You are on page 1of 18

‫قراءة جديدة في شعر الزبيري )‪(1‬‬

‫)الرؤى والسياقات(‬

‫د‪.‬عبد العزيز الحاج مصطفى كلية التربية جامعة ‪-‬ذمار‬

‫عدّ المرحوم محمد محمود الزبيري المولود في صنعاء سنة ‪ 1360‬هـ ‪،‬‬
‫يُ َ‬
‫والموافق ‪1918‬م أحد الشعراء الحيائيين الكبار في اليمن‪ ،‬الذين مثلوا امتدادا ً‬
‫متجددا ً للشعر العربي في عهد فحولته)‪ ، (1‬وأحد المناضلين العلم الذين‬
‫قدموا أرواحهم فداءا ً لوطانهم ‪ .‬وقد اكتسب لقب أبي الحرار بجدارة ؛ بما‬
‫قدمه لوطنه من تضحيات هائلة‪ ،‬وبما سّنه للحرار من بعده من سنن خالدة ‪،‬‬
‫ل تزال كالمصابيح تضيء طريقهم ‪.‬وقد جاءت سنوات عمره القصيرة نسبيا ً ‪،‬‬
‫وقد بلغت سبعة وأربعين عاما ً حافلة بالعطاء وقد حكت كل دقيقة منها دقات‬
‫قلب ماعرف الراحة أو السكون لحظة ‪ ،‬إلى أن سكن سكونه الخير في الحادي‬
‫والثلثين من مارس ‪ /‬آذار سنة ‪ 1965‬م )‪ (2‬بفعل رصاصات غادرة ‪ ،‬وقد كان‬
‫يؤدي واجبه الوطني في إصلح ذات البين ‪ ،‬بعد أن كادت المحنة تحيق باليمن‬
‫في ذلك الظرف الصعب ‪ ،‬مما ألب عليه المناوئين والشانئين من أنصار العهد‬
‫البائد ‪ .‬فدفع حياته ثمنا ً لمناوأتهم والخذ على أيديهم ‪.‬وقد جاء شعره على‬
‫سياقات ثلثة ‪ ،‬مّثل كل سياق فيها مرحلة من مراحل حياته ‪ .‬وهذه السياقات‬
‫هي ‪:‬‬

‫‪ -1‬سياق النشأة والتكوين ‪:‬‬

‫وقد تمّيز هذا السياق بميزة خاصة ؛ تكونت فيها شخصيته ‪ ،‬ونضجت ثقافته‪،‬‬
‫وأصبح فيها على سنن لحب من الستقامة والعدل في شخصه‪ ،‬وفي سلوكه ‪،‬‬
‫ة ‪ ،‬في مواجهة‬ ‫وفي تعامله مع قضايا مجتمعه ‪ ،‬بما عرف عنه من مواقف ثابت ٍ‬
‫ذ ‪ .‬وصورة ذلك يرويها الشاعر نفسه ‪ .‬يقول ‪)) :‬حينما‬ ‫النظام القائم حينئ ٍ‬
‫قدمت إلى اليمن من مصر حوالى عام ‪ 1941‬م ‪ ،‬انهالت علي نصائح الصدقاء‬
‫والقرباء ‪ ،‬بأن ألزم الصمت والخمول ‪ ،‬وأغض الطرف عن كل ما ألقاه من‬
‫شرور ‪ ،‬وأعتكف في عقر داري ‪ ،‬ول أتحرك منه إل إلى )المقام الشريف( أو‬
‫أنصار المقام الشريف ‪ .‬وقيل لي ‪ :‬إذا أردت أن تعيش سعيدا ً مع أهلك‪ ،‬وأن‬
‫تنال المرّتب والوظيفة فلبد أن تّتبع هذه التعاليم ‪ ،‬أما إذا رفضت هذه التعاليم‬
‫ده على ذلك العرض‬ ‫فل تنتظر غير بليا ورزايا ومحنا ً متلحقة‪ (3).‬وقد كان ر ّ‬
‫استعلء واستخفافا ً بأولئك الذين ليسوا أكثر من دود في القبور ‪ ،‬أو من حملة‬
‫نير الستعباد ‪ ،‬أو دون ذلك ممن خلق الله الذين من وجهة نظره ليسوا أكثر‬
‫طا من الحمير ‪ .‬جاء ذلك في قصيدته التي أنشأها تحت عنوان مصرع ضمير ‪،‬‬ ‫خ ّ‬
‫والتي من أبياتها ‪(4):‬‬

‫عك يا ضمير‬ ‫ضلو ِ‬ ‫مت في ُ‬ ‫ُ‬


‫ن حياَتك في السعير‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ف‬ ‫واد‬
‫د‬
‫س فال ّ‬ ‫ُ‬ ‫والحسا‬ ‫إياك‬
‫نيا العريضة للصخور‬
‫ن إلى العدا‬ ‫ل تطمئ ّ‬
‫ن وزور‬ ‫ٌ‬ ‫بهتا‬ ‫فهي‬ ‫لة‬
‫ن إلى الثقا‬ ‫سب َ ّ‬ ‫ل ت ُن ْ َ‬
‫فة فهي داعية الثبور‬
‫ق فهو‬ ‫ن الح ّ‬ ‫ل تنطق ّ‬
‫خرافة العصر الغرير‬
‫ن فلست أكثر‬ ‫ل تطمح ّ‬
‫في الحياة من الحمير‬
‫لن ترتدي غير اللجام‬
‫ولن تذوق سوى الشعير‬

‫وهكذا إلى آخر القصيدة ‪ ،‬وقد بلغت ثلثين بيتا ً ‪ ،‬وجميعها يدّلل على نظرته‬
‫لمجتمعه يومئذ ‪ ،‬وعلى ثقافته الشخصية ‪ ،‬المتنورة والعارفة وقد كان قادما ً‬
‫ب فيها من‬ ‫وه من رحلته العلمية إلى مصر وقد قضى فيها قرابة عامين ‪ .‬ع ّ‬ ‫لت ّ‬
‫الثقافة المعاصرة ما أهله لمثل هذه الرؤية المسددة ‪ .‬وواضح أنه منذ البداية‬
‫س‬
‫اعتمد على الدب في مواجهة الفساد ‪ .‬يدل على ذلك قوله ‪)) :‬كنت أح ّ‬
‫وض ألف عام من‬ ‫إحساسا ً أسطوريا ً بأني قادر بالدب وحده على أن أق ّ‬
‫الفساد(()‪ (5‬وكذلك قوله ‪)) :‬وشعري أو معظمه تطغى عليه السياسة سواء‬
‫ء‪ ،‬وما كان ثورة ‪ ،‬وما كان شكوى‪ ،‬وما كان غير‬ ‫ما كان منه مدحا ً ‪ ،‬وما كان رثا ً‬
‫ذلك((‪(6).‬‬
‫ولم يأت اعتماده على الدب عبثا ً ‪ ،‬كما لم يأت من فراغ ‪ .‬بل جاء كل ذلك‬
‫بسبب من تفاعل فني ‪ .‬يقول ‪ )) :‬تفاعلت نفسي مع الشعر ‪ ،‬وتفاعل معها ‪،‬‬
‫ونما خلل نموها ‪ ،‬فكانت طفولتي طفولته وشبابي شبابه ‪ ،‬ونضجي)‪(7‬‬
‫نضجه ‪ ،‬وكان يسير جنبا ً إلى جنب حيث أسير(( ‪ .‬وقد كان مفتاح شخصيته‪.‬‬
‫حى من أجلها ‪) (( .‬‬ ‫والفاعل في تكوينها )) الصالة التي عشق بها الحرية وض ّ‬
‫‪(8‬‬
‫وقد تمّيزت هذه المرحلة ببعديها الجتماعي والشعبي وبالرؤية الواعية لحقيقة‬
‫الواقع اليمني ‪ .‬وقد كان جماع الرأي عنده أن هذا الجيل ل ينهض ))إل إذا نجح‬
‫في أمور ثلثة ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬أن ينضج فهمه ‪ ،‬وانتماؤه لروح شعبه ‪ ،‬وروح العصر القديم ‪ ،‬الذي‬
‫ينتمي إليه شعبه نضجا ً تاما ً ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن يتغلغل فهمه إلى روح الحضارة الحديثة ل أن يعيش على السطح‬
‫منها ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أن تكون عنده نزعة روحية ترتفع به فوق مستوى أهوائه الذاتية)‪(9‬‬
‫ومنافعه المادية (()‪ (9‬وكانت نظرته إلى الشعب كما جاءت في شعره ‪(10) :‬‬

‫الشعب أعظم بطشا ً يوم صحوته‬


‫من قاتليه وأدهى من دواهيه‬
‫يغفو لكي تخدع الطغيان غفوته‬
‫ن جنونا ً من مخازيه‬
‫وكي يج ّ‬
‫وكي يسير حثيثا ً صوب مصرعه‬
‫خّر وشيكا ً في مهاوي ِ‬
‫ه‬ ‫وكي ي ِ‬

‫ومن هذا المنطلق يأتي إيمانه بحقه‪ ،‬وبالطاقات الكامنة في أوساط شعبه‬
‫يقول بهذا الصدد ‪(11) :‬‬

‫آمنت أن لنا حقا ً وأن لنا‬


‫شعبا ً سينهض من كابوسنا الطامي‬
‫وأن في ظلمات الغيل مأسدة‬
‫غضبى على كل خوان وظ ّ‬
‫لم‬
‫ن في الشعب أبطال ً وأ ّ‬
‫ن به‬ ‫وأ ّ‬
‫قوما ً يعدّ الفتى منهم بأقوام‬

‫وعليه نكون أمام رؤى ثلث مما أملى عليه فكره الثاقب ‪ .‬وهذه الرؤى هي ‪:‬‬
‫حقه ‪ ،‬والطاقات الكامنة في أوساط شعبه ‪ ،‬وقدرة شعبه على التغيير مهما‬
‫كانت المصاعب جمة ‪.‬‬
‫ي عام من حيث الرؤية‬ ‫م وطن ّ‬ ‫وكثيرا ً ما كان يتح ّ‬
‫ول عنده همه الجتماعي إلى ه ّ‬
‫والتشكيل ‪ ،‬ومن حيث الحقيقة والواقع وقد رصد له جهده وأفنى في حبه‬
‫عمره ‪ .‬يصور ذلك قوله ‪(12):‬‬

‫وطني أنت نفحة الله ما تبرح‬


‫ل عن قلبي ول عن لساني‬
‫صنع الله منك طينة قلبي‬
‫وبرى من شذاك روح بياني‬
‫هرُته لك في دمعي‬ ‫هاك ما قد ط ّ‬
‫ه في جناني‬ ‫ُ ُ‬ ‫ت‬ ‫صهر‬ ‫قد‬ ‫وما‬
‫شعلة القلب لو أذيعت لقالوا‬
‫مّر عبر الثير نص ٌ‬
‫ل يماني‬ ‫َ‬

‫وعلوة على ذلك فالوطن عنده المشكاة الذي صدر عنها ذلك اللق الرائع‬
‫الذي يخلب اللباب‪ ،‬والقدرة الفاعلة‪ ،‬بل والمصدر الذي يصدر عنه كل إبداع‪.‬‬
‫قال‪(13):‬‬

‫الشاعرية في روائع سحرها‬


‫أنت الذي سويتها وصنعتها‬
‫مالي بها جهد فأنت سكبتها‬
‫بدمي وأنت بمهجتي أودعتها‬
‫وقفت لساني في هواك غناءها‬
‫فإذا تغّنت في سواك قطعُتها‬

‫ي‬‫ول في الشعر اليمن ّ‬‫ول تح ّ‬


‫وعليه )) يعد شعر الزبيري ‪ -‬باتفاق النقاد ‪ -‬أ ّ‬
‫المعاصر نحو الهداف الوطنية ‪ .‬وهو بذلك ينتمي إلى جيل رواد النهضة ‪،‬‬
‫الذين تشكلت جهودهم بتأسيس مجلة الحكمة سنة ‪1938‬م‪ (14)((.‬وقد كتب‬
‫عليه أن يعاصر )) أحداثا ً هامة في التاريخ اليمني المعاصر (()‪ (15‬وأن يشارك‬
‫في مسيرتها التاريخية ‪ ،‬ويرسم لها صورة بشعره‪ .‬وقد كانت نظرته إلى حق‬
‫ل وترتفع إلى ما هو أعلى ‪ .‬قال ‪(16) :‬‬ ‫الشعوب بتقرير المصير تج ّ‬

‫ومصير الشعوب كالحق ليبنيه بان بوهمه وادعائه‪.‬‬


‫ك ول تستقّر فوق هبائه‬‫والمليين ل تعيش على الش ّ‬
‫وشعور الجمهور أقوى من العقل ومن حكمه ومن حكمائه‬

‫‪ -2‬سياق النضال والثورة ‪:‬‬

‫وقد كان شعوره بالنتماء لشعبه ‪ ،‬وبأصالة ذلك الشعب يؤهله إلى الدخول‬
‫بالمواجهة المباشرة مع الطاغية الذي كان ما يفتأ يمارس كل أشكال الضطهاد‬
‫البشري ‪ .‬وقد عبر )) عن هذه المرحلة الجديدة بقصيدة )كفر وإيمان( التي‬
‫تجاوز فيها عوامل اليأس وكفر بها ‪ ،‬واستعاد ) اليقين الثوري ( وآمن بكل ما‬
‫يبعث اليمان ويعيد الثقة إلى النفوس وفيها يقول ‪:‬‬

‫كفرت بعهد الطغاة الُبغاة‬


‫وما زخرفوهُ وما زّينوه‬
‫وأكبرت نفسي عن أن أكو‬
‫وجوه‬ ‫ن عبدا ً لطاغية ت ّ‬
‫ي شعبي الذي‬ ‫وعن أن يران َ‬
‫ذب عونا ً لمن ع ّ‬
‫ذبوه‬ ‫ع ّ‬
‫يُ َ‬

‫ومنها ‪:‬‬

‫أنا ابن لشعبي أنا حقده الـ‬


‫رهيب أنا شعره أنا فوه‬
‫أتعنو لطاغية جبهتي ؟‬
‫فمن هو ؟ من أصله ؟ من أبوه‬

‫وة التي كانت موجودة‬‫وهذه البيات وهي من قصيدة طويلة تدل على عمق اله ّ‬
‫بين الشاعر وبين النظام الحميدي ‪ ،‬وعلى الموقف الصارم والصلب الذي كان‬
‫يتسلح به في مواجهة ذلك النظام ‪ .‬وهو موقف فيه أصالة ‪ ،‬وفيه دليل على ما‬
‫كان بين الشاعر والطاغية من قطيعة ‪ ،‬وقد جاء سياق ذلك في مواقف ثلثة ‪،‬‬
‫نوردها تباعا ً ‪ .‬وهذه المواقف هي ‪(17) :‬‬

‫الموقف الول – المواجهة والتحدي ‪:‬‬

‫مى بـ ) جمعية المر بالمعروف والنهي عن‬ ‫وقد كان إطار ذلك ‪ -‬عنده ‪ -‬مايس ّ‬
‫المنكر ( وقد كانت مدخل ً لمواجهة تتخذ من »ادع إلى سبيل ربك بالحكمة‬
‫ف أذاه عن شعبه )‪.(18‬‬ ‫والموعظة الحسنة« وسيلة لكبح جماح الطاغية ‪ ،‬ولك ّ‬
‫إل أن الخطوة الكثر جراءة تميزت في تلك الخطبة الذائعة الصيت التي‬
‫وه من مصر ‪ .‬ذكر المعلمي قال ‪:‬‬ ‫ألقاها سنة ‪ 1360‬هـ وقد كان عائدا ً لت ّ‬
‫)) وفي جمعة من شهر ذي الحجة عام ‪ 1360‬هـ ‪ ،‬حضر المام للصلة في‬
‫الجامع الكبير في صنعاء ‪ ،‬فوقف الستاذ الزبيري خطيبا ً ‪ ،‬وواجه المام بموقف‬
‫ي لبرنامج الجمعية في‬ ‫ي شديد اللهجة ‪ ،‬وضمن خطابه المنطلق النظر ّ‬ ‫انتقاد ّ‬
‫إنكار حياة البؤس والشقاء التي يكابدها الناس ‪ ،‬ووجوب إصلح أحوالهم‬
‫بمقتضى جوهر الدين ‪ ،‬وما يحتمه على المسؤولين من الواجبات (()‪ (19‬وقد‬
‫كانت النتيجة أن )) سيق الزبيري وزميله أبو طالب)‪ (20‬إلى سجن يقع في‬
‫منطقة نائية هي الهنوم(()‪ (21‬إل أن ذلك السجن لم يزده إل إصرارا ً وتحديا ً ‪،‬‬
‫وقد كان يدرك ))أن اليقين الثوري هو الساس للثورة العميقة الصادقة (()‬
‫‪ (22‬وأن ضريبة ذلك المعاناة واللم ‪ ،‬جاء في شعره ‪(23) :‬‬

‫لم تذق هدأة من النوم عيني‬


‫م بالي‬
‫لم يجد هدنة من اله ّ‬
‫لم أنل جرعة بغير كفاح‬
‫ل‬
‫لم أسغ لقمة بغير نضا ِ‬
‫لم أسر خطوة على الرض إل‬
‫كان فيها أحبولة لعتقالي‬

‫وهذه المعاناة جعلت منه عليما ً بمواقع النضال ‪ ،‬وبحتميتها ‪ ،‬وبما هي عليه من‬
‫مية ‪ ،‬وقد مّثلت المواجهة الخيار الوحيد عنده‪ .‬قال‪(24):‬‬‫أه ّ‬

‫ش على الرض أحرا‬ ‫ع ْ‬ ‫ت أو ن َ ِ‬


‫م ْ‬
‫ل ِن َ ُ‬
‫را ً ول عاش من يسيغ الهانة‬
‫إن شعبا ً يرضى الحياة سجينا ً‬
‫جانه‬
‫ل يساوي في قيمة س ّ‬
‫وحياة تصان بالهول والذ‬
‫ل ليست خليقة بالصيانة‬ ‫ل ِ‬

‫وعليه فالشعب ‪ -‬عنده‪ )) -‬هو الذي ينشد الحرية ‪ ،‬وهو الذي يجب أن يدفع‬
‫ثمنها كامل ً غير منقوص (( )‪ (25‬وهو المؤهل لحمل تبعات ذلك ‪.‬‬
‫ي أن تقوم المواجهة على أساس من هذه الرؤية التنظيرية التي ترى‬ ‫وبديه ّ‬
‫في الشعب المعادل الموضوعي في معركة الحياة والموت بين الشعب وجلديه‬
‫وهي مسألة تعد غاية في الهمية ‪ ،‬وقد جعلت الطريق لحبا ً أمام جيل الرواد‬
‫من المناضلين الشرفاء الذين جعلوا من أجسامهم جسرا ً لخوانهم الذين نفذوا‬
‫العبور إلى الموقع المتقدم في السادس والعشرين من سبتمبر‪ /‬أيلول سنة‬
‫‪ 1962‬م ‪ .‬و كان حادي ركبهم يومئذ أبو الحرار المجاهد الشهيد محمد محمود‬
‫الزبيري رحمه الله ‪ .‬وقد كان يرصد حركة الجماهير ‪ ،‬ويؤصلها ‪ ،‬ويعمل من‬
‫وة الواعدة ‪ .‬يعبر عن ذلك قوله في‬ ‫أجل إدامتها ‪ ،‬وإظهار ما فيها من كمون الق ّ‬
‫انتفاضة قبيلة خولن ‪(26) :‬‬

‫المليين العطاش المشرئ ّْبة‬


‫بدأت تقتلع الطاغي وصحبه‬
‫سامها الحرمان دهرا ً ليرى‬
‫سحب سحبه‬ ‫الغيث إل غيثه وال ُ‬
‫ة ماء دون أن‬ ‫جرع َ‬
‫لم تنل ُ‬
‫تتقاضاه بحرب أو بغضبه‬
‫ظمئت في قيده وهي ترى‬
‫أكله من دمها الغالي و ُ‬
‫شرَبه‬
‫ليت شعري أي شيء كان يخـ‬
‫دنياه لو هادن شعبه‬ ‫ــشاه في ُ‬
‫هاهو الشعب صحا من خطبه‬
‫بينما الطغيان يستقبل خطبه‬

‫الموقف الثاني – اليقاظ والتحريض ‪:‬‬

‫في موقفه الجديد ‪ -‬اليقاظ والتحريض‪ -‬يرتكز على موقفه الول المواجهة‬
‫والتحدي ‪ (27) .‬إذ أن المواجهة تقتضي اليقاظ بصورة عامة ‪ ،‬وكذا التحريض‬
‫‪ .‬والمطلع على ذلك يجده واضحا ً ‪ .‬وإن كانت قصائده اليقاظيه قد تض ّ‬
‫م‬
‫الجانبين معا ً ‪ ،‬ومثلنا على ذلك قصيدته التي جاءت تحت عنوان ) صرخة إلى‬
‫ً‬
‫النائمين ( وهي من قصائد ديوانه )صلة في الجحيم ( وتبلغ ستة وسبعين بيتا ‪،‬‬
‫وهي بمثابة خطاب مباشر بينه وبين اليمانيين بعامة ‪ .‬وقد جاءت في أربعة‬
‫مقاطع مختلفة الطول)‪ ،(28‬تكاد جميعها تدور حول فكرتي اليقاظ والتحريض‬
‫‪ .‬وهي من حيث الواقع )أطول نشيد ثوري للزبيري( بعد ) رثاء شعب ( وجهه‬
‫إلى فئات الشعب المختلفة ‪ ،‬وذلك من خلل رؤى ثلثة‪):‬لصيحة إلى النائمين( و‬
‫) الحديث عن الماضي المشرق ( والتذكير بــ )الحاضر المظلم( الذي هدف‬
‫الشاعر إلى تعريته وفضحه‪.‬‬

‫وقد ابتدأ المقطع الول بقوله ‪:‬‬

‫ناشدتك الحساس يا أقلم‬


‫أتزلزل الدنيا ونحن نيام‬
‫قم يا يراع إلى بلدك ناِدها‬
‫إن كان عندك للشعوب كلم‬
‫فلطالما أشعلت شعرك حولها‬
‫ة وضرام‬ ‫ومن القوافي شعل ٌ‬
‫لما أهبت بها تطارد نومها‬
‫ضحكت عليك بجفنها الحلم‬
‫ت‬‫وصرخت في أسماعها فتحّرك ْ‬
‫وام‬
‫لكن كما يتحّرك الن ّ‬

‫وفي هذه البيات ‪ -‬وهي قليلة ‪ -‬قياسا ً على طول القصيدة – تركيز مباشر‬
‫وام ( لتدل على ذلك ‪.‬‬
‫على اليقاظ ‪ ،‬وقد جاءت اللفاظ ) نيا م ونومها والن ّ‬
‫وكذلك اللفاظ ) أشعلت وشعلة وضرام ( لتدل على عنفوان الموقف الثوري‬
‫مع ضآلة الستجابة لدى المعنيين وقد كانوا لما يزالوا بعد يتململون في‬
‫سباتهم العميق ‪ .‬ولعّله للسبب ذاته توجه بالحديث المباشر عن الحوال اليمنية‬
‫بعامة ‪ .‬ولكن بالنتقال من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع وبأسلوب من العتاب‬
‫واللوم غير المباشر ‪ .‬قال ‪:‬‬

‫نخشى سيوف الظلم وهي كليلة‬


‫دس الصنام وهي حطام‬ ‫ونق ّ‬
‫ل أمُتنا لفرٍد واحد‬‫وتذ ّ‬
‫لتستقاد لمثله النعام‬
‫نسدي له أموالنا ونفوسنا‬
‫ويرى بأّنا خائنون لئام‬
‫نبني له عرشا ً يسودُ فيبتني‬
‫ن بظّله ونضام‬ ‫سجنا ً نها ُ‬
‫كم من أب واسى المام بروحه‬
‫ماتت جياعا ً بعده اليتام‬
‫ص ثروة شعبه ويميُته‬ ‫يمت ّ‬
‫جوعا ً ليسمن آله العلم‬
‫طعناته قدسّية نزلت بها‬
‫البركات واليات والحكام‬
‫عمل الورى في رأيه كفر وما‬
‫يأتيه ‪ ،‬فهو شريعة ونظام‬
‫ن غاية الهمية‬ ‫في هذا المقطع وهو ل يزيد على عشرة أبيات تحتشد معا ٍ‬
‫للتحريض واليقاظ الذي هدف إليه ‪ .‬حيث التناقض الصارخ والنكسار الحاد في‬
‫النسق الموضوعي ‪ ،‬الذي يفتقر إلى الدب العام ‪:‬‬
‫فهنا نلحظ ‪ :‬أن )نبني له عرشًا( يقابلها )يبني سجنًا( وأن )نخشى ونقدس‬
‫ق في ‪) :‬يرى بأنا‬ ‫ونسدي( يقابلها عدم العرفان بالجميل ‪ ،‬وعدم الذعان للح ّ‬
‫خائنون لئام( وفي ‪):‬حطام ولئام ونضام والقدام وزؤام واليتام ( وقد جاءت‬
‫خواتيم داّلة على عمق المأساة ‪ .‬وهي تثير زوبعة من التساؤلت حول حجم‬
‫المفارقة بين الستكانة التي عليها الجميع ‪ ،‬وقد دّلت عليها صيغة الجمع ‪ ،‬التي‬
‫ي مباشر‬ ‫دّلت عليها البيات العشرة ؛ وبين مايجب أن يكونوا عليه من فعل ثور ّ‬
‫‪ ،‬وهو ما افتقروا إليه ‪ .‬ومن أجل التغيير انتقل في المقطع الثاني والثالث إلى‬
‫محاولة بث الروح في الشعب بعامة من خلل تذكيره بأمجاده الغابرة ‪.‬‬
‫فـ)قحطان أصل العرب ( )كانت سيوفهم تؤدب كل جبار ( و ) كانوا الباة‬
‫وكانت الدنيا لهم ( وقد ) نزلوا بيثرب والعراق فشيدوا ملكا ً كبير الشأن (‬
‫) وهم الولى اقتحموا على إسبانيا أسوارها ( ) وهم اللى البانون عرش‬
‫أمية ( ويقابل ذلك ما آل إليه أمرهم ‪ .‬فـ ) أبناء قحطان عبيد بعدما عبدتهم‬
‫الزعماء والحكام ( وهم ) منذ تهاونوا بحياتهم عاشوا وهم أيتام ( ‪ .‬وكل ذلك‬
‫يجعله يخلص إلى استفهام استنكاري من خلل ‪ ) :‬أحمير فوق الورى ( و )أين‬
‫م ( و) أين بناتها القيال ( و) أين البحار‬
‫السعيدة ( و ) أين القصور)‪ (29‬الش ّ‬
‫والسدود ( و)أين السللة من معين وحمير ( ‪ .‬وهو من خلل ذلك يريد‬
‫سوا بالجداد ‪ ،‬وليعودوا إلى الحياة من جديد ‪ ،‬وليتخلصوا‬ ‫استنهاض الهمم ليتأ ّ‬
‫من ذلك الكابوس الثقيل ‪ ،‬الذي ألقى بكلكله على صدورهم وقد كادت تختنق‬
‫أنفاسهم من تحته ‪ ،‬وقد عدموا حتى الحراك ‪.‬‬
‫قـراءة جديدة في شعر الزبيري )‪(2‬‬

‫صحيفة ‪26‬سبتمبر‬
‫د‪ .‬عبدالعزيز الحاج مصطفى‬

‫‪ -‬كلية التربية ‪ -‬جامعة ذمار‬

‫)الـــــــرؤى والسيــــاقــــــات(‬
‫ً‬
‫وفي مواجهة هذه الحالة تجاوز اليقاظ موضوعا‪ ،‬والتحريض مهمة إلى تعرية‬
‫وفضح الفئة المنحرفة »من حملة القلم المأجورة التي كانت تبيع شرفها)‪(29‬‬
‫وش مسارهم‪ «.‬فقذف في‬ ‫ودينها للسلطة‪ ،‬فتطعن في الحرار‪ ،‬وتغري بهم‪ ،‬وتش ّ‬
‫وجهها عبارته الغاضبة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ونا وترددا ً‬ ‫ومذبذبين تل ّ‬
‫لعنتهم الحسنات والثام‬
‫قلنا ارفعوا السواط عن أجسادكم‬
‫م‬
‫قالوا لنا لوم المام أثا ُ‬
‫تالله مابهم المام وإنما‬
‫ولعوا بسوط المستبد ّ وهاموا‬
‫باعوا الضمائر للمهانة مثلما‬
‫تبتاع للحمل الثقيل سوام‬
‫وإذا ثوت بين الضلوع بهائم‬
‫قويت على حمل العصا الجسام‬
‫إلى أن يقول‪:‬‬
‫وسيندم المتزلفون ندامة الـــ‬
‫م الصنام‬ ‫ي يوم ُتحط ّ ُ‬‫ـوثن ّ‬
‫ي يتجاوز‬‫ن اليقاظ ّ‬‫وتعليقا ً على ذلك يقول الستاذ عبد الله البردوني‪» :‬فهذا الف ّ‬
‫موضوعه ويندغم في التثوير‪ ،‬ويخلص منه إلى الهجاء السياسي‪ ،‬فتتلءم ملمح‬
‫الهجاء وسمات التثوير في وجه واحد هو وجه اليقاظ‪ .‬وهذا المزج هو الفكرة‬
‫الساسية الثانية التي دار حولها الشعر اليقاظي عند الزبيري«)‪ (30‬وهو عنده‬
‫في هذه يلتقي مع الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي في رومنسياته الثائرة)‬
‫ي في مواجهة جلوزة الستعمار‬ ‫م القوم ّ‬
‫‪.(31‬وقد كان الشابي في هذه حمل اله ّ‬
‫ة وقد جعل‬ ‫الحديث‪ .‬فاشتركا معا ً في هذه الصفة وإن كان الزبيري أكثر خصو ّ‬
‫صي ً‬
‫من قضيته الوطنية القضّية الولى والهم قياسا ً إلى القضايا الخرى‪.‬‬
‫الموقف الثالث – الفعل الثوري‪:‬‬
‫ول أقواله إلى أفعال ثورية‬ ‫وفيه انتقل الشاعر من القول إلى الفعل‪ .‬وقد ح ّ‬
‫رائدة‪ ،‬مّثلت القدوة في السلوك قول ً وعمل ً وأهلته لحمل راية الجماهير ضد‬
‫المام وحكمه ؛ يقول الدكتور عبد العزيز المقالح‪» :‬كان الشعر قبل أن يأتي‬
‫شعراؤنا المعاصرون وسيلة تعبيرية ذات وظيفة جمالية‪ .‬قد تكون ذات دللة‬
‫اجتماعية وقد لتكون‪ ،‬قد تكون مديحا ً لحاكم أو زلفى لمير‪ ،‬وقد تكون مناجاة‬
‫محب أو وصف بحيرة‪ .‬أو رحلة ناقة أو حديثا ً عن بستان في الربيع‪.‬وقد تغّيرت‬
‫وسائل التعبير في العصر الحديث‪ ،‬وأصبح جانب كبير من الشعر وسيلة الشعب‬
‫بعد أن كان وسيلة الحكام‪ ،‬لكنه في اليمن كان كتابة بالظافر‪ ،‬وتمّردا ً بحد ّ‬
‫السيف‪ .‬لقد ألغى الزبيري المسافة الممتدة بين القول والعمل عندما قال‪:‬‬
‫م النوف‬ ‫خرجنا من السجن ش ّ‬
‫كما تخرج السد من غابها‬
‫نمّر على شفرات السيوف‬
‫ونأتي المنّية من بابها‬
‫ونأبى الحياة إذا دّنست‬
‫بعسف الطغاة وإرهابها)‪(32‬‬
‫وهذه البيات من قصيدة جاءت تحت عنوان »الخروج من اليمن‪ ...‬السجن‬
‫الكبير« وهي أول قصيدة ألقاها بعد هجرته إلى عدن‪ .‬ويعتقد أنها ألقيت سنة‬
‫‪ 1943‬م وقد أطلق عليها الدكتور المقالح اسم »المارسيليزو تشبيها ً لها بالنشيد‬
‫الوطني الفرنسي« )‪(33‬وقد بلغت تسعة وثلثين بيتًا‪ .‬وهي من روائع الشعر‬
‫العربي وأجوده‪» .‬وفوق ذلك فإن حرارة مشاعرها‪ ،‬وصدق تعبيراتها ووضوح‬
‫معانيها وواقعيتها قد تضافرت جميعا ً على تمكينها من الذان والقلوب«)‪ (34‬وقد‬
‫ل الشاعر على صدق مشاعره‪ ،‬ل سيما بعد خروجه إلى عدن‪ .‬وهو في هذه‬ ‫د ّ‬
‫»ينتقل من الشعر الثوري إلى التنظير الثوري كما في كتابه »مأساة واق الواق«‬
‫الذي دعا فيه إلى جمهورية ديمقراطية«)‪ (35‬وقد كان اليقين الثوري عنده »هو‬
‫الساس للثورة العميقة الصادقة«)‪ (36‬وقد مثل شعره ترجمانا ً لذلك في‬
‫قصائده المختلفة ومنها قصيدته التي جاءت تحت عنوان ) صيحة البعث ( التي‬
‫بلغت عشرين بيتا ً والتي يقول فيها‪(37):‬‬
‫جل مكانك في التاريخ يا قلم‬ ‫س ّ‬
‫فها هنا تبعث الجيال والمم‬
‫هنا القلوب البّيات التي اتحدت‬
‫م‬
‫ح ُ‬
‫هنا الحنان‪ ،‬هنا القربى‪ ،‬هنا الر ِ‬
‫هنا البراكين هّبت من مضاجعها‬
‫م‬
‫تطغى وتكتسح الطاغي وتلتهِ ُ‬
‫لسنا اللى أيقظوها من مراقدها‬
‫الله أيقظها والسخط واللم‬
‫شعب تفّلت من أغلل قاهره‬
‫حّرا ً فأجفل منه الظلم والظلم‬ ‫ُ‬
‫والمعروف أن الزبيري ألقى هذه القصيدة في أول اجتماع عام لحزب الحرار‬
‫وه من‬ ‫اليمنيين بعد عام ‪1943‬م)‪ (38‬في عدن‪ .‬وقد كان رحمه الله خرج لت ّ‬
‫م عينه آهات شعبه وعذاباته‪ ،‬وهي مسألة كانت تشغله منذ‬ ‫صنعاء‪ .‬بعد أن رأى بأ ّ‬
‫أمد‪ .‬فجعلته يقرب المسافة بين القول والفعل فيسهم في تأسيس حزب الحرار‬
‫اليمنيين‪ ،‬وفي لم شمل رجال المهمات الصعبة من البطال التاريخيين الذين‬
‫خرجوا معه إلى عدن وزاملوه في صنع القرار التاريخي الذي كان بمثابة اللبنة‬
‫الولى من أجل تحرير اليمن وكما قال في البيت السابع عشر‪(39):‬‬
‫والحق يبدأ في آهات مكتئب‬
‫ملؤه ِنقم‬
‫وينتهي بزئير ِ‬
‫فقد مثلت خطوته هذه التي ساهم فيها بتأسيس حزبه الجديد الصيحة الرائدة‬
‫شرت بقرب الخلص من نظام آل حميد الدين‪ .‬ووضعت العجلة على‬ ‫التي ب ّ‬
‫مسارها الصحيح كما يقال‪ ،‬بعد أن كانت متعثرة أو متوقفة‪ ،‬بسبب عدم اقتران‬
‫القول بالفعل في مناهضته النظام‪ ،‬وفي حركة إيقاظ الجماهير التي طال أمد‬
‫ترقبها‪ .‬وقد كان جنوبي اليمن وشماليه عنده سيان‪ .‬وهو القائل‪(40) :‬‬
‫أرضنا حميرية الصل ليست‬
‫أرض زيدية ول شافعية‬
‫وكانت نظرته إلى وحدة شعبه أقوى من الخلفات‪ .‬يقول‪(41) :‬‬
‫ن(‬‫متى تحلق في آفاقها ) عد ُ‬
‫متى تطير بنا نحو العلى اليمن‬
‫ّ‬
‫وهي نظرةٌ يدعمها اليقين الثوري الذي كان يتسلح بالعقل والمنطق‪ ،‬وبالرؤية‬
‫حد في مواجهة‬ ‫الصحيحة لما يجب أن تكون عليه اليمن من انسجام وتآلف وتو ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عقابيل الحياة وصعابها المستجدة‪ .‬وعند هذه المسألة كان واضحا حّرا في كل ما‬
‫ذهب إليه‪ .‬وكانت أقواله وثائق يمكن أن يركن إليها في الحكم على منهجه‬
‫خى بها خلص اليمن‪ .‬يقول‪(42):‬‬ ‫الثوري‪ ،‬وعلى حركته الرائدة وقد تو ّ‬
‫ولقد نزعت من الضمير قصيدة‬
‫هي صوت إيماني وصك جهادي‬
‫لو يصبغ النشاد لون خديعة‬
‫لنفت عن نغمي وعن إنشادي‬
‫لو خالط النفاس شوب تمّلق‬
‫لحبست أنفاسي عن الترداد‬
‫تسعى القوافي لي فل أحني لها‬
‫قلما ً إذا جاءت بغير مراد‬
‫وأكاد أرفضها إذا )هي()‪ (34‬لم تكن‬
‫ي على رويّ فؤادي‬ ‫نزلت إل ّ‬
‫ّ‬
‫فالمسألة كما نرى مسألة ضمير‪ ،‬وهي صك جهاد مقدس ل يمكن العبث به‪ ،‬وكذا‬
‫صوت إيمان يبعث الموتى أو من هم من أشباههم‪ .‬وعليه فهو يرفض حتى‬
‫القوافي التي ل تأتي منسجمة مع ذلك المنهج أو التي ل تنزل على روي فؤاده‬
‫خى بعث‬ ‫كما يقول فتتناغم معه‪ ،‬وتلقي بظللها على نغمه المحّلق الذي يتو ّ‬
‫المجاد‪ ،‬فضل ً عن استنهاض الهمم‪ .‬وقد كان يرى في ذلك مهمة خاصة به قال)‬
‫‪:(44‬‬
‫وضت بالقلم الجبار مملكة‬ ‫ق ّ‬
‫كانت بأقطابها مشدودة الطنب‬
‫فإن فشلت ولم أنهض بدولتنا‬
‫ّ‬
‫الكبرى لشعبي ولم أظفر بمطلبي‬
‫فسوف أبني له مجدا ً من الدب‬
‫ب‬
‫العالي يبوئه في أرفع الرت ِ‬
‫ول ريب أنه كان يدرك دور القلم في هذا المضمار‪ ،‬فأجل نباة المجاد كتاب ؛ به‬
‫ترسم معالم النضال‪ ،‬وبه توضح المناهج‪ ،‬أو ترسل الصيحات أو تبين المآثر‪،‬‬
‫وأمضى سيوف المجاد قلم نابه يفتح المغاليق ويزيح العقبات‪ ،‬أو يهوي على‬
‫الصنام فيجعلها تتهاوى أمام ضرباته المدمرة‪ .‬وقد كان لقلمه ذلك الشأن وقد‬
‫وض أركان مملكة لم يكن لها أن تتقوض لول ذلك النذير الصارخ الذي قام به‬ ‫ق ّ‬
‫ّ‬
‫من بعث وإيقاظ‪ ،‬وفعل ثوريّ محلق‪ ،‬كان له فعل النار في الهشيم في ذلك‬
‫الوقت‪.‬‬
‫‪ -3‬سياق الغربة‪:‬‬
‫ظاهرة الغربة في حياة الزبيري ظاهرة وجدانية تتعّلق بتكوينه العقلي والنفسي‬
‫والروحي‪،‬وما كان عليه من مباديء وأفكار‪ ،‬وأول هذه المباديء والفكار‪ ،‬موقفه‬
‫من مجتمعه ومفارقته إياه‪ ،‬وقد كان يومئذ مدينا ً بالطاعة للمام‪ ،‬ثم خرج عليه‪.‬‬
‫وقد تجّلت مسألة الغربة عنده في رحلت ثلث‪ .‬وهذه الرحلت هي‪:‬‬
‫ل‪ -‬الرحلة إلى عدن‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫وقد مّثلت في حينها رحلة البحث عن الذات إذ أنـه‪ -‬بعيدا ً عن عيون السلطة‪-‬‬
‫م شعثه وأن يكون القاعدة النضالية الولى لحرار اليمن‪.‬وأن يصدر‬ ‫استطاع أن يل ّ‬
‫جلى في قصيدته »صيحة البعث«)‪ (45‬وقد عُد ّ خروجه إلى‬ ‫إعلنه التاريخي الذي ت ّ‬
‫عدن وإنشاء حزب الحرار بمثابة النتصار الكبير الذي بعثت به المة من رقادها‬
‫وبه خرجت ممثلة بأحرارها‪ ،‬تتحدى ظالما لتبالي به غضب أم لم يغضب‪ .‬وقد‬
‫وه من قبل عن هذا الخروج بقصيدته الداوية التي جاءت تحت عنوان‬ ‫كان ن ّ‬
‫»الخروج من اليمن السجن الكبير«)‪ (46‬التي أنشأها بعد رحلته إلى عدن‪ .‬وفيها‬
‫ي الوطن كان يعد من ناحية تكتيكية خروجا ً‬ ‫يدرك الباحث أن خروجه إلى جنوب ّ‬
‫موّفقًا‪ ،‬وقد خرجت مسألة معارضة النظام من السّر إلى العلن‪ ،‬وأصبح الصوت‬
‫مسموعا ً في المحافل الدولية‪ ،‬وهو الذي كان يريده الزبيري يومئذ‪ .‬وفضل ً عن‬
‫ذلك فقد كان لنتقاله مع »زملئه من الشعراء والكتاب إلى جنوبي الوطن دور‬
‫في ترسيخ وحدة التجاه الثقافي‪ .‬بل وفي إيقاظ هذه الروح وتأصيلها‪(47)«.‬‬
‫والحقيقة أنه في عدن أنشأ غرر قصائده ومنها‪) :‬الخروج من اليمن السجن‬
‫الكبير( و)صيحة البعث( و)صرخة النائمين( و)الحنين إلى الوطن( التي يذكر‬
‫الستاذ أحمد محمد الشامي أن »الستاذ هلل ناجي جعلها في مقدمة مختاراته‬
‫ب الوطني الرفيع متأججة‬ ‫مسة بدموع الح ّ‬
‫من شعر الزبيري‪ .‬والحق أنها بكائية مغ ّ‬
‫بلهيب الحنين النساني الفطري ولوحة فنية رائعة اللوان حية النبضات فواحة‬
‫الريج«)‪ (48‬ومن أبياتها التي تحكي الغربة بأسلوب موجع قوله )‪:(49‬‬
‫آه ويح الغريب ماذا يقاسي‬
‫من عذاب النوى وماذا يعاني‬
‫كشفت لي غربتي سوأة الدنـــ‬
‫ـيا ولحت هّناتها لعياني‬
‫كلما نلت ل َذ ّة ً أنذرتني‬
‫ن زماني‬ ‫م ْ‬‫ة ِ‬
‫فت خيف ً‬ ‫فتل ّ‬
‫ة لح مرأى‬ ‫ت بسم ً‬ ‫م ُ‬
‫وإذا ُر ْ‬
‫وطني فاستفّزني ونهاني‬
‫ليس في الرض للغريب سوى‬
‫الدمع ول في السماء غير الماني‬
‫ثانيًا‪ -‬الرحلة إلى باكستان‪:‬‬
‫بدأت هذه الرحلة في أعقاب الحداث المأساوية التي أعقبت فشل ثورة ‪1948‬‬
‫م‪ .‬وكانت بواكيرها الشعرية تلك التي جاءت تحت عنوان )رثاء شعب( وعنها‬
‫يقول‪» :‬بدأت المرثاة إثر مصرع الثورة اليمنية الدستورية عام ‪ 1948‬م وأنا‬
‫مطارد في الهند‪ ،‬هارب من البشر‪ ،‬محظور علي أن أمشي على ظهر الرض‪)«.‬‬
‫‪ (50‬وقد جاءت صورة ذلك في قوله)‪:(51‬‬
‫جثا دهري بكلكله‬ ‫إذا وقفت َ‬
‫جّرت بيافوخي دواهيه‬ ‫فوقي و َ‬
‫هبه‬‫وإن مشيت به ألقت غيا ِ‬
‫على طريقي شباكا ً من أفاعيه‬
‫وة الدنيا بأجمعها‬ ‫تكتلت ق ّ‬
‫ه‬
‫في طعنة مّزقت صدري وما في ِ‬
‫ور حال مطارد يكاد‬ ‫خارة بالمعنى‪ ،‬موحية ومؤثرة‪ ،‬تص ّ‬ ‫وهي كما نرى أبيات ز ّ‬
‫يشعر أن كل شيء ضده في هذه الحياة‪.‬‬
‫وفي باكستان عاش من سنة ‪ 1948‬م إلى مابعد سنة ‪1952‬م بعد قيام الثورة‬
‫المصرية‪ .‬وشعره في تلك البلد »يشير إلى اليام السوداء والليالي الحالكة التي‬
‫قطعها في ذلك المغترب‪ ،‬وحيدا ً شريدًا‪ ،‬تفجعه بين اليوم والخر أخبار الوطن‬
‫الدامي‪ ،‬ومآسي زملئه وهم بين سجين أو قتيل‪ .‬وتضاعف من محنته الغربة‬
‫اللسانية التي تعزله عن شعب باكستان‪ .‬وأكبر من ذلك ضيق ذات اليد فهو ليكاد‬
‫يجد مايقيم به الود‪ (52)«.‬ذكر الستاذ عمر الميري الذي كان سفيرا ً لسورية‬
‫في الباكستان ‪ -‬وقد كان شاعرا ً ‪ -‬أنه في »أثناء تجواله في الليل في شوارع‬
‫كراتشي شاهد شخصا ً يحمل صندوقًا‪ ،‬ويبيع القفال والخردوات في أثناء الليل‪،‬‬
‫دم إليه سائل ً ماهذا ؟ فرجاه الزبيري أن يكتم‬
‫فلمح في ذلك البائع الزبيري‪ ،‬فتق ّ‬
‫الخبر‪ ،‬وقال له‪ :‬إنه يتبع ذلك السلوب ليستعين به على العيش‪ (53) «.‬كما ذكر‬
‫سط له عند المام أحمد من أجل العودة إلى اليمن‪ .‬أجابه بقوله‪:‬‬ ‫أيضا ً أنه لما تو ّ‬
‫)) إنه ل يستطيع أن يحظى بهذه الفرصة منفردا ً (()‪ (54‬وظل يكدح من أجل‬
‫العيش‪ ،‬ويواصل نشاطه السياسي والدبي بمنتهى العظمة والتألق وكان شعره‬
‫يقدم الصورة لما كان عليه من عظمة وشموخ ففي القصيدة التي ألقاها‬
‫بمناسبة العيد الول لقيام باكستان والتي مطلعها )‪:(55‬‬
‫اليوم وّلى بباكستان ماضينا‬
‫س وقع خطاه في مغانينا‬ ‫نح ّ‬
‫لم ينس همه الوطني‪ ،‬ول تلك اليام العجاف التي مّرت وقد طال سيف البطش‬
‫أحرار اليمن‪ .‬فقال معّرضا ً بذلك )‪:(56‬‬
‫يوم من الدهر لم تصنع أشعته‬
‫شمس الضحى‪ .‬بل صنعناه بأيدينا‬
‫ف من جماجمنا‬ ‫ونته ألو ٌ‬
‫قد ك ّ‬
‫معته قرون من مآسينا‬ ‫وج ّ‬
‫نسيج أضوائه البيضا دم عَب ِقٌ‬
‫سالت به مهج الطهر المضحينا‬
‫فكل ثانية منه إذا انتسبت‬
‫سدٍ من أوالينا‬ ‫ُ‬
‫سللة أ ْ‬‫عدت ُ‬ ‫ُ‬
‫ول فيها من ثائر يمني‬‫وقد كر فيض القريحة عنده في هذا المهاد الخصب‪ ،‬فتح ّ‬
‫يرى اليمن بمنظور يمني بحت إلى ثائر محّلق يتجاوز حدود اليمن إلى آفاق أكبر‬
‫مه الوطني مشتركا ً مع هموم أخرى‪ .‬قال )‪:(57‬‬ ‫وأوسع‪ ،‬حيث غدا ه ّ‬
‫ض‬
‫في كل شعب نكبة‪ ،‬وكل أر ٍ‬
‫فتنة‪ ،‬أو نار حرب توقد‬
‫عصبة‬ ‫والعالم اليوم بأيدي ُ‬
‫ل عقل يهديها ول معتقد‬
‫تؤّله القوة والمال ول‬
‫ترى إلها ً غير هذا يعبد‬
‫ذب‬ ‫والناس إما كادح مع ّ‬
‫فد‬ ‫بسعيه أو موثق مص ّ‬
‫قد عظمت خطوبهم واتسعت‬
‫فمالهم على علجها يد ُ‬

‫قراءة جديدة في شعر الزبيري‪ :‬الرؤى والسياسات )‪(3-3‬‬

‫د‪ .‬عبدالعزيز الحاج مصطفى‬


‫‪ -‬كلية التربية ‪ -‬جامعة ذمار‬

‫ثالثًا ‪ -‬الرحلة إلى مصر‪:‬‬

‫كانت هذه الرحلة فاتحة خير وبركة للشاعر فبعد خمس سنوات من القامة في باكستان توافق حكومة الثورة المصرية على‬
‫إيوائه فتواتيه الفرص من نقل أفكاره إلى شعبه عبر مذياع صوت العرب الذي كان ما يفتأ يحرض الشعوب العربية على‬
‫جه للشعب اليمني بخاصة‪ ،‬وقد كان لها صداها‬ ‫جه نداءاته الثورية الهادفة )‪ (58‬التي تو ّ‬
‫الثورة ضد حكامهم‪ .‬فاهتبلها وراح يو ّ‬
‫الواسع في ذلك الحين‪ .‬أما شعره ‪ -‬وما أكثره ‪ -‬فقد كان موزعًا على اتجاهين‪:‬‬
‫التجاه الول – العودة إلى النضال‪ :‬بالموقف الفاعل وبالكلمة الموحية‪ ،‬وبالتصميم والرادة‪ ،‬التي تتناسب وموقفه الثوري‪.‬‬
‫من أمثال قوله‪:‬‬

‫وأقسم بال خير القسم‬


‫وما صنته من كريم الشيم‬
‫وما خبأت مهجتي من همم‬
‫وما حملته يدي من قلم‬
‫وما حّزني من إباء ودم‬
‫وما اجتاحني من عميق اللم‬
‫وما اكتسحت عزمتي من قمم‬
‫لرمي بقلبي في المزدحم‬
‫وأمحو عن الشعب عار الصنم‬
‫وأجعله عبرة للمم‬

‫والبيات هذه منتزعة من أولى قصائده في المرحلة القاهرية‪ ،‬وقد جاءت تحت عنوان »كفر وإيمان« وهي كما يقول عبد‬
‫الرحمن طّيب جاءت »بعد فشل الزبيري والنعمان في إقناع المام بقبول نظام الشورى‪ ،‬والنظر في مطالب الشعب العادله«)‬
‫ل عن ذلك فهي ترسم صورة للمجاهد اليماني الذي توافر له من اليقين الثوري ما يجعله رائدًا في مضماره‪ ،‬وقد‬
‫‪ (60‬وفض ً‬
‫تحّلى بأنبل الشيم وأرفعها وأكثرها قوة‪ ،‬وقد جاءت مفعمة بالمشاعر الجياشة‪ ،‬فدّلت على ما فيه من كمون القوة‪ ،‬ومن‬
‫التصميم الرائد‪ .‬ويعضد ذلك قصيدته التي جاءت تحت عنوان »إلى الغاضبين علينا« التي يقول فيها)‪:(61‬‬

‫صهرتنا آلمه فامتزجنا‬


‫واتحدنا بروحه والتقينا‬
‫منحونا الدنيا لكي ننبذ الشعب‬
‫ونغضي عن ظلمهم فأبينا‬
‫لو يبيعون ألف تاج بأسمال فقيٍر‬
‫من شعبنا ما اشترينا‬

‫وهذه البيات تأتي في السياق لتضع القضية اليمنية على المسار الصحيح وقد تلحم أحرار اليمن تلحمًا ضمن لهم الموقف‬
‫الكثر فاعلية‪.‬إل أن الموقف القوى يأتي في تلك القصيدة التي أنشأها تحت عنوان )خطبة الموت( والتي تزيد أبياتها على‬
‫المائة‪ ،‬وفيه ينتصر لحرار اليمن الذين هبوا في تعز وصنعاء وحاشد يواجهون المام‪ ،‬ويعلنون تصديهم له‪ .‬وقد جاءت‬
‫أبياتها في السياق‪ ،‬لتدل على ما في شعره من قيم موضوعية فذة‪ ،‬وقدرة جدلية على مواجهة النظام‪ ،‬وفضحه وتعريته‪ .‬قال)‬
‫‪:(62‬‬

‫ليس في الدين أن نقيم على الضيم‬


‫ونحني جباهنا للدنيه‬
‫ليس في الدين أن نؤله طغيانًا‬
‫ونعنو للسلطة البربرية‬
‫ليس في الدين أن نقدس جلدًا‬
‫ويمناه في دمانا رويه‬
‫لعن ال كل ظلم وجور‬
‫لعنة في كتابه سرمديه‬

‫وحديثه عن الدين في هذا المقطع مسألة حيوية‪ ،‬فهي توضح الفهم الديني الصحيح الذي يتحّلى به الثوار في مواجهة حاكم‬
‫يتسلح بالدين كذلك‪.‬‬

‫التجاه الثاني – النتصار للقضايا العربية العادلة‪:‬وقد كانت تهّز أعماق أعماقه فينتصر لها‪ ،‬ويتخندق معها‪ .‬ومن ذلك تلك‬
‫القصيدة الرائعة‪ ،‬التي أنشأها في ذكرى العدوان الثلثي على مصر‪ ،‬والتي يصب فيها جام غضبه على انكلترا يقول)‪:(63‬‬

‫أل لعنة ال انكلترا‬


‫إذا شئت أو لعنات الورى‬
‫فلن تبصري رحمة في السما‬
‫ل في الثرى‬‫ولن تجدي موئ ً‬
‫وليس يفيدك أن تقدمي‬
‫على الحرب أن ترجعي القهقرى‬

‫إلى أن يقول‪:‬‬

‫تريدين للحرب بترولنا‬


‫وللنهب والسلب محصولنا‬
‫وتلقين نارًا على زيتنا‬
‫وتشوين بالنار مقتولنا‬
‫وتستدفئين على شينا‬
‫وتستمتعين بتمزيقنا‬

‫والمعروف أن إنكلترا‪ ،‬أقدمت سنة ‪ 1956‬م بغزو مصر هي وحليفتاها فرنسا وإسرائيل‪ ،‬فيما عرف في حينه بالعدوان‬
‫ب جام غضبه على الستعمار‬ ‫الثلثي‪ .‬وقد خرج العدوان يومها صاغرًا وهو يجّر أذيال الخيبة‪ .‬والشاعر في قصيدته هذه يص ّ‬
‫ل برؤية خاصة حول فلسفة الصراع بين الشعوب العربية والستعمار الحديث‪.‬‬ ‫بعامة ويد ّ‬

‫ومن هذه القصيدة إلى قصيدته المدوية التي أنشأها في ذكرى الثورة الجمهورية في العراق سنة ‪ 1958‬م‪ ،‬التي يقول فيها)‬
‫‪:(64‬‬

‫صيحة الشعب في بلد الرشيد‬


‫أشعليها نارًا وثوري وزيدي‬
‫ازحفي كالطوفان يا ثورة الشعب‬
‫إلينا ودمدمي كالرعود‬
‫طهري جّونا من الموت والصمت‬
‫وهزي إلينا بقايا اللحود‬

‫ولعل أروع مافي ذلك تلك الشارة الرائعة التي تضمنها البيت الثاني والثالث التي يريد فيها أن تنتقل عدواها إلى اليمن‪،‬‬
‫فيتطهر من الموت والصمت‪ .‬بعد رحيل طاغيته‪ .‬وعلى السياق نفسه يأتي شعره عن القضية الفلسطينية الذي يقول فيه )‪:(65‬‬

‫يافلسطين إن فينا شعورًا‬


‫لو تجّلى على الحديد لذابا‬
‫ل تظنوا أن إذا ماذهبتم‬
‫سنرى العيش بعدكم مستطابا‬
‫يافلسطين إن بعدنا فإنا‬
‫نرسل الروح من بعيد كتابا‬
‫هذه مهجتي تذوب نظاما‬
‫فإليكم مني الفؤاد المذابا‬

‫والبيات داّلة على عمق المشاعر القومية‪ ،‬وعلى متانة الروابط التي تجعل العربي أكثر التحامًا بأخيه العربي‪ .‬وهي مسألة‬
‫قّلما خل منها شاعر معاصر‪ ،‬إذا كان على قدر من الصالة‪ .‬والزبيري واحد من أولئك العلم الصلء الذين ذابوا في‬
‫قضاياهم الوطنية والقومية‪ .‬يقول‪» :‬كذلك قدر لي في أثناء محنة مريرة قاسية أن أنصهر وأذوب‪ ،‬وأتحول إلى جهاز إنساني‬
‫دقيق حساس وأن أخرج من دنيا الناس وأشهد صورهم‪ ،‬وهياكلهم وأطوارهم وأوزانهم‪ ،‬وحتى تحركاتهم في أعماقهم الذاتية‬
‫في قوالبها الخفية الكامنة في الغوار قبل أن تخرج إلى سطح الحياة«)‪(66‬‬

‫وفي الختام‪:‬‬

‫خى وليزال كشف الخبيئ من‬ ‫فإن هذه القراءة الجديدة في شعر الزبيري تأتي في السياق‪ ،‬في إطار رحلة بحث دؤوب‪ ،‬تو ّ‬
‫ضم المة تراثها‪ ،‬وتعّفي على ما فيه من ذخائر‪ .‬وفي الطريق تبرز لنا القامة اليمانية‬ ‫تراث أمة العرب‪ ،‬في عصر كادت تته ّ‬
‫ل على ذلك الكمون الثوري‬ ‫الشامخة ‪ -‬في وقت مبكر جدًا ‪ -‬ممثلة بالشهيد المرحوم محمد محمود الزبيري الذي جاء شعره دا ً‬
‫الذي يكاد يعتلج في الجسد العربي أّنى وجد في مشارق الوطن أو مغاربه‪ .‬ومّعبرا عن أصالة فذة‪ ،‬وريادة مبكرة‪ ،‬وفهم‬
‫واضح‪ ،‬وفعل يرتقي إلى مستوى الفهم‪ ،‬وعطاء ثر‪ ،‬وفعالية دائمة ومستمرة‪ .‬وهي صفات أّهلته‪ ،‬أن يتبوأ هذه المكانة‬
‫المرموقة‪ ،‬وأن ينتزع لقب أبي الحرار انتزاعًا‪ ،‬وأن يكّرم تكريمًا لئقًا كما يكّرم عادة البطال التاريخيون ؛ من قادة‬
‫الشعوب‪ ،‬ومن زعمائهم‪ .‬وفي التقدير أن شعره امتاز بسمات ثلث جعلته نموذجًا رائعًا يمكن أن يحتذى‪ .‬وهذه السمات هي‪:‬‬
‫‪ (1‬الصدق الفني‪ :‬وقد خل شعره من المعاضلة والمداورة‪ ،‬أو السفف وجاء متساوقًا في عطائه وبنائه‪ ،‬راقيًا في عبارته‪ ،‬جاّدا‬
‫في طرحه‪ ،‬متفانيًا في أدائه‪.‬‬
‫‪ (2‬العاطفة الصادقة والمخلصة‪ :‬وقد كاد يحكي كل حرف من كلماته‪ ،‬وكل حركة من حركاته‪ ،‬أو سكنة من سكناته شخصية‬
‫تتحرق في أتون من الغضب اللهب أو تشوى على سّفود من اللهب المحرق‪ ،‬وقد ذابت في الجماعة وأصبحت لسان وطن‬
‫وحال أّمة‪ ،‬تلهج بما تفكر‪ ،‬وتفكر بما تعاني‪.‬‬
‫‪ (3‬الموضوعية الهادفة والمستنيرة‪ :‬وقد كاد يشكل كل حرف عنده دللة على معاناة ؛ المر الذي جعله رجل الرأي‬
‫والموقف‪ ،‬في كل عطائه وإبداعه‪ .‬وعليه فإننا بعد رحلة البحث هذه نوصي بقراءته ودراسته ومحاولة فهمه بشكل صحيح‪،‬‬
‫ليس اليوم فحسب ؛ وإنما على مدار الجيال‪.‬‬
‫الهوامش‪:‬‬

‫)‪ (1‬ينظر رحلة في الشعر اليمني‪ .‬عبد ال البردوني‪ .‬الطبعة الخامسة ص‪.134:‬‬
‫)‪ (2‬ينظر المجاهد الشهيد محمد محمود الزبيري‪ .‬تأليف عبد الرحمن طيب بعكر الحضرمي‪ .‬مكتبة الرشاد الطبعة‬
‫الولى‪:‬ص ‪.8‬‬
‫)‪) (3‬صلة في الجحيم( محمد محمود الزبيري دار الكلمة صنعاء الطبعة الثانية ‪ 1985‬ص ‪.47‬‬
‫)‪ (4‬نفسه‪.49 – 47 :‬‬
‫)‪ (5‬ثورة الشعر‪ .‬محمد محمود الزبيري‪ .‬دار الكلمة صنعاء الطبعة الثانية ‪ 1985‬ص ‪.11‬‬
‫)‪ (6‬أعلم الدب العربي المعاصر‪ .‬روبرت كامبل‪ .‬مركز الدراسات للعالم العربي المعاصر‪ .‬بيروت الطبعة الولى ‪1996‬‬
‫م‪ .‬ص ‪.663‬‬
‫)‪ (7‬السابق‪.7 :‬‬
‫)‪ (8‬المجاهد الشهيد‪.79 :‬‬
‫)‪ (9‬ثورة الشعر ‪.14 – 13‬‬
‫)‪ (10‬صلة في الجحيم‪.125 :‬‬
‫)‪ (11‬ديوان الزبيري – دار العودة – بيروت ج ‪ 2‬ص‪.110:‬‬
‫)‪ (12‬صلة في الجحيم‪.85 – 84 :‬‬
‫)‪ (13‬نفسه‪.5:‬‬
‫)‪ (14‬شعر الزبيري بين النقد وأوهام التكريم‪ .‬د‪ .‬رياض القرشي الطبعة الولى‪ .‬القاهرة ‪ 1990‬ص ‪.10‬‬
‫)‪ (15‬نفسه‪.11:‬‬
‫)‪ (16‬المجاهد الشهيد ‪.154‬‬
‫)‪ (17‬الزعيمان الزبيري ونعمان‪ 40 – 39 :‬تحقيق أحمد عبد الرحمن المعلمي‪ .‬مطبعة عكرمة دمشق‪.‬‬
‫)‪ (18‬النحل‪ .‬الية ‪.125‬‬
‫)‪ (19‬السابق ‪.24‬‬
‫)‪ (20‬نفسه‪.‬وأبو طالب أحد خطباء المساجد في صنعاء وقد منعه المام من الخطابة بعد أن وجه انتقادات إلى حكمه ينظر‪:‬‬
‫‪.24‬‬
‫)‪ (21‬نفسه‪.‬‬
‫)‪ (22‬ثورة الشعر‪.13 :‬‬
‫)‪ (23‬المجاهد الشهيد‪.114 :‬‬
‫)‪ (24‬نفسه‪.88 :‬‬
‫)‪ (25‬ثورة الشعر‪.106 :‬‬
‫)‪ (26‬نفسه‪.49 :‬‬
‫)‪ (27‬صلة في الجحيم ‪.66 – 59‬‬
‫)‪ (28‬المجاهد الشهيد‪.82 :‬‬
‫)‪ (29‬نفسه‪.82 :‬‬
‫)‪ (30‬من أول قصيدة‪ .‬إلى آخر طلقة‪ .‬دراسة في شعر الزبيري‪ .‬عبد ال البردوني‪ .‬الطبعة الثالثة‪ 1997 :‬م دار البارودي‪.‬‬
‫بيروت ص‪.133 :‬‬
‫)‪ (31‬نفسه‪.‬‬
‫)‪ (32‬ديوان عبد ال البردوني ‪.20 :2‬‬
‫)‪ (33‬المجاهد الشهيد‪.77 :‬‬
‫)‪ (34‬نفسه‪.78 :‬‬
‫)‪ (35‬قضايا يمنية‪ .‬تأليف عبد ال البردوني‪ .‬الطبعة الخامسة‪ 1996 :‬م ص ‪.156‬‬
‫)‪ (36‬ثورة الشعر‪.13 :‬‬
‫)‪ (37‬صلة في الجحيم‪.‬‬
‫)‪ (38‬نفسه‪.‬‬
‫)‪ (39‬نفسه‪.116 :‬‬
‫)‪ (40‬المجاهد الشهيد‪.85 :‬‬
‫)‪ (41‬نفسه‪.17 :‬‬
‫)‪ (42‬صلة في الجحيم‪.35 :‬‬
‫)‪ (43‬نفسه‪ 36 :‬والصل في الديوان‪ ) :‬وأكاد أرفضها إذا لم تكن ( وهو على هذه الصورة مكسور‪.‬‬
‫)‪ (44‬نفسه‪.7 :‬‬
‫)‪ (45‬نفسه‪.115 :‬‬
‫)‪ (46‬نفسه‪.55 :‬‬
‫)‪ (47‬أوليات النقد الدبي في اليمن‪ .‬د‪.‬عبد العزيز المقالح‪ :‬ص ‪.66‬‬
‫)‪ (48‬المجاهد الشهيد‪.85 :‬‬
‫)‪ (49‬صلة في الجحيم‪.82 :‬‬
‫)‪ (50‬نفسه‪.119 :‬‬
‫)‪ (51‬نفسه‪.121 :‬‬
‫)‪ (52‬المجاهد الشهيد‪.109 :‬‬
‫)‪ (53‬نفسه‪.111 :‬‬
‫)‪ (54‬نفسه‪.‬‬
‫)‪ (55‬الصل ة في الجحيم‪.99 :‬‬
‫)‪ (56‬نفسه‪.‬‬
‫)‪ (57‬ديوان الزبيري‪.155 :‬‬
‫)‪ (58‬ينظر الزبيري ونعمان ‪.183 ،145 ،195‬‬
‫)‪ (59‬المجاهد الشهيد‪.136 :‬‬
‫)‪ (60‬نفسه‪.‬‬
‫)‪ (61‬نفسه‪.138 :‬‬
‫)‪ (62‬نفسه ‪.140‬‬
‫)‪ (63‬ديوان الزبيري ‪.140 :2‬‬
‫)‪ (64‬ثورة الشعر‪.115 :‬‬
‫)‪ (65‬ديوان الزبيري‪.142 :2 :‬‬
‫)‪ (66‬المجاهد الشهيد‪.142 :‬‬

You might also like