Professional Documents
Culture Documents
تأليف
إبراهيم عبد ال الزنيدي
الهداء
إلى النصف الخر النقي والطاهر
الذي علمني أن الكتابة ليست محاولة طيران بقدر ماهي محاولة هبوط
وأن الحياة ليست رحلة بحث بقدر ماهي رحلة إدراك
1
..
إلى النصف الذي مل روحي بالسلم وقلبي بالبهجة
إلى مكمن البذل وينبوع النسانية..
2
7177/1426هـ ديوي 813.039531
3
ي في عقل أكثر الناس حكمًة وذكاءن غب ٌ
هناك دائمًا رك ٌ
ــ أرسطو ــ
4
ضربني أحدهم على رأسي ,أعترف بأني قصير ولكن ليس للحد الذي يجعل من رأسي مطّية
للذرع المتعبة.ما أبشع هذا الزحام ,إني أتنفس العرق ! وأتصور أن ثاني أكسيد الكربون هذا
سيقتل أحوج الشجار للبناء الضوئي.
_ هيه أنت ..أل يكفيك أني أعاني كلما نظرت إلى وجهك.
ي وهو يزبد ,وهذه المرة شاهدته بكامل دمامته :نظر إل ّ
_ أسمع يا قزم ,إن لم تصمت خنقتك " سهوًا" !.
إني استشعر الخيبة كلما حاولت الدخول في شجار ,ولكن سرعان ما أتذكر هذه المقولة العميقة
) لو أراد ال أن نتقاتل لخلق لنا أنياب ومخالب(.
لعل من مميزات الدول العربية وجود الطوابير في كل مكان وما يميز هذه الطوابير أيضًا أنها
بيئة مناسبة جدًا لظهور الغرائز الوحشية التي حاول الزمن أن يمحوها من البشر ,الحمد ل نحن
العرب لنا فضل على علم النفس وحتى على علم المستحثات.
_ أين أنت يا جان جاك روسو ؟
ل أعلم كيف خرجت هذه الصرخة من فمي ,من المؤكد أن أحدهم سيظن بأني كنت اشتمه ,لكم
أتمنى أن يكون ذاك الغاضب بعيدًا .أخيرًا وصلت إلى الشباك العزيز وجلست أحملق بأسنان
الموظف الصفراء لكم أود أن أقبله بين عينيه المحولتين.
_ ألم تَر موظفًا من قبل !
1
_ يا أخي رأيت ,ولكني لم أره من قرب ,كنت أتصور بأنكم أسطورة شعبية مثل" حمار القايلة" .
_ حمار بعينك يا أصلع !.
لكم أكره أن أنعت بالصلع ,حقًا ما أبشع الحقيقة عندما ل تكون إلى جانبك .قلت له بعد أن ابتعدت
عن الشباك
_ من الجميل يا أخي أن نفتتح حوارنا بهذه العبارات البناءة..
قاطعني بعد أن خلع غترته وأخذ يضرب الشباك بعصبية :
_ يا غباء الدنيا كلها أعطني الفاتورة واذهب إلى الجحيم !
كنت أود أن اثبت له بأني إنسان متعاون جدًا ول أقبل أن اتهم بالغباء ,إل أن السادة خلفي أصبحوا
يتحدثون عن جدي التاسع _ ول أظن أنهم يدعون له_.
بعد أن خرجت من البنك سمعت صوتًا أعرفه يهمس بأذني بخبث :
_ ها يا إبراهيم الن ل تستطيع الهرب ,رأيتك بأم عيني وأنت تخرج من البنك.
هناك شيئان هم سبب علقتي )بغزلن( وهما مركزيان بعنف ؛ الول أنه يطلبني نقودًا أستلفتها
منه قبل حرب أكتوبر ,والثاني أني منذ "حرب أكتوبر" وأنا أتهرب منه !
_ يا غزلن يا صديقي الجميل دعني أشرح لك المر ,لو رأيتني أدخل البنك فما المر الذي
ستستنتجه ؟
_ بما أنك تكره النقود وهي تكرهك سأستنتج أنك كنت تسدد فاتورة.
_ إذًا وبما أني "خارج" البنك ؟
_ أنك سددت الفاتورة ؟
_ ل يا ذكي ,يعني أن النقود "بح" ذهبت حيث ألقت أم قشعم رحلها
ل أشر ! قبل شهر قلت لي بأنك ستسدد دينك إن انتظرتك حتى تخرج من البنك, _ يا لك من محتا ٍ
ولم تخرج أبدًا أيها الملعون!..
_ ل يا غزلن قبل شهر كانت وجهتنا شرق مما يعني أنك كنت تسمعني بأذنك اليمنى ,والن
تسمعني باليسرى ,لذا أختلط المر عليك ,صدقني هذه أمور علمية ل تقبل التكذيب !
5
_ أعلم بأنك تخدعني ,ولكن ل يهم بعد شهر سأجلب معي أولدي الثلثة وسأضع كل واحٍد منهم
في جهة.
******
في الشقة
6
عندما عدت تجاهلت باقي الحوار ,فمهما قاومت لن أستطيع مجاراة شخصين محلقين بسبب
صنف مضروب ! الفضل أن أفتح المذياع لمل وأنام بسرعة..
******
بديهيات غبية
دائمًا ما أبحث عن طريقة جديدة لبداية اليوم ,أظن أني مللت من النهوض صباحًا .سرعان ما
تتبخر تمرداتي الصغيرة مع ارتشافي لكوب الشاي المتطرف بسواده..
_ هل استيقظت ؟
من المربك أن تتشرب البديهيات الغبية مع كوب شاي معتق ,بعض السئلة إن لم نجب عليها
نفينا حقيقة تسكعنا على خط الزمن هذا !
_ يا زيد اتفق معك أن البعض يسير وهو نائم ,ولكن هل رأيت شخصًا يشرب الشاي وهو نائم ؟
نعم أنا على "قيد النهوض"
_ أف ,أنت تتحدث بالمقلوب مثل الفلسفة ! .اسمع سنذهب اليوم إلى )القصيم( ,أخبرني إن كنت
تود الذهاب معنا.
_ بالتأكيد سأذهب معكم فأنا الوحيد الذي يمتلك سيارة.
قد أتفق مع نفسي أن أقوى دافع بالمسير في طريق الغربة هو الفضول ,أما دوافع العودة فتتسربل
بهدوئها .أمران إن سيطرا قمعا أي محاولة للتعبير) الخوف و الشوق(.ل أتمنى لي حبيب أن
يخاف من شوقه وأتمنى للبقية غير المحايدة أن يشتاقوا لخوفهم !
_ إذًا سنعود.
كيف تختزل هذه الوجوه الكم الهائل من الحزن ببسمة ؟ كم نطق الفلسفة "إذًا" ليربطوا
الشطحات بالحقائق ,وما كانت قاسية مثل ذكرها لتجرع الواقع !
_ يا صاحبي ل مكان لنا هنا ,هذه مدينة الحديد والنار ندخلها فاتحين ونهرب منها دراويش.
لن أنسى تلك الغنية التي هربت مع زفرته المنكسرة:
) دراويش ..دراويش ...يا خّيي بنعيش (
الشعب العربي فريد جدًا من نوعه ,فهو قادر على تلحين قرقرة البطن الخاوية .دائمًا ما أحاول
التحدث عن الشعب العربي بوصفه )كلمة شعرية( ولكن أخاف أن يأتي أحد الفحول ويجزم الكلمة
فتزداد "الجزمات" فوق رؤوسنا !
******
هزائم صغيرة
7
قال وهو يحرك يده بعصبية:
ل غبائك ,أل تعلم أن هذه البناية تتنفس "الكيف" ؟ لذا لن أخسر الكثير أن فارقتموني.
_ يا ِ
تابع سيره وهو يتمتم :
_ أحدنا كان متشائمًا في هذا الحوار.
أطلت النظر إليه ,كنت أحاول حفظ صورته .شيءٌ ما يشعرني بأنه دليل يسير على قدميه.هذا
القسم من البشر يختفي تحت تفاصيل الحياة العائمة .ليته سمعني عندما قلت ) أينما نظرت ستجد
شيئًا يستحق النظر(
..حقًا إنه أسرع عجوز رأيته في حياتي.
******
قهوة البستان
في قهوة "البستان" كل شيء مبرر ما عدا اسم القهوة نفسها ! ,هنا تولد الحياة فوق رأس الشيشة
وتتصاعد دخانًا لترسم الطلسم .باعة الساعات لهم قصة مضحكة ,إذا عرضت عليك ساعة
باهظة قل للبائع )ل أريد ساعة أعطني خمس دقائق فقط( حينها سيبتسم بوجهك ويخرج لك
المصائب السوداء من كل مكان .ذات مرة قلت لحدهم ) أعطني الزمن كله( فتركني بغضب
وهو يكيل اللعنات لي ولينشتاين! .ولكن ما فائدة هذا كله إذا كان نصف الباعة من المباحث
والنصف الخر متعاون مع المباحث!.
عجيب أمر هذا الشيخ الشامي ,يفترش الرض كل مساء وينادي على بضاعته القديمة ,وبعد أن
ت له :
ت أمام بسطته وقل ُيمل يذهب بسرعة ليدخن "الرقيله" مع أصحابه .توقف ُ
_ هل كسرت قوانين الطبيعة وبعت شيئًا من بضاعتك ؟
رفع حاجبه اليسر وجحظت عينه فجأة:
_ أملك الكثير وأبيع القليل ,وأتمنى من أعماق قلبي أن أحصل على ما أريد لرميه بأقرب سلة
مهملت !.
فهمت ما يرمي إليه هذا الخرف ولكني رددت عليه ببرود:
_ لذا أرى الكلب تصاحبك ,عّلها أوهمت بأن الرزق صادفك !.
ابتعدت عنه بسرعة لعود إلى مكاني فالمشاكل هي آخر ما أبحث عنه في هذا المكان .أخيرًا أتي
"أبو عرب" مترنحًا بمشيته وكأنه يلقط الفجل من الرض ,كنت أظن فيما مضى بأنه من
أصحاب "الشمغ الوردية" حتى تبين لي أنه من أصحاب الدخل "المخنوق".
حياني بابتسامة وادعة وقال:
_ ها يا إبراهيم ..أرى في وجهك عبوسًا يزيد من دمامتك.
خلع غترته ووضعها فوق المسند ,كنت أعيد السؤال للمرة اللف في سّري ) كيف سأطلب نقودي
ت غترته وهززتها مثل مصارعي الثيران ,استلقى على ظهره ضاحكًا من هذا المعدم؟ ( .رفع ُ
وأخذ يضرب الرض بقدميه,لم أستطع مشاركته بالضحك لني قمت بهذا العمل بدون وعي.
_ آه يا إبراهيم ,ما خلعت الغترة إل لثبت لك أني بل قرنين.
_ وأنا ل أبحث عن الثور؛ بل أبحث عن دافع المصارع.
_ فيما مضى كنت مصارعًا أبحث عن فتاة جميلة ,والحمد ل وجدت واحده وتزوجتها.
_ أما أنا فأبحث عن نقودي لتزوج بدوري فتاة جميلة.
ل تصنع الجدية ,وكأنه ل يعلم أني أرى ضحكته السمجة تتسرب من فمه: قال محاو ً
_ يا أبا خليل أترك نقودك معي ,أنت ل تدري عن نوائب الدهر وكما قال المثل
) خبئ القرش البيض لليوم السود( هل تريد أن أحكي لك حكاية الذبابات الثلثة والضفدع ؟
_ أبو عرب يا عدو نفسك كفاك تشويهًا للرث الثقافي العالمي .دعني من ذباباتك الن ,أعطني
نقودي عليك ما تستحق فبالغد سأسافر..
8
وضع يده على كتفي وأخذ ينظر لي بتعجب .أخرجت بصعوبة سيجارة وصرت أشربها بشره.
قال وهو يحرك فنجانه بعبث:
_ ..سترجع إلى )عنيزة( ؟
_ نعم سأفعل ,فقد أصبح بقائي بل مبرر.
_ يا أحمق أل تعلم أنهم هناك يتوارثون الوظائف والحقد والفضول وحتى تسوس السنان !أل
تعلم أنهم مازالوا يقدسون الضغينة ,حتى الن ينظرون للشخص الذي يجاهر بحبه لمدينة )بريدة(
على أنه خائن ,والعكس يحدث أيضًا!..
_ ل تخبرني عن هذا ,فأنا من ولد هناك.
_ هل تبحث عن الرزق ؟
_ ومن منا ل يفعل يا أبو عرب ,توقف رجاءً عن طرح السئلة المجوفة !
_ سبحان ال كيف تفكر بالرجوع إذًا إن كنت تبحث عن الرزق !
مد لي فنجان القهوة وصمت .لم أشرب القهوة فقط ظللت أحدق في الفنجان.شيئًا فشيئًا اكتملت
دائرة علمات الستفاهم وصارت ترقص رقصة "التانجو" فوق صلعتي .كنت أريد أن أقول له
بأني مشتت وحائر كقاع الفنجان الذي ل يدري كيف تقّمص السطح لونه؟ لو كنت أملك شيئًا من
ل) لست قاعًا ..إني السطح الخير فقط! (.. الشجاعة لصرخت قائ ً
تحدثت بمرح لخرج من دائرة التساؤلت الجبانة:
_ هل تعرف كيف يسترد الفلسفة ديونهم ؟.
رد والدخان يتصاعد من فمه :
_ الفلسفة ل يقرضون المعدمين يا صديقي..
أردف بسرعة مقاطعًا نفسه:
_ تذكرت,هناك من طلب مني أن أبحث له عن كاتب .بما أنك مدمن ثرثرة لَم ل تذهب إليه؟
أخرج من محفظته ورقة صغيرة ,بعد أن نظر إليها قص جزءًا صغيرًا منها وناولي باقي الورقة.
أخذت الورقة وقرأت ما كتب عليها بصوت مرتفع
_حي السفارات ,أبو الوليد.45 ,
رفعت رأسي وسألت أبا عرب
_ من يكون أبو الوليد هذا وكأني سمعت باسمه من قبل ؟
_ يا إبراهيم هناك جانب مشرق في حياتي ,وهو أني ل أراك كل يوم ! .كيف سأعلم إن كنت
سمعت أو لم تسمع به من قبل ؟ على العموم أذهب إلى هناك وستجد الرزق إن شاء ال.
خرجت من المقهى وفي رأسي مليين السئلة وإجابة واحدة بمليون صيغة .سرت حتى وصلت
إلى )الشقة( .أخذت أغراضي وأخبرت صاحباي بأني لن أذهب معهم ,ودعتهم ببرود وغادرت
بسرعة .كتبت على باب العمارة بقطعة فحم وجدتها على الرض )سيذهبون إلى ديارهم وسأبقى
هنا كالوتد ..أنبش الزمن لدعي النتماء..رحم ال الديار ,تدعونا كالسراب لنشرب نخب الخيبة
على طول الطريق..وإن وصلنا ..تداركنا بعد الصحوة أننا كنا سكارى ..نهذي عن الديار (
******
آمال وآلم
في الحياء الفقيرة تهضم الرياض جنونها ,وتثمل صعودًا إلى أعلى الطبقات ..لم أكن وحيدًا من
قبل كما الن ,ولم أشتق للمذياع مثل هذا الشوق ..لو عاد بي الزمن ما سخرت من سيمفونية
بيتهوفن الربعين وما كرهت بيروقراطية نشرة الخبار! ,ولستمعت إلى الحكم "المدجنة" كما
لم أسمعها من قبل ,ولكن الزمن ل يعود ول نحن نبقى وكأن الزمن لم يبارحنا.ل شيء يستحق
أن أكرمه بوصف الن ,إنه اعتقاد يسري بالدم ويسامر الشيطان نفسه ,إن هذه الحياة أشبه
9
ص ل يرتدي قميص مقّلم ,أو وردة حمراء تباع بسعر مضاعف في العياد بوصف سريالي لل ٍ
الوثنية ..إني ل أعلم كيف نستطيع تجرع مرارات البقاء على نفس اليقاع البائس ؟ ول أدري
لي شيء نتمرد ؟ ول لمن نرسم عبارات اللقاء على الكفوف الشاحبة ..إنه اعتقاد ينضح بالكذب
ويدعي الصلبة في نفسي المتأرجحة..
_ نعم ؟
قالها أنف كبير خرج من الباب !
_ أتيت عن طريق "أبو عرب" قال أنكم تبحثون عن كاتب.
نظر إلي باشمئزاز وقال :
_ نحن نبحث عن كاتب ,ل عن آلة كاتبة.
قلت بعد أن بلعت وصفه الوقح:
_ يا ) شيء ( أظن بأنك تنظر إلى المرآة!..
قال بعد أن رجع إلى الوراء ليفسح الطريق لي
_ أدخل يا عربيد.
سمعته يقول بصوت منخفض ) يبدو أن هواية سيدي جمع أنصاف البشر (.غضبت وأنساني
الغضب أن السلوب السلمي هو المبرر العقلني لعدم انقراض مخلوق مثل القرش المفلطح!.
ضربت كتفه بقوة وبعد أن استدار وواجهني سددت لكمة محكمة على أنفه وقلت وأنا أفكر
بالهرب:
_ قد أكون من أنصاف البشر كما تقول ,ولكني على القل النصف العلى منه !
إن صرخاته الوحشية جعلت عقلي يسترجع جميع الحوادث المرعبة التي مررت بها في حياتي,
كنت أتمنى أن ما حدث ليس إل كابوس غير مؤمن بيقظتي..أين كيمياء الجسد اللعينة عندما
نحتاجها ,أين هذا الدرينالين ؟
مازالت قبضته تقترب وعيناي تكبران القبضة بشكل مأساوي مريب ,قبل أن تصل قبضته إلى
مجال اللم صرخت :
_ اللعنه على كل شيء !
ما أن انتشرت لعناتي المتألمة في فضاء البيت ,أتى شخص _أظن بأنه مهم_ بعد سماع
ل ولكنه سرعان ما دفع الخادم بقوة وأمره أن "يختفي"الصرخات الوحشية ,وأربكه المنظر قلي ً
ول أعلم ما معنى أن تأمر خادمًا بالختفاء ؟ إنه لمن الغباء أن أستحلب عقلي المتشبث بجمجمتي
المترنحة لجيب عن هذا السؤال !
_ هل أصبت يا سيد..
نظرت إليه وقلت بثقة اليائس
_ نعم ,أصبت في كرامتي !
ل من النقودربت على كتفي وساعدني على النهوض ,كنت أتصور بأنه سيضع في يدي قلي ً
ويأمرني بالرحيل ,لذا جهزت خطبة طويلة عن فلسفة "الكتفاء الذاتي" إل أنه أمسك بيدي وسار
بي حتى توقف أمام دورة المياه .بعد أن غسلت وجهي وتأملت بجغرافية الحداث الجديدة
المسيطرة على جبهتي ,تركت الحرية لنيوتن أن يختار أي كرسي أرتمي عليه ,قال لي "الُمهم"
وهو يضحك:
_ هذا اللئيم ضربك بشدة ,إنه يتصرف مع الجميع بهذه الطريقة فهو يخاف أن يخسر ثقله هنا.
_ أتصور أن ثقله سيكون سببًا لغرقه.
10
أشعل سيجارة طويلة وقال وهو ينظر إلى علبة السيجار :
_ هذا كوبي ,وهو أنقى من الكسجين في مستشفياتكم.
قلت لتأكد أنه بالمجان :
_ ل يرد الكريم إل اللئيم ,أي أن الخادم لن يدخن معنا.
تبسم وقال بسرعة :
_ أخبرني الن ,من أنت وماذا تريد ولَم تشاجرت مع الخادم؟.
بعد أن قصصت له ما حدث _بوجهة نظري طبعًا_ ضحك وأعجبه ردي على الخادم
الجحش.أخرج من الدرج ورقة طويلة وطلب مني أن أوقع عليها ,وعندما سألته أخبرني بأنه عقد
عمل .ما أن بدأت بقراءة العقد حتى قال لي بملل:
_ بحق ال إنه عقد وليس وثيقة استسلم ,وقـّـع!.
وضعت الورقة على المكتب وقلت بتردد :
_ ولكن لم تخبرني عن المرتب ,ولم تخبرني عن طبيعة عملي؟
_ سأعطيك ثلثة آلف ريال ,وعملك بسيط ,فكل ما عليك القيام به هو كتابة مواضيع معينه
بأسلوب وطريقة معينة.
وافقت على الفور ,لم أصدق في البداية أني حصلت على عمل بهذه السرعة ,كنت قبل هذا اليوم
ألّون السماء في ُمـقل "المهمين" لحصل على مقابلة عمل فقط ,والن أتشاجر مع خدمهم وأشرب
من سجائرهم وأعمل عندهم بنفس اليوم .يا للهول أي مؤامرة يدسها اللم بين لفائف السكون..؟
******
الحياة ل تشترى ول تباع ..إنها تستهلك فقط !
اليوم انتقلت إلى غرفة صغيرة ل تبعد كثيرًا عن مقر عملي .بعد مفاوضات منهكة اتفقت مع
صاحب العمارة على مبلغ خمسة آلف ريال بالسنة ,أعطيته ستمائة ريال لسّد بها فمه ووعدته
بإكمال باقي المبلغ فيما بعد .اشتريت أدوات مطبخ وفراش ومذياع من النوع الرخيص وخمس
علب سجائر وزعتها صدقة على روح أول هندي أحمر أقنع البشرية بأن التبغ يحرق ل يمضغ!.
بعد أن مر السبوع الول حتى تعرفت على جاري "ريان" .وهو رياضي البنية وبوادر الصلع
بادية عليه ,لذا أجده دائمًا ما يرجع شعره إلى الوراء بحذر .يقول أنه كان لعبًا مغمورًا في نادي
"الوحدة" بمكة المكرمة ,إل أنه أصيب بركبته فقام النادي بتصفيته .أذكر أنه أعطاني رقم أحد
أقربائه وطلب مني أن أتصل به إن أتته "النوبة" ,لم أسأله عن نوعية النوبة التي تصيبه خوفًا من
11
إحراجه .في نفس اليوم وبعد الساعة الثانية صباحًا أدركت أن نوبته هي "ذبحه قلبيه"! .ولن
قريبه لم يبالي بمكالمتي وأغلق السماعة بعد أن أمطرني باللعنات ,فقد نقلته إلى المستشفى بنفسي.
كنت أزوره يوميًا بعد انتهاء عملي .في أول المر لقيت معارضة شديدة من الممرضين لن
ل أحد يهتم به سواي ,لذا
وقت الزيارة ينتهي بعد الساعة التاسعة مساًء ,ولكن مع الوقت أدركوا أ ّ
سمحوا لي بزيارته متى رغبت على شرط أن أوقع على أوراق أقر بها أني المسئول عنه في حال
عجز عن اتخاذ القرار بنفسه كأن يصاب بغيبوبة,أو في حالة الوفاة.
بعد أيام قليلة أتى أحد أقاربه وأخرجه من المستشفى ,ولم أره بعدها..
ولكني أعلم إلى أين ذهب..
******
) طز (!!..
كنت أكتب ضدهم ,فأصبحت أنا "ُهم".أي سخرية أقسى من هذه السخرية ؟ .في كل حرف أتجرع
مرارات الخيبة ,وألمس انكسار الروح".هو" المشهور ,وأنا المطموس .تبًا لتلك القناعات وتلك
المبادئ التي هربت مع أول انتفاضة ,وكأنها مستعمر مذعور .لقد تورطت بين هذه الخليا التي
ي وكأني مخبر لذاك الهارب! .أنا العدو الول داخل "النا" ,وأنا الخائن الذي سيحكم تنظر إل ّ
عليه بالموت كل يوم.كل ما أحتاج إليه هو مبرر واحد لصفع به قانون الرزق القاسي ,وأعود
إلى رفيق دربي الفقر.حتى )غزلن( ذاك الطيب ل يلحقني الن ,ل يضرب كتفي ,ل يقتحم عيني
كالفزاعة.جلب المسكين معه أولده يخاف أن أخدعه ,وحين تبسمت بوجهه وأعطيته نقوده ذهب
ى لصرخة أخرس.. محتارًا يحدث الناس عن َدينه القديم ,وأولده من خلفه يتبعونه وكأنهم صد ً
انتهت حقبة الكفاح المسلح ,وتركتني مرميًا بين القناعات الصدئة !.
12
_ يا عيني على موضوعك .أمجنون أنت ؟ تنتقد فكرة السياحة الداخلية في المدن الصغيرة ,ول
تكتفي بهذا فقط بل تصفها ) بأفيون الريفيين(! كنت أشك أنك من أصحاب "المد الخضر" والن
تأكدت.
رمقته بنظرة ل مبالية وعدت أكتب من جديد ,قال مهددًا:
_ أتعلم أن موضوعك وصل "إليه" وهو مستاء جدًا.
_ طز !..الن أبتعد عني يا هاتف العملة.
أحمرت عيناه وأخذ يسب ويشتم:
_ هذا الـ "طز" ستدفع ثمنها! ..
ل كل ما يراه إلى فوضى .تذكرت مقولة البابليين أثناء ترتيبي خرج من المكتب كالزوبعة محي ً
للمكتب ) من الفوضى صنع مردوخ النظام ( .سأكون )مردوخ( هذه الغرفة وسأصنع شيئًا
متواضع أسميه النظام.
******
تجليات هاربة
هناك حيث الشفق يبعث على الكآبة تذكرت تلك الوقفة الطائشة ,مشهد اعتيادي بلحظة تجلي,
حشرة كبيرة تترنح ومن حولها كم هائل من النمل .أبعدت العاطفة التي توهم النسان بالبراءة
وأخذت أنظر إلى المور بمنظار العقل والحتمالت ,تساءلت:
ماذا لو تركت الخنفساء تلقى مصيرها المحتوم ؟ لن يتغير شيء ,سيرجع النمل إلى بيته أو
سيذهب للبحث في مكان آخر ,إذًا سأنقذ تلك "الخنفساء" بالفعل رفعتها ووضعتها في مكان آمن.
بعد فتره وجدت النمل قد اجتمع من جديد وهذه المرة على حشرة أخرى! .هنا كففت عن العبث,
وتركت الرادة تعمل سلحها الفتاك .إن الكثرية كالنمل والقلية هي )الشيء الخر المتخلف(
وذاك المختلف طاقة تغيير والبقية طاقة حفظ وجدت لتدميره ,مثل هذه الوقفات تجعلني أتندم على
أيام قضيتها في معاقرة قناعتي القديمة بأن النسان عقله! .إن المجتمع ناتج حتمي لبؤسنا الفردي.
إن النسان خارج البعد اليماني عبارة عن معادلة كيميائية معقدة ,وكل ما يحدث له ليس إل
نتيجة فرعية لهذه المعادلة .الحب والبغض ,الصدق والكذب ,النفاق والخلص ,كل هذا أصبح
داخل جدول العناصر الكيميائية! .إن هذا الفكر "اللإيماني" فرض العلم كدافع عقلني لممارسة
الحياة.نعم من السخف أن أرفضه وأنا بوهيمي ركله الواقع بين طرفي الزمن.إني أقول هذا لني
أعلم أنه لم يعد للنسان قيمة مستقلة بل أصبح عبارة عن مجموعة مصالح تتجاذبها الطراف
التي تستطيع تحريك نوازع الحاجة والجشع فيه! .من ل ينظر الن إلى النسان على أنه عميل
متوقع أو قدرة شرائية محتملة؟! .لقد أصبح المجتمع البشري أكبر مستهلك للنسان نفسه .وأصبح
ي الميزانية هرطقة أو طرفة يثرثر بها ذات
الشيء الذي ل يقاس بشكل نقدي ول يؤثر على طرف ّ
ي بغرابة وصدمة كما نظر أجدادنا الفاتحون إلى
ملل .مثل هذه الفكار تجعل البعض ينظر إل ّ
الوثنيين وهم يرقصون بوحشية أمام تماثيلهم!..
إن النسان ذكي لدرجة أنه يستطيع خداع نفسه ..وغبي لدرجة أنه يستطيع خداع نفسه!..
13
******
الرهاصات المنبثقة من كلمة ) طز (
بعد أن قتلني الجوع ,تراءت لي ل شعوريًا صورة مجنون الحارة )أقى ريال( .وهي صورة
موغلة في الِقدم.ما فعلت اليام يا ترى بذاك العزيز؟ أمازال ينادي بين أزقة حي "الزهرة" في
عنيزة )أقى ريال( ؟ أتذكر يوم سألت أحد الصبية عن معنى كلمة )أقى( أخبرني أنها تعني
ل لنه كان يمزقه من شدة الفرحة ,أما الغربان الصغيرة فكانت )أعطني( ,لم أَر أحدًا يعطيه ريا ً
تسير خلفه لتجمع أشلء الريال وإن لم تجد شيء رمته بالحجارة.
هاهي السنين مرت ,ووزع الكائن الكبر العطايا لوحداته ,تاركًا من تمرد بالفطرة على خط
محايٍد في الزمن ,حاضٌر فقط ول شيء آخر .حتى الغربان كبرت وأعطت مهمة اللحاق لبنائها
"المتطورين" .أما ذاك العزيز يكرر النداء ,مسكين هو ل يعلم أن الريال ل يشترى به )رأس
غليص( لن تلك الحلوى انقرضت ولن الريال ل يؤهل حتى لدخول "البقاله".
على ضوء هذه الشطحات أثمل بحيرتي من جديد؛ إذا كان المجتمع كائن حي له مدخلته
ومخرجاته سيكون الفرد خلية ذات إرادة مقننه ,والعقل في تلك الخلية هو جهاز أجير للكائن
الكبر.إني أتساءل بمرارة ,أما آن الوان لنقف احترامًا للجنون ؟
ل من أنلقد تطرف ذاك الكبير وأراد قرابينه أن تكون "الوعي" ,إنه يحمي نفسه من مكوناته ,بد ً
يعلن إفلسه أعلن حربه ,وكما في كل جسم جهاز مناعة مخلص وبليد لديه هو جهاز مرعب يقتل
نفسه إذا رأى منها ما يريبه ,المر أختلف الن ..أصبح البقاء من أجل البقاء فقط .نعم الحياة فيها
كل شيء بنسب بخيلة ,ولكن ليس للعدم أي لذة!..
إني أبحث عمن يقتله ليموت معه ..أبحث عمن يمنعه من السقوط كما فعل شمشون..
أبحث عمن يقارن هذا الصلع الفلسفي بتسريحات المدن الفاضلة.!..
14
******
صفر في الخانة الخاطئة
كانت جدتي تقول ) الحياة مثل قدر الجيران ,ل تعلم أبدًا ما بداخله( .مسكينة هي جدتي ل تعلم أن
الجيران ل يطبخون ,ومسكين أنا إذ استذكرت هذه "المقولة".
_ أين كنت يا أخي ؟ ل تقل بأنك نسيت أصحابك بعد أن اغتنيت.
هنا في قهوة البستان _من جديد_ ل أسّند قناعاتي على بوابة القهوة "لعّمر" بل آتي بحثاً عن
النجدة ,أبو عرب هو جني البريق ,أعترف بأنه معدم كما أعترف بأنه الجني الوحيد الذي أطلبه
نقودًا ,ولكنه ِقسم علقات عامة متنقل.
_ أي غنى وأي بطيخ ! كشفني جهاز المناعة يا رجل.
_ مع أن البطيخ فاكهه لذيذة إل أن ذكرها هنا غير "لذيذ" ,أعلم أنك كومة فشل تلبس الثياب,
ل تخبرني ..أعلم بأنك طردت.
_ بل قل ما أكلت منذ المس ,يا صديقي أعطني نقودي و إل طبختك "شوربة معدم" !.
هاهو يعيد رسم ذاك التعبير السمج على وجهه ,ويخلع غترته
_ الحمد ل على كل حال ,أصلع وقصير و آكل لحوم بشر ,يا للهول !
قبل رأسي وضحك وهو يقول :
_ حسنًا ل تغضب ,قم يا رجل فالغداء على حسابي.
_ يا صاحبي هل تعلم أن النبعاج المتدلي من مساحات الشبع يجعلنا نتجاوز كينونة الجوع بشكل
ديناميكي؟.
كشر بوجهه فقلت وأنا أهرش رأسي:
_ ماذا أفعل إني جائع !
لحظات صمت وتأمل في الخيبة الموضوعة على الصحن المتسخ ,ل شيء أفضل من التركيز في
العدم المنبثق من قلب الشعور المتخم بالجوع..
إن هذا الفم برأس أبو عرب الكبير يتحرك من جديد لينفي حالة السكون ,إنه يحمل قوانين الطبيعة
مال تستطيع أن تتحمله ,ول يجيد رسمه إل الظلل )خط ومن ثم دائرة عظيمة تجسد الرأس(
وعندما يحرك رأسه تشعر أن هناك شيء صغير بداخل جمجمته الكبيرة يحاول الخروج .إن
الطفال يحبونه ؛ فهو اللعبة المجانية.قلت له مرة) إني أشبهك بالمشط .فأنت تذكرني بالماضي
الجميل والواقع المحبط (.
_ ها ..أما قلت لك أنه أفضل مطعم بالرياض ؟
_ نعم بالتأكيد والدليل أسمه الراقي ) ,افرحي يا كرشتي( ! هذا شطر من أحد قصائد أشعب
وليس أسم مطعم!..
_ وال لو وضعت خفة عقلك بقدمك لسبقت الرانب والغزلن .ل تكن سطحي ألست فيلسوف
عصرك ,انظر إلى العمق.
ل(.
_ تقول الحكمة ) إذا أردت أن تصل إلى العمق ,عليك المرور بالسطح أو ً
فجأة وضع يده على فمي وأشار ناحية مدخل المطعم.
_ انظر إلى مدخل المطعم !.
التفتت ,فشاهدت أربعة عساكر أحدهم يشير إلي ,ومن خلفهم ظهر وجه ذاك الجحش )جوهر(,
بدأت ألتهم الطعام بسرعة لذهب معهم وأنا شبع على القل ,رق قلب أحد العسكر وأمر أصحابه
أن ينتظروا بالخارج ,بعد أن غسلت يدي صافحت صديقي وقلت بتصنع
_ اسمع إن طال غيابي ,أسس بمالي منظمة تهتم بالفلسفة وضع جائزة سنوية أسمها " جائزة
الصلع الفلسفي".
_ عليك ..أَو تعلم ل أريد أن أزيد اللعنات فوقك ,كيف تضحك خاضعًا..؟!
15
_ إني أطيع الواقع ولست أخضع له ,لجعل منه حتميًا وأبديًا ..إن كل شيء مؤقت يا صديقي
بعد أن ركبت قال أبو عرب قبل أن يغلق العسكر باب السيارة
_ إنك خاضع لستبداد صنيعك بنفسك يا صديقي..
أقسم بأني رأيت المشهد هذا من قبل .بدأت أشك أن بالمر ما يريب بحق.فعندما يتكرر المشهد
تعلم أن بالمر خلل أو شيء لبد من رؤيته بشيء من التركيز ,ولكن عندما يتكرر المشهد ول
ترى ما يريب ,يكون هذا مريبًا بحد ذاته !.
******
******
للحظة مجنونة ..أقطف فتيل شمعي ..
لبتاع ثمن اللمبالة
ولنفس اللحظة أبعثر سنين الصبر وشهور الجلد..
16
لشعاع نور صافي وبليد
يسمح لعيني أن تتسكع بالمعلوم..
لشعور متمرد يأمر القلب بالخفقان لجل قلب آخر!..
لتقويم ممل..
لدقات رتيبة..
لبرهة صمت كاذبة..
اســـــــأل :
من يبالي وقد أصبحت اليام ترتجل؟
ل أحد أيها السديم ل أحد
ومن أنت أيها السديم حتى تستشار !
ومن أنا حتى أخالف المستشار
قلتها من قبل..
ل أحد يبالي ل أحد..
عصيان..
فتجبر..
فنفي خارج المسار..
طاعة..
فسكون..
فتكريس ليأس النتحار..
فجأة ..صرخة تكسر هيمنة الفراغ!..
قم يا مخرف ل انسجام..
ل تحقق النتصارات في المنام !
اركض من جديد..
ل تفكر بالوصول..
فالمر ل يتجاوز اللتفاف..
ضع رحالك في أحد النقاط المتطرفة
وقل "أنا المركز الجديد للدائرة "
وإن خالفوك فأمر بتوسيع الدائرة !
هاهو المنادي يجدد العتب..
يأمر بالنهوض ..
ويلوح بالدافع والسبب..
والمر كله محض خدعة..
كمن يقول "حلمت أني أحلم"
فليته حلم..
ليته فعل..
ليته صمت!..
******
17
الدنيا ملى بما يكفي حاجاتنا ,ل بما يكفي جشعنا
ــ غاندي ــ
كنت جالسًا هنا في أقصى أقاصي الـ "هناك" ,أخط على الجدار عبارة ل ُتقرأ ) :حيث مروج
العتمة وأهازيج التعب ,رأيت السجن أقسى ما قد يعاش .يضعك وجهًا لوجه مع نفسك ,كلكما
يتصنع الصلبة فل يهرب أحدكما من قسوة الخر(.
18
أريد صنع مدخل يحملني إلى الخارج ,لرى همومًا أقل بشاعة من هموم رجل بل انتماء وانتماء
ل لخسارة.إنه ل ,إما مضيعًا لمكسب أو مزي ً
بل رجل .إني السيد )صفر( المركول إلى الحياة متعاد ً
ل أشدجهد مكّلف وغير أخلقي بذله أحدهم ليقنعني بالجهد الخر .بعد أن أترتمي على متعاد ٍ
مغرمًا مني يهمس أول حكيم عاطل في أذني ) لست محورًا لي شيء ,كما أنك لست ذاك
صاعد من أعماق بشريته ( .إنه حكيم جائر ,وعاطل ,وعهر الفقر ينضح من عينيه ,إنه المختار ال ّ
حكيم آخر يشارك المجانين طهارة الغايات .أما أنا الساكن بأغنية لم يعجب بها سواي لن أتذكر أّيا
من هذا .إل إن فوجئت بوقٍع كهذا ,حينها سأعلم أن أسوء عمل قمت به هو تكرار تقّمصي!.
إن الجزاء الوحيدة المتشبثة بالوجوه المنكرة ,والشياء التي لم تصنع لتعمل ,وجرع اللم اليومية
المحمولة بأيدي الصدقاء ,والناشرون زوالهم بالمصافحات؛ إحداثيات تشير إلى مسقط رأسي,
تشير إلى المكبرات الصارخة بوجه الدنيا والمستفز للرعب الساكن في كل ذرة في هذا المحيط
المنهك ! .ضجيج ,ونعاس ممزوج بالرق ,وأحقاد مدسوسة في عبارات التهنئة .ل أحاول
ل )أنا( وأنهم هم الرعشة
تصديق واقعي أو تكذيبه ,بل أجاريهم بخبث لدعي أمامهم بأنني فع ً
ل ذاك المرتعد بين بقع الوعي ,لعلي ذاك المنتمي
الولى والخيرة التي أهدتني الحياة! .لعلي فع ً
لليقظات النزقات ,والحلم المهداة إلى الساهرين والراحلين والحباب الذين أمتدحهم أحد الغرباء
أمامي ذات صدفة.
عندما ل تبدأ الحداث بالكينونات الجديدة سأكذب كما لم أعهد نفسي من قبل .وسأعترف بأن
الزمن المصلوب على التقاويم المهملة لم يكن يحاول تمجيد قيمتي البشرية ,وأن الصداقات
المحمولة على ظهر الريح ذهبت مع عوائلها المضيفة وتركتي أعاني فوعة عدميتي .إن بادئات
الجمل تخّون براءتي وتتركني أهيم بليلي كما لم يهم أي منبوذ آثر التوحد بزفراته .عندما تقمع
نوبة السعال ضحكاتي الشامتة سأهرب إلى مواسم الضجيج لتشارك مع النمل البطولت
ل الراضي المتموجة المجهرية ,وسأرفع عقيرتي بالغناء وبالصراخ وبالسماء المشوهة.راك ً
تحتي ,ومتعلقًا بالسماوات الباكية فوقي ,لردد بصوت مخدوش )ما أنا إل حزيمة ضوء حدثت
عن طريق الصدفة ..إني الضوء المسجون في هذا العالم العمى( !.في يدي التي ل تحوي إل
خمس إشارات للخر الغائب ,دعوات سرية مرسلة كل مساء .طوابير من اللصوص يحاولون
البكاء بين دعواتي ,ويتوبون كل صباح داعين لبطاقات الثبوتية المرمية في المزابل أن تجد
طريق الذاكرة.
مازلت أفكر بالشياء المتحركة ,كصعود الروح إلى رئتي والبرد المصاحب لفكرة الهرب مع
الزفير.حينها أصرخ ) فليسقط المشرط ..والعروق الصارخة بحمرة الدم .(..وأعلن مع التعساء
المتسلقون أكوام القش؛ أن العلماء هم الشخصيات الهامشية المتوالدة في الروايات
الرخيصة.وأعلن أني الصيغة المبررة التي تبنتها بطاقة اللغة ,وأنهم المجاز الوحيد الذي "عقلن"
وجوده ,وأن الصمت الممتهن بين أيدي الكتاب هو المحرض على المجازر الزرقاء ,وأن
النظرات المقتولة بالجفان ستنجب أشباحًا ل تعلق إل في رؤوس الوفياء! .حينها سيقول آخر
المبالين ) :إن الكذب المفلول أمامي هو الحقيقة النهائية التي فضحها سردك(.ول أدري كيف
ينسى هذا المبالي بأنه هو "الكذبة" التي حاولت تصديقها!..
******
ذمم بعنق الزجاجة..
19
_ هل تريد محاميًا..؟
أنهى الضابط سؤاله وجلس خلف مكتبه.
_ محامي؟ وما حاجتي به !.
تجاهل تعليقي وقال بطريقة آلية
_ هل تعترف بأنك سرقت البيت الكائن في حي السفارات ؟
كلما نطق بكلمة ) سرقت ( شعرت بروحي وهي تحاول الخروج من جسدي .رفعت رأسي
ل وأجبت بهدوء وسحبت نفسًا طوي ً
_ بالطبع ل.
ل بأن هذه صوري أثناء دخولي للمنزل بين أخرج بعض الصور ورماها على سطح المكتب ,قائ ً
الساعة الثانية والثالثة مساًء ,ضحكت بعصبية وقلت وأنا أتحسس ثوبي بل مبرر
_ هل تؤمن بوجود لصوص يسرقون البيوت في الظهيرة؟!.
ترك القلم يسقط من يده وأرجعك ظهره إلى الوراء.
_ نحن هنا ل نتهم بما نؤمن به ,بل نهتم بما نستطيع إثباته!.
ل واحد يثبت أني سرقت شيئًا منه؟
ل على دخولي للمنزل ولكنكم ل تملكون دلي ً _ أنتم تملكون دلي ً
قبل أن يرد قلت بسرعة
_ إني اعمل في هذا المنزل وعندي عقد عمل يؤكد كلمي.
_ أين العقد؟.
_ معهم..
ل لكنت تحمل نسخة منه.
_ إنهم ينكرون وجود العقد بالساس ,ولو كان لهذا العقد وجود فع ً
هنا أدركت مدى غبائي ,وتصورت إن قصة الخادم الوقح والموافقة الفورية على الوظيفة ليست
إل خدعة كي ل أقرأ العقد أو أطالبهم بنسخة منه.
ل .لم أكن أفكر بشيء محدد ,كنت أتصور نفسي سجينًا ومرة أتخيل بأني قابع في صمت طوي ً
الحجز أنتظر أن يحكم القاضي في قضيتي ,ومرة أستشعر حالة المرارة التي سأعيشها إن حكم
ي بالسجن .نظرت إلى عيني المحقق وقلت بيأس عل ّ
_ إن كان إثباتك هو الذي يصنع إيمانك ,فإن إيماني هو من ينصع ثوابتي.
قبل أن يقاطعني قلت بلكنة آمرة ل أدري كيف بعثت الطاقة فيها
20
_ أريدك أن تقسم بال العلي العظيم ,أن كل ما قلته لي صحيحًا.
ارتسمت على وجهه علمات الرعب والدهشة ,فلفظ الجللة الذي خرج من فم مظلوم جعله يفكر
مليون مرة قبل أن ينبس ببنت شفة .رفع سبابته وأقسم بال أن ما ذكره لي صحيح .فما كان مني
إل أن سحبت الورقة وكتبت عليها اعترافي .بعد هذا لم أستطع النظر إلى عينيه لنه الشاهد
الوحيد على خيانتي لنفسي .عندما شاهد العرق يتصبب مني بغزارة أمر أحد العسكر أن يجلب لي
كأس ماء وقال بصوت منخفض
_ لن تجلس في السجن إل ستة أشهر ,وإن كنت ذو سيرة طيبة وسلوك حسن فستخرج بعد قضاء
ثلثة أشهر فقط.
هززت رأسي وصرت أمسح الندى المحيط بكأس الماء شاهرًا أمامه جميع وساوسي القهرية.
قال بعد أن يأس من أمكانية حديثي
_ صدقني إن كنت بريئًا فلن يضيع حقك عند الذي ل ينسى ول يهمل سبحانه ,ولقد أحسنت عم ً
ل
إذ تقبلت المر بعقلنية ولم تطلب محاميًا ,فأن تخرج من السجن ومعك قليل من النقود أفضل من
أن تخرج منه ومعك براءة غير معترف بها وفاتورة باهظة
******
أكاذيب ملّونة
أراهن بكل أموالي التي أعطيتها لبو عرب أن الخوان هنا ل يقرؤون أشعار عمر أبو ريشة,
ول يحبون أبن خلدون ومقدمته _هذا إن سمعوا به_ وإني على قناعة ل تقبل التشكيك أنهم لم
يحملوا هم معرفة هذا الكون مثل حي بن يقظان.
بعد أن جلست القرفصاء تنقلت بين وجوههم باحثًا عن وجه يستطيع المرء أن يشاهد مثله في
المكتبة أو البقالة حتى .وقبل أن تحول فرضية أنهم ولدوا بالسجن إلى نظرية ,توقفت أمام وجٍه
لطالما تعجبت من قسماته المتنافرة .تقدمت نحوه وقلت مندهشًا
_ منصور؟
_ منْ ) ..بِرْم ( ؟
_ ليتك تكرمت بنطق بقية أحرفي.
تجاهل ملحظتي واحتضنني بقوة ,وكلما ضربت ظهره مطالبًا بحقي الشرعي بالتنفس عصرني
أكثر ظنًا منه أني أزيد حرارة اللقاء.
_ وربي يا أصلع إن لك شوق ل ينتهي ,الحمد ل أنك هنا.
أجبته ممتعضًا
_ نعم الحمد ل على كل حال ,أخبرني كيف وصلت هذا المكان؟
بعد أن جلسنا أخبرني بأنه كان يرعى صالة قمار مذهلة ,تحوي بين جدرانها على عجائب الدنيا
العشر مما اضطرني أن أصحح له المعلومة ,بأنها سبع واحدة منها مفقودة وواحدة أبعد ما تكون
عن "الُعجبة" لذا أحتل هتلر فرنسا لينظر لها عن قرب.
ل يبوح به لحد ,وبعد أن أقسم عندما سألني عن جنايتي قلت له بأني سأروي سرًا خطيرًا ويجب أ ّ
بأنه بئر ل قرار له ,تابعت سردي :
_ هناك إشاعة مفادها أن بهذا السجن ثلثة أشخاص من أكبر مهربي الكحول وأنا يا منصور
مكلف من جهات عليا بالبحث عنهم وتقصي أخبارهم ,ولم أجد أفضل من هذه الوسيلة لجمع بها
المـعـلومات .حرك يده بطريقة غريبة طالبًا مني القتراب ,وحين فعلت ألصق فمه بأني وقال بعد
أن أستوعب أنفي المأساة المتجسدة باقترابه مني قبل أن تدرك هذا أذناي
_ يا صاحبي لي طلب بسيط أرجو أن تحققه لي.
21
ل يهمس بأذني مرة ثانية ,لن المر محرج بحق ولن رائحة فمه دافع كوني للنتحار, أمرته أ ّ
لف( يّدعي زورًا وبهتانًا بأنه من كبار
بعد أن سألته عن طلبه أخبرني بأن صاحبه المدعو )ش ّ
ل آخذ بكلمه على محمل الجد ,طمأنته المهربين وهو في الحقيقة صعلوك حشيش ,لذا يتمنى أ ّ
وأنا لص الظهيرة الذي نسي أن يقول بعد خروجه من مغارة الربعين حرامي )أغلق يا سمسم(!.
لف وسلم علي بحرارة وأعطاني سيجارة منظرها ل يوحي بالمان السيكولوجي بعد فتره أتي ش ّ
ول البيولوجي حتى ! .حينها علمت بأن كذبتي انتشرت كالوباء في الزنزانة ,وحين بدأت فرحتي
تتغلب على شعور التورط شربت السيجارة وكتبت على الجدار ) لننا قزمنا القمم تسلقنا بالحبال
القصيرة ( لمحو القناعة المغروسة منذ الولدة؛ بأن حبل الكذب قصير وبأن نهاية الكذب كنهاية
عِقدت لتتشبث بأي حقيقة "ناتئة" على الطرف الخر من الحبل )فارغة( إل من عقدة كبيرةُ ,
السطح!.
******
ذبابة الفجر
في هذا المساء _الذي ل أراه_ عاتبت القمر وجمعًا غفيرًا من النجوم ,بكوا فوق صلعتي
وناشدوني أن أصعد ,وكلما فعلت أرتطم رأسي بالسقف وسقطت فوق السرير .أقسم القمر من
خلف القضبان أنه ل يخرج للعشاق بل يخرج باحثًا كل ليلة عن شخص تلتمع البقع الجرداء
برأسه فرحًا بقدومه ,إنه يبحث عني وأنا محبوس هنا مع جرذان ترتدي الثياب!.
بعد أن ترنمت بجميع قصائد صاحبي المأفون )محمد( بدأت أولف المقاطع الموسيقية ,متوهمًا بأن
المساجين يطلقون هذه اللعنات الِعذاب على من لوعني بالحب وجعلني أرتل البكاء .انتبهت على
صوت زميلي المناضل منصور
_ برم..؟ أما قلت لك بأن دمك )نظيف( وهذا الكيف ثقيل جدًا
_ دمي نظيف ! إن دمي ملوث بالذكريات المبتورة .أرجوك أبتعد عن مداراتي وخذ معك أنفك
المائل يا صديقي.
_ لك ما تريد يا رجل ..لك ما تريد.
وقفت على السرير وقلت بعد أن ضربت الجدار بحذائي عدة مرات
_ عليكم ما تستحقون يا حثالة المجتمع أهذه أسماء ؟ كل أسمائكم عبارة عن أدوات مطبخ؛ نجر,
محماس ,خنجر) ,كوسا محشية( !.
_ برم ,ل وجود لشخص أسمه ) كوسا محشية (
بالغد نهضت مترنمًا بقصيدة أحمد مطر ول أعلم إن كنت أغنيها بالمنام:
كلب والينا المعظم
22
عظني اليوم ومات
فدعاني حارس المن لعدم
عندما اثبت تقرير الوفاة
أن كلب السيد الوالي تسمم!
ضحك منصور وناولني فنجان الشاي ,وقال وهو يدعك رأسي المتورم
_ إنهم يسمونك )ذبابة الفجر( ,لنك تنهض مغنيًا.
_ قل لهم بأني أسميهم صراصير الظهيرة !
_ دعك من هذا الن ,أترى ذاك الشخص؟
أشار بيده إلى رجل طويل وسمين يجلس في زاوية الزنزانة وحوله كم ل بأس من "الصراصير"
أخبرني منصور أن هذا )محسن( أو سمكة ,وعندما أخبرني بلقبه ,ضحكت حتى أن منصور
صدم بأسناني التي تنتظر أي حجة لتسقط ,سمكة ؟ بَم كان يفكر من أطلق عليه هذا اللقب ؟ إنه
حوت ! .صدق صاحبي السماء هنا ل تهم ,أرمها بأقرب سلة مهملت وإذا صادفت أحدهم أنبش
بالقمامة لتخرج له لقبه أو أسمه .تابع منصور حديثه عن سمكة ,أخبرني أنه الذراع اليمن "لبي
الهول " ,حين سألته عن )أبي الهول( هذا بدأ يتحدث بحذر إل أن كلماتي المطمئنة شجعته على
ل ما يشاهده المساجين ,إلل يحيط نفسه بالغموض ,وقلي ً السترسال .أخبرني بأن أبى الهول رج ٌ
أنهم يفكرون به عشرات المرات في اليوم الواحد ,وحين يذكر أسم )سرحان( يظهر البعد
الستراتيجي لبي الهول .فهما الندان الوحيدان في السجن ,أما الوباش المحايدين فهم أشبه
بتجسيد طفولي للعبة ) المقص والحجر والورقة ( .حين هممت بالنهوض أمسك منصور بيدي
لف" على قمة الحياد رافعين ثيابهم القذرة متعرين من أي خبث. وأقسم بأنه وصاحبه البله "ش ّ
أما أنا فأقسمت لنفسي أني لن أتوقف حتى أكون كاليد المتقلبة بين الضداد.
******
الرفيق سمكة
خوفي يبقيني يقظًا الدهر كله ,أغار ممن يحلم فأصنع لي حلمًا لعيش به لذة النوم ول أستيقظ
أبدًا ,حينهًا ل أعلم أين تكمن فائدة اليقظة إن بددتها بأحلمها!.مازلت أجهل سبب وصولي لهذا
المكان .هل زورت الماضي وصدقت ما أردت تصديقه ,أم أني ضحية مؤامرة أعجز عن إقناع
نفسي بها؟ بدأت أشك بأني عضو سري في تنظيم ) لصوص الظهيرة (! .عندما أتلمس غبائي
أدرك شيئًا من إنسانيتي ,وحين أشاهد الشياطين الهائمة بل قرون ,أدرك أن الحقيقة أشبه بوصف
أدبي مبتذل للوجوه الدميمة المنسية في المرآة .سأتأبط شجاعتي لعبر عباب واقعي المنبثق من
خيال الخرين.
أشعلت سيجارة وأسندت ظهري على الجدار وقلت بصوت منخفض :
_ سمعت يا سمكة بأنك تعلم الكثير.
استدار الرجال حتى واجهني ,هم بالحديث إل أنه صمت وتقدم إلي بخطى واثقة
_ تعال إلى النور لراك جيدًا.
اعتدلت بوقفتي لتقدم بهدوء ,ما تصورت أن الرجل ضخم بهذه الدرجة.
_ آه ..أنت )برم( النزيل الجديد سمعت أن الشاعات تدور حولك.
اللعنة على منصور أبدل إبراهيم بـ"برم" ,لبد أنه نشر الخبر في كل مكان ,أظن أن كذبتي
أعطت مفعولها المطلوب.
_ دعك مما سمعت أخبرني عما تعلم !.
23
تحدث بأسلوب وقح ,وصمت لرى تبعات وقاحتي
_ أظن أني سأضربك حتى تكره عظامك يا ملعون !
_ أفعل ما تريد ولكن أعلم أن كلمة واحدة مني ,ستجعلك ترى الشمس تشرق من ثقوب صدرك !.
بهت الرجل ورجع إلى الوراء بسرعة ,كدت أن أنفجر ضاحكًا إل أني ألجمت نفسي قصرًا
وسكت ,اعتمرت شجاعتي المزيفة وجلست بجواره ,أشعلت سيجارة وناولتها له ,أخذها الرجل
على الفور وكأنه توقع أني سأقدمها له ,بعد أن انتصفت سيجارته نهض ونظر إلى آخر الزقاق
وعاد بسرعة وأتوقع أنه ذهب ليتأكد إن كان أحدًا يراقبه ,بعد أن جلس قل لي أنه مسجون منذ
خمس سنوات وحين سألته عن الفترة المتبقية له قال بنبرة ساخرة
_ الكثير..
تابعنا الثرثرة ,كنت أتصنع الخبث وكان يتصنع البراءة ,وكلنا لم يتقن دوره ,بعد أن توقف عن
الثرثرة فاجأته بسؤالي عن أبي الهول ,لمعت عيناه وأبتسم بانتصار وكأنه كان ينتظر هذا السؤال,
هنا تصورت أن أمري قد كشف وبدأت أتأمل برقم قابع بعد مئات الصفار والذي يرمز لنسبة
تغلبي عليه إن دخلت معه بشجار
_ أتود لقاءه؟
صدمت بسؤاله ,مع أني أعددت لهذا اللقاء وطرحت هذا السؤال على نفسي عشرات المرات ,إل
أن المخاوف التي تدور في رأسي أثقلت لساني حين قلت بنبرة مصطنع :
_ بالطبع أتمنى ذاك.
نهض وطلب مني ببساطه أن أتبعه إلى أبي الهول ,سرت وأنا أصارع آلف المؤثرات التي
لف وعندما أحسست تحاول عبثًا أن تأخذ حيزًا أكبر من تركيزي .تجاهلت أشارات منصور وش ّ
أنه هم باللحاق بي حركت يدي بعصبية كي ل يتبعني.
******
بين يدي أبي الهول
الخوف ,هو الجهل ,نخاف من الظلم لن عقدنا تعيش هناك .المصباح يتكفل بنفي حالة الخوف
لنه يمتلك القدرة على تبديد الظلم .أما العتمة فهي المنشأ الفلسفي للجهل وللعقل الرافض أي
محاولة لستكشافه .لذا لن تشعر بالراحة أو الرضا حين تحاول تصنيف الوحوش التي صنعها
أهلك ,حتى لو كنت تحمل معك ألف مصباح.
كانت كلمة )الجثة( في صغري أشبه بوقود نووي يجعلني أركض بسرعة ضوئية متجاوزًا
مليين المجرات ,لرتمي بحضن أختي التي تمسح على وجهي برقة وتبدأ بقراءة القرآن .تستطيع
المخلوقات المرعبة التكاثر في العيون الخبيثة والطرق الخالية إل أنها تتحول إلى كائنات
منقرضة في حضور أختي ,مازالت الوحوش تخرج من علب الدخان الفارغة ومن أسماء
الصدقاء ومن عقارب الساعة ,ومازلت أركض إل أني لم أعد أمتلك ملكًا يمسح وجهي ويرتل
القرآن في أذني ويخبرني بأن القناعة ل تشترى الخبز ولكنها تشتري الشبع..
أبو الهول ,أسم مريع ,جعل الهرامات تطّهر زواياها كيل يوم من دنس العين الزرقاء تكريماً
له ,أما أبا الهول هذا فمختلف ,ل ينظر إلى الشفق متكبرًا على البشر ,ول يحرس قبور الفراعنة
بقدر ما يود نهبها,إل إنه مكسور النف مثل سمّيه .ل أعلم أين يخفي الشق المستأسد فيه ,ما رأيت
ل في العقد الخامس من عمره ,نحيل ,وجهه ذو تقاسيم صارمة وحزينة ,شعره المسرح إل رج ً
للخلف وذقنه المحلوق جعلني أشك بأني في السجن.إن تحدث سخرت كيف خطر لك أنه قد ل
يفعل ,وإن صمت عدت تفكر من جديد إن كان سيتحدث مرة أخرى! .تركيبة عجيبة ما رأيت
مثلها في حياتي .هذا الشخص يشاهد في الجامعات ,يلقي المحاضرات والندوات ,يعصر الدنيا في
24
ل كهذا يقبع
محبرة ويبلل الصحف بعبق حياته .كانت صدمة قاسية بحق عندما شاهدت رج ً
منزويًا بكل سطوته وهيبته في زنزانة!.
_ ل تعلم مدى سعادتي بلقاءك..
أطرقت إلى السفل بخجل ,ول أعلم ما الذي دفعني لمثل هذا التصرف ,وكأني أتيته خاطبًا .كنت
على محك كذبتي ,أما أن أكشف فل أرى إشراق الشمس من خلف أسوار السجن ,أو أنجح
ي.
لستمر في اعتراك هذا الدرب الذي ل أدري إلى أي أرض يوصل .نظر الرجل إلى عين ّ
غاص فيهما ,وما كاد يتحدث ,مسح على شعره ليريني أن اليام أهلكت من سواده الكثير ,بعد أن
جلست منصاعًا لمره ,قال بصوت رخيم
_ بَم تفكر يا فتى ؟ أرى في عينيك خبثًا غير منقطع.
هممت بإجابته ,إل أن سمكة دنى منه وتحدث معه بصوت غير مسموع ,فما كانت منه إل أن نظر
ي بريبة .أخذت أسئلته تتدفق بل انقطاع .نهض وطلب مني أن أسير معه ,وعلى الفور نهض إل ّ
سمكة وبدأ يسير وكأنه ظل لبي الهول.
_ أتعلم ,إني أحب الوجوه الجديدة ,كما أنك أذكى من هؤلء الحمقى!.
قال سمكة بسرعة
_ ولكن..
قاطعه أبو الهول بغضب
_ يا مغفل .لو كان مخبرًا لما كشف هويته ,كما أن مثل هذه الخبار تصلني قبل شهر من حدوثها.
ل ليخزني بنظرة جعلتني أفكر بالجماجم المرسومة في بلع سمكة الرد بمرارة ,وأنزل رأسه قلي ً
أماكن الخطر.
_ لم تخبرني يا فتى ,لَم تريد النضمام معنا ؟.
_ يا سيدي لقد مللت الحياد ,وضاق أفقي بالمغامرات الفردية!.
ل,
_ مثل هذه المور ل يقدم عليها المرء ,ليبدد بها الملل! بل هو عمل ذكي ناجحًا كان أو فاش ً
فالفرد محتاج إلى جماعة قادرة على تلبية متطلباته ,وعدم وجود الجماعة المتفاعلة مع الفرد يعني
عدم وجود الفرد بالساس.
كانت أصابع سمكة التي تحاول الولوج في منخاره المسكين تشوش تركزي لذا قلت بغباء
_ هل يعني عدم وجود جماعتك انعدام الفرد في السجن؟.
_ بالطبع ل .لن السجن ككل عبارة عن مجتمع ,ولكنه يدار من قبل الغرباء عنه أي ) العسكر(
لذا يستحيل أن ينعدم الفرد المسجون ,كما يستحيل تطوره وتقدمه إن ظل تحت كنف المجتمع
المدار من قبل العسكر ,ومن أجل هذا أسست هذه الجماعة لتكون نواة مجتمع متكامل يتعامل مع
العسكر على أنهم أفراد مجتمع آخر لهم مصالح معنا ,ول يتعامل معهم وكأنهم رؤوس مجتمعنا.
كانت تصوراتي الزائفة عن قدسية الفرد تتساقط مع كل حرف ينطق به ,وبدأت أنظر لهذه
الفوضى على أنها شكل ذكي من أشكال النظام .ومع هذا أدركت أن فكرته مع ما تحمل من خير
ورقي ,تحمل أيضًا بذور مصائب وتناقضات ,لن السجن وجد ليكون محطة لعادة تأهيل
الفراد ,وهذا يخدم المجتمع الساسي ,ولكن لو تحول السجن إلى مجتمع آخر فلن يقوم بتأهيل
أفراده ليرضي رغبة المجتمعات الخرى!..
أفقت من تصوراتي بعد أن ربت أبو الهول على كتفي ليقول بأنه سعيد بانضمامي .قال لسمكة
كلمات لم أسمعها وطلب منه أن يرافقني إلى العنبر .اعتذرت من سمكة لتجرع المرارة التي
ذاقها مكيافللي .كنت أنتظر كلمة معاتبة أو غاضبة إل أنه قال بثقة
_ لم أفهم كلمة واحدة مما سمعته قبل قليل ,إل أني أعلم شيئًا واحدًا؛ فالفرق بين المسجون
والطليق أن الول أعترف بذنبه والثاني لم يعترف.
25
وصفه المضحك ذكرني بتقسيم )مورفي( للبشر ) هناك قسمان من البشر ,الول يقول أن هناك
قسمان من البشر ,والثاني ينكر هذا ( .قبل أن نفترق سألته عن المدة التي حكم بها على أبي
الهول ,فما كان منه إل أن هز كتفيه معبرًا عن جهله.
_ إنهم ينتظرون قرارًا من أبناء المقتول.
قلت بدهشة
_ أبناء المقتول؟!.
_ نعم ,قتله بيديه العاريتين.
_ لَم ؟
قال وهو يبتعد مغادرًا
_ الشرف يا برم ..الشرف !
الشرف ,الهش الثمين ,نواري خدوشه ونحتفل ببقائه في ليلة ل ضوء فيها ,إنه ببساطة الرابط
المقدس بين روح النسان وجسده..
******
ضمائر خلف القضبان
توجد ثغرة مبررة بالجدار ,يسمونها "النافذة" ,ونسميها نحن "دليل العالم الخارجي".عندما
أمارس هواية النظر خلف أسوار الِملكية أرى عيونًا باكية وثغورًا باسمة تتناقض بوجه واحد .في
هذه اللحظات المطوقة بنزعات الحياة اليائسة أتذكر بأني لم أحب من قبل ,أتذكر الوجوه المبعثرة
كآثار حضارة بائدة ,أتذكر طفولتي الغامضة ,والمشاكل البدية ,والصحون الصغيرة ذات النقوش
الغريبة ,أتذكر جدي النكد وسجائره ذات الرائحة الكريهة ,وحديثه الذي ل ينتهي عن أفضل
الطرق لتلقيح النخل.
_ ماذا تشاهد ؟
لف إلى الزنزانة ,بعد أن هربت بقلبي إلى الديار ,إلى خبز أمي وثرثرة العجائز ,إلىأعادني ش ّ
السواقي القديمة التي تسكب الماء في فم العطش ,إلى ابتهال النخل تحت عبوس الظهيرة.
استرجعت مشهد الطفال وهم يتزحلقون من فوق أكوام الطين ,وتلك الصوات المزعجة التي
تجعل المعلم ينفجر ويملئ الهواء بالشتائم "المحللة" وكيف كنا نستمع له بإنصات محاولين التقاط
"خامات" شتائمه وفن التدلي بين الحلل والحرام .أتذكر القدام المتورمة التي نعود بها كل يوم
إلى منازلنا ,وحين تودعنا الشمس لتسهر بعيدًا عنا ,كنت أتأمل صغار الضفادع وهي تتسلق كرب
النخل وتختفي ,مرددًا بإيمان أعمى ) هكذا تولد المذنبات( ,وما بحت بسري لحد خوفًا على
القلوب الصغيرة التي تدس أمانيها في حقائب الضواء المسافرة.
_ شردت من جديد..؟
_ ولَم ل أفعل ؟ .ل شيء هنا يستحق اليقظة !.
ابتسم ببراءة ونهض ,ليتني أقدر على رسم هذه البتسامة ,ولكن كيف أفعل وهذا الشباك ل يطل
إل على سجن أكبر!..
ارتميت على السرير وأخذت أسترجع حديث سمكة لرجع فكري الهارب من الشباك:
26
_ نحن أشبه بشركة حماية ,فحين تدفع لنا نحميك من أوباش السجن ومن التحرشات وحتى من
ل!.
بعض العسكر ,والهم من هذا كل أننا نضمن لك بأنك لن تصحو ذات يوم لتجد نفسك مقتو ً
_ وماذا لو رفض الشخص الشتراك بنادي المن هذا؟.
_ من يرفض الدفع نجعله يجرب بعض المور التي قد يتعرض لها ,إذا أردت أعتبر هذه ) خدمة
ما قبل الشتراك( وصدقني أن الكثرية يدركون أهمية الشتراك بعد "تنويرهم"!.
_ ماذا عن القلية التي ترفض دفع النقود؟.
_ القليات توجد في البرلمان ,ل توجد في السجن.
_ هل حدث أن قُــتل أحد المساجين الذين يدفعون لكم ؟
_ ل ,ولكن البعض منهم ينتحر بين الحين والخر ,مثل ما حدث قبل أشهر.
_ كيف انتحر ؟
_ طَــعن ظهره بالسكين عشر مرات وعلق نفسه على أنبوب المياه!.
_ إن هذه أغرب عملية انتحار سمعتها ,هل يعلم أبو الهول بهذه الحوادث؟.
_ إنه يعرف ما يرد معرفته ,أحيانًا يخبرني باليوم الذي سيقدم به المسجون على النتحار!.
_ أين حديثه عن القيم الخيرة ,والفضيلة التي يسعى لها؟
_ لو دخلت السجن قبل أبي الهول لدركت أن الخير والشر ل يقاسان بهذه الطريقة الطفولية!
كان السجن هو المكان الذي يتم فيه تحويل النسان إلى مسخ ,أما الن فبإمكان سجين مثل الغبي
شلف الذي سجن بسبب سرقة سيارة التسكع بين العنابر بأمان .جميع المنتحرين بهذه الطريقة,
ض أسود فقط ,بل هم بقع سوداء تعيد إنتاج قذارتها في كل ثانية!. ليس لهم ما ٍ
******
انتصاٌر أصلع
_ أنهض ..أنهض!
قفزت كالملدوغ من سريري وقلت لسمكه بذعر
_ ما المر!..
_ تعال معي بسرعة.
سار بسرعة حتى وصل إلى الصالة الكبيرة المخصصة للغتسال والتوضؤ ,توقف فجأة وطلب
مني أن أحمي ظهره ,بدأ يدفع أحد المساجين بقوة حتى حاصره في الزاوية ,كانت الشتائم
ي بسبب الضجيج المنبعث من المساجين الذين بدئوا بالمتجمهر. المتبادلة تصل مشوهة إلى أذن ّ
ألصقت ظهري بظهره وبدأت أنقل بصري بين وجوه المساجين وأيديهم ,لفت انتباهي السجين
سيء الصيت ذو السنان الذهبية وهو يحاول إخراج شيء ما من ثقب جانبي بالباب ,عندما دققت
النظر رأيته يحمل بيمينه فرشاة أسنان مقبضها مدببة كالمسمار ,لم أتصور من قبل إمكانية تحويل
الفرشاة إلى سلح ,نبهت سمكة فاستدار بسرعة وأمسك بيده ليسحب الفرشاة منه ,إل أن ذو
السنان الذهبية فاجأه بضربة جعلت الدماء تسيل من أنفه بغزارة ,مسح سمكه أنفه بعضده وحين
رأى كمية الدماء المتدفقة من أنفه أمسك بشعر ذو السنان الذهبية بيده اليسرى وسدد لكمة قوية
جعلت جميع المساجين يمتلكون أسنانًا ذهبية ! ,مددت يدي إلى الرض وأخذت أحد السنان قبل
أن يؤخذ ,وحين رفعت رأسي شاهدت ببطء يوحي بقرب حدوث المصيبة رأس سمكة يميل ناحية
اليسار ومن خلفه بانت قبضت ) ذو السنان المسروقة( التي لم تذهب حيث ذهب رأس سمكة بل
استقرت في جبهتي .لو تلقيت هذه اللكمة في الفضاء الخارجي لمتلكت طاقة دفع تجعلني أدور
على المجرة ثلث مرات بالدقيقة الواحدة! .إن السيد نيوتن لم يهنئ له بال إل حين جعل رأسي
27
هو الزائر رقم واحد للرض .ل أدري إن كانت قشرة الرض تغيرت أثناء رحلتي الفضائية
ل لرغبات السلمة الساقطة من العلى ,ولكن المر الوحيد الذي أعرفه أني لتصبح أكثر تقب ً
سقطت على شيء لين .عندما انتبهت رأيت أحدهم يتلوى على الرض ,بيده اليمنى ساطور كبير,
وبيده اليسرى أداة تكاثره والدافع )الفرويدي( الذي يربطه بغيره .إن هذا الكائن السيئ الحظ يمثل
المعنى الحرفي لقول الشاعر :
بذا قضت اليام ما بين أهلها *** مصائب قوم ٍ عند قوم ٍ فوائد
نهضت مترنحًا ونظرت ليدي بسرعة وحين وجدت السن الذهبي فرحت وبدأت أريه المساجين
لغيظهم ,حين هممت بالبتعاد عن )نقطة هبوطي( شاهدت منصور وهو يشير إلى الساطور.
أمسكت بالساطور لخفيه بين النابيب ,وعندما أردت النهوض سحب صاحب الساطور ثوبي
وقال بضعف
_ سيشنقك )عمران( بأمعائك!.
_ من هو )عمران( ؟
وضع أذنه على الرض وضحك بألم
_ أنا ) عمران ( يا حيوان.
فجأة دوت صفارات السجن ,وأتى العسكر من كل مكان ,هربت بسرعة مع سمكة من مكان
الشجار وذهب كل منا إلى عنبره .عندما دخلت العنبر تهامس المساجين وهم ينظرون لي ,نهض
شلف وأعطاني أحد سجائره المريبة وسألني بفرحة عظيمة
_ كيف تغلبت على عمران؟!.
مسحت العرق بيدي وقلت وأنا أشاهد منصور يهز رأسه بسخط
_ إني عقاب سقط عليه من السماء!.
أجبته بنزق
_ نم يا منصور واحلم بأنك شجاع!.
******
بؤرة انعدام العقلنية
28
_ لو كنت رسامًا لكتبت في وصيتي " أجمعوا كل أموالي و أصنعوا بها دورات مياه" هذا لن
الرسام في حياته ل يقدر على شراء كسرة خبز ,وإذا مات بيعت لوحاته بالمليين! .حقًا عجيب
هو أمر الطبقة المخملية ,كيف يشتري أحدهم لوحة "ملطخه" باللوان بالمليين ,مدعيًا أنه لمس
ل هذا
فيها معنى التسامح ,هذا وهو يرسل الكلب خلف المعدمين ليأخذ منهم أقوات أطفالهم ,يا ِ
التناقض ,أل يعلم ذاك "الرقيق" أنه قد يأخذ قيمة الفرشاة من أحد المعدمين ,وذاك المعدم يحاول
رسم لوحة تعبر عن الكرم .لو عاش الكل حياة "عادلة" لما أضطر قسم من البشر أن يشتري
لوحات بالمليين لتصف له الروح النسانية التي ل يملكها! ,ولما خط الفنان على الورق مجسدًا
روحه العذبة في مساحة فارغة تباع فيما بعد للرواح العكرة !.
_ أنتبه ,فللجدران آذان !
_ وهل لها ألسن فتتحدث؟ وهل لها قلوب فتنبض ؟ هل لها أعين تَــقتحم وتُــقتحم؟ أرجوك أشرح
كل مكونات الجدار ,فلقد عشت بجهلي الطويل مقتنعًا أنها أحجار مركبة قصد بها العزل والفصل,
اخبرني عن مزايا الجدار وعيوب النسان لنثبت إن النسان صنع شيء يستحق الفتخار إلى حد
الغيرة!.
نهض بعد أن أزعجته بثرثرتي وصرخ بأذني
_ للجدار مزية واحدة الن ,وهي القدرة على إسكاتك!.
سكت على الفور ,فل أود تذكر ذاك اللم ,فكيف إن تجرعته مرة أخرى .رحت أتسلى بهش
الذباب عن صلعتي ,وأفكر كيف تحاول أن تقضي الذبابة عمرها القصير على وجه دميم ,يقال
ل .أتصور أن الذبابات
أنها تعيش ثمان وثلثون ساعة فقط ,والمعمرة منها تعيش شهرًا كام ً
الصغيرة تتحلق حول ذاك المعمر وتنظر كل ذبابة إليه بجميع )أعينها( ,وهو يروي لهم أمجاد
اليام الخوالي ,يوم كانت الصراصير تهابهم لنهم متلحمون ويتصرفون وكأنهم ذبابة واحدة,
بعدها ينهي حديثه بزفرة حزينة ويسب هذا الجيل الخائب!.
ماذا لو كان منصور ذبابة بدينه وكنت أنا ذبابة صلعاء؟ هل كنت لسجن ؟ وهل للذباب سجن ؟.
أفقت من خيالي المرعب وزجرت نفسي بعنف ,اللعنة كيف خطرت لي هذه الفكرة ,هل انتهت
الفكار لقف على هذه الفكرة البشعة ,بالكاد أستطيع النظر لوجهي إن رأيته في يوم سيء على
سطح المرآة ,فكيف إن تحولت إلى ذبابة!.
_ أتعاني من الرق؟
لف سؤاله بعد أن تحارب مع شفتيه ,لذا كانت أحرفه مشوهة. أخرج ش ّ
_ عندما أتذكر أنه لم يمت أحد قلبي من الرق يزول خوفي.
_ وما أدراك ,لعلك ستكون أول من يموت بسبب الرق !
_ أشكرك على هذه الكلمات المحفزة! .في المرة القادمة نبهني قبل أن تتحدث ,لسد أذناي!.
_ حسنًا ...برم ؟
_ نعم ..يا مصيبة !
_ سأتحدث ,سد أذنيك
******
مؤامرة أديسون
29
الكدمات التي أهداها لي زملء العنبر ,نهضت للبي نداء الطبيعة ,كنت أتهزهز طربًا مع الصفير
المنبعث من أحد الحمامات ,فجأة توقف الصفير وبدأ المساجين يخرجون بسرعة ,فتحت بحذر
فشاهدت عمران ومعه عصًا مليء بالمسامير ,قبل أن أغلق الباب ركله بقوة وقال بانتصار
_ حان الوقت لنفذ تهديدي !.
لقد تضخمت رغبة النتقام فيه حتى كادت أن تستقل في جسد آخر .استدرت بسرعة لهرب
متسلقًا الجدار القصير للحمام ,فجأة أحسست بتلك المسامير وهي تغرز في ظهري فأرخيت يد ّ
ي
وسقط على الرض .رفعني وبدأ يضرب رأسي بالجدار ويسدد اللكمات ويهديها لصدقائه! بعد
هذا خنقني بقوة ,وصرت أحرك يداي وأمسح بهما الجدار وكأني خنفساء ملقاة على ظهرها ,فجأة
أمسكت بشيء وسحبته بقوة ,وما أن فعلت حتى سرى بجسدي تيار كهربائي فصرخت بعنف ,أما
هو فارتعش بعنف وسقط على ظهره وسحبني معه .أبعدت يداه بصعوبة واستلقيت بجانبه ,قبل أن
أفقد الوعي شاهدت يدي المحترقة ورأس عمران ينزف بغزارة وتحته العصا ذو المسامير.
******
انبثاقات متذبذبة
فتحت عيناي على صورة الممرضة ,وابتسمت حتى كادت أن تتشقق شفتاي ,لنني لم أَر منذ
زمن طويل امرأة ,أخبرت الممرضة الطبيب فأتى بسرعة وحين انتهى من فحوصاته قال لحد
الممرضين
_ ألم أقل لك أن هذا القرد سينجو!.
استجمعت كل طاقتي وقلت
_ لبد أنني بكوكب القردة ,أيها القرد الطبيب ,عندي الكثير لحكيه عن الحضارة البشرية.
تركني الطبيب وهو غاضب ,وصرخ بأقرب وجه أقتحمه
خرج الطبيب غاضبًا وضجت الغرفة بالضحك ,نظرت إلى الممرضة وقلت بسعادة
_ هل أخبرتك قبل الن ,بأنك أجمل قردة في الكوكب؟.
ل بأني تحت تأثير المخدر.
عبست بوجهي وأخذت تتمتم مبتعدة والممرض يسير خلفها قائ ً
مرت الساعات وأنا أرتع بهذا النعيم ,سرير لين ,ملءات بيضاء نظيفة ,وجوه سمحة مبتسمة ,كم
وددت لو أنني مت بسعادتي هنا ,وما أن فكرت بمدى نعيمي حتى دخل العسكر طاردين كل
الرؤى الوردية! .سحب الضابط أحد الكراسي البعيدة وجلس عليه ,سألني إن كنت أود أن أشرب
سيجارة فأجبت باليجاب ,أدخل يده في جيبه وأخرج لي سيجارة وضعها في فمي وأشعل عود
ثقاب ,فجأة سحب عود الثقاب وصفعني بقوة.
_ يا ملعون ! وتريد أن تدخن أيضًا.
لم أستوعب ما حدث ,فغرت فمي وصرت أتحسس خدي المسكين
_ صفعة أخرى مثل هذه وأموت ! هل تظن أني ولدت لكي أتلقى الصفعات ؟!
_ أصمت وأستمع لما سأقول ,عمران مات أمس قبل أن يصل إلى المستشفى ,وأنت متهم بقتله.
نهضت متناسيًا آلمي وقلت بهستيريا
_ وال ما قتلته ,هو من خنقني ..فصعقنا التيار وسقطنا على الرض ..
ضغط على صدري بلطف فسقطت على السرير,وانحنى هامسًا بأذني
_ أعلم أنك لم تقتله ,ولكني سألبسك التهمه ,إل أن رويت كل ما حدث بدون كذبة واحدة.
صرت أحدثه بكل ما جرى ,وبكامل تفاصيل الحدث ,بعد أسئلة كثيرة نهض الضابط بعد أن
أعطاني علبة الدخان متمنيًا أن أختنق بدخانها وأموت ,للمرة الولى أتفق معه على أمر واحد,
ل بقتل عمران,فكلنا يود أن أموت هاهنا ! .قبل أن يترك الغرفة سألته إن كنت سأتهم فع ً
فأخبرني أني بالغد سأعرف كل شيء ,عليه ما يستحق أذهب طمأنينتي ومحق راحتي.
30
ل"! .كنت أستمع إلى الشؤم ل كأنها جلمود صخر عجز السيل أن يحطه من "ع ِمرت الساعات ثقا ً
البشري يرقص عاريًا في الطريق الطويل بين غرفة الولدة وغرفة النعاش .والناس تضحك
هناك وتبكي في مكان آخر ,ل يعرفون بعضهم فل يرق أحدهم للخر ,وأنا النزيل المطرز
باللكترونات أضخ ذبذباتي الكهربائية في كل صوب ,كتبوا على جبهتي )إياك أن تصافحه ,إل
إن كنت عسكري( .العسكر هذه المخلوقات الجميلة ترتدي أزياء مضحكة لتسعد المساجين,
يتكاثرون مثلنا عن طريق النقسام ,مخدوعون هم يحبسون أمام القضبان ونحن من خلفها ول
نستطيع كلنا أن نحتوي مدارات أخرى غير ظلل القضبان والسؤلت التعيسة.
أجلسوني تحت الشمس وعندما سألت الممرضة الحسناء عن الدافع لهذا التصرف المريب ,قالت
أنها طريقة فعالة لتفريغ الجسم من الشحنات الكهربائية ,جسمي السقيم رفض أن يترك الشحنات
بسبيلها ,أشك أن مؤخرتي تضيء الن بالظلم! .بعد أحرقتني الشمس أطلقت العنان لحنجرتي
وبدأت أصرخ بكل اتجاه
_ يا ملعين لقد تحولت إلى سجين "مقدد" ,أعيدوني إلى النعيم الول و إل أكلت كل السلك
الكهربائية!.
أتت ممرضة جديدة وكم نبض قلبي برؤيتها ,هذا القلب كأنه قلعة بيد حاكم جبان ,ما أن يرى فتاة
من بعيد حتى يهرع بفتح البوابات ورفع رايات الستسلم .ما أن عدت حتى رأيت العسكري
يتغزل بأحد الممرضات ,قلت له أن خلفه امرأة تنظر إليه بغضب ومن الممكن أن تكون زوجته
فامتقع وجه الرجل وأخذ يتلون وكأنه حرباء سكيرة ,استفاق بعد لحظات من الرعب الذي بثثته
فيه وضرب رأسي بالباب ,وتأسف بعد أن زجرته الممرضة وقال أنه كان يريد فتح الباب !.
******
الحكم
في الصباح أعطوني ملبس جديدة ,وحذرني العسكري بأنه سيقتلني إن اتسخت أو حدث لها أي
مكروه ,ارتديت الثياب وركبت بسيارة السجن ,وبعد أن تورم رأسي ورأس العسكري الذي كنت
أرتطم به في كل وقت ,توقفت السيارة وأنزلني العسكر وأنا مكبل بالغلل سرت وأنا أحملق
بمبنى المحكمة .جلست بأول كرسي صادفني ,نهرني العسكري فقمت معه وأنا أحمل رأسي
كالفّزاعة ,وقفت بين يدي القاضي وأنا أرتعد ,تصورت أن سيبتسم برقة ويأمرني بالجلوس ,إل
أن تصوراتي ذهبت مع الريح التي أطلقها أحد الُكـّتاب ! .بعد أن أقسمت بال أني سأقول الحق,
قصصت على القاضي كل شيء ,أخبرته أن أبي كان يعمل في القطاع الحكومي إل أنه تركه
وأخذ يتاجر بالبقر ,نهرني القاضي وأمرني أن أحكي فقط ما حدث مع عمران ,أخذت أروي له
كل ما حدث بدقة عجيبة .بعدها أستمع القاضي إلى حديث اثنين من المساجين وأستمع إلى رجل
قراء تقرير الطب الشرعي .أعتدل القاضي في جلسته ورفع ورقة كان يكتب عليها ملحظاته,
وأصدر الحكم
_ بناءً على ما توصلنا إليه من اعتراف المتهم وإفادة الشهود وتقرير الطب شرعي يبرئ المتهم
من تهمة القتل العمد ويدان بتهمة قتل الخطأ,وعليه أن يدفع دية لهل القتيل...
علمت أن بالمر لبس كبير لن قاضينا الجهبذ قال " اعتراف ,قتل الخطأ ,دية " !
صرخت في القاعة محتجًا على هذا الحكم المتعسف
_ يا سيدي القاضي وال ما قتلته ل بقصد ول بغير قصد ! هو من سحبني معه..
31
_ ل حول ول قوة إل بال ,أخرجوه قبل نأثم به !
أخرجوني من مبنى المحكمة بالقوة ,وفي السيارة كنت أولول فمن أين آتي بمال الدية ,وأنا المعدم
الذي سجن وهو يبحث عن لقمة العيش..
******
دماء رخيصة
ل بالربعينات من عمره بعد ثلثة أيام مليئة بالخوف والترقب ,اجتمعت بأخي عمران ,كان رج ً
يضع نظارات سميكة ,ويحتاج أن ينقل إلى الحلق بسيارة إسعاف .مددت يدي لصافحه ,وكنت
أتوقع أن يخرج سكينًا أو أداة موت أخرى ليقتلني بها ,ولكن على عكس ما تصورت نهض الرجل
وصافحني ,جلست أمامه وقالت وأنا أطقطق أصابعي
_ يا أخي " حمد" ,وال الذي رفع السماوات السبع أني ل أملك في هذه الدنيا إل أربع سجائر
وسيارة ل تسير إل بدعاء الصالحين ,ومذياع.
نظر الرجل إلى الضابط مستفسرًا ,فما كان من الخير إل أن هز كتفه قائ ً
ل
_ سمعت الرجل ,إن ل يملك إل ما قال.
تبدلت قسمات وجهه وقال بعصبية
_ وما يعني هذا ؟ الشرع يقول )دية( ,وهذا يتحدث عن سيارة وخمس سجائر ومذياع !.
_ ل ,ل لم تفهم كلمي ,قلت أربع سجائر..
رماني الضابط بعلبة مياه غازية فارغة ,ونهض ليجلس حمد
_ إني أعمل هنا منذ سبعة عشر عامًا ,وعاصرت الكثير من هذه الحوادث ,صدقني إن طالبت
بكامل الدية سيتعفن هذا المأفون في السجن ولن تأخذ منه ل حقًا ول باطل.
قاطعه "الموتُـر" بعد أن أعجزه كظم غيظه
_ يا بن الــ !...تريد أن أقايض دم أخي بسيارة ل تسير ومذياع وسبع سجائر!.
ضربت الطاولة وقلت بطريقة مسرحية ل تتناسب مع الجو المحتقن
_ دع عنك الخداع ! قلت لك بأني أملك أربع سجائر..
قبل أن أكمل مرافعتي سمعت أزيز كأزيز الرصاص وما أن لمحت الجسم الطائر حتى التصق
بوجهي راسمًا معانات جديدة سأرويها لبنائي إن تزوجت يومًا ,قمت وحملت معي الدرع
التذكاري الذي رماني به الضابط ,ووضعته فوق المكتب ,وصمت بعد أن أقسم الضابط بأنه
سيشنقني بحزامه .أشعلت سيجارة وأخذت أتحسس خدي ,يا إله السماوات والراضين كيف
أصبح وجهي وكأنه مسرح للثورة البلشفية! وكيف تحول أنفي الجميل إلى شيء شبيه بالمعول
الذي نزع من ظهر "تروتسكي"! .أطفأت السيجارة وقلت له وأنا أعبث بأعقاب السجائر
_ يا أخي أنا رجل معدم وفقير ,لن أستطيع تسديد مثل هذا المبلغ إل بعد قرون.
أراد أن ينهض مغادرًا إل أني أمسكت بيده وقلت
_ أسمعني ..فقط أسمعني ,ل تعلم لعل هذا تكفير لذنوب أخيك رحمه ال ,يا أخي تصور أنك
تبرعت بالدية واحتسبت الجر لخيك رحمه ال ,ألم تسمع حديث الرسول صلى ال عليه وسلم
)من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج ال عنه كربة من كرب يوم القيامة(؟.
جلس الرجل ,وحاول بما أوتي من عزم أن يقهر شعورًا داخليًا يحثه على البكاء ,ولكنه عجز,
فانفجر يبكي كالطفل ,تمنيت لو أن الرض انشقت وابتلعتني ولم أَر هذه المشهد ,غصت بخجلي
وانزويت بركن الغرفة ,بعد لحظات صمت مريرة تحدث موجهًا الحديث لي وللضابط
_ هل تظن أني وحش مادي إلى هذه الدرجة أتيت لساوم على دم أخي ؟ ,نعم أعلم أنك لم تقتله
ل ل يقتل ,ولكني ل أبالي ! ,نعم أنت الشخص غير المناسب ,لنك ل نبي ً
عمدًا ,وإني أرى فيك رج ً
فقير ل تملك شروا نقير كما قلت وأنا أيضًا رجل فقير أعيل أولدي وأولد أخي وزوجته ! ,ماذا
لو كنت غنيًا ؟ ..ماذا لو كنت غنيًا ! عليك اللعنه ليتك كنت غنيًا!...
32
بدأ الرجل يهذي ويشتم كل ما يفكر به ,حتى أنه لعن ما يهاب العاقل أن يفكر بشتيمته وهو على
حبل المشنقة! ,هدئ الضابط من روعه وأمرني بالخروج ,عله يرتاح بخروجي.
أعادوني إلى الزنزانة وأنا أفكر بما قاله الرجل )الشخص غير المناسب( ,يا للهول هل استعبدتنا
المادة إلى هذه الدرجة؟ ,ل ألومه هو فهو معدم ,ولكن أعجب ممن ل يحلو له القرش إل إذا كان
ملوثًا بالدماء .اللعنة على كل شيء إذا كانت المادة هي كل شيء!.
بعد أسبوع تنازل شقيق عمران عن باقي الدية ,وقنع بقيمة السيارة ,خمسة آلف ريال هذا كل ما
كنت أملكه في هذه الدنيا ,حتى السجائر أحرقتها مع أول مبرر للشتعال! كل ما زاد لغوي
تذكرت دعاء الرسول عليه الصلة والسلم وصبرت
)اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين(
******
..قد تبكي الشياطين
مع مرور السابيع علمت أن جميع قضايا القتل في السجون أما أن تجير ضد مجهول أو توضع
تحت مظلة "قتل الخطأ" ,هكذا تحل المور ببساطة ,فدية وكفّــارة فقط .لَم يعقدون المور إذا
كان ذوي المقتول ل يبحثون إل عن المال ,وأهل القاتل يرون فيها ضريبة ل بد من دفعها
للمجتمع ! .لقد مللت من تعلم الدروس التي يستحيل تكرارها ,فتكون فائدتها لمن يستمع لثرثرتي
ويأخذ شيئًا مما أقول على محمل الجد.
قضيت السابيع المتبقية وأنا منطٍو على نفسي ,أقرء الكتب التي أخرجوها من سيارتي قبل أن
تباع ,كيف استطعت نسيانها ؟ وهي الصدر الواسع الذي دفنت به آلمي وآمالي ,وهي المسرح
الوحيد )للنا( خارج )النا( .يؤلمني وصف الحياة بعبارات فلسفية بادرة ,وتقديس القلب واتهام
العقل بالفجور والخطيئة ,فهذه السكينة العقلية المتأرجحة على ضفاف الزفرات الحزينة و
الغاضبة هي مركب النجاة الوحيد المتاح لي ولبقية المعدمين والمغمورين المتشبثين رغمًا عن
جغرافية المستحيل التي طمس بها المتحذلقون أعيننا السريالية!.
سأتكئ على صبري ,لشاهد قوافل العرق النازحة نحو الجنوب ,ترسم دلئل الخلق خطوطاً
شاحبة مشيرة إلى نهايات الجسد ونشوة الجاذبية .سأذهب نحو النور متشبثًا بظلي وبالقسم الناجي
ل أن النقوش المهملة
من قناعاتي .لتنفس النسيان ,هامسًا )على قيد الحياة ..على قيد اللم( ,متخي ً
بين الزنازين ودفاتر الفراج ,بوصلة تشير إلى الديار ,وإلى الكف المستنفرة تحت أبواب
الجابة ,لثمل بواقعي دافعًا الفضيلة بالجرعة الوفية الكامنة في يدي التي تتلمس الهواء خارج
القضبان.
ل خردة ندفعها بذعر نحو المستقبل .خردة جميلة ومليئة بالنقوش أعلم أن الحاضر ليس إ ّ
والعبارات البذيئة .أظن أن البراءة هي النوايا الطيبة المخطوطة على أبواب المراحيض .لبد أن
أّدعي أّني نقيض لنفسي لتسّلى بخطابات الضمير الطفولية ,فأفضل ما توصلت إليه البشرية حتى
الن أن الضمير عبارة عن وسادة ,إني أحمل وسادة في قلبي ,وضريحًا في عقلي.
33
ظل المتسّرب مّني نكافح
إن ظّلي الخرس يسير خلفي بريبة ,وهو لم يفقه شيئًا مما قلت .إني وال ّ
كل نهار لنصمد أمام قبائل الليل ومرتزقة الضوء المحبوسين بالقناني .ل أريد أن أصبح الجزء
المفقود من اللعبة ,هذا الدور بشع .كنت رأس الدمية فأصبحت )رأس الدمية التي بل رأس( .شيء
ضحك .إني الرسام الذي لم يرسم والقنديل الذي ل يوجد بداخله جني أزرق .إني ما يحثني على ال ّ
أحد )علءات الدين( الهاربين.
عندما ل تتهاوى الشياء المصنوعة للستخدام الواحد ,أكون قد بلغت ذروة شعوٍر ما ,أكون قد
فقدت تمامًا التصال بالطرف الخر القابع خارج إدراكي .وعندما ل تتشابه الشياء المصنوعة
حى بابتسامته من اجل التعابير
لخلق الحيرة في الرواح المؤمنة ,أكون الرجل الوحيد الذي ض ّ
المجانية ,والوحيد الذي أهدى مساحيق التجميل للقمر .المنتظر الوحيد للعاصفة التي ستظهر
عروق السماء.
هذه خطبتي الخيرة .لن أهتف لنفسي بعد الن أمام أي مرآة .ها أنا أنعكس أمامي وكأني سهم
يشير إلى أمنية عاقرها كل بائس .وكأني صبي الميناء المشنوق كل صباح على صواري السفن
المركولة نحو اللعودة.وكأني ضجيج الطيور الشرهة ,ل أني ل أتوسل الهواء لطير.
******
كن دخانًا وأرتفع..
أجلسني أبو الهول بجانبه ,وسألني بعطف عن سبب انقطاعي,أخبرته بأني حبيس بين رغبة
الفراج والرعب من العالم الخارجي ,فما كان منه إل أن قال بدهشة
_ أل تريد أن يفرج عنك يا رجل ؟!.
_ بدأت أدرك أن العالم الخارجي وجد لكي يقوم بخدمتنا فقط.
وضع راحت يده على خده وطلب مني أن أسترسل ,فقلت بحماس
_ من في الخارج يظنون بأننا حثالة المجتمع ,يحفرون الرض ليخرجوا الحديد ثم يصهرونه ثم
يشكلون منه القضبان والبواب ليسجنونا خلفها ,المضحك أننا سبب عمل اللوف من أبناء
المجتمع الذي ينظر لنا وكأننا مخلوقات دنيئة .لسنا السبب المنطقي للقانون وأدواته من قضاة
ومحامين ودساتير ,بل نحن نواتجه .نحن من جعلنا البشر في )الخارج( يتقنون ما يعملون إن كان
هذا العمل هو الحائل بيننا وبينهم .نحن نقطة الرتكاز وما دوننا بيئة لنتاج الجيال القادمة
المنقسمة على نفسها بين جدوى القانون وعدم جدواه .وإني أتساءل؛ إذا كان القانون ضيّــق إلى
هذا الحد ِلَم ل نصنع نهجًا فوضويًا ونسجن القلية ونطلق سراح الكثرية ؟.
قال بهدوء
_ إن قاسمنا المشترك هو السجن فقط ,ل رغبات صنع الفكار الفوضوية!.
34
ل وأكملسحب نفسًا طوي ً
ف لما نخالف ولسنا أضدادًا له ,وحين نطرح الفكار الجديدة ,نطرح بطريقة _ أنت تعلم أننا أطيا ٌ
غير مباشرة بذور النشقاق والهدم في المجتمع الذي تنظر له وكأنه كائن ديناصوري رجعي
يجب إزاحته .ولكن حين تهدم المجتمع لن تصنع عرقًا أو انتماًء بل ستصنع مجتمعًا آخر ,أي أنك
لن تأتي بشيء جديد .هذا عدا أن المجتمع أفراده متكاملين بتلحمهم ل بفرديتهم المتكاثرة
بالنقسام بين رغباتهم وشهواتهم.
قلت بحيرة
_ ماذا يعني هذا؟ هل تحاول تبرير السجن ,أم تناضل من أجل نفي وجوب بقائنا فيه؟
أرجع شعره إلى الوراء بعصبية وقال
_ ستخسر الكثير أن صدقت مثل هذه الفكار .فلسنا مستقلين بكفايتنا ولم نولد لننعزل عما سوانا.
والقانون الذي تتصور أنك تغلبت عليه وفككت رموزه هو من صنع نقاط ضعفه بيده ليجدد نفسه
عن طريق المخدوعين مثلك لتختفوا أثناء تجديده .أنت تمثل التّـــمــرد أو المعارضة ولو سّوقت
لفكارك بالخارج ستتحول أفكارك إلى )نظام( ,مما يعني أنك ستختفي كفكر مضاد ,لذا أترك هذه
المهمة لشخص آخر كي ل تنفي نفسك !.
فجأة داهمني شعور بالتيه بث فيني رغبة قوية بالبكاء ,نهضت لعود لمكاني فأمسك أبو الهول
بيدي وطلب مني أن أبتعد عن المشاكل ,وأوصى سمكة أمامي بمراقبتي .وكان هذا آخر عهدي
بأبي الهول.
******
زخم
35
قبل الفراج بشهرين ,عثر على جثة أحد العسكر ملقاة في الحّمامات وقد طعن أكثر من خمس
طعنات في صدره ,وأشك أن الطعنات أقل لني رويتها ) سبع طعنات ( لحد المساجين ,ومن
صدق كذبتي أزاد عدد الطعنات في روايته ,مما يعني أن من قال لي الخبر كذب متأسيًا ببقية
المساجين الماجد .تسارعت الحداث بعد مقتل العسكري ,فتبين أن أحد كبار الضباط كان
شريكًا لسرحان وهو من كان يسهل دخول المخدرات إلى السجن ,وسرت الشاعات والكاذيب
في السجن ,فقيل أن الضابط ُقتل كي ل يفضح بقية المتورطين معه ,وقيل أنه انتحر ,وقيل أنه
ل كبيرًا وسيارة ألمانية ,وأنا أميل للرواية الخيرة ,فهي الرواية الوحيدة الممكنة
أشترى منز ً
الحدوث بمثل هذه المواقف! .كنا نثرثر بنفس القصة حتى أتى حدث أكبر وهو هروب أربعة
مساجين ,قتل أحد الربعة ,وقبض على البقية بعد ساعات من هروبهم ,والمؤلم أن الذي قتل كان
مسجونًا منذ سبع سنوات بتهمة القتل ,وبعد أن مات بشهر تنازل أهل المقتول ظنًا منهم أنه مازال
على قيد الحياة ,لبد أن هذا التعس يبكي الن في قبره ,من يعلم لعله يضحك.
في ليلة ما قبل الفراج ,حلمت أني غني ,وزوج لثلث نساء جميلت ,وقبل أن أرتع بالنعيم أفاقني
الحمق شلف.
_ الوداع يا برم...
_ يا غبي ,أستخدم رأسك لشياء أخرى غير وضع الشماغ عليه!.
_ وال لم أفهم ما قلته ,ولكن دعني أودعك بحرارة!..
ل.
_ حسنًا ,نم الن وفي الغد سأودعك ,أرجوك دعني أغمض عيناي قلي ً
ي المجنون ووضع يده على عيني حتى كاد يفقأها ,دفعته بكل قوتي وصحت بمنصور قفز عل ّ
_ النجدة سيقتلني الغبي !.
لف على ظهره وهو يتأوه ,وعندما سألته عن سبب هذا التصرف قال رفسه منصور ,فاستلقى ش ّ
أنه كان يحاول أن يغلق عيناي لنام ! .دفنت رأسي كالنعامة ,منتظرًا الغد بهذا اليوم !.
******
36
سأذهب حيث لم تنطق )العين(
..حيث النعمة المخللة بالدموع
لشرب وحدي نخب الظلم !
.
******
37
لسنا سوى حفاة يحسبون الطريق حذاء
ــ عبد ال القرني ــ
لف واحتضنت منصور وأخذت عنوان سمكة ,ولو جلست وقتًا أطول لودعت كل ودعت ش ّ
المساجين .كنت أشتعل بلهفتي وأتغزل بالفراغ القابع بين القضبان .أخيرًا خرجت مع المفرج
عنهم وسرنا حتى وصلنا غرفة صغيرة ,مع الزحام ُدفعت من الوراء فاستدرت لتشاجر مع الذي
دفعني فضربت الذي أمامي بكوعي ,غضب الذي ضربته فاستدار ليضربني فضرب شخص
آخر ,تشاجر الشخصان وضرب أحدهما من دفعني من الخلف ,هكذا أخذت ثأري بدون أن
38
أستخدم العنف بنفسي .أتى العسكر فضربوني بالهراوات لني أضعف المساجين ,فتذكرت مقولة
أمي ) ال ما يضرب بعصا ( .فتشونا وكأن في السجن شيئًا يسرق ,أخيرًا سرنا حتى بوابة السجن
وحين فتحوا البوابة كبر المساجين )السابقين( فكبرت معهم .سرت مسافة طويلة حتى وصلت إلى
طريق ) الرياض_ القصيم ( .بعد محاولت كثيرة فاشلة استطعت عبور الشارع ,أوقفتني سيارة
أمن الطرق وسألني الجندي
_ من أين أتيت؟
_ من السجن.
نزل من السيارة وفتشني ,ما وجد شيئًا فرفس مؤخرتي بقوة وركب السيارة.
_ ل تتسكع هنا ,أتسمع ؟
_ نعم ,لن أتسكع.
بعد خمس دقائق غصت السيارة بالرواح ,توددت للسائق كي أركب بالمقدمة ,فشتمني وقال أني
ي ,فقلت لحد الركاب أنه أخذ منه ثلثين بيمنا أخذ مني
بخيل ل أستحق أن أسير حتى على قدم ّ
ل فقط ,فغضب الراكب وقال للسائق أنه محتال أشر ,أوقف السائق السيارة وطردني عشرين ريا ً
منها .سرت مرة أخرى حتى توقفت سيارة ثانية ,ركبت معه )بعشرين( ولم أحدث أحدًا عن النقود
التي أعطيتها لصاحب السيارة.
39
ل ,فأفضل طريقة لخراج الغضب والحتقان النفسي في مجتمعان هي نقد شيء للطف الجو قلي ً
ل تستطيع أن تصلحه ,إل أني رفست فكرتي بقوة ,عندما شاهدت أحد الخوة يعتمر شماغًا وردي
اللون ,وهذا اللون يحبه العشاق على عكس أصحاب السوابق الفكرية .قطع القبطان أفكاري
الحترازية
_ تفتيش! من ل يحمل إثبات فلينزل من السيارة غير مأسوف عليه.
وكما حدث أثناء المشاجرة الكل حاز على مجموعة رائعة من الكدمات بسبب الحركات التشنجية
لخراج الثباتات .توقفت السيارة أمام النقطة ,كم تمنيت أن أصور سحنة السائق؛ ابتسامة رقيقه
تتصنع البراءة وعبارات رشيقة مؤدبة ونحن بالخلف ننظر إلى الجندي وفي أعيننا نظرات ميتة.
ل أدري لَم أردت أن أصرخ ) مظلوم ..أنا بريء ( ول أدري أيضًا كيف ألجمت نفسي .فتش
الجندي صرتي التي ل تحوي إل ملبس تدعي البياض .وبدأ بتفتيش كيس الفلح الذي كان
يحوي عجائب الدنيا العشر كما يقول منصور ,أمره الجندي بالرتجال من السيارة لكي يفتش
ثوبه ,فامتقع وجه الفلح وقال متلعثمًا
_يا سعادة الضابط إني رجل مستقيم...
هنا لم أستطع كبت شعوري ,فانفجرت ضاحكًا وقلت بتشفي
_ يا سعادة الضابط !
غضب الجندي ذو الشرطات الثلث ,وهم بالنتقام ,ولكن الضابط أمره أن يتجه لسيارة أخرى,
فتحرك السائق ببطء كي ل يثير الشكوك
هتف السائق فرحًا
_ مصائب قوم عند ناس فوائد
قال صاحب ) الشماغ الوردي ( بامتعاض
_ مصائب قوم عند ) قوم ( فوائد ,يا أبله !
لم يبالي السائق بما قاله ذلك )الخ( وتابع حديثه
_ لو لم يتجه الجندي للسيارة الخرى لسلخني بمخالفة لني ل أحمل رخصة سيارة أجرة.
لم أعرف في تلك اللحظة الشعور المناسب ,هل أضحك أم أحزن ,كل ما أتذكرة أني وضعت
رأسي على طرف النافذة أو على كتف أحدهم ,ونمت.
انتبهت ,ونظرت لساعة الفلح ,كانت تشير إلى الثانية والربع ,وحين قلت بأن ساعته متعطلة ,هز
رأسه وكأنه يريد إسكاتي وأغمض عيناه ,فسألت السائق بسرعة
_ كم الساعة يا سيد ؟
_ الساعة ستون دقيقة.
_ أعلم ,أعني كم الساعة الن؟
_ إنها لم تتغير أبدًا ,ستظل ستون دقيقة.
هززت كتف من بالمقعد المامي
_ أظن أن الخ القبطان ليس بوعيه الكامل.
ألتفت ونظر إلي ,ثم أعتدل مرة أخرى وهو يقول
_ نعم ليس بوعيه الكامل ,من الفضل أن أتولى القيادة نيابة عنه.
تحدثنا مع السائق ,ورفض أن يترك المقود ,بعد دقائق أخذ ينوح ويلعن كل مخيف ومهيب
ل محترمًا ,أستيقظ في السادسة صباحًا _ لم أكن على هذه العربدة التي ترونني فيها ,كنت رج ً
وأنام بعد صلة العشاء.
حاولت أن أهدي من روعه ,فقصصت له القصص وحكيت له العبر ,أخيرًا وافق الرجل وأوقف
السيارة وتولى القيادة من بجانبه .توقفت السيارة أمام تفتيش مدينة بريدة ,عرف العسكر على
الفور أن الرجل ثمل بعنف .عندها نزلت من السيارة وسرت على قدمي متوجهًا إلى عنيزة.
40
ها أنا ذا أراها من بعيد تتنفس الكذب وتتداول الحقاد الصغيرة ,ل أستطيع التنكر لهذا الحب الذي
أكنه لها ,فابن هذه المدينة وحده من يعلم أنها ليست أرضًا فقط ,بل طريقة حياة جميلة رغم المال
التي تقتلها كل يوم .هنا من يخالف دساتير الجداد يرجم بالنظر ,ويعزل وكأنه أجرب .إن آلم
الهوية التي نتلمس ملمحها الغائبة كل يوم تشير إلى الجداد الذين وصفوا لنا المستقبل على أنه
قدر كابوسي ,ينتظرنا خلف اليام المقبلة.
******
ابتسم فأنت في عنيزة
دخلت المدينة خائر القوى ,ل أقدر على رفع قدمي من شدة التعب والعياء ,تسلقت سور
مزرعتنا وسرت حتى غرفة أخي,رميت نفسي على الفراش .تنبه أخي وقال وهو يحاول النهوض
_ من ؟ من أنت !
_ نم ,أنا إبراهيم.
_ ل أصدق ! كيف أتيت ؟
_ دع الحديث للغد.
_ حسنًا ..تصبح على خير.
ل لثرثرة ليلية أو مقدمة لشجار صباحي ,إننا هذه الكلمة ) تصبح على خير ( دائمًا ما تكون مدخ ً
ننهي بها اليوم ونبدؤه بها ,وما أصبحنا على خير .نصبح على موت وتشريد هنا وهناك ,نصبح
على فشل ,نصبح على الببغاوات ,نصبح على الكاذيب ,نصبح على الديون البدية والهموم
الجماعية هذا ما نصبح عليه كل يوم .لَم نكتب على وسائدنا )صباح الخير( لنبدأ معاقرة آمنينا
الزائفة قبل أن تدرك أعيننا ضوء الصباح .هاهو التدفق البليسي يعود من جديد ,ليسرق لذة النوم
التي ل أعرف أين تكمن ,أفي التعب أم في النعاس أم في الكوابيس الناشئة معنا منذ الصغر أم في
أول منظر يقتحم الستيقاظ؟ .تحياتي وأشواقي للنوم ولذته الفارغة ,وكل اللعنات الرخيصة
والغالية للشيطان وتدفقاته المنطقية واللمنطقية.
لو كانت عندي ساعة متعطلة لكانت تشير إلى الوقت الصحيح مرتين باليوم ,ولكني ل أملك ساعة
ول أود أن أفعل ,لنها ستشير دومًا إلى نفس الوقت الذي أشارت له بالمس في نفس هذا الوقت,
مع أني لم أفهم ما قلت إل أني أوافق نفسي الرأي ,فأنا على صواب حتى يمل الرأي الخر الذي
يدعي أني على خطأ ,وإذا مل لحقته مرددًا ) يا انهزامي (.
نهضت وغسلت وجهي ,ومسحته بثوب أخي )عــّزوز( .لم أتصور أني سأسترجع كل ذكرياتي
أل بعد أن رأيت أحواض البرسيم ونخل )السكري و البرحي( ودّراجة أخي سعدون و حظيرة
البقر .يا ال كيف تركت هذا المكان ؟ كيف سمحت للمدينة أن تبتلعني ؟ كيف اعتمرت حماقاتي
مع أول ريح باردة ورحلت؟ لبد أنها أسباب مقنعة دفعتني إلى الهرب و أظنها الن صامته ل
تريد أفساد هذه الثواني النبيلة !.
اجتزت الحياض وسرت بجانب أشجار الثل الصامدة حتى رأيت المنزل الشعبي ذو الطابق
الواحد .تلقت عيني الصورة وكأنها استوعبت كمًا هائل من النور دفعة واحدة ,تذكرت أحد
المساجين عندما قال لي أنه تألم كثيرًا بعد أن أخرجوه من الحبس النفرادي ,لنه لم يَر النور منذ
شهر! .يا إله هذه السماوات الرحبة كيف نتألم من النور إن طال تسكعنا في الظلم .ليس هذا بألم,
بل سعادة مفرطة تتلقها العين دفعة واحدة ,فهي ل تستخرج الصورة من الذاكرة المهلهلة لتستشعر
السعادة بل هي تراها الن ,أيتها الذاكرة جددي خلياك إني سأستوعب مزيدًا من الصور المهمة.
41
هنا ,في هذا البيت المتهالك والصابر على زفرات أركانه المتململة يرتفع السقف فوق رؤوس كل
من أحب ,أمي وأخواني ,وباقي المتلزمة من ضيوف عاشوا هنا أكثر مني .آه كم اشتقت لنطق
كلمة ) أمي ( .بأي لغة كانت وبأي لهجة لفظت تظل أرقى كلمة تنطق في هذا الفضاء الرحب.
_ ُيـّمـه !.
وضعت ما بيدها وأتت متشككة
_ إبراهيم ..؟
لم أسمع صوتها منذ ثمانية أشهر .إن لدعائها صدى يجلجل في صدري .قبلت يدها الطاهرة
وشرحت لها حالي .مسحت على رأسي فعدت إلى الوراء سنين طويلة.
_ ل تحزن فما عند ال ل ينفذ ,الحمد ل أنك سليم معافى.
راحت تهون لي المصائب ,وأنا أزف الزفرات بالتنهد كلطيم يعي مر الشماتة .بعد أن جلست
وتناولت فطوري ذهبت لرى أخوتي .دخلت الغرفة بسرعة ,فرأيت أختي وصاحبتها ,تسمرت
بمكاني ,سبحان الخالق لم أَر أجمل من هذه الفتاة في حياتي كلها .كنت واقعًا تحت صدمة الرؤية
وكانت أختي متفاجئة بحضوري ,صرخت الفتاة فأفاقت أختي وطردتني كقط مطعم .ركضت
ي ,وحين سألتها عن الفتاة فأخبرتني أنها
بسرعة حتى خرجت من البيت .أتت أختي وسلمت عل ّ
بنت الجيران.
_ ولكن ليس لبي صالح بنات.
_ هؤلء الجيران الجدد ,أبو صالح سافر مع ولده إلى دبي.
_ حسنًا ل أود أن أعرف الكثير عنه ,يكفي أنه كان يحجب عنا مثل هؤلء الجيران.
******
ممارسة حرة للنا
سرت متسكعًا بين المزارع وقلبي ينبض بشكل غريب .صدقت الن قصص ألف ليلة وليلة ,إني
أستشعر الن تلك النظرة التي رمتني بألف حسرة .إنه الصلع عندما يقع في الحب.آه ما أجمل
ل هذا الحب.الحب من أول نظرة ,هاهي وجنتاي تشرئبان بحمرة العشاق .يا ِ
_ إبراهيم قف يا لعين!
وكأن أحدهم ضربني على أم رأسي بقوة ,تسمرت بمكاني .حتى أحسست أن الحنجرة التي أطلقت
ي مسرعة عن طريق تحرك الجسد الذي ُركبت فيه! هربت بسرعة ,فسقطت النداء ,تأتي إل ّ
لرتطم بجذع شجرة مرمي على الرض .استلقيت على ظهري ورأيت وجه )محمد( بالمقلوب
_ ل لن تستطيع الهرب ,الحي كله يعلم أن ال خلق لي ساقان تسابقان الريح.
_ محمد يا لعنة ُمركبة وممزوجة بكل ويلت الدنيا ,أرعبتني حتى النخاع!
_ أعلم يا دجاجة أنك مرعوب ,ولكن قل لي كيف ذهبت إلى مصر دون أن تخبرني؟
_ لم أذهب إلى مصر !.
_ ولكن صاحبك أبو عرب قال أنك ذهبت إلى مصر !.
_ ل تكن غبيًا ! كيف أذهب إلى مصر؟
يقول محمد أن أخاه تزوج وأصبح عنده ولد يرمي المارة بالحجارة ,لقد غرس في أطفالنا كما
غرس فينا من قبل روح التمرد والنتفاضة ,فقط يجب عليهم وضعنا بالماكن الصحيحة.
42
صعدت فوق سطح غرفة زيد لرى الحي منبسط أمامي يحده الطموح والجشع ,بعد ساعة أتى
زيد ومعه الكيف .تحدث كثيرًا عن دجاجاته ,وعندما طلبت منه أن يأتينا بدجاجة لنشويها غضب
وقال أن الواحدة منها تساوي مبلغًا كبيرًا ,لم أفهم سبب شرائه هذه النواع الغالية ,فمهما أرتفع
ثمن الدجاجة تظل دجاجة ,هذه المخلوقات العملية لم تجد من يقدرها بعد ,يكفي أن الشخص
يستيقظ ليجد فطوره قد أعد ,ما عليه إل أن يسلق البيضة أو يقليها .بعد أن قرقرت البطون أتى
محمد ومعه صاحبه ,بعد دقائق أنهدم سد الخير وصار يشكو أباه البخيل الذي رفض تزويجه,
قال لي محمد أن أبا صاحبه غني جدًا ,يستطيع شراء المدينة كلها لو أراد إل أنه بخيل يفضل
الموت ألف مرة على أن يفرط بالقرش.
بعد أن لعب الكيف برأسي قلت له
_ ما مشكلتك بالضبط يا أخ..؟
قال بسرعة
_ اسمي عبد الرحمن ,وفي رواية أخرى )دحيم( .مشكلتي يا أخي أني شاب بآخر العشرينات
طلبت يد فتاة من أبيها الجشع ,وطلب مني مهرًا مقداره خمسون ألف ريال ,ولو بعت كل ما أملك
ما وفى معي بربع المبلغ ,هذا من دون ذكر مصاريف يوم الزواج ,والهدايا...
_ يكفي ل تكمل ,لقد أدميت قلبي يا هذا.
ل وتغنيت سحبت نفسًا طوي ً
م ما بين أهلها *** مصائب )دحيم( عند )زيد( فوائد ُ بذا قضت اليا ُ
_ اللعنة يا دحيم على مستحاثات الدهور المترفة كيف استطاعت غرس هذه البروتوكولت
الجرثومية المستنبطة من أصول ل بشرية.
نظر دحيم إلى محمد وقال وهو يهز يداه
_ لم أفهم .محمد ماذا يقول صاحبك؟
_ أترك محمد الن ,الحل موجود ,ولكن بشرط
تهلل وجهه وقال بلهفة
_ وما الشرط؟ أخبرني!
_ أذهب الن وأجلب معك كباب و دجاج مشوي وتبوله وحمص وبابا غنوج و )ماما غنوجه(.
نزل الرجل بسرعة .سألني زيد عن )ماما غنوجه( ,ولما أخبرته أنها طبخة جديدة أستبشر الرجل
ل بالكياس البنية الجميلة ,آهٍ كم كانت الرائحة زكية .عندما فتحنا وفرح .بعد ساعة أتي دحيم مثق ً
الكياس ضربت الخيبة أمانينا الجميلة وقلت بتصرف ل يخلو من الرقة :
م
ه أباه فما ظل ْ ل *** ومن يشاب ْ بأبيه اقتدى دحيم بالبخ ْ
تناولنا المقسوم ,وثقبنا طبقة الوزون بالدخان والروائح)الخضراء(المميتة ,وعندما فرغنا قلت له
_ بالغد ل تذهب إلى عملك ,نم على فراشك وتأوه كالمريض.
_ يا أخي أبي وأعرفه ,لن يرق قلبه أبدًا!
نهضت ونفضت التراب وقلت
_ نفذ ما أقول لك ول تجادل .وأعطني الن مائة ريال.
_ لماذا ؟
_ ألم أقل لك ل تجادل؟ .أعطني النقود فقط!.
أعطاني الرجل النقود وهو مكفهر الوجه ,وذهب بحال سبيله.
******
متلزمة كنفوشيوس
43
بالغد ذهبت إلى بيت دحيم ,طرقت الباب ففتحت لي أمه ,سألتها عن ابنها فأخبرتني أنه ملقى على
فراشة ,وكأن روحة ستنزع .قلت لبيه أنني سأذهب لتي بالطبيب تلعثم الرجل وقال أنه مرض
طع عروق السماء في يدي بدعائه. بسيط وسيشفى منه ولما أخبرته أن التكاليف على حسابي ق ّ
ل وذهب معي إلى بيت دحيم على أنه ) ممرض( .دخلت على أعطيت أخي )عزوز( خمسين ريا ً
دحيم ,وصبرته وذكرته بالجر والثواب ,وبدأ "الطبيب" يجس النبض ويقيس الحرارة بل
أجهزة! .كانت لغته النجليزية كفيلة بدحض كل شكوك أبا دحيم الذي ل يعرف منها إل ) how
.(much ) ( I don’t have money
سألت الممرض
_ أخبرني ,ما علة صاحبي ؟
رفع الملعون رأسه وقال
_ ل أستطيع أخبارك ,إل إن أكملت رسوم الكشف.
ل المتبقية.بعد أن
كدت أن أخنقه إل أن خوفي على انهيار المخطط ,جعلني أعطيه الخمسين ريا ً
ناولته النقود قال بطريقة مضحكة ,ذكرتني بأسلوب الدجالين والمحتالين
_ أعوذ بال ! ل إله إل ال !.
قفز أبوه كالملدوغ وقال بخوف
_ ما به يا حكيم ؟ تكلم !
_ لم أَر في حياتي مرض مثل هذا ! هذا ما يسمونه في الغرب " ! "Confucius
قال أبوه بانفعال وحيرة
_ وما هذا "الكنكوش" ؟
ضحك عزوز مل شدقية
_ كنفوشيوس وليس )كنكوش( .على العموم هذا ما يسميه الغرب أما نحن العرب العاربة فنسميه
)سيكولوجية التبلور البيولوجي(.
_ ما هذا ؟ تكلم العربية يا حمار !
أشرت إلى عزيز أن يكفي مبالغًة وأدخل بالموضوع ,فقال بعد أن مرر وصف الشيخ له بالحمار
_ هذا ما نسميه )المس(.
قفز العجوز ممسكًا برقبة عزوز
_ هل تقول أن ابني مسكون بالجن ؟.
_ يا عم دعني قبل أن أموت بين يديك.
تركه العجوز وجلس وهو يلعن .كان كل هذا يحدث وأنا أنظر للباب وأفكر بالهرب .أخيرًا قال
أخي الذي يدعي أن )كنفوشيوس( الفيلسوف الصيني ,مرض غريب ل يعرف الطب الغربي كيفية
الشفاء منه !.
_ أنا كمسلم يا عم أقول أن أبنك مسكون بالجن وليس مريض بمرض جسدي لنه كالعجل صحيح
معافى ,وليس بمريض نفسي ,لن البيئة هنا ل تنتج إل حمير تتحمل هموم الدنيا .الشيء الوحيد
القادر على إعاقة ولدك هو الجن والعياذ بال من شرورهم.
******
مبدأ وخرطوم وجني
44
_ أظن أني جننت مثلك .هل تعلم أن هذا العجوز النكد سيطبخنا )بيض عيون( لو كشف أمرنا.
تجاهلت تحذيراته التي تدور كلها حول إمكانية تحويل الطعام إلى عقاب وناديت دحيم بصوت
منخفض
_ أمسك طرف الخرطوم وضعه تحت سرير أبيك بسرعة.
تحرك بسرعة وعلمات التعجب ترقص فوق رأسه وضع الخرطوم وعاد إلى النافذة
_ ماذا أفعل الن ؟
_ أذهب وأكمل دورك ,وبالغد ستسمع ما يبهجك.
نزلت بهدوء ووضعت حاوية القمامة التي صعدت عليها بمكانها الول وقفلت راجعًا أو ذاهبًا ,ل
أعرف ما الذي قفلته حقيقًة ,كل ما أعرفه أني قفلت فقط !.
فوق غرفة زيد كنت أعصر قرص الشمس بيدي فتنسكب الشعة على الرض ,أصرخ بالرمل
)اشرب..اشرب( .وحدتي تحميني من تهمة الجنون في هذه الثكنة التي تدعي المدنية .قبل تلك
النظرة كنت أردد بغرور )الحب مؤامرة رأسمالية صنعها باعة الورود .الحب اختراع اخترعته
المرأة لتقنع الرجل بالزواج .الحب انبثاق جرثومي للحاجة البشرية( .كم أنا مسكون بالكذب
والفراغ .إن هذا القلب عاٍر ككثيب تكتسحه الرياح ,هذا القلب معتم يجهل النور والظلم .وكيف
يدري ما الظلم وهو لم يَر النور من قبل ,من العجيب حقًا أن تثبت النقائض نفسها عن طريق
التناقض نفسه .يقول أحدهم ) النور والظلم ل علقة لهما بالشمس .النور كائن خرافي يستوطن
صدورنا كما نّدعي جميعًا .والظلم ليس سوى المكان الذي يسكنه النور ,إذًا النور بدون الظلم
كائن مشتت أو مشـّرد ( .كيف نسمي الكائن الخرافي "كائن" وهو الذي ل يهرم ول يشيخ ول
يهذي بآذان الُمـنكرين .إن دللنا فنحن ندلل لنفسنا ,وإن لم نفعل فلن تنتفي الحقيقة .تستطيع أن
تغمض عيناك وتدعي أن الوجود "ُيلمس" وما دونه أسطورة انتهت صلحيتها! .ومع ذا لم
تستطع أن تنفي "اللملموس" فقط أنزلته إلى حد "الخرافة" وإن كانت تلك تحميها هالة قدسية
الجهل ! .وإن أدعينا استيطانه في صدورنا فنحن نسعى لثبات مدى رحابتها ,و إل فما فائدة
إحاطة النور إن قصد منه النتشار؟.
ها أنا أهرب كفيلسوف جبان ,خيروه بين شرب السم أو النفي ,إل أني ل أنتظر قدوم السفينة مثل
سقراط! .أنفوني إلى مكان أبعد مني ,دعوني أرى نفسي من بعيد لستشعر مدى ضآلة النسان
بين هذه الخليا المتلحمة !.
نزلت مع عزوز إلى الحي ,وسرنا بحذر .أخذ عزوز جولة حول البيت وأعطاني الضوء
الخضر .صعدت فوق حاوية النفايات وأمسكت الخرطوم بيدي وتحدث من خلله
_ يا أبا دحيم انهض! انهض !.
كاد العجوز أن يلحس السقف بلسانه .صرخ مذعورًا
_ بسم ال الرحمن الرحيم ..من أنت!
_ أنا "نقروش المستوي" جئت لقتلك!
_ خرفوش؟
_ نقروش يا حمار !
_ فنكوش؟
_ يا غبي نقروش !
45
_ سمعي ثقيل ,هل تقول )الي مامعوش ما يلزوموش(؟
_ أنا جني يا بغل ! ل يهم أسمي ,المهم أني جني أزرق!
_ أنت تغرق؟ كيف تغرق ونحن على اليابسة !.
)غلب حماري( ورميت بالخرطوم .أخذ عزوز الخرطوم وقال بسرعة
_ أسكت يا متخلف!
_ ومن قال أني أسّلف؟
كنت واثقًا أن الخطة دمرت .وما أن أدرت ظهري قاصدًا البيت حتى صرخ عزوز
_ سأسرق كل أموالك يا لعين!
_ رحم ال أمك وأباك الجنيين ل تقرب أموالي ..أنت جني ماذا تريد بالمال ؟.
عليه ما يستحق ,سمعه )اختياري( هذا الخرف .أمسكت الخرطوم مرة أخرى وقلت
_ أسمع لقد سببت لي مشاكل كثيرة ,وسأعاقبك بسرقة كل أموالك ,ثم ما أدراك عن الجن حتى
تسألني ما الذي أريده بالمال!.
قال بيأس
_ أسرق جاري ,عنده أموال هائلة ,وهو مسرف ل يقدر قيمة المال.
_ ل أبدًا ,سآخذ أموالك عقابًا لك يا مأفون!.
_ ولكني لم أخنق قطًا ولم أرفس بقرة..
_ هيه أنت! ما دخل القط والبقرة؟
_ يعني أني لم أؤذي جنًا متنكر بقط أو بقرة.
_ أنت المتنكر بصورة ثور يا عجوز السوء .نحن جن أزرق ولسنا جن )بروليتاري( !.
قال نائحًا
_ لَم أنا بالذات ؟
_ اعلم يا أبخل أهل الرض أن بنتي )تفيده( هامت بحبك ابنك دحيم أيما هيام ,وإن لم تزوجه
بسرعة بفتاة إنسية ستظن ابنتي أن ولدك الحمق لم يتزوج إكراما لها.
_ يا سبحان ال ,صحيح أن الحب أعمى ,كيف تحب ابنتك هذا الجرب ؟
_ الحب أعور وليس أعمى ,فلو كان أعمى لما شاهد أحدًا بالصل ليحبه.
_ ما شاء ال جني أزرق وفيلسوف !
سمعت صوتًا خلفي فاستدرت بسرعة ,ولم أَر إل غبار عزوز .نزلت مذعورًا فإذا العجوز خلفي
ممسكًا ببندقية صيد قديمة
_ جني أزرق يا حيوان!.
ألصقت ظهري على الجدار وقلت وقلبي يحاول الخرج من حلقي.
_ يا عم ل تقتل النفس التي حرم ال.
_ إل بالحق !.
_ رحم ال أباك آدم أطلقني لوجه ال..
_ لو أتت عفاريت الرض كلها ما أعطيتها غبار حذائي.
فجأة سمعنا صوتًا أشبه بحشرجة كهربائية
_ مت يا أبخل أهل الرض !
سقط العجوز مغشيًا عليه من شدة الذعر ,أما أنا فرحت أسابق غبار عزوز.
******
تبعات..
ق على ظهري ألعب بقشة في فمي عندما سمعت صرخات دحيم الغاضبة تقرع طبلةكنت مستل ٍ
أذني التي أرسلت على الفور رسالة إلى عقلي مفادها " أهرب بسرعة!" .نهضت بسرعة ضوئية
46
متجهًا إلى البيت ,كانت الحجارة تمر بجانبي ,بعد أن تفاديت أكثرها برشاقة مصدرها كيمياء
الجسد العزيز الذي أفرز الدرينالين بشكل هائل ,أحسست بألم رهيب في رأسي سقطت على
ل الهروب مجددًا الرض ورحت أهرش رأسي ,أخرجت أصابعي فلم أَر أي دماء .نهضت محاو ً
إل أن دحيم مسكني بقوة
_ أبي بالمستشفى بسببك.
_ أذكر ال ,يا رجل وال ما أردت إل الخير..
_ الخير؟! أيأتي منك الخير!
أنهال الرجل علي ضربًا ,بعد دقائق أتي أحد أقربائه وراح يشاركه العزف .بعد أن تركاني سرت
حتى وصلت بركة الماء غسلت وجهي وسقطت على الرض .مرت الساعات وأنا بحالة تمنيتها
في أيام السجن )حالة تشبه النوم منزوعة الرؤى( ,ليتني تمنيت شيئًا أفضل.
_ يا للهول ! من الذي فعل بك هذا ؟
فتحت عيناي بألم وقلت
_ أنت زيد ؟
_ نعم
_تعال ساعدني على النهوض
_ أتود الذهاب إلى البيت ؟
_ ل أريد الذهاب بهذه الحالة..
_حسنًا يا رجل تعال عندي.
ما أن رميت ظهري على الفراش حتى غرقت بالنوم ,حلمت أحلمًا غريبة ,ترتكز معظمها على
الضرب والحرب .أنهضني صوت مرعب كالصوت الذي سمعته مع أبا دحيم .
_ أعوذ بال !.
كاد أن يغشى على زيد من الضحك ,أراني الجهاز الذي معه وأخذ يتحدث عنه بفخر
_ أنت من..
_ نعم أنا من قلت للعجوز أنه أبخل أهل الرض.
انفجرت غاضبًا وخنقته بقوة.
_ هل يضحك هذا !..لقد أدخلتني بمصيبة يا لعين.
دفعني بقوة ونهض قائ ً
ل
_ كان الرجل يريد قتلك .هل ظننت أنه يهددك فقط ,كان يحسبك تعرف المكان الذي يخبئ به
ل ولدعى أنك لص .أخبرني هل تتصور أن ابنه سيشهد ضده نقوده .وال لو لم أتدخل لرداك قتي ً
******
تدحرج...
47
مرت ثلثة أسابيع .خرج أبو دحيم من المستشفى .كان الحي كله تناقل القصة وتناقل أيضًا أنه
رفض تزويج أبنه .بعد شهر من خروجه أتي دحيم ودعا محمد إلى عرسه على شرط أن ل آتي
معه ,فليذهب إلى الجحيم هو وأتانه التي سيتزوجها وليصحب معه أباه إلى جهنم الحمراء.
كنت أتسكع في السوق يوم رأيت )مريم( بنت الجيران تخرج من بيتها ,خفق قلبي بقوة ورحت
أتبعها من بعيد .توقفت ونظرت لي على استحياء .كدت أرقص فرحًا همست بحذر
_ صباح الخير.
أنزلت نقابها فحجبت عني عينيها الجميلتين ,ومشت أمامي خجلة ,سرت خلفها أردد الشعار
والغاني ) عيناك ليال وردية( )إن كان حبي جريمة فليشهد التاريخ أني مجرم( .مع مرور اليام
والسابيع أصبحت تتفاعل معي ,أكتب لها فترسل لي الرد ,كانت أيامًا غبية وجميلة .ل أعرف
كيف انفجرت باكية في ذات مساء ,حاولت أن أعلم سبب بكائها
_ أخشى أن تخدعني يا إبراهيم.
_ يا بنت الناس ,ما بيني وبينك إل الحلل ,ويعلم ال أني أكن لك حبًا يعجز الشعراء عن وصفه.
أذكر أني أنشدت قصيدة نزار قباني وقلت لها أني كتبتها فيها .أنا ل أجيد من الكذب إل ما أستطيع
أن أصف به الحقيقة ,هكذا جبلت وهكذا أعيش ,أتحدث عن فلسفتي في الحياة وأقول أنها من
مقولت أبي حيان التوحيدي أو من مقولت الفارابي الخالدة.
سألتني بغتة وبدون مقدمات
_ لَم لْم تطلب يدي إذًا؟.
اتكأت على الجدار ورحت أدعك جبهتي .رأيت أن سكوتي يحزنها فقلت ببلدة
_ سأفعل!..
كنت واثقًا أني أهلها سيرفضوني ,ول ألومهم ,كيف سأعيل أبنتهم وأنا معدم ل أملك إل شهاداتي
البالية .ودعتها بعبارات رقيقة ,وتبسمت بوجهها وانصرفت.عدت أخيط طرق حي )الروغاني(
أهذي كالمحموم .كيف فاتت هذه الحقيقة الُمّرة؟ ,أحدنا سيحزن كثيرًا ول بد أنها هي التي ستأخذ
النصيب الكبر من الحزن ,الفتاة تعشق بسرعة ,وتخلص بحبها حتى لو كان حبيبها ضفدع .لم
أكن ألجئ للحب لقنعها بالزواج فلست أنا الوحش وليست هي الجميلة .الحب هنا جريمة كأي
عاطفة نبيلة ل تستطيع الدفاع عن نفسها .إنهم يقتلوننا ويقدموننا قرابين للمجتمع .نحن الذين ولدنا
وذنبنا الوحيد أننا ولدنا !.
البؤس الذي يحيطني يثير فيني رغبة بالتقيؤ ,عمالة يثرثرون بلغة ل أعرفها .أولد حرام يبيعون
الحبوب للطفال ,ذاك يمشي مترنحًا ل بد أن خرجًا مهزومًا من حرب غير منصفة ,وهل في
الحرب أنصاف ,إنها وسيلة للظلم أو وسيلة لزالته ,حسنًا هذا يكفي أن يثبت أنها تنمو مع الظلم
أو ضده .عدت ل أفهم ما أقول ,إني أهذي كالمحموم ..إني أهذي .الصراصير حولي ل تكف عن
ل الذي تصدرينه(. العبث بسيقانها .كم أود أن تفهم لغتي لقول لها فقط )هذا ليس صوتًا جمي ً
اللعنة إنها صراصير ما الذي تحاول أثباته ,ل توجد صراصير ذكية وأخرى غبية ,إنها
صراصير فقط .إني أفند كلمي بنفسي .وكأني مصدر كل شيء .إني على حافة الجنون ,أو على
حافة العقل .إني أتأرجح على أرض تدعي الثبات.
عدت إلى البيت.عزوز كان يحاول تفكيك دراجته النارية التي اشتراها من )عباس البله(
تجاهلنا بعضنا ,كان يحاول تفكيك دراجته ,وأنا أحاول تركيب حياتي .أمي تتبسم دائمًا بوجهي
مخفية حسرتها ,كانت تعلم مثلي أني أفكر بأمور ل تحدث إل بمعجزة ,ولكن يجب على الشخص
أن يتلقى الصدمة ليقتنع بأنه على قيد الحياة كما يقول فيلسوف نسيت أسمه ,ها أنا أكذب من جديد,
لم يقلها فيلسوف ل أعرف أسمه بل أنا من صنعها الن.
48
******
واقع ..مزيٌد من الواقع
فتحت الموضوع مع أمي .أيدتني أختي وقالت أن مريم فتاة لن أجد مثلها أبدًا ,ل تعلم أنها زادت
حسرتي بحديثها .أخي )سعدون( ذو العشر سنوات أو أكثر سخر مني مما جعلني أصفعة صفعة
أخوية ل تحمل الضغينة أبدًا ,بالمساء ذهبت أمي ومعها جدتي التي ل تخرج من البيت إل لعرس
أو عزاء .كنت أدخن الشيشة مع زيد فوق سطح غرفته .شربت ثلث رؤوس ولم يخرج أهلي من
بيت الجيران .سمع زيد نباح الكلب فنزل بسرعة ,كان يعاني من هجمات الكلب على دجاجة.
الكلب مخلوق صريح ,يبلغك أنه سيهجم على ممتلكاتك قبل أن يفعل .كما يقول زيد ) أبشع موقف
للدجاجة أن تكون مع الكلب بنفس القفص ,وأبشع موقف للكلب أن يكون مع صاحب الدجاجة
بنفس القفص( .بعد قليل عاد وهو يتغنى :
دجاجتي فوق القمم ** تبيض أمامي بانتظام
دجاجتي مثل الصنم ** إذا غامر الكلب واقتحم
_ ومن أي البحور هذه يا زيد؟
حرك الجمر فوق رأس الشيشة وقال ساخرًا
_ من البحر الحمر.
استلقيت على ظهري ورحت أراقب النجوم .هناك أسطورة شعبية تقول أن من يعد النجوم يصاب
)بالثالول( وهي حبه كبيرة مزعجة تخرج بأي مكان .أخذ زيد يفرك بموجات الراديو .سمعنا
خبر اختطاف طائرة بتركيا .سألني زيد
_ كيف يستطيعون اختطاف الطائرة ؟
_ هذا سهل ,بعد أن تقلع الطائرة وتبتعد تكون صغيرة ,فيمسك المختطف بالطائرة ويضعها في
جيبه ,إنها مسألة بسيطة.
كنا نضحك بغباء فوق سطح الغرفة .أخيرًا رأيت أهلي يخرجون من بيت الجيران .انتعلت حذائي
وقفزت من سطح الغرفة .سرت بسرعة حتى دخلت البيت وراء جدتي .أمي تعد الشاي بصمت.
ل هذر جدتي وقفت أمامها متجاه ً
_ هاه ..بشريني ؟
رفعت غطاء البريق وراحت ترمي النعناع .نشفت يديها وقالت بهدوء مزعج
_ ابحث عن فتاة أخرى ,الفتاة ليست من نصيبك.
جدتي تثرثر بصوت مخدوش ,لم أفهم يومًا حديثها .صرت أنقل وجهي بين أمي وجدتي .إني ل
أعي شيئًا .أدرت ظهري لهم .توجهت صوب الباب وخرجت أسحب صدمتي .قرأت على الجدار
بيتًا للشاعر )خالد العيدهي( :
فلكم كتبتك في سطور أضالعي ** وغذيت هذا الحب من روحي أنا
رحت أكمل البيات .أصرخ حينًا وحينًا أضحك ,غير مبال بالعين الفضولية التي تلتهم جنوني
ولكم نـقـشـتك وردًة فـواحة ** ونـشـرت ألـوانـي عـليـك تـفـننًا
فلما أراهن في جواد خاسر ** وأصب أحلمي بأكواب الضنى
خطي على هدب العيون ُكليمًة ** الحب يا حسناُء لم يخلق لنا ! ُ
******
إذا ركلك الجميع فاعلم أنك بالمقدمة
49
أربعة أيام لم أَر مريم فيها .كنت أصادف أباها أحيانًا فأصد بوجهي عنه أو أهرب بسرعة ,أمسك
بيدي بعد صلة الفجر قال لي وهو يضغط على يدي بحرارة
_ أتمنى أل أراك أمام البيت مرة ثانية ,نحن جيران ول أود أن تحدث بيننا مشاكل.
اختنقت بخجلي و بعبرتي وهززت رأسي .بعد أن مرت ثلثة أسابيع رتبت أمور زواج مريم
بسرعة مع قريب لها من مدينة )الدمام( .كنت وحيدًا أشرب الكيف بشراهة .محمد يقول لي دائمًا
_ أن ظللت على هذه الحال ,ستكون مشروع عربيد.
ل مشروع )العربدة( هذال يوجد إنسان فاشل ,لو أختار كل شخص مشروعة بدقة لنجح .مث ً
مشروع ل يفشل أبدًا وهو أكثر متعة من مشاريع الحب الغبية.
كنت أسير متخبطًا وشياطين الجن كلها متحلقة حولي يزفونني إلى جحيم الدنيا فأركل كل ما
أره.مر أحدهم وضرب كتفي بقوة ,رفعت رأسي وإذا به دحيم ذاك الملعون .قال بتعجرف
_ هل تريد أن أشبعك ضربًا من جديد ؟ .
همس الشيطان بأذني ) إن لم تطحن عظامه ,سأطحن عظامك( .رفسته بقوة على فرجة ,فسقط
على ركبتيه صارخًا .أخذت عصًا غليظ ورحت أضربه بوحشية على رأسه .أنفجر الدم من وجهه
ورأسه وسقط على جنبه وهو يئن .ركلت ظهره وتركته على الرض .عدت للبيت لنام .كنت قد
قررت الذهاب إلى مكتب العمل بالغد .صحوت على أصوات غاضبة ,كانت الساعة تشير إلى
الثامنة والنصف .أتى أخي وقال أن عائلة دحيم مجتمعون عند الباب .وقفت وأخرجت البندقية.
فجأة خرجت أمي أمامي وأقسمت أنها لن ترضى عني أبدًا أن أنا خرجت بالبندقية .دخلت أحد
الغرف وأتت بسرعة ومعها عباءة جدتي.
_ اخرج من نافذة المطبخ وأرتدي العباءة.
لبست العباءة وتشبثت بإطار النافذة .قبل أن أخرج سمعت أمي تقول
_ أذهب ..أذهب .ل تعد إلى هنا مرة ثانية !.
قفزت بسرعة وأصلحت حال العباءة .سرت حتى وصلت إلى طريق البيت الجانبي .رأيت حشودًا
هائلة تهتف بوحشية أمام البيت .بدأت الشرطة تتوافد على المكان .كنت ألتفت بحذر وأنظر إليهم.
فجأة اصطدمت بأحدهم وأنا ملتفت للخلف .تأسف مني بأدب بالغ .هززت برأسي كما تفعل النساء
ل حتى صرخ وما أن ابتعدت قلي ً
_ هيه هذا أنت ! إنه هنا تعالوا بسرعة.
أخذت حجرًا كبيرًا وضربت به رأس المنادي ,ولكن بل فائدة فالحشد الغاضب كان قد سمع هتافه.
رحت أجري بسرعة .حاولت أن أرمي العباءة وما استطعت .لم أشعر بنفسي إل وقد دخلت
المسجد .وأهل دحيم من خلفي يركضون .وطأت يد المام وهو ساجد .تأوه بقوة وقفز .تنبه
المأمومون ورفعوا رؤوسهم .صرخ المام بغضب
_ أمسكوها ! أو أمسكوه ! بسرعة!.
خرجوا كلهم خلفي عجائز وشباب وأطفال .كانت الحجارة تنهال علي من كل حدب وصوب.
أقسمت لنفسي أني لن أقف حتى لو سقط علي القمر نفسه .منظر مرعب خلفي ,نصف المدينة
تلحقني .في آخر الشارع رأيت موكبًا يتقدم ببطء .إنه يوم زواج مريم ! وهذا زوجها .أرتعب
الموكب وظنوا أننا أتينا لنهاجمهم .اخترقتهم بشكل غريب و تابعت الجري .هرب موكب العرس
من أهل دحيم وجماعة المسجد وصاروا يركضون خلفي .يا للهول إن المدينة كلها تلحقني الن!.
رأيت من بعيد الخياط )ديقال( يغلق دكانه ودراجته النارية تعمل .وصلت إلى الدراجة وقفزت
عليها بسرعة .خرج الخياط مذعورًا ونادى رفاقه ,وهجموا بسرعة ,فضغطت على دواسة
السرعة و ابتعدت عنهم .رحت أضغط على دواسة السرعة بذعر .بعد أن وصلت الطريق
المرتفع .أوقفت الدراجة ونظرت للمشهد الفريد بالسفل .كل هؤلء تجمعهم رغبة واحدة هي
تمزيقي ! .نزلت من الدراجة وصرخت بقوة
_ سأزوركم في كوابيسكم يا ملعيني العزاء
50
كانت أصواتهم تصل إلي مشوشة ,كان أحدهم يقول
_ ستنزل عليك صاعقة من السماء يا زنديق !.
عندما أحسست باقترابهم ركبت الدراجة وسرت بسرعة حتى صرت خارج المدينة .سأكون قصة
تلوكها اللسن لسنين طويلة .يقول أحد الحكماء)هناك شيء أسوء من أن يتحدث الناس عنك ,وهو
أن ل يتحدث الناس عنك( ,نعم ل كرامة لنبي في وطنه ,ول كرامة للصعلوك في أي مكان.
******
******
طعم مر يستوطنني ,استشعر نفسي فأمتعض
العكاز هنا مرمي ,بين أضلعي..
اتكئ على نبضي فأنهض
أترفع..
حتى أرى نفسي من بعيد
ثم أهوي..
وأهلك..
51
هل أعي تواتر لحظاتي
أم أجحد هزل الثواني..
فل تعلم الساعة أنها أربع وعشرون ساعة!
أسرق نفسي..
فأعاقَــب
فتسرقني نفسي..
لُتـعاقب
إنّـا هنا مجموعة كلهم "أنا"
إل نفسي!..
.
أقسم أني لن أهذي..
حتى لو قالت قارئة الفنجان :
)مفقوٌد ..مفقود(
لن أتحدث أبدًا عن نفسي..
فأنا نفسي أجهل نفسي !
هذي غيبة..
وأنا أغبى من أن أغتاب..
******
تـــــــــــــمـــــــــــــــــــــت
52