You are on page 1of 304

‫كتابات جديدة من العالم العربي‬

‫تحرير صمويل شمعون‬


‫تقديم جمال الغيطاني‬
‫تم نشر هذه المجموعة للمرة األول في بريطانيا العظمى سنة ‪2010‬‬
‫‪The selection copyright © by Hay Festival of Literature and the Arts Limited 2010‬‬
‫تم التأكيد على الحقوق المعنوية للمؤلفين‪.‬‬
‫تبقى حقوق النشر في هذه المجموعة من حق المؤلفين األفراد‪.‬‬

‫ال يجوز استخدام أو إعادة طباعة أي جزء من هذا الكتاب بأي طريقة كانت بدون الحصول على الموافقة الخطية‬
‫من الناشر باستثناء في حالة االقتباسات المختصرة التي تتجسد في الدراسات النقدية أو المراجعات‪.‬‬

‫‪Bloomsbury Publishing Plc‬‬


‫‪36 Soho Square‬‬
‫‪London W1D 3QY‬‬
‫‪www.bloomsbury.com‬‬

‫‪ISBN: 9781408810514‬‬
‫مقدمة‬

‫بيروت جزء أساس‪ ،‬ركن ركين من تكوين كل مبدع عربي‪ .‬وليس صدفة أن أول‬
‫قصة قصيرة نشرتها عام ‪ ،1963‬كانت في مجلة «األديب» البيروتية‪ .‬بيروت مالذ‬
‫االبداع والمبدعين‪ .‬لذلك بقدر ما تصحو وتنشط بقدر تكون عليه حال الثقافة‬
‫العربية‪ .‬في بيروت بدأت المغامرات الرائدة في التجريب وارتياد اآلفاق‪ .‬ومنها انطلقت‬
‫ونماها فضاء بيروت‪ .‬هذا‬
‫المواهب الجديدة بال حدود‪ ،‬بجرأه وفرها وشجّ ع عليها ّ‬
‫ما تفتح عليه وعي جيلي في ممارسته الكتابة‪.‬‬
‫كانت بيروت واحة حية محبة للحرية‪ ،‬ومنطلقا للمبدعين وظهور األسماء‬
‫الجديدة‪ ،‬لذلك ترجف النفس وتجزع إذا ما الحت بادرة ولو ضئيلة للتضييق أو‬
‫للحد‪ .‬لكن من الذي يمكنه أن يضع خطوطًا تحاصر االفق حيث يلتقي البر و البحر‪،‬‬
‫الظل و الضوء‪.‬‬
‫هاهي «بيروت ‪ »39‬تؤكد دور المركز الرائد‪ ،‬تقدم لنا مشهدًا نادرًا متكاملًا لحال‬
‫االبداع العربي في مطلع األلفية الثالثة‪ ،‬حيث نقرأ نصوصًا رفيعة من العراق‪ ،‬الذي‬
‫ال نعرف تمامًا ما يجري فيه اآلن‪ .‬هذه النصوص التي تجسد الحيوية والقدرة على‬
‫التعبير‪ ،‬من أقصى المغرب إلى أدنى المشرق تجعلنا نتوقف أمام النصوص الفائزة التي‬
‫أبدعها أدباء دون سن األربعين‪ ،‬ليسوا من المقيمين في الوطن العربي فحسب‪ ،‬وإنما‬
‫في المهاجر ايضا حيث يوجد اآلن عدة ماليين من العرب الموزعين على الكوكب‪،‬‬
‫يكتبون بلغات أجنبية مختلفة‪ ،‬كما يحرص بعضهم على االبداع بالثقافة األم‪.‬‬
‫«بيروت ‪ »39‬توفر لنا رؤية ابداعية متكاملة من خالل أعمال الكتاب والشعراء‬
‫الشباب‪ ،‬الذين تم اختيارهم عبر لجنة تحكيم رفيعة المستوى‪ ،‬مثلما توفرت لهم‬
‫ظروف باهرة تكفل التعريف بأعمالهم على نطاق واسع‪ ،‬ليس في اللغة العربية وحسب‪،‬‬

‫‪5‬‬
‫مقدمة‬

‫وإنما في اللغات االخرى أيضا‪ ،‬انطالقا من اللغة اإلنكليزية وعبر دار نشر كبيرة‪ .‬هذه‬
‫النصوص بثت في روحي نشوة وتفاؤلًا جميلًا عهدناه دائمًا من بيروت التي تمدنا‬
‫بالثراء الفكري والروحي وألق المستقبل‪.‬‬

‫جمال الغيطاني‬
‫القاهرة‪ ،‬فبراير ‪2010‬‬

‫‪6‬‬
‫قائمة المحتويات‬

‫‪5‬‬ ‫مقدم ‬
‫ة‬
‫جمال الغيطاني‬
‫‪11‬‬ ‫بيان لجنة تحكيم مسابقة بيروت ‪ 39‬‬
‫‪14‬‬ ‫كلم ‬
‫ة‬
‫عبده وازن‬
‫‪17‬‬ ‫مالحظة من المحرر ‬
‫صمويل شمعون‬
‫‪19‬‬ ‫مطلع رواية فرانكنشتاين في بغداد ‬
‫أحمد سعداوي‬
‫‪24‬‬ ‫قصائد من يوتوبيا المقابر ‬
‫أحمد يماني‬
‫‪30‬‬ ‫لمن تحمل الوردة؟ ‬
‫إسالم سمحان‬
‫‪33‬‬ ‫ثالث قصائ ‬
‫د‬
‫باسم األنصار‬
‫‪38‬‬ ‫مقطع من قصيدة جيولوجيا األنا ‬
‫جمانة حداد‬
‫‪47‬‬ ‫الم َّعلقة األخيرة ‬
‫فصل من رواية ُ‬
‫حسين العبري‬
‫قائمة المحتويات‬

‫‪53‬‬ ‫قصائ ‬
‫د‬
‫حسين جلعاد‬
‫‪58‬‬ ‫مقطع من رواية َّلذات سرية ‬
‫ّ‬
‫الجزار‬ ‫حمدي‬
‫‪63‬‬ ‫قصتا ‬
‫ن‬
‫ديمة و ّنوس‬
‫‪72‬‬ ‫مقطع من رواية أميركا ‬
‫ربيع جابر‬
‫‪81‬‬ ‫قصة بنايتي ‬
‫جرار‬
‫رندا ّ‬
‫‪90‬‬ ‫حراس الهواء ‬
‫مطلع رواية ّ‬
‫روزا ياسين حسن‬
‫‪98‬‬ ‫تسع قصائ ‬
‫د‬
‫زكي بيضون‬
‫‪103‬‬ ‫تسع قصائ ‬
‫د‬
‫سامر أبو هواش‬
‫‪108‬‬ ‫مقطع من رواية رائحة القرفة ‬
‫سمر يزبك‬
‫‪114‬‬ ‫األمازيغ ‬
‫ي‬
‫الخصار‬
‫ّ‬ ‫عبد الرحيم‬
‫‪118‬‬ ‫مقاطع من رواية جلدة الظل ‬
‫عبد الرزاق بوكبة‬
‫‪123‬‬ ‫فصل من رواية بدو على الحافة ‬
‫عبد العزيز الراشدي‬
‫‪129‬‬ ‫زيارة إلى المجزر ة‬
‫عبد القادر بن علي‬
‫قائمة المحتويات‬

‫‪140‬‬ ‫الرجل الجري ح‬


‫َّ‬
‫عبد اهلل طايع‬
‫‪147‬‬ ‫مقاطع من رواية االرهابي ‪ 20‬‬
‫عبد اهلل ثابت‬
‫‪155‬‬ ‫فصل من رواية كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب ‬
‫عدن ّية شبلي‬
‫‪162‬‬ ‫تعايُ ‬
‫ش‬
‫عالء حليحل‬
‫‪168‬‬ ‫ميمون ‬
‫ة‬
‫فايزة غوين‬
‫‪177‬‬ ‫مقاطع من رواية المشرط ‬
‫كمال الرياحي‬
‫‪185‬‬ ‫حنيف من جالسك و‬
‫محمد حسن علوان‬
‫‪192‬‬ ‫يحب َّ‬
‫شط النهر ‬ ‫قارب ال ُّ‬
‫ٌ‬ ‫مقطع من رواية‬
‫محمد صالح العزب‬
‫‪197‬‬ ‫فصل من رواية ُت ُخوم َّ‬
‫الرماد ‬
‫منصور الصويم‬
‫‪205‬‬ ‫نحو الجنو ‬
‫ن‬
‫منصورة عز الدين‬
‫‪210‬‬ ‫قصائد من مقبرة األوتوبيسات ‬
‫ناظم السيد‬
‫‪216‬‬ ‫قصائد من ديوان مثل شفرة سكين ‬
‫نجاة علي‬
‫‪223‬‬ ‫من سيرة البركة والبيانو ‬
‫نجوى بنشتوان‬
‫قائمة المحتويات‬

‫‪233‬‬ ‫قصائ ‬
‫د‬
‫نجوان درويش‬
‫‪238‬‬ ‫ثالث قصص قصيرة ‬
‫هالة كوثراني‬
‫‪243‬‬ ‫بطن ليل ‬
‫ى‬ ‫ُ‬
‫هيام يارد‬
‫‪248‬‬ ‫جريمة في شارع المطاعم ‬
‫وجدي األهدل‬
‫‪262‬‬ ‫قصتا ‬
‫ن‬ ‫َّ‬
‫ياسين عدنان‬
‫‪270‬‬ ‫مقطاعين من رواية ساق الغراب ‬
‫يحيى أمقاسم‬
‫‪276‬‬ ‫فصل من رواية المقامة الحاكمية أو المنتحر ‪ 20‬‬
‫يوسف رخا‬
‫‪284‬‬ ‫المؤلفون ‬
‫‪298‬‬ ‫المترجمون ‬
‫‪300‬‬ ‫شكر و تقدير ‬
‫بيان لجنة تحكيم مسابقة «بيروت ‪»39‬‬

‫بعد اجتماعات عدة عقدتها لجنة تحكيم مسابقة «بيروت ‪ ،»39‬في عواصم عربية‪،‬‬
‫وأخيرًا في بيروت‪ ،‬تم التوافق على األسماء التسعة والثالثين الذين سيشاركون‬
‫في المهرجان الذي تنظمه مؤسسة «هاي فيستيفال» تحت عنوان «بيروت ‪»39‬‬
‫بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية وفي إطار االحتفال ببيروت عاصمة عالمية‬
‫للكتاب ‪. 2009‬‬
‫وما تجدر اإلشارة إليه أيضًا هو غزارة المشاركة الشبابية في المسابقة‪ ،‬إذ بلغ‬
‫عدد المشاركين أكثر من ‪ 450‬كاتبًا وكاتبة من معظم الدول العربية‪ ،‬ومن المغترب‬
‫العربي‪ ،‬األوروبي واألميركي‪.‬‬
‫وكان على أعضاء لجنة التحكيم التي ترأسها الناقد المصري الدكتور جابر عصفور‪،‬‬
‫والتي ضمت الروائية اللبنانية علوية صبح‪ ،‬والشاعر العماني سيف الرحبي‪ ،‬والشاعر‬
‫والناقد اللبناني عبده وازن‪ ،‬أن تراجع أعدادًا كبيرة من الكتب التي أرسلها المؤلفون‬
‫والناشرون‪ ،‬وتقرأها وتفرزها‪ .‬وقد اعتمدت لجنة التحكيم منهج االختيار المتعاقب‪،‬‬
‫فاختارت في البدء مئة اسم ثم ستين اسمًا الى أن توصلت الى األسماء التسعة‬
‫والثالثين بعد نقاشات طويلة وعرض للكتب‪.‬‬
‫وكان النقاش يمتد أحيانًا ساعات نظرًا الى وفرة األسماء المهمة التي تستحق‬
‫الفوز‪ ،‬وكان اختيار األسماء صعبًا وتطلب الكثير من الدقة والتأمل والتفكير‪.‬‬
‫األسماء التسعة والثالثون التي اختيرت تم اختيارها انطالقًا من رسوخ نتاجها‬
‫اإلبداعي‪ ،‬روائيًا وقصصيًا وشعريًا‪ ،‬وما يمثل من أصالة وتحديث في الوقت نفسه‪،‬‬
‫ومن استجابة للمعايير األدبية والنقدية‪ .‬انها أصوات مبدعين شباب‪ ،‬استطاعو‬
‫يكونوا شخصياتهم وأن يفرضوا تجاربهم‪ ،‬متميزين بأساليبهم الخاصة ولغاتهم‬
‫أن ّ‬

‫‪11‬‬
‫بيان لجنة تحكيم مسابقة بيروت ‪39‬‬

‫ومقارباتهم‪ ،‬ورؤاهم أو مواقفهم‪ .‬لكن اختيار هؤالء ال يعني أن الئحة المشاركين لم‬
‫تحفل بأسماء أخرى مهمة‪ ،‬فاألسماء التي كانت تستحق الفوز في المسابقة ليست‬
‫قليلة البتة‪ ،‬لكن االلتزام بقاعدة المسابقة التي تتبعها مؤسسة «هاي فيستيفال»‬
‫باختيار ‪ 39‬اسمًا‪ ،‬هو الذي جعل الحظ غير محالف لها كلها‪.‬‬
‫وختامًا ال بد من التنويه باألدب العربي الشاب الذي يتمتع بخصال الفتة وخصائص‬
‫فريدة‪ .‬ولعل جيل الشباب هو الذي سيصنع مستقبل األدب العربي‪.‬‬
‫أما األسماء الفائزة فهي‪:‬‬

‫عبداهلل ثابت‪ :‬المملكة العربية السعودية (‪)1973‬‬


‫أحمد يماني‪ :‬مصر (‪)1970‬‬
‫إسالم سمحان‪ :‬االردن (‪)1982‬‬
‫يوسف رخا‪ :‬مصر (‪)1976‬‬
‫باسم االنصار‪ :‬العراق (‪)1970‬‬
‫ديمة ونوس‪ :‬سورية (‪)1982‬‬
‫هالة كوثراني‪ :‬لبنان (‪)1977‬‬
‫نجاة علي‪ :‬مصر (‪)1975‬‬
‫عبد اهلل الطايع‪ :‬المغرب (‪)1973‬‬
‫ربيع جابر‪ :‬لبنان (‪)1972‬‬
‫روزا ياسين حسن‪ :‬سورية (‪)1974‬‬
‫زكي بيضون‪ :‬لبنان (‪)1981‬‬
‫سمر يزبك‪ :‬سورية (‪)1970‬‬
‫منصورة عز الدين‪ :‬مصر (‪)1976‬‬
‫كمال الرياحي‪ :‬تونس (‪)1974‬‬
‫جمانة حداد‪ :‬لبنان (‪)1970‬‬
‫أحمد سعداوي‪ :‬العراق (‪)1973‬‬
‫حسين جلعاد‪ :‬االردن (‪)1970‬‬
‫عبد القادر بن علي‪ :‬المغرب (‪)1975‬‬
‫ّ‬
‫الجزار‪ :‬مصر (‪)1970‬‬ ‫حمدي‬

‫‪12‬‬
‫بيان لجنة تحكيم مسابقة بيروت ‪39‬‬

‫وجدي األهدل‪ :‬اليمن (‪)1973‬‬


‫محمد حسن علوان‪ :‬المملكة العربية السعودية (‪)1979‬‬
‫عبد العزيز الراشدي‪ :‬المغرب (‪)1978‬‬
‫نجوان درويش‪ :‬فلسطين (‪)1978‬‬
‫ناظم السيد‪ :‬لبنان (‪)1975‬‬
‫عبد الرزاق بوكبة‪ :‬الجزائر (‪)1977‬‬
‫عبد الرحيم الخصار‪ :‬المغرب (‪)1975‬‬
‫محمد صالح العزب‪ :‬مصر (‪)1981‬‬
‫سامر أبو هواش‪ :‬فلسطين (‪)1972‬‬
‫ياسين عدنان‪ :‬المغرب (‪)1970‬‬
‫عالء حليحل‪ :‬فلسطين (‪)1974‬‬
‫يحيى امقاسم‪ :‬المملكة العربية السعودية (‪)1971‬‬
‫عدنية شبلي‪ :‬فلسطين (‪)1974‬‬
‫منصور الصويم‪ :‬السودان (‪)1970‬‬
‫حسين العبري‪ :‬عمان (‪)1972‬‬
‫نجوى بنشتوان‪ :‬ليبيا (‪)1970‬‬
‫فايزة غوين‪ :‬فرنسا ‪ /‬الجزائر (‪)1985‬‬
‫رندا جرار‪ :‬فلسطين ‪ /‬مصر‪ /‬أمريكا (‪)1978‬‬
‫هيام يارد‪ :‬لبنان (‪)1975‬‬

‫‪13‬‬
‫أدب عربي شاب‬

‫«بيروت ‪ »39‬خطوة فريدة غايتها رصد حركة األدب العربي الشاب‪ ،‬جامعة أسماء‬
‫ووجوهًا شابة‪ ،‬فاسحة أمامها المجال لتتعارف وتتبادل الخبرات واألفكار وتعمل‬
‫معًا في ما يشبه المحترفات األدبية‪.‬‬
‫لقد تخطى الك ّتاب العرب الشباب في عملهم اإلبداعي مفهوم المكان أو الهوية‬
‫ّ‬
‫تشكل مرجعهم األول واألخير‪.‬‬ ‫المحلية وباتوا ينضمون الى تيارات ومدارس أدبية‬
‫ويالحظ بوضوح مثلًا أن روائيين كثرًا من بلدان عربية مختلفة‪ ،‬مشرقية ومغربية‬
‫ينتمون الى تيار واحد متخطين جدار اإلقليمية‪ ،‬بل هم يتواصلون ويأتلفون على‬
‫رغم البعد الجغرافي‪ ،‬وبات من السهل الكالم عن رواية شبابية واقعية أو واقعية‬
‫جديدة أو فانتازية أو ما بعد ‪ -‬حديثة يشارك كتاب شباب من كل الدول العربية‬
‫في ترسيخها‪ .‬وقد غزا هذا األدب الشاب الجديد الساحات األدبية العربية حتى أصبح‬
‫من الصعب الكالم عن رواية لبنانية شابة‪ ،‬أو رواية مصرية شابة أو سورية أو‬
‫تضم روائيين من كل‬
‫وهلم جرًا‪ .‬تهيمن اآلن حركة روائية عربية شابة ّ‬
‫ّ‬ ‫سعودية‬
‫البلدان العربية وتهدف الى كسر الحدود اإلقليمية‪ .‬ويشمل هذا الوصف‪ ،‬الشعر‪.‬‬
‫أيضا‪ .‬حيث لم يعد هناك شعر لبناني شاب يختلف عن شعر مصري شاب أو سعودي‬
‫أو عراقي أو فلسطيني‪ ،‬فالشعراء يعملون معًا على ترسيخ أساليبهم الجديدة ولغتهم‬
‫يتفردون بها‪ .‬وقد ساعد زمن االنترنت على ّ‬
‫تخطي المعوقات‬ ‫الجديدة ورؤيتهم التي ّ‬
‫التي تحول دون تواصل هؤالء الشعراء‪ ،‬بعضهم مع بعض‪.‬‬
‫ولعل ما يجمع بين معظم الك ّتاب الشباب في العالم العربي هو نبرتهم االحتجاجية‬
‫وتمردهم على الثقافة التقليدية وعلى التراث الجامد‪ .‬وقد أعلنوا عصيانهم األدبي ّ‬
‫ضد‬ ‫ّ‬
‫النزعة اإليديولوجية التي أنهكت األدب العربي في مرحلتي الستينات والسبعينات‬

‫‪14‬‬
‫من القرن الماضي‪ .‬وقد تخطوا أيضًا مفهوم االلتزام الذي برز في المرحلتين السابقتين‬
‫والذي فرضه الفكر السياسي الحزبي والجماعي‪ ،‬وسعوا الى حال الفردانية‪ ،‬مركزين‬
‫على الفرد‪ ،‬كإنسان يعيش ويعاني ويحلم ويبحث عن حريته المطلقة‪ ،‬وقد أعلن‬
‫الكثيرون من الك ّتاب الشباب كراهيتهم لما يسمونه بالغة أو فصاحة‪ .‬فهم يريدون‬
‫أن يعبروا عن همومهم الشخصية غالبًا كيفما كان لهم أن يع ّبروا‪ ،‬بحرية وتلقائية‪.‬‬
‫فالمهم ان يحتجوا ويرفضوا ويعلنوا سأمهم من اللغة نفسها‪ ،‬اللغة التي تختلف بين‬
‫الكتابة والكالم‪ .‬انهم يريدون أن يكتبوا مثلما يتكلمون بعفوية تامة متجاوزين الرقابة‬
‫التي تفرضها اللغة نفسها أولًا ومن ثم الرقابات األخرى الدينية واألخالقية‪.‬‬
‫ويعتقد هؤالء ان العصر الحديث‪ ،‬عصر المعلومات والكومبيوتر واالنترنت لم يترك‬
‫ّ‬
‫ليحلوا ألغاز القواعد والصرف والنحو‪ .‬انهم يبحثون عن لغة الحياة‪ .‬وال‬ ‫لهم وقتًا‬
‫يخشى هؤالء الك ّتاب ارتكاب األخطاء النحوية أو الصرفية‪ .‬بعضهم ال يكمل الجمل‬
‫قصدًا‪ ،‬بعضهم اآلخر يحب الركاكة ولغة الشارع واللهجة العامية‪.‬‬
‫يضم مختارات روائية وقصصية وشعرية لـ ‪ 39‬كاتبًا عربيًا شابًا‬
‫هذا الكتاب الذي ّ‬
‫يقدم صورة بانورامية عن األدب العربي الشاب‪ ،‬هدفها مخاطبة القارئ‪ ،‬أيًا تكن هويته‬
‫ومساعدته على تكوين فكرة عن هذا المشهد‪.‬‬

‫عبده وازن‬
‫عضو لجنة تحكيم بيروت ‪39‬‬
‫بيروت‪ ،‬فبراير ‪2010‬‬

‫‪15‬‬
‫مالحظة من المحرر‬

‫ما إن أعلنت لجنة التحكيم عن أسماء الفائزين في مسابقة «بيروت ‪ ،»39‬حتى‬


‫اصبحت قادرا على االتصال بالك ّتاب التسعة والثالثين‪ ،‬الذين يقيمون في عشرين مدينة‬
‫على امتداد الشرق األوسط وشمال أفريقيا وكذلك في أوروبا والواليات المتحدة‪ .‬وكما‬
‫يمكن للقارئ أن يتخيل‪ ،‬فقد لجأت وعلى نحو متكرر إلى «نعمة» االنترنت والبريد‬
‫االلكتروني‪ ،‬فعلى الرغم من الفترة القصيرة التي كانت متاحة لي‪ ،‬فانني استطعت أن‬
‫أعمل وبشكل وثيق مع كل كاتب من هؤالء الك ّتاب لتحديد النص الذي يمثل عمله‬
‫أفضل تمثيل‪ .‬وكم شعرت باالرتياح حين أعربوا عن سرورهم الختيارتي‪.‬‬
‫وسأتحدث هنا عن ترتيب الكتاب‪ :‬بعد االستهالل‪ ،‬يأتي بيان لجنة التحكيم‬
‫والتقديم‪ ،‬وقد نشرت النصوص المختارة حسب الترتيب األبجدي للك ّتاب‪ ،‬ويأتي‬
‫اسم المترجم في نهاية كل نص تم ترجمته‪ .‬كما نوهت إلى اللغة التي ُترجم منها‬
‫النص‪ .‬وفي الجزء الخلفي من الكتاب‪ ،‬ترد مالحظات حول المؤلفين والمترجمين‪.‬‬
‫وبطبيعة الحال‪ ،‬فإن «بيروت ‪ »39‬ما هي إال خطوة أولى الكتشاف المواهب المتميزة‬
‫القراء الذين يجدون متعة في األعمال المتضمنة‬‫للك ّتاب العرب‪ ،‬ونأمل أن يتمكن ّ‬
‫في هذا الكتاب من استكشاف المزيد عن األدب العربي الجديد‪.‬‬

‫صموئيل شمعون‬
‫برلين‪ ،‬فبراير ‪2010‬‬

‫‪17‬‬
‫أحمد سعداوي‬

‫مطلع رواية‬

‫فرانكنشتاين في بغداد‬

‫اليوم أكمل الرقعة األخيرة في هذا الجسد الهجين الملقى على سطح البيت‪ .‬كان‬
‫ينقصه األنف‪ ،‬هذه الكتلة الشحمية اللدنة‪ ،‬التي تكون َّأول الذاهبين في المعارك‬
‫بصلف‬
‫ٍ‬ ‫داخل األز َّقة أثناء الليل‪ .‬تسقط سريعًا بالبلطات واألمواس التي يشهرها السكارى‬
‫مفاجئ في وجوه بعضهم ً‬
‫بعضا‪ .‬يذوب األنف وكأنه من الشمع ليس إال‪ ،‬ويذهب بهاء‬
‫أنف‬
‫الوجه مع أي لفحة حر النفجار أو حريق‪ .‬لذا كان من الصعب عليه العثور على ٍ‬
‫واحد من الوجوه التي تعرض له أو يقفز فوقها وهي‬
‫ٍ‬ ‫سليم‪ .‬لم يرغب بجدع أنف‬
‫ً‬
‫وحيدا ومهملًا ال‬ ‫مسجاة في لحظتها الختامية على الرصيف‪ .‬كان يريد ً‬
‫أنفا مفردًا‬ ‫َّ‬
‫مهمته بالبحث عسيرة وصعبة‪.‬‬ ‫يرغب فيه أحد‪ .‬وهذا ما جعل َّ‬
‫كانت الج َّثة الهجينة َّ‬
‫تتعفن‪ .‬ولوال صقيع الليل البارد فوق السطح‪ ،‬لكان فقدها منذ‬
‫وقت طويل‪ ،‬ولكنها تتعفن رغم ذلك‪ ،‬وكأنها تنهره بالرائحة الوليدة من ُّ‬
‫تغضنات‬
‫الشحوم وط َّيات الجلد التي خاطها بمهارة‪ ،‬وتأمره بأن يكمل ما بدأ به‪.‬‬
‫واليوم وجده‪ً :‬‬
‫أنفا عظي ًما بمنخرين واسعين‪ .‬تسابق مع رجال اإلطفاء الذين كانوا‬
‫يغسلون الدماء وبقايا الجثث‪ ،‬واختطف األنف من الرصيف‪ ،‬قبل أن يدفعه خرطوم‬
‫بعيدا إلى فتحة المنهول‪ .‬سنسخر منه‪ ،‬أو نضرب رقم هاتف الشرطة كي‬‫ً‬ ‫المياه‬
‫ندلهم على مكانه‪.‬‬
‫ولكنه لم يسرق شي ًئا من أحد‪ .‬لقد أخذ فقط ما بدا أنه نفاية‪ ،‬وهو أمر يشبه‬
‫عمله المعتاد‪ ،‬يجمع من األرصفة وأكوام األزبال ما يزهد به اآلخرون‪ ،‬ويقوم ببيعه‬
‫المرة إلى التقاط بقايا الجثث‬
‫إلى باعة العتيق والسكراب‪ .‬قد يكون اندفاعه هذه ّ‬
‫ولكن جوهر األمر واحد‪ .‬إنه يجمع‬ ‫ْ‬ ‫نوعً ا من المبالغة في تقدير النفايات البشرية‪،‬‬
‫المهمالت كي تكون بالجمع شي ًئا نافعًا‪ .‬ولكن‪ ،‬ما النفع من ج َّثة أخرى؟ ما الفائدة من‬

‫‪19‬‬
‫أحمد سعداوي‬

‫مفرقًا على‬
‫هذا المسجّ ى بجسده العاري الغريب على سطح البيت؟ لماذا لم يدعه َّ‬
‫األرصفة والشوارع؟‬
‫مشوش‪ ،‬وهو مجنون‪ ،‬كما كانت تقول أ ُّمه قبل‬‫َّ‬ ‫جواب هذا ليس عنده اآلن‪ .‬دماغه‬
‫وفاتها لجارتها األشورية أم دانيال‪ .‬وكما كانت تراه أم دانيال ح ًقا والجيران اآلخرون‬
‫في زقاقهم الخرب في حي البتاوين في بغداد‪ ،‬هذا الزقاق الذي ينتظر غضب اهلل منذ‬
‫زمن بعيد كما تقول أم دانيال‪ .‬لذا لن يخاف اآلن من مداهمة الشرطة وعثورهم على‬
‫ويحب أن يبقى هكذا‪ ،‬يضحك‬
‫ُّ‬ ‫الج َّثة الغريبة للرجل الغريب في بيته‪ .‬فهو مجنون‪،‬‬
‫سره ألن ً‬
‫أحدا من الجيران لن يصدق امتالكه لهذه المهارة العالية في الخياطة‬ ‫في ّ‬
‫أمر مريحٌ ـ أنه صنع بإرادته‬
‫يصدق أحد ـ وهذا ٌ‬‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫المخلفات‪ .‬لن‬ ‫ورتق الفتوق وجمع‬
‫ً‬
‫كاملة من بقايا القتلى في «ساحة الطيران» و«الباب الشرقي»‪.‬‬ ‫ج َّثة‬

‫***‬

‫لديه ّ‬
‫جثة كاملة اآلن على السطح بين أكياس الجنفاص المملوءة بعلب البيبسي‬
‫سيرا على‬
‫ً‬ ‫كيسا آخر مملو ًءا إلى النصف‪ ،‬وهو يعود‬
‫المعدنية‪ ،‬ويحمل على ظهره ً‬
‫الرصيف من ساحة األندلس‪ ،‬حيث يأخذ قنينة «العرق» من مخزن إدوارد‪ ،‬والباقالء‬
‫ِّ‬
‫المطل‬ ‫المسلوقة من عربة ياسر الصفيري‪ ،‬وعشاءه من بائع ّ‬
‫التكة والفشافيش‬
‫على الساحة‪ ،‬الذي ال يعرف اسمه‪ .‬كان شارد الذهن‪ ،‬وهو يرى الس َّيارات تخطف‬
‫يمر في العادة‬
‫مر بجوار فندق السدير نوفوتيل‪ّ .‬‬
‫بأضوائها داخل العتمة والبرد حين ًّ‬
‫على الجانب اآلخر من الشارع تج ّن ًبا لتنبيهات الحرس ذوي الوجوه القلقة‪ .‬خصوصً ا‬
‫أكياسا‬
‫ً‬ ‫فجر الكثيرون‬
‫كبيرا ومري ًبا على ظهره‪ .‬لقد َّ‬
‫ً‬ ‫كيسا‬
‫وهو يحمل على الدوام ً‬
‫مشابهة أمام المحال والفنادق والدوائر الحكومية‪ .‬لك َّنه الليلة شبه سكران‪ ،‬وال‬
‫يهتم إال بخطواته وهي تعبر على البقع المائية واألزبال‪.‬‬
‫ُّ‬
‫نهض الحارس من مكانه وراء الكابينة الخشبية في المدخل العريض لبوّ ابة‬
‫وتقدم نحوه‪ .‬تأ َّمل خلقته َّ‬
‫الرثة‪ ،‬ورأى الملل في وجه هذا الحارس لموجز‬ ‫َّ‬ ‫الفندق‬
‫الرتيب من أمام البوابة الحديدية العريضة‪ .‬وها هي ُنذر‬
‫من الثواني استغرقها مروره َّ‬
‫القدر الس ِّيئ الذي يعرفه في نفسه دائ ًما‪ .‬شحطت س َّيارة أزبال تابعة ألمانة العاصمة‬
‫بجواره وغسلت سرواله بمياه األمطار وهي تتجه بسرعة إلى مدخل الفندق الذي‬

‫‪20‬‬
‫فرانكشتاين في بغداد‬

‫مترا تقري ًبا‪ .‬ولم يكن هذا َّ‬


‫«كل السوء» في هذه الليلة‪.‬‬ ‫غدا خلفه بخمسين ً‬
‫المدوي على رأسه‪ ،‬واندفع في الهواء عدة أمتار وفقد الكيس الجنفاصي‬
‫ِّ‬ ‫ضغط الصوت‬
‫وعشاءه وقنينة المشروب‪ ،‬وصار يطير بيدين مفرودتين‪ .‬تشقلب في الهواء‪ ،‬وهو‬
‫أخيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫والخفة‪ ،‬وأحس بأنه ميت‪ ،‬والملل يذهب‬ ‫يشعر بالخدر‬

‫***‬

‫غريب‪ .‬يدع رأسه‬


‫ٌ‬ ‫أمر‬ ‫عادة ال ِّ‬
‫يفكر‪ .‬وهذا ٌ‬ ‫ً‬ ‫كان ِّ‬
‫يفكر بالخطوة الالحقة‪ ،‬رغم أنّه‬
‫يثقل بالمشروب‪ ،‬ويسفع وجهه هوا ُء الليل البارد فوق السطح‪ ،‬ويندفع للقيام بشيء‬
‫يهبط عليه مثل وحي‪ .‬كان يقوم بأشياء كثيرة استجابة لهذا الوحي‪ .‬وكانت حياته‬
‫بشكل حسن دون تفكير‪ ،‬حتى ظهرت هذه الج َّ ّثة العفنة في حياته‪ .‬فهو بائع‬
‫ٍ‬ ‫تسير‬
‫عتيق‪ .‬جامع زجاجات فارغة‪ ،‬وعلب بالستيكية‪ ،‬وحطب من بقايا األثاث وأشياء‬
‫كثيرة أخرى‪ .‬ورغم ّأنه يبيعها آخر النهار إال إنه يحسب أنها تظل في رأسه‪ ،‬وال‬
‫أبدا‪ .‬رأسه المليء بهذا السكراب‪ ،‬الجاثم مثل تل ثقيل على ِّ‬
‫كل جوارحه‪،‬‬ ‫تغادره ً‬
‫لكن المشروب يفعل فعله دائ ًما‪ ،‬ويطيّر التل مثل فراشات مذعورة‪.‬‬
‫دفع الج َّثة بحذائه البالستيكي‪ ،‬وكأنه عرف اآلن أنها ج َّثة نجسة‪ .‬قلبها بدفعة‬
‫قوية من قدمه فانقلبت على وجهها كقطعة واحدة‪ ،‬وأحس بأن عمله الذي استمر‬
‫وماهرا للغاية‪ .‬فاألجزاء‪ ،‬على كثرتها‪،‬‬
‫ً‬ ‫على مدى األيام الس َّتة الماضية كان حس ًنا‬
‫كانت متماسكة‪ ،‬حتى إنه حين قلب الج َّثة العارية على ظهرها ّ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬بدا له‬
‫ً‬
‫وصلفا يشمخ في هواء الليل‪ ،‬وال يتنفسه‪.‬‬ ‫األنف المترب سلي ًما‬
‫ِّ‬
‫المتكلس والواقع‬ ‫حاول التفكير بالخطوة الالحقة‪ ،‬لكن األمر بدا صع ًبا على رأسه‬
‫تحت ضغط السكراب المتراكم والمتزايد‪ ،‬أو هو تأثير الرضوض الكثيرة والصغيرة‬
‫التي حدثت في أرجاء جسده ورأسه في مطلع هذه الليلة بجوار فندق السدير‪ .‬كان‬
‫ّ‬
‫يسخن يديه على المدفأة النفطية‪ ،‬حين سمع نحيب الريح وهي تشتد فوق الطابوق‬
‫المتآكل وسعفات النخيل بين أسطح البيوت المجاورة‪ ،‬وحين فتح قنينة المشروب‬
‫كل شيء في الخارج‪ ،‬ثم‬ ‫ِّ‬
‫ويجلد َّ‬ ‫المغشوش داخل غرفته فوق السطح‪َّ ،‬‬
‫ظل البرد يشتدُّ‬
‫يهجم قادمًا من الفتحة الطولية أسفل الباب‪ ،‬هازئًا بلهيب المدفأة القديمة المتخاذل‪.‬‬
‫شرب‪ ،‬ولعن «أبو سليمة» الذي يبيع هذه المشروبات المغشوشة في بيته عند آخر‬

‫‪21‬‬
‫أحمد سعداوي‬

‫الزقاق‪ .‬قال في نفسه‪« :‬سألقي بالج َّثة من السطح إلى الزقاق ليلًا‪ ،‬ولن يعرف أحد‬
‫أنها كانت عندي وبحوزتي‪ ،‬ولن يعرف أحد من قام بهذا العمل الشنيع والمجنون‪.‬‬
‫لن يبحث أحد عن ُهو َّية هذا القتيل‪ ،‬فهو الوحيد هنا‪ ،‬بين أحياء َّ‬
‫محلتي الشعبية‬
‫وأمواتهم‪ ،‬من ال يملك أية ُهو َّية‪ .‬سيبلغون الشرطة‪ ،‬وتأتي سيّارتهم الحوضية‪ .‬ينزل‬
‫بأكف بالستيكية بيضاء‪ ،‬يرفعون الج َّثة برتابة وملل ويلقونها برمية واحدة‬
‫ٍ‬ ‫شرطيان‬
‫مد ًة من الزمن‪،‬‬
‫إلى حوض الس َّيارة‪ ،‬وهناك في الطب العدلي ستبقى في الثالجة ّ‬
‫وحين ال يأتي أحد للسؤال عنها‪ ،‬ستدفن في مقابر أمانة العاصمة مع رقعة صغيرة‬
‫تشير إلى كونها ج َّثة مجهولة ال ُهو َّية‪».‬‬
‫شرب كأسه األخيرة لهذه الليلة‪ ،‬وبدأت أحشاؤه َّ‬
‫تتقلب‪ ،‬إنها الطفيليات أو عدم‬
‫جودة الباقالء المسلوقة‪ ،‬أو سوء التخمير لهذا المشروب‪ .‬وقف أمام المغسلة بجوار‬
‫بالتبول استعدادًا للنوم‪ .‬نظر إلى السطح المنار بضوء القمر غير المكتمل‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫النافذة وبدأ‬
‫ولكن هذا ال عالقة له بما رأى‪ .‬كانت الج َّثة هناك مستوية على قرميد‬
‫ْ‬ ‫كان سكرانًا‪،‬‬
‫السطح القذر وغير المكنوس منذ وفاة أ ِّمه‪ .‬كانت الج َّثة جالسة تنظر إلى الزاوية‬
‫مستو باستقامة واضحة‪ ،‬مثل‬
‫ٍ‬ ‫البعيدة للسطح‪ .‬بدت وكأنها تفعل ذلك ح ًقا‪ .‬والظهر‬
‫ظهر رجل نشيط نهض من نوم مشبع‪ .‬ولكن‪ ،‬لماذا يستيقظ هذا المسخ المعتوه في‬
‫فجرا؟!‬
‫الثالثة ً‬

‫***‬

‫ليلة شديدة‬
‫ٍ‬ ‫مقرفصا وملمومًا مثل جنين‪ ،‬وكأنه عانى من‬
‫ً‬ ‫في الصباح‪ ،‬وجده‬
‫البرودة‪ .‬تجاهله وهو يغلق باب السطح الحديدي بالقفل‪ ،‬وينزل على الدرج المعدني‬
‫إلى الزقاق مباشرة‪ .‬كانت خطواته مؤلمة‪ ،‬ورأسه مثقلًا بالكوابيس ووطأة الذنوب‪،‬‬
‫ً‬
‫بعيدا‪،‬‬ ‫وكأنه عوقب ليلة أمس على فعلته الشنيعة‪« .‬من األفضل رمي هذه الج َّثة‬
‫كل حين‪ ».‬قال ذلك في نفسه‬ ‫حتى ال أحصل على سيارات تنفجر أمامي وخلفي َّ‬
‫وهو يواجه هبّات الهواء البارد عند الشارع العام‪.‬‬
‫كان يريد الذهاب إلى الطرف اآلخر من العاصمة‪ ،‬من أجل جمع العلب المعدنية‬
‫للمشروبات الغازية في مقالع النفايات بين األحياء السكنية هناك‪ .‬ولكن السماء ظلت‬
‫مل َّبدة بغيوم داكنة تنبئ بمطر غزير عند منتصف النهار‪ ،‬وشعر بجوع رهيب وألم‬

‫‪22‬‬
‫فرانكشتاين في بغداد‬

‫في ِّ‬
‫كل مفاصله دخل إلى مقهى عزيز المصري‪ ،‬خلف مص ِّور «النجوم» في منطقة‬
‫«الباب الشرقي»‪ ،‬وهناك تناول إفطاره وسمع هاللًا مصلح الساعات السوداني يضحك‬
‫وفجر نفسه ليلة أمس أمام مدخل فندق السدير‬
‫على سوداني آخر أصيب بالجنون َّ‬
‫نوفوتيل‪ .‬لقد فجّ ر سيّارة أزبال مليئة بالديناميت كان يقودها‪ ،‬وهو ما صنع حفرة‬
‫بعمق ستة أمتار ـ لو كان اخذلو ب ُُطل عرق وشربو مع قحبة ما كان أشرفلو؟‬
‫يتقصد أن ال يتحدث‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫المسلي من الحادثة‪ ،‬وهو‬ ‫كان هالل السوداني يسرد الجزء‬
‫باللهجة السودانية‪ ،‬فخرجت الكلمات من فمه هجينة ال تشبه أي لهجة‪ .‬وكان‬
‫هناك شخص واحد في هذا المقهى لم يكن يضحك على الحكاية‪ ،‬أو على لهجة‬
‫ّ‬
‫المسلي من‬ ‫هالل الغريبة‪ ،‬شخص استمر في تناول إفطاره ولم يرغب بسماع الجزء‬
‫الحكاية‪ ،‬ولم يجد رغبة لرواية الجزء السيّئ من الحكاية الذي كان أقرب شهوده‪.‬‬
‫نظر إلى النوافذ العريضة والقذرة للمقهى‪ ،‬وشاهد كيف أن السماء انهمرت فجأة‬
‫ً‬
‫مباشرة إلى غرفته فوق‬ ‫بمطر شديد‪ ،‬فوجد نفسه‪ ،‬حين خرج من المقهى‪ ،‬يتجِّ ه‬
‫سطح بيت المعزايات‪ ،‬طاويًا كيس الجنفاص الفارغ تحت إبطه‪ .‬لم ِّ‬
‫يفكر بالعمل هذا‬
‫وأحس برغبة االندساس في فراشه والنوم لبقية النهار‪.‬‬
‫َّ‬ ‫اليوم‪،‬‬
‫َّ‬
‫السلم الحديدي وفتح الباب كان السطح خال ًيا ومبللًا بمياه األمطار‪ .‬لم‬ ‫حين صعد‬
‫تكن الج َّثة حيث تركها‪ ،‬وهجمت على رأسه مجموعة من األفكار دفعة واحدة‪:‬‬
‫«ربما عبر أحد أبناء العواهر من األسطح المجاورة وأخذ الج َّثة‪ .‬ربما جاءت‬
‫أخيرا بسبب إخباريّة من الجيران ونقلت الج َّثة إلى الطب العدلي‪ ،‬ربما‬
‫ً‬ ‫الشرطة‬
‫استغاثت أم دانيال وهي تنشر مالبسها على السطح بأهل الرحم‪ ،‬حين لمحت هذه‬
‫الج َّثة وتصورت أنها جثتي»‪.‬‬
‫ولكن أم دانيال‪ ،‬رغم خرفها‪ ،‬لن تنشر المالبس على حبال السطح في يوم غائم‬
‫وممطر‪ .‬خطفت ُّ‬
‫كل هذه األفكار في رأسه بلمح البصر‪ ،‬وهو يتقدم بخطوات واسعة‬
‫على السطح المبلل نحو باب غرفته‪.‬‬

‫فصل من رواية غير منشورة في كتاب‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫أحمد يماني‬

‫مقاطع من قصائد‬

‫يوتوبيا المقابر‬

‫‪١‬‬

‫جدران غير مطل َّية‪،‬‬


‫وأرضية مليئة بالحصى‪،‬‬
‫وعظام َّ‬
‫هشة ال تستطيع حتى أن تقف‪،‬‬
‫وعظامي أنا محشورة في الوسط‪.‬‬
‫أفكر في مظاهرة صغيرة‪،‬‬
‫لالحتجاج على المالئكة الذين منعوا‬
‫الكالسيوم الالزم لنا‪.‬‬
‫واهلل فوق الحفرة يمدُّ ظالله علينا‪،‬‬
‫ويتركنا نتأخر في النوم‪،‬‬
‫تسقط بقعة ضوء من بين يديه‪،‬‬
‫ويدخل جسد مظلم‪،‬‬
‫ُّ‬
‫تجف البقعة‪،‬‬
‫ونتعرف إلى زميلنا الجديد‬
‫ّ‬
‫بقلب مفتوح‪،‬‬
‫ويعطينا السجائر بكرم زائد‪،‬‬
‫نحب صوته حين يهمهم من البداية‪:‬‬
‫ُّ‬
‫ما الذي يحدث هنا ِّ‬
‫بحق الجحيم؟‬

‫‪24‬‬
‫يوتوبيا المقابر‬

‫‪٤‬‬

‫الصرخات التي أطلقناها قرب الفجر‬


‫لم يسمعها أحد‬
‫أصوات الكالب في الخارج‬
‫تشعرنا بمودَّة‪.‬‬
‫نزحف لتتالمس عظامنا‪،‬‬
‫ونحب بعضنا أكثر‬
‫يحكي ُّ‬
‫كل م َّنا عن طفولته السوداء‪،‬‬
‫ونتبادل الضحك‪،‬‬
‫وال نملك ساعة حائط‬
‫لنعرف متى تقوم الساعة‪.‬‬

‫‪٥‬‬

‫أمي‬
‫أرجوك‬
‫عندما تعرفين أنني دخلت بيتي الجديد‪،‬‬
‫ال تبكي‬
‫ألنني أريد أن أختزن عينيك لأليام القادمة‪.‬‬
‫كوني هادئة‬
‫ِّ‬
‫وهزي رأسك ثالث مرات‪،‬‬
‫وأرسلي قبلة هوائية‬
‫وسأصخب مع أصدقائي هنا‬
‫وهم يهنئونني ببيتي الجديد‪،‬‬
‫وسأجعل الباب مواربًا‪،‬‬
‫في انتظار قبلتك‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫أحمد يماني‬

‫وعندما سيكون لك بيت جديد مثلي‪،‬‬


‫أرجوك أن يكون قري ًبا مني‬
‫حتى أسمع أنفاسك‪،‬‬
‫وأتنفس بال ألم تقري ًبا‬
‫ويكون لموتي تلك الصورة النهائية‬
‫كثيرا كي أصنعها‪.‬‬
‫ً‬ ‫التي جاهدت‬

‫‪٦‬‬

‫في الحجرة المجاورة لنا‪،‬‬


‫والتي ال تفصلنا عنها سوى ستارة قماش‬
‫تتمدد النساء وقد خلعن أكفانهن‪،‬‬
‫وبقين ً‬
‫بيضا ً‬
‫جدا‪.‬‬
‫استطعنا بعد محاوالت يائسة‬
‫أن نفتح خرمًا في الحاجز‪.‬‬
‫وقد انتصبت عظامنا فجأة‬
‫حين لمحنا أول امرأة تخلع مالبسها‬
‫وتضعها في ركن الحجرة‪.‬‬
‫في هذه الليلة‪،‬‬
‫نمزق الستارة‪،‬‬ ‫حاولنا أن ّ‬
‫قو ًة‪،‬‬
‫لك َّنها كانت تزداد َّ‬
‫فاكتفينا بالفرجة على العظام البيضاء‪،‬‬
‫ً‬
‫بعيدة عنا‪.‬‬ ‫والتي ما زالت حتى اآلن‬

‫‪26‬‬
‫يوتوبيا المقابر‬

‫‪٨‬‬

‫أغلقوا المكان ج ِّي ًدا‪،‬‬


‫وألقوا المفاتيح في جوف الح َّفار‪.‬‬
‫لماذا تتركوننا على أطراف المدن؟‬
‫يجب أن نكون معًا‬
‫عندما تسقط األمطار‪،‬‬
‫وأن نغ ِّني تحتها‪،‬‬
‫ويمكننا أن نتحدث عن عربات‬
‫سارت بنا في طرق طويلة‪ ،‬وعادت من دوننا‪.‬‬
‫تجمعت فيها‬
‫لكن الدموع التي َّ‬
‫َّ‬
‫كانت كافية ِّ‬
‫لتبلل عظامنا‬
‫ولم نجد ثقابًا للتدفئة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫واحد منا لسرقة الكبريت‬ ‫وعندما َّ‬
‫تسلل‬
‫أضأنا المقبرة‪،‬‬
‫َ‬
‫ثالثة أيام‪،‬‬ ‫وأضاءت نصف المقابر في العالم‬
‫بعدها تق َّيأ َّ‬
‫الحفار‬
‫ومررنا في طابور منظم‬
‫نغ ِّني جميعًا عن البعوض الذي‬
‫ينام في آذاننا‪،‬‬
‫وعن طولنا الذي أثار المراهقات‪،‬‬
‫المتكررة‬
‫ِّ‬ ‫وعن االستمناءات‬
‫في برميل كبير يسمونه الحياة‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫أحمد يماني‬

‫الجنازة‬

‫مات تشيمو هذا الصباح‪.‬‬


‫تشيمو ليس صديقي‪ ،‬لك َّنه مات‪.‬‬
‫ّ‬
‫يسدد دي ًنا قدي ًما للكلمات‬ ‫َّ‬
‫يتحدث بال انقطاع‪ ،‬كمن‬ ‫كان‬
‫التي على وشك أن تهجره‪.‬‬
‫غدا سألبس معطفي األسود وأمضي إلى الجنازة‬
‫وعندما أعود إلى البيت سأبتسم لنفسي‪.‬‬
‫اليوم مات تشيمو‪،‬‬
‫أحد معارفي‪،‬‬
‫وها أنا لم أعد غري ًبا في هذه البالد‪.‬‬

‫الساعة الخامسة‬

‫ُّ‬
‫تحط زهرة ذابلة‬ ‫ُّ‬
‫يحط غراب وال ذبابة وال عصافير‪ .‬على النافذة‬ ‫على النافذة ال‬
‫وقعت من الطابق األعلى وعلى المائدة ستبقى َطوال المساء‪ّ .‬‬
‫أحدق فيها تحت إضاءة‬
‫تدمي العينين‪ .‬على الحائط لوحة لـ «كليمت» بدت فيها الحياة البهيجة المل ّونة‬
‫ً‬
‫خافضة‬ ‫وهي تذوي أمام رسول الهالك الناظر باستعالء إلى األجساد الفائرة المكوّمة‬
‫رؤوسها‪ ،‬م ِّيتة حتى قبل أن ينشب المالك حربته‪ .‬أضع الزهرة في المسافة الفاصلة‬
‫العظمي للمالك وبين الكائنات المل ّونة‪ ،‬لكنّ الزهرة تتململ‪ ،‬تخفق أن‬
‫ّ‬ ‫بين الهيكل‬
‫ً‬
‫ذابلة هي األخرى؟ أزحزحها إلى العين الفارغة في رأس المالك‬ ‫جسرا‪ .‬ألم تكن‬
‫ً‬ ‫تكون‬
‫مستريحة أكثر‪ .‬لكنّ الزهرة لم تخلق لتمأل األعين الفارغة‪ ،‬الزهرة خلقت‬ ‫ً‬ ‫فتقبع‬
‫إلي أل َّنها ماتت‪ .‬إلى نافذتي‬
‫لتمأل شرفة الطابق األعلى‪ ،‬لك َّنها ماتت‪ .‬الحقيقة أنها نزلت ّ‬
‫يحط عليها غراب وال ذبابة وال عصافير‪.‬‬ ‫التي ال ُ‬

‫‪28‬‬
‫يوتوبيا المقابر‬

‫الدفتر األحمر‬

‫ّ‬
‫مستجد ألحد المصانع‪ ،‬بقراءة مسترخية أبطئها‬ ‫كنت أزجي ليلي الطويل‪ ،‬كحارس‬
‫صغيرا لبول أوستر «الدفتر األحمر» يروي‬
‫ً‬ ‫قدر ما أملك‪ ،‬كي ينقضي ليلي‪ .‬كان كتابًا‬
‫مصادفة إلى أخرى‬
‫ٍ‬ ‫مصادفات واقعية وال يرى المصادفة عمياء بتاتًا‪ .‬كنت أنتقل من‬
‫حارسا مؤ َّق ًتا ألحد البيوت‬
‫ً‬ ‫حتى وقعت على هذه‪ :‬كان بول أوستر في شبابه يعمل‬
‫الفرنسي مع صديقته لقاء المأوى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في ريف الجنوب‬
‫حارسا‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫بحثت سريعًا عن ورقة ألدوّ ن هذه المالحظة وأسلي نفسي بأن العمل‬
‫ّ‬
‫التحكم كان‬ ‫ليس سي ًئا تمامًا‪ .‬كنت أبحث عن أية ورقة ملقاة وعلى مكتب غرفة‬
‫يقبع هناك منزويًا الدفتر األحمر الصغير‪.‬‬

‫قصيدة «يوتوبيا المقابر» نشرت في ديوان «شوارع األبيض واألسود» طبعة خاصة‪،‬‬
‫القاهرة ‪ 1995‬بقية القصائد من ديوان «أماكن خاطئة»‪ ،‬دار ميريت‪ ،‬القاهرة ‪2008‬‬

‫‪29‬‬
‫إسالم سمحان‬

‫قصيدة‬

‫لمن تحمل الوردة؟‬


‫إلى َّ‬
‫غزة‪ ...‬وسائر الشهداء‬

‫أوقفني عاشق فقلت‪:‬‬


‫لمن تحمل الوردة؟‬
‫حبيبتك سيخطفها القصف عما قليل‬
‫وستغدو كمشة من رماد فال تغامر من أجل الحب‪.‬‬

‫أوقفتني عاشقة فقالت‪:‬‬


‫لي حبيب سيجيء‪...‬‬
‫ربما في الهدنة أستطيع‬
‫أن أص ِّفف شعري‬
‫وأن ُ‬
‫أش َّك د ُّبوسا على صدري‬
‫يشبه قوس قزح‬
‫وأركض في الساعة األخيرة‬
‫إليه‬
‫بأن وق ًتا سيحالفني‬
‫وأظن َّ‬
‫ُّ‬
‫عكس حظي المفزوع من صوت القنابل‪.‬‬

‫أوقفني الصغير وقال‪:‬‬


‫قبل أيام ك َّنا نلعب ِّ‬
‫بأزقة القطاع‬
‫ولسوء فهم اختلفت مع الصغيرة‬
‫لم أقصد أن أثير زوبعة من الصراخ بوجهها‬

‫‪30‬‬
‫لمن تحمل الوردة؟‬

‫ولكن شأن الدمية شأني‬


‫وشأن الصغيرة أنها لم تفلح بإقناعي أن الدمى‬
‫تروح وتأتي مثل الطائرات‪.‬‬

‫أوقفتني الصغيرة فقالت‪:‬‬


‫مات أحمد‬
‫ً‬
‫سعيدا باأللعاب الفسفورية‬ ‫كان‬
‫المضيئة‬
‫ولم يعلم الصغير‬
‫بأنه احترق مثل الفراشات‬
‫من دون أن يحدث جلبة‬

‫أوقفتني امرأة فقلت‪:‬‬


‫أرى الناس يحملون ابنك‬
‫كأن خط ًبا ما لم يصبه‬
‫فلم أركِ ‪،‬‬
‫كان الفتى يسيل من شدقه‬
‫خيط من األزهار‬
‫الحمراء‬
‫وكنت ألمح ابتسامته الخجولة‪.‬‬
‫مر ًة أخرى فقالت‪:‬‬
‫أوقفتني المرأة ذاتها ّ‬
‫ُّ‬
‫يكتظ‪  ‬باألبناء‬ ‫كان البيت‬
‫وكان أوسطهم يحضر الماء الساخن‬
‫كي يكنس أول الشعرات البكر عن ذقنه‬
‫لك َّنهم كلمح البصر غادروا جميعًا على األكتاف‬
‫كحقيبة بيد فتاة ذهبت كي تالقي حتفها‬

‫‪31‬‬
‫إسالم سمحان‬

‫أوقفني الرجل الحزين‪  ‬وقال‪:‬‬


‫كنت أرتِّب األصداف في حوض السمك‬
‫وكنت ِّ‬
‫أمشط شعر «جميلة»‬
‫وأهش النمش الطفيف عن صدرها‬
‫ُّ‬
‫لك َّنها الطائرات‬
‫لم تنتظر حتى أربط‬
‫خصر العروس بشال أنوثتها‬
‫فطارت أشالؤها مع شالها من شرفة المنزل‪.‬‬

‫أوقفني المل َّثم‪  ‬بكوف ِِّيته وقال‪:‬‬


‫ما الحاجة لالختباء أو االختفاء‬
‫بعد قليل سيفتضح األمر‬
‫وستزفنا الصواريخ إلى حتفنا‬
‫ولن يعرف لي ُقبل كي يدرى عني ُدبر‬
‫وستعرفني األيائل من ثيابي ومن قالدة‬
‫خبأتها في جيبي‬

‫أما أنا‪ ،‬أوقفني المشهد فقلت في نفسي‪:‬‬


‫ً‬
‫خبزا‬ ‫كيف يصير الموت‬
‫فنشتهيه‬
‫وننتظر حصتنا من الموت‬
‫ً‬
‫أسرة‪ ،‬أسرة‬ ‫ونمشي إلى المقابر‬
‫نحمل وثائقنا المدنية ودفاتر العائلة؟‬

‫قصائد غير منشورة في كتاب‪ .‬ترجمت ونشرت بااليطالية‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫باسم األنصار‬

‫ثالث قصائد‬

‫ٌنزهة‬
‫إلى كاسبر تومسن‬

‫في الدرب المؤدي إلى البحر‪،‬‬


‫ُ‬
‫رأيت الصبيان يحملون عشتار بن َّقالة خشبية‪،‬‬
‫َ‬
‫تمثال رامبو في أحضانها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ورأيت عشتار تحمل‬
‫رأيت األطفال يأكلون وريقات الخريف‪،‬‬‫ُ‬
‫ُ‬
‫ورأيت األنامل تخلق النار من مياه السواقي‪.‬‬
‫‪ -‬زايكو‪ ،‬زايكو‪ ،‬البحر هناك‪.‬‬
‫ُ‬
‫استمعت لموسيقى أعشاب الدرب‪،‬‬ ‫حينما‬
‫َّ‬
‫تذك ُ‬
‫رت موسيقى البالد التي صلبتني‪،‬‬
‫ُ‬
‫شاهدت غودو حاملًا الفانوس في الغابات‪،‬‬ ‫وحينما‬
‫َّ‬
‫تذك ُ‬
‫رت القبطان الذي أخذه الطوفان إلى القرن الماضي‪.‬‬
‫إلي‪،‬‬ ‫َ‬
‫كلمات يوليسيس َّ‬ ‫راحت أمواجُ البحر ترسل‬
‫َ‬
‫أوراق البحر ألجلي‪.‬‬ ‫الثعالب تسرق‬
‫ُ‬ ‫وراحت‬
‫لنذهب صوب الفنار‪ ،‬ولنسأله عن أخبار السفن الغارقة‪،‬‬
‫ولنذهب إلى القرية‪ ،‬ولنسألها عن الحكواتي الذي أحرقه الشتاء‪.‬‬
‫‪ -‬زايكو‪ ،‬زايكو‪ ،‬البحر هناك‪.‬‬
‫ُ‬
‫رأيت األشجار ترسل العطور إلى البيت الوحيد في الغابة‪،‬‬
‫ُ‬
‫ورأيت التالل تبتسمُ للعربات المسحوبة بأجساد الغزالن‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫باسم األنصار‬

‫ُ‬
‫رأيت الراهب ِّ‬
‫يحدث الكواسر عن البالد المرفوعة بيد اهلل‪،‬‬
‫أعشاب الدرب تص ِّفق لخطوات الهاربين من الفردوس‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ورأيت‬
‫ها هي األرواح البه َّية تخرج من حربها مع األخالق‪،‬‬
‫وها هي أجراس المعبد الجديد ترنُّ فرحً ا لمقدمها‪.‬‬
‫ليس لي سوى أن أضع أطيافي في البيت الوحيد‪،‬‬
‫وليس لي سوى الغناء في الغابة عن اليوم العجيب‪.‬‬
‫‪ -‬زايكو‪ ،‬زايكو‪ ،‬البحر هناك‪.‬‬
‫قيل‪ ،‬إن أمطار الخريف‪ ،‬أحرقت األناشيد‪،‬‬
‫وقيل‪ ،‬إن الهوا َء‪ ،‬داعب َّ‬
‫الشجرة الملقاة وحدها خارج الحقول‪.‬‬
‫لم أ َر القطار الراحل صوب الشمس‪،‬‬
‫ولم أسمع صوت الماء النازل من ّ‬
‫كف المرأة الريفية!‬
‫بكفيه وهو يطير في الهواء‪،‬‬‫رأيت أحدهم يداعب صورة الجوكر َّ‬
‫ُ‬
‫ويطرز ثوبًا من أوراق الشتاء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ورأيت آخر يجلس تحت شجرةٍ م ِّيتة‪،‬‬
‫ُ‬
‫رأيت البخار الصاعد من أكواب القهوة يرسم األحالم الضائعة‪،‬‬
‫ُ‬
‫ورأيت روّ اد المقهى يعزفون بأصابعهم على الطاوالت‪ ،‬لحنَ الريف‪.‬‬
‫من يخبرنا عن العربة القادمة من الشمس؟‬
‫ومن يخبرنا عن موعد قدوم قافالت السيرك إلينا؟‬
‫البحر هناك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬زايكو‪ ،‬زايكو‪،‬‬
‫ُ‬
‫شاهدت الرصاصات النازلة من القلوب‪،‬‬
‫ِّ‬
‫المحلقة من العيون‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وشاهدت الطيور‬
‫َ‬
‫رائحة األفكار المزروعة في الفضاء‪،‬‬ ‫ُ‬
‫شممت‬
‫َ‬
‫رائحة األمطار النائمة في السجون‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وشممت‬
‫تذكرت القيثار َة الملقاة وحدها في الصحراء‪،‬‬
‫ُ‬
‫وتذكرت السائرين نحو الكهوف‪ً ،‬‬
‫بحثا عن الشموع‪.‬‬ ‫ُ‬
‫آه!‬
‫ُ‬
‫الغروب يخرج من مسامات الدرب‪،‬‬ ‫راح‬
‫َ‬
‫وجه األفق‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وراحت األوحال‪ ،‬تأكل‬
‫البحر لم يعُد هناك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬زايكو‪ ،‬زايكو‪ ،‬يا كلبي الحنون ل َنعُد‪،‬‬

‫‪34‬‬
‫ثالث قصائد‬

‫حياة محاطة باألشجار‬

‫ها هو زم ُن َك يتدحرج على جبل الثلج‪،‬‬


‫تسير في األزمنة اآلمنة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وها أنا أراك‬
‫تتلون بالعسل في الكهوف‪،‬‬ ‫َ‬
‫رغباتك َّ‬ ‫ها هي‬
‫وها أنا َ‬
‫أراك تنام مع الوجع القديم‪.‬‬
‫ترغب في البكاء على الماضي‪،‬‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫كنت‬
‫أيضا في النحيب على المستقبل‪.‬‬‫ترغب ً‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وكنت‬
‫َ‬
‫كنت تو ُّد احتضان الخريف واألبدية معًا!‬
‫لم تكترث بعربة ُّ‬
‫الشعراء يومًا‪،‬‬
‫ولم تركض سوى خلف الحكايات الم َّيتة‪.‬‬
‫أخبرتك بأن تمشي معي صوب األحالم الزائلة‪،‬‬
‫َ‬
‫وحدك نحو األماني الخالدة‪.‬‬ ‫وأن ال تمشي‬
‫حلمت بأن تض َع خضرة الحشائش في الحقائب‪،‬‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫وضعت لون السماء في الغرفة‪.‬‬ ‫إالّ أنّ َك‬
‫تذكر‪ ،‬أ َّنك َّ‬
‫واللذة توأمان‪.‬‬ ‫َّ‬
‫تذكر‪ّ ،‬‬
‫أن السماء ال تنام تحت رغباتك‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ٌ‬
‫محاطة باألشجار‪.‬‬ ‫أن حياتَ َك‬ ‫َّ‬
‫وتذكر‪َّ ،‬‬
‫المحرمات‪،‬‬
‫َّ‬ ‫تمارس الحروب ضد‬
‫َ‬ ‫تم َّن ُ‬
‫يت أن‬
‫َ‬
‫ألقيت النظريات فوق رأسي‪.‬‬ ‫غير أنّك‬
‫تحتج في وجه الخلود‪،‬‬
‫َّ‬ ‫يت أن‬‫تم َّن ُ‬
‫َ‬
‫جرحت روحي بألحانك العتيقة‪.‬‬ ‫غير أ َّنك‬
‫رأيتك تدخل االنتفاضة عبر بوابتها الحمراء‪،‬‬
‫بوابتها البيضاء‪.‬‬ ‫َ‬
‫أقسمت لي بأن تدخلها عبر َّ‬ ‫بعد أن‬
‫لماذا َ‬
‫قلت‪ :‬وداعً ا أيها الفجر القادم؟‬
‫ولماذا َ‬
‫قلت‪ :‬مرح ًبا بك أيها المساء؟‬

‫‪35‬‬
‫باسم األنصار‬

‫بابك بحذر‪ .‬طرقته إلى أن ّ‬


‫تعل َق قلبي على‬ ‫طرقت َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫غبت عني طويلًا‪،‬‬ ‫وحينما‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫حياتك‪،‬‬ ‫َ‬
‫يلتفت إلى‬ ‫يمر من دون أن‬ ‫ُ‬
‫رأيت ساعي البريد ُّ‬ ‫مسمار غريب‪ .‬وحينما‬
‫ٍ‬
‫أحاطتني األشجار بهدوء‪.‬‬

‫بانوراما الدهشة‬

‫أها!‬
‫يتلصصون على األرامل من ثقوب النهار‪،‬‬
‫الصبية َّ‬
‫والرجال يلعقون في ّ‬
‫أكف العرافات‪.‬‬
‫أها!‬
‫الجنود يأكلون بندق َّياتهم‪،‬‬
‫والباعة المتج ِّولون يحملون النجوم فوق عرباتهم‪.‬‬
‫أها!‬
‫المرأة الفض َّية تدخل إلى المرآة‪ ،‬وتضع الغيوم في الحقائب‪.‬‬
‫أها!‬
‫الشيطان يخلق الفراشات من التراب‪،‬‬
‫ً‬
‫خانقة الطفل في فمها‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫تلتف حول البرج‬ ‫واألفعى‬
‫أها!‬
‫تلعب حول منازلنا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الحرب‬
‫َ‬ ‫أرى‬
‫أها!‬
‫الحرب‪ ،‬كينونة المتحاربين‪ ،‬ودم الفكرة‪.‬‬
‫َ‬ ‫أرى‬
‫أها!‬
‫أرى األبدية مع الرائي عبر نافذة الحانة القديمة‪.‬‬
‫أها!‬
‫أمي تشتري‪َّ ،‬‬
‫عدة سنوات‪ ،‬من فرن الزقاق‪.‬‬
‫أها!‬
‫إخوتي يُح ّنطون أرواحهم في فكرة ال ُهو َّية‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫ثالث قصائد‬

‫أها!‬
‫بسكين‪ ،‬ثم ي َّتجه نحو الموت من دون رغبة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أبي يقطع رأس الحرب‬
‫أها!‬
‫أرى خمس زهرات على الرصيف‪ ،‬وفي جانبها خنجر ّ‬
‫ملطخ بالدماء‪.‬‬
‫أها!‬
‫أرى طفلًا يخرج من المقبرة‪ ،‬وهو يغني أغنية غامضة‪.‬‬
‫أها!‬
‫الطفل يختفي عن أنظاري فجأة بعد أن ينهي أغنيته‪.‬‬
‫أها!‬

‫قصائد غير منشورة في كتاب‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫جمانة حداد‬

‫مقطع من قصيدة‬

‫جيولوجيا األنا‪ ‬‬

‫ٌ‬
‫إنسان عارٍ»‬ ‫«القصيدة‬
‫بوب ديالن‬

‫وتسعمئة وسبعين‬
‫ٍ‬ ‫ألف‬
‫السادس من شهر كانون األول‪ ،‬من سنة ٍ‬
‫ُ‬ ‫أنا اليو ُم‬
‫ُعيد الظهر‬ ‫ُ‬
‫الساعة األولى ب َ‬ ‫أنا‬
‫ُ‬
‫صرخات أمّي تلدني‬
‫ُ‬
‫وصرخاتها تلدها‬
‫رحمُ ها تقذفني ألخرج م ّني‬
‫وع ََر ُقها ّ‬
‫يحقق احتمالي‬
‫ُ‬
‫صفعة الطبيب التي أحي ْتني‬ ‫أنا‬
‫ْ‬
‫حاولت إحيائي قد ْأردتني)‬ ‫صفعة الحقة‬
‫ٍ‬ ‫ُّ‬
‫(كل‬
‫علي‬ ‫ُ‬
‫عيون العائلة َّ‬ ‫أنا‬
‫ّ‬
‫والجد والعمّ ة والخالة‬ ‫ُ‬
‫حدقات األب‬ ‫أنا‬
‫ُ‬
‫شاهد المح َت َملة‬ ‫وأنا ال َم‬
‫ُ‬
‫والجدران الوراء‬ ‫والستائر الوراء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الستائر تنزاح‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أنا‬
‫لكل ما هو وراء‬ ‫يد ِّ‬ ‫وأنا التي ال اس َم وال َ‬
‫المعل ُ‬
‫قة تمائ َم حول عنقي‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫الفراغات‬ ‫ُ‬
‫المجهضة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫المرجوّة م ّني‪ ،‬األحال ُم‬ ‫ّ‬
‫التوق ُ‬
‫عات‬ ‫أنا‬
‫األحمر الضي ُّق‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫المعطف‬ ‫وأنا‬
‫ُ‬
‫بكيت‬ ‫َّ‬
‫كلما ارتدي ُته‬

‫‪38‬‬
‫جيولوجيا األنا‬

‫كل ضيّق ال يزال ّ‬


‫يبكيني‬ ‫أنا ُّ‬
‫ٍ‬
‫ذات الشعر الكستنائي والعينين البالستيكيتين‬ ‫ُ‬
‫الدمية ُ‬ ‫وأنا‬
‫ُ‬
‫رفضت أن أهدهدني‬ ‫ُ‬
‫المنبوذة تلك وقد‬ ‫ُ‬
‫الدمية‬ ‫أنا‬
‫ُ‬
‫المنبوذة تلك وال تزال ّ‬
‫تنز دمًا في قعر الرأس‬
‫(قطرتين في اليوم العادي‪ ،‬وثالثًا أيا َم العطل واألعياد)‬
‫معلمتي‬ ‫الثقب الحزين في جوارب ّ‬ ‫ُ‬ ‫أنا‬
‫إلي كعتاب هابيل في ضمائري‬ ‫ال يزال ّ‬
‫يحدق َّ‬
‫فقرها ّ‬
‫وقلتي‬ ‫ّ‬
‫يحدق ليروي َ‬
‫وإرهاب يأسها من الحياة‬
‫َ‬ ‫نفا َد صبري‬
‫ُ‬
‫جدول الضرب ولم أتقنه حتى الساعة‬ ‫أنا‬
‫ُ‬
‫االثنان المجموعُ هما واحد‪ ،‬دائ ًما واحد‬ ‫أنا‬
‫ّ‬
‫الخط الموارب‪ ،‬ودائ ًما الموارب‬ ‫ُ‬
‫نظرية‬ ‫أنا‬
‫ُ‬
‫التطبيقات‬ ‫أنا‬
‫أنا كرهي للتاريخ للجبر والفيزياء‬
‫ً‬
‫طفلة‪ ،‬بأن األرض تدور حول قلبي‬ ‫وأنا إيماني‪،‬‬
‫وقلبي حول القمر‬
‫ُ‬
‫أكذوبة بابا نويل‬ ‫أنا‬
‫ّ‬
‫وأصدقني إلى اليوم‬
‫ُ‬
‫وكنت أحلم بأن أصيرها‬ ‫ُ‬
‫رائدة الفضاء‪،‬‬ ‫أنا‬
‫جدتي المنتحرة‬ ‫ُ‬
‫تجاعيد ّ‬ ‫وأنا‬
‫أنا جبيني متك ًئا على حضنها الناقص‬
‫الصبي (هل كان اسمه جاك؟) الذي ّ‬
‫شدني من شعري‪ ،‬والذ بالهرب‬ ‫ّ‬ ‫أنا‬
‫أنا الذي أبكاني فأحبب ُته أكثر‬
‫أنا‬
‫ّ‬
‫قطتي الصغيرة‬
‫اجة ابن الجيران التي دهستني ولم أحتجّ‬ ‫در ُ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫(قد ُ‬
‫بعت أرواح قطتي لقا َء نظرةٍ من ابن الجيران الوسيم هذا)‬
‫ُ‬
‫فاتحة رذائلي‬ ‫ُ‬
‫االبتزاز‬ ‫أنا‬

‫‪39‬‬
‫جمانة حداد‬

‫ُ‬
‫الحرب‬ ‫وأنا‬
‫وج َّثة الرجل التي جرجرها المقاتلون أمامي‬
‫ور ْج ُله المخلوعة تحاول اللحاق به‬
‫ِ‬
‫أنا‬
‫ُ‬
‫وقرأتها‬ ‫ً‬
‫طفلة‪،‬‬ ‫الكتب التي لم تالئمني‪،‬‬
‫ُ‬
‫(والتي اآلن أكتبها وال تالئم)‬
‫أنا مراه ُ‬
‫َقة نهديَ األيمن‬
‫ُ‬
‫حكمة األيسر‬ ‫وأنا‬
‫ُ‬
‫جبروت النهدين تحت القميص الضيّق‪،‬‬
‫ثم وعيي لجبروتهما وهذا بد ُء االنحدار‬
‫ّ‬
‫المتأخر‬ ‫أنا مللي السريع‪ ،‬سيجارتي األولى عنادي‬
‫مر ْت‬ ‫ُ‬
‫الفصول ّ‬ ‫أنا‬
‫ُ‬
‫حفيدة الطفلة التي كنت‪:‬‬
‫أنا افتقارها إلى غضبي وخيباتي وأظفاري ومتاهاتي وشهواتي وأكاذيبي وحروبي‬
‫وندوبي وانحرافاتي‬
‫ُ‬
‫الحنان أحمله رغ ًما مني‪ ،‬وأنا إلهي وجشعي وغياباتي المألى بموتايَ ‪ ،‬وأنا‬ ‫أنا‬
‫كل فجر‬ ‫ُ‬
‫زفراتهم األخيرة على وسادتي َّ‬ ‫الالينامون وقتاليَ ّ‬
‫الالينامون‪ ،‬وأنا‬ ‫موتايَ ّ‬
‫وأنا‬
‫َ‬
‫الوقت‪،‬‬ ‫ّ‬
‫جبن إلى أسوأ‪ ،‬أنا انتظاراتي الالتَ ْفهَمُ‬ ‫تأففي وعدوايَ وخطري وهربي من‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫مت‪ ،‬وصمتي الذي لم أتقنه بعد‬ ‫المسافة‪ ،‬أنا صمتي الذي ّ‬
‫تعل ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫والالتَ ْفهَمُ‬
‫تدب فوق روحي كحشرة‬
‫وحدتي ّ‬
‫كنت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫حفيدة الطفلة التي ُ‬ ‫أنا‬
‫افتقاري إلى الطيش الغافل‬
‫وإلى كمالها يصغي إلى ذاته‬
‫ُ‬
‫كارثة الحب‬ ‫أنا‬
‫وأقع‬
‫أنا ُ‬
‫ذئاب الشعر تركض في دمي‬
‫ً‬
‫حافية‪ ،‬معها أركض‬ ‫وأنا‪،‬‬

‫‪40‬‬
‫جيولوجيا األنا‬

‫ُ‬
‫الباحثة عن صيّادها‬ ‫أنا‬
‫ال تجد صيّادها‬
‫ْ‬
‫أومأت إلى شهوتي‬ ‫َّ‬
‫أنا مياهي تفور كلما شهوتي‬
‫ب األلسنة ترتوي بفورانها‬ ‫أنا تَ ُ‬
‫عاق ُ‬
‫ً‬
‫مستبقة جوعَ األلسنة‬ ‫ُ‬
‫حمرة شفاهي‬ ‫أنا‬
‫ُ‬
‫وذاكرة حنقها‪،‬‬ ‫ذاكرة جروحها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وأنا ً‬
‫أيضا‪ :‬أظفاري وما تحتها وما به تنوء‪ ،‬وأنا‬
‫ُ‬
‫وذاكرة قوتها التي ال تحتاج إلى برهان‪ ،‬وأنا ق َِطعُ اللحم الصغيرة‬ ‫ُ‬
‫وذاكرة ضعفها‪،‬‬
‫مُغ َت َن ً‬
‫مة من ظهورهم في ِّ‬
‫كل نشوة‬
‫وأنا أسناني‬
‫وفخذايَ الشهيتان‬
‫ورغبات داعرة‬
‫وأنا ذنوبي وكم أحبّها‬
‫وأنا ذنوبي وكم تشبهني‬
‫وأنا‬
‫صديقتي التي خانتني‬
‫وشكرا‬
‫ً‬
‫وأنا عمودي الفقري نابحً ا‬
‫في وجوه الغادرين‬
‫وأنا عينايَ تريان في العتمة التي عتمتي‬
‫وأنا وجعي‬
‫(نعم وجعي)‬
‫وأنا صرختي في المنتصف‬
‫(أكتمها في اللحظة المناسبة)‬
‫وأنا ما أخفيه‬
‫ولكن أخفيه‬
‫ْ‬ ‫ما ال أريد أن أخفيه‬
‫وأنا ما أريد أن أخفيه وال‬
‫أنا ْ‬
‫«قل لي كم تحبّني»‬
‫وأنا «ال ّ‬
‫أصدق»‬

‫‪41‬‬
‫جمانة حداد‬

‫الرأس موصولًا بالجسد مفصولًا عن الجسد‬


‫ُ‬ ‫أنا‬
‫وأنا موتي المبكر‬
‫(أقول ذلك بال دراما)‬
‫ّ‬
‫سأخلفه ورائي من خراب‬ ‫وما‬
‫ُ‬
‫الجنون والعد ُم اللذان في األمام‬ ‫وأنا‬
‫وأشياء صغيرة تافهة تفضح‪:‬‬
‫ُ‬
‫الكتابات تحت زجاج الطاولة‪ ،‬ابتساماتي‬ ‫ُ‬
‫قصاصات الرسائل‪،‬‬ ‫ُ‬
‫البطاقات البريدية‪،‬‬
‫في الصور القديمة‬
‫ُ‬
‫مجموع الرجال الذين أحبّوني ولم أحببهم‪،‬‬ ‫أنا‬
‫أنا الذين أحبب ُتهم ولم يحبّوني‪ ،‬والذين لم أحببهم ولم يحبّوني‪ ،‬والذين تو ّه ُ‬
‫مت‬
‫أني أحب ّهم‪ ،‬وتو ّهموا أن ال يحبّوني‬
‫أحب‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫مجموع الرجل الواحد الذي‬ ‫أنا‬
‫ُ‬
‫المرأة تدمع صورتها في صورة عرسها (في الصورة فقط)‬ ‫أنا‬
‫أنا انكساراتي وهزائمي والبطوالت الباطلة‬
‫كنت ح ًقا نجوت)‬
‫أنا نجاتي من الغرق في أحد األيام (إذا ُ‬
‫ُ‬
‫عفونة كسرة الخبز فوق مائدتي‬ ‫أنا‬
‫ُ‬
‫ومئات السنين التي لزمتني ألخلق نفسي‬ ‫أنا األيا ُم السبعة‪،‬‬
‫وصفير القذائف‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وإسفلت الطريق‬ ‫وغبار المصانع‬
‫ُ‬ ‫واألشجار‬
‫ُ‬ ‫والطيور‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫األسماك‬ ‫أنا‬
‫وأنا الرياحُ والعناكب ولحم الثمار‬
‫كوكب‬
‫ٍ‬ ‫كل قارةٍ في ِّ‬
‫كل‬ ‫بلد‪ ،‬فوق ِّ‬ ‫جبل من ِّ‬
‫كل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بركان على رأس ِّ‬
‫كل‬ ‫ٍ‬ ‫أنا ُّ‬
‫كل‬
‫كل كوكب‬‫كل قارةٍ في ِّ‬‫فوق ِّ‬
‫بلد‪َ ،‬‬
‫كل ٍ‬‫أرض من ِّ‬
‫كل ٍ‬ ‫كل حفرةٍ في قعر ِّ‬
‫في ِّ‬
‫ُ‬
‫اللحظة لزمتني ألدمّرني‬ ‫أنا‬
‫وأجسادي‬
‫وشوارع مدينتي الرطبة‬
‫وأنا َمن كانت وأنا َمن كان يمكن أن تكون‪،‬‬
‫ّ‬
‫تسدد أقساط المدرسة‬ ‫ْ‬
‫امتنعت أمي عن شرائه‪ ،‬كي‬ ‫ُ‬
‫األزرق حين‬ ‫ُ‬
‫الفستان‬ ‫وأنا‬
‫وأنا مكتبة أبي وعيناه ونزق قلبه‬
‫أقل‪ ،‬والشفا ُه التي لم أقب ّْل‬
‫والكلمات التي لم ْ‬
‫ُ‬ ‫أمنح‪،‬‬ ‫ُ‬
‫النظرات التي لم ْ‬ ‫أنا‬

‫‪42‬‬
‫جيولوجيا األنا‬

‫ما لن ّ‬
‫أخلفه ورائي‪:‬‬
‫حماقة ولم أرتكبها‬
‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫كل‬
‫ذهاب ولم ْ‬
‫أعد منه‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫كل‬
‫وأنا‬
‫ابنتي التي لم ألدها‬
‫ُ‬
‫والمرأة التي سوف أكون‬
‫ُ‬
‫المرأة تقري ًبا‬ ‫أنا تلك‬
‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫وأنا تقري ًبا ذلك‬
‫وأنا‬
‫نجحت في أالّ أكونه تمامًا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الرجل ذاك الذي‬
‫وينقذني م ّني َّ‬
‫كل يوم‬
‫ُ‬
‫لست عليها اآلن‬ ‫وأنا َمن‬
‫والناس الذين كنتهم أمس‬
‫ُ‬ ‫وأنا األشيا ُء‬
‫و َمن أكونهم في الغد‬
‫ويصنعونني‪.‬‬

‫من ديوان قيد االنجاز بعنوان «كتاب الجيم»‬

‫‪43‬‬
‫حسين العبري‬

‫فصل من رواية‬

‫المعلَّقة األخيرة‬
‫ُ‬

‫نظر عبداهلل إلى الساعة في معصمه‪ ،‬كانت قد تجاوزت الثامنة‪ ،‬ها هو إذن‬
‫يتأخر عن عمله‪ .‬لقد أسقط في يده حين رأى أن زميليه في العمل‪ ،‬محمد وسالم‪،‬‬
‫قد وصال قبله‪ .‬لقد كان ناد ًرا ما يتأخر على العمل‪ ،‬وقد ضبّط نفسه ليصل دائما‬
‫قبل الثامنة بقليل‪ .‬لم يكن ذلك بسبب أنه يحب عمله هذا‪ ،‬أو يحب ما يفعله طيلة‬
‫اليوم في مكتبه‪ ،‬لكنه مع هذا ال يمكن أن يكون كار ًها لعمله أيضا‪ .‬إن الميزة الوحيدة‬
‫ً‬
‫بعيدا عن ضوضاء المراجعين‪ ،‬وليس من اختصاصه أو‬ ‫المتأتية من عمله أنه يبقى‬
‫من اختصاص زميليه أن يقوموا بأشياء تتطلب عملًا سريعًا وعاجلًا‪.‬‬
‫انتصب عبداهلل طويلًا أمام الالئحة بعد أن سلم على زميليه محدقًا في قصاصات‬
‫األوراق المثبّتة‪ .‬كان الحبل المشنقة منتص ًبا في صورة كبيرة على جسر القرم‪،‬‬
‫متوترا‪ .‬حك جسده أكثر من‬
‫ً‬ ‫وثمة حبل آخر منتصب على الجسر الجديد‪ .‬كان‬
‫مرة‪ ،‬وشعر أن ثمة إحساسا بألم خفيف يأكله على الكتفين وأعلى الظهر‪ ،‬وقد بدأ‬
‫توتره يظهر على هيئة عرق خفيف بدأ ينتح على ظهره أولًا ثم على رقبته‪ .‬فكر‪ :‬ال‬
‫بد أن يحاول قدر اإلمكان أن يهدئ من نفسه وأن ال يظهر شيئا من قلقه لزميليه‪،‬‬
‫لكن اليوم‪،‬‬
‫مؤخرا أنه على غير ما يرام‪ْ .‬‬
‫ً‬ ‫رغم معرفته أنهما ال بد أن يكونا قد الحظا‬
‫اليوم هو مختلف تمامًا‪ .‬وانتبه إلى أنه كان يلبس َم َص َّر المناسبات األزرق الغامق‬
‫فزادت حرارة جسده وبدأت حكة داخلية تأكله‪.‬‬
‫كان ما يزال منتص ًبا أمام الالئحة حين قال له سالم‪« :‬يجب أن تغلق َّ‬
‫ملف هذه‬
‫القضية يا عبداهلل!» نظر عبداهلل‪ ،‬متعجِّ ًبا‪ ،‬إلى سالم‪ ،‬وحاول أن يفهم ماذا يعني‬
‫بقوله «يجب أن تغلق‪ ».‬هل حدث شيء ما أخيرا‪ ،‬وهل يعرف زميله شيئا جديدا؟‬
‫هل الحظ التوتر الحاصل داخله‪ ،‬وبالتالي كان يحاول أن ينصحه بهدوء أنه قد حان‬

‫‪44‬‬
‫المع َّلقة األخيرة‬
‫ُ‬

‫اآلوان‪ ،‬لترك هذا العمل الهامشي والنظر في األمور األهم؟ كانت المشانق ما تزال‬
‫ً‬
‫متأرجحة في الهواء‪ ،‬وكانت قصاصات الجرائد تتداخل في عينيه‬ ‫َّ‬
‫تتدلى في دماغه‪،‬‬
‫بائسا‪ ،‬ما الذي يجب أن يفعله؟ ال يستطيع ًّ‬
‫حقا أن يعلم زميليه بما يجري‬ ‫وتحيله ً‬
‫في داخله‪ ،‬ال ألنه ال يريد ذلك فحسب‪ ،‬بل أيضا ألنه ال يعرف ًّ‬
‫حقا ما الذي يجري‬
‫داخله‪ .‬نظر إلى زميليه نظرات بلهاء ال معنى لها‪ ،‬ثم أمسك بإحدى القصاصات وأزال‬
‫الد ُّبوس عنها‪ ،‬ثم فجأة التفت إلى زميليه‪« :‬نعم‪ ،‬حان الوقت ألن نغلق هذه القضية‪.‬‬
‫ً‬
‫جديدا‪».‬‬ ‫بد أن نفعل شي ًئا‬ ‫سوف أزيل َّ‬
‫كل هذه القصاصات‪ .‬ال َّ‬
‫تعود‬
‫تعجب زمياله من فعله لكنهما عادة ال يختلفان معه في شيء؛ فمع مرور الوقت َّ‬
‫َّ‬
‫كل واحد منهم أن يحترم رغبات اآلخرين‪ ،‬وأن يدرك مزاياهم وعيوبهم‪ ،‬ووصلوا‬ ‫ُّ‬
‫كل واحد منهم يعمل مع اآلخرين‪ ،‬ومع نفسه‬‫إلى حالة من التأقلم والتواطؤ تجعل َّ‬
‫في ذات الوقت‪َّ .‬‬
‫وفكر عبداهلل أن محمد وسالم سوف يسأالنه أال يفعل ذلك‪ ،‬أو أنهما‬
‫لكن شي ًئا من هذا لم يحدث‪ ،‬ببساطة أل َّنهما انهمكا‬
‫سيعترضان بطريقة أو بأخرى‪َّ ،‬‬
‫في أحاديث أخرى بينهما بدت أكثر أهمية‪.‬‬
‫عاد إلى مكتبه يحمل قصاصات الجرائد والدبابيس‪ ،‬وبدأ في التخريم‪ .‬أخرج الملف‬
‫الذي كان قابعًا في أحد األدراج‪ ،‬وبدأ في تصفيف القصاصات‪ .‬كان قلقه واضحً ا في‬
‫تململه وعدم قدرته على الجلوس على كرس ِّيه طويلًا كما هي عادته‪ ،‬وفي تحريكه‬
‫بد أنّه يعتمل‬ ‫رجليه بحركات سريعة غير هادفة‪ .‬إنه ِّ‬
‫يفكر اآلن أن شيئا قويا ال َّ‬
‫َّ‬
‫مجددًا إلى الالئحة‪،‬‬ ‫داخله‪ ،‬لك ّنه يجب أن يغلق هذه القضية التي طال أمدها‪ .‬نظر‬
‫َّ‬
‫ومد يده وأخذ الملف ووضعه في الدرج حيث كان‪.‬‬
‫لم يبد على محمد وسالم أنهما كانا يرغبان في إثارة موضوع حبال المشانق‪،‬‬
‫فبالنسبة إليهما كانت القضية منتهية‪ ،‬حتى لو كان ثمة شيء يمكن أن يحدث‬
‫ملحة في وضع االحتماالت ومناقشتها‪.‬‬
‫في المستقبل‪ ،‬فلم تكن تراودهما أي رغبة َّ‬
‫تعوده منذ مدة طويلة‪ ،‬وأنه بهذا‬ ‫ً‬
‫جديدا غير ما َّ‬ ‫صرا‬
‫لقد الحظا أن عبداهلل يلبس َم ًّ‬
‫بعدة أعمال غريبة عليه‪ ،‬فهو قد تأخر عن موعد دوامه‬ ‫يكون قد قام في يوم واحد ّ‬
‫وأخيرا كان يبدو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مختلفا‪،‬‬ ‫صرا‬
‫بحيث أنهما حضرا قبله إلى المكتب‪ ،‬وكان يعتمر َم ًّ‬
‫كل القصاصات‬ ‫كله أن يقوم بجمع ِّ‬‫كل ذلك القلق الواضح‪ .‬لكن األغرب من هذا ِّ‬
‫عليه ُّ‬
‫أمرا ما يعتمل في‬
‫إن ً‬‫هكذا من على الالئحة من غير أن يتردَّد بمجرد اقتراح بسيط‪ّ .‬‬
‫ً‬
‫مريضا؟ أم أن القضية المهمة بدأت تشغله وتقلقه إلى هذه الدرجة؟‬ ‫داخله! أيكون‬

‫‪45‬‬
‫حسين العبري‬

‫بعيدا‪ ،‬فإ َّنه لم يذهب إلى مكتبه مباشرة‪ ،‬كما هي العادة‪ ،‬بل ظل منتص ًبا‬
‫إن هذا ليس ً‬
‫أمام الالئحة قبل أن يقوم بنزع القصاصات‪ ،‬وهذا ع ََرض واضح يدل على أنه مريض‬
‫بهذه القضية‪ .‬نعم‪ ،‬هناك شيء يتغ َّير في داخله‪ ،‬وهما يعلمان أنه لن يفسر لهما األمر‬
‫حتى لو سأاله‪ ،‬ففضال متواطئين على أن يعطياه هو القرار‪ ،‬إن كان يريد إخبارهما‬
‫لكن عبداهلل قطع هذه التساؤالت حين قام من على المكتب وخرج‪.‬‬
‫بما يجري‪َّ .‬‬
‫تجول عبداهلل في أروقة الوزارة غير مدرك‬
‫لم يحدث شيء يذكر بعد ذلك‪ ،‬فقد َّ‬
‫ًّ‬
‫حقا ما كان يفعله‪ .‬والحق أن حبال المشانق كانت قد عادت للتأرجح داخله‪ ،‬وكانت‬
‫المرة تتخذ َّ‬
‫كل شيء وأي شيء للتشبث‪ :‬شاهدها تتأرجح من على الجسور‪،‬‬ ‫هذه ّ‬
‫ومن على لوحات الطرق‪ ،‬ومن على شرفات األبنية‪ ،‬بل إنه كان يخيل إليه أنه سوف‬
‫يجد مشنقة عند ِّ‬
‫كل باب من أبواب الوزارة وعلى ساللمها‪.‬‬
‫مرتين خرج إلى المقهى الخشبي المنتصب خلف الوزارة‪ ،‬وحاول أن يأكل شي ًئا‬ ‫ّ‬
‫لك َّنه لم يجد شه َّي ًة لفعل ذلك‪.‬‬
‫يفكر في المستهتر ذاك‪ ،‬ال َّ‬
‫بد أنه يريد أن يُوصل رسالة ما إلى الناس‪ ،‬وإليه‬ ‫كان ِّ‬
‫كله بحكمة‪ ،‬وهو يريد أن يقول شي ًئا‪.‬‬ ‫شخص ًيا‪ .‬ال‪ ،‬ليس هو مجنونًا‪ ،‬إنه يفعل هذا َّ‬
‫بد لهذا الرجل أن يكتب‬ ‫لكن ماذا يمكن أن تكون رسالته؟ فكر عبداهلل أنه كان ال َّ‬ ‫ْ‬
‫شي ًئا ما في الجرائد‪ ،‬كي يقول في النهاية الرسالة التي يريدها‪ .‬حس ًنا‪ ،‬قد يكون‬
‫غير قادر على فعل ذلك ألن الشرطة سوف تحتجزه بالتأكيد‪ ،‬لكن من أين له‪ -‬بعد‬
‫ُّ‬
‫التأكد أن رسالته قد وصلت إلى اآلخرين؟ ال يبدو أن‬ ‫ِّ‬
‫كل هذه الحبال المشانق‪-‬‬
‫بمس‪ ،‬أو أنه يمزح‬
‫أحدا فهم أي شيء سوى أن ذلك المستهتر مجنون‪ ،‬أو مصاب ّ‬
‫ً‬
‫خائفا بل إن الناس كانت متش ِّوقة فقط لمعرفة ما هو‬ ‫مزحات ساذجة‪ ،‬فال أحد يبدو‬
‫مصير ذلك المستهتر‪ .‬أما قضية المشنقة هذه فإنها لم تكن ترمز ألي شيء‪ ،‬وإنها لم‬
‫تكن موجودة أصلًا في تاريخ البالد‪ .‬إن المدانين بالجرائم ما كانوا يُقتلون بطريقة‬
‫الشنق‪ .‬ال شيء من هذا‪ ،‬ربما أُعدموا بالبندق َّيات‪ ،‬برميهم من على الشرفات‪ ،‬بدفنهم‬
‫لكن بمشنقة؟ بحبل؟ بتعليقهم على المأل؟ ال‪ ،‬إن ذلك أمر بعيد ًّ‬
‫جدا عن هذه‬ ‫أحياء‪ْ ،‬‬
‫المنطقة من العالم‪.‬‬
‫فكر عبداهلل باحتماالت ما يمكن أن يكون نهاية حقيقية لهذا الموضوع‪ .‬هل‬‫َّ‬
‫يبعث الرجل رسالة يقول فيها إنه كان فعل ذلك لسبب معين وإنه متأسف؟ بالطبع‬
‫يستطيع حتى أال يتأسف‪ ،‬بل يضع رسالته تلك على الجسر وينصرف‪ ،‬فيعرف ال َّناس‬

‫‪46‬‬
‫المع َّلقة األخيرة‬
‫ُ‬

‫يكلف الرجل شي ًئا‪ ،‬وسيكون قد أكمل‬ ‫أن القضية غدت منتهية‪ .‬إن ذلك أمر لن ِّ‬
‫القضية التي بدأها‪ .‬أما أن يجعل األمور َّ‬
‫معلقة هكذا وال أحد يستطيع أن يتكهَّن متى‬
‫وأين ستتدلى المشنقة التالية‪ ،‬إن هذا هو حقا االستهتار بعينه‪.‬‬
‫لقد كان طيلة هذا اليوم يفكر بنوع من الحقد على الرجل المستهتر‪ ،‬صاحب‬
‫المشانق‪ ،‬لك َّنه اآلن بدأ في الشفقة عليه‪ .‬ال بد أن يكون رجلًا ذا شأن حتى يفعل َّ‬
‫كل‬
‫كثرا ربما انطبقت‬
‫هذا‪ .‬إننا ال نحترمه حين ننعته بلقب معتوه أو مستهتر‪ .‬إن آخرين ً‬
‫لكن هذا الرجل ذو شأن آخر حت ًما ليفعل َّ‬
‫كل ما فعل‪.‬‬ ‫عليهم هذه الصفات‪َّ ،‬‬
‫قام محمد من على مكتبه وأعلن أنه ذاهب‪ .‬كانت الساعة ما تزال الثانية‬
‫وعشر دقائق‪ .‬إنه الوقت الذي يخرج فيه‪ .‬نظر سالم إلى عبداهلل‪ ،‬وبدأ في تجميع‬
‫توجه إلى عبداهلل وسأله إن كان بخير‪ ،‬فرد‬ ‫أغراضه هو اآلخر‪ ،‬ثم قبل أن يخرج َّ‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫«كل األمور تمام‪ ».‬كان ذلك غري ًبا‪ ،‬فكر عبداهلل‪ .‬هل كان سالم محرجً ا‬ ‫عبداهلل‪:‬‬
‫أن هذا معناه أنه يعرف ما يشغل‬ ‫عما يشغله منذ الصباح؟ أم ّ‬
‫من أن يسأل عبداهلل َّ‬
‫عبداهلل‪ ،‬لك ّنه أراد فقط أن يطمئن عليه؟ وأيًّا كان األمر‪ ،‬فإن عبداهلل ر َّدد أن‬
‫ً‬
‫متوعكا فقط‪ .‬خرج سالم‬ ‫«كل شيء على ما يرام» وأنه ال داعي للقلق‪ ،‬فقد كان‬ ‫َّ‬
‫من المكتب بعد أن ألقى نظرة ذات معنى على الالئحة الفارغة من القصاصات‪.‬‬
‫وحيدا خلف مكتبه بضع دقائق غارقًا في تساؤالته َّ‬
‫عما‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫ظل عبداهلل في الغرفة‬
‫ينبغي فعله في مثل هذه األوقات العصيبة‪ .‬إنه يكاد ينفجر من الداخل‪ ،‬وهو ال يعرف‬
‫جن؟ أو أصابته لوثة؟ لو أنه‬
‫حقا ما الذي يدور هناك من أحداث‪ ،‬أيكون فعلًا قد َّ‬‫ًّ‬
‫بمس من الجان‪ ،‬أو أن أحدهم قام‬
‫شك كاآلخرين أنه مصاب ٍّ‬‫كان في قريته اآلن لكان ّ‬
‫ً‬
‫جسدا بال عقل‪ ،‬آلة من غير توجيه‪ ،‬أو آلة يوجهها‬ ‫بإلقاء سحر عليه فجعله هكذا‬
‫ساحر من بعد‪.‬‬
‫الملف َّ‬
‫وقلب القصاصات‪ ،‬وقام بإخراجها واحدة بعد األخرى‪ ،‬وهو‬ ‫َّ‬ ‫فجأة أخرج‬
‫يحاول أن يرى إن كان بإمكانه هو عبداهلل بن محمد معرفة من يكون هذا الرجل‪،‬‬
‫بكل هذا القلق‪ .‬كيف يمكن لهذا الرجل أن ِّ‬
‫يفكر؟ وما‬ ‫الذي أقلق حياته وقذف عليه ِّ‬
‫هي الغرائز التي تحركه؟ لماذا يسعى هكذا إلى تدمير العالم وزرع الرعب في ِّ‬
‫كل‬
‫وأخيرا‪ ،‬من دون أن يعرف لماذا‪ ،‬قام عبداهلل بإعادة تثبيت القصاصات على‬
‫ً‬ ‫مكان؟‬
‫الالئحة بالدبابيس‪ ،‬ونظر إليها مل ًّيا إلى أن كان موعد خروجه من الوزارة‪ّ .‬‬
‫هدأت‬
‫ً‬
‫سيطرة‬ ‫هذه الحركة من ثورانه‪ ،‬وأرجعت إليه شي ًئا من التوازن‪ .‬كان اآلن أكثر‬

‫‪47‬‬
‫حسين العبري‬

‫بعد قل ًقا‪ ،‬وبدا أن المشانق اختفت من وعيه‪ ،‬فقد رجع إلى‬


‫على أحاسيسه‪ ،‬ولم يعد ُ‬
‫حركاته اآللية المدروسة التي عهدها‪ ،‬وأغلق باب المكتب‪ ،‬ومشى إلى سيارته‪ .‬لم‬
‫ير مشانق أو حبالًا َّ‬
‫معلقة في الفراغ‪ ،‬وال على سقوف المواقف‪ .‬أدار المحرك وقفل‬
‫ً‬
‫عائدا إلى بيته‪ ،‬وهو يحسب أنه قد برأ تمامًا من هذه القض َّية المرض‪.‬‬
‫َّ‬
‫مجددًا!‪ ،‬لن‬ ‫كان الزحام يزداد َّ‬
‫كلما اقترب من جسر القرم‪ .‬وفكر بامتعاظ «ال‪ ،‬ليس‬
‫يأتي رجل المشانق اآلن‪ .‬إن هذا ليس توقيته‪ .‬لن يكون هو رجل المشانق إن جاء‬
‫اآلن‪ .‬سيكون قد غ َّير من سلوكه‪ ،‬ويكون قد خدعنا جميعًا!» وهجمت عليه أفكار‬
‫مرة أخرى وبدفع أكبر‪ .‬كانت األفكار تتقاذف داخله بعنف‪ .‬أيعقل‬
‫الحبل المشنقة ّ‬
‫أخيرا بتعليق شيء ما على‬
‫ً‬ ‫أن يكون فعلها اآلن وهنا؟ أيعقل أن يكون قد قام الرجل‬
‫الجسر‪ ،‬في مثل هذا الوقت؟‬
‫ّ‬
‫انتابته األفكار جزافًا‪ ،‬وبدأت القضية تتصاعد في داخله ثم انبثقت كل القصاصات‬
‫أمام عينيه بصورها وبأحداثها وبأسماء واضعيها والمص ّورين‪ .‬كان السائقون في‬
‫سيّاراتهم يرقبون ما سينفتح عليه المشهد حين يقتربون من الجسر‪ ،‬أما هو فكان‬
‫يريد أن يذهب‪ ،‬أن يختفي سريعًا من هذا المكان من غير أن يشاهد شي ًئا‪َّ .‬‬
‫فكر‬
‫أنه سيكون بخير لو هرب من هذا ِّ‬
‫كله‪ ،‬أن يتحول إلى الخط األيمن‪ ،‬وأن ينفذ عبر‬
‫الدوار بحوالي ثالثة كيلومترات‪ ،‬ويتجِّ ه نحو الشارع‬
‫مخرج الشارع‪ ،‬الذي يوجد قبل َّ‬
‫الفرعي الذي يخترق مدينة السلطان قابوس‪ ،‬ومن ثَمّ يعود أدراجه إلى الشارع الرئيس‬
‫دوار المجمّ عات‪.‬‬
‫عبر َّ‬
‫لكن‪ ،‬اآلخرون كانوا غير ملتفتين له‪ ،‬بل إن الجميع كان‬
‫بدأ في إعطاء اإلشارة‪ْ ،‬‬
‫ّ‬
‫يعلق عينيه في الفضاء في محاولة لمعرفة ما يجري هناك عند الجسر‪ .‬وكاد س َّيارة‬
‫ارة أمامه حين أراد االلتفات‪ ،‬لك َّنه في النهاية َّ‬
‫تمكن من الوصول إلى‬ ‫عبداهلل تصدم س َّي ً‬
‫الخط األيمن للشارع‪ .‬قاد س َّيارته عبر المخرج‪ ،‬م َّتجهًا نحو الشارع الداخلي لمدينة‬
‫السلطان قابوس‪ ،‬واستمر فيه باتجاه الشرق‪ .‬كان الشارع مزدح ًما لك َّنه استطاع أن‬
‫يتفرع منه الشارع المؤدي إلى الجسر‪.‬‬
‫يمر إلى الدوار القريب الذي كان َّ‬
‫لقد َّ‬
‫فكر عبد اهلل‪ ،‬بدلًا من أن يبتعد عن مشاهدة حبل المشنقة‪ ،‬الذي ربما يكون‬
‫متدل ًيا هناك على جسر القرم‪ ،‬فإنه اقترب اآلن إلى درجة أكبر من الجسر‪ ،‬لك َّنه‬
‫الدوار‪ ،‬ويتجِّ ه‬
‫لن يستطيع مشاهدة شيء من هنا‪ .‬كان عليه فقط أن يدور نصف َّ‬
‫مباشرة لألمام‪ ،‬وبال َّتالي يكون قد أفرغ قضية الجسر والحبال المشانق من عقله‬

‫‪48‬‬
‫المع َّلقة األخيرة‬
‫ُ‬

‫تمامًا لهذا اليوم‪ ،‬وسوف يتس َّنى له معرفة النهاية المتو َّقعة عن طريق التلفاز أو‬
‫كل شيء في الجرائد‪ ،‬حيث سيجلس‬ ‫كل ذلك إلى صباح الغد ويقرأ َّ‬
‫الراديو‪ ،‬أو يرجئ َّ‬
‫مرة أخرى عبداهلل بن محمد المبرأ من هموم هذا‬ ‫على كرس ِّيه‪ ،‬ويكون قد عاد ّ‬
‫الدوار ويتجّ ه لليسار‪ ،‬حيث‬
‫َّ‬ ‫يلف ثالثة أرباع‬ ‫العالم‪.‬فكر أن بإمكانه اآلن ً‬
‫أيضا أن َّ‬
‫يستطيع الصعود على الجسر‪ ،‬ويلقي نظرة أقرب إلى ما يحدث إن كان ثمة مشانق‬
‫وحبال متدلِّية‪.‬‬
‫يقرر اآلن وإال فاته الحدث‪ .‬ودار نصف‬ ‫بدا األمر مقل ًقا وال ّ‬
‫بد له بعد هذا أن ِّ‬
‫دورة على الدوّ ار وأكمل ثالثة أرباع الدورة‪ .‬لم يستطع أن يتجّ ه مباشرة في طريق‬
‫الهروب‪ ،‬ولم يستطع كذلك أن يتجّ ه إلى قلب الحدث‪ ،‬حيث الجسر‪ .‬ثم أنه دار‬
‫المرة أطلق لسيارته العنان‬
‫مرة أخرى‪ ،‬وأكمل نصف الدوار ثم ثالثة أرباعه‪ ،‬وهذه ّ‬
‫ّ‬
‫ومضى بعناد في اتجاه الجسر‪.‬‬
‫لم يستطع االستمرار طويلًا‪ ،‬فعند بداية الجسر كانت س َّيارة شرطة هناك‪ ،‬وكان‬
‫رجال شرطة ي َُلوُ َحان في األفق وهما يركضان‪ .‬كانت سيارتهما مفتوحة األبواب‬
‫ومركونة في الطريق وأضواؤها تلمع باألزرق‪ .‬استطاع عبداهلل أن يتب َّين ما يحصل‪.‬‬
‫كان رجال الشرطة يالحقان أحدهم‪ .‬إنه هو إذن‪ :‬ال بد أن يكون هو ذلك الرجل‬
‫البطل‪ ،‬الذي علق المشانق َّ‬
‫كل هذه الشهور‪.‬‬
‫أصبح عبداهلل متح ِّم ًسا ً‬
‫جدا وو ّد لو أنه أستطاع إلقاء نظرة على الجوار‪ .‬كان‬
‫اآلخرون في س َّياراتهم يرقبون المشهد بفضول‪ ،‬بينما خرج البعض ليرى بتفصيل‬
‫أكثر ما هو حاصل‪َّ .‬‬
‫فكر عبداهلل أن الشرطيين سيقومان بالقبض على الرجل حت ًما‪.‬‬
‫ونظر باتجاه الجسر‪ ،‬لم يكن يستطيع من موقعه هذا أن يرى ما إن كانت هناك أية‬
‫مشنقة أو حبل‪.‬‬
‫كان يلزم أن يخرج من سيارته ويذهب إلى أعلى الجسر حتى ي ّ‬
‫ُطل على الشارع‬
‫َّ‬
‫مجددًا ليعلق مشنقة‪ ،‬وإن‬ ‫الرئيس‪ .‬كان يريد أن يعرف ما إن كان الرجل قد جاء‬
‫كان قد َّ‬
‫علقها أم أنه جاء لينهي هذه القضية‪ .‬ال َّ‬
‫بد أنه هو اآلخر‪ ،‬مثل عبداهلل‪ ،‬قد‬
‫لكن الشرطة فاجأته‪.‬‬
‫أقلقه طول المدة‪ ،‬وأراد أن ينهي القضية َّ‬
‫شاهد الرجل البطل يركض نزولًا من الجسر‪ ،‬وعلى إثره رجال الشرطة‪ .‬حاول‬
‫بعض السائقين أن يعرقلوا الرجل لكنه كان سريعًا‪ ،‬وكان قد تخلص من نعليه‬
‫ورفع من دشداشته قليلًا‪ ،‬لكي يصبح قاد ًرا أكثر على العدو بسرعة‪ .‬اتجهت األنظار‬

‫‪49‬‬
‫حسين العبري‬

‫باتجاه المطاردة‪ ،‬واستطاع الرجل االنطالق خلف الس َّيارات‪ ،‬واالبتعاد باتجاه األشجار‬
‫للدوار الفرعي‪ .‬وراءه ثالثة رجال آخرون اآلن تركوا سياراتهم‬
‫والحشائش المجاورة َّ‬
‫ليساعدوا رجال الشرطة‪ ،‬مع أن األخيريْن كانا يصرخان فيهم أال يتدخلوا حتى ال‬
‫يوقعوا أنفسهم في المتاعب‪.‬‬
‫يحدق في عينيه‪.‬‬ ‫شاهد عبداهلل الرجل البطل قادمًا باتجاه السيارات وحاول أن ِّ‬
‫واستطاع لوهلة أن ينظر باتجاه عيني الرجل‪ ،‬ونظر الرجل إليه‪ .‬كان وجهه َّ‬
‫مغطى‬
‫بالعرق‪ ،‬حاسر الرأس وتتدلّى خصالت شعره ملتصقة على جبينه‪ .‬كان بو ّد عبداهلل‬
‫أن يفعل شي ًئا‪ ،‬وينقذ الرجل المطارد‪ ،‬لكن كيف؟ لو أن الطريق كان مفتوحً ا لربما‬
‫ً‬
‫بعيدا عن الجميع‪ ،‬وسيكون‬ ‫استطاع إدخاله إلى سيارته‪ ،‬واالنطالق بأقصى سرعته‬
‫قاد ًرا‪ ،‬بعد أن يطمئن الرجل ويستريح ويجفف عرقه‪ ،‬أن يسأله عن المغزى من ِّ‬
‫كل‬
‫السر الذي حدا به أن يقوم بهذا ِّ‬
‫كله‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫هذا‪ ،‬عن‬
‫لكن ذلك صعب‪ ،‬ولن يجرؤ عبداهلل على فعل مثل هذا‪ ،‬حتى وإن كان الطريق‬‫َّ‬
‫ِّ‬
‫يشكله‪ .‬ما الذي يدخله في‬ ‫مفتوحً ا‪ .‬إن ذلك ضد ما هو عليه‪ ،‬ضد شخصيته وما‬
‫الموضوع بر َّمته؟ وإذا كان الرجل إنما جاء ليقتل نفسه فهل سوف يساعده‪ ،‬ويلقي‬
‫ً‬
‫مساعدا له في تحقيق‬ ‫ً‬
‫مربوطا بمشنقته الغليظة؟ فهو إنما يكون‬ ‫به من الجسر‬
‫رغبته العارمة التي شقي طويلًا لبلوغها‪ .‬إن هذا الرجل الراكض خبر آخر في سبيله‬
‫لالنتهاء تمامًا‪.‬‬
‫لكن هل هو ًّ‬
‫حقا هذا الرجل؟ أليس من الممكن أنهم إنما يحاولون اآلن اإلمساك‬
‫ثمة واحدة‪ ،‬ليس‬ ‫بالرجل الخطأ؟ ّ‬
‫وأن الرجل الذي وضع الحبل المشنقة‪ ،‬إن كان َّ‬
‫ً‬
‫واحدا آخر استطاع االختفاء قبل أن تصل الشرطة؟ إن هذا الرجل‬ ‫هذا الرجل‪ ،‬بل‬
‫المطارد يبدو مؤ َّدبًا وط ِّي ًبا من الخارج بلحية خفيفة وشعر ناعم‪ .‬ال‪ ،‬إن هذا ليس‬
‫وجه رجل خطير أو شرير‪ .‬إنه وجه مثل وجوهنا‪ ،‬وبشرة مثل بشرتنا‪ .‬ال‪ ،‬ليس‬
‫هو من افتعل َّ‬
‫كل تلك األحداث‪ ،‬وبفضله تجمعت ُّ‬
‫كل تلك القصاصات‪ .‬لكنه هو‪ ،‬وإال‬
‫باللحاق به‪ .‬ال بد أنهم شاهدوه وهو ِّ‬
‫يعلق الحبل المشنقة‪.‬‬ ‫ما قاموا َّ‬
‫خرج عبداهلل من س َّيارته واتجه نحو الجسر‪ .‬كان الجميع آنذاك متجّ هين بأنظارهم‬
‫أحس‬
‫َّ‬ ‫إلى الرجال الثالثة ورجلي الشرطة الذين يركضون خلف المشتبه به‪.‬‬
‫عبداهلل أّن هذا هو الوقت المناسب ليلقي نظرة على الحبل المشنقة‪ ،‬لك َّنه لم يكن‬

‫‪50‬‬
‫المع َّلقة األخيرة‬
‫ُ‬

‫صاعدا باتِّجاه الجسر‪ .‬كان الجو قد بدأ في‬


‫ً‬ ‫آنذاك قاد ًرا على التفكير‪ .‬مضى مسرعً ا‬
‫السخونة‪ ،‬وكانت الشمس تلقي بأشعة حارقة على األشياء‪ ،‬مع هذا بدا المنظر من‬
‫األعلى عجائب ًيا‪ ،‬فقد اصط َّفت السيارات في ستة خطوط متقطعة تلمع تحت أشعة‬
‫شمس عمودية صفراء‪ ،‬وكان بعض السائقين قد خرجوا من س َّياراتهم بينما كان‬
‫بالتحرك‬
‫ُّ‬ ‫العديد من رجال الشرطة وس َّياراتهم المل ِّوحة باألزرق يأمرون السائقين‬
‫يعلق عينيه في الجسر وفي الحركة التي علت الجسر‪.‬‬ ‫لكن الجميع كان ِّ‬
‫َّ‬
‫التجمع الغريب‪ ،‬وسط حشد‬
‫ُّ‬ ‫عبداهلل اآلن بمواجهة الشارع‪ ،‬بمواجهة ِّ‬
‫كل هذا‬
‫الناس والسائقين ورجال الشرطة‪ .‬لم يكن المنظر واقع ًيا‪ ،‬كان ثمة غبش يحيط‬
‫باألشياء ويجعلها غير قادرة على النفاذ إلى عينيه الغارقتين في العرق‪ .‬على الحاجز‬
‫المخ ِّفف للصدمات وقف مول ًيا وجهه باتجاه الشرق‪ ،‬ثم إنه تراجع قليلًا وسط ضجيج‬
‫الناس واستغرابهم‪ .‬ثم انحنى قليلًا‪ ،‬لينظر إلى الحبل المشنقة‪ ،‬لك ّنه لم يجده‪.‬‬
‫ّ‬
‫ومعلق في هذه الناحية‪ ،‬فارتد وراءه وا َّتجه إلى الناحية‬ ‫لم يكن هناك حبل ممدود‬
‫األخرى من الجسر نحو الغرب‪ ،‬وحدق مل ًّيا في الجموع الصاخبة التي كانت غير‬
‫قادرة على معرفة ما يحصل لك َّنها كانت مترقبة‪ .‬لم يكن عبداهلل آنذاك قاد ًرا على‬
‫كل ذلك الجمهور الحاشد ينتظر منه شي ًئا‪ ،‬فكان‬
‫حقا‪ .‬كان ُّ‬ ‫إدراك ما الذي كان يفعله ًّ‬
‫بد له أن يفعل شي ًئا‪.‬‬
‫ال َّ‬
‫يهم أن يفعل شي ًئا‪ .‬راقبه الجميع وهو ُّ‬
‫يفك ربطة‬ ‫بدا عبداهلل من األسفل كمن ُّ‬
‫صره األزرق الغامق‪ ،‬وراقبوه وهو يقوم بربطه على أعمدة حاجز الجسر‪ ،‬واختفى‬
‫َم ّ‬
‫فجأة في حركة باتجاه الخلف‪ ،‬ولم يعد بإمكان من في األسفل من هذه الناحية وال‬
‫من الناحية األخرى رؤية ما يحصل هناك‪ .‬ثم فجأة انقذف شيء ما باتجاه األسفل‬
‫استغرق األمر أكثر من خمس ثوان ليصرخ أحدهم فجأة‪ ،‬وقد شاهد الرجل وهو‬
‫صر اآلخر حول رقبته‪ .‬كان ذلك عبداهلل بن‬ ‫يقذف بنفسه في الهواء وطرف ال َم ّ‬
‫ً‬
‫جاحظا بعينيه متأ ِّملًا األفق ومتدلِّ ًيا على حافة الجسر‪.‬‬ ‫حاسرا رأسه‬
‫ً‬ ‫محمد ذاته‬
‫صرخ اآلخرون‪ ،‬وبدأ رجال الشرطة في الجري باتجاه الجسر‪ ،‬بينما خرج الجميع‬
‫من سياراتهم لينظروا الرجل المتدلِّي مشنوقًا‪.‬‬
‫كانوا جميعهم يظ ّنون أنه هو الرجل المستهتر‪ ،‬صاحب المشانق‪ ،‬وقد جاء أخيرا‬
‫ّ‬
‫ليعلق نفسه على الجسر‪ .‬فغروا أفواههم للحظات‪ ،‬وبدأ بعض منهم في االقتراب من‬

‫‪51‬‬
‫حسين العبري‬

‫وعلت هممات قو َّية في األفق وصرخات‪ ،‬ثم إن ً‬


‫بعضا‬ ‫ْ‬ ‫الجسر ومن الجسد المتدلِّي‪،‬‬
‫من الذين كانوا في األسفل وجهوا كاميرات هواتفهم النقالة باتجاه الرجل المتدلِّي‬
‫في الفراغ تحت الجسر ليلتقطوا صو ًرا مناسبة لهذا الحدث الفجائي الصادم المهم‪.‬‬

‫فصل من رواية «المعلقة األخيرة» دار االنتشار العربي‪ ،‬بيروت ‪2006‬‬

‫‪52‬‬
‫حسين جلعاد‬

‫قصائد‬
‫َّ‬
‫سكر قليل‬

‫هل تلمسين قمر نيويورك من الطابق العاشر!‬


‫ُ‬
‫أغرف الماء بك ِّفي‪ ،‬أبحث في النهر عن عيون أصدقائي‬ ‫انا ما ُ‬
‫زلت‬
‫وأغفل عن الرسائل التي فاض حبرها وهي تسقط من جيبي العلوي‪.‬‬

‫ُ‬
‫فصرت أنام في الضوء دون أحالم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫فزت بما تركه ُ‬
‫الد ُّب من عسل الغابة‪ ،‬تقولين‪،‬‬
‫صرت ال أتو َّقع ً‬
‫أحدا في الزحام فال أرفع‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫دونك تعبأ بالتلويح والرسائل‪.‬‬ ‫لم تعد يدي‬
‫ُ‬
‫سرت‪ ،‬وأعرف الوجو َه من رائحة الشوارع والذكريات‪ .‬كأننا نعتاد العالم‬ ‫ناظري إذا‬
‫الممرات‪.‬‬
‫َّ‬ ‫نمر أمام المرآة وال نلحظ أرواحنا وهي تذوي في‬
‫حين ُّ‬

‫صحيح‪.‬‬
‫ُ‬
‫ترجف من مرور الضوء على صفحة الظهر العاري‪ ،‬صرنا نرتبك‬ ‫َ‬
‫لم تعد ُركبُنا‬
‫أما َم الدرج‪.‬‬
‫تهد ْ‬
‫لت أيدينا‪،‬‬ ‫ْ‬
‫سافرت إلى الغابات بعد أن َّ‬ ‫ً‬
‫خلسة في الصغر‬ ‫األشجار التي ّ‬
‫تسلقناها‬
‫واألعشاش تحتضن حصى ال تلمع أو حتى تسقط‪ ،‬فيضحك من حولنا الهواء‪.‬‬
‫َ‬
‫جروحك‪،‬‬ ‫تأكد من‬ ‫َ‬
‫أفراحك الصغيرة‪َّ .‬‬ ‫ُ‬
‫خديعة األحالم‪ ،‬تقولين‪ ،‬فاحذر‬ ‫ُ‬
‫المدن الكبرى‬
‫كل ذلك الذهاب‪ .‬اليست عتبات البيت أبهج من الرقص‬ ‫تذهب َّ‬
‫ْ‬ ‫فاألقمار هنا باردة‪ .‬وال‬
‫َ‬
‫رأسك على ركبتي َّ‬
‫كل‬ ‫بسك َ‬
‫رك القليل كما اعتدنا‪ ،‬أو ضع‬ ‫مع الغرباء‪ .‬فاشرب قهوتي َّ‬
‫مساء كي أتن َّفس وجهك‪.‬‬
‫ً‬
‫صغيرة تخفي تحتها مفتا َح الجنة‪ ،‬أو بابًا تكتب على إطاره‪:‬‬ ‫ً‬
‫سجادة‬ ‫هنا لن تجد‬
‫مرتين‪.‬‬
‫أح ُّبكِ َّ‬

‫‪53‬‬
‫حسين جلعاد‬

‫أجل‪.‬‬
‫ْ‬
‫مسحت‬ ‫ُصورنا القديمة ليست ألحد‪ ،‬فنحن لم ْ‬
‫نعد في اإلطار‪ ،‬ولن ننمو مجددًا إذا‬
‫الردم عن ضحكتنا الغائرة‪ .‬النهر يجري إلى فيضانه‪ ،‬واألرض قمر مؤ َّنث في‬ ‫تراب َّ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫يد‬
‫مرتين‪.‬‬
‫نتكرر َّ‬
‫َّ‬ ‫أصل الحكاية‪ ،‬لك َّننا نقفز َّ‬
‫كل يوم من العالم وال‬
‫سعيدون بما ال يُرى‪ ،‬تقولين‪ ،‬بانخطافنا إلى آخر الدنيا‪ .‬لك َّننا لن نصل إلى أنفسنا‬
‫في المرايا أخيرا‪ ،‬كأننا نقيس بعد الخطوتين‪ .‬أمامنا أمسنا وخلفنا بكاء الطفل في‬
‫نمر بالحقيقة‪ ،‬فنبكي في الوالدة بيد تصفعنا كي‬ ‫ً‬
‫واحدة فقط ّ‬ ‫مر ًة‬
‫المستقبل الغارب‪ّ .‬‬
‫َّ‬
‫نتنفس‪ .‬األرض واسعة‪ :‬مرح ًبا بالحياة‪.‬‬
‫وأصقل سيفي ّ‬
‫كل يوم‬ ‫َ‬ ‫لم أولد في السرير ذاته بعد مقتل أخيل‪ ،‬ألخشى الكمال‬
‫ّ‬ ‫مرتين‪ .‬لي قميص واحد أخلعه قبل النوم‪ ،‬وأنساه بعد الحب َّ‬
‫معلقا على سرير‬ ‫َّ‬
‫الحبيبة‪ ،‬فيلعنني الخطباء في األسواق‪ ،‬وتشهق من خلف الشبابيك نساء ألجل فتى‬
‫جنّ قبل األوان‪.‬‬
‫األغنية ُّ‬
‫أخف من مناديل العرس‪ ،‬تقولين‪ ،‬واألضواء في صالة العرض كفيلة بإنهاء‬
‫متوجا بالدخان‪ .‬أليست‬
‫ًّ‬ ‫َ‬
‫باسمك لتكون بطل الحكاية‪ ،‬واخرج‬ ‫الفيلم‪ ،‬قف واصرخ‬
‫أسماؤنا فقط ما يدوم من َّ‬
‫اللحن‪ ،‬وال يكترث أحد بعدنا بالنهايات‪.‬‬
‫تحط أرواحنا خارج‬‫َّ‬ ‫النوافذ استعارة البيوت للسماء‪ ،‬والضوء كسرة الخبز كي‬
‫العد بعد األلف‪ ،‬وأحمل الباب معي َّ‬
‫كلما‬ ‫مرتين‪ ،‬فأنا أخطئ في ِّ‬
‫عتمتها‪ .‬ال أذكر الحب َّ‬
‫إلي‪ .‬ال جغرافيا خارج أكتافي‪ ،‬والمفاتيح خدعة األساطير‪ ،‬كي ال‬
‫رحلت‪ ،‬كي أدخل ّ‬‫ُ‬
‫ننا َم مطمئنين‪.‬‬
‫جرح ْت َك المرايا َ‬
‫أنت أيضا‪ ،‬وتضحكين‪ :‬األسرار ال تقال‪،‬‬ ‫ُ‬
‫تعبث كثيرا‪ ،‬تقولين‪ ،‬فقد َّ‬
‫فكيف تسرد سفر التكوين مثل قصص النوم أو ذكرى قديمة‪ .‬لم تكن بين آدم ونفسه‬
‫ألذوق الغواية‪ ،‬وأهيم َّ‬
‫كل قمر قرب‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫لتعرف البكاء بين يديَّ ‪ ،‬ولم أكن في ثوب األفعى‬
‫َ‬
‫رسائلك األولى قلبي الذي نسي ُته في اللغة القديمة‪ ،‬وأعرف‬ ‫البحر بعينين حمراوين‪.‬‬
‫ُّ‬
‫تضك زغبي على عجل في المصاعد ومقاعد الحدائق‬ ‫َ‬
‫قميصك‬ ‫الحب من ذكرى أزرار‬
‫َّ‬
‫والركض بين المحطات‪.‬‬
‫األسرار تقال َّ‬
‫كل يوم لك َّننا ال نسمعها‪ ،‬فمن يراكِ في القلب سواي‪ ،‬وألف يد تلوح‬
‫يهز ظالل النفس‪،‬‬
‫قربكِ في النهار‪ .‬العالم شأن شخصي إذن لو تريدين‪ ،‬والنشيد باليد ُّ‬

‫‪54‬‬
‫قصائد‬

‫َ‬
‫تنبت القدمان في نشيد جديد‪.‬‬ ‫ويلقي بالجنى للجنى‪ ،‬كي‬
‫َ‬
‫احتضنتك‪،‬‬ ‫ال أذكر روحي تطفو على ماء السماء‪ ،‬تقولين‪ ،‬وأكتفي بجناحين ينبتان إذا‬
‫َ‬
‫لتعرف أني‬ ‫ُ‬
‫وصفقت الباب خلفك‪ .‬فاترك لي في الهامش حرفين‬ ‫ُ‬
‫غضبت‬ ‫ويضمران إذا‬
‫َ‬
‫يداك‬ ‫َ‬
‫تأخرت وتسحب األعذار خلفك‪.‬‬ ‫كلما‬ ‫َ‬
‫جبينك أمامي َّ‬ ‫أح ُّب َك حين أح ُّبك‪ .‬وال تلطم‬
‫علي‬‫وتطل َّ‬‫ُّ‬ ‫أنك تطالع العالم بعينين‪،‬‬ ‫قبلك ٌ‬
‫قبل‪ ،‬ولي ن َّية بعدك‪ .‬ولي َ‬ ‫َ‬ ‫هما يداك‪ ،‬ولي‬
‫كلما‬ ‫َ‬
‫انبيائك‪ ،‬وال تكسر مهابتهم‪ ،‬فتصر َخ باسمي َّ‬ ‫بخفة المجانين خلف‬ ‫بقلبك‪ .‬فاذهب َّ‬
‫شئت خارج القداسة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫وارتبك ما‬ ‫َ‬
‫سمائك‬ ‫مر بي كي تعود إلى‬ ‫َ‬
‫اشتقت أن تق ِّبلني‪ .‬أو‪َّ :‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫فأعطيك كل أسراري في حقيبة اليد الصغيرة‪ .‬أتَ ْذكر!‬
‫َ‬ ‫أحد سواي‪َ .‬‬
‫تعال‬ ‫َ‬
‫يراك ٌ‬ ‫فلن‬

‫الحب األول‬

‫للحب صرختان‪:‬‬
‫شهقة البداية‬
‫وانطباق القلب‪.‬‬
‫هواتف آخر الليل ترنُّ في األحالم‪،‬‬
‫ليس لي من صوتكِ البعيد سوى انحسار المحيط عن صمتنا‬
‫وتشاغل اليد بسلك الهاتف‪،‬‬
‫أزرار تلمع في سماء الفوالذ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ولكِ من قميصي القديم‬

‫ضفتي نهر‬
‫ْ‬ ‫مثل‬
‫نسير معًا َطوال الوقت‬
‫ُ‬
‫نصل!‬ ‫يصل النهر‪ ،‬وال‬
‫هل كبرنا فجأة إلى هذا الحد‪:‬‬
‫أن أنام على ذراع حبيبة سواكِ ‪،‬‬
‫وأن تنجبي طفلتنا من مهاجر بولندي يتاجر بخيول الهنود الحمر في نيويورك!!‬

‫توسدها الموتى‬
‫السماء كانت لنا وللطائرات الورقية‪ ،‬لكن غيمة الكنيسة القديمة َّ‬

‫‪55‬‬
‫حسين جلعاد‬

‫هكذا اكتفينا بالسير على األرض‪ ،‬ونحن نجرجر أطراف األجنحة‪.‬‬

‫خصلة شعركِ وزجاجة العطر‪ ،‬هديتكِ لي في العيد السابع عشر‪،‬‬


‫القس وصالة األحد‪.‬‬
‫زرعتهما في حديقة األجراس قرب رسائل ِّ‬

‫أصدقاؤنا القدامى أودعتهم الصندوق الخشبي‬


‫مر حشد المالئكة خشعوا مرنِّمين‪:‬‬
‫واستأمنتهم عند راهب الدير‪ ،‬كي إذا َّ‬

‫خواتمنا‬
‫مرآتكِ التي أصبحت مرآتنا‬
‫َّ‬
‫المعطرة وألوان الماء والخربشات‬ ‫الممحاة‬
‫الملونة‬
‫َّ‬ ‫أشرطة شعركِ‬
‫أغنيات عبدالحليم وإديث بياف‬
‫صورة عبد الناصر باألبيض واألسود‬
‫شارب نيتشه و«جحيم» سارتر‬
‫مريولك المدرسي‬
‫النمش على منحدر الكتف‬
‫سرة الحليب‬
‫َّ‬
‫الصيف!!‬
‫ويداي في أول ّ‬
‫للحب صرختان‪:‬‬
‫خف ًّيا يعبرنا مثل رائحة العطر‬
‫ويخرج من رموش العينين كآخر نفس!‬

‫ملكية‬
‫َّ‬ ‫عربات‬

‫مقصبة بذهب الحجاز‬


‫عرباته تلمع بالهيبة‪ ،‬والعباءات َّ‬
‫كنا نلثم األرض بين يديه على عجل‬

‫‪56‬‬
‫قصائد‬

‫ونتوارى‪،‬‬
‫وصف رائحة األكباش في ضفائرنا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫األعوان‬ ‫َ‬
‫يطيل‬ ‫كي ال‬
‫بقمر هبط َّ‬
‫الشا َم من ثن َّيات الوداع‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ونعلل الخشوع‬

‫ً‬
‫قساة مع ال ِّنسوة واألطفال‪،‬‬ ‫ك َّنا‬
‫والخيل لم تسلم من تج ُّهمنا‬
‫لم نشعل نا ًرا‪...‬‬
‫ولم نغتسل ألف عام‪،‬‬
‫أخيرا بملء ْ‬
‫شدقيه‬ ‫ً‬ ‫األمير‬
‫ُ‬ ‫حتى ضحك‬
‫ونام في معسكرات اإلنكليز!!‬

‫قصائد من ديوانه «كما يخسر االنبياء»‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت ‪2007‬‬

‫‪57‬‬
‫ّ‬
‫الجزار‬ ‫حمدي‬

‫مقطع من رواية‬
‫َّ‬
‫لذات سرية‬
‫ناسك‬

‫أراه‪ ،‬فى ج َّبته وقفطانه وعمامته‪ ،‬عمودًا كأعمدة الكهرباء الخشبية المندثرة‪ ،‬طويلًا‬
‫عريض الصدر والكتفين ونحيلًا‪ .‬جسده متين‪ ،‬وجهه قاتم البنية مجدور‪ ،‬ومنطفئ‬
‫العينين‪ ،‬شاربه كث كشوارب الصعايدة‪ ،‬ولحيته الطويلة ما زالت سوداء رغم سنوات‬
‫عمره الخمسين‪َّ .‬‬
‫عكازه الغاب األصفر مضموم بك ِّفه اليمنى‪ ،‬يرتفع شا َّقا الهواء أمامه‬
‫لينقر األرض يسبق خطوته‪ ،‬يمشي في ظلمته التا َّمة بقلب منير‪.‬‬
‫َ‬ ‫ويهبط‬
‫الساحة‬
‫كنت في نحو العاشرة من عمري‪ ،‬وكان الشيخ حُ ب الدين إمام مسجد ّ‬
‫أحب األشياء‬
‫الرخيم هو ُّ‬
‫الرقيق َّ‬
‫البيومية وشيخ مكتب تحفيظ القرآن الملحق به‪ ،‬صوته َّ‬
‫الي في طفولتي وصباي‪ .‬على يديه حفظت نحو نصف القرآن الكريم في عامين‪.‬‬
‫ّ‬
‫سرادقات المآتم الكبرى‪ ،‬التي عادة ال تقام ألحد في الجيزة سوى لألثرياء وكبار‬
‫العائالت‪ ،‬ال يُدعى للتالوة فيها سوى الشيخ حب الدين‪.‬‬
‫يذهب الشيخ للتالوة كأنه ذاهب لعرس أو لحفلة موسيقى كالسيك‪ ،‬يروح فى‬
‫كامل وقاره وأبّهته‪ :‬صدريته وقفطانه وجبته نظيفة ومكوّية على الشعرة‪ .‬مُرسي‬
‫المكوجي يولي مالبس الشيخ عناية خاصة‪ ،‬عناية المريد‪ ،‬المحب‪ ،‬ال المهني‪ِّ .‬‬
‫ينظفها‬
‫ويكويها ويطيّبها بعطر المسك‪ ،‬ويساعد الشيخ فى ارتدائها‪ ،‬فال يُرى الشيخ فى المساجد‬
‫والسرادقات والشوارع إال وهو متأنق‪ ،‬مهيب‪ ،‬يفوح منه ومن مالبسه ريح الطيب‪.‬‬
‫الشيخ يقوده أحيانًا ولد صغير‪ ،‬هو حفيد صديقه اللدود الحاج عيسى‪ ،‬هو أنا‪.‬‬
‫ِّ‬
‫المصلين خلفه صالة العشاء في جامع الساحة البيومية‪ .‬بعد الصالة أقترب‬ ‫ِّ‬
‫أصلي مع‬
‫منه وهو يختم‪ ،‬أهمس بأدب «حرمًا يا سيّدنا»‪ ،‬يبتسم ويواصل تمتمته‪ ،‬يتكئ على‬
‫عصاه وكتفي ويقوم معي ً‬
‫واقفا‪ ،‬كجمل‪.‬‬
‫ونحن خارجان من الباب الخشبى الكبير أساعده فى اجتياز العتبة المرتفعة‪،‬‬

‫‪58‬‬
‫َّ‬
‫لذات سرية‬

‫ِّ‬
‫وأعلقه تحت إبطي‪ ،‬يضع يده اليسرى الثقيلة فوق كتفي‪ ،‬ونسير‬ ‫وأحمل عنه ّ‬
‫عكازه‬
‫مخترقين قلب الجيزة‪ .‬أزهو على أقراني بمرافقة الشيخ‪ ،‬أكاد أخرج لهم لساني َّ‬
‫كلما‬
‫رأيت أحدهم‪ُّ .‬‬
‫ألف به العطفات والحارات والشوارع من أبعد الطرق وأطولها‪ ،‬ليراني‬
‫الجميع أقود سيدنا‪ .‬هو ال يبإلى‪ ،‬ال يمتعض‪ ،‬وال يتململ‪ .‬أرفع بصري إليه فال أرى‬
‫سوى وجه مطمئن‪ ،‬يبدو لي كأنه يبتسم بسماحة من لؤمي وتفاخري‪ .‬ال تتحرك‬
‫شفتاه بشيء‪ .‬كالمه قليل وعزيز‪.‬‬
‫عندما نصل سرادق العزاء أُجلسه على َّ‬
‫دكة التالوة الخشبية المز َّينة بالقطيفة‬
‫الدكة‪ ،‬فيقرفص فى جلسته مثل تمثال الكاتب المصري‬‫الزرقاء‪ ،‬أرفع قدميه ليتربع فوق َّ‬
‫أصب له الماء فى الكوب أمامه‪ ،‬وأحتفظ‬ ‫القديم‪ّ ،‬‬
‫أعدل عمامته البيضاء وشاله بيديَّ ‪ُّ ،‬‬
‫بزجاجة الماء البارد فى يدي حتى يطلب الشرب‪ .‬أضبط الميكروفون أمام فمه‪ ،‬أنقره‬
‫وأجربه ً‬
‫نافخا فيه‪« :‬اهلل‪...‬اهلل‪ ».‬عندما اطمئن لسالمة الميكروفون وجودة الصوت‬ ‫ّ‬
‫أذني على اتساعهما‪.‬‬
‫أقعد عند قدميه‪ ،‬متربِّعًا على السجادة مثله‪ ،‬فاتحً ا له َّ‬
‫يهز القلوب‪ ،‬بخضوع يحني الهامات‪ ،‬صوته‬
‫الشيخ حُ ب الدين يتلو آيات اهلل بخشوع ُّ‬
‫خفي وباطن‪ ،‬غامض كصوت دوران الكرة األرضية‪ ،‬يصدر من القلب‬ ‫ّ‬ ‫موجود‪ ،‬ظاهر‪،‬‬
‫والروح‪ ،‬ال من الفم والبلعوم واألحبال الصوتية والحَ نجرة‪ .‬أنصت إليه ِّ‬
‫بكل جوارحي‪،‬‬
‫ويتحرك لساني مر ِّددًا خلفه اآليات بنفس طريقة تالوته‪ ،‬نفس طبقة الصوت‪ ،‬نفس‬
‫َّ‬
‫أذني‪ ،‬وأتمايل في جلستي‬
‫كفي عن آخرهما وأضعهما على ّ‬ ‫ّ‬
‫األداء والنبرة والورع‪ .‬أفتح َّ‬
‫أهتز‪ ،‬ويسري في جسدي لحن شديد العذوبة‪ ،‬وتمتلئ‬
‫ُّ‬ ‫يمي ًنا ويسا ًرا مثله تمامًا‪.‬‬
‫عيني ويحلق قلبي بنزق طائر‪ ،‬وتكاد ريالتي‬
‫َّ‬ ‫نفسي بصوته السماوي فأطرب‪ ،‬أغمض‬
‫شفتي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تسيل من بين‬
‫بعيدا‪ ،‬يغيب ِّ‬
‫بكليته‪ ،‬ويترك لمستمعيه‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بعيدا‬ ‫كان يتلو‪ ،‬يصدح ككروان‪ ،‬فيذهب‬
‫جسد ووجه رجل غائب‪ ،‬طار من دنيانا إلى السماوات العُلى‪ ،‬دخل الجنة فشرب‬
‫تقي باشر وعرف‬
‫من أنهار مائها ولبنها وعسلها وخمرها‪ ،‬ورأى الحور العين‪ ،‬مؤمن ّ‬
‫ولذ ًة فردوسية ال نظير لها‪ ،‬هنا‪ ،‬على هذه األرض‪.‬‬
‫متعة َّ‬
‫دائ ًما‪ ،‬يبدأ الشيخ تالوة الربع األول من سورة «المؤمنون»‪ ،‬في الربع الثاني يقرأ‬
‫َّ‬
‫المفضلة «يوسف»‪ ،‬ثم يختم تالوته‬ ‫من«غافر»‪ ،‬وفي الربع الثالث يتلو من سورته‬
‫بجوهرته «الرحمن»‪ .‬نظام صارم ال ِّ‬
‫يبدله الشيخ وال يستبدله‪ ،‬وال يذعن ألحد من‬
‫أجل تغييره‪ ،‬فالشيخ لم يكن يعنيه من أمر مستمعيه أحد‪ .‬كان يتلو لنفسه‪ ،‬يشدو‬

‫‪59‬‬
‫ّ‬
‫الجزار‬ ‫حمدي‬

‫لمصلحته الخاصة فحسب‪ ،‬لمزاجه وهواه‪ .‬الغريب أن الناس أحبوه لهذا السبب‬
‫ُّ‬
‫وكف بصره يمنحه حريته كاملة‪،‬‬ ‫فحسب‪ ،‬أل َّنه ينسى حضورهم وال يعبأ بوجودهم‪،‬‬
‫غائصا في أعماق ذاته غير مكترث بما حوله‪ ،‬غير عابئ بشيء‪ ،‬سوى صورة‬
‫ً‬ ‫يجعله‬
‫ّ‬
‫المعلقة بالكلمات المقدسة‪ .‬وسواء كانت المناسبة عزاء راحل ثريّ ‪ ،‬أو‬ ‫روحه‬
‫ختمة نذر‪ ،‬أو احتفالًا بمولد أحد األولياء‪ ،‬فإن شيخنا ال يغير ذ َّمته وال ضميره وال‬
‫سوره الحبيبة‪.‬‬
‫بأربع سور فحسب صنع الشيخ حُ ب الدين شهرته العريضة فى الجيزة‪ ،‬وتجاوزها‬
‫إلى الجنوب حتى قرى البدرشين والعيّاط‪ ،‬وشمالًا حتى وصل صيته بشتيل والقناطر‬
‫الخيرية‪ .‬وأينما ذهب‪ ،‬أينما تال الشيخ سوره األربع تتصاعد «اهلل اهلل» في جوانب‬
‫وسقف السرادق‪ ،‬تتوالى الزفرات واآلهات من السمّ يعة المأخوذين بالصوت الضارع‬
‫الخاشع‪ ،‬وتردد األلسن «اهلل يفتح عليك يا شيخ» عقب ِّ‬
‫كل وقفة‪ ،‬وسكتة‪ ،‬وقفلة‪.‬‬
‫سيدنا يجلس للتحفيظ فى قاعة المكتب الصغيرة‪ ،‬أعلى مسجد الساحة‪ ،‬من بعد‬
‫صالة العصر حتى صالة المغرب‪ .‬بعد الصالة يعود للبيت للراحة حتى قبل العشاء‪.‬‬
‫المرة أخترق السوق مباشرة من أقصر الطرق للوصول‬
‫أرافقه فى طريق العودة‪ ،‬هذه ّ‬
‫إلى بيته‪ ،‬فما زالت حواري وشوارع السوق عامرة بالناس‪.‬‬
‫كانت البائعات الجالسات على األرض أمام فرشات الجبن والعسل األسود‪ ،‬والليمون‬
‫والخضراوات‪ ،‬والواقفات أمام عربات اليد‪ ،‬وخلف أقفاص الفاكهة‪ ،‬وأمام أبواب‬
‫َّ‬
‫يتطلعن إلينا‪،‬‬ ‫المحالت والدكاكين‪ ،‬والنسوان الجالسات على عتبات البيوت‪ ،‬كن‬
‫يسلطن أبصارهن علينا‪ ،‬يتغامزن ويحدقن فينا بال حياء‪ ،‬بال أدب يليق بمرور‬ ‫ِّ‬
‫َّ‬
‫الخدين على‬ ‫الشيخ‪ .‬أحيانًا يحدث ما هو أسوأ من ذلك‪ ،‬تميل الواحدة منهن متوردة‬
‫تفتر شفتاها‬
‫األخرى‪ ،‬وتهمس في أذنها بشيء‪ ،‬وهي تبتسم‪ ،‬فتخجل األخرى قليلًا ثم ُّ‬
‫عن ابتسامة عريضة‪ ،‬تستمر المرأة األولى في الهمس باحتياط كأنها تبوح بأسرار‬
‫خطيرة حتى تضحك األخرى وهي تنظر‪ ،‬من تحت لتحت‪ ،‬إلى جسد سيدنا الفارع‪،‬‬
‫ساقي وحجر الشيخ‪ ،‬وال تتزحزح‪ .‬أنظر إليهن بحنق‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ثم تستقر عيناها عند ما بين‬
‫ً‬
‫ساخطا‪ ،‬غاض ًبا‪ ،‬وهن مستمرات في البحلقة‪ ،‬التهامس‪ ،‬الغمز واللمز‪ .‬أحاول زجرهن‪،‬‬
‫صام ًتا‪ ،‬بحركة غاضبة من رأسي ورقبتي‪ ،‬بوجه أحمر وأذنين ساخنتين‪ ،‬فيبتسمن‬
‫هازئات بى‪ ،‬ضاربات كفوفهن الواحدة باألخرى‪ ،‬وضحكاتهن تتصاعد‪ .‬أغضب وأل ِّوح‬
‫في وجوههن بعصا الشيخ فيزداد ضحكهن مياصة وارتفاعً ا‪ .‬الشيخ يسمع ضحكهن‬

‫‪60‬‬
‫َّ‬
‫لذات سرية‬

‫الماجن وال يبدو عليه أنه سمع شي ًئا‪ ،‬وال ينطق بشيء‪ .‬أنظر إلى وجهه فال أرى فيه‬
‫سوى الطمأنينة والرضا‪ ،‬وعلى وجهه شبهة ابتسامة مضيئة‪ .‬برقة‪ ،‬يضغط على‬
‫كتفي أن أهدأ‪ ،‬وأن نواصل السير‪ ،‬أش ِّيعهن بنظرة غضب ولعنات مبهمة ال تجاوز‬
‫فمي‪ ،‬فال أسمع منهن سوى ضحك صاخب غزير‪ ،‬خلف ظهرينا‪.‬‬
‫السرية في النكاح وعظم اآللة تكاد تساوي شهرته‬
‫كنت أعرف أن شهرة الشيخ ّ‬
‫المعلنة فى الورع والتقوى‪ ،‬جمال الصوت وروعة التالوة‪ .‬فالشيخ الذى ليس له ولد‬
‫أو بنت معروف بأنه «صاحب األرجل الثالث»‪ .‬قيل ألنّه يسير على قدميه وعصاه‪،‬‬
‫السوقة الخبثاء أنه اشتهر بهذا اللقب عقب وفاة زوجته‬
‫وقيل غير ذلك‪ .‬يُشيع ُ‬
‫استمرت عشر ساعات‪ ،‬زلزلها الشيخ‬
‫َّ‬ ‫األخيرة‪ ،‬متأثّرة بمتعة قصوى‪َّ ،‬‬
‫جراء مضاجعة‬
‫خاللها بقضيب‪ ،‬في طول وعرض ساق رجل متوسط الطول! أنا‪ ،‬لم أره سوى كهل‬
‫عذب‪ ،‬رقيق‪ ،‬ووحيد‪.‬‬
‫وفتوته‪ .‬ال تع ِّمر واحدة‬
‫َّ‬ ‫كثيرا من النساء في مطلع شبابه‬
‫ً‬ ‫تزوج‬
‫كان الشيخ قد َّ‬
‫منهن معه‪ ،‬وال تمكث في بيته أكثر من عام واحد‪ ،‬بعده تنتهي‪ ،‬فإما أن تتوارى‬
‫كلها ّ‬
‫مطلقة‪ ،‬أو يشيّعها الناس إلى القبر حتى تزوج صبيحة‪،‬‬ ‫وترحل عن الجيزة ِّ‬
‫أيضا ولكنها كفته‪ ،‬كلفت به‪ ،‬ورعته بمح َّبة دافقة‬ ‫آخر زوجاته‪ .‬لم تنجب هي ً‬
‫أبدا‪ ،‬وصارت تالوته‬ ‫عدة سنوات حتى ماتت‪ .‬بعد رحيلها لم يقرب الشيخ النساء ً‬ ‫َّ‬
‫وحيدا‪ ،‬وأحيانًا في ُغ ْرزة «ب ُْح ُلق»‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وحزينة‪ ،‬وصار يغ ِّني عندما يكون‬ ‫ً‬
‫خافتة‬ ‫شج َّي ًة‪،‬‬
‫بعطفة القسيس‪ .‬فى جلساته الخاصة بالغرزة‪ ،‬كان الشيخ ي َُس ِّري عن نفسه مع صحبة‬
‫قليلة‪ :‬عمي موسى‪ ،‬حسن األفندى الملحّ ن‪ ،‬واألسطى مرسي‪ ،‬واثنين‪ ،‬ثالثة آخرين من‬
‫أحبابه‪.‬كان ينبسط‪ ،‬يتمايل ويغ ِّني‪ .‬يغ ِّني بسلطنة قصائد غ ّناها الشيخ علي محمود‪،‬‬
‫ُّ‬
‫ويرق صوته ويحنو بمواويل وأدوار لناظم الغزالي‪ ،‬ويصدح بطقاطيق وقصائد لصباح‬
‫تيسر من‬ ‫فخري‪ .‬ال يقرب البيرة‪ ،‬المشروب األوحد بالغرزة‪ ،‬فقط ّ‬
‫يدخن الجوزة بما َّ‬
‫أحجار الحشيش‪.‬‬
‫في ظلمة الليل‪ ،‬نحو الثالثة صباحً ا‪ ،‬يعود الشيخ إلى بيته مسحوبًا بذراعي ع ِّمي‬
‫والملحن حسن األفندي‪ .‬يحكي لهما في السكة دائ ًما حكاية واحدة‪ ،‬حكاية بكائه‬
‫وحيدا‪ ،‬حزنًا على فراق صبيحة التي ماتت بين يديه‪ ،‬وهي‬
‫ً‬ ‫المتواصل‪ ،‬حين يكون‬
‫ُم ْن َكبّة علي يده تق ِّبلها‪ ،‬وشوقه للحاق بها‪.‬‬
‫َّ‬
‫المحطة حيث يسكن‪،‬‬ ‫عند ناصية الشارع يتركهما األفندي ليسير في اتجاه شارع‬

‫‪61‬‬
‫ّ‬
‫الجزار‬ ‫حمدي‬

‫بينما يقود ع ِّمي الشيخ لبيته األخضر ذي الطابق الواحد المجاور لبيتنا‪ ،‬يدخله غرفة‬
‫نومه ويتركه‪ .‬بعد دقيقة أسمع وقع أقدام عمّ ي وهو يصعد درج بيتنا لش َّقته‪ .‬من‬
‫كثرة ما دخلت بيت س ِّيدنا أعرف بيت الشيخ وغرفة نومه تامة الظلمة‪ ،‬ال ينير فيها‬
‫حس‪.‬‬ ‫َ‬
‫صوت فيه وال َّ‬ ‫مصباح وال تدخلها الشمس‪ .‬بيت خاو ال يشاركه فيه أحد‪ ،‬ال‬
‫ً‬
‫وحيدا‪ ،‬يتخ َّبط الشيخ بين السرير والدوالب طويلًا‪ ،‬ليخلع قفطانه الثقيل وعمامته‪.‬‬
‫يغفو ساعتين على األكثر‪ ،‬ويقوم من نفسه وحده‪ ،‬ليذهب لمسجد الساحة ويؤ ِّذن‬
‫للفجر‪ .‬كان الشيخ قد أقسم بعد عشر دقائق من وفاة صبيحة أال يقرب امرأة ما بقي‬
‫ٌ‬
‫قريبة أو خادمة‪ .‬أعرف أنه يفتح المسجّ ل‪ ،‬ويترك‬ ‫له من العمر‪ ،‬فلم تدخل بيته‬
‫َّ‬
‫المخدة‪ ،‬يئن بحشرجة خافتة‪،‬‬ ‫الشيخ رفعت يتلو ويتلو‪ ،‬ويترك دموعه تنساب فوق‬
‫ويدع جسده القويَّ ينهار تحت أنين روحه‪.‬‬
‫هكذا يفعل َّ‬
‫كل ليلة قبل أن ينام مقلوبًا على بطنه‪ ،‬محتض ًنا مرتبة سريره الخشنة‪،‬‬
‫فاردًا ذراعيه على امتدادهما‪ ،‬تمامًا مثل مسيح مصلوب‪ ،‬مثل مسيح نائم على فراش‬
‫ً‬
‫عاجزا‬ ‫ً‬
‫ضعيفا فحسب‪ ،‬لكنه قد صار‬ ‫عمي موسى إن الشيخ كان بصره‬ ‫الشوك‪ .‬يقول َّ‬
‫لكثرة ما بكى على فراق النساء‪.‬‬

‫فصل من رواية «لذات سرية»‪ ،‬دار الدار القاهرة ‪2008‬‬

‫‪62‬‬
‫ديمة ّ‬
‫ونوس‬

‫قصتان‬
‫جهاد‬

‫ٌ‬
‫رصيف بالطه مر َّتب ومصفوف بشكل محترم على عكس أرصفة الشوارع األخرى‪.‬‬
‫ي َّتكئ عليه سور حديد تخفي قسوته نباتات مضى زمن‪ ،‬وهي تتعربش السور‬
‫الداخلي‪ ،‬لتصل إلى القمة وتلمح إيقاع الحياة في الخارج‪ .‬باب أسود شديد الضخامة‬
‫يتسع ألي س َّيارة تعبره إلى الداخل‪ .‬خلف السور‪ ،‬حديقة كبيرة أشجارها المعمّ رة‬
‫نس ُ‬
‫مة‬ ‫سافرت من المغرب وفرنسا لتسكن هنا‪ .‬أزهار شديدة الكرم‪ ،‬ما إن تلمسها ْ‬
‫صيف خجولة حتى تمنح رائحتها‪ .‬األرض المعشوشبة مر َّتبة بطريقة بديعة‪ ،‬فالعشب‬
‫ينمو بشكل جماعي‪ ،‬وال يُسمح لعشبة أن تكبر أكثر من جارتها‪ .‬باب البيت من‬
‫المارة الحاقدين والجاحدين‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الخشب الثمين والنادر‪ .‬فهو يحمي حياتهم من عيون‬
‫المارة الذين يحسدون باستمرار من أنعم اهلل عليهم بمال حالل وبأرزاق بللت‬
‫َّ‬
‫جباههم بغزارة حتى تراكمت‪.‬‬
‫ُ‬
‫الرخامية متخمةٌ‬ ‫ً‬
‫وراء الباب مباشرة‪ ،‬صالون فسيح يمطر ترفًا وفخامة‪ .‬أرضه‬
‫باألثاث اإليطالي والتحف المذهبة‪ .‬تماثيل عارية تنتصب بفخر في زواياه‪ .‬لوحات‬
‫أصلية َّ‬
‫معلقة على الجدران بعشوائية مفتعلة‪ ،‬فاللوحة التي يغلب عليها اللون‬
‫األحمر مثلًا تتصدر الحائط الذي يسند األريكة الحمراء‪ ،‬أما الكنبات الصفراء فترقد‬
‫كل ركن من أركان‬‫بسالم تحت لوحة عباد الشمس‪ ،‬وهكذا‪ .‬أربع طاوالت تتوسط َّ‬
‫تتدرج ألوانها‬
‫َّ‬ ‫الصالون‪ .‬طاوالت من السنديان مستديرة خوفًا من الرؤوس‪ .‬شتالت‬
‫بين األخضر الداكن واألخضر المائل إلى الصفرة واألحمر الخريفي الحار‪ ،‬مبعثرة‬
‫في ِّ‬
‫كل مكان‪ .‬أضواء خافتة تتسلل من تجويفات مخف َّية في السقف‪.‬‬
‫يتلصص من‬
‫َّ‬ ‫في تلك الزاوية‪ ،‬حيث تتدلى شجرة األروكاريا‪ ،‬والضوء المرهف‬
‫بين وريقاتها‪ ،‬ليرسم انحناءات لطيفة على الجدار األبيض‪ .‬هناك‪ ،‬في تلك الزاوية‬

‫‪63‬‬
‫ديمة ونّوس‬

‫الملون‪ .‬طاولته‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫المفضل المصنوع من الخيزران‬ ‫ً‬
‫تحديدا‪ ،‬جلس جهاد على كرسيّه‬
‫الصغيرة التي حملها من الهند تقف باستعداد عند قدميه‪ .‬على سطحها منفضة‪،‬‬
‫سيجار ثخين‪ ،‬أعواد كبريت طويلة وفنجان قهوة‪ .‬بيده اليسرى‪ ،‬حمل جهاد رواية‬
‫«بتوش الحلوة» لعزيز نيسن‪ ،‬ويده اليمنى متفرغة تمامًا لتحمل فنجان القهوة بين‬
‫لتدس السيجار بين أصابعها الثخينة‪ ،‬أو لتهوي بصفوته بشكل‬
‫َّ‬ ‫الفينة واألخرى أو‬
‫يصا للسيجار‪ .‬تلك الرغبة‬
‫خص ً‬
‫آلي في المنفضة الزجاج َّية المستطيلة المصنوعة ّ‬
‫اللعينة بالتألّق تدفعه للقراءة‪ .‬تغصبه على تصفح أحدث الكتب السياسية والروايات‬
‫والقصص والمسرحيات‪ ،‬فقط ليخبر أصدقاءه المعدمين‪ ،‬الذين ال يملكون في الواقع‬
‫أيضا يحب ِّ‬
‫االطالع ويمتلك شغفهم‪،‬‬ ‫ما يتباهون به سوى مخزونهم الثقافي‪ ،‬أنه هو ً‬
‫التفوق عليه بأية عادة أو أي هاجس‪ .‬ربما هي ليست رغبة‪ ،‬وإنما‬
‫ُّ‬ ‫ولن يستطيعوا‬
‫ّ‬
‫عقدة تحفر روحه باستمرار وتذكره أنه جهاد مصطفى اآلغا‪ :‬ابن أهم المسؤولين‬
‫المتقاعدين الذين حافظوا على مناصبهم ثالثين عامًا‪ ،‬وأصبحوا متألقين كنجوم‬
‫السينما بالضبط‪ .‬إن وجدوا في مكان عام‪ ،‬يتدافع الناس من مقاعدهم للحصول‬
‫على توقيعهم‪ ،‬أو اللتقاط صورة بقربهم‪ ،‬أو لتأمل وجوههم السمحة على األقل‪.‬‬
‫يصر جهاد دائ ًما على انتزاع هذه الفكرة من رؤوس ِّ‬
‫كل من يعرفهم‪ .‬لكنه لن‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫تحديد ا‪ ،‬فتجعله‬ ‫يفلح بشلع ثالثين عا مًا تجري في دمائهم‪ ،‬في محيط الفؤاد‬
‫ينبض بذعر وأسى‪ .‬مصطفى آغا صار كالعطر‪ ،‬ما إن يلفظ اسمه حتى تسري‬
‫قشعريرة في أجساد الناس‪ ،‬ويتخبط يومهم‪ .‬صار كاألسطورة في أذهانهم‪،‬‬
‫تمر ‪ ،‬ومصطفى آغا يجلس وراء طاولته في الوزارة ال تستطيع قوة‬
‫فالسنوات ُّ‬
‫على األرض أن تزحزحه ولو قليلًا من مكانه‪ .‬الناس تمرض وتموت وتهاجر‬
‫وتغترب وتعود إلى الوطن‪ ،‬ومصطفى آغا ينتظر عودتهم في مكانه المعتاد‪.‬‬
‫ً‬
‫صغيرة فوق رأس جهاد بدت‬ ‫ً‬
‫غيمة‬ ‫ً‬
‫تحديدا‪ ،‬رسم دخان السيجار‬ ‫في تلك الزاوية‬
‫وكأنها الهالة الشفافة التي تعلو عادة رؤوس المالئكة‪ .‬جهاد يتابع قراءته بمتعة تثير‬
‫مرة ينجح فيها جهاد بإبعاد زوجته عن مخيلته‪،‬‬‫كل ّ‬ ‫ٌ‬
‫مشكلة‪ .‬في ِّ‬ ‫لكن هناك‬
‫الحسد‪ْ ،‬‬
‫َّ‬
‫وتتدلل‬ ‫يتصورها وهي تدلِّل ضيوفه‬
‫َّ‬ ‫تعود من جديد لتلبس شخصية «بتوش الحلوة»‪.‬‬
‫عليهم‪ .‬تتحدث معهم‪ ،‬وتساير ميولهم األدبية والسياسية واالقتصادية والفلكية‪،‬‬
‫وأحيانًا العاطفية‪ .‬تزوّ جها وهي في الخامسة عشرة‪ .‬كانت هزيلة وناعمة‪ .‬طفلة ال‬
‫يهمها من الزواج سوى االنتقال من بيت أهلها‪ ،‬في حلب‪ ،‬إلى بيت زوجها في العاصمة‪:‬‬
‫ُّ‬

‫‪64‬‬
‫قصتان‬

‫دمشق‪ .‬سكنت بيته‪ ،‬تف َّتح جسدها‪ ،‬صارت فجأة امرأة ضخمة‪ .‬جسمها األسمر ممتلئ‬
‫ومربرب‪ .‬قامتها طويلة وجذابة‪ .‬عيناها زرقاوان‪ .‬شعرها بلون الفحم كثيف وناعم‪.‬‬
‫ً‬
‫كرشا يبقيه ح ًّيا ألشهر دون طعام‪ .‬لونه‬ ‫جهاد متوسط القامة‪ ،‬نحيل لكنه يملك‬
‫حنطي مائل إلى األحمر‪ .‬وجهه الناعم منقوش بالنمش‪ .‬شعره البني خفيف ومجعد‬
‫قليلًا‪ .‬عيناه لئيمتان إلى حد بعيد‪ .‬يبدو أنفه تفصيلًا أضافه اهلل دون قصد‪ ،‬فهو ككرة‬
‫صغيرة ثبّتت على عجل وقد تسقط في أي لحظة‪ .‬شفتاه صغيرتان ولونهما باهت‪.‬‬
‫أسنانه قصيرة ومزدحمة في فمه فيبدو وكأنه لم يخسر أي سن منذ الطفولة وأن‬
‫أضراس العقل األربعة ولدت هي ً‬
‫أيضا واستقرت في فمه‪ ،‬وستبقى في منصبها ثالثين‬
‫عامًا‪ ،‬وف َّي ًة تلوك النعمة بشراسة فتصبح سهلة الهضم‪.‬‬
‫ال يملك جهاد سوى شركة ضخمة تضم معمل نسيج ومصنع لحوم معلبة‬
‫وخامسا للطالء‪ .‬هذه األمالك المعلنة‪ ،‬أما‬
‫ً‬ ‫وآخر لألحذية ورابعًا للورق المقوى‬
‫لكل مستلزمات‬ ‫غير المعلنة فهي مجرد رخصة مالبس إيطالية ومجمع ضخم ِّ‬
‫البيت من الطحين إلى األثاث وشركة تأجير سيارات ووكالة أحذية‬
‫فرنسية‪ .‬وبهذا يكون جهاد من أهم المساهمين في دعم االقتصاد الوطني‬
‫ورفع مستوى المعيشة وتشغيل اليد العاملة‪ .‬وبالتالي القضاء على البطالة‪.‬‬
‫تكح من دخان السيجار‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫تحديدا‪ ،‬حيث بدأت شجرة األروكاريا‬ ‫في تلك الزاوية‬
‫كان جهاد ال يزال غارقًا في كتابه‪ ،‬وخيال زوجته يرقص أمامه على خشبة‬
‫المسرح كـ«بتوش الحلوة»‪ .‬تنحني بطريقة مثيرة فيتدلى نهداها‪ ،‬وينهمر شعرها‬
‫الكثيف‪ ،‬وتتساقط قطرات عرقها على الخشبة وتتبخر فو ًرا من حرارة خصرها‪،‬‬
‫خصرها الذي يهتز بمرونة عجيبة‪ ،‬فيعطي االنطباع بأنه منفصل عن جسدها‪.‬‬
‫كل يوم‪ ،‬فأمطرت حتى اآلن خمس‬ ‫ٌ‬
‫غيمة ينهمر منها عرق جبينه َّ‬ ‫في الحديقة‪،‬‬
‫سيارات مركونة تحت مظلة حديد تستلقي على سطحها دالية عنب مهملة‪:‬‬
‫س َّيارة كبيرة شبابيكها السوداء ترهق العين‪ ،‬وتثير الغموض‪ ،‬وأخرى صغيرة لونها‬
‫ِّ‬
‫الفضي يجعلها تبدو فسيحة‪ .‬س َّيارة حمراء كبيرة‪ .‬ورابعة زرقاء كانت هد َّية جهاد‬
‫للسيدة بتوش جهاد آغا في عيد ميالدها الثالثين‪ ،‬تناسب لون عينيها البحريتين أو‬
‫السمائيتين‪ .‬أما الس َّيارة األخيرة فهي مخصصة لنقل األطفال الخمسة إلى مدارسهم‬
‫وحفالتهم ونزهاتهم‪ .‬لكن جهاد ال يتوقف عن تذكير أصدقائه ومعارفه بأن هذه‬
‫هب‬
‫وتدر عليهم ما َّ‬
‫ُّ‬ ‫األمالك واألموال ليست نطفا أفرزها منصب والده‪ ،‬لتنمو وتكبر‬

‫‪65‬‬
‫ديمة ونّوس‬

‫ودب من النطف‪ ،‬كال معاذ اهلل‪ ،‬بل هي من عرق جبينه هو الذي يعمل من الساعة‬
‫َّ‬
‫السابعة صباحً ا حتى التاسعة مساء‪ ،‬يلهث كأي مواطن ليطعم أوالده ويجمع لهم قليلًا‬
‫من المال يضمن لهم كرامتهم‪.‬‬
‫بعد مساهمته الب َّناءة في مساندة الدولة واألخذ بيدها في دعم االقتصاد الوطني‪،‬‬
‫أيضا بحاجة إلى قدراته وجهوده‪ .‬واكتشف اآلخرون‬ ‫اكتشف جهاد فجأة أن الثقافة ً‬
‫فجأة أن جهادًا يعشق المسرح‪ ،‬ولديه هاجس ال يفارقه‪ ،‬حتى أثناء نومه‪ ،‬وهو تمويل‬
‫أيضا‪ ،‬فهرول إلى أهم مخرج‬‫عرض مسرحي ضخم‪ .‬ثم ظهرت ميوله السينمائية ً‬
‫سينمائي أفالمه ممنوعة ك ُّلها لـ«أسباب فنية» طبعًا‪ ،‬وطلب منه أن يكون َّ‬
‫عراب‬
‫فيلمه القادم‪ .‬واقترح عليه أن تكون فكرة الفيلم األساسية هي جوع المواطن وفقره‪،‬‬
‫الغصة التي تخرش صوته المقموع‪ .‬أن تكون فكرته‬
‫القهر الذي يعانيه من الكبت‪ًّ ،‬‬
‫هي اإلهانة التي يشعر بها المواطن عندما يرى بأم عينه أمواله المسلوبة تنعم بها‬
‫شريحة دون أخرى‪ .‬أن يروي الفيلم سيرة رجل يعمل موظفا وسائق تاكسي وعامل‬
‫تنظيفات وخي ً‬
‫ّاطا و«كهربجي»‪ ،‬فقط ليسد جوع أسرته الكبيرة‪ .‬فيلم يتحدث عن‬
‫السوري‪ ،‬الذي يتمتع منذ‬
‫حاجتنا للتضامن والحوار لنحمي وطننا وطن الشعب ّ‬
‫األزل بجبهة مرفوعة إلى السماء‪ ،‬وبكرامة ال يقوى الشيطان بنفسه على التقليل‬
‫من شأنها أو تحقيرها‪ .‬لكن المخرج السينمائي الذي منعت ُّ‬
‫كل أفالمه ال يمتلك جرأة‬
‫جهاد وحماسه‪.‬‬
‫ً‬
‫وطنية تشيد بالمواقف‬ ‫ً‬
‫أغنية‬ ‫بعد أيام‪ ،‬ولدت لدى جهاد موهبة غنائية‪ ،‬فتب ّنى‬
‫الفتي ‪ ،‬وتشتم األعداء واألشرار‪ ،‬فأنتجها وأشرف‬
‫ّ‬ ‫الثابتة و«قلب العروبة»‬
‫شخص ًيا على تصويرها في تدمر وبصرى وأفاميا والمدن الم ِّيتة في إدلب وقلعة‬
‫حلب وقلعة المرقب والحصن وصالح الدين‪ .‬في طرطوس القديمة والجامع‬
‫ِّ‬
‫وكل الصروح البريئة تمامًا مما يحدث‪.‬‬ ‫األموي وسوق الحميدية وقلعة دمشق‬
‫ثم‪ ،‬وأثناء مروره في شوارع دمشق التي يعشق‪ ،‬سمع بكاءها على نهر بردى الذي جف‬
‫ومات من العطش واإلهمال‪ ،‬فتبنى حملة لتنظيفه وتزيين ضفافه بالزهور والياسمين‪،‬‬
‫وصارت دمشق تفوح بعطر ساحر تمتصه خاليا الجسد فتتفتح بالحب والتسامح‪.‬‬
‫وها هي الحياة جميلة ونظيفة‪ ،‬والوطن شاكر لألموال التي أرهقت جهادًا‪ ،‬هو الذي‬
‫يفدي المواطن بروحه ودمه‪.‬‬
‫ً‬
‫تحديدا‪ ،‬أشرفت رواية «بتوش الحلوة» على االنتهاء‪ ،‬والسيجار‬ ‫في تلك الزاوية‬

‫‪66‬‬
‫قصتان‬

‫رخيصا وقعر فنجان القهوة ينضح بثفل لزج‪ ،‬واألروكاريا‬


‫ً‬ ‫الطويل فقد هيبته وصار رمادًا‬
‫ً‬
‫حفنة من الهواء‪،‬‬ ‫ً‬
‫تحديدا استنشق جهاد‬ ‫انحنت من َّ‬
‫شدة التعب‪ .‬هناك‪ ،‬في تلك الزاوية‬
‫وقرر أن االنتقادات المغرضة لن تقتل حماسته لـ«المساهمة في ازدهار الوطن وتعزيز‬
‫اللحمة الوطنية ومساعدة المواطن على استرجاع حقه في العيش والعمل بكرامة‬
‫َّ‬
‫وعفة‪ ».‬فالشعب السوري يتمتع منذ األزل بجبهة مرفوعة إلى السماء وبكرامة ال‬
‫يقوى الشيطان بنفسه على التقليل من شأنها أو تحقيرها‪.‬‬

‫حنان‬

‫ما إن يُذكر اسمها حتى ترتسم على الوجوه ابتسامات تخفي في باطنها تفاصيل‬
‫كثيرة‪ ،‬وتلتمع المقل بالغمز‪ .‬إنها حنان‪ :‬حنان الجذابة‪ ،‬ذات العينين العسليتين‪،‬‬
‫الروسي المغرور‪ ،‬والشفتين الخمر َّيتين‪ ،‬والقامة الطويلة‪ ،‬والجسد الممتلئ‪،‬‬
‫واألنف ّ‬
‫والشعر الكستنائي الطويل‪.‬‬
‫حنان التي تعاشر َّ‬
‫كل الناس بالحميمية ذاتها والو ِّد نفسه‪ .‬تعشق الصخب والضجيج‪.‬‬
‫ٌ‬
‫كاملة في الصباح ليحتسي‬ ‫ٌ‬
‫ساعة‬ ‫ّ‬
‫المقدسة‪ .‬زوجها تلزمه‬ ‫تمقت الطقوس والعادات‬
‫فنجان القهوة‪ ،‬ويدخن أربع‪ ،‬ويصغي لفيروز تغني من وراء الجدران‪ .‬حنان تكره‬
‫وتدخن بسرعة‪ ،‬تبحث‬ ‫ِّ‬ ‫هذا الطقس الصباحي‪ .‬تستيقظ في العاشرة‪ ،‬تشرب القهوة‬
‫في الراديو عن أغنية صاخبة‪ ،‬تدندن مع اللحن وتبدأ يومها الذي يشبه َّ‬
‫كل األيام‪.‬‬
‫أسامة يعمل في البيت‪ ،‬وناد ًرا ما يخرج في الصباح‪ .‬يقرأ الصحف الرسمية الثالث‬
‫فجرا‪ ،‬يتم َّعن في عناوينها‪ ،‬يتأ َّمل مواضيع افتتاحياتها ثم يكتب مقالًا‬
‫ً‬ ‫التي تصله‬
‫ويرسله إلى الجريدة‪ .‬حنان ال تعنيها أخبار الدنيا وال تقرأ الجرائد‪ ،‬لكنها تقول‬
‫الصحف السورية تخدش الزجاج‪ ،‬فنوعية‬ ‫تفضل «السفير» و«الحياة» ألن ُّ‬ ‫دائ ًما إنها ِّ‬
‫ً‬
‫اتساخا‪ .‬كما أن الكلمات المتقاطعة في‬ ‫الورق س ِّيئة والحبر الرخيص يزيد الزجاج‬
‫ومكررة وال تزيدها سوى جهلًا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫الصحف السورية ممجوجة‬
‫مدت لسانها وتمسكت باألفق من‬ ‫يبدو هذا اليوم كغيره من األيام‪ .‬الشمس كعادتها َّ‬
‫ناحية الشرق وبدأت تتسلقه شي ًئا فشي ًئا إلى أن حملتها السماء الصيفية كعادتها‬
‫ورمتها في منتصف صفحتها‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫ديمة ونّوس‬

‫بالفعل بدا هذا الصباح كغيره من الصباحات‪ُّ .‬‬


‫كل الصباحات منذ ظهور َّأول كائن‬
‫حي على األرض‪ .‬فالعصافير خرجت من أعشاشها كقطيع لتعلن بداية يوم جديد‪.‬‬
‫والرجال المتقاعدون الميسورون تهافتوا إلى الشارع بكثافة مخيفة لممارسة رياضة‬
‫يتخلصون من بعض الشحوم التي مضى زمن على تخزينها بعناية‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫الصباح‪ ،‬علهم‬
‫ال َّ‬
‫بد أن هذا الصباح كغيره من صباحات دمشق «التمّوزية»‪ .‬فشبابيك البيوت المتعبة‬
‫من السهر الطويل لم تفتح بعد‪ .‬والسيارات التي تبيع الغاز والفواكه والخضراوات‬
‫والمحارم لم تضجر من الزعيق وحيدة في الشارع في هذه الساعة المبكرة‪ ،‬دون أن‬
‫تلمح أيَّ امرأة تولول من شبّاكها لشراء جرة غاز أو لتساوم على سعر كيلو البطاطا‬
‫الذي يرتفع باستمرار دون رأفة أو حتى خجل‪ .‬وصولًا إلى كلمة خجل‪ ،‬كان هذا‬
‫الصباح كغيره من الصباحات الدمشقية الرطبة‪ .‬لك ّنه منذ هذه اللحظة لم يعد كذلك‪.‬‬
‫فحنان على غير العادة‪ ،‬غادرت سريرها عند السابعة‪ .‬لم تنظر إلى أسامة ال َّنائم‬
‫كاألطفال بقربها‪ .‬باألحوال الطبيعية يكاد أسامة ال يظهر في سريرهما الواسع‪ .‬قامته‬
‫تتكور تحت المالءة فتبدو واحدة من ثنياتها‪ .‬لكن عندما تنام‬ ‫َّ‬ ‫النحيلة والقصيرة‬
‫القامة الهزيلة هذه بعمق‪ ،‬تتحول إلى ج َّثة ال روح فيها‪.‬‬
‫ال يزال هذا الصباح طبيع ًيا ح ّتى بالنسبة إلى أسامة الغارق بالنوم‪ ،‬فهو لم يعرف‬
‫أن حنان غادرت الفراش في هذه الساعة المبكرة‪.‬‬ ‫بعد ّ‬
‫كي ال توقظ‬
‫انسلت حنان من سريرها عند السابعة تمامًا‪ .‬تمهَّلت في مشيتها ْ‬ ‫َّ‬
‫ّ‬
‫يحضرها اهلل‬ ‫أسامة‪ .‬فتحت باب الشرفة‪ .‬استنشقت رائحة الصباح الطا َزجة التي‬
‫بمزاج عندما يستيقظ َّ‬
‫كل يوم‪ .‬دخلت إلى المطبخ‪ ،‬سكبت الماء في الركوة النحاسية‪.‬‬
‫إنها تعشق طعم الصدأ‪ .‬أشعلت الغاز‪ ،‬غلت الماء‪ .‬وضعت ملعقتين من البن البرونزي‬
‫بالهيل‪ .‬بدأت الرغوة تطفو على السطح ولم يعد بإمكان حنان أن تلمح وجهها‪ .‬وضعت‬
‫فنجانها المفضل الذي كان أول تفصيل يحببها بالطقس‪ .‬صار الفنجان هذا طقسها مع‬
‫القهوة‪ .‬خرجت إلى الشرفة الموازية لجبل «قاسيون» لتكون قريبة منه‪ ،‬قريبة من‬
‫كرسي القش وبدأت ّ‬
‫تفكر‬ ‫ّ‬ ‫صباحه الذي يبدأ عادة في السابعة والربع‪ .‬جلست على‬
‫ً‬
‫واحدا تلو اآلخر‪ .‬تعشق تفصيلًا أكثر من اآلخر فتتخيله من‬ ‫بتلك التفاصيل وتتذوقها‬
‫جديد‪ .‬بيدها اليسرى تمسك فنجان القهوة وبإصبع يدها اليمنى تدور على أطراف‬
‫الفنجان بهدوء وكأنها تعيش في خاليا خزفه الدقيقة‪ .‬تلمس حوا َّفه بمتعة كبيرة‪.‬‬
‫تذكرت تفاصيل وجهه‪ ،‬صار‬ ‫فكرت أنها تعشقه‪ .‬ستموت إن لم يعد بوسعها رؤيته‪ّ .‬‬

‫‪68‬‬
‫قصتان‬

‫الفنجان للحظات تلك التفاصيل‪ .‬صارت تلمس حوا َّفه وكأنها ُّ‬
‫تمر على مالمح وجهه‬
‫َّ‬
‫الدقيقة‪ .‬على جبهته العريضة‪ ،‬إلى األسفل قليلًا‪ ،‬تلمس ع ْبسة حاجبيه الساحرة‪،‬‬
‫تتدحرج بإصبعها أكثر فتصل إلى أنفه الطويل والعذب‪ ،‬ثم تسقط يدها من الخوف‬
‫يعضهما‪ .‬هنا‪ ،‬عند مقطع شفتيه بالضبط‪،‬‬ ‫َّ‬
‫المشققتين من كثرة ما ُّ‬ ‫فتستقر على شفتيه‬
‫مرة يقرر‬ ‫كل شيء‪ .‬لكنه في ِّ‬
‫كل ّ‬ ‫ترشف رشفة قهوة وتستعيد أنفاسها‪ .‬أسامة يعرف َّ‬
‫فيها أن يبوح بعذابه ويضع ً‬
‫حدا لمراوغة حنان‪ ،‬يتذكر شخصيّتها القوية وعينيها‬
‫النمريّتين وصوتها الواثق‪ .‬يخاف من المواجهة‪ ،‬يخاف أن يخسرها‪ ،‬أن يفقد متعة‬
‫يتمدد بقربها َّ‬
‫كل مساء‪ .‬يستنشق زفيرها وينام بطمأنينة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫العيش معها‪ .‬على األقل هو‬
‫الحارة‬
‫َّ‬ ‫حنان ال تشبهه على اإلطالق‪ ،‬لك ّنه أدمنها‪ .‬شخصيتها الجريئة ومبادراتها‬
‫التسلل إلى حياة اآلخرين‪ ،‬ساعدت أسامة في عمله وحمته‪ .‬عالقتها‬‫ِّ‬ ‫وقدرتها على‬
‫صحافي في جريدته‪ .‬عندما يذهب إلى العمل ُّ‬
‫الكل يتودد‬ ‫ّ‬ ‫بجابر جعلت من أسامة أهم‬
‫له ورئيس التحرير يستشيره ِّ‬
‫بكل إجراء جديد أو تعديل ما‪ ،‬وأحيانًا كان يستشيره‬
‫حتى بألوان مالبسه أو بعالقته بزوجته‪ ،‬التي تحولت إلى طاولة بعد الولد السادس‪،‬‬
‫أو بالطريقة األسلم لتربية األطفال‪.‬‬
‫شمت حنان رائحته تداعب أنفها الرفيع وتمأل تجويفاته‪ .‬ليست مجرد‬
‫فجأة‪َّ ،‬‬
‫رائحة‪ .‬تذكرت عندما كانا يرقصان ذلك المساء محاطين بحشد من أناس‬
‫يتصببون عرقًا وح ًبا‪ .‬ذلك المساء‪ ،‬عبق أنفها بروائح أجساد كثيرة‪ ،‬برائحة‬
‫ً‬
‫لزجة ‪ ،‬تعشش في زوايا المكان‬ ‫ً‬
‫رطبة‬ ‫الزفير التي تخرج من أنوفهم وأفواههم‬
‫هاجسا أبد يًا‪ .‬ذلك المساء‪ ،‬استطاعت حنان أن تم ِّيز رائحة زفيره‪،‬‬
‫ً‬ ‫وتسكنه‬
‫أحست بعشق يبلبل أوردتها‪ ،‬شعرت بأمان عظيم‪ ،‬وجدت للحظة أن هذه الرائحة‬ ‫َّ‬
‫هي انتماؤها لروحها وجسدها‪ ،‬انتماؤها لهذه الحياة الغريبة والقاسية أحيانًا‪.‬‬
‫استنشقتها وحفرتها في ذاكرتها وفي لفيفات دماغها فأصبحت تهجس بها َّ‬
‫كل يوم‪.‬‬
‫أدمنتها ولم تعد تقوى على اإلفالت من رغباتها وشغفها في أن تراه باستمرار‪.‬‬
‫فجابر لم يكن كقصي الصافي عجو ًزا سمجً ا‪ ،‬وال كجعفر طه الذي تحول مع الوقت‬
‫إلى ممسحة قذرة تستخدم في األزمات‪ .‬كما أنّه ال يبدو وال بأيِّ شكل من األشكال‬
‫كعيسى خضر ذلك المتقاعد الذي ال ينفع إال للبكاء على أطالل عزَّ ته وسلطته التي‬
‫َ‬
‫بريق عينيه‬ ‫خبا نورها‪ .‬كان جابر شي ًئا آخر‪ :‬شابًّا مفع ًما بالحياة‪ .‬لم يفقد ُ‬
‫بعد‬
‫الترابيتين‪ .‬جاذبيته نادرة وفيها خصوصية كبيرة‪ ،‬فهو ليس من األشخاص المألوفين‬

‫‪69‬‬
‫ديمة ونّوس‬

‫ساعات لنتذكر أين التقيناهم‪ .‬صوته العالي ليس من ِّف ًرا‬


‫ٍ‬ ‫الذين نبحلق في وجوههم‬
‫وضحكته الرقيعة ليست مبتذلة‪ .‬لونه األسمر يبدو مزيجً ا من الشوكوال اللزجة‬
‫والحليب الطا َزج وحبة كستناء محمّ رة‪ ،‬وربما بضع أعواد من القرفة‪ .‬وجنتاه‬
‫خاصة في العتمة‪.‬‬ ‫ً‬
‫ساحرة َّ‬ ‫المزروعتان بشعر خفيف وناعم تبدو ظاللهما‬
‫نظرت حنان من شرفتها إلى الزقاق الض ِّيق والعتيق‪ ،‬إلى بالطه الذي ّ‬
‫يعد أثريًا بعد‬
‫أن رصفت معظم شوارع دمشق ببالط زهري وأصفر فاقع ومبتذل‪ .‬حافظ الزقاق هذا‬
‫على بالطه المرمري الفرنسي األسود الذي إن ابتل تتجدد روحه وتفوح من لمعانه‬
‫تدلت حنان بجسدها فوق زخرفات‬ ‫رائحة التراب المعجون بماء المطر المالح‪َّ .‬‬
‫الدرابزين الطحيني‪ .‬تأملت س َّيارتها الجديدة‪ .‬لم تكن الس َّيارة الحمراء الحديثة‬
‫والباهظة الثمن تليق بالعمارة ذات الطراز الفرنسي القديم المزخرفة برؤوس حيوانات‬
‫متوحشة كالنمر واألسد والثعلب الماكر‪ .‬تذكرت عندما كانا يرقصان ذلك المساء‪،‬‬
‫ِّ‬
‫ّ‬
‫المنداة بالعرق والحب‪ .‬قالت إنها لم تعد قادرة على تحمل‬ ‫آنذاك‪ ،‬همست بأذن جابر‬
‫سماجة سائقي سيارات األجرة الفضوليين منهم واللجوجين أو من يكتبون تقارير‬
‫يومية عن آراء المواطنين المساكين‪ ،‬أو حتى العجزة الذين تنتفض شبوبيتهم للحظات‬
‫المدلّلة‪ .‬همست‬
‫َّ‬ ‫عندما يلمحون صب َّية جميلة‪ .‬قالت إنها تموت غيرة من زوجته‬
‫في أذنه أنها تعشقه وأنه مختلف عن ِّ‬
‫كل الرجال الذين عاشرتهم وأنها ال تفلح بإبعاد‬
‫مجرد س َّيارة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫صورة جسده وملمس أصابعه الرقيق عن مخيلتها وأنها تريد س َّيارة‪،‬‬
‫تكلفك شي ًئا‪،‬‬‫وماذا تعني س َّيارة بالنسبة إليك يا جابر؟ لن تؤثر على ميزانيّتك‪ ،‬لن ِّ‬
‫لن تخرب ترتيب رزم النقود المكدسة في خزانة أموالك‪.‬‬
‫يعد حات ًما الطائي إذا ما قار َّناه بقصي‬
‫جابرا ّ‬
‫ً‬ ‫هكذا كانت تجري األمور دائ ًما‪ ،‬إال أن‬
‫الصافي ذلك العجوز الذي ال تفضي حماسته إال إلى رزمة من اآلالفات تشتري‬
‫بها حنان مالبس وبعض الحلي الزائفة أو الحقيقية أحيانًا‪ .‬أما جعفر طه فكان‬
‫يكتفي بمنحها الساعات الثمينة التي تهدى إليه أو أقالم «مون بالن» المذهَّ بة‬
‫أو حتى السبحات المصنوعة من اللؤلؤ الحقيقي أو المرصعة بألماس يبهر‬
‫العين بلمعانه‪ .‬أما عيسى خضر فهو حكاية أخرى‪ :‬كان يشتري لحنان مالبس‬
‫رخيصة ومبتذلة تشبه إلى حد بعيد بذالته المزركشة القبيحة المصنوعة من‬
‫قماش سميك وجلف الملمس‪ .‬وحده جابر‪ ،‬كان سخ ًّيا على نحو مدهش‪ .‬فإيجار‬
‫بيت حنان وأسامة مدفوع لسنة كاملة‪ ،‬وخزانة مالبسها تختنق دومًا بأجمل‬

‫‪70‬‬
‫قصتان‬

‫وبراقة‪ .‬حتى جسدها‬


‫الفساتين وأثمنها‪ .‬وصندوق مجوهراتها يغص بألوان فاتنة َّ‬
‫صار مدللًا اآلن فسيارتها الحمراء المركونة بجانب العمارة تنتظرها ِّ‬
‫بكل حب‪.‬‬
‫اتصل بها أبو عالء البارحة‪ .‬كان صوته متهدجً ا من الرغبة‪ .‬طلب منها اللحاق به‬
‫إلى مكتبه‪ .‬حنان ال تمانع عادة في تلبية ِّ‬
‫كل الدعوات‪ .‬فالحياة بالنهاية هي هذه‬
‫ً‬
‫مصادفة عند صديقه قصي‬ ‫العالقات المتعبة لكن المفيدة بالتأكيد‪ .‬التقاها أبو عالء‬
‫الصافي‪ .‬حدث ذلك منذ سنتين في الخامس من حزيران‪ .‬ومنذ ذلك اللقاء‪ ،‬لم يعد‬
‫قوته وسلطته الطاغية دائ ًما‪ .‬صارت حنان تقرر‬ ‫أبو عالء قاد ًرا على اإلمساك بخيط َّ‬
‫عنه مصير أصدقائه‪ ،‬تبعد فالنًا وتقرب فالنًا‪ .‬تجعله يحقد على فالن وتح ِّببه بفالن‪.‬‬
‫وأبو عالء مستسلم تمامًا لرغباتها‪ .‬لكن الوضع اآلن لم يعد كما كان عليه‪ ،‬فأبو عالء‬
‫وللمرة األولى تجد حنان نفسها أمام خيار صعب‪ :‬إما أبو عالء‬
‫َّ‬ ‫هو عدو جابر اللدود‪.‬‬
‫ذلك الستيني المح َّنك الذي إن صاحبته حنان تستمد منه طغيانه وتشارك في صنع‬
‫المقرب‪ ،‬المبعد‪ ،‬الساحر‪ ،‬القوي‪ ،‬الهش وصفات أخرى‬
‫َّ‬ ‫القرار‪ ،‬أو جابر الجميل المثير‬
‫ِّ‬
‫فلكل واحد منهما طعمه‬ ‫تعجز أي نفس عن ذكرها‪ .‬يبدو الخيار في غاية الصعوبة‪.‬‬
‫فكرت حنان أنه في هذه الساعة المبكرة‬ ‫ِّ‬
‫ولكل واحد منهما قوته الخاصة‪َّ .‬‬ ‫الخاص‪،‬‬
‫من النهار ليس عليها إال أن تتأمل سيارتها الجديدة وذلك الزقاق العتيق المحفور‬
‫باألحالم‪ ،‬وتؤجل هذا القرار الثانوي إلى الليل عندما تندس في الفراش‪ ،‬وتتأمل العتمة‬
‫كل مساء بالقرب منها ِّ‬
‫كقطة أليفة‪ ،‬فسينظر إلى‬ ‫وتفكر‪ .‬أما زوجها الوديع الذي يتكوم ّ‬
‫وجهها في العتمة ويشكر الرب الذي تذكره بهذه المرأة العظيمة والمضحيّة‪.‬‬

‫من مجموعتها القصصية االولى «تفاصيل»‪ ،‬دار المدى‪ ،‬دمشق ‪2007‬‬

‫‪71‬‬
‫ربيع جابر‬

‫مقطع من رواية‬

‫أميركا‬

‫َّ‬
‫الذهاب إلى الحرب الكبرى‬

‫أنهكها السعال وسحقتها الحرارة‪ .‬كانت الثلوج تذوب في الخارج والعصافير تزقزق‬
‫على األشجار‪ ،‬لكنها قبعت في الداخل غارقة في رائحة المرض واألصواف‪َ .‬علِقت‬
‫في حمى مقفلة كقفص ال ترى ماض ًيا وال مستقبلًا‪ .‬استعانت بفناجين النعناع المغلي‬
‫لعلها تقتل الجرثومة التي فتكت بصدرها‪ .‬بينما تنحني وتسعل َّ‬
‫مخلعة األوصال في‬ ‫َّ‬
‫فيالدلفيا كان ابن عمها جو (خليل) ّ‬
‫حداد يُصارع من أجل الهواء في الطبقة الثالثة‬
‫مكان ما من المحيط األطلسي‪ ...‬عدد ال يُحصى من الجنود‬
‫ٍ‬ ‫تحت سطح البحر‪ ،‬في‬
‫يتكومون في بطن الباخرة‪ ،‬باخرة تعقب باخرة‪ ،‬قافلة بواخر تحرسها الفرقاطات‬
‫َّ‬
‫وطائرات االستطالع والقوارب المدرعة خوفًا من َّ‬
‫الغواصات األلمانية التي تتسلل‬
‫إلى مياه أميركا (جربوا إطالق ُطربيدات على مرفأ نيوبورت نيوز ‪ -‬فرجينيا حيث‬
‫ُتصنع بواخر حربية اآلن‪ ...‬والجواسيس األلمان في أميركا‪ -‬هكذا كتبت احدى‬
‫مرة من‬
‫مرة أخرى‪ ...‬نجحوا ّ‬
‫الجرائد‪ -‬حاولوا تفجير معامل الذخيرة في نيوجرسي ّ‬
‫قبل وعندما انفجر المصنع َّ‬
‫تحطم الزجاج وراء النهر‪ُّ ،‬‬
‫كل مانهاتن السفلى تساقطت‬
‫ظن كثر أن الغزو األلماني بدأ!)‪.‬‬
‫ذعرا شاملًا‪َّ :‬‬
‫ً‬ ‫دوي االنفجارات سبّب‬
‫ُّ‬ ‫نوافذها‪.‬‬
‫حداد الخائف مثل الجميع‬‫أشعلوا مصابيح في جوف الباخرة التي تخيف الحيتان‪ .‬جو ّ‬
‫من غوّاصات األلمان القاتلة دار بين الصفوف والفرشات‪ ،‬يبحث بين عد ٍد ال نهائي‬
‫من الوجوه واألقنعة عن صديقه جيفري ثورنتون‪ .‬قبل أن يعثر عليه التقى ثالثة‬
‫سوريين من ماساتشوستس‪ 322( .‬سوريًا من ماساتشوستس وحدها اشتركوا ضمن‬
‫صفوف الجيش األميركي في الحرب العالمية األولى)‪ .‬أخبروه أنهم يبحثون عن رفاقهم‪،‬‬

‫‪72‬‬
‫أميركا‬

‫معظمهم من قرى الكورة السبع‪ ،‬وصلوا إلى أميركا قبل سنوات قليلة‪ ،‬ورحلة األطلسي‬
‫ما زالت ماثلة في ذاكرتهم‪ :‬لم ينسوا ضيق الصدر والهواء القليل والشعور أنك في‬
‫زريبة‪ ،‬خروف بين الخراف‪ ،‬بال حول وال قوة‪ .‬جو ّ‬
‫حداد ضحك وهو يقول‪ :‬ال تقلقوا‬
‫سنعثر على رفاقكم‪ ،‬وأنتم ساعدوني ً‬
‫أيضا‪ ،‬ونادوا اسم صاحبي‪« :‬جيفري»‪ .‬صاح‬
‫مرة معه‪ ،‬ثم انتشروا بين‬
‫وأفزعهم‪ ،‬وأفزع من حوله‪ ،‬لكنهم ضحكوا بالعدوى وصاحوا ّ‬
‫كورس‬
‫ٍ‬ ‫يكررون االسم مرة تلو أخرى‪ ،‬كأنهم ينشدون في‬
‫الصفوف والفرشات والوجوه ّ‬
‫كنسي‪« :‬جيفري!» لن يعثروا عليه‪ .‬لك ّنه سيرى صديقه من جديد بعد شهور‪ ،‬ولوال‬
‫مشوه الوجه اآلن‪ ،‬محروق األذنين واألنف والرقبة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يتعرف إليه‪ :‬كان‬
‫المصادفة لم َّ‬
‫حدث األمر هكذا‪ :‬في ‪ 28‬أ َّيار (مايو) ‪ 1918‬خاض األميركيون معركتهم األولى الحقيقية‬
‫على “الجبهة الغربية”‪ :‬أربعة آالف أميركي من الفرقة األولى‪ ،‬الكتيبة الـ‪ 28‬كاملة‬
‫العدد تقري ًبا (البعض سقط قبل بلوغ ‪ ،)Cantigny‬تقدمت بحماية ‪ 21‬دبابة فرنسية ‪-‬‬
‫قصف كثيف متدحرج اشترك فيه‬
‫ٍ‬ ‫الدبابات في المقدمة والجنود يسيرون خلفها ‪ -‬بعد‬
‫‪ 368‬مدفعًا ثقيلًا‪ .‬هذه التقن َّية المتط ِّورة في القصف كانت تهدف إلى حراثة األرض أمام‬
‫المهاجمين‪ ،‬ومطاردة المدافعين الذين يحاولون االنسحاب فتتعقبهم القنابل‪ .‬لم تتمكن‬
‫لكن المعركة‬
‫تحصينات كانتيغني من الصمود‪ ،‬ونجح األميركيون في احتالل القرية‪َّ .‬‬
‫عندئذ‪ .‬كانوا يجلسون إلى وجبة سريعة في أحد البيوت التي لم تتهدم‬
‫ٍ‬ ‫لم تنتهِ‬
‫تمامًا عندما بدأ القصف األلماني وانفجرت قنابل‪ .‬صاحوا «!‪ »Gas‬وأخرجوا األقنعة‬
‫حطمت رشقة رصاص من مدفع لويس ‪Lewis‬‬ ‫المطاطية ولبسوها‪ .‬في اللحظة نفسها َّ‬
‫نمسوي األكواب على الطاولة‪ .‬ناجون ألمان ث َّ َبّتوا المدفع على حافة النافذة وأطلقوا النار‬
‫إلى الداخل‪ .‬كانوا سيئي الحظ ألنهم لم يلبسوا أقنعة الغاز قبل ذلك‪ :‬قتلهم الغاز األلماني!‬
‫زاحفا وابتعد قدر ما أمكنه عن الغيمة الصفراء ثم نزع القناع‬ ‫ً‬ ‫حداد خرج‬‫جو ّ‬
‫الخانق‪ .‬كان يلهث‪ ،‬ويرى األشياء ورد َّية وحمراء أمامه‪ .‬عندما انتبه أنه يغوص‬
‫في الماء استولى عليه الذعر ال خوفًا من الماء ولكن من الغاز ذاته‪ :‬اكتشف خالل‬
‫يتجمع حيث األجسام المائية‪ :‬البرك‪ ،‬األنهار‪ ،‬خزَّ انات‬
‫َّ‬ ‫الشهور الماضية أن الغاز‬
‫مر ة أخرى وزحف تحت رصاص انهمر من ثالث‬ ‫مياه الشرب‪ ...‬ارتدى قناعه ّ‬
‫جهات دفعة واحدة‪ .‬سقط في حفرة صنعتها القنابل وبقي في الحفرة‪ .‬كان المكان‬
‫جامدا‪ .‬هذا ك ُّله لم يعد صادمًا‬
‫ً‬ ‫ِّ‬
‫المتخشبة‪ ،‬لكنه بقي‬ ‫ضي ًقا بسبب األشالء والجثث‬
‫بالنسبة اليه‪ .‬هل ربّى جلد تمساح فوق جلده خالل الشهور الماضية؟ حارب‬

‫‪73‬‬
‫ربيع جابر‬

‫تحت إمرة اإلنكليز في بيكاردي ‪ Picardy‬عندما بدأ الهجوم األلماني مطلع الربيع‪.‬‬
‫عندئذ‪ ،‬ورأى النار التي تهجم كالبركان‪ ،‬وتأكل الخندق كاملًا‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫كان في فرقة أخرى‬
‫ُ‬
‫فروا من الخندق كاألرانب البرية التي تطرد من أوكارها بالدخان وإحراق القش‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫يفرون من نافثات اللهب‪ .‬صارت هذه رعبه وتطارده إذا نام‬ ‫الرصاص يحصدهم وهم ّ‬
‫لحظة‪ .‬نجا ولم يعرف كيف‪ .‬تع َّفنت قدماه وهو يغوص في الوحل‪ .‬لك َّنه َّ‬
‫ظل ح ًّيا‪.‬‬
‫جثث المانية وفرنسية‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬
‫راقدا بين‬ ‫في كانتيغني‪ ،‬بينما يبلع جرعة ماء من َ‬
‫مطرة‬
‫صلى أن يخرجه‬ ‫عهدا في أوصالها حرارة‪ّ ،‬‬
‫وأميركية‪ ،‬جثث قديمة وجثث أحدث ً‬
‫الرب سال ًما من هذه «الجورة»‪ ،‬ثم من هذه القرية المد َّمرة على الهضبة السوداء‪،‬‬
‫ّ‬
‫تسمى «الجبهة»‪َّ ...‬‬
‫صلى أن يبقى ح ًّيا‪ .‬أزاح القناع‬ ‫ثم من هذه األرض اللعينة التي َّ‬
‫عن وجهه‪ .‬ورأى جس ًما يقع فوقه‪ .‬يده بحثت عن الحربة وانتزعتها من حيث هي‬
‫وغمدتها في الجسم الذي سقط عليه‪ .‬هذا ألماني‪ ،‬عرفه من زيِّه الرمادي وق َّبعته‬
‫َّ‬
‫المسطحة‪ .‬قلبه جان ًبا ثم برم الحربة إلى هذه الجهة وتلك وأخرجها‪ .‬متى تدرب‬
‫فزاعة الحقول في معسكر يشبه ألعاب‬ ‫على هذا؟ في أميركا البعيدة وهو يهاجم ّ‬
‫األوالد؟ كانوا يطعنون دمى القش والمدرب يصيح ليس في الظهر‪ ،‬تحت‪ ،‬في ُ‬
‫الك ْلية‪.‬‬
‫وال تدخلوا النصل َّ‬
‫كله وإال لن يخرج‪ .‬وال تشدُّ وا هكذا‪ ،‬بل ابرموا الحديد‪ .‬اللعين‬
‫يُقتل والنصل يخرج‪ .‬لم َّ‬
‫يتعلم في المعسكر شي ًئا‪ .‬هنا‪ ،‬في الخنادق‪ ،‬بينما الرصاص‬
‫تعلم شي ًئا؟ َّ‬
‫تعلم ما يكفي للبقاء؟ انحسر الرصاص‬ ‫تعلم‪ .‬هل َّ‬
‫يرمي الخوذة عن رأسه‪َّ ،‬‬
‫بعضا‪َّ .‬‬
‫أطل بعينيه‬ ‫بينما المساء يهبط‪ .‬سمع نداءات رفاقه‪ .‬كانوا يبحثون عن بعضهم ً‬
‫سدد بندقيته وق ّوص‪ .‬سقط ُّ‬
‫ظل‬ ‫ورأى ثالثة ظالل وم َّيز الزي البروسي األزرق‪َّ .‬‬
‫واحد‪ ،‬ذاب في عتمة المساء‪ ،‬ورفيقاه َّ‬
‫توغال بين أطالل مظلمة‪ .‬قسطل البندقية‬
‫تفحص الجثث ً‬
‫بحثا عن شيء ال يعرف‬ ‫مقره من جديد‪َّ .‬‬
‫لسع أصابعه وهو ينزل إلى ِّ‬
‫يئن بال صوت تقري ًبا‪ ،‬في زيِّه األخضر واألزرق‪.‬‬
‫ماذا يكون‪ .‬اكتشف جريحً ا‪ :‬كان ُّ‬
‫هذا بلجيكي‪ .‬أعطاه ما ًء كي يشرب‪ ،‬وسأله عن اسمه‪.‬‬

‫***‬

‫«جان‪-‬جاك»‪ ،‬قال البلجيكي‪« ،‬جان‪-‬جاك سيمون‪ ».‬ثم أغمض عينيه‪ .‬بعد ذلك‬
‫لم يتحرك‪( .‬اسمه منقور على النصب التذكاري بين ‪ 526‬اس ًما في مدخل كانتيغني‪:‬‬

‫‪74‬‬
‫أميركا‬

‫نصف هؤالء ُقتلوا في المعركة والنصف اآلخر ُقتل بالغاز بعد احتالل القرية)‪.‬‬
‫‪« -‬أنا جو‪ ،‬جو ّ‬
‫حداد»‪ ،‬قال للبلجيكي‪.‬‬
‫لم يعرف أنه م ِّيت إال بعد وقت‪ .‬أخرج رأسه من الحفرة ورأى ظاللًا تتجمع‪ ،‬سوداء‪.‬‬
‫تدوي‪،‬‬
‫بعيدا‪ ،‬في األفق‪ ،‬تشتعل السماء باألحمر‪ .‬القصف ال يتوقف لحظة‪ ،‬المدفعية ِّ‬‫ً‬
‫واألفق يلتهب‪ ،‬لكن كانتيغني ‪ -‬لهذه اللحظة ‪ -‬صامتة‪ .‬ضرب يده على أذنه اليمنى‬
‫يطن وال يعرف من هؤالء‬ ‫كي يتوقف الطنين فانتقل هذا إلى األذن األخرى‪ُّ .‬‬
‫كل رأسه ُّ‬
‫َّ‬
‫المحطمة‪ :‬صديق أم عدو‪ .‬رجع إلى «الجورة» فسمع‬ ‫الذي يتجمعون أمام الكاتدرائية‬
‫صوتًا‪ .‬كان الصوت يتحدث اليه‪ ،‬وخ َّيل إليه أنه يضحك‪:‬‬
‫‪ -‬أنا اسمي ناثان‪ ،‬أنا أسترالي‪.‬‬
‫أن الرجل ّ‬
‫يمد يده ويريد أن يصافحه‪َّ .‬‬
‫مد يده وقبض على األصابع القاتمة‪.‬‬ ‫اكتشف َّ‬
‫كانت لزجة‪ .‬ورأى أن الدم يسيل من ذراعه وصدره‪ .‬في الليل الذي ينتشر كالحبر‬
‫تتقطع‪ .»Water« :‬لم يكن يطلب يده بل َ‬
‫مطرة الماء‪.‬‬ ‫ويمأل الحفرة سمع الضحكة َّ‬
‫سقاه‪ .‬بينما الرجل يسعل ويبصق د مًا من رئتيه المصابتين بالغاز تجددت‬
‫االنفجارات‪ .‬األلمان تأكدوا أن القرية سقطت وبدأوا القصف؟ أم العكس‪ :‬الهجوم‬
‫مهتما بمعرفة الجواب‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫فشل واآلن يقصف “الحلفاء” كانتيغني؟ في الحفرة لم يكن‬
‫األسترالي قال له عندما الحظ حركته «‪ .»Stay‬أراد أن يبقى معه‪ .‬امتألت رئتاه‬
‫حداد رأى القمر‪ ،‬أصفر‪ ،‬كامل الدائرة‪ .‬عند حافة الحقول‬ ‫َّ‬
‫وكف عن التنفس‪ .‬جو ّ‬ ‫بالماء‬
‫المقصوفة السوداء وقفت شجرة‪ :‬كانت بيضاء‪ ،‬مزهرة‪ ،‬تشبه لطخة في هذا السواد‪.‬‬
‫الدوي فظيعًا‪ ،‬ومع هذا سمع ندا ًء من‬
‫ُّ‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬يلتهب ثم يخبو‪ ...‬كان‬
‫اشتعل األفق ّ‬
‫آخر الحفرة‪ .‬كانت تتصل بحفر أخرى‪ .‬عندما وقعت قنبلة قريبة تقطعت األشالء‬
‫متطايرة ّ‬
‫وغطاه التراب‪ .‬لكنه لم يصب بأذى‪ .‬تلمّس أعضاءه وعرف أ َّنه حي‪ .‬من جديد‬ ‫ً‬
‫سمع النداء‪ .‬رجل يسعل‪ ،‬يتغرغر بالدم كأ َّنه يغسل فمه بالماء والملح‪ ،‬وينادي‪.‬‬
‫زحف صوب الصوت‪ .‬كان هذا أميرك ًيا‪ ،‬مثله‪ ،‬وأخبره أنه من الكتيبة الثامنة‬
‫حداد قال‪ :‬أنا أعرفك‪ .‬والرجل طلب ماء‪ .‬سقاه ففرغت َ‬
‫المطرة‪ .‬طلب‬ ‫والعشرين‪ .‬جو ّ‬
‫الرجل شوكوال‪ .‬عثر جو على لوح شوكوال في ثيابه وكسر له قطعة‪ .‬فتح الرجل فمه‪،‬‬
‫وجو ألقى القطعة بين أسنانه‪ .‬بعد ذلك استند بظهره إلى حائط الحفرة‪ .‬عندما تدفق‬
‫شخصا آخر يتحرك‪ .‬كان في اللباس األزرق‪ .‬زحف اليه‬ ‫ً‬ ‫ضوء القمر فوق الجثث رأى‬
‫ّ‬
‫وسدد المسدس إلى رأسه‪ .‬قبل أن يطلق النار قال األلماني‪:‬‬

‫‪75‬‬
‫ربيع جابر‬

‫‪Kamerad! -‬‬
‫هل كان يستسلم؟ ماذا كان يقول؟ دائ ًما يسمع هذه الصرخة عندما يجتاحون‬
‫مرة خندقًا ألمان ًيا مهجو ًرا للتو‪ ،‬ورأى مائدة في غرفة محصنة تحت‬
‫خندقًا‪ .‬دخل ّ‬
‫األرض‪ ،‬بأكواب قهوة وخبز وجبن ولحم وعلبة سيجار من الصنف الفاخر‪ .‬في زاوية‬
‫ِّ‬
‫يصدق‪ .‬كان آت ًيا‬ ‫عثر على صندوق فيه تفاح وبرتقال وليمون‪ .‬نظر إلى الفاكهة ولم‬
‫ِّ‬
‫المتحللة تسحق دماغه‪،‬‬ ‫خندق موحل تطفو عليه الجثث‪ ،‬برائحة األحصنة‬
‫ٍ‬ ‫للتو من‬
‫ورأى الفاكهة والحياة العادية في غرفة تحت األرض‪ ،‬وبخا ًرا يرتفع من أكواب القهوة!‬
‫ً‬
‫راكضا إلى النفق يطلق النار مثل أخوت‪ .‬األلمان تساقطوا رافعين ثيابًا داخلية‬ ‫خرج‬
‫بيضاء‪ .‬كانوا يهتفون بتلك الصرخة الغامضة «كومراد» ويقعون على جهتي النفق‪.‬‬
‫ناداه صوت‪ .‬زحف ورأى أميرك ًيا من فرقته‪ .‬عليه أن يضرب التح َّية العسكرية‪ :‬هذا‬
‫يعلوه رتبة‪ .‬قبل أن يضرب التحية قال الجريح‪:‬‬
‫‪ -‬تستطيع أن تحملني؟ ?‪Can you carry me‬‬
‫بدا كأنه يسأل عن مقدار قوّته وحسب‪ .‬مثل ولدين يلعبان في الساحة‪ .‬جو ّ‬
‫هز‬
‫جذبة قو َّي ًة‪ .‬صاح الرجل تلقائ ًيا كأنه‬
‫ً‬ ‫رأسه ّ‬
‫ومد ذراعيه وجذب الرجل من كتفيه‬
‫ُضرب‪ .‬كان نصف جسمه (ظهره) مسحوقًا تا ّمًا‪ ،‬ذائ ًبا وممتزجً ا بالمادة السوداء التي‬
‫تمأل أرض الحفرة‪ .‬جو تركه وقال انه سيرجع‪.‬‬
‫َّ‬
‫يتحلقون‬ ‫َّ‬
‫المحطمة رأى جنودًا‬ ‫زحف أبعد فأبعد ثم ّ‬
‫أطل برأسه‪ .‬داخل الكاتدرائية‬
‫حول نار صغيرة‪ .‬لم يستطع أن يميّز ال اللباس وال الوجوه‪ .‬كانوا بعيدين‪ ،‬واللون‬
‫األحمر الغامض يغزو عينيه من جديد‪ .‬مسح جبهته وتأكد أنه ال ينزف‪ .‬مرة أخرى‬
‫تكاثفت االنفجارات َّ‬
‫وغطى الدخان وجه القمر‪ .‬ساد الظالم الحفرة وسكن األنين‪ .‬شعر‬
‫بحركة‪ .‬التفت ورأى رجلًا محروق الوجه‪ .‬كان وجهه يسيل‪ ،‬وعندما رفع يده رأى‬
‫أن أصابعه تسيل ً‬
‫أيضا‪ ،‬ثم هوى ً‬
‫أرضا‪ .‬خرج جو من الحفرة ومشى إلى الكاتدرائية‪،‬‬
‫ودخل بال سالح‪ ،‬وألقى التحية‪ .‬كانوا أميركيين‪ ،‬يب ُّلون البسكويت العسكري بالماء‬
‫الفاتر‪ ،‬و ُيعدُّ ون طعام العشاء‪.‬‬
‫لم يفقد الوعي إال لحظة‪ .‬ثم فتح عينيه من جديد ورآهم ينتشرون وراء‬
‫متاريس َّ‬
‫أعدها األلمان ثم تركوها‪ .‬قال‪ :‬يوجد جرحى في الحفرة‪ .‬قبل أن ينهي‬
‫َّ‬
‫وحطمت التمثال األخير‬ ‫اقتراحه انفجرت قذيفة في مدخل الكاتدرائية‬
‫يمصها ويبعد العطش‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الباقي للرب يسوع المسيح‪ .‬أحدهم أعطاه ل ْيمُ ونة كي‬

‫‪76‬‬
‫أميركا‬

‫قصر بُني‬
‫ٍ‬ ‫تلوث بالغاز»‪ ،‬قال الصوت وهو يبتعد‪ .‬كان المكان ضخ ًما‪ ،‬مثل‬
‫‪« -‬الماء َّ‬
‫عمروا هذا الصرح قبل قرون‪ .‬في أميركا ناد ًرا ما‬
‫بأقواس وقناطر وعقود‪ .‬ال بد أنهم َّ‬
‫يرى عمارات قديمة إلى هذا الحد‪ .‬لم تعد االنفجارات تبلغه‪ .‬كان يبتعد‪ ،‬واألرض‬
‫الحجر َّية تتحرك‪ ،‬تسيل كالماء‪ ،‬وهو ينزلق‪ ...‬انزلق حتى بلغ الخندق حيث َّ‬
‫تتكلم‬
‫الجثث مع الجرحى وحيث يطلب الجرحى ماء وشوكوال وحلي ًبا‪ ،‬ويقول الذي يموت‬
‫َ‬
‫«ابق معي» ويمدُّ أحدهم يده ويطلب المطرة‪ .‬انزلق أبعد ورأى شجرة الكرز النابتة‬
‫ًّ‬
‫وعشا مملو ًءا بالبيض‪.‬‬ ‫في قلب الجحيم‪ .‬وانزلق أبعد ورأى جبلًا أخضر وعصافير‬
‫سمع السقسقة‪ .‬ثم هوى التراب على عينيه وأنفه‪ .‬هل يُدفن ح ًيا؟‬
‫قوته؟ فتح‬
‫غزيرا في جوف الكاتدرائية‪ ...‬رجعوا؟ ماذا يحدث؟ أين َّ‬
‫ً‬ ‫سمع رصاصً ا‬
‫يأت من الخارج بال سالح؟)‪ ،‬وأطلق النار على الرجل‬
‫عينيه وعثر على بندقيته (ألم ِ‬
‫الذي فتح النار على الجميع‪ .‬هل أصيب بالجنون تحت هذا القصف؟ هل يُطلق النار‬
‫على رفاقه اآلن؟ كانت الحرارة تسحقه وعندما عرف بعد دهر أنه يُحمل على‬
‫محفة أدرك أنه لن يموت‪.‬‬
‫في المستشفى الميداني ‪ -‬غرف عميقة تحت األرض ‪ -‬خاف أن يختنق‪ .‬كان الهواء‬
‫قليلًا ورأى رجلًا مبتور الذراعين يقف جنبه وينظر اليه‪ .‬سعل وبصق شي ًئا أسود‪.‬‬
‫اقتربت امرأة تلبس زي الصليب األحمر وقالت انه ّ‬
‫تنشق قليلًا من الغاز‪ ،‬ال يكفي كي‬
‫يقتله لكن يكفي كي يأخذ إجازة ويذهب إلى الخطوط الخلفية ويرتاح‪ .‬كانت تبتسم‬
‫وتلفظ كلمات اعتادتها بمرور الوقت‪( .‬خلفها كانوا يحقنون‪ ،‬تحت القناديل‪ ،‬جرحى)‪.‬‬
‫وهكذا في مستشفى فوق وجه األرض‪ ،‬وراء الخطوط الخلفية‪ ،‬التقى جو ّ‬
‫حداد‬
‫دخنا تب ًغا‪ .‬ثم افترقا إلى األبد‪.‬‬
‫مرة أخرى‪ .‬تبادال األخبار‪َّ .‬‬
‫صديقه جيفري ثورنتون ّ‬

‫***‬

‫جيفري قفز على ساق واحدة إلى باريس (ال نراه بعد اآلن وال أعرف ماذا حدث له‬
‫بعد ذلك)‪ .‬وجو رجع إلى الجبهة‪ .‬في الطريق إلى هناك توقف القطار الحربي أكثر من‬
‫ً‬
‫مقصفا ال‬ ‫مرة‪ .‬نزل في إحدى المحطات – كانت السكة محطمة ويعاد مدُّ ها – ودخل‬‫ّ‬
‫ِّ‬
‫ويدخن سيجارة تلو سيجارة‪.‬‬ ‫يرتاده إال الجنود‪ .‬شرب نصف ق ّنينة نبيذ وهو يلف تب ًغا‬
‫في جيب معطفه عثر على بطاقة للجيش لم يكتب عليها أحد شي ًئا‪Field Service .‬‬

‫‪77‬‬
‫ربيع جابر‬

‫‪َّ postcard‬‬
‫تذكر راهبات دير سان مارتن حائمات كالدجاج حوله‪ .‬كان يستلقي على‬
‫ظهره‪ ،‬وعلى بعد سريرين يحقنون أحد الجرحى بالمورفين‪ ،‬ويغزو األبيض عينيه‬
‫بينما يتالشى‪ .‬كانت هذه َّ‬
‫اللحظة من أغرب ما عرفه في حياته‪ :‬شعر بأ َّنه يخرج‬
‫ويتعرف إليها وجهًا وجهًا – كأنه‬
‫َّ‬ ‫من جسمه‪ ،‬ويطفو فوق األسرة‪ .‬ينظر إلى الوجوه‬
‫ويتكلم معهم‪ ...‬مع أن معظمهم نيام‪َّ .‬‬
‫(تذكر الجثث التي زحف فوقها ونام‬ ‫َّ‬ ‫عرفهم دائ ًما –‬
‫عليها َطوال الشهور الماضية؟ كانوا ينامون في خندق قريب من الخطوط األلمانية‪،‬‬
‫ٌ‬
‫جثث‬ ‫حفرا مرعبة وأخرجت من تحت األرض‬‫ً‬ ‫وتساقطت عليهم القذائف‪ .‬أحدثت‬
‫متع ِّفنة)‪ .‬كان غارقًا في غيمة تبغه‪ .‬نهض خارجً ا من الظلمة واقترب من الرجل‬
‫الذي يسكب الكؤوس وسأله هل عنده قلم؟ الرجل استدار وأجاب بالفرنسية‪:‬‬
‫‪Ah, oui -‬‬
‫أخرج قل ًما من تحت المنضدة وقبل أن يعطيه إياه اشترط عليه أن يردَّه‪ّ .‬‬
‫هز جو‬
‫رأسه‪ ،‬قال «‪ ،»Sure, don’t worry‬وأخذ القلم‪ .‬عاد إلى طاولته‪ .‬انفتح الباب ودخل‬
‫ملطخون بالشحم‪ .‬دخلت معهم رائحة الحرائق‪ :‬كانوا يشعلون‬ ‫جنود وميكانيكيون َّ‬
‫أشيا َء ال أحد يعرف ماذا تكون في الخارج (مثل رائحة العظم وهو يحترق)‪ .‬شرب ما‬
‫بقي في ال ِق ّنينة ثم كتب عنوان مرتا في فيالدلفيا على البطاقة‪ ،‬وقرأه كي يتأكد أنه‬
‫لم يكتب خطأ‪ .‬بعد ذلك و َّقع اسمه‪ ،‬ورفع رأسه‪ ،‬وصاح يسأل عن تاريخ اليوم‪ .‬أجابته‬
‫األصوات من جميع الجهات‪ ،‬لكن التواريخ وصلته متشابكة ومختلفة‪ ،‬كأنه يعيش في‬
‫كرروا ما فعله كأنهم اتفقوا‬
‫اللحظة ذاتها أكثر من يوم واحد‪ .‬شتم وضحك‪ .‬واآلخرون َّ‬
‫َّ‬
‫المحطمة‪.‬‬ ‫على ذلك مسب ًقا‪ .‬كانوا مثل وحش حزين واحد بعدد ال يحصى من الرؤوس‬
‫كأسا بفوطة إلى الروزنامة المعلقة على الحائط‪.‬‬ ‫ساكب الكؤوس َّ‬
‫دله وهو يفرك ً‬
‫ذهب إليها ونقل المكتوب وهو يشعر بدوخة خفيفة‪ .‬سأله الفرنسي بلكنته‬
‫المضحكة من أين يأتي وإلى أين يذهب؟ كانت إنكليزيته بائسة لك َّنها تكفي‬
‫َّ‬
‫يتكلم عنه‪ .‬أراد أن يضحك ولم يفعل‪ .‬كان جيفري أمامه‬ ‫كي يفهم جو ما الذي‬
‫في تلك اللحظة يقفز على الساق الباقية ويشتم ويخبط بيديه‪ .‬لماذا يفعل‬
‫ِّ‬
‫يصلي أن ينجو ويرجع إلى أميركا‬ ‫ذلك؟ لم يسأل في حديقة المستشفى‪ .‬كان‬
‫َّ‬
‫ويتكلم معها‪ .‬لكن شي ًئا غري ًبا حدث له بينما ساكب الكؤوس يبتسم‬ ‫ويرى مرتا‬
‫ويمد يده ويطلب القلم‪ :‬شعر أنه مات وأن هذه هي النهاية‪ .‬لم يرسل البطاقة‪.‬‬
‫بعد ذلك قاتل مع الفرقة الثانية األميركية في ‪ Soissons‬ثم في ‪Fère-en-Tardenois‬‬

‫‪78‬‬
‫أميركا‬

‫(المقبرة هناك فيها شواهد لستة آالف جندي اميركي إضافة إلى نصب تذكاري لـ ‪241‬‬
‫َّ‬
‫احتلها األلمان في غزوة الربيع قبل أربعة شهور‪ .‬أحد رفاقه طار‬ ‫اس ًما بال قبر) التي‬
‫ّ‬
‫المؤخرة ثم رجع إلى القتال‪ .‬هذه‬ ‫في الهواء وسقط ح ًيا‪ .‬حمله إلى المستشفى في‬
‫مرات‪ ،‬وعندما انتهت المعركة كان يلهث كأنه يركض منذ‬
‫الحادثة تكررت ثالث ّ‬
‫سنوات‪ .‬العريف طلب له وسامًا‪ ،‬وعندما تأخر الوسام طمأنه أنه سيأتي بالتأكيد‪.‬‬
‫جو أصغى إليه بال اهتمام وطلب منه أال يقلق ثم أدى التح َّية وانصرف‪ .‬في قرية‬
‫سيرجي ‪ Sergy‬أصابه الحرس البروسي برصاصة في يده‪ .‬عالجوه في مستشفى‬
‫ميداني على ضفة نهرالمارن ‪ River Marne‬وحمل البندقية‪.‬‬
‫كانت إصابة طفيفة ولم تؤذ عص ًبا‪ .‬سار في مرج أسود ثم في مرج أصفر ثم‬
‫في مرج أخضر‪ ،‬وبينما يقطع المروج‪ ،‬ويرى الرصاص يحصد السنابل والرؤوس‪،‬‬
‫شعر أنه ال يُقهر‪ .‬في إحدى القرى المجاورة لـ ‪ Ypres‬رأى أسرى من األلمان‬
‫حُ بسوا في قفص مغلولين بالحديد كالحيوانات وركبهم تغوص في الوحل‪ .‬كانوا‬
‫كأفراس النهر‪ ،‬نصفهم السفلي تحت الوحل والعلوي في الهواء األزرق البارد‪ .‬ش َّعت‬
‫الشمس بينما يقترب منهم وينظر إلى عيونهم الملونة ويحاول أن يستوعب‬
‫شي ًئا‪ .‬أحد رفاقه أخرج من معطفه وسا مًا وقال‪« :‬انظر‪« ».‬ما هذا؟» سأله‪.‬‬
‫‪Victoria Cross -‬‬
‫وأخبره أنه وجد صندوقًا مملو ًءا باألوسمة في الخندق‪ ،‬واآلن يوزع منها على‬
‫الجميع‪ .‬كان يضحك‪ ،‬وأخذ يسعل‪ ،‬ويضرب على صدره‪ ،‬ويقول شي ًئا عن الفالندرز‬
‫‪ .Flanders‬نقلوا جو إلى كتيبة أخرى وحارب في سان ميهيل ‪ .St Mihiel‬كان هاج ًما‬
‫ّ‬
‫وتعثر ووقع‪ ،‬ومن دون أن ينتبه غرق في النوم‪ .‬كان القصف يفتك بالجميع والمدافع‬
‫الرشاشة تحصد وتفرم وتقطع لك َّنه َّ‬
‫ظل نائ ًما‪ .‬بعد المعركة طلب المزيد من الحبوب‬ ‫َّ‬
‫يعط حبوبًا‪« .‬هناك نقص في المواد الطبية‪ ».‬فقد خوذته في ‪Meuse-‬‬ ‫ألن يده تؤلمه‪ .‬لم َ‬
‫‪ Argonne‬لك َّنه غنم أخرى من ألماني‪ .‬قالوا له‪« :‬هذا خطر ً‬
‫جدا‪ ،‬ال تلبس خوذة العدو»‪،‬‬
‫ً‬
‫إجازة وأرسلوه‬ ‫لك َّنه لبسها‪ .‬وقع على األرض في هجوم وعلق بأسالك ونزف‪ .‬أعطوه‬
‫إلى بيوت مد َّمرة في ‪ Chateau-Thierry‬حيث دارت معركة عنيفة قبل وقت‪.‬‬
‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫ِّ‬
‫ويدخنون‪ .‬كان الطعام‬ ‫مشى بين جرحى توزعوا األطالل يشربون الكحول‬
‫ً‬
‫عاجزا عن األكل‪ .‬منظر الجنود السكارى أثار فيه شعو ًرا‬ ‫هنا‪ ،‬لكنه وجد نفسه‬
‫مقل ًقا‪ .‬حاول أن يحدد شعوره ثم أدرك أن عقله صار في مكان آخر‪ ،‬وأن تفكيره لم‬

‫‪79‬‬
‫ربيع جابر‬

‫ً‬
‫مربوطا بما يحدث له وال بما يحدث حوله‪ .‬رجل رآه من قبل اقترب وسأله‬ ‫يعد‬
‫باإلنكليزية‪« :‬أنت جو دونت ووري‪ ،‬ال؟» هز رأسه ولم يقل شي ًئا‪ .‬أخبره الرجل‬
‫أنه كان في معركة ‪ Belleau Wood‬وأنه رأى عددًا ال يحصى من القتلى يتد ُّلون‬
‫لكن جو أبعده من دربه ومشى‬
‫من أشجار الغابة مثل القرود‪ .‬انتظره كي يضحك َّ‬
‫من دون أن يفتح فمه‪ .‬أين كان خليل حداد ذاه ًبا عندئذ؟ ماذا كان يرى أمام عينيه؟‬
‫ماذا نسي وماذا َّ‬
‫تذكر؟‬

‫مقاطع من رواية «أميركا» دار اآلداب‪ ،‬بيروت ‪2009‬‬


‫والمركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت والدار البيضاء‬

‫‪80‬‬
‫جرار‬
‫رندا ّ‬

‫قصة قصيرة‬

‫قصة بنايتي‬

‫«قصة برج حماماتي» إلسحاق بابل‬


‫َّ‬ ‫بعد قراءة‬

‫كنت في العاشرة من عمري‪ ،‬عندما انتقلت أمس َّية لعب الورق إلى شقتنا‪ ،‬في‬
‫حي الزرقا‪ ،‬الذي يعتبر أفقر أحياء غزة‪ .‬كنا نعيش في مجموعة متناثرة وممتدة‬
‫وممرضات‪ ،‬وخ َّياطون‪ ،‬وط َّباخون‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ومدرسون‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫من البنايات‪ ،‬التي يسكنها َّ‬
‫بقالون‪،‬‬
‫وصانعو أحذية‪ .‬وفي الطابق العلوي من البناية الثالثة كان يقطن مترجم ل ُّلغة‬
‫الروسية‪ :‬والدي‪.‬‬
‫كان الرجال يجتمعون في غرفة المعيشة‪ ،‬التي سرعان ما كانت تمتلئ بالدخان‪،‬‬
‫وبرائحة شراب البوربون‪ ،‬بينما تجلس الزوجات في غرفة الجلوس التي كانت‬
‫المكان األمثل للجلوس‪ ،‬حيث كانت مر َّتبة على شكل «ديوان»‪ .‬فعلى أرضيتها البالط‬
‫ُر َّصت الوسائد المستطيلة‪ ،‬والطاوالت الخشبية المنخفضة التي توضع فوقها أكواب‬
‫يتجمعون في غرفة نومي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الشاي الصغيرة‪ .‬كان أوالد وبنات عمومتنا وأصدقاؤنا‬
‫التي كنت أشارك فيها أختي‪ ،‬التي كانت دومًا تشعر باالمتعاض الضطرارها مقاسمة‬
‫غرفتها مع صبي‪.‬‬
‫ّ‬
‫مدخ ًنا‪،‬‬ ‫شخصا‬
‫ً‬ ‫عدة ثوان نسمع‬ ‫كان الرجال يقهقهون ويقرعون أكوابهم‪ ،‬وكل َّ‬
‫وهو يطقطق بالعجلة المعدنية لوالعة قديمة ترفض اإلذعان ألوامره‪ .‬ك ّنا مولعين‬
‫بخدعة نستخدم فيها الوالعات‪ :‬فلقد كنا نفرغ الغاز غير المرئي في قبضة يد مقفلة‪،‬‬
‫اللهب بسرعة‪ ،‬ونفتح راحة يدنا‪ ،‬فتبدو في تلك اللحظة كما لو كانت‬ ‫ثم نشعل َّ‬
‫مشتعلة بالنيران‪َّ .‬‬
‫علمتنا بنات عمومتنا وصديقاتنا هذه الخدعة‪ ،‬لذلك ظللنا ولعدة‬
‫أسابيع ِّ‬
‫نقدسهن بال أدنى مداراة‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫جرار‬
‫رندا ّ‬

‫بعد مرور بضع ساعات من بدء أمس َّية الكوتشينة‪ ،‬تكون النساء منغمسات في‬
‫الحكايات‪ ،‬وفي ّ‬
‫دخان الشيشة‪ ،‬بينما الرجال في حالة سكر ب ِّين‪ .‬كنا ننطلق بحريتنا‬
‫َّ‬
‫المغطاة بالرمال‪ ،‬والمحاطة بجدران زائفة من الحجر الجيري‪،‬‬ ‫في ساحة البنايات‬
‫َّ‬
‫نتسلق الدرج إلى السطح‪ ،‬حيث تربِّي زوجة البواب الحمام‪ .‬كنا مغرمين بذكر‬ ‫أو‬
‫حمام يشبه في ألوانه قوس قزح‪ ،‬فأسميناه «الساحر» بسبب األلوان الالمعة التي‬
‫تتغير‪ ،‬فتضيء عنقه ذا َّ‬
‫اللون األسود المشوب بالزرقة‪.‬‬
‫ومررناه من يد إلى يد‪ ،‬بدا في‬
‫عندما فتحنا باب القفص‪ ،‬وأخرجنا «الساحر»‪َّ ،‬‬
‫قبضة يدنا النقيض من اللهب‪ .‬ماجدولين التي كانت أصغر بنات عمومتي قالت إنه‬
‫عندما يكون العنق ذهب ًّيا فهو يبدو مثل صورة «ق َّبة الصخرة» التي ألصقتها َّ‬
‫جدتها‬
‫نوقر ماجدولين بسبب‬ ‫على جدار مطبخها‪ .‬وافقناها الرأي تأ ُّدبًا‪ ،‬فلقد كنا جميعًا ِّ‬
‫وتهشم كوب زجاجي في َّ‬
‫شقتنا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫اسمها الغريب‪ .‬هدل الساحر في قبضة ماجدولين‪،‬‬
‫سمعنا الرجال وهم يصيحون‪ .‬ركضنا نازلين إلى أسفل‪ ،‬أل َّننا لم نود أن يفوتنا الشجار‪،‬‬
‫ولك َّنني عندما فتحت الباب الخارجي‪ ،‬رأيت ع ِّمي فوزي صانع األحذية يشهر عصاه‬
‫في وجه والدي‪.‬‬
‫قال فوزي‪« :‬لماذا تدافع عنهم يا ابن الكلب‪ ،‬يا خائن؟»‬
‫قال بابا وهو يرفع ذراعيه ليحمي رأسه بكل ثقة ممكنة‪« :‬أنا أقول لك فقط إن‬
‫هذه حقيقة تاريخية‪ ».‬كانت والدتي وصديقاتها ما يزلن في غرفة الجلوس‪ ،‬وكنت‬
‫يهب بنسيمه نحونا‪ ،‬مثل طيف أصابع تربِّت على أكتاف‬
‫شم رائحة تبغ التفاح ُّ‬
‫أستطيع َّ‬
‫الرجال‪.‬‬
‫«ال! أنت تدافع عن الصهاينة! هم يستخدمون هذه األمور تبريرا لالستيالء على‬
‫ِّ‬
‫تصدق كالمهم؟»‬ ‫أرضنا‪ .‬لماذا‬
‫كانت مناقشة مألوفة لي إلى حد ما‪ ،‬رغم أنني لم أدرك بوضوح من تكون‬
‫«المحرقة» أو «المذبحة»‪ .‬تخ َّيلت أنهما من صديقات «بلفور»‪ ،‬الذي كان اسمه‬
‫يُذكر كثيرا‪ ،‬ولم أعرف من يكون هو ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫وضع الرجال اآلخرون أوراق الكوتشينة ذات الخلفية الزرقاء على الطاولة‪ ،‬ولكن‬
‫والدي كان ما يزال يمسك بأوراقه مثل مروحة في يده اليسرى‪ .‬تساءلت في نفسي‬
‫إذا كان يعتقد أنها سوف تحميه من ضربات عصا عمي فوزي‪ ،‬التي كانت بنية اللون‪،‬‬
‫ولم تكن تبدو ضعيفة‪ .‬كان الرجال يناشدون فوزي الهدوء‪ ،‬ولكن دون حرارة مما‬

‫‪82‬‬
‫قصة بنايتي‬

‫زاد من اشتعال غضبه‪ ،‬فلقد كانوا يشبهون الغاز غير المرئي في قبضة يده المشتعلة‪.‬‬
‫رآني بابا من طرف عينه التي كانت شبه عمياء‪ ،‬فقد كان يكره ارتداء نظارته في‬
‫أمسية لعب الكوتشينة‪ ،‬إذ كان يشعر أنه يبدو أكثر رجولة ومهابة دونها‪ .‬ولكن‬
‫تقدمت إلى األمام وهو يقول‪« :‬أُنظروا!‬
‫ُ‬ ‫من الواضح أنه كان مخط ًئا في هذا الشأن‪.‬‬
‫ها هو مهند‪ ».‬وانكمش وراء أوراق اللعب‪« .‬يا بني‪ ،‬اذهب إلى المكتبة وهات لي‬
‫بابل‪ .‬البابل يا مهند‪».‬‬
‫ركضت إلى الغرفة الصغيرة‪ ،‬التي كانت أختي تتم َّنى لو لم تكن َّ‬
‫مغطاة بالكتب‪ ،‬ولكن‬ ‫ُ‬
‫بملصقاتها وبفراشها (واألفضل بناموس َّية من ال ُتل األبيض)‪ .‬غرفة النوم هذه َّ‬
‫تحولت‬
‫إلى مكتبة عندما انتقلنا إلى العيش هنا‪ ،‬وكانت نوافذها مغلقة‪ ،‬بسبب األرفف التي‬
‫ارتفعت عال ًيا حتى بوصة واحدة من السقف‪ .‬عندما نقل بابا األرفف داخل الغرفة‬
‫(كان قد أحضرها من األردن) ورأى أنها تتناسب تمامًا مع الغرفة‪ ،‬شعر أن هذا فأل‬
‫حسن مثل فراشة البشورة‪ ،‬وبدأ ت ًّوا في العمل‪.‬‬
‫كرسي الكتابة الصغير الخشبي الذي يستخدمه والدي إلى جزء ألف –‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫سحبت‬
‫ُ‬
‫وصلت إلى حرف الباء‪ ،‬وأدركت أنني‬ ‫جيم‪ ،‬وغ َّ ّنيت أغنية األلف باء في رأسي حتى‬
‫لن أضطر إلى الغناء طويلًا‪ .‬وجدت الباء‪ ،‬واأللف‪ ،‬ثم الباء‪ ،‬ثم الالم‪ ،‬وأمسكت ببابل‪.‬‬
‫ُ‬
‫وركضت‬ ‫ً‬
‫اعتراضا على هذه المعاملة‪،‬‬ ‫قفزت من الكرسي الذي أصدر صوت صرير‬
‫ُ‬
‫وأعطيت بابا الكتاب‪ .‬في تلك اللحظة كان ع ِّمي فوزي قد تقهقر قليلًا‪،‬‬ ‫عبر الممر‪،‬‬
‫بالساحر في يدها‪.‬‬
‫وكان أصدقائي يقفون على الباب وماجدولين ما تزال ممسكة َّ‬
‫فتح بابا الكتاب الذي كان قد ترجمه وبدأ في القراءة‪ .‬في البداية أصدر ع ِّمي فوزي‬
‫أصوات بصق كلما نطق بابا بكلمة «يهودي»‪ .‬ثم ساد الهدوء بينما كنا نصغي إلى بابا‪،‬‬
‫َّ‬
‫وصفقنا عندما نال بابل المركز األول في‬ ‫وهو يقرأ قصة أول برج حمام يقتنيه بابل‪،‬‬
‫ُ‬
‫ذهبت مع كوزما إلى بيت مفتش الضرائب‪ ،‬حيث وجد‬ ‫فصله‪ ،‬وانتهت القصة «وهكذا‬
‫والداي ً‬
‫مالذا من المذابح» تململ الرجال في مقاعدهم وقالوا «اهلل!»‪ ،‬كما يقولون‬
‫عند االستماع إلى السيدات وهن يغ ِّنين أغنيات جميلة في الراديو‪ .‬كان بابا وبابل‬
‫والشرب ولعب الكوتشينة‪ ،‬وصدر‬ ‫مثل س ِّيدة جميلة تغ ِّني‪ .‬واصل الرجال التدخين ُ‬
‫ُ‬
‫وأضأت‬ ‫ُ‬
‫دخلت الغرفة‬ ‫لي األمر بإعادة الكتاب إلى غرفة المكتبة الممتلئة باألرفف‪.‬‬
‫َّ‬
‫«إوزتي‬ ‫ُ‬
‫وجلست تحت ضوئه ألقرأ‪ .‬العنوان الذي جذبني كان‬ ‫مصباح القراءة لبابا‬
‫َّ‬
‫اإلوزة‪ ،‬وعلى‬ ‫األولى» فبدأت في قراءة القصة‪ ،‬ولكن فيما بعد شعرت بالحزن على‬

‫‪83‬‬
‫جرار‬
‫رندا ّ‬

‫ُ‬
‫وأخرجت‬ ‫ُ‬
‫ركضت إلى السطح‪،‬‬ ‫صاحبة المنزل‪ ،‬فأعدت الكتاب الى مكانه بسرعة‪.‬‬
‫ً‬
‫حمامة أمسكتها في راحة يدي‪ ،‬حتى تأكدت أن جميع الرجال قد غادروا المكان‪،‬‬
‫وأن غرفتي تنعم بالهدوء الكافي للنوم‪.‬‬
‫جميع الرجال في أسرتي كانوا ي َّتصفون بالخمول والكسل‪ ،‬وكانوا يقومون بأي عمل‬
‫سواء كان ذلك العمل عملًا حس ًنا أم س ِّي ًئا بكل تباطؤ‪ .‬هذا ما أخبرتني به ماما‪ ،‬ولكنها‬
‫كانت ممتعضة من حظها في الحياة‪ ،‬ومن حظ الرجال الذين كانوا يأتون لزيارتنا‬
‫من أعمام والدي وأبناء عمومتنا‪ ،‬الذين يعيشون في بطالة ودون بيوت تؤويهم‪ .‬ومع‬
‫ذلك كان عندي عمّ ان شهيران‪ ،‬كانا شهيرين في أسرتنا على األقل‪ .‬أحدهما اختطف‬
‫طائرة ففقد حياته‪ً ،‬‬
‫تاركا وراءه َّ‬
‫ست فتيات تزوّ جن جميعهن بعد ذلك تحت رعاية‬
‫منظمة التحرير الفلسطينية‪ .‬إحدى الفتيات انتقلت إلى تونس‪ ،‬وأصبحت المتحدثة‬
‫الصحفية لعرفات‪ ،‬وكتبت كتابًا عن حياة والدها ترجم إلى اللغة الفرنس َّية‪ ،‬وكان‬
‫بابا فخو ًرا بابنة أخيه‪ ،‬على الرغم أنها كانت تكبره في العمر‪ .‬العم اآلخر‪ ،‬مصطفى‪،‬‬
‫صغيرا ملح ًقا‬
‫ً‬ ‫متجرا‬
‫ً‬ ‫وتوجه إلى ديترويت‪ ،‬حيث اشترى‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫استقل طائرة في سالم‪،‬‬
‫بمحطة ملء الوقود‪ .‬لم يكن يمتلك البنزين‪ ،‬ولم يكسب الكثير من األموال‪ ،‬وكان‬
‫مضطرا لحمل السالح في متجره‪ ،‬ولكن‬
‫ً‬ ‫كل عمالئه من السود‪ .‬كان ع ِّمي مصطفى‬
‫في ليلة من الليالي قتله رجل أسود بغرض السرقة‪ .‬أرسلت لنا الشرطة األميركية‬
‫قوات الدفاع اإلسرائيلية احتجزته‬
‫بعض أغراضه في صندوق من ديترويت‪ ،‬ولكن َّ‬
‫ِّ‬
‫وتسلمه لنا‪ .‬كان الصندوق ِّ‬
‫فضي اللون‪،‬‬ ‫أخيرا‬
‫ً‬ ‫لثمانية شهور قبل أن تفرج عنه‬
‫ويبدو مثل نسخة معدنية من حقيبة أوراق بابا‪ .‬بداخله وجدنا بطاقات عليها أرقام‬
‫ُ‬
‫أخذت أنا إحداها خلسة‪ ،‬ووضعتها في‬ ‫ونقدية أميركية‪ ،‬وصو ًرا لس ِّيدات عاريات‬
‫جيبي‪ ،‬وأخذتها معي إلى السطح‪ ،‬ك ْيما أريها للحمام‪ .‬لم يتبق من الرجال في األسرة‬
‫سوى عمي حسن‪ ،‬الذي كان يعيش في بيروت‪ ،‬ويقوم بالتدريس في الجامعة اللبنانية‪،‬‬
‫َّ‬
‫المثقفين ضعفاء‪ .‬سألتني يومًا‪« :‬هل‬ ‫ووالدي‪ .‬ماما تعتقد بأنهما كسوالن‪ ،‬ألنها تعتبر‬
‫مرة أن تضغط على ذراع شاعر؟ ستجدها نحيفة‪ ،‬في نحافة ذراع فتاة صغيرة‪،‬‬ ‫جر َ‬
‫بت ّ‬ ‫ّ‬
‫وطراوتها‪ ،‬ليست ذراع رجل‪ .‬فهم ال يفعلون شي ًئا سوى أن يفكروا‪ ،‬وأثقل عبء‬
‫متكلفة‪« :‬متى ضغطت على ذراع‬ ‫ِّ‬ ‫يحملونه هو أقالمهم‪ ».‬فكان بابا يسألها في غيرة‬
‫خمسا وعشرين‬
‫ً‬ ‫شاعر؟» تفرقع ماما بلسانها أعلى سقف حلقها‪ ،‬وتقول إنها عاشت‬
‫سنة قبل أن تلتقي به‪ ،‬وضغطت على أذرع عدد ال بأس به من الشعراء‪ .‬كان يضحك‬

‫‪84‬‬
‫قصة بنايتي‬

‫في وجهها‪ ،‬فتقول إنه أكسل من أن يشعر بالغيرة الحقة‪ ،‬أو أن يفرض أي نظام على‬
‫ومرة أخرى أطلقت عليه صفة الكسل‪.‬‬ ‫يكن يجيب على اإلطالق‪َّ ،‬‬ ‫البيت‪ .‬هنا لم ْ‬
‫ُ‬
‫حفظت‬ ‫قضيت شهو ًرا طويلة أذاكر قبل امتحاناتي النهائية‪ ،‬ألثبت أ َّنني لست كسولًا‪.‬‬
‫ُ‬
‫ورواحا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جيئة‬ ‫ثالثة دواوين من الشعر بد ًءا بالمتن ِّبي حتى درويش‪ ،‬وكنت أذرع الغرفة‬
‫على إيقاع أبيات الشعر‪ ،‬ألنها كانت تساعدني على االستذكار أسرع‪ .‬كنت أحيانًا أشعر‬
‫أكرر أبيات درويش‪« :‬فاخرجوا من‬
‫تتجمع على حافة عيني‪ ،‬عندما ِّ‬
‫َّ‬ ‫بقطرات الدموع‬
‫برنا‪ ...‬من بحرنا‪ /‬من قمحنا‪ ...‬من ملحنا‪ ...‬من جرحنا‪ ».‬وعندما ُ‬
‫أصل‬ ‫أرضنا‪ /‬من ِّ‬
‫للمرة الخمسين‪ ،‬أو الستين من تكرارها‪ ،‬لم أكن أبكي على اإلطالق‪ ،‬ولكنني كنت‬
‫ألقي األبيات بغضب وإيمان‪ .‬كنت أفقد صوتي وال أجده سوى بعد أسبوع‪ .‬كنت أتناول‬
‫ساندويتشات الجبن التي كانت ماما تتركها خارج الباب‪ ،‬وأستيقظ في منتصف َّ‬
‫الليل‪،‬‬
‫َّ‬
‫وتتعقد داخل أحالمي‪ ،‬فيصبح كل شيء في رأسي‬ ‫ألن ُ‬
‫الجمل واألبيات كانت تتشابك‪،‬‬
‫عقدة مربوطة شبيهة بشعر أختي في الصباح‪ .‬لم أصعد إلى السطح ألرى حماماتي إال‬
‫ناد ًرا‪ .‬سمعت ماجدولين تتدرب على العزف على آلة الناي ذات ظهيرة فوق السطح‪.‬‬
‫كانت أمها تبغض الموسيقى‪ ،‬ولم تكن تسمح لها بالتدريب داخل الشقة‪ ،‬فكانت تأخذ‬
‫دروسا مجانية‬
‫ً‬ ‫استج َدت والدها ليشتريه لها‪ّ ،‬‬
‫وتلقت‬ ‫ْ‬ ‫الناي العتيق المتداعي – الذي‬
‫لتتعلمه في مركز غزة للطفل – وتصعد به إلى السطح لتم ِّتع آذان الطيور‪.‬‬
‫في يوم ‪ 20‬يونيو من عام ‪ 2006‬عُ ِّلقت قائمة خارج مكتب ناظر المدرسة تحوي‬
‫أسماء جميع التالميذ‪ ،‬وترتيبهم في النجاح‪ .‬جاء ترتيبي األول‪ .‬كان والدي يذهب‬
‫للنظر إلى تلك القائمة كل يوم‪ .‬وفي أمسية لعب الكوتشينة اصطحب جميع الرجال‬
‫للذهاب معه إلى المدرسة‪ ،‬لكي يشاهدوا اسمي مكتوبًًا فوق الورقة البيضاء‪ .‬عادوا‬
‫وهم يغنُّون‪ ،‬وسمعت صدى أغنية األبطال التي غنُّوها تأتي من ساحة المنزل‪.‬‬
‫ً‬
‫مستعدا لهم‪.‬‬ ‫أعددت نفسي لتهنئاتهم المخمورة‪ ،‬وعندما وصلوا إلى الشقة كنت‬ ‫ُ‬
‫حلبة رقص مؤ َّقتة كانت غرفة معيشتنا من‬‫حملوني على األعناق‪ ،‬وغنُّوا‪ ،‬ورقصوا في ْ‬
‫شهيدا‪ .‬قال إنّني ذكي‪ ،‬ومتفوق‪ ،‬وإن الوطن‬
‫ً‬ ‫قبل‪ .‬قال عمّ ي فوزي إنني ينبغي أال أصبح‬
‫ُ‬
‫نزلت بأقدامي على‬ ‫يحتاجني على قيد الحياة‪ .‬وافقه الرجال اآلخرون‪ ،‬وسرعان ما‬
‫مرة أخرى‪ .‬قال الرجال إنهم سيبنون لي برج حمام لالحتفال بنجاحي‪ .‬قلت لهم‬
‫األرض ّ‬
‫كبيرا فوق السطح‪ ،‬فقالوا لي إنه صغير‪ ،‬وال يليق بمقام أمير مثلي‪ .‬أراد‬
‫ً‬ ‫قفصا‬
‫إن عندي ً‬
‫عمي فوزي أن يصعد إلى السطح ليلقي نظرة عليه‪ ،‬ولك َّنني َّ‬
‫توسلت له بعيني أن يظلوا‬

‫‪85‬‬
‫جرار‬
‫رندا ّ‬

‫السكر هذه وهم يتساقطون من حافة السطح‪ ،‬مثل‬ ‫داخل البيت‪ .‬تخ َّيلتهم في حالة ُ‬
‫ّ‬
‫تتخطى حافة السور‪ ،‬ثم بعد لحظات‬ ‫شخصيات كرتونية تواصل سيرها ح ّتى بعد أن‬
‫مخلفة سحابة بيضاء حيث كانت أجسادها‪.‬‬ ‫معلقة في الهواء تهبط‪ِّ ،‬‬‫من البقاء َّ‬
‫ولك َّنهم صعدوا على أية حال‪ ،‬وارتقوا درجات َّ‬
‫السلم في طابور واحد‪ .‬وقفوا حول‬
‫قفصي وشبكوا أذرعهم‪.‬‬
‫ومرة ال‪».‬‬
‫مرة َّ‬
‫قال أحدهم‪« :‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬وألف َّ‬
‫وقال آخر‪« :‬ال‪».‬‬
‫وقال ع ِّمي فوزي‪« :‬ال» وقد بدا عاريًا دون عصاه‪.‬‬
‫قال بابا‪« :‬ال! سوف نبني لك برجً ا حقيق ًيا للحمام من الخشب‪ .‬وسوف نطليه‬
‫وسيكون داخله عشش تكفي لعشر حمامات‪».‬‬
‫مرة أخرى إلى َّ‬
‫الشقة‪،‬‬ ‫شعرت بفرحة غامرة‪ ،‬فقفزت‪ ،‬ألحتضن بابا‪ ،‬وأشكره‪ ،‬ثم عدنا َّ‬
‫َّ‬
‫الشقة‪،‬‬ ‫بمجرد خروج ع ِّمي فوزي سمعنا طلقات رصاص في الشارع‪ .‬دخلنا‬ ‫َّ‬ ‫ولكن‬
‫ْ‬
‫مرة أخرى بعد َّ‬
‫عدة دقائق‪ ،‬ثم خ َّيم السكون والهدوء‪.‬‬ ‫وانتظرنا‪ .‬انطلق الرصاص ّ‬
‫في بداية مساء اليوم التالي ذهبت للبحث عن الخشب والطالء لبرج حمامي‪ .‬كان‬
‫بائع المياه يسير في الشارع دون أي ماء‪ ،‬وهو يلعن بصوت مرتفع‪ ،‬وعلى بُعد عدة‬
‫طاووسا‪ .‬لمع الطاووس‬
‫ً‬ ‫مبان من شقتنا كان صب َّيان يط ِّيران طيارة زرقاء رسما فوقها‬
‫مبهرا مع خلفية السماء الرمادية؛ وكان الخيط الطويل يمر من قدمه‬
‫ً‬ ‫األزرق لمعانا‬
‫المرسومة إلى يد الصبي‪ .‬التفت الط َّيارة‪ ،‬وتأرجحت في الهواء‪.‬‬
‫في متجر المعدات‪ ،‬واألدوات جلس أبو عالم في كرسي مهتز‪ ،‬مستخدمًا منديله‬
‫الرجال سوف يصنعون لي برج حمام‪ ،‬فقال إنه سيعد‬
‫األبيض مروحة‪ .‬أخبرته أن ِّ‬
‫لهم الخشب‪ ،‬والطالء الالزم في بداية األسبوع التالي‪ .‬سألته‪ :‬لماذا سيستغرق كل‬
‫هذا الوقت؟ أجابني بأن أنظر حولي‪« :‬األمور فظيعة! افتح عينيك!»‪ ،‬وهذا ما فعلته‪.‬‬
‫جذبت جفوني إلى أعلى‪ ،‬ونظرت إلى الشارع‪ ،‬ولك ّنني رأيته كما دائ ًما على هيئته‪.‬‬
‫ُ‬
‫هززت كتفي‪ ،‬وسرت حول البناية عبر صالون الحالقة‪ ،‬ومتجر الطيور الذي كان‬
‫مغل ًقا‪ ،‬وعبر الفساتين‪ ،‬والبلوزات المتطايرة في السوق‪ ،‬وعبر عمّ و خضر الجالس في‬
‫كرسيه المتحرك‪ .‬كان في حجره علبة سجائر واحدة يحاول بيعها بالنداء عليها‪.‬‬
‫ُ‬
‫وبدأت طريق العودة إلى البيت‪ ،‬قبل أن تنتاب ماما حالة القلق‪.‬‬ ‫اختفت الشمس‪،‬‬
‫في نهاية شارع المنصورة‪ ،‬الذي يعتبر الشريان الرئيسي للحي‪ ،‬رأيت طابو ًرا‬

‫‪86‬‬
‫قصة بنايتي‬

‫صغيرا من الد َّبابات الخضراء‪ .‬استدرت وتوقفت‪.‬‬


‫ً‬
‫مرة أخرى وتوجهت ناحية الجنود الواقفين على األرض‪.‬‬
‫ثم استدرت ّ‬
‫قلت لهم‪« :‬أعيش في هذه البناية‪ .‬أعيش هنا‪ .‬في هذا الشارع‪ ...‬هل يمكن أن أعود‬
‫إلى بيتي؟»‬
‫أجاب جندي‪« :‬ال‪ ».‬كان طويلًا‪ ،‬ونحيلًا وبدت ساقاه في داخل حذائه الطويل‪ ،‬مثل‬
‫فصوص الفاصوليا الخضراء العمالقة داخل جيوب سوداء المعة‪« .‬هذا الشارع مغلق‪.‬‬
‫ممنوع الدخول‪ .‬اذهب بعيدا!»‬
‫«ولكن أين أذهب؟ ال بد أن أعود إلى البيت ألمي‪ .‬أسرتي هناك‪».‬‬
‫قال‪« :‬أي شعب هذا؟ يوجد شيطان بداخلكم‪ ،‬ألم تسمعني؟ ممنوع الدخول هنا!»‬
‫استدرت ناحية المسجد‪ ،‬ومررت في طريقي بعمّ و خضر ورأيته قد باع علبة‬
‫ُ‬
‫طلبت أن استخدمه فدفع به ناحيتي‬ ‫السجائر‪ ،‬ولديه اآلن هاتف نقال في حجره‪.‬‬
‫مرة ثانية‬ ‫ُ‬
‫وحاولت ّ‬ ‫ُ‬
‫طلبت أسرتي ولكن لم يكن هناك رد‪،‬‬ ‫بقبضة يده المعقوفة‪.‬‬
‫ُ‬
‫أعطيت الهاتف لعمّو خضر‪ ،‬وركضت إلى المسجد الذي‬ ‫وثالثة‪ ،‬ولكن لم يرد أحد‪.‬‬
‫بدت مئذنته رمادية وباهتة في سماء َّ‬
‫الليل الحالك‪.‬‬
‫محمد‬ ‫ُ‬
‫ونمت فوق حصيرة من القش‪ ،‬مثلما نام النبي َّ‬ ‫َّ‬
‫غطاني بعض الرجال ببطانية‪،‬‬
‫ُ‬
‫شعرت بالرعب‪،‬‬ ‫تدوي‪.‬‬ ‫ُ‬
‫سمعت أصوات قنابل‪ ،‬وطلقات ِّ‬ ‫اللَيل‬
‫ذات مرة‪ .‬وفي منتصف َّ‬
‫تبولت على الحصيرة القش‪ .‬استيقظت مبتلًا‪ ،‬ومفع ًما بالخزي‬
‫التبول‪ ،‬ولكنني َّ‬
‫وأردت ُّ‬
‫عائدا نحو شارعنا‪ .‬كانت الدبابات قد اختفت‪ ،‬ولكنني‬‫ً‬ ‫والعار‪ .‬في الصباح مشيت‬
‫رأيت الساحر ملقى على األرض ينزف دمًا‪ ،‬وقد سكن سكونًا تامًا‪ ،‬وكان ريشه‬
‫الملون بألوان قوس قزح ممتلئا ببقع الدم‪ .‬التقطته‪ ،‬وأسندته ناحية قلبي‪ ،‬وركضت‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫رأيت من بعد عدة أمتار أن البناية لم تعد هناك‪.‬‬ ‫نحو بنايتنا‪.‬‬
‫ً‬
‫مبتعدا‪ ،‬كما لو كنت أعيد شريط فيديو للوراء‪،‬‬ ‫ُ‬
‫استدرت ثانية‪ ،‬وركضت في الشارع‬
‫مرة أخرى إلى مكانها‪ .‬تناثر الطوب الرمادي‬ ‫ً‬
‫ثانية ستعود البناية ّ‬ ‫كما لو أنني اذا حاولت‬
‫ٌ‬
‫جبل من األحجار الخرسانية الرمادية المحروقة‪.‬‬ ‫على األرض وسرعان ما تراكم‬
‫كل شيء بدا بلون الطباشير الباهت تحت الطوب الرمادي المتفحِّ م‪ ،‬والطبقة الترابية‬
‫واألسرة‬
‫ّ‬ ‫فوق الجبل‪ .‬أقمشة بلون الطباشير‪ ،‬وقطع متناثرة من بقايا األحذية والستائر‬
‫والكراسي والمكاتب والطاوالت وشظايا المرايا واألرضيات والحوائط‪ ،‬وبعدها بقليل‬
‫‪ -‬بقايا البشر‪ .‬كنت أقف في مقبرة هائلة‪ ،‬محتض ًنا الساحر إلى صدري‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫جرار‬
‫رندا ّ‬

‫ُ‬
‫هويت على ركبتي من رائحة الخرسانة التي قصفت واألجساد التي احترقت‪،‬‬
‫أصفر لونه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وبينما استلقيت فوق الركام انسابت أحشاء الساحر في حجري الذي‬
‫انتشرت أشالؤه الرقيقة فوق جسمي‪ ،‬وفوق األجساد‪ ،‬والقطع المتبقية من منزلي‬
‫القابعة تحتي‪ .‬أقفل عيني‪ ،‬وأغلق جفني بقوة معًا‪ ،‬أغلق عيني اللتين طلب م ّني أبو‬
‫َّ‬
‫الممتد في‬ ‫عالم أن أفتحهما في متجر األدوات‪ .‬لم أود أن أرى العالم الرمادي الباهت‬
‫كل مكان حولي‪ .‬شعرت بشيء يلمس وجنتي‪ ،‬وحاولت أن أتحسسه‪ ،‬فلقد كان حادًا‪،‬‬
‫ُ‬
‫فوجئت بوخز من قطعة من‬ ‫وخش ًنا‪ ،‬مثل منقار طائر‪ ،‬ربما كان الناي ماجدولين‪.‬‬
‫الحجر البارد في مقعدتي ربما كانت رك ًنا من أركان الغرفة أو جز ًءا من السقف‪.‬‬
‫تشابكت أسالك تحت أقدامي‪ ،‬وكان ريش الساحر ناع ًما في راحة يدي مثلما كان‬
‫في الماضي‪ .‬واصلت إغالق عيني‪ ،‬وضغطت بجسمي داخل الركام‪ .‬هذا الحطام لم‬
‫يكن يشبه أي شيء ينتمي إلى الحياة‪ ،‬أو مثل الورقة البيضاء التي كتب عليها اسمي‬
‫خارج مكتب الناظر‪ ،‬أو مثل صوت بابا عندما كان يقرأ ترجماته‪ ،‬أو مثل أمي وهي‬
‫تداعبه‪ ،‬أو مثل أيدي ماجدولين‪ .‬جلست هناك وتمنيت أن يبتلعني الركام داخل‬
‫فمه القاسي‪ ،‬تمنيت لو انتميت إليه‪ .‬األرض من تحتي تفوح برائحة قوية‪ ،‬شممتها‬
‫عيني ثم فتحتهما ورأيت‬
‫ّ‬ ‫وبدأت في البكاء‪ .‬رفعت يدي من فوق الساحر ومسحت‬
‫الجبل الذي أجلس فوقه‪ .‬تركت الساحر فوق الجبل مع كل األشخاص اآلخرين من‬
‫البناية ومشيت عبر األنقاض‪َّ .‬‬
‫ذكرني ذلك بالوقت الذي سرت فيه عبر المقبرة حيث‬
‫ُدفن جدي‪ .‬لم تكن هناك أية عالمات سوى شواهد القبور وكنا أختي وأنا دائ ًما قلقين‬
‫أننا سنخطو بأقدامنا فوق األموات‪ .‬خطوت فوق األنقاض الرمادية الطباشيرية‪ ،‬بكيت‬
‫وأنا أسير في الشارع‪.‬‬
‫مررت بعمو خضر وأردت أن أتصل بأسرتي هاتف ًيا ً‬
‫مرة أخرى‪ .‬تخ َّيلت الهاتف األسود‬
‫مدفونًا يرن رنات مكتومة عبر جبل الموت الذي كان بنايتنا‪ .‬ناداني عمو خضر فجأة‬
‫اتجهت نحو‬
‫«مهند! يا مهند! فوزي كان يبحث عنك وهو منتظرك عند أبو عالم‪َّ ».‬‬
‫متجر األدوات والمعدات حيث جلس عمي فوزي متك ًئا على عصاه‪« .‬أين كنت َطوال‬
‫َّ‬
‫الليل؟ هل كنت تطير مثل شعرة مشاكسة؟ هل رأيت ما حدث؟»‬
‫أومأت برأسي‪.‬‬
‫قال‪« :‬ال تقلق‪ .‬كلهم ينتظرونك في بنايتي‪ .‬لقد اعتقدوا جميعًا أنك مت!»‬
‫ذهبت ناحية عمي فوزي واحتضنت كتفه المقوس‪ ،‬ور َّبت هو على ظهري‪ .‬وقف‬

‫‪88‬‬
‫قصة بنايتي‬

‫ً‬
‫بعيدا عن المتجر‪ ،‬وكم حسدت العصا‬ ‫وغرس عصاه في األرض البنية‪ ،‬وسرنا معًا‬
‫التي يمسك بها وتمنيت لو كانت يدي هي التي بقبضته‪.‬‬
‫وهكذا ذهبت مع ع ِّمي فوزي إلى بنايته حيث وجد والداي ً‬
‫مالذا من القصف‪.‬‬

‫قصة غير منشورة‪.‬‬


‫ترجمتها عن اإلنكليزية‪ :‬د‪ .‬أميرة نويرة‬

‫‪89‬‬
‫روزا ياسين حسن‬

‫مطلع رواية‬

‫حراس الهواء‬
‫ّ‬

‫ممر السفارة الطويل كانت تهرول!‬


‫في ّ‬
‫حذاؤها الشرقي من جلد البقر‪ -‬الذي ال تنتعل إاله ‪ -‬يكاد ال يطأ األرض الصقيلة‪،‬‬
‫تخب في‬
‫ّ‬ ‫مناوشا ظهرها‪ .‬بدت أشبه بجارية من عصر الرشيد‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وذيل الفرس يتطوّح‬
‫ممرات قصر الخالفة‪ ،‬رافلة في سروال رهيف فضفاض أرجواني اللون مزموم عند‬
‫ً‬
‫حقيقة‪ ،‬من أين استطاعت الحصول عليه في مدينة كدمشق‪،‬‬ ‫كاحليها‪ .‬ال أعرف‬
‫وفي أوائل األلفية الثالثة؟!‬
‫ّ‬
‫تتقطع‪:‬‬ ‫أتمكن من اللحاق بها آخر الممر حتى كادت أنفاسي‬‫لم ّ‬
‫‪ -‬مدام‪ ...‬مدام صوفي!‬
‫استدارت دهِشة كأن شي ًئا لم يكن‪ ،‬وابتسمت تحييني‪.‬‬
‫من يرى وجه مدام صوفي‪ ،‬مديرة العالقات العامة في السفارة‪ ،‬لن يقتنع أنه لظهر‬
‫المرأة نفسها! من الخلف لن أصدق أنها تجاوزت الخامسة عشرة أو السادسة عشرة‬
‫فيغص بتجاعيد دقيقة تحوّل صفحته الناصعة إلى ما‬
‫ّ‬ ‫على أبعد تقدير‪ ،‬أما وجهها‬
‫يشبه ساحة حرب‪.‬‬
‫سمحت مدام صوفي‪ ،‬كنت أريد أن أقول لك شي ًئا‪...‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬لو‬
‫‪Yes?! -‬‬
‫تطلب م ّني الدخول إلى مكتبها! مستعجلة كالعادة ًإذا‪ .‬وقفت منتظرة كالمي‪،‬‬
‫ْ‬ ‫لم‬
‫تصالب ساعديها على صدرها‪ .‬وأنا قررت أن أقنص الفرصة من فوري‪ ،‬وأبدأ بطلبي‪.‬‬
‫بادرتها بعربية فصحى‪:‬‬
‫‪ -‬إذا سمحت مدام صوفي‪ ،‬علينا أن نغيّر ترجمة كلمة ‪ officer‬لفظة ضابط وحدها‬
‫تجعل أولئك المساكين يرتجفون والدماء تصعد إلى وجوههم‪ .‬ال يمكن أليِّ عربي أن‬

‫‪90‬‬
‫حراس الهواء‬
‫ّ‬

‫ً‬
‫ضابطا مدن ًيا!‬ ‫يتخيّل‬
‫‪ !!.... -‬بدا عليها االمتعاض والمضض‪.‬‬
‫‪ -‬إنّه تاريخ طويل ّ‬
‫عشش في خاليا المخ‪ ،‬وليس من السهل تغييره‬
‫(‪)1‬‬
‫‪Well, I know that -‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫الدقة في الترجمة هي المطلب األول‪ ،‬لكن َط ْرقات قلوبهم تصلني من بعيد‬
‫كعصفور في قبضة صيّاد‪ .‬هل تفهمينني مدام؟‬
‫ً‬
‫مصغية كانت دون أي تعبير‬ ‫كل ما كان ينضح به وجه مدام صوفي‪.‬‬ ‫االستغراب‪ُّ ،‬‬
‫ّ‬
‫خاصة أن تغيير أية كلمة في‬ ‫واف!‬
‫ٍ‬ ‫آخر على مالمحها‪ .‬ربما كان شرحي غير‬
‫الترجمة سيتطلب إقناعً ا أكبر بالتأكيد‪ ،‬هذا إذا لم أطالَب برفع كتاب ِّ‬
‫خطي إلى‬
‫السفير‪.‬‬
‫مكتب ّ‬
‫حدقت مدام صوفي برهة في قبضتي المتش ِّنجة أمام وجهها والقابضة على عصفوري‬ ‫ّ‬
‫األثيري‪ .‬كانت تعابير وجهها ّ‬
‫تدل على أنّها تصغي‪ ،‬لك َّنها متجهِّمة وجد َّية على غير‬
‫بعيدا ع ِّني‪.‬‬
‫ً‬ ‫عادتها! اعتقدت للحظات أنها ستستدير من فورها‪ ،‬لتعود إلى الهرولة‬
‫لكن قبضتي لم تكد تسترخي‪ ،‬لتهوي إلى جنبي‪ ،‬حتى ابتسمت مدام صوفي ببطء‪،‬‬
‫َّ‬
‫مدت يدها لتربِّت على كتفي‪.‬‬ ‫ثم َّ‬
‫‪ -‬برافو أنات‪ ...‬برافو‪ ...‬أنت رائعة‪.‬‬
‫قالتها بعربية مجعلكة‪ ،‬وأردفت‪:‬‬
‫إلي‪ ،‬هذه المحبة في قلبك أهم من الد َّقة الحرفية للترجمة‪ ..‬قلبك‬
‫‪ -‬بالنسبة ّ‬
‫عطوف بين أضالعك الصغيرة‪.‬‬
‫قصدت أضالعي الضئيلة ربما!‬
‫أنهت جملتها‪َّ ،‬‬
‫وبشرتني بابتسامتها العريضة التي تظهر كامل اصطفاف أسنانها‬
‫الالمعة‪ .‬ابتسامة بيضاء كوجهها الذي ال يحمل أ َّية مالمح عربية‪.‬‬
‫‪Do whatever you think is best -‬‬
‫(‪)2‬‬

‫ً‬ ‫َّ‬
‫شدت قبضتها على كتفي قبل أن تتركني‪ ،‬وتبتعد في الممر الطويل‪ ،‬مؤرجحة شعرها‪.‬‬
‫صحت ْ‬
‫بإثرها‪:‬‬
‫‪ -‬مدام‪ ...‬ما رأيك بكلمة ‪ ،Boss‬أليست أفضل؟‬
‫واستمرت في خطواتها‬
‫َّ‬ ‫إلي‪،‬‬
‫رفعت إبهامها عال ًيا عالمة «األوكي» دون أن تلتفت َّ‬
‫العجلى التي يسمع حفيفها فحسب بين الجدران الباردة‪ .‬لوهلة بُعثت داخلي روحٌ‬

‫‪91‬‬
‫روزا ياسين حسن‬

‫طازجة ح َّي ٌة‪ .‬غمرني فجأة إحساس بالبهجة بينما كنت واقفة في الممر الطويل‬
‫ٌ‬
‫ب ُغرفه المتناظرة المصطفة على الجانبين‪.‬‬
‫وافقت مدام صوفي على اقتراحي‪ .‬هكذا بمنتهى البساطة!‬
‫ال أدري كيف تحمل تلك الكندية‪ -‬الباردة‪ ،‬البيضاء كالجبنة‪ -‬هذه الروح! لديها‬
‫نقي خالص‪ ،‬ربما كان الشيء الوحيد الذي ورثته عن أبيها اللبناني األصل‪.‬‬ ‫قلب ّ‬
‫قالت لي يومًا إنه قضى حياته يتنقل بين بلدان العالم في سيّارات اإلسعاف التابعة‬
‫للصليب األحمر‪ .‬لم يشتعل نزاع في أي من مناطق العالم إال حضره‪ ،‬لم تنشب حرب‬
‫إال كان بين الطاقم الط ِّبي فيها! ربما كان في األمر مبالغة ما! لك َّنه‪ ،‬كما قالت لي‬
‫ً‬
‫شاهدا في حرب دارفور‪ ،‬في البوسنة والهرسك‪ ،‬وحتى في أفغانستان!‬ ‫صوفي‪ ،‬كان‬
‫‪ -‬ثم مات‪ ،‬ويا لسخرية األمر‪ ،‬في إحدى جائحات المالريا في إفريقيا‪.‬‬
‫‪!!...-‬‬
‫لم أعرف وقتئذ ما السخرية في الموضوع! هل كان ينبغي أن يموت عجوز مثله‪،‬‬
‫لكن مدام صوفي تعتقد‬
‫ساخرا؟! ْ‬
‫ً‬ ‫بقنبلة أو صاروخ‪ ،‬كي يغدو األمر تراجيديًّا وليس‬
‫أن أباها دفن في إفريقيا في إحدى المقابر الجماعية الكثيرة المنتشرة هناك‪.‬‬
‫المهم‪ ،‬إنجازي سيبدل يومي الس ِّيئ‪ ،‬سيجعل األفكار السوداء‪ ،‬التي رافقتني منذ‬
‫تتبدد‪ ،‬تتالشى كغيمة زائفة‪ .‬باستخدام كلمة ‪ Boss‬لن أُج َبر يومًا بعد يوم‬
‫الصباح‪َّ ،‬‬
‫على مراقبة عيونهم الفزعة‪ ،‬وهم يقومون بتأدية التح َّية العسكر َّية أمام (الضابط)!‬
‫قوة‪ ،‬كأنهم عساكر في مشهد كوميدي‬ ‫ضاربين األرض بأقدامهم ِّ‬
‫بكل ما أوتوا من َّ‬
‫أشبه بالتهريج‪.‬‬

‫***‬

‫تأخرت عن موعد المقابالت‪.‬‬


‫ال َّ‬
‫بد أن الضابط الكندي‪ -‬أو عف ًوا المدير الكندي‪ -‬قد استاء من طول انتظاري‪.‬‬
‫الممرات جيئة وذهابًا خارج غرفته‪،‬‬
‫َّ‬ ‫والذين ستتم مقابلتهم اليوم راحوا يذرعون‬
‫وقد أخذ القلق ينهشهم أعمق فأعمق‪ ،‬في انتظار فتح األبواب ب ّنية اللون والشروع‬
‫في المقابالت‪ .‬انتابتها رغبة بالتق ُّيؤ‪ ،‬أنستها فرحها الطارئ بالنصر على ال ُّلغة‪ .‬إنه‬
‫شعور الغثيان الذي راح يجتاحها حالما وطئت هذه العتبة‪ .‬ربما عمل الدفء َّ‬
‫اللزج‬

‫‪92‬‬
‫حراس الهواء‬
‫ّ‬

‫َّ‬
‫السخانة‬ ‫على تصعيب األمر أكثر‪ .‬كان المكيّف يضخُّ الحرارة في الغرفة‪ ،‬كذلك‬
‫المدورة‪ ،‬التي يضعها المدير قرب قدميه‪ ،‬وتتصاعد منها ه َبلَة‬
‫َّ‬ ‫الكهربائية الصغيرة‬
‫القهوة في الركوة النحاسية‪.‬‬
‫المدير من دائرة الهجرة والتجنيس الكندية تفرزه المفوض َّية العليا لالجئين كي‬
‫يقوم بدراسة حاالت اللجوء بكافة أشكاله إلى كندا‪ .‬وهو اآلن‪ِّ -‬‬
‫ككل صباح منذ سنتين‬
‫يتفحص األوراق أمامه على المكتب‪َّ ،‬تلة من المص َّنفات‬
‫َّ‬ ‫ونصف وحتى َّ‬
‫اللحظة‪-‬‬
‫الملونة والرسومات‪ .‬كان يبدو متضاي ًقا وحزي ًنا على غير عادته‬
‫َّ‬ ‫تغص باألوراق‬
‫ُّ‬
‫الصباح ِّية‪ ،‬يرتشف قهوته العرب ِّية من كوب خزفي بحجم القبضة‪.‬‬
‫القهوة هي الشيء الوحيد الذي أح َّبه جوناثان غرين هنا‪ ،‬إضافة إلى عيون‬
‫المكحلة‪ ،‬حسب تعبيره‪ .‬ح َّيته عنات‪:‬‬
‫َّ‬ ‫الدمشقيات‬
‫(‪)3‬‬
‫‪Hi Jon; how are you? -‬‬
‫لم يجب‪.‬‬
‫رفع رأسه عن األوراق‪ ،‬ظهرت على وجهه ابتسامة حزينة تحوّلت تدريج ًّيا إلى‬
‫تكشيرة‪ ،‬ثم عاد يدفن رأسه في َّ‬
‫التلة! ال بد أنه يتفحّ ص التقرير الطبي لطالب اللجوء‬
‫الجديد الذي سيقابله للتو‪ ،‬والذي على عنات إسماعيل أن تترجم مقابلته‪.‬‬
‫اقتربت منه حيث كرسيها المعدني يالصق كرسيه وراء المكتب‪ ،‬ولمحت من‬
‫المص َّنف األزرق األنيق ورقة مليئة بالتواقيع‪ ،‬وجان ًبا من صورة جسد محروق‪.‬‬
‫‪Uh, how is the baby? -‬‬
‫(‪)4‬‬

‫ً‬
‫يدس الصورة بين األوراق‪ ،‬ثم ربّت على بطنها ضاحكا‪.‬‬
‫صاح بلكنة ممطوطة وهو ّ‬
‫أحس بصدمتها حين لمحت الصورة أمامه‪ ،‬أو بانزعاجها الواضح على مالمح‬
‫ّ‬ ‫ربما‬
‫وجهها‪ ،‬ورائحة الغرفة تأتيها كمزيج من رائحة صديد ودم فاسد‪.‬‬
‫(‪)5‬‬
‫‪Fine... -‬‬
‫تحسست بطنها التي تكتنف طفلها في بداية شهر الحمل‬
‫َّ‬ ‫اصطنعت االبتسام‪ ،‬ثم‬
‫الثالث‪ .‬على المكتب تقرير جديد للمفوض ِّية العليا لالجئين باللغة اإلنكليزية أدرجت‬
‫ّ‬
‫وتدخل المفوض ِّية‪ .‬ربما رغبت‬ ‫فيه األعداد المقدرة لألشخاص المستحقين اهتمام‬
‫عنات‪ ،‬عبر قراءتها له‪ ،‬في الخروج من حالة الغثيان‪ ،‬أن تنتقل من براثن عالمها‬
‫الصغير‪ ،‬الذي يضغط على روحها وتفكيرها‪ ،‬إلى عالم أكبر‪.‬‬
‫ملفت‪ .‬أوروبا تأتي بعدها‪ ،‬بما في‬
‫ٍ‬ ‫بشكل‬
‫ٍ‬ ‫العدد المقدر لالجئين في آسيا هو األكبر‬

‫‪93‬‬
‫روزا ياسين حسن‬

‫ذلك البوسنة والهرسك‪ ،‬وفلول الشيوعية‪ ،‬وما إلى ذلك‪ .‬التقرير ذاك لم يكن مذيّلًا‬
‫سيمر هنا‪ ،‬على األرجح‪ ،‬كورقة‬
‫ُّ‬ ‫بتاريخ! لكن من الواضح أن زم ًنا طويلًا لم يفت عليه‪.‬‬
‫سلة المهمالت! لكنه بالتأكيد‬ ‫ال نف َع لها‪ ،‬وربما رم ْت ُه العاملة بعد انتهاء الدوام في َّ‬
‫يمر في أماكنَ أخرى من العالم بمثل هذه السلبية‪.‬‬
‫لن ّ‬
‫بتر جون شروده‪ ،‬شارحً ا لها بعض المعلومات عن طالب اللجوء األول لهذا اليوم‬
‫وقصته المكتوبة في التقرير‪ .‬قرأت له ما ورد في التقرير‪.‬‬
‫اسمه سالفا كواجي‪ .‬شاب سوداني مسيحي من الجنوب‪ .‬كان منتم ًيا إلى الحركة‬
‫الشعبية لتحرير السودان‪ ،‬حركة جون قرنق‪ ،‬كما كانوا يطلقون عليها‪ ،‬ثم انخرط‬
‫في الجيش الشعبي التابع لها‪ ،‬في القوات الراجلة حاملة «األربيجي»‪ ،‬ليخوض الحرب‬
‫األهلية التي امتدت أكثر من عشرين عامًا بين الشمال والجنوب‪ .‬إثر ذلك بقي شهو ًرا‬
‫أسيرا في يد جنود البشير‪ ،‬قبل أن يُطلَق سراحه في تبادل األسرى‪.‬‬
‫ً‬ ‫طويلة‬
‫وحيدا بعد أن ُقتل معظم أهله على مدار الحروب‪.‬‬
‫ً‬ ‫سالفا غير متزوج‪ .‬يعيش‬
‫يخص القصص الجديدة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ومأخوذا‪ ،‬كما هي عادته دومًا فيما‬ ‫ً‬
‫منهمكا‬ ‫كان جوناثان‬
‫بينما أشعر في لحظة كهذه برغبة في التقيؤ‪ ،‬بصداع لئيم يعتصر دماغي‪ ،‬ويجعلني‬
‫أتهاوى على كرسيي الجلدي األسود‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫إلي قل ًقا وأمسك بيدي ماطا إنكليزيته‬
‫يظهر أن وجهي بدا شاح ًبا كاألموات حتى التفت ّ‬
‫أكثر‪:‬‬
‫(‪)6‬‬
‫‪If you are tired, Annat, we can postpone today's meetings -‬‬
‫(‪)7‬‬
‫‪Don't worry, I'll be fine -‬‬
‫جوناثان غرين‪ ،‬على الرغم من برودته التي تستفزني‪ ،‬رفيقي شبه اليومي‬
‫وصديقي طيلة السنوات الثالث المنصرمة‪ .‬سأحزن عليه حين يغادر قري ًبا‪ ،‬وقت‬
‫ّ‬
‫المحددة هنا في السفارة‪.‬‬ ‫تنتهي مدة عمله‬
‫إلي‪ .‬شعره كان فض ًّيا مع‬
‫حين التقينا للمرة األولى بدت قامته عمالقة بالنسبة ّ‬
‫قليل من الظالل السوداء‪ ،‬فيما عيناه الزرقاوان جاحظتان مع كثير من البياض‪ ،‬األمر‬
‫الذي يجعل نظراته أشبه بمشاريع لالنقضاض على فريسة‪.‬‬
‫اليوم أضحى شعر جوناثان أبيض تمامًا دون أي ظالل‪.‬‬
‫في اليوم التالي للقائنا األول دعاني‪ ،‬بعد انتهاء العمل‪ ،‬لنتناول العشاء معًا‪ ،‬ومن ثم‬
‫كأسا من التيكيال‪ .‬قال‪ ،‬محاولًا إغرائي‪ ،‬إنه سيجعلني أشربها على الطريقة‬
‫لنشرب ً‬

‫‪94‬‬
‫حراس الهواء‬
‫ّ‬

‫المكسيكية‪ُ ،‬‬
‫فألمّه أصول التينية من بلدة صغيرة على خليج المكسيك‪ ،‬وهو يحمل‬
‫جينات جنوبية في دمه أكثر بكثير من تلك األميركية الشمالية‪ .‬على الرغم من‬
‫عدم اقتناعي بتلك الكذبة‪ ،‬قبلت الدعوة يومذاك‪ .‬كان خوليو يمأل المكان بأغنيته‬
‫الشهيرة ‪ ، When I Need You‬وأنا ّ‬
‫أحس بارتباك كبير لم أعهده قبلًا! طلبنا طبقين‬
‫من الدجاج مع شرائح البصل والفليفلة والفطر‪ ،‬على الطريقة المكسيكية طبعًا‪.‬‬
‫وكان علي‪ ،‬نزولًا عند أمر جون‪ ،‬أن أفرغ كأس التيكيال الصغير في فمي‪ ،‬كما فعل هو‬
‫تمامًا‪ ،‬ثم أرشف بعده مباشرة شريحة الليمون المضمّخة بالملح‪ ،‬والموضوعة فوق‬
‫ّ‬
‫ملتذة بمرارتها الالذعة!‬ ‫الكأس كغطاء‪ ،‬وأمضغ قشرتها‬
‫ذاك السائل الناري الذي حرق جوفي بالكامل خالل مسيرته إلى معدتي جعل‬
‫جوناثان غرين‪ ،‬الضخم كعمالق وذا العيون الزجاجية الجاحظة‪ ،‬صديقي منذ تلك‬
‫ّ‬
‫الشكاكة تحاملت على نفسي‪ ،‬مجاهدة أن أبتسم‪،‬‬ ‫اللحظة وحتى اليوم‪ .‬ألريح تحديقاته‬
‫مجاهدة أن أستقيم مسندة ساعدي على المكتب‪ ،‬استعدادًا الستقبال السوداني‪ .‬ال‬
‫أبتغي أن تجتاحني عقدة الذنب اآلن‪ ،‬ال أريد أن أشعر بها تجاه ِّ‬
‫كل أولئك المنتظرين‬
‫ً‬
‫بعيدا عن المكتب‪ ،‬ورشفت‬ ‫ّ‬
‫السخانة بقدمي‬ ‫خارجً ا والذين هم بحاجة لي‪ .‬دفعت‬
‫قليلًا من القهوة اللزجة الباردة من فنجان جون‪.‬‬
‫بدلًا من دخول شاب جسيم بعيون جريئة‪ ،‬كما تخيلت سالفا كواجي‪ُ ،‬ش َّق الباب‬
‫قليلًا‪ ،‬وامتد منه رأس صغير أسود‪ .‬لم يكن ي ّتضح من الكتلة المستديرة القاتمة إال‬
‫بريق عينين وديعتين وآسرتين‪ ،‬يمور الندى داخلهما كنجوم محتشدة‪ .‬كان سالفا‬
‫يتفحصنا واألثاث المحيط بريبة وهلع‪ ،‬كأنه يدخل‬
‫َّ‬ ‫يدور بعينيه في فضاء الغرفة‪،‬‬
‫غرفة إعدامه‪ .‬انتظرنا لحظات حتى سبر الشاب كامل التفاصيل البسيطة‪ ،‬ثم دلف‬
‫التفر َس المحموم في ِّ‬
‫كل ما حوله‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫بتردد وصمت إلينا‪ ،‬وعيناه ما تزاالن تتابعان‬
‫هنيهات‪..‬‬
‫ساترا وسطه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مباعدا ساقيه‪،‬‬ ‫ثم بدا أن مالمحه أخذت باالنبساط‪ .‬وقف في الوسط‬
‫بكفيه كالعب كرة قدم سيصدُّ للتو ضربة على مرماه‪.‬‬
‫(‪)8‬‬
‫‪So.. Your name is Salva Quajee -‬‬
‫ابتسم جون مشجِّ عًا‪.‬‬
‫هزَّ الشاب رأسه‪ .‬كانت وجنتاه فسيحتين تشغالن معظم مساحة وجهه‪ .‬حلق‬
‫عرفته بعربية فصحى إلى جوناثان‪ ،‬المدير الكندي الذي سيكون‬
‫لحيته بعناية‪َّ .‬‬

‫‪95‬‬
‫روزا ياسين حسن‬

‫أحد مقرري مصير لجوئه‪ ،‬ودعوته للجلوس على كرسي معدني بجلسة جلدية‬
‫أرجوانية قبالة المكتب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫اطمأن سالفا‪ ،‬استرخت مالمحه‪ ،‬وهمّ بالجلوس‪ .‬فجأة لمحت عيناه السخانة‬
‫الكهربائية الصغيرة جانب المكتب التي سبق أن أبعدتها بقدمي‪ .‬انتفض ً‬
‫واقفا بشكل‬
‫مباغت‪ ،‬وهو يشير برعب إليها‪ ،‬ثم انطلق هاربًا خارج الغرفة كالممسوس وهو يهمهم‬
‫بكلمات غريبة‪.‬‬
‫إلي‪ ،‬بل صاع ًقا‪ .‬لك َّنه لدى جون لم يبد كذلك‪َّ .‬‬
‫طوح‬ ‫الموقف كان مفاج ًئا بالنسبة ّ‬
‫برأسه أسيانًا‪ ،‬ثم طلب من الحاجبة أن تقدم لسالفا شي ًئا يشربه في الخارج‪ ،‬لربما‬
‫َّ‬
‫هدأ ذلك من أعصابه‪ .‬ثم صاح بعرب ِّية مضحكة‪:‬‬
‫‪ -‬اللي بعدو‪.‬‬
‫مقربًا رأسه مني‪:‬‬
‫أما لي فقد همس ِّ‬
‫‪They tortured him with an electric heater, similar to this one… -‬‬
‫(‪)9‬‬
‫!‪Look‬‬
‫وبسط أمامي صورة فوتوغرافية كبيرة لجذع سالفا األسود َّ‬
‫الل َّماع وقد شعّت عليه دائرة‬
‫قرمزية مائلة للبني وسمت كامل بطنه الضامر‪ ،‬ونفرت قليلًا منه‪ .‬كانت تبدو دقيقة‬
‫الخطوط كأنها رسمت بيد فنان! ًإذا هو الحرق الذي لمحت طرفه حين وصلت‪.‬‬
‫اجتاحني شعور الغثيان َّ‬
‫أشد مما كان‪ .‬غدت الغرفة أضيق من قبر يضغط على‬
‫تحول إلى غرفة للتعذيب! ليس غري ًبا أن أفكر بالموت منذ الصباح‬‫صدري‪ .‬العالم َّ‬
‫َّ‬
‫ووضعي هذا أسوأ منه! والعار يجعلني أتجلل به ألنِّي أخوض في الموت‪ ،‬وأنا أكتنف‬
‫في أحشائي َّ‬
‫كل الجمال‪.‬‬
‫تعرض له طالب اللجوء!‬ ‫ّ‬
‫كل التقارير الطبية تبيّن دومًا التبعات الجسدية لما َّ‬
‫تحولت إلى‬ ‫التبعات الجسدية فحسب‪ ،‬وربما التبعات النفسية الواضحة‪ ،‬أي التي َّ‬
‫ثمة الكثير من طالبي اللجوء ش ِّوهوا‪ ،‬م ُِّزقت‬
‫لكن َّ‬ ‫َّ‬
‫مشخصة جل َّية‪ْ ،‬‬ ‫أمراض عصبية‬
‫دواخلهم وعطبت أرواحهم‪ ،‬دون أن تكون هناك عالمات على أجسادهم‪ .‬كم كانت‬
‫فرصة أولئك أقل! ذلك أن َّ َ‬
‫كل ما يقولونه كان يوضع في زاوية التشكيك!‬

‫‪96‬‬
‫حراس الهواء‬
‫ّ‬

‫‪ 1‬أعلم ذلك ج ِّي ًدا‪.‬‬


‫‪ 2‬افعلي ما ترينه األفضل‪.‬‬
‫‪ 3‬مرحبا جون‪ ،‬كيف حالك؟‬
‫‪ 4‬كيف هو الجنين؟‬
‫‪ 5‬ج ِّيد‪.‬‬
‫‪ 6‬إذا كنت متعبة عنات‪ ،‬نستطيع تأجيل مقابالت اليوم‪.‬‬
‫‪ 7‬ال تقلق سأكون بخير‪.‬‬
‫‪ً 8‬إذا‪ ..‬اسمك سالفا كواجي‪.‬‬
‫بسخانة كهربائية مشابهة لهذه‪ ..‬انظري‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عذبوه‬ ‫‪َّ 9‬‬

‫فصل من رواية «حراس الهواء» دار رياض الريس‪ ،‬بيروت ‪2009‬‬

‫‪97‬‬
‫زكي بيضون‬

‫قصائد‬

‫رحيل السماء‬

‫وفراغ غريب‪ ،‬كأن ّ‬


‫عداد األفكار اليومي‬ ‫ٍ‬ ‫بقلق‬
‫ذات يوم استيقظ الناس وهم يشعرون ٍ‬
‫ناقصا‪ .‬كالعادة عندما يشعرون‬ ‫ً‬
‫مغلوطا‪ ،‬كأن جز ًءا ال يتجزأ من فكرة ال َّناس كان ً‬ ‫كان‬
‫لتنشق بعض الفضاء‪ ،‬وهنا َّ‬
‫تجلى لهم الحدث‬ ‫بالحيرة بدأوا يتوافدون على الشرفات ُّ‬
‫المهول‪ :‬لقد رحلت السماء‪ ...‬نعم‪ ،‬الشمس والقمر والكواكب والنجوم وذلك الفضاء‬
‫كل ذلك اختفى ولم يبق سوى فراغ‬ ‫الالمتناهي الذي ي َّتسع ِّ‬
‫لكل خياالتنا وتأمالتنا‪ُّ ،‬‬
‫مرعب كنافذة جهنمية مفتوحة على المطلق‪ .‬نعم‪ ،‬لقد فات العلماء والفالسفة أن‬
‫السماء كائن حساس‪ ،‬وقد ضاقت ذرعً ا بانتهاكهم وتجاهلهم لها‪ ،‬لذا رحلت ضاربة‬
‫عُ رض الحائط ِّ‬
‫بكل القوانين الفيزيائية‪ .‬فشلت مساعي البلدية لتهدئة الوضع بإقامة‬
‫خيمة زرقاء كبيرة‪.‬‬
‫لم يكن من الممكن تجاهل األمر ومتابعة البداهة اليومية كأن شي ًئا لم يحدث‪،‬‬
‫فالسماء ليست هي نفسها‪ ...‬بال سماء‪.‬‬
‫كأن العقاب على الخطيئة الكبرى الذي ّ‬
‫حذر منه رجال الدين قد وقع أخيرا‪،‬‬ ‫َّ‬
‫نمل مجنون‪ ،‬وهم ال يستطيعون احتمال‬ ‫لذا دار الناس وتبعثروا في الشوارع ّ‬
‫كعش ٍ‬
‫الالفكرة المرعبة فوق رؤوسهم‪.‬‬
‫لم يكن بإمكان ذلك أن يستمر إلى ما ال نهاية‪ ...‬مع ذلك فالمشكلة لم ُتحل‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫قصائد‬

‫بائع الموت‬

‫طبق‬
‫أقدمـه غري ًبا من اللحظات الهاربة والهمسات المختنقة على ٍ‬ ‫أنا بائع الموت‪ّ ،‬‬
‫من ْ‬
‫أن أملك وجهًا‪،‬‬ ‫أن َّ‬
‫أتكلم‪ ،‬متواض ٌع أكثر ْ‬ ‫من ْ‬
‫من رخام‪ .‬أنا بائع الموت‪ ،‬صريحٌ أكثر ْ‬
‫اب عجوز‪.‬‬ ‫ً‬
‫فكرة ما تشبه الصمت النعس في رأس ب ّو ٍ‬ ‫أمارس‬
‫وحده الموت ال يكذب‪ّ ،‬‬
‫ألن الزمن ليس سوى غفلة إله ال يجرؤ على االستيقاظ‪.‬‬

‫صوت البداية‬

‫الصمت‪ ...‬صوت البداية‪.‬‬


‫على القمة‪ ،‬ال أحد يسمع سوى ّ‬
‫ٌ‬
‫نظرة من سراب‪.‬‬ ‫هي مرايا النعاس‪ ،‬روح الماء‪ٌ ،‬‬
‫يد من غبار‪،‬‬
‫تتعرق في عي َني‬
‫شمس ثملة َّ‬
‫ٌ‬ ‫أو هي‬
‫يداي في الماء‬
‫وجهي هاوية من الهواء‬
‫تتعرى من لوعتها على حا َّفة ٍ‬
‫فجر ذائب‬ ‫الشمس َّ‬
‫ً‬
‫لوعة سكر َّية في فمي‬ ‫أو هو قلبي يذوب‬
‫أفكاري بطعم الماء‬
‫دمي عصير تفاح‬
‫أنكشي قلبي يا حبيبتي‪ ،‬قد تجدين ذه ًبا مي ًتا‪ ،‬أل ًما يبتسم‪.‬‬
‫الي‪ ،‬حتى السماء عليها أن تتجاوز نفسها بال توقف‬ ‫اليوم‪ ،‬الغروب ك ُّله يعود ّ‬
‫لتتدارك مدى نظراتي‪.‬‬

‫ٌ‬
‫بحيرة من الرياح تلفح وجه العالم‪ .‬وجهي‪ ،‬ستار الجهة األخرى المنكشف‬ ‫وجهي‪،‬‬
‫فقط عند نافذة العينين‪ .‬وجهي قناع األبدية‪ ،‬صرختي الصامتة التي ستعبر أشد‬
‫دقيق من الضوء‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫شعاع‬
‫ٍ‬ ‫العواصف صخ ًبا وجنونًا بصالبة‬
‫على القمّ ة‪ ،‬هو الصمت وحده يسمعه العالم‪ ...‬صوت البداية‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫زكي بيضون‬

‫اإلمبراطور وبوابة السنديان‬

‫قرر اإلمبراطور األكبر أن يصل إلى حا َّفة الوجود ويبلغ نهاية الكون‪ ،‬لذا جهَّز‬
‫ّ‬
‫جيوشه وانطلق على بركة اهلل‪.‬‬
‫ومجرات وثقوبًا سوداء‪.‬‬
‫َّ‬ ‫عبر جبالًا ووُ ديانًا وبالدًا وأفكا ًرا‪ ،‬عبر سماوات وعوالم‬
‫كل شيء حتى بدا له كأ َّنه عبر العبور نفسه‪ ،‬إلى أن وصل في النهاية إلى‬ ‫عبر َّ‬
‫حائط أسود وعظيم االمتداد‪ .‬حاول اختراق الحائط بقنابله الذرية والهيدروجينية‬
‫ولم ينجح‪ ،‬فعلى ما يبدو كان ذلك الحائط أصلب ما في الوجود باعتبار ّأنه ال شيء‬
‫جرد امبراطورنا العظيم حملة أخرى للبحث عن نهاية هذا الحائط‪.‬‬
‫خلفه‪ .‬لذا فقد َّ‬
‫بعد سنوات فوجئ بأن تلك النهاية لم تكن سوى بداية حائط آخر‪ .‬هكذا ولقرون‬
‫ً‬
‫حائطا اال ليبدأ آخر‪.‬‬ ‫الصماء‪ ،‬ولم يكن ينهي‬
‫َّ‬ ‫طويلة َّ‬
‫ظل إمبراطورنا يصطدم بالحيطان‬
‫إال أنه في النهاية‪ ،‬في نهاية النهاية وصل ولفرط دهشته إلى آخر ما كان يمكن أن‬
‫بوابة صغيرة‬ ‫يتوقعه في سعيه اإلمبراطوري العظيم‪ .‬وجد نفسه وجهًا لوجه أمام َّ‬
‫من خشب السنديان‪ ،‬وقف أمامها مذهولًا وتوقفت وراءه جيوشه الكون َّية‪ .‬شي ًئا‬
‫فشي ًئا بدأت حيرة وفراغ الموقف تبدد‪ ،‬عندها تل َّبست اإلمبراطور العظيم روح لطيفة‪،‬‬
‫البوابة برفق‪ ،‬ثم همس‪« :‬من هناك؟»‬
‫تقدم وطرق َّ‬ ‫فخلع عنه هيبته اإلمبراطور َّية‪ّ ،‬‬
‫مما وراء الصمت‪« :‬نحن الحمقى الذين من األبد وإلى األبد‬
‫آت َّ‬ ‫ٌ‬
‫صوت عميق ٍ‬ ‫فأجابه‬
‫لن نخرج من هذه الغرفة‪».‬‬

‫خيانة‬

‫بلغة ال أفهمها‪ ،‬عيناي تفضيان بالكثير‪.‬‬‫عيناي تقوالن الكثير ٍ‬


‫اللسان وعلقت في العينين‪.‬‬ ‫مرت ولم تقل‪ ،‬ح َّ ّتى غفل عنها ِّ‬
‫أشياء كثيرة َّ‬
‫يتحمل وزر الجريمة‪.‬‬‫َّ‬ ‫الشاهد األخرس وحده‬‫َّ‬
‫عيناي تخذالنني بال ّ‬
‫توقف ‪ :‬ما تقوله عيناي ال أراه‪ ...‬إال في عيون اآلخرين‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫قصائد‬

‫الصالة‬

‫حينما أمشي أحاول أن أحاكي األفق‪ ،‬ألن ال شيء أصغر من هذه اللحظة‪.‬‬
‫الخالق العجوز يطبخ جريمته على مهل‪ .‬نافذة عمياء ال تنفك تقذف أمامها بفجاجة‬
‫فكرة هذا العالم‪.‬‬
‫ً‬
‫جيدا‪ :‬األبد َّية طبخة ال تصلح إال على نار خفيفة‪.‬‬ ‫هذا ما يعرفه الكهنة‬
‫الصالة والصبر‪ ،‬زاد المؤمنين‪.‬‬
‫طوبى للسماء‪ ،‬ذلك العصفور األزرق الهائل والشامل ينطلق بال نهاية‪ ،‬أف ًقا‬
‫جامحً ا تغيب فيه األمكنة‪.‬‬
‫طوبى للصمت‪ ،‬كائن خجول ال ينفك يفسح الكالم لغيره‪.‬‬
‫طوبى للعالَم‪ ،‬رجل ساذج بلغت به الحماقة أن سجن نفسه داخل نفسه‪.‬‬
‫لحقيقة ال تملك وجهًا‪ ،‬ذلك الثقب الوحيد على هامش األرق‪ ،‬رنين‬
‫ٍ‬ ‫طوبى‬
‫القلق‪ ،‬عواء الوقت المستوحد‪.‬‬
‫ليس القمر الجريح ما يقلق الليل‪ ،‬بل هو األلم الذي يستريح‪.‬‬
‫حينما أمشي أحاول أن أحاكي األفق‪ ،‬ألن َّ‬
‫اللحظات المغتربة ليست سوى لهجة‬
‫ً‬
‫متنكرة‪ ،‬وما األفق إال حافة النظر المتعب‪.‬‬ ‫القدر‬

‫«كوجيتو» شخصي‬

‫أخيرا‪ ،‬وبعد اثنين وعشرين عامًا من االستغفال‪ ،‬صرت أعرف ما أنا ‪ :‬أنا تلفزيون‬
‫ً‬
‫مشوشة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫بحث ال تشبع عن قناة غير‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫معطل‪ ...‬وحياتي عمل َّية‬

‫تجرها األزهار‬
‫عربة كسولة ُّ‬

‫جسر ألشباح الشمس‪ ،‬ما ٌء‬


‫ٌ‬ ‫همسة عمياء في فم إعصار‪ .‬أمشي‪ ،‬عيناي‬
‫ٍ‬ ‫لست سوى‬
‫أسراب من السنونو تغرب في أفقي‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ثقيل في قلبي‪ .‬أمشي‪ ،‬أجري في أنهار رأسي‪،‬‬

‫‪101‬‬
‫زكي بيضون‬

‫كعربة كسولة‬
‫ٍ‬ ‫أمشي‪ ،‬أبني قرى دافئة لنمالتي‪ ،‬أجمع دموع الجدران المغلقة‪ ،‬وأمشي‬
‫تجرها األزهار‪.‬‬
‫ُّ‬

‫العالم خارج الحمام‬

‫جيدا على نفسي‪ ،‬بحيث أسجن العالم ّ‬


‫كله‬ ‫ً‬ ‫ذات يوم سأدخل الحمام وأغلق الباب‬
‫خارج الحمام‪.‬‬

‫القصائد من ديوانيه «ديوان جندي عائد من حرب البكالوريا» دار االنتشار العربي‪ ،‬بيروت ‪2001‬‬
‫و«ملعب من الوقت النائم» دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت ‪2007‬‬

‫‪102‬‬
‫سامر أبو هواش‬

‫تسع قصائد‬
‫الذين رحلوا‬

‫أصدقائي‬
‫ولهم عيون تلمع‬
‫وتنظر بحنان‬
‫من وراء الغيوم‬
‫نهضوا فجأة‬
‫بثيابهم الحقيقية‬
‫وخرجوا‬
‫ِّ‬
‫بكل اعتيادية‬
‫تاركين لي الحياة‬
‫ً‬
‫بقشيشا سخ ًيا‬
‫على الطاولة‪.‬‬

‫األشياء المعدنية‬

‫ح ًّبا باهلل وباألشياء المعدنية‪،‬‬


‫امنحني يا رب‪،‬‬
‫قبل الجحيم‪،‬‬
‫بعض السعادة العابرة‬
‫على شاطئ البحر‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫سامر أبو هواش‬

‫بعد بوب ديالن‬

‫يجر منزلًا قال إنه يريد أن يضعه على حافة البحر‪ ،‬وامرأة جميلة‬ ‫ُ‬
‫شاهدت رجلًا ّ‬
‫تجر وراءها شع ًبا من األطفال العرج‪ .‬وكلمات تنبح‪ ،‬ومستويات مختلفة من‬
‫تعرج‪ّ ،‬‬
‫تجرها الخيول‪ .‬شاهدت أكياس نايلون سوداء تطير في الصحراء‪ ،‬وشقراء‬
‫الصمت‪ُّ ،‬‬
‫بشعر طويل ترفع نهدها إلى السماء‪ ،‬وتبكي‪ .‬شاهدت الصديق الذي مات في نومه‪،‬‬
‫يبتسم خلف المطر‪ .‬شاهدت المطر ً‬
‫أيضا‪ .‬شاهدت قطارات تقتحم غرف نوم‪ ،‬ومرايا‬
‫صبي بالشورت يقفز‪ ،‬ليلمس‬
‫ٌّ‬ ‫ّ‬
‫تتحطم وحدها‪ .‬وكان‬ ‫براقة تحطمها النظرات‪ .‬ونظرات‬
‫ّ‬
‫المستمر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالكز‬ ‫فراشة يحسبها غيمة‪ .‬وكان عجائز سود يتدربون على «الراب»‪،‬‬
‫على أسنانهم‪ .‬وكان فالسفة يحاولون ً‬
‫عبثا تفسير جوز الهند‪ .‬شاهدت طي ًنا ينصب‬
‫ّ‬
‫تتقدم نحوي مادة ذراعيها‪،‬‬ ‫خيمة‪ ،‬ووحلًا يحفر سراديب سرية‪ .‬شاهدت الستينات‬
‫جدتي‬‫وعلى كتفيها غرابان أسودان‪ .‬شاهدت السعادة عارية تقفز بالحبل‪ .‬شاهدت َّ‬
‫ً‬
‫ورقية‬ ‫ً‬
‫طائرة‬ ‫تسبح في كأس‪ .‬شاهدت أبي ينمو على جدار‪ .‬شاهدت التسعينات‬
‫تذوب في ضباب‪.‬‬

‫فوتوشوب‬

‫بيدين من «فوتوشوب» أعلى المخيلة أحاول إصالح وجه عجوز عابر في المركز‬
‫التجاري‪ّ ،‬‬
‫مفك ًرا في معنى عجوز عابر‪ ،‬متأملًا في الحيّز الفيزيائي للحياة‪ّ ،‬‬
‫مقطعًا‬
‫منتظرا‬
‫ً‬ ‫شخصا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫غرضا أو‬ ‫الصورة إلى مربّعات ومستطيالت‪ ،‬واضعًا في ّ‬
‫كل واحد منها‬
‫أن يأتي المعنى وحده‪ ،‬مر ّددًا‪ :‬سيأتي‪ ،‬سيأتي المعنى‪ ،‬ليس عليك سوى أن تنظر‪،‬‬
‫وتنتظر‪ .‬أجعل ذئ ًبا يعوي في وجه طفل خائف‪ ،‬وال يهمّ ني تفسير الذئب أو الطفل أو‬
‫مهرج‪.‬‬
‫الخوف‪ .‬أضع مرآة على مؤخرة حسناء تمشي‪ ،‬وأرسم فيها عيني دلفين وأنف ّ‬
‫أيضا ليدي‪،‬‬ ‫ً‬
‫فارغا‪ .‬وأحسب الدموع نوعً ا من العرق الغامض‪ .‬يمكن ً‬ ‫أترك مكان الفم‬
‫أعرف‪ ،‬البكاء‪ :‬يدي مستلقية‬
‫مستلقية على جذع شجرة عجوز‪ ،‬أن تبكي‪ .‬أشرح‪ّ ،‬‬
‫على جذع شجرة عجوز‪ .‬يمكن دائ ًما استخالص شيء من لحظة م ِّيتة‪ .‬يمكن تأكيد‬
‫شيء ما بكبسة زر‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫تسع قصائد‬

‫مصالحة‬

‫الحب أن أصالحك على نفسك‪،‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أفكر أيها‬
‫دراجة هوائية‬
‫أن أشتري لك ّ‬
‫َ‬
‫وأدعوك إلى البحر‬
‫حيث يمكننا الجلوس معًا على مقعد مهجور‬
‫وتأمّل الموج البسيط‬
‫يغسل بعينيه أقدام العابرين‬
‫السري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫في غروبه‬
‫وعندئذ لن تحتاج إلى أكثر من تنهيدة‬
‫لتغفر‬
‫َ‬
‫زالت روحك‬
‫وال إلى أكثر من نظرة‬
‫لتمأل بالنجوم‬
‫جيوب أطفالك المستوحشين‪.‬‬

‫قبل أن تبدأ البنايات باالنهيار‬

‫لم نكن نعرف شي ًئا‬


‫كنا ّ‬
‫نحدث الهواء ببالهة تامة‬
‫ونرسم أشكالًا غامضة على الماء‬
‫وفي الغيوم‬
‫ملونة على الخرائط‬ ‫ّ‬
‫ونشك دبابيس َّ‬
‫غير مكترثين‬
‫قلب أي مدينة ينزف اآلن‬
‫وأي شعوب تأخذ باالنقراض‬
‫ّ‬
‫نتقدم‬ ‫كنا‬

‫‪105‬‬
‫سامر أبو هواش‬

‫من ِّ‬
‫كل الجهات‬
‫باتجاه حفرة واحدة‪.‬‬

‫الرجل الذي يتأمل الوجوه‬

‫ال َّ‬
‫بد من أن يخرج في النهاية بنتيجة ما‬
‫رجل مثلي‬
‫ال يتعب من تأمل الوجوه‬
‫ال ألنه يحب ذلك‬
‫لك َّنه ٌّ‬
‫سر ما‬
‫يجعله ال ّ‬
‫يكف عن تأمل الوجوه‬
‫التي يعرف‬
‫أنها‬
‫في نهاية األمر‬
‫لن تقول شي ًئا‪.‬‬

‫وحيدا مع أغنية ّ‬
‫تطل على الشاطئ‬ ‫ً‬

‫السمكة الصغيرة تسابق َّ‬


‫ظلها في بركة الماء‪،‬‬
‫تحلم بقرض للبدء بتجارة خاصة‪،‬‬
‫الحمام مع تاجر مخدرات آسيوي‬
‫َّ‬ ‫تمارس الجنس في‬
‫يمارس الجنس مع وشم طويل أسفل ظهرها‪،‬‬
‫األصدقاء يح ِّققون حلم صديقهم العب الفوتبول الذي مات بجرعة زائدة‬
‫فيذهبون إلى الشاطئ‬
‫ويرمون أنفسهم في الغروب‪،‬‬
‫بينما‬

‫‪106‬‬
‫تسع قصائد‬

‫ابتسامة الصديق الم ِّيت‬


‫تصنع ظاللًا كاملة‬
‫الرمل‪.‬‬
‫على َّ‬

‫الوحيدون‬

‫على مقاعد الحدائق‬


‫أو مراحيض البيوت‬
‫يجلس الوحيدون‬
‫وحيدين تمامًا‬
‫ال أحد يعرفهم‬
‫وال يعرفون بعضهم‬
‫وال أحد يعرف‬
‫أنهم وحيدون‬
‫ألنهم وحدهم‬
‫الوحيدون‬
‫دائ ًما‬
‫ِّ‬
‫من كل شيء‪.‬‬

‫قصائد من ديوان غير منشور في كتاب‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫سمر يزبك‬

‫مقطع من رواية‬

‫رائحة القرفة‬

‫إنه خط الضوء المائل!‬


‫الباب كان مواربًا‪ .‬ولوال الضوء المنبعث كخط مائل نحو مرآة الممر‪ ،‬ل َ َما انتبهت‬
‫حنان الهاشمي إلى الهسيس‪ ،‬وهي تمشي حافية القدمين‪ ،‬بعد أن قفزت من فراشها‬
‫كملسوعة‪ ،‬تحلم أنها تحولت إلى امرأة بخمسة أذرع‪ ،‬وثالثة أثداء‪.‬‬
‫كانت ما تزال تهذي‪ .‬تتلمس جسدها‪ .‬تتحسس الدانتيال النبيذي الملتصق بصدرها‪.‬‬
‫ِّ‬
‫تصدق أنها ما زالت على حالتها الطبيعية‪،‬‬ ‫تبحث عن استطاالت وأذرع جديدة‪ .‬لم‬
‫السلم الخشبي‪ ،‬وركضت نحو مرآة طوالنية‪ ،‬احتفظت بها من‬‫حتى هبطت درجات َّ ّ‬
‫أثاث بيت حي المهاجرين القديم‪ .‬تعرف أن المرآة لن تكذب عليها‪ ،‬وستجعلها تطمئن‬
‫إلى أن أذرعً ا نحيلة ومخيفة‪ ،‬ال تتراقص حول جسدها كأفاع‪.‬‬
‫خط الضوء!‬‫لكنه ُّ‬
‫قسم الممر إلى شطرين‪ ،‬هو ما جعلها تفيق من كابوسها‪،‬‬
‫خط النور المائل الذي ّ‬
‫ُ‬
‫حافية القدمين‪ .‬تسمع هسهسات تنبعث من غرفة زوجها‪.‬‬ ‫وتنتبه إلى أنها‬
‫متصلبة‪ .‬عيناها جاحظتان‪ ،‬لم تحرك قدميها لتعرف ما يحدث داخل الغرفة‬ ‫ِّ‬ ‫وقفت‬
‫التي لم تدخلها منذ سنوات‪ ،‬وال تذكر محتوياتها‪ .‬لم ين َت ْبها أي فضول لمعرفة المكان‬
‫الذي ينام فيه زوجها‪ .‬فقط‪ ،‬كانت تنتظر رحيله‪.‬‬
‫خطت نحو المرآة‪ .‬وقفت بعريها بعد أن أضاءت الممر‪ .‬ولم يكن يسترها سوى‬
‫ثوب الدانتيال القصير‪ .‬حملقت في المرآة‪ .‬لمعت فكرة غبية في ذهنها‪ ،‬فضول أعمى‬
‫ُ‬
‫جننت؟ تساءلت‪.‬‬ ‫لمعرفة ما يفعله زوجها‪ .‬هل‬
‫مسدت وركيها‪ ،‬وهي تحبس أنفاسها‪.‬‬‫د َّققت في وجهها بالمرآة‪ ،‬لمعت عيناها‪َّ ،‬‬
‫لحظات‪ ،‬ما وصل أذنيها من الغرفة‪ ،‬مستغرقة‬
‫ٍ‬ ‫ضحكت وشعرت بامتالء بالسعادة‪ .‬نسيت‬

‫‪108‬‬
‫رائحة القرفة‬

‫في الغبطة التي تحسها بتأمل تفاصيل جسدها‪ ،‬أمام المرآة‪ .‬ترفع ثوبها القصير‪ ،‬تتأمل‬
‫وكأن ما تشاهده هو جسد امرأة أخرى‪ .‬تتلمس سطح المرآة‪ .‬تنتقل‬ ‫َّ‬ ‫ردفيها بفضول‪،‬‬
‫تحس بالرضا للنعومة التي تشبه سطح المرآة‬ ‫ُّ‬ ‫تمسد خدها‪.‬‬
‫بأصابعها إلى وجهها‪ِّ ،‬‬
‫الصقيل‪ .‬تشرع في الضحك‪ ،‬تضع كفها على فمها كتلميذة خجول‪.‬‬
‫تيقنت أن‬ ‫مدت يدها وأطفأت النور‪ ،‬تفكر ِّ‬
‫بالظل الذي ستلمحه أمام المرآة‪ ،‬بعد أن َّ‬ ‫َّ‬
‫وجهها بقي على حاله‪ .‬لكنها غرقت فجأة في العتمة‪ ،‬وانتبهت إلى أن الضوء المنبعث‬
‫من غرفة زوجها‪ ،‬قد اختـفى‪ ،‬والباب الموارب قد أُوصد‪ .‬ارتجفت‪.‬‬
‫لصا اقتحم الفيال‪.‬‬
‫مر على بالها‪ ،‬هو أن ًّ‬
‫حاولت أن تتماسك‪ .‬االحتمال الوحيد الذي ّ‬
‫تنفست‬ ‫تتلمس األمان‪َّ .‬‬
‫تيبّس الصراخ في حنجرتها‪ ،‬وبحثت وسط العتمة عن الجدار‪َّ ،‬‬
‫بصعوبة‪ّ .‬ف َّكرت في الوصول إلى أقرب هاتف‪ ،‬أل َّنها متأكدة أن زوجها لن يستيقظ‬
‫حتى ساعة متأخرة‪ .‬وإذا حدثت معجزة وفعل‪ ،‬فلن يُطفئ األنوار فجأة‪ ،‬عندما يسمع‬
‫وقع خطواتها‪.‬‬
‫كورت جسدها وذراعيها‪ ،‬كتمت أنفاسها‪.‬‬
‫التصقت بالحائط حتى صارت جز ًءا منه‪َّ .‬‬
‫عندما انقضت دقائق‪ ،‬وهي ما تزال على هذه الحال‪ ،‬سطع ضوء من الغرفة‪ ،‬وعادت‬
‫ً‬
‫ثانية‪.‬‬ ‫الهسهسات‬
‫ً‬
‫محاولة‬ ‫هسهسات ناعمة‪ ،‬ضحكات خافتة‪ ،‬وأنين ملتاع‪ .‬مشت ببطء وتثاقل‪،‬‬
‫التكهن بمصدر الصوت‪ .‬جسدها يرتجف بشدة‪ .‬وقفت أمام مقبض الباب‪ ،‬التصقت‬
‫به‪ ،‬فتحته بحركة عنيفة‪ .‬صارت وجهًا لوجه‪ ،‬أمام ما يحدث في الغرفة التي تحولت‬
‫إلى مسرح مظلم‪ ،‬تضيئه بقعة ضوء شاحبة‪.‬‬
‫َّ‬
‫حواف سكاكين حادة‪ ،‬برزت على شكل‬ ‫ب ُهق وجهها‪ ،‬وتحولت مسام جلدها إلى‬
‫حبيبات ناعمة‪ ،‬من أخمص قدميها حتى مفرق شعرها المنكوش‪ .‬كان زوجها العاري‬
‫ُّ‬
‫وتغضنات ألم واضحة على وجهه‪ .‬ليس األلم تمامًا‪ .‬هذه التعابير‬ ‫َّ‬
‫ممددًا على السرير‪،‬‬
‫لم تعرفها من قبل‪ .‬تعيد تشكيل مالمحه‪ .‬لم يكن هو نفسه‪ ،‬لك َّنه زوجها‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‪ ،‬وهناك مثل‬
‫نفق عميق وسط الضوء الباهر‪ ،‬كانت‪ ...‬عليا‪ .‬هذا ليس حل ًما؟ هي ليست مستلقية‬
‫تنز من كابوسها‪ .‬إنها عليا التي تعرفها أكثر مما تعرف‬
‫على فراشها‪ ،‬وقطرات العرق ُّ‬
‫نفسها! إنها هي!‬
‫ّ‬
‫عليا التي تتلوى لصق الزوج بغنج‪ ،‬وقد تصلب جسدها فجأة‪ ،‬عندما لمحت س ِّيدتها‪،‬‬
‫تحدق في عينيها بثبات حاد‪ .‬كانت كلتاهما تمتصان ً‬
‫خيطا حا ّدًا من النور‬ ‫لك َّنها بقيت َ‬

‫‪109‬‬
‫سمر يزبك‬

‫المتوهج‪ ،‬استقر في بياض عينيهما‪ ،‬واخترق مسام الجلد كحد سيف‪ .‬لم تتفوه أي‬
‫منهما بحرف‪ .‬وجسد الزوج الفاصل بين جسديهما‪ ،‬ساكن‪ ،‬مفضوح بعريه الذي ال‬
‫تعرفه‪ .‬عاشت عمرها معه‪ ،‬وهي تعتقد أنه بال تفاصيل‪ .‬حتى إحساسها بثقل جسده‬
‫عار!‬
‫إحساسا بالثقل فقط‪ .‬لكنه اآلن ٍ‬
‫ً‬ ‫إحساسا أنثويًّا بوزن رجل‪ .‬كان‬
‫ً‬ ‫فوقها‪ ،‬لم يكن‬
‫متهالك‪ ،‬ينظر إلى الفراغ‪ ،‬ويبدو غير عابئ بما يحدث حوله‪ .‬صالب يديه فوق بطنه‪،‬‬
‫وتنفس بعمق‪ ،‬وكأنه يستعدُّ للغوص في محيط عميق‪ .‬انزلقت عينا حنان سريعًا على‬
‫جسده‪ .‬عادت للتحديق داخل عيني عليا وفي تأمل تفاصيل جسدها‪ .‬األصابع التي‬
‫تعرفها ج ِّي ًدا يابسة‪ ،‬شديدة الزرقة‪ ،‬وعروقها الخضراء ترتجف وهي تحاول إفالت‬
‫قطعة اللحم الرخوة‪ .‬ضمت حنان أصابعها‪ ،‬أحست بتي ُّبسها‪ .‬بدت عليا كما لو أنها‬
‫ستنطلق في سباق طويل‪ ،‬منحنية‪ ،‬متوثِّبة فوق السرير‪ .‬لم تجرؤ على االستقامة‪.‬‬
‫شعرت أن ظهرها سينقصم إذا بقيت ثواني أخرى على هذه الحال‪ .‬انحبس الهواء في‬
‫رئتيها‪ ،‬وخافت أن تتنفس‪ ،‬فتحدث كارثة‪ ،‬وتقع جدران البيت على رأسها‪ .‬وحنان‬
‫المتسرعة‪ ،‬وتتنفس بصوت عال أقرب إلى حشرجة اختناق‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫التي تسمع ضربات قلبها‬
‫أمسكت بطرف السرير‪ ،‬وتقدمت خطوة‪ .‬وفي اللحظة التي رفعت كفها في الهواء‪،‬‬
‫انزلقت عليا تحت السرير‪ ،‬ومرت كسحل َّية من تحت أقدامها‪ ،‬يلمع الضوء في عينيها‪،‬‬
‫تنفست قليلًا‪ ،‬وهي تكاد تختنق‪.‬‬ ‫وتركض نحو غرفتها‪ ،‬وهي تسعل بشدة‪ ،‬بعد أن َّ‬
‫تتأمل حنان قبح عضو زوجها المتدلي كخرقة‪ ،‬تصرخ‪ :‬عليا‪.‬‬
‫لم تعرف من أين يخرج صوتها‪ .‬من حلقها أم من مسام جلدها؟ أم من األثداء واألذرع‬
‫التي تطايرت فجأة في فضاء الغرفة!‬
‫أخذت ُّ‬
‫تدق بجنون‪ ،‬باب غرفة الخادمة المغلق عليها من الخارج‪ .‬تصرخ فيها الهثة‪.‬‬
‫وفجأة قررت أن تتماسك‪ .‬توقفت أصابعها عن معالجة الباب‪ ،‬وخطت نحو غرفتها‪،‬‬
‫بعد أن أصدرت بصالبة‪ ،‬األمر للخادمة بالرحيل‪ .‬أغلقت بابها وراءها‪ .‬جلست تحاول‬
‫قررت أن تمحو عليا من حياتها نهائ ًيا‪،‬‬
‫السيطرة على لهاثها الذي يتصاعد من جديد‪َّ .‬‬
‫مدونة بقلم رصاص باهت‪ ،‬جاهزة للمحو‬
‫وكأنها لم تكن يومًا هنا‪ .‬ستشطبها مثل كلمة َّ‬
‫كلصة‪ .‬تمضي إلى ذلك الزقاق‬
‫السريع‪ .‬تسمع دبيب أقدامها في الممر‪ ،‬وهي تنسحب َّ‬
‫الض ِّيق القذر الذي خرجت منه‪ ،‬بين أكوام الصفيح‪ ،‬وبكاء األطفال الحفاة‪ ،‬األطفال‬
‫العراة الذين يلعقون مخاطهم‪ ،‬ويتدلون من حاويات القمامة‪ ،‬كأغصان برتقال محروق‪.‬‬
‫شعرت بارتياح َم ْن يستيقظ من كابوس‪ ،‬وهي تسمع صرير باب السور الخارجي‪ .‬ثم‬

‫‪110‬‬
‫رائحة القرفة‬

‫وتلصصت بخوف‪ .‬تراقب خيال‬ ‫َّ‬ ‫ساد الصمت‪ .‬فجأة ه َّبت إلى النافذة‪ .‬أزاحت الستائر‪،‬‬
‫عليا‪ ،‬وتتمنى أن يكون هذا الخيال حل ًما ً‬
‫أيضا‪ ،‬مثل خط الضوء المائل‪ .‬تحاول أن تفتح‬
‫النافذة بيديها المرتعشتين‪ ،‬فتتحول إلى تمثال من الحجر‪ ،‬وتأنف أن تصيح باسم‬
‫لوهلة َّ‬
‫فكرت بذلك‪ ،‬لك َّنها تراجعت عن قرارها في اللحظة‬ ‫ٍ‬ ‫عليا‪ ،‬وتطلب منها العودة‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانية بقسوة حتى طقطقت عظامها‪ ،‬وتأكدت أنها كائن من لحم ودم‪.‬‬ ‫نفسها‪ .‬ضغطت‬
‫بقيت تراقب خيال عليا في الفجر األزرق‪ ،‬وتذهب بعينيها إلى البعيد‪ ،‬حيث الحت‬
‫أسراب من الطيور الغريبة‪ ،‬وكأنها تودع الصغيرة المتعثرة في مشيتها‪ .‬عندما اختفى‬
‫واندست في فراشها‪ ،‬وهي تتشمم رائحة شراشف‬
‫َّ‬ ‫خيال عليا‪ ،‬أغلقت الستائر‪،‬‬
‫الليلة الماضية‪ ،‬رائحة القرفة‪.‬‬

‫***‬

‫إنه خط الضوء المائل! الضوء الذي سيجعل لياليها تغرق في العتمة‪ ،‬بعد أن نسيت‬
‫َّ‬
‫انسلت من الطابق العلوي‪ ،‬إلى غرفة الس ِّيد‪.‬‬ ‫إقفال باب غرفة الس ِّيدة‪ ،‬عندما‬
‫في الوقت الذي كانت فيه حنان الهاشمي تنزل الدرج‪ ،‬كانت عليا ترتجف من‬
‫أخيرا‪ .‬توقفت عن الحركة‪،‬‬
‫ً‬ ‫الخوف‪َّ .‬‬
‫فكرت أن س ِّيدتها لحقت بها‪ ،‬وستكشف أمرها‬
‫تنتظر أن ينفتح الباب‪ ،‬وتلمح الظل الذي يتحرك وراءه‪ .‬تي َّبست يدها‪ ،‬وأرخت ثقلها‬
‫من فوق جسد الس ِّيد‪ ،‬تهاوت بجواره‪ .‬لم تستطع فك أصابعها المتشنجة حول شيئه‪.‬‬
‫ِّ‬
‫تفكر في القفز من النافذة‪ ،‬أو االختباء تحت السرير‪ ،‬لك ّنها لم تق َو على الحركة‪،‬‬
‫كأنها في حلم‪ .‬كان خط الضوء هو الحقيقة التي جعلتها تمرق كسحلية من تحت‬
‫أقدام حنان الهاشمي‪.‬‬
‫تستغرب كيف طارت من سرير السيد إلى غرفتها‪ .‬وفي اللحظة التي ارتطم‬
‫رأسها باألرض‪ ،‬ظ َّنت أنها في كابوس تهوي فيه نحو حفرة ال قرار لها‪ .‬لكن صوت‬
‫األقدام الذي يقترب من غرفتها‪ ،‬جعلها تتأكد أن ما يحدث أمر واقع‪ .‬وعندما أخذت‬
‫السيدة ُّ‬
‫تدق بعنف على الباب المقفل بإحكام‪ ،‬أفاقت وعرفت أن وقت اللعب انتهى‪.‬‬
‫كانت تعرف أن س ِّيدتها تريد أن ِّ‬
‫تمزقها بأسنانها‪ ،‬ألن صوت اصطكاك أسنانها كان‬
‫مسموعً ا كصرير باب عتيق‪ .‬تنشج مثل طفلة‪ ،‬تصرخ وتصفها بالمتس ِّولة القبيحة‬
‫ذات البثور السوداء‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫سمر يزبك‬

‫قبل أن ترتدي ثوب النوم‪ ،‬وتمضي من غرفة سيدتها إلى غرفتها‪ ،‬كما طلبت منها‬
‫سر َّية ُتحوّل جسدها إلى كتلة من االرتعاشات‬
‫حنان الهاشمي‪ ،‬كانت تشعر بغبطة ِّ‬
‫َّ‬
‫تتذكر كيف كانت عينا حنان تفوران بالرضى والحب‪.‬‬ ‫اللذيذة‪ ،‬وهي‬
‫كيف تصفها اآلن‪ ،‬بالمتس ِّولة القبيحة؟ كيف تحولت العينان الجميلتان إلى حريق؟‬
‫أخذت شفتاها ترتجفان‪ ،‬وهي تجمع ثيابها‪ ،‬بينما تهب من أطرافها رائحة برد غريب‪.‬‬
‫تنز قطرات العرق المالحة فوق الجلد‪،‬‬
‫عز الصيف الحارق‪ ،‬عندما ُّ‬ ‫البرد غريب في ِّ‬
‫المشوش‪ ،‬لحكايات الموت‬
‫َّ‬ ‫فينتفض جسد عليا بإحساس جليدي عن صور في ذهنها‬
‫بردًا‪ ،‬وسط شارع خا ٍو ورصيف قذر‪ .‬لذلك كانت تقضي نهاراتها تحلم بالليل الذي‬
‫سيح ِّولها إلى ملكة‪ِّ .‬‬
‫تفكر بالتفاصيل‪ ،‬تفاصيل الليل الذي تحبه‪ ،‬وتنتظره‪ .‬الليل الذي‬
‫تطلبها فيه س ِّيدتها بعد عودتها من إحدى سهراتها‪ ،‬ليل التواطؤ القادر على مالمسة‬
‫شغاف قلبها‪.‬‬
‫تمسك صولجانها في النصف األول من الليل‪ .‬تتحسس تاج سيادتها الالمرئي‪ ،‬تغفو‬
‫مرة أخرى‪ ،‬جاهزة الستدعاء الس ِّيدة‪ .‬في‬
‫قليلًا‪ ،‬وعندما تصحو تتناوم في سريرها‪ّ ،‬‬
‫َّ‬
‫تتسلل إلى غرفة س ِّيدها‪ .‬تنام قربه عارية‪ ،‬تعبث بلحمه المترهل‪.‬‬ ‫النصف الثاني‪،‬‬
‫ثم تغادره إلى غرفتها‪ ،‬ال يتأفف من عبثها بجسده‪ ،‬حين ال تفلح في جعله يستعيد‬
‫ً‬
‫بعضا من رجولته‪ ،‬وهو ما لم يكن يعنيها في شيء‪ ،‬ألنها ِّ‬
‫تفضل االستلقاء بحضنه‪،‬‬
‫مرة تفعل ذلك‪ ،‬وقبل طلوع الفجر بقليل‪،‬‬ ‫واإلصغاء إلى أنفاسه المحروقة‪ ...‬في ِّ‬
‫كل ّ‬
‫تعود إلى غرفتها‪ .‬تستحم‪ ،‬وتنام كقتيلة‪ ،‬فهي تعرف أن النهار قادم‪ ،‬وستخلع عنها‬
‫رداء السحر‪ ،‬وتعود إلى تلقي األوامر‪ .‬لم تدرك أن َّ‬
‫خط الضوء المائل الذي نسيته في‬
‫غفلة‪ ،‬سيح ِّول مملكتها إلى خراب‪ ،‬رغم أن عرشها ذاك‪ ،‬لم يكن يحتاج إلى الكثير‬
‫من المهارة‪ ،‬بعد أن َّ‬
‫تعلمت فنون الحياة‪ ،‬وكيف تستطيع أن تكون األقوى في السرير‪.‬‬
‫التفكير بمرور س ِّيدتها الخاطف آخر الليل‪ ،‬إلى غرفة الطابق‬
‫ُ‬ ‫وغاب عن خيالها‪،‬‬
‫السفلي‪ ،‬بعد أن تركتها تعوم في نومها‪.‬‬
‫اللحظة التي نظرت فيها الشرر بعيني سيدتها‪ ،‬قذفت بها إلى ذكريات خوف‬
‫استعادته تمامًا‪ ،‬الخوف من شيء مجهول لم تعرف كنهه يومًا‪ ،‬مع أن طعم الخوف‬
‫وهش ًة‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫رقيقة‬ ‫ً‬
‫غشاوة‬ ‫ً‬
‫غشاوة كانت تفصلها عنه‪،‬‬ ‫لكن‬
‫سكن قلبها منذ زمن بعيد‪َّ ،‬‬
‫كل التجارب التي ستعيشها في سنواتها القادمة‪ .‬فهي محفورة‬ ‫ً‬
‫صالبة ُّ‬ ‫لن تزيدها‬
‫حتى أعمق نقطة في قلبها‪ .‬ولم تستطع السنوات التي ابتعدت فيها عن عالم الطفولة‪،‬‬

‫‪112‬‬
‫رائحة القرفة‬

‫أن تمحو من عينيها ذلك االرتجاف القلق‪ ،‬والتشنُّجات الحادة في وجهها‪ ،‬التشنُّجات‬
‫التي وجدتها حنان الهاشمي مصدر جاذبيتها‪ ،‬وهي نفسها التشنُّجات التي عادت‬
‫في لحظات‪ ،‬إلى تشنُّجات رعب‪ ،‬تتحرك عضالت وجهها بشراسة‪ ...‬خدها األيمن‬
‫تعض األسنان‬
‫يعلو‪ ،‬فيهبط الخد األيسر‪ ،‬وتنفرج شفتاها عن أسنان صغيرة‪ ،‬ثم ُّ‬
‫الشفتين‪ ،‬وترتجف العينان‪ ،‬وهي تحاول منع دموعها من التدفق‪ ،‬فتختنق بها‪.‬‬
‫في ذلك الزمن الخاطف الطويل كمئة عام‪ ،‬وهي تهرب إلى غرفتها‪ ،‬تذكر كيف‬
‫اختفى الضوء من عينيها‪ ،‬وكيف هربت بعريها من غرفة العجوز‪ ،‬وشعرت بسقوط‬
‫في الهاوية‪ ،‬فأقفلت الباب‪ ،‬وألقت بنفسها على البالط‪ ،‬وأجهشت ببكاء أوقفه صوت‬
‫حنان الهاشمي‪ ،‬يأمرها بالرحيل‪.‬‬
‫تفكر لو أنها خرجت من غرفتها‪ ،‬ورمت بنفسها في حضن س ِّيدتها‪ ،‬فإنها‬‫كانت ِّ‬
‫ستقلب السحر على الساحر‪ ،‬وستجعل قلبها ُّ‬
‫يرق‪ .‬فالليل ما يزال ليلًا‪ ،‬والنهار لن‬
‫يطلع عما قريب‪ ،‬وما تزال هي الملكة الوحيدة‪ .‬وعندما يطلع النهار‪ ،‬وتتحول إلى‬
‫خادمة من جديد‪ ،‬سيكون لها شأن آخر‪َّ .‬‬
‫فكرت أنها تستطيع أن تفعل ذلك لثقتها‬
‫بسحر الليل‪ ،‬لكن الشراسة التي رأتها في عيني س ِّيدتها منعتها‪ ،‬فحملت حقيبتها‬
‫تنظر إلى الخلف‪ .‬ولم تنتبه وهي تغادر‪ ،‬أن حنان‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫وانسلت من الفيال‪ ،‬دون أن‬ ‫بهدوء‪،‬‬
‫الهاشمي لم تزل واقفة وراء النافذة‪.‬‬

‫فصل من رواية «رائحة القرفة»‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت ‪2007‬‬

‫‪113‬‬
‫الخصار‬
‫ّ‬ ‫عبد الرحيم‬

‫قصيدة‬

‫األمازيغي‬

‫أنا حفيد الملك األمازيغي القديم‬


‫الذي مات غدرا بطعنة من أيدي الرومان‬
‫هوايتي أن أضرم النار في الجليد‬
‫وأبني المصائد لطيور ال تصل األرض‬
‫يخطر لي أحيانًا أن أخرج سمكة من النهر‪ ،‬ثم أعيدها إليه‬
‫وأقف عكس التيار أنتظر موه ًما نفسي أني سأصطادها يومًا ما‬
‫يخطر لي أحيانًا أن أفتح أقفاصً ا في السطح‬
‫وأطلق العصافير التي أفنيت سنوات في رعايتها‬

‫أنا حفيد الملك األمازيغي القديم‬


‫ً‬
‫جملة من لغتي‪ ،‬ال أذكر شي ًئا عن أسالفي‬ ‫ال أعرف‬
‫سوى أن ّ‬
‫جدي كان راع ًيا في جبال األطلس‪ ،‬يطارد قطعان األروية‬
‫وعبر منحدرات اللوز كان يركض بالليل والنهار‬
‫ناص ًبا شباكه وفخاخه‪ ،‬لطرائد الوادي والغابة‬
‫وكباقي النازحين ستقذفه المجاعة إلى السهول‬
‫ليصلح أواني العرب‪ ،‬ويتغزَّ ل بامرأة ستغدو يوما ما ّ‬
‫جدتي‬

‫أنا حفيد الملك األمازيغي القديم‬


‫ال كتاب يذكر شي ًئا مما أنتظر‬

‫‪114‬‬
‫األمازيغي‬

‫ُّ‬
‫كل الكتب تروي دائ ًما عكس الحكاية‬
‫غير أني حين أنظر إلى وجه جدتي‬
‫كأنما أنظر إلى وجه امرأة من الهنود الحمر‬
‫قالت لي فيما مضى‪ :‬أنت حفيد الجبال‬
‫فاتجهت إلى الجنوب‪ ،‬كما يتجه أركيولوجي إلى صحراء بال خريطة‬
‫والعرافين والرعاة والحكماء‬
‫ّ‬ ‫سألت الشيوخ‬
‫سألت مطاريد الليل‪ ،‬والباحثين عن الدفائن‪ ،‬وحفاري اآلبار‬
‫تقفيت آثار الساللة في السفوح‪ ،‬وعلى مقربة من األفالج‬
‫في منعرجات القرى ومشاعاتها‪ ،‬في الكهوف والمداشر والمغارات‬
‫لم أسمع سوى رجع صوتي كهدير ركام من الثلج ينهار‬
‫خبّرتني عجوز تتكئ على عكازة ومئة عام وأكثر‬
‫أن جدي كان ّ‬
‫حطابًا‪ ،‬لذلك حمل فأسه قبل الرحيل‬
‫وفي حمأة الغضب أسقط شجرة العائلة‪.‬‬

‫أنا حفيد الملك األمازيغي القديم‬


‫في داخلي تركض قطعان من الجواميس إلى أن تتعب‬
‫تتعارك النسور‪ ،‬ويتناثر ريشها بين الجبال‬
‫تعوي ذئاب في أكماتها‬
‫بيد أن صوتها القاسي ال يجتاز الوجار‬
‫في الداخل تموت أفكار كثيرة بنيران صديقة‬
‫َّ‬
‫المعلقة فوق الدوالب‬ ‫والدي ينظر إلى صورة أبيه‬
‫ً‬
‫ثقيلة في جوف الليل‬ ‫وتسقط من شفتيه الكلمات‬
‫لم تقطب حاجبيك وتحمل الخنجر والبندقية‬
‫وال أحد يطاردنا اليوم؟‬
‫لماذا تركت اآلخرين وتدحرجت من الجنوب‬
‫مثلما تتدحرج صخرة من أعالي الجبل‪،‬‬
‫وتتف ّتت على جراف في ّ‬
‫ضفة الوادي؟‬

‫‪115‬‬
‫الخصار‬
‫ّ‬ ‫عبد الرحيم‬

‫أنا حفيد الملك األمازيغي القديم‬


‫أرث عن أسالفي سوى نظرتي المرتابة‬ ‫لم ْ‬
‫يرتج‬
‫ُّ‬ ‫وإحساسي الدائم بأني أمشي على رصيف‬
‫وأتكئ على حائط سينهار‬
‫أمد يدي إلى ظلمة ال نهاية لها‪ ،‬وأسبح في مياهٍ غادرة‬
‫وكل أمالكي قلم وورقة‬‫فماذا أفعل فيك أيها العالم؟ ُّ‬
‫أشذب الكلمات‬‫أسهر الليالي ِّ‬
‫ترقص معي‬
‫َ‬ ‫أناشد صورا في األلبوم ْ‬
‫أن‬
‫َ‬
‫نوافذ مغلقة‬ ‫وأفتح نافذتي في ِّ‬
‫عز الشتاء على‬
‫يركض الناس متلهفين باتجاه الحياة‬
‫وأنا يجرفني التيار باتجاه حياة أخرى‬
‫يهتف الناس بأسماء بعضهم كما لو أنهم قديسون‬
‫وأنا أفضل أن أحيا صامتا على أن أهتف باسم أحد‬
‫تمر بزهو أمام بيتي‬
‫أن أكون أعمى على أن أبصر مواكب العته ُّ‬
‫أصم على أن أسمع نشازك أيتها الحياة‬
‫أن أكون َّ‬
‫ربما اعتاد أجدادي الجلوس في أعالي الجبل‬
‫خوفًا من غدر السفوح‬
‫لذلك أحيا في غرفة على السطح‬
‫أقرأ كتابًا عن شعوب المايا‬
‫وأسمع أغنية ألحفاد آشور‬
‫أطيل النظر إلى السماء‪ ،‬وألملم شتات النجوم‬
‫أجلس مثل بومة على كتف العالم‬
‫وأخاف أن أسقط فتدهسني أطرافه‬
‫أخاف أن تجتثني يد ما‪ ،‬وتطوّح بي إلى سهب سحيق‬

‫أنا حفيد الملك األمازيغي القديم‬


‫الذي ساد هذه األرض قبل ألفي عام‬

‫‪116‬‬
‫األمازيغي‬

‫ً‬
‫صورة على جدار غرفتي‬ ‫والذي ال أملك له‬
‫فقط أتخيله شبيها برجال األساطير‬
‫بصولجان من عاج الفيلة‪ ،‬وتاج من الريش والذهب‬
‫مرة في منامي بعمامة رجل كردي‬ ‫رأيته ّ‬
‫ٌ‬
‫كثيرة تربطني باألكراد‬ ‫ربما أشيا ُء‬
‫غير أني أتنفس هواء هاته البالد كما يحلو لي‬
‫وأدب كسائر الخلق في المنحدرات‬
‫ُّ‬
‫لك ّنها رغبة الماء في أن يعرف نبعه‬
‫قبل أن يجرفه الشالل‬
‫َ‬
‫ألتفت إلى الوراء‬ ‫رغبتي أنا في أن‬
‫كي أجلو وجهتي‬
‫لتبدو واضحة مثل صورتي في المرآة‬

‫من ديوان «أنظر وأكتفي بالنظر»‪ ،‬دار الحرف للنشر‪ ،‬الرباط ‪2008‬‬

‫‪117‬‬
‫عبد الرزاق بوكبة‬

‫مقاطع من رواية‬

‫جلدة الظل‬

‫ُرنسا لوحيدها‪ ،‬في‬


‫تساءلت في نفسها‪ ،‬بعد أن توقفت عن الغناء‪ ،‬وهي تغزل ب ً‬
‫ترعة ّ‬
‫الدار‪ :‬أليس لي هدف في الدنيا‪ ،‬إال أن أزوّ ج ذيابًا؟‪ ،‬ثم أطلقت نظرة إلى مقبرة‬
‫أزوجه‪،‬‬
‫العمري‪ ،‬هناك على الربوة‪ ،‬فأجابت عن سؤالها فو ًرا‪ :‬نعم‪ .‬ليس لي هدف‪ ،‬إال أن ِّ‬
‫مرة‪ ،‬وهكذا سأفعل‪ ،‬أما أنا فقد نسيت نفسي‪،‬‬
‫هكذا وعدتك صبيحة زرت قبرك أوّل ّ‬
‫ولم ْ‬
‫أعد أذكرها إال في ولدنا‪ ،‬تدري؟ كرهتك يوم جاءني نبأ موتك‪ ،‬في معركة أعلى‬
‫الجبل‪ ،‬فلم أبك‪ ،‬قلت لم يكن من حقه أال يعودَ‪ ،‬وقد وعدني بذلك‪ ،‬أو يذهب إلى‬
‫حيث ال يعود‪ ،‬وال يأخذني معه‪ ،‬لكن عندما نبّهتني أختي التي كانت نفسا َء بالجازية‪،‬‬
‫إلى أنك عدت فعال من خالل ولدك‪ ،‬سامحتك من قلبي‪ ،‬وسخت في بكاء صامت‪ ،‬لم‬
‫الصوف هذا‪.‬‬
‫ينقطعْ إلى يوم ّ‬

‫‪١‬‬

‫الزمان‪ :‬صيف ‪.1847‬‬


‫الخروب العليا‪ ،‬حيث تجتمع جماعة العقالء‪ ،‬في أوالد جحيش‪،‬‬
‫ّ‬ ‫المكان‪ :‬شجرة‬
‫ويحفظ الذراري القرآن العظيم‪.‬‬
‫للصالة على النبي‪:‬‬
‫جرهم ّ‬
‫تساءل حلفانة كبير العقالء‪ ،‬بعد أن ّ‬
‫السبحة معنى‪ ،‬إذا طاحت منها حبّة واحدة؟‬
‫ـ هل يبقى لهذه ّ‬
‫بادر العاقل فالح‪ ،‬الطاعن في الحكمة والعمر‪:‬‬
‫ـ عدد حباتها موروث‪ ،‬ومن الخيانة‪ ،‬أن ننقص منها شيئا‪.‬‬
‫كافأه العاقل حلفانة‪ ،‬أل َّنه أعانه على التمهيد‪َّ ،‬‬
‫فركز عليه النظر‪:‬‬

‫‪118‬‬
‫جلدة الظل‬

‫ـ كذلك القرية‪ ،‬أيها العاقل فالح‪ ،‬تبقى ببقاء أهلها‪ ،‬وتزول بانفراطهم عنها‪ ،‬كح َّبات‬
‫السبحة هذه‪ ،‬وعليه‪ ...‬أقترح أن نجمع الفتيان‪ ،‬فنحملَهم على أن يقسموا‪ ،‬على‬
‫جدهم األول حسن بن جحيش‪ ،‬أال يغادروا القرية‪ ،‬حتى يدفنوا فيها‪.‬‬ ‫مصحف ِّ‬
‫واصل العاقل فالح‪ ،‬بعد أن ّ‬
‫تلقى إشارة مدسوسة‪ ،‬من العاقل حلفانة‪ :‬يجب أال ننسى‪ ،‬أن‬
‫ْ‬
‫ماعيه‪،‬‬ ‫أهل قرية أعلى الجبل‪ ،‬كبروا وهم يعتقدون أن قبر جدتهم األولى واشية بنت‬
‫موجود في أوالد جحيش‪ُ ،‬‬
‫وخل ِّو القرية من أبنائها‪ ،‬فرصة لهم‪ ،‬ليستولوا عليها‪.‬‬
‫تنحنح العاقل عصمان‪ :‬قولوا هذا الكالم للفتيان‪ ،‬أما نحن‪...‬‬
‫متعثرا في برنسه‪ ،‬وانصرف دون أن يكمل جملته‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫قام‬

‫‪٢‬‬

‫يتخلف فتى واحد‪ ،‬من فتيان أوالد جحيش‪ ،‬عن موعد العقالء‪ ،‬تحت شجرة‬ ‫َّ‬ ‫لم‬
‫الخروب العليا‪ ،‬لك َّنهم جاؤوا‪ ،‬وهم ال يدرون أن الجماعة‪ ،‬إنما دعتهم‪ ،‬ليقسموا أال‬
‫ُّ‬
‫يغادروا القرية‪ ،‬حتى يموتوا فيها‪ .‬لذلك فقد كثرت الهمهمات بينهم‪ ،‬عندما واجههم‬
‫العاقل حلفانة بذلك‪ ،‬حتى إن بعضهم‪ ،‬بيّت أال يُغضب الراعي‪ ،‬وال يُج ّوع الذيب‪،‬‬
‫فيقس َم من غير أن يعقد الن َّية‪ ،‬لكنهم تفاجأوا‪ ،‬بأن القسم يكون على المصحف الذي‬
‫كتبه جدهم األول‪ ،‬حسن بن جحيش قبل قرون‪ ،‬فصحّ حوا الن َّيات‪ ،‬لقد كبروا على‬
‫لعب‪ ،‬مع مصحف الشيخ العزيز‪.‬‬ ‫ْ‬
‫أن ال َ‬
‫غير أن فرحة العقالء بهذا اإلنجاز‪ ،‬لم تكن كاملة‪ :‬الفتى ذياب‪ ...‬تعمّ د أن يكون‬
‫ً‬
‫رافضا أن يقسم‪.‬‬ ‫األخير في الصف‪ ،‬وضع يده على المصحف‪ ،‬ثم سحبها‪،‬‬ ‫َ‬

‫‪٣‬‬

‫مات أبوه في إحدى الهجمات التي ش َّنتها قبيلة أعلى الجبل‪ ،‬في ليلة ثلجية على‬
‫أوالد جحيش‪ ،‬وقد ولد في اليوم نفسه الذي دفن فيه أبوه‪.‬‬
‫َّ‬
‫يتقدم منها‪.‬‬ ‫شيخا شديد بياض الشعر ِّ‬
‫واللحية والفرس‪،‬‬ ‫ً‬ ‫رأت أمه في المنام‪،‬‬
‫ً‬
‫هاربة من الشيخ‬ ‫أصيبت بالخوف على رضيعها‪ ،‬وعلى نفسها‪ ،‬فراحت تركض‪،‬‬

‫‪119‬‬
‫عبد الرزاق بوكبة‬

‫َ‬
‫يلحق بها‪ ،‬إذ كانت تجري‪ ،‬وذياب‬ ‫الغريب‪ ،‬الذي َّ‬
‫حث فرسه‪ ،‬على أن تسرع حتى‬
‫يهتز بين ذراعيها‪ ،‬ويبكي‪.‬‬
‫‪ -‬تو َّقفي يا مخلوقة‪ ،‬تو َّقفي يا أ ّم ذياب‪.‬‬
‫زاد منسوب خوفها ودهشتها‪ ،‬ألن الشيخ الذي لم تعرفه‪ ،‬عرفها ورضي َعها الذي‬
‫ولد عشيّة اليوم فقط‪.‬‬
‫ظنته هو الموت جاء ليأخذه منها‪ ،‬إذ كانت تسمع أن الموت بلون الكفن‪ ،‬وعندما‬
‫لم تتوقف مثلما طلب منها‪ ،‬أمر فرسه‪ ،‬فطارت في السماء‪ ،‬حتى سبقتها‪ ،‬ثم هبطت‬
‫طائرا به ً‬
‫بعيدا في األعالي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مباشرة أمامها‪َّ .‬‬
‫مد الشيخ يده إلى حِ ضنها‪ ،‬وخطف الصبي‪،‬‬
‫الخروب العليا‪ ،‬وإذا بالشجرة‬
‫ُّ‬ ‫بينما بقيت هي تنوح‪ ،‬وتضرب رأسها إلى جذع شجرة‬
‫ِّ‬
‫تكلمها‪ :‬ال تخافي يا أم ذياب‪ ..‬فإن هذا الشيخ هو س ِّيدك حسن بن جحيش‪ ،‬وقد أخذ‬
‫َّ‬
‫يشق رأسه‪ ،‬ويضع‬ ‫أحسه أكثر أحفاده شبها به‪ ،‬وسيعيده إليك‪ ،‬بعد أن‬
‫ابنك‪ ،‬ألنه ّ‬
‫مخه‪ ،‬فيصبح َّ‬
‫بمخين‪.‬‬ ‫فيه َّ‬
‫فلما صحت في الصباح‪ ،‬تف َّقدت رضيعها‪ ،‬فوجدت رأسه قد أصبح أضخ َم مما كان‬
‫َّ‬
‫الرجيم‪ ،‬وطلبت سي سالم رحمه اهلل‬‫عليه‪ ،‬فاستعاذت باهلل العظيم‪ ،‬من الشيطان َّ‬
‫وقصت عليه منامها‪ ،‬فقرأ‬
‫الخروب العليا‪َّ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫معلم القرآن العظيم‪ ،‬من تحت شجرة‬ ‫ِّ‬
‫تقص األمر‪ ،‬حتى‬
‫مصها‪ ،‬ثم عصرها في فم الصغير‪ ،‬طالبا منها أال َّ‬
‫الفاتحة على تمرة َّ‬
‫على نفسها‪ ،‬وإال فإنه سيصاب بسوء‪.‬‬
‫ً‬
‫منفوخا بالغضب‪:‬‬ ‫صاح كبير العقالء‬
‫‪ -‬كيف ترفض أن تقسم على مصحف سيدك بن جحيش‪ ،‬أال تغادر القرية‪ ،‬مثلما‬
‫أقسم الجميع؟‬
‫انكمش ذياب في صمت كبير‪ ،‬جاءه من صراع في رأسه‪ ،‬بين َّ‬
‫مخيه‪ ،‬إذ كان ُّ‬
‫كل‬
‫مخ يحاول أن يجيب عن السؤال‪.‬‬
‫المخُّ الكبير ِّ‬
‫للمخ الصغير‪ :‬األرض ملك اهلل‪ ،‬ونحن عباده‪ ،‬ولنا حق فيما يملك‪ ،‬بل‬
‫لذلك خلقنا‪ ،‬فلماذا نحرم أنفسنا‪ ،‬من أماكنَ أخرى‪ ،‬يُتاح لنا أن نقيم فيها؟‪ ،‬الوطن‬
‫كل مكان نذهب‬ ‫التراب الذي نولد عليه‪ ،‬بل هو ذاكرة التراب التي ترافقنا‪ ،‬إلى ِّ‬
‫َ‬ ‫ليس‬
‫نفوسا جديدة‪ ،‬عقولًا جديدة‪ ،‬جبالًا جديدة‪ ،‬وحين‬
‫ً‬ ‫إليه‪ ،‬نعرف وجو ًها جديدة‪،‬‬
‫نحنّ ‪ ،‬نجلس في زاوية من زوايا َّ‬
‫الليل‪ ،‬ونبكي في صمت لذيذ‪.‬‬
‫صاح كبير العقالء بغضب أكبر‪:‬‬

‫‪120‬‬
‫جلدة الظل‬

‫‪ -‬أجبنا يا ذياب‪ ،‬أهنتنا بعدم القسم‪ ،‬فال ته ّنا بصمتك‪.‬‬


‫للمخ الكبير‪ ،‬في رأس ذياب‪:‬‬‫قال المخُّ الصغير ِّ‬
‫‪ -‬إذن لماذا نغادر الوطنَ ‪ ،‬ما دمنا نبكي عليه في النهاية؟‬
‫المخُّ الكبير‪ :‬كي نقول له‪ ،‬إننا لم ننسك‪ ،‬ما زلنا أوفيا َء لذكراك‪ ،‬رغم أننا وجدنا‬
‫ً‬
‫موجودة فيك‪.‬‬ ‫ً‬
‫جديدة ليست‬ ‫أشيا َء‬
‫صاح العاقل فالح‪ :‬إذا لم تجبنا‪ ،‬فإننا سنربطك إلى شجرة الخروب‪ ،‬ونمنع عنك الطعام‬
‫والشراب‪ ...‬لماذا لم تقسم مثلما فعل الجميع؟‬
‫كاد المخُّ الصغير أن يصرخ من الخوف‪ :‬عذ ًرا يا سادتي‪ ...‬لقد أخطأت‪ ،‬وها أنا أقسم‬
‫لكم أنني لن أغادر الجبل حتى أدفن فيه‪.‬‬
‫لوال أن َّ‬
‫المخ الكبير‪ ،‬وضع يده على فمه‪ ،‬ومنعه من الكالم‪:‬‬
‫‪ -‬هذا استسالم‪ ...‬ال تقسم على ما ال تضمن الوفاء به‪ ،‬من أدراك أنك لن ترحل إلى‬
‫مكان آخر؟‪ ،‬األقدار بيد اهلل‪.‬‬
‫ر ّد المخُّ الصغير‪ ،‬وهو يرتعد من الخوف‪ :‬لك َّنهم سيربطونني إلى الشجرة‪ ،‬فتأكلني‬
‫الذئاب؟ هل نسيت ذلك الذئب الضخم الذي اصطاده الحوّاس؟ كان يخيف‪ ،‬حتى وهو‬
‫ميّت‪ ،‬فكيف إذا أتاني ح ًيا‪ ،‬وأنا مربوط؟‪ ،‬عندما رأيته ثم نمت‪ ،‬رأيت نفسي بين‬
‫مجموعة من الذئاب‪ ،‬تحت شجرة‪ ،‬كانت تحيط بها‪ ،‬وتصدر أصواتا ِّ‬
‫تمزق القلب‪،‬‬
‫أكثر‪ ،‬زدت التصاقا‪ ،‬فازدادت اقترابا‪ ،‬كادت أن َّ‬
‫تعضني‪،‬‬ ‫َ‬ ‫التصقت بالشجرة‪ ،‬فاقتربت‬
‫قت‪ ...‬زادت حركاتها‪ ،‬ونضج عواؤها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫فتسل ُ‬ ‫فأدركت أنه يمكنني ّ‬
‫تسلق الشجرة‪،‬‬
‫ً‬
‫شيخا‪.‬‬ ‫وأل َّنها لم تغادر‪ ،‬فقد بقيت فوق الشجرة‪ ،‬حتى صرت‬
‫ضحك المخ الكبير‪ :‬أرأيت؟‪ ،‬لقد علوت بهم‪.‬‬
‫صاح العاقل عصمان‪ :‬اربطوه‪.‬‬
‫أضاف حلفانة كبير العقالء‪ ،‬وقد امتعض من كون عصمان‪ ،‬سبقه إلى القرار‪ :‬وال‬
‫تتركوا أحدا يقترب منه‪.‬‬

‫‪٤‬‬

‫حاول ذياب أن يختبر مدى قدرته‪ ،‬على أن َّ‬


‫يفك نفسه‪ ،‬فأدرك أن ذلك مستحيل‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫عبد الرزاق بوكبة‬

‫يحس بأنه يفقد‬


‫ُّ‬ ‫ً‬
‫صرخة سمعها الجبل ك ُّله‪ ،‬ثم راح‬ ‫شعر بجفاف في حلقه‪ ،‬فأطلق‬
‫وأرضا كانت تحتفل بالربيع‪ ،‬أمست‬ ‫ً‬ ‫الوعي‪ ،‬رأى سما ًء كانت صافية‪َّ ،‬‬
‫غطتها الغيوم‪،‬‬ ‫َ‬
‫ومطرا مأل األرض‪ ،‬فأطلق صرخة‬
‫ً‬ ‫ال تتخللها إال الجذوع‪ ،‬وسمع رعدا ممتل ًئا بالغضب‪،‬‬
‫ً‬
‫شيخا شديد‬ ‫تكاثرت أصداؤها‪ ،‬حاول أن يفتح عينيه وهو يمسح عنهما البلل‪ ،‬فرأى‬
‫بياض الشعر ِّ‬
‫واللحية‪ ،‬يركض نحوه‪ ،‬على فرس بيضا َء تلتهم األرض بحوافرها‪ ،‬مرفوقة‬
‫بغضب الرعد والبرق‪ ،‬وصلت أمامه‪ ،‬فأطلقت صهيال ًكثرت أصداؤه‪ ،‬ترجّ ل عنها‬
‫انظر ما‬
‫الشيخ‪ ،‬وأخذ يمسح المطر عن جبهة ذياب بطرف برنسه‪ :‬هل أنت جائع؟‪ْ ،‬‬
‫الذي جلبت لك‪ :‬عن ًبا ورمانًا‪ ،‬ثم راح يطعمه حتى شبع وارتوى‪.‬‬
‫صاح ذياب‪:‬‬
‫‪ -‬أطلق سراحي‪.‬‬
‫نظر إليه الشيخ في هدوء حزين‪:‬‬
‫‪ -‬إال هذه‪ ...‬ال أستطيعها‪.‬‬
‫تساءل ذياب‪ ،‬وهو مخنوق بالدموع‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا؟‬
‫‪ -‬حتى َّ‬
‫تتعلم كيف تحرر نفسك‪ُّ .‬‬
‫كل األمور يمكن أن يساعدنا فيها اآلخرون‪ ،‬ما عدا‬
‫أمر الحر َّية‪.‬‬
‫الصغير‪ ،‬في رأس ذياب‪:‬‬ ‫قال المخُّ الكبير‪ِّ ،‬‬
‫للمخ ّ‬
‫‪ -‬يا لك من غبي‪ ،‬لماذا أنت خائف؟‬
‫‪ -‬من الذئاب‪.‬‬
‫‪ -‬الشجرة تتوسط القرية‪ ،‬وكالبها لن تسمح لذئب بالدخول‪.‬‬
‫‪ -‬إذن من الكالب‪.‬‬
‫‪ -‬ك ُّلها تعرفك‪ ،‬وهي لن تخدعك‪ ،‬هل سمعت بكلب خدع من يعرف؟‬
‫‪ -‬ومع من ستنام أ ِّمي؟‬
‫‪ -‬ستتعوّ د على أن تنام وحدها‪ ،‬بعد أيام‪ ،‬مثلما ستتع ّود أنت‪.‬‬
‫َ‬
‫الجبل‪ ،‬فعاد ذياب إلى وعيه‪.‬‬ ‫ضرب الرعد‬

‫مقاطع من روايته االولى «جلدة الظل»‪ ،‬منشورات ألفا‪ ،‬الجزائر ‪2009‬‬

‫‪122‬‬
‫عبد العزيز الراشدي‬

‫فصل من رواية‬

‫بدو على الحافة‬

‫سجل رجال الدرك القادمون من المركز القريب‪ ،‬المستاؤون من البرد ورعونة‬


‫الموقف‪ ،‬تفاصيل حادثة الليلة‪ :‬س َّيارة بيضاء أنيقة‪ ،‬دون أرقام‪ ،‬تصدم عمود الكهرباء‬
‫الخشبي مما تسبب في انقطاع األسالك وتشابكها‪ .‬وقد كانت عند التحاقهم بالموقع‬
‫فارغة من الركاب رغم أنّها جديدة‪ ،‬أعطالها بسيطة‪ ،‬وليس ثمة ضحايا على ما‬
‫يبدو‪.‬‬
‫صرفوا جمهرة القرويين القالئل‪ .‬تأملوا َّ‬
‫كل شيء‪ ،‬وسجّ لوا مالحظاتهم‪ :‬درجة ميل‬
‫المفترضة التي أسالت‬
‫َ‬ ‫الس َّيارة‪ ،‬انغراسها في الوحل القليل‪ ،‬قوة االصطدام المتوسطة‬
‫ُ‬
‫البنـزين على األرض وأعاقت حركتها‪ ،‬التوقيت التقريبي لالصطدام‪ ،‬تفاصيل أخرى‬
‫ال يطرقها غير مهووس‪ ،‬ولم ينسوا رغم النوم الممسك بأجفانهم سؤال الشهود‪ ،‬لكن‬
‫ما من أحد عاين الحادثة في وقتها‪.‬‬
‫كان ُّ‬
‫كل شيء أمامهم‪ :‬الس َّيارة الجديدة‪ ،‬بعجالتها المتينة‪ ،‬تتسبب في إيقاظهم في‬
‫الدجى‪ ،‬ثم ال يجدون الركاب‪ .‬أين ذهبوا تاركين الس َّيارة ومتاعهم؟ متخففين من‬
‫المقاعد الوثيرة الساخنة في ليلة خريفية باردة يرتجف الناس فيها تحت األغطية؟‬
‫حين فتحوا صندوق الس َّيارة‪ ،‬وجدوا به كيس زرع وفأسا ومِعْ َوال غريب الشكل‪،‬‬
‫وكان ثمة بعض الطعام واألوراق الممزقة‪.‬‬
‫مر وقت طويل ولم يستطع أحد من أبناء القرية ادعاء امتالك تفاصيل ما حصل‪.‬‬
‫َّ‬
‫لكن الذين رووا الحادثة على الدوام‪ ،‬بمالمحهم المندهشة وعيونهم المتح ِّمسة‪،‬‬
‫َّ‬
‫كل حكي جديد‪ ،‬غرامهم اإلدهاش‪،‬‬ ‫ممعنين في التفاصيل‪ ،‬بإتقان زائد ُمم ٍّ‬
‫ِل‪ ،‬عند ِّ‬
‫أكدوا َّ‬
‫أن جسد الصحراء ال يعزف سوى األراجيف‪ .‬فلقد تساءلوا بعميق اليقين‪ :‬هل‬
‫كان الضباب هو الذي تسبب في الحادثة؟ هل كانت الظلمة أم الخمر؟ أم ربما كانت‬

‫‪123‬‬
‫عبد العزيز الراشدي‬

‫السرعة؟ ثم أجمعوا‪ ،‬حين زاغت االحتماالت‪ ،‬على قوة الصدمة‪ ،‬إذ اهتز لها ُّ‬
‫كل النيام‬
‫واختلط صداها بأحالم بعضهم ‪.‬‬
‫ً‬
‫لقد وجد الحكاؤون األمر تسلية يقضون بها سحابة األيام التي ال تمنح جديدا‪ .‬فهاهم‬
‫يتف َّ ّننون في إطالق التفسيرات‪ :‬فقائل‪ :‬إن بعض السائحين من النصارى * جاؤوا إلى‬
‫مرة أخرى‬
‫المكان فأصيبوا في الحادثة ثم عادوا إلى بلدهم وهم‪ ،‬الشك‪ ،‬سيؤوبون ّ‬
‫ِّ‬
‫ويؤكد أن النصارى ال يأبهون للمال والحديد‪ ،‬وأن‬ ‫السترداد الس َّيارة‪ .‬وآخر يقاطعه‪،‬‬
‫وقت ُنضجه‪ ،‬لم‬
‫عودتهم محال‪ .‬وقائل‪ :‬هم لصوص جاؤوا يبتغون محصول التمر في ِ‬
‫يفقهوا سر المكان‪ ،‬ولم يطلبوا ال ّتسليم ألهله‪ ،‬فأصابتهم لعنة من تَ َخ ّفى من رجال البالد‪.‬‬
‫أفاض الناس في الحديث واألسئلة‪ :‬من أين جاء الغرباء؟ ما قصدهم وما قصتهم؟‬
‫ألمت بهم الدهشة وهم ينفذون إلى سكون المكان؟ أم ع ّو ضت الصدمة‬ ‫هل َّ‬
‫دهشتهم؟ لـ َم َّ‬
‫ولوا األدبار تاركين س َّيارة غالية؟ مم كانوا يخافون؟ هل لصوصًا‬
‫وتوسلوا الفرار؟ أم‬
‫َّ‬ ‫كانوا؟ وهل من زعيم لهم؟ هل ْلملَموا جراحهم‪ ،‬وقت االصطدام‪،‬‬
‫أن الصدمة من تدبيرهم لصرف األنظار؟ فلربما كانوا يرغبون في إخفاء شيء ما؟‬
‫لقد أفاض القرويون في األسئلة َطوال الوقت وفي ِّ‬
‫كل األمكنة‪ ،‬ممضين سحائب‬
‫أيامهم في الثرثرة والخصام‪ :‬في الحقول اليابسة منذ زمن‪ ،‬حين يعمدون إلى‬
‫ربط الحمير إلى النُّخيالت الصغيرة‪ ،‬مقرفصين كيفما اتفق‪ ،‬أو مستلقين يسخن‬
‫بينهم الجدل‪ .‬وأحيانا‪ ،‬يتد ُّلون بأقدامهم فوق الساقية الطينية‪ ،‬ويسترسلون‪.‬‬
‫متنقلين من موضوع إلى آخر‪ :‬من قلة الماء التي تعذبّهم وتجعلهم يحدقون في ِّ‬
‫كل‬
‫األنحاء بشرود‪ ،‬إلى غواية السفر والنساء‪ .‬وقرب المسجد‪ ،‬أمام الصومعة العالية‬
‫كل صالة يقتعدون الثرى‪.‬‬ ‫اإلسمنتية‪ ،‬التي ال تتوافق مع المسجد الطيني‪ُ ،‬د ب َُر ِّ‬
‫في أحيان أخرى‪ ،‬حين يجنّ الليل‪ ،‬يهرع البعض منهم‪ ،‬من هواة السهر‪،‬‬
‫يفسرون الحادثة حسب‬
‫ِّ‬ ‫إلى الحانوت الوحيد ليكملوا كالمهم ويتحاجّ وا‪.‬‬
‫اعتقادهم‪ ،‬تختلط تفاصيلها بأشجانهم‪ ،‬ويركب بعضهم الشجاعة واالهتمام‬
‫وهو يتوغل‪ ،‬فيومئ لعالقة مبهمة بالغرباء‪ .‬وفي المطابخ‪ِّ ،‬‬
‫تقلب النساء الجمر‬
‫ضاجة بالدهشة‪ ،‬وأصوات اختالفهن تتعالى فتطفئها الريح‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫واالحتماالت‪ ،‬عيونهن‬
‫تكلم «المحجوب»‪ ،‬الوافد الجديد على‬ ‫ها قد تنافس الناس في تفسير الحادثة‪ .‬ثم َّ ّ‬
‫القرية من الصحراء‪ ،‬الساكن الذي لم يندمج ُ‬
‫بعد تماما مع إيقاع حياتهم‪ ،‬المنبوذ‪،‬‬
‫فاستفاق الناس على الدهشة القصوى‪ ،‬وتعجبوا كيف نَ ُسوا االحتمال األقرب‪ .‬ثم‬

‫‪124‬‬
‫بدو على الحافة‬

‫تسرب الخبر إلى األطفال‪ ،‬لم تفارقهم‬


‫َّ‬ ‫تحسبا للخطر‪ .‬وحين‬‫َّ‬ ‫خبأوا أوالدهم بعناية‬
‫الكف كما تَفعل َّ‬
‫العرافات‪ ،‬ثم‬ ‫َّ‬ ‫الرعشة‪ ،‬وسارعوا إلى مقارنة أياديهم ببعضها‪ ،‬قارئين‬
‫تباهى بعضهم بأنه ال ينفع الغرباء في مبتغاهم‪.‬‬
‫الحشاشون‪ ،‬فلم يصدقوا رواية الرجل‪ ،‬بل تمسكوا بكون الغرباء جاؤوا بغنيمة‬‫َّ‬ ‫أما‬
‫كبيرة‪ :‬فقد اعتادوهم يقطعون المسافة من الشمال حتى الجنوب مش ًيا‪ ،‬يجيؤون بما‬
‫تيسر فتكون لهم وألصحابهم من ساكنة الواحة الغلبة والشأن الرفيع‪ .‬لذلك عمدوا‬
‫َّ‬
‫إلى التنقيب بعين الحسرة عن قطعة حشيش قرب الس َّيارة‪ ،‬وفي صندوقها‪ ،‬وقد‬
‫وجد بعضهم القليل‪ ،‬فتأكد لهم الكالم‪ ،‬بينما اآلخرون لم يظفروا سوى بكيس الزرع‬
‫والمعول القديم غريب الشكل والفأس‪.‬‬
‫ثم أعياهم البحث فاستسلموا‪ :‬سرقوا أغشية الكراسي‪ ،‬واألسالك الصالحة لشيء‬
‫ما‪ ،‬وقطع المحرك‪ .‬سرقوا المعول والفأس وتركوا الس َّيارة عرضة للعزلة والبرد‪ .‬كم‬
‫لعنوا في جلساتهم الحميمة‪ ،‬في قمة الجبل القريب‪ ،‬الظرف السيئ الذي أضاع لهم‬
‫شهوة معانقة «السبسي» ومتعة حرق الحشيش وتفتيته في باطن الكف ‪.‬‬
‫والمحجوب المفتون بحكايته لم يتوقف‪ .‬غجريا كان‪ ،‬من الصحراء‪ ،‬استقر بالقصر‬
‫ُ‬
‫السكان‬ ‫الطيني القديم الموغل في الوهن‪ ،‬الموشك على التداعي‪ ،‬بعد أن غادر منازلَه‬
‫ألن مس ِّوغات االختباء‬ ‫ّ‬
‫الممتدة دون أسوار‪َّ ،‬‬ ‫لالستقرار خارجا‪ ،‬في األرض الرحبة‬
‫من الحروب والضغائن غابت‪ ،‬وإن لم تفتأ تتوهج بين الحين والحين‪ .‬كان يحكي‬
‫حكايته ويفسر الحادثة كما يريد‪ ،‬باللحية الك َّثة البيضاء ذاتها‪ ،‬والعينين الحازمتين‪،‬‬
‫المخرف؟ كبار القرية‪ ،‬عُ قالؤها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والحكايات التي ال تنتهي‪ .‬من يهتم لكالم هذا الرجل‬
‫أصحاب األرض والجاه‪ ،‬ممن استوطن القرية أجدادهم األولون خاضوا الحروب‬
‫في ما بينهم‪ ،‬وواجه بعضهم النصارى آن االستعمار‪ ،‬وهادنهم البعض وأصبح المال‬
‫كل فرح أو حزن‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫يشكلون مجلس األعيان‪ .‬هم س َّنة مؤكدة في ِّ‬ ‫والبنون لعبتهم‪ .‬هم‬
‫هم يعرفون َّ‬
‫كل الحكايات من األلِف‪ ،‬يعرفون ما يروج وما ينبغي‪ .‬والمحجوب لعبة‬
‫الصبيان‪ ،‬يقذفونه بالحجارة واللعنات فال يردعهم أحد‪ .‬يحلق رؤوس الناس أمام‬
‫الجامع‪ ،‬يف ّتت النخيل ليغدو حط ًبا ويقبض‪ ،‬يصلح النعال‪ ،‬ويثرثر‪ ...‬وهو ماض في‬
‫التأكيد‪ :‬كان ركاب الس َّيارة أربعة في عُ رفه‪ّ .‬‬
‫يفسر ذلك بسخونة المقاعد في تلك‬
‫الليلة الخريفية الباردة‪ ،‬وبقشور الموز األربعة على الطريق التي لم يُعرها اهتمامًا‬
‫أحد‪ .‬والسائق بالتأكيد هو السبب‪ .‬كان الغرباء يسيرون ولم ي َْصبر بعد أن دهمته‬

‫‪125‬‬
‫عبد العزيز الراشدي‬

‫ِِّ‬
‫ليعدل المزاج فلم يصغوا‪ ،‬فقرر المغامرة‪ :‬ترك الس َّيارة‬ ‫النشوة‪ ،‬طلب منهم التوقف‬
‫َّ‬
‫استل‬ ‫َّ‬
‫اطمأن للمسار السلس في فراغ الطريق الجنوبي المتواطئ‪،‬‬ ‫تقودهم بعد أن‬
‫ُ‬
‫نشوة الحشيش وضو ُء الوقيد‬ ‫قطعة الحشيش من جيبه‪ ،‬وبدأ في حرقها‪ ،‬غ َّيمت‬
‫الصو َر أمامه‪ ،‬تناطحت أمام عينيه العوالم واألحالم‪ ،‬فبدأت الس َّيارة تلعب مع الريح‪.‬‬
‫لم يكونوا لصوصً ا‪ ،‬وال مرضى ببرد العظام جاؤوا إلى رمل الواحة التي ُتشفي‪ .‬ولم‬
‫يكونوا مستكشفين كما أشاع البعض َّ‬
‫وقدر‪ .‬هل تخبئ هذه الواحة جديدا غير‬
‫يباسها؟ كانوا عارفين بمبتغاهم‪ ،‬لهم حكمتهم ورزانتهم‪ ،‬يقودهم شيخ وقور حازم‬
‫مسيطر َّ‬
‫يتكلم باقتصاد‪.‬‬
‫لقد توقفوا‪ ،‬حسب ما حكى «المحجوب»‪ ،‬في محطات كثيرة‪ ،‬قبل الوصول إلى‬
‫القرية‪ ،‬تهامسوا في ما بينهم‪ِّ ،‬‬
‫مدققين في الخرائط التي يعرفون ج ِّي ًدا كيف يقرؤونها‪،‬‬
‫مدركين بحصافتهم عناء الوصول إلى المبتغى‪ ،‬وقد رجّ ح‪ ،‬أن يكونوا سافروا بذاكراتهم‬
‫موسم أو‬
‫ٍ‬ ‫إلى حدود أزمنة أخرى‪ ،‬إلى قبة قديمة لولي بركاته ال ُتحصى أو موعِ دِ‬
‫زاوية أو سوق شعبي اجتمعوا فيه على عجل ليتهامسوا حول المراد‪ .‬إلى‬ ‫ٍ‬ ‫مكان‬
‫لصص‪،‬‬ ‫هناك حيث تقام النذور لألولياء وتقام األضاحي‪ .‬إلى الكتب القديمة‪ ،‬حيث ال ّت ّ‬
‫و ُدربتهم في إقناع الباعة من لصوص الذخائر والجلود القديمة‪.‬يدفعون الكثير للظفر‬
‫متحرقين‬
‫ِّ‬ ‫العرافات والنسوة الخوّافات‪،‬‬ ‫باألكثر‪ .‬لقد َّ‬
‫تكلموا‪ ،‬ال شك‪ ،‬بخفوت كما تفعل ّ‬
‫شوقًا إلى امتالك الخرائط التي تفضي‪ .‬زادهم صبر قليل ولهفة ُتحرق الدواخل‪ .‬يا‬
‫الحر أو‬
‫ِّ‬ ‫ُّ‬
‫يفتضون المسافات في الليالي المظلمة‪ ،‬وسط‬ ‫ل َ َت َع ِب ِهم اللذيذ المُ رعش وهم‬
‫تمرسوا بالحديث مع الجميع بحميميةِ‬ ‫بحثا عن الخرائط التي ُتنجي! غربا ٌء ّ‬
‫القر‪ً ،‬‬
‫ِّ‬
‫الكذاب‪ ،‬شارحين ما ليس قصدهم ليم ِّوهوا السبل ويتيه الفضولي‪ ،‬يعرفون ج ِّيدا َّ‬
‫كل‬
‫التفاصيل‪ .‬يعرفون أين يضعون الخطى‪ .‬حكى َّ‬
‫كل شيء عنهم‪ .‬من لون الثياب حتى‬
‫المسرة‪ ،‬يَحِ نُّون‬
‫َّ‬ ‫األطعمة التي يح ُّبون‪ :‬الدرهم حبيبهم‪ .‬القدور القديمة تجلب لهم‬
‫إلى رائحة العتاقة في اصفرارها‪ ،‬غنائمها ُترعش الفؤاد‪.‬‬
‫مروا‬ ‫تهكموا على النيام في ِّ‬
‫كل القرى التي ُّ‬ ‫وقال المحجوب إن الغرباء‪ ،‬دون شك‪َّ ،‬‬
‫المرة‪ ،‬لبساطة المباني في قرى الصحراء‪.‬‬
‫كثيرا‪ ،‬بتواطؤ خفيف هذه ّ‬
‫ً‬ ‫وتأسفوا‬
‫َّ‬ ‫منها‪،‬‬
‫كم راقهم سكون الليل الوديع ونقاء الجو‪ .‬جاؤوا عازمين على االنتصار في معركتهم‪،‬‬
‫يوحدهم الشوق للمال‪ ،‬ال يركبون المخاطر إال ألنها تستحق‪ .‬سالحهم المعول والفأس‬‫ِّ‬
‫ُّ‬
‫سيفكون األلغاز‬ ‫والزرع الذي ينثرون ليدلهم على مكان ال َ ْ‬
‫حفر‪ ،‬و َزا ُدهم الخرائط‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫بدو على الحافة‬

‫ُهمهم زمان أو مكان‪ .‬بدا الصحراوي متأثِّ ًرا وهو يحكي عن‬
‫ويعودون غانمين‪ ،‬ال ي ُّ‬
‫هؤالء الغرباء‪ ،‬كما لو كان معهم‪ ،‬كما لو كانت قض َّيته‪ .‬والناس يعرفون تخريفه‪ ،‬حين‬
‫الحسانية‪ ،‬ويتغنى بعالقات نسائية غامضة‪ ،‬وصداقات تفوح منها روائح‬
‫َّ‬ ‫ينظم األشعار‬
‫العشوب والهجر ابتلعتها الرمال‪ .‬يعرفون عومه العميق في بحور االستعارة حتى يبكي‪،‬‬
‫فقد كان شاعرا‪ .‬يعرفون حكاياته عن الصحراء التي يختلط الجد فيها بالهزل‪ ،‬لذلك‬
‫لم يهتموا‪ .‬لكنّ اإلشاعات تتسرب‪ ،‬والدخان ال ينمو دون نار‪ ،‬وال يملك أحد إيقاف‬
‫األسئلة‪ .‬حتى ّ‬
‫إن قائد الدرك ‪ -‬الذي يقضي سحابة أيامه‪ ،‬في لعب الورق مع الدر ِك ّي ْين‬
‫منتظرا أن يغادر يوما ‪ّ -‬‬
‫فكل‬ ‫ً‬ ‫الساهرين على األمن في الواحة‪ ،‬وشرب الشاي الثقيل‪،‬‬
‫يفضلون َّ‬
‫حل مشاكلهم بينهم‪ ،‬ويخشون‬ ‫القرى الملت َّفة حول النهر هادئة‪ ،‬والناس ِّ‬
‫المخزن وال يثقون به‪ ،‬أغرته الحكاية‪ ،‬فبعث للحاكي خفية‪ ،‬حسبما أُشيع‪.‬‬
‫أشرقت شموس‪ ،‬وانطفأت أخرى‪ .‬ومرت أيام وليال‪ .‬وبين البداية والنهاية زمن‬
‫لكن رجال الدرك لم يرفعوا الس َّيارة‪ .‬ظلت هامدة‪ ،‬كلوحة‪ ،‬يتأملها الرائح‬ ‫يتمدد‪َّ ،‬‬
‫ً‬
‫مشهدا يوم ًيا في القرية الجنوبية النابتة في الخالء بين الرمال‬ ‫والغادي‪ .‬أضحت‬
‫الرتابة في أيامهم ي ِّتخذونها لعبة‪ .‬هاهم يتدربون‬ ‫والجبال‪ ،‬ثم بدأ األطفال الذين ُت ِّ‬
‫عشش َّ‬
‫على السياقة‪ ،‬يركب البعض ويدفع آخرون‪ ،‬متناوبين على ذلك‪ ،‬مُختصمين حول‬
‫أدوارهم َّ‬
‫كل الوقت‪.‬‬
‫ثم يجتمع الرجال ـ الذين يخبّئون أوالدهم حذر ما يقول ـ أمام الجامع‪ ،‬بعد إدراكهم‬
‫فداحة األمر لسن القوانين‪ :‬ال خروج بعد صالة العشاء‪ ،‬ومن يخرج يُعط «النصاف»‬
‫ويطعم ستة أفراد من القبيلة في بيته حسب العرف القديم الدائم‪ .‬وتبدأ المراقبة‬
‫يهتمون لدم‬
‫ُّ‬ ‫الدورية‪ .‬لألطفال طبعا نصيب من ِّ‬
‫كل حكاية‪ ،‬فأصحاب الس َّيارة‬
‫األطفال أكثر‪ ،‬الدم وسيلتهم في اكتشاف المبتغى‪ .‬لكن نصائح اآلباء وعقوباتهم ال‬
‫ُتهم‪ ،‬واألطفال يلعبون‪.‬‬
‫ِّ‬
‫متذكرين كالم الحالق بعد الغروب‬ ‫متوجّ سين قليلًا من ِّ‬
‫كل غريب عليه آثار السفر‪،‬‬
‫كل زائر أو غريب‪ ،‬من باعة المسك والزعفران على‬ ‫ببعض الرعشة‪ .‬يحتاطون من ِّ‬
‫الخصوص‪ ،‬ممن لهم مالمح ال تطالها السمرة‪ ،‬الذين أصبحوا يتذ َّمرون من كثرة التحديق‬
‫واألسئلة‪ .‬والرجل يحكي في ِّ‬
‫كل وقت يوميات الغرباء الذين جاؤوا بالس َّيارة‪ ،‬يحلق‬
‫رؤوس الناس ويحكي‪ ،‬يُصلح النعال ويحكي دون كلل‪ :‬ما يشربون‪ ،‬وما يأكلون‪ ،‬وما‬
‫يفعلون‪ .‬دون أن يسأله أحد أين يختبئون‪ ،‬كي ال يفسد متعة الحكي‪ .‬تكبر صورته‬

‫‪127‬‬
‫عبد العزيز الراشدي‬

‫في القرية ويصبح حديثها‪ ،‬يضحك الناس من تخريفه المعتاد ويحسده البعض على‬
‫اتِّساع المخيلة‪.‬‬
‫ثم تسير األيام بالناس‪ ،‬يستيقظون ليصنعوا يومهم‪ ،‬منهم من ّ‬
‫عششت الحكاية في‬
‫جره الزمن واقتاده اليومي إلى ركن قصي‪ .‬وقيل إن‬
‫ذهنه‪ ،‬يحكيها ويزيد‪ ،‬ومنهم من َّ‬
‫ُ‬
‫عريسا نزع مرآة الس َّيارة المهملة وأهداها لعروسه‪ .‬عمود الكهرباء أصلِح‪ ،‬والنُّور‬
‫ً‬
‫َّ‬
‫المتكرر‪ ،‬والزمان يمحو كل شيء‪ .‬لكن هل يتوقف المحجوب‬‫ِّ‬ ‫عاد مع التوقف المعتاد‬
‫عن الكالم حرفته؟ بالطبع ال‪ ،‬فلطالما أكد‪ ،‬أمام الجامع وقرب حانوت البقال‪ ،‬بجديِّة‬
‫واحد قريب‪ ،‬وأن دم طفل‬
‫ٍ‬ ‫قل نظيرها أن الغرباء‪ ،‬من فاتحي الكنوز‪ ،‬وقد جاؤوا لفتح‬ ‫َّ‬
‫ليتجمع‬
‫َّ‬ ‫خطوط يده متطابقة يلزمهم‪ :‬سيذبحونه وينثرون الزرع حول مكان الدم‪،‬‬
‫َّ‬
‫الحشاش‪ ،‬أصغر الغرباء‪ ،‬سبب‬ ‫حول مكان الكنز فيحفرون‪ .‬وأضاف أن السائق األرعن‬
‫الحادثة‪ .‬ثم يضيف – بينه وبين نفسه هذه المرة‪ -‬إن الحياة‪ ،‬إن األيام‪ ،‬ستفضي‬
‫إلى هؤالء المخ َّنثين من أعيان القرية‪ ،‬هؤالء الذين ال يعرفون قيمة الرجال‪ ،‬ستفضي‬
‫إليهم قريبا بما كانوا يجهلون‪.‬‬

‫فصل من رواية «بدو على الحافة»‪ ،‬منشورات دائرة الثقافة واالعالم‪ ،‬الشارقة ‪2006‬‬

‫‪128‬‬
‫عبد القادر بن علي‬

‫قصة قصيرة‬

‫زيارة إلى المجزرة‬

‫كانت األمور ستسير على نحو آخر‪ ،‬لو لم يذهب مع أبيه لزيارة المسلخ‪ .‬لو لم‬
‫يحدث ذلك َّ‬
‫لظل مقي ًما في نفس الحي الذي يقطنه أبواه‪ ،‬ولربما تزوّج من ابنة خالته‪،‬‬
‫الفتاة التي أجرت عملية ألمعائها الدقيقة‪ ،‬كما أخبرته أخته‪ ،‬وجاهدت عائلتها على‬
‫إبقاء ذلك األمر طي الكتمان‪ ،‬خوفًا من أن تضيع على الفتاة فرص الزواج‪ ،‬إذ ال أحد‬
‫يرغب بالزواج من فتاة لديها شقُّ في بدنها‪.‬‬
‫استقر‬
‫َّ‬ ‫كان أبوه قد جاء إلى أوروبا في الستينيات‪ ،‬في البدء إلى إسبانيا ففرنسا ثم‬
‫َّ‬
‫يتذكر‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬في أية سنة جاء إلى أوروبا‪.‬‬ ‫في هولندا‪ ،‬ولم يعد‬
‫ال تحسب كم من الوقت مضى على مجيئك‪ ،‬المهم أنك موجو ٌد هنا‪ .‬لقد اندثرت‬
‫بدورها أسماء المدن التي عاش فيها‪ .‬إنّهم يعيشون هنا اآلن‪ ،‬وليس هناك‪ .‬ويعنون‬
‫بكلمة (هناك) القرية الواقعة على البحر حيث ولد أسالفه‪.‬‬
‫أبوه‪ ،‬عمران‪ ،‬الذي زرعه في أحشاء أمّه عند قدومه البيت في إجازة‪ ،‬لم يعد‬
‫َّ‬
‫يتذكر الكثير عن تلك السنين‪.‬‬
‫لتتحول‪ ،‬فيما‬
‫َّ‬ ‫لقد مضت بسرعة مثل فصل رتيب لم تهطل فيه ُدفقة مطر واحدة‬
‫بعد‪ ،‬إلى عالمة فارقة يمكن أن تخطر في الذهن‪.‬‬
‫لم تكن لوالده هوايات إلى جانب حرفة إصالح أجهزة الراديو «الترانسستور»‬
‫يحب‬
‫ُّ‬ ‫العاطلة‪ .‬لم يكن مغرمًا بالموسيقى‪ .‬لم يكن مولعًا بالسهر خارجً ا‪ .‬لم يكن‬
‫يحب النوم المتواصل‪ .‬في المنزل لم تكن توجد أجهزة‬
‫ُّ‬ ‫معاشرة الناس‪ .‬وكان ً‬
‫أيضا ال‬
‫تنبيه‪ .‬كان أبوه هو من يوقظه عندما يحين الوقت‪.‬‬
‫كلما استيقظ من النوم‪ ،‬وجد أباه مشغولًا بإصالح جهاز ما‪ .‬لقد َّ‬
‫تعلم‬ ‫كان االبن‪َّ ،‬‬
‫ّ‬
‫مجددًا أكثر من‬ ‫األب إصالح أجهزة الراديو العاطلة بعد أن دأب على ّ‬
‫فكها وإعادتها‬

‫‪129‬‬
‫عبد القادر بن علي‬

‫مرت بين يديه أجهزة عديدة‪ ،‬أصبح يعرف األدوات من األلف إلى الياء‪،‬‬
‫مرة‪ .‬وبعد أن ّ‬
‫ّ‬
‫والناس يقصدونه بأجهزتهم العاطلة‪ ،‬حين يصيبهم اليأس من إمكانية إصالحها‪ ،‬في‬
‫محاولة لمنحها فرصة أخيرة للعودة إلى الحياة‪ ،‬ومنح أبيه فرصة إلثبات عبقر َّيته‪.‬‬
‫وبالفعل كان األب ينهمك في عمله بحماس عجيب‪ ،‬وكأنه يحاول إصالح شيء ما‬
‫في نفسه‪.‬‬
‫ّ‬
‫ظل يصلح راديوات اآلخرين‪ ،‬مجّ انًا حتى أدرك أنّه يستطيع شراء راديوات عاطلة‪،‬‬
‫يصلحها ثمّ يبيعها‪.‬‬
‫كان دائم التجوال في أسواق بيع األغراض القديمة‪ ،‬كل أسبوع‪ ،‬منذ أن تفتتح‬
‫في الصباح الباكر‪ .‬وحين تقترب مواقيت انتهاء العمل في تلك األسواق‪ ،‬يبدأ بسؤال‬
‫الباعة إن كانوا يرغبون إعطاءه ما بحوزتهم من أجهزة راديو عاطلة‪ ،‬دون مقابل‪.‬‬
‫وغال ًبا ما كان يحصل على تلك األجهزة بأثمان ال تذكر‪ ،‬حيث الباعة يسعدون ً‬
‫أيضا‬
‫حين يمكنهم الخالص من أعباء تلك األجهزة‪.‬‬
‫كانت تجارة ظريفة‪ .‬ربما خمسة أجهزة في الشهر‪ ،‬أو نحو ذلك‪ .‬هكذا سارت‬
‫األمور على ما يرام إلى أن ظهرت األجهزة الحديثة (الديجتال) في األسواق‪.‬‬
‫قال األب‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪« -‬هذه ال تحتاج التصليح‪ ،‬ألنّها لن تتعطل أبدا‪».‬‬
‫وعندها بدأ األب بتصليح راديوات لن تباع ً‬
‫أبدا‪.‬‬
‫مرة في الشهر كانت تدهمه استثارة خفيفة‪ .‬عندها يسرع بشكل جنوني للخروج‬ ‫ّ‬
‫ٌ‬
‫من المنزل‪ .‬وحين يعود يستلقي مباشرة على األريكة وعالمات اإلنهاك بادية عليه‪ .‬ولم‬
‫يتحدث األب ً‬
‫أبدا‪ ،‬بحضور االبن‪ ،‬عن المكان الذي ذهب إليه‪ ،‬بينما االبن كان يالحظ‬
‫ومستعص‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أن أباه منفعل‪ ،‬وكأنه خاض غمار نقاش حاد‪ ،‬في موضوع شائك‬ ‫فقط ّ‬
‫‪« -‬خذني معك‪».‬‬

‫قال االبن ألبيه ذات ليلة أثناء جلوسهم إلى مائدة الطعام‪ .‬تظاهر األب بأنه لم يسمع‪،‬‬
‫واستمر في المضغ دون انفعال‪.‬‬
‫َّ‬
‫‪« -‬خذني معك‪».‬‬
‫مرة أخرى بصوت أقوى‪.‬‬
‫قالها االبن ّ‬
‫‪« -‬إلى أين؟» سألته أ ُّمه‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫زيارة إلى المجزرة‬

‫‪« -‬إلى حيث يذهب‪».‬‬


‫مستمرا بمضغ طعامه‪ .‬قال االبن بصوت قوي ًّ‬
‫جدا‪:‬‬ ‫ًّ‬ ‫َّ‬
‫وظل‬ ‫لم يجب األب‬
‫‪« -‬خذني معك‪».‬‬
‫‪« -‬ماذا دهاك؟»‬
‫ِّ‬
‫وسدد‪ ،‬بالملعقة التي في يده‪ ،‬ضربة محكمة إلى وجنته‪ .‬تراجع االبن‬ ‫قال األب‬
‫برأسه إلى الخلف‪ .‬ورغم اللهيب الذي س َّببته الملعقة في وجنته‪ ،‬لم يستسلم‪.‬‬
‫‪« -‬خذني معك‪».‬‬
‫مرة أخرى في نفس‬
‫كررها االبن بصوت أكثر ارتفاعً ا وبحزم أشد‪ .‬نالته الملعقة ّ‬
‫َّ‬
‫مرة أخرى في الطعام‪ ،‬فقد كان يحب تناول‬
‫دس األب الملعقة ّ‬
‫المكان‪ .‬آلمته الضربة‪ّ .‬‬
‫الطعام بالملعقة‪.‬‬
‫ً‬
‫صارخا‪:‬‬ ‫تحسس االبن وجنته بيده‪،‬‬
‫ّ‬
‫‪« -‬خذني معك‪».‬‬
‫ضربه أبوه بالملعقة مع ما فيها من الطعام‪ .‬صرخت األم‪:‬‬
‫«ال داعي لذلك‪ .‬لقد وسّ خت طاولة الطعام‪ .‬أليس في إمكانك أن تضربه في مكان آخر؟»‬
‫سال الطعام على وجه االبن‪ .‬كانت الضربة قد سُ ِّددت إلى الجانب اآلخر من وجهه‪.‬‬
‫بدا على األب أنه اكتفى بذلك‪ .‬نهض قائلًا‪:‬‬
‫‪« -‬لم يكن ينبغي أن أتناول الطعام مع آدمي مثله‪».‬‬
‫لماذا طلب من أبيه مرافقته؟ هل هناك عالقة باالبتسامة الودودة التي تعمر وجه‬
‫األب‪ ،‬ونغمة الصوت البشوش التي يعامل بها األوالد حين ينتهي مفعول سحر الزيارة‬
‫ألن االبن يشعر بأنّه من خالل‬
‫الشهرية الغامضة‪ ،‬ويرجع إلى سباته المعتاد؟ أم َّ‬
‫صحبة أبيه يمكن أن َّ‬
‫يطلع على ما ال ينبغي معرفته؟‬
‫‪« -‬لماذا ال يرغب أبي باصطحابي معه؟»‬
‫سأل االبن أمه‪.‬‬
‫‪« -‬إلى أين؟»‬
‫مرة في ّ‬
‫كل شهر‪».‬‬ ‫‪« -‬إلى حيث يذهب ّ‬
‫‪« -‬ال أعرف عمّ ا تتحدث‪».‬‬
‫لم تقل األم ذلك رغبة في الكذب أو بغية التسويف والمماطلة‪ .‬كانت تريد أن‬
‫تفهمه بوضوح أن ثمّة أمو ًرا أكثر أهمية من اهتمامه بمعرفة أحوال أبيه المزاج َّية‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫عبد القادر بن علي‬

‫لم يفهم االبن وقتها ّ‬


‫أن أبويه كانا يدركان ما يفعالنه برفضهما الحاسم االستجابة‬
‫لفضوله‪ .‬لقد أوصدا الباب بوجهه‪ ،‬ألنّهما يعتقدان أنه لن يعرف كيف سيتصرف‬
‫إذا أصبح في الخارج‪ .‬بدا له أن أخته‪ ،‬ثريّا‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬كانت متورطة في التآمر‪.‬‬
‫لم تهرع لتقديم أ َّية مساعدة له‪ ،‬حين أقدم على طلبه‪ ،‬مع أن التآمر كان يهدف إلى‬
‫منعه من ممارسة حق مشروع من حقوقه‪.‬‬
‫‪« -‬لماذا ال تقولين شي ًئا عن رفض أبي اصطحابي معه؟ أنت أكبر مني س ًّنا وهما‬
‫يصغيان إليك‪».‬‬
‫‪« -‬ولماذا أفعل ذلك؟ ربما لن تجدي زيارتك نفعًا‪».‬‬
‫الرغبة في الحديث‪.‬‬ ‫إذن هي تعرف بالتأكيد أين يذهب‪ُّ .‬‬
‫كل ما هنالك‪ ،‬ليس لديها َّ‬
‫‪« -‬ما تفعله اآلن ال طائل منه‪ .‬محاوالت إكراه هؤالء القوم لن تجدي نفعًا‪».‬‬
‫‪« -‬لماذا؟»‬
‫ً‬
‫جيدا‪ ،‬سيذعنان‬ ‫‪« -‬ألنّهما لن يسمحا باإلذعان لضغوط األوالد‪ ،‬عليك أن تفهم ذلك‬
‫لكن ليس لضغط ابنهما‪ .‬بل قد يفضالن القفز من مكان مرتفع‬
‫لضغوط أي شخص آخر‪ْ ،‬‬
‫على اإلذعان‪».‬‬
‫الرغبة باالنتقام‪ ،‬من وطأة التحريم الحصين‪ ،‬سيطرت عليه بدرجة كبيرة‪ .‬فيما بعد‬
‫سوف يدرك مدى قوّة تلك المشاعر‪ ،‬وسوف يدرك أن تو َّتر مشاعره الذي بلغ أقصى‬
‫مداه‪ ،‬وصولًًا إلى التفكير باالنتقام من ذلك المنع‪ ،‬وكذلك تراكم التو َّترات النفسية‪،‬‬
‫لم تكن بمجملها قوية بما فيه الكفاية‪ ،‬لخرق ذلك التحريم‪.‬‬
‫‪« -‬هل تظ ِّنين ح ًقا أنه لن يصطحبني معه ً‬
‫أبدا؟»‬
‫تظن‬
‫مهمة تقف حائلًا دون اصطحابك معه؟ لماذا ُّ‬
‫‪« -‬لماذا ال تكون لديه أسباب َّ‬
‫دائ ًما أن رغباتك هي األكثر أهمية؟»‬
‫يحدثني في األمر‪ ،‬ألن ليس ثمة من يريد أن ِّ‬
‫يحدثني‪».‬‬ ‫‪« -‬ألنه ال يريد أن ِّ‬
‫‪« -‬أنت ذكي‪ ،‬أعد النظر في أفكارك‪».‬‬
‫‪« -‬أريد أن أفهم ما هي َّ‬
‫اللذة من وراء ذلك؟ أمّي تعرف‪ ،‬أنت تعرفين‪ ،‬لماذا ال‬
‫يسمح لي بأن أعرف؟»‬
‫قفزت ثريّا من مقعدها لتجلب شرابًا‪ .‬ذهبت إلى المطبخ وتناولت قدحً ا من الرف‪.‬‬
‫‪« -‬ما يجعلك تعاند هو شعورك بأن الجميع يعلمون باألمر‪ ،‬فيما عداك أنت‪ ،‬حتى‬
‫الناس الذين ال تربطنا بهم صلة ما‪ ،‬من أولئك الذين ربما شاهدوه في ذلك المكان‪،‬‬

‫‪132‬‬
‫زيارة إلى المجزرة‬

‫الذي يتر ّدد إليه‪ ،‬أو ربما سألوه متى سيجلب ابنه معه ذات ّ‬
‫مرة‪».‬‬
‫كأسا من‬
‫لم يكن لديه ردٌّ مناسب‪ .‬كالعادة‪ ،‬غلبته ثريّا بذكائها‪ .‬عادت وهي تحمل ً‬
‫عصير التفاح‪.‬‬
‫تفسيرا مقنعًا‪ ،‬لماذا ال يريد أحد اطالعي على األمر‪ ،‬لماذا‬
‫ً‬ ‫‪« -‬رائع! إذن أعطني‬
‫يتآمر الجميع ضدي؟»‬
‫احمرت أذناه من شدة الغضب‪ .‬شربت أخته شي ًئا من العصير ثم جلست‪.‬‬
‫‪« -‬ال أدري‪ ،‬بالتأكيد لدينا الرغبة أن نخبرك‪ ،‬إذ ال أحد يعرف بالضبط لماذا نخفي‬
‫األمر عنك‪».‬‬
‫‪« -‬لماذا ال تخبريني؟ إذا كان األمر س ِّي ًئا‪ ،‬إلى الحد الذي يمنعك من الحديث عنه‪،‬‬
‫فذلك أدعى أن تطلعيني عليه‪».‬‬
‫‪« -‬ليس األمر في غاية األهمية‪».‬‬
‫وتمرر المشط من خالل شعرها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫قالت األخت ذلك وهي تهرب بنظراتها‬
‫‪« -‬األمر ليس ذا أهمية كبيرة‪ ،‬ولو أخبرناك به‪ ،‬سيصبح فجأة ذا أهمية كبيرة‪،‬‬
‫وبالطبع ال أحد يرغب في ركوب تلك المخاطرة‪ .‬هل فهمت صوت المنطق؟»‬
‫‪« -‬كال‪».‬‬
‫‪« -‬عظيم‪ ،‬هذا هو المطلوب‪».‬‬
‫مفرطا في الطول بالمقارنة مع س ّنها‪ .‬في الواقع كان ّ‬
‫كل ما فيها مفرط‬ ‫ً‬ ‫كان شعرها‬
‫مرة‪ ،‬بغرض‬ ‫بالمقارنة مع س ِّنها‪ .‬وبحسب رأي ِّ‬
‫معلمتها التي زارت المنزل‪ ،‬ذات ّ‬
‫إخبارهم ّ‬
‫أن الفتاة مفرطة الذكاء‪ .‬المعلمة كالرا كانت معجبة ًّ‬
‫جدا بثريا‪.‬‬
‫‪« -‬حساب‪ ،‬لغة هولندية‪ ،‬تاريخ‪ ،‬أحياء‪ ،‬تربية بدنية‪ ،‬ابنتكم ممتازة‪ ،‬ينبغي أن‬
‫تبعثوها إلى مدرسة ج ِّيدة‪».‬‬
‫ّ‬
‫المعلمة المنزل‪.‬‬ ‫قال األب بعد أن غادرت‬
‫‪« -‬ذلك ما نريده بالتأكيد‪».‬‬
‫‪« -‬ماذا قلت؟»‬
‫سألته زوجته‪.‬‬
‫‪« -‬نرسلها إلى مدرسة ج ِّيدة‪».‬‬
‫‪« -‬لقد نسيت منذ زمن حكايات تلك المرأة‪ ،‬هل ترغب بسماع إجابتي‪ ،‬أم انك‬
‫تعرفها مسب ًقا؟»‬

‫‪133‬‬
‫عبد القادر بن علي‬

‫‪« -‬أظن أنك ّ‬


‫تفضلين بقاءها في المنزل على الذهاب إلى المدرسة‪».‬‬
‫ّ‬
‫المتعلمات‬ ‫يتزوجها‪ ،‬الفتيات‬
‫‪« -‬الفتاة التي تدرس لفترة أطول من الالزم لن تجد من َّ‬
‫يتحذلقن في الكالم‪ ،‬يؤجّ لن الزواج‪ ،‬هذا ال يروق لي‪».‬‬
‫جيدا لذلك الحوار‪ .‬لفت نظره موقف أبيه المضاد لموقف األم‪ .‬كانت‬‫ً‬ ‫أصغى االبن‬
‫لكن‬
‫زاهرا‪ْ ،‬‬
‫ً‬ ‫لدى األب أفكار مزدوجة بشأن مستقبل ابنته‪ ،‬فهو يأمل لها مستقبلًا‬
‫ضمن حدود معينة‪ ،‬بينما كانت األم تتمنى لها ما هو أفضل بحسب التقاليد‪ ،‬وكلمة‬
‫َّ‬
‫وبالذات‬ ‫«تقاليد» تكتب بالبنط العريض‪ ،‬بنط كبير ً‬
‫جدا ال يمكن أن يغفله أحد‪،‬‬
‫وتحولت مع مرور الوقت إلى‬
‫َّ‬ ‫تجرب نمط الحياة العصرية في المغرب‪،‬‬
‫أمّه التي لم ِّ‬
‫مولد نووي للتقاليد‪.‬‬
‫تصرح بذلك‪ ،‬فهي لم تتقن‬
‫كانت امرأة قوية بالقول والفعل‪ .‬إذا لم يعجبها شيء فإنها ِّ‬
‫فن المجاملة‪ .‬وكانت تكره البلد الذي تعيش فيه‪ .‬كان ذلك واضحً ا من خالل أحاديثها‬
‫عن العالم الخارجي‪ ،‬وكأنها تتحدث عن قضية فرضت عليها باإلكراه‪ .‬ذلك العالم‬
‫الخارجي هو عدو تقاليدها‪ .‬كانت تدرك ذلك جيدا كما يدرك هو وأخته ذلك‪.‬‬
‫كان شعر أخته المميّز سب ًبا في نيلها اإلطراءات وكلمات اإلعجاب‪ ،‬عندما تذهب إلى‬
‫المارة‪ .‬لم تكن تفعل شي ًئا يزيد من جمال وانسيابية‬
‫َّ‬ ‫الخ َّباز‪ ،‬من قبل بعض الزبائن أو‬
‫شعرها‪ ،‬وهي في عمر الصبايا اللواتي يلتصق الجمال بهن‪ ،‬مثل التصاق رائحة الكحول‬
‫تمر على شعرها‪ ،‬مئة مرة‪ ،‬بالمشط الذي حصلت‬
‫مرة واحدة في األسبوع ُّ‬
‫بالمدمن‪ّ .‬‬
‫عليه من أمها‪ .‬وقع شجار حول موضوع التمشيط‪ .‬كانت ثريّا تريد أن تفعل ذلك‬
‫بنفسها‪ .‬فيما بعد‪ ،‬حين بدأ الكالم يطال أخته‪ ،‬بحسب رأي األم‪ ،‬قالت األم‪:‬‬
‫‪« -‬المشط هو أصل البالء‪ ،‬ليتني لم أعطها المشط أبدا‪».‬‬
‫تتصرف‪ ،‬في ذلك الصدد‪ ،‬بشكل جاد‪ .‬ابنتها تعني لها َّ‬
‫كل شيء‪ .‬تقطع‬ ‫ّ‬ ‫راحت األم‬
‫زيارتها لمعارفها‪ ،‬وتعود مضطربة إلى المنزل‪ ،‬كي تحتضن ابنتها‪ ،‬كأنها كانت طيلة‬
‫يقض مضجعها‪ :‬أين يمكن أن تكون ابنتها اآلن؟‬
‫الوقت قلقة بسؤال ُّ‬
‫«أعلم أ َّنك لست محظوظة مثلهن‪».‬‬
‫صرخت األم‪ّ ،‬‬
‫ألن الفتيات عند اآلخرين‬
‫«لم يعدن صبايا‪ :‬فلت زمامهن‪ ،‬شعورهن قصيرة مثل األوالد‪ ،‬دخول وخروج مستمر‬
‫َّ‬
‫يتحدثن بلغة ال تفهمها أمهاتهن‪ ،‬يشربن طيلة‬ ‫من الغرفة وإليها وكأنهن في متجر‪،‬‬
‫الوقت بطريقة الشفط بالقصبات‪».‬‬

‫‪134‬‬
‫زيارة إلى المجزرة‬

‫وأوشكت أن تختنق وهي تقول‪:‬‬


‫‪« -‬تخيلوا‪ ،‬واحدة من الفتيات صبغت شعرها باللون األشقر‪».‬‬
‫ّ‬
‫حينما سأل الولد أخته فيما لو أنها ترغب بأن يكون شعرها أشقر‪ ،‬أجابت بأنها‬
‫ال تدري‪.‬‬
‫‪« -‬أنا ال أ َّتبع التقليعات‪ ،‬من ي َّتبعها يخسر الكثير من قيمته الشخصية‪ ،‬لن يعثر‬
‫على قيمته الشخصية دون اتِّباع التقليعات‪ ،‬لعبة غاشمة ال ّ‬
‫بد أن يلعبها المرء‪ ،‬اآلن‬
‫أو فيما بعد‪».‬‬
‫في مثل تلك اللحظات كنت أدرك لماذا تحصل أختي على عالمات دراسية عالية‪،‬‬
‫على النقيض من تلك التي أحصل عليها أنا‪ .‬لغة هولندية‪ ،‬هي‪ :‬ممتاز‪ .‬أنا‪ :‬مقبول‪.‬‬
‫الحساب‪ ،‬هي‪ :‬ممتاز‪ .‬أنا‪ :‬ال بأس‪ .‬الجغرافية‪ ،‬هي‪ :‬ممتاز‪ ،‬أنا‪ :‬ال بأس‪ .‬التربية البدن َّية‪،‬‬
‫كل عالماتي الدراسية لم تكن كافية‪ .‬أبي الحظ أن‬ ‫هي‪ :‬ممتاز‪ .‬أنا‪ :‬سيىء‪ ...‬وهكذا ُّ‬
‫لكن األ َّم لم تهتم لذلك‪ .‬علقت‬
‫عالماتي الدراسية أقل من التي تحصل عليها أختي‪َّ ،‬‬
‫على األمر بقولها‪:‬‬
‫‪« -‬األوالد دائ ًما هكذا‪».‬‬
‫مرة كان في حضن أمّه وهي ّ‬
‫تقلب بعض الثياب بينما انفتح موضوع العالمات‬ ‫ذات ّ‬
‫الرائعة التي تحصل عليها أخته‪:‬‬
‫ّ‬
‫«معلمتها مسرورة بها‪».‬‬ ‫‪-‬‬
‫قال األب‪ ،‬فأجابت األم‪:‬‬
‫‪« -‬ال أهم َّية لذلك‪».‬‬
‫‪« -‬ما الذي تريدينه إذن؟»‬
‫للمضي في الدراسة‪».‬‬
‫ِّ‬ ‫‪« -‬في لحظة ما سينتهي األمر‪ ،‬ليس أمامها فرصة‬
‫في مثل تلك اللحظات‪ ،‬كان موقف أبيه يتراوح بين اللين والمسايرة‪ ،‬وبين‬
‫العناد واإلصرار‪.‬‬
‫‪« -‬التعليم أمر جيد‪».‬‬
‫‪« -‬ليس للبنات‪ .‬إنّهن يفقدن لغتهن‪ ،‬يصبغن شعورهن باللون األشقر‪ ،‬ينسين‬
‫ً‬
‫جيدا‪».‬‬ ‫أمرا‬
‫التقاليد‪ ،‬هل تسمي هذا ً‬
‫‪« -‬إذن‪ ،‬ماذا ينبغي لها أن تفعل؟»‬
‫‪« -‬يمكن أن نبعثها إلى مدرسة التدبير المنزلي‪».‬‬

‫‪135‬‬
‫عبد القادر بن علي‬

‫أن أمه قالت ذلك أل َّنها لم تكن تعلم بوجوده في المكان‪َّ .‬‬
‫تحدثت‬ ‫لم يدرك االبن َّ‬
‫ّ‬
‫التقدم الذي أحرزته عائلة أختها بمزيج من القلق والغيرة والغضب‪،‬‬ ‫كذلك عن‬
‫للتصرف دون أن‬
‫َّ‬ ‫وهاجت أكثر حين أظهر زوجها تف ّهما لطموحات ابنته‪ ،‬مما دفعها‬
‫تشعر بوجوده معهما‪.‬‬
‫لو كانت تعلم بوجوده فلربّما كانت استخدمت نبرة صوت أكثر نعومة‪ ،‬ألنّها تشعر‬
‫أن دسيستها ال ينبغي أن تصل مسامع ابنها‪ .‬فرغم أنّها ذهبت عمي ًقا في قناعاتها ّ‬
‫بأن‬ ‫ّ‬
‫كل السبل األخرى بإحكام‪ ،‬فقد‬‫التقاليد العظيمة يمكن أن تنجد ابنتها‪ ،‬إذا سُ َّدت ّ‬
‫تصرح بذلك‪ّ ،‬‬
‫بأن الطريقة التي تو ُّد بها بلوغ‬ ‫ِّ‬ ‫كانت تشعر في ذات الوقت‪ ،‬دون أن‬
‫مرامها ال تخلو من الوحش َّية‪ .‬لم يختلف عندها إن كان قرارها بتصغير حجم ابنتها‬
‫َّ‬
‫اختلت بسبب قهر الظروف التي‬ ‫ناج ًما عن دفاع انفعالي أو نتيجة لطبيعة بشرية‬
‫ّ‬
‫تحيط بها‪ ،‬والتي ال تستطيع فهمها أو التعايش معها‪ .‬كل شيء في أمّه غريزي‪ ،‬هكذا‬
‫بدا له األمر‪ .‬وهذا هو سبب نسيانها لوجوده‪ .‬غريزتها سبقتها‪.‬‬
‫أن تخبر الوالد عن خططها الشائنة‪ ،‬كان أهمّ من تفادي وصولها إلى مسامع ابنها‪.‬‬
‫‪« -‬دعنا نبعثها إلى مدرسة التدبير المنزلي‪ّ ،‬‬
‫تتعلم الطبخ والخياطة وتنظيف‬
‫ّ‬
‫خاصة بالبنات‪ .‬في هذه االثناء سأبذل‬ ‫الصحون‪ .‬المدرسة قريبة‪ ،‬وهي مدرسة‬
‫كل جهدي ألحصل لها على عريس مناسب‪ .‬سأتك َّفل بهذا الموضوع‪ .‬تو َّقف عن‬
‫التفو ق في‬
‫ُّ‬ ‫اطراءاتك المستمرة عليها‪ .‬تو َّقف عن المديح الذي تمطرها به عن‬
‫نحم‬
‫الدراسة‪ .‬ابذل ما في وسعك وساعدني كي أوجّ ه اهتمامها إلى المنزل‪ .‬دعنا ِ‬
‫ابنتنا‪ .‬ليس لدينا غيرها‪».‬‬

‫َّ‬
‫يتمكن من استيعاب‬ ‫مال رأس االبن إلى الخلف‪ ،‬من ِّ‬
‫شدة الذهول لما سمع‪ .‬لم‬
‫تلبسته‪ .‬في تلك اللحظة أدركت‬
‫ّ‬ ‫جد َّية األمر من جراء تلك القوة الشيطان َّية التي‬
‫األم وجوده معهم‪.‬‬
‫‪« -‬ماذا تفعل هنا؟ يجب أن تذهب إلى الفراش‪ .‬بسرعة‪».‬‬
‫بعيدا وضحكت حين رأت تقاسيم وجهه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫دفعته عنها‬
‫‪« -‬من حسن الحظ أن ّنا لن نواجه المشكلة نفسها معك‪».‬‬
‫قالت‪ ،‬فأشعره ذلك بنوع من الغبطة‪.‬‬
‫من أجل أن يجعله يدافع عن نفسه‪ ،‬دفعه أبوه إلى تع ُّلم لعبة الجودو‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫زيارة إلى المجزرة‬

‫أن لعبة الجودو مناسبة لك‪».‬‬ ‫‪« -‬يقولون ّ‬


‫بيد أنّه لم َّ‬
‫يتعلم من الجودو سوى القليل‪ .‬ما إن ينتهي الدرس حتى يذهبوا ليغسلوا‬
‫يتفرسون فيه‪ .‬وبعد االنتهاء من‬ ‫َّ‬ ‫أجسامهم‪ .‬وأثناء االستحمام كان يلمحهم كيف‬
‫الحمام يوسعونه ضربًا‪ .‬لم يكن يفهم لماذا يعتدون عليه بالضرب‪ .‬ربّما أل َّنه ال يدافع‬
‫عن نفسه؟ وكان بدوره يخشى أن تصبح ضرباتهم أقسى إذا حاول مقاومتهم‪ .‬في‬
‫المنزل لم يجرؤ على إخبار أبيه أنّهم يضربونه في نادي الجودو‪ ،‬ألنّه كان يخاف‬
‫أن يضربه أبوه ً‬
‫أيضا بسبب ضعفه‪.‬‬
‫الحمام الذي يعقب درس الجودو‪ ،‬صرخ بهم وهم يضربونه‪:‬‬
‫َّ‬ ‫مرة‪ ،‬بعد انتهاء‬
‫ذات َّ‬
‫‪« -‬لماذا تضربونني؟»‬
‫أجابه أحد الصبية‪:‬‬
‫‪« -‬ألنك مغربي فظيع الغباء‪ ،‬وليس لديك قلفة فوق حشفة قضيبك‪».‬‬
‫إذن‪ ،‬لو كانت لديه قلفة فوق الحشفة لما ضربوه‪ .‬لم يكن يعرف ّ‬
‫أن امتالك‬
‫قضيب غير مختون ينتج هذه الفروق‪ .‬غضب من والديه ومن دينه‪ ،‬إذ أُجبر‬
‫على الختان‪.‬‬
‫‪« -‬كل تلك المصائب بسبب قطعة اللحم‪».‬‬

‫تعرض له أحد بالضرب‪ .‬بالعكس‪ .‬في المغرب كانوا‬


‫لو كان يعيش في المغرب لما ّ‬
‫سيضربون من ال يمتلك قلفة‪ .‬وفيما لو وقعت حرب بين المسلمين وغيرهم‪ ،‬ربما‬
‫ألصبحت القلفة البلهاء مبر ًرا كاف ًيا لقتل شخص ما‪ .‬وشعر باالشمئزاز‪ .‬تمامًا مثلما‬
‫يشمئز من طبخة السبانخ مع عجين الخردل‪ ،‬التي تعتبرها أخته أفضل وجباتها‪.‬‬
‫ُّ‬
‫من األفضل لو كانت أخته هي التي تذهب لممارسة ألعاب الجودو‪ .‬على األقل لن‬
‫يفعلوا لها شي ًئا‪.‬‬
‫‪« -‬ما األمر؟»‬
‫سألته أخته‪.‬‬
‫بالتعرض‬
‫ّ‬ ‫أحس أنه يمكن أن يصارحها‪ ،‬رغم صعوبة االعتراف عندما ّ‬
‫يتعلق األمر‬ ‫ّ‬
‫للضرب بعد دروس الجودو‪.‬‬
‫‪« -‬إنهم يضربونني بعد درس الجودو‪».‬‬
‫‪« -‬لماذا؟»‬

‫‪137‬‬
‫عبد القادر بن علي‬

‫ّ‬
‫«ألن قطعة من اللحم تنقصني‪».‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪« -‬الزيادة والنقصان موضوع نسبي‪».‬‬
‫ّ‬
‫قالت أخته بتزمّت وأثلجت كلماتها صدره‪ .‬فقد بدت وكانها تعرف عمّ ا تتحدث‪.‬‬
‫كان عليه أن يصغي إليها‪ :‬إنها الشخص الوحيد الذي يمكن أن يحكي لها همّ ه‪.‬‬
‫‪« -‬من قال ّأنك قليل اللحم؟»‬
‫ّ‬
‫وكأن‬ ‫في الغرفة األخرى انشغل الوالد بإصالح راديو‪ .‬كان منك ًبا على عمله بصمت‪،‬‬
‫تلك الطريقة هي التي تسمح للتناغم الدقيق بين أصابعه وروحه‪.‬‬
‫‪« -‬الشباب الذين يتابعون الدروس معي يقولون ذلك‪».‬‬
‫‪« -‬الجودو لعبة قديمة جدا‪».‬‬
‫قالت أخته‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪« -‬من المؤسف أنها تستقطب هذا العدد الغفير من المتابعين‪».‬‬
‫‪« -‬لقد الحظت ذلك‪».‬‬
‫قال‪:‬‬
‫‪« -‬وأين هو الموضع الذي ّ‬
‫يقل فيه اللحم؟»‬
‫ّ‬
‫وكأن أحدا ما يدغدغها‪.‬‬ ‫أشار الى األسفل‪ ،‬فانفجرت أخته بالضحك‪،‬‬
‫ذكرا! لن أخبرك عن معضالتنا‬
‫مرة أسمع فيها ما هو الضرر في أن تكون ً‬
‫‪« -‬هذه أول ّ‬
‫تمر بنا‪ .‬دعنا ال نتحدث في هذا االمر‪ :‬دع هذا الباب‬
‫نحن اإلناث‪ ،‬وعن اإلشكاالت التي ّ‬
‫من المعرفة مغل ًقا عليك حتى الموت‪ ،‬كمثل قلعة ال تستوجب الدخول إليها ً‬
‫أبدا‪ ،‬قلعة‬
‫ّ‬
‫ومقززة‪ .‬وال سيما للفتيات‬ ‫ذات إطاللة رائعة على الروابي المحيطة‪ ،‬ولك ّنها باردة‬
‫من جلدتنا‪ّ ،‬‬
‫بكل قيودها وتطلعاتها البعيدة عن الواقع‪ .‬بالنسبة لهن تشكل القلعة‬
‫اختبا ًرا حقيق ًيا‪ ،‬عندما يغادرنها‪ ،‬فعندها ال يمكن لهنّ أن ينسين وجودها حتى بعد‬
‫مرور السنين الطويلة‪ّ ،‬‬
‫وأن عليهنّ العودة ذات يوم‪».‬‬
‫لم يفهم تمامًا ما ترمي إليه أخته‪ .‬لم يفهم أنّها اختصرت له مستقبلهما معًا‪ .‬ابتسمت‬
‫واحتضنته قبل أن ينفجر بالبكاء‪.‬‬
‫‪« -‬ستصبح كل هذه األشياء ذكريات‪ .‬أنت ذكر‪ .‬قطعة لحم أقل أو أكثر‪ .‬في نهاية‬
‫المطاف كل شيء يتحوّل إلى ما هو ّ‬
‫ضده‪ .‬الفتيان يحصلون على فرصة ثانية‪ .‬ربّما‬
‫المرة القادمة أن ّ‬
‫تقدم لهم مفاجأة إذا أرادوا أن يضربوك من جديد‪».‬‬ ‫عليك في ّ‬
‫علي أن أفعل؟»‬
‫‪« -‬ماذا ّ‬

‫‪138‬‬
‫زيارة إلى المجزرة‬

‫‪« -‬ليس أمامك سوى أن تعيد الصفعة‪ .‬أن تضرب بأعنف ما يمكن‪ .‬بقبضتك‪».‬‬
‫وأرته كيف يك ّور قبضته‪.‬‬
‫‪« -‬لن أجرؤ‪».‬‬
‫ّ‬
‫ستفكر بي‪ .‬ستراني أمامك‪.‬‬ ‫‪« -‬ستجرؤ‪ .‬وهل تعرف لماذا ستجرؤ؟ ألنك‬
‫وستراني أهمس لك كيف يجب أن تضرب‪ .‬هكذا مباشرة‪ .‬هذه ليست جودو‪ .‬هذه‬
‫مالكمة‪ .‬فهمت؟»‬
‫أومأ باإليجاب‪ .‬سيفعل ذلك‪ .‬تعانقا وقبل أن يعرف ما الخبر نسي كل شيء‪.‬‬
‫نسي أنّه يتابع درس جودو‪ّ ،‬أنه يضرب أو ال يضرب‪ ،‬أن يسمح له أباه بمرافقته‬
‫إلى مكان غامض تبيّن الح ًقا أنّه مجزرة‪ .‬نسي كل شيء وتم ّنى أن ال تكبر أخته‬
‫أبدا‪ .‬وعندما ذهب مجددًا إلى دروس الجودو وبدأ األوالد يضربونه‪ ،‬ظهرت أخته‬‫ً‬
‫أمامه فانهال باللكمات‪.‬‬

‫قصة غير منشورة‪.‬‬


‫ترجمتها عن الهولندية‪ :‬جماعة زهرة الصبار‬

‫‪139‬‬
‫عبد اهلل الطايع‬

‫قصة قصيرة‬
‫َّ‬

‫الرجل الجريح‬
‫َّ‬

‫ك َّنا تناولنا إفطار رمضان منذ قرابة الساعتين‪ .‬كان الوقت ليلًا‪ ،‬وكان ُّ‬
‫حي السالم‬
‫الشعبي من مدينة سال انتقلوا إلى‬
‫ِّ‬ ‫الحي‬
‫ِّ‬ ‫أن َّ‬
‫سكان هذا‬ ‫هادئًا على غير عادته‪ .‬كما لو َّ‬
‫الضفة األخرى من نهر بورقراق‪ ،‬غير بعيد عن شاطئ مدينة الرباط‪ ،‬عدا عائلتي‪ .‬لم‬‫َّ‬
‫يعد هناك أحد في الجوار‪ .‬كان لدينا انطباع بأن شي ًئا استثنائ ًيا سيحدث بين لحظة‬
‫وأخرى‪ ،‬فيقلب البلد‪ ،‬واألرض ومن بقي هنا‪ .‬عاصفة تحمل األمل والمطر وسنة‬
‫خير‪ ...‬أو القيامة‪ :‬النهاية الفورية‪.‬‬
‫نوم عميق‪.‬‬
‫تغط في ٍ‬‫اركة‪ُّ ،‬‬ ‫كانت أ َ ِّمي‪ ،‬مْ َب ْ‬
‫ولكن على الرغم من تعب الصيام‪ ،‬فقد كانت تحرص‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫منهكا لها‪.‬‬ ‫شهرا‬
‫ً‬ ‫كان رمضان‬
‫«المسمن» الشهيرة‪ ،‬وحساء «الحريرة»‬
‫َّ‬ ‫على أن ُت َّ‬
‫عد بمفردها ويوم ًيا الحلويات وفطائر‬
‫كثير من الطماطم وعصير َّ‬
‫الليمون‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫جدا مع‬ ‫ً‬
‫حامضا ًّ‬ ‫بالطبع‪ ،‬الذي كانت دائ ًما تح ُّبه‬
‫ً‬
‫كانت أخواتي في ما مضى يساعدنها طواعية على جعل كل يوم من هذا الشهر المبارك‬
‫احتفالًا روح ًيا‪ ،‬وأيضا فرصة للتنعم باألكل‪ ،‬احتفالًا ال ينتهي‪ .‬أ َّما اليوم فالمنزل فارغ‪.‬‬
‫ً‬
‫بعيدا‪ ،‬إلى مدينة‬ ‫مكان ما‪،‬‬‫ٍ‬ ‫سكانها‪ .‬لقد ذهب الجميع إلى‬ ‫ثالثة طوابق فارغة من َّ‬
‫أتعرف إليهم ولن أقبلهم ً‬
‫أبدا في الحقيقة‪.‬‬ ‫بلد آخر‪ ،‬مع غرباء‪ ،‬أناس لن َّ‬
‫أخرى‪ ،‬إلى ٍ‬
‫لم يكن في المنزل سوى أ ِّمي وأخي األصغر‪ ،‬مصطفى‪ ،‬الذي ال نراه في معظم األحيان‪،‬‬
‫وأنا‪ .‬أصبحت مباركة في أغلب األحيان تخاف من البقاء وحيدة‪ ،‬كانت تردِّد من حين‬
‫سم بطيء ومؤلم‪ .‬وهذا ما كان يجعلني حزي ًنا‪ ،‬حزي ًنا ًّ‬
‫جدا‪ .‬لم أكن‬ ‫آلخر أن العزلة ٌّ‬
‫أستطيع أن أتقاسم معها معاناتها بالكامل‪ .‬في المقابل‪ ،‬كانت تنتابني رغبة في البكاء‬
‫كلما سمعتها تتحدث بتلك الطريقة‪ .‬كانت ترجوني‪ ،‬كل يوم‪ ،‬أال أتأخر في المدينة بعد‬‫َّ‬
‫باكرا قبل انسدال ِّ‬
‫الليل‪ ،‬وأن أركب‬ ‫االنتهاء من دروسي في جامعة الرباط‪ ،‬وأن أعود ً‬

‫‪140‬‬
‫الرجل الجريح‬
‫َّ‬

‫الباص بسرعة وأعود ألمأل الفراغ‪ ،‬أكون الى جانبها‪ ،‬أشاركها أمور الحياة اليومية‪،‬‬
‫ِّ‬
‫وأسليها وأدفئها‪ ،‬أعيد تشكيل عائلتنا قبل حلول الظالم‪.‬‬ ‫وأبهجها بحضوري‪،‬‬
‫في الليل‪ ،‬حين يحين وقت االنفصال من جديد‪ ،‬لم تكن تريد أن أنسحب إلى‬
‫أتحرك ح َّتى تنام‪ .‬النوم هو الموت‪.‬‬
‫َّ‬ ‫غرفتي‪ ،‬كانت تريد أن َّ‬
‫أظل إلى جوارها‪ ،‬وأال‬
‫ومنذ الموت المفاجئ ألبي قبل عام‪ ،‬أصيبت بنوبات من الخوف والهلع‪ .‬ولذا كانت‬
‫يتصدر جهاز التلفاز‪ .‬هي التي كانت تقول إ َّنها‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫تتعلق بي‪ .‬تنام في الصالون حيث‬
‫تحب هذه اآللة‪ ،‬انتهى بها األمر إلى أن تجد فيها رفي ًقا أل َّيامها‪ ،‬آلة تصدر أصواتًا‬
‫ُّ‬ ‫ال‬
‫وتطمئنها‪ ،‬قليلًا‪ ،‬وليس دائ ًما‪.‬‬
‫منذ فترة قريبة‪ ،‬وبفضل الصحن الالقط‪ ،‬الذي أصبح ثمنه في متناول معظم األسر‪،‬‬
‫همني بشكل خاص‪ .‬كنت أشاهد‪ ،‬حين‬ ‫كان باإلمكان التقاط القنوات الفرنسية التي ُت ُّ‬
‫طالب‬
‫ٌ‬ ‫شخص مهمٌ ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أستطيع ذلك‪ ،‬قناة «آرتي» وفي قرارة رأسي‪ ،‬كان لديَّ انطباع بأنِّي‬
‫يهتم بأشيا َء يعتبرها اآلخرون‪ ،‬من حولي‪َّ ،‬‬
‫مملة وصعبة‪ .‬كنت‬ ‫ٌ‬
‫مثقف متاب ٌع للحدث ُّ‬
‫فخو ًرا‪ .‬كنت أشعر بذلك بيني وبين نفسي‪.‬‬
‫كبيرا من أطباق‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫التهمت قس ًما‬ ‫ذلك هو الدور الذي كنت ألعبه ذلك المساء‪ ،‬بعد أن‬
‫رمضان الشه َّية التي َّ‬
‫أعدتها أ ِّمي‪ .‬فتحت التلفاز‪ .‬كانت قناة «آرتي» تعرض فيل ًما‪.‬‬
‫فيل ًما بدأ قبل بعض الوقت‪ .‬كان الممثل الفرنسي جان‪-‬هوغ أنغالند يبكي بدمع َه ُتون‪،‬‬
‫ً‬
‫منبوذا هو‬ ‫وقد سجن نفسه في مراحيض َّ‬
‫محطة قطار‪ .‬كان يبدو أ َّنه يشعر بنفسه‬
‫رت بالممثل وبالشخصية‬ ‫ضد شيء ما‪ ،‬العزلة ر َّبما‪ .‬على الفور َّ‬
‫تأث ُ‬ ‫اآلخر‪ ...‬يكافح َّ‬
‫نجحت في غضون دقيقة واحدة فقط‬ ‫ُ‬ ‫التي كان يمثلها‪ .‬وبفضل معلوماتي عن السينما‪،‬‬
‫في التعرف إلى الفيلم‪ ،‬الذي لم أره ً‬
‫أبدا من قبل‪ .‬كان فيلم «الرجل الجريح» للمخرج‬
‫الفرنسي باتريس شيرو‪ .‬وهو فيلم ظهر سنة ‪ .1984‬فيلم غدا مرجعًا‪ .‬فيلم ممنوع‪.‬‬
‫كانت أ ِّمي ُّ‬
‫تغط في نوم عميق‪ .‬والتلفاز يعرض هذا الفيلم‪ ،‬دون أن يستطيع أيٌ‬
‫ُّ‬
‫التدخل إلعطاء درس في األخالق الدينية لهذا‬ ‫كان في المغرب فعل شي ٍء إليقافه‪ ،‬أو‬
‫يحب‬
‫ُّ‬ ‫البطل الصغير الخارج عن القواعد وذي الشعر الطويل‪ ،‬بعض الشيء‪ ،‬والذي‬
‫الرجال‪ .‬كان يحب رجلًا‪.‬‬
‫مستعدا لمشاهدة الفيلم حتى النهاية‪ .‬مشاهدته‬ ‫ً‬ ‫كنت في مأزق‪ ،‬في رغبة عارمة‪.‬‬
‫بخوف‪ ،‬والبقاء متح ِّف ًزا‪ .‬كان يمكن أن تستيقظ أ ِّمي‪ ،‬ال َّنائمة خلفي‪ ،‬في أ َّية لحظة‬
‫سري الوحيد‪ ،‬نصفي اآلخر‪،‬‬
‫سري‪ِّ ،‬‬
‫وتفاجئني بالجرم المشهود‪ .‬ستعرف حينها ِّ‬

‫‪141‬‬
‫عبد اهلل الطايع‬

‫ً‬
‫مشكلة‪ .‬وستحصل الفضيحة‪ .‬سأشعر بالعار‪ ،‬ولن أعرف‬ ‫موضوع عشقي‪ .‬ستثير‬
‫ماذا أفعل وال بما سأجيبها‪.‬‬
‫ً‬
‫كثيرا في إفطار رمضان وأجد صعوبة في الهضم‪.‬‬
‫ً‬ ‫بطني يؤلمني‪ .‬كنت قد أكلت‬
‫كنت مته ِّيجً ا من الرغبة التي تجتاح الفيلم‪ ،‬والتي تسكن جان‪-‬هوغ أنغالد والممثلين‬
‫اآلخرين‪ .‬لم يكونوا يعيشون إال ضمن هذه األشياء وعبرها‪ :‬الجنس والحب ومخاطرهما‪.‬‬
‫يشعر الواحد بانجذاب نحو اآلخر‪ ،‬يغازله‪ ،‬يالطفه‪ ،‬يشتريه‪ ،‬يلعب معه‪ ،‬يغتصبه‪،‬‬
‫يرميه‪ ،‬ويذبحه شي ًئا فشي ًئا‪ .‬كنت مسحو ًرا‪ ،‬ومبهو ًرا بما كنت أراه‪ .‬وأردت أنا ً‬
‫أيضا‬
‫ً‬
‫واحدا منهم‪ .‬أريد أن أكون خارجً ا عن القانون‪.‬‬ ‫أن أفعل مثل هؤالء األشخاص‪ ،‬وأكون‬
‫متوح ًشا‪ .‬أداعب جسمي‪،‬‬‫ِّ‬ ‫ً‬
‫وحيدا أو مع آخر‪،‬‬ ‫أحب مثلما يح ُّبون‪،‬‬
‫َّ‬ ‫كنت أريد أن‬
‫أعضه‪ ،‬أذهب نحو األقوى وأمنحه نفسي‪.‬‬‫ألحسه‪ُّ ،‬‬
‫ً‬
‫خائفا‬ ‫َّ‬
‫يتصلب‪ .‬وال أعرف ما أفعله ألني كنت على الدوام‬ ‫كان بطني ينتفخ‪ .‬وقضيبي‬
‫رأسا على عقب‪،‬‬
‫قوة الرغبة التي تخرج من التلفاز باتجاهي‪ ،‬لتقلبني ً‬
‫على الرغم من َّ‬
‫وتذهب بي بعدها إلى تخوم الجنون‪.‬‬
‫مرة أو‬ ‫ً‬
‫وضعيفا حي ًنا آخر‪ .‬لك َّنه تو َّقف َّ‬ ‫شخيرا منتظ ًما‪ ،‬قويًا حي ًنا‬
‫ً‬ ‫أ ِّمي تَ ْشخِ ر اآلن‪،‬‬
‫عندئذ غ َّيرت القناة فو ًرا‪ .‬ولم أستطع منع نفسي من تفسير هذا التو ُّقف بأ َّنه‬‫ٍ‬ ‫مرتين‪.‬‬ ‫َّ‬
‫عالمة على عودتها إلى الوعي‪ ،‬وأنا أشاهد فيل ًما ممنوعً ا‪ .‬هدأ روعي قليلًا بعد دقيقة‬
‫من االنتظار خلتها ال تنتهي‪ ،‬كنت ألتفت خاللها نحو أمي َّ‬
‫ألتأكد من َّ‬
‫أن عينيها ال تزاالن‬
‫مغمضتين‪ ،‬وأ َّنها ال تزال بعيدة ع ِّني وعن ُص َوري‪ ،‬وعدت إلى «الرجل الجريح» وإلى‬
‫قصته‪ .‬وعلى الفور عدت من جديد إلى رغبتي الجارفة وخوفي األول‪.‬‬ ‫َّ‬
‫كان جان–هوغ أنغالد عاش ًقا لرجل مديد القامة وجميل وأسمر على ما ُّ‬
‫أظن‪.‬‬
‫اسا‬
‫وحس ً‬
‫َّ‬ ‫يشبه قليلًا الممثل جيرارد ديبارديو في بداية الثمانينيات‪ .‬كان رجلًا فحلًا‬
‫قوادًا‪.‬‬ ‫وقاس ًيا وعديم الشفقة‪ً ،‬‬
‫ملكا‪ ،‬ديكتاتو ًرا‪َّ ...‬‬
‫ً‬
‫فصاعدا‪ ،‬حول هذا‬ ‫أن رآه‪ .‬سيتمحور العالم‪ ،‬من اآلن‬ ‫وقع أنغالد في غرامه حال ْ‬
‫الرجل الذي أنساه كل الرجال اآلخرين‪ .‬ولن يكون أحد بمثل أهم َّيته‪ .‬منذ البداية‬
‫هجر كل شيء كي يتبعه‪ ،‬ترك حياته السابقة وعائلته‪ .‬ووجد نفسه في الشارع‪،‬‬
‫َّ‬
‫المحطات‪ ،‬في المرائب‪ ،‬يتبعه ويطارده ويحاول بشكل أخرق أن يغويه‪ .‬أن يكون‬ ‫في‬
‫معه للحظة‪ ،‬مع جسده‪ .‬وموضع عشقه‪ .‬بال جدوى‪ .‬أنغالد يعيش الوجد المطلق‪،‬‬
‫مبرحا ومأساويًا‪.‬‬
‫الوجد الذي ال يمكنه سوى أن يكون ِّ‬

‫‪142‬‬
‫الرجل الجريح‬
‫َّ‬

‫فيلم باتريس شيرو‪ ،‬كما اكتسحني بطريقة صاخبة وعنيفة في ذلك المساء وكما‬
‫ً‬
‫مفرطا في تصاعد حدة المشاعر الغرامية‬ ‫َّ‬
‫ظل‪ ،‬منذ تلك الفترة‪ ،‬في ذاكرتي‪ ،‬كان‬
‫كل األجساد‪ .‬في هذا‬ ‫ً‬
‫ومفرطا في الهيمنة التي يمارسها الجنس على ِّ‬ ‫التي يظهرها‪،‬‬
‫ٌ‬
‫وتهتك‬ ‫ٌ‬
‫وخالعة‬ ‫ٌ‬
‫ودموع‬ ‫ٌ‬
‫ومتاجرات من كل نوع‬ ‫ٌ‬
‫ومطاردات‬ ‫ٌ‬
‫وشجارات‬ ‫ٌ‬
‫صفعات‬ ‫الفيلم‬
‫مضرج بالدم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وموت‪ .‬إ َّنه جري دون توقف لفتى‬
‫ٌ‬ ‫ووساوس‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫قذرة‬ ‫ومني وأشيا ُء‬
‫ٌّ‬ ‫ود ٌم‬
‫محكوم عليه مسب ًقا‪ ،‬نحو الجريمة العاطفية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كل شيء‬ ‫ِّ‬
‫للتخلي عن ِّ‬ ‫ً‬
‫مستعدا‬ ‫نسيت اسمه‪ .‬كنت معه‪ .‬مح ًّبا ومحرومًا مثله‪.‬‬
‫ً‬
‫خائفا‬ ‫من أجل حلم كبير‪ ،‬رجل قوي‪ ،‬من أجل شعور نادر‪ ،‬كائن استثنائي‪ .‬وكنت‬
‫باستمرار‪ .‬في بحث يائس عن موضوع الرغبة الوحيد‪ ،‬الذي اختاره القلب‪ .‬الذي‬
‫يطلق عليه األميركيون «النصف اآلخر» ‪.The One‬‬
‫َّ‬
‫شخص وحيد وال أحد غيره‪ .‬رجل أكبر س ًّنا م ِّني كي أتعلم منه‪ ،‬أعيد معه إحياء‬
‫ماض ما‪ ،‬عالقة ال يعترف بها أحد‪ .‬فقيه‪ ،‬معلم‪ ،‬بائع خبز‪ ،‬رجل مؤمن يؤدي صلواته‬
‫ٍ‬
‫الخمس كل يوم‪ ،‬شخص ملهم‪ ،‬قريب‪ ،‬خال أو عم أو ابن عم‪...‬‬
‫كان الفيلم يجري أمام ناظري وهو يطبع في عيني ورأسي قوته ويأسه وديانته‪.‬‬
‫ً‬
‫ومريدا هذه الطريقة في الحياة‬ ‫ُ‬
‫أصبحت تابعًا ومتع ِّودًا‬ ‫ومن دون أن أعرف كنت قد‬
‫والرؤية والتيه وتدافع األجساد واالنغماس في الحياة‪ ،‬قبل أن أصبح مجنونًا‪ ،‬أكثر‬
‫َّ‬
‫استبدت به شجاعة‬ ‫يمس جسدي الهزيل الذي‬
‫المحرم هناك أمامي‪ُّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫جنونًا‪ .‬كان‬
‫المحرم أيضا ورائي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مفاجئة‪ .‬كان‬
‫كان قضيبي ينتصب أكثر فأكثر‪ ،‬وقلبي يزداد ظلمة‪ .‬وأصبحت عيناي حمراوين‪.‬‬
‫سعيدا وحزي ًنا‪ .‬مته ِّيجً ا ومتج ِّم ًدا كما لو اخترقني تيار هوائي قادم من الشمال‪،‬‬
‫ً‬ ‫كنت‬
‫الص َور‪ ،‬وأشركها أكثر في هذا‬
‫من طنجة‪ .‬وللحظة أردت أن أوقظ أ ِّمي وأريها هذه ُّ‬
‫َّ‬
‫المهذب بل يذهله‪ .‬أردت الذهاب نحوها‪ ،‬ألحتمي بها‪ ،‬ألضع‬ ‫الفيلم الذي يؤثر في ابنها‬
‫وأحس بتنفسها في ظهري وعنقي‪ ،‬وأشم‬
‫َّ‬ ‫نفسي في حِ ضنها‪ ،‬وأضع يدها على بطني‪،‬‬
‫رائحتها بأنفي وجلدي‪ .‬وأعود إلى األصول‪ ،‬إلى الباب األول الذي أطللت منه على‬
‫العالم‪ ،‬على الحياة‪ ،‬على الضوء‪ .‬وهناك في هذا المكان الذي بدأ فيه ُّ‬
‫كل شيء‪ ،‬هذه‬
‫العتبة األصل َّية‪ ،‬سأحفر مكانًا‪ ،‬كرس ًّيا‪ ،‬ثق ًبا‪ ،‬وأبكي وأنا أواصل مشاهدة هذا الرجل‬
‫الحب‪ ،‬وأبكي‪ .‬أبكيه‪ ،‬وأرافقه في‬
‫ِّ‬ ‫الجريح‪ ،‬هذا الفتى‪ ،‬هذا األخ الذي أربكه بريق‬
‫برفق‪ ،‬ألحسهما ببطء‪ ،‬الواحدة بعد األخرى‪ ،‬ثم أشرب‬
‫ٍ‬ ‫بكائه‪ ،‬وأتناول عينيه في فمي‬

‫‪143‬‬
‫عبد اهلل الطايع‬

‫َّ‬
‫الخدين وعلى الجلد‪.‬‬ ‫الماء المالح قليلًا الذي يخرج منهما‪ ،‬الماء الذي يسيل على‬
‫كنت أتماهى‪ ،‬وأحلم‪ ،‬وأتخ َّيل‪ .‬لم أكن أفكر‪ .‬لم أعد أفكر‪ .‬كنت أتألم‪ :‬تؤلمني عيناي‬
‫وساقاي وركبتاي وقضيبي‪.‬‬
‫عدت إلى نفسي‪ .‬كان الرجل الجريح ما يزال في درب صليب َّ‬
‫العشاق‪ .‬كان قدر‬
‫هذا البطل يكتمل هنا‪ ،‬في منزلنا‪ ،‬في بيت من دون أب‪ ،‬في صالون بيتنا شبه الفارغ‪،‬‬
‫في حميميتنا وفي صمتنا وعتمتنا‪.‬‬
‫ُ‬
‫اكتشفت‪ ،‬وأنا أمام فيلم باتريس شيرو ألول‬ ‫ً‬
‫مثقفا‪.‬‬ ‫شخصا‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫كنت أعتبر نفسي‬
‫كنت ال أزال عاش ًقا ساذجً ا للسينما يتلقى األفالم‪َّ ،‬‬
‫كل األفالم‪ ،‬بنفس الطريقة‬ ‫مرة‪ ،‬أنِّي ُ‬
‫َّ‬
‫ترسخت في‬‫السابقة‪ .‬في السابق‪ ،‬أي في نهاية طفولتي التي برمجها اآلخرون‪ ،‬عندما َّ‬
‫أعماقي إلى األبد ديانة اإلفالم الهندية وأفالم الكاراتيه الصينية‪ ،‬كنت أُعيد اكتشاف‬
‫الصور في القاعات المظلمة والشعبية‪ ،‬وسط المومسات واألوالد‬‫أعب ُّ‬
‫نفسي‪ .‬كنت ُّ‬
‫تحررني من ضغوطات بلدي وتربطني بفنٍّ أصبح بالنسبة إلي‪ ،‬شي ًئا‬
‫الس ِّيئين‪ .‬كانت ِّ‬
‫فشي ًئا‪ ،‬منطق حياة‪ ،‬يدعوني لرؤية األشياء البعيدة والعليا‪ .‬وللخروج وتجاوز العالم‪،‬‬
‫ألرى نفسي عاريًا وأنزل من جديد ألقاتل‪.‬‬
‫ثائرا‪ ،‬قبيل ليلة القدر بعدة أيام‪.‬‬
‫لجة المعركة‪ .‬كنت ً‬ ‫كنت في َّ‬
‫أي‬
‫أي صفير وال ُّ‬
‫أي صوت يخرج من فمها‪ ،‬وال ُّ‬ ‫ً‬
‫فجأة‪ .‬لم يعد ُّ‬ ‫تو َّقفت موسيقى أ ِّمي‬
‫تنفس‪ .‬هل انقطع ُّ‬
‫تنفسها؟ هل ماتت‪ ،‬دون خوف‪ ،‬دون قلق‪ ،‬ورحلت‬ ‫أي ُّ‬
‫أزيز‪ ،‬وال ُّ‬
‫لتلتحق بأبي؟ هل استيقظت؟ هل تشاهد اآلن «الرجل الجريح» مثلي؟ هل تفهم‬
‫ً‬
‫دفعة‬ ‫شي ًئا من هذه الصور الغريبة‪ ،‬اآلتية من عالم آخر ومن الجحيم؟ هل ستنهض‪،‬‬
‫ً‬
‫واحدة‪ ،‬وتصرخ‪ ،‬تصرخ في وجهي كما تفعل في األيام الصعبة‪ ،‬وتجذبني من َش َعري‪،‬‬
‫تعاقبني وتقرصني وتلعنني؟ أم أ َّنها س َتخصيني على الفور؟‬
‫ُ‬
‫استدرت نحوها وفي قلبي فوضى عارمة‪ .‬كانت عيناها مفتوحتين‪ ،‬ولك َّنها ِّ‬
‫تحدق‬
‫ُ‬
‫اطمأننت بعض‬ ‫يخصها وحدها‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫إلى السقف‪ .‬كانت تحلم‪ .‬وما تزال تتابع ُص َور حلم‬
‫الشيء‪ ،‬وغ َّيرت القناة وسألتها بصوت خافت يفيض احترامًا إن كانت بحاجةِ شيء‬
‫ما‪ .‬كانت إجابتها فورية كما لو أ َّنها م َّ ّ‬
‫ُعدة منذ فترة طويلة‪ ،‬وهي ُّ‬
‫تغط في النوم‪« .‬كأس‬
‫ماء يا حبيبي» هرعت إلى المطبخ وأحضرت لها كأس ماء‪ .‬كانت عطشى ًّ‬
‫جدا‪ .‬كانت‬
‫«كأسا أخرى‪ ،‬يا ولدي العزيز‪،‬‬
‫ً‬ ‫طلبت م ِّني ً‬
‫كأسا ثانية‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫عائدة من رحلة طويلة‪.‬‬
‫وإال سأموت‪ ...‬اهلل يــ‪ .»..‬لم تكن في حاجة إلى أن ترجوني طويلًا‪ .‬عدت مهرولًا‬

‫‪144‬‬
‫الرجل الجريح‬
‫َّ‬

‫مكررة‬
‫ستخصني به‪ ،‬مثلما تفعل دائ ًما‪ ،‬أدعية َّ‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫سعيد بالدعاء الذي‬ ‫إلى المطبخ‪ ،‬وأنا‬
‫تتحدث عن الفردوس كشيء أكيد‪ ،‬وليس كخيال‪ً ،‬‬
‫أبدا‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬قبل أن تغلق‬
‫ْ‬ ‫بعد أن روت مْ َباركة عطشها‪ ،‬عادت إلى نومها‪ ،‬وإلى أحالمها‪.‬‬
‫في بلبلة إضافية‪« :‬شاهد‪ ،‬يا‬ ‫ْ‬
‫أثارت َّ‬ ‫عينيها من جديد‪ ،‬منحتني هذه ال َب َركة التي‬
‫بني‪ ،‬شاهد التلفاز كما تشاء‪ ...‬أنت ال ُتضايقني‪ ...‬شاه ِْد ما تشاء‪”...‬‬
‫ُ‬
‫وانتظرت عودة شخير أ ِّمي كي ألتحق بـ«الرجل الجريح»‬ ‫ُ‬
‫خفضت صوت التلفاز‬
‫الحب من جانب واحد‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫خائرا‪ ،‬أتعبه‬
‫ً‬ ‫وبطله المكلوم وأعثر من جديد عليهما‪ .‬كان‬
‫واإلهانات‪ ،‬متع ًبا من التجوال لك َّنه كان دومًا عاش ًقا مجنونًا‪ .‬وكاد الطريق نحو‬
‫الجريمة‪ ،‬االمتالك األول واألخير للجسد المحبوب‪ ،‬أن يصل تقريبا إلى نهايته‪ .‬وحده‬
‫قصة هذا الفتى المأساوية وح َّبه األسمى‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الموت والقتل باستطاعتهما أن يمنحا َّ‬
‫معنى وهدفًا وب ً‬
‫ِنية‪.‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫كان عاريًا قرب الرجل الذي يحب‪ ،‬منهمكا في خنقه بيديه‪ ،‬يخنقه وهو يمارس‬
‫ً‬
‫وجلدا ودمًا‬ ‫ً‬
‫جسدا‪ ،‬قل ًبا‪ ،‬وعقلًا‪،‬‬ ‫الجنس معه‪ .‬هكذا كان يستسلم له بشكل كامل‪:‬‬
‫ون َف ًسا‪ .‬كان يمنح حياته من خالل أخذ حياة َم ْن رفض ح َّتى النهاية أن يتشارك معه‬
‫في نفس العناق ونفس ديانة األحاسيس‪.‬‬
‫كان األمر مأساويًا‪.‬‬
‫لحظات رائعة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫وقوة في‬ ‫الحب تأ ُّل ًقا‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫مأساة‪ ،‬كما هي الحياة التي يمنحها هذا‬ ‫الحب‬
‫ُّ‬
‫ً‬
‫ثانية فيلم‬ ‫كنت أعرف ذلك بالحدس‪ .‬كنت في العشرين من عمري‪ .‬وذكرني بذلك‬
‫وعلي أن أقرر‪ ،‬هل أتخلى عن‬
‫َّ‬ ‫تحذيرا‬
‫ً‬ ‫مرة وإلى األبد‪ .‬كان ذلك‬
‫«الرجل الجريح»‪ّ ،‬‬
‫األمر؟ كال‪ً ،‬‬
‫أبدا‪.‬‬
‫عيني‪ .‬وظهر على الشاشة اسم الكاتب‬
‫ّ‬ ‫يمر أمام‬
‫كان شريط األسماء في نهاية الفيلم ُّ‬
‫كنت قد نسيت‬‫ُ‬ ‫هيرفي غيبيرت‪ ،‬الذي شارك باتريس شيرو في كتابة السيناريو‪.‬‬
‫قصته وحياته‪ ،‬ونمط حياته الذي اكتشفته‬
‫القصة‪ ،‬هما أيضا َّ‬
‫أن هذا الفيلم وهذه َّ‬
‫وعشقته في كتبه‪ .‬كان قد مات منذ أربع أو خمس سنوات‪ .‬سالت دموع من عيني‪ .‬في‬
‫نهاية األمر‪ ،‬لماذا؟ ومن أجل من؟ لم أعرف‪ ،‬على وجه التحديد‪ ،‬بِ َم أجيب‪ ،‬بِ َم أجيب‬
‫نفسي‪ .‬أمن أجل هيرفي غيبيرت الذي كنت أعرفه بشكل وثيق بفضل مؤلفاته؟ أمن‬
‫أخا‪ ،‬صدي ًقا‪ ،‬أصبح أنا؟ أمن أجل أبي الذي رحل‬
‫أجل بطل الفيلم الذي أصبح مجرمًا‪ً ،‬‬
‫قصة مكتوبة؟ من أجل أمي التي‬ ‫تحو ُ‬
‫لت إلى كتاب‪ ،‬وإلى َّ‬ ‫مبكرا‪ ،‬قبل أن يراني وقد َّ‬
‫ً‬

‫‪145‬‬
‫عبد اهلل الطايع‬

‫عادت من جديد إلى مخاوف طفولتها؟ من أجل الحياة‪ ،‬التي هي‪ ،‬في الواقع‪ ،‬حزينة‬
‫ومليئة بالوحدة بشكل رهيب‪ ،‬على الرغم من مباهج رمضان؟‬
‫ِّ‬
‫ح َّتى يومنا هذا ال أعرف عن األمر شي ًئا‪ .‬ح َّتى اليوم‪ ،‬أبكي حين أفكر في هذه‬
‫اللحظة المحددة‪ ،‬نهاية الفيلم‪ ،‬هيرفي غيبيرت‪ ،‬أنا‪ ...‬وأ ِّمي التي كانت تصرخ في‬ ‫َّ‬
‫صمت‪ .‬أبكي من أجلنا جميعًا‪.‬‬
‫جدا‪ .‬لم تكن تشغلني سوى فكرة واحدة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫استيقظت في وقت متأخر ًّ‬ ‫في اليوم التالي‪،‬‬
‫المفضل شعيب‪ ،‬الذي كنت مغرمًا به بعض الشيء‪ ،‬إلغوائه‪ ،‬وإفساده‬ ‫َّ‬ ‫الذهاب إلى قريبي‬
‫وااللتصاق به وح ِّثه على أن ننهي صيامنا قبل األوان‪ .‬نفطر ونحن نتخ َّيل معا أشيا َء‬
‫حي بطانة‪ ،‬بالقرب من المقبرة القديمة بالتحديد‪،‬‬
‫جنسية‪ .‬ثم نصعد بعد ذلك ح َّيه‪َّ ،‬‬
‫الضفة األخرى لنهر بورقراق‪ ،‬والرباط وبرج حسان‬ ‫َّ‬ ‫حيث يمكننا من هناك أن نرى‬
‫دخن حشيشة الكيف معًا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وقصبة األوداية والشاطئ البلدي‪ ،‬شاطئ الفقراء‪ .‬ثم ن ِّ‬
‫أخيرا‪ ،‬مع صمت وتأمل فيلم‬
‫ً‬ ‫أقص عليه‬‫وأضع رأسي على فخذيه‪ ،‬وأغمض عيني‪ ،‬ثم ُّ‬
‫ً‬
‫مباشرة‪ ،‬بهدوء‪ ،‬إلى الخطيئة وإلى انتهاك المحرمات‪.‬‬ ‫البارحة وأدعوه‬

‫المتعمدة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الخطيئة‬
‫سينظر اهلل إلينا‪.‬‬
‫سوف نواصل ح َّتى النهاية‪ ،‬ح َّتى البحر‪ ،‬ح َّتى السماء‪.‬‬
‫ملعون‪ ،‬في يوم ما سأكون ملعونا في الحب‪ ،‬مثل «الرجل الجريح»‪ .‬وبانتظار ذلك‪،‬‬
‫يلفني بجسده الكبير‪ ،‬أذهب‬‫وفي قلبي شعيب‪ ،‬قريبي ذو الشارب‪ ،‬الولد السيئ الذي ُّ‬
‫ً‬
‫جيدا‬ ‫كل يوم‪ ،‬تقري ًبا‪ ،‬نحو أضواء السينما‪ ،‬وعيناي مغلقتان‬

‫قصة غير منشورة‪.‬‬


‫ترجمها عن الفرنسية‪ :‬محمد المزديوي‬
‫مراجعة الترجمة‪ :‬د‪ .‬سحر سعيد‬

‫‪146‬‬
‫عبد اهلل ثابت‬

‫مقاطع من رواية‬

‫اإلرهابي ‪20‬‬

‫كتاب اجتهدت أال أص ِّنفه‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫كتبت هذا العمل بين ‪ ،2005 – 1999‬وهو‬
‫قصدت منه أن تعرفوا زاهي الجبالي‪ ،‬هذا الذي كان احتمالًا ً‬
‫أكيدا لتمام‬
‫الـ ‪ 19‬قاتلًا في سبتمبر أميركا‪ ،‬فهو اإلرهابي الـ‪ .20‬وكان احتمالًا أوثق‬
‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وحرت‬ ‫لتمام قائمة الـ ‪ ،26‬فهو اإلرهابي الـ‪ 27‬في السعودية‪،‬‬
‫وأخيرا رأيت أن يمضي‬
‫ً‬ ‫في الطريقة التي ِّ‬
‫أقدم بها هذين االحتمالين‪،‬‬
‫العمل هكذا عف ًوا‪ ،‬فَ َسحته لزاهي‪ ،‬يتحدث عن نفسه‪( .‬المؤلف)‪.‬‬

‫***‬

‫إلي‪ .‬سأكتفي‬
‫ربما سيكون لهذه األوراق شأن ذات يوم؟ فهي تبدأ مني‪ ،‬وتنتهي ّ‬
‫كلمة بآخر سطر‪.‬‬‫ٍ‬ ‫باحتفالي بها‪ ،‬على طريقتي عندما أرفع ريشة القلم عن آخر‬
‫محرمة‪ .‬سأك ِّوم أوراقي‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫جميلة‬ ‫ً‬
‫وزجاجة‬ ‫ً‬
‫صغيرة وشموعً ا‬ ‫ً‬
‫كعكة‬ ‫وحدي سأشتري‬
‫هذه على المقعد المقابل‪ .‬وسأرفع صوت الموسيقى بالقدر الذي يليق بتلك الساعة‪،‬‬
‫ووحدي سأرقص وأشعل السجائر وأشرب الكؤوس‪ ،‬وسأطلق حينها َّ‬
‫كل الشتائم‬
‫كل القصائد التي أحفظها والتي ال أحفظها‪،‬‬ ‫التي أحفظها والتي ال أحفظها‪ ،‬وسأنشد َّ‬
‫ً‬
‫وحيدا في بال ٍد‬ ‫كل هذا وأكثر‪ .‬وأكثر‪ .‬تمامًا كذلك الذي يحتفل بعيد ميالده‪،‬‬‫سأفعل َّ‬
‫ّ‬
‫يتكلَم إال اليسير من لغة أهلها‪.‬‬ ‫ال يعرف بها ً‬
‫أحدا‪ ،‬وال‬
‫كل ما في هذه األوراق حدث في مكانين‪ ،‬أولهما‪ :‬قريتي‪ ،‬والثاني‪ :‬مدينتي‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫ً‬
‫واحد ا فقريتي‬ ‫أبها‪ ،‬على أنهما ال يمكن أن يكونا مكانين مختلفين‪ ،‬بل مكانًا‬
‫ومدينتي ال يفصل بينهما شيء‪ ،‬وهما على رأس هذه القمم الشاهقة‪ ،‬تقتسمان‬

‫‪147‬‬
‫عبد اهلل ثابت‬

‫ً‬
‫مزدانة بالغيم والضباب والبرد‪،‬‬ ‫ً‬
‫ملونة بالخضرة والمياه‪،‬‬ ‫ً‬
‫مختصرة‬ ‫ً‬
‫مساحة‬
‫أيام حتى يعاود ترتيب مالمحهما من جديد‪.‬‬‫ال يكاد يغيب عنهما المطر بضعة ٍ‬
‫ً‬
‫قرية مهما مألوها بأعمدة الضوء والبنايات والشوارع‬ ‫ال يليق بأبها إال أن تكون‬
‫ٌ‬
‫قرية على طريقة المدن‪ ،‬مثل الفتاة الريفية‬ ‫اإلسفلتية والمتاجر واألسواق‪ .‬إنها‬
‫التي ألبسوها ثياب المدينة‪ ،‬إال أنهم لن يستطيعوا تغيير جسدها الريفي‪ ...‬وهكذا‬
‫مرتين!‬
‫أكون جبل ًّيا َّ‬
‫َّ‬
‫يتكلمون‪ .‬وكيف هي الحياة‬ ‫أحكي عن الناس هنا‪ ،‬عن طباعهم‪ ،‬ثقافتهم‪ ،‬كيف‬
‫عندهم‪ .‬فالعسيريون طيبون‪ ،‬وال يمكنهم أن يكونوا سيئين هكذا دونما سبب‪،‬‬
‫دون أن يضطرهم أحد إلى جنون غضبهم‪ .‬حادون متو تِّرون على الدوام‪ ،‬ال‬
‫قدر من األنفة والكبرياء‪ ،‬بشكل يبدو أحيانًا‬
‫ٍ‬ ‫يبرحهم قلقهم وال ارتباكهم‪ .‬على‬
‫ً‬
‫مدعاة للضحك‪ ،‬ففالن ظل لسنين يروح ويجيء بالقرب مما يريده ويشتهيه‪،‬‬
‫فكان يمنع حتى عينيه عن رؤيته‪ ،‬إذ يشعر أن في هذا انتقاصً ا لمكانته وقيمته!‬
‫القمم التي يسكنونها ع َّبأتهم بمزاجية الريح واألشباح والحيرة والسؤال‪ ،‬فهم شي ٌء من‬
‫متحرقون كشمسها‪َّ ،‬‬
‫شفافون كضبابها‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ريح‪ ،‬وشي ٌء من سؤال‪ ،‬وشي ٌء من حيرة‪ ،‬وهم‬
‫قساة كصقيعها‪ ،‬مخيفون كغيمها‪ .‬كانت الطبيعة إذا ثارت وعربدت ما بينهم باألمطار‬
‫والصواعق والعواصف تمازحوا فيما بينهم «نشهد أن مطر ربِّي عسيري!»‬
‫كاف عنده ليقترف القتل‪ .‬فابن هذا المكان‬
‫مبرر ٍ‬
‫ٌ‬ ‫الكلمة التي تمس كبرياء أحدهم‬
‫يعيش ليزهو‪ ،‬ويزهو فحسب‪ ،‬وبأيِّ شيء‪ ،‬وهذا الذي يقتل لكلمة‪ ،‬هو ذاته الذي تهزمه‬
‫َ‬
‫مهتوك النفس والوجدان! هنا ال تطيح برؤوسهم السيوف‬ ‫كلمة أخرى‪ ،‬فيبكي ويعود‬
‫حبيب خان أو َّ‬
‫تنكر!‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬
‫كلمة من‬ ‫وال البندق َّيات كما تطيح برؤوسهم وقلوبهم‬
‫حد أن يقدم الواحد منهم على التخ ُّلص‬ ‫إحساسهم تجاه العار عنيف ًّ‬
‫جدا‪ ،‬عنيف َّ‬
‫عار ما‪ ،‬والعار هنا يطال أشياء‪ ،‬لكثرتها ال تنتهي‪ ،‬فمس‬
‫من حياته‪ ،‬إذا ما لحق به ٌ‬
‫تمر هكذا دونما دم‪ ،‬وإذا ما اشتبك اثنان هنا فإن‬
‫الوجه‪ ،‬مثلًا‪ ،‬كارثة ال يمكن أن َّ‬
‫أثرا يكون عالمة‬
‫كلًا منهما يفكر كيف يصل إلى وجه اآلخر‪ ،‬ليخدشه‪ ،‬أو يترك به ً‬
‫انتصاره عليه وهزيمته لألبد‪ .‬فإذا ما فعل أحدهما ذلك فإنه ال َّ‬
‫بد من قتيل‪ ،‬إما‬
‫أن يقتل المخدوش نفسه‪ ،‬وإما أن يقتل ذاك الذي هزمه‪ ،‬ما وجد إلى ذلك سبيلًا‪.‬‬
‫قبليون هم‪ ،‬وثاراتهم وحروبهم ومعاركهم ال نهاية لها‪ ،‬وأ َّيما أسرةٍ ال قتيل بها في‬
‫بأحد من أبناء القبيلة يعدونه‬‫ٍ‬ ‫مساس‬ ‫ٌ‬
‫وضيعة في أعرافهم‪ ،‬وأ َّيما‬ ‫ٌ‬
‫أسرة‬ ‫معاركنا فإنها‬
‫ٍ‬

‫‪148‬‬
‫اإلرهابي ‪20‬‬

‫كلها‪ ،‬يستوجب تغريم خصومهم أو حربهم!‬ ‫مساسا بالقبيلة َّ‬


‫ً‬
‫ويح ُّبون‪ ،‬وتبدأ ُّ‬
‫كل حكايات الحب إما من نبع الماء‪ ،‬أو من المرعى أو حتى من لقا ٍء‬
‫حائط أو بستان‪ ،‬والحب عندهم‬
‫ٍ‬ ‫ضخمة أو‬
‫ٍ‬ ‫عفوي ما بين بيوت الطين‪ ،‬أو خلف صخرةٍ‬
‫ٍ‬
‫شي ٌء ال يتحدثون عنه إال في شعرهم‪ ،‬الذي يتت َّبعون ألجله األعراس‪ ،‬فيأتون ليتناشدوا‬
‫عرض بعضهم بمن يحولون‬
‫حكاياتهم وآالمهم وفقدهم وحرمانهم ممن يح ُّبون‪ ،‬ولربما َّ‬
‫بينه وبين فتاته‪ ،‬فما إن يفهم المقصود حتى يهب المعنيون إلى خناجرهم أو بندق َّياتهم!‬
‫قرية من قراهم ال شاعر‬
‫ٍ‬ ‫العسير ُّيون مولعون بالطرب‪ ،‬مفتونون بالغناء والرقص‪ ،‬وأي‬
‫كلها موضع التقديس واالحتفاء‬ ‫ٌ‬
‫بائسة ناقصة‪ ،‬ألن الشاعر في القبيلة َّ‬ ‫ٌ‬
‫قرية‬ ‫بها فهي‬
‫ً‬
‫شهرة وحضو ًرا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫والحداؤون في الزواجات والمناسبات أكثر الرجال‬ ‫من الجميع‪،‬‬
‫والناس هنا يحفظون القصائد الطويلة‪ ،‬ال سيما قصائد الحب والحرب!‬
‫حقل من الشيم والقيم فهم ُّ‬
‫كل ما يمكن تخيله‬ ‫ٍ‬ ‫أيضا فالعسيريون مزروعون في‬‫ً‬
‫من الفروسية والنبل والرجولة! كرام‪ ،‬أجل هم كذلك‪ ،‬كرام حد الضحك‪ ،‬حد أن‬
‫بائسا محتاجً ا ألنه أدمن الضيوف‪ .‬أدمن هذه الوالئم التي‬
‫يعيش أحدهم‪ ،‬طول حياته‪ً ،‬‬
‫يعجبه أن يقف على رؤوس أضيافه‪ ،‬وهم على الطعام‪ ،‬ثم يستحلفهم باهلل أال يكفوا‬
‫أيديهم عنه ونفوسهم تشتهيه!‬

‫***‬

‫تكرر أ ِّمي دومًا أني كنت طفلًا هادئًا كثير الصمت!‬


‫ّ‬
‫كبيرا يقف‬
‫ً‬ ‫سرا‬ ‫َّ‬
‫يتكلم‪ ،‬يعتقدون أن ًّ‬ ‫وهنا في الجنوب يخافون من الطفل الذي ال‬
‫وراءه‪ ،‬ويضطره إلى الصمت‪ ،‬ويدعون دائ ًما َّ‬
‫كلما استفزهم صمته‪ ،‬إما على سبيل‬
‫شره‪».‬‬
‫التندر‪ ،‬أو على سبيل الدعاء بحق‪ ،‬فيقولون «اهلل يعطينا خيره ويكفينا َّ‬
‫ترك أهلي القرية لينتقلوا للمدينة‪ ،‬كغيرهم ممن فتحت لهم أبواب الرزق‪،‬‬
‫واستطاعوا أن يبتنوا بيوتًا في المدينة‪ ،‬على أن أبْها لن تتنازل عن قرويتها مهما‬
‫ٌ‬
‫حالة‬ ‫بُعثرت األوراق النقدية في شوارعها‪ ،‬وأكثر ما يمكن أن يبلغوه منها أنها‬
‫ٌ‬
‫مدينة كاملة‪ .‬قريتنا‬ ‫ٌ‬
‫متوسطة ما بين القرى والمدن‪ ،‬فال هي ٌ‬
‫ريف كامل وال هي‬
‫ومدينتنا لم تكونا تبعدان عن بعضهما أكثر من ثالثة كيلومترات‪ ،‬وهكذا صرنا نسكن‬
‫ً‬
‫جديدا‪ ،‬وبقية ساكني القرية ينظرون إلينا نظرتهم لألثرياء من أبناء المدن!‬ ‫بي ًتا‬

‫‪149‬‬
‫عبد اهلل ثابت‬

‫يسمون القرية‪ :‬الوطن‪ ،‬وال يعنون بهذا الدولة أو اإلقليم األكبر‪،‬‬


‫وعندنا في الجنوب ُّ‬
‫ذاهب‬
‫ٌ‬ ‫وإ َّنما يعنون به قراهم الصغيرة‪ .‬يقولون‪« :‬كنت في الوطن‪ ،‬أتيت من الوطن‪،‬‬
‫للوطن‪ ،‬التقيت أهل الوطن‪...‬إلخ‪».‬‬
‫والدي أول من استطاع شراء التلفزيون‪ ،‬ذي اللونين األسود واألبيض‪ ،‬وكان ذهول‬
‫الحي ِّ‬
‫كله به يشبه ذهول الناس حين يسمعون الحكائين وخرافاتهم‪ ،‬وكأ َّنما هو ٍ‬
‫آت‬
‫من عالم الغيب‪ِّ ...‬‬
‫يحدثهم عن الحيوات التي لم يروها!‬
‫ِّ‬
‫متحلقين يتوسطهم هذا التلفاز‪،‬‬ ‫كل ليلة‪ ،‬وهم يجلسون‬ ‫منظر الرجال والنساء َّ‬
‫كل مغرب بعد‬‫درجة من اإلنصات واالنبهار تجعل الجميع يتسابقون َّ‬ ‫ٍ‬ ‫وهم على‬
‫انتهائهم من أعمالهم إلى منـزلنا ليشاهدوا هذا الجهاز السحري‪ .‬كانوا يأكلون الخبز‬
‫المعجون بالسمن والسكر‪ ،‬ويشربون الشاي األحمر‪ ،‬مشدوهين بالمسلسلة البدوية‬
‫«وضحى وبن عجالن»‪ ،‬ويتمتمون مع أغنيات سميرة توفيق‪ ،‬وأم كلثوم وفايزة أحمد‪،‬‬
‫وعبدالحليم حافظ‪ ،‬وسعدون جابر وفيروز وغيرهم‪.‬‬
‫متأثرا‬
‫ً‬ ‫في تلك الفترة‪ ،‬أي أواخر السبعينات‪ ،‬تد َّين أخي األكبر تد ُّي ًنا حا ّدًا ًّ‬
‫جدا‬
‫بالمتطرفين‪ ،‬الوافدين من بلدان مجاورة‪ ،‬وكذلك تأثر بعمله في المدارس القرآنية مع‬
‫وتحمس لهم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مجموعة من المغالين‪ ،‬الذين استطاعوا أن يضموه إليهم فحمل فكرهم‪،‬‬
‫ٍ‬
‫فتشب المناجزات‪ ،‬ال سيما بينه وبين الذين‬
‫ُّ‬ ‫يحرم َّ‬
‫كل ما يدور بالمنـزل‪،‬‬ ‫كان أخي ِّ‬
‫يلونه من إخوتي‪ ،‬الذين كانوا يتحزَّ بون َّ‬
‫ضده‪ .‬ومن الطرائف التي ما زالت تتحرك‬
‫في ذاكرة إسرتي يوم كانوا يتعاقبون على «الماطور» أي مولد الكهرباء‪ ،‬فيقومون‬
‫بتشغيله كي يتابعوا التلفزيون‪ ،‬فيغضب أخي األكبر‪ ،‬ويخرج ليطفئ هذا الحرام‪ ،‬ثم‬
‫وكثيرا ما تصل‬
‫ً‬ ‫اللَيل َّ‬
‫كله على هذه الحال‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫فيشغلونه ليعود فيطفئه‪ ،‬ويمضي َّ‬ ‫يعودون‬
‫األمور إلى درجة االشتباك باأليدي والمشاجرات العنيفة‪ ،‬التي توقظ أبي‪ .‬أبي الذي‬
‫يقرر دائ ًما أن يضرب الجميع‪ ،‬فوالدي الجبلي ال يحدد من يعتدي عليه إذا غضب!‬
‫المتطرف‬
‫ِّ‬ ‫كانت تلك الفترة‪ ،‬التي تد َّين بها أخي األكبر‪ ،‬بداية للتجمع الذي قام به‬
‫الشهير بالجزيرة العربية‪ ،‬جهيمان وأتباعه‪ .‬كانوا يدورون بالناس يعظونهم ويأخذون‬
‫تأييدهم‪ ،‬محتجِّ ين على الفساد األخالقي برأيهم‪ ،‬الذي تبدت مظاهره في أغنيات‬
‫التلفزيون والنساء الظاهرات به وغير ذلك‪ ،‬وانتهت باحتاللهم الحرم ّ‬
‫المكي‪ .‬كان‬
‫هدفهم من ذلك الثورة على النظام السعودي‪ ،‬الذي يعتقدون فساده‪ّ ،‬‬
‫وأن عليهم تطهير‬
‫البالد من هذه الحكومة الكافرة بزعمهم‪ ،‬إال أن الدولة استطاعت إخمادهم والفتك‬

‫‪150‬‬
‫اإلرهابي ‪20‬‬

‫بهم داخل الحرم‪ ،‬والقبض على جهيمان وعدد من أتباعه وإعدامهم إثر ذلك!‬
‫كاد أخي األكبر‪ ،‬الذي استدعته أجهزة الدولة حينها‪ ،‬أن يخسر حياته إذ كان‬
‫م َّته ًما بانتمائه إليهم‪ ،‬لكنه نجا فلم يكن هناك من الدالئل ما يؤكد على ُّ‬
‫تورطه في‬
‫أية أعمال تدينه‪ ،‬حدث هذا ك ُّله ابتدا ًء من أواخر السبعينيات وحتى القضاء عليهم‬
‫سنة ‪ .1979‬ال يمكن ألهلي أن ينسوا يوم طرق أحد رجال المباحث الباب‪ ،‬واستدعى‬
‫أخي ليذهب معه‪ .‬تقول أ ِّمي إني من فتح الباب‪ ،‬وإنه على الفور طلب أخي‪ .‬كانت‬
‫ً‬
‫ليلة أليمة‪ ،‬فقد كان الجميع على ما يشبه اليقين أنهم لن يروا ولدهم ً‬
‫مرة أخرى!‬

‫***‬

‫في العام ‪ 1979‬بلغت السادسة‪ ،‬وهذ يعني حان وقت الدراسة‪ ،‬ذلك المكان الذي‬
‫طالما أغاظني به أخواي اللذان يكبرانني مباشرة‪ :‬اليوم لعبنا‪ ،‬اليوم لهونا‪ ،‬اليوم قال‬
‫غدا سنضحك‪ ...‬ونرسم‪ .‬وقبل أن ينتهي الصيف ويبدأ العام‬ ‫لنا المعلم كذا وكذا‪ً ،‬‬
‫لدرجة مؤذية‪ ،‬وكادت حياته‬
‫ٍ‬ ‫الجديد‪ ،‬يحتدُّ والدي وأكبر إخواني‪ ،‬الذي كان متديِّنا‬
‫أي من أعمال احتالل الحرم المكي!‬
‫تورطه في ٍ‬
‫تنتهي تمامًا لو أنه ثبت ُّ‬
‫أبي يريد أن يضمني إلى أخوي االثنين بنفس المدرسة‪ ،‬على مبدأ أن األعواد يصعب‬
‫ً‬
‫حكومية عادية كغيرها من المدارس‪ ،‬وكان‬ ‫ً‬
‫مدرسة‬ ‫كسرها إذا صارت معًا‪ .‬وهي‬
‫يصر على أن يأخذني معه إلى المدرسة القرآنية‪ ،‬التي كان ِّ‬
‫يعلم فيها‪،‬‬ ‫أخي المتديِّن ُّ‬
‫وقدم َّ‬
‫كل الحجج والمبررات لتسجيلي بها‪« :‬سيحفظ القرآن كاملًا‪ .‬وأنا معه‪ ،‬أحميه‬ ‫َّ‬
‫وأشرف على تعليمه عن قرب‪ .‬في هذه المدرسة يعطونه مالًا ّ‬
‫كل شهر‪».‬‬
‫لك َّنه لم يكن من اليسير أن يقتنع والدي بحجج أخي هذا الذي تس َّبب في متاعب‬
‫كثيرةٍ له‪ ،‬وكان يخيفه أن يصبح هذا الطفل الصغير مثل أخيه‪ ،‬متديِّ ًنا مؤذيا‪ ،‬فما كان‬
‫يرغبني في هذه المدرسة‪« :‬زاهي‪ ،‬المدرسة القرآنية‬ ‫من أخي إال أن اختلى بي وأخذ ِّ‬
‫كبيرا‪ ،‬يحبك الناس ويطلبون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شيخا‬ ‫تضمن بها الجنة‪ ،‬فيها ستحفظ القرآن‪ ،‬وتصير‬
‫منك أن تدعو لهم»‪« ،‬بالمدرسة الكثير من األلعاب والمرح والمال‪ ،‬وسيكون معك‬
‫الكثير من المال لتشتري به ما تشاء‪ ،‬أال ترى بقية إخوانك ال يحصلون على أي مال‬
‫كل ما تريد لو طلبت من أبي أن تكون بهذه المدرسة‪».‬‬ ‫من مدارسهم!» «سأعطيك َّ‬
‫كان ُّ‬
‫كل شيء مغريًا‪ ،‬وامتألت نفسي باألحالم داخل هذه المدرسة فبكيت‪ ،‬وولولت‪،‬‬

‫‪151‬‬
‫عبد اهلل ثابت‬

‫وصرخت‪ ،‬وجادلت لكي ألتحق بالمدرسة القرآنية‪ ،‬فوافق أبي مستسل ًما لبكائي‪.‬‬
‫كل شيء‪ ،‬إال بكاء الصغار ودموعهم‪.‬‬ ‫يستطيع العسيريون أن يتجاهلوا َّ‬
‫يتعر ض لألطفال وال للنساء‪ .‬النمر عندنا‬
‫َّ‬ ‫ويقال إن النمر في عسير ال‬
‫يتور ع عن فعل‬
‫َّ‬ ‫مثال الشجاعة والقوة والنبل‪ ،‬أما الذئب فهو الذي ال‬
‫ً‬
‫دجاجة ‪.‬‬ ‫ً‬
‫امرأة أو رجلًا أو‬ ‫شيء‪ ،‬وال يعنيه أن تكون فريسته طفلًا أو‬
‫ترقب‪ ،‬وبي فرح‪ ،‬لك َّنني ما كدت‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫خوف‪ ،‬وبي‬ ‫َّ‬
‫اللحظة األولى التي ألج بها المدرسة‪ .‬بي‬
‫أنضم إلى مجموع طالب فصلي حتى بدأت أسمع التهديد والوعيد‪ ،‬كان المعلمون‬
‫أخرك؟»‪« ،‬قف‬ ‫الدينيون يصرخون ويوبِّخون الصغار‪« :‬امش لفصلك»‪« ،‬ما الذي ّ‬
‫عندك وأحضر يا فالن العصا» حتى دخل علينا َّأول ِّ‬
‫معلم ولدى جلوسه أخذ يتهددنا‬
‫بألوان العقاب إن نحن لم نمتثل ألوامره ونواهيه‪.‬‬
‫المتوحش‪ ،‬المقصف ليرى طفلًا‬
‫ِّ‬ ‫في الفسحة‪ ...‬يدخل مدير المدرسة‪ ،‬ذلك الرجل‬
‫ً‬
‫صرخة أسكتت جميع الطالب‪ .‬قال للطفل «تعال هنا»‬ ‫شام ًّيا يلبس البنطال فيصرخ‬
‫فجاءه الطفل يكاد يغشى عليه من الخوف‪ ،‬ثم قال له‪« :‬أين هو الثوب الذي يسترك؟‬
‫لم تأتي بهذا البنطال الذي ال يلبسه الرجال؟» فحاول الطفل أن يشرح أنه للتو عائد‬
‫من بالده‪ ،‬ولم يكن يعرف انه ال بد من لبس الثوب‪ ،‬وأن والده لم يذهب للسوق بعد‬
‫ليشتري ثوبًا له‪ .‬ضربه المدير يومها في سائر جسده‪َ ...‬جلَده ببشاعة‪ .‬كان يمسك‬
‫فروة رأسه‪ ،‬ثم يطرحه يمي ًنا وشمالًا ويقول له‪« :‬ستكون رجلًا رغ ًما عنك‪ ...‬ال‬
‫تلبس لبس الكافرين هنا!»‬
‫ال أنسى ً‬
‫أبدا بكاء الطفل وهلعه واستنجاده‪ ،‬وال أنسى أنه حين توارى المدير عن‬
‫أعيننا هربت إلى فصلي واختبأت تحت إحدى الطاوالت‪ ،‬مذعو ًرا أن يدخل علينا‬
‫كل‬ ‫ً‬
‫عنيفة‪ .‬كانت ُّ‬ ‫ً‬
‫صدمة‬ ‫هذا المدير‪ ،‬فيفعل بي ما فعله بالطفل الشامي‪ .‬لقد كانت‬
‫أشباح مخيفة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫كلمات أخي عن اللعب والمرح وطريق الج َّنة والسعادة تتحول إلى‬
‫إلي وتقهقه!‬
‫لها أنياب حادة تنظر َّ‬
‫المحدد من القرآن‪ ،‬وخوفًا من عقوبة الجلد العنيف‬
‫َّ‬ ‫ذات يوم‪ ،‬وألنني لم احفظ الواجب‬
‫الذي ينتظرني في هذه الحالة‪ ،‬حاولت التمثيل على والدي مدع ًيا أنني أعاني من بعض‬
‫جدا‪ .‬وبالفعل وافق والدي على أال أذهب للمدرسة في‬‫اآلالم في بطني‪ ،‬وأنني مريض ًّ‬
‫ذلك اليوم‪ ،‬لك َّنني لفرط فرحي وذهولي بموافقة والدي لم أستطع البقاء بفراشي‪ .‬بعد‬
‫لحظات قصيرة دعاني والدي وأمرني بلبس ثيابي وحمل حقيبتي ليوصلني للمدرسة‪،‬‬

‫‪152‬‬
‫اإلرهابي ‪20‬‬

‫ولم تنفع ُّ‬


‫كل توسالتي‪ .‬الفظيع في األمر‪ ،‬أننا حين بلغنا المدرسة‪ ،‬طلب أبي من مديرها‬
‫أن يضربني أل َّنني كذبت عليه وادَّعيت المرض‪ ،‬فسألني المدير عن سبب ذلك‪ .‬حدثت‬
‫نفسي بالصدق‪ ،‬الذي ر َّبما شفع لي‪ ،‬فيرون أني ك َّفرت عن كذبتي بالصدق‪ ،‬وقلت‬
‫على الفور‪« :‬فعلت هذا‪ ،‬ألني لم أستطع حفظ القرآن‪ ،‬وخشيت أن يضربني األستاذ‪».‬‬
‫حينها غمز والدي لمدير المدرسة‪ ،‬واستأذن ومضى‪.‬‬
‫ً‬
‫مؤامرة تد َّبر َّ‬
‫ضده هكذا في العلن‪ ،‬ولبالغ صغره وضعفه ال‬ ‫ساعة يرى ٌ‬
‫أحد ما‬
‫يمسه من تآمر عليه‪.‬‬
‫فإن داخله يتهاوى‪ .‬يتساقط قبل أن َّ‬ ‫يملك غير النظر واالنتظار ّ‬
‫ال أعنف من أن يتداعى البنيان من داخله!‬
‫لقد أوقفني المدير في نهاية غرفته ساعتين‪ ،‬ساعتين من القهر والعذاب النفسي‪،‬‬
‫خصوصً ا وهو يسحب الخيزران‪ ،‬تلك العصا الملفوفة‪ ،‬ويضعها على طرف مكتبه‪،‬‬
‫بنظرات تسري في جسدي كالكهرباء‪ .‬في آخر األمر قال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫وقت آلخر‬
‫ٍ‬ ‫ثم يرمقني من‬
‫«افتح يديك» وضربني بعصاه تلك في كفي اليمين‪ ،‬ثم كفي اليسار على التوالي‪ ،‬وحين‬
‫انتهى صبري‪ ،‬ولم أعد قاد ًرا على احتمال أي جلدة‪ ،‬رفضت َّ‬
‫مد يديَّ لخيزرانه‪ ،‬فأخذ‬
‫يضربني في سائر جسدي‪ ،‬ضربني حتى جثوت على األرض‪ ،‬حتى َّ‬
‫تمددت عليها‪،‬‬
‫علي فقاموا يمنعونه من مواصلته‬
‫ولوال أن بعض المعلمين بالغرفة تحركت رحمتهم َّ‬
‫َّ‬
‫ليكف عن تلك البشاعة‪.‬‬ ‫تعذيبي ما كان‬
‫وهدلت الشماغ على ُصدغي‪ ،‬ولم يكن السواك ليفارق‬ ‫َ‬ ‫لبست الثياب القصيرة‪،‬‬
‫فمي‪ ،‬وتعلمت كلماتهم ودعواتهم الخاصة‪ ،‬لك َّنني كنت كائ ًنا آخر في داخلي‪ :‬أحب‬
‫أتمكن منها‪ .‬أجل كنت ِّ‬
‫أصلي‬ ‫األغنيات والصور والرسم واللعب‪ ،‬وال أستطيعها وال َّ‬
‫وأقف والسواك بفمي‪ ،‬لك َّنني لم أكن على وضوء‪ ،‬وكنت ِّ‬
‫أصلي وأجلس بالمسجد‪،‬‬
‫لك َّنني كنت أكرههم!‬
‫كنت أقضي يومي على هذه الشاكلة‪ :‬أستيقظ فزعً ا ّ‬
‫كل فجر على صراخ والدي‪،‬‬
‫لنهب جميعًا ونصطف وراءه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الذي ينادي لصالة الفجر‪ .‬كان يدعونا بصرخة واحدة‬
‫وطالما عوقبت عقابًا ألي ًما ألنني تأخرت عن ركعة من الصالة‪ ،‬أو فاتتني الصالة ك ُّلها‪.‬‬
‫ومع لحظات الصباح األولى أتهيأ للذهاب للمدرسة‪ ،‬وأكمل ما بقي من الواجبات‪،‬‬
‫أتمه‪ ،‬وفي مخيلتي صورة مدير المدرسة البشعة‬
‫التي لم أكملها والحفظ الذي لم َّ‬
‫والمدرسين القساة!‬
‫ِّ‬
‫يمضي الوقت الشاق في المدرسة‪ :‬حصص القرآن وما فيها من الرعب‪ ،‬وحصص‬

‫‪153‬‬
‫عبد اهلل ثابت‬

‫الدين والمساءالت‪ ،‬حتى تأتي ساعة الفرح الوحيدة في اليوم وهي ساعة خروجي‬
‫من ذلك المعتقل وعودتي للبيت‪ .‬وفي البيت أقضي الوقت‪ ،‬حتى يحين العصر‪ ،‬في‬
‫علي أن أخرج مع أغنامي لرعايتها‬
‫إنجاز بعض الواجبات وحفظ القرآن‪ ،‬ألنه يتوجب ّ‬
‫بعد أن أؤدِّي صالة العصر!‬
‫بدراجاتهم‬
‫ويتجولون َّ‬
‫َّ‬ ‫أمر بغنيماتي أمام أبناء الحي‪ ،‬وهم يلعبون الكرة‬
‫كثيرا ما كنت ُّ‬
‫ً‬
‫الصغيرة‪ ،‬فتتعالى ضحكاتهم‪« :‬الراعي‪ ...‬الراعي‪ ...‬الراعي‪ ».‬كنت أعرض عنهم بزهو‬
‫لكن بداخلي جرحً ا عمي ًقا‪ ،‬إذ لم أكن مثل هؤالء‪ ،‬أنعم باللعب والمرح‪ ،‬حتى‬
‫مصطنع‪َّ ،‬‬
‫إذا ما خلوت بأغنامي هجمت على بعضها ألضربها وأشتمها‪ ،‬وأحملها سبب حرماني‪،‬‬
‫ثم أبكي بكا ًء حا ًرا!‬

‫مقاطع من رواية «االرهابي ‪ »20‬دار المدى‪ ،‬دمشق ‪2006‬‬

‫‪154‬‬
‫عدن َّية شبلي‬

‫فصل من رواية‬
‫ُّ‬
‫كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب‬

‫بريد الحب‬

‫لقد َ‬
‫تركت المدرسة اليوم‪ .‬بعدما أعادت الصف الرابع مرتين والصف السابع مرتين‪،‬‬
‫وأوشكت على أن تعيد الصف التاسع هذه السنة ً‬
‫أيضا‪ ،‬رفع والدها حاجبيه ناف ًيا‪.‬‬
‫وهذه الحركة بالذات هي ما كانت عفاف بانتظاره منذ الصف الرابع‪.‬‬
‫الثوار وقتل في الـ ‪ ،84‬فان والدها كان عميلًا‪ ،‬وقد‬
‫جدها كان من َّ‬ ‫بالرغم من ّ‬
‫أن َّ‬
‫ّ‬
‫المتعلقة بوزارات مختلفة‪ ،‬كتس ُّلم طلبات إصدار‬ ‫َّ‬
‫ولته الحكومة العديد من المهام‬
‫ُهو َّيات‪ ،‬تصاريح سفر‪ ،‬تصاريح بناء‪ ،‬خدمات بريد‪ ،‬إجازة مد خط هاتف‪ ،‬بيع سوالر‪،‬‬
‫كل صوب‬‫استقرت في ِّ‬
‫َّ‬ ‫إلخ‪ .‬لكن ولكونه ثقيل الحركة‪ ،‬نتيجة الدهون الزائدة التي‬
‫من جسمه‪َّ ،‬‬
‫وزع أغلب مهام التجسس بين أفراد عائلته‪ ،‬واكتفى هو بتشغيل المسجِّ ل‬
‫الصغير الموضوع في جيب قميصه األبيض‪ ،‬النظيف والمكوي دائ ًما‪ .‬كان رجلًا كسولًا‪،‬‬
‫أيضا لم تكن هنالك حاجة ألن يفعل‬ ‫تحرك من مكانه تحت شجرة اللوز‪ .‬لك َّنه ً‬ ‫َّ‬
‫وقلما َّ‬
‫ذلك‪ ،‬وال حتى ألن يغادر مقعده‪ ،‬كي يعرف ما يحيكه أهالي الحي من مؤامرات قد‬
‫تضر بأمن الدولة‪ ،‬فقد كان هؤالء يأتون إليه بأنفسهم‪ .‬بل لو أتيح له‪َّ ،‬‬
‫لشدة كسله‬ ‫ُّ‬
‫وثقل حركته‪ ،‬لكان نادى على عفاف كي تضغط زر المسجِّ ل في جيب قميصه‪.‬‬
‫جالسا تحت الشجرة في‬
‫ً‬ ‫قطعت عفاف الساحة م َّتجهة إلى البيت تاركة والدها خلفها‬
‫ً‬
‫نظيفا‪ ،‬داللة على َّ‬
‫أن زوجة‬ ‫َّ‬
‫وتنفست الصعداء َّلما وجدته‬ ‫ِّ‬
‫الظل‪ .‬صعدت درج البيت‬
‫ثم دخلت غرفتها هي وإخوتها‪.‬‬
‫أبيها قد أنهت شغل البيت‪ .‬دخلت‪َّ ،‬‬
‫مررت بيديها االثنتين على وجهها لتمسح‬ ‫بعد أن جلست على حافة السرير‪َّ ،‬‬
‫أن «الحمد هلل»‪ .‬عادت ِّ‬
‫تقلب يديها أمام ناظريها‪،‬‬ ‫نفسا طويلًا ْ‬
‫العرق عنه‪ ،‬ثمّ أخذت ً‬

‫‪155‬‬
‫عبد اهلل ثابت‬

‫ً‬
‫رويدا راحت تستعيد وعيها‬ ‫ً‬
‫رويدا‬ ‫وكانتا تلمعان بالرغم من َّقلة الضوء في الغرفة‪.‬‬
‫بعد أن سطلتها حرارة الشمس‪ ،‬وبعدها فقط انتبهت إلى ثقل حقيبتها على ظهرها‬
‫مرة‪ .‬وداعً ا!‬
‫فأنزلتها‪ ،‬ووضعتها على األرض آلخر ّ‬
‫وقفت تخلع عنها مالبس المدرسة‪ ،‬ثمّ ا َّتجهت إلى ماكينة الخياطة في غرفة‬
‫مقصا‪ .‬طبعًا قفزت زوجة أبيها تسألها لماذا‬ ‫الجلوس وأخرجت من تحت غطائها ًّ‬
‫َّ‬
‫تتحدث معها إلى‬ ‫بالمرة أ َّنها ال تريد أن‬
‫ّ‬ ‫المقص ولم تر َّد عليها‪ .‬هذه المخلوقة ال تفهم‬
‫كل صلة لها بنظام التعليم والتأكيد‬ ‫المدرسي‪ ،‬معلنة بهذا قطع ِّ‬
‫َّ‬ ‫قصت بنطالها‬ ‫األبد‪ ،‬ثمّ ّ‬
‫على استحالة الرجوع إليه‪.‬‬
‫جعلته حتى الركبة حتى ال يفتح أحد فاهه‪ ،‬رغم أ َّنهم سيفتحونه على أ َّية حال‪،‬‬
‫تغدت من أكل زوجة والدها الباهت‪ ،‬ثمّ خرجت‪ .‬وسمعتها‪ ،‬لقد‬ ‫لكن المهم والدها‪َّ .‬‬
‫َّ‬
‫ّ‬
‫رن كل حرف في إذنيها‪.‬‬ ‫َّ‬
‫«عاهرة»‪ .‬وما لمثل هذه المقولة إالّ أن ِّ‬
‫تؤكد أنّها هي العاهرة‪ ،‬أيّ زوجة أبيها‪،‬‬
‫ولكن ال عدل في الدنيا‪ .‬ال تريد أن تعود لتشاجرها حتى ال ِّ‬
‫تعكر مزاجها وسعادتها‬
‫باختفاء المدرسة نهائ ًّيا من عالمها‪.‬‬
‫قطعت الساحة م َّتجهة إلى أبيها تحت اللوزة‪ ،‬والذي بدأ من بعيد يتأ َّمل ساقيها‪.‬‬
‫عندما وصلت إليه‪ ،‬خرج صوته من تحت شاربه بصعوبة‪ :‬ما هذا البنطلون؟‬
‫ردَّت بال مباالة‪ :‬للركبة‪.‬‬
‫فعاد من خلفها‪ :‬للركبة آه؟!‬
‫وبعد لحظتين ممكن‪ :‬لمن ستطلعين غير أل ِّمك!؟‬
‫وجدت نفسها تر ُّد‪ :‬ألبي ممكن‪.‬‬
‫فإذا بحذائه البيتي يطير بالهواء م َّتجهًا مباشرة إلى رأسها ليخبط به‪ ،‬وللحظات‬
‫كانت ال تشعر إال بموقع الضربة‪.‬‬
‫‪ -‬آه يا عاهرة‪.‬‬
‫أكمل‪.‬‬
‫ثم الحقتها أوامره‪:‬‬ ‫يدوي في رأسها‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وخف والدها ِّ‬ ‫عادت أدراجها‬
‫‪ -‬غدا ّ‬
‫مبك ًرا تصحين وتفتحين البريد‪ .‬ال تعتقدي أ َّنَك إن بال مدرسة ستنخمدين‬
‫في فراشك حتى الظهر‪.‬‬
‫يومًا ما‪ ،‬إن شاء اهلل يومًا ما‪ ،‬سوف تطلق النار عليه وعلى زوجته‪ ،‬من ذات‬

‫‪156‬‬
‫ك ُّلنا بعيد بذات المقدار عن الحب‬

‫المسدس هذا الذي يضعه خلف ظهره‪ .‬ولن تخلع البنطال ولو على ج َّثتها وليفتح‬
‫َّ‬
‫هو البريد َّ‬
‫كل يوم‪.‬‬

‫***‬

‫الحمام واستحمت‪ ،‬ثمّ وقفت أمام المرآة ِّ‬


‫تمشط شعرها وتعيد حساباتها‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫دخلت‬
‫حس ًنا‪ .‬البريد البريد‪ ،‬فليكن! المهم أنها نفذت من المدرسة وكذلك من شغل البيت‪.‬‬
‫مشكلتها الوحيدة اآلن في الحياة هي َّ‬
‫أن شعرها مج َّعد‪.‬‬
‫الحمام‪،‬‬
‫َّ‬ ‫أخرجت من علبتها (علبة شوكالطة ساب ًقا) والتي اصطحبتها معها إلى‬
‫د ِّزينة دبابيس شعر سوداء كانت قد تركتها والدتها خلفها من ضمن ما تركت‪َّ ،‬‬
‫ثم‬
‫فانضم للحظة إلى العتمة من‬
‫َّ‬ ‫سحبتها جميعًا من حول قطعة الكرتون ووضعتها أمامها‪،‬‬
‫حولها رنين ناعم صدر إثر اصطدام الدبابيس ببعضها وبحافة المرآة حيث نثرتها‪.‬‬
‫تمشط شعرها بعد أن فرقته على اليسار‪ ،‬وبدأت تدفع الدبابيس فيه‪ ،‬ال َّفة‬
‫عادت ِّ‬
‫كل دبوس عن الثاني بمقدار ثالثة‬ ‫إياه حول رأسها من اليسار إلى اليمين‪ ،‬مبعدة َّ‬
‫ثم عادت إلى غرفة نومها هي وإخوتها‪ ،‬وضعت‬ ‫أصابع‪ .‬بعدما انتهت َّ‬
‫غطته بمنديل‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫المخدة‪ ،‬ونامت‪ .‬وبينما هي مستغرقة في نوم قيلولة عميق‪ ،‬راحت‬ ‫رأسها على‬
‫ّ‬
‫المبتل والعرق المتص ِّبب من‬ ‫َّ‬
‫المخدة تحتها تخضل ببطء وبإصرار نتيجة شعرها‬
‫وجهها في هذا اليوم الحار‪ ،‬وزادته األحالم المرعبة التي َّ‬
‫خلفتها في نفسها كلمات‬
‫والدها وزوجة والدها الجارحة‪ .‬بعد ساعتين تقري ًبا أفاقت للحظات‪ ،‬بقيت أثناءها‬
‫تحس بخدر وثقل شديدين في رأسها‪ ،‬فيما أصوات شخصيات مسلسل‬
‫ُّ‬ ‫في الفراش‪،‬‬
‫ثم عادت ونامت حتى الصباح‪.‬‬‫تلفزيوني ما تنبعث وحدها في فضاء البيت‪َّ ،‬‬
‫حلت المنديل وأزالت الدبابيس من شعرها‪ .‬وكان شعرها‪َّ ،‬‬
‫لشدة سعادتها‪،‬‬ ‫في الصباح َّ‬
‫ناع ًما‪ ،‬فبدت جميلة قليلًا‪ .‬لك َّ َنها عادت ووضعت الدبابيس فوقه ول َّفته بالمنديل‬
‫ثانية‪ ،‬إذ لم تود أن تهدر جمالها سدى‪.‬‬
‫كأسا من الشاي شربته وهي واقفة أمام جرن المطبخ‪ ،‬في حين‬
‫ص َّبت لنفسها ً‬
‫جلس خلفها إخوتها يفطرون وزوجة والدها إلى جانبهم تل ِّوث هواء الصباح بأنفاسها‬
‫وألفاظها‪ .‬بعدما انتهت وضعت الكأس الفارغ في الجرن‪ ،‬تناولت مفاتيح البريد عن‬
‫العلاَّ قة‪ ،‬ونزلت‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫عدن َّية شبلي‬

‫لحظة فتحت الباب‪ ،‬اصطدمت مباشرة بهواء بارد جعل القشعريرة تعلو ذراعيها‪،‬‬
‫للمرة‬ ‫ِّ‬
‫المتسلل من خلفها عبر فتحة الباب‪ ،‬يكشف أمامها تدريج ًّيا ّ‬ ‫فيما أخذ الضوء‬
‫ً‬
‫فصاعدا ستعمل بينها وستكون إلى‬ ‫المليون محتويات المكتب‪ .‬لكن بما أ َّنها من اآلن‬
‫وبتأن‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫جانبها يوم ًيا‪ ،‬نظرت إليها هذه المرة بطريقة مختلفة‬
‫على الحائط إلى يمينها ه ّواية ذات لون أبيض قديم‪ ،‬أسفلها لوحة كبيرة تسرد‬
‫بإسهاب رسوم البريد حسب الوزن والبعد‪ ،‬لك َّ َنه لم يكن هنالك حاجة لمتابعتها‬
‫كل ما كان يبعث به أهل‬‫أن َّ‬
‫حتى النهاية‪ :‬الصف األول على اليسار يكفي وزيادة‪ ،‬إذ ّ‬
‫الحي هو رسائل تزن َّ‬
‫أقل من خمسين غرامًا داخل البالد‪ .‬أي نعم تظهر أحيانًا موجة‬
‫هواية المراسلة‪ ،‬ركوب الخيل والسباحة‪ ،‬ولكن بما ّ‬
‫أن الخيول قليلة وبرك السباحة‬
‫معدومة‪ ،‬تبقى إمكانية المراسلة فقط‪ ،‬فيبعث الواحد منهم برسالة أو برسالتين إلى‬
‫ً‬
‫وتحديدا في فترة ما بين الصف التاسع والثاني عشر‪ ،‬حيث‬ ‫الخارج خالل حياته ِّ‬
‫كلها‪،‬‬
‫أخيرا من كتابة رسالة باإلنجليزي بعد سنين طويلة من دراسة هذه‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫يتمكن البعض‬
‫اللغة‪ .‬وك ُّلها قلوب تبحث عن عجوز غن َّية من أوروبا أو أميركا‪ ،‬تتبناهم فتنقذهم‬
‫من الحياة في البالد‪ ،‬التي تعد بأن تكون رتيبة حتى الممات‪ .‬وأحالم‪ ...‬لوالها لما‬
‫كانوا ح ُّلوا وظيفة جغرافيا أو إنجليزي واحدة‪.‬‬
‫ثمّ ينهار ُّ‬
‫كل شيء وت َّتضح عدم واقعية مثل هذه األحالم بإيعاز من األهل‪،‬‬
‫فتنتهي هواية المراسلة‪ ،‬وينتقلون إلى الحلم الثاني‪ :‬الزواج‪ ،‬وعندها يبدأون‬
‫بممارسة هواية الصيد‪ :‬فتاة رزينة ال تضحك‪ ،‬وال تنظر يسا ًر ا أو يمي ًنا‪.‬‬
‫ومعًا‪ً ،‬‬
‫يد ا بيد‪ ،‬يبدأ هو وفريسته رحلة السأم األبدية‪ ،‬التي ال يندرج في‬
‫ّ‬
‫الممثلة بجهاز البريد‪،‬‬ ‫مسارها المرسوم هذا‪ ،‬الحاجة إلى وسيلة االتصال‬
‫والذي تسقط مسؤوليته ومهام تشغيله منذ اليوم على عاتق وحياة عفاف‪.‬‬
‫أرجواني ضخم يخدم ً‬
‫سلة للمهمالت‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫بالستيكي‬
‫ٌّ‬ ‫قرب الحائط إلى اليسار وقف سطل‬
‫خشبي قاتم اللون‬
‫ٌّ‬ ‫رمادي‪ .‬بينما في وسط الغرفة‪َّ ،‬‬
‫امتد قاط ٌع‬ ‫ُّ‬ ‫عمومي‬
‫ُّ‬ ‫معلق فوقه هاتف‬
‫وطويل هو عمل ًّيا «البريد»‪ ،‬وقد وضعت عليه بعض العدة الالزمة‪ :‬قلم حبر ينتهي‬
‫الداخلي من القاطع‪ ،‬وعلبة صغيرة‬
‫ِّ‬ ‫بخيط طويل مربوط بمسمار مدقوق في الجزء‬
‫أسطواني عريض‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مؤلّفة من قطعة خشب محفورة مملوءة بالماء‪ ،‬داخلها دوالب‬
‫َّ‬
‫ً‬
‫عوضا عنها‪.‬‬ ‫لكن عفاف لن تستخدمها أل َّنها ِّ‬
‫تفضل لعابها‬ ‫تستخدم للصق الطوابع‪َّ ،‬‬
‫الداخلي للقاطع فقد كان يخفي عال ًما آخر‪ .‬كان فيه ّ‬
‫رف ثان عليه دفتر‬ ‫ّ‬ ‫أما الجزء‬

‫‪158‬‬
‫ك ُّلنا بعيد بذات المقدار عن الحب‬

‫تجسس ودفتر وصوالت وملف طوابع‪ ،‬خ ِّبئت جميعها عن أعين المرسلين‪ .‬وخلف‬ ‫ّ‬
‫استقر كرسي له أن يدور حول نفسه وأن يزحف في جميع االتجاهات‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫الرف‬
‫ثم راح يختتم المكان ِّ‬
‫بكل محتوياته السابقة‪ ،‬ساعة حائط كبيرة تشير جملة‬ ‫َّ‬
‫صغيرة في وسطها إلى أنها مهداة من شركة تأمين سيارات‪ .‬إلى يسار الساعة ِّ‬
‫علق‬
‫مغبرة إلى درجة‬
‫َّ‬ ‫علم إسرائيل م َّتسخ ومهترئ‪ ،‬وتحته صورة لرئيس الدولة لم تكن‬
‫مضطرين إلى تغييرها بين الحين واآلخر بسبب من‬
‫ِّ‬ ‫كبيرة مثل العلم‪ ،‬إذ أ َّنهم كانوا‬
‫الديموقراطية‪ .‬سحبت عفاف الكرسي وجلست تستقبل انعدام القادمين‪.‬‬

‫***‬

‫لكن معاناتها‬
‫كان قد مضى أكثر من ثالثة شهور على عمل عفاف في البريد‪َّ ،‬‬
‫لم تتفاقم‪ ،‬كما لم تقل‪ ،‬إذ أ َّنها كانت قد استسلمت لمصيرها تما مًا منذ اليوم‬
‫ثم‬
‫األول‪ .‬ولقد كانت مهمتها الرئيسية في البريد فتح الرسائل وقراءتها‪ ،‬ومن َّ‬
‫تبليغ والدها بمضامينها‪ .‬كذلك‪ ،‬كان هنالك شخص من أهل الحي يسكن في أميركا‬
‫ويتوجب عليها شطب‬‫َّ‬ ‫يبعث أحيانًا إلى أهله برسائل يعن ِو نها إلى «فلسطين»‬
‫الكلمة وكتابة «إسرائيل» بدلها‪ .‬عدا ذلك‪ ،‬لم تكن أيٌ من الرسائل تحوي ما‬
‫ِّ‬
‫تسلي عفاف‪.‬‬ ‫يمكن أن يضعضع أمن الدولة وال حتى أخبا ًر ا مثيرة يمكنها أن‬
‫الحي أن تصل رسائلهم مفتوحة‪ .‬غير َّ‬
‫أن ما‬ ‫ِّ‬ ‫ًإذا كان ً‬
‫أمرا عاديًا بالنسبة إلى أهالي‬
‫تجدد مع دخول عفاف إلى سلطة البريد هو شطب لبعض العبارات من الرسائل‪،‬‬ ‫َّ‬
‫أن ما شطب‬‫مما أثار العديد من الشجارات بينها وبين المتل ِّقين‪ .‬فاالعتقاد السائد هو ّ‬
‫قررت عفاف مصادرتها‬‫تذكر شي ًئا مرف ًقا بالرسالة‪ ،‬أي هدية من المرسِ ل‪ّ ،‬‬‫جملة ُ‬
‫بعدما نالت إعجابها‪.‬‬
‫الحي‪ ،‬هو‬
‫ِّ‬ ‫مرة منذ دخول سلطة البريد إلى‬ ‫وألول ّ‬
‫تجدد في عهدها َّ‬ ‫كذلك مما َّ‬
‫َّ‬
‫الملطخة بالملل بمساعدة مفتاح‬ ‫الخشبي التي َّ‬
‫خطتها يدها‬ ‫ِّ‬ ‫بعض الكتابات على القاطع‬
‫البريد‪ ،‬ومن بينها تظهر العبارات التالية‪« :‬عفاف»‪ ،‬خنجر تسيل منه ثالث قطرات‬
‫دم‪ »71 – 9 - 8« ،‬تاريخ عيد ميالدها‪ »81 – 9 - 31« ،‬تاريخ أ ِّمها‪»78 - 6 - 31« ،‬‬
‫تاريخ «تبطيل» المدرسة‪ ،‬قلب يخترقه سهم يخرج من نقطة تبدأ بحرف الـ «ع»‪،‬‬
‫وينتهي بعالمة سؤال‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫عدن َّية شبلي‬

‫عالمة السؤال هذه تعني إجابة وحيدة وهي أ َّنه لن يكون ً‬


‫أبدا من نصيبها قصة‬
‫بد أنّه سيستخرج لها من تحت‬ ‫ألن يد أبيها طائلة ًّ‬
‫جدا وال َّ‬ ‫ستتزوج هذا أكيد‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫حب‪.‬‬
‫ّ‬
‫عريسا‪ ،‬عاجلًا أم آجلًا‪ ،‬وعلى األغلب بين هذا وذاك أيّ قبل أن تع ِّنس‪ ،‬وبعد‬
‫ً‬ ‫األرض‬
‫أن يستفيد منها قليلًا في خدمة البريد‪.‬‬
‫مرة‬
‫وراحت عفاف تتخ َّيل الحياة الزوجية‪ ،‬وما سيقع على عاتقها من شغل البيت ّ‬
‫أخرى والذي هي مرتاحة منه حال ًيا‪ .‬ر َّبما ستكون سعيدة‪ ،‬ولكن مستحيل‪ .‬إن كانت‬
‫كل حياتها كومة من الخراء‪ ،‬لن يتغ َّير ُّ‬
‫حظها هكذا وتصبح سعيدة‪ .‬ماذا سيتغ َّير؟‬ ‫ُّ‬
‫العريس الغريب بالتأكيد لن يكون أكثر ح ًّبا لها وحن ًّوا عليها من والديها! ثم تنهَّدت‪.‬‬
‫جدا‪ .‬أحيانًا تجد‬
‫كثيرا ما كانت أ ُّمها تتنهد مصدرة بذلك نغ ًما ووقعًا أح َّبتهما عفاف ًّ‬
‫ً‬
‫كل ما فعلته األخيرة‪.‬‬ ‫عفاف نفسها مشتاقة إلى أمها رغم ِّ‬
‫هي ال تدري أين أمها اآلن أو ماذا تفعل‪ ،‬وال تدري كيف ولماذا حدث ُّ‬
‫كل شيء‪ .‬ذات‬
‫يوم‪ ،‬في الصف الرابع‪ ،‬وكان الفصل األول قد بدأ منذ أيام فقط‪ ،‬صحت هي وإخوتها ولم‬
‫يجدوا ال الشاي وال اإلفطار جاهزين‪ ،‬فراحت تبحث عنها في غرفة نومها هي وأبيها‪،‬‬
‫لك َّنها وجدتها فارغة‪َّ .‬لفت ّ‬
‫كل البيت ولم تجدها‪ ،‬وال فائدة كم من الوقت ستبقى‬
‫فقررت أن تذهب للبحث عنها‬ ‫تبحث وتدور في أرجائه‪ .‬ربما تكون في الحاكورة‪َّ ،‬‬
‫عمتها على الدرج‪ ،‬حتى قبل أن‬‫هناك‪ .‬أحيانًا هي تكون هناك‪ .‬عندما خرجت التقت َّ‬
‫فطري إخوتك‪ ،‬واذهبوا إلى المدرسة‪.‬‬‫تفتح فاهها‪ ،‬قالت تلك بازدراء‪ :‬وال كلمة‪ّ .‬‬
‫الح ًقا من ظهر ذلك اليوم الموافق ‪ ،1981 - 9 - 31‬حين جلست هي وإخوتها حول‬
‫السدر يتغدُّ ون‪ ،‬أعلن والدها من تحت شاربه‪ ،‬فيما هو يمسك بيده اليمنى بالمسدس‬
‫واليسرى َّ‬
‫تدلت فارغة عدا بعض الخطوط التي رسمها الضوء القادم من نافذة المطبخ‪،‬‬
‫أ َّنه ممنوع ألحد أن يذكر كلمة «أ ِّمي» أو يسأل عنها‪ .‬ما ا َّتضح بعد تجميع شخصي‬
‫سرا‪ ،‬جعل ذلك اليوم أطول أيام حياتها‪،‬‬
‫ألشالء جمل من أحاديث الناس قامت به هي ً‬
‫امتد ليصبح َّ‬
‫كل حياتها‪ ،‬مح ِّولًا إ َّياها إلى كومة من الخراء ال تتو َّقف عن النموّ‪:‬‬ ‫بل َّ‬
‫فرت مع رجل آخر‪.‬‬‫أمّها َّ‬
‫ً‬
‫فجأة سمعت عفاف صوت تصفيق أجنحة حمامة‪ ،‬كانت كما يبدو واقفة عند باب‬
‫فتعجبت عمّ ا قد تكون تفعله حمامة‬
‫َّ‬ ‫البريد‪ ،‬انتشلها من هذه الذكريات القاسية‪،‬‬
‫تتحسس بظاهرهما‬
‫َّ‬ ‫في مثل هذا المكان القاحل المعتم‪ .‬شبكت عفاف يديها وراحت‬
‫الدبابيس المث َّبتة في شعرها‪ ،‬ألقت أثناءها نظرة خاطفة إلى الساعة على الحائط‬

‫‪160‬‬
‫ك ُّلنا بعيد بذات المقدار عن الحب‬

‫خلفها‪ .‬كانت الساعة تقترب من العاشرة‪ .‬بقي ما يقارب العشرين دقيقة من السأم‬
‫التام أمامها‪ ،‬حتى تعود إلى القليل من الحياة مع قدوم الرسائل‪.‬‬

‫فصل من رواية «كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب» دار االداب‪ ،‬بيروت ‪2004‬‬

‫‪161‬‬
‫عالء حليحل‬

‫قصة قصيرة‬

‫تعايُش‬

‫يجب أن أتحدث معه‪ .‬فاألمر لم يعد يحتمل التأجيل‪ ،‬حتى لو أنه ال يعرفني أو‬
‫وزدًا‪ ».‬هكذا‪،‬‬
‫«إكسا ووايًا ِ‬
‫ً‬ ‫لم يسمع بي‪ .‬سأتصل به وسأقول‪َّ :‬‬
‫يتكلم أنا وأريد منك‬
‫بصراحة ومن غير مواربة‪ ،‬وإذا تلعثم أو استهجن المكالمة فإنني سأغيّر من لهجتي‪.‬‬
‫«إكس ووايٌ‬
‫ٌ‬ ‫كل ما أطلبه منك هو‬ ‫سأقول له‪ :‬اسمع‪ ،‬نحن عرب ونفهم بعضنا ً‬
‫بعضا‪ُّ .‬‬
‫وزدٌّ» وكفى‪ .‬أنا متأكد من أنه سيصغي فمن المفروض أنه قائد شجاع وهمام ويصغي‬
‫إلي بالتأكيد‪ ،‬وإذا لم يستمع فقد يحقُّ لي أن أسأل‬
‫للبشر‪ .‬وأنا فلسطيني‪ ،‬سيستمع ّ‬
‫ساعتها‪ :‬فما الذي جرى‪ ،‬يا ترى؟‬
‫كل الذي أطلبه منه هو أن يبتعد عن هنا‪ .‬ال تعقيد في األمر‪ .‬يمكنه أن‬‫أصال‪ُّ ،‬‬
‫يصوّب حممه نحو الخضيرة أو العفولة أو حتى نتانيا‪ .‬ما السيئ في هذه المدن؟‬
‫«تصطفل» يا أخي‪ .‬لماذا حيفا بالضرورة؟ فحيفا مليئة بالعرب‪ .‬تجدهم في ِّ‬
‫كل مكان‪:‬‬
‫في المقاهي والبارات والمساجد والكنائس والشوارع والباصات‪ .‬الباصات! الباصات‬
‫ورواد‬
‫َّ‬ ‫مليئة بالعرب يا أخي‪ ،‬تنغل نغلًا‪ ،‬تطفح طفحً ا‪ ،‬تفيض ً‬
‫فيضا‪ .‬والعرب فقراء‬
‫الباصات من الفقراء‪ .‬والفقراء هم الذي يأكلون الخراء في دولة اليهود وأول من‬
‫ّ‬
‫يتسخمون تاريخ ًيا‪ .‬يأكلون وال يجدون الحلوى لترطيب أفواههم‪ .‬سأقول له ذلك‪ ،‬وهو‬
‫سيفهمني بالتأكيد‪ .‬ال بد أن يفهمني‪ .‬فأنا فلسطيني مثلي مثله‪ ،‬والفلسطيني للفلسطيني‬
‫وعضد‪ .‬وك ُّلنا في الهواء سواء‪ ،‬ولنا في البرتقالة ش َّقان ال يفترقان‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وعون‬ ‫ٌ‬
‫سند‪،‬‬
‫فنحن الفلسطينيين‪ ،‬على اختالف مشاربنا ومذاهبنا وانتماءاتنا الجغرافية‪ ،‬مثلنا كمثل‬
‫هدية لعيد ميالده‪ .‬فما كان منه في اليوم‬‫ً‬ ‫المرأة التي اشترت لزوجها ربطتي عنق‪،‬‬
‫ً‬
‫مندهشة‪:‬‬ ‫التالي إال أن ارتدى إحدى الربطتين الجديدتين‪ .‬فلما رأته زوجته قالت‬
‫َ‬
‫فأسقط في يده وقلبه ولسانه!‬ ‫لماذا تلبس هذه‪ ،‬ألم تعجبك الثانية؟‬

‫‪162‬‬
‫تعايُش‬

‫فمن جهة‪ ،‬وأنا أحسبها اآلن‪ ،‬قد يجوز أن الصواب في أن أبعث إليه برسالة‪ ،‬بدال‬
‫من الهاتف‪ .‬فقد يتذرع بأن الهواتف مراقبة‪ ،‬أو قد يقول مساعده إنه ال يتحدث في‬
‫الهواتف ليصعّب عليهم معرفة مكانه‪ .‬ولكنني أعتقد أنهم يعرفون مكان سكناه‪ .‬فهذه‬
‫ه ِّينة ً‬
‫جدا‪ .‬ولكن قد يكون أنه ال يبيت في بيته أو أنه دائم التنقل من مكان إلى آخر‬
‫ُ‬
‫فاستحسنت الفكرة والمؤدى‪.‬‬ ‫لتفادي أخطارهم‪،‬‬
‫قر اآلن على أن أبعث له برسالة‪ .‬أخرجت دفتر الخربشات األصفر‬ ‫المهم‪ّ ،‬‬
‫أن قراري ّ‬
‫كل اإلخالص وكتبت‪:‬‬ ‫والقلم األسود الذي أكنّ له َّ‬
‫«إلى حضرة القائد المحترم‪،‬‬
‫تحية وبعد‪.‬‬
‫الموضوع‪ :‬أنا أكره العمليات في حيفا‪.‬‬

‫شك في أن حضرتكم يعلم أن هناك أكثر من ‪ 35.000‬عربي يسكنون في حيفا‪.‬‬ ‫ال ّ‬


‫شك ً‬
‫أيضا في أنك تعرف أن الشباب الفلسطينيين الذين تبعثون بهم لينفجروا في‬ ‫وال ّ‬
‫شوارع دولة اليهود‪ ،‬يفجرون أنفسهم أحيانًا في شوارع حيفا‪.‬‬
‫ِّ‬
‫تشكك في وطن َّيتي وإخالصي للقضية‪ .‬أنا فلسطيني‬ ‫أيها القائد العزيز‪ ،‬أرجوك أال‬
‫ملتزم وبحماس منقطع النظير‪ .‬ولكن هل سيكون مبال ًغا به لو طلبت من حضرتكم أال‬
‫ترسلوا الشباب إلى حيفا؟ ليس ألنني أخاف على حياتي شخص ًيا‪ِّ ،‬‬
‫صدقني‪ .‬ولكنني ال‬
‫أحب َّ‬
‫كل األحاديث التي تدور بعد ذلك عن «التعايش» بين اليهود والعرب في حيفا‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫أكرهها كما أكره البحر ورائحته‪.‬‬
‫أرجو أال تفهمني بشكل خاطئ‪ .‬ولك م ِّني بالغ التحيات والشكر‪»...‬‬
‫قرأت الرسالة بتم ُّعن‪ .‬أعجبني مقطع‪« :‬وبحماس منقطع النظير»‪َّ ،‬‬
‫ألن فيه كلمة‬ ‫ُ‬
‫بد أنها ستؤثر فيه‪ ...‬في الالوعي‪ ،‬أل َّنها‬
‫ولكن في سياق آخر‪ ،‬ولكن ال َّ‬
‫ْ‬ ‫«حماس»‬
‫مرة ثالثة‪ .‬ج ِّيدة‪ .‬ال أعرف إذا كنت‬ ‫َّ‬
‫المفداة‪ .‬قرأت الرسالة َّ‬ ‫اسم حركته وحبيبته‬
‫سأبقي على قضية أ َّنني أكره البحر ورائحته‪ .‬فقائدنا غزَّ اوي وقد يكون مغرمًا‬
‫بالبحر والساحل‪ ،‬على عكسي‪ ،‬أنا الفالح المتقاعد‪ ،‬سليل الجبال والوديان والتالل‪،‬‬
‫دوامة النزاع األزلي بين أهل‬
‫مفتقر أليِّ رأسمال‪ .‬وأنا بصراحة ال أريد أن أدخل في َّ‬
‫ٍ‬
‫بالمرة‪ُّ .‬‬
‫كل ما أطلبه اآلن هو‬ ‫َّ‬ ‫الساحل وأهل الجبل‪ .‬فهذا زائد اآلن وال يفيد ً‬
‫أحدا‪،‬‬
‫أن يولي طلبي األهمية الالئقة‪ ،‬وأن ينظر إليه بعين الرضى والتف ُّهم‪ .‬ولذلك فإنني‬

‫‪163‬‬
‫عالء حليحل‬

‫سأحذف قض َّية البحر‪.‬‬


‫علي االستغناء عن مقطع‪«...‬الشباب‬ ‫للمرة الرابعة‪ .‬جيدة‪ .‬قد يجوز َّ‬
‫أن َّ‬ ‫قرأت الرسالة ّ‬
‫الفلسطينيين الذين تبعثون بهم لينفجروا في شوارع دولة اليهود‪ ».‬فقد يرى‬
‫مباشر ا له ولحركته‪ .‬وهذا سيخلق ال شك‬‫ً‬ ‫ً‬
‫ونقد ا‬ ‫في هذا المقطع تقيي ًما م ِّني‬
‫تو ُّت ًرا غير مطلوب وغير محمود اآلن‪ .‬ماذا يعنيني اآلن إذا كانوا هم من يرسلون‬
‫ويتوسلونهم أن يكونوا اآلتين في الدور‬
‫َّ‬ ‫الشباب أم أن الشباب هم من يطلبون منهم‬
‫أبد ا‪ .‬صحيح أ َّنني فلسطيني‪ ،‬ولك َّنني أقطن في حيفا‪ ،‬وال‬
‫إلى الج َّنة؟ ال يعنيني ً‬
‫أعرف حيثيات وتراكمات اإلسقاطات الحتم َّية لما يعانيه إخوتي في المناطق‬
‫َّ‬
‫المحتلة‪ .‬والذي يده في النار ليس كمن يده في الماء‪ .‬ومن يأكل العصي ليس كمن‬
‫يعدُّ ها‪ ...‬والذي يأخذ أ ِّمي‪ ،‬ال يكون إال ع ِّمي‪ .‬فقلت‪ :‬أشطب هذا المقطع‪ ،‬فشطبته‪.‬‬
‫عما كتبته ولك َّنني‬ ‫للمرة الخامسة‪ .‬كنت في ً‬
‫رض ًى شبه تام َّ‬ ‫ّ‬ ‫ثم قرأت الرسالة‬
‫رأيت من المناسب أن أتنازل عن مقطع‪« :‬أرجو أال تفهمني بشكل خاطئ»‪ ،‬ألنه‬
‫للمرة‬ ‫أن فهمه ال يستوعب ما أقوله‪ ،‬وهذا سيئ ً‬
‫جدا في مراسلة تتم ّ‬ ‫قد يُشتم منه َّ‬
‫أن ما فعلته حس ًنا‪ ،‬فانفعلت‪.‬‬
‫األولى بين فلسطينيين‪ .‬فحذفت المقطع‪ ،‬ورأيت َّ‬
‫وشر البالء أسرعه‪ ،‬والشطيرة‬
‫ُّ‬ ‫مرة سادسة‪ .‬فالعجلة من الشيطان‬ ‫فقلت‪ :‬أقرأها ّ‬
‫محشوة بالبصل‪ .‬ناديت عليه بهدوء وطلبت منه أن‬
‫َّ‬ ‫التي أحضرها النادل اآلن‬
‫دس زميلي‬ ‫ً‬
‫مطبوخا‪ .‬فمنذ أن َّ‬ ‫يفرغها من البصل ألنني ال أحب البصل النيء‪ .‬أحبه‬
‫إ َّياه‪ ،‬فحل البصل إ َّياه‪ ،‬في المظاهرة إ َّياها‪ ،‬في فمي إ َّياه‪ ،‬بعد إطالق الغاز المُ سيّل‬
‫للدموع إ َّياه‪ ،‬وأنا أكره البصل النيء‪ .‬أذكر اآلن أنني تق َّيأت أمعائي على أرض فلسطين‬
‫التاريخية‪ ،‬ليس من الغاز‪ ،‬بل من قطع البصل الكبيرة التي علقت في منخريَّ‬
‫وقصبتي الهوائية‪ .‬وهكذا صرت أكره البصل‪ ،‬بحيث لم يكن رفضي له ت َبرجُ ًزا‬
‫غرة‪ ،‬بل كان رفضي‬
‫لحفظ رائحة فمي للحظات الحميمية التي قد تدهمني على حين َّ‬
‫علي شه َّيتي‪.‬‬
‫نابعًا عن مظاهر بوست‪ -‬صدامية تدهمني على حين غرة فتفسد َّ‬
‫مرة‬
‫وعندما تأخر النادل في تنقية شطيرتي من البصل النيء قلت‪ :‬أقرأ الرسالة ّ‬
‫ظن أنها من «الشاباك» المخابراتي؟ هذا‬ ‫ُ‬
‫فتوجست قليلًا‪ .‬فماذا لو َّ‬ ‫سابعة‪ ،‬فقرأتها‪.‬‬
‫ً‬
‫توريطا له في مأزق سياسي‪ .‬تعالوا نحسبها‪:‬‬ ‫ً‬
‫تجربة ما أو‬ ‫جائز ً‬
‫جدا‪ .‬فقد يرى فيها‬
‫ً‬
‫معارضة‪ ،‬إن لم تكن‬ ‫لو أنه استجاب للرسالة وأوقف العمليات في حيفا فإنه سيلقى‬
‫ً‬
‫عاصفة فإنها ستكون ب َّن ً‬
‫اءة ال شك‪ .‬فكيف يمكن استثناء حيفا من أهداف العمليات‬

‫‪164‬‬
‫تعايُش‬

‫التفجير َّية‪ /‬االنتحار َّية‪ /‬االستشهاد َّية‪ /‬النوع َّية؟ أفي براز حيفا خرزة زرقاء؟ ومن‬
‫بأن هذا الطلب ليس إال تمويهًا لمؤامرة «فتحاوية»‬ ‫جهة أخرى قد يطيب االعتقاد َّ‬
‫تر كيف فعل‬
‫تسعى لشهر عرضه في شوارع القدس‪ -‬مدينة الصالة‪ .‬بمعنى‪ :‬ألم َ‬
‫شيخك بأصحاب العويل‪ ،‬فجعلهم في تهليل (والتهليل للطبطبة)؟‬
‫قلت أحملها إلى صديقتي التي لم تعد صديقتي‪ ،‬مع‬ ‫ً‬
‫حيرة‪ُ .‬‬ ‫بعد القراءة الثامنة تأ َّب ُ‬
‫طت‬
‫أنها صديقتي‪ ،‬ولتحكم هي‪ .‬فهي تقرض القانون والقضاء وفيها من الحكمة والحنكة‬
‫ُ‬
‫وأسالكه من عجين‪.‬‬ ‫ً‬
‫أمثولة للرائين‪ ،‬طي ُنه من طين‪،‬‬ ‫ما قد يجعل الجدار الفاصل‬
‫إلي كعادتها‪ ،‬فتطارحنا العتاب وقلت أسألها‪ ،‬فسأل ُتها‪ .‬فقرأت‬
‫فلما أمسى المساء جاءت َّ‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫الرسالة وقالت من دون ريب‪ :‬حمار! فقلت‪ :‬ولماذا؟ فقالت‪ :‬و«الشاباك؟» قلت‪ :‬ما‬
‫أن لك مشورة عند الشيخ‪،‬‬ ‫له «الشاباك؟» قالت‪ :‬إذا قبضوا على الرسالة سيظنُّون ّ‬
‫بكاءات في قفصه الصدري‪ .‬فقلت‪ :‬فاتتني هذه واهلل‪ ،‬فقالت‪ :‬يفوتك الكثير‬‫ولرغباتك َّ‬
‫ُ‬
‫فتجاهلت تلميحها‪،‬‬ ‫ً‬
‫غليظا إلى فراقنا األخير‪،‬‬ ‫وال تتعلم‪ .‬فلمحت في جوابها تلميحً ا‬
‫لتلميحاتهن وأردفت بنبرة أقوى‬
‫َّ‬ ‫استسالمهن لتجاهلك‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫فحذت حذو النساء في عدم‬
‫َّ‬
‫وأشد من األولى‪ :‬حمار!‬
‫مت شطر وادي النسناس العربي ُ‬
‫القحّ‬ ‫يم ُ‬
‫فلما أصبح الصبح وأنا في عداد الحمير‪َّ ،‬‬
‫يصح بعد‬
‫طاجن من الحمّ ص والفول ألعود للنوم بعد الموقعة‪ ،‬فال ُّ‬
‫ٍ‬ ‫وقلت‪ ،‬أفطر على‬
‫الحمّص والفول إال النوم‪( .‬وفي رواية أخرى‪ :‬ال يصحّ إال الغطاط في النوم‪ ،‬واألمران‬
‫منهمكا في ضرب الحصار المحكم بقطعة الخبز المحكمة على‬ ‫ً‬ ‫سِ َّيان)‪ .‬وفيما ُ‬
‫كنت‬
‫المضمخة بدم الزيتون‪ ،‬فاجأني صوت المذيع المتلفز يعلن‬
‫َّ‬ ‫بقعة الزيت الخضراء‬
‫عاجل بعبر َّية سام َّية طلقة‪ :‬انفجار في حيفا! يا إلهي‪ ،‬يا إلهي‪ ،‬انفجار‬
‫ٍ‬ ‫خبر‬
‫ٍ‬ ‫عن‬
‫ُ‬
‫لست حما ًرا‪ ،‬أي َنها لتعتذر ملء‬ ‫يصح ذلك؟ أينها لترى أنني‬
‫في حيفا! إخص!! إذ كيف ُّ‬
‫مهانتها عن ملء مهانتي؟ لو كنت أرسلت الرسالة إلى الشيخ لما حصل ما حصل! يا‬
‫إلهي‪ ،‬ستطوف ً‬
‫غدا الطواقم المتلفزة والورقية واألثيرية في حيفا‪ ،‬هنا‪ ،‬قرب مطعم‬
‫الحمّص والفول‪ ،‬لتسأل العرب عن شعورهم حول العملية وما إذا كان ذلك سيؤثر‬
‫غامسا‬
‫ً‬ ‫كل ذلك وأنا ما ُ‬
‫زلت محك ًما القبضة على بقعة الزيت الخضراء‪،‬‬ ‫على التعايش‪ُّ .‬‬
‫عيني في التلفاز‪ :‬العملية في الباص المؤدِّي إلى الجامعة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يدي في الصحن‪ ،‬ومثب ًتا‬
‫وأخي في الباص المؤدِّي إلى الجامعة‪.‬‬
‫هرولت إلى الشارع مضطربًا‪ ،‬وعندها فقط تأكدت من أنها على حق‪ .‬فأنا حمار‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫عالء حليحل‬

‫كنت اآلن أركض في الشارع‬ ‫اقتنعت بابتهاالتها لكي أقتني ً‬


‫هاتفا محمولًا لما ُ‬ ‫ُ‬ ‫لو ُ‬
‫كنت‬
‫كاألبله أبحث عن هاتف عمومي أبله يحملني عبر الخطوط البلهاء إلى حضن صوت‬
‫ُ‬
‫وقلت‪ :‬أعود إلى المطعم‪،‬‬ ‫كللت من البحث ا َّت ُ‬
‫كلت على الباري‬ ‫ُ‬ ‫أخي الدافئ‪ .‬فلما‬
‫ُ‬
‫جلست جاءت صاحبة المطعم وقالت‪ :‬قهوة؟ فقلت لها‪ :‬الحساب‪ .‬فقالت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫فعدت‪ .‬فلما‬
‫ويم ُ‬
‫مت صعودًا نحو بيتي الكائن عند‬ ‫كذا وكذا‪ ،‬فنقدتها كذا وكذا من الشيكالت َّ‬
‫بشر‪ .‬فقلت‪ :‬الحمد أنك بال‬ ‫ُ‬
‫وجدت أخي‪ ،‬لم يمسسه ٌ‬ ‫أسفل قدمي الكرمل‪ .‬في البيت‬
‫دنس من الدماء‪ ،‬فقال‪ :‬والحمد أنك كذا‪ .‬فارتحنا وجلسنا نرقب الدماء على الدماء‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ثم قال‪ :‬اتصلوا بك من الجريدة العبرية‪ .‬يريدون أن يسألوك عن تأثير العملية على‬
‫حذار من جوعي ومن غضبي!‬‫ِ‬ ‫ُ‬
‫فقلت‪ :‬قل لهم‬ ‫التعايش بين العرب واليهود في حيفا‪.‬‬
‫ُ‬
‫وأنشدت لبقعة الزيت‬ ‫وتحس ُ‬
‫رت على صحن الحمّ ص بالفول الذي لم أنتهكه إال قليلًا‪،‬‬ ‫َّ‬
‫الخضراء األصلية‪ ،‬ما أنشده الشاعر‪:‬‬

‫وبيض الهند تقطر من دمي‬ ‫ ‬ ‫ٌ‬


‫نواهل مني‬ ‫ولقد ذكرتك والرماح‬
‫المتبس ِم‬
‫ّ‬ ‫لمعت‪ ،‬كبارق ثغرك‬ ‫ُ‬
‫فوددت تقبيل السيوف ألنها ‬

‫من كتابه "االب واالبن والروح التائهة"‪ ،‬رواية قصيرة وخمس قصص‪ ،‬دار العين‪ ،‬القاهرة ‪2008‬‬

‫‪166‬‬
‫فايزة غوين‬

‫قصة قصيرة‬

‫ميمونة‬

‫‪ -1‬الصرخة‬

‫ً‬
‫كبيرة‪.‬‬ ‫ً‬
‫صرخة‬ ‫ُ‬
‫أطلقت‬
‫حد أ َّنها اصطدمت بالسقف‪ ،‬قبل أن تتناثر على أرضية‬ ‫ً‬
‫قوية إلى ِّ‬ ‫ً‬
‫صرخة‬ ‫كانت‬
‫َّ‬
‫المبلطة‪ ،‬كما تسقط آالف الكريات الرصاصية‪.‬‬ ‫الغرفة‬
‫ومكدرة‪ ،‬أكثر َّ‬
‫حدة مما يمكنكم أن تتخيلوه‪ .‬صرخة من‬ ‫َّ‬ ‫صرخة حادة‪ ،‬مزعجة‬
‫الوزن الثقيل‪ ،‬من نفس نوع «المدافع الصوتية» التي يستخدمها اليوم شبه العسكريين‬
‫أو الشرطة بهدف إبعاد العد ٍو‪ .‬صرخة مبرمجة كي تحدث زلزالًا‪.‬‬
‫أظهرت النسوة المهتاجات حولي بعض الرضى‪ ،‬بل االرتياح‪.‬‬
‫يتحسن‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫خانق‪ .‬أكاد أختنق وال‬ ‫والحر‬
‫ُ‬ ‫الجو‪،‬‬
‫َّ‬ ‫أالحظ َّ‬
‫أن رائحة لحم قوية اجتاحت‬
‫الوضع مع كل هذه الجلبة‪.‬‬
‫البراق‪ ،‬والوجه‬
‫كما أن هناك هذه المرأة الشا َّبة‪ ،‬المرتعشة قليلًا‪ ،‬ذات الجبين َّ‬
‫مرة‪.‬‬
‫إلي ألول ّ‬
‫الوردي‪ ،‬وعيناها تتدفقان بالدموع وهي تنظر َّ‬
‫نحن في ‪ 19‬أغسطس ‪ ،1947‬لقد وُ ل ُ‬
‫ِدت‪.‬‬
‫«بعد الوالدة بداية الموت» تيوفيل غوتيي‪ ‬‬

‫‪167‬‬
‫فايزة غوين‬

‫‪ -2‬بداية الموت‬

‫إذا سألتموني لماذا يبدأ المر ُء بالصراخ‪ ،‬ما إن يخرج‪ ،‬حتى تكاد حنجرته تتمزَّ ق‪،‬‬
‫فسأجيبكم بال َّتالي‪ :‬هل تتذكرون ما يشعر المرء به بعد تسعة أشهر قضاها في‬
‫العتمة؟‬
‫درجة خالل هذه‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫شعرت بالعزلة إلى أقصى‬ ‫ٌ‬
‫طويل‪ .‬لقد‬ ‫زمن‬
‫أولًا‪ :‬تسعة أشهر هو ٌ‬
‫التحوالت العديدة التي جرت‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫وحيدة‪ ،‬تجربة‬ ‫ً‬
‫مرغمة على أن أعيش‪،‬‬ ‫الفترة‪ .‬كنت‬
‫ً‬
‫جديدة تنمو في‬ ‫بشكل مستمرٍّ ‪ ،‬أشيا َء‬
‫ٍ‬ ‫كنت أالحظ‪،‬‬‫بشكل يصيب بالدوار‪ُ .‬‬‫ٍ‬ ‫في داخلي‬
‫مقلق بالفعل‪ .‬تخ َّيلوا أ َّنكم تكتشفون‬
‫ٌ‬ ‫ا‪...‬أمر‬
‫ٌ‬ ‫ِّ‬
‫كل مكان‪ :‬ذراعين‪ ،‬ساقين‪ ،‬أصاب َع وشعْ ًر‬
‫قدمًا‪ .‬وانتهى بي األمر‬ ‫كل صباح‪ ،‬وأنتم تنظرون إلى أنفسكم في المرآة‪ ،‬أن أذنًا أو َ‬
‫بد من القول إن ذلك كان جميلًا ومرت ًّبا‬ ‫إلى أن أعتاد على ذلك كسائر األمور‪ .‬ثم ال َّ‬
‫أتذكر‪ ،‬بشكل‬ ‫ً‬
‫معجبة بالنوع َّية وبد َّقة األبعاد‪َّ .‬‬ ‫ُصدق‪ُ .‬‬
‫كنت‬ ‫بشكل رائع‪ ،‬بشكل ال ي َّ‬
‫ُ‬
‫عرفت األشياء‪.‬‬ ‫ُ‬
‫اكتشفت فيها يديَّ ‪ .‬في ذلك اليوم‬ ‫خاص‪َّ ،‬‬
‫اللحظة التي‬
‫إن المكان كان مريحً ا‪ .‬لقد نعِمت‬ ‫لقد ُ‬
‫نمت في معظم األحيان‪ .‬من اإلنصاف القول َّ‬
‫ً‬
‫عذوبة في حياتي‪ ،‬خصوصً ا في األشهر األولى‪ ،‬إذ كان المكان ما يزال‬ ‫بأكثر القيلوالت‬
‫ُّ‬
‫التمطط‪ .‬غدا األمر أكثر إجهادًا بعد ذلك‪ .‬وبسرعة ازددت‬ ‫فسيحً ا‪ ،‬وكنت أستطيع‬
‫ً‬
‫محشورة بصراحة‪.‬‬ ‫ميليمترات ثم سنتمترات‪ ،‬وفي النهاية ُ‬
‫كنت‬
‫العالم الخارجي‪ ...‬نعم‪ ،‬لدينا فكرة حدسية عنه‪ :‬إحساس‪ ،‬عالمات‪ ،‬بل ح َّتى بعض‬
‫اليقين َّيات‪.‬‬
‫أحد يصل إلى هنا بمحض المصادفة‪.‬‬ ‫أخيرا‪ :‬ال َ‬‫ً‬
‫كنت أتر َّقب مستقبلًا أتو َّقعه مُظل ًما‪ .‬وبال َّتالي كنت أستفيد‬
‫ُ‬ ‫كنت جني ًنا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫منذ‬
‫ً‬
‫مدركة أن هذا‬ ‫ً‬
‫عائمة في الج ِّو الرطب‪،‬‬ ‫من هذا العالَم المُ ْط َمئِن خالل إقامتي تلك‪،‬‬
‫الشعور باألمان لن يدوم‪.‬‬
‫ً‬
‫كنت أمتلك‪ ،‬لحسن الحظ‪ ،‬بعض العالمات‪ :‬أصواتًا أص َبحت مع الوقت مألوفة بالنسبة‬
‫ً‬
‫ركلة‬ ‫وج ُ‬
‫هت‬ ‫مما أسمعه أحيانًا‪ ،‬حدث أن َّ‬‫إلي‪ .‬فضلًا عن ذلك‪ ،‬أنني بسبب االنزعاج َّ‬
‫ً‬
‫عديدة‪،‬‬ ‫ات‬
‫مر ٍ‬ ‫ُ‬
‫أطلقت العنان لغضبي‪َّ ،‬‬ ‫ً‬
‫صارخة إلى أحد الجدران المحيطة بي‪ .‬لقد‬
‫لكن احتجاجاتي َّ‬
‫ظلت غير مفهومة‪،‬‬ ‫ضد جدران ما أسميته «غرفتي المؤ َّقتة»‪َّ .‬‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫قوية منذ البدء‪.‬‬ ‫بد أ َّنهم اعتبروني‬
‫لألسف‪ ،‬بل إنها أثارت البهجة‪ .‬ال َّ‬

‫‪168‬‬
‫ميمونة‬

‫ٌ‬
‫كثيرة ال نفهمها‪ .‬وال يمكن أن نمنع أنفسنا من التساؤل‪ :‬لماذا أتينا إلى‬ ‫ثمة أشيا ُء‬
‫َّ‬
‫أي مصادفة جعلتنا نجد أنفسنا في هذه القرية‪ ،‬في حضن‬
‫مكان آخر‪ُّ .‬‬
‫ٍ‬ ‫هنا وليس إلى‬
‫َّ‬
‫نتحدث هذه اللغة ونحمل هذا التاريخ؟‬ ‫هذه العائلة‪،‬‬
‫بمشيئة‬
‫ٍ‬ ‫بالتالي من أجل ن ْيل جواب على كل هذه األسئلة‪ ،‬يوجد خياران‪ :‬اإليمان‬
‫الدقة‪َّ ،‬‬
‫كل هذه الظروف وفق هدف نهائي‪ .‬أو قرار االتِّكال على‬ ‫ص َنعت‪ ،‬عبر ٍ‬
‫نظام بالغ ِّ‬
‫ما نسميه جميعًا المصادفة‪ ،‬مع كل ما َّ‬
‫يتطلبه األمر من عبء‪ :‬العيش مع نفس األسئلة‬
‫التي تنهال علينا دونما انقطاع‪ ،‬وهذا حتى النهاية التي ال يجهلها أحد‪.‬‬
‫بحزم‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ًإذا فأنا أؤمن‪،‬‬
‫تظل أسئلتي من دون أجوبة‪.‬‬ ‫أحب أن َّ‬
‫فأنا‪ ،‬مثل الكثيرين‪ ،‬ال ُّ‬
‫وضعتني إحدى النساء المس َّنات‪ ،‬التي تحمل وش ًما على جبهتها‪ ،‬على صدر أ ِّمي‬
‫الساخن‪ .‬أحسست بقلبها يخفق اضطرابًا‪ .‬بدت أ ِّمي نحيفة القوام ويافعة‪ ،‬الحظت‬
‫َ‬
‫السكوت‪،‬‬ ‫عندئذ طلَبت منها المرأة العجوز الموشومة‬
‫ٍ‬ ‫أ َّنها ال تزال تبكي‪ ،‬كالطفلة‪،‬‬
‫السرة وقطعته‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مثلما يُطلب من طفلة‪ .‬امرأة عجوز أخرى‪ ،‬بال أسنان‪ ،‬أمسكت بحبل‬
‫نظفتني بقطعة من قماش خشن تغمسه بماء‬ ‫رفعتني كي تحملني إلى الحوض‪ ،‬حيث َّ‬
‫ساخن‪ ،‬كان األمر مزعجً ا‪ ،‬وكان القماش ُّ‬
‫يحك جلدي‪.‬‬
‫ونظرت إلى يدي المرأة العجوز‪ .‬كانتا رقيقتين‪ ،‬وناتئتي العظام وعليهما بقع‬
‫ضاربة إلى السمرة‪ .‬وكانت من حين آلخر تعيد خصلة من شعرها الرمادي إلى‬
‫داخل خمارها الملون‪.‬‬
‫أكثر من عشر نساء يتشاغلن من حول والدتي المسكينة‪.‬‬
‫ُجردةٍ تمامًا من َّ‬
‫اللحم‪ ،‬هياكل‬ ‫ي ِّ‬
‫ُذكر منظرهن بهياكل عظم َّية لدجاجات مُس َّنة‪ ،‬م َّ‬
‫عظمية مسنة تتقاذف فيما بينها أصواتَها الحادَّة من ركن إلى آخر في الغرفة‪ ،‬كما‬
‫بحبال ّ‬
‫معقدة األلياف‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫لو أ َّنها تتراشق‬
‫لهن أ ِّمي اليافعة المنهكة‪.‬‬
‫واستسل َمت َّ‬

‫ومرات‪ ،‬قمن بغسلها‪ ،‬وأنهضنها‪ ،‬وتحدثن إليها بصوت‬ ‫مرات َّ‬ ‫تتكرر َّ‬
‫َّ‬ ‫وبحركات‬
‫ٍ‬
‫منخفض‪ ،‬بينما واصلت المرأة العجوز‪ ،‬التي ال أسنان لها‪ ،‬عملية التنظيف‪ :‬دهنتني‬
‫بالصابون األسود‪ ،‬ص َّبت علي الماء الساخن‪َّ ،‬‬
‫غطتني بالح َّناء‪ ،‬ومن جديد ما ٌء ساخن‪،‬‬
‫بقماش‬
‫ٍ‬ ‫كامل‬
‫ٍ‬ ‫بشكل‬
‫ٍ‬ ‫وأخيرا‪ ،‬ل َّفتني‬
‫ً‬ ‫مغم ًسا بالكحل‪،‬‬
‫صغيرا َّ‬
‫ً‬ ‫مررت بين أجفاني عودًا‬
‫ثم َّ‬

‫‪169‬‬
‫فايزة غوين‬

‫ً‬
‫مانعة إ َّياي‬ ‫خاص ًة ًّ‬
‫جدا‪ ،‬فث َّبتت يديَّ بين طبقات النسيج‬ ‫َّ‬ ‫طويل مستخدمة تقن َّي ًة‬
‫ٍ‬
‫عندئذ من جيب معطفها منديلًا‬‫ٍ‬ ‫من وضعهما فوق وجهي‪ .‬وأخرجت المرأة العجوز‬
‫تمرة‪ ،‬قض َمت نصفها بصعوبة بواسطة لِ َثتها البائسة العارية‬‫ٌ‬ ‫صغيرا‪ ،‬في داخله‬
‫ً‬ ‫أبيض‬
‫ووضعت النصف الثاني من التمرة في فمي‪ ،‬بضع ثوان فقط‪ .‬وشعرت بمذاق لذيذ‬
‫وحلو‪ .‬وأنهت عملها وهي تتل َّفظ بأدعية ليحفظني اهلل قبل أن تضعني كموميا ٍء بين‬
‫تتجول‪ ،‬بحزن‪ ،‬في الفراغ ولم تعُد ُتعيرني أي انتباه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ذراعي والدتي‪ .‬كانت نظرتها‬
‫فجأة دخل ولد صغير إلى الغرفة‪ ،‬يحمل بيده عصا خشبية أطول منه‪ ،‬وكان شعره‬
‫وجه كالمه للمرأة العجوز‪ ،‬التي بال أسنان‪ ،‬والتي غسلتني‪،‬‬ ‫ً‬
‫منفوشا وأغبر‪َّ .‬‬ ‫المتجعد‬
‫ِّ‬
‫ويتكئ باليد األخرى على عصاه‪:‬‬ ‫وهو يلعب بيد بحاشية سرواله الرياضي القصير‬
‫«ما األمر يا أ ِّمي؟ بابا واآلخرون يسألون! لم يسمعوك‪».‬‬
‫استدارت‪ ،‬ألقت عليه نظرة حادَّة‪.‬‬
‫فجأة انحنت والتقطت صندال قذفته به كالعاصفة‪ .‬تفاداه بالكاد وضحك‪.‬‬
‫‪« -‬حس ًنا‪ ،‬إن لم يسمعوا شي ًئا‪ ...‬أفلم يفهموا؟ عُ ْد لرؤيته وقل له إنه ليس من‬
‫عندئذ‪ ،‬أليس كذلك؟ ه َّيا انصرف وأَعِ د العصا ألبيك!»‬
‫ٍ‬ ‫حاجة لذبح الثور‪ ،‬سيفهم‬
‫حركت الستارة الخضراء المزهرة‪ ،‬والتي تقوم مقام الباب‪ ،‬فظهرت‬ ‫نسمة خفيفة َّ‬
‫تتجول فيها الدجاجات وتقوقئ تحت شمس ملتهبة‪ .‬وبينما كان‬
‫َّ‬ ‫ساحة صغيرة‬
‫الرجل ‪ -‬الولد الصغير‪ -‬يبتعد‪ ،‬طرد الدجاجات وهو يقفز‪ ،‬وحاول ضربها بعصاه‬
‫الخشبية‪.‬‬
‫بجفني ثقيلين‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وأحس‬ ‫ٌ‬
‫‪ -‬أنا تعبة‬
‫ُّ‬
‫توجهت المرأة الموشومة بالحديث إلى والدتي بنبرةٍ جا َّفة‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪« -‬واسمها؟»‬
‫ً‬
‫لحظة وأجابت‪:‬‬ ‫في‬
‫تفرست َّ‬
‫وأخيرا‪ ،‬استدارت أ ِّمي نحوي‪َّ ،‬‬
‫‪« -‬ميمونة»‬
‫كن موجودات هناك‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫صمت ثقيل‪ ،‬ثالث أو أربع من النساء العجائز اللَواتي َّ‬
‫ٌ‬ ‫ساد‬
‫جديد وبحركة‬
‫ٍ‬ ‫التقطن لباس الحايك ولففن به أجسامهن‪ .‬أصبحن مجهوالت من‬
‫تجر‬
‫الجو الحار‪ ،‬ح َّي ْين بقايا الدجاجات قبل أن يختفين في بياض نسيجهن‪ُّ ،‬‬
‫حركت َّ‬‫َّ‬
‫َ‬
‫منهن هيكلها العظمي‪ .‬وسمحت لنا رقصة أخرى للستارة الخضراء المزهرة برؤية‬‫َّ‬ ‫كل‬ ‫ُّ‬
‫موكب الدجاجات العجائز وهو يخترق موكب الدجاجات الحقيقية‪ ،‬ذات الريش‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫ميمونة‬

‫‪ -3‬العودة‬

‫َك ْم أغبط عبد الحق‪.‬‬


‫الصوفي األزرق‪ ،‬والذي كان‬‫الطفل الصغير ذو الشعر المنفوش‪ ،‬والسروال القصير ُّ‬
‫يتوجه إلى المدرسة التي تبعد ‪ 9‬كيلومترات‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫مجتهدا‪.‬‬ ‫يركض دون تو ُّقف‪ ،‬أصبح شابًّا‬
‫ويتوجه إلى أقصى العالم‪ .‬لم‬
‫َّ‬ ‫كل صباح قبل الفجر‪،‬‬‫من هنا‪ .‬يستيقظ قبل الديك‪َّ ،‬‬
‫العظمي الذي فقد أسنانه‪ ،‬تريده أن يتابع دراسته‪ .‬حاولت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الهيكل‬ ‫تكن أ ُّمه‪ ،‬كلثوم‪،‬‬
‫ثنيه عن الذهاب إلى المدرسة ِّ‬
‫بكل وسيلة‪ .‬لك َّنها َّ‬
‫كفت عن ذلك لحسن الحظ‪ .‬لقد‬
‫جدي أحمد‪ .‬لم َّ‬
‫يتبق منه سوى عصاه‬ ‫قدمت الكثير من التنازالت منذ وفاة زوجها‪ِّ ،‬‬
‫َّ‬
‫المعلقة بمسمار بالقرب من فرن الخبز‪.‬‬ ‫البائسة‬
‫ونسيت‪ :‬تب َّقى منه‪ً ،‬‬
‫أيضا‪ 15 ،‬اب ًنا‪.‬‬
‫ً‬
‫كبيرة‪ .‬ح َّتى إ َّنه كان‬ ‫ً‬
‫شهرة‬ ‫قيل عن جدي إنه كان ينجب أبنا ًء أقوياء‪ .‬وقد نال‬
‫ِّ‬
‫المتعلقة‬ ‫يُسأل إن كان يتناول غذا ًء مع َّي ًنا‪ .‬ال أستطيع فهم العرب بسبب قصصهم‬
‫يتعلق بالسحر‪ ،‬أو الحظ‪،‬‬‫ظلوا على قيد الحياة فاألمر ال َّ‬
‫كل أبنائه قد َّ‬
‫بالتط ُّير‪ .‬إذا كان ُّ‬
‫َّ‬
‫وجدتي خِ صبين‪،‬‬ ‫جدي‬‫ولكن بفضل اهلل‪ ،‬الذي جعل ِّ‬ ‫ْ‬ ‫أو شيء يكون قد شربه أو أكله‪،‬‬
‫ً‬
‫بشكل استثنائي‪ ،‬ومنح أبناءهما الخمسة عشر صحة ج َّيدة‪ 15 .‬ابنا! بذلك أجد أنه‬
‫كثير الدمدمة‪،‬‬
‫َ‬ ‫جدي عجو ًزا‬
‫من الجحود أن ينسبا لنفسيهما كل هذا الفضل‪ .‬كان َّ‬
‫يشكر اهلل رغم كل النعم التي أغدقها عليه‪ .‬لم تكن‬
‫ُ‬ ‫يشكو من كل شيء‪ .‬لم يكن‬
‫لكن قلبه‪ ،‬لألسف‪ ،‬هو الذي كان مجدبًا‪.‬‬
‫زوجته‪ ،‬وحدها‪ ،‬الخصبة‪ ،‬بل أراضيه أيضا‪َّ ،‬‬
‫كل يوم‪ ،‬كان منزلنا مرتفعًا‪ ،‬يشرف على األراضي والحقول‪،‬‬ ‫تتكرر َّ‬
‫َّ‬ ‫نفس الطقوس‬
‫وطريق أشجار الزيتون في وسطها‪ .‬كانت أمي تعرف الساعة التي يعود فيها ِّ‬
‫جدي‬
‫تترصده وهي تنشر الغسيل في فناء البيت‪ .‬كان من عادته‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫عادة من السوق‪،‬‬ ‫أحمد‬
‫أن يضع على رأسه رزة‪ ،‬وهي عمامة ذات لون فاقع‪ ،‬أصفر أو برتقالي‪ ،‬وعليه‬
‫وأحسها‬
‫َّ‬ ‫المهمة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫أحب هذه‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫كنت أساعد أ ِّمي في هذا العمل‪.‬‬ ‫ً‬
‫سهلة‪.‬‬ ‫كانت رؤيته‬
‫بالغة األهمية‪ .‬كان البغل المحمّل يصعد بصعوبة‪ ،‬وعلى ظهره ِّ‬
‫جدي‪ ،‬وهو يمضغ‬
‫التبغ كالعادة‪.‬‬
‫كانت الطريق طويلة ًّ‬
‫جدا وبالغة االنحدار‪ ،‬بحيث إنه من اللحظة التي تبدأ فيها‬
‫العمامة الصفراء في الظهور في األفق ح َّتى نزول ِّ‬
‫جدي عن ظهر بغلته‪ ،‬تكون أ ِّمي‬

‫‪171‬‬
‫فايزة غوين‬

‫ِّ‬
‫وتسخن الماء وتضع زيت‬ ‫َ‬
‫الخبز من الفرن‬ ‫قد أنهت واجباتها‪ .‬كان عليها أن تخرج‬
‫الزيتون في جفنة‪ ،‬وته ِّيئ الشاي وتمدد حصيرة الخيزران في الفناء‪ ،‬مع وسائد‪،‬‬
‫من أجل ظهره‪.‬‬
‫ِّ‬
‫وتخلصه من‬ ‫وحالما كان يربط بغله إلى جذع شجرة‪ ،‬كانت أ ِّمي تسرع لمالقاته‪،‬‬
‫سالله وتسبقه‪ ،‬كي تضعها قي المطبخ‪ ،‬ثم تعود لتساعد جدي على الجلوس‪ ،‬فتخلع‬
‫َ‬
‫قطعة ملح كبيرة‪ .‬ثم‬ ‫حذاءه وتضع قدميه في الماء الساخن‪ ،‬الذي وضعت فيه قبلًا‬
‫يحب غمسه في زيت الزيتون‪ .‬بعد‬
‫ُّ‬ ‫تقدم له الشاي والخبز الساخن الذي كان‬ ‫كانت ِّ‬
‫شوش هذه اآللية‬ ‫ِّ‬
‫كل هذا‪ ،‬يمكن أل ِّمي أن تركن للطمأنينة‪ .‬وإذا ما حدث خطأ صغير َّ‬
‫جدي يستشيط غض ًبا‪ ،‬وأحيانًا يبصق في وجه أ ِّمي‪.‬‬ ‫المتناغمة‪ ،‬كان ِّ‬
‫لم يكن العجوز والد أ ِّمي‪ ،‬بل كان حماها‪َ ،‬‬
‫والد زوجها‪ .‬ر َّبما كان األمر أكثر سوءا‪.‬‬
‫عبد الحق هو االبن الخامس عشر واألخير في هذه العائلة الكبيرة‪ُّ .‬‬
‫كل اآلخرين‬
‫كل حال‪ ،‬نبالغ إذ نقول «غادروا»‪ ،‬إذ أ َّنهم موجودون‬ ‫تزوجوا وغادروا البيت‪ .‬على ِّ‬
‫َّ‬
‫على بعد بضع مئات األمتار من هنا‪ ،‬وقد ش َّيدوا منازلهم الخاصة من الحجر‪ ،‬ومنحوا‬
‫ألنفسهم ما يشبه االستقاللية من خالل تشتُّتهم حول الحقول‪ .‬سوى واحد منهم‬
‫بعيدا ًّ‬
‫جدا‪ .‬وهو االبن الثامن‪ ،‬محمد‪ ،‬أبي‪ ،‬الذي يعيش‬ ‫ً‬ ‫ش َّتت روحه بالذهاب للعمل‬
‫في فرنسا‪ ،‬والذي لم أره قط‪ .‬نحن في شتاء سنة ‪ 1953‬وأنا أحيك له زوج جوارب‬
‫ً‬
‫سميكا بصوف خرافنا وبريشتي ديك أستخدمهما ص َّنارتين‪ .‬سيعود إلى الجزائر في‬
‫بداية الربيع‪ .‬وأنا أستعجل عودته‪     .‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪ -4  ‬المنفى األخير‬
‫‪ ‬‬
‫أخيرا أخذ كل األجوبة‬
‫ً‬ ‫قمة االهتياج‪ ،‬أنا ووالدتي‪ .‬سيتسنى لي‬ ‫حين عاد‪ ،‬ك َّنا في َّ‬
‫عن أسئلتي التي لم أتو َّقف عن طرحها على أ ِّمي‪َ ،‬طوال هذه السنوات‪ .‬ح َّتى اللحظة‪،‬‬
‫يخوف بها األطفال كي‬
‫لم يكن أبي بالنسبة لي حقيق ًيا أكثر من «األ ِّم الغولة» التي َّ‬
‫يظ ُّلوا هادئين‪ ،‬أو من جُ حا‪ ،‬الشخصية الهزلية‪ ،‬الذي ُت ْحكى مغامراته العجيبة في كل‬
‫العالم العربي‪ .‬كان أبي‪ ،‬بالنسبة إلي‪ ،‬إحدى هذه الشخصيات التي تسكن مخ ِّيلتي‪.‬‬
‫جدتي كلثوم شي ًئا‪ ،‬وتخلط َّ‬
‫كل‬ ‫َّ‬
‫تتذكر َّ‬ ‫لم أكن أعرف وجهه وال صوته وال ميوله‪ .‬وال‬

‫‪172‬‬
‫ميمونة‬

‫يتذكر المرء ُ‬
‫الط َرف عندما يكون لديه ‪ 15‬اب ًنا‪َّ ...‬‬
‫قصت‬ ‫َّ‬ ‫األشياء‪ .‬ليس من السهل أن‬
‫كل حال‪ ،‬حسب‬ ‫بعضا من هذه األشياء الصغيرة لك ِّني وجدتها تافهة‪ .‬على ِّ‬
‫علي أ ِّمي ً‬
‫َّ‬
‫ما عرفت لم يكن أبي ثرثا ًرا‪.‬‬
‫نترصد كما نفعل حين ننتظر عودة ِّ‬
‫جدي من السوق‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ك َّنا واقفين على عتبة الباب‬
‫أبي يقترب في ضباب الصباح‪ ،‬كما في الحلم‪ ،‬كان األمر رائعًا ومضطربًا في آن‪ .‬وجدته‬
‫جدتي بالبكاء وهي تجري نحوه‪ ،‬تتبعها أ ِّمي‪ .‬كان من العادي‬ ‫جميلًا ًّ‬
‫جدا‪ .‬انفجرت َّ‬
‫أمرا ناد ًرا‪ ،‬حتى كدت‬
‫رؤية أ ِّمي تبكي‪ ،‬أما رؤية جدتي كلثوم تذرف الدموع‪ ،‬فكان ً‬
‫أن ثمة علجومًا عجو ًزا يجثم على صدرها‪ ،‬ويجلس مكان قلبها‪.‬‬
‫أتصور َّ‬
‫ً‬
‫متنحية‪ ،‬كنت على غاية االستحياء‪ ،‬وهو‬ ‫ولكن قويًا‪ .‬بقيت‬
‫ْ‬ ‫قصيرا‬
‫ً‬ ‫كان العناق‬
‫الذي طلب مني أن َّ‬
‫أتقدم‪.‬‬
‫شجعتني أ ِّمي بترب ْيتة خفيفة على ظهري وقالت ألبي‪« :‬ها هي ميمونة! إنها‬
‫َّ‬
‫كثيرا!»‬
‫ً‬ ‫تساعدني‬
‫نعم‪ ،‬كان جميلًا ًّ‬
‫جدا‪ .‬بشارب أنيق ورقيق‪ ،‬وشفتين ممتلئتين‪ ،‬وحين ابتسم بدت‬
‫أسنانه فائقة الجمال‪.‬‬
‫ٌ‬
‫أسنان شنيعة فحسب‪ ،‬بسبب مضع التبغ‪،‬‬ ‫خالفًا ِّ‬
‫لكل أعمامي الذين لم تكن لهم‬
‫جدا قاتمة‪ ،‬تخفي كل أفواههم! فكأ َّنهم ألصقوا ذيل ٍ‬
‫بغل‬ ‫ولكن أيضا شوارب كبيرة ًّ‬ ‫ْ‬
‫على وجوههم! يا له من رجل جميل‪ ،‬أبي!‬
‫كما قلت ساب ًقا‪ :‬من البداية يوجد خياران‪ .‬اإليمان أو االعتقاد بالمصادفة‪.‬‬
‫يتوجب عليه الرجوع‪ ،‬بفضل رسالة‬
‫َّ‬ ‫عاد أبي قبيل الحرب ببضعة أشهر‪ .‬أدرك أ َّنه‬
‫ّ‬
‫(المتعلم الوحيد في العائلة) والتي يقول‬ ‫من أخيه عبد العزيز‪ ،‬كتبها عبد الحق‬
‫أخيرا‪ ،‬سنحصد الشعير‪ ».‬بطبيعة الحال‪ ،‬كان ُّ‬
‫كل‬ ‫ً‬ ‫فيها‪« :‬عليك العودة فو ًرا‪ ،‬أل َّننا‪،‬‬
‫هذا ألغا ًزا‪.‬‬
‫إذًا اندلعت الحرب‪ :‬الجوع‪ ،‬والصليب األحمر‪ ،‬والنفي إلى المغرب‪ ،‬والمدرسة‪،‬‬
‫والخوف‪ .‬هذا الجندي الذي وضع بندقيته على ُصدغ أخي الصغير مصطفى وكان‬
‫َّلما يتجاوز عمره بضعة شهور‪ ،‬وكان ينام على ظهر أ ِّمي‪ .‬قال الجندي‪« :‬يجب أن‬
‫نقتله اآلن قبل أن يكبر‪ ،‬ويلتحق باآلخرين في الجبل‪».‬‬

‫‪173‬‬
‫فايزة غوين‬

‫ثم الحرية‪.‬‬
‫بعد أن غ َّن ُ‬
‫يت هذه الكلمات‪ ،‬من أعماق روحي‪ :‬‬

‫‪١‬‬
‫قسما بالنازالت الماحقات‬
‫والدماء الزاكيات الطاهرات‬
‫والبنود الالمعات الخافقات‬
‫في الجبال الشامخات الشاهقات‬
‫نحن ثرنا فحياة أو ممات‬
‫وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر‬
‫فاشهدوا‪ ...‬فاشهدوا‪ ...‬فاشهدوا‪...‬‬

‫‪٢‬‬
‫ِّ‬
‫الحق ثرنا‬ ‫ٌ‬
‫جند في سبيل‬ ‫نحن‬
‫وإلى استقاللنا بالحرب قمنا‬
‫لم يكن يصغى لنا لما نطقنا‬
‫فا َّتخذنا ر َّنة البارود وزنا‬
‫وعزفنا نغمة َّ‬
‫الرشاش لحنا‬
‫وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر‬
‫فاشهدوا‪ ...‬فاشهدوا‪ ...‬فاشهدوا‪...‬‬

‫‪٣‬‬
‫يا فرنسا قد مضى وقت العتاب‬
‫وطويناه كما يطوى الكتاب‬
‫يا فرنسا َّ‬
‫إن ذا يوم الحساب‬

‫‪174‬‬
‫ميمونة‬

‫ِّ‬
‫فاستعدي وخذي م َّنا الجواب‬
‫إن في ثورتنا فصل الخطاب‬‫َّ‬
‫وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر‬
‫فاشهدوا‪ ...‬فاشهدوا‪ ...‬فاشهدوا‪...‬‬

‫‪٤‬‬
‫نحن من أبطالنا ندفع جندا‬
‫وعلى أشالئنا نبعث مجدا‬
‫وعلى أرواحنا نصعد خلدا‬
‫وعلى هاماتنا نرفع بندا‬
‫جبهة التحرير أعطيناك عهدا‬
‫وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر‬
‫فاشهدوا‪ ...‬فاشهدوا‪ ...‬فاشهدوا‪...‬‬

‫‪٥‬‬
‫صرخة األوطان من ساح الفداء‬
‫فاسمعوها واستجيبوا للنداء‬
‫واكتبوها بدماء الشهداء‬
‫واقرأوها لبني الجيل غدا‬
‫قد مددنا لك يا مجد يدا‬
‫وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر‬
‫فاشهدوا‪ ...‬فاشهدوا‪ ...‬فاشهدوا‪...‬‬
‫‪ ‬‬
‫متخصصا‪ .‬كان‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫تزوجت‪ ،‬في سن العشرين‪ ،‬عاملًا‬ ‫وطئت قدماي أرض فرنسا‪.‬‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫ويدخن السجائر طوال النهار‪ ،‬لك َّنه كان‬ ‫قصيرا وسمي ًنا‪ ،‬وكان أخرق بعض الشيء‬
‫ً‬
‫بالغ اللطافة‪ .‬كان ط ِّي ًبا دائ ًما‪ .‬هذا ما كنت أح ُّبه فيه‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫فايزة غوين‬

‫أظل معزولة‪ ،‬وحيدة‪َّ ،‬‬


‫كل الوقت‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وكنت ُّ‬ ‫كثيرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ما كان يضجرني فيه أ َّنه يشتغل‬
‫والحب واألهل‪،‬‬
‫َّ‬ ‫المنفى وقسوته‪ .‬أن يهجر المرء عائلة كبيرة‪ ،‬والفضاء الفسيح‬
‫والوطن‪ ،‬ويجد نفسه يقيم في الطابق العاشر من برج خراساني يحوي من الحزن‬
‫ٌ‬
‫هوايات‪ ،‬ووجدت من‬ ‫َّ‬
‫السكان‪ .‬لم أكن أعرف لغتهم ولم يكن لديَّ‬ ‫قدر ما يحوي من‬
‫بمكان أن يُل ِبس هؤالء الفرنسيون كالبهم معاطف أنيقة في الشتاء! وسقطت‬
‫ٍ‬ ‫الغرابة‬
‫ً‬
‫مريضة‪ ،‬كنت حاملًا بابني األول‪ ،‬ولم تكن لدي رغبة في أي شيء‪ ،‬وكان الهزال‬
‫إن األمر َّ‬
‫يتعلق باكتئاب عميق‪ .‬وكانت توقعاتهم متشائمة‬ ‫ظاهرا علي‪ .‬قال األطباء َّ‬
‫ً‬
‫بصددي وبصدد الرضيع‪.‬‬
‫َّ‬
‫كل يوم‪ ،‬في الساعة العاشرة والثانية بعد الظهر والسادسة مسا ًء‪ ،‬كانت راهبات‬
‫ط ِّيبات من كنيسة سانت –جيرمان يقمن بزيارتي‪ .‬لقد واسينني وقمن بحقني‬
‫ُخدرني ولم ُتفِدني حقنهن شي ًئا‪.‬‬
‫باإلبر‪ .‬كان الحزن ي ِّ‬
‫تحسنت حالتي‪ ،‬والتقيت نسا ًء أخريات‪ ،‬مثلي‪ .‬كان يجمعنا الحنين‬
‫َّ‬ ‫مع الزمن‪،‬‬
‫المشترك‪ .‬األطفال يكبرون وكان علينا مواجهة أشياء جديدة أكثر فأكثر‪ .‬انتهى بي‬
‫لكن بصعوبة‪ .‬‬ ‫األمر إلى أن أتعلم اللغة‪ْ ،‬‬
‫ً‬
‫طفلة صغيرة‪ .‬لحسن‬ ‫َّ‬
‫وتقدمت بنا السن‪ ،‬وتزوج األبناء‪ .‬ووضعت ابنتي البكر للتو‬
‫مختلف‪ ،‬وقد احتفلنا بهذا الميالد كما ينبغي‪ .‬ولو كنا نمتلك ثو ًرا‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الحظ أننا في زمن‬
‫جدة‪ .‬يا له من إحساس‬ ‫ُ‬
‫أصبحت بدوري َّ‬ ‫مرة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫لكنت أنا من يقوم بذبحه‪ .‬وألول َّ‬
‫غريب! لم أستطع منع نفسي من التفكير في َّ‬
‫جدتي كلثوم‪ ،‬رحمها اهلل‪.‬‬
‫استعرضت َّ‬
‫كل هذه الذكريات‪ ،‬ال أعتقد ح ًقا أن المصادفة هي التي ِّ‬
‫توجه حياتنا‬
‫بطريقة اعتباطية‪ ،‬وبأنِّي أتيت عن طريق ُقرعة ما دون سبب أو نتيجة‪ .‬مات والدي‪.‬‬
‫كان مؤم ًنا ورعً ا‪ ،‬ونقل َّ‬
‫إلي ح َّبه وإيمانه‪ .‬لوال هذا كنت سأقول لكم َّ‬
‫إن ليس للحياة‬
‫وإن ثمة معاناة ثقيلة الحمل مع بعض لحظات السعادة العابرة عديمة الجدوى‪.‬‬ ‫معنى‪َّ ،‬‬
‫يتغمده برحمته‪ ،‬وأذكر من‬
‫أنا جالسة القرفصاء بالقرب من قبره‪ ،‬أطلب من اهلل أن َّ‬
‫جديد ذلك اليوم الذي كان يصعد فيه بصعوبة‪ ،‬في الضباب‪ ،‬طريق أشجار الزيتون‪.‬‬

‫قصة غير منشورة‪.‬‬


‫ترجمها عن الفرنسية‪ :‬محمد المزديوي‬
‫مراجعة الترجمة‪ :‬د‪ .‬سحر سعيد‬

‫‪176‬‬
‫كمال الرياحي‬

‫مقطع من رواية‬

‫المشرط‬

‫لماذا ال يكون الجاني امرأة؟‬

‫دراجة نار َّي ًة‬ ‫ً‬


‫خوذة ويركب َّ‬ ‫ِّ‬
‫تؤكد الصحف استنادا إلى الشهود أن الجاني كان يلبس‬
‫الدراجات الحمراء من ذلك الصنف المذكور‬ ‫وأكد استطالع للرأي أن معظم َّ‬ ‫حمراء‪َّ .‬‬
‫على ملك فتيات من الوسط الراقي‪ .‬بل إن واحدة من الضحايا قالت إنها سمعت صوتًا‬
‫أنثويًا يصيح بها قبل أن يخترق المشرط سروالها الجـينز ويذبح مؤخرتها‪ ،‬وقالت‬
‫صغيرا مما يرجّ ح أنه‬
‫ً‬ ‫أخرى – قبل أن تتراجع عن شهادتها‪ -‬إن حجم الجاني كان‬
‫شاب ضعيف البنية أو فتاة‪ .‬أما بقية الضحايا فقد أكدن أ َّنه ليس هناك من شك في‬
‫أن الجاني رجل‪« ،‬ال يمكن للمرأة أن تفعل ذلك بامرأة مثلها‪ ،‬هذه العدوانية ال تكون‬
‫إال عند الرجال‪ ،‬إنها سادية الرجال ال شك في ذلك»‪ ،‬هكذا َّ‬
‫حللت القض َّية اآلنسة‬
‫غشام أستاذة علم النفس ِّ‬
‫بكل َّية العلوم اإلنسانية‪ ،‬أطالت في مقالها الحديث عن‬ ‫ليلى َّ‬
‫الساد َّية ومفهومها‪:‬‬
‫«جاء مصطلح السادية الذي دخل لغة العامة نسبة إلى النبيل الفرنسي المركيز‬
‫دو ساد (‪ .)1814-1740‬لقد بدأ دو ساد سيرته المنحرفة عندما استمال صب َّية من‬
‫الشارع وأحضرها بيته الصيفـي ثم ق َّيدها هناك ونزل بها ضربًا بالسكين‪ ،‬بعدها قتل‬
‫امرأتين من بائعات الهوى عندما قدم لهما جرعة من «الناعوظ» السام‪ .‬لقد قاده هذا‬
‫إلى سجن دام ‪ 27‬عامًا‪.‬‬
‫ال يمـكن أن يكـون الجاني إال رجلًا‪ .‬لو عدنا إلى كتب علم النفس التحليلي سنرى‬
‫لذته من إذالل «الشريك» ورميه في بؤرة االنحطاط والقذارة‪،‬‬ ‫أن السادي يستمدُّ َّ‬
‫وألنه توجد ساد َّية فكر َّية خالصة ً‬
‫أيضا والتي تكون برسائل التهديد مثلًا فاني أرى أن‬

‫‪177‬‬
‫كمال الرياحي‬

‫أيضا عندما نشر الرعب في صدور ِّ‬


‫كل النساء‪ ،‬لذلك فجريمته‬ ‫حقق هذا ً‬
‫الجاني قد َّ‬
‫طالت المجتمع اآلمن بأسره‪».‬‬
‫مطول وفي نفس‬‫سمعت أن األستاذ بيرم الرابحي من نفس القسم ر َّد عليها في مقال َّ‬
‫المجلة التي نشرت فيها مقالها‪َّ ،‬‬
‫وأكد أن االحتمال األرجح أن يكون الجاني امرأة‪ ،‬ألن‬
‫أساسا‬
‫ً‬ ‫المرأة في حاالت اليأس تصبح أكثر عدوانية من الرجال‪ ،‬وتتجه عدوانيتها‬
‫ألن المرأة الفاشلة ال ِّ‬
‫يذكرها بفشلها إال المرأة الناجحة‪ .‬واستند‬ ‫نحو بنات جنسها‪َّ ،‬‬
‫األستاذ في تحليله إلى أن معظم الضحايا من الفاتنات‪ ،‬ويبدو أن الضحايا ناجحات‬
‫يرجح أن الطعنة جاءت من داخل األسرة األنثوية»‪ ،‬كما َّأكد‬
‫في حيواتهن و«هذا ما ِّ‬
‫غشام‬ ‫ً‬
‫ذكورية‪ ،‬كما تريد األستاذة ليلى َّ‬ ‫ً‬
‫صفة‬ ‫الدكتور الرابحي أن السادية ليست‬
‫أن توهم الرأي العام‪ ،‬وقال‪ :‬إن «الساد َّية النسائية تأتي من النساء الباردات جنس ًيا‪،‬‬
‫يتحول إلى كراهية وانتقام‪ ،‬وإلى‬
‫َّ‬ ‫كما إن عـدم اإلشباع الجنسي عند المرأة يمكن أن‬
‫نزوة في التخريب‪ ،‬حتى يصل األمر إلى ساد َّية أحيانًا‪».‬‬
‫القراء ما َّلمح إليه الدكتور من المعرفة العلمية المتواضعة لألستاذة ليلى‬
‫لم يفت َّ‬
‫غشام‪ ،‬فقال إنه ليس من حق أي شخص أن يفتي في مسائل علمية دقيقة‪ّ ،‬‬
‫خاصة إذا‬
‫كان ما زال بعد طالب علم‪ ،‬وقد َّ‬
‫حللت الصحافة ذلك بأن الدكتور الرابحي يل ِّمح إلى‬
‫أن األستاذة ليلى غشام لم تنجز أطروحتها بعد َّ‬
‫وأن بحوثها السابقة لم تكن بمستوى‬
‫ًَ‬
‫بعيدا عن القضية‬ ‫يؤهلها للتدريس في الجامعة‪ .‬هنا دخل الجدل في مأزق آخر‬
‫وصل ّ‬
‫حد التقاذف‪ ،‬فقد أشار الدكتور الرابحي إلى الحالة المدنية لألسـتاذة ليلى‬
‫غشام التي ما زالت عزباء‪ ،‬رغم أنها تجاوزت األربعيـن‪ .‬وردَّت عليه األستاذة َّ‬
‫غشام‬ ‫َّ‬
‫باتهامه باالنحراف الجنسي مع طلبته‪ .‬األسبوع الماضي ر َّد الدكتور الرابحي م َّته ًما‬
‫األستاذة غشام بالجنسية المثلية‪ ،‬وأ َّنه ضبطها في قاعة األساتذة في وضع مساحقة‬
‫منظفة دورة المياه‪ ،‬وختم الدكتور الرابحي مقاله باإلعالن عن توقيف جدله مع‬ ‫مع ِّ‬
‫األستاذة ليلى‪ ،‬ألنها حسب رأيه ليست بالمستوى الذي يؤ ِّهلها للجدل العلمي الراقي‪،‬‬
‫وأن عليها أن تعرض نفسها على دكتور نفساني قبل أن تعود إلى تدريس علم النفس‪،‬‬ ‫َّ‬
‫َّ‬
‫وحذرها‪ ،‬بأسلوبه‬ ‫وأ َّنه لوال سمنتها المفرطة لما استغرب من أن تكون هي الجانية‬
‫المتهكم‪ ،‬من أن تكون ضح َّية ذلك المشرط‪ ،‬فهي تحمل بعض مواصفات‬ ‫ِّ‬ ‫الساخر‬ ‫َّ‬
‫الضحايا المستهدفات ويقصد كبر اإلست طبعًا أل َّنها لم تكن جميلة‪.‬‬
‫بعد تلك المقالة لم تعد األستاذة ليلى َّ‬
‫غشام تنزل من س َّيارتها إال أمام بيتها وتكثر‬

‫‪178‬‬
‫المشرط‬

‫يصبعها طول الوقت‪.‬‬


‫من االلتفات وراءها‪ ،‬وكأن هناك من ْ‬
‫جدا‪ ،‬وأنّها لم تعد تنهض من مكتبها‬
‫يردِّد الطلبة األشقياء أنها أصبحت عصبية ًّ‬
‫وأصبحت تملي درسها وهي جالسـة وال تستدير إلى «السبورة» ً‬
‫أبدا‪ .‬وقالوا إنها‬
‫لبست معطفها القطيفة الثقيل في بداية الخريف‪ ،‬رغم أن الطقس مازال حا ًرا والصيف‬
‫لم يرحل نهائيا‪.‬‬
‫كثيـرا من ذلك الجدل العجيب بين األستاذة ليلى َّ‬
‫غشام والدكتور‬ ‫ً‬ ‫ال أنكر أني َّ‬
‫تعلمت‬
‫الرابحي‪ ،‬فقـد علمـت أن حالـة ابن الحجّ ـاج‪ ،‬صديق بو لحية‪ ،‬الذي يحلو له دائ ًما أن‬
‫والتعري» وأطرف ما عرفته‬
‫ِّ‬ ‫تسمى حالة «العـرض‬
‫يتعرى في النافذة‪ ،‬لتـراه النساء َّ‬
‫َّ‬
‫أن هذا الصنف من الرجال عاجز جنسيا‪ ،‬على عكس ما يبدو «فلو أن المرأة مثلًا التي‬
‫يلح عليهـا استجابت إلى طلبه في الوصال الختفى ته ُّيجه سريعًا وسيظهر بالتأكيد‬ ‫ُّ‬
‫َ‬
‫قاصرا جنس ًيا‪ .‬إ َّنه ال يفكر بتاتًا ببناء شِ رك ٍة حقيقية‪ ،‬هدفه هو التحريض‬
‫ً‬ ‫أمامها‬
‫واإلثارة المفاجئة وغير المرتبطة‪».‬‬
‫عندما قرأت ذلك في تلك السجاالت أشفقت على ابن الحجّ اج ثم تساءلت‪ :‬أيكون‬
‫هو الجاني؟‬
‫ُّ‬
‫كل الذين يحيطون بي مؤهَّ لون الرتكاب الجريمة‪ :‬بو لحية مثلًا أقواله متضاربة‬
‫تهدم بيتهم عندما سقطت‬ ‫مرة قال لي َّ ِ‬
‫إن والده مات مع أمّه بعد أن َّ‬ ‫بشكل غريب‪ّ ،‬‬
‫الخروب‪ .‬حكاية غريبة‪ ،‬كنت استمع إليها كمن يستمع إلى خرافات‬
‫ُّ‬ ‫عليهم شجرة‬
‫األجداد‪ .‬منذ أيام قال لي إن والده مات في الحقل عندما انفتح الفتق الذي يعاني‬
‫ً‬
‫حديثا آخر عن موت أبيك»‬ ‫أوجاعه منذ سنين‪ ،‬وعندما قلت له «إنك رويت لي‬
‫غضب وتركني لكي يختلي بكتبه‪ .‬لم أعد أفهمه وال أدري ما الذي أصابه‪ .‬يبدو أنه‬
‫أشك في أن تلك الكتب الصفراء التي يعود بها َّ‬
‫كل ليلة‬ ‫بدأ يفقد ذاكرته تدريج ًيا‪ُّ .‬‬
‫ويظل يقرأها وينسخها حتى الفجر هي التي ذهبت بعقله‪.‬‬
‫الكتابة في السرير مقلقة‪ ..‬سأنام‪ ،‬ال أدري لماذا حملت هذا الدفتر اللعين معي‬
‫لكن الغرفة‬
‫إلى الفراش‪ .‬بو لحية دخل غرفته منذ ساعة‪ ،‬ولم أعد أسمع صوته َّ‬
‫مضاءة‪ ،‬هذا يعني أنه يجالس دفتره‪ .‬كم أتمنى أن أقرأ ما يكتب هذا الرجل الغريب!‬
‫الفضول يقتلني‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫كمال الرياحي‬

‫كراسة بولحية‬
‫من َّ‬
‫قصة خديجة التي هزَّ ت العالم‬

‫لقد حسمت أمري‪ ،‬لن أكتب شي ًئا بعد اليوم عن ابن خلدون‪ .‬أصبحت ِّ‬
‫متأك ًدا أني‬
‫القمل‪ .‬التماثيل هي التماثيل‪،‬‬
‫وتتحرك ويصيبها َّ‬
‫َّ‬ ‫أتوهَّ م‪ .‬ال يمكن للتماثيل أن َّ‬
‫تتكلـم‬
‫عيب ما أفعله‪ ،‬ألدعها تنام في سالم‪ ،‬ح َّتى لو َّ‬
‫بررت ذلك َّ‬
‫بأن األمر مجازي ورمزي‪،‬‬
‫القص العجائبي‪ .‬هذا الذي يذبح مؤخرات النساء مثلًا‪،‬‬
‫ففي الحياة ما هو أعجب من هذا ِّ‬
‫تحول إلى أرضة‬
‫أقص؟! النيقرو شبه األ ِّمي الذي َّ‬
‫قصته أكثر عجائبية مما ُّ‬
‫أليست َّ‬
‫شورب نفسه الذي لم أفهمه برغم األشهر الطويلة التي قضيناها معًا تحت‬
‫ّ‬ ‫كتب؟!‬
‫سقف واحد؟! ما زلت أذكر يوم اقتحم حياتنا كالكابوس‪ .‬كنت أنا والنيقرو‪ ،‬كعادتنا‬
‫في المطبخ‪ ،‬نقلي البيض للعشاء‪ ،‬وكنت ألوم النيقرو أل َّنه لم يجهِّزه‪ ،‬فهو يقضي اليوم‬
‫كاملًا في البيت وعلى الساعة الخامسة مساء يذهب لحراسة مصنع المعكرونة‪.‬‬
‫كان يقول إن المصنع ال يحتاج من يحميه‪ ،‬ألن الناس كرهت المعكرونة‪.‬‬
‫مرة‪ .‬كان يقول لي‪« :‬اطبخها في‬
‫هو ال يطيق الحديث عنها وحرمني منها أكثر من ّ‬
‫الليل بعد أن أترك البيت ثم أفتح َّ‬
‫كل النوافذ ح َّتى تخرج رائحتها بال رجعة فال تقززني‬
‫ِّ‬
‫الحظ أنه عاد إلى الشغل ليلًا بعد أن استجاب رئيس العمال‬ ‫عندما أعود»‪ ،‬من حسن‬
‫لرسائل الشكوى التي يثقل بها صندوق االقتراحات في المصنع‪ ،‬قال إنه لم يعد قاد ًرا‬
‫تعود السهر‪ ،‬لذلك كان يضبط نائ ًما في النهار في كشك الحراسة‪.‬‬
‫على النوم ليلًا‪ ،‬ألنه َّ‬
‫الحجة «لم أعد قادرا على العيش‬
‫َّ‬ ‫مرة‪ ،‬وكان يدافع عن نفسه بنفس‬
‫عوقب أكثر من ّ‬
‫وأن‬ ‫ً‬
‫سعيدا‪ ،‬وهو يخبرني بأن حليمة عادت إلى عادتها القديمة َّ‬ ‫بالنهار» يومها عاد‬
‫َّ‬
‫الليل عاد إليه‪ .‬النيقرو يعاني من ضعف نظر‪ ،‬يقلقه الضوء‪ ،‬قلت له إنك تشبه بطل‬
‫فأصر أن يقرأ الرواية‪ ،‬ومنذ ذلك اليوم سقط في عشق الروايات‪،‬‬
‫َّ‬ ‫«الغريب» أللبير كامو‬
‫شورب َّ‬
‫خده وتس َّبب في طرده من المصنع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وازداد ولعه بالكتب بعد أن فتح‬
‫ِّ‬
‫متأخ ًرا‪ ،‬وإنه كان تحت وطأة كابوس‪« :‬رأيت‬ ‫قال لي يومها النيقرو إنه استيقظ‬
‫حط فوق صدري‪ ،‬وأخذ ينقر وجهي وجسمي ح َّتى بقر بطني‪،‬‬ ‫طائرا بشعًا َّ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫كأن‬
‫وأخذ يسحب أمعائي‪ ،‬يلوكها وقتا ثم يرمي بها على وجهي‪ .‬كابوس بشع قمت على‬
‫مجرد التفكير في الطعام‪».‬‬
‫َّ‬ ‫إثره أتق َّيأ‪ ،‬فلم أستطع أن ِّ‬
‫أفكر‬
‫قصة َّ‬
‫المخاخ‪.‬‬ ‫يبدو لي اآلن أ َّنني في تلك َّ‬
‫الليلة كتبت َّ‬

‫‪180‬‬
‫المشرط‬

‫المهم أن في تلك اللحظة التي روى لي فيها النيقرو حلمه‪ ،‬وأنا أنشغل بقلي البيض‪،‬‬
‫طرق الباب‪ .‬ذهب النيقرو ليستطلع قارعه ثم عاد‪ ،‬وقد ازداد وجهه اسودادًا وتمتم‬
‫حقا يرتجف‪ ،‬تركت المقالة على النار وخرجت‪ :‬رجل غريب‬ ‫«الكابوس بالباب» كان ًّ‬
‫بشقرة بربرية بشعة‪ .‬يشدُّ شعره األصفر الطويل ذيل حصان‪ .‬وشم الثعبان المخيف‬
‫كميه لتظهر‬
‫يطل من تحت القميص الض ِّيق الذي عقد طرفيه فوق سُ ّرته وطوى َّ‬ ‫ُّ‬
‫تحزمها عروق خضراء ناتئة‪ ،‬بينما تكشف فتحة القميص‬ ‫تضاريس عضالته المفتولة‪ِّ ،‬‬
‫يتدلى منه رأس فرعون وصليب َّ‬
‫معقف‪.‬‬ ‫صد ًرا رياض ًيا أملط‪ ،‬يزيِّنه خيط أسود سميك‪َّ ،‬‬
‫ً‬
‫وحشا آدم ًيا أشقر‪.‬‬ ‫وجهه طويل يشبه وجه جمل وشفتاه الغليظتان تجعالنه‬
‫بعد لحظات من الصمت سألني إن كنت أنا مالك المنفوخي الملقب ببو لحية‬
‫وعندما قلت له «أنا هو»‪ ،‬دخل البيت وهو يقول مبتسما ابتسامة خبيثة «لماذا ال‬
‫أحدا؟» ركضت وراءه إلى داخل البيت «ال‪ ...‬ال أنتظر‬ ‫ترحّ ب بي إذن‪ ،‬ألم تكن تنتظر ً‬
‫َّ‬
‫«تذكر ج ِّي ًدا» وأخذ يبعبع ماء القارورة‬ ‫ً‬
‫أحدا‪ ،‬من تكون سيادتك؟!» هزَّ رأسه الكبير‪:‬‬
‫هم بالشرب منها‬
‫البلورية التي كنت أحرم النيقرو من الشرب منها‪ ،‬قلت له عندما َّ‬
‫«اتركها وخذ غيرها ال أريد أن يشاركني قارورتي أحد»‪ ،‬ها هو هذا الغريب يضعها‬
‫بين شفتيه الكبيرتين المقززتين دون أن يستأذن‪ ،‬ودون أن يستعمل الكأس التي‬
‫أهتز ً‬
‫غيظا «من أنت أيّها الرجل‪ ،‬إن لم تقل من أنت وماذا‬ ‫أضعها بجانبها‪ .‬قلت‪ ،‬وأنا ُّ‬
‫تريد سأ َّتصل بالشرطة‪».‬‬
‫ترك القارورة التي أجهز على مائها واستغرق في الضحك وق ًتا « يبدو أ َّنك نرفوزي‬
‫برشا‪ ،‬ال أدري كيف سنتعاشر؟»‬
‫‪ -‬وهل تنوي أن تعاشرني؟! من أنت؟‬
‫المرة اشتعل في ذاكرتي االحتمال‪ .‬قلت مغمغ ًما‬
‫عندما انتهيت من طرح السؤال هذه ّ‬
‫مرة أخرى وأجاب برأسه‪ :‬نعم‪ ،‬تمالكت‬
‫«هل أنت قريب سفيان؟!» ابتسم ابتسامته ذاتها ّ‬
‫تأخرت وسكن مكانك مستأجر آخر‪».‬‬ ‫نفسي من الصدمة وقلت «ولك َّنك َّ‬
‫اللي سكن في عوضي ّ‬
‫خليني‬ ‫اللي داعيه عليه أمّو ّ‬‫عندها التفت غاض ًبا «آشكون ّ‬
‫ّ‬
‫نفشخلو الراس متاعو‪ .‬وأنت كان الزم تست ّنى شويّة ح ّتى نجي‪».‬‬
‫‪ -‬ومن يدفع معي إيجار البيت؟!‬
‫‪ -‬كنت سأعطيك ما دفعته وحدك‪ .‬هيا اطرد هذا الشيء وأخبرني كم دفع؟‬
‫‪ -‬ال يمكن أن يحدث هذا‪ ،‬الرجل استأجر البيت بشكل قانوني‪.‬ال يمكنني أن‬

‫‪181‬‬
‫كمال الرياحي‬

‫أطرده‪ ،‬باإلضافة أنّي ارتحت له‪.‬‬


‫هضمتوش!‬ ‫‪ -‬لك ِّني ما ّ‬
‫‪ -‬هل تعرفه أنت؟‬
‫‪ -‬موش هاك المحماش اللي ّ‬
‫حلي الباب وفصع من َّ‬
‫قدامي اتقول شاف غول؟!‬
‫‪ -‬هـو ذاك‪ ،‬وال يهـمّ أن ترتاح لـه‪ ،‬المهم أن أرتاح لـه أنا‪ ،‬أنا الذي يشاركني البيت ‪.‬‬
‫تفحصه‬ ‫ُّ‬
‫تحتل وجهه‪َّ .‬‬ ‫الرعب ما زالت‬ ‫في تلك اللحظة أطل النيقرو وعالمات ُّ‬
‫خليه ثالث‪ ،‬هاو نيّه ومسكين‪ ،‬هاني خارج ومش‬ ‫الزائر ج ِّي ًدا ثم قال» مش مشكلة ّ‬
‫انجي ام ّّخر ماتست ّنونيش عندي مفتاح‪ ،‬سفيان أعطاني نسخة‪ ،‬ما حبيتش نستعملو‬
‫اليوم خاطر نعرف األصول‪».‬‬
‫رمى بحقيبته ومعطفه المترب وخرج مقهقها ألدخل مع النيقرو في كابوسه‪.‬‬
‫بالقوة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫كم هي مظلمة تلك الشهور التي قضيناها مع ذلك الوحش الذي اقتحم بيتنا‬
‫أتذكر ذلك الثعبان الذي احتل بيت طفولتي وجعلني وعائلتي‬‫أتذكره اليوم َّ‬
‫عندما َّ‬
‫السقف‬
‫يتجو ل طول الوقت بين أعمدة ّ‬‫َّ‬ ‫نبيت في إسطبل البهائم‪ ،‬كان الثعبان‬
‫كأ َّنما هو المالك ونحن الضيوف الثقالء‪ .‬يداعب بلسانه المسموم سعفة النخيل‬
‫صفيرا مزعجً ا‪ .‬كان ذلك قبل أكثر من عشرين عاما‪ ،‬وقبل‬
‫ً‬ ‫اليابسة‪ ،‬ويطلق أحيانًا‬
‫َّ‬
‫وظل أبي زم ًنا يبكيها تحت‬ ‫أن تنزل تلك الصاعقة التي أخذت معها أ ِّمي والبيت‪،‬‬
‫يتبرك بها‪ ،‬ويقول إنها تحمينا‪ .‬أذكر أنه قام يومًا غاض ًبا وحمل‬
‫َّ‬ ‫الخروبة التي‬
‫َّ‬
‫لكن الفتق الذي كان يعاني منه‬
‫الخروبة العمالقة وراح يقطعها‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫فأسه واتجه نحو‬
‫يتلوى من األلم وفارق قبل أن يصل األهالي إلسعافه‪ .‬جارنا‬
‫لم يمهله‪ ،‬فانهار تحتها َّ‬
‫ألن ج َّثته ازرورقت‪ .‬قال‬
‫الخروبة قال إ َّنه ملسوع َّ‬
‫ّ‬ ‫الذي كان أول الواصلين إلى‬
‫إنها لدغة أفعى أو ثعبان‪ ،‬لك َّنه استغرب من موضعها‪ ،‬كانت اإلصابة في الجانب‬
‫ّ‬
‫المؤخرة ‪.‬‬ ‫األيسر من‬
‫تعرف إليه‪ ،‬الضحايا‬ ‫الثعبان منذ شهور يحصد ّ‬
‫مؤخرات النساء بمشرطه‪ ،‬ال أحد َّ‬
‫باآلالف والشوارع تكاد تخلو من النساء‪ .‬منذ أسابيع ال أرى في الشارع الكبير غير‬
‫المتبرجات والالتي ُّ‬
‫تطل أطراف‬ ‫ِّ‬ ‫العجائز‪ .‬ما لم أفهمه كيف ال تخشى تلك السائحات‬
‫جدا حمراء من وهج الشمس على الشواطئ‬ ‫مؤخراتهن من تحت سراويلهن القصيرة ًّ‬‫ّ‬
‫التونسية؟! أحيانا أقول‪ :‬انتحاريات‪ ،‬وأحيانا أتساءل كيف يمكن أن تدفن الواحدة‬
‫وكل جريمتها أن لها ّ‬
‫مؤخرة جميلة؟!‬ ‫نفسها في البيت ُّ‬

‫‪182‬‬
‫المشرط‬

‫يقال إن مساجد المدينة كان يتردَّد فيها جدل كبير حول تأويل اآلية الكريمة‬
‫مرة‬ ‫«نساؤكم حرث لكم ُفاتوا حرثكم أنّى شئتم» وكانت صالة الجمعة تنتهي َّ‬
‫كل ّ‬
‫ً‬
‫تحديدا‪ ،‬والتي قيل‬ ‫بمعركة دامية بين المختلفين حول معنى اآلية ومعنى «أنّى»‬
‫ترجح وكاالت األنباء‬ ‫إن معاجم اللغة ِّ‬
‫تؤكد أنها تفيد «الكيف» و«األين»‪ ،‬لذلك ِّ‬
‫متطرف إسالمي حاول حل المسألة بطريقته فعمل على تشويه‬
‫ّ‬ ‫األجنبية أن الجاني‬
‫مؤخرات النساء حتى يزهد فيها الرجال ويعودوا إلى آية اهلل‪.‬‬
‫َّ‬
‫مؤخرة‬ ‫متشددة على اإلنترنيت صورة مل َّثم‪ ،‬وهو يجلد‬
‫ِّ‬ ‫عرض موقع جماعة‬
‫سائحة أجنبية وقع اختطافها في بغداد‪ ،‬قبل أن يذبحها من الوريد إلى الوريد ويتلو‬
‫بيان المقاومة الذي ذكر فيه أن جماعته تتعاطف مع المجاهد الذي ظهر في تونس‬
‫ليحارب الفسق والفجور ووصفه بالمجاهد األصغر ‪.‬‬
‫استضافت إحدى الفضائيات‪ ،‬المعروفة بمعاداتها لإلصالحات االجتماعية والحقوقية‬
‫ِّ‬
‫المتشددين وسألته عن رأيه في‬ ‫ً‬
‫واحدا من‬ ‫التي حصلت في تونس منذ االستقالل‪،‬‬
‫َّ‬
‫المقدس‪ ،‬فلم يكفهم منع تعدُّ د‬ ‫ً‬
‫بعيدا في هتك‬ ‫القض َّية فقال‪« :‬لقد ذهب التونسيون‬
‫الزوجات وما أغدقوه على المرأة من حقوق عارضوا بها أحكام الشريعة‪ ،‬وصل بهم‬
‫األمر اليوم إلى تسمية المؤخرة باسم إحدى زوجات النبي‪ ،‬بل أقرب زوجاته إليه‪.‬‬
‫وهذه واهلل من عالمات الساعة التي ال َّ‬
‫بد أن ينزل اهلل عقابه على هذه األمة التي‬
‫فاتت في فجورها قوم لوط تجدر اإلشارة إلى أن اإلرسال انقطع وعاد بعدها المذيع‬
‫ليعتذر ويقول إن األمر خارج عن نطاقهم‪ ،‬وإن زحمة االتصال للمشاركة في البرنامج‬
‫ً‬
‫تشويشا على القمر الصناعي‪ .‬ألغيت بعد ذلك المداخالت الهاتفية واكتفي‬ ‫أحدثت‬
‫بالرسائل اإللكترونية التي تصل البرنامج عبر شبكة اإلنترنت ‪.‬‬
‫تخلل البرنامج‪ ،‬مسيرة سلمية‬ ‫نقلت الفضائية نفسها في موجز األخبار الذي َّ‬
‫منددات بما تتعرض له‬ ‫لنساء المكسيك خرجن فيها تضامنا مع المرأة التونسية ِّ‬
‫أجسادهن من قمع واعتبروا المجامعة ُ‬
‫الدبرية حر َّية شخص َّية ونادين بتنظيم‬
‫مسيرات مساندة مماثلة في ِّ‬
‫كل أصقاع العالم ‪.‬‬
‫كثيرا من‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫المنظمة متخ ِّوفة‬ ‫أن‬ ‫متحدث باسم َّ‬
‫منظمة الصحة العالمية َّ‬ ‫ِّ‬ ‫نقل عن‬
‫مستتبعات هذه األزمة‪ ،‬بعد أن وصلتها تقارير تشير إلى أن عدد الوالدات في تونس‬
‫ِّ‬
‫المحللون أرجعوا ذلك إلى إعراض الرجال عن عادة تغيير‬ ‫يتزايد بشكل مفزع‪.‬‬
‫ِّ‬
‫المتشددين بتحليل ذبح مؤخرات النساء الخارجات عن‬ ‫الرحل‪ .‬أفتى أحد الشيوخ‬

‫‪183‬‬
‫كمال الرياحي‬

‫شرع اهلل في بالد اإلسالم وقال إن ثواب ذبح مؤخرة فاجرة واحدة بمئة حسنة‬
‫يوم القيامة‪.‬‬
‫ِّ‬
‫ذهب آخر إلى تكفير كل من اتبع مالك بن أنس ألنه‪ ،‬حسب رأيه طبعًا‪ ،‬هو الذي‬
‫ِّ‬
‫المنظرين للفجور خرجوا من تونس‬ ‫أحل تغيير الرحل في المجامعة‪ .‬وأضاف إن َّ‬
‫كل‬ ‫َّ‬
‫وذكر أسماء منها التيفاشي والتجاني والنفزاوي‪ ،‬واعتبر أن على المسلمين أن يمتنعوا‬
‫عن الحج إلى القيروان هذا العام في المولد النبوي الشريف احتجاجً ا على ما وصل‬
‫إليه حال اإلسالم في تلك األ َّمة ‪.‬‬
‫كذبت وكالـة تونس إفريقيا لألنباء ما أوردته إحدى صحف المعارضة في الخارج‬ ‫َّ‬
‫من أن «جمع َّية أح َّباء خديجة» منعت من مزاولة نشاطها‪ ،‬ولم ُت َّ‬
‫مكن من إذن العمل‪،‬‬
‫حددها قانون الجمع َّيات‪َّ .‬‬
‫وأكدت الوكالة‬ ‫رغـم أنها استوفت الشروط القانونية التي َّ‬
‫استنادًا إلى تصريح مسؤول كبير أ َّنه ال وجود لجمعية بهـذا االسم‪ ،‬وأن األمر ال‬
‫َّ‬
‫يتعدى محاولـة تشويه دنيئة قـام به بعض الخـونة الناشطين بالخـارج والمتاجرين‬
‫بأوطانهم‪.‬‬

‫مقاطع من رواية «المشرط» دار الجنوب للنشر‪ ،‬تونس ‪2007‬‬

‫‪184‬‬
‫محمد حسن علوان‬

‫قصة قصيرة‬

‫حنيف من جالسكو‬

‫ُ‬
‫كنت أعبر جسر الخليج عندما جاءني صوته عبر الهاتف‪ .‬كانت عيناي تدمعان‬
‫قليلًا‪ ،‬وزوجتي صامتة‪ .‬قال لي‪ :‬مبروك‪ .‬وفي صوته رائحة الصوف التي تليق بالرجل‬
‫ألمس في قلبه نفس خطوط الوفاء المعتادة‬
‫زلت ُ‬‫الذي جُ دِ لت حنجرته في كشمير‪ ،‬وما ُ‬
‫التي رتّب بها عالقته معنا طيلة عشرين سنة‪ ،‬وأوحت إليه اليوم أن يبعث بركته‬
‫كثيرا في جالسكو‪.‬‬
‫ً‬ ‫البعيدة‪ ،‬عبر مكالمة هاتفية ال بد أنها ِّ‬
‫تكلفه‬
‫ً‬
‫ومعرضا في أي‬ ‫ً‬
‫مرتبكا‪،‬‬ ‫فاجأني في منتصف الجسر تمامًا‪ ،‬ولهذا بدا الحوار معل ًقا‪،‬‬
‫لجة البرود والرسمية التي ال أشعر بأنها الئقة‪ .‬ولهذا‬
‫لحظة أن يسقط من حافته‪ ،‬وفي َّ‬
‫خففت سرعتي قليلًا‪ ،‬وحاولت أن أكون بمستوى كرامته حتى ال تتضاعف ذنوبي‪.‬‬
‫كانت حالة غريبة‪ ،‬كما ّ‬
‫ظلت غريبة دائ ًما‪ ،‬أن تكون حمي ًما لصديق لم تزل عربيّته‬
‫مكسرة ً‬
‫جدا‪ ،‬وإنكليزيته في عِ ثارها األول‪ ،‬والتأرجح بين اللغتين آخر شيء ينقص‬ ‫َّ‬
‫خالج مفاجئ كهذا‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫عاطفتي المتحفظة أصلًا‪ ،‬وغير المعتادة على التعبير عن‬
‫عانقته آخر مرة قبل سنتين‪ .‬أخبرني أن تأشيرة هجرته إلى بريطانيا صدرت‬
‫أخيرا‪ ،‬متأخرة عشر سنوات عن مواقيت أحالمه‪ ،‬وأخبرتني حقيبته المتأهبة ً‬
‫جدا‬ ‫ً‬
‫للشمال أننا لم نكن أطيب معه من تلك البالد الموعودة‪ .‬عشرون سنة وهو يذرع‬
‫شوارع الرياض حتى استوت عنده هي وجبال كشمير‪ ،‬فلم يعد ألي منهما سطوة‬
‫أعلى في ذاكرته‪ .‬اقتسمت المدينتان حياته تمامًا حتى أصبح التحيز إلى إحداهما‬
‫في هذا المنعطف األربعيني من العمر يهدده بكساح في الذاكرة ال أعتقد أنه يحتاجه‬
‫أبدا‪ ،‬ال سيما وهو م َّتجه إلى مدينة ثالثة جديدة‪ ،‬ال يعرف نواياها تجاهه‪.‬‬
‫اآلن ً‬
‫ترك الرياض للمرة األخيرة وفي جوازه تأشيرة تشبه تلك التي دخل بها قبل عشرين‬
‫ً‬
‫مختلفا في جوازه‪ ،‬مقابل الكثير الذي كتبناه على أيامه هنا‪.‬‬ ‫سنة‪ .‬لم نكتب شي ًئا‬

‫‪185‬‬
‫محمد حسن علوان‬

‫طويل ً‬
‫جدا‪ ،‬أسود‬ ‫ٍ‬ ‫تذكرت ‪-‬وأنا في الخامسة‪ -‬سعادة االحتفال بسائق جديد للعائلة‪:‬‬
‫الشعر‪ ،‬غليظ الشفتين‪ ،‬ونحيل‪ .‬ولم يلبث طهو أمي أن غيّر من صفته األخيرة تلك‪،‬‬
‫وأحدث في بدنه استدارة بطنية متنافرة مع طوله الفارع‪ .‬اآلن‪ ،‬أتذكر وداعنا قبل‬
‫سنتين‪ ،‬ما زال طويلًا ولكن شعره اشتعل تدريج ًيا ببياض مدروس‪ّ ،‬‬
‫موقع بالتعب‬
‫الذي دهمه فجأة‪ ،‬وصارت قدرته على المزاح أقل‪ ،‬وغابت ضحكاته الالمبالية تمامًا‪،‬‬
‫حتى ال أتذكر أني سمعته يضحك منذ سنوات!‬
‫ً‬
‫واقفا في منتصف المسافة بين عائلتنا وخدمتنا لوقت طويل‪ ،‬ال يستطيع‬ ‫ّ‬
‫ظل‬
‫تجاوز إحداها إلى األخرى‪ .‬سافر وعاد‪ ،‬وسافر وعاد عشرات المرات‪ ،‬وفي ِّ‬
‫كل مرة‬
‫تنوء حقيبته البسيطة بالهدايا القماشية الصغيرة‪ ،‬وتحف المرمر‪ ،‬وفواكه السند‪،‬‬
‫ّ‬
‫نتحلق جميعًا في صالة المنزل‪،‬‬ ‫وأشرطة الفيديو التي صوّرها في قريته‪ .‬عندها كنا‬
‫تلتحف أمي بخمارها وتجلس في الخلف‪ ،‬ونضطجع ‪ -‬أنا وإخوتي‪ -‬حول التلفاز‪،‬‬
‫بينما يجلس هو بتواضع قري ًبا من جهاز الفيديو‪ ،‬ويمد ذراعه الطويلة بين فينة‬
‫وأخرى‪ ،‬ليشير إلى زقاق يظهر في التلفاز أو دكان أو منعطف «يمشي ّ‬
‫قدام شوي في‬
‫وكثيرا ما‬
‫ً‬ ‫بيت أخت أمي أنا‪ ...‬بعدين اثنين شارع يسار في بيت أخوي كبير‪»...‬‬
‫ُ‬
‫تجاهلت‬ ‫قاطعته أنماط مختلفة من األسئلة حسب أعمار السائلين‪ .‬وعني أنا‪ ،‬فقد‬
‫كل تاريخه العائلي الذي يحاول أن يوضحه لنا‪ ،‬وسألته «ما فيه أسفلت؟» وضحك‬‫َّ‬
‫حنيف وأمي وأخي األكبر‪ ،‬وظلت أختي الصغرى تنتظر اإلجابة‪ ،‬مثلي‪.‬‬
‫تأجّ لت طفولته طويلًا‪ .‬عندما ولد في كشمير‪ ،‬كان أبوه قد صار عمدة القرية‬
‫منذ سنتين تقري ًبا‪ .‬اجتمعت لديه وظيفة الحكومة ووجاهة المنصب‪ ،‬فتزوج امرأة‬
‫ثانية‪ ،‬ليكمل بها زينته‪ .‬ووُ لد حنيف وأخوه األصغر من هذه الزوجة الثانية‪ُّ ،‬‬
‫وكل‬
‫المؤشرات كانت توحي أنه وأخاه سيقطفان حت ًما ثمرات كثيرة من كونهما ابنين‬
‫لشيخ كبير‪ ،‬وزوجة صغيرة أثيرة‪ ،‬ومنصب جديد‪ .‬ولكن شي ًئا من هذا لم يحدث‪،‬‬
‫ألن أباه مات كما يموت الشيوخ‪ ،‬بينما كان أغلب إخوته الكبار من الزوجة األولى‬
‫كبا ًرا بما يكفي‪ ،‬ليتركوا القرية إلى أصقاع األرض‪ ،‬للعمل‪.‬‬
‫صغيرا‪ ،‬وصار يبيع القفازات‬
‫ً‬ ‫ِّ‬
‫ككل األيتام‪ .‬ترك المدرسة‬ ‫ولهذا تأجلت طفولته‬
‫الصوفية التي تغزلها أمه للجنود المرابطين على الحدود‪ .‬والطريق ما بين القرية إلى‬
‫ثكناتهم كان مسكونًا بأصوات القنابل البعيدة‪ ،‬وأناشيد األطفال التي تسخر من الهنود‪،‬‬
‫وتخترع حكايات صورية عن جبنهم وضعفهم‪ .‬وعندما بلغ العشرين‪ ،‬انتقاه أحد‬

‫‪186‬‬
‫حنيف من جالسكو‬

‫مكاتب االستقدام وجاء به إلى السعودية وهو يشعر بأن حياته لت ِّوها تبدأ‪ ،‬مثلما يشعر‬
‫اآلن بنفس البداية‪ ،‬وهو في جالسكو‪ :‬أبًا لثالث بنات‪ ،‬وفي األربعين‪ ،‬ويصنع همبورغر‬
‫إسالم ًيا لطالب الجامعة‪ ،‬وينتظر أن تنتهي إجراءات جنسيته البريطانية في أسرع وقت‪.‬‬
‫ً‬
‫طيبة في منتصف‬ ‫ً‬
‫واحة‬ ‫مرة تشبه‬
‫كانت السعودية عندما قدم إليها حنيف أوّ ل ّ‬
‫الصحراء‪ .‬غريبة‪ ،‬ولك ّنها مريحة‪ .‬أصوات األذان تخرج من عشرات المآذن‪ ،‬عبر‬
‫مكبرات الصوت التي تبعث في روحه المهابة‪ ،‬وتطمئنه إلى أن القوم مسلمون‪،‬‬
‫ً‬
‫جيدا‪ .‬كان يتقاضى رات ًبا لم يره جيبه‪ ،‬ويتناول‬ ‫يحبون اهلل واألذان‪ ،‬وسيعتنون به‬
‫ثالث وجبات كاملة في اليوم‪ ،‬مقابل أن يقود سيّارة حديثة في مدينة عصرية‪،‬‬
‫مبعثر في الطرقات‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫غربة بال أنياب‪ ،‬والخير‬ ‫ويروي أشجار الحديقة القليلة‪ .‬إنها‬
‫والناس ال يقلقون من شيء وال ينتظرون شي ًئا‪ .‬ولهذا اطمأن قلبه‪ ،‬وتذكر أنه‬
‫يجتر ها من ماضيه‪ ،‬ويمضغها بيننا على مهل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فقر ر أن‬
‫لم يعش طفولته بعد‪ّ ،‬‬
‫هاجمته أزمة منتصف العمر‪ ،‬وهو ما يزال ذارعًا وجه الرياض الذي لم يتغير‬
‫كثيرا هو اآلخر‪ .‬األربعون تد ُّقه مثل وتد ال يريد أن ينزل أكثر في هذه الصحراء‪،‬‬
‫ً‬
‫فيضيع فيها إلى األبد‪ .‬والبنيّات الصغيرات اللواتي سمّ اهنّ بأسماء عربية ما زلن‬
‫بعيدات عن ذراعيه‪ ،‬في كشمير‪ ،‬يربين الطواويس‪ ،‬ويغزلن الصوف‪ ،‬وينتظرن األب‬
‫البطل‪ ،‬ويكبرن بسرعة ال يتحملها قلبه البعيد‪ .‬أكبر‪ ،‬صديقه الباكستاني الذي‬
‫أيضا في الرياض منذ ثالثين سنة‪ ،‬مات في نوبة َّ‬
‫سكري قري ًبا‬ ‫كان يعمل سائ ًقا ً‬
‫من بيت مخدوميه في حي الورود‪ .‬سقط في منتصف الشارع‪ ،‬وسقط معه ٌ‬
‫بيض‪،‬‬
‫وعلبة زيت‪ .‬كان عند حنيف صورة أخرى للموت‪ ،‬ال تشبه هذه ً‬
‫أبدا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وجريدة‪،‬‬
‫ّ‬
‫ظل المقود اللعين يصلب كتفيه‪ ،‬ويقودنا بالسيّارة إلى ِّ‬
‫كل االتجاهات التي نريد‪ ،‬ما عدا‬
‫اتجاهاته التي يريدها هو‪ .‬في الوقت الذي أصبح فيه أطفال العائلة التي يعمل لديها‬
‫ً‬
‫صعبة على قاموسه اإلنساني المكون‬ ‫يتكلمون ً‬
‫لغة‬ ‫مختلفين تمامًا‪ .‬كبروا‪ ،‬وصاروا َّ‬
‫من عشرين سنة من العِشرة‪ ،‬والعمل المخلص‪ .‬بدا واضحً ا لعيني أمّي الرحيمتين‬
‫أن القوي األمين الذي استأجرته لخدمتها وأطفالها منذ أن ترملت لم يعد قويًا‪ْ ،‬‬
‫وإن‬
‫ما زال أمي ًنا‪ .‬سمعته ّ‬
‫مرة يتحدث إلى خادمتنا المغربية بشجن هائل‪ .‬عيناه دامعتان‬
‫مثل الزيتون األخضر المبتل‪ .‬كان يتناول كوب الشاي الذي اعتادت أن تناوله إياه‬
‫المرة عند عتبة باب المطبخ‪ ،‬وجلست هي‪ .‬حدثها‬
‫الخادمة بعد المغرب‪ .‬جلس هذه ّ‬
‫عن بناته اللواتي يكاد يشم رائحة الطين في أقدامهن من آالف األميال‪ ،‬وحدثته هي‬

‫‪187‬‬
‫محمد حسن علوان‬

‫عن أمها المريضة‪ ،‬وابنتها التي أخذها طليقها معه إلى إيطاليا‪ ،‬ولم تسمع عنها منذ‬
‫سنوات‪ .‬تحولت عتبة المطبخ البسيطة تلك إلى قطع غير منتظمة من حزن طارئ‪،‬‬
‫ٌ‬
‫رائحة نافذة‪ ،‬وعمر قصير‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫متغضن مثل قوالب الجبن المكعبة‪ ،‬له‬
‫ً‬
‫مبعثرة عند‬ ‫عاد إلى غرفته‪ ،‬والخادمة إلى المنزل‪ ،‬وبقيت أوجاعهما المتشابهة‬
‫عتبة المطبخ‪ ،‬تمضغها القطط التي تحوم حولها طيلة َّ‬
‫الليل‪ .‬زادت أمي راتبه بضع‬
‫ً‬
‫وعدا باتخاذ تدابير أكثر محافظة فيما يتعلق‬ ‫مئات‪ ،‬بعد أن أمرته أن يقطع أمامها‬
‫بتوفير المال‪ ،‬وأن يمتنع عن شراء األجهزة اإللكترونية الحديثة التي يغرم بها‪.‬‬
‫يتكلَم‪ .‬ومنحته حرية أن يعمل‬ ‫كانت تؤنّبه مثل طفل‪ ،‬وهو ّ‬
‫يهز رأسه بحياء‪ ،‬وال َّ‬
‫في اإلجازات األسبوعية في نقل الخضراوات والفاكهة مع بعض بني جلدته‪ ،‬لعله‬
‫يجني لنفسه بضع مئات أخرى‪.‬‬
‫ً‬
‫بعيدا عن قريته الكشميرية‬ ‫أخبرني أنه يتمنى لو ينتقل بأسرته إلى مكان آخر‪،‬‬
‫ورصاصهم الطائش‪ ،‬في تلك المنطقة الحدودية‬
‫ِ‬ ‫حيث ال يأمن عليهم من هجمات الهنود‪،‬‬
‫المتنازعة بين البلدين‪ .‬وأخبرني أنه يتمنى لو اشترى سيّارة نقل صغيرة‪ ،‬لينقل‬
‫المسافرين بين بيوتهم الجبلية ومحطة القطار‪ ،‬وفي ذلك رزق كاف‪ .‬وأخبرني ً‬
‫أيضا‪،‬‬
‫في وقت الحق‪ ،‬أن ّ‬
‫كل ما جناه في السعودية أنفقه في حفل زواجه المكلف‪ ،‬ثم في‬
‫حواالت سخ َّية لزوجته التي َّ‬
‫خلفها وراءه هناك‪ ،‬وراح يزورها َّ‬
‫كل سنة‪ ،‬زارعً ا في‬
‫طفلة حنطي ًّة‪.‬‬
‫ً‬ ‫بطنها‬
‫اختلف حنيف العازب‪ ،‬في سنواته الخمس عشرة األولى سائ ًقا‪ ،‬عن ذلك المهموم‬
‫شارد الذهن الذي صار يشاركنا البيت‪ ،‬دون أن يلفت االنتباه‪ .‬كانت ابتسامته قبل‬
‫ذلك أكثر اتساعً ا‪ ،‬واستغراقه في الحياة أعمق‪ ،‬وكأننا لسنا إال أسرته التي لن يفارقها‬
‫يومًا بتأشيرة خروج نهائي‪ .‬وفي السنوات الخمس األخيرة‪ ،‬صار حنيف األب‪ِّ ،‬‬
‫مقط ًبا‬
‫أكثر الوقت‪ ،‬بعد أن بنى لنفسه عائلة صغيرة في كشمير‪ ،‬يقلق عليها‪ .‬اختفت مالمحه‬
‫متعرق‪ .‬وتغيرت عاداته المتأنقة في ِّ‬
‫اللباس‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الضاحكة‪ ،‬واستبدلها بوجه متوتِّر وجبين‬
‫وصار يبدو في مالبسه الباكستانية المعتادة مثل أي باكستاني كادح في هذه المدينة‪.‬‬
‫معل ٌق معي على الهاتف ‪ -‬كان أوسع ما يمكنني ُ‬
‫منحه من الوفاء‪ ،‬أن‬ ‫اآلن ‪ -‬وصوته َّ‬
‫أطيل في سالمي عليه‪ ،‬والسؤال عن أطفاله‪ .‬وألن َّ‬
‫كل هذا ال يحتمل إال سؤالين على‬
‫مرة‪ ،‬ثم أهرب من نفاد األسئلة إلى‬
‫األكثر‪ ،‬كان من الضروري أن أكررهما أكثر من ّ‬
‫جالسكو‪ ،‬وأسأله عنها وأهلها‪ ،‬فيضحك‪« :‬كثير سعودي هنا يا محمد‪ ،‬يدرس جامعة‪،‬‬

‫‪188‬‬
‫حنيف من جالسكو‬

‫يجي مطعم عشان لحم حالل‪ .‬أنا كالم أنا في عشرين سنة في سعودية‪ ،‬هو ما ّ‬
‫صدق!»‬
‫َّ‬
‫المفضلين في جالسكو تبهجه‬ ‫وال أدري إذا كانت رؤية السعوديين الذين صاروا زبائنه‬
‫أو تزعجه‪ ،‬بعدما قضى في بلدهم نصف عمره تمامًا‪ .‬بالتأكيد لم يكونوا جميعًا لطيفين‬
‫لطفا يشبه هذا الذي يراه منهم اآلن في جالسكو‪.‬‬ ‫معه‪ ،‬ولم يكن حنيف يتوقع منهم ً‬
‫َّ‬
‫تذكرت ذات يوم عندما ا َّتصل بنا في الرياض من قسم الشرطة‪ ،‬وحضرنا‬
‫الستالمه وهو ملطخ بالدماء‪ ،‬بعد أن تعارك مع خمسة شباب سعوديين دفعة‬
‫ً‬
‫مثقوبة‪،‬‬ ‫ً‬
‫كرة‬ ‫واحدة‪ ،‬حاولوا التحذلق عليه أثناء القيادة‪ .‬كان وجهه يبدو مثل‬
‫رغم ابتسامته الالمبالية‪ ،‬وتلك الدماء المتجمدة على جبينه‪ ،‬وشاربه‪ ،‬والتي‬
‫استمر دقائق طويلة قبل أن َّ‬
‫يفضه المارة‪ .‬ولكنّ الخمسة‬ ‫َّ‬ ‫تنبئ أن العراك‬
‫ً‬
‫جيدا أن الحياة في كشمير‪،‬‬ ‫اآلخرين لم يكونوا أحسن حالًا منه‪ ،‬بعد أن فهموا‬
‫في منطقة حدودية متنازع عليها منذ عقود‪ ،‬تصنع قلوبًا أبيّة‪ ،‬وقبضات قويّة!‬
‫صعوبة في تسيير الحوار مع الرجل الذي اقتسمت معه ذاكرة‬ ‫ً‬ ‫يؤلمني أن أجد‬
‫كاملة‪ ،‬تلك المنصفة منها على األقل‪ .‬وال زلت أتذكرها ّ‬
‫بكل وضوح‪ ،‬وباأللوان‬ ‫ً‬ ‫طفولتي‬
‫الطبيعية‪ ،‬في الوقت الذي ال أستطيع فيه اآلن أن أبتكر كالمًا تلقائ ًيا ينقله األثير‬
‫كل الذكريات حاضرة في ذاكرتي‪ ،‬ولكنها بكماء‪ :‬لعب الكرة في الصيف‬ ‫الهاتفي! ُّ‬
‫الثقيل‪ ،‬سُ قيا الحديقة في العصر الدامع‪ ،‬حلقة المصارعة التلفزيونية ليلة الثالثاء‪،‬‬
‫مباريات المنتخب في كأس آسيا ‪ ،88‬عمرات رمضان المزدحمة‪ ،‬السباحة في شاطئ‬
‫ّ‬
‫المملة‪ ،‬صالة العيد‬ ‫نصف القمر‪ ،‬إصالح َّ‬
‫«اللمبات» المحترقة‪ ،‬الشواء في الشتاءات‬
‫ُّ‬
‫التهكم على بدانة الخادمة‬ ‫ذات التكبيرات‪ ،‬الغناء في مطاعم الوجبات السريعة‪،‬‬
‫المفترضة لطفل تحرك بسرعة من الخامسة‪ ،‬إلى‬
‫َ‬ ‫المغربية‪ ،‬والكثير من الذكريات‬
‫حاضرا فيها جميعًا‪ ،‬في منتصفها تمامًا‪ ،‬إذ ال تكاد‬
‫ً‬ ‫الخامسة والعشرين‪ ،‬كان حنيف‬
‫أنظف رأس الفيديو القديم‬ ‫علمني كيف ِّ‬ ‫تكون ممكنة لو لم يكن موجودًا‪ .‬هو الذي ّ‬
‫أفرق بين اللغتين الهندية واألردية‪ ،‬وكيف يمكنني أن أنفخ‬
‫بقطرات البنزين‪ ،‬وكيف ِّ‬
‫الكرة باستخدام مبيد الحشرات‪ ،‬وكيف أوقف أزيز لمبات النيون البيضاء دون أن‬
‫أضطر إلى تغييرها‪ .‬ذلك عندما كان ّ‬
‫تعلم هذه األشياء البسيطة ممتعًا‪ ،‬قبل أن أكبر‪،‬‬
‫وتتناقص متع الحياة تدريج ًيا‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫محمد حسن علوان‬

‫***‬

‫ودَّعني حنيف بالكلمات التي يسمح بها قاموسه العربي المحدود‪ ،‬وودعته وأنا‬
‫وبقيت ً‬
‫قابضا على هاتفي الجوال بحنق قصير‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أعبر األمتار المتبقية من الجسر‪،‬‬
‫وكأني أحاول حبس شيء من صوت حنيف فيه‪ ،‬أستطيع أن أصنع منه حوا ًرا أكثر‬
‫شعثا ّ‬
‫كلما‬ ‫بة‪ ،‬وليست تلك التي تزداد ً‬ ‫مشذ ً‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫إنسانية‬ ‫نبلًا فيما بعد‪ ،‬كما يستحق هو‬
‫ُ‬
‫وانتظرت أسئلة زوجتي‬ ‫ُ‬
‫فتحت النافذة‪ ،‬لعل الهواء المندفع يبرر إدماعي‪،‬‬ ‫كبرت‪.‬‬
‫التي تتربص بي من أول المكالمة‪.‬‬

‫‪ -‬مين؟‬
‫‪ -‬حنيف‪ ،‬سوّاقنا القديم‪.‬‬
‫‪ -‬وليه الدموع؟‬
‫‪ -‬ألنِّي اشتقت إليه‪.‬‬
‫‪ -‬السوّاق؟!!‬

‫قصة قصير غير منشورة في كتاب‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫محمد صالح العزب‬

‫مطلع رواية‬
‫يحب َّ‬
‫شط النهر‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫قارب ال‬

‫‪١‬‬
‫العم سمعان هو العم سمعان‪ ،‬ببشرته السمراء‪ ،‬وجلبابه ذي الكم الواسع ًّ‬
‫جدا‪ ،‬يظل‬
‫باس ًما َطوال الوقت كأنما يفاخر بأسنانه الناصعة ويقول‪:‬‬
‫«هذه الدنيا هكذا‪ ...‬ال عيش فيها للمتجهِّم‪».‬‬
‫هو العم سمعان بأعوامه السبعين دون أن تنحني منه عظمة‪ ،‬أو تشيب له شعرة‪:‬‬
‫«كيف يا عم سمعان؟!»‬
‫«البركة والكرامة يا حفيد الشيخ‪ ،‬منحك اهلل السر‪».‬‬
‫له في خدمة جدي الشيخ منها ثالثون عامًا‪ .‬برغم تلعثمه وشروده ونسيانه إال‬
‫أنه هو ركن الحكاية‪ ،‬العم سمعان في الحكاية هو الراوي‪ ،‬وعلى من يريد سماع‬
‫حكايات البداية أن يصبر‪ ،‬وأن ينتبه‪.‬‬
‫«يا عم سمعان‪ ،‬احك لي حكاية العم سمعان‪».‬‬
‫يخجل وال يحكي‪ ،‬يهرب مني إلى حكاياته األخرى التي ال تنتهي‪ ،‬لكنني ال أتركه‪،‬‬
‫ألح عليه‪ ،‬فال أراه يبخل إال في هذه الحكاية‪.‬‬
‫أظل ُّ‬
‫«سمعان الفقير‪ ،‬أصله ليس من هنا‪ ،‬سيظل رملك األصفر يا صحراء يجهله‪،‬‬
‫وال يأنس به‪ ،‬وسيظل لماء البئر وماء العين طعمهما الغريب في فمه‪ ،‬وسيظل‪-‬‬
‫َّ‬
‫المبيضة‪ :‬سمة‬ ‫َّ‬
‫كلما واجهته وجوه البدو الخشنة‪ ،‬بعيونهم المختبئة‪ ،‬وشفاههم‬
‫يحن إلى هناك‪ ،‬حيث األرض البن َّية تعرف وقع خطوه‪ .‬سمعان‬
‫ُّ‬ ‫العطش األزلي ـ‬
‫َّ‬
‫كالسكر‪ ،‬واألخضر يفرش حتى آخر العين‪،‬‬ ‫أصله من عند آخر النهر‪ ،‬حيث الماء‬
‫السمر يغنين أغاني العرس بصوت له حالوة صوت المؤ ِّذ ن‪،‬‬‫وحيث الفتيات ُ‬
‫لكن الرزق الوفير هناك ‪ -‬الذي ا َّتسع ِّ‬
‫لكل باسط يد‪ -‬أتى عند الفقير‪ ،‬وضاق‪.‬‬ ‫َّ‬

‫‪191‬‬
‫محمد صالح العزب‬

‫قالوا‪ :‬يا فقير اركب النهر‪ ،‬أو اركب السيّارة‪ ،‬أو اركب ظهر القطار‪ ،‬وفي البالد الكثيرة‬
‫لكل نازح‪ .‬لم يعلموا – وأنّى لهم – أن رزق الفقير الذي لم يجده وسط الخير‬ ‫رزق ِّ‬
‫والزرع مخبو ٌء له في جدب الصحراء القاسية‪ .‬سمعان قال‪ :‬يا أُمّ‪ ،‬هنا في ِّ‬
‫كل يوم‬
‫ُزفون‪ ،‬وسمعان قارب أن يشيخ وليس في يده جنيه‪،‬‬ ‫عرس يقام‪ ،‬الصغار يكبرون وي ّ‬
‫ليقول‪ :‬يا عم‪ ،‬هذا مهر ابنتك‪ ،‬أو‪ :‬يا خال‪ ،‬سمعان يطلب القرب‪ .‬الفقير لم يخرج إال‬
‫بجلبابه‪ ،‬ولم يترك إال أُ ّمًا عجو ًزا ُصلبة قالت‪:‬‬
‫ـ ال تحمل ه ًَّما‪ .‬وأخفت دمعتها‪ ،‬ربّتت على ظهر المرتحل بيد قوية‪ ،‬وقالت‪ :‬يا‬
‫صاحب الدنيا‪ ...‬ارزق الفقير نور الطريق‪».‬‬
‫علي ْ‬
‫إن قاطعته‪ ،‬يشير بيده‪ ،‬أو يربّت‬ ‫من عاداته أنه إذا دخل في الحكاية ال يرد ّ‬
‫على ركبتي بحزم أن اصمت‪ّ .‬‬
‫ظلت ُّ‬
‫أكف البالد تتقاذفني‪ ،‬والرزق يضيق‪ ،‬يضيق‪ ،‬حتى‬
‫كاد أن يقتل الحلم المستكين داخل صدر الفقير بابنة سمراء صغيرة‪ ،‬لها شعر أسود‬
‫طويل‪ ،‬وعينان سوداوان‪ ،‬وبشرة ناعمة كورقة الوردة‪ ،‬يجلسها على رجله داخل‬
‫قارب صغير ال يحب شط النهر‪ ،‬وال يهتز بالصغيرة حتى ال تخاف‪.‬‬
‫ظلمت نفسك يا سمعان بالحلم‪ ،‬تحلم بالزواج وأنت الجائع؟!‬
‫لكن هل كان أحد يسوقني من طوق الجلباب‪ ،‬يا حفيد الشيخ‪ ،‬إال صاحب الطريق؟‬
‫هل كان أحد سواه يقول‪ :‬تقاذفيه يا َّ‬
‫أكف البالد بضيق الرزق حتى يصل‪.‬‬
‫استغفر يا سمعان لجهلك أيام كنت تعترض ـ وأنت الجاهل ـ على خواء بطنك‪،‬‬
‫اعتذر يا ساذج عن سوء الظن‪ .‬خبأت حلمك حتى ال يُعلم به‪ ،‬فيكيد لك من ال تعلم‬
‫شر شيطانه ً‬
‫كيدا‪ ،‬وقلت‪ :‬يا أكف البالد حسبي من الحلم أال أبيت جائعًا‪.‬‬ ‫َّ‬
‫تعد الشمس الطالعة‪ ،‬وتحسب الشمس الغاربة‪ ،‬وليس‬ ‫وخشيت أن تظل هكذا ّ‬
‫ثمة ما هو أسرع من الزمن يا حفيد موالنا‪ُّ ،‬‬
‫وكل يوم عرس يقام‪ ،‬خشيت أن ترجع‬
‫فتجد َّ‬
‫كل البنات قد تزوجن‪ ،‬وال تجد واحدة تغ ّني أغنية عرسك‪ ،‬وتقول لك‪ ،‬وأنت‬
‫خارج من البيت‪ ،‬والبنت على ذراعك‪ :‬ال تتأخرا‪ ...‬وانتبه حتى ال تخاف البنت من‬
‫اهتزاز القارب‪.‬‬
‫أشكر جوعك يا سمعان‪ ،‬وأشكر فقرك‪ ،‬وصفعات أكف البالد‪ ،‬وابن الحالل الذي‬
‫حكيت له شقاءك فحملك إلى الصحراء على ظهر سيارته‪.‬‬
‫ُ‬
‫سألت عنه‪ ،‬ثم قلت له‪ :‬أريد‬ ‫نزلت فأطعموني‪ ،‬وسمعت بالشيخ على ِّ‬
‫كل لسان‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أن أنهل من بركتك‪ .‬وقلت في نفسي‪ :‬وأن أجد المأكل والمأوى‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫يحب َّ‬
‫شط النهر‬ ‫ُّ‬ ‫قارب ال‬
‫ٌ‬

‫رحّ ب بي جدُّ ك‪ ،‬بنفسه ج ّهز لي مكان العيش‪ ،‬وظللت مقي ًما معه‪ ،‬بعد حين قال‬
‫لي‪ :‬وضعت قدمك على عتبة الطريق‪ ،‬منتصف الطريق أن تنزع من صدرك صورة‬
‫البنت السمراء‪ ،‬والقارب‪ ،‬وآخر الطريق عند آخر النهر‪».‬‬
‫بد يا عم سمعان أنك نزعت الحلم من صدرك منذ زمن‪».‬‬ ‫«وال ّ‬
‫أحسها‪ ،‬لك ّني رأيتها تعبث بطرف ثوبه‪،‬‬ ‫نس ٌ‬
‫مة لم َّ‬ ‫أشاح بوجهه إلى البعيد‪ ،‬وهبّت ْ‬
‫فرفرف‪ ،‬قال‪:‬‬
‫مر‪ ...‬ولم أصل إلى منتصف الطريق‪».‬‬
‫«زمن طويل َّ‬

‫‪٢‬‬
‫بشكل ما‪ ،‬لكنه‬
‫ٍ‬ ‫كثيرا بالقصر الكبير الذي سيجاور حوش جدي‪ ،‬هو بعيد‬
‫ً‬ ‫فرحت‬
‫ً‬
‫جيدا من فوق صخرتي المواجهة للبحر‪ ،‬وأنا جالس أستمع‬ ‫قصر‪ ،‬أستطيع أن أراه‬
‫كبيرا بأدوار‬
‫ً‬ ‫قصرا‬
‫ً‬ ‫لحكايات سمعان‪ .‬عامين كاملين استغرقهما بناؤه‪ ،‬حتى استوى‬
‫ثالثة‪ ،‬وبسور حجري زرعت فيه المصابيح‪.‬‬
‫عامان كامالن وعمال البناء يروحون ويجيئون من القصر إلى حوشنا‪ ،‬ومن حوشنا‬
‫إلى القصر‪ ،‬يأتون َّ‬
‫كل ليلة ليجلسوا إلى جدي الشيخ بإجالل‪ ،‬عندما يرونه‪ ،‬ينحنون‬
‫لتقبيل يده التي يسحبها بسرعة‪ ،‬يطلبون منه الدعاء لهم بالبركة في الرزق‪ ،‬وبأن‬
‫يحفظ اهلل لهم البعيد حتى يدركوه‪ .‬يشير إليهم سمعان‪:‬‬
‫«هذا حفيد الشيخ‪ ،‬فيه نور من نوره‪ ،‬وفيه بركة منه‪ ».‬فيعاملونني بلطف شديد‪.‬‬
‫أحدهم أتى لي بزجاجة عطر‪ ،‬وضع قليال منها على يديّ ‪ ،‬وجعلني أمر بهما على وجهه‬
‫صفا طويلًا‪ ،‬ينتظرون أن أفعل المثل معهم جميعا‪،‬‬‫ورقبته‪ ،‬وجدتهم يقفون وراءه ًّ‬
‫تنسمها من على ثيابي‪.‬‬ ‫يحب ّ‬
‫جدي ُّ‬ ‫ّ‬ ‫عطرا ذا رائحة جميلة‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫آخر أتى لي بسلحفاة صغيرة‪ ،‬فرحت بها ًّ‬
‫جدا‪ ،‬وهى تخبئ رأسها وأطرافها فتصير‬
‫كحجر‪ ،‬سلحفاتي هذه كانت تأكل الخضرة وتبتسم‪.‬‬
‫هناك أيضا من أتى لي بحذاء جديد‪ ،‬ومن أتى بساعة يد‪ ،‬ومن أعطاني عمالت‬
‫مرة أرى‬
‫مرة بقنفذ‪ ،‬أول ّ‬
‫معدنية قديمة مثقوبة‪ ...‬نفس صاحب السحلفاة أتى ذات ّ‬
‫جدا‪َّ ،‬‬
‫ظل‬ ‫ً‬
‫طريفا ًّ‬ ‫قفصا مقلوبًا‪ ،‬هذا القنفذ كان‬ ‫ً‬
‫قنفذا حقيقيّا‪ ،‬وضعه ثم وضع فوقه ً‬
‫وكلَما أدخلت له طرف العصا من بين فتحات‬
‫يدور‪ ،‬يدور‪ ،‬يدور داخل القفص‪َّ ،‬‬
‫القفص ينشر شوكه ويتقنفذ‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫محمد صالح العزب‬

‫أحببت هؤالء العمال‪ ،‬ورغم كثرتهم حفظت أسماءهم جميعا‪ ،‬ومهنة ِّ‬
‫كل واحد منهم‪.‬‬
‫يوم ًّيا بعد أن ينتهوا من أعمالهم ينزلون إلى البحر‪ ،‬يمكثون فيه طويلًا‪ ،‬يستحمّ ون‪،‬‬
‫ويصخبون‪ ،‬يخرجون مع العشاء إلى حوشنا‪ ،‬بعد الصالة يصنع لهم سمعان الشاي في‬
‫األكواب الصغيرة‪ ،‬فيرشفونه وشعورهم ّ‬
‫مبتلة ال تزال وهم ينصتون باهتمام إلى حكاياته‪،‬‬
‫يخصني بحكايات أكثر‪.‬‬
‫عن قريته البعيدة‪ ،‬فأفرح ألني أعرف أكثر منهم‪ ،‬وألنه ّ‬
‫هم أيضا لهم حكاياتهم التي ال يكملونها ً‬
‫أبدا‪ ،‬أول ما ينتهي كوب الشاي آلخر واحد‬
‫منهم يقومون‪ ،‬يل ِّوحون للعم سمعان ولي‪:‬‬
‫«أمامنا عمل كثير في الصباح‪ً ،‬‬
‫غدا نلتقي‪ ،‬آخر النهار‪».‬‬
‫حكاياتهم دومًا عن بالد بعيدة فيها أح َّبّتهم‪ ،‬يُقسمون ‪ -‬دون أن يطلب منهم أحد‬
‫يتكلَمون أيضا عن المهندس الكبير الذي يشرف‬
‫ذلك ـ أنه لوال الحاجة لما فارقوهم‪َّ ،‬‬
‫مرة أراه هناك‪ ،‬لكني لم أره عن قرب‪َّ ،‬‬
‫يتكلمون كذلك عن صاحب‬ ‫عليهم‪ ،‬أكثر من ّ‬
‫القصر الكبير الذي اختار هذا المكان لعزلته‪.‬‬
‫أحببت هؤالء العمال‪ ،‬واستكثرت عليهم بعيونهم الط ِّيبة‪ ،‬وهداياهم لي‪ ،‬ونكاتهم‬
‫قصرا‪ ،‬فظللت أتابع البناء يوما بعد يوم بقلق‪ ،‬كأنه قصري أنا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أن يشيدوا‬
‫قصرا حقيق ًّيا رائعًا‪ ،‬أجمل من ِّ‬
‫كل‬ ‫ً‬ ‫ارتحل العمال بوداع حار‪ ،‬وقد تركوا خلفهم‬
‫أحالمي عن قصور حكاياتك يا عم سمعان‪.‬‬
‫لكني لم يكن لي صديق أحكي له عن القصر‪ ...‬زمالء المدرسة لم يكرهوني‪ ،‬لكنهم‬
‫تجنبوا الكالم ألنني كنت أخاف االقتراب منهم‪ ،‬أرى هذا في أعينهم‪ ،‬فأحزن وأبتعد‬
‫عنهم‪ .‬يظل القصر مغل ًقا ال يسكنه أحد‪ ،‬ليس سوى الحارس الصامت الذي يخرج‬
‫كرس َّيه في النهار ليجلس أمام البوابة‪ ،‬في الليل يغلق القصر وال يظهر‪.‬‬
‫كل صباح قبل أن أذهب إلى المدرسة البعيدة أدور حوله‪ ،‬أظل مبهو ًرا بطوابقه‬ ‫ُّ‬
‫الثالثة العالية‪ ،‬ونوافذه الزجاجية العاكسة كمرآة‪ ،‬وسوره الحجري المزروعة فيه‬
‫المصابيح المضيئة برغم النهار‪.‬‬
‫أكلم ذلك الحارس‪ ،‬لكنه كان يخاف‪ ،‬أحاول أن ِّ‬
‫أكلمه‪ ،‬فيحمل‬ ‫مرة أحاول أن ِّ‬
‫أكثر من ّ‬
‫كرسيّه ويهرول داخال دون أن َّ‬
‫يتكلم‪ ،‬وأسمع أصواتا كثيرة لغلق البوابة من الداخل‪.‬‬
‫ُجن الحارس ويهرب منه‪ ،‬وتثار حوله‬ ‫ويظل القصر الكبير مهجو ًرا بعد أن ي َّ‬
‫اإلشاعات‪ ،‬فال يستطيع أحد دخوله‪ ،‬وال يدركون تسللي إليه َّ‬
‫كل ليلة بعد الغروب‪،‬‬
‫ً‬
‫سعيدا كما يليق بصاحب قصر كبير ال يجرؤ على االقتراب منه أحد‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫يحب َّ‬
‫شط النهر‬ ‫ُّ‬ ‫قارب ال‬
‫ٌ‬

‫‪٣‬‬
‫صبيحة أن أتم عامه الثالثين في ُرفقة جدي وجدت سمعان متهللًا ومنشرحً ا كما لم‬
‫أره من قبل‪.‬‬
‫قال‪« :‬اليوم أرجع‪».‬‬
‫تعجبت‪.‬‬
‫«ترجع؟! إلى أين يا عم سمعان؟ وهل لك مكان سوى هنا؟!»‬
‫قال‪« :‬سأسمّيها (نور)‪ ...‬يا كف الطريق إطو المسافة الطويلة حتى أرجع ألمي العجوز‪،‬‬
‫مهرا لفتاة سمراء‪ ،‬تطرح‬ ‫ُ‬
‫وأقول يا أمّ‪ ،‬الفقير عاد غير فقير‪ ،‬سمعان يملك ما يدفعه ً‬
‫له النور في حجره بن ًتا صغيرة بشعر أسود طويل وعينين سوداوين‪ ،‬يجلسها على‬
‫رجله في القارب الذي ال يعرف أي شط‪ ،‬وال تخاف الصغيرة من اهتزازه‪».‬‬
‫«سترحل يا عم سمعان؟»‬
‫قال‪« :‬عقب صالة الفجر أجلسني جدُّ ك أمامه‪:‬‬
‫‪ -‬عُ د يا سمعان‪.‬‬
‫ُ‬
‫فعلت ما أغضبك مني؟‬ ‫‪ -‬هل‬
‫‪ -‬أضناك الطريق وأضنيته وما قدر على وأد الحياة داخل صدرك‪.‬‬
‫‪ -‬حاولت ولم أترك وسيلة‪.‬‬
‫‪ -‬عد يا سمعان وانطلق من البداية‪ ،‬الطرق عديدة‪ ،‬وقدرك السير في الطريق‬
‫األصعب‪».‬‬
‫«سترحل يا عم سمعان؟»‬
‫قال‪« :‬ابنة الخال طيبة‪ ...‬ابنة العم جميلة‪ ...‬الغريبة تعيش‪».‬‬
‫‪« -‬سترحل؟»‬
‫ألربع‪».‬‬
‫ٍ‬ ‫مهرا‬
‫علي جدك‪ ،‬أملك ما أدفعه ً‬
‫قال‪« :‬اآلن أملك المهر‪ ،‬أغدق ّ‬
‫«سترحل؟ وتتركني؟»‬
‫قال‪« :‬سأختار السمراء حتى تمنحني «نو ًرا» سمرا َء كما أحبها‪ ،‬سأختار ابنة‬
‫الخال‪ ،‬الخال صياد‪ ،‬ولدى الصياد قارب‪ ،‬أجلس فيه‪ ،‬وتجلس «نور» في حجري‪،‬‬
‫تموجات النهر السائرة إلى الفرح‪».‬‬
‫ونمضي مع ُّ‬
‫ً‬
‫ظل شاردًا ينظر إلى البعيد‪ ،‬فلم ير دموعي التي سقطت فأنبتت صبا ًرا شائكا على‬
‫المرة‪ ،‬أُمسك حبل البغلة بيدي وأسير أمامه‪،‬‬
‫طول الطريق‪ .‬أنا الذي أوصله هذه ّ‬

‫‪195‬‬
‫محمد صالح العزب‬

‫وهو غير قادر على الكف عن االبتسام‪.‬‬


‫قال‪« :‬سأركب بطن السيّارة حتى القطار وأركب بطن القطار حتى حضن أمي التي قالت ‪:‬‬
‫ّ‬
‫سأعد الغداء وأنتظرك على عتبة الدار‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫اآلن أراها جالسة تنتظرني‪ ،‬كعادتها لن تأكل حتى أعود‪ .‬تأخرت عليك‪ ،‬يا أم‪،‬‬
‫ستضطرين إلى إعادة تسخين الغداء‪».‬‬
‫لكنه انتبه فجأة بعد أن و ّدعته واحتضنته وأغلق من الداخل باب السيّارة التي‬
‫بدأت في السير‪ ،‬فأخرج جذعه ّ‬
‫كله من شبّاكها‪.‬‬
‫قال‪« :‬أخشى أن تكون ابنة الخال الصياد قد ُخطبت يا حفيد الشيخ‪».‬‬
‫مؤكدا ْ‬
‫أن ال‪ ،‬غ َّيب تراب العجالت ابتسامته التي‬ ‫ً‬ ‫أشرت اليه برأسي ويدي بقوة‬
‫ا َّتسعت وهو يرجع بجذعه إلى الداخل‪ ،‬ويختفي‪.‬‬

‫مقاطع من رواية قيد االنجاز‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫منصور الصويم‬

‫فصل من رواية‬

‫ُت ُخوم َّ‬


‫الرماد‬

‫ً‬
‫شهرة‪ُّ ،‬‬
‫كل المدينة صارت‬ ‫ً‬
‫أسطورة فاقَ ْت حتى أسطورة أعتى النهَّابين‬ ‫ُ‬
‫صرت‬
‫الراقية الجميالت‪ .‬رجل‬
‫تلهج باسمي‪ :‬المسؤولون الكبار والوجهاء وفتيات األحياء َّ‬
‫وشكك في نزاهتي‪ ،‬وأخذ يتساءل عبر تقاريره عن مغزى التطابق‬ ‫َّ‬ ‫ترصدني‬‫وحيد َّ‬
‫أتصدى لها وأنجح في صَ ِّدها‪ ،‬وتلك التي ال تجد من‬
‫َّ‬ ‫الغريب لعمليات النهب التي‬
‫وبحاسة أمنية مدهشة عدد العمليات التي خضتها‬‫َّ‬ ‫عد َد ذلك الرجل ِّ‬
‫بدقة‬ ‫يجابهها‪َّ .‬‬
‫شمالًا وجنوبًا والعدد الموازي لها جنوبًا أو شمالًا‪ .‬ذكر بتقاريره الرجل تاجر‬
‫العطور وعالقاته المريبة وتساءل عن صلته بي‪ ،‬ذلك رجل لن أنساه ً‬
‫ابدا‪ :‬الرائد‬
‫ويتحداني عل ًنا ويقسم على فضحي واإليقاع بي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫عيسى‪ ،‬كان يخترقني َّ‬
‫بنظارته‬
‫كثر الهمس‪ ،‬كثرت أموالي فتل َّف ُّت ً‬
‫بحثا عن مفر‪ ،‬الرجل تاجر العطور بدأ يتململ‬
‫محاصرا عند قمةِ مجدي‪ .‬الرائد‬
‫ً‬ ‫ويكيد لي‪ ،‬تعرضت لمحاول َت ْي اغتيال‪ ،‬وجدتني‬
‫عيسى بنزاهته الغريبة والرجل تاجر العطور بمكائده الخطرة‪ .‬عيسى الذي ال‬
‫يُنسى َّ‬
‫خلصني منه سليم حين برز‪ ،‬أما الرجل تاجر العطور فأعددت له ما يليق به‪.‬‬
‫وخطط معه لواحدة من كبرى عملياتهما المشتركة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الرجل ّ‬
‫العطا َر‬ ‫َ‬ ‫استدعى ذلك‬
‫تركه يتجِّ ه شمالًا حيث الصحارى والجفاف‪ ،‬حيث الجبال القاسية والريح‬
‫جرد كتيبته الخاصة‪ ،‬اثني‬
‫الصرصر والعطش‪ ،‬حيث يتر َّبع وبجالل مالك الموت‪َّ ،‬‬
‫ً‬
‫جيدا على الموت والريح الدمار‪ ،‬ثالث سيارات‬ ‫مدربة‬
‫َّ‬ ‫عشر رجلًا‪ ،‬ستة جمال‬
‫وخمسة براميل مملوءة بالماء‪ .‬سُ َّدت المنافذ أمام الرجل تاجر العطور‪ ،‬أمامه‬
‫شم رائحة الخيانة فأخذ يدور‬
‫فقط الرمال الشاسعة القاسية والجبال الموت‪َّ ،‬‬
‫رصاص ُه ال يكفي لمعركة تدوم ساعة‪ ،‬جماله اصطيدت‬
‫ُ‬ ‫وسط رجاله كالمجنون‪،‬‬
‫ً‬
‫واحدا‪ ،‬رجاله اغتالهم العطش والجوع والرصاصات المكتومة في فضاء‬ ‫ً‬
‫واحدا‬

‫‪197‬‬
‫منصور الصويم‬

‫الصحراء‪ ،‬الحجارة الجامدة ال تحمي اآلن‪ ،‬والرجل المالزم يل ِّو ح له من بعيد‬


‫ويتركه مدفونًا حتى عنقه وسط الرمال الشاسعة يردِّد بموات‪« :‬ماء‪ ...‬ماء‪ ...‬ماء‪».‬‬
‫قديمة ومنس َّي ًة تنداح‪ .‬ربابته القديمة المعطوبة‪ ،‬أم كيكي‪ ،‬تدفع األلحان‬
‫ً‬ ‫األنغا ُم‬
‫الغريبة في فضاءات الصالة‪ ،‬بأنامل موسيقي عريق يولِّد األلحان من الوتر الواحد‬
‫والقرعة المشروخة‪ ،‬وشفتاه تتمتمان بالحروف المقلوبة‪ .‬األماكن القص َّية المعتمة‬
‫َ‬
‫المروق تث ِّبتني األنغام‬ ‫بدواخلي تتماوج وتترقرق بصدى األلحان المبهمة‪ .‬أحاول‬
‫يتفلت‪ ،‬أحاول اإلمساك به‪ ،‬المكان يذوب والشخص القابع أمامي‬ ‫وتأسرني‪ ،‬الوقت َّ‬
‫حاض ًنا ربابته‪ ،‬متمت ًما باألغاني البعيدة اآلفلة ال ينتمي للرجل الكهل جاحظ العينين‬
‫ً‬
‫أسيانة تتماوج وال‬ ‫ُ‬
‫واأللحان‬ ‫َّ‬
‫يتمدد‬ ‫الغارق في الالمباالة‪ .‬الوقت يتفلت والظالم‪ ،‬ظالمي‪،‬‬
‫أتم وقفتي وأستقيم‪ ،‬أصارع َّ‬
‫ضد تيار األلحان األسيانة والشجن المتماوج‪ ،‬أتركه‬ ‫تنتهي‪ُّ .‬‬
‫حاض ًنا ربابته أم كيكي ينتج ألحان أيامه الغابرة التي لن ترجع إليه وإلى األبد‪.‬‬
‫يغطي األشياء‪ ،‬وينشر سطوته‬ ‫أتدرج بالعربة شا َّقًا أحياء المدينة الهالم‪ .‬الظالم ِّ‬
‫َّ‬
‫كل المدينة‪ .‬أشباح البيوت الهرمة المتداعية تتزاوغ أمام أنوار العربة‬ ‫وجبروته على ِّ‬
‫األر ِق َين الحالمين بالمسالك المستحيلة تمسحهم كاشفات‬
‫وتضيع في الظالم‪ .‬جماعات ِ‬
‫متوسدين التراب يتبادلون الكلمات الم ِّيتة‪ ،‬ويتجشأون عرق المساء‪ .‬الظالم‪،‬‬‫ِّ‬ ‫العربة‬
‫ظالمي‪ ،‬ينحت في الرأس ي َُد ُّق‪ ،‬ي َُد ّق‪ .‬الصداع كاسحً ا يجتاحني والنار تلهب جسدي‬
‫ب األحياء‬ ‫ُ‬
‫خرجُ عربتي من جُ ِّ‬
‫حين أصل إلى أطراف المدينة الغارقة في السبات‪ ،‬أ ِ‬
‫وألف وسط الخيران الصغيرة القذرة وبين الصخور‬ ‫الطرف َّية ثم أعود بها‪ ،‬وأظل أدور ُّ‬
‫المنتشرة بإهمال‪ .‬شيء غريب وبال معنى يقودني إليهن‪ ،‬ألمحهن من بعيد‪ :‬العاهرات‬
‫قدام بيوتهن القش التراب‪ ،‬حاضنات مواقد‬ ‫المتنكرات في أزياء بائعات الشاي قاعدات ّ‬
‫نارهن وأباريق شايهن وقهوتهن راجيات َّ َ‬
‫حظهن مع مساءات هذه المدينة التي ال تنتهي‪.‬‬
‫عدوة‪ ،‬يتبلبلن‬
‫َّ‬ ‫أقترب بعربتي منهن‪ ،‬عربتي ذات الشكل المريب المحيل إلى جهات‬
‫ويرتبكن وأنا أقف قربهن‪ .‬النسوة المومسات يلملمن ثيابهن وفساتينهن القصيرة‬
‫يحاولن ستر جسد مباح‪ ،‬أجُ ُّر بَ ْن َب ًرا وأرتمي عليه‪ .‬أتأمل وجوههن َّ‬
‫الرطبة وأشم‬
‫رائحتهن الوجلة‪ .‬أرقبهن وهن يحاولن لملمة أشيائهن وإيهامي بانتهاء يومهن‪ .‬أتابعهن‬
‫بصمت ثم أضغط بيدي على رأسي أقول‪:‬‬
‫«قهوة‪».‬‬
‫وأهم‬
‫ُّ‬ ‫أشرب قهوتي ٍّ‬
‫بتأن ورو َّية‪ ،‬أحدق بعيون تعبة في وجه بائعة الشاي أمامي‪،‬‬

‫‪198‬‬
‫ُت ُخوم َّ‬
‫الرماد‬

‫أهم بسؤالها عن فتاة من فتياتها ترضى أن تطارح‬‫بسؤالها عن اسمها‪ ...‬عن أيِّ شيء‪ُّ .‬‬
‫الح َّمى وشطط الحكايات عقله‪ ،‬لك ِّني أظل صام ًتا وهن صامتات‪ .‬ال شيء‬
‫رجلًا أطارت ُ‬
‫وح َّكات قدمي‪ .‬رجل عنيد مل َّثم بالكامل‬
‫يُس َمع‪ ،‬فقط صوت رشفات قهوتي المتباعدة َ‬
‫مصرا على اقتناء مسائه هذا‪ ،‬رغم وجودي ِّ‬
‫بكل خطورتي ونذالتي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يجلس قري ًبا مني‬
‫أحرك رأسي ببطء وأرحل بعيوني التعبة متأملًا في البيوت الخربة واالكواخ القذرة‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بعيدا ش َّبانا نحافا يمرقون كالسهام‪،‬‬ ‫مأوى األفراح المسروقة واللذة المغتصبة‪ .‬ألمح‬
‫أفكر ثانية بسؤالها عن فتاة ترضى بسفري فيها‪ ،‬أنا‬ ‫ويضيعون في جوف الظالم‪ِّ .‬‬
‫ً‬
‫عامدة إسماعي‪:‬‬ ‫المجهد الحزين الباحث عن الراحة وسط الحطام‪ ،‬لك ِّني أسمعها َّ‬
‫تتكلم‬
‫«الليلة َّ‬
‫اتأخ ْرنا يا أمينة كم الساعة؟»‬
‫«الكالم َ‬
‫اخ ْدنا لملمي سريع‪».‬‬
‫وتأن َّ‬
‫عل صداع ظالمي يضيع‪ .‬أتابعهن في فتور وهن في ارتباكهن‬ ‫أظل أشرب بتم ُّهل ّ‬
‫ينقلن األشياء إلى الداخل وأسمعه صديقي المنسي يقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫وبح ِّر َّية لممارسة دورهنّ‬ ‫«العاهرة أفضل من يربِّي الرجال‪ ،‬يجب أن ُي ْت َر ْكنَ‬
‫المقدس في تربية الرجال‪».‬‬
‫اآلن األمهات العظيمات شاحبات وخائفات من وجودي‪ ،‬أنا يا سيدي‪ ،‬أنا سيد الخوف‬
‫والظالم واألوهام‪.‬‬
‫أترك بائعات الشاي البائسات ورائي‪ .‬أقود عربتي بأقصى سرعة وأمضي باتجاه‬
‫مداخل المدينة البعيدة‪ .‬الرجال الكسالى الموهومون بأهميتهم يح ُّيونني وينتصبون‬
‫أح ِّييهم وأنتظر تقاريرهم ورأسي ألَمٌ ساحق‪ .‬أجلس على أقرب مقعد‬
‫أمامي كالكارثة‪َ ،‬‬
‫والرجال الوهم يمدُّ ون لي تقاريرهم ألقرأها‪ .‬أسمع أصواتهم ً‬
‫آتية من بعيد وأراهم‬
‫ويص ُّرون على إيضاحها لي‪ .‬أشكو إليهم آال َم رأسي‬ ‫أمامي يتراقصون‪ ،‬يَ ْت ُل َ‬
‫ون تقاريرهم ِ‬
‫وأوجاعي والظالم‪ .‬يثرثرون بوجهي عن العربات المريبة المرصودة خلف الوديان‬
‫َ‬
‫والمتسربة إلى القرى والفرقان‪ .‬أمسك رأسي‬
‫ِّ‬ ‫البعيدة وعن كم َّيات السالح المهربة‬
‫بيدي فيقولون إن أزمة الوقود تتفاقم وإ َّنهم يرصدون بوادر انفجار‪َّ .‬‬
‫أتأوه‪ ،‬أتق َّيأ أمامهم‬
‫وأتمدد على التراب‪ .‬أسمعهم يهمهمون‪:‬‬‫َّ‬ ‫كل أحشائي‬‫مستفرغا َّ‬
‫ً‬
‫«سيادتك أنت تَعِب‪ ،‬ي ُ‬
‫ُمكن أن ترتا َح بالداخل‪».‬‬
‫وأحس بالعرق‬
‫ُّ‬ ‫يحاولون سندي وإيصالي إلى الفراش الخشن الجاف‪َّ ،‬‬
‫أتمدد في تعب‬
‫بالحمى طاغية‪ ،‬وبرغبة عارمة في امتطاء‬
‫َّ‬ ‫وأحس‬
‫ُّ‬ ‫كل مسام جسدي‪،‬‬ ‫غزيرا يَ ُن ُّز من ِّ‬
‫ً‬

‫‪199‬‬
‫منصور الصويم‬

‫أشم‬
‫أشم رائحتها الغريبة‪ُّ .‬‬
‫جسد أنثى‪ .‬أتخ َّيل وجه بائعة الشاي أمامي تبتسم‪ُّ ،‬‬
‫دافئات يعركن جسدي‪ ،‬ويطردن‬
‫ٍ‬ ‫رائحتهن‪ ،‬أتخيلهن أمامي‪ ،‬أحسهن بقربي‪ ،‬ل ِْصقِي‬
‫مسافرا راحلًا في الظالم‪.‬‬
‫ً‬ ‫أحسني‬
‫عني هذا البرد المقيم‪ ،‬ثم ُّ‬
‫الحمى والهذيان‪ ،‬حاولوا‬
‫َّ‬ ‫نقلوني إلى القصر‪ .‬يومين قضيتهما تائهًا في بحيرات‬
‫نقلي إلى المستشفى لك َّنه رفض وأبيت أنا أثناء واحدة من نوبات صحياني‪ .‬اهتم‬
‫بي بشكل حنون وقلق وبقلب مشفق أخذ يرعاني‪ ،‬يقضي الساعات الطوال بجواري‬
‫متمترسا قربي‪ ،‬ال‬
‫ً‬ ‫مراق ًبا انسياب الكينين عبر أنابيب ِّ‬
‫الد ِر َّبات الرقيقة الشفافة‪،‬‬
‫أصفر م ُّر‪.‬‬
‫َ‬ ‫أعشاب‬
‫ٍ‬ ‫مستحلب‬
‫َ‬ ‫يتحرك‪ ،‬ي ُِص ُّر عند لحظات إفاقتي على َس ْق ِيي‬
‫أتكلم وآكل بشه ِّية‬‫نشطا بشكل تام‪ ،‬أخذت َّ‬ ‫ً‬ ‫عند اليوم السادس لمرضي كنت‬
‫جيّدة نوعً ا ما‪ ،‬بدا أنه ال يصدق أني أحادثه من جديد وأضحك لقفشاته‪ ،‬وأشخط‬
‫في الرجال أمامه‪ .‬فرح بصورة طفولية لشفائي وأخذ يصف لي فوائد الكبدة الن َّية‬
‫َّ‬
‫ويتكلم عن ضرورة تناول البيض المسلوق والبرتقال‬ ‫لفترة ال َّن َقه َّ‬
‫خاصة كبدة اإلبل‪،‬‬
‫ِّ‬
‫وكل ما خطر بباله من أنواع الفواكه والمأكوالت‪ ،‬ألستعيد‬ ‫الطا َزج والكريب فروت‬
‫واص َفها‬
‫كأس ويسكي واحدة أصَ َّر على تجرعي لها ِ‬
‫علي َ‬
‫قواي سريعًا حتى إنه عرض َّ ّ‬
‫ٌ‬
‫واشمئزاز‬ ‫ٌ‬
‫منهك وروحٌ محبطة‬ ‫ٌ‬
‫جسد‬ ‫بأنها دواء قبل أن تكون أيَّ شيء آخر‪ .‬لكني‬
‫بال حدود‪.‬‬
‫عند الصباح كان يأخذني ويجول بي وسط أشجار وأزهار حديقته‪ ،‬ويخبرني‬
‫بأن المالريا طريق مسفلت لإلصابة باألزمات النفسية‪ .‬يقعدني بقربه تحت شجرة‬
‫الياسمين ويقول لي‪:‬‬
‫ْ‬
‫استنشق َ‬
‫بعض ريح الج َّنة‪».‬‬ ‫ُ‬
‫«ش ْم‪...‬‬
‫يستنشق هو بعمق ويغمض عينيه‪ .‬أتساءل أنا‪ :‬ماذا أفعل بقرب هذا الرجل!‬
‫أسأله‪:‬‬
‫«سيادتك‪ ...‬فترة مرضي‪ ...‬ألم يحدث جديد؟‪ ،‬أقصد بخصوصك!»‬
‫يستنشق بعمق ويربت على كتفي‪:‬‬
‫صدقني لن يحدث شيء!‪ ،‬سيتركونني هكذا‬ ‫«أنت لم تغب أكثر من خمسة أيام‪ ،‬ثم ِّ‬
‫كل شيء إلي أو يعيدونني أنا نفسي‪».‬‬‫شهرا آخر‪ ...‬عامًا‪ ...‬ثم سيعيدون َّ‬
‫ً‬
‫قال هذا وقهقه بصدى دا ٍو‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫ملفات ضخمة ُتر َّتب بح ِّقك‪».‬‬ ‫«ال أظن ذلك‪ ،‬هنالك َّ‬

‫‪200‬‬
‫ُت ُخوم َّ‬
‫الرماد‬

‫َ‬
‫تراخى وتثاءب‪:‬‬
‫«لن يجدوا شي ًئا‪ ،‬أنا أدرى الناس بنفسي‪».‬‬
‫«التقارير تقول إنهم بصدد ترتيب ما يليق وعظمتك‪ ،‬سيادتك‪».‬‬
‫لمحني بضجر وقال‪:‬‬
‫لكن خير لهم أن يرتِّبوا ألنفسهم قبل‬
‫«ليرتِّبوا ما شاءوا بصددي أو بصدد الجميع‪ْ ،‬‬
‫كل شيء‪ ،‬أال َ تراهم وقد بدأوا يفغرون أفواههم كالبلهاء؟»‬
‫َّ‬
‫ت ثم أضاف‪:‬‬ ‫ص َم َ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫بعيدا‪ ،‬ق ْم‪ ،‬فأنت مريض وتحتاج للراحة‪».‬‬ ‫«أنت معهم بالطبع لك َّنك ما زلت‬
‫َ‬
‫اقول إنهم سيرسلونه إلى جه َّنم‪،‬‬ ‫كنت غاض ًبا ومستا ًء من نفسي‪ .‬كنت أو ُّد أن‬ ‫ُ‬
‫وإني هنا لحبسه ومراقبته ولست باق ًيا لمسامرته ومشاركته جلسات خمرة‪.‬‬
‫كنت أو ُّد أن أقول له إنه نفاية‪ ،‬وإن مكانه مزبلة التاريخ! لك ّنه يسندني ويعِدُّ لي‬
‫الدجاج المسلوق ويختار أشرطة الموسيقى الحالمة‪ ،‬يدغدغني بها حتى أنام‪ ،‬لقد‬
‫كان رحي ًما وشفوقًا بي ُ‬
‫كأم‪.‬‬
‫فجرا كعادته مع زقزقة العصافير وانبثاق‬
‫ً‬ ‫في اليوم السادس لمرضي استي َق َظ‬
‫حبيبات الندى على ورق األشجار‪ .‬دلف إلى غرفتي كما ظل يفعل عند ِّ‬
‫كل صباح‬
‫منذ مرضي‪ ،‬لك َّنه لم يَجِ ْدني بالفراش‪ .‬طاف بالشرفات الواسعة وأخذ يبحث عني‬
‫َّ‬
‫المبطنة الضخمة ووسط انتيكاته الغريبة وبين حيواناته‬ ‫بتجاويف كراس ِّيه‬
‫الضخمة المح ّنطة‪ .‬طاف بالصاالت الخالية من األثاث حتى خرج إلى الحديقة‪ ،‬فَ َر َد‬
‫صدره واستنشق عبير الورود‪ ،‬تر َّيض بقرب أرانبه وغزالنه‪ ،‬ثم ا َّتجه إلى الرجال‬
‫المتمترسين جوار البوابة الضخمة‪ ،‬سألهم عني‪ ،‬فأخبروه بأني لم أخرج مطل ًقا فعاد‬
‫إلى غرفه العديدة‪ ،‬ليبحث عني‪.‬‬
‫حين دلف إلى داخل غرفته األثيرة مخزن الذكريات وجدني مسترخ ًيا على كرس ِّيه‬
‫ٌ‬
‫واحد من ألبوماته الكثيرة أتفرج على صوره فرفع أصابعه كحا ٍو عريق‬ ‫الهزَّ از وبيدي‬
‫ومخضرم‪ ،‬حنى رأسه قليلًا وقال‪:‬‬
‫لكن كيف دخلت؟»‬‫«كنت أعرف أني سأجدك هنا‪ْ ،‬‬
‫كل الغرف والدواليب والخزانات‪ُّ ،‬‬
‫كل ما له قفل ومفتاح‪ ،‬لدينا منه‬ ‫«سيادتك‪ُّ ،‬‬
‫نسخة‪ ،‬سيادتك‪ ،‬هل نسيت من نحن؟»‬
‫بدا مستا ًء قليلًا وهو يجلس قبالتي‪ .‬تجاهل كالمي عن المفاتيح واألقفال والـ«نَ ْح ُن»‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫منصور الصويم‬

‫أشار إلى البوم الصور بيده وسألني‪:‬‬


‫تتفر ج؟ ابتس َم ثم أضاف بسخرية «سيادتك‪ ،‬سيادة النقيب‪،‬‬
‫َّ‬ ‫«على ماذا‬
‫َج َنابُو‪»...‬‬
‫تحد ُ‬
‫ثت معه بنزق غريب ال مبرر له‪ ،‬قلت‪:‬‬ ‫َّ‬
‫«هذا ما يجب أن توضحه‪ ،‬سيادتك‪».‬‬
‫«أوضحه!»‬
‫تلون وج ُهه بشكل مفاجئ وقفزت‬
‫عيني وقد َّ‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫مباشرة في‬ ‫قال هذا وأخذ ِّ‬
‫يحدق‬
‫َّ‬
‫وتقلص فمه‪ ،‬صار شكله غري ًبا وهو غاضب قال‪:‬‬ ‫شرايين جبينه‬
‫«لن أوضح شي ًئا‪ ،‬وأطلب منك أن تعيد األلبوم إلى مكانه واآلن‪»...‬‬
‫ً‬
‫حمرة‪ .‬لقد‬ ‫تبادلنا النظرات الحادَّة فترة من الوقت ووجهه يزداد اسودادًا وعيناه‬
‫كان غاض ًبا بشكل كامل وغريب ولقد كنت أرغب في الضحك ح ًقا وأنا أراه أمامي‬
‫َّ‬
‫يتبدل بهذه السرعة المفاجئة على غير عادته‪ .‬كان بإمكاني أن أطور المسألة‪ ،‬وأن‬
‫أحسم أموري معه تمامًا وأتخلص وبشكل حاسم من مأزق مالزمتي له‪ ،‬فقط بافتعال‬
‫بكل عبط الجنود وقساوتهم‪ .‬كانت فرصتي للتخلص منه‪ ،‬ومن هذا‬‫عراك مزخرف ِّ‬
‫ِّ‬
‫وبكل أدب‪ ،‬أمسك بألبوم الصور أعيده إلى مكانه‬ ‫األلم المتجدد يومًا إثر يوم‪ ،‬لكني‬
‫ِّت بيدي على كتفه‪ ،‬ثم أعتذر وأتأسف له‪ ،‬وأعده بأن هذا لن‬ ‫ثم أقترب منه‪ ،‬وأ َرب ُ‬
‫كف ُه يدي بكتفه قال‪:‬‬ ‫ً‬
‫ثانية حتى ال َم َس ْت ُّ‬ ‫يتكرر‬
‫ّ‬
‫«أرجو أن ال يتكرر‪».‬‬
‫«نعم سيادتك‪ ».‬قلت‪.‬‬
‫أش َع َل سيجارة ونا َولَني واحدة‪.‬‬
‫كل ما أقوله‬ ‫«صدقني‪ ،‬ال أحد يجبرني اآلن وبعد ِّ‬
‫كل هذه السنوات على فعل شيء‪ُّ .‬‬ ‫ِّ‬
‫لك أو أسرده فأنا أفعله برغبة حقيقية دون أي ضغط أو خالفه‪».‬‬
‫قال هذا وشرد بنظراته قليلًا‪.‬‬
‫يتكرر هذا‪».‬‬
‫َّ‬ ‫ثانية من سيادتك وأُ َك ِّر ْر‪ ...‬لن‬
‫ً‬ ‫«أعتذر‬
‫برهة ليست قصيرة حتى ظننت أنه نسيني لك َّنه باغتني بقوله‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ص َم َ‬
‫ت‬
‫«هات ألبوم الصور جنابو‪».‬‬
‫ُ‬
‫كانت صو ًرا فوتوغرافية قديمة باألبيض واألسود أخِ َذت له في زمن آفل وقديم‪.‬‬
‫كثيرا عن هذا الكهل‪ ،‬لك ّنه هو بعيونه الجاحظة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مختلفا‬ ‫عالي الجسد نزق العينين‬

‫‪202‬‬
‫ُت ُخوم َّ‬
‫الرماد‬

‫ٍّ‬
‫وتحد مري ٌع‬ ‫ٌ‬
‫فاقعة‬ ‫ٌ‬
‫وشهوة‬ ‫عار تمامًا‬ ‫َّ‬
‫وبالشامة المستطيلة الممتدة على طول عنقه‪ٍ ،‬‬
‫ايضا ذات جسد جميل التقاطيع ورشيق‪،‬‬ ‫يش َّعان من عينيه‪ ،‬بين يديه أنثى عارية ً‬
‫تدفن وجهها تحت إبطه في إحدى الصور وتدفنه بين فخذيه في صورة أخرى‪،‬‬
‫ورغم تعدُّ د الصور إال أن وجهها ال يبين مطل ًقا‪ .‬سألته‪:‬‬
‫«كيف حدث هذا سيادتك؟»‬
‫والفتوة‪ ،‬وقت أن كانت المدينة ك ُّلها‬
‫َّ‬ ‫«حدث في الزمن الجميل‪ ،‬وقت الجبروت‬
‫تلهج باسمي‪».‬‬
‫ً‬
‫بعيدا‪.‬‬ ‫كان ِّ‬
‫يركز نظراته على وجهي ثم بدأ يتجاوزني ويرحل‬
‫«نعم‪ ،‬بعد تلك الزوبعات المثيرة التي كنت أثيرها عقب ِّ‬
‫كل مطاردة بغابر األزمان‪،‬‬
‫والتي كانت تحوطني وتخلق ذلك الضجيج الذي ال يهدأ أثناء وجودي بالمدينة‪ُّ ،‬‬
‫كل‬
‫إلي‪ ،‬أن يروا هذا الرجل األسطورة عن قرب‪،‬‬
‫هذا جعل الجميع يسعون ألجل أن يتعرفوا ّ‬
‫أن يتحادثوا معه‪ ،‬ويشربوا برفقته قهوة‪ ،‬أو يتعاطوا معه زجاجة عرق‪ ،‬ثم يتباهون‬
‫بذلك‪ .‬لك ِّني كنت أختار من أو ُّد معرفتهم بعناية ودراية‪ .‬تعرفت إلى الكثيرين خالل‬
‫اجتماعات وجهاء المدينة‪ ،‬خالل رحالت الصيد الطويلة مع أبناء الذوات والعوائل‬
‫الكبيرة‪ ،‬تعرفت إلى الصعاليك والمغامرين من أبناء الوجهاء خالل األمس َّيات النزقة‪،‬‬
‫حيث الخمرة والنساء وطاوالت القمار‪ .‬من بين الكثيرين تعرفت إلى سليم الشيخ‬
‫سليم أمْ َب ِّدي‪ ،‬أنت تعرفه؟ نعم‪».‬‬
‫ف إلى ذلك الرجل سليم في واحدة من سهرات الليل الفاجرة التي كانت تشهدها‬ ‫تعر َ‬
‫َّ‬
‫وتقرب مقصود من‬
‫ُّ‬ ‫المدينة في ذلك الوقت‪ .‬تعارفا على دعوات الشراب بإصرار شديد‬
‫قبل سليم أمبدي‪ ،‬ثم تكاثرت لقاءاتهما بعد ذلك‪ .‬حفالت مجون صاخبة‪ ،‬وسهر حتى‬
‫الفجر‪ ،‬دعوات عشاء مهيبة ولقاءات بأناس مهمّ ين يأتون من العاصمة ومن المدن‬
‫ً‬
‫غامضا ويحمل ه ًما ثقيلًا‬ ‫المجاورة‪ ،‬لك ّنه ظل يحس دومًا بأن سليم يخفي وراءه ً‬
‫أمرا‬
‫ترصده ور َّتب له حتى انفردا في إحدى الليالي وحيدين بينهما‬
‫يعجز عن تحمله‪َّ .‬‬
‫زجاجة عرق وصمت ثقيل وحزن وقلق ظاهران يل َّفان سليم‪.‬‬
‫يتكلم بصوت خفيض وهامس وضوء القمر ينعكس على‬ ‫َّ ّ‬ ‫في تلك الليلة كان سليم‬
‫وجهه البهي‪ .‬لقد كان في تمام وسامته في تلك الليلة‪ ،‬بعينيه الم َّتسعتين والقلق‬
‫ال منهما وهو يحكي ويكاد يتالشى خجلًا‪ .‬شيء غريب‬ ‫الط ِّ‬
‫العميق والحزن األسيف َّ‬
‫ومبهم ال عالقة له بوُ دِّي لسليم وال عالقة له بتعاطفي معه لحساس َّية وضعه‪ ،‬شيء‬

‫‪203‬‬
‫منصور الصويم‬

‫كل هذا غامض ومثير دفعني إلى االستماع إليه ومساندته‪.‬‬‫آخر بعيد عن ِّ‬
‫دجال مشعوذ‪ ،‬يعمل بعالج النسوة العواقر‬ ‫رجل مجهول َّ‬
‫حط فجأة بوسط المدينة‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫المبطنة ال أحد يذكر متى وصل إلى المدينة‪ ،‬وكيف امتلك ذلك البيت‬ ‫وبالقوادة‬
‫الكبير في وسطها متزوجً ا من أنثى شيطانية الجمال‪ ،‬جعل من منزله بؤرة لسهرات‬
‫المجون الخالدة‪ ،‬يعمل وبخبث على اإليقاع بالرجال المه ِّمين في أتون مخططاته‬
‫الدنيئة‪ ،‬يختار بعناية أحد الرجال المه ِّمين في المدينة‪ ،‬يجعله يشرب من الخمر‬
‫برفقة امرأته خارقة الجمال‬
‫ما ينسيه حتى نفسه‪ ،‬ثم يخرج من البيت ويتركه ُ‬
‫عار تمامًا بأحضان امرأة ال يبين وجهها‬
‫يومًا أو اثنين‪ ،‬ويفاجأ الرجل بصور له وهو ٍ‬
‫مطل ًقا ويبدأ االبتزاز‪.‬‬

‫فصل من رواية «تخوم الرماد» منشورات مكتبة الشريف‪ ،‬السودان ‪2001‬‬

‫‪204‬‬
‫منصورة ِّ‬
‫عز ِّ‬
‫الدين‬

‫قصة قصيرة‬

‫نحو الجنون‬

‫كنت أراقب جارتي وهي تخطو بدأب نحو الجنون‪ .‬كانت تتجه إليه بالبساطة‬
‫نفسها التي تضع بها أكياس القمامة أمام باب ش َّقتها َّ‬
‫كل صباح‪ ،‬باإلتقان نفسه الذي‬
‫تطهو به أصناف الطعام التي تغمرني روائحها الشه َّية َّ‬
‫كلما مررت بشقتها الواقعة أسفل‬
‫ُ‬
‫انتقلت للسكن في البناية لم ألحظ أي شيء غريب أو حتى غير‬ ‫شقتي مباشرة‪ .‬حين‬
‫اعتيادي فيما يخصها‪ .‬امرأة في أوائل الثالثينات‪ .‬ر َّبة بيت نشيطة وأم وحيدة تبالغ‬
‫قليلًا في رعاية أطفالها الثالثة الذين يبلغ أكبرهم تسعة أعوام كما أخبرتني‪.‬‬
‫َّ‬
‫السلم وأنا متجهة إلى عملي أو عائدة منه‪.‬‬ ‫كلما قابلتني على‬‫تبتسم في وجهي َّ‬
‫صوتها خافت ومالمحها منمنمة بما يتناسب مع قصر قامتها وصغر وجهها‪ .‬ورغم‬
‫تعليق‬
‫ٍ‬ ‫ارتدائها العباءة والحجاب‪ ،‬الذى يصل إلى ما تحت صدرها‪ ،‬كانت ال تحرمني من‬
‫مجامل على تسريحة شعري أو فستاني القصير أو حتى رائحة عطري‪« .‬تحفة»‬ ‫ٍ‬
‫تقول وعيناها تلمعان بطريقة شخص متش ِّوق للتواصل مع اآلخرين‪.‬‬
‫ُّ‬
‫التحفظ الذي يشعرني بالذنب بعدها‪ .‬حرصت‬ ‫ً‬
‫عادة ما كنت أتقبل تعليقاتها بنوع من‬
‫منذ البداية على أن أضع مسافة مالئمة بيني وبين جيراني‪ ،‬فنمط حياتي ال يسمح لي‬
‫بتضييع أي وقت في محاولة التواصل مع أناس مختلفين ِّ‬
‫كل ًيا عني‪ .‬أنا بالنسبة إليهم‬
‫مجرد مكان للنوم‪ ،‬إذ كنت أغادر في الواحدة‬
‫َّ‬ ‫امرأة غريبة األطوار تتعامل مع بيتها‬
‫ظهرا وال أعود إال مع اقتراب منتصف الليل‪.‬‬
‫ً‬
‫ً‬
‫لم يكن مألوفا بالنسبة إليهم أن تعيش امرأة َّ‬
‫تعدت الثالثين مثلي بمفردها‪ :‬ال زوج‪،‬‬
‫لكن هذه المرأة بدت كأنما ترغب في أن تتغاضى عن ِّ‬
‫كل هذه‬ ‫ال أوالد‪ ،‬وال أقارب‪ْ .‬‬
‫علي‪ .‬كنت أرى في عينيها نوعً ا من التوق للتواصل معي‪،‬‬
‫المآخذ التي أخذها الجيران ّ‬
‫ُ‬
‫عزوت ذلك لالختالف بيننا‪ ،‬فأنا بالنسبة إليها أش ِبه ذلك الغريب الذي نقابله في‬

‫‪205‬‬
‫منصورة عزِّ الدِّ ين‬

‫مرة أخرى‪.‬‬ ‫ِّ‬


‫بأدق أسرارنا‪ ،‬ألننا ندرك أننا لن نراه ّ‬ ‫سفرة بعيدة ونفضي إليه‬
‫قد أكون جنحت إلى المبالغة في تفسير نظراتها إلي‪ ،‬لكني كنت واثقة من بأن‬
‫هذه المرأة القصيرة ذات المالمح المنمنمة لديها ما تريد إخباري به‪.‬‬
‫َّ‬
‫بشد ة‪ ،‬ثم صوت‬ ‫عندما أسمع صراخها الهستيرى وهي تع ِّنف أطفالها‬
‫نشيجها الذي يتلو وصلة التعنيف اليومية‪ ،‬كنت أصاب بالحيرة‪ ،‬إذ كيف‬
‫للمرأة الهادئة‪ ،‬ضئيلة الجسم‪ ،‬دقيقة المالمح‪ ،‬التي اصطدم بها من وقت آلخر‬
‫على َد َرج البناية أن تتحول إلى مخلوقة هستيرية تحول صباحاتي إلى جحيم‬
‫بشجارها الدائم مع أوالدها‪ ،‬وتضطرني إلى االستيقاظ ِّ‬
‫مبك ًرا حتى في أيام العطل؟‬
‫ال َّ‬
‫أتذكر اآلن متى بدأ صوتها المرتفع ينطلق لتصدح به وهي تقف على بسطة َ‬
‫الد َرج‪،‬‬
‫ً‬
‫منادية زوجة البواب كي تشتري لها ما تريده من الخارج‪ ،‬رغم وجود‬ ‫أمام َّ‬
‫شقتها‪،‬‬
‫يمكنها من طلب ما تريده من المرأة بصوت هادئ وهي‬‫جهاز «اإلنتركوم» الذي ِّ‬
‫جالسة فى مكانها‪.‬‬
‫البواب وأنا أسمع جارتي تسبها م َّتهمة إ َّياها بتجاهلها‪ ،‬وأشفق‬
‫كنت أتعاطف مع امرأة َّ‬
‫أبدا) حين تعاقبهم بأن تحبسهم فى‬ ‫على أطفال جارتي المشاغبين (الذين لم أرهم ً‬
‫إحدى الغرف وتغلق الباب عليهم‪ ،‬من دون أن تكترث بتوسالتهم أو بالجلبة التى‬
‫يسببونها َ‬
‫بط ْرقهم المتواصل على الباب‪.‬‬
‫بدأت أتخ َّيل عقلها كقطعة أرض َّ‬
‫تشققت بفعل العطش ثم فتحت ذراعيها للماء‬
‫مغطيا إياها‪ ،‬الماء هو الجنون الذي يزحف ِّ‬
‫ليغطي عقلها ويواريه‬ ‫وقد أخذ يجرى ِّ‬
‫في الخلفية‪.‬‬
‫أبدا أن أتخلص من صورة األرض العطشى والماء يفيض عليها‪َّ .‬‬
‫كلما‬ ‫لم استطع ً‬
‫اصطدمت بالمرأة على الدرج أو سمعت صوتها الذي أصبح مبحوحً ا بفعل الصراخ‬
‫المتواصل ألتفه األسباب‪ ،‬أرى شقوقًا تبتلع الماء‪.‬‬
‫ذات صباح فوجئت بها تطرق بابي‪ ،‬كانت مرتبكة وعيناها حمراوان كأنما قضت‬
‫الليل َّ‬
‫كله في البكاء‪ .‬فسحت لها الطريق فدخلت مباشرة إلى الصالون كأنها تحفظ‬ ‫َّ‬
‫شقتي عن ظهر قلب‪ .‬لم أكن قد أفقت تمامًا من أثر النوم‪ ،‬فتبعتها بكسل وأنا أردِّد‬
‫كلمات الترحيب المعتادة‪ .‬عندما جلست في مواجهتها الحظت أن نظراتها زائغة‪،‬‬
‫وجسدها يرتعش بعض الشيء‪ .‬أخذت تنظر حولها بتو ُّتر للتأكد من أننا وحدنا‪.‬‬
‫وغطته بمفرش منضدة الصالون‪ .‬نظرت‬ ‫َّ‬ ‫ثم انتفضت فجأة متجهة لجهاز التلفاز‪،‬‬

‫‪206‬‬
‫نحو الجنون‬

‫للسقف والجدران بتمعن‪ ،‬ثم اقتربت لتجلس بجواري على الكنبة وهي تهمس‪:‬‬
‫«معلش‪ .‬االحتياط واجب‪».‬‬
‫ِّ‬
‫أصدقها‬ ‫أعلق واكتفيت بابتسامة مشجِّ عة‪ ،‬فبدأت تحكي وهى ترجوني أن‬ ‫لم ِّ‬
‫وأال أ َّتهمها بالجنون كاآلخرين‪ .‬قالت إنها لم تعد تتحمل الحياة على هذا النحو‪ ،‬وأن‬
‫كل حركاتها حتى في غرفة نومها لدرجة تضطر معها إلى‬ ‫طليقها يراقبها ويرصد َّ‬
‫النوم وهي مرتدية العباءة والحجاب‪ .‬طلبت مني أن أنزل إلى َّ‬
‫شقتها لرؤية الكاميرات‬
‫مضطرة‪ .‬حين وصلنا لباب شقتها وضعت سبابتها أمام‬ ‫َّ‬ ‫المزروعة في أركانها فتبعتها‬
‫فمها طالبة مني أال َّ‬
‫أتكلم‪ ،‬دخلت على أطراف أصابعها وأنا خلفها‪ .‬بدا بيتها كأ َّنه نسخة‬
‫منقولة عن بيتي ِّ‬
‫بكل تفاصيله‪ :‬األثاث‪ ،‬وألوان الستائر وحتى َّ‬
‫اللوحات المعلقة على‬
‫الحوائط‪ .‬تلفازها كان مغطى هو اآلخر‪ .‬اندهشت وشعرت ببعض الخوف النابع من‬
‫عدم الفهم‪ .‬نظرت حولي ً‬
‫بحثا عن أوالدها إال أنني لم أعثر لهم على أي أثر‪ .‬دخلت‬
‫معها َّ‬
‫كل الغرف فأخذت تشير إلى ما تظنه كاميرات سرية وأجهزة تنصت‪ .‬كنت‬
‫مشغولة فقط بالبحث عن أي أثر لألوالد الثالثة المزعجين‪ .‬تركتني دقائق للذهاب‬
‫لت لغرفة نومها‪ ،‬كان هناك جهاز تسجيل كبير وبجواره عدة‬ ‫َّ‬
‫فتسل ُ‬ ‫إلى الحمام‪،‬‬
‫شرائط كاسيت‪ ،‬من دون أن أفكر أخذت الشريط الموجود داخل المسجل وأخفيته‬
‫في مالبسي وا َّتجهت للباب‪.‬‬
‫مرة يطرقون بابًا‬
‫في شقتي رحت استمع ألصوات األطفال المنطلقة من الكاسيت‪ّ ،‬‬
‫يتوسلون من أجل إخراجهم‪ ،‬وأخرى وهم يلعبون بأصوات صاخبة تقطعها‬
‫َّ‬ ‫ما وهم‬
‫فترات صمت تام‪ .‬كانت األصوات نفسها التي اعتدت سماعها منبعثة من شقة جارتي‪،‬‬
‫لكن من دون صوتها هي‪ ،‬يبدو أنها كانت تضيفه على األصوات المسجلة‪.‬‬
‫عندما دخلت زرتها في شقتها‪ ،‬لم أجد أطفالها الثالثة‪ ،‬الذين لم أرهم ً‬
‫أبدا‪ ،‬كانت‬
‫كل معلوماتي عنهم مستقاة من الكلمات القليلة التي كنت أتبادلها مع جارتى حين‬‫ّ‬
‫ألتقيها على بسطة السلم‪ ،‬ومن روائح األطعمة الشهية التي كانت تعدُّ ها لهم‪ ،‬وأيضا من‬
‫كل يوم تقري ًبا على حبل غسيلها‪.‬‬ ‫خالل مالبس األطفال التي اعتادت أن تنشرها َّ‬
‫وقررت أن أزورها في اليوم التالي ِّ‬
‫متعللة بأي حجة‪،‬‬ ‫شعرت بنوع من التعاطف معها َّ‬
‫رغم معرفتي بأنها نظرا للبارانويا التي بدت واضحة عليها ونظرا لخروجي المفاجئ‬
‫شقتها ربما تظنني جاسوسة لطليقها عليها‪.‬‬ ‫من َّ‬
‫َّ‬
‫الشقة الواقعة أسفل شقتي‪.‬‬ ‫فى الصباح وجدت نفسي واقفة أمام‬

‫‪207‬‬
‫منصورة عزِّ الدِّ ين‬

‫طرقت الباب ثالث طرقات خفيفة‪ ،‬ففتحت لي امرأة في حوالي الخمسين‬


‫مرحبة‪ .‬سألتها عن‪ ...‬عن‪...‬‬
‫ِّ‬ ‫ترتدي مالبس بيت قطنية وتبتسم ابتسامة‬
‫َّ‬
‫الشقة‪.‬‬ ‫اكتشفت أنني ال أعلم اسم جارتي فوصفتها لها وقلت إنها تسكن هذه‬
‫أخبرتني المرأة الخمسينية أنها تسكن هنا مع ابنتها الجامعية منذ عشر سنوات‪ ،‬وال‬
‫ِّ‬
‫متشككة‪ ،‬فاعتذرت‬ ‫تعرف عمن أتحدث‪ .‬بدا عليها نفاد الصبر وهي ترمقني بنظرة‬
‫محرجة‪.‬‬
‫َ‬ ‫وأنا أغادرها‬

‫***‬

‫كنت أتابع المرأة غريبة األطوار التي تسكن في الش َّقة التي تعلو ش َّقتي‪ ،‬من دون أن‬
‫َّ‬
‫أتكلم معها‪ ،‬اعتدت أن أقابلها من وقت آلخر على َد َرج البناية‪ ،‬كانت دائ ًما في عجلة‬
‫من أمرها‪ ،‬تهبط درجات السلم أو تصعدها عدوً ا كأن هناك من يطاردها‪.‬‬
‫امرأة في الثالثينات تقريبا بجسد ضئيل ومالمح منمنمة‪ ،‬تترك شعرها الطويل‬
‫عال بدرجة ملحوظة‪.‬‬
‫منسدال على كتفيها‪ ،‬وترتدي مالبس قصيرة وأحذية ذات كعب ٍ‬
‫حرصت على تجنبها منذ البداية إذ بدت لي غير م َّتزنة بعض الشيء‪ .‬سمعتها أكثر‬
‫مرة ِّ‬
‫تحدث نفسها وهي تصعد أو تهبط‪ .‬كنت فقط أتبادل معها تح َّية الصباح أو‬ ‫من ّ‬
‫المساء حين أقابلها على الدرج‪ ،‬فتر ُّد دون أن تنظر إلي ثم تواصل همهماتها غير‬
‫المفهومة‪.‬‬
‫كان من الممكن أن تظل كغيرها من الجيران بالنسبة إلي‪ ،‬فعدم اتزانها يخصها‬
‫وحدها ما دامت مسالمة وغير عدوانية‪ ،‬غير أنني بدأت اتضايق من الجلبة التي‬
‫تصدر بشكل دائم عن ش َّقتها على رغم معرفتي بأنها تسكن وحدها‪ .‬كانت هناك‬
‫ضوضاء ناجمة عن بكاء أطفال صغار وشجارهم مع بعضهم ً‬
‫بعضا‪ .‬وصوت امرأة تبدو‬
‫كما لو كانت أ َّمهم تع ِّنفهم وتصرخ فيهم بشكل دائم‪.‬‬
‫حين شكوت لحارس البناية وطلبت منه أن يبلغها بانزعاج الجيران من األصوات‬
‫المرتفعة الصادرة من عندها ليل نهار‪ ،‬فوجئت به يخبرني أن جارتي غير الم َّتزنة‬
‫نفسها قد اشتكت من تلك الضجة مؤكدة له أنها تصدر من شقتي أنا!! ذات يوم كنت‬
‫على ْ‬
‫وشك الصعود إليها كي أبدي لها انزعاجي وعدم استطاعتي النوم بسبب صخبها‪،‬‬
‫إال أنني وجدتها هى من يطرق بابي لتسألني عن امرأة ضئيلة الجسم ترتدي العباءة‬

‫‪208‬‬
‫نحو الجنون‬

‫عية أنها تسكن شقتي‪.‬‬ ‫مد ً‬


‫والحجاب َّ‬
‫أصبت بالذهول‪ ،‬وأنا أراها تل ِّفق هذه االدعاءات السمجة‪ ،‬فالمرأة ذات العباءة‬
‫للمرة األولى أنها‬
‫تصورت معها حين رأيتها ّ‬
‫والحجاب تشبهها هي تمام الشبه لدرجة َّ‬
‫توأمها وتسكن معها‪ ،‬إال أن البواب أخبرني أنه لم ير االثنتين معًا ولو مرة واحدة‪،‬‬
‫وأنه يعتقد أنهما الشخصية نفسها‪.‬‬
‫ُ‬
‫واكتفيت بقول إني أسكن هنا مع ابنتي وحدنا منذ عشر سنوات‬ ‫ُ‬
‫تمالكت أعصابي‬
‫وال نعلم شي ًئا عن المرأة التي تسأل عنها‪ .‬بدا اندهاشها حقيق ًّيا وهي تسمع مني ذلك‪،‬‬
‫فأمسكت بالباب كأني على ْ‬
‫وشك إغالقه‬ ‫ُ‬ ‫وشك أن توجه لي أسئلة أخرى‪،‬‬ ‫كانت على ْ‬
‫محرجة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫فغادرت‬ ‫وأنا ابتسم لها بو ٍّد مصطنع‬

‫***‬

‫ال أعرف على وجه اليقين من أوصلني إلى هذا المكان القبيح‪ ،‬لكني أعتقد أن‬
‫المهووسة ذات العباءة السوداء والمالمح الدقيقة لها عالقة باألمر‪ ،‬أو قد تكون المرأة‬
‫الخمسينية التي وجدتها تسكن في َّ‬
‫شقتها بدلًا منها‪.‬‬
‫مرة أخرى رغم ّ‬
‫تيقني من‬ ‫أريد العودة إلى بيتي وعملي من جديد‪ .‬لن أزعج ً‬
‫أحدا ّ‬
‫المرة األولى‪ .‬لماذا لم يصدقوني حين أخبرتهم أن المرأة‬
‫أنني لم أزعج أي أحد في ّ‬
‫الهستيرية التي تسكن أسفل شقتي هي من يزعجهم؟ وجود عباءتها ومالبس أطفالها‬
‫في دوالب مالبسي ال يثبت أي شىء‪ .‬يجب أن يصدقوني‪ .‬يمكنهم أن يتصلوا بطليقها‬
‫الذي انتزع أطفالها منها بحكم محكمة‪ ،‬كي يؤكد لهم جنونها هي ال أنا‪.‬‬

‫قصة قصيرة غير منشورة‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫ناظم السيد‬

‫قصائد‬

‫نصائح اآلخرين‬

‫ال أفعل شي ًئا سوى كتابة نصائح اآلخرين‬


‫أكتبها على أوراق صغيرة‪ ،‬وأضعها في الجارور المعتم‬
‫بعد فترة طويلة أو قصيرة أعود إلى هذه النصائح‬
‫وال أتفاجأ‪ ،‬حين أجدها ال تشبه تلك التي ُق ّدمت َّ‬
‫إلي‬
‫لهذا أكتبها‬
‫تلك النصائح‬
‫وأتركها هناك تتغيّر من تلقاء نفسها‪.‬‬

‫هذا االنتظار‬

‫في المكان ذاته‬


‫ُ‬
‫حفرت طويلًا‬
‫وما كان همّ ي أن أجد شي ًئا‬
‫ً‬
‫مقعدا أو حتى عظامًا‬ ‫أثرا أو‬
‫أو ً‬
‫ُ‬
‫طمحت إليه‬ ‫ُّ‬
‫كل ما‬
‫أن تتغيّر‪ -‬مع اإلصرار‪ -‬يداي‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫نصائح اآلخرين‬

‫يوم هناك‬

‫من موقعي هذا في البحر‬


‫أرفع يدي وأقول‪:‬‬
‫هاي يا أرض‬
‫ولدت هناك‪،‬‬
‫ألرافق اآلن مشيتكِ بالسباحة والتحيات‬
‫ُ‬
‫صرت في الماء‪،‬‬ ‫لقد‬
‫الفم العائم‬
‫وال يربطني بكِ سوى هذا ِ‬
‫تذكار اليابسة‪.‬‬
‫ِ‬

‫آه كم أنا في الوسط‬

‫استعملت وعودي َّ‬


‫كلها‬ ‫ُ‬
‫وها أنا‬
‫أجلس مع حاضري‬
‫ً‬
‫مرتجفا‬ ‫ملتص ًقا به‬
‫كسابح نادم بين ضفتين‬
‫يقيس أمامه بخلفه‪.‬‬

‫الشريك‬

‫تعال أيها الن َفس‬


‫آلخذك معي‬
‫كل ما أخبرته عنه‪:‬‬ ‫َ‬
‫بعينك َّ‬ ‫لترى‬
‫نهايتنا معًا‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫ناظم السيد‬

‫ُّ‬
‫كل شيء على حاله‬

‫ُ‬
‫عدت‬ ‫حين‬
‫وجدت َّ‬
‫كل شيء على حاله‬ ‫ُ‬
‫بما فيه‬
‫الظل الواهن الذي رسم ْته في الهواء تلويحتي األخيرة‪.‬‬
‫ُّ‬

‫حنان‬

‫كدت تكتشفين ر َّقتي‬


‫ِ‬
‫دخلت فجأة‬
‫ِ‬ ‫حين‬
‫الصغيرة التي جلبناها من الشارع‬ ‫ورأيت تلك َّ‬
‫القطة َّ‬ ‫ِ‬
‫نائمة قربي على الكنبة‬
‫وكيف كانت تغمض عينيها ببطء‬
‫تحت يدي التي انفصلت عني‬
‫ْ‬
‫وأعلنت حنانها‬
‫ُ‬
‫نسيت أن أقول‪:‬‬ ‫آه‬
‫في ك ُّلها‬
‫األشياء التي َّ‬
‫تركتني إلى ّ‬
‫الرقة‬
‫ً‬
‫وحيدا وقاس ًيا‬ ‫تركتني‬
‫كضرس مات صاحبه‪.‬‬

‫ظالل‬

‫عند الظهيرة‬
‫ظل شجرة‬ ‫ُّ‬
‫يستريح تحتها‬

‫‪212‬‬
‫نصائح اآلخرين‬

‫***‬
‫ينفصل ُّ‬
‫الظل عن صاحبه‬
‫لك ًّنه يمشي خلفه‬
‫صام ًتا‪ ،‬باردًا‬
‫كل حركة‬‫معيدا َّ‬
‫ً‬
‫بطريقته الخرقاء‬
‫***‬
‫يتمدد هذا ُّ‬
‫الظل‬ ‫ّ‬
‫على األرض‬
‫متع ًبا‬
‫من لعب دور عمود كهربائي‬
‫***‬
‫أنا ولدت فجأة‬
‫كبيرا وقاس ًيا‬
‫ً‬
‫ظل العمود ‪-‬‬‫‪ -‬يقول ُّ‬
‫َ‬
‫أنت على األقل‬
‫لديك طفولة‬
‫يا جاري‬
‫َّ‬
‫ظل الشجرة‬
‫***‬
‫ارتفع الطائر‬
‫لكن َّ‬
‫ظله‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫ممسكا باألرض‬ ‫بقي‬
‫وه ًما ينوب عن أصل‬
‫***‬
‫ُّ‬
‫ظل طائر في السماء‬
‫يعود إلى األرض‬
‫ً‬
‫خائفا وقد َ‬
‫فقد لونه الحقيقي‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫ناظم السيد‬

‫الجورب بعد يوم عمل‬

‫ً‬
‫جيدا‬ ‫استحم‬
‫َّ‬ ‫بعدما‬
‫َّ‬
‫وجف في الهواء والشمس‬
‫عاد الجورب إلى بيته‬
‫َّ‬
‫التف على نفسه‬
‫قبضة دافئة‬
‫طابة مرحة‬
‫كوك ًبا خال ًيا من األقدام‪.‬‬

‫على حبل الغسيل‬

‫جوارب على حبل‬


‫تنقط منها‬
‫خطوات‬
‫ُغسلت صباح اليوم‪.‬‬

‫مقبرة األوتوبيسات‬
‫ُ‬
‫مررت بها‬
‫تلك المقبرة‬
‫حيث األوتوبيسات‬
‫متروكة‬
‫للريح وللشمس‬
‫ً‬
‫وأيضا‬
‫للقمر‬
‫الذي ينزل َّ‬
‫كل ليلة‬
‫َّ‬
‫ليتأكد بنفسه‬
‫من أنها م ِّيتة‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫نصائح اآلخرين‬

‫ما حدث للناجيين الوحيدين‬

‫يأتيان يوم ًيا إلى المقهى ليشربا القهوة‬


‫األم التي اقتربت من السبعين‪ ،‬واالبن العازب الذي غادر األربعين‬
‫وبينما يفعالن ذلك يتشاجران‬
‫دائ ًما يتشاجران‬
‫ودائ ًما يتنازل االبن الذي بدت على جبهته آثار جروح بالغة‬
‫بعد ذلك ينهضان‬
‫يمشي االبن أولًا‪ ،‬وتتبعه األم‬
‫يتقدمها ببضع خطوات‬ ‫ّ‬ ‫إنه‬
‫مرة إلى الصوت الغاضب خلفه‬‫كل ّ‬‫ملتف ًتا َّ‬
‫ينعطفان اآلن‬
‫وحيدين‬
‫نهائيين‬
‫مخبّئين عن َ‬
‫القدر ما غفل عنه‬
‫عائدين إلى المنزل الذي‬
‫ما زالت إلى اليوم‬
‫قذيفة واحدة تسقط فيه‬
‫وتقتل عائلة ينجو منها اثنان فقط‪.‬‬

‫منزل األخت الصغرى‬

‫في المرطبان الزجاجي‬


‫بقايا متي ِّبسة من مربّى المشمش‬
‫وعلى الباب‬
‫قشر برتقال‬
‫يقود النمل إلى بيت فارغ‪.‬‬

‫من ديوانه الجديد «منزل األخت الصغرى» دار رياض الريس‪ ،‬بيروت ‪2009‬‬

‫‪215‬‬
‫نجاة علي‬

‫قصائد‬
‫مثل شفر ِة ِّ‬
‫سكين‬ ‫َ‬

‫إليكترا‬

‫يكن سي ًئا‬
‫لم ْ‬
‫َّ‬
‫بالدرجةِ التي تراه‬
‫بها‪،‬‬
‫األرجح‬
‫ِ‬ ‫هو على‬
‫يحب ً‬
‫أحدا‬ ‫ُّ‬ ‫لم يكن‬
‫في األصل‪.‬‬

‫مهن ُته جالدًا‬


‫جعل ْته‬
‫منظر‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يعشق سوى‬ ‫ال‬
‫َّ‬
‫الملطختين بهم‬ ‫يديه‬
‫حتى بعد نهاية‬
‫العرض‪.‬‬
‫ِ‬

‫تلعب‬
‫ْ‬ ‫هي ً‬
‫أيضا لم‬
‫دو َر الضح َّي ِة كاملًا‬
‫ِب منها ‪-‬‬ ‫‪ -‬كما ُطل َ‬
‫تهرب َّ‬
‫كلما‬ ‫ُ‬ ‫كانت‬

‫‪216‬‬
‫مثل شفر ِة ِّ‬
‫سكين‬ ‫َ‬

‫بثقة‬
‫ٍ‬ ‫استدرجها‬
‫للمشهد األخير‬
‫وتسخر منه‬
‫ُ‬
‫َّ‬
‫كلما َّ‬
‫حدثها عن إليكترا‬
‫«قرينتِها‪  ‬القديمةِ »‪،‬‬
‫تلك التي منح ْتها‬
‫ً‬
‫غائرة في‬ ‫وخزات‬
‫ٍ‬
‫الرأس‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫وعلمتها كيف تحيا‬
‫بأعضا ٍء َّ‬
‫معطلة‪.‬‬

‫الغريمة‬

‫َ‬
‫الجميلة‪ ،‬التى‬ ‫ً‬
‫بائسة‪ ،‬غريم َتها‬ ‫لم تكن تلع ُنها‪ً ،‬‬
‫أبدا‪ .‬على العكس تمامًا‪ ،‬تراها‬
‫بنظرات حادةٍ‪ ،‬وتتهيأ لجولة جديدة‪ ،‬الستعادة الصيد‬
‫ٍ‬ ‫سنتيمترات‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫تتأملها على بعد‬
‫الحب‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫خربها‬
‫الحواس التى َّ‬
‫ِّ‬ ‫الثمين‪ .‬كانت تشبهها فى ِّ‬
‫كل شيءٍ‪ :‬العينين العميقتين‪،‬‬
‫الجسدِ الذى أدركه العمى‪ .‬لكن على أ َّية حال‪ ،‬غريمتها‪ ،‬كانت أكثر براءة منها‬
‫الشعر‪.‬‬
‫َ‬ ‫تكتب‬
‫ُ‬ ‫وال‬

‫الشحاذ‬
‫إلى نجيب محفوظ‬

‫ُ‬
‫المعتوهة‬
‫يمر‬
‫سوف تدعه ّ‬
‫دون أن تهتز‬
‫لغفلته‬
‫َ‬
‫المراهق»‬ ‫َ‬
‫«الصعلوك‬

‫‪217‬‬
‫نجاة علي‬

‫الذي نبش بأصابعه‬


‫النحيلة‬
‫دون قصد –‬
‫ً‬
‫صديدا بجسدِ ها‬
‫يركض بين اللحم‬
‫والعظم‪.‬‬

‫كان يحكي‪...‬‬
‫يمرر يده على‬
‫‪ -‬وهو ِّ‬
‫خصالت َشعرها الطويل ‪-‬‬
‫عن تاريخه الضائع‬
‫بين البنايات التي‬
‫احترق معظمها‬
‫في وسط البلد‪.‬‬

‫يكن يراها سوى‬


‫لم ْ‬
‫طفلة تمتلك عينين‬
‫حائرتين‬
‫تحفران بقسوة‬
‫في ِّ‬
‫كل كائن‬
‫تقابله‪،‬‬
‫هي التي ترتعد من‬
‫اسمها‬
‫إذا نطقه أحدهم‬
‫على نحو صاخب‬
‫وتغضب من األوالد‬
‫إن حكوا عن صدرها‬
‫الفاتن‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫مثل شفر ِة ِّ‬
‫سكين‬ ‫َ‬

‫َّ‬
‫ظلت واقفة كتمثال‬
‫بليد‬
‫تتابعه‪،‬‬
‫لم يكن في نظرها‬
‫أكثر من بائس‬
‫يلهث خلف أثداء‬
‫البدينات‬
‫يتعثر بينهن وهو يسأل‬
‫‪ -‬بنصف وعي‪-‬‬
‫عن معنى الحقيقة‬
‫التي ال رأس لها‬
‫وال قدم‬
‫وعن ضرورة أن َّ‬
‫يظل‬
‫ح ًّيا‪،‬‬
‫هو الذي لم يعد قاد ًرا‬
‫على الدهشة‬
‫أو البكاء‬

‫كل ليلة‬‫لم يكن يتم ّنى َّ‬


‫ً‬
‫وحيدا‬ ‫وهو يمشي‬
‫بصحبة الكالب‬
‫َّ‬
‫الضالة‬
‫سوى أن يرجم بحجر‬
‫َّ‬
‫كل أعمدة اإلنارة في‬
‫الشوارع‬
‫لئال يعرف الطريق‬
‫إلى البيت‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫نجاة علي‬

‫قبور زجاجية‬

‫‪١‬‬

‫المسافات‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫المظلمة بال صَ َخب‪ ،‬أتنزَّ ه فيها على سج َّيتي‪ ،‬أقطعُ فيها‬ ‫أحب هذه القبو َر‬
‫ُّ‬
‫الوقت على طريقتي‪ .‬بإمكاني‪ ‬مثال‪ ‬أن أنع َم بصحبةِ الموتى «جيرانِ أبي‬ ‫َ‬ ‫ألض ِّي َع‬
‫أتحد ُث عنه‪ ،‬وأنا ُ‬
‫أنبش قبو َرهم‬ ‫َّ‬ ‫الطيبين»‪ ،‬هم ‪ -‬فقط ‪ -‬الذين‪ ‬ال يقاطعونني حينما‬
‫فكثيرا ما حاولت أن أخمّ نَ موض َع الحفر ِة التي دفن ُته فيها‪ ،‬ألرى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بحثا عن جثمانِه‪،‬‬
‫تبقى منه‪ ،‬حين كنت أجي ُء لزيارته أيام السبت في الشتاءِ‪ ،‬الشتا ِء الذي يحبه‬ ‫ما َّ‬
‫القذر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫مثلي‪ ،‬مع أنه مات دون أن يقول لي شي ًئا عن غايةِ وجودي في هذا المكانِ‬
‫هو في الحقيقة لم يقل لي أية إجابة واضحة حينما كنت ألحّ‪ ‬عليه في السؤالِ ‪ ،‬ولم‬
‫بإصرار‬
‫ٍ‬ ‫وبعض الوصايا القديمةِ التي ي ِّ‬
‫ُعلقها إخوتي ‪-‬‬ ‫ِ‬ ‫أرث‪ ‬منه سوى حفنةِ هواجس‪،‬‬
‫مدهش – على حوائط البيت بجوار صورته الكبيرة‪ ،‬ظللت لسنوات طويلة أنتظر‬ ‫ٍ‬
‫وصورته والحوائط‪ُ.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بثقة اليو َم الذي ستسقط فيه هذه الوصايا‬
‫ٍ‬
‫ٌ‬
‫واحدة هي ما تشغلني‪ ...‬أتعرفونها؟!‬ ‫ٌ‬
‫رغبة‬ ‫أتصدقون؟‬
‫الولد الذي خانني ‪ -‬دون‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ألجد‬ ‫دقائق ‪ -‬ثم َ‬
‫أفيق بعدها‬ ‫َ‬ ‫أغيب عن الوعي ‪ -‬ولو‬ ‫َ‬ ‫أن‬
‫ُ‬
‫تزحف‬ ‫النمل التي‬
‫ِ‬ ‫متحللة تحت قدمي‪ ،‬تأكل عظا َم رأسهِ حشو ُد‪ ‬‬ ‫ً‬ ‫خجل ‪ -‬ج َّث ًة‬ ‫ٍ‬
‫أعوام‬ ‫َ‬
‫خمسة‬ ‫ُ‬
‫ألهث ورا َءه‬ ‫ُ‬
‫ظللت‬ ‫خلفي لتفترسني‪ ،‬وأن أنسى ذلك العجو َز الذي‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫الخربشات التي تركها لي‬ ‫كلل‪ ،‬على أمل أن يح َّبني‪ .‬كان يشبه أبي فعلًا‪،‬‬‫كاملة دون ٍ‬ ‫ٍ‬
‫الصدر َّأك ْ‬
‫دت لي ذلك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫في‬
‫مزعجة ال فائدة منها‪ ،‬ومع ذلك يمكننا أن‬‫ٍ‬ ‫بأمور‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫أفسدت عليكم عزل َتكم‬ ‫أعرف أنني‬ ‫ُ‬
‫أقل أل ًما‪َّ ،‬‬
‫نتكلم عن العناكب مثلًا‪ ‬التي ُّ‬
‫تلتف حولي‬ ‫حديثا َّ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫نتكلم عن شيء أفضل‪ ،‬نفتح‬
‫كل جانب‪ ،‬سأدخل مغاراتها الموحشة‪ ،‬ألعرف لماذا ضللتني طويلًا‪ ،‬وألتفر َج على‬‫من ِّ‬
‫تطن‪ ‬بأجراسِ ها في رأسي‪.‬‬ ‫خرائب الهياكل القديمةِ ‪ ،‬واألفاعي التي ُّ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫يقد ُرها أمثالكم‪ ،‬يعرف قيم َتها‪ -‬فقط ‪ -‬أصدقائي‬ ‫ٌ‬
‫‪ ‬عن‪ ‬العناكب مزايا عظيمة ال ِّ‬
‫ِ‬ ‫وللكالم‬
‫ٍ‬
‫من الشعراء والحمقى‪.‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫ومثلثة الزوايا‪ ،‬وال تنظر‬ ‫زائد‪ ،‬كانت في الغالب سودا َء‬
‫ِها‪ ‬بحماس ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫صرت أتابعُ حركات‬
‫أشعر بحركةِ الساقطِ منها في معتركِ الحياة أو‬
‫ُ‬ ‫إلي مطل ًقا حين «أندهها»‪ .‬أفرحُ حين‬
‫َّ‬

‫‪220‬‬
‫مثل شفر ِة ِّ‬
‫سكين‬ ‫َ‬

‫بالزجاج‪.‬‬
‫ِ‬ ‫التوابيت المغطا ِة‬
‫ِ‬ ‫حين أرى المسجّ ى منها في‬
‫يكرمْ ها ٌ‬
‫أحد حتى اآلن‪ ،‬وال حتى أنا‪.‬‬ ‫العناكب‪ ،‬لم ِّ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫مسكينة‪ ‬فعلًا هذه‬
‫ٌ‬
‫عارية‬ ‫العقارب التي تتلكأ في لدغي‪ُ .‬‬
‫أتأملها وأنا‬ ‫َ‬ ‫يكفيني إذن أن أراقب ‪ -‬بنشوةٍ ‪-‬‬
‫صدر‪ -‬تحسدونني عليها‪-‬‬ ‫ٍ‬ ‫يلفني‪ .‬أستقبل برحابة‬ ‫من ِّ‬
‫كل شي ٍء إال هذا البياض الذي ُّ‬
‫العدم الذي ال َّأو َل‬
‫ِ‬ ‫الوخزات المتالحقة‪ .‬رغم أنكم مثلي‪ ،‬تصبحون معي على هذا‬‫ِ‬ ‫تلك‬
‫وحده في الظالم‪ ،‬وذلك‬ ‫َ‬ ‫له وال آخر‪ ،‬وتلك العينين المتبلدتين‪ ،‬وهذا الجسدِ الممد ِد‬
‫الصدر‪.‬‬
‫ِ‬ ‫المطبق على‬
‫ِ‬ ‫الصمت‬
‫ِ‬

‫‪٢‬‬

‫الظالم دون أن يصطدم‬ ‫بخفة في‬


‫ٍ‬ ‫التحرك‬
‫ِّ‬ ‫ً‬
‫خفيفا قاد ًرا على‬ ‫لعلي صرت اآلن شبحً ا‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫عظيمة‪.‬‬ ‫ً‬
‫مقبرة‬ ‫َ‬
‫البيت وجعل منه‬ ‫القديم الذي مأل‬ ‫األثاث‬
‫ِ‬ ‫بهذا‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫صرت أهلًا لها وسأمتدحُ جلوسي بين الخفافيش التي‬ ‫الكذب التي‬
‫ِ‬ ‫سأقنع بفضيلةِ‬
‫وأتلصص‬‫َّ‬ ‫الجحيم الذي تحدثوا عنه طويلًا‬
‫ِ‬ ‫الخرابات المجاور ِة وأسعى إلى‬
‫ِ‬ ‫تهوي من‬
‫َ‬
‫العنيفة َّ‬
‫كلها‪ ».‬ر َّبما أل َّنني‬ ‫كثيرا يفقد شهواتِه‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫بريبة على من يقولون‪« :‬من يتعلم‬
‫ٍ‬
‫لم أعد ُ‬
‫أثق بأحد‪.‬‬
‫وأداعب األفاعي التي‬ ‫َ‬ ‫سأحاول إذن أن أزي َح هذا الغبار المتراكم على الحوائط‪،‬‬
‫أكثر جماال‪.‬‬
‫لتكون َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وأزيف األشياء‬ ‫أنقش اسمي على الماء‪،‬‬‫َ‬ ‫تطن بأجراسِ ها العاليةِ ‪ ،‬ثم‬
‫ُّ‬
‫َ‬
‫أشفق‬ ‫ً‬
‫جعلت مني كائنا دمويا‪ ،‬ولن‬ ‫ْ‬ ‫البقع الحمرا ِء التي‬ ‫ِّ‬
‫وبالطبع سوف أتعالى على كل‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫الشفقة ترتبط بممارسة العدمية ‪ -‬كما يقولون ‪ -‬أو أل َّنها دومًا‬ ‫َ‬ ‫أحد‪ ،‬ليس ألن‬ ‫على ٍ‬
‫تقود إلى الال شيء‪ ،‬بل ألنّني أراها ليست فضيلة من األساس‪.‬‬
‫الضو َء في غرفتي صار‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫وقسوة رغم أن‬ ‫توحشا‬ ‫ً‬
‫ثانية إلى عزلتي ألزدا َد ُّ‬ ‫سأعو ُد‬
‫حكايات‬
‫ٍ‬ ‫ضربات المطرقةِ الثقيلةِ ‪ ،‬وأنا أزيحُ‬
‫ِ‬ ‫شحيحً ا‪ ،‬وسأكتفي فقط باالستماع إلى‬
‫ُ‬
‫تتحول في النهاية‬ ‫ُ‬
‫تسيل من رأسي‪ ،‬ال فائد َة اآلن من الكالم عنها ألنها سوف‬ ‫ً‬
‫مؤلمة‬
‫سأتسلى بالفرجة ‪ -‬فقط ‪-‬على النعوش‬ ‫َّ‬ ‫بائسة ال تفضي إلى شيء‪ .‬إذن‬
‫ٍ‬ ‫نكات‬
‫ٍ‬ ‫إلى‬
‫قبور‪ .‬سوف تبصرون بعيونِكم مالمحي‬ ‫ٍ‬ ‫حارس‬
‫ِ‬ ‫مجر َد‬
‫أصير َّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫فشلت حتى في أن‬ ‫بعدما‬
‫ً‬
‫خدعة لما يشعر به المرءُ‪.‬‬ ‫أقل المرايا‬ ‫َ‬
‫الحقيقية‪ ،‬لتعرفوا أن الكال َم هو ُّ‬

‫‪221‬‬
‫نجاة علي‬

‫ُ‬
‫أقول لكم‬ ‫صدقوني حين‬ ‫المتحرك»‪ّ .‬‬
‫ِّ‬ ‫أتحر ُر معكم من جسدي‪ ،‬ذلك «القبر‬
‫َّ‬ ‫سوف‬
‫ٌ‬
‫حادة سوف تش ِّو ُه وجوهَكم قري ًبا‪.‬‬ ‫أظافر‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫صراحة إنني مثلكم‪ :‬لي‬
‫الرعب‪ ،‬ال َّ‬
‫بد إذن‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يبعث على‬ ‫سأصرخ‪ ،‬وأنا أزيحُ صور َة حبيبي التي صارت هيكلًا‬
‫ُ‬
‫بصيرا وعلي ًما ِّ‬
‫بكل شيء‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حواسي حتى أكون‬
‫ِّ‬ ‫أخر َب‬
‫أن ِّ‬
‫ُ‬
‫أستهزئ مثلكم‬ ‫َّ‬
‫المعلق نص َفه المسيح ونص َفه اآلخر يهوذا وسوف‬ ‫سأرى جسدي‬
‫بجميع مآسي الحياة‪ ،‬وأردِّد بثقة «ما ال يقتلني سوف يق ِّويني‪».‬‬
‫ِّ‬
‫السكير‪ -‬الذي ناد ًرا ما يستيقظ ‪ -‬حين يناديني‬ ‫بسخرية على ذلك‬
‫ٍ‬ ‫سوف أضحك‬
‫من الغرفة المجاورة‪ ،‬سأخبره بزهو أنني صرت مثل دود القبور الذي يأكل ُ‬
‫بعضه‬
‫جيفة ال حيا َة فيها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫بعضا بعد أن يتغذى من‬

‫قصائد من ديوان "مثل شفرة سكين"‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت ‪2010‬‬

‫‪222‬‬
‫نجوى بنشتوان‬

‫مقاطع من رواية‬

‫من سيرة البركة والبيانو‬

‫‪١‬‬

‫أخذنا من وقت دراستنا لتنظيف المدرسة من الرماد األسود الذي َّ‬


‫خلفه حرق مناهج‬
‫اللغات األجنبية‪ .‬نحن في أحد أيام ثمانينيات القرن الماضي‪ ،‬تلك األ َّيام المتشابهة‬
‫التي لم يبق منها إال الرماد متى أتى المرء على ذكرها‪ .‬كانت حرائق الكتب األجنب َّية‬
‫كل مكان من أرجاء البالد‪ ،‬وقد التزمت مدرستنا ضمن أربع مدارس في‬ ‫تتم في ِّ‬
‫ُّ‬
‫حينا بطاعة األوامر وإخراج ِّ‬
‫كل الكتب األجنبية من أماكنها من المنهج ومن أفئدة‬
‫المفتونين بتع ُّلمها ثم إعدامها في فناء المدرسة بمشاركتنا خالصة النيّة‪.‬‬
‫سيرا حس ًنا في تع ُّلمها‪.‬‬
‫ً‬ ‫كان ثمة من أسعدته الحرائق أل َّنه يكره اللغات وال يسير‬
‫نظرا لح ِّبه اللغة اإلنكليزية وتفوقه‬
‫أحد إخوتي في الثانوية المجاورة أصيب بالكمد ً‬
‫الدائم فيها‪ ،‬رفض الذهاب للمدرسة بعد خروج اإلنكليزية من مقرره وظل مريضا‬
‫في البيت أليام‪ ،‬واسته أمي فقط (وهي للعلم أم َّية) ألنّنا جميعا كنا من المتفوقين‬
‫يتكلَمها األعداء‪ .‬باختصار كنا حينها نشبه وزير التعليم‪،‬‬
‫رسوبًا في هذه اللغة التي َّ‬
‫باستثناء أخي الذي أوجعه الفقد وشبهه بموت أه ِّم أفراد أسرتنا‪ ،‬سخرنا تلك األيام‬
‫وكثيرا ما تمثلنا ببعض جمل وعبارات كان يقولها لنا نحن‬
‫ً‬ ‫من حساسيته األنثوية‪،‬‬
‫َّ‬
‫وثلة من المحرقين في ح ِّينا واألحياء المجاورة‪.‬‬
‫ِّ‬
‫متخلفون‪ ،‬ستعرفون حجم المصيبة فيما بعد‪».‬‬ ‫«يا جهلة يا‬
‫والواقع أننا لم نتبين مصيبة آنذاك عدا وجود ذلك األخ المهرطق بيننا‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫نجوى بنشتوان‬

‫‪٢‬‬

‫َّ‬
‫سد المطر طريقنا‪ ،‬ونحن نجري من بيوتنا إلى المدرسة في أول يوم دراسي بعد‬
‫معبرا مائ ًيا من أحجار وإطارات تالفة جئنا بها من كوم‬
‫ً‬ ‫عطلة منتصف العام‪ ،‬فصنعنا‬
‫قمامة قريب‪ ،‬ووضعناه وأشيا َء أخرى داخل البرك الضحلة لنعبر فوقها‪ .‬سارع من‬
‫أثرا غير ذكي بالقدمين‪ ،‬إلى انتعاله وحمل‬
‫لديه «بوط» مطاطي‪ ،‬من تلك التي تترك ً‬
‫الم ّ‬
‫ِقشات والمماسح إلى البر إلعادة وجه المدرسة الفعلي إليها‪.‬‬
‫فالمدرسة يخدمها طالبها‪ ،‬وذلك يلزمنا بكنس المدرسة وتنظيفها من السناج الذي‬
‫علقها إثر حرق كتب اللغة األجنبية‪ ،‬كانت المدرسة خالل فترات الحرق تتنفس‬
‫الغبار األسود وتعطس بأبجدية غريبة عنا‪ .‬مكثنا نكنس مدرستنا وننظفها آلجال‬
‫مسماة تحت إشراف المعلمين والمعلمات‪ ،‬ممن كان الكنس مناسبة اشتراكية‬
‫َّ‬ ‫غير‬
‫عظمى الكتشاف الجوانب اإلنسانية فيهم‪ .‬كانت وجوهنا ووجوههم سوداء‪ ،‬وأيدينا‬
‫وأيديهم في المحرقة سواء!‬
‫استغرقنا دون توقف في كنس رماد الكتب األسود العالق ِّ‬
‫بكل شيء‪ ،‬حتى ظهرت‬
‫حر ًة أب َّي ًة‪ ،‬وعادت لنا براحً ا بري ًئا من السواد‪ .‬كشطنا‪ ،‬ونحن نرتدي‬
‫علينا المدرسة‪َّ ،‬‬
‫أزياءنا المدرسية‪ ،‬عجاج العطلة المتراكم عن األدراج والسبورات واألبواب والطباشير‬
‫ونظارات الناظرة مديدة الذراع‪ ،‬وكذلك عن لوحة اإلعالنات التي ما بقي عليها من‬‫َّ‬
‫األموات سوى جد نائب الناظرة المعلن عن وفاته منذ حولين دراسيين‪ .‬وفي سبيلنا‬
‫لنظافة شاملة رششنا سارية العلم بالقار‪ ،‬وقررنا غسل العلم بعد موافقة اإلدارة‬
‫ً‬
‫نظيفا‪.‬‬ ‫لكي يكون ُّ‬
‫كل شيء في المدرسة‬

‫‪٤‬‬

‫تشاجرت أنا وتلميذ تشادي من خارج ص ِّفي على غسل العلم‪ ،‬فقلت له‪ :‬هذا علم‬
‫بالدي وأنا األجدر به‪ ،‬فر َّد التلميذ بكلمات غريبة لم أتبين منها إال بري ًقا مسعو ًرا في‬
‫عينيه أوشك أن يردَّني عما قلته منذ قليل‪ ،‬فاحتفظ ببالدي لنفسي واحتفظت من‬
‫في خالل اختالط األنساب‪،‬‬
‫نفسي لبالدي بخريطتي النفسية‪ ،‬علها تعثر على نفسها ّ‬

‫‪224‬‬
‫من سيرة البركة والبيانو‬

‫ضير في تنازلي عن الجانب‬


‫َ‬ ‫متحجِّ جً ا أمام نفسي األ َّمارة بالسالم والراكنة للهدوء أال‬
‫المزمع غسله من بالدي ألي شنين أو مج َّنس‪ .‬بيد أن الناظرة استخدمت فجأة طول‬
‫نظرها االحتياطي وغير المستخدم وقارنت سمرتي بسواد الفتى التشادي فرأتني‬
‫(بنسبة وتناسب) األقرب للعلم فأوكلَته لي‪ ،‬وأخذته من فوري إلى بيتنا القريب من‬
‫ضلع المدرسة األعوج لكي تضعه أمي في سطل الغسيل‪ ،‬وكانت أ ِّمي تدير وجهها‬
‫لحلة الطعام وعينها على الساعة خوفًا على ِّ‬
‫خدها من ِّ‬
‫كف أبي‪ ،‬حين أتيتها به وقالت‪:‬‬ ‫َّ‬
‫الغسالة األخيرة‪.‬‬
‫«ضعه» على مضض‪ ،‬فاغتسل العلم في دورة ّ‬

‫‪٥‬‬

‫ُّ‬
‫نصطف قبالة اللوح المتين‪ .‬حيينا العلم الذي‬ ‫ً‬
‫جاهزة الستقبالنا فعدنا‬ ‫عادت المدرسة‬
‫رف بخفة أنا والتلميذ التشادي وآخرون من أنساب عدة‪ ،‬حتى وصلت رائحة صابون‬
‫العلم مناخير الجميع‪ ،‬فيما َّ ّ‬
‫ظلت التحية قاصرة عليه وحده دون الصابون‪ .‬شرعنا في‬
‫وحيدا في ساحة المدرسة الكبيرة‪ .‬كان صوته ً‬
‫نافذا‬ ‫ً‬ ‫تع ُّلم الدروس وتركناه يرفرف‬
‫مثل عاصفة‪ ،‬لهذا أغلقنا النوافذ التعليمية نصف إغالقة وسرى التع ُّلم فينا‪ .‬بدأ فصلنا‬
‫بدرس المحفوظات‪ ،‬والفصل المجاور بدأ بالرياضيات‪ ،‬واآلخر بدأ بتاريخ الصراعات‪،‬‬
‫فلما‬
‫الرياضة‪َّ ،‬‬
‫تحول إلى ممارسة ِّ‬
‫واآلخر كان معلمه غائبا فسادته الفوضى قليلًا ثم َّ‬
‫ٌ‬
‫واحد‬ ‫الحصة من الرياضة إلى الرسم‪ ،‬فكان‬‫َّ‬ ‫كان حمل معلمة الرياضة ً‬
‫أكيدا تحولت‬
‫كراسات األوالد من رسوم‪ .‬كنا نحسدهم‬ ‫من بين التالميذ هو الذي رسم ّ‬
‫كل ما في َّ‬
‫على تحول الحصص من الرياضة إلى الرسم‪ ،‬وعلى حمل المعلمة وعلى ألوان طلعت‬
‫كراساتهم‪ .‬ولما لقيناهم في‬
‫أشجارها عند نوافذ فصلهم‪ ،‬بفعل ذلك التلميذ الذي َّلون َّ‬
‫االستراحة كان حسدنا حقيقيا‪ ،‬وكان اعتيادهم على ممارسة الرياضة في حصة‬
‫الرسم ً‬
‫أكيدا‪ ،‬أما حمل المعلمة فعنقودي في معظم األوقات‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫نجوى بنشتوان‬

‫‪٦‬‬

‫تتجمع عندها مياهنا بمياه الجيران‪ ،‬تراكم بها إهمال البلدية‬


‫َّ‬ ‫بالوعة الشارع التي‬
‫فأغلقها‪ ،‬لذلك خرجت مياه غسيلنا وصنعت في الحال بركة طحلبية اللون اعترضت‬
‫كلما مشطنا الشارع جريًا هنا وهناك‪ .‬عن نفسي خبطت قدمي عشرات‬‫سبيل لعبنا َّ‬
‫ّ‬
‫وابتلت أطراف سروالي بمياه الغسيل‪.‬‬ ‫المرات حواف البركة الطحلبية‬
‫صرحت مدرسة التربية الفنية) فقد صادرت َّ‬
‫نظارات‬ ‫ونظرا إلهمال األمهات (كما َّ‬
‫ً‬
‫الناظرة سراويلنا في اليوم التالي‪ ،‬ولم يبق في الفصول الدراسية لمتابعة الدروس‬
‫عدا التالمذة الذين ال يرتدون سراويل أصلًا‪ ،‬والذين لم يحملوا تاريخ البركة في‬
‫أرجلهم‪ ،‬وبضعة طيور ب َنت أعشاشها فوق األشجار المرسومة‪ ،‬داخل فصل ذهب‬
‫جميع تالمذته لممارسة الرياضة بالجالبيب‪.‬‬

‫***‬

‫الحاجة مصيونة للمستوصف بعد وصلة سعال‬


‫َّ‬ ‫جاءت س َّيارة إسعاف مهترئة‪ ،‬لنقل‬
‫وأدرت منها بوال الإراديًا‪ ،‬وهنا يلزم التنويه إلى أن سيارات‬
‫َّ‬ ‫حاد قطعت عنها النفس‬
‫اإلسعاف ال تأتي عادة لنجدة أحد إال إذا كان سائقها على قرابة أو مقربة شخصية‬
‫بالمصاب أو بعض من معارفه‪ .‬للسبب األول وقفت الس َّيارة أمام بيت الحاجة مصيونة‬
‫وانتظر سائقها (خليفة) بحرارة سيجارته المائلة في فمه أن يخرجوها ح َّية أو م َّيتة‪،‬‬
‫المهم أن يخرجوها‪ ،‬لكي يؤدي وظيفته التي تبدأ بتشغيل صافرة الطوارئ‪ ،‬وتنتهي‬
‫بإطفاء الصافرة وإيقاف الس َّيارة على الرصيف أسفل نافذة «مربوعته» واالطمئنان إلى‬
‫راتبه‪ .‬لوهلة لم تعمل الصافرة‪ ،‬ولم يكتمل إدخال رجلي المريضة في الس َّيارة‪ ،‬قفز‬
‫خليفة قفزات متتالية في الهواء نحو الصافرة وضربها بيده‪ ،‬فأطلقت ولولة مذبوحة‬
‫مع نجاح الجيران في حشر مصيونة األطول من خلفيّة الس َّيارة إلى الس َّيارة‪.‬‬
‫إنها أول عملية استخدام س َّيارة إسعاف في ح ِّينا‪ ،‬ما كنا لنشهدها لو لم تصب أطول‬
‫إنسانة بيننا بتوقف النفس‪ ،‬جراء سوء الهواء في بيتها المجاور للمدارس المشتعلة‬
‫صباحً ا مسا ًء‪ .‬وقفنا نتفرج على عملية اإلنقاذ التي يقوم بها أهل الحي لجارتهم الطويلة‪،‬‬
‫سد وجودنا درب خليفة فأخرج رأسه الحليق‪ ،‬وأطلق‬ ‫كنا نتزاحم للمشاهدة حتى َّ‬

‫‪226‬‬
‫من سيرة البركة والبيانو‬

‫علينا عِ َّدة شتائم غير خادشة لحيائنا‪ ،‬ثم مزَّ ق وحدة البركة بدوسه على البنزين‪،‬‬
‫المستقرة وبللتنا كما بللت قدمي الحاجة مصيونة الناتئين من‬
‫َّ‬ ‫فتطايرت مياهها‬
‫تبرع (سالم حمد) َّ‬
‫بتكة سرواله‪ ،‬لتقريب جانبيه من بعضهما‪،‬‬ ‫فتحة الباب الذي ّ‬
‫وإنقاذ الحاجة مصيونة من أزمة فقدان النفس‪.‬‬
‫تكونت بتفاعل‬ ‫حواف البركة قذفت سرعة خليفة بعض الحشرات التي َّ‬ ‫ِّ‬ ‫على‬
‫البركة مع نفسها‪ ،‬فتفرق الجمع هاربين من رذاذ متى التصق لن يزول بغير ماء النار!‬
‫صرخ الطفل التشادي صراخ غوريلاَّ إفريقيّة قتل أطفالها عندما دخل جزء من الضفدع‬
‫ِّ‬
‫حواف البرك‬ ‫بعينيه المبحلقتين‪ ،‬تركناه يصرخ وهربنا حتى ال تطالنا لعنته‪ .‬على‬
‫المنتشرة قبالة المدارس واألخرى التي تتوسط البيوت وتصل نهاية الشارع‪ ،‬ولدت‬
‫مسل ً‬
‫ية‪:‬‬ ‫مائيات كثيرة بلون البرك التي استولدتها‪ ،‬استخرج األوالد األشقياء منها لع ًبا ِّ‬
‫كانوا يضعون السجائر في أفواه الضفادع التي تستنشق الدخان حتى تنتفخ رئاتها‬
‫وتنفجر ملطخة ما تجده أمامها‪ ،‬كانوا يتركونها تدخن وتنتفخ ويختبئون لمشاهدتها‬
‫ظن أوالد من أحياء أخرى أننا نحتفل بإحدى المناسبات‬
‫تتفرقع مثل األلعاب النارية‪َّ .‬‬
‫من تلك التي تمتلئ بها أجندتنا‪ ،‬وفي هذه الحال سيكون بعض الظن ظ ًّنا كاملًا‪.‬‬

‫‪٧‬‬

‫من فضائل ارتداء السراويل ذات السحاب تعطيل المغتصب عن الوصول لفريسته‪،‬‬
‫لكن بعد أن صارت الجالبيب دون سراويل وجد الشيطان فرصته الكبرى في‬ ‫ْ‬
‫الوسوسة َّ‬
‫لسكان المدينة واستدراجهم إلى الرذيلة في وضح القيلولة وفي وسط‬
‫حثيثة‬
‫ٍ‬ ‫مساع‬ ‫الحرم المدرسي‪َّ .‬‬
‫تكلم الناس عن بعض محاوالت من هذا النوع وعن‬
‫ٍ‬
‫بالتحرش‪ ،‬أطلق عليها داخل جرائم الشرف تسمية جرائم المعرفة لتمييز القائمين‬
‫ُّ‬
‫بها والعاملين عليها‪ .‬ولألمانة العلمية فقد عثرت شرطة المنطقة على بعض مرتدي‬
‫الجالبيب ممن ليسوا طالبًا أو متعلمين‪ ،‬كانوا رجال أمن وبقالين وسائقي شاحنات‬
‫لكن‬
‫ومعلمين ومتقاعدين‪ ...‬الخ‪ ،‬انتهزوا فرصة العراء المدرسي لتصريف غرائزهم‪َّ ،‬‬
‫العين الساهرة أنزلت بهم أقسى العقوبات المعمول بها آنذاك وهي ارتداء سروالين‬
‫كل شيطان رجيم‪.‬‬ ‫ً‬
‫حفظا للشرف العام من ِّ‬ ‫أسفل الجالبية‪،‬‬

‫‪227‬‬
‫نجوى بنشتوان‬

‫‪٨‬‬

‫َّ‬
‫يتذكر‬ ‫ح ّتى ما قبل حريق الكتب كانت أمّي مواطنة ليبية‪ ،‬ولم يعد أحد في ح ِّينا‬
‫أصلها المغربي ألبتة‪ ،‬غير أن حادثة حرق الكتب أعادت أمي إلى نقطة البداية في‬
‫كفاحها ضد امتهان النساء لها لكونها غريبة ومغربية كانت ترتدي الجلاَّ بة بالطربوش‬
‫(سمعتهما غير حسنة الرتباطهما بعامالت المقاهي المغرب َّيات في ليبيا) حين جاء‬
‫بها أبي إلى البيت‪ ،‬واضعًا إصبعه في أعين الجميع الرافضة أن يبحث عن نسله في‬
‫محتكرا‪ ،‬وسعره مثل‬
‫ً‬ ‫مدتهما لغيره‪ ،‬كان الشرف آنذاك احترافًا ليب ًيا‬
‫ترائب امرأة ربما َّ‬
‫إن ذكر أصول أ ِّمي يعود إلى قصة عيشة الكيناوية‬ ‫عود الكبريت رغم غالء المهور! ّ‬
‫ّ‬
‫أو السودانية كما هي معروفة في المغرب‪ ،‬والتي حدثتنا عنها أمّي مرا ًرا وكان حريق‬
‫الكتب مناسبة من مناسبات االتحاد المغاربي الستحضارها‪.‬‬
‫«اللة عيشة» سيدة المستنقعات جنية مائية تخرج في أماكن وجود المياه‬ ‫فـ َّ‬
‫واألماكن الرطبة‪ ،‬وانتقامها سريع وفتاك‪ .‬أحيانا تأخذ شكل عجوز شمطاء‪ ،‬وأحيانا‬
‫اللة عيشة‬‫فتاة جميلة‪ ،‬وأحيانا حشرة أو حيوان مائي ذي قداسة‪ ،‬وتروي لنا أمّي أن َّ‬
‫ً‬
‫أستاذا أوروبيّا للفلسفة في إحدى الجامعات المغربية وأتلفت بحوثه ألنه قال‬ ‫حرقت‬
‫اللة عيشة بيننا في مدرسة الوحدة جاء لسببين‪،‬‬ ‫فيها كالمًا لم يعجبها‪ .‬إن حلول َّ‬
‫األول‪ :‬وجود البرك والمستنقعات السوداء والخضراء في محيطنا ووجود الروح‬
‫في وفي إخوتي‪ ،‬والسبب الثاني‪:‬‬ ‫المغربية قريبا من هذه المجاري المائية ممثال َّ‬
‫كراساتنا من حقائبنا ثم رؤيتها تحترق في فناء المدرسة مع الكتب‬ ‫اختفاء بعض َّ‬
‫ِّ‬
‫وبخطنا‪ ،‬واهلل على ما أقول شهيد!‬ ‫المكتوبة بلغة األعداء‪ ،‬مع أنها مكتوبة بأيدينا‬
‫كراساتنا ويحرقها؟‬
‫مثيرا للدهشة واالستغراب‪ ،‬فمن يسرق َّ‬
‫ً‬ ‫كان شي ًئا‬
‫ولما لم نعرف الفاعل و«عدو المعرفة» لم نرد تقييد القض َّية ضد مجهول‪ ،‬لذا‬
‫استحضرنا َّ‬
‫اللة عيشة السودانية أو الكيناوية استخدامًا للمنطق االستداللي‪ ،‬فربما‬
‫كراساتنا تثير الغضب‪.‬‬
‫نظرا لوجود أشياء كثيرة مدونة في َّ‬
‫تكون هي الفاعلة ً‬
‫بسبب ذلك اإلسناد حدث القتال بيني وبين التلميذ السوداني‪ ،‬الذي ساءه نسب‬
‫عيشة لبالده ومن ثم اعتبارها (من وجهة نظره) ضد مقرراتنا الدراسية في ليبيا‪،‬‬

‫‪228‬‬
‫من سيرة البركة والبيانو‬

‫واعتبار بالده تتدخل في شؤون الدول المجاورة‪ ،‬استنادًا لنفس المنطق المستخدم‬
‫من البداية!‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫استغرقنا َّلفة طويلة كي نقنع التلميذ السوداني الغاضب بأننا ال نتهم بالده وأنها‬
‫كبيرا من نهر النيل‬
‫ً‬ ‫خارج االستدالل الرياضي الذي نتبع َّ‬
‫ملته‪ ،‬فرغم امتالكها جز ًءا‬
‫إال أنها بريئة من تصدير سادة البرك والمستنقعات للدول الشقيقة والصديقة‪ ،‬فهي‬
‫بالكاد تغطي استهالكها المحلي منهم‪ ،‬وأن الدول الشقيقة والصديقة تنتج بركها‬
‫ومستنقعاتها بنفسها‪ ،‬بعد أن تكون انتجت سادَتها الذين يديرونها‪ ،‬ويحرقون ما ال‬
‫يعجبهم من البحوث والمعارف‪.‬‬
‫متعرقًا على مقعده وقد بدأ االرتخاء يسري في جسده‬
‫ِّ‬ ‫اقتنع التلميذ السوداني‪ ،‬وجلس‬
‫حصة‬
‫اللة عيشة كان مازال ساريًا‪ ،‬فنحن في َّ‬ ‫النحيل‪ ،‬لكن التفاوض بشأن نسب َّ‬
‫رياضة أي في حصة رسم‪ ،‬وليس فينا من يجيد رسم شجرة أو سحابة أو محرقة‪.‬‬
‫قال شقيقي سع ًيا إلخماد غل التلميذ السوداني‪ :‬يا أصدقاء يقال إن َّ‬
‫اللة عيشة كيناوية‬
‫ِّ‬
‫المسترق من كينيا للمغرب‪ ،‬ثم َّلما كان المغاربة يأتون‬ ‫ً‬
‫أيضا أي‪ :‬جاءت مع الرقيق‬
‫يتم أخي استدالله‬
‫إلى هنا ويقيمون مستنقعاتهم الخاصة بهم لزمهم سادة منهم‪ ...‬لم َّ‬
‫الرياضي (على وجود كيناوية في ليبيا مرو ًرا باألراضي المغربية!) حتى دخلنا في‬
‫صراع جديد مع تلميذ آخر كنا نظنه لثالث سنوات ليب ًيا وحسب‪ ،‬فإذ به كيني األصل‪،‬‬
‫اعتبر حرق كراساتنا بيد مواطنة كينيه مشكلة تقطع في سبيلها الرقاب‪ ،‬وتنتشر‬
‫قوات حفظ السالم الدولية ما بين المستنقع والمستنقع‪ ،‬وما بين المدرسة‬‫بفضلها َّ‬
‫َ‬
‫يسكت‪،‬‬ ‫كي‬
‫سوينا اآلمر معه برشوته بالحلوى والسندوتشات ْ‬ ‫وباب الفصل‪ ،‬بالكاد َّ‬
‫لحسن حظنا كان جائعًا ولسوء حظنا كنا ننظر إليه وهو يلتهم شطائرنا بشراهة‪،‬‬
‫كراساتنا المحترقة وتدخل من نوافذ الفصل‪.‬‬
‫بينما في الجهة األخرى تتطاير شظايا ّ‬
‫كانت قلوبنا مليئة بالقهر وأفواهنا مربوطة عن الكالم‪ ،‬وفي نهاية اليوم الدراسي‬
‫عدنا خائبين لبيتنا وأقفلنا بابنا علينا نحن َّ‬
‫واللة عيشة‪ ،‬فسألتنا أمي عما بنا وهي‬
‫تعبئ بطوننا بطعام ليبي صرف‪ .‬تبادلنا النظرات‪ ،‬أنا وأخي‪ ،‬وخشينا من مشاكل‬
‫الجنس َّية حتى في بيتنا‪ ،‬لهذا آثرنا عدم الكالم عن شؤون مدرس َّية خالصة‪ .‬في‬
‫كبيرا ً‬
‫جدا (أكبر من المستنقعات الخضراء)‬ ‫ً‬ ‫المساء حين خرجنا لنلعب وجدنا عارنا‬
‫بين األوالد الذين تقمّصهم أهلهم ألن أمنا ليست ليبية‪ ،‬أي مثل المقررات األجنبية‬
‫يجب التخلص منها على الفور!‬

‫‪229‬‬
‫نجوى بنشتوان‬

‫‪٩‬‬

‫طلع ظلها أولًا وكان أسود كأي ظل ألي شيء‪ ،‬عرفناها بما فيها من طول فاض على‬
‫الجدار وانثنى المتبقي منه إلى السقف‪ ،‬حتى مأل السقيفة التي تتقدم دورات المياه‬
‫للتبول‪ .‬كنا نغسل‬
‫ُّ‬ ‫المدرسية‪ ،‬كنت وأخي نهرب من حصة الجغرافيا ونصطنع الحاجة‬
‫أيدينا بعد دخولنا المرحاض‪ ،‬فإذ بظلها يمأل سقيفة المراحيض‪ ،‬وينثني للسقف‪،‬‬
‫ثم يعم الظالم في دورات المياه ِّ‬
‫كلها‪ .‬ناديت أخي وناداني‪ :‬أين أنت‪ ،‬أنا هنا‪ ،‬لكني ال‬
‫أراك‪ ،‬ماذا حدث؟ انقطع الضوء‪ ،‬ال‪ ،‬إنه شيء يشبه الكسوف أو الخسوف‪ ،‬ربما لعنة‬
‫درس الجغرافيا الذي تجاوزناه‪ ،‬كال‪ ،‬درس اليوم عن تقسيم المُ ناخ في قارة إفريقيا‬
‫وليس عن ظاهرتي الكسوف والخسوف‪ ،‬دعك من هذا ومد يدك باتجاهي ألجدك‪.‬‬
‫مد يدك لي يا أخي‪.‬‬
‫َّ‬
‫وتقلص ظل القادمة التي جلبته بطولها فظهرت علينا‬ ‫انحسر الظالم تدريج ًيا‬
‫لكن ويا للمفاجأة بشرتها كانت ضفدعية‪ ،‬وكأن‬ ‫الحاجة مصيونة هزيلة طويلة ْ‬ ‫َّ‬
‫ضفدعً ا من ضفادع المستنقعات انفجر بها‪ ،‬كال بل ضفادع‪ ،‬إذ ال يكفي لطالء الحاجة‬
‫مصيونة ضفدع أو ضفدعان‪ .‬خفنا منها فصرخنا وعدونا إلى صفنا‪ .‬كنت وجدت‬
‫أخي منكمشا بقرب المرحاض لما انقشع الظالم‪ ،‬وكان لون بشرته ضفدع ًيا‪ ،‬لذا‬
‫عدوت مثله لما انطلق كرصاصة نحو فصلنا ودفع الباب وعانق مدرس الجغرافيا‬
‫ً‬
‫مرتجفا‪ .‬كان المدرس والطالب متضفدعي الوجوه واأليدي‪ ،‬جاءت وراءنا الحاجة‬
‫بخطوات ثابتة وكانت صامتة‪ ،‬رغم أن تنفسها طبيعي وصحتها جيدة وطولها بخير‬
‫وتكة سروال (سالم حمد) تتأرجح في جيدها‪ .‬أطلت داخل الفصل فعال الصراخ‬ ‫َّ‬
‫وبدأت الهروب الجماعي من النوافذ والباب الوحيد الذي قفله ّ‬
‫ظلها‪ .‬اتجهت لمدرس‬
‫كلها‪ ،‬على عكس ّ‬
‫معلم‬ ‫أحدا لم يحبّه في المدرسة ِّ‬
‫الجغرافيا فخنقته‪ ،‬حس ًنا فعلت ألن ً‬
‫سرح من عمله رغم مح َّبة الجميع له‪ ،‬وقف فوق ّ‬
‫ظل الحاجة‬ ‫اللغة اإلنكليزية الذي ِّ‬
‫بالباب بعض التالميذ الشجعان بوجوههم الضفدعية‪ ،‬وشاهدوا عملية خنق مدرس‬
‫فروا هاربين قبل ْ‬
‫أن يروا عيني‬ ‫ياحاجة‪ ،‬ثم ُّ‬
‫َّ‬ ‫الجغرافيا‪ ،‬فقالوا لها‪ :‬زيديه ورأس أمك‬
‫صدت عملية هروبهم المستنقعات‬ ‫المدرس تجحظ كعيني ضفدع‪ ،‬يوشك أن ينفجر‪َّ ،‬‬
‫الخارجية فلم يجدوا عنه مصرفًا‪ ،‬علقت بهم الضفادع والثعابين والسرطانات‪ ،‬فغادر‬
‫صراخهم المجال الشمسي لكوكبنا إلى كواكب مجهولة ثم َّ‬
‫ارتدت عنه تلك الكواكب‬

‫‪230‬‬
‫من سيرة البركة والبيانو‬

‫ِّ‬
‫كالشهاب المبين في أسماعنا ولم يكن يا للغرابة ضفدع ًيا!‬ ‫فنزل‬
‫بتكة سروال (سالم حمد) على السبورة‬ ‫علقت الحاجة مصيونة مدرس الجغرافيا َّ‬ ‫َّ‬
‫تقصت آثار قدميها‬
‫الخضراء ثم اختفت كما ظهرت‪ ،‬ولم تعثر عليها الشرطة قط وقد َّ‬
‫كلمني أخي‪:‬‬ ‫الضفدعية في ِّ‬
‫كل مكان‪َّ .‬‬
‫هيه يا أنت لماذا تنادي على مصيونة وهي في بيتها أال يكفيك عيشة السودانية؟‬
‫فصحوت حينها من نومي وتأكدت من أنني قلت له‪« :‬ال تقل كيناوية فكنا من مشاكل‬
‫الجغرافيا اللي تنحل بالسندويشات‪ ».‬ثم نظرت في وجهه متب ِّي ًنا‪ .‬الغريب أن لون‬
‫بشرته لم يكن متضفدعً ا كما رأيته منذ قليل!‬

‫‪١٠‬‬

‫أحد إخوتي من كبار زعماء حرق الكتب‪ ،‬قام بجهد كبير في التخلص منها حتى‬
‫ويحرض التالميذ على تقليب الكتب‬
‫ِّ‬ ‫آخرها‪ .‬كان ِّ‬
‫يقلب النيران بعصا مكنسة‪،‬‬
‫وهي تحترق‪ ،‬ليتأكد من وصول النار إليها ِّ‬
‫كلها‪ ،‬لم يُبق هذا األخ على حرف مكتوب‬
‫بلغة إنكليزية أو فرنسية‪ ،‬إال شارك مشاركة نظيفة في تنظيف الحياة التعليمية‬
‫منهما‪ .‬تصور أنه يحرق األعداء ح ًقا ولم يتنازل عن حمل العصا منذ ذلك اليوم‪ ،‬وقد‬
‫تطورت الرغبة في الحرق لحرق اآلالت الموسيقية الغربية‪ ،‬فأخرج أخي وأصدقاؤه‬
‫َّ‬
‫كل اآلالت في المدرسة وحرقوها في الفناء الكبير‪ ،‬بعد أن جلبوا برميلًا من البنزين‬
‫المحلي ساعد على إضرام النار فيها‪ .‬لم يصدر عن اآلالت أي صوت‪ ،‬احترقت بهدوء‪،‬‬
‫ً‬
‫وكرامة للنار‪ ،‬تفضيلًا‬ ‫ً‬
‫إرادة فيها كانت تستجيب ح ًبا‬ ‫وسرعان ما تفحمت‪ ،‬وكأن‬
‫لـ«أنا ال أعزف فأنا غير موجود»‪ ،‬وخالصً ا من المشاركة في صناعة جوقة من‬
‫عازفين لن يح َّبهم أحد‪.‬‬
‫فنظرا لثقل‬
‫ً‬ ‫لم يعد منها عدا هياكل متآكلة رميت عند آخر السور‪ ،‬أما البيانو‬
‫جره‬
‫فكر أخي وجنده في ِّ‬ ‫وجهدا لكي يحترق‪َّ .‬‬
‫ً‬ ‫وزنه وكبر حجمه فقد أخذ وق ًتا‬
‫إلى المحرقة بواسطة عاملين نيجيريين‪ ،‬واقترح حارس المدرسة التباوي سحقه‬
‫أولًا بماء النار في مكانه من غرفة الموسيقى‪ ،‬ثم استعمال المناشير في تقطيعه‬
‫وتجهيزه للحرق الخارجي‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫نجوى بنشتوان‬

‫لم أ َر بعد ذلك اليوم بيانو مسلوخ الوجه‪ ،‬مبتور األرجل‪ ،‬مقطوع األصابع‪ ،‬عديم‬
‫الصوت‪ ،‬كالبيانو الذي رأيته في مدرسة طارق بن زياد‪ ،‬وكانت تعزف عليه ِّ‬
‫معلمة‬
‫ّ‬
‫والرقًة‪ ،‬اختفت تلك المعلمة من المدرسة قبل اختفاء البيانو‬ ‫ُ‬
‫بالغة الجمال‬ ‫لبنانية‬
‫يهزون‬
‫العصي عليه وهم ُّ‬
‫ِّ‬ ‫ً‬
‫سديدا وافق حملة‬ ‫في ظروف معلومة‪ .‬لقد كان رأيًا تباويًّا‬
‫عص َّيهم في النار الناشبة به‪ .‬تقاطعت رائحة البيانو في الهواء مع بخور تبخره فتيات‬
‫كل اثنين وخميس استجالبًا ألرواح الخاطبين‪ ،‬فأفسدت رائحة االحتراق عملية‬ ‫الحي َّ‬
‫الجلب التي لم ينجح المالئكة الموكلين بها في تخطي ألسنة اللهب‪ ،‬كما أن أرواح‬
‫َّ‬
‫الخطاب التي تهفو لفتيات ح ِّينا صادفت في األثير روح البيانو وهي تخرج َّ‬
‫فولت من‬
‫الهول جزعًا‪ .‬إن آخر صوت صدر عن البيانو‪ ،‬اختلطت فيه ُّ‬
‫كل أحرف الهجاء‪ ،‬وهو‬
‫ال ريب صوت من الغريب أن يصدر عن بيانو غربي الصنعة!!‬
‫في المساء اشتعلت معركة منزلية في بيتنا بين أخي صاحب العصا وأخي الموصوف‬
‫بالحساسية األنثوية‪ُ ،‬كسرت فيها أسنان األخير ُ‬
‫وش ِّوهت بعض معالم وجهه‪ ،‬ولما‬
‫مالت َّ‬
‫كفة صاحب العصا قال‪ :‬أفتوني فيه‪ ،‬فقلنا سلمه لألمن الداخلي ألنه خائن‬
‫واألمن الداخلي متخصص في سبر كنه األشياء الداخلية‪ ،‬بالتالي هو األعلم بن َّيات‬
‫الحمام المظلم تلتقطه‬
‫َّ‬ ‫شقيقنا الداخلية‪ ،‬فقال قائل منا‪ :‬ال تسلموه وألقوه في غيابَة‬
‫العفاريت‪ ،‬فالتقطته فسمعناه يبكي بدموع من دم‪ ،‬راط ًنا لنفسه في مرآة الحمام‬
‫برطانة أجنبية‪ ،‬لم نستطع كتمان ضحكنا إثر سماعها‪.‬‬
‫المضي في الضحك بعد مرور سنوات على النزال المنزلي‬
‫ِّ‬ ‫يحض على‬
‫ُّ‬ ‫بيد أن ما‬
‫الذي جعل أحد إخوتي صاحب نفوذ واآلخر مجرد عفريت حمّ امات‪ ،‬أن الحمام المظلم‬
‫لم تكن به مرآة يرى فيها الباكي دموعه والضاحك ضحكته!‬

‫مقاطع من قصة قصيرة نشرت على موقع‬


‫‪www.kikah.com‬‬

‫‪232‬‬
‫نجوان درويش‬

‫قصائد‬

‫ريشنا‬

‫فندق‬
‫ٍ‬ ‫لت إلى‬‫تحو ْ‬
‫حد كيف َّ‬‫دجاج ال يعرف أ َ ٌ‬
‫ٍ‬ ‫أَقفاص‬
‫صارع أقفاصً ا وأَبحث عن الذين أَدخلهم المطار إلى‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وجدت نفسي هناك أ ِ‬ ‫وكيف‬
‫شدقه الواسع وابتلعهم‪.‬‬
‫وغرف‬ ‫سرة‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أو لعله ابتلعني أنا‪ ،‬ألصارعَ أقفاص دجاج على هيئة سقوف‪ ،‬وأ َّ‬
‫ريش آدمي‪ ،‬وبقايا مالبس‬ ‫ٌ‬
‫مهجورة‪ ،‬نعثر في بعضها على ٍ‬ ‫أَ ٌ‬
‫قفاص‬
‫تحولت إلى معسكرات عمل‪ ،‬وقطارات ال تتو َّقف‪...‬‬ ‫دجاج ال يعرف أَحد كيف َّ‬
‫ٍ‬ ‫أَقفاص‬
‫َ‬
‫مستوطنات‪.‬‬ ‫تحولت إلى‬
‫حد كيف َّ‬ ‫ال يعرف أ َ ٌ‬
‫‪.......‬‬

‫أَقفاص دجاج لم نجد فيها أ َ ً‬


‫ثرا للدجاج‪...‬‬
‫سوى ريشنا!‬

‫‪233‬‬
‫نجوان درويش‬

‫كول هاموسيكا‬

‫‪1‬‬

‫يسمون البيانو «أفسنتير»‬ ‫َ‬


‫أعداؤنا ُّ‬

‫ُ‬
‫تضرب في يقظة الم ِّيت النائم؟‬ ‫منذ متى وهذه األفسنتيرات‬
‫ُ‬
‫منذ متى ُتواصل ُشغلها من إذاعة «كول هاموسيكا»‪ -‬بينما طائرتهم تقصف‬
‫غير‬
‫وت ُ‬‫«الضاحية الجنوبية» ُ‬
‫رف في مُخ َّيم َجباليا؟‬‫بيت من ثالث ُغ ٍ‬
‫على ٍ‬

‫األفسنتيرات‪...‬‬
‫َّ‬
‫الضفة األخرى‬ ‫التي َّ‬
‫ظلت تطارده إلى ظلمات‬
‫األفسنتيرات‪...‬‬
‫ُ‬
‫ضرب اآلن بالوتيرة الجليدية نفسها‬ ‫التي تَ‬

‫ُ‬
‫األفسنتيرات‬
‫األفسنتيرات‬
‫‪.......‬‬
‫‪.......‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫سيواصل مناداتها بلغة األعداء‬
‫ِ‬
‫تكف اآللة الموسيقية عن التواطؤ مع الجريمة!‬‫حتى َّ‬

‫‪2‬‬

‫ٌ‬
‫حفيد آللة القانون»‬ ‫«البيانو‬
‫هذه حقيقة تاريخيّة‬

‫‪234‬‬
‫قصائد‬

‫ال شأن لها بهذه «األَفسنتيرات»‬


‫مز ُق وجهي اآلن َ‬
‫بشفرات الحِ القة‪...‬‬ ‫التي ُت ِّ‬

‫المحت ُّلون ال ُّ‬


‫تهمهم قصص الدم والسالالت‬
‫يسمونه «أفسنتير»‪.‬‬
‫لقيط ُّ‬
‫ٍ‬ ‫مجرد‬
‫َّ‬ ‫البيانو بالنسبة إليهم‬

‫‪3‬‬

‫أخال أَحيانًا‬
‫ُ‬ ‫‪...‬‬
‫أ َ َّن جنودًا قتلوا عازفي البيانو‬
‫وأَن جنراالت يعزفون اآلن بدلًا منهم‬
‫داخل األسطوانات‪.‬‬

‫جانبية للبحر‬
‫ّ‬ ‫صورة‬

‫ُت َف ِّضل التفكير بهذا النسيم القادم من الجبل‬


‫بالحمائم التي تصفق أَجنحتها قبالة البحر‬
‫باألَشجار التي ُت َظ ِّلل ال َمماشي‬
‫بهذه العمائر السكنية التي ينقصها الكثير من الذوق‬
‫ُت َف ِّضل النظر لهذا الغراب وهو يقفز عن عمود الضوء‬
‫–كم يشبه راه ًبا ُطرد من الدير َّ‬
‫وفضل أن يكون متس ِّولًا! ‪-‬‬
‫ُت َف ِّضل النظر إلى قَ َدمك في مهب النسيم‬
‫تقول‪ :‬هذا الصباح سأَترك قلبي نائ ًما يحلم أ َ َّنه في حيفا وأ َ َّن المراكب تروح‬
‫صور وطرطوس ونجمة الهالل الخصيب‬ ‫وتجيء من ْ‬
‫وأَن مراكب َّية في البحر يدعونني بلهجة أهل اإلسكندرية‬
‫َ‬
‫صدق‬‫فأَضحك وال أ َ ّ‬

‫‪235‬‬
‫نجوان درويش‬

‫وأَقول‪« :‬دعوات مراكب ِّية في بحر‪»...‬‬

‫ُت َف ِّضل التفكير بهذا النسيم القادم من ثالثينات القرن الماضي‬


‫بقامة امرأة من أَبنوس السودان وج ِّميز مصر‬
‫تقف لتغني في يافا‬
‫فيهدون إليها منديلًا من الحرير ويقولون لها‪« :‬أ َ ِ‬
‫نت كوكب الشرق‪».‬‬

‫ُت َف ِّضل التفكير بهذا النسيم القادم من الجبل‬


‫بالحمائم التي تصفق أجنحتها قبالة البحر‪...‬‬

‫نساء ِّ‬
‫اللد‬

‫نسا ٌء طويالت من الخشب اليابس‬


‫لهن تشبيهًا سوى الرمح‬
‫ال تجد الذاكرة َّ‬
‫تشرئب من الحافالت‬
‫ُ‬ ‫كن رماحً ا‬
‫َّ‬
‫حين يجئن لزيارة القدس‪.‬‬
‫كان هذا قبل قدوم مستوطِ نات قصيرات‬
‫ال تجد الذاكرة لهن تشبيهًا‪ ...‬سوى رصاص ُ‬
‫«الدمدم»‪.‬‬

‫مهرج‬
‫ِّ‬

‫اليوم هو السبت‪ ،‬اليوم كان السبت‬


‫غد يصير الثالثاء‬ ‫ً‬
‫وغدا يصير اإلثنين وبعد ٍ‬ ‫صار األَحد‬
‫وبعد الثالثاء األَربعاء دائ ًما تسبق الخميس الذي يسبق الجمعة‪...‬‬

‫مهرجٌ‬ ‫ُ‬
‫األسبوع ِّ‬

‫‪236‬‬
‫قصائد‬

‫يلعب‬
‫ُ‬
‫بكرةٍ واحدة‪.‬‬

‫‪Reserved‬‬

‫مر ًة أن أَجلس‬
‫حاولت ّ‬
‫واحد م ِْن مقاعدِ األمل الشاغرة‬
‫ٍ‬ ‫على‬
‫لكن كلمة ‪ reserved‬‬‫َّ‬
‫كانت ُت ْقعي هناك كالضبع‪،‬‬
‫لم أَجلس‪ ،‬ولم يجلس أَحد‪.‬‬
‫مقاعد األَمل دائ ًما محجوزة!‬
‫ُ‬

‫قصائد غير منشورة في كتاب‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫هالة كوثراني‬

‫ثالث قصص قصيرة‬


‫‪ 33‬عامً ا‬

‫أنفخ اآلن على أربعين عامًا من الفشل‪ .‬أقول ما أقوله ثم أغيّر رأيي‪ :‬هي أربعون عامًا‬
‫من اإليمان األبله بأنني أهرب‪ ،‬أنجو من عتمة جهل هؤالء الذين وجدت نفسي بينهم‪.‬‬
‫ال أقصد أمي طبعًا بل أقصد أقربائي الذين اضطررت للعيش بينهم بعد وفاة والدي‪.‬‬
‫أكن محتاجً ا‬
‫لحظة ضرورة أن أغيّر مصيري‪ .‬لم ْ‬ ‫ٍ‬ ‫أيضا‪ .‬وع ْيت ّ‬
‫كل‬ ‫وأقصد أصدقائي ً‬
‫إلى أي شيء‪ .‬حصلت دومًا على ِّ‬
‫كل ما أردته‪ .‬لم يتغ َّير مستوى حياتنا االجتماعية‬
‫بعد غياب والدي المفاجئ‪ .‬لك ّنني ابن نفسي‪ .‬خنقتني أمي بحنانها‪ ،‬إال أنها لم تقل لي‬
‫وأتعجب دومًا‬
‫َّ‬ ‫مت نفسي‪.‬‬ ‫إنني أخطأت في أمر من األمور‪ ،‬أو إنني لم أرتكب خطأ‪ّ .‬‬
‫عل ُ‬
‫كيف أنني نجوت من الضياع في الدراسة‪ ،‬وفي دوامة معارك الشوارع والمناطق التي‬
‫انجرف فيها أصدقائي وجيراني وزمالئي‪ ،‬خالل أعوام الحرب األهلية في لبنان‪.‬‬
‫أنقذني الفن‪ .‬أنقذتني رغبتي في التعامل مع األلوان وفي أن أصنع شي ًئا ما‪ ،‬أن أرسم‬
‫أو أنحت‪ ،‬أن أستعمل أصابعي ويديَّ ‪ ،‬وأن أستمتع بهدوء مكتبة عامة‪ ،‬حيث أعرف‬
‫الوجوه وال أعرف أصواتها‪ .‬هربت من العائلة‪ ،‬من مشكالت إرث أبي واألراضي التي‬
‫أراد أعمامي انتزاعها من األرملة أمي‪ ،‬ومني أنا‪ ،‬وأخواتي الثالث‪ .‬هربت أنا الصبي‬
‫الوحيد بين أربع نساء‪ ،‬هربت إلى أميركا‪.‬‬
‫تَعتبر أختي الكبرى‪ ،‬التي تزوّ جت قبل أن تصبح في العشرين‪ ،‬البلد اإلفريقي الذي‬
‫مرة في األسبوع فقط‪ .‬كانت أمي‬
‫انتقلت للعيش فيه مع زوجها‪ ،‬بلدها‪ .‬تتصل بأمي ّ‬
‫تنتظر يوم السبت‪ ،‬لسماع صوتها‪ ،‬وتقول إنها تحس بالذنب تجاه ابنتها الكبرى التي‬
‫رمت نفسها بين ذراعي العريس ما إن دق بابها‪َّ ،‬‬
‫وفضلت إفريقيا على العيش مع أ ِّمها‪ .‬ال‬
‫صغيرا يوم االحتفال بزفافها في منزلنا‪ .‬كانت‬
‫ً‬ ‫أعرف أختي الكبرى نجالء ج ِّي ًدا‪ .‬كنت‬
‫مجرد لعبة مؤقتة‪ ،‬مباراة ظنناها تنتهي قري ًبا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الحرب في بدايتها‪ .‬كانت ما زالت‬

‫‪238‬‬
‫ثالث قصص قصيرة‬

‫ً‬
‫قطعة من‬ ‫حساس مثل النساء‪ .‬وهل يجب أن يكون الرجل‬
‫يتهمونني بأنني َّ‬
‫الخشب؟ هل الرجال بال إحساس؟ وقد أكلت مع هؤالء الذين يتهمونني باألنوثة‬
‫(وهي تهمة في بلدي) «سندويشات» النخاع واأللسنة من دكان «أبو علي»‪،‬‬
‫وبرعت في مباريات كرة القدم بين األحياء في منطقتنا‪ .‬إال أنني بكيت يوم بكت‬
‫«سوسو» ابنة الجيران ألن انفجا ًرا ّ‬
‫هز الشارع قبل عودة أمها إلى البيت‪« .‬سوسو‬
‫اصمتي»‪ ،‬قلت لها‪«.‬تشاهدين أفالم أكشن ورعب كثيرة‪ .‬ال تتخيّلي الدم‪ .‬أغمضي‬
‫عينيك وتخيّلي ألوانًا أخرى‪ :‬األزرق جميل‪ ،‬األزرق أجمل األلوان‪ .‬هادئ وعميق مثل‬
‫وغني باألسرار‪« ».‬كفى فلسفة»‪ ،‬قال لي جاد صديقي‪ ...‬فلنكمل «الماتش»‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫البحر‬
‫أربعون عامًا من المشي في الشوارع‪ 33 .‬عامًا كي أكون أكثر د َّق ًة‪ .‬مشيت في بيروت‬
‫ونيويورك وفي جنوب لبنان‪ ،‬مشيت بين القبور في قريتي‪ ،‬مشيت وراء صديقة‬
‫تحم ُ‬
‫ست لفكرة أنني أعيش من خالل المشي‪،‬‬ ‫طفولتي التي يصفونها اآلن بـ«الفالتة»‪َّ .‬‬
‫بقدمي لكنني تحمست لها بهدوء‪ .‬وأنا ال أخرج عن هدوئي‪ ،‬وال يخرج هدوئي‬
‫ّ‬ ‫أعيش‬
‫مني‪ .‬ال أغضب‪ .‬أحزن فحسب‪ .‬وال عالقة لهدوئي بأنني تر َّبيت بين نساء‪ ،‬فأمي تجنّ‬
‫من الغضب‪ .‬يفقدها الغضب القدرة على التفكير والحركة‪ ،‬يش ُّلها‪.‬‬
‫هكذا بهدوء فهمت فشلي في الرسم‪ ،‬واقتنعت بأنني لن أبرع فيه‪ .‬فغرقت في‬
‫التاريخ‪ ،‬تاريخ الفن وتاريخ القمع في منطقتي‪ ،‬تلك المنطقة من العالم حيث الشمس‬
‫تش ّع ظالمًا‪.‬‬

‫لبنان سويسرا؟ بيروت باريس؟‬

‫بطاقتي في جيبي مع علبة السجائر‪ ،‬بطاقتي واسمي العربي في جيبي حيث تختبئ‬
‫في الرغبة في لقائكِ ‪ .‬لم‬
‫صورتي وعيناي وشفتاي وجبيني وذاكرتي‪ .‬أمشي وتمشي ّ‬
‫يتأخر الوقت‪ .‬ما زلت قاد ًرا على استعادتك إذا أردتِني‪ .‬أعود في طائرة الغد إلى باريس‬
‫ومنها إلى نيويورك‪ .‬ال شيء مستحيل‪« .‬الثالثاء ‪ 17‬فبراير» تاريخ مطبوع على بطاقة‬
‫أخرى في جيبي‪ .‬أتذكرين ذلك اليوم؟ أمضيناه في المتحف‪ .‬أشتاق إلى أن أتنقل في‬
‫المدينة تحت المدينة‪ ،‬أركض بين باب سحري وآخر‪ ،‬في المترو أنتظر المفاجآت‬
‫أخيرا ما عدت أخاف من البرد‪.‬‬
‫ً‬ ‫وأسعد بها‪ .‬أركض كي ال يتأخر الوقت‪.‬‬
‫تجربي العيش من دوني‪ ،‬تركت لك زم ًنا تنسين خالله أنك تواعدت‬
‫تركت لك أن ّ‬

‫‪239‬‬
‫هالة كوثراني‬

‫ُ‬
‫قبلت بأن يناديني «بابا»‪.‬‬ ‫مع رجل قبلي على أن تمضيا الحياة معًا‪ ،‬وأنجبت منه صب ًيا‬
‫ال بأس‪ ،‬ال يمكن أن يكون قلبي أطيب‪ ،‬وال أقبل أن تسرقي مني كالمي على ّ‬
‫تعلقي‬
‫بالوحدة وتقديري لها‪ ،‬لتقولي إنك أنت ً‬
‫أيضا تريدين العيش وحدك‪.‬‬
‫عدت من بلدك إلى بلدي‪ ،‬واسمي اليوم هو االسم نفسه الذي حملته البارحة‪ .‬ما‬
‫زلت أحب االستماع ألسمهان وموسيقى أستور بيازوال‪ ،‬وأخاف من أفالم الرعب‪.‬‬
‫أنا هنا وهناك في الوقت نفسه‪ .‬طالما كنت هنا وهناك معًا رغم ادعائي أنني محوت‬
‫الحنين إلى بيروت وإلى قريتي في جنوب لبنان‪ّ .‬‬
‫أعد رسائلك اإللكترونية‪ ،‬وأحصي‬
‫أمكنتي التي اختفت في بيروت بعدما تركتها خالل عشرين عامًا‪ .‬وأقول‪ :‬إن اختفاءها‬
‫عقاب لذاكرتي ولقسوتي على نفسي‪ ،‬عبر الجمع بين إحساس بأنني ناقص وأنني‬
‫أكتمل بك‪ ،‬وخوف عجيب منك على وحدتي‪.‬‬
‫شخص آخر‪ ،‬أنا بطل رواية عش ُتها‪ .‬ولدت في لبنان وكبرت‬
‫ٌ‬ ‫أنا لست أنا‪ .‬أنا اآلن‬
‫فيه وعدت إليه رجلًا في منتصف العمر‪ ،‬وربما األربعون عامًا التي عشتها منذ لحظة‬
‫والدتي في ‪ 22‬آذار ‪ 1968‬هي عمري ك ُّله‪َ ،‬من يدري؟ ما زلت ال أفهم لبنان‪ .‬ال أفهم‬
‫العالقات بين األحزاب فيه وبين السياسيين‪ ،‬وال أفهم المقاالت في الصحف‪ .‬ال أفهم َمن‬
‫يحب َمن و َمن يكره َمن‪ .‬ال أفهم ل َم بدأت حرب وانتهت أخرى‪ ،‬ول َم يحمل الشبان في‬
‫الشوارع سكاكين في جيوبهم‪ ،‬أو ل َم سمّ وا لبنان سويسرا الشرق‪ ،‬وبيروت باريس‬
‫الشرق األوسط‪ .‬أضحك لفكرة أن بيروت تشبه باريس‪.‬‬
‫حين بدأ هوسي بكتب التاريخ‪ ،‬محاولًا فهم تاريخ المنطقة الحديث‪ ،‬كنت مسكونًا‬
‫بشغف بأخبار أمي عن بيروت الخمسينيات والستينيات‪ ،‬حين كانت وجوه من‬
‫ملونة بألوان مختلفة تمشي في شارع الحمرا‪ ،‬حيث ُتسمع لغات‬
‫بلدان مختلفة َّ‬
‫«كل فكرة‪ُّ ،‬‬
‫كل ُهو َّية» كما قرأت‬ ‫كل شيء مسموحً ا به في بيروت ُّ‬ ‫العالم ِّ‬
‫كله‪ .‬كان ُّ‬
‫في خاتمة كتاب رائع للمفكر إدوارد سعيد العربي النيويوركي مثلي‪ ،‬والذي يحمل‬
‫عنوان قصيدة لمحمود درويش‪« :‬بعد السماء األخيرة‪».‬‬
‫وعيت سريعًا أن حنيني إلى ماض لم أعشه‪ ،‬وإلى زمن دارت أحداثه قبل والدتي‪،‬‬
‫كله عن سويسرا الشرق لم يكن سوى سراب‪ .‬حين زرت سويسرا‬ ‫غبي‪ .‬وأن الكالم َّ‬
‫ّ‬
‫ننقض‬ ‫أدركت كم ظلمناها بتشبيهها بلبنان‪ ،‬حيث نعيش اآلن مهددين بالحرب وبأن‬
‫على بعضنا ً‬
‫بعضا وبأن ينقلب استقرارنا الهش إلى جحيم‪.‬‬
‫عيني ألتحدى ليلًا طويلًا‪ ،‬مصحوبًا بأنغام راديو العسكري حارس جاري‪ :‬الزعيم‬
‫ّ‬ ‫أفتح‬

‫‪240‬‬
‫ثالث قصص قصيرة‬

‫السياسي‪ ،‬أحد تماثيل حروبنا الخالدة‪ .‬لو كنت في نيويورك النتظرت أول الصباح‬
‫ألقول لك‪ :‬أريد أن نعيش معًا‪ .‬لكن جمال الصباح وعالقتي الرائعة به ينسيانني‬
‫حاجتي إليك‪ .‬وبين الصحف وكلماتها والخطوط تحت الجمل في الكتب‪ ،‬أعترف‬
‫بأنني أنساك‪.‬‬

‫ُ‬
‫تهمة الصمت‬

‫كل ما فعلته هو أنني لم أفعل شي ًئا‪ .‬أيقظها برودي من غيابها‪ .‬نامت ثالثين ساعة‬
‫ُّ‬
‫أو أكثر‪ ،‬ولم أحاول إيقاظها‪ .‬دخلت الغرفة‪ ،‬من غير المعقول أال أكون قد دخلتها‪.‬‬
‫وتأكدت من أنها تتنفس‪ ،‬لكنني لم أحاول إيقاظها‪ .‬لم أفعل شي ًئا‪ ،‬لم أخف ذلك الخوف‬
‫الذي يوجع القلب وما ج ّهزت نفسي للسيناريو األسود‪ .‬ترك ُتها نائمة‪ .‬وقد كانت‬
‫مر عليها ستون عامًا أو أكثر‪.‬‬
‫نائمة قبل نومها في كهف أحداث حياتها القديمة التي ّ‬
‫لم أفعل شي ًئا‪ ،‬وأفادها أنني ما فعلت شي ًئا‪ ،‬ألنها بعدما صحت من نومها الطويل‪ ،‬عادت‬
‫إلى الحاضر‪ .‬نادتني‪ ،‬حاولت أال أسمع النداء‪ ،‬لكنني اشتقت إليها فجأة‪ .‬أنا طفلها‬
‫الصغير‪ ،‬آخر العنقود الذي عاد إلى حياته القديمة بعدما ثار عليها‪ .‬عدت إليها‪ ،‬إلى‬
‫في‪ .‬أحارب ما شربْته من طفولتي معها والذي‬
‫أمي‪ .‬ال أستطيع أن أهرب من تأثيرها ّ‬
‫في من فضولها قبل أن تفقد‬
‫تبقى ّ‬ ‫ّ‬
‫يتحكم بي‪ .‬أحارب ما ّ‬ ‫عبر إصراري على محاربته‪،‬‬
‫القدرة على التشبّث به‪ .‬إال أنها تتمسك بفضولها مرات كثيرة خالل نوبات الغياب التي‬
‫تصيبها‪ .‬وربما بسبب النسيان تتراكم عالمات االستفهام في عقلها حتى ال تستطيع‬
‫السيطرة عليها‪ ،‬فتصمت أو تنام نومًا طويلًا‪.‬‬
‫ال أفهم سبب عودتي من حياة هربت إليها‪ .‬اشتقت إلى بيت أهلي القديم في الجنوب‪،‬‬
‫إلى الشمس هناك‪ ،‬إلى قهوة لم أعثر على رائحتها خالل عشرين عامًا من الهجرة‪.‬‬
‫هربت إلى أميركا من الحرب‪ ،‬وكي أكمل دراستي‪ .‬كانت الجامعة األميركية في‬
‫بيروت قد دخلت لعبة الحرب رغ ًما عنها‪ ،‬أحزاب و«قبضايات» ومؤامرات غزت‬
‫ّ‬
‫المطلة على أجمل بحر في العالم‪.‬‬ ‫فسحاتها وبناياتها‪ ،‬وحاصرت أشجارها والورود‬
‫وكنت مؤم ًنا‪ ،‬قبل عامين من سفري وبعدما أصبحت رسم ًيا من تالميذ الجامعة‬
‫َ‬
‫معرفة ما‬ ‫األميركية‪ ،‬بأنني ّ‬
‫أحقق أجمل أحالمي‪ .‬لكن الحرب لم تهمّ ني‪ ،‬ولم أحاول‬

‫‪241‬‬
‫هالة كوثراني‬

‫يجري‪ ،‬لم يسك ّني أي فضول من هذا النوع‪ ،‬لم ِ‬


‫يغرني فضول سياسي بأن أحاول اتخاذ‬
‫أي من األطراف‪ .‬حملت‬ ‫التورط مع ٍ‬
‫ُّ‬ ‫موقف ما‪ .‬وقد غادرت البلد قبل أن أُضطر إلى‬
‫رسومي وهربت‪ .‬وعدت بعد عشرين عامًا ألرسم الشمس من شرفة بيت أهلي‬
‫القديم في القرية‪ .‬كانت أمي قد نسيت البيت وأضاعت مفتاحه‪ ،‬وربما نسيتني‪.‬‬
‫عيني وجبيني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫غ ّن ُ‬
‫يت لها قبل أن أدخل غرفتها يوم رجعت من السفر‪ .‬قبّلتني على‬
‫أحبت أن أفعل صباح العيد‪ .‬لم تكن نوبات الغياب قد بدأت تصيبها‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫قب ُ‬
‫ّلت يديها كما‬
‫اقترحت أن نسجّ لها على أشرطة‪ ،‬كي ال تضيع‪.‬‬‫ُ‬ ‫قصصا‬
‫ً‬ ‫كانت في تلك المرحلة تخبرنا‬
‫أستطيع أن أرسم هذه القصص‪ ،‬ولو كنت كات ًبا لكتب ُتها‪ .‬لكنني ال أجيد التعامل مع‬
‫الكلمات‪ ،‬وغال ًبا ما أُتهم بالصمت‪ .‬الصمت تهمة في مجالسنا العائلية‪ ،‬التساع دالالته‬
‫اضطرت أمي إلى‬
‫ّ‬ ‫من السخرية إلى التعالي والقرف والملل والتآمر والهروب‪ ...‬ثم‬
‫الصمت‪ .‬أجمل ما في مرضها أنها غير مضطرة إلى شرح أسباب عزوفي عن الزواج‪،‬‬
‫واإلجابة عن أسئلة تدور حول اقترابي من الخمسين ووحدتي وشيخوختي‬
‫والصمت «المرعب»‪.‬‬
‫ارتاحت أختي رندة حين قلت لها إنني سأحمل أمي إلى بيتنا في القرية‪ .‬ارتاحت‬
‫قلة خبرتي في التعامل مع أمي بعد‬ ‫من أمي‪ ،‬لك ّنها ادعت القلق أو ربما أقلق ْتها فعلًا ّ‬
‫مرضها‪ ،‬ووجودنا في البيت المنسي الذي يحتاج إلى جهود ج َّبارة‪ ،‬كي تعود إليه‬
‫حولتها مرس ًما‪َّ .‬‬
‫نظف ُته ور َّتب ُته‪ ،‬كي نستطيع‬ ‫الحياة‪ .‬أهديت إلى نفسي غرفة في البيت‪َّ ،‬‬
‫بحمام أمي وثيابها وطعامها‪ .‬أحسست‬
‫العيش فيه‪ .‬واتفقت مع أم عبداهلل على أن تهتم َّ‬
‫تدق الكوابيس أبواب نومي‪.‬‬‫لثوان بالرضا وربما بالسعادة‪ .‬كان ذلك قبل أن َّ‬
‫ٍ‬

‫ثالث قصص قصيرة غير منشورة في كتاب‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫هيام يارد‬

‫قصة قصيرة‬

‫بطن ليلى‬
‫ُ‬

‫«و ْ‬
‫يل»‬ ‫األوان قد فات‪ .‬كانت قد التقت ِ‬ ‫ُ‬ ‫حين اعتقدت ليلى أ َّنها عرفت الحب‪ ،‬كان‬
‫ٌ‬
‫عقوبة‪ .‬لقد عُ وقبنا أل َّننا لم نستطع البقاء‬ ‫«الحب‬
‫ُّ‬ ‫بعد أن قرأت لمارغريت يورسينار‪:‬‬
‫يعج بالحركة‪ ،‬في منطقة الجميزة‪ ،‬شارع‬ ‫وحدنا‪ ».‬حدث ذلك في بيروت‪ ،‬في شارع ُّ‬
‫رفضت المشاركة في رقصة ِّ‬
‫هز البطن‪ ،‬التي تقوم بها هذه المدينة‬ ‫غورو‪ .‬لطالما َ‬
‫المشغولة بتقطيع ألياف ألمها‪ ،‬وتأجيل تفعيل ذاكرتها‪ .‬وجعلها هذا الرفض‪ ،‬مصحوبًا‬
‫تتأثر دائ ًما لرؤية الناس يتشاجرون في‬ ‫ً‬
‫حزينة‪ .‬كانت َّ‬ ‫بتقنية الموسيقى الصاخبة‪،‬‬
‫النوادي َّ‬
‫الليلية حول دفع الحساب‪ ،‬صراع السلطة حول ثمن الليمونادة‪.‬‬
‫نفسها من الرقص ومن الحرب في الوقت نفسه‪ .‬كانت ِّ‬
‫تفضل على‬ ‫أخرجت َ‬
‫مرة أخرى‪ .‬وكانت‬
‫مرة‪ ،‬واألبيض َّ‬ ‫َّ‬
‫المخطط‪ ،‬الرمادي َّ‬ ‫االثنين صحبة ِّ‬
‫قطها ذي الوبر‬
‫تفكر في جمال األشياء الذي ال يُح َتمل‪ .‬وتقول في نفسها إنه ال يقتل‬ ‫كلما أطعمته ِّ‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫جوهرية من الحياة‪،‬‬ ‫خدوشا إضاف َّي ًة‪ ...‬كانت ليلى تنتظر شي ًئا أكثر‬
‫ً‬ ‫لك َّنه يترك فقط‬
‫لكن شي ًئا لم يتغلغل عبر شقوق كيانها‪ .‬حدث أن أرغمتها عزل ُتها على االنخراط‬
‫َّ‬
‫في نزهات ليل َّية‪ :‬إيليمنتس‪ ،‬جيم‪ ،‬سونترال‪ ،‬مينت‪ .‬ب ‪ .018‬كانت ُّ‬
‫كل هذه المالهي‬
‫َّ‬
‫الليلية تتنافس في التسميات‪ ،‬وفي اختراع األعداد واألرقام والديكور الذي يكون في‬
‫ً‬
‫محشورة في سروال جينز‪،‬‬ ‫براقًا‪ .‬كانت ليلى تخرج‬ ‫ِّ‬
‫متعدد األلوان َّ‬ ‫معظم األحيان‬
‫أيضا‪ .‬كانت تملك ثيابًا ِّ‬
‫لكل مناسبة‪:‬‬ ‫يقولبها بما يكفي لتنال النجاح المنتظر‪ ،‬والعري ً‬
‫شخص‬
‫ٍ‬ ‫الصيد‪ ،‬واإلغواء‪ .‬وكانت من حين آلخر تطلق لنفسها العنان في مغامرة مع‬
‫والسر َّية‪ .‬ولدى عودتها إلى‬
‫ِّ‬ ‫أجنبي‪ .‬ذلك أفضل من أوالد البلد‪ ،‬بسبب القيل والقال‬
‫يتصرف‬
‫َّ‬ ‫قطها في انتظارها‪ .‬حين لحظها ويل‪ ،‬رأى من الحكمة أن‬ ‫منزلها كانت تجد َّ‬
‫بهدوء‪ .‬لم يتحدث معها على الفور عن رغبته‪َّ .‬‬
‫تكلم معها عن روحه‪ ...‬هذا اللهب‬

‫‪243‬‬
‫هيام يارد‬

‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫روحي‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫كوسيط‬
‫ٍ‬ ‫الكامن في عروقه‪ ،‬ر َّبما في مثانته‪ .‬وجدته مفع ًما بالحكمة‪،‬‬
‫متكررة‪ .‬واستشارت طبي ًبا اختصاص ًّيا نصحها بعدم تغيير‬
‫ِّ‬ ‫تعرضت اللتهابات بول َّية‬
‫ما َّ‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫شركائها‬
‫كان التغيير هو األسلوب الوحيد الذي تتقنه‪ ،‬كي تتج َّنب التع ُّلق بأي شخص‪ .‬وكانت‬
‫إن رجلًا إضاف ًّيا في سريرها يعني أل ًما َّ‬
‫أقل في القلب‪ .‬وكان عليها دومًا‬ ‫تقول في نفسها‪َّ :‬‬
‫أن تطر َد من نفسها العزلة المالزمة لها في هذا العالم‪ .‬تقول لصديقاتها‪ « :‬أنا ِّ‬
‫أدخن‬
‫محتاجة إلى المورفين‪ .‬الحياة تكفيني»‪ ،‬وكانت صراحتها‬‫ً‬ ‫الحياة‪ ،‬أستنشقها‪ ،‬لست‬
‫مرة موتًا‬ ‫كبيرا من الرجال‪ .‬تتناولهم من دون فرز‪ ،‬وتموت َّ‬
‫كل ّ‬ ‫ً‬ ‫تجذب إليها عددًا‬
‫بد أن ِو ْ‬
‫يل الحظ األمر‬ ‫َّ‬
‫المؤكد أ َّنه موتي األخير هذه ّ‬
‫المرة‪ ».‬ال َّ‬ ‫ً‬
‫مختلفا‪ ،‬وتقسم‪« :‬من‬
‫تحدث إليها بلغة الروح‪ ،‬تحدث معها عن اإلنسان‪.‬‬‫أل َّنه تحاشى النظر إلى وركيها‪َّ .‬‬
‫ابتهجت من عناية َ‬
‫قد ٍر كان قد جعلها فيما مضى تلتقي رجالًا يح ُّبون المضاجعة‪:‬‬
‫رجالًا عُ ْرجً ا‪ ،‬رجالًا خائفين‪ .‬لم تلتق ً‬
‫أبدا توأم روحها‪ .‬في هذا المساء‪ ،‬كان ويل‬
‫حريصا على ألاّ يتعجل أي شيء‪ ،‬فاكتفى بطبع قبلة على وجنتها وهو يودِّعها‪.‬‬‫ً‬
‫كل كلمات وحركات هذه األمس َّية‪ ،‬والقبلة التي تبادالها‬‫رسخت في ذهن ليلى ُّ‬
‫ً‬
‫مستلقية على ظهرها‪ ،‬ثم انقلبت‬ ‫على الرصيف‪ .‬وجافاها النوم‪ .‬كانت ِّ‬
‫تفكر في ويل‪،‬‬
‫حولت جسمها أعضا ًء صاخبة‪ .‬كانت قد عاشت‪ ،‬حتى اآلن‪ ،‬تراك َم‬ ‫على بطنها‪ُ .‬ق ْبلته َّ‬
‫والحب والحركة المستهلكة قبل اإلخصاب‪ .‬هذا‬ ‫ِّ‬ ‫اللحظات فوق بعضها‪ ،‬مع الرغبة‬ ‫َّ‬
‫المساء‪ ،‬انسحبت من معانقته كي ال تستبق الزمن‪ .‬بدا لها أ َّنها تكتشف شي ًئا ناد ًرا في‬
‫التحفظ‪ .‬لم تع ُْد متأكدة من أ َّنها تريد تأجيل‬
‫ُّ‬ ‫تحفظه‪ .‬وفور ابتعاد ويل‪ ،‬ندمت على ذلك‬ ‫ُّ‬
‫الدرج‪ ،‬وأن تطلب منه البقاء قري ًبا‬ ‫الرغبة‪ .‬كان بإمكانها اإلمساك به وهي واقفة على َّ‬
‫يعزيها التر ُّقب‪ .‬حين هاتفها‪ ،‬في‬‫من جسدها‪ .‬لم تفعل شيئا من ذلك ونامت وحيدة‪ِّ ،‬‬
‫ف‪ ،‬وقالت‪:‬‬ ‫ْ‬
‫وافقت على كالمه بتل ُّه ٍ‬ ‫اليوم التالي‪ ،‬أبدى أسفه أل َّنه لم َ‬
‫يبق إلى جوارها‪.‬‬
‫«لديَّ نفس الشعور‪ ».‬كان قلبها ُّ‬
‫يدق‪ .‬كانت تشعر باألرض عبر قدميها‪ ،‬وبمهبلها‬
‫عضو في مكانه‪ .‬حين التقيا من جديد‬
‫ٍ‬ ‫أي‬
‫عبر رأسها‪ ،‬وبدماغها عبر دمها‪ .‬لم يكن ُّ‬
‫ً‬
‫فاتحة جسدها وقلبها‪ ،‬وقالت في‬ ‫الحب‪ .‬اخترقها ويل‪ .‬وأغمضت عينيها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫مارسا‬
‫نفسها‪ :‬هذا ما يجب أن يكونه َج َسدان‪ ،‬بال عزلة‪.‬‬
‫تحب كيال تتالشى‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫كانت ليلى‬
‫ً‬
‫سيجارة‪ .‬المس جسده ظهر ليلى المستلقية‪ .‬كان دخان السيجارة‬ ‫أشعل ويل‬

‫‪244‬‬
‫بطن ليلى‬
‫ُ‬

‫شخص في حياتك؟» لم تفهم هذا‬


‫ٌ‬ ‫نفسا قبل أن يسألها‪« :‬أهناك‬ ‫يغطي العري‪ .‬وأطلق ً‬
‫االنتقال بعد االنتصاب‪ .‬كان بودِّها أن تقول إ َّنها ال تستطيع أن ِّ‬
‫تحرك ردفيها كما فعلت‬
‫لو كان هناك شخص آخر‪ .‬كما هو الحال في أغنية باربارا‪ ،‬مثلما نموت من الحب‪.‬‬
‫استدارت نحوه‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ولكن ال أحد عندي‪ .‬وأنت‪ ،‬هل عندك امرأة؟»‬
‫ْ‬ ‫«إنهم عديدون‪،‬‬
‫‪« -‬نعم‪».‬‬
‫محركها‬
‫ِّ‬ ‫قوة‬ ‫انطلق الجواب مثل رصاصة ق َّناص‪َّ .‬‬
‫فكرت ليلى في سيارة ستروين َّ‬
‫حصانان يملكها زوجان مس َّنان يشعران بالضجر‪ .‬من المؤكد أن زوجته كذلك‪.‬‬
‫ستروين مترنِّحة ُ‬
‫اضط َّر ويل إلى أال يغادرها كيال يجرحها‪ .‬تظاهرت بعدم االكتراث‬
‫كالنساء العابرات اللواتي ال نَدين َّ‬
‫لهن بشيء‪ ،‬وبدا سؤال ويل بعد الجِ ماع اغتصابًا‪.‬‬
‫كشف أوراقه قبل ممارسة الجنس‪ ،‬وشعرت بالخيبة َّ‬
‫ألن‬ ‫ُ‬ ‫فكرت بأنه كان بإمكانه‬ ‫َّ‬
‫الحب والجنس أصبحا‪ ،‬هكذا‪ ،‬مباراة شِ طرنج‪ .‬وسألته‪« :‬هل أنتما معا منذ فترة‬‫َّ‬
‫ً‬
‫مقتنعة بأنه بقي‬ ‫طويلة؟» متش ِّب ً‬
‫ثة بفكرة زوال الرغبة بين الزوجين المس َّنين‪،‬‬
‫مع زوجته حت ًما بحكم االعتياد‪َّ .‬‬
‫فكرت ليلى في أنه تجاوز سن األربعين‪ ،‬وال َّ‬
‫بد أنه‬
‫حب شباب‪ ،‬خطأ ر َّبما‪ .‬وانتظرت أن ِّ‬
‫يؤكد توقعاتها‪.‬‬ ‫تعرف إليها في بداية مشواره‪ُّ .‬‬
‫َّ‬
‫خمس عشرة سنة‪ .‬سيقول لها خمس عشرة سنة‪ .‬ربما‪ ،‬اثنتا عشرة سنة‪ .‬عشر‬
‫مرت سنة‪».‬‬
‫سنوات‪ ،‬على أكثر تقدير‪ .‬وأتاها صوت ويل‪« :‬سنة واحدة‪َّ .‬‬
‫مرت أربع وعشرون ساعة منذ أن أقنعها بخطابه األفالطوني ليصل إلى الجسد‪.‬‬
‫يحب هذه المرأة التي التقاها قبل سنة‪ .‬لم ُت ِ‬
‫لق عليه السؤال‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫فكرت في أنه ربما ال‬
‫لكن ويل مع ذلك هزَّ رأسه وهو يقول‪« :‬نعم‪ ،‬أح ُّبها‪».‬‬
‫ْ‬
‫مما يُح َتمل‪.‬‬
‫كانت األسئلة تتدافع في رأسها‪ .‬مرور هذا الرجل على جسدها أكثر َّ‬
‫وكان عليها أن تغادر على الفور‪ .‬إ َّنها تلومه على أ َّنه استخدم الروح سبيلًا للمضاجعة‪،‬‬
‫أن الروح‬ ‫رت‪ ،‬وهي تلبس حذاءها‪ ،‬في َّ‬ ‫فك ْ‬‫كل شيء فور انتهاء الجنس‪َّ .‬‬ ‫ثم سحب َّ‬
‫ً‬
‫خبيرة بالجنس عند اللزوم‪ .‬المت نفسها ألنها‬ ‫حج ٌة جيدة‪ ،‬مضاجعة جيدة‪ .‬كانت‬ ‫َّ‬
‫ٌ‬
‫هدف‬ ‫حرتين ومسحورتين لهما‬ ‫أخطأت طريقها من جديد‪ .‬كانت قد آمنت بروحين َّ‬
‫ْ‬
‫«المطلق أكثر‬ ‫ٌ‬
‫واحد‪ .‬لك َّنها عثرت على جسد منهك‪ ،‬وكذبة‪ .‬قال كمن يقرأ أفكارها‪:‬‬
‫قذارة مما تتصورين‪ .‬ليس الواقع هو من يخونك‪ ،‬بل أنت من يطلب منه أكثر مما‬
‫يستطيع أن يعطيه‪».‬‬

‫‪245‬‬
‫هيام يارد‬

‫في انتظار ذلك كان قلبها هو ما تريد أن تمنحه في كل مكان‪ ،‬وبأي طريقة كانت‪،‬‬
‫وألي كان‪ ،‬شريطة أن يح َّبه‪ .‬سئمت ليلى من كونها شوكة رغبة متروكة في صحن‪،‬‬ ‫ٍّ‬
‫ً‬
‫مرحاضا عا ّمًا للنزوات‪ .‬يقال‬ ‫كما أنها سئمت التقاء رجال متلهِّفين على جعل ردف ْيها‬
‫فكرت‬‫تمر على أجسادهن‪َّ .‬‬ ‫إن القطارات فقط هي التي لم َّ‬ ‫عن النساء سهالت المنال َّ‬
‫ليلى في ألم سكة الحديد‪ ،‬وفي األجساد التي سحقت لكثرة العبور فوقها‪ .‬ومهما‬
‫كذبت لم يكن بإمكانها إهمال نظرتها نفسها‪ .‬كان وهنها جيفة ما كانت لتخرج منها‬
‫ً‬
‫سالمة‪ .‬كان بودِّها أن تشطب الماضي‪ ،‬وتهضم بقايا عالقاتها‪ .‬حين قرأت الروائي‬
‫مارسيل بروست قالت في نفسها‪ :‬ربما كان الزمن هكذا‪ :‬حرمانًا ضائعًا‪.‬‬
‫أشد من الموت‪ ،‬وحرمان يفوق العطش‪ ،‬تشعر‪،‬‬ ‫كلما دخلت بيتها‪ ،‬في وحدة َّ‬ ‫كانت َّ‬
‫ما إن تجتاز عتبة بيتها‪ ،‬باللهيب داخلها كما هو‪ ،‬على األريكة مع ِّ‬
‫قطها‪ .‬كانت كلما‬
‫أدارت المفتاح في القفل‪ ،‬يراها هذا الجز ُء منها ويقفز إلى وجهها‪ .‬ويغير ُّ‬
‫القط وضعيته‪،‬‬
‫أثر‬
‫فتستعيد ليلى وجهها‪ .‬لم يحدث شيء في اليوم الذي أعقب لقاء ويل‪ .‬لم يظهر أي ٍ‬
‫َّ‬
‫احتل الفراغ مكانه‪ ،‬والغياب في كل مكان‪ .‬بحثت تحت السرير‪ ،‬خلف الباب‪،‬‬ ‫َّللهيب‪.‬‬
‫تحت الحصيرة‪ِّ .‬‬
‫بكل بساطة‪ ،‬اختفى اللهيب‪َّ .‬‬
‫تبخر‪ .‬نزلت إلى الشارع‪ ،‬عادت على‬
‫عقبيها‪ ،‬سارت في الطريق التي سلكتها‪ً ...‬‬
‫عبثا‪ .‬كان عليها أن تفتش عنه في جسد‬
‫ً‬
‫مستفسرة عن شيء‬ ‫المارة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ويل‪ ،‬ولك َّنه لم يعد يرد على مكالماتها‪َّ .‬‬
‫تحدثت إلى‬
‫لهيب في أي مكان‪ .‬مرت‬
‫ٍ‬ ‫يشبه االهتزاز‪ ،‬أقسم الجميع أنهم لم يروا شيئا‪ .‬لم يروا أيَّ‬
‫اللهيب‪ .‬ذات صباح أحست بانتفاخ في جسمها‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫طويلة‪ ،‬وكانت تنام في غياب َّ‬ ‫ليال‬
‫ٍ‬
‫المطاطي ذات مسا ٍء شربت فيه الكثير‬ ‫َّ‬
‫وتذكرت ثق ًبا في الواقي َّ‬ ‫لقد انتفخ بطنها‪،‬‬
‫من النبيذ‪ .‬أسرعت إلى المطبخ وهي تخلع مالبسها‪ ،‬تغادر جلدها‪ .‬توقفت أمام‬
‫الغسالة‪ ،‬وأدخلت فيها كل ما أرادت أن يهترئ بالغسل‪ .‬كانت ستلقي بجسمها أيضا‬ ‫َّ‬
‫قوي مع مقدارين من مسحوق التنظيف‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫برنامج‬
‫ٍ‬ ‫لو استطاعت‪ .‬وش َّغلت اآللة على‬
‫الكوة‪ ،‬تم َّنت لو أ َّنها‬ ‫َّ‬
‫وظلت تنتظر‪ .‬حين فتحت َّ‬ ‫بأكبر قدرة ممكنة على الحك‪.‬‬
‫تجد فيها فقدانا للذاكرة‪ ،‬ذاكرة غمست في ماء ساخن‪ ،‬ذاكرة مهترئة‪ ،‬جرفها الماء‬
‫الجاري‪ .‬كان قلبُها سلي ًما موضوعً ا على الغسيل األبيض‪ ،‬مثل زبد على سطح األشياء‪.‬‬
‫كل شيء وهي تتحرر من أوهامها‪،‬‬ ‫وتقزَّ زت من رائحة الغسيل النظيف‪ .‬جمعت َّ‬
‫طوت الغسيل ووضعته في مكانه‪ ،‬وخرجت من جديد لتواجه الشارع‪ :‬حاملًا‪ .‬هذا‬
‫ما كانت عليه‪ ،‬امرأة حامل‪ .‬كما تفعل رصاصة ق َّناص في ج َّثة‪ .‬كانت تشعر‪ ،‬أكثر‬

‫‪246‬‬
‫بطن ليلى‬
‫ُ‬

‫من يسير‪،‬‬ ‫فأكثر‪ ،‬بصعوبة في المشي‪ .‬على كل حال‪ ،‬لم ُ‬


‫تكن هي ْ‬
‫كانت الحياة هي التي تمشي في داخلها‪ .‬كانت خطواتها تحملها‪ .‬وجدت ما يكفي‬
‫القوة كي تجرجر نفسها إلى عيادة طبيب يمارس اإلجهاض‪ .‬كان جازما‪« :‬سيدتي‪،‬‬
‫من َّ‬
‫ال أستطيع أن أفعل أي شيء من أجلك‪ .‬اإلجهاض مستحيل‪ .‬أنت حبلى بالفراغ‪».‬‬

‫قصة غير منشورة‪.‬‬


‫ترجمها عن الفرنسية‪ :‬محمد المزديوي‬
‫مراجعة الترجمة‪ :‬د‪ .‬سحر سعيد‬

‫‪247‬‬
‫وجدي األهدل‬

‫قصة قصيرة‬

‫جريمة في شارع المطاعم‬

‫إذا كانت صنعاء هي عاصمة البالد‪ ،‬فإن شارع المطاعم يمثل عاصمة صغرى بداخل‬
‫المدينة المترامية األطراف‪ .‬أي شخص يقول إنه زار مدينة صنعاء ولم يعرف شارع‬
‫المطاعم‪ ،‬فاعلم أنه لم يزرها‪.‬‬
‫وكما ُّ‬
‫تدل التسمية‪ ،‬فإن هذا الشارع يحوي سلسلة من المطاعم التي تتف َّنن في طبخ‬
‫الوجبات الشعبية‪ ،‬وعنقودًا من المقاهي التي يتردد إلى يوم ًيا عدد ال يحصى من البشر‪.‬‬
‫لكن في يوم لم يظهر قرص الشمس بسبب عاصفة من غبار‪ّ ،‬‬
‫أطل وجه غير مألوف‪،‬‬ ‫ْ‬
‫يرتدي بذلة ب ِّنية غالية‪ ،‬وربطة عنق ورد َّية‪ ،‬ويحمل حقيبة «سامسونايت»‪ .‬جلس‬
‫تحول إلى النقد األدبي‪ ،‬وطلب منه طل ًبا غري ًبا‪ ،‬أن يأتي معه إلى‬
‫بجوار شاعر سابق‪َّ ،‬‬
‫البنك القريب من شارع المطاعم ليدلي بشهادته حول أحد رواد المقهى‪ ،‬ومقابل‬
‫تلك الشهادة سيحصل على مبلغ ط ِّيب‪.‬‬
‫شكك الناقد األدبي في جد َّية العرض‪ ،‬وظهرت ابتسامة ساخرة على شفتيه‬ ‫َّ‬
‫المتقرحتين من مرض السكر‪ .‬لكن الرجل الذي َّ‬
‫قدم نفسه بصفته «مندوب البنك»‬ ‫ِّ‬
‫ودسها في جيب الناقد األدبي‪ ،‬ووعده بمبلغ‬
‫أخرج من الحقيبة عشرين ألف ريال َّ‬
‫مماثل عند فراغه من شهادته‪ .‬تنحنح الناقد األدبي وبرقت عيناه‪ ،‬ثم تناول عصاه‬
‫َّ‬
‫وخف خطاه إلى البنك‪ .‬اقتاده المندوب إلى مكتب‬ ‫التي يهدد بها األدباء المبتدئين‪،‬‬
‫مدير البنك‪ ،‬وعندما دخل الناقد األدبي دهش من البهو الهائل المساحة المسمى‬
‫«مكت ًبا» وشعر بالرهبة من هيبة المكان‪ ،‬وانتابه إحساس بالخزي من رثاثة مالبسه‪.‬‬
‫في طريقه السريع إلى المدير القصير القامة النحيل كعود خيزران‪ ،‬تع َّثر وكاد رأسه‬
‫عطرا‪ .‬رحب به مدير البنك وطلب منه الجلوس‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يرتطم بمبخرة مشتعلة تبث دخانًا‬
‫تذوقها واستحسن طعمها المر‪.‬‬
‫فيما قدمت له فتاة باهرة الجمال‪ ،‬قهوة بال سكر‪َّ ،‬‬

‫‪248‬‬
‫جريمة في شارع المطاعم‬

‫خاطبه مدير البنك وابتسامة عريضة تلوح على وجهه‪:‬‬


‫‪ -‬أنت ناقد أدبي؟‬
‫‪ -‬نعم‪ .‬أفضل ناقد أدبي في اليمن‪.‬‬
‫‪ -‬هل صحيح أنك تأخذ أموالًا من األدباء لتمدحهم؟‬
‫‪ -‬كذب‪ .‬أعدائي الصهاينة عمالء السي آي إيه هم الذين يشيعون هذه االفتراءات‪.‬‬
‫‪ -‬هل تعرف عبد اللطيف محمد أحمد؟‬
‫‪ -‬عبد اللطيف‪ ...‬عبد اللطيف‪ ...‬آه أعرفه‪.‬‬
‫‪ -‬ممتاز‪ .‬أريدك أن تحدثني عن ِّ‬
‫كل صغيرة وكبيرة تخص هذا الشخص‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا‪ ،‬هل تربطك به عالقة قرابة؟‬
‫‪ -‬هذا ليس من شأنك‪ .‬عليك أن تن ِّفذ ما أطلبه منك دون أسئلة‪.‬‬
‫غاص مدير البنك في كرس ِّيه الوثير مريحً ا ظهره‪ ،‬وأعطى إشارة البدء‪ .‬وبعد لحظات‬
‫صمت ثقيلة مزعجة كان الناقد األدبي يبحث خاللها عن بداية مناسبة‪ ،‬مأل األخير‬
‫فمه بالهواء حتى انتفخت وجنتاه‪ ،‬ثم زفر وقد استجمع قواه‪:‬‬
‫لكن المقهى كما‬
‫‪ -‬ما أعرفه أنه موظف في وزارة اإلعالم‪ ...‬ال‪ ...‬لست صديقه‪َّ ...‬‬
‫تعرف يجمع اإلنس والجن‪ .‬هو موجود في المقهى يوم ًيا لشرب الشاي بالحليب‪ .‬يحضر‬
‫جاللته منذ الصباح الباكر‪ ،‬ويبقى في شارع المطاعم يرتع هنا وهناك كالجدي التائه‪،‬‬
‫حتى يحين موعد إغالق المحالت في الساعة العاشرة ليلًا‪ .‬يُفطر بثالث أو أربع ح َّبات‬
‫خمير مع كوب شاي بالحليب‪ ،‬ويتغدى في ساعة متأخرة‪ ،‬بعد أن تغلق المطابخ‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويتسلل إلى مطعم يملكه أحد معارفه ممن ينتمون إلى نفس منطقته ويأكل البقايا‪.‬‬
‫وأما كيف يدبِّر وجبة العشاء فهذا أمر ال أعرفه‪ ،‬ألنني أعود إلى بيتي قبل حلول‬
‫ً‬
‫أخطبوطا عمالقًا زحف‬ ‫الظالم‪ .‬يقال إ َّنه مهندس ديكور‪ ،‬ولك َّنه من وجهة نظري يشبه‬
‫مجار متصلة بالبحر دون أن يالحظه أحد‪ .‬يبدو أنه درس في‬
‫ٍ‬ ‫إلى عالمنا من بالوعة‬
‫الخارج‪ .‬إنه من أولئك النفر المتفرنجين الذين انبهروا بالبلد األجنبي الذي درسوا‬
‫فيه‪َّ ،‬‬
‫وتأثروا بنمط جديد من الحياة المنفلتة‪ ،‬فلما عادوا لليمن فشلوا في التأقلم مع‬
‫المجتمع وعاداته وتقاليده‪ ،‬فإذا هم معلقون في الهواء‪ ،‬مقتلعون من جذورهم‪ ،‬غير‬
‫قادرين على االندماج‪ .‬يفصلهم عن محيطهم غشاء رقيق‪ .‬مكوناته‪ :‬إحساس مفرط‬
‫بالذات‪ ،‬واستعالء على اآلخرين‪ ،‬وغرور مج ِّنح يبرز في اهتزاز الرأس‪ ،‬وتك ُّبر مقرون‬
‫بجنون عظمة خفي‪ ،‬وعدم تنازل يتم َّثل في العبوس األبدي‪ ،‬والجلوس في المقهى‬

‫‪249‬‬
‫وجدي األهدل‬

‫وتوهمه أنه شخصية شهيرة يُفترض منه الترفع‬


‫ُّ‬ ‫وكأنه العبقري محط أنظار الجميع‪،‬‬
‫شخصا مشهو ًرا‪ ،‬فتجده يبالغ في‬
‫ً‬ ‫عن مخاطبة الغوغاء‪ .‬بل إنه ينغمس في اعتبار نفسه‬
‫التخ ِّفي وحجب شخصه المعروف‪ ،‬لكيال يزعجه المعجبون المفترضون بحضرته‪،‬‬
‫ِّ‬
‫مقل ًدا في حركاته الموزونة وتصرفاته المحسوبة كبار المشاهير في العالم! من صبح‬
‫جالسا في المقهى وتحته الجريدة‬
‫ً‬ ‫ربي يخرج وقد شرب الخمر البلدي الرخيص‪ ،‬فتراه‬
‫الرسمية‪ ،‬ورغم أن الجريدة تحوي آيات قرآنية وصو ًرا للرموز الوطنية‪ ،‬فإنه يبرر‬
‫فعلته بحرصه على بقاء مقعدة بنطلونه نظيفة‪ .‬ثم يصحو من سكرته بالتدريج َّ‬
‫كلما‬
‫تقدم النهار‪ .‬نعم‪ ،‬إنه يشتم النظام بانتظام‪ .‬وهو يفتتح يومه بشتائم نارية‪ ،‬الع ًنا عار‬
‫هذه البالد التي فيها خمسة ماليين قواد وخمسة ماليين شاذ! ويظل َطوال اليوم في‬
‫يتقصدون إهانته والتقليل من شأنه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مزاج عكر‪ ،‬نزق‪ ،‬عدواني‪ ،‬ويعتقد أن الجميع‬
‫عندما تستمع إليه‪ ،‬تكتشف أنه يحمل في نفسه ضغينة على الناجحين‪ُّ ،‬‬
‫يظل يهذي‬
‫مرة‬
‫في الصبح والمساء بكالم تشم منه المقت والكراهية ألصحاب الثروة والشهرة‪ّ .‬‬
‫جاء إلى المقهى ملحن موسيقي أسمر البشرة‪ ،‬وبعد انصرافه‪ ،‬قال صاحبنا مخاط ًبا‬
‫رواد المقهى‪« :‬واهلل عشنا وشفنا األخدام قدهم يفهموا في الموسيقى‪ »...‬هذه نبرة‬
‫عنصرية‪ ،‬نفثة شخص عذبه الفشل‪ ،‬وأخرجته عقدة النقص عن طوره‪ .‬لم يتمالك‬
‫أعصابه حين رأى فنانًا موهوبًا يحظى بتقدير المجتمع واحترامه‪ ،‬فراح ينتقص منه‬
‫ُعرضا بأصوله الطبقية‪ .‬عندي حدس أن في داخله ً‬
‫عنفا مكبوتًا‪ ،‬حل ًما بدمار العالم‬ ‫م ً‬
‫خمنت ذلك من ثنائه غير المتوقع بوصفه مهندس ديكور‬ ‫مقفرا‪َّ .‬‬
‫ً‬ ‫وصيرورته خرابًا‬
‫على زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن الدن‪ .‬ورغم أنه ليس متديِّ ًنا‪ ،‬وال تربطه أدنى‬
‫َ‬
‫المنقذ الذي يعلق عليه آماله‬ ‫صلة بالتنظيمات اإلسالمية‪ ،‬فإنه يعدُّ أسامة بن الدن‬
‫الكبيرة‪ .‬سمعته مرة َّ‬
‫يتكلم بحماسة شديدة قائلًا بالحرف‪« :‬أسامة بن الدن هو الرجل‬
‫َّ‬
‫يتكلم‬ ‫حد للفوضى في العالم‪ ».‬إذا الحظ ً‬
‫أحدا في المقهى‬ ‫الوحيد القادر على وضع ِّ‬
‫ويجذب إليه األنظار‪ ،‬فإنه يشعر بالغيرة والحسد‪ ،‬فيضع رجلًا على رجل‪ ،‬وينظر‬
‫في االتجاه اآلخر قائلًا‪« :‬خذ الحكمة من أفواه التيوس!»‪ ،‬إنه موهوم‪ ،‬يخال نفسه‬
‫مهما ًّ‬
‫جدا‪ .‬وهو يتصرف مع الناس على هذا األساس‪ .‬لذلك ليس من عادته ر ُّد‬ ‫رجلًا ًّ‬
‫التحية‪ ،‬أو الر ُّد على الذين يخاطبونه‪ ،‬فهو يسمح لنفسه بممارسة أحد االمتيازات‬
‫المقصورة على الملوك‪ :‬عدم التخاطب مع األشخاص األقل مكانة‪.‬‬
‫مرات نادرة كان ينزل رأسه من‬
‫يمشي ورأسه مرفوع إلى عنان السماء‪ ،‬وفي ّ‬

‫‪250‬‬
‫جريمة في شارع المطاعم‬

‫عليائه ليثرثر مع أحد معارفه‪ .‬ال يضحك وال يبتسم‪ ،‬مقطب الجبين‪ ،‬مالمحه منقبضة‬
‫متجهمة‪ ،‬وعيناه تبعثان رسالة مشاكسة ِّ‬
‫لكل من يراه‪ .‬يحيط نفسه بالغموض‪،‬‬
‫يتبسط في الحديث‪ ،‬وال تنفرج أساريره‪ ،‬وال يرفع‬
‫َّ‬ ‫وهالة من الهيبة الزائفة‪ ،‬ألنه ال‬
‫ُسر بأشياء خطيرة‪ ،‬ال يريد للمخبرين أن ينقلوها‬
‫صوته‪ ،‬فكالمه هامس‪ ،‬وكأنه ي ُّ‬
‫عنه‪ .‬يُعطي نفسه أهمية مصدرها هلوسة ال واعية‪ ،‬وي ِّ‬
‫ُضخم ذاته‪ .‬حركة عينيه‬
‫من خلف َّ‬
‫النظارة الشمسية التي ال تفارق وجهه تارة يمي ًنا وتارة يسا ًرا‪ ،‬في مراقبة‬
‫تدل على المقلب الكبير الذي‬ ‫تكل لحركات جلسائه ومن منهم ينصت ألقواله‪ُّ ،‬‬ ‫ال ُّ‬
‫مرة يخترق جماعة كبيرة من المراجعين المتجمعين‬
‫أخذه في نفسه! لقد رأيته ّ‬
‫حول الوزير‪ ،‬ووقف قبالته بقوة وثبات رافعًا رأسه حتى كاد أنفه يلمس أنف الوزير‬
‫وكأنه من علية القوم‪ ،‬فتهيبه األخير وظ َّنه شخصية ذات مركز مرموق‪ ،‬وحين سمع‬
‫منه‪ ،‬تبين أنه يطلب مساعدة مالية‪ ،‬فأمر له الوزير بمبلغ معقول‪ ،‬فإذا به يجادل‬
‫ً‬
‫شديدا ويرفع صوته على الوزير‪ ،‬ففقد معاليه أعصابه وراح يصرخ هو اآلخر‪،‬‬ ‫جدالًا‬
‫َّ‬
‫فتدخل الحرس وأبعدوه بالقوة وبطريقة غير الئقة‪ ،‬فرحل وهو يدمدم وقد ازداد‬
‫عبوسه‪ ،‬وصار جسده يتلوى بحركات عصبية ال إرادية‪ .‬آخر مرة رأيته؟‬
‫اليوم في المقهى قبل ثالث ساعات تقري ًبا‪ .‬كان يلبس بذلة كحلية َّ‬
‫مخططة بخطوط‬
‫رأسية‪ .‬يمكنك أن تقول إنها قبيحة ً‬
‫جدا عندما تتأملها عن قرب وتكتشف أنها‬
‫ً‬
‫متعمدا‬ ‫غير مكو َّية ً‬
‫أيضا‪ .‬أتذكر أنه رآني أقصد المقهى‪ ،‬فوقف‪ ،‬ومشى باتجاهي‬
‫بقوة في كتفي‪ .‬كان يريد استفزازي والتنفيس عن عقده‬ ‫االحتكاك بي‪ .‬صدمني َّ‬
‫النفسية في مشاجرة معي‪ .‬ولك َّنني تجاهلته وتابعت طريقي وكأنه غير موجود‪.‬‬
‫نظر مدير البنك في ساعته وأشار إلى الناقد األدبي أن يتوقف‪.‬‬
‫‪ -‬هل هذا يكفي؟‬
‫‪ -‬نعم‪ .‬اذهب إلى المحاسب الستالم بقية أتعابك‪.‬‬
‫شكرا‪.‬‬
‫ً‬

‫‪251‬‬
‫وجدي األهدل‬

‫***‬

‫بعد أيام طلب مدير البنك البحث عن شخص آخر يُدلي بشهادته عن عبد اللطيف‬
‫محمد أحمد‪.‬‬
‫ولم يتأخر المندوب األلمعي في تلبية رغبة سيده‪.‬‬
‫إلي وغازلني‪.‬‬
‫«مهندس الديكور عبد اللطيف هو الوحيد بين الذكور الذي التفت ّ‬
‫يعج بالناس‪ ،‬وكأنه ال يقيم وزنًا ألحد منهم‪.‬‬
‫كان يرسل قبالته إلى ثغري والشارع ُّ‬
‫خداي من الحياء‪ .‬أصبحت عندما أراه يثب قلبي بين‬ ‫ويحمر َّ‬
‫ّ‬ ‫كنت أنظر إليه بصمت‪،‬‬
‫ضلوعي‪ ،‬وأشعر بحرارة تلفحني في صدري وكأنِّي تنُّور يتو َّقد‪ .‬أقف َّ‬
‫كل صباح في‬
‫دكته المفضلة‪ ،‬وتحته‬ ‫ناصية شارع المطاعم أتسول من السابلة‪ ،‬ويجلس هو على َّ‬
‫قطعة كرتون نظيفة‪ .‬وعندما يكون مزاجه رائ ًقا‪ ،‬فإنه يحتويني بنظراته الدافئة‪،‬‬
‫تدوخني‪ ،‬لم أسمعها من أي‬
‫ويتحرش بي بقبالته الطائرة‪ ،‬ويسمعني كلمات عذبة ِّ‬
‫أدب كما ترى على عكازين‪ ،‬وأعاني من‬
‫مخلوق قبله قط‪ .‬عمري سبعة عشر عامًا‪ّ ،‬‬
‫زيادة خطيرة في وزني‪ .‬لقد أصبت بفيروس شلل األطفال في صغري‪ ،‬وها أنا اليوم‬
‫كثيرا ما أتخ َّيل نفسي زوجة له‪ ،‬وأغرق‬
‫ً‬ ‫شابة كسيحة بدينة ال يرغب فيها أحد‪.‬‬
‫شدة تعلقي به‪ ،‬حفظت عن ظهر‬ ‫في أحالم يقظة مرحة عن حياتنا العائلية‪ .‬من َّ‬
‫قلب عاداته اليومية‪ ،‬وأطباقه المفضلة‪ ،‬وماركة السجائر التي ِّ‬
‫يدخنها‪ ،‬وصرت‬
‫أعرف األشياء التي تفرحه‪ ،‬أو بالعكس التي تكدره‪ .‬ربما حتى والدته لم تفهمه كما‬
‫فهمته أنا‪ .‬إن طبقه المفضل في وجبة اإلفطار هو الفول مع اللحم المفروم‪ ،‬وهو‬
‫ً‬
‫تحديدا في مطعم صغير محجوب عن األنظار‪ ،‬يقع في نهاية شارع المطاعم‬ ‫يتناوله‬
‫َّ‬
‫ويتغدى في مطعم مجاور وجبة سلتة دسمة‪ .‬وأما‬ ‫من الجهة المسدودة بجدار‪.‬‬
‫وجبة العشاء فال أدري ماذا يأكل‪ .‬أخي الكبير يحملني بسيارته إلى البيت قبل‬
‫مرة تأخرت إلى الليل فهاجمتني‬
‫غروب الشمس بساعة على األقل‪ ،‬والسبب أنني في ّ‬
‫عصابة من صبيان الشوارع ونهبوني حصيلة ذلك اليوم‪ ،‬فلقيت ملء جلدي ضربًا في‬
‫البيت‪ .‬عمره أقل من الخمسين‪ ،‬متوسط القامة‪ ،‬ووزنه مضبوط‪ ،‬فهو يساوي تقري ًبا‬
‫طوله‪ .‬بشرته سمراء فاتحة‪ ،‬وذقنه وشاربه حليقان‪ .‬عيناه صغيرتان غائرتان في‬
‫محجريهما‪ ،‬وشعره أسود يخلو من الشيب‪ .‬ال‪ .‬ال أظنه يصبغ شعره‪ .‬يضع على عينيه‬
‫َّ‬
‫نظارة شمس َّية لونها ضارب إلى الكستنائي‪ ،‬تضفي عليه سم ًتا جليلًا‪ ،‬وتمنحه مهابة‬

‫‪252‬‬
‫جريمة في شارع المطاعم‬

‫مرة واحدة طيلة سنوات بمظهر‬


‫في القلوب‪ .‬يهوى الظهور ببذلة كاملة‪ ،‬إذ لم أره وال ّ‬
‫غير رسمي‪ .‬يعني ليس من الممكن أن تراه بالقميص فقط‪ ،‬أو في ثوب أو مئزر‪.‬‬
‫يفضل البذل الفضية أو ذات اللون األخضر بدرجاته المختلفة‪ .‬وربطات العنق‬‫هو ِّ‬
‫الذهبية أو الحمراء‪ .‬الشيء الوحيد الذي يخدش مظهره األنيق‪ ،‬لبسه أحيانًا شبش ًبا‬
‫ال يناسب البذلة الكاملة‪ ،‬ولك ّنه غال ًبا ما يرتدي جزمة تناسب لون البذلة‪ .‬وأما‬
‫أكثر شيء يجذبني إليه‪ ،‬فهو حرصه الدائم على تغطية رأسه بقبعات ذات ألوان‬
‫رائعة‪ ،‬تظهر معدن وأصالة ف َّنان عظيم‪ .‬إنه رجل متواضع رغم أنه فيلسوف واسع‬
‫َّ‬
‫يتكلم مع شبان صغار بهذه الحكمة‪« :‬إذا توقفت األرض‬ ‫االطالع‪ .‬لقد سمعته مرة‬
‫ُّ‬
‫سيكف عن الجري وراء لقمة عيشه‬ ‫عن دورانها المجنون حول نفسها‪ ،‬فإن اإلنسان‬
‫ويرتاح‪ ».‬وعندما اندلعت الحرب بين لبنان وإسرائيل‪ ،‬رأيته يظهر في وقت مبكر‬
‫ً‬
‫جدا‪ ،‬وذقنه غير محلوقة‪ ،‬ووجهه مقلوب كامد اللون‪ ،‬وقد ألصق راديو ترانزستور‬
‫بأذنه والهوائي مرفوع إلى األعلى‪ .‬كان يتابع أخبار الحرب على لبنان أولًا بأول‪ ،‬وكأنه‬
‫مواطن لبناني مقيم في اليمن! في تلك األيام نسيني تمامًا‪ ،‬وصار يُمضي اليوم بطوله‬
‫في استماع األخبار‪ ،‬وهو يمشي ذهابًا إيابًا كذئب محبوس في قفص‪ .‬آه كم تعجبني‬
‫مشيته! إنها مشية تم ِّيزه عن كافة الرجال‪ .‬مشية أريحية متقاربة الخطوات‪ ،‬فيها‬
‫موسيقى‪ .‬إيقاع راقص‪ .‬رأسه يتماوج في حركة م َّتسقة مع جسده‪ ،‬وكأنه ال يمشي‬
‫كله‪ .‬أليست هذه المشية المختالة تشبه مشية األسود‬‫بقدميه فقط‪ ،‬بل بجسمه ِّ‬
‫مرة ناولني ورقة خضراء ال أعرف من أية شجرة انتزعها‪ ،‬وطلب‬‫الفخورة بنفسها! ّ‬
‫مني أن أتأملها بدقة‪ ،‬وأن أخبره ماذا تشبه‪ .‬شغلت عقلي بأقصى طاقته‪َّ ،‬‬
‫وفكرت ماذا‬
‫تشبه‪ ،‬فلم أصل إلى أي جواب‪ .‬تركني ِّ‬
‫أفكر‪ ،‬وذهب ليشرب شايه العدني‪ ،‬ارتشفه‬
‫إلي من حين آلخر‪َّ .‬‬
‫فكرت أن أقول له إن ورقة الشجرة‬ ‫بمهل وهو يختلس النظر ّ‬
‫وشع محياي بالفرح‪ ،‬وافترضت أن هذا هو‬
‫َّ‬ ‫تشبه قلب اإلنسان‪ .‬ارتحت لهذه الفكرة‬
‫سيقربني منه أكثر‪ .‬حين أنهى كأسه‪ ،‬وقف ورماني بنظرة استفهامية‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الجواب الذي‬
‫فلما حزر من ابتسامتي أنني توصلت إلى الجواب‪ ،‬اقترب مني وأشار بيده مستطلعًا‬
‫علي بأن تشبيهي خاطئ‪ .‬فقلت‬
‫جوابي‪ ،‬فلما سمع كالمي رفع حاجبيه وحك أنفه‪ ،‬ورد ّ‬
‫له‪« :‬ما هو الجواب الصحيح؟» أمسك بيدي وشرح بسبابته قائلًا‪« :‬ورقة الشجرة‬
‫هذه تشبه عورتك!» ثم ابتعد عني وهو يقهقه من أعماق قلبه‪ ،‬وأما أنا فقد ارتعش‬
‫علي من الموقف المخجل الذي وضعني فيه‪ .‬فيما بعد‪ ،‬تبين لي‬
‫بدني‪ ،‬وكاد يغمى ّ‬

‫‪253‬‬
‫وجدي األهدل‬

‫أنه على حق‪ ،‬فورق األشجار يشبه ما تخفيه النساء‪ .‬أو ربما بالعكس‪ ،‬نحن النساء‬
‫نحاول جعل ما نخفيه يشبه ورق األشجار‪».‬‬

‫***‬

‫بعد أسبوع واحد فقط‪ ،‬شعر مدير البنك برغبة ف َّتاكة في معرفة المزيد من‬
‫المعلومات عن عبد اللطيف محمد أحمد‪ .‬ا َّتصل بصحفي يعمل في جريدة محسوبة‬
‫على المعارضة‪ ،‬مشهور بلقب «الرنجلة « وأمره أن يجري حوا ًرا صحف ًيا مع مهندس‬
‫الديكور المغمور‪ .‬وما هي إال أيام قالئل حتى نشر الحوار في الجريدة الرسمية‪.‬‬
‫ً‬
‫كاملة‪ ،‬وظهرت صورة مهندس الديكور وهو في حالة طبيعية‪،‬‬ ‫ً‬
‫صفحة‬ ‫شغل الحوار‬
‫رأسه مائل إلى الجانب األيمن‪ ،‬ويده ممتدة باتجاه المصور وكأنه يطلب صدقة‪.‬‬
‫وهنا نص الحوار‪:‬‬
‫«اليوم ّ‬
‫نسلط الضوء على واحد من أعظم مهندسي الديكور في وطننا الغالي‪ ،‬إنه‬
‫المهندس عبد اللطيف محمد أحمد‪ .‬وهذا الفنان المرهف الحس منضبط في حياته‪،‬‬
‫حتى إ َّنك تستطيع أن تضبط ساعتك على موعد مجيئه إلى شارع المطاعم‪ ،‬فهو يداوم‬
‫على الحضور في تمام الساعة السابعة صباحً ا‪ ،‬وي َّتخذ من مصطبة قريبة من مبنى‬
‫مقرا إلنجاز أعماله اليومية‪.‬‬
‫البريد ً‬
‫حين نتأمل جلسته على تلك المصطبة العالية‪ ،‬ينتابنا شعور قوي بأنه يشبه‬
‫نسرا جاث ًما فوق قمة ال تدركها األبصار‪ ،‬أو أنه ملك لمملكة ال تدركها الحواس‬
‫ً‬
‫البشرية المحدودة‪ .‬يمضي نهاره َّ‬
‫كله وجز ًءا من الليل عند تلك المصطبة العتيدة‪،‬‬
‫وكأنه مشدود إليها بأغالل خف َّية‪ ،‬كأنها تمثل بالنسبة إليه مركز الكون‪ ،‬والنقطة‬
‫التي يتوازن فيها روح ًيا‪ ،‬فتنقذه من حركة األرض العبثية حول نفسها‪ .‬إنه ثابت‬
‫مضطرا لمجاملة األرض في حركتها الدورانية كما يفعل‬
‫ً‬ ‫وراسخ ما دام هناك وليس‬
‫البشر العاديون‪.‬‬
‫عندما اقتربنا منه‪ ،‬أنا والمصور‪ ،‬رجوناه أن يسمح لنا بإجراء مقابلة معه‪ ،‬فطلب م َّنا‬
‫في البداية أن نبرز بطاقاتنا الصحفية‪ ،‬ومن حسن الحظ كنت أنا أحمل بطاقتي فناولتها‬
‫إلي‪ .‬وضع رجلًا على رجل‪ ،‬وحدق في نقطة‬ ‫إ َّياه‪ .‬قرأ بيانات البطاقة بد َّقة‪ ،‬ثم أعادها ّ‬
‫ثابتة‪ ،‬واسترجع بعين خياله ماض ًيا ذهب ًيا‪ ،‬لو رواه باللسان‪ ،‬ما َّ‬
‫صدقه إنسان‪:‬‬

‫‪254‬‬
‫جريمة في شارع المطاعم‬

‫اسمي عبد اللطيف محمد أحمد بالبيد‪ ،‬من مواليد ‪ 1958‬محافظة حضرموت‪،‬‬
‫نشأت يتي ًما في بيت ّ‬
‫جدي‪ ،‬وعندما بلغت العاشرة من عمري أخذني ع ِّمي معه إلى‬
‫توفي عمي‪ ،‬وطردتني زوجة عمي إلى الشارع‪ .‬وكان من‬ ‫أبو ظبي‪ ،‬وبعد أشهر قليلة ِّ‬
‫حسن طالعي أن أسرة لبنانية مارونية تبنتني وعاملتني كواحد من أبنائها‪ ،‬حيث‬
‫جدا لدرجة ال تتصورها‪.‬‬ ‫ً‬
‫راقية ً‬ ‫عرفت الحياة على حقيقتها‪ ،‬ولقيت تربية أسرية‬
‫عوضت ما فاتني من التعليم‪ ،‬ودرست في مدارس فرنسية‪ ،‬وتعلمت الرسم والعزف‬
‫َّ‬
‫على البيانو والرقص‪ ،‬وأتقنت الفرنسية واإلنكليزية واإلسبانية‪.‬‬
‫ك َّنا نقضي اإلجازة الصيفية في بيروت‪ ،‬وعندما َّ‬
‫تفجرت الحرب األهلية عام‬
‫كل عام في بلد أوروبي مختلف‪ .‬ثراء أسرتي‬‫‪ ،1975‬أصبحنا نقضي اإلجازة الصيفية َّ‬
‫كله‪ .‬لقد عبرت المحيط األطلسي عشر مرات‪،‬‬ ‫اللبنانية سمح لي أن أزور العالم َّ‬
‫بلدا ً‬
‫بلدا‪ ،‬وأما تشيلي فأعرفها‬ ‫وتجولت في أميركا الشمالية والجنوبية وعرفتها ً‬
‫وأعرف شوارع سانتياغو‪ ،‬كما أعرف ك ِّفي هذه‪ ،‬ألنني عشت هناك سنتين ونصف‬
‫في رعاية شقيقة والدي اللبناني بالتبني‪ .‬هناك حاولت دراسة الهندسة اإلنشائية‪،‬‬
‫وتوجهت إلى باريس لدراسة فن الديكور‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ولكنها لم تعجبني‪ ،‬فغادرت سانتياغو‬
‫عشت سبعة عشر عامًا مع عائلتي اللبنانية‪ ،‬ذقت خاللها َّ‬
‫كل متع العالم‪ ،‬وحصلت‬
‫على ِّ‬
‫كل ما تتخيله من ملذات‪ .‬كان المال يجري في يدي كشالل ال يتوقف‪ .‬أنا ذقت‬
‫َّ‬
‫كل أنواع الخمور الموجودة على وجه األرض‪ ،‬وأما النساء فلم يبق لون أو عرق أو‬
‫جنس لم أمارس معه‪ .‬صديقاتي التشيليات وحدهن يربو عددهن على العشرين‪ .‬ما‬
‫زلت أحتفظ بصوري معهن حتى هذه اللحظة‪ ،‬وعندما أموت سأحملها معي إلى قبري‪.‬‬
‫نساء تلك البالد هن الوحيدات الالتي بقيت ذكراهن خالدة في قلبي‪.‬‬
‫عندما مات والدي بالتبني‪ ،‬قررت عائلتي اللبنانية الهجرة نهائ ًيا إلى أوروبا‪ ،‬فانفصلت‬
‫عنهم‪ ،‬وعملت في مجال المقاوالت‪ ،‬وبسرعة فرضت اسمي في السوق‪ ،‬وكسبت ثروة‪.‬‬
‫تزوجت مرتين‪ ،‬األولى كانت فرنسية‪ ،‬ملكة جمال مدينة نيس‪ ،‬ولم أستمر معها‬
‫َّ‬
‫سوى سنة واحدة‪.‬‬
‫وأما الثانية فكانت مصرية‪ ،‬وقد عاشت معي ثالث سنوات ثم طلقتها‪ ،‬ولم أرزق‬
‫بأطفال من أي منهما‪ .‬شاء القدر أن تحدث لي مشكلة لم تكن في حسباني‪ ،‬دخلت‬
‫بسببها السجن‪ ،‬ثم ُر ِّحلت من أبوظبي إلى بلدي في لمح البصر‪ .‬كان ذلك في بداية‬
‫جدا بين البلدين بسبب دخول َّ‬
‫صدام‬ ‫التسعينيات‪ ،‬وكانت العالقات وقتها متوترة ًّ‬

‫‪255‬‬
‫وجدي األهدل‬

‫إلى الكويت‪ .‬طيلة سنوات إقامتي هناك لم تخطر اليمن ببالي قط‪ ،‬وأما مسألة العودة‬
‫إليها فكانت غير واردة إطالقًا‪.‬‬
‫لم أستسلم لليأس‪ ،‬وحاولت النهوض من كبوتي‪ ،‬فوظفت األموال التي عدت بها من‬
‫َّ‬
‫وتمكنت من الفوز بأهم المناقصات التي كان يعلن عنها‬ ‫اإلمارات في أعمال المقاوالت‪،‬‬
‫البنك‪ « »...‬آنذاك‪ .‬وشاءت الظروف المعاكسة أن أتعب نفس ًيا في تلك الفترة‪ ،‬وكانت‬
‫لي مستحقات مالية تقدر بحوالي ثمانمئة ألف دوالر لدى البنك‪ ،‬لم أتمكن فيما‬
‫بعد من استردادها‪ .‬ساءت حالتي النفسية أكثر مع انفجار حرب ‪ 1994‬التي حطمت‬
‫أعصابي تحطي ًما‪ ،‬وأصبت بمرض اتصال الخاليا‪ّ .‬إنه مرض خبيث نادر‪ ،‬العلم ال يعرف‬
‫عنه أي شيء تقري ًبا‪ .‬وعندما أصبت به أمست خاليا عقلي ترسل ذبذبات في الفضاء‪،‬‬
‫كل شيء أفكر فيه‪ ،‬وهم بأجهزتهم الخاصة يلتقطونها‪ ،‬وبهذه الطريقة‬‫وتحمل معها ّ‬
‫يوجهون أفكارهم الشريرة إلى‬ ‫علي ويعرقلون أي شيء أريد إنجازه‪ .‬ثم ِّ‬
‫يتجسسون ّ‬‫ّ‬
‫خالياي لتدميري وتحويلي إلى مجرم ينفذ أطروحاتهم القذرة‪ .‬إ َّنهم يفعلون معي هذا‬
‫ألنني رفضت أن أكون تابعًا لهم‪ ،‬رفضت أن أنفذ أوامرهم‪ ،‬هم يريدون الخالص مني‬ ‫ّ‬
‫مرت وأنا أعاني من هذه الحالة المرضية‪ .‬لقد قطعوا‬
‫بأية طريقة‪ .‬سبعة عشر عامًا َّ‬
‫كل مكان أذهب إليه للحصول على عمل‪.‬‬ ‫كل سبل العيش الكريم‪ ،‬وحاربوني في ِّ‬
‫عني َّ‬
‫حتى الزبائن الذين يطلبونني في أعمال الديكور‪ ،‬يأتي مندوب منهم ليحذرهم من‬
‫ً‬
‫متمالكا نفسي وقواي‬ ‫التعامل معي‪ ،‬بدعوى أنني مختل عقل ًيا‪ .‬ومع ذلك أنا ما زلت‬
‫العقلية‪ ،‬ووضعي ما زال تحت السيطرة‪.‬‬
‫ً‬
‫واحد ا منهم قد‬ ‫َّ‬
‫أتحد اك أن تجد‬ ‫هم سفلة الكون وفضالته العفنة‪ .‬وأنا‬
‫واحد ا منهم قد عاش بشرف‪ .‬تأكد‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫أتحد اك أن تجد‬ ‫جمع ماله بعرق جبينه‪.‬‬
‫أنني لست الوحيد في هذه البالد الذي ضاعت حقوقه المالية‪ .‬أنا ال َّ‬
‫أتكلم عن‬
‫كل الناس‪ُّ .‬‬
‫كل واحد من‬ ‫مشكلتي الشخصية‪ .‬أنا َّ‬
‫أتكلم عن مشكلة يعاني منها ُّ‬
‫هؤالء البشر المساكين الذين تراهم تائهين هنا لهم حقوق مالية ضائعة‪.‬‬
‫ِّ‬
‫لكل واحد من هؤالء المخنوقين بالفقر نصيب من إيرادات النفط؟‬ ‫أليس‬
‫مشكلتي أنني حامل لهموم الناس جميعًا‪ ،‬ولذلك ال يتركونني أنام‪ .‬يبعثون برسائلهم‬
‫إلى خالياي طيلة الليل‪ .‬وبالكاد أنام ليلة واحدة فقط في األسبوع‪.‬‬
‫مجرد‬
‫القهر والظلم واإلجرام كانت أشيا َء أسمع عنها وال أعرفها‪ ،‬كانت بالنسبة إلي َّ‬
‫كلمات موجودة في القواميس‪ ،‬أو حاضرة في األفالم السينمائية‪ ،‬لكن منذ عودتي إلى‬

‫‪256‬‬
‫جريمة في شارع المطاعم‬

‫هنا وجدتها متجسدة في الواقع‪ ،‬تلمسها في ِّ‬


‫كل شبر من األرض‪ .‬فأي انحطاط أكثر من‬
‫كل شيء‪».‬‬‫حولوا البالد إلى مزبلة بال قاع‪ ،‬وسوق لبيع ِّ‬
‫هذا؟ السفلة المجرمون َّ‬

‫***‬

‫رأسا إلى عبد اللطيف محمد أحمد‪ ،‬وجده في‬


‫المرة ذهب مندوب البنك ً‬
‫هذه ّ‬
‫َّ‬
‫المفدى قد قرأ‬ ‫عرفه بنفسه وقال له إن مدير البنك‬
‫المقهى يرتشف أحزانه‪ّ .‬‬
‫المقابلة الصحفية التي أجريت معه‪ ،‬وأنه يرغب في حل مشكلة حقوقه المالية‬
‫لدى البنك‪ .‬نظر إليه مهندس الديكور من فوق إلى تحت بازدراء‪ ،‬وطلب منه أن‬
‫يريه بطاقته المهن َّية‪ .‬فتح المندوب حقيبته السامسونايت‪ ،‬وأخرج بطاقة ورد َّية‬
‫تثبت صحة كالمه‪.‬‬
‫َّ‬
‫تكلم مهندس الديكور بصوت أجش متوعِّ د‪:‬‬
‫َّ‬
‫سأتسلم أموالي؟‬ ‫‪ -‬ومتى‬
‫َّ‬
‫ستتسلمها بعد تنفيذك للشرط‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬أي شرط؟‬
‫‪ -‬نحن نشترط عليك ارتكاب جريمة ما‪ .‬جريمة واحدة فقط‪ ،‬وبعد ذلك يمكنك‬
‫المجيء إلى البنك لتس ُّلم الثمانمئة ألف دوالر‪.‬‬
‫‪ -‬ما هذا الكالم‪ .‬هل أنت عاقل أم مجنون؟‬
‫ً‬
‫يخرج المندوب من حقيبته السامسونايت مظروفا أسود‪ ،‬يفرغ محتوياته‬
‫ويستعرضها‪:‬‬
‫‪ -‬انظر يا سيد عبد اللطيف‪ .‬هذا شيك بثمانمئة ألف دوالر يُدفع لحامله سوف‬
‫يُسلم إليك عقب تنفيذك لشرطنا‪ .‬وهذه قائمة تحتوي سبع عشرة جريمة مقترحة‬
‫من جانبنا‪ ،‬وعليك اختيار واحدة منها‪.‬‬
‫النظارة الشمسية عن عينيه وبحلق ِّ‬
‫بكل روحه في‬ ‫أبعد مهندس الديكور َّ‬
‫سر ه‪ ...‬الحظ المندوب أن سحنة المهندس‬ ‫القائمة الزرقاء‪ ،‬وراح يقرؤها في ِّ‬
‫يحمر احمرا ًر ا‬
‫ّ‬ ‫قد انقلبت وكأن أحدهم دلق عليها زي ًتا حا ًر ا‪ ،‬ثم رأى وجهه‬
‫رجفا عصب ًيا يدل على غضبه البالغ‪ .‬انقلبت أمعاء‬‫ً‬ ‫شديدا‪ ،‬وجسده ك ُّله يرتجف‬
‫ً‬
‫المندوب من الخوف عندما وقف مهندس الديكور كالمارد‪ ،‬ومزَّ ق الورقة الزرقاء‬

‫‪257‬‬
‫وجدي األهدل‬

‫َّ‬
‫وكل بنوك العالم األخرى‪.‬‬ ‫وفتتها فوق رأسه‪ ،‬وراح يصرخ بجنون الع ًنا البنك‬
‫وعلى الفور تجاوبت مع المهندس عشرات الحناجر بالصفير وصيحات االستنكار‪،‬‬
‫وتحول شارع المطاعم في لحظة إلى بركان يدمدم بغضب‪.‬‬
‫انسحب مندوب البنك بخطوات عجلى متعرجة‪ ،‬ورجاله تدوسان على حاجبيه‬
‫من الذل‪.‬‬

‫***‬

‫تعر ض لها مندوبه‪ ،‬فقرر أن يسلك‬


‫لم ينس مدير البنك اإلهانة البالغة التي َّ‬
‫طري ًقا آخر‪:‬‬
‫غافل مجنون مهندس الديكور وأخذ كوبه‪ ،‬ودلق المشروب الساخن على وجه‪،‬‬
‫وعلى الفور اشتبكا في شجار عنيف كالديكة‪ .‬وصل رجال الشرطة في وقت‬
‫قياسي‪ ،‬وقام عميل يعمل لحساب مدير البنك بسكب محلول أحمر اللون على رأس‬
‫المجنون الذي مثل أنه فقد وعيه‪ .‬ألقي القبض على مهندس الديكور‪ ،‬ونقل إلى قسم‬
‫الشرطة‪ .‬وأما غريمه المجنون فقد نقلته عربة إسعاف إلى المستشفى‪ .‬وفي فترة‬
‫زمنية وجيزة‪ ،‬أحيل مهندس الديكور إلى النيابة بتهمة الشروع العمد في القتل‪،‬‬
‫وهذه تهمة قد تصل عقوبتها إلى السجن عشر سنوات‪.‬‬

‫***‬

‫شهرا في السجن‪ .‬نسي خاللها ضوء الشمس‪،‬‬


‫ً‬ ‫قضى مهندس الديكور سبعة عشر‬
‫بدلته الزنزانة الضيقة التي حشر فيها مع زمرة من َّ‬
‫السفاحين‬ ‫َّ‬
‫وكل أيامه الطيبة‪ .‬وقد ّ‬
‫َّ‬
‫وتحدب ظهره‪،‬‬ ‫واللصوص وهاتكي األعراض تبديلًا ِّ‬
‫كل ًيا‪ .‬فغزا الشيب رأسه بكثافة‪،‬‬
‫ونمت لحيته‪ ،‬وصار ً‬
‫جلدا على عظم‪.‬‬
‫وقد رأى مدير البنك أن الظروف قد باتت مواتية لتحقيق مراده‪ ،‬فأوعز للمندوب أن‬
‫يتحرك‪.‬‬
‫َّ‬
‫ً‬
‫وفي اليوم المسموح فيه بزيارة المساجين‪ ،‬وقف المندوب متأ بِّطا حقيبة‬
‫وكرر على مسامع عبد اللطيف محمد أحمد عرضه السابق بحذافيره‪.‬‬
‫السامسونايت‪َّ ،‬‬

‫‪258‬‬
‫جريمة في شارع المطاعم‬

‫في هذه الجولة لم يثر مهندس الديكور‪ ،‬وال تغ َّيرت مالمحه‪ ،‬بل مكث في مكانه‬
‫ِِّ‬
‫محذ ًرا‪:‬‬ ‫كصنم حجري‪ .‬أمسك المندوب بربطة عنقه الوردية وقال‬
‫‪ -‬بالمناسبة لقد قمنا بإحراق ملفك‪ .‬وهذا يعني احتمالين‪ .‬األول‪ :‬أننا نستطيع‬
‫إخراجك من هنا بمكالمة تلفونية‪ ،‬والثاني‪ :‬أننا نستطيع سجنك هنا إلى آخر أيامك‪،‬‬
‫ألنك سوف تعتبر في نظر القانون مجرمًا بال جريمة‪.‬‬
‫مرت دقيقة صمت‪ ،‬كأنهما يقفان حدادًا على روح ميت‪.‬‬
‫َّ‬
‫أخيرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫استيقظ مهندس الديكور من شروده ونطق‬
‫‪ -‬يومًا ما ستظهر الحقيقة‪.‬‬
‫ضحك المندوب حتى تطاير اللعاب من فمه‪:‬‬
‫الحقيقة‪ .‬يا لك من ساذج‪ .‬يا صاحبي الحقيقة تساوي ما يُدفع فيها‪ .‬وبما أننا نحن‬
‫الذين ندفع المال فإنه من حقنا أن نحصل على الحقيقة التي نرغب بها‪ .‬ال َّ‬
‫بد أن‬
‫أن جيبك فارغ وجيبي أنا مآلن‪ ،‬فهذا‬ ‫تفهم أن الحقيقة وثيقة الصلة بالجيب‪ .‬وبما ّ‬
‫يعني أن الحقيقة ليست في جيبك بل في جيبي!‬
‫تأ َّمل مهندس الديكور أصابع المندوب القصيرة البضة الناعمة فترة من الوقت‪،‬‬
‫َّ‬
‫تكلم ببطء‪ :‬أريد أن أعرف‪ .‬ما هي الجريمة التي ارتكبتها في حق مديرك؟‬
‫‪ -‬جريمتك أنك لم ترتكب أية جريمة على اإلطالق!‬
‫ُصر مديرك على تحويلي على مجرم؟‬
‫‪ -‬ولماذا ي ُّ‬
‫ولكن‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫بشدة في أن تنال حقوقك‪ .‬أن تأخذ الثمانمئة ألف دوالر‪،‬‬ ‫‪ -‬ألنه يرغب‬
‫بشرط‪ :‬أن تثبت جدارتك‪.‬‬
‫‪ -‬أي جدارة‪ .‬هل تس ِّمي تلطيخ يدي بدم األبرياء جدارة؟!‬
‫‪ -‬مديري فيلسوف من طراز فريد‪ .‬اخترع نظرية أخالقية جديدة‪ ،‬وأنت أحد‬
‫النماذج التي يشتغل عليها‪.‬‬
‫‪ -‬أنا؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬نعم‪ .‬النظرية تقول باختصار إن على اإلنسان أن يسلك سلوكا إجرام ًيا مع َّي ًنا‬
‫لكي ينال حقوقه المادية والمعنوية في المجتمع‪ ،‬كما تفعل الحيوانات المفترسة في‬
‫الغابة‪ .‬ونتيجة لسجله اإلجرامي فإنه يصير بالضرورة مواط ًنا صالحً ا!‬
‫‪ -‬هذا يعني أن المواطن األصلح هو األكثر إجرامًا؟‬
‫‪ -‬بالضبط‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫وجدي األهدل‬

‫وأصر أن يبقى بري ًئا؟‬


‫َّ‬ ‫‪ -‬وإذا رفض إنسان هذه النظرية جملة وتفصيال‪،‬‬
‫‪ -‬في هذه الحالة سيعتبر هذا اإلنسان مواط ًنا غير صالح‪ ،‬وسيص َّنف بالضرورة‬
‫مجرمًا ارتكب أسوأ الجرائم في حق المجتمع‪ .‬أال وهي أنه لم يمتلك الشجاعة الكافية‬
‫الرتكاب أية جريمة‪.‬‬
‫‪ -‬نظرية مديرك األخالقية معقدة ً‬
‫جدا‪.‬‬
‫حينئذ ستراها كما أراها أنا‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫جدا ً‬
‫جدا‪ .‬لو أنك تتكرم بالموافقة‬ ‫‪ -‬بالعكس إنها سهلة ً‬
‫صمت مهندس الديكور وغرق في تفكير عميق‪.‬‬
‫َّ‬
‫تحلى المندوب بالصبر‪ ،‬ولم يحاول أن يقطع حبل أفكار السجين الذي بدا خلف‬
‫الشبك الحديدي وكأنه قد فارق الحياة‪.‬‬
‫مالت أشعة الشمس للغروب‪ ،‬انتفض مهندس الديكور ولف ذراعيه حول نفسه‬
‫وكأنه عار‪َّ .‬‬
‫تكلم بصوت مختلج‪:‬‬
‫‪ -‬هل لديك سجائر؟‬
‫أخرج المندوب من جيبه علبة سجائر‪ ،‬أخذ واحدة لنفسه وأشعلها َّ‬
‫بقداحة‪،‬‬
‫ثم سحب واحدة أخرى وأشعلها من مؤخرة سيجارته‪ ،‬وناولها للمهندس من ثقوب‬
‫الشبك الحديدي‪.‬‬
‫ّ‬
‫تنشق مهندس الديكور الدخان بلذة عامرة‪ ،‬وتأوّ ه من ّ‬
‫شدة النشوة‪ .‬بعد أن أنهى‬
‫مهندس الديكور سيجارته‪ ،‬طلب من المندوب أن يناوله القائمة الزرقاء‪.‬‬

‫***‬

‫في اليوم التالي ظهر مهندس الديكور في شارع المطاعم‪ ،‬ببذلة نظيفة‪ ،‬ووجهه‬
‫حليق‪ .‬وإن كان الناس قد الحظوا أنه قد شاخ وانحنت قامته‪ .‬تساءلوا أين غاب طيلة‬
‫تلك األشهر‪ ،‬ولك َّنهم لم يحصلوا ال منه وال من غيره على أي جواب‪.‬‬

‫***‬

‫وأقبل فصل الشتاء ببرده القارس‪ ،‬وأصبح كثير من الناس يتج َّنبون الخروج من‬
‫بيوتهم قبل شروق الشمس‪ .‬تداول رواد شارع المطاعم أنبا ًء فاجعة عن شحاذة معوقة‬

‫‪260‬‬
‫جريمة في شارع المطاعم‬

‫في ريعان الصبا‪ ،‬وجدت في غبش الفجر وقد فارقت الحياة‪ .‬وجدوها َّ‬
‫ممددة على‬
‫وجهها بجوار مكتب البريد عند مصطبة حجرية‪ ،‬وخيط دم يسيل من زاوية فمها‪.‬‬
‫تهامسوا واللوعة ّ‬
‫تعذبهم بأنها ماتت مسمومة‪.‬‬

‫قصة قصيرة نشرت في مجلة «صيف» صنعاء‪ ،‬أغسطس ‪2009‬‬

‫‪261‬‬
‫ياسين عدنان‬

‫قصَّ تان‬

‫ثرثرة باألبيض فقط‬

‫َ‬
‫بقيت على هذه‬ ‫سأنسحب إذا‬
‫ُ‬ ‫أن تفهمني أرجوك‪.‬‬ ‫ُ‬
‫بدأت أنزعج‪ .‬حاول ْ‬ ‫أف‪ .‬لقد‬
‫ُ‬
‫وتسأل ماذا فعلت؟ الطريقة التي تنصت بها وأنت تحملق في وجهي‬ ‫الحال‪ .‬عج ًبا‪،‬‬
‫تستفزني‪ .‬تتص َّنع الهدوء واالهتمام لكي تبدو عاقلًا ورزي ًنا‪ .‬ال‪ ...‬صدقني‪ ،‬لسنا في‬
‫ُّ‬
‫مسجد اآلن‪ ...‬نحن في بار‪ .‬وأنت فعلًا تحرق أعصابي‪ ...‬حتى االبتسامة المصلوبة‬
‫على شفتيك تبدو أذكى من الالزم‪ .‬إنها تهينني‪ .‬فهل تظن نفسك فعلًا ذك ًّيا إلى هذا‬
‫الحد؟ واآلخرون‪ ...‬مجرد كائنات فارغة ال تجيد غير الثرثرة؟ ال يا صديقي أنت‬
‫أكش ُف النقاب عما يجول بخاطرك؟ تتص َّنع الذكاء وأنت ِّ‬
‫تفكر ببالدة‪.‬‬ ‫مخطئ‪ .‬هل ِ‬
‫مجرد عاهرة‪ .‬واحدة من إياهن‪ .‬تبدو سكرانة وهذا‬
‫َّ‬ ‫لقد َ‬
‫قلت في نفسك‪ :‬هذه‬
‫ممتاز‪ .‬فلن أدفع عنها أكثر من بيرتين ثم أدعوها إلى الذهاب معي‪ .‬ستكون متعبة‬
‫دون شك‪ ،‬وفي حاجة ماسة للنوم‪ ...‬للنوم فقط‪ .‬في البيت‪ ،‬لن أسألها هل َّ‬
‫تعش ْت‪.‬‬
‫سآخذها مباشرة إلى غرفة النوم‪ .‬نطفئ الضوء وننااام‪ ...‬بعد أن أقضي حاجتي‪ ،‬أدير‬
‫لها ظهري‪ ...‬وكالعادة أنخرط في الشخير إلى الصباح‪ .‬استيقظ من فضلك‪ ،‬فقد راحت‬
‫عليك النومة هنا في البار‪ .‬هل تظن نفسك في حالة صحو؟ اهلل يجيبك على خير‪.‬‬
‫صغيرا ‪ -‬أن الجالسة إلى جانبك ليست‬
‫ً‬ ‫كيف لم يتبادر إلى ذهنك ‪ -‬ولو احتمالًا‬
‫ماسة لشخص‬ ‫عاهرة‪ ،‬وأنها تشرب بهذا الشكل فقط ألنها تعاني‪ ،‬وأنها في حاجة َّ‬
‫عميق‪ ،‬يحاورها بعمق وينصت لها بصدق‪ .‬ولهذا ربما بدأ َ ْت تحكي معك‪ .‬وحتى إذا‬
‫سكير قذر‪ .‬سأشرب‬‫كنت عاهرة‪ ،‬فما الذي يمنعني من أن أفكر مثلك‪ :‬أنت مجرد ِّ‬‫ُ‬
‫ُ‬
‫ذهبت معك إلى البيت‪ ،‬لم‬ ‫على حسابك بعض الكؤوس ثم أزحلقك‪ .‬ولنفترض أنني‬

‫‪262‬‬
‫قصتان‬
‫َّ‬

‫ال أكون أنا التي ستدير ظهرها بعد الجنس؟ لم ال أكون أنا التي ستقضي وطرها ثم‬
‫تصفق الباب خلفها في الصباح‪ ،‬لتذهب إلى أوطار أخرى‪ ،‬فيما تظل أنت في بيتك‬
‫لترتيب الفراش‪ ،‬تغسل المناديل وتفرك اللزوجة التي علقت بها وأنت تغمض عينيك‬
‫الذابلتين عساك تستعيد بعض الحرارة التي ألهبتك ليال‪َ .‬من أت َف ُه من اآلخر؟ ومن‬
‫يحقُّ له االبتسام بتلك الطريقة السمجة؟ أف‪ ،‬ما زلت تبتسم وكأني كنت أروي لك‬
‫نكتة؟ ّ‬
‫صدقني‪ ...‬أنت ال تطاق‪ .‬هل تعرف ما الذي يزعجني في الرجال؟ إنها بالدة‬
‫الحس التي تمنحهم قدرة خراف َّية على االنسجام في ذواتهم‪ .‬لديكم استعداد دائم‬
‫ِّ‬
‫لإلحساس بأنكم غير معنيين حتى والنار تشتعل في تالبيبكم‪ .‬خذ نفسك مثلًا‪ :‬أنت‬
‫اآلن ترى الوضع في الحانة غري ًبا‪ ...‬عاهرات‪ ،‬سكارى‪ ،‬صخب وضوضاء‪ ،‬خصومات‪،‬‬
‫عالم مجانين‪ .‬لك َّنك في الوقت ذاته تنسى أنك بدورك هنا‪ ،‬وسط هذا العالم‪ .‬آه‪..‬‬
‫ُ‬
‫انخراطك معهم في قلب‬ ‫نسيت‪ ...‬أنت ملك على عرشه‪ ،‬واآلخرون جوقة ممثلين‪.‬‬
‫تواضع منك ال أقل وال أكثر‪ ،‬ال يا صديقي أنت‬
‫ٍ‬ ‫مجرد تكسير للجدار الرابع‪،‬‬
‫َّ‬ ‫المشهد‬
‫واهم‪ .‬الفرق الجوهري بيني وبينك هو أنني‪ ،‬على العكس‪ ،‬أعتبر نفسي جزءا من‬
‫علي أن‬ ‫ّ‬
‫المقزز‪ .‬أعرف أنني في حانة نتنة‪ .‬وحين أغادر في آخر الليل‪َّ ،‬‬ ‫هذا العالم‬
‫أنتبه لوقع خطاي‪ ،‬فأمثالك ال يتر ّددون في إفراغ البيرة المخمّرة في أمعائهم قرب‬
‫َّ‬
‫يرف لهم جفن‪ .‬أحيانا يفعلونها بين سيقان‬ ‫الكونتوار‪ ،‬أو عند المدخل دون أن‬
‫جليساتهم متناسين أنهم قبل لحظات فقط كانوا جنتلمانات مهذبين‪ .‬أنا لست َّ‬
‫مهذبة‬
‫داعر مثلي‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫يا صديقي‪ .‬إنني مجرد عاهرة‪ .‬لك ّنك بالتأكيد لست أحسن حالًا‪ .‬أنت‬
‫َ‬
‫جئت إلى هذا الدهليز النتن لتمأل جوفك بالبيرة الرخيصة وتأخذ امرأة مجهولة‬
‫إلى سريرك‪ .‬أرأيت كيف أننا بالوضاعة ذاتها‪ ..‬وبالتفاهة نفسها؟ ومع ذلك ال أقول إن‬
‫ُ‬
‫التقيت رجالًا حقيقيين‪ ،‬رجالًا بمعنى الكلمة‪ .‬هل‬ ‫الجميع هنا تافهون‪ .‬في هذا البار‬
‫َّ‬
‫الدكة؟‪ ...‬ال‪ ،‬الذي هناك‪...‬‬ ‫ً‬
‫وحيدا أقصى‬ ‫ترى مثال الكهل ذا المعطف الكاكي المنزوي‬
‫يرا حقيق ًيا‪ ،‬من ال‬ ‫لست ِّ‬
‫سك ً‬ ‫َ‬ ‫وراء فتيحة‪ ،‬الشقراء صاحبة «البودي» األحمر‪ .‬إذن‪،‬‬
‫يعرفه هنا؟ اسمه سيف المنصوري‪ ،‬موظف قديم بالتعاون الوطني‪ ،‬ومراكشي مثلك‪.‬‬
‫جاء إلى هذه المدينة في السبعينيات واستقر بها نهائ ًيا‪ .‬إنه يوم ًّيا هنا‪ .‬اهلل يعمرها‬
‫ُعزني كثيرا‪ .‬يبدو أنه لم يرني اآلن؟ يا سي‬
‫دار‪ ،‬أعرفه منذ سنوات عديدة‪ ،‬وهو ي ُّ‬
‫يفضل الصخب على الثرثرة‪.‬‬ ‫سيف‪ ..‬يا سي سيف‪ ...‬لم يسمعني‪ ...‬قال لي مرة إنه ِّ‬
‫في البيت‪ ،‬ال يطيق ثرثرة التلفاز‪ ،‬ثرثرة الزوجة‪ ،‬ثرثرة األبناء‪ .‬هنا على األقل يضيع‬

‫‪263‬‬
‫ياسين عدنان‬

‫وسط الصخب وال أحد يهتم لوجوده‪ .‬بعض اللئام من رواد البار أطلقوا عليه لقب‬
‫«سيف اهلل المسلول»‪ .‬الرجل مريض واألنذال يسخرون منه‪ .‬المسكين‪ ...‬لو تدري‬
‫كم يعاني‪ .‬بعدما أصيب بالسل‪ ،‬أصبحوا جميعا يجتنبونه‪ .‬قال لي مرة إن زوجته‬
‫بدورها أصبحت تتحاشى من مُجاورته في الفراش‪ .‬هو ليس مستا ًء من المرض‪ ،‬بل‬
‫من الناس‪ .‬في السبت الماضي‪ ،‬أخبرني أنه قد تآلف مع العناكب التي َّ‬
‫عششت بين‬
‫يصرون على التعريض بي‪ .‬إذا كنت مسلولًا فالصدر‬
‫رئتيه‪ ،‬قال‪ :‬لكن هؤالء األوغاد ُّ‬
‫صدري‪ ،‬والرئتان أنا من يتنفس بهما وليست أمهاتهم‪ .‬ثم فيم سأحتاج جسدي وأنا‬
‫في هذه السن‪ ،‬لكي أحافظ عليه؟ عمري تسعة وستون عاما‪ .‬إنني فقط أتجرجر‬
‫صدقيني يا ابنتي‪،‬‬‫مع الزمن‪ ،‬وأجرجر السنوات ورائي‪ ،‬وأنا أسعل كقطار عجوز‪ِّ .‬‬
‫فضل‬ ‫ُ‬
‫غدا وفي جسدي عضو ال يزال صالحً ا‪ .‬أ ِّ‬
‫مت ً‬‫لن أندم على شيء كما سأندم إذا ُّ‬
‫أن أتداعى بالتدريج على أن أحترق فجأة كتلفاز أخذ جرعة صاعقة من الكهرباء‪.‬‬
‫مرة قبل ست سنوات‪ ،‬سهر معنا في حانة «الكثبان‬
‫صدقني‪ ،‬إنه فعلًا شخص مختلف‪ّ .‬‬
‫السبعة»‪ ،‬وشرب أكثر من الالزم‪ .‬لم أشأ تركه على تلك الحال فأخذته معي إلى‬
‫البيت‪ .‬كنت حينها أسكن مع سم َّية الرباطية ‪ -‬تعرفها؟ ‪ -‬وفتاة أخرى هاجرت إلى‬
‫إيطاليا وتزوّ َج ْت هناك‪ .‬ولم يكن قد نخره الداء بعد‪ .‬ال أخفيك‪ ،‬كنا نجده ّ‬
‫جذابًا تلك‬
‫ُ‬
‫أخذته إلى غرفتي‪ ،‬مددته على السرير وا َّتكأت بجانبه‪.‬‬ ‫األيام‪ .‬في البيت‪،‬‬
‫بقيت فقط بمالبسي‬‫ُ‬ ‫أتعرى‪ .‬لم أتمالك رغبتي‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫صدقني‪ ،‬لم أشعر بنفسي إال وأنا َّ‬
‫بشدة إلى صدري‪ .‬هل اشتهي ُته تلك الليلة؟ ال أعرف‪ .‬لك َّنني‬
‫َّ‬ ‫الداخلية‪ .‬وضممته‬
‫وأمطرت وجهه بالقبالت‪ .‬وحين بدأت أفك أزرار قميصه‪ ،‬همس في أذني‬ ‫ُ‬ ‫ضممته‬
‫بصوت مهدود‪ :‬ال يا حجيبة‪ ...‬أنت مثل ابنتي‪ ...‬فاهتزَّ جسدي بالبكاء‪ .‬هو لم يخن‬
‫مجرد عاهرة‪ .‬فهل كان‬ ‫مجر ُد عاهرة‪ُ .‬‬
‫كنت َّ‬ ‫زوجته قط‪ ،‬هكذا أخبرني فيما بعد‪ .‬وأنا َّ‬
‫غادرت السرير‪ ،‬وبدأت أرتدي مالبسي‪ ،‬لك ّنه فتح عينيه‬
‫ُ‬ ‫يكفيني ساع َتها البكاء؟‬
‫وحدق بي‪...‬‬‫َّ‬ ‫فجأة‬
‫‪ -‬ابقي كما أنت يا حجيبة‪ ،‬قال لي‪ ،‬وتعالي لتنامي إلى جانبي‪ .‬سأحضنك كأب‪،‬‬
‫فضعي رأسك على صدري ونامي‪ .‬كم أحب مالبسك الداخلية البيضاء‪ .‬األبيض شريف‬
‫يا صغيرتي‪ .‬فتعالي لتنامي في حضني بأمان‪.‬‬
‫منذ تلك الليلة ومالبسي الداخلية دائما بيضاء‪ .‬فعلًا‪ ،‬األبيض شريف‪ .‬أنظر إلى‬
‫الناس في األعياد الدينية‪ ،‬ماذا يرتدون؟ المالبس البيضاء‪ ،‬أيام الجمع‪ ،‬يرتدي المص ُّلون‬

‫‪264‬‬
‫قصتان‬
‫َّ‬

‫الجالبيب البيضاء‪ .‬الميت نكفنه باألبيض‪ ،‬في األعراس يرتدون األبيض‪ ،‬وفي العزاء‪،‬‬
‫َ‬
‫تتأكد‬ ‫تجرؤ؟ تريد أن‬
‫أف‪ ...‬ماذا أيها الشقي؟ كيف ُ‬ ‫األبيض‪ .‬وأنت‪ ،‬أما زلت تبتسم؟! ْ‬
‫َ‬
‫سأدعوك‬ ‫بنفسك من لون منهدتي؟ إذن‪ ،‬إدفع ثمن البيرة أيها البخيل‪ .‬وال تهتم للعشاء‪.‬‬
‫لوجبة خفيفة في «مطعم المسافرين‪ ».‬الليلة‪ ،‬سأجعلك تندم على هذه االبتسامة‪.‬‬
‫سأشعل النار في جسدك وأجعله يصرخ في السرير بكامل مسامه‪ .‬قم إذن‪ ...‬يا سي‬
‫سيف… يا سي سيف‪ ...‬بالصحة‪ ...‬كيفاش؟‪ ...‬ال‪ ...‬عذ ًرا عزيزي‪ ..‬معي الليلة صديق‪.‬‬
‫وأنا ذاهبة اآلن‪ ...‬إلى اللقاء‪ً ...‬‬
‫غدا طبعًا‪ ...‬طبعًا‪ ...‬طبعًا‪..‬‬

‫حاطِب ُح ّب‬

‫ُ‬
‫درجة يأسه وحنقه على العالم‪.‬‬ ‫ال يمكن إلنسان أن يحتمل الوحدة مهما بل َغت‬
‫مجرد نباح كلب‬
‫َّ‬ ‫حس نستجير به من عنف الصمت‪ ،‬حتى لو كان‬ ‫دائما نحتاج إلى ٍّ‬
‫ً‬
‫وحيدا‬ ‫في خالء‪ .‬ربما أنا الشخص األنسب لهجاء الصمت والعزلة والبرد‪ .‬فأنا أعيش‬
‫بهذه المدينة القارسة المنزوية عند قدم الجبل منذ أكثر من خمسة عشر عامًا‪.‬‬
‫ُ‬
‫فشلت في الزواج من نجوى‪ ،‬بنت السيد مشكور‬ ‫ُّ‬
‫كل مشاريعي هنا آلت إلى الفشل‪.‬‬
‫َّ‬
‫بشدة أن يعطي ابنته لشخص لم يسبق أن صادفه‬ ‫مدير مكتب البريد‪ .‬أبوها رفض‬
‫محر ٌم عليهم‪ .‬فشلت في مشروع‬ ‫ُ‬
‫دخول المساجد َّ‬ ‫جنس آخر‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وكأنه من‬ ‫في المسجد‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫اكتشفت أن‬ ‫ً‬
‫واحدا‪.‬‬ ‫المكتبة التي فتحتها لمدة عشرة أشهر‪ ،‬لم أبع خاللها ولو كتابًا‬
‫يفكر في أن يبيع أهلها كت ًبا‪.‬‬‫ال أحد يقرأ في هذه المدينة‪ ،‬وأن المجنون وحده من ِّ‬
‫أيضا في االنتخابات البلدية التي لم أحصل فيها ولو على صوت واحد بما‬‫وفشلت ً‬
‫في ذلك صوتي‪ّ .‬‬
‫ألن فترة الحملة االنتخابية كانت كافية إلقناعي بقذارة اللعبة وال‬
‫يت عن الحلم الذي من أجله ولجت غمار هذه المعمعة‪ :‬أن‬ ‫جدواها‪ .‬وهكذا َّ‬
‫تخل ُ‬
‫يت‬ ‫رخصة من أحد‪ّ .‬‬
‫تخل ُ‬ ‫ً‬ ‫أغرس بضع أشجار في شارع المدينة الوحيد دون أن أحتاج‬
‫ُ‬
‫وقاطعت االنتخابات بضمير‬ ‫عن هذا الحلم بيني وبين نفسي في اليوم الثاني للحملة‬
‫ُ‬
‫أفلحت فيه‬ ‫كل مشاريعي بهذه المدينة باءت بالفشل‪ .‬والشيء الوحيد الذي‬‫مرتاح‪ُّ .‬‬
‫هو أن أكرههم جميعًا‪ .‬كرهت المدينة وأهلها ابتدا ًء من محمّ اد البقال الذي ناد ًرا ما‬
‫يصر على أن يحكي‬
‫أجد عنده الخبز في منتصف النهار‪ ،‬وعوض أن يخجل من نفسه ُّ‬

‫‪265‬‬
‫ياسين عدنان‬

‫ً‬
‫سخيفة ال تنتهي‪ .‬وكما لو أنه يتعمد إغاظتي‪ ،‬يختار بعناية المواضيع التي‬ ‫قصصا‬
‫ً‬ ‫لي‬
‫ِّ‬
‫تقززني تمامًا‪ .‬دائ ًما لديه فيها الجديد‪ ،‬ودائ ًما ينجح في حقني بالمزيد من محلول‬
‫الحي‬
‫َّ‬ ‫علي أمينة أن أسكن‬ ‫اقترح ْت َّ‬
‫َ‬ ‫أحس دائ ًما بالبرد‪.‬‬
‫الملل‪ .‬في هذه المدينة كنت ُّ‬
‫القديم‪ ،‬فالبيوت الطينية هناك أكثر دف ًئا‪ .‬أجبتها أنني طبعًا ال أطيق البرد‪ ،‬لك ّنني أكره‬
‫الصراصير أكثر‪ .‬قالت أمينة إن الصراصير الحقيقية موجودة في رأسي‪ ،‬وهي ال تفهم‬
‫كيف يمكن لشخص مثلي أن يبدو طبيع ًّيا ومتوازنًا وهو يكره العالم بهذا الشكل‪.‬‬
‫ولكنني ال أكره العالم يا أمينة! كيف سأشرح لك ذلك؟ انني أحب اهلل ومالئكته‬
‫أنت أيضا‬
‫والرسل‪ .‬وفي الشتاءات الباردة أحب اليوغورت المنكه والنبيذ االحمر‪ِ .‬‬
‫أح ُّبك في الشتاء حينما يتحول جسدك إلى حطب طري‪ .‬وفي الصيف‪ ،‬حينما ترتدين‬
‫شجر ذا اللونين البرتقالي واألزرق السماوي والت ّنورة البيضاء القصيرة‪.‬‬
‫قميصك المُ َّ‬
‫ً‬
‫مستغرقا في حبك يا‬
‫ِ‬ ‫صدقيني في مالبس أخرى‪ ،‬لكنني ال أقولها لك‪ .‬أكون‬ ‫وأح ُّبك ِّ‬
‫أمينة ولهذا ال أقول شي ًئا‪ .‬انه طقس مقدس يا عزيزتي‪ ،‬يجب ان نحتفي به في السر‪،‬‬
‫لكنني طبعًا ال أحب ‪ 24‬على ‪ .24‬لست ماكينة أحاسيس‪ .‬وأنت تخطئين حينما تطلبين‬
‫أكرر ذلك على مشاعرك‬
‫مني المستحيل‪ .‬المستحيل هو أن أح َّبك صبا َح مساء‪ ،‬وأن ّ‬
‫صبا َح مساء‪ .‬هكذا دون مناسبة ومن دون نبيذ‪ .‬مشكلة أمينة الحقيقية هي أنها‬
‫تريد مني أن أحبها وال تطالب نفسها بأي شيء بالمقابل‪.‬‬
‫وأنت يا أمينة أحِ ِّبيني قليلًا أنت األخرى؟‬
‫ُ‬
‫ورفضت أن أتزوج بمحسن‬ ‫مرتين في األسبوع وأنام معك‪،‬‬
‫ولكنني آتي إلى بيتك ّ‬
‫المعلم من أجلك‪ ،‬ماذا تريدني أن أفعل أكثر؟‬
‫ماذا ستفعلين؟ أحيانًا أشعر أن المرأة فعلًا من جنس آخر‪ .‬تصير غبية تمامًا في‬
‫اللحظة التي تطالبها فقط ببعض التركيز‪ ،‬وحين تكون أنت قد تعبت تسترجعُ صفاء‬
‫ً‬
‫كثيرة رغم‬ ‫ً‬
‫كاملة وتشرع في التنكيل بك‪ .‬أمينة مثلًا لم تفهم أشيا َء‬ ‫ذهنها ولياقتها‬
‫أنها تتردد إلى َّ‬
‫شقتي منذ ثالث سنوات‪ .‬أنا مثلًا شخص طيّب وبسيط‪ .‬يكفيني عشا ٌء‬
‫لكن أمينة‬
‫وكأس نبيذ وامرأة إلى جانبي في هذا البرد‪ ،‬ألحس بأنني ملك‪ْ .‬‬
‫ُ‬ ‫خفيف‬
‫مرة في‬
‫ال تعرف كيف تلعب دور زوجة الملك‪ ،‬ومع ذلك أحبها‪ .‬حينما التقينا أول ّ‬
‫كشك الجرائد المجاور لبيتي كانت تسأل عن َّ‬
‫مجلة للطبخ‪ .‬لم أجدها جميلة ولم‬
‫يُثرني فيها أي شيء‪ :‬جسد كالماء العذب‪ ،‬بال طعم وال لون وال رائحة‪ ،‬تغيب تفاصيله‬
‫شعر ال هو باألسود وال باألشقر مشدود إلى الخلف بصرامة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫خلف جالبة رمادية‪،‬‬

‫‪266‬‬
‫قصتان‬
‫َّ‬

‫لممرضة بقسم الطوارئ‪ .‬ال شيء فيها يثير في الواقع‪ .‬لك َّنني‬
‫ِّ‬ ‫وابتسامة فاترة كأنها‬
‫ُ‬
‫بحكم العادة فقط بدأت أحكي معها عن الطبخ وأصنافه‪ .‬تحدثنا عن الكسكس والبيتزا‪،‬‬
‫صعد ْت معي إلى الشقة‪ .‬وألنه لم‬
‫َ‬ ‫عن اللحم بالبرقوق وطاجين الدجاج بالليمون‪ .‬ثم‬
‫يكن في بيتي تلفزيون نتسلى بالتفرج على برامجه مارسنا الجنس‪ .‬وهكذا بحكم‬
‫العادة صارت أمينة تتردد إلى شقتي وتقول لي‪ :‬أحبك‪ّ .‬‬
‫وألنني لطيف بطبعي ومُجامِل‬
‫لكن بالتدريج‪ ،‬ونحن في السرير‪ ،‬بدأ جسدها الج ِّني يخرج من‬ ‫أقول لها‪ :‬وأنا ً‬
‫أيضا‪ْ .‬‬
‫مبهرا‪ .‬قبل أن أتعرف إلى هذه البنت كانت تتردد إلى سريري فتيات‬
‫ً‬ ‫قمقمه‪ .‬كان شي ًئا‬
‫ُ‬
‫اكتشفت أن هؤالء البنات‬ ‫لكن مع أمينة‬
‫مطرزة بألوان مثيرة‪ْ .‬‬
‫جميالت يرتدين تبابين ّ‬
‫كن دون خبرة في الغالب‪.‬‬ ‫أسرة موظفي المدينة‪َّ ،‬‬
‫الثرثارات‪ ،‬اللواتي يتنقلن بين َّ‬
‫ويدخن سجائرهن من عُ لب اآلخرين دون أن‬ ‫ِّ‬ ‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫البنات اللواتي يمارسن الجنس‬
‫األسرة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لسنَ ِّ‬
‫جديات‪ .‬ولهذا يبقين دون خبرة مهما تقاذفتهن‬ ‫يتقيّدن بصنف بعينه ْ‬
‫أمينة كانت فتاة محرومة‪ .‬ربما لم يجاملها أحد قبلي بحديث عن الطبخ وأطباقه‪.‬‬
‫لم يدعها أحد قبلي إلى شاي بالبيت‪ .‬لكنّ جسدها بالفطرة فقط‪ ،‬بالفطرة والحرمان‬
‫تكن‬
‫وبعض التفاني‪ ،‬كان يفعل بي األفاعيل‪ .‬والغريب أنها لم تطالبني قط بالزواج‪ .‬لم ْ‬
‫تطلب أي شيء‪ .‬كانت فقط تريد أن تأتي من حين آلخر‪ ،‬وأن تنام معي قليال ثم‬
‫ِّ‬
‫المعلم وأبيها المتقاعد وأختها‬ ‫َّ‬
‫تتمدد إلى جانبي ساعات تحدثني خاللها عن محسن‬
‫المتزوجة بمراكش‪ ،‬وأخيها الذي سيتخرج بعد سنتين طبيب أسنان‪ .‬ولم يكن لدي‬
‫مانع من االستماع لهذه الحكايات‪ .‬أ َّما أن تطلب مني ‪-‬بين حين وآخر‪ -‬االعتراف‬
‫بالحب دون مناسبة وال نبيذ‪ ،‬فهذا أمر ال يُح َتمل‪ .‬صحيح أن المدينة صغيرة ودرجة‬
‫ُ‬
‫وجدتها عند أمينة غير متوافرة لدى المراهقات‬ ‫االنخراط في ممارسة الجنس التي‬
‫المكلفات والمُ َت ِّ‬
‫كلفات‪ ،‬اللواتي كن يتر ّددن إلى سريري قبل مصادفة الكشك ومجلة‬
‫الطبخ‪ .‬صحيح أن المدينة باردة وأمينة حطب ضروري في فصل الشتاء‪ ،‬لك ّنني أكره‬
‫َ‬
‫ألعترف لك‬ ‫أن يطلب مني أحد االعتراف له بشيء‪ .‬قلت ألمينة مداع ًبا‪ :‬لست مجرمًا‬
‫بجريمتي‪ ،‬لك ّنها لم تضحك‪ .‬قلت لها‪ :‬دعيني أقتلك أولًا وبعدها سأعترف للمحققين‬
‫ومرة أخرى لم تضحك‪ .‬مشكلة أمينة هي أنها جديّة أكثر من الالزم‪.‬‬ ‫بح ِّبي لك‪ّ .‬‬
‫صحيح ّ‬
‫أن جديتها وتفانيها يشعالن النيران في جسدي ونحن في الفراش‪ ،‬ويُنسيانني‬
‫لكن مع ذلك من حق الواحد م َّنا أن يمزح مع حبيبته‪ ،‬أقصد‬
‫البرد الذي في الخارج‪ْ ،‬‬
‫مع الفتاة التي تتردد إلى بيته من حين آلخر وتعتبر نفسها حبيب َته‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫ياسين عدنان‬

‫لكن يا أمينة‪ ،‬أخبريني لماذا علي دائما أن أعترف؟ لم ال تكتشفين بنفسك إلى أيّ‬
‫ْ‬
‫ّ‬
‫يشتد البرد وتكونين‬ ‫حد أحبك فقط من نظرتي‪ ،‬من تهدُّ ج صوتي على الهاتف حينما‬ ‫ّ‬
‫كل شيء؟‬‫بعيدة؟ لماذا علي أنا أن أقول َّ‬
‫في هذه المدينة عليك أن تثرثر كمذياع دون أن تفعل شي ًئا‪ ،‬أو تفعل عكس ما‬
‫تقوله بالضبط‪ .‬محمّ اد َّ‬
‫البقال يحكي دائ ًما عن حذقه بالتجارة‪ ،‬وحينما انقطع التيار‬
‫الكهربائي بالحي قبل أسبوعين ولجأت إليه‪ ،‬لم أجد عنده ولو شمعة واحدة‪.‬‬
‫مشكور مدير مكتب البريد الذي أعطاني دروسا في األخالق واالستقامة قبل أن‬
‫درته المصونة في حفل بهيج لحميد النكودي صاحب حانة‬ ‫يطردني من بيته َّ‬
‫زف َّ‬
‫«الكثبان السبعة‪».‬‬
‫لست مثلهم‪ ،‬فأنا ال أريد شي ًئا من أحد‪ .‬حتى جسدك الذي يدفئني‬
‫ُ‬ ‫آه يا أمينة‬
‫في هذا البرد خذيه إلى سرير آخر‪ ،‬واتركيني أخلو إلى نبيذي أقارع به البرد‪.‬‬
‫أُ ِّ‬
‫فضل البقاء وحدي على أن أخضع البتزازك السخيف‪ .‬أرفض أن ينتزع مني أيٌ كان‬
‫اعترافات تحت الضغط‪ .‬ال أريد أن أعترف بشيء‪ ،‬فما رأيك؟ دعيني وشأني أرجوك‪.‬‬
‫لكن أمينة التي ُ‬
‫كنت أظن في البداية أنها ال تعرف كيف تلعب دور الملكة‪ ،‬زوجة‬ ‫َّ‬
‫ضمتني إلى صدرها بحنان وهي تشهق‪:‬‬
‫الملك‪َّ ،‬‬
‫نم في حضني ودعْ ني أحتويك‪ .‬كانت تحضنني إلى صدرها‪ ،‬تدفن‬ ‫آه يا حبيبي‪ْ ،‬‬
‫رأسي بين نهديها‪ ،‬تق ِّبلني في ِّ‬
‫كل مكان من جسدي وهي تشهق وتبكي وأنا كالمصعوق‬
‫ً‬
‫مندمجة‬ ‫ً‬
‫مستغرقة‬ ‫مُستسلِمٌ بالكامل‪ ،‬وال أفهم ما الذي حصل بالضبط‪ .‬كانت أمينة‬
‫تتمرغ على صدري ودموعها تسقي عشب جسدي‪ .‬ثم سمع ُتها تنشج‬ ‫َّ‬ ‫في الدور وهي‬
‫باكية من فرط التأثر ووجهها مدفون بين فخذيّ ‪:‬‬
‫آه يا روحي‪ ،‬لم أكن أظن َ‬
‫أنك تح ُّبني إلى هذا الحد‪...‬‬

‫قصة «ثرثرة باألبيض فقط» نشرت ضمن كتاب «من يصدق الرسائل»‪ ،‬دار ميريت‪ ،‬القاهرة ‪2001‬‬
‫قصة «حاطب حب» نشرت في كتاب «تفاح الظل» عن منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب‪،‬‬
‫كلية اآلداب ابن امسيك‪ ،‬الدار البيضاء ‪2006‬‬

‫‪268‬‬
‫يحيى امقاسم‬

‫مقطاعين من رواية‬

‫ساق الغراب‬

‫«حمُ ود الخير» يُمسك بفأس‪ ،‬لنصلها وميض خاطف‪ ،‬وهو يقتعد قطعة خشب‬ ‫كان َ‬
‫كبيرة داخل األحراش‪ ،‬عاريًا وواضعًا َذ َكره على حجر صَ َّوان يلمع أمامه كسطح َغ ْيل‬
‫ساكن‪ ،‬وذلك استعدادًا لعمل َّية الختان‪ ،‬دون اكتراثه للمرحلة األولى من هذه العمل َّية‪،‬‬
‫إذ يلزمه ابتدا ًء إدخال بعرة بعير من خالل قَلَ َفته دافعًا بها الحشفة إلى أقصى ٍّ‬
‫حد‪،‬‬
‫لتحمي َذ َكره من أيّ خطأ محتمل‪ ،‬وليأتي النصل على كامل ال َقلَ َفة دون سواها‪ ،‬إال أ َّنه‬
‫للداخل‪ ،‬حاشرة َح َش َفته إلى َمن َبت‬‫عوضا عن البعرة‪ ،‬إذ غرس إصبعه َّ‬‫ً‬ ‫اكتفى بسبابته‬
‫الحد الفاصل بين ظفر إصبعه ورأس َذ َكره ضغط بنصل الفأس‪ ،‬وعندما‬ ‫ِّ‬ ‫ثم عند‬‫قضيبه‪َّ ،‬‬
‫لتتمدد ال َقلَ َفة على الحجر كجزء من‬
‫َّ‬ ‫اطمأن إلى أ َّنه خلص إلى بُغيته أخرج إصبعه‪،‬‬
‫َّ‬
‫خرقة قماش بالية‪ ،‬وعليه أن يجزَّ ها سريعًا‪َّ ،‬‬
‫ثم يُكمل ختانه عندما يسلخ الجلد من‬
‫عانته وحول َذ َكره‪ ،‬وباطن فخذيه‪ ،‬مح ِّق ًقا بذلك عادة أجداده في الختان‪.‬‬
‫ً‬
‫وبعيدا عن نظره‪ ،‬لهاث رجل‬ ‫تأهب سمع من خالل األحراش‪،‬‬ ‫فيما هو في حالة ُّ‬
‫قرر‪ ،‬ولن‬ ‫كأ َّنه يحمل سو ًءا ال يعلمه‪ ،‬ولك َّنه لن يردعه َّ‬
‫عما سيفعله شيء ‪ -‬كما َّ‬
‫ينهاه أحد عن إثبات رجولته وقدرته على القيام بهذا العمل العظيم‪ ،‬رغم العقاب‬
‫الذي سنُّوه لمن يقوم بختان نفسه‪ .‬هذا ما عزَّ زه بداخله قائلًا لنفسه‪« :‬يقتلوني‪...‬‬
‫لكن ما يلمس واحد منهم رجولتي واَنا اَبْن عُ ص ْي َر ْة‪».‬‬
‫لم يعر اهتمامًا ألنفاس ذلك الرجل المتالشية من المكان‪ ،‬وال ريب أ َّنه يُراقبه منذ‬
‫جدته «صَ ا ِد ِق َّي ْة»‪ ،‬تلك‬‫اطمأن إلى فكرة أ َّنه عين لوالده أو َّ‬‫َّ‬ ‫دخوله األحراش‪ ،‬وقد‬
‫متحديًا من يسمع ومن‬ ‫ِّ‬ ‫ثم أردف‪« :‬اَبْن عُ ص ْي َر ْة»‬
‫العين التي ال ُتغادره على الدوام‪َّ .‬‬
‫لكن‬
‫شرا ال غير‪َّ ،‬‬
‫ألن الرجل قد يكون ًّ‬‫ال يسمع‪ ،‬هذا وهو يعود في فكرة االطمئنان‪َّ ،‬‬
‫ذلك لن يُثنيه عن ن َّيته المب َّيتة منذ أ َّيام خلت‪ ،‬فهو ليس َّ‬
‫أقل شأنًا من سواه في وادي‬

‫‪269‬‬
‫يحيى امقاسم‬

‫لح َس ْينِي»‪.‬‬‫«ا َ ُ‬
‫ً‬
‫وتحديدا‬ ‫كل أمجاد عشائره في وادي «ا َ ُ‬
‫لح َس ْينِي»‪،‬‬ ‫«اَبْن عُ ص ْي َر ْة» عبارة ُتجمل َّ‬
‫ُ‬
‫بوتها‬ ‫في قريته «عُ ص ْي َر ْة»‪ ،‬عاصمة وداعية الوادي‪ ،‬التي ال يستنهضون في أرواحهم أ َّ‬
‫َّ‬
‫استحث‬ ‫لهم إال ألمر جلل ال يتراجعون عنه‪ .‬وعندما صرخ بأ َّنه ابن لتلك القرية‬
‫من أعماقه مواقد اإلقدام‪ ،‬وأشعل في شخصه فتيل الشجاعة‪ ،‬ليتد َّفق الدم إلى أعلى‬
‫يتبدد صمت األحراش في تلك الظهيرة‬‫َّ‬ ‫ًّ‬
‫حاضا حماسه على إنهاء األمر‪ ،‬ولم‬ ‫رأسه‬
‫تفر الطيور من بين األغصان الكثيفة‪ ،‬إلاّ وقد رفعت‬
‫من صراخه بتلك العبارة‪ ،‬ولم ّ‬
‫يده الحجر اآلخر‪ ،‬وهوت به دون هوادة على رأس الفأس‪ ،‬الذي نفذ نصله لمالمسة‬
‫باترا بذلك قَلَ َفته التي قفزت بسهولة على التراب‪ ،‬وشخب الد ُم‬
‫الحجر األملس‪ً ،‬‬
‫سريعًا مبهو ًرا بمخرجه‪.‬‬
‫فخرا بما فعل‪ ،‬لك َّنه أدرك‬
‫ً‬ ‫وقعت الفأس بمحاذاة الحجر المد َّمى‪ ،‬وهو يستبشر‬
‫تشكلت الدماء من حوله بشكل مخيف لم يسبق له أن سمع‬ ‫خطأً فادحً ا ارتكبه‪ ،‬إذ َّ‬
‫ثم وجد أ َّنه قد بخس َح َش َفته‬
‫بحالة مماثلة له! تم َّعن ج ِّي ًدا وشعر بوخز مريع‪َّ ،‬‬
‫بمزق نال من طرفها األيمن‪ ،‬وترك هذا المنظر الغريب في نفسه‬ ‫ٍ‬ ‫تكورها البيضاويّ‬ ‫ُّ‬
‫شيئا من الرهبة‪ ،‬فعدل عن إكمال سلخ جلد عانته وباطن فخذيه‪ ،‬كما كان يجب‬ ‫ً‬
‫فكر في والده الشيخ «عيسى‬ ‫عليه تحقي ًقا لتمام العمل َّية‪ ،‬وعدلًا لعادتهم في الختان‪َّ .‬‬
‫الخير» الذي سيُعالج األمر ال محالة‪ ،‬وبهل في التراب المعجون بالدماء ح َّتى وجد‬
‫وأي طريق سيكون‬ ‫تفقد منافذ األحراش ُّ‬ ‫َّ‬
‫ضالته الضئيلة من الحَ َش َفة‪ ،‬وأسرع في ُّ‬
‫سلكه آم ًنا من أعين تتر َّبص به لوشاية ما ُّ‬
‫تدسها بأذن أمير «صَ ْب َي ْاء»‪ .‬فأعداء والده‬
‫أن تطهيره لنفسه سيكون نكاية بأبيه من قبلهم لدى األمير الذي ي ِّ‬
‫ُحذر‬ ‫ُكثر وال َّ‬
‫بد ّ‬
‫وأن القصاص ممّ ن يرتكبه سيكون قاس ًيا‪.‬‬ ‫من اقتراف هذا الفعل‪َّ ،‬‬
‫أن أعين الظالم في القرية ال يُمكن مغافلتها‪،‬‬ ‫برغم وصوله خِ فية إلى البيت إال َّ‬
‫َ‬
‫المحدق‪ ،‬فأسرع والده في‬ ‫الخطر‬
‫َ‬ ‫هذا في تقدير أهله الذين من فورهم َّ‬
‫تيقنوا تمامًا‬
‫ثم تد َّبرت األ ُّم مع‬ ‫إخفاء ابنه عن األنظار‪ ،‬ور َّتب مع نفر من َّ‬
‫خاصته تطبيب الجرح‪َّ ،‬‬
‫الصبي‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الجارية « َز ْه َر ْة» دفن الجزء المبتور من َح َش َفة‬
‫ً‬
‫وتحديدا نحو األمير الذي استقبله‬ ‫ركب الشيخ عند الظهر دا َّبته باتجاه «صَ ْب َي ْاء»‪،‬‬
‫يستحقها‪ ،‬مع أ َّنه ُفوجئ بزيارته‪ ،‬فهو الذي كان يُرسل له أكثر من خطاب‬ ‫ُّ‬ ‫برحابة‬
‫لح َس ْينِي» فال يُجيبه مطل ًقا‪ُّ ،‬‬
‫وكل ما يفعله‬ ‫للتداول معه في أيِّ أمر ذي صلة بوادي «ا َ ُ‬

‫‪270‬‬
‫ساق الغراب‬

‫ِّ‬
‫الخط َّية هو وضعها تحت فراشه‪ ،‬ويأمر جنود األمير بالذهاب‪،‬‬ ‫الشيخ ُتجاه الدعوة‬
‫حاملين منه إلى أميرهم عبارة واحدة‪« :‬إذا كان هو بحاجتي فبيتي واسع»‪ ،‬وال يأتيه‬
‫في مجلسه إال إذا نزل سوق «صَ ْب َي ْاء» يوم الثالثاء وسمع به األمير‪ ،‬فيُسارع هذا األخير‬
‫إلى مقابلته على مضض ويُالطف عرش أنَفته‪ ،‬ح َّتى يلين الشيخ لحيله‪ ،‬فيعبر بدار‬
‫مقر اإلمارة‪ ،‬ولم يحمله على‬
‫اإلمارة على عجل‪ ،‬فهو لم يكن يومًا ليذهب عنوة إلى ِّ‬
‫هذا العمل إال أمر مستطير‪ .‬ربما هكذا َّ‬
‫تحدث األمير في نفسه حين رآه‪.‬‬
‫بدأ الشيخ بتنفيذ أه ِّم خطوة في َّ‬
‫خطته للخالص من العيون المتربِّصة به‪ ،‬حين‬
‫«حمُ ود» عصر غد‪ ،‬الذي سيكون إيذانًا‬ ‫دعا األمير وصحبه لحضور ُ‬
‫«شهْ َرة» ابنه َ‬
‫وأصر عليه في دعوته ليكون ضمن «ال َم َطالِيب»‬
‫َّ‬ ‫ببداية ليالي التشهير بيوم ختانه‪،‬‬
‫بحجة انشغاله‪،‬‬
‫خاص‪ ،‬لهذه المناسبة الكبيرة‪ ،‬فاعتذر األمير َّ‬
‫ِّ‬ ‫وبشكل‬
‫ٍ‬ ‫الذين يُدعون‪،‬‬
‫األول الحضور نيابة عنه وبصحبته بعض عساكره‪ ،‬فأضمر الشيخ‬ ‫وطلب من معاونه َّ‬
‫تمت بالوكالة‪ ،‬لك َّنه لم يُظهر فرحه بأيِّ سلوك مبالغ فيه‬
‫سعادته بهذه التلبية التي َّ‬
‫مما طواه في نفسه‪.‬‬
‫يكون من شأنه إيضاح بعض َّ‬

‫***‬

‫اط ْة» نازحين‪ .‬اختاروا منها مكانًا ي ُّ‬


‫ُسمونه «اَل َق ْ‬
‫ايم»‪ ،‬إلطاللته‬ ‫استقروا في «الحِ َب َ‬
‫ُّ‬
‫الشاهقة على األودية من الجانبين‪ ،‬وارتفاعه عن بق َّية األرض الصخر َّية المحيطة‪،‬‬
‫القش وجذوع السمر‪ ،‬ولم‬ ‫ُفأقيمت عليه بعض البيوت بسواعد النساء واألطفال من ِّ‬
‫المقدمة أُقيم‬
‫ِّ‬ ‫وكل أُسرة لها خدرها المش َّيد‪ .‬وفي‬
‫ُّ‬ ‫يصل الشيخ وبق َّية المحاربين إلاّ‬
‫األول في استقرارهم هناك‪ ،‬بعد عقد تفاهم‬
‫عريش كبير للشيخ‪ ،‬بأمر األ ِّم ذات الفضل َّ‬
‫رحبوا بهم‪ ،‬كما ينبغي لذوي المكانة والجاه العالي‬ ‫مع أعيان تلك الناحية الذين َّ‬
‫أي كتاب من قبل‬ ‫أمثالهم‪ ،‬وقد طمأنتهم َّ‬
‫أن الغزاة ال مكان لهم في ذاكرتها‪ ،‬ولم يُنبئ ُّ‬
‫بحرب كهذه‪ ،‬وأ َّنها قد ن َّبهت شيوخ القبائل وعلى رأسهم قائدهم ‪ -‬ابنها ‪ -‬إلى مغ َّبة‬
‫خروجهم من قراهم‪ ،‬لك َّنهم لم يعوا حدسها‪ ،‬وهي التي لم يُعص لها أمر من قبل هذا‪،‬‬
‫وشق عليها مخالفة إصرار الرجال وابنها على الخروج من‬ ‫َّ‬ ‫المرة ُغلبت‬
‫لكن هذه َّ‬
‫ْ‬
‫واديهم‪ .‬في الليلة ذاتها التي لحقوا بأهاليهم كانت األ ُّم تجتمع في خدرها الصغير‬
‫الخاصات‪ ،‬ولم يكن مستغربًا أن تطرد الجميع بمن فيهم‬
‫َّ‬ ‫بثالث نساء من مساعداتها‬

‫‪271‬‬
‫يحيى امقاسم‬

‫يتجرأ أحد بالسؤال‬


‫َّ‬ ‫الضاج بالصياح‪ .‬كما أ َّنه لم‬
‫ِّ‬ ‫الشيخ العليل عن جوار ذاك الخدر‬
‫عن سبب االضطراب الظاهر على وجهها من خالل عبارات الشتم والسباب ِّ‬
‫لكل من‬
‫شعرت باقترابه منها‪ ،‬أو من النساء الثالث‪ ،‬ولو لمعرفة أسباب الصراخ المنبعث من‬
‫الخاصة « َز ْه َر ْة» ُتن ِّبهها فو ًرا القتراب‬
‫َّ‬ ‫حنجرة امرأة يُوجعها المخاض‪ ،‬وكانت جاريتها‬
‫أيِّ شخص يستطلع األمر‪.‬‬
‫وقد تضاربت اآلراء حول اسم المرأة التي يصلهم صراخها وكأ َّنها تسألهم غوثًا ال‬
‫أن هناك أكثر من امرأة تصرخ وتستنجد‪ ،‬وراح‬ ‫تجده ً‬
‫أبدا‪ ،‬كما تناقل ال َّناس فيما بعد َّ‬
‫سر تلك الليلة‪.‬‬
‫الجميع يفترضون ما استطاعوا‪ ،‬في محاوالت مضنية لمعرفة ِّ‬
‫في الصباح كان يظهر على األ ِّم جهد ما كان ليُصيبها ‪ -‬بحسب تقدير ابنها الشيخ‬
‫أسرت إليه مسب ًقا بدواعي ذلك الجهد‪ ،‬ولم يخطر بباله أن يستدرج إحدى‬ ‫‪ -‬لو أ َّنها َّ‬
‫منهن بشيء ما دامت األ ّم‬
‫َّ‬ ‫النساء الثالث الالتي خرجن بصمت هلع‪ ،‬فهو لن يخرج‬
‫أيديهن امرأتان تضعان حمليهما في‬
‫َّ‬ ‫هي من تقود فريق ال َق َبالَة َطوال الليل‪ ،‬وبين‬
‫ففضل الشيخ السكوت ح َّتى يحين الحديث كما‬ ‫ليلة واحدة ‪ -‬كما علم فيما بعد ‪َّ -‬‬
‫ُّ‬
‫للتدخل في تلك األمور المقدور على إنهائها‬ ‫ترغب هي‪ ،‬كما أ َّنه لم يكن بحال ج ِّيدة‬
‫خاصة وأ َّنها من شؤون النساء‪.‬‬
‫من دونه‪َّ ،‬‬
‫وجهتهم األ ُّم إلى صالة الميت على امرأتين وطفل واحد‪ .‬ثالث‬
‫عصر ذلك اليوم َّ‬
‫جنازات عناء الليل الفائت‪ ،‬وكانت إحدى المتو َّفاتين زوجة «ب َِش ْ‬
‫يبش» الغائب‬
‫ثم بأمر‬
‫عنهم‪ .‬أ َّما المرأة الثانية فكانت مجهولة‪ ،‬وقد جُ هِّز الموتى في الخدر ذاته‪َّ ،‬‬
‫لي»‪ ،‬واألخرى والطفل ُدفنا خارج‬ ‫األ ِّم ُدفنت ج َّثة إحدى المرأتين جوار ُنزل «ا َ ّ‬
‫لساحِ ْ‬
‫َّ‬
‫تتسلل‬ ‫الخاصة « َز ْه َر ْة»‬
‫َّ‬ ‫أول الليل كانت جارية األ ِّم‬ ‫نطاق مقامهم‪ ،‬وحين هبط َّ‬
‫السري للطفلة الباقية على ق ْيد‬
‫ِّ‬ ‫ناحية واديهم غربًا مخ ِّبئة فيما حملته معها الحبل‬
‫يبش ‪ -‬يعلو في سماء المكان ً‬
‫فقدا على‬ ‫الحياة‪ ،‬فيما كان رغاء «ال َبارق» ‪ -‬جمل ب َِش ْ‬
‫شد وثاقه إلى قائم قَ َعادَة األ ِّم خوفًا من أن يسري إلى‬
‫مما دعاهم إلى ِّ‬
‫زوجة صاحبه‪َّ ،‬‬
‫يجر قَ َعادَة األ ِّم ليلًا‪ ،‬فهو يعرفها‪ ،‬وقد أمرت األ ُّم‬ ‫َّ‬
‫ويدك معالمه‪ ،‬كما َّ‬
‫أن الجمل لن َّ‬ ‫القبر‬
‫«ولد بالل» بأال يُطيل في عزفه لحن الموت‪ ،‬كونهم ال يُقيمون في ديارهم‪ ،‬وكيال‬
‫يبش» بصوت الناي الباكي‪ ،‬إذا ما اقترب من مكان إقامتهم ذاك‪ ،‬مع علمها‬ ‫يفجعوا «ب َِش ْ‬
‫غار يحميه من الليل المطير‪ ،‬ولن يصلهم في‬ ‫أ َّنه عند تلك َّ‬
‫الساعة كان ي َْجبُر إلى ٍ‬
‫«اَل َقايِ ْم» إال ضحى الغد‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫ساق الغراب‬

‫عِ شا ًء في عريش األ ِّم‪ ،‬والسماء تهدر بالرعود‪ ،‬كان الشيخ على حالته مثخ ًنا بحزن‬
‫وحرقة‪ ،‬ومنثن ًيا عن حادثة الموت والصالة والدفن‪ ،‬ولم ُتذهب عنه تلك الحالة‬
‫سوى األ ِّم القادرة وحدها على تطبيب كا َّفة آالمه‪ .‬فعندما شعرت في جواره بصمت‬
‫ّ‬
‫وحقك ما مات‪ ...‬عادوه في مكانه‪”...‬‬ ‫تعرف مغزاه‪ ،‬بادرته تقول‪« :‬زوجاتك ماتوا‬
‫خاصته ومن حضر للتعزية في زوجة‬ ‫تبسم ابتسامة لم يشعر بها سواها رغم وجود َّ‬‫َّ‬
‫ثم ليستغ ُّلوا‬
‫وسرهم التخفيف من كمد شيخهم‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫«ب َِش ْ‬
‫يبش» الغائب ح َّتى تلك الساعة‪،‬‬
‫وآخرهن‬
‫َّ‬ ‫بأن عضوه باق رغم موت ِّ‬
‫كل نسائه‬ ‫فرصة مراوغة األ ِّم له حين َّ‬
‫ذكرته َّ‬
‫«حمُ ود» المتو َّفاة قبل سنتين‪ ،‬ولكيال يصمتوا لحظتئذ‪َّ ،‬‬
‫علق «سُ َبيعْ » ‪ -‬ابن األ ِّم‬ ‫أ ُّم َ‬
‫حق ولدك اِالّ البول‪ ».‬وبذلك‬ ‫األصغر ‪ -‬على ما ذكرته العجوز قائلًا لها‪« :‬ما عاد في ّ‬
‫معر ًضا بعجزه‪ ،‬فعندها ارتفع‬ ‫زاد «سُ َبيعْ » من صخب التندُّ ر بعضو أخيه «عيسى»‪ِّ ،‬‬
‫ضحك «بن شامي» غير الواعي بحال حزنهم‪ ،‬وبدورها ردَّت األ ُّم على «سُ َبيعْ »‪« :‬أنا‬
‫اَدرى بولدي يا ه ِّين‪ ...‬أرجل منكم ّ‬
‫كلكم‪».‬‬
‫ُ‬
‫حرك شي ًئا بداخله للحديث‪ ،‬دافعت عنه بأ َّنه أكثرهم‬ ‫وفي محاولة أخرى منها ل ُت ِّ‬
‫رجولة‪ ،‬ومع هذا لم يستجب الشيخ لما ذهبوا إليه‪ ،‬بل غ َّير الحديث بسؤاله عن‬
‫األسلحة‪ ،‬وما إذا كان النساء الالتي وصلن قبلًا بيوم‪ ،‬قد أتين بما تب َّقى من بندقيات‬
‫وبكل أسلحتهم‪ ،‬وهي تتن ّهد قليلًا‬ ‫ِّ‬ ‫مؤكدة وصول الجميع‬‫وذخيرة‪ .‬ردَّت عليه األ ُّم ِّ‬
‫يبش» وكيف سيستقبل خبر وفاة زوجته‪ ،‬وأضافت‪َ « :‬روّ حوا معهن‬ ‫ّ‬
‫متذكرة «ب َِش ْ‬
‫متعسرة‪ ...‬يمكن زوجها أسروه قوم‬
‫ّ‬ ‫بواحدة حُ بلى في َح ّدها‪َّ ...‬‬
‫حصلوها في طريقهم‬
‫الذلُول وهو هاربّها‪».‬‬
‫ُّ‬
‫بشدة وفزع‪ ،‬سأل رجاله‪« :‬من هو زوجها؟”‬ ‫َّ‬
‫هوّنت عليه األ ُّم‪« :‬ما نعرفها‪َ ...‬كاَ ّنها من وادي َض َم ْد‪».‬‬
‫وجه الحديث لها متسائلًا‪« :‬قالوا لي اَنّكن ولّدتن‬ ‫ثم َّ‬
‫صمت قليلًا بفعل االطمئنان‪َّ ،‬‬
‫ثنتين ماتوا مع ولد واحد وبقي ُصبى َح ّي‪ ...‬ولَد َم ْن؟” ع َّقب أخوه «سُ َبيعْ »‪ ،‬مصحِّ حً ا‬
‫«اللي بقيت صبي ّْة يا عيسى‪».‬‬ ‫له جنس المولود‪ ،‬قائلًا‪ّ :‬‬
‫حواسها عن السؤال‪ ،‬وكأ َّنها ُتثير انتباههم لالهتمام بما ستقوله‪ ،‬أخذت‬
‫َّ‬ ‫عطلت‬‫َّ‬
‫ً‬
‫وبعيدا عن أيِّ ملمح‬ ‫ولوحت بها في الهواء كمن ي ِّ‬
‫ُحذر من شيء‪،‬‬ ‫بعصاها من طرفها َّ‬
‫إلجابة عن سؤاله‪ ،‬قالت‪« :‬أنتم مقدمين على زمن ما عادوه لكم‪ ...‬صحيح ا َ ّن ه ُ‬
‫َاذوال‬
‫جوا يحاربون مثل ما تحسبونهم‪ ...‬لك ّنهم ا َ ْ‬
‫جوا بشرع َغ ْير‪ ...‬حياتنا َشا تِ ْتغيّر‬ ‫ما ا َ ْ‬

‫‪273‬‬
‫يحيى امقاسم‬

‫ويخ ّلون بالدهم‪ ...‬يُهجّ ون ورا‬


‫كثير‪ ...‬فعينكم بعيالكم ألنّهم بعد زمن يُهجّ ون مشايم َ‬
‫دولة‪ ...‬يطاردون ورق‪ ...‬ويمكن الواحد فيهم ينسى أهله وأرضه وحياته هَا هِنا‬ ‫ْ‬
‫ّ‬
‫كلها‪ ...‬هذا ّ‬
‫الشام ما عا ُده زي زمان‪ ...‬فيه دولة جديدة‪ ...‬وشرع جديد‪ ...‬يحكم ظِ هار‬
‫باسلة وبعيدة‪ّ ...‬‬
‫واللي َم ّروا هم عسكر لهذيك الدولة‪ ..‬يصلون ح ّتى َزبِيد‪».‬‬
‫وقرا بعد حديث األ ِّم التي تو َّقفت لتقرأ في صمتهم خشية‬
‫وكأن في مسامعهم ً‬ ‫َّ‬
‫ُحرك واحد فيهم ساك ًنا‪ ،‬وكاد وجيب قلوبهم أن يُسيطر على‬
‫مما قالته‪ ،‬ولم ي ِّ‬
‫عارمة َّ‬
‫مما سمعوا‪ ،‬فلم يخطر ببالهم أن تسير األمور إلى هذه الدرجة من‬‫مجلسهم الهلع َّ‬
‫هددهم ُ‬
‫وت ِّ‬
‫هدد أوالدهم‪ ،‬وتقضي على ذخيرتهم في هذه الحياة‪ ،‬ولم‬ ‫الخطورة التي ُت ِّ‬
‫يُمعنوا ج ِّي ًدا في واقع كهذا من قبل‪ ،‬أو ّ‬
‫أن زم ًنا كهذا سيُدركهم‪ ،‬فهم لم َّ‬
‫يتعودوا مثل‬
‫أراضي كثيرة ويصل‬
‫َ‬ ‫أن هناك دولة قائمة تجوب‬ ‫هذه األحداث المثيرة‪ ،‬حيث ذكرت َّ‬
‫شأن قوّتها ح َّتى مدينة « َزبِيد» اليمن َّية‪ ،‬وهذه َّ‬
‫القوة ستفني َّ‬
‫مقدراتهم من سلطة‬
‫أن هذا الحكم سيستقطب أبناءهم للشمال!‬ ‫لها شرع َّيتها‪ ،‬واألدهى َّ‬
‫القوات وعن الحكم الجديد الذي يستشري مرو ًرا‬‫لُجموا بحديث األ ِّم عن هذه َّ‬
‫ببالدهم‪ ،‬وال يعلمون أيَّ مستقبل ينتظرهم في خض ِّم هذه الواقعة الجلل‪.‬‬
‫ً‬
‫رافضا هذه األفكار التي ذكرتها األ ُّم‪ ،‬مع‬ ‫جمع الشيخ لعابه وقذفه خلف مجلسه‪،‬‬
‫المرة ب َّثت مرارة ال ُتحتمل‪،‬‬
‫أ َّنه يعلم تمامًا قدرتها على كشف ما يجهلونه‪ ،‬وهذه َّ‬
‫وأي قدر ضرير ُّ‬
‫يحل بهم؟!‬ ‫فكيف سيرضون بهذه اإلهانة‪ُّ ،‬‬
‫تهدج صوته في وجهها وكأ َّنه يسألها تبديل حديثها بقول أكثر تفاؤلًا َّ‬
‫مما هو‬ ‫َّ‬
‫عليه اآلن‪ ،‬إذ كان قولًا يشوي لحى الرجال ويصفع النساء‪ ،‬يتغلغل في أرواحهم‬
‫مرة واحدة‬ ‫بفجيعة مهولة‪ .‬ال يعرفون من الشمال غير « َم َّكة» التي يُي ِّممونها َّ‬
‫أبدا غير تلك الرحلة الشا َّقة التي‬
‫الحج‪ ،‬وال يرحل الواحد منهم ً‬
‫ِّ‬ ‫في العمر ألداء‬
‫تستغرق شهو ًرا عسيرة‪ ،‬فكيف سيعيشون زم ًنا فيه أوالدهم يُغادرون بذلك االتجاه‪،‬‬
‫وبعضهم قد ال يعود؟!‬
‫ُفكرون جميعهم في المعضلة ذاتها‪ ،‬هذا السفر الذي سيغدون طريدته السهلة‪،‬‬ ‫ي ِّ‬
‫ُكررونها‬ ‫ً‬
‫مخيفا من قبل‪ ،‬فلديهم مقولة عريقة ي ِّ‬ ‫فريسته المواتية‪ ،‬رغم أ َّنه لم يكن‬
‫أمرا ّ‬
‫يتعلَق بسفر أحد أوالدهم‪ ،‬تلك المقولة التي صرخ بها‬ ‫دائ ًما عندما يُناقشون ً‬
‫وجه مشايم َخ ُّله‪ ،‬وإذا وجّ ه‬
‫«اله َّباش» ‪ -‬عند نهاية حديث األ ِّم ‪ -‬غاض ًبا‪« :‬ولدك إذا َّ‬
‫فذكرهم بأمر الموافقة على سفر أحد األوالد من عدمها‪ ،‬فلو كان‬ ‫أمس ُكه»‪َّ ،‬‬
‫ِم َيمّ ن ُ‬

‫‪274‬‬
‫ساق الغراب‬

‫ويضطر‬
‫ُّ‬ ‫سيتوجه شمالًا فعلى أهله أن يخلوا سبيله‪ ،‬أل َّنه سيجد الجوع‬
‫َّ‬ ‫هذا االبن‬
‫َّ‬
‫تتعذر‬ ‫ً‬
‫تحديدا‪ ،‬فحينئذ‬ ‫لإلياب نحوهم‪ ،‬أ َّما إذا كان سيُسافر جنوبًا‪ ،‬باتجاه اليمن‬
‫الموافقة‪ ،‬خوفًا من عدم رجوعه‪ ،‬فاليمن مشهور بالخيرات وقد تمنعه النعم من‬
‫عضدا يُجابه معهم ويالت الحياة‪ .‬لذا كيف‬ ‫ً‬ ‫العودة للبالد وألهله الذين سيخسرونه‬
‫أن الشمال بقحطه وموته سيأخذ فلذاتهم بدلًا من اليمن؟ وهذا‬ ‫لهم أن يعتقدوا اآلن َّ‬
‫ممض‪ ،‬حين عاد متعجِّ ًبا والحسرة‬ ‫ٍّ‬ ‫ما أشعله «الهبّاش» في قلوبهم الساكنة إلى صبر‬
‫تنشب أظفارها في قلبه‪ ،‬سائلًا األ َّم‪« :‬عسى الزمن اَن َقلَب يا صَ ا ِد ِقي ّْة؟!»‬
‫كل قلب حضر حديث األ ِّم‪ ،‬والشيخ كان في مركب خشن‬ ‫هذا السؤال أضمره ُّ‬
‫كثيرا بفكرتهم تلك التي أثارها‬
‫ً‬ ‫أهمها سالمة رع َّيته‪ ،‬ولم يكترث‬
‫وأسبابه كثيرة‪ُّ ،‬‬
‫أكثر من شخص في استفسارات متالحقة يو ُّدون من األ ِّم اإلجابة الشافية عنها‪.‬‬
‫َّ‬
‫ليحل‬ ‫وفي معرض األحاديث تنهَّدت األ ُّم طويلًا‪ ،‬بآهتها المعروفة‪« :‬إِييييييييهأ‪،»...‬‬
‫وتشق عليهم هذه البادرة للخوف‪ ،‬فال ُتقدم األ ُّم على تنهيدتها تلك‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫مجددًا‪،‬‬ ‫الصمت‬
‫يتسلقها‪ ،‬ولم يفتق التر ُّقب منهم شي ًئا ح َّتى قالت‪« :‬الرجال يموتون‪ ..‬ما‬ ‫َّ‬ ‫إلاّ لرعب‬
‫النساء‪».‬‬
‫ْ‬ ‫يبقى اِالّ‬

‫مقاطع من رواية «ساق الغراب»‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت ‪2008‬‬

‫‪275‬‬
‫يوسف رخا‬

‫مقطع من رواية‬

‫المقامة الحاكمية أو المنتحر ‪20‬‬

‫ّ‬
‫حدث راشد جالل السيوطي قال‪:‬‬
‫ً‬
‫منطوية في وضع‬ ‫أن تفتح كبّوت عربتك بعدما تقف منك على الطريق‪ ،‬فتجد ج َّث ًة‬
‫قياسا إلى أن هذه أول‬
‫لكن ً‬‫جنيني مكان الموتور‪ ،‬تخيل! ليس هذا ما حصل بالضبط‪ْ ،‬‬
‫زيارة أعملها للقاهرة من ثالث سنين‪ ،‬ما حصل كان على نفس درجة الغرابة‪ .‬بعد‬
‫مر به صديق عمري مصطفى نايف الشوربجي‪ ،‬وجعله يغادر‬
‫ذلك‪ ،‬بعدما أعرف بالذي َّ‬
‫القاهرة قبل وصولي بأسبوع – أنا لن أعرف حكاية مصطفى لحد ما أرجع لحياتي‬
‫الطبيعية كطبيب احتياط في مستشفى بيثنال غرين‪ ،‬شرق لندن‪ ،‬حين يبعث لي‬
‫باإليميل «پي‪-‬دي‪-‬إف» مخطوطة ضخمة دوّ ن فيها انفصاله عن امرأته وما تاله‪،‬‬
‫مع سطر واحد في شبّاك الرسالة يتساءل إن كنت بعدما أقرأ المرفقات سأظنُّه‬
‫مجنونًا*‪ ،‬سيتأكد لي أني لم أخترع تلك الليلة على طريق صالح سالم‪ ،‬تحت ضغط‬
‫مشروع زواجي أنا‪ ،‬واإلكثار من التفكير في أكبر عقبة أمامه‪ .‬يعني أنا أسكن جوار‬
‫عملي في بيثنال غرين‪ ،‬ومن وقت انتقلت إلى هناك سنة ‪ ،5002‬قبل سنتين تقري ًبا‪،‬‬
‫وأنا أعيش مع زميلة درزية أحبّها وكان زماني تزوجتها لوال أن أهلها مستحيل أن‬
‫التجسد‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يخلوها تتزوج غير درزي‪ ،‬فلما طلع لي شبح المنتحر لح ًما ودمًا يقول إنه‬
‫رقم ‪ 19‬لروح اإلمام الحاكم بأمر اهلل الذي يؤلّهه الدروز‪ ،‬شككت بأني أهلوس نتيجة‬
‫التفكير في ذلك والقراءة عن تلك الديانة المجهولة‪ ،‬وأن هذا سبب حرماني من‬
‫تأسيس أسرة مع حبيبتي‪ .‬أصلًا ساعات ينتابني الفزع من أن أكون‪ ،‬بعالقتي مع البنت‬
‫هذه‪ ،‬فعلًا تعديت على حرمة ما أو قداسة‪ .‬ومع أن المكتوب في «پي‪-‬دي‪-‬إف»‬
‫مصطفى ما كان يمكن أن يخطر لي أثناء وجودي في القاهرة‪ ،‬فطنت بعد مكالمتي‬
‫الثانية لوالدته ‪ -‬الشخص الوحيد الباقي لمصطفى صلة حقيقية به هناك ‪ -‬إلى أن‬

‫‪276‬‬
‫المقامة الحاكمية أو المنتحر ‪20‬‬

‫ما جرى له قد يشبه ما رأيته أنا في الليلة تلك‪.‬‬


‫أقر أن ليس له في السماء إله معبود‪ ،‬وال في األرض إمام موجود‪ ،‬إال موالنا‬
‫«ومن ّ‬
‫جل ذكره‪ ،‬كان من الموحدين‪ ،‬الفائزين‪».‬‬‫الحاكم ّ‬
‫من نص عهد الدعوة الدرزية لحمزة بن علي المعروف بـ»ميثاق ولي الزمان»‪.‬‬
‫ليلتها عرفت أن اختفاء سادس وأغرب أئمة بني عبيد اهلل (الفاطميين) – ذلك‬
‫حرم على الناس أكل الملوخية‪ ،‬وألزم النساء البيوت‪ ،‬ثم‬ ‫ّ‬
‫المتقشف الذي ّ‬ ‫الطاغية‬
‫تقرب‬ ‫عمل «جينوسايد صغ َّير» في مدينة مصر القديمة (كان يقوم بتصفية ِّ‬
‫كل من َّ‬
‫إليه) – اختفاء هذا المجنون الملهم لم يكن إال انتحا ًرا تلى ظهور الدعوة الدرزية‪،‬‬
‫التجسد البشري لإلله الواحد‪ .‬أن توقن بأنك أنت اهلل – هكذا قال لي‬
‫ُّ‬ ‫التي قالت إنه‬
‫المنتحر – ال َّ‬
‫بد أن يؤدي ذلك إلى االنتحار‪ ،‬فكيف يعيش اهلل بين الناس حتى لو كان‬
‫كل خمسين عامًا منذ حدوثه األول‬ ‫مر ًة َّ‬
‫يتكرر ّ‬
‫ّ‬ ‫إمامهم؟ واالنتحار هذا – شرح لي –‬
‫ِّ‬
‫المعز َّية‪،‬‬ ‫سنة ‪ 1021‬تكون روح الحاكم َّ‬
‫حلت بشخص عادي له جذور في القاهرة‬
‫مر على انتحاره خمسون سنة بالتمام‪،‬‬‫وبعد أن ينتحر بدوره يتجلى لوريثه‪ ،‬ويكون َّ‬
‫ليخبر ذلك الوريث أ َّنه التالي في الترتيب‪َّ .‬‬
‫تذك ْرت ساعتها أن أبي وأمي ولدا وعاشا‬
‫تزوجا غير بعيد من جامع الحاكم ذي المئذنة التي تشبه جذع‬ ‫كله إلى أن َّ‬ ‫عمرهما َّ‬
‫شجرة عجوز يطل وراء حائط مفرود كالمالءة‪ ،‬وأن جدي ألبي كان َّ‬
‫يدعي أنه من‬
‫نسل شيخ حارة برجوان (ذلك المكان المسمى على اسم أشهر خصيان الحاكم‪،‬‬
‫وأحد ضحاياه) فيقول الرجل العجوز نصف مازح إن تاريخنا في المنطقة يعود أليام‬
‫المماليك‪ ..‬هكذا في أول زيارة بعد غياب ثالث سنين إلى مسقط رأسي وأحلى أ َّيامي‬
‫– وأنا عاشق درز َّية – كان علي أن أتخ َّيل نفسي أموّ ت نفسي بسيف اإلمام العزيز‬
‫باهلل‪ ،‬أبي الحاكم‪ ،‬بصفتي (ويا خرابي) المنتحر ‪.20‬‬
‫ّ‬
‫يتذكر حديث المنتحر‪:‬‬ ‫ثم استطرد راشد السيوطي‬
‫الذي يموت وحده‪ ،‬ال يعرف‪ ،‬ال يرجف بالمفاجأة أو يعميه البريق‪( .‬هذا ما قاله لي‬
‫المنتحر ‪ 19‬في طريق الرجوع‪ ،‬لمّا وقفت العربة‪ ،‬كأن كهرباءها فصلت على طرف‬
‫الطريق بموازاة القرافة‪ ،‬وكان مكانًا مظل ًما‪ ،‬لك ّني شددت الفرامل وخرجت أفتح‬
‫الكبوت فإذا بضوء السماء يتغير لحظ ًيا‪ ،‬كأن الصبح طلع لمدة ثانية ثم غاب‪ ،‬برقت‬
‫ِّ‬
‫ككف اليد‬ ‫المقطم من فوقي كأنها أصبحت فوسفورية‪ ،‬وشيء‬ ‫َّ‬ ‫خاللها حجارة جبل‬
‫أثرا‪ .‬حين عدت إلى مقعد القيادة‪،‬‬
‫يخزني في كتفي‪ ،‬لما نظرت حولي لم أجد له ً‬

‫‪277‬‬
‫يوسف رخا‬

‫يائسا‪ ،‬فإذا إلى جواري شاب مهندم في بدلة كاملة موديل‬


‫المحرك ً‬
‫ِّ‬ ‫أحاول أن أدير‬
‫َّ‬
‫يتكلم على الفور)‪ .‬الذي يموت دون أن يملك موته‬ ‫ريترو وفي يده مسبحة‪ ...‬بدأ‬
‫في يده‪ ،‬ال ّ‬
‫تهزه البهجة الخرافية لمغادرة الحياة‪ .‬وحده المنتحر هو الخالد الباقي‪،‬‬
‫ّ‬
‫ككافة‬ ‫صدقني‪ :‬أنت لن تموت‬‫أكلمك عن خبرة‪ّ ،‬‬‫ومن أين لغيره بفرحة اليقين؟!‪ ..‬أنا ِّ‬
‫الناس‪ .‬س ُتم ّوت نفسك بنفسك في اللحظة الحاسمة‪ ،‬واللحظة الحاسمة دائ ًما فيها‬
‫مت بحضور أبي وأختي وخليلي‪ ،‬في‬ ‫اآلخرون‪ِّ .‬‬
‫أكلمك‪ ،‬مع أني لم أدبّر لذلك‪ ،‬ألنّي ُّ‬
‫ِّ‬
‫المعز َّية قبل وقت‬ ‫الحوش الحاوي قبر أمي ً‬
‫أيضا وراء باب النصر‪ ،‬حيث كانت القاهرة‬
‫طويل – اآلن هنا طبعًا ال شيء اسمه وقت‪ ،‬لكن ليس غير لغتكم للتفاهم – وكانت‬
‫مريض بالداخل‪ ،‬لك ّني سأناديه حتى يخرج قبل‬
‫ٌ‬ ‫أختي تظنني أقتلها بالسيف وأبي‬
‫موتي بدقيقة واحدة‪ُّ .‬‬
‫كل األرواح السائحة على روحي‪ ،‬أقول لك‪ ،‬شهدتني أعبر‪.‬‬
‫بحسابكم كان عمري وقتها أربعة وعشرين‪ ،‬ولوال أني جل ذكري من النسل المقدس‪،‬‬
‫كل شيء حدث‪ ،‬حدث لكي يؤدي‬ ‫مبكرا‪ ،‬أو علمت أن َّ‬
‫ً‬ ‫ما كنت فطنت لروعة الذهاب‬
‫يقلل من حتميته أنه غير واضح وغير منطقي‪ ،‬إلى لحظة واحدة فقط من‬ ‫بشكل ال ِّ‬
‫حددها لي سلفي بد َّقة‪ ،‬تحت‬
‫ّت رأس السيف في النقطة التي َّ‬
‫سنة ‪ ،1958‬لحظة ثب ُّ‬
‫ثديي األيسر وعلى بعد عقلة إبهام إلى اليمين‪ .‬كانت يداي حول المقبض وذراعاي‬
‫ً‬
‫ومتشبثا‬ ‫قوسا مشدودًا‪،‬‬
‫ممدودتين‪ ،‬كأن جذعي النحيل في الجلباب األسود أصبح ً‬
‫مرة واحدة‪ ،‬شددت‪ .‬أنا الكامل الذي يجيء‬
‫بقدمي الحافيتين في األرض الرملية‪ّ ،‬‬
‫موته منه‪ ،‬الحامل من ساعتها سيف العزيز باهلل‪ ،‬اسمع حكايتي‪.‬‬
‫ومحاك ًيا الهمذاني والحريري‪ ،‬قال‪:‬‬
‫جئت القاهرة في زيارة‪ .‬وصحبة صديقي الحقيقي مصطفى‪ ،‬نويت أمشي من‬
‫حارة لحارة‪ .‬كان هذا ما اتفقت عليه وإياه‪ :‬أن نشاهد ما بقي في القاهرة من مجد‬
‫إسالمي وجاه‪ .‬وأنا لي في إنكلترا سبع سنين‪ ،‬نزعت أثناءها عصب الحنين‪« .‬إنه‬
‫من زمان أول لقاء بدرش‪ ،‬تقولش سلطان راجع إلى العرش‪ ».‬فراعني أن ال أجده في‬
‫الديار‪ ،‬وكأن مدينتي زايلها العمار‪ .‬نقض اتفاقنا ابن القديمة‪ ،‬فأسلمتني الدهشة‬
‫ألحزان عظيمة‪ .‬بحنين تخ َّيلتنا في غبرة وتراب‪ ،‬وسط قاهرة المعز بين باب وباب‪.‬‬
‫حتى قلت في عقل بالي‪ :‬ملعون أبو مصطفى‪ ،‬سأستأنس بالكاميرا والسجائر وكفى‪.‬‬
‫وأخذت عربة أبي ذات ليلة ذاه ًبا‪ ،‬فما كدت أذهب حتى رجعت تائ ًبا‪ .‬فإن ما رأيته‬
‫في زيارة باب الفتوح‪ ،‬يخيف أبا الهول نفسه لو يبوح‪ .‬وحتى أكتشف أن مصطفى‬

‫‪278‬‬
‫المقامة الحاكمية أو المنتحر ‪20‬‬

‫هو اآلخر معذور‪ ،‬إذ له مع الجنون قبل دوري دور‪( ...‬لكن شي ًئا ال يدفع على حكي‬
‫الحكاية‪ ،‬إلى أن تتسنى قراءة الپي‪-‬دي‪-‬إف‪/‬الرواية‪ ).‬من غير ترتيب وال تمحيص‬
‫أقول‪ ،‬وقد أصاب أعضائي‪ ،‬من الرهبة‪ ،‬الخمول‪:‬‬

‫َك ْا َن ف ِْي د َْر ِب ْال ُن ُش ْـو ِر‬ ‫ف ْال َم ْو ِت ي َْش َقى‬


‫ ‬ ‫َم ْن ب َِط ْي ِ‬ ‫ ‬
‫َ ُ‬
‫أ ْن أعَـجِّ ْـل ب ِْال ُعب ِ‬
‫ُـور‬ ‫ ‬
‫ـسي‬ ‫م ِْن َد َو ْاعِ ْي قَـ ْت ِل نَ ْف ِ‬ ‫ ‬

‫أمضيت خمسة أيام فقط بعد الحدث في القاهرة‪ ،‬ومهجتي بصدمة اللقاء ورهبته‬
‫حائرة‪ .‬وانتظمت في جلسات األقارب على الموائد‪ ،‬مداريًا َّ‬
‫كل ما ألم بزيارتي من‬
‫شدائد‪َ .‬طوال الوقت لم يلهني شيء ظهر أو خفى‪ ،‬عن مواصلة التفكير في غيبة‬
‫مصطفى‪ .‬ومنذ وجدت موبايله مقفولًا ليلة وصولي‪ ،‬ليس سوى والدته أرمي عليها‬
‫ِّ‬
‫متأخر من الليل‪ ،‬فإذا في صوتها إلى البؤس‬ ‫حمولي‪ّ َّ .‬‬
‫كلمتها على الفور في وقت‬
‫والحيرة ميل‪ .‬ثم عدت َّ‬
‫وكلمتها بعد ظهور وريث اإلمام‪ ،‬وقد بقي على عودتي إلى‬
‫ْ‬
‫فكررت علي كيف غادر مصطفى فجأة في إبريل‪ ،‬بعد ثالثة أسابيع‬ ‫إنكلترا ثالثة أيام‪.‬‬
‫منذ أن وجد إلى بيتها السبيل‪ .‬وكان رجع يعيش معها بعد انفصاله عن زوجته‪ ،‬ثم‬
‫تعبيرا عن نقمته‪ .‬بعد مغادرته – هكذا روت لي – لم ي َّتصل سوى‬
‫ً‬ ‫سارع بالطالق‬
‫مرة من بيروت‪ ،‬يطمئنها على حاله‪ ،‬ويؤكد لها أنه لن يموت‪َّ .‬‬
‫وفكرت وأنا أسمعها‬ ‫ّ‬
‫تحكي معي َ‬
‫بك َبد‪ :‬إحساسها أنها فقدته إلى األبد‪ .‬األمر الذي أكده اختفاؤه المريب‪،‬‬
‫وأنه على «إيميالتي» ظل ال يجيب‪.‬‬
‫ح ّتى عاد مجددًا إلى حديث المنتحر‪:‬‬
‫يهم اسمي أو نسبي‪ .‬المهم أن جثماني اختفى حال موتي بسيف العزيز‪ .‬لتعلم أن‬
‫لن َّ‬
‫السيف سيصلك أنت ً‬
‫أيضا‪ ،‬وحال تغرسه في مكانه ال يُعثر لك على أثر‪ .‬أنا وثمانية‬
‫منتحرا قبلي نثبت لك ذلك بالدليل‪ .‬بوسعك أن تعرف إن سألت‪ ،‬فحدث واحد‬
‫ً‬ ‫عشر‬
‫ّ‬
‫كل خمسين سنة ال يلفت إليه األنظار الفانية‪ .‬أنت خائف ألنك لم توقن بعد أنك‬
‫أن ّ‬
‫كل شيء يحدث في تلك الغرفة الضيقة التي تظنُّها حياتك‪ ،‬بما‬ ‫الخالد الباقي‪ ،‬وال ّ‬
‫وشكك في وجودي وارتباكك من مشهد الجبل في ضوء عينيك‬ ‫َّ‬ ‫فيه تماثلي أمامك‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫يتجلى الضوء ثانية‪ ،‬حتى تموت‪ ،‬فيصير بصرك القدسي – كل شيء يحدث‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫– لن‬
‫يحدث لكي يؤدي إلى لحظة واحدة من سنة ‪( 2008‬هكذا مضى المنتحر يحدثني‬

‫‪279‬‬
‫يوسف رخا‬

‫يرج جسدي ويش ُّله تباعً ا‪ ،‬ال زلت أنكر وجوده إلى جواري فال‬
‫فيما كنت‪ ،‬برعب ُّ‬
‫ً‬
‫ضحكة‬ ‫أنظر إليه وأعافر بلهْ َوجة مع الكونتاكت حتى يدو َر المحرك‪ .‬ضحك المنتحر‬
‫ً‬
‫قصيرة ثم ّ‬
‫مد يده‪ ،‬ليريني البقعة التي يجب أن أغرس فيها سيف انتحاري‪.‬‬ ‫ً‬
‫واحدة‬
‫أجرب شي ًئا مثلها طول حياتي‪ .‬في‬
‫وشعرت إثر مالمسة إصبعه صدري بدغدغة لم ِّ‬
‫معرضة لالنتهاء‪ ،‬كأنها‬
‫المالمسة متعة‪ ،‬دون أن تنطوي على جهد أو غريزة أو تكون َّ‬
‫المرصع بكلتا يديك‪ ،‬وتكون صوّبت‬
‫َّ‬ ‫األورجازم)‪ .‬عليك أن تمسك المقبض الذهبي‬
‫طرف النصل إلى صدرك‪ ،‬تحت ثديك األيمن مباشرة ولكن على بعد مسافة عقلة‬
‫مرة واحدة‪،‬‬
‫إبهامك إلى اليمين‪ .‬عليك أن تميل كالقوس وتثبّت قدميك في األرض ثم‪ّ ،‬‬
‫تشد‪( .‬وما كاد يسحب يده حتى أنشد يقول‪:‬‬

‫لم أبدأ أفهم حتى اعتقدت أني فهمت‬


‫وصرت أرى األشياء كأنما بعيني بوذا‬
‫تلك الرسمة الطفولية الشاخصة بأحجام ضخمة‬
‫على الجدران الخارجية للمباني‬
‫كل شيء)‪.‬‬ ‫ترى من ِّ‬
‫كل شيء َّ‬

‫لعلهما ظ َّناني مصدومًا فيهما‪ ،‬أختي وخليلي‪ ،‬ألن موقفي بالسيف تلى اكتشافي لهما‬
‫في ظالم الحوش قبل ليلة واحدة بالتمام‪ ،‬حين دخلت حاف ًيا وكلوب الكاز في يدي‬
‫ساقي أختي كأنهما مرفوعتان على شيء واطئ تحت جلبابها المنحسر‪ ،‬وكانت‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ألجد‬
‫َّ‬
‫ممددة على ظهرها في األرض‪ ،‬فال أثر لنصفها األعلى من بعيد‪ ،‬تتأوه بحرقة كأنها‬
‫تنتحب‪ .‬عرفتهما‪ ،‬ساقيها‪( .‬هكذا واصل المنتحر بعدما أمرني بابتسامة فاترة أن أدير‬
‫المحرك‪ ،‬فانطلقت العربة فعلًا وإذا بصالح سالم كأنه يقول‪ :‬أنا أسوق بسرعة عالية‬
‫سنتمترا‪ .‬حين ينتهي‬
‫ً‬ ‫كي أخر َج من هذه المنطقة المظلمة‪ ،‬لك ِّني أظل سائ ًقا وال أتقدم‬
‫من كالمه‪ ،‬دون أن أدري‪ ،‬سيعود صالح سالم إلى طبيعته‪ ،‬وأعرف أني خرجت فعلًا‬
‫من البقعة التي التقيته فيها‪ ...‬ودون أن أدري ً‬
‫أيضا سيكون قد اختفى) فلم أتبين ما‬
‫يسندهما من أسفل حتى اقتربت وانحنيت‪ :‬كان خليلي يزحف على بطنه كالح َّية‬
‫ُ‬
‫شهقت فرفعها‪ ،‬رأيت فرج أختي‬ ‫ولما‬
‫ورأسه مدفون بينهما‪ ،‬كتفاه تحت الفخذين‪َّ .‬‬
‫ً‬
‫ومنتفشا في ضوء الكلوب‪ ،‬ولعاب خليلي يقطر من حوله‪ ،‬وقد علق‬ ‫محمرا‬
‫ًّ‬ ‫الحليق‬

‫‪280‬‬
‫المقامة الحاكمية أو المنتحر ‪20‬‬

‫تزوجا فعلًا دون أن‬


‫تزوجا! ثم استدرت‪ .‬لقد َّ‬
‫تزوجا‪َّ ،‬‬
‫بجذور الشعر‪ .‬صرخت فيهما‪َّ :‬‬
‫يعرف أبي بالواقعة‪ ...‬لكن كان عليهما أن ينتظرا سبع سنين بعد انتحاري المفاجئ‪.‬‬
‫سرهما الدفين‪.‬‬ ‫وسيظل في قلبيهما ٌّ‬
‫شك حتى يموتا بأن السبب هو ُّ‬ ‫ُّ‬

‫مرتدا إلى بداية حكايته‪ّ ،‬‬


‫حدث قال‪:‬‬ ‫ًّ‬ ‫ثم‬
‫كل زيارة‪،‬‬ ‫من أول يوم كنت قررت أن أؤجل األوضاع العائلية التي تنتظرني مع ّ‬
‫فتحجّ جت بأنّي ّ‬
‫أفضل االنفراد بأمّي وأبي وإخوتي بعد الفراق‪ .‬وأمضيت أسبوعً ا أتنقل‬
‫بين بارات الزمالك وقهاوي وسط البلد‪ ،‬أستعمل عربة أبي «الرينو» المركونة معظم‬
‫الوقت‪ ،‬بعدما كشف عليها الميكانيكي – وكان أداؤها يُعتمد عليه بشهادته وتجربة‬
‫أسبوع – حتى جاء في بالي أن أذهب وحدي إلى باب الفتوح فحدث ما حدث‪.‬‬
‫نسكن في مصر الجديدة‪ ،‬في عمارة بنيت أواخر الخمسينات‪ ،‬أيام عاش المنتحر‬
‫‪ 19‬في باب الفتوح‪ ،‬جن ًبا إلى جنب مع أبي الذي بلغ الخامسة والسبعين قبل سنة‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬هذا ما خطر لي أولًا‪ ،‬حتى ّ‬
‫تذكرت حكاية كانت تتردد بتنويعات مختلفة في‬
‫أتأكد من صحِّ تها‪ ،‬حكاية كانت أمي تنفيها بغضب َّ ّ‬
‫كلما فتحت معها‬ ‫العائلتين دون أن َّ‬
‫الموضوع‪ ،‬وأبي ينفي معرفته بها باقتضاب غريب عليه‪ :‬أن خالي فتحي‪ ،‬الوحيد بين‬
‫مرة‪ ،‬ألنه مات شابًّا‪ ،‬والمفروض أنه مات في حادثة س َّيارة‪،‬‬
‫إخوة أبوي الذي لم أره وال َّ‬
‫رغم أن الغموض المحيط بموته من النوع الذي يقترن بجرسة أو شيء يخيف‪ ،‬وليس‬
‫بشكل قاطع أنه انتحر‪ .‬كان خالي فتحي ضبط أبي وأ ِّمي معًا في وضع‬
‫ٍ‬ ‫ثم ما ينفي‬
‫ّ‬
‫مخل وهما بعد شابان ال تربطهما معرفة معلنة‪ ،‬بينما أبي صديقه الروح بالروح‪.‬‬
‫تأكد من خيانة صديقه وفجر أخته الصغرى‪،‬‬ ‫كمدا بعد أن َّ‬
‫هناك من يقول إنه مات ً‬
‫وهناك من يقول إنهما تخانقا فقتله أبي وع َّتمت العائلتان على الجريمة ألنهما قريبتان‬
‫وحريصتان على تجنُّب الفضائح‪ .‬لم أكن ِّ‬
‫متأك ًدا من الذكرى مئة في المئة‪ ،‬لكن ته َّيأ‬
‫تبخرت‬ ‫أيضا أني سمعت من يقول إن خالي فتحي رجل مبارك وإنه حين مات َّ‬ ‫لي ً‬
‫النبي‪ .‬ما‬
‫َّ‬ ‫ج َّثته‪ ،‬فصعدت مباشرة إلى السموات‪ ،‬فقد رفعها اهلل إليه كما رفع عيسى‬
‫ً‬
‫صغيرة‪ ،‬وأن قبرها‬ ‫ً‬
‫طفلة‬ ‫أكد ِّ‬
‫شكي أن َّ‬
‫جدتي ألمي فعلًا ماتت حين كانت أ ِّمي ال تزال‬
‫في األرض التي كان يملكها جدي بباب الفتوح‪( .‬لم أفلح خالل جولتي في الوصول إلى‬
‫قبر جدتي ألمي‪ ).‬الصراحة‪ :‬خفت‪ .‬وزاد الخوف في قلبي لدرجة أني لم أجرؤ على‬
‫ذكر أي شيء ألبي أو أ ِّمي‪ ،‬خالل أيامي الخمسة األخيرة في القاهرة‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫يوسف رخا‬

‫نسكن في مصر الجديدة‪ ،‬أقول‪ ،‬ومن أكثر األشياء التي كنت أفتقدها في إنكلترا‬
‫بد من المرور ولو على جزء منه في أي رحلة‬ ‫إحساس طريق صالح سالم الذي ال َّ‬
‫أعملها من أو إلى بيتنا بالعربة‪ :‬أنك فوق جسم الثعبان الذي يسعى على ظهر القاهرة‬
‫الشمال حيث نسكن إلى جزيرة الروضة المحاذية لمصر القديمة في‬ ‫كلها – من ّ‬ ‫ِّ‬
‫ً‬
‫بعيدا على الجانب المقابل‬ ‫الجنوب – وكأنّه عمود فقري قابل لالنخالع‪ ...‬أنا ركنت‬
‫عديت بحذر‪ ،‬ومددت الخطى‬ ‫من الشارع ناحية مطعم زيزو المشهور بالسجق‪ ،‬ثم َّ‬
‫أتفرج على المباني القديمة كأني عشت فيها أيام‬ ‫فلم أعد إال بعد ثالث ساعات‪ .‬كنت َّ‬
‫عزها‪ ،‬وأحسست بألفة عنيفة مع مكان لم أعرفه إال لمامًا‪.‬‬‫ِّ‬
‫َّ‬
‫المقطم‪ ،‬ثم لم يُر‬ ‫«ركب الحاكم ذات مساء في بعض جوالته الليلية‪ ،‬وقصد إلى جبل‬
‫بعد ذلك قط ال ح ًيا وال مي ًتا‪ ،‬ولم يعرف مصيره قط‪ ،‬ولم يوجد جثمانه قط‪ ،‬ولم تقدم إلينا‬
‫الروايات المعاصرة أو المتأخرة‪ ،‬أ َّية رواية حاسمة عن مصرعه أو اختفائه»‬
‫«الحاكم بأمر اهلل وأسرار الدعوة الفاطمية»‪ ،‬محمد عبد اهلل عنان ‪1983‬‬
‫مرت اآلن ثالثة أشهر وهناك ابتهاج زائد في عالقتي بحبيبتي‪ .‬كنت ّ‬
‫فكرت فيها‬ ‫ّ‬
‫ْ‬
‫حلمت برؤيتها منذ كانت طفلة في مدينة‬ ‫طويلًا ويدي تحتك بالجدران التي‬
‫السويداء‪ ،‬سوريا‪ ،‬وحتى بعدما جاءت إلى مانشستر مع أسرتها في الخامسة عشرة‬
‫(هي لم تزر مصر ً‬
‫أبدا مع أن حكاية الحاكم طبعًا حاضرة عندها‪ ،‬بالذات نهايته‪ :‬أنه‬
‫أثرا إال الجباب‬ ‫َّ‬
‫المقطم ولم يعد‪ ،‬ثم لم يجدوا له ً‬ ‫خرج بحماره ّ‬
‫يتطلع في النجوم على‬
‫السبع التي كان يلبسها‪ ،‬أزرارها لم تفك ومعكوكة بالدم‪ .‬كانت ملقاة في الخالء وقيل‬
‫تحت ماء بركة في حلوان)‪ .‬لكن إلى اآلن ما زلت أتج ّنب أي حديث معها عن زيارتي‬
‫األخيرة إلى القاهرة‪ .‬في البداية ما كان يخطر لي أن طلوع المنتحر ممكن أن يكون‬
‫أهم عندي من زواجنا‪ ،‬لكن مع الوقت – وبعد أن انتهيت من قراءة پي‪ -‬دي‪ -‬إف‬
‫َّ‬
‫مصطفى‪ ،‬بالذات – بقيت شبه متأكد أنه صار فعلًا أهم‪ .‬ما هالني – بعد ذكرى أو‬
‫متحمسا‪ ،‬لفكرة‬
‫ً‬ ‫اثنتين ألشياء لم تحدث لي أصلًا – أن أجدني مطمئ ًنا‪ ،‬إن لم أكن‬
‫قتل نفسي‪ ،‬بالضبط كما تنبأ المنتحر‪ .‬أول من أمس‪ ،‬في الذكرى السنوية الثانية‬
‫لقرارنا أن نسكن معًا من وراء أهلها‪ ،‬جاءتني حبيبتي بهد َّية لم أتوقعها منها بالذات‬
‫أبدا أن تفرحني إلى هذا الحد‪ .‬كنت مشغولًا أمام الكمبيوتر حين دخلت‬ ‫ولم أتوقع ً‬
‫الشقة‪ ،‬فرحبت بها دون أن أرفع عيني عن الشاشة وإذا بقطعة معدن مستطيل تلمع‬
‫وطوقت رأسي بذراعيها وفي يديها ما كاد‬
‫َّ‬ ‫أمام عيني‪ .‬هي تسحّ بت من وراء ظهري‬

‫‪282‬‬
‫المقامة الحاكمية أو المنتحر ‪20‬‬

‫يغمى علي حين نطقت اسمه‪ :‬سيف العزيز‪ .‬ثم وضعته على الطاولة تقول إن أباها‬
‫مصدق أنه كان ملك العزيز باهلل بالفعل‪ ،‬مردفة أن عمره ال يمكن أن يكون أكثر من‬
‫ألف عام بالقياس على الحالة الجيدة التي هو عليها‪ .‬كانت عثرت عليه في خزينة‬
‫أبيها وتوسّ لت إليه حتى أعطاه لها‪ ،‬فخبأته في كبوت عربتها حتى يوم عيدنا‪ .‬ببطء‬
‫وقربت‬ ‫ً‬
‫جديدا كأنما صنع أمس‪ّ .‬‬ ‫مددت يدي أرفعه من المقبض الذهبي المرصع وبدا‬
‫نظري من النصل فظهر لي أنه أمضى من أن يكون صنعه بشر‪ .‬سرحت قليلًا وبدا‬
‫وجه حبيبتي مالئكي الجمال حين أفاقتني سائلة‪ :‬أعجبك؟‬

‫فصل من رواية جديدة قيد االنجاز‬

‫‪283‬‬
‫المؤلفون‬

‫أحمد سعداوي‬
‫ولد في بغداد عام ‪ .1973‬روائي‪ ،‬وشاعر‪ ،‬ورسام‪ ،‬وصحفي عراقي‪ .‬عمل كاتب‬
‫ريبورتاج في العديد من الصحف والمجالت والمؤسسات الصحفية المحلية‪ .‬عمل‬
‫مراسلًا للبي بي سي في بغداد ‪ .2007-2005‬يعمل حال ًيا في كتابة األفالم الوثائقية‬
‫وإعداد البرامج التليفزيونية وكتابة السيناريو في بغداد‪ .‬ينشر عمو ًدًا ثقاف ًيا أسبوع ًيا‬
‫في صحيفة «الصباح الجديد» البغدادية‪ .‬له روايتان‪« :‬البلد الجميل» بغداد ‪2004‬‬
‫و»إنه يحلم‪ ،‬أو يلعب‪ ،‬أو يموت» عن دار المدى‪ ،‬دمشق ‪ .2008‬حاز الجائزة األولى في‬
‫فرع الرواية بمسابقة الصدى اإلماراتية بدبي ‪ 2005‬عن روايته «البلد الجميل»‪.‬‬

‫أحمد يماني‬
‫شاعر ومترجم مصري مقيم في مدريد‪ .‬مواليد القاهرة عام ‪ .1970‬حاصل على دبلوم‬
‫الدراسات العليا ‪ DEA‬من جامعة ‪ Complutense‬في مدريد عام ‪ .2008‬بدأ في‬
‫نشر قصائده منذ عام ‪ 1989‬في المجالت والجرائد األدبية في العالم العربي‪ .‬حصل‬
‫عام ‪ 1991‬على الجائزة األولى في مسابقة رامبو التي نظمتها مجلة «إبداع»‪ ،‬بذكرى‬
‫مرور مائة عام على وفاة الشاعر أرتور رامبو‪ .‬صدرت له أربعة دواوين شعرية‪:‬‬
‫«شوارع األبيض» ‪« ،1995‬تحت شجرة العائلة» ‪« 1998‬وردات في الرأس» عن دار‬
‫ميريت‪ ،‬القاهرة ‪« 2001‬أماكن خاطئة» ميريت‪ ،‬القاهرة ‪.2008‬‬

‫‪284‬‬
‫المؤلفون‬

‫إسالم سمحان‬
‫ولد في مدينة الزرقاء باألردن في ‪ 11‬يونيو ‪ .1981‬تلقى تعليمه في مدارس وجامعات‬
‫ومديرا للقسم الثقافي في جريدة «العرب اليوم» اليومية‪.‬‬
‫ً‬ ‫األردن‪ ،‬ويعمل حال ًيا محر ًرا‬
‫ٌ‬
‫تكفيرية‪ ،‬ولوحق‬ ‫ٌ‬
‫حملة‬ ‫أصدر أول ديوان عام ‪ 2008‬بعنوان «برشاقة ظل» ُ‬
‫وش ّنت عليه‬
‫أمن ًيا وقضائ ًيا بتهمة اإلساءة لألديان‪ .‬والشاعر ينتظر اآلن إما قبول االستئناف‪ ،‬أو تنفيذ‬
‫الحكم الصادر بحقه‪ ،‬وهو السجن لمدة عام وغرامة ‪ 15‬ألف دوالر أمريكي‪ .‬صدرت له‬
‫مجموعة شعرية باإليطالية بعنوان «لمن تحمل الوردة؟» ترجمها فالنتينا كولومبو‪.‬‬

‫باسم األنصار‬
‫ولد في ‪ 1970‬في بغداد‪ ،‬العراق‪ .‬حصل عام ‪ 1994‬على بكالوريوس إدارة أعمال من‬
‫الجامعة المستنصرية في بغداد‪ .‬بدأ نشر نتاجه األدبي منذ بدايات التسعينيات‬
‫في الصحف والمجالت العراقية والعربية‪ .‬صدرت له المسرحية الشعرية «رجل‬
‫الصفصاف» بغداد ‪ .1997‬وقد صدر ديوانه األول «ترانيم ابن آدم» في دمشق عام‬
‫‪ .2007‬يقيم في الدانمارك منذ العام ‪.1998‬‬

‫جمانة حداد‬
‫مواليد بيروت ‪ .1970‬شاعرة‪ ،‬ومترجمة‪ ،‬وصحافية لبنانية‪ .‬محررة القسم الثقافي‬
‫في جريدة «النهار» اللبنانية‪ ،‬ومديرة إدارية لجائزة البوكر العربية‪ .‬باإلضافة إلى‬
‫ذلك‪ ،‬رئيسة تحرير مجلة «جسد» المتخصصة في آداب الجسد وفنونه‪ .‬أصدرت‬
‫تسع مجموعات شعرية منذ العام ‪ .1995‬ولها في الترجمة‪« :‬لمسات الظل»‪،2002 ،‬‬
‫شعر‪ ،‬ايمانويل ميناردو‪ ،‬عن اإليطالية‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫«بيروت عندما كانت مجنونة»‪ ،2003 ،‬رواية‪« ،‬أنطونيو فيراري»‪ ،‬عن اإليطالية‪،‬‬
‫دار النهار للنشر‪ ،‬بيروت‪« .‬هناك حيث يشتعل النهر»‪« ،‬أنطولوجيا الشعر اللبناني‬
‫شاعرا‬
‫ً‬ ‫الحديث» باإلسبانية – «سيجيء الموت وستكون له عيناك‪ :‬مئة وخمسون‬
‫انتحروا في القرن العشرين»‪ ،2007 ،‬دار النهار للنشر والدار العربية للعلوم‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫نالت جائزة الصحافة العربية في دبي عام ‪.2006‬‬

‫‪285‬‬
‫المؤلفون‬

‫حسين العبري‬
‫كاتب وطبيب عماني‪ ،‬من مواليد ‪ .1972‬نشر ثالث روايات‪« :‬ديازيبام» ‪« ،2000‬الوخز»‬
‫‪ 2005‬و«المعلقة االخيرة» ‪ 2006‬عن دار االنتشار العربي في بيروت‪ ،‬باإلضافة الى‬
‫مجموعته القصصية التي نشرت عام ‪ 2003‬بعنوان «نوافذ وأغطية وأشياء أخرى»‪.‬‬
‫حاصل على وسام السلطان قابوس لألدب والفنون عام ‪.2007‬‬

‫حسين جلعاد‬
‫مواليد مدينة إربد ‪ -‬االردن عام ‪ .1970‬شاعر وصحفي أردني‪ ،‬يعمل محر ًرا صحف ًيا في‬
‫شبكة الجزيرة الفضائية في الدوحة ‪ -‬قطر‪ .‬عمل ساب ًقا محر ًرا ثقاف ًيا في صحيفتي‬
‫«العرب اليوم» و«الرأي» األردنيتين‪ .‬راسل عددًا من الصحف العربية مثل «القدس‬
‫عمان‬
‫العربي» في لندن‪ .‬صدر له‪« :‬العالي يصلب دائما» شعر عن دار أزمنة في ّ‬
‫‪« .1999‬كما يخسر األنبياء» شعر‪ ،‬عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‬
‫‪ .2007‬يكتب حال ًيا في صحيفة «النهار» اللبنانية‪.‬‬

‫ّ‬
‫الجزار‬ ‫حمدي‬
‫روائي وقاص مصري‪ .‬ولد عام ‪ 1970‬في القاهرة‪ .‬حصل على ليسانس اآلداب فى‬
‫«سحر أسود» عن دار‬
‫ْ‬ ‫الفلسفة من جامعة القاهرة ‪ ،1992‬صدرت روايته األولى‬
‫ميريت فى طبعتين‪ 2005 :‬و ‪2007‬وطبعة ثالثة عن دار الدار ‪ ،2007‬ونالت روايته‬
‫جائزة مؤسسة ساويرس لألدب المصري في الرواية عام ‪ ،2006‬ثم صدرت باإلنكليزية‬
‫عن مطبوعات الجامعة األميركية في القاهرة ‪ .2007‬في العام ‪ 2008‬صدرت روايته‬
‫الثانية عن دار الدار‪ُ .‬نشرت نصوصه في مجالت أدبية بارزة مثل «‪ »Banipal‬في‬
‫لندن‪ ،‬و «‪ »TriQuarterly‬في شيكاغو‪ .‬شارك حمدي الجزار فى برنامج الكتابة‬
‫الدولية « ‪ »International Writing Program‬بجامعة أيوا بالواليات المتحدة‬
‫األميركية‪ ،‬ونال زمالته ‪ .2007‬يعمل مشر فًا على مركز أبحاث القناة الثقافية‬
‫بالتليفزيون المصري‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫المؤلفون‬

‫ديمة و ّنوس‬
‫من مواليد دمشق ‪ ،1982‬درست األدب الفرنسي في جامعة دمشق‪ .‬كتبت في الصحافة‬
‫العربية مثل «السفير» و«األخبار» في بيروت‪ .‬لها مقاالت عديدة في المجالين‬
‫الثقافي والسياسي‪ .‬عملت ّ‬
‫عدة سنوات في مجال الترجمة اإلخبارية‪ .‬صدرت لها‬
‫مجموعة قصصية بعنوان «تفاصيل» في العام ‪ 2007‬عن دار المدى‪ .‬شاركت بكتابة‬
‫تعليق في الطبعة الجديدة لكتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» للمفكر صادق جالل العظم‪،‬‬
‫الذي أصدرته دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع في العام ‪ .2007‬في العام ‪ 2008‬صدرت‬
‫ومقد ً‬
‫مة للبرنامج‬ ‫ّ‬ ‫معد ًة‬
‫روايتها األولى «كرسي» عن دار اآلداب البيروتية‪ .‬تعمل حال ًّيا ّ‬
‫الثقافي «أضواء المدينة» في قناة «المشرق» الخاصة‪.‬‬

‫ربيع جابر‬
‫من مواليد بيروت ‪ .1972‬تخرج من الجامعة األمريكية عام ‪ 1993‬بدرجة بكالوريوس‬
‫علوم الفيزياء‪ .‬يعمل محرر الملحق الثقافي االسبوعي «آفاق» في جريدة الحياة منذ‬
‫سنة ‪ .2001‬صدرت روايته األولى «سيد العتمة» عام ‪ 1992‬وحصلت على جائزة مجلة‬
‫الناقد للرواية في ‪ .1992‬منذ ذلك الوقت أصدر ‪ 16‬رواية‪ ،‬منها «شاي أسود» ‪،1995‬‬
‫«رالف رزق اهلل في المرآة» ‪« ،1997‬يوسف اإلنجليزي» ‪« ،1999‬رحلة الغرناطي»‬
‫‪ 2002‬صدرت باأللمانية في برلين في ‪« .2005‬بيروت مدينة العالم» الجزء األول ‪.2003‬‬
‫«بيريتوس‪ :‬مدينة تحت األرض» ‪ 2005‬الترجمة الفرنسية صدرت في ‪ 2009‬عن دار‬
‫غاليمار‪ .‬بيروت مدينة العالم» الجزء الثاني ‪« .2005‬بيروت مدينة العالم» الجزء الثالث‬
‫‪« .2007‬االعترافات» ‪ 2008‬وروايته األخيرة صدرت عام ‪ 2009‬بعنوان «أميركا»‪.‬‬

‫رندا جرار‬
‫روائية‪ ،‬ومترجمة‪ ،‬وكاتبة قصص قصيرة تكتب باللغة اإلنكليزية‪ .‬من أصل فلسطيني‬
‫و لكن نشأت في الكويت ومصر وانتقلت الى الواليات المتحدة عام ‪ .1991‬حازت‬
‫كتاباتها القصصية على عدة جوائز‪ .‬روايتها األولى‪« :‬خارطة البيت» ‪ 2009‬صدرت‬
‫في ست لغات‪ ،‬ونالت الكثير من االهتمام ‪ ‬ومديح النقاد وحازت على جائزة هوبوود‪،‬‬
‫وجائزة غوزلينغ وجائزة الكتاب العرب األميركيين‪ .‬تعمل حال ًيا على رواية جديدة‬
‫ومجموعة قصص قصيرة‪.‬‬

‫‪287‬‬
‫المؤلفون‬

‫روزا ياسين حسن‬


‫ولدت في دمشق في العام ‪ .1974‬درست الهندسة المعمارية وتخرجت في العام ‪.1998‬‬
‫بدأت الكتابة في العام ‪ 1992‬وفازت لسنتين متتاليتين في مسابقات تقيمها الجامعة‬
‫للقصة القصيرة‪ .‬ثم نشرت أول مجموعة قصصية لها في العام ‪ 2000‬بعنوان «سماء‬
‫مل ّوثة بالضوء»‪ .‬فازت روايتها األولى «أبنوس» في العام ‪ 2004‬بجائزة «حنا مينه‬
‫للرواية» وصدرت الحقًا باأللمانية عام ‪ .2009‬صدرت روايتها الثانية «نيغاتيف»‪:‬‬
‫من ذاكرة المعتقالت السياسيات في العام ‪ 2008‬في القاهرة عن مركز القاهرة لحقوق‬
‫«حراس الهواء»‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان‪ .‬وعن دار رياض الريس في بيروت‪ ،‬صدرت روايتها الثالثة‬
‫‪.2009‬‬

‫زكي بيضون‬
‫ولد عام ‪ 1981‬في مدينة صور (لبنان)‪ ،‬حاصل على الماجستير في الفلسفة من‬
‫جامعة سان دينيس‪ ،‬في باريس ‪ .2007‬صدر له ديوانان‪ ،‬األول‪« :‬جندي عائد من‬
‫حرب البكالوريا» عن دار االنتشار العربي ‪ ،2002‬والثاني «ملعب من الوقت النائم»‬
‫عن دار النهضة البيروتية ‪ .2005‬وفي الرسم‪ ،‬أقام زكي بيضون معرضه األول عام‬
‫‪ 1995‬في مركز معروف سعد الثقافي في صيدا‪ ،‬والثاني في صالة «زيكو» في بيروت‬
‫عام ‪.2003‬‬

‫سامر أبو هواش‬


‫شاعر‪ ،‬وروائي‪ ،‬ومترجم فلسطيني‪ .‬ولد في صيدا بالجنوب اللبناني عام ‪ .1972‬يحمل‬
‫دبلو ًما في اإلعالم من الجامعة اللبنانية‪ .1996 ،‬أصدر منذ العام ‪ 1997‬ست مجموعات‬
‫شعرية وثالث روايات‪ .‬وفي الترجمة‪ ،‬قام بترجمة ثماني روايات منها «‪The Life‬‬
‫‪ »of Pi‬ليان مارتل ‪ »The Buddha of Suburbia« ،2004‬لحنيف قريشي ‪،2006‬‬
‫وترجم األعمال القصصية الكاملة لوليم فوكنر وصدرت عن دار اآلداب عام ‪.2009‬‬
‫يعمل منذ العام ‪ 2000‬على ترجمة الشعر األميركي‪ ،‬وقد صدرت ترجماته لخمسة‬
‫شاعرا أميرك ًيا في العام ‪ 2009‬باالشتراك بين مشروع كلمة ودار الجمل‪ .‬يعيش‬
‫ً‬ ‫عشر‬
‫منذ العام ‪ 2004‬في اإلمارات العربية المتحدة‪ ،‬حيث يعمل محر ًرا للكتب في هيئة‬
‫أبوظبي للثقافة والتراث‪.‬‬

‫‪288‬‬
‫المؤلفون‬

‫سمر يزبك‬
‫ولدت في مدينة جبلة عام ‪ .1970‬تعمل في مجال الصحافة والتليفزيون‪ .‬نشرت‬
‫مجموعتها القصصية األولى في دمشق عام ‪ 1999‬بعنوان «باقة خريف» ثم ألحقتها‬
‫بمجموعة أخرى بعنوان «مفردات امرأة» عام ‪ .2002‬ثم اتّجهت الى كتابة الرواية‬
‫فنشرت ثالث روايات‪« :‬طفلة السماء» ‪« ،2002‬صلصال» ‪ 2005‬و«رائحة القرفة»‬
‫عن دار اآلداب ‪ .2008‬روايتها الثانية «صلصال» نالت اهتماما إعالميا‪ ،‬وأعيد طبعها‬
‫أربع مرات‪ .‬وتكتب سمر يزبك‪ ،‬سيناريوهات ومسلسالت للتليفزيون‪.‬‬

‫الخصار‬
‫ّ‬ ‫عبد الرحيم‬
‫ولد في آسفي‪ ،‬المغرب عام ‪ .1975‬نشر قصائده في العديد من الصحف والمجالت‬
‫والمواقع اإللكترونية المهمة‪ .‬أصدر عام ‪ 2004‬مجموعته الشعرية األولى «أخيرا‬
‫وصل الشتاء» مع تنويه من بيت الشعر المغربي‪ .‬ثم «أنظر وأكتفي بالنظر»‪ ،‬عن دار‬
‫الحرف للنشر والتوزيع بالمغرب ‪ 2007‬و«نيران صديقة» عن دار النهضة بيروت‬
‫‪ .2009‬ترجمت قصائدة إلى عدة لغات‪ .‬يعمل مراسلًا ثقاف ًيا لعدة صحف عربية ويعمل‬
‫أستا ًذا في التعليم الثانوي منذ عام ‪.1999‬‬

‫عبد الرزاق بوكبة‬


‫من مواليد ‪ 1977‬بأوالد جحيش شرق الجزائر‪.‬حاصل على بكالوريا آداب عام ‪.1996‬‬
‫خف سيبويه في الرمل؟» وهي نصوص إبداعية عن المكتبة‬ ‫دس َّ‬ ‫أصدر‪« :‬من َّ‬
‫الوطنية الجزائرية ودار البرزخ ‪ .2004‬كما أصدر «أجنحة لمزاج الذئب األبيض»‬
‫نصوص إبداعية عن دار ألفا ‪ .2008‬عمل مستشارا للمكتبة الوطنية من ‪ 2003‬الى‬
‫‪ .2005‬حصل على جائزة رئيس الجمهورية للشعر عام ‪ 2007‬وعلى جائزة الكتابة‬
‫المسرحية عام ‪« .2009‬جلدة الظل» هي روايته األولى‪.‬‬

‫عبد العزيز الراشدي‬


‫روائي وقاص مغربي‪ .‬ولد في تالبرجت في المغرب عام ‪ .1978‬حاصل على إجازة‬
‫تخصص أدب عربي من جامعة ابن زهر كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بأغادير المغرب‪.‬‬
‫نشر في العام ‪ 2004‬أول مجموعة قصصية بعنوان «زقاق الموتى» تبعها بمجموعة‬

‫‪289‬‬
‫المؤلفون‬

‫أخرى عام ‪« 2005‬طفولة ضفدع» التي نال عنها جائزة اتحاد كتاب المغرب‪ .‬في‬
‫العام ‪ 2006‬صدرت في الشارقة روايته االولى «بدو على الحافة»‪ ،‬وأعيد نشرها‬
‫في بيروت وصدرت عن الدار العربية للعلوم‪ .2008 ،‬وله أيضا مجموعة قصصية‬
‫بعنوان «وجع الرمال»‪ ،‬نشرت في السعودية عام ‪ ،2007‬وآخر عمل له صدر عن‬
‫منشورات وزارة الثقافية المغربية بعنوان «غرباء على طاولتي» وهو عبارة عن‬
‫نصوص أدبية‪ .‬حصل على جائزة الرواية للعام ‪ 2006‬في الشارقة‪.‬‬

‫عبد القادر بن علي‬


‫ولد عبد القادر بن علي عام ‪ 1975‬في المغرب‪ ،‬وجاء الى هولندا وهو في‬
‫سن الخامسة‪ .‬وفي سن الحادية والعشرين كتب روايته األولى «زواج قرب‬
‫البحر»‪ 1996 ،‬التي تتحدث عن شاب هولندي من أصل مغربي يعود إلى بالده‬
‫الفار‪ .‬نالت الرواية جائزة «غيرتيان لوبرهويزن ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫للبحث عن عريس شقيقته‬
‫‪ .»Geertjan Lubberhuizen Prize‬كما حصل بن علي على جائزة «ليبريس‬
‫‪ »Libris Prize -‬لألدب عن روايته الثانية «المنتظر» التي نشرت عام ‪.2002‬‬
‫بعد ذلك ظهرت له روايتان‪« :‬ليكن الغد بخير‪Laat Het Morgen Mooi -‬‬
‫‪ »Weer Zun‬عام ‪ 2005‬و«فيلدمان وأنا‪ »Feldman en ik -‬عام ‪ .2006‬يكتب بن‬
‫علي ً‬
‫أيضا مسرحيات ومقاالت صحفية‪  .‬نشر في عام ‪ 2005‬وبالتعاون مع المؤرخ‬
‫هيرمان اوبديجين كتابه «المغرب بعيون هولندية ‪Marokko door 2005 -1650‬‬
‫‪. Netherlandse ogen 1605-2005‬‬

‫عبد اهلل الطايع‬


‫ولد في الرباط سنة ‪ ،1973‬وسط عائلة فقيرة‪ .‬عاش في مدينة سال ح ّتى سنة ‪.1998‬‬
‫مدة سنة في نيويورك‬ ‫درس األدب الفرنسي في جامعة محمد الخامس‪ ،‬كما درس ّ‬
‫في ‪ .Bard College‬صدرت معظم رواياته عن دار النشر الفرنسية المعروفة «لو‬
‫سوي»‪ .‬من بينها‪،2006 »L’armèe du salut« ،2005 »Le rouge de tarbouche« :‬‬
‫«‪ .2008 »Une mélancolie Arabe‬ترجمت أعماله إلى عدة لغات ورشحت‬
‫مرتين إلى جائزة « ‪ »Le prix Renaudot‬الفرنسية‪ .‬في سنة ‪ 2007‬كتب مع‬
‫السيناريست «‪ »Luis Gardel‬سيناريو فيلم «‪ .»La saniora‬عبد اهلل الطايع هو‬

‫‪290‬‬
‫المؤلفون‬

‫أول كاتب مغربي عربي يعلن عن مثليته الجنسية في كتبه وفي الصحافة واإلعالم‪.‬‬
‫يقيم في باريس منذ عشر سنوات‪.‬‬

‫عبداهلل ثابت‬
‫مواليد ‪ 1973‬بمدينة أبها‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪ ،‬حاصل على بكالوريوس في‬
‫اللغة العربية وآدابها من جامعة الملك خالد بأبها ‪ .1997‬بعد كتابه األول «النوبات»‬
‫وهو مجموعة نصوص أدبية صدرت في العام ‪ ،2005‬أصدر ثابت روايته األولى‬
‫الشهيرة «اإلرهابي ‪ »20‬عام ‪ 2006‬عن دار المدى‪ .‬ثم ألحقها بعملين شعريين هما‪:‬‬
‫«الهتك» دار طوى عام ‪ ،2008‬و«كتاب الوحشة» دار اآلداب ‪ -‬بيروت ‪ .2009‬يكتب‬
‫في صحيفة «الوطن» السعودية منذ العام ‪.2001‬‬

‫عدن ّية شبلي‬


‫كاتبة فلسطينية مواليد ‪ ،1974‬نشرت العديد من النصوص في دورية «الكرمل»‬
‫الصادرة في رام اهلل‪ ،‬ومجلة «اآلداب» البيروتية‪ ،‬ومجالت أخرى‪ ،‬وقد ترجمت‬
‫الكثير من هذه النصوص الى اإلنكليزية‪ ،‬والفرنسية‪ ،‬واأللمانية‪ .‬صدرت روايتها‬
‫األولى «مساس» عن دار اآلداب في بيروت في العام ‪ ،2002‬وروايتها الثانية» كلنا‬
‫بعيد بذات المقدار عن الحب»عن دار اآلداب أيضا‪ .‬وكانت هاتان الروايتان قد حازتا‬
‫في عامي ‪ 2001‬و ‪ 2003‬على جائزة الرواية ‪ -‬مسابقة الكاتب الشاب‪ ،‬المقدمة من‬
‫مؤسسة عبد المحسن ّ‬
‫القطان في فلسطين‪.‬‬

‫عالء حليحل‬
‫مولود في قرية الجش في الجليل األعلى ‪ ،1974‬وخريج مدرسة كتابة السيناريو في تل‬
‫أبيب ومقيم حاليًا في عكا‪ .‬أصدر رواية بعنوان «السيرك» و مجموعة قصصية بعنوان‬
‫«قصص ألوقات الحاجة»‪ .‬والكتابان حاصالن على جائزة مؤسسة ّ‬
‫القطان األدبية للعامين‬
‫‪ 2001‬و ‪ .2003‬كما له رواية «األب واالبن والروح التائهة عن دار العين في القاهرة‪ .‬عالء‬
‫كاتب مسرحي‪ ،‬كتب كاباريه «خبر عاجل» ومونودراما «دياب» و«الجندي المخلص‬
‫بالتأكيد» ومسرحيات لألطفال‪ .‬حازت مسرحيته «ح ْيضستان» على جائزة ّ‬
‫القطان‬
‫قصيرا بعنوان «هيا إلى الحمص»‪.‬‬
‫ً‬ ‫للمسرح في العام ‪ .2005‬كما أخرج فيل ًما‬

‫‪291‬‬
‫المؤلفون‬

‫فايزة غوين‬
‫كاتبة وسينمائية شابة‪ ،‬فرنسية من أصل جزائري‪ ،‬ولدت في منطقة بوبيني في‬
‫ضواحي باريس عام ‪ .1985‬عُ رفت من خالل روايتيها «غدًا كيف كيف» التي أصدرت‬
‫عام ‪ 2004‬و هي في التاسعة عشر من عمرها وترجمت إلى ‪ 22‬لغة ورواية وكذلك‬
‫روايتها «حلم من أجل البيض»‪ .‬وقد أخرجت عدة أفالم قصيرة‪ ،‬من ضمنها «ال‬
‫شيء سوى الكلمات» عام ‪ .2004‬ترعرعت فايزة غوين في منطقة بانتان شمال شرق‬
‫باريس‪ ،‬ودرست علم االجتماع في جامعة باريس الثامنة‪ ،‬قبل أن تكرس كل وقتها‬
‫للكتابة وإخراج األفالم‪.‬‬

‫كمال الرياحي‬
‫من مواليد قرية «المنافيخ» من الشمال الغربي التونسي‪ .1974 ،‬حاصل على أستاذيّة‬
‫اللغة العربية وآدابها من المعهد العالي ُللغات الح ّية سنة ‪ ،2001‬مع شهائد تكميلية‬
‫في ّ‬
‫في السينما وعلوم التربية والجغرافيا عند العرب‪ .‬صدر له «نوارس ّ‬
‫الذاكرة»‪ ،‬قصص‬
‫‪« ،1999‬سرق وجهي»‪ ،‬قصص وشعر ‪ .2001‬ترجمت بعض هذه القصص إلى الفرنسية‪.‬‬
‫في العام ‪ 2006‬صدرت روايته األولى «المشرط» التي حصلت على جائزة الكومار‬
‫الذهبي ألحسن رواية تونسية لسنة ‪ .2007‬لكمال الرياحي العديد من الدراسات‬
‫النقدية في األدب والفلسفة‪.‬‬

‫محمد حسن علوان‬


‫وقاص وشاعر وكاتب مقالة سعودي‪ .‬ولد في أغسطس عام ‪ 1979‬في مدينة‬
‫ّ‬ ‫روائي‬
‫الرياض‪ .‬حاصل على درجة البكالوريوس في نظم معلومات الحاسب اآللي من جامعة‬
‫الملك سعود‪.‬‬
‫أثناء دراسته الجامعية بدأ كتابة روايته األولى «سقف الكفاية» التي نشرت في‬
‫بيروت عام ‪ ،2002‬بعد أن ّ‬
‫تعذر نشرها داخل السعودية ألسباب رقابية‪ ،‬وقد أثارت‬
‫الرواية التي تتحدث عن قصة حب حميمة وحزينة بين شاب وفتاة في قلب‬
‫مدينة الرياض المحافظة‪ ،‬جدلًا واهتما ًما كبيرين في المشهد الروائي السعودي‪،‬‬
‫وكتب عن الرواية نقا ٌد سعوديون كبار مثل الدكتور عبداهلل الغذامي‪ ،‬والدكتور‬
‫معجب الزهراني‪ ،‬والناقد محمد العباس وغيرهم‪ ،‬ون ّوهوا بلغتها وجرأتها‪ .‬بعدها‬

‫‪292‬‬
‫المؤلفون‬

‫نشر روايته الثانية «صوفيا»‪ ،‬دار الساقي بيروت ‪ 2004‬وأخيرا رواية «طوق‬
‫الطهارة» عام ‪ 2007‬عن دار الساقي أيضا‪.‬‬

‫محمد صالح العزب‬


‫مواليد القاهرة ‪ 19‬سبتمبر ‪ .1981‬منذ العام ‪ ،2003‬أصدر أربع روايات ومجموعة‬
‫قصصية واحدة‪ .‬طبعت روايتية «وقوف متكرر» و«سرير الرجل اإليطالي» أربع‬
‫طبعات‪ ،‬األولى عن دار الشروق والثانية عن دار ميريت‪ .‬حصل على جوائز أدبية عدة‬
‫منها‪ ،‬جائزة سعاد الصباح في الرواية – الكويت ‪ ،2002‬وجائزة الصدى للمبدعين في‬
‫المجموعة القصصية – اإلمارات – ‪ ،2004‬وجائزة المجلس األعلى للثقافة – مصر‪ -‬في‬
‫«مرتين»‪ 1999 :‬و‪ ،2004‬جائزة المجلس األعلى للثقافة للرواية عام ‪.2004‬‬
‫القصة ّ‬
‫ّ‬

‫منصور الصويم‬
‫كاتب سوداني من مواليد والية جنوب دارفور ‪ .1970‬صدرت روايته االولى «تخوم‬
‫الرماد» عام ‪ ،2001‬ثم أصدر مجموعة قصصية «نبض راعش» عام ‪ 2004‬باللغتين‬
‫العربية والفرنسية‪ ،‬عن المركز الثقافي الفرنسي في السودان‪ .‬حصلت روايته‬
‫الثانية «ذاكرة شرير» على جائزة الطيب صالح لإلبداع الروائي عام ‪ .2005‬يقيم‬
‫ويعمل في السودان‪.‬‬

‫منصورة عز الدين‬
‫كاتبة مصرية من مواليد ‪ ،1976‬درست الصحافة واإلعالم بكلية اإلعالم بجامعة‬
‫القاهرة‪ .‬بدأت نشر قصصها القصيرة فى الصحف والمجالت المصرية والعربية وهي‬
‫في سن العشرين‪ .‬نشرت أول مجموعة قصصية عام ‪ 2001‬بعنوان «ضوء مهتز»‬
‫عن دار ميريت بالقاهرة‪ ،‬وترجمت العديد من قصص المجموعة إلى اإلنكليزية‪،‬‬
‫واإليطالية‪ ،‬والفرنسية‪ ،‬والسلوفينية‪ .‬صدرت روايتها األولى «متاهة مريم» عام ‪2004‬‬
‫عن دار ميريت‪ ،‬وصدر منها حتى اآلن ثالث طبعات بينها طبعة شعبية عن «مكتبة‬
‫األسرة»‪ ،‬كما صدرت باإلنكليزية عن منشورات الجامعة األميركية‪ ،‬القاهرة ‪.2007‬‬
‫روايتها الثانية «وراء الفردوس» صدرت عن دار العين القاهرة ‪.2009‬‬

‫‪293‬‬
‫المؤلفون‬

‫ناظم السيد‬
‫ولد عام ‪ 1975‬في بلدة بنت جبيل (جنوب لبنان)‪ ،‬يعمل في الصحافة منذ العام‬
‫‪ 1996‬حيث كتب في العديد من الصحف والمجالت منها «السفير»‪« ،‬ملحق النهار‬
‫«الحرة»‬
‫ّ‬ ‫الثقافي»‪« ،‬الحياة» و»النهار»‪ ،‬ويعمل ً‬
‫أيضا في برامج ثقافية لصالح قناة‬
‫األميركية‪ .‬أحد مؤسسي ومنظمي اللقاء الشعري األسبوعي في حانة «جدل بيزنطي»‬
‫البيروتية‪ .‬مراسل القسم الثقافي في صحيفة «القدس العربي» في لندن منذ مطلع‬
‫العام ‪( 2007‬من بيروت)‪ .‬أصدر ثالث مجموعات شعرية «برتقالة مقشرة من الداخل»‬
‫منشورات اآلن – بيروت ‪« . 2002‬العين األخيرة» دار مختارات – بيروت ‪2003‬‬
‫‪« .‬أرض معزولة بالنوم»‪ ،‬رياض الريس للكتب والنشر‪ .7002 -‬نشرت قصائده في‬
‫أنطولوجيات باإلسبانية‪ ،‬واإلنكليزية‪ ،‬والفرنسية‪ ،‬واأللمانية‪.‬‬

‫نجاة علي‬
‫تخرجت من قسم اللغة العربية وآدابها‪،‬‬
‫شاعرة مصرية من مواليد القاهرة ‪ّ .1975‬‬
‫وحاصلة على الماجستير بدرجة امتياز عن‪« :‬المفارقة في قصص يوسف إدريس‬
‫القصيرة» من قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة‪ .2006 ،‬صدر لها ديوانان «كائن‬
‫خرافي غايته الثرثرة»‪ ،‬القاهرة ‪« ،2002‬حائط مشقوق» القاهرة ‪ ،2005‬حصل على‬
‫جائزة أفضل ديوان شعر عن وزارة الثقافة المصرية ‪.8991‬‬

‫نجوى بنشتوان‬
‫قاصة وروائية ليبية‪ ،‬من مواليد ‪ .1970‬أول إصدار لها كان «مسرحية المعطف»‬
‫التي شاركت بها في مهرجان الشارقة لإلبداع العربي عام ‪ ،2003‬ونالت الترتيب‬
‫الثالث وقد صدرت عن وزارة اإلعالم والثقافة اإلماراتية‪ .‬كما صدرت لها مجموعة‬
‫قصصية بعنوان «قصص ليست للرجال» عن دار الحضارة العربية‪ ،‬القاهرة ‪2003‬‬
‫ورواية «وبر األحصنة» عن دار الحضارة العربية‪ ،‬القاهرة ‪ 2005‬ثم مجموعة قصصية‬
‫بعنوان «طفل الواو» عن مجلس الثقافة العام‪ ،‬ليبيا ‪ 2006‬ورواية «مضمون برتقالي»‬
‫عن دار شرقيات‪ ،‬القاهرة ‪ 2007‬كما نشرت في العام ‪ 2008‬مجموعة قصصية بعنوان‬
‫«الملكة» وصدرت عن مجلس الثقافة العام‪ ،‬ليبيا‪.‬‬

‫‪294‬‬
‫المؤلفون‬

‫نجوان درويش‬
‫مواليد القدس‪ ،‬فلسطين ‪ ،1978‬صدرت مجموعته الشعرية األولى «كان ّ‬
‫يدق الباب‬
‫األخير» عام ‪ .2000‬رئيس تحرير مجلة «من وإلى»‪ ،‬وكاتب في القسم الثقافي لجريدة‬
‫«األخبار» اللبنانية‪ .‬ظهر شعره في أنطولوجيات مختلفة‪ ،‬كانت آخرها «القصيدة‬
‫الفلسطينية المعاصرة» ‪ -‬منشورات «لوتايي بريه» بلجيكا ‪ ،2008‬و»لغة لقرن‬
‫جديد» منشورات نورتون‪ ،‬نيويورك ‪ .2008‬شارك في تأسيس وتنفيذ مشاريع مختلفة‬
‫في اإلعالم الثقافي والفنون البصرية‪ ،‬من بينها‪« :‬القدس في المنفى»‪ ،‬مجلة «رؤى‬
‫جانبية»‪ ،‬مشروع «مسارات» سنة فلسطين الثقافية والفنية في بلجيكا‪« ،‬أن تكون‬
‫بلجيك ًيا» برنامج للك ّتاب يبحث في موضوعة الهوية‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫هالة كوثراني‬
‫ولدت في بيروت أغسطس عام ‪ .1977‬درست العلوم السياسية واألدب العربي في‬
‫الجامعة األميركية في بيروت‪ .‬تعمل على إنهاء رسالة الماجستير في األدب العربي‬
‫بالجامعة نفسها‪ .‬تعمل حال ًيا مديرة تحرير مجلة «لها» التابعة لجريدة «الحياة»‬
‫البيروتية‪ .‬أصدرت روايتي «األسبوع األخير»‪ 2006 ،‬و«استديو بيروت» ‪ 2008‬عن‬
‫قص ًة قصير ًة في مجلة «لها» منذ عام ‪.2000‬‬
‫دار الساقي‪ .‬تنشر أسبوع ًيا ّ‬

‫هيام يارد‬
‫ولدت سنة ‪ 1975‬في بيروت‪ ،‬حيث أكملت تعليمها في جامعة القديس يوسف‬
‫باكرا‪ ،‬ولكنها شرعت في النشر منذ سنة ‪ .2001‬شاعرة‬
‫ً‬ ‫ببيروت‪ .‬بدأت الكتابة‬
‫وقاصة‪ ،‬نشرت مجموعتين شعريتين عن دار النهار‪ .‬األولى‪« ،‬انعكاسات القمر»‬
‫ظهرت سنة ‪ ،2001‬الثانية «جراحات الماء»‪ ،‬وصدرت سنة ‪ ،2004‬وقدم لها الشاعر‬
‫صالح ستيتية‪ ،‬وقد أتاحت لها هذه المجموعة المشاركة في عديد من التظاهرات‬
‫األدبية‪ ،‬خصوصا في البرتغال‪ ،‬والمكسيك‪ ،‬والسويد‪ .‬روايتها «خزانة األشباح» نالت‬
‫جائزة فرنسا‪-‬لبنان‪ ،‬وأتاحت لها دعوات كثيرة‪ ،‬ومن بينها دعوة من قناة فرانس‬
‫‪ 3‬للمشاركة في برنامج أدبي يعده أوليفيي باروت‪ .‬فازت بجائزة فيال مرغريت‬
‫يورسينار ‪ Villa Margeurite Yourcenar Prize‬ونالت منحة «ديل دوكا» التي‬
‫تقدمها األكاديمية الفرنسية‪ .‬روايتها األخيرة «تحت العريش»‪ ،‬ظهرت في أكتوبر‬

‫‪295‬‬
‫المؤلفون‬

‫‪ ،2009‬وتتناول قضية االنتقال بين أجيال مختلفة‪ .‬تقيم حاليًا في بيروت‪ ،‬مع بناتها‬
‫ٌ‬
‫منصرفة للكتابة‪.‬‬ ‫الثالث‪ ،‬وهي‬

‫وجدي األهدل‬
‫الحديدة ‪ .1973‬بدأ‬
‫روائي‪ ،‬وقاص‪ ،‬وكاتب مسرحي من اليمن‪ ،‬ولد في محافظة ُ‬
‫بنشر أعماله األدبية في الصحف والمجالت منذ عام ‪ .1995‬اختير أفضل قاص يمني‬
‫في االستفتاء الثقافي السنوي الذي أجرته صحيفة الجمهورية في األعوام ‪،1997‬‬
‫‪ .1999 ،1998‬صودرت روايته األولى «قوارب جبلية» عام ‪ ،2002‬وأغلق مركز عبادي‬
‫للدراسات والنشر الذي نشر الرواية‪ ،‬وأحيل الكاتب إلى النيابة العامة للتحقيق‬
‫معه‪ .‬وعقب حملة تكفيريّة في خطب الجمعة من قبل أئمة المساجد‪ ،‬اضطر الكاتب‬
‫إلى مغادرة البالد‪ .‬وقد استمرت محاكمته غياب ًيا‪ .‬وفي ديسمبر من العام نفسه‬
‫توسط الروائي األلماني غونتر غراس لدى رئيس الجمهورية‪ ،‬وطالب بعودة الروائي‪،‬‬
‫ّ‬
‫وإسقاط الدعوى القضائية المرفوعة ضده‪ ،‬وقد استجاب رئيس الجمهورية لوساطة‬
‫غونتر غراس‪ ،‬وأمر بإغالق ملف القضية‪ ،‬والسماح للكاتب بالعودة إلى وطنه‪ .‬أصدر‬
‫أربع مجموعات قصصية وأربع روايات‪ .‬روايته «فيلسوف الكرنتينة» اختيرت في‬
‫القائمة الطويلة في جائزة البوكر للرواية العربية في دورتها األولى ‪ .2007‬حصل‬
‫على عدة جوائز أدبية محلية‪.‬‬

‫ياسين عدنان‬
‫شاعر‪ ،‬وقاص‪ ،‬وإعالمي مغربي من مراكش‪ .‬ولد سنة ‪ 1970‬بمدينة آسفي‪ .‬حاصل‬
‫على إجازة في األدب اإلنكليزي من جامعة القاضي عياض بمراكش‪ ،‬ودبلوم كلية علوم‬
‫التربية من جامعة محمد الخامس بالرباط‪ ،‬وشهادة من جامعة أوريغن األميركية في‬
‫تخصص تدريس مهارات التفكير النقدي‪ .‬يشتغل في الصحافة الثقافية العربية منذ‬
‫عقدين تقري ًبا‪ .‬يعد ويقدم منذ أربع سنوات البرنامج الثقافي األسبوعي «مشارف» الذي‬
‫يبثه التليفزيون المغربي على قناتي «األولى» و«المغربية»‪.‬أصدر ثالث مجموعات‬
‫ً‬
‫مشتركا عن مدينة مراكش مع مواطنه‬ ‫قصصية وثالث مجموعات شعرية‪ ،‬وكتابًا‬
‫سعد سرحان‪ .‬حصل على عدة جوائز أدبية منها «جائزة مفدي زكريا المغاربية‬
‫للشعر»‪ ،‬الجزائر ‪ ،1991‬وجائزة اتحاد كتاب المغرب لألدباء الشباب‪ ،‬البيضاء ‪،1999‬‬

‫‪296‬‬
‫المؤلفون‬

‫وجائزة بلند الحيدري للشعراء العرب الشباب‪ ،‬أصيلة ‪.2003‬‬

‫يحيى امقاسم‬
‫مواليد‪ ‬وادي الحسيني ‪ -‬جازان‪ ،‬جنوب غرب السعودية‪ .1971 ‬حصل على بكالوريوس‬
‫في القانون من جامعة الملك سعود ‪ .1998‬أصدر مجموعة قصصية بعنوان «المخش»‬
‫عن‪ -‬الكنوز األدبية ‪ -‬بيروت ‪ ،2000‬و«قصص من السعودية» عن ‪ -‬وزارة الثقافة‬
‫اليمينة ‪ -‬صنعاء ‪ ،2004‬و«ساق الغراب (الهربة)» عن ‪ -‬دار اآلداب ‪ -‬بيروت‪.2008 ‬‬
‫يعمل‪ ‬حاليًا في الشؤون الثقافية‪ ‬بالمكتب الثقافي السعودي في باريس‪.‬‬

‫يوسف رخا‬
‫مواليد القاهرة ‪ ،1976‬حاصل على بكالوريوس في الفلسفة من جامعة ِهل ‪.1998‬‬
‫يكتب بالعربية واإلنكليزية‪ .‬عين في جريدة «‪ »Al-Ahram Weekly‬من عام ‪1980‬‬
‫و يعمل حاليًا فيها محرر ثقافي باإلنكليزية‪ . .‬عمل لمدة سنة كاتب تحقيقات في‬
‫جريدة «‪ »The National‬في أبو ظبي‪ .‬في العام ‪ 1999‬أصدر أول مجموعة قصصية له‬
‫بعنوان «أظهار شمس» عن دار شرقيات‪ .‬ثم اشتهر يوسف رخا بكتابة أدب الرحالت‪،‬‬
‫حين أصدر «بيروت شي محل» عن منشورات أمكنة عام ‪ ،2006‬ثم «بورقيبة على‬
‫مضض» عن دار رياض الريس عام ‪ ،2008‬وأخيرا «شمال القاهرة غرب الفلبين»‬
‫عن رياض الريس أيضا‪.2009 ،‬‬

‫‪297‬‬
‫المترجمون‬

‫د‪ .‬أميرة نويرة‬


‫أميرة نويرة هي أستاذة األدب اإلنكليزي في قسم اللغة اإلنكليزية بكلية اآلداب جامعة‬
‫اإلسكندرية ورئيسة القسم ساب ًقا‪ .‬حصلت على درجة الدكتوراه من قسم اللغة‬
‫اإلنكليزية بجامعة برمنجهام بالمملكة المتحدة‪ ،‬ولها العديد من الدراسات النقدية‬
‫وأعمال الترجمة والكتابة اإلبداعية‪ .‬تشمل اهتماماتها األدب اإلنكليزي والعربي‬
‫والمقارن وكتابات المرأة‪ .‬ترجمت إلى العربية كتاب سوزان باسنت «األدب المقارن‪:‬‬
‫مقدمة نقدية» في ‪ 1999‬وإلى اإلنكليزية (باالشتراك مع عزة الخولي) رواية إقبال‬
‫قزويني «ممرات السكون» في ‪ ،2008‬كما شاركت في تحرير كتاب «المرأة تكتب‬
‫إفريقيا ‪ -‬منطقة إفريقيا الشمالية» الذي أصدرته ‪ Feminist Press‬في ‪.2009‬‬

‫جماعة زهرة الصبار‬


‫جماعة زهرة الصبار مؤسسة ثقافية بلجيكية تعنى باآلداب والفنون العربية‬
‫والبلجيكية‪ .‬سبق وأن ترجمت المؤسسة للعديد من الشعراء ُ‬
‫والكتاب البلجيكين‪،‬‬
‫منهم‪ :‬ايفا كوكس‪ ،‬بول هوسته‪ ،‬رشيدة لمرابط و حازم كمال الدين‪.‬‬

‫د‪ .‬سحر سعيد‬


‫طبيبة سورية درست الطب في جامعة دمشق ثم أمراض المفاصل والروماتيزم في‬
‫جامعة رينيه ديكارت في باريس– فرنسا‪ .‬لها اهتمامات ثقافية عديدة وهي أمينة‬
‫سر جمعية المنتدى االجتماعي الثقافية في دمشق‪ .‬باإلضافة إلى عملها في عيادتها‪،‬‬

‫‪298‬‬
‫المترجمون‬

‫تزاول الترجمة من اللغة الفرنسية إلى العربية‪ ،‬وقد ترجمت العديد من الكتب في‬
‫مجال األدب والفلسفة والسياسة والعلوم االجتماعية‪ ،‬والعديد من المقاالت الطبية‬
‫والعلمية والدراسات االجتماعية‪.‬‬

‫محمد المزديوي‬
‫محمد المزديوي كاتب وصحفي ومترجم من الريف المغربي‪ ،‬مواليد ‪ ،1964‬مقيم‬
‫في باريس منذ أكثر من عشرين سنة‪ .‬بعد دراسات في األدب العربي في السوربون‪،‬‬
‫كرس وقته للعمل الصحفي والترجمة والسفر‪.‬‬
‫ّ‬
‫من ترجماته العديدة‪« :‬األمير الصغير» لسانت إيكزوبيري‪ ،‬دار الجمل ‪،2000‬‬
‫و»حراكة» للماحي بينبين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫«المتمردة» لمليكة مقدم‪ ،‬المركز الثقافي العربي ‪،2002‬‬
‫دار الجمل ‪« ،)2003‬احتمال جزيرة» لميشيل ويلبيك‪ ،‬دار الجمل ‪ ،2007‬و«مقهى‬
‫الشباب الضائع» لباتريك موديانو‪ ،‬دار مقاليد ‪.2009‬‬
‫كما أنه أصدر مجموعتين قصصيتين‪« :‬أحالم الهدهد»‪ ،‬دار جلجامش ‪ ،1995‬و«غرق‬
‫القبيلة»‪ ،‬وزارة الثقافة المغربية ‪ ،2000‬ويكاتب العديد من الصحف والمجالت العربية‬
‫من بينها صحيفتا «الشرق األوسط» و«العرب»‪.‬‬
‫من الكتب التي ترجمتها «اإلسالم السياسي في زمن القاعدة ‪L'Islamisme a l'heure‬‬
‫‪ »d'Al-Qaida‬للباحث الفرنسي فرانسوا بورغا ‪ ،François Burgat‬وسلسلة كتب‬
‫للكاتبة الفرنسية فرد فارغاس ‪.Fred Vargas‬‬

‫‪299‬‬
‫شكر وتقدير‬

‫والح ّكام والمؤلفين‬


‫ُ‬ ‫يتوجه بالشكر لمهرجان “هاي فيستيفال”‬
‫ّ‬ ‫يو ّد الناشر أن‬
‫ّ‬
‫نتقدم بالشكر‬ ‫والمترجمين والمحرر ّ‬
‫وكل من ساهم في جعل هذا الكتاب واق ًعا‪ .‬كما‬
‫لراكيل فسيدو وكريستينا فوينتس من مؤسسة «هاي فيستيفال» اللتين كانتا على‬
‫ونخص بالشكر أندي سمارت‪ ،‬جيهان مرعي‪ ،‬صفاء‬
‫ّ‬ ‫دائم االستعداد لمد يد المساعدة‪.‬‬
‫ونتوجه بخالص‬
‫ّ‬ ‫مريش‪ ،‬ومريم السبيعي لعملهم على تنسيق وإخراج هذا الكتاب‪.‬‬
‫الشكر واالمتنان للكاتب محمد هديب‪ ،‬الذي قام بالمراجعة اللغوية للنصوص العربية‪.‬‬
‫آخرا‪ ،‬نتوجه بالشكر الجزيل إلى الناشرين األصلييين لسماحهم‬ ‫ً‬ ‫وأخيرا وليس‬
‫ً‬
‫باستخدام النصوص المنشورة ساب ًقا‪.‬‬

‫‪300‬‬

You might also like