You are on page 1of 251

‫ضعف اليمان‬

‫أسبابه‪ ،‬آثاره‪ ،‬علجه‬


M
‫ضعف‬
‫اليمان‬
‫أسبابه‪ ،‬آثاره‪ ،‬علجه‬

‫بقلم‬
‫عبدالله بن علي الزهراني‬
‫حقوق الطبع محفوظة‬
‫الطبعة الولى‬
‫‪1425‬هـ – ‪2004‬م‬
‫ضعف‬ ‫‪6‬‬
‫اليمان‬

‫مقدمة‬
‫إن الحمد لله‪ ،‬نحمده‪ ،‬ونستعينه‪ ،‬ونستغفره‪،‬‬
‫ونعوذ بالله من شرور أنفسنا‪ ،‬وسيئات أعمالنا‪ ،‬من‬
‫يهده الله فل مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له‪،‬‬
‫وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد‬
‫أن محمدا ً عبده ورسوله‪ ،‬صلى الله عليه وعلى آله‬
‫وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين‪ ،‬وسلم‬
‫تسليما ً كثيرا‪.‬‬
‫أما بعد‪ :‬فإن قضية اليمان بالله تعالى تعتبر‬
‫أهم وأخطر قضية لدى المسلمين وغيرهم‪ ،‬كيف ل‬
‫وعليها يتوقف المصير العظم للنسان في الدار‬
‫الخرة؟ فأما جنات النعيم لمن آمن بالله واستقام‬
‫على أمره ‪ ،‬وأما نار جنهم لمن عاند وكفر وأعطى‬
‫نفسه هواها‪ ،‬أما في هذه الحياة الدنيا فإن لليمان‬
‫بالله آثار عظيمة في حياة الناس وسلوكهم‬
‫وعلقاتهم وتعاملهم ؛ فاليمان بالله هو أصل‬
‫الفضائل الجتماعية‪ ،‬ومنبع الخلق النسانية‪،‬‬
‫ومنهل اللفة والتعاون بين الناس‪ ،‬فبه تزكو‬
‫النفوس‪ ،‬وتتهذب الخلق‪ ،‬وتسمو الروح‪ ،‬وتختفي‬
‫الشرور‪ ،‬وباليمان بالله تسعد النفس‪ ،‬وتطمئن‬
‫القلوب‪ ،‬وتختفي الحيرة‪ ،‬ويزول الهم‪.‬‬
‫ونحن الن – مع السف الشديد – نرى قضية‬
‫اليمان تتعرض للهمال‪ ،‬وتنحسر عن دائرة‬
‫الهتمام‪ ،‬وتخيم عليها سحب الغفلة‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫إقبال الناس الشديد على أمور الدنيا‪ :‬من جمع‬
‫للموال والمتاع‪ ،‬وبناء للدور والقصور‪ ،‬وإقامة‬
‫للرئاسة والجاه‪ ،‬وتكثير للتباع والنصار‪ ،‬وكأنهم‬
‫ً‬
‫بذلك مخلدون في هذه الدنيا ل يرحلون عنها أبدا!!‬
‫‪7‬‬ ‫ضعف‬
‫اليمان‬
‫وقد ترتب على هذه المور نتائج خطيرة‪ :‬حيث‬
‫ضعف اليمان‪ ،‬وقست القلوب‪ ،‬وتلشت لذة‬
‫قدت حلوة الطاعة‪ ،‬وقل التأثر بقراءة‬ ‫العبادة‪ ،‬وفُ ِ‬
‫القرآن! فأصبحت الخواطر الدنيوية أكثر ما تتسلط‬
‫على النسان في صلته؛ فتفسد عليه تلك‬
‫الشراقات الروحية‪ ،‬والنسائم اليمانية‪ ،‬التي كانت‬
‫أعظم منحة يجدها المسلم في عبادته‪ ،‬حيث يخلو‬
‫بربه‪ ،‬ويفّرغ قلبه من الدنيا وهمومها‪ ،‬ولذلك كان‬
‫الرسول الكريم – عليه السلم – يقول‪$ :‬أرحنا‬
‫بها‬
‫يا بلل‪ #‬أي أرحنا بالصلة من مشاغل الدنيا‬
‫وهمومها‪ ،‬يوم كانت النفوس سليمة‪ ،‬والفطر‬
‫مستقيمة!!‬
‫أما اليوم فإن الطغيان المادي قد أسر‬
‫النفوس‪ ،‬والمد العلمي الهائل والخالي من القيم‬
‫الروحية؛ قد أبعد الناس عن ينابيع الهدى‪ ،‬وأغرقهم‬
‫في مستنقع الرذيلة ؛ فأصبحنا أمام مشكلة‬
‫خطيرة‪ ،‬تحتاج إلى علج سريع‪.‬‬
‫ولذلك أحببت أن أساهم بهذا البحث المتواضع‬
‫في علج هذه الظاهرة‪ ،‬وهو جهد المقل وبضاعة‬
‫المفلس‪ ،‬فقد يشتغل بالتجارة من ل مال له‪ ،‬وقد‬
‫يعالج المرضى من أنهكه المرض‪.‬‬
‫والبحث عبارة عن أربعة أبواب‪ ،‬كل باب‬
‫يضم عدة فصول‪:‬‬
‫فالباب الول‪ :‬توطئة وتمهيد‪ ،‬كتبت فيه عن‬
‫التعريف بظاهرة ضعف اليمان وبينت مدى‬
‫خطورتها‪ ،‬ويضم خمسة فصول‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪8‬‬
‫اليمان‬
‫والباب الثاني‪ :‬أسباب ضعف اليمان ويضم‬
‫ثمانية فصول‪.‬‬
‫والباب الثالث‪ :‬آثار ضعف اليمان ويضم سبعة‬
‫فصول‪.‬‬
‫والباب الرابع‪ :‬علج ضعف اليمان ويضم‬
‫عشرة فصول‪.‬‬
‫وأخيرا ً أدعو الله – سبحانه وتعالى – أن يجعل‬
‫هذا العمل خالصا ً لوجهه الكريم‪ ،‬وأن ينفع به من‬
‫كتبه‪ ،‬ومن يقرأه‪ .‬إنه سميع مجيب‪.‬‬

‫عبد الله بن علي بن‬


‫صالح الزهراني‬

‫ليلة الخميس‬
‫‪22/4/1425‬هـ‬
‫جدة ‪/‬‬
‫‪0504596976‬‬

‫‪‬‬
‫‪9‬‬ ‫ضعف‬
‫اليمان‬
‫ضعف‬ ‫‪10‬‬
‫اليمان‬

‫الباب الول‬
‫توطئة وتمهيد‪:‬‬

‫‪ -1‬ماذا يفعل من يحس بضعف اليمان؟‬


‫‪ -2‬ما المقصود بضعف اليمان؟‬
‫‪ -3‬شبهات وشكوك‪.‬‬
‫‪ -4‬كيف نطرد الوساوس الشيطانية؟‬
‫‪ -5‬الوساوس والخواطر في الصلة‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪12‬‬
‫اليمان‬

‫ماذا يفعل من يحس بضعف اليمان؟‬

‫الواجب على أي مسلم عندما يعتريه الفتور‪،‬‬


‫ويحس بنقص إيمانه‬
‫أن يبادر فورا ً إلى علج هذا المرض‪ ،‬فل شك أن‬
‫ضعف اليمان مرض‬
‫خطير‪ ،‬وكما يعلم الجميع أن المرض إذا عولج في‬
‫بدايته يتم الشفاء منه بإذنه تعالى‪ ،‬أما إذا استفحل‬
‫وطال زمنه؛ فإن علجه يصعب‪ ،‬وتقل فرص‬
‫الشفاء منه‪.‬‬
‫والنسان مهما كانت قوة إيمانه فإنه معرض‬
‫لهذا المر بفعل عوامل كثيرة من الشبهات‬
‫والشهوات ومن شياطين الجن وشيطان النس‪.‬‬
‫والنسان الفطن الموفق هو الذي يتعهد إيمانه‬
‫وما نقص منه‪ ،‬ويحرص على إصلح ما فسد وصيانة‬
‫ما عطب أشد مما يحرص على صيانة سيارته‬
‫عندما يقع فيها التلف؛ فإنه يبادر فورا ً إلى إصلحها‬
‫عند المختص‪ ،‬وهي من أمور الدنيا الزائلة!‬
‫لذلك ينبغي أن تكون مبادرته لصلح قلبه‬
‫أعظم من ذلك كما كان يفعل السلف الصالح من‬
‫الصحابة والتابعين – رضوان الله عليهم – حيث‬
‫كانوا دائمي التفقد ليمانهم ورعاية خواطر قلوبهم‪.‬‬
‫يقول الصحابي الجليل أبو الدرداء – رضي الله‬
‫عنه – ‪$‬من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص‬
‫منه‪ ،‬ومن فقه الرجل أن يعلم أيزداد اليمان‪ ،‬ومن‬
‫فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه‪.#‬‬
‫وقد كان الصحابي عبدالله بن رواحه – رضي‬
‫الله عنه – يأخذ بيد الرجل فيقول‪$ :‬قم بنا نؤمن‬
‫‪13‬‬ ‫البـــاب‬
‫الول‬
‫ساعة‪ ،‬فنجلس في مجلس ذكر‪.#‬‬
‫ومن خلل هذه النصوص نعرف مدى حرص‬
‫الصحابة على رعاية إيمانهم وحفظه‪ ،‬وتطهيره مما‬
‫قد يصيبه من نزغات الشيطان‪ ،‬وإزالة ما قد يعلق‬
‫به من صدأ الغفلة والنشغال بأمور الدنيا‪ ،‬فقد قال‬
‫الرسول – صلى الله عليه وسلم – ‪$‬أن القلوب‬
‫لتصدأ كما يصدأ الحديد‪ ،‬قيل‪ :‬وما جلؤها يا‬
‫رسول الله‪ ،‬قال‪ :‬ذكر الله وقراءة القرآن‪#‬‬
‫رواه البيهقي في شعب اليمان ‪ 2/353‬وانظر‬
‫مجمع الزوائد للهيثمي ‪.10/207‬‬
‫إذن يجب على المسلم أن يتعاهد إيمانه دائما ً‬
‫ويحرص على زيادته ونمائه في كل الحوال أعظم‬
‫من اهتمامه بزيادة أمواله وتحسين أوضاعه في‬
‫هذه الدنيا الفانية‪ ،‬فالسعيد – والله – من وفق‬
‫لذلك‪ ،‬فإنه قد حاز خير الدنيا والخرة‪ :‬حاز خير‬
‫الدنيا بالطمأنينة والسعادة والراحة النفسية ا لتي‬
‫تعتبر هبة من الله لهل اليمان الصادق‪.‬‬
‫وحاز خير الخرة برضى الله – سبحانه وتعالى‬
‫– والفوز بالجنة والنجاة من النار‪.‬‬
‫وتعاهد اليمان يعني رعايته‪ ،‬وتوجيهه إلى‬
‫المواطن التي ينمو فيها ويزكو بحيث يؤتي ثماره‬
‫الطاهرة؛ فتعود على النفس بالسعادة والصفاء‬
‫وراحة البال‪.‬‬
‫وتعاهد اليمان يعني صيانته عن مواطن الرذيلة‬
‫والغفلة التي تضعفه وتدنسه‪.‬‬
‫وهذا التعاهد‪ ،‬وهذه المراقبة لليمان يجب أن‬
‫تستمر مع النسان طوال حياته‪ ،‬فليس هناك شيء‬
‫أغلى من الدين‪ ،‬وليس في الوجود أمر أهم من‬
‫ضعف‬ ‫‪14‬‬
‫اليمان‬
‫اليمان الذي يربط صاحبه بخالقه‪ ،‬ولذا فعندما‬
‫يحس النسان بشيء يخدش إيمانه من فتور أو‬
‫وساوس أو شكوك؛ فينبغي له أن يسارع إلى علج‬
‫ذلك‪ ،‬ويستخدم كل الطرق ليزيل عن إيمانه ذلك‬
‫الصدأ فيعود براقا ً نظيفا ً فاع ً‬
‫ل‪.‬‬
‫ول شك أن إدراك خطورة ضعف اليمان أهم‬
‫عناصر العلج‪ ،‬فهناك أناس يعانون من قسوة‬
‫القلب وضعف اليمان ولكنهم غير مهتمين بالمر‪،‬‬
‫ل‪ ،‬لنهم غارقون في النشغال‬ ‫بل ل يفكرون فيه أص ً‬
‫بأمور الدنيا‪ ،‬وجمع حطامها الزائل!‬
‫هذا واقعنا للسف‪ ،‬اهتمام عظيم بأمور الدنيا‬
‫وإهمال شديد لشئون الخرة‪ ،‬تجد الشخص منا لو‬
‫أصيب بمرض في بدنه لقام الدنيا وأقعدها‪ ،‬أما‬
‫مرض إيمانه فل يدري عنه‪ ،‬ول يهتم به‪ ،‬وسأذكر‬
‫قصة تصور هذا المر‪ ،‬حدثني بها أحد الخوان قال‪:‬‬
‫كنت ذات يوم في مدينة الطائف وقت برودة الجو‪،‬‬
‫فأصابني مرض الزكام‪ ،‬فأهملته عدة أيام ولم‬
‫أراجع الطبيب ظنا ً أنه سيزول بدون علج ولكنه‬
‫أشتد علي حتى لم أعد أطيقه‪ ،‬فاضطررت‬
‫لمراجعة الطبيب عندما ساءت حالتي‪ ،‬وبعد الفحص‬
‫والتحاليل قال الطبيب‪ :‬يظهر أن لديك مرض في‬
‫القلب‪ ،‬وعليك من الغد أن تراجع أخصائي القلب!!‬
‫قال صاحبي فجزعت جزعا شديدا‪ ،‬وعندما‬
‫عدت للبيت – وكان الوقت ليل – لم أجد للنوم‬
‫طعما ً ‪ ،‬بل بت أفكر في هذه المصيبة التي دهتني‬
‫على حين غفلة ‪ ،‬فمرض القلب خطير كما هو‬
‫معروف‪ ،‬وفي اليوم التالي ذهبت إلى عدة‬
‫مستشفيات وليس مستشفى واحد‪ ،‬كل ذلك لكي‬
‫أطمئن على صحتي وفي النهاية جاءت النتائج تبشر‬
‫‪15‬‬ ‫البـــاب‬
‫الول‬
‫بالسلمة فليس هناك مرض في القلب‪ ،‬ول‬
‫يحزنون‪ ،‬وإنما هي التهابات حادة نتيجة إهمال‬
‫مراجعة الطبيب‪.‬‬
‫فأنظر أخي ‪ ،‬مدى اهتمام النسان بمرض‬
‫البدن وخوفه منه وليس المر مقصور على ذلك‬
‫الشخص وحده‪ ،‬فكلنا لو شعرنا بأي مرض جسدي‬
‫لبذلنا الغالي والرخيص من أجل العلج ‪ ،‬بل هناك‬
‫أناس قد باعوا بيوتهم ‪ ،‬وأنفقوا أموالهم كلها لجل‬
‫العلج من أمراض بدنية يعانون منها ‪ ،‬لكن المراض‬
‫اليمانية ل يهتم بها إل القليل النادر‪ ،‬فكم من‬
‫إنسان يشكو من قسوة قلبه؟‬
‫وكم من إنسان يشكو من وساوس وشكوك‬
‫تعرض له؟‬
‫ولكن القليل إن لم يكن النادر من يفكر في‬
‫المر بجد!‬
‫القليل الذي يبحث عن حل لهذه المعضلة! لن‬
‫الجميع غارق في التعلق بهذه الدنيا‪ ،‬وجمع هذا‬
‫الحطام الزائل والتنافس فيه بشكل عجيب‪ ،‬فل‬
‫ينتهي المرء من مشروع إل ودخل في غيره‪ ،‬كأن‬
‫الناس تعيش مخلدة في هذه الدنيا!‬
‫ل موت‪ ،‬ل جنة‪ ،‬ل نار! نسأل الله أن يصلح أحوال‬
‫المسلمين ‪ ،‬وأن يهديهم‬
‫سواء السبيل؟‬
‫ضعف‬ ‫‪16‬‬
‫اليمان‬
‫‪‬‬
‫ما المقصود بضعف اليمان؟‬
‫سنبدأ بتعريف اليمان أو ً‬
‫ل‪:‬‬
‫تعالى‪:‬‬ ‫اليمان في اللغة يعني التصديق قال‬
‫أي‬ ‫‪]‬البقرة‪[136:‬‬
‫‪   ‬‬
‫صدقنا بالله‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫وقـــال تعـــالى‪:‬‬
‫‪]  ‬البقرة‪ ،[75:‬أي يصدقوا‬
‫لكم‪.‬‬
‫أما معنى اليمان شرعًا‪ :‬فهو التصديق الجازم‬
‫بكل ما شرعه الله ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬لعباده ‪ ،‬وكل‬
‫ما أنزل في كتابه ‪ ،‬وكل ما قاله رسوله ‪ -‬عليه‬
‫السلم ‪ -‬وأن يتبع ذلك القرار باللسان والعمل‬
‫بالجوارح‪.‬‬
‫إذن فاليمان الصحيح الكامل لبد أن يشمل‬
‫ثلثة أمور وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬القرار باللسان‪ ،‬أي النطق بالشهادتين‪ :‬ل‬
‫إله إل الله‪ ،‬وأن محمدا ً رسول الله‪.‬‬
‫‪ -2‬التصديق بالقلب تصديقا ل يخالطه ريبة ‪،‬‬
‫ول يمازجه شك ‪ ،‬في كل ما شرع الله في‬
‫كتابه ‪ ،‬أو على لسان رسوله – عليه السلم‬
‫–‬
‫‪ -3‬العمل بالجوارح‪ :‬أي فعل كل ما أمر الله به‬
‫مثل الصلة والصوم والحج وغير ذلك‪.‬‬
‫‪17‬‬ ‫البـــاب‬
‫الول‬
‫واجتناب كل ما نهى عنه من المحرمات مثل‬
‫السرقة والزنا وظلم الناس وغير ذلك‪.‬‬
‫أما كلمة )ضعف( فمن معانيها‪ :‬الفتور واللين‬
‫والهزال والخور‪ ،‬يقال ضعف الرجل إذا قل نشاطه‬
‫وذهبت قوته‪.‬‬
‫إذن فضعف اليمان هو‪:‬‬
‫أول ً‪ :‬ذلك الفتور والكسل والقصور الذي يقع‬
‫من المسلم نحو عبادته‪ ،‬مثل تقصير بعض الناس‬
‫في أداء الصلة‪.‬‬
‫ثانيا ً‪ :‬هو ما يعتري بعض الناس من شكوك‬
‫ووساوس في علقته بخالقه وصلته بعقيدته قد‬
‫تصل ببعضهم إلى درجة التكذيب بالدين – والعياذ‬
‫بالله – خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن‪،‬‬
‫وانتشرت فيه المذاهب الباطلة‪ ،‬والعقائد المنحرفة‬
‫بفعل وسائل التصال الحديثة ‪ ،‬ونشاط أعداء‬
‫السلم في صرف المسلمين عن دينهم‪.‬‬
‫وضعف اليمان ظاهرة موجودة ومحسوسة ل‬
‫مجال لنكارها‪ ،‬خاصة هذه اليام وأهم معالمها‬
‫الظاهرة‪:‬‬
‫هو ذلك التكاسل والضجر الذي يصيب النسان‬
‫نحو واجباته الدينية ‪ ،‬بحيث ل يحس بالرغبة في‬
‫أدائها‪ ،‬ول الستمتاع بفعلها كحال أصحاب اليمان‬
‫القوي الذين يجدون راحة أنفسهم‪ ،‬وطيب عيشهم‬
‫في أداء العبادة‪ ،‬ولذلك يقول الرسول – صلى الله‬
‫عليه وسلم –‪$ :‬أرحنا بها يا بلل‪ ،#‬أي أرحنا‬
‫بالصلة من هموم الدنيا ومشاغلها‪ ،‬أما أصحاب‬
‫الفتور اليماني فإن العبادة تكون أحيانا ً ثقيلة عليهم‬
‫جالبة للسآمة والضجر والوساوس الشيطانية مثل ‪:‬‬
‫لماذا نقوم بهذه العبادة؟‬
‫ضعف‬ ‫‪18‬‬
‫اليمان‬
‫ما الفائدة منها؟‬
‫أليس الله غني عن هذا؟‬
‫وهذه السئلة والوساوس من إملء شياطين الجن‬
‫والنس‪ ،‬وما أكثرهم في هذا الزمان‪ ،‬ولكن المسلم‬
‫الموفق ل يستسلم لهذه المور‪ ،‬ول يقف عاجزا ً‬
‫أمامها عندما يحس بها‪ ،‬بل عليه أن يحاربها بكل‬
‫قوة‪ ،‬فليس شيء أغلى وأهم عند المسلم من‬
‫الحفاظ على دينه الذي به سعادته في الدنيا‬
‫والخرة ‪ ،‬وعلى النسان عندما يحس بهذه‬
‫الوساوس أن يتذكر الموت‪ ،‬وأن يتذكر النار‬
‫وعذابها‪ ،‬و إن النسان يعيش في الدنيا أياما ً قليلة‬
‫جدا ً بالنسبة إلى الخرة‪ ،‬فعليه أن يصبر فيها على‬
‫القيام بما فرض الله عليه‪ ،‬وأن يجتنب ما نهى الله‬
‫عنه؛ ليفوز بالسعادة الحقيقية التي ل منغصات فيها‬
‫في الجنة إن شاء الله‬
‫– تعالى – كما أن عليه أن يتذكر أن السعادة في‬
‫الدنيا ل تكون في البعد عن دين الله أبدًا‪ ،‬بل في‬
‫ذلك الشقاء النفسي والتعاسة الروحية‪ ،‬قال تعالى‬
‫‪     ‬‬
‫‪]      ‬سورة طه‪ ،[124:‬في‬
‫الدنيا طبعًا‪،‬‬
‫‪‬‬ ‫أما الخرة فقال تعالى‪:‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪] ‬سورة طه‪.[124:‬‬
‫قال العلمة ابن كثير في تفسير هذه الية‪:‬‬
‫‪$‬أي ضنكا في الدنيا فل طمأنينة ول انشراح‪،‬‬
‫بل صدره ضيق لضلله وإن تنعم ظاهره ‪ ،‬ولبس ما‬
‫شاء ‪ ،‬وأكل ما شاء ‪ ،‬وسكن حيثما يشاء‪ ،‬فمهما‬
‫تنعم من نعم الدنيا ؛ فإن قلبه لم يخلص إلى اليقين‬
‫والهدى‪ ،‬فهو في حيرة وقلق وشك‪ ،‬فل يزال في‬
‫ريبه يتردد‪ ،‬فهذا من ضنك المعيشة‪ ،‬قال ابن عباس‬
‫ضلل أعرضوا عن الحق‪ ،‬وكانوا في سعة‬ ‫أن قوما ّ‬
‫‪19‬‬ ‫البـــاب‬
‫الول‬
‫من الدنيا متكبرين فكانت معيشتهم ضنكا‪ ،‬وذلك‬
‫أنهم كانوا يرون أن الله تعالى ليس مخلفا لهم‬
‫معايشهم من سوء ظنهم بالله والتكذيب‪ ،‬فإن كان‬
‫العبد يكذب الله ‪ ،‬ويسيء الظن به والثقة به ‪،‬‬
‫اشتدت عليه معيشته فذلك الضنك‪ (1)#‬والضنك هو‬
‫الضيق والشدة وقوله تعالى‪ :‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ $   ‬قال‬
‫عكرمة عمي عليه كل شيء إل جهنم‪ ،‬ويحتمل أن‬
‫يكون المراد أنه يبعث أو يحشر إلى النار أعمى‬
‫البصر والبصيرة كما قال تعالى‪:‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪]  ‬سورة‬
‫السراء‪.(2)# [97:‬‬
‫وهذا الفتور أو الضعف اليماني ينقسم إلى‬
‫قسمين‪:‬‬
‫فتور طارئ يغشي النسان أحيانا ً فيضعف‬ ‫‪-1‬‬
‫تعلقه بالله ‪ ،‬ويقلل اجتهاده في عبادة الله‬
‫والقبال عليه‪ ،‬وله أسباب كثيرة أهمها‬
‫النشغال المفاجئ والستغراق الكلي بأمر من‬
‫أمور الدنيا ‪ ،‬وقد يكون سببه إثارة بعض‬
‫الشبهات ‪ ،‬والفكار الضالة التي يتفنن في‬
‫عرضها أعداء السلم ‪ ،‬ولكنه طارئ وضعيف ل‬
‫يصمد أمام ضربات الحق القوية ؛ إذ سرعان‬
‫ما ينحسر عن قلب المؤمن فيعود مشرقا ً‬
‫باليمان‪ ،‬ممتلئا ً بالتفاؤل‪ ،‬وهذا أمره يسير‪ ،‬وهو‬
‫يقع كثيرًا‪ ،‬فل يكاد يسلم منه أحد‪ ،‬يقول ابن‬

‫‪ ()1‬تفسير بن كثير ‪.3/168‬‬


‫‪ ()2‬نفس المصدر ص )‪.(169‬‬
‫ضعف‬ ‫‪20‬‬
‫اليمان‬
‫قيم الجوزية‪$ :‬فتخلل الفترات للسالكين‪ :‬أمر‬
‫لزم لبد منه فمن كانت فترته إلى مقاربة‬
‫وتسديد ولم تخرجه من فرض ولم تدخله في‬
‫محرم رجي له أن يعود خيرا ً مما كان‪ (1)#‬إذن‬
‫فمن حصلت معه هذه الحالة من الفتور‬
‫الطاريء بعد اجتهاد وحسن عمل‪ ،‬فإنه يرجى‬
‫له أن يعود كما كان‪ ،‬أو خير مما كان؛ ولكن‬
‫بثلثة شروط كما يقرر ذلك ابن القيم في نصه‬
‫السابق وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬أل يترك خلل فترته هذه شيئا ً من الفرائض‬
‫مثل الصلوات الخمس‪.‬‬
‫‪ -2‬أل يرتكب شيئا ً من المحرمات‪.‬‬
‫‪ -3‬أل تطول مدة انقطاعه ‪ ،‬بل يجاهد نفسه‬
‫في العودة إلى الجتهاد والمثابرة‪.‬‬
‫ويقول الصحابي الجليل عمر بن الخطاب –‬
‫رضي الله عنه – ‪$ :‬إن لهذه القلوب إقبال ً وإدبارا‪ً،‬‬
‫فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل‪ ،‬وإن أدبرت فألزموها‬
‫الفرائض‪.(2)#‬‬
‫وهذا عمر بن الخطاب يعترف بوقوع هذه‬
‫الظاهرة وينصح بمداراة النفس‪ ،‬وأخذها بالرفق‬
‫والحكمة‪ ،‬ل بالشدة والرعونة؛ لكي تعود إلى سابق‬
‫عهدها بسلم‪ ،‬فعندما تظلم على النسان نفسه‪،‬‬
‫وتشتد عليه حالة الجفاف اليماني‪ ،‬وتقل رغبته في‬
‫أداء العبادة‪ ،‬فهنا عليه فقط أن يجاهد نفسه في‬
‫أداء الفرائض‪ ،‬وأهمها الصلوات الخمس حيث‬
‫يؤديها في الجماعة‪ ،‬مهما كانت ظروفه‪ ،‬ول يكون‬
‫‪ ()1‬تهذيب مدارج السالكين ص )‪.(551‬‬
‫‪ ()2‬المصدر السابق ص )‪.(551‬‬
‫‪21‬‬ ‫البـــاب‬
‫الول‬
‫ً‬
‫عونا للشيطان على نفسه فيتساهل في الفرائض‬
‫فمن ترك شيئا ً منها فهو على خطر عظيم‪.‬‬
‫وعلى النسان في هذه الحالة أل يترك بابا ً إل‬
‫طرقه التماسا ً لصلح قلبه‪ ،‬وتعهدا ً ليمانه‪ ،‬والمور‬
‫التي تعين على ذلك كثيرة مثل قراءة القرآن‬
‫بالتدبر‪ ،‬والمداومة على ذكر الله‪ ،‬ومصاحبة‬
‫الصالحين‪ ،‬وحضور مجالس العلم‪ ،‬وتذكر الموت‪،‬‬
‫وزيارة المقابر‪ ،‬والتأمل في مخلوقات الله‪،‬‬
‫والتضرع واللحاح بالدعاء بأن يمن الله عليه‬
‫بالهداية‪ ،‬ويشرح صدره لليمان‪.‬‬
‫إلى غير ذلك من المور التي سنخصص لها‬
‫الباب الرابع بإذن الله تعالى‪.‬‬
‫القسم الثاني هو الفتور المستقر وهو الذي‬ ‫‪-2‬‬
‫تطول مدته‪ ،‬ويزداد تمكنه من النفس‪ ،‬وقد‬
‫يكون سببه أحد أمرين‪:‬‬
‫أول ً‪ :‬التعلق الشديد بالدنيا‪ ،‬والنشغال الكامل‬
‫بأمورها المختلفة من جمع المال‪ ،‬والتوسع‬
‫في الشهوات والملذ‪ ،‬فقد يوجد أناس في‬
‫حالة ضعف إيماني دائم وهم بعيدون عن‬
‫الشبهات الفكرية والقضايا العقدية‪،‬‬
‫ولكنهم غارقين في بحور الدنيا‪ ،‬ومنهم من‬
‫يترك بعض التكاليف المفروضة مثل‬
‫الصلة لجل انشغاله بجمع حطام الدنيا‬
‫الزائل‪ ،‬كل ذلك ليجمع أكبر قدر من‬
‫الموال لكي يتنعم به في هذه الدنيا‬
‫الفانية‪ ،‬وكأنه مخلد فيها‪ ،‬وليس خلفه‬
‫أهوال وعقبات‪ ،‬ودار أخرى ل منتهى‬
‫للقامة فيها! إن الغفلة قد هيمنت عليه‪،‬‬
‫فأعمته عن النظر العميق في المصالح‬
‫ضعف‬ ‫‪22‬‬
‫اليمان‬
‫الحقيقية‪.‬‬
‫لقد آثر العاجلة‪ ،‬واستبدل الدنى بالذي هو خير‬
‫لنه فقد البصيرة واليقين‪.‬‬
‫قال تعالى‪   :‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪   ‬‬
‫]النسان‪[27:‬‬
‫وقال تعالى‪   :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫]سورة العلى‪[17-16:‬‬
‫والنسان دائما ً لتسرعه يؤثر القريب العاجل؛‬
‫وإن كان حقيرا ً على البعيد الجل؛ وإن كان عظيمًا!‬
‫فل شك أن هؤلء الغارقين في جمع حطام الدنيا‬
‫الزائل على يقين بأنهم سيرحلون عن هذه الدنيا‬
‫مهما طال بهم الزمن‪ ،‬هب أنهم عاشوا وتمتعوا‬
‫عشرات السنين‪ ،‬أليس مصيرهم بعد ذلك إلى‬
‫الموت‪ ،‬ثم الوقوف بين يدي خالقهم ليسألهم عما‬
‫فعلوا في يوم شديد الهوال‪ ،‬وبعد ذلك المصير أما‬
‫إلى الجنة أو إلى النار يقول تعالى‪ :‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪]  ‬سورة‬
‫الشعراء‪.[207-205:‬‬
‫إن النعيم الذي أشغلهم عن طاعة ربهم سنين‬
‫معدودة قد انتهى الن‪ ،‬ذهبت لذته‪ ،‬وبقي شؤمه‬
‫وعقابه ‪ ،‬فأين العقلء الذين ل يجعلون سعيهم‬
‫‪23‬‬ ‫البـــاب‬
‫الول‬
‫للدنيا يطغى على سعيهم للخرة؟ بل يزُِنون المر‬
‫بميزان البصيرة والحكمة‪ ،‬فيأخذون من دنياهم قدر‬
‫البلغة ويجعلون همهم الكبر تلك الدار العظيمة‬
‫التي ل تقارن بالدنيا من جميع الوجوه‪.‬‬
‫إذن فلنعالج ضعفنا اليماني بالتفكر في مصيرنا‬
‫المحتوم‪ ،‬ونداوي فتورنا نحو عبادة ربنا بالتأمل في‬
‫أهوال القيامة والصراط‪ ،‬وعلينا أل نيئس من رحمة‬
‫الله مهما طال بنا الفتور أو غلبتنا الغفلة‪ ،‬فإن الله‬
‫سبحانه وتعالى يدعو‬
‫عباده إلى التوبة مهما كثرت ذنوبهم‪ ،‬قال تعالى‪ :‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪]  ‬سورة الزمر‪ ،[53:‬بل إنه –‬
‫سبحانه وتعالى – يفرح بتوبة عباده ورجوعهم إليه‬
‫كما يفرح من وجد دابته بعد أن ظلت منه في‬
‫صحراء مهلكة وعليها زاده ومتاعه كما ورد في‬
‫السنة المطهرة‪.‬‬
‫ول شك أن ضعف اليمان الذي سببه النغماس‬
‫في الشهوات من السهولة علجه إذا توفرت العزيمة‬
‫الصادقة والرادة القوية حتى وإن طالت مدته‪.‬‬
‫أما المر الثاني الذي هو سبب الفتور المستقر‪،‬‬
‫فهو الشبهات والشكوك في دين الله‪ ،‬والفرق بين‬
‫الفتور الطاريء والمستقر‪ ،‬أن الثاني أكثر تمكنا ً من‬
‫النفس‪ ،‬وأكثر ورودا ً على الخاطر‪ ،‬وربما يلزم‬
‫النسان مدة طويلة‪ ،‬ولذلك فإن ضعف اليمان أو‬
‫الفتور المستقر الذي سببه الشبهات والشكوك‬
‫ضعف‬ ‫‪24‬‬
‫اليمان‬
‫أكثر خطوة على عقيدة المسلم ودينه‪ ،‬ول سيما‬
‫في هذا الزمن‪ ،‬حيث انتشرت كثيرا ً الفكار الضالة‬
‫والعقائد المنحرفة‪ ،‬وفي نفس الوقت قل‬
‫الناصحون والمشفقون على شباب المسلمين من‬
‫هذا السيل الجارف من الفساد الخلقي والعقدي‪،‬‬
‫ولذا سنخصص الفصل التالي لهذا الموضوع‪.‬‬

‫‪‬‬
‫‪‬‬‫‪‬‬‫‪‬‬
‫‪25‬‬ ‫البـــاب‬
‫الول‬

‫شبهات وشكوك‬
‫تعتبر الشبهات والشكوك من السباب الخطيرة‬
‫لضعف اليمان‪ ،‬بل قد تؤدي إلى اجتثاثه من أصوله؛‬
‫إذا لم تعالج مبكرًا‪ ،‬ويجب أن يبذل في سبيل هذا‬
‫العلج الغالي والرخيص‪ ،‬فالمر خطير غاية‬
‫الخطورة‪ ،‬وكل تأخير في هذه المسألة؛ سيكون له‬
‫عواقب وخيمة‪ ،‬والنسان المصاب بهذه الوساوس‬
‫والشكوك يعتبر مريضا ً نفسيًا‪ ،‬ولذلك ينصح بعض‬
‫العلماء بأن يذهب إلى طبيب للمراض النفسية‬
‫والعصبية‪.‬‬
‫وهذه الوساوس والشكوك موجودة لدى قلة‬
‫من الناس منذ عصر الرسول – صلى الله عليه‬
‫وسلم – وقد أتى إليه بعض الصحابة يشكون من‬
‫هذه الوساوس التي شوشت عليهم عقيدتهم‪ ،‬فقد‬
‫أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة – رضي‬
‫الله عنه – قال‪$ :‬جاء ناس من أصحاب النبي عليه‬
‫السلم‪ ،‬فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا‬
‫أن يتكلم به‪ ،‬قال‪ :‬وقد وجدتموه‪ ،‬قالوا‪ :‬نعم‪،‬‬
‫قال‪ :‬ذلك صريح اليمان‪ #‬وفي رواية أخرى‪$ :‬يا‬
‫رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لن يخر من‬
‫السماء إلى الرض أحب إليه من أن يتكلم به‪،‬‬
‫فقال ذلك صريح اليمان‪ #‬وفي رواية ‪$‬الحمد‬
‫لله الذي رد كيده إلى الوسوسة‪ #‬أي كيد‬
‫الشيطان‪.‬‬
‫قال النووي في شرحه على صحيح مسلم‬
‫‪$‬صريح اليمان معناه استعظامكم الكلم به فإن‬
‫استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به‪،‬‬
‫فضل ً عن اعتقاده‪ ،‬إنما يكون لمن استكمل اليمان‬
‫ضعف‬ ‫‪26‬‬
‫اليمان‬
‫استكمال محققًا‪ ،‬وانتفت عنه الريبة والشكوك‪..‬‬
‫وقيل معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن يئس‬
‫من إغوائه‪ ،‬فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن‬
‫إغوائه‪ ،‬وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء‪ ،‬ول‬
‫يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلعب به كيف‬
‫أراد‪.(1)#‬‬
‫وقال شيخ السلم رحمه الله‪$ :‬أي حصول‬
‫الوسواس مع الكراهة العظيمة له‪ ،‬ودفعه عن‬
‫القلب هو من صريح اليمان‪ ،‬كالمجاهد الذي جاءه‬
‫العدو فدافعه حتى غلبه فهذا أعظم الجهاد‪،‬‬
‫والصريح الخالص كاللبن الصريح وإنما صار صريحا ً‬
‫لما كرهوا من تلك الوساوس الشيطانية ودفعوها‪،‬‬
‫فخلص اليمان فصار صريحا ً‪.(2)#‬‬
‫وقال – صلى الله عليه وسلم –‪$ :‬ل يزال‬
‫الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله‬
‫الخلق‪ ،‬فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك‬
‫شيئا ً فليقل آمنت بالله‪ #‬رواه مسلم في كتاب‬
‫اليمان‪.‬‬
‫وقال أيضا ً عليه السلم‪$ :‬يأتي الشيطان‬
‫أحدكم فيقول من‬
‫خلق كذا وكذا حتى يقول من خلق ربك فإذا‬
‫بلغ ذلك فليستعذ بالله‬
‫ولينته‪ #‬متفق عليه‪.‬‬
‫قال ابن حجر في شرح هذا الحديث‪$ :‬فليستعذ‬
‫بالله ولينته عن السترسال معه في ذلك‪ ،‬بل يلجأ‬
‫إلى الله في دفعه‪ ،‬ويعلم أنه يريد إفساد دينه‬
‫وعقله بهذه الوسوسة‪ ،‬فينبغي أن يجتهد في دفعها‬

‫‪ ()1‬شرح النووي علي صحيح مسلم ج ‪ 2‬ص )‪.(154‬‬


‫‪ ()2‬كتاب اليمان لبن تيمية ص )‪.(250‬‬
‫‪27‬‬ ‫البـــاب‬
‫الول‬
‫بالشتغال بغيرها‪.(1)#‬‬
‫وقال النووي‪$ :‬معناه العراض عن هذا الخاطر‬
‫الباطل واللتجاء إلى الله تعالى في إذهابه‪ ،‬قال‬
‫المازري رحمه الله‪ ،‬ظاهر الحديث أنه صلى الله‬
‫عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالعراض‬
‫عنها‪ ،‬والرد لها من غير استدلل ول نظر في إبطالها‪،‬‬
‫والذي يقال في هذا المعني أن الخواطر على‬
‫قسمين‪ ،‬فأما التي ليست بمستقره ول اجتلبتها‬
‫شبهة طرأت‪ ،‬فهي تدفع بالعراض عنها‪ ،‬وعلى هذا‬
‫يحمل هذا الحديث‪ ،‬وعلى مثلها يطلق اسم‬
‫الوسوسة‪ ،‬فكأنه لما كان أمرا ً طارئا ً بغير أصل دفع‬
‫بغير نظر في دليل إذ ل أصل له ينظر فيه‪ ،‬وأما‬
‫الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فأنها ل تدفع‬
‫إل بالستدلل والنظر في أبطالها والله أعلم‪.(2)#‬‬
‫من خلل استعراض هذه الحاديث النبوية‬
‫السابقة وأقوال شراحها يتبين لنا المور التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬أن هذه الوساوس ل حيلة للنسان فيها‪،‬‬
‫فهي تخطر على باله رغما عنه‪.‬‬
‫‪ -2‬أنها ل تضره بإذن الله ما دام كارها لها‪ ،‬باذل ً‬
‫جهده في مدافعتها‪.‬‬
‫‪ -3‬أن هذه الوساوس التي يكرهها النسان‬
‫ويخاف منها ل تدل على ضعف اليمان‪ ،‬بل‬
‫هي تدل على قوة اليمان كما أخبر بذلك‬
‫الرسول – عليه السلم – فقال ذلك صريح‬
‫اليمان‪ ،‬أي خالصه الذي لم تخالطه أي‬

‫‪ ()1‬فتح الباري لبن حجر ج ‪ 6‬ص )‪.(397‬‬


‫‪ ()2‬شرح النووي على صحيح مسلم ح ‪ 2‬ص)‪.(124‬‬
‫ضعف‬ ‫‪28‬‬
‫اليمان‬
‫شائبة‪ ،‬أما هذه الخواطر فإنها من الشيطان‬
‫الذي يئس من إغواء المسلم لقوة إيمانه‬
‫فلم يجد إل أن ينكد عليه حياته‪ ،‬وينغص‬
‫عليه عيشه بهذه الوسوسة‪ ،‬إذن فعلى من‬
‫يحس بها أل يستسلم للشيطان بل يجاهده‪،‬‬
‫ويدفع شره بكل الطرق وهو بهذه المجاهدة‬
‫والمدافعة مثاب إن شاء الله‪.‬‬
‫‪ -4‬عندما يحس النسان بشيء من هذه‬
‫الوساوس يقول ‪ :‬آمنت بالله كما أمر النبي‬
‫عليه السلم يقول ‪ :‬ذلك بصوت واضح‪،‬‬
‫ويكرره مع الستعاذة بالله من الشيطان‬
‫الرجيم‪ ،‬ومع التفكير في عظمة الله‬
‫سبحانه وتعالى – والتفكير في مخلوقاته‬
‫الكثيرة مثل الشمس والقمر والليل والنهار‬
‫والدقة العجيبة في تنظيم هذا الكون‪.‬‬
‫‪ -5‬أن يعرض عن هذه الوساوس‪ ،‬ويحاول أن‬
‫يتناساها كليا ً وذلك بالشتغال بغيرها من‬
‫المور المفيدة‪ ،‬هذا إذا كانت هذه‬
‫الوساوس طارئة‪ ،‬أما إذا كانت مستقرة أو‬
‫بسبب شبهة فهنا لبد من البحث في‬
‫المسألة‪ ،‬ولبد من الستدلل والنظر لكي‬
‫يزيل هذه الشبهة عن نفسه لنها ستبقى‬
‫حاجزا ً بينه وبين الصفاء اليماني‪ ،‬والنقاء‬
‫الروحي والنس بالله – سبحانه وتعالى –‬
‫والقبال على العبادة بشوق وسرور‪.‬‬
‫والخطوات العملية لمعالجة هذا المر هي‪:‬‬
‫‪29‬‬ ‫البـــاب‬
‫الول‬
‫أول ً‪ :‬سؤال العلماء ومناقشتهم في المسألة‬
‫حتى تزول الشبهة‪ ،‬ولذلك ينبغي لمن يحس بشيء‬
‫من هذا أن يذهب إلى العلماء ويسألهم ويناقشهم‪،‬‬
‫ويفضل أل يكون ذلك في مجلس عام‪ ،‬بل على‬
‫السائل أن يذهب إلى العلماء في منازلهم‪ ،‬ويسافر‬
‫إليهم إذا كانوا في مدينة غير مدينته‪ ،‬ول يتهاون في‬
‫المر أبدًا‪ ،‬واعتقد أن جميع علمائنا يرحبون بذلك‬
‫لما فيه من الجر والثواب‪.‬‬
‫ثانيا ً‪ :‬الرجوع إلى الكتب المختصة مثل كتب‬
‫العقائد وكتب الرقائق بصفة عامة وأخص بالذكر هنا‬
‫كتب الشيخ ابن قيم الجوزية مثل ‪ :‬مدارج‬
‫السالكين‪ ،‬والفوائد وكتب ابن الجوزي مثل تلبيس‬
‫إبليس وصيد الخاطر‪ ،‬وكتاب إحياء علوم الدين‬
‫للغزالي ‪ ،‬ورياض الصالحين للنووي وكتب ابن تيمية‬
‫مثل اليمان والفتاوى‪ ،‬وغيرها من كتب أهل العلم‬
‫الذين تصدوا لهذا الجانب من ترقيق القلوب وتقوية‬
‫اليمان‪ ،‬والقراءة في كتب الرقائق تذيب قسوة‬
‫القلب‪ ،‬وتقوي اليمان‪ ،‬ول شك أن ضعف اليمان‬
‫هو أساس الوساوس والشكوك‪ ،‬وأنا أعرف شخصا ً‬
‫كان يشكو من هذه الوساوس‪ ،‬وعندما حافظ تماما ً‬
‫على جميع الفرائض‪ ،‬وزاد من النوافل وحافظ على‬
‫الذكار وحضور بعض مجالس العلم واستمر أيضا ً‬
‫في قراءة كتب الرقائق‪ ،‬ذهب عنه كل ما كان‬
‫يشعر به من وساوس‪ ،‬علما أنه كان ينوي الذهاب‬
‫إلى طبيب أعصاب في مدينة بعيدة حيث نصحه‬
‫بذلك أحد العلماء الكبار‪ ،‬ولكنه بمجرد أن انتظم في‬
‫طاعة ربه؛ لم يعد في حاجة إلى ذلك إطلقًا‪ ،‬فقد‬
‫عافاه الله مما يجد‪ ،‬وتحسن حاله من جميع النواحي‬
‫وخاصة اليمانية والنفسية‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪30‬‬
‫اليمان‬
‫ثالثا ً‪ :‬اللجوء إلى الله والتضرع إليه بأن يزيل‬
‫هذه الوساوس من قلبه ويكفيه شرها‪ ،‬في كل حال‬
‫وفي كل وقت‪ ،‬ويتعين ذلك عندما يشعر بها‪ ،‬حيث‬
‫يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم‪ ،‬ثم يقول‪ :‬آمنت‬
‫بالله‪ ،‬ثم يدعو بهذا الدعاء النبوي الذي رواه أحمد‬
‫في مسنده‪$ :‬أعوذ بكلمات الله التامات التي ل‬
‫يجاوزهن بر ول فاجر‪ ،‬من شر ما خلق وبرأ وذرأ‪،‬‬
‫ومن شر ما ينزل من السماء‪ ،‬ومن شر ما يعرج‬
‫فيها‪ ،‬ومن شر ما ذرأ في الرض‪ ،‬ومن شر ما يخرج‬
‫منها‪ ،‬ومن شر فتن الليل والنهار‪ ،‬ومن شر كل‬
‫طارق إل طارقا ً يطرق بخير يا رحمان‪.#‬‬
‫وأن صعب عليه حفظه فليقل‪:‬‬
‫‪$‬أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق‪.#‬‬
‫‪31‬‬ ‫البـــاب‬
‫الول‬
‫ضعف‬ ‫‪32‬‬
‫اليمان‬
‫كيف نطرد الوساوس الشيطانية‬
‫ل شك أن القلب ترده الخواطر الكثيرة في كل‬
‫لحظة‪ ،‬فهو يشبه خلية النحل من حيث ورود‬
‫الخواطر وخروجها‪ ،‬وهذه الخواطر منها الحسنة‬
‫الكريمة التي تحث على الخير والتقوى ومكارم‬
‫الخلق‪ ،‬ومنها السيئة التي تحث على ا لشر وتدعوا‬
‫إلى الكفر‪ ،‬وترشد إلى الرذيلة‪ ،‬وهذه الخيرة إذا‬
‫استرسل معها النسان أفسدت عليه دنياه‬
‫وآخرته‪ ،...‬فما العمل في دفعها ومحاربتها؟‬
‫بالضافة إلى ما سبق في الفصل السابق هناك‬
‫عدة أمور تعين النسان في ذلك بإذن الله تعالى‪:‬‬
‫‪ -1‬طرد هذه الخواطر السيئة من أول وهلة‪،‬‬
‫وذلك بالستعاذة بالله منها وقول‪ :‬آمنت‬
‫بالله ثم ذكر الدعية السابقة وترك التفكير‬
‫فيها نهائيا ً لنك إذا لم تنكر هذه الخواطر‬
‫وتركتها تجول في ذهنك تحولت من الفكرة‬
‫إلى الرغبة ومن ثم قد تتحول إلى الفعل‬
‫المحرم يقول ابن قيم الجوزية‪$ :‬فإذا دفعت‬
‫الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده‪،‬‬
‫وإن قبلته صار فكرا جوال فاستخدم الرادة‪،‬‬
‫فتساعدت هي والفكر على استخدام‬
‫الجوارح‪ ،‬فإن تعذر استخدامها رجعا إلى‬
‫القلب بالتمني والشهوة وتوجهه إلى جهة‬
‫المراد‪ .‬ومن المعلوم أن إصلح الخواطر‬
‫أسهل من إصلح الفكار‪ ،‬وإصلح الفكار‬
‫أسهل من إصلح الرادات‪ ،‬وإصلح الرادات‬
‫أسهل من تدارك فساد العمل‪ ،‬وتداركه‬
‫أسهل من قطع العوائد‪.(1)#‬‬

‫‪ ()1‬الفوائد ص )‪.(214‬‬
‫‪33‬‬ ‫البـــاب‬
‫الول‬
‫‪ -2‬أن تشغل نفسك بالتفكير فيما يعنيك‬
‫ويتعلق بخاصة نفسك من أمور الدنيا أو‬
‫الخرة‪ ،‬فإنك إن أطلقت لفكرك العنان في‬
‫كل ما يدور في الكون من أحداث وظواهر‬
‫وكوارث‪ ،‬وأخذت تنكر وتحلل وتحرم‬
‫وتتساءل ‪:‬‬
‫لماذا وقع هذا؟‬
‫ولماذا لم يقع هذا؟‬
‫إذا فعلت ذلك وقعت في المحظور‪ ،‬وربما‬
‫اعترضت على أفعال الخالق – سبحانه وتعالى –‬
‫لنك تقيس كل شيء على عقل النسان القاصر‬
‫عن إدراك أسرار الكون‪ ،‬وإدراك حكمة الله تعالى‬
‫في خلقه‪،‬‬
‫خذ مثل ً الحداث المؤلمة التي تمر بالمسلمين‬
‫هذه اليام‪ ،‬وما يعانيه بعضهم من ظلم وقهر ليس‬
‫له مثيل في التاريخ‪ ،‬فهنا قد يحصل من بعض‬
‫الناس أن يطلق العنان لخواطره وأفكاره حتى‬
‫تصل به إلى ما يشبه العتراض على الله – عز‬
‫وجل – عندما يقول‪:‬‬
‫أين الله عن هذا الظلم الفاحش الذي يقع‬
‫على عباده؟‬
‫إلى متى يبقى هؤلء الطغاة يفسدون في‬
‫الرض؟ ويعذبون المساكين ويقتلونهم‪.‬‬
‫وينسى هذا المتسائل قوله تعالى‪  :‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪]   ‬سورة آل‬
‫عمران‪.[197-196:‬‬
‫‪  ‬‬ ‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫ضعف‬ ‫‪34‬‬
‫اليمان‬
‫‪   ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪    ‬‬
‫]سورة إبراهيم‪.[42:‬‬
‫وينسى أن هؤلء المظلومين الصابرين لهم من‬
‫الجر والثواب والكرامة عند ربهم يوم القيامة ما‬
‫يتمنى جميع الناس أن يكونوا مثلهم؛ لما حباهم به‬
‫الله من عز وخير ونجاة من أهوال يوم القيامة‬
‫جزاء ما عانوا وما صبروا‪ ،‬وينسى هؤلء‬
‫المعترضون أن هذه الدنيا قصيرة؛ فهي ل تساوي‬
‫شيئا ً إذا قيست بالزمن كله‪ ،‬فالرسول – عليه‬
‫السلم – شبهها بساعة واحدة يقضيها المسافر في‬
‫ظل شجرة ثم يواصل سفره‪ ،‬والله – سبحانه‬
‫وتعالى – قال‪   :‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪  ‬‬
‫‪]  ‬سورة الحج‪.[47:‬‬
‫فيوم واحد من أيام الله يساوي ألف سنة من‬
‫أيامنا‪.‬‬
‫إذن فالحياة التي يعيشها النسان تعتبر قصيرة‬
‫إذا قيست بالزمن كله‪ ،‬ومادامت بهذا القصر فما‬
‫على النسان من بأس إذا قضاها في ظلم وتعاسة‬
‫بما؛ أنه سيكون بعدها في عز وانتصاف من الظالم‪.‬‬
‫إذن فالذي يعنينا من هذه المسألة هو أن ندعو‬
‫لخواننا المظلومين‪ ،‬وأن ننصرهم ونساعدهم إذا‬
‫استطعنا ذلك‪ ،‬أما أن نشغل فكرنا بأسئلة عقيمة‬
‫مثل التي ذكرناها سابقا ً فهذا ل يعنينا‪ ،‬بل يجب أن‬
‫نطرد هذه الوساوس من أذهاننا لن التوسع فيها‬
‫يعود علينا بالضرر‪ ،‬يقول ابن القيم رحمه الله‪:‬‬
‫‪$‬فانفع الدواء )في طرد الخواطر السيئة( أن‬
‫تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك‪ ،‬فالفكر فيما‬
‫‪35‬‬ ‫البـــاب‬
‫الول‬
‫ل يعني باب كل شر‪ ،‬ومن فكر فيما ل يعنيه فاته ما‬
‫يعنيه‪ ،‬واشتغل عن انفع الشياء له بما ل منفعة له‬
‫فيه‪ ،‬فالفكر والخواطر والرادة والهمة هي أحق‬
‫شيء يجب عليك إصلحه من نفسك‪ ،‬فإن هذه‬
‫خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك‬
‫ومعبودك الذي ل سعادة لك إل في قربه ورضاه‬
‫عنك‪ ،‬وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك‪،‬‬
‫ومن كان في خواطره ومجالت فكره دنيئا ً خسيسا ً‬
‫لم يكن في سائر أمره إل كذلك‪ ،‬وإياك أن تمكن‬
‫الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك فإنه يفسدها‬
‫عليك فسادا ً يصعب تداركه‪ ،‬ويلقي إليك أنواع‬
‫الوساوس والفكار المضرة‪ ،‬ويحول بينك وبين‬
‫الفكر فيما ينفعك‪ ،‬وأنت الذي أعنته على نفسك‬
‫بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك‪ ،‬فمثالك‬
‫معه مثال صاحب رحى يطحن الحبوب‪ ،‬فأتاه‬
‫شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه‬
‫في طاحونه‪ ،‬فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما‬
‫معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه‪ ،‬وأن‬
‫مكنه من إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من‬
‫الحب وخرج الطحين كله فاسدًا‪.‬‬
‫والذي يلقيه الشيطان في النفس ل يخرج عن‬
‫الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على‬
‫خلف ذلك‪ ،‬أو فيما لم يكن لو كان كيف يكون؟ أو‬
‫فيما يلفت الفكر إلى أنواع الفواحش والحرام‪ ،‬أو‬
‫في خيالت وهمية ل حقيقة لها‪ ،‬أو في باطل‪ ،‬أو‬
‫فيما ل سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه‬
‫علمه‪ (1)#‬فمثل هذه الخواطر الرديئة هي التي‬
‫يلقيها الشيطان في قلب النسان‪ ،‬عليه أن يحذر‬

‫‪ ()1‬المصدر السابق ص )‪.(215‬‬


‫ضعف‬ ‫‪36‬‬
‫اليمان‬
‫منها وأن يبعدها عن ذهنه بقدر ما يستطيع‪ ،‬ثم‬
‫يشغل نفسه بالفكر فيما يعنيه وينفعه سواء في‬
‫حياته من طلب العلم النافع والرزق الحلل أو بعد‬
‫مماته من التزود بالعمال الصالحة التي تكون ذخرا ً‬
‫له في الدار الخرة‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫البـــاب‬
‫الول‬
‫‪ ‬‬
‫الوساوس والخواطر في الصلة‬
‫يشكو كثير من الناس من هجوم الخواطر‬
‫عليهم أثناء الصلة خاصة‪ ،‬فقبل الصلة يكون باله‬
‫خاليا ً من أي فكرة‪ ،‬ولكنه بمجرد أن يدخل في‬
‫الصلة؛ تنهال عليه الفكار من كل جانب‪ ،‬ول شك‬
‫أن هذا من كيد الشيطان‪ ،‬فالشيطان عدو ابن آدم‪،‬‬
‫وهو دائم السعي ليقاع أكبر الضرر به‪ ،‬وليس لديه‬
‫أفضل من أن يشغل قلب المسلم في صلته‪،‬‬
‫ليفسد عليه الصلة لنها عمود الدين‪ ،‬فإذا تمكن‬
‫من ذلك فقد حقق أعظم الهداف ؛ لن ما دون‬
‫الصلة أسهل وأيسر عليه‪ ،‬وأي خصم عندما يحارب‬
‫عدوه فإنه يختار بل شك أهم المواقع عند عدوه؛‬
‫فيدمرها إن قدر ‪$‬ولهذا يعرض للناس من‬
‫الوساوس في الصلة مال يعرض لهم إذا لم يصلوا‪،‬‬
‫لن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد النابة إلى‬
‫ربه‪ ،‬والتقرب إليه‪ ،‬والتصال به‪ ،‬فلهذا يعرض‬
‫للمصلين مال يعرض لغيرهم‪ ،‬ويعرض لخاصة أهل‬
‫العلم والدين أكثر مال يعرض للعامة‪ ،‬ولهذا يوجد‬
‫عند طلب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات‬
‫ما ليس عند غيرهم‪.(1)#‬‬
‫وبما أننا قد عرفنا كيد الشيطان وأنه لنا‬
‫بالمرصاد خاصة في أهم أمورنا مثل الصلة‪ ،‬فما‬
‫علينا إل أن نعرض عنه‪ ،‬ول نستجيب لوساوسه‬
‫فنحقق أهدافه من حيث ل ندري‪ ،‬وعلينا بمجاهدة‬
‫النفس في الصلة خاصة‪ ،‬فنطرد أي تفكير في‬
‫أمور الدنيا‪ ،‬ونشتغل بتدبر القرآن الذي نقرأه نحن‬
‫‪ ()1‬كتاب اليمان لشيخ السلم ابن تيمية ص )‪.(251‬‬
‫ضعف‬ ‫‪38‬‬
‫اليمان‬
‫في الصلة السرية‪ ،‬أو الذي يقرأه المام في‬
‫الصلة الجهرية‪ ،‬ولذلك ينبغي على كل مسلم أن‬
‫يعرف تفسير سورة الفاتحة‪ ،‬وما فيها من معاني‬
‫عظيمة‪ ،‬وإشراقات روحانية‪ ،‬لكي يعرف معنى الية‬
‫عندما يقرأها أو يسمعها من المام فل ينشغل‬
‫بغيرها‪ ،‬أقول هذا في حق سورة الفاتحة بالذات‬
‫لنها تكرر معنا في كل ركعة وإل فالمفروض أن‬
‫نعرف تفسير جميع القرآن؛ فإن تدبر القرآن‬
‫والرتياح لقراءته يكون أكثر مع فهم معانيه‪.‬‬
‫ويستحسن هنا أن أورد سؤال ً يتعلق بهذا‬
‫الموضوع مع جوابه من فتاوى اللجنة الدائمة‬
‫للبحوث والفتاء برئاسة الشيخ ابن باز رحمه الله‪.‬‬
‫السؤال‪ :‬كيف أتخلص من وساوس الشيطان‬
‫في الصلة؟‬
‫الجواب‪ :‬ل تتبعه فيما يوسوس به لك في‬
‫صلتك بل أعرض عنه‪ ،‬وأشغل نفسك بتدبر ما تقرأ‬
‫من القرآن‪ ،‬والتفكر في عظمة الله وجلله في‬
‫التكبير والتسبيح والتحميد في قيامك وركوعك‬
‫وسجودك وجلوسك للتشهد‪ ،‬وسائر القوال‬
‫والفعال المشروعة في صلتك‪ ،‬ولتستعذ بالله منه‬
‫ثلث مرات‪ ،‬ولتنفث مع ذلك عن يسارك)‪.(1‬‬

‫‪ ()1‬فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والفتاء المجلد الثاني ص‬


‫)‪.(134‬‬
‫‪‬‬

‫الباب الثاني‬
‫أسباب ضعف اليمان‬
‫‪ -1‬النشغال الكلي بأمور الدنيا‪.‬‬
‫‪ -2‬الهوى والشهوات‪.‬‬
‫‪ -3‬كثرة الوقوع في المعاصي‪.‬‬
‫‪ -4‬البتعاد عن الجواء اليمانية‪.‬‬
‫‪ -5‬الكسل‪.‬‬
‫‪ -6‬الطلع على الفكار الضالة والعقائد المنحرفة‪.‬‬
‫‪ -7‬طول المل‪.‬‬
‫‪ -8‬مجالسة العابثين والبطالين‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪40‬‬
‫اليمان‬
‫‪41‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬

‫أسبــاب ضعف اليمــان‬


‫لقد عرفنا من قبل أن اليمان يزيد وينقص‬
‫وعرفنا ‪ ،‬أيضا ً أن زيادته تكون بالطاعات‪ ،‬وأن‬
‫نقصانه يكون بالمعاصي‪ ،‬فهذه هي القاعدة الكبرى‬
‫في هذا الباب‪ ،‬وهي واضحة كل الوضوح‪ ،‬وسهلة‬
‫غاية السهولة‪ ،‬فما على من يريد تقوية إيمانه‬
‫وتعاهد قلبه إل أن يكثر من عبادة ربه‪ ،‬ويخلص في‬
‫طاعته ويبتعد كل البعد عن المعاصي والذنوب‪ ،‬فإنها‬
‫الحاجز بينه وبين نور اليمان وحلوة العبادة ولذة‬
‫الطاعة‪ ،‬وهذا المر سهل ويسير على من وفقه الله‬
‫للخير‪.‬‬
‫وإن هذا المر سهل على من جاهد نفسه ونبذ‬
‫الكسل والسترخاء‬
‫في أول أمره‪ ،‬حتى يجرب لذة عبادة ربه‪ ،‬ومناجاة‬
‫خالقه‪ ،‬وعند ذلك‬
‫لن يترك هذه المنح الربانية مهما أغراه الشيطان‬
‫بلذة الكسل والسترخاء‪.‬‬
‫يقول سبحانه وتعالى‪   :‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪]   ‬العنكبوت‪ ،[69:‬وإن‬
‫ذلك المر يسير على من صبر وصابر من أجل‬
‫الفوز بالجنة‪ ،‬التي فيها مال عين رأت‪ ،‬ول أذن‬
‫سمعت ول خطر على قلب بشر ‪ ‬‬
‫‪      ‬‬
‫‪       ‬‬
‫‪]  ‬سورة آل عمران‪ ،[200:‬وقال‬
‫ضعف‬ ‫‪42‬‬
‫اليمان‬
‫تعالى‪   :‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪]   ‬سورة الزمر‪.[10:‬‬
‫وقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – في‬
‫حديث طويل‪$ :‬من يتصبر يصبره الله‪ ،‬وما‬
‫ُأعطى أحد عطاءا ً خيرا وأوسع من الصبر‪#‬‬
‫متفق عليه‪.‬‬
‫ومما يعين المسلم على سد تلك الثغرات التي‬
‫يدخل منها الشيطان؛ ليفسد عليه إيمانه‪ ،‬ويشككه‬
‫في عقيدته؛ أن نوضح ونبين له أسباب ضعف‬
‫اليمان‪ ،‬فذلك أحرى أن نسد مداخل الشيطان‪،‬‬
‫ونفسد عليه خططه‪ ،‬فإن كيد الشيطان ضعيف؛‬
‫لن الله – سبحانه وتعالى – لم يجعل له سلطانا‬
‫على المتقين الذين يتقون شره بالمجاهدة‬
‫والمراقبة والطاعة قال تعالى‪  :‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪]  ‬سورة الحجر‪ ،[42:‬إذن‬
‫فالشيطان الذي هو السبب الكبر للضلل والغواية؛‬
‫ل يستطيع أبدا أن يقف في طريق البرار أصحاب‬
‫الستقامة‪ ،‬وإنما يغوي من طاوعه وسايره من‬
‫أصحاب الشهوات والشبهات‪ ،‬عندما نعرف مداخل‬
‫الشيطان حق المعرفة؛ نكون قد قطعنا شوطا ً‬
‫كبيرا ً في طريق التقوى‪ ،‬وتخلصنا من عدو لئيم‬
‫مخادع يعتبر أخطر أعدائنا‪ ،‬أما العداء بعده فهم‬
‫أيسر منه مثل شياطين النس وهوى النفس‪.‬‬
‫هذا وسنذكر في الصفحات التالية بعض أسباب‬
‫‪43‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫ضعف اليمان‪ ،‬فإن معرفة السباب تعتبر من أهم‬
‫عناصر العلج‪ ،‬فإذا عرفت سبب الداء وابتعدت عنه‬
‫فقد قطعت الطريق على المرض‪ ،‬فل يصل إليك‪.‬‬
‫وإن كان المرض قد حل بك فإن البتعاد عن‬
‫أسبابه يعني الشفاء منه بإذن الله والتخلص من‬
‫آلمه ومتاعبه‪.‬‬
‫وبالله التوفيق‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪44‬‬
‫اليمان‬
‫‪ ‬‬
‫النشغال الكلي بأمور الدنيا‬
‫النشغال بالدنيا يعتبر من أهم أسباب ضعف‬
‫اليمان؛ فأغلب الناس في زماننا هذا مصابون بهذا‬
‫الداء‪ ،‬والنسان الغارق في مشاغل الدنيا يعتبر في‬
‫غفلة مزمنة ‪ ،‬فهو في شغل دائم بحطام الدنيا ‪.‬‬
‫وما دام كذلك فمن أين تأتيه الخشية؟‬
‫وكيف يرق قلبه؟‬
‫وكيف يخشع في صلته؟‬
‫يقول المام الرباني سفيان الثوري‪:‬بلغني أنه‬
‫يأتي على الناس زمان يغلب عليهم فيه حب الدنيا‬
‫حتى لتجد الخشية إلى قلوبهم سبيل!! ‪$‬ولما علم‬
‫عدو الله إبليس أن المدار على القلب والعتماد‬
‫عليه أجلب عليه بالوساوس‪ ،‬وأقبل إليه بوجوه‬
‫الشهوات ‪ ،‬وزين له من الحوال وما يصده به عن‬
‫الطريق‪ ،‬ومده من أسباب الغي بما يقطعه عن‬
‫أسباب التوفيق‪ ،‬ونصب له من المصايد والحبائل ما‬
‫أن سلم من الوقوع فيها؛ لم يسلم من أن يحصل‬
‫له بها التعويق‪ ،‬فل نجاة من مصايده ومكايده إل‬
‫بدوام الستعانة بالله تعالى‪ ،‬والتعرض لسباب‬
‫مرضاته‪ ،‬وألتجاء القلب إليه‪ ،‬وإقباله عليه في‬
‫حركاته وسكناته‪ (1)#‬إذن فل شك أن النغماس‬
‫الكلي في أمور الدنيا له خطورة بالغة على المسلم‬
‫لنه يشغل كل طاقاته وتفكيره في هذه الدنيا‬
‫الفانية‪ ،‬وما الذي يبقى بعد ذلك للدار الخرة التي‬
‫هي العظم والهم عند المسلمين؟ ربما يقول‬
‫‪ ()1‬إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان‪ .‬ابن القيم ج ‪ – 1‬ص )‪.(9‬‬
‫‪45‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫قائل‪ :‬أنت تبالغ في المر‪ ،‬أل تراهم يصلون‪،‬‬
‫ويقومون بكل فرائض السلم‪ ،‬وأقول هذا صحيح‬
‫ولكنهم من فرط انشغالهم بهذه الدنيا فهم‬
‫منشغلون بها حتى أثناء صلتهم‪ ،‬بالتفكير في‬
‫أمورهم اليومية‪ ،‬وهذه نقطة الضعف التي يدخل‬
‫منها عدوهم إبليس عليه لعنة الله‪.‬‬
‫فنحن نسمع كثيرا ً من الناس يشكون من هجوم‬
‫الخواطر عليهم أثناء الصلة خاصة‪ ،‬ولعل من المور‬
‫المساعدة على البعد عن الغراق الكلي في‬
‫الشتغال بحطام الدنيا هو التأمل الكثير والتفكر‬
‫بجدية في هذه الدنيا وحقارتها وسرعة انقضائها‬
‫والرحيل عنها‪ .‬ونحن ل ندعو إلى ترك الدنيا نهائيا ً‬
‫بحيث يبقى النسان عالة على غيره كما يفعل بعض‬
‫الصوفية‪ ،‬بل ندعوه إلى أن يوازن النسان بين الدنيا‬
‫والخرة ويعمل في هذه الدنيا بالقدر الذي يعيش‬
‫منه حياة كريمة وحسب‪ ،‬وبعد ذلك يلتفت إلى أمر‬
‫حياته في الدار الخرة‪ ،‬وعليه أن يراقب الله في كل‬
‫ما يفعل وما يدع وسيجد في هذه المراقبة‬
‫الطمئنان والراحة النفسية قال يونس بن ميسرة‪:‬‬
‫‪$‬ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلل ول إضاعة‬
‫المال‪ ،‬ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد‬
‫الله أوثق منك بما في يدك‪ ،‬وأن تكون حالك في‬
‫المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء‪ ،‬وأن يكون‬
‫مادحك وذامك في الحق سواء‪ ،(1)#‬فالنسان‬
‫المسلم المتزن في أموره لن يجد أي صعوبة في‬
‫أن يعمل في الدنيا بالقدر الذي يكفيه مؤونته وأهله‬
‫من غير تقتير ول إسراف‪ ،‬ثم يصرف بقية وقته فيما‬
‫يتعاهد به إيمانه‪ ،‬وييسر عليه طاعة ربه وسيجد حتما‬
‫في ذلك من السعادة والراحة النفسية أضعاف ما‬
‫‪ ()1‬تزكية النفوس‪ .‬د‪.‬أحمد فريد ص )‪.(95‬‬
‫ضعف‬ ‫‪46‬‬
‫اليمان‬
‫يجده أرباب الثروات الذين يصرفون كل أوقاتهم من‬
‫أجل حطام الدنيا الفاني‪ ،‬وينبغي للمسلم عندما‬
‫يقبل على هذه الدنيا أن يعتبرها وسيلة ل غاية‪ ،‬لكي‬
‫يقلل من شأنها على قلبه؛ فل ينشغل بها انشغال ً‬
‫تاما ً عمليا ً وذهنيًا‪ ،‬بل يجعل المال في يده ل في‬
‫قلبه‪ ،‬فهذه الدنيا ليست إل طريقا ً يمر منه النسان‪،‬‬
‫ويمضي إلى الدار الخرة‪.‬‬
‫يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – ‪:‬‬
‫‪$‬كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل‪#‬‬
‫رواه البخاري‪.‬‬
‫فالرسول عليه السلم يشبه الدنيا كلها بمثل‬
‫مكث عابر السبيل أو الغريب‪ ،‬وكم يمكث عابر‬
‫السبيل عندما يمر بمدينة ليرتاح فيها قليل ً ويمضي‬
‫في حال سبيله؟ وهل يحتاج في هذا الزمن اليسير‬
‫الذي ل يتعدى ساعة أو ساعتين إلى أن يبني منزل ً‬
‫ل؟ أبدا ً أنه ليس في حاجة لبناء أي شيء‪ ،‬بل‬ ‫مث ً‬
‫قلبه مشغول بالبلد الذي يريد الوصول إليه‪ ،‬وقلبه‬
‫مشغول بالطريق ومتاعبه‪ ،‬وكذلك ينبغي أن يكون‬
‫المؤمن مع هذه الدنيا فل يستغرق في النشغال بها‬
‫كل وقته وفكره‪ ،‬بل يجعل أكثر وقته وفكره‬
‫للشتغال بالدار الخرة‪ ،‬فهي المقر الحقيقي‬
‫والدائم للنسان ‪.‬‬
‫وعلى النسان أن يعمل موازنة يسيرة بين‬
‫الدنيا والخرة من جهة الزمن فقط‪ ،‬فكم يعيش‬
‫النسان في هذه الدنيا؟! أي كم مقدار الزمن‬
‫المفترض في الدنيا! وكم هو الزمن في الدار‬
‫الخرة؟!‬
‫ما هي نسبة حياة النسان في الدنيا إلى الزمن‬
‫‪47‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫كله ؟ !‬
‫عندنا نجيب على هذه السئلة إجابة صادرة عن‬
‫تأمل عميق نجد أن الزمن الذي يعيشه النسان في‬
‫الدنيا ل يساوي إل نسبة ضئيلة جدا ً بالنسبة لزمن‬
‫الدار الخرة ‪ ،‬ربما يكون أقل من واحد في‬
‫المليار ‪ ،‬بل هي أقل من ذلك بكثير‪ ،‬وإنما نضرب‬
‫المثل لتقريب المعني‪ ،‬فقل لي بربك هل يستحق‬
‫هذا القدر الضئيل من الزمن الذي هو عبارة عن‬
‫حياتنا الدنيا أن نضيع من أجله ذلك الكم الهائل من‬
‫الزمن الذي ل منتهى له‪ ،‬ول حدود‪ ،‬مع ما فيه من‬
‫نعيم الجنة الذي ل منغص فيه أبدًا!‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪48‬‬
‫اليمان‬
‫‪   ‬‬
‫الهوى والشهوات‬
‫السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو‪:‬‬
‫ما هو الشيء الذي يجعل النسان ينجذب إلى‬
‫حب الدنيا ويركن إليها على رغم علمه بقصر زمنها‪،‬‬
‫وتنغيص عيشها؟‬
‫والجواب هو أن الهوى والشهوات من يفعل‬
‫ذلك‪،‬‬
‫فما هو الهوى إذن؟‬
‫الهوى هو ميل طبيعي في النسان إلى كل‬
‫شيء يجد فيه متعة ولذة وراحة‪ ،‬وهذا المر الجّبلي‬
‫جعله الله في النسان لضرورة بقائه فإنه لول ميله‬
‫إلى الطعام لدركه الفناء‪ ،‬ولما حافظ على سللته‪،‬‬
‫إذن هذا الميل إذا كان باعتدال وتعقل فل ضرر منه‬
‫ول ملمة عليه‪ ،‬لكنه إذا زاد عن حده‪ ،‬انقلب إلى‬
‫ضده ؛ بحيث يصبح النسان في هذه الحالة ليس له‬
‫هدف إل تحصيل الشهوات ونيل الملذات‪ ،‬فتصبح‬
‫هذه الغريزة‪ ،‬غريزة الهوى والشهوات هي التي‬
‫تتحكم فيه وتصرفه حيث تشاء‪ ،‬فهو عبد لهواه‪،‬‬
‫يطيعه في كل ما يملي عليه من حق أو باطل‪ ،‬ول‬
‫يستطيع له عصيانا ً أبدا ً قال تعالى‪ :‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪]   ‬سورة الجاثية‪:‬‬
‫‪ ،[23‬وقال تعالى‪   :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪]  ‬سورة الروم‪ ،[29:‬هكذا ينحط‬
‫النسان من رتبة النسانية إلى درجة البهيمية فل‬
‫‪49‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫هدف له ول غاية لديه أكبر من تحصيل الشهوات‪،‬‬
‫بل يصبح هواه وتحقيق شهواته بمثابة الله الخالق‬
‫في حس هذا النسان ‪ ،‬ذلك ما يقرره القرآن ‪‬‬
‫‪      ‬لن‬
‫الغفلة والستغراق التام في هذه الشهوات قد أخذ‬
‫بمجامع قلبه‪ ،‬والبيئة التي يدرج فيها تشجعه على‬
‫ذلك‪ ،‬وكلما زاد تعلقه بهذه الشهوات زاد بعده عن‬
‫الله‪ ،‬والنسان مشتق من النسيان فهو ينسى‬
‫ويتمادى في النسيان؛ إن لم يذكره أحد بربه عز‬
‫وجل‪ ،‬وهو يتناسى إن لم يجد أمامه قدوة صالحة‬
‫يرى فيها إيمانا ً يمشي على الرض‪ ،‬وهو ينسى‬
‫ويتناسى إن لم يجد من يذكره بالموت وسكراته‬
‫وبالدار الخرى يقول تعالى‪   :‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪]  ‬سورة الذاريات‪،[55:‬‬
‫فإذا اجتمع الغراق في الشتغال بالدنيا من جانب‪،‬‬
‫وعدم‬
‫وجود من يذكر بالله عز وجل وبالدار الخرة من‬
‫جانب آخر اكتملت دائرة الغفلة فأحاطت بهذا‬
‫المسكين من جميع الجهات‪ ،‬نسأل الله العافية‪،‬‬
‫فيبقى سابحا ً في بحار الغفلة‪ ،‬لهيا ً بما يشهد‬
‫من متاع زائل حتى يأتيه ملك الموت ويرى مقعده‬
‫في الدار الخرة رأي العين‪ ،‬حين تصل إلى‬
‫الحلقوم‪ ،‬وهناك يتقطع حسرة وندامة ويتمنى أن‬
‫تكون له كرة أخرى يعمل عمل ً صالحا ً‬
‫ولكن هيهات قال تعالى‪   :‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪   ‬‬
‫ضعف‬ ‫‪50‬‬
‫اليمان‬
‫‪  ‬‬
‫‪   ‬‬
‫]سورة المؤمنون‪ ،[100-99:‬وقال تعالى‪ :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪]  ‬سورة‬
‫التكاثر‪.[2-1:‬‬
‫وبما أن النسان قد أنعم الله عليه بنعمة العقل‬
‫التي حرم منها جميع الخلئق غير النسان؛ فينبغي‬
‫أن يستخدم عقله ويجعله الحكم في كل تصرفاته‪،‬‬
‫وليس الهوى والشهوات‪ ،‬والمسلم إذا التزم بأوامر‬
‫ربه‪ ،‬فلن يخسر شيئا ً أبدا ً من متاع الدنيا الحلل‬
‫وسيفوز بنعيم الجنة بإذن الله؛ لن السلم لم‬
‫يحرم إل ما فيه ضرر وأذى للنسان‪ ،‬أما بقية‬
‫الطيبات من متع الدنيا فهي مباحة بالطرق‬
‫الشرعية المعروفة‪ ،‬فعلى النسان أن يسعى‬
‫لتحصيلها إذا كان لديه الرغبة فيها مع مراقبة الله‬
‫في جميع حركاته وسكناته‪ ،‬وإن فاته شيء منها‬
‫فليكن نصب عينيه إن هذه الدنيا حقيرة وزائلة‪ ،‬وأن‬
‫من ترك شيئا ً لله عوضه الله خيرا ً منه‪ ،‬وأن الهدف‬
‫العظم له هو الحصول على نعيم الجنة الذي‬
‫ل يحول ول يزول‪.‬‬
‫والنسان ينبغي له أن يخالف هواه‪ ،‬خاصة إذا‬
‫كان هواه يدعوه إلى معصية خالقه – سبحانه وتعالى‬
‫– بل يجب عليه أن يقف بصلبة أمام هذه المعاصي‬
‫بعقله وفكره وتمييزه‬
‫إن أكثر الشهوات المحرمة ل تستغرق إل دقائق‬
‫معدودة‪ ،‬فكيف يضيع على نفسه سعادة الدنيا‬
‫والخرة من أجل لذة لحظات من الزمن‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫لقد مدح الله تعالى في كتابه من يخالف هواه‬
‫ويمنع نفسه من السقوط في مستنقع الشهوات‬
‫المحرمة فقال تعالى‪   :‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪] ‬سورة النازعات‪.[41-40:‬‬
‫ما هو جزاء من نهى النفس عن‬
‫الهوى؟‬
‫إنه الجنة!!‬
‫وهل يتمنى أحد أعظم من الجنة؟‬
‫أل تستحق الجنة أن يفعل النسان كل ما في‬
‫وسعه ليصير من أهلها‪.‬‬
‫أي سعادة أفضل من ذلك!‬
‫وأي نعيم أفضل من نعيم الجنة؟ فيها ما ل عين‬
‫رأت‪ ،‬ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫فلماذا ل نمنع النفس عن بعض الشهوات لجل‬
‫الجنة ؟‬
‫لماذا ل نمنعها عن الشهوات المحرمة بالذات‬
‫ول نكون ممن أذهب طيباته في حياته الدنيا‬
‫واستمتع بها كما ذكر الله سبحانه عن الكفار‪.‬‬
‫وبعد أن عرفنا مصير من نهى النفس عن‬
‫الهوى وأنه الجنة‪ ،‬فلبد أن نعرف مصير الفريق‬
‫الخر الذين لم ينهوا النفس عن الهوى‪ ،‬الذين‬
‫غلبتهم شهواتهم؛ فصاروا ل يفرقون بين الحلل‬
‫والحرام من أجل إشباع شهواتهم!‬
‫ما هو مصيرهم يوم القيامة؟!‬
‫يقول الله تعالى‪  :‬‬
‫ضعف‬ ‫‪52‬‬
‫اليمان‬
‫‪                 ‬‬
‫‪               ‬‬
‫‪               ‬‬
‫‪       ‬‬ ‫‪    ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪         ‬‬
‫‪      ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪]  ‬سورة النازعات‪.[39-34:‬‬
‫إذن فهذا الفريق الذي أتبع نفسه هواها‪ ،‬وآثر‬
‫الحياة الدنيا‪ ،‬مصيره الجحيم لنه طغى؛ أي تجاوز‬
‫الحد في عب الشهوات المحرمة‪ ،‬وأكثر من‬
‫المعاصي بصفة عامة‪.‬‬
‫وبعد ذلك فلنا وقفات مع هذه اليات الكريمات‪.‬‬
‫فيوم القيامة هو يوم الطامة الكبرى‪ ،‬أي الداهية‬
‫العظيمة التي تطم وتزيد عن سائر الطامات لهولها‬
‫وشدة أمرها‪ ،‬في ذلك اليوم العظيم عندما يقف‬
‫الخلئق ينتظرون مصيرهم إما إلى الجنة وإما إلى‬
‫النار‪ ،‬في هذه الساعات‪ ،‬ساعات النتظار يتذكر‬
‫النسان ما سعى‪ ،‬يتذكر عمله في الدنيا فعند ما تمر‬
‫به ذكرى العمل الصالح؛ يفرح بذلك ويقول‪ :‬لعل‬
‫الله ينجيني به من هذه النار البارزة للعيان ‪‬‬
‫‪Ylh ‬‬
‫‪$   ‬أي أظهرت إظهارا ً ل‬
‫يخفى على أحد‪.(1)#‬‬
‫وعندما يتذكر المعصية يرتجف فؤاده‪ ،‬ويتغشاه‬
‫الكرب خوفا ً من أن تكون هذه المعصية أحد‬
‫السباب التي تؤدي به إلى جهنم والعياذ بالله‬
‫وأقول‪ :‬لماذا ل يتذكر النسان ذلك الموقف الرهيب‬
‫الن‪ ،‬وفي دار العمل بحيث يبادر إلى العمال‬
‫الصالحة قبل يوم الحساب‪.‬‬
‫يحكى أن أحد الصالحين قد حفر قبرا ً قريب‬

‫‪ ()1‬تفسير فتح القدير للشوكاني ج ‪ 5‬ص )‪.(380‬‬


‫‪53‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫من منزله‪ ،‬فكان ينام فيه بعض الحيان على هيئة‬
‫ل‪ :‬ربي أرجعني أعمل‬ ‫الميت ثم ينهض فزعا ً قائ ً‬
‫صالحا ً فيما تركت‪ ..‬وعندما سئل عن ذلك قال‪:‬‬
‫أردت أن أذكر نفسي بالدار الخرة حيث ل يقبل‬
‫ل؛ فأقنعها بعمل الطاعات‬ ‫الله من أحد صرفا ً ول عد ً‬
‫مادمت في دار المهلة!‬
‫قد يقول قائل‪ :‬وماذا نفعل مع هذه النفس‬
‫المارة بالسوء؟‬
‫وكيف نتخلص من شهوات ورغبات اعتدنا عليها‬
‫منذ سنوات؟‬
‫بل وكيف تصفو النفس من هذه المشوشات‬
‫والمكدرات المادية والمعنوية؟‬
‫وأقول ‪$‬أعلم أن مطلق الهوى يدعو إلى اللذة‬
‫الحاضرة من غير فكر في عاقبة‪ ،‬ويحث على نيل‬
‫ل‪ ،‬وإن كانت سببا ً لللم والذى في‬ ‫الشهوات عاج ً‬
‫العاجل ومنع لذات في الجل‪.‬‬
‫فأما العاقل فإنه ينهى نفسه عن لذة تعقب‬
‫ألمًا‪ ،‬وشهوة تورث ندمًا‪ ،‬وكفى بهذا القدر مدحا ً‬
‫للعقل وذما ً للهوى‪.‬‬
‫أل ترى أن الطفل يؤثر ما يهوى وإن أداه إلى‬
‫ضل العاقل عليه بمنع نفسه من ذلك‪،‬‬ ‫التلف! فيف ّ‬
‫وقد يقع التساوي بينهما في الميل بالهوى وبهذا‬
‫القدر فضل الدمي على البهائم – أعني ملكة‬
‫الرادة – لن البهائم واقفة مع طباعها‪ ،‬ل نظر لها‬
‫إلى عاقبة‪ ،‬ول فكر في مآل‪ ،‬فهي تتناول ما يدعوها‬
‫إليه الطبع من الغذاء إذا حضر‪ ،‬وتفعل ما تحتاج إليه‬
‫من إخراج الروث أي وقت اتفق‪ ،‬والدمي يمتنع عن‬
‫ذلك بقهر عقله لطبعه‪ ...‬وليعلم العاقل أن مدمني‬
‫ضعف‬ ‫‪54‬‬
‫اليمان‬
‫الشهوات يصيرون إلى حالة ل يلتذونها‪ ،‬وهم مع‬
‫ذلك ل يستطيعون تركها‪ ،‬لنها قد صارت عندهم‬
‫كالعيش الضطراري‪ ،‬ولهذا ترى مدمن الخمر‬
‫عشر التذاذ من لم يدمن‪ ،‬غير‬ ‫والجماع ل يلتذ بذلك ُ‬
‫أن العادة تقتضيه ذلك فيلقي نفسه في المهالك‬
‫لنيل ما يقتضيه تعوده‪.(1)#‬‬
‫وينبغي للمسلم أن يبادر بعزيمة صادقة إلى‬
‫هجران كل محرم من الشهوات‪ ،‬ول يتساهل في‬
‫ذلك أو ينتظر؛ فإنه ل يدري كم بقي من أجله‪،‬‬
‫فعليه بالمسارعة إلى التوبة قبل نهاية الجل‪،‬‬
‫وانقطاع قبول العمل‪ ،‬ول بأس من التدرج والتمرن‬
‫على دفع الهوى إذا كان من قبل المباحات‪.‬‬
‫وأقول حتى المباحات فإنه ل ينبغي للمسلم أن‬
‫يركض في ميدانها إلى أقصاه‪ ،‬فمن حام حول‬
‫الحمى يوشك أن يرتع فيه‪.‬‬
‫وقد كان بشر بن الحارث الزاهد المشهور‬
‫يقول‪$ :‬ما ينبغي للرجل أن يشبع اليوم من الحلل‪،‬‬
‫لنه إذا شبع من الحلل دعته نفسه إلى الحرام‪،‬‬
‫فكيف إلى هذه القذار اليوم‪.(2)#‬‬
‫ول شك أن هجران هوى النفس يحتاج إلى صبر‬
‫ومجاهدة‪ ،‬ومما يعين المسلم على ذلك الصبر وتلك‬
‫المجاهدة المور التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬التفكر في إن النسان لم يخلق للهوى‪،‬‬
‫وإنما خلق للنظر في العواقب والعمل‬
‫للجل‪.‬‬

‫‪ ()1‬مختصر ذم الهوى لبن الجوزي‪ ،‬إبراهيم محمد رمضان )‪.(19‬‬


‫‪ ()2‬كتاب الورع عن المام أحمد بن حنبل )‪.(24‬‬
‫‪55‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫‪ -2‬أن يفكر في عواقب الهوى‪ .‬فكم أفات من‬
‫فضيلة‪ ،‬وكم قد أوقع في رذيلة‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يتصور انقضاء غرضه من شهوته ثم‬
‫يتصور الذى الحاصل بعد ذلك فإنه ل شك‬
‫يزيد على لذة الشهوة أضعافًا‪.‬‬
‫‪ -4‬أن يتدبر عز الغلبة وذل القهر‪ ،‬فإنه ما من‬
‫أحد غلب هواه إل أحس بقوة العز‪ ،‬وما من‬
‫أحد غلبه هواه إل وجد في نفسه ذل القهر‪.‬‬
‫‪ -5‬أن يفتكر في فائدة مخالفة الهوى‪ ،‬من‬
‫اكتساب الذكر الجميل في الدنيا‪ ،‬وسلمة‬
‫العرض والنفس والجر في الخرة‪ ،‬ثم‬
‫يعكس فيتفكر لو وافق هواه في حصول‬
‫عكس ذلك إلى البد)‪.(1‬‬

‫‪ ()1‬انظر مختصر ذم الهوى لبن الجوزي )‪.(20‬‬


‫ضعف‬ ‫‪56‬‬
‫اليمان‬
‫‪‬‬
‫‪57‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬

‫كثرة الوقوع في المعاصي‬


‫ل شك أن كثرة وقوع النسان في المعاصي‬
‫من أهم أ سباب ضعف اليمان‪ ،‬فاليمان ينقص‬
‫بالمعاصي ويزيد بالطاعات‪ ،‬وهذا أمر ل يختلف فيه‬
‫اثنان‪ ،‬فهو مجرب ومشاهد فعندما يتساهل النسان‬
‫ويقع في المعاصي التي يظن أنها من الصغائر يجد‬
‫أثر ذلك حال ً في قلبه‪ ،‬فل لذة في العبادة ول راحة‬
‫في الطاعة‪ ،‬ول طمأنينة في النفس ول إقبال‬
‫ومبادرة لداء الصلوات‪.‬‬
‫والمعاصي كلها شؤم على النسان صغيرها‬
‫وكبيرها‪ ،‬والسعيد من نجاه الله منها جميعًا‪ ،‬ويحب‬
‫على النسان أن يحذر من الصغائر واللمم التي‬
‫يتهاون بأمرها كثير من الناس‪ ،‬ويظن أنها ل تضر‬
‫وقد قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – ‪:‬‬
‫‪$‬إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن‬
‫على الرجل حتى يهلكنه‪ #‬أخرجه أحمد بن‬
‫حنبل والطبراني‪.‬‬
‫إذن عندما تجتمع صغائر الذنوب وتكثر تصبح‬
‫من الكبائر كما أوضح ذلك رسول الله – صلى الله‬
‫عليه وسلم – فالسلمة في البتعاد عن الذنوب كلها‬
‫بقدر ما يستطيع النسان فإنها شر كلها صغيرها‬
‫وكبيرها‪ ،‬وأنها تفسد حياة المسلم وتجعلها ظلما ً‬
‫دامسًا‪ ،‬وتدمر عيشه فتجعله جحيما ً ل يطاق‪ ،‬وتس ّ‬
‫ود‬
‫قلبه فيغشاه الظلم من كل جانب إل من تاب ورجع‬
‫إلى ربه قال الرسول الكريم عليه السلم‪$ :‬إن‬
‫المؤمن إذا أذنب ذنبا ً نكت في قلبه نكتة سوداء فإذا‬
‫تاب ونزع واستغفر صقل قلبه‪ ،‬وإن زاد زادت‪ ،‬حتى‬
‫تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكره الله عز وجل ‪‬‬
‫‪        ‬‬
‫ضعف‬ ‫‪58‬‬
‫اليمان‬
‫‪]      ‬سورة المطففين‪14:‬‬
‫[‪ ،‬أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه وأحمد‬
‫والبيهقي‪.‬‬
‫ومن هذا الحديث الشريف تتبين لنا الخطورة‬
‫البالغة للمعاصي‪ ،‬وكيف أن المعصية تؤثر في‬
‫القلب من أول مرة وتحدث فيه نقطة سوداء ‪ ،‬فإن‬
‫وفقه الله إلى التوبة منها‪ ،‬والندم عليها وعدم‬
‫العودة لها‪ ،‬زالت تلك النقطة وعاد القلب أبيض‬
‫سليما ً من أمراض المعاصي‪ ،‬أما إذا تساهل بالمر‪،‬‬
‫ولم يقم بالعلج اللزم فإنه حري به أن يقع في‬
‫معصية أخرى‪ ،‬وربما ثالثة ورابعة‪ ،‬وكل معصية يقع‬
‫فيها تضاعف تلك النقطة‪ ،‬فتزيد حتى تغطي القلب‬
‫كله؛ فيصبح أسود مظلمًا‪ ،‬وهنا تكمن الخطورة‬
‫حيث يطبع عليه‪ ،‬أي يكون عليه حجابا ً كثيفا ً من‬
‫المعاصي والذنوب يمنع عنه نور الهداية والتقوى‪،‬‬
‫فإن الذنب على الذنب يعمي القلب‪ ،‬ويضعف‬
‫سيره نحو مدارج التقوى واليمان‪ ،‬والقلب بطبيعته‬
‫التي فطره الله عليها يتجه نحو اليمان والخير‪،‬‬
‫والذي يصده عن هذا التجاه هو ملبسة الذنوب‬
‫والمعاصي‪ ،‬لذا ينبغي للعاقل أن يفر منها بقدر ما‬
‫يستطيع‪ ،‬لن أضرارها متعددة‪ ،‬ومن أخطرها أن‬
‫يألف النسان هذه المعاصي ويتعود عليها‪ ،‬فيصبح‬
‫من الصعوبة عليه التوبة‪ ،‬وترك ما ألفه من هذه‬
‫المعاصي‪ ،‬وهنا يصدق عليه قول الله – سبحانه‬
‫تعالى – ‪      :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪]  ‬سورة‬
‫المطففين‪.[14:‬‬
‫‪$‬قال الفراء‪ :‬هو أنها كثرت منهم المعاصي‬
‫والذنوب وأحاطت بقلوبهم‪ ،‬فذلك الرين عليها‪،‬‬
‫وقال أبو عبيدة‪ :‬ران على قلوبهم‪ :‬غلب عليها‪ ،‬وكل‬
‫ما غلبك وعلك فقد ران بك وران عليك‪ .‬وقال أبو‬
‫زيد‪ :‬يقال قدر رين بالرجل رينا إذا وقع فيما ل‬
‫‪59‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫يستطيع الخروج منه‪ ،‬ول قبل له به وقال أبو معاذ‬
‫ود القلب من الذنب‪ ،‬والطبع‬ ‫النحوي‪ :‬الرين أن يس ّ‬
‫أن يطبع على القلب وهو كالصدأ يغشى القلب أو‬
‫كالغيم الرقيق‪.(1)#‬‬
‫والذنوب إذا كثرت‪ ،‬وركب بعضها فوق بعض‬
‫فهو ظلم على ظلم‪ ،‬وهي بالتالي تضعف نور‬
‫اليمان في القلب حتى ينحسر ويصير إلى الفناء‪،‬‬
‫ولذلك قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – ‪:‬‬
‫‪$‬ل يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‪ #‬أي‬
‫سبب وقوعه في معصية الزنى هو ضعف إيمانه‪،‬‬
‫وأن هذا اليمان يذوب نهائيا ً أثناء ارتكابه هذه‬
‫المعصية‪ ،‬ولذلك فيجب على النسان أن يحذر كل‬
‫الحذر من مقارفة الذنوب والمعاصي فإنها تكون‬
‫حاجزا ً بينه وبين التوبة‪ ،‬فكيف يدخل نور اليمان‬
‫إلى قلب مغلف بظلم المعاصي‪ ،‬ويجب أل يغتر‬
‫بعض الناس بشبابه وصحته فيقول‪ :‬أنا لزلت شابا ً‬
‫ول بأس أن أمتع نفسي ثم أتوب بعد ذلك‪ ،‬فإنه‬
‫ل‪ :‬ل يعلم متى ينتهي أجله ويرحل من هذه الدنيا‬ ‫أو ً‬
‫فكم من شاب في ريعان الشباب اختطفه الموت‬
‫فجأة بدون سابق إنذار؟‬
‫ومن جهة أخرى‪ :‬فإن النسان إذا ألف‬
‫المعاصي‪ ،‬وأعتاد عليها مدة طويلة من الزمن‪ ،‬فمن‬
‫الصعوبة البالغة أن يتركها‪ ،‬لنها أصبحت جزءا ً من‬
‫حياته‪ ،‬وهذا أمر مشاهد في واقعنا فإنا نرى أناسا ً‬
‫من كبار السن يمارسون بعض المعاصي‪ ،‬وعندما‬
‫يتم نصحهم وتذكيرهم بالله‪ ،‬يحتجون بأنهم ل‬
‫يستطيعون ترك ما اعتادوا عليه سنوات عديدة‪،‬‬
‫وبعضهم يجتهد في إيجاد مبررات لنفسه وللخرين‬
‫بأن هذه المور ليست حرام‪ ،‬وهو هنا يقع في‬
‫‪ ()1‬تفسير فتح القدير للشوكاني )‪.(5/400‬‬
‫ضعف‬ ‫‪60‬‬
‫اليمان‬
‫الطامة الكبرى التي ربما تخرجه من الملة‪ ،‬وهي‬
‫تحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى أو جحود ما‬
‫فرض الله من التكاليف‪.‬‬
‫هذا وقد ذكر المام ابن قيم الجوزية عددا ً من‬
‫الثار السيئة والضرار القبيحة للمعاصي سنذكر‬
‫بعضها بتصرف‪:‬‬
‫‪ -1‬حرمان العلم‪ ،‬فإن العلم نور يقذفه الله في‬
‫القلب‪ ،‬والمعصية تطفئ ذلك النور‪ ،‬ولما‬
‫جلس المام الشافعي بين يدي مالك‪ ،‬وقرأ‬
‫عليه أعجبه وفور فطنته‪ ،‬وتوقد ذكائه‪،‬‬
‫وكمال فهمه فقال‪ :‬إني أرى الله قد ألقى‬
‫على قلبك نورا ً فل تطفئه بظلمة المعصية‪.‬‬
‫وقال الشافعي‪:‬‬
‫فأرشدني إلى ترك‬ ‫شكوت إلى وكيع‬
‫المعاصي‬ ‫سوء حفظي‬
‫وقال أعلم بأن العلم ونور الله ل يعطي‬
‫لعاصي‬ ‫نور‬

‫‪ -2‬حرمان الرزق‪ ،‬وفي المسند إن العبد ليحرم‬


‫الرزق بالذنب يصيبه‪ ،‬وتقوى الله مجلبة‬
‫للرزق‪ ،‬فترك التقوى مجلبة للفقر‪.‬‬
‫‪ -3‬وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين‬
‫الله حيث تظلم نفسه‪ ،‬وتستوحش روحه‪،‬‬
‫وقد شكى رجل إلى بعض العارفين وحشة‬
‫يجدها في نفسه فقال له‪ :‬إذا كانت قد‬
‫أوحشتك ذنوبك فدعها إذا ً شئت واستأنس‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫‪ -4‬وحشة تحصل بينه وبين الناس‪ ،‬ول سيما‬
‫أهل الخير منهم‪ ،‬فإنه يجد وحشة بينه‬
‫وبينهم‪ ،‬وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم‬
‫ومن مجالستهم‪ ،‬وحرم بركة النتفاع بهم‪،‬‬
‫وربما يقرب من حزب الشيطان بقدر ما‬
‫يبعد من حزب الرحمن‪ ،‬وتقوى هذه‬
‫الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين‬
‫امرأته وولده وأقاربه‪ ،‬وبينه وبين نفسه‬
‫فتراه مستوحشا ً من نفسه‪.‬‬
‫قال بعض السلف‪ :‬أني لعصي الله فأرى‬
‫أثر ذلك في خلق دابتي وامرأتي‪.‬‬
‫‪ -5‬ومنها تعسير أموره فل يتوجه لمر إل ويجده‬
‫مغلقا ً دونه أو متعسرا ً عليه‪.‬‬
‫‪ -6‬ومنها ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس‬
‫بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا أدلهم‪،‬‬
‫فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة‬
‫الحسية لبصرة‪ ،‬فإن الطاعة نور‪ ،‬والمعصية‬
‫ظلمة‪ ،‬وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته‬
‫حتى يقع في البدع والضللت‪.‬‬
‫قال عبدالله بن عباس‪$ :‬إن للحسنة ضياء‬
‫في الوجه ونورا ً في القلب‪ ،‬وسعة في‬
‫الرزق‪ ،‬وقوة في البدن‪ ،‬ومحبة في قلوب‬
‫الخلق‪ ،‬وإن للسيئة سواد في الوجه‪ ،‬وظلمة‬
‫في القبر والقلب ووهنا ً في البدن‪ ،‬ونقصا ً‬
‫في الرزق وبغضة في قلوب الخلق‪.#‬‬
‫‪ -7‬ومنها حرمان الطاعة‪ ،‬فلو لم يكن للذنب‬
‫عقوبة إل أنه يصد عن طاعة الخالق سبحانه‬
‫ضعف‬ ‫‪62‬‬
‫اليمان‬
‫وتعالى لكفى به شؤمًا‪.‬‬
‫‪ -8‬ومنها أن المعاصي تقصر العمر وتمحق‬
‫بركته فكما أن البر والحسنات تزيد في‬
‫العمر فإن المعاصي والفجور تنقصه‪.‬‬
‫وبالجملة إذا أعرض العبد عن الله واشتغل‬
‫بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية‬
‫ب إضاعتها يوم ‪  ‬‬ ‫التي يجد غ ّ‬
‫‪  ‬‬
‫‪] ‬سورة الفجر‪.[24:‬‬
‫‪ -9‬ومنها أن المعاصي تزرع أمثالها‪ ،‬ويولد‬
‫بعضها بعضًا‪ ،‬حتى يعز على العبد مفارقتها‬
‫والخروج منها حتى تصبح هيئات راسخة‪،‬‬
‫وصفات لزمة‪ ،‬وملكات ثابتة‪ ،‬فلو تركها‬
‫لضاقت عليه نفسه‪ ،‬وأعيت‬
‫عليه مذاهبه حتى يعاودها؛ حتى أن كثيرا ً‬
‫من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة‬
‫يجدها‪ ،‬ول داعية إليها‪ ،‬إل ما يجد من ألم‬
‫مفارقتها كما صّرح بذلك أحدهم فقال‪:‬‬
‫وأخرى تداويت منها‬ ‫وكأس شربت على‬
‫بها‬ ‫لذة‬

‫‪ -10‬ومنها وهو أخوفها على العبد – أن‬


‫تضعف القلب عن إراداته فتقوى فيه إرادة‬
‫المعصية‪ ،‬وتضعف إرادة التوبة شيئا ً فشيئا ً‬
‫إلى أن تنسلخ من قلبه‪ ،‬فلو مات نصفه‬
‫لما تاب إلى الله‪ ،‬فيأتي بالستغفار وتوبة‬
‫الكذابين باللسان فقط وقلبه معقود‬
‫بالمعصية‪ ،‬مصر عليها‪ ،‬عازم على‬
‫‪63‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫مواقعتها متى أمكنه وهذا من أعظم‬
‫المراض وأقربها إلى الهلك)‪.(1‬‬

‫‪ ()1‬أنظر‪ ،‬الجواب الكافي لبن القيم ص )‪ (97‬وما بعدها‪.‬‬


‫ضعف‬ ‫‪64‬‬
‫اليمان‬
‫‪ ‬‬
‫البتعاد عن الجواء اليمانية‬
‫مما ل شك فيه أن وجود النسان في أجواء‬
‫وأماكن يكثر فيها الصالحون‪ ،‬ويسمع فيها ذكر الله‬
‫عز وجل‪ ،‬ويرى فيها من يعمل الصالحات‪ ،‬ويجتنب‬
‫المحرمات‪ ،‬فإن هذا بل أدنى شك يقوي اليمان‪،‬‬
‫ويحرك النفس لعمل الخيرات‪ ،‬ويزيد الرغبة في‬
‫مضاعفة النوافل‪.‬‬
‫وعكس ذلك من يعيش في أجواء تفوح منها‬
‫روائح الفساد‪ ،‬وترى فيها الفعال المحرمة‪ ،‬ويرى‬
‫فيها المستهترون غير المبالين بشيء‪ ،‬الذين‬
‫يسخرون من أهل الخير والصلح‪ ،‬فماذا تتصور لمن‬
‫يعيش في مثل هذه الجواء؟‬
‫ل شك أن هذه الجواء ستؤثر عليه خاصة إذا‬
‫بقي فيها مدة طويلة؛ فإيمانه يضعف‪ ،‬وعبادته تقل‪،‬‬
‫ونفسه تظلم‪ ،‬فل يجد المتعة والطمأنينة في العبادة‪،‬‬
‫وكلما استمر في هذا المر أكثر؛ زادت حالته سوءًا‪،‬‬
‫ولذا فإنه ينبغي للمسلم أن يبتعد عن الماكن التي‬
‫يقل فيها الصالحون‪ ،‬ويكثر فيها الفساد والمفسدون؛‬
‫فإن ذلك خطر عظيم على دينه‪ ،‬بل عليه أن يبحث‬
‫عن أ هل الخير والصلح الذين يذكرونه بالله إذا‬
‫نسي‪ ،‬ويشجعونه على فعل الخير بأفعالهم وأقوالهم‪،‬‬
‫ومثل هؤلء الصالحين رؤيتهم تكفي لزالة قسوة‬
‫القلب وتحريك النفس لفعل الخير‪$ :‬يقول جعفر بن‬
‫سليمان‪ :‬كنت إذا وجدت من قلبي قسوة‪ ،‬غدوت‬
‫فنظرت إلى وجه محمد بن واسع " )‪ (1‬وعند ذلك‬
‫‪65‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫تذهب تلك القسوة ‪،‬ويلين القلب‪ ،‬بسبب نظرة‬
‫واحدة إلى رجل صالح‪ ،‬ثم يضيف جعفر واصفا ابن‬
‫واسع " كان كأنه ثكلى‪ ،‬وذلك من كثرة بكائه‪،‬‬
‫انصرف عن الدنيا وزهد فيما عند الناس طلبا ً لما‬
‫عند الله سبحانه وتعالى‪ .‬ومن أقواله رحمه الله‪:‬‬
‫‪$‬أني لغبط رجل ً معه دينه وما معه من‬
‫الدنيا شيء وهو راض‪.(1)#‬‬
‫ومن الشياء التي تعزز هذا الجانب‪ :‬المحافظة‬
‫على الصلوات في جماعة حيث يرى المسلمين‬
‫يتسابقون على الصف الول وإدراك تكبيرة‬
‫الحرام‪.‬‬
‫ومن ذلك الشتراك في درس علمي ولو مرة‬
‫واحدة في السبوع‪ ،‬فإنه بذلك يرى طلبة العلم‪،‬‬
‫وحرصهم على الستفادة من الدروس‪ ،‬وصبرهم‬
‫على ذلك طلبا ً للجر والثواب‪ ،‬وكذلك يسمع‬
‫المسائل الشرعية من ذلك الشيخ الفاضل‬
‫المحتسب الذي يتعب نفسه لجل نشر العلم‬
‫الشرعي ابتغاء رضوان الله‪ ،‬ويستفيد من أدب‬
‫وأخلق جميع من يحضر مجلس العلم‪ ،‬وينال أيضا ً‬
‫ثواب حضور مجلس العلم‪ ،‬فقد قال الرسول –‬
‫صلى الله عليه وسلم –‪$ :‬إذا مررتم برياض‬
‫الجنة فارتعوا‪ ،‬قيل‪ :‬وما رياض الجنة؟ قال‪:‬‬
‫مجالس العلم‪ .#‬رواه الترمذي وحسنه‪.‬‬
‫ومن ذلك أن يزور بيت الله الحرام بعمرة أو‬
‫بدون عمرة حيث يرى المسلمين يطوفون بالكعبة‬
‫خاشعين‪ ،‬لهم صراخ وعويل خوفا ً من الله سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬ضارعين إليه أن يغفر ذنوبهم ويسدد‬

‫‪ ()1‬سير أعلم النبلء ‪.(121-120) 6‬‬


‫ضعف‬ ‫‪66‬‬
‫اليمان‬
‫دروبهم‪ ،‬ويفضل أن يعتكف بالحرم ما شاء الله له‬
‫أو يجاور‪ ،‬فإن ذلك من أنفع المور في إذابة قسوة‬
‫القلب وتقوية اليمان‪.‬‬
‫هذا ونحن نرى كثيرا ً من الناس عندما يكون‬
‫لديهم إجازة أو عطلة صيفية يربطون حقائبهم‬
‫ويرحلون طلبا ً للتنزه أما في السواحل أو الصحاري‬
‫بحثا ً عن الراحة والهدوء‪ ،‬والجدى لهم أن يذهبوا‬
‫إلى البيت الحرام ليكسبوا الراحة النفسية‬
‫والسعادة في الدنيا والخرة‪ ،‬حيث يقضون إجازتهم‬
‫أو جزء منها بجوار بيت الله العتيق‪ ،‬وذلك بأقل‬
‫التكاليف خاصة لمن يسكن قرب مكة المكرمة‪،‬‬
‫وحتى لو كان هناك نفقات فهي ذخر لهم عند الله‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬بخلف النفقات الكثيرة‪،‬‬
‫والمصاريف المتعددة للنزهات والترفيه‪ ،‬فربما أن‬
‫شبهه فيكون ذلك وبال ً‬ ‫بعضها يكون في معصية أو ُ‬
‫على صاحبه‪ ،‬حيث يخسر أمواله ويخسر دينه‪.‬‬
‫إذن فالمواظبة على الصلة مع جماعة‬
‫المسلمين‪ ،‬والحرص على حضور مجالس العلم‪،‬‬
‫وزيارة الحرم المكي أو المدني؛ مما يقوي اليمان‪،‬‬
‫ويجعل النسان يعيش في جو إيماني؛ يذكره بالله‬
‫ويعينه على حسن عبادته‪ ،‬والستمرار في طاعته‬
‫بخشوع وحضور قلب‪ ،‬وراحة نفسية وطمأنينة!‬
‫هذا ويجب على المسلم أن يحذر من قسوة‬
‫القلب أشد الحذر‪ ،‬ويتخذ كل السباب لعلج ذلك إن‬
‫وقع‪ ،‬فقد عاتب الله المسلمين على ذلك فقال‬
‫تعالى‪:‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪67‬‬ ‫البـــاب‬
‫‪  ‬‬
‫الثاني‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪]    ‬سورة‬
‫الحديد‪ ،[16:‬قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود‬
‫رضي الله عنه‪$ :‬ما كان بين إسلمنا وبين أن عاتبنا‬
‫الله بهذه الية إل أربع سنين‪.#‬‬
‫ويقول العلمة ابن كثير في تفسير هذه الية‪:‬‬
‫‪$‬أي أما آن أن تلين قلوبهم عند الذكر والموعظة‬
‫وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له‪ ،‬وتسمع له‬
‫وتطيعه‪ ،‬قال ابن عباس‪ :‬إن الله استبطأ قلوب‬
‫المؤمنين فعاتبهم‪ ...‬فنزلت هذه الية‪.#‬‬
‫ويقول الشيخ محمد صالح المنجد مشيرا ً إلى‬
‫الية السابقة ‪$‬فدلت هذه الية الكريمة على أن‬
‫طول الوقت في البعد عن الجواء اليمانية مدعاة‬
‫ل‪ ،‬الشخص الذي‬ ‫لضعف اليمان في القلب فمث ً‬
‫يبتعد عن إخوانه في الله فترة طويلة لسفر أو‬
‫وظيفة أو نحو ذلك فإنه يفتقد الجو اليماني الذي‬
‫كان يتنعم في ظلله‪ ،‬ويستمد منه قوة قلبه‪.‬‬
‫والمؤمن قليل بنفسه كثير بإخوانه‪ ،‬يقول الحسن‬
‫البصري – رحمه الله تعالى – ‪ :‬إخواننا أغلى عندنا‬
‫من أهلينا‪ ،‬فأهلونا يذكروننا بالدنيا‪ ،‬وإخواننا يذكروننا‬
‫بالخرة‪.‬‬
‫وهذا البتعاد إذا استمر يخلف وحشة تنقلب بعد‬
‫حين إلى نفرة من تلك الجواء اليمانية يقسو‬
‫القلب على أثرها ويظلم‪ ،‬ويخبو فيه نور اليمان‪،‬‬
‫ضعف‬ ‫‪68‬‬
‫اليمان‬
‫وهذا مما يفسر حدوث النتكاسة لدى البعض في‬
‫الجازات التي يسافرون فيها أو عقب انتقالهم إلى‬
‫أماكن أخرى للعمل أو الدراسة‪.(1)#‬‬

‫‪ ()1‬ظاهرة ضعف اليمان‪ ،‬للشيخ محمد صالح المنجد ص )‪.(21‬‬


‫‪69‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫‪‬‬
‫الكســـل‬
‫ل شك أن الكسل والخمول يعد أحد أسباب‬
‫ضعف اليمان‪ ،‬بل‬
‫ربما يكون الكسل في بعض الحيان سببا ً في‬
‫خروج بعضهم عن الملة – والعياذ بالله – ألسنا‬
‫نسمع ونرى بعض الناس قد ترك الصلة ليس عن‬
‫شبهه‬
‫أو شك‪ ،‬بل السبب الوحيد هو الكسل والخمول‪،‬‬
‫وقد يستغرب القارئ الكريم هذا المر‪ ،‬إذ كيف‬
‫يفعل الكسل وحده هذه العظائم التي منها ترك‬
‫الصلة ومن ثم الكفر؟!‬
‫وأقول‪ :‬هناك عوامل تدعم الكسل فيحصل ما‬
‫ذكرنا وهي الجهل وعدم وجود القدوة الصالحة‬
‫والبعد عن الجواء اليمانية‪ ،‬والعيش في وسط يعج‬
‫بالمعاصي‪ ،‬وعدم وجود من يذ ّ‬
‫كر بالله والدار‬
‫الخرة‪.‬‬
‫وإذا كان الكسل قد يؤدي إلى الكفر‪ ،‬وذلك‬
‫بترك أداء الصلوات المفروضة فإنه حتما ً يؤدي إلى‬
‫ضعف اليمان بالكسل عن أداء السنن‪ ،‬فبعضهم ل‬
‫يؤدي السنن مطلقا ً سواء كانت راتبة أو نافلة‪،‬‬
‫فتجده يكتفي بالفريضة حيث يصليها سريعا ً بدون‬
‫خشوع أو طمأنينة‪ ،‬لن قلبه مشغول بما خلفه من‬
‫أمور الدنيا‪ ،‬وبما أنه قد ترك السنن الرواتب فل‬
‫مطمع في أن يصلي شيئا ً من النوافل مثل قيام‬
‫الليل أو صلة الضحى‪ ،‬بل ربما يترك صلة الوتر‬
‫التي لم يدعها النبي – صلى الله عليه وسلم – في‬
‫ضعف‬ ‫‪70‬‬
‫اليمان‬
‫حضر ول سفر‪.‬‬
‫ومن صور الكسل التثاقل في إنجاز العمال‬
‫الصالحة‪ ،‬أو فعلها بدون رغبة صادقة وتأمل عميق‬
‫في أهميتها وحقيقتها‪ ،‬فإذا سمع المؤذن لم ينهض‬
‫مسرعا ً ليتطهر استعدادا ً للصلة‪ ،‬بل تجده يقول‪:‬‬
‫هناك وقت طويل بين الذان والقامة وسأكمل هذا‬
‫العمل الذي في يدي‪ ،‬وحتى لو لم يكن لديه عمل‬
‫تجده يتثاقل اعتقادا ً أن الوقت طويل‪ ،‬فإذا كان بين‬
‫الذان والقامة عشر دقائق يقول سأقوم بعد‬
‫خمس دقائق وهكذا يوحي له الكسل والخمول‪،‬‬
‫وفي نهاية المر‬
‫ل يدرك من الصلة إل الركعات الخيرة‪ ،‬وربما‬
‫تفوته صلة الجماعة‪.‬‬
‫والصواب أن يبادر المسلم إلى تلبية النداء من‬
‫أول مرة يسمعه‪ ،‬يذكر عن أحد الصالحين‪ ،‬وكان‬
‫يعمل حدادًا‪ ،‬أنه إذا سمع النداء وقد رفع يده‬
‫بالمطرقة يتوقف فورًا‪ ،‬ول يكمل الضربة‪ ،‬اعتقادا ً‬
‫منه أن هذا الوقت لله وليس للعمل‪ ،‬فيذهب من‬
‫فوره للوضوء‪ ،‬ثم يذهب للمسجد قبل القامة‬
‫بوقت كافي ليؤدي السنة الراتبة‪ ،‬وعندما تقوم‬
‫الصلة يكون مستعدا ً نفسيا ً ومتهيئا ً للدخول في‬
‫الصلة بخشوع وحضور قلب‪ ،‬وبهذا يحس النسان‬
‫بلذة الطاعة‪ ،‬وينتفع بها في الدنيا قبل الخرة‪،‬‬
‫طمأنينة وسعادة وراحة نفسية‪ ،‬ومثل هذه الصلة‬
‫المكتملة الركان‪ ،‬هي التي يرجى أن تكون مقبولة‬
‫عند الله – سبحانه وتعالى – وليس تلك التي يصليها‬
‫صاحبها وذهنه مشغول بأمور الدنيا‪ ،‬ويخرج منها‬
‫ونفسه قلقة حزينة‪ ،‬لنه لم يستعد لها فعليا ً بإسباغ‬
‫الوضوء‪ ،‬ولم يستعد لها نفسيا ً بالنهوض أول ما‬
‫‪71‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫سمع النداء‪ ،‬والستعاذة بالله من الشيطان‪،‬‬
‫ومجاهدة النفس في طرد كل الخواطرمن ذهنه‬
‫ليخلوا لمناجاة ربه‪.‬‬
‫قد يقول قائل‪ :‬هذا حال كثير من الناس في‬
‫زماننا هذا‪ ،‬فما الحل إذن؟‬
‫وأقول ليس هناك إل الصبر والمجاهدة‪.‬‬
‫مجاهدة النفس بالعزيمة الصادقة والصرار‬
‫القوي على ترك الكسل‪ ،‬وإقناعها بأن بقاءها في‬
‫الدنيا ليس إل أيام معدودة ثم ترحل‪ ،‬وتنتقل إلى‬
‫دار‬
‫ل انقضاء لزمنها‪ ،‬ول رحيل منها وهذه المسألة‬
‫تحتاج إلى تأمل عميق‪ ،‬ونظر ثاقب‪ ،‬فلو أن كل‬
‫مسلم فرغ قلبه من هموم الدنيا وتأمل هذه الحياة‬
‫وسرعة انقضائها‪ ،‬وكثرة منغصاتها وشرورها؛ لما‬
‫طابت نفسه بأن يقضي شيئا ً من اهتمامه وجهده‬
‫لجلها‪ ،‬ولو أن النسان استشعر عظمة الدار الخرة‬
‫وما فيها نعيم للمؤمنين العاملين‪ ،‬وما فيها من‬
‫شقاء للعصاة الكسالى لما استراحت نفسه إلى‬
‫الدعة والكسل‪.‬‬
‫إذن فلبد من مجاهدة النفس حتى تعتاد على‬
‫أعمال الخير وتنسجم معها وعند ذلك ستجد الراحة‬
‫الحقيقية فتنقاد بدون أية مشقة‪.‬‬
‫يقول الشاعر‪:‬‬
‫حب الرضاع وإن‬ ‫النفس كالطفل أن‬
‫تفطمه ينفطم‬ ‫تهمله شب على‬

‫فإذا أردنا أن نفطم النفس المارة بالسوء عن‬


‫ضعف‬ 72
‫اليمان‬
‫ فلبد أن نذكرها ببعض المور‬،‫حب الكسل والدعة‬
:‫ وتوقظها من سباتها مثل‬،‫التي تهزها هزا ً عنيفًا‬
     ‫القيامة وأهوالها‬
    
‫ ]سورة‬     
.[4:‫القارعة‬
    ‫والموت وسكراته‬
         
.  

[19:‫]سورة ق‬
‫ والجنة ونعيمها‬،‫والقبر وكرباته والصراط وزلته‬
.‫والنار وجحيمها فلعل النفس ترتدع وترعوي‬
‫ولبد أن نقول للنفس يكفيك من الكسل النوم‬
،‫ والسكن في حفر الدود‬،‫في ظلمات القبور‬
‫ ولتسلمي‬،‫فاجتهدي وجدي لتفوزي بجنات النعيم‬
.‫ قبل أن تندمي يوم ل ينفع الندم‬،‫من العذاب الليم‬
    – ‫يقول الله – سبحانه وتعالى‬
      
     
    
         
    
         
     
       
         
    
       
       
     
     
      
       
73 ‫البـــاب‬
             
‫الثاني‬
         
               
            
             
        
       
.[61-55:‫]سورة الزمر‬
  :‫وقال تعالى‬
    
   
      
  
   
     
    
 
 
 
 
 
   
.[45-44:‫]سورة الشورى‬ 
 

‫يانفس إن أردت أن تسلمي من هذه الهوال‬


‫يوم القيامة فانفضي غبار الكسل عن كاهلك‬
‫ يا نفس‬،‫واجتهدي في العمال الصالحة‬
‫دعي الكسل فلن تجدي منه سوى الكتئاب وضيق‬
‫ لن الراحة‬،‫الصدر وليس الراحة كما تزعمين‬
‫الحقيقية التي تجلب السرور والسعادة هي راحة‬
‫ فإذا تعب البدن حصلت‬،‫القلب ل راحة البدن‬
‫الراحة والسعادة للنفس وحصلت الصحة والعافية‬
‫ فكيف يغفل عن هذا بعض الناس! يا نفس‬،‫للبدن‬
‫أين أنت من أولياء الله الصالحين الذين أفنوا‬
‫ضعف‬ ‫‪74‬‬
‫اليمان‬
‫أعمارهم كلها في عبادة ربهم‪ ،‬ولم يفكروا إطلقا ً‬
‫في راحة البدن‪ ،‬وماذا تساوي راحة البدن‬
‫مع راحة القلب والنفس؟‬
‫فهذا داود بن نصير الطائي رحمه الله كان‬
‫)‪(1‬‬
‫‪$‬يقوم الليل كله فإذا غلبته عيناه احتبى قاعدا ً‪#‬‬
‫أي أرتاح قليل ً من الوقت بين نصف ساعة إلى ربع‬
‫ساعة‪ ،‬وهو قاعد حتى ل يغلبه النوم‪ ،‬ثم ينهض‬
‫مستمرا ً في صلته حتى أذان الفجر‪ ،‬وكان يصوم‬
‫النهار ‪$‬قيل إنه صام أربعين سنة ما علم به أحد‬
‫من أهله‪ ،‬فكان يحمل غداءه معه ويتصدق به في‬
‫الطريق ويرجع إلى أهله يفطر عشاء‪ ،‬ول يعلمون‬
‫أنه صائم وكان أهله يقولون له‪ :‬أل نطبخ لك خبزًا‪،‬‬
‫ل‪ :‬بين مضغ الخبز وشرب الفتيت‬ ‫فيرفض ذلك قائ ً‬
‫قراءة خمسين آية‪ (2)#‬أنه يفضل أكل الفتيت وهو‬
‫ما يشبه الكيك في زماننا هذا عن أكل الخبز لما‬
‫بينهما من تفاوت المضغ‪ ،‬يريد استغلل الوقت في‬
‫العبادة لنه عندما يجلس يأكل الخبز سيقضي وقتا ً‬
‫أطول بخلف أكل الفتيت‪ ،‬فأين نحن من هؤلء‬
‫الصالحين‬
‫‪    ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬ ‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪]   ‬سورة الزمر‪.[22:‬‬

‫وهناك نموذج آخر من الذين حاربوا الكسل‬


‫وانتصروا عليه‪ ،‬أنها الزاهدة المشهورة رابعة‬
‫العدوية التي كانت تقضي كل وقتها تقريبا ً في‬
‫‪ ()1‬وفيات العيان لبن خلكان )‪.(2/161‬‬
‫‪ ()2‬وفيات العيان ابن خلكان )‪.(261-2/260‬‬
‫‪75‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫طاعة الله وعبادته أسمع إلى خادمتها وهي تصف‬
‫عبادتها ‪$‬كانت رابعة تصلي الليل كله‪ ،‬فإذا طلع‬
‫الفجر هجعت في مصلها هجعة خفيفة حتى يسفر‬
‫الفجر‪ ،‬فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها‬
‫ذلك وهي فزعه‪ :‬يا نفس كم تنامين؟ وإلى كم‬
‫تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة ل تقومين منها إل‬
‫لصرخة يوم النشور وهكذا دأبها دهرها حتى‬
‫ماتت‪.(1)#‬‬
‫وهناك الكثير من الزهاد والصالحين الذين شرح‬
‫الله صدورهم للسلم فآثروا الدار الباقية على هذه‬
‫الدنيا الفانية‪ ،‬ول شك أن قراءة سيرهم والطلع‬
‫على أحوالهم يقوي اليمان‪ ،‬وسيرهم مبثوثة في‬
‫كتب التراجم مثل سير أعلم النبلء للذهبي وحلية‬
‫الولياء للصفهاني ووفيات العيان لبن خلكان‪،‬‬
‫وكم يكون مفيدا ً لو أن أحد طلبة العلم وضع كتابا ً‬
‫تناول فيه سير هؤلء الصالحين والزهاد وذكر‬
‫أحوالهم وأخبارهم لغرض ترقيق القلوب وعلج‬
‫ضعف اليمان‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪ ()1‬وفيات العيان‪ ،‬ابن خلكان )‪.(2/287‬‬


‫ضعف‬ ‫‪76‬‬
‫اليمان‬

‫الطلع على الفكار الضالة والعقائد‬


‫المنحرفة‬
‫لشك أن الطلع على الفكار الضالة‪ ،‬والعقائد‬
‫المنحرفة‪ ،‬من أقوى أسباب ضعف اليمان‪ ،‬خاصة‬
‫عندما يعرفها الشباب صغار السن غير المتمرسين‬
‫بفنون العلم‪ ،‬الذين تنقصهم الخبرة والتجربة‪ ،‬فمثل‬
‫هؤلء ينبغي لهم عدم القبال على قراءة الكتب‬
‫التي تتحدث عن المذاهب الفكرية والملل والنحل‬
‫والعقائد المنحرفة بصفة عامة‪ ،‬فهذه الكتب ينبغي‬
‫أل يقرأها إل من له إطلع واسع في مجال العقائد‬
‫وتكون القراءة بهدف الرد على أصحابها‪ ،‬أو تحذير‬
‫الناس مما فشى منها بين العامة‪ ،‬أما الفكار الضالة‬
‫التي لزالت حبيسة بطون الكتب فمن الضرر‬
‫نشرها وأحيائها في البيئات المعاصرة‪ ،‬وهنا‬
‫تحضرني قصة لحد المعارف وهو رجل واسع‬
‫الطلع ويكتب أحيانا ً في الصحافة‪ ،‬ولكن يلحظ‬
‫عليه بعض التقصير من الناحية الدينية‪ ،‬وذات يوم‬
‫ناقشته في هذا المر‪ ،‬فذكر لي أنه تغير كثيرا ً عن‬
‫ذي قبل حيث ضعفت العاطفة اليمانية لديه لنه قرأ‬
‫كتابا ً عن المذاهب الفكرية المعاصرة لحد‬
‫المفكرين السلميين الذين ل يشك في ولئهم‬
‫للسلم‪.‬‬
‫وينبغي أن نستفيد من هذه التجربة‪ ،‬ونسعى‬
‫لبعاد الحداث والمبتدئين عن الكتب التي تتحدث‬
‫عن الفكار والعقائد المخالفة لعقيدة السلم‬
‫الصافية النقية‪.‬‬
‫هذا فيما يتعلق بالكتب لكن بعض الفكار‬
‫الزائغة أصبحت الن تتسرب عن طريق قنوات‬
‫‪77‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫عديدة مثل القنوات الفضائية والنترنت والصحف‬
‫وغيرها فما العمل إذن؟‬
‫هذه القضية في غاية الهمية‪ ،‬وينبغي أن تفرد‬
‫بالدراسة والبحث‪ ،‬وأن يتفرغ لها المختصون‪ ،‬وأود‬
‫أن أشير في هذه العجالة إلى التحصين الذاتي‬
‫والتربية السرية‪ ،‬فلو أن كل رب أسرة استشعر‬
‫أنه على ثغرة‪ ،‬واجتهد في أل يؤتى من قبله؛ لحققنا‬
‫تقدما ً كبيرا ً في الحفاظ على أبنائنا و ديننا وهويتنا‬
‫وقيمنا‪ ،‬وذلك بأن يقوم كل رب أسرة بمعالجة أي‬
‫ظاهرة تطرأ في هذا المجال لدى أسرته بقدرها‬
‫دون زيادة أو نقصان‪ ،‬وكذلك ينبغي أن يتنبه لهذا‬
‫المر الدعاة والمربون والمشرفون على المرافق‬
‫التي يقصدها الشباب‪ ،‬فبالوعي والتعاون واستشعار‬
‫المسئولية نحقق مصالح كثيرة‪ ،‬وفوائد جمة‪.‬‬
‫وليعلم الجميع أننا أمة مستهدفة‪ ،‬وأن أعداءنا‬
‫كثر‪ ،‬ولديهم أسلحة فتاكة‪ ،‬ووسائل كثيرة وقوية‬
‫لجل النيل من شبابنا‪ ،‬وصرفهم عن دينهم إن‬
‫استطاعوا‪ ،‬ولذلك ينبغي أن نساهم جميعنا في‬
‫معركة الذب عن العقيدة‪ ،‬وحماية القيم‬
‫والمقدسات‪ ،‬وليضرب كل منا بسهم لنصرة الدين‪،‬‬
‫ول يحتقر أحد أي مشاركة في هذا المجال مهما‬
‫كانت ضئيلة في نظره‪ ،‬فإن هذا القليل إذا قام به‬
‫أفراد كثيرون يصبح كثيرًا‪ .‬وعلينا أن نعرف أن‬
‫أعداءنا – وفي مقدمتهم الصهيونية العالمية –‬
‫يستخدمون الطرق الملتوية وغير المباشرة للكيد‬
‫للسلم وأهله‪ ،‬ومن أهم هذه الطرق إفساد‬
‫وتضليل عقول بعض شباب المسلمين‪ ،‬والتغرير‬
‫بهم وغسل عقولهم‪ ،‬فإذا حصل ذلك اتخذوا من‬
‫ضعف‬ ‫‪78‬‬
‫اليمان‬
‫هؤلء الشباب رماحا ً يطعنون بها ظهور المسلمين ‪،‬‬
‫ويروجون عن طريقهم كل ما يريدون من الفكار‬
‫الهدامة والمذاهب الضالة‪ ،‬ولن هؤلء الشباب‬
‫مسلمون ويتسمون بأسماء المسلمين فقد ينخدع‬
‫بهم المسلمون ويقبلون منهم مال يقبلونه من العدو‬
‫الصريح‪.‬‬
‫كما أن هؤلء المغرر بهم من أبنائنا عندما‬
‫يريدون الطعن في ديننا – وبإيحاء من أسيادهم –‬
‫يسلكون طرقا ً غاية في المكر والدهاء؛ لكي ل‬
‫يكتشف أمرهم‪ ،‬حيث يظهرون حبهم للسلم‬
‫وشفقتهم على المسلمين‪ ،‬ثم ينقضون على عقيدتنا‬
‫وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا هدما ً وتخريبًا‪ ،‬وفي نفس‬
‫الوقت يأتون بالعجيب والغريب من المبررات‬
‫والحجج لعملهم الشائن‪ ،‬حتى أن كثيرا ً من الناس‬
‫قد ينخدع بمكرهم‪ ،‬وتنطلي عليه حيلهم‪.‬‬
‫‪79‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫‪‬‬
‫ضعف‬ ‫‪80‬‬
‫اليمان‬

‫طول المل‬
‫النسان بطبعه يحب الحياة‪ ،‬ويعشق متعها‬
‫ولذائذها‪ ،‬فل شك أن في الحياة من المتاع واللذائذ‬
‫ما يغري كثيرا ً من الناس‪ ،‬ويحببه في هذه الحياة‬
‫فيتمنى أل يفارقها أبدًا‪ ،‬ثم يبدأ بصرف كل اهتمامه‬
‫وعمله لجل تحصيل هذه المتع الفانية التي يراها‬
‫كل شيء بالنسبة له‪ ،‬وينسى الموت وينسى الدار‬
‫الخرة‪ ،‬وهذا هو طول المل‪ ،‬فهو يتوقع أن يعيش‬
‫ل‪ ،‬ولذلك تجده كثير الجتهاد في عمارة‬ ‫عمرا ً طوي ً‬
‫الدنيا‪ ،‬كثير التخطيط لمور المستقبل‪ ،‬يعمل لهذه‬
‫الدنيا عمل من يعتقد أنه يعيش فيها أبدًا‪ ،‬عمل من‬
‫ألهاه المل عن كل شيء غير دنياه الفانية يقول‬
‫تعالى‪   :‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪]  ‬سورة الحجر‪ ،[3:‬قال ابن‬
‫كثير‪ :‬ويلهيهم المل عن التوبة والنابة فسوف‬
‫يعلمون عاقبة أمرهم‪ ،‬فهو تهديد شديد ووعيد‬
‫أكيد)‪.(1‬‬
‫وقال علي رضي الله عنه‪$ :‬إن أخوف ما أخاف‬
‫عليكم اتباع الهوى وطول المل‪ ،‬فأما إتباع الهوى‬
‫فيصد عن الحق‪ ،‬وأما طول المل فينسى الخرة‪#‬‬
‫وجاء في الثر‪ :‬أربعة من الشقاء‪ :‬جمود العين‪،‬‬
‫وقسوة القلب‪ ،‬وطول المل‪ ،‬والحرص على الدنيا‪،‬‬
‫ويتولد من طول المل الكسل عن الطاعة‬
‫والتسويف بالتوبة والرغبة في الدنيا والنسيان‬
‫‪ ()1‬انظر تفسير ابن كثير )‪.(2/553‬‬
‫‪81‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫للخرة والقسوة في القلب لن رقته وصفاءه إنما‬
‫تقع بتذكر الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال‬
‫القيامة‪.(1)#‬‬
‫ول شك أن طول المل يضعف عمل النسان‬
‫واستعداده للدار الخرة‪ ،‬لنه مشغول القلب بإصلح‬
‫دنياه‪ ،‬مغترا ً بما أنعم الله به عليه من الصحة‬
‫والنعمة قال تعالى‪       :‬‬
‫‪               ‬‬
‫‪]            ‬سورة‬
‫كث النسان وقتا ً طويل ً يرفل في نعمة‬‫م ْ‬‫الحديد‪ [16:‬ف ُ‬
‫ً‬
‫الصحة ونعمة المال قد يكون سببا لقسوة القلب‬
‫خاصة لمن يعيش في بيئة غير إيمانية‪ ،‬وليس فيها‬
‫ما يذكر بالله‬
‫– سبحانه وتعالى – ‪.‬‬
‫هذا وقد ذكر المام أبو حامد الغزالي سببين‬
‫لطول المل أحدهما الجهل والثاني حب الدنيا ‪$‬أما‬
‫حب الدنيا فهو أنه إذا أنس بها‪ ،‬وبشهواتها ولذاتها‬
‫وعلئقها ثقل على قلبه مفارقتها‪ ،‬فامتنع قلبه من‬
‫الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها‪ ،‬وكل من‬
‫كره شيئا ً دفعه عن نفسه‪ ،‬النسان مشغوف‬
‫بالماني الباطلة‪ ،‬فيمني نفسه أبدا ً بما يوافق مراده‬
‫وإنما يوافق مراده البقاء في الدنيا‪ ،‬فل يزال‬
‫يتوهمه ويقدره في نفسه‪ ،‬ويقدر توابع البقاء وما‬
‫يحتاج إليه من مال وأهل ودار وأصدقاء ودواب‬
‫وسائر أسباب الحياة‪ ،‬فيصير قلبه عاكفا ً على هذا‬
‫الفكر‪ ،‬موقوفا ً عليه‪ ،‬فيلهو عن ذكر الموت‪ ،‬فل‬
‫قدر قربه‪ ،‬فإن خطر له في بعض الحوال أمر‬ ‫ي ّ‬
‫وف ووعد‬ ‫الموت‪ ،‬والحاجة إلى الستعداد له‪ ،‬س ّ‬
‫‪ ()1‬ظاهرة ضعف اليمان للشيخ محمد صالح المنجد )‪.(27‬‬
‫ضعف‬ ‫‪82‬‬
‫اليمان‬
‫نفسه‪ ،‬وقال‪ :‬اليام بين يديك إلى أن تكبر ثم‬
‫تتوب‪ ،‬وإذا كبر فيقول إلى أن تصير شيخًا‪ ،‬فإذا‬
‫صار شيخا ً قال‪ :‬إلى أن تفرغ من بناء هذه الدار‪،‬‬
‫وعمارة هذه الضيعة‪ ،‬أو ترجع من هذه السفرة‪...‬‬
‫فل يزال يسوف ويؤخر‪ ،‬ول يخوض في شغل إل‬
‫وتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال أخرى‪ ،‬إلى‬
‫أن تخطفه المنية في وقت ل يحتسبه فتطول عند‬
‫ذلك حسرته!‪...‬‬
‫وأما الجهل وهو السبب الثاني لطول المل‪،‬‬
‫فهو أن النسان يعول على شبابه فيستبعد قرب‬
‫الموت مع الشباب وليس يتفكر المسكين أن‬
‫شر رجال‬ ‫مشايخ بلده لو عدوا لكانوا أقل من عُ ْ‬
‫البلد‪ ،‬وإنما قلوا لن الموت في الشباب أكثر‪ ،‬فإلى‬
‫أن يموت شيخ يموت ألف صبي وشاب‪ ،‬وقد‬
‫يستبعد الموت لصحته‪ ،‬وكم من إنسان مات فجأة‬
‫ل‪ ،‬فالموت ليس له زمن‬ ‫من دون مرض أص ً‬
‫مخصوص ول عمر مخصوص‪ ،‬بل على النسان أن‬
‫يكون مستعدا ً له في جميع الحوال والوقات‪،‬‬
‫وعليه أن يعتبر بمن يرى من الموات يرحلون عن‬
‫هذه الدار‪ ،‬فهو ل شك في الثر وسريعا ً يلحق بهم‪،‬‬
‫ول شك أن الغفلة وطول المل تجعل النسان‬
‫يستبعد الموت حتى عندما يرى الموات أمامه‪ ،‬فهو‬
‫در نزوله به‪،‬‬‫أبدا ً يظن أن الموت بعيدا ً عنه‪ ،‬ول يق ّ‬
‫وقوعه فيه‪ ،‬وهو أبدا ً يظن أنه يشّيع الجنائز‪ ،‬ول‬
‫در أن تشيع جنازته‪ ،‬لن هذا قد تكرر عليه وألفه‪،‬‬ ‫يق ّ‬
‫وهو مشاهد موت غيره‪ ،‬فأما موت نفسه فلم‬
‫يألفه‪ ،‬ولم يتصور أن يألفه‪ ،‬فإنه لم يقع‪ ،‬وإذا وقع‬
‫لم يقع دفعة أخرى بعد هذه؛ فهو الول والخر‬
‫‪83‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫وسبيله أن يقيس نفسه بغيره‪ ،‬ويعلم أن لبد أن‬
‫تحمل جنازته‪ ،‬ويدفن في قبره‪.(1)#‬‬
‫والنسان المؤمن صاحب اليمان الصادق ل‬
‫شك أنه يحب لقاء الله‪ ،‬ول يحرص على البقاء في‬
‫هذه الحياة التي ل تخلو من منغصات ومكدرات‬
‫مهما كان فيها من نعيم‪ ،‬وهناك كثير من الصالحين‬
‫كان يتمنى أن يرحل من هذه الدنيا سريعًا‪ ،‬ولذلك‬
‫فهو لم يتخذ شيئا ً من أسباب الدنيا لنه سلم من‬
‫طول المل ول بأس أن نورد بعض القصص التي‬
‫توضح هذه الحالة‪:‬‬
‫قال المام الغزالي رحمه الله‪ :‬يروي أن‬
‫معروفا ً الكرخي رحمة الله تعالى – أقام الصلة‬
‫فقال لحد أخوانه تقدم فصلي بنا‪ ،‬فقال‪ :‬إن صليت‬
‫بكم هذه الصلة لم أصل بكم غيرها‪ ،‬فقال‬
‫معروف ‪ :‬وأنت تحدث نفسك أنك تصلي صلة غير‬
‫هذه‪ ،‬إنك طويل المل إذن‪ ،‬نعوذ بالله من طول‬
‫المل‪ ،‬فإنه يمنع من خير العمل‪ ،‬أما أنا فوالله لو‬
‫علمت أني أعيش إلى أن يأتي وقت الصلة الثانية‬
‫ي ذلك)‪.(2‬‬
‫لشق عل ّ‬
‫فانظر – رحمك الله – إلى أمر هذا الرجل‬
‫الصالح الذي أسقط الدنيا كليا ً من حسابه‪ ،‬وأصبح‬
‫همه هما ً واحدا ً هو الستعداد لما بعد هذه الحياة‬
‫الدنيا القصيرة ولذلك نراه يلوم أخاه عندما قال‪:‬‬
‫إذا صليت هذه الصلة فلن أصلي بكم الصلة التي‬
‫بعدها‪ ،‬ويعد ذلك من طول المل‪ ،‬علما ً أن الوقت‬
‫بين الصلتين ربما ل يتجاوز ثلث ساعات! ل شك‬
‫أن هذا يعيش في وادي‪ ،‬ونحن نعيش في وادي‬
‫‪ ()1‬انظر أحياء علوم الدين للغزالي‪ ،‬ج ‪ 15‬ص)‪.(118-117‬‬
‫‪ ()2‬انظر المصدر السابق‪.(116) .‬‬
‫ضعف‬ ‫‪84‬‬
‫اليمان‬
‫آخر!! إن بعضنا يخطط ويفكر في أشياء ربما ل‬
‫تتحقق إل بعد عشرين سنة أو ثلثين سنة‪ ،‬ول‬
‫يشق عليه ذلك! ول يعده من طول المل! ل شك‬
‫أن قوة اليمان تفعل هذا وأكثر‪ ،‬فهذا الرجل أتخذ‬
‫الدنيا دارا ً للعمل والنصب من أجل العداد للدار‬
‫الخرة‪ ،‬ولم يتخذها دار للراحة والمتعة‪ ،‬لعلمه أنها‬
‫قصيرة وإن لذائذها ل تخلو من التنغيص‪ ،‬ومن ثم‬
‫تعلق قلبه وفكره بالدار الخرة‪ ،‬لن سعادته‬
‫وراحته هناك‪ ،‬فأصبح يشق عليه البقاء في هذه‬
‫الدنيا‪ ،‬ويحزن عندما يعلم أن مكثه فيها سيطول‪،‬‬
‫لنه يريد الخلص من دار العمل والشقاء إلى دار‬
‫النعيم والراحة‪ ،‬فهو مطمئن إلى عفو ربه‪ ،‬مؤمن‬
‫بوعد الله‪ ،‬مؤمن إيمانا ً ل تخالطه ريبة ول ينغصه‬
‫شك بما أنزل الله في كتابه أو على لسان رسوله‬
‫– عليه السلم – ولذلك يحب الصالحون الدار‬
‫الخرة‪ ،‬ويتمنون النتقال إليها لنهم عمروا الخرة‬
‫بالعمال الصالحة وأطمئنت أنفسهم إلى عفو الله‪،‬‬
‫أما نحن فقد عمرنا الدنيا وخربنا الخرة فكرهنا‬
‫النتقال من العمران إلى الخراب‪.‬‬
‫وهذا موقف آخر ينقله لنا الغزالي‪:‬‬
‫‪$‬قال سحيم مولى بني تميم‪ :‬جلست إلى عامر‬
‫بن عبدالله وهو يصلي‪ ،‬فأوجز في صلته ثم أقبل‬
‫ي فقال‪ :‬أرحني بحاجتك فإن أبادر‪.‬‬ ‫عل ّ‬
‫قلت‪ :‬ما تبادر‪.‬‬
‫قال‪ :‬ملك الموت رحمك الله‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقمت عنه فقام إلى صلته‪.(1)#‬‬
‫فانظر إلى هذا الرجل الصالح الذي طلب من‬

‫‪ ()1‬المصدر السابق ص )‪.(123‬‬


‫‪85‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫جليسه أن يسرع بحاجته لنه يريد أن يتفرغ لصلته‬
‫فهو يسابق ملك الموت الذي يتوقع أن يقبل عليه‬
‫في أي لحظة فيقبض روحه‪ ،‬ولذلك فهو يريد أن‬
‫يصلي ما شاء الله له من الركعات قبل الموت‪ ،‬قد‬
‫يكون هذا المر مستغربا ً في زماننا هذا‪ ،‬زمن‬
‫الماديات والجفاف اليماني‪ ،‬ولكننا لو نظرنا بتمعن‬
‫لوجدنا كلم هذا الرجل الصالح في غاية الصدق‬
‫والصواب‪ ،‬فكم سمعنا في حياتنا من إنسان مات‬
‫فجأة بدون سبب من مرض أو غيره‪ ،‬وفي دراسة‬
‫أجرتها مجلة الدعوة السعودية في عددها ‪1910‬‬
‫في ‪ 21‬رجب ‪ 1424‬بعنوان ‪$‬موت الفجأة يكثر‬
‫آخر الزمان‪ #‬اتضح أن ‪ %80‬من الموتى في زماننا‬
‫هذا ماتوا فجأة‪ ،‬وكم أيضا ً سمعنا عن إنسان نام‬
‫ولم يستيقظ من نومته تلك‪ ،‬فمثل هذا الرجل‬
‫الصالح قد علم سرعة انقضاء الدنيا وزوالها‪ ،‬ولذلك‬
‫فهو يسعى جاهدا ً للعداد لدار المقامة‪ ،‬ولذلك فهو‬
‫يبادر أي يسابق في أخذ عدته قبل تعلن ساعة‬
‫الرحيل‪ ،‬فنسأل تعالى أن يرينا الدنيا كما أراه‬
‫الصالحين من عباده‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪86‬‬
‫اليمان‬
‫‪‬‬
‫مجالسة العابثين والبطالين‬
‫تعد من السباب التي تضعف اليمان‪ ،‬وتزعزع‬
‫العقيدة‪ ،‬فهؤلء الناس غير مبالين بأي شيء على‬
‫الطلق‪ ،‬كل همهم هو تحصيل الشهوات‬
‫والملذات‪،‬وهم ل يعينون على ذكر الله‪ ،‬ولعلى‬
‫الستقامة على أمره إطلقًا‪ ،‬بل الغالب عليهم‬
‫الصد عن ذلك بأفعالهم وأقوالهم ‪ ،‬والذي يجالسهم‬
‫ويحضر لقاءاتهم وسهراتهم فلن يجني من ذلك إل‬
‫الشر‪ ،‬والوقوع في المعاصي‪ ،‬شاء ذلك أم أبى‪،‬‬
‫فمن عاشر قوما ً صار منهم‪ ،‬ولذا يجب الحذر من‬
‫هؤلء كل الحذر‪ ،‬والبعد عنهم كل البعد‪ ،‬فهم جنود‬
‫إبليس‪ ،‬وأعوان الشيطان‪ ،‬ولهم حيلهم وشباكهم‬
‫لصطياد الشباب‪ ،‬وسوقهم إلى مجالسهم العابثة‪،‬‬
‫وقد يذهب لهم بعض الشباب الصالحين بحجة أنه‬
‫سيصلح من حالهم‪ ،‬وهذا فيه خطورة كبيرة؛ لنهم‬
‫جماعة‪ ،‬والغلبة تكون غالبا ً للجماعة على الفرد‪ ،‬لذا‬
‫ينبغي لمن أصر على التصدي لذلك؛ أن يأخذ أهبته‬
‫من الناحية العلمية واليمانية والنفسية‪ ،‬وأن يكون‬
‫معه بعض إخوانه لمؤازرته في هذا المر الخطير‪.‬‬
‫وعلى النسان إذا أراد المؤانسة والحديث‪ ،‬أن‬
‫يذهب إلى الصالحين‪ ،‬فإنه‬
‫ل شك سيستفيد منهم أشياء كثيرة‪ ،‬أهمها إعانته‬
‫على طاعة الله – سبحانه وتعالى – وتذكيره به‪،‬‬
‫وصقل عاطفته اليمانية وتحريك دواعي الخير في‬
‫نفسه؛ فالنسان دائما ً مولع بحب التقليد والقتداء‬
‫بغيره‪ ،‬سواء كان ذلك بقصد وإرادة‪ ،‬أو من غير‬
‫قصد ول إرادة‪ ،‬حيث أنه يرى الشيء؛ فيعجب به؛‬
‫فيجد نفسه بعد مدة مائل ً إلى إليه‪ ،‬راغبا ً في‬
‫تجربته‪ ،‬مدفوعا ً إلى ممارسته كل‪ ،‬ذلك بفعل اللفة‬
‫لذلك الشيء والعجاب به‪ ،‬وقد حذرنا الله –‬
‫‪87‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثاني‬
‫سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم من صحبة‬
‫البطالين‪ ،‬الذين يصدون عن سبيل الله ويهجرون‬
‫العمال الصالحة‪ ،‬وبذلك يندم من صاحبهم يوم‬
‫القيامة ندما ً شديدا ً حتى أنه يعض يديه حسرة‬
‫وندامة على ما فعل من مجالستهم والنس بهم‪،‬‬
‫قال تعالى‪    :‬‬
‫‪         ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪       ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪       ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪   ‬‬ ‫‪‬‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫وقـــــــال تعـــــــالى‪ :‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪]   ‬سورة الزخرف‪ ،[67:‬وقال‬
‫الرسول – صلى الله عليه وسلم – ‪$ :‬المرء على‬
‫دين خليله فلينظر أحدكم مللن يخالللل‪ #‬رواه‬
‫الترمذي‪.‬‬
‫وقال عليه السلم‪$ :‬المرء مع من أحب‪،‬‬
‫وله ما اكتسب‪ #‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫ومن خلل هذه النصوص من القرآن والسنة‬
‫يتضح لنا خطورة مصاحبة الشرار والعابثين‪ ،‬وتزيد‬
‫هذه الخطورة عندما يكون من يصاحبهم صغار‬
‫السن من الشباب الذين تنقصهم الخبرة والتجربة‪،‬‬
‫‪$‬فإنهم سرعان ما يتأثرون بمصاحبة الشرار‪،‬‬
‫ومرافقة الفجار‪ ،‬وسرعان ما يكتسبون منهم أحط‬
‫العادات‪ ،‬وأقبح الخلق‪ ،‬بل يسيرون في طريق‬
‫ً‬
‫الشقاوة بخطى سريعة حتى يصبح الجرام طبعا من‬
‫طباعهم‪ ،‬والنحراف عادة متأصلة من عادتهم‪،‬‬
‫ضعف‬ ‫‪88‬‬
‫اليمان‬
‫ويصعب بعد ذلك ردهم إلى الجادة المستقيمة‪،‬‬
‫وإنقاذهم من وهدة الضلل‪ ،‬وهوة الشقاء‪ ،‬والسلم‬
‫جه الباء والمربين إلى أن يراقبوا‬
‫بتعاليمه التربوية و ّ‬
‫أولدهم مراقبة تامة وخاصة في سن التمييز‬
‫والمراهقة‪ ،‬ليعرفوا من يخالطون ويصاحبون‪ ،‬وإلى‬
‫أين يغدون ويروحون؟ وإلى أي الماكن يذهبون‬
‫ويرتادون‪.(1)#‬‬

‫‪ ()1‬تربية الولد في السلم‪ ،‬عبدالله ناصح علون )‪.(1/133‬‬


‫الباب الثالث‬
‫آثار ضعف اليمان‬
‫‪ -1‬الكآبة والقلق‪.‬‬
‫‪ -2‬الزنى‪.‬‬
‫‪ -3‬السرقة‪.‬‬
‫‪ -4‬الرشوة‪.‬‬
‫‪ -5‬المخدرات‪.‬‬
‫‪ -6‬النانية وحب الذات‪.‬‬
‫‪ -7‬كثرة المراض النفسية‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪90‬‬
‫اليمان‬
‫‪91‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬

‫آثــــار ضعف اليمــــان‬


‫أحيانا ً تكون الحياة صحراء جرداء موحشة‬
‫تورث في النفس الكآبة‪ ،‬وتزرع القلق؛ وعندما‬
‫تهطل عليها سحائب اليمان تصبح واحة جميلة‪،‬‬
‫تسر الناظرين وتعيد البهجة إلى النفوس! فللحياة‬
‫وجهان أحدهما مشرق جميل يغذيه اليمان والخر‬
‫مظلم كئيب تمده المعاصي‪.‬‬
‫وعلى العاقل دائما ً أن يحرص على البقاء في‬
‫الجانب المشرق الجميل‪ ،‬ويبتعد بقدر ما يستطيع‬
‫عن الجانب المظلم الكئيب‪ ،‬ولكي يحسن البعد عن‬
‫هذا الجانب فسنعرض بعض المشاهد والنماذج من‬
‫آثاره المدمرة للفرد والمجتمع؛ لكي يعرف النسان‬
‫أوصافها‪ ،‬ويميزها عندما تعرض له في دروب الحياة‬
‫ومسالكها المختلفة‪ ،‬فيكون على حذر منها يقول‬
‫الشاعر‪:‬‬
‫عرفت الشر ل للشر ومن ل يعر ف ال شر من‬
‫النا س يقع فيه‬ ‫لكن لتوقيه‬

‫ويقول آخر‪:‬‬
‫ول أنطق العوراء‬ ‫ول أعرف الفحشاء‬
‫والقلب مغضب‬ ‫إل بوصفها‬

‫كل ذلك لكي تبقى حياتنا مشرقة باليمان‪،‬‬


‫سعيدة بطاعة الرحمن‪ ،‬سائرة في طرق الخير عن‬
‫علم وبصيرة‪ ،‬مبتعدة عن مهاوي الشر عن دراسة‬
‫ووعي‪ ،‬وفكر ونظر‪ ،‬فل يخدعنا مخادع‪ ،‬ول يستميلنا‬
‫ضال‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪92‬‬
‫اليمان‬
‫ول شك أن لضعف اليمان آثار ضارة‪ ،‬وعواقب‬
‫مدمرة‪ ،‬يتطاير شررها في كل مكان؛ فل يسلم‬
‫منها أحد!‬
‫تصيب الفرد فتزلزل كيانه‪ ،‬وتحل بالمجتمع‬
‫فتفقده توازنه‪.‬‬
‫هذا وسنستعرض في هذا الباب بعض هذه‬
‫الثار الضارة‪ ،‬لنعرفها فنسلم من شرها ونكون‬
‫على حذر من الوقوع فيها‪.‬‬
‫نسأل الله أن يتولنا برعايته وحفظه من كل‬
‫الشرور‪ ،‬وبالله التوفيق‪.‬‬

‫‪‬‬
‫‪93‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬

‫الكآبة والقلق‬
‫النسان ضعيف بطبعه‪ ،‬حائر بفطرته‪ ،‬تغشاه‬
‫الهموم لمور داخلة في تكوينه‪ ،‬ل فكاك له منها‪،‬‬
‫فخوفه من مصيره بعد انتهاء أجله من هذه الدنيا‬
‫أمر ل يغيب عن باله‪ ،‬وقلقه من المقادير التي‬
‫يمكن أن تصيبه في حياته الدنيا أمر يزعجه كثيرًا‪،‬‬
‫وخوفه من الموت وسكراته‪ ،‬ومفارقة دنياه وأهله‬
‫وأحبابه أيضا ً من المور المحزنة له دائمًا‪ ،‬وخاصة‬
‫عندما يرى أو يسمع عن الراحلين عن هذه الدنيا‬
‫من أحبابه ومعارفه‪ ،‬لكن هذه المور كلها ل تسبب‬
‫أي حزن أو قلق بالنسبة للمؤمن القوي اليمان‪،‬‬
‫فلديه الجابة التي تريح نفسه‪ ،‬وتدخل الطمأنينة‬
‫على قلبه عن كل هذه التساؤلت السابقة‪.‬‬
‫يقول الدكتور يوسف القرضاوي‪:‬‬
‫‪$‬إن في أعماق كل نفس أصواتا ً خفية تناديه‪،‬‬
‫وأسئلة تلح عليه منتظره الجواب الذي يذهب به‬
‫القلق‪ ،‬وتظمئن النفس‪.‬‬
‫ما العالم؟ ما النسان؟ من أين جاءا؟ من‬
‫صنعهما؟ من يدبرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بدءا؟‬
‫كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ أي مستقبل‬
‫ينتظرنا بعد هذه الحياة؟‪...‬‬
‫هذه السئلة ألحت على النسان من يوم خلق‪،‬‬
‫وستظل تلح عليه إلى أن تطوى صفحة الحياة‪ ،‬لم‬
‫تجد – ولن تجد – لها أجوبة شافية إل في الدين‪.‬‬
‫الدين وحده هو الذي يحل عقدة الوجود الكبرى‬
‫ضعف‬ ‫‪94‬‬
‫اليمان‬
‫وهو المرجع الوحيد الذي يستطيع أن يجيبنا عن تلك‬
‫السئلة بما يرضي الفطرة‪ ،‬ويشفي الصدور‬
‫والسلم – خاصة – خير دين أجاب عن هذه السئلة‬
‫إجابة شافية‪ ،‬ترضى الفطرة النيرة‪ ،‬والعقل‬
‫السليم‪ ،‬بل إجابة تنبع من أعماقها‪ ،‬بل أعلن القرآن‬
‫أن هذا الدين هو الفطرة الصيلة نفسها ‪‬‬
‫‪                 ‬‬
‫‪                 ‬‬
‫‪]   ‬سورة الروم‪:‬‬ ‫‪           ‬‬
‫‪.[30‬‬
‫فلو تركت الفطرة النسانية ونفسها بل مؤثر‬
‫خارجي لنتهت إلى السلم نفسه‪ ،‬وفي هذا جاء‬
‫الحديث الصحيح عن رسول السلم – عليه السلم‬
‫– ‪$‬كل مولود يولد على الفطرة‪ ،‬فأبواه‬
‫يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه‪ #‬تقول‬
‫الفطرة والعقل‪ :‬إن الناس لم يخلقوا من غير شيء‬
‫ولم يخلقوا أنفسهم‪ ،‬ولم يخلقوا مما حولهم‪ :‬ذرة‬
‫في الرض أو السماء ويقول القرآن‪:‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪] ‬سورة الطور‪.[36:‬‬ ‫‪    ‬‬

‫وتقول الفطرة والعقل‪ :‬لبد َ إذن – من خالق‬


‫لهذا النسان العجيب‪ ،‬ولهذا الكون العريض‪ ،‬ولبد‬
‫أن يكون هذا الخالق واسع العلم‪ ،‬بالغ الحكمة‪ ،‬نافذ‬
‫المشيئة‪ ،‬عظيم القدرة‪ .‬ويقول القرآن‪ :‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪95‬‬ ‫البـــاب‬
‫‪‬‬ ‫‪ ‬‬
‫الثالث‬
‫‪‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪] ‬سورة غافر‪.[64-62:‬‬ ‫‪  ‬‬

‫وتقول الفطرة والعقل‪ :‬إن هذا الخالق الحكيم‬


‫لبد أن يكون وراء تنظيمه لهذا الكون‪ ،‬ووضع‬
‫النسان فيه غاية وحكمة وتعالت حكمته أن يكون‬
‫ا‪ .‬ويقول القرآن‪  :‬‬ ‫خلق كل هذا عبث ً‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬ ‫‪‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪.#(1)‬‬
‫]سورة الدخان‪[39-38:‬‬
‫إذن فاليمان بالله – سبحانه وتعالى – هو‬
‫الضامن الوحيد في هذه الدنيا لحياة سوية خالية‬
‫من الكآبة والقلق والحزان‪ ،‬وعندما تخلو الحياة‬
‫من هذه المنغصات تكون السعادة‪ ،‬ويصفو العيش‪.‬‬
‫واليمان هو الضامن الوحيد للنجاة من النار‬
‫والفوز بالستقرار في الجنة‪.‬‬
‫وهنا قد يقول قائل‪ :‬نحن مؤمنون ومع ذلك‬
‫فالقلق والحزن يلون حياتنا‪ ،‬ويكدر صفو عيشنا!‬
‫وأقول‪ :‬إن إيماننا ضعيف ل يصمد أمام غارات‬
‫‪ ()1‬اليمان والحياة‪.96-95 ،‬‬
‫ضعف‬ ‫‪96‬‬
‫اليمان‬
‫القلق والوساوس‪.‬‬
‫ويقيننا هش ل يقاوم هجمات الكآبة والحزن‬
‫ولذلك فأننا نجد بعض الناس قد أنعم الله عليهم‬
‫بالنعم السابغة من المال والصحة والخير‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فعندما يبوح بعضهم بخبايا نفسه؛ تلحظ التعاسة‬
‫تقلق روحه‪ ،‬والكآبة تزلزل نفسه‪ ،‬يعترف لك أنه ل‬
‫يعلم سببا ً لهذا القلق الذي يشعر به‪ ،‬وعندما تتغلغل‬
‫في أعماق نفسه‪ ،‬تجد أن البعد عن الله – سبحانه‬
‫وتعالى – هو السبب‪ ،‬حيث التقصير الواضح في‬
‫الفرائض‪ ،‬والتقصير في مراقبة الله‪ ،‬والتقصير‬
‫الشديد في القيام بالنوافل‪ ،‬والتعلق الشديد بهذه‬
‫الدنيا‪ ،‬والحزن واللم على فوات شيء من حطامها‬
‫الزائل‪ ،‬بينما ل إحساس إطلقا ً على فوات شيء‬
‫من أمور الدين‪ ،‬بل هناك تكاسل تام وغفلة مخيمة‬
‫على ذلك المرء فيما يتعلق بأمور الدين‪ ، ،‬والنتيجة‬
‫العاجلة في هذه الدنيا‪ ،‬هي ما وصفناه من قلق‬
‫النفس‪ ،‬وتنغيص العيش والحيرة المزعجة قال‬
‫تعالى‪       :‬‬
‫‪]     ‬سورة طه‪.[124:‬‬
‫‪$‬فالنسان بغير دين ول إيمان ريشة في مهب‬
‫الريح ل يستقر على حال‪ ،‬ول تعرف له وجهه‪ ،‬ول‬
‫يسكن إلى قرار مكين‪.‬‬
‫والنسان بغير دين ول إيمان ل قيمة له ول‬
‫جذور‪ ،‬إنسان قلق متبرم حائر‪ ،‬ل يعرف حقيقة‬
‫نفسه ول وجوده‪ ،‬ل يدري من ألبسه ثوب الحياة‪.‬‬
‫ولماذا ألبسه إياه؟ ولماذا ينزعه عنه بعد حين؟!‬
‫وهو بغير دين ول إيمان حيوان شره أو سبع‬
‫‪97‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬
‫فاتك‪ ،‬ل تستطيع الثقافة ول القانون – وحدهما –‬
‫أن يحدا من شراهته‪ ،‬أو يقلما أظفاره‪.(1)#‬‬
‫وبعد أن تحدثنا كثيرا ً عن الجانب المظلم في‬
‫الموضوع وهو الكتئاب والقلق الذي يسببه ضعف‬
‫اليمان‪ ،‬يستحسن أن ننتقل إلى الجانب المشرق‬
‫في هذا المر‪ ،‬وهو السعادة وراحة النفس التي‬
‫تعتبر ثمرة من ثمرات قوة اليمان في هذه الحياة‬
‫الدنيا‪ ،‬أما في الخرة فإن الجنة التي فيها السعادة‬
‫الحقيقية الخالية من أية منغصات هي جزاء‬
‫المؤمنين‪.‬‬
‫أما السعادة في هذه الدنيا التي يسعى الجميع‬
‫لنيلها ولكنها مثل ‪$‬الحلم الجميل الطائر أمام أعيننا‬
‫بأجنحة من نور‪ ،(2)#‬نراه ول نستطيع أن نمسك به‪،‬‬
‫كم تعب الكثير من أجل الحصول عليها ولكنه لم‬
‫ينجح‪ ،‬لن السعادة ل تكون إل في اليمان بالله‬
‫إيمانا ً حقيقيا ً يمل أغوار النفس‪ ،‬أيمانا ً ينفي كل شك‬
‫وريبة‪ ،‬إيمانا ً يحرك النفس بالسرور ويدفع الجوارح‬
‫للعمل‪.‬‬
‫وقد كثر الباحثون عن السعادة من غير طريق‬
‫اليمان ‪ :‬فمنهم من يرى السعادة في جمع المال ‪.‬‬
‫ومنهم من يرى السعادة في الجاه والرئاسة ‪.‬‬
‫ومنهم من يراها في غير ذلك من أمور الدنيا ‪.‬‬
‫ولكن الواقع يثبت لنا أنه ل أصحاب المال‪ ،‬ول‬
‫أصحاب الجاه‪ ،‬قد نالوا ا لسعادة الحقيقية وهي‬
‫راحة البال‪ ،‬وانتفاء جميع الهموم‪ ،‬لن أصحاب‬
‫المال شغلهم مالهم والتفكير في حفظه‪،‬‬

‫‪ ()1‬اليمان والحياة للدكتور يوسف القرضاوي ص )‪.(7‬‬


‫‪ ()2‬انظر المصدر السابق ص )‪.(81‬‬
‫ضعف‬ ‫‪98‬‬
‫اليمان‬
‫واستثماره والخوف من ضياعه‪ ،‬وهذا بعينه أحد‬
‫أبواب الشقاء والهم‪ ،‬وكذلك المر لصحاب الجاه‪.‬‬
‫أما أصحاب اليمان القوي أصحاب التقوى‪،‬‬
‫ومراقبة الله سبحانه وتعالى‪ ،‬فهم الذين نالوا نصيب‬
‫السد من السعادة‪ ،‬ذلك لنهم قد قطعوا الطمع في‬
‫نيل حطام الدنيا الفاني لمعرفتهم بحقارتها وسرعة‬
‫انقضائها‪ ،‬ثم اتجهوا بقوة إلى خالق الدنيا وأخذوا‬
‫أنفسهم بمراقبته وطاعته‪ ،‬فلم يعد لديهم شيء‬
‫يخافون عليه من أمور الدنيا‪ ،‬وكان رجاؤهم كبير في‬
‫خالقهم جل جلله أن يغفر ذنوبهم ويدخلهم جنات‬
‫النعيم‪ ،‬وتلك هي السعادة التي قرأنا وسمعنا كثيرا ً‬
‫عن أصحابها على مدار التاريخ‪ ،‬ويكفي أن ننقل هنا‬
‫قول العالم الرباني عبدالله بن المبارك حيث يقول‪:‬‬
‫إننا نعيش في سعادة لو علم بها الملوك لجالدونا‬
‫عليها بالسيوف‪.‬‬
‫ويقول سليمان الداراني‪ :‬لول قيام الليل ما‬
‫أحببت الدنيا‪ ،‬والله إن أهل الليل في ليلهم ألذ من‬
‫أهل اللهو في لهوهم‪ ،‬وإنه لتمر بالقلب ساعات‬
‫يرقص طربا ً بذكر الله‪ ،‬فأقول‪ :‬إن كان أهل الجنة‬
‫في مثل ما أنا فيه من النعيم إنهم لفي عيش طيب‬
‫ونعيم عظيم)‪.(1‬‬
‫ويقول الشاعر‪:‬‬
‫ولكن التقي هو‬ ‫ولست أرى السعادة‬
‫السعيد‬ ‫جمع مال‬

‫ولنا عبرة في كثير من الذين جمعوا أموال ً‬


‫طائلة‪ ،‬وحازوا جاها ً عريضًا‪ ،‬ومع ذلك فهم يجأرون‬
‫‪ ()1‬المور الميسرة لقيام الليل للشيخ وحيد عبدالسلم بالي ص )‬
‫‪.(36‬‬
‫‪99‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬
‫بالشكوى من مرارة التعاسة‪ ،‬ونكد الحياة‪ ،‬وتنغيص‬
‫العيش ‪ ،‬حتى أن بعضهم يلجأ للنتحار تخلصا ً مما‬
‫يشعر به من كآبة وحزن ‪ ،‬وقد سمعنا كثيرا ً عما‬
‫يحدث في دولة تعتبر من أغنى دول العالم ‪ ،‬والفرد‬
‫فيها يتقاضى أعلى دخل في العالم‪ ،‬ومع ذلك فقد‬
‫كثر النتحار فيها لدرجة أنهم اضطروا إلى فتح‬
‫مركز خاص بالنتحار‪ .‬وتلك الدولة هي السويد في‬
‫أوروبا والمثلة على ذلك كثيرة جدا ً وليس لدينا‬
‫مجال ً للتوسع فيها‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪100‬‬
‫اليمان‬
‫‪‬‬
‫الزنـــــــى‬
‫يعتبر الزنى من أهم آثار ضعف اليمان‪ ،‬فل‬
‫يقدم على جريمة الزنى إل من ضعف إيمانه‪ ،‬وقد‬
‫ورد النص على ذلك فقال الرسول – صلى الله‬
‫عليه وسلم – ‪$ :‬ل يزني الزاني حين يزني وهو‬
‫مؤمن‪ #‬متفق عليه‪.‬‬
‫ومن هذا نعرف أن ضعف اليمان ونقصانه أحد‬
‫ألسباب التي تجعل النسان يقترف الزنى‪ ،‬بل إن‬
‫اليمان يزول بالكلية أثناء ممارسة هذه الجريمة‪،‬‬
‫وذلك ما يفسر لنا قسوة قلوب أهل المعاصي‪،‬‬
‫فهي ل ترق من المواعظ‪،‬‬
‫ول تتأثر من الزواجر إل من تداركه الله بالتوبة‬
‫النصوح‪.‬‬
‫والزنى جريمة وفاحشة حرمها الله تعالى ونهى‬
‫عن مجرد القتراب منها قال تعالى‪  :‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪]  ‬سورة السراء‪.[32:‬‬
‫وذلك لما فيها من الضرار الجتماعية البالغة من‪:‬‬
‫تدنيس العراض‪ ،‬وانتهاك الحرمات‪ ،‬واختلط‬
‫النساب‪ ،‬وتفكك السر وتحطيم المجتمعات‪ ،‬بالضافة‬
‫إلى بعض الجرائم الخرى المتفرعة عن جريمة الزنى‬
‫مثل القتل والنتحار‪.‬‬
‫والطامة الكبرى المترتبة على الزنى هي ثمرته‬
‫البائسة التعيسة من أولئك الطفال المساكين‬
‫الذين يخرجون إلى هذه الدنيا ل يعرفون لنفسهم‬
‫أبا ً ول أما ً ول أصل ً ولفرعا‪ ،‬مقطوعين من شجرة‪،‬‬
‫‪101‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬
‫يعيشون في الملجئ‪ ،‬يتناوب على رعايتهم‬
‫موظفون‪ ،‬هذا يروح وهذا يأتي‪ ،‬يعيشون حياتهم‬
‫محرومين من عطف الوالدين ومن دفء السرة‪،‬‬
‫ومن حنان القارب‪ ،‬يطاردهم اللم والحزن طوال‬
‫حياتهم‪ ،‬وأكثرهم يصاب بعقد نفسية لفقد حنان‬
‫السرة من جانب ولوجود الزدراء الجتماعي من‬
‫جانب آخر‪ ،‬فمن المسئول عما يحدث لهؤلء‬
‫المساكين من نكد وتعاسة طوال حياتهم؟‬
‫أليست تلك الشهوة الحرام التي لم تستمر إل‬
‫دقائق معدودة هي السبب في تعاسة إنسان طوال‬
‫حياته‪ ،‬ومن يدري فربما تستمر هذه التعاسة أجيال ً‬
‫تلحق البناء والحفاد؛ فالمجتمع ل يحرم‪.‬‬
‫ونعود أيضا ً لنؤكد أن ضعف اليمان له الدور‬
‫الكبر في اقتراف هذه الجريمة‪ ،‬فلو كان اليمان‬
‫حيا ً في قلبه لما اقترب من هذه الرذيلة‪ ،‬ولو كان‬
‫يعظم حرمات الله لما فكر فيها‪ ،‬ولو كان هاجس‬
‫الخوف من القبر وعذابه والقيامة وأهوالها في‬
‫نفسه لنشغل بهما عن فعل هذه الرذائل! إذن‬
‫فلبد أن يكون من يمارس هذه المعاصي في غفلة‬
‫عن المعاني اليمانية‪ ،‬ولبد أن يكون بعيدا ً عن‬
‫الجواء التي تذكره بالله تعالى‪ ،‬ولبد أن يكون‬
‫هاجرا ً لكتاب الله وسنة رسوله عليه السلم‪ ،‬تارك‬
‫لمجالس العلم والذكر حتى فقد خشية الله –‬
‫سبحانه وتعالى – فخشية الله تعالى مرتبطة بالعلم‬
‫والذكر حيث قال‪   :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪‬‬
‫‪] ‬سورة فاطر‪.[28:‬‬
‫فالجهل هو مطية المعاصي وميدانها الفسيح‬
‫ولذلك يجب على المسلمين أن يعتنوا بتربية‬
‫أولدهم التربية اليمانية التي ترفع الجهل وتهذب‬
‫ضعف‬ ‫‪102‬‬
‫اليمان‬
‫الخلق‪،‬وتسمو بالنفوس‪ ،‬وترقق القلوب‪ ،‬تربية‬
‫تغرس في أنفس الصغار حب الله تعالى وتعظيم‬
‫شعائره‪ ،‬وحب الرسول – عليه السلم – والقتداء‬
‫به‪.‬‬
‫ينبغي أن يتعاهدوا إيمانهم دائما ً بحيث يكون‬
‫في حالة نماء وزيادة‪.‬‬
‫ينبغي أن يكثروا من العناية بالقرآن والسنة‬
‫بحيث يعايش الصغار ما فيهما من معاني سامية‬
‫ومواعظ مؤثرة‪.‬‬
‫وبذلك نستطيع أن نحاصر تلك الرذائل التي‬
‫يعم ضررها المجتمع بأسرة‪ ،‬وتنتشر شرورها في‬
‫كل مكان‪ ،‬يجب أن نحاصرها باليمان القوي‬
‫ونحاصرها ببث الوعي بأضرارها ومفاسدها في كل‬
‫مكان‪.‬‬
‫يجب أن يسعى المجتمع كله لمحاربة المعاصي‬
‫كلها لن ضررها متعدي‪ ،‬ول يقتصر على فاعلها ؛‬
‫فقد تجر بعضها إلى جرائم ومفاسد ل يعلم مداها‬
‫إل الله‪ ،‬وعندما يعلم الناس كيف يؤثرون ما عند‬
‫الله على شهوات حقيرة ودنيا زائلة ‪ ،‬عندها فقط‬
‫تسود الفضيلة‪ ،‬ويعم الخير‪ ،‬وينتشر المن بين‬
‫الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم‪ ،‬ومن ثم‬
‫يوصف المجتمع كله بأنه مجتمع إيماني كل فرد فيه‬
‫يحب لخيه ما يحب لنفسه‪.‬‬
‫‪103‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬
‫‪‬‬
‫ضعف‬ ‫‪104‬‬
‫اليمان‬

‫السرقــــة‬
‫والسرقة أيضا ً إحدى آثار ضعف اليمان؛ إذ‬
‫كيف يقدم النسان على اغتصاب مال غيره‪ ،‬وقد‬
‫سمع النهي المشدد في القرآن والسنة عن أخذ‬
‫أموال الناس‪ ،‬قال الله تعالى‪ :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪]‬سورة المائدة‪ ،[38:‬وقال الرسول – صلى الله عليه‬
‫وسلم – ‪$‬ل يزني الزاني حين يزني وهو‬
‫مؤمن‪ ،‬ول يشرب الخمر حين يشربها وهو‬
‫مؤمن‪ ،‬ول يسرق السارق حين يسرق وهو‬
‫مؤمن‪ ،‬ول ينهب نهبة ذات شرف يرفع‬
‫الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو‬
‫مؤمن‪ #‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫وكيف يفعل ذلك من علم بأن هذه الدنيا فانية‬


‫وأنه راحل عنها‪ ،‬وأنه محاسب في الدار الخرة عن‬
‫كل ما اقترفت يداه‪ ،‬ل يفعل ذلك إل من ضعف‬
‫إيمانه‪ ،‬وتمكنت منه الغفلة‪ ،‬ونسي الموت والدار‬
‫الخرة في تلك اللحظة لشدة تعلقه بهذه الدنيا‬
‫الفانية حتى كأنه يعيش فيها خالدا ً مخلدًا‪.‬‬
‫ولكن دعونا نبحث في السباب التي تدفع‬
‫المسلم إلى فعل هذه المعاصي التي قد يخسر‬
‫لجلها شرفه أو نفسه أو عضو من أعضائها‪ ،‬كأن‬
‫يسرق فتقطع يده‪ ،‬ومن الملحظ في هذه اليام أن‬
‫بعض الناس يقترف السرقة وهو ليس بحاجة ماسة‬
‫مثل من يدفعه ألم الجوع إلى ذلك لن الله جل‬
‫جلله قد رزقه خيرا ً كثيرًا! ومنهم يفعل الزنى وهو‬
‫‪105‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬
‫ليس في حاجة لذلك لنه متزوج!‬
‫ونقول مرة ثانية‪ :‬إن السبب هو ضعف اليمان‬
‫لن هذا الشخص لم يسمع كلم الله بقلب متيقظ‪،‬‬
‫ولم يسمع كلم الرسول – عليه السلم – بفؤاد‬
‫واعي‪ ،‬فهو لم يجلس في مجلس علم بحيث يذكره‬
‫بالله والدار الخرة‪ ،‬فأنني أكاد أجزم بأنه لو تكرر‬
‫على سمعه بعض ما ورد في الكتاب والسنة عن‬
‫السرقة أو الزنى أو الرشوة أو غير ذلك من‬
‫المعاصي فإنه من النادر أن يفعلها‪ ،‬وكيف يمارسها‬
‫وقد علم عقوبتها في الدنيا والخرة‪ ،‬وكيف يمارسها‬
‫وقد عرف أنها تسبب له أضراًر كثيرة‪ :‬مثل نقص‬
‫إيمانه‪ ،‬وذهاب مروءته‪ ،‬وتدمير أخلقه‪ ،‬وسقوط‬
‫منزلته بين الناس‪ ،‬وتشويه سمعته‪ ...‬الخ‪ ،‬إذن‬
‫المشكلة أن أكثر شبابنا بعيدون عن مصادر العلم‬
‫الشرعي الذي به تزكوا النفوس‪ ،‬وتتهذب الخلق‪،‬‬
‫وتنشرح الصدور‪ ،‬وهذا العلم له مجالسة المعروفة‬
‫وشيوخه المحتسبين في المساجد وبعض المدارس‬
‫والجامعات‪ ،‬ولكن هذه الفئة من الشباب قد‬
‫انصرفت كليا ً عن هذه المجالس الطيبة لمتابعة‬
‫برامج اللهو والثارة عبر القنوات الفضائية‬
‫والنترنت‪ ،‬وهذه البرامج ل تخلو من عوامل‬
‫تشويش اليمان وهدم الخلق؛ والمهم الن كيف‬
‫نقنع هؤلء الشباب بأن يستمعوا وينصتوا إلى كلم‬
‫الله تعالى وكلم رسوله عليه السلم؟‬
‫وكيف نستميلهم إلى برامج النقاء والطهر‬
‫ومكارم الخلق؟ لشك أن هذه مهمة صعبة لن‬
‫البرامج الخرى مشحونة بالغراء والثارة ودغدغة‬
‫العواطف ‪ ،‬وإثارة الغرائز‪ ،‬ومهما يكن من أمر‬
‫فيجب أل نقف مكتوفي اليدي أمام خطر داهم‪ ،‬بدأ‬
‫ضعف‬ ‫‪106‬‬
‫اليمان‬
‫يتخطف أولدنا من بين أيدينا‪ ،‬بل يجب أن نسلك‬
‫كل الطرق ونستخدم جميع الوسائل لدرء هذا‬
‫الخطر أو التقليل من آثاره‪ ،‬وسأذكر فيما يلي بعض‬
‫هذه الوسائل‪:‬‬
‫‪ -1‬لعل أهم هذه الوسائل هو دور السرة‬
‫ومراقبتها ومتابعتها لبنائها منذ نعومة‬
‫أظفارهم‪ ،‬وعندما تقوم السرة بدورها كامل ً‬
‫في مجال التوعية والتوجيه السلمي؛ يصبح‬
‫لدى الشباب حصانة كافية تمنعهم من‬
‫النزلق في مستنقعات الرذيلة‪ ،‬وينبغي‬
‫لرب السرة أل يغفل التربية اليمانية‪ ،‬وذلك‬
‫بحث أفراد السرة على تلوة كتاب الله‬
‫وحفظه‪ ،‬وقراءة بعض الحاديث الشريفة‬
‫وحفظها‪ ،‬وينبغي أن يكون لدى السرة‬
‫درس يومي أو أسبوعي أو حتى شهري‬
‫يتخلله بعض المواعظ التي ترقق القلوب‪،‬‬
‫وتؤثر في النفوس‪ ،‬وتحث على مكارم‬
‫الخلق‪ ،‬ومثل هذا الدرس ليس فيه صعوبة‬
‫أبدًا‪ ،‬بل يستطيع إلقائه أي إنسان يتقن‬
‫القراءة‪ ،‬فما عليه إل أن يختار كتابا ً من‬
‫كتب الرقائق والمواعظ الموزعة إلى‬
‫دروس أو مجالس يومية – وهي كثيرة جدا ً‬
‫– ويبدأ القراءة فيها وسيجد القرآن والسنة‬
‫والحكم والمواعظ والمعلومات المفيدة‪،‬‬
‫كلها مكتوبة أمامه في هذا الدرس الذي‬
‫كتب أصل ً لهذا الغرض‪.‬‬
‫‪ -2‬حث الشباب منذ الصغر على حضور‬
‫مجالس العلم وحلقات الذكر‪ ،‬وذلك بأن‬
‫يكون الب قدوة لهم في ذلك حيث يحضر‬
‫‪107‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬
‫هو ويصطحب أولده‪.‬‬
‫‪ -3‬الستفادة من التسجيلت السلمية وسماع‬
‫الدروس والمحاضرات التي لم يتمكنوا من‬
‫حضورها‪ ،‬وهذه يجب أن يكون للب دور‬
‫في إقناع أولده بسماعها‪.‬‬
‫‪ -4‬تطهير المنزل من كل وسائل البث‬
‫المحرمة التي تنشر الدعارة والباحية‬
‫وتدمر الخلق‪ ،‬وتفسد الذوق وهذه – والله‬
‫– ما دخلت بيتا ً إل أفسدته وجعلت أعزة‬
‫أهله أذلة‪.‬‬
‫‪ -5‬يجب على أهل الغيرة على دينهم ووطنهم‬
‫أن يضاعفوا جهودهم في مجال الدعوة إلى‬
‫الله ‪ ،‬وإصلح شباب المسلمين‪ ،‬فكل واحد‬
‫منهم على ثغرة‪ ،‬فالمدرس في مدرسته‬
‫وبين طلبه‪ ،‬والموظف مع زملئه‪ ،‬والتاجر‬
‫في سوقه ومع زبائنه‪ ،‬والجار مع جيرانه‬
‫وسكان حيه‪ ،‬وعلى هؤلء أن يكونوا إسلما ً‬
‫يمشي على الرض بحيث يدعون إلى الله‬
‫بأفعالهم قبل أقوالهم‪.‬‬

‫‪‬‬
‫ضعف‬ ‫‪108‬‬
‫اليمان‬

‫الرشـــوة‬
‫وهي إحدى الرذائل التي تحد من تطور أي‬
‫مجتمع تنتشر فيه‪ ،‬لن النسان في هذه الحالة ل‬
‫يستطيع الحصول على أملكه وحقوقه الشخصية إل‬
‫بدفع الموال الطائلة لهؤلء السفلة الذين آتاهم‬
‫الله الجاه والحكم والمال ولكن جشعهم المقيت‬
‫يأبى عليهم إل استغلل تلك الوليات التي ولهم‬
‫الله في أكل أموال الناس بالباطل‪.‬‬
‫وهذا المر ل يمارسه إل من ضعف إيمانه‬
‫وانتفت مراقبته لخالقه‪ ،‬فلم يعد يؤثر فيه قول‬
‫الرسول – صلى الله عليه وسلم صلى – ‪$ :‬لعنة‬
‫الله على الراشي والمرتشي في الحكم‪#‬رواه‬
‫أحمد والترمذي‪.‬‬
‫إن هذا الكلم يهز المسلم هزا ً عنيفًا‪ ،‬فالرسول‬
‫عليه السلم يلعن من يقترف هذا الفعل واللعن هو‬
‫الطرد والبعاد من رحمة الله؛ فكيف نجد المسلم‬
‫بعد هذا يتجرأ ويمارس هذه الرذيلة‪ ،‬إل إذا كان‬
‫هناك خلل كبير في التربية اليمانية‪ ،‬وهذا الخلل قد‬
‫تحدثنا عنه في موضوع السرقة‪ ،‬وذكرنا الدور‬
‫الفاعل الذي يجب أن يقوم به الفرد والمجتمع‬
‫والمدرسة والسرة والمسجد والزملء‪.‬‬
‫والذي أود قوله هنا‪ ،‬أنه يجب أن يتعاون الجميع‬
‫في تربية النشء تربية إيمانية لن ذلك في النهاية‬
‫يصب في مصلحة المجتمع كله‪ ،‬لننا عندما نترك‬
‫أبناءنا بدون تربية صالحة‪ ،‬ثم يحصل لديهم النحراف‬
‫ولو بعد حين‪ ،‬من سرقات ورشاوى‪ ،‬ومخدرات‬
‫وأذية للغير فل شك أن الضرر يتحمله المجتمع كله‪.‬‬
‫‪109‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬
‫ومادام المر كذلك فينبغي على الجميع أن‬
‫يهبوا لخدمة دينهم ووطنهم وأنفسهم‪ ،‬وكل على‬
‫ثغرة فل يؤتى من قبله‪ ،‬وينبغي أل يستهين أحد‬
‫بشيء من المشاركة في هذا المر حتى لو كانت‬
‫قليلة‪ ،‬يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – ‪:‬‬
‫‪$‬ل تحقرن من المعروف شيئا ً ولو أن تلقى‬
‫أخاك بوجه طلق‪ #‬ذلك أن المر جد وليس‬
‫بالهزل‪ ،‬فلو استمر التقاعس‬
‫والستخفاف‪ ،‬وكل شخص يلقي‬
‫بالمسئولية على غيره؛ لحصل مال تحمد‬
‫عقباه‪ ،‬خاصة مع النفتاح على العالم عبر‬
‫وسائل العلم المختلفة التي تنشر‬
‫العادات والتقاليد والفضائل والرذائل‪،‬‬
‫والخير والشر صباح مساء ‪$‬أننا كثيرا ً ما‬
‫نقرأ في الصحف‪ ،‬ونسمع من الناس‪ ،‬كما‬
‫نشاهد نحن بأعيننا ما تعانيه المؤسسات‬
‫العامة من أجهزة تتوقف على جدتها‬
‫وأدوات تتخرب على متانتها‪ ،‬ومصالح‬
‫تعطل مع حاجة الجمهور إليها‪ ،‬وأعمال‬
‫يكفيها يوم‪ ،‬تستغرق أياما ً ونتيجة لذلك نجد‬
‫أن مشروعات نافعة تفشل‪ ،‬وجهود مخلصة‬
‫تبعثر‪ ،‬وأموال ً طائلة تضيع‪ ،‬وأن النتاج‬
‫العام بعد ذلك كله يتدهور أيما تدهور وما‬
‫ذلك إل لفقدان المانة والخلص وخراب‬
‫الضمائر عند أولئك الذين ل يرجون لله‬
‫وقارا ً‬
‫ول يحسبون للخرة حسابا ً‪.(1)#‬‬

‫‪ ()1‬اليمان والحياة‪ ،‬د‪.‬يوسف القرضاوي )‪.(297‬‬


‫ضعف‬ ‫‪110‬‬
‫اليمان‬
‫وعلج ذلك كله هو العودة بالناس إلى نبع‬
‫اليماني الصافي‪ ،‬فهو الكفيل وحده بمحق هذه‬
‫القبائح أو التقليل منها‪ ،‬وعلينا أل نقول‪ :‬المر في‬
‫غاية الصعوبة‪،‬والفساد قد ظهر في البر والبحر وأن‬
‫أعمالنا القليلة ستكون قطرة في بحر الفساد! بل‬
‫علينا أن نعمل بقدر ما نستطيع ول تهمنا النتائج بعد‬
‫ذلك‪ ،‬بل نكلها لرب العالمين‪ ،‬نحن مطالبون بالعمل‬
‫من ربنا – سبحانه وتعالى – حيث يقول‪ :‬‬
‫‪                      ‬‬
‫‪                ‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪        ‬‬
‫‪]‬سورة التوبة‪.[105:‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫فعلى النسان أن يعمل بجد‪ ،‬ويواصل العمل‬


‫فله بذلك الجر العظيم والثواب الجزيل من الله –‬
‫سبحانه وتعالى –‪.‬‬
‫‪111‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬
‫‪‬‬
‫ضعف‬ ‫‪112‬‬
‫اليمان‬

‫المخــــدرات‬
‫تعتبر من أهم الرذائل التي سببها البعد عن الله‬
‫سبحانه تعالى – وعدم مراقبته‪ ،‬وهي ظاهرة جديدة‬
‫على المجتمعات السلمية‪ ،‬ولكنها فتاكة ومدمرة‬
‫أول للفرد الذي يعتبر لبنة في البناء الجتماعي‪،‬‬
‫وهي بالتالي مدمرة للمجتمع أخلقيا ً واقتصاديا ً‬
‫وأسريًا‪ ،‬ول شك أن هناك جهود جبارة تبذل من‬
‫أجل السيطرة على هذه المشكلة من قبل الدولة‪،‬‬
‫ومن قبل كثير من الخيار الذين لديهم غيرة على‬
‫دينهم ووطنهم ومجتمعهم‪.‬‬
‫ولشك أن هذه الرذيلة‪ ،‬بل وجميع الرذائل‬
‫الخرى ل يمكن الحد منها إل عن طرق الجانب‬
‫اليماني‪ ،‬فهو المنطلق الول في علج هذه القبائح‬
‫التي تشوه وجه المجتمع‪ ،‬وتخل باتزانه‪ ،‬وأي علج‬
‫يتجاهل هذا الجانب فهو محكوم عليه بالفشل‪ ،‬لن‬
‫الجانب اليماني وحده هو الذي يتغلغل في زوايا‬
‫وجوانب عديدة من أغوار النفس البشرية‪،‬‬
‫فالنسان ليس جسما ً فقط وليس عقل ً فحسب‪،‬‬
‫وليس عاطفة وكفى‪ ،‬بل هو كل ذلك بالضافة إلى‬
‫الحب والكره والخوف والرجاء والطمع والتطلع‪...‬‬
‫إلى آخره‪.‬‬
‫هذه الجوانب المتعددة لو ذهبنا نعالج كل واحد‬
‫منهما على حده فسنعجز حتمًا‪ ،‬ولكن إذا كرسنا‬
‫جهدنا كله في الجانب اليماني فذلك كفيل بمعالجة‬
‫جميع هذه الجوانب‪ ،‬لننا نرد هذه النفس التائهة‬
‫إلى خالقها الذي هو أعرف بها وبما يصلحها‪ ،‬وجدير‬
‫‪113‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬
‫بمن عرف ربه حق المعرفة وعظم شعائره حق‬
‫التعظيم وعرف ذاته الفانية وعرف دنياه الحقيرة‬
‫أن يرتدع عن جميع المعاصي والرذائل‪ ،‬خوفا ً من‬
‫الله تعالى‪ ،‬ورجاء لما عنده من الكرامة والنجاة في‬
‫يوم تشخص فيه البصار‪.‬‬
‫وهناك تجارب كثيرة أثبتت أن اليمان بالله له‬
‫فعل السحر في امتناع الناس عن فعل المعايب‬
‫والرذائل‪ ،‬بينما القوة المادية‪ ،‬والعقاب البدني‪ ،‬مهما‬
‫كان شديدا ً لم يكن له من الردع إل النزر اليسير‪،‬‬
‫وسنأخذ مثال ً واحدا ً وأظنه يكفي لما فيه من وضوح‬
‫وقرب من موضوع المخدرات‪ ،‬ذلك أن الخمر كان‬
‫العرب مولعين بها ولعا ً كبيرا ً في الجاهلية‪ ،‬وعندما‬
‫نزل تحريمها من عند الله – سبحانه وتعالى – في‬
‫القرآن الكريم أذعنوا جميعا ً للتسليم‪ ،‬وذهبوا من‬
‫فورهم يهرقون جرار الخمر حتى كانت أزقة المدينة‬
‫تسيل منها وذلك بكلمة واحدة هي قوله تعالى‪ :‬‬
‫‪ ‬‬‫‪‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬‫‪‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪] .  ‬سورة المائدة‪[91-90:‬‬
‫ضعف‬ ‫‪114‬‬
‫اليمان‬
‫كانت هاتان اليتان الكريمتان كافتين لن يدع‬
‫المسلمون شرابهم المفضل الذي يجدون فيه‬
‫أعظم لذة‪ ،‬ويتباهون بشربه وطريقة إعداده في‬
‫نواديهم‪ ،‬وأشعارهم ومجالس سمرهم‪ ،‬ولم يقف‬
‫ذلك كله حاجزا ً بينهم وبين تنفيذ‬
‫أمر الله – سبحانه وتعالى – ‪$‬إنه اليمان الذي‬
‫يشحذ العزائم‪،‬‬
‫ويسمو بالنفوس‪ ،‬ويمدها بقوى المقاومة والجلد‬
‫الباسل فتخر أمامها أسوار العادات والتقاليد‪.(1)#‬‬
‫وفي الجانب المقابل نذكر المثال التالي وهو‬
‫تحريم الخمر في أمريكا حيث أنه استبان للشعب‬
‫المريكي الضرار الفادحة للخمر بعد دراسات‬
‫مكثفة‪ ،‬وبحوث عديدة؛ لذا فقد اتخذت المجالس‬
‫التشريعية هناك قرارا بمنع شرب الخمر وتعاطيها‬
‫وبيعها وشرائها في جميع الراضي المريكية وقد‬
‫عدل الدستور المريكي لهذا القرار الخطير عام‬
‫‪1919‬م تحت عنوان )التعديل الثامن عشر( وفي‬
‫نفس السنة أيد هذا التعديل بأمر حظر أطلق عليه‬
‫التاريخ قانون )فولستر( وقد أعدت لتنفيذ هذا‬
‫التحريم داخل الراضي المريكية كافة وسائل‬
‫الدولة وإمكاناتها الضخمة‪:‬‬
‫‪ -1‬جند السطول لمراقبة الشواطئ‪ ،‬منعا ً‬
‫للتهريب‪.‬‬
‫‪ -2‬جند الطيران لمراقبة الجو‪.‬‬
‫‪ -3‬شغلت أجهزة الحكومة واستخدمت كل‬
‫وسائل الدعاية‬
‫‪ ()1‬اليمان والحياة د‪.‬يوسف القرضاوي ص )‪.(216‬‬
‫‪115‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬
‫والعلم لمحاربة الخمر وبيان مضارها‪،‬‬
‫وجندت كذلك المجلت والصحف والكتب‬
‫والنشرات والصور والسينما والحاديث‬
‫والمحاضرات وغيرها‪.‬‬
‫ويقدر ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر‬
‫بما يزيد على )ستين مليون دولر( وبلغ قيمة الكتب‬
‫والنشرات )عشرة مليين دولر(‪.‬‬
‫هذا وقد بلغ ما تحملته الدولة في سبيل تنفيذ‬
‫هذا القانون في مدة ‪ 14‬عاما ً فقط مائتين‬
‫وخمسين مليون دولر‪ ،‬وقد أعدم في هذه المدة‬
‫ثلثمائة نفس‪ ،‬وسجن ‪ 532335‬نفس‪ ،‬وبلغت‬
‫الغرامات ستة عشر مليون دولر‪ ،‬وصودر من‬
‫الملك ما قيمته )أربعمائة وأربعة مليين دولر‪،‬‬
‫ولكن كل ذلك لم يزد المة المريكية إل غراما ً‬
‫بالخمر‪ ،‬وعنادا ً في تعاطيها‪ ،‬حتى اضطرت الحكومة‬
‫سنة ‪ 1933‬إلى إلغاء هذا القانون وإباحة الخمر‬
‫إباحة مطلقة‪.(1)#‬‬
‫أرأيتم كيف فشلت الساطيل ونجح اليمان؟‬
‫المسلمون تركوا الخمر طواعية عندما باشر‬
‫اليمان قلوبهم وعندما أيقنوا بأن الله سيعوضهم‬
‫خيرا ً في الجنة ‪$‬من ترك شيئا ً لله عوضه الله‬
‫خيرا ً‪ #‬والمريكيون لم يتركوها رغم القتناع‬
‫العقلي بضررها ورغم القوة الضاربة التي أعدت‬
‫لتنفيذ القانون بالقوة!‪ ،‬فبماذا تفسرون هذا المر؟‬
‫إنه اليمان إذا خالطت بشاشته القلوب فعلينا‬
‫أن نلجأ لسلح اليمان في كل مشاكلنا وسنجد‬
‫‪ ()1‬نفس المصدر السابق ص )‪.(218‬‬
‫ضعف‬ ‫‪116‬‬
‫اليمان‬
‫الحل بإذن الله‪.‬‬
‫وعلينا أن نركزأولعلى مبدأ)الوقاية قبل العلج(‬
‫وبذلك نوفر على أنفسنا جهدا ً كبيرًا‪.‬‬
‫‪117‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬
‫‪‬‬
‫النانية وحب الذات‬
‫وهي داء وبيل يفتك بالشعوب فتكا ً ذريعا ً لن‬
‫النسان الناني يريد أن يكون الخير له وحده‪،‬‬
‫وأحيانا ً يتألم ويحزن عندما تهب رياح الخير إلى‬
‫غيره‪ ،‬وهذا بالتالي يعني أن هذا النسان ل يحب‬
‫التعاون مع مجتمعه‪ ،‬بل هو على استعداد للحاق‬
‫أكبر الضرر بالمجتمع إذا كان في ذلك مصلحة‬
‫شخصية له‪ ،‬لن حبه الطاغي لنفسه قد أنساه‬
‫المصالح العليا لدينه وأمته‪ ،‬وهذا الناني لو تأمل‬
‫قليل ً لوجد أن التعاضد مع إخوانه يصب أساسا ً في‬
‫مصلحته الشخصية؛ ولو بعد حين‪ ،‬ولكن سعيه‬
‫الحثيث في سبيل ذاته وحسب أعماه عن أي شيء‬
‫آخر‪ ،‬فهو ل يفكر إل في ذاته‪ ،‬ول يعمل إل من أجل‬
‫شهواته‪ ،‬لن ‪$‬غريزة النانية وحب الذات غريزة‬
‫عاتية جبارة ل يكاد يخلو بشر من سلطانها عليه‪،‬‬
‫وقوة دفعها له‪ ،‬وتوجيهها لسلوكه‪ ،‬وإنك لترى‬
‫الناس تدفعهم النانية إلى التنافس على الدنيا‬
‫ومتاعها‪ ،‬ويدفعهم التنافس إلى التنازع والختصام‪،‬‬
‫ويدفعهم ذلك إلى إدعاء ما ليس لهم‪ ،‬وجحود ما‬
‫عليهم من حقوق‪ ،‬وأكل أموال الناس بالباطل‪،‬‬
‫وعندما يطل شيطان الخصومة برأسه ل يكون إل‬
‫حب الغلبة بأي ثمن‪ ،‬وأية وسيلة‪.‬‬
‫ولكن عنصر اليمان إذا دخل المعركة أطفأ‬
‫لهب الخصومة‪ ،‬فصارت نارها بردا ً وسلمًا‪ ،‬وحطم‬
‫طغيان النانية فاستحالت تسامحا ً وإيثارًا‪ ،‬وحلق‬
‫ضعف‬ ‫‪118‬‬
‫اليمان‬
‫بالمؤمن من المتاع الدنى إلى المثل العلى‪. #‬‬
‫)‪(1‬‬

‫أما علقة النانية بضعف اليمان فهي واضحة‬


‫فلو كان هذا الناني لديه إيمان قوي لحب لخوانه‬
‫المسلمين ما يحب لنفسه‪ ،‬ولسادت روح التعاون‬
‫والمحبة والتسامح بين الناس‪ ،‬والرسول الكريم –‬
‫عليه السلم – بّين أن إيمان المسلم ل يكتمل حتى‬
‫يحب لخوانه المسلمين ما يحب لنفسه حيث قال‪:‬‬
‫‪$‬ل يؤمن أحدكم حتى يحب لجاره أو لخيه ما يحب‬
‫لنفسه‪ #‬رواه مسلم‪.‬‬
‫وفي رواية أخرى قال عليه السلم‪$ :‬والذي‬
‫نفسي بيده ل يؤمن عبد حتى يحب لجاره‬
‫)أو قال لخيه( ما يحب لنفسه‪ #‬رواه مسلم‪.‬‬
‫وهذا الحديث يعتبر من الكنوز العظيمة التي‬
‫غفل عنها المسلمون كثيرًا‪ ،‬فلو عملنا به في شئون‬
‫حياتنا لختفت شرور ورذائل كثيرة‪ ،‬ولظهر الخير‬
‫والتعاون والمحبة بين الناس‪ ،‬حتى تعم السعادة‬
‫والنس بين المسلمين‪ ،‬فما دامت محبة أخيك‬
‫المسلم والحسان إليه والبر به يزيد في إيمانك‬
‫ويطهر روحك من الشوائب‪ ،‬فلماذا ل تستكثر منها‪،‬‬
‫وعندما تفعل ذلك ستكون أنت‬
‫أول المستفيدين؛ لن روحك عندما تتطهر من‬
‫الحقاد والضغائن والحسد سترتاح وتسعد‪،‬‬
‫وسيطمئن قلبك ويرتاح بالك‪ ،‬وهذا هو – والله –‬
‫العيش الطيب والحياة السعيدة‪ ،‬عندما تعيش في‬
‫مجتمع تسوده المحبة والصفاء‬
‫وتخيم عليه اللفة والتعاون‪ ،‬وتختفي منه العداوة‬

‫‪ ()1‬اليمان والحياة‪ ،‬د‪.‬يوسف القرضاوي )‪.(213‬‬


‫‪119‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬
‫والحقاد‪ ،‬فالجميع في أمن وسعادة وحبور‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪120‬‬
‫اليمان‬
‫‪‬‬
‫كثرة المراض النفسية‬
‫المراض النفسية التي تصل أحيانا ً إلى‬
‫اضطراب العقل واختلطه‪ ،‬يكون سببها غالبا ً ضعف‬
‫اليمان والبعد عن الله – سبحانه وتعالى –‬
‫فالنسان ضعيف بدون عون ربه‪ ،‬ل يقوي على‬
‫مواجهة متاعب الحياة ومصائب الدنيا وحده‪ ،‬فهو‬
‫دائما ً بحاجة ماسة إلى ذلك العون النفسي الذي‬
‫يجعله متماسكا ً رابط الجأش عندما ينزل به شيٌء‬
‫من مصائب الدنيا الكثيرة‪.‬‬
‫‪$‬وقد ثبت لدى الطباء النفسيين بالتجارب‬
‫المتكررة أن اليمان بالله واليوم الخر من أعظم‬
‫الدوية الفعالة في القضاء على المراض النفسية‪،‬‬
‫وكثير منهم استعان بالدين في علج مرضاهم‬
‫فنجحوا أعظم نجاح‪ ،‬وسجلوا ذلك في بحوث‬
‫ومقالت وكتب نشروها على الناس‪.(1)#‬‬
‫ونحن نسمع كثيرا ً من حالت المراض النفسية‬
‫التي أحالت حياة أصحابها إلى جحيم ل يطاق‪ ،‬وليس‬
‫أصحابها بل أسرهم كذلك‪ ،‬وعندما يتم بحث حالتهم‬
‫نجد أن بعدهم عن الله عز وجل – وضعف إيمانهم‬
‫هو السبب الهم في تعاظم حالتهم‪ ،‬حتى وصلت‬
‫ببعضهم إلى الجنون‪ ،‬أما النسان المؤمن بالله إيمانا ً‬
‫مستقرًا‪ ،‬فإنه لن يسلم نفسه لكابوس الكتئاب‪،‬‬
‫فهو مشغول بربه وعبادته وشئون حياته الضرورية‬
‫عن هذه الهموم والوساوس‪ ،‬والنسان إذا ً لم يشغل‬
‫‪ ()1‬انظر اليمان والحياة‪ .‬د‪.‬يوسف القرضاوي )‪.(345‬‬
‫‪121‬‬ ‫البـــاب‬
‫الثالث‬
‫نفسه بالخير أشغلته بالشر‪ ،‬والنسان المؤمن يعرف‬
‫ربه – سبحانه وتعالى – ويعرف رحمته بعباده‪ ،‬فل‬
‫يشعر بذلك القلق المزلزل‪ ،‬ولماذا يقلق؟‪ ..‬إذا‬
‫عرف هذه الدنيا وسرعة انقضائها وقلة وفائها‪،‬‬
‫وخسة شركائها‪ ،‬وأنها ل تصفو لحد أبدًا‪ ،‬وفي‬
‫المقابل عرف الدار الخرة‪ ،‬وما فيها من نعيم‪،‬‬
‫وخلوها من جميع المنغصات لمن كتب الله له الجنة‬
‫بما عمل من أعمال صالحة في هذه الدنيا‪ ،‬فمثل‬
‫هذا من أين تأتيه المراض النفسية أص ً‬
‫ل؟ أنها ل تجد‬
‫في نفسه فراغا ً أو مكانا ً تحل فيه‪ ،‬ولذلك ينبغي‬
‫على من أصيب بشيء من هذه المراض أن يعالج‬
‫أول ً إيمانه وعلقته بربه‪ ،‬وهذا ل يكون إل بالعودة‬
‫الصادقة إلى طاعة الله – سبحانه وتعالى –‬
‫واللتزام بما فرض الله‪ ،‬والبتعاد عما حرم الله‪ ،‬فإن‬
‫اليمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي‪ ،‬ونقص‬
‫اليمان هو المرض النفسي والهم والحزن‪ ،‬وعلجه‬
‫هو القبال على الله – سبحانه وتعالى – وترك‬
‫التعلق بهذه الدنيا الفانية والكثار من التفكر في‬
‫الرحيل عنها‪ ،‬والمصير بعد الموت‪.‬‬
‫هذا وسنكتفي بما ذكرنا من أثار ضعف اليمان‬
‫وإل فهي كثيرة متجددة تفوق الحصر مثل الحسد‬
‫خُلق وظلم الناس وغير‬
‫والكذب والغيبة وسوء ال ُ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ول شك أن جميع الرذائل والجرائم والمراض‬
‫الجتماعية ل تخرج إل من رحم ضعف اليمان‪ ،‬أما‬
‫قوة اليمان والستقامة على أمر الله فهي الحصانة‬
‫الواقية من كل هذه الشرور‪ ،‬فنحن ل نجد إنسانا ً‬
‫ضعف‬ ‫‪122‬‬
‫اليمان‬
‫مستقيما ً على شرع الله‪ ،‬عامل ً بأوامره‪ ،‬مجتنبا ً‬
‫نواهيه‪ ،‬ثم نراه مع ذلك منغمسا ً في مستنقع‬
‫الجرائم‪ ،‬أو سابحا ً في بحر الرذائل‪ ،‬لن له من‬
‫دينه‪ ،‬والخوف من ربه‪ ،‬واشتغاله بأمر الدار الخرة‬
‫سياجا ً يمنعه من الوقوع في الرذائل والمعاصي‪.‬‬
‫‪‬‬

‫الباب الرابع‬
‫علج ضعف اليمان‬
‫ًا‪.‬‬
‫‪ -1‬كفى بالموت واعظ‬
‫‪ -2‬الحفاظ على الفرائض‪ ،‬والكثار من النوافل‪.‬‬
‫‪ -3‬التفكر في مخلوقات ال‪.‬‬
‫‪ -4‬استشعار عظمة ال تعالى‪.‬‬
‫‪ -5‬اعتزال كل لغو وباطل‪.‬‬
‫‪ -6‬الطلع على سير الصالحين‪.‬‬
‫‪ -7‬زيارة المقابر‪.‬‬
‫‪ -8‬قراءة القرآن قراءة فهم وتدبر‪.‬‬
‫‪ -9‬أل بذكر ال تطمئن القلوب‪.‬‬
‫‪ -10‬طلب العلم‪ ،‬وحضور مجالس الذكر‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪110‬‬
‫اليمان‬
‫‪125‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬

‫علج ضعف اليمـــان‬


‫ل شك أن ضعف اليمان‪ ،‬وقسوة القلب‪ ،‬من‬
‫المآسي الفاشية في أيامنا هذه‪ ،‬ل ينكر ذلك إل‬
‫مكابر‪،‬وهذا بل شك خطر داهم‪ ،‬وشر مستطير‪،‬‬
‫ينبغي اتخاذ كل السبل لعلجه والحد منه ‪ ،‬يقول‬
‫ضرب عبد‬ ‫المام الرباني الزاهد مالك بن دينار ‪:‬ما ُ‬
‫بعقوبة أعظم من قسوة القلب ! وكيف ل تنتشر‬
‫في هذه اليام وقد بدأ ظهورها في العصور‬
‫المفضلة حيث كان يشكو منها بعض الصحابة –‬
‫رضي الله عنهم – والفرق بيننا وبينهم أنهم كانوا‬
‫يتألمون أشد اللم‪ ،‬ويحزنون أشد الحزن عندما‬
‫يجدون ذلك‪ ،‬فقد كانوا يسرعون إلى الرسول –‬
‫صلى الله عليه وسلم – شاكين عليه ما يحسون‬
‫من وسوسة الشيطان‪ ،‬قائلين‪$ :‬يا رسول الله إن‬
‫أحدنا ليجد في نفسه ما لن يخر من السماء إلى‬
‫الرض أحب إليه من أن يتكلم به‪ #‬وفي رواية ‪$‬ما‬
‫يتعاظم أحدنا أن يتكلم به‪ #‬رواه مسلم‪ ..‬فهذا حال‬
‫الصحابة – رضوان الله عليهم – كان أحدهم يتمنى‬
‫أن يخر من السماء أو تحدث له أكبر مصيبة في‬
‫دنياه‪ ،‬ول يمس دينه أو تخدش عقيدته‪ ،‬فهم من‬
‫عرف الله حق المعرفة‪ ،‬فعظموه حق التعظيم‬
‫]سورة الحج‪،[32:‬‬
‫وهم من اتصف بقوة الحاطة بحقارة الدنيا‪ ،‬وشدة‬
‫التطلع إلى نعيم الخرة‪.‬‬
‫وكيف ل يكون ذلك وقد تربوا في مدرسة‬
‫محمد – صلى الله عليه‬
‫وسلم – ؟ ونهلوا من ذلك المعين الصافي‪ ،‬وارتووا‬
‫ضعف‬ ‫‪126‬‬
‫اليمان‬
‫من ذلك المورد العذب الذي يستمد نقاءه من‬
‫السماء‪ ،‬حيث ينزل جبريل عليه السلم بالوحي‬
‫منجمًا‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن الشيطان كان حريصا ً على إغواء‬
‫البشر مهما كانت قوة إيمانهم لنه ل يعرف اليأس‪،‬‬
‫ول يدركه التعب في باطله‪ ،‬والشيطان يشدد وطأته‬
‫بالوسوسة على أصحاب اليمان القوي ‪$‬لنه إنما‬
‫يوسوس لمن يأس من إغوائه‪ ،‬فينكد عليه‬
‫بالوسوسة لعجزه عن إغوائه‪ ،‬وأما الكافر فإنه يأتيه‬
‫من حيث شاء ول يقتصر في حقه على الوسوسة‬
‫بل يتلعب به كيف أراد‪.(1)#‬‬
‫إذن هذا حال الصحابة – عليهم رضوان الله –‬
‫مع الوساوس الطارئة‪ ،‬أما نحن فإننا نحس بضعف‬
‫اليمان يعكر صفو حياتنا‪ ،‬ونجد الوساوس تهجم‬
‫علينا من كل جانب؛ فنرى أثر ذلك في هزال أعمالنا‬
‫الصالحة‪ ،‬وجرأتنا على اقتراف المعاصي‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فإن حزننا إن وجد فهو قليل‪ ،‬وألمنا إن حصل فهو‬
‫يسير على مصيبتنا في ديننا إل من رحم الله!‪ ،‬وإنا‬
‫لله وإنا إليه راجعون‪ ،‬وعكس ذلك لو كانت مصيبتنا‬
‫في دنيانا فإن المر يختلف حيث يشتد جزعنا‪ ،‬ويكثر‬
‫ألمنا‪ ،‬بل هناك بعض الناس يؤدي به الحزن على‬
‫فوات شيئا ً من حطام الدنيا إلى النتحار‪ ،‬وقد سمعنا‬
‫وقرأنا عن حالت كثيرة من هذا الصنف‪ ،‬وحالت‬
‫النتحار‪ ،‬بصفة عامة بدأت تكثر‪ ،‬وهي تعد أحد آثار‬
‫ضعف اليمان‪.‬‬
‫ونحن نلحظ أن أحدنا عندما يوجه له بعض‬
‫الناس كلمة يحس فيها استهانة بشخصه‪ ،‬أو احتقارا ً‬
‫لذاته؛ يبات الليل ساهرا ً مهموما ً مما أصابه‪ ،‬ولكنه‬
‫‪ ()1‬شرح النووي على صحيح مسلم )‪.(2/154‬‬
‫‪127‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫قد يفوت عليه الفرض في جماعة‪ ،‬وقد يصيب‬
‫بعض ما حرم الله قاصدا ً أو غير قاصد‪ ،‬وقد تنتهك‬
‫حرمات الله أمامه! ومع ذلك فل يحس بأي ألم ول‬
‫يشعر بأدنى انزعاج! ول شك أن هذا يعد من ضعف‬
‫اليمان الذي يجب على المسلم أن يسعى في‬
‫علجه‪.‬‬
‫وتفقد اليمان‪ ،‬والسعي في تجديده‪ ،‬وإعادة‬
‫ترميم ما تهدم منه – من المور التي دعا إليها‬
‫الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – وحث‬
‫المسلمين عليها فقد قال عليه السلم‪$ :‬إن‬
‫اليمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق‬
‫الثوب‪ ،‬فاسألوا الله أن يجدد اليمان في‬
‫قلوبكم‪ #‬رواه الحاكم في المستدرك )‪ (1/4‬وهو‬
‫في السلسلة الصحيحة )‪ (1585‬وقال الهيثمي رواه‬
‫الطبراني في الكبير بإسناد حسن)‪$ :(1‬فاليمان يبلى‬
‫في القلب كما يبلى الثوب إذا اهترأ وأصبح قديمًا‪،‬‬
‫وتعتري قلب المؤمن في بعض الحيان سحابة من‬
‫سحب المعصية فيظلم‪ ،‬وهذه الصورة بينها لنا‬
‫رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقوله ‪$‬ما من‬
‫القلوب قلب إل وله سحابة كسحابة القمر‪ ،‬بينا القمر‬
‫مضيء إذا علته سحابة فأظلم‪ ،‬إذ تجلت عنه‬
‫فأضاء‪ #‬رواه أبو نعيم في الحلية وهو في السلسلة‬
‫الصحيحة‪.‬‬
‫فالقمر تأتي عليه أحيانا ً سحابة تغطي ضوءه‪،‬‬
‫وبعد برهة من الزمن تزول وتنقشع‪ ،‬فيرجع ضوء‬
‫القمر مرة أخرى ليضيء السماء‪ ،‬وكذلك قلب‬
‫المؤمن تعتريه أحيانا ً سحب مظلمة من المعصية‪،‬‬
‫فتحجب نوره‪ ،‬فيبقى النسان في ظلمة ووحشة‬

‫‪ ()1‬نقل ً عن ظاهرة ضعف اليمان‪ ،‬محمد المنجد )‪.(29‬‬


‫ضعف‬ ‫‪128‬‬
‫اليمان‬
‫فإذا سعى لزيادة إيمانه واستعان بالله عز وجل‬
‫انقشعت تلك السحب‪ ،‬وعاد نور القلب يضيء كما‬
‫كان‪.(1)#‬‬
‫والمطلوب من المؤمن مراقبة إيمانه وتفقد‬
‫دينه دائما ً فعندما يلحظ أن سحب ضعف اليمان‬
‫تخيم على سماء القلب يبادر بعلج هذه المعضلة‪،‬‬
‫وعليه أن يبذل في سبيل ذلك عظيم جهده‪ ،‬وأل‬
‫يدخر شيئا ً من وسعه في هذا المر‪ ،‬فإنه إن أهمله‬
‫وتكاسل عنه اشتد خطره‪ ،‬وصعب علجه فيما بعد‪.‬‬
‫وعلى المسلم أل يمل أو يسأم من سعيه لجل‬
‫تقوية إيمانه‪ ،‬وإذا أدركه شيء من التعب فليتذكر أن‬
‫عاقبة هذا العمل ستكون مباركة طيبة‪ ،‬هي سعادته‬
‫في الدنيا‪ ،‬وراحة باله‪ ،‬وهي نجاته من النار وفوزه‬
‫بالجنة في الدار الخرة‪.‬‬
‫وليكن هدفه الذي يريد الوصول إليه من كل‬
‫سعيه‪ ،‬هو أن يجد طعم حلوة اليمان في قلبه‪،‬‬
‫وليمني نفسه بقرب حصول الهدف‪ ،‬وتحقيق‬
‫المنى‪ ،‬لكي يبقي شعلة النشاط متقدة‪ ،‬وجذوة‬
‫الحماس ملتهبة‪ ،‬ففي هذه الحالة لن تستطيع جنود‬
‫اليأس والحباط أن تفل عزيمته‪ ،‬ولن يقدر أعوان‬
‫الشياطين أن يضعفوا إرادته‪ ،‬لنهم أضعف ما‬
‫يكونون أمام إرادة المؤمن الصلبة‪ ،‬فإن الله لم‬
‫يجعل للشيطان سلطانا ً على المؤمنين قال تعالى‪:‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪] ‬سورة الحجر‪ ،[42:‬وعندما‬ ‫‪‬‬

‫‪ ()1‬ظاهرة ضعف اليمان‪ ،‬محمد المنجد )‪.(30-29‬‬


‫‪129‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫يصل النسان إلى حلوة اليمان بعد جهاد شاق‪،‬‬
‫يكون لديه حصانة بعد ذلك من جميع المراض التي‬
‫تضعف اليمان‪ ،‬فهو نفسه ل يمكن أن يفرط في‬
‫شيء محبب إلى نفسه حصل عليه بعد معاناة‪.‬‬
‫فاليمان عندما تخالط بشاشته القلوب ل تخرج‬
‫منها أبدًا‪ ،‬فكيف يفرط في اليمان من ذاق حلوته‪،‬‬
‫وطعم لذته‪ ،‬وسعدت روحه بسمو معانيه‪ ،‬وفرحت‬
‫نفسه بجميل مقاصده‪.‬‬
‫يقول الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم‬
‫– ‪$ :‬ثلث من كن فيه وجد بهن حلوة‬
‫اليمان‪ :‬أن يكون الله ورسوله أحب إليه‬
‫مما سواهما وأن يحب المرء ل يحبه إل لله‪،‬‬
‫وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه‬
‫الله منه كما يكره أن يقذف في النار‪ #‬رواه‬
‫البخاري ومسلم‪.‬‬
‫إذن فمن وجد حلوة اليمان في قلبه سيكون‬
‫حريصا ً عليها مثل حرصه على أل يلقي ببدنه في‬
‫النار كما أخبر بذلك الرسول عليه السلم‪.‬‬
‫فالمهم هنا أن نجد ّ السير في الطريق الموصل‬
‫إلى حلوة اليمان‪ ،‬أما إذا وصلنا فل خوف علينا من‬
‫العودة أبدًا؛ لما يوجد هناك من الشياء المستطابة‬
‫اللذيذة التي يستحيل أن يتخلى عنها أحد‪.‬‬
‫يقول المام ابن رجب الحنبلي رحمه الله‪$ :‬إذا‬
‫ذاق العبد حلوة اليمان‪ ،‬ووجد طعمه وحلوته‪،‬‬
‫ظهر ثمرة ذلك على لسانه وجوارحه فاستحلى‬
‫اللسان ذكر الله وما واله‪ ،‬وأسرعت الجوارح إلى‬
‫طاعة الله‪ ،‬فحينئذٍ يدخل حب اليمان في القلب‬
‫ضعف‬ ‫‪130‬‬
‫اليمان‬
‫كما يدخل حب الماء البارد الشديد برده في اليوم‬
‫الشديد حرة للظمآن الشديد عطشه‪.‬‬
‫ويصير الخروج من اليمان أكره إلى القلوب‬
‫من اللقاء في النار‪ ،‬وأمر عليها من الصبر‪.(1)#‬‬
‫هذا وسنذكر في الصفحات التالية بعض‬
‫الوسائل الشرعية التي تعين المسلم على علج‬
‫ضعف إيمانه‪ ،‬وإذابة قسوة قلبه‪ ،‬لتتحرر روحه من‬
‫أسر الشهوات‪ ،‬وتنطلق محلقة في سماء اليمان‪،‬‬
‫مرفرفة في طبقات الفضاء‪ ،‬قاصدة مولها في‬
‫عله متخلصة من ثقل الرض‪ ،‬هاربة عن جفوة‬
‫الطبع‪ ،‬مجاهدة في رضى خالقها‪.‬‬

‫‪ ()1‬لطائف المعارف )‪ (253‬نقل ً عن ربيع القلوب‪ ،‬د‪.‬أنس كرزون )‬


‫‪.(159‬‬
‫‪131‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫‪‬‬
‫ضعف‬ ‫‪132‬‬
‫اليمان‬

‫كفى بالموت واعظا ً‬

‫عندما يقسو قلبك‪ ،‬وعندما تتعلق نفسك بأمور‬


‫الدنيا وحطامها الزائل‪ ،‬وعندما تهفو روحك إلى هذه‬
‫المور التي يتزين بها الناس من الرئاسات‬
‫والمناصب والجاه والمجد والموال والقصور‬
‫والدور‪ ،‬فما عليك إل أن تتذكر الموت‪ ،‬وتتذكر أنك‬
‫سترحل عن هذه الدنيا حتما ً إن عاجل ً أو آج ً‬
‫ل‪،‬‬
‫فالمسألة مسألة وقت‪ ،‬وإن كل ما ترى من أمور‬
‫الدنيا التي يتباهى الناس بها ستصير إلى الفناء‪،‬‬
‫وسيعود كل شيء ترابا ً كما خلق من التراب!‬
‫إن التأمل والتفكر في هذا المر سيجعلك حتما ً‬
‫تزهد في هذه الدنيا‪ ،‬حيث تراها على حقيقتها‬
‫فمصيرها إلى الفناء‪ ،‬ولذاتها ل تخلو من تنغيص‬
‫فلماذا الركون إليها ونسيان ما بعدها؟ ولماذا‬
‫النشغال بها وكأننا مخلدون فيها؟‬
‫وحاسبوا أنفسهم‬ ‫يا عجبا للناس لو‬
‫وأبصروا‬ ‫فكروا‬
‫فإنما الدنيا لهم معبر‬ ‫وعبروا الدنيا إلى‬
‫غدا إذا ضمهم‬ ‫غيرها‬
‫المحشر‬ ‫ل فخر إل فخر أهل‬
‫والبر كانا خير ما‬ ‫التقى‬
‫يدخر‬ ‫ليعلم الناس أن‬
‫وهو غدا في قبره‬ ‫التقى‬
‫يقبر‬ ‫عجبت للنسان في‬
‫وجيفة آخره يفجر‬ ‫فخره‬
‫يرجو ول تأخير ما‬ ‫ما بال من أ وله‬
‫‪133‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫يحذر‬ ‫نطفة‬
‫في كل ما يقضي‬ ‫أصبح ل يملك تقديم‬
‫وما يقدر‬ ‫ما‬
‫وأصبح المر إلى‬
‫غيره‬

‫وينبغي للعاقل أن يكون دائم الذكر للموت‪ ،‬لنه‬


‫حقيقة واقعة شئنا أم أبينا‪ ،‬والغفلة عن الموت هي‬
‫التي تجعل النسان يتساهل في إتيان المعاصي‪،‬‬
‫وينسى حظه من العمال الصالحة التي بها ذخره‬
‫في الدار الخرة وقد حثنا الرسول – صلى الله‬
‫عليه وسلم – على الكثار من ذكر الموت فقال‪:‬‬
‫‪$‬أكثروا من ذكر هادم اللذات‪ #‬يعني الموت‬
‫رواه ابن ماجه والترمذي‪.‬‬
‫وقال عليه السلم‪$ :‬أكثروا من ذكر الموت‬
‫فإنه يمحص الذنوب ويزهد في الدنيا‪،#‬‬
‫وروى عنه عليه السلم أنه قال‪$ :‬كفى بالموت‬
‫واعظا ً كفى بالموت مفرقا ً‪.#‬‬
‫وقال عليه السلم‪$ :‬الكيس من دان نفسه‬
‫وعمل لما بعد الموت‪ ،‬والعاجز من اتبع‬
‫نفسه هواها‪ ،‬وتمنى على الله‪.(1)#‬‬
‫فذكر الموت مفيد للنسان‪ ،‬فهو الذي يجعله‬
‫مستعدا ً دائما ً للحظة الرحيل‪ ،‬متزودا ً بالعمال‬
‫الصالحة ليوم العرض والحساب‪ ،‬غير مغتر بهذه‬
‫الدنيا التي جذبت كثيرا ً من الناس وأبعدتهم في‬

‫‪ ()1‬انظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الخرة للقرطبي ص )‬


‫‪.(15-14‬‬
‫ضعف‬ ‫‪134‬‬
‫اليمان‬
‫أودية الغفلة حتى جاءهم الموت فجأة! وندموا‬
‫ولت ساعة مندم‪ ،‬يروى أن أحد الصالحين الذين‬
‫لم يغتروا بالدنيا‪ ،‬ولزموا الزهد والقناعة – كان‬
‫يعظ الناس دائمًا‪ ،‬ويذكرهم بالدار الخرة‪ ،‬وما‬
‫فيها نعيم الجنة أو عذاب النار‪ ،‬ويذكرهم بالموت‬
‫في كل مناسبة‪ ،‬اعتقادا ً منه أن الموت يعد أكبر‬
‫زاجر عن اقتراف المعاصي‪ ،‬وأكبر داعي للقبال‬
‫على العمال الصالحة‪ ،‬فهو الحقيقة المحسومة‬
‫المشاهدة‬
‫لجميع الناس‪.‬‬
‫وكان هذا الرجل يبدأ مواعظه رافعا ً صوته‪:‬‬
‫الرحيل‪ ..‬الرحيل‪ ..‬يقصد الموت وعندما انتهى‬
‫أجل هذا الواعظ ومات أصاب الناس كرب ثقيل؛‬
‫فقد رحل عنهم من يذكرهم بالرحيل دائمًا‪...‬‬
‫فقال أحد الشعراء‪:‬‬
‫حتى أناخ ببابه‬ ‫مازال يلهج بالرحيل‬
‫الجمال‬ ‫وذكره‬
‫ذا أهبة لم تلهه‬ ‫فأصابه متيقظا ً‬
‫المال‬ ‫متشمرا ً‬

‫‪$‬ومن فوائد ذكرت الموت أنه يورث استشعار‬


‫النزعاج عن هذه الدار الفانية‪ ،‬والتوجيه في كل‬
‫لحظة إلى الدار الخرة الباقية؛ ثم إن النسان ل‬
‫ينفك عن حالتي ضيق وسعة‪ ،‬ونعمة ومحنة‪ ،‬فإن‬
‫كان في حالة ضيق ومحنة‪ ،‬فذكر الموت يسهل‬
‫عليه بعض ما هو فيه‪ ،‬فإنه ل يدوم‪ ،‬والموت أصعب‬
‫منه‪ ،‬أو في حالة نعمة وسعة فذكر الموت يمنعه‬
‫من الغترار بها‪ ،‬والسكون إليها لقطعه عنها‪...‬‬
‫‪135‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫وقال الدقاق‪ :‬من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلثة‬
‫أشياء‪ :‬تعجيل التوبة‪ ،‬وقناعة القلب‪ ،‬ونشاط‬
‫العبادة‪ ،‬ومن نسي الموت عوقب بثلثة أشياء‪:‬‬
‫تسويف التوبة وترك الرضى بالكفاف‪ ،‬والتكاسل‬
‫في العبادة‪.(1)#‬‬
‫والناس في ذكر الموت على أصناف عديدة‪:‬‬
‫فمنهم من يذكره بقلب غافل منصرف بكليته‬
‫إلى أمور الدنيا‪ ،‬وإنما خطر على ذهنه لموت أحد‬
‫الناس‪ ،‬وأحيانا ً قد يخطر الموت على الذهن فجأة‬
‫وبدون مقدمات فهو حقيقة واقعة ل يماري فيها‬
‫أحد‪ ،‬ولكن مثل هذا النسان الشديد التعلق بالدنيا‬
‫وحطامها الفاني ل ينتفع بذكر الموت في هذه‬
‫الحالة لشدة اشتغال قلبه بأمور الدنيا‪ ،‬فليس فيه‬
‫مكان لشيء غيرها‪ ،‬وإنما كان ذكر الموت لديه‬
‫ومضة خاطفة قصدت القلب فلم تجد فيه مكانا ً‬
‫فرحلت!‬
‫وهناك صنف من الناس إذا ذكر الموت شعر‬
‫بالقلق والهم لمر واحد هو أن الموت سوف يفرق‬
‫بينه وبين ما هو فيه من نعمة في هذه الدنيا‪ ،‬ومن‬
‫ثم تمتلئ نفسه ببغض الموت وذمه‪ ،‬ثم تبدأ الفكار‬
‫الشيطانية تطرق ذهنه من هذه الناحية مثل‪:‬‬
‫لماذا يموت الناس؟‬
‫ما الجدوى من الموت؟‬
‫وهذه الوساوس خطيرة‪ ،‬وينبغي للعاقل‬
‫البتعاد عنها‪ ،‬ومجاهدة النفس في ذلك‪ ،‬فهي قد‬
‫توصل النسان إلى التفكر في الخالق – سبحانه‬
‫وتعالى – فهو الذي قدر الموت على البشر‪ ،‬وبغض‬

‫‪ ()1‬المصدر السابق ص )‪.(17 ،16‬‬


‫ضعف‬ ‫‪136‬‬
‫اليمان‬
‫الموت قد يكون سببا ً لسوء الخاتمة والعياذ بالله‬
‫حيث يسوء ظن النسان بالله لنه الذي سبب له‬
‫الموت وقطع عنه ما هو فيه من نعيم‪.‬‬
‫فعلى النسان أن يحذر من كره الموت‪ ،‬بل‬
‫عليه أن يوطن النفس عليه‪ ،‬وأنه أحيانا ً يكون‬
‫أفضل من الحياة في حالت كثيرة مثل الشيخوخة‬
‫والعجز والمرض الشديد‪ ،‬أما أنه يحول بين المرء‬
‫ونعيم الحياة فهذا صحيح‪ ،‬ولكن نعيم الجنة أفضل‬
‫وأحسن من نعيم هذه الدنيا المنغص‪ ،‬وليس هناك‬
‫مجال للمقارنة أبدًا‪ ،‬فقد وصف الرسول الكريم –‬
‫صلى الله عليه وسلم – نعيم الجنة فقال‪$ :‬فيها‬
‫مال عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر‬
‫على قلب بشر‪ #‬فأين هذا من نعيم الدنيا الذي‬
‫ل يخلو أبدا ً من المنغصات والمكدرات‪ ،‬ولعل أقلها‬
‫عندما يتذكر أنه سيترك هذا النعيم ويرحل عنه‬
‫حتمًا‪.‬‬
‫وهناك صنف ثالث يكره الموت لعدم استعداده‬
‫له بالعمال الصالحة التي تنجيه من عذاب جهنم‪،‬‬
‫وهو بالتالي ل يحب الدنيا إل من أجل التزود‬
‫بالعمال الصالحة‪$ :‬وهو معذور في كراهة الموت‬
‫ول يدخل هذا تحت قوله – صلى الله عليه وسلم –‬
‫‪$‬من كره لقاء الله كره الله لقاءه‪ #‬فإن هذا‬
‫ليس‬
‫يكره الموت ولقاء الله‪ ،‬وإنما يخاف من قصوره‬
‫وتفريطه في حق الله‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬وهو كالذي‬
‫يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغل ً بالستعداد للقائه‬
‫على وجه يرضاه فل يعد كارها ً للقائه‪ ،‬وعلمة هذا‬
‫أن يكون دائم الستعداد له ل شغل له سواه‪.(1)#‬‬

‫‪ ()1‬انظر إحياء علوم الدين للغزالي )‪.(4/391‬‬


‫‪137‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫وهناك صنف رابع‪ :‬هم أهل التقوى واليمان‬
‫الصادق والقلوب الحية الرقيقة والحساس‬
‫المرهف‪ ،‬وهؤلء قد فّتت ذكر الموت قلوبهم‪،‬‬
‫وضاعفت خطراته آلمهم خوفا ً من أن ينزل بهم‬
‫الله – سبحانه وتعالى – غضبه‪ ،‬ويوقع بهم أليم‬
‫عذابه‪ ،‬لنهم قد عرفوا الله حق المعرفة‪ ،‬فعظمت‬
‫في قلوبهم مهابته‪ ،‬وزادت في أنفسهم خشيته‪،‬‬
‫وكبرت في قلوبهم محبته فكيف ل يخشون الله‬
‫ويعظمونه ‪     ‬‬
‫‪   ‬وهؤلء هم‬ ‫‪      ‬‬
‫الذين ينتفعون بذكر الموت‪ ،‬فهو يحفزهم إلى‬
‫مضاعفة العمال الصالحة‪ ،‬حتى إن نشاطهم يزيد‬
‫بشكل يدعو للدهشة‪ ،‬حيث يعملون أعمال ً يراها‬
‫غيرهم مستحيلة أو فوق طاقة البشر‪ ،‬فمنهم من‬
‫يصلي في اليوم ألف ركعة‪ ،‬ومنهم من يختم‬
‫القرآن كله في ركعة واحدة‪ ،‬ومنهم من يختم‬
‫القرآن في رمضان ستين مرة كما كان يفعل‬
‫المام الشافعي رحمه الله‪ ،‬ومنهم من جعل حياته‬
‫وأوقاته كلها وقفا ً على العبادة من صلة وقراءة‬
‫قرآن وذكر الله‪ ،‬وذاك خلل حياته كلها‪ ،‬فل زواج‪،‬‬
‫ول طلب رزق‪ ،‬ول اشتغال بأي أمر من أمور‬
‫الدنيا‪ ،‬مثل داود الطائي وغيره‪ ،‬فهؤلء هم‬
‫ن الله عليهم بالهداية فعرفوا‬ ‫الموفقون الذين م ّ‬
‫حقيقة الدنيا وتفاهتها‪ ،‬فأخرجوها من قلوبهم عن‬
‫طيب نفس‪ ،‬فعاشوا مع الله‪ ،‬وبالله‪ ،‬فكأنهم يرونه‬
‫رأي العين‪ ،‬فكيف ل يخافونه‪ ،‬ويعظمونه‪،‬‬
‫ويخشون عقابه‪.‬‬
‫وهكذا يستفيد الصالحون من ذكر الموت‪ ،‬إنه‬
‫الوقود الذي يجعل أوقاتهم شعلة من النشاط‬
‫والعمل الصالح ما بين عبادة وطاعة لله – سبحانه‬
‫وتعالى – أو عمل نافع يعد قربه لله تعالى مثل‬
‫ضعف‬ ‫‪138‬‬
‫اليمان‬
‫السعي في حاجة أخيه المسلم‪ ،‬أو السعي لجل‬
‫اكتساب الرزق الحلل بنية حاضرة بأن يستغني عن‬
‫سؤال الناس‪ ،‬وأن يكسب ما يقوي بدنه على العمال‬
‫الصالحة‪ ،‬فتكون بذلك جميع أعماله وحركاته وسكناته‬
‫وثواب ًممن ل تنقص خزائنه‪ ،‬ول‬
‫ا‬ ‫لله‪ ،‬وينال عليها أجرا ً‬
‫يخيب سائله‪.‬‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬لماذا الكثار من ذكر الموت‬
‫وهو ينغص علينا سرور الحياة‪،‬ويلون عيشنا بالكآبة‪،‬‬
‫فنقول‪ :‬أليس السترسال في متاع الحياة الدنيا‬
‫مدعاة إلى أن ينسى النسان حظه من الدار‬
‫الخرة‪ ،‬وبالتالي ربما يؤدي به ذلك إلى الشقاء‬
‫البدي في عذاب النار والعياذ بالله‪ ،‬وذكر الموت‬
‫يقطع عليه ما هو فيه من انهماك كلي في مستنقع‬
‫الشهوات‪ ،‬وينبهه إلى أن وراءه يوم عظيم تشيب‬
‫لهوله الولدان‪ ،‬وبعد ذلك حياة طويلة‪ ،‬ل نهاية‬
‫لطولها هي التي يجب أن يعمل لها‪ ،‬ل هذه الحياة‬
‫الدنيا القصيرة التي يتحكم في سيرها البشر بما‬
‫فيهم من جهل وأنانية‪ ،‬وبذلك ينغصونها ويقضون‬
‫على ما فيها من جمال‪.‬‬
‫وهناك من قال‪ :‬إن السعادة ل تكون إل مع‬
‫الشهوات والنغماس في الملذات الجسدية‪ ،‬ولقد‬
‫نسي هؤلء سعادة النس بالله – سبحانه وتعالى –‬
‫التي ل تكون إل في الندماج بالعمال الصالحة‪،‬‬
‫مثل الصلة بخشوع وحضور قلب‪ ،‬وذكر الله‬
‫وقراءة القرآن‪.‬‬
‫لقد نسوا أن الدنيا تافهة وحقيرة وقصيرة‪،‬‬
‫ومهما كان فيها من متاع فهو زائل ل بقاء له وأن‬
‫السعادة الحقيقية التي ل منغص فيها إطلقا ً ل‬
‫تكون إل في الجنة‪ ،‬قال الله تعالى‪  :‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪139‬‬ ‫البـــاب‬
‫‪  ‬‬
‫الرابـع‬
‫‪‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪]   ‬سورة‬
‫العنكبوت‪.[64:‬‬
‫يقول ابن كثير في تفسير هذه الية‪:‬‬
‫‪$‬يخبر تعالى عن حقارة الدنيا‪ ،‬وزوالها‬
‫وانقضائها وإن غاية ما فيها لهو ولعب ‪ ‬‬
‫أي‬ ‫‪      ‬‬
‫‪ ‬‬
‫الحياة الدائمة التي ل زوال لها ول منغص فيها‬
‫وقوله تعالى‪   :‬‬
‫‪  ‬أي لثروا ما يبقى على ما‬
‫يفنى‪ ،(1)#‬فالدنيا هي الفانية والخرة هي الباقية‬
‫وينبغي للعاقل أن يختار الفضل والصلح دائما ً وإن‬
‫كان بعيدًا‪ ،‬ويترك الدنى والقل وإن كان قريبا ً‬
‫وعاج ً‬
‫ل‪.‬‬

‫‪ ()1‬تفسير ابن كثير )‪.(3/428‬‬


‫ضعف‬ ‫‪140‬‬
‫اليمان‬
‫‪‬‬
‫‪141‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬

‫الحفاظ على الفرائض والكثار من النوافل‬


‫ل شك أن المحافظة على الصلوات المكتوبة‬
‫في أوقاتها ومع الجماعة‪ ،‬من أهم المور التي تقوي‬
‫اليمان‪ ،‬وتزكي النفس‪ ،‬وتغسل عنها أوضار الكآبة‬
‫والتعاسة التي تصيب النسان بسبب ركضه الحثيثة‬
‫لحيازة حطام الدنيا الزائل‪.‬‬
‫والصلة هي الصلة بين العبد وبين ربه –‬
‫سبحانه وتعالى – فمن كانت صلته بربه وثيقة‪ ،‬نال‬
‫التوفيق والرضا من الخالق عز وجل‪ ،‬وأصبح من‬
‫أولياء الله‪ ،‬وانتفى عنه الخوف والحزن‪ ،‬لنه في‬
‫رعايته وحفظه قال تعالى ‪  ‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪        ‬‬
‫‪]       ‬سورة‬
‫يونس‪.[63-62:‬‬
‫وقد كان السلف الصالح‪ ،‬الذين طهرت أنفسهم‬
‫من رذائل الدنيا‪،‬‬
‫ل يجدون راحة أنفسهم‪ ،‬وسعادة قلوبهم‪ ،‬إل عندما‬
‫يقبلون على الصلة‪ ،‬لنهم يتجهون إلى رب‬
‫السموات والرض صاحب العظمة والعزة‪ ،‬فيصغر‬
‫في قلوبهم كل شيء سواه‪ ،‬وقد كان الرسول‬
‫الكريم – صلى الله عليه وسلم – يقول‪$ :‬أرحنا‬
‫بها يا بلل‪ #‬أي أرحنا بالصلة من هموم الدنيا‬
‫ومشاغلها‪.‬‬
‫وفي هذا الزمن الذي طغت فيه الماديات على‬
‫النواحي المعنوية والروحية‪ ،‬نجد هناك تقصيرا ً‬
‫ضعف‬ ‫‪142‬‬
‫اليمان‬
‫واضحا ً في المحافظة على الصلوات مع الجماعة‪،‬‬
‫وتقصيرا ً في الستعداد للصلة من أول وقتها‪ ،‬بحيث‬
‫يدرك المصلي تكبيرة الحرام‪ ،‬ويؤدي السنن‬
‫الرواتب في وقتها‪ ،‬فيصلي القبلية منها قبل‬
‫الفريضة‪ ،‬والبعدية بعدها بخشوع وتأدب مع الله‪،‬‬
‫ومن المجرب الذي ل يماري فيه أحد أن المحافظة‬
‫على الصلوات في أوقاتها من أهم أسباب زيادة‬
‫اليمان وانشراح الصدر‪ ،‬وكذلك التقصير في الصلة‬
‫من أهم أسباب ضعف اليمان‪.‬‬
‫ومادام المر كذلك فينبغي للعاقل أن يبذل‬
‫قصارى جهده في الحفاظ على الصلوات في‬
‫أوقاتها‪ ،‬فإنها لب سعادته في الدنيا والخرة‪ ،‬والمر‬
‫جد ل هزل فيه‪ ،‬وصدق ل مزاح فيه‪ ،‬فلم يبق إل‬
‫المسارعة إلى تحقيقه‪ ،‬والمبادرة إلى تنفيذه‪،‬‬
‫والمرء الموفق هو من يبادر من فوره إلى تنفيذ‬
‫المر الذي ينوي فعله‪ ،‬خاصة إذا كان من أمور‬
‫قُرب إلى الله سبحانه وتعالى‪ ،‬هكذا يفعل أصحاب‬ ‫ال ُ‬
‫العزائم الماضية‪ ،‬والنفوس التواقة إلى الجنة‪،‬‬
‫فالجنة غالية فل يستكثرأحد من أجلها شيء‪ ،‬ولذا‬
‫ينبغي للمسلم أن يشارط نفسه كل صباح؛ بأن‬
‫يكون هذا اليوم كله صلح وبر وتقوى لله – سبحانه‬
‫وتعالى – وأن الفرائض الخمس ستؤدي في أول‬
‫وقتها مع جماعة المسلمين‪ ،‬كما أمر الله عز وجل‪،‬‬
‫ويأخذ على نفسه العهود والمواثيق بأل يخل بهذا‬
‫العهد‪ ،‬وينبغي أن يحاسبها محاسبة شديدة في حالة‬
‫التقصير؛ لكي ل يتكرر هذا المر فيصاب بالحباط‬
‫واليأس من إصلح نفسه‪ ،‬فالنسان – ول شك –‬
‫بحاجة إلى سياسة نفسه ومحاسبتها ومداراتها حتى‬
‫‪143‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫تستقيم له على طريق الحق‪ ،‬وتذعن لمر الله‪ ،‬أما‬
‫إذا تركها على هواها متحررة من جميع الضوابط‪،‬‬
‫فإنها تقوده إلى جنهم قال تعالى‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪              ‬‬
‫‪                 ‬‬
‫‪         ‬‬
‫‪.      ‬‬
‫]سورة النازعات‪[39-39:‬‬
‫يقول المام أبو حامد الغزالي‪$ :‬فحتم على كل‬
‫ذي حزم آمن بالله واليوم الخر أل يغفل عن‬
‫محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها‬
‫وسكناتها وخطراتها وخطواتها‪ ،‬فإن كل نفس من‬
‫أنفاس العمر جوهرة نفيسة ل عوض لها‪ ،‬يمكن أن‬
‫يشتري بها كنزا ً من الكنوز ل يتناهى نعيمه أبد‬
‫الباد‪ ،‬فانقضاء هذه النفاس ضائعة أو مصروفة إلى‬
‫ما يجلب الهلك خسران عظيم ل تسمح به نفس‬
‫عاقل‪ ،‬فإذا أصبح العبد وفرغ من فريضة الصبح‬
‫ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطة النفس‪...‬‬
‫فيقول للنفس‪ :‬ما لي بضاعة إل العمر ومهما‬
‫فني فقد فني رأس المال‪ ،‬ووقع اليأس عن التجارة‬
‫وطلب الربح‪ ،‬وهذا اليوم قد أمهلني الله فيه؛‬
‫وأنسأ في أجلي‪ ،‬وأنعم علي به‪ ،‬ولو توفاني لكنت‬
‫أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوما ً حتى أعمل فيه‬
‫صالحًا؛ فاحسبي أنك قد توفيت‪ ،‬ثم قد رددت مرة‬
‫ثانية فإياك ثم إياك أن تضيعي هذا اليوم‪ ،‬فإن كل‬
‫نفس من النفاس جوهرة نفسية ل قيمة لها‬
‫فاغتنميها يا نفسي في عمل الصالحات‪.(1)#‬‬
‫والمطلوب من المسلم أن تكون هذه‬
‫المشارطة اليومية شاملة لفعل كل ما أمر الله به‪،‬‬

‫‪ ()1‬إحياء علوم الدين للغزالي )‪.(7-15/6‬‬


‫ضعف‬ ‫‪144‬‬
‫اليمان‬
‫والمتناع عن كل ما نهى الله عنه‪ ،‬ونحن هنا نخص‬
‫الصلة بالحديث لنها عمود الدين‪ ،‬وهي تعتبر من‬
‫أصعب التكاليف التي فرضها الله على المسلمين‬
‫لتكرارها في اليوم خمس مرات‪ ،‬ول أعني بذلك‬
‫أنها صعبة وشاقة‪ ،‬بل هي التكليف الوحيد الذي فيه‬
‫شيء من التعب البدني لمكان تكراره واستمراره‪،‬‬
‫علما ً أن هذا التعب في طاعة الله هو عين السعادة‬
‫والراحة النفسية عند أصحاب اليمان القوي وعباد‬
‫الله الصالحين‪.‬‬
‫ولذا ينبغي للمسلم أن يخص الصلة ببالغ‬
‫اهتمامه‪ ،‬فإنه إن حفظها استقامت جميع أموره‪،‬‬
‫وصلحت سائر أحواله‪ ،‬فهي الركن الثاني من أركان‬
‫السلم‪ ،‬وهي ملزمة للنسان في جميع أحواله؛ وإن‬
‫ضيعها فهو لما سواها أضيع‪ ،‬ومن المور التي تعين‬
‫المسلم على المحافظة على الصلوات في جماعة‬
‫المبادرة بالستعداد للصلة من أول وقتها‪ ،‬فأول ما‬
‫يسمع النداء عليه أن يترك ما بيده من عمل‪ ،‬ثم‬
‫يتوجه بقلبه ونفسه إلى الله سبحانه وتعالى‪ ،‬فإن هذا‬
‫مشعر ًبأن الوقت الذي بعده لله – سبحانه‬
‫ا‬ ‫النداء‬
‫وتعالى – وأن وراءنا حياة أخرى هي أهم وأعظم من‬
‫هذه الحياة‪ ،‬ينبغي أن نستعد لها‪ ،‬فل نستكثر هذا‬
‫الوقت القليل الذي ل يتجاوز نصف ساعة‪ ،‬وربما أقل‬
‫في غالب الحيان‪،‬قال وكيع بن الجراح ‪" :‬من لم‬
‫يأخذ أهبته للصلة قبل وقتها ؛ لم يكن وقرها ‪ ،‬ومن‬
‫تهاون بالتكبيرة الولى فأغسل يديك منه " يذكر أن‬
‫بعض الصالحين وكان يعمل حدادا ً – إذا رفع يده‬
‫بالمطرقة ثم سمع الذان أثناء الرفع ل يتم تلك‬
‫الضربة‪ ،‬بل يضع المطرقة ويبادر بالستعداد للصلة‪،‬‬
‫‪145‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫وهناك كثير من الصالحين يستعدون للصلة قبل‬
‫الذان‪ ،‬وعندما يرفع الذان يكونون في المساجد‪،‬‬
‫أولئك الذين قلوبهم معلقة بالخالق – سبحانه وتعالى‬
‫– ليس لهم هم إل عبادته‪ ،‬والستعداد ليوم العرض‬
‫والحساب‪ ،‬لذلك فهم ينتظرون الصلة بعد الصلة‪،‬‬
‫ولم تأنس أنفسهم بأن تشتغل بأي أمر في أوقات‬
‫الصلة‪ ،‬ول يجدون في النشغال عن الصلة إل‬
‫الشقاء والقلق‪ ،‬لنهم يعظمون شعائر الله في‬
‫أنفسهم قال تعالى‪     :‬‬
‫‪   ‬‬ ‫‪       ‬‬ ‫‪     ‬‬
‫‪]       ‬سورة الحج‪.[32:‬‬
‫إنهم قوم عرفوا الله – سبحانه وتعالى – ووقر‬
‫في أنفسهم عظمته وجلله ومهابته وخوفه ورجاؤه‪،‬‬
‫فكيف ل يهّبون استجابة لندائه أول ما يسمعونه‪ ،‬أو‬
‫قبل أن يسمعوه‪ ،‬فهنيئا ً لهم رضا الله عنهم وتوفيقه‬
‫لهم‪ ،‬ول شك أن من أعظم النعم على المسلم أن‬
‫يرزق حب الطاعات‪ ،‬والستمتاع بأدائها وخاصة‬
‫الصلة‪ ،‬فقد كان الصحابة والسلف الصالح يهربون‬
‫من هموم الدنيا ومشاكلها إلى الصلة‪ ،‬لنهم إذا‬
‫شرعوا في الصلة ينسون كل شيء فع ً‬
‫ل‪ ،‬وتبدأ‬
‫قلوبهم ونفوسهم في التجاه الكلي نحو الخالق –‬
‫سبحانه وتعالى – ل يفكرون في شيء سواه‪ ،‬ول‬
‫يلتفتون إلى أمر غيره‪ ،‬وهم بذلك يحققون أعظم‬
‫ركن من أركان الصلة وهو الخشوع في الصلة‬
‫الذي يعتبر جوهر الصلة وثمرتها‪ ،‬فبه يحصل‬
‫التصال الروحي بالله – سبحانه وتعالى – في‬
‫سماواته‪ ،‬وبه يصفو القلب وتطهر النفس من أدران‬
‫الدنيا‪ ،‬فتتحقق عند ذلك المنافع الكثيرة للمصلي‬
‫في الدنيا والخرة‪ ،‬في الخرة بالقبول والفوز‬
‫بالجنة‪ ،‬وفي الدنيا بالسعادة والراحة النفسية‪،‬‬
‫والسلمة من الهموم والحزان‪ ،‬ومن أهم ما يعين‬
‫المسلم على الخشوع في صلته ثلثة أمور‪:‬‬
‫ضعف‬ ‫‪146‬‬
‫اليمان‬
‫‪ -1‬حضور القلب أثناء الصلة ول يكون ذلك إل‬
‫بالمجاهدة في طرد جميع الفكار‬
‫والوساوس والمشاغل من القلب وتفريغه‬
‫تماما ً لداء هذه الشعيرة العظيمة يقول‬
‫المام الغزالي‪$ :‬فأعلم أن حضور القلب‬
‫سببه الهمة‪ ،‬فإن قلبك تابع لهمتك فل يحضر‬
‫إل فيما يهمك‪ ،‬ومهما أهمك أمر حضر‬
‫القلب فيه شاء أم أبى؛ فهو مجبول على‬
‫ذلك ومسخر فيه‪ ،‬والقلب إذا لم يحضر في‬
‫الصلة لم يكن متعطل ً بل جائل ً فيما الهمة‬
‫مصروفة إليه من أمور الدنيا‪ ،‬فل حيلة ول‬
‫علج لحضار القلب إل بصرف الهمة إلى‬
‫الصلة‪ ،‬والهمة ل تنصرف إليها ما لم يتبين‬
‫أن الغرض المطلوب منوط بها‪ ،‬وذلك هو‬
‫اليمان والتصديق بأن الخرة خير وأبقى‪،‬‬
‫وأن الصلة وسيلة إليها‪ ،‬فإذا أضيف هذا إلى‬
‫حقيقة العلم بحقارة الدنيا ومهانتها حصل‬
‫من مجموعها حضور القلب في الصلة‪. #‬‬
‫)‪(1‬‬

‫‪ -2‬التدبر والتفهم فيما يقرأ المصلي من اليات‬


‫فهو أمر وراء حضور القلب‪ ،‬وهو مساعد‬
‫ومعين على حضور القلب‪ ،‬فإذا تنبه‬
‫المصلي لمعاني الكلم الذي يقرأه كان ذلك‬
‫طاردا ً لي وساوس أو أفكار أخرى‪ ،‬فعندما‬
‫يقول‪ :‬الله أكبر مفتتحا ً بها صلته فينبغي أن‬
‫يتأمل معنى هذه الكلمة العظيمة فإن الله‬
‫أكبر من كل شيء‪ ،‬أكبر من الدنيا‪ ،‬أكبر من‬
‫المال والولد والزوجة والقصور وكل هذه‬
‫المور التي ينصرف الذهن غالبا ً نحوها‬
‫شاردا ً من الصلة‪.‬‬

‫‪ ()1‬المستخلص في تزكية النفس‪ ،‬سعد حوي )‪ (28/29‬نقل ً عن‬


‫الحياء للغزالي‪.‬‬
‫‪147‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫‪$‬فإذا قلت )بسم الله الرحمن الرحيم( فْانوِ به‬
‫التبرك لبتداء القراءة لكلم الله – سبحانه وتعالى‬
‫– وأفهم أن المور بالله سبحانه‪.‬‬
‫وإذا قلت ‪$‬الحمد لله‪ ،‬فمعناه أن الشكر لله إذ‬
‫النعم من الله‪ ،‬فهو المنعم المتفضل على خلقه‪.‬‬
‫فإذا قلت‪$ :‬الرحمن الرحيم‪ #‬فأحضر في‬
‫قلبك أنواع لطفه تتضح لك رحمته‪ ،‬فينبعث بها‬
‫رجاؤك‪.‬‬
‫ثم استثر من قلبك التعظيم والخوف بقوله‬
‫‪      ‬‬ ‫‪‬‬‫تعالى‪   :‬‬
‫أما العظمة فلنه ل ملك إل له‪ ،‬وأما الخوف فلهول‬
‫يوم الجزاء والحساب الذي هو مالكه‪.‬‬
‫ثم جدد الخلص بقولك ‪ ‬‬
‫‪  ‬وجدد العجز والحتياج والتبروء‬
‫من الحول والقوة بقولك ‪   ‬‬
‫‪   ‬وتحقق أنه ما تيسرت‬
‫طاعتك إل بإعانته‪ ،‬وأن له المنة إذ وفقك لطاعته‬
‫واستخدمك لعبادته وجعلك أهل ً لمناجاته‪ ،‬ولو‬
‫حرمك التوفيق لكنت من المطرودين مع الشيطان‬
‫اللعين‪.‬‬
‫ثم إذا فرغت من التعوذ ومن قولك ‪$‬بسم الله‬
‫الرحمن‪ #‬ومن التحميد‪ ،‬ومن إظهار الحاجة إلى‬
‫العانة مطلقًا؛ فعين سؤالك ول تطلب إل أ هم‬
‫حاجاتك وقل ‪     ‬‬
‫‪    ‬الذي يسوقنا إلى جوارك‬
‫ويفضي بنا إلى مرضاتك‪ ،(1)#‬وهكذا ينبغي أن يكون‬
‫تدبرك وحضور ذهنك لجميع ما تقرأ في صلتك‪ ،‬فبه‬
‫‪ ()1‬انظر المصدر السابق ص )‪.(46-45‬‬
‫ضعف‬ ‫‪148‬‬
‫اليمان‬
‫يحصل الخشوع والخضوع لله – سبحانه وتعالى –‬
‫وتتحقق الثمرة المرجوة من الصلة‪ ،‬وهي القبول‬
‫والفوز برضا الله عز وجل ثم الراحة النفسية‬
‫والسعادة في الدنيا‪.‬‬
‫‪ -3‬استحضار عظمة وهيبة من تقف بين يديه‬
‫وهو الله – سبحانه وتعالى – الذي خلق هذا‬
‫الكون العظيم الهائل‪ ،‬وقدر بحكمته كل ما‬
‫يجري فيه صغيرة وكبيرة ‪$‬وتعظيم الله‬
‫حالة للقلب تتولد من معرفتين‪ ،‬إحداهما‬
‫معرفة جلل الله عز وجل وعظمته وهو من‬
‫أصول اليمان‪ ،‬فإن من ل تعتقد عظمته ل‬
‫تذعن النفس لتعظيمه‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬معرفة حقارة النفس وخستها وكونها‬
‫عبدا ً مسخرا ً مربوبا ً حتى يتولد من المعرفتين‬
‫الستكانة والنكسار والخشوع لله سبحانه فيعبر‬
‫عنه بالتعظيم‪ ،‬وما لم تمتزج معرفة حقارة النفس‬
‫بمعرفة جلل الله ل تنتظم حالة التعظيم والخشوع‬
‫فإن المستغني عن غيره‪ ،‬المن على نفسه يجوز‬
‫أن يعرف من غيره صفات العظمة‪ ،‬ول يكون‬
‫الخشوع والتعظيم حاله‪ ،‬لن القرينة الخرى وهي‬
‫معرفة حقارة النفس وحاجتها لم تقترن إليه‪.‬‬
‫وأما الهيبة والخوف من الله فحالة أخرى‬
‫للنفس تتولد من المعرفة بقدرة الله وسطوته‬
‫ونفوذ مشيئته في خلقه‪ ،‬وأنه لو أهلك الولين‬
‫والخرين لم ينقص ذلك من ملكه ذرة‪ ،‬هذا مع‬
‫مطالعة ما يجري على النبياء والولياء من‬
‫المصائب وأنواع البلء مع عدم القدرة على الدفع‪،‬‬
‫وبالجملة كلما زاد العلم بالله زادت الخشية والهيبة‬
‫‪149‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫له‪. #‬‬
‫)‪(1‬‬

‫هذا ما يتعلق بدور الحفاظ على الفرائض وأثر‬


‫ذلك في زيادة اليمان والستقامة على طاعة‬
‫الرحمن‪ ،‬وهناك رافد مهم جدا ً في هذا الشأن هو‬
‫الكثار من النوافل‪ ،‬وأخص نوافل الصلوات مثل‬
‫قيام الليل‪ ،‬وصلة الضحى‪ ،‬وركعتي الوضوء‪،‬‬
‫وركعتي الشراق وركعتي الطواف وغير ذلك‪،‬‬
‫فينبغي للمسلم أن يكثر من صلة النافلة لما في‬
‫ذلك من الجر العظيم‪ ،‬وتطهير النفس من الرذائل‬
‫والخطايا وزيادة اليمان الذي يعد أهم المطالب لدى‬
‫المسلم‪ ،‬وقد وردت نصوص كثيرة في الحث على‬
‫نوافل الصلوات منها‪ :‬قال تعالى مادحا ً من يقوم‬
‫الليل‪    :‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪] ‬سورة الذاريات‪،[18-16:‬‬
‫وقال تعالى‪  :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪]  ‬سورة‬
‫السجدة‪.[17-16:‬‬
‫وقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – ‪$ :‬ما‬
‫من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم‬
‫ثنتي عشرة ركعة تطوعا ً غير الفريضة‪ ،‬إل‬

‫‪ ()1‬المصدر السابق )‪.(39‬‬


‫ضعف‬ ‫‪150‬‬
‫اليمان‬
‫بنى الله له بيتا ً في الجنة‪ #‬رواه مسلم‪.‬‬
‫وفي الحث على صلة الضحى والوتر قال –‬
‫عليه السلم – في الحديث الذي رواه أبو هريرة –‬
‫رضي الله عنه – ‪$ :‬أوصاني خليلي – صلى الله عليه‬
‫وسلم – بصيام ثلثة أيام من كل شهر‪ ،‬وركعتي‬
‫الضحى‪ ،‬وأن أوتر قبل أن أرقد‪ #‬متفق عليه‪.‬‬
‫وقال عليه السلم في الحث على قيام الليل‪:‬‬
‫‪$‬إن في الليل لساعة ل يوافقها عبد مسلم‪،‬‬
‫يسأل الله خيرا ً من أمر الدنيا والخرة إل‬
‫أعطاه إياه‪ #‬رواه مسلم‪.‬‬
‫وقال – صلى الله عليه وسلم – ‪$ :‬عليكم‬
‫بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم‪،‬‬
‫وهو قربة إلى ربكم‪ ،‬ومكفرا ً للسيئات‪،‬‬
‫ومنهاة عن الثم‪ #‬رواه الحاكم‪.‬‬
‫والنصوص في صلة التطوع أكثر من أن تحصى‬
‫وكثرتها تدل على الهمية البالغة لهذا المر‪ ،‬لما فيه‬
‫من أجر وثواب‪ ،‬وتزكية للنفس‪ ،‬وتقوية لليمان‬
‫وراحة نفسية بالنس بالله‪ ،‬والستمتاع بمناجاته –‬
‫سبحانه وتعالى – اسمع إلى أحد السلف الصالح‬
‫يصف سعادته بقيام الليل‪$ :‬يقول‪ :‬أبو سليمان‬
‫الداراني‪ :‬والله لول قيام الليل ما أحببت الدنيا‪ ،‬والله‬
‫إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في‬
‫لهوهم‪ ،‬وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طربا ً‬
‫بذكر الله فأقول‪ :‬إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا‬
‫فيه من النعيم إنهم لفي عيش طيب ونعيم‬
‫عظيم‪.(1)#‬‬
‫‪ ()1‬المور الميسرة لقيام للشيخ وحيد عبدالسلم بالي )‪.(37-36‬‬
‫‪151‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫وقيام الليل يعتبر أفضل التطوع المطلق ‪$‬لنه أبلغ‬
‫في السرار‪ ،‬وأقرب إلى الخل ص‪ ،‬ولنه وقت غفلة‬
‫النا س‪ ،‬ولما فيه من إيثار الطاعة على الراحة‬
‫والنوم‪.(1)#‬‬

‫‪ ()1‬المخلص الفقهي للشيخ صالح الفوزان )‪.(1/127‬‬


‫ضعف‬ ‫‪152‬‬
‫اليمان‬
‫‪153‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬

‫التفكر في مخلوقات الله‬


‫الفكر والتأمل في مخلوقات الله يعتبر من أهم‬
‫المور التي تقوي اليمان وتطرد وساوس‬
‫الشيطان‪ ،‬فإن من خلق هذا الكون الهائل العظيم‬
‫بما فيه من كائنات عديدة مختلفة‪ ،‬وزّوده بأنظمة‬
‫في غاية الروعة والتقان والعجاز؛ لهو إله عظيم‬
‫قادر تعجز الكلمات عن وصف كماله‪ ،‬وتحار العقول‬
‫عن إدراك جلله؛ فهو وحده المستحق للعبادة‬
‫والتعظيم‪ ،‬فيا فوز من باشر اليمان بالله قلبه‪،‬‬
‫واطمأنت بتعاليم الرحمن نفسه‪ ،‬فتفرغ لعبادة ربه‪،‬‬
‫وسعى في فعل أوامره وجاهد نفسه في ترك‬
‫نواهيه‪.‬‬
‫وسنتحدث في هذا المبحث بالتفصيل عن بعض‬
‫المخلوقات التي تبين قدرة الله – سبحانه وتعالى –‬
‫وعجيب صنعه‪ ،‬ول شك أن كل ما يراه النسان‬
‫ويلمسه من مخلوقات في هذا الكون العظيم لهي‬
‫دليل على عظمة الله – سبحانه وقدرته ووجوده –‬
‫لمن يشك في ذلك‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬
‫فوا عجبا ً كيف‬
‫جـ‬

‫وكيف يجحده الجاحد‬


‫تدل على أنه واحد‬ ‫يعصى الله‬
‫وفي كل شيء له‬
‫آية‬

‫ول شك أن التأمل العميق في هذه المخلوقات‬


‫يقوي اليمان بالله – سبحانه وتعالى – ويشرح صدر‬
‫ضعف‬ 154
‫اليمان‬
‫المسلم للنقياد لوامر الله التي بها سعادته في‬
   :‫الدنيا والخرة قال تعالى‬
   
   
    

      
    
   
 
   
  
  
    
.[191-190 :‫]سورة آل عمران‬ 

   $ :‫قال ابن كثير في تفسيره‬


 
‫ أي هذه في ارتفاعها‬ 
‫ وما فيهما‬،‫ وهذه في انخفاضها وكثافتها‬،‫واتساعها‬
‫ من سيارات وثوابت‬،‫من اليات المشاهدة العظيمة‬
‫وبحار وقفار وحيوان ونبات ومعادن ومنافع‬
 ‫مختلفات الطعوم واللوان والروائح‬
‫ أي‬         
‫تعاقبهما وتعارضهما من طول وقصر واعتدال وكل‬
 :‫ذلك تقدير العزيز العليم؛ ولهذا قال تعالى‬
  
‫التامة الزكية‬ ‫ أي العقول‬ 
‫ وليس الصم البكم الذين‬،‫التي تدرك حقائق الشياء‬
:‫ الذين قال الله فيهم‬،‫ل يعقلون‬
     
 
  
.  
[105:‫]سورة يوسف‬
‫‪155‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫ثم قال تعالى‪  :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬أي يفهمون ما فيها من‬
‫الحكم الدالة على عظمة الخالق وعلمه وحكمته‬
‫واختياره ورحمته‪.‬‬
‫قال سفيان بن عيينه‪ :‬الفكرة نور يدخل قلبك‪.‬‬
‫وربما تمثل بهذا البيت‪:‬‬
‫ففي كل شيء له‬ ‫إذا المرء كانت له‬
‫عبرة‬ ‫فكرة‬

‫وعن ابن عباس‪ ،‬أنه قال‪ :‬ركعتان مقتصدتان‬


‫في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه‪.‬‬
‫وكان ا بن عمر إذا أراد أن يتعهد قلبه؛ يأتي‬
‫الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين قائ ً‬
‫ل‪:‬‬
‫أين أهلك؟‬
‫ثم يرجع إلى نفسه فيقول‪$ :‬كل شيء هالك إل‬
‫وجهه‪.#‬‬
‫وقال الحسن عن عامر بن عبدالقيس‪ :‬سمعت‬
‫غير واحد ول اثنين ول ثلثة من أصحاب محمد –‬
‫عليه السلم – يقولون‪$ :‬إن ضياء اليمان أو نور‬
‫اليمان هو التفكر‪.(1)#‬‬
‫هذا وهناك نصوص أخرى تحث على التأمل‬
‫والتفكر في مخلوقات الله – سبحانه وتعالى –‬
‫وآياته‪ ،‬وما ذلك إل لما في هذا التأمل من فوائد‬
‫جمة‪ ،‬أهمها زيادة اليمان والوصول إلى اليقين‬
‫التام الذي ينتفي معه أي شك‪ ،‬فالنسان الذي‬
‫يتأمل هذا الكون العظيم وما فيه من السموات‬
‫‪ ()1‬تفسير ابن كثير )‪.(342-1/341‬‬
‫ضعف‬ ‫‪156‬‬
‫اليمان‬
‫الصافية‪ ،‬والنجوم اللمعة‪ ،‬والبحار المتلطمة‪،‬‬
‫والجبال الشاهقة‪ ،‬والسهول الخضراء‪ ،‬والمخلوقات‬
‫المختلفة التي تفوق الحصر‪ ،‬ل شك أنه سيفكر في‬
‫خالق كل هذه الشياء‪ ،‬الذي أحسن خلقها‪ ،‬ومن ثم‬
‫يزداد يقينه وإيمانه بهذا الخالق العظيم ‪.‬‬
‫هذا وقد أثبتت التقنية الحديثة والكشوفات‬
‫الفلكية أن هذا الكون عظيم ومدهش بدرجة ل‬
‫تصدق حيث ‪$‬يدلنا علم الفلك على أن عدد نجوم‬
‫السماء مثل ذرات الرمال الموجودة على سواحل‬
‫البحار في الدنيا كلها‪ ،‬منها ما هو أكبر بقليل من‬
‫الرض‪ ،‬ولكن أكثرها كبير جدًا‪.‬‬
‫إن كوننا هذا فسيح جدًا‪ ،‬ولكي نفهمه نتصور‬
‫طائرة خيالية تسير بسرعة ‪ 186000‬ميل ً في‬
‫الثانية وأن هذه الطائرة الخيالية تطوف بنا حول‬
‫الكون‪ .‬كم ترى تستغرق هذه الرحلة؟!‬
‫إنها تستغرق ‪ 1.000.000.000‬سنة!!‪.(1)#‬‬
‫إن جميع هذه النجوم والكواكب الهائلة العدد‪،‬‬
‫تسبح في هذا الكون الفسيح منذ مليين السنين‬
‫ومع ذلك لم يختل توازنها لحظة واحدة فضل ً عن‬
‫أن يصدم بعضها بعضًا‪ ،‬بل إنها محافظة على‬
‫المسافة التي بينها محافظة دقيقة‪ ،‬فإن هذه‬
‫المسافة لو اختلت لحدث في الكون كوارث عديدة‪،‬‬
‫فمثل ً لو أن الشمس اقتربت من الرض أكثر مما‬
‫هي عليه الن لزادت درجة الحرارة وربما تحترق‬
‫الرض‪ ،‬ولو أنها ابتعدت أكثر مما هي عليه الن‬
‫لتجمدت الرض من البرودة ومات جميع الحياء‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن جميع ما بهذا الكون الفسيح من‬
‫كواكب ونجوم كثيرة العدد تتحرك وتسير بدقة‬
‫‪ ()1‬السلم يتحدى – وحيد الدين خان )‪.(56‬‬
‫‪157‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫عجيبة‪ ،‬ونظام متقن‪ ،‬وكل حركة لها هدف معلوم‬
‫وليست عبثا ً فمثل ً الرض لها حركتان‪:‬‬
‫ل‪ :‬هي تدور حول نفسها في حركة مغزلية‬ ‫أو ً‬
‫بسرعة ‪1000‬ميل في الساعة لمدة ‪ 24‬ساعة‪،‬‬
‫فينتج عن هذا الدوران الليل والنهار‪ ،‬وكلنا يعلم ما‬
‫في الليل والنهار من منافع شتى لجميع الحياء‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬هي تدور حول الشمس بسرعة ‪ 65‬ألف‬
‫ميل في الساعة‪ ،‬وتكمل دورتها هذه خلل سنة‬
‫كاملة ‪ 365‬يوم‪ ،‬وينتج عن ذلك الفصول الربعة‪:‬‬
‫الربيع والشتاء والصيف والخريف‪ ،‬وكلنا يعلم ما في‬
‫ذلك من منافع مثل نزول المطار وغيرها‪.‬‬
‫يلحظ أن السرعة الهائلة التي تيسر بها الرض‬
‫في دورانها حول الشمس ‪ 65‬ألف ميل في‬
‫الساعة‪ ،‬كما أثبتت ذلك المراصد الفلكية الحديثة‪،‬‬
‫ومع ذلك فإنها ل تكمل دورتها حول الشمس إل بعد‬
‫سنة كاملة)‪ (1‬فعلى ماذا تدل هذه الدقة البالغة ؟‬
‫إنها تدل على التساع الهائل لهذا الكون!‬
‫والمدهش حقا ً أن سكان الرض ل يحسون‬
‫بأدنى حركة مع هذه السرعة الشديدة‪ ،‬فالجميع‬
‫ينام ملء جفنيه في هدوء وسكينة‪ ،‬ول يعلم أن‬
‫الرض تتحرك في الفضاء الهائل بهذه السرعة‬
‫المدهشة!‬
‫وذلك مصداق قوله تعالى‪  :‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪] ‬سورة النمل‪ ،[88:‬فسبحان الخالق‬
‫العظيم الذي جعل هذه الرض قرارا ً وراحة لعباده‬
‫حيث ل يزعجهم مرورها وسيرها الهائل في‬
‫‪ ()1‬انظر قصة اليمان بين الفلسفة والعلم والقرآن للشيخ نديم‬
‫الجسر )‪.(320‬‬
‫ضعف‬ ‫‪158‬‬
‫اليمان‬
‫الفضاء‪ ،‬وعلماء الفلك يردون هذا المر إلى قانون‬
‫الجاذبية فالرض تمسك كل شيء وتجذبه إليها‪ ،‬فل‬
‫يتناثر في الفضاء الهائل المحيط بالرض‪ ،‬وبفضل‬
‫هذا القانون فل يحس أحد بأنه فوق أو تحت‪ ،‬علما ً‬
‫أن الرض تشبه الكرة أو تشبه البيضة‪ ،‬فالكرة مثل ً‬
‫ل يستقر عليها شيء من الجهة السفلى‪ ،‬بل يسقط‬
‫إلى الرض‪ .‬فسبحان من خلق هذا القانون العظيم‬
‫الذي به تمسك الرض كل ما عليها من كائنات حية‬
‫ومياه وهواء‪.‬‬
‫إذن عليك أيها المسلم أن تكثر التأمل في هذا‬
‫الكون الذي لست إل ذرة من ذراته‪ ،‬عليك أن‬
‫تتأمل فيه وفي دقة نظامه‪ ،‬وعجيب صنعه‪ ،‬وبذلك‬
‫ستعرف خالقه حق المعرفة‪ ،‬وإذا عرفت الله حق‬
‫ظمت شعائره‪ ،‬وخفت مقامه‪ ،‬قال‬ ‫المعرفة؛ ع ّ‬
‫تعالى‪    :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪]  ‬سورة فاطر‪.[28:‬‬
‫وإذا أردت أن تزداد من التأمل في مخلوقات الله‬
‫ليزداد إيمانك‪ ،‬وتزكو نفسك‪ ،‬ويباشر اليقين قلبك؛‬
‫فهناك ما هو أقرب مما ذكرنا‪ ،‬إنها نفسك أيها‬
‫النسان وبدنك‪ ،‬قال‪ -‬تعالى‪ -‬حاثا ً على التأمل‬
‫والفكر والنظر‪  :‬‬
‫‪  ‬‬
‫إن في‬ ‫‪]   ‬سورة الذاريات‪[21:‬‬
‫جسم النسان نظاما ً عجيبا ً ومدهشا ً تحار منه‬
‫العقول‪ ،‬حتى أن بعض العلماء يشبه ما بجسم‬
‫النسان من النسجة والخليا والوردة والعصب‬
‫بنظام الدولة القوية التي لها جيشها وموظفوها‬
‫ومصانعها‪ ...‬إلى آخره‪ ،‬فيقول أن هناك من‬
‫النسجة والخليا مثل كرات الدم البيضاء وغيرها‬
‫مهمتها الدفاع عن الجسم ضد العدو الخارجي فهي‬
‫‪159‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫بمثابة الجيش‪ ،‬فإذا ما غزت الجسم الفيروسات‬
‫والجراثيم‪ ،‬أو أصيب ببعض الجروح‪ ،‬تحركت فورا ً‬
‫تلك الكتائب للدفاع عن الجسم ضد هذا العدوان‪،‬‬
‫وهناك من الخليا والعروق والنسجة ما مهمته نقل‬
‫الطعام وتوزيعه إلى سائر أنحاء الجسم‪ ،‬بعد أن‬
‫يتحول إلى مادة سائلة ليسهل نقله‪ ،‬وهناك مصانع‬
‫متخصصة في استقبال الطعام‪ ،‬ومعالجته حتى‬
‫يتحول من مادة صلبة بعض الشيء إلى مادة سائلة‬
‫ينتفع بها الجسم‪ ،‬وهناك مصنع خاص بتجميع‬
‫المخلفات التي ل ينتفع بها الجسم لتطرد إلى‬
‫خارجه‪ ...‬إلى آخره فسبحان الخلق العظيم‪.‬‬
‫ونحن عندما نشاهد بعض هذه اللت التي صنعها‬
‫البشر‪ ،‬ونرى ما فيها من تروس وأسلك ومواسير‬
‫ومسامر وصواميل بعضها يأخذ برقاب بعض‪ ،‬لتؤدي‬
‫في النهاية إلى أن تعمل هذه اللة بدقة عجيبة؛‬
‫عندها ننبهر بهذا التقان‪ ،‬وتأخذنا الدهشة!ونشعر‬
‫بالعجاب والتقدير لمن صنع هذه اللة‪ ،‬وننسبه إلى‬
‫الذكاء الخارق والحكمة البالغة‪ ،‬وننسى في الوقت‬
‫نفسه الصانع الكبير والخالق العظم الذي خلق هذا‬
‫العبقري ويسر له العمل في هذا المجال‪ ،‬وننسى‬
‫في الوقت نفسه أن في أبداننا أعجب وأدق من‬
‫أسلك ومواسير هذه اللة التي سرعان ما تدركها‬
‫الشيخوخة‪ ،‬وتبدأ العطال تسري في جرمها ‪ ،‬ولكن‬
‫ما صنعه الله قد يستمر أحيانا ً نحو مائة سنة دون أن‬
‫يصاب بأي عطل‪ ،‬أو يتوقف عن العمل‪ ،‬أما هذه‬
‫اللت فأجودها وأفضلها الذي يستمر عشر سنوات‬
‫يعمل بدون أعطال‪.‬‬
‫ولكي تتضح الصورة أكثر فسأنقل لكم ما كتبه‬
‫أحد العلماء الفذاذ في هذا المجال وهو الستاذ‬
‫ضعف‬ ‫‪160‬‬
‫اليمان‬
‫وحيد الدين خان في كتابه ‪$‬السلم يتحدى‪ #‬حيث‬
‫قال‪$ :‬أننا نتحير إذا رأينا النظام المعقد لسلك‬
‫التلفون‪ ،‬ونتحير إذا وجدنا أن مكالمة من لندن إلى‬
‫ملبورن باستراليا تتم في بضع ثوان‪ ،‬فإذا كان تعقيد‬
‫نظام أسلك التلفون يوقعنا في هذه الحيرة؛ فما‬
‫بالنا بنظامنا العصبي‪ ،‬وهو أوسع من هذا النظام‬
‫وأشد تعقيدًا؟ إن مليين الخبار تجري على أسلك‬
‫نظامنا العصبي الذي أوجده الله – سبحانه وتعالى‬
‫– من جانب إلى آخر‪ ،‬وهذه الخبار هي التي توجه‬
‫القلب في تدفقها وفي حركتها‪ ،‬وتتحكم في حركات‬
‫العضاء المختلفة‪ ،‬وتتحكم في الحركات الرئوية‬
‫ولو لم يكن هذا النظام موجودا ً في أجسامنا‬
‫لصارت الجسام تلفيقا ً لشياء مبعثرة تسلك كل‬
‫منها مسلكها الخاص‪ ،‬ومركز هذا النظام‬
‫للمواصلت مخ النسان وفي هذا المخ يوجد ألف‬
‫مليون خلية عصبية‪ ،‬ومن كل هذه الخليا تخرج‬
‫أسلك تنتشر في سائر الجسم‪ ،‬وتسمى هذه‬
‫السلك )النسجة العصبية( وفي هذه النسجة‬
‫يجري نظام استقبال وإرسال للخبار بسرعة‬
‫سبعين ميل ً في الساعة‪ ،‬وبواسطة هذه النسجة‬
‫نتذوق ونسمع ونرى‪ ،‬ونباشر أعمالنا‪ ،‬بل أن هناك‬
‫ثلثة آلف من الشعيرات المتذوقة ولكل منها سلك‬
‫عصبي خاص متصل بالمخ‪ ،‬وبواسطة هذه‬
‫الشعيرات نحس بالمذاقات المختلفة‪ ،‬وتوجد في‬
‫الذن عشرة آلف خلية سمعية‪ ،‬ومن خلل نظام‬
‫معقد يسري من هذه الخليا ]الصوت[ ويسمع‬
‫المخ‪.‬‬
‫وفي كل عين مائة وثلثون مليون من الخليا‬
‫‪161‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫الملتقطة للضوء‪ ،‬وتقوم بمهمة إرسال المجموعة‬
‫التصويرية إلى المخ‪.‬‬
‫وهناك شبكة من النسجة الحسية على امتداد‬
‫جلدنا فإذا قربنا إلى الجلد شيئا ً حارًا؛ فإن ثلثين‬
‫ألفا ً من الخليا المتلقطة للحرارة تحس بهذه‬
‫العملية وترسلها إلى المخ فورًا‪ ،‬فإذا قربنا إلى‬
‫الجلد شيئا ً باردًا؛ فإن ربع مليون من الخليا التي‬
‫تلتقط الشياء الباردة تحس به؛ وعندئذ يمتلئ المخ‬
‫بأثرها‪ ،‬ويرتعد الجسم‪ ،‬وتتسع الشرايين الجلدية‪،‬‬
‫فيسرع مزيد من الدم إليها ويزودها بالحرارة وإذا‬
‫أحست هذه الخليا بحرارة شديدة فإن مخابرات‬
‫الحرارة توصلها إلى الدماغ‪ ،‬وحينئذ تفرز ثلثة‬
‫مليين من الغدد العرقية – تلقائيا ً – عرقا ً باردا إلى‬
‫ً‬
‫خارج الجسم‪.(1)#‬‬
‫وهذه أبيات للفقيه الزاهد العز بن عبدالسلم‬
‫يتحدث فيها عن عجائب قدرة الله‪ ،‬وبديع أسراره‬
‫في جسم النسان فيقول‪:‬‬
‫فشخصك لوح به‬ ‫إذا كنت تقرأ علم‬
‫أسطر‬ ‫الحروف‬
‫لكل الوجود لمن‬ ‫وتمثال ذلك أنموذج‬
‫يبصر‬ ‫حروف معانيك ل‬
‫لذي الجهل كل‪ ،‬ول‬ ‫تنجلي‬
‫تظهر‬ ‫ومن يك غرا ً‬
‫فمعروفها عنده‬ ‫بأسرارها‬
‫منكر‬ ‫إذا كان جسمك‬
‫ففيك انطوى العالم‬ ‫صغيرا ً‬
‫الكبر‬ ‫فل ذرة منك إل‬
‫بها يوزن الكون بل‬ ‫غدت‬
‫‪ ()1‬السلم يتحدى – وحيد الدين خان )‪.(60-59‬‬
‫ضعف‬ ‫‪162‬‬
‫اليمان‬
‫أكثر‬ ‫ول قطرة منك إل‬
‫ينابيع أسرارها أبحر‬ ‫وفي‬
‫إليك فذاك هو‬ ‫وكل الوجود إذا‬
‫الصغر‬ ‫قسته‬
‫يزول وأنت به جوهر‬ ‫وما فيه من عرض‬
‫وما في وجودك ل‬ ‫حاضر‬
‫يحصر‬ ‫فأنت الوجود وكل‬
‫الوجود‬

‫ول شك أن هذا الموضوع واسع ومتشعب تعجز‬


‫عن الحاطة بجميع أسراره وخفاياه المجلدات‬
‫الضخمة! ونحن هنا ل نريد الطالة في هذا الفصل‬
‫حتى ل يزيد حجمه عن بقية الفصول الخرى‪،‬‬
‫ويكفي من القلدة ما أحاط بالعنق‪.‬‬

‫‪‬‬
‫‪163‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫ضعف‬ ‫‪164‬‬
‫اليمان‬

‫استشعار عظمة الله تعالى‬


‫ل شك أن استشعار عظمة الخالق – سبحانه‬
‫وتعالى – في نفس المسلم تعد من أهم المور‬
‫التي تقوي اليمان بالله‪ ،‬وتغمر النفس بالطمأنينة‬
‫والسعادة‪.‬‬
‫والسعيد – والله من وقر في نفسه تعظيم ربه‬
‫الجليل الذي خلقه‪ ،‬وخلق السموات والرض وهو‬
‫خالق كل شيء‪.‬‬
‫فإذا لم يعظم النسان ربه الذي أوجده من‬
‫العدم فمن يعظم؟!‬
‫وإذا لم يهاب المسلم موله الذي تكفل برزقه‬
‫وحمايته منذ أن كان طفل ً ل حول له ول قوة إلى‬
‫أن بلغ أشده فمن يهاب؟! ول شك أن نظرة يسيره‬
‫من العاقل في آيات الله المتلوه‪ ،‬ثم آياته‬
‫المشهودة‪ ،‬لهي جديرة بأن يقشعر لها بدنه‪ ،‬وتذعن‬
‫لها روحه‪ ،‬وتنبهر نفسه بعظمة الخالق الكريم الذي‬
‫خلق كل شيء فأحسن خلقه‪.‬‬
‫‪$‬والنصوص من الكتاب والسنة في عظمة الله‬
‫كثيرة إذا تأملها المسلم ارتجف قلبه‪ ،‬وتواضعت‬
‫نفسه للعلي العظيم‪ ،‬وخضعت أركانه للسميع‬
‫العليم‪ ،‬وازداد خشوعا ً لرب العالمين‪ ،‬فمن ذلك ما‬
‫جاء من أسمائه وصفاته – سبحانه وتعالى – فهو‬
‫العظيم المهيمن الجبار المتكبر القوي الكبير‬
‫المتعال‪ ،‬وهو الحي الذي ل يموت والجن والنس‬
‫يموتون‪ ،‬وهو القاهر فوق عباده‪ ،‬ويسبح الرعد‬
‫بحمده‪ ،‬والملئكة من خيفته‪ ،‬عزيز ذو انتقام‪ ،‬قيوم‬
‫ل ينام‪ ،‬وسع كل شيء علمًا‪ ،‬يعلم خائنة العين وما‬
‫تخفي الصدور‪ ،‬وقد وصف الله سعة علمه بقوله‬
‫‪  ‬‬
‫‪165‬‬ ‫البـــاب‬
‫‪       ‬‬
‫الرابـع‬
‫‪          ‬‬
‫‪‬‬
‫‪              ‬‬
‫‪                ‬‬
‫‪       ‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪]      ‬سورة النعام‪ .[59:‬ومن‬
‫عظمته ما أخبر عن نفسه بقوله‪      :‬‬
‫‪                    ‬‬
‫‪         ‬‬
‫‪         ‬‬
‫‪        ‬‬
‫‪           ‬‬
‫‪]    ‬سورة الزمر‪.[67:‬وقال‬
‫الرسول – صلى الله عليه وسلم – ‪$ :‬يقبض الله‬
‫الرض يوم القيامة ويطوي السماوات‬
‫بيمينه ثم يقول‪ :‬أنا الملك أين ملوك‬
‫الرض‪ #‬رواه البخاري‪.‬‬
‫ويتضعضع الفؤاد‪ ،‬ويرتجف القلب‪ ،‬عند نتأمل‬
‫قصة موسى عليه السلم لما قال‪$ :‬رب أرني أنظر‬
‫إليك‪ #‬فقال الله‪       :‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪         ‬‬
‫‪]     ‬سورة العراف‪:‬‬
‫‪.(1)#[143‬فهذه الجبال – على كبر حجمها وصلبة‬
‫صخورها – تضطرب خوفا ً من خالقها‪ ،‬أليس‬
‫النسان الضعيف أولى بذلك‪ ،‬ل شك أن قلوبنا قد‬
‫قست‪ ،‬وأحاسيسنا قد تبلدت لننا قد بعدنا عن‬
‫الفطرة كثيرا ً في هذا الزمن المادي المكفهر؛‬
‫فأصبحت تتلى علينا اليات فل نحس بوقعها على‬
‫أنفسنا إل من عصم الله‪ ،‬ولذلك يجب علينا‬
‫المسارعة في علج هذا المر قبل الرحيل‪.‬‬
‫إن استشعار عظمة الخالق – سبحانه وتعالى –‬
‫‪ ()1‬ظاهرة ضعف اليمان‪ ،‬محمد صالح المنجد ‪.36/37‬‬
‫ضعف‬ ‫‪166‬‬
‫اليمان‬
‫من أهم مقومات اليمان‪ ،‬وإن النسان الضعيف منا‬
‫عندما يشعر أن أحدا ً يستهين به أو يقلل من شأنه‬
‫يغضب أشد الغضب‪ ،‬وربما يبات الليل كله ساهرا ً‬
‫قلقا ً مما حل به‪ ،‬ومع ذلك فهو ل يفكر في حالته‬
‫مع ربه‪ ،‬وهل هو يعظم الله حق تعظيمه؟ وهل هو‬
‫يوقر الله كما ينبغي؟! يقول المام ابن القيم‪:‬‬
‫‪$‬من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم‬
‫والتوقير لك من الناس وقلبك خال من تعظيم الله‬
‫وتوقيره فإنك توقر المخلوق وتجله أن يراك في‬
‫ما‬‫حال ل توقر الله أن يراك عليها قال تعالى‪ّ  :‬‬
‫ن ل ِل ِّه َوَقارا ً‪ ‬أي ل تعاملونه معاملة‬ ‫م ل َ ت َْر ُ‬
‫جو َ‬ ‫ل َك ُ ْ‬
‫من توقرونه‪.#‬والتوقير العظمة ومنه قول تعالى‪:‬‬
‫‪َ‬وت َُوّقُروهُ ‪ .‬قال الحسن‪$ :‬ما لكم ل تعرفون‬
‫لله حقا ً ول تشكرونه؟‪ #‬وقال مجاهد‪$ :‬ل تبالون‬
‫عظمة ربكم‪ #...‬وقال ابن عباس‪$ :‬ل تعرفون‬
‫حق عظمته‪.#‬‬
‫وهذه القوال ترجع إلى معنى واحد‪ ،‬وهو أنهم‬
‫لو عظموا الله حق تعظيمه‪ ،‬وعرفوه حق معرفته‪،‬‬
‫حدوه وأطاعوه‪ ،‬وشكروه‪ ،‬لما عصوه‪ ،‬فطاعته –‬ ‫وو ّ‬
‫سبحانه – اجتناب معاصيه والحياء منه ووقاره في‬
‫القلب‪....‬‬
‫ومن وقاره أن ل يعدل به شيئا ً من خلقه‪ ،‬ل‬
‫في اللفظ بحيث تقول‪ :‬مالي إل الله وأنت‪ ،‬وما‬
‫شاء الله وشئت‪ ،‬ول في الحب والتعظيم والجلل‪،‬‬
‫ول في الطاعة‪ ،‬فتطيع المخلوق في أمره ونهيه‬
‫كما تطيع الله‪ ،‬مثلما يفعل الظلمة والفجرة‪ ،‬ول في‬
‫الخوف والرجاء‪ ،‬فتجعله أهون الناظرين إليك‬
‫وتستهين بحقه وتقول‪ :‬هو مبني على المسافحة‪....‬‬
‫ويقدم حق المخلوق عليه‪ ،‬ول يكون الله ورسوله‬
‫‪167‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫في حد وناحية‪ ،‬والناس في حد وناحية فيكون في‬
‫الحد والشق الذي فيه الناس دون الحد والشق‬
‫الذي فيه الله ورسوله‪ ،‬ول يعطى المخلوق من‬
‫مخاطبته قلبه ولبه ويعطى الله في خدمته بدنه‬
‫ولسانه دون قلبه وروحه‪ ،‬ول يجعل مراد نفسه‬
‫مقدما ً على مراد ربه‪.‬‬
‫فهذا كله من عدم وقار الله في القلب‪ ،‬ومن‬
‫كان كذلك فإن الله ل يلقى له في قلوب الناس‬
‫وقارا ً ول هيبة‪ ،‬بل يسقط وقاره وهيبته من قلوبهم‪،‬‬
‫وإن وقروه مخافة شره فذاك وقار بغض‪ ،‬ل وقار‬
‫حب وتعظيم‪ ،‬ومن وقار الله أن يستحي من‬
‫إطلعه على سره وضميره فيرى ما يكره‪ ،‬ومن‬
‫وقاره أن يستحي منه في الخلوة أعظم مما‬
‫يستحي من أكابر الناس‪.(1)#‬‬

‫‪ ()1‬الفوائد لبن قيم الجوزية )‪.(230-229‬‬


‫ضعف‬ ‫‪168‬‬
‫اليمان‬
‫‪‬‬

‫اعتزال كل لغو وباطل‬


‫من ألذ متع الدنيا وأحلها على قلب النسان‬
‫النس بالله‪ ،‬والستمتاع بمناجاته‪ ،‬والرتياح إلى‬
‫ذكره‪ ،‬والطمئنان إلى قراءة كتابه‪ ،‬فذلك هو صفاء‬
‫النفس‪ ،‬وسمو الروح‪،‬حتى إن النسان ليكاد يحلق‬
‫بروحه في أجواز السماء بعيدا ً عن ثقلة الرض‪،‬‬
‫وكدر الدنيا‪ ،‬فيا سعادة من يصل إلى هذا المقام‪،‬‬
‫ويا فوز من تزكو روحه إلى هذه الدرجة‪.‬‬
‫ول شك أن أهم عنصر لتزكية النفس وطهارتها‬
‫من أدناس الدنيا‪ ،‬وضرورة البدن هو اعتزال كل‬
‫لغو وباطل‪ ،‬ومنه اعتزال كثير من المباحات‬
‫التي ل تعين على طاعة الله‪ ،‬وسأذكر منها على‬
‫سبيل المثال وليس الحصر بعض المور‪:‬‬
‫‪ -1‬اعتزال مجالس اللهو واللغو الباطل التي‬
‫تكثر هذه اليام وهذه المجالس ل تخلو من‬
‫محظورات كثيرة مثل الغيبة والنميمة‬
‫والتفاخر والكذب والرياء وفحش القول‬
‫والكثار من الحديث عن حيازة حطام الدنيا‬
‫وتحصيله‪ ،‬والتفنن في الحيل من أجل ذلك‪،‬‬
‫وفي نفس الوقت يقل أو ينعدم فيها ذكر‬
‫الله‪ ،‬وبذلك يظلم القلب ويذهب منه ما كان‬
‫فيه من نور‪ ،‬وتستوحش النفس‪ ،‬ويحس‬
‫النسان بعد ذلك بضيق الصدر خاصة عندما‬
‫يسمع بأن فلن حاز من الدنيا لم يحز هو‪،‬‬
‫فعنده عمارة‪ ،‬وليس له مثلها‪ ،‬ولديه سيارة‬
‫‪169‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫فخمة‪ ،‬وليس عنده مثلها‪ ...‬إلى آخره‪.‬‬
‫‪ -2‬اعتزال وسائل العلم الهدامة مثل القنوات‬
‫الفضائية وغيرها‪ ،‬لن كل ما فيها يدمر‬
‫الخلق‪ ،‬ويقضي على سكينة النفس‬
‫وخشوعها‪ ،‬فهذه المواد التي يشاهدها‬
‫النسان ويسمعها تكتب على صفحات قلبه‪،‬‬
‫وتزاحم ما كان قبلها من خير وأنس بالله‪،‬‬
‫فتجد هذا النسان عندما يقوم إلى صلته‪،‬‬
‫مقبل ً على ربه‪ ،‬سرعان ما تظهر أمامه هذه‬
‫الصفحات السود فتشغله عن صلته‪ ،‬ثم‬
‫تسلب منه الخشوع والطمأنينة وبالتالي‬
‫النس بربه‪ ،‬ثم تفقده لذة المناجاة‪.‬‬
‫‪ -3‬وعلى من استطاع التقليل من مخالطة‬
‫الناس إل فيما له ضرورة أن يفعل‪ ،‬فإن‬
‫أهم أسباب قسوة القلوب من الخلطة‪ ،‬وأنا‬
‫أوجه حديثي لفئة من الناس مخصوصة هي‬
‫من كان موظفا ً ثم أحيل على التقاعد‪،‬‬
‫فأصبح لديه – بفضل الله – مصدر رزق‬
‫يأتيه بدون أي عمل‪ ،‬فلماذا ل يتفرغ هؤلء‬
‫لعبادة ربهم؟ ويجعلون ما بقي من العمر‬
‫مزرعة للخرة‪ ،‬أما كفاهم ما مضى من‬
‫العمر عمل ً ولهوا ً واستمتاعا ً وتجريبا ً لكل‬
‫مظاهر الحياة‪ ،‬ألم يسمع هؤلء قول الله‬
‫– سبحانه وتعالى – )أولم نعمركم ما يتذكر‬
‫فيه من تذكر وجاء كم النذير( قال ابن‬
‫عباس ‪ :‬النذير هو الشيب ‪ "،‬وذكر القرطبي‬
‫عن مالك ‪ :‬أنه قال ‪:‬أدركت أهل العلم ببلدنا‬
‫وهم يطلبون الدنيا والعلم ‪،‬ويخالطون‬
‫الناس‪ ،‬حتى يأتي على أحدهم أربعون‬
‫سنة ؛ فإذا أتت عليهم ؛ اعتزلوا الناس‪،‬‬
‫ضعف‬ ‫‪170‬‬
‫اليمان‬
‫واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت " و‬
‫قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – ‪:‬‬
‫‪$‬أعذر الله تعالى إلى امرئ أخر أجله‬
‫حتى بلغه ستين سنة‪ #‬رواه البخاري‪،‬‬
‫قال العلماء ‪ :‬معناه أنه لم يترك له عذرا‪،‬إذ‬
‫أمهله هذه المدة‪ ،‬كأن يقول‪ :‬لو مد لي في‬
‫الجل لفعلت ما أمرت به‪ ،‬فإن الله تعالى‬
‫قد مده بعمر طويل‪ ،‬وطلب منه أن يعمل‬
‫من الصالحات ما ينجيه من النار ويبلغه‬
‫الجنة‪ ،‬أما من عصى الله وأطاع الهوى‬
‫والشيطان‪ ،‬فليس له عذر عند الله بعد هذا‬
‫العمر الطويل‪.‬‬
‫ويروى أن الفضيل بن عياض سأل رجل ذات‬
‫مرة‪:‬‬
‫كم أتي عليك من السنين؟‬
‫فقال الرجل‪ :‬ستون سنة‪.‬‬
‫قال الفضيل‪ :‬فأنت منذ ستين سنة تسير إلى‬
‫ربك‪ ،‬يوشك أن تصل‪...‬‬
‫فقال الرجل‪ :‬إنا لله وإنا إليه راجعون‪...‬‬
‫قال الفضيل‪ :‬أتدري ما معنى كلمك هذا‪...‬‬
‫فقال الرجل‪ :‬ل‪...‬‬
‫قال الفضيل‪ :‬قولك إنا لله‪:‬‬
‫معناه أنا عبد لله‪ ،‬وأنا إلى الله –عز وجل –‬
‫راجع‪...‬‬
‫فمن علم أنه عبد لله‪ ،‬وأنه إليه راجع‪ ،‬فليعلم‬
‫أنه موقوف ومسئول‪ ،‬وليعد للسؤال جوابًا‪.‬‬
‫فقال الرجل‪ :‬فما الحيلة إذن؟‬
‫‪171‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫قال الفضيل‪ :‬يسيره‪ ،‬تحسن فيما بقي يغفر‬
‫الله – عز وجل – لك ما مضى وما بقي‪ ،‬وإن أسأت‬
‫فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي‪.(1)#‬‬
‫إذن فما على النسان من بأس إذا بلغ من العمر‬
‫ستين سنة أو قاربها أن يحسن فيما بقي من عمره‪،‬‬
‫وذلك بفعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه‪،‬‬
‫والكثار من البر والعمال الصالحة ليكون ذلك‬
‫تكفيرا ً لما مضى من سيئاته‪ ،‬فإن الحسنات يذهبن‬
‫السيئات كما ورد في القرآن الكريم‪ ،‬ول سيما وأنه‬
‫ل‪ ،‬تمتع فيه كثيرًا‪ ،‬فلماذا ل يحسن‬
‫عاش عمرا ً طوي ً‬
‫في ما بقي ليغفر له ما مضى وما بقي؟‬
‫وعلى المسلم أن يعلم‪$ :‬أنه ل مطمع في‬
‫سعادة الخرة إل بالتقوى‪ ،‬وكف النفس عن الهوى‪،‬‬
‫وأن رأس ذلك كله‪ ،‬قطع علقة القلب عن الدنيا‪،‬‬
‫بالتجافي عن دار الغرور‪ ،‬والنابة إلى دار الخلود‪،‬‬
‫والقبال بكنه)‪ (2‬الهمة على الله تعالى‪ ،‬وأن ذلك ل‬
‫يتم إل بالعراض عن الجاه والمال والهرب من‬
‫الشواغل والعلئق‪ ...‬إن منادي اليمان ينادي‪:‬‬
‫الرحيل‪ ...‬الرحيل‪ ،‬فلم يبق من العمر إل القليل‬
‫وبين يديك سفر طويل‪ ،‬وجميع ما أنت فيه رياء‬
‫وتخييل‪.(3)#‬‬
‫وإن المرء ليعجب عندما يرى بعض هؤلء وقد‬
‫عله الشيب‪ ،‬وضعف منه البصر‪ ،‬وهو مازال في‬
‫‪ ()1‬انظر مجمع الحباب وتذكرة أولى اللباب لمحمد الواسطي )‬
‫‪.(4/27‬‬
‫‪ ()2‬كنه الشيء حقيقته‪.‬‬
‫‪ () 3‬المام الغزالي حجة السلم ومجدد المائة الخامسة للستاذ‬
‫صالح أحمد الشامي )‪ (23‬نقل ً عن كتاب المنقذ من الضلل‬
‫للغزالي )‪.(143-139‬‬
‫ضعف‬ ‫‪172‬‬
‫اليمان‬
‫شغل شاغل ما بين مكتب عقار يبيع فيه ويشتري‪،‬‬
‫يخاصم هذا‪ ،‬ويداهن هذا‪ ،‬و يجادل هذا‪ ،‬أو متجر في‬
‫سوق يشارك فيه أهل السوق صخبهم وصياحهم أو‬
‫غير ذلك‪ ،‬علما ً أنه ليس بحاجة لذلك ‪ ،‬فلديه من‬
‫الرزق ما يكفيه ويزيد‪ ،‬وقد كان الولى به أن يتفرغ‬
‫لعبادة ربه وتطهير نفسه مما أقترف من معاصي‬
‫طوال عمره‪ ،‬حيث ل أحد من البشر معصوم من‬
‫المعاصي والذنوب‪ ،‬وهذا العمل ل اعتراض عليه‬
‫من الناحية الشرعية‪ ،‬فهو من المباحات‪ ،‬ولكنه ول‬
‫شك يشوش على المسلم عبادته ويضعف علقته‬
‫بربه في هذه السن التي ينتظر فيها المثول بين‬
‫يدي ربه‪ .‬ويستثنى من هذا المر من كان دخله ل‬
‫يكفي لنفقته الضرورية وقوت عياله‪ ،‬فمثل هذا ل‬
‫شك أن عمله محمود‪ ،‬وهو مثاب عليه إذا استحضر‬
‫النية؛ لنه يصون بذلك نفسه وأهله عن التعرض‬
‫لذل السؤال‪.‬‬
‫ويجمل بنا هنا أن نورد كلما ً نفيسا ً للشيخ‬
‫عبدالرحمن بن الجوزي في هذا المجال حيث قال‬
‫رحمه الله‪$ :‬من أراد اجتماع همه وإصلح قلبه‪،‬‬
‫فليحذر من مخالطة الناس في هذا الزمان؛ فإنه قد‬
‫كان يقع الجتماع على ما ينفع ذكره‪ ،‬فصار‬
‫الجتماع على ما يضر‪.‬‬
‫وقد جربت على نفسي مرارا ً أن أحصرها في‬
‫بيت العزلة‪ ،‬فتجتمع هي ويضاف إلى ذلك النظر‬
‫في سير السلف‪ ،‬فأرى العزلة حمية‪ ،‬والنظر في‬
‫سير القوم دواء‪ ،‬واستعمال الدواء مع الحمية عن‬
‫التخليط نافع‪.‬‬
‫فإذا فسحت لنفسي في مجالسة القوم‬
‫ولقائهم تشتت القلب المجتمع‪ ،‬ووقع الذهول عما‬
‫‪173‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫كنت أراعيه وانتقش في القلب ما قد رأته العين‪،‬‬
‫وفي الضمير ما تسمعه الذن‪ ،‬وفي النفس ما‬
‫تطمع في تحصيله من الدنيا‪،‬‬
‫وإذا جمهور المخالطين أرباب غفلة‪ ،‬والطبع‬
‫بمجالستهم يسرق من طباعهم‪ ،‬فإذا عدت أطلب‬
‫القلب لم أجده وأروم ذلك الحضور فأفقده فيبقى‬
‫فؤادي‬
‫في غمار ذلك اللقاء للناس أياما ً حتى يسلو الهوى‪،‬‬
‫وما فائدة تعريض‬
‫البناء للنقض؟‬
‫فإن دوام العزلة كالبناء والنظر في سير‬
‫السلف يرفعه فإذا وقعت المخالطة انتقض ما بني‬
‫في مدة في لحظة‪ ،‬وصعب التلفي‪ ،‬وضعف‬
‫القلب‪ (1)#‬رحم الله ابن الجوزي فإنه يقول‪ :‬إن‬
‫لقاًء واحدا ً مع أهل الغفلة يضعف قلبه أيامًا‪ ،‬ويقلل‬
‫من أنسه بربه وإقباله عليه‪ ،‬فماذا عن جلسات‬
‫المجون والخنا التي تحدث هذه اليام عبر القنوات‬
‫الفضائية‪ ،‬أو في المجالس الخاصة‪ ،‬ماذا تفعل‬
‫بالقلوب؟ أليست تفتك باليمان فتكًا‪ ،‬وتدمر‬
‫الخلق تدميرًا‪ ،‬فعلى المسلم أن يتقي الله في‬
‫نفسه‪ ،‬ول يرضخ لهوى النفس فيهلك‪ ،‬بل عليه أن‬
‫يجاهد نفسه ويمنعها مما ل يجمل بها ول يليق‪،‬‬
‫وليعلم أن جزاء ذلك الفوز بالجنة و النجاة من النار‬
‫قال تعالى‪     :‬‬
‫‪   ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪]  ‬سورة النازعات‪،[41-40:‬‬
‫وهناك من يدعو إلى العزلة التامة إل عن الجمعة‬
‫والجماعة لن الصلة مع الجماعة واجبة‪ ،‬ويعتبرون‬

‫‪ ()1‬صيد الخاطر لبن الجوزي ص)‪.(315‬‬


‫ضعف‬ ‫‪174‬‬
‫اليمان‬
‫ذلك أسكن للقلب‪ ،‬وأعون على طاعة الله‪ ،‬و‬
‫وأكثرتخلصا من المعاصي التي يتعرض لها النسان‬
‫غالبا ً بالمخالطة‪،‬و يسلم منها في الخلوة مثل الغيبة‬
‫والنميمة والرياء‪ ،‬وبها يكون التفرغ التام للعبادة‬
‫الخالصة لله‪ ،‬والبعيدة عن غوائل الرياء‪ ،‬والمقرونة‬
‫بالستئناس بمناجاة الله تعالى‪ ،‬عن مناجاة‬
‫الخلق‪.‬قال ابن الجوزي‪$ :‬ما رأيت أكثر أذى‬
‫للمؤمن من مخالطة من ل يصلح‪ ،‬فإن الطبع‬
‫يسرق‪ ،‬فإن لم يتشبه بهم‪ ،‬ولم يسرق منهم فتر‬
‫عن عمله‪.‬‬
‫وإن رؤية الدنيا تحث على طلبها‪ ،‬وقد رأى‬
‫رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سترا ً على‬
‫بابه فهتكه وقال‪$ :‬مالي وللدنيا‪ ،#‬ولبس ثوبا ً له‬
‫طراز فرماه وقال‪$ :‬شغلتني أعلمه عن‬
‫صلتي‪.#‬‬
‫وكذلك رؤية أرباب الدنيا ودورهم وأحوالهم‬
‫خصوصا ً لمن له نفس تطلب الرفعة‪ ،(1)#‬فإنها‬
‫تشغل قلب النسان عن النس بالله والقبال عليه‬
‫أثناء العبادة‪ ،‬فيخسر بذلك مرتين‪ :‬مرة في الدنيا‬
‫حيث تورثه مشاهدة هذه الحوال التحسر وضيق‬
‫الصدر‪ ،‬ومرة ثانية في الخرة حيث تضعف عبادته‬
‫وقربه من ربه فيخسر بذلك الجر والثواب‪..‬‬
‫قال المام الخطابي في كتابه العزلة والخلطة‬
‫"‪ :‬لو لم يكن في العزلة أكثر من أنك ل تجد أعوانا‬
‫على الغيبة لكفى ‪.‬‬
‫ولو لم يكن في العزلة إل السلمة من آفة‬
‫الرياء والتصنع للناس؛ وما يدفع إليه النسان إذا كان‬
‫فيهم من استعمال المداهنة معهم‪ ،‬وخداع المواربة‬
‫‪ ()1‬صيد الخاطر لبن الجوزي )‪.(263‬‬
‫‪175‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫في رضاهم لكان في ذلك ما يرغب في العزلة‪،‬‬
‫ويحرك النفس إليها‪...‬‬
‫ومن مناقب العزلة السلمة من آفات النظر إلى‬
‫زينة الدنيا وزهرتها‪ ،‬والستحسان لما ذمه الله تعالى‬
‫من زخرفها‪،‬وعابه من غرورها‪ ،‬وفيها منع النفس من‬
‫التطلع إليها‪ ،‬والستشراف لها‪ ،‬ومن محاكاة أهلها‬
‫عيَني َ‬
‫ك‬ ‫ن َ‬‫مد َ ّ‬
‫عليها‪ ،‬قال الله تعالى‪َ) :‬ول ت َ ُ‬ ‫ومنافستهم‬
‫َ‬
‫دنيا‬
‫حياةِ ال ُ‬ ‫مَتعنا ب ِهِ أزواجا ً ِ‬
‫منُهم َزهَرةَ ال َ‬ ‫ِإلى ما َ‬
‫ه( وقد قال رسول الله صلى الله عليه‬ ‫ل َِنفت ِن َُهم في ِ‬
‫وسلم‪) :‬انظروا إلى من هو دونكم ول تنظروا إلى‬
‫من هو فوقكم؛ فإنه أجدر أن ل تزدروا نعمة الله‬
‫عليكم‪.‬‬
‫ومن مناقب العزلة‪ :‬أنها خالعة عنك ربقة ذل‬
‫المال‪ ،‬وقاطعة رق الطماع‪ ،‬ومعيدة عز اليأس من‬
‫الناس؛ فإن من صحبهم وكان فيهم ومعهم لم يكد‬
‫يخلو من أن يحدث نفسه بنوع من الطمع فيهم‪ :‬إما‬
‫في مال‪ ،‬أو جاه والطمع فقر حاضر‪ ،‬وذل صاغر‪،‬‬
‫وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪) :‬الغنى‬
‫اليأس عما في أيدي الناس ومن مشى منكم إلى‬
‫طمع فليمش رويدا (‬
‫وقال لو لم يربح النسان في العزلة‪ ،‬والتخلي‬
‫عن الناس وعن مساويهم‪ ،‬والنقطاع عن محاورتهم‪،‬‬
‫إل ما يكفاه من فضل مؤنة التحرز منهم‪ ،‬وما‬
‫يستفيده من المان من أن يرفعوا عليه قول‬
‫يسمعونه يتكلم به في حال غفلة واسترسال‪ ،‬أو‬
‫يتأولوا عليه كلما ل يبلغ عقولهم كنهه ؛ فيوجهوه‬
‫إلى غير جهته وينحلوه غير صفته‪ ،‬فكان فيه كفاية‬
‫كافية" هذا ما قاله الخطابي في مواضع متفرقة‬
‫من كتابه ‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪176‬‬
‫اليمان‬
‫نسأل الله أن يلطف بنا جميعا ً في هذا الزمن‬
‫الذي كثرت فيه الخلطة‪ ،‬وشاعت فيه الملهيات‪ ،‬و‬
‫استحكمت فيه قسوة القلب‪ ،‬وتواصلت غارات‬
‫جنود الشهوات والشبهات من كل جانب‪ ،‬ولذلك‬
‫ينبغي للمسلم في هذا الوضع الصعب أن يجتهد لما‬
‫يصلح حاله‪ ،‬ويرم شعث إيمانه قبل فوات الوان ‪.‬‬
‫ول شك أن العزلة ل تصلح لجميع الناس‪ ،‬بل‬
‫هناك من يصلحهم مخالطة الصالحين وحضور‬
‫مجالس العلم التي فيها ذكر الله تعالى وآياته وسنة‬
‫رسوله – عليه السلم – والتشويق إلى الجنة‬
‫والتحذير من النار والخذ عن الصالحين سمتهم‬
‫وأدبهم مع الله وخوفهم منه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ونحن ل ندعو إلى العزلة التامة‪ ،‬بل ندعو إلى‬
‫اعتزال اللغو والباطل وكل ما يضر النسان في أمر‬
‫دينه‪ ،‬أما مخالطة الصالحين‪ ،‬وحضور مجالس‬
‫العلم‪ ،‬وعيادة المرضى‪ ،‬وإتباع الجنائز‪ ،‬وصلة‬
‫الرحام؛ فهي أمور مشروعة‪،‬يثاب المرء عليها‪،‬‬
‫وهي تزيد اليمان‪ ،‬تزيد اليمان وتقوية‪.‬‬
‫وقبل أن اختم هذا الفصل أحب أذكر طرفا ً مما‬
‫كتبه المام الغزالي في فوائد العزلة‪.‬‬
‫قال رحمه الله‪$ :‬الولى بالكثرين الستعانة‬
‫بالعزلة لجل التفرغ للعبادة والفكر والستئناس‬
‫بمناجاة الله تعالى عن مناجاة الخلق‪ ،‬والشتغال‬
‫باكتشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا والخرة‬
‫وملكوت السموات والرض‪ ،‬فإن ذلك يستدعي‬
‫فراغًا‪ ،‬ول فراغ مع المخالطة‪ ،‬فالعزلة وسيلة‪،‬‬
‫ولذلك قيل لبعض الحكماء‪ :‬ما الذي أرادوا بالخلوة‬
‫واختيار العزلة؟ فقال يستدعون بذلك دوام الفكرة‪،‬‬
‫وتثبيت العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة‪،‬‬
‫‪177‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫ويذوقوا حلوة المعرفة ‪.‬‬
‫وقيل لبعض العباد ما أصبرك على الوحدة!‬
‫فقال‪ :‬ما أنا وحدي أنا جليس الله تعالى‪ ،‬إذا شئت‬
‫أن يناجيني قرأت كتابه‪ ،‬وإذا شئت أن أناجيه صليت‪.‬‬
‫وقيل لبعض الحكماء‪ :‬أي شيء أفضى بكم إلى‬
‫الزهد والخلوة؟ فقال النس بالله‪ .‬وقيل لغزوان‬
‫الرقاشي‪ :‬هبك ل تضحك فما يمنعك من مجالسة‬
‫أخوانك؟ قال‪ :‬أني أصيب راحة قلبي في مجالسة‬
‫من عنده حاجتي!‬
‫وقال الفضيل بن عياض‪ :‬إذا رأيت الليل أقبل‬
‫فرحت به وقلت أخلوا بربي‪ ،‬وإذا رأيت الصبح‬
‫أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس‪ ،‬وأن يجيئني‬
‫من يشغلني عن ربي‪...‬‬
‫ويروى عن بعض الصالحين أنه قال‪ :‬بينما أنا‬
‫أسير في بعض بلد الشام إذ أنا بعابد خارج من‬
‫بعض تلك الجبال فلما نظر إلى تنحى إلى أصل‬
‫ي‬
‫شجرة وتستر بها‪ ،‬فقلت‪ :‬سبحان الله تبخل عل ّ‬
‫بالنظر إليك فقال‪ :‬يا هذا إني أقمت في هذا الجبل‬
‫دهرا ً طويل ً أعالج قلبي في الصبر على الدنيا وأهلها‬
‫فطال في ذلك تعبي‪ ،‬وفني فيه عمري فسألت الله‬
‫تعالى أن ل يجعل حظي من أيامي في مجاهدة‬
‫قلبي‪ ،‬فسكنه الله عن الضطراب وأّلفه الوحدة‬
‫والنفراد‪ ،‬فلما نظرت إليك خفت أن أقع في المر‬
‫الول‪ ،‬فإليك عني فإني أعوذ من شرك برب‬
‫العارفين‪ ،‬وحبيب القانتين ثم صاح‪ :‬واغماه من‬
‫طول المكث في الدنيا‪ ،‬ثم حول وجهه عني قائ ً‬
‫ل‪:‬‬
‫إليك يا دنيا عني‪ :‬ولغيري فتزيني ولهلك فغري‪..‬‬
‫سبحان من أذاق قلوب العارفين من لذة المناجاة‪،‬‬
‫ضعف‬ ‫‪178‬‬
‫اليمان‬
‫وحلوة النقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر‬
‫الجنان وعن الحور الحسان‪ ،‬وجمع همهم في ذكره‬
‫فل شيء عندهم ألذ من مناجاته‪ ،‬ثم مضى وهو‬
‫يقول قدوس‪ ..‬قدوس‪.‬‬
‫ثم يعقب الغزالي بقوله‪ :‬وبهذا يتبين أن في‬
‫الخلوة أنس بذكر الله‪ ،‬واستكثار من معرفة الله‬
‫وفي مثل ذلك قيل‪:‬‬
‫لعل خيال ً منك يلقى‬ ‫وإني لستغشي وما‬
‫خياليا ً‬ ‫بي غشوة‬
‫دث عنك النفس‬ ‫أح ّ‬ ‫وأخرج من بين‬
‫بالسر خاليا ً‬ ‫الجلوس لعلني‬

‫ولذلك قال بعض الحكماء‪$ :‬إنما يستوحش‬


‫النسان من العزلة لخلو ذاته عن الفضيلة فيكثر‬
‫حينئذ ٍ ملقاة الناس‪ ،‬ويطرد الوحشة عن نفسه‬
‫بالجلوس معهم‪ ،‬فإذا كانت ذاته فاضلة طلب‬
‫الوحدة ليستعين بها على الفكرة ويستخرج العلم‬
‫والحكمة‪.(1)#‬‬
‫ول شك أن هذه القصة التي أوردها الغزالي‬
‫عن هذا العابد المنفرد في شعف الجبال؛ لهي من‬
‫عجائب الدنيا إذ كيف يرضى إنسان بالعيش منفردا ً‬
‫عن الناس في سفوح الجبال‪ ،‬وبطون الودية يقتات‬
‫من نبات الرض‪ ،‬وصيد حيواناتها راغبا ً عن سكنى‬
‫المدن‪ ،‬زاهدا ً في النعيم والرفاهية مع الناس‪،‬‬
‫والجواب نجده عند ذلك العابد نفسه في حواره مع‬
‫الرجل الصالح حيث ذكر أن سبب هجره للمدينة‬

‫‪ ()1‬انظر إحياء علوم للغزالي )‪.(206-2/205‬‬


‫‪179‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫والستئناس بالبقاء مع الناس هو البحث عن الصفاء‬
‫الروحي‪ ،‬والسمو النفسي الذي تزكو به نفسه‪،‬‬
‫وتتطهر به روحه من أدران الحياة وشوائب‬
‫المجتمع‪ ،‬وبذلك يجد السعادة الحقة التي بحث عنها‬
‫كل الناس ولكن النادر والنادر جدا ً من يفوز بها!‬
‫هذه السعادة ل تتم إل بالنس بالله والنس‬
‫بالله ل يتم إل بقطع النسان جميع علئقه بالدنيا‬
‫ومشاغلها‪ ،‬وجعل همه هما ً واحدا هو استشعار‬
‫عظمة الله ومن ثم الفناء في حبه والتفرغ التام‬
‫لعبادته‪ ،‬فهنا تتم السعادة المقرونة بالنس بالله‪،‬‬
‫وحسن الظن به‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬والعتماد عليه‬
‫وحده وبذلك يزول عن قلبه كل هم‪ ،‬وينتفي عن‬
‫فؤاده كل خوف‪ ،‬فكيف يخاف من تتصل أسبابه‬
‫بملك الملوك؟‬
‫وكيف يحزن من توثقت عراه بخالق الكون؟‬
‫فهذا الرجل الذي وصل إلى هذا المستوى ليماني‬
‫الممتاز بعد جهد جهيد‪ ،‬ومعاناة دامت دهرا ً طويل ً‬
‫كما ذكر هو في حواره؛ أل يحق له أن يفر من‬
‫الناس فراره من السد؛ ليبقي على صفاء روحه‬
‫وقوة إيمانه‪ ،‬حتى يرحل عن هذه الدنيا‪ ،‬فهو في‬
‫شوق إلى هذا الرحيل‪ ،‬وهو يعلم علم اليقين‪ ،‬أن‬
‫مكثه في هذه الدنيا ما هو إل أياما ً معدودة‪ ،‬يصبر‬
‫فيها على معاناة قليلة مقابل مكاسب كبيرة‪ ،‬بل‬
‫ضخمة جدا ً عاجلها في هذه الدنيا وهو تلك السعادة‬
‫النفسية والنس بالله‪ ،‬وسائرها في الدار الخرة‬
‫التي فيها مال عين رأت ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر‬
‫على قلب بشر‪ ،‬وأخيرا ً فإن حالة هذا العابد هي‬
‫حالة غريبة في البشر‪ ،‬خاصة في هذا الزمن الذي‬
‫طغت فيه الماديات‪ ،‬وكاد يجف ينبوع اليمان من‬
‫ضعف‬ ‫‪180‬‬
‫اليمان‬
‫النفوس إل من رحم الله‪ ،‬ولكن ل ينبغي أن تصل‬
‫بنا الغرابة إلى إنكار وقوعها‪ ،‬فهناك من العجائب‬
‫والغرائب ما هو أعجب منها وقد ثبت وقوعها‬
‫قطعًا‪ ..‬ومثل هذه الحالة مفيدة جدا ً حيث نجعلها‬
‫حجة لنفسنا كلما تمردت وأوغلت في أودية‬
‫الشهوات والشبهات‪ ،‬والعاقل محتاج إلى استخدام‬
‫المداراة والسياسة حتى مع نفسه ليقنعها بالحق‬
‫فتقبل عليه راضية‪ ،‬فعندما نرى هذا العابد قد‬
‫ضرب عزلة كاملة على نفسه من أجل نيل مرضاة‬
‫خالقه‪ ،‬وعتق رقبته من النار‪ ،‬فل أقل من أن نعتزل‬
‫نحن الحرام فقط بكل أشكاله وصوره‪ ،‬ونجاهد‬
‫أنفسنا على ذلك‪ ،‬فإذا تحقق لنا ذلك‪ ،‬خطونا‬
‫الخطوة الولى والمهمة في تجديد إيماننا‪ ،‬وإزالة‬
‫الصدأ الذي علق به لكثرة هيامنا في فجاج الغفلة‬
‫ومستنقع الشهوة‪ .‬فقد قال الرسول – صلى الله‬
‫عليه وسلم – ‪$ :‬إن هذه القلوب لتصدأ كما‬
‫يصدأ الحديد قيل فما جلؤها يا رسول الله‪،‬‬
‫قال‪ :‬تلوة القرآن وذكر الله‪ #‬رواه البيهقي‬
‫في شعب اليمان ‪ 2/353‬وانظر مجمع الزوائد‬
‫للهيثمي ‪..10/207‬‬
‫ول شك أن إزالة الصدأ عن القلب من أهم‬
‫المطالب‪ ،‬وأسمى المقاصد‪ ،‬ويجب أن تسخر له‬
‫جميع الوسائل‪ ،‬ومنها العزلة سواء كانت كلية أو‬
‫جزئية ‪$‬لكي نزيل رذائل النفس‪ ،‬ونتنزه عن أخلقها‬
‫المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى نتوصل بها إلى‬
‫تخلية القلب عن التعلق بغير الله تعالى‪ ،‬وتحليته‬
‫بذكر الله‪ ،‬ونصل إلى قوة الحاطة بحقارة الدنيا‪،‬‬
‫وشدة التطلع إلى نعيم الخرة واستيلء الخوف‬
‫على القلب‪ (1)#‬وبذلك تكون النجاة يوم القيامة‪.‬‬

‫‪ ()1‬رجال الفكر والدعوة في السلم أبو الحسن النووي )‪.(1/269‬‬


‫‪181‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫‪‬‬
‫ضعف‬ ‫‪182‬‬
‫اليمان‬

‫الطلع على سير وأحوال الصالحين‬


‫ن الله عليهم بقوة‬
‫الصالحون هم الذين م ّ‬
‫اليمان‪ ،‬ورسوخ اليقين‪ ،‬والطمئنان إلى وعد الله‪،‬‬
‫ولذلك فقد صرفوا اهتمامهم كله إلى الدار الخرة‪،‬‬
‫ولم يأخذوا من هذه الدنيا إل بلغة المسافر‪ ،‬وزاد‬
‫الراكب‪ ،‬وذلك لقوة إحاطتهم بحقارة الدنيا‪ ،‬وشدة‬
‫تطلعهم إلى نعيم الخرة‪ ،‬فأصبحوا بذلك إيمانا ً‬
‫يمشي الرض‪ ،‬قد تخلصوا من جميع الرذائل التي‬
‫تثقل النسان عن التحليق في سماء اليمان‪،‬‬
‫فتاقت أنفسهم إلى النتقال إلى روضات الجنان‪،‬‬
‫تحدوهم إلى ذلك الشواق القلبية‪ ،‬وتسرع بهم‬
‫النفحات اليمانية‪ ،‬ومثل هؤلء الصالحين ينبغي أن‬
‫نستفيد منهم‪ ،‬وأن نستضيء بنور إيمانهم‪ ،‬وأن‬
‫نستمد من صلح نفوسهم‪ ،‬وأن نتخذهم لنا قدوة‪،‬‬
‫فإن الطلع على أحوالهم علج للنفس المريضة‪،‬‬
‫ومعرفة أخبارهم واجتهادهم في العبادة بلسم‬
‫للقلوب الصدئة‪ ،‬فإن كانوا أحياء ونستطيع الوصول‬
‫إليهم‪ ،‬فهو غاية المنى‪ ،‬وعين الصواب‪ ،‬فإن مجرد‬
‫النظر إلى وجوه الصالحين يزيد اليمان‪ ،‬فقد كان‬
‫بعض السلف يقول إذا وجدت قسوة من قلبي‬
‫غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع‪ ،‬فيذهب‬
‫ما كنت أجد من القسوة‪ ،‬ومحمد بن واسع هذا من‬
‫الصالحين الزهاد الذين خرج حب الدنيا من قلوبهم‪،‬‬
‫وانصرفوا عنها طلبا ً لما عند الله‪ ،‬ومن أقواله‪ :‬إني‬
‫لغبط رجل ً معه دينه وما معه مع الدنيا شيء‪ ،‬وهو‬
‫راض‪ ،‬وقد مات – رحمه الله – سنة ‪123‬هـ‬
‫‪183‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫بالبصرة‪.‬‬
‫أما إذا كان هؤلء الصالحون قد صاروا إلى‬
‫رحمة الله‪ ،‬فليس أمامنا إل الطلع على سيرهم‪،‬‬
‫ومعرفة أحوالهم‪ ،‬والوقوف على أخبارهم‪ ،‬وكيف‬
‫كانوا يجتهدون في طاعة ربهم؟‬
‫وكيف كانت قلوبهم ترق لسماع القرآن‬
‫الكريم؟‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪‬‬
‫‪]   ‬ســورة‬
‫النفال‪.[2:‬‬

‫وكيف كانت تقشعر جلودهم من خوف الله؟‬


‫وكيف كانوا يجدون النــس والمـن فـي مناجــاة‬
‫الله؟‬
‫فإن ذلك ول شك يعتبر علجا ً لقسوة القلب‪،‬‬
‫ودواء لضعف اليمان ‪ $‬فمهما تمردت نفسك عليك‬
‫وامتنعت من المواظبة على العبادة؛ فطالع أحوال‬
‫هؤلء الصالحين فإنه قد عز الن وجود مثلهم‪ ،‬ولو‬
‫قدرت على مشاهدة من يقتدى بهم فهو أنجع في‬
‫القلب‪ ،‬وأبعث على القتداء‪ ،‬فليس الخبر كالمعاينة‪،‬‬
‫وإذا عجزت عن هذا فل تغفل عن سماع أحوال‬
‫هؤلء ‪ ،‬وخّير نفسك بين القتداء بهؤلء والجلوس‬
‫معهم‪ ،‬وهم العقلء والحكماء وأهل البصائر في‬
‫الدين‪ ،‬وبين القتداء بالجهلة الغافلين من أهل‬
‫ضعف‬ ‫‪184‬‬
‫اليمان‬
‫عصرك‪ ،‬ول ترض أن تنخرط في سلم الحمقى‪،‬‬
‫وتقنع بالتشبه بالغبياء أو تؤثر مخالفة العقلء‪.‬‬
‫فإن حدثتك نفسك بأن هؤلء رجال أقوياء ل‬
‫يطاق القتداء بهم‪ ،‬فطالع أحوال النساء المجتهدات‬
‫وقل لها‪ :‬يا نفس أل تستنكفي أن تكوني أقل من‬
‫امرأة‪ ،‬فاخسس برجل يقصر عن امرأة في دينها‬
‫ودنياها‪.(1)#‬‬
‫هذا وقد ذكر الغزالي بعد هذا النص مباشرة‬
‫قصصا ً عجيبة لحوال بعض النساء المجتهدات في‬
‫العبادة‪.‬‬
‫إذن فقراءة سير الصالحين والطلع على‬
‫أحوالهم تعتبر غذاء إيمانيا ً ل غنى عنه في هذا‬
‫الزمن المادي‪ ،‬فينبغي علينا أن نلجأ لها كلما‬
‫ضعفت أنفسنا في سيرها إلى طريق الخرة‪ .‬فإننا‬
‫عندما نعلم ونلمس العمال العظيمة التي قام بها‬
‫هؤلء الصالحون لنيل رضى ربهم‪ ،‬سوف يعترينا‬
‫الخجل من ضاءلة أعمالنا‪ ،‬ومن ثم تشتعل أنفسنا‬
‫حماسا ً ورغبة في العمل الصالح‪ ،‬لن أولئك‬
‫الصالحين قد أناروا لنا الطريق‪ ،‬وعرفونا أنه ل‬
‫شيء مستحيل مع العزيمة والصرار‪ ،‬وأجمل ما‬
‫تكون المنافسة في هذا المجال‪ ،‬مجال العمال‬
‫الصالحة‪ ،‬فقد قال الله تعالى‪  :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪     ‬‬

‫‪ ()1‬إحياء علوم الدين للغزالي )‪.(4/360‬‬


‫‪185‬‬ ‫البـــاب‬
‫‪  ‬‬
‫الرابـع‬
‫‪‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪]  ‬سورة‬
‫المطففون‪.[26-22:‬‬
‫إننا نشاهد في هذه الدنيا كثيرا ً من المنافسة‬
‫على حطام زائل‪ ،‬ولذات سريعة النقضاء‪ ،‬وشهوات‬
‫ل تخلو من تنغيص‪ ،‬فأين المنافسة على نعيم‬
‫ل ينقطع‪ ،‬وسرور ل يخالطه تكدير‪ ،‬وجنة عرضها‬
‫السموات والرض‪.‬‬
‫وقبل أن أختم هذا الفصل سأذكر بعض أحوال‬
‫هؤلء الصالحين نقلتها بتصرف من كتاب إحياء علوم‬
‫الدين للمام أبي حامد الغزالي رحمه الله‪$ :‬يحكى‬
‫أن قوما ً دخلوا على عمر بن عبدالعزيز يعودونه في‬
‫مرضه‪ ،‬وإذا فيهم شاب ناحل الجسم فقال عمر‪ :‬يا‬
‫فتى ما الذي بلغ بك ما أرى؟ فقال‪ :‬يا أمير‬
‫المؤمنين أسقام وأمراض‪ ،‬فقال سألتك الله إل‬
‫صدقتني‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين ذقت حلوة الدنيا‬
‫فوجدتها مرة‪ ،‬فصغرت عندي زهرتها وحلوتها‪،‬‬
‫واستوى عندي ذهبها وحجرها‪ ،‬وكأني انظر إلى‬
‫عرش ربي والناس يساقون إلى الجنة والنار‪،‬‬
‫فأظمأت لذلك نهاري وأسهرت ليلي وقليل حقير‬
‫كل ما أنا فيه في جنب ثواب الله وعقابه‪.(1)#‬‬
‫انظر إلى هذا الشاب الذي نحل جسمه خوفا ً‬
‫من الله – عز وجل‪ ،‬وقارن بينه وبين كثير من‬
‫شيوخ هذا الزمن الذين بلغوا من العمر عتيًا‪ ،‬ومع‬
‫ذلك فهم ل زالوا يركضون بشدة وراء حطام الدنيا‬
‫الزائل‪ ،‬فاللهم أخرج حب الدنيا من قلوبنا‪ ،‬وارزقنا‬

‫‪ ()1‬إحياء علوم الدين للغزالي )‪.(4/356‬‬


‫ضعف‬ ‫‪186‬‬
‫اليمان‬
‫النس بمناجاتك وطاعتك‪$ .‬وقال أبو نعيم‪ :‬كان‬
‫داود الطائي يشرب الفتيت ول يأكل الخبز فقيل له‬
‫في ذلك فقال‪ :‬بين مضغ الخبز وشرب الفتيت‬
‫قراءة خمسين آية – انظر حرصه الشديد على‬
‫استغلل الوقت في العبادة‪ ...‬وقال أبو الدرداء‪ :‬لول‬
‫ثلث ما أحببت العيش يوما ً واحدًا‪ ،‬الظمأ لله‬
‫بالهواجر )الصوم في حر القيض( والسجود لله في‬
‫جوف الليل‪ ،‬ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلم‬
‫كما ينتقي أطايب الثمر‪.‬‬
‫وكان السود بن يزيد يجتهد في العبادة والصوم‬
‫في الحر حتى يصفر جسده‪ ،‬فكان علقمة بن قيس‬
‫يقول له‪ :‬لم تعذب نفسك؟ فيقول‪ :‬كرامتها أريد‪،‬‬
‫وكان يصوم حتى يخضر جسده‪ ،‬ويصلي حتى‬
‫يسقط فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقال‬
‫له‪ :‬إن الله – عز وجل – لم يأمرك بكل هذا؟‬
‫فقال‪ :‬إنما عبد مملوك ل أدع من الستكانة‬
‫شيئا ً إل جئت به‪.‬‬
‫وكان بعض المجتهدين يصلي ألف ركعة في‬
‫اليوم حتى أقعد من رجليه‪ ،‬فكان يصلي جالسا ً ألف‬
‫ركعة‪ ،‬فإذا صلى العصر احتبى ثم قال‪ :‬عجبت‬
‫للخليقة كيف أرادت بك بدل ً عنك! عجبت للخليقة‬
‫كيف أنست بسواك! بل عجبت للخليقة كيف‬
‫استنارت قلوبها بذكر سواك‪.‬‬
‫وكان ثابت البناني قد حببت إليه الصلة فكان‬
‫يقول‪ :‬اللهم إن كنت أذنت لحد أن يصلي في قبره‬
‫فأذن لي أن أصلي في قبري‪.‬‬
‫وقال الجنيد‪ :‬ما رأيت أعبد من السري‪ ،‬أتت‬
‫‪187‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫عليه ثمان وتسعون سنة‬
‫ما رئي مضطجعا ً إل في علة الموت!!‬
‫وقال الحارث بن سعد‪ :‬مر قوم بعابد فرأوا ما‬
‫يصنع بنفسه من شدة اجتهاده‪ ،‬فكلموه في ذلك‬
‫فقال‪ :‬وما هذا عندما يراد بالخلق من ملقاة‬
‫الهوال وهم غافلون؟ قد اعتكفوا على حظوظ‬
‫أنفسهم ونسوا حظهم الكبر من ربهم‪ ،‬فبكى القوم‬
‫عن آخرهم!‬
‫وقال محمد المغازلي‪ :‬جاور أبو محمد الجريري‬
‫بمكة المكرمة سنة فلم ينم! ولم يتكلم! ولم يستند‬
‫إلى عمود‪ ،‬ول إلى حائط‪ ،‬ولم يمد رجليه! فعبر‬
‫عليه أبو بكر الكتاني ليسلم عليه وقال له‪ :‬يا أبا‬
‫محمد بم قدرت على اعتكافك هذا؟ فقال علم‬
‫)الله ( صدق باطني‪ ،‬فأعانني على ظاهري!!‬
‫وقيل أن قوما ً أرادوا سفرا ً فحادوا عن الطريق‬
‫فانتهوا إلى عابد منفرد‬
‫عن الناس‪ ،‬فنادوه فأشرف عليهم من صومعته‪،‬‬
‫فقالوا ‪ :‬يا عابد إنا قد أخطأنا الطريق‪ ،‬فأومأ برأسه‬
‫إلى السماء‪ ،‬فعلم القوم ما أراد‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا عابد‬
‫إنا سائلوك فهل أنت مجيبنا؟ فقال‪ :‬سلوا ول تكثروا‬
‫فإن النهار لن يرجع‬
‫والعمر ل يعود‪ ،‬والطالب حثيث‪ ،‬فعجبوا من كلمه‬
‫فقالوا‪ :‬يا عابد علم الخلق غدا عند مليكهم؟ فقال‪:‬‬
‫على نياتهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬أوصنا‪ ،‬فقال‪ :‬تزودوا على قدر‬
‫سفركم فإن خير الزاد ما بلغ البغية‪ ،‬ثم أرشدهم‬
‫إلى الطريق‪،‬‬
‫وأدخل رأسه في صومعته‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪188‬‬
‫اليمان‬
‫وقال عبدالواحد بن زيد‪ :‬مررت بصومعة راهب‬
‫فناديته يا راهب فلم يجبني‪ ،‬فناديته الثانية فلم‬
‫ي وقال‪ :‬يا هذا ما‬ ‫يجبني‪ ،‬فناديته الثالثة فأشرف عل ّ‬
‫أنا براهب إنما الراهب من رهب الله في سمائه‪،‬‬
‫وعظمه في كبريائه‪ ،‬وصبر على بلئه‪ ،‬ورضي‬
‫بقضائه‪ ،‬وحمده على آلئه‪ ،‬وشكره على نعمائه‪،‬‬
‫وتواضع لعظمته‪ ،‬وذل لعزته‪ ،‬واستسلم لقدره‪،‬‬
‫وخضع لمهابته‪ ،‬وفكر في حسابه وعقابه‪ ،‬فنهاره‬
‫صائم وليله قائم‪ ،‬قد أسهره ذكر النار ومسألة‬
‫الجبار‪ ،‬فذلك هو الراهب وأما أنا فكلب عقور‪،‬‬
‫حبست نفسي في هذه الصومعة عن الناس لئل‬
‫أعقرهم!! قال عبد الواحد‪ :‬فسألته ما الذي قطع‬
‫الخلق عن الله تعالى بعد أن عرفوه؟ فقال‪ :‬يا أخي‬
‫لم يقطع الخلق عن الله تعالى إل حب الدنيا وزينتها‬
‫لنها محل المعاصي والذنوب والعاقل من رمى بها‬
‫عن قلبه وتاب إلى الله تعالى من ذنبه وأقبل على‬
‫ما يقربه من ربه‪.‬‬
‫وقال عبدالله بن داود‪ ،‬كان أحدهم إذا بلغ‬
‫أربعين سنة طوى فراشه‪ ،‬أي كان ل ينام طوال‬
‫الليل‪ ،‬بل يصلي ويذكر الله ويناجي ربه‪ ،‬وكان‬
‫كهمس بن الحسن يصلي كل يوم ألف ركعة ثم‬
‫يقول لنفسه‪ :‬قومي يا مأوى كل شر! فلما ضعف‬
‫اقتصر على خمسمائة ركعة‪ ،‬ثم كان يبكي ويقول‪:‬‬
‫ذهب نصف عملي‪ ،‬وكانت ابنة الربيع بن خثيم تقول‬
‫له‪ :‬يا أبتاه مالي أرى الناس ينامون وأنت ل تنام؟‬
‫فيقول‪ :‬يا أبنتاه إن أباك يخاف البيات‪ ،‬أي موت‬
‫الفجأة بحيث يمسي النسان ول يصبح إل ميتًا‪ ،‬ولما‬
‫رأت أم الربيع ما يلقى الربيع من البكاء والسهر‬
‫‪189‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫ل! قال نعم يا أماه‪،‬‬ ‫نادته‪ :‬يا بني لعلك قتلت قتي ً‬
‫قالت فمن هو حتى نطلب أهله فيعفو عنك فوالله‬
‫لو علموا ما أنت فيه لرحموك وعفو عنك فيقول يا‬
‫أماه هي نفسي‪.‬‬
‫وقال أحمد بن حرب‪ :‬يا عجبا ً لمن يعرف أن‬
‫الجنة تزين فوقه‪ ،‬وأنا النار تسعر تحته كيف ينام‬
‫بينهما! وقال رجل من النساك‪ ،‬أتيت إبراهيم بن‬
‫أدهم فوجدته قد صلى العشاء فقعدت أرقبه‪ ،‬فلف‬
‫نفسه بعباءة ثم رمى بنفسه فلم ينقلب من جنب‬
‫إلى جنب الليل كله حتى طلع الفجر‪ ،‬وأذن المؤذن‪،‬‬
‫ثم وثب إلى الصلة‪ ،‬ولم يحدث وضوءًا‪ ،‬فحاك ذلك‬
‫في صدري فقلت له‪ :‬رحمك الله قد نمت الليل كله‬
‫مضطجعا ً ثم لم تجدد الوضوء‪ ،‬فقال‪ :‬كنت الليل‬
‫كله جائل ً في رياض الجنة أحيانا ً وفي أودية النار‬
‫أحيانا ً فهل ذلك نوم‪.‬‬
‫وقال ثابت البناني‪ :‬أدركت رجال ً كان أحدهم‬
‫يصلي فيعجز عن أن يأتي فراشه إل حبوًا‪.‬‬
‫وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر‪ :‬غدوت‬
‫يوما ً وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة رضي الله عنها‪،‬‬
‫أسلم عليها‪ ،‬فغدوت إليها يوما ً فإذا هي تصلي صلة‬
‫الضحى وهي تقرأ ‪   ‬‬
‫‪]    ‬سورة الطور‪:‬‬
‫‪‬‬‫‪  ‬‬
‫‪ [27‬وتبكي وتدعو وتردد الية‪ ،‬فقمت حتى مللت‬
‫وهي كما هي‪ ،‬فلما رأيت ذلك ذهبت إلى السوق‬
‫فقلت أفرغ من حاجتي ثم أرجع‪ ،‬ففرغت من‬
‫حاجتي ثم رجعت وهي كما هي تردد الية وتدعو‬
‫وتبكي!!‬
‫وقال بعض الصالحين‪ :‬بينما أنا أسير في بعض‬
‫جبال بيت المقدس إذ هبطت إلى واد هناك فإذا أنا‬
‫ضعف‬ ‫‪190‬‬
‫اليمان‬
‫بصوت قد عل وإذا تلك الجبال تجيبه بصوت له دوي‬
‫عالي )صدى الصوت بين الجبال( فاّتبعت الصوت‬
‫فإذا أنا بروضة عليها شجر ملتف وإذا أنا برجل قائم‬
‫فيها يردد هذه الية ‪  ‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪] ‬سورة آل عمران‪ ،[30:‬قال‬
‫فجلست خلفه أسمع كلمه وهو يردد هذه الية إذ‬
‫خر مغشيا ً عليه فقلت واسفاه هذا لشقائي‪ ،‬ثم‬
‫انتظرت إفاقته فأفاق بعد ساعة وهو يقول‪ :‬أعوذ‬
‫بك من مقام الكذابين‪ ،‬أعوذ بك من أعمال‬
‫البطالين‪ ،‬أعوذ بك من إعراض الغافلين‪ ،‬ثم قال‬
‫لك خشعت قلوب الخائفين‪ ،‬وإليك فزعت آمال‬
‫المقصرين‪ ،‬ولعظمتك ذلت قلوب العارفين ثم‬
‫نفض يده فقال‪ :‬مالي وللدنيا وما للدنيا ولي؟ عليك‬
‫يا دنيا بأبناء جنسك وآلف نعيمك! إلى محبيك‬
‫فأذهبي‪ ،‬وإياهم فاخدعي! ثم قال‪ :‬أين القرون‬
‫الماضية‪ ،‬وأهل الدهور السالفة‪ ،‬في التراب يبلون‪،‬‬
‫وعلى الزمان يفنون ثم ناديته‪ :‬يا عبدالله أنا منذ‬
‫اليوم خلفك انتظر فراغك! فقال‪ :‬وكيف يفرغ من‬
‫يبادر الوقات وتبادره‪ ،‬يخاف سبقها بالموت إلى‬
‫نفسه؟ أم كيف يفرغ من ذهبت أيامه؟ وبقيت‬
‫آثامه؟ ثم قال‪ :‬أنت لها وكل شدة أتوقع نزولها يا‬
‫عني ساعة وقرأ ‪   ‬‬ ‫رب العالمين ثم لها‬
‫)‪(1‬‬

‫‪    ‬‬ ‫‪    ‬‬


‫‪]  ‬سورة الزمر‪ [47:‬ثم صاح‬
‫صيحة أخرى أشد من الولى فخر مغشيا ً عليه!‬
‫فقلت قد خرجت روحه فدنوت منه فإذا هو‬
‫يضطرب‪ ،‬ثم أفاق وهو يقول من أنا؟ ما خاطري؟‬
‫‪ ()1‬أنشغل‪.‬‬
‫‪191‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫هب لي إساءتي من فضلك! وجللني بسترك وأعف‬
‫عن ذنوبي بكرم وجهك إذا وقفت بين يديك! فقلت‬
‫له بالذي ترجوه لنفسك‪ ،‬وتثق به إل كلمتني‪ ،‬فقال‬
‫عليك بكلم من ينفعك كلمه‪ ،‬ودع كلم من أوبقته‬
‫ذنوبه‪ ،‬إني لفي هذا الموضع منذ ما شاء الله أجاهد‬
‫ي ليخرجني مما‬ ‫إبليس ويجاهدني فلم يجد عونا ً عل ّ‬
‫أنا فيه غيرك‪ ،‬فإليك عني يا مخدوع‪ ،‬فقد عطلت‬
‫ي لساني‪ ،‬وميلت إلى حديثك شعبة من قلبي‪،‬‬ ‫عل ّ‬
‫وأنا أعوذ بالله من شرك‪ ،‬ثم أرجو أن يعيذني من‬
‫سخطه‪ ،‬ويتفضل علي برحمته‪ ،‬قال‪ :‬فقلت هذا‬
‫ولي الله أخاف أن أشغله فأعاقب في موضعي هذا‬
‫فانصرفت وتركته‪.‬‬
‫تراه بقمة أو بطن‬ ‫نحيل الجسم مكتئب‬
‫وادي‬ ‫الفؤاد‬
‫يكدر ثقلها صفو‬ ‫ينوح على معاص‬
‫الرقاد‬ ‫فاضحات‬
‫فدعوته‪ :‬أغثني يا‬ ‫فإن هاجت مخاوفه‬
‫عمادي‬ ‫وزادت‬
‫كثير الصفح عن زلل‬ ‫فأنت بما ألقيه‬
‫العباد‬ ‫عليم‬

‫وكان كرز بن وبرة يختم القران في كل يوم‬


‫ثلث مرات! ويجاهد نفسه في العبادة غاية‬
‫المجاهدة فقيل له‪ :‬قد أجهدت نفسك‪ ،‬فقال‪ :‬كم‬
‫عمر الدنيا؟ فقيل سبعة آلف سنة‪ ،‬فقال‪ :‬كم‬
‫مقدار يوم القيامة؟ فقيل‪ :‬خمسون ألف سنة‬
‫سبع يوم حتى‬ ‫فقال‪ :‬كيف يعجز أحدكم أن يعمل ُ‬
‫يأمن ذلك اليوم؟ يعني أنك لو عشت عمر الدنيا‬
‫سبعة آلف سنة في عبادة لكي تنجو من هول يوم‬
‫ضعف‬ ‫‪192‬‬
‫اليمان‬
‫القيامة الذي مقداره خمسين ألف لكان ربحك‬
‫كثيرًا‪ ،‬وكنت بالرغبة فيها جديرًا‪ ،‬فكيف وعمرك‬
‫قصير؟! والخرة ل غاية لها‪.‬‬
‫وهذه بعض القصص عن أحوال المجتهدات من‬
‫النساء‪ ،‬ومنهن حبيبة العدوية‪ ،‬كانت إذا صلت‬
‫العشاء قامت على سطح لها‪ ،‬وشدت عليها درعها‬
‫وخمارها ثم قالت‪ :‬إلهي قد غارت النجوم‪ ،‬ونامت‬
‫العيون‪ ،‬وغلقت الملوك أبوابها‪ ،‬وخل كل حبيب‬
‫بحبيبه‪ ،‬وهذا مقالي بين يديك‪ ،‬ثم تقبل على صلتها‬
‫فإذا طلع الفجر قالت‪ :‬هذا الليل قد أدبر‪ ،‬وهذا‬
‫النهار قد أسفر‪ ،‬فليت شعري هل قبلت مني ليلتي‬
‫فأهنأ أم رددتها على فأعّزى؟ وعزتك لهذا دأبي‬
‫ودأبك ما أبقيتني‪ ،‬وعزتك لو انتهرتني عن بابك ما‬
‫برحت لما وقع في نفسي من جودك وكرمك‪.‬‬
‫ويروى عن عجرة أنها كانت تحيي الليل كله‪،‬‬
‫وكانت مكفوفة البصر‪ ،‬فإذا كان في السحر نادت‬
‫بصوت لها محزون‪ :‬إليك قطع العابدون دجى‬
‫الليالي يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك‪ ،‬إلهي‬
‫أسألك أن تجعلني في زمرة السابقين‪ ،‬وأن تلحقني‬
‫بالصالحين وتكثر الدعاء ثم تخر ساجدة‪ ،‬فل تزال‬
‫تدعو وتبكي إلى الفجر‪.‬‬
‫وقال يحيى بن بسطام‪ :‬كنت أشهد مجلس‬
‫شعوانة فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء‪،‬‬
‫فقلت لصاحب لي لو أتيناها إذا خلت فأمرناها‬
‫بالرفق بنفسها‪ ،‬فقال‪ :‬أنت وذاك‪ ،‬قال‪ :‬فأتيناها‬
‫فقلنا لها‪ :‬لو رفقت بنفسك‪ ،‬وأقصرت من هذا‬
‫البكاء‪ ،‬لكان أقوى لما تريدين‪ ،‬قال‪ :‬فبكت ثم‬
‫قالت‪ :‬والله لوددت أني أبكي حتى تنفد دموعي‪ ،‬ثم‬
‫ابكي دمًا‪ ،‬وأنى لي بالبكاء‪ ،‬وأني لي بالبكاء‪ ،‬فلم‬
‫تزل ترددها حتى غشي عليها‪ ،‬وقيل‪ :‬إن إحدى‬
‫‪193‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫صديقاتها المتعبدات رأتها بعد موتها في المنام‬
‫فقالت‪ :‬رأيت كأني أدخلت الجنة‪ ،‬فإذا أهل الجنة‬
‫قيام على أبوابهم‪ ،‬فقلت‪ :‬ما شأن أهل الجنة قيام؟‬
‫فقيل‪ :‬خرجوا ينظرون إلى هذه المرأة التي‬
‫زخرفت الجنان لقدومها فقلت‪ :‬ومن هذه المرأة؟‬
‫فقيل‪ :‬أمة سوداء من أهل اليكة يقال لها شعوانة‪:‬‬
‫فقلت‪ :‬أختي والله قالت‪ :‬فبينما أنا كذلك إذ أقبلت‬
‫على نجيبة تطير بها في الهواء‪ ،‬فلما رأيتها ناديت‪:‬‬
‫يا أختي أما ترين مكاني من مكانك فلو دعوت لي‬
‫ي وقالت‪:‬‬ ‫مولك فألحقني بك‪ ،‬قالت‪ ،‬فتبسمت إل ّ‬
‫لم يأن لقدومك ولكن احفظي عني اثنين‪ :‬ألزمي‬
‫الحزن قلبك‪ ،‬وقدمي محبة الله على هواك ل‬
‫يضرك متى مت‪.(1)#‬‬
‫هذا وبعد أن استعرضنا هذه المواقف القليلة‬
‫من أحوال الصالحين‪ ،‬فحري بنا أن نجتهد في‬
‫البحث عن المزيد منها في مظانها لينبعث نشاطنا‬
‫على فعل العمال الصالحة‪ ،‬ويزيد حرصنا على‬
‫مواصلة السير في طريق الدار الخرة‪ ،‬ولكي ل‬
‫تضعف أنفسنا‪ ،‬ويعتريها الوهن من كثرة ما نشاهد‬
‫من إعراض الغافلين‪ ،‬واجتراء اللهين على‬
‫المعاصي‪ ،‬خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه‬
‫الفتن‪ ،‬وشاع فيه الفساد‪ ،‬وتعددت فيه وسائل‬
‫العلم الهدامة‪ ،‬وتكالبت المم على المسلمين تريد‬
‫صرفهم عن دينهم‪ ،‬وقّلت أو انعدمت القدوة‬
‫الصالحة‪ ،‬لذا أصبح لزاما ً علينا أن نستفيد مما لدنيا‬
‫من كنوز عظيمة من سير الصالحين وأحوالهم التي‬
‫سجلها تراثنا العربي عبر القرون‪ ،‬ومنها حالت‬
‫تعتبر من خوارق العادات المدهشة‪ ،‬ومن غرائب‬
‫الطوار المحيرة‪ ،‬ويستحيل أن نجد لها مثيل ً في‬
‫‪ ()1‬انظر إحياء علوم الدين للغزالي )‪.(360-4/356‬‬
‫ضعف‬ ‫‪194‬‬
‫اليمان‬
‫هذه العصار المتأخرة‪ ،‬ولذلك فهي مفيدة لمن‬
‫أطلع عليها‪ ،‬بحيث تحيي القلوب الميتة‪ ،‬وتبعث‬
‫النشاط الخامد‪ ،‬وتشعل الحماس المنطفئ‪.‬‬
‫وعلينا أن نبحث عن سير الصالحين في مظانها‬
‫من كتب التراجم وكتب التاريخ‪ ،‬ول شك أن أهم‬
‫سير الصالحين هي سيرة النبي – صلى الله عليه‬
‫وسلم – فهي النبراس الذي يضيء للمؤمن طريقه‪،‬‬
‫وقد كتبت عنها كتب كثيرة تفوق الحصر‪ ،‬ولعل‬
‫أقدمها وأهمها السيرة النبوية لبن هشام‪ ،‬ومن‬
‫كتب التراجم التي ترجمت للصحابة خاصة‪ :‬الصابة‬
‫في تمييز الصحابة لبن حجر العسقلني‪،‬‬
‫والستيعاب في أسماء الصحاب لبن عبد البر‪،‬‬
‫وأسد الغابة في معرفة الصحابة لبن الثير‪،‬‬
‫والطبقات الكبرى لبن سعد‪.‬‬
‫أما الكتب التي ترجمت للصحابة وغيرهم‬
‫فأهمها كتاب حلية الولياء لبي نعيم الصفهاني‪،‬‬
‫وقد أخُتصر الكتاب عدة مرات‪ ،‬أهمها اختصار ابن‬
‫الجوزي المسمى صفة الصفوة‪ ،‬ثم اختصار محمد‬
‫بن الحسن الواسطي المسمى مجمع الحباب‬
‫وكلهما أضاف إضافات مفيدة‪ ،‬وأخيرا ً هناك‬
‫اختصار معاصر ورائع قام به الستاذ صالح أحمد‬
‫الشامي سماه ‪$‬تهذيب حلية الولياء‪ #‬وكتب‬
‫التراجم غير هذا كثيرة مثل سير أعلم النبلء‬
‫للذهبي‪ ،‬ووفيات العيان لبن خلكان‪ ،‬وطبقات‬
‫الشافعية الكبرى للسبكي‪ ،‬وشذرات الذهب لبن‬
‫العماد الحنبلي‪ ،‬وتهذيب الكمال للمزي‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫ومن الكتب التاريخية‪ :‬البداية والنهاية لبن كثير‪،‬‬
‫‪195‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫والكامل لبن الثير‪ ،‬والمنتظم في تاريخ ملوك‬
‫المم لبن الجوزي‪ ،‬وتاريخ المم والملوك لبن‬
‫جرير الطبري‪ ،‬وكل هذه الكتب ل تخلومن سير‬
‫الصالحين‪ ،‬ومواقفهم اليمانية المؤثرة ‪.‬‬
‫وهناك كتاب مفيد في هذا الجانب‪ ،‬هو إحياء‬
‫علوم الدين للغزالي‪ ،‬فقد نقل مواقف وصورا‬
‫مؤثرة من حياة الصالحين‪ ،‬كما أنه قد بلغ الغاية‬
‫القصوى في باب ترقيق القلوب ‪ ،‬وسوقها إلى‬
‫طريق الدار الخرة‪ ،‬وبيان مكائد شياطين‬
‫الجن والنس في إبعاد المسلم عن دينه‪،‬‬
‫وقد ذكر فيه من أحوال الصالحين جملة‬
‫صالحة ‪،‬تفي بالغرض؛ فأنصح بالطلع‬
‫عليه‪ ،‬فهو من أهم كتب الرقائق ‪.‬‬
‫كما ل يفوتني أن ُأنّبه إلى أمرٍ مهم في هذا‬
‫الباب وهو الطلع على كتب الرقائق بصفة عامة‬
‫فهي تمد القلوب بالوقود اليماني ول غنى للمسلم‬
‫عنها‪ ،‬بل أن البتعاد عنها أحد أسباب قسوة القلب‪،‬‬
‫وأقصد بكتب الرقائق تلك الكتب التي تقود‬
‫النسان إلى طريق الستقامة والتقوى والدار‬
‫الخرة‪ ،‬وتحذره من الغترار بالدنيا‪ ،‬وتبين له‬
‫حقارتها‪ ،‬وسرعة انقضائها‪ ،‬وخسة شركائها‪ ،‬كما‬
‫أنها تصف له الجنة بما فيها نعيم وسمو‪ ،‬فتستدر‬
‫بذلك كامن أشواقه‪ ،‬وتشعل جذوة نشاطه للعمال‬
‫الصالحة‪ ،‬فتمل نفسه بالفكار الطيبة الطاهرة‪،‬‬
‫وتشغل أوقاته بألوان الطاعة والعبادة‪ ،‬بحيث ل‬
‫يجد الشيطان إلى روحه سبي ً‬
‫ل‪.‬‬
‫وكتب الرقائق كثيرة جدًا‪ ،‬منها أغلب كتب ابن‬
‫ضعف‬ ‫‪196‬‬
‫اليمان‬
‫قيم الجوزية ول سيما كتابه القيم مدارج السالكين‬
‫بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين‪ ،‬وكتاب الزهد‬
‫للمام أحمد بن حنبل‪ ،‬وكتاب إحياء علوم الدين‬
‫للغزالي‪ ،‬وجميع كتب التفسير وكتب الحديث نافعة‬
‫في ترقيق القلوب‪ ،‬وتقوية اليمان‪ ،‬كما أن هناك‬
‫كتب معاصره في هذا الباب تحت عنوان الرقائق أو‬
‫تزكية النفوس أو الزهد لمؤلفين كثر‪.‬‬

‫‪‬‬
‫‪197‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫ضعف‬ ‫‪198‬‬
‫اليمان‬

‫زيــــارة المقـــابر‬

‫قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – ‪:‬‬


‫‪$‬زوروا القبور فإنها تذكركم الموت‪ #‬رواه‬
‫مسلم‪ .‬وقد زار النبي عليه السلم قبر أمه فبكى‪،‬‬
‫وأبكى من حوله‪ ،‬وقال‪ :‬استأذنت ربي في أن‬
‫استغفر لها فلم يؤذن لي‪ ،‬واستأذنته في أن أزور‬
‫قبرها فأذن لي‪ ،‬ثم حث الناس على زيارة المقابر‬
‫لنها تذكر بالدار الخرة‪ ،‬وتذكر بالموت‪ ،‬وهي بذلك‬
‫تطرد الغفلة عندما تخيم على النفوس‪ ،‬وتذيب‬
‫قسوة القلب عندما تبعد النسان عن طريق الدار‬
‫الخرة‪ ،‬حيث يرى تلك الحفرة الحقيرة التي تفتقر‬
‫إلى كل شيء مما يتطلع إليه الناس‪ ،‬فهذا القبر‬
‫الذي هو البيت الدائم للنسان‪ ،‬عبارة عن شق في‬
‫الرض ل يتجاوز متر في مترين يحفر خلل ساعة‬
‫واحدة بحيث يكون بعدها جاهزا ً للستخدام‪.‬‬
‫ونحن في الدنيا نبني بيوتنا ونتفنن في عمارتها‬
‫بحيث يستغرق البنيان سنين معدودة‪ ،‬وقد يموت‬
‫بعضهم قبل أن يستكمل بنيان بيته‪ ،‬فعندما يزور‬
‫النسان المقابر‪ ،‬ويراها من قرب‪ ،‬ويستشعر أنه‬
‫سيكون يوما ً ما من سكانها‪ ،‬وأن ما هو فيه من دنيا‬
‫سيتركه حتمًا‪ ،‬كما تركه قبله سكان هذه المقابر‪ ،‬ل‬
‫شك أن هذه الحالة تعتبر أقوى موعظة‪ ،‬وأشد‬
‫ذكرى يمكن أن تحدث في النفس هزة عنيفة‬
‫تجعلها تعود إلى رشدها‪ ،‬وتراقب ربها وتعمل‬
‫العمال التي تقربها إلى الخالق‪ ،‬وتباعدها عن النار‪،‬‬
‫‪199‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫إن زيارة المقابر علج ناجح لقسوة القلب‪،‬‬
‫وسيطرة الغفلة‪ ،‬لمن هداه الله وكتب له التوفيق‪.‬‬
‫قال المام القرطبي في كتابه ‪$‬التذكرة في‬
‫أحوال الموتى وأمور الخرة‪$ #‬ليس للقلوب أنفع‬
‫من زيارة القبور‪ ،‬وخاصة إذا كانت قاسية فعلى‬
‫أصحابها أن يعالجوها بأربعة أمور‪:‬‬
‫‪ -1‬القلع عما هي عليه من الذنوب والمعاصي‬
‫وذلك بحضور مجالس العلم والوعظ‬
‫والتذكر والتخويف والترغيب وأخبار‬
‫الصالحين‪ ،‬فإن ذلك مما يلين القلب وينجع‬
‫فيه‪.‬‬
‫‪ -2‬ذكر الموت‪ ،‬وينبغي الكثار منه‪ .‬يروى أن‬
‫امرأة شكت إلى عائشة – رضي الله عنها –‬
‫قساوة قلبها فقالت أكثري من ذكر الموت‬
‫يرق قلبك‪.‬‬
‫‪ -3‬مشاهدة المحتضرين‪ ،‬فإن النظر إلى الميت‬
‫ومشاهدة سكراته ونزعاته‪ ،‬وتأمل صورته‬
‫بعد مماته ما يقطع عن النفوس لذاتها‪،‬‬
‫ويطرد عن القلوب مسراتها ويمنع الجفان‬
‫من النوم‪ ،‬والبدان من الراحة‪ ،‬ويبعث على‬
‫العمل ويزيد في الجتهاد‪.‬‬
‫يروى أن الحسن البصري دخل على مريض‬
‫فوجده في سكرات الموت‪ ،‬فنظر إلى كربه وشدة‬
‫ما نزل به‪ ،‬فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به‬
‫من عندهم‪ ،‬فقالوا له الطعام يرحمك الله‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬
‫أهله عليكم بطعامكم وشرابكم‪ ،‬فوالله لقد رأيت‬
‫ضعف‬ ‫‪200‬‬
‫اليمان‬
‫مصرعا ً ل أزال أعمل له حتى ألقاه‪.‬‬
‫فهذه ثلثة أمور ينبغي لمن قسى قلبه ولزمه‬
‫ذنبه أن يستعين بها على دواء دائه‪ ،‬ويستصرخ بها‬
‫على فتن الشيطان وإغوائه‪ ،‬فإن انتفع بها فذاك‪،‬‬
‫وأن عظم عليه ران القلب‪ ،‬واستحكمت فيه دواعي‬
‫الذنب؛ فزيارة قبور الموتى تبلغ في دفع ذلك مال‬
‫يبلغه الول والثاني والثالث‪ ،‬ولذلك قال عليه‬
‫السلم‪$ :‬زوروا القبور فإنها تذكر الموت‬
‫والخرة وتزهد في الدنيا‪...#‬‬
‫وينبغي لمن عزم على زيارة المقابر أن يتأدب‬
‫بآدابها‪ ،‬ويحضر قلبه عند إتيانها‪ ،‬ول يكون حظه‬
‫الطواف على الجداث بدون فكر واعتبار‪ ،‬بل يقصد‬
‫بزيارته وجه الله تعالى‪ ،‬وإصلح فساد قلبه‪ ،‬ونفع‬
‫الميت بالدعاء‪ ،‬ويجتنب المشي على المقابر‪،‬‬
‫ويسلم إذا دخل المقابر ويخاطبهم خطاب‬
‫الحاضرين فيقول‪$ :‬السلم عليكم دار قوم‬
‫مؤمنين‪ ...#‬ثم يعتبر بمن صار تحت التراب‪،‬‬
‫وانقطع عن الهل والحباب‪ ،‬بعد أن قاد الجيوش‬
‫والعساكر‪ ،‬ونافس الصحاب والعشائر‪ ،‬وجمع‬
‫الموال والذخائر‪ ،‬فجاءه الموت في وقت لم‬
‫يحتسبه‪ ،‬وهول لم يرتقبه‪ ،‬فليتأمل الزائر حال من‬
‫مضى من أخوانه‪ ،‬ودرج من أقرانه‪ ،‬الذين بلغوا‬
‫المال‪ ،‬وجمعوا الموال‪ ،‬كيف انقطعت آمالهم؟‬
‫ولم تغن عنهم أموالهم‪ ،‬ومحا التراب محاسن‬
‫وجوههم‪ ،‬وتفرقت في القبور أجزاؤهم‪ ،‬وترمل‬
‫بعدهم نساؤهم‪ ،‬وشمل ذل اليتيم أولدهم‪...‬‬
‫وليتذكر ترددهم في المآرب‪ ،‬وحرصهم على‬
‫نبيل المطالب وانخداعهم لمؤاتاة السباب‪ ،‬وركونهم‬
‫‪201‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫إلى الصحة والشباب‪ ،‬وليعلم أن ميله إلى اللهو‬
‫واللعب كميلهم‪ ،‬وغفلته عما بين يديه من الموت‬
‫الفظيع والهلك السريع كغفلتهم‪ ،‬وأنه لبد صائر إلى‬
‫مصيرهم‪ ،‬وليحضر بقلبه ذكر من كان مترددا ً في‬
‫أغراضه‪ ،‬وكيف تهدمت رجله‪ ،‬وكان يتلذذ بالنظر‬
‫إلى ما حوله وقد سالت عيناه‪ ،‬ويصول ببلغة نطقه‪،‬‬
‫وقد أكل الدود لسانه‪ ،‬ويضحك لمؤاتاة دهره وقد‬
‫أبلى التراب أسنانه‪ ،‬وليتحقق أن حاله كحاله‪ ،‬ومآله‬
‫كمآله‪ ،‬وعند هذا التذكر والعتبار‪ ،‬تزول عنه جميع‬
‫الطماع الدنيوية ويقبل على العمال الخروية‪،‬‬
‫فيزهد في دنياه‪ ،‬ويقبل على طاعة موله‪ ،‬ويلين‬
‫قلبه‪ ،‬وتخشع جوارحه‪.(1)#‬‬
‫ومن المهم لمن أراد زيادة إيمانه ومراقبة قلبه‬
‫أن يخصص أوقاتا ً معينة لزيارة المقابر سواء كانت‬
‫أسبوعية أو شهرية أو غير ذلك‪ ،‬وينبغي لمن يزور‬
‫المقابر أن يفرغ قلبه من هموم الدنيا ومشاغلها‪،‬‬
‫ويختار الوقات المناسبة ليتحقق الهدف من‬
‫الزيارة‪ ،‬وهو العتبار والذكرى التي تؤدي إلى‬
‫النهماك في العمال الصالحة برغبة صادقة‪ ،‬ونفس‬
‫صافية بعيدة التعلق بحطام الدنيا الزائل‪ ،‬وكل ذلك‬
‫يحتاج إلى مجاهدة قبل الزيارة وأثنائها وبعدها‪،‬‬
‫كيف ل؟ والشيطان عدو متربص بالمؤمن‪ ،‬يريد أن‬
‫يفسد عليه كل خطة فيها صلحه‪ ،‬وخلصه من‬
‫الرذائل‪ ،‬وعتق رقبته من النار‪.‬‬
‫وينبغي أن يكثر زائر المقابر من التأمل في‬
‫هذه الدار التي أصبح أهلها مرتهنون بأعمالهم‪ ،‬ل‬
‫ينفعهم إل عمل صالح قدموه‪ :‬من صلة أو صيام أو‬
‫‪ ()1‬التذكرة في أحوال الموتى وأمور الخرة للقرطبي )‪.(22-19‬‬
‫ضعف‬ ‫‪202‬‬
‫اليمان‬
‫صدقة أو قراءة قرآن أو ذكر لله أو السعي في‬
‫حاجة المسلمين وغير ذلك من العمال الصالحة‬
‫الكثيرة‪.‬‬
‫يروى أن أحد الصالحين لحظ بعض زوار القبور‬
‫وهو مشتغل بأمور الدنيا‪ ،‬بعيد عن العظة بأهل‬
‫المقابر فقال له‪ :‬أن هؤلء الموات ل يتمنى أحد‬
‫منهم إل أن يكون باستطاعته أن يصلي ركعتين لله‬
‫– سبحانه وتعالى – وهي عنده خير من الدنيا وما‬
‫فيها‪ ،‬ففكر بأمرك عندما تصير إلى ما صاروا إليه!‬
‫فلنتأمل هذه العبارة كثيرًا! فكيف أن أقصى‬
‫وأعظم ما يتمناه أهل‬
‫المقابر أن يصلوا ركعتين! وقد حيل بينهم وبين‬
‫ذلك‪ ،‬أما نحن فلزلنا في زمن المهلة‪ ،‬فلماذا ل‬
‫نقبل على الصلوات وسائر العمال الصالحة برغبة‬
‫صادقة ونفس منشرحة؟‬
‫صر دائما ً في صلواتنا؟ خاصة الصلة‬ ‫لماذا نق ّ‬
‫مع الجماعة حيث يغلبنا الكسل ولذة النوم فنضيع‬
‫كثيرا ً منها مثل صلة الفجر‪.‬‬
‫لماذا ل نأخذ أهبتنا لهذه الصلة فننام مبكرا ً‬
‫لكي نتمكن من أدائها مع جماعة المسلمين في‬
‫المسجد؟ أين نحن من التوجيه النبوي الكريم حيث‬
‫نهى النبي – عليه السلم – عن السهر بعد صلة‬
‫العشاء‪ ،‬ونهى عن النوم قبلها؟‬
‫كل ذلك من أجل الحفاظ على صلة الفجر‪،‬‬
‫أين نحن من صلة النافلة مثل قيام الليل حيث‬
‫يخلو النسان بنفسه في جوف الليل يناجي ربه‬
‫بعيدا ً عن أعين الناس‪ ،‬ل يريد بعمله ذلك إل وجه‬
‫‪203‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫الله – سبحانه وتعالى –‬
‫أليس قيام الليل مع الصيام هو الذي جعل‬
‫الصالحين يرغبون في الحياة‪ ،‬ويجدون فيها متعة‬
‫وأنسا ً لم يجدهما من تنعم بكل شهوات الدنيا‪،‬‬
‫وكانوا يقولون‪ :‬لول ظمأ الهواجر‪ ،‬وسهر الليالي‪ ،‬ما‬
‫أحببنا البقاء في هذه الدنيا‪ ،‬إذن فعلينا أن نتذكر‬
‫دائما ً حال أهل المقابر‪ ،‬الذين يتمنون صلة ركعتين‬
‫فقط فل يمكنون من ذلك‪ ،‬ونقبل نحن على العمال‬
‫الصالحة مادمنا في زمن المهلة‪ ،‬والمسلم ينبغي له‬
‫دائما ً أن يتفقد إيمانه وما نقص منه‪ ،‬ويبادر بسرعة‬
‫إلى العلج إن كان ثمة مرض في القلب‪ ،‬فاليمان‬
‫هو الوقود الذي به تحصل العمال الصالحة‪ ،‬وزيارة‬
‫القبور إحدى وسائل تفقد اليمان والرتقاء به إلى‬
‫مصاف أولياء الله الصالحين‪ ،‬فعندما يقوم المسلم‬
‫بهذه الزيارة منفردًا‪ ،‬ويقف على شفير قبر مفتوح‪،‬‬
‫يتأمل في أكناف هذا المسكن الذي لبد أن يحل به‬
‫جميع الناس من المير إلى الفقير‪ ،‬وهنا يحصل‬
‫التشابه التام بين هذه المساكن فليس هناك قبر‬
‫أجمل من قبر كما هو الحال في الدنيا بين قصور‬
‫الثرياء وأكواخ الفقراء‪.‬‬
‫هذا المسكن الذي ترى جميع أطرافه وزواياه‬
‫من نظرة واحدة‪ ،‬فليس هناك أسرار‪ ،‬ول أقبية‬
‫سرية‪ ،‬ول غرف خاصة‪ ،‬أن كل شيء مفتوح‬
‫أمامك‪ ،‬إن ساكن هذا القبر سيمكث فيه ما شاء‬
‫الله‪ ،‬بحيث أنه لن يتحول منه إلى غيره أبدًا‪ ،‬ففكر‬
‫أيها النسان لماذا الهتمام والنصب من أجل بيوت‬
‫الدنيا التي ربما يتركها النسان ويتحول عنها خلل‬
‫حياته زاهدا ً فيها إلى غيرها؟ أليس من الحكمة أن‬
‫نصرف جل اهتمامنا للستعداد لهذا السكن الدائم‬
‫ضعف‬ ‫‪204‬‬
‫اليمان‬
‫وما بعده؟ لماذا ل يكون اهتمامنا بالخرة قدر‬
‫اهتمامنا بالدنيا على القل؟‬
‫والحقيقة أن اهتمامنا بالدنيا يفوق أمر الخرة‬
‫كثيرًا!! بدليل أننا عندما ننشغل بأمر من أمور الدنيا‬
‫نندمج فيه بكل قوانا بحيث ل يشغلنا عنه شيء‪ ،‬أما‬
‫إذا اشتغلنا بأمر من أمور الخرة فإننا ل ننصرف‬
‫إليه بكل قوانا‪ ،‬بل ندنسه بالنشغال الذهني بأمور‬
‫الدنيا‪ ،‬وذلك مثل الصلة فمن منا تسلم له صلته‬
‫من الخواطر والتفكير في أمورنا اليومية إل من‬
‫رحمه الله‪ ،‬والله المستعان!!‬
‫فجدير بمن عرف هذه الدنيا وأيقن أنه عنها‬
‫راحل‪ ،‬ورأي مسكنه بعدها وتأمل في ضيق‬
‫مساحته‪ ،‬وتقارب أطرافه‪ ،‬وظلمة أكنافه؛ أن يشمر‬
‫عن ساعد الجد‪ ،‬ويستعد لذلك اليوم الرهيب‬
‫بالعمال الصالحة التي تنجيه من عذاب القبر‪،‬‬
‫وتؤنس وحشته عندما يفارق الهل والحباب ويوصد‬
‫دونه الباب‪ ،‬فل خليل يسليه‪ ،‬ول قريب يعطف‬
‫عليه‪      ،‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪]     ‬سورة الشعراء‪.[89-88:‬‬
‫ففي ذلك اليوم ل ينفعه إل أعماله الصالحة‪،‬‬
‫التي هو الن يتكاسل عنها‪ ،‬ويتمحل العذار لكي‬
‫يتركها انصرافا ً إلى ما هو أشهى إلى نفسه من‬
‫شهوات الدنيا التي سرعان ما تزول‪.‬‬
‫ول شك أن رؤية المقابر والتأمل في حال أهلها‬
‫أكبر ما يعظ به النسان نفسه‪ ،‬خاصة عندما يفكر‬
‫في حال من يعرف منهم‪ ،‬كيف كان لهم آمال‬
‫‪205‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫وطموحات ومشاريع ينوون القيام بها‪ ،‬ولكن حال‬
‫بينهم وبينها هادم اللذات ومفرق الجماعات؟ لم‬
‫يمهلهم الموت حتى يكملوا مشاريعهم ولم يتوقعوا‬
‫أبدا ً أن يرحلوا عن الدنيا بهذه السرعة حيث كان‬
‫بعضهم في ريعان الشباب‪.‬‬
‫فالمقابر هي الواعظ الصامت كما يسميها‬
‫الشيخ عبدالحميد البللي حيث يقول‪$ :‬هو ما يفتأ‬
‫صامتا ً ل يتكلم‪ ،‬ولكن صوته في أعماق الناس أعلى‬
‫من صوت ذلك الواعظ الجهوري الصوت‪ ،‬ل يملك‬
‫العبارات المنمقة المصفوفة‪ ،‬ولكن منظره أعمق‬
‫من كل عبارات الوعظ‪...‬‬
‫وما يفيقون حتى‬ ‫الناس في غفلة‬
‫ينفذ العمر‬ ‫والموت يوقظهم‬
‫وينظرون إلى ما فيه‬ ‫يشيعون أهاليهم‬
‫قد قبروا‬ ‫بجمعهم‬
‫كأنهم ما رأوا شيئا ً‬ ‫ويرجعون إلى أحلم‬
‫ول نظروا‬ ‫غفلتهم‬

‫فزيارة ذلك الواعظ من أكبر أسباب تقوية‬


‫القلب‪ ،‬وإزالة تلك الغشاوة‪ ،‬فأنت عندما تذهب إلى‬
‫المسجد يوم الجمعة تستمع إلى واعظ واحد‪،‬‬
‫فالمصلون كثيرون والواعظ واحد‪ ،‬ولكن الصورة‬
‫تنقلب في المقبرة‪ ،‬حيث تتحول كل القبور إلى‬
‫عاظ‪ ،‬وأنت تستمع إليهم في آن واحد‪،‬‬
‫و ّ‬
‫عاظ كثر‪ ،‬وهذه حالة فريدة‬‫فالمستمعون قليل والو ّ‬
‫)‪(1‬‬
‫ل تكون في أمور الدنيا إل في ذلك المكان!‪#‬‬

‫‪ ()1‬واحة اليمان – عبدالحميد البللي )‪.(115-113‬‬


‫ضعف‬ ‫‪206‬‬
‫اليمان‬
‫وعندما نزور المقابر فإنها تذكرنا بأناس قد لفهم‬
‫الفناء‪ ،‬وطواهم العدم‪ ،‬وخالطوا التراب ‪$‬كأن الحي‬
‫على هذه الرض هو القبر النسان ل الجسم‬
‫النساني‪ ،‬فإنك لتجد قبورا ً من ألف سنة ول تجد‬
‫إنسانا ً في بعض عمرها‪ ،(1)#‬كم هي مرعبة فكرة‬
‫الفناء هذه! والشد منها رعبا ً ما يلقيه النسان من‬
‫مصير بعد الموت‪ ،‬خاصة أول مرة ينفرد فيها في‬
‫قبره حيث هناك عذاب القبر الذي‬
‫ل ينجو منه إل من رحم الله – سبحانه وتعالى – ‪.‬‬
‫أيها النسان مادام هذه مصيرك وقصارى أمرك‬
‫فلماذا التقاتل والخصام من أجل هذه الدنيا‬
‫الزائلة؟‬
‫لماذا تظلم أخاك النسان لجل حيازة شيء‬
‫من أمور الدنيا لن يبقى معك إل أياما ً معدودة‪،‬‬
‫وسترحل عنه أو يرحل عنك؟‬
‫أنسيت أن القبر ينتظرك‪ ،‬وأن أهوال القيامة‬
‫أمامك يقول الرافعي‪$ :‬من يهرب من شيء تركه‬
‫وراءه إل القبر فما أحد يهرب منه إل وجده أمامه؛‬
‫أبدا ً ينتظر غير متململ‪ ،‬وأنت أبدا ً متقدم إليه غير‬
‫متراجع‪ ،‬وليس في السماء عنوانا ً لما ل يتغير إل‬
‫اسم الله‪ ،‬وليس في الرض عنوان لما ل يتغير إل‬
‫اسم القبر‪....‬‬
‫فتحنا القبر وأنزلنا الميت العزيز الذي شفى من‬
‫مرض الحياة ووقفت هناك‪ ،‬بل وقف التراب‬
‫المتكلم يعقل عن التراب الصامت ويعرف منه أن‬
‫العمر على ما يمتد محدود بلحظة‪ ،‬وأن القوة على‬
‫‪ ()1‬كتاب المسالكين – مصطفى صادق الرافعي )‪.(62‬‬
‫‪207‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫ما تبلغ محدودة بخمود‪ ،‬وأن الغايات على ما تتسع‬
‫محدودة بانقطاع‪ ،‬وحتى القارات الخمس محدودة‬
‫بقبر‪ ....‬فيا عجبا ً للقبور مأهولة بملء الدنيا وليس‬
‫فيها أحد! أية ذرة من التراب هي التي كانت نعمة‬
‫ورغدًا‪ ،‬وأيتها كانت بؤسا ً وشقاء‪ ،‬وأيتها كانت حبا ً‬
‫ورحمة؟‬
‫سألت القبر‪ :‬أين المال والمتاع؟ وأين الجمال‬
‫والسحر؟ وأين الصحة والقوة؟ وأين المرض‬
‫والضعف؟ وأين القدرة والجبروت؟ وأين الخنوع‬
‫والذلة؟‪ ..‬قال‪ :‬كل هذه صور فكرية ل تجيء إلى‬
‫هنا؛ لنها ل تؤخذ من هنا! فلو أنهم أخذوا هدوء‬
‫القبر لدنياهم‪ ،‬وسلمه لنزاعهم‪ ،‬وسكونه لتعبهم‪،‬‬
‫لسخروا الموت فيما سخروه من نواميس‬
‫الكون!‪...‬‬
‫واها ً لك أيها القبر! ل تزال تقول لكل إنسان‬
‫تعال‪ ،‬ول تبرح كل الطرق تفضي إليك‪ ،‬فل يقطع‬
‫بأحد دونك‪ ،‬ول يرجع من طريق راجع‪ ،‬وعندك‬
‫وحدك المساواة‪ ،‬فما أنزلوا قط فيك ملكا ً عظامه‬
‫من ذهب‪ ،‬ول بطل ً عضلته من حديد‪ ،‬ول أميرا ً‬
‫جلده من ديباج‪ ،‬ول وزيرا ً وجهه من حجر‪ ،‬ول غنيا ً‬
‫جوف خزانة‪ ،‬ول فقيرا ً علقت في أحشائه‬
‫مخلة‪.(1)#‬‬

‫‪ ()1‬كتاب المساكين لمصطفى صادق الرافعي )‪.(64-63‬‬


‫ضعف‬ ‫‪208‬‬
‫اليمان‬
‫‪‬‬
‫‪209‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬

‫قراءة القرآن قراءة فهم وتدبر‬


‫ل شك أن أفضل شيء نعالج بــه قضــية ضــعف‬
‫اليمان هو كتـاب اللـه – سـبحانه وتعـالى – إن فـي‬
‫هذا الكتاب الكريم ما يقنــع العقـل و يهــز الوجــدان‪،‬‬
‫ويحرك المشاعر‪ ..‬ويفتــح العيــون لــترى آيــات اللــه‬
‫سبحانه التي بثها في آفاق السموات والرض‪ #‬قال‬
‫تعالى‪    :‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪] ‬ســـورة‬ ‫‪ ‬‬
‫فصلت‪ [53:‬وقال تعالى‪   :‬‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪]  ‬سورة الذاريات‪.[21-20:‬‬

‫‪$‬وعصرنا الذي نعيش فيه‪ ،‬هو عصر العلم‬


‫والقناع ل يقبل فيه قول إل بدليل‪ ..‬والعقيدة‬
‫السلمية في هذا العصر هي العقيدة الوحيدة التي‬
‫تملك الدليل المقنع والحجة القاطعة‪ ..‬بينما ل تملك‬
‫الديان المحرفة والمذاهب المبتدعة دليل ً ول حجه!‬
‫ولهذا يكثر عدد الذين يدخلون في السلم في‬
‫المجتمعات الغربية يوما ً بعد يوم‪ ..‬وأكثرهم يدخلون‬
‫في دين الله بقراءة يسيرة لترجمة بعض آيات‬
‫القرآن‪..‬‬
‫فكيف بهم لو أنهم قرؤوا القرآن بلسان عربي‬
‫مبين‪ ..‬يؤدي إليهم دقائق المعاني ولطائف‬
‫ضعف‬ ‫‪210‬‬
‫اليمان‬
‫الشارات التي ل يستطيع نقلها مع الترجمة؟!‪. #‬‬
‫)‪(1‬‬

‫إذن فعلينا أن نقبل على قراءة كتاب ربنا –‬


‫سبحانه وتعالى – بعد أن نطهر أنفسنا من شوائب‬
‫الدنيا‪ ،‬ونصفي قلوبنا من أدران الحياة‪ ،‬وهنا سنجد‬
‫ذلك الثر العجيب للقرآن كما وجده الصالحون‬
‫قبلنا‪ ،‬حيث وجدوا النس بالله وبكتابه‪ ،‬ثم صغرت‬
‫الدنيا في أعينهم وأنفسهم فلم يعبأوا بها‪ ،‬وبذلك‬
‫قل حزنهم وألمهم لجلها‪ ،‬وأصبح همهم الكبر هو‬
‫رضا ربهم – سبحانه وتعالى – والنجاة من النار‬
‫والفوز بالجنة‪.‬‬
‫يروى عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب‬
‫بأنهما كانا يقولن‪$ :‬لو طهرت أنفس المسلمين ما‬
‫شبعت من كتاب الله‪.#‬‬
‫فلبد من عودة صادقة إلى كتاب الله تعالى‪،‬‬
‫ولبد من قراءة واعية نتدبر معها معانيه‪ ،‬ونفهم‬
‫مراميه‪ ،‬ونستوعب أحكامه‪ ،‬ونعمل بأوامره‪ ،‬ونجتنب‬
‫نواهيه‪.‬‬
‫وعلينا أن نقرأ لجل ذلك بعض كتب التفسير‪،‬‬
‫وبعض كتب التجويد‪،‬وكتب علوم القرآن‪ ،‬وأهم من‬
‫ذلك أن نتقن تلوة كلم الله تعالى‪ ،‬وكتاب الله‬
‫تعالى يعتبر أساس العلوم ومنبعها‪ ،‬فأكثرها لم يظهر‬
‫إلى الوجود إل بسبب القرآن وخدمة له مثل الفقه‬
‫والنحو والتفسير والبلغة لذا يجب أن نبدأ أول ً‬
‫بالقرآن وندرسه من جميع الجوانب‪ ،‬ثم ننطلق بعد‬
‫ذلك في رحاب المعرفة‪.‬‬
‫يقول الشيخ جلل الدين السيوطي‪$ :‬القرآن‬
‫‪ ()1‬اليمان في القرآن‪ ،‬د‪.‬مصطفى عبدالواحد )‪.(6‬‬
‫‪211‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫الكريم هو مفجر العلوم ومنبعها‪ ،‬ودائرة شمسها‬
‫ومطلعها‪ ،‬أودع فيه سبحانه وتعالى علم كل شيء‪،‬‬
‫وأبان فيه كل هدى وغي‪ ،‬فترى كل ذي فهم منه‬
‫يستمد‪ ،‬وعليه يعتمد‪ ،‬فالفقيه يستنبط منه الحكام‪،‬‬
‫ويستخرج منه الحلل والحرام‪ ،‬والنحوي يبني منه‬
‫قواعد إعرابه‪ ،‬ويرجع إليه في معرفة خطأ القول‬
‫وصوابه‪ ،‬والبياني يهتدي به إلى حسن النظام‪،‬‬
‫ويعتبر مسالك البلغة في صوغ الكلم‪ ،‬وفيه من‬
‫القصص والخبار ما يذكر أولي البصار‪ ،‬ومن‬
‫المواعظ والمثال ما يزدجر به أولوا الفكر‬
‫والعتبار‪ ،‬إلى غير ذلك من علوم ل يقدر قدرها إل‬
‫من علم حصرها‪ ،‬هذا مع فصاحة لفظ وبلغة‬
‫أسلوب‪ ،‬تبهر العقول‪ ،‬وتسلب القلوب وإعجاز نظم‬
‫ل يقدر عليه إل علم الغيوب‪.(1)#‬‬
‫ول شك أن استيعاب المسلم لجميع علوم‬
‫القرآن‪ :‬من إتقان التلوة‪ ،‬إلى فهم معاني اليات‪،‬‬
‫ومعرفة ما ترمي إليه من أفكار سامية ؛ يساعد‬
‫على تدبر القرآن أثناء التلوة‪ ،‬والنفوذ إلى ما فيه‬
‫من لطائف وإشارات‪ ،‬وبذلك تحيا القلوب‪ ،‬ويزداد‬
‫اليمان ويحصل النس بكتاب الله‪ ،‬وذلك هو‬
‫المطلب السمى والسعادة الكبرى‪ ،‬ول شك أن‬
‫تحقيق هذا المر سهل ويسير‪ ،‬فالكتب التي تخدم‬
‫كتاب الله متوفرة في جميع المكتبات‪ ،‬والعلماء‬
‫المحتسبون موجودون في الجامعات والمساجد‬
‫وحلقات العلم‪ ،‬وليس هناك من عائق‬
‫إل الكسل ووهن العزائم‪ ،‬فلنستعذ بالله من الكسل‬
‫كما استعاذ منه الرسول – عليه السلم – ولنبدأ‬
‫الخطوة الولى‪.‬‬
‫‪ ()1‬التقان في علوم الدين‪.(3-1) ،‬‬
‫ضعف‬ ‫‪212‬‬
‫اليمان‬
‫فالقرآن مفتاح كل خير‪ ،‬وقراءته من أفضل ما‬
‫يتقرب به العبد إلى ربه – عز وجل – قال النووي‬
‫رحمه الله‪$ :‬أعلم أن المذهب الصحيح المختار‬
‫الذي عليه من يعتمد من العلماء‪ ،‬أن قراءة القرآن‬
‫أفضل من التسبيح والتهليل وغيرهما من الذكار‪،‬‬
‫وقد تظاهرت الدلة على ذلك‪ ،(2)#‬وقد رتب الله‬
‫سبحانه وتعالى على قراءة القرآن الكريم الجر‬
‫الجزيل حيث قال تعالى‪  :‬‬
‫‪  ‬‬‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪  ‬‬
‫‪]   ‬سورة‬
‫فاطر‪ .[30-29:‬وقال الرسول الكريم – صلى الله‬
‫عليه وسلم – ‪$ :‬من قرأ حرفا ً من كتاب الله‬
‫تعالى فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها‪،‬‬

‫ل أقول ألم حرف‪ ،‬ولكن ألف حرف ولم‬


‫حرف وميم حرف‪ #‬رواه الترمذي وقال حديث‬
‫حسن صحيح‪.‬‬
‫وقال عليه السلم‪$ :‬الذي يقرأ القرآن‬
‫وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة‪،‬‬
‫والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو‬
‫عليه شاق له أجران‪ #‬رواه البخاري ومسلم‪،‬‬
‫وقال عليه السلم‪$ :‬أقرؤوا القرآن فإنه يأتي‬
‫يوم القيامة شفيعا ً لصحابه‪ #‬رواه مسلم‬

‫‪ ()2‬التبيان في آداب حملة القرآن للنووي )‪.(21‬‬


‫‪213‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫والحاديث كثيرة جدا ً في الحث على قراءة القرآن‬
‫وما ذلك إل لما في قراءته من خير كثير من حيث‬
‫الجر والثواب فيكفي أن لكل حرف فيه حسنة‬
‫والحسنة الواحدة تتضاعف عشر مرات وأكثر‪ ،‬وثانيا ً‬
‫فالقرآن فيه الطمأنينة النفسية‪ ،‬وانشراح الصدر‬
‫وزيادة اليمان‪ ،‬فالذي يقرأن آيات القرآن بتدبر‬
‫يزيد إيمانه قطعا ً لما فيه من أفكار سامية ومعاني‬
‫راقية تحلق بالنسان في أجواء الطهر والسمو‪،‬‬
‫وترتفع به عن ثقلة الرض لتحلق بروحه في فضاء‬
‫طاهر نقي بعيد عن كل دنس‪ ،‬طارد لكل كدر‪.‬‬
‫إذن فقراءة القرآن الكريم تعتبر علجا ً عظيما ً‬
‫لقسوة القلب‪ ،‬ولذلك ينبغي الهتمام بهذه القراءة‬
‫أول ً من حيث توقيتها واستمرارها‪ ،‬فالواجب على‬
‫المسلم أن يكون له ورد يومي في قراءة القرآن‪،‬‬
‫ويفضل أن يكون جزءا ً من القرآن بحيث يختم‬
‫القرآن كل شهر‪ ،‬وينبغي أل يستمع المسلم لتهويل‬
‫الشيطان في صعوبة ذلك‪ ،‬فهو من أسهل المور‪،‬‬
‫بل فيه خير كثير وسعادة كبيرة بإذن الله‪ ،‬فقراءة‬
‫الجزء ل تتجاوز النصف ساعة‪ ،‬وهناك من يقرأه في‬
‫ثلث ساعة‪ ،‬والفضل أيضا ً أن يكون وقت القراءة‬
‫بعد صلة الفجر‪ ،‬ليكون أول شيء يفتتح به يومه‪،‬‬
‫ولن الذهن أصفى ما يكون في هذا الوقت فهو‬
‫وقت البكور الذي فيه البركة والخير حيث قال‬
‫الرسول الكريم‪$ :‬بارك الله لمتي في‬
‫بكورها‪#‬‬
‫وللسف فإن كثيرا ً من الناس اليوم يقضون‬
‫هذا الوقت المبارك في النوم‪ ،‬وهذا خلف الفضل‬
‫حيث تقسم الرزاق‪ ،‬وتطرح البركة كما ورد في‬
‫الثر‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪214‬‬
‫اليمان‬
‫ثانيًا‪ :‬ينبغي الهتمام بالقراءة من حيث اللتزام‬
‫بآدابها كاملة مثل تنظيف الفم بالسواك قبل‬
‫القراءة‪ ،‬وأن يكون القارئ طاهرًا‪ ،‬وأن يكون مكان‬
‫القراءة ملئما ً من حيث الطهارة والنظافة والهدوء‪،‬‬
‫وأن يستقبل القبلة ثم البدء بالستعاذة فالبسملة‪.‬‬
‫وأهم من ذلك كله إخلص النية‪ ،‬وابتغاء وجه الله‪،‬‬
‫وأن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى‪ ،‬فل‬
‫شك أن الهتمام بهذه الداب ومراعاتها يعتبر عامل ً‬
‫مساعدا ً لتحقيق الهدف الساسي الذي نحن‬
‫بصدده‪ ،‬وهو حصول الخشوع والخشية التي تعتبر‬
‫أهم ثمرة يسعى المسلم للحصول عليها‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬ينبغي أن يفرغ النسان ذهنه عند بدء‬
‫القراءة بقدر المستطاع ليستقبل كلم الله بقلب‬
‫خالي من هموم الدنيا ومشاغلها الكثيرة‪ ،‬ليجعل‬
‫هذه اللحظات راحة وإجازة من هموم الدنيا‪ ،‬ويقبل‬
‫على كتاب الله بالتدبر والنظر في معاني ولطائف‬
‫ما يقرأ من كلم الخالق – سبحانه وتعالى –‬
‫ويستعين على ذلك بكثرة التأمل في حقارة الدنيا‪،‬‬
‫وسرعة زوالها‪ ،‬وأن الموت يترصد الجميع فمن‬
‫أخطأه اليوم لن يفلت منه غدا‪ ،‬وليتذكر أترابه‬
‫وأقرانه ومعارفه الذين رحلوا عن هذه الدنيا وهم‬
‫لزالوا يفكرون في مشاريعهم الدنيوية‪ ،‬وكيف‬
‫تركوها فجأة في وقت لم يتوقعوه أبدًا؟!‬
‫ومن طريف ما يذكر في هذا المجال أن رجل ً‬
‫كان يبني منزل ً وعندما أتفق مع أحد المقاولين‬
‫لعمل تزيين المنزل من الداخل بالجبس اشترط أن‬
‫يكون هناك ضمان على جودة العمل لمدة عشر‬
‫سنوات وكان حريصا ً على أن يكون‬
‫‪215‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫هذا الضمان موثقا ً بالشهود وختم المؤسسة‪ ،‬ولبد‬
‫أن تكون المؤسسة معروفة ولن تغير نشاطها أو‬
‫تقفل أبوابها خلل هذه المدة‪ ،‬والذي حصل أن هذا‬
‫الرجل قد توفاه الله بعد أقل من سنة من هذا‬
‫التفاق وقبل أن يتمكن من سكن المنزل الجديد!!‬
‫فطول المل والغترار بالصحة هو الذي يجعلنا‬
‫نغفل وتقسو قلوبنا‪ ،‬فعلينا أن نقوم بعلجه بشيء‬
‫من جنسه وهو تذكر الموت‪ ،‬والقبال على كتاب‬
‫الله كل يوم بقراءة متدبرة واعية‪ ،‬كما كان يقرأ‬
‫السلف الصالح قراءة فيها الخشوع والخضوع‬
‫والخوف والرهبة فمن كانت هذه صفته فأنى يلتفت‬
‫قلبه إلى شأن من شئون الدنيا يقول النووي‪$ :‬فإذا‬
‫شرع في القراءة فليكن من شأنه الخشوع والتدبر‬
‫عند القراءة‪ ،‬والدلئل عليه أكثر من أن تحصر‪،‬‬
‫وأشهر وأظهر من أن تذكر فهو المقصود‬
‫المطلوب‪ ،‬وبه تنشرح الصدور‪ ،‬وتستنير القلوب‪،‬‬
‫قال عز وجل‪       :‬‬
‫‪                    ‬‬
‫‪]‬سورة النساء‪ ،[82:‬وقال تعالى‪      :‬‬
‫‪          ‬‬
‫‪         ‬‬
‫‪]  ‬سورة ص‪.[29:‬‬
‫والحاديث فيه كثيرة‪ ،‬وأقوال السلف فيه‬
‫مشهورة ‪،‬وقد بات جماعة من السلف يتلون آية‬
‫واحدة يتدبرونها ويرددونها إلى الصباح‪ ،‬وقد صعق‬
‫جماعة من السلف عند القراءة‪ ،‬ومات جماعة منهم‬
‫حال القراءة من خوف الله ومهابته‪ ،‬منهم التابعي‬
‫مهم في‬ ‫الجليل زرارة بن أوفي رضي الله عنه‪ ،‬أ ّ‬
‫صلة الفجر فقرأ‪ ،‬حتى بلغ ‪     ‬‬
‫‪       ‬‬
‫‪]   ‬سورة‬
‫ضعف‬ ‫‪216‬‬
‫اليمان‬
‫المدثر‪ ،[9-8:‬فخر ميتا ً من هول ذلك اليوم العظيم‪، #‬‬
‫)‪(1‬‬

‫ومنهم أيضا ً علي بن الفضيل بن عياض الذي مات‬


‫من خوف الله وتعظيم حرماته وخوفا ً من عقابه‬
‫عندما سمع قوله تعالى ‪  ‬‬
‫‪      ‬‬ ‫‪       ‬‬
‫‪]    ‬سورة النعام‪،[6:‬‬
‫فعندما بلغ قوله يا ليتنا نرد فاضت روحه الطاهرة من‬
‫هول ذلك الموقف‪ ،‬وهو موقف مرعب حقًا‪ ..‬حيث‬
‫يرى الناس النار عيانًا‪ ،‬فل مكان للشكوك والظنون‪،‬‬
‫فيتمنون العودة ولكن هيهات‪ ،‬فما بالنا نحن في هذا‬
‫الزمن نقرأ القرآن ول نتأثر به‪ ،‬ونقرأه بألسنتنا‬
‫وقلوبنا منصرفة عنه‪ ،‬فاللهم ألطف بنا‪ ،‬وتجاوز عن‬
‫تقصيرنا‪ ،‬وأحي موات قلوبنا‪.‬‬
‫وأخير أحب أن أختم هذا الفصل بكلم جليل‬
‫ومفيد للعالم الرباني ابن قيم الجوزية يلخص فيه‬
‫ما يجب على المسلم أن يفعله لعلج قلبه بالقرآن‬
‫فيقول‪$ :‬ملك ذلك أمران‪ :‬أحدهما أن تنقل قلبك‬
‫من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الخرة‪ ،‬ثم تقبل‬
‫به كله على معاني القرآن واستجلئها وتدبرها وفهم‬
‫ما يراد منها‪ ،‬وما نزل القرآن لجله‪ ،‬وأخذ نصيبك‬
‫من كل آياته‪ ،‬وتنزلها على قلبك‪ ،‬فإذا نزلت هذه‬
‫الية على داء القلب بريء القلب بإذن الله‪.(2)#‬‬
‫وقال أيضًا‪$ :‬الفضل في وقت قراءة القرآن‬
‫جمع القلب والهمة على تدبره وتفهمه‪ ،‬حتى كأن‬
‫الله تعالى يخاطبك به فتجمع قلبك على فهمة‬
‫وتدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية‬

‫‪ ()1‬التبيان في آداب حملة القرآن للنووي )‪.(62‬‬


‫‪ ()2‬نقل ً عن ظاهرة ضعف اليمان لمحمد صالح المنجد )‪.(36‬‬
‫‪217‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك‪.(1)#‬‬

‫‪ ()1‬تهذيب مدارج السالكين )‪.(72-71‬‬


‫ضعف‬ ‫‪218‬‬
‫اليمان‬
‫‪‬‬
‫‪219‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬

‫أل بذكر الله تطمئن القلوب‬


‫‪ ‬‬‫يقول البارئ – سبحانه وتعــالى – ‪ :‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪  ‬‬
‫‪]   ‬سورة‬
‫الرعد‪.[28:‬‬

‫لو لم يكن فــي الــذكر إل هــذه الفــائدة – أعنــي‬


‫اطمئنان القلوب وسعادة النفــوس – لكفتــه شــرفًا‪،‬‬
‫علما ً أن ابن القيــم قــد عــدد للــذكر أكــثر مــن مــائة‬
‫فائدة!‬
‫ولذلك فينبغي أن يحرص المسلم على الكثار‬
‫من الذكر فهو نعم العلج لضعف اليمان ولمراض‬
‫النفوس مثل القلق والوساوس فالله – سبحانه‬
‫وتعالى – هو الذي أخبر بذلك في كتابه الكريم حيث‬
‫قال تعالى‪   :‬‬
‫‪]  ‬سورة‬
‫الرعد‪.[28:‬‬
‫يقول الشهيد سيد قطب‪:‬‬
‫‪$‬تطمئن النفوس بإحساسها بالصلة بالله‪،‬‬
‫والنس بجواره‪ ،‬والمن في جانبه وحماه‪ ،‬تطمئن‬
‫من قلق الوحدة وحيرة الطريق‪ ،‬بإدراك الحكمة‬
‫في الخلق والمبدأ والمصير‪ ..‬ذلك الطمئنان بذكر‬
‫الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها‬
‫الذين خالطت بشاشة اليمان قلوبهم‪ ،‬فاتصلت‬
‫بالله‪ ،‬يعرفونها ول يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى‬
‫ضعف‬ ‫‪220‬‬
‫اليمان‬
‫الخرين الذين لم يعرفوها‪ ،‬لنها ل تنقل بالكلمات‪،‬‬
‫إنما تسري في القلب فيستروحها‪ ،‬ويهش لها‬
‫ويندى بها‪ ،‬ويستريح إليها فيستشعر الطمأنينة‬
‫والسلم‪ ،‬ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردا ً بل‬
‫أنيس‪ ،‬فكل ما حوله صديق‪ ،‬إذ كل ما حوله من‬
‫صنع الله الذي هو في حماه‪.‬‬
‫وليس أشقى على وجه الرض ممن يحرمون‬
‫طمأنينة النس بالله‪ ،‬ليس أشقى ممن ينطلق في‬
‫هذه الرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون‪ ،‬لنه‬
‫انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في‬
‫الله خالق الكون‪ ،‬ليس أشقى ممن يعيش ل يدري‬
‫لما جاء؟ ولما يذهب ولما يعاني ما يعاني في هذه‬
‫الحياة؟‬
‫إن هناك لحظات في الحياة ل يصمد لها البشر‬
‫إل أن يكون مرتكنا إلى الله مطمئنا ً إلى حماه‪.(1)#‬‬
‫ول شك أن الكثار من ذكر المولى سبحانه‬
‫وتعالى هو الذي يولد في النفس هذا الطمئنان‬
‫والمن النفسي‪ ،‬لنه يجعل النسان على صله بربه‪،‬‬
‫وعندما تكون هذه الصلة قوية ل تستطيع جنود‬
‫إبليس أن تغزو قلبه‪ ،‬أو تؤثر في حياته‪ ،‬هل سمعت‬
‫عن إنسان يرتكب معصية وهو يذكر الله؟ بل ُبعد‬
‫النسان عن ذكر الله حتى قسى قلبه هو السبب‬
‫في ارتكاب المعصية‪.‬‬
‫إذن فذكر الله – سبحانه وتعالى – من المور‬
‫المهمة التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم‪ ،‬ويجاهد‬
‫نفسه في ذلك‪ ،‬حتى يتعود عليها‪ ،‬فتصبح له متعة‬
‫وأنسا ً بالله ل يستغني عنها‪ ،‬ومن ثم تكون له حماية‬
‫‪ ()1‬في ظلل القرآن‪ ،‬سيد قطب )‪.(4/206‬‬
‫‪221‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫من النزلق في مستنقع المعصية‪ ،‬وتكون حماية له‬
‫من شبح الهموم والحزان‪ ،‬ثم تكون له كنزا ً وذخرا ً‬
‫في الدار الخرة حيث يجد الجر والثواب من الله –‬
‫سبحانه وتعالى –‬
‫وكيف ل نحافظ على الذكار؟ ونعتني بها وقد‬
‫أمرنا ربنا تعالى بذلك حيث قال‪   :‬‬
‫‪        ‬‬
‫‪       ‬‬
‫‪]     ‬سورة الحزاب‪ ،[41:‬ووعد بالفلح‬
‫‪   ‬‬ ‫من أكثر منها فقال‬
‫‪]  ‬سورة النفال‪،[45:‬‬
‫وذكر الله أكبر من كل شيء قال تعالى‪ :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪]‬سورة العنكبوت‪ ،[45:‬وهو وصية النبي – صلى الله‬
‫عليه وسلم – لمن كثرت عليه شرائع السلم فقال‬
‫له‪$ :‬ل يزال لسانك رطبا ً من ذكر الله‪ #‬وهو‬
‫مرضاة للرحمن مطردة للشيطان‪ ،‬مزيل للهم‪،‬‬
‫جالب للرزق‪ ،‬فاتح لبواب المعرفة‪ ،‬وهو غراس‬
‫الجنة وسبب لترك آفات اللسان‪ ،‬وسلوة أحزان‬
‫الفقراء الذين ل يجدون ما يتصدقون به‪ ،‬فعوضهم‬
‫الله بالذكر الذي ينوب عن الطاعات البدنية والمالية‬
‫ويقوم مقامها‪ ،‬وترك ذكر الله من أسباب قسوة‬
‫القلب‬
‫وأجسامهم قبل‬ ‫فنسيان ذكر الله‬
‫القبور قبور‬ ‫موت قلوبهم‬
‫وليس لهم حتى‬ ‫وأرواحهم في وحشة‬
‫النشور نشور‬ ‫من جسومهم‬

‫ولذلك لبد لمن يريد علج ضعف إيمانه من‬


‫ضعف‬ ‫‪222‬‬
‫اليمان‬
‫‪ ‬‬ ‫الكثار من ذكر الله قال تعالى‪:‬‬
‫‪]   ‬سورة الكهف‪ ،[24:‬وقال‬
‫ابن القيم رحم الله تعالى عن العلج بالذكر ‪$‬في‬
‫القلب قسوة ل يذيبها إل ذكر الله تعالى‪ ،‬فينبغي‬
‫للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى‪ ،‬وقال‬
‫رجل للحسن البصري رحمه الله‪ :‬يا أبا سعيد أشكوا‬
‫إليك قسوة قلبي‪ ،‬قال أذبه بالذكر‪.(1)#‬‬

‫إذن فهنا عالمان مشهود لهما بالصلح والتقوى‪،‬‬


‫هما الحسن البصري وابن القيم اتفقا على أن أهم‬
‫علج لقسوة القلب وضعف اليمان هو ذكر الله –‬
‫سبحانه وتعالى – وذكرا صياغة جميلة ومعبرة لهذه‬
‫الظاهرة‪ ،‬وهي إذابة قسوة القلب بذكر الله عز‬
‫وجل‪ ،‬وقسوة القلب أصبحت ظاهرة منتشرة في‬
‫هذا الزمن‪ ،‬يشكو منها كثير من الناس‪ ،‬وقد نغصت‬
‫عليهم حياتهم بالحيرة والهموم‪ ،‬وجعلتهم يتكاسلون‬
‫عن كثير من العمال الصالحة‪ ،‬وهنا علج سهل‬
‫وميسر لهذه الظاهرة أخبر به أول ً الخالق سبحانه‬
‫وتعالى وحث الناس على فعله قال‪  :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪] ‬سورة الرعد‪ ،[28:‬ثم إن‬
‫العلماء الربانيين قد وجهوا الناس إليه‪ ،‬وحثوهم‬
‫على الكثار منه بمثل قولهم‪$ :‬إن في القلب‬
‫قسوة ل يذيبها إل ذكر الله‪ #‬فلماذا يغفل طلب‬
‫الجنة عن هذا الكنز العظيم من كنوز الجنة؟‬
‫هذا الكنز الذي يفيدهم في الدنيا قبل الخرة!‬
‫هذا الكنز الذي رتب الله – سبحانه وتعالى – عليه‬
‫‪ ()1‬ظاهرة ضعف اليمان‪ ،‬محمد صالح المنجد )‪.(61-60‬‬
‫‪223‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫من الجر والثواب ما يفوق الخيال استمع على‬
‫سبيل المثال وليس الحصر إلى قول الرسول –‬
‫صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي رواه أبو‬
‫موسى الشعري قال‪ :‬قال لي رسول الله – صلى‬
‫الله عليه وسلم –‪$ :‬أل أدلك على كلمة من‬
‫كنوز الجنة – أو قال – على كنز من كنوز‬
‫الجنة فقلت‪ :‬بلى‪ .‬فقال – صلى الله عليه وسلم –‬
‫ل حول ول قوة إل بالله‪ #‬رواه مسلم في‬
‫كتاب الذكر والدعاء‪.‬‬
‫وقال عليه السلم‪$ :‬من قال سبحان الله‬
‫العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة‪#‬‬
‫رواه الترمذي وصححه اللباني‪.‬‬
‫وقال عليه السلم‪$ :‬أيعجز أحدكم أن‬
‫يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من‬
‫جلسائه‪ :‬كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال –‬
‫صلى الله عليه وسلم – يسبح الله مائة‬
‫تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه‬
‫ألف خطيئة‪ #‬رواه مسلم‪ .‬وقال عليه السلم‬
‫‪$‬سبق المفّردون قالوا‪ :‬وما المفردون يا‬
‫رسول الله؟ قال‪ :‬الذاكرون الله كثيرا ً‬
‫والذاكرات‪ #‬رواه مسلم‪.‬‬
‫والحاديث التي تدل على فضل الذكر وما فيه‬
‫من الجر كثيرة جدًا‪ ،‬وكثرتها تدل على أهمية الذكر‬
‫وشرفه‪ ،‬وأنه ل غنى للمسلم عنه‪ ،‬مع ما فيه من‬
‫السهولة‪ ،‬حيث يستطيع النسان أن يذكر الله على‬
‫أي حال من أحواله‪ :‬ماشيًا‪ ،‬جالسًا‪ ،‬واقفًا‪ ،‬مضطجعا ً‬
‫قال تعالى‪    :‬‬
‫‪  ‬‬
‫ضعف‬ ‫‪224‬‬
‫اليمان‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪]  ‬سورة آل عمران‪-190:‬‬
‫‪.[191‬‬
‫‪$‬وبعض الذين يشكون من ضعف اليمان تثقل‬
‫عليهم بعض وسائل العلج كقيام الليل والنوافل‪،‬‬
‫فيكون من المناسب لهم البدء بهذا العلج والحرص‬
‫عليه فيحفظون من الذكار المطلقة ما يرددونه‬
‫باستمرار مثل‪$ :‬ل إله إل الله وحده ل شريك له‪،‬‬
‫له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير‪ #‬و‬
‫‪$‬سبحان الله وبحمده‪ ،‬سبحان الله العظيم‪ #‬و ‪$‬ل‬
‫حول ول قوة إل بالله‪ #‬وغيرها‪ ،‬ويحفظون كذلك‬
‫من الذكار المقيدة التي جاءت في السنة مثل‬
‫أذكار الصباح والمساء‪ ،‬والنوم‪ ،‬والستيقاظ‪ ،‬ودخول‬
‫الخلء والسفر والذان والمسجد والستخارة‬
‫والركوب‪ ..‬ول ريب أن من حافظ عليها سيجد لذلك‬
‫أثرا ً مباشرا ً في قلبه بإذن الله‪.(1) #‬‬
‫‪$‬والذكر له فوائد ونتائج تربوية كثيرة‪ ،‬وقد ذكر‬
‫ابن القيم رحمه الله أن للذكر أكثر من مائة فائدة‬
‫يحصل عليها الذاكر؛ إما في الدنيا‪ ،‬وإما في الخرة‪،‬‬
‫وقد سرد منها تسعا ً وتسعين فائدة مستنبطة من‬
‫نصوص القرآن والسنة من هذه الفوائد ما له‬
‫دللت تربوية هامة مثل‪ :‬أن الذكر يطرد الشيطان‪،‬‬
‫‪ ()1‬المصدر السابق‪.(63-62) ،‬‬
‫‪225‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫ويرضى الله عز وجل‪ ،‬ويزيل الهم والغم عن‬
‫القلوب‪ ،‬ويقوي القلب والبدن‪ ،‬وينير الوجه والقلب‪،‬‬
‫ويجلب الفرج والسرور والرزق‪ ،‬ويورث محبة الله‪،‬‬
‫ويجعل الذاكر دائم المراقبة لله‪ ،‬كثير النابة‬
‫والرجوع إليه‪ ،‬ويزيد المعرفة‪ ،‬ويورث الهيبة لله عز‬
‫وجل‪ ،‬ويحيي القلب‪ ،‬وهو قوت الروح والقلب‪،‬‬
‫ويجلو القلب‬
‫من الصدأ الذي تسببه الغفلة والهوى‪ ،‬وهو سبب‬
‫للسكينة‪ ،‬ومشغل للقلب عن الغيبة والنميمة‬
‫والكذب والباطل‪ ،‬ويجعل الذاكر جليس بركة يسعد‬
‫بها جليسه‪ ،‬وهو يؤمن العبد من نسيان ربه‪ ،‬ويسد‬
‫فاق القلب وخلته فيغنيه‬
‫عن الخلق‪ ،‬وهو شفاء للقلب‪ ،‬ودواء يعين على‬
‫الطاعات ويسهلها‬
‫ويحببها للذاكر‪ ،‬ويسهل المصاعب ويعطي الذاكر‬
‫قوة عند الشدائد‪ ،‬وغير ذلك من الفوائد‪.(1)#‬‬
‫والذكر ثلثة أقسام‪:‬‬
‫‪ -1‬ذكر بالقلب فقط من غير نطق باللسان‪،‬‬
‫وهو التفكر في عظمة الله – سبحانه وتعالى‬
‫– والتأمل في بديع حكمته‪ ،‬وواسع علمه‪،‬‬
‫وبالغ إحاطته بجميع مخلوقاته الكثيرة‬
‫المتنوعة‪ ،‬والنظر في دقة نظامه وبديع‬
‫صنعه في هذا الكون المدهش الذي يموج‬
‫بآياته الضخمة الهائلة مثل‪ ،‬الشمس والقمر‬
‫والسموات والرض‪ ،‬وكلها في عمل مستمر‬
‫منذ أن خلقها الله‪ ،‬في دقة عجيبة ونظام‬
‫مدهش‪ ،‬ل هذا يصطدم بهذا‪ ،‬ول هذا يخل‬
‫‪ ()1‬العبادة وأثرها في التربية النسانية‪ ،‬د‪.‬عبدالعزيز المحميد )‪-190‬‬
‫‪.(191‬‬
‫ضعف‬ ‫‪226‬‬
‫اليمان‬
‫بعمل هذا‪ ،‬ليل ونهار‪ ،‬وصيف وشتاء على‬
‫مدار الزمن الممتد إلى أن يشاء الله‪ ،‬ومن‬
‫الذكر بالقلب التفكر‬
‫في النار والجنة والدار الخرة وعذاب القبر‬
‫وأهوال يوم القيامة‪ .‬وشديد عقاب الله‬
‫وحسن عفوه ورحمته‪.‬‬
‫وقد كان بعض السلف يقضي الليل كله‬
‫مفكرا ً متأمل ً في هذه المور‪ ،‬يروي الزاهد‬
‫يوسف بن أسباط متحدثا ً عن العالم الرباني‬
‫المشهور سفيان الثوري فيقول‪$ :‬قال لي‬
‫سفيان وقد صلينا العشاء الخرة‪ :‬ناولني‬
‫المطهرة‪ ،‬فناولته‪ ،‬فأخذها بيمينه‪ ،‬ووضع‬
‫يساره على خده‪ ،‬وبقي على هيئته تلك‬
‫حتى طلع الفجر‪ ،‬فقلت له‪:‬‬
‫يا عبدالله هذا الفجر قد طلع‪ ،‬قال‪ :‬لم أزل‬
‫منذ ناولتني هذه المطهرة أتفكر في أمر‬
‫الخرة حتى الساعة‪.(1)#‬‬
‫‪ -2‬الذكر بالقلب واللسان‪ ،‬أي النطق باللسان‬
‫مع حضور القلب‪ ،‬ووجود النية‪ ،‬والتفهم‬
‫والتأمل فيما يقول بعيدا ً عن السهو‬
‫والغفلة‪ ،‬وهو من أفضل الذكر لجتماع‬
‫التأمل والنطق‪ ،‬يقول العلمة ابن علن‪:‬‬
‫‪$‬لن العمل فيه أكثر زاد باستعمال اللسان‬
‫فاقتضي زيادة الجر‪.(2)#‬‬
‫وهناك من العلماء من يقول‪ :‬الذكر بالقلب‬
‫أفضل لما فيه من عمق التأمل الذي يثمر‬
‫زيادة اليمان وشيوع السكينة في النفس‪،‬‬
‫‪ ()1‬صفة الصفوة لبن الجوزي )‪.(3/104‬‬
‫‪ ()2‬كتاب الذكار للنووي مع شرح ابن علن ص )‪.(8‬‬
‫‪227‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫والله أعلم‪.‬‬
‫‪ -3‬القسم الثالث هو مجرد النطق باللسان‬
‫لبعض الذكار مع الغفلة وانشغال القلب‬
‫بالتفكير في أمور أخرى‪ ،‬وهذا من أضعف‬
‫الذكر وصاحبه ل يحرم من الجر بفضل‬
‫الكريم الرحمن يقول المام النووي ‪$‬وأما‬
‫ذكر اللسان مجردا ً فهو أضعف الذكار‬
‫ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به‬
‫الحاديث‪ ،(1)#‬ونلحظ أن النووي رحمه الله‬
‫يقول عن هذا الذكر الذي تشوبه الغفلة‪ :‬أن‬
‫فيه فضل عظيم‪ ،‬وهذا يتفق مع سعة رحمه‬
‫الله وسماحة السلم ويسره‪ .‬علما ً أن هناك‬
‫بعض العلماء يضيقون المر في هذا المجال‬
‫ويقولون‪ :‬إن مجرد حركة اللسان بالقرآن‬
‫أو بالذكر من دون حضور قلب‬
‫ل تنفع أبدًا‪ ،‬بل بعضهم يعتبرها سوء أدب‬
‫مع الله مثل المام أبي حامد الغزالي –‬
‫عفى الله عنه – فهو يتشدد في هذا الجانب‬
‫كثيرًا‪ ،‬ويضيق ما وسعه الله على عباده‪،‬‬
‫وهذا المر ربما يؤدي إلى نفور بعض‬
‫الناس‪ ،‬حيث يرون أن جهدهم يذهب سدى‪،‬‬
‫وخطرات القلوب ليست بيد النسان‪،‬‬
‫فكثيرا ً ما يكون في أمر معين ثم يخطر له‬
‫أمر آخر وثاني وثالث في لحظة واحدة‪،‬‬
‫يحصل ذلك أثناء قراءة القرآن‪ ،‬وأثناء‬
‫النطق بالذكار‪ ،‬ولكن ليس من العدل أن‬

‫‪ ()1‬شرح النووي على صحح مسلم )‪.(17/15‬‬


‫ضعف‬ ‫‪228‬‬
‫اليمان‬
‫نقرن من يفعل ذلك بمن هو معرض عن‬
‫ذكر الله بالكلية‪.‬‬
‫ومع ذلك فإنه ينبغي للمسلم أن يجاهد نفسه‬
‫أشد المجاهد في الحرص على حضور قلبه أثناء‬
‫قراءة القرآن أو النطق بالذكار بحيث يصبح ذلك‬
‫عادة له‪ ،‬مع الستمرار في المجاهدة‪ ،‬ربما يتعب‬
‫أول المر لكنه في النهاية سيجد الراحة والطمئنان‬
‫مع حضور القلب‪ ،‬كما وعد الله بذلك في كتابه‪ :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪]  ‬سورة‬
‫الرعد‪،[28:‬ول شك أن مما يزيد في طمأنينة القلوب‬
‫هو أخذها راحة من التهويم في أودية الدنيا وزحمة‬
‫الحياة لتبقى لحظات الذكر اليسيرة في رحاب‬
‫الله‪ ،‬متصلة بالمل العلى‪ ،‬محلقة في أجواء‬
‫السماء‪ ،‬في سمو وشفافية‪ ،‬بعيدة عن دنس‬
‫الشهوات الرضية‪.‬‬
‫ونعود مره ثانية لنقول‪ :‬إن رحمة الله واسعة‪،‬‬
‫وإن فضله كبير‪ ،‬ونعمته سابغة‪ ،‬وأن من قال بأن‬
‫الذكر باللسان فقط‪ ،‬ل ينفع صاحبه‪ ،‬لم يكن دقيقا ً‬
‫في كلمه ول دليل معه‪ ،‬بل الصواب ما قاله العالم‬
‫الرباني يحيى بن شرف النووي شارح صحيح مسلم‬
‫حيث قال‪$ :‬إن فيه فضل ً كبيرا ً كما جاءت به‬
‫الحاديث‪ #‬ولعله يقصد بقوله كما جاءت به‬
‫الحاديث أن الرسول الكريم‬
‫– عليه السلم – قال‪$ :‬من قال‪ :‬كذا فله كذا‪#‬‬
‫والقول باللسان وحسب ولم يشترط حضور القلب‬
‫مثل قوله عليه السلم‪$ :‬من قال‪ :‬سبحان الله‬
‫العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة‪#‬‬
‫فإن ظاهر الحديث أن من نطق بهذا الذكر بلسانه‬
‫غرست له نخلة في الجنة‪ ،‬وليس هناك دليل على‬
‫‪229‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫أن هذا النطق لبد أن يكون مع حضور القلب‪.‬‬
‫وهناك أمر مهم‪ ،‬لبد من الشارة إليه‪ .‬وهو‬
‫الدعاء‪ ،‬فهو ملجأ المسلم دائما ً في كل أحواله‪،‬‬
‫وخاصة عندما يعتريه ضعف اليمان‪ ،‬فيجب عليه أن‬
‫يلح في دعاء الله عز وجل؛ أن يجدد إيمانه‪ ،‬ويقوي‬
‫يقينه‪ ،‬ويطهر نفسه من أدران المعاصي‪ ،‬ويصلح‬
‫فساد قلبه ‪.‬‬
‫هذا وقد حثنا النبي عليه السلم أن نجأر إلى‬
‫الله بالدعاء خاصة عندما نحس بضعف إيماننا‪،‬‬
‫وقسوة في قلوبنا فقال عليه السلم‪$ :‬إن‬
‫اليمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق‬
‫الثوب‪ ،‬فاسألوا الله أن يجدد اليمان في‬
‫قلوبكم‪ #‬رواه الحاكم في المستدرك )‪ (1/4‬وهو‬
‫في السلسلة برقم )‪ (1585‬وقال الهيثمي في‬
‫مجمع الزوائد )‪(1/52‬ك رواه الطبراني في الكبير‬
‫وإسناده حسن)‪.(1‬‬

‫‪ ()1‬نقل ً عن ظاهرة ضعف اليمان للشيخ محمد المنجد )‪.(29‬‬


‫ضعف‬ ‫‪230‬‬
‫اليمان‬
‫‪‬‬
‫طلب العلم وحضور مجالس الذكر‬
‫ل شك أن طلب العلم‪ ،‬والحرص على حضور‬
‫مجالس الذكر من السباب التي تقوي اليمان‬
‫وترقق القلوب‪ ،‬وتذيب قسوتها‪ ،‬والدلة على ذلك‬
‫كثيرة‪ ،‬يكفي منها حديث أبي سعيد الخدري الذي‬
‫رواه مسلم في صحيحه‪ ،‬حيث قال عليه السلم‪:‬‬
‫‪$‬ل يقعد قوم يذكرون الله تعالى إل‬
‫حفتهم الملئكة‪ ،‬وغشيتهم الرحمة‪ ،‬ونزلت‬
‫عليهم السكينة‪ ،‬وذكرهم الله تعالى فيمن‬
‫عنده‪.#‬‬
‫وعندما تجتمع هذه الصفات في أهل مجلس‬
‫فلبد أن يزيد إيمانهم‪ ،‬وتصفو نفوسهم‪ ،‬وتتجرد من‬
‫دنس الدنيا قلوبهم‪.‬‬
‫أليست الملئكة تحضر مجلسهم لتسمع ذكر‬
‫الله؟‬
‫أليست السكينة والطمئنان تغمر نفوسهم؟‬
‫أليست الرحمة تغشاهم وتخيم عليهم؟‬
‫وأي فضل وأي شرف بعد هذا يطلبه النسان‪،‬‬
‫وأي إنسان يحضر مثل هذا المجلس بنيه خالصة ول‬
‫يحس بالسكينة والمن وهو يسمع آيات الله تعالى‬
‫تتلى عليه‪ ،‬وأحاديث الرسول – عليه السلم –‬
‫تشّنف مسامعه‪.‬‬
‫ول شك أن من المور المعروفة والمجربة لدى‬
‫مرتادي مجالس الذكر؛ أن يحسوا بطمأنينة‬
‫القلوب‪ ،‬وسكينة النفوس‪ ،‬أثناء تلك المجالس‬
‫‪231‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫الطيبة‪ ،‬وكلما كان النسان متجردا ً لله تعالى من‬
‫الحظوظ العاجلة‪ ،‬مبتغيا ً وجه المولى جل شأنه‪،‬‬
‫كان إحساسه بزيادة اليمان أكثر‪ ،‬وشعوره بانشراح‬
‫الصدر أشمل‪ ،‬ولذا ينبغي لمن يريد أن يتفقد إيمانه‬
‫وما نقص منه أن يكون حريصا ً على‬
‫حضور مجالس العلم‪ ،‬وحلق الذكر لما لذلك من‬
‫فوائد كثيرة‪ ،‬سنخص بالذكر منها فائدتين عظمتين‬
‫الولى‪ :‬هي إذابة قسوة القلب وزيادة اليمان وقد‬
‫تحدثنا عن هذه فيما سبق‪.‬‬
‫والثانية وهي نيل الجر العظيم‪ ،‬والثواب‬
‫الجزيل من الرب الكريم‬
‫– سبحانه وتعالى – والدلة على ذلك كثيرة منها‬
‫على سبيل المثال قول الرسول عليه السلم‪:‬‬
‫‪$‬من سلك طريقا ً يلتمس فيه علمًا‪ ،‬سهل‬
‫الله له به طريقا ً إلى الجنة‪ #‬رواه مسلم في‬
‫صحيحه‪.‬‬
‫وأي خير يريد المسلم أفضل من أن يسهل الله‬
‫طريقه إلى الجنة‪ ،‬فهذا الحديث يعتبر بشارة من‬
‫النبي – عليه السلم – لطلب العلم‪ ،‬فهم في حفظ‬
‫الله ورعايته خلل رحلتهم لجل طلب العلم‪،‬‬
‫وخطواتهم في طريقهم‪ ،‬ومكوثهم أثناء إلقاء‬
‫المواعظ والدروس كل ذلك مرصود لهم في‬
‫موازين حسناتهم‪ ،‬وبذلك سهل الله ويسر طريقهم‬
‫إلى الجنة‪.‬‬
‫وقال عليه السلم‪$ :‬إذا مررتم برياض‬
‫الجنة فارتعوا‪ ،‬قالوا‪ :‬وما رياض الجنة يا رسول‬
‫الله؟ قال حلق الذكر‪ ،‬فإن لله تعالى سيارات‬
‫من الملئكة يطلبون حلق الذكر‪ ،‬فإذا أتوا‬
‫سنه‪.‬‬
‫عليهم حفوا بهم‪#‬رواه الترمذي وح ّ‬
‫ضعف‬ ‫‪232‬‬
‫اليمان‬
‫ويلحظ أن الرسول – صلى الله عليه وسلم –‬
‫قد اعتبر حلق الذكر‪ ،‬ومجالس العلم من رياض‬
‫الجنة‪ ،‬وحث من يمر عليها بأن ينال نصيبه من‬
‫خيرها وبركتها وشرفها‪ ،‬ولعل الرسول الكريم –‬
‫عليه السلم – عندما شبه حلق الذكر برياض الجنة‬
‫كان ذلك بجامع‪ ،‬الطمأنينة والسكينة والسعادة في‬
‫كل منهما‪ ،‬فإن – أغلب إن لم نقول جميع من‬
‫يذهب إلى مجالس العلم والذكر – يحس بشيء من‬
‫الطمأنينة والراحة النفسية خاصة أثناء إلقاء هذه‬
‫الدروس المباركة‪ ،‬فهي بذلك تشبه رياض الجنة بما‬
‫فيها من سعادة وراحة نفسية‪ ،‬وخلوها من‬
‫المنغصات والمكدرات فليس هناك إل نعيما ً ل‬
‫ينقطع‪ ،‬وسعادة ل تكدرها الهواجس والظنون‪.‬‬
‫ومجرد حضور مجالس العلم‪ ،‬وحلق الذكر‪،‬‬
‫والنظر إلى وجوه الصالحين يزيد في اليمان‪،‬‬
‫ويذيب قسوة القلب‪ ،‬وسبق أن ذكرنا أن بعض‬
‫الصالحين إذا وجد في قلبه قسوة ذهب إلى محمد‬
‫بن واسع‪ ،‬فبمجرد النظر إلى وجهه‪ ،‬تذوب قسوة‬
‫قلبه‪ ،‬ويزيد إيمانه ويصلح حاله بهذا العلج اليسير‪،‬‬
‫إذن فرؤية الصالحين تقوي اليمان؛ وقد أوصى‬
‫بالحرص عليها النبياء‪ ،‬وحثوا الناس عليها حيث‬
‫‪$‬قال عيسى بن مريم عليه السلم‪ :‬جالسوا من‬
‫يذكركم بالله رؤيته‪ ،‬ومن يزيد عملكم‬
‫منطقة ومن يرغبكم في الخرة عمله‪. #‬‬
‫)‪(1‬‬

‫هذا وقد أتضح الن ما في مجالس الذكر من‬


‫الفضل والجر والخير وزيادة اليمان‪ ،‬ولذا ينبغي‬
‫للمسلم أل يحرم نفسه من هذا الخير‪ ،‬بل يبادر إلى‬
‫‪ ()1‬جامع بيان العلم وفضله لبن عبدالبر )‪.(1/126‬‬
‫‪233‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫حضور هذه المجالس أينما كانت‪ ،‬حتى لو كانت‬
‫بعيدة قليل ً عن حيه أو بلدته‪ ،‬ويحتسب الجر عند‬
‫الله‪ ،‬وليعلم أن جميع خطواته مكتوبة عند الله‬
‫تعالى‪ ،‬تكون ذخرا ً له يوم القيامة ‪     ‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪]             ‬سورة الشعراء‪:‬‬
‫‪ ،[89-88‬وليتذكر دائما ً قول الرسول عليه السلم‪:‬‬
‫‪$‬من سلك طريقا ً يلتمس فيه علما ً سهل‬
‫الله له به طريقا ً إلى الجنة‪ #‬رواه مسلم‪.‬‬

‫وهناك حديث شريف مهم جدا ً في هذا الباب‬


‫أخرجه مسلم في صحيحه بعنوان ‪$‬فضل مجالس‬
‫الذكر‪ #‬حيث قال الرسول – صلى الله عليه وسلم‬
‫– ‪$ :‬إن لله تبارك وتعالى ملئكة سيارة)‪،(1‬‬
‫ضل ً)‪ (2‬يتبعون مجالس الذكر‪ .‬فإذا وجدوا‬ ‫ُ‬
‫ف ُ‬
‫مجلسا ً فيه ذكر قعدوا معهم‪ ،‬وحف بعضهم‬
‫بعضا ً بأجنحتهم حتى يملوا ما بينهم وبين‬
‫السماء الدنيا‪ ،‬فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا‬
‫إلى السماء‪ ،‬قال فيسألهم الله عز وجل‬
‫وهو أعلم بهم‪ :‬من أين جئتم؟ فيقولون‪:‬‬
‫جئنا من عند عباد لك في الرض‪ ،‬يسبحونك‬
‫ويكبرونك ويهللونك‪ ،‬ويحمدونك‪ ،‬ويسألونك‬
‫قال‪ :‬وماذا يسألوني؟ قالوا‪ :‬يسألونك‬
‫جنتك قال‪ :‬وهل رأوا جنتي؟ قالوا‪ :‬ل‪ .‬أي‬
‫رب! قال‪ :‬فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا‪:‬‬
‫ويستجيرونك‪ .‬قال‪ :‬ومم يستجيرونني؟‬
‫‪ ()1‬سيارة من السير أي النتقال بسرعة من حلقة إلى أخرى‪.‬‬
‫‪ ()2‬فضل‪ :‬فضلء‪ ،‬وقيل‪ :‬ملئكة زائدون على الحفظة المرتبين مع‬
‫الخلق‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪234‬‬
‫اليمان‬
‫قالوا‪ :‬من نارك‪ .‬يارب! قال‪ :‬وهل رأوا‬
‫ناري؟ قالوا‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فكيف لو رأوا ناري؟‬
‫قالوا‪ :‬ويستغفرونك‪ .‬قال‪ :‬فيقول‪ :‬قد‬
‫غفرت لهم‪ ،‬فأعطيتهم ما سألوا‪ ،‬وأجرتهم‬
‫مما استجاروا‪ ،‬قال‪ :‬فيقولون‪ :‬رب! فيهم‬
‫فلن عبد خطاء‪ ،‬إنما مر فجلس معهم‪،‬‬
‫قال‪ :‬فيقول‪ :‬وله غفرت‪ ،‬هم القوم ل‬
‫يشقى بهم جليسهم‪ #‬رواه مسلم‪.‬‬
‫وفي هذا الحديث الشريف يتضح لنا فضل‬
‫مجالس الذكر وبركتها وما أعد الله من الجر‬
‫والكرامة لهلها‪ ،‬أل يكفي أن ملئكة السماء تحف‬
‫بهم‪ ،‬وتنتقل معهم من حلقة إلى أخرى‪ ،‬أل يكفي‬
‫أن الخالق العظيم – سبحانه وتعالى – يسأل عنهم‪،‬‬
‫ويباهي بهم ملئكته؟! أل يكفي أن الله عز وجل قد‬
‫أجارهم مما يخافون؟ أل يكفي أن الله تعالى غفر‬
‫لمن يجلس معهم وليس منهم وقال هم القوم ل‬
‫يشقى بهم جليسهم؟!‬
‫وبعد أن استعرضنا هذه الحاديث الشريفة التي‬
‫تحث المسلمين على غشيان مجالس الذكر‪،‬‬
‫وملزمة أهلها‪ ،‬وعرفنا ما فيها من المنافع الكثيرة‬
‫والفضل العريض‪ ،‬مثل إذابة قسوة القلب وزيادة‬
‫اليمان‪ ،‬وحيازة الجر والثواب الذي به تكون النجاة‬
‫يوم القيامة‪ ،‬وكسب العلم‪ ،‬وتحصيل المعرفة التي‬
‫بها يرفع النسان الجهل عن نفسه وعن غيره‪،‬‬
‫واكتساب الدب وحسن المعاملة من مجالسة‬
‫العلماء‪ ،‬والنظر إلى أدبهم وسمتهم ‪$‬قال أبو‬
‫حنيفة‪ :‬الحكايات عن العلماء ومجالستهم أحب إلي‬
‫من كثير من الفقه لنها آداب القوم وأخلقهم‬
‫‪235‬‬ ‫البـــاب‬
‫الرابـع‬
‫]ويقصد بالحكايات التعرف على أدب العلماء‬
‫ومحاكاتهم في ذلك[ وقال إبراهيم‪ :‬كنا نأتي‬
‫مسروق فنتعلم من هديه ودله‪ ..‬وقال أبو الدرداء –‬
‫رضي الله عنه – ‪$ :‬من فقه الرجل ممشاه‬
‫ومدخله ومخرجه مع أهل العلم‪ ..‬وقال الشافعي‪:‬‬
‫من حفظ القرآن عظمت حرمته‪ ،‬ومن طلب الفقه‬
‫نبل قدره‪ ،‬ومن عرف الحديث قويت حجته‪.(1)#‬‬
‫ونحمد الله أنه يوجد في بلد المسلمين الكثير‬
‫من مجالس العلم وحلق الذكر‪ ،‬يقوم عليها علماء‬
‫مخلصون‪ ،‬ل يريدون إل وجه الله بعملهم‪ .‬فالخير‬
‫موجود في هذه المة إلى يوم القيامة‪ ،‬كما أخبر‬
‫بذلك الصادق المصدوق‬
‫–عليه السلم – فعلى طلب العلم خاصة‬
‫والمسلمين عامة أن يبحثوا عنهم‪ ،‬وينضموا إلى‬
‫حلقاتهم‪ ،‬فهي علج لمن يريد تفقد إيمانه‪ ،‬وزيادة‬
‫يقينه‪ ،‬وهي مدرسة لمن يريد زيادة علمه‪ ،‬وتهذيب‬
‫سلوكه‪.‬‬
‫وأخيرا ً أحب أن أنبه إلى أمر مهم في هذا‬
‫الباب‪ ،‬أل وهو التسجيلت‪ ،‬وسماع الدروس أو‬
‫المحاضرات التي ل يتيسر حضورها عن طريق‬
‫الشرطة‪ ،‬فإن لها من التأثير وترقيق القلوب شأنا ً‬
‫عجيبًا‪ ،‬فينبغي الحرص عليها‪ ،‬فهي نعم البديل لمن‬
‫فاته الحضور‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪ ()1‬جامع بيان العلم وفضله لبن عبدالبر )‪.(1/127‬‬


‫ضعف‬ ‫‪236‬‬
‫اليمان‬

‫الخاتمـــة‬
‫وفي نهاية المطاف أرجو أن يكون قد أتضح‬
‫في ذهن القارئ الكريم؛ أن ضعف اليمان قد‬
‫فشى بين الناس وانتشر‪:‬‬
‫فقد قست القلوب‪...‬‬
‫واستهان الناس بالمحرمات‪...‬‬
‫وثقلت عليهم العبادة‪...‬‬
‫وسنختصر أسباب ذلك في أمرين‪:‬‬
‫ل‪ :‬انغماس الناس في أمور الدنيا‪ ،‬وانشغالهم‬ ‫أو ً‬
‫الكلي بجمع حطامها الزائل بفعل الطغيان المادي‬
‫الهائل الذي خيم بظلله الكثيفة على الناس‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬الفكار الضالة‪ ،‬والعقائد المنحرفة التي‬
‫تدفقت على المسلمين من خلل التفجر المعرفي‪،‬‬
‫والثورة الهائلة في تكنولوجيا التصالت ووسائل‬
‫العلم‪ ،‬وكل هذه قد نبتت في بيئات قد انحسرت‬
‫عنها المبادئ الدينية‪ ،‬وماتت فيها القيم الروحية‪ ،‬ثم‬
‫انتقلت إلينا‪ ،‬فكان تأثيرها في بلدنا ضارا ً بالقضية‬
‫اليمانية‪ ،‬ومدمرا ً للقيم الخلقية‪ ،‬وقد ظهرت نتيجة‬
‫لذلك أمراض اجتماعية‪ ،‬ورذائل عصرية‪ ،‬لم تعهدها‬
‫المجتمعات السلمية من قبل‪ ،‬وقد ذكرنا بعضها‬
‫في الباب الثالث‪ ،‬فل داعي لذكرها هنا‪.‬‬
‫ويجب علينا أل نقف مكتوفي اليدي أمام أعداء‬
‫اليمان من مثيري فتن الشهوات والشبهات‪ ،‬بل‬
‫علينا أن نشمر عن ساعد الجد وننفض غبار‬
‫الكسل‪ ،‬لنقف بالمرصاد لكل أعداء العقيدة‬
‫‪219‬‬ ‫الخاتمة‬
‫والمصادر‬
‫وخصوم اليمان‪ ،‬ول شك أن هذه المة منصورة‬
‫بنصر الله لها‪ ،‬ودينها محفو ٌ‬
‫ظ بحفظه تعالى‪ :‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪    ‬‬
‫ذلك لم‬ ‫‪]  ‬سورة الحجر‪ ،[9:‬ولول‬
‫تقم لها قائمة خاصة في القرون المتأخرة‪ ،‬مع قوة‬
‫أعدائها الهائلة‪ ،‬وضعفها الواضح يقول الشيخ‬
‫عبدالرحمن الميداني‪$ :‬لول أن السلم حق بذاته‪،‬‬
‫مؤيد بتأييد الله محفوظ بحفظه‪ ،‬لم تبق منه بقية‬
‫تصارع قوى الشر في الرض‪ ،‬التي ما تركت سبيل ً‬
‫من المكر إل سلكته‪ ،‬ول سببا ً لطفاء نوره إل‬
‫‪ ‬‬ ‫أخذت به‪ ،‬‬
‫‪     ‬‬
‫‪.‬‬
‫‪]   ‬سورة النفال‪#[30:‬‬
‫)‪(1‬‬

‫ولذلك فيجب علينا أل نيئس من الصلح‪ ،‬ول‬


‫يعترينا الحباط من كثرة السهام المسددة لهذه‬
‫المة‪ ،‬فالنصر من عند الله ‪    ‬‬
‫‪  ‬‬
‫يشهد بأن‬ ‫‪]    ‬سورة محمد‪ ،[7:‬والواقع‬
‫كيد أعداء السلم ‪-‬على ما فيه من مكر وقوة ‪-‬لم‬
‫يحقق أهدافه‪ ،‬بل أنه باء بالفشل الذريع‪ ،‬وأقرب‬
‫مثال لذلك ما حصل لحملت التبشير في قارة‬
‫أفريقيا‪ ،‬فقد جندت لها إمكانيات هائلة من الموال‬
‫والفراد وآلت التقنية المتطورة‪ ،‬وكان المبشرون‬
‫واثقين بأن أفريقيا ستصبح عام ‪ 2000‬نصرانية عن‬
‫بكرة أبيها!‬
‫وقد خاب مسعاهم – ولله الحمد – حيث أن من‬
‫دخل في دين السلم من الوثنيين في تلك المدة‬
‫أضعاف من اعتنق النصرانية على الرغم من ضعف‬
‫إمكانيات دعاة السلم في تلك البلد‪.‬‬
‫‪ ()1‬كواشف زيوف ص )‪.(4‬‬
‫ضعف‬ ‫‪238‬‬
‫اليمان‬
‫هذا ورغم ما يلحظ عند المسلمين من فتور‬
‫وضعف إيمان‪ ،‬إل أن هناك كثيرا ً من الصالحين لم‬
‫تخدعهم الدنيا بزخرفها‪ ،‬ولم تجذبهم المتع‬
‫والشهوات ببريقها‪ ،‬لقد زهدوا في الدنيا عن قناعة‪،‬‬
‫وضحوا بالجاه والرئاسة والشهرة عن طيب نفس!‬
‫تركوا ذلك كله منصرفين عن الدنيا‪ ،‬تحدوهم‬
‫إلى الجنة الشواق الروحية‪ ،‬وتسوقهم إلى رحاب‬
‫الرحمن الهمم الزكية! قد اتخذوا من العمال‬
‫الصالحة إلى رضوان الله جسرًا‪ ،‬فأبدلهم الله بعد‬
‫العسر يسرًا‪.‬‬
‫وأقرب مثال على حب الناس للسلم‬
‫وتعطشهم للتوبة إلى الله؛ هو ما نسمع من توبة‬
‫بعض الفنانين والفنانات ‪،‬على رغم بعدهم عن‬
‫الجواء اليمانية‪ ،‬وإقامتهم في بيئة تصد عن‬
‫اللتزام بشرع الله‪ ،‬ومع ذلك فقد لبوا نداء الفطرة‪،‬‬
‫وسارعوا إلى مغفرة الله ورحمته‪ ،‬ومنهم من‬
‫انقطع إلى الله وصار من الدعاة إلى الله‪ ،‬نسأل‬
‫الله أن يثبتهم وينفع بهم‪.‬‬
‫وأخيرا ً فقد يقول قائل‪ :‬قد عرفنا أن ضعف‬
‫اليمان منتشر‪ ،‬وأن الشكوى منه كثيرة‪ ،‬فما العلج‬
‫إذن؟‬
‫وأقول‪ :‬لقد خصصنا الباب الرابع لعلج ضعف‬
‫اليمان‪ ،‬وهو أوسع البواب في البحث‪ ،‬وإذ أردنا‬
‫الختصار المفيد فإن علج ضعف اليمان ينحصر‬
‫في أمرين‪:‬‬
‫الول‪ :‬فعل الطاعات‪ .‬والكثار منها ومجاهدة‬
‫النفس في ذلك حتى تعتاد عليها‪ ،‬وتنقاد لها‪ ،‬فتصبح‬
‫جزءا ً من حياتها‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬اجتناب المعاصي‪ ..‬صغيرها وكبيرها‪..‬‬
‫ظاهرها وباطنها‪ ..‬مع الصبر على ذلك والمجاهدة‪..‬‬
‫‪219‬‬ ‫الخاتمة‬
‫والمصادر‬
‫ولله الحمد أول ً وأخيرًا‪ ..‬وظاهرا ً وباطنًا‪ ،‬وصلى‬
‫الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى‬
‫آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫ليلة الثلثاء‬
‫‪27/4/1425‬ه‬
‫ـ‬
‫ضعف‬ ‫‪240‬‬
‫اليمان‬
‫‪219‬‬ ‫الخاتمة‬
‫والمصادر‬

‫مصادر البحث‬

‫ل‪ :‬القرآن الكريم‪.‬‬‫أو ً‬


‫ثانيًا‪:‬‬
‫‪-1‬التقان في علوم القرآن ‪ -‬جلل الدين السيوطي‪.‬‬
‫‪-2‬إحياء علوم الدين ‪ -‬أبو حامد الغزالي‪.‬‬
‫‪ -3‬الذكار للنووي مع شرح ابن علن‪.‬‬
‫‪-4‬السلم يتحدى ‪ -‬وحيد الدين خان‪.‬‬
‫‪-5‬إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ‪ -‬ابن قيم‬
‫الجوزية‪.‬‬
‫‪-6‬المام الغزالي حجة السلم ومجدد المائة‬
‫الخامسة ‪ -‬صالح أحمد الشامي‪.‬‬
‫‪-7‬المور الميسرة لقيام الليل ‪ -‬وحيد عبدالسلم‬
‫بالي‪.‬‬
‫‪-8‬اليمان في القرآن ‪ -‬د‪.‬مصطفى عبدالواحد‪.‬‬
‫‪-9‬اليمان والحياة ‪ -‬د‪.‬يوسف القرضاوي‪.‬‬
‫‪ -10‬التبيان في آداب حملة القرآن ‪ -‬أبو زكريا –‬
‫يحيى شرف الدين النووي‪.‬‬
‫‪ -11‬تربية الولد في السلم ‪ -‬د‪.‬عبدالله ناصح‬
‫علوان‪.‬‬
‫‪ -12‬تزكية النفوس ‪ -‬د‪.‬أحمد فريد‪.‬‬
‫‪ -13‬تفسير القرآن العظيم ‪ -‬أبو الفداء إسماعيل‬
‫بن كثير‪.‬‬
‫‪ -14‬تفسير الشوكاني فتح القدير ‪ -‬محمد علي‬
‫الشوكاني‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪242‬‬
‫اليمان‬
‫‪ -15‬تهذيب مدارج السالكين لبن القيم ‪ -‬هذبه‬
‫عبدالمنعم صالح العلي‪.‬‬
‫‪ -16‬جامع بيان العلم وفضله ‪ -‬يوسف بن عبدالبر‬
‫النمري‪.‬‬
‫‪ -17‬ربيع القلوب ‪ -‬د‪.‬أنس أحمد كرزون‪.‬‬
‫‪ -18‬رجال الفكر والدعوة في السلم ‪ -‬أبو الحسن‬
‫الندوي‪.‬‬
‫‪ -19‬سير أعلم النبلء ‪ -‬محمد بن أحمد الذهبي‪.‬‬
‫‪ -20‬شرح النووي على صحيح مسلم‪.‬‬
‫‪ -21‬صفة الصفوة – لبن الجوزي‪.‬‬
‫‪ -22‬صيد الخاطر ‪ -‬لبن الجوزي‪.‬‬
‫‪ -23‬ظاهرة ضعف اليمان ‪ -‬الشيخ محمد صالح‬
‫المنجد‪.‬‬
‫‪ -24‬العبادة وأثرها في تربية النفس النسانية ‪-‬‬
‫د‪.‬عبدالعزيز بن عبدالرحمن المحيميد‪.‬‬
‫‪ -25‬فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والفتاء‪.‬‬
‫‪ -26‬فتح الباري‪ ،‬شرح صحيح البخاري ‪ -‬لبن حجر‬
‫العسقلن‪.‬‬
‫‪ -27‬الفوائد ‪ -‬لبن قيم الجوزية‪.‬‬
‫‪ -28‬في ظلل القرآن ‪ -‬سيد قطب‪.‬‬
‫‪ -29‬قصة اليمان بين الفلسفة والعلم والقرآن ‪-‬‬
‫للشيخ نديم الجسر‪.‬‬
‫‪ -30‬كتاب اليمان ‪ -‬شيخ السلم ابن تيمية‪.‬‬
‫‪ -31‬كتاب المساكين ‪ -‬مصطفى صادق الرافعي‪.‬‬
‫‪ -32‬كتاب الورع عن المام أحمد بن حنبل ‪ -‬تحقيق‬
‫د‪.‬مصطفى الذهبي‪.‬‬
‫‪219‬‬ ‫الخاتمة‬
‫والمصادر‬
‫‪ -33‬كواشف زيوف في المذاهب الفكرية‬
‫المعاصرة ‪ -‬عبدالرحمن حبنكة الميداني‪.‬‬
‫‪ -34‬مجمع الحباب وتذكرة أولى اللباب ‪ -‬الشريف‬
‫محمد بن الحسن الواسطي‪.‬‬
‫‪ -35‬مجلة الدعوة السعودية‪.‬‬
‫‪ -36‬مختصر ذم الهوى لبن الجوزي ‪ -‬اختصار‬
‫إبراهيم محمد رمضان‪.‬‬
‫‪ -37‬مختصر صحيح البخاري لزين الدين أحمد‬
‫الزبيدي‪.‬‬
‫‪ -38‬مختصر صحيح المسلم لمحمد بن ياسين بن‬
‫عبدالله‪.‬‬
‫‪ -39‬المستخلص في تزكية النفس ‪ -‬سعيد حوى‪.‬‬
‫‪ -40‬الملخص الفقهي ‪ -‬صالح بن فوزان الفوزان‪.‬‬
‫‪ -41‬واحة اليمان ‪ -‬عبدالحميد البللي‪.‬‬
‫‪ -42‬وفيات العيان ‪ -‬لبن خلكان‪.‬‬
‫ضعف‬ ‫‪244‬‬
‫اليمان‬
‫‪219‬‬ ‫الفهـــــر‬
‫س‬

‫الفهـــــــرس‬
‫رقم‬
‫الصفحة‬
‫الموضوع‬
‫المقدمة ‪.......................................‬‬
‫‪5‬‬ ‫‪......................................‬‬

‫الباب‬
‫الول ‪...........................................‬‬
‫‪9‬‬ ‫‪......................‬‬

‫توطئة‬
‫وتمهيد ‪.........................................‬‬
‫‪11‬‬ ‫‪......................‬‬

‫ماذا يفعل من يحس بضعف‬


‫‪11‬‬ ‫اليمان؟‪..................................‬‬

‫ما المقصود بضعف‬


‫اليمان؟ ‪.......................................‬‬
‫‪15‬‬ ‫‪......‬‬

‫شبهات‬
‫وشكوك ‪.......................................‬‬
‫‪23‬‬ ‫‪...................‬‬
‫ضعف‬ ‫‪246‬‬
‫اليمان‬
‫رقم‬
‫الصفحة‬
‫الموضوع‬
‫كيف نطرد الوساوس‬
‫الشيطانية ‪.....................................‬‬
‫‪29‬‬ ‫‪..‬‬

‫الوساوس والخواطر في‬


‫‪33‬‬
‫الصلة ‪........................................‬‬ ‫‪.‬‬

‫الباب‬
‫الثاني ‪..........................................‬‬
‫‪35‬‬ ‫‪......................‬‬

‫أسباب ضعف‬
‫اليمان ‪.........................................‬‬
‫‪37‬‬ ‫‪...........‬‬

‫النشغال الكلي بأمور‬


‫الدنيا ‪...........................................‬‬
‫‪39‬‬ ‫‪.‬‬

‫الهوى‬
‫والشهوات ‪....................................‬‬
‫‪43‬‬ ‫‪.....................‬‬

‫كثرة الوقوع في‬


‫المعاصي ‪......................................‬‬
‫‪51‬‬ ‫‪...........‬‬
‫‪219‬‬ ‫الفهـــــر‬
‫رقم‬
‫س‬
‫الصفحة‬
‫الموضوع‬
‫البتعاد عن الجواء‬
‫اليمانية ‪.......................................‬‬
‫‪57‬‬ ‫‪....‬‬

‫الكسل ‪........................................‬‬
‫‪61‬‬ ‫‪...............................‬‬

‫الطلع على الفكار الضالة والعقائد‬


‫‪67‬‬ ‫المنحرفة ‪....................‬‬

‫طول‬
‫المل ‪...........................................‬‬
‫‪71‬‬ ‫‪......................‬‬

‫مجالسة العابثين‬
‫والبطالين ‪.....................................‬‬
‫‪77‬‬ ‫‪...........‬‬

‫الباب‬
‫الثالث ‪.........................................‬‬
‫‪79‬‬ ‫‪......................‬‬

‫آثار ضعف‬
‫اليمان ‪.........................................‬‬
‫‪81‬‬ ‫‪...............‬‬
‫ضعف‬ ‫‪248‬‬
‫اليمان‬
‫رقم‬
‫الصفحة‬
‫الموضوع‬
‫الكآبة‬
‫والقلق ‪.........................................‬‬
‫‪83‬‬ ‫‪.....................‬‬

‫الزنى ‪..........................................‬‬
‫‪89‬‬ ‫‪...............................‬‬

‫السرقة ‪........................................‬‬
‫‪93‬‬ ‫‪...............................‬‬

‫الرشوة ‪........................................‬‬
‫‪97‬‬ ‫‪..............................‬‬

‫المخدرات ‪.....................................‬‬
‫‪101‬‬ ‫‪..............................‬‬

‫النانية وحب‬
‫الذات ‪..........................................‬‬
‫‪105‬‬ ‫‪...........‬‬

‫كثرة المراض‬
‫النفسية ‪.......................................‬‬
‫‪107‬‬ ‫‪............‬‬

‫‪109‬‬ ‫الباب‬
‫‪219‬‬ ‫الفهـــــر‬
‫رقم‬
‫س‬
‫الصفحة‬
‫الموضوع‬
‫الرابع ‪..........................................‬‬
‫‪......................‬‬

‫علج ضعف‬
‫اليمان ‪.........................................‬‬
‫‪111‬‬ ‫‪............‬‬

‫كفى بالموت‬
‫واعظا َ ‪.........................................‬‬
‫‪117‬‬ ‫‪...............‬‬

‫الحفاظ على الفرائض‪ ،‬والكثار من‬


‫‪125‬‬ ‫النوافل ‪........................‬‬

‫التفكر في مخلوقات‬
‫الله ‪.............................................‬‬
‫‪135‬‬ ‫‪......‬‬

‫استشعار عظمة الله‬


‫تعالى ‪..........................................‬‬
‫‪145‬‬ ‫‪......‬‬

‫اعتزال كل لغو‬
‫وباطل ‪.........................................‬‬
‫‪149‬‬ ‫‪..........‬‬
‫ضعف‬ ‫‪250‬‬
‫اليمان‬
‫رقم‬
‫الصفحة‬
‫الموضوع‬
‫الطلع على سير‬
‫الصالحين ‪.....................................‬‬
‫‪161‬‬ ‫‪.......‬‬

‫زيارة‬
‫المقابر ‪........................................‬‬
‫‪175‬‬ ‫‪.........................‬‬

‫قراءة القرآن قراءة فهم‬


‫‪185‬‬ ‫وتدبر ‪...........................................‬‬

‫أل بذكر الله تطمئن‬


‫القلوب ‪........................................‬‬
‫‪193‬‬ ‫‪....‬‬

‫طلب العلم وحضور مجالس‬


‫‪203‬‬ ‫الذكر ‪...................................‬‬

‫الخاتمة ‪........................................‬‬
‫‪209‬‬ ‫‪................................‬‬

‫مصادر‬
‫البحث ‪.........................................‬‬
‫‪213‬‬ ‫‪...................‬‬
‫‪219‬‬ ‫الفهـــــر‬
‫رقم‬
‫س‬
‫الصفحة‬
‫الموضوع‬
‫الفهرس ‪.......................................‬‬
‫‪217‬‬ ‫‪..............................‬‬

‫‪‬‬

You might also like