You are on page 1of 11

‫‪21‬‬ ‫واجب المة في تحديات القرن الـ‬

‫محاضرة لسماحة الشيخ العلمة أحمد بن حمد الخليلي‬


‫المفتي العام لسلطنة عمان‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫الحمد ل حق حمده‪ ،‬الحمد ل ولي كل نعمة وأهل كل حمد الذي خلق فسوى وقدر‬
‫فهدى والذي منه المبدأ وإليه الرجعى‪ ،‬سبحانه هو الله الواحد الفرد الصمد الذي لم‬
‫يتخذ صاحب ًة ول ولداً‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له وأشهد أن سيدنا‬
‫ونبينا محمد عبده ورسوله أرسله ال بالطريقة السواء والشريعة السمحاء والملة‬
‫الحنيفية الغراء‪ ،‬فبلغ الرسالة وأدى المانة ونصح هذه المة وكشف ال بطلعته عنها‬
‫الغمة‪ ،‬صلوات ال وسلمه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسانٍ‬
‫إلى يوم الدين‪.‬‬

‫أما بعد‪،،،‬‬

‫فبتحية السلم الطيبة المباركة أحييكم أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة وسائر‬
‫الخوة والخوات الحضور فالسلم عليكم جميعاً ورحمة ال وبركاته‪ .‬وأحمد ال‬
‫سبحانه الذي جمعنا في هذا البلد العريق وفي هذا المكان الغالي العزيز وفي هذه‬
‫الليلة المباركة ليلة الجمعة الغراء وفي هذا الفصل الممتع الجميل فصل الخريف‪،‬‬
‫وفي هذه الفترة التي نحن أحوج ما نكون فيها إلى أن نتدارك مشكلتنا ونعرف ما‬
‫يتحدانا ونعرف المخرج من كل أزمة والمتنفس من كل ضيق‪.‬‬

‫ل ريب أن المة السلمية كما نعلم جميعًا تمر الن بمرحلة المخاض‪ ،‬مرحلة‬
‫امتحانٍ وبلء‪ ،‬هذا مع التراكمات الماضية من عهود سحيقة جعلتها تتخلف عن المم‬
‫مع أنها هي المة الوسط التي يجب عليها أن تكون رائدةً في كل خيرٍ ما بين المم‬
‫وقائدةً إلى كل صلح وإصلح لنها المة التي نيط بها أمرٌ جلل في حياة هذه‬
‫النسانية كما أخبر سبحانه وتعالى عندما قال‪ (( :‬ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير‬
‫ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ))‪ ،‬وقال ‪ (( :‬كنتم‬
‫خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بال ))؛‬
‫نعم هذه المة إنما هي أمةٌ مسؤولةٌ عن المم لن ال سبحانه وتعالى اختصها بأعظم‬
‫رسالة وبعث فيها أعظم رسول وأنزل عليها أجل كتاب‪ ،‬فهي جديرة مع هذا التكريم‬
‫الذي نالته من قبل ال سبحانه وتعالى أن تتحمل هذه المانة بصدق وبقوة وبتعاضدٍ‬
‫وتحالفٍ وبثباتٍ وصبر وبقين بأن ال سبحانه وتعالى سيكتب لها النجاح‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ول ريب أن ال سبحانه وتعالى جعل في هذه الحياة سنن (( ولن تجد لسنة ال تبدي ً‬
‫ل‬
‫))‪ ،‬فإن ال ل يحابي أحداً من خلقه إذ ليس بينه وبين أح ٍد من الخلق نسب وليس بينه‬
‫وبين أحدٍ من الخلق سبب إل التقوى‪ ،‬فمن استمسك بالتقوى فقد استمسك بالعروة‬
‫الوثقى التي ل انفصام لها‪ ،‬وهذه المة بما أنها محملة هذه المانة العظيمة يجدر بها‬
‫أن تحرص على أدائها لنها أمانة تُسأل عنها يوم القيامة يوم الحسرة والندامة‪.‬‬

‫وال سبحانه وتعالى خلق النسان خلقاً عجيباً كما هو واضح للجميع وجعله متميزاً‬
‫على بقية المخلوقات سواءً ما يشاركه الحياة في هذا الكوكب المظلم أو المخلوقات‬
‫الخرى‪ ،‬وبسبب هذه المزايا التي أودعها في طبع النسان والملكات المتنوعة التي‬
‫جعلها في فطرته جعله ال سبحانه وتعالى مسؤولً مسؤولية كبرى‪ ،‬فجديرٌ بالنسان‬
‫أن يدرك تبعات هذه المسؤولية وكيف يتصرف فيها‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن الحياة حياة تنافي وتزاحم وتدافعٍ وتجاذب‪ ،‬فهذه هي سنتها التي‬
‫جعلها ال سبحانه وتعالى في أهلها‪ ،‬وهذه المة كغيرها من المم معرضةٌ لذلك كله‬
‫فالمم الخرى تدافعها وتزاحمها وتجاذبها‪ ،‬فإن لم تأخذ بأسباب القوة وأسباب‬
‫النجاح كان الفشل نصيبها وهذا الذي وقع عبر الزمن الماضي في هذه القرون‬
‫الخيرة بسبب بعد هذه المة عن سنن ال سبحانه وتعالى في هذه الحياة‪ .‬ونحن إن‬
‫عجبنا فإننا نعجب أيما عجب أن تكون هذه المة بهذا القدر من التخلف والضياع مع‬
‫أنها المة التي اختصها ال سبحانه وتعالى بهذا الهدى المبين وبالذكر الحكيم‬
‫وبالصراط المستقيم‪ ،‬فكيف تزيغ بها الهواء وتتشعب معها الراء وتنحرف ذات‬
‫اليمين وذات الشمال ثم بجانب ذلك يأخذنا العجب ويذهب بنا كل مذهب عندما نرى‬
‫أن هذه المة أُفتتحت رسالتها بقول الحق تبارك وتعالى ‪ (( :‬اقرأ باسم ربك الذي‬
‫خلق * خلق النسان من علقٍ * اقرأ وربك الكرم * الذي علم بالقلم * علم النسان‬
‫ما لم يعلم * )) ونرى مع ذلك أن هذه المة على مائدة العلم إنما تعيش على فتات ما‬
‫يتساقط من أيدي الخرين‪ ،‬فكيف تتخلف هذا التخلف وترجع إلى الوراء مع أن‬
‫كتابها يدعوها إلى العلم والخذ بأسبابه؟!!‪.‬‬

‫ب للضللة‬
‫مع هذا كله نرى أن المة التي جاء كتابها محقراً للعلم ورامياً إياه بأنه سب ٌ‬
‫والنحراف حيث يجعل الشجرة التي أكل منها آدم فانحرف هي شجرة العلم وأن‬
‫سعادة النسان هي في أن يبتعد عن العلم‪ ،‬نجد أن هذه المة تتقدم غيرها‪ ،‬تتقدم‬
‫المم الخرى في صناعاتها وتتقدم المم الخرى في قوتها مع حملتها‪ ،‬فما الذي‬
‫جعلهم يتقدمون مع أن كتابهم يقتضي أن يتأخروا عن غيرهم من المم وما الذي‬
‫جعلنا نتخلف مع أن كتابنا يدفع بنا إلى المام؟!! هذا مما يستدعي العجب‪.‬‬

‫كذلك نجد أن هذه المة جعلها ال سبحانه وتعالى أمةً وسطاً في كل شيء حتى في‬
‫الرض التي شاء ال سبحانه وتعالى أن تكون مباءةً لها ومستقراً فإنها هي سرة‬
‫الرض وكبدها وقلبها‪ ،‬فيها الخيرات الكثيرة سواءً ما يتدفق من أعماق الرض أو‬

‫‪2‬‬
‫ما هو على ظهر الرض‪ ،‬وبإمكانها أن تتكامل في بناء حياتها القتصادية فكيف مع‬
‫ذلك تعيش عالةً على غيرها في هذا الجانب؟!! كل هذا إنما يستدعي العجب العجاب‬
‫ويقتضي أن يحير النسان في هذا المر‪.‬‬

‫ولكن عندما نرى أن عزة هذه المة وشرفها وكرامتها مبنية على استمساكها بحبل‬
‫ربها المتين واتباعها نوره المبين والعض بالنواجذ على هذا الهدى للمتقين نجد أن‬
‫أسباب ذلك تعود إلى أن هذه المة أفلتت يدها من الستمساك بهذا الحبل المتين‬
‫فلذلك مُنيت بما منيت به؛ ولئن كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي ال‬
‫تعالى عنه يقول للعرب‪ ( :‬نحن قو ٌم أعزنا ال بالسلم فإن ابتغينا الهدى في غيره‬
‫أذلنا ال )‪ ،‬فإن هذه المة جميعًا إنما اجتمع شتاتها بالسلم‪ ،‬اجتمعت جميعاً في ظل‬
‫السلم عرباً وعجماً‪ ،‬بيضاً وسمراً كلهم جمعهم السلم دين ال تعالى الحق الذي‬
‫وحد ما بين هذه الشعوب بل ألف بين القلوب المتنافرة وجمع بين الفئات المتدابرة‬
‫وكون منها أمة هي خير أمةًٍ أُخرجت للناس‪ .‬فإذن هذه المة ل تجتمع إل في ظل‬
‫السلم دين ال الحنيف ول تهتدي إل بهذا الكتاب المبين الذي ل يأتيه الباطل من‬
‫بين يديه ول من خلفه‪ ،‬ول تعز إل عندما تأتم بنيها الكريم عليه وعلى آله وصحبه‬
‫أفضل الصلة والتسليم بحيث تجعل سيرته وسنته نصب عينيها تحرص كل‬
‫الحرص على تطبيق القليل والكثير والدقيق والجليل منهما‪ ،‬عندئذٍ تكون هذه المة‬
‫آخذة حقاً بأسباب القوة‪.‬‬

‫ونحن نرى أن هذه الحالة التي نحن عليها قد أنذرنا بها رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم منذ أم ٍد بعيد عندما قال‪ " :‬يوشك أن تتداعى عليكم المم كما تتداعى الكلة‬
‫على قصعتها ‪ .‬قيل‪ :‬أمن قلةٍِ يا رسول ال؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬إنكم كثير ولكنكم غثاءٌ كغثاء‬
‫السيل ولينزعن ال المهابة من قلوب أعدائكم وليقذفن الوهن في صدوركم‪ .‬قيل له‪:‬‬
‫وما الوهن يا رسول ال؟ قال‪ :‬حب الدنيا وكراهة الموت "‪ .‬نعم حب الدنيا وكراهة‬
‫الموت هما اللذان أوقعا هذه المة في هذا المنزلق وهبطا بها إلى هذا الحضيض‬
‫الذي وصلت إليه ول أدل على ذلك من هذا الواقع المرير الذي نعايشه الن في هذه‬
‫اليام‪ ،‬فكيف تخاذلت هذه المة مع كثرتها ومع وجود أسباب القوة عندها وأصبحت‬
‫ل تستطيع أن تقول وهي تُظلم بأنها مظلومة ول تستطيع أن تقول للظالم بأنه‬
‫ظالم؟!! وصل بها المر إلى هذا الحد بحيث تداهن عدوها هذه المداهنة إلى حد أنها‬
‫ل تجرأ وهي يجرأ على ظلمها أن تقول له بأنك ظلمتنا !!‪.‬‬

‫وليس ذلك فحسب بل هنالك تقاذفٌ بالتهامات ومع هذا كله فإن فتاوى تصدر من‬
‫هنا وهناك لتسوغ هذا التخاذل في مواجهة العدو المشترك‪ ،‬فما لهذه المة وهذه‬
‫السقطة التي سقطت إليها؟!! على أن هذه الفتاوى مهما يكن شأن مصدرها فهي‬
‫فتاوى ل تدل إل على ضيق الفق وقصر النظر وعدم التفكر في العواقب وعدم‬
‫التعمق في الفقه في دين ال سبحانه‪ ،‬فيكفي أن يكون هنالك ظالمٌ ومظلوم ليجب على‬
‫المة أن تقف مع المظلوم ضد الظالم مهما كان هذا المظلوم مهما كان ذلك الظالم‬

‫‪3‬‬
‫حتى ولو كان المظلوم من غيرها والظالم منها فإنها عليها أن تساند الحق وتقف‬
‫بجانب الحق من غيرها التفافٍ إلى الشنآن إذ ال سبحانه وتعالى يقول‪ (( :‬يا أيها‬
‫الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ل ولو على أنفسكم أو الوالدين‬
‫والقربين ))‪ ،‬ويقول ‪ (( :‬يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين ل شهداء بالقسط ول‬
‫يجرمنكم شنآن قومٍ على أل تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ))‪ .‬وليس ذلك فحسب‬
‫وإنما القرآن الكريم ضرب أروع المثال في مناصرة المظلوم والوقوف بجانبه ولو‬
‫كان من ألد الخصوم‪ ،‬عندما نزلت منه آياتٌ تتلى في الصلوات وفي غيرها إلى أن‬
‫يرث ال الرض ومن عليها لتكشف حقيقة تهمةٍ أُلصقت ليهودي وهو منها براء مع‬
‫أن اليهود أشد الناس عداوةً للذين ءامنوا وهذا ما نشاهده ونراه إلى وقتنا هذا‪ ،‬ولكن‬
‫نزلت آياتٌ بينات لتبرئ ساحة اليهودي‪ ،‬هذا في حين أن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫إنما يحكم بحسب ما يظهر له كما أخبر بنفسه وليس هو مسؤولً عندما تكون حجة‬
‫أحدٍ من الخصوم في الظاهر أقوى من حجة الخر فيحكم النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫ل – عليه أفضل الصلة والسلم – عن‬ ‫بحسب ما يسمع من حجته‪ ،‬ليس هو مسؤو ً‬
‫ذلك وإنما المسؤول الخصم الذي حاول أن يكابر الحقيقة وأن يطمسها وأن يزورها‬
‫حتى يأكل حق غيره هو المسؤول عن ذلك إل أن ال سبحانه وتعالى أراد أن يكون‬
‫في ذلك عبر ٌة لهذه المة كيف ينزل قرآنٌ يتلى إلى أن يرث ال الرض ومن عليها‬
‫لتبرئة ساحة يهودي من تهمة ألصقت به وهو منها بريء‪.‬‬

‫هذا بجانب أن هنالك اعتباراتٌ شتى يجب على من يُفتي أن يدركها منها أن المة‬
‫إنما يجمعها أمورٌ مشتركة‪ ،‬فهي قبل كل شيء تعبد رباً واحدًا وتؤمن بكتابٍ واحد‬
‫وتأتم برسولٍ واحد وتتجه إلى قبلةٍ واحدة وتؤمن بأركان اليمان التي هي معلومة‬
‫للجميع وتؤمن بأركان السلم التي تشترك فيها جميعاً‪ ،‬فكيف مع ذلك تُقام اعتبارات‬
‫للفوارق التي تمزقها كل ممزق في هذه الوقات الحرجة التي هي أحوج ما تكون‬
‫فيها إلى ما يجمع شملها ويوحد صفها ويرأب صدعها ويلملم شتاتها؟!! هذه المة‬
‫بحاجة إلى أن تتكاتف‪ .‬ولئن كان ال سبحانه وتعالى ينزل في كتابه الكريم ليبشر‬
‫المؤمنين بانقلب المور إلى عكس ما بدى لهم بادئ ذي بدء في الصراع الذي كان‬
‫بين الروم والفرس حيث حزن المسلمون لنتصار الفرس المجوس المشركين على‬
‫الروم الذين هم من أهل الكتاب وكان المشركون على عكس ذلك فأنزل ال سبحانه‬
‫وتعالى قرآناً يتلى لتبشير المؤمنين بانقلب المر إلى الضد بحيث يتحول الغالب إلى‬
‫مغلوب والمغلوب إلى غالب فكيف إذا كان الصراع بين طائفةٍ من المة وبين عدوٍ‬
‫مشتركٍ للمة!‪ .‬فهذا التمزق وهذا الختلف هو من التحديات التي صنعتها المة‬
‫بنفسها‪ ،‬ول ريب أن للعدو أصابع في صنع هذا المر ولكن المة استجابت لهذا‬
‫العدو ورضخت له وأخذت تتزلف إليه بمثل هذه التصرفات‪.‬‬

‫هذا على أن القرآن الكريم يرشدنا إلى أن الوحدة هي مصدر القوة ويبين لنا أن‬
‫الفرقة هي مصدر الضعف ‪ (( :‬ول تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ))‪ ،‬يحذرنا ال‬
‫تبارك وتعالى من التنازع لل يؤدي التنازع إلى الفشل وذهاب الريح‪ ،‬فإذن التنازع‬

‫‪4‬‬
‫ت من الوقات هو غير محمود‪ ،‬والتنازع في هذه الساعات‬ ‫ما بين المة في كل وق ٍ‬
‫الحرجة التي هي بحاجة فيها إلى أن تتآلف قلوبها وتتوحد كلمتها ويجتمع صفها‬
‫وتزول السخائم والحقاد من صدورها التنازع في هذه الساعات الحرجة إنما يزيد‬
‫عمق الخلف بين المة ويقضي على أسباب عزتها وأسباب قوتها وأسباب‬
‫انتصارها‪.‬‬

‫هذا ول ريب أن المة إنما هي بأفرادها‪ ،‬إذ المة كالسرة وكالمجتمع تتكون من‬
‫الفراد فصلح الفراد ينعكس على المة ايجاباً وفساد الفراد ينعكس على المة‬
‫سلباً‪ ،‬فرقي المة وانحطاطها وتقدمها وتأخرها وعزتها وذلتها وكرامتها ومهانتها‬
‫بحسب ما يكون عليه الفراد هذا مع كوننا ل ننكر أن للقيادات السياسية والقيادات‬
‫الفكرية والدينية تأثيراً في أحوال الفراد‪ ،‬فالفراد يجب أن يكونوا أقوياء لتتكون‬
‫منهم أمةٌ قوية‪ ،‬فلذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬المؤمن القوي خي ٌر وأحب‬
‫إلى ال من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير "‪.‬نعم المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى ال‬
‫من المؤمن الضعيف لنه يتحقق على يد هذا المؤمن القوي ما ل يتحقق على يد‬
‫المؤمن الضعيف ولن اجتماع هؤلء القوياء من المؤمنين على كلمةٍ سواء ووضع‬
‫بعضهم أيديهم في أيدي البعض الخر مما يدعم هذه القوة قوة المة ويوحدها فتكون‬
‫قوتهم لصالح المة جميعاً‪ .‬فمن هنا كان تكوين الفراد القوياء من هذه المة أمراً ل‬
‫مناص منه‪ ،‬وهذا إنما يكون ببناء الفرد المؤمن الموصول بال سبحانه وتعالى‬
‫المتسلح بالعلم العارف بفرص هذه الحياة وكيفية التعامل معها‪ ،‬فنحن لم نُسبق من‬
‫قبل الخرين إل لننا أهملنا هذا الجانب‪ ،‬أهملنا هذا الجانب ول نقول بأن الخرين‬
‫هم ش ٌر منا فكيف تمكنوا ولم نتمكن؟! ذلك لننا أصحاب عقيدة فإن تخلينا عن هذه‬
‫العقيدة كان ذلك سبباً لضعفنا‪ .‬نحن ل تجمعنا جامعة كالعقيدة عقيدة اليمان التي‬
‫تجمع الشتات وتوحد المؤمنين ولذلك عندما خاطب ال سبحانه وتعالى هذه المة لم‬
‫يخاطبهم أبعاضًا وإنما خاطبهم جميعاً‪ ،‬خاطبهم بلفظ ( يا أيها الذين ءامنوا ) لم‬
‫يخاطب العرب وحدهم ولم يخاطب العجم وحدهم وإنما خاطبهم جميعًا بلفظ ( الذين‬
‫ءامنوا )‪.‬‬

‫فإذن التنادي بالقوميات الضيقة وجعلها هي الرابطة التي تربط ما بين هذه المة أمرٌ‬
‫يتنافى مع الواجب الذي يفرضه السلم من اعتبار العقيدة هي الجامعة‪ ،‬ونحن نرى‬
‫أن النبي صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬ترى المؤمنين ‪ "..‬والمؤمنون لفظ عام يشمل‬
‫العرب والعجم يشمل القاصي والداني ‪ ..‬يشمل الذكور والنساء‪ " ،‬ترى المؤمنين في‬
‫توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد‬
‫بالحمى والسهر "؛ وقبل كل شيء القرآن الكريم يقول لنا ‪ (( :‬إنما المؤمنون‬
‫إخوة ))‪ ،‬بل ليس ذلك فحسب‪ ،‬القرآن الكريم يبين أن اليمان هو الصفة التي تجعل‬
‫المؤمن يتولى المؤمن‪ ،‬اليمان هو الرابطة التي تشد المؤمن إلى المؤمن بهذا الرباط‬
‫الوثيق المتين‪ ،‬على أن هذا الرباط إنما يتم بأسباب بينها القرآن الكريم وذلك في قوله‬
‫عز من قائل‪ (( :‬والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف‬

‫‪5‬‬
‫وينهون عن المنكر ويقيمون الصلة ويؤتون الزكاة ويطيعون ال ورسوله أولئك‬
‫سيرحمهم ال إن ال عزيزٌ حكي ٌم ))‪.‬نعم المؤمنون والمؤمنات بينهم هذه الرابطة‬
‫ل منهم يتولى الخر‪ ،‬هذه الولية إنما تقوم‬ ‫العظيمة رابطة ولية بعضهم لبعض‪ ،‬ك ٌ‬
‫على هذه المقومات المذكورة في هذه الية وهي المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر وإقام الصلة وإيتاء الزكاة وطاعة ال ورسوله‪ ،‬فطاعة ال ورسوله تشمل‬
‫الجميع ولكن ذُكر قبل كل شيء المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ولماذا قُدم‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى على إقام الصلة وإيتاء الزكاة؟ إنما قُدم‬
‫على إقام الصلة وإيتاء الزكاة لن المحافظة على إقام الصلة وعلى إيتاء الزكاة‬
‫والمحافظة على أمر ال سبحانه وتعالى ونهيه إنما تتم مع المر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر‪ ،‬في حال المر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون التطبيق العملي‬
‫الدقيق لتعاليم السلم فيُحافظ على إقام الصلة وعلى إيتاء الزكاة ويحافظ على‬
‫طاعة ال ورسوله في كل أمرٍ وفي كل نهي‪ ،‬فلذلك قُدم المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر هنا على أعظم ركنين عمليين من أركان السلم وهما إقام الصلة وإيتاء‬
‫الزكاة‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬ولئن كان المر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذا القدر في التأثير في حياة‬
‫المة فهل المة الن هي أمةٌ أمرٍ بالمعروف ونهي عن المنكر؟ إنما المة أُتيت من‬
‫تعطيلها المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وال سبحانه وتعالى وعد بالنصر‬
‫والتمكين الذين ينصرونه‪ ،‬ونصر ال تعالى إنما هو بإقام الصلة وإيتاء الزكاة‬
‫والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ (( :‬ولينصرن ال من ينصره إن ال لقويٌ‬
‫عزيزٌ * الذين إن مكناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف‬
‫ونهوا عن المنكر ول عاقبة المور * ))؛ فإذن من أعظم واجبات هذه المة في‬
‫الرجوع إلى النهج الصحيح لتتبوأ المكانة الرفيعة ما بين المم إنما في مقدمة هذه‬
‫الواجبات المر بالمعروف والنهي عن المنكر بجانب إقام الصلة وإيتاء الزكاة‪.‬‬
‫وبهذا تتبوأ هذه المة مكان المامة والقيادة ما بين المم بحيث تكون أمة رائدة أمة‬
‫قائدة أمة عزيزة أمة تقول فيُنصت لها وتأمر فيُأتمر بأمرها وتنهى فيُنتهى عن نهيها‬
‫وهكذا كان السلف الصالح‪ ،‬فإن السلف الصالح إنما تمكنوا بهذا كانوا أهل أمرٍ‬
‫بالمعروف ونهي عن المنكركما هو معلوم وبهذا تبوأوا مكان القيادة والمامة بين‬
‫المم ول أدل على ذلك من تلك الوصية العظيمة البالغة التي كان عمر بن الخطاب‬
‫رضي ال عنه يحرص على تزويدها جنده وهم يواجهون أقوى قوة وأقوى عتاد‬
‫للعدو عندما وجه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي ال تعالى عنه الجند‬
‫لمقاومة المبراطورية في فارس زود هذا الجند تلك النصيحة البالغة التي خاطب‬
‫بها قائدهم سعد بن أبي وقاص رضي ال عنه حيث قال له‪ ( :‬أوصيك ومن معك من‬
‫الجناد بتقوى ال على كل حال فإن تقوى ال أفضل العدة في الحرب وأقوى المكيدة‬
‫على العدو‪ ،‬وأوصيك ومن معك من الجناد بأن تكونوا أشد احتراصًا من المعاصي‬
‫منكم من عدوكم فإن ذنوب الجند أخوف عليهم من عدوهم وإنما يُنصر المسلمون‬
‫بمعصية عدوهم ل فإن عددنا ليس كعددهم ول عدتنا كعدتهم فإن استوينا في‬

‫‪6‬‬
‫المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإل ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا‪،‬‬
‫واعلم أن في سيركم عليكم من ال حفظة يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ول‬
‫تعملوا بمعاصي ال وأنتم في سبيل ال ول تقولوا إن عدونا ش ٌر منا فلن يُسلط علينا‬
‫فرب قو ٍم سُلط عليهم من هو شرٌ منهم كما سُلط على بني إسرائيل إذ عملوا‬
‫بمعاصي ال كفار المجوس فجاسوا خلل الديار وكان وعداً مفعولً‪ ،‬واسألوا ال‬
‫العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم أسأل ال ذلك لي ولكم )‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬هذه الوصية هي القوة الفاعلة‪ ،‬هي الذخيرة الحية‪ ،‬هي العتاد الذي ل يُمكن أن‬
‫يُقرب من تزوده‪ ،‬هذه الوصية هي التي طبقها الجند فلذلك استطاعوا أن يهزموا‬
‫ت كانوا فيه يواجهون عدوين خطيرين يتقاسمان معظم العالم المتحضر‬ ‫العدو في وق ٍ‬
‫في ذلك الوقت‪ ،‬فأولئك السلف إنما انتصروا بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪،‬‬
‫كانوا يأمرون بالمعروف وهم مأتمرون به وينهون عن المنكر وهم منتهون عنه‬
‫ق للسلم‪ ،‬كان‬ ‫فلذلك كانت حياتهم حياة أمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكر‪ ،‬حياة تطبي ٍ‬
‫السلم يتجسد في كل جزئية من جزئيات حياتهم‪.‬‬

‫هذا وإن من أهم ما يبني هذه المة ‪،‬وهذا البناء كما قلت إنما يبدأ من الفراد حتى‬
‫ينعكس أثره على المة بأسرها‪ ،‬العتزاز بالسلم‪ ،‬فنحن قومٌ أعزنا ال بالسلم‬
‫فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا ال‪ ،‬نعم نحن قو ٌم أعزنا ال بالسلم هذا العتزاز‬
‫بالسلم يقتضي أن يكون المؤمن حقاً مستمسكًا بهذا السلم ل يرى العزة في غيره‬
‫ل وكل شرٍ في النحراف والبعد عنه‪ ،‬والسلف الصالح كان حراصاً‬ ‫بل يرى كل ذ ٍ‬
‫على ذلك فبسبب هذا كان يحرصون على التكيف وفق تعاليم السلم ويحرصون‬
‫أيضاً على البعد عن منهج الخرين لن احتلل النفوس أخطر من احتلل الرض‬
‫ل ذهب كل شيء إذ‬ ‫واستعمار الفكر أخطرمن استعمار الرض‪ ،‬الفكر إن احتُ ّ‬
‫النسان بالفكر‪ ،‬والمة إنما أُصيبت بسبب الغزو الفكري الذي تسلّط عليها من ِقبَلِ‬
‫سلّط عليها من قبل أعدائها فلذلك هي تحرص على أن تتقرّب من هؤلء‬ ‫أعدائها‪ُ ،‬‬
‫الذين غزوها بكل الوسائل‪ ،‬تحرص على أن تظهر بمظهر الرقي وبمظهر المدنية‬
‫وبمظهر الثقافة عندما تقلد أعدائها‪ ،‬مع أن الواجب بخلف ذلك‪ ،‬ورجال الفكر من‬
‫هذه المة أدركوا هذا المر وسجلوا هذا ببيانهم الباهر فشاعر السلم محمد إقبال‬
‫يقول محذراً هذه المة من النسياق وراء الخرين‪ ،‬يقول‪ ( :‬إن المسلم لم يُخلق‬
‫خلِق ليوجه العالم‬
‫ليندفع مع التيار ويساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل ُ‬
‫والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ويملي عليها إرادته لنه صاحب‬
‫الرسالة وصاحب الحق اليقين ولنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس‬
‫مقامه مقام التقليد والتباع‪ ،‬إن مقامه مقام المامة والقيادة‪ ،‬مقام الرشاد والتوجيه‪،‬‬
‫مقام المر الناهي‪ ،‬ولئن تنكر له الزمان وعصاه المجتمع وانحرف عن الجادة لم‬
‫يكن له أن يخضع ويضع أوزاره ويسالم الدهر بل عليه أن يثور عليه وينازله ويظل‬
‫في صراعٍ معه وعراك حتى يقضي ال في أمره‪ ،‬إن الخضوع والستكانة للحوال‬

‫‪7‬‬
‫القاصرة والوضاع القاهرة من شأن الضعفاء والقزام أما المؤمن القوي فهو نفسه‬
‫قضاء ال الغالب وقدره الذي ل يُرد )‪.‬‬

‫ول ريب أنه مع تسامح السلم الذي ل يوجد مثله في أي دينٍ من الديان نجد في‬
‫أمر الولية يحصرها فيما بين المؤمنين ويحذر من موالة أعداء ال الكافرين‪ ،‬فال‬
‫سبحانه وتعالى يحذر هذه المة من أن تتخذ عدوها وعدوه ولياً ‪ (( :‬يا أيها الذين‬
‫ءامنوا ل تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من‬
‫الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بال ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي‬
‫وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله‬
‫منكم فقد ضل سواء السبيل *))‪ ،‬ثم يبين ما هي العاقبة ‪ (( :‬إن يثقفوكم يكونوا لكم‬
‫أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون *))؛ هذه أمنية‬
‫الكفرة أن يكفر المؤمنون ككفرهم‪ ،‬ولئن كان التحذير من موالة جميع أعداء ال فإن‬
‫ال سبحانه وتعالى خص أهل الكتاب مع ما جعله لهم من ميزة في سياسة المة‬
‫السلمية في معاملتهم يخصهم أيضاً بالتحذير من موالتهم لن هذه الموالة تجر ما‬
‫بعدها‪ ،‬فال تعالى يقول‪ (( :‬يا أيها الذين ءامنوا ل تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‬
‫بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن ال ل يهدي القوم الظالمين *))؛‬
‫ثم يبين مم تنشأ موالتهم فيقول ‪ (( :‬فترى الذين في قلوبهم مرضٌ يسارعون فيهم‬
‫يقولون نخشى أن تصيبنا دائرةٌ فعسى ال أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده فيصبحوا‬
‫على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين ءامنوا أهؤلء الذين أقسموا بال‬
‫جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * ))‪ ،‬ثم يبين أن هذه‬
‫الموالة تؤدي إلى الرتداد عن السلم والعياذ بال إذ هي تُسرع في دين المسلم‬
‫بحيث تجره إلى الكفر شيئاً فشيئاً حتى ينفلت من إسلمه ويصبح خارجًا من هذه‬
‫الملة إذ ال تعالى يقول في هذا السياق بعدما تقدم ‪ (( :‬يا أيها الذين ءامنوا من يرتد‬
‫منكم عن دينه فسوف يأتي ال بقومٍ يحبهم ويحبونه أذل ٍة على المؤمنين أعزةٍ على‬
‫الكافرين يجاهدون في سبيل ال ول يخافون لومة لئم ذلك فضل ال يؤتيه من يشاء‬
‫وال واس ٌع عليم ٌ *))‪ ،‬هذا التحذير من الرتداد عن السلم في هذا السياق دليلٌ على‬
‫أن هذه الموالة تُسرع في دين النسان حتى تجعله ينفلت من دين ال تعالى تماماً‪ .‬ثم‬
‫يبين بعد ذلك من يجب على المؤمن أن يحصر ولءه له فيقول ‪ (( :‬إنما وليكم ال‬
‫ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلة ويؤتون الزكاة وهم راكعون *))‪ ،‬ثم‬
‫بعد ذلك يبين عاقبة هذه الولية التي تشد المؤمنين بعضهم إلى بعض عندما يقول ‪:‬‬
‫(( ومن يتول ال ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب ال هم الغالبون * ))‪ ،‬نعم هذه‬
‫الولية التي تربط بين المؤمنين تجعلهم حزب ال وحزب ال تعالى ل بد من أن‬
‫ينتصر وأن ينهض على عدوه وعدوهم‪ ،‬فلذلك كان على المؤمنين أن يحرصوا على‬
‫هذه الموالة التي تشد بعضهم على بعض وأن يحرصوا على مقومات هذه الولية‬
‫وهي المر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلة وإيتاء الزكاة وطاعة ال‬
‫ورسوله؛ عندئذٍِ تترابط هذه المة برباطٍ واح ٍد يشد بعضها إلى بعض حتى تكون أمةٌ‬
‫قويةٌ تحس بآلم غيرها‪ ،‬فالن هي أمةٌ مقطعة الوصال ممزعة الشلء ولذلك ل‬

‫‪8‬‬
‫يحس بعضها بما يصيب الخرين لنها أصبحت أمة ميتة أوصالها مقطعة وأشلءها‬
‫ممزعة فمن هنا كانت الضرورة إلى جمع هذا الشتات تحت راية القرآن وتحت راية‬
‫السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلة والسلم‪.‬‬

‫على أن ذلك كله إنما ينبني كما ذكرت على اليمان الراسخ في النفوس‪ ،‬هذا اليمان‬
‫ل بد من أن يُدعم بما يثبته وما يقويه وهو الصلة بال سبحانه وتعالى فإن ال عز‬
‫وجل شرع العبادات جميعًا لتغذي اليمان‪ ..‬لتدعم اليمان ‪ ..‬لتكون وقودًا لشعلته ‪..‬‬
‫لتكون مدداً لطاقته‪ ،‬جميع هذه العبادات المشروعة في السلم إنما تؤدي إلى هذه‬
‫الغاية‪ ،‬ومع هذا ل بد من أن يكون التلقي عن ال سبحانه وتعالى وعن رسوله صلى‬
‫ال عليه وسلم عن فه ٍم وعن وعي‪ ،‬ونحن ندرك أن ال سبحانه وتعالى أنزل كتابه‬
‫بلسانٍ عربيٍ مبين وأرسل رسوله صلى ال عليه وسلم من ضئضئ القبائل العربية‪،‬‬
‫لسانه كان لسانًا عربياً مبينًا هو لسان القرآن‪ ،‬فمن هنا كان التلقي عن ال تعالى‬
‫وعن رسوله صلى ال عليه وسلم يتوقف على الفهم الصحيح لهذا الكتاب العربي‪،‬‬
‫واللغة هي رباطٌ كما أن العقيدة رباط‪ ،‬اللغة تشد النسان إلى النسان بل اللغة هي‬
‫وعاء الثقافة وهي الجسر التي تعبر عليه الثقافة من شعبٍ إلى شعب ومن أمةٍ إلى‬
‫أمة‪ ،‬ولذلك نحن نرى أن المستعمرين أدركوا هذا فحرصت كل طائفةٍ منهم على‬
‫نشر لغتها في مستعمراتها‪ ،‬نرى أن كل طائف ٍة من المستعمرين تمكنت في الرض‬
‫حرصت على نشر لغتها لتنشر من خللها ثقافتها وفكرها فلذلك كان من الضرورة‬
‫أن تكون للمسلمين جميعًا لغة تجمع شتاتهم‪ ،‬هذه اللغة التي تجمع هذا الشتات ما بين‬
‫هذه الشعوب الكثيرة من شعوب السلم ذات اللوان المختلفة والبيئات المتعددة‬
‫واللسنة المتنوعة ل يمكن أن تكون هذه اللغة إل اللغة التي خاطبها ال تعالى بها‬
‫والتي أمرها أن تخاطبه بها عندما تقف بين يديه‪ ،‬يقف الواحد بين يدي ال تعالى‬
‫ن عربيٍ مبين‪ ،‬وقد قلت أكثر من مرة‬ ‫ليقول ‪ (( :‬إياك نعبد وإياك نستعين )) بلسا ٍ‬
‫بأنه من العار على المسلم أن يتقن لغة المستعمر الذي استعبده ول يتقن اللغة التي‬
‫خاطبه ال تبارك وتعالى بها ليحرره من العبودية لغيره وليجعله سيداً كريمًا بين‬
‫الناس‪ ،‬فالمسلم عليه أن يحرص على هذه اللغة‪ ،‬وقد أدرك السلف ذلك من جميع‬
‫فئات هذه المة فحرصوا على هذه اللغة حرصهم على عقيدتها لنهم أدركوا أن هذه‬
‫اللغة ليست لغة قومية‪ ،‬نعم كانت لغة قومية قبل أن ينزل بها القرآن أما بعد أن نزل‬
‫القرآن بلسانٍ عربي مبين وجعلها ال سبحانه وتعالى وعاءً لكلمه المنزل للهداية‬
‫والعجاز لم تعد لغة قومية وإنما هي لغة عالمية يجب على المؤمنين جميعاً أن‬
‫يحرصوا عليها وأن يغاروا عليها أكثر مما يغارون على أي لغةٍ من اللغات وهذا‬
‫الذي حصل عند السلف عندما حرصوا على هذه اللغة حتى أن العجم كانوا أحرص‬
‫عليها من العرب والذين بحثوا هذه اللغة وبحثوا فنونها وحرصوا على ابتكار هذه‬
‫الفنون إنما كانوا من العجم‪ ،‬فسيبويه والفرّاء والكسائي والخفش وابن علي‬
‫الصارفي وغيرهم وغيرهم إنما كانوا عجماً‪ ،‬ونجد الزمخشري العجمي يقول في‬
‫ل أحمد على أن شرفني بأن جعلني من علماء العربية )؛‬ ‫فاتحة كتابه المفصّل ‪ ( :‬ا َ‬
‫وهذا الذي أقوله ليس هو تعصباً‪ ،‬قلت أكثر من مرة بأن هذا ليس تعصباً ولئن جاز‬

‫‪9‬‬
‫أن يُسمى ذلك تعصبًا فإنه تعصبٌ للسلم وليس هو تعصباً للقومية العربية فإنني ل‬
‫أؤمن بالقوميات الضيقة التي تفرق المة وتجعلهم أشلء ممزعة إنما أؤمن بالعقيدة‬
‫الواحدة التي تجمع العربي والعجمي وأرى أن العجمي هو أخٌ للعربي ليس بينهما‬
‫تفاضل إل بقدر ما يكون أحدهما أقرب إلى ال سبحانه وتعالى بالتقوى والعمل‬
‫الصالح فإن ال تعالى لم يدع من جانب التفاضل بين الناس إل التقوى عندما قال ‪:‬‬
‫(( يا أيها الذين ءامنوا إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن‬
‫أكرمكم عند ال أتقاكم ))‪ ،‬وال سبحانه يسر هذه اللغة تيسير القرآن للذكر لنها كما‬
‫قلت هي وعاءٌ لكتاب ال سبحانه وتعالى ‪..‬لكلمه المعجز‪ ،‬فلذلك كانت ميسرة فمن‬
‫طلبها تيسرت له؛ وقبل نحو ربع قرن من الزمن حضرت بنفسي مؤتمراً في غرب‬
‫أفريقيا بالسنغال وكنت من الضيوف الذين حضروا هذا المؤتمر للطلع ولم أكن‬
‫ضيفاً مشاركًا لن المؤتمر كان ما بين الخوة المسلمين الفارقة بحيث حرصوا‬
‫على تجميع جهودهم والتنسيق ما بين مؤسساتهم الدعوية في غرب إفريقيا‪ ،‬فالمؤتمر‬
‫ن عربي مبين من غير ترجمة ما بين الشعوب الفريقية شعوب‬ ‫أُدير هنالك بلسا ٍ‬
‫غرب إفريقيا‪ ،‬أُدير بلسانٍ عربيٍ مبين من غير ترجمة ‪ ،‬ولعلكم علمتم أنه في نهاية‬
‫القرن الرابع عشر الهجري وبداية القرن الخامس عشر نظم القسم العربي بهيئة‬
‫الذاعة البريطانية مسابقة شعرية في مدح النبي صلى ال عليه وسلم باللسان العربي‬
‫المبين واشترك في هذه المسابقة ‪ 1200‬من الشعراء وكان الفائز الول من هؤلء‬
‫الشعراء جميعاً كان الفائز إفريقياً سنغاليًا وهو الشاعر عبدال باء الذي مدح النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم بقصيدة عصماء استهلها بقوله ‪:‬‬
‫هجرت بطاح مكة والهضابا ‪ ....‬وودعت المنازل والرحابا‬
‫تخذت من الدجى يا بدر ستراً‪ .....‬ومن رهبوت حلكته ثيابا‬
‫ومن عجبٍ تسيء إليك أرضٌ ‪....‬نشأت فما أسأت بها شبابا‬

‫فما الذي جاء بهذه القصيدة شيئاً من العجبةإنما هي قصيدة في منتهى القوة قوة‬
‫التعبير باللسان العربي المبين وفيها من السلسة ما ل يخفى على من تذوق الشعر‬
‫العربي وذلك يدل على أن هذه اللغة ميسرة لجميع من أراد أن يتكلم بها كما يسر ال‬
‫سبحانه وتعالى القرآن للذكر‪.‬‬

‫فإذن جديرٌ بالمسلمين جميعًا أن يحرصوا على هذه اللغة التي تجمع شتاتهم‪ ،‬وهذا ل‬
‫ينافي أن تكون لكل شعبٍ لغته أو لكل قومي ٍة لغتها وإنما هنالك لغة يجب أن تكون‬
‫مشتركة ما بين الجميع توحد الشتات وتجسد لهم التفاهم إذ النسان خُلق ليتفاهم مع‬
‫الخرين وكيف يتم التفاهم ما بين هذه المة وهم ل يتقن بعضهم لغة بعض!‬
‫الحرص على هذه اللغة مما يجب أن يكون أمراً مشتركًا ما بين جميع شعوب هذه‬
‫المة السلمية هذا مع أن الدّين الذي هو في أعناق العرب في ذلك أعظم مما في‬
‫أعناق الخرين فهم عليهم أن يتقنوا هذه اللغة أيما إتقان ثم عليهم أن ينشروها في‬
‫بقية الشعوب حتى تنتشر من خللها ثقافة السلم وينتشر من خللها الفكر‬

‫‪10‬‬
‫السلمي الصحيح ‪ ..‬الفكر القرآني ‪ ..‬الفكر النبوي ‪ ..‬حتى تكون هذه المة على‬
‫بينةٍ من أمرها وبصيرةٍ من دينها‪.‬‬

‫فهذا مما يجب أن يدركه المسلمون جميعاً مع ما يجب عليهم من الحرص على‬
‫انتزاع السخائم والحقاد التي في صدورهم وكسر الحواجز التي تفصل بعضهم عن‬
‫بعض ليكونوا أمةً واحدة‪ ،‬على أن كون هذه المة أمة واحدة ل يتم إل في ظل‬
‫العبادة والتقوى فإن ال تبارك وتعالى يقول ‪ (( :‬إن هذه أمتكم أمةً واحدة وأنا ربكم‬
‫فاعبدون *))‪ ،‬ويقول ‪ (( :‬وإن هذه أمتكم أمةً واحدة وأنا ربكم فاتقون * ))‪ ،‬فيجب‬
‫على الجميع الحرص على حكم عبادة ال تبارك وتعالى وعلى التقوى‪ ،‬بسبب ذلك‬
‫يكون الترابط ما بين هذه المة وبسبب هذا تستعلي على الرغبات الضيقة التي تجعل‬
‫كل واحد يستقل عن الخرين وبهذا تكون هذه المة بمشيئة ال تعالى أمة‬
‫عزيزة‪..‬أمة كريمة‪..‬‬

‫أسأل ال سبحانه وتعالى أن يعز هذه المة وأن يجمع شتاتها‪ ،‬اللهم ربنا اجمع شتاتنا‬
‫على ما تحبه وترضاه‪ ،‬اللهم ألف بين قلوبنا ووحد صفوفنا وانزع ما في صدورنا‬
‫من السخائم والحقاد اجعلنا خير أمةٍ أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن‬
‫المنكر وتقيم الصلة وتؤتي الزكاة وتقيم حدودك وتنفذ أحكامك وتطبق شريعتك‪،‬‬
‫اللهم اهدنا للهدى ووفقنا للتقوى وعافنا في الخرة والولى‪ ،‬اللهم أعز السلم‬
‫والمسلمين وأذل الشرك والمشركين واقطع اللهم دابر أعداء الدين وشتت شملهم‬
‫أجمعين‪ ،‬اللهم مزقهم كل ممزق وشتتهم كل مشتت وافعل بهم كما فعلت بثمود وعاد‬
‫وفرعون ذي الوتاد الذين طغوا في البلد فأكثروا فيها الفساد‪ ،‬اللهم صب عليهم‬
‫سوط عذاب وحل بينهم وبين ما يشتهون واجعل بأسهم بينهم شديداً وخلص اللهم‬
‫ربنا جميع المسلمين في مشارق الرض ومغاربها من قهرهم واجمع شتات‬
‫المسلمين على ما تحبه وترضاه‪ ،‬اللهم اردد كيد أعدائهم في نحورهم وأعذنا وإياهم‬
‫جميعًا من شرورهم وامحوا آثارهم وأورثنا أرضهم وديارهم واطمس على أموالهم‬
‫واشدد على قلوبهم إنك ربنا على كل شيءٍ قدير وإنك بالجابة جدير نعم المولى‬
‫ونعم النصير‪ ،‬وصلي اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله‬
‫وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫سبحان ربك رب العزة عما يصفون‪ ،‬وسلمٌ على المرسلين‪ ،‬والحمد ل رب‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫‪11‬‬

You might also like