Professional Documents
Culture Documents
إن تحقق النساني في النسان على نحو كوني ،يفرض تجاوز الوجود النساني مستوى
الوجود المرتبط بضمان الحاجات الضرورية ،التي تضمن شروط حفظ البقاء .فتجاوز
مستوى الوجود الطبيعي نحو الرتقاء إلى مستوى الوجود النساني يستلزم قيام مجتمع
إنساني يكون للقيم في إطاره دللة ومعنى .غير أننا سواء نظرنا إلى ضرورة الجتماع
النساني في علقة بمبدأ التعاون والتقسيم الجتماعي للعمل ،أو في مستوى التأسيس لوجود
ثقافي يرتبط بالقيم والمعنى ،نلحظ أن استمرار هذا الجتماع وتماسكه وثباته يضل غير
ممكنا ،بسبب اختلف وتعارض مصالح الفراد وطباعهم وقيمهم.
يشترط تثبيت الوجود الجتماعي تنظيم الشأن العام ،ويحيلنا مفهوم الشأن العام إلى احد أبعاد
الوجود النساني الساسية المتمثلة في وجوده السياسي .يتحدد هذا الوجود السياسي بمقتضى
تنظيم الشأن العام ،أي المجال الذي تتقاطع فيه مصالح الفراد تكامل وتناقضا .فبقدر ما
يجعلنا وجودنا الجتماعي متعاونين متآلفين ،باعتبار ارتباط مصلحتنا الخاصة بالخرين،
فان مصلحتنا الخاصة تكون دائما كذلك مقيدة بمصلحة الخرين.
يستلزم تجاوز مجمل هذه العوائق التي تحول دون ثبات الجتماع بما يحقق الغاية منه،
توفر سلطة تكون قادرة على تنظيم الشأن العام ،والتوفيق بين المصالح المتقابلة بين الفراد
بما يضمن استقرار المجتمع وتماسكه .تتحدد " السلطة بما هي البنية الساسية للسياسي"
)بول ريكور( .إذ أن السلطة السياسية هي المقتضى الذي يضمن تنظيم الشأن العام .تقوم
السلطة السياسية على أساس اقتران وجودها بالقوة ،فهذا القتران هو الذي يوفر للسلطة
إمكانات الفعل والتأثير القائمة على أدوات المراقبة والعقاب .دون توفر مثل هذه السلطة التي
تكون قادرة على كبح جميع مظاهر العنف ومعاقبة كل من يتعدى على مقتضيات الوجود
الجتماعي يتحول هذا الوجود إلى فوضى مطلقة .على هذا الساس يمكن تعريف الدولة من
جهتين :من جهة توفرها على ثلثة أركان هي القليم ،والشعب ،والسلطة السياسية
)مؤسسات الدولة وأجهزتها من حكومة وشرطة وقضاء وجيش (...ومن جهة تمتعها
بالسيادة بمعنى توفرها على سلطة وقدرة مطلقة ل تقبل القسمة ول المشاركة ول التجزئة بما
يجعل من ممارستها للسلطة ممكنا.
/1الدولة والسيادة
السيادة تتحدد إذا باعتبارها الخاصية المميزة لكل سلطة سياسية ،وهي ما يضفي المشروعية
على هذه السلطة بحيث تكون سلطة الدولة هي تجسيد لسياستها .هذا الربط بين سلطة الدولة
ومفهوم السيادة هو ما يجعل من سلطة الدولة سلطة عليا ومطلقة .أن تتمتع الدولة بالسيادة
فإن ذلك يعني أن هذه السيادة هي منبع السلطات الخرى ،على هذا الساس يكون للدولة
الحق المطلق في تشريع القوانين وإنفاذها دون أن تكون ،في ذلك ،محتاجة للرجوع إلى مبدأ
غير ذاتها ،ول إلى مشروعية غير مشروعيتها الخاصة .يحيل مفهوم السيادة بذلك على
معاني الهيمنة والسلطة والتحكم التي يتقوم بها وجود الدولة في إطار حدود و مجال
سلطتها الواقعي والقانوني.
إذا كانت السيادة تعني داخل حدود الدولة السلطة المطلقة والعليا ،المحتكرة لحق سن
القوانين المنظمة لعلقة الفراد فيما بينهم ،والسهر على فرض هيبة واحترام هذه القوانين،
فهي تفيد في إطار العلقة بين الدول استقللية الدولة عن كل سلطة خارجية ،أي عن سلطة
أي دولة أخرى .وبذلك فانه ل يمكن الحديث عن دولة دون توفرها عن سيادة تامة ومطلقة
بما يجعلها قادرة على بسط سلطتها وممارسة هذه السلطة في استقللية تامة عن تأثير أو
مراقبة أي دولة أخرى .يحيل مفهوم السيادة في هذا السياق على مبدأ سيادة المة واستقلل
إرادتها في مقابل سيادة بقية الدول الخرى.
إن هذا التحديد الولي لمفهوم السيادة من خلل ربطه باحتكار السلطة داخل حدود الدولة،
على أساس انفرادها بمشروعية تشريع القوانين وإنفاذها من جهة ،واستقللها عن كل تأثير
أو تدخل خارجي من جهة ثانية ،أصبح اليوم ،وفي ضل مظاهر العولمة القتصادية
والسياسية خاصة يواجه تحديات حقيقية مع تشكل وتنامي ما أصبح يعرف بالقانون الدولي
خاصة .إن سلطة الدولة وان بدت ل محدودة انطلقا من مبدأ السيادة إل أن التفاقات الدولية
التي نشأ عنها القانون الدولي والمؤسسات الدولية الحقوقية جعلت من مفهوم السيادة الوطنية
موضوع للمساءلة وإعادة التأسيس.
يرتبط مفهوم السيادة ،في حضارتنا المعاصرة ،بالدولة تحديدا ،إذ ل يمكن أن نربط أي
وجود اجتماعي سياسيي بمبدأ السيادة ،غير الحديث عن سيادة الدولة .تكون الدولة بهذا
المعنى هي الجهة ،وبغض النظر عما إذا ما كانت تتحدد في شخص ،أو في مؤسسة ،أو في
مجموعة مؤسسات منفصلة ومستقلة ،ولكنها في نفس الوقت متكاملة ،في احتكار فعاليتين
رئيستين؛ تشريع القوانين المنظمة للشأن العام من جهة ،وإنفاذ هذه القوانين ،من خلل
آليات المراقبة والعقاب ،من جهة ثانية.
ترتبط الدولة ،إذن بممارسة العنف ولكن العنف الذي تمارسه الدولة يضل عنفا شرعيا ل من
جهة غاياته المتمثلة في ضرورته لتنظيم الشأن العام وإنما من جهة اعتباره شرعيا بالمعنى
القانوني .إن عنف الدولة هو العنف الذي يبرره القانون ويفرضه .فالدولة هي الجهة التي
تحتكر الحق في ممارسة العنف الشرعي حسب عبارة ماكس فيبر .هذا الربط بين الدولة
والعنف يجعلها ليست غير تعبير عن علقات الهيمنة السائدة داخل المجتمع.
يمثل العنف ،كممارسة مبررة ومشروعة ،الوجه الخر للسيادة التي تؤسس لوجود
الدولة ،وما يجعل من ممارستها للسلطة أمرا واقعيا .حين نربط الدولة بالعنف فان المسالة ل
تتعلق بشكل الدولة ،باعتبار نظامها السياسي إذا ما كان مستبدا أو ديمقراطيا ،وإنما بالدولة
بإطلق وبغض النظر عن هذه الفروقات .والعنف ذاته يمكن أن يتجلى ضمن وسائط متعددة
سواء كان عنفا ماديا مباشرا يقوم على إلحاق الذى المادي والمعنوي ،أم كان عنفا رمزيا
يقوم على توجيه الرأي العام على أساس المغالطة والتزييف والوهم .ولعل السمة البارزة
لممارسة العنف اليوم تتمثل في شيوع آليات العنف الرمزي القائمة على التضليل من خلل
الدور المؤثر الذي أصبحت تلعبه اليوم وسائل العلم بأصنافها المتعددة حتى صار هذا
الشكل من أشكال العنف القائم على التضليل بمثابة العلم القائم بذاته.
يتخذ هذا العنف المنظم الذي تمارسه الدولة وجهين متمايزين ولكنهما متكاملين .فالدولة
الحديثة في ممارستها لسلطتها وتثبيت هذه السلطة تستند على منظومتين من الجهزة كما
بين ذلك "ألتوسير" منظومة الجهاز القمعي وهي تتشكل من جملة مؤسسات الدولة القانونية
والمتمثلة في الحكومة والدارة وجهاز الشرطة والقضاء وهي كلها أدوات تعتمدها الدولة
لتكريس ذاتها كسلطة تحتكر ممارسة العنف وتقمع كل من يحاول مشاركتها في التفرد في
هذه الخاصية ،أو عدم العتراف بسيادتها وحتى محاولة الخروج عن هذه السيادة.
غير أن الدولة الحديثة خاصة تعتمد منظومة ثانية من المؤسسات والجهزة التي تمارس
نوعا مغايرا من العنف هو العنف الرمزي .إن آليات العقاب وحتى المراقبة المباشرة ل
يمكن لها أن تضمن استمرار سلطة الدولة واحترام سيادتها ما لم تعمد إلى تشكيل أو إعادة
تشكيل وعي الفراد على النحو الذي يجعلهم يقبلون بسلطة الدولة على أساس كونها تتوفر
على السيادة .يتعلق المر في هذا المستوى بمفهوم اليدولوجيا كما صاغته "الفلسفة
الماركسية" .تتمثل اليدولوجيا في مجموع الفكار والمعتقدات والمفاهيم التي تسعى
الدولة)باعتبارها ممثلة لمصالح طبقة اجتماعية محددة( لجعلها تبدو في الذهان بمثابة حقائق
مقبولة ل يمكن التشكيك فيها أو الخروج عنها .تعتمد الدولة في تشكيلها لهذا الوعي الزائف
على مجموعة من الجهزة التي قد ل تبدو مرتبطة ضرورة بالدولة ذاتها كالمؤسسة الدينية
والمدرسة ووسائل العلم والمنظمات والحزاب ....على هذا الساس تتحدد اليدولوجيا
باعتبارها أقسى أشكال العنف نظرا لقدرتها الفائقة على المغالطة حين تتحول المراقبة إلى
مراقبة ذاتية.
ليس العنف بالوسيلة أو الداة الوحيدة التي تؤمن من خللها الدولة سيادتها وتتيح لها
إمكان ممارسة سلطتها غير أن العنف مع ذلك يبقى وسيلتها الخاصة.
بقدر ما يضل اعتماد العنف مبررا باعتباره أحد الشروط الرئيسية التي بمقتضاها يمكن
ضمان أقصى ما يمكن من مستلزمات العيش المشترك ،فإن ارتباط الممارسة السياسية
بالعنف يضعنا في مواجهة جملة من الحراجات .فممارسة العنف في ضل مطلب تثبيت
وتكريس سيادة الدولة وأحقيتها بالنفراد بممارسة السلطة السياسية يمثل قطعا خطرا وتهديدا
لمصير الفراد الخاضعين لها ،ذلك أن العنف هو عنف موجه بداية ضدهم ،وبغض النظر
عن مبرراته .وحتى في حالة القبول بربط سيادة الدولة بأحقيتها باستعمال العنف باعتباره
عنف شرعيا فان السؤال عن حجم ومدى العنف المسموح به يضل قائما على نحو جدي.
حتما ،إن كل عنف يمكن أن بصدر عن الفراد بما يهدد العيش المشترك ،من الواجب
مجابهته بعنف مضاد لردعه ،غير أن السؤال عن حجم العنف المناسب في مقابل هذا العنف
الول يضل سؤال وجيها .إن مجموعة من المشجعين لفريق كورة قدم حين يبادرون للعنف
كتعبير عن عدم رضاهم على قرارات حكم مباراة هو فعل وان كان ل يهدد بجد العيش
المشترك فانه يضل فعل غير مقبول يجب مواجهته ،إل انه في هذه الحالة يستوجب المر أن
نتساءل هل يجب إن نواجه هذا العنف بعنف مماثل في الدرجة؟ أم بكمية أكثر أو اقل؟
يحيلنا هذا التساؤل إلى إحراج حقيقي يتعلق ل بشرعية العنف وضرورته ،إذ أن مبدأ السيادة
ذاته يفترضه ،وإنما إلى التساؤل عن حدوده ومداه .ذلك أن كل تعسف في استعمال القوة
والعنف حتى وان كان في إطار قانوني بما يضفي عليه شرعية ،يجعل من السيادة ذات طابع
إطلقي يربطها بالستبداد ،فينفي عن ممارسة السلطة المرتبطة بها كل مشروعية بافتقادها
لمعيار الحق.
يحيلنا التحليل السابق إلى مفارقة أولى :إن ضمان العيش المشترك بما هو مطلب كل
ممارسة سياسية ،وبما هو مبرر مبدأ السيادة ذاته يفترض العنف وسيلة وأداة ،أ فليس من
المفارقة إذن إن يكون شرط ضمان العيش المشترك بما هو قيمة أخلقية عليا تؤسس للوجود
النساني وتضفي عليه بعدا كونيا مشروطا باستعمال العنف والرغام؟ أ ل يحيلنا الوجود
السياسي للنسان في نهاية المر إلى مفارقة ،حسب صياغة بول ريكور ،تتمثل في التقابل
بين موقف النسان المبدئي الرافض للعنف أخلقيا من جهة في حين أن وجوده السياسي
مقترنا بالعنف؟
إن هذا المأزق بين تحديد لفق الجتماع النساني القائم على استهجان العنف من جهة وربط
سيادة الدولة بممارسة العنف يضعنا في مواجهة مأزق نظري عملي في آن واحد يتعلق
بالتساؤل عن مشروعية ربط مبدأ السيادة بالعنف.
فبأي معنى تمثل السيادة المطلقة والغير مقيدة ،والقائمة على اعتماد العنف استبدادا يتنافى
ومعيار الحق ،وكونية الوجود النساني.
* السيادة والستبداد
تحيلنا دللة مفهوم سيادة الدولة في علقة بمسالة العنف ،حين نتناول السيادة بما هي سيادة
داخلية ،إلى مبدأ السيادة باعتبارها مطلقة وغير مقيدة بحيث تكون إرادتها فوق كل إرادة
أخرى سواء تعلق المر بإرادة جهة معنوية أو بإرادة شخص مادي .بذلك تكون السيادة
مصدرا لسلطة مطلقة بحيث ل تخضع هذه السلطة إل لذاتها ،وهو ما يفيد على صعيد
الممارسة العملية أن هذه السيادة تحتكر على نحو كامل ل يقبل المشاركة التشريع للقوانين
المنظمة للشأن العام كما إنفاذ هذه القوانين وفرض احترامها .وهو ما يعني أن السلطة التي
تنبثق عن هذه السيادة هي سلطة مطلقة ل تقبل القسمة أو المشاركة.
إن هذا الربط بين السيادة والسلطة المطلقة التي ل تقبل القسمة أو المشاركة ينتهي بنا إلى
مفهوم الستبداد باعتباره شكل السلطة السياسية المنبثق عن سمات السيادة هذه .يتعين
الستبداد هنا بما هو الحكم الذي يقوم على التفرد بالسلطة بشكل مطلق ول يقبل مشاركة من
أي طرف آخر في إدارة الشأن العام على نحو قطعي.
ل يرتبط الستبداد بشكل محدد للدولة ولشكل نظام الحكم فيها ،فقد يتعين في صورة
شخص يكون ملكا أو أميرا أو زعيما ،ويمكن أن يتعين في نظام حكم ملكي أو جمهوري،
ويمكن أن يستند لشخصية الزعيم الملهم أو الحزب الواحد ،ولكننا في كل الحالت أمام
أشكال وصور متعددة لوجه واحد هو وجه الستبداد .غالبا ما ل يقدم المستبد نفسه على
أساس كونه مستبدا وإنما يقوم بالتشريع لسلطته المطلقة من خلل مبررات ودعاوي أخلقية
تتعلق بتحقيق المن وخدمة المصلحة العامة وتوفر المستبد على خصال استثنائية وتحديد
أولويات تنظيم الشأن العام ترتبط باختيارات تتقابل في إطارها مطالب التنمية والمن
الداخلي أو الخارجي مع مطالب الحرية.
بغض النظر عن تطور أشكال الستبداد ،وتنوع مبرراته ،فان سمته الجوهرية تضل ذاتها
إذ تتعلق بغياب فكرة المواطنة وتحديدا منع وإقصاء الفراد عن المشاركة في إدارة الشأن
العام سواء تعلق المر بتحديد الختيارات العامة المنظمة للشأن العام أو التشريع للقوانين
المنظمة للعيش المشترك.
أما السمة الثانية الجوهرية المتعلقة بكل نظام استبدادي فتتعين في غياب المراقبة إذ ل
تخضع سلطة المستبد لي شكل من إشكال المراقبة على ممارسته السلطوية تشريعا وإنفاذا
باعتبارها سلطة أولى ل سلطة فوقها.
إن غياب مفهوم المواطنة وتغييب الفراد من مجال المشاركة السياسية من جهة ،وغياب
جميع أشكال المراقبة عن سلطة المستبد بما يجعل منها سلطة غير مقيدة ،ينزع عن هذا
النمط من السلطة كل مشروعية ،نظرا لفتقاد السيادة التي تتأسس عليها هذه السلطة
لمشروعية الحق وتؤسسها على مشروعية القوة.
إن نظام حكم استبداديا يختزل السيادة في شخص الحاكم أو الحزب الواحد ،ينتهي تهديدا
لمكان العيش المشترك بتهديده ونقضه لرهانات مطلب العيش المشترك .ليس العيش
المشترك غاية في حد ذاته ،وإنما هو المقتضى الذي يوفر شروط ارتقاء الوجود النساني
إلى مستوى الوجود الكوني .تتمثل شروط هذا الرتقاء في احترام ايتيقا التعايش مع الخر
القائمة على العتراف المتبادل والتعاون والحوار وفق مقتضيات العقل ،غير أن نظاما
استبداديا حين ينزع إلى اعتماد العنف غاية ووسيلة وقمع الحرية والحق في الختلف
واسترقاق المواطنين وحجب صفة النضج والعقل عنهم من خلل الحكم بعدم أهليتهم في
المشاركة في تسيير الشأن العام إنما هو انحطاط بالوجود البشري إلى مستوى الوجود
الحيواني القائم على توفير شروط ضمان البقاء المادية ل غير .كما دلت التجربة التاريخية
أن كل نظام مستبد يضخم بشكل ل نهائي من سيادته مقابل شعبه إنما ينتهي إلى كوارث
حقيقية ترتبط بمغامرات الحرب والعنف ضد الدول الخرى وما ينتج عنه من دمار متبادل
يعرض الوجود النساني إلى مخاطر الفناء المادي والفعلي.
إن ربط السيادة بالعنف والستبداد ،وبغض النظر عن كل مبررات هذا الربط يستوجب
إعادة النظر في مفهوم السيادة ذاتها من جهة مراجعة حدود هذه السيادة ،من خلل تعيين
حدود ذاتية للسيادة تنبع من مقتضياتها وأسسها ذاتها .في هذا الطار تتنزل محاولت عدد
من المفكرين منذ بدايات العصر الحديث في محاولتهم إعادة التفكير في حدود والتزامات
السيادة.
/3السيادة والمواطنة
إن جميع أشكال الستبداد تجد أساسها في فهم محدد لدللة السيادة يتقوم باعتبارها مطلقة ل
تقبل القسمة ول المشاركة ،وبالتالي فان من يمتلك السيادة يمتلك سلطة مطلقة ،غير مقيدة
وغير محدودة .سواء تعلق المر بشواهد التاريخ ،وارتباط الحروب والنزاعات بالنظمة
الستبدادية ،أو عودة على قيم العقل النساني المطلقة والخالدة المتمثلة في الحق والخير فإننا
نجد أنفسنا مجبرين على إعادة التفكير في مفهوم السيادة من جهة التضنن على تعريفها
الملتبس الذي يتصورها مطلقة ل حد لها.
نشأ الفكر السياسي الحديث على أساس مراجعة مفهوم السيادة من جهة تحديدها وتقييدها
ذاتيا بمعنى أن تجاوز جميع أشكال الستبداد يستوجب تقييد السيادة ذاتها من داخلها من جهة
ضبط أسسها بشكل يجعل من السلطة المنبثقة عنها سلطة مقيدة بمقتضيات السيادة ذاتها .إن
لحظة القطع الحقيقية التي أذنت بميلد التفكير الفلسفي الحديث في الدولة ارتبط بمرجعية
فلسفية وقانونية أصطلح على تسميتها بفلسفة "العقد الجتماعي".
تحيلنا فلسفة "العقد الجتماعي" على جملة من الفلسفة أهمهم جون لوك وروسو وسبينوزا
وهوبس .رغم أهمية الختلفات في مواقف هؤلء الفلسفة ،والى حد التناقض أحيانا ،فان
ذلك ل ينفي تقاطعهم حول فكرة رئيسية مثلت أساسا لنشأة الدولة في صيغتها وشكلها
المعاصر .يتجلى هذا التقاطع بين هؤلء الفلسفة في مبدأين أساسيين:
-ربط التفكير في الدولة بدراسة الطبيعة النسانية وضعيا ،بحيث تكون نشأة الدولة ناتجة
عن خصوصية الطبيعة النسانية ذاتها .إن هذه العودة لدراسة الطبيعة النسانية في تحديد
أسس الدولة مثل قطعا مطلقا مع التفكير اللهوتي الذي كان يربط التفكير في الدولة بحقائق
متعالية ومتجاوزة للوضع النساني .يفترض فلسفة العقد الجتماعي وجودا أول للنسان
تغيب عنه كل أشكال السلطة فيكون هذا الوضع "حالة الطبيعة" .ترتبط هذه الحالة بالعنف
والصراع الناتج عن غلبة الهواء وتناقض مصالح الفراد بما يهدد الحياة النسانية .إن
وضعا مثل هذا يضل وضعا مناقضا لما يقره العقل كما طبيعة النسان التي تجعل من الحياة
قيمة قصوى ل يمكن المغامرة بها بما يفرض على هؤلء الفراد البحث عن مخرج يجنبهم
خطر الموت العنيف .يكون اتفاقهم لتجاوز هذا الخطر هو إنشاء دولة تكون مهمتها تيسير
العيش المشترك.
-اعتبار الدولة اصطناعا وإنشاء إنسانيا فهي قد نشأت بإرادة وفعل النسان ،هذه الرادة
التي تجلت في العقد الجتماعي ،بما هو عقد إرادي واختياري .فالوعي بخطورة استمرار
حالة الحرب المميزة لحالة الطبيعة يدفع هؤلء الفراد إلى إبرام اتفاق يلتزم خلله كل عضو
على التخلي عن حقوقه الطبيعية وخاصة حقه في حماية مصالحه بنفسه وحقه في استعمال
العنف للدفاع عن مصالحه لصالح الدولة التي ستنشأ عن هذا العقد بشرط تخلي كل فرد عن
نفس الحقوق .فسيادة الدولة محكومة بذلك ببنود العقد ذاته التي تتحدد في نسق روسو مثل
بحماية الحريات المدنية والحفاظ على المصلحة العامة ،ليكون مبرر طاعة الدولة
والعتراف بشرعية سيادتها هو احترامها للتزاماتها.
إن هذا التأسيس لسيادة الدولة على أساس احترام الحريات وحماية المصلحة العامة يحدث
تحول جوهريا في منزلة النسان داخل الدولة الحديثة إذ يتحول الفرد من منزلة الرعية الذي
تتحدد علقته بالحاكم بالخضوع واللزام إلى منزلة المواطنة القائمة على المشاركة في
الحكم والطاعة للقانون المبنية على أساس أن المواطن ذاته مصدر القوانين التي تشرع
باسمه كأحد أفراد الشعب.
هذا النتقال من مفهوم الرعايا إلى مفهوم الشعب يحيلنا على نظام الحكم الديمقراطي المبني
كما أسلفنا على سيادة الشعب .تتحقق هذه السيادة من خلل جملة من الليات تقوم على
اعتبار الفرد مواطنا يتمتع بجملة من الحقوق الساسية أهمها حقه في المشاركة في الحياة
السياسية انطلقا من الحق في الترشح للمناصب العامة والحق في اختيار ممثليه من خلل
النتخاب الحر والنزيه.
بقدر ما يمثل النظام الديمقراطي حل لمأزق العنف والستبداد من خلل تأسيس السيادة على
مبدأ سيادة الشعب فيكون الشعب مصدر السيادة من جهة كونه المشرع للقوانين المنظمة
للعيش المشترك عبر التمثيل النيابي ومن جهة كون الحكومة التي تسهر على تطبيق وفرض
احترام القانون يختارها الشعب ذاته وتعبر بذلك عن الرادة العامة فان النظام الديمقراطي ل
يخلو ذاته من مشاكل عديدة بما يجعل من قيم الحرية والعدل محل سؤال.
إن النظام الديمقراطي يفيد سلطة الشعب ،سلطة غير مباشرة من خلل ممثليه في السلطتين
التشريعية والتنفيذية الذين يختارهم المواطن .غير أننا هنا نقع في مأزق ذا وجهين:
-فمن جهة أولى يفترض النظام الديمقراطي حق الغلبية في القيادة والحكم وهو ما يعني إن
كل عملية انتخابية تنتهي ضرورة إلى إقصاء وتهميش عدد من المواطنين الذين لم يساهموا
في اختيار الحاكم وهو يجعل من علقتهم مع هذه السلطة المنتخبة قائمة على الخضوع
لرادة الغلبية ومصادرة حقهم في المشاركة في السلطة .يصبح مثل هذا الوضع خطيرا
حين تكون هذه القلية 49في المائة من مجموع المنتخبين فيكون النظام الديمقراطي سببا
لتغييب نصف المواطنين تقريبا من المشاركة في السلطة.
-أما من جهة ثانية فاعتبار أن مشروعية الحاكم تكمن في حصوله على أغلبية الصوات ل
يجعل من حكمه ،ضرورة حكما شرعيا من جهة الحق والمعايير الخلقية إذ إن التاريخ قد
أوضح لنا بشكل جازم أن الغلبية يمكن تحت تأثير المغالطات والتزييف والشعور القومي
المتطرف أن تكون سببا في قيان أنظمة حكم ل أخلقية ول إنسانية تمثل خطرا حقيقيا على
المن والسلم داخليا وخارجيا.
إن التأكيد على أهمية وضرورة التمسك بالنظام الديمقراطي كشكل للحكم يحقق غايات
العيش المشترك ضمن مقتضيات الحق ل يعني مطلقا أن القبول بالخضوع لمقتضيات
الممارسة السياسية داخل النظام الديمقراطي يفيد خنوعا وسلبية تجعل المواطن بجميع أشكال
التعدي على حقوقه الساسية باسم حكم الغلبية أو المصلحة العامة .الساس النظري الذي
يقوم عليه مفهوم السيادة والمتمثل في نظرية العقد الجتماعي هو ذاته الذي يجعل من مقاومة
ورفض الخضوع لجميع إشكال التعدي على الحقوق المدنية ذاته ضروريا .إن العقد يقوم
على أساس التزامات متبادلة فكما يكون المواطن ملزما باحترام سيادة الدولة فان الدولة ذاتها
تكون ملزمة باحترام حقوق النسان لذلك فان إخلل الفرد بالتزاماته كما يلزم وقوعه تحت
طائلة العقاب القانوني فان إخلل الدولة يجعل من الفرد حل من العتراف بطاعة الدولة
ومقاومة سلطتها المتعسفة.
تخذ هذه المقاومة أشكال متعددة إذ يمكن أن تكون مقاومة سلمية ترتبط باللعنف اليجابي
كما تجسد في مقاومة غاندي للستعمار النكليزي لبلده.
الشكل الثاني من المقومة والذي يميز الممارسة السياسية المعاصرة هو ما أصبح يعرف
بمقاومة الحشود أي حركات الحتجاج الشعبي الضخمة التي تعمد إلى محاصرة المؤسسات
العامة وقطع الطرق الرئيسية والمتناع عن العمل وسط تغطية إعلمية كبرى تمنع ممارسة
العنف الشديد من قبل السلطة ضد المتظاهرين .
في كل الحالت يبقى الحق في المقاومة حق مطلق للمواطن في كل حالة تخل فيها الدولة
باستحقاقاتها المتمثلة في ربط السيادة بالشعب.
/4المواطن العالمي
تكمن أهمية الربط بين السيادة وسلطة الشعب واعتبار أن الشعب مصدر السيادة داخل نظام
حكم ديمقراطي ،في تأكيد أولوية وقداسة حقوق المواطن باعتباره شريكا فاعل في تنظيم
الشأن العام من خلل القرار بجملة من الحقوق الساسية التي ل يمكن مجاوزتها بأي حال.
إن الدولة الديمقراطية هي الدولة التي تضمن لمواطنيها جملة من الحقوق المدنية تتنوع
مابين حقوق سياسية واجتماعية وثقافية تسهم جميعها في ضمان كرامة الفرد احترام شخصه
بعيدا عن كل أشكال التعسف والوصاية.
غير أن ما يجب ملحظته أن جملة هذه الحقوق التي يكتسبها الفرد داخل نظام الحكم
الديمقراطي إنما يستمدها باعتبارها مواطنا يقر دستور البلد التي ينتمي إليها مجمل هذه
الحقوق .ترتبط حقوق النسان إذن بالمواطنة كانتماء قومي لدولة يعينها .إن هذا الربط بين
حقوق النسان والمواطنة في علقتها بالهوية القومية يثير جملة من الحراجات الساسية.
-يتعلق الحراج الول بوضعية القليات التي ل تحمل نفس الهوية الثقافية للغلبية من
المواطنين .إن مثل هذا الوضعية غالبا ما ينتهي إلى وضعية إقصاء وتهميش لهذه القليات
باعتبار أن قانون الغلبية يمنعها من إمكان المشاركة الفعلية في إدارة الشأن العام.
-يتعلق الحراج الثاني بوضع المهاجرين لدول غير دولتهم الصلية .إن هذه الوضعية غالبا
ما تكون مقترنة بتهميش الجاليات المهاجرة وتعرضها للعنصرية باعتبار أن عدم حملها
لجنسية الدولة التي تقيم فيها ،يحرمها من الكثير من الحقوق التي يتمتع بها فقط المواطنون .
هذا الربط بين الحقوق والمواطنة وفي ضل التحولت التي يعرفها عالمنا المعاصر المرتبطة
بتنامي ظاهرة الهجرة لسباب متعددة ،وخاصة اقتصادية ،جعل من مراجعة هذا الربط
ضروريا .تتمثل هذه المراجعة خصوصا في تجاوز الربط الضروري بين حقوق النسان
والمواطنة على أساس ربط هذه الحقوق بحقوق النسان .تكمن أهمية هذا الربط في تأسيس
هذه الحقوق على وجه مطلق وكلي يربط بين الحقوق والنسان ليس باعتباره مواطنا في
دولة ما ولكن باعتباره إنسانا بغض النظر عن كل انتماء قومي أو ثقافي .بذلك فانه سواء
تعلق المر بمواطن أو بأقلية ثقافية أو بمهاجر فان التمتع بالحقوق يكون لزما من النتساب
للنسانية ل غير وهو ما نصت عليه مواثيق المم المتحدة في العلن العالمي لحقوق
النسان.
/5السيادة في ضل العولمة
يفترض القانون الدولي أن كل الدول تتمتع من حيث المبدأ بالسيادة على أساس المساواة
الكاملة ،وتمتع كل دولة باستقللها التام ،بما يفرض أن تكون العلقة القائمة بين الدول قائمة
على أساس احترام كل دولة لسيادة الدول الخرى وامتناعها عن التدخل في شؤونها
الخاصة ،وهو ما يعبر عنه بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
إذا ما كان من المفترض في العلقات الدولية أن تقوم على أساس عدم التدخل في الشؤون
الداخلية فان القانون الدولي ذاته يفرض على هذه الدول اللتزام بالتفاقات الدولية التي
تمضيها وتصبح ملزمة لها .تصبح هذه التفاقات بمثابة القيود التي تحد من سيادة الدول .ان
هذه التفاقات أصبحت في عصرنا أكثر حضورا وأكثر تضييقا لسيادة الدولة من جهة بروز
منظمات واتفاقات تجعل من سلطة بعض المنظمات أعلى من سلطة الدولة ذاتها .فسواء
تعلق المر بالحق في التدخل لسباب إنسانية ،أو ملحقة مجرمي الحرب ...فان سيادة
الدولة تفتقد لصفة الطلق ،وتصبح محدودة بحدود القانون الدولي.
بقدر ما يمثل هذا الحد من سيادة الدولة عامل ايجابيا في حماية حقوق النسان وملحقة
مجربي الحرب والقائمين بجرائم التعذيب أو ضد النسانية فان تدخل العوامل والمصالح
السياسية لبعض الدول بحيث تضخم من بعض الحوادث لتهمل النظر في وقائع وجرائم ل
تقارن في خطورتها وانتهاكها لكل القيم النسانية يجعل من السؤال عن هذا التجاه المتنامي
في التأسيس لمبدأ التدخل في الشؤون الداخلية للدول محل سؤال.