You are on page 1of 52

‫نـــصــف‬

‫تسكعات على خطوط الزمن‪..‬‬

‫تأليف‬
‫إبراهيم عبد ال الزنيدي‬

‫الهداء‬
‫إلى النصف الخر النقي والطاهر‬
‫الذي علمني أن الكتابة ليست محاولة طيران بقدر ماهي محاولة هبوط‬
‫وأن الحياة ليست رحلة بحث بقدر ماهي رحلة إدراك‬

‫‪1‬‬
‫‪..‬‬
‫إلى النصف الذي مل روحي بالسلم وقلبي بالبهجة‬
‫إلى مكمن البذل وينبوع النسانية‪..‬‬

‫إلى أمي الحبيبة‪..‬‬

‫فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية‬

‫الزنيدي ‪ ,‬إبراهيم بن عبدال‬


‫نصف ) رواية (‪ / .‬إبراهيم بن عبدال الزنيدي – الدمام ‪ 1426 ,‬هـ‬

‫ردمك ‪9960-9464-1 :‬‬


‫القصص العربية‪ -‬السعودية أ ‪ .‬العنوان‬ ‫‪-1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ 7177/1426‬هـ‬ ‫ديوي ‪813.039531‬‬

‫رقم اليداع ‪ 7177/1426 :‬هـ‬


‫ردمك ‪9960-9464-1 :‬‬

‫‪3‬‬
‫ي في عقل أكثر الناس حكمًة وذكاء‬‫ن غب ٌ‬
‫هناك دائمًا رك ٌ‬
‫ــ أرسطو ــ‬

‫‪4‬‬
‫ضربني أحدهم على رأسي‪ ,‬أعترف بأني قصير ولكن ليس للحد الذي يجعل من رأسي مطّية‬
‫للذرع المتعبة‪.‬ما أبشع هذا الزحام‪ ,‬إني أتنفس العرق ! وأتصور أن ثاني أكسيد الكربون هذا‬
‫سيقتل أحوج الشجار للبناء الضوئي‪.‬‬
‫_ هيه أنت‪ ..‬أل يكفيك أني أعاني كلما نظرت إلى وجهك‪.‬‬
‫ي وهو يزبد‪ ,‬وهذه المرة شاهدته بكامل دمامته ‪:‬‬‫نظر إل ّ‬
‫_ أسمع يا قزم‪ ,‬إن لم تصمت خنقتك " سهوًا" !‪.‬‬
‫إني استشعر الخيبة كلما حاولت الدخول في شجار‪ ,‬ولكن سرعان ما أتذكر هذه المقولة العميقة‬
‫) لو أراد ال أن نتقاتل لخلق لنا أنياب ومخالب(‪.‬‬

‫لعل من مميزات الدول العربية وجود الطوابير في كل مكان وما يميز هذه الطوابير أيضًا أنها‬
‫بيئة مناسبة جدًا لظهور الغرائز الوحشية التي حاول الزمن أن يمحوها من البشر ‪ ,‬الحمد ل نحن‬
‫العرب لنا فضل على علم النفس وحتى على علم المستحثات‪.‬‬
‫_ أين أنت يا جان جاك روسو ؟‬
‫ل أعلم كيف خرجت هذه الصرخة من فمي‪ ,‬من المؤكد أن أحدهم سيظن بأني كنت اشتمه‪ ,‬لكم‬
‫أتمنى أن يكون ذاك الغاضب بعيدًا‪ .‬أخيرًا وصلت إلى الشباك العزيز وجلست أحملق بأسنان‬
‫الموظف الصفراء لكم أود أن أقبله بين عينيه المحولتين‪.‬‬
‫_ ألم تَر موظفًا من قبل !‬
‫‪1‬‬
‫_ يا أخي رأيت‪ ,‬ولكني لم أره من قرب‪ ,‬كنت أتصور بأنكم أسطورة شعبية مثل" حمار القايلة" ‪.‬‬
‫_ حمار بعينك يا أصلع !‪.‬‬
‫لكم أكره أن أنعت بالصلع‪ ,‬حقًا ما أبشع الحقيقة عندما ل تكون إلى جانبك‪ .‬قلت له بعد أن ابتعدت‬
‫عن الشباك‬
‫_ من الجميل يا أخي أن نفتتح حوارنا بهذه العبارات البناءة‪..‬‬
‫قاطعني بعد أن خلع غترته وأخذ يضرب الشباك بعصبية ‪:‬‬
‫_ يا غباء الدنيا كلها أعطني الفاتورة واذهب إلى الجحيم !‬
‫كنت أود أن اثبت له بأني إنسان متعاون جدًا ول أقبل أن اتهم بالغباء‪ ,‬إل أن السادة خلفي أصبحوا‬
‫يتحدثون عن جدي التاسع _ ول أظن أنهم يدعون له_‪.‬‬
‫بعد أن خرجت من البنك سمعت صوتًا أعرفه يهمس بأذني بخبث ‪:‬‬
‫_ ها يا إبراهيم الن ل تستطيع الهرب‪ ,‬رأيتك بأم عيني وأنت تخرج من البنك‪.‬‬
‫هناك شيئان هم سبب علقتي )بغزلن( وهما مركزيان بعنف ؛ الول أنه يطلبني نقودًا أستلفتها‬
‫منه قبل حرب أكتوبر‪ ,‬والثاني أني منذ "حرب أكتوبر" وأنا أتهرب منه !‬
‫_ يا غزلن يا صديقي الجميل دعني أشرح لك المر ‪ ,‬لو رأيتني أدخل البنك فما المر الذي‬
‫ستستنتجه ؟‬
‫_ بما أنك تكره النقود وهي تكرهك سأستنتج أنك كنت تسدد فاتورة‪.‬‬
‫_ إذًا وبما أني "خارج" البنك ؟‬
‫_ أنك سددت الفاتورة ؟‬
‫_ ل يا ذكي‪ ,‬يعني أن النقود "بح" ذهبت حيث ألقت أم قشعم رحلها‬
‫ل أشر ! قبل شهر قلت لي بأنك ستسدد دينك إن انتظرتك حتى تخرج من البنك‪,‬‬ ‫_ يا لك من محتا ٍ‬
‫ولم تخرج أبدًا أيها الملعون‪!..‬‬
‫_ ل يا غزلن قبل شهر كانت وجهتنا شرق مما يعني أنك كنت تسمعني بأذنك اليمنى ‪ ,‬والن‬
‫تسمعني باليسرى‪ ,‬لذا أختلط المر عليك‪ ,‬صدقني هذه أمور علمية ل تقبل التكذيب !‬

‫‪ 1‬وصف للشخص الذي يعمل بدون أن يحقق أي فائدة من عمله‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫_ أعلم بأنك تخدعني‪ ,‬ولكن ل يهم بعد شهر سأجلب معي أولدي الثلثة وسأضع كل واحٍد منهم‬
‫في جهة‪.‬‬

‫كنت واثقًا أني سأخدعه مع أولده‪ ,‬حتى لو جلبوا معهم البوصلة‪..‬‬

‫******‬
‫في الشقة‬

‫_ إني أشم رائحة قبيحة‬


‫_ ل بل أنفك أكبر مما يلزم !‬
‫تصرفت وكأن المر شخصي‪ ,‬وصرخت بهما ‪:‬‬
‫_ وكأنكما ديكه ! أل أستطيع أن أنعم ببعض الهدوء‪ ,‬وأنت يا محمد إن ضربت الرض بقدمك‬
‫ستخفي الصوت ولكن بال عليك أخبرني كيف ستخفي الرائحة !‬
‫_ وال ما فعلتها‪ ..‬ولكنه هو من يستخدم أنفه وكأنه كلب صيد !‬
‫شهق زيد وقال بعد أن ركل وسادة بقربه‪:‬‬
‫_ وجه الدجاجة هذا ل يكف عن بث سمومه‪ ,‬هل تصدق أني أرى بقعًا خضراء تحوم وتحجبني‬
‫رؤية السقف !‪.‬‬
‫تركتهما يقتتلن بالعبارات الثقيلة‪ ,‬وصمت لستشعر البعد الفلسفي الذي يربط الشجرة بالسماد‪.‬‬
‫بعد أن مضت خمس دقائق مل الثنان وصمتا‪ ,‬فجأة قفز زيد وقال بسرعة‪:‬‬
‫_ إبراهيم ‪ ,‬ما قصة )واحد( ؟‬
‫نظرت إليه بحيرة وأنا أهرش رأسي وبعد أن أحسست أني سأفقد بعضًا من شعراتي العزيزة قلت‬
‫له ‪:‬‬
‫_ عن أي ) واحٍد ( تتحدث ؟‬
‫_ سمعت بأنك تكتب رواية اسمها ) واحد (‪.‬‬
‫_ يبدو أن سموم صاحبك أتلفت عقلك !‪.‬‬
‫فجأة قال محمد بصوت مزعج جدًا ‪:‬‬
‫_ أتعلمان أني بالمس اصطدت سلحفاة ؟‬
‫ي‪ ,‬إل أن زيد الذي سأل عن أسم السلحفاة أكد ما سمعت‪.‬‬ ‫ل تكذيب أذن ّ‬ ‫ت محاو ً‬‫صم ُ‬
‫_ نعم ‪ ,‬نعم وهي سلحفاة كبيرة جدًا ‪.‬‬
‫_ يا إلهي‪ !..‬وأين وضعتها ؟‬
‫قال وهو يبتسم بخيبة ‪:‬‬
‫_ السلحفاة؟‬
‫_ ل وثيقة سايكس بيكو! بالطبع أعني السلحفاة‬
‫_ وضعتها في الحّمام‪ .‬إنها ضخمة بحق‪ ,‬أتعلم أن الصينيين يظنون أن بطء السلحفاة بسبب حملها‬
‫للكرة الرضية‪..‬‬
‫_ يا محمد سلحف الدنيا ل تستطيع أن تحمل قرية صينية‪ ,‬لو أصدت عصفورًا أو حمامة لما‬
‫عتبت عليك‪ ,‬ولكن سلحفاة ! حتى إنها ل تصاد‪ ,‬إنها ترفع من الرض فقط !‪.‬‬
‫ل بصوت رخيم ل يليق بشخص في حّمامه سلحفاة‪:‬‬ ‫أخذ زيد يمشط شاربه قائ ً‬
‫_ السؤال المهم هنا هو‪ ,‬كيف سنعيد السلحفاة إلى الشاطئ قبل أن تبيض في الحّمام ؟‪.‬‬
‫هنا شككت بالوضع لن الخ يتحدث عن الشاطئ ونحن )بالرياض(‪ ,‬قمت بسرعة وفتحت باب‬
‫الحّمام وأخذت أبحث عن السلحفاة فما وجدت إل ذبابات الشقة اللئيمة‪ .‬لقد اتضحت الصورة الن‬
‫ف مضروب‪.‬‬ ‫فأحدهم قام بشراء صن ٍ‬

‫‪6‬‬
‫عندما عدت تجاهلت باقي الحوار‪ ,‬فمهما قاومت لن أستطيع مجاراة شخصين محلقين بسبب‬
‫صنف مضروب ! الفضل أن أفتح المذياع لمل وأنام بسرعة‪..‬‬

‫******‬
‫بديهيات غبية‬

‫دائمًا ما أبحث عن طريقة جديدة لبداية اليوم‪ ,‬أظن أني مللت من النهوض صباحًا‪ .‬سرعان ما‬
‫تتبخر تمرداتي الصغيرة مع ارتشافي لكوب الشاي المتطرف بسواده‪..‬‬
‫_ هل استيقظت ؟‬
‫من المربك أن تتشرب البديهيات الغبية مع كوب شاي معتق ‪ ,‬بعض السئلة إن لم نجب عليها‬
‫نفينا حقيقة تسكعنا على خط الزمن هذا !‬
‫_ يا زيد اتفق معك أن البعض يسير وهو نائم‪ ,‬ولكن هل رأيت شخصًا يشرب الشاي وهو نائم ؟‬
‫نعم أنا على "قيد النهوض"‬
‫_ أف‪ ,‬أنت تتحدث بالمقلوب مثل الفلسفة !‪ .‬اسمع سنذهب اليوم إلى )القصيم(‪ ,‬أخبرني إن كنت‬
‫تود الذهاب معنا‪.‬‬
‫_ بالتأكيد سأذهب معكم فأنا الوحيد الذي يمتلك سيارة‪.‬‬

‫قد أتفق مع نفسي أن أقوى دافع بالمسير في طريق الغربة هو الفضول‪ ,‬أما دوافع العودة فتتسربل‬
‫بهدوئها‪ .‬أمران إن سيطرا قمعا أي محاولة للتعبير) الخوف و الشوق(‪.‬ل أتمنى لي حبيب أن‬
‫يخاف من شوقه وأتمنى للبقية غير المحايدة أن يشتاقوا لخوفهم !‬
‫_ إذًا سنعود‪.‬‬
‫كيف تختزل هذه الوجوه الكم الهائل من الحزن ببسمة ؟ كم نطق الفلسفة "إذًا" ليربطوا‬
‫الشطحات بالحقائق‪ ,‬وما كانت قاسية مثل ذكرها لتجرع الواقع !‬
‫_ يا صاحبي ل مكان لنا هنا‪ ,‬هذه مدينة الحديد والنار ندخلها فاتحين ونهرب منها دراويش‪.‬‬
‫لن أنسى تلك الغنية التي هربت مع زفرته المنكسرة‪:‬‬
‫) دراويش‪ ..‬دراويش‪ ...‬يا خّيي بنعيش (‬
‫الشعب العربي فريد جدًا من نوعه‪ ,‬فهو قادر على تلحين قرقرة البطن الخاوية‪ .‬دائمًا ما أحاول‬
‫التحدث عن الشعب العربي بوصفه )كلمة شعرية( ولكن أخاف أن يأتي أحد الفحول ويجزم الكلمة‬
‫فتزداد "الجزمات" فوق رؤوسنا !‬

‫******‬
‫هزائم صغيرة‬

‫هل نظرت للسماء متمنيًا رؤية انعكاس الرض فيها ؟‬


‫قالها الشيخ صاحب العمارة ونهض مغادرًا‪ .‬قلت بحذر‪:‬‬
‫_ أما زلت تهذي ‪ ,‬وتهرب بسرعة؟‪.‬‬
‫وقف واستدار ببطء ليرسم تعبيرًا معينًا على وجهه‬
‫_ إني عجوز بطيء الحركة كما ترى‪ ,‬تستطيع أن تلحق بي دائمًا‪ ,‬أظن بأنك ترتعب من احتمالية‬
‫الجابة‬
‫أحسست بأنه جمع كل سفسطتي وجدالي بكتاب كبير وضربه بعنف على رأسي ‪ ,‬حاولت أن‬
‫أحسسه بالذنب لشعر بالنتصار فقط ‪:‬‬
‫_ لست خائفًا‪ ,‬ولكن ما فائدة إجابة أسئلة الحشاشين؟ ‪ ,‬وبالمناسبة أعلم أنك حزين لفقدك شركاء‬
‫الخطيئة‪!..‬‬

‫‪7‬‬
‫قال وهو يحرك يده بعصبية‪:‬‬
‫ل غبائك‪ ,‬أل تعلم أن هذه البناية تتنفس "الكيف" ؟ لذا لن أخسر الكثير أن فارقتموني‪.‬‬
‫_ يا ِ‬
‫تابع سيره وهو يتمتم ‪:‬‬
‫_ أحدنا كان متشائمًا في هذا الحوار‪.‬‬
‫أطلت النظر إليه‪ ,‬كنت أحاول حفظ صورته‪ .‬شيءٌ ما يشعرني بأنه دليل يسير على قدميه‪.‬هذا‬
‫القسم من البشر يختفي تحت تفاصيل الحياة العائمة‪ .‬ليته سمعني عندما قلت ) أينما نظرت ستجد‬
‫شيئًا يستحق النظر(‬
‫‪ ..‬حقًا إنه أسرع عجوز رأيته في حياتي‪.‬‬

‫******‬
‫قهوة البستان‬

‫في قهوة "البستان" كل شيء مبرر ما عدا اسم القهوة نفسها ! ‪ ,‬هنا تولد الحياة فوق رأس الشيشة‬
‫وتتصاعد دخانًا لترسم الطلسم‪ .‬باعة الساعات لهم قصة مضحكة ‪ ,‬إذا عرضت عليك ساعة‬
‫باهظة قل للبائع )ل أريد ساعة أعطني خمس دقائق فقط( حينها سيبتسم بوجهك ويخرج لك‬
‫المصائب السوداء من كل مكان‪ .‬ذات مرة قلت لحدهم ) أعطني الزمن كله( فتركني بغضب‬
‫وهو يكيل اللعنات لي ولينشتاين!‪ .‬ولكن ما فائدة هذا كله إذا كان نصف الباعة من المباحث‬
‫والنصف الخر متعاون مع المباحث!‪.‬‬
‫عجيب أمر هذا الشيخ الشامي‪ ,‬يفترش الرض كل مساء وينادي على بضاعته القديمة‪ ,‬وبعد أن‬
‫ت له ‪:‬‬
‫ت أمام بسطته وقل ُ‬‫يمل يذهب بسرعة ليدخن "الرقيله" مع أصحابه‪ .‬توقف ُ‬
‫_ هل كسرت قوانين الطبيعة وبعت شيئًا من بضاعتك ؟‬
‫رفع حاجبه اليسر وجحظت عينه فجأة‪:‬‬
‫_ أملك الكثير وأبيع القليل‪ ,‬وأتمنى من أعماق قلبي أن أحصل على ما أريد لرميه بأقرب سلة‬
‫مهملت !‪.‬‬
‫فهمت ما يرمي إليه هذا الخرف ولكني رددت عليه ببرود‪:‬‬
‫_ لذا أرى الكلب تصاحبك‪ ,‬عّلها أوهمت بأن الرزق صادفك !‪.‬‬
‫ابتعدت عنه بسرعة لعود إلى مكاني فالمشاكل هي آخر ما أبحث عنه في هذا المكان‪ .‬أخيرًا أتي‬
‫"أبو عرب" مترنحًا بمشيته وكأنه يلقط الفجل من الرض ‪ ,‬كنت أظن فيما مضى بأنه من‬
‫أصحاب "الشمغ الوردية" حتى تبين لي أنه من أصحاب الدخل "المخنوق"‪.‬‬
‫حياني بابتسامة وادعة وقال‪:‬‬
‫_ ها يا إبراهيم‪ ..‬أرى في وجهك عبوسًا يزيد من دمامتك‪.‬‬
‫خلع غترته ووضعها فوق المسند‪ ,‬كنت أعيد السؤال للمرة اللف في سّري ) كيف سأطلب نقودي‬
‫ت غترته وهززتها مثل مصارعي الثيران‪ ,‬استلقى على ظهره ضاحكًا‬ ‫من هذا المعدم؟ (‪ .‬رفع ُ‬
‫وأخذ يضرب الرض بقدميه‪,‬لم أستطع مشاركته بالضحك لني قمت بهذا العمل بدون وعي‪.‬‬
‫_ آه يا إبراهيم ‪ ,‬ما خلعت الغترة إل لثبت لك أني بل قرنين‪.‬‬
‫_ وأنا ل أبحث عن الثور؛ بل أبحث عن دافع المصارع‪.‬‬
‫_ فيما مضى كنت مصارعًا أبحث عن فتاة جميلة‪ ,‬والحمد ل وجدت واحده وتزوجتها‪.‬‬
‫_ أما أنا فأبحث عن نقودي لتزوج بدوري فتاة جميلة‪.‬‬
‫ل تصنع الجدية‪ ,‬وكأنه ل يعلم أني أرى ضحكته السمجة تتسرب من فمه‪:‬‬ ‫قال محاو ً‬
‫_ يا أبا خليل أترك نقودك معي‪ ,‬أنت ل تدري عن نوائب الدهر وكما قال المثل‬
‫) خبئ القرش البيض لليوم السود( هل تريد أن أحكي لك حكاية الذبابات الثلثة والضفدع ؟‬
‫_ أبو عرب يا عدو نفسك كفاك تشويهًا للرث الثقافي العالمي‪ .‬دعني من ذباباتك الن‪ ,‬أعطني‬
‫نقودي عليك ما تستحق فبالغد سأسافر‪..‬‬

‫‪8‬‬
‫وضع يده على كتفي وأخذ ينظر لي بتعجب‪ .‬أخرجت بصعوبة سيجارة وصرت أشربها بشره‪.‬‬
‫قال وهو يحرك فنجانه بعبث‪:‬‬
‫_ ‪ ..‬سترجع إلى )عنيزة( ؟‬
‫_ نعم سأفعل‪ ,‬فقد أصبح بقائي بل مبرر‪.‬‬
‫_ يا أحمق أل تعلم أنهم هناك يتوارثون الوظائف والحقد والفضول وحتى تسوس السنان !أل‬
‫تعلم أنهم مازالوا يقدسون الضغينة‪ ,‬حتى الن ينظرون للشخص الذي يجاهر بحبه لمدينة )بريدة(‬
‫على أنه خائن‪ ,‬والعكس يحدث أيضًا‪!..‬‬
‫_ ل تخبرني عن هذا‪ ,‬فأنا من ولد هناك‪.‬‬
‫_ هل تبحث عن الرزق ؟‬
‫_ ومن منا ل يفعل يا أبو عرب‪ ,‬توقف رجاءً عن طرح السئلة المجوفة !‬
‫_ سبحان ال كيف تفكر بالرجوع إذًا إن كنت تبحث عن الرزق !‬
‫مد لي فنجان القهوة وصمت‪ .‬لم أشرب القهوة فقط ظللت أحدق في الفنجان‪.‬شيئًا فشيئًا اكتملت‬
‫دائرة علمات الستفاهم وصارت ترقص رقصة "التانجو" فوق صلعتي‪ .‬كنت أريد أن أقول له‬
‫بأني مشتت وحائر كقاع الفنجان الذي ل يدري كيف تقّمص السطح لونه؟ لو كنت أملك شيئًا من‬
‫ل) لست قاعًا‪ ..‬إني السطح الخير فقط‪! (..‬‬ ‫الشجاعة لصرخت قائ ً‬
‫تحدثت بمرح لخرج من دائرة التساؤلت الجبانة‪:‬‬
‫_ هل تعرف كيف يسترد الفلسفة ديونهم ؟‪.‬‬
‫رد والدخان يتصاعد من فمه ‪:‬‬
‫_ الفلسفة ل يقرضون المعدمين يا صديقي‪..‬‬
‫أردف بسرعة مقاطعًا نفسه‪:‬‬
‫_ تذكرت‪,‬هناك من طلب مني أن أبحث له عن كاتب‪ .‬بما أنك مدمن ثرثرة لَم ل تذهب إليه؟‬
‫أخرج من محفظته ورقة صغيرة‪ ,‬بعد أن نظر إليها قص جزءًا صغيرًا منها وناولي باقي الورقة‪.‬‬
‫أخذت الورقة وقرأت ما كتب عليها بصوت مرتفع‬
‫_حي السفارات ‪ ,‬أبو الوليد‪.45 ,‬‬
‫رفعت رأسي وسألت أبا عرب‬
‫_ من يكون أبو الوليد هذا وكأني سمعت باسمه من قبل ؟‬
‫_ يا إبراهيم هناك جانب مشرق في حياتي‪ ,‬وهو أني ل أراك كل يوم !‪ .‬كيف سأعلم إن كنت‬
‫سمعت أو لم تسمع به من قبل ؟ على العموم أذهب إلى هناك وستجد الرزق إن شاء ال‪.‬‬

‫خرجت من المقهى وفي رأسي مليين السئلة وإجابة واحدة بمليون صيغة‪ .‬سرت حتى وصلت‬
‫إلى )الشقة(‪ .‬أخذت أغراضي وأخبرت صاحباي بأني لن أذهب معهم‪ ,‬ودعتهم ببرود وغادرت‬
‫بسرعة‪ .‬كتبت على باب العمارة بقطعة فحم وجدتها على الرض )سيذهبون إلى ديارهم وسأبقى‬
‫هنا كالوتد‪ ..‬أنبش الزمن لدعي النتماء‪..‬رحم ال الديار‪ ,‬تدعونا كالسراب لنشرب نخب الخيبة‬
‫على طول الطريق‪..‬وإن وصلنا‪ ..‬تداركنا بعد الصحوة أننا كنا سكارى‪ ..‬نهذي عن الديار (‬

‫******‬
‫آمال وآلم‬

‫في الحياء الفقيرة تهضم الرياض جنونها ‪ ,‬وتثمل صعودًا إلى أعلى الطبقات‪ ..‬لم أكن وحيدًا من‬
‫قبل كما الن‪ ,‬ولم أشتق للمذياع مثل هذا الشوق‪ ..‬لو عاد بي الزمن ما سخرت من سيمفونية‬
‫بيتهوفن الربعين وما كرهت بيروقراطية نشرة الخبار! ‪,‬ولستمعت إلى الحكم "المدجنة" كما‬
‫لم أسمعها من قبل ‪ ,‬ولكن الزمن ل يعود ول نحن نبقى وكأن الزمن لم يبارحنا‪.‬ل شيء يستحق‬
‫أن أكرمه بوصف الن ‪ ,‬إنه اعتقاد يسري بالدم ويسامر الشيطان نفسه‪ ,‬إن هذه الحياة أشبه‬

‫‪9‬‬
‫ص ل يرتدي قميص مقّلم‪ ,‬أو وردة حمراء تباع بسعر مضاعف في العياد‬ ‫بوصف سريالي لل ٍ‬
‫الوثنية‪ ..‬إني ل أعلم كيف نستطيع تجرع مرارات البقاء على نفس اليقاع البائس ؟ ول أدري‬
‫لي شيء نتمرد ؟ ول لمن نرسم عبارات اللقاء على الكفوف الشاحبة‪ ..‬إنه اعتقاد ينضح بالكذب‬
‫ويدعي الصلبة في نفسي المتأرجحة‪..‬‬

‫_ تستطيع أن ترتكب شاعريتك في مكان أفضل‪.‬‬


‫إنه متحذلق آخر يرمي عباراته ويظل محملقًا عله يصيب ابتسامة طربه هنا أو هناك‪ ,‬هذا يكفي‬
‫سأطرق الباب الن وليكن ما يكن‪..‬‬

‫_ نعم ؟‬
‫قالها أنف كبير خرج من الباب !‬
‫_ أتيت عن طريق "أبو عرب" قال أنكم تبحثون عن كاتب‪.‬‬
‫نظر إلي باشمئزاز وقال ‪:‬‬
‫_ نحن نبحث عن كاتب ‪ ,‬ل عن آلة كاتبة‪.‬‬
‫قلت بعد أن بلعت وصفه الوقح‪:‬‬
‫_ يا ) شيء ( أظن بأنك تنظر إلى المرآة‪!..‬‬
‫قال بعد أن رجع إلى الوراء ليفسح الطريق لي‬
‫_ أدخل يا عربيد‪.‬‬
‫سمعته يقول بصوت منخفض ) يبدو أن هواية سيدي جمع أنصاف البشر (‪.‬غضبت وأنساني‬
‫الغضب أن السلوب السلمي هو المبرر العقلني لعدم انقراض مخلوق مثل القرش المفلطح!‪.‬‬
‫ضربت كتفه بقوة وبعد أن استدار وواجهني سددت لكمة محكمة على أنفه وقلت وأنا أفكر‬
‫بالهرب‪:‬‬
‫_ قد أكون من أنصاف البشر كما تقول‪ ,‬ولكني على القل النصف العلى منه !‬
‫إن صرخاته الوحشية جعلت عقلي يسترجع جميع الحوادث المرعبة التي مررت بها في حياتي‪,‬‬
‫كنت أتمنى أن ما حدث ليس إل كابوس غير مؤمن بيقظتي‪..‬أين كيمياء الجسد اللعينة عندما‬
‫نحتاجها ‪ ,‬أين هذا الدرينالين ؟‬
‫مازالت قبضته تقترب وعيناي تكبران القبضة بشكل مأساوي مريب‪ ,‬قبل أن تصل قبضته إلى‬
‫مجال اللم صرخت ‪:‬‬
‫_ اللعنه على كل شيء !‬
‫ما أن انتشرت لعناتي المتألمة في فضاء البيت‪ ,‬أتى شخص _أظن بأنه مهم_ بعد سماع‬
‫ل ولكنه سرعان ما دفع الخادم بقوة وأمره أن "يختفي"‬‫الصرخات الوحشية‪ ,‬وأربكه المنظر قلي ً‬
‫ول أعلم ما معنى أن تأمر خادمًا بالختفاء ؟ إنه لمن الغباء أن أستحلب عقلي المتشبث بجمجمتي‬
‫المترنحة لجيب عن هذا السؤال !‬
‫_ هل أصبت يا سيد‪..‬‬
‫نظرت إليه وقلت بثقة اليائس‬
‫_ نعم ‪ ,‬أصبت في كرامتي !‬
‫ل من النقود‬‫ربت على كتفي وساعدني على النهوض‪ ,‬كنت أتصور بأنه سيضع في يدي قلي ً‬
‫ويأمرني بالرحيل‪ ,‬لذا جهزت خطبة طويلة عن فلسفة "الكتفاء الذاتي" إل أنه أمسك بيدي وسار‬
‫بي حتى توقف أمام دورة المياه‪ .‬بعد أن غسلت وجهي وتأملت بجغرافية الحداث الجديدة‬
‫المسيطرة على جبهتي‪ ,‬تركت الحرية لنيوتن أن يختار أي كرسي أرتمي عليه‪ ,‬قال لي "الُمهم"‬
‫وهو يضحك‪:‬‬
‫_ هذا اللئيم ضربك بشدة‪ ,‬إنه يتصرف مع الجميع بهذه الطريقة فهو يخاف أن يخسر ثقله هنا‪.‬‬
‫_ أتصور أن ثقله سيكون سببًا لغرقه‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫أشعل سيجارة طويلة وقال وهو ينظر إلى علبة السيجار ‪:‬‬
‫_ هذا كوبي‪ ,‬وهو أنقى من الكسجين في مستشفياتكم‪.‬‬
‫قلت لتأكد أنه بالمجان ‪:‬‬
‫_ ل يرد الكريم إل اللئيم‪ ,‬أي أن الخادم لن يدخن معنا‪.‬‬
‫تبسم وقال بسرعة ‪:‬‬
‫_ أخبرني الن‪ ,‬من أنت وماذا تريد ولَم تشاجرت مع الخادم؟‪.‬‬
‫بعد أن قصصت له ما حدث _بوجهة نظري طبعًا_ ضحك وأعجبه ردي على الخادم‬
‫الجحش‪.‬أخرج من الدرج ورقة طويلة وطلب مني أن أوقع عليها‪ ,‬وعندما سألته أخبرني بأنه عقد‬
‫عمل‪ .‬ما أن بدأت بقراءة العقد حتى قال لي بملل‪:‬‬
‫_ بحق ال إنه عقد وليس وثيقة استسلم‪ ,‬وقـّـع!‪.‬‬
‫وضعت الورقة على المكتب وقلت بتردد ‪:‬‬
‫_ ولكن لم تخبرني عن المرتب‪ ,‬ولم تخبرني عن طبيعة عملي؟‬
‫_ سأعطيك ثلثة آلف ريال‪ ,‬وعملك بسيط‪ ,‬فكل ما عليك القيام به هو كتابة مواضيع معينه‬
‫بأسلوب وطريقة معينة‪.‬‬
‫وافقت على الفور‪ ,‬لم أصدق في البداية أني حصلت على عمل بهذه السرعة‪ ,‬كنت قبل هذا اليوم‬
‫ألّون السماء في ُمـقل "المهمين" لحصل على مقابلة عمل فقط‪ ,‬والن أتشاجر مع خدمهم وأشرب‬
‫من سجائرهم وأعمل عندهم بنفس اليوم‪ .‬يا للهول أي مؤامرة يدسها اللم بين لفائف السكون‪..‬؟‬

‫إني ) أنا ( من جديد‪..‬‬


‫أتأبط المدارات المظلمة‪..‬‬
‫أقتص من كل الرؤى‬
‫ول أكون‪..‬‬
‫مّدعيا أني كنت يومًا سأكون !‬
‫س بمنتصف الميدان‪..‬‬‫ض مغرو ٌ‬ ‫ما أنا إل عَــلٌم أبي ٌ‬
‫ل ينهزم‪..‬‬ ‫‪..‬من يصل إلي أو ً‬
‫وأنا دليل النهزام‬
‫‪..‬ومن ل يصل يموت‪..‬‬
‫وأنا ثرثرة الموت‪!..‬‬
‫ثّمة شيء قديم ولئيم يهذي بين دهاليز وعيي‪ ) :‬إن ثرثرة الموت‪ ..‬هي الصّمت (‬

‫******‬
‫الحياة ل تشترى ول تباع‪ ..‬إنها تستهلك فقط !‬

‫اليوم انتقلت إلى غرفة صغيرة ل تبعد كثيرًا عن مقر عملي‪ .‬بعد مفاوضات منهكة اتفقت مع‬
‫صاحب العمارة على مبلغ خمسة آلف ريال بالسنة‪ ,‬أعطيته ستمائة ريال لسّد بها فمه ووعدته‬
‫بإكمال باقي المبلغ فيما بعد‪ .‬اشتريت أدوات مطبخ وفراش ومذياع من النوع الرخيص وخمس‬
‫علب سجائر وزعتها صدقة على روح أول هندي أحمر أقنع البشرية بأن التبغ يحرق ل يمضغ!‪.‬‬
‫بعد أن مر السبوع الول حتى تعرفت على جاري "ريان"‪ .‬وهو رياضي البنية وبوادر الصلع‬
‫بادية عليه‪ ,‬لذا أجده دائمًا ما يرجع شعره إلى الوراء بحذر‪ .‬يقول أنه كان لعبًا مغمورًا في نادي‬
‫"الوحدة" بمكة المكرمة‪ ,‬إل أنه أصيب بركبته فقام النادي بتصفيته‪ .‬أذكر أنه أعطاني رقم أحد‬
‫أقربائه وطلب مني أن أتصل به إن أتته "النوبة"‪ ,‬لم أسأله عن نوعية النوبة التي تصيبه خوفًا من‬

‫‪11‬‬
‫إحراجه‪ .‬في نفس اليوم وبعد الساعة الثانية صباحًا أدركت أن نوبته هي "ذبحه قلبيه"!‪ .‬ولن‬
‫قريبه لم يبالي بمكالمتي وأغلق السماعة بعد أن أمطرني باللعنات‪ ,‬فقد نقلته إلى المستشفى بنفسي‪.‬‬

‫كنت أزوره يوميًا بعد انتهاء عملي‪ .‬في أول المر لقيت معارضة شديدة من الممرضين لن‬
‫ل أحد يهتم به سواي ‪ ,‬لذا‬
‫وقت الزيارة ينتهي بعد الساعة التاسعة مساًء‪ ,‬ولكن مع الوقت أدركوا أ ّ‬
‫سمحوا لي بزيارته متى رغبت على شرط أن أوقع على أوراق أقر بها أني المسئول عنه في حال‬
‫عجز عن اتخاذ القرار بنفسه كأن يصاب بغيبوبة‪,‬أو في حالة الوفاة‪.‬‬

‫_ هل تعلم يا إبراهيم؟ لم أصب بركبتي‪ ,‬كان هذا هو السبب‪.‬‬


‫قال كلمته الخيرة وضرب صدره بحسرة‪ .‬ابتسامتي الصفراء أضافت على الموقف شيئًا من‬
‫البؤس‪ .‬لعله يعلم بأني ل أبالي بصدقه أو بكذبه‪ ,‬ولكنه ل يعلم بأني نفسي ل أبالي بصدقي‬
‫وكذبي!‪ .‬أظنه ل يعلم أني يومًا بعد آخر أتحّول إلى مخلوق عدمي يعيش لنه ولد فقط!‪.‬‬
‫_ كنت أسمعك في غرفتك وأنت تقرأ‪..‬‬
‫_ هذه عادة سيئة التصقت بي منذ الطفولة يا صديقي‪.‬‬
‫_ القراءة عادة سيئة ؟!‪.‬‬
‫ت مرتفع‪.‬‬
‫_ ل‪ ..‬أقصد القراءة بصو ٍ‬
‫دفن رأسه بالوسادة وأخذ يسعل أو يضحك‪..‬ل أعلم بصدق أي شيء كان يحاول أخراجه من‬
‫صدره‪ .‬بعد أن نهضت أمسك يدي بقوة وقال بنبرة عميقة‬
‫_ قبل أن يسقطني المرض كنت أعود لغرفتي مبكرًا لسمعك وأنت تقرأ‪ ..‬حتى أني مع الوقت‬
‫بدأت أسمي الُكـتـب!‪ .‬إن الحياة هي عادة سيئة يرتكبها الميت كل يوم‪!..‬‬
‫سحبت يدي برفق وخرجت بصمت‪ ..‬ل أدري لَم قمت بهذا التصرف ؟ ‪ ,‬لعل اللوعي أحترم‬
‫رغبته وألجم لساني !‪.‬‬

‫بعد أيام قليلة أتى أحد أقاربه وأخرجه من المستشفى‪ ,‬ولم أره بعدها‪..‬‬
‫ولكني أعلم إلى أين ذهب‪..‬‬

‫******‬
‫) طز (‪!!..‬‬

‫كنت أكتب ضدهم‪ ,‬فأصبحت أنا "ُهم"‪.‬أي سخرية أقسى من هذه السخرية ؟‪ .‬في كل حرف أتجرع‬
‫مرارات الخيبة‪ ,‬وألمس انكسار الروح‪".‬هو" المشهور‪ ,‬وأنا المطموس‪ .‬تبًا لتلك القناعات وتلك‬
‫المبادئ التي هربت مع أول انتفاضة‪ ,‬وكأنها مستعمر مذعور‪ .‬لقد تورطت بين هذه الخليا التي‬
‫ي وكأني مخبر لذاك الهارب!‪ .‬أنا العدو الول داخل "النا"‪ ,‬وأنا الخائن الذي سيحكم‬ ‫تنظر إل ّ‬
‫عليه بالموت كل يوم‪.‬كل ما أحتاج إليه هو مبرر واحد لصفع به قانون الرزق القاسي ‪ ,‬وأعود‬
‫إلى رفيق دربي الفقر‪.‬حتى )غزلن( ذاك الطيب ل يلحقني الن‪ ,‬ل يضرب كتفي ‪ ,‬ل يقتحم عيني‬
‫كالفزاعة‪.‬جلب المسكين معه أولده يخاف أن أخدعه ‪ ,‬وحين تبسمت بوجهه وأعطيته نقوده ذهب‬
‫ى لصرخة أخرس‪..‬‬ ‫محتارًا يحدث الناس عن َدينه القديم‪ ,‬وأولده من خلفه يتبعونه وكأنهم صد ً‬
‫انتهت حقبة الكفاح المسلح‪ ,‬وتركتني مرميًا بين القناعات الصدئة !‪.‬‬

‫ل بيده مجموعة من الوراق‪ .‬رماها على المكتب‬


‫فجأة فتح الباب بعنف ودخل ) المهم ( حام ً‬
‫بغضب وقال بعد أن جلس على حافة الكرسي‬

‫‪12‬‬
‫_ يا عيني على موضوعك‪ .‬أمجنون أنت ؟ تنتقد فكرة السياحة الداخلية في المدن الصغيرة‪ ,‬ول‬
‫تكتفي بهذا فقط بل تصفها ) بأفيون الريفيين(! كنت أشك أنك من أصحاب "المد الخضر" والن‬
‫تأكدت‪.‬‬
‫رمقته بنظرة ل مبالية وعدت أكتب من جديد‪ ,‬قال مهددًا‪:‬‬
‫_ أتعلم أن موضوعك وصل "إليه" وهو مستاء جدًا‪.‬‬
‫_ طز‪ !..‬الن أبتعد عني يا هاتف العملة‪.‬‬
‫أحمرت عيناه وأخذ يسب ويشتم‪:‬‬
‫_ هذا الـ "طز" ستدفع ثمنها‪! ..‬‬
‫ل كل ما يراه إلى فوضى‪ .‬تذكرت مقولة البابليين أثناء ترتيبي‬ ‫خرج من المكتب كالزوبعة محي ً‬
‫للمكتب ) من الفوضى صنع مردوخ النظام (‪ .‬سأكون )مردوخ( هذه الغرفة وسأصنع شيئًا‬
‫متواضع أسميه النظام‪.‬‬

‫******‬
‫تجليات هاربة‬

‫هناك حيث الشفق يبعث على الكآبة تذكرت تلك الوقفة الطائشة‪ ,‬مشهد اعتيادي بلحظة تجلي‪,‬‬
‫حشرة كبيرة تترنح ومن حولها كم هائل من النمل‪ .‬أبعدت العاطفة التي توهم النسان بالبراءة‬
‫وأخذت أنظر إلى المور بمنظار العقل والحتمالت‪ ,‬تساءلت‪:‬‬
‫ماذا لو تركت الخنفساء تلقى مصيرها المحتوم ؟ لن يتغير شيء ‪ ,‬سيرجع النمل إلى بيته أو‬
‫سيذهب للبحث في مكان آخر‪ ,‬إذًا سأنقذ تلك "الخنفساء" بالفعل رفعتها ووضعتها في مكان آمن‪.‬‬
‫بعد فتره وجدت النمل قد اجتمع من جديد وهذه المرة على حشرة أخرى!‪ .‬هنا كففت عن العبث‪,‬‬
‫وتركت الرادة تعمل سلحها الفتاك‪ .‬إن الكثرية كالنمل والقلية هي )الشيء الخر المتخلف(‬
‫وذاك المختلف طاقة تغيير والبقية طاقة حفظ وجدت لتدميره‪ ,‬مثل هذه الوقفات تجعلني أتندم على‬
‫أيام قضيتها في معاقرة قناعتي القديمة بأن النسان عقله!‪ .‬إن المجتمع ناتج حتمي لبؤسنا الفردي‪.‬‬

‫إن النسان خارج البعد اليماني عبارة عن معادلة كيميائية معقدة‪ ,‬وكل ما يحدث له ليس إل‬
‫نتيجة فرعية لهذه المعادلة‪ .‬الحب والبغض‪ ,‬الصدق والكذب‪ ,‬النفاق والخلص‪ ,‬كل هذا أصبح‬
‫داخل جدول العناصر الكيميائية!‪ .‬إن هذا الفكر "اللإيماني" فرض العلم كدافع عقلني لممارسة‬
‫الحياة‪.‬نعم من السخف أن أرفضه وأنا بوهيمي ركله الواقع بين طرفي الزمن‪.‬إني أقول هذا لني‬
‫أعلم أنه لم يعد للنسان قيمة مستقلة بل أصبح عبارة عن مجموعة مصالح تتجاذبها الطراف‬
‫التي تستطيع تحريك نوازع الحاجة والجشع فيه!‪ .‬من ل ينظر الن إلى النسان على أنه عميل‬
‫متوقع أو قدرة شرائية محتملة؟!‪ .‬لقد أصبح المجتمع البشري أكبر مستهلك للنسان نفسه‪ .‬وأصبح‬
‫ي الميزانية هرطقة أو طرفة يثرثر بها ذات‬
‫الشيء الذي ل يقاس بشكل نقدي ول يؤثر على طرف ّ‬
‫ي بغرابة وصدمة كما نظر أجدادنا الفاتحون إلى‬
‫ملل‪ .‬مثل هذه الفكار تجعل البعض ينظر إل ّ‬
‫الوثنيين وهم يرقصون بوحشية أمام تماثيلهم‪!..‬‬

‫إن النسان ذكي لدرجة أنه يستطيع خداع نفسه‪ ..‬وغبي لدرجة أنه يستطيع خداع نفسه‪!..‬‬

‫‪13‬‬
‫******‬
‫الرهاصات المنبثقة من كلمة ) طز (‬

‫قفز أمامي كقط مسكون ‪:‬‬


‫_ أما قلت أنك ستدفع ثمن بجاحتك ؟ لقد خُـيرت بأن أخرجك بهدوء من المنزل أو أن أطرك‬
‫كالكلب‪.‬‬
‫في الحقيقة استنتجت بعقلي الفذ أن هذا أمر وارد‪ ,‬فكلمة "طز" لها وقع ثقيل على أصحاب‬
‫السيجار الكوبي‪ ,‬من الحكمة أن أجمع أغراضي ‪.‬‬
‫_ حسنًا أعطني مستحقاتي بسرعة و إل كتبت بوجهك ذكرياتي المريرة كلها‪.‬‬
‫تلّون وجهة كالحرباء وقال وهو يتنفس بصعوبة‬
‫_ يا )جوهر( أرمي هذا الكلب إلى الخارج‪.‬‬
‫كم فرح ذاك البغل بهذا المر‪ ,‬لم أستشعر حبي لقانون الجاذبية إل في الهواء وما كرهتها إل بعد‬
‫معاينتي الشخصية لتأثيرات قانون الحتكاك فيه‪ ,‬ولكن وبما أني شخص براجماتي تذكرت أن‬
‫عدم المعرفة ل يعني عدم الوجود‪.‬‬
‫فوق الرصيف هتفت بسعادة ‪ ) :‬ها قد أتيتكم فقيرًا من جديد‪ ,‬ل دري أنظروا كيف يمسح الرجل‬
‫البراجماتي وجهه ويزيل عربدة الحجج ! (‪.‬‬

‫بعد أن قتلني الجوع‪ ,‬تراءت لي ل شعوريًا صورة مجنون الحارة )أقى ريال(‪ .‬وهي صورة‬
‫موغلة في الِقدم‪.‬ما فعلت اليام يا ترى بذاك العزيز؟ أمازال ينادي بين أزقة حي "الزهرة" في‬
‫عنيزة )أقى ريال( ؟ أتذكر يوم سألت أحد الصبية عن معنى كلمة )أقى( أخبرني أنها تعني‬
‫ل لنه كان يمزقه من شدة الفرحة‪ ,‬أما الغربان الصغيرة فكانت‬ ‫)أعطني( ‪,‬لم أَر أحدًا يعطيه ريا ً‬
‫تسير خلفه لتجمع أشلء الريال وإن لم تجد شيء رمته بالحجارة‪.‬‬
‫هاهي السنين مرت‪ ,‬ووزع الكائن الكبر العطايا لوحداته‪ ,‬تاركًا من تمرد بالفطرة على خط‬
‫محايٍد في الزمن‪ ,‬حاضٌر فقط ول شيء آخر‪ .‬حتى الغربان كبرت وأعطت مهمة اللحاق لبنائها‬
‫"المتطورين"‪ .‬أما ذاك العزيز يكرر النداء‪ ,‬مسكين هو ل يعلم أن الريال ل يشترى به )رأس‬
‫غليص( لن تلك الحلوى انقرضت ولن الريال ل يؤهل حتى لدخول "البقاله"‪.‬‬

‫على ضوء هذه الشطحات أثمل بحيرتي من جديد؛ إذا كان المجتمع كائن حي له مدخلته‬
‫ومخرجاته سيكون الفرد خلية ذات إرادة مقننه‪ ,‬والعقل في تلك الخلية هو جهاز أجير للكائن‬
‫الكبر‪.‬إني أتساءل بمرارة‪ ,‬أما آن الوان لنقف احترامًا للجنون ؟‬
‫ل من أن‬‫لقد تطرف ذاك الكبير وأراد قرابينه أن تكون "الوعي"‪ ,‬إنه يحمي نفسه من مكوناته‪ ,‬بد ً‬
‫يعلن إفلسه أعلن حربه‪ ,‬وكما في كل جسم جهاز مناعة مخلص وبليد لديه هو جهاز مرعب يقتل‬
‫نفسه إذا رأى منها ما يريبه‪ ,‬المر أختلف الن‪ ..‬أصبح البقاء من أجل البقاء فقط‪ .‬نعم الحياة فيها‬
‫كل شيء بنسب بخيلة‪ ,‬ولكن ليس للعدم أي لذة‪!..‬‬
‫إني أبحث عمن يقتله ليموت معه‪ ..‬أبحث عمن يمنعه من السقوط كما فعل شمشون‪..‬‬
‫أبحث عمن يقارن هذا الصلع الفلسفي بتسريحات المدن الفاضلة‪.!..‬‬

‫‪14‬‬
‫******‬
‫صفر في الخانة الخاطئة‬

‫كانت جدتي تقول ) الحياة مثل قدر الجيران ‪ ,‬ل تعلم أبدًا ما بداخله(‪ .‬مسكينة هي جدتي ل تعلم أن‬
‫الجيران ل يطبخون‪ ,‬ومسكين أنا إذ استذكرت هذه "المقولة"‪.‬‬
‫_ أين كنت يا أخي ؟ ل تقل بأنك نسيت أصحابك بعد أن اغتنيت‪.‬‬
‫هنا في قهوة البستان _من جديد_ ل أسّند قناعاتي على بوابة القهوة "لعّمر" بل آتي بحثاً عن‬
‫النجدة‪ ,‬أبو عرب هو جني البريق‪ ,‬أعترف بأنه معدم كما أعترف بأنه الجني الوحيد الذي أطلبه‬
‫نقودًا‪ ,‬ولكنه ِقسم علقات عامة متنقل‪.‬‬
‫_ أي غنى وأي بطيخ ! كشفني جهاز المناعة يا رجل‪.‬‬
‫_ مع أن البطيخ فاكهه لذيذة إل أن ذكرها هنا غير "لذيذ" ‪ ,‬أعلم أنك كومة فشل تلبس الثياب‪,‬‬
‫ل تخبرني‪ ..‬أعلم بأنك طردت‪.‬‬
‫_ بل قل ما أكلت منذ المس‪ ,‬يا صديقي أعطني نقودي و إل طبختك "شوربة معدم" !‪.‬‬
‫هاهو يعيد رسم ذاك التعبير السمج على وجهه ‪ ,‬ويخلع غترته‬
‫_ الحمد ل على كل حال‪ ,‬أصلع وقصير و آكل لحوم بشر‪ ,‬يا للهول !‬
‫قبل رأسي وضحك وهو يقول ‪:‬‬
‫_ حسنًا ل تغضب‪ ,‬قم يا رجل فالغداء على حسابي‪.‬‬
‫_ يا صاحبي هل تعلم أن النبعاج المتدلي من مساحات الشبع يجعلنا نتجاوز كينونة الجوع بشكل‬
‫ديناميكي؟‪.‬‬
‫كشر بوجهه فقلت وأنا أهرش رأسي‪:‬‬
‫_ ماذا أفعل إني جائع !‬

‫لحظات صمت وتأمل في الخيبة الموضوعة على الصحن المتسخ‪ ,‬ل شيء أفضل من التركيز في‬
‫العدم المنبثق من قلب الشعور المتخم بالجوع‪..‬‬
‫إن هذا الفم برأس أبو عرب الكبير يتحرك من جديد لينفي حالة السكون‪ ,‬إنه يحمل قوانين الطبيعة‬
‫مال تستطيع أن تتحمله‪ ,‬ول يجيد رسمه إل الظلل )خط ومن ثم دائرة عظيمة تجسد الرأس(‬
‫وعندما يحرك رأسه تشعر أن هناك شيء صغير بداخل جمجمته الكبيرة يحاول الخروج‪ .‬إن‬
‫الطفال يحبونه ؛ فهو اللعبة المجانية‪.‬قلت له مرة) إني أشبهك بالمشط‪ .‬فأنت تذكرني بالماضي‬
‫الجميل والواقع المحبط (‪.‬‬
‫_ ها‪ ..‬أما قلت لك أنه أفضل مطعم بالرياض ؟‬
‫_ نعم بالتأكيد والدليل أسمه الراقي ‪ ) ,‬افرحي يا كرشتي( ! هذا شطر من أحد قصائد أشعب‬
‫وليس أسم مطعم‪!..‬‬
‫_ وال لو وضعت خفة عقلك بقدمك لسبقت الرانب والغزلن‪ .‬ل تكن سطحي ألست فيلسوف‬
‫عصرك‪ ,‬انظر إلى العمق‪.‬‬
‫ل(‪.‬‬
‫_ تقول الحكمة ) إذا أردت أن تصل إلى العمق‪ ,‬عليك المرور بالسطح أو ً‬
‫فجأة وضع يده على فمي وأشار ناحية مدخل المطعم‪.‬‬
‫_ انظر إلى مدخل المطعم !‪.‬‬
‫التفتت‪ ,‬فشاهدت أربعة عساكر أحدهم يشير إلي‪ ,‬ومن خلفهم ظهر وجه ذاك الجحش )جوهر(‪,‬‬
‫بدأت ألتهم الطعام بسرعة لذهب معهم وأنا شبع على القل‪ ,‬رق قلب أحد العسكر وأمر أصحابه‬
‫أن ينتظروا بالخارج‪ ,‬بعد أن غسلت يدي صافحت صديقي وقلت بتصنع‬
‫_ اسمع إن طال غيابي‪ ,‬أسس بمالي منظمة تهتم بالفلسفة وضع جائزة سنوية أسمها " جائزة‬
‫الصلع الفلسفي"‪.‬‬
‫_ عليك‪ ..‬أَو تعلم ل أريد أن أزيد اللعنات فوقك ‪ ,‬كيف تضحك خاضعًا‪..‬؟!‬

‫‪15‬‬
‫_ إني أطيع الواقع ولست أخضع له‪ ,‬لجعل منه حتميًا وأبديًا‪ ..‬إن كل شيء مؤقت يا صديقي‬
‫بعد أن ركبت قال أبو عرب قبل أن يغلق العسكر باب السيارة‬
‫_ إنك خاضع لستبداد صنيعك بنفسك يا صديقي‪..‬‬

‫أقسم بأني رأيت المشهد هذا من قبل‪ .‬بدأت أشك أن بالمر ما يريب بحق‪.‬فعندما يتكرر المشهد‬
‫تعلم أن بالمر خلل أو شيء لبد من رؤيته بشيء من التركيز‪ ,‬ولكن عندما يتكرر المشهد ول‬
‫ترى ما يريب‪ ,‬يكون هذا مريبًا بحد ذاته !‪.‬‬

‫******‬

‫******‬
‫للحظة مجنونة‪ ..‬أقطف فتيل شمعي ‪..‬‬
‫لبتاع ثمن اللمبالة‬
‫ولنفس اللحظة أبعثر سنين الصبر وشهور الجلد‪..‬‬

‫‪16‬‬
‫لشعاع نور صافي وبليد‬
‫يسمح لعيني أن تتسكع بالمعلوم‪..‬‬
‫لشعور متمرد يأمر القلب بالخفقان لجل قلب آخر‪!..‬‬
‫لتقويم ممل‪..‬‬
‫لدقات رتيبة‪..‬‬
‫لبرهة صمت كاذبة‪..‬‬
‫اســـــــأل ‪:‬‬
‫من يبالي وقد أصبحت اليام ترتجل؟‬
‫ل أحد أيها السديم ل أحد‬
‫ومن أنت أيها السديم حتى تستشار !‬
‫ومن أنا حتى أخالف المستشار‬
‫قلتها من قبل‪..‬‬
‫ل أحد يبالي ل أحد‪..‬‬
‫عصيان‪..‬‬
‫فتجبر‪..‬‬
‫فنفي خارج المسار‪..‬‬
‫طاعة‪..‬‬
‫فسكون‪..‬‬
‫فتكريس ليأس النتحار‪..‬‬
‫فجأة‪ ..‬صرخة تكسر هيمنة الفراغ‪!..‬‬
‫قم يا مخرف ل انسجام‪..‬‬
‫ل تحقق النتصارات في المنام !‬
‫اركض من جديد‪..‬‬
‫ل تفكر بالوصول‪..‬‬
‫فالمر ل يتجاوز اللتفاف‪..‬‬
‫ضع رحالك في أحد النقاط المتطرفة‬
‫وقل "أنا المركز الجديد للدائرة "‬
‫وإن خالفوك فأمر بتوسيع الدائرة !‬
‫هاهو المنادي يجدد العتب‪..‬‬
‫يأمر بالنهوض ‪..‬‬
‫ويلوح بالدافع والسبب‪..‬‬
‫والمر كله محض خدعة‪..‬‬
‫كمن يقول "حلمت أني أحلم"‬
‫فليته حلم‪..‬‬
‫ليته فعل‪..‬‬
‫ليته صمت‪!..‬‬
‫******‬

‫‪17‬‬
‫الدنيا ملى بما يكفي حاجاتنا ‪ ,‬ل بما يكفي جشعنا‬
‫ــ غاندي ــ‬

‫كنت جالسًا هنا في أقصى أقاصي الـ "هناك"‪ ,‬أخط على الجدار عبارة ل ُتقرأ‪ ) :‬حيث مروج‬
‫العتمة وأهازيج التعب‪ ,‬رأيت السجن أقسى ما قد يعاش‪ .‬يضعك وجهًا لوجه مع نفسك‪ ,‬كلكما‬
‫يتصنع الصلبة فل يهرب أحدكما من قسوة الخر(‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫أريد صنع مدخل يحملني إلى الخارج‪ ,‬لرى همومًا أقل بشاعة من هموم رجل بل انتماء وانتماء‬
‫ل لخسارة‪.‬إنه‬ ‫ل‪ ,‬إما مضيعًا لمكسب أو مزي ً‬
‫بل رجل‪ .‬إني السيد )صفر( المركول إلى الحياة متعاد ً‬
‫ل أشد‬‫جهد مكّلف وغير أخلقي بذله أحدهم ليقنعني بالجهد الخر‪ .‬بعد أن أترتمي على متعاد ٍ‬
‫مغرمًا مني يهمس أول حكيم عاطل في أذني ) لست محورًا لي شيء‪ ,‬كما أنك لست ذاك‬
‫صاعد من أعماق بشريته (‪ .‬إنه حكيم جائر‪ ,‬وعاطل‪ ,‬وعهر الفقر ينضح من عينيه‪ ,‬إنه‬ ‫المختار ال ّ‬
‫حكيم آخر يشارك المجانين طهارة الغايات‪ .‬أما أنا الساكن بأغنية لم يعجب بها سواي لن أتذكر أّيا‬
‫من هذا‪ .‬إل إن فوجئت بوقٍع كهذا‪ ,‬حينها سأعلم أن أسوء عمل قمت به هو تكرار تقّمصي‪!.‬‬

‫إن الجزاء الوحيدة المتشبثة بالوجوه المنكرة‪ ,‬والشياء التي لم تصنع لتعمل‪ ,‬وجرع اللم اليومية‬
‫المحمولة بأيدي الصدقاء‪ ,‬والناشرون زوالهم بالمصافحات؛ إحداثيات تشير إلى مسقط رأسي‪,‬‬
‫تشير إلى المكبرات الصارخة بوجه الدنيا والمستفز للرعب الساكن في كل ذرة في هذا المحيط‬
‫المنهك !‪ .‬ضجيج‪ ,‬ونعاس ممزوج بالرق‪ ,‬وأحقاد مدسوسة في عبارات التهنئة‪ .‬ل أحاول‬
‫ل )أنا( وأنهم هم الرعشة‬
‫تصديق واقعي أو تكذيبه‪ ,‬بل أجاريهم بخبث لدعي أمامهم بأنني فع ً‬
‫ل ذاك المرتعد بين بقع الوعي‪ ,‬لعلي ذاك المنتمي‬
‫الولى والخيرة التي أهدتني الحياة!‪ .‬لعلي فع ً‬
‫لليقظات النزقات‪ ,‬والحلم المهداة إلى الساهرين والراحلين والحباب الذين أمتدحهم أحد الغرباء‬
‫أمامي ذات صدفة‪.‬‬

‫عندما ل تبدأ الحداث بالكينونات الجديدة سأكذب كما لم أعهد نفسي من قبل‪ .‬وسأعترف بأن‬
‫الزمن المصلوب على التقاويم المهملة لم يكن يحاول تمجيد قيمتي البشرية‪ ,‬وأن الصداقات‬
‫المحمولة على ظهر الريح ذهبت مع عوائلها المضيفة وتركتي أعاني فوعة عدميتي‪ .‬إن بادئات‬
‫الجمل تخّون براءتي وتتركني أهيم بليلي كما لم يهم أي منبوذ آثر التوحد بزفراته‪ .‬عندما تقمع‬
‫نوبة السعال ضحكاتي الشامتة سأهرب إلى مواسم الضجيج لتشارك مع النمل البطولت‬
‫ل الراضي المتموجة‬ ‫المجهرية‪ ,‬وسأرفع عقيرتي بالغناء وبالصراخ وبالسماء المشوهة‪.‬راك ً‬
‫تحتي‪ ,‬ومتعلقًا بالسماوات الباكية فوقي‪ ,‬لردد بصوت مخدوش )ما أنا إل حزيمة ضوء حدثت‬
‫عن طريق الصدفة‪ ..‬إني الضوء المسجون في هذا العالم العمى( !‪.‬في يدي التي ل تحوي إل‬
‫خمس إشارات للخر الغائب‪ ,‬دعوات سرية مرسلة كل مساء‪ .‬طوابير من اللصوص يحاولون‬
‫البكاء بين دعواتي‪ ,‬ويتوبون كل صباح داعين لبطاقات الثبوتية المرمية في المزابل أن تجد‬
‫طريق الذاكرة‪.‬‬

‫مازلت أفكر بالشياء المتحركة‪ ,‬كصعود الروح إلى رئتي والبرد المصاحب لفكرة الهرب مع‬
‫الزفير‪.‬حينها أصرخ ) فليسقط المشرط‪ ..‬والعروق الصارخة بحمرة الدم‪ .(..‬وأعلن مع التعساء‬
‫المتسلقون أكوام القش؛ أن العلماء هم الشخصيات الهامشية المتوالدة في الروايات‬
‫الرخيصة‪.‬وأعلن أني الصيغة المبررة التي تبنتها بطاقة اللغة‪ ,‬وأنهم المجاز الوحيد الذي "عقلن"‬
‫وجوده‪ ,‬وأن الصمت الممتهن بين أيدي الكتاب هو المحرض على المجازر الزرقاء‪ ,‬وأن‬
‫النظرات المقتولة بالجفان ستنجب أشباحًا ل تعلق إل في رؤوس الوفياء!‪ .‬حينها سيقول آخر‬
‫المبالين‪ ) :‬إن الكذب المفلول أمامي هو الحقيقة النهائية التي فضحها سردك(‪.‬ول أدري كيف‬
‫ينسى هذا المبالي بأنه هو "الكذبة" التي حاولت تصديقها‪!..‬‬

‫******‬
‫ذمم بعنق الزجاجة‪..‬‬

‫‪19‬‬
‫_ هل تريد محاميًا‪..‬؟‬
‫أنهى الضابط سؤاله وجلس خلف مكتبه‪.‬‬
‫_ محامي؟ وما حاجتي به !‪.‬‬
‫تجاهل تعليقي وقال بطريقة آلية‬
‫_ هل تعترف بأنك سرقت البيت الكائن في حي السفارات ؟‬
‫كلما نطق بكلمة ) سرقت ( شعرت بروحي وهي تحاول الخروج من جسدي‪ .‬رفعت رأسي‬
‫ل وأجبت بهدوء‬ ‫وسحبت نفسًا طوي ً‬
‫_ بالطبع ل‪.‬‬
‫ل بأن هذه صوري أثناء دخولي للمنزل بين‬ ‫أخرج بعض الصور ورماها على سطح المكتب‪ ,‬قائ ً‬
‫الساعة الثانية والثالثة مساًء‪ ,‬ضحكت بعصبية وقلت وأنا أتحسس ثوبي بل مبرر‬
‫_ هل تؤمن بوجود لصوص يسرقون البيوت في الظهيرة؟!‪.‬‬
‫ترك القلم يسقط من يده وأرجعك ظهره إلى الوراء‪.‬‬
‫_ نحن هنا ل نتهم بما نؤمن به‪ ,‬بل نهتم بما نستطيع إثباته!‪.‬‬
‫ل واحد يثبت أني سرقت شيئًا منه؟‬
‫ل على دخولي للمنزل ولكنكم ل تملكون دلي ً‬ ‫_ أنتم تملكون دلي ً‬
‫قبل أن يرد قلت بسرعة‬
‫_ إني اعمل في هذا المنزل وعندي عقد عمل يؤكد كلمي‪.‬‬
‫_ أين العقد؟‪.‬‬
‫_ معهم‪..‬‬
‫ل لكنت تحمل نسخة منه‪.‬‬
‫_ إنهم ينكرون وجود العقد بالساس‪ ,‬ولو كان لهذا العقد وجود فع ً‬
‫هنا أدركت مدى غبائي‪ ,‬وتصورت إن قصة الخادم الوقح والموافقة الفورية على الوظيفة ليست‬
‫إل خدعة كي ل أقرأ العقد أو أطالبهم بنسخة منه‪.‬‬

‫خرجت العبارات من فمي بشكل لإرادي‬


‫_ أقسم بال أني لم أسرق شيئًا‪ ..‬لو اتهموني بأي شيء لما تألمت مثل هذا اللم‪ ..‬هم يعلمون أن‬
‫مثل هذه التهمة ستزرع ألف خنجر في قلبي لذا اختاروها دون غيرها‪.‬‬
‫ما آلمني بصدق إنه رسم ابتسامة ساخرة على وجهة ليريني النظرة الجتماعية الجديدة التي‬
‫ستلزمني إلى أن يشاء ال‪.‬‬
‫_ حسنًا سأكتب بأنك أنكرت سرقتك للبيت‪ ,‬وستحول إلى المحكمة بعد شهر‪.‬‬
‫_ بعد شهر !‬
‫قال بنفاذ صبر‬
‫_ نعم بعد شهر‪ ,‬مما يعني أنك ستظل ضيفًا علينا في الحجز كل هذه الفترة‪ ,‬وبعد مرور شهر‬
‫ستذهب إلى المحكمة‪ ,‬وإن قلت للقاضي ما قلته لي الن سيؤجل المحاكمة ليتسنى له النظر في‬
‫القضية بشكل أعمق‪ ,‬والتأجيل دائمًا ما يكون أطول من المحاكمة الولى‪ ,‬وبعد هذا كله _ أي بعد‬
‫ثلثة أشهر_ قد تسقط تهمتك أو يحكم عليك بالسجن‪ .‬صدقني قضيتك هذه خاسرة وأمهر‬
‫المحامين ل يقدر على إخراجك من هذه الورطة حتى لو ركب لك زعانف! فأنت إما لص ذو حظ‬
‫عاثر‪ ,‬أو ضحية لمؤامرة متقنة‪.‬‬

‫ل‪ .‬لم أكن أفكر بشيء محدد‪ ,‬كنت أتصور نفسي سجينًا ومرة أتخيل بأني قابع في‬ ‫صمت طوي ً‬
‫الحجز أنتظر أن يحكم القاضي في قضيتي‪ ,‬ومرة أستشعر حالة المرارة التي سأعيشها إن حكم‬
‫ي بالسجن‪ .‬نظرت إلى عيني المحقق وقلت بيأس‬ ‫عل ّ‬
‫_ إن كان إثباتك هو الذي يصنع إيمانك‪ ,‬فإن إيماني هو من ينصع ثوابتي‪.‬‬
‫قبل أن يقاطعني قلت بلكنة آمرة ل أدري كيف بعثت الطاقة فيها‬

‫‪20‬‬
‫_ أريدك أن تقسم بال العلي العظيم‪ ,‬أن كل ما قلته لي صحيحًا‪.‬‬

‫ارتسمت على وجهه علمات الرعب والدهشة‪ ,‬فلفظ الجللة الذي خرج من فم مظلوم جعله يفكر‬
‫مليون مرة قبل أن ينبس ببنت شفة‪ .‬رفع سبابته وأقسم بال أن ما ذكره لي صحيح‪ .‬فما كان مني‬
‫إل أن سحبت الورقة وكتبت عليها اعترافي‪ .‬بعد هذا لم أستطع النظر إلى عينيه لنه الشاهد‬
‫الوحيد على خيانتي لنفسي‪ .‬عندما شاهد العرق يتصبب مني بغزارة أمر أحد العسكر أن يجلب لي‬
‫كأس ماء وقال بصوت منخفض‬
‫_ لن تجلس في السجن إل ستة أشهر‪ ,‬وإن كنت ذو سيرة طيبة وسلوك حسن فستخرج بعد قضاء‬
‫ثلثة أشهر فقط‪.‬‬
‫هززت رأسي وصرت أمسح الندى المحيط بكأس الماء شاهرًا أمامه جميع وساوسي القهرية‪.‬‬
‫قال بعد أن يأس من أمكانية حديثي‬
‫_ صدقني إن كنت بريئًا فلن يضيع حقك عند الذي ل ينسى ول يهمل سبحانه‪ ,‬ولقد أحسنت عم ً‬
‫ل‬
‫إذ تقبلت المر بعقلنية ولم تطلب محاميًا‪ ,‬فأن تخرج من السجن ومعك قليل من النقود أفضل من‬
‫أن تخرج منه ومعك براءة غير معترف بها وفاتورة باهظة‬

‫******‬
‫أكاذيب ملّونة‬

‫أراهن بكل أموالي التي أعطيتها لبو عرب أن الخوان هنا ل يقرؤون أشعار عمر أبو ريشة‪,‬‬
‫ول يحبون أبن خلدون ومقدمته _هذا إن سمعوا به_ وإني على قناعة ل تقبل التشكيك أنهم لم‬
‫يحملوا هم معرفة هذا الكون مثل حي بن يقظان‪.‬‬
‫بعد أن جلست القرفصاء تنقلت بين وجوههم باحثًا عن وجه يستطيع المرء أن يشاهد مثله في‬
‫المكتبة أو البقالة حتى‪ .‬وقبل أن تحول فرضية أنهم ولدوا بالسجن إلى نظرية‪ ,‬توقفت أمام وجٍه‬
‫لطالما تعجبت من قسماته المتنافرة‪ .‬تقدمت نحوه وقلت مندهشًا‬
‫_ منصور؟‬
‫_ من‪ْ ) ..‬بِرْم ( ؟‬
‫_ ليتك تكرمت بنطق بقية أحرفي‪.‬‬
‫تجاهل ملحظتي واحتضنني بقوة‪ ,‬وكلما ضربت ظهره مطالبًا بحقي الشرعي بالتنفس عصرني‬
‫أكثر ظنًا منه أني أزيد حرارة اللقاء‪.‬‬
‫_ وربي يا أصلع إن لك شوق ل ينتهي‪ ,‬الحمد ل أنك هنا‪.‬‬
‫أجبته ممتعضًا‬
‫_ نعم الحمد ل على كل حال‪ ,‬أخبرني كيف وصلت هذا المكان؟‬
‫بعد أن جلسنا أخبرني بأنه كان يرعى صالة قمار مذهلة‪ ,‬تحوي بين جدرانها على عجائب الدنيا‬
‫العشر مما اضطرني أن أصحح له المعلومة‪ ,‬بأنها سبع واحدة منها مفقودة وواحدة أبعد ما تكون‬
‫عن "الُعجبة" لذا أحتل هتلر فرنسا لينظر لها عن قرب‪.‬‬
‫ل يبوح به لحد‪ ,‬وبعد أن أقسم‬ ‫عندما سألني عن جنايتي قلت له بأني سأروي سرًا خطيرًا ويجب أ ّ‬
‫بأنه بئر ل قرار له‪ ,‬تابعت سردي ‪:‬‬
‫_ هناك إشاعة مفادها أن بهذا السجن ثلثة أشخاص من أكبر مهربي الكحول وأنا يا منصور‬
‫مكلف من جهات عليا بالبحث عنهم وتقصي أخبارهم‪ ,‬ولم أجد أفضل من هذه الوسيلة لجمع بها‬
‫المـعـلومات‪ .‬حرك يده بطريقة غريبة طالبًا مني القتراب‪ ,‬وحين فعلت ألصق فمه بأني وقال بعد‬
‫أن أستوعب أنفي المأساة المتجسدة باقترابه مني قبل أن تدرك هذا أذناي‬
‫_ يا صاحبي لي طلب بسيط أرجو أن تحققه لي‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫ل يهمس بأذني مرة ثانية‪ ,‬لن المر محرج بحق ولن رائحة فمه دافع كوني للنتحار‪,‬‬ ‫أمرته أ ّ‬
‫لف( يّدعي زورًا وبهتانًا بأنه من كبار‬
‫بعد أن سألته عن طلبه أخبرني بأن صاحبه المدعو )ش ّ‬
‫ل آخذ بكلمه على محمل الجد‪ ,‬طمأنته‬ ‫المهربين وهو في الحقيقة صعلوك حشيش‪ ,‬لذا يتمنى أ ّ‬
‫وأنا لص الظهيرة الذي نسي أن يقول بعد خروجه من مغارة الربعين حرامي )أغلق يا سمسم(!‪.‬‬

‫لف وسلم علي بحرارة وأعطاني سيجارة منظرها ل يوحي بالمان السيكولوجي‬ ‫بعد فتره أتي ش ّ‬
‫ول البيولوجي حتى !‪ .‬حينها علمت بأن كذبتي انتشرت كالوباء في الزنزانة‪ ,‬وحين بدأت فرحتي‬
‫تتغلب على شعور التورط شربت السيجارة وكتبت على الجدار ) لننا قزمنا القمم تسلقنا بالحبال‬
‫القصيرة ( لمحو القناعة المغروسة منذ الولدة؛ بأن حبل الكذب قصير وبأن نهاية الكذب كنهاية‬
‫عِقدت لتتشبث بأي حقيقة "ناتئة" على‬ ‫الطرف الخر من الحبل )فارغة( إل من عقدة كبيرة‪ُ ,‬‬
‫السطح!‪.‬‬

‫******‬
‫ذبابة الفجر‬

‫في هذا المساء _الذي ل أراه_ عاتبت القمر وجمعًا غفيرًا من النجوم‪ ,‬بكوا فوق صلعتي‬
‫وناشدوني أن أصعد‪ ,‬وكلما فعلت أرتطم رأسي بالسقف وسقطت فوق السرير‪ .‬أقسم القمر من‬
‫خلف القضبان أنه ل يخرج للعشاق بل يخرج باحثًا كل ليلة عن شخص تلتمع البقع الجرداء‬
‫برأسه فرحًا بقدومه‪ ,‬إنه يبحث عني وأنا محبوس هنا مع جرذان ترتدي الثياب!‪.‬‬
‫بعد أن ترنمت بجميع قصائد صاحبي المأفون )محمد( بدأت أولف المقاطع الموسيقية‪ ,‬متوهمًا بأن‬
‫المساجين يطلقون هذه اللعنات الِعذاب على من لوعني بالحب وجعلني أرتل البكاء‪ .‬انتبهت على‬
‫صوت زميلي المناضل منصور‬
‫_ برم‪..‬؟ أما قلت لك بأن دمك )نظيف( وهذا الكيف ثقيل جدًا‬
‫_ دمي نظيف ! إن دمي ملوث بالذكريات المبتورة‪ .‬أرجوك أبتعد عن مداراتي وخذ معك أنفك‬
‫المائل يا صديقي‪.‬‬
‫_ لك ما تريد يا رجل‪ ..‬لك ما تريد‪.‬‬
‫وقفت على السرير وقلت بعد أن ضربت الجدار بحذائي عدة مرات‬
‫_ عليكم ما تستحقون يا حثالة المجتمع أهذه أسماء ؟ كل أسمائكم عبارة عن أدوات مطبخ؛ نجر‪,‬‬
‫محماس‪ ,‬خنجر‪) ,‬كوسا محشية( !‪.‬‬
‫_ برم‪ ,‬ل وجود لشخص أسمه ) كوسا محشية (‬

‫ل داخـل هـذه الزنزانة الـمباركة مـا عدا اسـم‬


‫_ أَو تريد إقـناعي بأن السـمـاء السـابقة موجودة فع ً‬
‫) كوسا محشية (؟‬
‫قام أحد المساجين وقال لمنصور بأنه سيدخل الملعقة التي بيده في فمي إن لم أصمت‪ .‬على الفور‬
‫نهض منصور وامسكني من تلبيب ثوبي‪ ,‬وضرب رأسي بالجدار بقوة‪ ,‬أحسست بكائنات غريبة‬
‫تخرج من رأسي لتختفي بين أجزاء جسدي‪ ,‬كان التعبير عن ألمي عن طريق الصراخ بين‬
‫الزملء القادرين على إزهاق روحي )بملعقة( أشبه بمدخل جانبي للعالم الزلي!‪ .‬رميت رأسي‬
‫على الوسادة ورحت أدفعها إلى العلى ببطء حتى وصلت لوضعيتي المفضلة التي تجعلني أشك‬
‫بأني لم أولد كبقية البشر‪ ,‬بل خرجت من شرنقة!‪.‬‬

‫بالغد نهضت مترنمًا بقصيدة أحمد مطر ول أعلم إن كنت أغنيها بالمنام‪:‬‬
‫كلب والينا المعظم‬

‫‪22‬‬
‫عظني اليوم ومات‬
‫فدعاني حارس المن لعدم‬
‫عندما اثبت تقرير الوفاة‬
‫أن كلب السيد الوالي تسمم!‬

‫ضحك منصور وناولني فنجان الشاي‪ ,‬وقال وهو يدعك رأسي المتورم‬
‫_ إنهم يسمونك )ذبابة الفجر(‪ ,‬لنك تنهض مغنيًا‪.‬‬
‫_ قل لهم بأني أسميهم صراصير الظهيرة !‬
‫_ دعك من هذا الن‪ ,‬أترى ذاك الشخص؟‬
‫أشار بيده إلى رجل طويل وسمين يجلس في زاوية الزنزانة وحوله كم ل بأس من "الصراصير"‬
‫أخبرني منصور أن هذا )محسن( أو سمكة‪ ,‬وعندما أخبرني بلقبه‪ ,‬ضحكت حتى أن منصور‬
‫صدم بأسناني التي تنتظر أي حجة لتسقط ‪ ,‬سمكة ؟ بَم كان يفكر من أطلق عليه هذا اللقب ؟ إنه‬
‫حوت !‪ .‬صدق صاحبي السماء هنا ل تهم‪ ,‬أرمها بأقرب سلة مهملت وإذا صادفت أحدهم أنبش‬
‫بالقمامة لتخرج له لقبه أو أسمه‪ .‬تابع منصور حديثه عن سمكة‪ ,‬أخبرني أنه الذراع اليمن "لبي‬
‫الهول "‪ ,‬حين سألته عن )أبي الهول( هذا بدأ يتحدث بحذر إل أن كلماتي المطمئنة شجعته على‬
‫ل ما يشاهده المساجين‪ ,‬إل‬‫ل يحيط نفسه بالغموض‪ ,‬وقلي ً‬ ‫السترسال‪ .‬أخبرني بأن أبى الهول رج ٌ‬
‫أنهم يفكرون به عشرات المرات في اليوم الواحد‪ ,‬وحين يذكر أسم )سرحان( يظهر البعد‬
‫الستراتيجي لبي الهول‪ .‬فهما الندان الوحيدان في السجن‪ ,‬أما الوباش المحايدين فهم أشبه‬
‫بتجسيد طفولي للعبة ) المقص والحجر والورقة (‪ .‬حين هممت بالنهوض أمسك منصور بيدي‬
‫لف" على قمة الحياد رافعين ثيابهم القذرة متعرين من أي خبث‪.‬‬ ‫وأقسم بأنه وصاحبه البله "ش ّ‬
‫أما أنا فأقسمت لنفسي أني لن أتوقف حتى أكون كاليد المتقلبة بين الضداد‪.‬‬

‫******‬
‫الرفيق سمكة‬

‫خوفي يبقيني يقظًا الدهر كله ‪ ,‬أغار ممن يحلم فأصنع لي حلمًا لعيش به لذة النوم ول أستيقظ‬
‫أبدًا‪ ,‬حينهًا ل أعلم أين تكمن فائدة اليقظة إن بددتها بأحلمها!‪.‬مازلت أجهل سبب وصولي لهذا‬
‫المكان‪ .‬هل زورت الماضي وصدقت ما أردت تصديقه‪ ,‬أم أني ضحية مؤامرة أعجز عن إقناع‬
‫نفسي بها؟ بدأت أشك بأني عضو سري في تنظيم ) لصوص الظهيرة (!‪ .‬عندما أتلمس غبائي‬
‫أدرك شيئًا من إنسانيتي‪ ,‬وحين أشاهد الشياطين الهائمة بل قرون‪ ,‬أدرك أن الحقيقة أشبه بوصف‬
‫أدبي مبتذل للوجوه الدميمة المنسية في المرآة‪ .‬سأتأبط شجاعتي لعبر عباب واقعي المنبثق من‬
‫خيال الخرين‪.‬‬

‫أشعلت سيجارة وأسندت ظهري على الجدار وقلت بصوت منخفض ‪:‬‬
‫_ سمعت يا سمكة بأنك تعلم الكثير‪.‬‬
‫استدار الرجال حتى واجهني‪ ,‬هم بالحديث إل أنه صمت وتقدم إلي بخطى واثقة‬
‫_ تعال إلى النور لراك جيدًا‪.‬‬
‫اعتدلت بوقفتي لتقدم بهدوء‪ ,‬ما تصورت أن الرجل ضخم بهذه الدرجة‪.‬‬
‫_ آه‪ ..‬أنت )برم( النزيل الجديد سمعت أن الشاعات تدور حولك‪.‬‬
‫اللعنة على منصور أبدل إبراهيم بـ"برم" ‪ ,‬لبد أنه نشر الخبر في كل مكان ‪ ,‬أظن أن كذبتي‬
‫أعطت مفعولها المطلوب‪.‬‬
‫_ دعك مما سمعت أخبرني عما تعلم !‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫تحدث بأسلوب وقح‪ ,‬وصمت لرى تبعات وقاحتي‬
‫_ أظن أني سأضربك حتى تكره عظامك يا ملعون !‬
‫_ أفعل ما تريد ولكن أعلم أن كلمة واحدة مني‪ ,‬ستجعلك ترى الشمس تشرق من ثقوب صدرك !‪.‬‬
‫بهت الرجل ورجع إلى الوراء بسرعة‪ ,‬كدت أن أنفجر ضاحكًا إل أني ألجمت نفسي قصرًا‬
‫وسكت‪ ,‬اعتمرت شجاعتي المزيفة وجلست بجواره‪ ,‬أشعلت سيجارة وناولتها له‪ ,‬أخذها الرجل‬
‫على الفور وكأنه توقع أني سأقدمها له‪ ,‬بعد أن انتصفت سيجارته نهض ونظر إلى آخر الزقاق‬
‫وعاد بسرعة وأتوقع أنه ذهب ليتأكد إن كان أحدًا يراقبه‪ ,‬بعد أن جلس قل لي أنه مسجون منذ‬
‫خمس سنوات وحين سألته عن الفترة المتبقية له قال بنبرة ساخرة‬
‫_ الكثير‪..‬‬
‫تابعنا الثرثرة‪ ,‬كنت أتصنع الخبث وكان يتصنع البراءة‪ ,‬وكلنا لم يتقن دوره‪ ,‬بعد أن توقف عن‬
‫الثرثرة فاجأته بسؤالي عن أبي الهول‪ ,‬لمعت عيناه وأبتسم بانتصار وكأنه كان ينتظر هذا السؤال‪,‬‬
‫هنا تصورت أن أمري قد كشف وبدأت أتأمل برقم قابع بعد مئات الصفار والذي يرمز لنسبة‬
‫تغلبي عليه إن دخلت معه بشجار‬
‫_ أتود لقاءه؟‬
‫صدمت بسؤاله‪ ,‬مع أني أعددت لهذا اللقاء وطرحت هذا السؤال على نفسي عشرات المرات‪ ,‬إل‬
‫أن المخاوف التي تدور في رأسي أثقلت لساني حين قلت بنبرة مصطنع ‪:‬‬
‫_ بالطبع أتمنى ذاك‪.‬‬
‫نهض وطلب مني ببساطه أن أتبعه إلى أبي الهول‪ ,‬سرت وأنا أصارع آلف المؤثرات التي‬
‫لف وعندما أحسست‬ ‫تحاول عبثًا أن تأخذ حيزًا أكبر من تركيزي‪ .‬تجاهلت أشارات منصور وش ّ‬
‫أنه هم باللحاق بي حركت يدي بعصبية كي ل يتبعني‪.‬‬

‫******‬
‫بين يدي أبي الهول‬

‫الخوف‪ ,‬هو الجهل‪ ,‬نخاف من الظلم لن عقدنا تعيش هناك‪ .‬المصباح يتكفل بنفي حالة الخوف‬
‫لنه يمتلك القدرة على تبديد الظلم‪ .‬أما العتمة فهي المنشأ الفلسفي للجهل وللعقل الرافض أي‬
‫محاولة لستكشافه‪ .‬لذا لن تشعر بالراحة أو الرضا حين تحاول تصنيف الوحوش التي صنعها‬
‫أهلك‪ ,‬حتى لو كنت تحمل معك ألف مصباح‪.‬‬
‫كانت كلمة )الجثة( في صغري أشبه بوقود نووي يجعلني أركض بسرعة ضوئية متجاوزًا‬
‫مليين المجرات‪ ,‬لرتمي بحضن أختي التي تمسح على وجهي برقة وتبدأ بقراءة القرآن‪ .‬تستطيع‬
‫المخلوقات المرعبة التكاثر في العيون الخبيثة والطرق الخالية إل أنها تتحول إلى كائنات‬
‫منقرضة في حضور أختي‪ ,‬مازالت الوحوش تخرج من علب الدخان الفارغة ومن أسماء‬
‫الصدقاء ومن عقارب الساعة‪ ,‬ومازلت أركض إل أني لم أعد أمتلك ملكًا يمسح وجهي ويرتل‬
‫القرآن في أذني ويخبرني بأن القناعة ل تشترى الخبز ولكنها تشتري الشبع‪..‬‬

‫أبو الهول‪ ,‬أسم مريع‪ ,‬جعل الهرامات تطّهر زواياها كيل يوم من دنس العين الزرقاء تكريماً‬
‫له‪ ,‬أما أبا الهول هذا فمختلف‪ ,‬ل ينظر إلى الشفق متكبرًا على البشر‪ ,‬ول يحرس قبور الفراعنة‬
‫بقدر ما يود نهبها‪,‬إل إنه مكسور النف مثل سمّيه‪ .‬ل أعلم أين يخفي الشق المستأسد فيه‪ ,‬ما رأيت‬
‫ل في العقد الخامس من عمره‪ ,‬نحيل‪ ,‬وجهه ذو تقاسيم صارمة وحزينة‪ ,‬شعره المسرح‬ ‫إل رج ً‬
‫للخلف وذقنه المحلوق جعلني أشك بأني في السجن‪.‬إن تحدث سخرت كيف خطر لك أنه قد ل‬
‫يفعل‪ ,‬وإن صمت عدت تفكر من جديد إن كان سيتحدث مرة أخرى!‪ .‬تركيبة عجيبة ما رأيت‬
‫مثلها في حياتي‪ .‬هذا الشخص يشاهد في الجامعات‪ ,‬يلقي المحاضرات والندوات‪ ,‬يعصر الدنيا في‬

‫‪24‬‬
‫ل كهذا يقبع‬
‫محبرة ويبلل الصحف بعبق حياته‪ .‬كانت صدمة قاسية بحق عندما شاهدت رج ً‬
‫منزويًا بكل سطوته وهيبته في زنزانة!‪.‬‬
‫_ ل تعلم مدى سعادتي بلقاءك‪..‬‬
‫أطرقت إلى السفل بخجل‪ ,‬ول أعلم ما الذي دفعني لمثل هذا التصرف‪ ,‬وكأني أتيته خاطبًا‪ .‬كنت‬
‫على محك كذبتي‪ ,‬أما أن أكشف فل أرى إشراق الشمس من خلف أسوار السجن‪ ,‬أو أنجح‬
‫ي‪.‬‬
‫لستمر في اعتراك هذا الدرب الذي ل أدري إلى أي أرض يوصل‪ .‬نظر الرجل إلى عين ّ‬
‫غاص فيهما‪ ,‬وما كاد يتحدث‪ ,‬مسح على شعره ليريني أن اليام أهلكت من سواده الكثير‪ ,‬بعد أن‬
‫جلست منصاعًا لمره‪ ,‬قال بصوت رخيم‬
‫_ بَم تفكر يا فتى ؟ أرى في عينيك خبثًا غير منقطع‪.‬‬
‫هممت بإجابته‪ ,‬إل أن سمكة دنى منه وتحدث معه بصوت غير مسموع‪ ,‬فما كانت منه إل أن نظر‬
‫ي بريبة‪ .‬أخذت أسئلته تتدفق بل انقطاع‪ .‬نهض وطلب مني أن أسير معه‪ ,‬وعلى الفور نهض‬ ‫إل ّ‬
‫سمكة وبدأ يسير وكأنه ظل لبي الهول‪.‬‬
‫_ أتعلم‪ ,‬إني أحب الوجوه الجديدة‪ ,‬كما أنك أذكى من هؤلء الحمقى!‪.‬‬
‫قال سمكة بسرعة‬
‫_ ولكن‪..‬‬
‫قاطعه أبو الهول بغضب‬
‫_ يا مغفل‪ .‬لو كان مخبرًا لما كشف هويته‪ ,‬كما أن مثل هذه الخبار تصلني قبل شهر من حدوثها‪.‬‬
‫ل ليخزني بنظرة جعلتني أفكر بالجماجم المرسومة في‬ ‫بلع سمكة الرد بمرارة‪ ,‬وأنزل رأسه قلي ً‬
‫أماكن الخطر‪.‬‬
‫_ لم تخبرني يا فتى‪ ,‬لَم تريد النضمام معنا ؟‪.‬‬
‫_ يا سيدي لقد مللت الحياد‪ ,‬وضاق أفقي بالمغامرات الفردية!‪.‬‬
‫ل‪,‬‬
‫_ مثل هذه المور ل يقدم عليها المرء‪ ,‬ليبدد بها الملل! بل هو عمل ذكي ناجحًا كان أو فاش ً‬
‫فالفرد محتاج إلى جماعة قادرة على تلبية متطلباته‪ ,‬وعدم وجود الجماعة المتفاعلة مع الفرد يعني‬
‫عدم وجود الفرد بالساس‪.‬‬
‫كانت أصابع سمكة التي تحاول الولوج في منخاره المسكين تشوش تركزي لذا قلت بغباء‬
‫_ هل يعني عدم وجود جماعتك انعدام الفرد في السجن؟‪.‬‬
‫_ بالطبع ل‪ .‬لن السجن ككل عبارة عن مجتمع‪ ,‬ولكنه يدار من قبل الغرباء عنه أي ) العسكر(‬
‫لذا يستحيل أن ينعدم الفرد المسجون‪ ,‬كما يستحيل تطوره وتقدمه إن ظل تحت كنف المجتمع‬
‫المدار من قبل العسكر‪ ,‬ومن أجل هذا أسست هذه الجماعة لتكون نواة مجتمع متكامل يتعامل مع‬
‫العسكر على أنهم أفراد مجتمع آخر لهم مصالح معنا‪ ,‬ول يتعامل معهم وكأنهم رؤوس مجتمعنا‪.‬‬

‫كانت تصوراتي الزائفة عن قدسية الفرد تتساقط مع كل حرف ينطق به‪ ,‬وبدأت أنظر لهذه‬
‫الفوضى على أنها شكل ذكي من أشكال النظام‪ .‬ومع هذا أدركت أن فكرته مع ما تحمل من خير‬
‫ورقي‪ ,‬تحمل أيضًا بذور مصائب وتناقضات‪ ,‬لن السجن وجد ليكون محطة لعادة تأهيل‬
‫الفراد‪ ,‬وهذا يخدم المجتمع الساسي‪ ,‬ولكن لو تحول السجن إلى مجتمع آخر فلن يقوم بتأهيل‬
‫أفراده ليرضي رغبة المجتمعات الخرى‪!..‬‬

‫أفقت من تصوراتي بعد أن ربت أبو الهول على كتفي ليقول بأنه سعيد بانضمامي‪ .‬قال لسمكة‬
‫كلمات لم أسمعها وطلب منه أن يرافقني إلى العنبر‪ .‬اعتذرت من سمكة لتجرع المرارة التي‬
‫ذاقها مكيافللي‪ .‬كنت أنتظر كلمة معاتبة أو غاضبة إل أنه قال بثقة‬
‫_ لم أفهم كلمة واحدة مما سمعته قبل قليل‪ ,‬إل أني أعلم شيئًا واحدًا؛ فالفرق بين المسجون‬
‫والطليق أن الول أعترف بذنبه والثاني لم يعترف‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫وصفه المضحك ذكرني بتقسيم )مورفي( للبشر ) هناك قسمان من البشر‪ ,‬الول يقول أن هناك‬
‫قسمان من البشر‪ ,‬والثاني ينكر هذا (‪ .‬قبل أن نفترق سألته عن المدة التي حكم بها على أبي‬
‫الهول‪ ,‬فما كان منه إل أن هز كتفيه معبرًا عن جهله‪.‬‬
‫_ إنهم ينتظرون قرارًا من أبناء المقتول‪.‬‬
‫قلت بدهشة‬
‫_ أبناء المقتول؟!‪.‬‬
‫_ نعم‪ ,‬قتله بيديه العاريتين‪.‬‬
‫_ لَم ؟‬
‫قال وهو يبتعد مغادرًا‬
‫_ الشرف يا برم‪ ..‬الشرف !‬

‫الشرف‪ ,‬الهش الثمين‪ ,‬نواري خدوشه ونحتفل ببقائه في ليلة ل ضوء فيها‪ ,‬إنه ببساطة الرابط‬
‫المقدس بين روح النسان وجسده‪..‬‬

‫******‬
‫ضمائر خلف القضبان‬

‫توجد ثغرة مبررة بالجدار‪ ,‬يسمونها "النافذة"‪ ,‬ونسميها نحن "دليل العالم الخارجي"‪.‬عندما‬
‫أمارس هواية النظر خلف أسوار الِملكية أرى عيونًا باكية وثغورًا باسمة تتناقض بوجه واحد‪ .‬في‬
‫هذه اللحظات المطوقة بنزعات الحياة اليائسة أتذكر بأني لم أحب من قبل‪ ,‬أتذكر الوجوه المبعثرة‬
‫كآثار حضارة بائدة‪ ,‬أتذكر طفولتي الغامضة‪ ,‬والمشاكل البدية‪ ,‬والصحون الصغيرة ذات النقوش‬
‫الغريبة‪ ,‬أتذكر جدي النكد وسجائره ذات الرائحة الكريهة‪ ,‬وحديثه الذي ل ينتهي عن أفضل‬
‫الطرق لتلقيح النخل‪.‬‬

‫_ ماذا تشاهد ؟‬

‫لف إلى الزنزانة‪ ,‬بعد أن هربت بقلبي إلى الديار‪ ,‬إلى خبز أمي وثرثرة العجائز‪ ,‬إلى‬‫أعادني ش ّ‬
‫السواقي القديمة التي تسكب الماء في فم العطش‪ ,‬إلى ابتهال النخل تحت عبوس الظهيرة‪.‬‬
‫استرجعت مشهد الطفال وهم يتزحلقون من فوق أكوام الطين‪ ,‬وتلك الصوات المزعجة التي‬
‫تجعل المعلم ينفجر ويملئ الهواء بالشتائم "المحللة" وكيف كنا نستمع له بإنصات محاولين التقاط‬
‫"خامات" شتائمه وفن التدلي بين الحلل والحرام‪ .‬أتذكر القدام المتورمة التي نعود بها كل يوم‬
‫إلى منازلنا‪ ,‬وحين تودعنا الشمس لتسهر بعيدًا عنا‪ ,‬كنت أتأمل صغار الضفادع وهي تتسلق كرب‬
‫النخل وتختفي‪ ,‬مرددًا بإيمان أعمى ) هكذا تولد المذنبات(‪ ,‬وما بحت بسري لحد خوفًا على‬
‫القلوب الصغيرة التي تدس أمانيها في حقائب الضواء المسافرة‪.‬‬

‫_ شردت من جديد‪..‬؟‬
‫_ ولَم ل أفعل ؟‪ .‬ل شيء هنا يستحق اليقظة !‪.‬‬
‫ابتسم ببراءة ونهض‪ ,‬ليتني أقدر على رسم هذه البتسامة‪ ,‬ولكن كيف أفعل وهذا الشباك ل يطل‬
‫إل على سجن أكبر‪!..‬‬

‫ارتميت على السرير وأخذت أسترجع حديث سمكة لرجع فكري الهارب من الشباك‪:‬‬

‫‪26‬‬
‫_ نحن أشبه بشركة حماية‪ ,‬فحين تدفع لنا نحميك من أوباش السجن ومن التحرشات وحتى من‬
‫ل!‪.‬‬
‫بعض العسكر‪ ,‬والهم من هذا كل أننا نضمن لك بأنك لن تصحو ذات يوم لتجد نفسك مقتو ً‬
‫_ وماذا لو رفض الشخص الشتراك بنادي المن هذا؟‪.‬‬
‫_ من يرفض الدفع نجعله يجرب بعض المور التي قد يتعرض لها‪ ,‬إذا أردت أعتبر هذه ) خدمة‬
‫ما قبل الشتراك( وصدقني أن الكثرية يدركون أهمية الشتراك بعد "تنويرهم"!‪.‬‬
‫_ ماذا عن القلية التي ترفض دفع النقود؟‪.‬‬
‫_ القليات توجد في البرلمان‪ ,‬ل توجد في السجن‪.‬‬
‫_ هل حدث أن قُــتل أحد المساجين الذين يدفعون لكم ؟‬
‫_ ل‪ ,‬ولكن البعض منهم ينتحر بين الحين والخر‪ ,‬مثل ما حدث قبل أشهر‪.‬‬
‫_ كيف انتحر ؟‬
‫_ طَــعن ظهره بالسكين عشر مرات وعلق نفسه على أنبوب المياه!‪.‬‬
‫_ إن هذه أغرب عملية انتحار سمعتها‪ ,‬هل يعلم أبو الهول بهذه الحوادث؟‪.‬‬
‫_ إنه يعرف ما يرد معرفته‪ ,‬أحيانًا يخبرني باليوم الذي سيقدم به المسجون على النتحار!‪.‬‬
‫_ أين حديثه عن القيم الخيرة‪ ,‬والفضيلة التي يسعى لها؟‬
‫_ لو دخلت السجن قبل أبي الهول لدركت أن الخير والشر ل يقاسان بهذه الطريقة الطفولية!‬
‫كان السجن هو المكان الذي يتم فيه تحويل النسان إلى مسخ‪ ,‬أما الن فبإمكان سجين مثل الغبي‬
‫شلف الذي سجن بسبب سرقة سيارة التسكع بين العنابر بأمان‪ .‬جميع المنتحرين بهذه الطريقة‪,‬‬
‫ض أسود فقط‪ ,‬بل هم بقع سوداء تعيد إنتاج قذارتها في كل ثانية!‪.‬‬ ‫ليس لهم ما ٍ‬

‫******‬
‫انتصاٌر أصلع‬

‫_ أنهض‪ ..‬أنهض!‬
‫قفزت كالملدوغ من سريري وقلت لسمكه بذعر‬
‫_ ما المر‪!..‬‬
‫_ تعال معي بسرعة‪.‬‬

‫سار بسرعة حتى وصل إلى الصالة الكبيرة المخصصة للغتسال والتوضؤ‪ ,‬توقف فجأة وطلب‬
‫مني أن أحمي ظهره‪ ,‬بدأ يدفع أحد المساجين بقوة حتى حاصره في الزاوية‪ ,‬كانت الشتائم‬
‫ي بسبب الضجيج المنبعث من المساجين الذين بدئوا بالمتجمهر‪.‬‬ ‫المتبادلة تصل مشوهة إلى أذن ّ‬
‫ألصقت ظهري بظهره وبدأت أنقل بصري بين وجوه المساجين وأيديهم‪ ,‬لفت انتباهي السجين‬
‫سيء الصيت ذو السنان الذهبية وهو يحاول إخراج شيء ما من ثقب جانبي بالباب‪ ,‬عندما دققت‬
‫النظر رأيته يحمل بيمينه فرشاة أسنان مقبضها مدببة كالمسمار‪ ,‬لم أتصور من قبل إمكانية تحويل‬
‫الفرشاة إلى سلح‪ ,‬نبهت سمكة فاستدار بسرعة وأمسك بيده ليسحب الفرشاة منه‪ ,‬إل أن ذو‬
‫السنان الذهبية فاجأه بضربة جعلت الدماء تسيل من أنفه بغزارة‪ ,‬مسح سمكه أنفه بعضده وحين‬
‫رأى كمية الدماء المتدفقة من أنفه أمسك بشعر ذو السنان الذهبية بيده اليسرى وسدد لكمة قوية‬
‫جعلت جميع المساجين يمتلكون أسنانًا ذهبية !‪ ,‬مددت يدي إلى الرض وأخذت أحد السنان قبل‬
‫أن يؤخذ‪ ,‬وحين رفعت رأسي شاهدت ببطء يوحي بقرب حدوث المصيبة رأس سمكة يميل ناحية‬
‫اليسار ومن خلفه بانت قبضت ) ذو السنان المسروقة( التي لم تذهب حيث ذهب رأس سمكة بل‬
‫استقرت في جبهتي‪ .‬لو تلقيت هذه اللكمة في الفضاء الخارجي لمتلكت طاقة دفع تجعلني أدور‬
‫على المجرة ثلث مرات بالدقيقة الواحدة!‪ .‬إن السيد نيوتن لم يهنئ له بال إل حين جعل رأسي‬

‫‪27‬‬
‫هو الزائر رقم واحد للرض‪ .‬ل أدري إن كانت قشرة الرض تغيرت أثناء رحلتي الفضائية‬
‫ل لرغبات السلمة الساقطة من العلى‪ ,‬ولكن المر الوحيد الذي أعرفه أني‬ ‫لتصبح أكثر تقب ً‬
‫سقطت على شيء لين‪ .‬عندما انتبهت رأيت أحدهم يتلوى على الرض‪ ,‬بيده اليمنى ساطور كبير‪,‬‬
‫وبيده اليسرى أداة تكاثره والدافع )الفرويدي( الذي يربطه بغيره‪ .‬إن هذا الكائن السيئ الحظ يمثل‬
‫المعنى الحرفي لقول الشاعر ‪:‬‬
‫بذا قضت اليام ما بين أهلها *** مصائب قوم ٍ عند قوم ٍ فوائد‬
‫نهضت مترنحًا ونظرت ليدي بسرعة وحين وجدت السن الذهبي فرحت وبدأت أريه المساجين‬
‫لغيظهم‪ ,‬حين هممت بالبتعاد عن )نقطة هبوطي( شاهدت منصور وهو يشير إلى الساطور‪.‬‬
‫أمسكت بالساطور لخفيه بين النابيب‪ ,‬وعندما أردت النهوض سحب صاحب الساطور ثوبي‬
‫وقال بضعف‬
‫_ سيشنقك )عمران( بأمعائك!‪.‬‬
‫_ من هو )عمران( ؟‬
‫وضع أذنه على الرض وضحك بألم‬
‫_ أنا ) عمران ( يا حيوان‪.‬‬

‫تركته وذهبت لخفي السطور وحين عدت نظرت إليه وقلت‬


‫_ من أمن العقوبة أساء الدب!‪.‬‬
‫بدأت أركله بقوة‪ ,‬فجأة صمت المتجمهرون‪ ,‬وتوقف العراك‪ ,‬توقفت عن ركل عمران ورفعت‬
‫رأسي لشاهد المساجين وهم ينظرون لي بدهشة‪ ,‬قال سمكة وهو يحاول خنق عدوه الجديد‬
‫برائحة إبطه‬
‫_ برم‪ ,‬عليك اللعنة هذا عمران !‪.‬‬
‫_ هل أتركه ؟‬
‫_ ل‪ !..‬أضربه حتى يموت !‬

‫فجأة دوت صفارات السجن‪ ,‬وأتى العسكر من كل مكان‪ ,‬هربت بسرعة مع سمكة من مكان‬
‫الشجار وذهب كل منا إلى عنبره‪ .‬عندما دخلت العنبر تهامس المساجين وهم ينظرون لي‪ ,‬نهض‬
‫شلف وأعطاني أحد سجائره المريبة وسألني بفرحة عظيمة‬
‫_ كيف تغلبت على عمران؟!‪.‬‬
‫مسحت العرق بيدي وقلت وأنا أشاهد منصور يهز رأسه بسخط‬
‫_ إني عقاب سقط عليه من السماء!‪.‬‬

‫بعد ساعة أشعلت السيجارة‪ ,‬فتحدث منصور على الفور‬


‫_ لقد وقعت في مصيبة لن تخرج منها إل بمعجزة‪ ,‬إن عمران هو السم الحركي للشيطان في‬
‫السجن ! حتى سرحان وأبو الهول ل يتجرؤون على الدخول في حرب معه‪.‬‬

‫أجبته بنزق‬
‫_ نم يا منصور واحلم بأنك شجاع‪!.‬‬

‫******‬
‫بؤرة انعدام العقلنية‬

‫قلت لمنصور وأنا على يقين أنه ل يعي كلمة واحدة‪:‬‬

‫‪28‬‬
‫_ لو كنت رسامًا لكتبت في وصيتي " أجمعوا كل أموالي و أصنعوا بها دورات مياه" هذا لن‬
‫الرسام في حياته ل يقدر على شراء كسرة خبز‪ ,‬وإذا مات بيعت لوحاته بالمليين!‪ .‬حقًا عجيب‬
‫هو أمر الطبقة المخملية‪ ,‬كيف يشتري أحدهم لوحة "ملطخه" باللوان بالمليين‪ ,‬مدعيًا أنه لمس‬
‫ل هذا‬
‫فيها معنى التسامح‪ ,‬هذا وهو يرسل الكلب خلف المعدمين ليأخذ منهم أقوات أطفالهم‪ ,‬يا ِ‬
‫التناقض‪ ,‬أل يعلم ذاك "الرقيق" أنه قد يأخذ قيمة الفرشاة من أحد المعدمين‪ ,‬وذاك المعدم يحاول‬
‫رسم لوحة تعبر عن الكرم‪ .‬لو عاش الكل حياة "عادلة" لما أضطر قسم من البشر أن يشتري‬
‫لوحات بالمليين لتصف له الروح النسانية التي ل يملكها!‪ ,‬ولما خط الفنان على الورق مجسدًا‬
‫روحه العذبة في مساحة فارغة تباع فيما بعد للرواح العكرة !‪.‬‬
‫_ أنتبه ‪ ,‬فللجدران آذان !‬
‫_ وهل لها ألسن فتتحدث؟ وهل لها قلوب فتنبض ؟ هل لها أعين تَــقتحم وتُــقتحم؟ أرجوك أشرح‬
‫كل مكونات الجدار‪ ,‬فلقد عشت بجهلي الطويل مقتنعًا أنها أحجار مركبة قصد بها العزل والفصل‪,‬‬
‫اخبرني عن مزايا الجدار وعيوب النسان لنثبت إن النسان صنع شيء يستحق الفتخار إلى حد‬
‫الغيرة!‪.‬‬
‫نهض بعد أن أزعجته بثرثرتي وصرخ بأذني‬
‫_ للجدار مزية واحدة الن‪ ,‬وهي القدرة على إسكاتك!‪.‬‬

‫سكت على الفور‪ ,‬فل أود تذكر ذاك اللم‪ ,‬فكيف إن تجرعته مرة أخرى‪ .‬رحت أتسلى بهش‬
‫الذباب عن صلعتي‪ ,‬وأفكر كيف تحاول أن تقضي الذبابة عمرها القصير على وجه دميم‪ ,‬يقال‬
‫ل‪ .‬أتصور أن الذبابات‬
‫أنها تعيش ثمان وثلثون ساعة فقط ‪ ,‬والمعمرة منها تعيش شهرًا كام ً‬
‫الصغيرة تتحلق حول ذاك المعمر وتنظر كل ذبابة إليه بجميع )أعينها(‪ ,‬وهو يروي لهم أمجاد‬
‫اليام الخوالي‪ ,‬يوم كانت الصراصير تهابهم لنهم متلحمون ويتصرفون وكأنهم ذبابة واحدة‪,‬‬
‫بعدها ينهي حديثه بزفرة حزينة ويسب هذا الجيل الخائب!‪.‬‬
‫ماذا لو كان منصور ذبابة بدينه وكنت أنا ذبابة صلعاء؟ هل كنت لسجن ؟ وهل للذباب سجن ؟‪.‬‬
‫أفقت من خيالي المرعب وزجرت نفسي بعنف‪ ,‬اللعنة كيف خطرت لي هذه الفكرة‪ ,‬هل انتهت‬
‫الفكار لقف على هذه الفكرة البشعة‪ ,‬بالكاد أستطيع النظر لوجهي إن رأيته في يوم سيء على‬
‫سطح المرآة‪ ,‬فكيف إن تحولت إلى ذبابة!‪.‬‬

‫_ أتعاني من الرق؟‬
‫لف سؤاله بعد أن تحارب مع شفتيه‪ ,‬لذا كانت أحرفه مشوهة‪.‬‬ ‫أخرج ش ّ‬
‫_ عندما أتذكر أنه لم يمت أحد قلبي من الرق يزول خوفي‪.‬‬
‫_ وما أدراك‪ ,‬لعلك ستكون أول من يموت بسبب الرق !‬
‫_ أشكرك على هذه الكلمات المحفزة!‪ .‬في المرة القادمة نبهني قبل أن تتحدث‪ ,‬لسد أذناي‪!.‬‬
‫_ حسنًا‪ ...‬برم ؟‬
‫_ نعم‪ ..‬يا مصيبة !‬
‫_ سأتحدث‪ ,‬سد أذنيك‬

‫******‬
‫مؤامرة أديسون‬

‫لف واحدة بعد أن أقسمت له بأني‬


‫بعد أن فرطت بكل سجائري في رهاناتي الخاسرة أخذت من ش ّ‬
‫سأستعيرها منه فقط!‪ .‬أنقضى النهار ونحن نلعب ونغش‪ ,‬وبعد أن احتفظت بمجموعة رائعة من‬

‫‪29‬‬
‫الكدمات التي أهداها لي زملء العنبر‪ ,‬نهضت للبي نداء الطبيعة‪ ,‬كنت أتهزهز طربًا مع الصفير‬
‫المنبعث من أحد الحمامات‪ ,‬فجأة توقف الصفير وبدأ المساجين يخرجون بسرعة‪ ,‬فتحت بحذر‬
‫فشاهدت عمران ومعه عصًا مليء بالمسامير‪ ,‬قبل أن أغلق الباب ركله بقوة وقال بانتصار‬
‫_ حان الوقت لنفذ تهديدي !‪.‬‬
‫لقد تضخمت رغبة النتقام فيه حتى كادت أن تستقل في جسد آخر‪ .‬استدرت بسرعة لهرب‬
‫متسلقًا الجدار القصير للحمام‪ ,‬فجأة أحسست بتلك المسامير وهي تغرز في ظهري فأرخيت يد ّ‬
‫ي‬
‫وسقط على الرض‪ .‬رفعني وبدأ يضرب رأسي بالجدار ويسدد اللكمات ويهديها لصدقائه! بعد‬
‫هذا خنقني بقوة‪ ,‬وصرت أحرك يداي وأمسح بهما الجدار وكأني خنفساء ملقاة على ظهرها‪ ,‬فجأة‬
‫أمسكت بشيء وسحبته بقوة‪ ,‬وما أن فعلت حتى سرى بجسدي تيار كهربائي فصرخت بعنف‪ ,‬أما‬
‫هو فارتعش بعنف وسقط على ظهره وسحبني معه‪ .‬أبعدت يداه بصعوبة واستلقيت بجانبه‪ ,‬قبل أن‬
‫أفقد الوعي شاهدت يدي المحترقة ورأس عمران ينزف بغزارة وتحته العصا ذو المسامير‪.‬‬

‫******‬
‫انبثاقات متذبذبة‬

‫فتحت عيناي على صورة الممرضة‪ ,‬وابتسمت حتى كادت أن تتشقق شفتاي‪ ,‬لنني لم أَر منذ‬
‫زمن طويل امرأة‪ ,‬أخبرت الممرضة الطبيب فأتى بسرعة وحين انتهى من فحوصاته قال لحد‬
‫الممرضين‬
‫_ ألم أقل لك أن هذا القرد سينجو!‪.‬‬
‫استجمعت كل طاقتي وقلت‬
‫_ لبد أنني بكوكب القردة‪ ,‬أيها القرد الطبيب‪ ,‬عندي الكثير لحكيه عن الحضارة البشرية‪.‬‬
‫تركني الطبيب وهو غاضب‪ ,‬وصرخ بأقرب وجه أقتحمه‬
‫خرج الطبيب غاضبًا وضجت الغرفة بالضحك‪ ,‬نظرت إلى الممرضة وقلت بسعادة‬
‫_ هل أخبرتك قبل الن‪ ,‬بأنك أجمل قردة في الكوكب؟‪.‬‬
‫ل بأني تحت تأثير المخدر‪.‬‬
‫عبست بوجهي وأخذت تتمتم مبتعدة والممرض يسير خلفها قائ ً‬

‫مرت الساعات وأنا أرتع بهذا النعيم‪ ,‬سرير لين‪ ,‬ملءات بيضاء نظيفة‪ ,‬وجوه سمحة مبتسمة‪ ,‬كم‬
‫وددت لو أنني مت بسعادتي هنا‪ ,‬وما أن فكرت بمدى نعيمي حتى دخل العسكر طاردين كل‬
‫الرؤى الوردية!‪ .‬سحب الضابط أحد الكراسي البعيدة وجلس عليه‪ ,‬سألني إن كنت أود أن أشرب‬
‫سيجارة فأجبت باليجاب‪ ,‬أدخل يده في جيبه وأخرج لي سيجارة وضعها في فمي وأشعل عود‬
‫ثقاب‪ ,‬فجأة سحب عود الثقاب وصفعني بقوة‪.‬‬
‫_ يا ملعون ! وتريد أن تدخن أيضًا‪.‬‬
‫لم أستوعب ما حدث‪ ,‬فغرت فمي وصرت أتحسس خدي المسكين‬
‫_ صفعة أخرى مثل هذه وأموت ! هل تظن أني ولدت لكي أتلقى الصفعات ؟!‬
‫_ أصمت وأستمع لما سأقول‪ ,‬عمران مات أمس قبل أن يصل إلى المستشفى‪ ,‬وأنت متهم بقتله‪.‬‬
‫نهضت متناسيًا آلمي وقلت بهستيريا‬
‫_ وال ما قتلته‪ ,‬هو من خنقني‪ ..‬فصعقنا التيار وسقطنا على الرض ‪..‬‬
‫ضغط على صدري بلطف فسقطت على السرير‪,‬وانحنى هامسًا بأذني‬
‫_ أعلم أنك لم تقتله‪ ,‬ولكني سألبسك التهمه‪ ,‬إل أن رويت كل ما حدث بدون كذبة واحدة‪.‬‬
‫صرت أحدثه بكل ما جرى‪ ,‬وبكامل تفاصيل الحدث‪ ,‬بعد أسئلة كثيرة نهض الضابط بعد أن‬
‫أعطاني علبة الدخان متمنيًا أن أختنق بدخانها وأموت‪ ,‬للمرة الولى أتفق معه على أمر واحد‪,‬‬
‫ل بقتل عمران‪,‬‬‫فكلنا يود أن أموت هاهنا !‪ .‬قبل أن يترك الغرفة سألته إن كنت سأتهم فع ً‬
‫فأخبرني أني بالغد سأعرف كل شيء‪ ,‬عليه ما يستحق أذهب طمأنينتي ومحق راحتي‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫ل"!‪ .‬كنت أستمع إلى الشؤم‬ ‫ل كأنها جلمود صخر عجز السيل أن يحطه من "ع ِ‬‫مرت الساعات ثقا ً‬
‫البشري يرقص عاريًا في الطريق الطويل بين غرفة الولدة وغرفة النعاش‪ .‬والناس تضحك‬
‫هناك وتبكي في مكان آخر‪ ,‬ل يعرفون بعضهم فل يرق أحدهم للخر‪ ,‬وأنا النزيل المطرز‬
‫باللكترونات أضخ ذبذباتي الكهربائية في كل صوب‪ ,‬كتبوا على جبهتي )إياك أن تصافحه‪ ,‬إل‬
‫إن كنت عسكري(‪ .‬العسكر هذه المخلوقات الجميلة ترتدي أزياء مضحكة لتسعد المساجين‪,‬‬
‫يتكاثرون مثلنا عن طريق النقسام‪ ,‬مخدوعون هم يحبسون أمام القضبان ونحن من خلفها ول‬
‫نستطيع كلنا أن نحتوي مدارات أخرى غير ظلل القضبان والسؤلت التعيسة‪.‬‬

‫أجلسوني تحت الشمس وعندما سألت الممرضة الحسناء عن الدافع لهذا التصرف المريب‪ ,‬قالت‬
‫أنها طريقة فعالة لتفريغ الجسم من الشحنات الكهربائية‪ ,‬جسمي السقيم رفض أن يترك الشحنات‬
‫بسبيلها‪ ,‬أشك أن مؤخرتي تضيء الن بالظلم!‪ .‬بعد أحرقتني الشمس أطلقت العنان لحنجرتي‬
‫وبدأت أصرخ بكل اتجاه‬
‫_ يا ملعين لقد تحولت إلى سجين "مقدد"‪ ,‬أعيدوني إلى النعيم الول و إل أكلت كل السلك‬
‫الكهربائية!‪.‬‬
‫أتت ممرضة جديدة وكم نبض قلبي برؤيتها‪ ,‬هذا القلب كأنه قلعة بيد حاكم جبان‪ ,‬ما أن يرى فتاة‬
‫من بعيد حتى يهرع بفتح البوابات ورفع رايات الستسلم‪ .‬ما أن عدت حتى رأيت العسكري‬
‫يتغزل بأحد الممرضات‪ ,‬قلت له أن خلفه امرأة تنظر إليه بغضب ومن الممكن أن تكون زوجته‬
‫فامتقع وجه الرجل وأخذ يتلون وكأنه حرباء سكيرة‪ ,‬استفاق بعد لحظات من الرعب الذي بثثته‬
‫فيه وضرب رأسي بالباب‪ ,‬وتأسف بعد أن زجرته الممرضة وقال أنه كان يريد فتح الباب !‪.‬‬

‫******‬
‫الحكم‬

‫في الصباح أعطوني ملبس جديدة‪ ,‬وحذرني العسكري بأنه سيقتلني إن اتسخت أو حدث لها أي‬
‫مكروه‪ ,‬ارتديت الثياب وركبت بسيارة السجن‪ ,‬وبعد أن تورم رأسي ورأس العسكري الذي كنت‬
‫أرتطم به في كل وقت‪ ,‬توقفت السيارة وأنزلني العسكر وأنا مكبل بالغلل سرت وأنا أحملق‬
‫بمبنى المحكمة‪ .‬جلست بأول كرسي صادفني‪ ,‬نهرني العسكري فقمت معه وأنا أحمل رأسي‬
‫كالفّزاعة‪ ,‬وقفت بين يدي القاضي وأنا أرتعد‪ ,‬تصورت أن سيبتسم برقة ويأمرني بالجلوس‪ ,‬إل‬
‫أن تصوراتي ذهبت مع الريح التي أطلقها أحد الُكـّتاب !‪ .‬بعد أن أقسمت بال أني سأقول الحق‪,‬‬
‫قصصت على القاضي كل شيء‪ ,‬أخبرته أن أبي كان يعمل في القطاع الحكومي إل أنه تركه‬
‫وأخذ يتاجر بالبقر‪ ,‬نهرني القاضي وأمرني أن أحكي فقط ما حدث مع عمران‪ ,‬أخذت أروي له‬
‫كل ما حدث بدقة عجيبة‪ .‬بعدها أستمع القاضي إلى حديث اثنين من المساجين وأستمع إلى رجل‬
‫قراء تقرير الطب الشرعي‪ .‬أعتدل القاضي في جلسته ورفع ورقة كان يكتب عليها ملحظاته‪,‬‬
‫وأصدر الحكم‬
‫_ بناءً على ما توصلنا إليه من اعتراف المتهم وإفادة الشهود وتقرير الطب شرعي يبرئ المتهم‬
‫من تهمة القتل العمد ويدان بتهمة قتل الخطأ‪,‬وعليه أن يدفع دية لهل القتيل‪...‬‬

‫علمت أن بالمر لبس كبير لن قاضينا الجهبذ قال " اعتراف ‪ ,‬قتل الخطأ ‪ ,‬دية " !‬
‫صرخت في القاعة محتجًا على هذا الحكم المتعسف‬
‫_ يا سيدي القاضي وال ما قتلته ل بقصد ول بغير قصد ! هو من سحبني معه‪..‬‬

‫غطى القاضي وجهه بيده وأخذ يهلل ويسبح‬

‫‪31‬‬
‫_ ل حول ول قوة إل بال‪ ,‬أخرجوه قبل نأثم به !‬
‫أخرجوني من مبنى المحكمة بالقوة‪ ,‬وفي السيارة كنت أولول فمن أين آتي بمال الدية‪ ,‬وأنا المعدم‬
‫الذي سجن وهو يبحث عن لقمة العيش‪..‬‬

‫******‬
‫دماء رخيصة‬

‫ل بالربعينات من عمره‬ ‫بعد ثلثة أيام مليئة بالخوف والترقب‪ ,‬اجتمعت بأخي عمران‪ ,‬كان رج ً‬
‫يضع نظارات سميكة‪ ,‬ويحتاج أن ينقل إلى الحلق بسيارة إسعاف‪ .‬مددت يدي لصافحه‪ ,‬وكنت‬
‫أتوقع أن يخرج سكينًا أو أداة موت أخرى ليقتلني بها‪ ,‬ولكن على عكس ما تصورت نهض الرجل‬
‫وصافحني‪ ,‬جلست أمامه وقالت وأنا أطقطق أصابعي‬
‫_ يا أخي " حمد"‪ ,‬وال الذي رفع السماوات السبع أني ل أملك في هذه الدنيا إل أربع سجائر‬
‫وسيارة ل تسير إل بدعاء الصالحين‪ ,‬ومذياع‪.‬‬
‫نظر الرجل إلى الضابط مستفسرًا‪ ,‬فما كان من الخير إل أن هز كتفه قائ ً‬
‫ل‬
‫_ سمعت الرجل‪ ,‬إن ل يملك إل ما قال‪.‬‬
‫تبدلت قسمات وجهه وقال بعصبية‬
‫_ وما يعني هذا ؟ الشرع يقول )دية(‪ ,‬وهذا يتحدث عن سيارة وخمس سجائر ومذياع !‪.‬‬
‫_ ل‪ ,‬ل لم تفهم كلمي‪ ,‬قلت أربع سجائر‪..‬‬
‫رماني الضابط بعلبة مياه غازية فارغة‪ ,‬ونهض ليجلس حمد‬
‫_ إني أعمل هنا منذ سبعة عشر عامًا‪ ,‬وعاصرت الكثير من هذه الحوادث‪ ,‬صدقني إن طالبت‬
‫بكامل الدية سيتعفن هذا المأفون في السجن ولن تأخذ منه ل حقًا ول باطل‪.‬‬
‫قاطعه "الموتُـر" بعد أن أعجزه كظم غيظه‬
‫_ يا بن الــ‪ !...‬تريد أن أقايض دم أخي بسيارة ل تسير ومذياع وسبع سجائر!‪.‬‬
‫ضربت الطاولة وقلت بطريقة مسرحية ل تتناسب مع الجو المحتقن‬
‫_ دع عنك الخداع ! قلت لك بأني أملك أربع سجائر‪..‬‬
‫قبل أن أكمل مرافعتي سمعت أزيز كأزيز الرصاص وما أن لمحت الجسم الطائر حتى التصق‬
‫بوجهي راسمًا معانات جديدة سأرويها لبنائي إن تزوجت يومًا‪ ,‬قمت وحملت معي الدرع‬
‫التذكاري الذي رماني به الضابط‪ ,‬ووضعته فوق المكتب‪ ,‬وصمت بعد أن أقسم الضابط بأنه‬
‫سيشنقني بحزامه‪ .‬أشعلت سيجارة وأخذت أتحسس خدي‪ ,‬يا إله السماوات والراضين كيف‬
‫أصبح وجهي وكأنه مسرح للثورة البلشفية! وكيف تحول أنفي الجميل إلى شيء شبيه بالمعول‬
‫الذي نزع من ظهر "تروتسكي"!‪ .‬أطفأت السيجارة وقلت له وأنا أعبث بأعقاب السجائر‬
‫_ يا أخي أنا رجل معدم وفقير‪ ,‬لن أستطيع تسديد مثل هذا المبلغ إل بعد قرون‪.‬‬
‫أراد أن ينهض مغادرًا إل أني أمسكت بيده وقلت‬
‫_ أسمعني ‪ ..‬فقط أسمعني ‪ ,‬ل تعلم لعل هذا تكفير لذنوب أخيك رحمه ال‪ ,‬يا أخي تصور أنك‬
‫تبرعت بالدية واحتسبت الجر لخيك رحمه ال‪ ,‬ألم تسمع حديث الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫)من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج ال عنه كربة من كرب يوم القيامة(؟‪.‬‬
‫جلس الرجل‪ ,‬وحاول بما أوتي من عزم أن يقهر شعورًا داخليًا يحثه على البكاء‪ ,‬ولكنه عجز‪,‬‬
‫فانفجر يبكي كالطفل‪ ,‬تمنيت لو أن الرض انشقت وابتلعتني ولم أَر هذه المشهد‪ ,‬غصت بخجلي‬
‫وانزويت بركن الغرفة‪ ,‬بعد لحظات صمت مريرة تحدث موجهًا الحديث لي وللضابط‬
‫_ هل تظن أني وحش مادي إلى هذه الدرجة أتيت لساوم على دم أخي ؟ ‪ ,‬نعم أعلم أنك لم تقتله‬
‫ل ل يقتل‪ ,‬ولكني ل أبالي !‪ ,‬نعم أنت الشخص غير المناسب‪ ,‬لنك‬ ‫ل نبي ً‬
‫عمدًا‪ ,‬وإني أرى فيك رج ً‬
‫فقير ل تملك شروا نقير كما قلت وأنا أيضًا رجل فقير أعيل أولدي وأولد أخي وزوجته !‪ ,‬ماذا‬
‫لو كنت غنيًا ؟‪ ..‬ماذا لو كنت غنيًا ! عليك اللعنه ليتك كنت غنيًا‪!...‬‬

‫‪32‬‬
‫بدأ الرجل يهذي ويشتم كل ما يفكر به‪ ,‬حتى أنه لعن ما يهاب العاقل أن يفكر بشتيمته وهو على‬
‫حبل المشنقة! ‪ ,‬هدئ الضابط من روعه وأمرني بالخروج‪ ,‬عله يرتاح بخروجي‪.‬‬

‫أعادوني إلى الزنزانة وأنا أفكر بما قاله الرجل )الشخص غير المناسب(‪ ,‬يا للهول هل استعبدتنا‬
‫المادة إلى هذه الدرجة؟ ‪ ,‬ل ألومه هو فهو معدم‪ ,‬ولكن أعجب ممن ل يحلو له القرش إل إذا كان‬
‫ملوثًا بالدماء‪ .‬اللعنة على كل شيء إذا كانت المادة هي كل شيء!‪.‬‬

‫بعد أسبوع تنازل شقيق عمران عن باقي الدية‪ ,‬وقنع بقيمة السيارة‪ ,‬خمسة آلف ريال هذا كل ما‬
‫كنت أملكه في هذه الدنيا‪ ,‬حتى السجائر أحرقتها مع أول مبرر للشتعال! كل ما زاد لغوي‬
‫تذكرت دعاء الرسول عليه الصلة والسلم وصبرت‬
‫)اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين(‬

‫******‬
‫‪ ..‬قد تبكي الشياطين‬

‫مع مرور السابيع علمت أن جميع قضايا القتل في السجون أما أن تجير ضد مجهول أو توضع‬
‫تحت مظلة "قتل الخطأ" ‪ ,‬هكذا تحل المور ببساطة‪ ,‬فدية وكفّــارة فقط‪ .‬لَم يعقدون المور إذا‬
‫كان ذوي المقتول ل يبحثون إل عن المال‪ ,‬وأهل القاتل يرون فيها ضريبة ل بد من دفعها‬
‫للمجتمع !‪ .‬لقد مللت من تعلم الدروس التي يستحيل تكرارها‪ ,‬فتكون فائدتها لمن يستمع لثرثرتي‬
‫ويأخذ شيئًا مما أقول على محمل الجد‪.‬‬

‫قضيت السابيع المتبقية وأنا منطٍو على نفسي‪ ,‬أقرء الكتب التي أخرجوها من سيارتي قبل أن‬
‫تباع‪ ,‬كيف استطعت نسيانها ؟ وهي الصدر الواسع الذي دفنت به آلمي وآمالي‪ ,‬وهي المسرح‬
‫الوحيد )للنا( خارج )النا(‪ .‬يؤلمني وصف الحياة بعبارات فلسفية بادرة‪ ,‬وتقديس القلب واتهام‬
‫العقل بالفجور والخطيئة‪ ,‬فهذه السكينة العقلية المتأرجحة على ضفاف الزفرات الحزينة و‬
‫الغاضبة هي مركب النجاة الوحيد المتاح لي ولبقية المعدمين والمغمورين المتشبثين رغمًا عن‬
‫جغرافية المستحيل التي طمس بها المتحذلقون أعيننا السريالية‪!.‬‬

‫سأتكئ على صبري‪ ,‬لشاهد قوافل العرق النازحة نحو الجنوب‪ ,‬ترسم دلئل الخلق خطوطاً‬
‫شاحبة مشيرة إلى نهايات الجسد ونشوة الجاذبية‪ .‬سأذهب نحو النور متشبثًا بظلي وبالقسم الناجي‬
‫ل أن النقوش المهملة‬
‫من قناعاتي‪ .‬لتنفس النسيان‪ ,‬هامسًا )على قيد الحياة‪ ..‬على قيد اللم(‪ ,‬متخي ً‬
‫بين الزنازين ودفاتر الفراج‪ ,‬بوصلة تشير إلى الديار‪ ,‬وإلى الكف المستنفرة تحت أبواب‬
‫الجابة‪ ,‬لثمل بواقعي دافعًا الفضيلة بالجرعة الوفية الكامنة في يدي التي تتلمس الهواء خارج‬
‫القضبان‪.‬‬
‫ل خردة ندفعها بذعر نحو المستقبل‪ .‬خردة جميلة ومليئة بالنقوش‬ ‫أعلم أن الحاضر ليس إ ّ‬
‫والعبارات البذيئة‪ .‬أظن أن البراءة هي النوايا الطيبة المخطوطة على أبواب المراحيض‪ .‬لبد أن‬
‫أّدعي أّني نقيض لنفسي لتسّلى بخطابات الضمير الطفولية‪ ,‬فأفضل ما توصلت إليه البشرية حتى‬
‫الن أن الضمير عبارة عن وسادة‪ ,‬إني أحمل وسادة في قلبي‪ ,‬وضريحًا في عقلي‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫ظل المتسّرب مّني نكافح‬
‫إن ظّلي الخرس يسير خلفي بريبة‪ ,‬وهو لم يفقه شيئًا مما قلت‪ .‬إني وال ّ‬
‫كل نهار لنصمد أمام قبائل الليل ومرتزقة الضوء المحبوسين بالقناني‪ .‬ل أريد أن أصبح الجزء‬
‫المفقود من اللعبة‪ ,‬هذا الدور بشع‪ .‬كنت رأس الدمية فأصبحت )رأس الدمية التي بل رأس(‪ .‬شيء‬
‫ضحك‪ .‬إني الرسام الذي لم يرسم والقنديل الذي ل يوجد بداخله جني أزرق‪ .‬إني‬ ‫ما يحثني على ال ّ‬
‫أحد )علءات الدين( الهاربين‪.‬‬

‫عندما ل تتهاوى الشياء المصنوعة للستخدام الواحد‪ ,‬أكون قد بلغت ذروة شعوٍر ما‪ ,‬أكون قد‬
‫فقدت تمامًا التصال بالطرف الخر القابع خارج إدراكي‪ .‬وعندما ل تتشابه الشياء المصنوعة‬
‫حى بابتسامته من اجل التعابير‬
‫لخلق الحيرة في الرواح المؤمنة‪ ,‬أكون الرجل الوحيد الذي ض ّ‬
‫المجانية‪ ,‬والوحيد الذي أهدى مساحيق التجميل للقمر‪ .‬المنتظر الوحيد للعاصفة التي ستظهر‬
‫عروق السماء‪.‬‬

‫هذه خطبتي الخيرة‪ .‬لن أهتف لنفسي بعد الن أمام أي مرآة‪ .‬ها أنا أنعكس أمامي وكأني سهم‬
‫يشير إلى أمنية عاقرها كل بائس‪ .‬وكأني صبي الميناء المشنوق كل صباح على صواري السفن‬
‫المركولة نحو اللعودة‪.‬وكأني ضجيج الطيور الشرهة‪ ,‬ل أني ل أتوسل الهواء لطير‪.‬‬

‫_ لن تفيدك حالة البؤس في شيء‪.‬‬


‫_ سمكة؟‪.‬‬
‫_ بشحمه ولحمه‬
‫أسند ظهره على الجدار وجلس جلسة بادرة ووقحة‪ .‬ناولني سيجارة وأشعلها بيٍد مرتعشة‪ .‬وقال‬
‫ل من التعابير أن أبو الهول يريد لقائي‪ ,‬ونهض ببطء‪.‬‬
‫بوجٍه خا ٍ‬

‫******‬
‫كن دخانًا وأرتفع‪..‬‬

‫أجلسني أبو الهول بجانبه‪ ,‬وسألني بعطف عن سبب انقطاعي‪,‬أخبرته بأني حبيس بين رغبة‬
‫الفراج والرعب من العالم الخارجي‪ ,‬فما كان منه إل أن قال بدهشة‬
‫_ أل تريد أن يفرج عنك يا رجل ؟!‪.‬‬
‫_ بدأت أدرك أن العالم الخارجي وجد لكي يقوم بخدمتنا فقط‪.‬‬
‫وضع راحت يده على خده وطلب مني أن أسترسل‪ ,‬فقلت بحماس‬

‫_ من في الخارج يظنون بأننا حثالة المجتمع‪ ,‬يحفرون الرض ليخرجوا الحديد ثم يصهرونه ثم‬
‫يشكلون منه القضبان والبواب ليسجنونا خلفها‪ ,‬المضحك أننا سبب عمل اللوف من أبناء‬
‫المجتمع الذي ينظر لنا وكأننا مخلوقات دنيئة‪ .‬لسنا السبب المنطقي للقانون وأدواته من قضاة‬
‫ومحامين ودساتير‪ ,‬بل نحن نواتجه‪ .‬نحن من جعلنا البشر في )الخارج( يتقنون ما يعملون إن كان‬
‫هذا العمل هو الحائل بيننا وبينهم‪ .‬نحن نقطة الرتكاز وما دوننا بيئة لنتاج الجيال القادمة‬
‫المنقسمة على نفسها بين جدوى القانون وعدم جدواه‪ .‬وإني أتساءل؛ إذا كان القانون ضيّــق إلى‬
‫هذا الحد ِلَم ل نصنع نهجًا فوضويًا ونسجن القلية ونطلق سراح الكثرية ؟‪.‬‬

‫قال بهدوء‬
‫_ إن قاسمنا المشترك هو السجن فقط‪ ,‬ل رغبات صنع الفكار الفوضوية!‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ل وأكمل‬‫سحب نفسًا طوي ً‬
‫ف لما نخالف ولسنا أضدادًا له‪ ,‬وحين نطرح الفكار الجديدة‪ ,‬نطرح بطريقة‬ ‫_ أنت تعلم أننا أطيا ٌ‬
‫غير مباشرة بذور النشقاق والهدم في المجتمع الذي تنظر له وكأنه كائن ديناصوري رجعي‬
‫يجب إزاحته‪ .‬ولكن حين تهدم المجتمع لن تصنع عرقًا أو انتماًء بل ستصنع مجتمعًا آخر‪ ,‬أي أنك‬
‫لن تأتي بشيء جديد‪ .‬هذا عدا أن المجتمع أفراده متكاملين بتلحمهم ل بفرديتهم المتكاثرة‬
‫بالنقسام بين رغباتهم وشهواتهم‪.‬‬

‫قلت بمرارة ‪:‬‬


‫_ هل تعلم لَم سجنت ؟‪.‬‬
‫قبضت يدي بقوة حتى كادت الدماء تسيل من يدي المصابة بالحرق‬
‫_ أهذا هو القانون الذي تدافع عنه؟ هل تدافع عن هذا القانون الضعيف الذي ل يستطيع حماية‬
‫نفسه من اختراقات مطبقيه‪ .‬إن فضيلتك التي تسعى لها بشكل مكيافللي مرعب ) الغاية تبرر‬
‫الوسيلة ( لم تستطع التغلب على هذا القانون الكثر بشاعة من قانون الغابة‪.‬‬

‫ل وقال‬‫أطرق برأسه قلي ً‬


‫_ أنت ل تبحث عن الصواب بقدر ما تتلهف إلى "منطَــقة" النتقام‪ .‬ل أدري لَم تعقد المور؟ إذا‬
‫كنت تسعى للنتقام فل تتعب نفسك بلي القناعات‪ .‬إني أدافع عن العدالة ل عن القانون فمهما‬
‫تطور الخير لن يصل إلى الول‪ ,‬ولكنها مسيرة طويلة وصعبة يكفيني فيها شرف الستمرار‬
‫بالمحاولة‪ .‬يا بني إن من يسخر من هذا القانون ويصفه بأنه " أسوء من قانون الغاب" نسي أنه‬
‫بغابة أنيقة وأنه بقفص الدانة الواسع‪ ,‬فإن خرج بجسده ظل بفكره يختلس من الصواب ليضيف‬
‫على أساطيره شيئًا من المصداقية‪.‬‬

‫قلت بحيرة‬
‫_ ماذا يعني هذا؟ هل تحاول تبرير السجن‪ ,‬أم تناضل من أجل نفي وجوب بقائنا فيه؟‬
‫أرجع شعره إلى الوراء بعصبية وقال‬
‫_ ستخسر الكثير أن صدقت مثل هذه الفكار‪ .‬فلسنا مستقلين بكفايتنا ولم نولد لننعزل عما سوانا‪.‬‬
‫والقانون الذي تتصور أنك تغلبت عليه وفككت رموزه هو من صنع نقاط ضعفه بيده ليجدد نفسه‬
‫عن طريق المخدوعين مثلك لتختفوا أثناء تجديده‪ .‬أنت تمثل التّـــمــرد أو المعارضة ولو سّوقت‬
‫لفكارك بالخارج ستتحول أفكارك إلى )نظام(‪ ,‬مما يعني أنك ستختفي كفكر مضاد‪ ,‬لذا أترك هذه‬
‫المهمة لشخص آخر كي ل تنفي نفسك !‪.‬‬

‫فجأة داهمني شعور بالتيه بث فيني رغبة قوية بالبكاء‪ ,‬نهضت لعود لمكاني فأمسك أبو الهول‬
‫بيدي وطلب مني أن أبتعد عن المشاكل‪ ,‬وأوصى سمكة أمامي بمراقبتي‪ .‬وكان هذا آخر عهدي‬
‫بأبي الهول‪.‬‬

‫******‬
‫زخم‬

‫‪35‬‬
‫قبل الفراج بشهرين‪ ,‬عثر على جثة أحد العسكر ملقاة في الحّمامات وقد طعن أكثر من خمس‬
‫طعنات في صدره‪ ,‬وأشك أن الطعنات أقل لني رويتها ) سبع طعنات ( لحد المساجين‪ ,‬ومن‬
‫صدق كذبتي أزاد عدد الطعنات في روايته‪ ,‬مما يعني أن من قال لي الخبر كذب متأسيًا ببقية‬
‫المساجين الماجد‪ .‬تسارعت الحداث بعد مقتل العسكري ‪ ,‬فتبين أن أحد كبار الضباط كان‬
‫شريكًا لسرحان وهو من كان يسهل دخول المخدرات إلى السجن‪ ,‬وسرت الشاعات والكاذيب‬
‫في السجن‪ ,‬فقيل أن الضابط ُقتل كي ل يفضح بقية المتورطين معه‪ ,‬وقيل أنه انتحر‪ ,‬وقيل أنه‬
‫ل كبيرًا وسيارة ألمانية‪ ,‬وأنا أميل للرواية الخيرة‪ ,‬فهي الرواية الوحيدة الممكنة‬
‫أشترى منز ً‬
‫الحدوث بمثل هذه المواقف!‪ .‬كنا نثرثر بنفس القصة حتى أتى حدث أكبر وهو هروب أربعة‬
‫مساجين‪ ,‬قتل أحد الربعة‪ ,‬وقبض على البقية بعد ساعات من هروبهم‪ ,‬والمؤلم أن الذي قتل كان‬
‫مسجونًا منذ سبع سنوات بتهمة القتل‪ ,‬وبعد أن مات بشهر تنازل أهل المقتول ظنًا منهم أنه مازال‬
‫على قيد الحياة‪ ,‬لبد أن هذا التعس يبكي الن في قبره‪ ,‬من يعلم لعله يضحك‪.‬‬

‫في ليلة ما قبل الفراج‪ ,‬حلمت أني غني‪ ,‬وزوج لثلث نساء جميلت‪ ,‬وقبل أن أرتع بالنعيم أفاقني‬
‫الحمق شلف‪.‬‬
‫_ الوداع يا برم‪...‬‬
‫_ يا غبي‪ ,‬أستخدم رأسك لشياء أخرى غير وضع الشماغ عليه!‪.‬‬
‫_ وال لم أفهم ما قلته‪ ,‬ولكن دعني أودعك بحرارة‪!..‬‬
‫ل‪.‬‬
‫_ حسنًا‪ ,‬نم الن وفي الغد سأودعك‪ ,‬أرجوك دعني أغمض عيناي قلي ً‬
‫ي المجنون ووضع يده على عيني حتى كاد يفقأها‪ ,‬دفعته بكل قوتي وصحت بمنصور‬ ‫قفز عل ّ‬
‫_ النجدة سيقتلني الغبي !‪.‬‬
‫لف على ظهره وهو يتأوه‪ ,‬وعندما سألته عن سبب هذا التصرف قال‬ ‫رفسه منصور‪ ,‬فاستلقى ش ّ‬
‫أنه كان يحاول أن يغلق عيناي لنام !‪ .‬دفنت رأسي كالنعامة‪ ,‬منتظرًا الغد بهذا اليوم !‪.‬‬

‫******‬

‫‪36‬‬
‫سأذهب حيث لم تنطق )العين(‬
‫‪ ..‬حيث النعمة المخللة بالدموع‬
‫لشرب وحدي نخب الظلم !‬
‫‪.‬‬

‫******‬

‫‪37‬‬
‫لسنا سوى حفاة يحسبون الطريق حذاء‬
‫ــ عبد ال القرني ــ‬

‫لف واحتضنت منصور وأخذت عنوان سمكة‪ ,‬ولو جلست وقتًا أطول لودعت كل‬ ‫ودعت ش ّ‬
‫المساجين‪ .‬كنت أشتعل بلهفتي وأتغزل بالفراغ القابع بين القضبان‪ .‬أخيرًا خرجت مع المفرج‬
‫عنهم وسرنا حتى وصلنا غرفة صغيرة‪ ,‬مع الزحام ُدفعت من الوراء فاستدرت لتشاجر مع الذي‬
‫دفعني فضربت الذي أمامي بكوعي‪ ,‬غضب الذي ضربته فاستدار ليضربني فضرب شخص‬
‫آخر‪ ,‬تشاجر الشخصان وضرب أحدهما من دفعني من الخلف‪ ,‬هكذا أخذت ثأري بدون أن‬

‫‪38‬‬
‫أستخدم العنف بنفسي‪ .‬أتى العسكر فضربوني بالهراوات لني أضعف المساجين‪ ,‬فتذكرت مقولة‬
‫أمي ) ال ما يضرب بعصا (‪ .‬فتشونا وكأن في السجن شيئًا يسرق‪ ,‬أخيرًا سرنا حتى بوابة السجن‬
‫وحين فتحوا البوابة كبر المساجين )السابقين( فكبرت معهم‪ .‬سرت مسافة طويلة حتى وصلت إلى‬
‫طريق ) الرياض_ القصيم (‪ .‬بعد محاولت كثيرة فاشلة استطعت عبور الشارع‪ ,‬أوقفتني سيارة‬
‫أمن الطرق وسألني الجندي‬
‫_ من أين أتيت؟‬
‫_ من السجن‪.‬‬
‫نزل من السيارة وفتشني‪ ,‬ما وجد شيئًا فرفس مؤخرتي بقوة وركب السيارة‪.‬‬
‫_ ل تتسكع هنا ‪ ,‬أتسمع ؟‬
‫_ نعم ‪ ,‬لن أتسكع‪.‬‬

‫بعد لحظات توقفت سيارة زرقاء قديمة جدًا‪ ,‬هتف السائق‬


‫_ إلى القصيم ؟ أم إلى حائل؟‪.‬‬
‫_ إلى القصيم ‪ ,‬بكم ؟‬
‫_ اركب‪ ,‬لن نختلف‪.‬‬
‫_ سنختلف‪ ,‬أخبرني بكم ؟‬
‫_ بخمسين‪.‬‬
‫_ اذهب إلى جهنم الحمراء‪.‬‬
‫ن يا رجل‪ ,‬أربعين وستجلس في المقعد المامي‪.‬‬ ‫_ حس ٌ‬
‫_ ل أريد المقعد المامي‪ ,‬سأدفع لك عشرين فقط‪.‬‬
‫_ حسنًا أركب عليك اللعنه يا بخيل‪.‬‬

‫بعد خمس دقائق غصت السيارة بالرواح‪ ,‬توددت للسائق كي أركب بالمقدمة‪ ,‬فشتمني وقال أني‬
‫ي ‪ ,‬فقلت لحد الركاب أنه أخذ منه ثلثين بيمنا أخذ مني‬
‫بخيل ل أستحق أن أسير حتى على قدم ّ‬
‫ل فقط‪ ,‬فغضب الراكب وقال للسائق أنه محتال أشر‪ ,‬أوقف السائق السيارة وطردني‬ ‫عشرين ريا ً‬
‫منها‪ .‬سرت مرة أخرى حتى توقفت سيارة ثانية‪ ,‬ركبت معه )بعشرين( ولم أحدث أحدًا عن النقود‬
‫التي أعطيتها لصاحب السيارة‪.‬‬

‫نظر السائق للخلف وقال بمرح‬


‫_ الضيق بالقبور‬
‫فقال أحد المحشورين في السيارة بغضب أن القبور التي يتحدث عنها بالمجان‪ ,‬وعندما ضجت‬
‫السيارة بالحاديث الجانبية صرخ أحد الركاب بفزع‬
‫_ بعير! بعير!‬
‫فربط السائق حزام المان وأخرس مسجل السيارة‪ ,‬لتعلو موجة من التكبر )ال أكبر كبيرا والحمد‬
‫ل كثيرا (‪ .‬نهض أحدهم على أصوات التكبير وقال متثائبًا‬
‫_ هل وصلنا مكة ؟‬
‫رمى )الكابتن( عقب سيجارته من النافذة وقال بحسرة‬
‫_ يا غبي نحن متجهون إلى حائل !‪.‬‬
‫شهق أحد مكوني الشكال العشوائية داخل السيارة‬
‫_حائل ! وأين بريدة ؟‬
‫وبدأ يتشاجر مع السائق‪ ,‬طبعًا الكل حاز على كم جيد من الكدمات والفضل يعود للتساع الذي‬
‫تتسم فيه السيارة‪ ,‬أخيرًا أقتنع الخ المعارض أن مدينة بريدة قبل مدينة حائل ولكن هذا ل يعني‬
‫أنه توقف عن ضخ الكلمات ) الرقيقة ( في رؤوسنا‪ .‬أردت أن أتحدث عن رداءة الطريق وسوئه‬

‫‪39‬‬
‫ل‪ ,‬فأفضل طريقة لخراج الغضب والحتقان النفسي في مجتمعان هي نقد شيء‬ ‫للطف الجو قلي ً‬
‫ل تستطيع أن تصلحه‪ ,‬إل أني رفست فكرتي بقوة‪ ,‬عندما شاهدت أحد الخوة يعتمر شماغًا وردي‬
‫اللون‪ ,‬وهذا اللون يحبه العشاق على عكس أصحاب السوابق الفكرية‪ .‬قطع القبطان أفكاري‬
‫الحترازية‬
‫_ تفتيش! من ل يحمل إثبات فلينزل من السيارة غير مأسوف عليه‪.‬‬
‫وكما حدث أثناء المشاجرة الكل حاز على مجموعة رائعة من الكدمات بسبب الحركات التشنجية‬
‫لخراج الثباتات‪ .‬توقفت السيارة أمام النقطة‪ ,‬كم تمنيت أن أصور سحنة السائق؛ ابتسامة رقيقه‬
‫تتصنع البراءة وعبارات رشيقة مؤدبة ونحن بالخلف ننظر إلى الجندي وفي أعيننا نظرات ميتة‪.‬‬
‫ل أدري لَم أردت أن أصرخ ) مظلوم‪ ..‬أنا بريء ( ول أدري أيضًا كيف ألجمت نفسي‪ .‬فتش‬
‫الجندي صرتي التي ل تحوي إل ملبس تدعي البياض‪ .‬وبدأ بتفتيش كيس الفلح الذي كان‬
‫يحوي عجائب الدنيا العشر كما يقول منصور‪ ,‬أمره الجندي بالرتجال من السيارة لكي يفتش‬
‫ثوبه‪ ,‬فامتقع وجه الفلح وقال متلعثمًا‬
‫_يا سعادة الضابط إني رجل مستقيم‪...‬‬
‫هنا لم أستطع كبت شعوري‪ ,‬فانفجرت ضاحكًا وقلت بتشفي‬
‫_ يا سعادة الضابط !‬
‫غضب الجندي ذو الشرطات الثلث‪ ,‬وهم بالنتقام‪ ,‬ولكن الضابط أمره أن يتجه لسيارة أخرى‪,‬‬
‫فتحرك السائق ببطء كي ل يثير الشكوك‬
‫هتف السائق فرحًا‬
‫_ مصائب قوم عند ناس فوائد‬
‫قال صاحب ) الشماغ الوردي ( بامتعاض‬
‫_ مصائب قوم عند ) قوم ( فوائد‪ ,‬يا أبله !‬
‫لم يبالي السائق بما قاله ذلك )الخ( وتابع حديثه‬
‫_ لو لم يتجه الجندي للسيارة الخرى لسلخني بمخالفة لني ل أحمل رخصة سيارة أجرة‪.‬‬
‫لم أعرف في تلك اللحظة الشعور المناسب‪ ,‬هل أضحك أم أحزن‪ ,‬كل ما أتذكرة أني وضعت‬
‫رأسي على طرف النافذة أو على كتف أحدهم‪ ,‬ونمت‪.‬‬

‫انتبهت‪ ,‬ونظرت لساعة الفلح‪ ,‬كانت تشير إلى الثانية والربع‪ ,‬وحين قلت بأن ساعته متعطلة‪ ,‬هز‬
‫رأسه وكأنه يريد إسكاتي وأغمض عيناه‪ ,‬فسألت السائق بسرعة‬
‫_ كم الساعة يا سيد ؟‬
‫_ الساعة ستون دقيقة‪.‬‬
‫_ أعلم ‪ ,‬أعني كم الساعة الن؟‬
‫_ إنها لم تتغير أبدًا‪ ,‬ستظل ستون دقيقة‪.‬‬
‫هززت كتف من بالمقعد المامي‬
‫_ أظن أن الخ القبطان ليس بوعيه الكامل‪.‬‬
‫ألتفت ونظر إلي‪ ,‬ثم أعتدل مرة أخرى وهو يقول‬
‫_ نعم ليس بوعيه الكامل‪ ,‬من الفضل أن أتولى القيادة نيابة عنه‪.‬‬
‫تحدثنا مع السائق‪ ,‬ورفض أن يترك المقود‪ ,‬بعد دقائق أخذ ينوح ويلعن كل مخيف ومهيب‬
‫ل محترمًا‪ ,‬أستيقظ في السادسة صباحًا‬ ‫_ لم أكن على هذه العربدة التي ترونني فيها‪ ,‬كنت رج ً‬
‫وأنام بعد صلة العشاء‪.‬‬
‫حاولت أن أهدي من روعه‪ ,‬فقصصت له القصص وحكيت له العبر‪ ,‬أخيرًا وافق الرجل وأوقف‬
‫السيارة وتولى القيادة من بجانبه‪ .‬توقفت السيارة أمام تفتيش مدينة بريدة‪ ,‬عرف العسكر على‬
‫الفور أن الرجل ثمل بعنف‪ .‬عندها نزلت من السيارة وسرت على قدمي متوجهًا إلى عنيزة‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫ها أنا ذا أراها من بعيد تتنفس الكذب وتتداول الحقاد الصغيرة‪ ,‬ل أستطيع التنكر لهذا الحب الذي‬
‫أكنه لها‪ ,‬فابن هذه المدينة وحده من يعلم أنها ليست أرضًا فقط‪ ,‬بل طريقة حياة جميلة رغم المال‬
‫التي تقتلها كل يوم‪ .‬هنا من يخالف دساتير الجداد يرجم بالنظر‪ ,‬ويعزل وكأنه أجرب‪ .‬إن آلم‬
‫الهوية التي نتلمس ملمحها الغائبة كل يوم تشير إلى الجداد الذين وصفوا لنا المستقبل على أنه‬
‫قدر كابوسي‪ ,‬ينتظرنا خلف اليام المقبلة‪.‬‬

‫******‬
‫ابتسم فأنت في عنيزة‬

‫دخلت المدينة خائر القوى‪ ,‬ل أقدر على رفع قدمي من شدة التعب والعياء‪ ,‬تسلقت سور‬
‫مزرعتنا وسرت حتى غرفة أخي‪,‬رميت نفسي على الفراش‪ .‬تنبه أخي وقال وهو يحاول النهوض‬
‫_ من ؟ من أنت !‬
‫_ نم ‪ ,‬أنا إبراهيم‪.‬‬
‫_ ل أصدق ! كيف أتيت ؟‬
‫_ دع الحديث للغد‪.‬‬
‫_ حسنًا‪ ..‬تصبح على خير‪.‬‬

‫ل لثرثرة ليلية أو مقدمة لشجار صباحي‪ ,‬إننا‬ ‫هذه الكلمة ) تصبح على خير ( دائمًا ما تكون مدخ ً‬
‫ننهي بها اليوم ونبدؤه بها‪ ,‬وما أصبحنا على خير‪ .‬نصبح على موت وتشريد هنا وهناك‪ ,‬نصبح‬
‫على فشل‪ ,‬نصبح على الببغاوات‪ ,‬نصبح على الكاذيب‪ ,‬نصبح على الديون البدية والهموم‬
‫الجماعية هذا ما نصبح عليه كل يوم‪ .‬لَم نكتب على وسائدنا )صباح الخير( لنبدأ معاقرة آمنينا‬
‫الزائفة قبل أن تدرك أعيننا ضوء الصباح‪ .‬هاهو التدفق البليسي يعود من جديد‪ ,‬ليسرق لذة النوم‬
‫التي ل أعرف أين تكمن‪ ,‬أفي التعب أم في النعاس أم في الكوابيس الناشئة معنا منذ الصغر أم في‬
‫أول منظر يقتحم الستيقاظ؟‪ .‬تحياتي وأشواقي للنوم ولذته الفارغة‪ ,‬وكل اللعنات الرخيصة‬
‫والغالية للشيطان وتدفقاته المنطقية واللمنطقية‪.‬‬

‫لو كانت عندي ساعة متعطلة لكانت تشير إلى الوقت الصحيح مرتين باليوم‪ ,‬ولكني ل أملك ساعة‬
‫ول أود أن أفعل‪ ,‬لنها ستشير دومًا إلى نفس الوقت الذي أشارت له بالمس في نفس هذا الوقت‪,‬‬
‫مع أني لم أفهم ما قلت إل أني أوافق نفسي الرأي‪ ,‬فأنا على صواب حتى يمل الرأي الخر الذي‬
‫يدعي أني على خطأ‪ ,‬وإذا مل لحقته مرددًا ) يا انهزامي (‪.‬‬

‫نهضت وغسلت وجهي‪ ,‬ومسحته بثوب أخي )عــّزوز(‪ .‬لم أتصور أني سأسترجع كل ذكرياتي‬
‫أل بعد أن رأيت أحواض البرسيم ونخل )السكري و البرحي( ودّراجة أخي سعدون و حظيرة‬
‫البقر‪ .‬يا ال كيف تركت هذا المكان ؟ كيف سمحت للمدينة أن تبتلعني ؟ كيف اعتمرت حماقاتي‬
‫مع أول ريح باردة ورحلت؟ لبد أنها أسباب مقنعة دفعتني إلى الهرب و أظنها الن صامته ل‬
‫تريد أفساد هذه الثواني النبيلة !‪.‬‬
‫اجتزت الحياض وسرت بجانب أشجار الثل الصامدة حتى رأيت المنزل الشعبي ذو الطابق‬
‫الواحد‪ .‬تلقت عيني الصورة وكأنها استوعبت كمًا هائل من النور دفعة واحدة‪ ,‬تذكرت أحد‬
‫المساجين عندما قال لي أنه تألم كثيرًا بعد أن أخرجوه من الحبس النفرادي‪ ,‬لنه لم يَر النور منذ‬
‫شهر!‪ .‬يا إله هذه السماوات الرحبة كيف نتألم من النور إن طال تسكعنا في الظلم‪ .‬ليس هذا بألم‪,‬‬
‫بل سعادة مفرطة تتلقها العين دفعة واحدة‪ ,‬فهي ل تستخرج الصورة من الذاكرة المهلهلة لتستشعر‬
‫السعادة بل هي تراها الن‪ ,‬أيتها الذاكرة جددي خلياك إني سأستوعب مزيدًا من الصور المهمة‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫هنا‪ ,‬في هذا البيت المتهالك والصابر على زفرات أركانه المتململة يرتفع السقف فوق رؤوس كل‬
‫من أحب‪ ,‬أمي وأخواني‪ ,‬وباقي المتلزمة من ضيوف عاشوا هنا أكثر مني‪ .‬آه كم اشتقت لنطق‬
‫كلمة ) أمي (‪ .‬بأي لغة كانت وبأي لهجة لفظت تظل أرقى كلمة تنطق في هذا الفضاء الرحب‪.‬‬

‫_ ُيـّمـه !‪.‬‬
‫وضعت ما بيدها وأتت متشككة‬
‫_ إبراهيم ‪..‬؟‬
‫لم أسمع صوتها منذ ثمانية أشهر‪ .‬إن لدعائها صدى يجلجل في صدري‪ .‬قبلت يدها الطاهرة‬
‫وشرحت لها حالي‪ .‬مسحت على رأسي فعدت إلى الوراء سنين طويلة‪.‬‬
‫_ ل تحزن فما عند ال ل ينفذ‪ ,‬الحمد ل أنك سليم معافى‪.‬‬
‫راحت تهون لي المصائب‪ ,‬وأنا أزف الزفرات بالتنهد كلطيم يعي مر الشماتة‪ .‬بعد أن جلست‬
‫وتناولت فطوري ذهبت لرى أخوتي‪ .‬دخلت الغرفة بسرعة‪ ,‬فرأيت أختي وصاحبتها‪ ,‬تسمرت‬
‫بمكاني‪ ,‬سبحان الخالق لم أَر أجمل من هذه الفتاة في حياتي كلها‪ .‬كنت واقعًا تحت صدمة الرؤية‬
‫وكانت أختي متفاجئة بحضوري‪ ,‬صرخت الفتاة فأفاقت أختي وطردتني كقط مطعم‪ .‬ركضت‬
‫ي‪ ,‬وحين سألتها عن الفتاة فأخبرتني أنها‬
‫بسرعة حتى خرجت من البيت‪ .‬أتت أختي وسلمت عل ّ‬
‫بنت الجيران‪.‬‬
‫_ ولكن ليس لبي صالح بنات‪.‬‬
‫_ هؤلء الجيران الجدد‪ ,‬أبو صالح سافر مع ولده إلى دبي‪.‬‬
‫_ حسنًا ل أود أن أعرف الكثير عنه‪ ,‬يكفي أنه كان يحجب عنا مثل هؤلء الجيران‪.‬‬

‫******‬
‫ممارسة حرة للنا‬

‫سرت متسكعًا بين المزارع وقلبي ينبض بشكل غريب‪ .‬صدقت الن قصص ألف ليلة وليلة ‪ ,‬إني‬
‫أستشعر الن تلك النظرة التي رمتني بألف حسرة‪ .‬إنه الصلع عندما يقع في الحب‪.‬آه ما أجمل‬
‫ل هذا الحب‪.‬‬‫الحب من أول نظرة‪ ,‬هاهي وجنتاي تشرئبان بحمرة العشاق‪ .‬يا ِ‬
‫_ إبراهيم قف يا لعين!‬
‫وكأن أحدهم ضربني على أم رأسي بقوة‪ ,‬تسمرت بمكاني‪ .‬حتى أحسست أن الحنجرة التي أطلقت‬
‫ي مسرعة عن طريق تحرك الجسد الذي ُركبت فيه! هربت بسرعة‪ ,‬فسقطت‬ ‫النداء‪ ,‬تأتي إل ّ‬
‫لرتطم بجذع شجرة مرمي على الرض‪ .‬استلقيت على ظهري ورأيت وجه )محمد( بالمقلوب‬
‫_ ل لن تستطيع الهرب‪ ,‬الحي كله يعلم أن ال خلق لي ساقان تسابقان الريح‪.‬‬
‫_ محمد يا لعنة ُمركبة وممزوجة بكل ويلت الدنيا‪ ,‬أرعبتني حتى النخاع!‬
‫_ أعلم يا دجاجة أنك مرعوب‪ ,‬ولكن قل لي كيف ذهبت إلى مصر دون أن تخبرني؟‬
‫_ لم أذهب إلى مصر !‪.‬‬
‫_ ولكن صاحبك أبو عرب قال أنك ذهبت إلى مصر !‪.‬‬
‫_ ل تكن غبيًا ! كيف أذهب إلى مصر؟‬

‫يقول محمد أن أخاه تزوج وأصبح عنده ولد يرمي المارة بالحجارة‪ ,‬لقد غرس في أطفالنا كما‬
‫غرس فينا من قبل روح التمرد والنتفاضة‪ ,‬فقط يجب عليهم وضعنا بالماكن الصحيحة‪.‬‬

‫_ ما الذي ستفعله الن يا إبراهيم ؟ إن جلست بل عمل ستعيد المأساة نفسها‪.‬‬


‫_ دعك من هذا‪ ,‬أين زيد ؟‬
‫_ أذهب إلى سطح غرفته وانتظرنا هناك‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫صعدت فوق سطح غرفة زيد لرى الحي منبسط أمامي يحده الطموح والجشع‪ ,‬بعد ساعة أتى‬
‫زيد ومعه الكيف‪ .‬تحدث كثيرًا عن دجاجاته‪ ,‬وعندما طلبت منه أن يأتينا بدجاجة لنشويها غضب‬
‫وقال أن الواحدة منها تساوي مبلغًا كبيرًا‪ ,‬لم أفهم سبب شرائه هذه النواع الغالية‪ ,‬فمهما أرتفع‬
‫ثمن الدجاجة تظل دجاجة‪ ,‬هذه المخلوقات العملية لم تجد من يقدرها بعد‪ ,‬يكفي أن الشخص‬
‫يستيقظ ليجد فطوره قد أعد‪ ,‬ما عليه إل أن يسلق البيضة أو يقليها‪ .‬بعد أن قرقرت البطون أتى‬
‫محمد ومعه صاحبه‪ ,‬بعد دقائق أنهدم سد الخير وصار يشكو أباه البخيل الذي رفض تزويجه‪,‬‬
‫قال لي محمد أن أبا صاحبه غني جدًا‪ ,‬يستطيع شراء المدينة كلها لو أراد إل أنه بخيل يفضل‬
‫الموت ألف مرة على أن يفرط بالقرش‪.‬‬
‫بعد أن لعب الكيف برأسي قلت له‬
‫_ ما مشكلتك بالضبط يا أخ‪..‬؟‬
‫قال بسرعة‬
‫_ اسمي عبد الرحمن‪ ,‬وفي رواية أخرى )دحيم(‪ .‬مشكلتي يا أخي أني شاب بآخر العشرينات‬
‫طلبت يد فتاة من أبيها الجشع‪ ,‬وطلب مني مهرًا مقداره خمسون ألف ريال‪ ,‬ولو بعت كل ما أملك‬
‫ما وفى معي بربع المبلغ‪ ,‬هذا من دون ذكر مصاريف يوم الزواج‪ ,‬والهدايا‪...‬‬
‫_ يكفي ل تكمل‪ ,‬لقد أدميت قلبي يا هذا‪.‬‬
‫ل وتغنيت‬ ‫سحبت نفسًا طوي ً‬
‫م ما بين أهلها *** مصائب )دحيم( عند )زيد( فوائد ُ‬ ‫بذا قضت اليا ُ‬
‫_ اللعنة يا دحيم على مستحاثات الدهور المترفة كيف استطاعت غرس هذه البروتوكولت‬
‫الجرثومية المستنبطة من أصول ل بشرية‪.‬‬
‫نظر دحيم إلى محمد وقال وهو يهز يداه‬
‫_ لم أفهم ‪ .‬محمد ماذا يقول صاحبك؟‬
‫_ أترك محمد الن‪ ,‬الحل موجود‪ ,‬ولكن بشرط‬
‫تهلل وجهه وقال بلهفة‬
‫_ وما الشرط؟ أخبرني!‬
‫_ أذهب الن وأجلب معك كباب و دجاج مشوي وتبوله وحمص وبابا غنوج و )ماما غنوجه(‪.‬‬
‫نزل الرجل بسرعة‪ .‬سألني زيد عن )ماما غنوجه(‪ ,‬ولما أخبرته أنها طبخة جديدة أستبشر الرجل‬
‫ل بالكياس البنية الجميلة‪ ,‬آهٍ كم كانت الرائحة زكية‪ .‬عندما فتحنا‬ ‫وفرح‪ .‬بعد ساعة أتي دحيم مثق ً‬
‫الكياس ضربت الخيبة أمانينا الجميلة وقلت بتصرف ل يخلو من الرقة ‪:‬‬
‫م‬
‫ه أباه فما ظل ْ‬ ‫ل *** ومن يشاب ْ‬ ‫بأبيه اقتدى دحيم بالبخ ْ‬
‫تناولنا المقسوم‪ ,‬وثقبنا طبقة الوزون بالدخان والروائح)الخضراء(المميتة‪ ,‬وعندما فرغنا قلت له‬
‫_ بالغد ل تذهب إلى عملك‪ ,‬نم على فراشك وتأوه كالمريض‪.‬‬
‫_ يا أخي أبي وأعرفه‪ ,‬لن يرق قلبه أبدًا!‬
‫نهضت ونفضت التراب وقلت‬
‫_ نفذ ما أقول لك ول تجادل‪ .‬وأعطني الن مائة ريال‪.‬‬
‫_ لماذا ؟‬
‫_ ألم أقل لك ل تجادل؟‪ .‬أعطني النقود فقط!‪.‬‬
‫أعطاني الرجل النقود وهو مكفهر الوجه‪ ,‬وذهب بحال سبيله‪.‬‬

‫******‬
‫متلزمة كنفوشيوس‬

‫‪43‬‬
‫بالغد ذهبت إلى بيت دحيم‪ ,‬طرقت الباب ففتحت لي أمه‪ ,‬سألتها عن ابنها فأخبرتني أنه ملقى على‬
‫فراشة‪ ,‬وكأن روحة ستنزع‪ .‬قلت لبيه أنني سأذهب لتي بالطبيب تلعثم الرجل وقال أنه مرض‬
‫طع عروق السماء في يدي بدعائه‪.‬‬ ‫بسيط وسيشفى منه ولما أخبرته أن التكاليف على حسابي ق ّ‬
‫ل وذهب معي إلى بيت دحيم على أنه ) ممرض(‪ .‬دخلت على‬ ‫أعطيت أخي )عزوز( خمسين ريا ً‬
‫دحيم‪ ,‬وصبرته وذكرته بالجر والثواب‪ ,‬وبدأ "الطبيب" يجس النبض ويقيس الحرارة بل‬
‫أجهزة!‪ .‬كانت لغته النجليزية كفيلة بدحض كل شكوك أبا دحيم الذي ل يعرف منها إل ) ‪how‬‬
‫‪.(much ) ( I don’t have money‬‬

‫سألت الممرض‬
‫_ أخبرني‪ ,‬ما علة صاحبي ؟‬
‫رفع الملعون رأسه وقال‬
‫_ ل أستطيع أخبارك‪ ,‬إل إن أكملت رسوم الكشف‪.‬‬
‫ل المتبقية‪.‬بعد أن‬
‫كدت أن أخنقه إل أن خوفي على انهيار المخطط‪ ,‬جعلني أعطيه الخمسين ريا ً‬
‫ناولته النقود قال بطريقة مضحكة‪ ,‬ذكرتني بأسلوب الدجالين والمحتالين‬
‫_ أعوذ بال ! ل إله إل ال !‪.‬‬
‫قفز أبوه كالملدوغ وقال بخوف‬
‫_ ما به يا حكيم ؟ تكلم !‬
‫_ لم أَر في حياتي مرض مثل هذا ! هذا ما يسمونه في الغرب " ‪! "Confucius‬‬
‫قال أبوه بانفعال وحيرة‬
‫_ وما هذا "الكنكوش" ؟‬
‫ضحك عزوز مل شدقية‬
‫_ كنفوشيوس وليس )كنكوش(‪ .‬على العموم هذا ما يسميه الغرب أما نحن العرب العاربة فنسميه‬
‫)سيكولوجية التبلور البيولوجي(‪.‬‬
‫_ ما هذا ؟ تكلم العربية يا حمار !‬
‫أشرت إلى عزيز أن يكفي مبالغًة وأدخل بالموضوع‪ ,‬فقال بعد أن مرر وصف الشيخ له بالحمار‬
‫_ هذا ما نسميه )المس(‪.‬‬
‫قفز العجوز ممسكًا برقبة عزوز‬
‫_ هل تقول أن ابني مسكون بالجن ؟‪.‬‬
‫_ يا عم دعني قبل أن أموت بين يديك‪.‬‬
‫تركه العجوز وجلس وهو يلعن‪ .‬كان كل هذا يحدث وأنا أنظر للباب وأفكر بالهرب‪ .‬أخيرًا قال‬
‫أخي الذي يدعي أن )كنفوشيوس( الفيلسوف الصيني‪ ,‬مرض غريب ل يعرف الطب الغربي كيفية‬
‫الشفاء منه !‪.‬‬
‫_ أنا كمسلم يا عم أقول أن أبنك مسكون بالجن وليس مريض بمرض جسدي لنه كالعجل صحيح‬
‫معافى‪ ,‬وليس بمريض نفسي‪ ,‬لن البيئة هنا ل تنتج إل حمير تتحمل هموم الدنيا‪ .‬الشيء الوحيد‬
‫القادر على إعاقة ولدك هو الجن والعياذ بال من شرورهم‪.‬‬

‫ل وطلبت منه إحضار‬


‫بعد أن خرجنا من بيت دحيم‪ .‬تزلفت أخي حتى أعطاني عشرين ريا ً‬
‫خرطوم ماء‪ .‬وحين سألني عن السبب هززت حاجباي بطرب وتركته‪.‬‬

‫******‬
‫مبدأ وخرطوم وجني‬

‫قال عزوز وهو يدخل الخرطوم من الثقب‬

‫‪44‬‬
‫_ أظن أني جننت مثلك‪ .‬هل تعلم أن هذا العجوز النكد سيطبخنا )بيض عيون( لو كشف أمرنا‪.‬‬
‫تجاهلت تحذيراته التي تدور كلها حول إمكانية تحويل الطعام إلى عقاب وناديت دحيم بصوت‬
‫منخفض‬
‫_ أمسك طرف الخرطوم وضعه تحت سرير أبيك بسرعة‪.‬‬
‫تحرك بسرعة وعلمات التعجب ترقص فوق رأسه وضع الخرطوم وعاد إلى النافذة‬
‫_ ماذا أفعل الن ؟‬
‫_ أذهب وأكمل دورك‪ ,‬وبالغد ستسمع ما يبهجك‪.‬‬
‫نزلت بهدوء ووضعت حاوية القمامة التي صعدت عليها بمكانها الول وقفلت راجعًا أو ذاهبًا‪ ,‬ل‬
‫أعرف ما الذي قفلته حقيقًة‪ ,‬كل ما أعرفه أني قفلت فقط !‪.‬‬

‫فوق غرفة زيد كنت أعصر قرص الشمس بيدي فتنسكب الشعة على الرض‪ ,‬أصرخ بالرمل‬
‫)اشرب‪..‬اشرب(‪ .‬وحدتي تحميني من تهمة الجنون في هذه الثكنة التي تدعي المدنية‪ .‬قبل تلك‬
‫النظرة كنت أردد بغرور )الحب مؤامرة رأسمالية صنعها باعة الورود‪ .‬الحب اختراع اخترعته‬
‫المرأة لتقنع الرجل بالزواج‪ .‬الحب انبثاق جرثومي للحاجة البشرية(‪ .‬كم أنا مسكون بالكذب‬
‫والفراغ‪ .‬إن هذا القلب عاٍر ككثيب تكتسحه الرياح‪ ,‬هذا القلب معتم يجهل النور والظلم‪ .‬وكيف‬
‫يدري ما الظلم وهو لم يَر النور من قبل‪ ,‬من العجيب حقًا أن تثبت النقائض نفسها عن طريق‬
‫التناقض نفسه‪ .‬يقول أحدهم ) النور والظلم ل علقة لهما بالشمس‪ .‬النور كائن خرافي يستوطن‬
‫صدورنا كما نّدعي جميعًا‪ .‬والظلم ليس سوى المكان الذي يسكنه النور‪ ,‬إذًا النور بدون الظلم‬
‫كائن مشتت أو مشـّرد (‪ .‬كيف نسمي الكائن الخرافي "كائن" وهو الذي ل يهرم ول يشيخ ول‬
‫يهذي بآذان الُمـنكرين‪ .‬إن دللنا فنحن ندلل لنفسنا ‪,‬وإن لم نفعل فلن تنتفي الحقيقة‪ .‬تستطيع أن‬
‫تغمض عيناك وتدعي أن الوجود "ُيلمس" وما دونه أسطورة انتهت صلحيتها!‪ .‬ومع ذا لم‬
‫تستطع أن تنفي "اللملموس" فقط أنزلته إلى حد "الخرافة" وإن كانت تلك تحميها هالة قدسية‬
‫الجهل !‪ .‬وإن أدعينا استيطانه في صدورنا فنحن نسعى لثبات مدى رحابتها‪ ,‬و إل فما فائدة‬
‫إحاطة النور إن قصد منه النتشار؟‪.‬‬
‫ها أنا أهرب كفيلسوف جبان‪ ,‬خيروه بين شرب السم أو النفي‪ ,‬إل أني ل أنتظر قدوم السفينة مثل‬
‫سقراط!‪ .‬أنفوني إلى مكان أبعد مني‪ ,‬دعوني أرى نفسي من بعيد لستشعر مدى ضآلة النسان‬
‫بين هذه الخليا المتلحمة !‪.‬‬

‫_ أنت هنا ؟ هيا يا رجل تحرك!‪.‬‬


‫_ كم الساعة ؟‬
‫_ الواحدة والنصف‪.‬‬
‫_ يا ال‪ ,‬مضى الوقت بسرعة‪ .‬لم أتصور أني أحب نفسي لدرجة‪.‬‬

‫نزلت مع عزوز إلى الحي‪ ,‬وسرنا بحذر‪ .‬أخذ عزوز جولة حول البيت وأعطاني الضوء‬
‫الخضر‪ .‬صعدت فوق حاوية النفايات وأمسكت الخرطوم بيدي وتحدث من خلله‬
‫_ يا أبا دحيم انهض! انهض !‪.‬‬
‫كاد العجوز أن يلحس السقف بلسانه‪ .‬صرخ مذعورًا‬
‫_ بسم ال الرحمن الرحيم ‪..‬من أنت!‬
‫_ أنا "نقروش المستوي" جئت لقتلك!‬
‫_ خرفوش؟‬
‫_ نقروش يا حمار !‬
‫_ فنكوش؟‬
‫_ يا غبي نقروش !‬

‫‪45‬‬
‫_ سمعي ثقيل ‪ ,‬هل تقول )الي مامعوش ما يلزوموش(؟‬
‫_ أنا جني يا بغل ! ل يهم أسمي ‪,‬المهم أني جني أزرق!‬
‫_ أنت تغرق؟ كيف تغرق ونحن على اليابسة !‪.‬‬
‫)غلب حماري( ورميت بالخرطوم‪ .‬أخذ عزوز الخرطوم وقال بسرعة‬
‫_ أسكت يا متخلف!‬
‫_ ومن قال أني أسّلف؟‬
‫كنت واثقًا أن الخطة دمرت‪ .‬وما أن أدرت ظهري قاصدًا البيت حتى صرخ عزوز‬
‫_ سأسرق كل أموالك يا لعين!‬
‫_ رحم ال أمك وأباك الجنيين ل تقرب أموالي‪ ..‬أنت جني ماذا تريد بالمال ؟‪.‬‬
‫عليه ما يستحق‪ ,‬سمعه )اختياري( هذا الخرف‪ .‬أمسكت الخرطوم مرة أخرى وقلت‬
‫_ أسمع لقد سببت لي مشاكل كثيرة‪ ,‬وسأعاقبك بسرقة كل أموالك‪ ,‬ثم ما أدراك عن الجن حتى‬
‫تسألني ما الذي أريده بالمال!‪.‬‬
‫قال بيأس‬
‫_ أسرق جاري‪ ,‬عنده أموال هائلة‪ ,‬وهو مسرف ل يقدر قيمة المال‪.‬‬
‫_ ل أبدًا‪ ,‬سآخذ أموالك عقابًا لك يا مأفون!‪.‬‬
‫_ ولكني لم أخنق قطًا ولم أرفس بقرة‪..‬‬
‫_ هيه أنت! ما دخل القط والبقرة؟‬
‫_ يعني أني لم أؤذي جنًا متنكر بقط أو بقرة‪.‬‬
‫_ أنت المتنكر بصورة ثور يا عجوز السوء‪ .‬نحن جن أزرق ولسنا جن )بروليتاري( !‪.‬‬
‫قال نائحًا‬
‫_ لَم أنا بالذات ؟‬
‫_ اعلم يا أبخل أهل الرض أن بنتي )تفيده( هامت بحبك ابنك دحيم أيما هيام ‪ ,‬وإن لم تزوجه‬
‫بسرعة بفتاة إنسية ستظن ابنتي أن ولدك الحمق لم يتزوج إكراما لها‪.‬‬
‫_ يا سبحان ال‪ ,‬صحيح أن الحب أعمى‪ ,‬كيف تحب ابنتك هذا الجرب ؟‬
‫_ الحب أعور وليس أعمى‪ ,‬فلو كان أعمى لما شاهد أحدًا بالصل ليحبه‪.‬‬
‫_ ما شاء ال جني أزرق وفيلسوف !‬
‫سمعت صوتًا خلفي فاستدرت بسرعة‪ ,‬ولم أَر إل غبار عزوز‪ .‬نزلت مذعورًا فإذا العجوز خلفي‬
‫ممسكًا ببندقية صيد قديمة‬
‫_ جني أزرق يا حيوان!‪.‬‬
‫ألصقت ظهري على الجدار وقلت وقلبي يحاول الخرج من حلقي‪.‬‬
‫_ يا عم ل تقتل النفس التي حرم ال‪.‬‬
‫_ إل بالحق !‪.‬‬
‫_ رحم ال أباك آدم أطلقني لوجه ال‪..‬‬
‫_ لو أتت عفاريت الرض كلها ما أعطيتها غبار حذائي‪.‬‬
‫فجأة سمعنا صوتًا أشبه بحشرجة كهربائية‬
‫_ مت يا أبخل أهل الرض !‬
‫سقط العجوز مغشيًا عليه من شدة الذعر‪ ,‬أما أنا فرحت أسابق غبار عزوز‪.‬‬

‫******‬
‫تبعات‪..‬‬

‫ق على ظهري ألعب بقشة في فمي عندما سمعت صرخات دحيم الغاضبة تقرع طبلة‬‫كنت مستل ٍ‬
‫أذني التي أرسلت على الفور رسالة إلى عقلي مفادها " أهرب بسرعة!"‪ .‬نهضت بسرعة ضوئية‬

‫‪46‬‬
‫متجهًا إلى البيت‪ ,‬كانت الحجارة تمر بجانبي‪ ,‬بعد أن تفاديت أكثرها برشاقة مصدرها كيمياء‬
‫الجسد العزيز الذي أفرز الدرينالين بشكل هائل‪ ,‬أحسست بألم رهيب في رأسي سقطت على‬
‫ل الهروب مجددًا‬ ‫الرض ورحت أهرش رأسي‪ ,‬أخرجت أصابعي فلم أَر أي دماء‪ .‬نهضت محاو ً‬
‫إل أن دحيم مسكني بقوة‬
‫_ أبي بالمستشفى بسببك‪.‬‬
‫_ أذكر ال‪ ,‬يا رجل وال ما أردت إل الخير‪..‬‬
‫_ الخير؟! أيأتي منك الخير!‬
‫أنهال الرجل علي ضربًا‪ ,‬بعد دقائق أتي أحد أقربائه وراح يشاركه العزف‪ .‬بعد أن تركاني سرت‬
‫حتى وصلت بركة الماء غسلت وجهي وسقطت على الرض‪ .‬مرت الساعات وأنا بحالة تمنيتها‬
‫في أيام السجن )حالة تشبه النوم منزوعة الرؤى(‪ ,‬ليتني تمنيت شيئًا أفضل‪.‬‬
‫_ يا للهول ! من الذي فعل بك هذا ؟‬
‫فتحت عيناي بألم وقلت‬
‫_ أنت زيد ؟‬
‫_ نعم‬
‫_تعال ساعدني على النهوض‬
‫_ أتود الذهاب إلى البيت ؟‬
‫_ ل أريد الذهاب بهذه الحالة‪..‬‬
‫_حسنًا يا رجل تعال عندي‪.‬‬
‫ما أن رميت ظهري على الفراش حتى غرقت بالنوم‪ ,‬حلمت أحلمًا غريبة‪ ,‬ترتكز معظمها على‬
‫الضرب والحرب‪ .‬أنهضني صوت مرعب كالصوت الذي سمعته مع أبا دحيم ‪.‬‬
‫_ أعوذ بال !‪.‬‬
‫كاد أن يغشى على زيد من الضحك‪ ,‬أراني الجهاز الذي معه وأخذ يتحدث عنه بفخر‬
‫_ أنت من‪..‬‬
‫_ نعم أنا من قلت للعجوز أنه أبخل أهل الرض‪.‬‬
‫انفجرت غاضبًا وخنقته بقوة‪.‬‬
‫_ هل يضحك هذا‪ !..‬لقد أدخلتني بمصيبة يا لعين‪.‬‬
‫دفعني بقوة ونهض قائ ً‬
‫ل‬
‫_ كان الرجل يريد قتلك‪ .‬هل ظننت أنه يهددك فقط‪ ,‬كان يحسبك تعرف المكان الذي يخبئ به‬
‫ل ولدعى أنك لص‪ .‬أخبرني هل تتصور أن ابنه سيشهد ضده‬ ‫نقوده‪ .‬وال لو لم أتدخل لرداك قتي ً‬

‫هدئت نوبة غضبي وقلت بأسف‬


‫_ يكفي‪ ,‬أنت على صواب‪ ,‬هذا النجس كان سيقتني حقًا‪ ,‬ولكن أخبرني لَم ل أخرج من مشكلة إل‬
‫لدخل بأخرى ؟ إلى متى سأظل على هذه الحال ؟‪.‬‬
‫_ ل تتحدث هكذا يا رجل ‪ ,‬تذكر أنك إن انكسرت ستموت بحسرتك‪ .‬أشرب الشاي وأنسى‬
‫همومك‪.‬‬
‫مد لي الفنجان‪ ,‬وأنزل العود‪ ,‬أخذ يعزف مقطوعة )السلم( ل أعرف هل هذا هو اسمها الحقيقي أم‬
‫ل‪ .‬طلبت منه أن يعزف مقطوعة )أحلم زرياب( وكانت تلك معزوفتي المفضلة‪ .‬زرياب الحالم‬
‫والمظلوم والشارد‪ ,‬زرياب البيروقراطي‪ ,‬وزرياب البرجوازي‪ .‬كلهم زرياب واحد جحده التاريخ‬
‫المظلم والمنيـر !‪.‬‬

‫******‬
‫تدحرج‪...‬‬

‫‪47‬‬
‫مرت ثلثة أسابيع‪ .‬خرج أبو دحيم من المستشفى‪ .‬كان الحي كله تناقل القصة وتناقل أيضًا أنه‬
‫رفض تزويج أبنه‪ .‬بعد شهر من خروجه أتي دحيم ودعا محمد إلى عرسه على شرط أن ل آتي‬
‫معه‪ ,‬فليذهب إلى الجحيم هو وأتانه التي سيتزوجها وليصحب معه أباه إلى جهنم الحمراء‪.‬‬

‫كنت أتسكع في السوق يوم رأيت )مريم( بنت الجيران تخرج من بيتها‪ ,‬خفق قلبي بقوة ورحت‬
‫أتبعها من بعيد‪ .‬توقفت ونظرت لي على استحياء‪ .‬كدت أرقص فرحًا همست بحذر‬
‫_ صباح الخير‪.‬‬
‫أنزلت نقابها فحجبت عني عينيها الجميلتين‪ ,‬ومشت أمامي خجلة‪ ,‬سرت خلفها أردد الشعار‬
‫والغاني ) عيناك ليال وردية( )إن كان حبي جريمة فليشهد التاريخ أني مجرم(‪ .‬مع مرور اليام‬
‫والسابيع أصبحت تتفاعل معي‪ ,‬أكتب لها فترسل لي الرد‪ ,‬كانت أيامًا غبية وجميلة‪ .‬ل أعرف‬
‫كيف انفجرت باكية في ذات مساء‪ ,‬حاولت أن أعلم سبب بكائها‬
‫_ أخشى أن تخدعني يا إبراهيم‪.‬‬
‫_ يا بنت الناس‪ ,‬ما بيني وبينك إل الحلل‪ ,‬ويعلم ال أني أكن لك حبًا يعجز الشعراء عن وصفه‪.‬‬
‫أذكر أني أنشدت قصيدة نزار قباني وقلت لها أني كتبتها فيها‪ .‬أنا ل أجيد من الكذب إل ما أستطيع‬
‫أن أصف به الحقيقة‪ ,‬هكذا جبلت وهكذا أعيش‪ ,‬أتحدث عن فلسفتي في الحياة وأقول أنها من‬
‫مقولت أبي حيان التوحيدي أو من مقولت الفارابي الخالدة‪.‬‬
‫سألتني بغتة وبدون مقدمات‬
‫_ لَم لْم تطلب يدي إذًا؟‪.‬‬
‫اتكأت على الجدار ورحت أدعك جبهتي‪ .‬رأيت أن سكوتي يحزنها فقلت ببلدة‬
‫_ سأفعل‪!..‬‬
‫كنت واثقًا أني أهلها سيرفضوني‪ ,‬ول ألومهم‪ ,‬كيف سأعيل أبنتهم وأنا معدم ل أملك إل شهاداتي‬
‫البالية‪ .‬ودعتها بعبارات رقيقة‪ ,‬وتبسمت بوجهها وانصرفت‪.‬عدت أخيط طرق حي )الروغاني(‬
‫أهذي كالمحموم‪ .‬كيف فاتت هذه الحقيقة الُمّرة؟‪ ,‬أحدنا سيحزن كثيرًا ول بد أنها هي التي ستأخذ‬
‫النصيب الكبر من الحزن‪ ,‬الفتاة تعشق بسرعة‪ ,‬وتخلص بحبها حتى لو كان حبيبها ضفدع‪ .‬لم‬
‫أكن ألجئ للحب لقنعها بالزواج فلست أنا الوحش وليست هي الجميلة‪ .‬الحب هنا جريمة كأي‬
‫عاطفة نبيلة ل تستطيع الدفاع عن نفسها‪ .‬إنهم يقتلوننا ويقدموننا قرابين للمجتمع‪ .‬نحن الذين ولدنا‬
‫وذنبنا الوحيد أننا ولدنا !‪.‬‬

‫البؤس الذي يحيطني يثير فيني رغبة بالتقيؤ‪ ,‬عمالة يثرثرون بلغة ل أعرفها‪ .‬أولد حرام يبيعون‬
‫الحبوب للطفال‪ ,‬ذاك يمشي مترنحًا ل بد أن خرجًا مهزومًا من حرب غير منصفة‪ ,‬وهل في‬
‫الحرب أنصاف‪ ,‬إنها وسيلة للظلم أو وسيلة لزالته‪ ,‬حسنًا هذا يكفي أن يثبت أنها تنمو مع الظلم‬
‫أو ضده‪ .‬عدت ل أفهم ما أقول‪ ,‬إني أهذي كالمحموم‪ ..‬إني أهذي‪ .‬الصراصير حولي ل تكف عن‬
‫ل الذي تصدرينه(‪.‬‬ ‫العبث بسيقانها‪ .‬كم أود أن تفهم لغتي لقول لها فقط )هذا ليس صوتًا جمي ً‬
‫اللعنة إنها صراصير ما الذي تحاول أثباته‪ ,‬ل توجد صراصير ذكية وأخرى غبية‪ ,‬إنها‬
‫صراصير فقط‪ .‬إني أفند كلمي بنفسي‪ .‬وكأني مصدر كل شيء‪ .‬إني على حافة الجنون‪ ,‬أو على‬
‫حافة العقل‪ .‬إني أتأرجح على أرض تدعي الثبات‪.‬‬

‫عدت إلى البيت‪.‬عزوز كان يحاول تفكيك دراجته النارية التي اشتراها من )عباس البله(‬
‫تجاهلنا بعضنا‪ ,‬كان يحاول تفكيك دراجته‪ ,‬وأنا أحاول تركيب حياتي‪ .‬أمي تتبسم دائمًا بوجهي‬
‫مخفية حسرتها‪ ,‬كانت تعلم مثلي أني أفكر بأمور ل تحدث إل بمعجزة‪ ,‬ولكن يجب على الشخص‬
‫أن يتلقى الصدمة ليقتنع بأنه على قيد الحياة كما يقول فيلسوف نسيت أسمه‪ ,‬ها أنا أكذب من جديد‪,‬‬
‫لم يقلها فيلسوف ل أعرف أسمه بل أنا من صنعها الن‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫******‬
‫واقع‪ ..‬مزيٌد من الواقع‬

‫فتحت الموضوع مع أمي‪ .‬أيدتني أختي وقالت أن مريم فتاة لن أجد مثلها أبدًا‪ ,‬ل تعلم أنها زادت‬
‫حسرتي بحديثها‪ .‬أخي )سعدون( ذو العشر سنوات أو أكثر سخر مني مما جعلني أصفعة صفعة‬
‫أخوية ل تحمل الضغينة أبدًا‪ ,‬بالمساء ذهبت أمي ومعها جدتي التي ل تخرج من البيت إل لعرس‬
‫أو عزاء‪ .‬كنت أدخن الشيشة مع زيد فوق سطح غرفته‪ .‬شربت ثلث رؤوس ولم يخرج أهلي من‬
‫بيت الجيران‪ .‬سمع زيد نباح الكلب فنزل بسرعة‪ ,‬كان يعاني من هجمات الكلب على دجاجة‪.‬‬
‫الكلب مخلوق صريح‪ ,‬يبلغك أنه سيهجم على ممتلكاتك قبل أن يفعل‪ .‬كما يقول زيد ) أبشع موقف‬
‫للدجاجة أن تكون مع الكلب بنفس القفص ‪ ,‬وأبشع موقف للكلب أن يكون مع صاحب الدجاجة‬
‫بنفس القفص(‪ .‬بعد قليل عاد وهو يتغنى ‪:‬‬
‫دجاجتي فوق القمم ** تبيض أمامي بانتظام‬
‫دجاجتي مثل الصنم ** إذا غامر الكلب واقتحم‬
‫_ ومن أي البحور هذه يا زيد؟‬
‫حرك الجمر فوق رأس الشيشة وقال ساخرًا‬
‫_ من البحر الحمر‪.‬‬
‫استلقيت على ظهري ورحت أراقب النجوم‪ .‬هناك أسطورة شعبية تقول أن من يعد النجوم يصاب‬
‫)بالثالول( وهي حبه كبيرة مزعجة تخرج بأي مكان‪ .‬أخذ زيد يفرك بموجات الراديو ‪ .‬سمعنا‬
‫خبر اختطاف طائرة بتركيا‪ .‬سألني زيد‬
‫_ كيف يستطيعون اختطاف الطائرة ؟‬
‫_ هذا سهل‪ ,‬بعد أن تقلع الطائرة وتبتعد تكون صغيرة‪ ,‬فيمسك المختطف بالطائرة ويضعها في‬
‫جيبه‪ ,‬إنها مسألة بسيطة‪.‬‬
‫كنا نضحك بغباء فوق سطح الغرفة‪ .‬أخيرًا رأيت أهلي يخرجون من بيت الجيران‪ .‬انتعلت حذائي‬
‫وقفزت من سطح الغرفة‪ .‬سرت بسرعة حتى دخلت البيت وراء جدتي‪ .‬أمي تعد الشاي بصمت‪.‬‬
‫ل هذر جدتي‬ ‫وقفت أمامها متجاه ً‬
‫_ هاه‪ ..‬بشريني ؟‬
‫رفعت غطاء البريق وراحت ترمي النعناع‪ .‬نشفت يديها وقالت بهدوء مزعج‬
‫_ ابحث عن فتاة أخرى‪ ,‬الفتاة ليست من نصيبك‪.‬‬

‫جدتي تثرثر بصوت مخدوش‪ ,‬لم أفهم يومًا حديثها‪ .‬صرت أنقل وجهي بين أمي وجدتي‪ .‬إني ل‬
‫أعي شيئًا‪ .‬أدرت ظهري لهم‪ .‬توجهت صوب الباب وخرجت أسحب صدمتي‪ .‬قرأت على الجدار‬
‫بيتًا للشاعر )خالد العيدهي( ‪:‬‬
‫فلكم كتبتك في سطور أضالعي ** وغذيت هذا الحب من روحي أنا‬
‫رحت أكمل البيات‪ .‬أصرخ حينًا وحينًا أضحك‪ ,‬غير مبال بالعين الفضولية التي تلتهم جنوني‬
‫ولكم نـقـشـتك وردًة فـواحة ** ونـشـرت ألـوانـي عـليـك تـفـننًا‬
‫فلما أراهن في جواد خاسر ** وأصب أحلمي بأكواب الضنى‬
‫خطي على هدب العيون ُكليمًة ** الحب يا حسناُء لم يخلق لنا !‬ ‫ُ‬

‫******‬
‫إذا ركلك الجميع فاعلم أنك بالمقدمة‬

‫‪49‬‬
‫أربعة أيام لم أَر مريم فيها‪ .‬كنت أصادف أباها أحيانًا فأصد بوجهي عنه أو أهرب بسرعة‪ ,‬أمسك‬
‫بيدي بعد صلة الفجر قال لي وهو يضغط على يدي بحرارة‬
‫_ أتمنى أل أراك أمام البيت مرة ثانية‪ ,‬نحن جيران ول أود أن تحدث بيننا مشاكل‪.‬‬
‫اختنقت بخجلي و بعبرتي وهززت رأسي‪ .‬بعد أن مرت ثلثة أسابيع رتبت أمور زواج مريم‬
‫بسرعة مع قريب لها من مدينة )الدمام(‪ .‬كنت وحيدًا أشرب الكيف بشراهة‪ .‬محمد يقول لي دائمًا‬
‫_ أن ظللت على هذه الحال‪ ,‬ستكون مشروع عربيد‪.‬‬
‫ل مشروع )العربدة( هذا‬‫ل يوجد إنسان فاشل‪ ,‬لو أختار كل شخص مشروعة بدقة لنجح‪ .‬مث ً‬
‫مشروع ل يفشل أبدًا وهو أكثر متعة من مشاريع الحب الغبية‪.‬‬

‫كنت أسير متخبطًا وشياطين الجن كلها متحلقة حولي يزفونني إلى جحيم الدنيا فأركل كل ما‬
‫أره‪.‬مر أحدهم وضرب كتفي بقوة ‪ ,‬رفعت رأسي وإذا به دحيم ذاك الملعون‪ .‬قال بتعجرف‬
‫_ هل تريد أن أشبعك ضربًا من جديد ؟ ‪.‬‬
‫همس الشيطان بأذني ) إن لم تطحن عظامه‪ ,‬سأطحن عظامك(‪ .‬رفسته بقوة على فرجة‪ ,‬فسقط‬
‫على ركبتيه صارخًا‪ .‬أخذت عصًا غليظ ورحت أضربه بوحشية على رأسه‪ .‬أنفجر الدم من وجهه‬
‫ورأسه وسقط على جنبه وهو يئن‪ .‬ركلت ظهره وتركته على الرض‪ .‬عدت للبيت لنام‪ .‬كنت قد‬
‫قررت الذهاب إلى مكتب العمل بالغد‪ .‬صحوت على أصوات غاضبة‪ ,‬كانت الساعة تشير إلى‬
‫الثامنة والنصف‪ .‬أتى أخي وقال أن عائلة دحيم مجتمعون عند الباب‪ .‬وقفت وأخرجت البندقية‪.‬‬
‫فجأة خرجت أمي أمامي وأقسمت أنها لن ترضى عني أبدًا أن أنا خرجت بالبندقية‪ .‬دخلت أحد‬
‫الغرف وأتت بسرعة ومعها عباءة جدتي‪.‬‬
‫_ اخرج من نافذة المطبخ وأرتدي العباءة‪.‬‬
‫لبست العباءة وتشبثت بإطار النافذة ‪ .‬قبل أن أخرج سمعت أمي تقول‬
‫_ أذهب‪ ..‬أذهب‪ .‬ل تعد إلى هنا مرة ثانية !‪.‬‬
‫قفزت بسرعة وأصلحت حال العباءة‪ .‬سرت حتى وصلت إلى طريق البيت الجانبي‪ .‬رأيت حشودًا‬
‫هائلة تهتف بوحشية أمام البيت‪ .‬بدأت الشرطة تتوافد على المكان‪ .‬كنت ألتفت بحذر وأنظر إليهم‪.‬‬
‫فجأة اصطدمت بأحدهم وأنا ملتفت للخلف‪ .‬تأسف مني بأدب بالغ‪ .‬هززت برأسي كما تفعل النساء‬
‫ل حتى صرخ‬ ‫وما أن ابتعدت قلي ً‬
‫_ هيه هذا أنت ! إنه هنا تعالوا بسرعة‪.‬‬
‫أخذت حجرًا كبيرًا وضربت به رأس المنادي‪ ,‬ولكن بل فائدة فالحشد الغاضب كان قد سمع هتافه‪.‬‬
‫رحت أجري بسرعة‪ .‬حاولت أن أرمي العباءة وما استطعت‪ .‬لم أشعر بنفسي إل وقد دخلت‬
‫المسجد‪ .‬وأهل دحيم من خلفي يركضون‪ .‬وطأت يد المام وهو ساجد‪ .‬تأوه بقوة وقفز‪ .‬تنبه‬
‫المأمومون ورفعوا رؤوسهم ‪ .‬صرخ المام بغضب‬
‫_ أمسكوها ! أو أمسكوه ! بسرعة!‪.‬‬
‫خرجوا كلهم خلفي عجائز وشباب وأطفال‪ .‬كانت الحجارة تنهال علي من كل حدب وصوب‪.‬‬
‫أقسمت لنفسي أني لن أقف حتى لو سقط علي القمر نفسه‪ .‬منظر مرعب خلفي‪ ,‬نصف المدينة‬
‫تلحقني‪ .‬في آخر الشارع رأيت موكبًا يتقدم ببطء‪ .‬إنه يوم زواج مريم ! وهذا زوجها‪ .‬أرتعب‬
‫الموكب وظنوا أننا أتينا لنهاجمهم‪ .‬اخترقتهم بشكل غريب و تابعت الجري‪ .‬هرب موكب العرس‬
‫من أهل دحيم وجماعة المسجد وصاروا يركضون خلفي‪ .‬يا للهول إن المدينة كلها تلحقني الن!‪.‬‬
‫رأيت من بعيد الخياط )ديقال( يغلق دكانه ودراجته النارية تعمل‪ .‬وصلت إلى الدراجة وقفزت‬
‫عليها بسرعة‪ .‬خرج الخياط مذعورًا ونادى رفاقه‪ ,‬وهجموا بسرعة‪ ,‬فضغطت على دواسة‬
‫السرعة و ابتعدت عنهم‪ .‬رحت أضغط على دواسة السرعة بذعر‪ .‬بعد أن وصلت الطريق‬
‫المرتفع‪ .‬أوقفت الدراجة ونظرت للمشهد الفريد بالسفل‪ .‬كل هؤلء تجمعهم رغبة واحدة هي‬
‫تمزيقي !‪ .‬نزلت من الدراجة وصرخت بقوة‬
‫_ سأزوركم في كوابيسكم يا ملعيني العزاء‬

‫‪50‬‬
‫كانت أصواتهم تصل إلي مشوشة‪ ,‬كان أحدهم يقول‬
‫_ ستنزل عليك صاعقة من السماء يا زنديق !‪.‬‬
‫عندما أحسست باقترابهم ركبت الدراجة وسرت بسرعة حتى صرت خارج المدينة‪ .‬سأكون قصة‬
‫تلوكها اللسن لسنين طويلة‪ .‬يقول أحد الحكماء)هناك شيء أسوء من أن يتحدث الناس عنك‪ ,‬وهو‬
‫أن ل يتحدث الناس عنك(‪ ,‬نعم ل كرامة لنبي في وطنه‪ ,‬ول كرامة للصعلوك في أي مكان‪.‬‬

‫******‬

‫******‬
‫طعم مر يستوطنني‪ ,‬استشعر نفسي فأمتعض‬
‫العكاز هنا مرمي‪ ,‬بين أضلعي‪..‬‬
‫اتكئ على نبضي فأنهض‬
‫أترفع‪..‬‬
‫حتى أرى نفسي من بعيد‬
‫ثم أهوي‪..‬‬
‫وأهلك‪..‬‬

‫‪51‬‬
‫هل أعي تواتر لحظاتي‬
‫أم أجحد هزل الثواني‪..‬‬
‫فل تعلم الساعة أنها أربع وعشرون ساعة!‬
‫أسرق نفسي‪..‬‬
‫فأعاقَــب‬
‫فتسرقني نفسي‪..‬‬
‫لُتـعاقب‬
‫إنّـا هنا مجموعة كلهم "أنا"‬
‫إل نفسي‪!..‬‬
‫‪.‬‬
‫أقسم أني لن أهذي‪..‬‬
‫حتى لو قالت قارئة الفنجان ‪:‬‬
‫)مفقوٌد‪ ..‬مفقود(‬
‫لن أتحدث أبدًا عن نفسي‪..‬‬
‫فأنا نفسي أجهل نفسي !‬
‫هذي غيبة‪..‬‬
‫وأنا أغبى من أن أغتاب‪..‬‬

‫******‬

‫تـــــــــــــمـــــــــــــــــــــت‬

‫‪52‬‬

You might also like