You are on page 1of 59

‫الصطلحات الربعة‬

‫ف القرآن‬

‫أبو العلى الودودي‬


‫موقعنا على النترنت‬
‫منبر التوحيد والجهاد‬

‫‪www.tawhed.com‬‬
‫تقديم الطبعة الولى‬
‫م ‪ ،‬ونشر‬ ‫هذه رساله ألفها الستاذ السيد أبو العلى المودودي في سنة ‪1360‬هـ ‪1941 -‬‬
‫فصولها تباعا في مجلته الشهرية " ترجمان القرآن " ثم جمعها ونشرها في رسالة سماها " المصطلحات‬
‫الربعة في القرآن " ‪ .‬وما كتبه الستاذ المودودي نفسه في مقدمته لهذه الرساله عن أهميه هذه المصطلحات‬
‫في السلم‪ ،‬فيه ما يغني عن إعادة ذكره في هذا التقديم‪ ،‬وحسبنا أن نبين هنا تأريخ تأليف هذه الرسالة‬
‫والمناسبة التي دعت لتأليفها ‪.‬‬
‫تم تأليف هذه الرسالة سنة ‪1360‬هـ‪ ،‬وهي السنة التي تأسست فيها " الجماعة السلمية " في الهند‬
‫‪ ،‬فكان لهذه الرسالة يد – وأي يد – في إيضاح دعوة الجماعة ‪ ،‬وتحديد موقفها من جميع الحزاب‬
‫والجمعيات التي كانت قائمة في البلد ‪ .‬فما تقدم بعدها أحد للشتراك إل كان على بينة تامة من الفرق بين‬
‫دعوة الجماعة وبين ما تدعو إليه سائر الحزاب والجمعيات ‪ ،‬على الرغم من أن بعضها يدعي أنها ما قامت‬
‫إل لجل السلم ونشر دعوته‪.‬‬

‫نسخة – باللغة الردية‬ ‫وقد ظهر من هذه الرسالة حتى الن أربع طبع – في كل طبعه نحو ‪3000‬‬
‫‪ ،‬ولم تنقل حتى يومنا هذا إلى أيه لغة أخرى‪ ،‬إل هذه الترجمة العربية التي نهض بها الخ الفاضل الديب‬
‫الستاذ السيد محمد كاظم سباق‪ ،‬من زملء " دار العروبة للدعوة السلمية " وها نحن أولء نتشرف بتقديمها‬
‫إلى اخواننا الناطقين بالضاد‪.‬‬
‫وهذه الرسالة هي الثانية من رسائلنا – تحلت بالطبع في مدينة دمشق – معقل السلم الحصين – على أيدي‬
‫اخوان لنا في العلم والدين ‪ ،‬ممن اجتمعت قلوبنا وقلوبهم على حب السلم والستماته في سبيله ‪ ،‬جزاهم ال‬
‫عن السلم وأهله خير الجزاء‪ ،‬ووفقنا جميعا للعمل بما فيه مرضاته ‪ ،‬انه ولي التوفيق وانه سميع مجيب ‪.‬‬
‫وقد سبق أن نشر في دمشق ريسالة " مبادئ السلم " للستاذ المودودي ‪ ،‬وثماني رسائل أخرى‬
‫نشرت في القاهرة – يجد القارئ اسماءها في ختام هذه الرسالة – والمأمول أن تعقبها رسائل أخرى من هذه‬
‫السلسلة قريبا إن شاء ال ‪.‬‬
‫وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين‬

‫هـ‬ ‫لهور في ‪ 13‬جمادى الولى ‪1374‬‬


‫م‬ ‫‪ 8‬كانون الثاني ) يناير ( ‪1955‬‬

‫كتبه العاجز الفقير إلى رحمة ال تعالى‬


‫محمد عاصم الحداد‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫المقدمة‬
‫الله والرب والدين والعبادة‬
‫هذه الكلمات الربع أساس المصطلح القرآني وقوامه‪ ،‬والقطب الذي تدور حوله دعوة القرآن‪ .‬فجماع‬

‫ما يدعو إليه القرآن الكريم هو أن ال تعالى هو الله الواحد الحد والرب الفرد الصمد‪ ،‬ل إله إل هو‪ ،‬ول‬

‫رب سواه‪ ،‬ول يشاركه في ألوهيته ول في ربوبيته أحد‪ .‬فيجب على النسان أن يرضى به إلها‪ T‬وأن يتخذه‬

‫دون سواه ربا‪ ،T‬ويكفر بألوهية غيره ويجحد ربوبية من سواه‪ ،‬وأن يعبده وحده ول يعبد أحدا‪ T‬غيره ويخلص‬

‫دينه ل تعالى ويرفض كل دين غير دينه سبحانه كما ورد في التنزيل‪) :‬و‪W‬ما أ\رس‪W‬ل[نا م‪Y‬ن‪ X‬ق‪Z‬بل‪Y‬ك‪ W‬م‪Y‬ن‪ X‬ر‪W‬سول‪ V‬إل‬

‫(‬ ‫نوحي إليه‪ Y‬أنه_ ل إله إل^ أنا فاعبدون(‪) .‬النبياء‪25 :‬‬
‫(‬ ‫)وما أ‪6‬م&روا إل‪ 0‬ل&ي‪.‬ع‪5‬ي)دوا إلها‪ 3‬واح&دا‪ 3‬ل إله‪ .‬إل‪ 0‬هو‪ .‬س)بحان‪,‬ه) عم*ا ي)ش'ر&كون(‪) .‬التوبة‪31 :‬‬
‫(‬ ‫)إن; هذه أم*ت‪9‬ك‪9‬م‪ 5‬أم;ة واحدة‪ 3‬وأنا ر‪: .‬بك‪9‬م‪ 5‬فاعبدون( )النبياء‪92 :‬‬
‫(‬ ‫)قل أغي‪5‬ر‪ .‬ال ابغي ر‪.‬ب*ا‪ 3‬وه)و‪ .‬رب‪ :‬كل@ شيء( )النعام‪164 :‬‬
‫(‬ ‫)الكهف‪110 :‬‬ ‫)ف‪,‬م‪.‬ن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عمل‪ 3‬صالحا‪ 3‬ول يشرك بعبادة ربه أحدا‪(3‬‬

‫(‬ ‫)ولقد ب‪.‬عثنا في كل أمة رسول‪ 3‬أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت( )النحل‪36 :‬‬
‫)آل عمران‪:‬‬ ‫)أفغير دين ال يبغون وله أسلم من في السماوات والرض طوعا‪ 3‬وكرها‪ 3‬وإليه يرجعون(‬

‫(‬ ‫‪83‬‬
‫(‬ ‫)قل إني أمرت‪ 9‬أن أعبد‪ .‬ال مخلصا‪ 3‬له الدين( )الزمر‪11 :‬‬
‫(‬ ‫)إن ال ربي ورب*كم فاعبدوه هذا صراط‪ O‬مستقيم( )آل عمران‪51 :‬‬
‫هذه الي المعدودة إنما سردناها مثال‪ T‬وأنموذجا‪ ،T‬وإل فمن قرأ القرآن وتتبع آياته‪ ،‬فإنه يحس لول‬

‫وهلة ان كل ما نزل به القرآن الكريم من الهدي والرشاد ل يدور إل حول هذه المصطلحات الربعة‪ ،‬وليس‬

‫موضوع الكتاب وفكرته الساسية إل‪:‬‬

‫أن ال هو الرب والله‪.‬‬

‫وأنه ل رب ول إله إل هو‪.‬‬

‫فإياه ينبغي أن يعبد النسان‪.‬‬

‫وله وحده ينبغي أن يخلص الدين‪.‬‬

‫أهمية المصطلحات الربعة‬

‫ومن الظاهر البي‪e‬ن أنه لبد لمن أراد أن يدرس القرآن ويسبر غور معانيه‪ ،‬أن يتفهم المعاني‬

‫الصحيحة لكل من هذه الكلمات الربع ويتلقى مفهومها الكامل الشامل‪ ،‬فإذا كان النسان ل يعرف ما الله‪،‬‬

‫وما معنى الرب‪ ،‬وما العبادة‪ ،‬وما تطلق عليه كلمة الدين فل جرم‪ ،‬أن القرآن كله سيعود في نظره كلما‬

‫مهمل‪ T‬ل يفهم من معانيه شيء‪ .‬فل يقدر أن يعرف حقيقة التوحيد‪ ،‬أو يتفطن إلى ماهية الشرك‪ ،‬ول يستطيع‬

‫ان يخص عبادته بال سبحانه أو يخلص دينه له‪ .‬وكذلك إذا كان مفهوم تلك المصطلحات غامضا‪ T‬متشابها‪ T‬في‬

‫ذهن الرجل وكانت معرفته بمعانيها ناقصة فل شك أنه يلتبس عليه كل ما جاء به القرآن من الهدى‬

‫والرشاد‪ ،‬وتبقى عقيدته وأعماله كلها ناقصة مع كونه مؤمنا‪ T‬بالقرآن‪ .‬فإنه لن ينفك يلهج بكلمة ل إله إل ال‬

‫ويتخذ مع ذلك آلهة متعددة من دون ال‪ .‬ولن يبرح يعلن أنه ل رب إل ال ثم يكون مطيعا‪ T‬لرباب من دون‬

‫ال في واقع المر‪ .‬إنه يجهر بكل صدق وإخلص بأنه ل يعبد إل ال تعالى ول يخضع إل له‪ ،‬ولكنه مع ذلك‬
‫يكون عاكفا‪ T‬على عبادة آلهة كثيرة من دون ال‪ .‬وكذلك يصرح بكل شدة وقوة أنه في حظيرة دين ال وكنفه‬

‫وإن قام أحد يعزوه إلى دين آخر غير السلم هجم عليه وناصبه الحرب؛ ولكنه يبقى مع ذلك متعلقا‪ T‬بأذيال‬

‫متعددة ول شك أنه ل يدعو أحدا‪ T‬غير ال تعالى ول يسميه بالله أو الرب بلسانه‪ ،‬لكن تكون له آلهة كثيرة‬

‫وأرباب متعددة من حيث المعاني التي وضعت لها هاتان الكلمتان‪ ،‬والمسكين ل يشعر أصل‪ T‬أنه قد أشرك بال‬

‫آلهة وأربابا‪ T‬أخرى وغذ نب‪e‬هته إلى أنه عابد لغير ال ومقترف‪ k‬للشرك في الدين‪ ،‬لنقض عليك يخمش وجهك‪،‬‬

‫إل أنه يكون عابدا‪ T‬لغير ال حقا‪ T‬وداخل‪ T‬في غير دينه بدون ريب من حيث مغزى )العبادة( و )الدين( وهو ل‬

‫يدري مع كل ذلك أن العمال التي يرتكبها هي في حقيقة المر عبادة لغير ال وأن الحالة التي قد سقط فيها‬

‫هي نفس المر دين‪ l‬ما انزل ال به من سلطان‪.‬‬

‫السبب الحقيقي لهذا الفهم الخاطئ‬

‫يدلنا النظر في عصر الجاهلية وما تبعه من عصور السلم أنه لما نزل القرآن في العرب وعرض‬

‫على الناطقين بالضاد كان حينئذ يعرف كل امرئ‪ V‬منهم ما معنى )الله( وما المراد بـ )الرب‪ ،(X‬لن كلمتي‬

‫)الله( و )الرب( كانتا مستعملتين في كلمهم منذ قبل‪ ،‬وكانوا يحيطون علما‪ T‬بجميع المعاني التي تطلقان‬

‫عليها‪ .‬ومن ثم إذا قيل لهم‪ :‬ل غله إل ال ول رب سواه ول شريك له في ألوهيته وربوبيته‪ ،‬أدركوا ما د_عوا‬

‫إليه تماما‪ T‬وتبين لهم من غير ما لبس ول إبهام أي شيء هو الذي قد نفاه القائل ومنع غير ال أن يوصف به؛‬

‫وأي شيء قد خصه وأخلصه ل تعالى‪ ،‬فالذين كفروا إنما كفروا عن بينة ومعرفة بكل ما يبطله وينعي عليه‬

‫كفره بألوهية غير ال وربوبيته‪ ،‬وكذلك من آمن فقد آمن عن بينة وبصيرة بكل ما يوجب قبول تلك العقيدة‬

‫الخذ به أو النسلخ عنه‪.‬‬

‫وكذلك كانت كلمتا )العبادة( و )الدين( شائعتين في لغتهم وكانوا يعلمون ما البعد‪ ،‬وما الحال التي‬

‫بعبر عنها بالعبودية‪ ،‬وما هو المنهاج العملي الذي يطلق عليه اسم )العبادة( وما مغزى )الدين( وما هي‬

‫المعاني التي تشتمل عليها هذه الكلمة؟ ومن ثم لما قيل لهم "أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت" وادخلوا في دين‬

‫ال منقطعين عن الديان كلها ما أخطأوا في فهم هذه الدعوة التي جاء بها القرآن‪ .‬وما إن قرعت كلماتها‬

‫أسماعهم حتى تبينوا‪ :‬أي نوع من التغيير في نظام حياتهم جاءت تطالبهم به تلك الدعوة؟‬

‫ولكنه في القرون التي تلت ذلك العصر الزاهر جعلت تتبدل المعاني الصلية الصحيحة لجميع تلك‬

‫الكلمات‪ ،‬تلك المعاني التي كانت شائعة بين القوم عصر نزول القرآن‪ ،‬حتى أخذت تضيق كل كلمة من تلكم‬
‫الكلمات الربع عما كانت تتسع له وتحيط به من قبل‪ ،‬وعادت منحصرة في معان ضيقة محدودة؛ بمدلولت‬

‫غامضة مستبهمة‪ .‬وذلك لسببين اثنين‪:‬‬

‫الول‪ :‬قلة الذوق العربي السليم ونضوب معين العربية الخالصة في العصور المتأخرة‪ ،‬والثاني أن‬

‫الذين ولدوا في المجتمع السلمي ونشؤوا فيه‪ ،‬لم يكن قد بقي لهم من معاني كلمات )الله( و )الرب( و‬

‫)العبادة( و )الدين( ما كان شائعا‪ T‬في المجتمع الجاهلي وقت نزول القرآن‪ .‬ولجل هذين السببين أصبح‬

‫اللغويون والمفسرون في العصور المتأخرة يشرحون أكثر كلمات القرآن في معاجم اللغة وكتب التفسير‬

‫بالمعاني التي فهمها المتأخرون من المسلمين بدل‪ T‬من معانيها اللغوية الصلية‪ .‬ودونك من ذلك أمثلة‪:‬‬

‫إن كلمة )الله( جعلوها كأنها مترادفة مع كلمة الصنام والوثان‪.‬‬

‫وكلمة )الرب( جعلوها مترادفة مع الذي يربي وينشئ وللذات القائمة بأمر تربية الخلق وتنشئتهم‪.‬‬

‫وكلمة )العبادة( حددوها في معاني التأله والتنسك والخضوع والصلة بين يدي ال‪.‬‬

‫وكلمة )الدين( جعلوها نظيرا‪ T‬لكلمة النحلة )‪.(Religion‬‬

‫وكلمة )الطاغوت( فسروها بالصنم أو الشيطان‪.‬‬

‫فكانت النتيجة أن تعذر على الناس أن يدركوا حتى الغرض الحقيقي والمقصد الجوهري من دعوة‬

‫القرآن فإذا دعاهم القرآن أل يتخذوا من دون ال إلها‪ ،T‬ظنوا أنهم وف^وا مطالبة القرآن حقها لما تركوا الصنام‬

‫واعتزلوا الوثان؛ والحال أنهم ل يزالون متشبثين بكل ما يسعه ويحيط به مفهوم )الله( ما عدا الوثان‬

‫والصنام‪ ،‬وهم ل يشعرون أنهم بعملهم ذلك قد اتخذوا غير ال إلها‪ .‬وإذا ناداهم القرآن أن ال تعالى هو‬

‫الرب فل تتخذوا من دونه ربا‪ ،T‬قالوا ها نحن أولء ل نعتقد أحدا‪ T‬من دون ال مربيا‪ T‬لنا ومتعهدا‪ T‬لمرنا‪ ،‬وبذلك‬

‫قد كملت عقيدتنا في باب التوحيد‪ ،‬والواقع أنه قد أذعن أكثرهم لربوبية غير ال من حيث المعاني الخرى‬

‫التي تطلق عليها كلمة )الرب( غير هذا المعنى – المربي‪ .-‬وإذا خاطبهم القرآن أن اعبدوا ال واجتنبوا‬

‫الطاغوت‪ ،‬قالوا‪ :‬ل نعبد الوثان‪ ،‬ونبغض الشيطان ونلعنه ول نخشع إل ل‪ ،‬فقد امتثلنا هذا المر القرآني‬

‫أيضا‪ T‬امتثال‪ ،T‬والحال أنهم ل يزالون متمسكين بأذيال الطواغيت الخرى غير الصنام المنحوتة من الحجار‪،‬‬

‫وقد خصوا سائر ضروب العبادة – اللهم إل التأله‪ -‬لغير ال‪ ،‬وقل مثل ذلك في )الدين(‪ ،‬فإنه ل يفهم الناس‬

‫من معنى إخلص الدين ل تعالى غير أن ينتحل المرء ما يسمونه )الديانة السلمية( وأل يبقى في ملة‬

‫الهنادك أو اليهود أو النصارى‪ .‬ومن هنا يزعم كل من هو معدود من أهل الديانة السلمية أنه قد أخلص‬
‫دينه ل‪ ،‬والحق أن أغلبيتهم ممن لم يخلصوا دينهم ل تعالى من حيث المعاني الواسعة التي تشتمل عليها كلمة‬

‫)الدين(‪.‬‬

‫نتائج هذا الفهم الخاطئ‬

‫من الحق الذي ل مراء فيه أنه قد خفي على الناس معظم تعاليم القرآن‪ ،‬بل قد غابت عنهم روحه‬

‫السامية وفكرته المركزية لمجرد ما غشي هذه المصطلحات الربعة الساسية من حجب الجهل‪ .‬وذلك من‬

‫أكبر السباب التي قد تطرق لجلها الوهن والضعف إلى عقائدهم وأعمالهم على رغم قبولهم دين السلم‬

‫وكونهم في عداد المسلمين‪ .‬ومن أجل ذلك كله يجدر بنا أن نفصل معاني تلك المصطلحات الربعة ونشرحها‬

‫شرحا‪ T‬كامل‪ ،T‬ليتبين غرض القرآن الحقيقي وتعاليمه الساسية‪.‬‬

‫ومع أني قد حاولت اللمام بمفهوم تلك المصطلحات في مقالت لي عديدة تقدم لي كتابها‪ ،‬غير أن ما‬

‫قد كتبته حتى الن ل يكفي في حد ذاته لدرء الخطاء التي قد تسربت إلى الذهان في هذا الباب؛ ول يكاد‬

‫يقتنع به الناس ويطمئنون إليه لنهم يحسبون كل ما آني به من الشرح والتفصيل لمعاني تلك الكلمات من غير‬

‫استشهاد بآي الكتاب العزيز ومن غير استناد إلى معاجم اللغة – يحسبونه رأيا‪ T‬لي ارتأيته؛ والظاهر أن رأيي‬

‫الشخصي ل يمكن أن يقنع الذين ل يرون رأيي ول يوافقونني عليه على القل‪ .‬فأردت في هذه الرسالة أن‬

‫أبين المعاني الكاملة الشاملة لهذه المصطلحات الربعة‪ ،‬من دون أن آتي في ذلك بقول ل يؤيده القرآن أو‬

‫برأي ل يستند إلى معاجم اللغة‪.‬‬

‫وسأتناول بالبحث أول‪ T‬كلمة )الله( ثم )الرب( ثم )العبادة( ثم )الدين( إن شاء ال تعالى‪.‬‬

‫أبو العلى‬

‫‪1‬اللـــــه‬
‫التحقيق اللغوي‬

‫مادة كلمة )الله(‪ :‬الهمزة واللم والهاء‪ ،‬وقد جاء في معاجم اللغة من هذه المادة ما يأتي بيانه فيما‬

‫يلي‪:‬‬
‫)(‬

‫]ألهت‪ r‬إلى فلن[‪ :‬سكنت إليه‬

‫]أله‪ W‬الرجل يأله[ إذا فرغ من أمر‪ V‬نزل به فألهه أي أجاره‬

‫]أل‪Y‬ه الرجل‪ u‬إلى الرجل[‪ :‬اتجه إليه لشدة شوقه إليه‪.‬‬


‫]اله الفصيل[ إذا ولع بأم‪e‬ه‬

‫]أله الهة وال‪r‬وه‪W‬ة[ عبد‪.‬‬

‫وقيل )الله( مشتق من )له يليه ليها‪ :[T‬أي احتجب‬

‫ويتبين من التأمل في هذه المعاني المناسبة التي جعلت "اله ياله إلهة" تستعمل بمعنى العبادة – )أي‬

‫التأله( – )الله( بمعنى المعبود‪:‬‬

‫‪ -1‬أن أول ما ينشأ في ذهن النسان من الحافز على العبادة والتأله يكون ما أتاه احتياج المرء‬

‫وافتقاره‪ .‬وما كان النسان ليخطر بباله أن يعبد أحدا‪ T‬ما لم يظن فيه أنه قادر على أن يسد خلته‪ ،‬وأن ينصره‬

‫على النوائب ويؤويه عند الفات‪ ،‬وعلى أن يسكن من روعه في حال القلق والضطراب‪.‬‬

‫‪ -2‬وكذلك أن اعتقاد المرء أن أحدا‪ T‬ما قاض للحاجات ومجيب للدعوات‪ ،‬لستلزم أن يعده أعلى منه‬

‫منزلة وأسمى مكانة‪ ،‬وأل يعترف بعلوه في المنزلة فحسب‪ ،‬بل أن يعترف كذلك بعلوه وغلبته في القوة‬

‫واليد‪.‬‬

‫‪ -3‬ومن الحق كذلك أن ما تقضى به حاجات المرء غالبا‪ T‬حسب قانون السباب والمسببات في هذه‬

‫الدنيا‪ ،‬ويقع جل عمله في قضاء الحاجات تحت سمع المرء وبصره‪ ،‬وفي حدود ل تخرج من دائرة علمه‪ ،‬ل‬

‫ينشئ في نفس المرء شيئا‪ T‬من النزوع إلى عبادته أبدا‪ ،T‬خذ لذلك مثل‪ T‬أن رجل‪ T‬يحتاج إلى مال ينفقه في بعض‬

‫حاجته‪ ،‬فيأتي رجل‪ T‬آخر يطلب منه عمل‪ T‬أو وظيفة فيجيبه الرجل إلى طلبه ويقلده عمل‪ ،T‬ثم يأجره على‬

‫ل – فضل‪ T‬عن أن يعتقد – أن الرجل يستحق العبادة من قبله‪ ،‬لما علم‬


‫عمله‪ ،‬فإن الرجل ل يخطر له ببال أص ‪T‬‬

‫بل رأى بأم‪ e‬عينه كل المنهاج الذي بلغ به غايته وعرف الطريقة التي اتخذها الرجل لقضاء حاجته‪ .‬فإن‬

‫تصور العبادة ل يمكن أن يخطر ببال المرء إل إذا كان شخص المعبود وقو‪e‬ته من وراء حجاب الغيب‪،‬‬

‫وكانت مقدرته على قضاء الحوائج تحت أستار الخفاء‪ .‬من ها هنا قد اختيرت للمعبود كلمة تتضمن معاني‬

‫الحتجاب والحيرة والوله مع اشتمالها على معنى الرفعة والعلو‪.‬‬

‫‪ -4‬ورابع الربعة أنه من المور الطبيعية التي ل مندوحة عنها أن يتجه النسان في شوق وولع إلى‬

‫من يظن فيه أنه قادر على أن يقضي حاجته إذا احتاج‪ ،‬وعلى أن يؤويه إذا نابته النوائب‪ ،‬ويهدئ أعصابه‬

‫عند القلق‪.‬‬

‫فتبين من ذلك كله أن التصورات التي قد أطلقت من أجلها كلمة )الله( على المعبود هي‪ :‬قضاء‬
‫الحاجة والجارة والتهدئة والتعالي والهيمنة وتملك القوى التي يرجى بها أن يكون المعبود قاضيا‪ T‬للحاجات‬

‫مجيرا‪ T‬في النوازل وأن يكون متواريا‪ T‬عن النظار يكاد يكون سرا‪ T‬من السرار ل يدركه الناس‪ ،‬وأن يفزع‬

‫إليه النسان ويولع به‪.‬‬

‫تصور الله عند أهل الجاهلية‪:‬‬

‫ويجمل بنا بعد هذا البحث اللغوي أن ننظر ماذا كانت تصور‪e‬ات العرب والمم القديمة في باب‬

‫اللوهية التي جاء القرآن بإبطالها‪.‬‬

‫يقول سبحانه وتعالى‬

‫)مريم‪(81:‬‬ ‫‪) -1‬واتخذوا من دون ال آلهة‪ 3‬ليكونوا لهم عزا‪(3‬‬

‫)يس‪(74 :‬‬ ‫)واتخذوا من دون ال آلهة لعلهم ي)نصرون(‬

‫يتبين من هاتين اليتين الكريمتين أن الذين كان يحسبهم أهل الجاهلية آلهة لنفسهم كانوا يظنون بهم‬

‫أنهم أولياؤهم وحماتهم في النوائب والشدائد وأنهم يكونون بمأمن من الخوف والنقض إذا احتموا بجوارهم‪.‬‬

‫‪) -2‬فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون ال من شيء لم*ا جاء أمر ربك وما زادوهم غير‬

‫)هود‪(101 :‬‬ ‫تتبيب(‬

‫)والذين يدعون من دون ال ل يخلقون شيئ‪3‬ا وهم يخلقون‪ .‬أموات‪ O‬غير أحياء‪ e‬وما يشعرون أي*ان‬

‫)النحل‪(22-20 :‬‬ ‫يبعثون‪ .‬إلهكم إله‪ f‬واحد‪(f‬‬

‫)القصص‪(88 :‬‬ ‫)ول تدع مع ال إلها‪ 3‬آخر‪ ،‬ل إله إل هو)((‬

‫)يونس‪(66 :‬‬ ‫)وما يت‪0‬بع الذين يدعون من دون ال شركاء إن يتبعون إل الظن وإن هم إل يخرصون(‬

‫وتتجلى من هذه اليات بضعة أمور‪ ،‬أحدها أن الذين كان أهل الجاهلية يتخذونهم آلهة لهم كانوا‬

‫يدعونهم عند الشدائد ويستغيثون بهم؛ والثاني‪ :‬أن آلهتهم أولئك لم يكونوا من الجن أو الملئكة أو الصنام‬

‫فحسب بل كانوا كذلك أفرادا‪ T‬من البشر قد ماتوا من قبل‪ ،‬كما يدل عليه قوله تعالى‪" :‬أموات‪ k‬غير أحياء وما‬

‫يشعرون أيان ي_بعثون" دللة واضحة والثالث‪ :‬أنهم كانوا يزعمون أن آلهتهم هذه يسمعون دعاءهم ويقدرون‬

‫على نصرهم‪.‬‬

‫ولبد للقارئ في هذا المقام من أن يكون على ذكر من مفهوم الدعاء‪ ،‬ومن وضعية النصرة التي‬

‫يرجوها النسان من الله فالمرء إذا كان أصابه العطش مثل‪ T‬فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء أو إذا أصيب‬
‫بمرض فدعا الطبيب لمداواته‪ ،‬ول يصح‪ e‬أن يطلق على طلب الرجل للخادم أو للطبيب حكم "الدعاء" وكذلك‬

‫ليس من معناه أن الرجل قد اتخذ الخادم أو الطبيب إلها‪ T‬له‪ .‬وذلك أن كل ما فعله الرجل جار على قانون‬

‫العلل والسباب ول يخرج عن دائرة حكمه‪ .‬ولكنه إذا استغاث بولي أو وثن – وقد أجهده العطش أو‬

‫المرض‪ -‬بدل‪ T‬من أن يدعو الخادم أو الطبيب‪ ،‬فل شك أنه دعاه لتفريج الكربة واتخذه إلها‪ .T‬فإنه دعا وليا‪ T‬قد‬

‫ثوى في قبر يبعد عنه بمئات من الميال‪ ،‬فكأني له يراه سميعا‪ T‬بصيرا‪ T‬ويزعم أن له نوعا‪ T‬من السلطة على‬

‫عالم السباب مما يجعله قادرا‪ T‬على ان يقوم بإبلغه الماء أو شفائه من المرض‪ ،‬وكذلك إذا دعا وثنا‪ T‬في مثل‬

‫هذه الحال يلتمس منه الماء أو الشفاء‪ ،‬فكأنه يعتقد أن الوثن حكمه نافذ على الماء أو الصحة أو المرض‪ ،‬مما‬

‫يقدر به أن يتصرف في السباب لقضاء حاجته تصرفا‪ T‬غيبيا‪ T‬خارجا‪ T‬عن قوانين الطبيعة‪ .‬وصفوة القول أن‬

‫التصور الذي لجله يدعو النسان الله ويستغيثه ويتضرع إليه هو ل جرم تصور كونه مالكا‪ T‬للسلطة‬

‫المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة‪.‬‬

‫‪) -3‬ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصر;فنا اليات لعلهم يرجعون‪ .‬فلول نصرهم الذين اتخذوا‬

‫)الحقاف‪(28-27 :‬‬ ‫من دون ال قربان‪3‬ا آلهة‪ 3‬بل ضل‪0‬وا عنهم وذلك إفك‪9‬هم وما كانوا يفترون(‬

‫)ومالي ل أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون‪ ،‬أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمان بضر‪ n‬ل تغن‬

‫)يس‪(23-22 :‬‬ ‫عني شفاعتهم شيئا‪ 3‬ول ينقذون(‬

‫)والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إل ليقربونا إلى ال ز)لفى إن ال يحكم بينهم فيما هم‬

‫)الزمر‪(3 :‬‬ ‫فيه يختلفون(‬

‫)يونس‪(18 :‬‬ ‫)ويعبدون من دون ال مال يضرهم ول ينفعهم ويقولون هؤلء شفعاؤنا عند ال(‬

‫فيتجلى من هذه اليات الكريمة أمور عديدة منها أن أهل الجاهلية ما كانوا يعتقدون في آلهتهم أن‬

‫اللوهية قد توزعت فيما بينهم‪ ،‬فليس فوقهم إله قاهر‪ ،‬بل كان لديهم تصور واضح لله قاهر كانوا يعبرون‬

‫عنه بكلمة )ال( في لغتهم‪ .‬وكانت عقيدتهم الحقيقة في شأن سائر اللهة أن لهم شيئا‪ T‬من التدخل والنفوذ في‬

‫ألوهية ذلك الله العلى‪ ،‬وأن كلمتهم ت‪r‬ت‪Z‬لقى عنده بالقبول وأنه يمكن أن تتحقق أمانينا بواسطتهم ونستدر النفع‬

‫ونتجنب المضار باستشفاعهم‪ .‬ولمثل هذه الظنون كانوا يتخذونهم أيضا‪ T‬آلهة مع ال تعالى‪ .‬ومن هنا يتبين أن‬

‫النسان عن اتخذ أحدا‪ T‬شافعا‪ T‬له عند ال ثم أصبح يدعوه ويستعين به ويقوم بآداب التبجيل والتعظيم ويقدم له‬
‫)(‬
‫القربات والنذور‪ ،‬فكل ذلك على ما اصطلح عليه أهل الجاهلية اتخاذه إياه إلها‪.‬‬
‫)النحل‪(51 :‬‬ ‫‪) -4‬وقال ال‪ :‬ل تتخذوا إلهين اثنين‪ ،‬إنما هو إله واحد‪ f‬فإياي فارهبون(‬

‫)النعام‪(80 :‬‬ ‫)ول أخاف ما تشركون به إل أن يشاء ربي شيئا‪(3‬‬

‫)هود‪(54 :‬‬ ‫)إن نقول إل اعتراك بعض آلهتنا بسوء(‬

‫ويتضح من هذه اليات الحكيمة‪ ،‬أن أهل الجاهلية كانوا يخافون من قبل آلهتهم أنهم إن أسخطوا‬

‫آلهتهم على أنفسهم لسبب من السباب أو حرموا عنايتهم بهم وعطفهم عليهم نابتهم نوائب المرض والقحط‬

‫والنقص في النفس والموال ونزلت بهم نوازل أخرى‪.‬‬

‫‪) -5‬اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا‪ 3‬من دون ال والمسيح بن مريم وما أمروا إل ليعبدوا إلها‬

‫)التوبة‪(31 :‬‬ ‫واحدا‪ 3‬ل إله إل هو(‬

‫)الفرقان‪(43 :‬‬ ‫)أرأيت من اتخذ إلهه هواه‪ ،‬أفأنت تكون عليه وكيل(‬

‫)النعام‪(137 :‬‬ ‫)وكذلك زي*ن لكثير من المشركين قتل أولدهم شركاؤهم(‬

‫)الشورى‪(21 :‬‬ ‫)أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به ال(‬

‫وفي اليات يقف المتأمل على معنى آخر لكلمة )الله( يختلف كل الختلف عن كل ما تقدم ذكره‬

‫من معانيها‪ ،‬فليس ههنا شيء من تصور السلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة‪ ،‬فالذي ات^خذ إلها‪ T‬هو إما واحد‬

‫من البشر أو نفس النسان نفسه‪ ،‬ولم يتخذ ذلك إلها‪ T‬من حيث أن الناس يدعونه أو يعتقدون فيه أنه يضرهم‬

‫وينفعهم‪ ،‬أو أنه يستجار به‪ ،‬بل قد اتخذوه إلها‪ T‬من حيث تلقوا أمره شرعا‪ T‬لهم‪ ،‬وائتمروا بأمره وانتهوا عما‬

‫نهى عنه‪ ،‬واتبعوه فيما حلله وحرمه‪ ،‬وزعموا ان له الحق في أن يأمر وينهى بنفسه‪ ،‬وليس فوقه سلطة قاهرة‬

‫يحتاج إلى الرجوع والستناد إليها‪ .‬فالية الولى تبين لنا كيف اتخذت اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم‬

‫أربابا‪ T‬وآلهة من دون ال‪ ،‬كما بين ذلك الحديث النبوي الشريف فيما رواه المام الترمذي وابن جرير من‬

‫طرق عن عدي بن حاتم رضي ال عنه "أنه دخل على رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم وفي عنقه صليب‬

‫من ذهب وهو يقرأ هذه الية‪ ،‬قال‪ ،‬فقلت‪ :‬إنهم لم يعبدوهم‪ ،‬فقال‪ :‬بلى‪ ،‬إنهم حرموا عليهم الحلل وأحلوا لهم‬

‫الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم"‪.‬‬

‫وأما الية الثانية فمعناها واضح كل الوضوح‪ ،‬وذلك أن من يتبع هوى النفس ويرى أمره فوق كل‬

‫أمر فقد اتخذ نفسه إلها‪ T‬له في واقع المر‪.‬‬

‫أما اليتان التاليتان بعدهما فإنه وإن وردت فيهما كلمة )الشركاء( مكان )الله(‪ ،‬فالمراد بالشرك هو‬
‫الشراك بال تعالى في اللوهية‪ .‬ففي هاتين اليتين دللة واضحة على أن الذين يرون أن ما وضعه رجل أو‬

‫طائفة من الناس من قانون أو شرعة أو رسم هو قانون شرعي من غير أن يستند إلى أمر من ال تعالى‪ ،‬فهم‬

‫يشركون ذلك الشارع بال تعالى في اللوهية‪.‬‬

‫ملك المر في باب اللوهية‬

‫إن جميع ما تقدم ذكره من المعاني المختلفة لكلمة )الله( يوجد فيما بينها ارتباط منطقي ل يخفى‬

‫على المتأمل المستبصر‪ .‬فالذي يتخذ كائنا‪ T‬ما وليا‪ T‬له ونصيرا‪ T‬وكاشفا‪ T‬عنه السوء‪ ،‬وقاضيا‪ T‬لحاجته ومستجيبا‬

‫لدعائه وقادرا‪ T‬على أن ينفعه ويضره‪ ،‬كل ذلك بالمعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية‪ ،‬يكون السبب‬

‫لعتقاده ذلك ظنه فيه أن له نوعا‪ T‬من أنواع السلطة على نظام هذا العالم‪ .‬وكذلك من يخاف أحدا‪ T‬ويتقيه ويرى‬

‫أن سخطه يجر عليه الضرر ومرضاته تجلب له المنفعة‪ ،‬ل يكون مصدر اعتقاده ذلك وعمله إل ما يكون في‬

‫ذهنه من تصور أن له نوعا‪ T‬من السلطة على هذا الكون‪ .‬ثم أن الذي يدعو غير ال ويفزع إليه في حاجاته‬

‫بعد إيمانه بال العلي العلى‪ ،‬فل يبعثه على ذلك إل اعتقاده فيه أن له شركا‪ T‬في ناحية من نواحي السلطة‬

‫اللوهية‪ .‬وعلى غرار ذلك من يتخذ حكم أحد من دون ال قانونا‪ T‬ويتلقى أوامره ونواهيه شريعة متبعة فإنه‬

‫أيضا‪ T‬يعترف بسلطته القاهرة‪ .‬فخلصة القول أن أصل اللوهية وجوهرها هو السلطة سواء أكان يعتقدها‬

‫الناس من حيث أن حكمها على هذا العالم حكم مهيمن على قوانين الطبيعة‪ ،‬أو من حيث أن النسان في حياته‬

‫الدنيا مطيع لمرها وتابع لرشادها‪ ،‬وأن أمرها في حد ذاته واجب الطاعة والذعان‪.‬‬

‫استدلل القرآن‬

‫وهذا هو تصور السلطة الذي يجعله القرآن الكريم أساسا‪ T‬يأتي به من البراهين والحجج على إنكار‬

‫ألوهية غير ال‪ ،‬وإثبات اللوهية ل تعالى وحده‪ .‬فالذي يستدل به القرآن في هذا الشأن هو انه ل يملك جميع‬

‫السلطات والصلحيات في السماوات والرض إل ال‪ .‬فالخلق مختص به‪ ،‬والنعمة كلها بيده‪ ،‬والمر له وحده‪،‬‬

‫والقوة والحول في قبضته‪ ،‬وكل ما في السماوات والرض قانت له ومطيع لمره طوعا‪ T‬وكرها‪ ،T‬ول سلطة‬

‫لحد سواه ول ينفذ فيها الحكم لحد غيره‪ ،‬وما من أحد دونه يعرف أسرار الخلق والنظم والتدبير‪ ،‬أو يشاركه‬

‫في صلحيات حكمه‪ .‬ومن ثم ل إله في حقيقة المر إل هو‪ ،‬وإذ لم يكن في الحقيقة إله آخر من دون ال‪،‬‬

‫فكل ما تأتونه من الفعال معتقدين غيره إلها‪ T‬باطل من أساسه‪ ،‬سواء أكان ذلك دعاءكم إياه واستجارتكم له أم‬

‫كان خوفكم إياه ورجاءكم منه‪ ،‬أم كان اتخاذكم إياه شافعا‪ T‬لدى ال‪ ،‬أم كان إطاعتكم له وامتثالكم لمره؛ فإن‬
‫هذه الواصر والعلقات التي قد عقدتموها مع غير ال‪ ،‬يجب أن تكون مختصة بال سبحانه لنه هو الذي‬

‫يملك السلطة دون غيره‪.‬‬

‫وأما السلوب الذي يستدل به القرآن الكريم في هذا الباب‪ ،‬فدونك بيانه في كلمه البليغ المعجز‪:‬‬

‫)الزخرف‪(84 :‬‬ ‫)وهو الذي في السماء إله‪ f‬وفي الرض إله‪ f‬وهو الحكيم العليم(‬

‫)أفمن يخلق كمن ل يخلق أفل تذكرون( )والذين يدعون من دون ال ل يخلقون شيئ‪3‬ا وهم‬

‫)النحل‪(22 ،20 ،17 :‬‬ ‫ي)خ'ل‪,‬قون( )إلهكم إله‪ f‬واحد‪(f‬‬

‫)يا أي‪:‬ها الناس اذكروا نعمة ال عليكم هل من خالق‪ e‬غير ال يرزقكم من السماء والرض ل إله إل‬

‫)فاطر‪(3 :‬‬ ‫هو‪ ،‬فأنى تؤفكون(‬

‫)النعام‪(46 :‬‬ ‫)قل أرأيتم عن أخذ ال سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله‪ f‬غير ال يأتيكم به(‬

‫)وهو ال ل إله إل هو له الحمد في الولى والخرة وله الح)كم وإليه ترجعون‪ .‬قل أرأيتم إن جعل‬

‫ال عليكم الليل سرمدا‪ 3‬إلى يوم القيامة من إله غير ال يأتيكم بضياء‪ e‬أفل تسمعون‪ .‬قل أرأيتم إن جعل ال‬

‫)القصص‪(72-7 :‬‬ ‫عليكم النهار سرمدا‪ 3‬إلى يوم القيامة من إله‪ f‬غير ال يأتيكم بليل‪ e‬تسكنون فيه أفل تبصرون(‬

‫)قل ادعوا الذين زعمتم من دون ال ل يملكون مثال ذرة‪ e‬في السماوات ول في الرض وما لهم‬

‫)سبأ‪(22:23 :‬‬ ‫فيهما من شرك وما له منهم من ظهير‪ .‬ول تنفع الشفاعة عنده إل لمن أذن له(‬

‫)خلق السماوات والرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس‬

‫)الزمر‪(5 :‬‬ ‫والقمر كل‪ u‬يجري لجل‪ e‬مسمى(‬

‫)خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من النعام ثمانية أزواج‪ e‬يخلقكم في بطون‬

‫)الزمر‪(6 :‬‬ ‫ث ذلكم ال رب‪:‬كم له الملك ل إله إل هو فأنى ت‪9‬صرفون(‬


‫أمهاتكم خلقا‪ 3‬من بعد خلق في ظلمات ثل ‪e‬‬

‫)أمن خلق السماوات والرض وأنزل لكم من السماء ماء‪ x‬فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم‬

‫أن تنبتوا شجرها أإله‪ f‬مع ال بل هم قوم‪ f‬يعدلون‪ .‬أمن جعل الرض قرارا‪ 3‬وجعل خللها أنهارا‪ 3‬وجعل لها‬

‫رواسي وجعل بين البحرين حاجزا‪ .‬أإله‪ f‬مع ال بل أكثرهم ل يعلمون‪ ،‬أم*ن ي)جيب المضطر إذا دعاه ويكشف‬

‫السوء ويجعلكم خلفاء الرض‪ .‬أإله‪ f‬مع ال قليل‪ 3‬ما تذكرون‪ .‬أم*ن يهديكم في ظلمات البر‪ y‬والبحر ومن‬

‫يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته أإله مع ال تعالى ال عما ي)شركون‪ .‬أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن‬

‫)النمل‪(64-60 :‬‬ ‫يرزقكم من السماء والرض أإله‪ f‬مع ال قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين(‬
‫)الذي له ملك السماوات والرض ولم يتخذ ولدا‪ 3‬ولم يكن له شريك‪ f‬في الملك وخلق كل شيء‬

‫فقدره تقديرا‪ .‬واتخذوا من دونه آلهة‪ 3‬ل يخلقون شيئا‪ 3‬وهم يخلقون‪ ،‬ول يملكون لنفسهم ضرا‪ 3‬ول نفعا‪ 3‬ول‬

‫)الفرقان‪(3 :2 :‬‬ ‫يملكون موتا‪ 3‬ول حياة‪ 3‬ول نشورا(‬

‫)بديع السماوات والرض أن‪0‬ى يكون له ولدق ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء‪ e‬وهو بكل شيء‬

‫)النعام‪(102 – 101 :‬‬ ‫عليم‪ .‬ذلكم ال ربكم ل إله إل هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل(‬

‫)ومن الناس من يتخذ من دون ال أندادا‪ 3‬يحبونهم كحب ال والذين آمنوا أشد حبا‪ 3‬ل‪ ،‬ولو يرى‬

‫)البقرة‪(165 :‬‬ ‫الذين ظلموا إذ يرون العذاب إن* القوة ل جميعا(‬

‫)قل أرأيتم ما تدعون من دون ال أروني ما خلقوا من الرض أم لهم شرك في السماوات( )ومن‬

‫)الحقاف‪(5 ،4 :‬‬ ‫أضل ممن يدعو من دون ال من ل يستجيب له إلى يوم القيامة(‬

‫)لو كان فيهما آلهة‪ O‬إل ال لفسدتا فسبحان ال رب العرش عما يصفون‪ .‬ل ي)سئل عما يفعل‪ 6‬وه)م‬

‫)النبياء‪(23-22 :‬‬ ‫ي)سئلون(‬

‫)ما اتخذ ال من ولد وما كان معه من إله إذا‪ 3‬لذهب كل إله بما خلق ولعل بعضهم على بعض(‬

‫)المؤمنون‪(91 :‬‬

‫)قل لو كان معه آلهة‪ O‬كما يقولون إذا‪ 3‬لبتغوا إلى ذي العرش سبيل‪ .3‬سبحانه وتعالى عم*ا يقولن‬

‫)السراء‪(43 – 42 :‬‬ ‫علو*ا‪ 3‬كبيرا(‬

‫ففي جميع هذه اليات من أولها إلى آخرها ل تجد إل فكرة رئيسية واحدة أل وهي أن كل‪ T‬من‬

‫اللوهية والسلطة تستلزم الخرى وأنه ل فرق بينهما من حيث المعنى والروح‪ .‬فالذي ل سلطة له‪ ،‬ل يمكن‬

‫أن يكون إلها‪ T‬ول ينبغي أن يتخذ إلها‪ .‬وأما من يملك السلطة فهو الذي يجوز أن يكون غلها‪ T‬وهو وحده ينبغي‬

‫أن يتخذ إلها‪ .‬ذلك بأن جميع حاجات المرء التي تتعلق بالله أو التي يضطر المرء لجلها أن يتخذ أحدا‪ T‬إلها‬

‫له ل يمكن قضاء شيء منها من دون وجود السلطة‪ .‬ولذلك ل معنى للوهية من ل سلطة له‪ ،‬فإن ذلك أيضا‬

‫مخالف للحقيقة‪ ،‬ومن النفخ في الرماد أن يرجع إليه المرء ويرجو منه شيئا‪.‬‬

‫والسلوب الذي يستدل به القرآن واضعا‪ T‬بين يديه هذه الفكرة الرئيسية‪ ،‬يمكن القارئ أني فهم‬

‫مقدماته ونتائجه حق الفهم بالترتيب التي‪:‬‬


‫‪ -1‬إن أعمال قضاء الحاجة وكشف الضرر والجارة والتوفيق والنصر والرقابة والحماية وإجابة‬

‫الدعوات التي قد تهاونتم بها وصغرتم من شأنها‪ ،‬ما هي بأعمال هينة في حقيقة المر‪ ،‬بل الحق أن صلتها‬

‫وثيقة بالقوى والسلطات التي تتولى أمر الخلق والتدبير في هذا الكون فإنكم إن تأملتم في المنهاج الذي تقضى‬

‫به حوائجكم التافهة الحقيرة‪ ،‬عرفتم أن قضاءها مستحيل من غير أن تتحرك لجله عوامل ل تحصى في‬

‫ملكوت الرض والسماء خذوا لذلك مثل‪ T‬كأسا‪ T‬من الماء تشربونها أو حبة من القمح تأكلونها فما أدركوا إذ‬

‫تعمل كل من الشمس والرض والرياح والبحار قبل أن تتهيأ لكم هذه وتصل إلى أيديكم‪ .‬فالحق أنه ل تتطلب‬

‫إجابة دعائكم وقضاء حاجتكم وما إليها من الشؤون سلطة هينة‪ ،‬بل يتطلب ذلك سلطة يقتضيها ويستلزمها‬

‫خلق السماوات والرض وتحريك السيارات وتصريف الرياح وإنزال المطار وبكلمة موجزة يقتضيها‬

‫ويتطلبها تدبير نظام هذا الكون بأسره‪.‬‬

‫‪ -2‬وهذه السلطة غير قابلة للتجزئة‪ ،‬فل يمكن أبدا‪ T‬أن تكون السلطة في أمر الخلق بيد وفي أمر‬

‫الرزق بيد أخرى‪ ،‬وأن تكون الشمس مسخرة لهذا وتكون الرض مذللة لذاك‪ .‬كما ل يمكن أن يكون النشاء‬

‫في يد والمرض والشفاء في يد أخرى‪ ،‬والموت والحياة بيد ثالثة‪ .‬فإنه لو كان المر كذلك ما أمكن لنظام هذا‬

‫الكون أن تقوم له قائمة‪ .‬فما لبد‪ e‬منه أن تكون جميع السلطات والصلحيات بيد حاكم واحد يرجع إليه كل ما‬

‫في السماوات والرض‪ .‬فإن‪ e‬نظام هذا العالم يقتضي أن يكون المر كذلك وهو في الواقع كذلك‪:‬‬

‫‪ -3‬وإذ كانت السلطة كلها بيد الحاكم الواحد ولم يكن لحد غيره نقير منها ول قطمير‪ ،‬فاللوهية‬

‫أيضا‪ T‬مخصوصة به ل محالة‪ ،‬وخالصة له دون غيره ول شريك له فيها‪ .‬فل يملك أحد من دونه أن يغيثك أو‬

‫يستجيب دعاءك أو يجيرك أو يكون حاميا‪ T‬لك ونصيرا‪ T‬أو ليا‪ T‬ووكيل‪ ،T‬أو يملك لك شيئا‪ T‬من النفع أو الضر‪.‬‬

‫إذا‪ T‬ل إله لكم غير ال بمعنى من تلك المعاني التي قد تخطر ببالكم‪ ،‬حتى إنه ل يمكن أن يكون أحدا‪ T‬إلها‪ T‬لكم‬

‫بأن له دالة عند حاكم هذا الكون وتتقبل شفاعته لديه‪ ،‬لمكانه من التقرب عنده‪ .‬كل بل ليس في وسع أحد أن‬

‫يتصدى لمر من أمور حكمه وتدبيره‪ ،‬ول يستطيع أحد أن يتدخل في شيء من شؤونه‪ ،‬وكذلك قبول الشفاعة‬

‫أو رفضها متوقف على مشيئته وإرادته‪ ،‬وليس لحد من القوة والنفوذ ما يجعل شفاعته مقبول لديه‪.‬‬

‫‪ -4‬وما يقتضيه توحد السلطة العليا أن يكون جميع ضروب الحكم والمر راجعة إلى مسيطر قاهر‬

‫واحد‪ ،‬وإل^ ينتقل منه جزء من الحكم إلى غيره‪ .‬فإنه إذا لم يكن الخلق إل له ولم يكن له شريك فيه‪ ،‬وإذا كان‬

‫هو الذي يرزق الناس ولم تكن لحد من دونه يد في المر‪ ،‬إذا كان هو القائم بتدبير نظام هذا الكون وتسيير‬
‫شؤونه ولم يكن له في ذلك شريك‪ ،‬فما يتطلبه العقل أل‪ y‬يكون الحكم والمر والتشريح إل بيده كلك ول مبر‪e‬ر‬

‫لن يكون أحد شريكا‪ T‬له في هذه الناحية أيضا‪ .‬وكما أن^ه من الخطأ أن يكون أحد غيره مجيبا‪ T‬لدعوة الداعي‬

‫وقاضيا‪ T‬لحاجة المحتاج‪ ،‬ومجيرا‪ T‬للمضطر في دائرة ملكوته في السموات والرض‪ ،‬فمن الخطأ والباطل كذلك‬

‫أن يكون أحد غيره حاكما‪ T‬مستقل‪ T‬بنفسه‪ ،‬وآمرا‪ T‬مستبدا‪ T‬بحكمه‪ ،‬وشارعا‪ T‬مطلق اليد في تشريعه‪ ،‬إن الخلق‬

‫والرزق والحياء والنامة‪ ،‬وتسخير الشمس والقمر‪ ،‬وتكوير الليل والنهار والقضاء والقدر‪ ،‬والحكم والملك‪،‬‬

‫والمر والتشريع ‪ ..‬كل أولئك وجوه مختلفة للسلطة الواحدة‪ ،‬ومظاهر شتى للحكم الواحد‪ ،‬والحكم والسلطة ل‬

‫يقبل شيء منهما التجزئة والتقسيم البتة‪ .‬فالذي يعتقد أمر كائن ما من دون ال مما يجب إطاعته والذعان له‬

‫بغير سلطان من عند ال‪ ،‬فإنه يأتي من الشرك بمثل ما يأتي به الذي يدعو غير ال ويسأله‪ .‬وكذلك الذي‬

‫يدعي أنه مالك الملك‪ ،‬والمسيطر القاهر‪ ،‬والحاكم المطلق بالمعاني السياسية)(‪ ،‬فإن دعواه هذه كدعوى‬

‫اللوهية ممن ينادي بالناس‪" :‬إني وليكم وكفيلكم وحاميكم وناصركم"‪ ،‬ويريد بكل ذلك المعاني الخارجة عن‬

‫نطاق السنن الطبيعية‪ .‬ألم تر أنه بينما جاء في القرآن أن ال تعالى ل شريك له في الخلق وتقدير الشياء‬

‫وتدبير نظام العالم‪ ،‬جاء معه أن ال له الحكم وله الملك ليس له شريك في الملك‪ ،‬مما يدل دللة واضحة على‬

‫أن اللوهية تشتمل على معاني الحكم والملك أيضا‪ ،T‬وأنه مما يستلزمه توحيد الله أل يشرك بال تعالى في‬

‫هذه المعاني كذلك‪ .‬وقد فصل القول في ذلك أكثر مما تقدم فيما يلي من اليات‪:‬‬

‫)قل| اللهم* مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك من تشاء) وتعز من تشاء وتذل من تشاء(‬

‫)آل عمران‪(26 :‬‬

‫)الناس‪(3-1 :‬‬ ‫)قل أعوذ برب الناس‪ .‬ملك الناس‪ .‬إله الناس(‬

‫وقد صرح القرآن بالمر بأكثر من كل ما سبق في )سورة غافر ( حيث جاء‪:‬‬

‫)غافر‪(16 :‬‬ ‫)يوم هم بارزون‪ ،‬ل يخفى على ال منهم شيء‪ ،‬لمن الملك اليوم ل الواحد القهار(‬

‫أي يوم يكون الناس قد انقشعت الحجب عنهم‪ ،‬ول يخفى على ال خافية من أمرهم‪ ،‬ينادي المنادي‪:‬‬

‫لمن الملك اليوم؟ ول يكون الجواب إل أن الملك ل الذي غلبت سلطته جميع الخلق‪ ،‬وأحسن ما يفسر هذه‬

‫الية ما رواه المام أحمد بن حنبل – رحمه ال – عن عبد ال بن عمر رضي ال عنهما‪ ،‬أن رسول ال صلى‬

‫ال عليه وسلم قرأ هذه الية ذات يوم على المنبر )وما قد روا ال حق قدره‪ ،‬والرض جميعا‪ T‬قبضته يوم‬

‫القيامة‪ ،‬والسموات مطويات بيمينه‪ ،‬سبحانه وتعالى عما يشركون( ورسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫هكذا بيده ويحركها‪ ،‬يقبل بها ويدبر‪ ،‬يمجد الرب نفسه‪ ،‬أنا الجبار‪ ،‬أنا المتكبر‪ ،‬أنا العزيز‪ ،‬أنا الكريم‪ ،‬فرجف‬

‫برسول ال صلى ال عليه وسلم المنبر_ حتى قلنا‪ :‬ليخر‪z‬ن‪ z‬به)(‪.‬‬

‫‪-2‬الـــــرب‬
‫التحقيق اللغوي‬

‫مادة كلمة )الرب(‪ :‬الراء والباء المضع‪z‬فة)(‪،‬ومعناها الصلي الساسي‪ :‬التربية‪ ،‬ثم تتشعب عنه معاني‬

‫التصرف والتعهد والستصلح والتمام والتكميل‪ ،‬ومن ذلك كله تنشأ في الكلمة معاني العلو والرئاسة والتملك‬
‫)(‬
‫والسيادة‪ .‬ودونك أمثلة لستعمال الكلمة في لغة العرب بتلك المعاني المختلفة‪:‬‬

‫)‪ (1‬التربية والتنشئة والنماء‪:‬‬

‫يقولون )رب‪ z‬الولد( أي رب‪e‬اه حتى أدرك فـ )الر‪e‬بيب( هو الصبي الذي تربيه و )الربيبة( الصبية‪.‬‬

‫وكذلك تطلق الكلمتان على الطفل الذي يربى في بيت زوج أمه و )الربيبة( أيضا‪ T‬الحاضنة ويقال )الر‪e‬ابة(‬

‫لمرأة الب غير الم‪ ،‬فإنها وإن لم تكن أم الولد‪ ،‬تقوم بتربيته وتنشئته‪ .‬و )الراب( كذلك زوج الم‪.‬‬

‫)المربب( أو )المربى( هو الدواء الذي يختزن ويد‪e‬خر‪ .‬و )ر‪W‬ب‪ z‬ي_رب{ رب‪z‬ا‪ (T‬من باب نصر معناه الضافة‬

‫والزيادة والتمام‪ ،‬فيقولون )رب‪ z‬النعمة(‪ :‬أي زاد في الحسان وأمعن فيه‪.‬‬

‫)‪ (2‬الجمع والحشد والتهيئة‪:‬‬

‫يقولون‪) :‬فلن يرب الناس( أي يجمعهم أو يجتمع عليه الناس‪ ،‬ويسمون مكان جمعهم )بالمر‪e‬ب‪ (e‬و‬

‫)الترب{ب( هو النضمام والتجم‪e‬ع‪.‬‬

‫)‪ (3‬التعهد والستصلح والرعاية والكفالة‪:‬‬

‫يقولون )رب ضيعة( أي تعهد‪e‬ها وراقب أمرها‪ .‬قال صفوان بن أمية لبي سفيان‪ :‬لن يربني رجل من‬

‫قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن‪ ،‬أي يكفلني ويجعلني تحت رعايته وعنايته‪ .‬وقال علقمة بن‬

‫عبدة‪:‬‬
‫)(‬
‫وقبلك ربتني فضيعت ربوب‬ ‫وكنت امرءا‪ T‬أفضت إليك ربابتي‬

‫أي انتهى إليك الن أمر ربابتي وكفالتي بعد أن رباني قبلك ربوب فلم يتعهدوني ولم يصلحوا شأني‪.‬‬

‫ويقول الفرزدق‪:‬‬
‫)(‬
‫سلءها في أديم غير مربوب‬ ‫كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت‬
‫أي الديم الذي لم يلي‪e‬ن ولم يدبغ‪ .‬ويقال )فلن يربب صنعته عند فلن( أي يشتغل عنده بصناعته‬

‫ويتمرن عليها ويكسب على يده المهارة فيها‪.‬‬

‫)‪ (4‬العلء والسيادة والرئاسة وتنفيذ المر والتصرف‪:‬‬

‫يقولون )قد رب‪ e‬فلن قومه(‪ :‬أي ساسهم وجعلهم ينقادون له‪ .‬و )ربيت القوم( أي حكمتهم وسدتهم‪،‬‬

‫ويقول لبيد بن ربيعة‪:‬‬

‫ورب‪ z‬معد بين خبث وعرعر‬


‫)(‬
‫وأهلكن يوما‪ T‬رب كندة وابنه‬

‫والمراد برب كندة ههنا سيد كندة ورئيسهم‪ .‬وفي هذا المعنى يقول النابغة الذبياني‪:‬‬

‫فدى} لك من رب‪ V‬تليدي وطارفي‬


‫)(‬
‫تخ‪r‬ب| إلى لنعمان حتى تناله‬

‫)‪ (5‬التملك‪:‬‬

‫قد جاء في الحديث أنه سأل النبي صلى ال عليه وسلم رجل‪" T‬أرب غنم أم رب ابل؟‪ ،‬أي أمالك غنم‬

‫أنت أم مالك ابل؟ وفي هذا المعنى يقال لصاحب البيت )رب الدار( وصاحب الناقة‪) :‬رب الناقة( ومالك‬

‫الضيعة‪) :‬رب الضيعة( وتأتي كلمة الرب بمعنى السيد أيضا‪ T‬فتستعمل بمعنى ضد العبد أو الخادم‪.‬‬

‫هذا بيان ما يتشعب من كلمة )الرب( من المعاني‪ .‬وقد أخطأوا لعمر ال حين حصروا هذه الكلمة في‬

‫معنى المربي والمنشئ‪ ،‬ورددوا في تفسير )الربوبية( هذه الجملة )هو إنشاء الشيء حال‪ T‬فحال‪ T‬إلى حد‬

‫التمام(‪ .‬والحق أن ذلك إنما هو معنى واحد من معاني الكلمة المتعددة الواسعة‪ .‬وبإنعام النظر في سعة هذه‬

‫الكلمة واستعراض معانيها المتشعبة يتبين أن كلمة )الرب( مشتملة على جميع ما يأتي بيانه من المعاني‪:‬‬

‫‪2‬المربي الكفيل بقضاء الحاجات‪ ،‬والقائم بأمر التربية والتنشئة‪.‬‬

‫‪3‬الكفيل والرقيب‪ ،‬والمتكفل بالتعهد وإصلح الحال‪.‬‬

‫‪4‬السيد الرئيس الذي يكون في قومه كالقطب يجتمعون حوله‪.‬‬

‫‪5‬السيد المطاع‪ ،‬والرئيس وصاحب السلطة النافذ الحكم‪ ،‬والمعترف له بالعلء والسيادة‪ ،‬والمالك‬

‫لصلحيات التصرف‪.‬‬

‫‪6‬الملك والسيد‪.‬‬
‫استعمال كلمة )الرب( في القرآن‬

‫وقد جاءت كلمة )الرب( في القرآن بجميع ما ذكرناه آنفا‪ T‬من معانيها‪ .‬ففي بعض المواضع أريد بها‬

‫معنى أو معنيان من تلك المعاني‪ .‬وفي الخرى أريد بها أكثر من ذلك‪ .‬وفي الثالثة جاءت الكلمة مشتملة على‬

‫المعاني الخمسة بأجمعها في آن واحد‪ .‬وها نحن نبين ذلك بأمثلة من آي الذكر الحكيم‪.‬‬

‫بالمعنى الول‬

‫)يوسف‪(23 :‬‬
‫)(‬
‫)قال معاذ ال إنه ربي أحسن مثواي(‬

‫بالمعنى الثاني وباشتراك شيء من تصور المعنى الول‪.‬‬

‫)فإنهم عدو‪ f‬لي إل رب العالمين‪ .‬الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين‪ .‬وإذا مرضت‬

‫فهو يشفين( )الشعراء‪(80-77 :‬‬

‫)وما بكم من نعمة فمن ال‪ ،‬ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون‪ ،‬ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق‬

‫)النحل‪(54-53 :‬‬ ‫منكم بربهم يشركون(‬

‫)النعام‪(164 :‬‬ ‫)قل أغير ال أبغي ربا‪ 3‬وهو رب‪ :‬كل شيء(‬

‫)المزمل‪(9 :‬‬ ‫ب المشرق والمغرب ل إله إل هو فاتخذه وكيل‪(3‬‬


‫)ر ‪:‬‬

‫بالمعنى الثالث‬

‫)هود‪(34 :‬‬ ‫)هو ربكم وإليه ترجعون(‬

‫)الزمر‪(7 :‬‬ ‫)ثم إلى ربكم مرجعكم(‬

‫)سبأ‪(26 :‬‬ ‫)قل يجمع بيننا ربنا(‬


‫)وما من دابة‪ 3‬في الرض ول طائر‪ e‬يطير بجناحيه إل أمم‪ f‬أمثالكم‪ ،‬ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم‬

‫)النعام‪(38 :‬‬ ‫إلى رب*هم ي)حشرون(‬

‫)يس‪(51 :‬‬ ‫)ونفخ في الصور فإذا هم من الجداث إلى رب*هم ينسلون(‬

‫بالمعنى الرابع وباشتراك بعض تصور المعنى الثالث‪.‬‬

‫)التوبة‪(31 :‬‬ ‫)ات‪0‬خذوا أحبارهم ور)هبانهم أربابا‪ 3‬من دون ال(‬

‫)آل عمران‪(64 :‬‬ ‫)ول يتخذ بعضنا بعضا‪ 3‬أربابا‪ 3‬من دون ال(‬

‫والمراد بالرباب في كلتا اليتين الذين تتخذهم المم والطوائف هداتها ومرشديها على الطلق‪.‬‬

‫فتذعن لمرهم ونهيهم‪ ،‬وتتبع شرعهم وقانونهم‪ ،‬وتؤمن بما يحلون وما يحرمون بغير أن يكون قد أنزل ال‬

‫تعالى به من سلطان‪ ،‬وتحسبهم فوق ذلك أحقاء بأن يأمروا وينهوا من عند أنفسهم‪.‬‬

‫)أما أحدكما فيسقي ربه خمرا‪) .. (3‬وقال للذي ظن* أنه ناج‪ e‬منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان‬

‫ذكر ربه( ‪) ..‬فلما جاءه الر*سول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللتي قط‪0‬عن أيديهن* إن* ربي‬

‫)يوسف‪(50 ،42 ،41 :‬‬ ‫بكيدهن* عليم(‬

‫قد كرر يوسف عليه السلم في خطابه لهل مصر في هذه اليات تسمية عزيز مصر بكلمة )ربهم(‬

‫فذلك لن أهل مصر بما كانوا يؤمنون بمكانته المركزية وبسلطته العليا‪ ،‬ويعتقدون أنه مالك المر والنهي‪،‬‬

‫فقد كان هو ربهم في واقع المر‪ ،‬وبخلف ذلك لم ي_رد يوسف عليه السلم بكلمة )الرب( عندما تكلم بها‬

‫بالنسبة لنفسه إل ال تعالى فإنه لم يكن يعتقد فرعون‪ ،‬بل ال وحده المسيطر القاهر ومالك المر والنهي‪.‬‬

‫بالمعنى الخامس‪:‬‬

‫)قريش‪(4-3 :‬‬ ‫ب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع‪ e‬وآمنهم من خوف‪(e‬‬


‫)فليعبدوا ر *‬

‫)الصافات‪(180 :‬‬ ‫ب العزة عما يصفون(‬


‫)سبحان ربك ر ‪y‬‬

‫)النبياء‪(22 :‬‬ ‫)فسبحان ال رب‪ y‬العرش عما يصفون(‬

‫)المؤمنون‪(86 :‬‬ ‫)قل من رب‪ :‬السماوات السبع ورب‪ :‬العرش العظيم(‬

‫)الصافات‪(5 :‬‬ ‫)رب السماوات والرض وما بينهما ورب‪ :‬المشارق(‬


‫)النجم‪(49 :‬‬ ‫)وأنه هو رب الش@عرى(‬

‫تصورات المم الضالة في باب الربوبية‬

‫ومما تقدم من شواهد آيات القرآن‪ ،‬تتجلى معاني كلمة )الرب( كالشمس ليس دونهما غمام‪ .‬فالن‬

‫يجمل بنا أن ننظر ماذا كانت تصورات المم الضالة في باب الربوبية‪ ،‬ولماذا جاء القرآن ينقضها ويرفضها‪،‬‬

‫وما الذي يدعو إليه القرآن الكريم؟ ولعل من الجدر بنا في هذا الصدد أن نتناول كل أمة من المم الضالة‬

‫التي ذكرها القرآن منفصلة بعضها عن بعض‪ ،‬فنبحث في عقائدها وأفكارها حتى يستبين المر ويخلص من‬

‫كل لبس أو إبهام‪.‬‬

‫قوم نوح عليه السلم‬

‫إن أقدم أمة في التاريخ يذكرها القرآن هي أمة نوح عليه السلم‪ ،‬ويتضح مما جاء فيه عن هؤلء‬

‫القوم أنهم لم يكونوا جاحدين بوجود ال تعالى‪ ،‬فقد روى القرآن نفسه قولهم التي في رد‪e‬هم على دعوة نوح‬

‫عليه السلم‪:‬‬

‫)المؤمنون‪(24 :‬‬ ‫)ما هذا إل بشر‪ l‬مثلكم يريد_ أن يتفضل عليكم‪ ،‬ولو شاء ال لنزل ملئكة(‬

‫وكذلك لم يكونوا يجحدون كون ال تعالى خالق هذا العالم‪ ،‬وبكونه ربا‪ T‬بالمعنى الول والثاني‪ ،‬فإنه لما‬

‫قال لهم نوح عليه السلم‬

‫)هود‪(34 :‬‬ ‫)هو ربكم وإليه ترجعون(‬

‫و )استغفروا ربكم إنه‪ ،‬كان غفارا‪ (3‬و )ألم تروا كيف خلق ال سبع سماوات طباق‪3‬ا وجعل القمر فيهن‬

‫)نوح‪(17 ،16 ،15 ،10 :‬‬ ‫نورا‪ 3‬وجعل الشمس سراجا‪ 3‬وال أنبتكم من الرض نباتا(‬

‫لم يقم أحد منهم يرد على نوح قوله ويقول‪ :‬ليس ال بربنا‪ ،‬أوليس ال بخالق الرض والسماء ول‬

‫بخالقنا نحن‪ ،‬أو ليس هو الذي يقوم بتدبير المر في السماوات والرض‪.‬‬

‫ثم إنهم لم يكونوا جاحدين أن ال إل ‪l‬ه لهم‪ .‬ولذلك دعاهم نوح عليه السلم بقوله‪) :‬ما لكم من إله غيره(‬

‫فإن القوم لو كانوا كافرين بألوهية ال تعالى‪ ،‬إذا‪ T‬لكانت دعوة نوح إياهم غير تلك الدعوة وكان قوله عليه‬

‫السلم حينئذ من مثل "يا قوم! اتخذوا ال إلها‪.(T‬‬


‫فالسؤال الذي يخالج نفس الباحث في هذا المقام هو‪ :‬أي شيء كان إذا‪ T‬موضوع النزاع بينهم وبين نبيهم نوح‬

‫عليه السلم‪ .‬وإننا إذا‪ T‬أرسلنا النظر لجل ذلك في آيات القرآن وتتبعناها‪ ،‬تبين لنا أنه لم يكن موضوع النزاع‬

‫بين الجانبين إل أمرين اثنين‪ :‬أولهما أن نوحا‪ T‬عليه السلم كان يقول لقومه‪ :‬إن ال الذي هو رب العالمين‬

‫والذي تؤمنون بأنه هو الذي قد خلقكم وخلق هذا العالم جميعا‪ ،T‬وهو الذي يقضي حاجاتكم‪ ،‬هو في الحقيقة‬

‫إلهكم الواحد الحد ول إله إل هو‪ ،‬وليس لحد من دونه أن يقضي لكم الحاجات ويكشف عنكم الضر ويسمع‬

‫دعواكم ويغيثكم‪ ،‬ومن ثم يجب عليكم أل تعبدوا إل إياه ول تخضعوا إل له وحده‪.‬‬

‫)العراف‪(59 :‬‬ ‫)يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره(‬

‫)العراف‪(62-61 :‬‬ ‫)ولكني رسول‪ u‬من رب العالمين أبلغكم رسالت ربي(‬

‫وكان قومه بخلف ذلك مصرين على قولهم بأن ال هو رب العالمين دون ريب‪ .‬إل أن هناك آلهة‬

‫أخرى لها أيضا‪ T‬بعض الدخل في تدبير نظام هذا العالم‪ ،‬وتتعلق بهم حاجاتنا‪ ،‬فل بد أن نؤمن بهم كذلك آلهة‬

‫لنا مع ال‪:‬‬

‫)نوح‪(23 :‬‬ ‫)وقالوا ل تذرن‪ :‬آلهتكم ول تذرن* ودا‪ 3‬ول سواعا‪ 3‬ول يغوث ويعوق ونسرا‪(3‬‬

‫وثانيهما أن القوم لم يكونوا يؤمنون بربوبية ال تعالى إل من حيث إنه خالقهم‪ ،‬جميعا‪ T‬ومالك الرض‬

‫والسماوات‪ ،‬ومدبر أمر هذا العالم‪ ،‬ولم يكونوا يقولون بأنه وحده هو الحقيق – كذلك‪ -‬بأن يكون له الحكم‬

‫والسلطة القاهرة في أمور الخلق والجتماع والمدنية والسياسة وسائر شؤون الحياة النسانية‪ ،‬وبأنه وحده‬

‫أيضا‪ T‬هادي السبيل وواضع الشرع ومالك المر والنهي‪ ،‬وبأنه وحده يجب كذلك أن يتبع‪ .‬بل كانوا قد اتخذوا‬

‫رؤساءهم وأحبارهم أربابا‪ T‬من دون اله في جميع تلك الشؤون‪ .‬وكان يدعوهم نوح عليه السلم – بخلف ذلك‬

‫إلى أل يجعلوا الربوبية يتقسمها أرباب متفرقة بل عليهم أن يتخذوا ال تعالى وحده ربا‪ T‬بجميع ما تشتمل عليه‬

‫كلمة )الرب( من المعاني وأن يتبعوه ويطيعوه فيما يبلغهم من أوامر ال تعالى وشيعته نائبا‪ T‬عنهن فكان يقول‬

‫لهم‪:‬‬

‫)الشعراء‪(108 -107 :‬‬ ‫)إني لكم رسول‪ u‬أمين‪ .‬فاتقوا ال واطيعون(‬

‫عاد قوم هود‬

‫ويذكر القرآن بعد قوم نوح عادا‪ T‬قوم هود عليه السلم‪ .‬ومعلوم أن هذه المة أيضا‪ T‬لم تكن جاحدة‬
‫بوجود ال تعالى‪ ،‬وكذلك لم تكن تكفر بكونه إلها‪ .‬بل كانت تؤمن بربوبية ال تعالى بالمعاني التي كان يؤمن‬

‫بها قوم نوح عليه السلم‪ .‬أما النزاع بينها وبين نبيها هود عله السلم فلم يكن إل حول المرين الثنين اللذين‬

‫كان حولهما نزاع بين نوح عليه السلم وقومه يدل على ذلك ما يأتي من النصوص القرآنية دللة واضحة‪:‬‬

‫)العراف‪(65 :‬‬ ‫)وإلى عاد‪ e‬أخاهم هودا‪ ،3‬قال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره(‬

‫)العراف‪(70 :‬‬ ‫)قالوا أجئتنا لنعبد ال وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا(‬

‫)فصلت‪(11 :‬‬ ‫)قالوا لو شاء ربنا لنزل ملئكة‪(3‬‬

‫)هود‪(59 :‬‬ ‫)وتلك عاد‪ f‬جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر‪ .‬كل جب*ار‪ e‬عنيد(‬

‫ثمود قوم صالح‬

‫ويأتي بعد ذلك ثمود الذين كانوا أطغى المم وأعصاها بعد عاد وهذه المة أيضا‪ T‬كان ضللها كضلل‬

‫قومي نوح وهود من حيث الصل والمبدأ فما كانوا جاحدين بوجود ال تعالى ول كافرين بكونه إلها‪ T‬وربا‬

‫للخلق أجمعين‪ .‬وكذلك ما كانوا يستنكفون عن عبادته والخضوع بين يديه‪ ،‬بل الذي كانوا يجحدونه هو أن ال‬

‫تعالى هو الله الواحد‪ ،‬وأنه ل يستحق العبادة إل هو‪ ،‬وأن الربوبية خاصة له دون غيره بجميع معانيها‪ .‬فإنهم‬

‫كانوا مصرين على إيمانهم بآلهة أخرى مع ال وعلى اعتقادهم أن أولئك يسمعون الدعاء‪ ،‬ويكشفون الضر‬

‫ويقضون الحاجات‪ ،‬وكانوا يأبون إل أن يتبعوا رؤساءهم وأحبارهم في حياتهم الخلقية والمدنية‪ ،‬ويستمدوا‬

‫منهم بدل‪ T‬من ال تعالى شرعهم وقانون حياتهم‪ .‬وهذا هو الذي أفضى بهم في آخر المر إلى أن يصبحوا أمة‬

‫مفسدة‪ ،‬فأخذهم من ال عذاب أليم ويبين كل ذلك ما يأتي من آيات القرآن الحكيم‪.‬‬

‫)فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد‪ e‬وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن‬

‫)حم‪ :‬السجدة ‪(14-13‬‬ ‫خلفهم أل تعبدوا إل ال قالوا لو شاء ربنا لنزل ملئكة فإنا بما أرسلتم به كافرون(‬

‫)هود‪(61 :‬‬ ‫)وإلى ثمود أخاهم صالحا‪ ،3‬قال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره(‬

‫)قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجو*ا‪ 3‬قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا(‬

‫)الشعراء‪(144-151 :‬‬ ‫)إذ قال لهم أخوهم صالح‪ f‬أل تتقون‪ .‬إني لكم رسول‪ u‬أمين‪ .‬فاتقوا ال وأطيعون(‬

‫)الشعراء‪(152-151 :‬‬ ‫)ول تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الرض ول يصلحون(‬
‫قوم إبراهيم ونمورد‬

‫ويتلو ثمود قوم إبراهيم عليه السلم‪ .‬ومما يجعل أمر هذه المة أخطر وأجدر بالبحث‪ ،‬أن قد شاع‬

‫خطأ بين الناس عن ملكها نمرود‪ ،‬أنه كان يكفر بال تعالى ويدعي اللوهية‪ .‬والحق أنه كان يؤمن بوجود ال‬

‫تعالى ويعتقد بأنه خالق هذا العالم ومدبر أمره‪ ،‬ولم يكن يدعي الربوبية إل بالمعنى الثالث والرابع والخامس‪.‬‬

‫وكذلك قد فشا بين الناس خطأ أن قوم إبراهيم عليه السلم هؤلء ما كانوا يعرفون ال ول يؤمنون بألوهيته‬

‫وربوبيته‪ .‬إنما الواقع أن أمر هؤلء القوم لم يكن يختلف في شيء عن أمر قوم نوح وعاد وثمود‪ .‬فقد كانوا‬

‫يؤمنون بال ويعرفون أنه هو الرب وخالق الرض والسماوات ومدبر أمر هذا العالم‪ ،‬وما كانوا يستنكفون‬

‫عن عبادته كذلك‪ .‬وأما غي‪e‬هم وضللهم فهو أنهم كانوا يعتقدون أن الجرام الفلكية شريكة مع ال في الربوبية‬

‫بالمعنى الول والثاني ولذلك كانوا يشركونها بال تعالى في اللوهية‪ .‬وأما الربوبية بالمعنى الثالث والرابع‬

‫والخامس فكانوا قد جعلوها خاصة لملوكهم وجبابرتهم‪ .‬وقد جاءت نصوص القرآن في ذلك من الوضوح‬

‫والجلء بحيث يتعجب المرء‪ :‬كيف لم يدرك الناس هذه الحقيقة وقصروا عن فهمها؟‪ .‬وهيا بنا ننظر قبل كل‬

‫شيء في الحادث الذي حدث لبراهيم – عليه السلم‪ -‬عند أول ما بلغ الرشد؛ والذي يصف فيه القرآن كيفية‬

‫سعي إبراهيم وراء الوصول إلى الحق‪:‬‬

‫)فلما جن عليه الليل رأى كوكبا‪ ،3‬قال هذا ربي؛ فلما أفل‪ ،‬قال ل أحب الفلين‪ .‬فلما رأى القمر بازغا‪،3‬‬

‫قال هذا ربي‪ ،‬فلما أفل‪ ƒ‬قال لئن لم يهدني ربي لكونن من القوم الضالين‪ .‬فلما رأى الشمس بازغة‪ ،‬قال هذا‬

‫ربي‪ ،‬هذا أكبر؛ فلما أفلت قال يا قوم إني بريء‪ f‬مما تشركون‪ .‬إني وجهت‪ 9‬وجهي للذي فطر السماوات‬

‫)النعام‪(79-76 :‬‬ ‫والرض حنيفا‪ 3‬وما أنا من المشركين(‬

‫فيتبين واضحا‪ T‬من اليات المخطوط تحتها أن المجتمع الذي نشأ فيه إبراهيم عليه السلم‪،‬كان يوجد‬

‫عنده تصور فاطر السماوات والرض وتصو{ر كونه ربا‪ T‬منفصل‪ T‬عن تصو‪e‬ر ربوبية السيارات السماوية‪ .‬ول‬

‫عجب في ذلك‪ ،‬فقد كان القوم من ذرية المسلمين الذين كانوا قد آمنوا بنوح عليه السلم‪ ،‬وكان الدين‬

‫السلمي لم يزل يحيا و_يجدد فيمن داناهم في القرب والقرابة من أمم عاد وثمود‪ ،‬على أيدي الرسل الكرام‬

‫الذين توالوا عليها كما قال عز‪ e‬وجل‪) :‬جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم(‪ .‬فعلى ذلك كان إبراهيم‬

‫عليه السلم أخذ تصور كون ال ربا‪ T‬وفاطرا‪ T‬للسماوات والرض عن بيئته التي نشأ فيها‪ .‬وأما التساؤل الذي‬

‫كان يخالج نفسه فهو عن مبلغ الحق والصحة فيما شاع بين قومه من تصو‪e‬ر كون الشمس والقمر والسيارات‬
‫الخرى شريكة مع ال في نظام الربوبية حتى أشركوها بال تعالى في العبادة)(‪.‬فجد‪ e‬إبراهيم عليه السلم في‬

‫البحث عن جوابه قبل أن يصطفيه ال تعالى للنبوة‪ ،‬حتى أصبح نظام طلوع السيارات السماوية وأفولها هاديا‬

‫له إلى الحق الواقع وهو أنه ل رب إل فاطر السماوات والرض‪ .‬ولجل ذلك تراه يقول عند أفول القمر‪ :‬لئن‬

‫لم يهدني ربي لخافن‪ z‬أن أبقى عاجزا‪ T‬عن الوصول إلى الحق وانخدع بهذه المظاهر التي ل يزال ينخدع بها‬

‫مليين من الناس من حولي‪ .‬ثم لما اصطفاه ال تعالى لمنصب النبوة أخذ في دعوة قومه إلى ال‪ ،‬فإنك ترى‬

‫بالتأمل في الكلمات التي كان يعرض بها دعوته على قومه أن ما قلناه آنفا‪ T‬يزداد وضوحا‪ T‬وتبيانا‪:‬‬

‫)النعام – ‪(81‬‬ ‫)وكيف أخاف ما أشركتم ول تخافون أنكم أشركتم بال ما لم ينز*ل به عليكم سلطانا‪(3‬‬

‫)مريم – ‪(48‬‬ ‫)وأعتزلكم وما تدعون من دون ال(‬

‫)النبياء – ‪(56‬‬ ‫)قال بل ربكم رب السماوات والرض الذي فطرهن*(‬

‫)النبياء – ‪(66‬‬ ‫)قال أفتعبدون من دون ال ما ل ينفعكم شيئا‪ 3‬ول يضركم(‬

‫)الصافات‪:‬‬ ‫)إذ قال لبيه وقومه ماذا تعبدون‪ .‬أأفكا‪ 3‬آلهة‪ 3‬دون ال تريدون‪ .‬فما ظن‪0‬كم برب‪ y‬العالمين(‬

‫‪(87 -85‬‬

‫)إن‪0‬ا ب)رآء) منكم ومما تعبدون من دون ال كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا‪ 3‬حتى‬

‫)الممتحنة‪(4 :‬‬ ‫تؤمنوا بال وحده(‬

‫فيتجلى من جميع القوال لبراهيم عليه السلم أنه ما كان يخاطب بها قوما‪ T‬ل يعرفون ال تعالى‬

‫ويجحدون بكونه إله الناس ورب العالمين أو أذهانهم خالية من كل ذلك‪ ،‬بل كان بين يديه قوم يشركون بال‬

‫تعالى آلهة أخرى في الربوبية بمعناها الول والثاني وفي اللوهية‪ .‬ولذلك ل ترى في القرآن الكريم قول‬

‫واحدا‪ T‬لبراهيم عليه السلم قد قصد به إقناع أمته بوجود ال تعالى وبكونه إلها‪ T‬وربا‪ T‬للعالمين‪ ،‬بل الذي تراه‬

‫يدعو أمته إليه في كل ما يقول هو أن ال سبحانه وتعالى هو وحده الرب والله‪.‬‬

‫ثم لنستعرض أمر نمرود‪ .‬فالذي جرى بينه وبين إبراهيم عليه السلم من الحوار‪ ،‬قصه القرآن في ما‬

‫يأتي من اليات‪:‬‬

‫)ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه ال الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال‬

‫)البقرة‬ ‫أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن ال يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب فبهت الذي كفر(‬

‫– ‪(258‬‬
‫أنه ليتضح جليا‪ T‬من هذا الحوار بين النبي وبين نمرود أنه لم يكن النزاع بينهما في وجود ال تعالى أو‬

‫عدمه وإنما كان في أنه من ذا يعتقده إبراهيم عليه السلم ربا‪T‬؟ كان نمرود من أمة كانت تؤمن بوجود ل‬

‫تعالى‪ ،‬ثم لم يكن مصابا‪ T‬بالجنون واختلل العقل حتى يقول هذا القول السخيف البين الحمق‪" :‬إني فاطر‬

‫السماوات والرض ومدبر سير الشمس والقمر" فالحق أنه لم تكن دعواه أنه هو ال ورب السماوات والرض‬

‫وغنما كانت أنه رب المملكة التي كان إبراهيم –عليه السلم‪ -‬أحد أفراد رعيتها‪ .‬ثم أنه لم يكن يدعي الربوبية‬

‫لتلك المملكة بمعناها الول والثاني‪ ،‬فإنه كان يعتقد بربوبية الشمس والقمر وسائر السيارات بهذين المعنيين‪،‬‬

‫بل كان يدعي الربوبية لمملكته بالمعنى الثالث والرابع والخامس‪ .‬وبعبارة أخرى كانت دعواه أنه مالك تلك‬

‫المملكة‪ ،‬وأن جميع أهاليها عبيد له‪ ،‬وأن سلطته المركزية أساس لجتماعهم‪ ،‬وأمره قانون حياتهم‪ .‬وتدل‬

‫كلمات )أن آتاه ال الملك( دللة صريحة على أن دعواه للربوبية كان أساسها التبجح بالملكية‪ .‬فلما بلغه أن‬

‫قد ظهر بين رعيته رجل يقال له إبراهيم‪ ،‬ل يقول بربوبية الشمس والقمر ول السيارات الخرى في دائرة ما‬

‫فوق الطبيعة‪ ،‬ول هو يؤمن بربوبية صاحب العرش في دائرة السياسة والمدنية‪ ،‬استغرب المر جدا‪ T‬فدعا‬

‫إبراهيم عليه السلم فسأله‪ :‬من ذا الذي تعتقده ربا‪T‬؟ فقال إبراهيم عليه السلم بادئ ذي بدء‪" :‬ربي الذي يحيي‬

‫ويميت يقدر على إماتة الناس وإحيائهم!" فلم يدرك نمرود غور المر فحاول أن يبرهن على ربوبيته بقوله‪:‬‬

‫"وأنا أيضا‪ T‬أملك الموت والحياة‪ ،‬فأقتل من أشاء وأحقن دم من أريد! ‪ "..‬هنالك بين له إبراهيم عليه السلم أنه‬

‫ل رب عنده إل ال الذي ل رب سواه بجميع معاني الكلمة‪ ،‬وأنى يكون لحد غيره شرك في الربوبية وهو ل‬

‫سلطان له على الشمس في طلوعها وغروبها؟! وكان نمرود رجل‪ T‬فطنا‪ ،T‬فما أن سمع من إبراهيم عليه السلم‬

‫هذا الدليل القاطع حتى تجلت له الحقيقة‪ ،‬وتفطن لن دعواه للربوبية في ملكوت ال تعالى بين السموات‬

‫والرض إن هي إل زعم باطل وادعاء فارغ فبهت ولم ينبس ببنت شفة‪ .‬إل انه قد كان بلغ منه حب الذات‬

‫واتباع هوى النفس وإيثار مصالح العشيرة‪ ،‬مبلغا‪ T‬لم يسمح له بأن ينزل عن ملكيته المستبدة ويئوب إلى طاعة‬

‫ال ورسوله‪ ،‬مع أنه قد تبين له الحق والرشد‪ .‬فعلى ذلك قد أعقب ال تعالى هذا الحوار بين النبي ونمرود‬

‫بقوله‪) :‬وال ل يهدي القوم الظالمين( والمراد أن نمرود لما لم يرض أن يتخذ الطريق الذي كان ينبغي له أن‬

‫يتخذه بعدما تبين له الحق‪ ،‬بل آثر أن يظلم الخلق ويظلم نفسه معهم‪ ،‬بالصرار على ملكيته المستبدة الغاشمة‬

‫لم يؤته ال تعالى نورا‪ T‬من هدايته‪ ،‬ولم يكن من سنة ال أن يهدي إلى سبيل الرشد من كان ل يطلب الهداية‬

‫من تلقاء نفسه‪.‬‬


‫قوم لوط عليه السلم‬

‫ويعقب قوم إبراهيم في القرآن قوم لوط‪ ،‬الذين بعث لهدايتهم وإصلح فسادهم لوط بن أخي إبراهيم‬

‫عليهما السلم ‪ .-‬ويدلنا القرآن الكريم أن هؤلء أيضا‪ T‬ما كانوا متنكرين لوجود ال تعالى ول كانوا يجحدون‬

‫بأنه هو الخالق والرب بالمعنى الول والثاني‪ .‬أما الذي كانوا يأبونه ول يقبلونه فهو العتقاد بأن ال هو الرب‬

‫المعنى الثالث والرابع والخامس‪ ،‬والذعان لسلطة النبي من حيث كونه نائبا‪ T‬من عند ال أمينا‪ .‬ذلك بأنهم‬

‫كانوا يبتغون أن يكونوا أحرارا‪ T‬مطلقي الحرية يتبعون ما يشاؤون من أهوائهم ورغباتهم وتلك كانت جريمتهم‬

‫الكبيرة التي ذاقوا من جرائها أليم العذاب ‪ .‬ويؤيد ذلك ما يأتي من النصوص القرآنية‪:‬‬

‫)إذ قال لهم أخوهم لوط أل تتقون إني لكم رسول‪ u‬أمين‪ .f‬فاتقوا ال وأطيعون‪ .‬وما أسألكم عليه من‬

‫أجر إن‪ 5‬أجري إل على رب العالمين‪ .‬أتأتون الذ„كران من العالمين‪ .‬وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم‬

‫)الشعراء‪(166 – 161 :‬‬ ‫بل أنتم قوم‪ f‬عادون(‬

‫وبديهي أن مثل هذا القول لم يكن ليخاطب به إل قوم ل يجدون بوجود ال تعالى وبكونه خالقا‪ T‬وربا‬

‫لهذا العالم؟ فأنت ترى أنهم ل يجيبون لوطا‪ T‬عليه السلم بقول من مثل‪" :‬ما ال؟" من أين له أن يكون خالقا‬

‫للعالم؟" أو "أنى له أن يكون ربنا ورب الخلق أجمعين؟" بل تراهم يقولون‪:‬‬

‫)الشعراء‪(167 :‬‬ ‫)لئن لم تنته يا لوط لتكونن* من المخرجين(‬

‫وقد ذكر القرآن الكريم هذا الحديث في موضع آخر بالكلمات التية‪:‬‬

‫)ولوطا‪ 3‬إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين‪ .‬أإنكم لتأتون الرجال‬

‫وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إل أن قالوا ائتنا بعذاب ال إن كنت من‬

‫)العنكبوت‪(29-28 :‬‬ ‫الصادقين(‬

‫أفيجوز أن يكون هذا جواب قوم ينكرون وجود ال تعالى؟‪ .‬ل وال ومن ذلك يتبين أن جريمتهم‬

‫الحقيقية لم تكن إنكار ألوهية ال تعالى وربوبيته‪ ،‬بل كانت جريمتهم أنهم على إيمانهم بال تعالى إلها‪ T‬وربا‬

‫فيما فوق العالم الطبيعي‪ ،‬كانوا يأبون أن يطيعوه ويتبعوا قانونه في شؤونه الخلقية والمدنية والجتماعية‪،‬‬

‫يمتنعون من أن يهتدوا بهدي نبيه لوط عليه السلم‪.‬‬


‫قوم شعيب عليه السلم‬

‫ولنذكر في الكتاب بعد ذلك أهل مدين وأصحاب اليكة الذين بعث إليهم شعيب عليه السلم‪ .‬ومما‬

‫نعرف عن أمرهم أنهم كانوا من ذرية إبراهيم عليه السلم‪ .‬إذن ل حاجة إلى أن نبحث فيهم‪ :‬هل كانوا‬

‫يؤمنون بوجود ال تعالى وبكونه إلها‪ T‬وربا‪ T‬أم ل؟ إنهم كانوا في حقيقة المر أمة نشأت على السلم في بداية‬

‫أمرها‪ ،‬ثم أخذت بالفساد بما أصاب عقائدها من النحلل وأعمالها من السوء‪ .‬ويبدو مما جاء عنهم في القرآن‬

‫كأن القوم كانوا بعد ذلك كله يد‪e‬عون لنفسهم اليمان‪ ،‬فإنك ترى شعيبا‪ T‬عليه السلم يكرر لهم القول‪ :‬يا قوم‬

‫اعملوا كذا وكذا إن كنتم مؤمنين وفي خطاب شعيب عليه السلم لقومه وأجوبة القوم له دللة واضحة على‬

‫أنهم كانوا قوما‪ T‬يؤمنون بال وينزلونه منزلة الرب والمعبود‪ .‬ولكنهم كانوا قد تورطوا في نوعين من الضلل‪:‬‬

‫أحدهما أنهم كانوا أصبحوا يعتقدون اللوهية والربوبية في آلهة أخرى مع ال تعالى‪ ،‬فلم تعد عبادتهم خالصة‬

‫لوجه ال‪ ،‬والخر أنهم كانوا يعتقدون أن ربوبية ال ل مدخل لها في شؤون الحياة النسانية من الخلق‬

‫والجتماع والقتصاد والمدنية والسياسة‪ ،‬وعلى ذلك كانوا يزعمون أنهم مطلقوا العنان في حياتهم المدنية ولم‬

‫أن يتصرفوا في شؤونهم كيف يشاؤون‪ ،‬ويصدق ذلك ما يأتي من اليات‪:‬‬

‫)وإلى مدين أخاهم شعيبا‪ ،3‬قال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة‪ O‬من ربكم‬

‫فأوفوا الكيل والميزان ول تبخسوا الناس أشياءهم ول تفسدوا في الرض بعد إصلحها ذلكم خير‪ f‬لكم إن‬

‫)العراف‪(85 :‬‬ ‫كنتم مؤمنين(‬

‫)وإن‪ 5‬كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت‪ 9‬به وطائفة‪ O‬لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم ال بيننا وهو‬

‫)العراف‪(87 :‬‬ ‫خير) الحاكمين(‬

‫)ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ول تبخسوا الناس أشياءهم ول تعثوا في الرض مفسدين‪.‬‬

‫بقية ال خير‪ f‬لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ‪ .‬قالوا يا شعيب أصلتك تأمرك أن نترك ما يعبد‬

‫)هود‪(87-85 :‬‬ ‫آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشا )ء إنك‪ .‬لنت الحليم الرشيد(‬

‫والعبارات الخيرة المخطوط تحتها خصوصية الدللة على ضللهم الحقيقي في باب الربوبية‬

‫واللوهية‪.‬‬

‫فرعون وآله‬
‫وهيا بنا ننظر الن في قصة فرعون وآله‪ ،‬فمن قد شاع عنهم في الناس من الخطاء والكاذيب أكثر‬

‫مما شاع فيهم عن نمرود وقومه‪ .‬فالظن الشائع أن فرعون لم يكن منكرا‪ T‬لوجود ال تعالى فحسب‪ ،‬بل كان‬

‫يدعي اللوهية لنفسه أيضا‪ .‬ومعناه أن قد بلغت منه السفاهة أنه كان يجاهر على رؤوس الناس بدعوى أنه‬

‫فاطر السماوات والرض‪ ،‬وكانت أمته من البله والحماقة أنها كانت تؤمن بدعواه تلك‪ .‬والحق الواقع الذي‬

‫يشهد به القرآن والتاريخ هو أن فرعون لم يكن يختلف ضلله في باب اللوهية والربوبية عن ضلل نمرود‪،‬‬

‫ول كان يختلف ضلل آله عن ضلل قوم نمرود‪ .‬وإنما الفرق بين هؤلء وأولئك أنه قد كان نشأ في آل‬

‫فرعون لبعض السباب السياسية عناد وتعصب وطني شديد على بني إسرائيل‪ ،‬فكانوا لمجرد هذا العناد‬

‫يمتنعون من اليمان بألوهية ال وربوبيته‪ ،‬وإن كانت قلوبهم تعترف بها شأن أكثر الملحدين الماديين في‬

‫عصرنا هذا‪.‬‬

‫وبيان هذا الجمال أنه لما استتبت ليوسف عليه السلم السلطة على مصر‪ ،‬استفرغ جهده في نشر‬

‫السلم وتعاليمه بينهم‪ .‬ورسم على أرضه من ذلك أثرا‪ T‬محكما‪ T‬لم يقدر على محوه أحد إلى القرون‪ .‬وأهل‬

‫مصر وإن لم يكونوا إذ ذاك قد آمنوا بدين ال عن بكرة أبيهم‪ ،‬إل أنه ل يمكن أن يكون قد بقي فيهم من لم‬

‫يعرف وجود ال تعالى ولم يعلم أنه هو فاطر السماوات والرض‪ .‬وليس المر يقف عند هذا بل الحق أن‬

‫كان تم للتعاليم السلمية من النفوذ والتأثير في كل مصري ما جعله – على القل – يعتقد بأن ال إله اللهة‬

‫رب الرباب فيما فوق العالم الطبيعي ولم يبق في تلك الرض من يكفر بألوهية ال تعالى‪ .‬وأما الذين كانوا‬

‫قد أقاموا على الكفر‪ ،‬فكانوا يجعلون مع ال شركاء في اللوهية والربوبية‪ .‬وكانت تأثيرات السلم المختلفة‬

‫هذه في نفوس أهل مصر باقية إلى الزمن الذي بعث فيه موسى عليه السلم)(‪ .‬والدليل على ذلك تلك الخطبة‬

‫التي ألقاها أمير من القباط في مجلس فرعون‪ .‬وذلك أن فرعون حينما أبدى إرادته في قتل موسى عليه‬

‫السلم‪ ،‬لم يصبر عليه هذا المير القبطي من أمراء مجلسه‪ ،‬وكان قد أسلم وأخفى إسلمه‪ ،‬ولم يلبث أن قام‬

‫يخطب‪:‬‬

‫ل أن يقول ربي ال وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك‬
‫)أتقتلون رج ‪3‬‬

‫صادقا‪ 3‬يصبكم بعض الذي يعدكم إن ال ل يهدي من هو مسرف‪ O‬كذاب‪ .‬يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في‬

‫الرض فمن ينصرنا من بأس ال إن جاءنا(‪.‬‬

‫)يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الحزاب‪ .‬مثل داب قوم نوح‪ e‬وعاد‪ e‬وثمود والذين من بعدهم(‪.‬‬
‫)ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث ال‬

‫من بعده رسول( ‪) ..‬ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار‪ .‬تدعونني لكفر بال وأشرك به‬

‫الغفار(‪).‬غافر – ‪(42 -41 – 34 – 31 – 28‬‬ ‫ما ليس لي به علم‪ f‬وأنا أدعوكم إلى العزيز‬

‫وتشهد هذه الخطبة من أولها إلى آخرها بأنه لم يزل أثر شخصية النبي يوسف عليه السلم باقيا‪ T‬في‬

‫نفوس القوم إلى ذلك الحين‪ ،‬وقد مضت على عهده قرون متعددة‪ .‬وبفضل ما علمهم هذا النبي الجليل‪ ،‬لم‬

‫يكونوا قد بلغوا من الجهالة أل يعلموا شيئا‪ T‬عن وجود ال تعالى‪ ،‬أو أل يعرفوا أنه الرب والله‪ ،‬وأن سيطرته‬

‫وسلطته غالبة على قوى الطبية في هذا العالم‪ ،‬وأن غضبه مما يخاف ويتقى‪ .‬ويتضح أيضا‪ T‬من آخر هذه‬

‫الخطبة أن أمة فرعون لم تكن تجحد بألوهية ال وربوبيته جحودا‪ T‬باتا‪ ،T‬وإنما كان ضللها كضلل المم‬

‫الخرى مما ذكرناه آنف‪T‬ا – أي كانت هذه المة أيضا‪ T‬تشرك بال تعالى في صفتي اللوهية والربوبية وتجعل‬

‫له فيهما أندادا‪.‬‬

‫أما مثار الشبهة في أمر فرعون فهو سؤاله لموسى عليه السلم )وما رب العالمين( حينما سمع منه‪:‬‬

‫)إنا رسول رب العالمين!( ثم قوله لصاحبه هامان‪) :‬ابن لي صرحا‪ 3‬لعلي أبلغ السباب أسباب السموات‬

‫فأطلع إلى إله موسى( ووعيده لموسى عليه السلم‪) :‬لئن اتخذت إلها‪ 3‬غيري لجعلنك من المسجونين(‪،‬‬

‫وإعلنه لقومه‪) :‬أنا ربكم العلى( وقوله لملئه‪) :‬ل أعلم لكم من إله غيري(‪ – .‬فمثل هذه الكلمات التي قالها‬

‫فرعون قد خيلت إلى الناس أنه كان ينكر وجود ال تعالى وكان فارغ الذهن من تصور رب العالمين‪ ،‬ويزعم‬

‫لنفسه أنه الله الواحد‪ ،‬ولكن الواقع الحق أنه لم يكن يدعي ذلك كله إل بدافع من العصبية الوطنية‪ .‬وذلك أنه‬

‫لم يكن المر في زمن النبي يوسف عليه السلم قد وقف على أن شاعت تعاليم السلم في ربوع مصر‬

‫بفضل شخصيته القوية الجليلة‪ ،‬بل جاوز ذلك إلى أن تمكن لبني إسرائيل نفوذ بالغ في الرض مصر تبعا‪ T‬لما‬

‫تهيأ ليوسف عليه السلم من السلطة والكلمة النافذة في حكومة مصر‪ .‬فبقيت سلطة بني إسرائيل مخيمة على‬

‫القطر المصري إلى ثلثمائة سنة أو أربعمائة‪ .‬ثم أخذ يخالج صدور المصريين من العواطف الوطنية‬

‫والقومية ما جعلهم يتعصبون على بني إسرائيل‪ ،‬واشتد المر حتى الغوا سلطة السرائيليين ونفوذهم إلغاء‪.‬‬

‫فتولى المر بعدهم السر المصرية الوطنية وتتابعت في الحكم‪ .‬وهؤلء الملوك الجدد لما أمسكوا زمام المر‬

‫لم يقتصروا على إخضاع بني إسرائيل وكسر شوكتهم‪ ،‬بل تعدوه إلى أن حاولوا محو كل أثر من آثار العهد‬

‫اليوسفي في مصر وإحياء تقاليد ديانتهم الجاهلية‪ .‬فلما بعث إليهم في تلك الونة موسى عليه السلم‪ ،‬خافوا‬
‫على غلبتهم وسلطتهم أن تنتقل من أيديهم إلى أيدي بني إسرائيل مرة أخرى‪ .‬فلم يكن يبعث فرعون إل هذا‬

‫العناد واللجاج على أن يسأل موسى عليه السلم ساخطا‪ T‬متبرما‪ :‬وما رب العالمين؟ ومن يمكن أن يكون إلها‬

‫غيري؟ وهو في الحقيقة لم يكن جاهل‪ T‬وجود رب العالمين‪ .‬وتتضح هذه الحقيقة كأوضح ما يكون مما جاء‬

‫في القرآن الكريم من أحاديثه وأحاديث ملئه وخطب موسى عليه السلم‪ .‬فيقول فرعون – مثل – تأكيدا‪ T‬لقوله‬

‫إن موسى عليه السلم ليس برسول ال‪.‬‬

‫)الزخرف‪(53 :‬‬ ‫)فلول ألقي عليه أسورة‪ O‬من ذهب أو جاء معه الملئكة مقترنين(‬

‫أفكان لرجل فارغ الذهن من وجود ال تعالى والملئكة أن يقول هذا القول وفي موضع آخر يقص‬

‫القرآن الحوار التي بين فرعون وبين النبي موسى عليه السلم‪:‬‬

‫)فقال له فرعون إني لظنك يا موسى مسحورا‪ .3‬قال لقد علمت ما أنزل هؤلء إل رب السماوات‬

‫)بني إسرائيل‪(102-101 :‬‬ ‫والرض بصائر وإني لظنك يا فرعون مبثورا(‬

‫وفي محل آخر يظهر ال تعالى ما في صدور قوم فرعون بقوله‪:‬‬

‫)النمل‪:‬‬ ‫)فلما جاءتهم آياتنا مبصرة‪ 3‬قالوا هذا سحر‪ f‬مبين‪ f‬وجحدوا واستيقنتها أنفسهم ظلما‪ 3‬وعلوا‪(3‬‬

‫‪(14-13‬‬

‫ويصور لنا القرآن ناديا‪ T‬آخر جمع موسى عليه السلم وآل فرعون بهذه الية‪:‬‬

‫)قال لهم موسى ويلكم ل تفتروا على ال كذبا‪ 3‬فيسحتكم بعذاب‪ e‬وقد خاب من افترى‪ .‬فتنازعوا أمرهم‬

‫بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما بطريقتكم المثلى(‬

‫)طه‪(63-61 :‬‬

‫والظاهر أنه لم يكن قام النزاع ونشأ الخذ والرد بينهم وبين نبيهم موسى عليه السلم حين أنذرهم‬

‫عذاب ال ونبههم على سوء مآل ما كانوا يفترون‪ ،‬إل لنهم قد كان في قلوبهم ولشك بقية من أثر عظمة ال‬

‫تعالى وجلله وهيبته ولكن حاكمهم الوطنيين لما أنذروهم بخطر النقلب السياسي العظيم‪ ،‬وحذروهم عاقبة‬

‫اتباعهم لموسى وهارون‪ ،‬وهي عودة غلبة السرائيليين على أبناء مصر‪ ،‬قست قلوبهم واتفقوا جميعا‪ T‬على‬

‫مقاومة النبيين‪.‬‬

‫وبعد ما قد تبين لنا من هذه الحقيقة‪ ،‬من السهل علينا أن نبحث‪ :‬ماذا كان مثار النزاع بين موسى عليه‬

‫السلم وفرعون‪ ،‬وماذا كانت حقيقة ضلله وضلل قومهن وبأي معاني كلمة )الرب( كان فرعون يدعي‬
‫لنفسه اللوهية والربوبية‪ .‬فتعال نتأمل لهذا الغرض ما يأتي من اليات بالتدريج‪.‬‬

‫‪ -1‬إن الذين كانوا يلحون من مل فرعون على حسم دعوة موسى عليه الصلة والسلم واستئصالها‬

‫من أرض مصر‪ ،‬يخاطبون فرعون لبعض المناسبات ويسألونه‪:‬‬

‫)العراف‪(127 :‬‬ ‫)أتذر) موسى وقومه ليفسدوا في الرض ويذركم وآلهتك‪(.‬‬

‫وبخلف ذلك يناديهم الذي كان قد آمن بموسى عليه السلم‪:‬‬

‫)المؤمن‪(42 :‬‬ ‫)تدعونني لكفر بال وأشرك به ما ليس لي به علم‪(f‬‬

‫فإذا نظرنا في هاتين اليتين وأضفنا إليهما ما قد زودنا به التاريخ وآثار المم القديمة أخيرا‪ T‬من‬

‫المعلومات عن أهالي مصر زمن فرعون‪ ،‬يتجلى لنا أن كل‪ T‬من فرعون وآله كانوا يشركون بال تعالى في‬

‫المعنى الول والثاني لكلمة )الرب( ويجعلون معه شركاء من الصنام ويعبدونها‪ .‬والظاهر أن فرعون لو كان‬

‫يدعي لنفسه الربوبية فيما فوق العالم الطبيعي‪ ،‬أي لو كان يدعي أنه هو الغالب المتصرف في نظام السباب‬

‫في هذا العالم‪ ،‬وأنه ل إله ول رب غيره في السماوات والرض‪ ،‬ولم يعبد اللهة الخرى أبدا)(‪.‬‬

‫)‪ (2‬أما كلمات فرعون هذه التي قد وردت في القرآن‪:‬‬

‫)القصص‪(38 :‬‬ ‫)يا أيها المل ما علمت‪ 9‬لكم من إله غيري(‬

‫)الشعراء‪(29 :‬‬ ‫)لئن ات‪0‬خذت إلها‪ 3‬غيري لجعلن‪0‬ك من المسجونين(‬

‫فليس المراد بذلك أن فرعون كان ينفي جميع ما سواه من اللهة‪ .‬وإنما كان غرضه الحقيقي من ذلك‬

‫رد دعوة موسى عليها لسلم وإبطالها‪ .‬ولما كان موسى عليه السلم – يدعو إلى إله ل تنحصر ربوبيته في‬

‫دائرة ما فوق الطبيعة فحسب‪ ،‬بل هو كذلك مالك المر والنهي‪ ،‬وذو القوة والسلطة القاهرة بالمعاني السياسية‬

‫والمدنية‪ ،‬قال فرعون لقومه‪ :‬يا قوم ل أعلم لكم مثل ذلك الله غيري‪ ،‬وتهدد موسى عليه السلم‪ ،‬أنه إن اتخذ‬

‫من دونه إلها‪ T‬ليلقين^ه في السجن‪.‬‬

‫ومما يعلم كذلك من هذه اليات‪ ،‬وتؤيده شواهد التاريخ وآثار المم القديمة‪ ،‬أن فراعنة مصر لم‬

‫يكونوا يدعون لنفسهم مجرد الحاكمية المطلقة‪ ،‬بل كانوا يدعون كذلك نوعا‪ T‬من القداسة والتنزه بانتسابهم إلى‬

‫اللهة والصنام‪ ،‬حرصا‪ T‬منهم على أن يتغلغل نفوذهم في نفوس الرعية ويستحكم استيلؤهم على أرواحهم‪.‬‬

‫ولم تكن الفراعنة منفردة بهذا الدعاء‪ ،‬بل الحق أن السر الملكية ما زالت في أكثر أقطار العالم تحاول‬

‫الشركة – قليل‪ T‬أو كثير‪T‬ا – في اللوهية والربوبية في دائرة ما فوق الطبيعة‪ ،‬علوة على ما كانت تتوله من‬
‫الحاكمية السياسية‪ ،‬وما زالت لجل ذلك تفرض على الرعية أن تقوم بين يديها بشيء من شعائر العبودية‪،‬‬

‫على أن دعواهم تلك لللوهية السماوية لم تكن هي المقصودة بذاتها في الحقيقة‪ ،‬وإنما كانوا يتذرعون بها إلى‬

‫تأثيل حاكميتهم السياسية‪ .‬ومن ذلك نرى أنه ما زالت السر الملكية في مصر وغيرها من القطار الجاهلية‬

‫تذهب ألوهيتها بذهاب سلطانها السياسي‪ ،‬وقد بقيت اللوهية تتبع العرش في تنقله من أيد إلى أخرى‪.‬‬

‫)‪ (3‬ولم تكن دعوى فرعون الصلية الغالبة المتصرفة في نظام السنن الطبيعية‪ ،‬بل باللوهية‬

‫السياسية! فكان يزعم أنه الرب العلى لرض مصر ومن فيها بالمعنى الثالث والرابع والخامس لكلمة‬

‫)الر‪z‬ب( ويقول إني أنا مالك القطر المصري وما فيه من الغنى والثروة وأنا الحقيق بالحاكمية المطلقة فيه‪،‬‬

‫وشخصيتي المركزية هي الساس لمدينة مصر واجتماعها‪ ،‬وإذن ل يجرين‪ z‬فيها إل^ شريعتي وقانوني‪ .‬وكان‬

‫أساس دعوى فرعون بعبارة القرآن‪:‬‬

‫)ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه النهار تجري من تحتي أفل‬

‫)الزخرف – ‪(51‬‬ ‫تبصرون(‬

‫وهذا الساس نفسه هو الذي كانت تقوم عليه دعوى نمرود للربوبية‪.‬‬

‫)البقرة‪(258 :‬‬ ‫و )حاج; إبراهيم في رب*ه أن آتاه ال الملك(‬

‫وهو كذلك الساس الذي رفع عليه فرعون المعاصر ليوسف عليه السلم بنيان ربوبيته على أهل‬

‫مملكته‪.‬‬

‫)‪ (4‬أم‪e‬ا دعوة موسى عليه السلم التي كانت سبب النزاع بينه وبين فرعون وآله‪ ،‬فهي في الحقيقة أنه‬

‫ل إله ول رب‪ z‬بجميع معاني كلمة )الرب( إل ال رب العالمين‪ ،‬وهو وحده الله والر‪e‬ب فيما فوق العالم‬

‫الطبيعي‪ ،‬كما أنه هو الله والرب بالمعاني السياسية والجتماعية‪ ،‬لجل ذلك يجب أل نخلص العبادة إل له‪،‬‬

‫ول نتبع في شؤون الحياة المختلفة إل شرعه وقانونه‪ ،‬وانه – أي موسى عليه السلم – قد بعثه ال تعالى‬

‫باليات البينات وسي_نزل ال تعالى أمره ونهيه لعباده بما يوحي إليه؛ لذلك يجب أن تكون أزم‪e‬ة أمور عباده‬

‫بيده‪ ،‬ل بيد فرعون‪ .‬ومن هنا كان فرعون ورؤساء حكومته ي_علون أصواتهم المر‪e‬ة بعد المر‪e‬ة بأن موسـى‬

‫وهارون – عليهما السلم – قد جاءا يسلبان أرض مصر‪ .‬وأرادا أن يذهبا بنظمنا الدينية والمدنية ليستبدل بها‬

‫ما يشاءان من النظم والقواعد‪.‬‬

‫)ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين‪ .‬إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون‬
‫)هود‪(97-96 :‬‬ ‫برشيد(‬

‫)ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول‪ u‬كريم‪ .‬أن أد‪:‬وا إلي; عباد‪ .‬ال إني لكم رسول أمين‪ .‬وان‬

‫)الدخان‪(19-17 :‬‬ ‫ل تعلوا على ال إني آتيكم بسلطان مبين(‬

‫)إنا أرسلنا إليكم رسول‪ 3‬شاهدا‪ 3‬عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسول‪ 3‬فعصى فرعون الرسول فأذناه‬

‫)المزمل‪(16-15 :y‬‬ ‫أخذا‪ 3‬وبيل(‬

‫)طه‪(50-49 :‬‬ ‫)قال فمن ربكما يا موسى‪ .‬قال رب*نا الذي أعطى كل شي ‪e‬ء خلقه ثم هدى(‬

‫)قال فرعون وما رب العالمين‪ .‬قال رب السماوات والرض وما بينهما إن كنتم موقنين‪ .‬قال لمن‬

‫حوله أل تستمعون‪ .‬قال ربكم ورب آبائكم الولين‪ .‬قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‪ .‬قال رب‬

‫)الشعراء‪:‬‬ ‫المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون‪ .‬قال لئن اتخذت إلها‪ 3‬غيري لجعلن‪0‬ك من المسجونين(‬

‫‪(29-23‬‬

‫)طه‪(57 :‬‬ ‫)قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى(‬

‫)وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع رب*ه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الرض‬

‫)غافر‪(26 :‬‬ ‫الفساد(‬

‫)طه‬ ‫)قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى(‬

‫– ‪(63‬‬

‫وبإنعام النظر في هذه اليات بالتدريج الذي قد سردناها به‪ ،‬يتجلى أن الضلل الذي تعاقبت فيه المم‬

‫المختلفة من أقدم العصور‪ ،‬كان هو عينه قد غشت وادي النيل ظلماته‪ ،‬وأن الدعوة التي قام بها جميع النبياء‬

‫منذ البد‪ ،‬كانت هي نفسها يدعو بها موسى وهارون عليهما السلم‪.‬‬

‫اليهود والنصارى‬

‫وتطلع علينا بعد آل فرعون بنو إسرائيل والمم الخرى التي دانت باليهودية والنصرانية‪ .‬وهؤلء ل‬

‫مجال للظن فيهم أن يكونوا منكرين لوجود إله العالم‪ ،‬أو يكونوا ل يعتقدون بألوهيته وربوبي‪e‬ته فإن القرآن‬

‫نفسه يشهد بكونهم أهل الكتاب‪ .‬وأما السؤال الذي ينشأ في ذهن الباحث عن أمرهم فهو أنه ما هو على‬

‫التحديد الخطأ في عقيدتهم ومنهج عملهم في باب الربوبية – الذي قد عدهم القرآن من أجله من القوم‬
‫الضالين؟ والجواب المجمل على السؤال تجده في القرآن نفسه في آيته الكريمة‪:‬‬

‫)قل يا أهل الكتاب ل تغلوا في دينكم غير الحق ول تتبعوا أهواء قوم‪ e‬قد ضلوا من قبل‪ 6‬وأضلوا كثيرا‬

‫)المائدة – ‪(77‬‬ ‫وضل‪0‬وا عن سواء السبيل(‬

‫فيعلم من هذه الية أن ضلل اليهود والنصارى هو من حيث الصل والساس نفس الضلل الذي‬

‫ارتطمت فيه المم المتقدمة‪ ،‬وتدلنا هذه الية أيضا‪ T‬أن ضللهم هذا كان آتيا‪ T‬من غلو‪e‬هم في الدين‪ .‬وها نحن‬

‫نرى بعد ذلك كيف يفصل القرآن هذا الجمال‪:‬‬

‫)التوبة‪(30 :‬‬ ‫)وقالت اليهود عزير ابن ال وقالت النصارى المسيح ابن ال(‬

‫)لقد كفر الذين قالوا إن ال هو المسيح ابن مريم‪ .‬وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا ال ربي‬

‫)المائدة – ‪(72‬‬ ‫وربكم(‬

‫)لقد كفر الذين قالوا إن ال ثالث ثلثة وما من إله إل إله واحد(‪) .‬وإذ قال ال يا عيسى بن مريم‬

‫أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون ال قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق(‬

‫)المائدة‪(116 ،73 :‬‬

‫)ما كان لبشر‪ e‬أن يؤتيه ال الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا‪ 3‬لي من دون ال ولكن‬

‫كونوا ربانيين بما كنتم تعل@مون الكتاب وبما كنتم تدرسون‪ .‬ول يأمر‪.‬كم أن تتخذوا الملئكة والنبيين أربابا‪،3‬‬

‫)آل عمران‪(80-79 :‬‬ ‫أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون(‬

‫فكان ضلل أهل الكتاب حسب ما تجل عليه هذه اليات‪ :‬أول‪ T‬أنهم بالغوا في تعظيم النفوس المقدسة‬

‫كالنبياء والولياء والملئكة التي تستحق التكريم والتعظيم لمكانتها الدينية‪ ،‬فرفعوها من مكانتها الحقيقية إلى‬

‫مقام اللوهية وجعلوها شركاء مع ال ودخلء في تدبير أمر هذا العالم‪ ،‬ثم عبدوها واستغاثوا بها واعتقدوا أن‬

‫لها نصيبا‪ T‬في اللوهية والربوبية الميمنتين على ما فوق العالم الطبيعي‪ ،‬وزعموا أنها تملك لهم المغفرة‬

‫والعانة والحفظ‪ .‬وثانيا‪ T‬أنهم‪:‬‬

‫)التوبة – ‪(31‬‬ ‫)ات‪0‬خذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا‪ 3‬من دون ال(‬

‫أي أن الذين لم تكن وظيفتهم في الدين سوى أن يعلموا الناس أحكام الشريعة اللهية‪ ،‬ويزكوهم حسب‬

‫مرضاة ال‪ ،‬تدرج بهم هؤلء حتى أنزلوهم بحيث يحلون لهم ما يشاؤون ويحرمون عليهم ما يشاؤون‪،‬‬

‫ويأمرونهم وينهونهم حسب ما تشاء أهواؤهم بدون سند من كتاب ال‪ ،‬ويسنون لهم من السنن ما تشتهي‬
‫أنفسهم‪ .‬كذلك وقع هؤلء في نفس النوعين من الضلل الساسي الخطير اللذين قد وقع فيهما قبلهم أمم نوح‬

‫وإبراهيم وعاد وثمود وأهل مدين وغيرهم من المم‪ ،‬فأشركوا بال الملئكة وعبادة المقربين – كما أشرك‬

‫أولئك – في الربوبية المهيمنة على ما فوق العالم الطبيعي‪ ،‬وجعلوا الربوبية بمعانيها السياسية والمدنية – كما‬

‫جعل أولئك – للنسان بدل‪ T‬من ال رب السماوات‪ .‬وراحوا يستمدون مبادئ المدنية والجتماع والخلق‬

‫والسياسة وأحكامها جميعا‪ T‬من بني آدم‪ ،‬مستغنيين في ذلك عن السلطان المنزل من عند ال تعالى‪ .‬وأفضى‬

‫بهم الغي إلى أن قال فيهم القرآن‪:‬‬

‫)النساء‪(51 :‬‬ ‫)ألم تر إلى الذين أتوا نصيبا‪ 3‬من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت(‬

‫)قل هل أنبئكم بشر‪ e‬من ذلك مثوبة عند ال من لعنه) ال وغضب‪ .‬عليه وجعل منهم القردة والخنازير‬

‫)المائدة‪(60 :‬‬ ‫وعبد الطاغوت‪ .‬أولئك شر‡ مكانا‪ 3‬وأضل عن سواء السبيل(‬

‫)الجبت‪ (r‬كلمة جامعة شاملة لجميع أنواع الوهام والخرافات من السحر والتمائم والشعوذة والتكه‪e‬ن‬

‫واستكشاف الغيب والتشاؤم والتفاؤل والتأثيرات الخارجة عن القوانين الطبيعية‪ .‬والمراد من )الطاغوت( كل‬

‫فرد أو طائفة أو إدارة تبغي وتتمرد على ال‪ ،‬وتجاوز حدود العبودية وتدعي لنفسها اللوهية والربوبية‪ .‬فلما‬

‫وقعت اليهود والنصارى في ما تقدم ذكره من النوعين من الضلل‪ ،‬كانت نتيجة أولها أن أخذت جميع أنواع‬

‫الوهام مأخذها من قلوبهم وعقولهم‪ ،‬وأما الثاني فاستدرجهم من عبادة العلماء والمشايخ والصوفية والزهاد‬

‫إلى عبادة الجبابرة وطاعة الظالمين الذين كانوا قد بغوا على ال علنية!‬

‫المشركون العرب‬

‫هذا ولنبحث الن في المشركين العرب الذين بعث فيهم خاتم النبيين صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والذين كانوا‬

‫أول من خاطبهم القرآن‪ ،‬من أي نوع كان ضللهم في باب اللوهية والربوبية‪ ،‬هل كانوا يجهلون ال رب‬

‫العالمين‪ ،‬أو كانوا ينكرون وجوده‪ ،‬فبعث إليهم النبي صلى ال عليه وسلم ليبث في قلوبهم اليمان بوجود‬

‫الذات اللهية! وهل كانوا ل يعتقدون ال عز وجل إلها‪ T‬للعالمين وربا‪ ،T‬فأنزل ال القرآن ليقنعهم بألوهيته‬

‫وربوبيته؟ وهل كانوا يأبون عبادة ال والخضوع له؟ أو كانوا ل يعتقدونه سميع الدعاء وقاضي الحاجة؟ وهل‬
‫كانوا يزعمون أن اللت والعز‪e‬ى ومناة وهبل واللهة الخرى هي في الحقيقة فاطرة هذا الكون ومالكته‬

‫والرازقة فيه والقائمة على تدبيره وإدارته؟ أو كانوا يؤمنون بأن آلهتهم تلك مرجع القانون ومصدر الهداية‬

‫والرشاد في شؤون المدنية والخلق؟‬

‫كل واحد من هذه السئلة إذا راجعنا فيه القرآن فإنه يجيب عليه بالنفي؛ ويبين لنا أن المشركين العرب‬

‫–‬ ‫لم يكونوا قائلين بوجود ال تعالى فحسب‪ ،‬بل كانوا يعتقدونه مع ذلك خالق هذا العالم كله – حتى آلهتهم‬

‫ومالكه وربه العلى‪ ،‬وكانوا يذعنون له باللوهية والربوبية‪ .‬وكان ال هو الجناب العلى الرفع الذي كانوا‬

‫يدعونه ويبتهلون إليه في مآل المر عندما يمسهم الضر أو تصيبهم المصائب‪ ،‬ثم كانوا ل يمتنعون عن‬

‫عبادته والخضوع له‪ ،‬ولم تكن عقيدتهم في آلهتهم وأصنامهم أنها قد خلقتهم وخلقت هذا الكون‪ ،‬وترزقهم‬

‫جميعا‪ ،T‬ول أنها تهديهم وترشدهم في شؤون حياتهم الخلقية والمدنية‪ ،‬فاليات التية تشهد بما تقول‪:‬‬

‫)قلن لمن الرض ومن فيها إن كنتم تعلمون‪ .‬سيقولون ل‪ ،‬قل أفل تذكرون‪ .‬قل من رب السماوات‬

‫السبع ورب العرش العظيم‪ .‬سيقولن ال‪ ،‬قل أفل تتقون‪ .‬قل من بيده ملكوت كل شيء‪ e‬وهو يجير ول يجار‬

‫)المؤمنون‪(90-84 :‬‬ ‫عليه إن كنتم تعلمون‪ .‬سيقولون ل‪ ،‬قل فأنى تسحرون‪ ،‬بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون(‬

‫)هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها‬

‫جاءتها ريح عاصف‪ O‬وجاءهم الموج من كل مكان‪ e‬وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا ال مخلصين له الدين لئن‬

‫)يونس‪(23-22 :‬‬ ‫أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين‪ .‬فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الرض بغير الحق(‬

‫)وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إل إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان النسان‬

‫)السراء‪(67 :‬‬ ‫كفورا(‬

‫ويروي القرآن عقائدهم في آلهتهم بعبارتهم أنفسهم فيما يأتي‪:‬‬

‫)الزمر‪(3 :‬‬ ‫)والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إل ليقربونا إلى ال زلفى(‬

‫)يونس‪(18 :‬‬ ‫)ويقولون هؤلء شفعاؤنا عند ال(‬

‫ثم إنهم لم يكونوا يزعمون للهتهم شيئا‪ T‬من مثل أنها تهديهم في شؤون حياتهم‪ ،‬فال تعالى يأمر رسوله‬

‫فيرميهم سؤاله هذا‬ ‫‪35‬‬ ‫صلى ال لعيه وسلم في سورة يونس )قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق( الية‪:‬‬

‫بالسكات‪ ،‬ول يجيب أحد منهم عليه بنعم! عن اللت والعزى ومناة واللهة الخرى تهدينا سواء السبيل في‬

‫العقيدة والعمل‪ ،‬وتعلمنا مبادئ العدالة والمن والسلم في حياتنا الدنيا‪ ،‬وإننا نستمد من منبع علمها معرفة‬
‫حقائق الكون الساسية‪ ،‬فعند ذلك يقول ال عز وجل لنبيه صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫)قل ال يهدي للحق‪ .‬أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن ل يهدي إل أن ي)هدى فمالكم كيف‬

‫)يونس‪(35 :‬‬ ‫تحكمون(‬

‫ويبقى بعد هذه النصوص القرآنية أن نطلب جواب هذا السؤال‪ :‬ماذا كان ضللهم الحقيقي في باب‬

‫الربوبية الذي بعث ال نبيه صلى ال عليه وسلم نرده إلى الصواب‪ ،‬وأنزل كتابه المجيد ليخرجهم من ظلماته‬

‫إلى نور الهداية؟ وإذا تأملنا القرآن للتحقيق في هذه المسألة‪ ،‬نقف في عقائدهم وأعمالهم كذلك على النوعين‬

‫من الضلل اللذين مازال يلزمان المم الضالة منذ القدم‪.‬‬

‫فكانوا بجانب يشركون بال آلهة وأربابا‪ T‬من دونه في اللوهية والربوبية فيما فوق الطبيعة‪ ،‬ويعتقدون‬

‫بأن الملئكة والنفوس النسانية المقدسة والسيارات السماوية – كل أولئك دخيلة بوجه من الوجوه في‬

‫صلحيات الحكم القائم فوق نظام العلل والسباب‪ .‬ولذلك لم يكونوا يرجعون إلى ال تعالى وحده في الدعاء‬

‫والستعانة وأداء شعائر العبودية‪ ،‬بل كانوا يرجعون كذلك في تلك المور كلها إلى آلهتهم المصنوعة الملفقة‪.‬‬

‫وكانوا بجانب آخر يكادون ل يتصورون في باب الربوبية المدنية والسياسية أن ال تعالى هو الرب بهذه‬

‫المعاني أيضا‪ .‬فكانوا قد اتخذوا أئمتهم الدينيين ورؤساءهم وكبراء عشائرهم أربابا‪ T‬بتلك المعاني‪ ،‬ومنهم كانوا‬

‫يتلقون القوانين لحياتهم‪.‬‬

‫أما النوع الول من ضللهم فيشهد به القرآن فيما يلي من اليات‪:‬‬

‫)ومن الناس من يعبد ال على حرف‪ e‬فان أصابه خي ‪f‬ر اطمأن به وإن أصابته فتنة‪ O‬انقلب على وجهه‬

‫خسر الدنيا والخرة‪ ،‬ذلك هو الخسران المبين‪ .‬يدعو من دون ال ما ل يضره وما ل ينفعه‪ ،‬ذلك هو‬

‫)الحج‪(13-11 :‬‬ ‫الضلل البعيد يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير(‬

‫)ويعبدون من دون ال مال يضرهم ول ينفعهم ويقولون هؤلء شفعاؤنا عند ال‪ ،‬قل أتنبئون ال بما‬

‫)يونس‪(18 :‬‬ ‫ل يعلم في السماوات ول في)(‪ ،‬سبحانه وتعالى عما يشركون(‬

‫)حم السجدة‪(9 :‬‬ ‫)قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الرض في يومين وتجعلون له أندادا‪(3‬‬

‫)المائدة‪(76 :‬‬ ‫)قل أتعبدون من دون ال مال يملك لكم ضر*ا‪ 3‬ول نفعا‪ 3‬وال هو السميع العليم(‬

‫)وإذا مس; النسان ضر‪ f‬دعا ربه منيبا‪ 3‬إليه ثم إذا خو*له نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل‬

‫)الزمر‪(8 :‬‬ ‫وجعل ل أندادا)( ليضل عنه سبيله(‬


‫)وما بكم من نعمة فمن ال ثم إذا مس*كم الضر* فإليه تجأرون‪ .‬ثم إذا كشف الضر* عنكم إذا فريق‬

‫منكم بربهم يشركون‪ .‬ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون‪ .‬ويجعلون لما ل يعلمون نصيب‪3‬ا)( مما‬

‫)النحل‪(56– 53 :‬‬ ‫رزقناهم‪ ،‬تال لتسئلن* عما كنتم تفترون(‬

‫وأما الخر فشهادة القرآن ما يأتي‪:‬‬

‫)النعام‪:‬‬ ‫)وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم(‬

‫‪(137‬‬

‫ومن الظاهر أنه ليس المراد بـ )شركاء( في هذه الية‪ :‬اللهة والصنام‪ ،‬بل المراد بهم أولئك القادة‬

‫والزعماء الذين زينوا للعرب قتل أولدهم وجعلوه في أعينهم مكرمة‪ .‬فأدخلوا تلك البدعة الشنعاء على دين‬

‫إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم‪ .‬وظاهر كذلك أن أولئك الزعماء لم يكن القوم قد اتخذوهم شركاء من حيث‬

‫كانوا يعتقدون أن لهم السلطان فوق نظام السباب في هذا العالم‪ ،‬أو كانوا يعبدونهم ويدعونهم‪ ،‬بل كانوا قد‬

‫جعلوهم شركاء مع ال في اللوهية والربوبية من حيث كانوا يسلمون بحقهم في أن يشرعوا لهم ما يشاؤون‬

‫من النظم والقوانين لشؤونهم المدنية والجتماعية‪ ،‬وأمورهم الخلقية والدينية‪.‬‬

‫)الشورى‪(21 :‬‬ ‫)أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به ال(‬

‫وسيأتي تفصيل معاني كلمة )الدين( في موضعه من هذه الرسالة‪ ،‬وهناك سنتبين سعة معاني هذه الية‬

‫وشمولها‪ .‬على أنه يتضح في هذا المقام أن ما كان يتوله أولئك الزعماء والرؤساء من وضع الحدود‬

‫والقواعد التي هي بمثابة الدين بغير إذن من ال تعالى‪ ،‬وأن اعتقاد العرب بكونها مما يجب اتباعه والعمل به‪،‬‬

‫كان هو عينه شركة مع ال من أولئك في ألوهيته وربوبيته‪ ،‬وإيمانا‪ T‬من هؤلء بشركتهم تلك!‬

‫دعوة القرآن ‪:‬‬

‫أن هذا البحث الذي قد خضنا غماره في الصفحات السابقة بصدد تصورات المم الضالة وعقائدها‪،‬‬

‫ليكشف القناع عن حقيقة أن جميع المم التي قد وصمها القرآن بالظلم والضلل وفساد العقيدة من لدن أعرق‬

‫العصور في القدم إلى زمن نزول القرآن‪ ،‬لم تكن منها جاحدة بوجود ال تعالى ول كانت تنكر كون ال ربا‬

‫وإلها‪ T‬بالطلق‪ .‬بل كان ضللها الصلي المشترك بين جميعها أنها كانت قد قسمت المعاني الخمسة لكلمة‬

‫)الرب( التي قد حددناها في بداية هذا الباب – مستشهدين باللغة والقرآن – قسمين متباينين‪:‬‬
‫فأما المعاني التي تدل على أن )الرب( هو الكفيل بتربية الخلق وتعهده وقضاء حاجته وحفظه ورعايته‬

‫بالطرق الخارجة عن النظام الطبيعي‪ ،‬فكانت لها عندهم دللة أخرى مختلفة‪ ،‬وهم وإن كانوا ل يعتقدون إل‬

‫ال تعالى ربهم العلى بموجبها‪ ،‬إل أنهم كانوا يشركون به في الربوبية الملئكة والجن والقوى الغيبية‬

‫والنجوم والسيارات والنبياء والولياء والئمة الروحانيين‪.‬‬

‫وأما المعنى الذي يدل على أن )الرب( هو مالك المر والنهي وصاحب السلطة العليا‪ ،‬ومصدر الهداية‬

‫والرشاد‪ ،‬ومرجع القانون والتشريع‪ ،‬وحاكم الدولة والمملكة وقطب الجتماع والمدنية‪ ،‬فكانت له عندهم دللة‬

‫أخرى متباينة‪ :‬وبموجب هذا المفهوم كانوا إما يعتقدون أن النفوس النسانية وحدهم ربا‪ T‬من دون ال‪ ،‬وإما‬

‫يستسلمون لربوبية تلك النفوس في شؤون الخلق والمدنية والسياسة مع كونهم يؤمنون إيمانا‪ T‬نظريا‪ T‬بأن ال‬

‫هو الرب‪ ،‬هذا هو الضلل الذي مازالت تبعث لحسمه الرسل عليهم اللم من لدن فجر التاريخ‪ ،‬ولجل ذلك‬

‫بعث ال أخيرا‪ T‬محمدا‪ T‬صلى ال عليه وسلم‪ .‬وكانت دعوتهم جميعا‪ T‬أن الرب بجميع معاني الكلمة واحد ليس‬

‫غير‪ ،‬وهو ال تقدست أسماؤه‪ .‬والربوبية ما كانت لتقبل التجزئة ولم يكن جزء من أجزائها ليرجع إلى أحد‬

‫من دون ال بوجه من الوجوه‪ ،‬وأن نظام هذا الكون مرتبط بأصله ومركزه وثيق الرتباط‪ ،‬قد خلفه ال الواحد‬

‫الحد‪ ،‬ويحكمه الفرد الصمد‪ ،‬ويملك كل السلطة والصلحيات فيه الله الفذ^ الموحد! فل يد لحد غير ال في‬

‫خلق هذا النظام ول شريك مع ال في إدارته وتدبيره ول قسيم له في ملكوته‪ .‬وبما أن ال تعالى هو مالك‬

‫السلطة المركزية‪ ،‬فإنه هو وحده ربكم في دائرة ما فوق الطبيعة‪ ،‬وربكم في شؤون المدنية والسياسة‬

‫والخلق‪ ،‬ومعبودكم ووجهة ركوعكم وسجودكم‪ ،‬ومرجع دعائكم وعماد توكلكم‪ ،‬والمتكفل بقضاء حاجاتكم‪،‬‬

‫وكذلك هو الملك‪ ،‬ومالك الملك‪ ،‬وهو الشارع والمقنن‪ ،‬وهو المر والناهي‪ .‬وكل هاتين الدللتين للربوبية‬

‫اللتين قد فصلتم إحداهما عن الخرى لجاهليتكم‪ ،‬هي في حقيقة المر قوام اللوهية وعمادها وخاصة إلهية‬

‫الله‪ .‬لذلك ل يمكن فصل إحداهما عن الخرى‪ ،‬كما ل يجوز أن يشرك مع ال أحد من خلقه باعتبار أيهما‪.‬‬

‫وأما السلوب الذي يدعو به القرآن دعوته هذه فها هو ذا بعبارته‪:‬‬

‫)إن ربكم ال الذي خلق السماوات والرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل والنهار‬

‫يطلبه حثيث‪3‬ا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره‪ ،‬أل له الخلق والمر‪ ،‬تبارك ال رب العالمين(‬

‫)العراف‪(54 :‬‬

‫)قل من يرزقكم من السماء والرض‪ ،‬أم*ن يملك السمع والبصار ومن يخرج الحي من الميت‬
‫ويخرج الميت من الحي ومن يدبر المر فسيقولون ال‪ ،‬فقل أفل تتقون‪ .‬فذلكم ال ربكم الحق‪ ،‬فما بعد‬

‫)يونس‪(32-31 :‬‬ ‫الحق إل الضلل فأنى تصرفون(‬

‫)خلق السماوات والرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس‬

‫)الزمر‪(5،6 :‬‬ ‫والقمر كل يجري لجل مسمى( ‪) ..‬ذلكم ال ربكم له الملك ل إله إل هو فأنى تصرفون(‬

‫)ال الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا‪(3‬‬

‫)ال الذي جعل لكم الرض قرارا‬ ‫…‬ ‫)ذلكم ال ربكم خالق كل شيء ل إله إل هو فأنى تؤفكون(‬

‫والسماء بناء‪ x‬وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات‪ ،‬ذلكم ال ربكم فتبارك ال رب العالمين‪ .‬هو‬

‫)غافر‪(65 ،64 ،62 ،61 :‬‬ ‫الحي ل إله إل هو فادعوه مخلصين له الدين(‬

‫)يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل‬ ‫…‬ ‫)وال خلقكم من تراب(‬

‫يجري لجل مسمى‪ ،‬ذلكم ال ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير‪ .‬إن تدعوهم ل‬

‫)فاطر‪ 11 :‬و ‪(14-13‬‬ ‫يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم(‬

‫)وله من في السماوات والرض كل له قانتون( ‪..‬‬

‫)ضرب لكم مثل‪ 3‬من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء‬

‫تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفص*ل اليات لقوم‪ e‬يعقلون‪ .‬بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم(‪..‬‬

‫)فأقم وجهك للدين حنيفا‪ 3‬فطرة ال التي فطر الناس عليها‪ ،‬ل تبديل لخلق ال ذلك الدين القيم ولكن‬

‫)الروم‪ 26 :‬و ‪(29،30 – 28‬‬ ‫أكثر الناس ل يعلمون(‬

‫)وما قدروا ال حق قدره والرض جميعا‪ 3‬قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات‪ O‬بيمينه سبحانه‬

‫)الزمر‪(67 :‬‬ ‫وتعالى عما ي)شركون(‬

‫)فلله الحمد رب السماوات ورب الرض رب العالمين‪ .‬وله الكبرياء) في السماوات والرض وهو‬

‫)الجاثية‪(37-36 :‬‬ ‫العزيز الحكيم(‬

‫)مريم‪(65 :‬‬ ‫)رب السماوات والرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا(‬

‫)هود‪(123 :‬‬ ‫)ول غيب السماوات والرض وإليه يرجع المر كله فاعبده وتوكل عليه(‬

‫)المزمل‪(9 :‬‬ ‫)رب المشرق والمغرب ل إله إل هو فاتخذه وكيل(‬

‫)النبياء‪-92 :‬‬ ‫)إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون(‬
‫‪(93‬‬

‫)العراف‪(3 :‬‬ ‫)اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ول تتبعوا من دونه أولياء(‬

‫)قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء‪ e‬بيننا وبينكم أل نعبد إل ال ول نشرك به شيئا‪ 3‬ول يتخذ‬

‫)آل عمران‪(64 :‬‬ ‫بعضنا بعضا‪ 3‬أربابا‪ 3‬من دون ال(‬

‫)الناس‪(3-1 :‬‬ ‫)قل أعوذ برب الناس‪ .‬ملك الناس‪ .‬إله الناس(‬

‫)الكهف‪(110:‬‬ ‫)فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عمل‪ 3‬صالحا‪ 3‬ول يشرك بعبادة ربه أحدا‪(3‬‬

‫فبقراءة هذه اليات بالترتيب الذي سردناها به‪ ،‬يتبين للقارئ أن القرآن يجعل )الربوبية( مترادفة مع‬

‫ويصف لنا )الرب( بأنه الحاكم المطلق لهذا الكون ومالكه وآمره الوحيد ل‬ ‫)‪(Sovereignty‬‬ ‫الحاكمية والملكية‬

‫شريك له‪.‬‬

‫وبهذا العتبار هو ربنا ورب العالم بأجمعه ومريبنا وقاضي حاجاتنا‪.‬‬

‫وبهذا العتبار هو كفيلنا وحافظنا ووكلينا‪.‬‬

‫وطاعته بهذا العتبار هي الساس الفطري الصحيح الذي يقوم عليه بنيان حياتنا الجتماعية على‬

‫الوجه الصحيح المرضي‪ ،‬والصلة بشخصيته المركزية تسلك شتى الفراد والجماعات في نظام المة‪.‬‬

‫وبهذا العتبار هو حري بأن نعبده نحن وجميع خلئفه‪ ،‬ونطيعه ونقنت له‪.‬‬

‫وبهذا العتبار هو مالكنا ومالك كل شيء وسيدنا وحاكمنا‪.‬‬

‫لقد كان العرب والشعوب الجاهلية في كل زمان اخطأوا – ول يزالون يخطئون إلى هذا اليوم – بأنهم‬

‫وزعوا هذا المفهوم الجامع الشامل للربوبية على خمسة أنواع من الربوبية‪ ،‬ثم ذهب بهم الظن والوهم أن تلك‬

‫النواع المختلفة للربوبية قد ترجع إلى ذوات مختلفة ونفوس شتى‪ ،‬بل ذهبوا إلى أنها راجعة إليها بالفعل‪.‬‬

‫فجاء القرآن فأثبت باستدلله القوي المقنع أنه ل مجال أبدا‪ T‬في هذا النظام المركزي لن يكون أمر من أمور‬

‫الربوبية راجعا‪ – T‬في قليل أو كثير‪ -‬إلى غير من بيده السلطة العليا‪ ،‬وأن مركزية هذا النظام نفسها هي الدليل‬

‫البي‪e‬ن على أن جميع أنواع الربوبية مختصة بال الواحد الحد الذي أعطى هذا النظام خلقه‪.‬‬

‫ولذلك فإن من يظن جزءا‪ T‬من أجزاء الربوبية راجعا‪ T‬إلى أحد من دون ال‪ ،‬أو يرجعه إليه‪ ،‬بأي وجه‬

‫من الوجوه‪ ،‬وهو يعيش في هذا النظام‪ ،‬فإنه يحارب الحقيقة ويصدف عن المواقع ويبغي على الحق‪ ،‬وباقي‬

‫بيديه إلى التهلكة والخسران بما يتعب نفسه في مقاومة الحق الواقع‪.‬‬
‫‪ -3‬العبـــــادة‬
‫التحقيق اللغوي‬

‫العبودة والعبودية؛ معناها اللغوي)(‪ :‬الخضوع والتذلل‪ ،‬أي استسلم المرء وانقياده لحد غيره انقيادا‪ T‬ل‬

‫مقاومة معه ول عدول عنه ول عصيان له‪ ،‬حتى يستخدمه هو حسب ما يرضى وكيف ما يشاء‪.‬‬

‫وعلى ذلك تقول العرب‪) :‬بعير معب‪z‬د( للبعير السلس المنقاد‪ ،‬و )طريق معب‪e‬د( للطريق الممهد الوطء‪.‬‬

‫ومن هذا الصل اللغوي نشأت في مادة هذه الكلمة معاني العبودية والطاعة والتأله والخدمة والقيد والمنع‪.‬‬

‫فقد جاء في لسان العرب تحت مادة ) ع ب د( ما نلخصه فيما يلي)(‪:‬‬

‫)‪) (1‬العبد( المملوك خلف الحر‪) :‬تعبد الرجل(‪ :‬اتخذه عبدا‪ T‬أي مملوكا‪ T‬أو عامله معاملة العبد‪ ،‬وكذلك‬

‫)عبد الرجل واعبده واعتبده( وقد جاء في الحديث الشريف‪ :‬ثلثة أنا خصمهم‪ :‬رجل اعتبد محرر‪T‬ا – وفي‬

‫رواية أعبد_ محرر‪T‬ا – أي اتخذ رجل‪ T‬حرا‪ T‬عبدا‪ T‬له ومملوكا‪ :T‬وفي القرآن أن موسى عليه السلم قال لفرعون‪:‬‬

‫وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل( اتخذتهم عبيدا‪ T‬لك‪.‬‬

‫)‪) (2‬العبادة( الطاعة مع الخضوع‪ :‬ويقال )عبد الطاغوت( أي أطاعه؛ )إياك نعبد( أي نطيع الطاعة‬

‫التي يخضع معها؛ و )اعبدوا ربكم( أي أطيعوا ربكم؛ و )قومهما لنا عبادون( أي دائنون وكل من دان لملك‬

‫فهو عابد له؛ وقال ابن النباري‪) :‬فلن عابد( وهو الخاضع لربه المستسلم المنقاد لمره‪.‬‬

‫)‪) (3‬عبده عبادة ومعبدا‪ T‬ومعبدة( تأله له‪) .‬التعب‪e‬د(‪ :‬التنسك‪ .‬هو )المعب‪z‬د( المكرم المعظم‪ :‬كأنه يعبد‪ .‬قال‬

‫الشاعر‪:‬‬

‫أرى المال عند الباخلين معبدا‪T‬‬

‫)‪) (4‬وعبد به(‪ :‬لزمه فلم يفارقه‪.‬‬

‫)‪) (5‬ما عبدك عني( أي ما حبسك‪.‬‬

‫ويتضح من هذا الشرح اللغوي لمادة )ع ب د( أن مفهومها الساسي أن يذعن المرء لعلء أحد‬

‫وغلبته‪ ،‬ثم ينزل له عن حريته واستقلله ويترك إزاءه كل المقاومة والعصيان وينقاد له انقيادا‪ .‬وهذه هي‬

‫حقيقة العبدية والعبودية‪ ،‬ومن ذلك أن أول ما يتمثل في ذهن العربي لمجرد سماعه كلمة )العبد( و )العبادة(‬

‫هو تصور العبدية والعبودية‪ .‬وبما أن وظيفة العبد الحقيقية هي إطاعة سيده وامتثال أوامره‪ ،‬فحتما‪ T‬يتبعه‬

‫تصور الطاعة‪ .‬ثم إذا كان العبد لم يقف به المر على أن يكون قد أسلم نفسه لسيده طاعة وتذلل‪ ،T‬بل كان‬
‫مع ذلك يعتقد بعلئه ويعترف بعلو شأنه وكان قلبه مفعما‪ T‬بعواطف الشكر والمتنان على نعمه وأياديه‪ ،‬فإنه‬

‫يبالغ في تمجيده وتعظيمه ويتفنن في إبداء الشكر على الئه وفي أداء شعائر العبدية له‪ ،‬وكل ذلك اسمه التأله‬

‫والتنسك‪ .‬وهذا التصور ل ينضم إلى معاني العبدية إل إذا كان العبد ل يخضع لسيده رأسه فحسب‪ ،‬بل‬

‫يخضع معه قلبه أيضا‪ .‬وأما المفهومان الباقيان فإنهما تصوران فرعيان ل أصليان للعبدية‪.‬‬

‫استعمال كلمة العبادة في القرآن‬

‫وإذا رجعنا إلى القرآن بعد هذا التحقيق اللغوي رأينا أن كلمة )العبادة( قد وردت فيه غالبا‪ T‬في المعاني‬

‫الثلثة الولى‪ .‬ففي بعض المواضع قد أريد بها المعنيان الول والثاني معا‪ ،T‬وفي الخرى المعنى الثاني‬

‫وحده‪ ،‬وفيا لثالثة المعنى الثالث فحسب‪ ،‬كما قد استعملت في مواضع أخرى بمعانيها الثلثة في آن واحد‪ .‬أما‬

‫أمثلة ورودها بالمعنيين الول والثاني في القرآن فهي‪:‬‬

‫)ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين‪ .‬إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما‬

‫عالين‪ .‬فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون( )(‪).‬المؤمنون‪(47-45 :‬‬

‫)وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل( )(‪).‬الشعراء‪(22 :‬‬

‫والمراد بالعبادة في كلتا اليتين هو العبودية والطاعة‪ .‬فقال فرعون‪ :‬أن قوم موسى وهارون عابدون‬

‫لنا‪ ،‬أي عبيد لنا وخاضعون لمرنا‪ ،‬وقال موسى‪ :‬إنك عب‪z‬دت بني إسرائيل‪ ،‬اتخذتهم عبيدا‪ T‬وتستخدمهم حسب‬

‫ما تشاء وترضى‪.‬‬

‫العبادة بمعنى العبوية والطاعة‬

‫‪).‬البقرة‪(172 :‬‬ ‫)يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا ل إن كنتم إياه تعبدون(‬
‫)(‬

‫إن المناسبة التي أنزلت بها هذه الية هي أن العرب قبل السلم كانوا يتقيدون بأنواع من القيود في‬

‫المآكل والمشارب‪ ،‬امتثال‪ T‬لوامر أئمتهم الدينيين واتباعا‪ T‬لوهام آبائهم الولين‪ ،‬فلما أسلموا قال ال تعالى‪:‬‬

‫إن كنتم تعبدونني فعليكم أن تحطموا جميع تلك القيود وتأكلوا ما أحللته لكم هنيئا‪ T‬مريئا‪ ،T‬ومعناه أنكم‬

‫إن لم تكونوا عبادا‪ T‬لحباركم وأئمتكم‪ ،‬بل ل تعالى وحده‪ ،‬وإن كنتم قد هجرتم طاعتهم إلى طاعته‪ ،‬فقد وجب‬

‫عليكم أن تتبعوا ما وضعه لكم من الحدود‪ ،‬ل ما وضعوه في الحلل والحرام‪ .‬ومن ذلك جاءت كلمة )العبادة(‬
‫في هذا الموضع أيضا‪ T‬بمعاني العبودية والطاعة‪.‬‬

‫)قل هل أ‪6‬نبئكم بشر‪ e‬من ذلك مثوبة عند ال من لعنه ال وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير‬

‫وعبد الطاغوت( )(‪).‬المائدة‪(60 :‬‬

‫)النحل‪(36 :‬‬ ‫)ولقد بعثنا في كل أمة‪ e‬رسول‪ 3‬أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت(‬

‫)الزمر‪(17 :‬‬ ‫)والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى ال لهم البشرى(‬

‫المراد بعبادة الطاغوت في كل من هذه اليات الثلث هو العبودية للطاغوت وإطاعته‪ .‬ومعنى‬

‫الطاغوت في إصطلح القرآن – كما سبقت الشارة إليه – كل دولة أو سلطة وكل إمامة أو قيادة تبغي على‬

‫ال وتتمرد‪ ،‬ثم تنفذ حكمها في أرضه وتحمل عباده على طاعتها بالكراه أو بالغراء أو بالتعليم الفاسد‪.‬‬

‫–‬ ‫فاستسلم المرء لمثل تلك السلطة وتلك المامة والزعامة وتعب‪e‬ده لها ثم طاعته إياها – كل ذلك منه عبادة‬

‫ول شك – للطاغوت!‬

‫العبادة بمعنى الطاعة‬

‫وخذ بعد ذلك اليات التي قد وردت فيها كلمة )العبادة( بمعناها الثاني فحسب؛ قال ال تعالى‪:‬‬

‫)يس‪(60 :‬‬ ‫)ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن ل تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو‪ f‬مبين(‪.‬‬

‫الظاهر أنه ل يتأله أحد للشيطان في هذه الدنيا‪ ،‬بل كل يلعنه ويطرده من نفسه‪ ،‬لذلك فإن الجريمة التي‬

‫يصم بها ال تعالى بنى آدم يوم القيامة ليست تألههم للشيطان في الحياة الدنيا‪ ،‬بل إطاعتهم لمره وابتاعهم‬

‫لحكمه وتسرعهم إلى السبل التي أراهم إياها‪.‬‬

‫…‬ ‫)احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون‪ .‬من دون ال فاهدوهم إلى صراط الجحيم(‬

‫)وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‪ .‬قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين‪ .‬قالوا بل لم تكونوا مؤمنين‪ .‬وما‬

‫)الصافات‪(30– 27 ، 23 – 22 :‬‬ ‫كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما‪ 3‬طاغين(‬

‫ويتضح بإنعام النظر في هذه المحاورة التي حكاها القرآن بين العابدين وبين ما كانوا يعبدون‪ ،‬أن ليس‬

‫المراد بالمعبودين في هذا المقام اللهة والصنام التي كان يتأله لها القوم‪ ،‬بل المراد أولئك الئمة والهداة‬

‫الذين أضلوا الخلق متظاهرين بالنصح‪ ،‬وتمثلوا للناس في لبوس القديسيين المطهرين‪ ،‬فخدعوهم بسبحاتهم‬

‫وجباتهم وجعلوا تبعا‪ T‬لهم‪ ،‬والذين أشاعوا فيهم الشر والفساد باسم النصح والصلح‪ .‬فالتقليد العمى لولئك‬
‫الخداعين والتباع لحكامهم هو الذي قد عبر ال عنه بكلمة العبادة في هذه الية‪.‬‬

‫)اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا‪ 3‬من دون ال والمسيح بن مريم وما أمروا إل ليعبدوا إلها‪ 3‬واحدا‪(3‬‬

‫)التوبة‪(31 :‬‬

‫والمراد باتخاذ العلماء والحبار أربابا‪ T‬من دون ال ثم عبادتهم في هذه الية هو اليمان بكونهم مالكي‬

‫المر والنهي‪ ،‬والطاعة لحكامهم بدون سند من عند ال أو الرسول‪ ،‬وقد صرح بهذا المعنى رسول ال‬

‫صلى ال عليه وسلم نفسه في الحاديث الصحيحة‪ ،‬فلما قيل له‪ :‬إننا لم نعبد علماءنا وأحبارنا‪ ،‬قال‪ :‬ألم تحلوا‬

‫ما أحلوه وتحرموا ما حر‪e‬موه؟‬

‫العبادة بمعنى التأله‬

‫ولننظر بعد ذلك في اليات التي قد وردت فيها كلمة )العبادة( بمعناها الثالث‪ .‬وليكن منك على ذكر‬

‫في هذا المقام أن العبادة بمعنى التأله تشتمل على أمرين اثنين حسبما يدل عليه القرآن‪:‬‬

‫أولهما‪ :‬أن يؤدي المرء لحد من الشعائر كالسجود والركوع والقيام والطواف وتقبيل عتبة الباب‬

‫والنذر والنسك‪ ،‬ما يؤديه عادة بقصد التأله والتنسك‪ ،‬ول عبرة بأن يكون المرء يعتقده إلها‪ T‬أعلى مستقل‪ T‬بذاته‪،‬‬

‫أو يأتي بكل ذلك إياه وسيلة للشفاعة والزلفى إليه أو مؤمنا‪ T‬بكونه شريكا‪ T‬للله العلى وتابعا‪ T‬له في تدبير أمر‬

‫هذا العالم‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أن يظن المرء أحدا‪ T‬مسيطرا‪ T‬على نظام السباب في هذا العالم ثم يدعوه في حاجته ويستغيث‬

‫به في ضره وآفته‪ ،‬ويعوذ به عند نزول الهوال ونقص النفس والموال‪.‬‬

‫فهذان لوجهان من كلهما داخل في معاني التأله‪ ،‬والشاهد بذلك ما يأتي من آيات القرآن‪:‬‬

‫)غافر‪(66 :‬‬ ‫)قل إني ن‪9‬هيت‪ 9‬أن‪ 5‬أعب)د‪ .‬الذين تدعون من دون ال لما جاءني البينات من ربي(‬

‫)وأعتزلكم وما تدعون من دون ال وأدعو ربي( ‪..‬‬

‫)مريم‪(49 ،48 :‬‬ ‫)فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون ال وهبنا له إسحاق(‬

‫)ومن أضل ممن يدعو من دون ال من ل يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون‪.‬‬

‫‪).‬الحقاف‪(6-5 :‬‬ ‫وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين(‬
‫)(‬

‫ففي كل من هذه اليات الثلث قد صرح القرآن نفسه بأن المراد بالعبادة فيها هو الدعاء والستغاثة‪.‬‬
‫)بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون( )سبأ‪(41 :‬‬

‫والمراد بعبادة الجن واليمان بهم في هذه الية‪ ،‬تفصله الية التية من سورة الجن‪:‬‬

‫)الجن‪(6 :‬‬ ‫)وأنه كان رجال‪ u‬من النس يعوذون برجال‪ e‬من الجن(‬

‫فيتبين منه أن المراد بعبادة الجن هو العياذ بهم واللجوء إليهم في الهوال ونقص الموال والنفس‪،‬‬

‫كما أن المراد باليمان بهم هو العتقاد بقدرتهم على العاذة والمحافظة‪.‬‬

‫)ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون ال فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلء أم هم ضلوا السبيل‪.‬‬

‫)الفرقان‪(18-17 :‬‬ ‫قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء( )(‪.‬‬

‫ويتجلى من بيان هذه الية أن المقصود بالمعبودين فيها هم الولياء والنبياء والصلحاء والمراد‬

‫بعبادتهم هو العتقاد بكونهم أجل وأرفع من خصائص العبدية والظن بكونهم متصفين بصفات اللوهية‬

‫وقادرين على العانة الغيبية وكشف الضر‪ ،‬والغاثة‪ ،‬ثم القيام بين يديهم بشعائر التكريم والتعظيم فما يكاد‬

‫يكون تألها‪ T‬وقنوتا!‪.‬‬

‫)ويوم يحشرهم جميعا‪ 3‬ثم يقول للملئكة أهؤلء إياكم كانوا يعبدون‪ .‬قالوا سبحانك أنت ولينا من‬

‫)سبأ‪(41-40 :‬‬ ‫دونهم(‬

‫في هذه الية هو التأله والخضوع لهياكلهم وتماثيلهم الخيالية‪ ،‬كما كان‬ ‫)(‬
‫والمقصود بعبادة الملئكة‬

‫يفعله أهل الجاهلية‪ ،‬وكان غرضهم من وراء ذلك أن يرضوهم‪ ،‬فيستعطفوهم ويستعينوا بهم في شؤون حياتهم‬

‫الدنيا‪.‬‬

‫)يونس‪(18 :‬‬ ‫)ويعبدون من دون ال ما ل يضرهم ول ينفعهم ويقولون هؤلء شفعاؤنا عند ال(‬

‫)الزمر‪(3 :‬‬ ‫)والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إل ليقربونا إلى ال زلفى(‬

‫والمراد بالعبادة في هذه الية أيضا‪ T‬هو التأله‪ ،‬وقد فصل فيها أيضا‪ T‬الغرض الذي كانوا لجله‬

‫يعبدونهم‪.‬‬

‫العبادة بمعنى العبدية والطاعة والتأله ‪:‬‬

‫ويتضح كل الوضوح من جميع ما تقدم من المثلة أن كلمة )العبادة( في القرآن قد استعملت في بعض‬

‫المواضع بمعنيي العبودية والطاعة وفي الخرى بمعنى الطاعة فحسب‪ ،‬وفي الثالثة بمعنى التأله وحده‬
‫والن قبل أن نسوق لك المثلة التي قد جاءت فيها كلمة )العبادة( شاملة لجميع المعاني الثلثة‪ ،‬ل بد أن تكون‬

‫على ذكر من بعض المور الولية‪.‬‬

‫إن المثلة التي قد سردناها آنفا‪ ،T‬تتضمن جميعا‪ T‬ذكر عبادة غير ال‪ ،‬أما اليات التي قد وردت فيها‬

‫كلمة )العبادة( بمعنيي العبودية والطاعة‪ ،‬فإن المراد بالمعبود فيها إما الشيطان‪ ،‬وإما الناس المتمردون الذين‬

‫جعلوا أنفسهم طواغيت‪ ،‬فحملوا عباد ال على عبادتهم وإطاعتهم بدل‪ T‬من عبادة ال وإطاعته‪ ،‬أو هم الئمة‬

‫والزعماء الذي قادوا الناس إلى ما اخترعوه من سبل الحياة وطرق المعاش جاعلين كتاب ال وراء ظهرهم‪.‬‬

‫وأما اليات التي قد وردت فيها )العبادة( بمعنى التأله‪ ،‬فإن المعبود فيها عبارة إما عن الولياء والنبياء‬

‫والصلحاء الذين اتخذهم الناس آلهة لهم على رغم أنف هدايتهم وتعليمهم‪ ،‬وإما عن الملئكة والجن الذين‬

‫اتخذوهم لسوء فهمهم شركاء في الربوبية المهيمنة على قانون الطبيعة‪ ،‬أو هو عبارة عن تماثيل القوى‬

‫الخيالية وهياكلها‪ .‬التي أصبحت وجهة عبادتهم وقبلة صلواتهم بمجرد إغراء الشيطان والقرآن الكريم يعد‬

‫جميع أولئك المعبودين باطل‪ T‬ويجعل عبادتهم خطأ عظيما‪ T‬سواءا‪ T‬تعبدهم الناس أو أطاعوهم أم تألهوا لهم‪،‬‬

‫ويقول إن جميع من طفقتم تعبدونهم عباد ال وعبيده‪ ،‬فل يستحقون أن يعبدوا ول أنتم مكتسبون من عبادتهم‬

‫غير الخيبة والمذلة والخزي‪ ،‬وأن مالكهم في الحقيقة ومالك جميع ما في السماوات والرض هو ال الواحد‪،‬‬

‫وبيده كل المر وجميع السلطات والصلحيات ولجل ذلك ل يجدر بالعبادة إل هو وحده‪.‬‬

‫)والذين‬ ‫…‬ ‫)إن الذين تدعون من دون ال عباد‪ f‬أمثالكم فادعو فليستجيبوا)( لكم إن كتم صادقين(‬

‫)العراف‪(197 ،194 :‬‬ ‫تدعون من دونه ل يستطيعون نصركم ول أنفسهم ينصرون(‬

‫)وقالوا ات‪0‬خذ الرحمن ولدا‪ 3‬سبحانه بل عباد‪ f‬مكرمون‪ .‬ل يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما‬

‫‪).‬النبياء‪(28-26 :‬‬ ‫بين أيديهم وما خلفهم ول يشفعون إل لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون(‬
‫)(‬

‫)الزخرف‪(19 :‬‬ ‫)وجعلوا الملئكة الذين هم عباد الرحمن إناثا‪(3‬‬

‫)الصافات‪(158 :‬‬ ‫)وجعلوا بينه وبين الجن‪0‬ة نسبا‪ 3‬ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون(‬

‫)لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا‪ 3‬ل ول الملئكة المقربون‪ ،‬ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر‬

‫)النساء‪(172 :‬‬ ‫فسيحشرهم إليه جميعا(‬

‫)الرحمن‪(6-5 :‬‬ ‫)الشمس والقمر بحسبان‪ .‬والنجم والشجر يسجدان(‬

‫)تسبح له السماوات السبع والرض ومن فيهن*‪ ،‬وإن من شيء إل يسبح بحمده ولكن ل تفقهون‬
‫)السراء‪(44 :‬‬ ‫تسبيحهم(‬

‫)الروم‪(26 :‬‬ ‫)وله من في السماوات والرض كل له قانتون(‬

‫)هود‪(56 :‬‬ ‫)ما من دابة إل هو آخذ‪ O‬بناصيتها(‬

‫)إن كل„ من في السماوات والرض إل آتي الرحمن عبدا‪ .3‬لقد أحصاهم وعدهم عدا‪ .3‬وكلهم آتيه يوم‬

‫)مريم‪(95-93 :‬‬ ‫القيامة فردا(‬

‫)قل اللهم ما لك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) وتعز من تشاء وتذل من تشاء‬

‫)آل عمران‪(26 :‬‬ ‫بيدك الخير إنك على كل شيء قدير(‬

‫كذلك بعد أن يقيم القرآن البرهان على كون جميع من عبدهم الناس بوجه من الوجوه عبيدا‪ T‬ل‬

‫وعاجزين أمامه‪ ،‬يدعو جميع النس والجن إلى أن يعبدوا ال تعالى وحده بكل معنى من معاني )العبادة(‬

‫المختلفة‪ ،‬فل تكن العبدية إل له‪ ،‬ول يطع إل هو‪ ،‬ول يتأله المرء إل له‪ ،‬ول تكن حبة خردل من أي تلك‬

‫النواع للعبادة لوجه غير ال!‬

‫)النحل‪(36 :‬‬ ‫)ولقد بعثنا في كل أمة‪ e‬رسول‪ 3‬أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت(‬

‫)الزمر‪(17 :‬‬ ‫)والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى ال لهم البشرى(‬

‫)ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن ل تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو‪ f‬مبين‪ .‬وأن اعبدوني هذا صراط‬

‫مستقيم(‪.‬‬

‫)اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا‪ 3‬من دون ال(‬

‫)التوبة‪(31 :‬‬ ‫)وما أمروا إل ليعبدوا إلها‪ 3‬واحدا‪(3‬‬

‫)البقرة‪(172 :‬‬ ‫)يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا ل إن كنتم إياه تعبدون(‬

‫قد أمر ال تعالى في هذه اليات أن تختص له العبادة التي هي عبارة عن العبدية والعبودية والطاعة‬

‫والذعان‪ ،‬وقرينة ذلك واضحة في اليات‪ ،‬فإن ال تعالى يأمر فيها أن اجتنبوا إطاعة الطاغوت والشيطان‬

‫والحبار والرهبان والباء والجداد واتركوا عبديتهم جميعا‪ ،T‬وادخلوا في طاعة ال الواحد الحد وعبديته‪.‬‬

‫)قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون ال لما جاءني البي*نات من ربي وأ‪6‬مرت أن أسلم لرب‬

‫)غافر‪(66 :‬‬ ‫العالمين(‬

‫)غافر‪:‬‬ ‫)وقال ربكم ادعوني أستجب لكم‪ .‬إن* الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين(‬
‫‪(60‬‬

‫)ذلكم ال ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير‪ .‬إن تدعوهم ل يسمعوا‬

‫)فاطر‪(14-13 :‬‬ ‫دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم(‬

‫)المائدة‪(76 :‬‬ ‫)قل أتعبدون من دون ال ما ل يملك لكم ضرا‪ 3‬ول نفعا‪ 3‬وال هو السميع العليم(‬

‫وقد أمر ال تعالى في هذه اليات أن تختص له العبادة بمعنى التأله‪ .‬وقرينة ذلك أيضا‪ T‬واضحة في‬

‫الية‪ ،‬وهو أن كلمة )العبادة( قد استعملت فيها بمعنى الدعاء‪ .‬وقد جاء فيما سبق وما لحق من اليات ذكر‬

‫اللهة الذين كانوا يشركونهم بال تعالى في الربوبية المهيمنة على ما فوق الطبيعة‪.‬‬

‫فالن ليس من الصعب في شيء على ذي عينين أن يتفطن إلى أنه حيثما ذكرت في القرآن عبادة ال‬

‫تعالى ولم تكن في اليات السابقة أو اللحقة مناسبة تحصر كلمة العبادة في معنى بعينه من المعاني المختلفة‬

‫للكلمة‪ ،‬فإن المراد بها في جميع هذه المكنة معانيها الثلثة‪ :‬العبودية والطاعة والتأله‪ .‬فانظر في اليات‬

‫التالية مثل‪:‬‬

‫)طه‪(14 :‬‬ ‫)إني أنا ال ل إله إل أنا فاعبدوني(‬

‫)النعام‪(102 :‬‬ ‫)ذلكم ال ربكم ل إله إل هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل(‬

‫)قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فل أعبد الذين تعبدون من دون ال ولكن أعبد ال الذي‬

‫)يونس‪(104 :‬‬ ‫يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين(‬

‫)ما تعبدون من دونه إل أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل ال بها من سلطان‪ .‬إن الحكم إل ل‬

‫)يوسف‪(40 :‬‬ ‫أمر أن ل تعبدوا إل إياه ذلك الدين القيم(‬

‫)هود‪(123 :‬‬ ‫)ول غيب السماوات والرض وإليه يرجع المر كله فاعبده وتوكل عليه(‬

‫)له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا‪ .3‬رب السماوات والرض وما بينهما‬

‫)مريم‪(65 ،64 :‬‬ ‫فاعبده واصطبر لعبادته(‬

‫)الكهف‪(110 :‬‬ ‫)فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عمل‪ 3‬صالحا‪ 3‬ول يشرك بعبادة ربه أحداا (‬

‫فل داعي لن تخص كلمة )العبادة( في هذه اليات وما شاكلها بمعنى التأله وحده أو بمعنى العبدية‬

‫والطاعة فحسب‪ .‬بل الحق أن القرآن في مثل هذه اليات يعرض دعوته بأكملها‪ .‬ومن الظاهر أنه ليست‬

‫دعوة القرآن إل أن تكون العبدية والطاعة والتأله‪ ،‬كل أولئك خالصا‪ T‬لوجه ال تعالى‪ :‬ومن ثم إن حصر‬
‫معاني كلمة )العبادة( في معني بعينه‪ ،‬في الحقيقة‪ ،‬حصر لدعوة القرآن في معان ضيقة‪ .‬ومن نتائجه‬

‫المحتومة أن من آمن بدين ال وهو يتصور دعوة القرآن هذا التصور الضيق المحدود‪ ،‬فإنه لن يتبع تعاليمه‬

‫إل اتباعا‪ T‬ناقصا‪ T‬محدودا‪.‬‬

‫‪ -4‬الـــــدين‬
‫التحقيق اللغوي‬
‫)(‬
‫تستعمل كلمة الدين)( في كلم العرب بمعان شتى وهي‪:‬‬

‫فوقه‪،‬‬ ‫)‪(Sovereignty‬‬ ‫)‪ (1‬القهر والسلطة والحكم والمر‪ ،‬والكراه على الطاعة‪ ،‬واستخدام القوة القاهرة‬

‫وجعله عبدا‪ ،T‬ومطيعا‪ ،T‬فيقولون )دان الناس( أي قهرهم على الطاعة‪ ،‬وتقول )دنتهم فدانوا( أي قهرتهم‬

‫فأطاعوا‪ .‬و )دنت القوم( أي أذللتهم واستعبدتهم‪ ،‬و )دان الرجل( إذا عز و )دنت الرجل( حملته على ما يكره‪.‬‬

‫و )د_ي‪e‬ن فلن( إذا حمل على مكروه‪ .‬و )دنته( أي سسته وملكته‪ .‬و )دي‪z‬نته القوم( وليته سياستهم‪ ،‬ويقول‬

‫الحطيئة يخاطب أمه‪:‬‬


‫)(‬
‫تركتهم أدق من الطحين‬ ‫لقد دينت أمر بنيك حتى‬

‫وجاء في الحديث النبوي على صاحبه الصلة والسلم‪) :‬الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت(‬

‫أي قهر نفسه وذللها‪ ،‬ومن ذلك يقال )ديان( للغالب القاهر على قطر أو أمة أو قبيلة والحاكم عليها‪ ،‬فيقول‬

‫العشى الحرمازي يخاطب النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫يا سيد الناس وديان العرب‬

‫وبهذا العتبار يقال )مدين( للعبد والمملوك و )المدينة( للمة فـ )ابن المدينة( معناه ابن المة كما‬

‫يقول الخطل‪:‬‬
‫)(‬
‫ربت وربا في حجرها ابن مدينة‬

‫وجاء في التنزيل‪:‬‬

‫)فلول إن كنتم غير مدينين‪ .‬ترجعونها إن كنتم صادقين( )الواقعة‪(87-86 :‬‬

‫)‪ (2‬الطاعة والعبدية والخدمة والتسخر لحد والئتمار بأمر أحد‪ ،‬وقبول الذلة والخضوع تحت غلبته‬

‫وقهره‪ .‬فيقولون )دنتهم فدانوا( أي قهرتهم فأطاعوا‪ ،‬و )دنت الرجل( أي خدمته‪ ،‬وجاء في الحديث‪ ،‬قال‬

‫رسول ال صلى ال عليه وسلم )أريد من قريش كلمة تدين بها العرب( أي نطيعهم ونخضع لهم‪ .‬بهذا المعنى‬
‫يقال للقوم المطيعين )قوم دين( بهذا المعنى نفسه قد وردت كلمة الدين في حديث الخوارج )يمرقون من الدين‬
‫)(‬
‫مروق السهم من الرمية(‬

‫)‪ (3‬الشرع والقانون والطريقة والمذهب والملة والعادة والتقليد‪ ،‬فيقولون )ما زال ذلك ديني وديدني(‬

‫أي دأبي وعادتي‪ .‬ويقال )دان( إذا اعتاد خيرا‪ T‬أو شرا‪ .T‬وفي الحديث )كانت قريش ومن دان بدينهم( أي من‬

‫كان على طريقتهم وعادتهم‪ ،‬وفيه )أنه عليه السلم كان على دين قومه( أي كان يتبع الحدود والقواعد الرائجة‬

‫في قومه في شؤون النكاح والطلق والميراث وغير ذلك من الشؤون المدنية والجتماعية‪.‬‬

‫)‪ (4‬الجزاء والمكافأة والقضاء والحساب‪ .‬فمن أمثال العرب )كما تدين تدان( أي كما تصنع يصنع بك‪.‬‬

‫وقد روى القرآن قول الكفار )أإنا لمدينون( أي هل نحن مجزيون محاسبون؟ وفي حديث ابن عمر رضي‬

‫عنهما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم )ل تسبوا السلطين‪ ،‬فإن كان ل بد فقولوا اللهم دنهم كما يدينون(‬

‫أي افعل بهم كما يفعلون بنا‪ .‬ومن هنا تأتي كلمة )الديان( بمعنى القاضي وحاكم المحكمة وسئل أحد الشيوخ‬

‫عن علي كرم ال وجهه فقال‪) :‬إنه كان ديان هذه المة بعد نبيها( أي كان أكبر قضاتها بعده‪.‬‬

‫استعمال كلمة )الدين( في القرآن‬

‫فيتبين مما تقدم أن كلمة )الدين( قائم بنيانها على معان أربعة‪ ،‬أو بعبارة أخرى هي تمثل الذهن‬

‫العربي تصورات أربعة أساسية‪.‬‬

‫أولها‪ :‬القهر والغلبة من ذي سلطة عليا‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬الطاعة والتعبد والعبدية من قبل خاضع لذي السلطة‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬الحدود والقوانين والطريقة التي تتبع‪.‬‬

‫والرابع‪ :‬المحاسبة والقضاء والجزاء والعقاب‪.‬‬

‫وكانت العرب تستعمل هذه الكلمة قبل السلم بهذا المعنى تارة أخرى حسب لغاتهم المختلفة؛ إل أنهم‬

‫لما لم تكن تصوراتهم لتلك المور الربعة واضحة جلية ول كان لها من السمو والبعد نصيب‪ ،‬كان استعمال‬

‫كلمة )الدين( مشوبا‪ T‬بشوائب اللبس والغموض‪ ،‬ولذلك لم يتح لها أن تكون مصطلحا‪ T‬من مصطلحات نظام فكر‬

‫متين‪ ،‬حتى نزل القرآن فوجد هذه الكلمة ملئمة لغراضه؛ فاقتناها واستعملها لمعانيه الواضحة المتعينة‪،‬‬

‫واصطنعها مصطلحا‪ T‬له مخصوصا‪ .‬فأنت ترى أن كلمة )الدين( في القرآن تقوم مقام نظام بأكلمه‪ ،‬يتركب من‬
‫أجزاء أربعة هي‪:‬‬

‫‪7‬الحاكمية والسلطة العليا‪.‬‬

‫‪8‬الطاعة والذعان لتلك الحاكمية والسلطة‪.‬‬

‫‪9‬النظام الفكري والعملي المتكون تحت سلطان تلك الحاكمية‪.‬‬

‫‪10‬المكافأة التي تكافئها السلطة العليا على اتباع ذلك النظام والخلص له أو على التمرد عليه‬

‫والعصيان له‪.‬‬

‫ويطلق القرآن كلمة )الدين( على معنيها الول والثاني تارة‪ ،‬وعلى المعنى الثالث أخرى وعلى الرابع‬

‫ثالثة‪ ،‬وطورا‪ T‬يستعمل كلمة )الدين( ويريد بها ذلك النظام الكامل بأجزائه الربعة في آن واحد‪ .‬وليضاح ذلك‬

‫يجمل بنا النظر فيما يأتي من اليات الكريمة‪:‬‬

‫الدين بالمعنيين الول والثاني‪:‬‬

‫)ال الذي جعل لكم الرض قرارا‪ 3‬والسماء بناء‪ x‬وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم‬

‫ال ربكم فتبارك ال رب العالمين‪ ،‬هو الحي ل إله إل هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد ل رب العالمين(‬

‫)غافر‪(65-64 :‬‬

‫)قل إني أمرت أن أعبد ال مخلصا‪ 3‬له الدين‪ .‬وأمرت لن أكون أول المسلمين( ‪) ..‬قل ال أعبد‬

‫…‬ ‫مخلصا‪ 3‬له ديني‪ .‬فاعبدوا ما شئتم من دونه(‬

‫)والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى ال لهم البشرى( ‪) ..‬إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق‬

‫)الزمر‪ 12-11 :‬و ‪ ،17‬و ‪(3-2‬‬ ‫فاعبد ال مخلصا‪ 3‬له الدين‪ .‬أل ل الدين الخالص(‬

‫)النحل‪(52 :‬‬ ‫)وله ما في السماوات والرض وله الدين واصبا‪ 3‬أفغير ال تتقون(‬

‫)آل عمران‪:‬‬ ‫)أفغير دين ال يبغون وله أسلم من في السماوات والرض طوعا‪ 3‬وكرها‪ 3‬وإليه يرجعون(‬

‫‪(82‬‬

‫)البينة‪(5 :‬‬ ‫)وما أمروا إل ليعبدوا ال مخلصين له الدين حنفاء(‬

‫في جميع هذه اليات قد وردت كلمة )الدين( بمعنى السلطة العليا‪ ،‬ثم الذعان لتلك السلطة وقبول‬

‫إطاعتها وعبديتها‪ .‬والمراد بإخلص الدين ل أل يسلم المرء لحد من دون ال بالحاكمية والحكم والمر‪،‬‬
‫)(‬
‫ويخلص إطاعته وعبديته ل تعالى إخلصا‪ T‬ل يتعبد بعده لغيره ال ول يطيعه إطاعة مستقلة بذاتها‪.‬‬

‫الدين بالمعنى الثالث‬

‫)قل يا أيها الناس إن كنتم في شك‪ e‬من ديني فل أعبد) الذين تعبدون من دون ال ولكن أعبد ال الذي‬

‫)يونس‪-104 :‬‬ ‫يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين‪ .‬وأن أقم وجهك للدين حنيفا‪ 3‬ول تكونن من المشركين(‬

‫‪(105‬‬

‫)يوسف‪(40 :‬‬ ‫)إن الح)كم إل ل أمر أن ل تعبدوا إل إياه ذلك الدين القيم(‬

‫)وله من في السماوات والرض كل‪ u‬له قانتون( ‪..‬‬

‫)ضرب لكم مثل‪ 3‬من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء‬

‫)فأقم وجهك للدين حنيفا‪ 3‬فطرة‬ ‫علم(…‬ ‫)بل ات‪0‬بع الذين ظلموا أهواءهم بغير‬ ‫…‬ ‫تخافونهم كخيفتكم أنفسكم(‬

‫)الروم‪ 26 :‬و ‪،28‬‬ ‫ال التي فطر الناس عليها)( ل تبديل لخلق ال ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس ل يعلمون(‬

‫‪(30 ،29‬‬

‫)النور‪(2 :‬‬ ‫)الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ول تأخذكم بهما رأفة في دين ال(‬

‫)إن* عدة الشهور عند ال اثنا عشر شهرا‪ 3‬في كتاب ال يوم خلق السماوات والرض‪ ،‬منها أربعة‬

‫)التوبة‪(36 :‬‬ ‫حرم‪f‬ن ذلك الدين القيم(‬

‫)يوسف‪(76 :‬‬ ‫)كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك(‬

‫)النعام‪:‬‬ ‫)وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركاؤهم)( ليردوهم وليلبسوا)( عليهم دينهم(‬

‫‪(137‬‬

‫)الشورى‪(21 :‬‬ ‫)أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به ال(‬

‫)الكافرون‪(6 :‬‬ ‫)لكم دينكم ولي دين(‬

‫المراد بـ )الدين( في جميع هذه اليات هو القانون والحدود والشرع والطريقة والنظام الفكري‬

‫والعملي الذي يتقيد به النسان فإن كانت السلطة التي يستند إليها المرء لتباعه قانونا‪ T‬من القوانين أو نظاما‬

‫من النظم سلطة ال تعالى‪ ،‬فالمرء ل شك في دين ال عز وجل‪ ،‬وأما إن كانت تلك السلطة سلطة ملك من‬

‫الملوك‪ ،‬فالمرء في دين الملك‪ ،‬وإن كانت سلطة المشايخ والقسوس فهو في دينهم‪ .‬وكذلك إن كانت تلك‬
‫السلطة سلطة العائلة أو العشيرة أو جماهير المة‪ ،‬فالمرء ل جرم في دين هؤلء‪ .‬وموجز القول أن من يتخذ‬

‫المرء سنده أعلى السناد وحكمه منتهى الحكام ثم يتبع طريقا‪ T‬بعينه بموجب ذلك‪ ،‬فإنه –ل شك‪ -‬بدينه يدين‪.‬‬

‫الدين بالمعنى الرابع‪:‬‬

‫)الذاريات‪(6-5 :‬‬ ‫)إن; ما توعدون لصادق وإن الدين لواقع(‬

‫)الماعون ‪(3-1‬‬ ‫)أرايت الذي يكذب بالدين‪ .‬فذلك الذي يدع اليتيم‪ .‬ول يحض على طعام المسكين(‬

‫)وما أدراك ما يوم الدين‪ .‬ثم ما أدراك ما يوم الدين‪ .‬يوم ل تملك نفس‪ f‬لنفس‪ e‬شيئا‪ 3‬والمر يومئذ ل(‬

‫)النفطار‪(19-17 :‬‬

‫قد وردت كلمة )الدين( في هذه اليات بمعنى المحاسبة والقضاء والمكافأة‪.‬‬

‫الدين‪ :‬المصطلح الجامع الشامل‬

‫إلى هذا المقام قد استعمل القرآن كلمة )الدين( فيما يقرب من معانيها الرائجة في كلم العرب الول‪.‬‬

‫ولكننا نرى بعد ذلك أنه يستعمل هذه الكلمة مصطلحا‪ T‬جامعا‪ T‬شامل‪ T‬يريد به نظاما‪ T‬للحياة يدعن فيه المرء‬

‫لسلطة عليا لكائن ما‪ ،‬ثم يقبل إطاعته واتباعه ويتقيد في حياته بحدوده وقواعده وقوانينه ويرجو في طاعته‬

‫العزة والترقي في الدرجات وحسن الجزاء‪ ،‬ويخشى في عصيانه الذلة والخزي وسوء العقاب‪ .‬ولعله ل يوجد‬

‫)‬ ‫في لغة من لغات العالم مصطلح يبلغ من الشمول والجامعية أن يحيط بكل هذا المفهوم‪ .‬وقد كادت كلمة‬

‫تبلغ قريبا‪ T‬من ذلك المفهوم ولكنها تفتقر إلى مزيد من التساع لجل إحاطتها بحدود معاني كلمة‬ ‫‪(State‬‬

‫)الدين(‪ .‬وفي اليات التالية قد استعمل )الدين( بصفة هذا المصطلح الجامع‪:‬‬

‫)الثالث(‬ ‫)الرابع(‬ ‫)الول والثاني(‬

‫)قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر ول يحر*مون ما حر*م ال ورسوله ول يدينون دين‬

‫)التوبة‪(29 :‬‬ ‫الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد‪ e‬وهم صاغرون(‬

‫)الدين الحق( في هذه الية كلمة اصطلحية قد شرح معانيها واضح الصطلح نفسه عز وجل‪ ،‬في‬

‫الجمل الثلث الولى‪ ،‬وقد أوضحنا بوضع العلمات على متن الية أنه قد ذكر ال تعالى فيها جميع معاني‬
‫كلمة )الدين( الربعة‪ ،‬ثم عبر عن مجموعها بكلمة )الدين الحق(‪.‬‬

‫)وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع) رب*ه إني أخاف أن يبد*ل دينكم أو يظهر في الرض الفساد(‬

‫)غافر‪(26 :‬‬

‫وبملحظة جميع ما ورد في القرآن من تفاصيل لقصة موسى عليه السلم وفرعون‪ ،‬ل يبقى من شك‬

‫أن كلمة )الدين( لم ترد في تلك اليات بمعنى النحلة والديانة فحسب‪ ،‬أريد بها الدولة ونظام المدينة أيضا‪.T‬‬

‫فكان مما يخشاه فرعون ويعلنه‪ :‬أنه إن نجح موسى عليه السلم في دعوته‪ ،‬فإن الدولة ستدول وإن نظام‬

‫الحياة القائم على حاكمية الفراعنة والقوانين والتقاليد الرائجة سيقتلع من أصله‪ .‬ثم إما أن يقوم مقامه نظام‬

‫آخر على أسس مختلفة جدا‪ ،T‬وإما أل يقوم بعده أي نظام‪ .‬بل يعم كل المملكة الفوضى والختلل‪.‬‬

‫)آل عمران‪(16 :‬‬ ‫)إن الدين عند ال السلم(‬

‫)آل عمران‪(85 :‬‬ ‫)ومن يبتغ غير السلم دينا‪ 3‬فلن يقبل منه(‬

‫)التوبة‪(33 :‬‬ ‫)هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون(‬

‫)النفال‪(39 :‬‬ ‫)وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون الدين كله ل(‬

‫)إذا جاء نصر ال والفتح ورأيت‪ ,‬الناس يدخلون في دين ال أفواجا‪ 3‬فسبح بحمد ربك واستغفره إنه‬

‫)سورة النصر(‬ ‫كان توابا(‬

‫المراد بـ )الدين( في جميع هذه اليات هو نظام الحياة الكامل الشامل لنواحيها من العتقادية‬

‫والفكرية والخلقية والعملية‪.‬‬

‫فقد قال ال تعالى في اليتين الولين إن نظام الحياة الصحيح المرضي عند ال هو النظام المبني على‬

‫إطاعة ال وعبديته‪ .‬وأما ما سواه من النظم المبنية على إطاعة السلطة المفروضة من دون ال‪ ،‬فإنه مردود‬

‫عند‪ ،‬ولم يكن بحكم الطبيعة ليكون مرضيا‪ T‬لديه‪ ،‬ذلك بأن الذي ليس النسان إل مخلوقه ومملوكه‪ ،‬ول يعيش‬

‫في ملكوته إل عيشة الرعية‪ ،‬لم يكن ليرضى بأن يكون للنسان الحق في أن يحيا حياته على إطاعة غير‬

‫سلطة ال وعبديتها‪ ،‬أو على اتباع أحد من دون ال‪.‬‬

‫وقال في الية الثالثة أنه قد أرسل رسوله صلى ال عليه وسلم بذلك النظام الحق الصحيح للحياة‬

‫النسانية ‪-‬أي السلم‪ -‬وغاية رسالته أن يظهره على سائر النظم للحياة‪.‬‬

‫وفي الرابعة قد أمر ال المؤمنين بدين السلم أن يقاتلوا من في الرض ول يكفوا عن ذلك حتى‬
‫تمحي الفتنة‪ ،‬وبعبارة أخرى حتى يمحي جميع النظم القائمة على أساس البغي على ال‪ ،‬وحتى يخلص ل‬

‫تعالى نظام الطاعة والعبدية كله‪.‬‬

‫وفي الية الخيرة الخامسة قد خاطب ال تعالى نبيه صلى ال عليه وسلم حين النقلب السلمي بعد‬

‫الجهد والكفاح المستمر مدة ثلث وعشرين سنة‪ ،‬وقام السلم بالفعل بجميع أجزائه وتفاصيله نظاما‪ T‬للعقيد‬

‫والفكر والخلق والتعليم والمدنية والجتماع والسياسة والقتصاد‪ ،‬وجعلت وفود العرب تتابع من نواحي القطر‬

‫وندخل في حظيرة هذا النظام‪ ،‬فإذا ذاك – وقد أدى النبي رسالته التي بعث لجلها – يقول له ال تعالى‪ :‬إياك‬

‫أن تظن أن هذا العمل الجليل الذي قد تم على يديك من كسبك ومن سعيك‪ ،‬فيدركك العجب به‪ ،‬وإنما المنزه‬

‫عن النقص والعيب والمنفرد بصفة الكمال هو ربك وحده‪ ،‬فسبح بحمده واشكره على توفيقه إياك للقيام بتلك‬

‫المهمة الخطيرة وأسأله‪ :‬ال اغفر لي ما عسى أن يكون قد صدر مني من التقصير والتفريط في واجيي خلل‬

‫الثلث والعشرين سنة التي قد قمت بخدمتك فيها‪:‬‬

‫وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين‬

‫ملحق بتخريج الحاديث الواردة في الكتاب‬


‫)(‬

‫حديث عن عبد ال بن عمر‪-‬رضي ال عنهما‪-‬‬ ‫‪33‬‬ ‫‪ -1‬ص‬

‫تخريج الحديث‪:‬‬

‫رقم )‪ (5414‬طبعة أحمد محمد شاكر وأسناده صحيح ولفظه في موضع آخر من المسند )رقم ‪:(5608‬‬

‫قرأ رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الية وهو على المنبر )والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى‬

‫عما يشركون( قال‪ :‬يقول ال‪) :‬أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك‪ ،‬أنا المتعال الخ(‪ .‬وقد أخرجه مسلم )‪(8/126‬‬

‫من وجه آخر عن ابن عمر‪ ،‬ولفظه أقرب إلى لفظ الكتاب وهو‪" :‬يطوي ال عز وجل السماوات يوم القيامة‪،‬‬

‫ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول‪ :‬أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الرض بشماله‪ ،‬ثم يقول‪:‬‬

‫أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟"‪.‬‬

‫فتح الباري( عن طريق ثالث عن ابن عمر مختصرا‪ ،T‬ورواه أبو داود )‬ ‫)‪13/337‬‬ ‫ورواه البخاري‬

‫‪ (2/278‬بتمامه إل أنه قال )بيده الخرى( بدل )بشماله( وهو الموافق للحاديث القائلة‪) :‬وكلتا يديه يمين(‬

‫ولذلك أشار البهيقي – كما نقله الحافظ – إلى أن هذه اللفظة )بشماله( شاذة؛ وال أعلم‪.‬‬

‫‪ -2‬ص‪ ،96‬ورد في باب )التحقيق اللغوي( – وهو مختصر عما ورد في )لسان العرب(‪.‬‬
‫"وقد جاء في الحديث الشريف‪ :‬ثلثة أنا خصمهم‪ :‬رجل اعتبد محررا‪:"T‬‬

‫تخريج الحديث‬

‫لم أره بهذا اللفظ‪ ،‬بل هو ملفق من حديثين‪ ،‬أحدهما صحيح والخر ضعيف‪.‬‬

‫الول‪ :‬عن أبي هريرة رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬قال ال تعالى‪ :‬ثلثة أنا‬

‫خصمهم يوم القيامة‪ :‬رجل أعطى بي ثم غدر‪ ،‬ورجل باع حرا‪ T‬فأكل ثمنه‪ ،‬رجل استأجر أجيرا‪ T‬فاستوفى منه‬

‫ولم يعطه أجره"‪ .‬أخرجه البخاري )‪ (354 ،353 ،4/331‬ابن ماجه‪ ،‬والطحاوي في )مشكل الثار(‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬عن عبد ال بن عمرو مرفوعا‪" :T‬ثلثة ل يقبل ال منهم صلة‪ :‬من تقدم قوما‪ T‬وهم له‬

‫كارهون‪ ،‬ورجل أتى الصلة دبار‪T‬ا – والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته ‪ ،-‬ورجل اعتبد محرره‪ - ،‬وفي رواية‪:‬‬

‫محررا‪."T‬‬

‫أخرجه أبو داوود )‪ (1/97‬وابن ماجه )‪ (1/307‬والبهيقي )‪ (3/128‬وسنده ضعيف فيه عبد الرحمن بن‬

‫زياد الفريقي عن شيخه عمران بن عبد المعافري‪ ،‬وكلهما ضعيف‪ ،‬وذلك قال النووي‪" :‬أنه حديث ضعيف"‬

‫وسبقه إلى ذلك البهيقي‪ ،‬لكن القضية الولى منه صحت عنه صلى ال عليه وسلم في أحاديث أخرى وردت‬

‫بأسانيد صحيحة في سنن أبي داود‪ .‬وأما الرواية الخرى "أعبد محررا‪ "T‬فلم اقف عليها)(‪.‬‬

‫‪ -3‬ص‪ ،117‬ورد في باب )التحقيق اللغوي(‪" .‬وجاء في الحديث النبوي ‪" ...‬الكيس من دان فنسه‬

‫وعمل لما بعد الموت"‬

‫تخريج الحديث‬

‫أخرجه الترمذي )‪ (3/305‬وابن ماجه )‪ (2/565‬والحاكم )‪ (1/57‬وأحمد )‪ (4/124‬عن طريق أبي بكر بن‬

‫أبي مريم الغساني عن حمزة بن حبيب عن شداد بن أوس مرفوعا‪ .‬وقال الترمذي "حديث حسن"! وقال‬

‫الحاكم‪" :‬صحيح على شرط البخاري"! وتعقبه الذهبي بقوله‪" :‬قلت‪ :‬ل وال‪ ،‬أو بكر رواه" وقد أصاحب ‪-‬‬

‫رحمه ال ‪. -‬‬

‫‪ -4‬ص‪ ،117‬ورد في باب )التحقيق اللغوي( أيضا‪ T‬بينت من أرجوزة العشى الحرمازي يمدح رسول‬

‫ال صلى ال عليه وسم‪:‬‬

‫يا سيد الناس وديان العرب‬


‫تخريج الحديث‬

‫و ‪ (6886‬باسنادين أحدهما ضعيف‪،‬‬ ‫)‪6885‬‬ ‫أخرجه عبد ال بن المام أحمد في زوائد مسند أبيه‪ ،‬رقم‬

‫والخر فيه رجلن تفرد بتوثيقهما ابن حبان‪ ،‬ومن المعلوم عند العلماء أنه متساهل في التوثيق – كما بينه‬

‫الحافظ ابن حجر في مقدمة )لسان الميزان(‪.‬‬

‫ومع هذا فقد صحح هذا السناد المعلق على المسند الستاذ أحمد محمد شاكر على قاعدته التي جرى‬

‫عليها في تعليقه هذا وفي غيره من العتماد على توثيق ابن حبان خلفا‪ T‬للمحققين من العلماء‪.‬‬

‫‪ -5‬ص‪ ،118‬ورد في باب )التحقيق اللغوي( أيضا‪ T‬حديث الخوارج‪" :‬يمرقون من الدين مروق السهم‬

‫من الرمية"‪.‬‬

‫تخريج الحديث‬

‫أخرجه البخاري )‪ (254-12/238‬ومسلم )‪ (117-3/109‬عن طرق متعددة عن جماعة من الصحابة منهم‬

‫علي بن أبي طالب‪ ،‬وأبو سعيد الخدري‪ ،‬وعبد ال بن عمر‪ ،‬وجابر بن عبد ال – رضي ال عنهم ‪. -‬‬

‫ورد في باب )التحقيق اللغوي( أيضا‪" :T‬كانت قريش ومن دان بدينهم ‪" ..‬‬ ‫ص‪118‬‬ ‫‪-6‬‬

‫تخريج الحديث‬

‫هو من حديث عائشة رضي ال عنها قالت‪" :‬كان قريش دان‪ V‬دينها يقفون بالمزدلفة‪ ،‬وكانوا يسمون‬

‫الح_مس‪ ،‬وكان سائر العرب يقفون بعرفة‪ ،‬فلما جاء السلم أمر ال عز وجل نبيه صلى ال عليه وسلم أني‬

‫يأتي عرفات فيقف بها‪ ،‬ثم يفيض منها‪ ،‬فذلك قوله عز وجل "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"‪.‬‬

‫أخرجه البخاري )‪ (8/150‬ومسلم )‪ (4/43‬والبيهقي )‪ (5/113‬وغيرهم‪.‬‬

‫‪ ،118 -7‬ورد في باب )التحقيق اللغوي( أيضا‪) :T‬وفي الحديث أنه عليه السلم كان على دين قومه"‪.‬‬

‫تخريج الحديث‬

‫لم أجده بهذا اللفظ في شيء مما لدي من المراجع‪ ،‬وإنما أورده ابن الثير في "النهاية" مادة "دين" دون‬

‫عزو أو تخريج كما هي عادته في هذا الكتاب ‪. -‬‬

‫وأخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" )ج‪ 1‬ق‪ 1‬ص‪ (126‬بسند صحيح عن السدي في قوله تعالى‬

‫)ووجدك ضال‪ T‬فهدى( قال‪" :‬كان على أمر قومه أربعين عاما‪ "T‬وهذا إسناد ضعيف معضل‪ ،‬فإن بين السدي‬

‫وبينه صلى ال عليه وسلم آمادا‪ T‬طويلة‪ ،‬ثم هو منكر واضح النكارة‪ ،‬ول يحتاج المر للطالة‪ ،‬واقرب ما قيل‬
‫في تفسير الية المذكورة أنها كقوله تعالى‪) :‬وكذلك أوحينا إليك روحا‪ T‬من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ول‬

‫( – الية ‪.‬‬ ‫…‬ ‫اليمان‪ ،‬ولكن جعلناه نورا‪ T‬نهدي به من نشاء من عبادنا‬

‫‪ -8‬ص‪ ،119‬ورد في باب )التحقيق اللغوي( أيضا‪ :T‬في الحديث عن ابن عمر أنه صلى ال عليه وسلم‬

‫قال‪" :‬ل تسبوا السلطين‪ ،‬فإن كان لبد فقولوا‪ :‬اللهم دنهم كما يدينون"‪.‬‬

‫تخريج الحديث‬

‫لم أجده إل في )النهاية في غريب الحديث( لبن الثير‪ ،‬وقد أورده من حديث ابن عمرو‪ ،‬وأما حديث‬

‫ابن عمر فقد أورده الشيخ إسماعيل العجلوني في )كشف الخفاء( ‪ ،1/456‬بلفظ آخر وليس فيه موضع الشاهد‬

‫منه‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫موقعنا على النترنت‬


‫منبر التوحيد والجهاد‬

‫‪www.tawhed.com‬‬
‫موقعنا على النترنت‬
‫منبر التوحيد والجهاد‬
‫‪www.tawhed.com‬‬

You might also like