحددة ،نهاية الفيلم ،هيرفي غيبيرت ،أنا ...وأ ِّمي التي كانت تصرخ في َّ
صمت .أبكي من أجلنا جميعًا.
جدا .لم تكن تشغلني سوى فكرة واحدة. ُ
استيقظت في وقت متأخر ًّ في اليوم التالي،
المفضل شعيب ،الذي كنت مغرمًا به بعض الشيء ،إلغوائه ،وإفساده َّ الذهاب إلى قريبي
وااللتصاق به وح ِّثه على أن ننهي صيامنا قبل األوان .نفطر ونحن نتخ َّيل معا أشيا َء
حي بطانة ،بالقرب من المقبرة القديمة بالتحديد،
جنسية .ثم نصعد بعد ذلك ح َّيهَّ ،
الضفة األخرى لنهر بورقراق ،والرباط وبرج حسان َّ حيث يمكننا من هناك أن نرى
دخن حشيشة الكيف معًا. ُ
وقصبة األوداية والشاطئ البلدي ،شاطئ الفقراء .ثم ن ِّ
أخيرا ،مع صمت وتأمل فيلم
ً أقص عليهوأضع رأسي على فخذيه ،وأغمض عيني ،ثم ُّ
ً
مباشرة ،بهدوء ،إلى الخطيئة وإلى انتهاك المحرمات. البارحة وأدعوه
المتعمدة.
َّ الخطيئة
سينظر اهلل إلينا.
سوف نواصل ح َّتى النهاية ،ح َّتى البحر ،ح َّتى السماء.
ملعون ،في يوم ما سأكون ملعونا في الحب ،مثل «الرجل الجريح» .وبانتظار ذلك،
يلفني بجسده الكبير ،أذهبوفي قلبي شعيب ،قريبي ذو الشارب ،الولد السيئ الذي ُّ
ً
جيدا كل يوم ،تقري ًبا ،نحو أضواء السينما ،وعيناي مغلقتان
146
عبد اهلل ثابت
مقاطع من رواية
اإلرهابي 20
***
إلي .سأكتفي
ربما سيكون لهذه األوراق شأن ذات يوم؟ فهي تبدأ مني ،وتنتهي ّ
كلمة بآخر سطر.ٍ باحتفالي بها ،على طريقتي عندما أرفع ريشة القلم عن آخر
محرمة .سأك ِّوم أوراقي
َّ ً
جميلة ً
وزجاجة ً
صغيرة وشموعً ا ً
كعكة وحدي سأشتري
هذه على المقعد المقابل .وسأرفع صوت الموسيقى بالقدر الذي يليق بتلك الساعة،
ووحدي سأرقص وأشعل السجائر وأشرب الكؤوس ،وسأطلق حينها َّ
كل الشتائم
كل القصائد التي أحفظها والتي ال أحفظها، التي أحفظها والتي ال أحفظها ،وسأنشد َّ
ً
وحيدا في بال ٍد كل هذا وأكثر .وأكثر .تمامًا كذلك الذي يحتفل بعيد ميالده،سأفعل َّ
ّ
يتكلَم إال اليسير من لغة أهلها. ال يعرف بها ً
أحدا ،وال
كل ما في هذه األوراق حدث في مكانين ،أولهما :قريتي ،والثاني :مدينتي، ُّ
ً
واحد ا فقريتي أبها ،على أنهما ال يمكن أن يكونا مكانين مختلفين ،بل مكانًا
ومدينتي ال يفصل بينهما شيء ،وهما على رأس هذه القمم الشاهقة ،تقتسمان
147
عبد اهلل ثابت
ً
مزدانة بالغيم والضباب والبرد، ً
ملونة بالخضرة والمياه، ً
مختصرة ً
مساحة
أيام حتى يعاود ترتيب مالمحهما من جديد.ال يكاد يغيب عنهما المطر بضعة ٍ
ً
قرية مهما مألوها بأعمدة الضوء والبنايات والشوارع ال يليق بأبها إال أن تكون
ٌ
قرية على طريقة المدن ،مثل الفتاة الريفية اإلسفلتية والمتاجر واألسواق .إنها
التي ألبسوها ثياب المدينة ،إال أنهم لن يستطيعوا تغيير جسدها الريفي ...وهكذا
مرتين!
أكون جبل ًّيا َّ
َّ
يتكلمون .وكيف هي الحياة أحكي عن الناس هنا ،عن طباعهم ،ثقافتهم ،كيف
عندهم .فالعسيريون طيبون ،وال يمكنهم أن يكونوا سيئين هكذا دونما سبب،
دون أن يضطرهم أحد إلى جنون غضبهم .حادون متو تِّرون على الدوام ،ال
قدر من األنفة والكبرياء ،بشكل يبدو أحيانًا
ٍ يبرحهم قلقهم وال ارتباكهم .على
ً
مدعاة للضحك ،ففالن ظل لسنين يروح ويجيء بالقرب مما يريده ويشتهيه،
فكان يمنع حتى عينيه عن رؤيته ،إذ يشعر أن في هذا انتقاصً ا لمكانته وقيمته!
القمم التي يسكنونها ع َّبأتهم بمزاجية الريح واألشباح والحيرة والسؤال ،فهم شي ٌء من
متحرقون كشمسهاَّ ،
شفافون كضبابها، ِّ ريح ،وشي ٌء من سؤال ،وشي ٌء من حيرة ،وهم
قساة كصقيعها ،مخيفون كغيمها .كانت الطبيعة إذا ثارت وعربدت ما بينهم باألمطار
والصواعق والعواصف تمازحوا فيما بينهم «نشهد أن مطر ربِّي عسيري!»
كاف عنده ليقترف القتل .فابن هذا المكان
مبرر ٍ
ٌ الكلمة التي تمس كبرياء أحدهم
يعيش ليزهو ،ويزهو فحسب ،وبأيِّ شيء ،وهذا الذي يقتل لكلمة ،هو ذاته الذي تهزمه
َ
مهتوك النفس والوجدان! هنا ال تطيح برؤوسهم السيوف كلمة أخرى ،فيبكي ويعود
حبيب خان أو َّ
تنكر! ٍ ٌ
كلمة من وال البندق َّيات كما تطيح برؤوسهم وقلوبهم
حد أن يقدم الواحد منهم على التخ ُّلص إحساسهم تجاه العار عنيف ًّ
جدا ،عنيف َّ
عار ما ،والعار هنا يطال أشياء ،لكثرتها ال تنتهي ،فمس
من حياته ،إذا ما لحق به ٌ
تمر هكذا دونما دم ،وإذا ما اشتبك اثنان هنا فإن
الوجه ،مثلًا ،كارثة ال يمكن أن َّ
أثرا يكون عالمة
كلًا منهما يفكر كيف يصل إلى وجه اآلخر ،ليخدشه ،أو يترك به ً
انتصاره عليه وهزيمته لألبد .فإذا ما فعل أحدهما ذلك فإنه ال َّ
بد من قتيل ،إما
أن يقتل المخدوش نفسه ،وإما أن يقتل ذاك الذي هزمه ،ما وجد إلى ذلك سبيلًا.
قبليون هم ،وثاراتهم وحروبهم ومعاركهم ال نهاية لها ،وأ َّيما أسرةٍ ال قتيل بها في
بأحد من أبناء القبيلة يعدونهٍ مساس ٌ
وضيعة في أعرافهم ،وأ َّيما ٌ
أسرة معاركنا فإنها
ٍ
148
اإلرهابي 20
***
149
عبد اهلل ثابت
150
اإلرهابي 20
بهم داخل الحرم ،والقبض على جهيمان وعدد من أتباعه وإعدامهم إثر ذلك!
كاد أخي األكبر ،الذي استدعته أجهزة الدولة حينها ،أن يخسر حياته إذ كان
م َّته ًما بانتمائه إليهم ،لكنه نجا فلم يكن هناك من الدالئل ما يؤكد على ُّ
تورطه في
أية أعمال تدينه ،حدث هذا ك ُّله ابتدا ًء من أواخر السبعينيات وحتى القضاء عليهم
سنة .1979ال يمكن ألهلي أن ينسوا يوم طرق أحد رجال المباحث الباب ،واستدعى
أخي ليذهب معه .تقول أ ِّمي إني من فتح الباب ،وإنه على الفور طلب أخي .كانت
ً
ليلة أليمة ،فقد كان الجميع على ما يشبه اليقين أنهم لن يروا ولدهم ً
مرة أخرى!
***
في العام 1979بلغت السادسة ،وهذ يعني حان وقت الدراسة ،ذلك المكان الذي
طالما أغاظني به أخواي اللذان يكبرانني مباشرة :اليوم لعبنا ،اليوم لهونا ،اليوم قال
غدا سنضحك ...ونرسم .وقبل أن ينتهي الصيف ويبدأ العام لنا المعلم كذا وكذاً ،
لدرجة مؤذية ،وكادت حياته
ٍ الجديد ،يحتدُّ والدي وأكبر إخواني ،الذي كان متديِّنا
أي من أعمال احتالل الحرم المكي!
تورطه في ٍ
تنتهي تمامًا لو أنه ثبت ُّ
أبي يريد أن يضمني إلى أخوي االثنين بنفس المدرسة ،على مبدأ أن األعواد يصعب
ً
حكومية عادية كغيرها من المدارس ،وكان ً
مدرسة كسرها إذا صارت معًا .وهي
يصر على أن يأخذني معه إلى المدرسة القرآنية ،التي كان ِّ
يعلم فيها، أخي المتديِّن ُّ
وقدم َّ
كل الحجج والمبررات لتسجيلي بها« :سيحفظ القرآن كاملًا .وأنا معه ،أحميه َّ
وأشرف على تعليمه عن قرب .في هذه المدرسة يعطونه مالًا ّ
كل شهر».
لك َّنه لم يكن من اليسير أن يقتنع والدي بحجج أخي هذا الذي تس َّبب في متاعب
كثيرةٍ له ،وكان يخيفه أن يصبح هذا الطفل الصغير مثل أخيه ،متديِّ ًنا مؤذيا ،فما كان
يرغبني في هذه المدرسة« :زاهي ،المدرسة القرآنية من أخي إال أن اختلى بي وأخذ ِّ
كبيرا ،يحبك الناس ويطلبون
ً ً
شيخا تضمن بها الجنة ،فيها ستحفظ القرآن ،وتصير
منك أن تدعو لهم»« ،بالمدرسة الكثير من األلعاب والمرح والمال ،وسيكون معك
الكثير من المال لتشتري به ما تشاء ،أال ترى بقية إخوانك ال يحصلون على أي مال
كل ما تريد لو طلبت من أبي أن تكون بهذه المدرسة». من مدارسهم!» «سأعطيك َّ
كان ُّ
كل شيء مغريًا ،وامتألت نفسي باألحالم داخل هذه المدرسة فبكيت ،وولولت،
151
عبد اهلل ثابت
وصرخت ،وجادلت لكي ألتحق بالمدرسة القرآنية ،فوافق أبي مستسل ًما لبكائي.
كل شيء ،إال بكاء الصغار ودموعهم. يستطيع العسيريون أن يتجاهلوا َّ
يتعر ض لألطفال وال للنساء .النمر عندنا
َّ ويقال إن النمر في عسير ال
يتور ع عن فعل
َّ مثال الشجاعة والقوة والنبل ،أما الذئب فهو الذي ال
ً
دجاجة . ً
امرأة أو رجلًا أو شيء ،وال يعنيه أن تكون فريسته طفلًا أو
ترقب ،وبي فرح ،لك َّنني ما كدت
ٌ ٌ
خوف ،وبي َّ
اللحظة األولى التي ألج بها المدرسة .بي
أنضم إلى مجموع طالب فصلي حتى بدأت أسمع التهديد والوعيد ،كان المعلمون
أخرك؟»« ،قف الدينيون يصرخون ويوبِّخون الصغار« :امش لفصلك»« ،ما الذي ّ
عندك وأحضر يا فالن العصا» حتى دخل علينا َّأول ِّ
معلم ولدى جلوسه أخذ يتهددنا
بألوان العقاب إن نحن لم نمتثل ألوامره ونواهيه.
المتوحش ،المقصف ليرى طفلًا
ِّ في الفسحة ...يدخل مدير المدرسة ،ذلك الرجل
ً
صرخة أسكتت جميع الطالب .قال للطفل «تعال هنا» شام ًّيا يلبس البنطال فيصرخ
فجاءه الطفل يكاد يغشى عليه من الخوف ،ثم قال له« :أين هو الثوب الذي يسترك؟
لم تأتي بهذا البنطال الذي ال يلبسه الرجال؟» فحاول الطفل أن يشرح أنه للتو عائد
من بالده ،ولم يكن يعرف انه ال بد من لبس الثوب ،وأن والده لم يذهب للسوق بعد
ليشتري ثوبًا له .ضربه المدير يومها في سائر جسدهَ ...جلَده ببشاعة .كان يمسك
فروة رأسه ،ثم يطرحه يمي ًنا وشمالًا ويقول له« :ستكون رجلًا رغ ًما عنك ...ال
تلبس لبس الكافرين هنا!»
ال أنسى ً
أبدا بكاء الطفل وهلعه واستنجاده ،وال أنسى أنه حين توارى المدير عن
أعيننا هربت إلى فصلي واختبأت تحت إحدى الطاوالت ،مذعو ًرا أن يدخل علينا
كل ً
عنيفة .كانت ُّ ً
صدمة هذا المدير ،فيفعل بي ما فعله بالطفل الشامي .لقد كانت
أشباح مخيفة،
ٍ كلمات أخي عن اللعب والمرح وطريق الج َّنة والسعادة تتحول إلى
إلي وتقهقه!
لها أنياب حادة تنظر َّ
المحدد من القرآن ،وخوفًا من عقوبة الجلد العنيف
َّ ذات يوم ،وألنني لم احفظ الواجب
الذي ينتظرني في هذه الحالة ،حاولت التمثيل على والدي مدع ًيا أنني أعاني من بعض
جدا .وبالفعل وافق والدي على أال أذهب للمدرسة فياآلالم في بطني ،وأنني مريض ًّ
ذلك اليوم ،لك َّنني لفرط فرحي وذهولي بموافقة والدي لم أستطع البقاء بفراشي .بعد
لحظات قصيرة دعاني والدي وأمرني بلبس ثيابي وحمل حقيبتي ليوصلني للمدرسة،
152
اإلرهابي 20
153
عبد اهلل ثابت
الدين والمساءالت ،حتى تأتي ساعة الفرح الوحيدة في اليوم وهي ساعة خروجي
من ذلك المعتقل وعودتي للبيت .وفي البيت أقضي الوقت ،حتى يحين العصر ،في
علي أن أخرج مع أغنامي لرعايتها
إنجاز بعض الواجبات وحفظ القرآن ،ألنه يتوجب ّ
بعد أن أؤدِّي صالة العصر!
بدراجاتهم
ويتجولون َّ
َّ أمر بغنيماتي أمام أبناء الحي ،وهم يلعبون الكرة
كثيرا ما كنت ُّ
ً
الصغيرة ،فتتعالى ضحكاتهم« :الراعي ...الراعي ...الراعي ».كنت أعرض عنهم بزهو
لكن بداخلي جرحً ا عمي ًقا ،إذ لم أكن مثل هؤالء ،أنعم باللعب والمرح ،حتى
مصطنعَّ ،
إذا ما خلوت بأغنامي هجمت على بعضها ألضربها وأشتمها ،وأحملها سبب حرماني،
ثم أبكي بكا ًء حا ًرا!
154
عدن َّية شبلي
فصل من رواية
ُّ
كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب
بريد الحب
لقد َ
تركت المدرسة اليوم .بعدما أعادت الصف الرابع مرتين والصف السابع مرتين،
وأوشكت على أن تعيد الصف التاسع هذه السنة ً
أيضا ،رفع والدها حاجبيه ناف ًيا.
وهذه الحركة بالذات هي ما كانت عفاف بانتظاره منذ الصف الرابع.
الثوار وقتل في الـ ،84فان والدها كان عميلًا ،وقد
جدها كان من َّ بالرغم من ّ
أن َّ
ّ
المتعلقة بوزارات مختلفة ،كتس ُّلم طلبات إصدار َّ
ولته الحكومة العديد من المهام
ُهو َّيات ،تصاريح سفر ،تصاريح بناء ،خدمات بريد ،إجازة مد خط هاتف ،بيع سوالر،
كل صوباستقرت في ِّ
َّ إلخ .لكن ولكونه ثقيل الحركة ،نتيجة الدهون الزائدة التي
من جسمهَّ ،
وزع أغلب مهام التجسس بين أفراد عائلته ،واكتفى هو بتشغيل المسجِّ ل
الصغير الموضوع في جيب قميصه األبيض ،النظيف والمكوي دائ ًما .كان رجلًا كسولًا،
أيضا لم تكن هنالك حاجة ألن يفعل تحرك من مكانه تحت شجرة اللوز .لك َّنه ً َّ
وقلما َّ
ذلك ،وال حتى ألن يغادر مقعده ،كي يعرف ما يحيكه أهالي الحي من مؤامرات قد
تضر بأمن الدولة ،فقد كان هؤالء يأتون إليه بأنفسهم .بل لو أتيح لهَّ ،
لشدة كسله ُّ
وثقل حركته ،لكان نادى على عفاف كي تضغط زر المسجِّ ل في جيب قميصه.
جالسا تحت الشجرة في
ً قطعت عفاف الساحة م َّتجهة إلى البيت تاركة والدها خلفها
ً
نظيفا ،داللة على َّ
أن زوجة َّ
وتنفست الصعداء َّلما وجدته ِّ
الظل .صعدت درج البيت
ثم دخلت غرفتها هي وإخوتها.
أبيها قد أنهت شغل البيت .دخلتَّ ،
مررت بيديها االثنتين على وجهها لتمسح بعد أن جلست على حافة السريرَّ ،
أن «الحمد هلل» .عادت ِّ
تقلب يديها أمام ناظريها، نفسا طويلًا ْ
العرق عنه ،ثمّ أخذت ً
155
عبد اهلل ثابت
ً
رويدا راحت تستعيد وعيها ً
رويدا وكانتا تلمعان بالرغم من َّقلة الضوء في الغرفة.
بعد أن سطلتها حرارة الشمس ،وبعدها فقط انتبهت إلى ثقل حقيبتها على ظهرها
مرة .وداعً ا!
فأنزلتها ،ووضعتها على األرض آلخر ّ
وقفت تخلع عنها مالبس المدرسة ،ثمّ ا َّتجهت إلى ماكينة الخياطة في غرفة
مقصا .طبعًا قفزت زوجة أبيها تسألها لماذا الجلوس وأخرجت من تحت غطائها ًّ
َّ
تتحدث معها إلى بالمرة أ َّنها ال تريد أن
ّ المقص ولم تر َّد عليها .هذه المخلوقة ال تفهم
كل صلة لها بنظام التعليم والتأكيد المدرسي ،معلنة بهذا قطع ِّ
َّ قصت بنطالها األبد ،ثمّ ّ
على استحالة الرجوع إليه.
جعلته حتى الركبة حتى ال يفتح أحد فاهه ،رغم أ َّنهم سيفتحونه على أ َّية حال،
تغدت من أكل زوجة والدها الباهت ،ثمّ خرجت .وسمعتها ،لقد لكن المهم والدهاَّ .
َّ
ّ
رن كل حرف في إذنيها. َّ
«عاهرة» .وما لمثل هذه المقولة إالّ أن ِّ
تؤكد أنّها هي العاهرة ،أيّ زوجة أبيها،
ولكن ال عدل في الدنيا .ال تريد أن تعود لتشاجرها حتى ال ِّ
تعكر مزاجها وسعادتها
باختفاء المدرسة نهائ ًّيا من عالمها.
قطعت الساحة م َّتجهة إلى أبيها تحت اللوزة ،والذي بدأ من بعيد يتأ َّمل ساقيها.
عندما وصلت إليه ،خرج صوته من تحت شاربه بصعوبة :ما هذا البنطلون؟
ردَّت بال مباالة :للركبة.
فعاد من خلفها :للركبة آه؟!
وبعد لحظتين ممكن :لمن ستطلعين غير أل ِّمك!؟
وجدت نفسها تر ُّد :ألبي ممكن.
فإذا بحذائه البيتي يطير بالهواء م َّتجهًا مباشرة إلى رأسها ليخبط به ،وللحظات
كانت ال تشعر إال بموقع الضربة.
-آه يا عاهرة.
أكمل.
ثم الحقتها أوامره: يدوي في رأسهاَّ ، ّ
وخف والدها ِّ عادت أدراجها
-غدا ّ
مبك ًرا تصحين وتفتحين البريد .ال تعتقدي أ َّنَك إن بال مدرسة ستنخمدين
في فراشك حتى الظهر.
يومًا ما ،إن شاء اهلل يومًا ما ،سوف تطلق النار عليه وعلى زوجته ،من ذات
156
ك ُّلنا بعيد بذات المقدار عن الحب
المسدس هذا الذي يضعه خلف ظهره .ولن تخلع البنطال ولو على ج َّثتها وليفتح
َّ
هو البريد َّ
كل يوم.
***
157
عدن َّية شبلي
لحظة فتحت الباب ،اصطدمت مباشرة بهواء بارد جعل القشعريرة تعلو ذراعيها،
للمرة ِّ
المتسلل من خلفها عبر فتحة الباب ،يكشف أمامها تدريج ًّيا ّ فيما أخذ الضوء
ً
فصاعدا ستعمل بينها وستكون إلى المليون محتويات المكتب .لكن بما أ َّنها من اآلن
وبتأن.
ٍ جانبها يوم ًيا ،نظرت إليها هذه المرة بطريقة مختلفة
على الحائط إلى يمينها ه ّواية ذات لون أبيض قديم ،أسفلها لوحة كبيرة تسرد
بإسهاب رسوم البريد حسب الوزن والبعد ،لك َّ َنه لم يكن هنالك حاجة لمتابعتها
كل ما كان يبعث به أهلأن َّ
حتى النهاية :الصف األول على اليسار يكفي وزيادة ،إذ ّ
الحي هو رسائل تزن َّ
أقل من خمسين غرامًا داخل البالد .أي نعم تظهر أحيانًا موجة
هواية المراسلة ،ركوب الخيل والسباحة ،ولكن بما ّ
أن الخيول قليلة وبرك السباحة
معدومة ،تبقى إمكانية المراسلة فقط ،فيبعث الواحد منهم برسالة أو برسالتين إلى
ً
وتحديدا في فترة ما بين الصف التاسع والثاني عشر ،حيث الخارج خالل حياته ِّ
كلها،
أخيرا من كتابة رسالة باإلنجليزي بعد سنين طويلة من دراسة هذه
ً َّ
يتمكن البعض
اللغة .وك ُّلها قلوب تبحث عن عجوز غن َّية من أوروبا أو أميركا ،تتبناهم فتنقذهم
من الحياة في البالد ،التي تعد بأن تكون رتيبة حتى الممات .وأحالم ...لوالها لما
كانوا ح ُّلوا وظيفة جغرافيا أو إنجليزي واحدة.
ثمّ ينهار ُّ
كل شيء وت َّتضح عدم واقعية مثل هذه األحالم بإيعاز من األهل،
فتنتهي هواية المراسلة ،وينتقلون إلى الحلم الثاني :الزواج ،وعندها يبدأون
بممارسة هواية الصيد :فتاة رزينة ال تضحك ،وال تنظر يسا ًر ا أو يمي ًنا.
ومعًاً ،
يد ا بيد ،يبدأ هو وفريسته رحلة السأم األبدية ،التي ال يندرج في
ّ
الممثلة بجهاز البريد، مسارها المرسوم هذا ،الحاجة إلى وسيلة االتصال
والذي تسقط مسؤوليته ومهام تشغيله منذ اليوم على عاتق وحياة عفاف.
أرجواني ضخم يخدم ً
سلة للمهمالت، ٌّ بالستيكي
ٌّ قرب الحائط إلى اليسار وقف سطل
خشبي قاتم اللون
ٌّ رمادي .بينما في وسط الغرفةَّ ،
امتد قاط ٌع ُّ عمومي
ُّ معلق فوقه هاتف
وطويل هو عمل ًّيا «البريد» ،وقد وضعت عليه بعض العدة الالزمة :قلم حبر ينتهي
الداخلي من القاطع ،وعلبة صغيرة
ِّ بخيط طويل مربوط بمسمار مدقوق في الجزء
أسطواني عريض،
ّ مؤلّفة من قطعة خشب محفورة مملوءة بالماء ،داخلها دوالب
َّ
ً
عوضا عنها. لكن عفاف لن تستخدمها أل َّنها ِّ
تفضل لعابها تستخدم للصق الطوابعَّ ،
الداخلي للقاطع فقد كان يخفي عال ًما آخر .كان فيه ّ
رف ثان عليه دفتر ّ أما الجزء
158
ك ُّلنا بعيد بذات المقدار عن الحب
تجسس ودفتر وصوالت وملف طوابع ،خ ِّبئت جميعها عن أعين المرسلين .وخلف ّ
استقر كرسي له أن يدور حول نفسه وأن يزحف في جميع االتجاهات.
َّ ِّ
الرف
ثم راح يختتم المكان ِّ
بكل محتوياته السابقة ،ساعة حائط كبيرة تشير جملة َّ
صغيرة في وسطها إلى أنها مهداة من شركة تأمين سيارات .إلى يسار الساعة ِّ
علق
مغبرة إلى درجة
َّ علم إسرائيل م َّتسخ ومهترئ ،وتحته صورة لرئيس الدولة لم تكن
مضطرين إلى تغييرها بين الحين واآلخر بسبب من
ِّ كبيرة مثل العلم ،إذ أ َّنهم كانوا
الديموقراطية .سحبت عفاف الكرسي وجلست تستقبل انعدام القادمين.
***
لكن معاناتها
كان قد مضى أكثر من ثالثة شهور على عمل عفاف في البريدَّ ،
لم تتفاقم ،كما لم تقل ،إذ أ َّنها كانت قد استسلمت لمصيرها تما مًا منذ اليوم
ثم
األول .ولقد كانت مهمتها الرئيسية في البريد فتح الرسائل وقراءتها ،ومن َّ
تبليغ والدها بمضامينها .كذلك ،كان هنالك شخص من أهل الحي يسكن في أميركا
ويتوجب عليها شطبَّ يبعث أحيانًا إلى أهله برسائل يعن ِو نها إلى «فلسطين»
الكلمة وكتابة «إسرائيل» بدلها .عدا ذلك ،لم تكن أيٌ من الرسائل تحوي ما
ِّ
تسلي عفاف. يمكن أن يضعضع أمن الدولة وال حتى أخبا ًر ا مثيرة يمكنها أن
الحي أن تصل رسائلهم مفتوحة .غير َّ
أن ما ِّ ًإذا كان ً
أمرا عاديًا بالنسبة إلى أهالي
تجدد مع دخول عفاف إلى سلطة البريد هو شطب لبعض العبارات من الرسائل، َّ
أن ما شطبمما أثار العديد من الشجارات بينها وبين المتل ِّقين .فاالعتقاد السائد هو ّ
قررت عفاف مصادرتهاتذكر شي ًئا مرف ًقا بالرسالة ،أي هدية من المرسِ لّ ،جملة ُ
بعدما نالت إعجابها.
الحي ،هو
ِّ مرة منذ دخول سلطة البريد إلى وألول ّ
تجدد في عهدها َّ كذلك مما َّ
َّ
الملطخة بالملل بمساعدة مفتاح الخشبي التي َّ
خطتها يدها ِّ بعض الكتابات على القاطع
البريد ،ومن بينها تظهر العبارات التالية« :عفاف» ،خنجر تسيل منه ثالث قطرات
دم »71 – 9 - 8« ،تاريخ عيد ميالدها »81 – 9 - 31« ،تاريخ أ ِّمها»78 - 6 - 31« ،
تاريخ «تبطيل» المدرسة ،قلب يخترقه سهم يخرج من نقطة تبدأ بحرف الـ «ع»،
وينتهي بعالمة سؤال.
159
عدن َّية شبلي
160
ك ُّلنا بعيد بذات المقدار عن الحب
خلفها .كانت الساعة تقترب من العاشرة .بقي ما يقارب العشرين دقيقة من السأم
التام أمامها ،حتى تعود إلى القليل من الحياة مع قدوم الرسائل.
فصل من رواية «كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب» دار االداب ،بيروت 2004
161
عالء حليحل
قصة قصيرة
تعايُش
يجب أن أتحدث معه .فاألمر لم يعد يحتمل التأجيل ،حتى لو أنه ال يعرفني أو
وزدًا ».هكذا،
«إكسا ووايًا ِ
ً لم يسمع بي .سأتصل به وسأقولَّ :
يتكلم أنا وأريد منك
بصراحة ومن غير مواربة ،وإذا تلعثم أو استهجن المكالمة فإنني سأغيّر من لهجتي.
«إكس ووايٌ
ٌ كل ما أطلبه منك هو سأقول له :اسمع ،نحن عرب ونفهم بعضنا ً
بعضاُّ .
وزدٌّ» وكفى .أنا متأكد من أنه سيصغي فمن المفروض أنه قائد شجاع وهمام ويصغي
إلي بالتأكيد ،وإذا لم يستمع فقد يحقُّ لي أن أسأل
للبشر .وأنا فلسطيني ،سيستمع ّ
ساعتها :فما الذي جرى ،يا ترى؟
كل الذي أطلبه منه هو أن يبتعد عن هنا .ال تعقيد في األمر .يمكنه أنأصالُّ ،
يصوّب حممه نحو الخضيرة أو العفولة أو حتى نتانيا .ما السيئ في هذه المدن؟
«تصطفل» يا أخي .لماذا حيفا بالضرورة؟ فحيفا مليئة بالعرب .تجدهم في ِّ
كل مكان:
في المقاهي والبارات والمساجد والكنائس والشوارع والباصات .الباصات! الباصات
ورواد
َّ مليئة بالعرب يا أخي ،تنغل نغلًا ،تطفح طفحً ا ،تفيض ً
فيضا .والعرب فقراء
الباصات من الفقراء .والفقراء هم الذي يأكلون الخراء في دولة اليهود وأول من
ّ
يتسخمون تاريخ ًيا .يأكلون وال يجدون الحلوى لترطيب أفواههم .سأقول له ذلك ،وهو
سيفهمني بالتأكيد .ال بد أن يفهمني .فأنا فلسطيني مثلي مثله ،والفلسطيني للفلسطيني
وعضد .وك ُّلنا في الهواء سواء ،ولنا في البرتقالة ش َّقان ال يفترقان.
ٌ ٌ
وعون ٌ
سند،
فنحن الفلسطينيين ،على اختالف مشاربنا ومذاهبنا وانتماءاتنا الجغرافية ،مثلنا كمثل
هدية لعيد ميالده .فما كان منه في اليومً المرأة التي اشترت لزوجها ربطتي عنق،
ً
مندهشة: التالي إال أن ارتدى إحدى الربطتين الجديدتين .فلما رأته زوجته قالت
َ
فأسقط في يده وقلبه ولسانه! لماذا تلبس هذه ،ألم تعجبك الثانية؟
162
تعايُش
فمن جهة ،وأنا أحسبها اآلن ،قد يجوز أن الصواب في أن أبعث إليه برسالة ،بدال
من الهاتف .فقد يتذرع بأن الهواتف مراقبة ،أو قد يقول مساعده إنه ال يتحدث في
الهواتف ليصعّب عليهم معرفة مكانه .ولكنني أعتقد أنهم يعرفون مكان سكناه .فهذه
ه ِّينة ً
جدا .ولكن قد يكون أنه ال يبيت في بيته أو أنه دائم التنقل من مكان إلى آخر
ُ
فاستحسنت الفكرة والمؤدى. لتفادي أخطارهم،
قر اآلن على أن أبعث له برسالة .أخرجت دفتر الخربشات األصفر المهمّ ،
أن قراري ّ
كل اإلخالص وكتبت: والقلم األسود الذي أكنّ له َّ
«إلى حضرة القائد المحترم،
تحية وبعد.
الموضوع :أنا أكره العمليات في حيفا.
163
عالء حليحل
164
تعايُش
التفجير َّية /االنتحار َّية /االستشهاد َّية /النوع َّية؟ أفي براز حيفا خرزة زرقاء؟ ومن
بأن هذا الطلب ليس إال تمويهًا لمؤامرة «فتحاوية» جهة أخرى قد يطيب االعتقاد َّ
تر كيف فعل
تسعى لشهر عرضه في شوارع القدس -مدينة الصالة .بمعنى :ألم َ
شيخك بأصحاب العويل ،فجعلهم في تهليل (والتهليل للطبطبة)؟
قلت أحملها إلى صديقتي التي لم تعد صديقتي ،مع ً
حيرةُ . بعد القراءة الثامنة تأ َّب ُ
طت
أنها صديقتي ،ولتحكم هي .فهي تقرض القانون والقضاء وفيها من الحكمة والحنكة
ُ
وأسالكه من عجين. ً
أمثولة للرائين ،طي ُنه من طين، ما قد يجعل الجدار الفاصل
إلي كعادتها ،فتطارحنا العتاب وقلت أسألها ،فسأل ُتها .فقرأت
فلما أمسى المساء جاءت َّ
َّ
َ
الرسالة وقالت من دون ريب :حمار! فقلت :ولماذا؟ فقالت :و«الشاباك؟» قلت :ما
أن لك مشورة عند الشيخ، له «الشاباك؟» قالت :إذا قبضوا على الرسالة سيظنُّون ّ
بكاءات في قفصه الصدري .فقلت :فاتتني هذه واهلل ،فقالت :يفوتك الكثيرولرغباتك َّ
ُ
فتجاهلت تلميحها، ً
غليظا إلى فراقنا األخير، وال تتعلم .فلمحت في جوابها تلميحً ا
لتلميحاتهن وأردفت بنبرة أقوى
َّ استسالمهن لتجاهلك
َّ ْ
فحذت حذو النساء في عدم
َّ
وأشد من األولى :حمار!
مت شطر وادي النسناس العربي ُ
القحّ يم ُ
فلما أصبح الصبح وأنا في عداد الحميرَّ ،
يصح بعد
طاجن من الحمّ ص والفول ألعود للنوم بعد الموقعة ،فال ُّ
ٍ وقلت ،أفطر على
الحمّص والفول إال النوم( .وفي رواية أخرى :ال يصحّ إال الغطاط في النوم ،واألمران
منهمكا في ضرب الحصار المحكم بقطعة الخبز المحكمة على ً سِ َّيان) .وفيما ُ
كنت
المضمخة بدم الزيتون ،فاجأني صوت المذيع المتلفز يعلن
َّ بقعة الزيت الخضراء
عاجل بعبر َّية سام َّية طلقة :انفجار في حيفا! يا إلهي ،يا إلهي ،انفجار
ٍ خبر
ٍ عن
ُ
لست حما ًرا ،أي َنها لتعتذر ملء يصح ذلك؟ أينها لترى أنني
في حيفا! إخص!! إذ كيف ُّ
مهانتها عن ملء مهانتي؟ لو كنت أرسلت الرسالة إلى الشيخ لما حصل ما حصل! يا
إلهي ،ستطوف ً
غدا الطواقم المتلفزة والورقية واألثيرية في حيفا ،هنا ،قرب مطعم
الحمّص والفول ،لتسأل العرب عن شعورهم حول العملية وما إذا كان ذلك سيؤثر
غامسا
ً كل ذلك وأنا ما ُ
زلت محك ًما القبضة على بقعة الزيت الخضراء، على التعايشُّ .
عيني في التلفاز :العملية في الباص المؤدِّي إلى الجامعة،
ّ يدي في الصحن ،ومثب ًتا
وأخي في الباص المؤدِّي إلى الجامعة.
هرولت إلى الشارع مضطربًا ،وعندها فقط تأكدت من أنها على حق .فأنا حمار.
165
عالء حليحل
من كتابه "االب واالبن والروح التائهة" ،رواية قصيرة وخمس قصص ،دار العين ،القاهرة 2008
166
فايزة غوين
قصة قصيرة
ميمونة
-1الصرخة
ً
كبيرة. ً
صرخة ُ
أطلقت
حد أ َّنها اصطدمت بالسقف ،قبل أن تتناثر على أرضية ً
قوية إلى ِّ ً
صرخة كانت
َّ
المبلطة ،كما تسقط آالف الكريات الرصاصية. الغرفة
ومكدرة ،أكثر َّ
حدة مما يمكنكم أن تتخيلوه .صرخة من َّ صرخة حادة ،مزعجة
الوزن الثقيل ،من نفس نوع «المدافع الصوتية» التي يستخدمها اليوم شبه العسكريين
أو الشرطة بهدف إبعاد العد ٍو .صرخة مبرمجة كي تحدث زلزالًا.
أظهرت النسوة المهتاجات حولي بعض الرضى ،بل االرتياح.
يتحسن
َّ ٌ
خانق .أكاد أختنق وال والحر
ُ الجو،
َّ أالحظ َّ
أن رائحة لحم قوية اجتاحت
الوضع مع كل هذه الجلبة.
البراق ،والوجه
كما أن هناك هذه المرأة الشا َّبة ،المرتعشة قليلًا ،ذات الجبين َّ
مرة.
إلي ألول ّ
الوردي ،وعيناها تتدفقان بالدموع وهي تنظر َّ
نحن في 19أغسطس ،1947لقد وُ ل ُ
ِدت.
«بعد الوالدة بداية الموت» تيوفيل غوتيي
167
فايزة غوين
-2بداية الموت
إذا سألتموني لماذا يبدأ المر ُء بالصراخ ،ما إن يخرج ،حتى تكاد حنجرته تتمزَّ ق،
فسأجيبكم بال َّتالي :هل تتذكرون ما يشعر المرء به بعد تسعة أشهر قضاها في
العتمة؟
درجة خالل هذه
ٍ ُ
شعرت بالعزلة إلى أقصى ٌ
طويل .لقد زمن
أولًا :تسعة أشهر هو ٌ
التحوالت العديدة التي جرت
ُّ ً
وحيدة ،تجربة ً
مرغمة على أن أعيش، الفترة .كنت
ً
جديدة تنمو في بشكل مستمرٍّ ،أشيا َء
ٍ كنت أالحظ،بشكل يصيب بالدوارُ .ٍ في داخلي
مقلق بالفعل .تخ َّيلوا أ َّنكم تكتشفون
ٌ ا...أمر
ٌ ِّ
كل مكان :ذراعين ،ساقين ،أصاب َع وشعْ ًر
قدمًا .وانتهى بي األمر كل صباح ،وأنتم تنظرون إلى أنفسكم في المرآة ،أن أذنًا أو َ
بد من القول إن ذلك كان جميلًا ومرت ًّبا إلى أن أعتاد على ذلك كسائر األمور .ثم ال َّ
أتذكر ،بشكل ً
معجبة بالنوع َّية وبد َّقة األبعادَّ . ُصدقُ .
كنت بشكل رائع ،بشكل ال ي َّ
ُ
عرفت األشياء. ُ
اكتشفت فيها يديَّ .في ذلك اليوم خاصَّ ،
اللحظة التي
إن المكان كان مريحً ا .لقد نعِمت لقد ُ
نمت في معظم األحيان .من اإلنصاف القول َّ
ً
عذوبة في حياتي ،خصوصً ا في األشهر األولى ،إذ كان المكان ما يزال بأكثر القيلوالت
ُّ
التمطط .غدا األمر أكثر إجهادًا بعد ذلك .وبسرعة ازددت فسيحً ا ،وكنت أستطيع
ً
محشورة بصراحة. ميليمترات ثم سنتمترات ،وفي النهاية ُ
كنت
العالم الخارجي ...نعم ،لدينا فكرة حدسية عنه :إحساس ،عالمات ،بل ح َّتى بعض
اليقين َّيات.
أحد يصل إلى هنا بمحض المصادفة. أخيرا :ال ًَ
كنت أتر َّقب مستقبلًا أتو َّقعه مُظل ًما .وبال َّتالي كنت أستفيد
ُ كنت جني ًنا، ُ منذ
ً
مدركة أن هذا ً
عائمة في الج ِّو الرطب، من هذا العالَم المُ ْط َمئِن خالل إقامتي تلك،
الشعور باألمان لن يدوم.
ً
كنت أمتلك ،لحسن الحظ ،بعض العالمات :أصواتًا أص َبحت مع الوقت مألوفة بالنسبة
ً
ركلة وج ُ
هت مما أسمعه أحيانًا ،حدث أن َّإلي .فضلًا عن ذلك ،أنني بسبب االنزعاج َّ
ً
عديدة، ات
مر ٍ ُ
أطلقت العنان لغضبيَّ ، ً
صارخة إلى أحد الجدران المحيطة بي .لقد
لكن احتجاجاتي َّ
ظلت غير مفهومة، ضد جدران ما أسميته «غرفتي المؤ َّقتة»َّ . َّ
ً
قوية منذ البدء. بد أ َّنهم اعتبروني
لألسف ،بل إنها أثارت البهجة .ال َّ
168
ميمونة
ٌ
كثيرة ال نفهمها .وال يمكن أن نمنع أنفسنا من التساؤل :لماذا أتينا إلى ثمة أشيا ُء
َّ
أي مصادفة جعلتنا نجد أنفسنا في هذه القرية ،في حضن
مكان آخرُّ .
ٍ هنا وليس إلى
َّ
نتحدث هذه اللغة ونحمل هذا التاريخ؟ هذه العائلة،
بمشيئة
ٍ بالتالي من أجل ن ْيل جواب على كل هذه األسئلة ،يوجد خياران :اإليمان
الدقةَّ ،
كل هذه الظروف وفق هدف نهائي .أو قرار االتِّكال على ص َنعت ،عبر ٍ
نظام بالغ ِّ
ما نسميه جميعًا المصادفة ،مع كل ما َّ
يتطلبه األمر من عبء :العيش مع نفس األسئلة
التي تنهال علينا دونما انقطاع ،وهذا حتى النهاية التي ال يجهلها أحد.
بحزم.
ٍ ًإذا فأنا أؤمن،
تظل أسئلتي من دون أجوبة. أحب أن َّ
فأنا ،مثل الكثيرين ،ال ُّ
وضعتني إحدى النساء المس َّنات ،التي تحمل وش ًما على جبهتها ،على صدر أ ِّمي
الساخن .أحسست بقلبها يخفق اضطرابًا .بدت أ ِّمي نحيفة القوام ويافعة ،الحظت
َ
السكوت، عندئذ طلَبت منها المرأة العجوز الموشومة
ٍ أ َّنها ال تزال تبكي ،كالطفلة،
السرة وقطعته.
َّ مثلما يُطلب من طفلة .امرأة عجوز أخرى ،بال أسنان ،أمسكت بحبل
نظفتني بقطعة من قماش خشن تغمسه بماء رفعتني كي تحملني إلى الحوض ،حيث َّ
ساخن ،كان األمر مزعجً ا ،وكان القماش ُّ
يحك جلدي.
ونظرت إلى يدي المرأة العجوز .كانتا رقيقتين ،وناتئتي العظام وعليهما بقع
ضاربة إلى السمرة .وكانت من حين آلخر تعيد خصلة من شعرها الرمادي إلى
داخل خمارها الملون.
أكثر من عشر نساء يتشاغلن من حول والدتي المسكينة.
ُجردةٍ تمامًا من َّ
اللحم ،هياكل ي ِّ
ُذكر منظرهن بهياكل عظم َّية لدجاجات مُس َّنة ،م َّ
عظمية مسنة تتقاذف فيما بينها أصواتَها الحادَّة من ركن إلى آخر في الغرفة ،كما
بحبال ّ
معقدة األلياف. ٍ لو أ َّنها تتراشق
لهن أ ِّمي اليافعة المنهكة.
واستسل َمت َّ
ومرات ،قمن بغسلها ،وأنهضنها ،وتحدثن إليها بصوت مرات َّ تتكرر َّ
َّ وبحركات
ٍ
منخفض ،بينما واصلت المرأة العجوز ،التي ال أسنان لها ،عملية التنظيف :دهنتني
بالصابون األسود ،ص َّبت علي الماء الساخنَّ ،
غطتني بالح َّناء ،ومن جديد ما ٌء ساخن،
بقماش
ٍ كامل
ٍ بشكل
ٍ وأخيرا ،ل َّفتني
ً مغم ًسا بالكحل،
صغيرا َّ
ً مررت بين أجفاني عودًا
ثم َّ
169
فايزة غوين
ً
مانعة إ َّياي خاص ًة ًّ
جدا ،فث َّبتت يديَّ بين طبقات النسيج َّ طويل مستخدمة تقن َّي ًة
ٍ
عندئذ من جيب معطفها منديلًاٍ من وضعهما فوق وجهي .وأخرجت المرأة العجوز
تمرة ،قض َمت نصفها بصعوبة بواسطة لِ َثتها البائسة العاريةٌ صغيرا ،في داخله
ً أبيض
ووضعت النصف الثاني من التمرة في فمي ،بضع ثوان فقط .وشعرت بمذاق لذيذ
وحلو .وأنهت عملها وهي تتل َّفظ بأدعية ليحفظني اهلل قبل أن تضعني كموميا ٍء بين
تتجول ،بحزن ،في الفراغ ولم تعُد ُتعيرني أي انتباه.
َّ ذراعي والدتي .كانت نظرتها
فجأة دخل ولد صغير إلى الغرفة ،يحمل بيده عصا خشبية أطول منه ،وكان شعره
وجه كالمه للمرأة العجوز ،التي بال أسنان ،والتي غسلتني، ً
منفوشا وأغبرَّ . المتجعد
ِّ
ويتكئ باليد األخرى على عصاه: وهو يلعب بيد بحاشية سرواله الرياضي القصير
«ما األمر يا أ ِّمي؟ بابا واآلخرون يسألون! لم يسمعوك».
استدارت ،ألقت عليه نظرة حادَّة.
فجأة انحنت والتقطت صندال قذفته به كالعاصفة .تفاداه بالكاد وضحك.
« -حس ًنا ،إن لم يسمعوا شي ًئا ...أفلم يفهموا؟ عُ ْد لرؤيته وقل له إنه ليس من
عندئذ ،أليس كذلك؟ ه َّيا انصرف وأَعِ د العصا ألبيك!»
ٍ حاجة لذبح الثور ،سيفهم
حركت الستارة الخضراء المزهرة ،والتي تقوم مقام الباب ،فظهرت نسمة خفيفة َّ
تتجول فيها الدجاجات وتقوقئ تحت شمس ملتهبة .وبينما كان
َّ ساحة صغيرة
الرجل -الولد الصغير -يبتعد ،طرد الدجاجات وهو يقفز ،وحاول ضربها بعصاه
الخشبية.
بجفني ثقيلين.
َّ وأحس ٌ
-أنا تعبة
ُّ
توجهت المرأة الموشومة بالحديث إلى والدتي بنبرةٍ جا َّفة:
َّ
« -واسمها؟»
ً
لحظة وأجابت: في
تفرست َّ
وأخيرا ،استدارت أ ِّمي نحويَّ ،
« -ميمونة»
كن موجودات هناك، ٌ
صمت ثقيل ،ثالث أو أربع من النساء العجائز اللَواتي َّ
ٌ ساد
جديد وبحركة
ٍ التقطن لباس الحايك ولففن به أجسامهن .أصبحن مجهوالت من
تجر
الجو الحار ،ح َّي ْين بقايا الدجاجات قبل أن يختفين في بياض نسيجهنُّ ،
حركت ََّّ
َ
منهن هيكلها العظمي .وسمحت لنا رقصة أخرى للستارة الخضراء المزهرة برؤيةَّ كل ُّ
موكب الدجاجات العجائز وهو يخترق موكب الدجاجات الحقيقية ،ذات الريش.
170
ميمونة
-3العودة
171
فايزة غوين
ِّ
وتسخن الماء وتضع زيت َ
الخبز من الفرن قد أنهت واجباتها .كان عليها أن تخرج
الزيتون في جفنة ،وته ِّيئ الشاي وتمدد حصيرة الخيزران في الفناء ،مع وسائد،
من أجل ظهره.
ِّ
وتخلصه من وحالما كان يربط بغله إلى جذع شجرة ،كانت أ ِّمي تسرع لمالقاته،
سالله وتسبقه ،كي تضعها قي المطبخ ،ثم تعود لتساعد جدي على الجلوس ،فتخلع
َ
قطعة ملح كبيرة .ثم حذاءه وتضع قدميه في الماء الساخن ،الذي وضعت فيه قبلًا
يحب غمسه في زيت الزيتون .بعد
ُّ تقدم له الشاي والخبز الساخن الذي كان كانت ِّ
شوش هذه اآللية ِّ
كل هذا ،يمكن أل ِّمي أن تركن للطمأنينة .وإذا ما حدث خطأ صغير َّ
جدي يستشيط غض ًبا ،وأحيانًا يبصق في وجه أ ِّمي. المتناغمة ،كان ِّ
لم يكن العجوز والد أ ِّمي ،بل كان حماهاَ ،
والد زوجها .ر َّبما كان األمر أكثر سوءا.
عبد الحق هو االبن الخامس عشر واألخير في هذه العائلة الكبيرةُّ .
كل اآلخرين
كل حال ،نبالغ إذ نقول «غادروا» ،إذ أ َّنهم موجودون تزوجوا وغادروا البيت .على ِّ
َّ
على بعد بضع مئات األمتار من هنا ،وقد ش َّيدوا منازلهم الخاصة من الحجر ،ومنحوا
ألنفسهم ما يشبه االستقاللية من خالل تشتُّتهم حول الحقول .سوى واحد منهم
بعيدا ًّ
جدا .وهو االبن الثامن ،محمد ،أبي ،الذي يعيش ً ش َّتت روحه بالذهاب للعمل
في فرنسا ،والذي لم أره قط .نحن في شتاء سنة 1953وأنا أحيك له زوج جوارب
ً
سميكا بصوف خرافنا وبريشتي ديك أستخدمهما ص َّنارتين .سيعود إلى الجزائر في
بداية الربيع .وأنا أستعجل عودته .
-4 المنفى األخير
أخيرا أخذ كل األجوبة
ً قمة االهتياج ،أنا ووالدتي .سيتسنى لي حين عاد ،ك َّنا في َّ
عن أسئلتي التي لم أتو َّقف عن طرحها على أ ِّميَ ،طوال هذه السنوات .ح َّتى اللحظة،
يخوف بها األطفال كي
لم يكن أبي بالنسبة لي حقيق ًيا أكثر من «األ ِّم الغولة» التي َّ
يظ ُّلوا هادئين ،أو من جُ حا ،الشخصية الهزلية ،الذي ُت ْحكى مغامراته العجيبة في كل
العالم العربي .كان أبي ،بالنسبة إلي ،إحدى هذه الشخصيات التي تسكن مخ ِّيلتي.
جدتي كلثوم شي ًئا ،وتخلط َّ
كل َّ
تتذكر َّ لم أكن أعرف وجهه وال صوته وال ميوله .وال
172
ميمونة
يتذكر المرء ُ
الط َرف عندما يكون لديه 15اب ًناَّ ...
قصت َّ األشياء .ليس من السهل أن
كل حال ،حسب بعضا من هذه األشياء الصغيرة لك ِّني وجدتها تافهة .على ِّ
علي أ ِّمي ً
َّ
ما عرفت لم يكن أبي ثرثا ًرا.
نترصد كما نفعل حين ننتظر عودة ِّ
جدي من السوق. َّ ك َّنا واقفين على عتبة الباب
أبي يقترب في ضباب الصباح ،كما في الحلم ،كان األمر رائعًا ومضطربًا في آن .وجدته
جدتي بالبكاء وهي تجري نحوه ،تتبعها أ ِّمي .كان من العادي جميلًا ًّ
جدا .انفجرت َّ
أمرا ناد ًرا ،حتى كدت
رؤية أ ِّمي تبكي ،أما رؤية جدتي كلثوم تذرف الدموع ،فكان ً
أن ثمة علجومًا عجو ًزا يجثم على صدرها ،ويجلس مكان قلبها.
أتصور َّ
ً
متنحية ،كنت على غاية االستحياء ،وهو ولكن قويًا .بقيت
ْ قصيرا
ً كان العناق
الذي طلب مني أن َّ
أتقدم.
شجعتني أ ِّمي بترب ْيتة خفيفة على ظهري وقالت ألبي« :ها هي ميمونة! إنها
َّ
كثيرا!»
ً تساعدني
نعم ،كان جميلًا ًّ
جدا .بشارب أنيق ورقيق ،وشفتين ممتلئتين ،وحين ابتسم بدت
أسنانه فائقة الجمال.
ٌ
أسنان شنيعة فحسب ،بسبب مضع التبغ، خالفًا ِّ
لكل أعمامي الذين لم تكن لهم
جدا قاتمة ،تخفي كل أفواههم! فكأ َّنهم ألصقوا ذيل ٍ
بغل ولكن أيضا شوارب كبيرة ًّ ْ
على وجوههم! يا له من رجل جميل ،أبي!
كما قلت ساب ًقا :من البداية يوجد خياران .اإليمان أو االعتقاد بالمصادفة.
يتوجب عليه الرجوع ،بفضل رسالة
َّ عاد أبي قبيل الحرب ببضعة أشهر .أدرك أ َّنه
ّ
(المتعلم الوحيد في العائلة) والتي يقول من أخيه عبد العزيز ،كتبها عبد الحق
أخيرا ،سنحصد الشعير ».بطبيعة الحال ،كان ُّ
كل ً فيها« :عليك العودة فو ًرا ،أل َّننا،
هذا ألغا ًزا.
إذًا اندلعت الحرب :الجوع ،والصليب األحمر ،والنفي إلى المغرب ،والمدرسة،
والخوف .هذا الجندي الذي وضع بندقيته على ُصدغ أخي الصغير مصطفى وكان
َّلما يتجاوز عمره بضعة شهور ،وكان ينام على ظهر أ ِّمي .قال الجندي« :يجب أن
نقتله اآلن قبل أن يكبر ،ويلتحق باآلخرين في الجبل».
173
فايزة غوين
ثم الحرية.
بعد أن غ َّن ُ
يت هذه الكلمات ،من أعماق روحي :
١
قسما بالنازالت الماحقات
والدماء الزاكيات الطاهرات
والبنود الالمعات الخافقات
في الجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا ...فاشهدوا ...فاشهدوا...
٢
ِّ
الحق ثرنا ٌ
جند في سبيل نحن
وإلى استقاللنا بالحرب قمنا
لم يكن يصغى لنا لما نطقنا
فا َّتخذنا ر َّنة البارود وزنا
وعزفنا نغمة َّ
الرشاش لحنا
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا ...فاشهدوا ...فاشهدوا...
٣
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
وطويناه كما يطوى الكتاب
يا فرنسا َّ
إن ذا يوم الحساب
174
ميمونة
ِّ
فاستعدي وخذي م َّنا الجواب
إن في ثورتنا فصل الخطابَّ
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا ...فاشهدوا ...فاشهدوا...
٤
نحن من أبطالنا ندفع جندا
وعلى أشالئنا نبعث مجدا
وعلى أرواحنا نصعد خلدا
وعلى هاماتنا نرفع بندا
جبهة التحرير أعطيناك عهدا
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا ...فاشهدوا ...فاشهدوا...
٥
صرخة األوطان من ساح الفداء
فاسمعوها واستجيبوا للنداء
واكتبوها بدماء الشهداء
واقرأوها لبني الجيل غدا
قد مددنا لك يا مجد يدا
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا ...فاشهدوا ...فاشهدوا...
متخصصا .كان
ً ُ
تزوجت ،في سن العشرين ،عاملًا وطئت قدماي أرض فرنسا.
َ ِّ
ويدخن السجائر طوال النهار ،لك َّنه كان قصيرا وسمي ًنا ،وكان أخرق بعض الشيء
ً
بالغ اللطافة .كان ط ِّي ًبا دائ ًما .هذا ما كنت أح ُّبه فيه.
175
فايزة غوين
176
كمال الرياحي
مقطع من رواية
المشرط
177
كمال الرياحي
178
المشرط
179
كمال الرياحي
كراسة بولحية
من َّ
قصة خديجة التي هزَّ ت العالم
لقد حسمت أمري ،لن أكتب شي ًئا بعد اليوم عن ابن خلدون .أصبحت ِّ
متأك ًدا أني
القمل .التماثيل هي التماثيل،
وتتحرك ويصيبها َّ
َّ أتوهَّ م .ال يمكن للتماثيل أن َّ
تتكلـم
عيب ما أفعله ،ألدعها تنام في سالم ،ح َّتى لو َّ
بررت ذلك َّ
بأن األمر مجازي ورمزي،
القص العجائبي .هذا الذي يذبح مؤخرات النساء مثلًا،
ففي الحياة ما هو أعجب من هذا ِّ
تحول إلى أرضة
أقص؟! النيقرو شبه األ ِّمي الذي َّ
قصته أكثر عجائبية مما ُّ
أليست َّ
شورب نفسه الذي لم أفهمه برغم األشهر الطويلة التي قضيناها معًا تحت
ّ كتب؟!
سقف واحد؟! ما زلت أذكر يوم اقتحم حياتنا كالكابوس .كنت أنا والنيقرو ،كعادتنا
في المطبخ ،نقلي البيض للعشاء ،وكنت ألوم النيقرو أل َّنه لم يجهِّزه ،فهو يقضي اليوم
كاملًا في البيت وعلى الساعة الخامسة مساء يذهب لحراسة مصنع المعكرونة.
كان يقول إن المصنع ال يحتاج من يحميه ،ألن الناس كرهت المعكرونة.
مرة .كان يقول لي« :اطبخها في
هو ال يطيق الحديث عنها وحرمني منها أكثر من ّ
الليل بعد أن أترك البيت ثم أفتح َّ
كل النوافذ ح َّتى تخرج رائحتها بال رجعة فال تقززني
ِّ
الحظ أنه عاد إلى الشغل ليلًا بعد أن استجاب رئيس العمال عندما أعود» ،من حسن
لرسائل الشكوى التي يثقل بها صندوق االقتراحات في المصنع ،قال إنه لم يعد قاد ًرا
تعود السهر ،لذلك كان يضبط نائ ًما في النهار في كشك الحراسة.
على النوم ليلًا ،ألنه َّ
الحجة «لم أعد قادرا على العيش
َّ مرة ،وكان يدافع عن نفسه بنفس
عوقب أكثر من ّ
وأن ً
سعيدا ،وهو يخبرني بأن حليمة عادت إلى عادتها القديمة َّ بالنهار» يومها عاد
َّ
الليل عاد إليه .النيقرو يعاني من ضعف نظر ،يقلقه الضوء ،قلت له إنك تشبه بطل
فأصر أن يقرأ الرواية ،ومنذ ذلك اليوم سقط في عشق الروايات،
َّ «الغريب» أللبير كامو
شورب َّ
خده وتس َّبب في طرده من المصنع. ّ وازداد ولعه بالكتب بعد أن فتح
ِّ
متأخ ًرا ،وإنه كان تحت وطأة كابوس« :رأيت قال لي يومها النيقرو إنه استيقظ
حط فوق صدري ،وأخذ ينقر وجهي وجسمي ح َّتى بقر بطني، طائرا بشعًا َّ
ً َّ
كأن
وأخذ يسحب أمعائي ،يلوكها وقتا ثم يرمي بها على وجهي .كابوس بشع قمت على
مجرد التفكير في الطعام».
َّ إثره أتق َّيأ ،فلم أستطع أن ِّ
أفكر
قصة َّ
المخاخ. يبدو لي اآلن أ َّنني في تلك َّ
الليلة كتبت َّ
180
المشرط
المهم أن في تلك اللحظة التي روى لي فيها النيقرو حلمه ،وأنا أنشغل بقلي البيض،
طرق الباب .ذهب النيقرو ليستطلع قارعه ثم عاد ،وقد ازداد وجهه اسودادًا وتمتم
حقا يرتجف ،تركت المقالة على النار وخرجت :رجل غريب «الكابوس بالباب» كان ًّ
بشقرة بربرية بشعة .يشدُّ شعره األصفر الطويل ذيل حصان .وشم الثعبان المخيف
كميه لتظهر
يطل من تحت القميص الض ِّيق الذي عقد طرفيه فوق سُ ّرته وطوى َّ ُّ
تحزمها عروق خضراء ناتئة ،بينما تكشف فتحة القميص تضاريس عضالته المفتولةِّ ،
يتدلى منه رأس فرعون وصليب َّ
معقف. صد ًرا رياض ًيا أملط ،يزيِّنه خيط أسود سميكَّ ،
ً
وحشا آدم ًيا أشقر. وجهه طويل يشبه وجه جمل وشفتاه الغليظتان تجعالنه
بعد لحظات من الصمت سألني إن كنت أنا مالك المنفوخي الملقب ببو لحية
وعندما قلت له «أنا هو» ،دخل البيت وهو يقول مبتسما ابتسامة خبيثة «لماذا ال
أحدا؟» ركضت وراءه إلى داخل البيت «ال ...ال أنتظر ترحّ ب بي إذن ،ألم تكن تنتظر ً
َّ
«تذكر ج ِّي ًدا» وأخذ يبعبع ماء القارورة ً
أحدا ،من تكون سيادتك؟!» هزَّ رأسه الكبير:
هم بالشرب منها
البلورية التي كنت أحرم النيقرو من الشرب منها ،قلت له عندما َّ
«اتركها وخذ غيرها ال أريد أن يشاركني قارورتي أحد» ،ها هو هذا الغريب يضعها
بين شفتيه الكبيرتين المقززتين دون أن يستأذن ،ودون أن يستعمل الكأس التي
أهتز ً
غيظا «من أنت أيّها الرجل ،إن لم تقل من أنت وماذا أضعها بجانبها .قلت ،وأنا ُّ
تريد سأ َّتصل بالشرطة».
ترك القارورة التي أجهز على مائها واستغرق في الضحك وق ًتا « يبدو أ َّنك نرفوزي
برشا ،ال أدري كيف سنتعاشر؟»
-وهل تنوي أن تعاشرني؟! من أنت؟
المرة اشتعل في ذاكرتي االحتمال .قلت مغمغ ًما
عندما انتهيت من طرح السؤال هذه ّ
مرة أخرى وأجاب برأسه :نعم ،تمالكت
«هل أنت قريب سفيان؟!» ابتسم ابتسامته ذاتها ّ
تأخرت وسكن مكانك مستأجر آخر». نفسي من الصدمة وقلت «ولك َّنك َّ
اللي سكن في عوضي ّ
خليني اللي داعيه عليه أمّو ّعندها التفت غاض ًبا «آشكون ّ
ّ
نفشخلو الراس متاعو .وأنت كان الزم تست ّنى شويّة ح ّتى نجي».
-ومن يدفع معي إيجار البيت؟!
-كنت سأعطيك ما دفعته وحدك .هيا اطرد هذا الشيء وأخبرني كم دفع؟
-ال يمكن أن يحدث هذا ،الرجل استأجر البيت بشكل قانوني.ال يمكنني أن
181
كمال الرياحي
182
المشرط
يقال إن مساجد المدينة كان يتردَّد فيها جدل كبير حول تأويل اآلية الكريمة
مرة «نساؤكم حرث لكم ُفاتوا حرثكم أنّى شئتم» وكانت صالة الجمعة تنتهي َّ
كل ّ
ً
تحديدا ،والتي قيل بمعركة دامية بين المختلفين حول معنى اآلية ومعنى «أنّى»
ترجح وكاالت األنباء إن معاجم اللغة ِّ
تؤكد أنها تفيد «الكيف» و«األين» ،لذلك ِّ
متطرف إسالمي حاول حل المسألة بطريقته فعمل على تشويه
ّ األجنبية أن الجاني
مؤخرات النساء حتى يزهد فيها الرجال ويعودوا إلى آية اهلل.
َّ
مؤخرة متشددة على اإلنترنيت صورة مل َّثم ،وهو يجلد
ِّ عرض موقع جماعة
سائحة أجنبية وقع اختطافها في بغداد ،قبل أن يذبحها من الوريد إلى الوريد ويتلو
بيان المقاومة الذي ذكر فيه أن جماعته تتعاطف مع المجاهد الذي ظهر في تونس
ليحارب الفسق والفجور ووصفه بالمجاهد األصغر .
استضافت إحدى الفضائيات ،المعروفة بمعاداتها لإلصالحات االجتماعية والحقوقية
ِّ
المتشددين وسألته عن رأيه في ً
واحدا من التي حصلت في تونس منذ االستقالل،
َّ
المقدس ،فلم يكفهم منع تعدُّ د ً
بعيدا في هتك القض َّية فقال« :لقد ذهب التونسيون
الزوجات وما أغدقوه على المرأة من حقوق عارضوا بها أحكام الشريعة ،وصل بهم
األمر اليوم إلى تسمية المؤخرة باسم إحدى زوجات النبي ،بل أقرب زوجاته إليه.
وهذه واهلل من عالمات الساعة التي ال َّ
بد أن ينزل اهلل عقابه على هذه األمة التي
فاتت في فجورها قوم لوط تجدر اإلشارة إلى أن اإلرسال انقطع وعاد بعدها المذيع
ليعتذر ويقول إن األمر خارج عن نطاقهم ،وإن زحمة االتصال للمشاركة في البرنامج
ً
تشويشا على القمر الصناعي .ألغيت بعد ذلك المداخالت الهاتفية واكتفي أحدثت
بالرسائل اإللكترونية التي تصل البرنامج عبر شبكة اإلنترنت .
تخلل البرنامج ،مسيرة سلمية نقلت الفضائية نفسها في موجز األخبار الذي َّ
منددات بما تتعرض له لنساء المكسيك خرجن فيها تضامنا مع المرأة التونسية ِّ
أجسادهن من قمع واعتبروا المجامعة ُ
الدبرية حر َّية شخص َّية ونادين بتنظيم
مسيرات مساندة مماثلة في ِّ
كل أصقاع العالم .
كثيرا من
ً َّ
المنظمة متخ ِّوفة أن متحدث باسم َّ
منظمة الصحة العالمية َّ ِّ نقل عن
مستتبعات هذه األزمة ،بعد أن وصلتها تقارير تشير إلى أن عدد الوالدات في تونس
ِّ
المحللون أرجعوا ذلك إلى إعراض الرجال عن عادة تغيير يتزايد بشكل مفزع.
ِّ
المتشددين بتحليل ذبح مؤخرات النساء الخارجات عن الرحل .أفتى أحد الشيوخ
183
كمال الرياحي
شرع اهلل في بالد اإلسالم وقال إن ثواب ذبح مؤخرة فاجرة واحدة بمئة حسنة
يوم القيامة.
ِّ
ذهب آخر إلى تكفير كل من اتبع مالك بن أنس ألنه ،حسب رأيه طبعًا ،هو الذي
ِّ
المنظرين للفجور خرجوا من تونس أحل تغيير الرحل في المجامعة .وأضاف إن َّ
كل َّ
وذكر أسماء منها التيفاشي والتجاني والنفزاوي ،واعتبر أن على المسلمين أن يمتنعوا
عن الحج إلى القيروان هذا العام في المولد النبوي الشريف احتجاجً ا على ما وصل
إليه حال اإلسالم في تلك األ َّمة .
كذبت وكالـة تونس إفريقيا لألنباء ما أوردته إحدى صحف المعارضة في الخارج َّ
من أن «جمع َّية أح َّباء خديجة» منعت من مزاولة نشاطها ،ولم ُت َّ
مكن من إذن العمل،
حددها قانون الجمع َّياتَّ .
وأكدت الوكالة رغـم أنها استوفت الشروط القانونية التي َّ
استنادًا إلى تصريح مسؤول كبير أ َّنه ال وجود لجمعية بهـذا االسم ،وأن األمر ال
َّ
يتعدى محاولـة تشويه دنيئة قـام به بعض الخـونة الناشطين بالخـارج والمتاجرين
بأوطانهم.
184
محمد حسن علوان
قصة قصيرة
حنيف من جالسكو
ُ
كنت أعبر جسر الخليج عندما جاءني صوته عبر الهاتف .كانت عيناي تدمعان
قليلًا ،وزوجتي صامتة .قال لي :مبروك .وفي صوته رائحة الصوف التي تليق بالرجل
ألمس في قلبه نفس خطوط الوفاء المعتادة
زلت ُالذي جُ دِ لت حنجرته في كشمير ،وما ُ
التي رتّب بها عالقته معنا طيلة عشرين سنة ،وأوحت إليه اليوم أن يبعث بركته
كثيرا في جالسكو.
ً البعيدة ،عبر مكالمة هاتفية ال بد أنها ِّ
تكلفه
ً
ومعرضا في أي ً
مرتبكا، فاجأني في منتصف الجسر تمامًا ،ولهذا بدا الحوار معل ًقا،
لجة البرود والرسمية التي ال أشعر بأنها الئقة .ولهذا
لحظة أن يسقط من حافته ،وفي َّ
خففت سرعتي قليلًا ،وحاولت أن أكون بمستوى كرامته حتى ال تتضاعف ذنوبي.
كانت حالة غريبة ،كما ّ
ظلت غريبة دائ ًما ،أن تكون حمي ًما لصديق لم تزل عربيّته
مكسرة ً
جدا ،وإنكليزيته في عِ ثارها األول ،والتأرجح بين اللغتين آخر شيء ينقص َّ
خالج مفاجئ كهذا.
ٍ عاطفتي المتحفظة أصلًا ،وغير المعتادة على التعبير عن
عانقته آخر مرة قبل سنتين .أخبرني أن تأشيرة هجرته إلى بريطانيا صدرت
أخيرا ،متأخرة عشر سنوات عن مواقيت أحالمه ،وأخبرتني حقيبته المتأهبة ً
جدا ً
للشمال أننا لم نكن أطيب معه من تلك البالد الموعودة .عشرون سنة وهو يذرع
شوارع الرياض حتى استوت عنده هي وجبال كشمير ،فلم يعد ألي منهما سطوة
أعلى في ذاكرته .اقتسمت المدينتان حياته تمامًا حتى أصبح التحيز إلى إحداهما
في هذا المنعطف األربعيني من العمر يهدده بكساح في الذاكرة ال أعتقد أنه يحتاجه
أبدا ،ال سيما وهو م َّتجه إلى مدينة ثالثة جديدة ،ال يعرف نواياها تجاهه.
اآلن ً
ترك الرياض للمرة األخيرة وفي جوازه تأشيرة تشبه تلك التي دخل بها قبل عشرين
ً
مختلفا في جوازه ،مقابل الكثير الذي كتبناه على أيامه هنا. سنة .لم نكتب شي ًئا
185
محمد حسن علوان
طويل ً
جدا ،أسود ٍ تذكرت -وأنا في الخامسة -سعادة االحتفال بسائق جديد للعائلة:
الشعر ،غليظ الشفتين ،ونحيل .ولم يلبث طهو أمي أن غيّر من صفته األخيرة تلك،
وأحدث في بدنه استدارة بطنية متنافرة مع طوله الفارع .اآلن ،أتذكر وداعنا قبل
سنتين ،ما زال طويلًا ولكن شعره اشتعل تدريج ًيا ببياض مدروسّ ،
موقع بالتعب
الذي دهمه فجأة ،وصارت قدرته على المزاح أقل ،وغابت ضحكاته الالمبالية تمامًا،
حتى ال أتذكر أني سمعته يضحك منذ سنوات!
ً
واقفا في منتصف المسافة بين عائلتنا وخدمتنا لوقت طويل ،ال يستطيع ّ
ظل
تجاوز إحداها إلى األخرى .سافر وعاد ،وسافر وعاد عشرات المرات ،وفي ِّ
كل مرة
تنوء حقيبته البسيطة بالهدايا القماشية الصغيرة ،وتحف المرمر ،وفواكه السند،
ّ
نتحلق جميعًا في صالة المنزل، وأشرطة الفيديو التي صوّرها في قريته .عندها كنا
تلتحف أمي بخمارها وتجلس في الخلف ،ونضطجع -أنا وإخوتي -حول التلفاز،
بينما يجلس هو بتواضع قري ًبا من جهاز الفيديو ،ويمد ذراعه الطويلة بين فينة
وأخرى ،ليشير إلى زقاق يظهر في التلفاز أو دكان أو منعطف «يمشي ّ
قدام شوي في
وكثيرا ما
ً بيت أخت أمي أنا ...بعدين اثنين شارع يسار في بيت أخوي كبير»...
ُ
تجاهلت قاطعته أنماط مختلفة من األسئلة حسب أعمار السائلين .وعني أنا ،فقد
كل تاريخه العائلي الذي يحاول أن يوضحه لنا ،وسألته «ما فيه أسفلت؟» وضحكَّ
حنيف وأمي وأخي األكبر ،وظلت أختي الصغرى تنتظر اإلجابة ،مثلي.
تأجّ لت طفولته طويلًا .عندما ولد في كشمير ،كان أبوه قد صار عمدة القرية
منذ سنتين تقري ًبا .اجتمعت لديه وظيفة الحكومة ووجاهة المنصب ،فتزوج امرأة
ثانية ،ليكمل بها زينته .ووُ لد حنيف وأخوه األصغر من هذه الزوجة الثانيةُّ ،
وكل
المؤشرات كانت توحي أنه وأخاه سيقطفان حت ًما ثمرات كثيرة من كونهما ابنين
لشيخ كبير ،وزوجة صغيرة أثيرة ،ومنصب جديد .ولكن شي ًئا من هذا لم يحدث،
ألن أباه مات كما يموت الشيوخ ،بينما كان أغلب إخوته الكبار من الزوجة األولى
كبا ًرا بما يكفي ،ليتركوا القرية إلى أصقاع األرض ،للعمل.
صغيرا ،وصار يبيع القفازات
ً ِّ
ككل األيتام .ترك المدرسة ولهذا تأجلت طفولته
الصوفية التي تغزلها أمه للجنود المرابطين على الحدود .والطريق ما بين القرية إلى
ثكناتهم كان مسكونًا بأصوات القنابل البعيدة ،وأناشيد األطفال التي تسخر من الهنود،
وتخترع حكايات صورية عن جبنهم وضعفهم .وعندما بلغ العشرين ،انتقاه أحد
186
حنيف من جالسكو
مكاتب االستقدام وجاء به إلى السعودية وهو يشعر بأن حياته لت ِّوها تبدأ ،مثلما يشعر
اآلن بنفس البداية ،وهو في جالسكو :أبًا لثالث بنات ،وفي األربعين ،ويصنع همبورغر
إسالم ًيا لطالب الجامعة ،وينتظر أن تنتهي إجراءات جنسيته البريطانية في أسرع وقت.
ً
طيبة في منتصف ً
واحة مرة تشبه
كانت السعودية عندما قدم إليها حنيف أوّ ل ّ
الصحراء .غريبة ،ولك ّنها مريحة .أصوات األذان تخرج من عشرات المآذن ،عبر
مكبرات الصوت التي تبعث في روحه المهابة ،وتطمئنه إلى أن القوم مسلمون،
ً
جيدا .كان يتقاضى رات ًبا لم يره جيبه ،ويتناول يحبون اهلل واألذان ،وسيعتنون به
ثالث وجبات كاملة في اليوم ،مقابل أن يقود سيّارة حديثة في مدينة عصرية،
مبعثر في الطرقات،
ٌ ٌ
غربة بال أنياب ،والخير ويروي أشجار الحديقة القليلة .إنها
والناس ال يقلقون من شيء وال ينتظرون شي ًئا .ولهذا اطمأن قلبه ،وتذكر أنه
يجتر ها من ماضيه ،ويمضغها بيننا على مهل.
ّ فقر ر أن
لم يعش طفولته بعدّ ،
هاجمته أزمة منتصف العمر ،وهو ما يزال ذارعًا وجه الرياض الذي لم يتغير
كثيرا هو اآلخر .األربعون تد ُّقه مثل وتد ال يريد أن ينزل أكثر في هذه الصحراء،
ً
فيضيع فيها إلى األبد .والبنيّات الصغيرات اللواتي سمّ اهنّ بأسماء عربية ما زلن
بعيدات عن ذراعيه ،في كشمير ،يربين الطواويس ،ويغزلن الصوف ،وينتظرن األب
البطل ،ويكبرن بسرعة ال يتحملها قلبه البعيد .أكبر ،صديقه الباكستاني الذي
أيضا في الرياض منذ ثالثين سنة ،مات في نوبة َّ
سكري قري ًبا كان يعمل سائ ًقا ً
من بيت مخدوميه في حي الورود .سقط في منتصف الشارع ،وسقط معه ٌ
بيض،
وعلبة زيت .كان عند حنيف صورة أخرى للموت ،ال تشبه هذه ً
أبدا. ُ وجريدة،
ّ
ظل المقود اللعين يصلب كتفيه ،ويقودنا بالسيّارة إلى ِّ
كل االتجاهات التي نريد ،ما عدا
اتجاهاته التي يريدها هو .في الوقت الذي أصبح فيه أطفال العائلة التي يعمل لديها
ً
صعبة على قاموسه اإلنساني المكون يتكلمون ً
لغة مختلفين تمامًا .كبروا ،وصاروا َّ
من عشرين سنة من العِشرة ،والعمل المخلص .بدا واضحً ا لعيني أمّي الرحيمتين
أن القوي األمين الذي استأجرته لخدمتها وأطفالها منذ أن ترملت لم يعد قويًاْ ،
وإن
ما زال أمي ًنا .سمعته ّ
مرة يتحدث إلى خادمتنا المغربية بشجن هائل .عيناه دامعتان
مثل الزيتون األخضر المبتل .كان يتناول كوب الشاي الذي اعتادت أن تناوله إياه
المرة عند عتبة باب المطبخ ،وجلست هي .حدثها
الخادمة بعد المغرب .جلس هذه ّ
عن بناته اللواتي يكاد يشم رائحة الطين في أقدامهن من آالف األميال ،وحدثته هي
187
محمد حسن علوان
عن أمها المريضة ،وابنتها التي أخذها طليقها معه إلى إيطاليا ،ولم تسمع عنها منذ
سنوات .تحولت عتبة المطبخ البسيطة تلك إلى قطع غير منتظمة من حزن طارئ،
ٌ
رائحة نافذة ،وعمر قصير. ِّ
متغضن مثل قوالب الجبن المكعبة ،له
ً
مبعثرة عند عاد إلى غرفته ،والخادمة إلى المنزل ،وبقيت أوجاعهما المتشابهة
عتبة المطبخ ،تمضغها القطط التي تحوم حولها طيلة َّ
الليل .زادت أمي راتبه بضع
ً
وعدا باتخاذ تدابير أكثر محافظة فيما يتعلق مئات ،بعد أن أمرته أن يقطع أمامها
بتوفير المال ،وأن يمتنع عن شراء األجهزة اإللكترونية الحديثة التي يغرم بها.
يتكلَم .ومنحته حرية أن يعمل كانت تؤنّبه مثل طفل ،وهو ّ
يهز رأسه بحياء ،وال َّ
في اإلجازات األسبوعية في نقل الخضراوات والفاكهة مع بعض بني جلدته ،لعله
يجني لنفسه بضع مئات أخرى.
ً
بعيدا عن قريته الكشميرية أخبرني أنه يتمنى لو ينتقل بأسرته إلى مكان آخر،
ورصاصهم الطائش ،في تلك المنطقة الحدودية
ِ حيث ال يأمن عليهم من هجمات الهنود،
المتنازعة بين البلدين .وأخبرني أنه يتمنى لو اشترى سيّارة نقل صغيرة ،لينقل
المسافرين بين بيوتهم الجبلية ومحطة القطار ،وفي ذلك رزق كاف .وأخبرني ً
أيضا،
في وقت الحق ،أن ّ
كل ما جناه في السعودية أنفقه في حفل زواجه المكلف ،ثم في
حواالت سخ َّية لزوجته التي َّ
خلفها وراءه هناك ،وراح يزورها َّ
كل سنة ،زارعً ا في
طفلة حنطي ًّة.
ً بطنها
اختلف حنيف العازب ،في سنواته الخمس عشرة األولى سائ ًقا ،عن ذلك المهموم
شارد الذهن الذي صار يشاركنا البيت ،دون أن يلفت االنتباه .كانت ابتسامته قبل
ذلك أكثر اتساعً ا ،واستغراقه في الحياة أعمق ،وكأننا لسنا إال أسرته التي لن يفارقها
يومًا بتأشيرة خروج نهائي .وفي السنوات الخمس األخيرة ،صار حنيف األبِّ ،
مقط ًبا
أكثر الوقت ،بعد أن بنى لنفسه عائلة صغيرة في كشمير ،يقلق عليها .اختفت مالمحه
متعرق .وتغيرت عاداته المتأنقة في ِّ
اللباس، ِّ الضاحكة ،واستبدلها بوجه متوتِّر وجبين
وصار يبدو في مالبسه الباكستانية المعتادة مثل أي باكستاني كادح في هذه المدينة.
معل ٌق معي على الهاتف -كان أوسع ما يمكنني ُ
منحه من الوفاء ،أن اآلن -وصوته َّ
أطيل في سالمي عليه ،والسؤال عن أطفاله .وألن َّ
كل هذا ال يحتمل إال سؤالين على
مرة ،ثم أهرب من نفاد األسئلة إلى
األكثر ،كان من الضروري أن أكررهما أكثر من ّ
جالسكو ،وأسأله عنها وأهلها ،فيضحك« :كثير سعودي هنا يا محمد ،يدرس جامعة،
188
حنيف من جالسكو
يجي مطعم عشان لحم حالل .أنا كالم أنا في عشرين سنة في سعودية ،هو ما ّ
صدق!»
َّ
المفضلين في جالسكو تبهجه وال أدري إذا كانت رؤية السعوديين الذين صاروا زبائنه
أو تزعجه ،بعدما قضى في بلدهم نصف عمره تمامًا .بالتأكيد لم يكونوا جميعًا لطيفين
لطفا يشبه هذا الذي يراه منهم اآلن في جالسكو. معه ،ولم يكن حنيف يتوقع منهم ً
َّ
تذكرت ذات يوم عندما ا َّتصل بنا في الرياض من قسم الشرطة ،وحضرنا
الستالمه وهو ملطخ بالدماء ،بعد أن تعارك مع خمسة شباب سعوديين دفعة
ً
مثقوبة، ً
كرة واحدة ،حاولوا التحذلق عليه أثناء القيادة .كان وجهه يبدو مثل
رغم ابتسامته الالمبالية ،وتلك الدماء المتجمدة على جبينه ،وشاربه ،والتي
استمر دقائق طويلة قبل أن َّ
يفضه المارة .ولكنّ الخمسة َّ تنبئ أن العراك
ً
جيدا أن الحياة في كشمير، اآلخرين لم يكونوا أحسن حالًا منه ،بعد أن فهموا
في منطقة حدودية متنازع عليها منذ عقود ،تصنع قلوبًا أبيّة ،وقبضات قويّة!
صعوبة في تسيير الحوار مع الرجل الذي اقتسمت معه ذاكرة ً يؤلمني أن أجد
كاملة ،تلك المنصفة منها على األقل .وال زلت أتذكرها ّ
بكل وضوح ،وباأللوان ً طفولتي
الطبيعية ،في الوقت الذي ال أستطيع فيه اآلن أن أبتكر كالمًا تلقائ ًيا ينقله األثير
كل الذكريات حاضرة في ذاكرتي ،ولكنها بكماء :لعب الكرة في الصيف الهاتفي! ُّ
الثقيل ،سُ قيا الحديقة في العصر الدامع ،حلقة المصارعة التلفزيونية ليلة الثالثاء،
مباريات المنتخب في كأس آسيا ،88عمرات رمضان المزدحمة ،السباحة في شاطئ
ّ
المملة ،صالة العيد نصف القمر ،إصالح َّ
«اللمبات» المحترقة ،الشواء في الشتاءات
ُّ
التهكم على بدانة الخادمة ذات التكبيرات ،الغناء في مطاعم الوجبات السريعة،
المفترضة لطفل تحرك بسرعة من الخامسة ،إلى
َ المغربية ،والكثير من الذكريات
حاضرا فيها جميعًا ،في منتصفها تمامًا ،إذ ال تكاد
ً الخامسة والعشرين ،كان حنيف
أنظف رأس الفيديو القديم علمني كيف ِّ تكون ممكنة لو لم يكن موجودًا .هو الذي ّ
أفرق بين اللغتين الهندية واألردية ،وكيف يمكنني أن أنفخ
بقطرات البنزين ،وكيف ِّ
الكرة باستخدام مبيد الحشرات ،وكيف أوقف أزيز لمبات النيون البيضاء دون أن
أضطر إلى تغييرها .ذلك عندما كان ّ
تعلم هذه األشياء البسيطة ممتعًا ،قبل أن أكبر،
وتتناقص متع الحياة تدريج ًيا.
189
محمد حسن علوان
***
ودَّعني حنيف بالكلمات التي يسمح بها قاموسه العربي المحدود ،وودعته وأنا
وبقيت ً
قابضا على هاتفي الجوال بحنق قصير، ُ أعبر األمتار المتبقية من الجسر،
وكأني أحاول حبس شيء من صوت حنيف فيه ،أستطيع أن أصنع منه حوا ًرا أكثر
شعثا ّ
كلما بة ،وليست تلك التي تزداد ً مشذ ً
َّ ً
إنسانية نبلًا فيما بعد ،كما يستحق هو
ُ
وانتظرت أسئلة زوجتي ُ
فتحت النافذة ،لعل الهواء المندفع يبرر إدماعي، كبرت.
التي تتربص بي من أول المكالمة.
-مين؟
-حنيف ،سوّاقنا القديم.
-وليه الدموع؟
-ألنِّي اشتقت إليه.
-السوّاق؟!!
190
محمد صالح العزب
مطلع رواية
يحب َّ
شط النهر ُّ ٌ
قارب ال
١
العم سمعان هو العم سمعان ،ببشرته السمراء ،وجلبابه ذي الكم الواسع ًّ
جدا ،يظل
باس ًما َطوال الوقت كأنما يفاخر بأسنانه الناصعة ويقول:
«هذه الدنيا هكذا ...ال عيش فيها للمتجهِّم».
هو العم سمعان بأعوامه السبعين دون أن تنحني منه عظمة ،أو تشيب له شعرة:
«كيف يا عم سمعان؟!»
«البركة والكرامة يا حفيد الشيخ ،منحك اهلل السر».
له في خدمة جدي الشيخ منها ثالثون عامًا .برغم تلعثمه وشروده ونسيانه إال
أنه هو ركن الحكاية ،العم سمعان في الحكاية هو الراوي ،وعلى من يريد سماع
حكايات البداية أن يصبر ،وأن ينتبه.
«يا عم سمعان ،احك لي حكاية العم سمعان».
يخجل وال يحكي ،يهرب مني إلى حكاياته األخرى التي ال تنتهي ،لكنني ال أتركه،
ألح عليه ،فال أراه يبخل إال في هذه الحكاية.
أظل ُّ
«سمعان الفقير ،أصله ليس من هنا ،سيظل رملك األصفر يا صحراء يجهله،
وال يأنس به ،وسيظل لماء البئر وماء العين طعمهما الغريب في فمه ،وسيظل-
َّ
المبيضة :سمة َّ
كلما واجهته وجوه البدو الخشنة ،بعيونهم المختبئة ،وشفاههم
يحن إلى هناك ،حيث األرض البن َّية تعرف وقع خطوه .سمعان
ُّ العطش األزلي ـ
َّ
كالسكر ،واألخضر يفرش حتى آخر العين، أصله من عند آخر النهر ،حيث الماء
السمر يغنين أغاني العرس بصوت له حالوة صوت المؤ ِّذ ن،وحيث الفتيات ُ
لكن الرزق الوفير هناك -الذي ا َّتسع ِّ
لكل باسط يد -أتى عند الفقير ،وضاق. َّ
191
محمد صالح العزب
قالوا :يا فقير اركب النهر ،أو اركب السيّارة ،أو اركب ظهر القطار ،وفي البالد الكثيرة
لكل نازح .لم يعلموا – وأنّى لهم – أن رزق الفقير الذي لم يجده وسط الخير رزق ِّ
والزرع مخبو ٌء له في جدب الصحراء القاسية .سمعان قال :يا أُمّ ،هنا في ِّ
كل يوم
ُزفون ،وسمعان قارب أن يشيخ وليس في يده جنيه، عرس يقام ،الصغار يكبرون وي ّ
ليقول :يا عم ،هذا مهر ابنتك ،أو :يا خال ،سمعان يطلب القرب .الفقير لم يخرج إال
بجلبابه ،ولم يترك إال أُ ّمًا عجو ًزا ُصلبة قالت:
ـ ال تحمل ه ًَّما .وأخفت دمعتها ،ربّتت على ظهر المرتحل بيد قوية ،وقالت :يا
صاحب الدنيا ...ارزق الفقير نور الطريق».
علي ْ
إن قاطعته ،يشير بيده ،أو يربّت من عاداته أنه إذا دخل في الحكاية ال يرد ّ
على ركبتي بحزم أن اصمتّ .
ظلت ُّ
أكف البالد تتقاذفني ،والرزق يضيق ،يضيق ،حتى
كاد أن يقتل الحلم المستكين داخل صدر الفقير بابنة سمراء صغيرة ،لها شعر أسود
طويل ،وعينان سوداوان ،وبشرة ناعمة كورقة الوردة ،يجلسها على رجله داخل
قارب صغير ال يحب شط النهر ،وال يهتز بالصغيرة حتى ال تخاف.
ظلمت نفسك يا سمعان بالحلم ،تحلم بالزواج وأنت الجائع؟!
لكن هل كان أحد يسوقني من طوق الجلباب ،يا حفيد الشيخ ،إال صاحب الطريق؟
هل كان أحد سواه يقول :تقاذفيه يا َّ
أكف البالد بضيق الرزق حتى يصل.
استغفر يا سمعان لجهلك أيام كنت تعترض ـ وأنت الجاهل ـ على خواء بطنك،
اعتذر يا ساذج عن سوء الظن .خبأت حلمك حتى ال يُعلم به ،فيكيد لك من ال تعلم
شر شيطانه ً
كيدا ،وقلت :يا أكف البالد حسبي من الحلم أال أبيت جائعًا. َّ
تعد الشمس الطالعة ،وتحسب الشمس الغاربة ،وليس وخشيت أن تظل هكذا ّ
ثمة ما هو أسرع من الزمن يا حفيد موالناُّ ،
وكل يوم عرس يقام ،خشيت أن ترجع
فتجد َّ
كل البنات قد تزوجن ،وال تجد واحدة تغ ّني أغنية عرسك ،وتقول لك ،وأنت
خارج من البيت ،والبنت على ذراعك :ال تتأخرا ...وانتبه حتى ال تخاف البنت من
اهتزاز القارب.
أشكر جوعك يا سمعان ،وأشكر فقرك ،وصفعات أكف البالد ،وابن الحالل الذي
حكيت له شقاءك فحملك إلى الصحراء على ظهر سيارته.
ُ
سألت عنه ،ثم قلت له :أريد نزلت فأطعموني ،وسمعت بالشيخ على ِّ
كل لسان، ُ
أن أنهل من بركتك .وقلت في نفسي :وأن أجد المأكل والمأوى.
192
يحب َّ
شط النهر ُّ قارب ال
ٌ
رحّ ب بي جدُّ ك ،بنفسه ج ّهز لي مكان العيش ،وظللت مقي ًما معه ،بعد حين قال
لي :وضعت قدمك على عتبة الطريق ،منتصف الطريق أن تنزع من صدرك صورة
البنت السمراء ،والقارب ،وآخر الطريق عند آخر النهر».
بد يا عم سمعان أنك نزعت الحلم من صدرك منذ زمن». «وال ّ
أحسها ،لك ّني رأيتها تعبث بطرف ثوبه، نس ٌ
مة لم َّ أشاح بوجهه إلى البعيد ،وهبّت ْ
فرفرف ،قال:
مر ...ولم أصل إلى منتصف الطريق».
«زمن طويل َّ
٢
بشكل ما ،لكنه
ٍ كثيرا بالقصر الكبير الذي سيجاور حوش جدي ،هو بعيد
ً فرحت
ً
جيدا من فوق صخرتي المواجهة للبحر ،وأنا جالس أستمع قصر ،أستطيع أن أراه
كبيرا بأدوار
ً قصرا
ً لحكايات سمعان .عامين كاملين استغرقهما بناؤه ،حتى استوى
ثالثة ،وبسور حجري زرعت فيه المصابيح.
عامان كامالن وعمال البناء يروحون ويجيئون من القصر إلى حوشنا ،ومن حوشنا
إلى القصر ،يأتون َّ
كل ليلة ليجلسوا إلى جدي الشيخ بإجالل ،عندما يرونه ،ينحنون
لتقبيل يده التي يسحبها بسرعة ،يطلبون منه الدعاء لهم بالبركة في الرزق ،وبأن
يحفظ اهلل لهم البعيد حتى يدركوه .يشير إليهم سمعان:
«هذا حفيد الشيخ ،فيه نور من نوره ،وفيه بركة منه ».فيعاملونني بلطف شديد.
أحدهم أتى لي بزجاجة عطر ،وضع قليال منها على يديّ ،وجعلني أمر بهما على وجهه
صفا طويلًا ،ينتظرون أن أفعل المثل معهم جميعا،ورقبته ،وجدتهم يقفون وراءه ًّ
تنسمها من على ثيابي. يحب ّ
جدي ُّ ّ عطرا ذا رائحة جميلة
ً كان
آخر أتى لي بسلحفاة صغيرة ،فرحت بها ًّ
جدا ،وهى تخبئ رأسها وأطرافها فتصير
كحجر ،سلحفاتي هذه كانت تأكل الخضرة وتبتسم.
هناك أيضا من أتى لي بحذاء جديد ،ومن أتى بساعة يد ،ومن أعطاني عمالت
مرة أرى
مرة بقنفذ ،أول ّ
معدنية قديمة مثقوبة ...نفس صاحب السحلفاة أتى ذات ّ
جداَّ ،
ظل ً
طريفا ًّ قفصا مقلوبًا ،هذا القنفذ كان ً
قنفذا حقيقيّا ،وضعه ثم وضع فوقه ً
وكلَما أدخلت له طرف العصا من بين فتحات
يدور ،يدور ،يدور داخل القفصَّ ،
القفص ينشر شوكه ويتقنفذ.
193
محمد صالح العزب
أحببت هؤالء العمال ،ورغم كثرتهم حفظت أسماءهم جميعا ،ومهنة ِّ
كل واحد منهم.
يوم ًّيا بعد أن ينتهوا من أعمالهم ينزلون إلى البحر ،يمكثون فيه طويلًا ،يستحمّ ون،
ويصخبون ،يخرجون مع العشاء إلى حوشنا ،بعد الصالة يصنع لهم سمعان الشاي في
األكواب الصغيرة ،فيرشفونه وشعورهم ّ
مبتلة ال تزال وهم ينصتون باهتمام إلى حكاياته،
يخصني بحكايات أكثر.
عن قريته البعيدة ،فأفرح ألني أعرف أكثر منهم ،وألنه ّ
هم أيضا لهم حكاياتهم التي ال يكملونها ً
أبدا ،أول ما ينتهي كوب الشاي آلخر واحد
منهم يقومون ،يل ِّوحون للعم سمعان ولي:
«أمامنا عمل كثير في الصباحً ،
غدا نلتقي ،آخر النهار».
حكاياتهم دومًا عن بالد بعيدة فيها أح َّبّتهم ،يُقسمون -دون أن يطلب منهم أحد
يتكلَمون أيضا عن المهندس الكبير الذي يشرف
ذلك ـ أنه لوال الحاجة لما فارقوهمَّ ،
مرة أراه هناك ،لكني لم أره عن قربَّ ،
يتكلمون كذلك عن صاحب عليهم ،أكثر من ّ
القصر الكبير الذي اختار هذا المكان لعزلته.
أحببت هؤالء العمال ،واستكثرت عليهم بعيونهم الط ِّيبة ،وهداياهم لي ،ونكاتهم
قصرا ،فظللت أتابع البناء يوما بعد يوم بقلق ،كأنه قصري أنا.
ً أن يشيدوا
قصرا حقيق ًّيا رائعًا ،أجمل من ِّ
كل ً ارتحل العمال بوداع حار ،وقد تركوا خلفهم
أحالمي عن قصور حكاياتك يا عم سمعان.
لكني لم يكن لي صديق أحكي له عن القصر ...زمالء المدرسة لم يكرهوني ،لكنهم
تجنبوا الكالم ألنني كنت أخاف االقتراب منهم ،أرى هذا في أعينهم ،فأحزن وأبتعد
عنهم .يظل القصر مغل ًقا ال يسكنه أحد ،ليس سوى الحارس الصامت الذي يخرج
كرس َّيه في النهار ليجلس أمام البوابة ،في الليل يغلق القصر وال يظهر.
كل صباح قبل أن أذهب إلى المدرسة البعيدة أدور حوله ،أظل مبهو ًرا بطوابقه ُّ
الثالثة العالية ،ونوافذه الزجاجية العاكسة كمرآة ،وسوره الحجري المزروعة فيه
المصابيح المضيئة برغم النهار.
أكلم ذلك الحارس ،لكنه كان يخاف ،أحاول أن ِّ
أكلمه ،فيحمل مرة أحاول أن ِّ
أكثر من ّ
كرسيّه ويهرول داخال دون أن َّ
يتكلم ،وأسمع أصواتا كثيرة لغلق البوابة من الداخل.
ُجن الحارس ويهرب منه ،وتثار حوله ويظل القصر الكبير مهجو ًرا بعد أن ي َّ
اإلشاعات ،فال يستطيع أحد دخوله ،وال يدركون تسللي إليه َّ
كل ليلة بعد الغروب،
ً
سعيدا كما يليق بصاحب قصر كبير ال يجرؤ على االقتراب منه أحد.
194
يحب َّ
شط النهر ُّ قارب ال
ٌ
٣
صبيحة أن أتم عامه الثالثين في ُرفقة جدي وجدت سمعان متهللًا ومنشرحً ا كما لم
أره من قبل.
قال« :اليوم أرجع».
تعجبت.
«ترجع؟! إلى أين يا عم سمعان؟ وهل لك مكان سوى هنا؟!»
قال« :سأسمّيها (نور) ...يا كف الطريق إطو المسافة الطويلة حتى أرجع ألمي العجوز،
مهرا لفتاة سمراء ،تطرح ُ
وأقول يا أمّ ،الفقير عاد غير فقير ،سمعان يملك ما يدفعه ً
له النور في حجره بن ًتا صغيرة بشعر أسود طويل وعينين سوداوين ،يجلسها على
رجله في القارب الذي ال يعرف أي شط ،وال تخاف الصغيرة من اهتزازه».
«سترحل يا عم سمعان؟»
قال« :عقب صالة الفجر أجلسني جدُّ ك أمامه:
-عُ د يا سمعان.
ُ
فعلت ما أغضبك مني؟ -هل
-أضناك الطريق وأضنيته وما قدر على وأد الحياة داخل صدرك.
-حاولت ولم أترك وسيلة.
-عد يا سمعان وانطلق من البداية ،الطرق عديدة ،وقدرك السير في الطريق
األصعب».
«سترحل يا عم سمعان؟»
قال« :ابنة الخال طيبة ...ابنة العم جميلة ...الغريبة تعيش».
« -سترحل؟»
ألربع».
ٍ مهرا
علي جدك ،أملك ما أدفعه ً
قال« :اآلن أملك المهر ،أغدق ّ
«سترحل؟ وتتركني؟»
قال« :سأختار السمراء حتى تمنحني «نو ًرا» سمرا َء كما أحبها ،سأختار ابنة
الخال ،الخال صياد ،ولدى الصياد قارب ،أجلس فيه ،وتجلس «نور» في حجري،
تموجات النهر السائرة إلى الفرح».
ونمضي مع ُّ
ً
ظل شاردًا ينظر إلى البعيد ،فلم ير دموعي التي سقطت فأنبتت صبا ًرا شائكا على
المرة ،أُمسك حبل البغلة بيدي وأسير أمامه،
طول الطريق .أنا الذي أوصله هذه ّ
195
محمد صالح العزب
196
منصور الصويم
فصل من رواية
ً
شهرةُّ ،
كل المدينة صارت ً
أسطورة فاقَ ْت حتى أسطورة أعتى النهَّابين ُ
صرت
الراقية الجميالت .رجل
تلهج باسمي :المسؤولون الكبار والوجهاء وفتيات األحياء َّ
وشكك في نزاهتي ،وأخذ يتساءل عبر تقاريره عن مغزى التطابق َّ ترصدنيوحيد َّ
أتصدى لها وأنجح في صَ ِّدها ،وتلك التي ال تجد من
َّ الغريب لعمليات النهب التي
وبحاسة أمنية مدهشة عدد العمليات التي خضتهاَّ عد َد ذلك الرجل ِّ
بدقة يجابههاَّ .
شمالًا وجنوبًا والعدد الموازي لها جنوبًا أو شمالًا .ذكر بتقاريره الرجل تاجر
العطور وعالقاته المريبة وتساءل عن صلته بي ،ذلك رجل لن أنساه ً
ابدا :الرائد
ويتحداني عل ًنا ويقسم على فضحي واإليقاع بي.
َّ عيسى ،كان يخترقني َّ
بنظارته
كثر الهمس ،كثرت أموالي فتل َّف ُّت ً
بحثا عن مفر ،الرجل تاجر العطور بدأ يتململ
محاصرا عند قمةِ مجدي .الرائد
ً ويكيد لي ،تعرضت لمحاول َت ْي اغتيال ،وجدتني
عيسى بنزاهته الغريبة والرجل تاجر العطور بمكائده الخطرة .عيسى الذي ال
يُنسى َّ
خلصني منه سليم حين برز ،أما الرجل تاجر العطور فأعددت له ما يليق به.
وخطط معه لواحدة من كبرى عملياتهما المشتركة، َّ الرجل ّ
العطا َر َ استدعى ذلك
تركه يتجِّ ه شمالًا حيث الصحارى والجفاف ،حيث الجبال القاسية والريح
جرد كتيبته الخاصة ،اثني
الصرصر والعطش ،حيث يتر َّبع وبجالل مالك الموتَّ ،
ً
جيدا على الموت والريح الدمار ،ثالث سيارات مدربة
َّ عشر رجلًا ،ستة جمال
وخمسة براميل مملوءة بالماء .سُ َّدت المنافذ أمام الرجل تاجر العطور ،أمامه
شم رائحة الخيانة فأخذ يدور
فقط الرمال الشاسعة القاسية والجبال الموتَّ ،
رصاص ُه ال يكفي لمعركة تدوم ساعة ،جماله اصطيدت
ُ وسط رجاله كالمجنون،
ً
واحدا ،رجاله اغتالهم العطش والجوع والرصاصات المكتومة في فضاء ً
واحدا
197
منصور الصويم
198
ُت ُخوم َّ
الرماد
أهم بسؤالها عن فتاة من فتياتها ترضى أن تطارحبسؤالها عن اسمها ...عن أيِّ شيءُّ .
الح َّمى وشطط الحكايات عقله ،لك ِّني أظل صام ًتا وهن صامتات .ال شيء
رجلًا أطارت ُ
وح َّكات قدمي .رجل عنيد مل َّثم بالكامل
يُس َمع ،فقط صوت رشفات قهوتي المتباعدة َ
مصرا على اقتناء مسائه هذا ،رغم وجودي ِّ
بكل خطورتي ونذالتي. ً يجلس قري ًبا مني
أحرك رأسي ببطء وأرحل بعيوني التعبة متأملًا في البيوت الخربة واالكواخ القذرة، ِّ
ً ً ً
بعيدا ش َّبانا نحافا يمرقون كالسهام، مأوى األفراح المسروقة واللذة المغتصبة .ألمح
أفكر ثانية بسؤالها عن فتاة ترضى بسفري فيها ،أنا ويضيعون في جوف الظالمِّ .
ً
عامدة إسماعي: المجهد الحزين الباحث عن الراحة وسط الحطام ،لك ِّني أسمعها َّ
تتكلم
«الليلة َّ
اتأخ ْرنا يا أمينة كم الساعة؟»
«الكالم َ
اخ ْدنا لملمي سريع».
وتأن َّ
عل صداع ظالمي يضيع .أتابعهن في فتور وهن في ارتباكهن أظل أشرب بتم ُّهل ّ
ينقلن األشياء إلى الداخل وأسمعه صديقي المنسي يقول:
ُ
وبح ِّر َّية لممارسة دورهنّ «العاهرة أفضل من يربِّي الرجال ،يجب أن ُي ْت َر ْكنَ
المقدس في تربية الرجال».
اآلن األمهات العظيمات شاحبات وخائفات من وجودي ،أنا يا سيدي ،أنا سيد الخوف
والظالم واألوهام.
أترك بائعات الشاي البائسات ورائي .أقود عربتي بأقصى سرعة وأمضي باتجاه
مداخل المدينة البعيدة .الرجال الكسالى الموهومون بأهميتهم يح ُّيونني وينتصبون
أح ِّييهم وأنتظر تقاريرهم ورأسي ألَمٌ ساحق .أجلس على أقرب مقعد
أمامي كالكارثةَ ،
والرجال الوهم يمدُّ ون لي تقاريرهم ألقرأها .أسمع أصواتهم ً
آتية من بعيد وأراهم
ويص ُّرون على إيضاحها لي .أشكو إليهم آال َم رأسي أمامي يتراقصون ،يَ ْت ُل َ
ون تقاريرهم ِ
وأوجاعي والظالم .يثرثرون بوجهي عن العربات المريبة المرصودة خلف الوديان
َ
والمتسربة إلى القرى والفرقان .أمسك رأسي
ِّ البعيدة وعن كم َّيات السالح المهربة
بيدي فيقولون إن أزمة الوقود تتفاقم وإ َّنهم يرصدون بوادر انفجارَّ .
أتأوه ،أتق َّيأ أمامهم
وأتمدد على التراب .أسمعهم يهمهمون:َّ كل أحشائيمستفرغا َّ
ً
«سيادتك أنت تَعِب ،ي ُ
ُمكن أن ترتا َح بالداخل».
وأحس بالعرق
ُّ يحاولون سندي وإيصالي إلى الفراش الخشن الجافَّ ،
أتمدد في تعب
بالحمى طاغية ،وبرغبة عارمة في امتطاء
َّ وأحس
ُّ كل مسام جسدي، غزيرا يَ ُن ُّز من ِّ
ً
199
منصور الصويم
أشم
أشم رائحتها الغريبةُّ .
جسد أنثى .أتخ َّيل وجه بائعة الشاي أمامي تبتسمُّ ،
دافئات يعركن جسدي ،ويطردن
ٍ رائحتهن ،أتخيلهن أمامي ،أحسهن بقربي ،ل ِْصقِي
مسافرا راحلًا في الظالم.
ً أحسني
عني هذا البرد المقيم ،ثم ُّ
الحمى والهذيان ،حاولوا
َّ نقلوني إلى القصر .يومين قضيتهما تائهًا في بحيرات
نقلي إلى المستشفى لك َّنه رفض وأبيت أنا أثناء واحدة من نوبات صحياني .اهتم
بي بشكل حنون وقلق وبقلب مشفق أخذ يرعاني ،يقضي الساعات الطوال بجواري
متمترسا قربي ،ال
ً مراق ًبا انسياب الكينين عبر أنابيب ِّ
الد ِر َّبات الرقيقة الشفافة،
أصفر م ُّر.
َ أعشاب
ٍ مستحلب
َ يتحرك ،ي ُِص ُّر عند لحظات إفاقتي على َس ْق ِيي
أتكلم وآكل بشه ِّيةنشطا بشكل تام ،أخذت َّ ً عند اليوم السادس لمرضي كنت
جيّدة نوعً ا ما ،بدا أنه ال يصدق أني أحادثه من جديد وأضحك لقفشاته ،وأشخط
في الرجال أمامه .فرح بصورة طفولية لشفائي وأخذ يصف لي فوائد الكبدة الن َّية
َّ
ويتكلم عن ضرورة تناول البيض المسلوق والبرتقال لفترة ال َّن َقه َّ
خاصة كبدة اإلبل،
ِّ
وكل ما خطر بباله من أنواع الفواكه والمأكوالت ،ألستعيد الطا َزج والكريب فروت
واص َفها
كأس ويسكي واحدة أصَ َّر على تجرعي لها ِ
علي َ
قواي سريعًا حتى إنه عرض َّ ّ
ٌ
واشمئزاز ٌ
منهك وروحٌ محبطة ٌ
جسد بأنها دواء قبل أن تكون أيَّ شيء آخر .لكني
بال حدود.
عند الصباح كان يأخذني ويجول بي وسط أشجار وأزهار حديقته ،ويخبرني
بأن المالريا طريق مسفلت لإلصابة باألزمات النفسية .يقعدني بقربه تحت شجرة
الياسمين ويقول لي:
ْ
استنشق َ
بعض ريح الج َّنة». ُ
«ش ْم...
يستنشق هو بعمق ويغمض عينيه .أتساءل أنا :ماذا أفعل بقرب هذا الرجل!
أسأله:
«سيادتك ...فترة مرضي ...ألم يحدث جديد؟ ،أقصد بخصوصك!»
يستنشق بعمق ويربت على كتفي:
صدقني لن يحدث شيء! ،سيتركونني هكذا «أنت لم تغب أكثر من خمسة أيام ،ثم ِّ
كل شيء إلي أو يعيدونني أنا نفسي».شهرا آخر ...عامًا ...ثم سيعيدون َّ
ً
قال هذا وقهقه بصدى دا ٍو ،قلت:
ملفات ضخمة ُتر َّتب بح ِّقك». «ال أظن ذلك ،هنالك َّ
200
ُت ُخوم َّ
الرماد
َ
تراخى وتثاءب:
«لن يجدوا شي ًئا ،أنا أدرى الناس بنفسي».
«التقارير تقول إنهم بصدد ترتيب ما يليق وعظمتك ،سيادتك».
لمحني بضجر وقال:
لكن خير لهم أن يرتِّبوا ألنفسهم قبل
«ليرتِّبوا ما شاءوا بصددي أو بصدد الجميعْ ،
كل شيء ،أال َ تراهم وقد بدأوا يفغرون أفواههم كالبلهاء؟»
َّ
ت ثم أضاف: ص َم َ
ُ ً
بعيدا ،ق ْم ،فأنت مريض وتحتاج للراحة». «أنت معهم بالطبع لك َّنك ما زلت
َ
اقول إنهم سيرسلونه إلى جه َّنم، كنت غاض ًبا ومستا ًء من نفسي .كنت أو ُّد أن ُ
وإني هنا لحبسه ومراقبته ولست باق ًيا لمسامرته ومشاركته جلسات خمرة.
كنت أو ُّد أن أقول له إنه نفاية ،وإن مكانه مزبلة التاريخ! لك ّنه يسندني ويعِدُّ لي
الدجاج المسلوق ويختار أشرطة الموسيقى الحالمة ،يدغدغني بها حتى أنام ،لقد
كان رحي ًما وشفوقًا بي ُ
كأم.
فجرا كعادته مع زقزقة العصافير وانبثاق
ً في اليوم السادس لمرضي استي َق َظ
حبيبات الندى على ورق األشجار .دلف إلى غرفتي كما ظل يفعل عند ِّ
كل صباح
منذ مرضي ،لك َّنه لم يَجِ ْدني بالفراش .طاف بالشرفات الواسعة وأخذ يبحث عني
َّ
المبطنة الضخمة ووسط انتيكاته الغريبة وبين حيواناته بتجاويف كراس ِّيه
الضخمة المح ّنطة .طاف بالصاالت الخالية من األثاث حتى خرج إلى الحديقة ،فَ َر َد
صدره واستنشق عبير الورود ،تر َّيض بقرب أرانبه وغزالنه ،ثم ا َّتجه إلى الرجال
المتمترسين جوار البوابة الضخمة ،سألهم عني ،فأخبروه بأني لم أخرج مطل ًقا فعاد
إلى غرفه العديدة ،ليبحث عني.
حين دلف إلى داخل غرفته األثيرة مخزن الذكريات وجدني مسترخ ًيا على كرس ِّيه
ٌ
واحد من ألبوماته الكثيرة أتفرج على صوره فرفع أصابعه كحا ٍو عريق الهزَّ از وبيدي
ومخضرم ،حنى رأسه قليلًا وقال:
لكن كيف دخلت؟»«كنت أعرف أني سأجدك هناْ ،
كل الغرف والدواليب والخزاناتُّ ،
كل ما له قفل ومفتاح ،لدينا منه «سيادتكُّ ،
نسخة ،سيادتك ،هل نسيت من نحن؟»
بدا مستا ًء قليلًا وهو يجلس قبالتي .تجاهل كالمي عن المفاتيح واألقفال والـ«نَ ْح ُن».
201
منصور الصويم
202
ُت ُخوم َّ
الرماد
ٍّ
وتحد مري ٌع ٌ
فاقعة ٌ
وشهوة عار تمامًا َّ
وبالشامة المستطيلة الممتدة على طول عنقهٍ ،
ايضا ذات جسد جميل التقاطيع ورشيق، يش َّعان من عينيه ،بين يديه أنثى عارية ً
تدفن وجهها تحت إبطه في إحدى الصور وتدفنه بين فخذيه في صورة أخرى،
ورغم تعدُّ د الصور إال أن وجهها ال يبين مطل ًقا .سألته:
«كيف حدث هذا سيادتك؟»
والفتوة ،وقت أن كانت المدينة ك ُّلها
َّ «حدث في الزمن الجميل ،وقت الجبروت
تلهج باسمي».
ً
بعيدا. كان ِّ
يركز نظراته على وجهي ثم بدأ يتجاوزني ويرحل
«نعم ،بعد تلك الزوبعات المثيرة التي كنت أثيرها عقب ِّ
كل مطاردة بغابر األزمان،
والتي كانت تحوطني وتخلق ذلك الضجيج الذي ال يهدأ أثناء وجودي بالمدينةُّ ،
كل
إلي ،أن يروا هذا الرجل األسطورة عن قرب،
هذا جعل الجميع يسعون ألجل أن يتعرفوا ّ
أن يتحادثوا معه ،ويشربوا برفقته قهوة ،أو يتعاطوا معه زجاجة عرق ،ثم يتباهون
بذلك .لك ِّني كنت أختار من أو ُّد معرفتهم بعناية ودراية .تعرفت إلى الكثيرين خالل
اجتماعات وجهاء المدينة ،خالل رحالت الصيد الطويلة مع أبناء الذوات والعوائل
الكبيرة ،تعرفت إلى الصعاليك والمغامرين من أبناء الوجهاء خالل األمس َّيات النزقة،
حيث الخمرة والنساء وطاوالت القمار .من بين الكثيرين تعرفت إلى سليم الشيخ
سليم أمْ َب ِّدي ،أنت تعرفه؟ نعم».
ف إلى ذلك الرجل سليم في واحدة من سهرات الليل الفاجرة التي كانت تشهدها تعر َ
َّ
وتقرب مقصود من
ُّ المدينة في ذلك الوقت .تعارفا على دعوات الشراب بإصرار شديد
قبل سليم أمبدي ،ثم تكاثرت لقاءاتهما بعد ذلك .حفالت مجون صاخبة ،وسهر حتى
الفجر ،دعوات عشاء مهيبة ولقاءات بأناس مهمّ ين يأتون من العاصمة ومن المدن
ً
غامضا ويحمل ه ًما ثقيلًا المجاورة ،لك ّنه ظل يحس دومًا بأن سليم يخفي وراءه ً
أمرا
ترصده ور َّتب له حتى انفردا في إحدى الليالي وحيدين بينهما
يعجز عن تحملهَّ .
زجاجة عرق وصمت ثقيل وحزن وقلق ظاهران يل َّفان سليم.
يتكلم بصوت خفيض وهامس وضوء القمر ينعكس على َّ ّ في تلك الليلة كان سليم
وجهه البهي .لقد كان في تمام وسامته في تلك الليلة ،بعينيه الم َّتسعتين والقلق
ال منهما وهو يحكي ويكاد يتالشى خجلًا .شيء غريب الط ِّ
العميق والحزن األسيف َّ
ومبهم ال عالقة له بوُ دِّي لسليم وال عالقة له بتعاطفي معه لحساس َّية وضعه ،شيء
203
منصور الصويم
كل هذا غامض ومثير دفعني إلى االستماع إليه ومساندته.آخر بعيد عن ِّ
دجال مشعوذ ،يعمل بعالج النسوة العواقر رجل مجهول َّ
حط فجأة بوسط المدينةَّ ،
َّ
المبطنة ال أحد يذكر متى وصل إلى المدينة ،وكيف امتلك ذلك البيت وبالقوادة
الكبير في وسطها متزوجً ا من أنثى شيطانية الجمال ،جعل من منزله بؤرة لسهرات
المجون الخالدة ،يعمل وبخبث على اإليقاع بالرجال المه ِّمين في أتون مخططاته
الدنيئة ،يختار بعناية أحد الرجال المه ِّمين في المدينة ،يجعله يشرب من الخمر
برفقة امرأته خارقة الجمال
ما ينسيه حتى نفسه ،ثم يخرج من البيت ويتركه ُ
عار تمامًا بأحضان امرأة ال يبين وجهها
يومًا أو اثنين ،ويفاجأ الرجل بصور له وهو ٍ
مطل ًقا ويبدأ االبتزاز.
204
منصورة ِّ
عز ِّ
الدين
قصة قصيرة
نحو الجنون
كنت أراقب جارتي وهي تخطو بدأب نحو الجنون .كانت تتجه إليه بالبساطة
نفسها التي تضع بها أكياس القمامة أمام باب ش َّقتها َّ
كل صباح ،باإلتقان نفسه الذي
تطهو به أصناف الطعام التي تغمرني روائحها الشه َّية َّ
كلما مررت بشقتها الواقعة أسفل
ُ
انتقلت للسكن في البناية لم ألحظ أي شيء غريب أو حتى غير شقتي مباشرة .حين
اعتيادي فيما يخصها .امرأة في أوائل الثالثينات .ر َّبة بيت نشيطة وأم وحيدة تبالغ
قليلًا في رعاية أطفالها الثالثة الذين يبلغ أكبرهم تسعة أعوام كما أخبرتني.
َّ
السلم وأنا متجهة إلى عملي أو عائدة منه. كلما قابلتني علىتبتسم في وجهي َّ
صوتها خافت ومالمحها منمنمة بما يتناسب مع قصر قامتها وصغر وجهها .ورغم
تعليق
ٍ ارتدائها العباءة والحجاب ،الذى يصل إلى ما تحت صدرها ،كانت ال تحرمني من
مجامل على تسريحة شعري أو فستاني القصير أو حتى رائحة عطري« .تحفة» ٍ
تقول وعيناها تلمعان بطريقة شخص متش ِّوق للتواصل مع اآلخرين.
ُّ
التحفظ الذي يشعرني بالذنب بعدها .حرصت ً
عادة ما كنت أتقبل تعليقاتها بنوع من
منذ البداية على أن أضع مسافة مالئمة بيني وبين جيراني ،فنمط حياتي ال يسمح لي
بتضييع أي وقت في محاولة التواصل مع أناس مختلفين ِّ
كل ًيا عني .أنا بالنسبة إليهم
مجرد مكان للنوم ،إذ كنت أغادر في الواحدة
َّ امرأة غريبة األطوار تتعامل مع بيتها
ظهرا وال أعود إال مع اقتراب منتصف الليل.
ً
ً
لم يكن مألوفا بالنسبة إليهم أن تعيش امرأة َّ
تعدت الثالثين مثلي بمفردها :ال زوج،
لكن هذه المرأة بدت كأنما ترغب في أن تتغاضى عن ِّ
كل هذه ال أوالد ،وال أقاربْ .
علي .كنت أرى في عينيها نوعً ا من التوق للتواصل معي،
المآخذ التي أخذها الجيران ّ
ُ
عزوت ذلك لالختالف بيننا ،فأنا بالنسبة إليها أش ِبه ذلك الغريب الذي نقابله في
205
منصورة عزِّ الدِّ ين
206
نحو الجنون
للسقف والجدران بتمعن ،ثم اقتربت لتجلس بجواري على الكنبة وهي تهمس:
«معلش .االحتياط واجب».
ِّ
أصدقها أعلق واكتفيت بابتسامة مشجِّ عة ،فبدأت تحكي وهى ترجوني أن لم ِّ
وأال أ َّتهمها بالجنون كاآلخرين .قالت إنها لم تعد تتحمل الحياة على هذا النحو ،وأن
كل حركاتها حتى في غرفة نومها لدرجة تضطر معها إلى طليقها يراقبها ويرصد َّ
النوم وهي مرتدية العباءة والحجاب .طلبت مني أن أنزل إلى َّ
شقتها لرؤية الكاميرات
مضطرة .حين وصلنا لباب شقتها وضعت سبابتها أمام َّ المزروعة في أركانها فتبعتها
فمها طالبة مني أال َّ
أتكلم ،دخلت على أطراف أصابعها وأنا خلفها .بدا بيتها كأ َّنه نسخة
منقولة عن بيتي ِّ
بكل تفاصيله :األثاث ،وألوان الستائر وحتى َّ
اللوحات المعلقة على
الحوائط .تلفازها كان مغطى هو اآلخر .اندهشت وشعرت ببعض الخوف النابع من
عدم الفهم .نظرت حولي ً
بحثا عن أوالدها إال أنني لم أعثر لهم على أي أثر .دخلت
معها َّ
كل الغرف فأخذت تشير إلى ما تظنه كاميرات سرية وأجهزة تنصت .كنت
مشغولة فقط بالبحث عن أي أثر لألوالد الثالثة المزعجين .تركتني دقائق للذهاب
لت لغرفة نومها ،كان هناك جهاز تسجيل كبير وبجواره عدة َّ
فتسل ُ إلى الحمام،
شرائط كاسيت ،من دون أن أفكر أخذت الشريط الموجود داخل المسجل وأخفيته
في مالبسي وا َّتجهت للباب.
مرة يطرقون بابًا
في شقتي رحت استمع ألصوات األطفال المنطلقة من الكاسيتّ ،
يتوسلون من أجل إخراجهم ،وأخرى وهم يلعبون بأصوات صاخبة تقطعها
َّ ما وهم
فترات صمت تام .كانت األصوات نفسها التي اعتدت سماعها منبعثة من شقة جارتي،
لكن من دون صوتها هي ،يبدو أنها كانت تضيفه على األصوات المسجلة.
عندما دخلت زرتها في شقتها ،لم أجد أطفالها الثالثة ،الذين لم أرهم ً
أبدا ،كانت
كل معلوماتي عنهم مستقاة من الكلمات القليلة التي كنت أتبادلها مع جارتى حينّ
ألتقيها على بسطة السلم ،ومن روائح األطعمة الشهية التي كانت تعدُّ ها لهم ،وأيضا من
كل يوم تقري ًبا على حبل غسيلها. خالل مالبس األطفال التي اعتادت أن تنشرها َّ
وقررت أن أزورها في اليوم التالي ِّ
متعللة بأي حجة، شعرت بنوع من التعاطف معها َّ
رغم معرفتي بأنها نظرا للبارانويا التي بدت واضحة عليها ونظرا لخروجي المفاجئ
شقتها ربما تظنني جاسوسة لطليقها عليها. من َّ
َّ
الشقة الواقعة أسفل شقتي. فى الصباح وجدت نفسي واقفة أمام
207
منصورة عزِّ الدِّ ين
***
كنت أتابع المرأة غريبة األطوار التي تسكن في الش َّقة التي تعلو ش َّقتي ،من دون أن
َّ
أتكلم معها ،اعتدت أن أقابلها من وقت آلخر على َد َرج البناية ،كانت دائ ًما في عجلة
من أمرها ،تهبط درجات السلم أو تصعدها عدوً ا كأن هناك من يطاردها.
امرأة في الثالثينات تقريبا بجسد ضئيل ومالمح منمنمة ،تترك شعرها الطويل
عال بدرجة ملحوظة.
منسدال على كتفيها ،وترتدي مالبس قصيرة وأحذية ذات كعب ٍ
حرصت على تجنبها منذ البداية إذ بدت لي غير م َّتزنة بعض الشيء .سمعتها أكثر
مرة ِّ
تحدث نفسها وهي تصعد أو تهبط .كنت فقط أتبادل معها تح َّية الصباح أو من ّ
المساء حين أقابلها على الدرج ،فتر ُّد دون أن تنظر إلي ثم تواصل همهماتها غير
المفهومة.
كان من الممكن أن تظل كغيرها من الجيران بالنسبة إلي ،فعدم اتزانها يخصها
وحدها ما دامت مسالمة وغير عدوانية ،غير أنني بدأت اتضايق من الجلبة التي
تصدر بشكل دائم عن ش َّقتها على رغم معرفتي بأنها تسكن وحدها .كانت هناك
ضوضاء ناجمة عن بكاء أطفال صغار وشجارهم مع بعضهم ً
بعضا .وصوت امرأة تبدو
كما لو كانت أ َّمهم تع ِّنفهم وتصرخ فيهم بشكل دائم.
حين شكوت لحارس البناية وطلبت منه أن يبلغها بانزعاج الجيران من األصوات
المرتفعة الصادرة من عندها ليل نهار ،فوجئت به يخبرني أن جارتي غير الم َّتزنة
نفسها قد اشتكت من تلك الضجة مؤكدة له أنها تصدر من شقتي أنا!! ذات يوم كنت
على ْ
وشك الصعود إليها كي أبدي لها انزعاجي وعدم استطاعتي النوم بسبب صخبها،
إال أنني وجدتها هى من يطرق بابي لتسألني عن امرأة ضئيلة الجسم ترتدي العباءة
208
نحو الجنون
***
ال أعرف على وجه اليقين من أوصلني إلى هذا المكان القبيح ،لكني أعتقد أن
المهووسة ذات العباءة السوداء والمالمح الدقيقة لها عالقة باألمر ،أو قد تكون المرأة
الخمسينية التي وجدتها تسكن في َّ
شقتها بدلًا منها.
مرة أخرى رغم ّ
تيقني من أريد العودة إلى بيتي وعملي من جديد .لن أزعج ً
أحدا ّ
المرة األولى .لماذا لم يصدقوني حين أخبرتهم أن المرأة
أنني لم أزعج أي أحد في ّ
الهستيرية التي تسكن أسفل شقتي هي من يزعجهم؟ وجود عباءتها ومالبس أطفالها
في دوالب مالبسي ال يثبت أي شىء .يجب أن يصدقوني .يمكنهم أن يتصلوا بطليقها
الذي انتزع أطفالها منها بحكم محكمة ،كي يؤكد لهم جنونها هي ال أنا.
209
ناظم السيد
قصائد
نصائح اآلخرين
هذا االنتظار
210
نصائح اآلخرين
يوم هناك
الشريك
211
ناظم السيد
ُّ
كل شيء على حاله
ُ
عدت حين
وجدت َّ
كل شيء على حاله ُ
بما فيه
الظل الواهن الذي رسم ْته في الهواء تلويحتي األخيرة.
ُّ
حنان
ظالل
عند الظهيرة
ظل شجرة ُّ
يستريح تحتها
212
نصائح اآلخرين
***
ينفصل ُّ
الظل عن صاحبه
لك ًّنه يمشي خلفه
صام ًتا ،باردًا
كل حركةمعيدا َّ
ً
بطريقته الخرقاء
***
يتمدد هذا ُّ
الظل ّ
على األرض
متع ًبا
من لعب دور عمود كهربائي
***
أنا ولدت فجأة
كبيرا وقاس ًيا
ً
ظل العمود - -يقول ُّ
َ
أنت على األقل
لديك طفولة
يا جاري
َّ
ظل الشجرة
***
ارتفع الطائر
لكن َّ
ظله َّ
ً
ممسكا باألرض بقي
وه ًما ينوب عن أصل
***
ُّ
ظل طائر في السماء
يعود إلى األرض
ً
خائفا وقد َ
فقد لونه الحقيقي.
213
ناظم السيد
ً
جيدا استحم
َّ بعدما
َّ
وجف في الهواء والشمس
عاد الجورب إلى بيته
َّ
التف على نفسه
قبضة دافئة
طابة مرحة
كوك ًبا خال ًيا من األقدام.
مقبرة األوتوبيسات
ُ
مررت بها
تلك المقبرة
حيث األوتوبيسات
متروكة
للريح وللشمس
ً
وأيضا
للقمر
الذي ينزل َّ
كل ليلة
َّ
ليتأكد بنفسه
من أنها م ِّيتة.
214
نصائح اآلخرين
من ديوانه الجديد «منزل األخت الصغرى» دار رياض الريس ،بيروت 2009
215
نجاة علي
قصائد
مثل شفر ِة ِّ
سكين َ
إليكترا
يكن سي ًئا
لم ْ
َّ
بالدرجةِ التي تراه
بها،
األرجح
ِ هو على
يحب ً
أحدا ُّ لم يكن
في األصل.
تلعب
ْ هي ً
أيضا لم
دو َر الضح َّي ِة كاملًا
ِب منها - -كما ُطل َ
تهرب َّ
كلما ُ كانت
216
مثل شفر ِة ِّ
سكين َ
بثقة
ٍ استدرجها
للمشهد األخير
وتسخر منه
ُ
َّ
كلما َّ
حدثها عن إليكترا
«قرينتِها القديمةِ »،
تلك التي منح ْتها
ً
غائرة في وخزات
ٍ
الرأس
ِ
َّ
وعلمتها كيف تحيا
بأعضا ٍء َّ
معطلة.
الغريمة
َ
الجميلة ،التى ً
بائسة ،غريم َتها لم تكن تلع ُنهاً ،
أبدا .على العكس تمامًا ،تراها
بنظرات حادةٍ ،وتتهيأ لجولة جديدة ،الستعادة الصيد
ٍ سنتيمترات،
ٍ ُ
تتأملها على بعد
الحب،
ُّ خربها
الحواس التى َّ
ِّ الثمين .كانت تشبهها فى ِّ
كل شيءٍ :العينين العميقتين،
الجسدِ الذى أدركه العمى .لكن على أ َّية حال ،غريمتها ،كانت أكثر براءة منها
الشعر.
َ تكتب
ُ وال
الشحاذ
إلى نجيب محفوظ
ُ
المعتوهة
يمر
سوف تدعه ّ
دون أن تهتز
لغفلته
َ
المراهق» َ
«الصعلوك
217
نجاة علي
كان يحكي...
يمرر يده على
-وهو ِّ
خصالت َشعرها الطويل -
عن تاريخه الضائع
بين البنايات التي
احترق معظمها
في وسط البلد.
218
مثل شفر ِة ِّ
سكين َ
َّ
ظلت واقفة كتمثال
بليد
تتابعه،
لم يكن في نظرها
أكثر من بائس
يلهث خلف أثداء
البدينات
يتعثر بينهن وهو يسأل
-بنصف وعي-
عن معنى الحقيقة
التي ال رأس لها
وال قدم
وعن ضرورة أن َّ
يظل
ح ًّيا،
هو الذي لم يعد قاد ًرا
على الدهشة
أو البكاء
219
نجاة علي
قبور زجاجية
١
المسافات
ِ َ
المظلمة بال صَ َخب ،أتنزَّ ه فيها على سج َّيتي ،أقطعُ فيها أحب هذه القبو َر
ُّ
الوقت على طريقتي .بإمكاني مثال أن أنع َم بصحبةِ الموتى «جيرانِ أبي َ ألض ِّي َع
أتحد ُث عنه ،وأنا ُ
أنبش قبو َرهم َّ الطيبين» ،هم -فقط -الذين ال يقاطعونني حينما
فكثيرا ما حاولت أن أخمّ نَ موض َع الحفر ِة التي دفن ُته فيها ،ألرى
ً ً
بحثا عن جثمانِه،
تبقى منه ،حين كنت أجي ُء لزيارته أيام السبت في الشتاءِ ،الشتا ِء الذي يحبه ما َّ
القذر.
ِ مثلي ،مع أنه مات دون أن يقول لي شي ًئا عن غايةِ وجودي في هذا المكانِ
هو في الحقيقة لم يقل لي أية إجابة واضحة حينما كنت ألحّ عليه في السؤالِ ،ولم
بإصرار
ٍ وبعض الوصايا القديمةِ التي ي ِّ
ُعلقها إخوتي - ِ أرث منه سوى حفنةِ هواجس،
مدهش – على حوائط البيت بجوار صورته الكبيرة ،ظللت لسنوات طويلة أنتظر ٍ
وصورته والحوائطُ.
ُ ُ
بثقة اليو َم الذي ستسقط فيه هذه الوصايا
ٍ
ٌ
واحدة هي ما تشغلني ...أتعرفونها؟! ٌ
رغبة أتصدقون؟
الولد الذي خانني -دون َ َ
ألجد دقائق -ثم َ
أفيق بعدها َ أغيب عن الوعي -ولو َ أن
ُ
تزحف النمل التي
ِ متحللة تحت قدمي ،تأكل عظا َم رأسهِ حشو ُد ً خجل -ج َّث ًة ٍ
أعوام َ
خمسة ُ
ألهث ورا َءه ُ
ظللت خلفي لتفترسني ،وأن أنسى ذلك العجو َز الذي
ٍ
ُ
الخربشات التي تركها لي كلل ،على أمل أن يح َّبني .كان يشبه أبي فعلًا،كاملة دون ٍ ٍ
الصدر َّأك ْ
دت لي ذلك. ِ في
مزعجة ال فائدة منها ،ومع ذلك يمكننا أنٍ بأمور
ٍ ُ
أفسدت عليكم عزل َتكم أعرف أنني ُ
أقل أل ًماَّ ،
نتكلم عن العناكب مثلًا التي ُّ
تلتف حولي حديثا َّ
ً َّ
نتكلم عن شيء أفضل ،نفتح
كل جانب ،سأدخل مغاراتها الموحشة ،ألعرف لماذا ضللتني طويلًا ،وألتفر َج علىمن ِّ
تطن بأجراسِ ها في رأسي. خرائب الهياكل القديمةِ ،واألفاعي التي ُّ
ِ
ُ
يقد ُرها أمثالكم ،يعرف قيم َتها -فقط -أصدقائي ٌ
عن العناكب مزايا عظيمة ال ِّ
ِ وللكالم
ٍ
من الشعراء والحمقى.
َ َّ
ومثلثة الزوايا ،وال تنظر زائد ،كانت في الغالب سودا َء
ِها بحماس ٍ
ٍ ُ
صرت أتابعُ حركات
أشعر بحركةِ الساقطِ منها في معتركِ الحياة أو
ُ إلي مطل ًقا حين «أندهها» .أفرحُ حين
َّ
220
مثل شفر ِة ِّ
سكين َ
بالزجاج.
ِ التوابيت المغطا ِة
ِ حين أرى المسجّ ى منها في
يكرمْ ها ٌ
أحد حتى اآلن ،وال حتى أنا. العناكب ،لم ِّ
ُ ٌ
مسكينة فعلًا هذه
ٌ
عارية العقارب التي تتلكأ في لدغيُ .
أتأملها وأنا َ يكفيني إذن أن أراقب -بنشوةٍ -
صدر -تحسدونني عليها- ٍ يلفني .أستقبل برحابة من ِّ
كل شي ٍء إال هذا البياض الذي ُّ
العدم الذي ال َّأو َل
ِ الوخزات المتالحقة .رغم أنكم مثلي ،تصبحون معي على هذاِ تلك
وحده في الظالم ،وذلك َ له وال آخر ،وتلك العينين المتبلدتين ،وهذا الجسدِ الممد ِد
الصدر.
ِ المطبق على
ِ الصمت
ِ
٢
221
نجاة علي
ُ
أقول لكم صدقوني حين المتحرك»ّ .
ِّ أتحر ُر معكم من جسدي ،ذلك «القبر
َّ سوف
ٌ
حادة سوف تش ِّو ُه وجوهَكم قري ًبا. أظافر
ُ ً
صراحة إنني مثلكم :لي
الرعب ،ال َّ
بد إذن ِ ُ
يبعث على سأصرخ ،وأنا أزيحُ صور َة حبيبي التي صارت هيكلًا
ُ
بصيرا وعلي ًما ِّ
بكل شيء. ً حواسي حتى أكون
ِّ أخر َب
أن ِّ
ُ
أستهزئ مثلكم َّ
المعلق نص َفه المسيح ونص َفه اآلخر يهوذا وسوف سأرى جسدي
بجميع مآسي الحياة ،وأردِّد بثقة «ما ال يقتلني سوف يق ِّويني».
ِّ
السكير -الذي ناد ًرا ما يستيقظ -حين يناديني بسخرية على ذلك
ٍ سوف أضحك
من الغرفة المجاورة ،سأخبره بزهو أنني صرت مثل دود القبور الذي يأكل ُ
بعضه
جيفة ال حيا َة فيها.
ٍ ً
بعضا بعد أن يتغذى من
قصائد من ديوان "مثل شفرة سكين" ،دار النهضة العربية ،بيروت 2010
222
نجوى بنشتوان
مقاطع من رواية
١
223
نجوى بنشتوان
٢
َّ
سد المطر طريقنا ،ونحن نجري من بيوتنا إلى المدرسة في أول يوم دراسي بعد
معبرا مائ ًيا من أحجار وإطارات تالفة جئنا بها من كوم
ً عطلة منتصف العام ،فصنعنا
قمامة قريب ،ووضعناه وأشيا َء أخرى داخل البرك الضحلة لنعبر فوقها .سارع من
أثرا غير ذكي بالقدمين ،إلى انتعاله وحمل
لديه «بوط» مطاطي ،من تلك التي تترك ً
الم ّ
ِقشات والمماسح إلى البر إلعادة وجه المدرسة الفعلي إليها.
فالمدرسة يخدمها طالبها ،وذلك يلزمنا بكنس المدرسة وتنظيفها من السناج الذي
علقها إثر حرق كتب اللغة األجنبية ،كانت المدرسة خالل فترات الحرق تتنفس
الغبار األسود وتعطس بأبجدية غريبة عنا .مكثنا نكنس مدرستنا وننظفها آلجال
مسماة تحت إشراف المعلمين والمعلمات ،ممن كان الكنس مناسبة اشتراكية
َّ غير
عظمى الكتشاف الجوانب اإلنسانية فيهم .كانت وجوهنا ووجوههم سوداء ،وأيدينا
وأيديهم في المحرقة سواء!
استغرقنا دون توقف في كنس رماد الكتب األسود العالق ِّ
بكل شيء ،حتى ظهرت
حر ًة أب َّي ًة ،وعادت لنا براحً ا بري ًئا من السواد .كشطنا ،ونحن نرتدي
علينا المدرسةَّ ،
أزياءنا المدرسية ،عجاج العطلة المتراكم عن األدراج والسبورات واألبواب والطباشير
ونظارات الناظرة مديدة الذراع ،وكذلك عن لوحة اإلعالنات التي ما بقي عليها منَّ
األموات سوى جد نائب الناظرة المعلن عن وفاته منذ حولين دراسيين .وفي سبيلنا
لنظافة شاملة رششنا سارية العلم بالقار ،وقررنا غسل العلم بعد موافقة اإلدارة
ً
نظيفا. لكي يكون ُّ
كل شيء في المدرسة
٤
تشاجرت أنا وتلميذ تشادي من خارج ص ِّفي على غسل العلم ،فقلت له :هذا علم
بالدي وأنا األجدر به ،فر َّد التلميذ بكلمات غريبة لم أتبين منها إال بري ًقا مسعو ًرا في
عينيه أوشك أن يردَّني عما قلته منذ قليل ،فاحتفظ ببالدي لنفسي واحتفظت من
في خالل اختالط األنساب،
نفسي لبالدي بخريطتي النفسية ،علها تعثر على نفسها ّ
224
من سيرة البركة والبيانو
٥
ُّ
نصطف قبالة اللوح المتين .حيينا العلم الذي ً
جاهزة الستقبالنا فعدنا عادت المدرسة
رف بخفة أنا والتلميذ التشادي وآخرون من أنساب عدة ،حتى وصلت رائحة صابون
العلم مناخير الجميع ،فيما َّ ّ
ظلت التحية قاصرة عليه وحده دون الصابون .شرعنا في
وحيدا في ساحة المدرسة الكبيرة .كان صوته ً
نافذا ً تع ُّلم الدروس وتركناه يرفرف
مثل عاصفة ،لهذا أغلقنا النوافذ التعليمية نصف إغالقة وسرى التع ُّلم فينا .بدأ فصلنا
بدرس المحفوظات ،والفصل المجاور بدأ بالرياضيات ،واآلخر بدأ بتاريخ الصراعات،
فلما
الرياضةَّ ،
تحول إلى ممارسة ِّ
واآلخر كان معلمه غائبا فسادته الفوضى قليلًا ثم َّ
ٌ
واحد الحصة من الرياضة إلى الرسم ،فكانَّ كان حمل معلمة الرياضة ً
أكيدا تحولت
كراسات األوالد من رسوم .كنا نحسدهم من بين التالميذ هو الذي رسم ّ
كل ما في َّ
على تحول الحصص من الرياضة إلى الرسم ،وعلى حمل المعلمة وعلى ألوان طلعت
كراساتهم .ولما لقيناهم في
أشجارها عند نوافذ فصلهم ،بفعل ذلك التلميذ الذي َّلون َّ
االستراحة كان حسدنا حقيقيا ،وكان اعتيادهم على ممارسة الرياضة في حصة
الرسم ً
أكيدا ،أما حمل المعلمة فعنقودي في معظم األوقات.
225
نجوى بنشتوان
٦
***
226
من سيرة البركة والبيانو
علينا عِ َّدة شتائم غير خادشة لحيائنا ،ثم مزَّ ق وحدة البركة بدوسه على البنزين،
المستقرة وبللتنا كما بللت قدمي الحاجة مصيونة الناتئين من
َّ فتطايرت مياهها
تبرع (سالم حمد) َّ
بتكة سرواله ،لتقريب جانبيه من بعضهما، فتحة الباب الذي ّ
وإنقاذ الحاجة مصيونة من أزمة فقدان النفس.
تكونت بتفاعل حواف البركة قذفت سرعة خليفة بعض الحشرات التي َّ ِّ على
البركة مع نفسها ،فتفرق الجمع هاربين من رذاذ متى التصق لن يزول بغير ماء النار!
صرخ الطفل التشادي صراخ غوريلاَّ إفريقيّة قتل أطفالها عندما دخل جزء من الضفدع
ِّ
حواف البرك بعينيه المبحلقتين ،تركناه يصرخ وهربنا حتى ال تطالنا لعنته .على
المنتشرة قبالة المدارس واألخرى التي تتوسط البيوت وتصل نهاية الشارع ،ولدت
مسل ً
ية: مائيات كثيرة بلون البرك التي استولدتها ،استخرج األوالد األشقياء منها لع ًبا ِّ
كانوا يضعون السجائر في أفواه الضفادع التي تستنشق الدخان حتى تنتفخ رئاتها
وتنفجر ملطخة ما تجده أمامها ،كانوا يتركونها تدخن وتنتفخ ويختبئون لمشاهدتها
ظن أوالد من أحياء أخرى أننا نحتفل بإحدى المناسبات
تتفرقع مثل األلعاب الناريةَّ .
من تلك التي تمتلئ بها أجندتنا ،وفي هذه الحال سيكون بعض الظن ظ ًّنا كاملًا.
٧
من فضائل ارتداء السراويل ذات السحاب تعطيل المغتصب عن الوصول لفريسته،
لكن بعد أن صارت الجالبيب دون سراويل وجد الشيطان فرصته الكبرى في ْ
الوسوسة َّ
لسكان المدينة واستدراجهم إلى الرذيلة في وضح القيلولة وفي وسط
حثيثة
ٍ مساع الحرم المدرسيَّ .
تكلم الناس عن بعض محاوالت من هذا النوع وعن
ٍ
بالتحرش ،أطلق عليها داخل جرائم الشرف تسمية جرائم المعرفة لتمييز القائمين
ُّ
بها والعاملين عليها .ولألمانة العلمية فقد عثرت شرطة المنطقة على بعض مرتدي
الجالبيب ممن ليسوا طالبًا أو متعلمين ،كانوا رجال أمن وبقالين وسائقي شاحنات
لكن
ومعلمين ومتقاعدين ...الخ ،انتهزوا فرصة العراء المدرسي لتصريف غرائزهمَّ ،
العين الساهرة أنزلت بهم أقسى العقوبات المعمول بها آنذاك وهي ارتداء سروالين
كل شيطان رجيم. ً
حفظا للشرف العام من ِّ أسفل الجالبية،
227
نجوى بنشتوان
٨
َّ
يتذكر ح ّتى ما قبل حريق الكتب كانت أمّي مواطنة ليبية ،ولم يعد أحد في ح ِّينا
أصلها المغربي ألبتة ،غير أن حادثة حرق الكتب أعادت أمي إلى نقطة البداية في
كفاحها ضد امتهان النساء لها لكونها غريبة ومغربية كانت ترتدي الجلاَّ بة بالطربوش
(سمعتهما غير حسنة الرتباطهما بعامالت المقاهي المغرب َّيات في ليبيا) حين جاء
بها أبي إلى البيت ،واضعًا إصبعه في أعين الجميع الرافضة أن يبحث عن نسله في
محتكرا ،وسعره مثل
ً مدتهما لغيره ،كان الشرف آنذاك احترافًا ليب ًيا
ترائب امرأة ربما َّ
إن ذكر أصول أ ِّمي يعود إلى قصة عيشة الكيناوية عود الكبريت رغم غالء المهور! ّ
ّ
أو السودانية كما هي معروفة في المغرب ،والتي حدثتنا عنها أمّي مرا ًرا وكان حريق
الكتب مناسبة من مناسبات االتحاد المغاربي الستحضارها.
«اللة عيشة» سيدة المستنقعات جنية مائية تخرج في أماكن وجود المياه فـ َّ
واألماكن الرطبة ،وانتقامها سريع وفتاك .أحيانا تأخذ شكل عجوز شمطاء ،وأحيانا
اللة عيشةفتاة جميلة ،وأحيانا حشرة أو حيوان مائي ذي قداسة ،وتروي لنا أمّي أن َّ
ً
أستاذا أوروبيّا للفلسفة في إحدى الجامعات المغربية وأتلفت بحوثه ألنه قال حرقت
اللة عيشة بيننا في مدرسة الوحدة جاء لسببين، فيها كالمًا لم يعجبها .إن حلول َّ
األول :وجود البرك والمستنقعات السوداء والخضراء في محيطنا ووجود الروح
في وفي إخوتي ،والسبب الثاني: المغربية قريبا من هذه المجاري المائية ممثال َّ
كراساتنا من حقائبنا ثم رؤيتها تحترق في فناء المدرسة مع الكتب اختفاء بعض َّ
ِّ
وبخطنا ،واهلل على ما أقول شهيد! المكتوبة بلغة األعداء ،مع أنها مكتوبة بأيدينا
كراساتنا ويحرقها؟
مثيرا للدهشة واالستغراب ،فمن يسرق َّ
ً كان شي ًئا
ولما لم نعرف الفاعل و«عدو المعرفة» لم نرد تقييد القض َّية ضد مجهول ،لذا
استحضرنا َّ
اللة عيشة السودانية أو الكيناوية استخدامًا للمنطق االستداللي ،فربما
كراساتنا تثير الغضب.
نظرا لوجود أشياء كثيرة مدونة في َّ
تكون هي الفاعلة ً
بسبب ذلك اإلسناد حدث القتال بيني وبين التلميذ السوداني ،الذي ساءه نسب
عيشة لبالده ومن ثم اعتبارها (من وجهة نظره) ضد مقرراتنا الدراسية في ليبيا،
228
من سيرة البركة والبيانو
واعتبار بالده تتدخل في شؤون الدول المجاورة ،استنادًا لنفس المنطق المستخدم
من البداية!
ً ً ْ
استغرقنا َّلفة طويلة كي نقنع التلميذ السوداني الغاضب بأننا ال نتهم بالده وأنها
كبيرا من نهر النيل
ً خارج االستدالل الرياضي الذي نتبع َّ
ملته ،فرغم امتالكها جز ًءا
إال أنها بريئة من تصدير سادة البرك والمستنقعات للدول الشقيقة والصديقة ،فهي
بالكاد تغطي استهالكها المحلي منهم ،وأن الدول الشقيقة والصديقة تنتج بركها
ومستنقعاتها بنفسها ،بعد أن تكون انتجت سادَتها الذين يديرونها ،ويحرقون ما ال
يعجبهم من البحوث والمعارف.
متعرقًا على مقعده وقد بدأ االرتخاء يسري في جسده
ِّ اقتنع التلميذ السوداني ،وجلس
حصة
اللة عيشة كان مازال ساريًا ،فنحن في َّ النحيل ،لكن التفاوض بشأن نسب َّ
رياضة أي في حصة رسم ،وليس فينا من يجيد رسم شجرة أو سحابة أو محرقة.
قال شقيقي سع ًيا إلخماد غل التلميذ السوداني :يا أصدقاء يقال إن َّ
اللة عيشة كيناوية
ِّ
المسترق من كينيا للمغرب ،ثم َّلما كان المغاربة يأتون ً
أيضا أي :جاءت مع الرقيق
يتم أخي استدالله
إلى هنا ويقيمون مستنقعاتهم الخاصة بهم لزمهم سادة منهم ...لم َّ
الرياضي (على وجود كيناوية في ليبيا مرو ًرا باألراضي المغربية!) حتى دخلنا في
صراع جديد مع تلميذ آخر كنا نظنه لثالث سنوات ليب ًيا وحسب ،فإذ به كيني األصل،
اعتبر حرق كراساتنا بيد مواطنة كينيه مشكلة تقطع في سبيلها الرقاب ،وتنتشر
قوات حفظ السالم الدولية ما بين المستنقع والمستنقع ،وما بين المدرسةبفضلها َّ
َ
يسكت، كي
سوينا اآلمر معه برشوته بالحلوى والسندوتشات ْ وباب الفصل ،بالكاد َّ
لحسن حظنا كان جائعًا ولسوء حظنا كنا ننظر إليه وهو يلتهم شطائرنا بشراهة،
كراساتنا المحترقة وتدخل من نوافذ الفصل.
بينما في الجهة األخرى تتطاير شظايا ّ
كانت قلوبنا مليئة بالقهر وأفواهنا مربوطة عن الكالم ،وفي نهاية اليوم الدراسي
عدنا خائبين لبيتنا وأقفلنا بابنا علينا نحن َّ
واللة عيشة ،فسألتنا أمي عما بنا وهي
تعبئ بطوننا بطعام ليبي صرف .تبادلنا النظرات ،أنا وأخي ،وخشينا من مشاكل
الجنس َّية حتى في بيتنا ،لهذا آثرنا عدم الكالم عن شؤون مدرس َّية خالصة .في
كبيرا ً
جدا (أكبر من المستنقعات الخضراء) ً المساء حين خرجنا لنلعب وجدنا عارنا
بين األوالد الذين تقمّصهم أهلهم ألن أمنا ليست ليبية ،أي مثل المقررات األجنبية
يجب التخلص منها على الفور!
229
نجوى بنشتوان
٩
طلع ظلها أولًا وكان أسود كأي ظل ألي شيء ،عرفناها بما فيها من طول فاض على
الجدار وانثنى المتبقي منه إلى السقف ،حتى مأل السقيفة التي تتقدم دورات المياه
للتبول .كنا نغسل
ُّ المدرسية ،كنت وأخي نهرب من حصة الجغرافيا ونصطنع الحاجة
أيدينا بعد دخولنا المرحاض ،فإذ بظلها يمأل سقيفة المراحيض ،وينثني للسقف،
ثم يعم الظالم في دورات المياه ِّ
كلها .ناديت أخي وناداني :أين أنت ،أنا هنا ،لكني ال
أراك ،ماذا حدث؟ انقطع الضوء ،ال ،إنه شيء يشبه الكسوف أو الخسوف ،ربما لعنة
درس الجغرافيا الذي تجاوزناه ،كال ،درس اليوم عن تقسيم المُ ناخ في قارة إفريقيا
وليس عن ظاهرتي الكسوف والخسوف ،دعك من هذا ومد يدك باتجاهي ألجدك.
مد يدك لي يا أخي.
َّ
وتقلص ظل القادمة التي جلبته بطولها فظهرت علينا انحسر الظالم تدريج ًيا
لكن ويا للمفاجأة بشرتها كانت ضفدعية ،وكأن الحاجة مصيونة هزيلة طويلة ْ َّ
ضفدعً ا من ضفادع المستنقعات انفجر بها ،كال بل ضفادع ،إذ ال يكفي لطالء الحاجة
مصيونة ضفدع أو ضفدعان .خفنا منها فصرخنا وعدونا إلى صفنا .كنت وجدت
أخي منكمشا بقرب المرحاض لما انقشع الظالم ،وكان لون بشرته ضفدع ًيا ،لذا
عدوت مثله لما انطلق كرصاصة نحو فصلنا ودفع الباب وعانق مدرس الجغرافيا
ً
مرتجفا .كان المدرس والطالب متضفدعي الوجوه واأليدي ،جاءت وراءنا الحاجة
بخطوات ثابتة وكانت صامتة ،رغم أن تنفسها طبيعي وصحتها جيدة وطولها بخير
وتكة سروال (سالم حمد) تتأرجح في جيدها .أطلت داخل الفصل فعال الصراخ َّ
وبدأت الهروب الجماعي من النوافذ والباب الوحيد الذي قفله ّ
ظلها .اتجهت لمدرس
كلها ،على عكس ّ
معلم أحدا لم يحبّه في المدرسة ِّ
الجغرافيا فخنقته ،حس ًنا فعلت ألن ً
سرح من عمله رغم مح َّبة الجميع له ،وقف فوق ّ
ظل الحاجة اللغة اإلنكليزية الذي ِّ
بالباب بعض التالميذ الشجعان بوجوههم الضفدعية ،وشاهدوا عملية خنق مدرس
فروا هاربين قبل ْ
أن يروا عيني ياحاجة ،ثم ُّ
َّ الجغرافيا ،فقالوا لها :زيديه ورأس أمك
صدت عملية هروبهم المستنقعات المدرس تجحظ كعيني ضفدع ،يوشك أن ينفجرَّ ،
الخارجية فلم يجدوا عنه مصرفًا ،علقت بهم الضفادع والثعابين والسرطانات ،فغادر
صراخهم المجال الشمسي لكوكبنا إلى كواكب مجهولة ثم َّ
ارتدت عنه تلك الكواكب
230
من سيرة البركة والبيانو
ِّ
كالشهاب المبين في أسماعنا ولم يكن يا للغرابة ضفدع ًيا! فنزل
بتكة سروال (سالم حمد) على السبورة علقت الحاجة مصيونة مدرس الجغرافيا َّ َّ
تقصت آثار قدميها
الخضراء ثم اختفت كما ظهرت ،ولم تعثر عليها الشرطة قط وقد َّ
كلمني أخي: الضفدعية في ِّ
كل مكانَّ .
هيه يا أنت لماذا تنادي على مصيونة وهي في بيتها أال يكفيك عيشة السودانية؟
فصحوت حينها من نومي وتأكدت من أنني قلت له« :ال تقل كيناوية فكنا من مشاكل
الجغرافيا اللي تنحل بالسندويشات ».ثم نظرت في وجهه متب ِّي ًنا .الغريب أن لون
بشرته لم يكن متضفدعً ا كما رأيته منذ قليل!
١٠
أحد إخوتي من كبار زعماء حرق الكتب ،قام بجهد كبير في التخلص منها حتى
ويحرض التالميذ على تقليب الكتب
ِّ آخرها .كان ِّ
يقلب النيران بعصا مكنسة،
وهي تحترق ،ليتأكد من وصول النار إليها ِّ
كلها ،لم يُبق هذا األخ على حرف مكتوب
بلغة إنكليزية أو فرنسية ،إال شارك مشاركة نظيفة في تنظيف الحياة التعليمية
منهما .تصور أنه يحرق األعداء ح ًقا ولم يتنازل عن حمل العصا منذ ذلك اليوم ،وقد
تطورت الرغبة في الحرق لحرق اآلالت الموسيقية الغربية ،فأخرج أخي وأصدقاؤه
َّ
كل اآلالت في المدرسة وحرقوها في الفناء الكبير ،بعد أن جلبوا برميلًا من البنزين
المحلي ساعد على إضرام النار فيها .لم يصدر عن اآلالت أي صوت ،احترقت بهدوء،
ً
وكرامة للنار ،تفضيلًا ً
إرادة فيها كانت تستجيب ح ًبا وسرعان ما تفحمت ،وكأن
لـ«أنا ال أعزف فأنا غير موجود» ،وخالصً ا من المشاركة في صناعة جوقة من
عازفين لن يح َّبهم أحد.
فنظرا لثقل
ً لم يعد منها عدا هياكل متآكلة رميت عند آخر السور ،أما البيانو
جره
فكر أخي وجنده في ِّ وجهدا لكي يحترقَّ .
ً وزنه وكبر حجمه فقد أخذ وق ًتا
إلى المحرقة بواسطة عاملين نيجيريين ،واقترح حارس المدرسة التباوي سحقه
أولًا بماء النار في مكانه من غرفة الموسيقى ،ثم استعمال المناشير في تقطيعه
وتجهيزه للحرق الخارجي.
231
نجوى بنشتوان
لم أ َر بعد ذلك اليوم بيانو مسلوخ الوجه ،مبتور األرجل ،مقطوع األصابع ،عديم
الصوت ،كالبيانو الذي رأيته في مدرسة طارق بن زياد ،وكانت تعزف عليه ِّ
معلمة
ّ
والرقًة ،اختفت تلك المعلمة من المدرسة قبل اختفاء البيانو ُ
بالغة الجمال لبنانية
يهزون
العصي عليه وهم ُّ
ِّ ً
سديدا وافق حملة في ظروف معلومة .لقد كان رأيًا تباويًّا
عص َّيهم في النار الناشبة به .تقاطعت رائحة البيانو في الهواء مع بخور تبخره فتيات
كل اثنين وخميس استجالبًا ألرواح الخاطبين ،فأفسدت رائحة االحتراق عملية الحي َّ
الجلب التي لم ينجح المالئكة الموكلين بها في تخطي ألسنة اللهب ،كما أن أرواح
َّ
الخطاب التي تهفو لفتيات ح ِّينا صادفت في األثير روح البيانو وهي تخرج َّ
فولت من
الهول جزعًا .إن آخر صوت صدر عن البيانو ،اختلطت فيه ُّ
كل أحرف الهجاء ،وهو
ال ريب صوت من الغريب أن يصدر عن بيانو غربي الصنعة!!
في المساء اشتعلت معركة منزلية في بيتنا بين أخي صاحب العصا وأخي الموصوف
بالحساسية األنثويةُ ،كسرت فيها أسنان األخير ُ
وش ِّوهت بعض معالم وجهه ،ولما
مالت َّ
كفة صاحب العصا قال :أفتوني فيه ،فقلنا سلمه لألمن الداخلي ألنه خائن
واألمن الداخلي متخصص في سبر كنه األشياء الداخلية ،بالتالي هو األعلم بن َّيات
الحمام المظلم تلتقطه
َّ شقيقنا الداخلية ،فقال قائل منا :ال تسلموه وألقوه في غيابَة
العفاريت ،فالتقطته فسمعناه يبكي بدموع من دم ،راط ًنا لنفسه في مرآة الحمام
برطانة أجنبية ،لم نستطع كتمان ضحكنا إثر سماعها.
المضي في الضحك بعد مرور سنوات على النزال المنزلي
ِّ يحض على
ُّ بيد أن ما
الذي جعل أحد إخوتي صاحب نفوذ واآلخر مجرد عفريت حمّ امات ،أن الحمام المظلم
لم تكن به مرآة يرى فيها الباكي دموعه والضاحك ضحكته!
232
نجوان درويش
قصائد
ريشنا
فندق
ٍ لت إلىتحو ْ
حد كيف َّدجاج ال يعرف أ َ ٌ
ٍ أَقفاص
صارع أقفاصً ا وأَبحث عن الذين أَدخلهم المطار إلىُ ُ
وجدت نفسي هناك أ ِ وكيف
شدقه الواسع وابتلعهم.
وغرف سرةُ ، َ َ َ َ
أو لعله ابتلعني أنا ،ألصارعَ أقفاص دجاج على هيئة سقوف ،وأ َّ
ريش آدمي ،وبقايا مالبس ٌ
مهجورة ،نعثر في بعضها على ٍ أَ ٌ
قفاص
تحولت إلى معسكرات عمل ،وقطارات ال تتو َّقف... دجاج ال يعرف أَحد كيف َّ
ٍ أَقفاص
َ
مستوطنات. تحولت إلى
حد كيف َّ ال يعرف أ َ ٌ
.......
233
نجوان درويش
كول هاموسيكا
1
ُ
تضرب في يقظة الم ِّيت النائم؟ منذ متى وهذه األفسنتيرات
ُ
منذ متى ُتواصل ُشغلها من إذاعة «كول هاموسيكا» -بينما طائرتهم تقصف
غير
وت ُ«الضاحية الجنوبية» ُ
رف في مُخ َّيم َجباليا؟بيت من ثالث ُغ ٍ
على ٍ
األفسنتيرات...
َّ
الضفة األخرى التي َّ
ظلت تطارده إلى ظلمات
األفسنتيرات...
ُ
ضرب اآلن بالوتيرة الجليدية نفسها التي تَ
ُ
األفسنتيرات
األفسنتيرات
.......
.......
َ ُ
سيواصل مناداتها بلغة األعداء
ِ
تكف اآللة الموسيقية عن التواطؤ مع الجريمة!حتى َّ
2
ٌ
حفيد آللة القانون» «البيانو
هذه حقيقة تاريخيّة
234
قصائد
3
أخال أَحيانًا
ُ ...
أ َ َّن جنودًا قتلوا عازفي البيانو
وأَن جنراالت يعزفون اآلن بدلًا منهم
داخل األسطوانات.
جانبية للبحر
ّ صورة
235
نجوان درويش
نساء ِّ
اللد
مهرج
ِّ
مهرجٌ ُ
األسبوع ِّ
236
قصائد
يلعب
ُ
بكرةٍ واحدة.
Reserved
مر ًة أن أَجلس
حاولت ّ
واحد م ِْن مقاعدِ األمل الشاغرة
ٍ على
لكن كلمة reservedَّ
كانت ُت ْقعي هناك كالضبع،
لم أَجلس ،ولم يجلس أَحد.
مقاعد األَمل دائ ًما محجوزة!
ُ
237
هالة كوثراني
أنفخ اآلن على أربعين عامًا من الفشل .أقول ما أقوله ثم أغيّر رأيي :هي أربعون عامًا
من اإليمان األبله بأنني أهرب ،أنجو من عتمة جهل هؤالء الذين وجدت نفسي بينهم.
ال أقصد أمي طبعًا بل أقصد أقربائي الذين اضطررت للعيش بينهم بعد وفاة والدي.
أكن محتاجً ا
لحظة ضرورة أن أغيّر مصيري .لم ْ ٍ أيضا .وع ْيت ّ
كل وأقصد أصدقائي ً
إلى أي شيء .حصلت دومًا على ِّ
كل ما أردته .لم يتغ َّير مستوى حياتنا االجتماعية
بعد غياب والدي المفاجئ .لك ّنني ابن نفسي .خنقتني أمي بحنانها ،إال أنها لم تقل لي
وأتعجب دومًا
َّ مت نفسي. إنني أخطأت في أمر من األمور ،أو إنني لم أرتكب خطأّ .
عل ُ
كيف أنني نجوت من الضياع في الدراسة ،وفي دوامة معارك الشوارع والمناطق التي
انجرف فيها أصدقائي وجيراني وزمالئي ،خالل أعوام الحرب األهلية في لبنان.
أنقذني الفن .أنقذتني رغبتي في التعامل مع األلوان وفي أن أصنع شي ًئا ما ،أن أرسم
أو أنحت ،أن أستعمل أصابعي ويديَّ ،وأن أستمتع بهدوء مكتبة عامة ،حيث أعرف
الوجوه وال أعرف أصواتها .هربت من العائلة ،من مشكالت إرث أبي واألراضي التي
أراد أعمامي انتزاعها من األرملة أمي ،ومني أنا ،وأخواتي الثالث .هربت أنا الصبي
الوحيد بين أربع نساء ،هربت إلى أميركا.
تَعتبر أختي الكبرى ،التي تزوّ جت قبل أن تصبح في العشرين ،البلد اإلفريقي الذي
مرة في األسبوع فقط .كانت أمي
انتقلت للعيش فيه مع زوجها ،بلدها .تتصل بأمي ّ
تنتظر يوم السبت ،لسماع صوتها ،وتقول إنها تحس بالذنب تجاه ابنتها الكبرى التي
رمت نفسها بين ذراعي العريس ما إن دق بابهاَّ ،
وفضلت إفريقيا على العيش مع أ ِّمها .ال
صغيرا يوم االحتفال بزفافها في منزلنا .كانت
ً أعرف أختي الكبرى نجالء ج ِّي ًدا .كنت
مجرد لعبة مؤقتة ،مباراة ظنناها تنتهي قري ًبا.
َّ الحرب في بدايتها .كانت ما زالت
238
ثالث قصص قصيرة
ً
قطعة من حساس مثل النساء .وهل يجب أن يكون الرجل
يتهمونني بأنني َّ
الخشب؟ هل الرجال بال إحساس؟ وقد أكلت مع هؤالء الذين يتهمونني باألنوثة
(وهي تهمة في بلدي) «سندويشات» النخاع واأللسنة من دكان «أبو علي»،
وبرعت في مباريات كرة القدم بين األحياء في منطقتنا .إال أنني بكيت يوم بكت
«سوسو» ابنة الجيران ألن انفجا ًرا ّ
هز الشارع قبل عودة أمها إلى البيت« .سوسو
اصمتي» ،قلت لها«.تشاهدين أفالم أكشن ورعب كثيرة .ال تتخيّلي الدم .أغمضي
عينيك وتخيّلي ألوانًا أخرى :األزرق جميل ،األزرق أجمل األلوان .هادئ وعميق مثل
وغني باألسرار« ».كفى فلسفة» ،قال لي جاد صديقي ...فلنكمل «الماتش». ٌّ البحر
أربعون عامًا من المشي في الشوارع 33 .عامًا كي أكون أكثر د َّق ًة .مشيت في بيروت
ونيويورك وفي جنوب لبنان ،مشيت بين القبور في قريتي ،مشيت وراء صديقة
تحم ُ
ست لفكرة أنني أعيش من خالل المشي، طفولتي التي يصفونها اآلن بـ«الفالتة»َّ .
بقدمي لكنني تحمست لها بهدوء .وأنا ال أخرج عن هدوئي ،وال يخرج هدوئي
ّ أعيش
مني .ال أغضب .أحزن فحسب .وال عالقة لهدوئي بأنني تر َّبيت بين نساء ،فأمي تجنّ
من الغضب .يفقدها الغضب القدرة على التفكير والحركة ،يش ُّلها.
هكذا بهدوء فهمت فشلي في الرسم ،واقتنعت بأنني لن أبرع فيه .فغرقت في
التاريخ ،تاريخ الفن وتاريخ القمع في منطقتي ،تلك المنطقة من العالم حيث الشمس
تش ّع ظالمًا.
بطاقتي في جيبي مع علبة السجائر ،بطاقتي واسمي العربي في جيبي حيث تختبئ
في الرغبة في لقائكِ .لم
صورتي وعيناي وشفتاي وجبيني وذاكرتي .أمشي وتمشي ّ
يتأخر الوقت .ما زلت قاد ًرا على استعادتك إذا أردتِني .أعود في طائرة الغد إلى باريس
ومنها إلى نيويورك .ال شيء مستحيل« .الثالثاء 17فبراير» تاريخ مطبوع على بطاقة
أخرى في جيبي .أتذكرين ذلك اليوم؟ أمضيناه في المتحف .أشتاق إلى أن أتنقل في
المدينة تحت المدينة ،أركض بين باب سحري وآخر ،في المترو أنتظر المفاجآت
أخيرا ما عدت أخاف من البرد.
ً وأسعد بها .أركض كي ال يتأخر الوقت.
تجربي العيش من دوني ،تركت لك زم ًنا تنسين خالله أنك تواعدت
تركت لك أن ّ
239
هالة كوثراني
ُ
قبلت بأن يناديني «بابا». مع رجل قبلي على أن تمضيا الحياة معًا ،وأنجبت منه صب ًيا
ال بأس ،ال يمكن أن يكون قلبي أطيب ،وال أقبل أن تسرقي مني كالمي على ّ
تعلقي
بالوحدة وتقديري لها ،لتقولي إنك أنت ً
أيضا تريدين العيش وحدك.
عدت من بلدك إلى بلدي ،واسمي اليوم هو االسم نفسه الذي حملته البارحة .ما
زلت أحب االستماع ألسمهان وموسيقى أستور بيازوال ،وأخاف من أفالم الرعب.
أنا هنا وهناك في الوقت نفسه .طالما كنت هنا وهناك معًا رغم ادعائي أنني محوت
الحنين إلى بيروت وإلى قريتي في جنوب لبنانّ .
أعد رسائلك اإللكترونية ،وأحصي
أمكنتي التي اختفت في بيروت بعدما تركتها خالل عشرين عامًا .وأقول :إن اختفاءها
عقاب لذاكرتي ولقسوتي على نفسي ،عبر الجمع بين إحساس بأنني ناقص وأنني
أكتمل بك ،وخوف عجيب منك على وحدتي.
شخص آخر ،أنا بطل رواية عش ُتها .ولدت في لبنان وكبرت
ٌ أنا لست أنا .أنا اآلن
فيه وعدت إليه رجلًا في منتصف العمر ،وربما األربعون عامًا التي عشتها منذ لحظة
والدتي في 22آذار 1968هي عمري ك ُّلهَ ،من يدري؟ ما زلت ال أفهم لبنان .ال أفهم
العالقات بين األحزاب فيه وبين السياسيين ،وال أفهم المقاالت في الصحف .ال أفهم َمن
يحب َمن و َمن يكره َمن .ال أفهم ل َم بدأت حرب وانتهت أخرى ،ول َم يحمل الشبان في
الشوارع سكاكين في جيوبهم ،أو ل َم سمّ وا لبنان سويسرا الشرق ،وبيروت باريس
الشرق األوسط .أضحك لفكرة أن بيروت تشبه باريس.
حين بدأ هوسي بكتب التاريخ ،محاولًا فهم تاريخ المنطقة الحديث ،كنت مسكونًا
بشغف بأخبار أمي عن بيروت الخمسينيات والستينيات ،حين كانت وجوه من
ملونة بألوان مختلفة تمشي في شارع الحمرا ،حيث ُتسمع لغات
بلدان مختلفة َّ
«كل فكرةُّ ،
كل ُهو َّية» كما قرأت كل شيء مسموحً ا به في بيروت ُّ العالم ِّ
كله .كان ُّ
في خاتمة كتاب رائع للمفكر إدوارد سعيد العربي النيويوركي مثلي ،والذي يحمل
عنوان قصيدة لمحمود درويش« :بعد السماء األخيرة».
وعيت سريعًا أن حنيني إلى ماض لم أعشه ،وإلى زمن دارت أحداثه قبل والدتي،
كله عن سويسرا الشرق لم يكن سوى سراب .حين زرت سويسرا غبي .وأن الكالم َّ
ّ
ننقض أدركت كم ظلمناها بتشبيهها بلبنان ،حيث نعيش اآلن مهددين بالحرب وبأن
على بعضنا ً
بعضا وبأن ينقلب استقرارنا الهش إلى جحيم.
عيني ألتحدى ليلًا طويلًا ،مصحوبًا بأنغام راديو العسكري حارس جاري :الزعيم
ّ أفتح
240
ثالث قصص قصيرة
السياسي ،أحد تماثيل حروبنا الخالدة .لو كنت في نيويورك النتظرت أول الصباح
ألقول لك :أريد أن نعيش معًا .لكن جمال الصباح وعالقتي الرائعة به ينسيانني
حاجتي إليك .وبين الصحف وكلماتها والخطوط تحت الجمل في الكتب ،أعترف
بأنني أنساك.
ُ
تهمة الصمت
كل ما فعلته هو أنني لم أفعل شي ًئا .أيقظها برودي من غيابها .نامت ثالثين ساعة
ُّ
أو أكثر ،ولم أحاول إيقاظها .دخلت الغرفة ،من غير المعقول أال أكون قد دخلتها.
وتأكدت من أنها تتنفس ،لكنني لم أحاول إيقاظها .لم أفعل شي ًئا ،لم أخف ذلك الخوف
الذي يوجع القلب وما ج ّهزت نفسي للسيناريو األسود .ترك ُتها نائمة .وقد كانت
مر عليها ستون عامًا أو أكثر.
نائمة قبل نومها في كهف أحداث حياتها القديمة التي ّ
لم أفعل شي ًئا ،وأفادها أنني ما فعلت شي ًئا ،ألنها بعدما صحت من نومها الطويل ،عادت
إلى الحاضر .نادتني ،حاولت أال أسمع النداء ،لكنني اشتقت إليها فجأة .أنا طفلها
الصغير ،آخر العنقود الذي عاد إلى حياته القديمة بعدما ثار عليها .عدت إليها ،إلى
في .أحارب ما شربْته من طفولتي معها والذي
أمي .ال أستطيع أن أهرب من تأثيرها ّ
في من فضولها قبل أن تفقد
تبقى ّ ّ
يتحكم بي .أحارب ما ّ عبر إصراري على محاربته،
القدرة على التشبّث به .إال أنها تتمسك بفضولها مرات كثيرة خالل نوبات الغياب التي
تصيبها .وربما بسبب النسيان تتراكم عالمات االستفهام في عقلها حتى ال تستطيع
السيطرة عليها ،فتصمت أو تنام نومًا طويلًا.
ال أفهم سبب عودتي من حياة هربت إليها .اشتقت إلى بيت أهلي القديم في الجنوب،
إلى الشمس هناك ،إلى قهوة لم أعثر على رائحتها خالل عشرين عامًا من الهجرة.
هربت إلى أميركا من الحرب ،وكي أكمل دراستي .كانت الجامعة األميركية في
بيروت قد دخلت لعبة الحرب رغ ًما عنها ،أحزاب و«قبضايات» ومؤامرات غزت
ّ
المطلة على أجمل بحر في العالم. فسحاتها وبناياتها ،وحاصرت أشجارها والورود
وكنت مؤم ًنا ،قبل عامين من سفري وبعدما أصبحت رسم ًيا من تالميذ الجامعة
َ
معرفة ما األميركية ،بأنني ّ
أحقق أجمل أحالمي .لكن الحرب لم تهمّ ني ،ولم أحاول
241
هالة كوثراني
242
هيام يارد
قصة قصيرة
بطن ليلى
ُ
«و ْ
يل» األوان قد فات .كانت قد التقت ِ ُ حين اعتقدت ليلى أ َّنها عرفت الحب ،كان
ٌ
عقوبة .لقد عُ وقبنا أل َّننا لم نستطع البقاء «الحب
ُّ بعد أن قرأت لمارغريت يورسينار:
يعج بالحركة ،في منطقة الجميزة ،شارع وحدنا ».حدث ذلك في بيروت ،في شارع ُّ
رفضت المشاركة في رقصة ِّ
هز البطن ،التي تقوم بها هذه المدينة غورو .لطالما َ
المشغولة بتقطيع ألياف ألمها ،وتأجيل تفعيل ذاكرتها .وجعلها هذا الرفض ،مصحوبًا
تتأثر دائ ًما لرؤية الناس يتشاجرون في ً
حزينة .كانت َّ بتقنية الموسيقى الصاخبة،
النوادي َّ
الليلية حول دفع الحساب ،صراع السلطة حول ثمن الليمونادة.
نفسها من الرقص ومن الحرب في الوقت نفسه .كانت ِّ
تفضل على أخرجت َ
مرة أخرى .وكانت
مرة ،واألبيض َّ َّ
المخطط ،الرمادي َّ االثنين صحبة ِّ
قطها ذي الوبر
تفكر في جمال األشياء الذي ال يُح َتمل .وتقول في نفسها إنه ال يقتل كلما أطعمته ِّ َّ
ً
جوهرية من الحياة، خدوشا إضاف َّي ًة ...كانت ليلى تنتظر شي ًئا أكثر
ً لك َّنه يترك فقط
لكن شي ًئا لم يتغلغل عبر شقوق كيانها .حدث أن أرغمتها عزل ُتها على االنخراط
َّ
في نزهات ليل َّية :إيليمنتس ،جيم ،سونترال ،مينت .ب .018كانت ُّ
كل هذه المالهي
َّ
الليلية تتنافس في التسميات ،وفي اختراع األعداد واألرقام والديكور الذي يكون في
ً
محشورة في سروال جينز، براقًا .كانت ليلى تخرج ِّ
متعدد األلوان َّ معظم األحيان
أيضا .كانت تملك ثيابًا ِّ
لكل مناسبة: يقولبها بما يكفي لتنال النجاح المنتظر ،والعري ً
شخص
ٍ الصيد ،واإلغواء .وكانت من حين آلخر تطلق لنفسها العنان في مغامرة مع
والسر َّية .ولدى عودتها إلى
ِّ أجنبي .ذلك أفضل من أوالد البلد ،بسبب القيل والقال
يتصرف
َّ قطها في انتظارها .حين لحظها ويل ،رأى من الحكمة أن منزلها كانت تجد َّ
بهدوء .لم يتحدث معها على الفور عن رغبتهَّ .
تكلم معها عن روحه ...هذا اللهب
243
هيام يارد
كثيرا
ً روحي.
ٍ كوسيط
ٍ الكامن في عروقه ،ر َّبما في مثانته .وجدته مفع ًما بالحكمة،
متكررة .واستشارت طبي ًبا اختصاص ًّيا نصحها بعدم تغيير
ِّ تعرضت اللتهابات بول َّية
ما َّ
كثيرا.
ً شركائها
كان التغيير هو األسلوب الوحيد الذي تتقنه ،كي تتج َّنب التع ُّلق بأي شخص .وكانت
إن رجلًا إضاف ًّيا في سريرها يعني أل ًما َّ
أقل في القلب .وكان عليها دومًا تقول في نفسهاَّ :
أن تطر َد من نفسها العزلة المالزمة لها في هذا العالم .تقول لصديقاتها « :أنا ِّ
أدخن
محتاجة إلى المورفين .الحياة تكفيني» ،وكانت صراحتهاً الحياة ،أستنشقها ،لست
مرة موتًا كبيرا من الرجال .تتناولهم من دون فرز ،وتموت َّ
كل ّ ً تجذب إليها عددًا
بد أن ِو ْ
يل الحظ األمر َّ
المؤكد أ َّنه موتي األخير هذه ّ
المرة ».ال َّ ً
مختلفا ،وتقسم« :من
تحدث إليها بلغة الروح ،تحدث معها عن اإلنسان.أل َّنه تحاشى النظر إلى وركيهاَّ .
ابتهجت من عناية َ
قد ٍر كان قد جعلها فيما مضى تلتقي رجالًا يح ُّبون المضاجعة:
رجالًا عُ ْرجً ا ،رجالًا خائفين .لم تلتق ً
أبدا توأم روحها .في هذا المساء ،كان ويل
حريصا على ألاّ يتعجل أي شيء ،فاكتفى بطبع قبلة على وجنتها وهو يودِّعها.ً
كل كلمات وحركات هذه األمس َّية ،والقبلة التي تبادالهارسخت في ذهن ليلى ُّ
ً
مستلقية على ظهرها ،ثم انقلبت على الرصيف .وجافاها النوم .كانت ِّ
تفكر في ويل،
حولت جسمها أعضا ًء صاخبة .كانت قد عاشت ،حتى اآلن ،تراك َم على بطنهاُ .ق ْبلته َّ
والحب والحركة المستهلكة قبل اإلخصاب .هذا ِّ اللحظات فوق بعضها ،مع الرغبة َّ
المساء ،انسحبت من معانقته كي ال تستبق الزمن .بدا لها أ َّنها تكتشف شي ًئا ناد ًرا في
التحفظ .لم تع ُْد متأكدة من أ َّنها تريد تأجيل
ُّ تحفظه .وفور ابتعاد ويل ،ندمت على ذلك ُّ
الدرج ،وأن تطلب منه البقاء قري ًبا الرغبة .كان بإمكانها اإلمساك به وهي واقفة على َّ
يعزيها التر ُّقب .حين هاتفها ،فيمن جسدها .لم تفعل شيئا من ذلك ونامت وحيدةِّ ،
ف ،وقالت: ْ
وافقت على كالمه بتل ُّه ٍ اليوم التالي ،أبدى أسفه أل َّنه لم َ
يبق إلى جوارها.
«لديَّ نفس الشعور ».كان قلبها ُّ
يدق .كانت تشعر باألرض عبر قدميها ،وبمهبلها
عضو في مكانه .حين التقيا من جديد
ٍ أي
عبر رأسها ،وبدماغها عبر دمها .لم يكن ُّ
ً
فاتحة جسدها وقلبها ،وقالت في الحب .اخترقها ويل .وأغمضت عينيها، َّ مارسا
نفسها :هذا ما يجب أن يكونه َج َسدان ،بال عزلة.
تحب كيال تتالشى.
ُّ كانت ليلى
ً
سيجارة .المس جسده ظهر ليلى المستلقية .كان دخان السيجارة أشعل ويل
244
بطن ليلى
ُ
245
هيام يارد
في انتظار ذلك كان قلبها هو ما تريد أن تمنحه في كل مكان ،وبأي طريقة كانت،
وألي كان ،شريطة أن يح َّبه .سئمت ليلى من كونها شوكة رغبة متروكة في صحن، ٍّ
ً
مرحاضا عا ّمًا للنزوات .يقال كما أنها سئمت التقاء رجال متلهِّفين على جعل ردف ْيها
فكرتتمر على أجسادهنَّ . إن القطارات فقط هي التي لم َّ عن النساء سهالت المنال َّ
ليلى في ألم سكة الحديد ،وفي األجساد التي سحقت لكثرة العبور فوقها .ومهما
كذبت لم يكن بإمكانها إهمال نظرتها نفسها .كان وهنها جيفة ما كانت لتخرج منها
ً
سالمة .كان بودِّها أن تشطب الماضي ،وتهضم بقايا عالقاتها .حين قرأت الروائي
مارسيل بروست قالت في نفسها :ربما كان الزمن هكذا :حرمانًا ضائعًا.
أشد من الموت ،وحرمان يفوق العطش ،تشعر، كلما دخلت بيتها ،في وحدة َّ كانت َّ
ما إن تجتاز عتبة بيتها ،باللهيب داخلها كما هو ،على األريكة مع ِّ
قطها .كانت كلما
أدارت المفتاح في القفل ،يراها هذا الجز ُء منها ويقفز إلى وجهها .ويغير ُّ
القط وضعيته،
أثر
فتستعيد ليلى وجهها .لم يحدث شيء في اليوم الذي أعقب لقاء ويل .لم يظهر أي ٍ
َّ
احتل الفراغ مكانه ،والغياب في كل مكان .بحثت تحت السرير ،خلف الباب، َّللهيب.
تحت الحصيرةِّ .
بكل بساطة ،اختفى اللهيبَّ .
تبخر .نزلت إلى الشارع ،عادت على
عقبيها ،سارت في الطريق التي سلكتهاً ...
عبثا .كان عليها أن تفتش عنه في جسد
ً
مستفسرة عن شيء المارة،
َّ ويل ،ولك َّنه لم يعد يرد على مكالماتهاَّ .
تحدثت إلى
لهيب في أي مكان .مرت
ٍ يشبه االهتزاز ،أقسم الجميع أنهم لم يروا شيئا .لم يروا أيَّ
اللهيب .ذات صباح أحست بانتفاخ في جسمها. ٌ
طويلة ،وكانت تنام في غياب َّ ليال
ٍ
المطاطي ذات مسا ٍء شربت فيه الكثير َّ
وتذكرت ثق ًبا في الواقي َّ لقد انتفخ بطنها،
من النبيذ .أسرعت إلى المطبخ وهي تخلع مالبسها ،تغادر جلدها .توقفت أمام
الغسالة ،وأدخلت فيها كل ما أرادت أن يهترئ بالغسل .كانت ستلقي بجسمها أيضا َّ
قوي مع مقدارين من مسحوق التنظيف. ٍّ برنامج
ٍ لو استطاعت .وش َّغلت اآللة على
الكوة ،تم َّنت لو أ َّنها َّ
وظلت تنتظر .حين فتحت َّ بأكبر قدرة ممكنة على الحك.
تجد فيها فقدانا للذاكرة ،ذاكرة غمست في ماء ساخن ،ذاكرة مهترئة ،جرفها الماء
الجاري .كان قلبُها سلي ًما موضوعً ا على الغسيل األبيض ،مثل زبد على سطح األشياء.
كل شيء وهي تتحرر من أوهامها، وتقزَّ زت من رائحة الغسيل النظيف .جمعت َّ
طوت الغسيل ووضعته في مكانه ،وخرجت من جديد لتواجه الشارع :حاملًا .هذا
ما كانت عليه ،امرأة حامل .كما تفعل رصاصة ق َّناص في ج َّثة .كانت تشعر ،أكثر
246
بطن ليلى
ُ
247
وجدي األهدل
قصة قصيرة
إذا كانت صنعاء هي عاصمة البالد ،فإن شارع المطاعم يمثل عاصمة صغرى بداخل
المدينة المترامية األطراف .أي شخص يقول إنه زار مدينة صنعاء ولم يعرف شارع
المطاعم ،فاعلم أنه لم يزرها.
وكما ُّ
تدل التسمية ،فإن هذا الشارع يحوي سلسلة من المطاعم التي تتف َّنن في طبخ
الوجبات الشعبية ،وعنقودًا من المقاهي التي يتردد إلى يوم ًيا عدد ال يحصى من البشر.
لكن في يوم لم يظهر قرص الشمس بسبب عاصفة من غبارّ ،
أطل وجه غير مألوف، ْ
يرتدي بذلة ب ِّنية غالية ،وربطة عنق ورد َّية ،ويحمل حقيبة «سامسونايت» .جلس
تحول إلى النقد األدبي ،وطلب منه طل ًبا غري ًبا ،أن يأتي معه إلى
بجوار شاعر سابقَّ ،
البنك القريب من شارع المطاعم ليدلي بشهادته حول أحد رواد المقهى ،ومقابل
تلك الشهادة سيحصل على مبلغ ط ِّيب.
شكك الناقد األدبي في جد َّية العرض ،وظهرت ابتسامة ساخرة على شفتيه َّ
المتقرحتين من مرض السكر .لكن الرجل الذي َّ
قدم نفسه بصفته «مندوب البنك» ِّ
ودسها في جيب الناقد األدبي ،ووعده بمبلغ
أخرج من الحقيبة عشرين ألف ريال َّ
مماثل عند فراغه من شهادته .تنحنح الناقد األدبي وبرقت عيناه ،ثم تناول عصاه
َّ
وخف خطاه إلى البنك .اقتاده المندوب إلى مكتب التي يهدد بها األدباء المبتدئين،
مدير البنك ،وعندما دخل الناقد األدبي دهش من البهو الهائل المساحة المسمى
«مكت ًبا» وشعر بالرهبة من هيبة المكان ،وانتابه إحساس بالخزي من رثاثة مالبسه.
في طريقه السريع إلى المدير القصير القامة النحيل كعود خيزران ،تع َّثر وكاد رأسه
عطرا .رحب به مدير البنك وطلب منه الجلوس. ً يرتطم بمبخرة مشتعلة تبث دخانًا
تذوقها واستحسن طعمها المر.
فيما قدمت له فتاة باهرة الجمال ،قهوة بال سكرَّ ،
248
جريمة في شارع المطاعم
249
وجدي األهدل
250
جريمة في شارع المطاعم
عليائه ليثرثر مع أحد معارفه .ال يضحك وال يبتسم ،مقطب الجبين ،مالمحه منقبضة
متجهمة ،وعيناه تبعثان رسالة مشاكسة ِّ
لكل من يراه .يحيط نفسه بالغموض،
يتبسط في الحديث ،وال تنفرج أساريره ،وال يرفع
َّ وهالة من الهيبة الزائفة ،ألنه ال
ُسر بأشياء خطيرة ،ال يريد للمخبرين أن ينقلوها
صوته ،فكالمه هامس ،وكأنه ي ُّ
عنه .يُعطي نفسه أهمية مصدرها هلوسة ال واعية ،وي ِّ
ُضخم ذاته .حركة عينيه
من خلف َّ
النظارة الشمسية التي ال تفارق وجهه تارة يمي ًنا وتارة يسا ًرا ،في مراقبة
تدل على المقلب الكبير الذي تكل لحركات جلسائه ومن منهم ينصت ألقوالهُّ ، ال ُّ
مرة يخترق جماعة كبيرة من المراجعين المتجمعين
أخذه في نفسه! لقد رأيته ّ
حول الوزير ،ووقف قبالته بقوة وثبات رافعًا رأسه حتى كاد أنفه يلمس أنف الوزير
وكأنه من علية القوم ،فتهيبه األخير وظ َّنه شخصية ذات مركز مرموق ،وحين سمع
منه ،تبين أنه يطلب مساعدة مالية ،فأمر له الوزير بمبلغ معقول ،فإذا به يجادل
ً
شديدا ويرفع صوته على الوزير ،ففقد معاليه أعصابه وراح يصرخ هو اآلخر، جدالًا
َّ
فتدخل الحرس وأبعدوه بالقوة وبطريقة غير الئقة ،فرحل وهو يدمدم وقد ازداد
عبوسه ،وصار جسده يتلوى بحركات عصبية ال إرادية .آخر مرة رأيته؟
اليوم في المقهى قبل ثالث ساعات تقري ًبا .كان يلبس بذلة كحلية َّ
مخططة بخطوط
رأسية .يمكنك أن تقول إنها قبيحة ً
جدا عندما تتأملها عن قرب وتكتشف أنها
ً
متعمدا غير مكو َّية ً
أيضا .أتذكر أنه رآني أقصد المقهى ،فوقف ،ومشى باتجاهي
بقوة في كتفي .كان يريد استفزازي والتنفيس عن عقده االحتكاك بي .صدمني َّ
النفسية في مشاجرة معي .ولك َّنني تجاهلته وتابعت طريقي وكأنه غير موجود.
نظر مدير البنك في ساعته وأشار إلى الناقد األدبي أن يتوقف.
-هل هذا يكفي؟
-نعم .اذهب إلى المحاسب الستالم بقية أتعابك.
شكرا.
ً
251
وجدي األهدل
***
بعد أيام طلب مدير البنك البحث عن شخص آخر يُدلي بشهادته عن عبد اللطيف
محمد أحمد.
ولم يتأخر المندوب األلمعي في تلبية رغبة سيده.
إلي وغازلني.
«مهندس الديكور عبد اللطيف هو الوحيد بين الذكور الذي التفت ّ
يعج بالناس ،وكأنه ال يقيم وزنًا ألحد منهم.
كان يرسل قبالته إلى ثغري والشارع ُّ
خداي من الحياء .أصبحت عندما أراه يثب قلبي بين ويحمر َّ
ّ كنت أنظر إليه بصمت،
ضلوعي ،وأشعر بحرارة تلفحني في صدري وكأنِّي تنُّور يتو َّقد .أقف َّ
كل صباح في
دكته المفضلة ،وتحته ناصية شارع المطاعم أتسول من السابلة ،ويجلس هو على َّ
قطعة كرتون نظيفة .وعندما يكون مزاجه رائ ًقا ،فإنه يحتويني بنظراته الدافئة،
تدوخني ،لم أسمعها من أي
ويتحرش بي بقبالته الطائرة ،ويسمعني كلمات عذبة ِّ
أدب كما ترى على عكازين ،وأعاني من
مخلوق قبله قط .عمري سبعة عشر عامًاّ ،
زيادة خطيرة في وزني .لقد أصبت بفيروس شلل األطفال في صغري ،وها أنا اليوم
كثيرا ما أتخ َّيل نفسي زوجة له ،وأغرق
ً شابة كسيحة بدينة ال يرغب فيها أحد.
شدة تعلقي به ،حفظت عن ظهر في أحالم يقظة مرحة عن حياتنا العائلية .من َّ
قلب عاداته اليومية ،وأطباقه المفضلة ،وماركة السجائر التي ِّ
يدخنها ،وصرت
أعرف األشياء التي تفرحه ،أو بالعكس التي تكدره .ربما حتى والدته لم تفهمه كما
فهمته أنا .إن طبقه المفضل في وجبة اإلفطار هو الفول مع اللحم المفروم ،وهو
ً
تحديدا في مطعم صغير محجوب عن األنظار ،يقع في نهاية شارع المطاعم يتناوله
َّ
ويتغدى في مطعم مجاور وجبة سلتة دسمة .وأما من الجهة المسدودة بجدار.
وجبة العشاء فال أدري ماذا يأكل .أخي الكبير يحملني بسيارته إلى البيت قبل
مرة تأخرت إلى الليل فهاجمتني
غروب الشمس بساعة على األقل ،والسبب أنني في ّ
عصابة من صبيان الشوارع ونهبوني حصيلة ذلك اليوم ،فلقيت ملء جلدي ضربًا في
البيت .عمره أقل من الخمسين ،متوسط القامة ،ووزنه مضبوط ،فهو يساوي تقري ًبا
طوله .بشرته سمراء فاتحة ،وذقنه وشاربه حليقان .عيناه صغيرتان غائرتان في
محجريهما ،وشعره أسود يخلو من الشيب .ال .ال أظنه يصبغ شعره .يضع على عينيه
َّ
نظارة شمس َّية لونها ضارب إلى الكستنائي ،تضفي عليه سم ًتا جليلًا ،وتمنحه مهابة
252
جريمة في شارع المطاعم
253
وجدي األهدل
أنه على حق ،فورق األشجار يشبه ما تخفيه النساء .أو ربما بالعكس ،نحن النساء
نحاول جعل ما نخفيه يشبه ورق األشجار».
***
بعد أسبوع واحد فقط ،شعر مدير البنك برغبة ف َّتاكة في معرفة المزيد من
المعلومات عن عبد اللطيف محمد أحمد .ا َّتصل بصحفي يعمل في جريدة محسوبة
على المعارضة ،مشهور بلقب «الرنجلة « وأمره أن يجري حوا ًرا صحف ًيا مع مهندس
الديكور المغمور .وما هي إال أيام قالئل حتى نشر الحوار في الجريدة الرسمية.
ً
كاملة ،وظهرت صورة مهندس الديكور وهو في حالة طبيعية، ً
صفحة شغل الحوار
رأسه مائل إلى الجانب األيمن ،ويده ممتدة باتجاه المصور وكأنه يطلب صدقة.
وهنا نص الحوار:
«اليوم ّ
نسلط الضوء على واحد من أعظم مهندسي الديكور في وطننا الغالي ،إنه
المهندس عبد اللطيف محمد أحمد .وهذا الفنان المرهف الحس منضبط في حياته،
حتى إ َّنك تستطيع أن تضبط ساعتك على موعد مجيئه إلى شارع المطاعم ،فهو يداوم
على الحضور في تمام الساعة السابعة صباحً ا ،وي َّتخذ من مصطبة قريبة من مبنى
مقرا إلنجاز أعماله اليومية.
البريد ً
حين نتأمل جلسته على تلك المصطبة العالية ،ينتابنا شعور قوي بأنه يشبه
نسرا جاث ًما فوق قمة ال تدركها األبصار ،أو أنه ملك لمملكة ال تدركها الحواس
ً
البشرية المحدودة .يمضي نهاره َّ
كله وجز ًءا من الليل عند تلك المصطبة العتيدة،
وكأنه مشدود إليها بأغالل خف َّية ،كأنها تمثل بالنسبة إليه مركز الكون ،والنقطة
التي يتوازن فيها روح ًيا ،فتنقذه من حركة األرض العبثية حول نفسها .إنه ثابت
مضطرا لمجاملة األرض في حركتها الدورانية كما يفعل
ً وراسخ ما دام هناك وليس
البشر العاديون.
عندما اقتربنا منه ،أنا والمصور ،رجوناه أن يسمح لنا بإجراء مقابلة معه ،فطلب م َّنا
في البداية أن نبرز بطاقاتنا الصحفية ،ومن حسن الحظ كنت أنا أحمل بطاقتي فناولتها
إلي .وضع رجلًا على رجل ،وحدق في نقطة إ َّياه .قرأ بيانات البطاقة بد َّقة ،ثم أعادها ّ
ثابتة ،واسترجع بعين خياله ماض ًيا ذهب ًيا ،لو رواه باللسان ،ما َّ
صدقه إنسان:
254
جريمة في شارع المطاعم
اسمي عبد اللطيف محمد أحمد بالبيد ،من مواليد 1958محافظة حضرموت،
نشأت يتي ًما في بيت ّ
جدي ،وعندما بلغت العاشرة من عمري أخذني ع ِّمي معه إلى
توفي عمي ،وطردتني زوجة عمي إلى الشارع .وكان من أبو ظبي ،وبعد أشهر قليلة ِّ
حسن طالعي أن أسرة لبنانية مارونية تبنتني وعاملتني كواحد من أبنائها ،حيث
جدا لدرجة ال تتصورها. ً
راقية ً عرفت الحياة على حقيقتها ،ولقيت تربية أسرية
عوضت ما فاتني من التعليم ،ودرست في مدارس فرنسية ،وتعلمت الرسم والعزف
َّ
على البيانو والرقص ،وأتقنت الفرنسية واإلنكليزية واإلسبانية.
ك َّنا نقضي اإلجازة الصيفية في بيروت ،وعندما َّ
تفجرت الحرب األهلية عام
كل عام في بلد أوروبي مختلف .ثراء أسرتي ،1975أصبحنا نقضي اإلجازة الصيفية َّ
كله .لقد عبرت المحيط األطلسي عشر مرات، اللبنانية سمح لي أن أزور العالم َّ
بلدا ً
بلدا ،وأما تشيلي فأعرفها وتجولت في أميركا الشمالية والجنوبية وعرفتها ً
وأعرف شوارع سانتياغو ،كما أعرف ك ِّفي هذه ،ألنني عشت هناك سنتين ونصف
في رعاية شقيقة والدي اللبناني بالتبني .هناك حاولت دراسة الهندسة اإلنشائية،
وتوجهت إلى باريس لدراسة فن الديكور.
َّ ولكنها لم تعجبني ،فغادرت سانتياغو
عشت سبعة عشر عامًا مع عائلتي اللبنانية ،ذقت خاللها َّ
كل متع العالم ،وحصلت
على ِّ
كل ما تتخيله من ملذات .كان المال يجري في يدي كشالل ال يتوقف .أنا ذقت
َّ
كل أنواع الخمور الموجودة على وجه األرض ،وأما النساء فلم يبق لون أو عرق أو
جنس لم أمارس معه .صديقاتي التشيليات وحدهن يربو عددهن على العشرين .ما
زلت أحتفظ بصوري معهن حتى هذه اللحظة ،وعندما أموت سأحملها معي إلى قبري.
نساء تلك البالد هن الوحيدات الالتي بقيت ذكراهن خالدة في قلبي.
عندما مات والدي بالتبني ،قررت عائلتي اللبنانية الهجرة نهائ ًيا إلى أوروبا ،فانفصلت
عنهم ،وعملت في مجال المقاوالت ،وبسرعة فرضت اسمي في السوق ،وكسبت ثروة.
تزوجت مرتين ،األولى كانت فرنسية ،ملكة جمال مدينة نيس ،ولم أستمر معها
َّ
سوى سنة واحدة.
وأما الثانية فكانت مصرية ،وقد عاشت معي ثالث سنوات ثم طلقتها ،ولم أرزق
بأطفال من أي منهما .شاء القدر أن تحدث لي مشكلة لم تكن في حسباني ،دخلت
بسببها السجن ،ثم ُر ِّحلت من أبوظبي إلى بلدي في لمح البصر .كان ذلك في بداية
جدا بين البلدين بسبب دخول َّ
صدام التسعينيات ،وكانت العالقات وقتها متوترة ًّ
255
وجدي األهدل
إلى الكويت .طيلة سنوات إقامتي هناك لم تخطر اليمن ببالي قط ،وأما مسألة العودة
إليها فكانت غير واردة إطالقًا.
لم أستسلم لليأس ،وحاولت النهوض من كبوتي ،فوظفت األموال التي عدت بها من
َّ
وتمكنت من الفوز بأهم المناقصات التي كان يعلن عنها اإلمارات في أعمال المقاوالت،
البنك « »...آنذاك .وشاءت الظروف المعاكسة أن أتعب نفس ًيا في تلك الفترة ،وكانت
لي مستحقات مالية تقدر بحوالي ثمانمئة ألف دوالر لدى البنك ،لم أتمكن فيما
بعد من استردادها .ساءت حالتي النفسية أكثر مع انفجار حرب 1994التي حطمت
أعصابي تحطي ًما ،وأصبت بمرض اتصال الخالياّ .إنه مرض خبيث نادر ،العلم ال يعرف
عنه أي شيء تقري ًبا .وعندما أصبت به أمست خاليا عقلي ترسل ذبذبات في الفضاء،
كل شيء أفكر فيه ،وهم بأجهزتهم الخاصة يلتقطونها ،وبهذه الطريقةوتحمل معها ّ
يوجهون أفكارهم الشريرة إلى علي ويعرقلون أي شيء أريد إنجازه .ثم ِّ
يتجسسون ّّ
خالياي لتدميري وتحويلي إلى مجرم ينفذ أطروحاتهم القذرة .إ َّنهم يفعلون معي هذا
ألنني رفضت أن أكون تابعًا لهم ،رفضت أن أنفذ أوامرهم ،هم يريدون الخالص مني ّ
مرت وأنا أعاني من هذه الحالة المرضية .لقد قطعوا
بأية طريقة .سبعة عشر عامًا َّ
كل مكان أذهب إليه للحصول على عمل. كل سبل العيش الكريم ،وحاربوني في ِّ
عني َّ
حتى الزبائن الذين يطلبونني في أعمال الديكور ،يأتي مندوب منهم ليحذرهم من
ً
متمالكا نفسي وقواي التعامل معي ،بدعوى أنني مختل عقل ًيا .ومع ذلك أنا ما زلت
العقلية ،ووضعي ما زال تحت السيطرة.
ً
واحد ا منهم قد َّ
أتحد اك أن تجد هم سفلة الكون وفضالته العفنة .وأنا
واحد ا منهم قد عاش بشرف .تأكد ً َّ
أتحد اك أن تجد جمع ماله بعرق جبينه.
أنني لست الوحيد في هذه البالد الذي ضاعت حقوقه المالية .أنا ال َّ
أتكلم عن
كل الناسُّ .
كل واحد من مشكلتي الشخصية .أنا َّ
أتكلم عن مشكلة يعاني منها ُّ
هؤالء البشر المساكين الذين تراهم تائهين هنا لهم حقوق مالية ضائعة.
ِّ
لكل واحد من هؤالء المخنوقين بالفقر نصيب من إيرادات النفط؟ أليس
مشكلتي أنني حامل لهموم الناس جميعًا ،ولذلك ال يتركونني أنام .يبعثون برسائلهم
إلى خالياي طيلة الليل .وبالكاد أنام ليلة واحدة فقط في األسبوع.
مجرد
القهر والظلم واإلجرام كانت أشيا َء أسمع عنها وال أعرفها ،كانت بالنسبة إلي َّ
كلمات موجودة في القواميس ،أو حاضرة في األفالم السينمائية ،لكن منذ عودتي إلى
256
جريمة في شارع المطاعم
***
257
وجدي األهدل
َّ
وكل بنوك العالم األخرى. وفتتها فوق رأسه ،وراح يصرخ بجنون الع ًنا البنك
وعلى الفور تجاوبت مع المهندس عشرات الحناجر بالصفير وصيحات االستنكار،
وتحول شارع المطاعم في لحظة إلى بركان يدمدم بغضب.
انسحب مندوب البنك بخطوات عجلى متعرجة ،ورجاله تدوسان على حاجبيه
من الذل.
***
***
258
جريمة في شارع المطاعم
في هذه الجولة لم يثر مهندس الديكور ،وال تغ َّيرت مالمحه ،بل مكث في مكانه
ِِّ
محذ ًرا: كصنم حجري .أمسك المندوب بربطة عنقه الوردية وقال
-بالمناسبة لقد قمنا بإحراق ملفك .وهذا يعني احتمالين .األول :أننا نستطيع
إخراجك من هنا بمكالمة تلفونية ،والثاني :أننا نستطيع سجنك هنا إلى آخر أيامك،
ألنك سوف تعتبر في نظر القانون مجرمًا بال جريمة.
مرت دقيقة صمت ،كأنهما يقفان حدادًا على روح ميت.
َّ
أخيرا:
ً استيقظ مهندس الديكور من شروده ونطق
-يومًا ما ستظهر الحقيقة.
ضحك المندوب حتى تطاير اللعاب من فمه:
الحقيقة .يا لك من ساذج .يا صاحبي الحقيقة تساوي ما يُدفع فيها .وبما أننا نحن
الذين ندفع المال فإنه من حقنا أن نحصل على الحقيقة التي نرغب بها .ال َّ
بد أن
أن جيبك فارغ وجيبي أنا مآلن ،فهذا تفهم أن الحقيقة وثيقة الصلة بالجيب .وبما ّ
يعني أن الحقيقة ليست في جيبك بل في جيبي!
تأ َّمل مهندس الديكور أصابع المندوب القصيرة البضة الناعمة فترة من الوقت،
َّ
تكلم ببطء :أريد أن أعرف .ما هي الجريمة التي ارتكبتها في حق مديرك؟
-جريمتك أنك لم ترتكب أية جريمة على اإلطالق!
ُصر مديرك على تحويلي على مجرم؟
-ولماذا ي ُّ
ولكن
ْ َّ
بشدة في أن تنال حقوقك .أن تأخذ الثمانمئة ألف دوالر، -ألنه يرغب
بشرط :أن تثبت جدارتك.
-أي جدارة .هل تس ِّمي تلطيخ يدي بدم األبرياء جدارة؟!
-مديري فيلسوف من طراز فريد .اخترع نظرية أخالقية جديدة ،وأنت أحد
النماذج التي يشتغل عليها.
-أنا؟
ً
-نعم .النظرية تقول باختصار إن على اإلنسان أن يسلك سلوكا إجرام ًيا مع َّي ًنا
لكي ينال حقوقه المادية والمعنوية في المجتمع ،كما تفعل الحيوانات المفترسة في
الغابة .ونتيجة لسجله اإلجرامي فإنه يصير بالضرورة مواط ًنا صالحً ا!
-هذا يعني أن المواطن األصلح هو األكثر إجرامًا؟
-بالضبط.
259
وجدي األهدل
***
في اليوم التالي ظهر مهندس الديكور في شارع المطاعم ،ببذلة نظيفة ،ووجهه
حليق .وإن كان الناس قد الحظوا أنه قد شاخ وانحنت قامته .تساءلوا أين غاب طيلة
تلك األشهر ،ولك َّنهم لم يحصلوا ال منه وال من غيره على أي جواب.
***
وأقبل فصل الشتاء ببرده القارس ،وأصبح كثير من الناس يتج َّنبون الخروج من
بيوتهم قبل شروق الشمس .تداول رواد شارع المطاعم أنبا ًء فاجعة عن شحاذة معوقة
260
جريمة في شارع المطاعم
في ريعان الصبا ،وجدت في غبش الفجر وقد فارقت الحياة .وجدوها َّ
ممددة على
وجهها بجوار مكتب البريد عند مصطبة حجرية ،وخيط دم يسيل من زاوية فمها.
تهامسوا واللوعة ّ
تعذبهم بأنها ماتت مسمومة.
261
ياسين عدنان
قصَّ تان
َ
بقيت على هذه سأنسحب إذا
ُ أن تفهمني أرجوك. ُ
بدأت أنزعج .حاول ْ أف .لقد
ُ
وتسأل ماذا فعلت؟ الطريقة التي تنصت بها وأنت تحملق في وجهي الحال .عج ًبا،
تستفزني .تتص َّنع الهدوء واالهتمام لكي تبدو عاقلًا ورزي ًنا .ال ...صدقني ،لسنا في
ُّ
مسجد اآلن ...نحن في بار .وأنت فعلًا تحرق أعصابي ...حتى االبتسامة المصلوبة
على شفتيك تبدو أذكى من الالزم .إنها تهينني .فهل تظن نفسك فعلًا ذك ًّيا إلى هذا
الحد؟ واآلخرون ...مجرد كائنات فارغة ال تجيد غير الثرثرة؟ ال يا صديقي أنت
أكش ُف النقاب عما يجول بخاطرك؟ تتص َّنع الذكاء وأنت ِّ
تفكر ببالدة. مخطئ .هل ِ
مجرد عاهرة .واحدة من إياهن .تبدو سكرانة وهذا
َّ لقد َ
قلت في نفسك :هذه
ممتاز .فلن أدفع عنها أكثر من بيرتين ثم أدعوها إلى الذهاب معي .ستكون متعبة
دون شك ،وفي حاجة ماسة للنوم ...للنوم فقط .في البيت ،لن أسألها هل َّ
تعش ْت.
سآخذها مباشرة إلى غرفة النوم .نطفئ الضوء وننااام ...بعد أن أقضي حاجتي ،أدير
لها ظهري ...وكالعادة أنخرط في الشخير إلى الصباح .استيقظ من فضلك ،فقد راحت
عليك النومة هنا في البار .هل تظن نفسك في حالة صحو؟ اهلل يجيبك على خير.
صغيرا -أن الجالسة إلى جانبك ليست
ً كيف لم يتبادر إلى ذهنك -ولو احتمالًا
ماسة لشخص عاهرة ،وأنها تشرب بهذا الشكل فقط ألنها تعاني ،وأنها في حاجة َّ
عميق ،يحاورها بعمق وينصت لها بصدق .ولهذا ربما بدأ َ ْت تحكي معك .وحتى إذا
سكير قذر .سأشربكنت عاهرة ،فما الذي يمنعني من أن أفكر مثلك :أنت مجرد ُِّ
ُ
ذهبت معك إلى البيت ،لم على حسابك بعض الكؤوس ثم أزحلقك .ولنفترض أنني
262
قصتان
َّ
ال أكون أنا التي ستدير ظهرها بعد الجنس؟ لم ال أكون أنا التي ستقضي وطرها ثم
تصفق الباب خلفها في الصباح ،لتذهب إلى أوطار أخرى ،فيما تظل أنت في بيتك
لترتيب الفراش ،تغسل المناديل وتفرك اللزوجة التي علقت بها وأنت تغمض عينيك
الذابلتين عساك تستعيد بعض الحرارة التي ألهبتك ليالَ .من أت َف ُه من اآلخر؟ ومن
يحقُّ له االبتسام بتلك الطريقة السمجة؟ أف ،ما زلت تبتسم وكأني كنت أروي لك
نكتة؟ ّ
صدقني ...أنت ال تطاق .هل تعرف ما الذي يزعجني في الرجال؟ إنها بالدة
الحس التي تمنحهم قدرة خراف َّية على االنسجام في ذواتهم .لديكم استعداد دائم
ِّ
لإلحساس بأنكم غير معنيين حتى والنار تشتعل في تالبيبكم .خذ نفسك مثلًا :أنت
اآلن ترى الوضع في الحانة غري ًبا ...عاهرات ،سكارى ،صخب وضوضاء ،خصومات،
عالم مجانين .لك َّنك في الوقت ذاته تنسى أنك بدورك هنا ،وسط هذا العالم .آه..
ُ
انخراطك معهم في قلب نسيت ...أنت ملك على عرشه ،واآلخرون جوقة ممثلين.
تواضع منك ال أقل وال أكثر ،ال يا صديقي أنت
ٍ مجرد تكسير للجدار الرابع،
َّ المشهد
واهم .الفرق الجوهري بيني وبينك هو أنني ،على العكس ،أعتبر نفسي جزءا من
علي أن ّ
المقزز .أعرف أنني في حانة نتنة .وحين أغادر في آخر الليلَّ ، هذا العالم
أنتبه لوقع خطاي ،فأمثالك ال يتر ّددون في إفراغ البيرة المخمّرة في أمعائهم قرب
َّ
يرف لهم جفن .أحيانا يفعلونها بين سيقان الكونتوار ،أو عند المدخل دون أن
جليساتهم متناسين أنهم قبل لحظات فقط كانوا جنتلمانات مهذبين .أنا لست َّ
مهذبة
داعر مثلي.
ٌ يا صديقي .إنني مجرد عاهرة .لك ّنك بالتأكيد لست أحسن حالًا .أنت
َ
جئت إلى هذا الدهليز النتن لتمأل جوفك بالبيرة الرخيصة وتأخذ امرأة مجهولة
إلى سريرك .أرأيت كيف أننا بالوضاعة ذاتها ..وبالتفاهة نفسها؟ ومع ذلك ال أقول إن
ُ
التقيت رجالًا حقيقيين ،رجالًا بمعنى الكلمة .هل الجميع هنا تافهون .في هذا البار
َّ
الدكة؟ ...ال ،الذي هناك... ً
وحيدا أقصى ترى مثال الكهل ذا المعطف الكاكي المنزوي
يرا حقيق ًيا ،من ال لست ِّ
سك ً َ وراء فتيحة ،الشقراء صاحبة «البودي» األحمر .إذن،
يعرفه هنا؟ اسمه سيف المنصوري ،موظف قديم بالتعاون الوطني ،ومراكشي مثلك.
جاء إلى هذه المدينة في السبعينيات واستقر بها نهائ ًيا .إنه يوم ًّيا هنا .اهلل يعمرها
ُعزني كثيرا .يبدو أنه لم يرني اآلن؟ يا سي
دار ،أعرفه منذ سنوات عديدة ،وهو ي ُّ
يفضل الصخب على الثرثرة. سيف ..يا سي سيف ...لم يسمعني ...قال لي مرة إنه ِّ
في البيت ،ال يطيق ثرثرة التلفاز ،ثرثرة الزوجة ،ثرثرة األبناء .هنا على األقل يضيع
263
ياسين عدنان
وسط الصخب وال أحد يهتم لوجوده .بعض اللئام من رواد البار أطلقوا عليه لقب
«سيف اهلل المسلول» .الرجل مريض واألنذال يسخرون منه .المسكين ...لو تدري
كم يعاني .بعدما أصيب بالسل ،أصبحوا جميعا يجتنبونه .قال لي مرة إن زوجته
بدورها أصبحت تتحاشى من مُجاورته في الفراش .هو ليس مستا ًء من المرض ،بل
من الناس .في السبت الماضي ،أخبرني أنه قد تآلف مع العناكب التي َّ
عششت بين
يصرون على التعريض بي .إذا كنت مسلولًا فالصدر
رئتيه ،قال :لكن هؤالء األوغاد ُّ
صدري ،والرئتان أنا من يتنفس بهما وليست أمهاتهم .ثم فيم سأحتاج جسدي وأنا
في هذه السن ،لكي أحافظ عليه؟ عمري تسعة وستون عاما .إنني فقط أتجرجر
صدقيني يا ابنتي،مع الزمن ،وأجرجر السنوات ورائي ،وأنا أسعل كقطار عجوزِّ .
فضل ُ
غدا وفي جسدي عضو ال يزال صالحً ا .أ ِّ
مت ًلن أندم على شيء كما سأندم إذا ُّ
أن أتداعى بالتدريج على أن أحترق فجأة كتلفاز أخذ جرعة صاعقة من الكهرباء.
مرة قبل ست سنوات ،سهر معنا في حانة «الكثبان
صدقني ،إنه فعلًا شخص مختلفّ .
السبعة» ،وشرب أكثر من الالزم .لم أشأ تركه على تلك الحال فأخذته معي إلى
البيت .كنت حينها أسكن مع سم َّية الرباطية -تعرفها؟ -وفتاة أخرى هاجرت إلى
إيطاليا وتزوّ َج ْت هناك .ولم يكن قد نخره الداء بعد .ال أخفيك ،كنا نجده ّ
جذابًا تلك
ُ
أخذته إلى غرفتي ،مددته على السرير وا َّتكأت بجانبه. األيام .في البيت،
بقيت فقط بمالبسيُ أتعرى .لم أتمالك رغبتي. ِّ
صدقني ،لم أشعر بنفسي إال وأنا َّ
بشدة إلى صدري .هل اشتهي ُته تلك الليلة؟ ال أعرف .لك َّنني
َّ الداخلية .وضممته
وأمطرت وجهه بالقبالت .وحين بدأت أفك أزرار قميصه ،همس في أذني ُ ضممته
بصوت مهدود :ال يا حجيبة ...أنت مثل ابنتي ...فاهتزَّ جسدي بالبكاء .هو لم يخن
مجرد عاهرة .فهل كان مجر ُد عاهرةُ .
كنت َّ زوجته قط ،هكذا أخبرني فيما بعد .وأنا َّ
غادرت السرير ،وبدأت أرتدي مالبسي ،لك ّنه فتح عينيه
ُ يكفيني ساع َتها البكاء؟
وحدق بي...َّ فجأة
-ابقي كما أنت يا حجيبة ،قال لي ،وتعالي لتنامي إلى جانبي .سأحضنك كأب،
فضعي رأسك على صدري ونامي .كم أحب مالبسك الداخلية البيضاء .األبيض شريف
يا صغيرتي .فتعالي لتنامي في حضني بأمان.
منذ تلك الليلة ومالبسي الداخلية دائما بيضاء .فعلًا ،األبيض شريف .أنظر إلى
الناس في األعياد الدينية ،ماذا يرتدون؟ المالبس البيضاء ،أيام الجمع ،يرتدي المص ُّلون
264
قصتان
َّ
الجالبيب البيضاء .الميت نكفنه باألبيض ،في األعراس يرتدون األبيض ،وفي العزاء،
َ
تتأكد تجرؤ؟ تريد أن
أف ...ماذا أيها الشقي؟ كيف ُ األبيض .وأنت ،أما زلت تبتسم؟! ْ
َ
سأدعوك بنفسك من لون منهدتي؟ إذن ،إدفع ثمن البيرة أيها البخيل .وال تهتم للعشاء.
لوجبة خفيفة في «مطعم المسافرين ».الليلة ،سأجعلك تندم على هذه االبتسامة.
سأشعل النار في جسدك وأجعله يصرخ في السرير بكامل مسامه .قم إذن ...يا سي
سيف… يا سي سيف ...بالصحة ...كيفاش؟ ...ال ...عذ ًرا عزيزي ..معي الليلة صديق.
وأنا ذاهبة اآلن ...إلى اللقاءً ...
غدا طبعًا ...طبعًا ...طبعًا..
حاطِب ُح ّب
ُ
درجة يأسه وحنقه على العالم. ال يمكن إلنسان أن يحتمل الوحدة مهما بل َغت
مجرد نباح كلب
َّ حس نستجير به من عنف الصمت ،حتى لو كان دائما نحتاج إلى ٍّ
ً
وحيدا في خالء .ربما أنا الشخص األنسب لهجاء الصمت والعزلة والبرد .فأنا أعيش
بهذه المدينة القارسة المنزوية عند قدم الجبل منذ أكثر من خمسة عشر عامًا.
ُ
فشلت في الزواج من نجوى ،بنت السيد مشكور ُّ
كل مشاريعي هنا آلت إلى الفشل.
َّ
بشدة أن يعطي ابنته لشخص لم يسبق أن صادفه مدير مكتب البريد .أبوها رفض
محر ٌم عليهم .فشلت في مشروع ُ
دخول المساجد َّ جنس آخر، ُ
وكأنه من في المسجد
ٍ
ُ
اكتشفت أن ً
واحدا. المكتبة التي فتحتها لمدة عشرة أشهر ،لم أبع خاللها ولو كتابًا
يفكر في أن يبيع أهلها كت ًبا.ال أحد يقرأ في هذه المدينة ،وأن المجنون وحده من ِّ
أيضا في االنتخابات البلدية التي لم أحصل فيها ولو على صوت واحد بماوفشلت ً
في ذلك صوتيّ .
ألن فترة الحملة االنتخابية كانت كافية إلقناعي بقذارة اللعبة وال
يت عن الحلم الذي من أجله ولجت غمار هذه المعمعة :أن جدواها .وهكذا َّ
تخل ُ
يت رخصة من أحدّ .
تخل ُ ً أغرس بضع أشجار في شارع المدينة الوحيد دون أن أحتاج
ُ
وقاطعت االنتخابات بضمير عن هذا الحلم بيني وبين نفسي في اليوم الثاني للحملة
ُ
أفلحت فيه كل مشاريعي بهذه المدينة باءت بالفشل .والشيء الوحيد الذيمرتاحُّ .
هو أن أكرههم جميعًا .كرهت المدينة وأهلها ابتدا ًء من محمّ اد البقال الذي ناد ًرا ما
يصر على أن يحكي
أجد عنده الخبز في منتصف النهار ،وعوض أن يخجل من نفسه ُّ
265
ياسين عدنان
ً
سخيفة ال تنتهي .وكما لو أنه يتعمد إغاظتي ،يختار بعناية المواضيع التي قصصا
ً لي
ِّ
تقززني تمامًا .دائ ًما لديه فيها الجديد ،ودائ ًما ينجح في حقني بالمزيد من محلول
الحي
َّ علي أمينة أن أسكن اقترح ْت َّ
َ أحس دائ ًما بالبرد.
الملل .في هذه المدينة كنت ُّ
القديم ،فالبيوت الطينية هناك أكثر دف ًئا .أجبتها أنني طبعًا ال أطيق البرد ،لك ّنني أكره
الصراصير أكثر .قالت أمينة إن الصراصير الحقيقية موجودة في رأسي ،وهي ال تفهم
كيف يمكن لشخص مثلي أن يبدو طبيع ًّيا ومتوازنًا وهو يكره العالم بهذا الشكل.
ولكنني ال أكره العالم يا أمينة! كيف سأشرح لك ذلك؟ انني أحب اهلل ومالئكته
أنت أيضا
والرسل .وفي الشتاءات الباردة أحب اليوغورت المنكه والنبيذ االحمرِ .
أح ُّبك في الشتاء حينما يتحول جسدك إلى حطب طري .وفي الصيف ،حينما ترتدين
شجر ذا اللونين البرتقالي واألزرق السماوي والت ّنورة البيضاء القصيرة.
قميصك المُ َّ
ً
مستغرقا في حبك يا
ِ صدقيني في مالبس أخرى ،لكنني ال أقولها لك .أكون وأح ُّبك ِّ
أمينة ولهذا ال أقول شي ًئا .انه طقس مقدس يا عزيزتي ،يجب ان نحتفي به في السر،
لكنني طبعًا ال أحب 24على .24لست ماكينة أحاسيس .وأنت تخطئين حينما تطلبين
أكرر ذلك على مشاعرك
مني المستحيل .المستحيل هو أن أح َّبك صبا َح مساء ،وأن ّ
صبا َح مساء .هكذا دون مناسبة ومن دون نبيذ .مشكلة أمينة الحقيقية هي أنها
تريد مني أن أحبها وال تطالب نفسها بأي شيء بالمقابل.
وأنت يا أمينة أحِ ِّبيني قليلًا أنت األخرى؟
ُ
ورفضت أن أتزوج بمحسن مرتين في األسبوع وأنام معك،
ولكنني آتي إلى بيتك ّ
المعلم من أجلك ،ماذا تريدني أن أفعل أكثر؟
ماذا ستفعلين؟ أحيانًا أشعر أن المرأة فعلًا من جنس آخر .تصير غبية تمامًا في
اللحظة التي تطالبها فقط ببعض التركيز ،وحين تكون أنت قد تعبت تسترجعُ صفاء
ً
كثيرة رغم ً
كاملة وتشرع في التنكيل بك .أمينة مثلًا لم تفهم أشيا َء ذهنها ولياقتها
أنها تتردد إلى َّ
شقتي منذ ثالث سنوات .أنا مثلًا شخص طيّب وبسيط .يكفيني عشا ٌء
لكن أمينة
وكأس نبيذ وامرأة إلى جانبي في هذا البرد ،ألحس بأنني ملكْ .
ُ خفيف
مرة في
ال تعرف كيف تلعب دور زوجة الملك ،ومع ذلك أحبها .حينما التقينا أول ّ
كشك الجرائد المجاور لبيتي كانت تسأل عن َّ
مجلة للطبخ .لم أجدها جميلة ولم
يُثرني فيها أي شيء :جسد كالماء العذب ،بال طعم وال لون وال رائحة ،تغيب تفاصيله
شعر ال هو باألسود وال باألشقر مشدود إلى الخلف بصرامة،
ٌ خلف جالبة رمادية،
266
قصتان
َّ
لممرضة بقسم الطوارئ .ال شيء فيها يثير في الواقع .لك َّنني
ِّ وابتسامة فاترة كأنها
ُ
بحكم العادة فقط بدأت أحكي معها عن الطبخ وأصنافه .تحدثنا عن الكسكس والبيتزا،
صعد ْت معي إلى الشقة .وألنه لم
َ عن اللحم بالبرقوق وطاجين الدجاج بالليمون .ثم
يكن في بيتي تلفزيون نتسلى بالتفرج على برامجه مارسنا الجنس .وهكذا بحكم
العادة صارت أمينة تتردد إلى شقتي وتقول لي :أحبكّ .
وألنني لطيف بطبعي ومُجامِل
لكن بالتدريج ،ونحن في السرير ،بدأ جسدها الج ِّني يخرج من أقول لها :وأنا ً
أيضاْ .
مبهرا .قبل أن أتعرف إلى هذه البنت كانت تتردد إلى سريري فتيات
ً قمقمه .كان شي ًئا
ُ
اكتشفت أن هؤالء البنات لكن مع أمينة
مطرزة بألوان مثيرةْ .
جميالت يرتدين تبابين ّ
كن دون خبرة في الغالب. أسرة موظفي المدينةَّ ،
الثرثارات ،اللواتي يتنقلن بين َّ
ويدخن سجائرهن من عُ لب اآلخرين دون أن ِّ كثيرا
ً البنات اللواتي يمارسن الجنس
األسرة.
ّ لسنَ ِّ
جديات .ولهذا يبقين دون خبرة مهما تقاذفتهن يتقيّدن بصنف بعينه ْ
أمينة كانت فتاة محرومة .ربما لم يجاملها أحد قبلي بحديث عن الطبخ وأطباقه.
لم يدعها أحد قبلي إلى شاي بالبيت .لكنّ جسدها بالفطرة فقط ،بالفطرة والحرمان
تكن
وبعض التفاني ،كان يفعل بي األفاعيل .والغريب أنها لم تطالبني قط بالزواج .لم ْ
تطلب أي شيء .كانت فقط تريد أن تأتي من حين آلخر ،وأن تنام معي قليال ثم
ِّ
المعلم وأبيها المتقاعد وأختها َّ
تتمدد إلى جانبي ساعات تحدثني خاللها عن محسن
المتزوجة بمراكش ،وأخيها الذي سيتخرج بعد سنتين طبيب أسنان .ولم يكن لدي
مانع من االستماع لهذه الحكايات .أ َّما أن تطلب مني -بين حين وآخر -االعتراف
بالحب دون مناسبة وال نبيذ ،فهذا أمر ال يُح َتمل .صحيح أن المدينة صغيرة ودرجة
ُ
وجدتها عند أمينة غير متوافرة لدى المراهقات االنخراط في ممارسة الجنس التي
المكلفات والمُ َت ِّ
كلفات ،اللواتي كن يتر ّددن إلى سريري قبل مصادفة الكشك ومجلة
الطبخ .صحيح أن المدينة باردة وأمينة حطب ضروري في فصل الشتاء ،لك ّنني أكره
َ
ألعترف لك أن يطلب مني أحد االعتراف له بشيء .قلت ألمينة مداع ًبا :لست مجرمًا
بجريمتي ،لك ّنها لم تضحك .قلت لها :دعيني أقتلك أولًا وبعدها سأعترف للمحققين
ومرة أخرى لم تضحك .مشكلة أمينة هي أنها جديّة أكثر من الالزم. بح ِّبي لكّ .
صحيح ّ
أن جديتها وتفانيها يشعالن النيران في جسدي ونحن في الفراش ،ويُنسيانني
لكن مع ذلك من حق الواحد م َّنا أن يمزح مع حبيبته ،أقصد
البرد الذي في الخارجْ ،
مع الفتاة التي تتردد إلى بيته من حين آلخر وتعتبر نفسها حبيب َته.
267
ياسين عدنان
لكن يا أمينة ،أخبريني لماذا علي دائما أن أعترف؟ لم ال تكتشفين بنفسك إلى أيّ
ْ
ّ
يشتد البرد وتكونين حد أحبك فقط من نظرتي ،من تهدُّ ج صوتي على الهاتف حينما ّ
كل شيء؟بعيدة؟ لماذا علي أنا أن أقول َّ
في هذه المدينة عليك أن تثرثر كمذياع دون أن تفعل شي ًئا ،أو تفعل عكس ما
تقوله بالضبط .محمّ اد َّ
البقال يحكي دائ ًما عن حذقه بالتجارة ،وحينما انقطع التيار
الكهربائي بالحي قبل أسبوعين ولجأت إليه ،لم أجد عنده ولو شمعة واحدة.
مشكور مدير مكتب البريد الذي أعطاني دروسا في األخالق واالستقامة قبل أن
درته المصونة في حفل بهيج لحميد النكودي صاحب حانة يطردني من بيته َّ
زف َّ
«الكثبان السبعة».
لست مثلهم ،فأنا ال أريد شي ًئا من أحد .حتى جسدك الذي يدفئني
ُ آه يا أمينة
في هذا البرد خذيه إلى سرير آخر ،واتركيني أخلو إلى نبيذي أقارع به البرد.
أُ ِّ
فضل البقاء وحدي على أن أخضع البتزازك السخيف .أرفض أن ينتزع مني أيٌ كان
اعترافات تحت الضغط .ال أريد أن أعترف بشيء ،فما رأيك؟ دعيني وشأني أرجوك.
لكن أمينة التي ُ
كنت أظن في البداية أنها ال تعرف كيف تلعب دور الملكة ،زوجة َّ
ضمتني إلى صدرها بحنان وهي تشهق:
الملكَّ ،
نم في حضني ودعْ ني أحتويك .كانت تحضنني إلى صدرها ،تدفن آه يا حبيبيْ ،
رأسي بين نهديها ،تق ِّبلني في ِّ
كل مكان من جسدي وهي تشهق وتبكي وأنا كالمصعوق
ً
مندمجة ً
مستغرقة مُستسلِمٌ بالكامل ،وال أفهم ما الذي حصل بالضبط .كانت أمينة
تتمرغ على صدري ودموعها تسقي عشب جسدي .ثم سمع ُتها تنشج َّ في الدور وهي
باكية من فرط التأثر ووجهها مدفون بين فخذيّ :
آه يا روحي ،لم أكن أظن َ
أنك تح ُّبني إلى هذا الحد...
قصة «ثرثرة باألبيض فقط» نشرت ضمن كتاب «من يصدق الرسائل» ،دار ميريت ،القاهرة 2001
قصة «حاطب حب» نشرت في كتاب «تفاح الظل» عن منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب،
كلية اآلداب ابن امسيك ،الدار البيضاء 2006
268
يحيى امقاسم
مقطاعين من رواية
ساق الغراب
«حمُ ود الخير» يُمسك بفأس ،لنصلها وميض خاطف ،وهو يقتعد قطعة خشب كان َ
كبيرة داخل األحراش ،عاريًا وواضعًا َذ َكره على حجر صَ َّوان يلمع أمامه كسطح َغ ْيل
ساكن ،وذلك استعدادًا لعمل َّية الختان ،دون اكتراثه للمرحلة األولى من هذه العمل َّية،
إذ يلزمه ابتدا ًء إدخال بعرة بعير من خالل قَلَ َفته دافعًا بها الحشفة إلى أقصى ٍّ
حد،
لتحمي َذ َكره من أيّ خطأ محتمل ،وليأتي النصل على كامل ال َقلَ َفة دون سواها ،إال أ َّنه
للداخل ،حاشرة َح َش َفته إلى َمن َبتعوضا عن البعرة ،إذ غرس إصبعه ًَّ اكتفى بسبابته
الحد الفاصل بين ظفر إصبعه ورأس َذ َكره ضغط بنصل الفأس ،وعندما ِّ ثم عندقضيبهَّ ،
لتتمدد ال َقلَ َفة على الحجر كجزء من
َّ اطمأن إلى أ َّنه خلص إلى بُغيته أخرج إصبعه،
َّ
خرقة قماش بالية ،وعليه أن يجزَّ ها سريعًاَّ ،
ثم يُكمل ختانه عندما يسلخ الجلد من
عانته وحول َذ َكره ،وباطن فخذيه ،مح ِّق ًقا بذلك عادة أجداده في الختان.
ً
وبعيدا عن نظره ،لهاث رجل تأهب سمع من خالل األحراش، فيما هو في حالة ُّ
قرر ،ولن كأ َّنه يحمل سو ًءا ال يعلمه ،ولك َّنه لن يردعه َّ
عما سيفعله شيء -كما َّ
ينهاه أحد عن إثبات رجولته وقدرته على القيام بهذا العمل العظيم ،رغم العقاب
الذي سنُّوه لمن يقوم بختان نفسه .هذا ما عزَّ زه بداخله قائلًا لنفسه« :يقتلوني...
لكن ما يلمس واحد منهم رجولتي واَنا اَبْن عُ ص ْي َر ْة».
لم يعر اهتمامًا ألنفاس ذلك الرجل المتالشية من المكان ،وال ريب أ َّنه يُراقبه منذ
جدته «صَ ا ِد ِق َّي ْة» ،تلكاطمأن إلى فكرة أ َّنه عين لوالده أو ََّّ دخوله األحراش ،وقد
متحديًا من يسمع ومن ِّ ثم أردف« :اَبْن عُ ص ْي َر ْة»
العين التي ال ُتغادره على الدوامَّ .
لكن
شرا ال غيرَّ ،
ألن الرجل قد يكون ًّال يسمع ،هذا وهو يعود في فكرة االطمئنانَّ ،
ذلك لن يُثنيه عن ن َّيته المب َّيتة منذ أ َّيام خلت ،فهو ليس َّ
أقل شأنًا من سواه في وادي
269
يحيى امقاسم
لح َس ْينِي».«ا َ ُ
ً
وتحديدا كل أمجاد عشائره في وادي «ا َ ُ
لح َس ْينِي»، «اَبْن عُ ص ْي َر ْة» عبارة ُتجمل َّ
ُ
بوتها في قريته «عُ ص ْي َر ْة» ،عاصمة وداعية الوادي ،التي ال يستنهضون في أرواحهم أ َّ
َّ
استحث لهم إال ألمر جلل ال يتراجعون عنه .وعندما صرخ بأ َّنه ابن لتلك القرية
من أعماقه مواقد اإلقدام ،وأشعل في شخصه فتيل الشجاعة ،ليتد َّفق الدم إلى أعلى
يتبدد صمت األحراش في تلك الظهيرةَّ ًّ
حاضا حماسه على إنهاء األمر ،ولم رأسه
تفر الطيور من بين األغصان الكثيفة ،إلاّ وقد رفعت
من صراخه بتلك العبارة ،ولم ّ
يده الحجر اآلخر ،وهوت به دون هوادة على رأس الفأس ،الذي نفذ نصله لمالمسة
باترا بذلك قَلَ َفته التي قفزت بسهولة على التراب ،وشخب الد ُم
الحجر األملسً ،
سريعًا مبهو ًرا بمخرجه.
فخرا بما فعل ،لك َّنه أدرك
ً وقعت الفأس بمحاذاة الحجر المد َّمى ،وهو يستبشر
تشكلت الدماء من حوله بشكل مخيف لم يسبق له أن سمع خطأً فادحً ا ارتكبه ،إذ َّ
ثم وجد أ َّنه قد بخس َح َش َفته
بحالة مماثلة له! تم َّعن ج ِّي ًدا وشعر بوخز مريعَّ ،
بمزق نال من طرفها األيمن ،وترك هذا المنظر الغريب في نفسه ٍ تكورها البيضاويّ ُّ
شيئا من الرهبة ،فعدل عن إكمال سلخ جلد عانته وباطن فخذيه ،كما كان يجب ً
فكر في والده الشيخ «عيسى عليه تحقي ًقا لتمام العمل َّية ،وعدلًا لعادتهم في الختانَّ .
الخير» الذي سيُعالج األمر ال محالة ،وبهل في التراب المعجون بالدماء ح َّتى وجد
وأي طريق سيكون تفقد منافذ األحراش ُّ َّ
ضالته الضئيلة من الحَ َش َفة ،وأسرع في ُّ
سلكه آم ًنا من أعين تتر َّبص به لوشاية ما ُّ
تدسها بأذن أمير «صَ ْب َي ْاء» .فأعداء والده
أن تطهيره لنفسه سيكون نكاية بأبيه من قبلهم لدى األمير الذي ي ِّ
ُحذر ُكثر وال َّ
بد ّ
وأن القصاص ممّ ن يرتكبه سيكون قاس ًيا. من اقتراف هذا الفعلَّ ،
أن أعين الظالم في القرية ال يُمكن مغافلتها، برغم وصوله خِ فية إلى البيت إال َّ
َ
المحدق ،فأسرع والده في الخطر
َ هذا في تقدير أهله الذين من فورهم َّ
تيقنوا تمامًا
ثم تد َّبرت األ ُّم مع إخفاء ابنه عن األنظار ،ور َّتب مع نفر من َّ
خاصته تطبيب الجرحَّ ،
الصبي.
ِّ الجارية « َز ْه َر ْة» دفن الجزء المبتور من َح َش َفة
ً
وتحديدا نحو األمير الذي استقبله ركب الشيخ عند الظهر دا َّبته باتجاه «صَ ْب َي ْاء»،
يستحقها ،مع أ َّنه ُفوجئ بزيارته ،فهو الذي كان يُرسل له أكثر من خطاب ُّ برحابة
لح َس ْينِي» فال يُجيبه مطل ًقاُّ ،
وكل ما يفعله للتداول معه في أيِّ أمر ذي صلة بوادي «ا َ ُ
270
ساق الغراب
ِّ
الخط َّية هو وضعها تحت فراشه ،ويأمر جنود األمير بالذهاب، الشيخ ُتجاه الدعوة
حاملين منه إلى أميرهم عبارة واحدة« :إذا كان هو بحاجتي فبيتي واسع» ،وال يأتيه
في مجلسه إال إذا نزل سوق «صَ ْب َي ْاء» يوم الثالثاء وسمع به األمير ،فيُسارع هذا األخير
إلى مقابلته على مضض ويُالطف عرش أنَفته ،ح َّتى يلين الشيخ لحيله ،فيعبر بدار
مقر اإلمارة ،ولم يحمله على
اإلمارة على عجل ،فهو لم يكن يومًا ليذهب عنوة إلى ِّ
هذا العمل إال أمر مستطير .ربما هكذا َّ
تحدث األمير في نفسه حين رآه.
بدأ الشيخ بتنفيذ أه ِّم خطوة في َّ
خطته للخالص من العيون المتربِّصة به ،حين
«حمُ ود» عصر غد ،الذي سيكون إيذانًا دعا األمير وصحبه لحضور ُ
«شهْ َرة» ابنه َ
وأصر عليه في دعوته ليكون ضمن «ال َم َطالِيب»
َّ ببداية ليالي التشهير بيوم ختانه،
بحجة انشغاله،
خاص ،لهذه المناسبة الكبيرة ،فاعتذر األمير َّ
ِّ وبشكل
ٍ الذين يُدعون،
األول الحضور نيابة عنه وبصحبته بعض عساكره ،فأضمر الشيخ وطلب من معاونه َّ
تمت بالوكالة ،لك َّنه لم يُظهر فرحه بأيِّ سلوك مبالغ فيه
سعادته بهذه التلبية التي َّ
مما طواه في نفسه.
يكون من شأنه إيضاح بعض َّ
***
271
يحيى امقاسم
272
ساق الغراب
عِ شا ًء في عريش األ ِّم ،والسماء تهدر بالرعود ،كان الشيخ على حالته مثخ ًنا بحزن
وحرقة ،ومنثن ًيا عن حادثة الموت والصالة والدفن ،ولم ُتذهب عنه تلك الحالة
سوى األ ِّم القادرة وحدها على تطبيب كا َّفة آالمه .فعندما شعرت في جواره بصمت
ّ
وحقك ما مات ...عادوه في مكانه”... تعرف مغزاه ،بادرته تقول« :زوجاتك ماتوا
خاصته ومن حضر للتعزية في زوجة تبسم ابتسامة لم يشعر بها سواها رغم وجود ََّّ
ثم ليستغ ُّلوا
وسرهم التخفيف من كمد شيخهمَّ ،
َّ «ب َِش ْ
يبش» الغائب ح َّتى تلك الساعة،
وآخرهن
َّ بأن عضوه باق رغم موت ِّ
كل نسائه فرصة مراوغة األ ِّم له حين َّ
ذكرته َّ
«حمُ ود» المتو َّفاة قبل سنتين ،ولكيال يصمتوا لحظتئذَّ ،
علق «سُ َبيعْ » -ابن األ ِّم أ ُّم َ
حق ولدك اِالّ البول ».وبذلك األصغر -على ما ذكرته العجوز قائلًا لها« :ما عاد في ّ
معر ًضا بعجزه ،فعندها ارتفع زاد «سُ َبيعْ » من صخب التندُّ ر بعضو أخيه «عيسى»ِّ ،
ضحك «بن شامي» غير الواعي بحال حزنهم ،وبدورها ردَّت األ ُّم على «سُ َبيعْ »« :أنا
اَدرى بولدي يا ه ِّين ...أرجل منكم ّ
كلكم».
ُ
حرك شي ًئا بداخله للحديث ،دافعت عنه بأ َّنه أكثرهم وفي محاولة أخرى منها ل ُت ِّ
رجولة ،ومع هذا لم يستجب الشيخ لما ذهبوا إليه ،بل غ َّير الحديث بسؤاله عن
األسلحة ،وما إذا كان النساء الالتي وصلن قبلًا بيوم ،قد أتين بما تب َّقى من بندقيات
وبكل أسلحتهم ،وهي تتن ّهد قليلًا ِّ مؤكدة وصول الجميعوذخيرة .ردَّت عليه األ ُّم ِّ
يبش» وكيف سيستقبل خبر وفاة زوجته ،وأضافتَ « :روّ حوا معهن ّ
متذكرة «ب َِش ْ
متعسرة ...يمكن زوجها أسروه قوم
ّ بواحدة حُ بلى في َح ّدهاَّ ...
حصلوها في طريقهم
الذلُول وهو هاربّها».
ُّ
بشدة وفزع ،سأل رجاله« :من هو زوجها؟” َّ
هوّنت عليه األ ُّم« :ما نعرفهاَ ...كاَ ّنها من وادي َض َم ْد».
وجه الحديث لها متسائلًا« :قالوا لي اَنّكن ولّدتن ثم َّ
صمت قليلًا بفعل االطمئنانَّ ،
ثنتين ماتوا مع ولد واحد وبقي ُصبى َح ّي ...ولَد َم ْن؟” ع َّقب أخوه «سُ َبيعْ » ،مصحِّ حً ا
«اللي بقيت صبي ّْة يا عيسى». له جنس المولود ،قائلًاّ :
حواسها عن السؤال ،وكأ َّنها ُتثير انتباههم لالهتمام بما ستقوله ،أخذت
َّ عطلتَّ
ً
وبعيدا عن أيِّ ملمح ولوحت بها في الهواء كمن ي ِّ
ُحذر من شيء، بعصاها من طرفها َّ
إلجابة عن سؤاله ،قالت« :أنتم مقدمين على زمن ما عادوه لكم ...صحيح ا َ ّن ه ُ
َاذوال
جوا يحاربون مثل ما تحسبونهم ...لك ّنهم ا َ ْ
جوا بشرع َغ ْير ...حياتنا َشا تِ ْتغيّر ما ا َ ْ
273
يحيى امقاسم
274
ساق الغراب
ويضطر
ُّ سيتوجه شمالًا فعلى أهله أن يخلوا سبيله ،أل َّنه سيجد الجوع
َّ هذا االبن
َّ
تتعذر ً
تحديدا ،فحينئذ لإلياب نحوهم ،أ َّما إذا كان سيُسافر جنوبًا ،باتجاه اليمن
الموافقة ،خوفًا من عدم رجوعه ،فاليمن مشهور بالخيرات وقد تمنعه النعم من
عضدا يُجابه معهم ويالت الحياة .لذا كيف ً العودة للبالد وألهله الذين سيخسرونه
أن الشمال بقحطه وموته سيأخذ فلذاتهم بدلًا من اليمن؟ وهذا لهم أن يعتقدوا اآلن َّ
ممض ،حين عاد متعجِّ ًبا والحسرة ٍّ ما أشعله «الهبّاش» في قلوبهم الساكنة إلى صبر
تنشب أظفارها في قلبه ،سائلًا األ َّم« :عسى الزمن اَن َقلَب يا صَ ا ِد ِقي ّْة؟!»
كل قلب حضر حديث األ ِّم ،والشيخ كان في مركب خشن هذا السؤال أضمره ُّ
كثيرا بفكرتهم تلك التي أثارها
ً أهمها سالمة رع َّيته ،ولم يكترث
وأسبابه كثيرةُّ ،
أكثر من شخص في استفسارات متالحقة يو ُّدون من األ ِّم اإلجابة الشافية عنها.
َّ
ليحل وفي معرض األحاديث تنهَّدت األ ُّم طويلًا ،بآهتها المعروفة« :إِييييييييهأ،»...
وتشق عليهم هذه البادرة للخوف ،فال ُتقدم األ ُّم على تنهيدتها تلك َّ َّ
مجددًا، الصمت
يتسلقها ،ولم يفتق التر ُّقب منهم شي ًئا ح َّتى قالت« :الرجال يموتون ..ما َّ إلاّ لرعب
النساء».
ْ يبقى اِالّ
275
يوسف رخا
مقطع من رواية
ّ
حدث راشد جالل السيوطي قال:
ً
منطوية في وضع أن تفتح كبّوت عربتك بعدما تقف منك على الطريق ،فتجد ج َّث ًة
قياسا إلى أن هذه أول
لكن ًجنيني مكان الموتور ،تخيل! ليس هذا ما حصل بالضبطْ ،
زيارة أعملها للقاهرة من ثالث سنين ،ما حصل كان على نفس درجة الغرابة .بعد
مر به صديق عمري مصطفى نايف الشوربجي ،وجعله يغادر
ذلك ،بعدما أعرف بالذي َّ
القاهرة قبل وصولي بأسبوع – أنا لن أعرف حكاية مصطفى لحد ما أرجع لحياتي
الطبيعية كطبيب احتياط في مستشفى بيثنال غرين ،شرق لندن ،حين يبعث لي
باإليميل «پي-دي-إف» مخطوطة ضخمة دوّ ن فيها انفصاله عن امرأته وما تاله،
مع سطر واحد في شبّاك الرسالة يتساءل إن كنت بعدما أقرأ المرفقات سأظنُّه
مجنونًا* ،سيتأكد لي أني لم أخترع تلك الليلة على طريق صالح سالم ،تحت ضغط
مشروع زواجي أنا ،واإلكثار من التفكير في أكبر عقبة أمامه .يعني أنا أسكن جوار
عملي في بيثنال غرين ،ومن وقت انتقلت إلى هناك سنة ،5002قبل سنتين تقري ًبا،
وأنا أعيش مع زميلة درزية أحبّها وكان زماني تزوجتها لوال أن أهلها مستحيل أن
التجسد
ً ّ
يخلوها تتزوج غير درزي ،فلما طلع لي شبح المنتحر لح ًما ودمًا يقول إنه
رقم 19لروح اإلمام الحاكم بأمر اهلل الذي يؤلّهه الدروز ،شككت بأني أهلوس نتيجة
التفكير في ذلك والقراءة عن تلك الديانة المجهولة ،وأن هذا سبب حرماني من
تأسيس أسرة مع حبيبتي .أصلًا ساعات ينتابني الفزع من أن أكون ،بعالقتي مع البنت
هذه ،فعلًا تعديت على حرمة ما أو قداسة .ومع أن المكتوب في «پي-دي-إف»
مصطفى ما كان يمكن أن يخطر لي أثناء وجودي في القاهرة ،فطنت بعد مكالمتي
الثانية لوالدته -الشخص الوحيد الباقي لمصطفى صلة حقيقية به هناك -إلى أن
276
المقامة الحاكمية أو المنتحر 20
277
يوسف رخا
278
المقامة الحاكمية أو المنتحر 20
هو اآلخر معذور ،إذ له مع الجنون قبل دوري دور( ...لكن شي ًئا ال يدفع على حكي
الحكاية ،إلى أن تتسنى قراءة الپي-دي-إف/الرواية ).من غير ترتيب وال تمحيص
أقول ،وقد أصاب أعضائي ،من الرهبة ،الخمول:
أمضيت خمسة أيام فقط بعد الحدث في القاهرة ،ومهجتي بصدمة اللقاء ورهبته
حائرة .وانتظمت في جلسات األقارب على الموائد ،مداريًا َّ
كل ما ألم بزيارتي من
شدائدَ .طوال الوقت لم يلهني شيء ظهر أو خفى ،عن مواصلة التفكير في غيبة
مصطفى .ومنذ وجدت موبايله مقفولًا ليلة وصولي ،ليس سوى والدته أرمي عليها
ِّ
متأخر من الليل ،فإذا في صوتها إلى البؤس حموليّ َّ .
كلمتها على الفور في وقت
والحيرة ميل .ثم عدت َّ
وكلمتها بعد ظهور وريث اإلمام ،وقد بقي على عودتي إلى
ْ
فكررت علي كيف غادر مصطفى فجأة في إبريل ،بعد ثالثة أسابيع إنكلترا ثالثة أيام.
منذ أن وجد إلى بيتها السبيل .وكان رجع يعيش معها بعد انفصاله عن زوجته ،ثم
تعبيرا عن نقمته .بعد مغادرته – هكذا روت لي – لم ي َّتصل سوى
ً سارع بالطالق
مرة من بيروت ،يطمئنها على حاله ،ويؤكد لها أنه لن يموتَّ .
وفكرت وأنا أسمعها ّ
تحكي معي َ
بك َبد :إحساسها أنها فقدته إلى األبد .األمر الذي أكده اختفاؤه المريب،
وأنه على «إيميالتي» ظل ال يجيب.
ح ّتى عاد مجددًا إلى حديث المنتحر:
يهم اسمي أو نسبي .المهم أن جثماني اختفى حال موتي بسيف العزيز .لتعلم أن
لن َّ
السيف سيصلك أنت ً
أيضا ،وحال تغرسه في مكانه ال يُعثر لك على أثر .أنا وثمانية
منتحرا قبلي نثبت لك ذلك بالدليل .بوسعك أن تعرف إن سألت ،فحدث واحد
ً عشر
ّ
كل خمسين سنة ال يلفت إليه األنظار الفانية .أنت خائف ألنك لم توقن بعد أنك
أن ّ
كل شيء يحدث في تلك الغرفة الضيقة التي تظنُّها حياتك ،بما الخالد الباقي ،وال ّ
وشكك في وجودي وارتباكك من مشهد الجبل في ضوء عينيك َّ فيه تماثلي أمامك
ّ ً
يتجلى الضوء ثانية ،حتى تموت ،فيصير بصرك القدسي – كل شيء يحدث، َّ – لن
يحدث لكي يؤدي إلى لحظة واحدة من سنة ( 2008هكذا مضى المنتحر يحدثني
279
يوسف رخا
يرج جسدي ويش ُّله تباعً ا ،ال زلت أنكر وجوده إلى جواري فال
فيما كنت ،برعب ُّ
ً
ضحكة أنظر إليه وأعافر بلهْ َوجة مع الكونتاكت حتى يدو َر المحرك .ضحك المنتحر
ً
قصيرة ثم ّ
مد يده ،ليريني البقعة التي يجب أن أغرس فيها سيف انتحاري. ً
واحدة
أجرب شي ًئا مثلها طول حياتي .في
وشعرت إثر مالمسة إصبعه صدري بدغدغة لم ِّ
معرضة لالنتهاء ،كأنها
المالمسة متعة ،دون أن تنطوي على جهد أو غريزة أو تكون َّ
المرصع بكلتا يديك ،وتكون صوّبت
َّ األورجازم) .عليك أن تمسك المقبض الذهبي
طرف النصل إلى صدرك ،تحت ثديك األيمن مباشرة ولكن على بعد مسافة عقلة
مرة واحدة،
إبهامك إلى اليمين .عليك أن تميل كالقوس وتثبّت قدميك في األرض ثمّ ،
تشد( .وما كاد يسحب يده حتى أنشد يقول:
لعلهما ظ َّناني مصدومًا فيهما ،أختي وخليلي ،ألن موقفي بالسيف تلى اكتشافي لهما
في ظالم الحوش قبل ليلة واحدة بالتمام ،حين دخلت حاف ًيا وكلوب الكاز في يدي
ساقي أختي كأنهما مرفوعتان على شيء واطئ تحت جلبابها المنحسر ،وكانت
ْ َ
ألجد
َّ
ممددة على ظهرها في األرض ،فال أثر لنصفها األعلى من بعيد ،تتأوه بحرقة كأنها
تنتحب .عرفتهما ،ساقيها( .هكذا واصل المنتحر بعدما أمرني بابتسامة فاترة أن أدير
المحرك ،فانطلقت العربة فعلًا وإذا بصالح سالم كأنه يقول :أنا أسوق بسرعة عالية
سنتمترا .حين ينتهي
ً كي أخر َج من هذه المنطقة المظلمة ،لك ِّني أظل سائ ًقا وال أتقدم
من كالمه ،دون أن أدري ،سيعود صالح سالم إلى طبيعته ،وأعرف أني خرجت فعلًا
من البقعة التي التقيته فيها ...ودون أن أدري ً
أيضا سيكون قد اختفى) فلم أتبين ما
يسندهما من أسفل حتى اقتربت وانحنيت :كان خليلي يزحف على بطنه كالح َّية
ُ
شهقت فرفعها ،رأيت فرج أختي ولما
ورأسه مدفون بينهما ،كتفاه تحت الفخذينَّ .
ً
ومنتفشا في ضوء الكلوب ،ولعاب خليلي يقطر من حوله ،وقد علق محمرا
ًّ الحليق
280
المقامة الحاكمية أو المنتحر 20
281
يوسف رخا
نسكن في مصر الجديدة ،أقول ،ومن أكثر األشياء التي كنت أفتقدها في إنكلترا
بد من المرور ولو على جزء منه في أي رحلة إحساس طريق صالح سالم الذي ال َّ
أعملها من أو إلى بيتنا بالعربة :أنك فوق جسم الثعبان الذي يسعى على ظهر القاهرة
الشمال حيث نسكن إلى جزيرة الروضة المحاذية لمصر القديمة في كلها – من ّ ِّ
ً
بعيدا على الجانب المقابل الجنوب – وكأنّه عمود فقري قابل لالنخالع ...أنا ركنت
عديت بحذر ،ومددت الخطى من الشارع ناحية مطعم زيزو المشهور بالسجق ،ثم َّ
أتفرج على المباني القديمة كأني عشت فيها أيام فلم أعد إال بعد ثالث ساعات .كنت َّ
عزها ،وأحسست بألفة عنيفة مع مكان لم أعرفه إال لمامًا.ِّ
َّ
المقطم ،ثم لم يُر «ركب الحاكم ذات مساء في بعض جوالته الليلية ،وقصد إلى جبل
بعد ذلك قط ال ح ًيا وال مي ًتا ،ولم يعرف مصيره قط ،ولم يوجد جثمانه قط ،ولم تقدم إلينا
الروايات المعاصرة أو المتأخرة ،أ َّية رواية حاسمة عن مصرعه أو اختفائه»
«الحاكم بأمر اهلل وأسرار الدعوة الفاطمية» ،محمد عبد اهلل عنان 1983
مرت اآلن ثالثة أشهر وهناك ابتهاج زائد في عالقتي بحبيبتي .كنت ّ
فكرت فيها ّ
ْ
حلمت برؤيتها منذ كانت طفلة في مدينة طويلًا ويدي تحتك بالجدران التي
السويداء ،سوريا ،وحتى بعدما جاءت إلى مانشستر مع أسرتها في الخامسة عشرة
(هي لم تزر مصر ً
أبدا مع أن حكاية الحاكم طبعًا حاضرة عندها ،بالذات نهايته :أنه
أثرا إال الجباب َّ
المقطم ولم يعد ،ثم لم يجدوا له ً خرج بحماره ّ
يتطلع في النجوم على
السبع التي كان يلبسها ،أزرارها لم تفك ومعكوكة بالدم .كانت ملقاة في الخالء وقيل
تحت ماء بركة في حلوان) .لكن إلى اآلن ما زلت أتج ّنب أي حديث معها عن زيارتي
األخيرة إلى القاهرة .في البداية ما كان يخطر لي أن طلوع المنتحر ممكن أن يكون
أهم عندي من زواجنا ،لكن مع الوقت – وبعد أن انتهيت من قراءة پي -دي -إف
َّ
مصطفى ،بالذات – بقيت شبه متأكد أنه صار فعلًا أهم .ما هالني – بعد ذكرى أو
متحمسا ،لفكرة
ً اثنتين ألشياء لم تحدث لي أصلًا – أن أجدني مطمئ ًنا ،إن لم أكن
قتل نفسي ،بالضبط كما تنبأ المنتحر .أول من أمس ،في الذكرى السنوية الثانية
لقرارنا أن نسكن معًا من وراء أهلها ،جاءتني حبيبتي بهد َّية لم أتوقعها منها بالذات
أبدا أن تفرحني إلى هذا الحد .كنت مشغولًا أمام الكمبيوتر حين دخلت ولم أتوقع ً
الشقة ،فرحبت بها دون أن أرفع عيني عن الشاشة وإذا بقطعة معدن مستطيل تلمع
وطوقت رأسي بذراعيها وفي يديها ما كاد
َّ أمام عيني .هي تسحّ بت من وراء ظهري
282
المقامة الحاكمية أو المنتحر 20
يغمى علي حين نطقت اسمه :سيف العزيز .ثم وضعته على الطاولة تقول إن أباها
مصدق أنه كان ملك العزيز باهلل بالفعل ،مردفة أن عمره ال يمكن أن يكون أكثر من
ألف عام بالقياس على الحالة الجيدة التي هو عليها .كانت عثرت عليه في خزينة
أبيها وتوسّ لت إليه حتى أعطاه لها ،فخبأته في كبوت عربتها حتى يوم عيدنا .ببطء
وقربت ً
جديدا كأنما صنع أمسّ . مددت يدي أرفعه من المقبض الذهبي المرصع وبدا
نظري من النصل فظهر لي أنه أمضى من أن يكون صنعه بشر .سرحت قليلًا وبدا
وجه حبيبتي مالئكي الجمال حين أفاقتني سائلة :أعجبك؟
283
المؤلفون
أحمد سعداوي
ولد في بغداد عام .1973روائي ،وشاعر ،ورسام ،وصحفي عراقي .عمل كاتب
ريبورتاج في العديد من الصحف والمجالت والمؤسسات الصحفية المحلية .عمل
مراسلًا للبي بي سي في بغداد .2007-2005يعمل حال ًيا في كتابة األفالم الوثائقية
وإعداد البرامج التليفزيونية وكتابة السيناريو في بغداد .ينشر عمو ًدًا ثقاف ًيا أسبوع ًيا
في صحيفة «الصباح الجديد» البغدادية .له روايتان« :البلد الجميل» بغداد 2004
و»إنه يحلم ،أو يلعب ،أو يموت» عن دار المدى ،دمشق .2008حاز الجائزة األولى في
فرع الرواية بمسابقة الصدى اإلماراتية بدبي 2005عن روايته «البلد الجميل».
أحمد يماني
شاعر ومترجم مصري مقيم في مدريد .مواليد القاهرة عام .1970حاصل على دبلوم
الدراسات العليا DEAمن جامعة Complutenseفي مدريد عام .2008بدأ في
نشر قصائده منذ عام 1989في المجالت والجرائد األدبية في العالم العربي .حصل
عام 1991على الجائزة األولى في مسابقة رامبو التي نظمتها مجلة «إبداع» ،بذكرى
مرور مائة عام على وفاة الشاعر أرتور رامبو .صدرت له أربعة دواوين شعرية:
«شوارع األبيض» « ،1995تحت شجرة العائلة» « 1998وردات في الرأس» عن دار
ميريت ،القاهرة « 2001أماكن خاطئة» ميريت ،القاهرة .2008
284
المؤلفون
إسالم سمحان
ولد في مدينة الزرقاء باألردن في 11يونيو .1981تلقى تعليمه في مدارس وجامعات
ومديرا للقسم الثقافي في جريدة «العرب اليوم» اليومية.
ً األردن ،ويعمل حال ًيا محر ًرا
ٌ
تكفيرية ،ولوحق ٌ
حملة أصدر أول ديوان عام 2008بعنوان «برشاقة ظل» ُ
وش ّنت عليه
أمن ًيا وقضائ ًيا بتهمة اإلساءة لألديان .والشاعر ينتظر اآلن إما قبول االستئناف ،أو تنفيذ
الحكم الصادر بحقه ،وهو السجن لمدة عام وغرامة 15ألف دوالر أمريكي .صدرت له
مجموعة شعرية باإليطالية بعنوان «لمن تحمل الوردة؟» ترجمها فالنتينا كولومبو.
باسم األنصار
ولد في 1970في بغداد ،العراق .حصل عام 1994على بكالوريوس إدارة أعمال من
الجامعة المستنصرية في بغداد .بدأ نشر نتاجه األدبي منذ بدايات التسعينيات
في الصحف والمجالت العراقية والعربية .صدرت له المسرحية الشعرية «رجل
الصفصاف» بغداد .1997وقد صدر ديوانه األول «ترانيم ابن آدم» في دمشق عام
.2007يقيم في الدانمارك منذ العام .1998
جمانة حداد
مواليد بيروت .1970شاعرة ،ومترجمة ،وصحافية لبنانية .محررة القسم الثقافي
في جريدة «النهار» اللبنانية ،ومديرة إدارية لجائزة البوكر العربية .باإلضافة إلى
ذلك ،رئيسة تحرير مجلة «جسد» المتخصصة في آداب الجسد وفنونه .أصدرت
تسع مجموعات شعرية منذ العام .1995ولها في الترجمة« :لمسات الظل»،2002 ،
شعر ،ايمانويل ميناردو ،عن اإليطالية ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت.
«بيروت عندما كانت مجنونة» ،2003 ،رواية« ،أنطونيو فيراري» ،عن اإليطالية،
دار النهار للنشر ،بيروت« .هناك حيث يشتعل النهر»« ،أنطولوجيا الشعر اللبناني
شاعرا
ً الحديث» باإلسبانية – «سيجيء الموت وستكون له عيناك :مئة وخمسون
انتحروا في القرن العشرين» ،2007 ،دار النهار للنشر والدار العربية للعلوم ،بيروت.
نالت جائزة الصحافة العربية في دبي عام .2006
285
المؤلفون
حسين العبري
كاتب وطبيب عماني ،من مواليد .1972نشر ثالث روايات« :ديازيبام» « ،2000الوخز»
2005و«المعلقة االخيرة» 2006عن دار االنتشار العربي في بيروت ،باإلضافة الى
مجموعته القصصية التي نشرت عام 2003بعنوان «نوافذ وأغطية وأشياء أخرى».
حاصل على وسام السلطان قابوس لألدب والفنون عام .2007
حسين جلعاد
مواليد مدينة إربد -االردن عام .1970شاعر وصحفي أردني ،يعمل محر ًرا صحف ًيا في
شبكة الجزيرة الفضائية في الدوحة -قطر .عمل ساب ًقا محر ًرا ثقاف ًيا في صحيفتي
«العرب اليوم» و«الرأي» األردنيتين .راسل عددًا من الصحف العربية مثل «القدس
عمان
العربي» في لندن .صدر له« :العالي يصلب دائما» شعر عن دار أزمنة في ّ
« .1999كما يخسر األنبياء» شعر ،عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت
.2007يكتب حال ًيا في صحيفة «النهار» اللبنانية.
ّ
الجزار حمدي
روائي وقاص مصري .ولد عام 1970في القاهرة .حصل على ليسانس اآلداب فى
«سحر أسود» عن دار
ْ الفلسفة من جامعة القاهرة ،1992صدرت روايته األولى
ميريت فى طبعتين 2005 :و 2007وطبعة ثالثة عن دار الدار ،2007ونالت روايته
جائزة مؤسسة ساويرس لألدب المصري في الرواية عام ،2006ثم صدرت باإلنكليزية
عن مطبوعات الجامعة األميركية في القاهرة .2007في العام 2008صدرت روايته
الثانية عن دار الدارُ .نشرت نصوصه في مجالت أدبية بارزة مثل « »Banipalفي
لندن ،و « »TriQuarterlyفي شيكاغو .شارك حمدي الجزار فى برنامج الكتابة
الدولية « »International Writing Programبجامعة أيوا بالواليات المتحدة
األميركية ،ونال زمالته .2007يعمل مشر فًا على مركز أبحاث القناة الثقافية
بالتليفزيون المصري.
286
المؤلفون
ديمة و ّنوس
من مواليد دمشق ،1982درست األدب الفرنسي في جامعة دمشق .كتبت في الصحافة
العربية مثل «السفير» و«األخبار» في بيروت .لها مقاالت عديدة في المجالين
الثقافي والسياسي .عملت ّ
عدة سنوات في مجال الترجمة اإلخبارية .صدرت لها
مجموعة قصصية بعنوان «تفاصيل» في العام 2007عن دار المدى .شاركت بكتابة
تعليق في الطبعة الجديدة لكتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» للمفكر صادق جالل العظم،
الذي أصدرته دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع في العام .2007في العام 2008صدرت
ومقد ً
مة للبرنامج ّ معد ًة
روايتها األولى «كرسي» عن دار اآلداب البيروتية .تعمل حال ًّيا ّ
الثقافي «أضواء المدينة» في قناة «المشرق» الخاصة.
ربيع جابر
من مواليد بيروت .1972تخرج من الجامعة األمريكية عام 1993بدرجة بكالوريوس
علوم الفيزياء .يعمل محرر الملحق الثقافي االسبوعي «آفاق» في جريدة الحياة منذ
سنة .2001صدرت روايته األولى «سيد العتمة» عام 1992وحصلت على جائزة مجلة
الناقد للرواية في .1992منذ ذلك الوقت أصدر 16رواية ،منها «شاي أسود» ،1995
«رالف رزق اهلل في المرآة» « ،1997يوسف اإلنجليزي» « ،1999رحلة الغرناطي»
2002صدرت باأللمانية في برلين في « .2005بيروت مدينة العالم» الجزء األول .2003
«بيريتوس :مدينة تحت األرض» 2005الترجمة الفرنسية صدرت في 2009عن دار
غاليمار .بيروت مدينة العالم» الجزء الثاني « .2005بيروت مدينة العالم» الجزء الثالث
« .2007االعترافات» 2008وروايته األخيرة صدرت عام 2009بعنوان «أميركا».
رندا جرار
روائية ،ومترجمة ،وكاتبة قصص قصيرة تكتب باللغة اإلنكليزية .من أصل فلسطيني
و لكن نشأت في الكويت ومصر وانتقلت الى الواليات المتحدة عام .1991حازت
كتاباتها القصصية على عدة جوائز .روايتها األولى« :خارطة البيت» 2009صدرت
في ست لغات ،ونالت الكثير من االهتمام ومديح النقاد وحازت على جائزة هوبوود،
وجائزة غوزلينغ وجائزة الكتاب العرب األميركيين .تعمل حال ًيا على رواية جديدة
ومجموعة قصص قصيرة.
287
المؤلفون
زكي بيضون
ولد عام 1981في مدينة صور (لبنان) ،حاصل على الماجستير في الفلسفة من
جامعة سان دينيس ،في باريس .2007صدر له ديوانان ،األول« :جندي عائد من
حرب البكالوريا» عن دار االنتشار العربي ،2002والثاني «ملعب من الوقت النائم»
عن دار النهضة البيروتية .2005وفي الرسم ،أقام زكي بيضون معرضه األول عام
1995في مركز معروف سعد الثقافي في صيدا ،والثاني في صالة «زيكو» في بيروت
عام .2003
288
المؤلفون
سمر يزبك
ولدت في مدينة جبلة عام .1970تعمل في مجال الصحافة والتليفزيون .نشرت
مجموعتها القصصية األولى في دمشق عام 1999بعنوان «باقة خريف» ثم ألحقتها
بمجموعة أخرى بعنوان «مفردات امرأة» عام .2002ثم اتّجهت الى كتابة الرواية
فنشرت ثالث روايات« :طفلة السماء» « ،2002صلصال» 2005و«رائحة القرفة»
عن دار اآلداب .2008روايتها الثانية «صلصال» نالت اهتماما إعالميا ،وأعيد طبعها
أربع مرات .وتكتب سمر يزبك ،سيناريوهات ومسلسالت للتليفزيون.
الخصار
ّ عبد الرحيم
ولد في آسفي ،المغرب عام .1975نشر قصائده في العديد من الصحف والمجالت
والمواقع اإللكترونية المهمة .أصدر عام 2004مجموعته الشعرية األولى «أخيرا
وصل الشتاء» مع تنويه من بيت الشعر المغربي .ثم «أنظر وأكتفي بالنظر» ،عن دار
الحرف للنشر والتوزيع بالمغرب 2007و«نيران صديقة» عن دار النهضة بيروت
.2009ترجمت قصائدة إلى عدة لغات .يعمل مراسلًا ثقاف ًيا لعدة صحف عربية ويعمل
أستا ًذا في التعليم الثانوي منذ عام .1999
289
المؤلفون
أخرى عام « 2005طفولة ضفدع» التي نال عنها جائزة اتحاد كتاب المغرب .في
العام 2006صدرت في الشارقة روايته االولى «بدو على الحافة» ،وأعيد نشرها
في بيروت وصدرت عن الدار العربية للعلوم .2008 ،وله أيضا مجموعة قصصية
بعنوان «وجع الرمال» ،نشرت في السعودية عام ،2007وآخر عمل له صدر عن
منشورات وزارة الثقافية المغربية بعنوان «غرباء على طاولتي» وهو عبارة عن
نصوص أدبية .حصل على جائزة الرواية للعام 2006في الشارقة.
290
المؤلفون
أول كاتب مغربي عربي يعلن عن مثليته الجنسية في كتبه وفي الصحافة واإلعالم.
يقيم في باريس منذ عشر سنوات.
عبداهلل ثابت
مواليد 1973بمدينة أبها ،المملكة العربية السعودية ،حاصل على بكالوريوس في
اللغة العربية وآدابها من جامعة الملك خالد بأبها .1997بعد كتابه األول «النوبات»
وهو مجموعة نصوص أدبية صدرت في العام ،2005أصدر ثابت روايته األولى
الشهيرة «اإلرهابي »20عام 2006عن دار المدى .ثم ألحقها بعملين شعريين هما:
«الهتك» دار طوى عام ،2008و«كتاب الوحشة» دار اآلداب -بيروت .2009يكتب
في صحيفة «الوطن» السعودية منذ العام .2001
عالء حليحل
مولود في قرية الجش في الجليل األعلى ،1974وخريج مدرسة كتابة السيناريو في تل
أبيب ومقيم حاليًا في عكا .أصدر رواية بعنوان «السيرك» و مجموعة قصصية بعنوان
«قصص ألوقات الحاجة» .والكتابان حاصالن على جائزة مؤسسة ّ
القطان األدبية للعامين
2001و .2003كما له رواية «األب واالبن والروح التائهة عن دار العين في القاهرة .عالء
كاتب مسرحي ،كتب كاباريه «خبر عاجل» ومونودراما «دياب» و«الجندي المخلص
بالتأكيد» ومسرحيات لألطفال .حازت مسرحيته «ح ْيضستان» على جائزة ّ
القطان
قصيرا بعنوان «هيا إلى الحمص».
ً للمسرح في العام .2005كما أخرج فيل ًما
291
المؤلفون
فايزة غوين
كاتبة وسينمائية شابة ،فرنسية من أصل جزائري ،ولدت في منطقة بوبيني في
ضواحي باريس عام .1985عُ رفت من خالل روايتيها «غدًا كيف كيف» التي أصدرت
عام 2004و هي في التاسعة عشر من عمرها وترجمت إلى 22لغة ورواية وكذلك
روايتها «حلم من أجل البيض» .وقد أخرجت عدة أفالم قصيرة ،من ضمنها «ال
شيء سوى الكلمات» عام .2004ترعرعت فايزة غوين في منطقة بانتان شمال شرق
باريس ،ودرست علم االجتماع في جامعة باريس الثامنة ،قبل أن تكرس كل وقتها
للكتابة وإخراج األفالم.
كمال الرياحي
من مواليد قرية «المنافيخ» من الشمال الغربي التونسي .1974 ،حاصل على أستاذيّة
اللغة العربية وآدابها من المعهد العالي ُللغات الح ّية سنة ،2001مع شهائد تكميلية
في ّ
في السينما وعلوم التربية والجغرافيا عند العرب .صدر له «نوارس ّ
الذاكرة» ،قصص
« ،1999سرق وجهي» ،قصص وشعر .2001ترجمت بعض هذه القصص إلى الفرنسية.
في العام 2006صدرت روايته األولى «المشرط» التي حصلت على جائزة الكومار
الذهبي ألحسن رواية تونسية لسنة .2007لكمال الرياحي العديد من الدراسات
النقدية في األدب والفلسفة.
292
المؤلفون
نشر روايته الثانية «صوفيا» ،دار الساقي بيروت 2004وأخيرا رواية «طوق
الطهارة» عام 2007عن دار الساقي أيضا.
منصور الصويم
كاتب سوداني من مواليد والية جنوب دارفور .1970صدرت روايته االولى «تخوم
الرماد» عام ،2001ثم أصدر مجموعة قصصية «نبض راعش» عام 2004باللغتين
العربية والفرنسية ،عن المركز الثقافي الفرنسي في السودان .حصلت روايته
الثانية «ذاكرة شرير» على جائزة الطيب صالح لإلبداع الروائي عام .2005يقيم
ويعمل في السودان.
منصورة عز الدين
كاتبة مصرية من مواليد ،1976درست الصحافة واإلعالم بكلية اإلعالم بجامعة
القاهرة .بدأت نشر قصصها القصيرة فى الصحف والمجالت المصرية والعربية وهي
في سن العشرين .نشرت أول مجموعة قصصية عام 2001بعنوان «ضوء مهتز»
عن دار ميريت بالقاهرة ،وترجمت العديد من قصص المجموعة إلى اإلنكليزية،
واإليطالية ،والفرنسية ،والسلوفينية .صدرت روايتها األولى «متاهة مريم» عام 2004
عن دار ميريت ،وصدر منها حتى اآلن ثالث طبعات بينها طبعة شعبية عن «مكتبة
األسرة» ،كما صدرت باإلنكليزية عن منشورات الجامعة األميركية ،القاهرة .2007
روايتها الثانية «وراء الفردوس» صدرت عن دار العين القاهرة .2009
293
المؤلفون
ناظم السيد
ولد عام 1975في بلدة بنت جبيل (جنوب لبنان) ،يعمل في الصحافة منذ العام
1996حيث كتب في العديد من الصحف والمجالت منها «السفير»« ،ملحق النهار
«الحرة»
ّ الثقافي»« ،الحياة» و»النهار» ،ويعمل ً
أيضا في برامج ثقافية لصالح قناة
األميركية .أحد مؤسسي ومنظمي اللقاء الشعري األسبوعي في حانة «جدل بيزنطي»
البيروتية .مراسل القسم الثقافي في صحيفة «القدس العربي» في لندن منذ مطلع
العام ( 2007من بيروت) .أصدر ثالث مجموعات شعرية «برتقالة مقشرة من الداخل»
منشورات اآلن – بيروت « . 2002العين األخيرة» دار مختارات – بيروت 2003
« .أرض معزولة بالنوم» ،رياض الريس للكتب والنشر .7002 -نشرت قصائده في
أنطولوجيات باإلسبانية ،واإلنكليزية ،والفرنسية ،واأللمانية.
نجاة علي
تخرجت من قسم اللغة العربية وآدابها،
شاعرة مصرية من مواليد القاهرة ّ .1975
وحاصلة على الماجستير بدرجة امتياز عن« :المفارقة في قصص يوسف إدريس
القصيرة» من قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة .2006 ،صدر لها ديوانان «كائن
خرافي غايته الثرثرة» ،القاهرة « ،2002حائط مشقوق» القاهرة ،2005حصل على
جائزة أفضل ديوان شعر عن وزارة الثقافة المصرية .8991
نجوى بنشتوان
قاصة وروائية ليبية ،من مواليد .1970أول إصدار لها كان «مسرحية المعطف»
التي شاركت بها في مهرجان الشارقة لإلبداع العربي عام ،2003ونالت الترتيب
الثالث وقد صدرت عن وزارة اإلعالم والثقافة اإلماراتية .كما صدرت لها مجموعة
قصصية بعنوان «قصص ليست للرجال» عن دار الحضارة العربية ،القاهرة 2003
ورواية «وبر األحصنة» عن دار الحضارة العربية ،القاهرة 2005ثم مجموعة قصصية
بعنوان «طفل الواو» عن مجلس الثقافة العام ،ليبيا 2006ورواية «مضمون برتقالي»
عن دار شرقيات ،القاهرة 2007كما نشرت في العام 2008مجموعة قصصية بعنوان
«الملكة» وصدرت عن مجلس الثقافة العام ،ليبيا.
294
المؤلفون
نجوان درويش
مواليد القدس ،فلسطين ،1978صدرت مجموعته الشعرية األولى «كان ّ
يدق الباب
األخير» عام .2000رئيس تحرير مجلة «من وإلى» ،وكاتب في القسم الثقافي لجريدة
«األخبار» اللبنانية .ظهر شعره في أنطولوجيات مختلفة ،كانت آخرها «القصيدة
الفلسطينية المعاصرة» -منشورات «لوتايي بريه» بلجيكا ،2008و»لغة لقرن
جديد» منشورات نورتون ،نيويورك .2008شارك في تأسيس وتنفيذ مشاريع مختلفة
في اإلعالم الثقافي والفنون البصرية ،من بينها« :القدس في المنفى» ،مجلة «رؤى
جانبية» ،مشروع «مسارات» سنة فلسطين الثقافية والفنية في بلجيكا« ،أن تكون
بلجيك ًيا» برنامج للك ّتاب يبحث في موضوعة الهوية ،وغيرها.
هالة كوثراني
ولدت في بيروت أغسطس عام .1977درست العلوم السياسية واألدب العربي في
الجامعة األميركية في بيروت .تعمل على إنهاء رسالة الماجستير في األدب العربي
بالجامعة نفسها .تعمل حال ًيا مديرة تحرير مجلة «لها» التابعة لجريدة «الحياة»
البيروتية .أصدرت روايتي «األسبوع األخير» 2006 ،و«استديو بيروت» 2008عن
قص ًة قصير ًة في مجلة «لها» منذ عام .2000
دار الساقي .تنشر أسبوع ًيا ّ
هيام يارد
ولدت سنة 1975في بيروت ،حيث أكملت تعليمها في جامعة القديس يوسف
باكرا ،ولكنها شرعت في النشر منذ سنة .2001شاعرة
ً ببيروت .بدأت الكتابة
وقاصة ،نشرت مجموعتين شعريتين عن دار النهار .األولى« ،انعكاسات القمر»
ظهرت سنة ،2001الثانية «جراحات الماء» ،وصدرت سنة ،2004وقدم لها الشاعر
صالح ستيتية ،وقد أتاحت لها هذه المجموعة المشاركة في عديد من التظاهرات
األدبية ،خصوصا في البرتغال ،والمكسيك ،والسويد .روايتها «خزانة األشباح» نالت
جائزة فرنسا-لبنان ،وأتاحت لها دعوات كثيرة ،ومن بينها دعوة من قناة فرانس
3للمشاركة في برنامج أدبي يعده أوليفيي باروت .فازت بجائزة فيال مرغريت
يورسينار Villa Margeurite Yourcenar Prizeونالت منحة «ديل دوكا» التي
تقدمها األكاديمية الفرنسية .روايتها األخيرة «تحت العريش» ،ظهرت في أكتوبر
295
المؤلفون
،2009وتتناول قضية االنتقال بين أجيال مختلفة .تقيم حاليًا في بيروت ،مع بناتها
ٌ
منصرفة للكتابة. الثالث ،وهي
وجدي األهدل
الحديدة .1973بدأ
روائي ،وقاص ،وكاتب مسرحي من اليمن ،ولد في محافظة ُ
بنشر أعماله األدبية في الصحف والمجالت منذ عام .1995اختير أفضل قاص يمني
في االستفتاء الثقافي السنوي الذي أجرته صحيفة الجمهورية في األعوام ،1997
.1999 ،1998صودرت روايته األولى «قوارب جبلية» عام ،2002وأغلق مركز عبادي
للدراسات والنشر الذي نشر الرواية ،وأحيل الكاتب إلى النيابة العامة للتحقيق
معه .وعقب حملة تكفيريّة في خطب الجمعة من قبل أئمة المساجد ،اضطر الكاتب
إلى مغادرة البالد .وقد استمرت محاكمته غياب ًيا .وفي ديسمبر من العام نفسه
توسط الروائي األلماني غونتر غراس لدى رئيس الجمهورية ،وطالب بعودة الروائي،
ّ
وإسقاط الدعوى القضائية المرفوعة ضده ،وقد استجاب رئيس الجمهورية لوساطة
غونتر غراس ،وأمر بإغالق ملف القضية ،والسماح للكاتب بالعودة إلى وطنه .أصدر
أربع مجموعات قصصية وأربع روايات .روايته «فيلسوف الكرنتينة» اختيرت في
القائمة الطويلة في جائزة البوكر للرواية العربية في دورتها األولى .2007حصل
على عدة جوائز أدبية محلية.
ياسين عدنان
شاعر ،وقاص ،وإعالمي مغربي من مراكش .ولد سنة 1970بمدينة آسفي .حاصل
على إجازة في األدب اإلنكليزي من جامعة القاضي عياض بمراكش ،ودبلوم كلية علوم
التربية من جامعة محمد الخامس بالرباط ،وشهادة من جامعة أوريغن األميركية في
تخصص تدريس مهارات التفكير النقدي .يشتغل في الصحافة الثقافية العربية منذ
عقدين تقري ًبا .يعد ويقدم منذ أربع سنوات البرنامج الثقافي األسبوعي «مشارف» الذي
يبثه التليفزيون المغربي على قناتي «األولى» و«المغربية».أصدر ثالث مجموعات
ً
مشتركا عن مدينة مراكش مع مواطنه قصصية وثالث مجموعات شعرية ،وكتابًا
سعد سرحان .حصل على عدة جوائز أدبية منها «جائزة مفدي زكريا المغاربية
للشعر» ،الجزائر ،1991وجائزة اتحاد كتاب المغرب لألدباء الشباب ،البيضاء ،1999
296
المؤلفون
يحيى امقاسم
مواليد وادي الحسيني -جازان ،جنوب غرب السعودية .1971 حصل على بكالوريوس
في القانون من جامعة الملك سعود .1998أصدر مجموعة قصصية بعنوان «المخش»
عن -الكنوز األدبية -بيروت ،2000و«قصص من السعودية» عن -وزارة الثقافة
اليمينة -صنعاء ،2004و«ساق الغراب (الهربة)» عن -دار اآلداب -بيروت.2008
يعمل حاليًا في الشؤون الثقافية بالمكتب الثقافي السعودي في باريس.
يوسف رخا
مواليد القاهرة ،1976حاصل على بكالوريوس في الفلسفة من جامعة ِهل .1998
يكتب بالعربية واإلنكليزية .عين في جريدة « »Al-Ahram Weeklyمن عام 1980
و يعمل حاليًا فيها محرر ثقافي باإلنكليزية . .عمل لمدة سنة كاتب تحقيقات في
جريدة « »The Nationalفي أبو ظبي .في العام 1999أصدر أول مجموعة قصصية له
بعنوان «أظهار شمس» عن دار شرقيات .ثم اشتهر يوسف رخا بكتابة أدب الرحالت،
حين أصدر «بيروت شي محل» عن منشورات أمكنة عام ،2006ثم «بورقيبة على
مضض» عن دار رياض الريس عام ،2008وأخيرا «شمال القاهرة غرب الفلبين»
عن رياض الريس أيضا.2009 ،
297
المترجمون
298
المترجمون
تزاول الترجمة من اللغة الفرنسية إلى العربية ،وقد ترجمت العديد من الكتب في
مجال األدب والفلسفة والسياسة والعلوم االجتماعية ،والعديد من المقاالت الطبية
والعلمية والدراسات االجتماعية.
محمد المزديوي
محمد المزديوي كاتب وصحفي ومترجم من الريف المغربي ،مواليد ،1964مقيم
في باريس منذ أكثر من عشرين سنة .بعد دراسات في األدب العربي في السوربون،
كرس وقته للعمل الصحفي والترجمة والسفر.
ّ
من ترجماته العديدة« :األمير الصغير» لسانت إيكزوبيري ،دار الجمل ،2000
و»حراكة» للماحي بينبين،
ّ «المتمردة» لمليكة مقدم ،المركز الثقافي العربي ،2002
دار الجمل « ،)2003احتمال جزيرة» لميشيل ويلبيك ،دار الجمل ،2007و«مقهى
الشباب الضائع» لباتريك موديانو ،دار مقاليد .2009
كما أنه أصدر مجموعتين قصصيتين« :أحالم الهدهد» ،دار جلجامش ،1995و«غرق
القبيلة» ،وزارة الثقافة المغربية ،2000ويكاتب العديد من الصحف والمجالت العربية
من بينها صحيفتا «الشرق األوسط» و«العرب».
من الكتب التي ترجمتها «اإلسالم السياسي في زمن القاعدة L'Islamisme a l'heure
»d'Al-Qaidaللباحث الفرنسي فرانسوا بورغا ،François Burgatوسلسلة كتب
للكاتبة الفرنسية فرد فارغاس .Fred Vargas
299
شكر وتقدير
300