Professional Documents
Culture Documents
الحمد ل حق حمده ،الحمد ل ولي كل نعمة وأهل كل حمد الذي خلق فسوى وقدر
فهدى والذي منه المبدأ وإليه الرجعى ،سبحانه هو الله الواحد الفرد الصمد الذي لم
يتخذ صاحب ًة ول ولداً ،وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له وأشهد أن سيدنا
ونبينا محمد عبده ورسوله أرسله ال بالطريقة السواء والشريعة السمحاء والملة
الحنيفية الغراء ،فبلغ الرسالة وأدى المانة ونصح هذه المة وكشف ال بطلعته عنها
الغمة ،صلوات ال وسلمه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسانٍ
إلى يوم الدين.
أما بعد،،،
فبتحية السلم الطيبة المباركة أحييكم أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة وسائر
الخوة والخوات الحضور فالسلم عليكم جميعاً ورحمة ال وبركاته .وأحمد ال
سبحانه الذي جمعنا في هذا البلد العريق وفي هذا المكان الغالي العزيز وفي هذه
الليلة المباركة ليلة الجمعة الغراء وفي هذا الفصل الممتع الجميل فصل الخريف،
وفي هذه الفترة التي نحن أحوج ما نكون فيها إلى أن نتدارك مشكلتنا ونعرف ما
يتحدانا ونعرف المخرج من كل أزمة والمتنفس من كل ضيق.
ل ريب أن المة السلمية كما نعلم جميعًا تمر الن بمرحلة المخاض ،مرحلة
امتحانٍ وبلء ،هذا مع التراكمات الماضية من عهود سحيقة جعلتها تتخلف عن المم
مع أنها هي المة الوسط التي يجب عليها أن تكون رائدةً في كل خيرٍ ما بين المم
وقائدةً إلى كل صلح وإصلح لنها المة التي نيط بها أمرٌ جلل في حياة هذه
النسانية كما أخبر سبحانه وتعالى عندما قال (( :ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )) ،وقال (( :كنتم
خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بال ))؛
نعم هذه المة إنما هي أمةٌ مسؤولةٌ عن المم لن ال سبحانه وتعالى اختصها بأعظم
رسالة وبعث فيها أعظم رسول وأنزل عليها أجل كتاب ،فهي جديرة مع هذا التكريم
الذي نالته من قبل ال سبحانه وتعالى أن تتحمل هذه المانة بصدق وبقوة وبتعاضدٍ
وتحالفٍ وبثباتٍ وصبر وبقين بأن ال سبحانه وتعالى سيكتب لها النجاح.
1
ول ريب أن ال سبحانه وتعالى جعل في هذه الحياة سنن (( ولن تجد لسنة ال تبدي ً
ل
)) ،فإن ال ل يحابي أحداً من خلقه إذ ليس بينه وبين أح ٍد من الخلق نسب وليس بينه
وبين أحدٍ من الخلق سبب إل التقوى ،فمن استمسك بالتقوى فقد استمسك بالعروة
الوثقى التي ل انفصام لها ،وهذه المة بما أنها محملة هذه المانة العظيمة يجدر بها
أن تحرص على أدائها لنها أمانة تُسأل عنها يوم القيامة يوم الحسرة والندامة.
وال سبحانه وتعالى خلق النسان خلقاً عجيباً كما هو واضح للجميع وجعله متميزاً
على بقية المخلوقات سواءً ما يشاركه الحياة في هذا الكوكب المظلم أو المخلوقات
الخرى ،وبسبب هذه المزايا التي أودعها في طبع النسان والملكات المتنوعة التي
جعلها في فطرته جعله ال سبحانه وتعالى مسؤولً مسؤولية كبرى ،فجديرٌ بالنسان
أن يدرك تبعات هذه المسؤولية وكيف يتصرف فيها.
ومن المعلوم أن الحياة حياة تنافي وتزاحم وتدافعٍ وتجاذب ،فهذه هي سنتها التي
جعلها ال سبحانه وتعالى في أهلها ،وهذه المة كغيرها من المم معرضةٌ لذلك كله
فالمم الخرى تدافعها وتزاحمها وتجاذبها ،فإن لم تأخذ بأسباب القوة وأسباب
النجاح كان الفشل نصيبها وهذا الذي وقع عبر الزمن الماضي في هذه القرون
الخيرة بسبب بعد هذه المة عن سنن ال سبحانه وتعالى في هذه الحياة .ونحن إن
عجبنا فإننا نعجب أيما عجب أن تكون هذه المة بهذا القدر من التخلف والضياع مع
أنها المة التي اختصها ال سبحانه وتعالى بهذا الهدى المبين وبالذكر الحكيم
وبالصراط المستقيم ،فكيف تزيغ بها الهواء وتتشعب معها الراء وتنحرف ذات
اليمين وذات الشمال ثم بجانب ذلك يأخذنا العجب ويذهب بنا كل مذهب عندما نرى
أن هذه المة أُفتتحت رسالتها بقول الحق تبارك وتعالى (( :اقرأ باسم ربك الذي
خلق * خلق النسان من علقٍ * اقرأ وربك الكرم * الذي علم بالقلم * علم النسان
ما لم يعلم * )) ونرى مع ذلك أن هذه المة على مائدة العلم إنما تعيش على فتات ما
يتساقط من أيدي الخرين ،فكيف تتخلف هذا التخلف وترجع إلى الوراء مع أن
كتابها يدعوها إلى العلم والخذ بأسبابه؟!!.
ب للضللة
مع هذا كله نرى أن المة التي جاء كتابها محقراً للعلم ورامياً إياه بأنه سب ٌ
والنحراف حيث يجعل الشجرة التي أكل منها آدم فانحرف هي شجرة العلم وأن
سعادة النسان هي في أن يبتعد عن العلم ،نجد أن هذه المة تتقدم غيرها ،تتقدم
المم الخرى في صناعاتها وتتقدم المم الخرى في قوتها مع حملتها ،فما الذي
جعلهم يتقدمون مع أن كتابهم يقتضي أن يتأخروا عن غيرهم من المم وما الذي
جعلنا نتخلف مع أن كتابنا يدفع بنا إلى المام؟!! هذا مما يستدعي العجب.
كذلك نجد أن هذه المة جعلها ال سبحانه وتعالى أمةً وسطاً في كل شيء حتى في
الرض التي شاء ال سبحانه وتعالى أن تكون مباءةً لها ومستقراً فإنها هي سرة
الرض وكبدها وقلبها ،فيها الخيرات الكثيرة سواءً ما يتدفق من أعماق الرض أو
2
ما هو على ظهر الرض ،وبإمكانها أن تتكامل في بناء حياتها القتصادية فكيف مع
ذلك تعيش عالةً على غيرها في هذا الجانب؟!! كل هذا إنما يستدعي العجب العجاب
ويقتضي أن يحير النسان في هذا المر.
ولكن عندما نرى أن عزة هذه المة وشرفها وكرامتها مبنية على استمساكها بحبل
ربها المتين واتباعها نوره المبين والعض بالنواجذ على هذا الهدى للمتقين نجد أن
أسباب ذلك تعود إلى أن هذه المة أفلتت يدها من الستمساك بهذا الحبل المتين
فلذلك مُنيت بما منيت به؛ ولئن كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي ال
تعالى عنه يقول للعرب ( :نحن قو ٌم أعزنا ال بالسلم فإن ابتغينا الهدى في غيره
أذلنا ال ) ،فإن هذه المة جميعًا إنما اجتمع شتاتها بالسلم ،اجتمعت جميعاً في ظل
السلم عرباً وعجماً ،بيضاً وسمراً كلهم جمعهم السلم دين ال تعالى الحق الذي
وحد ما بين هذه الشعوب بل ألف بين القلوب المتنافرة وجمع بين الفئات المتدابرة
وكون منها أمة هي خير أمةًٍ أُخرجت للناس .فإذن هذه المة ل تجتمع إل في ظل
السلم دين ال الحنيف ول تهتدي إل بهذا الكتاب المبين الذي ل يأتيه الباطل من
بين يديه ول من خلفه ،ول تعز إل عندما تأتم بنيها الكريم عليه وعلى آله وصحبه
أفضل الصلة والتسليم بحيث تجعل سيرته وسنته نصب عينيها تحرص كل
الحرص على تطبيق القليل والكثير والدقيق والجليل منهما ،عندئذٍ تكون هذه المة
آخذة حقاً بأسباب القوة.
ونحن نرى أن هذه الحالة التي نحن عليها قد أنذرنا بها رسول ال صلى ال عليه
وسلم منذ أم ٍد بعيد عندما قال " :يوشك أن تتداعى عليكم المم كما تتداعى الكلة
على قصعتها .قيل :أمن قلةٍِ يا رسول ال؟ قال :ل ،إنكم كثير ولكنكم غثاءٌ كغثاء
السيل ولينزعن ال المهابة من قلوب أعدائكم وليقذفن الوهن في صدوركم .قيل له:
وما الوهن يا رسول ال؟ قال :حب الدنيا وكراهة الموت " .نعم حب الدنيا وكراهة
الموت هما اللذان أوقعا هذه المة في هذا المنزلق وهبطا بها إلى هذا الحضيض
الذي وصلت إليه ول أدل على ذلك من هذا الواقع المرير الذي نعايشه الن في هذه
اليام ،فكيف تخاذلت هذه المة مع كثرتها ومع وجود أسباب القوة عندها وأصبحت
ل تستطيع أن تقول وهي تُظلم بأنها مظلومة ول تستطيع أن تقول للظالم بأنه
ظالم؟!! وصل بها المر إلى هذا الحد بحيث تداهن عدوها هذه المداهنة إلى حد أنها
ل تجرأ وهي يجرأ على ظلمها أن تقول له بأنك ظلمتنا !!.
وليس ذلك فحسب بل هنالك تقاذفٌ بالتهامات ومع هذا كله فإن فتاوى تصدر من
هنا وهناك لتسوغ هذا التخاذل في مواجهة العدو المشترك ،فما لهذه المة وهذه
السقطة التي سقطت إليها؟!! على أن هذه الفتاوى مهما يكن شأن مصدرها فهي
فتاوى ل تدل إل على ضيق الفق وقصر النظر وعدم التفكر في العواقب وعدم
التعمق في الفقه في دين ال سبحانه ،فيكفي أن يكون هنالك ظالمٌ ومظلوم ليجب على
المة أن تقف مع المظلوم ضد الظالم مهما كان هذا المظلوم مهما كان ذلك الظالم
3
حتى ولو كان المظلوم من غيرها والظالم منها فإنها عليها أن تساند الحق وتقف
بجانب الحق من غيرها التفافٍ إلى الشنآن إذ ال سبحانه وتعالى يقول (( :يا أيها
الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ل ولو على أنفسكم أو الوالدين
والقربين )) ،ويقول (( :يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين ل شهداء بالقسط ول
يجرمنكم شنآن قومٍ على أل تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى )) .وليس ذلك فحسب
وإنما القرآن الكريم ضرب أروع المثال في مناصرة المظلوم والوقوف بجانبه ولو
كان من ألد الخصوم ،عندما نزلت منه آياتٌ تتلى في الصلوات وفي غيرها إلى أن
يرث ال الرض ومن عليها لتكشف حقيقة تهمةٍ أُلصقت ليهودي وهو منها براء مع
أن اليهود أشد الناس عداوةً للذين ءامنوا وهذا ما نشاهده ونراه إلى وقتنا هذا ،ولكن
نزلت آياتٌ بينات لتبرئ ساحة اليهودي ،هذا في حين أن النبي صلى ال عليه وسلم
إنما يحكم بحسب ما يظهر له كما أخبر بنفسه وليس هو مسؤولً عندما تكون حجة
أحدٍ من الخصوم في الظاهر أقوى من حجة الخر فيحكم النبي صلى ال عليه وسلم
ل – عليه أفضل الصلة والسلم – عن بحسب ما يسمع من حجته ،ليس هو مسؤو ً
ذلك وإنما المسؤول الخصم الذي حاول أن يكابر الحقيقة وأن يطمسها وأن يزورها
حتى يأكل حق غيره هو المسؤول عن ذلك إل أن ال سبحانه وتعالى أراد أن يكون
في ذلك عبر ٌة لهذه المة كيف ينزل قرآنٌ يتلى إلى أن يرث ال الرض ومن عليها
لتبرئة ساحة يهودي من تهمة ألصقت به وهو منها بريء.
هذا بجانب أن هنالك اعتباراتٌ شتى يجب على من يُفتي أن يدركها منها أن المة
إنما يجمعها أمورٌ مشتركة ،فهي قبل كل شيء تعبد رباً واحدًا وتؤمن بكتابٍ واحد
وتأتم برسولٍ واحد وتتجه إلى قبلةٍ واحدة وتؤمن بأركان اليمان التي هي معلومة
للجميع وتؤمن بأركان السلم التي تشترك فيها جميعاً ،فكيف مع ذلك تُقام اعتبارات
للفوارق التي تمزقها كل ممزق في هذه الوقات الحرجة التي هي أحوج ما تكون
فيها إلى ما يجمع شملها ويوحد صفها ويرأب صدعها ويلملم شتاتها؟!! هذه المة
بحاجة إلى أن تتكاتف .ولئن كان ال سبحانه وتعالى ينزل في كتابه الكريم ليبشر
المؤمنين بانقلب المور إلى عكس ما بدى لهم بادئ ذي بدء في الصراع الذي كان
بين الروم والفرس حيث حزن المسلمون لنتصار الفرس المجوس المشركين على
الروم الذين هم من أهل الكتاب وكان المشركون على عكس ذلك فأنزل ال سبحانه
وتعالى قرآناً يتلى لتبشير المؤمنين بانقلب المر إلى الضد بحيث يتحول الغالب إلى
مغلوب والمغلوب إلى غالب فكيف إذا كان الصراع بين طائفةٍ من المة وبين عدوٍ
مشتركٍ للمة! .فهذا التمزق وهذا الختلف هو من التحديات التي صنعتها المة
بنفسها ،ول ريب أن للعدو أصابع في صنع هذا المر ولكن المة استجابت لهذا
العدو ورضخت له وأخذت تتزلف إليه بمثل هذه التصرفات.
هذا على أن القرآن الكريم يرشدنا إلى أن الوحدة هي مصدر القوة ويبين لنا أن
الفرقة هي مصدر الضعف (( :ول تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم )) ،يحذرنا ال
تبارك وتعالى من التنازع لل يؤدي التنازع إلى الفشل وذهاب الريح ،فإذن التنازع
4
ت من الوقات هو غير محمود ،والتنازع في هذه الساعات ما بين المة في كل وق ٍ
الحرجة التي هي بحاجة فيها إلى أن تتآلف قلوبها وتتوحد كلمتها ويجتمع صفها
وتزول السخائم والحقاد من صدورها التنازع في هذه الساعات الحرجة إنما يزيد
عمق الخلف بين المة ويقضي على أسباب عزتها وأسباب قوتها وأسباب
انتصارها.
هذا ول ريب أن المة إنما هي بأفرادها ،إذ المة كالسرة وكالمجتمع تتكون من
الفراد فصلح الفراد ينعكس على المة ايجاباً وفساد الفراد ينعكس على المة
سلباً ،فرقي المة وانحطاطها وتقدمها وتأخرها وعزتها وذلتها وكرامتها ومهانتها
بحسب ما يكون عليه الفراد هذا مع كوننا ل ننكر أن للقيادات السياسية والقيادات
الفكرية والدينية تأثيراً في أحوال الفراد ،فالفراد يجب أن يكونوا أقوياء لتتكون
منهم أمةٌ قوية ،فلذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم " :المؤمن القوي خي ٌر وأحب
إلى ال من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير ".نعم المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى ال
من المؤمن الضعيف لنه يتحقق على يد هذا المؤمن القوي ما ل يتحقق على يد
المؤمن الضعيف ولن اجتماع هؤلء القوياء من المؤمنين على كلمةٍ سواء ووضع
بعضهم أيديهم في أيدي البعض الخر مما يدعم هذه القوة قوة المة ويوحدها فتكون
قوتهم لصالح المة جميعاً .فمن هنا كان تكوين الفراد القوياء من هذه المة أمراً ل
مناص منه ،وهذا إنما يكون ببناء الفرد المؤمن الموصول بال سبحانه وتعالى
المتسلح بالعلم العارف بفرص هذه الحياة وكيفية التعامل معها ،فنحن لم نُسبق من
قبل الخرين إل لننا أهملنا هذا الجانب ،أهملنا هذا الجانب ول نقول بأن الخرين
هم ش ٌر منا فكيف تمكنوا ولم نتمكن؟! ذلك لننا أصحاب عقيدة فإن تخلينا عن هذه
العقيدة كان ذلك سبباً لضعفنا .نحن ل تجمعنا جامعة كالعقيدة عقيدة اليمان التي
تجمع الشتات وتوحد المؤمنين ولذلك عندما خاطب ال سبحانه وتعالى هذه المة لم
يخاطبهم أبعاضًا وإنما خاطبهم جميعاً ،خاطبهم بلفظ ( يا أيها الذين ءامنوا ) لم
يخاطب العرب وحدهم ولم يخاطب العجم وحدهم وإنما خاطبهم جميعًا بلفظ ( الذين
ءامنوا ).
فإذن التنادي بالقوميات الضيقة وجعلها هي الرابطة التي تربط ما بين هذه المة أمرٌ
يتنافى مع الواجب الذي يفرضه السلم من اعتبار العقيدة هي الجامعة ،ونحن نرى
أن النبي صلى ال عليه وسلم يقول " :ترى المؤمنين "..والمؤمنون لفظ عام يشمل
العرب والعجم يشمل القاصي والداني ..يشمل الذكور والنساء " ،ترى المؤمنين في
توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد
بالحمى والسهر "؛ وقبل كل شيء القرآن الكريم يقول لنا (( :إنما المؤمنون
إخوة )) ،بل ليس ذلك فحسب ،القرآن الكريم يبين أن اليمان هو الصفة التي تجعل
المؤمن يتولى المؤمن ،اليمان هو الرابطة التي تشد المؤمن إلى المؤمن بهذا الرباط
الوثيق المتين ،على أن هذا الرباط إنما يتم بأسباب بينها القرآن الكريم وذلك في قوله
عز من قائل (( :والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف
5
وينهون عن المنكر ويقيمون الصلة ويؤتون الزكاة ويطيعون ال ورسوله أولئك
سيرحمهم ال إن ال عزيزٌ حكي ٌم )).نعم المؤمنون والمؤمنات بينهم هذه الرابطة
ل منهم يتولى الخر ،هذه الولية إنما تقوم العظيمة رابطة ولية بعضهم لبعض ،ك ٌ
على هذه المقومات المذكورة في هذه الية وهي المر بالمعروف والنهي عن
المنكر وإقام الصلة وإيتاء الزكاة وطاعة ال ورسوله ،فطاعة ال ورسوله تشمل
الجميع ولكن ذُكر قبل كل شيء المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ولماذا قُدم
المر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى على إقام الصلة وإيتاء الزكاة؟ إنما قُدم
على إقام الصلة وإيتاء الزكاة لن المحافظة على إقام الصلة وعلى إيتاء الزكاة
والمحافظة على أمر ال سبحانه وتعالى ونهيه إنما تتم مع المر بالمعروف والنهي
عن المنكر ،في حال المر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون التطبيق العملي
الدقيق لتعاليم السلم فيُحافظ على إقام الصلة وعلى إيتاء الزكاة ويحافظ على
طاعة ال ورسوله في كل أمرٍ وفي كل نهي ،فلذلك قُدم المر بالمعروف والنهي عن
المنكر هنا على أعظم ركنين عمليين من أركان السلم وهما إقام الصلة وإيتاء
الزكاة.
هذا ،ولئن كان المر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذا القدر في التأثير في حياة
المة فهل المة الن هي أمةٌ أمرٍ بالمعروف ونهي عن المنكر؟ إنما المة أُتيت من
تعطيلها المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وال سبحانه وتعالى وعد بالنصر
والتمكين الذين ينصرونه ،ونصر ال تعالى إنما هو بإقام الصلة وإيتاء الزكاة
والمر بالمعروف والنهي عن المنكر (( :ولينصرن ال من ينصره إن ال لقويٌ
عزيزٌ * الذين إن مكناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف
ونهوا عن المنكر ول عاقبة المور * ))؛ فإذن من أعظم واجبات هذه المة في
الرجوع إلى النهج الصحيح لتتبوأ المكانة الرفيعة ما بين المم إنما في مقدمة هذه
الواجبات المر بالمعروف والنهي عن المنكر بجانب إقام الصلة وإيتاء الزكاة.
وبهذا تتبوأ هذه المة مكان المامة والقيادة ما بين المم بحيث تكون أمة رائدة أمة
قائدة أمة عزيزة أمة تقول فيُنصت لها وتأمر فيُأتمر بأمرها وتنهى فيُنتهى عن نهيها
وهكذا كان السلف الصالح ،فإن السلف الصالح إنما تمكنوا بهذا كانوا أهل أمرٍ
بالمعروف ونهي عن المنكركما هو معلوم وبهذا تبوأوا مكان القيادة والمامة بين
المم ول أدل على ذلك من تلك الوصية العظيمة البالغة التي كان عمر بن الخطاب
رضي ال عنه يحرص على تزويدها جنده وهم يواجهون أقوى قوة وأقوى عتاد
للعدو عندما وجه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي ال تعالى عنه الجند
لمقاومة المبراطورية في فارس زود هذا الجند تلك النصيحة البالغة التي خاطب
بها قائدهم سعد بن أبي وقاص رضي ال عنه حيث قال له ( :أوصيك ومن معك من
الجناد بتقوى ال على كل حال فإن تقوى ال أفضل العدة في الحرب وأقوى المكيدة
على العدو ،وأوصيك ومن معك من الجناد بأن تكونوا أشد احتراصًا من المعاصي
منكم من عدوكم فإن ذنوب الجند أخوف عليهم من عدوهم وإنما يُنصر المسلمون
بمعصية عدوهم ل فإن عددنا ليس كعددهم ول عدتنا كعدتهم فإن استوينا في
6
المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإل ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا،
واعلم أن في سيركم عليكم من ال حفظة يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ول
تعملوا بمعاصي ال وأنتم في سبيل ال ول تقولوا إن عدونا ش ٌر منا فلن يُسلط علينا
فرب قو ٍم سُلط عليهم من هو شرٌ منهم كما سُلط على بني إسرائيل إذ عملوا
بمعاصي ال كفار المجوس فجاسوا خلل الديار وكان وعداً مفعولً ،واسألوا ال
العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم أسأل ال ذلك لي ولكم ).
نعم ،هذه الوصية هي القوة الفاعلة ،هي الذخيرة الحية ،هي العتاد الذي ل يُمكن أن
يُقرب من تزوده ،هذه الوصية هي التي طبقها الجند فلذلك استطاعوا أن يهزموا
ت كانوا فيه يواجهون عدوين خطيرين يتقاسمان معظم العالم المتحضر العدو في وق ٍ
في ذلك الوقت ،فأولئك السلف إنما انتصروا بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
كانوا يأمرون بالمعروف وهم مأتمرون به وينهون عن المنكر وهم منتهون عنه
ق للسلم ،كان فلذلك كانت حياتهم حياة أمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكر ،حياة تطبي ٍ
السلم يتجسد في كل جزئية من جزئيات حياتهم.
هذا وإن من أهم ما يبني هذه المة ،وهذا البناء كما قلت إنما يبدأ من الفراد حتى
ينعكس أثره على المة بأسرها ،العتزاز بالسلم ،فنحن قومٌ أعزنا ال بالسلم
فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا ال ،نعم نحن قو ٌم أعزنا ال بالسلم هذا العتزاز
بالسلم يقتضي أن يكون المؤمن حقاً مستمسكًا بهذا السلم ل يرى العزة في غيره
ل وكل شرٍ في النحراف والبعد عنه ،والسلف الصالح كان حراصاً بل يرى كل ذ ٍ
على ذلك فبسبب هذا كان يحرصون على التكيف وفق تعاليم السلم ويحرصون
أيضاً على البعد عن منهج الخرين لن احتلل النفوس أخطر من احتلل الرض
ل ذهب كل شيء إذ واستعمار الفكر أخطرمن استعمار الرض ،الفكر إن احتُ ّ
النسان بالفكر ،والمة إنما أُصيبت بسبب الغزو الفكري الذي تسلّط عليها من ِقبَلِ
سلّط عليها من قبل أعدائها فلذلك هي تحرص على أن تتقرّب من هؤلء أعدائهاُ ،
الذين غزوها بكل الوسائل ،تحرص على أن تظهر بمظهر الرقي وبمظهر المدنية
وبمظهر الثقافة عندما تقلد أعدائها ،مع أن الواجب بخلف ذلك ،ورجال الفكر من
هذه المة أدركوا هذا المر وسجلوا هذا ببيانهم الباهر فشاعر السلم محمد إقبال
يقول محذراً هذه المة من النسياق وراء الخرين ،يقول ( :إن المسلم لم يُخلق
خلِق ليوجه العالم
ليندفع مع التيار ويساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل ُ
والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ويملي عليها إرادته لنه صاحب
الرسالة وصاحب الحق اليقين ولنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس
مقامه مقام التقليد والتباع ،إن مقامه مقام المامة والقيادة ،مقام الرشاد والتوجيه،
مقام المر الناهي ،ولئن تنكر له الزمان وعصاه المجتمع وانحرف عن الجادة لم
يكن له أن يخضع ويضع أوزاره ويسالم الدهر بل عليه أن يثور عليه وينازله ويظل
في صراعٍ معه وعراك حتى يقضي ال في أمره ،إن الخضوع والستكانة للحوال
7
القاصرة والوضاع القاهرة من شأن الضعفاء والقزام أما المؤمن القوي فهو نفسه
قضاء ال الغالب وقدره الذي ل يُرد ).
ول ريب أنه مع تسامح السلم الذي ل يوجد مثله في أي دينٍ من الديان نجد في
أمر الولية يحصرها فيما بين المؤمنين ويحذر من موالة أعداء ال الكافرين ،فال
سبحانه وتعالى يحذر هذه المة من أن تتخذ عدوها وعدوه ولياً (( :يا أيها الذين
ءامنوا ل تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من
الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بال ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي
وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله
منكم فقد ضل سواء السبيل *)) ،ثم يبين ما هي العاقبة (( :إن يثقفوكم يكونوا لكم
أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون *))؛ هذه أمنية
الكفرة أن يكفر المؤمنون ككفرهم ،ولئن كان التحذير من موالة جميع أعداء ال فإن
ال سبحانه وتعالى خص أهل الكتاب مع ما جعله لهم من ميزة في سياسة المة
السلمية في معاملتهم يخصهم أيضاً بالتحذير من موالتهم لن هذه الموالة تجر ما
بعدها ،فال تعالى يقول (( :يا أيها الذين ءامنوا ل تتخذوا اليهود والنصارى أولياء
بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن ال ل يهدي القوم الظالمين *))؛
ثم يبين مم تنشأ موالتهم فيقول (( :فترى الذين في قلوبهم مرضٌ يسارعون فيهم
يقولون نخشى أن تصيبنا دائرةٌ فعسى ال أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده فيصبحوا
على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين ءامنوا أهؤلء الذين أقسموا بال
جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * )) ،ثم يبين أن هذه
الموالة تؤدي إلى الرتداد عن السلم والعياذ بال إذ هي تُسرع في دين المسلم
بحيث تجره إلى الكفر شيئاً فشيئاً حتى ينفلت من إسلمه ويصبح خارجًا من هذه
الملة إذ ال تعالى يقول في هذا السياق بعدما تقدم (( :يا أيها الذين ءامنوا من يرتد
منكم عن دينه فسوف يأتي ال بقومٍ يحبهم ويحبونه أذل ٍة على المؤمنين أعزةٍ على
الكافرين يجاهدون في سبيل ال ول يخافون لومة لئم ذلك فضل ال يؤتيه من يشاء
وال واس ٌع عليم ٌ *)) ،هذا التحذير من الرتداد عن السلم في هذا السياق دليلٌ على
أن هذه الموالة تُسرع في دين النسان حتى تجعله ينفلت من دين ال تعالى تماماً .ثم
يبين بعد ذلك من يجب على المؤمن أن يحصر ولءه له فيقول (( :إنما وليكم ال
ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلة ويؤتون الزكاة وهم راكعون *)) ،ثم
بعد ذلك يبين عاقبة هذه الولية التي تشد المؤمنين بعضهم إلى بعض عندما يقول :
(( ومن يتول ال ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب ال هم الغالبون * )) ،نعم هذه
الولية التي تربط بين المؤمنين تجعلهم حزب ال وحزب ال تعالى ل بد من أن
ينتصر وأن ينهض على عدوه وعدوهم ،فلذلك كان على المؤمنين أن يحرصوا على
هذه الموالة التي تشد بعضهم على بعض وأن يحرصوا على مقومات هذه الولية
وهي المر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلة وإيتاء الزكاة وطاعة ال
ورسوله؛ عندئذٍِ تترابط هذه المة برباطٍ واح ٍد يشد بعضها إلى بعض حتى تكون أمةٌ
قويةٌ تحس بآلم غيرها ،فالن هي أمةٌ مقطعة الوصال ممزعة الشلء ولذلك ل
8
يحس بعضها بما يصيب الخرين لنها أصبحت أمة ميتة أوصالها مقطعة وأشلءها
ممزعة فمن هنا كانت الضرورة إلى جمع هذا الشتات تحت راية القرآن وتحت راية
السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلة والسلم.
على أن ذلك كله إنما ينبني كما ذكرت على اليمان الراسخ في النفوس ،هذا اليمان
ل بد من أن يُدعم بما يثبته وما يقويه وهو الصلة بال سبحانه وتعالى فإن ال عز
وجل شرع العبادات جميعًا لتغذي اليمان ..لتدعم اليمان ..لتكون وقودًا لشعلته ..
لتكون مدداً لطاقته ،جميع هذه العبادات المشروعة في السلم إنما تؤدي إلى هذه
الغاية ،ومع هذا ل بد من أن يكون التلقي عن ال سبحانه وتعالى وعن رسوله صلى
ال عليه وسلم عن فه ٍم وعن وعي ،ونحن ندرك أن ال سبحانه وتعالى أنزل كتابه
بلسانٍ عربيٍ مبين وأرسل رسوله صلى ال عليه وسلم من ضئضئ القبائل العربية،
لسانه كان لسانًا عربياً مبينًا هو لسان القرآن ،فمن هنا كان التلقي عن ال تعالى
وعن رسوله صلى ال عليه وسلم يتوقف على الفهم الصحيح لهذا الكتاب العربي،
واللغة هي رباطٌ كما أن العقيدة رباط ،اللغة تشد النسان إلى النسان بل اللغة هي
وعاء الثقافة وهي الجسر التي تعبر عليه الثقافة من شعبٍ إلى شعب ومن أمةٍ إلى
أمة ،ولذلك نحن نرى أن المستعمرين أدركوا هذا فحرصت كل طائفةٍ منهم على
نشر لغتها في مستعمراتها ،نرى أن كل طائف ٍة من المستعمرين تمكنت في الرض
حرصت على نشر لغتها لتنشر من خللها ثقافتها وفكرها فلذلك كان من الضرورة
أن تكون للمسلمين جميعًا لغة تجمع شتاتهم ،هذه اللغة التي تجمع هذا الشتات ما بين
هذه الشعوب الكثيرة من شعوب السلم ذات اللوان المختلفة والبيئات المتعددة
واللسنة المتنوعة ل يمكن أن تكون هذه اللغة إل اللغة التي خاطبها ال تعالى بها
والتي أمرها أن تخاطبه بها عندما تقف بين يديه ،يقف الواحد بين يدي ال تعالى
ن عربيٍ مبين ،وقد قلت أكثر من مرة ليقول (( :إياك نعبد وإياك نستعين )) بلسا ٍ
بأنه من العار على المسلم أن يتقن لغة المستعمر الذي استعبده ول يتقن اللغة التي
خاطبه ال تبارك وتعالى بها ليحرره من العبودية لغيره وليجعله سيداً كريمًا بين
الناس ،فالمسلم عليه أن يحرص على هذه اللغة ،وقد أدرك السلف ذلك من جميع
فئات هذه المة فحرصوا على هذه اللغة حرصهم على عقيدتها لنهم أدركوا أن هذه
اللغة ليست لغة قومية ،نعم كانت لغة قومية قبل أن ينزل بها القرآن أما بعد أن نزل
القرآن بلسانٍ عربي مبين وجعلها ال سبحانه وتعالى وعاءً لكلمه المنزل للهداية
والعجاز لم تعد لغة قومية وإنما هي لغة عالمية يجب على المؤمنين جميعاً أن
يحرصوا عليها وأن يغاروا عليها أكثر مما يغارون على أي لغةٍ من اللغات وهذا
الذي حصل عند السلف عندما حرصوا على هذه اللغة حتى أن العجم كانوا أحرص
عليها من العرب والذين بحثوا هذه اللغة وبحثوا فنونها وحرصوا على ابتكار هذه
الفنون إنما كانوا من العجم ،فسيبويه والفرّاء والكسائي والخفش وابن علي
الصارفي وغيرهم وغيرهم إنما كانوا عجماً ،ونجد الزمخشري العجمي يقول في
ل أحمد على أن شرفني بأن جعلني من علماء العربية )؛ فاتحة كتابه المفصّل ( :ا َ
وهذا الذي أقوله ليس هو تعصباً ،قلت أكثر من مرة بأن هذا ليس تعصباً ولئن جاز
9
أن يُسمى ذلك تعصبًا فإنه تعصبٌ للسلم وليس هو تعصباً للقومية العربية فإنني ل
أؤمن بالقوميات الضيقة التي تفرق المة وتجعلهم أشلء ممزعة إنما أؤمن بالعقيدة
الواحدة التي تجمع العربي والعجمي وأرى أن العجمي هو أخٌ للعربي ليس بينهما
تفاضل إل بقدر ما يكون أحدهما أقرب إلى ال سبحانه وتعالى بالتقوى والعمل
الصالح فإن ال تعالى لم يدع من جانب التفاضل بين الناس إل التقوى عندما قال :
(( يا أيها الذين ءامنوا إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن
أكرمكم عند ال أتقاكم )) ،وال سبحانه يسر هذه اللغة تيسير القرآن للذكر لنها كما
قلت هي وعاءٌ لكتاب ال سبحانه وتعالى ..لكلمه المعجز ،فلذلك كانت ميسرة فمن
طلبها تيسرت له؛ وقبل نحو ربع قرن من الزمن حضرت بنفسي مؤتمراً في غرب
أفريقيا بالسنغال وكنت من الضيوف الذين حضروا هذا المؤتمر للطلع ولم أكن
ضيفاً مشاركًا لن المؤتمر كان ما بين الخوة المسلمين الفارقة بحيث حرصوا
على تجميع جهودهم والتنسيق ما بين مؤسساتهم الدعوية في غرب إفريقيا ،فالمؤتمر
ن عربي مبين من غير ترجمة ما بين الشعوب الفريقية شعوب أُدير هنالك بلسا ٍ
غرب إفريقيا ،أُدير بلسانٍ عربيٍ مبين من غير ترجمة ،ولعلكم علمتم أنه في نهاية
القرن الرابع عشر الهجري وبداية القرن الخامس عشر نظم القسم العربي بهيئة
الذاعة البريطانية مسابقة شعرية في مدح النبي صلى ال عليه وسلم باللسان العربي
المبين واشترك في هذه المسابقة 1200من الشعراء وكان الفائز الول من هؤلء
الشعراء جميعاً كان الفائز إفريقياً سنغاليًا وهو الشاعر عبدال باء الذي مدح النبي
صلى ال عليه وسلم بقصيدة عصماء استهلها بقوله :
هجرت بطاح مكة والهضابا ....وودعت المنازل والرحابا
تخذت من الدجى يا بدر ستراً .....ومن رهبوت حلكته ثيابا
ومن عجبٍ تسيء إليك أرضٌ ....نشأت فما أسأت بها شبابا
فما الذي جاء بهذه القصيدة شيئاً من العجبةإنما هي قصيدة في منتهى القوة قوة
التعبير باللسان العربي المبين وفيها من السلسة ما ل يخفى على من تذوق الشعر
العربي وذلك يدل على أن هذه اللغة ميسرة لجميع من أراد أن يتكلم بها كما يسر ال
سبحانه وتعالى القرآن للذكر.
فإذن جديرٌ بالمسلمين جميعًا أن يحرصوا على هذه اللغة التي تجمع شتاتهم ،وهذا ل
ينافي أن تكون لكل شعبٍ لغته أو لكل قومي ٍة لغتها وإنما هنالك لغة يجب أن تكون
مشتركة ما بين الجميع توحد الشتات وتجسد لهم التفاهم إذ النسان خُلق ليتفاهم مع
الخرين وكيف يتم التفاهم ما بين هذه المة وهم ل يتقن بعضهم لغة بعض!
الحرص على هذه اللغة مما يجب أن يكون أمراً مشتركًا ما بين جميع شعوب هذه
المة السلمية هذا مع أن الدّين الذي هو في أعناق العرب في ذلك أعظم مما في
أعناق الخرين فهم عليهم أن يتقنوا هذه اللغة أيما إتقان ثم عليهم أن ينشروها في
بقية الشعوب حتى تنتشر من خللها ثقافة السلم وينتشر من خللها الفكر
10
السلمي الصحيح ..الفكر القرآني ..الفكر النبوي ..حتى تكون هذه المة على
بينةٍ من أمرها وبصيرةٍ من دينها.
فهذا مما يجب أن يدركه المسلمون جميعاً مع ما يجب عليهم من الحرص على
انتزاع السخائم والحقاد التي في صدورهم وكسر الحواجز التي تفصل بعضهم عن
بعض ليكونوا أمةً واحدة ،على أن كون هذه المة أمة واحدة ل يتم إل في ظل
العبادة والتقوى فإن ال تبارك وتعالى يقول (( :إن هذه أمتكم أمةً واحدة وأنا ربكم
فاعبدون *)) ،ويقول (( :وإن هذه أمتكم أمةً واحدة وأنا ربكم فاتقون * )) ،فيجب
على الجميع الحرص على حكم عبادة ال تبارك وتعالى وعلى التقوى ،بسبب ذلك
يكون الترابط ما بين هذه المة وبسبب هذا تستعلي على الرغبات الضيقة التي تجعل
كل واحد يستقل عن الخرين وبهذا تكون هذه المة بمشيئة ال تعالى أمة
عزيزة..أمة كريمة..
أسأل ال سبحانه وتعالى أن يعز هذه المة وأن يجمع شتاتها ،اللهم ربنا اجمع شتاتنا
على ما تحبه وترضاه ،اللهم ألف بين قلوبنا ووحد صفوفنا وانزع ما في صدورنا
من السخائم والحقاد اجعلنا خير أمةٍ أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن
المنكر وتقيم الصلة وتؤتي الزكاة وتقيم حدودك وتنفذ أحكامك وتطبق شريعتك،
اللهم اهدنا للهدى ووفقنا للتقوى وعافنا في الخرة والولى ،اللهم أعز السلم
والمسلمين وأذل الشرك والمشركين واقطع اللهم دابر أعداء الدين وشتت شملهم
أجمعين ،اللهم مزقهم كل ممزق وشتتهم كل مشتت وافعل بهم كما فعلت بثمود وعاد
وفرعون ذي الوتاد الذين طغوا في البلد فأكثروا فيها الفساد ،اللهم صب عليهم
سوط عذاب وحل بينهم وبين ما يشتهون واجعل بأسهم بينهم شديداً وخلص اللهم
ربنا جميع المسلمين في مشارق الرض ومغاربها من قهرهم واجمع شتات
المسلمين على ما تحبه وترضاه ،اللهم اردد كيد أعدائهم في نحورهم وأعذنا وإياهم
جميعًا من شرورهم وامحوا آثارهم وأورثنا أرضهم وديارهم واطمس على أموالهم
واشدد على قلوبهم إنك ربنا على كل شيءٍ قدير وإنك بالجابة جدير نعم المولى
ونعم النصير ،وصلي اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ،وسلمٌ على المرسلين ،والحمد ل رب
العالمين .
11