Professional Documents
Culture Documents
( )4/208
الشارب وإعفاء اللحية ،والسواك ،واستنشاق الماء ،وقص الظفار ،وغسل البَرَاجم ( ، )1ونتف
البط ،وحلق العانة ،وانتقاص الماء (الستنجاء) ،والمضمضة ،والختان وكونه العاشر أولى ،كما في
رواية أبي هريرة.
وأما المضاجعة :فل يجوز أن يجتمع رجل وامرأة غير زوجته في مضجع واحد ،ل متجردين ،ول
غير متجردين ،ول يجوز أن يجتمع رجلن ول امرأتان في مضجع واحد ،وقد نهي عن المكامعة أو
المكاعمة ومعناها المضاجعة التي ل ستر بينهما ( . )2وقد حرم الشافعية تلك المضاجعة بين رجلين
أو امرأتين عاريين في ثوب واحد.
ويجب التفريق بين الصبيان أو البنات في المضاجع بين ابن عشر سنين وإخوته وأخواته لخبر:
«مروا أولدكم بالصلة ،وهم أبناء سبع ،واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ،وفرقوا بينهم بالمضاجع»
( . )3
وتسن مصافحة الرجلين والمرأتين لقوله عليه السلم فيما يرويه الطبراني والبيهقي« :إن المؤمن إذا
لقي المؤمن ،فسلم عليه وأخذ بيده ،فصافحه ،تناثرت خطاياهما ،كما يتناثر ورق الشجر» .ولخبر:
«ما من مسلمين يلتقيان يتصافحان إل غفر لهما قبل أن يتفرقا» ( )4والسنة في المصافحة بكلتا يديه.
قال النووي في الذكار :اعلم أن المصافحة مستحبة عند كل لقاء ،وأما ما اعتاده الناس من المصافحة
بعد صلة الصبح والعصر ،فل أصل له في الشرع على هذا الوجه،
-------------------------------
( )1البراجم :هي عُقد الصابع ومفاصلها كلها ،ويلحق بها معاطف الذن وداخل النف وأي موضع
من البدن عليه وسخ مجتمع.
( )2روه ابن أبي شيبة عن عامر الحجري (نصب الراية.)257/4 :
( )3رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عمرو ،وهو حديث صحيح.
( )4رواه أبو داود والترمذي عن البراء (نصب الراية.)260/4 :
( )4/209
ولكن ل بأس به ،فإن أصل المصافحة سنة ،وتقييدها بما بعد الصبح والعصر عادة كانت في زمانه،
وإل فعقب الصلوات كلها كذلك .والراجح عند الحنفية جواز المصافحة مطلقا ولو بعد الصلوات.
وكره بعض الحنفية المصافحة بعد الصلة.
وتكره مصافحة من به عاهة كجذام أو برص (. )1
ويكره تحريما عند الحنفية تقبيل الرجل فم الرجل ،أو يده ،أو شيئا منه .وكذا تقبيل المرأة المرأة عند
لقاء أو وداع ،إذا كان عن شهوة ،أما لو كان على وجه البر ،فجائز.
وتكره عند الشافعية المعانقة والتقبيل في الرأس ،ولو كان أحدهما أو كلهما صالحا ،للنهي عن ذلك
في حديث رواه الترمذي ،إل لقادم من سفر ،أو تباعُد لقاء عرفا ،فيكون سنة؛ لحديث رواه الترمذي
أيضا.
ويكره حني الظهر مطلقا لكل أحد من الناس ،ويحرم تقبيل الرض بين يدي العلماء والعظماء .ول
بأس بتقبيل يد العالم والسلطان العادل ،وتقبيل رأس العالم أجود.
ويسن القيام لهل الفضل من علم أو صلح أو شرف ،أو نحو ذلك إكراما ،ل رياء وتفخيما ،قال
النووي في الروضة :قد ثبت فيه أحاديث صحيحة.
رابعا ـ اللهو :
اللعب :أ ـ يحرم بالتفاق كل لعب فيه قمار ( : )2وهو أن يغنم أحدهما ،ويغرم الخر ،لنه من
الميسر أي القمار الذي أمر ال باجتنابه في قوله تعالى{ :إنما الخمر والميسر والنصاب والزلم
رجس من عمل الشيطان ،فاجتنبوه } [المائدة .]90/5:ومن تكرر منه ذلك سقطت عدالته ،وردت
شهادته.
وإن أخرج أحدهما مالً على أنه إن غلب ،أخذ ماله ،وإن غلبه صاحبه ،أخذ المال ،لم يصح العقد؛
لنه ليس من آلت الحرب ،فل يصح بذل العوض فيه ،ول ترد به الشهادة ،لنه ليس بقمار ،كما
أبنت معناه.
ب ـ وما خل من القمار ،وهو اللعب الذي ل عوض فيه من الجانبين ول من أحدهما ،فمنه ما هو
محرم ،ومنه ما هو مباح ،لكن ل يخلو كل لهو غير نافع من الكراهة؛ لما فيه من تضييع الوقت
والنشغال عن ذكر ال وعن الصلة وعن كل نافع مفيد.
النرد :يحرم اللعب بالنرد ،وترد به الشهادة .وعبر عنه الحنفية :بالمكروه تحريما بحسب اصطلحهم
في كون دليل الحكم فيه ظنيا ،لما روى أبو موسى الشعري« :من لعب بالنرد فقد عصى ال
ورسوله» ( )3وروى بريدة أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :من لعب بالنردشير ،فكأنما غمس
يده في لحم الخنزير ودمه» (. )4
-------------------------------
( )1انظر الدرر المباحة في الحظر والباحة :ص 42ومابعدها ،مغني المحتاج ،135/3 :تكملة
الفتح ،120/8 :شرح الرسالة ،393/2 :الدر المختار.271-269/5 :
( )2انظر البدائع ،127/5:تكملة الفتح ،132/8 :القوانين الفقهية :ص ،194شرح الرسالة417/2، :
،420الشرح الكبير مع الدسوقي 198/1 :ومابعدها ،المهذب ،328-325/2 :المغني،176-170/9 :
الدر المختار ،337/3 ،279/5 :الفتاوى الهندية ،363/5 :تبيين الحقائق 13/6 :ومابعدها.
( )3رواه أحمد وأبو داود ومالك (المنتقى على الموطأ ،278/7 :نيل الوطار.)94:
( )4رواه أبو داود ،ولمسلم« :من لعب بالنردشير ،فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه» (نصب
الراية.)274/4 :
( )4/210
فمن تكرر منه اللعب به ،لم تقبل شهادته ،سواء لعب به قمارا أو غير قمار .وهذا باتفاق المذاهب
الربعة ،لنه إن لم يقامر ،فهو عبث ولهو ،وقال عليه السلم« :كل شيء ليس من ذكر ال ،فهو
لهو ،ولعب ،أو :وهو سهو ولغو ،إل أربعة :ملعبة الرجل امرأته ،وتأدي الرجل فرسه ،ومشي
الرجل بين الغرضين ،وتعلم الرجل السباحة» ( )1وقال صلّى ال عليه وسلم « :لست من دَد ،ول
الدّد مني» (. )2
ويحرم اللعب بالربعة عشر؛ لن المعول فيها على ما يخرجه الكعبان ( )3فشابه الزلم والنرد ،لكن
الحقيقة أن تحريم النرد (أي الطاولة) هو لنه اللعب الذي كان يدور عليه قمار أهل فارس.
الشطرنج :ويحرم عند الجمهور غير الشافعية أيضا الشطرنج ،قال علي رضي ال عنه :الشطرنج من
الميسر .ومرّ علي رضي ال عنه بقوم يلعبون الشطرنج ،فقال :ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟
وقال الشافعية :يكره اللعب بالشطرنج ،لنه لعب ل ينتفع به في أمر الدين ،ول حاجة تدعو إليه ،فكان
تركه أولى .ول يحرم ،لنه روي اللعب به عن ابن عباس وابن الزبير ،وأبي هريرة ،وسعيد بن
المسيب رضي ال عنهم ،إذ لم يرد نص بتحريمه ،ول هو في معنى المنصوص عليه ،والصل في
الشياء الباحة .وقيل :فيه تشحيذ الخواطر ،وتذكية الفهام.
-------------------------------
( )1أخرجه النسائي من حديث جابر بن عبد ال ،وفيه أحاديث أخرى عن عقبة بن عامر ،وأبي
هريرة ،وعمر بن الخطاب .والمشي بين الغرضين أو الهدفين أي تعلم الرماية (نصب الراية273/4 :
ومابعدها).
( )2روي من حديث أنس ،ومعاوية بن أبي سفيان ،روى الول البخاري وغيره ،وروى الثاني
الطبراني (تخريج أحاديث التحفة .)4697/3 :والدد :اللعب.
( )3الكعاب :هي فصوص النرد.
( )4/211
وإن كان على عوض من الجانبين أو من جانب واحد يأخذه الغالب من المغلوب ،فهو حرام ،كما
ذكرت في بدء بحث اللهو.
الغناء وآلته :قال بعض الحنفية وبعض الحنابلة :يحرم الغناء وسماعه من غير آلة مطربة ،لما روى
ابن مسعود أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :الغناء ينبت النفاق في القلب» (. )1
وقال بعض آخر من الحنفية والحنابلة ،والمالكية :يباح الغناء المجرد من غير كراهة .ويظهر أن رأي
هذا البعض هو الراجح.
وقال الشافعية :يكره الغناء وسماعه من غير آلة مطربة ،ول يحرم ،لما روي عن عائشة رضي ال
عنها ،قالت« :كانت عندي جاريتان تغنيان ،فدخل أبو بكر ،فقال :مزمار الشيطان في بيت رسول ال
صلّى ال عليه وسلم ؟ فقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم :دعهما ،فإنها أيام عيد» ( . )2وقال
عمر :الغناء زاد الراكب .والخلصة :أن الغزالي في بعض تآليفه نقل التفاق على حل مجرد الغناء
من غير آلة (. )3
وأما اللت :فيحرم في المشهور من المذاهب الربعة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) استعمال
اللت التي تطرب كالعود والطنبور والمعزفة والطبل والمزمار والرباب وغيرها من ضرب الوتار
والنايات والمزامير كلها (. )4
-------------------------------
( )1الصحيح أنه من قول ابن مسعود (المغني.)175/9 :
( )2متفق عليه.
( )3نيل الوطار ،101/8:الحياء 238/2 :ومابعدها.
( )4انظر بحث السماع في الحياء للغزالي 268-237/2 :ويلحظ أن الغزالي أباح سماع القضيب
والطبل والدف وغيره ،ولم يستثن إل المعازف والوتار والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها ،ل
للذتها ،مثل البَرْبَط والطُنبُور .وانظر أيضا نيل الوطار ،105-100/8 :الشرح الصغير وحاشية
الصاوي 502/2 :ومابعدها.
( )4/212
فمن أدام استماعها ،ردت شهادته ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :ليكونن من أمتي أقوام يستحلون
الخمر والخنازير والخز والمعازف» ( )1وفي لفظ « :ليشربن ناس من أمتي الخمر ،يسمونها بغير
اسمها ،يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات ،يخسف ال بهم الرض ،ويجعل منهم القردة
والخنازير» (. )2
واستدلوا على تحريم المعازف من القرآن بقوله تعالى{ :ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل
عن سبيل ال } [لقمان ]6/31:قال ابن عباس :إنها الملهي.
وبالمعقول :وهو أن هذه اللت تطرب ،وتدعو إلى الصد عن ذكر ال تعالى وعن الصلة ،وإلى
إتلف المال ،فحرمت كالخمر.
ويكره عند الشافعية والحنابلة القضيب الذي يزيد الغناء طربا ،ول يطرب إذا انفرد ،لنه تابع للغناء،
فكان حكمه حكم الغناء ،أي أنه مكروه إذا انضم إليه محرم أو مكروه كالتصفيق والغناء والرقص.
وإن خل عن ذلك لم يكره ،لنه ليس بآلة ول يطرب ،ول يسمع منفردا بخلف الملهي.
وأباح مالك والظاهرية وجماعة من الصوفية السماع ولو مع العود واليراع .وهو رأي جماعة من
الصحابة (ابن عمر ،وعبد ال بن جعفر ،وعبد ال بن الزبير ،ومعاوية ،وعمرو بن العاص وغيرهم)
وجماعة من التابعين كسعيد بن المسيب.
وأما الرقص الذي يشتمل على التثني والتكسر والتمايل والخفض والرفع بحركات موزونة فهو حرام
ومستحله فاسق.
-------------------------------
( )1رواه البخاري.
( )2رواه ابن ماجه (نيل الوطار في الحديثين )96/8 :وروى الترمذي حديثا عن علي« :إذا فعلت
أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلء ،وفيه :وشربت الخمور ،ولبست الحرير ،واتخذت القيان
والمعازف» لكنه حديث غريب( ،نيل الوطار.)99/8 :
( )4/213
وأما اللعب المباح :فهو ـ كما سأبين في بحث السبق ـ المسابقة المشروعة بالخيل وغيرها من
الحيوانات ،أو التدرب على السلح .ويجوز ذلك على عوض من غير المتسابقين ،أو من واحد منهما
يأخذه السابق.
ويجوز الغناء المباح وضرب الدف ( )1في العرس والختان ،لقوله صلّى ال عليه وسلم« :أعلنوا
النكاح ،واضربوا عليه بالغربال» )2( .
وتحرم الغاني المهيجة للشرور المشتملة على وصف الجمال والفجور ومعاقرة الخمور في الزفاف
وغيره ،ويحرم كل الملهي المحرمة (. )3
وحكى الرُوياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة الغناء بالمعازف ،وهو مذهب الظاهرية.
ول خلف بين أهل المدينة في إباحة العود ( ، )4وبه قال بعض الشافعية .ودليلهم على الباحة :أنه
لم تصح عندهم أحاديث المنع .قال الفاكهاني :لم أعلم في كتاب ال ،ول في السنة حديثا صحيحا في
تحريم الملهي ،وإنما هي ظواهر وعمومات يتأنس بها ،ل أدلة قطعية (. )5
وأقول :إن الغاني الوطنية أو الداعية إلى فضيلة ،أو جهاد ،ل مانع منها ،بشرط عدم الختلط،
وستر أجزاء المرأة ما عدا الوجه والكفين .وأما الغاني المحرضة على الرذيلة فل شك في حرمتها،
حتى عند القائلين بإباحة الغناء ،وعلى التخصيص منكرات الذاعة والتلفاز الكثيرة في وقتنا الحاضر.
-------------------------------
( )1وهو المدور من وجه واحد كالغربال .وأما المدور من وجهين وهو المزهر ففيه عند المالكية
أقوال ثلثة :الجواز ،والمنع ،والكراهة.
( )2رواه ابن ماجه عن عائشة (نيل الوطار.)187/6 :
( )3نيل الوطار .188/6 :
( )4نيل الوطار.150-100/8 :
( )5نيل الوطار.104/8 :
( )4/214
ول شك بأن المتناع عن السماع في الوقت الحاضر أولى؛ لن في ذلك شبهة؛ والمؤمنون وقافون
عند الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح ،ومن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ،ومن حام
حول الحمى يوشك أن يقع فيه ،ولسيما إذا كان مشتملً على ذكر القدود والخدود ،والجمال والدلل،
والهجر والوصال ،ومعاقرة الراح (الخمر) ،كما ذكر الشوكاني (. )1
ول بأس بسماع الموسيقا لعلج بعض المراض النفسانية ،أو العصبية.
ضابط ما يجوز وما يحرم من اللهو واللعب عند الشافعية :
الضابط المميز للهو واللعب عند الشافعية :هو أن كل ما ل يترك أثرا نافعا فهو مباح ،وكل ما يترك
أثرا ضارا فهو حرام.
وأساس التفرقة في أنواع اللعب :هو أن ما يقوم على تشغيل الذهن وتحريك الفكر كالشطرنج فهو
مكروه ،وكل ما يقوم على المصادفة وحجب الفكر والعقل كالنرد فهو حرام.
وعلى هذا يكون السترسال في مجالس اللهو والمزاح مكروها ،فإن انضم إليه الكذب أو التهاون في
الخلق فهو حرام.
وتكون مجالس الغناء المقرونة باللت الموسيقية حراما ،والشطرنج مكروه لنه رياضة للذهن ،فإن
فوت الواجبات الدينية فهو حرام ،ولعب الشدّة أو الورق مكر وه لنه يلهي عن ذكرال ويصبح حراما
إن كان على شرط المال .والنرد حرام ولو بغير قمار أو عوض مالي لعتماده على المصادفة ،وذلك
يترك أثرا ضارا في النفس؛ لنه يجعل العقل يتخيل كون المصادفة مؤثرة في أعمال الحياة.
-------------------------------
( )1نيل الوطار.105/8 :
( )4/215
وتحريش الديكة على بعضها ،ودفع المواشي إلى التناطح ومصارعة الثيران والمصارعة الحرة
والملكمة ونحوها حرام ،لما تحدثه من أضرار في حياة النسان أو الحيوان ،فإن لم يكن في الملكمة
أو المصارعة ضرر بأحد الطرفين كانت مباحة ،وكذلك تباح إن كان فيها تعويد النسان على القوة
والقتال والدفاع عن النفس ،وقد صارع رسول ال صلّى ال عليه وسلم رُكانة وغلبه (. )1
فإن كان اللهو على مال مشروط من أحد الطرفين أو من الطرفين أو من أجنبي عنهما فهو حرام؛
لنه من الميسر الذي يحرم تعاطيه.
وأما ما رواه أبو داود في مراسيله« :أن النبي صلّى ال عليه وسلم صارع ركانة إذ كان مشركا،
على شياه» فهذا كان في الجاهلية قبل إسلم ركانة ،وقد رد النبي صلّى ال عليه وسلم الشياه الثلث
على ركانة قائلً له« :ما كنا لنجمع عليك أن نصرعك فنغرمك ،خذ غنمك» .
ويكره اللعب بالحمام عند جماعة من العلماء لنه من اللهو الذي لم يؤذن فيه ،وربما يكون حراما؛ لما
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة :أن النبي صلّى ال عليه وسلم رأى رجلً يتبع
حمامة ،فقال« :شيطان يتبع شيطانة» .
الحداء والشعر :وأما الحداء وهو النشاد الذي تساق به البل ،فمباح ،ل بأس في فعله واستماعه .وقد
أقره النبي صلّى ال عليه وسلم ،كما أقر نشيد العراب .فيجوز سائر أنواع النشاد ما لم يخرج إلى
حد الغناء ،وقد كان النبي صلّى ال عليه وسلم يسمع إنشاد الشعر ،فل ينكره (. )2
ويجوز قول الشعر ،لنه كان للنبي صلّى ال عليه وسلم شعراء منهم حسان وكعب بن مالك وعبد ال
بن رواحة ،وقد مدحوه ،وأعطى الرسول بردة كانت عليه كعب بن زهير لما أنشده القصيدة اللمية:
بانت سعاد.
-------------------------------
( )1رواه أبو داود.
( )2راجع المهذب 327/2 :ومابعدها ،المغني ،176/9 :الحياء.109/3 :
( )4/216
وحكم الشعر حكم الكلم في حظره وإباحته ،وكراهيته واستحبابه ورد الشهادة به ،فحسنه كحسنه،
وقبيحه كقبيحه ،قال النبي صلّى ال عليه وسلم « :إن من الشعر لحكما» ( )1وقال أيضا« :الشعر
بمنزلة الكلم :حسنه كحسن الكلم ،وقبيحه كقبيح الكلم» (. )2
تلحين القرآن :ل بأس بقراءة القرآن من غير تلحين .والفضل تحسين الصوت بالقرآن ،لقوله صلّى
ال عليه وسلم « :زينوا القرآن بأصواتكم» أو «زينوا أصواتكم بالقرآن» (. )3
أما القراءة بالتلحين :فإن لم يفرط في التمطيط والمد وإشباع الحركات ،فل بأس به لن النبي صلّى
ال عليه وسلم قد قرأ ورجّع ورفع صوته.فإن جاوز الحد في التطويل وإدغام بعضه في بعض ،كان
مكروها (. )4
خامسا ـ التصوير :
التصوير في أصل اللغة العربية :معناه النشاء والترتيب والتمييز ،ومنه «المصوّر» أحد أسماء ال
تعالى :وهو الذي صوّر جميع الموجودات ورتّبها ،فأعطى كلّ شيء منها صورة خاصة ،وهيئة
منفردة يتميز بها على اختلفها وكثرتها ( . )5ومنه قوله تعالى{ :ثم صوّرناكم} [العراف]7/11:
{وصوّركم
-------------------------------
( )1رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس بلفظ« :إن من البيان سحرا ،وإن من الشعر حكما.
( )2رواه البخاري في الدب والطبراني في الوسط عن ابن عمرو ،ورواه أبو يعلى عن عائشة
(الفتح الكبير).
( )3رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن البراء بن عازب (الجامع
الصغير).
( )4المهذب ،328/2:المغني 179/9 :ومابعدها.
( )5النهاية لبن الثير .58/3
( )4/217
فأحسن صوركم} [التغابن{ ]3/64:في أي صورة ما شاء ركّبك} [النفطار{ ]8/82:هو الذي يصوّركم
في الرحام} [آل عمران .]6/3:ومنه قوله صلّى ال عليه وسلم « :خلق ال آدم على صورته ،وطوله
خصّ
ستون ذراعا» ( . )1قال الراغب الصفهاني في مفردات القرآن :فالصورة :أراد بها ما ُ
النسان بها من الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة ،وبها فضّله على كثير من خلقه (. )2
وكان التصوير الموجود في عهد النبوة الذي اتجه إليه النهي والتحريم هو الذي توافر فيه صفات
ثلث :صورة ماله روح من النسان والحيوان ،وقصد التعظيم ،ومضاهاة أو محاكاة خلق ال تعالى
وفعله .والحكمة من التحريم :منع التشبه بعبادة الوثان والصنام ،ومحاربة الشرك ،وتوفير التعظيم
ل وحده.
وأهم الحاديث الواردة في التصوير ما يلي:
- ً 1حديث امتناع الملئكة من دخول البيت الذي فيه كلب أو تصاوير :أخرج مسلم عن ابن عباس
يقول :سمعت أبا طلحة يقول :سمعت رسول ال صلّى ال عليه وسلم يقول« :ل تدخل الملئكة بيتا
فيه كلب ول صورة» أي ملئكة الرحمة والتبريك والستغفار .أما الحفظة فيدخلون في كل بيت ،ول
يفارقون بني آدم في كل حال؛ لنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم وكتابتها .قال العلماء :سبب امتناعهم
من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة ،وفيها مضاهاة لخلق ال تعالى .وأما الكلب فلكثرة أكله
النجاسات ( . )3وقال الخطابي :وإنما ل تدخل الملئكة بيتا فيه كلب أو صورة :مما يحرم اقتناؤه
من الكلب والصور ،فأما ما ليس بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية والصورة التي تمتهن في
البساط والوسادة وغيرهما ،فل يمتنع دخول الملئكة بسببه.
-------------------------------
( )1رواه أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة ،والمعنى :خلق ال آدم على صورة آدم التي كان
عليها من مبدأ فطرته إلى موته ،لم تتفاوت قامته ولم تتغير هيئته بخلف بنيه ،فإن كلً منهم يكون
نطفة ثم مضغة ثم عظاما وأعصابا ،ثم يمر بأطوار الطفولة والبلوغ والشباب والشيخوخة.
( )2معجم مفردات ألفاظ القرآن :ص .297
( )3شرح مسلم للنووي .14/84
( )4/218
- ً 2حديث القرام :أخرج مسلم أيضا عن عائشة قالت :دخل علي رسول ال صلّى ال عليه وسلم
وأنا متسترة بِقرَام ( )1فيه صورة ،فتلوّن وجهه ،ثم تناول الستر فهتكه ،ثم قال« :إن من أشد الناس
عذابا يوم القيامة الذين يُشَبّهون بخَلْق ال » ( )2وهذا الحكم المتعلق بالقرام كان في أول المر ،ثم
ُرخّص فيه بعدئذ ،بدليل رواية أخرى كما ذكرها مسلم لخالد الجهني فيها زيادة« :إل ما كان رقما في
ثوب» وكذلك رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) في حديث أبي طلحة« :إل رقما في ثوب» .
ويؤيد الترخيص المتأخرحديث آخر :هو ما أخرجه مسلم عن عائشة قالت« :كان لنا ستْر فيه تمثال
طائر ،وكان الداخل إذا دخل استقبله ،فقال لي رسول ال صلّى ال عليه وسلم :حوّلي هذا ،فإني كلما
دخلت فرأيته ،ذكرت الدنيا» قالت :وكانت لنا قطيفة كنا نقول :عََلمُها حرير ،فكنا نَلْبَسُها .قال
الطحاوي :إنما نهى الشارع أولً عن الصور كلها ،وإن كانت رقما؛ لنهم كانوا حديث عهد بعبادة
الصور ،فنهى عن ذلك جملة ،ثم لما تقرر نهيه عن ذلك ،أباح ما كان رقما في ثوب للضرورة إلى
اتخاذ الثياب ،وأباح ما يمتهن؛ لنه يأمن على الجاهل تعظيم ما يمتهن ،وبقي النهي فيما ل يمتهن.
- ً 3حديث النّمرقة ( : )3أخرج مسلم عن عائشة « :أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير ،فلما رآها
رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،قام على الباب ،فلم يدخل ،فعَرَفتُ ـ أو
-------------------------------
( )1القرام :الستر الرقيق كالشراشف الحالية والبطانيات .
( )2شرح المسلم 87/ 14وما بعدها .
( )3الّنمُرقة :الوسادة الصغيرة .
( )4/219
فعُرفت ـ في وجهه الكراهية ،فقالت :يا رسول ال ،أتوب إلى ال وإلى رسوله فماذا أذنبت؟ فقال
رسول ال صلّى ال عليه وسلم :ما بال هذه النمرقة؟ فقالت :اشتريتُها لك تقعُد عليها وتوَسّدها ،فقال
رسول ال صلّى ال عليه وسلم :إن أصحاب هذه الصور يعذّبون ،ويقال لهم :أحيوا ما خلقتم» .ثم
قال « :إن البيت الذي فيه الصور ل تدخله الملئكة» ( . )1وهذا واضح الدللة في أن التحريم
منصب على المصورين الذين يصورون صور الجسام ذات الروح إذا كانت بحالة يضاهى بها خلق
ال .
- ً 4تحدي المصورين :أخرج مسلم عن أبي زُرعة قال :دخلت مع أبي هريرة في دار مروان،
فرأى فيها تصاوير ،فقال :سمعت رسول ال صلّى ال عليه وسلم يقول :قال ال عز وجل« :ومن
أظلم ممن ذهب يخلُق خلقا كخَلْقي ،فليخلُقوا ذَرّة ،أو ليخلقوا حبّة أو ليخلقوا شعيرة» (. )2
- ً 5أخرج البخاري « أن النبي لمصلّى ال عليه وسلم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب ( )3إل
نفضه» .
آراء العلماء في التصوير :
قال النووي مبينا آراء العلماء ( : )4تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم ،وهو من الكبائر؛
لنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الحاديث ،وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره،
فصنعته حرام بكل حال؛ لن فيه مضاهاة لخلق ال تعالى ،وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم
أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها.
وأما تصوير صورة الشجر ورحال البل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان ،فليس بحرام .هذا
حكم التصوير نفسه.
-------------------------------
( )1شرح المسلم 89/ 14وما بعدها .
( )2المرجع السابق 93/ 14 :وما بعدها .
( )3التصاليب :صور الصليب .
( )4شرح مسلم ،المرجع السابق 14/81 :وما بعدها .
( )4/220
وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان ،أي تعليقه ونصبه في المنازل وغيرها ،فإن كان معلقا على
حائط أو ثوبا ملبوسا أو عمامة ونحو ذلك مما ل يعد ممتهنا ،فهو حرام.
وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن ،فليس بحرام ،ولفرق في هذا كله بين ما
له ظل وما ل ظل له .وهذا رأي الشافعية وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ،وهو
مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم.
ووجود الصور يمنع دخول ملئكة الرحمة ذلك البيت إذا كان فيه كلب أو صورة مما يحرم اقتناؤه
من الكلب والصور ،دون غيره مما ليس بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية والصورة التي
تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما ،فل يمتنع دخول الملئكة بسببه ،كما تقدم بيانه.
وقال بعض السلف :إنما ينهى عما كان له ظل ،ول بأس بالصورالتي ليس لها ظل ،قال النووي:
وهذا مذهب باطل ،فإن الستر الذي أنكر النبي صلّى ال عليه وسلم الصورة فيه ل يشك أحد أنه
مذموم ،وليس لصورته ظل ،مع باقي الحاديث المطلقة في كل صورة .وقال الزهري :النهي في
الصورة على العموم ،وكذلك استعمال ما هي فيه ،ودخول البيت الذي هي فيه ،سواء كانت رقما في
ثوب أوغير رقم ،وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن ،عملً بظاهر
الحاديث ،ل سيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم .قال النووي :وهذا مذهب قوي .وقال آخرون:
يجوز منها ما كان رقما في ثوب ،سواء امتهن أم ل ،وسواء علق في حائط أم ل ،وكرهوا ما كان له
ظل ،أو كان مصورا في الحيطان وشبهها ،سواء كان رقما أو غيره .واحتجوا بحديث «إل ما كان
رقما في ثوب» وهذا مذهب القاسم بن محمد.
وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره .قال القاضي عياض :إل ما ورد في اللعب بالبنات
لصغار البنات ،والرخصة في ذلك.
( )4/221
ونقل ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري عن ابن العربي رأيه في اتخاذ الصور قائلً :حاصل ما
في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالجماع .وإن كانت رقما فأربعة أقوال:
الول ـ يجوز مطلقا ،عملً بحديث« :إل رقما في ثوب» .
الثاني ـ المنع مطلقا.
الثالث ـ إن كانت الصورة باقية الهيئة ،قائمة الشكل حرم ،وإن كانت مقطوعة الرأس أو تفرقت
الجزاء ،جاز ،قال ابن حجر :وهو الصح.
الرابع ـ إن كانت مما يمتهن جاز ،وإل لم يجز.
خلصة الرأي في التصوير :
تحرم الصور ذات الظل وكل الصور المجسّدة والتماثيل لكل ذي روح من إنسان أو حيوان ،لجماع
العلماء على ذلك ،ويحرم صنع التماثيل ونصبها في أي مكان ،لما أخرجه الشيخان أن رسول ال
صلّى ال عليه وسلم قال« :إن الملئكة ل تدخل بيتا فيه تماثيل» ،وتباح صور النباتات والمناظر
الطبيعية الكونية من السماء والرض والحدائق والجبال والبحار والنهار ،والشياء الجامدة من
طائرات وسيارات وغير ذلك من الكائنات المخلوقة وليست بذات روح؛ لنها ليست مما تناولها النص
النبوي بإشارة « يشبّهون بخلق ال » وبإشارة «يقال لهم :أحيوا ما خلقتم» .
أما الصور المجسّمة على المخاد والوسائد والستائر والبسط والفرش والبطائن فل مانع منها ،لنها
ممتهنة .وتباح عند بعض العلماء اللوحات الزيتية ونقوش الحيطان ،والرسوم على الورق ،والصور
المطبوعة أو المنسوجة في الملبس والستور ،والمطرزات والموشّاة والمشغولة بأنواع الخيوط ونحو
ذلك مما ل ظل له.
( )4/222
وتباح صور لعب الطفال المختلفة من أنواع الشموع والمعادن كالعرائس ونحوها ،ويجوز بيعها ،لما
أخرجه البخاري وأبو داود عن عائشة قالت« :كنت ألعب بالبنات ( ، )1فربما دخل علي رسول ال
صلّى ال عليه وسلم وعندي الجواري ( ، )2فإذا دخل خرجن ،وإذا خرج دخلن» وأخرج أبو داود
والنسائي حديثا آخر مشابها لهذا الحديث ،أقر فيه الرسول صلّى ال عليه وسلم ما وجده عند عائشة
من بنات ُلعَب ،بعد عودته من غزوة تبوك أو خيبر ،قال ابن حزم :وجائز للصبايا خاصة اللعب
بالصور ول يحل لغيرهن ،والصور محرمة إل هذا ،وإل ما كان رقما في ثوب.
وتباح الصور إذا كانت بحالة ل تعيش بها كمقطوعة الرأس أو الصور النصفية ،والولى عدم إقامتها
أو نصبها في أي مكان في المنزل وغيره.
قال الكاساني من الحنفية (: )3وتكره (أي كراهة تحريم) التصاوير في البيوت ،لما روي عن رسول
ال صلّى ال عليه وسلم عن سيدنا جبريل عليه الصلة والسلم أنه قال« :ل تدخل الملئكة بيتا فيه
كلب أو صورة» ولن إمساكها تشبّه بعبدة الوثان إل إذا كانت على البسط أو الوسائد الصغار التي
تلقى على الرض ليجلس عليها ،فل تكره؛ لن دوسها بالرجل إهانة لها ،فإمساكها في موضع
الهانة ل يكون تشبها بعبدة الصنام إل أن يسجد عليها ،فيكره لحصول معنى التشبه.
-------------------------------
( )1البنات :صور للبنات تستعمل للعب والتسلية.
( )2الجواري :جمع جارية وهي الشابة الصغيرة.
( )3البدائع 126/5 :ومابعدها.
( )4/223
ويكره التصوير على الستور وعلى الزر المضروبة على الحائط وعلى الوسائد الكبار وعلى السقف؛
لما فيه من تعظيمها ،فإذا لم يكن لها رأس ،فل بأس؛ لنها ل تكون صورة ،بل نقشا ،فإن قطع الرأس
بأن خاط على عنقه خيطا ،فذاك ليس بشيء؛ لنها لم تخرج عن كونها صورة ،بل ازدادت حلية
كالطوق لذوات الطواق من الطيور .ثم المكروه أي تحريما :صورة ذي الروح ،فأما صورة مال
روح له من الشجار والقناديل ونحوها ،فل بأس به.
أما التصوير الشمسي أو الخيالي فهذا جائز ،ول مانع من تعليق الصور الخيالية في المنازل وغيرها،
إذا لم تكن داعية للفتنة كصور النساء التي يظهر فيها شيء من جسدها غير الوجه والكفين ،كالسواعد
والسيقان والشعور ،وهذا ينطبق أيضا على صور التلفاز وما يعرض فيه من رقص وتمثيل وغناء
مغنيات ،كل ذلك حرام في رأيي.
وأما أعمال النحت والرسم للنساء العاريات التي يقوم بها طلب كليات الفنون الجميلة فهي من أشد
المحرمات والكبائر ،ول يصح قياس الرسم على تشريح الجثث في كليات الطب ،لن التشريح
ضرورة علمية تحقق فائدة الحفاظ على حياة النسان ،بعكس الرسم الذي هو مجرد عمل ترفيهي
كمالي ،كما أن التشريح يحدث بعد الموت ،والرسم يتم في حال الحياة.
والسبب في إباحة الصور الخيالية :أن تصويرها ل يسمى تصويرا لغة ول شرعا ،لما تقدم من بيان
معنى التصوير في عهد النبوة ،ولن هذا التصوير يعد حبسا للظل أو الصورة ،مثل الصورة في
المرآة والصورة في الماء ،كل مافي المر أن صورة المرآة أو الماء متحركة غير ثابتة ،والصور
الخيالية تثبّت بالحماض الكيمياوية ونحوها ،وهذا ل يسمى تصويرا في الحقيقة ،فإن الحمض هو
المانع من النتقال والتحرك (. )1
-------------------------------
( )1تفسير آيات الحكام للشيخ الستاذ محمد علي السايس .61/4
( )4/224
( )4/225
ويكره القَزَع :وهو حلق رأس الصبي وترك مواضع منه متفرقة غير محلوقة تشبيها بقزع السحاب،
قال النووي :والقزع حلق بعض الرأس مطلقا ،وهو الصح.
ويجوز اتخاذ الشعر ،لما روى الخمسة إل النسائي عن عائشة رضي ال عنها قالت« :كان شعر
جمّة» (. )1
رسول ال صلّى ال عليه وسلم فوق الوَفرة ودون ال ُ
ومن اتخذ شعرا يندب له ترجيله (تمشيطه) وإكرامه ،روى أبو داود عن أبي هريرة رضي ال عنه
أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :من كان له شعر فليكرمه» وفيه دللة على استحباب إكرام الشعر
بالدهن والتسريح وإعفائه عن الحلق؛ لنه يخالف الكرام إل أن يطول ،أخرج مالك عن عطاء بن
يسار قال« :أتى رجل النبي ثائر الرأس واللحية ،فأشار إليه رسول ال صلّى ال عليه وسلم كأنه
يأمره بإصلح شعره ولحيته ،ففعل ،ثم رجع،فقال صلّى ال عليه وسلم :أليس هذا خيرا من أن يأتي
أحدكم ثائر
-------------------------------
( )1الوفرة :الشعر المجتمع على الرأس أو ما سال على الذنين منه أو ما جاوز شحمة الذن.
والجمة :دون ذلك ،وهي مجتمع شعر الرأس.
( )4/226
( )4/227
واختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وجنسه ،فقال بعضهم :ترك الخضاب أفضل،
لحديث في النهي عن تغيير الشيب ،ولنه صلّى ال عليه وسلم لم يغير شيبه ( . )1وقال آخرون:
الخضاب أفضل ،فقد خضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للحاديث الواردة في ذلك.
ثم اختلف هؤلء ،فكان أكثرهم يخضب بالصفرة ،أي الشقرة ،منهم ابن عمرو وأبو هريرة وآخرون،
وروي ذلك عن علي.
وخضب جماعة منهم بالحناء والكتم ،وبعضهم بالزعفران.
وخضب جماعة بالسواد ،روي ذلك عن عثمان والحسن والحسين ابني علي ،وعقبة بن عامر وابن
سيرين وأبي بردة وآخرين (. )2
والصواب جواز تغيير الشيب وجواز تركه ،وجواز الخضاب بأي لون كان ،مع كراهة الخضاب
بالسواد.
ويحرم كما تقدم وصل الشعر بشعر آدمي آخر على الرجال والنساء اليامى والمتزوجين ،للتجمل
وغيره ،بل خلف ،سواء كان شعر رجل أو امرأة ،وسواء شعر المَحْرم والزوج وغيرهما بل
خلف ،لعموم الدلة ،ولنه يحرم النتفاع بشعر الدمي وسائر أجزائه لكرامته ،بل يدفن شعره
وظفره وسائر أجزائه.
فإن وصلته بشعر غير آدمي :فإن كان شعرا نجسا ،وهو شعر الميتة وشعر ما ل يؤكل لحمه إذا
انفصل في حياته ،فهو حرام أيضا للحديث التي بلعن الواصلة والمستوصلة ،ولنه حمل نجاسة في
صلتها وغيرها عمدا.
وأما الشعر الطاهر من غير الدمي ،والشعر الصناعي :فإن لم يكن لها زوج ول سيد ،فهو حرام
أيضا ،وإن كان لها زوج فإن فعلته بإذنه جاز ،وإن فعلته بغير إذنه ،لم يجز ،وعلى هذا يكون ارتداء
«الباروكة» جائزا للرجل ،وللمرأة بإذن زوجها.
ويجوز عند الشافعية والليث والقاضي عياض وصل الشعر بخيوط من الحرير الملونة؛ لنه ل يأخذ
حكم الوصل ،إنما هو لمجرد الزينة أو التجمل والتحسين ،وقال مالك والطبري وكثيرون :الوصل
ممنوع بكل شيء ،سواء وصلته بشعر أو صوف أو خرق ،لحديث جابرعند مسلم « :أن النبي
-------------------------------
( )1روي هذا عن عمر وعلي وأبي بكر وآخرين.
( )2نيل الوطار.118/1 :
( )4/228
( )4/229
ودليل تحريم هذه الثلثة (الوشم والنمص والتفليج) :الحديث المتفق عليه بين أحمد والشيخين عن عبد
ال بن مسعود رضي ال عنه قال« :لعن ال الواشمات والمستوشمات ،والمتنمصات ،والمتفلجات
للحسن ،المغيّرات خلق ال تعالى» وقال« :ما لي ل ألعن من لعن رسول ال صلّى ال عليه وسلم » .
وهناك أحاديث أخرى عن ابن عمر وغيره في الموضوع (.. )1
تاسعا ـ الترجل والتخنث :
يحرم أيضا تشبه الرجال بالنساء في اللباس والزينة ،كالساور والعقود (الطواق) والقراط ،وتشبه
النساء بالرجال في الكلم ،والمشي ،وحلق الشعر وتكلف الخشونة والرجولة ،وهن المترجلت:
المتشبهات من النساء بالرجال .ويحرم التخنث أيضا :وهو تشبه الرجال بالنساء في المشي والتكسر
ولين الكلم ورقة الصوت والتزين بالحناء ونحو ذلك من أنواع «المكياج» والتحمير والتبييض
وتطريف الصابع ،لكن يستحب الخضاب للنساء بالحناء ونحوه ،وأما التحمير ونحوه فيجوز بإذن
الزوج وفي داخل البيت ،ويحرم بغير إذن الزوج وخارج المنزل .والدليل ما أخرجه أحمد والبخاري
عن أنس قال« :لعن رسول ال صلّى ال عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء ،والمتشبهات من
النساء بالرجال» وفي رواية« :لعن رسول ال صلّى ال عليه وسلم المخنثين من الرجال،
والمترجّلت من النساء ،وقال :أخرجوهم من بيوتكم ،فأخرج النبي صلّى ال عليه وسلم فلنة،
وأخرج عمر فلنا» .وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة قال« :أتي رسول ال صلّى ال عليه
وسلم بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء ،فقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم :ما بال هذا؟
قالوا :يتشبه بالنساء ،فأمر به فنفي إلى النقيع ،فقيل :يا رسول ال ،أل تقتله؟ فقال:
-------------------------------
( )1راجع نيل الوطار.190/6 :
( )4/230
( )4/231
ول يترك السلم إذا كان يغلب على ظنه أن المسلّم عليه ل يرد السلم ،لعموم «أفشوا السلم» ول
بأس بالسلم على الصبيان تأديبا لهم ،ول يجب الرد عليهم ،فإن سلم الصبي على البالغ وجب عليه
الرد.
ورفع الصوت برد السلم واجب قدر البلغ أو السماع أي للمسلّم.
ويكره النحناء في السلم ،ويكره أن يسلم على امرأة أجنبية (غير زوجة له ول محرم) إل أن تكون
عجوزا أي غير حسناء ،أو أل تشتهى لمن الفتنة.
ويكره السلم في الحمام ،وعلى من يأكل أو يقاتل لشتغاله ،وعلى تال للقرآن وعلى ذاكر ال تعالى،
وعلى ملبّ ومحدّث (أي يحدث بحديث النبي صلّى ال عليه وسلم) ،وخطيب وواعظ ،وعلى من
يستمع للمذكورين من التالي ومن بعده ،وعلى مكرر فقه ومدرس في أي عمل كان ،وعلى من
يبحثون في العلم ،وعلى من يؤذّن أو يقيم ( ، )1وعلى من هو على حاجته ،ويكره أيضا رده منه،
وعلى من يتمتع بأهله ،أو مشتغل بالقضاء ونحوهم.
ومن سلم في حالة ل يستحب فيها السلم مما سبق ،لم يستحق جوابا لسلمه.
ويكره أن يخص بعض طائفة لقيهم أو دخل عليهم بالسلم ،وأن يقول :سلم ال عليكم ،لمخالفته
الصيغة الواردة ،وأن يقول :عليك سلم ال ؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم كرهه.
والهجر المنهي عنه (وهو هجر المسلم أخاه فوق ثلثة أيام) يزول بالسلم؛ لنه سبب التحابب ،فيقطع
الهجر ،وروي مرفوعا« :السلم يقطع الهجران» .
ويسن السلم عند النصراف عن القوم ،وإذا دخل على أهله ،فإن دخل بيتا خاليا ،أو مسجدا خاليا،
قال :السلم علينا وعلى عباد ال الصالحين ،للخبر في كل ذلك.
وإذا دخل بيته ،قدم رجله اليمنى ،وليقل« :اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج ،باسم ال
ولجنا ،وباسم ال خرجنا ،وعلى ال ربنا توكلنا» ثم يسلّم على أهله ،لخبر أبي مالك الشعري
مرفوعا ،رواه أبو داود.
-------------------------------
( )1مذهب الحنابلة :ل يكره السلم على المصلي.
( )4/232
( )4/233
( )4/234
ويكره عند الحنفية إجارة بيوت مكة في أيام الموسم ،في الحج ،ويرخص لهم الجارة في غير
الموسم ،لقوله تعالى{ :سواء العاكف فيه والباد} [الحج ]25/22:وهكذا كان عمر بن الخطاب ينادي
أيام الموسم ويقول :يا أهل مكة ،ل تتخذوا لبيوتكم أبوابا ،لينزل البادي حيث شاء ،ثم يتلو الية (. )1
سادسا ـ دخول الكافر المساجد :
أجاز أبو حنيفة ( )2للكافر دخول المساجد كلها ،حتى المسجد الحرام من غير إذن ،ولو لغير حاجة.
ومعنى آية {فل يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة ]28/9:عنده :أل يحجوا ،ول يعتمروا
عراة بعد حج عامهم هذا ،عام تسع من الهجرة ،حين أمر الصديق ،ونادى علي بهذه السورة ،وقال:
«أل ل يحج بعد عامنا هذا مشرك ،ول يطوف عريان» ( . )3وقد دخل أبو سفيان مسجد المدينة
لتجديد عقد صلح الحديبية ،بعدما نقضته قريش ،وكذلك دخل إليه وفد ثقيف ،وربط ثمامة بن اثال في
المسجد النبوي حينما أسر.
-------------------------------
( )1الدر المختار ورد المحتار.278/5 :
( )2الدر المختار ،274/5 :شرح السير الكبير ،93/1 :الشباه والنظائر لبن نجيم ،176/2 :أحكام
القرآن للجصاص.88/3 :
( )3رواه الشيخان.
( )4/235
وأجاز المالكية ( )1لغير المسلم دخول الحرم المكي ،دون البيت الحرام ،بإذن أو أمان .ول يجوز
عندهم مطلقا دخول الكافر مسجدا ،ول يمكّن من دخوله ،إل لعذر ،كالدخول للتقاضي أمام الحاكم
المسلم ،قياسا على منعه من دخول المسجد الحرام؛ لن العلة وهي النجاسة موجودة في كل مشرك،
والحرمة موجودة في كل مسجد.
وقال الشافعية والحنابلة ( : )2يمنع غير المسلم ،ولو لمصلحة من دخول حرم مكة ،لقوله تعالى{ :يا
أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ،فل يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة ]28/9:وقد
ورد في الثر « :الحرم كله مسجد» ( . )3ويجوز عندهم للكافر لحاجة دخول المساجد الخرى غير
المسجد الحرام ،بإذن المسلمين؛ لن نص الية في المسجد الحرام ،والصل في الشياء الباحة ،ولم
يرد في الشرع ما يخالف هذا الصل ،ولن النبي صلّى ال عليه وسلم قدم عليه وفد أهل الطائف،
فأنزلهم في المسجد قبل إسلمهم .وقال سعيد بن المسيب :قد كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة ،وهو
على شركه .وقدم عمير بن وهب ،فدخل المسجد ،والنبي صلّى ال عليه وسلم فيه ليفتك به ،فرزقه
ال السلم.
سابعا ـ الحتكار :
معناه :الحتكار :هو الدخار للبيع ،وطلب الربح بتقلّب السواق ،أما الدخار للقوت فليس من
الحتكار .هذا تعريف المالكية (. )4
-------------------------------
( )1مواهب الجليل للحطاب ،381/3 :الخرشي ،144/3 :ط ثانية ،أحكام القرآن لبن العربي:
،901/2مذكرة تفسير آيات الحكام للسايس 22/3 :ومابعدها.
( )2مغني المحتاج ،247/4 :تفسير ابن كثير ،346/2 :الفصاح لبن هبيرة :ص ،448المغني:
.532-531/8
( )3قال عطاء :الحرم كله مسجد لقوله تعالى { :فل يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } .
( )4المنتقى على الموطأ 15/5 :ومابعدها ،القوانين الفقهية :ص 255ومابعدها.
( )4/236
وعرفه الحنفية ( )1بقولهم :الحتكار لغة مصدر حكر أي حبس فهو احتباس الشيء انتظارا لغلئه،
والمراد به شرعا :حبس القوات متربصا للغلء .أو هو اشتراء طعام ونحوه ،وحبسه إلى الغلء
أربعين يوما ،لقوله عليه الصلة والسلم« :من احتكر طعاما أربعين ليلة ،فقد برئ من ال ،وبرئ
ال منه ،وأيّما أهل عَرْصة ـ بقعة ـ بات فيهم امرؤ جائع ،فقد برئت منهم ذمة ال » (. )2
وعرفه الشافعية ( )3بأنه :إمساك ما اشتراه وقت الغلء ليبيعه بأكثر مما اشتراه عند اشتداد الحاجة.
بخلف إمساك ما اشتراه وقت الرخص ،ل يحرم مطلقا ،ولإمساك غلة ضيعته ،ول ما اشتراه في
وقت الغلء لنفسه وعياله ،أو ليبيعه بمثل ما اشتراه.
وفي كراهة إمساك ما فضل عن كفايته وكفالة عياله سنة وجهان :أوجههما ـ عدم الكراهة ،لكن
الولى بيعه.
وقال الحنابلة ( : )4الحتكار المحرم ما اجتمع فيه ثلثة شروط:
ً - 1أن يكون بطريق الشراء ،ل الجلب ،فلو جلب شيئان ،أو أدخل من غلته شيئا ،فادخره ،لم يكن
محتكرا ،لقوله عليه الصلة والسلم« :الجالب مرزوق ،والمحتكر ملعون» (. )5
ً - 2أن يكون المشترى قوتا أي من الحبوب المقتاتة ونحوها؛ لنه مما تعم الحاجة إليه .أما الدام
والحلواء والعسل والزيت وأعلف البهائم ،فليس فيها احتكار محرم.
ً - 3أن يُضيّق على الناس بشرائه بأمرين :أحدهما ـ بأن يكون في بلد يضيق بأهله الحتكار،
كالحرمين والثغور ،أما البلد الواسعة الكثيرة المرافق والجلب كبغداد ودمشق ومصر ،فل يحرم فيها
الحتكار؛ لن ذلك ل يؤثر فيها غالبا.
-------------------------------
( )1العناية شرح الهداية بهامش تكملة الفتح ،126/8 :رد المحتار ،282/5 :البدائع ،129/5 :تبيين
الحقائق ،27/6 :اللباب.166/4 :
( )2رواه أحمد وابن أبي شيبة والبزار وأبو يعلى الموصلي والحاكم والدارقطني والطبراني وأبو نعيم
عن ابن عمر (نصب الراية ،262/4 :نيل الوطار.)221/5 :
( )3مغني المحتاج ،38/2 :سبل السلم.25/3 :
( )4المغني.221/4 :
( )5أخرجه ابن ماجه وابن راهويه والدارمي وعبد بن حميد وأبو يعلى الموصلي والبيهقي عن عمر
بن الخطاب (نصب الراية.)261/4 :
( )4/237
والثاني ـ أن يكون في حال الضيق :بأن يدخل البلد قافلة فيبادر ذوو الموال لشرائها ،ويضيقون
على الناس ،وفي هذا ل فرق بين البلد الصغير والكبير .أما الشراء في حال التساع والرخص على
وجه ل يضيق على أحد ،فليس بمحرم.
متى يتحقق الحتكار وما نوع المحتكَر؟
يظهر من تعاريف الفقهاء للحتكار :أنهم اتفقوا على أن الحتكار يكون في حال الضيق والضرورة ل
في وقت السعة ،وفي البلد الصغير عادة ،ومن طريق الشراء والمتناع عن البيع مما يضر بالناس؛
لن في الحبس ضررا بالمسلمين .ول يكون محتكرا بحبس غلة أرضه بل خلف لنه خالص حقه،
ول ما جلبه من بلد آخر؛ لن حق الناس بالموجود في البلد ،والمختار عند الحنفية قول محمد وهو إن
كان يجلب منه عادة كره تحريما حبسه؛ لن حق الناس تعلق به.
واتفق الفقهاء أيضا على أن الحتكار حرام في كل وقت في القوات أو طعام النسان ،مثل الحنطة
والشعير والذرة والرز ،والتين والعنب والتمر والزبيب واللوز ونحوها مما يقوم به البدن ،ل العسل
والسمن ،واللحم والفاكهة.
وكذلك يحرم الحتكار عند الحنفية والشافعية والحنابلة في طعام البهائم كتبن وفصفصة وهي الرطبة
من علف الدواب .ويحرم الحتكار أيضا عند المالكية وأبي يوسف في غير الطعام في وقت
الضرورة ،ل في وقت السعة ،فل يجوز عندهم الحتكار في الطعام وغيره ،من الكتان والقطن
وجميع ما يحتاج إليه النسان ،أو كل ما أضر بالناس حبسه ،قوتا كان أو ل ولو ثيابا أو دراهم .وقال
السبكي من الشافعية :إذا كان الحتكار في وقت قحط ،كان في ادخار العسل والسمن والشيرج
وأمثالها إضرار ،فينبغي أن يقضى بتحريمه ،وإذا لم يكن إضرار فل يخلو احتكار القوات من كراهة
( . )1
ويخرج الطعام من بلد إلى غيره إذا أضر بأهل البلد.
-------------------------------
( )1نيل الوطار.222/5 :
( )4/238
والخلصة :إن الجمهور خصوا الحتكار بالقوتين (قوت الناس وقوت البهائم) نظرا للحكمة المناسبة
للتحريم وهي دفع الضرر عن الناس ،والغلب في ذلك إنما يكون في القوتين ،ومنعه المالكية مطلقا.
المدة :إذا قصرت مدة الحتباس ل تكون احتكارا لعدم الضرر ،وإذا طالت تكون احتكارا لتحقق
الضرر.
وقيل :يقدر طول المدة بأربعين ليلة للحديث السابق« :من احتكرطعاما أربعين ليلة ،فقد برئ من ال،
وبرئ ال منه» .وقيل :بالشهر؛ لن ما دونه قليل عاجل ،والشهر وما فوقه كثير عاجل .وقيل :المدة
للمعاقبة في الدنيا ،وأما الثم فيحل وإن قلت المدة.
حكم الحتكار :للحتكار أحكام أهمها ما يأتي:
ً - 1الحتكار ممنوع :وعبر أغلب الحنفية عن المنع بكراهته التحريمية ،فقالوا :يكره الحتكار في
أقوات الدميين ،والبهائم ،إذا كان ذلك في بلد يضر
الحتكار بأهله ،كما يكره تلقي الركبان ،أو الجلب ،لنهي النبي صلّى ال عليه وسلم عن تلقي البيوع (
. )1فأما إذا كان ل يضر ،فل بأس به (. )2
وعبر الكاساني في البدائع عن منع الحتكار بالحرمة ( ، )3وهو متفق عليه مع تعبير الئمة
الخرين :الحتكار حرام.
وأدلة التحريم أحاديث كثيرة ،منها ما ذكر سابقا في البحث ،ومنها قوله صلّى ال عليه وسلم « :ل
يحتكر إل خاطئ» «من احتكر حُكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ» «من دخل في
شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم ،كان حقا على ال أن يقعده ُبعْظم من النار ـ مكان عظيم من
النار ـ يوم القيامة» «من احتكر على المسلمين طعامهم ،ضربه ال بالجذام والفلس» (. )4
ً - 2بيع المال المحتكر :قال الحنفية ( : )5يؤمر المحتكر من القاضي ببيع ما فضل عن قوته وقوت
-------------------------------
( )1متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن مسعود (نيل الوطار )166/5 :وأخرج مسلم عن أبي
هريرة« :نهى رسول ال صلّى ال عليه وسلم عن تلقي الجلب .وفي لفظ :ل تلقوا الجلب ،فمن تلقاه
فاشتراه ،فإذا أتى سيده السوق ،فهو بالخيار» وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس« :ل تتلقوا
الركبان ،ول يبيع حاضر لباد» (نصب الراية.)261/4 :
( )2تكملة الفتح ،الدر المختار ،اللباب ،تبيين الحقائق :المكان السابق.
( )3البدائع ،المكان السابق.
( )4روى الول أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن المسيب ،وروى الثاني والثالث أحمد عن معقل بن
يسار ،وعن أبي هريرة ،وروى الرابع ابن ماجه عن عمر (نيل الوطار.)220/5 :
( )5مراجعهم السابقة.
( )4/239
أهله ،فإن لم يفعل وأصر على الحتكار ،ورفع أمره إلى الحاكم مرة أخرى ،وهو مصر عليه ،وعظه
الحاكم وهدده .فإن لم يفعل ورفع إليه أمره للمرة الثالثة ،حبسه وعزره ،زجرا له عن سوء صنعه،
ويجبره القاضي على البيع ،ويبيعه القاضي عليه جبرا عنه إذا امتنع عن بيع طعامه بالتفاق بين
الحنفية على الصحيح ،ويكون البيع بسعر المثل.
وكذلك قال المالكية ( : )1يباع الشيء المحتكر للمحتاج إليه بمثل ما اشتراه به ،ل يزاد عنه شيء.
وإن لم يعلم ثمنه ،فبسعره يوم احتكاره.
وأضاف الحنفية ( : )2لو خاف الحاكم على أهل بلد الهلك ،أخذ الطعام من المحتكرين ،ووزعه
عليهم ،حتى إذا صاروا في سعة ،ردوا مثله ،وذلك للضرورة ،ومن اضطر إلى مال غيره ،وخاف
الهلك ،تناوله بل رضاه ،ويضمن قيمته؛ لن الضطرار ل يبطل حق الغير ،كما أبنت.
-------------------------------
( )1المنتقى على الموطأ.17/5 :
( )2الدر المختار ،283/5 :البدائع.129/5 :
( )4/240
واستدل ما نعو التسعير بحديث أنس قال« :غل السعر على عهد رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،
فقالوا :يا رسول ال ،لو سعرت ،فقال :إن ال هو القابض الباسط الرازق المسعر ،وإني لرجو أن
ألقى ال عز وجل ،ول يطلبني أحد بمَظْلَمة ،ظلمتها إياه في دم ،ول مال» ( )1فالنبي لم يسعر ،ولو
جاز ،لجابهم إليه ،وعلل بكونه مظلمة ،والظلم حرام ،ولنه ماله ،فلم يجز منعه من بيعه بما تراضى
عليه المتبايعان ،كما اتفق الجماعة عليه ،ولن في التسعير إضرارا بالناس ،إذا زاد تبعه أصحاب
المتاع ،وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع.
وأجاز المالكية والحنفية ( )2للمام تسعير الحاجيات ،دفعا للضرر عن الناس ،بأن تعدى أصحاب
السلعة عن القيمة المعتادة تعديا فاحشا ،فل بأس حينئذ بالتسعير بمشورة أهل الرأي والبصر ،رعاية
لمصالح الناس والمنع من إغلء السعر عليهم ،والفساد عليهم .ومستندهم في ذلك القواعد الفقهية:
( ل ضرر ول ضرار ) و( الضرر يزال ) و ( يتحمل الضرر الخاص لمنع الضرر العام ).
ول يجبر الناس على البيع ،وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحدده المام على حسب ما يرى
من المصلحة فيه للبائع والمبتاع ،ول يمنع البائع ربحا ،ول يسوغ له منه ما يضر بالناس.
ويجب أن يختص التسعير في قول ابن حبيب المالكي بالمكيل والموزون مأكولً كان أو غير مأكول،
دون غيره من المبيعات التي ل تكال ول توزن؛ لن المكيل والموزون من المثليات يرجع فيه إلى
المثل ،وغير ذلك من القيميات يرجع فيه إلى القيمة ،وتختلف أغراض الناس في العيان ،فل يمكن
حمل الناس فيه على سعر واحد.
-------------------------------
( )1رواه أحمد وأصحاب السنن إل النسائي ،وصححه الترمذي .وعن أبي سعيد مثله (نيل الوطار:
.)219/5
( )2الدر المختار ،183/5 :تبيين الحقائق ،28/6 :البدائع ،129/5 :تكملة الفتح ،127/8 :اللباب:
،167/4المنتقى على الموطأ ،19-17/5 :القوانين الفقهية :ص .255
( )4/242
وليس في التسعير مخالفة لنص الحديث السابق ،وإنما هو تطبيق للنص نفسه ،وفهم اجتهادي لمناطه
وحكمته في الواقع ،وتفسير له بالمعنى المناسب أو المصلحة المتبادرة إلى الفهم من ذات النص ،ل
من خارجه ( . )1فامتناع الرسول من التسعير ل لكونه تسعيرا ،وإنما لكون علة التسعير وهي ظلم
التجار أنفسهم غير متوفرة ،فهم كانوا يبيعون بسعر المثل ،وإنما كان ارتفاع السعر ليس من قبل
التجار ،وإنما بسبب قانون العرض والطلب ،فقد قل عرض البضاعة ،فارتفع السعر .ول تسعير إذا لم
تدع الحاجة إليه ،بأن كانت السلع متوفرة في السواق ،وتباع بسعر المثل دون ظلم أو جشع (. )2
-------------------------------
( )1وكذلك أجاز المالكية تلقي الركبان إذا كثرت السلع واعتدلت السعار ،وعلم البائع بسعر السوق،
وباع بسعر المثل ،أو أزيد منه .ويظل النهي عن تلقي الركبان قائما معمولً به إذا تضرر أهل السوق
عامة ولم تتوفر السلع لهم ،أو إذا جهل البائع نفسه بالسعار ،فتجب حينئذ رعاية المصلحة العامة،
وحماية البائع نفسه.
( )2أصول الفقه للمؤلف ،815/2 :ط دار الفكر.
( )4/243
( )4/244
والحكمة من تشريعها :هو شكر ال على نعمه المتعددة ،وعلى بقاء النسان من عام لعام ،ولتكفير
السيئات عنه :إما بارتكاب المخالفة ،أو نقص المأمورات ،وللتوسعة على أسرة المضحي وغيرهم ،فل
يجزئ فيها دفع القيمة ،بخلف صدقة الفطر التي يقصد منها سد حاجة الفقير .ونص المام أحمد على
أن الضحية أفضل من الصدقة بقيمتها.
المطلب الثاني ـ حكم الضحية :
اختلف الفقهاء في حكم الضحية ،هل هي واجبة أو هي سنة؟
فقال أبو حنيفة وأصحابه :إنها واجبة مرة في كل عام على المقيمين من أهل المصار ،وذكر
الطحاوي وغيره :أن على قول أبي حنيفة :واجبة ،وعلى قول الصاحبين (أبي يوسف ومحمد) :سنة
مؤكدة (. )1
-------------------------------
( )1تكملة فتح القدير ،67/8 :اللباب شرح الكتاب ،232/3 :تبيين الحقائق ،2/6 :البدائع.62/5 :
( )4/245
وقال غير الحنفية ( : )1إنها سنة مؤكدة غير واجبة ،ويكره تركها للقادر عليها .وذلك عند المالكية
على المشهور لغير الحاج بمنى .والكمل عندهم للقادر أن يضحي عن كل شخص عنده أضحية ،فإن
أراد إنسان أن يضحي بنفسه عن كل من عنده ممن تجب عليه نفقته جاز في المذهب .وهي عند
الشافعية سنة عين للمنفرد في العمر مرة ،وسنة كفاية إن تعدد أهل البيت ،فإذا فعلها واحد من أهل
البيت ،كفى عن الجميع.
ودليل الحنفية على الوجوب :هو قوله عليه السلم« :من وجد سعة ،فلم يضح ،فل يقربن مصلنا» (
)2قالوا :ومثل هذا الوعيد ل يلحق بترك غير الواجب ،ولن الضحية قربة يضاف إليها وقتها،
يقال :يوم الضحى وذلك يؤذن بالوجوب؛ لن الضافة للختصاص ،والختصاص بوجود الضحية
فيه ،والوجوب هو المفضي إلى الوجود في الظاهر بالنسبة لمجموع الناس.
واستدل الجمهور على السنية للقادر عليها بأحاديث:
منها حديث أم سلمة« :أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال :إذا رأيتم هلل ذي الحجة :وأراد
أحدكم أن يضحي ،فليمسك عن شعره وأظفاره» ( )3ففيه تعليق الضحية بالرادة ،والتعليق بالرادة
ينافي الوجوب.
ومنها حديث ابن عباس قال :سمعت رسول ال صلّى ال عليه وسلم يقول« :ثلث هن علي
-------------------------------
( )1بداية المجتهد ،415/1 :القوانين الفقهية :ص ،186الشرح الكبير ،118/2 :مغني المحتاج:
282/4ومابعدها ،المهذب ،237/1 :المغني ،617/8 :شرح الرسالة لبن أبي زيد القيرواني:
.366/1
( )2رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الوطار.)108/5 :
( )3رواه الجماعة إل البخاري (نيل الوطار.)112/5 :
( )4/246
فرائض ،وهن لكم تطوع :الوتر ،والنحر وصلة الضحى» ( )1وروى الترمذي« :أمرت بالنحر وهو
سنة لكم» .
ويؤيد ذلك أن الضحية ذبيحة لم يجب تفريق لحمها ،فلم تكن واجبة كالعقيقة .وضعف أصحاب
الحديث حديث الحنفية ،أو هو محمول على تأكيد الستحباب كغسل الجمعة في حديث« :غُسل الجمعة
واجب على كل محتلم» (. )2
ويرشد إليه الثر« :أن أبا بكر وعمر كانا ل يضحيان ،مخافة أن ترى الناس ذلك واجبا ( )3والصل
عدم الوجوب» .
ودليل الشافعية على أن الضحية سنة كفاية لكل بيت :حديث ِمخْنَف بن سُلَيم قال« :كنا وقوفا مع
النبي صلّى ال عليه وسلم ،فسمعته يقول :يا أيها الناس ،على كل أهل بيت في كل عام أضحية( »..
، )4ولن الصحابة كانوا يضحون في عهده صلّى ال عليه وسلم ،والظاهر اطلعه ،فل يُنكر عليهم
( . )5وقد ضحى النبي صلّى ال عليه وسلم بكبشين سمينين أقرنين أملحين ،أحدهما عن أمته،
والثاني عن نفسه وآله (. )6
ودليل الشافعية على أن الضحية سنة عين للمنفرد في العمر مرة هو أن المر عندهم ل يقتضي
التكرار (. )7
-------------------------------
( )1رواه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك ،والدارقطني .وسكت عنه الحاكم ،وفيه راو ضعيف
ضعفه النسائي والدارقطني (نصب الراية.)206/4 :
( )2رواه السبعة( :أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي سعيد الخدري (سبل السلم.)87/1:
( )3رواه البيهقي وغيره بإسناد حسن.
( )4رواه أحمد وابن ماجه والترمذي .وقال :هذا حديث حسن غريب (نيل الوطار.)138/5 :
( )5ثبت هذا برواية ابن ماجه والترمذي وصححه عن عطاء بن يسار ،وبرواية ابن ماجه عن
الشعبي (نيل الوطار.)120/5 :
( )6رواه ابن ماجه عن عائشة وأبي هريرة (نصب الراية.)215/4 :
( )7قرر الشافعية في أصولهم :أن المر ل يقتضي التكرار ول يفيد المرة ،وإنما يفيد طلب الماهية
من غير إشعار بتكرار أو مرة ،إل أنه ل يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة،
فصارت المرة من ضروريات التيان بالمأمور به (شرح السنوي.)43/2 :
( )4/247
( )4/248
وبالنية قبله على خلف في المذهب ،وبالنذر إن عينها له اتفاقا ،فإذا قال :جعلت هذه أضحية ،تعينت
على أحد قولين ،فإن ماتت فل شيء عليه على كل القولين ،وإن باعها لزمه أن يشتري بثمنها كله
أخرى.
لكن قال الدردير والدسوقي المالكيان ( : )1المعتمد المشهور في المذهب :أن الضحية لتجب إل
بالذبح فقط ،ولتجب بالنذر .وقال أيضا :يندب وليجب على المعتمد ذبح ولد الضحية الذي ولد قبل
ذبح أمه؛ لن الضحية لتتعين عندهم إل بالذبح ،ولتتعين بالنذر.
وقال الشافعية في الصحيح والحنابلة ( : )2إن نوى الشراء للضحية ولم يتلفظ بذلك لتصير به
أضحية؛ لن إزالة الملك على سبيل القربة لتحصل بذلك ،وإنما تجب الضحية إما بالنذر ،مثل ل
علي ،أو علي أن أضحي بهذه الشاة ،أو بالتعيين بأن يقول :هذه أضحية أو جعلتها أضحية ،لزوال
ملكه عنها بذلك .والجعل بمعنى النذر ،فتصير واجبة ،ويحرم حينئذ الكل منها ،وليقبل القول بإرادة
التطوع بها .فإن قال :أضحية إن شاء ال لم تتعين ولم تجب .وإشارة الخرس المفهمة كنطق الناطق.
وليجوز تأخيرها للعام القابل ،وتعين ذبحها وقت الضحية.
وإن ولدت الضحية المعينة أو المنذورة ،فولدها تابع لها ،يذبح معها ،وحكمه حكمها ،سواء أكان
حملً عند التعيين أم حدث بعده .وليشرب صاحبها من لبنها إل الفاضل عن ولدها ،فإن لم يفضل
عنه شيء لم يكن له أخذه.
المبحث الثاني ــ شروط الضحية :
وفيه مطالب ثلثة:
المطلب الول ـ شروط إيجاب الضحية أو سنيتها :
يشترط ليجاب الضحية عند الحنفية ،أو سنيتها عند الئمة الخرين :القدرة عليها ،فل تطلب من
العاجز عنهافي أيام عيد الضحى.
-------------------------------
( )1الشرح الكبير وحاشيته. 125 ،122/2 :
( )2مغني المحتاج ،291 ، 288 ،283/4 :المهذب 240/1 :ومابعدها ،حاشية الباجوري،305/2 :
المغني 627/8 :ومابعدها ،كشاف القناع.8/3 :
( )4/249
والمقصود بالقدرة عند الحنفية ،هو اليسار أي يسار الفطرة ( ، )1وهو أن يكون مالكا مئتي درهم
الذي هو نصاب الزكاة ،أو متاعا يساوي هذا المقدار زائدا عن مسكنه ولباسه ،أو حاجته وكفايته هو
ومن تجب عليه نفقتهم.
والقادر عليها عند المالكية ( : )2هو الذي ل يحتاج إلى ثمنها لمر ضروري في عامه .ولو استطاع
أن يستدين استدان.
والمستطيع عليها عند الشافعية ( : )3هو من يملك ثمنها زائدا عن حاجته وحاجة من يعوله يوم العيد
وأيام التشريق ،لن ذلك وقتها ،مثل زكاة الفطر ،فإنهم اشترطوا فيها أن تكون فاضلة عن حاجته
مَمونة يوم العيد وليلته فقط.
والقادر عليها عند الحنابلة ( : )4هو الذي يمكنه الحصول على ثمنها ولو بالدين ،إذا كان يقدر على
وفاء دينه.
-------------------------------
( )1الدر المختار ،222/ :اللباب ،232/3 :تبيين الحقائق.3/6 :
( )2شرح الرسالة لبن أبي زيد القيرواني.367/1 :
( )3حاشية الباجوري.304/2 :
( )4كشاف القناع.18/3 :
( )4/250
( )4/251
( )4/252
وأما الصغير :فتجب عليه الضحية من ماله على الصح ،في رأي الشيخين :أبي حنيفة وأبي يوسف،
ويضحي عنه أبوه أو وصيه ،ويأكل الصغير من أضحيته ما أمكنه ،ويبتاع مما بقي ما ينتفع بعينه
كالغربال والمنخل ،ل ما يستهلك .ويذبح الولي عن كل واحد من أولده الصغار شاة ،أو يذبح ناقة أو
بقرة عن سبعة ،كما في صدقة الفطر.
وقال محمد وزفر :يضحي الولي من مال نفسه ،ل من مال الصغير.
وفي ظاهر الرواية عند الحنفية ،وهو الظهر لدى بعضهم وعليه الفتوى ( : )1إن الضحية تستحب
ول تجب عن الولد الصغير ،وليس للب أن يفعله من مال الصغير؛ لنها قربة محضة ،والصل في
العبادات أل تجب على أحد بسبب غيره ،بخلف صدقة الفطر؛ لن فيها معنى المؤونة ( ، )2والسبب
فيها رأس يمونه (ينفق عليه) ويلي عليه .وهذا أرجح الراء.
وكذلك قال المالكية ( : )3تسن الضحية للصغير.
-------------------------------
( )1الدر المختار ،222/5 :تبيين الحقائق ،3-2/6 :تكملة الفتح ،70 ،67/8 :اللباب232/3:
ومابعدها.
( )2المؤونة :هي الضريبة التي تؤدي إلى المحافظة على ما تؤدى عنه من نفس أو مال .فصدقة
الفطر عبادة فيها معنى المؤونة ،أما إنها عبادة فلنها تقرب إلى ال بالتصدق على المحتاجين ،وأما
إنها مؤونة فلوجوبها عند الحنفية على المكلف بسبب غيره ممن يعوله ،وله ولية عليه كخادمه وابنه
الصغير ،كما تجب عليه نفقتها ( أصول الفقه لنا ،153/1 :ط دار الفكر).
( )3الشرح الكبير.118/2 :
( )4/253
( )4/254
( )4/255
ولو تركت التضحية حتى مضى وقتها ،تصدق بها صاحبها حية إن كانت منذورة أوجبها على نفسه،
أو مشتراة من فقير أو غني للضحية؛ لنها في حكم المنذورة عرفا .وأما الغني إذا لم يشتر
الضحية ،فيتصدق بقيمة شاة على الصحيح ،كما في البدائع ،وهو قول المام وصاحبيه؛ لن
الضحية واجبة على الغني ،وتجب على الفقير بالشراء بنية الضحية.
ودليل الحنفية على جواز الذبح بعد الصلة ولو قبل الخطبة :حديث البراء بن عازب المتقدم« :من
ضحى قبل الصلة ،فإنما ذبح لنفسه ،ومن ذبح بعد الصلة فقد تم نسكه ،وأصاب سنة المسلمين»
وحديث أنس عند البخاري« :من ذبح قبل الصلة ،فليُعد ،ومن ذبح بعد الصلة ،فقد تم نُسكُه ،وأصاب
سُنة المسلمين» فقد رتب النبي صلّى ال عليه وسلم الذبح على الصلة ،ل على الخطبة ،فدل على أن
العبرة للصلة ،ل للخطبة.
وأما دليلهم على تحديد الوقت بثلثة أيام ،فهو ما روي عن عمر وعلي وابن عباس أنهم قالوا« :أيام
النحر ثلثة ،أفضلها أولها» ( . )1وكان ابن عمر يقول« :الضحى يومان بعد يوم الضحى» (. )2
- 2وقال المالكية ( : )3يبتدئ وقت التضحية لمام صلة العيد بعد الصلة والخطبة ،فلو ذبح قبلها
لم يجز .وغير المام يذبح في اليوم الول ،بعد ذبح المام ،أو مضي زمن قدر ذبح المام أضحيته إن
لم يذبح المام ،فإن ذبح أحد قبل المام متعمدا لم يجزئه ،ويعيد ذبح أضحية أخرى ،وعليه فل جزئ
الذبح قبل الصلة ،ول قبل ذبح المام ،إل من تحرى أقرب إمام ولم يبرز أضحيته وظن أنه ذبح
فسبقه ،أجزأه ذلك .وإن تأخر المام بعذر شرعي انتظره إلى قرب الزوال بحيث يبقى قدر ما يذبح
قبله لئل يفوته الوقت الفضل.
ودليلهم أن النبي صلّى ال عليه وسلم في حديث جابر ( )4أمر من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر،
ول ينحروا حتى ينحر النبي ،مما يدل على أنه ل ذبح قبل ذبح المام.
ودل حديث جُ ْندَب بن سفيان البَجَلي ( )5على أن الذبح يكون بعد الصلة« :من كان ذبح قبل أن
يصلي ،فليذبح مكانها أخرى ،ومن لم يكن ذبح ،حتى صلينا ،فليذبح باسم ال » وفي غير اليوم الول
ـ وهو الثاني والثالث يدخل وقت الذبح بطلوع الفجر ،لكن يندب التأخير لرتفاع الشمس .وإذا لم
يضح المسلم قبل زوال الشمس يوم النحر ،الفضل أن يضحي بقية النهار ،وإن فاته ذلك في
-------------------------------
( )1قال الزيلعي عنه :غريب جدا (نصب الراية.)213/4 :
( )2رواه مالك في الموطأ .وفيه أيضا أنه بلغه أن علي بن أبي طالب كان يقول مثل ذلك (المرجع
السابق).
( )3الشرح الكبير ،120/2،122 :بداية المجتهد 421/1 :ومابعدها ،القوانين الفقهية :ص 186وما
بعدها.
( )4رواه أحمد ومسلم.
( )5متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الوطار.)123/5 :
( )4/256
اليوم الثاني فالفضل أن يؤخر إلى ضحى اليوم الثالث ،وإن فاته التضحية في اليوم الثالث ،فيضحي
بعد الزوال ،لنه ليس له وقت ينتظر.
ويستمر وقت الذبح لخر (أي مغيب شمس) اليوم الثالث من أيام النحر ،أي كما قال الحنفية ،وهو
رأي الحنابلة أيضا كما سيأتي؛ لن المشهور في تفسير (اليام المعلومات) :أنها يوم النحر ويومان
بعده ،في قوله تعالى{ :ليشهدوا منافع لهم ،ويذكروا اسم ال في أيام معلومات على ما رزقهم من
بهيمة النعام} [الحج.]28/22:
- 3وقال الشافعية ( : )1يدخل وقت التضحية بمضي قدر ركعتين وخطبتين خفيفات بعد طلوع
شمس يوم النحر ،ثم ارتفاعها في الفق كرمح ( )2على الفضل وهو بدء وقت صلة الضحى ،فإن
ذبح قبل ذلك لم تقع أضحية لخبر الصحيحين عن البراء بن عازب المتقدم« :أول ما نبدأ به في يومنا
هذا نصلي ،ثم نرجع ،فننحر »..ويستثنى من ذلك ما لو وقف الحجاج بعرفة في الثامن غلطا ،وذبحوا
في التاسع ،ثم بان الخطأ ،أجزأهم في رأي ضعيف تبعا للحج (. )3
ويمتد وقت الذبح ليلً ونهارا إلى آخر أيام التشريق ،وهي ثلثة عند الشافعي رحمه ال بعد العاشر،
لقوله صلّى ال عليه وسلم « :عرفة كلها موقف ،وأيام التشريق كلها منحر» ( )4وفي رواية لبن
حبان« :في كل أيام التشريق ذبح» (. )5
-------------------------------
( )1مغني المحتاج 287/4 :وما بعدها ،المهذب ،237/1 :المحلي على المنهاج 252/4 :ومابعدها،
نهاية المحتاج.6/8 :
( )2الرمح :عود طويل في رأسه حربة.
( )3هذا إنما يأتي على رأي مرجوح عند الشافعية ،وهو أن الحج يجزئ ،والصح أنه ل يجزئ ،فكذا
الضحية.
( )4رواه البيهقي ،وصححه ابن حبان.
( )5ورواه أحمد والدارقطني« :كل أيام التشريق ذبح» وهو دليل على أن أيام التشريق كلها أيام ذبح
وهي يوم النحر ،وثلثة أيام بعده (نيل الوطار )125/5 :وقال الئمة الثلثة غير الشافعية :يومان
بعده.
( )4/257
لكن يكره الذبح والتضحية ليلً للنهي عنه ،إما خوفا من الخطأ في المذبح ،أو لن الفقراء ل
يحضرون للضحية بالليل ،كحضورهم بالنهار.
ومن نذر أضحية معينة ،فقال :ل علي أن أضحي بهذه البقرة مثلً ،لزمه ذبحها وقت الضحية
المذكور هنا ،ول يجوز تأخيرها للعام القابل ،فإن تلفت قبل وقت الضحية أو فيه قبل التمكن من
ذبحها ،فل شيء عليه لعدم تقصيره وهي في يده أمانة .وإن أتلفها لزمه أن يشتري بقيمتها مثلها
ويذبحها فيه ،أي وقت التضحية المذكور.
- 4وقال الحنابلة ( : )1يبدأ وقت الذبح من نهار الضحى بعد مضي قدر صلة العيد والخطبتين في
أخف ما يكون كما قال الشافعية ،والفضل أن يكون الذبح بعد الصلة وبعد الخطبة وذبح المام إن
كان ،خروجا من الخلف ،ل فرق في هذا بين أهل المصر وغيرهم ،فإن فاتت صلة العيد بالزوال،
لعذر أو غيره ،ضحى المضحي عند الزوال ،فما بعده ،لفوات التبعية بخروج وقت الصلة.
-------------------------------
( )1المغني 636/8 :ومابعدها ،كشاف القناع.6/3 :
( )4/258
وإن ذبح قبل الصلة لم يجزئه ،ولزمه في الضحية الواجبة بنذر أو تعيين البدل ،لنها نسيكة واجبة
ذبحها قبل وقتها ،فلزمه بدلها .والذبح في اليوم الثاني في أول النهار؛ لن الصلة فيه غير واجبة.
ويستمر وقت الذبح إلى آخر اليوم الثاني من أيام التشريق ،أي أن أيام النحر ثلثة :يوم العيد ،ويومان
بعده ،كما قال الحنفية والمالكية.
والفضل الذبح في النهار ،ويجوز في الليل مع الكراهة ،للخروج من الخلف ،روي عن النبي صلّى
ال عليه وسلم « :أنه نهى عن الذبح بالليل» ( )1ولن الليل تتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب ،فل
يفرق طازجا طريا ،فيفوت بعض المقصود.
وإذا فات وقت الذبح ،ذبح الواجب قضاء ،وصنع به ما يصنع بالمذبوح في وقته .وهو مخير في
التطوع ،فإن فرق اللحم ،كانت القربة بذلك دون الذبح؛ لنها شاة لحم ،وليست أضحية.
وإذا وجبت الضحية بإيجاب صاحبها ،فضلّت أو سرقت بغير تفريط منه ،فل ضمان عليه؛ لنها
أمانة في يده ،فإن عادت إليه ،ذبحها ،سواء أكان في زمن الذبح ،أم فيما بعده.
المبحث الرابع ـ الحيوان المضحى به :
وفيه مطالب أربعة:
المطلب الول ـ نوع الحيوان المضحى به :
اتفق العلماء على أن الضحية ل تصح إل من نَعم :إبل وبقر (ومنها الجاموس) وغنم (ومنها المعز)
بسائر أنواعها ،فيشمل الذكروالنثى ،والخصي والفحل ،فل يجزئ غير النعم من بقر الوحش وغيره،
والظباء وغيرها ،لقوله تعالى{ :ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم ال على ما رزقهم من بهيمة
النعام} [الحج ]34/22:ولم ينقل عنه صلّى ال عليه وسلم ،ول عن أصحابه التضحية بغيرها،
-------------------------------
( )1أخرجه الطبراني عن ابن عباس ،وفي إسناده متروك ،ورواه البيهقي مرسلً عن الحسن (نيل
الوطار.)126/5:
( )4/259
ولن التضحية عبادة تتعلق بالحيوان ،فتختص بال ّنعَم كالزكاة (. )1
والمولود من النعام وغيرها ،كالمتولد من الهلي والوحشي يتبع الم؛ لنها هي الصل في التبعية،
هذا رأي الحنفية والمالكية.
وقال الشافعية :المتولد بين جنسين من النعم يجزئ في الضحية ،ويعتبر أعلى البوين سنا ،فل بد
من بلوغه سنتين إذا كان متولدا بين الضأن والمعز .وقال الحنابلة :ل يجزئ المتولد من أهلي
ووحشي.
واختلف الفقهاء في الفضل من أنواع الحيوان على رأيين:
فقال المالكية :الفضل الضأن ،ثم البقر ،ثم البل ،نظرا لطيب اللحم ،ولن النبي صلّى ال عليه وسلم
ضحى بكبشين ،ول يفعل إل الفضل ،ولو علم ال خيرا منه لفدى إسحاق (أو إسماعيل) به.
وعكس الشافعية والحنابلة فقالوا :أفضل الضاحي :البل ،ثم البقر ،ثم الضأن ،ثم المعز .نظرا لكثرة
اللحم ،ولقصد التوسعة على الفقراء ،ولقول النبي صلّى ال عليه وسلم « :من اغتسل يوم الجمعة
غسل الجنابة ،ثم راح فكأنما قرب بدنة ،ومن راح في الساعة الثانية ،فكأنما قرب بقرة ،ومن راح في
الساعة الثالثة ،فكأنما قرب كبشا أقرن. )2( »..
ورأي الحنفية :الكثر لحما هو الفضل.
-------------------------------
( )1البدائع ،69/5 :اللباب ،235/3 :الدر المختار ،226/5 :تبيين الحقائق ،7/6 :تكملة الفتح،76/8 :
الشرح الكبير 118/2 :ومابعدها ،بداية المجتهد ،416/1 :مغني المحتاج ،284/4 :المغني619/8 :
ومابعدها ،623 ،كشاف القناع 615/2 :ومابعدها ،القوانين الفقهية :ص ،188المهذب.238/1 :
( )2رواه الجماعة إل ابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الوطار.)237/3 :
( )4/260
( )4/261
بعير أو بقرة؛ لن لحم الغنم أطيب ،وشاة أفضل من مشاركة في بعير إذا تساويا في القدر ،للنفراد
بإراقة الدم وطيب اللحم .فإن كان سبع البعير أكثر قدرا ،كان أفضل.
والكبش أفضل الغنم ،لنه أضحية النبي صلّى ال عليه وسلم ،وهو أطيب لحما ( ، )1وجذع الضأن
أفضل من ثني المعز ،لطيب اللحم ،ولنه يروى عن النبي صلّى ال عليه وسلم أنه قال« :نعم أو
نعمت الضحية :الجَذَع من الضأن» ( )2أي قبل الثني.
والذكر عند الشافعية أفضل على الصح من النثى؛ لن لحمه أطيب ،والخصي أفضل من النعجة عند
الحنابلة؛ لن لحمه أوفر وأطيب .والفحل في المذهبين أفضل من الخصي.
والسمينة أفضل من غير السمينة ،لقول ال عز وجل{ :ومن يعظم شعائر ال ،فإنها من تقوى القلوب}
[الحج ]32/22:قال ابن عباس :تعظيمها :استسمانها واستحسانها .وهذا متفق عليه بين الفقهاء.
والبيضاء أفضل من الغبراء والسوداء؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين،
والملح :البيض .وبه يكون ترتيب اللوان في مذهبي الشافعية والحنابلة ما يأتي ،وهو متفق عليه
بين الفقهاء:
البيضاء أفضل ،ثم الصفراء ،ثم العفراء ( وهي التي ليصفو بياضها أوليس بناصع) ،ثم الحمراء ثم
البلقاء ( مختلط البياض والسواد) ثم السوداء ( ، )3روى أحمد والحاكم خبر أبي هريرة« :دم ُعفراءَ
أحب إلى ال من دم سوداوين» .
-------------------------------
( )1وروى عبادة بن الصامت أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال« :خير الضحية الكبش
القرن» .
( )2حديث غريب رواه الترمذي وأحمد عن أبي هريرة (نصب الراية )216/4 :والجذع لولد الشاة
في السنة الثانية ،ولولد البقرة والحافر في السنة الثالثة ،وللبل في السنة الخامسة.
( )3والترجيح بين اللوان :قيل :للتعهد ،وقيل لحسن المنظر ،وقيل :لطيب اللحم.
( )4/262
( )4/263
قال الحنفية :المعز :ما أتم سنة وطعن (دخل في الثانية) ،والبقر والجاموس ما أتم سنتين ودخل في
الثالثة ،والبل :ما أتم خمس سنوات ،ودخل في السادسة.
وقال المالكية :المعز :ابن سنة عربية ودخل في الثانية دخولً بينا كشهر ،بخلف الضأن ،فيكفي فيه
مجرد الدخول .والبقر والجاموس :ابن ثلث سنين ،ودخل في الرابعة مجرد دخول ،والبل ابن خمس
سنوات ودخل في السادسة.
وقال الشافعية :شرط إبل أن يطعن في السنة السادسة ،وبقر ومعز في السنة الثالثة ،وضأن في السنة
الثانية.
وقال الحنابلة :المعز ابن سنة كاملة ،والبقر ما له سنتان كاملتان ،والبل :ماكمل خمس سنين.
وبه يظهر لدينا أن فقهاء المذاهب اتفقوا على تحديد سن البل بخمس ،واختلفوا في البقر على رأيين،
فعند الحنفية والحنابلة والشافعية :ما له سنتان .وعند المالكية :ما له ثلث سنين .كما اختلفوا في
المعز :فعند غير الشافعية :ما له سنة كاملة .وعند الشافعية :ما له سنتان كاملتان.
المطلب الثالث -قدر الحيوان المضحى أو مايجزئ عنه :
اتفق الفقهاء ( )1على أن الشاة والمعز ل تجوز أضحيتهما إل عن واحد ،وتجزئ البدنة أو البقرة عن
سبعة أشخاص ،لحديث جابر« :نحرنا مع رسول ال صلّى ال عليه وسلم بالحديبية :البدنة عن سبعة
والبقرة عن سبعة» ( . )2وفي لفظ مسلم« :خرجنا مع
-------------------------------
( )1البدائع ،70/5:تبيين الحقائق ،3/6 :تكملة الفتح ،76/8 :الدر المختار ،222/5 :القوانين الفقهية:
ص ،186بداية المجتهد ،420/1 :الشرح الكبير ،119/2 :مغني المحتاج ،292 ،285/4 :المهذب:
،238/1المغني 619/8 :وما بعدها ،كشاف القناع.617/2 :
( )2أخرجه الجماعة (نصب الراية.)209/4 :
( )4/264
رسول ال صلّى ال عليه وسلم مهلين بالحج ،فأمرنا رسول ال صلّى ال عليه وسلم أن نشترك في
البل ،والبقر ،كل سبعة منا في بدنة» (. )1
وأجاز الحنابلة أن يذبح الرجل عن أهل بيته شاة واحدة ،أو بقرة ،أو بدنة ،عملً بما رواه مسلم عن
عائشة أن النبي صلّى ال عليه وسلم ضحى بكبش عن محمد وآل محمد ،وضحى بكبشين أملحين
أقرنين ،أحدهما عن محمد وأمته ( ، )2وروى ابن ماجه والترمذي وصححه عن أبي أيوب« :كان
الرجل في عهد النبي صلّى ال عليه وسلم يضحي بالشاة عنه ،وعن أهل بيته ،فيأكلون،
ويطعمون. »...
وكذلك أجاز المالكية أن يذبح الرجل الكبش أو البقرة أو البدنة مضحيا ،عن نفسه وعن أهل بيته ،ولو
زادوا عن سبعة إذا كان الشتراك في الثواب قبل الذبح بشروط ثلثة :أن يكون قريبا له ،ينفق عليه،
وساكنا معه ،وقد بينتها في شروط صحة الضحية.
وقال الشافعية أيضا :تضحية واحد من أهل البيت تحصل به سنة الكفاية ،وإن لم يصدر من بقيتهم
إذن.
المطلب الرابع ـ أوصاف الحيوان المضحى :
صفات الحيوان المضحى به أو الضحية ثلثة أنواع :مستحبة ،ومانعة الجزاء ،ومكروهة.
-------------------------------
( )1استنبط الشافعية من هذا الحديث خلفا للحنفية كما بينت جواز الشتراك بين من يريد القربة ومن
ل يريدها ،فقالوا :وظاهره أنهم لم يكونوا من أهل بيت واحد ،وسواء اتفقوا في نوع القربة أم اختلفوا
كما إذا قصد بعضهم التضحية ،وبعضهم الهدي ،وبعضهم اللحم ،ولهم قسمة اللحم ،لن قسمته قسمة
إفراز على الصح.
( )2رواه أبو داود.
( )4/265
فأما الصفات المستحبة في الضحية باتفاق الفقهاء ( : )1فهي أن تكون كبشا سمينا أقرن أملح
(أبيض) فحلً ـ هو أفضل من الخصي عند الجمهور ،أو خصيا (موجوءا) هو أفضل من الفحل عند
الحنفية؛ لن الكبش كما تقدم هو أفضل أجناس الغنم .وهذا الستحباب عند الشافعية والحنابلة هو في
حالة تفضيل الكبش عن سبع البدنة أو البقرة.
والسبب في استحباب هذه الصفات هو أنها صفات أضحية النبي صلّى ال عليه وسلم ،كما ثبت في
أحاديث جابر وعائشة وأبي هريرة وأبي رافع ،وأبي الدرداء الدالة على جواز التضحية بالخصي،
وهي دليل الفضل عند الحنفية ،وحديث أبي سعيد الدال على التضحية بالفحل ( ، )2ونصه« :ضحى
رسول ال صلّى ال عليه وسلم بكبش أقرن فحيل ،يأكل في سواد ،ويمشي في سواد ،وينظر في
سواد» ( )3وهو دليل الفضل عند الجمهور.
وأما الصفات المانعة الجزاء :فهي ـ كما تقدم في بحث الشروط ـ أربعة باتفاق الفقهاء :وهي
العور البيّن ،والمرض البين ،والعرج ،والعجف (الهزال) .ودليلهم حديث البراء بن عازب قال :قال
عوَرُها ،والمريضة
رسول ال صلّى ال عليه وسلم « :أربع ل تجوز في الضاحي :العوراء البيّن َ
البيّن مرضها ،والعرجاء البيّن ضَلَعها ،والكسير (أو العجفاء) التي ل تُنْقي» (. )4
وأضاف الفقهاء عيوبا أخرى بالقياس على هذه الربعة ،هي في معناها ،أو أقبح منها ،كالعمى وقطع
الرجل ،لما يترتب على ذلك من نقص اللحم ،ويكون الحديث من باب الخاص الذي أريد به العموم.
-------------------------------
( )1البدائع ،80/5 :القوانين الفقهية :ص ،188مغني المحتاج 285/4 :ومابعدها ،المغني،621/8 :
كشاف القناع.617/2 :
( )2راجع نصب الراية 215/4 :وما بعدها ،نيل الوطار 118/5 :وما بعدها.
( )3رواه أحمد وصححه والترمذي وابن حبان ،وهو على شرط مسلم ،ومعناه :أن فمه أسود ،وقوائمه
وحول عينيه سواد (نيل الوطار ،المكان السابق).
( )4رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) وصححه الترمذي ،وفيه دليل على أن متبينة العور والعرج
(الضلع) والمرض ل يجوز التضحية بها ،إل ما كان من ذلك يسيرا غير بيّن ،وكذلك الكسير التي ل
نقي لها (أي ل مخ لها) ،وفي رواية الترمذي والنسائي «والعجفاء) بدل «الكسير» (نيل الوطار:
)117-115/5فالعجفاء :هي المهزولة التي ل مخ في عظامها.
( )4/266
( )4/267
الجرب يكون في جلدها ،ول نقصان في لحمها ،بخلف المهزولة ،لن الهزال يكون في لحمها)
وال ّثوْلء (( )1المجنونة) إذا كان ترعى ،فإن امتنعت من الرعي ،لم تجزئ.
وعند المالكية ( : )2ل تجزئ العيوب المذكورة في الحديث وهي العوراء والعرجاء والمريضة
والعجفاء ،ول العمياء والمجنونة جنونا دائما ،ول مقطوعة جزء من أجزائها الصلية أو الزائدة كيد
خصْية (بيضة) لنه يجزئ الخصي ،ول الجرباء والهَرِمة والبشْماء إذا كثر الجَرَب
أو رجل ،غير ُ
والهَرَم والتّخَمة ،ول ال َبكْماء (فاقدة الصوت إل لعارض كالناقة بعد أشهر من الحمل) والصّماء (التي
صمْعاء (صغيرة الذنين جدا ،كأنها خلقت بل أذن،
ل تسمع) وال َبخْراء (منتنة رائحة الفم) ،وال َ
والبَتْراء (التي ل ذنب لها) ،ويابسة الضرع جميعه ومكسورة قرن لم يبرأ ،وفاقدة أكثر من سن بسبب
ضرب أو مرض ،ل بسبب كبر أو إثغار (تبديل أو تغيير في الصغر) ،ومقطوعة ثلث ذنب فصاعدا،
أو أكثر من ثلث أذن ،لقول علي بن أبي طالب رضي ال عنه« :أمرنا رسول ال صلّى ال عليه
وسلم أن نستشرف العين والذن ،وأل نضحي بمقابَلة ،ول مدابَرَة ،ول شَرْقاء ( )3ول خَرْقاء» .
جمّاء (المخلوقة بدون قرن) ،وبالمُقْعدة (العاجزة عن القيام) لشحم كثر عليها،
وتصح الضحية بال َ
ومكسورة قرن من أصله ،أو طرفه إن برئ.
-------------------------------
( )1ال ّثوَل :استرخاء في أعضاء الشاة خاصة ،أو كالجنون يصيبها ،فل تتبع الغنم وتستدبر في
مرتعها.
( )2الشرح الكبير 119/2 :ومابعدها ،الشرح الصغير 143/2 :ومابعدها ،القوانين الفقهية :ص 188
ومابعدها ،بداية المجتهد.419-417/1 :
( )3رواه الخمسة ( أحمد وأصحاب السنن ) وصححه الترمذي .ومعناه أن نشرف على الذن والعين
ونتأملهما ،كيل يقع فيهما نقص وعيب .والمقابلة :شاة قطعت أذنها من قدام وتركت معلقة ،والمدابرة:
التي قطعت أذنها من جانب ،والشرقاء :مشقوقة الذن طول ،والخرقاء :التي في أذنها خرق مستدير.
( )4/268
وعند الشافعية ( : )1ل تجزئ أيضا العيوب المنصوص عليها في الحديث وهي العجفاء (أي ذاهبة
المخ من شدة هزالها ،والمخ :دهن العظام) ،وذات العرج والعور والمرض البين ،ومثلها ذات الجرب
ولو كان يسيرا .ول يضر اليسير في العيوب الربعة الولى لعدم تأثيره في اللحم .ول تجزئ أيضا
ل فتهزل) ،ول مقطوعة
العمياء والمجنونة (وهي التولء التي تدور في المرعى ول ترعى إل قلي ً
بعض الذن أو بعض اللسان ،ولو كان يسيرا لذهاب جزء مأكول ،وهو نقص في اللحم .وشلل الذن
كفقدها .ول تجزئ مقطوعة اللية قطعا غير خلقة.
ويجوز التضحية بالخصي لنه « صلّى ال عليه وسلم ضحى بكبشين موجوءين ل » ( )2أي
خصيين ،لكن الفحل أفضل منه إن لم يحصل منه ضراب .ول يضرفقد قرن خلقة ،وتسمى الجلحاء،
ول كسره ما لم يعب اللحم ،وإن دمى بالكسر ،لن القرن ل يتعلق به كبير غرض ،فإن عِيب اللحم
ضر كالجرب وغيره .لكن ذات القرن أولى لخبر «خير الضحية الكبش القرن» ( ، )3ولنها أحسن
منظراَ ،بل يكره غيرها .ول يضر ذهاب بعض السنان أو أكثرها ،ويجزئ مكسور سن أو سنين؛
لنه ل يؤثر في العتلف ونقص اللحم ،فلو ذهب الكل ،ضر ،لنه يؤثر في ذلك.
وكذا ل يضر شق أذن ول خرقها ،ول ثقبها في الصح بشرط أل يسقط من الذن شي بذلك ،لنه ل
ينقص به من لحمها شيء.
والخلصة :إن كل ما ينقص اللحم ل يجوز ،وما ل ينقص اللحم يجوز.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج 286/4 :ومابعدها ،المهذب.238/1 :
( )2رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي رافع وعائشة وأبي هريرة ( نيل الوطار:
.) 119/5
( )3رواه الحاكم وصحح إسناده.
( )4/269
وعند الحنابلة ( : )1ل تصح الضحية بالعجفاء والعوراء البين عورها ،والعمياء ،والعرجاء البين
عرجها ،والمريضة التي ل يرجى برؤها بمرض مفسد للحمها كجرب أو غيره ،والعضباء (وهي التي
ذهب أكثر من نصف الذن أو القرن) ( ، )2ومثلها التي ذهب أكثر من نصف أليتها .ول تجزئ
الكسيرة كالمريضة ،ول الجداء أو الجدباء (جافة الضرع) ول الهتماء (التي ذهبت ثناياها من أصلها)،
ول العَصماء (التي انكسر غلف قرنها).
ويجزئ الخصي ( الذي قطعت خصيتاه أو سلتا ،أو رضتا ) لفعل النبي عليه السلم ،وليجزئ
مقطوع الذكر مع قطع الخصيتين ،وتجزئ الجماء ( وهي التي خلقت بل قرن ) ،والصمعاء ( وهي
الصغيرة الذن ،أو خلقت بل أذن ) ،والبتراء ( التي ل ذنب لها خلقة ،أو كان مقطوعا ) لن ذلك
ليخل بالمقصود ،وتجزئ التي بعينها بياض ليمنع النظر ،لعدم فوات المقصود من البصر .وتجزئ
الحامل من البل والبقر والغنم كالحائل.
والخلصة :إن هناك عيوبا متفقا على كونها مانعة الجزاء ،وعيوبا خَلْقية غير مانعة ،وعيوبا مختلفا
فيها كمقطوعة بعض الذن ،فالمالكية والحنفية :ليجيزون مقطوعة الكثر من الثلث ،والحنابلة:
الكثر من النصف ،والشافعية :ليجيزون قطع البعض وإن كان يسيرا .ومثل مكسورة القرن :تجزئ
عند الحنفية مالم يصل الكسر إلى المخ أي رأس العظم ،وعند المالكية :تجزئ إن برئ ولو كسر كله.
وعند الشافعية :تجزئ مالم ينقص اللحم ،وعند الحنابلة :تجزئ إن ذهب أقل من النصف.
-------------------------------
( )1المغني 623/8 :ومابعدها ،كشاف القناع. 3/3 :
( )2لما روى علي رضي ال عنه قال « :نهى رسول ال صلّى ال عليه وسلم أن يضحي بأعضب
القرن والذن » قال قتادة« :فسألت سعيد بن المسيب ،فقال نعم ،العضب :النصف فأكثر من ذلك »
رواه الشافعي وابن ماجه وأحمد وبقية أصحاب السنن ( نيل الوطار.)115/5 :
( )4/270
وفي الجملة :يندب الجيد من أعلى النعم ،والسالم من العيوب التي تجزئ معها ،كخفيف مرض،
وكسر قرن بريء.
وقال الشافعية ( : )1يكره تنزيها المذكور في الحديث السابق بسبب شق الذن أو خرقها أو ثقبها في
الصح؛ وتكره التضحية بالجلحاء ( وهي التي لم يخلق لها قرن ) وبالقصماء ( وهي التي انكسر
غلف قرنها ) ،وبالعضباء ( وهي التي انكسر قرنها )؛ لن كل ذلك يشينها ،وقد قال ابن عباس عن
الضاحي :تعظيمها استحسانها.
وكذلك قال الحنابلة ( : )2تكره المشقوقة الذن ،والمثقوبة ،وما قطع شيء منها ،لحديث علي المنهي
فيه عن تلك العيوب .وهذا نهي تنزيه ،ويحصل الجزاء بها ،ول خلف في ذلك ما عدا الظاهرية،
ولن اشتراط السلمة من أي عيب يشق ،إذ ل يكاد يوجد سالم من هذا كله.
المبحث الخامس -مندوبات الضحية ومكروهاتها وما يسن لمريد التضحية :
هناك اتفاق بين الفقهاء في أغلب مواضع هذا المبحث.
1ـ قال الحنفية ( )3يستحب للمضحي قبل التضحية :ربط الضحية قبل أيام النحر بأيام ،لما فيه من
الستعداد للقربة وإظهار الرغبة فيها ،فيكون له فيه أجر وثواب،وأن يقلدها ( )4ويجللها كالهدي،
ليشعر بتعظيمها ،لقوله تعالى { :ومن يعظم شعائر ال ،فإنها من تقوى القلوب } [الحج ]32/22:وأن
يسوقها إلى المذبح سوقا جميلً ل عنيفا ،وأل يجرها برجلها.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،287/4 :المهذب. 239 - 238/1 :
( )2المغني . 626/8 :
( )3البدائع ، 80 - 78/5 :الدر المختار. 231/5 :
( )4تقليد البدنة مثلً :أن يعلّق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي.
( )4/272
ويكره لمن اشترى أضحية أن يحلبها أو يجز صوفها ،أو ينتفع بها ،ركوبا أو حملً ،أو ينتفع بلحمها
إذا ذبحها قبل وقتها؛ لنه عينها للقربة ،والنتفاع بها يوجب نقصا فيها .وإن كان في ضرعها لبن،
وهو يخاف عليها الهلك إن لم يحلبها ،نضح ضرعها بالماء البارد ،حتى يتقلص اللبن .وإن حلبها
تصدق باللبن؛ لنه جزء من شاة متعينة للقربة .وإن ذبحها أو جزها تصدق باللحم أو بقيمته،
وبالصوف والشعر والوبر.
ويكره له بيعها لتعينها قربة بالشراء ،وإن باعها،جاز عند أبي حنيفة ومحمد ،وعليه مثلها أو أرفع
منها ( )1؛ لنه بيع مال مملوك مقدور التسليم .ولم يجز البيع عند أبي يوسف ،لنها بمنزلة الوقف،
ول يجوز بيع الموقوف.
وإن ولدت الضحية ولدا ،ذبح ولدها مع الم .وإن باعه تصدق بثمنه ،لن الم تعينت للضحية،
فيتبعها الولد.
وفي حال التضحية :يستحب لمريد التضحية :أن يذبح بنفسه ،إن قدر عليه ،لنه قربة ،فمباشرتها
بنفسه أفضل من توليتها غيره ،كسائر القربات .بدليل أن النبي صلّى ال عليه وسلم ساق مئة بدنة
هدية للحرم ،فنحر منها نيفا وستين بيده الشريفة ،ثم أعطى المُدية سيدنا عليا رضي ال عنه ،فنحر
الباقي (. )2
فإن لم يكن المضحي يحسن الذبح أناب عنه غيره مسلما ،ل كتابيا؛ لن ذبح الكتابي مكروه ولن
الضحيةقربة ،وهو ليس من أهلها ،لكن لو ذبح بالنيابة عن المسلم جاز؛ لنه أهل للذكاة .وأما
المجوسي فيحرم ذبحه لنه ليس من أهله.
ويستحب أن يتوجه الذابح إلى القبلة ،كما فعل النبي صلّى ال عليه وسلم في حديث أنس المتقدم الذي
رواه الجماعة ،وأن يضجع الذبيحة على جنبها اليسر.
-------------------------------
( )1و إن اشترى دونها ،فعليه أن يتصدق بفضل مابين القيمتين.
( )2رواه أحمد ومسلم من حديث جابر في صفة حج النبي صلّى ال عليه وسلم ( نيل الوطار:
.)105/5
( )4/273
ويستحب أن يحضر المضحي الذبح ،لقول النبي صلّى ال عليه وسلم لفاطمة « :قومي إلى أضحيتك،
فاشهديها ،فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه. )1( »...
ويدعو المضحي ،فيقول :اللهم منك ،ولك صلتي ،ونسكي ومحياي ومماتي ل رب العالمين ،ل
شريك له ،وبذلك أمرت ،وأنا من المسلمين ،لما ثبت في حديث فاطمة السابق .ثم يقول :بسم ال ،
وال أكبر ،اللهم تقبل مني ،لحديث جابر :قال « :صليت مع رسول ال صلّى ال عليه وسلم عيد
الضحى ،فلما انصرف ،أتي بكبش ،فذبحه ،فقال :بسم ال ،وال أكبر ،اللهم هذا عني ،وعمن لم
يضح من أمتي» (. )2
والمستحب في الضحية ،كما تقدم أن تكون أسمنها وأحسنها وأعظمها؛ لنها مطية الخرة.
وأفضل الشاء :أن يكون كبشا أملح أقرن ،موجوءا :خصيا ،لحديث جابر السابق.
ويستحب أن تكون آلة الذبح حادة من الحديد.
والمستحب بعد الذبح النتظار قدر مايبرد الذبيح وتسكن جميع أعضائه ،فل يسلخ قبل أن يبرد.
-------------------------------
( )1روي من حديث عمران بن حصين عند الحاكم والبيهقي والطبراني ،ومن حديث أبي سعيد
الخدري عند الحاكم أيضا ،والبزار ،ومن حديث علي عند أبي القاسم الصبهاني ،وفي إسناد الولين
مقال (نصب الراية.) 219/4 :
( )2رواه أحمد وأبو داود والترمذي ( نيل الوطار.) 109/5 :
( )4/274
- 2وقال المالكية والشافعية وجماعة من الحنابلة ( : )1المستحب لمريد التضحية إذا دخل عليه عشر
ذي الحجة أل يحلق شعره ،ول يقلم أظفاره ،حتى يضحي ،بل يكره له ذلك .وقال بعض الحنابلة:
يحرم عليه ذلك .بدليل حديث أم سلمة أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال« :إذا رأيتم هلل ذي
الحجة ،وأراد أحدكم أن يضحي ،فليمسك عن شعره وأظفاره» ( . )2ول شك بأن هذا الرأي هو
الرجح لصحة الحديث .والدليل على عدم حرمة المذكور قول عائشة« :كنت أفتل قلئد هدي رسول
ال صلّى ال عليه وسلم ،ثم يقلدها بيده ،ثم يبعث بها ،ول يحرم عليه شيء أحله ال له ،حتى ينحر
الهدي» (. )3
ولم ير الحنفية كراهة ما ذكر؛ لن المضحي ل يحرم عليه الوطء واللباس ،فل يكره له حلق الشعر
وتقليم الظفار ،كما لو لم يرد أن يضحي (. )4
-------------------------------
( )1الشرح الكبير ،12/2 :الشرح الصغير ،144/2 :القوانين الفقهية :ص ،190بداية المجتهد:
،424/1مغني المحتاج 283/3 :ومابعدها ،290 ،المهذب 238/1 :ومابعدها ،المغني640 ،8//618:
ومابعدها ،كشاف القناع ،5/3 :حاشية الباجوري على ابن قاسم.309/2 :
( )2رواه الجماعة إل البخاري ،ولفظ أبي داود ،وهو لمسلم والنسائي أيضا« :من كان له ذِبْح يذبحه،
فإذا أهل هلل ذي الحجة ،فل يأخذن من شعره وأظفاره حتى يضحي» (نيل الوطار.)112/5 :
والحكمة في النهي :أن يبقى كامل الجزاء للعتق من النار ،وقيل :للتشبه بالمحرم في الحج .والوجه
الثاني غلط عند بعض الشافعية ،لن المضحي ل يعتزل النساء ،ول يترك الطيب واللباس وغير ذلك
مما يتركه المحرم.
( )3متفق عليه.
( )4المغني.619/8 :
( )4/275
وأضاف الجمهور كالحنفية :أنه يندب توجيه الذبيحة إلى القبلة على جنبها اليسر إن كانت من البقر
والغنم ،ويقول الذابح« :بسم ال وال أكبر ،اللهم هذا منك وإليك» لما روى ابن عمر« :أن النبي صلّى
ال عليه وسلم ذبح يوم العيد كبشين ،ثم قال حين وجهها :وجهت وجهي للذي فطر السموات والرض
حنيفا ،وما أنا من المشركين ،إن صلتي ونُسُكي ( )1ومحياي ومماتي ل رب العالمين ،ل شريك له،
وبذلك أمرت ،وأنا أول المسلمين ،بسم ال ،وال أكبر ،اللهم هذا منك ولك» ( )2فإن قال بعدئذ:
«اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك» فحسن .وإن اقتصر على التسمية فقد ترك الفضل.
وقد عدد الشافعية خمسة أشياء تستحب عند الذبح وهي :التسمية بالبسملة كلها أو بسم ال ،والصلة
على النبي صلّى ال عليه وسلم ،واستقبال القبلة بالذبيحة ،والتكبير قبل التسمية أو بعدها ،والدعاء
بالقبول فيقول الذابح :اللهم هذه منك وإليك ،أي نعمة صادرة منك ،تقربت بها إليك.
والفضل أن يذبح الرجل بنفسه إن أحسن الذبح ،اتباعا لفعل النبي صلّى ال عليه وسلم ( . )3والسنة
للمرأة أن توكل عنها .وأن يحضر المضحي أضحيته بنفسه ،عملً بالسنة وطلبا للمغفرة ،والمستحب
أن يذبحها مسلم ،لنها قربة ،فل يليها غير أهل القربة ،قال جابر« :ل يذبح النسك إل مسلم» .
ويجوز توكيل مسلم بالذبح ،لن النبي صلّى ال عليه وسلم وكل عليا رضي ال عنه بذبح ما بقي من
المئة بدنة .ويكره استنابة ذمي (كتابي) وصبي وأعمى .وإن وكل ذميا فذبح ،جاز؛ لنه يجوز للكافر
أن يتولى ما كان قربة للمسلم كبناء المساجد والقناطر.
-------------------------------
( )1النسك :العبادة.
( )2رواه أبو داود ،ويقول غير النبي :وأنا من المسلمين لمناسبة المعنى.
( )3رواه الشيخان.
( )4/276
وليس على الوكيل أن يقول عند الذبح عمن؛ لن النية تجزئ ،وإن ذكر من يضحي عنه ،لن النبي
صلّى ال عليه وسلم حينما ضحى ،قال« :اللهم تقبل من محمد وآل محمد ،وأمة محمد ،ثم ضحى» (
)1وقال الحسن :يقول« :بسم ال وال أ كبر ،هذا منك ولك ،تقبل من فلن» .
وقال الحنفية :يكره أن يذكر الذابح اسم غير ال ،لقوله تعالى{ :وما أهلّ لغير ال به} [المائدة.]3/5:
وإن عين الشخص أضحية ،فذبحها فضولي غيره بغير إذنه ،أجزأت عن صاحبها ،ول ضمان عليه
عند غير المالكية ،لنه فعل ل يفتقر إلى النية ،فإذا فعله غير الصاحب أجزأ عنه ،كغسل ثوبه من
النجاسة .وقال مالك :هي شاة لحم ،لصاحبها أرشها أي قيمتها ،وعليه بدلها؛ لن الذبح عبادة ،فإذا
فعلها غير صاحبها عنه ،بغير إذنه ،لم تقع الموقع كالزكاة (. )2
ويكره عند المالكية ( : )3جز صوف الضحية قبل الذبح إل إذا تضررت ببقاء الصوف لحر ونحوه،
وشرب لبنها ،لنه نواها ل ،والنسان ل يعود في قربته .ويكره للمام عدم إبراز الضحية للمصلى،
ولغيره يندب؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم كان يذبح وينحر بالمصلى ( : )4وهو مكان صلة
العيد ،والحكمة فيه أن يكون بمرأى من الفقراء فيصيبون من لحم الضحية.
-------------------------------
( )1رواه مسلم.
( )2المغني ،642/8 :كشاف القناع ،11/3 :الكتاب مع اللباب ،237/3 :مغني المحتاج،290/4 :
الشرح الكبير 123/2 :ومابعدها.
( )3الشرح الكبير ،122/2 :الشرح الصغير.146/2 :
( )4رواه البخاري وأصحاب السنن إل الترمذي عن ابن عمر.
( )4/277
وفصل الشافعية والحنابلة ( )1في المر فقالوا :ل يشرب المضحى من لبن الضحية المعينة إل
الفاضل عن ولدها ،فإن لم يفضل عنه شيء ،أو كان الحلب يضرّ بها ،أو ينقص لحمها ،لم يكن له
أخذه .وإن لم يكن كذلك فله حلب اللبن والنتفاع به؛ لن بقاء اللبن معها يضرها .ولو تصدق به كان
أفضل ،خروجا من الخلف .ودليل جواز النتفاع ،قول علي« :ل يحلبها إل ما فضل عن تيسير
ولدها» ولنه انتفاع ل يضر بها ول بولدها.
ويجوز لصاحب الضحية المعينة الركوب عليها لحاجة فقط ،بل ضرر؛ لن النبي صلّى ال عليه
وسلم قال« :اركبها بالمعروف ،إذا ألجئت إليها ،حتى تجد ظهرا» ( ، )2ولنه تعلق بها حق
المساكين ،فلم يجز ركوبها من غير ضرورة أو حاجة كملكهم .فإن تضررت بالركوب لم يجز؛ لن
الضرر ل يزال بالضرر ،ويضمن النقص الحاصل بركوبه ،لتعلق حق غيره بها.
وأما صوفها :فإن كان جزه أنفع لها ،كأن كان في وقت الصيف أو الربيع ،وبقي إلى وقت النحر مدة
طويلة ،جاز جزه؛ لنها تخف بجزه وتسمن ،ويتصدق به وهو الفضل ،أو ينتفع به كاللبن .وإن كان
ل يضر بها الصوف لقرب مدة الذبح ،أو كان بقاؤه أنفع لها ،كما في وقت الشتاء ،لحتياجها له
للدفء ،لم يجز جزه ول أخذه؛ لن الحيوان ينتفع به ،في دفع البرد عنه ،وينتفع به المساكين عند
الذبح.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،292/4 :المهذب ،241 ،236/1 :المغني 629/8 :ومابعدها ،كشاف القناع9/3 :
ومابعدها.
( )2رواه أبو داود.
( )4/278
( )4/279
{فكلوا منها ،وأطعموا القانع ،والمعتر} ([ )1الحج{ ،]36/22:وأطعموا البائس الفقير} [الحج]28/22:
وأوجب الحنابلة الطعام عملً باليتين؛ لن المر يقتضي الوجوب.
ودليل نسبة التوزيع أثلثا عند غير المالكية :ما روى ابن عباس في صفة أضحية النبي صلّى ال
سؤّال بالثلث» ()2
عليه وسلم « :ويطعم أهل بيته الثلث ،ويطعم فقراء جيرانه الثلث ،ويتصدق على ال ُ
.وجهات التوزيع ثلثة :الكل ،والدخار ،لما ثبت في الحديث ،والطعام لما ثبت في الية ،فانقسم
عليها ثلثا.
ودليل المالكية على عدم وجود نسبة للتوزيع ،وأنها مطلقة :أحاديث عائشة وجابر ،وسلمة بن الكوع
وأبي سعيد وبريدة وغيرهم ،التي ورد فيها« :كلوا ،وادخروا ،وتصدقوا» أو« :كلوا وأطعموا،
وادخروا» (. )3
والدليل على جواز ادخار لحوم الضاحي عدا المذكور :قوله صلّى ال عليه وسلم « :كنت نهيتكم عن
ادخار لحوم الضاحي فوق ثلث من أجل الدافّة ( ، )4وقد جاء ال بالسعة ،فادخروا ما بدا لكم» ()5
.
ويحرم بيع جلد الضحية وشحمها ولحمها وأطرافها ورأسها وصوفها وشعرها ووبرها ولبنها الذي
يحلبه منها بعد ذبحها ،واجبة كانت أو تطوعا؛ لن
-------------------------------
( )1القانع :السائل الفقير ،والمعتر الذي يعتريك أو يتعرض لك بالسؤال لتطعمه ،ول يسأل
)2( .رواه الحافظ أبو موسى الصفهاني في الوظائف ،وقال :حديث حسن .وهو قول ابن مسعود
وابن عمر ،بدون مخالف من الصحابة.
( )3انظر نيل الوطار 126/5 :ومابعدها.
( )4الدافة :جماعة من العراب ،كانوا قد دخلوا المدينة طلبا للزاد ،لن السنة أهلكتهم في البادية.
( )5رواه مسلم ،وفي حديث عائشة« :إنما نهيتكم من أجل الدافّة ،فكلوا ،وادخروا وتصدقوا» متفق
عليه.
( )4/280
النبي صلّى ال عليه وسلم أمر بقسم جلودها ونهى عن بيعها ،فقال« :من باع جلد أضحيته ،فل
أضحية له» (. )1
ول يجوز إعطاء الجزار أو الذابح جلدها أو شيئا منها كأجرة للذبح ،لما روى علي رضي ال عنه
قال « :أمرني رسول ال صلّى ال عليه وسلم أن أقوم على بُدْنه (أي عند نحرها) ،وأن أقسم
جلودها ،وجللها ( ، )2وأل أعطي الجازر شيئا منها» وقال « :نحن نعطيه من عندنا» (. )3
فإن أعطي الجزار شيئا من الضحية لفقره ،أو على سبيل الهدية ،فل بأس؛ لنه مستحق للخذ فهو
كغيره ،بل هو أولى ،لنه باشرها ،وتاقت نفسه إليها.
وللمضحي أن ينتفع بجلد الضحية لستعماله في البيت كجراب وسقاء وفرو وغربال ونحوها ،ولكن
له استحسانا عند الحنفية خلفا لغيرهم :أن يشتري به ما ينتفع بعينه مع بقائه أي مبادلته بعروض
(أمتعة) أخرى؛ لن للبدل حكم المبدل ،والمعاوضة بالعروض من باب النتفاع .ول يجوز أن يشتري
به شيئا استهلكيا كالدراهم والدنانير والمأكولت والمشروبات ،أي فل يجوز البيع بالنقود أو السلع
الستهلكية.
ودليل جواز النتفاع بالجلد :أن عائشة رضي ال عنها اتخذت من جلد أضحيتها سقاء.
-------------------------------
( )1رواه الحاكم ،وقال :حديث صحيح السناد ،ورواه البيهقي أيضا (نصب الراية )218/4 :وروى
أحمد أيضا حديثا عن أبي سعيد ،وفيه« :ول تبيعوا لحوم الهدي والضاحي» (نيل الوطار.)129/5 :
( )2الجلل :ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه ،ويجمع أيضا على :أجلة ،ومفرده :جلل
بضم الجيم.
( )3متفق عليه.
( )4/281
ويكره عند المالكية أن يطعم منها يهوديا أو نصرانيا.
وأجاز الحنابلة إهداء الكافر من أضحية التطوع ،أما الواجبة فل يجوز إهداء الكافر منها شيئا (. )1
أما نقلها إلى بلد آخر :فقال الحنفية :يكره نقلها كالزكاة من بلد إلى بلد إل أن ينقلها إلى قرابته أو إلى
قوم هم أحوج إليها من أهل بلده ،ولو نقل إلى غيرهم أجزأه مع الكراهة .وقال المالكية :ول يجوز
نقلها إلى مسافة قصر فأكثر إل أن يكون أهل ذلك الموضع أشد حاجة من أهل محل الوجوب ،فيجب
نقل الكثر لهم ،وتفرقة القل على أهله .وقال الحنابلة والشافعية كالمالكية :يجوز نقلها لقل من
مسافة القصر ،من البلد الذي فيه المال ،ويحرم نقلها كالزكاة إلى مسافة القصر وتجزئه..
- 2وقال الشافعية ( : )2الضحية الواجبة ـ المنذورة أو المعينة بقوله مثلً« :هذه أضحية» أو
«جعلتها أضحية» :ل يجوز الكل منها ،ل المضحي ول من تلزمه نفقته .ويتصدق بجميعها وجوبا.
ويذبح ولد الضحية المعينة كأمه ،لكن يجوز للمضحي أكله كله قياسا على اللبن ،إذ أن له شرب
فاضل لبنها عن ولدها مع الكراهة.
وأما الضحية التطوع :فالمستحب للمضحي بها عن نفسه الكل منها ،أي أن الفضل له تناول لقم
يتبرك بأكلها ،لقوله تعالى{ :فكلوا منها ،وأطعموا البائس الفقير} [الحج ]28/22:وعند البيهقي« :أنه
صلّى ال عليه وسلم كان يأكل من كبد أضحيته» .وإنما ل يجب الكل منها ـ كما قال الظاهرية
عملً بظاهر الية ـ لقوله تعالى{ :والبدن جعلناها لكم من شعائر ال } [الحج ]36/22:فجعلها لنا،
وما جعل للنسان فهو مخير بين تركه وأكله.
وللمضحي أيضا إطعام الغنياء ،ل تمليكهم منها شيئا ،بل يرسل إليهم على سبيل الهدية ،دون أن
يتصرفوا فيه بالبيع وغيره.
والمضحي يأكل ثلثا على المذهب الجديد ،وفي قول قديم :يأكل نصفا ويتصدق بالنصف الخر.
-------------------------------
( )1كشاف القناع.19/3 :
( )2مغني المحتاج 290/4 :ومابعدها ،المهذب.240/1 :
( )4/282
والصح وجوبا التصدق ببعض الضحية ،ولو جزءا يسيرا من لحمها ،بحيث ينطلق عليه السم ،على
الفقراء المسلمين ولوواحدا .والفضل التصدق بالكل إل لقما يتبرك بأكلها ،كما تقدم.
ويتصدق المضحي في أضحية التطوع بجلدها ،أو ينتفع به ،كما يجوز له النتفاع بها ،والتصدق به
أفضل .أما الواجبة :فيجب التصدق بجلدها.
ول يجوز نقل الضحية من بلدها لمسافة القصر فأكثر كما هو المقرر في نقل الزكاة.
الضحية عن الغير :قال الشافعية ( : )1ل يضحى عن الغير بغير إذنه ،ول عن ميت إن لم يوص
بها ،لقوله تعالى{ :وأن ليس للنسان إل ما سعى} [النجم ]39/53:فإن أوصى بها جاز ،وبإيصائه تقع
له .ويجب التصدق بجميعها على الفقراء ،وليس لمضحيها ول لغيره من الغنياء الكل منها ،لتعذر
إذن الميت في الكل.
وقال المالكية ( : )2وكره فعلها عن ميت إن لم يكن عينها قبل موته ،فإن عينها بغير النذر ،ندب
للوارث إنفاذها .وقال الحنفية والحنابلة ( : )3تذبح الضحية عن ميت ،ويفعل بها كعن حي من
التصدق والكل ،والجر للميت ،لكن يحرم عند الحنفية الكل من الضحية التي ضحى بها عن الميت
بأمره.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،292/4 :المحلي على المنهاج.255/4 :
( )2الشرح الكبير.122/2 :
( )3رد المحتار والدر المختار ،229/5 :كشاف القناع.18/3 :
( )4/283
( )4/284
والصحيح أن العتيرة هي الرجبية ،سواء بنذر أو بغير نذر ،وهي سنة جاهلية (. )1
وقال جمهور الفقهاء (غير الحنفية) ( : )2ل تسن العتيرة ،أو الرجبية ،وتسن للب من ماله العقيقة
عن المولود ،ول تجب؛ لن النبي صلّى ال عليه وسلم ،في حديث ابن عباس« :عق عن الحسن
والحسين عليهما السلم كبشا كبشا» ( . )3وقال « :مع الغلم عقيقة ،فأهريقوا عنه دما ،وأميطوا عنه
الذى» (« )4كل غلم رهينة بعقيقته ،تُذبح عنه يوم سابعه ،ويُسمى فيه ،ويحلق رأسه» ( . )5وقال
الشافعية :تسن لمن تلزمه نفقته.
وحكمتها :شكر نعمة ال تعالى برزق الولد ،وتنمية فضيلة الجود والسخاء وتطييب قلوب الهل
والقارب والصدقاء بجمعهم على الطعام ،فتشيع المحبة والمودة واللفة.
-------------------------------
( )1قال ابن سراقة :آكد الدماء المسنونة :الهدايا ،ثم الضحايا ،ثم العقيقة ،ثم العتيرة ،ثم الفرع.
والعتيرة :ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الول من رجب ،ويسمونها الرجيبة ،والفرع :أول نتاج
البهيمة ،كانوا يذبحونه ول يملكونه رجاء البركة في الم ،ويكرهان لخبر البخاري« :ل فرع ول
عتيرة» .
( )2الشرح الكبير للدردير ،126/2 :القوانين الفقهية :ص ،191مغني المحتاج 293/4 :ومابعدها،
المهذب 241/1 :ومابعدها ،المغني 645/8 :ومابعدها ،650،كشاف القناع 20/3 :ومابعدها ،بداية
المجتهد 448/1 :ومابعدها.
( )3رواه أبو داود ،والنسائي ،وقال :بكبشين كبشين (نيل الوطار.)135/5 :
( )4رواه الجماعة إل مسلما عن سلمان بن عامر الضّبي (نيل الوطار.)131/5 :
( )5رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) وصححه الترمذي عن سمرة (نيل الوطار ،المكان
السابق).
( )4/285
( )4/286
ودليل كراهية التلطيخ أيضا قوله صلّى ال عليه وسلم « :مع الغلم عقيقة ،فأهريقوا عنه دما،
وأميطوا عنه الذى» (. )1
- 5حكم لحمها وجلدها :
حكم اللحم كالضحايا ،يؤكل من لحمها ،ويتصدق منه ،ول يباع شيء منها .ويسن طبخها ،ويأكل منها
أهل البيت وغيرهم في بيوتهم ،وكره عند المالكية عملها وليمة يدعو الناس إليها .ويجوز عند
المالكية :كسر عظامها ،ول يندب .وقال الشافعية والحنابلة:يجوز اتخاذ الوليمة ،ول يكره كسر
العظام ،إذ لم يثبت فيه نهي مقصود ،بل هو خلف الولى ،ويستحب أن تفصل أعضاؤها ،ول تكسر
عظامها ،تفاؤلً بسلمة أعضاء المولود ،لما روي عن عائشة ،أنها قالت« :السنة شاتان مكافئتان عن
الغلم ،وعن الجارية شاة تطبخ جُدولً ( ، )2ول يكسر عظم ،ويأكل ويطعم ،ويتصدق ،وذلك يوم
السابع» .
وأجاز المام أحمد في رواية عنه بيع الجلد والرأس والتصدق به .ويستحب إعطاء القابلة من العقيقة؛
لما في مراسيل أبي داود أن النبي قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين« :أن يبعثوا
إلى القابل برِجْل ،وكلوا وأطعموا ،ول تكسروا منها عظما» .
فيكون الفرق بين العقيقة والضحية :أنه يسن طبخ العقيقة ،ويستحب أل تكسر عظامها ،وأن تهدى
القابلة رجل العقيقة نيئة غير مطبوخة؛ لن فاطمة رضي ال عنها فعلت ذلك بأمر النبي صلّى ال
عليه وسلم ،كما روى الحاكم.
-------------------------------
( )1رواه الجماعة إل مسلما عن الصبي ،وسبق تخريجه ،وهذا يقتضي أل يمس بدم لنه أذى .ولكن
ذكر في رواية« :فأهرقوا عليه دما» وروى همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة« :الغلم مرتهن
بعقيقته ،تذبح عنه يوم السابع ،ويدمى» وهذا دليل قتادة والحسن القائلين باستحباب اللطخ بالدم .قال
ابن عبد البر :ل أعلم أحدا قال هذا إل الحسن وقتادة ،وأنكر سائر أهل العلم وكرهوه ،للحديث السابق
(المغني.)647/8 :
( )2تطبخ جدولً :أي ل يكسر لها عظم ،وإنما تطبخ عضوا عضوا.
( )4/287
( )4/288
إبراهيم ،وحنكه بتمرة» زاد البخاري« :ودعا له بالبركة ،ودفعه إلي ،وكان أكبر ولد أبي موسى» .
وروى أنس قال« :ذهبت بعبد ال بن أبي طلحة إلى رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،حين ولد ،فقال:
هل معك تمر؟ قلت :نعم ،فناولته تمرات ،فلكهن ،ثم فغر فاه ،ثم مجّه فيه ،فجعل يتلمظ ،فقال رسول
ال صلّى ال عليه وسلم :حَب النصار :التمر ،وسماه :عبد ال » (. )1
ويندب أن يُهنّأ الوالد ،بأن يقال له« :بارك ال لك في الموهوب لك ،وشكرت الواهب ،وبلغ أشده،
ورزقت بره » ويرد هو على المهنئ ،فيقول« :بارك ال لك ،وبارك عليك» أو« :أجزل ال ثوابك»
أو نحو ذلك (. )2
ويستحب حلق رأس المولود في اليوم السابع من ولدته ،وأن يُسمى فيه ،بعد ذبح العقيقة ،ويُتَصدّق
بوزن شعره ذهبا أو فضة ( ، )3لنه صلّى ال عليه وسلم أمر فاطمة ،فقال« :زِني شعر الحسين،
وتصدقي بوزنه فضة» ( ، )4كما قال لها لما ولدت الحسن« :احلقي شعر رأسه ،فتصدقي بوزنه من
الوَرِق» ( )5أي الفضة .وقيس بالفضة :الذهب.
ويكره الختان يوم الولدة ويوم السابع عند الحنفية؛ لنه من فعل اليهود .ويستحب عند الشافعية أن
يكون الختان في اليوم السابع من ولدته ،لما أخرجه البيهقي عن عائشة « :أن النبي صلّى ال عليه
وسلم ختن الحسن والحسين يوم السابع من ولدتهما» .والختان للذكر بقطع الجلدة التي تغطي
الحشفة :سنة مؤكدة عند
-------------------------------
( )1متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الوطار.)136/5 :
( )2مغني المحتاج ،المكان السابق.
( )3القوانين الفقهية :ص ،192مغني المحتاج ،295/4 :المهذب ،241/1 :كشاف القناع.25/3 :
( )4رواه الحاكم وصححه.
( )5رواه أحمد عن أبي رافع (نيل الوطار.)136/5 :
( )4/289
المالكية والحنفية للذكور ،والخفاض في النساء مكرمة وهي قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى
الفرج ،ويندب أل تَ ْنهَك ،أي ل تجور في قطع الجلدة التي في أعلى الفرج لجل تمام اللذة في الجماع.
وقال الشافعية :الختان فرض على الذكور والناث ،وقال أحمد :الختان واجب على الرجال ،مكرمة
في حق النساء ( ، )1ويجري هذا عادة في البلد الحارة .ويستحب أن يؤخر عند المالكية حتى يؤمر
الصبي بالصلة ،وذلك من السبع إلى العشر.
وحكمة الختان :المبالغة في الطهارة والنظافة ،وتمييز المسلم من غيره .ويسن أن يحسن الوالد اسم
المولود ( )2لخبر« :إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم ،وأسماء آبائكم ،فحسّنوا أسماءكم» (. )3
وأفضل السماء :عبد ال ،وعبد الرحمن ،لخبر مسلم« :أحب السماء إلى ال تعالى :عبد ال ،وعبد
الرحمن» ،زاد أبو داود« :وأصدقها :حارث وهمام ،وأقبحها :حرب ومرة» .ومثل ذلك كل ما
أضيف إلى أسماء ال الحسنى .ومثله أسماء النبياء أو الملئكة لحديث« :تسموا باسمي ،ول تكنوا
بكنيتي» ( . )4قال مالك :سمعت أهل المدينة يقولون« :ما من أهل بيت فيهم اسم محمد ،إل رزقوا
رزق خير» .فالتكني بأبي القاسم حرام (. )5
وتكره السماء القبيحة ،كشيطان وظالم وشهاب وحمار وكليب ،وما
-------------------------------
( )1الشرح الكبير ،126/2 :شرح الرسالة 393/1 :ومابعدها ،المغني 85/1 :ومابعدها .القوانين
الفقهية :ص ،192الفصاح لبن هبيرة ،206/1 :الدرر المباحة في الحظر والباحة للشيباني
النحلوي :ص ،33شرح العناية على الهداية في تكملة الفتح.99/8 :
( )2مغني المحتاج 294/4 :ومابعدها ،المهذب ،242/1 :كشاف القناع 22/3 :ومابعدها.
( )3رواه أبو داود.
( )4رواه أبو نعيم.
( )5ثبت النهي عن التكني بأبي القاسم ،لكن كان ذلك في زمنه عليه السلم ،أو في حالة الجمع بينه
وبين اسم (محمد) كما قال النووي ،وهو الولى.
( )4/290
يتشاءم بنفيه عادة ،كنجيح وبركة ،لخبر« :ل تسمين غلمك :أفلح ول نجيحا ،ول يسارا ،ول رباحا،
فإنك إذا قلت :أث ّم هو؟ قال :ل» ،ويسن أن تغير السماء القبيحة ،وما يتطير بنفيه لخبر مسلم« :أنه
صلّى ال عليه وسلم غيّر اسم عاصية ،وقال :أنت جميلة» .وفي الصحيحين أنه غير اسم بَرّة إلى
زينب ،وهي زينب بنت جحش.
ويجوز التسمية بأكثر من اسم واحد ،والقتصار على اسم واحد أولى ،لفعله صلّى ال عليه وسلم
بأولده.
ويكره كراهة شديدة التسمية بست الناس أو العلماء ،أو القضاة ،أو العرب ،لنه كذب.
ول تجوز التسمية بملك الملك وشاهان شاه ،ومعناه :ملك الملك وليس ذلك إل ال .
والتسمية بعبد النبي قد تجوز إذا قصد به التسمية ،ل النبي صلّى ال عليه وسلم ،ومال الكثرون
إلى المنع منه ،خشية التشريك لحقيقة العبودية ،واعتقاد حقيقة العبودية.
ول تجوز التسمية بعبد الكعبة ،وعبد العزى.
ويحرم تلقيب الشخص بما يكره ،وإن كان فيه ،كالعور والعمش ،ويجوز ذكره بنية التعريف لمن لم
يعرفه إل به.
وتجوز اللقاب الحسنة ،كألقاب الصحابة مثل عمر الفاروق ،وحمزة أسد ال ،وخالد سيف ال .
ويحرم التسمية بما ل يليق إل بال ،كقدوس ،والبر ،وخالق ،والرحمن ،لن معنى ذلك ل يليق بغيره
تعالى .وتستحب كما تقدم التهنئة بالمولود بين الرجال وبين النساء ،بأن يقال :بارك ال لك في
الموهوب لك ،وشكرت الواهب ،وبلغ أشده ،ورُزقت بِرّه .ويجيب الوالد والوالدة :بارك ال لكم،
وبارك عليكم ،وأجزل ثوابكم.
( )4/291
( )4/292
الخنزير ،وما أهل لغير ال به ،والمنخنقة ،والموقوذة ،والمتردية ،والنطيحة ،وما أكل السبع ،إل ما
ذكيتم} [المائدة ]3/5:فقد علق الحل بالتذكية.
ولقوله صلّى ال عليه وسلم « :ما أنهر الدم ،وذكر اسم ال عليه ،فكلوا ما لم يكن سنا أو ظفرا،
وسأحدثكم عن ذلك :أما السن فعظم ،وأما الظّفر فمدى الحبشة» (. )1
والحكمة من الذبح :مراعاة صحة النسان العامة ،ودفع الضرر عن الجسم ،بفصل الدم عن اللحم
وتطهيره من الدم؛ لن تناول الدم المسفوح حرام بسبب إضراره بالنسان ،لنه مباءة الجراثيم
والمكروبات ،ولكل دم زمرة أو فصيلة تناسبه ،فيمنع الختلط بين الدماء ،ويعد الدم نجسا تنفيرا منه.
قال بعض العلماء :والحكمة في اشتراط الذبح وإنهار الدم تمييز حلل اللحم والشحم من حرامهما،
وتنبيه على تحريم الميتة لبقاء دمها.
المبحث الول ـ الذابح
الذابح أحد أصناف ثلثة :صنف تحرم ذكاته بالتفاق ،وصنف تجوز تذكيته بالتفاق ،وصنف مختلف
فيه (. )2
فالذابح الذي ل تؤكل ذبيحته وتحرم بالتفاق :هو الكافر من غير أهل الكتاب ،كالمشرك أو الوثني
عابد الصنام ،والملحد الذي ل يدين بدين ،والمرتد وإن تدين بدين أهل الكتاب ،والزنديق ،لقوله
تعالى{ :وما ذُبح على الّنصُب} [المائدة ]3/5:وقوله{ :وما أهل لغير ال به} [المائدة ]3/5:لنه يحرم
التجاه
-------------------------------
( )1رواه الجماعة عن رافع بن خديج (نيل الوطار.)141/8 :
( )2بداية المجتهد ،435/1 :القوانين الفقهية :ص ،180الميزان ،60/2 :رحمة المة بهامش الميزان
للدمشقي ،154/1 :البدائع ،45/5 :المهذب ،251/1 :المغني ،564/8 :كشاف القناع.203/6 :
( )4/293
بالذبح إلى غير ال تعالى ،والمرتد ل يقر على الدين الذي انتقل إليه ،وبناء عليه تحرم اللحوم
المستوردة من البلد الوثنية كاليابان ،أو الشيوعية كروسيا والصين ،أو التي ل تدين بدين سماوي
كالهند .كماتحرم ذبيحة الباطنية إل من ثبت إيمانه بالسلم وترك ملته.
والذابح المتفق على ذكاته :هو المسلم البالغ العاقل الذكر ،الذي ل يضيع الصلة ،لقوله تعالى{ :إل ما
ذكيتم} [المائدة ]3/5:والخطاب فيه موجه للمسلمين.
وأشهر المختلف في تذكيته بين الفقهاء :أهل الكتاب والمجوس والصابئون ،والمرأة والصبي
والمجنون والسكران ،والسارق والغاصب.
ً 1ـ ذبيحة الكتابي :فأما أهل الكتاب :فتجوز من حيث المبدأ ذبائحهم بالجماع ( )1لقوله تعالى:
{وطعام الذين أوتوا الكتاب} ـ أي ذبائحهم ـ {حل لكم ،وطعامكم حل لهم} [المائدة .]5/5:والجائز:
هو ما يعتقدونه في شريعتهم حللً لهم ،ولم يحرم عليهم ،كلحم الخنزير ،ولو لم يعلم أنهم سموا ال
تعالى ،أو كانت الذبيحة لكنائسهم وأعيادهم ولو اعتقدوا تحريمه كالبل .قال ابن عباس« :وإنما أحلت
ذبائح اليهود والنصارى من أجل أنهم آمنوا بالتوراة والنجيل» (. )2
إل أن المام مالك قال :ذبائحهم المحرمة عليهم مكروهة لنا ،كالبل والشحوم الخالصة ،وهي
المذكورة في قوله تعالى{ :وعلى الذين هادوا حرمنا كل
-------------------------------
( )1البدائع ،المكان السابق ،تكملة الفتح ،52/8 :تبيين الحقائق ،287/5 :رد المحتار ،208/5 :بداية
المجتهد ،436/1 :الشرح الكبير ،99/2 :المنتقى على الموطأ ،112/2 :مغني المحتاج266/4 :
ومابعدها ،المغني 567/8 :ومابعدها .تفسير القرطبي ،76/6 :أحكام القرآن للجصاص.146/1 :
( )2رواه الحاكم وصححه.
( )4/294
ذي ظفر ( ، )1ومن البقر والغنم ،حرمنا عليهم شحومهما ،إل ما حملت ظهورهما ،أو الحوايا ،أو ما
اختلط بعظم} [النعام .]146/6:وأجازها الجمهور لنها مسكوت عنها في شرعنا ،فتبقى على أصل
الباحة.
وكذلك تكره عند المالكية والشافعية وفي رواية عن أحمد المذبوحة لكنائسهم وأعيادهم ،لما فيها من
تعظيم شركهم ،ولن الذابح قصد بقلبه الذبح لغير ال ،ولم يذكر اسم ال عليه .وهذا هو الصوب.
وأما إذا علم أن الذابح سمى على الذبيحة غير اسم ال ،بأن ذبح النصراني باسم المسيح ،واليهودي
باسم العزير ،فقال الجمهور بعدم الحل لقوله تعالى{ :وما أهل لغير ال به} [المائدة{ ]3/5:ول تأكلوا
مما لم يذكر اسم ال عليه} [النعام ]121/6:وهذا هو الولى بالصحة؛ لن المراد بحل ذبائحهم ما
ذبحوه بشرطه كالمسلم.
وقال المالكية :بكراهة ذلك في غير حرمة ،لعموم آية {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة:
]5/5لنه قد علم ال أنهم سيقولون على ذبائحهم مثل ذلك ،ولن تسميتهم باسم الله حقيقة ليست على
طريق العبادة ،فكانت التسمية منهم وعدمها على سواء.
وقيد الشافعية حل ذبيحة الكتابي وزواج الكتابية بشرط هو ما يأتي (: )2إن لم يكن الكتابي إسرائيليا:
فالظهر الحل إن علم دخول قومه (أي أول من تدين من آبائه) في ذلك الدين (أي دين موسى وعيسى
عليهما السلم) قبل نسخه وتحريفه ،لتمسكهم بذلك الدين حين كان حقا.
-------------------------------
( )1قال قتادة :تفسير كل ذي ظفر :هي البل والنعام والبط وكل ما ليس بمشقوق الصابع.
( )2مغني المحتاج 187/3 :وما بعدها.
( )4/295
وإن كان الكتابي إسرائيليا ( )1فالشرط فيه :أل يعلم دخول أول آبائه في ذلك الدين بعد بعثة تنسخه،
بأن علم دخول أول آبائه في ذلك الدين قبل البعثة ،أو شك .فإن علم دخوله فيه بعد تحريفه ،أو بعد
بعثه ل تنسخه ،كبعثة بين موسى وعيسى ،فإنه يحل ذبحه ،وتزوج النثى ( . )2وفي علمي أنه ل
دليل للشافعية على هذا الشرط؛ لن الصحابة رضي ال تعالى عنهم أكلوا من ذبائح الكتابيين
وتزوجوا من نسائهم ،ولم يبحثوا عن توافر هذا الشرط.
ً 2ـ ذبيحة المجوس :ل تؤكل ذبيحة المجوس وصيدهم ( )3؛ لنهم مشركون ليسوا من أهل
الكتاب ،إذ يعتقد المجوسي بخالقين اثنين :للخير والشر ،ولقوله صلّى ال عليه وسلم « :سنوا بهم سنة
أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ،ول آكلي ذبائحهم» ( )4وقد روى أحمد بإسناده عن قيس بن سكن
السدي قال :قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم « :إنكم نزلتم بفارس من النّبط ،فإذا اشتريتم لحما،
فإن كان من يهودي أو نصراني ،فكلوا ،وإ ن كان ذبيحة مجوسي ،فل تأكلوا» .
ً 3ـ ذبيحة الصابئة :الصابئون إن وافقوا أهل الكتاب في أصول العقائد تؤكل ذبائحهم ،وإن لم
يوافقوهم وكان دينهم بين المجوسية والنصرانية ،أو يعتقدون بتأثير النجوم ،فل تؤكل ذبائحهم (. )5
وهذا التفصيل وهو رأي الشافعية هو الولى خلفا لمن قال بالحل كأبي حنيفة ،أو بالحرمة مطلقا وهم
المالكية.
-------------------------------
( )1وهو المنسوب إلى إسرائيل ،وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلة والسلم.
( )2ولم يجز الشيعة المامية أكل ذبيحة الكتابي لقول جعفر الصادق« :ل تأكلوا ذبائحهم» ولن الله
الذي يذكرون اسمه ـ إن ذكروه ـ هو أبو المسيح أو أبو عزير ،فوجود هذا اللفظ كعدمه.
(المختصر النافع في فقه المامية :ص .)251
( )3تبيين الحقائق ،287/5 :البدائع ،45/5 :الدر المختار ،209/ :بداية المجتهد ،438/1 :مغني
المحتاج ،266/4 :المغني.570/8 :
( )4غريب بهذا اللفظ ،وروي من طريق آخر ،مطعون السند (نصب الراية .)181/4 :ومن تمسك
بحل ذبيحة المجوسي كأبي ثور احتج بالشق الول منه وهو «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» .
( )5القوانين الفقهية :ص ،180بداية المجتهد.438/1 :
( )4/296
ً 4ـ ذبيحة المرأة والصبي :تحل ذبيحة المرأة ولو حائضا ،والصبي المميز ( )1؛ لن للمرأة أهلية
كاملة ،لكن يستحب كون الذابح رجلً؛ لنه أقوى على الذبح من المرأة ،ولن للصبي قصدا صحيحا،
فأشبه البالغ .وتصح ذبيحة غير المميز مع الكراهة عند الشافعية؛ لن له قصدا وإرادة في الجملة .ول
تصح ذبيحته عند جمهور الفقهاء لنه ل قصد له ،فل يعقل التسمية ،ول يضبط الذبيحة ،أي فل يعلم
شرائط الذبح من فري الوداج والتسمية.
ً 5ـ المجنون والسكران :ل تحل ذبيحتهما عند الجمهور ،لنه ل قصد لهم كالصبي غير المميز،
وأجاز الشافعية في الظهر مع الكراهة ذبيحتهما؛ لن لهما قصدا وإرادة في الجملة (. )2
ً 6ـ السارق والغاصب :أجاز جمهور الفقهاء غير الظاهرية ذبيحتهما ،وذبيحة المستكره؛ لن لهما
قصدا صحيحا ،ولنه ليس وجود الملك شرطا من شروط التذكية ( ، )3بدليل ما ثبت في السنة من
إباحة ذبحهما مع الكراهية ،في حديث الشاة المصلية (المشوية أو المطبوخة) التي ذبحت بغير إذن
صاحبها ،فقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم « :أطعموها السارى» (. )4
شروط الذابح :مما سبق تعرف شروط الذابح :وهي أن يكون مميزا عاقلً ،مسلما أو كتابيا :ذميا أو
حربيا أو من نصارى بني تغلب ،قاصدا التذكية ،ولو كان
-------------------------------
( )1تكملة الفتح ،52/8 :اللباب ،223/3 :الدر المختار وحاشيته ،209/5 :تبيين الحقائق،287/5 :
بداية المجتهد ،438/1 :القوانين الفقهية :ص ،181الشرح الكبير ،99/2 :مغني المحتاج،267/4 :
المهذب ،251/1 :كشاف القناع ،203/6 :المغني.583 ،573 ،567 ،564/8 :
( )2المراجع السابقة.
( )3بداية المجتهد 438/1 :ومابعدها ،القوانين الفقهية :ص .181
( )4رواه أحمد وأبو داود والدارقطني عن عاصم بن كليب (نيل الوطار 321/5 :ومابعدها).
( )4/297
مكرها على الذبح ،ذكرا أو أنثى ،طاهرا أو حائضا أو جنبا ،بصيرا أوأعمى ،عدلً أو فاسقا؛ لعموم
الدلة وعدم المخصص ،فل يصح ذبح غير المميز والمجنون والسكران عند الجمهور خلفا للشافعي،
ول تؤكل ذبيحة المشرك والمجوسي والوثني والمرتد ،وتكره عند الشافعية ذكاة العمى وغير المميز
والمجنون والسكران .وتكره عند الكل ذبيحة النصراني أو اليهودي والفاسق وتارك الصلة.
سلْع ،فأصيبت شاة منها،
ودليل إباحة ذبيحة المرأة :أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما ب َ
فأدركتها فذبحتها بحجر ،فسأل النبي فقال« :كلوها» (. )1
المبحث الثاني ـ الذبح أو التذكية :
وفيه ثلثة عشر مطلبا:
المطلب الول -عدد المقطوع :
اتفق العلماء على أن الذبح الذي يقطع فيه الودجان والمري والحلقوم مبيح للكل .واختلفوا في الحد
الدنى الذي يجب قطعه:
- 1فقال أبو حنيفة ( : )2يجب قطع الكثر من أربعة أي ثلثة منها :وهي الحلقوم ،والمري
والودجان ،فلو ترك الذابح واحدا منها يحل .لحديث «أفر الوداج بما شئت» ( )3والوداج :اسم
جمع ،أقله ثلثة.
-------------------------------
( )1رواه أحمد والبخاري (نيل الوطار.)139/8 :
( )2البدائع ،41/5 :الدر المختار ،207/5 :تبيين الحقائق ،290/5 :اللباب ،226/3 :تكملة فتح
القدير.57/8 :
( )3قال الزيلعي عنه :غريب .ولفظه المؤيد له :ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عدي بن
حاتم« :أمرر الدم بما شئت ،واذكر اسم ال » وروى ابن أبي شيبة عن رافع بن خديج« :كل ما أفرى
الوداج إل سنا أو ظفرا» (نصب الراية 185/4 :ومابعدها).
( )4/298
وقال أبو يوسف :ل بد من قطع الحلقوم والمري وأحد الودجين؛ لن كل واحد من العروق يقصد
بقطعه غير ما يقصد به الخر؛ لن الحلقوم مجرى النفَس ،والمري :مجرى الطعام ،والودجين مجرى
الدم.
وقال محمد :ل يحل حتى يقطع من كل واحد من الربعة أكثره ،لنه إذا قطع الكثر من كل واحد من
الربعة ،فقد حصل المقصود بالذبح ،وهو خروج الدم.
- 2وقال المالكية في المشهور عندهم ( : )1ل بد من قطع جميع الحلقوم وجميع الودجين .ول
يشترط قطع المري عندهم .فكان مذهبهم قريبا من الحنفية ،ودليلهم المفهوم من حديث رافع بن خَديج:
«ما أنهر الدم ،وذكر اسم ال عليه ،فكل» ( )2وحديث أبي أمامة« :ما أفرى الوداج ،ما لم يكن
قرض سن ،أو جزّ ظفر» ( )3فالول :يقتضي قطع بعض الوداج فقط ،وهو معنى إنهار الدم،
والثاني :يقتضي قطع جميع الوداج ،ول يمكن قطع الودجين بدون الحلقوم ،لحاطتهما به .وهذا أدق
وأصح الراء.
- 3وقال الشافعية والحنابلة ( : )4ل بد من قطع كل الحلقوم (مجرى النفَس) والمري (مجرى
الطعام)؛ لن الحياة تفقد بفقدهما .ويستحب قطع الودجين (وهما عرقان في صفحتي العنق)؛ لنه من
الحسان في الذبح ،وخروجا من الخلف .وإجزاء قطع الحلقوم والمري مشروط بوجود الحياة
المستقرة عند أول قطعهما (بأن
-------------------------------
( )1الشرح الكبير ،99/2 :بداية المجتهد ،431/1 :القوانين الفقهية :ص .184
( )2متفق على صحته ،رواه الجماعة (نيل الوطار.)141/8 :
( )3أخرجه الطبراني في معجمه (نصب الراية.)186/4 :
( )4مغني المحتاج ،270/4 :المهذب ،252/1 :كشاف القناع ،204/6 :المغني ،575/8 :بجيرمي
الخطيب.248/4 :
( )4/299
أسرع في الذبح فقطعهما دفعة ،وإل اشترطت عند آخر قطع) ،فإن لم يسرع قطعهما (بأن أسرع في
الذبح فقطعهما دفعة ،وإل اشترطت عند آخر قطع) ،فإن لم يسرع قطعهما ولم تكن فيه حياة مستقرة،
بل انتهى لحركة مذبوح ،لم يحل؛ لنه صار ميتة ،فل يفيده الذبح بعدئذ.
المطلب الثاني ـ موضع القطع :
ل خلف في أنه إذا قطعت جوزة الحلقوم (أي العقدة التي في أعلى الحلق) في نصفها ،وخرج بعضها
إلى جهة البدن ،وبعضها إلى جهة الرأس ،حلت الذبيحة.
فإن لم تقطع الجوزة في نصفها ،وخرجت إلى جهة البدن ،فقال جمهور الفقهاء غير الحنفية :ل تؤكل؛
لن قطع الحلقوم شرط في الذكاة ،فل بد أن تقطع الجوزة ،لنه إذا قطع فوق الجوزة فقد خرج
الحلقوم سليما .وعلى هذا فل بد من أن يبقى من الجوزة تدويرتان كاملتان :إحداهما من أعلى،
والثانية من أسفل ،وإل لم يحل المذبوح ،لنه حينئذ يسمى مزعا ل ذبحا.
وقال الحنفية وبعض المالكية :تؤكل ،لنه ل يشترط قطع الحلقوم ذاته ،فإن قطع فوق الجوزة ،جاز (
)1لنه يشترط فقط قطع أكثر الوداج ،وقد وجد.
وعبارة الحنفية :المختار أن كل شيء ذبح وهو حي ،أكل ،وعليه الفتوى ،لقوله تعالى{ :إل ما ذكيتم}
[المائدة ]3/5:من غير تفصيل.
-------------------------------
( )1الشرح الكبير ،99/2 :بداية المجتهد ،432/1 :اللباب شرح الكتاب 225/3 :ومابعدها ،القوانين
الفقهية :ص ،184رد المحتار.207/5 :
( )4/300
( )4/301
الرأس) ،كره الذبح عند جمهور الفقهاء غير الحنابلة ( ، )1لما روي عن عمر رضي ال عنه أنه
نهى عن النّخْع (بلوغ السكين النخاع) ولن فيه زيادة تعذيب ،فإن فعل ذلك لم يحرم؛ لن قطع النخاع
يوجد بعد حصول الذكاة.
وقال الحنابلة ( : )2لو أبان رأس الحيوان المأكول بالذبح أو بسيف ،أبيح مطلقا ،لفتاء علي وعمران
بن حصين بأكله.
المطلب الخامس ـ فورية الذبح :
يشترط السراع أو الفورية في إكمال الذبح عند جمهور الفقهاء ( ، )3فإن رفع يده قبل تمام الذبح ،ثم
أعادها فورا ،تؤكل الذبيحة .فإن تباعد ذلك لم تؤكل ،لن الذكاة طرأت على منفوذة المقاتل ،أي التي
نفذ فيها أثر القتل قبل الذبح فصارت ميئوسة مقطوعا بموتها .وقال الحنفية ( : )4يستحب التذفيف
(السراع) في قطع الوداج ،ويكره البطاء فيه ،للحديث« :وليرح ذبيحته» والسراع نوع راحة له.
المطلب السادس ـ شروط الذبح أو التذكية الشرعية :
يشترط لجواز التذكية أو الذبح شروط أخرى عدا ما ذكر من قطع العروق ،والفورية ،وكون الذابح
مسلما أو كتابيا ،وهي ما يأتي:
-------------------------------
( )1الدر المختار ،بداية المجتهد ،المهذب ،المكان السابق ،القوانين الفقهية :ص ،581اللباب مع
الكتاب.227/3 :
( )2كشاف القناع 205/6 :ومابعدها.
( )3رد المحتار ،207/5 :بداية المجتهد ،القوانين الفقهية :المكان السابق ،مغني المحتاج،271/4 :
كشاف القناع ،204/6 :شرح رسالة القيرواني.379/1 :
( )4البدائع.60/5 :
( )4/302
أولً ـ النية أو القصد :أي قصد الفعل لتؤكل ل مجرد إزهاق الروح :يشترط في الذبح باتفاق الفقهاء
( )1قصد عين المذبوح بالفعل ،وإن أخطأ في الظن ،أو قصد الجنس ،وإن أخطأ في الصابة .فلو تم
قطع العروق بغير نية الذبح ،إذ لم يقصد أحد تحقيقه ،لم تحل الذبيحة ،كما لوضرب حيوانا بآلة،
فأصابت منحره ،أو أصابت صيدا ،أو قصد مجرد إزهاق روحه من غير قصد تذكية ،لم يؤكل (. )2
ثانيا ـ التسمية عند التذكية حالة التذكر :بأن يقول ( :بسم ال ) عند حركة يده بالذبح أو النحر أو
العقر ،ويسن التكبير مع التسمية بأن يقول ( :بسم ال ،وال أكبر ) .قال جمهور الفقهاء غير الشافعية
( : )3تشترط التسمية عند التذكية وعند الرسال في العقر ،فل تحل الذبيحة ،سواء أكانت أضحية أم
غيرها ،في حال ترك التسمية عمدا ،وكانت ميتة .فلو تركها سهوا ،أو كان الذابح المسلم أخرس أو
مستكرها ،تؤكل لقوله تعالى { :ول تأكلوا مما لم يذكر اسم ال عليه ،وإنه لفسق } [النعام]121/6:
وأضاف الحنابلة :من ترك التسمية على الصيد عامدا أو ساهيا ،لم يؤكل .وعلى هذا فتحقيق المذهب
عندهم أن التسمية على الذبيحة تسقط بالسهو ،وعلى الصيد ل تسقط .وقال الظاهرية :تشترط التسمية
مطلقا ،ول يؤكل متروك التسمية عمدا أو سهوا.
-------------------------------
( )1تكملة الفتح ،53/8 :تبيين الحقائق ،287/5 :رد المحتار ،209/5 :الشرح الكبير ،106/2 :بداية
المجتهد ،435/1 :القوانين الفقهية :ص ،184مغني المحتاج 276/4 :ومابعدها ،المغني،581/8 :
كشاف القناع.202/6 :
( )2قال النووي في المنهاج (مغني المحتاج ،المكان السابق)« :لو كان بيد شخص سكين مثلً ،فسقط
من يده ،وانجرح به صيد ،أو احتكت به شاة ،وهو في يده ،فانقطع حلقومها ومريئها ،أو استرسل
عدْوه لم يحل الصيد في الصح ،لجتماع السترسال المانع والغراء
كلب ،فأغراه صاحبه ،فزاد َ
المبيح ،فغلب جانب المنع» .
( )3البدائع ،46/5 :تكملة الفتح ،54/8 :تبيين الحقائق ،288/5 :الدر المختار ،210/5 :الشرح
الكبير ،106/2 :بداية المجتهد ،434/1 :القوانين الفقهية :ص ،185كشاف القناع ،206/6 :المغني:
.656/8
( )4/303
وقال الشافعية ( : )1تسن التسمية ول تجب وتركها مكروه ،لقوله تعالى{ :فكلوا مما ذكراسم ال عليه}
[النعام ]118/6:فلو ترك التسمية عمدا ،أو سهوا ،حل الكل ،ولن ال تعالى في قوله{ :إل ما ذكيتم}
[المائدة ]3/5:أباح المذكى ،ولم يذكر التسمية ،وأباح ال تعالى ذبائح أهل الكتاب ،وهم ل يسمون
غالبا ،فدل على أنها غير واجبة.
أما الذبيحة التي يحرم أكلها ،فهي التي ذكر اسم غير ال عليها ،وهي التي كانت تذبح للصنام .وهذا
هو المقصود بآية {ول تأكلوا مما لم يذكر اسم ال عليه} [النعام.]121/6:
ويدل لمذهب الشافعية من السنة أحاديث منها:
حديث عائشة رضي ال عنها« :إن قوما قالوا :يا رسول ال :إن قومنا يأتوننا باللحم ،ل ندري أذكر
اسم ال عليه أم ل؟ فقال :سموا ال عليه أنتم ،وكلوا» ( )2وفي رواية لمالك« :وكانوا حديثي عهد
بالكفر» ولو كانت التسمية واجبة ،لما أجاز الكل مع الشك.
وحديث عدي بن حاتم ،قال« :سألت النبي صلّى ال عليه وسلم عن الصيد؟ فقال :إذا رميت بسهمك،
فاذكر اسم ال عليه» (. )3
وحديث الصلت السدوسي« :ذبيحة المسلم حلل ،ذكر اسم ال ،أو لم يذكر» ( )4ويذكره الفقهاء بلفظ
غريب« :المسلم يذبح على اسم ال تعالى ،سمى أو
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،272/4 :المهذب.252/1 :
( )2رواه البخاري والنسائي وابن ماجه (نيل الوطار ،139/8 :نصب الراية 183/4 :ومابعدها).
( )3أخرجه الئمة الستة في كتبهم (نصب الراية.)184/4 :
( )4/304
( )4مرسل رواه أبو داود في المراسيل (نصب الراية .)183/4 :لم يسم» ،وسأل رجل النبي صلّى
ال عليه وسلم :الرجل منا يذبح ،وينسى أن يسمي ال ،قال :اسم ال على كل مسلم» ( )1وفي لفظ:
«على فم كل مسلم» أو «اسم ال في قلب كل مسلم» .
والحاديث الخرى المطالبة بالتسمية مثل خبر أبي ثعلبة« :فما صدت بقوسك فاذكر اسم ال ،ثم
كل »...محمولة على الندب .وهذا الرأي أيسر من غيره ،لكن أدلة الجمهور وأحاديثهم أصح وأقوى
ثبوتا وأعم مرادا.
المطلب السابع ـ سنن التذكية :
يستحب في التذكية ما يأتي وهي سنن الذبح (: )2
- 1التسمية عند من ل يوجبها وهم الشافعية ،والتكبير ،فيقول :بسم ال ،وال أكبر .ول يقل :باسم
ال واسم محمد ،وأضاف الشافعية :ويصلي على النبي صلّى ال عليه وسلم عند الذبح؛ لنه محل
طاعة.
- 2كون الذبح بالنهار ،ويكره تنزيها عند الحنفية بالليل ،قياسا على الضحية ،خشية الخطأ في
الذبح ،وقد روي عن رسول ال صلّى ال عليه وسلم أنه نهى عن الضحية ليلً ،وعن الحصاد ليلً (
. )3
-------------------------------
( )1أخرجه الدارقطني ،وفيه ضعيف (نصب الراية ،المكان السابق).
( )2البدائع ،60/5 :الدر المختار ،208/5 :تبيين الحقائق ،291/5 :تكملة الفتح ،60/8 :بداية
المجتهد ،435/1 :القوانين الفقهية :ص ،185الشرح الكبير 271/4 :ومابعدها ،المهذب251/1 :
ومابعدها ،كشاف القناع 208/6 :ومابعدها.
( )3أخرج الطبراني عن ابن عباس أنه صلّى ال عليه وسلم نهى عن الذبح ليلً ،لكن في إسناده
متروك .وفي البيهقي عن الحسن« :نهى عن جذاذ الليل وحصاده ،والضحية بالليل» وهو حديث
مرسل (نيل الوطار.)126/5 :
( )4/305
- 3توجه الذابح والذبيحة نحو القبلة؛ لن القبلة جهة معظمة وهي أشرف الجهات ،والتذكية عبادة،
وكان الصحابة إذا ذبحوا استقبلوا القبلة ،ولن النبي صلّى ال عليه وسلم لما ضحى ،وجه أضحيته
إلى القبلة ،وقال { :وجهت وجهي[ }..النعام ]79/6:اليتين ( . )1فإن لم يستقبل ساهيا أو لعذر،
أكلت.
- 4إضجاع الذبيحة على شقها اليسر برفق ،ورأسها مرفوع .ويأخذ الذابح جلد حلقها من اللحي
السفل ،فيمده ،حتى تتبين البشرة ،ثم يمر السكين على الحلق تحت الجوزة ،حتى يقف في عظم
الرقبة .فإن كان أعسر ،جاز أن يجعلها على شقها اليمن .ويكره ذبح العسر ويستحب أن يستنيب
غيره.
وتترك رجلها اليمنى تتحرك بعد الذبح لتستريح بتحريكها ،إل البل ،فالفضل أن تنحر قائمة معقولة
ركبتها اليسرى ،لقوله تعالى{ :فاذكروا اسم ال عليها صوافّ} [الحج ]36/22:كما سيأتي.
- 5نحر البل قائمة معقولة الركبة اليسرى ،وذبح البقر والغنم مضجعة لجنبها اليسر وتترك رجلها
اليمنى ،وتشد باقي القوائم ،لقوله تعالى في البل{ :فاذكروا اسم ال عليها صوافّ} [الحج ]36/22:قال
ابن عباس« :أي قياما على ثلث» ( )2أما الشاة ففي الصحيحين« :أنه أضجعها» وقيس عليها البقر
وغيره ،لنه أسهل على الذابح في أخذه السكين باليمين ،وإمساك الرأس باليسار.
ول خلف بين أهل العلم في استحباب نحر البل ( ، )3وذبح ما سواها ،قال ال تعالى{ :فصل لربك
وانحر} [الكوثر ]2/108:وقال تعالى{ :إن ال
-------------------------------
( )1رواه ابن ماجه عن جابر (نيل الوطار.)126/5 :
( )2رواه الحاكم وصححه.
( )3معنى النحر :أن يضربها بحربة أو نحوها ،في الوهدة التي بين أصل عنقها وصدرها.
( )4/306
يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة ]67/2:قال مجاهد :أمرنا بالنحر ،وأمر بنو إسرائيل بالذبح (. )1
وثبت «أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم نحر بدنة ،وضحى بكبشين أقرنين ذبحهما بيده» (. )2
- 6قطع الوداج كلها والتذفيف أي السراع بالذبح ،ويكره قطع البعض دون البعض ،لما فيه من
إبطاء فوات الحياة .وليبلغ بالذبح النخاع ( وهو العرق البيض الذي يكون في عظم الرقبة ) ول
إبانة الرأس ،ولو فعل ذلك يكره ،لما فيه من زيادة إيلم من غير حاجة إليه ،كما بان سابقا.
- 7إحداد الشفرة (السكين العظيمة) قبل الضجاع ،ل بمرأى البهيمة؛ لنها تعرف اللة الجارحة كما
تعرف المهالك ،فتتحرز عنها ،فإذا أحد الشفرة ،وقد أضجعها ،يزداد ألمها .قال النبيصلّى ال عليه
وسلم « :إن ال كتب الحسان على كل شيء ،فإذا قتلتم ،فأحسنوا القِتْلة ،وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة،
وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» ( )3وفي سنن البيهقي أن عمر رضي ال عنه «رأى رجلً وقد
أضجع شاة ،ووضع رجله على صفحةوجهها ،وهو يحد الشفرة ،فضربه بالدّرة» وعن ابن عباس
قال« :مر رسول ال صلّى ال عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة ،وهو يحد شفرته،
وهي تلحظ إليه ببصرها ،قال :أفل قُتِل هذا ،أو يريد أن يميتها موتتين» (. )4
ويستحب أل يذبح شاة ،وأخرى تنظر إليه لما روى ابن عمر« :أن رسول ال
-------------------------------
( )1المغني 575/8 :ومابعدها.
( )2متفق عليه.
( )3رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن شدّاد بن أوس (نيل الوطار )141/8 :والقتلة
والذبحة :هي الهيئة والحالة.
( )4رواه الطبراني في الكبير والوسط ،ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد.)33/4 :
( )4/307
صلّى ال عليه وسلم أمر أن تحد الشفار ،وأن توارى عن البهائم» (. )1
- 8الترفق بالبهيمة ،فل يضرب بها الرض ،ول تجر برجلها إلى المذبح؛ لنه إلحاق زيادة ألم بها
من غير حاجة إليها في التذكية.
المطلب الثامن ـ مكروهات التذكية :
يكره في الذبح أو التذكية ترك السنن السابقة ،فتكون مكروهات التذكية ما يأتي (: )2
- 1ترك التسمية عند من ل يوجبها أو ل يشترطها ،وهم الشافعية وبعض المالكية .أو قرن اسم ال
باسم محمد أو غيره .ويكره عند الحنفية أن يقول الذابح عند الذبح :اللهم تقبل من فلن .وإن قال ذلك
قبل التسمية والضجاع أوبعد الذبح جاز.
- 2التوجه بالذبيحة لغير القبلة ،لمخالفة السنة.
- 3نحر الشياه وذبح البل عند الحنفية ،لمخالفة ما ثبت بالسنة ،ول يكره ذلك عند الشافعية
والحنابلة ،لعدم ورود نهي فيه.
- 4التعذيب أو زيادة اللم بل فائدة مثل قطع الرأس ،وكسر الرقبة ،وبلوغ النخاع ،والذبح من القفا (
، )3وجر الحيوان برجله إلى المذبح ،وحد الشفرة أمامه بعد الضجاع ،والذبح أمام بهيمة أخرى
لمخالفة الثابت في السنة ،والسلخ أو النخع (قطع النخاع) قبل أن يبرد الحيوان ،لما روي
-------------------------------
( )1رواه أحمد وابن ماجه.
( )2البدائع ،60/5 :تبيين الحقائق ،292/5 :الدر المختار ،208/5 :الشرح الصغير،173/2 :
القوانين الفقهية :ص ،185مغني المحتاج ،172/4 :كشاف القناع 208/6 :ومابعدها ،المغني:
.580/8
( )3إن بقيت حية حتى تقطع العروق ،وإل لم يحل لحدوث الموت بل ذكاة.
( )4/308
«أن الفَرا ِفصَة قال لعمر رضي ال عنه :إنكم تأكلون طعاما ل نأكله ،قال :وما ذاك يا أبا حسان؟
فقال :تُعجلون النفس قبل أن تزهق ( . )1فأمر عمر رضي ال عنه مناديا ينادي :الذكاة في الحلق
والّلبة لمن قدر ،ول تعجلوا النفس حتى تزهق» (. )2
5ـ الذبح بالسن والظفر والعظم المنزوع عند الحنفية الذين يجيزون التذكية بها ،مع الكراهة لما فيه
من الضرر بالحيوان كذبحه بشفرة كليلة .أما الذبح بالقائم غير المنزوع من الظفر ونحوه فل يحل.
المطلب التاسع ـ أنواع التذكية :
التذكية التي تحل الكل عند المالكية ( )3أربعة أنواع:
- 1إدماء أو صيد أو عقر في غير المقدور عليه ،المتوحش ،ل النسي الذي يكون من النعام ،أما
الحمام ونحوه فكله صيد ،فلو توحش أكل بالعقر.
- 2وذبح في الحلق بقطع جميع الحلقوم وجميع الودجين للطيور ولو نعامة ،والغنم.
- 3ونحر في اللبة :وهي وسط الصدر للبل والزرافة ( . )4وأما البقر فيجوز فيها الذبح والنحر،
لكن يندب فيها الذبح ،أي أن النعام يشترط فيها الذبح أو النحر.
- 4فعل يزيل الحياة بأي وسيلة وهو تأثير بقطع أو غيره في الجراد؛ لن المقرر عند المالكية خلفا
لعامة الفقهاء :أن الجراد ل يؤكل من غير ذكاة ،وذكاته عندهم أن يقتل إما بقطع رأسه أو بغير ذلك.
ويجب النحر في البل والزرافة ،والذبح في غيرها .فإن ذبح ماينحر أو نحر ما يذبح ولو سهوا إن
قدر ،من غير ضرورة ،لم تؤكل الذبيحة .ويجوز للضرورة الذبح في البل ،والنحر في غيرها
كوقوع الحيوان في هوة ،أو لعدم وجود آلة الذبح أو النحر.
-------------------------------
( )1النفس ههنا :الرواح التي تكون حركة البدان بها ،وزهوقها :خروجها من البدان وذهابها.
( )2المهذب.253/1 :
( )3الشرح الكبير ،107 ،103 ،99/2 :بداية المجتهد 429/1 :ومابعدها ،القوانين الفقهية :ص 183
ومابعدها.
( )4الذبح عند المالكية :قطع الحلقوم والودجين من المقدّ بنية .وعقر الحيوان :هو أن يرمى بسهم في
أي موضع من جسمه ،فيجرحه ويميته .والنحر :ذبح من أعلى الصدر ،ويكون في اللّبة :وهي الوهدة
التي بين أصل العنق والصدر.
( )4/309
والخلصة :أن النعام إذا توحشت لتؤكل بالصيد عندهم ،لكن يؤكل بالصيد إن تأنس متوحش الصل
ثم هرب ،أو توحش الحمام ونحوه؛ لن كله صيد.
وكذلك تنقسم التذكية عند الشافعية إلى ثلثة أقسام :ذبح ،ونحر ،وعقر ،أما الذبح :فهو قطع الحلق
( أعلى العنق ) والمري من الحيوان ،وتذكى به جميع الحيوانات.
وأما النحر :فهو قطع لَبّة الحيوان ،وهي أسفل العنق ،وهو المسنون في البل.
وأما العقر :فهو ذكاة الضرورة ،وهو جرح الحيوان ،بأي فعل مزهق للروح .في أي مكان في
جسمه .ويستعمل في تذكية الحيوان المأكول إذا ندّ ،ولم يتمكن صاحبه من القدرة عليه .وعلى هذا
يرى الجمهور غير المالكية ( )1أن الذكاة نوعان :اختيارية ،واضطرارية في معنى الصيد.
أما الختيارية :فهي الجرح في الحلق ( الحلقوم) مابين اللبة واللحيين ،عند القدرة على الحيوان .ولبد
من ذبح المستأنس؛ لن ذكاة الضطرار إنما يصار إليها عند العجز عن ذكاة الختيار.
والضطرارية :الجرح في أي موضع كان من البدن عند العجز عن الحيوان ،أي كأنها صيد،
فتستعمل للضرورة في المعجوز عنه من الصيد والنعام ،أي أنها تستعمل عند الجمهور غير المالكية
في الحيوان المتوحش ،أو الحيوان المستأنس إذا شرد ،ولم يمكن الحصول عليه ،لن التكليف بحسب
الوسع .وتسمى هذه الحالة :العقر أي إزهاق الروح في أي موضع كان .ويكون العقر أو ذكاة
الضرورة بآلة جارحة ل بمثقل أو حجر أي بالجرح أو الطعن ،أو إنهار الدم في أي موضع كان من
البدن ،بحيث يسيل دمه .ويشترط عند الشافعية :أن يكون الجرح مفضيا إلى الزهوق أي يؤدي إلى
الموت.
وأما عند المالكية :فل يحل الحيوان بذكاة الضرورة إذا كان مستأنسا من النعام.
-------------------------------
( )1تبيين الحقائق ،286/5 :تكملة الفتح 60/8:ومابعدها ،الدر المختار وحاشيته ،206/5،213 :مغني
المحتاج 268 ،265/4 :ومابعدها ،271 ،المهذب ،255/1 :المغني،577 ،575 ،573 ،566/8 :
كشاف القناع ،205/6 :الشرح الكبير للدردير.110 ،103/4 :
( )4/310
فلو توحش حيوان أهلي بعد أن كان إنسيا أو مستأنسا ،أو ندّ بعير (شرد) أو تردى في بئر ونحوه،
ولم تمكن الذكاة الختيارية أي عجز عنها بذبحه في الحلق ،فذكاته عند غير المالكية حيث يصاب بأي
جرح من بدنه ،ويحل حينئذ أكله ،كصيد
الطائر أو الحيوان المتوحش ،لحديث رافع بن خديج ،قال« :كنا مع رسول ال صلّى ال عليه وسلم
في سفر ،فندّ بعير من إبل القوم ،ولم يكن معهم خيل ،فرماه رجل بسهم ،فحبسه ،فقال رسول ال
صلّى ال عليه وسلم :إن لهذه البهائم أوابد ،كأوابد الوحش ،فما فعَل منها هذا ،فافعلوا به هكذا (» )1
.وهذا هو الرأي الرجح.
وإن نحر ما يذبح ،أو ذبح ما ينحر أكل مع الكراهة عند الحنفية ( ، )2وبل كراهة عند الشافعية
والحنابلة ،لعدم ورود نهي فيه.
المطلب العاشر ـ ما يحرم أكله من المذبوح :
قال الحنفية ( : )3ل تؤكل سبعة أشياء من أجزاء الحيوان المأكول وهي :الدم المسفوح ،والذكر،
والنثيان ،والقبُل ،والغدة ( ، )4والمثانة ،والمرارة .لقوله عز شأنه{ :ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم
الخبائث} [العراف ]157/7:وهذه الشياء السبعة مما تستخبثه الطباع السليمة .وروي عن مجاهد أنه
قال« :كره رسول ال صلّى ال عليه وسلم من الشاة :الذكر ،والنثيين ،والقبل ،والغدة ،والمرارة،
والمثانة والدم » والمراد منه كراهة التحريم ،بدليل أنه جمع بين الشياء الستة وبين الدم ،في
الكراهة ،والدم المسفوح محرم .والمروي عن أبي حنيفة أنه قال« :الدم حرام ،وأكره الستة» أطلق
اسم الحرام على الدم المسفوح ،لنه ثبت بدليل مقطوع به،
-------------------------------
( )1رواه الجماعة (نيل الوطار )143/8 :والوابد جمع آبدة :أي غريبة ،وتأبدت :توحشت ،والمراد
أن لها توحشا.
( )2يجوز في قول عند الحنفية استخدام ذكاة الضرورة فيما لو أدرك صيده حيا ،أو أشرف ثوره على
الهلك ،وضاق الوقت على الذبح ،أو لم يجد آلة الذبح ،فجرحه في غير محل الذبح ،حل .وفي قول
آخر :ل يحل أكله إل إذا قطع العروق.
( )3البدائع ،61/5 :رد المحتار.219/5 :
( )4الغدة :قطعة لحم صلبة تحدث عن داء بين الجلد واللحم.
( )4/311
وهو النص القرآني{ :قل :ل أجد في ما أوحي إلي محرما} ...إلى قوله{ :أو دما مسفوحا} [النعام:
]6/145وسمى ما سواه مكروها ،لثبوته بدليل ظني.
المطلب الحادي عشر ـ أثر ذكاة الم في الجنين :
لذكاة الجنين أربعة أحوال (: )1
الول ـ أن تلقيه الم ميتا قبل الذبح ،فل يؤكل إجماعا.
الثاني ـ أن تلقيه حيا قبل الذبح ،فل يؤكل إل أن يذكى (يذبح) وهو مستقر الحياة.
الثالث ـ أن تلقيه حيا بعد تذكيتها ،فإن ذبح وهو حي أكل ،وإن لم تدرك ذكاته في حال الحياة ،فهو
ميتة ،وقيل عند المالكية :ذكاته ذكاة أمه.
الرابع ـ أن تلقيه الم ميتا بعد تذكيتها ،وهذا موطن الخلف بين الفقهاء:
آ ـ فقال أبو حنيفة وزفر والحسن بن زياد :ل يؤكل بتذكية الم؛ لن ال تعالى حرم الميتة ،وحرم
المنخنقة ،والجنين ميتة؛ لنه ل حياة فيه ،والميتة :كل حيوان مات من غير ذكاة ،أو إن الجنين مات
خنقا ،فيحرم بنص القرآن.
ول يجعل الجنين تبعا لمه؛ لنه يتصور بقاؤه حيا بعد ذبح الم ،فوجب إفراده بالذبح ليخرج الدم
عنه ،فيحل به ،ول يحل بذكاة أمه ،إذ المقصود بالذكاة إخراج دمه ليتميز من اللحم ،فيطيب ،فل
يكون تبعا للم.
-------------------------------
( )1البدائع ،42/5 :تبيين الحقائق ،293/5 :اللباب ،228/3 :القوانين الفقهية :ص ،183بداية
المجتهد 428/1 :ومابعدها ،الشرح الكبير ،114/2 :مغني المحتاج ،306 ،579/4 :المغني،579/8:
شرح الرسالة.381/1 :
( )4/312
والمراد بحديث «ذكاة الجنين ذكاة أمه» هو التشبيه أي كذكاتها ،فل يدل على أنه يكتفى بذكاة الم.
والخلصة :أن الجنين الميت ل يؤكل عند الحنفية ،أشعر أو لم يشعر ،أي تم خلقه ،أو لم يتم ،لنه ل
يشعر إل بعد تمام الخلق.
ب ـ وقال جمهور الفقهاء ومنهم صاحبا أبي حنيفة :يحل أكل الجنين إذا خرج ميتا بذكاة أمه ،أو
وجد ميتا في بطنها ،أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح.
ويشترط فيه عند المالكية :أن يكون قد كمل خلقه :ونبت شعره ،لما روي عن ابن عمر وجماعة من
الصحابة ،وقال كعب بن مالك« :كان أصحاب رسول ال صلّى ال عليه وسلم يقولون :إذا أشعر
الجنين ،فذكاته ذكاة أمه» .
وأجاز الشافعية والحنابلة أكل الجنين الميت ،أشعر أم لم يشعر ،لما روى ابن المبارك عن ابن أبي
ليلى ،قال :قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم « :ذكاة الجنين ذكاة أمه ،أشعر أو لم يشعر» .
ودليل الجمهور على الجواز حديث حسن« :ذكاة الجنين ذكاة أمه» ( ، )1ورأيهم بدليل الثابت في
السنة هو الصح عندي ،بل القياس يقتضي أن تكون ذكاة الجنين في ذكاة أمه؛ لنه جزء منها ،فل
معنى لشتراط الحياة فيه .قال ابن رشد المالكي :وعموم الحديث يضعف اشتراط أصحاب مالك نبات
شعره ،فل يخصص العموم الوارد في ذلك بالقياس ،أي قياسه على الشياء التي تعمل فيها التذكية.
-------------------------------
( )1روي عن أحد عشر صحابيا وهم الخدري ،وجابر ،وأبو هريرة ،وابن عمر ،وأبو أيوب ،وابن
مسعود ،وابن عباس ،وكعب بن مالك ،وأبو الدرداء ،وأبو أمامة ،وعلي .فحديث أبي سعيد الخدري
مثلً رواه أحمد والترمذي وحسنه ،وابن ماجه ،والدارقطني وابن حبان وصححه (نصب الراية:
189/4ومابعدها ،نيل الوطار.)144/8 :
( )4/313
المطلب الثاني عشر ـ أثر الذكاة في المشرف على الموت أو المريض :
إذا أشرف حيوان على الموت بسبب اعتداء عليه ،أو مرض ،ثم ذبح ،فهل يحل أكله؟
أولً ـ أثر الذكاة في المشرف على الموت بسبب اعتداء :
إذا اعتدي على الحيوان المأكول بخنق ،أو ضرب ،أو جرح سبع كذئب ،ثم أدركه صاحبه فذبحه ،أو
لم يدركه ،فمات ،فله أحوال أربعة (: )1
- 1إن مات قبل الذكاة ،لم يؤكل إجماعا ،لقوله تعالى{ :حرمت عليكم الميتة ،والدم ،ولحم الخنزير،
وما أهل لغير ال به ،والمنخنقة ،والموقوذة ،والمتردية ،والنطيحة ،وما أكل السبع ،إل ما ذكيتم}
[المائدة )2( ]3/5:فهذه الحيوانات الخمسة المذكورة في الية (ما بعد المهل به لغير ال ) لم يحل
أكلها إذا ماتت قبل إدراكها حية ولم تذبح.
2ـ إن أدرك حيا أي غلب على الظن أنها تعيش ،بأن يصاب لها مقتل ،فذبح ،أكل إجماعا ،لقوله
تعالى{ :إل ما ذكيتم} [المائدة.]3/5:
-------------------------------
( )1رد المحتار ،217/5 :الشرح الكبير ،113/2:البدائع ،40/5:القوانين الفقهية :ص ،183بداية
المجتهد 425/1 :وما بعدها ،كشاف القناع ،206/6 :أحكام القرآن للجصاص ،306/2 :أحكام القرآن
لبن العربي.539/2 :
( )2أي إل ما أدركتموه حيا مما سبق ،فذكيتموه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل
السبع جزءا منه وما أهل لغير ال به ،فإذا كانت فيه حياة ولو بسيطة بأن يطرف عينا أو يضرب
برجل أو يد ثم ذبح ،صار حللً ،والمنخنقة :هي التي ماتت بأي شكل كان .والموقوذة :هي التي
ماتت بعصا أو بحجر بل ذكاة شرعية .والمتردية :هي ما سقطت من مكان عال كجبل أو هوت في
بئر .والنطيحة :هي ما نطحتها بهيمة أخرى ،فماتت .وما أكل السبع :هي ما قتلت بافتراس حيوان
كالذئب والنمر مثلً ،وما أهل لغير ال به :أي ما ذكر عليه اسم غير ال ،لن أكله مشاركة لهله في
عبادة غير ال.
( )4/314
- 3إن نفذت مقاتل البهيمة :وهي المنفوذة المقاتل (( )1أي المقطوع بموتها) ،لم تؤكل عند المالكية
وأجاز على وابن عباس أكلها .وتعمل فيها الذكاة عند الشافعية والحنابلة متى كان فيها حياة مستقرة.
وتؤثر فيها الذكاة عند الحنفية إن علمت حياتها ،أو لم تدر حياتها فتحركت أو خرج الدم ،وهذا يتأتى
فيما اعتدى عليها الذئب فبقر بطنها ،وفي المنخنقة والمتردية والنطيحة؛ لعموم قوله تعالى{ :إل
ماذكيتم} [المائدة.]3/5:
-4الميئوس من حياته ولم تنفذ مقاتله؛ أو المشكوك في أمره ،تؤثر الذكاة في حل أكله عند الحنفية،
وهو مشهور قول المالكية ما دامت حياته محققة .وقال بعض المالكية :ل تؤثر الذكاة فيه ول يؤكل.
وأجاز الشافعية والحنابلة ذبح الميئوس الذي تكون فيه حياة مستقرة ،ولم يجز المشكوك في أمره.
وعلى هذا فإذا غلب على الظن أن المعتدى عليها تهلك بإصابة مقتل أو غيره ،فقال الحنفية والشافعية:
تعمل الذكاة فيها ،وقال قوم :ل تعمل الذكاة فيها ،وعن مالك :الوجهان ،وقال ابن القاسم :تذكى
وتؤكل.
-------------------------------
( )1هي التي بلغ القتل فيها أحد أمور خمسة متفق عليها :وهي قطع الوداج ،وانتشار الدماغ،
وانتشار الحشاء ،وخرق أعلى المصران في مجرى الطعام والشراب ،ل أسفله .وقطع النخاع
الشوكي (القوانين الفقهية ،المكان السابق :الشرح الكبير.)113/2 :
( )4/315
ومنشأ الخلف في الميئوس منها وفي منفوذة المقاتل :هو الستثناء المذكور في الية السابقة ،هل هو
استثناء متصل أو منقطع؟ فمن قال :إنه متصل ،قال :تعمل الذكاة في هذه الحوال .ومن قال :إنه
منقطع أي ما ذكيتم من غيرها ،لم يعمل الذكاة فيها.
والمراد بالحياة المطلوب تحققها في هذه الحالة عند الحنفية والمالكية :هو وجود أمارة الحياة من
حركة رجل أو طرفة عين أو جريان نفس ،سواء عاشت من مثله أو ل تعيش ،بقيت لمدة قصيرة أو
طويلة ،أي أن المطلوب بقدر حياة المذبوح بعد الذبح ،وهو الحد الدنى للحياة.
وعند الشافعية والحنابلة :أن تبقى فيه حياة مستقرة يمكن زيادتها على حركة المذبوح،سواء انتهت إلى
حال يعلم أنها ل تعيش معه أو تعيش.
ثانيا ـ أثر الذكاة في الحيوان المريض :
اتفق الفقهاء على تأثير الذكاة ،وحل الكل في الحيوان المريض الذي لم يشرف على الموت .واختلفوا
في تأثير الذكاة في الحيوان الذي أشرف على الموت من شدة المرض (. )1
فقال الجمهور :وهو المشهور عن مالك :إن الذكاة تعمل فيه.
وقال بعضهم :إن الذكاة ل تعمل فيه.
وسبب الخلف تعارض القياس مع الثر .فالجمهور أخذوا بحديث كعب بن مالك المتقدم :أن جارية
له كانت ترعى غنما بسَلْع ،فأبصرت شاة مشرفة على الموت ،فأدركتها وذبحتها بحجر ،فسئل رسول
ال صلّى ال عليه وسلم فقال :كلوها (. )2
والبعض أخذ بالقياس :وهو أن الذكاة إنما تؤثر في الحي ،وهذا في حكم الميت.
-------------------------------
( )1بداية المجتهد ،428/1 :القوانين الفقهية :ص 181ومابعدها.
( )2رواه أحمد والبخاري (نيل الوطار.)139/8 :
( )4/316
والحنفية من الجمهور على المفتى به فصّلوا في المريضة ،وفي الحالة الخيرة من أحوال المنخنقة
والمتردية والنطيحة ،فقالوا (: )1
آ ـ إن عُلمت حياة الشاة ،وإن كانت حياتها خفيفة على المفتى به ،وقت الذبح ،أكلت مطلقا ،وإن لم
تتحرك ولم يخرج الدم .والحياة القليلة أو الخفيفة :هي أن يبقى في الشاة من الحياة بقدر ما يبقى في
المذبوح بعد الذبح.
ب ـ وإذا لم تعلم الحياة ،فتحركت ،أو خرج الدم ،حلت ،وإن لم تتحرك أو لم يخرج الدم ،لم تحل.
وعلمات الحياة والموت تعرف بما يأتي :فتح الفم ،أو العين ،ومد الرجل ،ونوم الشعر :علمة
الموت ،لنها استرخاء ،والحيوان يسترخي بالموت .وعكس ذلك يدل على الحياة ،فضم الفم والعين،
وقبض الرجل ،ووقوف الشعر علمةالحياة.
وذكر المالكية علمات خمس على الحياة هي (: )2
سيلن الدم ،ل خروج القليل منه ،والركض باليد أو الرجل ،وطرف العين ،وتحريك الذنب ،وخروج
النفَس ،فإن تحركت ولم يسل دمها ،أكلت .وإن سال دمها ولم تتحرك ،لم تؤكل؛ لن الحركة أقوى في
الدللة على الحياة من سيلن الدم .وأما الختلج الخفيف فليس دليلً على الحياة؛ لن اللحم يختلج بعد
السلخ.
والحياة عند الشافعية والحنابلة ثلثة أنواع (: )3
- 1الحياة المستمرة :وهي الطبيعية الباقية إلى خروجها بذبح ،أو نحوه .والذكاة تؤثر فيها بالحل:
-------------------------------
( )1الدر المختار ورد المحتار.334 ،217/5 :
( )2القوانين الفقهية :ص ،182أحكام القرآن للجصاص.306/2 :
( )3بجيرمي الخطيب ،248/4 :كشاف القناع ،206/6 :مغني المحتاج ،271/4 :المغني-583/8 :
.585
( )4/317
- 2الحياة المستقرة :هي ما يوجد معها الحركة الختيارية بقرائن وأمارات تغلب على الظن بقاء
الحياة .ومن أماراتها :انفجار الدم بعد قطع الحلقوم والمريء .والصح الكتفاء بالحركة الشديدة.
وليشترط العلم بوجود الحياة المستقرة عند الذبح ،بل يكفي الظن بوجودها بقرينة كشدة الحركة أو
انفجار الدم .وهذه تحل الذبيحة ،فإن شك في وجودها ،حرم تغليبا للتحريم.
- 3حياة المذبوح ،أو حركة عيش المذبوح :وهي التي ل يبقى معها سمع ل إبصار ،ول حركة
اختيار ،وهذا النوع :إن وجد له سبب يحال عليه الهلك ،كما لو مرض الحيوان بأكل نبات مضر،
حتى صار في آخر رمق ،لم يحل على المعتمد .وإن لم يوجد سبب يحال عليه الهلك ،كأن مرض
الحيوان ،أو جاع حتى صار في آخر رمق ،فذبحه ،حل أكله.
المطلب الثالث عشر ـ أثر الذكاة في غير المأكول :
المقصود بهذا أن الذكاة أو الذبح ،هل تؤثر في تحليل النتفاع بجلود الحيوانات غير مأكولة اللحم،
وسلب النجاسة عنها؟
للفقهاء رأيان في ذلك:
- 1فقال الحنفية والمالكية في المشهور ( : )1إذا ذبح ما ل يؤكل كالسباع وغيرها يطهر لحمه
وشحمه وجلده إل الدمي والخنزير .أما الدمي فلحرمته وكرامته ،وأما الخنزير فلنجاسة عينه .وقال
الدردير والصاوي :مشهور المذهب أن الذكاة ل تطهر محرّم الكل كالخيل والبغال والحمير ،والكلب
والخنزير .أما سباع الوحش وسباع الطير ،فتطهر بذبحها على المشهور.
وأصح ما يفتى به عند الحنفية :أن اللحم والشحم ل يطهر بالذكاة ،والجلد يطهر به ،وهذا التفصيل
عندهم مخالف لما في متن الكنز والدر المختار والهداية من عدم التفصيل.
-------------------------------
( )1تبيين الحقائق ،296/5 :تكملة الفتح ،64/8 :الدر المختار ،216/5 ،290/1 :البدائع،86/1 :
بداية المجتهد ،427/1 :اللباب ،230/3 :القوانين الفقهية :ص ،181الشرح الصغير ،45/1 :شرح
الرسالة ، 384/1 :الشرح الكبير.56/1 :
( )4/318
ودليلهم :أن الذكاة مؤثرة في إزالة الرطوبات النجسة والدماء السيالة ،فإذا زالت طهرت البهيمة كما
في الدباغ ،وليس الجلد واللحم من الرطوبات أو الدماء .وإذا ثبت تحريم تناول لحم غير المأكول ،بقي
ما سواه على الصل :وهو التطهير ،فتؤثر الذكاة فيه ،كما يؤثر الدباغ في تطهير الجلود .وإذا طهر
الجلد بعد الذبح ،فلو وقع في الماء القليل ل ينجسه .ويجوز النتفاع بالجلد في غير ا لكل .وقيل بقول
آخر عند الحنفية :ل يجوز قياسا على الكل.
- 2وقال الشافعية والحنابلة ( : )1ل تؤثر الذكاة في شيء من الحيوان غير المأكول؛ لن أثر الذكاة
في إباحة اللحم هو الصل ،والجلد تبع للحم ،فإن لم تعمل الذكاة في اللحم ،لم تعمل فيما سواه ،كذبح
المجوسي أو الذبح غير المشروع .ول يقاس الذبح على الدباغ ،لكون الدبغ مزيلً للخبث والرطوبات
كلها ،مطيبا للجلد على وجه يتهيأ به للبقاء على وجه ل يتغير ،والذكاة ل يحصل بها ذلك ،فل يستغنى
بها عن الدبغ.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،58/1 :المغني.71/1 :
( )4/319
هذا ...وقد صرح الشافعية بأنه يحرم ذبح الحيوان غير المأكول ،ولو لراحته ،كالحمار الزمِن مثلِ،
لنه تعذيب له ( ، )1ونهى النبي صلّى ال عليه وسلم عن قتل الكلب إل السود البهيم ،فإنه أمر
بقتله (. )2
المبحث الثالث ـ آلة الذبح
اتفق الفقهاء على أن كل ما أنهر الدم وفرى الوداج من حديد أو صخر ،أو عود ،أو قضيب ،أو
زجاج تحل التذكية به.
واختلفوا في ثلثة في السن والظفر والعظم ،على رأيين ،فأجاز الحنفية ،والمالكيةـ في الجملة ـ
الذبح بها ،ومنع الشافعية والحنابلة إجمالً التذكية بها ،كما سيأتي ،والولى أو الصح عدم الذبح بها
لصحة الحديث الذي استدل به الشافعية وغيرهم.
- 1قال الحنفية ( : )3يجوز الذبح بكل ما أفرى الوداج ،وأنهر الدم (أساله) ولو بنار أسالت الدم،
أو بِليطَة (قشر القصب) ،أو مَرْوة (حجر أبيض كالسكين يذبح بها) ،أو ظفر وعظم وقرن وسن
منزوع من مكانه غير قائم في محله ،ولكن مع كراهة الذبح بهذه الربعة الخيرة لما فيه من الضرر
بالحيوان ،كذبحه بشفرة كليلة .ودليلهم قوله عليه الصلة والسلم« :أنهر الدم بما شئت» ( )4ويروى
«أفر
-------------------------------
( )1البجيرمي علي الخطيب.248/4 :
( )2رواه أحمد وأصحاب السنن (الخمسة) وصححه الترمذي عن عبد ال بن ال ُمغَفّل (نيل الوطار:
.)128/8
( )3تكملة فتح القدير 59/8 :وما بعدها ،تبيين الحقائق 290/5 :ومابعدها ،الدر المختار207/5 :
ومابعدها ،اللباب شرح الكتاب.227/3 :
( )4هذا لفظ النسائي وأحمد في حديث عدي بن حاتم ،ونصه «أنهر الدم بما شئت ،واذكر اسم ال
» (نصب الراية.)187/4 :
( )4/320
الوداج بما شئت» ( ، )1ولن هذه آلة جارحة ،فيحصل بها ما هو المقصود ،وهو إخراج الدم،
وصار العظم ونحوه كالحجر والحديد.
فإن كان الظفر أو العظم قائما محله ،فل يحل الذبح به ،وإن فرى الوداج ،وأنهر الدم بالجماع للنص
عليه في الحديث.
واستثناء السن والظفر في حديث رافع بن خديج محمول على غير المنزوع ،القائم محله؛ لن الظفر
القائم ونحوه يقتل بالثقل؛ لنه يعتمد عليه.
وكما كرهوا الذبح بالظفر ونحوه ،كرهوه بغير الحديد والسلح من غير حاجة أو ضرورة ،مع وجود
الحديد وأسلحته ،لما فيه من تعذيب الحيوان بل فائدة ،للمر بالحديث السابق بالحسان في القتلة
والذبحة.
- 2وقال المالكية ( : )2إن وجد الحديد أي اللة الجارحة كالسكين ونحوها ( ، )3تعين .وإن وجد
غير الحديد كالحجر والزجاج مع الظفر والسن ،ففي الذبح بهما أربعة أقوال للمام مالك:
الول ـ الجواز مطلقا متصلً أو منفصلً ،والثاني ـ المنع مطلقا فل يؤكل ما ذبح بهما ،والثالث ـ
التفصيل بالجواز عند النفصال ،والمنع عند التصال .والرابع ـ الكراهية بالسن مطلقا ،والجواز
بالظفر مطلقا.
وإن لم يوجد غيرهما ،أي غير السن والظفر جاز بهما جزما .ولو تم الذبح بقطعة عظم محددة ،فل
خلف في الجواز.
- 3وقال الشافعية والحنابلة ( : )4يحل الذبح بكل محدّد (له حد) يجرح (يقطع) أو يخرق بحده ل
بثقله ،كحديد ونحاس ،وذهب ،وخشب ،وقصب ،وحجر ،وزجاج ،إل ظفرا وسنا ،وعند الشافعية:
ل كان أو منفصلً من آدمي أو غيره؛ لن منع الذبح بالسن علل بكونه عظما ،
وسائر العظام ،متص ً
فكل عظم وجدت العلة فيه ،فيكون ممنوعا .وأجاز الحنابلة الذبح بالعظم ( ، )5واستدلوا على السن
والظفر بحديث رافع بن خديج عند الئمة الستة وأحمد ،قال« :قلت :يارسول ال ،إنا نلقى العدو غدا،
وليس معنا مُدىً ( ، )6فقال النبي صلّى ال عليه وسلم :ما أنهر الدم ،وذكر اسم ال عليه ،فكلوا ،ما
ظفْرا ،وسأحدثكم عن ذلك :أما السن فعظم ،وأما الظفر فمدى الحبشة» (. )7
لم يكن سنا أو ُ
-------------------------------
( )1هذا حديث غريب كما قال الزيلعي ،وفي معناه روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن رافع بن
خديج« :كل ما أفرى الوداج ،إل سنا وظفرا» (نصب الراية 185/4 :ومابعدها).
( )2الشرح الكبير ،107/2 :الشرح الصغير ،178/2 :بداية المجتهد ،433/1 :القوانين الفقهية :ص
.183
( )3السكين تذكر وتؤنث.
( )4مغني المحتاج 272/4 :ومابعدها ،المهذب ،252/1 :المغني 573/8 :ومابعدها ،كشاف القناع:
.205-203/6
( )5لن العظم دخل في عموم اللفظ المبيح ثم استثني السن والظفر خاصة ،فيبقى سائر العظام داخلً
فيما يباح الذبح به ،والمنطوق مقدم على التعليل ،ولهذا علل الظفر بكونه من مدى الحبشة؛ ولن
العظام يتناولها سائر الحاديث العامة ،ويحصل بها المقصود ،فأشبهت سائر اللت.
( )6مدى :جمع مُدْية :هي السكين ،سميت بذلك لنها تقطع مدى الحيوان أي عمره .والمراد بلقاء
العدو :أنهم سيغنمون منه ما يذبحونه ،أو إنهم يحتاجون إلى ذبح ما يأكلون للتقوي.
( )7علق ابن رشد عليه فقال (بداية المجتهد :)433/1 :من الناس من فهم منه أن ذلك لمكان إن هذه
الشياء ليس في طبعها أن تنهر الدم غالبا .ومنهم من فهم أن ذلك شرع غير معلل .وهؤلء منهم من
اعتقد أن النهي فيه يدل على فساد المنهي عنه ،ومنهم من اعتقد أنه ل يدل على فساد المنهي عنه،
ومنهم من اعتقد أن النهي للكراهة.
( )4/321
السكين الكالّة :لو ذبح بسكين كالّة ،حل عند الشافعية بشرطين :أل يحتاج القطع إلى قوة الذابح .وأن
يقطع الحلقوم والمريء قبل انتهاء الحيوان إلى حركة مذبوح .ويقرب منه قول الحنابلة :إن كانت
اللة كالة ،وأبطأ قطع الحيوان وطال تعذيبه ،لم يبح أكله ،لنه مشكوك في وجود ما يحله.
والخلصة :إن الجمهور أجازوا التذكية بالعظم ،وحرم الشافعية الذبح به .وأما السن والظفر فأجاز
الحنفية الذبح بالمنزوع منهما ،وحرم الشافعية والحنابلة الذبح بهما متصلين أو منفصلين .وصحح ابن
رشد المالكي الذبح بهما عند النفصال ،ول يجوز حالة التصال ،أي كما قال الحنفية.
المبحث الرابع ـ الحيوان الذبيح
الكلم في هذا المبحث مجمل بالقدر المتصل بالذبائح ،والتفصيل فيه سبق في مبحث مستقل عن «
الطعمة والشربة» .
التذكية شرط لحل الكل من الحيوان البري المأكول ،فل يحل أكله ـ كما تقدم ـ بدون الذكاة ،لقوله
تبارك وتعالى{ :حرمت عليكم الميتة والدم} ـ إلى قوله{ :إل ماذكيتم} [المائدة ]3/5:استثنى سبحانه
المذكى من المحرم ،والستثناء من التحريم إباحة.
( )4/322
والحيوان بالنسبة للذبح أو الذكاة الشرعية أنواع ثلثة :مائي ،وبري ،وبرمائي (بري ـ مائي)؛ لن
منه مايؤكل بدون ذكاة ،ومنه ما يؤكل بالذكاة ،ومنه ما ل يؤكل وإن ذكي.
النوع الول ـ الحيوان المائي :
الحيوان المائي :هو الذي ل يعيش إل في الماء فقط .وللعلماء في أكله رأيان - 1 :مذهب الحنفية ()1
،جميع مافي الماء من الحيوان محرم الكل إل السمك خاصة ،فإنه يحل أكله بدون ذكاة إل الطافي (
)2منه ،فإن مات وطفا على الماء لم يؤكل .وأدلتهم كثيرة منها قوله تعالى{ :حرمت عليكم الميتة}
[المائدة ]3/5:وقوله {ويحرّم عليهم الخبائث} [العراف ]157/7:وما سوى السمك :من الضفادع
والسرطان والحية ونحوها :من الخبائث.
ونهى رسول ال صلّى ال عليه وسلم عن دواء يتخذ فيه الضفدع ،ونهى عن قتل الضفادع (، )3
وذلك نهي عن أكله؛ لن النهي عن قتل الحيوان ،إما لحرمته كالدمي ،وإما لتحريم أكله ،كالصّرَد (
، )4والهدهد .وبما أن الضفدع ليس بمحترم ،فكان النهي منصرفا إلى الوجه الخر ،وهو تحريم
الكل.
وأما دليل تحريم أكل السمك الطافي ،فهو حديث جابر« :ما ألقاه البحر ،أو جزر عنه ،فكلوه ،وما
مات فيه ،وطفا ،فل تأكلوه» (. )5
- 2مذهب الجمهور غير الحنفية ( ، )6ورأيهم هو الصح :حيوان الماء:
-------------------------------
( )1البدائع ،39-35/9 :تبيين الحقائق ،297-294/5 :تكملة الفتح ،65-61/8 :الدر المختار:
،217-214/5اللباب.231-228/3 :
( )2الطافي على وجه الماء :هو الذي مات حتف أنفه ،وهو ما بطنه من فوق .أما لو كان ظهره من
فوق ،فليس بطاف ،فيؤكل .كما يؤكل الموجود في بطن الطافي لموته بضيق المكان .قال العلمة عبد
البر :الصل في إباحة السمك أن ما مات بآفة (أي بسبب) يؤكل ،وما مات بغير آفة ل يؤكل .فالذي
مات بحر الماء وبرده ،أو بربطه فيه أو إلقاء شيء فيه ،فموته بآفة (رد المحتار.)216/5 :
( )3رواه أبو داود والنسائي والحاكم ،وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي« :أن طبيبا سأل
رسول ال صلّى ال عليه وسلم عن الضفدع يجعلها في دواء ،فنهى عن قتلها » نصب الراية:
.201/4
( )4الصرد :الطائر ضخم الرأس أبيض البطن أخضر الظهر يصطاد صغار الطير.
( )5رواه أبو داود وابن ماجه .وهو حديث ضعيف (نصب الراية ،202/4 :تخريج أحاديث تحفة
الفقهاء.)70/3 ،
( )6بداية المجتهد ،456 ،425/1 :القوانين الفقهية :ص ،181-171مغني المحتاج،297 ،267/4 :
المهذب ،250/1 :المغني ،608-606/8 :كشاف القناع.202/6 :
( )4/323
السمك وشبهه مما ل يعيش إل في الماء كالسرطان وحية الماء وكلبه وخنزيره ونحو ذلك ،حلل يباح
بغير ذكاة ،كيف مات ،حتف أنفه ،أو بسبب ظاهر ،كصدمة حجر ،أو ضربة صياد ،أو انحسار ماء،
راسيا كان أو طافيا ،وأخذه ذكاته ،لكن إن انتفخ الطافي بحيث يخشى منه السقم يحرم للضرر.
إل أن المام مالك كره خنزير الماء ،وقال :أنتم تسمونه خنزيرا.
وقال الليث بن سعد :أما إنسان الماء ،وخنزير الماء ،فل يؤكلن على شيء من الحالت.
واستدل الجمهور بقوله تعالى{ :أحل لكم صيد البحر وطعامه ،متاعا لكم وللسيارة} [المائدة]96/5:
واسم «الصيد» يقع على ما سوى السمك من حيوان البحر ،فيقتضي أن يكون الكل حللً .وبقوله
صلّى ال عليه وسلم حين سئل عن التوضؤ بماءالبحر ،فقال« :هو الطهور ماؤه ،الحل ميتته» ()1
وبقوله عليه السلم« :أحلت لنا ميتتان ودمان ،فأما الميتتان :فالجراد والحوت ،وأما الدمان :فالكبد
والطحال» ( )2وبحديث« :إن ال ذبح ما في البحر لبني آدم» ( )3وبحديث صحيح عند الشيخين
وأحمد في العنبر ( « : )4أن أبا عبيدة وأصحابه وجدوه بشاطئ البحر ميتا ،فأكلوا منه شهرا حتى
سمنوا ،وادهنوا ،وقدموا منه للنبي صلّى ال عليه وسلم ،فأكل منه ( » )5؛ ولنه ل دم لحيوان
الماء.
-------------------------------
( )1رواه الخمسة ومالك وابن أبي شيبة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والترمذي عن أبي هريرة
(سبل السلم ،14/1 :نيل الوطار.)149/8 :
( )2أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر ،وفيه ضعف (سبل السلم ،1/52 :نيل
الوطار.)147/8 :
( )3رواه الدارقطني ،وذكره البخاري موقوفا على أبي شريح بلفظ «كل شيء في البحر مذبوح» (نيل
الوطار.)150/8 :
( )4حوت قد يبلغ نحو 60قدما ،ضخم الرأس ،وله أسنان.
( )5رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة (جمع الفوائد ،542/1 :نصب الراية.)204/4 :
( )4/324
النوع الثاني ـ الحيوان البري :
الحيوان البري :هو الذي ل يعيش إل في البر .وهو أصناف ثلثة:
الول :ما ليس له دم أصلً ،كالجراد والذباب والنمل والنحل والدود والزنبور والعنكبوت والخنفساء
والصرصار والعقرب وذوات السموم ونحوها ،ليحل أكلها إل الجراد خاصة؛ لنها من الخبائث غير
المستطابة ،لستبعاد الطباع السليمة إياها ،وقد قال ال تعالى{ :ويحرم عليهم الخبائث} [العراف:
.]157/7
لكن الجراد وشبهه الجندُب (نوع من الجراد تسميه العامة القبّوط) خص من هذه الجملة بالحديث
السابق« :أحلت لنا ميتتان» والميتتان :السمك والجراد.
واشترط المالكية تذكية الجراد أو موته بسبب ،بقطع عضو منه أو إحراقه أو جعله في الماء الحار،
كما تبين في أنواع التذكية؛ لن كل حيوان بري ليس له دم سائل يفتقر عندهم إلى الذكاة .ويكره عند
الحنابلة بلع الجراد حيا؛ لن فيه تعذيبا له ،كما يحرم عندهم بلع السمك حيا (. )1
الثاني :ما ليس له دم سائل :كالحية والوَزَغ بأنواعها ،وسام أبرص ( ، )2وجميع الحشرات ،وهوام
الرض من الفأر والقُرَاد (دويبة تتعلق بالبعير ونحوه كالقمل للنسان) والقنافذ والضب واليربوع وابن
عرس والدود ونحوها ،يحرم أكلها ،لستخباثها ،ولنها ذات سموم ولنه صلّى ال عليه وسلم أمر
بقتلها ( ، )3قال صلّى ال عليه وسلم :
-------------------------------
( )1البدائع ،36/5 :بداية المجتهد ،456 ،425/1 :القوانين الفقهية :ص ،181مغني المحتاج:
، 303/4المغني ،590 ،585 ،573/8 :كشاف القناع.202/6 :
( )2نوع من الزحافات كجسم الضفدع ،لكن له ذيل .وسام أبرص :هو كبار الوزغ.
( )3البدائع ،36/5 :بداية المجتهد ،454/1 :مغني المحتاج ،303 ،299/4 :المغني،603 ،585/8 :
القوانين الفقهية :ص .172
( )4/325
« خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم :الحية ( )1والغراب البقع والفأرة والكلب العقور ،والحدايا»
وفي رواية «العقرب» بدل «الغراب» (. )2
وحرم الحنفية وفي قول عند المالكية الضب ،لنه صلّى ال عليه وسلم نهى عائشة حين سألته عن
أكله (. )3
وأباح الجمهور غير الحنفية أكل الضب ،لقراره عليه الصلة والسلم أكل الضب بين يديه ،لما روى
ابن عباس أنه أقر خالد بن الوليد على أكله أمامه وهو ينظر إليه ،وقوله عليه الصلة والسلم « :ل
ـ أي ليس حراما ـ ولكنه لم يكن بأرض قومي ،فأجدني أعافه » ( . )4وأباح المالكية أكل الحلزون
إذا سلق أو شوي ،ل ما مات وحده.
وأجاز الشافعية أكل القُنْفذ وابن عِرْس والثعلب واليَرْبوع والفَنَك والسّمور ( )5؛ لن العرب تستطيب
ذلك ،وما كانت العرب ( أي أهل الحجاز ) تسميه طيبا فهو حلل ،وما كانت تسميه خبيثا ،فهو
محرم ،لقول ال تعالى{ :ويحل لهم الطيبات ،ويحرم عليهم الخبائث} [العراف.]157/7:
-------------------------------
( )1قال في كتاب الجواهر عند المالكية :يحكي المخالفون عن المذهب جواز أكل الحيوانات
المستقذرة كالحشرات وهوام الرض ،والمذهب بخلف ذلك .وحرمها الشافعي لنها خبائث ( القوانين
الفقهية :ص .)173
( )2رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن عائشة .والرواية الخيرة عند أبي داود.
( )3قال الزيلعي عنه :غريب .وروى أبو داود أن النبي صلّى ال عليه وسلم نهى عن أكل لحم
الضب ،لكن في اسناده مقال (نصب الراية )195/4 :والضب :حيوان من الزحافات شبيه بالحردون
ذنبه كبير العقد.
( )4أخرجه أحمد والئمة الستة إل الترمذي ( جمع الفوائد لبن سليمان الروداني.)550/1 :
( )5الفنك :حيوان يؤخذ من جلده الفرو للينه وخفته .والسمور :حيوان يشبه السنور ( الهر ) وهما
نوعان من ثعالب الترك.
( )4/326
( )4/327
ويحل بالتذكية بالجماع :المستأنس من الطير الذي ل مخلب له ،كالدجاج والحمام والنعامة والبط
والوز.
ويحرم المستأنس من السباع :وهو الكلب والسنور الهلي (الهر) (. )1
وأما المتوحش :فيحرم عند الجمهور غير مالك أكل كل ذي ناب منه من السباع ،وكل ذي مخلب من
الطير لنها تأكل الجيف أي الميتات .وذو الناب من سباع الوحش :مثل السد والذئب والضبع والنمر
والفهد ،والثعلب ،والسنور البري ،والسنجاب ،والفنك ،والسمور ،والدب ،والقرد والفيل ،والدّلَق ()2
وابن آوى (فوق الثعلب ودون الكلب طويل المخلب).
وذو المخلب من الطير :كالبازي والباشق ،والصقر ،والشاهين والحدأة والبومة والنعّاب (فرخ الغراب
لكثرة نعبه) وغراب البين (وهو أكبر الغربان والبقع) والرّخْم (طير يشبه النسر في الخلقة) والنسر
خطّاف (هو عرفا طائر أسود الظهر أبيض البطن ،يأوي إلى البيوت في الربيع ،وهو
والعقاب ،وال ُ
خفّاش (أي الوطواط ،وهو طائر صغير ل ريش له ،يشبه الفأرة ،يطير بين المغرب
السنونو) وال ُ
والعشاء) وما أشبه ذلك (. )3
وحرم الشافعية أكل الببّغاء والطاووس لخبث لحمهما ،كما حرموا أكل الهدهد والصّرَد (وهو طائر
فوق العصفور يصيد العصافير) وعند الحنابلة في
-------------------------------
( )1البدائع ،39/5 :مغني المحتاج ،302 ،300/4 :المغني ،592/8 :القوانين الفقهية :ص ،172
المهذب 248/1 :ومابعدها.
( )2الدلق :حيوان يقرب من السنور في الحجم ،وهو أصفر اللون ،بطنه وعنقه مائلن إلى البياض.
( )3البدائع ،39/5 :تكملة الفتح 61/8 :ومابعدها ،بداية المجتهد 453/1 :ومابعدها ،القوانين الفقهية:
ص ،172مغني المحتاج ،300/4 :المهذب 247/1 :وما بعدها ،المغني،603 ،593-587/8 :
اللباب 229/3 :ومابعدها.
( )4/328
الهدهد والصرد :روايتان عن أحمد ،إحداهما :أنهما حلل لنهما ليسا من ذوات المخلب ول
يستخبثان ،والثانية :تحريمهما لنهي النبي صلّى ال عليه وسلم عن قتل الهدهد والصّرَد ،والنملة
والنحلة .والدليل على تحريم ذي الناب والمخلب :أنه صلّى ال عليه وسلم يوم خيبر «نهى عن أكل
كل ذي ناب من السباع ،وكل ذي مخلب من الطير» (. )1
وروي عن مالك القول بأن السباع ذوات الربع مكروهة وهو الراجح لديه ،وقيل :جميعها محرمة،
وذهب أصحابه إلى التحريم .وأما الطير فهو حلل عند المالكية سواء ذو المخلب وغيره ،عملً
بظاهر الية{ :قل :ل أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} [النعام ]145/6:فما عدا
المذكور في هذه الية حلل .ويحمل النهي المذكور في الحديث على الكراهية.
وقيد الشافعية تحريم ذي الناب بكونه ضاريا (عاديا) ذا ناب قوي ،وذي المخلب بكونه قويا يجرح به،
فأباحوا كل ما نابه ضعيف كالضبع والثعلب والفنك والسمور واليربوع .والصح عندهم حل غراب
زرع (وهو أسود صغير يقال له :الزاغ)؛ لنه يأكل الزرع.
-------------------------------
( )1رواه الجماعة إل البخاري والترمذي عن ابن عباس ،وروي مثله عن علي وخالد بن الوليد
(نصب الراية 192/4 :ومابعدها ،نيل الوطار.)116/8 :
( )4/329
ورخص الحنابلة أيضا في أكل الضبع ،لما روى جابر ،قال« :أمرنا رسول ال صلّى ال عليه وسلم
بأكل الضبع ،قلت :صيد هي؟ قال :نعم» وفي لفظ قال« :سألت رسول ال صلّى ال عليه وسلم عن
الضبع ،فقال :هو صيد ،ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم» ( )1ورويت الرخصة فيه عن سعد وابن
عمر ،وأبي هريرة ،وعروة بن الزبير ،وعكرمة وإسحاق ،وقال عروة :مازالت العرب تأكل الضبع،
ول ترى بأكلها بأسا .ورخص أحمد أيضا في أكل اليربوع؛ لن الصل الباحة ما لم يرد فيه تحريم.
وما عدا كل ذي ناب أو مخلب من الوحوش ،يحل أكله ،كالظباء وبقر الوحش ،وحمار الوحش على
اختلف أنواعها كالوعل والمها وغيرها؛ لنها كالمعز الهلية ،ومن الطيبات ،ولما ثبت في
الصحيحين أنه صلّى ال عليه وسلم قال في حمار الوحش« :كلوا من لحمه ،وأكل منه» .
ويباح أكل الرنب لنه حيوان مستطاب ،ليس بذي ناب كالظبي ،وقد أباح النبي صلّى ال عليه
-------------------------------
( )1رواه أبو داود (نيل الوطار.)121/8 :
( )4/330
( )4/331
( )4/332
( )4/333
( )4/334
والصيد :اقتناص حيوان حلل متوحش ،طبعا غير مملوك ،ول مقدور عليه (. )1
حكم الصيد :الصطياد مباح لقاصده إجماعا في غير حرم مكة وحرم المدينة ،لغير المحرم بحج أو
عمرة .ويؤكل المصيد إن كان مأكولً شرعا ( )2لقوله تعالى{ :وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة]5/2:
أمر بعد حظر ،فيفيد الباحة .ولقوله سبحانه{ :وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} [المائدة]5/96:
{ياأيها الذين آمنوا ل تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة{ ]5/95:قل :أحل لكم الطيبات ،وما علّمتم من
الجوارح مكلّبين} [المائدة.]4/5:
وثبت في السنة أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال لعدي بن حاتم« :إن أرسلت كلبك ،وسميت ،فأخذ،
فقتل،فكل ،وإن أكل منه فل تأكل ،فإنما أمسك على نفسه» (. )3
وعن أبي قتادة :أنه كان مع رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،فرأى حمارا وحشيا ،فاستوى على
فرسه ،وأخذ رمحه ،ثم شد على الحمار ،فقتله ،فلما أدركوا رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،سألوه
طعْمة ،أطعمكموها ال » (. )4
عن ذلك ،فقال« :هي ُ
-------------------------------
( )1تبيين الحقائق ،50/6 :اللباب ،217/3 :كشاف القناع.211/6 :
( )2تبيين الحقائق ،50/6 :المغني 539/8،551 :ومابعدها ،الدر المختار.328/5 :
( )3متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الوطار ،134/8 :تلخيص الحبير 133/4 :ومابعدها).
( )4متفق عليه.
( )4/335
وعن أبي ثعلبة الخشني ،أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :ما صدت بقوسك ،فذكرت اسم ال
عليه ،فكل ،وما صدت بكلبك المعلم ،فذكرت اسم ال عليه ،فكل ،وما صدت بكلبك غير المعلم،
فأدركت ذكاته ،فكل» ( . )1وأجمع العلماء على إباحة الصطياد ،والكل من الصيد.
ويكره الصيد لهوا ،لنه عبث لقوله عليه السلم« :ل تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا» ( )2أي هدفا
«من قتل عصفورا عبثا ،عج إلى ال يوم القيامة يقول :يارب ،إن فلنا قتلني عبثا ،ولم يقتلني منفعة»
( . )3وهو حرام إن كان فيه ظلم الناس بالعدوان على زروعهم وأموالهم؛ لن الوسائل لها أحكام
المقاصد (. )4
والصيد أفضل مأكول؛ لنه حلل ل شبهة فيه ،كما أن الزراعة أفضل مكتسب؛ لنها أقرب إلى
التوكل من غيرها ،وأقرب للحل .وفيها عمل اليد ،والنفع العام للنسان والحيوان (. )5
ومما يؤكد مشروعية الصيد :أنه نوع اكتساب ،وانتفاع بما هو مخلوق للنسان ،ليتمكن من البقاء،
وتنفيذ التكاليف الشرعية.
هذا وقد قسم المالكية ( )6أحكام الصيد خمسة أقسام:
مباح للمعاش ،ومندوب للتوسعة على العيال ،وواجب لحياء النفس عند الضرورة ،ومكروه للهو،
وحرام إذا كان عبثا لغير نية ،للنهي عن تعذيب الحيوان لغير فائدة.
-------------------------------
( )1متفق عليه (نيل الوطار.)130/8 :
( )2رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس.
( )3رواه الشافعي وأحمد والنسائي وابن حبان عن عمرو بن الشريد عن أبيه (نيل الوطار137/8 :
ومابعدها).
( )4كشاف القناع.211/6 :
( )5المرجع السابق.
( )6القوانين الفقهية :ص ،175الشرح الكبير.108/2 :
( )4/336
( )4/337
وأحمد :يعتبر المتولد من كتابي ومشرك كولد مجوسية من كتابي مثل المشرك ل يؤكل صيده (. )1
- 2أل يشاركه في الرسال من ل يحل صيده :وهذا شرط اتفاق أيضا .ويمكن جعل الشرط الول
والثاني واحدا .ودليل هذا الشرط حديث عدي بن حاتم الذي فيه« :ما لم يُشركها كلب ليس معها» فهو
يدل على أنه ل يحل أكل ما شاركه كلب آخر في اصطياده.
فلو شارك مجوسي مسلما في اصطياد أو ذبح ،أو اشتركا في إرسال كلبين أو سهمين ،ولم يسبق كلب
المسلم أو سهمه ،فجرحا المصيد،أو جهل الجارح ،لم يؤكل المصيد أو المذبوح؛ لنه اجتمع المبيح
والمحرّم ،فتغلب جهة المحرم احتياطا ،مما يدل على أن المبدأ في الطعمة في المذاهب الربعة هو
تغليب التحريم ( . )2ويطبق ذلك أيضا على حالة الشتراك بين كلب معلم وغير معلم ،أو كلب لم
يذكر اسم ال تعالى عليه عمدا مع ما ذكر ،عند الجمهور مشترطي التسمية.
- 3أن ينوي الصطياد أو يوجد منه الرسال ـ إرسال الجارحة على الصيد ،وهو شرط متفق
عليه ،فإن استرسلت بنفسها،فقتلت ،لم يبح ،لقول النبي صلّى ال عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم
المتقدم« :إذا أرسلت كلبك المعلم ،وذكرت اسم ال عليه ،فكل ما أمسك عليك» ،ولن إرسال
الجارحة جعل بمنزلة الذبح ،ولهذا اعتبرت التسمية معه.
وإن استرسل الجارح بنفسه ،فسمى صاحبه ،وزجره ،فزاد في عدْوه ،أبيح صيده عند الحنابلة
والحنفية؛ لن الزجر مثل الرسال ،ول يباح عند المالكية ،والشافعي في الصح ،لجتماع
-------------------------------
( )1القوانين الفقهية :ص ،176الدر المختار ورد المحتار ،210/5 :كشاف القناع.215/6 :
( )2اللباب 219/3 :ومابعدها ،الشرح الكبير ،105/2 :مغني المحتاج ،226/4 :كشاف القناع:
،215/6المهذب.253/1 :
( )4/338
( )4/339
آخر ،ل أدري أيهما أخذه؟ قال :فل تأكل ،فإنما سميت على كلبك ،ولم تسم على غيره» (. )1
وقال الشافعية ( : )2يباح أكل متروك التسمية عمدا أو سهوا ،في الصيد والذبائح ،لقول النبي صلّى
ال عليه وسلم « :المسلم يذبح على اسم ال ،سمى أو لم يسم » ( )3وعن أبي هريرة رضي ال
عنه «أن النبي صلّى ال عليه وسلم سئل ،فقيل :أرأيت الرجل منا يذبح ،وينسى أن يسمي ال ؟ فقال:
اسم ال في قلب كل مسلم» (. )4
وأما النهي في قوله تعالى{ :ول تأكلوا مما لم يذكر اسم ال عليه ،وإنه لفسق} [النعام ]121/6:فمقيد
بحال كون الذبح فسقا ،والفسق في الذبيحة مفسر في كتاب ال بما أهل لغير ال به؛ لن جملة {وإنه
لفسق} [النعام ]121/6:ل تصلح أن تكون معطوفا ،للتباين بين الجملتين ،إذ الولى فعلية إنشائية،
والثانية اسمية خبرية ،فتعين أن تكون حالية.
وأما الحاديث المطالبة بالتسمية في خبر أبي ثعلبة وعدي بن حاتم ونحوهما ،فمحمولة على الندب.
- 5أل يشتغل الصائد بين الرسال وأخذ المصيد بعمل آخر .وعبر المالكية عن ذلك بقولهم :أن يتبع
الصائد الصيد عند الرسال أو الرمي.
والسبب في اشتراط هذا الشرط :أن الصائد مطالب بملحقة المصيد ،ليذبحه إن أدركه حيا فيه روح،
فإن قصر في ذلك ،ومات ولم يذكه ،لم يؤكل ،لنه قدر على الذكاة الختيارية ،فل تجزئ الذكاة
الضطرارية لعدم الضرورة.
-------------------------------
( )1متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الوطار.)134/8 :
( )2مغني المحتاج.272/4 :
( )3قال عنه الزيلعي :غريب بهذا اللفظ .وفي معناه أحاديث منها حديث ابن عباس عند الدارقطني
لكن في إسناده كلم ،والصحيح عند ابن حبان أنه موقوف على ابن عباس .وأخرجه عبد الرزاق عن
ابن عباس موقوفا( .نصب الراية.)182/4 :
( )4أخرجه الدارقطني أيضا ،وفيه ضعيف .وعند أبي داود حديث مرسل عن الصلت الدوسي ،بلفظ
«ذبيحة المسلم حلل ،ذكر اسم ال ،أو لم يذكر» .ولحمد رواية مثل حديث أبي هريرة (نصب
الراية ،183/4 :المغني.)540/8 :
( )4/340
وللفقهاء آراء في إدراك المصيد حيا ،قال الحنفية ( : )1إن أدرك المصيد ،وكان فيه فوق حياة
المذبوح ،بأن يعيش مدة كاليوم أو نصفه ،فوق ما يعيش المذبوح ،وترك التذكية ،حتى مات ،لم يؤكل؛
لنه مقدور على ذبحه ،ولم يذبح ،فصار كالميتة ،وال تعالى يقول{ :إل ما ذكيتم} [المائدة ]3/5:ولقوله
عليه الصلة والسلم لعدي« :إذا أرسلت كلبك ،فاذكر اسم ال عليه ،وإن أمسك عليك ،فأدركته حيا،
فاذبحه» .
أما لو أدرك به حياة مثل حياة المذبوح ،فل تلزم تذكيته ،لنه ميت حكما ،ولهذا لو وقع في الماء في
هذه الحالة ،ل يحرم ،كما لو وقع وهو ميت .ولو أدرك الصيد حيا حياة فوق ما يكون في المذبوح،
ولم يتمكن من ذبحه لفقد آلة ،أو ضيق الوقت ،لم يؤكل في ظاهر الرواية ،وفي رواية أخرى عن أئمة
الحنفية الثلثة :إنه يؤكل استحسانا ،وقيل :هذا أصح.
أما إن لم يتمكن من ذبحه ،لعدم قدرته عليه ،أي عدم ثبوت يده عليه ،فمات ،أكل؛ لن اليد لم تثبت
عليه ،ولم يوجد منه التمكن من الذبح.
-------------------------------
( )1تكملة الفتح 178/8 :ومابعدها ،اللباب ،219/3 :تبيين الحقائق ،53/6 :الدر المختار.334/5 :
( )4/341
وقال المالكية ( : )1إن رجع الصائد بعد الرسال أو الرمي ،ثم أدرك المصيد غير منفوذ المقاتل،
ذكاه .وإن لم يدركه إل منفوذ المقاتل ،لم يؤكل ،إل أن يتحقق أن مقاتله أنفذت بالمصيد به.
وقال الشافعية والحنابلة ( : )2إن كانت حياة المصيد كحياة المذبوح ،ليس فيه حياة مستقرة ،بأن شق
جوفه وخرجت الحشوة ،أو أصاب العقر من الكلب مقتلً ،يباح من غير ذبح ،باتفاق المذاهب؛ لن
الذكاة في مثل هذا ل تفيد شيئا ،لكن المستحب عند الشافعية أن يمر السكين على الحلق ليريحه ،وإن
لم يفعل حتى مات ،حل؛ لن عقر الكلب المرسل عليه ،قد ذبحه ،وبقيت فيه حركة المذبوح .وإن
كانت فيه حياة مستقرة أدركها الصائد فينظر في المر:
أ ـ إن تعذر ذبحه ،بل تقصير من الصائد ،حل أكله ،كأن سل السكين على الصيد ،أو ضاق الزمان
فلم يتسع الوقت لذكاته ،حتى مات ،أو مشى له على هينته ولم يأته عدوا ،أو اشتغل بتوجيهه للقبلة أو
بطلب المذبح (مكان الذبح) ،أو بتناول السكين ،أو منع منه سبع ،فمات قبل إمكانه الذبح ،أو امتنع منه
بقوته ،ومات قبل القدرة عليه ،فيحل في الجميع كما لو مات ،ولم يدرك حياته.
ب ـ وإن مات لتقصيره ،بأن ل يكون معه سكين ،أو لم تكن محددة ،أو ذبح بظهرها خطأ ،أو أخذها
منه غاصب ،أو نشبت في الغمد (أي عسر إخراجها بأن تعلقت في الغلف) ،حرم الصيد ،للتقصير،
لحديث أبي ثعلبة الخشني المتقدم أن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :ما رد عليك كلبك المكلب،
وذكرت اسم ال عليه ،وأدركت ذكاته ،فذكه ،وكل ،وإن لم تدرك ذكاته ،فل تأكل. »..
- 6أل يكون الصائد في صيد البر محرما بحج أو عمرة ،أما صيد البحر فحلل للمحرم لقوله
تعالى{ :أحل لكم صيد البحر وطعامه ،متاعا لكم وللسيارة ،وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما}
[المائدة .]96/5:وفي حديث صحيح« :صيد البر لكم حلل ـ وأنتم حرم ـ ما لم
-------------------------------
( )1القوانين الفقهية :ص .176
( )2مغني المحتاج 269/4 :ومابعدها ،المهذب ،254/1 :المغني 547/8 :ومابعدها ،كشاف القناع:
214/6ومابعدها.
( )4/342
تصيدوه أو ُيصَد لكم» ( )1وحكمة التفرقة بين نوعي الصيد كما ورد في الية هو توفير زاد
للمسافرين والنائين عن البحر ،ولن صيد البر ترفه يتطلب مشقة ومطاردة تصرف المحرم عما فيه
من عبادة.
- 7أن يرى الصائد الصيد ويعينه أو يحس به ،ويرسل كلبه المعلم على صيد ،وهذا شرط ذكره
المالكية والشافعية والحنابلة ( ، )2ويمكن عده مع الشرط الثالث.
فلو علم الصائد بالصيد ،ولو كان أعمى ،فأرسل كلبه أو بازه المعلم ،فقتل المصيد ،فإنه يؤكل ،ويصح
صيد العمى عند المالكية والحنابلة .أما لو أرسله على صيد ،وهو ل يرى شيئا ،ول يحس به،
فأصاب صيدا ،لم يبح في قول أكثر أهل العلم؛ لنه لم يرسله على الصيد ،وإنما استرسل بنفسه.
وكذلك إن رمى سهما لختبار قوته أو إلى غرض ،فأصاب صيدا ،أو رمى به إلى أعلى ،فوقع على
صيد ،فقتله ،لم يُبح لنه لم يقصد برميه عينا ،كما لو نصب سكينا فانذبحت بها شاة .ولو أرسل
الصائد الجارح في غار أو غيضة (مجتمع شجر) ،لم يعلم أن فيهما صيدا ،ونوى ذكاة ما وجده فيها،
أو علم فيهما صيدا ،ولم يره ببصره ،فوجد صيدا ،فقتله ،فإنه يؤكل كما صرح المالكية ،تنزيلً للغالب
منزلة المعلوم.
واشترط الشافعية ( )3أن يكون الصائد بصيرا ،فل يحل عندهم صيد العمى في الصح لعدم صحة
قصده؛ لنه ل يرى الصيد ،فصار كاسترسال الكلب بنفسه ،ليحل به الصيد ،ولو أرسل كلبا ،وهو ل
يراه صيدا ،فأصاب صيدا لم يحل .وتطبيقا على هذه الشروط أذكر حالتين :هما حالة غيبة مصرع
المصيد ،وحالة وقوعه في ماء أو ترديه من سطح بعد الصيد:
حالة غيبة المصرع :إن رمى الصائد الصيد ،فغاب عن عينه ،فوجده ميتا وليس به إل أثر سهمه ()4
،يباح أكله عند الحنفية ،والحنابلة :إن تابع طلبه والبحث عنه ،أو لم يتشاغل عنه بشيء آخر .فإن
تشاغل عنه ،ثم وجده ،أو وجد به أثر سهم آخر ،أوشك في سهمه لم يبح أكله ،لحتمال موته بسبب
آخر.
-------------------------------
( )1رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث جابر.
( )2الشرح الكبير ،104/2 :القوانين الفقهية :ص ،176المغني ،545/8 :كشاف القناع،214/6 :
المهذب ،255/6 :مغني المحتاج.277/4 :
( )3مغني المحتاج ،267-266/4:المهذب.255/1 :
( )4اللباب ،220/3 :تبيين الحقائق ،57/6 :تكملة الفتح ،183/8 :الشرح الكبير،106 ،104/2 :
المهذب ،254/1 :المغني 553/8 :ومابعدها ،كشاف القناع ،218/6 :بداية المجتهد ،446/1 :مغني
المحتاج ،277/4 :القوانين الفقهية :ص .178
( )4/343
ولقول ابن عباس« :كل ما أصميت ،ودع ما أنميت» ( )1والصماء :ما رأيته ،والنماء :ما توارى
عنك ،مما يدل على أن الصيد يحرم بالتواري .ولقوله صلّى ال عليه وسلم في حديث عدي ابن حاتم:
«إذا رميت فوجدته بعد يوم أو يومين ،ليس به إل أثر سهمك ،فكل ،وإن وقع في الماء فل تأكل» .
وقال الشافعية في الظهر :إن جرحه جرحا يمكن إحالة الموت عليه ،وغاب ،ثم وجده ميتا ،ولم يظن
أن سهمه قتله ،حرم ،لحديث عدي بن حاتم قال« :قلت :يا رسول ال ،إنا أهل صيد ،وإن أحدنا يرمي
الصيد ،فيغيب عنه الليلتين والثلث ،فيجده ميتا ،فقال :إذا وجدت فيه أثر سهمك ،ولم يكن أثر سبع،
وعلمت أن سهمك قتله ،فكل» (. )2
وقال المالكية في المشهور :إن وجده ميتا بعد يوم أو يومين منفوذ المقاتل ل يؤكل لحتمال موته
بشيء من الهوام مثلً ،ولحديث مسند عن أبي رَزين وعن عائشة ،ومرسل عند أبي داود ،مفاده «أن
النبي صلّى ال عليه وسلم كره أكل الصيد إذا غاب عن الرامي ،وقال :لعل هوام الرض قتلته» .
والخلصة :إن الصيد الذي غاب بعد رميه ،ولم يعلم أو يظن أنه مات بضربه ،ل يؤكل في المذاهب.
حالة الوقوع في الماء أو التردي من مكان عال على الرض :إذا رمى الصائد صيدا ،فوقع في ماء
أو تردى من مكان عال كجبل أو سطح على الرض ،أو وطئه شيء فمات ،لم يؤكل باتفاق المذاهب
( ، )3لكن إن وقع على الرض مباشرة،
-------------------------------
( )1رواه البيهقي موقوفا (تلخيص الحبير.)136/4 :
( )2رواه أحمد والبخاري (نيل الوطار 135/8 :ومابعدها ،جامع الصول.)444/7 :
( )3اللباب 220/3 :وما بعدها ،تكملة الفتح ،184/8 :تبيين الحقائق ،58/6 :القوانين الفقهية :ص
،178الشرح الكبير ،105/2 :بداية المجتهد 446/1 :ومابعدها ،مغني المحتاج ،274/4 :المهذب:
،254/1المغني ،577/8:كشاف القناع.218/6 :
( )4/344
أكل؛ لنه ل يمكن الحتراز عنه .بخلف الحالة المتقدمة ،فإنه يمكن الحتراز عنه ،وقد اجتمع فيه
سبب الحل والحرمة معا ،فترجح جهة الحرمة احتياطا ،ولحديث عدي بن حاتم السابق« :وإن وقع في
ماء ،فل تأكل» .هذا مالم يكن سهم قد أنفذ مقاتله قبل الوقوع ،فإن حدث ذلك لم يضره الغرق أو
التردي.
المطلب الثاني ـ شروط آلة الصيد :
اللة نوعان :سلح ،وحيوان.
أ ـ أما السلح :فيشترط أن يكون محددا كالرمح والسهم والسيف والبارود ونحو ذلك .وإذا رمى
الصيد بسيف أو غيره ،فقطعه قطعتين أو قطع رأسه ،أكل جميعه وأكل الرأس ،عند الجمهور (، )1
ول يؤكل الجزء المبان منه إذا بقيت فيه حياة مستقرة؛ لن «الجزء المقطوع من الحي كميتته» .
ويؤكل العضو المبان إذا لم تبق فيه حياة مستقرة ومات بالجرح.
وكذلك قال الحنفية ( : )2إذا رمى إلى صيد ،فقطع عضوا منه أكل المصيد ،كوجود الجرح ،ول
يؤكل العضو المقطوع بحال ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :ما أبين من الحي فهو ميت» ( )3والمبان
منه حي حقيقة لوجود الحياة .وإن قطعه الرامي أثلثا أو أكثره مع عجزه ،أو قطع نصف رأسه أو
أكثره ،أو قدّه نصفين ،أُكل كله؛ لن هذه الصور ل يمكن فيها وجود حياة فوق حياة المذبوح ،فلم
يتناولها الحديث المذكور .أما لو كان الكثر مع الرأس ،أكل الكثر ،ول يؤكل القل ،لمكان الحياة
فوق حياة المذبوح ،وأما القل فهو مبان من الحي.
-------------------------------
( )1القوانين الفقهية :ص ،178 ،176المغني 556/8 :ومابعدها ،بداية المجتهد ،447/1 :مغني
المحتاج.270/4 :
( )2اللباب ،222/3 :الدر المختار ،336/5 :تكملة الفتح 185/8 :ومابعدها.
( )3رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين وأحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر بلفظ «ما
قطع من حي فهو ميته» أو «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة» (نيل الوطار.)146/8 :
( )4/345
ول يجوز الصطياد بما ليجوز التذكية به ،وهي السن والظفر والعظم على الخلف السابق في
التذكية به.
ول يجوز الصيد بمثقل ( )1كالحجر ،والبندقة (طينة مدورة يرمى بها) ،والمعراض بعُرضه (سهم ل
ريش ول نصل ،أو عصا محددة الرأس) إل أن يكون له حد ،ويوقن أنه أصاب به ،ل بالرض؛ لن
ما قتله بحدة بمنزلة ما طعنه برمحه ،ورماه بسهم ،وما قتل بعُرْضه (جانبه) إنما يقتل بثقله ،فهو
موقوذ أو وقيذ (ميت بالضرب) ولما روي أن عدي بن حاتم قال للنبي صلّى ال عليه وسلمـ :إني
أرمي الصيد بالمعراض ( ، )2فأصيب ،فقال« :إذا رميت بالمعراض ،فخزق (نفذ) ،فكله ،وإن أصاب
بعُرْضه (بغير طرفه المحدد) ،فل تأكله» ( . )3وفي حديث عبد ال بن مغَفّل قال« :نهى رسول ال
صلّى ال عليه وسلم عن الخَذْف ،وقال :إنه ل يقتل الصيد ،ول ينكأ العدو ،وإنه يفقأ العين ،ويكسر
السن» (. )4
وعليه :إذا قتل الصائد أو الذابح الحيوان بمُ ْثقّل (شيء ثقيل) ،أو ثقل محدد كبندقة وسوط ،وسهم بل
نصل ول حد ،أو سهم وبندقة معا ،أو جرحه نصل وأثر فيه عُرْض السهم (جانبه) في مروره ،ومات
بهما (أي الجرح والتأثير) أو انخنق بأحبولة أو شبكة ،فهو محرم ،بل خلف ،لنه قتله بما ليس له
حد ( . )5وهكذا حكم سائر آلت الصيد حكم المعراض في أنها إذا قتلت بعُرْضها ولم تجرح ،لم يبح
الصيد ،كالسهم يصيب الطائر بعُرْضه فيقتله ،أو كالسيف بصفحه.
-------------------------------
( )1تكملة الفتح ،185/8 :اللباب ،221/3 :تبيين الحقائق ،58/6 :القوانين الفقهية :ص ،176بداية
المجتهد ،441/1 :مغني المحتاج ،274/4 :المهذب ،254/1 :المغني 558/8 :ومابعدها ،كشاف
القناع 217/6 :ومابعدها.
( )2قال القرطبي :المشهور أنه خشبة ثقيلة آخرها عصا محدد رأسها ،وقد ل يحدد .وقال ابن التين:
المعراض :عصا في طرفها حديدة يرمي بها الصائد.
( )3رواه البخاري ومسلم وأحمد (نيل الوطار.)130/8 :
( )4رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي (جامع الصول.)452/7 :
( )5مغني المحتاج ،4/472 :المهذب ،274/4 :بداية المجتهد ،446/1 :المغني.559/8 :
( )4/346
ول يؤكل ما يصطاد اليوم بالخردق أو الرصاص غير محدد الرأس إل إذا أدركه الصائد حيا وذبحه
ذبحا اختياريا .وأفتى الشيخ المفتي محمود حمزة في دمشق وغيره بجواز أكل ماصيد بالخردق أو
الرصاص العادي ،لنه يقتل بسرعة شديدة.
والخلصة :أنه يؤكل المصيد بالرمي بأداة محددة كالرماح والسيوف والسهام ونحوها للنص عليها في
القرآن والسنة .كما يؤكل المصيد بالمثقل إذا قتله بحده وخرق جسد الصيد ،ول يؤكل إذا قتله بالمثقل
ولم يخرق لقول النبي صلّى ال عليه وسلم« :ما خزق فكل» .وهذا التفصيل بالمثقل هو رأي
الجماهير.
ب ـ وأما الحيوان الجارح :فيحل الصطياد بجوارح السباع والطير إذا كانت معلمة ،ولم تأكل من
الصيد عند غير المالكية .فالسبع مثل الكلب والفهد والنمر والسد والهر ،والطير مثل الباز أو البازي
(نوع من الصقور) والشاهين (من جنس الصقر) والصقر والنسر والعقاب ونحوها من كل ما يقبل
التعليم ( )1لقوله تعالى{ :أحل لكم الطيبات ،وما علّمتم من الجوارح مكلبين} [المائدة ،]5/4:قال ابن
عباس :هي الكلب المعلمة ،وكل طير تعلّم الصيد والفهود والصقور وأشباهها ،أي يحل لكم صيد
ماعلمتم من الجوارح ( . )2ولحديث عدي بن حاتم ،قال :سألت رسول ال صلّى ال عليه وسلم عن
صيد البازي ،فقال« :إذا أمسك عليك ،فكل» ولنه جارح يصاد به عادة ،ويقبل التعليم ،فأشبه الكلب.
ومثله كل سبع حتى السد.
واستثنى أبو يوسف ( )3من ذلك السد والدب ،لنهما ل يعملن لغيرهما:
-------------------------------
( )1البدائع ،44/5 :الدر المختار ،329/5 :تبيين الحقائق ،50/6 :تكملة الفتح ،171/8 :اللباب:
217/3ومابعدها ،بداية المجتهد ،441/1 :القوانين الفقهية :ص ،176الشرح الكبير ،104/2 :مغني
المحتاج ،275/4 :المهذب 253/1 :ومابعدها ،المغني ،547-545 ،539/8 :كشاف القناع.220/6 :
( )2والجوارح :الكواسب .ومكلبين :من التكليب :هو الغراء.
( )3الهداية مع تكملة الفتح.173/8 :
( )4/347
السد لعلو همته ،والدب لخساسته ،وألحق بعضهم بهما الحدَأة لخساستها ،والخنزير مستثنى؛ لنه
نجس العين ،فل يجوز النتفاع به.
واستثنى المام أحمد من الكلب :الكلب السود البهيم(الذي ل يخالط لونه لون سواه كالبياض
ونحوه) ،لنه كلب يحرم اقتناؤه ،ويسن قتله بأمر النبي صلّى ال عليه وسلم ،فلم يبح صيده ،كغير
المُعلّم .ودليله قول النبي صلّى ال عليه وسلم « :عليكم بالسود البهيم ذي ال ُنكْتتين ،فإنه شيطان» ()1
فقد سماه النبي شيطانا ،ول يجوز اقتناء الشيطان .وإباحة الصيد المقتول بالجارح رخصة ،فل تستباح
بمحرم كسائر الرخص ،ويكون عموم الية السابقة مخصصا بهذا الحديث (. )2
ويسن أيضا عند الحنابلة قتل الخنزير ويحرم النتفاع به ،ويجب قتل الكلب العقور ولو كان معلما،
ويحرم اقتناؤه لذاه.
شروط الحيوان الصائد -يشترط في الحيوان المصيد به ستة شروط (: )3
الول -أن يكون معلماً :بأن ينتقل عن طبعه الصلي ،حتى يصير تحت تصرف الصائد كاللة ،ل
صائدا لنفسه .وشرط التعليم متفق عليه بنص القرآن.
وتعليم الكلب عند الحنفية :أن يترك الكل ثلث مرات .وتعليم البازي ونحوه :أن يرجع ويجيب إذا
دعوته ،ول يشترط فيه ترك الكل من الصيد ،وهو مأثور عن ابن عباس ،ولن آية التعليم :ترك ما
هو مألوفه عادة ،فيترك الكلب ونحوه من السباع الكل والستلب مما يصيده،ويتعود الطائر الجابة،
أو الرجوع
-------------------------------
( )1رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر مرفوعا بلفظ « ذي الطفيتين » أي الخطين البيضين
فوق عينيه ،وهما النكتتان ،والنكتة ،النقطة البيضاء في السود ،أو السوداء في البيض.
( )2المغني ،547/8 :كشاف القناع.220/6 :
( )3رد المحتار ،328/5 :بداية المجتهد ،444/1 :القوانين الفقهية :ص 176ومابعدها.
( )4/348
إذا دعوته .وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة :ليقدر التعليم بالثلث بل بحسب رأي المدرب.
ويؤكل مااصطاده في المرة الثالثة عند أبي حنيفة ،ول يؤكل عند الصاحبين؛ لنه إنما يصير معلما
بعد تمام الثلث ( . )1ولبد من الرسال ،لكن ليشترط الزجر في حل الصيد.
ولبد في التعليم عند الشافعية والحنابلة من أوصاف أو شروط ثلثة :إذا أرسله صاحبه استرسل ،وإذا
زجره انزجر ،وإذا أمسك الصيد لم يأكل منه .ويكفي عند المالكية توفر الشرطين الولين (. )2
ويشترط تكرار هذه المور حتى يصير معلما في حكم العرف بأن يظن تأدب الجارحة ،وليضبط
ذلك بعدد عند المالكية والشافعية ،بل يرجع في أمر التكرار إلى أهل الخبرة بالجوارح ،وأقل ذلك أن
يتكرر مرتين فأكثر ،بحيث يغلب على الظن تعوده وتعلمه ذلك .وأقل المطلوب عند الحنابلة ثلث
مرات؛ لن مااعتبر فيه التكرار اعتبر ثلثا ،كالمسح في الستجمار وغسلت الوضوء.
وليعتبر أيضا عند بعض المالكية شرط « :إذا زجر انزجر » في الباز ،لنه لينزجر.
ودليل شرط عدم أكل الجارح من الصيد :هو حديث عدي بن حاتم المتقدم« :إذا أرسلت كلبك المعلم،
وسميت ،فأمسك وقتل ،فكل ،وإن أكل فل تأكل ،فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» .
-------------------------------
( )1تكملة الفتح 173/8 :ومابعدها ،175 ،اللباب.218/3 :
( )2الشرح الكبير 103/2 :ومابعدها ،بداية المجتهد ،443/1 :القوانين الفقهية :ص ،176مغني
المحتاج ،275/4 :المهذب ،253/1 :المغني 542/8 :ومابعدها ،كشاف القناع.221/6 :
( )4/349
فإن ظهر كون الجارح معلما ،ثم أكل مرة من لحم صيد ،لم يحل الصيد في الرجح عند الجمهور
غير المالكية ،لحديث عدي السابق ،ولن عدم الكل شرط في التعلم ابتداء ودواما ،فيشترط تعليم
جديد .وأجاز الحنفية أكل ما أكل منه البازي؛ لن ترك الكل ليس شرطا عندهم في تعليمه.
وقال المالكية :يؤكل ( ، )1لعموم قوله تعالى{ :فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة ]4/5:وحديث أبي
ثعلبة« :ما صدت بقوسك ،فذكرت اسم ال عليه ،فكل ،وما صدت بكلبك المُعلّم ،فذكرت اسم ال عليه،
فكل ،وما صدت بكلبك غير المعلم ،فأدركت ذكاته فكل ( » )2ولن الكل يحتمل أن يكون لفرط
جوع ،أوغيظ على الصيد.
ويحل الصيد الذي صاده قبل الكل ،كما يحل في الراجح عند الحنابلة ما صاده الكلب بعد الصيد الذي
أكل منه (. )3
وهل يجب غسل معضّ الكلب أي أثر فم الكلب؟ قال الشافعية وفي وجه عند الحنابلة ( : )4معض
الكلب نجس ،ول يعفى عنه ،لنه ثبتت نجاسته ،فيجب غسل ما أصابه كبوله ،ويغسل سبعا إحداهن
بالتراب .وقال المالكية وهو الوجه الثاني عند الحنابلة :ل يجب غسله؛ لن ال تعالى ورسوله أمرا
بأكله ،ولم يأمرا بغسله ،والكلب طاهر في مذهب المالكية ،فيؤكل موضع نابه.
-------------------------------
( )1المراجع السابقة.
( )2متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الوطار.)130/8 :
( )3المغني.545/8 :
( )4مغني المحتاج ،276/4 :المغني ،546/8 :المهذب.253/1 :
( )4/350
الثاني ـ أن يذهب على سنن الرسال ولو من غير تعيين عند الحنفية .أما عند المالكية والشافعية
والحنابلة فل بد من أن يرسله الصائد من يده على الصيد بعد أن يراه ويعينه ( . )1فإن انبعث من
نفسه لم يؤكل اتفاقا .ومن سمع حسا ظنه حس صيد ،فرماه ،أو أرسل كلبا أو بازا عليه ،فأصاب
صيدا ثم تبين أنه صيد ،حل المصاب عند الحنفية ،لنه قصد الصطياد.
وإن زجره بعد انبعاثه من تلقاء نفسه ،فرجع إليه ،ثم أشله (أغراه) ،أكل .وإن لم يرجع إليه ،بعد أن
انزجر ،ثم زاد في عدوه ،أبيح صيده عند الحنفية والحنابلة ،وهو الولى؛ لن الزجر مثل الرسال
من حيث كونه فعل الصائد ،فالزجر إرسال لنه دليل الطاعة .ولم يبح عند المالكية والشافعية ،كما
ذكر سابقا ،تغليبا لجانب المنع؛ لنه اجتمع إرسال بنفسه وإغراء ،فغلب الول (. )2
وإن أرسله على صيد بعينه ،فصاد غيره ،لم يؤكل عند غير الحنفية .فإن أرسل ،ولم يقصد شيئا
معينا ،وإنما قصد ما يأخذ الجارح ،أو ما تقتل اللة في جهة محصورة كالغار وشبهه ،جاز على
المشهور عند المالكية .وإن كانت جهة غير معينة كالمتسع من الرض والغياض أو كان الرسال
على كل صيد يعثر عليه ،لم يجز ولم يبح المصيد عندهم .ولو اضطرب الجارح فأرسله الصائد ،ولم
ير شيئا ،وليس المكان محصورا من غار أو غيضة ،فصاد شيئا ،لم يؤكل لحتمال أن يكون غير
المضطرب عليه ولم ينوه ،فإن نواه وغيره أكل .وقيل :ل يؤكل.
ول بد عند الشافعية والحنابلة :أن يقصد صيدا معينا ،ل مبهما ،فلو أرسل
-------------------------------
( )1رد المحتار ،328/5 :تكملة الفتح ،181/8 :تبيين الحقائق 54/6 :ومابعدها ،الشرح الكبير:
،106/2القوانين الفقهية :ص ،177المغني ،545/8 :مغني المحتاج ،277/4 :كشاف القناع:
،225 ،222/6المهذب.255/1 :
( )2فيه حديث موقوف على ابن مسعود وهو« :ما اجتمع الحلل والحرام ،إل وغلب الحرام الحلل»
وفيه ضعيف وانقطاع (نصب الراية.)314/4 :
( )4/351
سهما لختبار قوته ،أو إلى غرض يرمي إليه ،فاعترضه صيد ،فقتله ،حرم ،لنه لم يقصد برميه
معينا.
الثالث ـ أل يشاركه في الخذ ما ل يحل صيده ،كالجارح غير المعلم ،وهو شرط مجمع عليه .فإن
تيقن أن ال ُمعَلّم هو المنفرد بالخذ أو الجراح ،أكل.وإن تيقن خلفه أوشك لم يؤكل ،لنه اجتمع المبيح
والمحرم ،فتغلب جهة المحرم احتياطا .وإن غلب على ظنه أنه القاتل ،ففيه خلف ( ، )1فإن أدركه
حيا فذكاه ،حل اتفاقا.
ودليل هذا الشرط حديث عدي بن حاتم قال« :سألت رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،فقلت :أرسل
كلبي ،فأجد معه كلبا آخر قال :ل تأكل ،فإنك إنما سميت على كلبك ،ولم تسم على الخر» وفي لفظ:
«فإن وجدت مع كلبك كلبا آخر ،فخشيت أن يكون أخذ منه ،وقد قتله ،فل تأكله ،فإنك إنما ذكرت اسم
ال على كلبك» وفي لفظ «فإنك ل تدري أيهما قتله؟» (. )2
الرابع ـ أن يقتله جَرْحا ،فإن خنقه أو قتله بصدمته ،لم يبح عند الجمهور ( )3غير الشافعية؛ لن قتله
بغير جَرْح أشبه بقتله بالحجر والبندق ،ولن ال تعالى حرم الموقوذة ،وقول النبي صلّى ال عليه
وسلم السابق« :ما أنهر الدم ،وذكر اسم ال ،فكل» يدل على أنه ل يباح ما لم ينهر الدم .فعلى هذا
يكون الجرح شرطا .وهذا أولى في نظري؛ لن الوقيذ محرم بالقرآن والجماع ،والعقر ذكاة الصيد.
-------------------------------
( )1رد المحتار ،328/5 :نكملة الفتح ،180/8 :اللباب 219/3 :ومابعدها ،القوانين الفقهية :ص
،177بداية المجتهد ،446/1 :المهذب ،253/1 :المغني ،549/8 :كشاف القناع.216/6 :
( )2متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الوطار.)134/8 :
( )3رد المحتار ،328/5 :تكملة الفتح ،180/8 :اللباب ،219/3 :الشرح الكبير ،104-102/3 :بداية
المجتهد ،447 ،444 ،441/1 :المغني ،545/8 :كشاف القناع.222/6 :
( )4/352
وقال الشافعية ( : )1لو تحاملت الجارحة على صيد ،فقتلته بثقلها ،حل في الظهر ،لعموم قوله تعالى:
{فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة ]4/5:ولنه يعسر تعليمه أل يقتل إل بجرح ،ولعموم حديث عدي:
«ما علّمت من كلب أو باز ،ثم أرسلته ،وذكرت اسم اللهعليه ،فكل ما أمسك عليك ،قلت :وإن قتل؟
قال :وإن قتل ،ولم يأكل منه شيئا ،فإنما أمسكه عليك» (. )2
الخامس ـ أل يأكل من الصيد ،فإن أكل منه لم يبح .ويمكن دمج هذا الشرط بالشرط الول.
وهذا الشرط عند الجمهور غير المالكية ،وهو أصح الروايتين عند الحنابلة ،وهو مذهب الحنفية في
الكلب ونحوه من السباع.
وقال مالك ومتأخرو المالكية ( وهو مشهور بالذهب ) ،وفي رواية ثانية عن أحمد :يجوز الكل مما
أكل منه الكلب أو غيره من الطيور.
وقال الحنفية وبعض المصنفين من الحنابلة كصاحب كشاف القناع ( : )3ليباح ما أكل منه الكلب
عملً بالحديث المتفق عليه « :فإن أكل فل تأكل ،فإني أخاف أن يكون إ نما أمسك على نفسه » ،
ويباح ما أكل منه الطائر ذو المخلب كالبازي والصقر والعقاب والشاهين ونحوها ،لن تعليمه بأن
يسترسل إذا أرسل ،ويرجع إذا دعي ،وليعتبر ترك الكل لقول ابن عباس « :إذا أكل الكلب فل
تأكل ،وإن أكل الصقر ،فكل » .
-------------------------------
( )1مغني المحتاج.276/4 :
( )2رواه أحمد وأبو داود ( نيل الوطار.) 130/8 :
( )3رد المحتار ،328/5 :اللباب ،218/3 :تبيين الحقائق ،52/6 :تكملةالفتح ،175/8بداية المجتهد:
443/1ومابعدها ،مغني المحتاج ،275/4 :المغني ،543/8 :كشاف القناع.221/6 :
( )4/353
ودليل الجمهور :حديث عدي بن حاتم « :إذا أرسلت كلبك المعلم ،وذكرت اسم ال تعالى ،فكل ما
أمسك عليك .قلت :وإن قتل؟ قال :وإن قتل ،إل أن يأكل الكلب ،فإن أكل ،فل تأكل ،فإني أخاف أن
يكون إنما أمسك على نفسه » .وظاهر الكتاب يدل عليه وهو قوله تعالى { :فكلوا مما أمسكن
عليكم } [المائدة ]4/5:والمساك يكون بعدم الكل من الصيد ،ولن من أهم خواص التعليم عدم
الكل.
واستدل المالكية في المشهور عندهم ،وأحمد في رواية عنه بعموم قوله تعالى { :فكلوا مما أمسكن
عليكم } [المائدة ]4/5:وبحديث أبي ثعلبة الخشني« :إذا أرسلت كلبك المعلّم ،وذكرت اسم ال عليه،
فكل ،قلت :وإن أكل منه يارسول ال ؟ قال :وإن أكل» وحملوا حديث عدي على الندب ،وهذا على
الجواز .ولنه صيد جارح معلم ،فأبيح ،كما لو لم يأكل ،فإن الكل يحتمل أن يكون لفرط جوع أو
غيظ على الصيد.
ويلحظ أن حديث عدي أصح من حديث أبي ثعلبة،لنه متفق عليه ،وعدي بن حاتم أضبط ،ولفظه
أبين ،لنه ذكر الحكم والعلة .ورد ابن رشد المالكي على متأخري المالكية بقوله ( : )1وهذا الذي
قالوه خلف النص في الحديث ،وخلف ظاهر الكتاب ،وهو قوله تعالى { :فكلوا مما أمسكن عليكم }
[المائدة ]4/5:وللمساك على سيد الكلب طريق تعرف به ،وهو العادة .ولذلك قال عليه الصلة
والسلم « :فإن أكل ،فل تأكل ،فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» .
السادس ـ عند المالكية ( : )2أل يرجع الجارح عن الصيد ،فإن رجع بالكلية ،لم يؤكل وكذلك
لواشتغل بصيد آخر ،أو بما يأكله ،ل يؤكل .وهذه الشروط كلها إذا قتله الجارح ،فإن لم يقتله ،وأدركه
القانص ،ذكي ،وأكل.
-------------------------------
( )1بداية المجتهد.444/1 :
( )2القوانين الفقهية :ص .177
( )4/354
( )4/355
الرابع ـ أل يشك في عين الصيد الذي أصابه في حالة غيبته عن عينه ،هل هو ،أو غيره؟ ول يشك،
هل قتلته اللة ،أول ؟ فإن شك لم يؤكل .ولو غاب عنه الصيد ليلة ،ثم وجده غدا ميتا لم يؤكل في
المشهور عند المالكية .ويباح أكله عند غيرهم إن تابع طلبه.أو لم يتشاغل عنه بشيء آخر ،وتأكد أنه
صيده.
الخامس ـ أن يذبحه إن أدركه حيا ،وقدر على تذكيته؛ لقوله عليه الصلة والسلم في حديث عدي:
« وإن أدركته حيا فاذبحه » فإن أدركه ميتا ،أو نفذت مقاتله ،أو حياته كحياة المذبوح ،أو عجز عن
تذكيته بسبب مقاومته مثلً حتى مات ،ولم يذكه ،أكل من غير ذبح باتفاق الفقهاء (. )1
وإن قتله الجارح المصيد به قبل أن يقدر عليه أكل أيضا ،بشرط أن يقتله جرحا كما تقدم في شروط
اللة .وصرح الحنابلة بأن الصائد إن لم يكن معه ما يذكيه،
-------------------------------
( )1تكملة الفتح 178/8 :ومابعدها ،تبيين الحقائق ،53/6 :اللباب مع الكتاب 219/3 :ومابعدها،
القوانين الفقهية :ص ،178المهذب ،253/1 :المغني 547/8 :ومابعدها ،مغني المحتاج.269/4 :
( )4/356
أشلى ( أغرى ) الصائد له عليه حتى يقتله ،فيؤكل ( )1عندهم لنها حال تتعذر فيها الذكاة في الحلق
واللبة غالبا .فجازت ذكاة الضرورة ،ول يؤكل في قول أكثر أهل العلم ،لنه صيد مقدور عليه ،فلم
يبح بقتل الجارح له كبهيمة النعام ،وكما لو أخذه سليما.
المبحث الثالث ـ ما يباح اصطياده من الحيوان عند الحنفية :
يباح عند الحنفية ( )2اصطياد ما في البحر والبر ،مما يحل أكله ،وما ل يحل أكله .غير أن ما يحل
أكله يكون اصطياده للنتفاع بلحمه وبقية أجزائه ،وما ل يحل أكله ،يكون اصطياده للنتفاع بجلده
وشعره وعظمه ،أو لدفع أذاه وشره ،وهذا هو رأي المالكية كما ذُكر سابقا فيما تعمل به الذكاة ،إل
صيد الحرم (في مكة والمدينة) فإنه ل يباح اصطياده ،باتفاق الفقهاء إل المؤذي منه ،لقوله عز شأنه:
{أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا} [العنكبوت ]67/29:وقول النبي صلّى ال عليه وسلم في صيد حرم
مكة« :ول ينفر صيده» ( . )3وكذلك قال في صيد المدينة« :ل ينفر صيدها» ( )4وخص منه
المؤذيات بقوله عليه الصلة والسلم« :خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم :الغراب ،والحدأة،
والعقرب ،والفأرة،والكلب العقور» (. )5
-------------------------------
( )1وهو رأي إبراهيم النخعي الذي كان يقول « :إذا أدركته حيا ولم يكن معك حديدة ،فأرسل عليه
الكلب حتى تقتله» وبه قال الحسن البصري لعموم قوله تعالى { :فكلوا مما أمسكن عليكم } [المائدة:
( ]4/5بداية المجتهد.)445/1 :
( )2البدائع ،61/5 :الكتاب مع اللباب ،223/3 :تكملة الفتح ،188/8 :تبيين الحقائق61/6 :
ومابعدها.
( )3متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن عباس (نيل الوطار.)25/5 :
( )4رواه أصحاب الكتب الستة ما عدا ابن ماجه عن علي (جامع الصول.)193/10 :
( )5متفق عليه بين أحمد والشيخين عن عائشة ،وفيه روايات أخرى عن ابن عمر ،وابن مسعود وابن
عباس وغيرهم ،وفي بعضها ذكر الحية بدل الحدأة ،حتى صارت تسعا (نيل الوطار.)26/5 :
( )4/357
ويباح اصطياد ما في البحر للحلل (غير الحاج أو المعتمر) والمحرم (الحاج أو المعتمر) ،ول يباح
اصطياد ما في البر للمحرم خاصة ،لقوله تعالى{ :أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة،
وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} [المائدة ]96/5:ولقوله صلّى ال عليه وسلم « :صيد البر لكم
حلل ،وأنتم حرم ،مالم تصيدوه ،أو ُيصَد لكم» ( )1وعن الصَعب بن جَثّامة «أنه أهدى إلى رسول
ال صلّى ال عليه وسلم حمارا وحشيا ،وهو ( بالبواء ) أو بوَدّان (مكان بين مكة والمدينة) ،فرده
عليه ،فلما رأى ما في وجهه ،قال :إنا لم نُردّه عليك إل أنا حُرُم» (. )2
المبحث الرابع ـ متى يملك الصائد المصيد؟
جاء في الدر المختار ورد المحتار ( : )3أن أسباب الملك ثلثة:
ناقل من مالك إلى مالك كبيع وهبة .وذو خلفة عن المالك كإرث .وذو أصالة :وهو الستيلء
الحقيقي بوضع اليد ومنه إحياء الموات ،والستيلء الحكمي بالتهيئة كنصب شبكة صيد على مباح
خالٍ عن المالك .فإن كان المصيد أو المباح مملوكا لم يتملك ،فلو استولى رجل في مفازة على حطب
غيره ،لم يملكه.
والستيلء الحكمي يتم باستعمال ما هو موضوع للصطياد ،فمن نصب شبكة ،فتعلق بها صيد ،ملكه،
قصد بها الصطياد ،أو ل ،فلو نصبها للتجفيف مثلً ،ل يملكه ،لنه قصد مغاير للصطياد.
ـ وإن نصب فسطاطا (خيمة) :إن قصد الصيد ،يملكه ،وإل فل ،لنه غير موضوع للصيد.
-------------------------------
( )1رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إل ابن ماجه عن جابر (نيل الوطار.)23/5 :
( )2رواه البخاري ومسلم والموطأ والترمذي والنسائي (جامع الصول.)419/3 :
( )3انظر .329/5
( )4/358
ـ ولو دخل صيد دار إنسان ،فلما رآه أغلق عليه الباب ،وصار بحال يقدر على أخذه ،بل اصطياد
بشبكة أوسهم ،ملكه .وإن أغلق ولم يعلم به ،ل يملكه.
ـ ولو نصب حِبالة ( ِمصْيَدة) ،فوقع فيها صيد ،فقطعها ،وانفلت الصيد ،فأخذه آخر ،ملكه .ولو جاء
صاحب الحبالة ليأخذه ،ودنا منه ،بحيث يقدر على أخذه ،فانفلت ،ل يملكه الخذ .وكذا ل يملكه الخذ
لو انفلت من الشبكة في الماء قبل الخراج ،فأخذه غيره ،وإنما يملكه صاحب المصيدة .أما لو رمى
به صاحب الشبكة خارج الماء ،في موضع يقدر على أخذه ،فوقع في الماء ،فأخذه غيره ،يملكه الخذ؛
لن المور بمقاصدها.
ومن رمى صيدا ،فأصابه ،ولم يثخنه (يوهنه بالجراحة) ،ولم يخرجه من حيّز المتناع عن الخذ (أي
ما يزال قابل الخذ من الغير) ،فرماه آخر ،فقتله ،أو أثخنه (أضعفه) ،وأخرجه عن حيز المتناع،
فهو للرامي الثاني ،لنه الخذ ،وقد قال عليه الصلة والسلم« :الصيد لمن أخذه» (. )1
وإن كان الرامي الول قد أثخنه بحيث أخرجه عن حيز المتناع ،فرماه الثاني ،فقتله ،لم يؤكل،
لحتمال الموت بالثاني ،ول يعد فعل الثاني ذكاة شرعية ،للقدرة على ذكاة الختيار .ويضمن الثاني
قيمته للول ،لنه بالرمي أتلف صيدا مملوكا للغير؛ لن الول ملكه بالرمي المثخن ،لكن تقدر قيمته
وهو جريح؛ لن المتعدي وهو الرامي الثاني أتلفه ،وهو جريح ،وقيمة المتلف تعتبر أو تقدر يوم
التلف (. )2
-------------------------------
( )1قال عنه الزيلعي :غريب .وقال عنه في الدراية :ل أصل له بهذا السناد عن أبي هريرة (نصب
الراية.)318/4 :
( )2تكملة الفتح ،187/8 :تبيين الحقائق ،60/6 :اللباب مع الكتاب 222/3 :وما بعدها.
( )4/359
والمالكية ( : )1قالوا مثل الحنفية :ل يستحق الصيد إل بالخذ أي بالصيد وقصد الصطياد ،أو
بوضع اليد ،فمن رأى صيدا وصاده آخر ،كان لمن صاده ،فإن صاده واحد ،ثم ند (هرب) منه فصاده
آخر ،فاختلف :هل يكون للول أو للثاني ،إل إن توحش بعد الول ،فهو للثاني.
ومن طرد صيدا ،فدخل دار إنسان ،فإن كان اضطره ،فهو له ،وإن كان لم يضطره ،فهولصاحب
الدار.
وقال الشافعية ( : )2مثلما قال المالكية والحنفية :يملك الصيد إما بالستيلء الفعلي أي بوضع اليد
والخذ ،وإن لم يقصد تملكه ،كسائر المباحات ،وإما بصيده مع قصد الصطياد .فوضع اليد :مثل
خضْب وقص جناح وقُرْط ،وكان صائده غير محرم وغير
ضبطه بيده ،إن لم يكن به أثر ملك لغيره ك َ
مرتد ،يكون سببا للملكية ،وإن لم يقصد تملكه .فلو أخذ صيدا لينظر إليه ملكه ،لنه مباح ،فيملك
بوضع اليد عليه كسائر المباحات.
ويملك الصيد أيضا باصطياده :بجُرْح مذفّف (مسرع للهلك) وبإزمان (إزالة امتناعه) وكسر جناح
بحيث يعجز عن الطيران والعَدْو جميعا ،إن كان مما يمتنع بهما ،وإل فبإبطال واحد منهما ،وإن لم
يضع يده عليه .ويملكه أيضا بوقوعه في شبكة نصبها للصيد ،فيملكه ،وإن لم يضع يده عليه ،سواء
أكان حاضرا أم غائبا ،طرده إليها طارد أم ل ،وسواء أكانت الشبكة مباحة أم مغصوبة ،لنه يعد
بذلك مستوليا عليه.
ويملكه أيضا بإلجائه إلى مضيق ،ولو مغصوبا ،ل يفلت منه ،أي ل يقدر الصيد على التفلت منه كبيت
لنه صار مقدورا عليه.
ول بد من قصد الصطياد ،فمن رأى صيدا ،فظنه حجرا ،أوحيوانا غير الصيد ،فرماه ،فقتله ،حل
أكله ،وملكه ،لنه قتله بفعل قصده ،وإنما جهل حقيقته ،والجهل بها ل يؤثر.
-------------------------------
( )1القوانين الفقهية :ص 178ومابعدها.
( )2مغني المحتاج ،282-278/4 :المهذب.257-255/1 :
( )4/360
ولو قصد صيدا في ملكه ،وصار مقدورا عليه بتوحل ( الوقوع في وحل ) وغيره ،لم يملكه في
الصح؛ لن مثل هذا ل يقصد به الصطياد ،والقصد ضروري للتملك ،لكن يصير أحق به من غيره.
ومتى ملكه ،لم يزل ملكه بانفلته ،فمن أخذه ،لزمه رده ،ول يزول ملكه أيضا بإرسال المالك له في
الصح؛ لن رفع اليد عنه ،ل يقتضي زوال الملك عنه ،كما لو سيّب بهيمته ،فليس لغيره أن يصيده
إذا عرفه.
حالة الشتراك في الصيد :لو جرح الصيد اثنان متعاقبان ،فإن ذفف (قتل) الثاني منهما الصيد ،أو
أزمن (بأن أزال امتناعه) ،دون الول منهما ،فهو للثاني؛ لن جُرْحه هو المؤثر في امتناعه ،ول
شيء له على الول بجرحه ،لنه كان مباحا حينئذ.
وإن أزمن الول ،فإن انضم إليه فعل الثاني ،بأن ذفف بقطع حُلقوم ومريء ،فهو حلل الكل،
لحصول الموت بفعل ذابح ،وعليه للول مقدار ما نقص بالذبح .وإن ذفف الثاني ل بقطع الحلقوم
والمريء ،أو لم يذفف أصلً ،ومات بالجرحين فحرام ،لنه في حالة عدم القطع كان الصيد مقدورا
عليه ،والمقدور عليه ل يحل إل بذبحه ،وفي الحالة الثانية (عدم التذفيف) فلجتماع المبيح والمحرم،
فيغلب المحرم .ويضمنه الثاني للول لنه أفسد ملكه .وهذا كما قال الحنفية سابقا ،وهو مذهب
الحنابلة أيضا فيه وفيما يأتي من مسائل .وإن جرحا معا ،وذففا بجرحهما ،أو أزمنا به ،فلهما الصيد،
لشتراكهما في سبب الملك بجرحهما.
وإن ذفف أحدهما ،أو أزمن من دون الخر ،فله ،لنفراده بسبب الملك.
ولو جهل كون التذفيف منهما أو من أحدهما ،كان لهما ،لعدم الترجيح.
وإن ذفف واحد في غير مذبح ،وأزمن الخر على الترتيب بالصابة ل بالرمي ،وجهل السابق منها،
حرم الصيد على المذهب ،لجتماع الحظر والباحة ،فيقدم الحظر.
( )4/361
وقال الحنابلة ( : )1كالشافعية :يتملك الصيد إما بالصطياد مع قصده ،أو بوضع اليد (الخذ) ،فمن
رمى طيرا على شجرة في دار قوم ،فطرحه في دارهم ،فهو للرامي؛ لنه ملكه بإزالة امتناعه.
ومن نصب خيمة أو شبكة أو فخا للصطياد ،فوقع فيه صيد ،ملكه للحيازة .وكذا لو ألجأ صيدا
لمضيق ل يفلت منه أو أغلق باب داره عليه ،ملكه بذلك ،ولو لم يقصد تملكه للحيازة أو لنه بمنزلة
إثباته بوضع اليد.
ومن صنع بِرْكة يصيد بها سمكا ،فما وقع فيها ملكه ،كالصيد بالشبكة .وإن لم يقصد بالبركة صيد
السمك ،لم يملكه بحصوله فيها.
ومن كان في سفينة ،فوثبت سمكة ،فوقعت في حِجْره ،فهي له ،دون صاحب السفينة؛ لن السمكة من
الصيد المباح ،يملك بالسبق إليه.
والصياد الذي يتعاطى سببا للصيد في قوارب الصيد كضوء أوجرس يملكه بذلك .فإن لم يقصد الصيد
بفعل منه ،ووقعت سمكة في حجر راكب معه ،فهي له ،لستيلئه على مباح ،وإن وقعت في السفينة
فلصاحب السفينة.
ولو وقع صيد في شبكة إنسان ،وأثبته (ثبتت يده عليه) ثم أخذه إنسان آخر ،لزمه رده إلى رب
الشبكة ،لنه أثبته بآلته .وإن لم تمسكه الشبكة وانفلت منها في الحال ،أو خرقها وذهب منها ،ولو بعد
زمن ،لم يملكه رب الشبكة ،لنه لم يثبته ،فإذا صاده غيره ملكه .ولو ذهب الصيد بالشبكة ،فصاده
إنسان مع بقاء امتناعه ،ملكه الصائد الثاني ،ورد الشبكة لصاحبها؛ لن الول لم يملكه .فإن مشى
الصيد بالشبكة على وجه ل يقدر على المتناع فهو لصاحبها ،لنه أزال امتناعه ،كما في حالة انفلته
منه.
-------------------------------
( )1كشاف القناع 223/6 :ومابعدها ،المغني.564 -559/8 :
( )4/362
سمُ الثّاني :النّظَريّات الفقهيّة
الق ْ
..........................................تقديم.........................................
تقتضي طبيعة التدرج المنطقي النتقال من الجزئيات إلى الكليات ،ومن الفراد إلى التركيب ،ومن
الحكام الجزئية إلى النظريات العامة ،كما هو منهج الدراسة القانونية الحديثة .لذا كان لزاما علينا
البحث عن نظريات الفقه السلمي ،وما أكثرها ،بالرغم مما يكتنف ذلك من صعوبات استقرائية في
تتبع أحكام المسائل الفقهية في بحار الكتب القديمة المترعة بالثروة الفقهية الضخمة ،التي تمتاز
بخصوبتها ومرونتها وتغطيتها لحتمالت متعددة ،ل تقل عن أروع ما ابتكره الفكر القانوني الحديث،
بل تفوقه أحيانا بالحرص على القيم الخلقية العالية والمصالح العامة.
وحينما ندرس بدقة وإمعان طائفة من النظريات الفقهية ،يتجلى لنا إحكام الربط بين الحكم الشرعي
وبين مصدره وأصوله وقواعده والنظريات الفقهية التي أدركها المجتهدون من مصادر الشريعة
واتخذوها نبراسا لهم في الجتهاد.
وقد أشرت لما يتفق مع القانون ويختلف فقها وقانونا ،ودعمت الحكم الشرعي بدليله النقلي المعتمد
على القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة ،أو بالدليل العقلي المتجه نحو رعاية المصلحة ودرء
المفسدة.
هذا ..وقد بحثت في الجزاء الربعة الولى القسم الول من هذا الكتاب ،وهو ( العبادات ) .وأتابع
في هذا الجزء بحث القسم الثاني من الكتاب وهو أهم النظريات الفقهية ومدى الستفادة منها في
القوانين الوضعية ،وذلك في فصول ستة وملحق ،كما سأبحث في هذا الجزء أيضا عقد البيع
والخيارات من القسم الثالث وهو ( العقود ).
أما موضوعات القسم الثاني أو فصوله فهي نظريات الحق ،الموال ،نظرية الملكية ،نظرية العقد،
المؤيدات الشرعية ،نظرية الفسخ ،أهم ما اقتبسه القانون المدني من الفقه السلمي.
وال أسأل أن يوفقنا جميعا لدراك عظمة الفقه السلمي وغناه وواقعيته وسداده ،لنعود إليه عند
وضع القوانين عن جدارة وتقدير ،تاركين العتماد على الفقه الغربي ونظرياته وحلوله الغريبة عنا.
..............................................................................المؤلف
( )4/363
( )4/364
وتطلق كلمة الحق على النصيب المحدد لمثل قوله تعالى{ :والذين في أموالهم حقّ معلومٌ ،للسائل
والمحروم} [المعارج،]25-24/70:كما تطلق على العدل في مقابلة الظلم مثل قوله تعالى{ :وال
يقضي بالحقّ} [غافر.]20/40:
وأما عند الفقهاء فقد ورد تعريف للحق عند بعض المتأخرين فقال :الحق :هو الحكم الثابت شرعا ()1
.ولكنه تعريف غير جامع ول شامل لكل ما يطلق عليه لفظ الحق عند الفقهاء .فقد يطلق الحق على
المال المملوك وهو ليس حكما ،ويطلق على الملك نفسه ،وعلى الوصف الشرعي كحق الولية
والحضانة والخيار ،ويطلق على مرافق العقار كحق الطريق والمسيل والمجرى .ويطلق على الثار
المترتبة على العقود كاللتزام بتسليم المبيع أو الثمن.
-------------------------------
( )1حاشية قمر القمار على شرح المنار للشيخ عبد الحليم اللكنوي ،أول مبحث الحقوق.
( )4/365
وعرفه بعض الساتذة المعاصرين ،فقال أستاذنا الشيخ علي الخفيف :الحق :هو مصلحة مستحقة
شرعا ( . )1لكنه تعريف بالغاية المقصودة من الحق،ل بذاتيته وحقيقته ،فإن الحق :هو علقة
اختصاصية بين صاحب الحق والمصلحة التي يستفيدها منه.
وقال الستاذ مصطفى الزرقاء :الحق :هو اختصاص يقرر به الشرع سلطةً أو تكليفا ( . )2وهو
تعريف جيد؛ لنه يشمل أنواع الحقوق الدينية كحق ال على عباده من صلة وصيام ونحوهما،
والحقوق المدنية كحق التملك ،والحقوق الدبية كحق الطاعة للوالد على ولده ،وللزوج على زوجته،
والحقوق العامة كحق الدولة في ولء الرعية لها ،والحقوق المالية كحق النفقة ،وغير المالية كحق
الولية على النفس.
ويتميز هذا التعريف بأنه أبان ذاتية الحق بأنه علقة اختصاصية بشخص معين ،كحق البائع في الثمن
يختص به ،فإن لم يكن هناك اختصاص بأحد ،وإنما كان هناك إباحة عامة كالصطياد والحتطاب
والتمتع بالمرافق العامة ،فل يسمى ذلك حقا ،وإنما هو رخصة عامة للناس.
والسلطة :إما أن تكون على شخص كحق الحضانة والولية على النفس ،أو على شيء معين كحق
الملكية.
والتكليف :التزام على إنسان إما مالي كوفاء الدين ،وإما لتحقيق غاية معينة كقيام الجير بعمله.
وأشار التعريف لمنشأ الحق في نظر الشريعة :وهو إرادة الشرع ،فالحقوق في السلم منح إلهية
تستند إلى المصادر التي تستنبط منها الحكام الشرعية ،فل يوجد حق شرعي من غير دليل يدل
عليه ،فمنشأ الحق هو ال تعالى؛ إذ ل حاكم غيره ،ول تشريع سوى ما شرعه .وليس الحق في
السلم طبيعيا مصدره الطبيعة أو العقل البشري ،إل أنه منعا مما قد يتخوف منه القانونيون من جعل
مصدر الحقوق إلهيا وبالتالي إطلق الحرية في ممارسة الحق ،منعا من هذا الخطر ،قرر السلم
سلفا تقييد الفراد في استعمال حقوقهم بمراعاة مصلحة الغير وعدم الضرار بمصلحة الجماعة ،فليس
الحق مطلقا وإنما هو مقيد بما يفيد المجتمع ويمنع الضرر عن الخرين ،والحق في الشريعة يستلزم
واجبين:
واجب عام على الناس باحترام حق الشخص وعدم التعرض له.
وواجب خاص على صاحب الحق بأن يستعمل حقه بحيث ل يضر بالخرين.
-------------------------------
( )1مذكرات الحق والذمة :ص .36
( )2المدخل إلى نظرية اللتزام في الفقه :ف 3ص 10ومابعدها.
( )4/366
وتنتهي الشخصية الطبيعية بالوفاة الحقيقية (الموت) أو التقديرية كالحكم بوفاة المفقود أو الغائب الذي
ل يعلم مكانه ،ول يدرى أهو حي أو ميت ،وذلك بوفاة أقرانه في غالب الظن ،أو ببلوغه تسعين سنة.
ولكن مع زوال الشخصية بالموت تظل ذمة النسان وأهلية وجوبه باقية افتراضا بقدر ما تقتضيه
تصفية الحقوق المتعلقة بتركته ،وذلك للضرورة وبقدر الضرورة ،كما سيتضح في بحث الموال
والذمة المالية ،فيتملك الميت ما باشر سبب ملكيته في حياته كنصب شبكة للصيد وقع فيها المصيد،
ويضمن ما باشر سبب ضمانه ،كاللتزام بدفع قيمة ما يقع من حيوان في حفرة حفرها في الطريق
العام.
ويقر الفقه السلمي ما يسمى قانونا :الشخصية العتبارية ،أو المعنوية أو الشخصية المجردة عن
طريق العتراف لبعض الجهات العامة كالمؤسسات والجمعيات والشركات والمساجد بوجود شخصية
تشبه شخصية الفراد الطبيعيين في أهلية التملك وثبوت الحقوق ،واللتزام بالواجبات ،وافتراض
وجود ذمة مستقلة للجهة العامة بقطع النظر عن ذمم الفراد التابعين لها ،أو المكونين لها.
والدلة كثيرة على هذا القرار ،سواء من النصوص أو من الجتهادات الفقهية .فمن النصوص:
الحديث النبوي« :ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم» ( )1أي أن المان الصادر للعدو من أحدهم
يسري على جماعة المسلمين .ومنها نصوص المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والتي تقضي
بجواز رفع ما يسمى بدعوى الحسبة من أي فرد لقمع غش وإزالة منكر أو أذى عن الطريق ،وتفريق
بين زوجين بينهما علقة محرمة ،وإن لم يكن للمدعي مصلحة شخصية.
ومن الجتهادات :فصل بيت المال عن مال الحاكم الخاص ،وقولهم :بيت المال وارث من ل وارث
له ،واعتبار الحاكم نائبا عن المة في التصرف بالموال العامة على وفق المصلحة ،كما يتصرف
الوصي بمال اليتيم .وهو نائب عن المة
-------------------------------
( )1رواه أحمد عن علي رضي ال عنه ( نيل الوطار.) 27/7 :
( )4/368
أيضا في إبرام المعاهدات التي تظل نافذة على الرغم من موته أو خلعه ،وفي تعيين الموظفين أو
العمال الذين ل ينعزلون بموت الحاكم ،وفي إصدار الحكام القضائية ،فل يضمن القاضي الدية إذا
أخطأ في قضائه في حقوق ال كقطع يد السارق بشهود زور ،وإنماضمانها في بيت المال.
ومن اجتهاداتهم :جواز تمليك الوقف والتزامه بما يجب عليه من حقوق للخرين ،وجواز الوصية
والوقف للمسجد ،واعتبار ناظر الوقف مجرد نائب عنه ليتحمل شيئا من ديون الوقف ،ويشتري
للوقف مايحتاجه ،ويدفع ثمنه من غلت الوقف .فالوقف هو المالك والدائن والمدين ،ل المتولي عليه.
والناظر أمين على الوقف ،فلو خان مصلحة الوقف أو أساء التصرف إليه أو خالف شروط الواقف،
ضمن موجب فعله.
المبحث الثاني ـ أنواع الحق
ينقسم الحق عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة بحسب المعنى الذي يدور عليه الحق ،أذكر أهم هذه
التقسيمات وأحكامها وما يترتب عليها من نتائج.
التقسيم الول ـ باعتبار صاحب الحق
ينقسم الحق بهذا العتبار إلى ثلثة أنواع :حق ال ،وحق النسان ،وحق مشترك :وهو ما اجتمع فيه
الحقان ولكن قد يغلب حق ال أو حق النسان الشخصي (. )1
- 1حق ال تعالى (أو الحق العام ) :
وهو ما قصد به التقرب إلى ال تعالى وتعظيمه وإقامة شعائر دينه ،أو تحقيق النفع العام للعالم من
غير اختصاص بأحد من الناس .وينسب إلى ال تعالى لعظم خطره وشمول نفعه ،أي أنه هو حق
للمجتمع.
مثال الول :العبادات المختلفة من الصلة والصيام والحج والزكاة والجهاد ،والمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ،والنذر واليمين وتسمية ال عند الذبح وكل أمر ذي بال.
-------------------------------
( )1راجع كتب أصول فقه الحنفية :التقرير والتحبير ،111-104/2 :كشف السرار،136/2 :
التلويح على التوضيح 151/2 :ومابعدها ،حاشية نسمات السحار :ص .259
( )4/369
ومثال الثاني :الكف عن الجرائم وتطبيق العقوبات من حدود (حد الزنا والقذف والسرقة والحرابة
وشرب المسكرات) وتعزيرات على الجرائم المختلفة ،وصيانة المرافق العامة من أنهار وطرقات
ومساجد وغيرها مما ل بد منها للمجتمع.
وتقسم حقوق ال تعالى عند الحنفية إلى ثمانية أقسام تعرف في أصول الفقه .وأحكام حق ال تعالى
كثيرة :وهي ل يجوز إسقاطه بعفو أو صلح أو تنازل ،ول يجوز تغييره ،فل يسقط حد السرقة بعفو
المسروق منه أو صلحه مع السارق بعد بلوغ المر إلى الحاكم .ول يسقط حد الزنا بعفو الزوج أو
غيره أو إباحة المرأة نفسها.
ول يورث هذا الحق ،فل يجب على الورثة ما فات مورثهم من عبادات ،إل إذا أوصى بإخراجها،
ول يسأل الوارث عن جريمة المورث.
ويجري التداخل في عقوبة حقوق ال ،فمن زنى مرارا ،أو سرق مرارا ولم يعاقب في كل مرة،
فيكتفى بعقوبة واحدة؛ لن المقصود من العقوبة هو الزجر والردع ويتحقق بذلك ( . )1واستيفاء
عقوبة هذه الجرائم للحاكم ،فهو الذي يؤدب على ترك العبادات أو التهاون بشأنها ،وهو الذي يقيم
الحدود والتعزيرات على العصاة منعا من الفوضى وتثبيتا من وقوع الجريمة.
- 2حق النسان (أو العبد ) :
وهو ما يقصد منه حماية مصلحة الشخص ،سواء أكان الحق عاما كالحفاظ على الصحة والولد
والموال ،وتحقيق المن ،وقمع الجريمة ،ورد العدوان ،والتمتع بالمرافق العامة للدولة؛ أم كان الحق
خاصا ،كرعاية حق المالك في ملكه ،وحق البائع في الثمن والمشتري في المبيع ،وحق الشخص في
بدل ماله المتلف ،ورد المال المغصوب ،وحق الزوجة في النفقة على زوجها ،وحق الم في حضانة
طفلها ،والب في الولية على أولده ،وحق النسان في مزاولة العمل ونحو ذلك.
-------------------------------
( )1البدائع 55/7 :ومابعدها ، 86 ،المبسوط.185/9 :
( )4/370
وحكم هذا الحق أنه يجوز لصاحبه التنازل عنه ،وإسقاطه بالعفو أو الصلح أو البراء أو الباحة،
ويجرى فيه التوارث ،ول يقبل التداخل ،فتتكرر فيه العقوبة على كل جريمة على حدة ،واستيفاؤه
منوط بصاحب الحق أو وليه.
- 3الحق المشترك :وهو الحق الذي يجتمع فيه الحقان :حق ال وحق الشخص ،لكن إما أن يغلب
فيه حق ال تعالى أو حق الشخص.
مثال الول :عدة المطلقة ،فيها حق ال :وهو صيانة النساب عن الختلط ،وفيها حق الشخص،
وهو المحافظة على نسب أولده ،لكن حق ال غالب؛ لن في صيانة النساب نفعا عاما للمجتمع،
وهو حمايته من الفوضى
والنهيار .ومثاله أيضا :صيانة النسان حياته وعقله وصحته وماله ،فيها حقان ،لكن حق ال غالب
لعموم النفع العائد للمجتمع .ومثاله عند الحنفية ( )1حد القذف ( وهو ثمانون جلدة لمن يتهم غيره
بالزنا ) فيه حقان :حق للمقذوف بدفع العار عنه وإثبات شرفه وحصانته ،وحق ال :وهو صيانة
أعراض الناس وإخلء العالم من الفساد ،والحق الثاني أغلب (. )2
وحكمه :أنه يلحق بالقسم الول ،وهو حق ال تعالى باعتبار أنه هو الغالب.
ومثال الثاني :حق القصاص الثابت لولي المقتول ،فيه حقان :حق ل وهو تطهير المجتمع عن جريمة
القتل النكراء ،وحق للشخص :وهو شفاء غيظه وتطييب نفسه بقتل القاتل ،وهذا الحق هو الغالب؛ لن
مبنى القصاص على المماثلة ،بقوله تعالى{ :وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة]45/5:
والمماثلة ترجح حق الشخص.
-------------------------------
( )1فتح القدير ،194/4 :البدائع ،56/7 :المبسوط ،113/9 :رد المحتار والدر المختار.189/4 :
( )2وقال الشافعية والحنابلة وفي قول لمالك هو الظهر عند ابن رشد :حد القذف حق خالص
للمقذوف ،لن القذف جناية على عرضه ،وعرضه حقه فالعقاب حقه.
( )4/371
وحكمه أنه يلحق بالقسم الثاني :وهو حق الشخص في جميع أحكامه ،فيجوز لولي المقتول العفو عن
القاتل ،والصلح معه على مال ،بل ندب ال تعالى إلى العفو والصلح ،فقال{ :فمن عفي له من أخيه
شيء ،فاتباع بالمعروف ،وأداء إليه بإحسان ،ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} [البقرة .]178/2:وقال
عز وجل{ :ومن قُتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فل يسرف في القتل ،إنه كان منصورا}
[السراء.]33/17:
تقسيم حق الشخص (أو العبد ) :
ينقسم حق الشخص الخاص باعتبار أنه صاحب الحق تقسيمين آتيين:
الول ـ حقوق تقبل السقاط وحقوق لتقبل السقاط :
- 1الحق القابل للسقاط :الصل أن جميع الحقوق الشخصية تقبل السقاط بخلف العيان ،كحق
القصاص وحق الشفعة وحق الخيار .وإسقاط الحق إما أن يكون بعوض أو بغير عوض.
- 2الحق الذي ل يقبل السقاط :هناك حقوق ل تقبل السقاط على سبيل الستثناء من الصل العام
المتقدم وهي ما يأتي:
أ ـ الحقوق التي لم تثبت بعد :كإسقاط الزوجة حقها في المبيت والنفقة المستقبلة ،وإسقاط المشتري
حقه في خيار الرؤية قبل الرؤية ،وإسقاط الوارث حقه في العتراض على الوصية حال حياة
الموصي ،وإسقاط الشفيع (الشريك أو الجار) حقه في الشفعة قبل البيع .كل هذا ل يسقط؛ لن الحق
نفسه لم يوجد بعد.
ب ـ الحقوق المعتبرة شرعا من الوصاف الذاتية الملزمة للشخص :كإسقاط الب أو الجد حقهما
في الولية على الصغير ،فإن الولية وصف ذاتي لهما ل تسقط بإسقاطهما .ومثلها عند أبي يوسف:
ولية الواقف على وقفه ،تثبت له سواء شرطها أو نفاها؛ لنها أثر ملكه.
( )4/372
ج ـ الحقوق التي يترتب على إسقاطها تغيير للحكام الشرعية كإسقاط المطلق حقه في إرجاع
زوجته،وإسقاط الواهب حقه في الرجوع عن الهبة،وإسقاط الموصي حقه في الرجوع عن الوصية.
ومنها إسقاط مالك العين حقه في ملكها ،ل يقبل السقاط؛ لن معنى إسقاط حقه في ملكها إخراجها
عن ملكه إلى غير مالك ،فتكون سائبة ل مالك لها ،وقد نهى الشرع عن السائبة التي كانت في
الجاهلية بقوله تعالى { :ما جعل ال من بحيرة ول سائبة ول وصيلة ول حام[ )1:( }...المائدة:
،]5/103فأصبح المبدأ المقرر ( :ل سائبة في السلم ) .وعليه فإن العين في حكم الشرع ل بد أن
يثبت فيها وصف الملك لحد من الناس ،فإسقاط المالك حقه في ملكها يترتب عليه تغيير حكم الشرع
الثابت ،وهذا باطل إذ ليس لحد من الناس ولية تغيير حكم الشرع المقرر.
د ـ الحقوق التي يتعلق بها حق الغير :كإسقاط الم حقها في الحضانة ،والمطلق حقه في عدة
مطلقته ،والمسروق منه حقه في حد السارق؛ لن هذه الحقوق مشتركة ،وإذا كان للنسان ولية على
إسقاط حقه ،فليس له ولية على إسقاط حق غيره.
الثاني ـ حقوق تورث وحقوق ل تورث :
اتفق الفقهاء على وراثة الحقوق المقصود بها التوثق كحبس المرهون لوفاء الدين ،وحبس المبيع
لستيفاء الثمن ،وحق الكفالة بالدين لنها من الحقوق اللزمة المؤكدة.
واتفقوا أيضا على وراثة حقوق الرتفاق كحق الشّرب والمرور؛ لنها حقوق تابعة للعقار ولزمة له.
-------------------------------
( )1البحيرة :هي الشاة التي تلد خمسة أبطن خامسها أنثى .والسائبة :الناقة التي تسيب للهتهم فترعى
حيث شاءت ،ول يأخذ لبنها إل ضيف وليحمل عليها .والوصيلة :الناقة التي تلد ذكرا ثم أنثى،
فيقولون :وصلت أخاها ،فلم يذبحوا الذكر للهتهم كما كان مقررا عندهم من ذبح الذكر وإبقاء النثى
لهم .والحام أو الحامي :الفحل الذي يولد من ظهره عشرة أبطن ( تفسير ابن كثير107/2 :
ومابعدها).
( )4/373
وكذلك اتفقوا على إرث خيار التعيين والعيب؛ لن البيع في خيار التعيين لزم ،والحق محصور في
اختيار أحد الشياء .والبيع تم في خيار العيب على أساس سلمة المبيع من العيب ،فيثبت ذلك الحق
للورثة دفعا للضرر والغبن.
واختلف الفقهاء في إرث خيار الشرط وخيار الرؤية وأجل الدين وحق الغانم في الغنيمة بعد الحراز،
وقبل القسمة:
فقال الحنفية :ل تورث الحقوق والمنافع؛ لن الرث يجري في المال الموجود وهو العيان ،وهذه
ل لنها أوصاف شاغلة لها ،ول يتصور
ليست أموالً عندهم .أما الديون فما دامت في الذمة فليست ما ً
قبضها حقيقة ،وإنما يقبض ما يعادلها ،لكنها تورث لنها مال حكمي؛ أي شيء اعتباري يملكه الدائن،
وهو موجود في ثروة المدين ،فالدين مال من حيث المآل.
وقال غير الحنفية :تورث الحقوق والمنافع والديون؛ لنها أموال ،ولقوله عليه السلم« :من ترك مالً
أو حقا فلورثته ،ومن ترك كَلً أو عيالً فإلي» (. )1
التقسيم الثاني ـ باعتبار محل الحق
ينقسم الحق باعتبار محله المتعلق به إلى حق مالي وغير مالي ،وإلى حق شخصي وحق عيني ،وإلى
حق مجرد وحق غير مجرد.
-------------------------------
( )1متفق عليه بين البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة بلفظ« :ما من مؤمن إل أنا أولى به في
سهِمْ} [الحزاب ]6/33:فأيما مؤمن
الدنيا والخرة ،واقرؤوا إن شئتم{ :النّبيّ َأوْلَى بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ مِنْ أْ ْنفُ ِ
مات وترك مالً فليرثه عصبته من كانوا ،ومن ترك دَيْنا أو ضياعا ،فليأتني فأنا موله » والضياع أي
ذوي ضياع أي ل شيء لهم (نيل الوطار.)57/6 :
( )4/374
- 1الحقوق المالية وغير المالية :
الحقوق المالية :هي التي تتعلق بالموال ومنافعها أي التي يكون محلها المال أو المنفعة ،كحق البائع
في الثمن ،والمشتري في المبيع ،وحق الشفعة ،وحقوق الرتفاق ،وحق الخيار ،وحق المستأجر في
السكنى ،ونحوها.
والحقوق غير المالية :هي التي تتعلق بغير المال مثل حق القصاص ،وحق الحرية بجميع أنواعها،
وحق المرأة في الطلق أو التفريق لعدم النفاق ،أو بسبب العيوب التناسلية أو للضرر وسوء العشرة
أو للغيبة أو الحبس ،وحق الحضانة ،وحق الولية على النفس ،ونحو ذلك من الحقوق السياسية
والطبيعية.
- 2الحق الشخصي والحق العيني :
الحق الشخصي :هو ما يقره الشرع لشخص على آخر .ومحله إما أن يكون قياما بعمل كحق البائع
في تسلم الثمن وحق المشتري في تسلم المبيع ،وحق النسان في الدين وبدل المتلفات والمغصوبات،
وحق الزوجة أو القريب في النفقة .وإما أن يكون امتناعا عن عمل كحق المودع على الوديع في عدم
استعمال الوديعة.
وللحق الشخصي عناصر ثلثة :هي صاحب الحق ،ومحل الحق ،والمكلف أو المدين ،إل أن العلقة
بين طرفي هذا الحق هي المتميزة أو البارزة ،دون المحل وهو المال.
( )4/375
والحق العيني :هو ما يقره الشرع لشخص على شيء معين بالذات .فالعلقة القائمة بين صاحب الحق
وشيء مادي معين بذاته ،والتي بموجبها يمارس المستحق سلطة مباشرة على الشيء هي الحق
العيني .مثل حق الملكية الذي به يستطيع المالك ممارسة أكمل السلطات على ما يملكه :وهي
التصرف بالشيء واستثماره واستعماله .وحق الرتفاق المقرر لعقار على عقار معين كحق المرور أو
المسيل أو تحميل الجذوع على الجدار المجاور .وحق احتباس العين المرهونة لستيفاء الدين .وللحق
العيني عنصران فقط هما :صاحب الحق ،ومحل الحق.
خصائص الحق العيني والحق الشخصي :
يتميز كل من هذين الحقين بمميزات وخصائص أهمها ما يأتي:
- 1حق التتبع لصاحب الحق العيني دون الشخصي :لصاحب الحق العيني تتبع الشيء الذي تعلق به
حقه في أي يد وجدت فيها العين مهما تغير واضع اليد عليها .فلو غصب شخص شيئا ثم باعه أو
غصب منه وتداولته اليدي ،جاز لمالكه رفع الدعوى على الحائز الخير صاحب اليد.
أما الحق الشخصي :فل يطالب به إل المكلف به أصالة وهو المدين أو نيابة وهو الكفيل أو المحال
عليه.
وسبب التفرقة :أن الحق العيني متعلق بعين معينة ل بذمة شخصية ،والعين يمكن انتقالها من يد إلى
أخرى .أما الحق الشخصي فمتعلق بذمة المكلف أو المدين ،فل يسأل عنه غيره إل بإرادته كما في
الكفالة والحوالة.
- 2حق المتياز أو الفضلية لصاحب الحق العيني :يكون لصاحب الحق العيني حق الولوية أو
المتياز على سائر الدائنين العاديين إذا كان دينه موثقا برهن.
( )4/376
أما صاحب الحق الشخصي فليس له حق المتياز إل استثناء في أحوال معينة كحالة التهمة أو الشك،
فتقدم ديون الصحة على ديون المرض ،وحالة الضرورة ،فتقدم نفقات التكفين والتجهيز على بقية
الحقوق المتعلقة بالتركة ويقدم دين النفقة للزوجة والولد الصغار على الديون العادية .وحالة رعاية
المصلحة العامة ،فتقدم ديون الحكومة على ديون الناس العادية - 3 .سقوط الحق العيني بهلك محله:
إذا هلك محل الحق العيني سقط الحق وبطل العقد .فإذا هلك المبيع في يد البائع قبل قبض المشتري له
بطل العقد ،وسقط حق المشتري في تسلم المبيع .وإذا احترقت الدار المؤجرة بطل عقد الجارة،
وسقط حق المستأجر في النتفاع بها.
أما إذا هلك محل الحق الشخصي فل يسقط الحق ول يبطل العقد ،فإذا هلكت أموال المدين ،فل يسقط
حق الدائن بالدين؛ لن الدين متعلق بالذمة ل بمال معين .وإذا هلك الشيء المسلَم فيه في عقد السلم
وجب على البائع (المسلَم إليه) تسليم غيره.
- 3الحقوق المجردة وغير المجردة :
الحق المجرد أو المحض :هو الذي ل يترك أثرا بالتنازل عنه صلحا أو إبراء ،بل يبقى محل الحق
عند المكلف (أو المدين) بعد التنازل كما كان قبل التنازل .مثل حق الدين ،فإن الدائن إذا تنازل عن
دينه ،كانت ذمة المدين بعد التنازل هي بعينها قبل التنازل ،ول يترتب على التنازل عن الحق أثر من
الثار .وكذلك حق الشفعة إذا أسقط الشفيع حقه في الشفعة ،كانت ملكية المشتري للعقار بعد التنازل
عن الشفعة هي بعينها قبل التنازل .ومثله حق المدعي في تحليف خصمه اليمين ،وحق الخيار ،والحق
في وظائف الوقاف.
( )4/377
والحق غير المجرد :هو الذي يترك أثرا بالتنازل عنه ،كحق القصاص فإنه يتعلق برقبة القاتل ودمه،
ويترك فيه أثرا بالتنازل عنه ،فيتغير فيه الحكم ،فيصير معصوم الدم بالعفو بعد أن كان غير معصوم
الدم ،أي مباح القتل بالنسبة إلى ولي المقتول المستحق للقصاص ،ولكن برأي الحاكم .ومثل حق
استمتاع الزوج بزوجته ،يتعلق بالزوجة ،ويمنعها من إباحة نفسها لغير زوجها بالعقد عليها ،فإذا
تنازل الزوج عن هذا الحق بالطلق ،استردت المرأة حريتها ،فتتزوج بمن تشاء (. )1
وتظهر فائدة هذا التقسيم فيما يأتي:
الحق غير المجرد تجوز المعاوضة عنه بالمال ،كحق القصاص وحق الزوجة يجوز لكل من ولي
المقتول والزوج أخذ العوض المالي في مقابل التنازل عن حقه بالصلح.
أما الحق المجرد :فل يجوز العتياض عنه كحق الولية على النفس والمال وحق الشفعة ،وهذا رأي
الحنفية ،ويجوز عند غير الحنفية أخذ العوض عنه.
التقسيم الثالث ـ باعتبار المؤيد القضائي وعدمه
ينقسم الحق باعتبار وجود المؤيد القضائي وعدمه إلى نوعين :حق دياني ،وحق قضائي .فالحق
الدياني :هو الذي ل يدخل تحت ولية القضاء .فل يتمكن القاضي من اللزام به لسبب من السباب
كالعجز عن إثباته أمام القضاء .وإنما يكون النسان مسؤولً عنه أمام ربه وضميره .فالدين الذي
عجز صاحبه عن إثباته أمام القضاء ل يعني أنه صار غير مستحق ،بل يجب على المدين ديانة
المبادرة إلى وفائه .والزواج العرفي غير المسجل في المحاكم الشرعية تكون فيه الزوجية ثابتة ديانة.
وتترتب عليها الحكام الشرعية من نفقة وثبوت نسب الولد وغير ذلك.
والحق القضائي :هو ما يدخل تحت ولية القاضي ،ويمكن لصاحبه إثباته أمام القضاء.
وتظهر ثمرة التقسيم في أن الحكام الديانية تبنى على النوايا والواقع
-------------------------------
( )1أحكام المعاملت الشرعية لستاذنا الشيخ علي الخفيف :ص .38
( )4/378
والحقيقة .وأما الحكام القضائية فتبنى على ظاهر المر ول ينظر فيها إلى النوايا وواقع المر
وحقيقته .فمن طلق امرأته خطأ ،ولم يقصد إيقاع الطلق ،يحكم القاضي بوقوع طلقه عملً بالظاهر
واستحالة معرفة الحقيقة ،ويكون الحكم بوقوع الطلق حكما قضائيا .وأما ديانة فالحكم عدم وقوع
الطلق ،وللنسان أن يعمل بذلك فيما بينه وبين ال تعالى ،وللمفتي إفتاؤه بذلك؛ لن الزوج لم يقصد
الطلق في الواقع.
المبحث الثالث ـ مصادر الحق أو أسبابه
عرفنا سابقا أن منشأ الحق أو سببه الساسي أو غير المباشر :هو الشرع .فالشرع هو المصدر
الساسي للحقوق ،والسبب الوحيد لها ،غير أن الشرع قد ينشئ الحقوق مباشرة من غير توقف على
أسباب أخرى ،كالمر بالعبادات المختلفة ،والمر بالنفاق على القريب ،والنهي عن الجرائم
والمحرمات ،وإباحةالطيبات من الرزق ،فإن أدلة الشرع هنا تعتبر أسبابا مباشرة للحقوق.
وقد ينشئ الشارع الحقوق أو الحكام مرتبة على أسباب أخرى يمارسها الناس ،كعقد الزواج ،فإنه
ينشئ حق النفقة للزوجة والتوارث بين الزوجين وغير ذلك .وعقد البيع ينشئ ملك البائع للثمن
والمشتري للمبيع .والغصب سبب للضمان عند هلك المغصوب .وتعتبر العقود والغصب أسبابا
مباشرة ،وأدلة الشرع أسبابا غير مباشرة.
والمقصود من السباب أو المصادر في هذا المبحث :السباب المباشرة ،سواء أكانت أدلة الشرع أم
السباب التي أقرتها وعينتها هذه الدلة .فليس المراد من المصدر هنا:
( )4/379
المصدر المر في إيجاب اللتزام ،إذ تكون عندئذٍ جميع المصادر مردها إلى الشرع أو القانون.
ومصادر الحق بالنسبة لللتزامات ( )1خمسة :هي الشرع ،والعقد ،والرادة المنفردة ،والفعل النافع،
والفعل الضار.
فالعقد كالبيع والهبة والجارة .والرادة المنفردة كالوعد بشيء والنذر .والشرع كاللتزام بالنفقة على
القارب والزوجة ،والتزام الولي والوصي ،وإيجاب الضرائب .والفعل الضار بالغير كالتزام المتعدي
بضمان الشيء الذي أتلفه أو غصبه .والفعل النافع أو الثراء بل سبب كأداء دين يظنه الشخص على
نفسه ،ثم يتبين أنه كان بريئا منه ،أو أداء دين الغير بأمره ،أو شراء شيء ثم يتبين أنه ملك الغير،
فيجوز لصاحب الحق الرجوع على الخر بالدين ،لعدم استحقاق الخر له.
ويمكن إدخال جميع هذه المصادر في الواقعة الشرعية .والواقعة الشرعية إما أن تكون طبيعية
كالجوار والقرابة والمرض ونحوها ،أو اختيارية .والواقعة الختيارية إما أن تكون أعمالً مادية
ممنوعة وهي الفعل الضار ،أو أعمالً مشروعة من جانب واحد وهي الفعل النافع ،وإما أن تكون
تصرفات شرعية.
والتصرفات الشرعية :إما وحيدة الطرف وهي الرادة المنفردة ،أو متعددة وهي العقد (. )2
ويلحظ أن هذه المصادر هي السباب المباشرة لللتزم ،وأما المصدر غير المباشر لكل التصرفات
الشرعية والفعال المادية فهو الشرع.
وأما مصادر الحق العيني فهي أسباب الملك التام أو الناقص التي بيانها في بحث نظرية الملكية.
قال الدكتور السنهوري :إنه يمكن رد مصادر الحقوق في الفقه السلمي (سواء بالنسبة لللتزامات أم
بالنسبة للحقوق العينية) إلى مصدرين اثنين ،كما في الفقه الغربي أو القوانين الوضعية وهما:
-------------------------------
( )1اللتزام هو الحادث الذي نشأ عنه اللتزام.
( )2المدخل إلى نظرية اللتزام في الفقه للستاذ الزرقاء :ف .52-49
( )4/380
( )4/381
ب ـ واستيفاء حق النسان (العبد) :يكون بأخذه من المكلف به باختياره ورضاه ،فإن امتنع من
تسليمه :فإن كان الموجود تحت يده عين الحق كالمغصوب والمسروق والوديعة ،أو جنس الحق
كأمثال العين المغصوبة عند هلكها ،ولكن ترتب على أخذه من قبل صاحب الحق نفسه فتنة أو ضرر
في الحالتين أو كان الموجود تحت يده من خلف جنس الحق مطلقا ،فليس لصاحب الحق باتفاق
الفقهاء استيفاؤه بنفسه ،وإنما بواسطة القضاء.
أما إذا كان الموجود تحت يد الخذ مالً من جنس الحق ،ولم يترتب على الخذ بطريق خاص فتنة أو
ضرر ،فالمشهور عند المالكية والحنابلة أن صاحب الحق يستوفيه بواسطة القضاء ( ، )1لقوله صلّى
ال عليه وسلم « :أد المانة إلى من ائتمنك ،ول تخن من خانك» ( ، )2ولن النبي صلّى ال عليه
وسلم قضى لهند زوجة أبي سفيان بأخذ حقها ولو لم يعلم زوجها بقوله« :خذي مايكفيك وولد ك
بالمعروف» ( )3فدل على أنه ل بد من القضاء لخذ عين الحق أو جنسه.
-------------------------------
( )1الشرح الكبير للدردير ،335/4 :القوانين الفقهية :ص ،359المغني 254/8 :ومابعدها.
( )2رواه الترمذي وأبو داود وحسنه وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة.
( )3رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة إل الترمذي (نيل الوطار ،323/6 ،سبل السلم.)219/3 :
( )4/382
وقال الشافعية ( : )1لصاحب الحق استيفاء حقه بنفسه بأي طريق ،سواء أكان من جنس حقه ،أم من
غير جنسه ،لقوله تعالى{ :وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى{ ،]40/42:وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما
عوقبتم به} [النحل ]126/16:والمثلية ليست من كل وجه ،وإنما في المال .ولقوله عليه السلم« :من
وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به» (. )2
ووافق الحنفية ( )3على رأي الشافعية فيما إذا كان المأخوذ من جنس حقه ل من غيره ،والمفتى به
اليوم كما قال ابن عابدين جواز الخذ من جنس الحق أو من غيره ،لفساد الذمم والمماطلة في وفاء
الديون.
ويلحظ أن هذا البحث المسمى فقها «الظفر بالحق» من أهم أحكام المعاملت التي يفرق فيها بين
الحكام القضائية والحكام الديانية.
والخلصة :أن من وجد عين حقه عند آخر مالً أو عروضا (سلعا) وكان مماطلً في رده أو جاحدا
الدين ،فيباح له باتفاق الفقهاء أخذه ديانة ل قضاء للضرورة ،عملً بالحديث السابق( :من وجد عين
ماله فهو أحق به) (. )4
نوع المأخوذ :الصل في استيفاء الحق أن يكون بالعدل ،فل يزاد عليه فإن كان الحق معلوم النوع
محدد المقدار كثمن دار وأجرتها وبدل قرض فل تجوز الزيادة عليه في الستيفاء وفي حكم القاضي.
وإن كان الحق مطلقا غير محدد النوع أو المقدار ،فيحمل على الوسط المتعارف عليه بين الناس،
فيؤخذ المتوسط من أموال الزكاة .ول تؤخذ كرائم الموال أو خسيسها.
والدليل على استيفاء الوسط نصوص كثيرة قرنت بالمعروف أو العرف ،مثل قوله تعالى{ :وعلى
المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة{ ]233/2:وإن أردتم أن تسترضعوا أولدكم فل جناح
عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف} [البقرة ]233/2:وفي كفارة اليمين صرح باعتبار الوسط في قوله
تعالى{ :فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم[ }..المائدة ]89/5:والمراد
بالوسط :الوسط في نوع الطعام وعدد الوجبات .وعلى هذا فنفقة الزوجة والقارب مقدرة بالوسط
المتعارف عليه بالنص ،وتجب زكاة الفطر من غالب قوت البلد :وهو الذي تعارف أهل البلد على
تناوله.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،162/4 :المهذب.282/2 :
( )2رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن سمرة بن جندب.
( )3فتح القدير ،236/4 :رد المحتار والدر المختار 219/3 :ومابعدها.265 ،
( )4نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف :ص 188ومابعدها ،ط أولى أو مابعدها.
( )4/383
ويجوز التعزير للممتنع عن دفع الزكاة بأخذ أعلى الحق الواجب ،أو تغريمه الضعف ،لقوله عليه
السلم« :من دفعها مؤتجرا بها فله أجرها ،ومن منعها فإنّا آخذوها وشطر ماله ،عَزْمة من عزمات
ربنا تبارك وتعالى» (. )1
التسامح في الستيفاء والداء :الصل أن يكون استيفاء الحق كاملً ،لكن الشارع ندب صاحب الحق
إلى عدم استيفاء حقه كله أو بعضه تسامحا وإحسانا وإيثارا ،وبخاصة إذا كان المكلف أو المدين في
ضائقة ،وذلك خير يثاب عليه فاعله ،قال تعالى{ :وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة ،وأن تصدقوا
خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة ]280/2:والمراد بالتصدق في الية :إبراء المدين من دينه.
وفي تنازل المرأة عن شيء من حقوقها أو كل مهرها ،قال تعالى{ :وآتوا النساء صدُقاتهن ِنحْلة ،فإن
طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } [النساء{ .]4/4:وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن،
عقْدة النكاح} [البقرة:
وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ،إل أن يعفون أو يعفو الذي بيده ُ
]237/2وفي التنازل عن حق القصاص قال تعالى{ :ومن قُتِل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فل
يسرف في القتل ،إنه كان منصورا} [السراء.]33/17:
وهناك آية تقرر مبدءا عاما في التنازل عن الحقوق وهي قوله تعالى{ :وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها ،فمن
عفا وأصلح فأجره على ال } [الشورى.]40/42:
- 2حماية الحق :قررت الشريعة حماية الحق لصاحبه من أي اعتداء بأنواع مختلفة من المؤيدات
منها المسؤولية أمام ال ،والمسؤولية المدنية ،وتقرير حق التقاضي.
-------------------------------
( )1رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن َبهْز بن حكيم عن أبيه عن جده ،بلفظ« :من أعطاها مؤتجرا
فله أجرها ،ومن منعها فإنا آخذوها ،وشطر إبله ،عَزْمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى( »..نيل
الوطار 121/4 :ومابعدها).
( )4/384
فالعبادات التي هي نوع من حقوق ال تعالى حماها الشرع بوازع الدين ودافع اليمان القائمين على
الرهبة من عذاب ال ،والرغبة في ثوابه ونعيم الدنيا .ولذا كثيرا ما بدئت آيات القرآن في التكاليف
الشرعية بوصف اليمان{ :يا أيها الذين آمنوا} [البقرة.]282/2:
وهناك نوع آخر من الحماية للعبادة وهو الحسبة ( : )1وهي المر بالمعروف إذا ظهر تركه ،والنهي
عن المنكر إذا ظهر فعله ،وهو حق ثابت لكل فرد من أفراد المة ،وللمحتسب وهو والي الحسبة ،فله
مطالبة تارك الصلة والزكاة ،أو المفطر في رمضان بأداء ما تركه .ولكل مسلم رفع دعوى الحسبة
على المعاصي إلى المحتسب أو القاضي ليؤدب العاصي بما يردعه ويزجره عن ترك العبادات
وغيرها.
وهكذا بقية حقوق ال تعالى كالكف عن الجرائم تكون حمايتها أيضا بوازع الدين وبالحسبة.
وأما حقوق الناس الخاصة (العباد) فحمايتها بوازع الدين الذي يوجب على كل فرد احترام حق غيره
في ماله أو عرضه أو دمه ،وبالمرافعة إلى القضاء لمطالبة من وجبت عليه.
وهكذا حمت الشريعة كل أنواع الحقوق الدينية والمدنية ،الخاصة والعامة باحترام الحق لصاحبه،
وعدم العتداء عليه ،وبمعاقبة المعتدي.
-------------------------------
( )1الحسبة :وظيفة إدارية للدولة مهمتها مراقبة الناس والسواق وحماية الناس من النحراف عن
آداب الدين ،ومن جشع التجار والصناع والغش والبيع بأكثر من ثمن المثل وعدم إجادة الصناعة،
وخلصة مهمتها المر بالمعروف والنهي عن المنكر .وتشبه ما تقوم به البلديات الن من مراقبة
السواق وما تقوم به إدارة المن العام من مراقبة الداب .وما تقوم به النيابة العامة من تقديم الجاني
إلى القضاء.
( )4/385
( )4/386
وتذرع بعض الناشرين بأنهم في إعادة الطبع أو التصوير إنما ينشرون العلم ويخدمون المؤلّف هو
تحايل شيطاني وذريعة فاسدة ،لن الحرام ليكون وليصح بحال طريقا للحلل .ويُبطل زعمَهم ،أنهم
لول قصد الربح المادي المنتظر من وراء شهرة كتاب انتشر تداوله لما أقدموا على الطبع أو
التصوير.
أما الكتب القديمة التي لم َيعُد يُعرَف ورثة مؤلّفها فل مانع من طبعها بشرط عدم العتداء على جهد
دار النشر الخاص الذي بذلته في إخراج الكتاب من تعليق وعلمات ترقيم وتصحيح ونحو ذلك.
ب -وأما حق النشر أو التوزيع فيحكمه العقد أو التفاق الحاصل بين المؤلف والناشر أو الموزع،
فيجب على طرفي التفاق اللتزام بمضمونه من حيث عدد النسخ المطبوعة والمدة التي يسري فيها
التفاق .وال تعالى أمر بالوفاء بالعقود { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } [المائدة { ، ]1/5:وأوفوا
بالعهد } [السراء.]34/17:
وبناء عليه يحرم شرعا نقض بنود التفاق ،وليجوز للمؤلف أن يقوم بإعطاء حق النشر أو التوزيع
لغير الدار التي التزم معها في مدة معينة .وأما مايقال من جهد دار التوزيع أو النشر ،فهذا قد استوفت
الدار عوضه بما تأخذه من ربح ،والشهرة كانت بالرواج النابع من موضوع الكتاب ل من شكله
وإخراجه ،فهذا له دور ثانوي ،بدليل أن كثيرا من الكتب ذات إخراج بديع ،ولكنها تافهة لم يكتب لها
الرواج .كذلك ليصح القول :إن دار النشر أو التوزيع هي التي أضفت على المؤلف وكتابه شهرة،
فذلك قد استوفت الدار عوضه مما أخذته من نسبة مئوية عالية تفوق فعلً مايستفيده صاحب التأليف
ذاته.
جـ -كذلك الترجمة ينبغي أن يكون نشرها بإذن المؤلف وباتفاق معه ،وحق المؤلف أو الناشر حينئذٍ
يتجلى في المطالبة بما يحقق الكتاب من أرباح بنسبة مئوية بحسب التفاقات أو العراف الشائعة التي
تُع َرفُ من مجموع اتفاقات المؤلفين والناشرين.
( )4/387
والخلصة :إن البرّ :ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ،والثم :ما حاك في الصدر وكرهت
أن يطلع عليه الناس .ولشك أن حق المؤلف أصبح معترفا به في القوانين والعراف ،وأن الطبع أو
التصوير بغير حق عدوان وظلم على حق المؤلف ،وأن فاعل ذلك يتهرب عادة من المسؤولية،
وليجرؤ على العتراف بفعله الثم ،مما يدل على أن عمله ظلم موجب لتعويض صاحب الحق،
والمسلم أولى الناس برعاية الحقوق والوفاء بالذمم والعهود ،وال يقول الحق وهو يهدي السبيل.
- 3استعمال الحق بوجه مشروع :على النسان أن يستعمل حقه وفقا لما أمر به الشرع وأذن به.
فليس له ممارسة حقه على نحو يترتب علىه الضرار بالغير ،فردا أو جماعةً ،سواء أقصد الضرار
أم ل .وليس له إتلف شيء من أمواله أو تبذيره لن ذلك غير مشروع.
فحق الملكية يبيح للنسان أن يبني في ملكه ما يشاء وكيف يشاء ،لكن ليس له أن يبني بناء يمنع عن
جاره الضوء والهواء ،ول أن يفتح في بنائه نافذة تطل على نساء جاره ،لضراره بالجار.
واستعمال النسان حقه على وجه يضر به أو بغيره هو ما يعرف بالتعسف في استعمال الحق عند
فقهاء القانون الوضعي.
فإن مارس النسان ما ليس حقا له فل يسمى تعسفا وإنما هو اعتداء على حق الغير ،فالمستأجر الذي
ينتفع بالدار على وجه يضر بها يعد متعسفا ،أما الغاصب فإنه يعد متعديا.
وتجاوز الحكام والموظفين حدود الشريعة وحدود صلحياتهم كاغتصاب بعض الموال ،وجباية
ضرائب ظالمة ل يعد تعسفا في استعمال الحق ،وإنما هو استعمال لغير الحق أو تجاوز عن الحق،
المستوجب التأديب أو التعزير ،فقد عزل عمر عمار بن ياسر عن ولية الكوفة والمغيرة بن شعبة عن
ولية البصرة لما شكا إليه أهل الوليتين .وأنشأ عبد الملك بن مروان ولية المظالم (كمجلس الدولة
الن) لمحاسبة الولة والجباة وموظفي الدولة إذا ظلموا أحدا من الناس ،أوتجاوزوا حدود سلطتهم أو
صلحيتهم.
( )4/388
أدلة حرمة التعسف :هناك أدلة كثيرة على تحريم التعسف منها ما يأتي - 1 :قال تعالى{ :وإذا طلقتم
النساء فبلغن أجلهن ،فأمسكوهن بمعروف ،أو سرحوهن بمعروف ،ول تمسكوهن ضِرارا لتعتدوا}
[البقرة ]231/2:نهى الشرع عن استعمال حق المراجعة بقصد الضرار ،كما كان يفعل في الجاهلية
حيث يطلق الرجل زوجته ،ثم إذا قاربت عدتها على النتهاء راجعها ،ثم طلقها ،فنهى الشرع عنه،
والنهي يفيد التحريم ،فيكون التعسف حراما.
- 2قال تعالى بعد بيان أنصباء الورثة{ :من بعد وصية يُوصى بها أو دين ،غير مضار ،وصيةً من
ال } [النساء ]12/4:نهى ال تعالى عن الوصية الضارة بالورثة كالوصية لوارث أو بأكثر من الثلث،
والنهي للتحريم ،فيكون التعسف حراما.
- 3قال عز وجل{ :ول تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل ال لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم}
[النساء ]5/4:فقد أمر ال بالحجر على السفيه الذي يبذر ماله ،إذ إنه تعسف في استعمال حق النفاق،
فيكون التعسف ممنوعا مستحقا التأديب والحجر.
- 4حديث السفينة في التضامن بإزالة المنكر ( : )1أمر الرسول صلّى ال عليه وسلم بمنع من في
أسفل السفينة من خرقها ،لما فيه من الضرر ،وهو هلك الجميع ،ففعلهم يكون تعسفا حراما.
-------------------------------
( )1أخرج البخاري عن النعمان بن بشير أنه صلّى ال عليه وسلم قال« :مثَل القائم في حدود ال
والواقع فيها ،كمثل قوم استهموا على سفينة ،فأصاب بعضهم أعلها ،وبعضهم أسفلها ،وكان الذين في
أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ،فقالوا :لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من
فوقنا؟ فإن تركوهم وما أرادوا .هلكوا جميعا ،وإن أخذوا على أيديهم نجوا ،ونجوا جميعا» .
( )4/389
( )4/390
( )4/391
وأساس هذه القاعدة هو قصد الضرر أيضا كالقاعدة الولى ،ويعرف ذلك بالدلة والقرائن التي تعين
القصد.
القاعدة الثالثة ـ ترتب ضرر أعظم من المصلحة :إذا استعمل النسان حقه بقصد تحقيق المصلحة
المشروعة منه ،ولكن ترتب على فعله ضرر يصيب غيره أعظم من المصلحة المقصودة منه ،أو
يساويها ،منع من ذلك سدا للذرائع ،سواء أكان الضرر الواقع عاما يصيب الجماعة ،أو خاصا
بشخص أو أشخاص .والدليل على المنع قول الرسول صلّى ال عليه وسلم « :ل ضرر ول ضرار»
( )1وعلى هذا فإن استعمال الحق يكون تعسفا إذا ترتب عليه ضرر عام ،وهو دائما أشد من الضرر
الخاص ،أو ترتب عليه ضرر خاص أكثر من مصلحة صاحب الحق أو أشد من ضرر صاحب الحق
أو مساو لضرر المستحق .أما إذا كان الضرر أقل أو متوهما فل يكون استعمال الحق تعسفا.
من أمثلة الضرر العام بالمة أو بالجماعة :الحتكار :وهو شراء ما يحتاجه الناس وادخاره لبيعه وقت
غلء السعار وحاجة الناس إليه .وهو ممنوع للحديث النبوي« :الجالب مرزوق والمحتكر ملعون»
«ل يحتكر إل خاطئ » (. )2
ومنه تلقي الركبان :وهو تلقي التاجر للوافدين من الريف إلى المدينة لبيع محاصيلهم ،وشراؤها بثمن
أقل من السعر القائم ،وبيعها لهل المدينة بثمن مرتفع .وهذا حرام لن النبي صلّى ال عليه وسلم
نهى عن تلقي الركبان (. )3
-------------------------------
( )1حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسندا عن أبي سعيد الخدري ،ورواه مالك
مرسلً عن عمرو بن يحيى عن أبيه.
( )2الحديث الول ضعيف رواه ابن ماجه عن عمر ،والحديث الثاني صحيح رواه أحمد ومسلم وأبو
داود عن معمر بن عبد ال العدوي (نيل الوطار.)220/5 :
( )3متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن مسعود بلفظ « نهى النبي عن تلقي البيوع» ولفظ
البخاري عن ابن عباس «ل تلقوا الركبان» (نيل الوطار ،166/5 :سبل السلم.)21-20/3 :
( )4/392
ومنه بيع السلح أثناء الفتنة ،وبيعه لقطاع الطرق ،وبيع العنب للخمار ،وبيع السلع بأكثر من ضعف
القيمة ،فذلك يضر الجماعة ،فيمنع التاجر منه ،ولولي المر عند الحنفية والمالكية تسعير السلع بالربح
المعقول .فإن أبوا من ذلك بيعت السلع جبرا عنهم.
كذلك لولي المر منع الناس من زراعة المخدرات ،وزراعة أشياء ل تحتاج إليها المة أو تحتاج إلى
غيرها.
ومثال الضرر الخاص الشد :فتح نافذة في بناء تطل على مقر نساء الجار إل إذا كانت أعلى من
مستوى النظر .وقد منع الرسول عليه السلم سمرة بن جندب من دخول بستان لحد النصار لتفقد
نخله بسبب تأذي النصاري من دخوله ( )1؛ لن الضرر في الدخول كان أشد من عدم تفقد صاحب
النخل نخله.
ومثال الضرر الخاص المساوي للمصلحة :أن يفعل مالك الدار فيها شيئا يتضرر به جيرانه .رأى أبو
حنيفة منعه من ذلك دفعا للضرر الذي يصيب غيره ،والضرر يجب رفعه لقوله عليه السلم« :ل
ضرر ول ضرار» .
-------------------------------
( )1رواه مسلم ومالك وأحمد وابن ماجه (شرح مسلم.)47/11 :
( )4/393
وقال أبو يوسف ومحمد :ل يمنع صاحب الحق حينئذ من استعمال حقه مراعاة لحق المالك ،لتساويهما
في الضرر ،فيرجح حق المالك عملً بما يبيحه له ملكه من استعمال وانتفاع.
ومثال الضرر القليل :بناء جدار أو غرس شجر في أرضه ،مما يترتب عليه حجب الهواء عن جاره،
ل يمنع منه المالك ول يكون تعسفا؛ إذ ل بد من مثل هذا الضرر القليل عادة أثناء النتفاع بالحق.
ومثال الضرر الموهوم :كثرة إنجاب النسل الذي قد يترتب عليه ضائقة اقتصادية ،ل يمنع منه
النسان؛ لن الضرر هنا متوهم؛ فال تعالى أودع في الرض من الكنوز والموارد ما يكفي حاجة
النسان إذا استخدمت اليدي العاملة والعقول المفكرة ،وتمت مراقبة ال وتقواه في هذه الموارد ،كما
قال تعالى{ :ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والرض ،ولكن كذبوا،
فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [العراف .]96/7:وقال سبحانه في شأن أهل الكتاب{ :ولو أنهم أقاموا
التوراة والنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ،لكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ،منهم أمة مقتصدة،
وكثير منهم ساء ما يعملون} [المائدة.]66/5:
وأساس هذه القاعدة :هو مقدار الضرر الناشئ عن استعمال الحق.
القاعدة الرابعة ـ الستعمال غير المعتاد وترتب ضرر للغير :إذا استعمل النسان حقه على نحو غير
معتاد في عرف الناس ،ثم ترتب عليه ضرر للغير ،كان متعسفا ،كرفع صوت المذياع المزعج
للجيران والتأذي به ،واستئجار دار ،ثم ترك الماء في جدرانها وقتا طويلً ،أو استئجار سيارة ثم
يحملها أكثر من حمولتها ،أودابة ثم يضربها ضربا قاسيا أو يحملها ما ل تطيق.
ففي كل ذلك يعتبر متعسفا ،فيمنع من تعسفه ،ويعوض المتضرر عما أصابه من ضرر.
( )4/394
كذلك يمنع من استعمال حقه ،إذا استعمل حقه استعمالً غير معتاد ،ولم يترتب عليه ضرر ظاهر؛
لن الستعمال على هذا النحو ل يخلو من ضرر ،وعدم ظهور الضرر ل يمنع من وجوده في الواقع،
وإن كان يمنع من الحكم عليه بالتعويض لعدم وضوح الضرر ،فإن كان الستعمال معتادا مألوفا،
ووقع الضرر فل يعد تعسفا ،ول يترتب على ذلك ضمان ،كالطبيب الجراح الذي يجري عملية
جراحية معتادة ،ويموت المريض ،فل يضمن .ومثله من يوقد فرنا يتأذى الجيران بدخانه ،أو يدير آلة
يتضرر الجيران بصوتها المعتاد ،فل ضمان؛ لن كل ذلك معتاد مألوف.
وبناء عليه :من يشعل نارا في أرضه ،فطار منها شرر أحرق شيئا لجاره ،إن كان ذلك في أحوال
عادية فل ضمان عليه .وإن كان ذلك في وقت هبوب الرياح واشتدادها ،فعليه الضمان.
وكذلك سقاية الرض ،إن كان سقيا عاديا ،فتسرب الماء إلى أرض الجار ،فل ضمان ،وإن كان سقيا
غير عادي بماء ل تحتمله الرض عادة ،فعليه ضمان الضرر اللحق بالغير (. )1
والمقياس في ذلك هو العرف الذي يحدد كون التصرف معتادا أو غير معتاد .وعليه تطبق أحكام
التعامل مع الخباز والكواء إذا أحرق ما سلّم له ،يضمن إذا تصرف تصرفا غير معتاد بزيادة وقود
النار ،وحرارة الكهرباء.
القاعدة الخامسة ـ استعمال الحق مع الهمال أو الخطأ :إذا استعمل النسان حقه على وجه ليس فيه
احتياط واحتراس وتثبت ،فأضر بالغير ،وهذا ما يعرف بالخطأ ،كان متعسفا أو مسؤولً مسؤولية
تقصيرية.
سواء أكان خطأ في القصد ،كما إذا رأى الصياد شبحا من بعيد ،فظنه صيدا ،فأطلق عليه النار ،فإذا
هو إنسان.
أو كان خطأ في الفعل ،كما إذا سدد الصائد الرمية على صيد ،فانحرفت وأصابت إنسانا ،أو تجاوزت
الصيد إلى إنسان فقتلته.
-------------------------------
( )1الهداية ،197/3 :المهذب.401/1 :
( )4/395
فذلك كله إساءة في استعمال الحق يترتب عليه تعويض الضرر الذي أصاب الغير؛ لنه كان يجب
عليه التثبت والنتباه أو الحتراس في كل من القصد والفعل ،فإذا قصد في ذلك تحمل نتيجة فعله
صونا لدماء الناس وأموالهم.
والدليل أن ال تعالى أوجب تعويض الضرر في القتل الخطأ بالدية ،ومنع النبي من الضرر في
الحديث المتقدم« :ل ضرر ول ضرار» ول سبيل إلى رفع الضرر بعد وقوعه إل بإيجاب الضمان أو
التعويض.
ومجال هذه القاعدة هو الضرر الناشئ عن الخطأ في استعمال الحق ،سواء أكان هذا الحق ثابتا بإذن
الشارع ،أم بالعقد أم بغيرهما من مصادر الحق؛ لن استعمال الحقوق مقيد بشرط السلمة كما يقرر
الفقهاء ( ، )1ولن أموال الناس ودماءهم معصومة ل تهدر بحال ،فيجب ضمانها وتعويض الضرر
الواقع عليها.
وأساس هذه القاعدة حصول الضرر ،سواء أكان قليلً أم كثيرا.
ول تطبق هذه القاعدة في حالتين:
الولى ـ إذا كان استعمال الحق ليمكن فيه الحتراز أو التثبت عادة ،كالطبيب الذي يجري عملية
جراحية على النحو المعتاد ،فأفضى ذلك إلى تلف عضو أو نفس ،ل يكون ضامنا.
الثانية ـ إذا اتخذ الشخص الحتياطات ،ومع ذلك وقع الضرر ،فل يضمنه كما إذا قام إنسان بالتدرب
على إطلق النار في ملكه ،ووضع لفتات على أرضه بعدم الدخول ،فل ضمان عليه إذا أصاب أحدا
دخل أرضه .كما لضمان على من سلك طريقا مخوفا أو فيه سباع فوجد مقتولً ،ل تجب ديته (. )2
ومن تطبيقات هذه القاعدة:
حوادث السير بدون قصد من قتل وإتلف مال ،وما يترتب على ممارسة حق التأديب للزوج والمعلم
والب والحاكم من إتلفات غير مقصودة .وحالت تجاوز حدود الدفاع الشرعي من الخف إلى
الثقل ،واستهلك الموال على الظن أنها مال الشخص ،فكل ذلك يوجب تعويض الضرر.
-------------------------------
( )1الهداية 154/4 :ومابعدها.
( )2الهداية.181/4 :
( )4/396
( )4/397
( )4/398
والصحة والشرف والذكاء ،وما ل يمكن السيطرة عليه كالهواء الطلق ( )1وحرارة الشمس وضوء
القمر.
- 2إمكان النتفاع به عادة :فكل ما ل يمكن النتفاع به أصلً كلحم الميتة والطعام المسموم أو
الفاسد ،أو ينتفع به انتفاعا ل يعتد به عادة عند الناس كحبة قمح أو قطرة ماء أو حفنة تراب ،ل يعد
مالً ،لنه ل ينتفع به وحده .والعادة تتطلب معنى الستمرار بالنتفاع بالشيء في الحوال العادية ،أما
النتفاع بالشيء حال الضرورة كأكل لحم الميتة عند الجوع الشديد (المخمصة) فل يجعل الشيء مالً،
لن ذلك ظرف استثنائي.
وتثبت المالية بتمول الناس كلهم أو بعضهم ( ، )2فالخمر أو الخنزير مال لنتفاع غير المسلمين بهما.
وإذا ترك بعض الناس تمول مال كالثياب القديمة فل تزول عنه صفة المالية إل إذا ترك كل الناس
تموله.
وقد ورد تعريف المال في المادة ( )621من المجلة نقلً عن ابن عابدين الحنفي ( )3وهو« :المال:
هو ما يميل إليه طبع النسان ،ويمكن ادخاره إلى وقت الحاجة ،منقولً كان أو غير منقول» .
ولكنه تعريف منتقد؛ لنه ناقص غير شامل ،فالخضروات والفواكه تعتبر مالً ،وإن لم تدخر لتسرع
الفساد إليها .وهو أيضا بتحكيم الطبع فيه قلق غير مستقر؛ لن بعض الموال كالدوية المرة والسموم
تنفر منها الطباع على الرغم من أنها مال .وكذلك المباحات الطبيعية قبل إحرازها من صيود
ل ولو قبل إحرازها أو تملكها.
ووحوش وأشجار في الغابات تعد أموا ً
ثانيا ـ وأما المال عند جمهور الفقهاء غير الحنفية :فهو كل ما له قيمة يلزم متلفه بضمانه (. )1
وهذا المعنى هو المأخوذ به قانونا ،فالمال في القانون وهو كل ذي قيمة مالية.
الشياء غير المادية ـ الحقوق والمنافع :
-------------------------------
( )1أما الهواء المضغوط المعبأ في زجاجات فهو مال محرز.
( )2البحر الرائق ،227/2 :رد المحتارلبن عابدين.3/4 :
( )3رد المحتار.3/4 :
( )4/399
حصر الحنفية معنى المال في الشياء أو العيان المادية أي التي لها مادة وجِرم محسوس .وأما
المنافع والحقوق فليست أموالً عندهم وإنما هي ملك ل مال .وغير الحنفية اعتبروها أموالً؛ لن
المقصود من الشياء منافعها ل ذواتها ،وهذا هو الرأي الصحيح المعمول به في القانون وفي عرف
الناس ومعاملتهم ،ويجري عليها الحراز والحيازة.
والمقصود بالمنفعة :هو الفائدة الناتجة من العيان ،كسكنى الدار ،وركوب السيارة ،ولبس الثوب
ونحو ذلك.
وأما الحق :فهو ما يقرره الشرع لشخص من اختصاص يؤهله لممارسة سلطة معينة أو تكليف
بشيء .فهو قد يتعلق بالمال كحق الملكية وحق الرتفاق بالعقار المجاور من مرور أو شرب أو
تعلي ،وقد ل يتعلق بالمال كحق الحضانة ،والولية على نفس القاصر.
والمنافع ،والحقوق المتعلقة بالمال ،والحقوق المحضة كحق المدعي في تحليف خصمه اليمين ليست
أموالً عند الحنفية ،لعدم إمكان حيازتها بذاتها ،وإذا وجدت فل بقاء ول استمرار لها ،لنها معنوية،
وتنتهي شيئا فشيئا تدريجيا.
وقال جمهور الفقهاء غير الحنفية :إنها تعتبر مالً ،لمكان حيازتها بحيازة أصلها ومصدرها ،ولنها
هي المقصودة من العيان ،ولولها ما طلبت ،ول رغب الناس بها.
-------------------------------
( )1قال المام الشافعي رضي ال عنه :ليقع اسم مال إل على ماله قيمة يباع بها ويلزم متلفه ،وإن
قلت ،ومال يطرحه الناس مثل الفلس وما أشبه ذلك ( راجع الشباه والنظائر للسيوطي ،ص ،258ط
مصطفى محمد ).
( )4/400
ويترتب على هذا الخلف بعض النتائج أو الثمرات في الغصب والميراث والجارة .فمن غصب شيئا
وانتفع به مدة ،ثم رده إلى صاحبه ،فإنه يضمن قيمة المنفعة عند غير الحنفية ،وعند الحنفية :ل
ضمان عليه إل إذا كان المغصوب شيئا موقوفا ،أو مملوكا ليتيم ،أو معدا للستغلل كعقار معد
لليجار كفندق أو مطعم؛ لن هذه الملك بحاجة شديدة للحفظ ومنع العدوان عليها .وهذا المعنى في
الواقع موجود في كل المنافع ،فينبغي الفتاء بالضمان في كل المغصوبات.
والجارة تنتهي بموت المستأجر عند الحنفية؛ لن المنفعة ليست مالً حتى تورث ،وغير الحنفية
يقولون :ل تنتهي الجارة بموت المستأجر وتظل باقية حتى تنتهي مدتها.
والحقوق ل تورث عند الحنفية كالحق في خيار الشرط أو خيار الرؤية .وتورث عند غير الحنفية.
المبحث الثاني ـ أقسام المال :
قسم الفقهاء المال عدة تقسيمات يترتب عليها أحكام مختلفة بحسب كل قسم ،وأكتفي ببيان أربعة
تقسيمات ،أوضحها القانون المدني:
- 1باعتبار إباحة النتفاع وحرمته إلى :متقوم وغير متقوم.
- 2باعتبار استقراره في محله وعدم استقراره إلى :عقا ٍر ومنقول.
- 3باعتبار تماثل أحاده أو أجزائه وعدم تماثلها إلى :مثلي وقيمي.
- 4باعتبار بقاء عينه بالستعمال وعدم بقائه إلى :استهلكي واستعمالي.
( )4/401
( )4/402
الثاني ـ الضمان عند التلف :إذا أتلف إنسان مالً متقوما لغيره وجب عليه ضمان مثله إن كان
مثليا ،أو قيمته إن كان قيميا .أما غير المتقو م فل يضمن بالتلف إذا كان لمسلم .فلو أراق أحد
خمرا لمسلم أو قتل خنزيرا له ،ل يضمنه .أما لو أتلفه أحد لذمي (أي غير مسلم مقيم في دار السلم)
ضمن له قيمته عند الحنفية ،لنه مال متقوم عندهم ،كما تقدم.
التقوم وعدمه عند القانونيين :
يختلف معنى التقوم وعدمه بين الشرعيين والقانونيين ،فهو عند الشرعيين كما عرفنا :ما يباح النتفاع
بها ،شرعا ،أو ما ل يباح ذلك.
وأما عند القانونيين :فالتقوم :ما كان ذا قيمة بين الناس .وعدم التقوم :هو خروج الشياء عن التعامل
بطبيعتها أو بحكم القانون .فالولى هي التي يشترك كل الناس في النتفاع بها ،ول يستطيع أحد أن
يستأثر بحيازتها ،كالهواء والبحار وأشعة الشمس .والثانية :هي الشياء الخارجة عن التعامل بحكم
القانون كالمخدرات الممنوعة والمواد الحربية المتفجرة ،وكل الشياء المملوكة للدولة أو للشخاص
العتبارية العامة أو المخصصة للنفع العام بالفعل .وقد أخذت فكرة التقوم وعدمه من مفهوم المادة (
)38من القانون المدني التي تنص على ما يأتي:
- 1كل شيء غير خارج عن التعامل بطبيعته أو بحكم القانون يصح أن يكون محلً للحقوق المالية.
- 2والشياء التي تخرج عن التعامل بطبيعتها هي التي ل يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها ،وأما
الخارجة بحكم القانون فهي التي ل يجيز القانون أن تكون محلً للحقوق المالية.
يتبين من ذلك أن فكرة التقوم وعدمه تنبني في القانون على جواز التعامل في الشيء وعدم جوازه
قانونا .فالخمر مثلً يجوز التعامل بها في القانون ول يجوز التعامل بها في الشرع.
( )4/403
( )4/404
لكن توسع القانون في معنى العقار في الفقرة الثانية من هذه المادة ،فأدخل فيه المنقولت التي يضعها
صاحبها في عقار يملكه لخدمة هذا العقار أو استثماره ،حتى السماد والسمك ،وسماها (عقارا
بالتخصيص ) وهذا سائغ في مذهب المالكية .وأدخل فيه أيضا في المادة ( )85الحقوق العينية
المترتبة على العقار كحقوق الرتفاق والتأمينات ،حتى الدعوى المتعلقة بحق عيني على عقار.
واعتبار هذه الدعوى عقارا فيه إغراق في تصور معنى العقار.
هذا وقد يتحول المنقول إلى عقار وبالعكس ،مثال الول :البواب والقفال وتمديدات الماء والكهرباء
تصبح عقارا باتصالها بالعقار على نحو ثابت .ومثال الثاني :أنقاض البناء وكل ما يستخرج من
الرض من معادن وأحجار وتراب ،تصبح منقولً بمجرد فصلها عن الرض.
وتظهر فائدة تقسيم المال إلى عقار ومنقول في طائفة من الحكام الفقهية التالية:
- 1الشفعة ( : )1تثبت في المبيع العقار ( ، )2ول تثبت في المنقول ،إذا بيع مستقلً عن العقار ،فإن
بيع المنقول تبعا للعقار ثبت فيهما الشفعة.
وكذلك بيع الوفاء ( : )3يختص بالعقار دون المنقول.
- 2الوقف :ل يصح عند الحنفية خلفا لجمهور الفقهاء إل في العقار .أما المنقول فل يصح وقفه إل
تبعا للعقار كوقف أرض وما عليها من آلت وحيوان ،أو ورد بصحة وقفه أثر عن السلف كوقف
الخيل والسلح ،أو جرى العرف بوقفه كوقف المصاحف والكتب وأدوات الجنازة .ويصح عند غير
الحنفية وقف العقار والمنقول على السواء (. )4
-------------------------------
( )1الشفعة :حق تملك العقار المبيع جبرا عن المشتري ،بما قام عليه من ثمن وتكاليف مثل رسم
التسجيل وأجرة السمسار ونحوهما .وتثبت عند الحنفية للشريك والجار ،وعند غير الحنفية :تثبت
للشريك فقط.
( )2مختصر الطحاوي :ص .120
( )3بيع الوفاء :هو أن يبيع المحتاج إلى النقود عقارا بشرط أنه متى وفى الثمن استرد العقار (م 118
مجله).
( )4الدر المختار ورد المحتار ،411-408/3 :فتح القدير 48/5 :ومابعدها.
( )4/405
- 3بيع الوصي مال القاصر :ليس للوصي بيع عقار القاصر إل بمسوغ شرعي كإيفاء دين أو دفع
حاجة ضرورية أو تحقيق مصلحة راجحة .وقد أنيط ذلك بإذن القاضي في قانون الحوال الشخصية؛
لن بقاء عين العقار فيه حفاظ على مصلحة القاصر أكثر من حفظ ثمنه.
أما المنقول :فله أن يبيعه متى رأى مصلحة في ذلك.
ل ببيع المنقول ،فإن لم يف ثمنه انتقل إلى العقار
وفي بيع مال المدين المحجوز عليه لوفاء دينه يبدأ أو ً
تحقيقا لمصلحة المدين.
- 4يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلفا لبقية الفقهاء بيع العقار قبل قبضه من المشتري ،أما
المنقول فل يجوز بيعه قبل القبض أو التسليم؛ لن المنقول عرضة للهلك كثيرا بعكس العقار.
- 5حقوق الجوار والرتفاق تتعلق بالعقار ،دون المنقول.
- 6ل يتصور غصب العقار عند أبي حنيفة وأبي يوسف ،إذ ل يمكن نقله وتحويله ،ويرى محمد
وسائر الفقهاء إمكان غصب العقار ،والرأي الول أخذت به المجلة (م 509وما بعدها).
أما المنقول فيتصور غصبه باتفاق الفقهاء (. )1
-------------------------------
( )1وهناك أحكام قانونية تختلف بين العقار والمنقول :منها أن انتقال ملكية العقار ليتم إل بالتسجيل،
أما المنقول فل حاجة في نقل ملكيته إلى التسجيل .ومنها أن الحيازة بسبب صحيح وبحسن نية في
المنقول سند الملكية .أما العقار فإن حيازته ولو بسبب صحيح لتثبت بها الملكية إل بمضي خمس
سنين (م .)918 ،927
( )4/406
( )4/407
وانقلب المال القيمي إلى مثلي يكون في حال الكثرة بعد الندرة ،فإذا كان المال نادر الوجود في
السوق ،ثم أصبح كثير الوجود ،صار مثليا بعد أن كان له قيمة خاصة.
ويلحظ أن المال المتقوم أعم من القيمي ،فالمتقوم يشمل القيمي والمثلي.
وتظهر فائدة التقسيم إلى مثلي وقيمي فيما يأتي :
- 1الثبوت في الذمة ( : )1يثبت المال المثلي دينا في الذمة أي بأن يكون ثمنا في البيع ،عن طريق
تعيين جنسه وصفته .ويصح بالتالي وقوع المقاصة بين الموال المثلية.
أما القيمي :فل يقبل الثبوت دينا في الذمة ،فل يصح أن يكون ثمنا ،ول تجري المقاصة بين الموال
القيمية .وإذا تعلق الحق بمال قيمي كرأس غنم أو بقر ،يجب أن يكون معينا بذاته ،متميزا عن سواه،
بالشارة إليه منفردا ،ل مشارا إليه بالوصف؛ لن أفراد المال القيمي ولو من نوع واحد غير متماثلة،
ولكل واحد منها صفة وقيمة معينة .
- 2كيفية الضمان عند التعدي أو التلف :إذا أتلف شخص مالً مثليا ،مثل كمية من القمح أو
السكر ،وجب عليه ضمان مثله ،حتى يكون التعويض على أكمل وجه ،والمثل أقرب إلى الشيء
المتلف صورة ومعنى ،أي مالية .أما القيمي فيضمن المتعدي قيمته؛ لنه يتعذر إيجاب مثله صورة،
فيكتفى بإيجاب مثله معنى ،أي من ناحية المالية ،وهي القيمة.
- 3القسمة الجبرية وأخذ النصيب :تدخل القسمة جبرا في المال المثلي المشترك ،ولكل شريك أخذ
نصيبه في غيبة الخر دون إذنه .أما القيمي :فل تدخل فيه القسمة الجبرية ،ول يجوز للشريك أخذ
نصيبه في غيبة الخر بدون إذنه؛ لن القسمة فيها معنى الفراز والمبادلة ،فإذا كان المال مثليا كانت
جهة الفراز هي الراجحة لتماثل أجزائه .وإذا كان قيميا كانت جهة المبادلة هي الراجحة لعدم تماثل
أجزائه ،فكأنه أخذ بدل حقه ل عينه.
-------------------------------
( )1سأوضح قريبا معنى الذمة وخصائصها وبدئها وانتهائها بمشيئة ال تعالى.
( )4/408
- 4الربا :الموال القيمية ل يجري فيها الربا المحرم ،فيجوز بيع غنمة بغنمتين ،أي يجوز بيع القليل
بالكثير من جنسه .أما الموال المثلية فيجري فيها الربا الحرام الذي يوجب تساوي العوضين
المتجانسين في الكمية والمقدار ،وتكون الزيادة حراما .فل يجوز بيع قنطار من القمح بقنطار وربع
مثلً ،لشتمال البيع على ما يسمى بربا الفضل ،وهذا الربا يختص شرعا بالمقدرات المثلية من مكيل
أو موزون فقط.
الذمة المالية وخصائصها :
ل يتصور ثبوت دين على إنسان إل بتصور محل اعتباري مفترض مقدر وجوده في كل إنسان .وهذا
المحل المقدر المفترض هو الذمة ،فالذمة تختلف عن الهلية ،إذ أن الهلية :هي صلحية الشخص
لثبوت الحقوق له وتحمل الواجبات .وتحمل الواجبات أو اللتزامات يستلزم وجود محل في الشخص
تستقر فيه تلك الواجبات أو الديون .وتبدأ الهلية ناقصة منذ بدء تكون الجنين ،وتكمل أهلية الوجوب
بالولدة.
وبالولدة تبدأ الذمة مع بدء تصور وجود العنصر الثاني من تلك الهلية :وهو عنصر المديونية أو
اللتزام ،فالهلية هي الصلحية ،والذمة محل الصلحية.
فالذمة :هي محل اعتباري في الشخص تقع فيه الديون أواللتزامات (. )1
أولً ـ خصائص الذمة :
للذمة الخصائص التالية:
- 1الذمة من صفات الشخصية الطبيعية وهو النسان أو العتبارية كالشركات والمؤسسات
والوقاف والمساجد .فل ذمة للجنين قبل ولدته ،فل تصح الهبة له ،لكن تصح الوصية له بشرط
ولدته حيا ،ول ذمة للحيوان ،فلو أوصى شخص لدابة وقصد تمليكها فالوصية باطلة ،لكن لو كان
بقصد النفاق عليها صحت الوصية ،ويكون المقصود بها مالكها .ول يتعين صرف الموصى به للنفقة
على الدابة عند الحنفية ( ، )2ويتعين ذلك لعلف الدابة عند الشافعية (. )3
-------------------------------
( )1المدخل إلى اللتزام في الفقه للستاذ مصطفى الزرقاء :ف .123
( )2الدر المختار.459/5،462 :
( )3مغني المحتاج.42/3 :
( )4/409
- 2ل بد لكل شخص بعد ولدته من ذمة ،حتى ولو كانت فارغة بريئة؛ لن الذمة من توابع
الشخصية ،وتلزم العنصر الثاني من أهلية الوجوب ،وهذه الهلية مناطها الصفة النسانية ،فتلزم
النسان منذ وجوده.
- 3ل تتعدد الذمة ،فلكل شخص ذمة واحدة ،ول اشتراك بين أشخاص في الذمة.
- 4الذمة ل حدّ لسعتها ،فهي تتسع لكل الديون مهما عظمت؛ لن الذمة ظرف اعتباري ،يتسع لكل
اللتزامات.
- 5الذمة متعلقة بالشخص ،ل بأمواله وثروته ،ليتمكن من ممارسة نشاطه القتصادي بحرية مطلقة
تمكنه من تسديد ديونه ،فله التجارة والبيع ولو كان مدينا بأكثر مما يملك .وله وفاء أي دين متقدم أو
متأخر في الثبوت .ول يحق للدائنين العتراض عليه.
- 6الذمة ضمان عام لكل الديون بل تمييز لدين على آخر إل إذا وجد لصاحب دين حق عيني
كالرهن ،أو كانت بعض الحقوق الشخصية ذات امتياز كنفقات التجهيز والتكفين ،ودين النفقة للزوجة
والولد الصغار ،وديون الضرائب الحكومية
ثانيا -انتهاء الذمة :
تبدأ الذمة بالولدة وتنتهي بالوفاة ،وللفقهاء آراء ثلثة في انتهاء الذمة.
الرأي الول للحنابلة في رواية عندهم ( )1ـ انهدام الذمة بمجرد الموت :لن الذمة من خصائص
الشخصية ،والموت يعصف بالشخص وبذمته .وأما الديون فتتعلق عند أكثر الحنابلة بالتركة ،فمن
مات ول تركة له سقطت ديونه.
-------------------------------
( )1القواعد لبن رجب :ص 193ومابعدها.
( )4/410
الرأي الثاني للمالكية والشافعية وبعض الحنابلة ( )1ـ بقاء الذمة بعد الموت حتى إيفاء الديون
وتصفية التركة :تبقى الذمة بعد الموت حتى تصفى الحقوق المتعلقة بالتركة .فيصح للميت اكتساب
حقوق جديدة بعد موته كان سببا لها ،كمن نصب شبكة للصطياد ،فوقع فيها حيوان ،فإنه يملكه،
وتظل ذمة الميت باقية بعد موته حتى تسدد ديونه ،لقوله عليه السلم« :نفس المؤمن معلقة بدينه حتى
يقضى عنه» ( . )2ويمكن أن تشغل ذمة الميت بعد موته بديون جديدة ،كشغلها بثمن المبيع الذي رده
المشتري على البائع بعد موته بسبب عيب ظهر فيه .وكالتزامه بضمان قيمة ما وقع في حفرة حفرها
الشخص قبل موته ،في الطريق العام .وتصح الكفالة بعد الموت بما على الميت المفلس من ديون؛
لن النبي صلّى ال عليه وسلم صحح هذه الكفالة .وتصح عند المالكية ل الشافعية والحنابلة الوصية
لميت .ويقتصر أثر الموت في هذا الرأي على عدم مطالبة الميت بالحقوق وإنما يطالب ورثته بأداء
الحقوق لصحابها.
الرأي الثالث للحنفية ـ ضعف الذمة:
إن الموت ل يهدم الذمة ،لكن يضعفها ،فتبقى بقدر الضرورة لتصفية الحقوق المتعلقة بالتركة التي لها
سبب في حال الحياة .فيكتسب الميت بعد موته ملكية جديدة كما في صورة نصب الشبكة للصيد،
ويلتزم بالديون التي تسبب بها الشخص قبل موته ،كرد المبيع المعيب عليه والتزامه بالثمن ،وضمان
ما وقع في حفرة حفرها في الطريق العام .لكن ل تصح كفالة دين على ميت مفلس عند أبي حنيفة
خلفا للصاحبين ( . )3ول تصح الوصية للميت أو الهبة له .وبهذين الحكمين الخيرين يفترق الرأي
الثالث عن الرأي الثاني.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،40/3 :المغني.21/6 :
( )2رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة ،وهو صحيح.
( )3البدائع ،6/6 :فتح القدير.419/5 :
( )4/411
( )4/412
( )4/413
- ً 2ما ل يقبل التملك إل بمسوغ شرعي :كالموال الموقوفة وأملك بيت المال أي الموال الحرة
في عرف القانونيين .فالمال الموقوف ل يباع ول يوهب إل إذا تهدم أو أصبحت نفقاته أكثر من
إيراده ،فيجوز للمحكمة الذن باستبداله (. )1
وأملك بيت المال (أو وزارة المالية ،أو الحكومة) ل يصح بيعها إل برأي الحكومة لضرورة أو
مصلحة راجحة ،كالحاجة إلى ثمنها ،أو الرغبة فيها بضعف الثمن ونحو ذلك؛ لن أموال الدولة
كأموال اليتيم عند الوصي ل يتصرف فيها إل للحاجة أو المصلحة.
- ً 3ما يجوز تملكه وتمليكه مطلقا بدون قيد :وهو ما عدا النوعين السابقين.
المطلب الثالث ـ أنواع الملك :
الملك إما تام أو ناقص.
فالملك التام :هو ملك ذات الشيء (رقبته) ومنفعته معا ،بحيث يثبت للمالك جميع الحقوق المشروعة.
ومن أهم خصائصه :أنه ملك مطلق دائم ل يتقيد بزمان محدود ما دام الشيء محل الملك قائما .ول
يقبل السقاط ،فلو غصب شخص عينا مملوكة لخر ،فقال المالك المغصوب منه :أسقطت ملكي ،فل
تسقط ملكيته ويبقى الشيء ملكا له ،وإنما يقبل النقل ،إذ ل يجوز أن يكون الشيء بل مالك .وطريق
النقل إما العقد الناقل للملكية كالبيع ،أو الميراث أو الوصية.
ويمنح صاحبه الصلحيات التامة وحرية الستعمال والستثمار والتصرف فيما يملك كما يشاء ،فله
البيع أو الهبة أو الوقف أو الوصية ،كما له العارة والجارة ،لنه يملك ذات العين والمنفعة معا ،فله
التصرف بهما معا ،أو بالمنفعة فقط.
-------------------------------
( )1أجاز الحنفية الستبدال بالموقوف أرضا أخرى للحاجة والمصلحة ،فقالوا :يجوز للقاضي النزيه
العدل الذن باستبدال الوقف ،بشرط أن يخرج عن النتفاع بالكلية ،وأن ل يكون هناك ريع للوقف
يعمر به ،وأن ل يكون البيع بغبن فاحش ،وأن يستبدل بعقار ل بدراهم ودنانير (الدر المختار ورد
المحتار.)425/3 :
( )4/414
وإذا أتلف المالك ما يملكه ل ضمان عليه؛ إذ ل يتصور مالك وضامن في شخص واحد ،لكن يؤاخذ
ديانة؛ لن إتلف المال حرام ،وقد يؤاخذ قضاء فيحجر عليه إذا ثبت سفهه.
والملك الناقص :هو ملك العين وحدها ،أو المنفعة وحدها .ويسمى ملك المنفعة حق النتفاع .وملك
المنفعة قد يكون حقا شخصيا للمنتفع أي يتبع شخصه ل العين المملوكة ،وقد يكون حقا عينيا أي تابعا
للعين دائما ،بقطع النظر عن الشخص المنتفع ،وهذا يسمى حق الرتفاق ،ول يكون إل في العقار.
المطلب الرابع ـ أنواع الملك الناقص :
وعلى هذا يكون الملك الناقص ثلثة أنواع:
- ً 1ملك العين فقط :
وهو أن تكون العين (الرقبة) مملوكة لشخص ،ومنافعها مملوكة لشخص آخر ،كأن يوصي شخص
لخر بسكنى داره أو بزراعة أرضه مدة حياته ،أو مدة ثلث سنوات مثلً ،فإذا مات الموصي وقبل
الموصى له ،كانت عين الدار ملكا لورثة الموصي بالرث ،وللموصى له ملك المنفعة مدة حياته أو
المدة المحددة .فإذا انتهت المدة صارت المنفعة ملكا لورثة الموصي ،فتعود ملكيتهم تامة .وفي هذه
الحالة :ليس لمالك العين النتفاع بها ،ول التصرف بمنفعتها أو بالعين ،ويجب عليه تسليم العين
للمنتفع ليستوفي حقه من منافعها ،فإذا امتنع أجبر على ذلك.
وبه يظهر أن ملكية العين فقط تكون دائمة ،وتنتهي دائما إلى ملكية تامة ،وملكية المنافع قد تكون
مؤقتة؛ لن المنافع ل تورث عند الحنفية أو دائمة كالوقف.
- ً 2ملك المنفعة الشخصي أو حق النتفاع (: )1
هناك أسباب خمسة لملك المنفعة :وهي العارة والجارة ،والوقف والوصية ،والباحة.
أما العارة :فهي عند جمهور الحنفية والمالكية :تمليك المنفعة بغير عوض .فللمستعير أن ينتفع
بنفسه ،وله إعارة الشيء لغيره ،لكن ليس له إجارته؛ لن العارة عقد غير لزم (يجوز الرجوع عنه
في أي وقت) ،والجارة عقد لزم ،والضعيف ل يتحمل القوى منه ،وفي إجارة المستعار إضرار
بالمالك الصلي.
-------------------------------
( )1يرى الحنفية :أنه ل فرق بين ملك المنفعة وحق النتفاع ،وهما شيء واحد .فللمنتفع أن ينتفع
بنفسه ،أو أن يملك غيره المنفعة ،إل إذا وجد مانع صريح من قبل مالك العين ،أو وجد مانع يقتضيه
العرف والعادة ،فمن وقف داره لسكنى الطلب الغرباء كان للطالب حق السكنى فقط ،وحق النتفاع
بالمرافق العامة كالمدارس والجامعات والمشافي مقيد بالمنتفع فقط ،وليس له تمليك غيره .وهذا الرأي
هو المعمول به قانونا .وقال المالكية :هناك فرق بين ملك المنفعة وحق النتفاع .فملك المنفعة
اختصاص يكسب صاحبه أن ينتفع بنفسه،وأن يملكها لغيره بعوض أو بغير عوض .وأما حق
النتفاع :فهو مجرد رخصة بالنتفاع الشخصي بناء على إذن عام كحق النتفاع بالمنافع العامة
كالطرق والنهار والمدارس والمصحات وغيرها،أو إذن خاص كحق النتفاع بملك شخص أذن له
به ،كركوب سيارته ،والمبيت في منزله ،وقراءة كتبه ونحو ذلك .فليس للمنتفع أن يملك المنفعة
لغيره ،فتمليك النتفاع:هو أن يباشر المنتفع بنفسه،وتمليك المنفعة أعم وأشمل ،فيباشر بنفسه ويمكن
غيره من النتفاع بعوض كالجارة،وبغير عوض كالعارة (راجع الفروق للقرافي،187/1:الفرق
.)30
( )4/415
وعند الشافعية والحنابلة :هي إباحة المنفعة بل عوض ،فليس للمستعير إعارة المستعار إلى غيره.
وأما الجارة :فهي تمليك المنفعة بعوض .وللمستأجر استيفاء المنفعة بنفسه ،أو بغيره مجانا أو
بعوض إذا لم تختلف المنفعة باختلف المنتفعين ،حتى لو شرط المؤجر على المستأجر النتفاع بنفسه.
فإن اختلف نوع المنفعة كان ل بد من إذن المالك المؤجر.
وأما الوقف :فهو حبس العين عن تمليكها لحد من الناس وصرف منفعتها إلى الموقوف عليه.
فالوقف يفيد تمليك المنفعة للموقوف عليه ،وله استيفاء المنفعة بنفسه ،أو بغيره إن أجاز له الواقف
الستثمار ،فإن نص على عدم الستغلل أو منعه العرف من ذلك ،فليس له الستغلل.
( )4/416
وأما الوصية بالمنفعة :فهي تفيد ملك المنفعة فقط في الموصى به ،وله استيفاء المنفعة بنفسه ،أو
بغيره بعوض أو بغير عوض إن أجاز له الموصي الستغلل.
وأما الباحة :فهي الذن باستهلك الشيء أو باستعماله ،كالذن بتناول الطعام أو الثمار ،والذن العام
بالنتفاع بالمنافع العامة كالمرور في الطرقات والجلوس في الحدائق ودخول المدارس والمشافي.
والذن الخاص باستعمال ملك شخص معين كركوب سيارته ،أو السكن في داره.
وسواء أكانت الباحة مفيدة ملك النتفاع بالشيء بالفعل أو بإحرازه كما يرى الحنفية ،أو مجرد
النتفاع الشخصي كما يرى المالكية ،فإن الفقهاء متفقون على أنه ليس للمنتفع إنابة غيره في النتفاع
بالمباح له ،ل بالعارة ول بالباحة لغيره.
والفرق بين الباحة والملك :
هو أن الملك يكسب صاحبه حق التصرف في الشيء المملوك ما لم يوجد مانع .أما الباحة :فهي حق
النسان بأن ينتفع بنفسه بشيء بموجب إذن .والذن قد يكون من المالك كركوب سيارته ،أو من
الشرع كالنتفاع بالمرافق العامة ،من طرقات وأنهار ومراعي ونحو ذلك.
فالمباح له الشيء ل يملكه ول يملك منفعته ،بعكس المملوك.
خصائص حق المنفعة أو النتفاع الشخصي :
يتميز الملك الناقص أو حق المنفعة الشخصي بخصائص أهمها ما يأتي:
- 1يقبل الملك الناقص التقييد بالزمان والمكان والصفة عند إنشائه ،بعكس الملك التام ،فيجوز لمن
يعير سيارته لغيره أو يوصي بمنفعة داره أن يقيد المنتفع بمدة معينة كشهر مثلً ،وبمكان معين
كالركوب في المدينة ل في الصحراء ،وأن يركبها بنفسه ل بغيره.
- 2عدم قبول التوارث عند الحنفية خلفا لجمهور الفقهاء :فل تورث المنفعة عند الحنفية؛ لن
الرث يكون للمال الموجود عند الموت ،والمنافع ل تعد مالً عندهم كما تبين.
( )4/417
أما عند غير الحنفية فتورث المنافع في المدة الباقية؛ لن المنافع عندهم أموال كما ذكرت ،فتورث
كغيرها من الموال ،فمن أوصى لغيره بسكنى داره مدة معلومة ،ثم مات قبل انتهاء هذه المدة،
فلورثته الحق بسكنى الدار إلى نهاية المدة.
- 3لصاحب حق المنفعة تسلم العين المنتفع بها ولو جبرا عن مالكها .ومتى تسلمها تكون أمانة في
يده ،فيحافظ عليها كما يحافظ على ملكه الخاص ،وإذا هلكت أو تعيبت ل يضمنها إل بالتعدي أو
بالتقصير في حفظها .وما عدا ذلك ل ضمان عليه - 4 .على المنتفع ما تحتاجه العين من نفقات إذا
كان انتفاعه بها مجانا ،كما في العارة ،فإن كان النتفاع بعوض كما في الجارة فعلى مالك العين
نفقاتها.
- 5على المنتفع بعد استيفاء منفعته تسليم العين إلى مالكها متى طلبها إل إذا تضرر المنتفع .كما إذا
لم يحن وقت حصاد الزرع في أرض مستأجرة أو مستعارة ،فله إبقاء الرض بيده حتى موسم
الحصاد ،ولكن بشرط دفع أجر المثل.
انتهاء حق المنفعة :
حق المنفعة حق مؤقت كما عرفنا ،فينتهي بأحد المور التالية:
- 1انتهاء مدة النتفاع المحددة.
- 2هلك العين المنتفع بها أو تعيبها بعيب ل يمكن معه استيفاء المنفعة ،كانهدام دار السكنى أو
صيرورة أرض الزراعة سبخة أو ملحة .فإن حصل ذلك بتعدي مالك العين ضمن عينا أخرى،
كالموصي بركوب سيارة ثم عطلها ،فعليه تقديم سيارة أخرى.
- 3وفاة المنتفع عند الحنفية؛ لن المنافع ل تورث عندهم.
- 4وفاة مالك العين إذا كانت المنفعة من طريق العارة أو الجارة؛ لن العارة عقد تبرع ،وهو
ينتهي بموت المتبرع ،ولن ملكية المأجور تنتقل إلى ورثة المؤجر.
( )4/418
وهذا عند الحنفية ،وقال الشافعية والحنابلة :العارة عقد غير لزم ،فيجوز للمعير أو لورثته الرجوع
عنها ،سواء أكانت مطلقة أم مؤقتة .وقال المالكية :العارة المؤقتة عقد لزم ،فمن أعار دابة إلى
موضع كذا ،لم يجز له أخذها قبل ذلك ،وإل لزمه إبقاؤها قدر ما ينتفع بالمستعار النتفاع المعتاد.
وبذلك يتبين أن الجمهور يقولون :إن العارة ل تنتهي بموت المعير أو المستعير ،وكذلك الجارة ل
تنتهي بموت أحد العاقدين؛ لنها عقد لزم كالبيع.
أما إذا كانت المنفعة من طريق الوصية أو الوقف ،فل ينتهي حق المنفعة بموت الموصي؛ لن
الوصية تبدأ بعد موته ،ول بموت الواقف؛ لن الوقف إما مؤبد ،أو مؤقت فيتقيد بانتهاء مدته.
- ً 3ملك المنفعة العيني أو حق الرتفاق :
حق الرتفاق :هو حق مقرر على عقار لمنفعة عقار آخر ،مملوك لغير مالك العقار الول .وهو حق
دائم يبقى ما بقي العقاران دون نظر إلى المالك .مثل حق الشّرب ،وحق المجرى ،وحق المسيل،
وحق المرور ،وحق الجوار ،وحق العلو.
أما حق الشّرب :فهو النصيب المستحق من الماء لسقي الزرع والشجر ،أو نوبة النتفاع بالماء لمدة
معينة لسقي الرض.
ويلحق به حق الشفة :وهو حق شرب النسان والدواب والستعمال المنزلي .وسمي بذلك لن الشّرب
يكون عادة بالشفة.
والماء بالنسبة لهذا الحق أربعة أنواع (: )1
أ ـ ماء النهار العامة كالنيل ودجلة والفرات ونحوها من النهار العظيمة :لكل واحد النتفاع به،
لنفسه ودوابه وأراضيه ،بشرط عدم الضرار بالغير ،لحديث« :الناس شركاء في ثلث :الماء والكل
والنار» وحديث «ل ضرر ول ضرار» .
-------------------------------
( )1البدائع 188/6 :ومابعدها ،تكملة فتح القدير ،144/8 :القوانين الفقهية :ص ،339نهاية المحتاج:
،255/4المغني.531/5 :
( )4/419
ب ـ ماء الجداول والنهار الخاصة ،المملوكة لشخص :لكل إنسان حق الشفة منه ،لنفسه ودوابه،
وليس لغير مالكه سقي أراضيه إل بإذن مالك المجرى.
ج ـ ماء العيون والبار والحياض ونحوها المملوكة لشخص :يثبت فيها كالنوع الثاني حق الشفة
دون حق الشرب .فإن أبى صاحب الماء ،ومنع الناس من الستقاء لنفسهم ودوابهم ،كان لهم قتاله
حتى ينالوا حاجتهم ،إذا لم يجدوا ماءً قريبا آخر.
د ـ الماء المحرز في أوان خاصة :كالجرار والصهاريج ،ل يثبت لحد حق النتفاع به بأي وجه إل
برضا صاحب الماء؛ لن الرسول عليه السلم نهى عن بيع الماء إل ما حمل منه .لكن المضطر إلى
هذا الماء الذي يخاف على نفسه الهلك من العطش ،له أخذ ما يحتاجه منه ،ولو بالقوة ليدفع عن نفسه
الهلك ،ولكن مع دفع قيمته ،لن ( الضطرار ل يبطل حق الغير).
وحق المجرى :هو حق صاحب الرض البعيدة عن مجرى الماء في إجرائه من ملك جاره إلى
أرضه لسقيها .وليس للجار أن يمنع مرور الماء لرض جاره ،وإل كان له إجراؤه جبرا عنه ،دفعا
للضرر عنه.
( )4/420
وحق المسيل :هو مجرى على سطح الرض ،أو أنابيب تنشأ لتصريف المياه الزائدة عن الحاجة ،أو
غير الصالحة حتى تصل إلى مصرف عام أو مستودع ،كمصارف الراضي الزراعية أو مياه
المطار أو الماء المستعمل في المنازل .والفرق بين المسيل والمجرى :أن المجرى لجلب المياه
الصالحة للرض ،والمسيل لصرف الماء غير الصالح عن الرض أو عن الدار .وحكمه مثل حق
المجرى ،ليس لحد منعه إل إذا حدث ضرر بين.
وحق المرور :هو حق صاحب عقار داخلي بالوصول إلى عقاره من طريق يمر فيه سواء أكان
الطريق عاما غير مملوك لحد ،أم خاصا مملوكا للغير .فالطريق العام يحق لكل إنسان المرور فيه.
والطريق الخاص :يحق لصحابه المرور فيه وفتح البواب والنوافذ عليه ،وليس لهم سده أمام العامة
لللتجاء إليه.
وحق الجوار :الجوار نوعان :علوي وجانبي ،وفيه حقان:
أ ـ حق التعلي :وهو الثابت لصاحب العلو على صاحب السفل ،أي الحق الطابقي أو حق العلو.
ب ـ حق الجوار الجانبي :وهو الثابت لكل من الجارين على الخر.
ولصاحب حق التعلي حق القرار على الطبقة السفلى ،وهو حق ثابت دائما لصاحب العلو ،ل يزول
بهدم العقار كله أو انهدام السفل ،وله ولورثته إعادة بنائه حين يريد ،وليس لصاحب العلو أو السفل أن
يتصرف في بنائه تصرفا يضر بالخر ،وإذا انهدم السفل وجب على صاحبه إعادة بنائه ،فإن امتنع
أجبر على ذلك قضاء ،فإن رفض كان لصاحب العلو البناء ويرجع على الخر بالنفقات ،إذا بني بإذن
القاضي أو إذن صاحب السفل ،فإن بني من غير إذن رجع بقيمة البناء وقت تمامه ،ل بما أنفق؛ لنه
لم يكن وكيلً بالنفاق.
وليس لصاحب الجوار الجانبي إل حق واحد وهو أل يضر أحدهما بصاحبه ضررا فاحشا بيّنا :وهو
كل ما يمنع المنفعة الصلية المقصودة من البناء كالسكنى ،أو يكون سببا لهدم البناء أو وهن فيه.
( )4/421
فالضرر في كل أنواع الجوار ممنوع ،أما التصرفات التي يُشكل أمرها في الجوار العلوي فل يعلم
أيحصل منها ضرر أم ل ،كفتح باب أو نافذة في الطابق السفل ،أو وضع متاع ثقيل في الطابق
العلى قد يؤثر في السقف ،فهذه مختلف في منعها ( . )1فقال أبو حنيفة :يمنع هذا التصرف إل بإذن
الجار؛ لن الصل في تصرفات المالك في ملكه ،التي يتعلق بها حق الغير هو المنع والحظر ،لن
ملكه ليس خالصا ،فل يباح له إل ما يتيقن فيه عدم الضرر ،ويتوقف ما عداه على إذن صاحب الحق
ورضاه .وهذا الرأي هو المفتى به عند الحنفية.
وقال الصاحبان :الصل في ذلك الباحة؛ لن صاحب العلو تصرف في ملكه ،والمالك حر التصرف
في ملكه مالم يكن فيه ضرر لغيره بيقين ،فيمنع منه حينئذ ،ويبقى ما عداه على الباحة ،وهذا الرأي
في تقديري هو المعقول الواجب التباع .فيصبح حكم الجوار الجانبي والعلوي واحدا ،وهو إباحة
التصرف في الملك ما لم يترتب على ذلك ضرر فاحش بالجار ،فإن وقع الضرر ،وجب على المتعدي
ضمانه ،سواء أكان الضرر مباشرا أم بالتسبب .وهو رأي المالكية وباقي المذاهب أيضا (. )2
أمور ثلثة متعلقة بحقوق الرتفاق :
الول ـ الفرق بين حق الرتفاق وحق النتفاع الشخصي :
يفترق حق الرتفاق عن حق النتفاع من نواحٍ أربع تالية:
- 1حق الرتفاق يكون دائما مقررا على عقار ،فتنقص به قيمة العقار المقرر عليه ،أما حق النتفاع
الشخصي فقد يتعلق بعقار كوقف العقار أو الوصية به أو إجارته أو إعارته .وقد يتعلق بمنقول
كإعارة الكتاب وإجارة السيارة.
-------------------------------
( )1فتح القدير ،503/5 :رد المحتار على الدر المختار لبن عابدين ،373/4 :ط البابي الحلبي،
البدائع ،264/6 :البحر الرائق ،32/7 :تبيين الحقائق للزيلعي.196/4 :
( )2المنتقى على الموطأ 40/6:ومابعدها ،القوانين الفقهية :ص ،341نيل الوطار ،261/5 :ط
العثمانية.
( )4/422
- 2حق الرتفاق مقرر لعقار إل حق الجوار فقد يكون لشخص أو لعقار .أما حق النتفاع فإنه دائما
مقرر لشخص معين باسمه أو بوصفه.
- 3حق الرتفاق حق دائم يتبع العقار وإن تعدد الملك .وحق النتفاع الشخصي مؤقت ينتهي
بأحوال معينة كما تقدم.
- 4حق الرتفاق يورث حتى عند الحنفية الذين ل يعدونه مالً؛ لنه تابع للعقار .وأما حق النتفاع
فمختلف في إرثه بين الفقهاء كما سبق بيانه.
الثاني ـ خصائص حقوق الرتفاق :
لحقوق الرتفاق أحكام عامة وخاصة.
فأحكامها العامة أنها إذا ثبتت تبقى ما لم يترتب على بقائها ضرر بالغير ،فإن ترتب عليها ضرر أو
أذى وجب إزالتها ،فيزال المسيل القذر في الطريق العام ،ويمنع حق الشرب إذا أضر بالمنتفعين،
ويمنع سير السيارة في الشارع العام إذا ترتب عليها ضرر كالسير بالسرعة الفائقة ،أو في التجاه
المعاكس ،عملً بالحديث النبوي المتقدم «ل ضرر ول ضرار» ولن المرورفي الطريق العام مقيد
بشرط السلمة فيما يمكن الحتراز عنه (. )1
وأما الحكام الخاصة فسأذكرها في بحث حقوق الرتفاق المخصص لكل نوع منها.
الثالث ـ أسباب حقوق الرتفاق :
تنشأ حقوق الرتفاق بأسباب متعددة منها:
- 1الشتراك العام :كالمرافق العامة من طرقات وأنهار ومصارف عامة ،يثبت الحق فيها لكل عقار
قريب منها ،بالمرور والسقي وصرف المياه الزائدة عن الحاجة ،لن هذه المنافع شركة بين الناس
يباح لهم النتفاع بها ،بشرط عدم الضرار بالخرين.
- 2الشتراط في العقود :كاشتراط البائع على المشتري أن يكون له حق مرور بها ،أو حق شرب
لرض أخرى مملوكة له ،فيثبت هذان الحقان بهذا الشرط.
-------------------------------
( )1الدر المختار ورد المحتار.427/5 :
( )4/423
- 3التقادم :أن يثبت حق ارتفاق لعقار من زمن قديم ل يعلم الناس وقت ثبوته ،كإرث أرض زراعية
لها حق المجرى أو المسيل على أرض أخرى؛ لن الظاهر أنه ثبت بسبب مشروع حملً لحوال
الناس على الصلح ،حتى يثبت العكس.
المطلب الخامس ـ أسباب الملك التام :
إن أسباب أو مصادر الملكية التامة في الشريعة أربعة هي:
الستيلء على المباح ،والعقود ،والخلفية ،والتولد من الشيء المملوك .وفي القانون المدني هي ستة:
الستيلء على ما ليس له مالك من منقول أو عقار ،والميراث وتصفية التركة ،والوصية ،واللتصاق
بالعقار أو بالمنقول ،والعقد ،والحيازة والتقادم (. )1
-------------------------------
( )1راجع الفصل الثاني من حق الملكية ـ أسباب كسب الملكية :م ،894 ،879 ،876 ،836 ،828
907ومابعدها من القانون المدني السوري.
( )4/424
وهذه السباب تتفق مع السباب الشرعية ( )1ما عدا الحيازة والتقادم (وضع اليد على مال مملوك
للغير مدة طويلة) ،فإن السلم ل يقر التقادم المُكسِب على أنه سبب للملكية ،وإنما هو مجرد مانع
من سماع الدعوى بالحق الذي مضى عليه زمن معين ( ، )2توفيرا لوقت القضاة ،وتجنبا لما يثار من
مشكلت الثبات ،وللشك في أصل الحق .أما أصل الحق فيجب العتراف به لصاحبه وإيفاؤه له
ديانة .فمن وضع يده على مال مملوك لغيره ل يملكه شرعا بحال.
كذلك ل يقر السلم مبدأ التقادم المُسقِط على أنه مسقط للحق بترك المطالبة به مدة طويلة ،فاكتساب
الحقوق وسقوطها بالتقادم حكم ينافي العدالة والخلق ،ويكفي في ذلك أن يصير الغاصب أو السارق
مالكا ،إل أن المام مالك في المدونة خلفا لمعظم أصحابه يرى إسقاط الملكية بالحيازة ،كما يرى
تملك الشيء بالحيازة ،ولكنه لم يحدد مدة للحيازة ،وترك تحديدها للحاكم ،ويمكن تحديدها عملً
بحديث مرسل رواه سعيد بن المسيب مرفوعا إلى النبي صلّى ال عليه وسلم عن زيد بن أسلم« :من
حاز شيئا على خصمه عشر سنين ،فهو أحق به منه» (. )3
- 1الستيلء على المباح :
المباح :هو المال الذي لم يدخل في ملك شخص معين ،ولم يوجد مانع شرعي من تملكه كالماء في
منبعه ،والكل والحطب والشجر في البراري ،وصيد البر والبحر .ويتميز هذا النوع بما يأتي:
أ ـ أنه سبب منشئ للملكية على شيء لم يكن مملوكا لحد .أما بقية أسباب الملكية الخرى (العقد،
الميراث ونحوهما) فإن الملكية الحادثة مسبوقة بملكية أخرى.
ب ـ أنه سبب فعلي ل قولي :يتحقق بالفعل أو وضع اليد ،فيصح من كل شخص ولو كان ناقص
الهلية كالصبي والمجنون والمحجور عليه .أما العقد فقد ل يصح من هؤلء أو يكون موقوفا على
إرادة أخرى ،وهو سبب قولي.
-------------------------------
( )1يلحظ أن المادة ( )1248من المجلة اقتصرت على السباب الولى للتملك .ولكن من الضروري
إضافة سبب رابع وهو التولد من المملوك إذ هو سبب مستقل عن تلك السباب.
( )2حدده الفقهاء بـ 33سنة ،وحددته المجلة ( م ) 1662 ،1661في الحقوق الخاصة بـ 15سنة
وفي الراضي الميرية بـ 10سنوات ،وفي الوقاف وأموال بيت المال بـ 36سنة.
( )3انظر بحث الحيازة والتقادم في الفقه السلمي للدكتور محمد عبد الجواد :ص 50-18
ومابعدها 150 ،108 ،60 ،ومابعدها ،ومراجعه مثل المدونة ،23/13 :وتبصرة الحكام على هامش
فتح العلي المالك 362/2 :ومابعدها.
( )4/425
( )4/426
والصيد من أسباب الملكية ،لكن يشترط في الستيلء الحكمي ل الستيلء الحقيقي قصد التملك عملً
بقاعدة ( المور بمقاصدها ) .فمن نصب شبكة فتعلق بهاصيد ،فإن كان قد نصبها للجفاف ،فالصيد
لمن سبقت يده إليه ،لن نيته لم تتجه إليه .وإن كان قد نصبها للصيد ،ملكه صاحبها ،وإن أخذه غيره
كان متعديا غاصبا .ولو أفرخ طائر في أرض إنسان كان لمن سبقت إليه يده إل إذا كان صاحب
الرض هيأها لذلك.
وإذا دخل طائر في دار إنسان ،فأغلق صاحبها الباب لخذه ،ملكه .وإن أغلقه صدفة ،لم يملكه .وهكذا
لو وقع الصيد في حفرة أو ساقية ،المعوّل في تملكه على نية صيده ،وإل فلمن سبقت إليه يده.
ثالثا ـ الستيلء على الكل والجام :
الكل :هو الحشيش الذي ينبت في الرض بغير زرع ،لرعي البهائم.
والجام :الشجار الكثيفة في الغابات أو الرض غير المملوكة.
وحكم الكل :أل يملك ،وإن نبت في أرض مملوكة ،بل هو مباح للناس جميعا ،لهم أخذه ورعيه،
وليس لصاحب الرض منعهم من ذلك؛ لنه باق على الباحة الصلية ،وهو الراجح في المذاهب
الربعة ،لعموم حديث« :الناس شركاء في ثلثة :الماء والكل والنار» (. )1
وأما الجام فهي من الموال المباحة إن كانت في أرض غير مملوكة .فلكل واحد حق الستيلء
عليها ،وأخذ ما يحتاجه منها ،وليس لحد منع الناس منها ،وإذا استولى شخص على شيء منها
وأحرزه صار ملكا له .لكن للدولة تقييد المباح بمنع قطع الشجار ،رعاية للمصلحة العامة ،وإبقاء
على الثروة الشجرية المفيدة.
( )4/427
أما إن كانت في أرض مملوكة فل تكون مالً مباحا ،بل هي ملك لصاحب الرض ،فليس لحد أن
يأخذ منها شيئا إل بإذنه؛ لن الرض تقصد لجامها ،بخلف الكل ،ل تقصد الرض لما فيها من
الكل.
رابعا ـ الستيلء على المعادن والكنوز :
المعادن :ما يوجد في باطن الرض من أصل الخِلقة والطبيعة ،كالذهب والفضة والنحاس والحديد
والرصاص ونحوها.
والكنز :ما دفنه الناس وأودعوه في باطن الرض من الموال ،سواء في الجاهلية أو في السلم.
والمعدن والكنز يشملها عند الحنفية كلمة ( الركاز ) :وهو ما ركز في باطن الرض ،سواء أكان
خلق ال كفلزات الحديد والنحاس وغيرها ،أم كان بصنع الناس كالموال التي يدفنها الناس فيها.
وحكمها واحد في الحديث النبوي« :وفي الركاز الخمس» (. )2
وقال المالكية والشافعية :الركاز :دفين الجاهلية .والمعدن :دفين أهل السلم.
حكم المعادن :
اختلف الفقهاء في تملك المعادن بالستيلء عليها ،وفي إيجاب حق فيها للدولة إذا وجدت في أرض
ليست مملوكة.
أما تملك المعادن فللفقهاء فيه رأيان:
قال المالكية في أشهر أقوالهم ( : )3جميع أنواع المعادن ل تملك بالستيلء عليها ،كما ل تملك تبعا
لملكية الرض ،بل هي للدولة يتصرف فيها الحاكم حسبما تقضي المصلحة؛ لن الرض مملوكة
بالفتح السلمي للدولة ،ولن هذا الحكم مما تدعو إليه المصلحة.
وقال الحنفية والشافعية والحنابلة في أرجح الروايتين عندهم ( : )4المعادن تملك
-------------------------------
( )1البدائع 193/6 :ومابعدها ،م 1257من المجلة.
( )2رواه الجماعة عن أبي هريرة ( نيل الوطار.)147/4 :
( )3القوانين الفقهية :ص ،102الشرح الكبير مع الدسوقي 486/1 :ومابعدها.
( )4الدر المختار ورد المحتار 61/1 :ومابعدها ،المهذب ،162/1 :المغني.28/3 :
( )4/428
بملك الرض؛ لن الرض إذا ملكت بجميع أجزائها ،فإن كانت مملوكة لشخص كانت ملكا له ،وإن
كانت في أرض للدولة فهي للدولة ،وإن كانت في أرض غير مملوكة فهي للواجد؛ لنها مباحة تبعا
للرض.
وأما حق الدولة في المعادن فيه رأيان أيضا:
قال الحنفية :في المعادن الخمس؛ لن الركاز عندهم يشمل المعادن والكنوز بمقتضى اللغة ،والباقي
للواجد نفسه .وذلك في المعادن الصلبة القابلة للطرق والسحب كالذهب والفضة والحديد والنحاس
والرصاص .أما المعادن الصلبة التي ل تقبل الطرق والسحب كالماس والياقوت والفحم الحجري،
والمعادن السائلة كالزئبق والنفط ،فل يجب فيها شيء للدولة؛ لن الولى تشبه الحجر والتراب،
والثانية تشبه الماء ،ول يجب في ذلك شيء للدولة.
وقال غير الحنفية :ل يجب في المعادن شيء للدولة ،ل الخمس وغيره ،وإنما يجب فيها الزكاة ،لقول
النبي « :العجماء جبار ،والبئر جبار ،والمعدن جبار ،وفي الركاز الخمس» فأوجب الخمس في
الركاز :وهو دفين أهل الجاهلية ،ولم يوجب في المعدن شيئا؛ لن ( الجبار ) معناه :ل شيء فيه.
وإيجاب الزكاة عندهم هو بعموم أدلة الزكاة.
حكم الكنز :
وأما الكنز فهو ما دفنه الناس ،سواء في الجاهلية أم في السلم .فهو نوعان :إسلمي وجاهلي:
فالسلمي :ما وجد به علمة أو كتابة تدل على أنه دفن بعد ظهور السلم مثل كلمة الشهادة أو
المصحف ،أو آية قرآنية أو اسم خليفة مسلم.
والجاهلي :ما وجد عليه كتابة أو علمة تدل على أنه دفن قبل السلم كنقش صورة صنم أو وثن ،أو
اسم ملك جاهلي ونحو ذلك.
والمشتبه فيه :وهو مالم يتبين بالدليل أنه إسلمي أو جاهلي ،قال فيه متقدمو الحنفية :إنه جاهلي .وقال
متأخروهم :إنه إسلمي لتقادم العهد .وإن وجد كنز مختلط فيه علمات السلم والجاهلية فهو إسلمي
؛ لن الظاهر أنه ملك مسلم ،ولم يعلم زوال ملكه.
( )4/429
والكنز السلمي :يبقى على ملك صاحبه ،فل يملكه واجده ،بل يعد كاللقطة ،فيجب تعريفه والعلن
عنه .فإن وجد صاحبه سلم إليه وإل تصدق به على الفقراء ،ويحل للفقير النتفاع به .هذا رأي
الحنفية (. )1
وأجاز المالكية والشافعية والحنابلة ( )2تملكه والنتفاع به ،ولكن إن ظهر صاحبه بعدئذ وجب
ضمانه.
وأما الكنز الجاهلي :فاتفق أئمة المذاهب على أن خمسه لبيت المال (خزانة الدولة) وأما باقيه وهو
الربعة الخماس ففيها اختلف :فقيل :إنها للواجد مطلقا سواء وجدها في أرض مملوكة أم ل .وقيل:
إنها للواجد في أرض غير مملوكة أوفي أرض ملكها بالحياء .فإن كان في أرض مملوكة فهي لول
مالك لها أو لورثته إن عرفوا ،وإل فهي لبيت المال.
هذا وقد خصص القانون المدني السوري (م ) 830ثلثة أخماس الكنز لمالك العقار الذي وجد فيه
الكنز ،وخمسه لمكتشفه ،والخمس الخير لخزينة الدولة.
-------------------------------
( )1فتح القدير ،307/3 :البدائع ،202/6 :المبسوط 4/11 :ومابعدها ،الدر المختار.351/3 :
( )2بداية المجتهد ،301/2 :الشرح الكبير مع الدسوقي ،121/4 :المهذب ،430/1 :مغني المحتاج:
،415/2المغني636/5 :
( )4/430
( )4/431
( )4/432
- 4موضوع العقد (أو المقصد الصلي للعقد) نظرية السبب أو (الباعث على العقد) ـ الرادة
الظاهرة والرادة الباطنة في العقود.
المطلب الثالث ـ الرادة العقدية ،ويشتمل على الفروع التالية:
- 1صورية العقد (السكر وما في معناه ،الهزل،الخطأ ،التلجئة ،الكراه ،القصد غير المشروع).
- 2سلطان الرادة العقدية (مدى الحرية في العقود والشروط).
- 3عيوب الرادة أو الرضا.
المبحث الثالث :شروط العقد المبحث الرابع :آثار العقد (حكم العقد ،النفاذ ،اللزام واللزوم)
المبحث الخامس :تصنيف العقود (التقسيمات الخمسة)
المبحث السادس :الخيارات (خيار المجلس ،الشرط ،العيب ،الرؤية ،التعيين ،النقد).
المبحث السابع :انتهاء العقد
وأوضح هذه المباحث على وفق الترتيب المذكور:
المبحث الول ـ تعريف العقد ،والفرق بينه وبين التصرف واللتزام والرادة المنفردة :
تعريف العقد :
العقد في لغة العرب :معناه الربط (أو الحكام والبرام) بين أطراف الشيء ،سواء أكان ربطا حسيا
أم معنويا ،من جانب واحد ،أم من جانبين .جاء في المصباح المنير وغيره :عقد الحبل ،أو البيع ،أو
العهد فانعقد .ويقال :عقد النية والعزم على شيء ،وعقد اليمين ،أي ربط بين الرادة وتنفيذ ما التزم
به .وعقد البيع والزواج والجارة ،أي ارتبط مع شخص آخر.
وهذا المعنى اللغوي داخل في المعنى الصطلحي الفقهي لكلمة العقد .وللعقد عند الفقهاء معنيان :عام
وخاص.
أما المعنى العام :القرب إلى المعنى اللغوي والشائع عند فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة ( )1فهو:
كل ما عزم المرء على فعله ،سواء صدر بإرادة منفردة
-------------------------------
( )1انظر نظرية العقد لبن تيمية :ص .78 ،21-18ومن هذا الرأي أبو بكر الرازي الجصاص في
كتابه أحكام القرآن 294/2 :ومابعدها.
( )4/433
كالوقف والبراء والطلق واليمين ،أم احتاج إلى إرادتين في إنشائه كالبيع واليجار والتوكيل
والرهن ،أي أن هذا المعنى يتناول اللتزام مطلقا ،سواء من شخص واحد أو من شخصين ،ويشمل
حينئذ ما يسمى في المعنى الضيق أو الخاص عقدا ،كما يشمل ما يسمى تصرفا أو التزاما .فالعقد
بالمعنى العام ينتظم جميع اللتزامات الشرعية ،وهو بهذا المعنى يرادف كلمة اللتزام.
وأما المعنى الخاص الذي يراد هنا حين الكلم عن نظرية العقد فهو :ارتباط إيجاب بقبول على وجه
مشروع يثبت أثره في محله ( . )1أو بعبارة أخرى :تعلق كلم أحد العاقدين بالخر شرعا على وجه
يظهر أثره في المحل ( . )2وهذا التعريف هو الغالب الشائع في عبارات الفقهاء.
فإذا قال شخص لخر :بعتك الكتاب ،فهو اليجاب ،وقال الخر :اشتريت ،فهو القبول ،ومتى ارتبط
القبول باليجاب ،وكانا صادرين من ذوي أهلية معتبرة شرعا ،ثبت أثر البيع في محله (وهو الكتاب
هنا) :وهو انتقال ملكية المبيع للمشتري ،واستحقاق البائع الثمن في ذمة المشتري.
واليجاب أو القبول :هو الفعل الدال على الرضا بالتعاقد .والتقييد بكونه (على وجه مشروع )
لخراج الرتباط على وجه غير مشروع ،كالتفاق على قتل فلن ،أو إتلف محصوله الزراعي ،أو
سرقة ماله ،أو الزواج بالقارب المحارم ،فكل ذلك غير مشروع ل أثر له في محل العقد .والتقييد
بكونه ( يثبت أثره في محله ) لخراج الرتباط بين كلمين ل أثر له ،كالتفاق على بيع كل شريك
حصته من دار أو أرض لصاحبه بالحصة الخرى المساوية لها ،فهذا ل فائدة منه ول أثر له.
-------------------------------
( )1المادة 104 ،103من مجلة الحكام العدلية ،رد المحتار لبن عابدين ،355/2 :ط الميرية.
( )2العناية بهامش فتح القدير.74/5 :
( )4/434
والعقد قانونا يلتقي مع هذا التعريف الثاني عند الفقهاء :وهو «توافق إرادتين على إحداث أثر قانوني
من إنشاء التزام أو نقله ،أو تعديله أو إنهائه» ( )1فإنشاء اللتزام كالبيع والجارة ،ونقله كالحوالة،
وتعديله كتأجيل الدين ،وإنهاؤه كالبراء من الدين ،وفسخ الجارة قبل أوانها ،فالتعريفان متقاربان.
وهذا التعريف وإن كان واضحا سهلً ،إل أن تعريف الفقهاء في نظر الشرعيين أدق؛ لن العقد ليس
هو اتفاق الرادتين ذاته ،وإنما هو الرتباط الذي يقره الشرع ،فقد يحدث التفاق بين الرادتين،
ويكون العقد باطلً لعدم توافر الشروط المطلوبة شرعا ،فالتعريف القانوني يشمل العقد الباطل.
ثم إن مجرد توافق الرادتين بدون واسطة للتعبير عنهما من كلم أو إشارة أو فعل ل يدل على وجود
العقد ،وتظل الرادة حينئذ أمرا خفيا غير معروف .وبذلك يشمل التعريف القانوني الوعد بالعقد مع
أنه ليس بعقد (. )2
والعقد في القانون المدني أحد أنواع التفاق ،فليس كل اتفاق عقدا ،وإنما يتخصص العقد بما يمثل
التعارض بين مصلحتين ،وبما ينصب على محل وقتي يستنفد وينتهي بالتنفيذ مرة واحدة ،فالتفاق
على إنشاء منظمة ل يعتبر عقدا ،لنه ل يمثل تعارضا في المصالح ،ولن محل العقد هو وضع دائم
مستمر ،وليس وضعا وقتيا يستنفد مرة واحدة.
أما العقد في الفقه السلمي فل يعرف هذا التخصيص ،فالزواج عقد ،والسلم عقد ،والذمة عقد،مع
أنها نظم دائمة ،وقد ل تقوم على تحكيم المصلحة
-------------------------------
( )1الوسيط للدكتور السنهوري :ص ،138النظرية العامة لللتزام للدكتور عبد الحي حجازي :ص
35ومابعدها.
( )2المدخل الفقهي للستاذ الزرقاء :ف ،134المدخل للستاذ مصطفى شلبي :ص .315الشخصية.
( )4/435
والعقد في السلم :هو دائما انضمام لنظام موجود من قبل ،هو النظام النوعي للعقد المبرم الذي
وضعه الشرع ليسير عليه الناس .وما على الفراد إل التقيد التام بأحكام الشرع التي نظم العقود
عليها .والخلصة :أن العقد في القانون أداة لدراك مصلحة ذاتية شخصية لكل من المتعاقدين ،وأما
في السلم فهومعد لدراك مقاصد شرعية عامة.
العقد واللتزام :
اللتزام :هو كل تصرف يتضمن إنشاء حق أو نقله أو تعديله أو إنهاءه سواء أكان صادرا من شخص
واحد كالوقف والبراء والطلق على غير مال ،أم من شخصين كالبيع والجارة والطلق على مال.
فاللتزام يرادف كلمة العقد بالمعنى العام الذي ذكر ،ويختلف عن كلمة العقد بالمعنى الخاص ،فالعقد
مقصور على نوع خاص من اللتزام وهو ماكان صادرا من شخصين كالبيع واليجار والرهن
ونحوه ،واللتزام من ذلك فيشمل ما صدر من شخص واحد كالوقف والنذر واليمين ونحوه ،كما يشمل
ما صدر من شخصين أو وجد بإرادتين مزدوجتين كالبيع والجارة.
العقد والتصرف :
التصرف :هو كل ماصدر عن الشخص بإرادته من قول أو فعل ،يرتب عليه الشرع أثرا من الثار،
سواء أكان في صالح ذلك الشخص أم ل .فيشمل القوال الصادرة عن الشخص كالبيع والهبة والوقف
والقرار بحق ،والفعال كإحراز المباحات والستهلك والنتفاع ،سواء أكان القول أو الفعل لصالح
الشخص كالبيع والصطياد ،أم لغير صالحه كالوقف والوصية ،والسرقة والقتل .وبه يتبين أن
التصرف نوعان :فعلي وقولي.
أما التصرف الفعلي :فهو الواقعة المادية الصادرة عن الشخص كالغصب والتلف وقبض الدين
وتسلم المبيع.
أما التصرف القولي فهو نوعان :عقدي وغير عقدي .أما العقدي فهو اتفاق إرادتين كالشركة والبيع،
وغير العقدي قد يكون مجرد إخبار بحق كالدعوى والقرار ،وقد يقصد به إنشاء حق أو إنهاءه
كالوقف والطلق والبراء.
( )4/436
وعلى هذا فإن التصرف أعم من العقد واللتزام إذ أنه يشمل القوال والفعال ،وينتظم اللتزام وغير
اللتزام ،وقد يكون التصرف القولي غير داخل في معنى العقد ولو بمعناه الواسع أو العام كالدعوى
والقرار.
والخلصة :أن التصرف أعم من العقد واللتزام .والعقد بالمعنى العام واللتزام مترادفان متساويان،
واللتزام أعم من العقد بالمعنى الخاص ،والعقد بمعناه الخاص نوع من اللتزام ،وأخص من كلمة
تصرف .فكل عقد هو تصرف ،وليس كل تصرف عقدا.
العقد والرادة المنفردة :
قد تستقل الرادة الواحدة بإنشاء التزام ،كما قد تنشئ أحيانا عقدا من العقود في أحوال استثنائية ،عملً
بالنزعة الموضوعية لللتزام أو بالمذهب المادي الذي نلحظه في الفقه السلمي ،والذي يعد اللتزام
فيه علقة مالية أكثر منه علقة شخصية بين طرفين :دائن ومدين.
واللتزام بإرادة واحدة :معناه التعهد بشيء يصبح به المتعهد مدينا لخر غير موجود حين إنشاء
اللتزام كالوعد بالمكافأة أو بالجائزة للمتفوقين من الناجحين ،أو لمن يصنع دواء لعلج مرض معين
مثلً.
وأمثلة اللتزام بإرادة واحدة في الفقه السلمي كثيرة منها:
- 1الجعالة :هي التزام جعل ( )1أو أجر معين لمن يقوم بعمل معين ،بدون تحديد أمد معين ،وهي
عقد جائز غير لزم كتقديم مكافأة لمن يرد متاعا ضائعا ،أو يبني حائطا أو يحفر بئرا يصل إلى
الماء ،أو ينجح نجاحا متفوقا في امتحان ،أو يحقق نصرا حربيا على العدو ،أو يشفي مرضا معينا ،أو
يبتكر علجا ناجعا ،أو يخترع اختراعا صناعيا ،أو يحفظ القرآن الكريم.
وقد أجازها جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة ( )2عملً بقصة يوسف عليه ا لسلم مع
إخوته{ :قالوا :نفقد صُواع ( )3الملك ،ولمن جاء به حمل بعير ،وأنا به زعيم} [يوسف،]12/72:
ويؤيده قوله عليه الصلة والسلم يوم حُنين« :من قتل قتيلً فله سلبه» (. )4
ولم يجزها الحنفية ( ، )5لما فيها من الغرر والخطر أي الجهالة والحتمال بالنسبة للملتزم وبالنسبة
للقائم بالعمل الذي ل يدري ما يحتاجه من مجهود لنجاز العمل.
-------------------------------
جعْل :ما يجعل للنسان من شيء على فعل كأجر العامل ومكافأة المحارب على عمل حربي
( )1ال ُ
رائع.
( )2بداية المجتهد 232/2 :ومابعدها ،الشرح الصغير للدردير 79/4 :ومابعدها ،القوانين الفقهية :ص
275ومابعدها ،مغني المحتاج 429/2 :ومابعدها ،المغني 507/5 :ومابعدها ،غاية المنتهى.284/2 :
( )3الصواع :المكيال الذي يكال به.
( )4السلب :ما يكون مع القتيل من متاع أو مال أو سلح أو خيل .والحديث رواه أحمد وأبو داود عن
أنس بلفظ« :من قتل رجلً فله سلبه» (نيل الوطار.)262/7 :
( )5البدائع.206/6 :
( )4/437
والقانون المدني السوري في المادة ( )163نظم الوعد بجائزة :وهو تخصيص أجر لشخص لن يتعين
إل بتنفيذ الداء الذي حدده الواعد .وأجاز الرجوع عنه إذا لم يعين الواعد أجلً للقيام بالعمل.
- 2الوقف :هو حبس المال عن التصرف ،وتخصيص ريعه لجهة بر ،تقربا إلى ال تعالى ،كالوقف
على دور العلم وجهات الخير كالمشافي والمدارس والمصانع الحربية ،والوقف لفلن ،ثم على جهة
خير معينة .وينعقد الوقف بإرادة الواقف وحده ،فإن كان على شخص فله حق الرد ،فيصرف إلى
جهة الخير أو البر التي عينها الواقف.
- 3البراء :إسقاط شخص ماله من حق لدى شخص آخر ،كإسقاط الدائن دينه المستقر في ذمة
مدينه .يتم بدون حاجة لقبول المدين ،إل أنه يرتد برده في مجلس البراء ،لما فيه من معنى التمليك
(أي تمليك الدين للمدين) ،دفعا للمِنّة والجميل الذي يصنعه الدائن له ،والنسان ل يملّك شيئا جبرا
عنه .فهو من قبيل السقاطات عند جمهور الفقهاء غير المالكية.
قال المالكية على ما هو راجح عندهم :يحتاج البراء إلى قبول المبرأ؛ لنه من قبيل التمليكات التي
يشترط فيها القبول كالهبة والصدقة.
( )4/438
- 4الوصية :تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع ،سواء أكان المملك عينا أم منفعة،
كالوصية بمبلغ من المال أو بمنفعة دار لفلن أو لجهة خير بعد وفاة الموصي ،فهي عقد يتم بإرادة
واحدة هي إرادة الموصي ،وتتحقق بإيجابه (أو عبارته أو كتابته أو إشارته المفهمة) فيكون ركن
الوصية هو اليجاب من الموصي فقط ،إل أنها ترتد بالرد عند الحنفية ( )1؛ لنه ليس له إلزامه على
قبولها.
واتفق الفقهاء على أن الوصية من العقود الجائزة غير اللزمة أي أن للموصي أن يرجع فيما أوصى
به.
فاليجاب بالوصية هو ركن الوصية .وأما القبول من الموصى له بعد وفاة الموصي فليس بركن
للوصية ،ولكنه على الراجح عند فقهاء المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة ( )2شرط للزوم الوصية
ودخول الموصى به في ملك الموصى له من بعد الموت .فالحقيقة الشرعية للوصية عندهم تكون
باليجاب من الموصي فقط ،ول تتوقف على قبول الموصى له .وتنفذ الوصية من ثلث التركة ،ول
وصية جائزة للوارث إل بإجازة الورثة ،كما ل تجوز الوصية لغير الوارث بما زاد عن ثلث التركة
إل بموافقة الورثة.
- 5اليمين :عقد قوي به عزم الحالف على الفعل أو الترك ( ، )3مثل وال لكرمنّ جاري ،أو
لعلمنّ هذا اليتيم على نفقتي ،فيجب عليه ديانةً الوفاء بيمينه ،فإن لم يوفّ به ،حنث في يمينه ولزمته
كفارة اليمين.
-------------------------------
( )1اللباب شرح الكتاب ،170/4 :تبيين الحقائق للزيلعي ،184 ،182/6 :رد المحتار على الدر
المختار.460/5 :
( )2بداية المجتهد ،330/2 :الشرح الكبير للدردير ،424/4 :مغني المحتاج ،53/3 :غاية المنتهى:
،351/2المغني.25/6 :
( )3فتح القدير ،2/4 :تبيين الحقائق.106/3 :
( )4/439
- 6الكفالة :عند غير الحنفية :ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق أي في
الدين ،فيثبت الدين في ذمتهما معا .واقتصر الحنفية على أن الضم محصور في المطالبة بالدين.
فالكفالة :التزام الكفيل بالدين بأدائه إلى الدائن بدلً من من المدين عند مطالبته .وهي توجد بمجرد
التزام الكفيل بالدين ورضاه به عند المالكية والشافعية والحنابلة وأبي يوسف من الحنفية ( ، )1أي أن
ركن الكفالة هو اليجاب وحده ،وأما القبول من الدائن أو المدين فليس ركنا عند هؤلء .فتكون التزاما
جانب واحد .وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن ( : )2ركن الكفالة :اليجاب من الكفيل ،والقبول من
الدائن.
العقد بإرادة منفردة :
الصل العام في العقود أن يكون العاقد متعددا ،أي أن العقد ينشأ بإيجاب وقبول يعبر كل واحد منهما
عن إرادة صاحبه؛ لن العقد ينشئ آثارا متعارضة وحقوقا أو التزاماتٍ متضادة ،مثل تسليم المبيع
وتسلمه ،والمطالبة بتسليم المبيع وقبض الثمن ،ورد المبيع بالعيب ،وفسخ العقد بالخيارات ،ويستحيل
أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلّما ومتسلما ،طالبا ومطالبا ،مملكا ومتملكا ،مما يوجب
أن يكون العقد من طرفين ،لكل منهما إرادته وعبارته والتزامه ،ل من شخص واحد ليس له إل إرادة
واحدة.
لكن استثناء من هذا الصل يجوز عند بعض الفقهاء إبرام العقد بعاقد واحد في بعض حالت البيع
والزواج.
-------------------------------
( )1الشرح الصغير :للدردير 429/3 :ومابعدها ،مغني المحتاج ،200/2 :المهذب ،340/1 :المغني:
.535/5
( )2فتح القدير ،390/5 :البدائع ،2/6 :الدر المختار ،261/4 :مجمع الضمانات :ص .275
( )4/440
البيع بعاقد واحد :
أجاز الحنفية ما عدا زفر ( )1انعقاد البيع بإرادة شخص واحد متخذا صفتين بالنيابة عن البائع وعن
المشتري ،في حالت نادرة هي شراء الب ،أو وصيه ،أو الجد ،مال الصغير لنفسه ،أو بيع مال
نفسه من الصغير ،وبيع القاضي والرسول عن طرفي العقد؛ لن القاضي ل ترجع إليه حقوق العقد
أي (ل يلتزم بشيء من التزامات العقد كالتسليم ودفع الثمن) ،فكان بمنزلة الرسول ،والرسول بعكس
الوكيل عن الجانبين ل تلزمه حقوق العقد؛ لنه سفير ومعبر عن كلم الصيل ،فجاز لكل من القاضي
والرسول تولي العقد عن الجانبين .ول يجوز ذلك للوكيل من الجانبين.
لكن تعامل الب مع الصغير لنفسه مقيد بأن يكون السعر بمثل قيمة الشيء ،أو بشيء يسير من الغبن
المعتاد حدوثه بين الناس عادة؛ لن الب مفترض فيه كمال الشفقة والرحمة ووفرة الرعاية لمصلحة
الصغير.
وأما وصي الب فمقيد تعامله مع الصغير عند أبي حنيفة وأبي يوسف بأن يكون تصرفه بمال
الصغير لنفسه بمثل القيمة ،أو بما فيه نفع ظاهر (أو خير بيّن) لليتيم ( ، )2لنه مرضي الب،
والظاهر ما رضي به إل لوفور شفقته على الصغير .ولم يجز محمد بن الحسن تصرف الوصي بمال
الصغير لنفسه بمثل القيمة؛ لن التساهل في الب لكمال شفقته بخلف الوصي.
وأجاز الحنابلة أن يتولى عاقد واحد عن الجانبين كالوكيل عن الطرفين عقد البيع ونحوه من عقود
المعاوضات الخرى كالجارة مثلً؛ لن حقوق العقد وآثاره أو التزاماته ترجع عندهم للموكل نفسه
صاحب الشأن .كما أجازوا ذلك أيضا في عقد الزواج ،وفي الدعوى ،فيصح أن يكون الشخص الواحد
ل مصلحة الطرفين ومقيما الحجة أو الدفوع لكل
وكيلً في الدعوى عن المدعي والمدعى عليه ،ممث ً
منهما (. )3
-------------------------------
( )1البدائع ،136/5 ،232/2 :رد المحتار لبن عابدين ،5/4 :فتح القدير ،428/2 :تبيين الحقائق:
.211/6
( )2النفع الظاهر في العقار يكون بشراء الوصي لنفسه من الصغير بضعف القيمة ،ويبيع بنصفها.
وفي المنقول ببيع ما يساوي 15بعشرة ،وشراء ما يساوي عشرة بخمسة عشر.
( )3كشاف القناع ،238/2 :المغني ،109/5 :مطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى للسيوطي
الرحيباني ،464/3 :ط المكتب السلمي بدمشق.
( )4/441
وروي عن المام مالك أن للوكيل والوصي أن يشتريا لنفسهما من مال الموكل واليتيم ،إذا لم يحابيا
أنفسهما (. )1
الزواج بعاقد واحد :
أجاز جمهور الحنفية ما عدا زفر للشخص الواحد أن يتولى طرفي عقد الزواج بإيجاب يقوم مقام
القبول في خمس صور (. )2
- 1إذا كان الشخص وليا من الجانبين :كأن يزوج الجد بنت ابنه الصغيرة لبن ابنه الصغير.
- 2إذا كان وكيلً من الجانبين :كأن يقول :زوجت موكلي فلنا موكلتي فلنة.
- 3إذا كان أصيلً من جانب ووليا من جانب آخر ،كأن يتزوج ابن عم بنت عمه الصغيرة التي
تحت وليته ،فيقول أمام الشهود :تزوجت بنت عمي فلنة.
- 4إذا كان أصيلً من جانب ووكيلً من جانب آخر ،كما لو وكلت امرأة رجلً ليزوجها من نفسه.
- 5إذا كان وليا من جانب ووكيلً من جانب ،مثل زوجت بنتي من موكلي .والسبب في مشروعية
انعقاد الزواج في هذه الحوال أن العاقد ليس إل سفيرا عن الصيل ومعبرا عنه ،فل يتحمل شيئا من
التزامات العقد ،والواحد يصلح أن يكون معبرا عن اثنين بصفتين مختلفتين.
-------------------------------
( )1القوانين الفقهية :ص .328
( )2البدائع.137/5 ،231/2 :
( )4/442
وقال الشافعي ( « : )1يجوز الزواج بعاقد واحد إذا كان وليا من الجانبين وذلك في حالة الجد فقط،
له أن يزوج حفيديه ببعضهما ،ويتولى وحده العقد عن الطرفين ،وذلك للضرورة لعدم وجود ولي آخر
من درجته ،ولقوة وليته وشفقته دون سائر الولياء» .
والخلصة :إن العقد بالمعنى الخاص ل يتحقق بإرادة منفردة ،بل ل بد لتحققه من توافق أواجتماع
إرادتين .وأما انعقاد البيع أو الزواج في الحالت السابقة ،وإن اقتصر فيه على شخص واحد ،إل أنه
في الحقيقة يمثل صفتين ،فقامت عبارة الشخص الواحد التي تدل على إرادتين متوافقتين مقام
العبارتين من عاقدين مختلفتين (. )2
وهناك فرق ثان بينهما من ناحية الحكم (أي الثر المترتب على العقد) ،وهو أن العقد يلزم الوفاء به
من العاقد ديانة وقضاء باتفاق الفقهاء ،لقوله تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة]1/5:
وقوله سبحانه{ :وأوفوا بالعهد} [السراء .]34/17:أما الوعد فل يلزم الوفاء به قضاء ،بل الوفاء به
مندوب مطلوب ديانة ومن مكارم الخلق .فلو وعد شخص غيره ببيع أو قرض أو هبة مثلً ل يجبر
على الوفاء بوعده بقوة القضاء ،بل يندب له تنفيذه ديانة؛ لقوله تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون
ما ل تفعلون ،كبُر مقتا عند ال أن تقولوا ما ل تفعلون} [الصف ]3-2/61:وقال النبي صلّى ال عليه
وسلم « :آية المنافق ثلث :إذا حدث كذب ،وإذا وعد أخلف ،وإذا اؤتمن خان» (. )3
هذا هو السائد عند الفقهاء ،لكن توجد آراء قد تكون مخالفة للرأي السائد ،وقد تكون ملطفة أحيانا
بجعل الوعد ملزما قضاء في بعض الحالت.
-------------------------------
( )1نهاية المحتاج 192/5 :ومابعدها.
( )2منع القانون المدني المصري والسوري في المادة 109من تعاقد الشخص مع نفسه ،سواء أكان
التعاقد لحساب نفسه أم لحساب غيره إل إذا رخص الصيل مقدما لنائب في التعاقد مع نفسه ،أو وجد
نص في القانون ،أو قضت قواعد التجارة بجواز ذلك (الوسيط للسنهوري :ص .)202
( )3رواه الشيخان (البخاري ومسلم) والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
( )4/443
قال ابن شبرمة ( : )1يلزم الواعد ويجبر على الوفاء بوعده قضاء .وقال الحنفية :يلزم الوعد إذا
صدر معلقا على شرط منعا لتغرير الموعود .وعبروا عن ذلك بقاعدة فقهية( :المواعيد بصورة
التعاليق تكون لزمة) (م 38مجلة) وقال ابن نجيم« :ل يلزم الوعد إل إذا كان معلقا» مثل أن يقول
شخص لخر :إذا لم يعطك فلن ثمن المبيع ،فأنا أعطيه لك .فيلزمه إعطاؤه حينئذ؛ لن الوعد اكتسى
صفة اللتزام والتعهد.
وقال المالكية ( : )2يلزم الواعد بوعده قضاء إن أدخل الموعود في سبب أو وعده مقرونا بذكر
السبب ،كما قال أصبغ من فقهائهم لتأكد العزم على الدفع حينئذ .مثال الحالة الولى أن يقول لخر:
اهدم دارك وأنا أقرضك ما تبني به الدار ،أو اخرج إلى الحج وأنا أقرضك ،أو اشتر سلعة ،أو تزوج
امرأة وأنا أسلفك ،ففعل الموعود ذلك ،فيجب عليه القراض لنه أدخل الموعود في اللتزام .ومثال
الحالة الثانية عند أصبغ :أن يقول شخص لخر :تزوج أو اشتر ،وأنا أقرضك ،فيلزمه الوفاء بوعده
ولو لم يباشر الموعود فعل الزواج أو الشراء أي سواء تزوج الموعود أو اشترى أم ل ،يلزم الواعد
بما وعد ،دفعا للضرر الحاصل للموعود من تغرير الواعد.
فإن وعده بدون ذكر السبب ،كأن يقول شخص لخر :أسلفني كذا ،فيقول
المخاطب :نعم ،ل يلزمه الوعد .والقوانين الوضعية المدنية تتفق مع رأي ابن شبرمة وبعض المالكية
على أن الوعد بعقد أو بعمل ملزم قانونا.
-------------------------------
( )2هو عبد ال بن شبرمة ،قاضي فقيه من التابعين ولد سنة 72هـ وتوفي سنة 144هـ (تهذيب
التهذيب.)250/5 :
( )2الفروق للقرافي ،25-24/5:المحلى لبن حزم ،33/8 :م.1125/
( )4/444
( )4/446
المطلب الثاني ـ عناصر العقد :
عناصر العقد :هي مقوماته الذاتية التي ينشأ بها العقد ،ول يتحقق إل بوجودها ،وهي أربعة :صيغة
التعاقد ،والعاقدان ،ومحل العقد ،وموضوع العقد.
العنصر الول ـ صيغة العقد :
ل على توجه إرادتهما الباطنة لنشاء العقد وإبرامه.
صيغة العقد :هي ما صدر من المتعاقدين دا ً
وتعرف تلك الرادة الباطنة بواسطة اللفظ أو القول أو ما يقوم مقامه من الفعل أو الشارة أو الكتابة.
وهذه الصيغة هي اليجاب والقبول .وقد اتفقت الشرائع على أن مدار وجود العقد وتحققه هو صدور
ما يدل على التراضي من كل الجانبين بإنشاء التزام بينهما .وهذا هو ما يعرف بصيغة العقد عند
فقهائنا .ويسمى عند القانونيين (التعبير عن الرادة) .والبحث فيها يكون ببيان أساليب الصيغة،
وشروطها.
الفرع الول ـ أساليب صيغة اليجاب والقبول :
التعبير عن الرادة العقدية الجازمة يكون بأي صيغة تدل عرفا أو لغة على إنشاء العقد ،سواء بالقول
أو بالفعل أو بالشارة أو بالكتابة ،وقد نصت على هذه الساليب المادة ( )173و ( )174من المجلة،
كما نصت عليها المادة ( )1/93من القانون المدني السوري.
أولً ـ اللفظ (أو القول ) :
اللفظ :هو الداة الطبيعية الصلية في التعبير عن الرادة الخفية وهو الكثر استعمالً في العقود بين
الناس لسهولته وقوة دللته ووضوحه ،فيلجأ إليه متى كان العاقد قادرا عليه ،وبأي لغة يفهمها
المتعاقدان .ول يشترط فيه عبارة خاصة ،وإنما يصح بكل ما يدل على الرضا المتبادل بحسب أعراف
الناس وعاداتهم؛ لن الصل في العقود هو الرضا ،لقوله تعال{ :إل أن تكون تجارة عن تراض منكم}
[النساء ]29/4:وقوله عليه الصلة والسلم« :إنما البيع عن تراض» .
مادة اللفظ :وعليه فل يشترط في العقود كالبيع واليجار والرهن والهبة ونحوها لفظ معين أو عبارة
مخصوصة ،كأن يقول البائع :بعت بكذا ،أو ملكته لك بكذا ،أو أعطيته لك بكذا ،أو وهبته بثمن كذا.
ويقول المشتري :اشتريت ،أو قبلت ،أو رضيت ،أو خذ الثمن وهات المبيع.
أما عقد الزواج فاختلف الفقهاء في شأن اللفاظ المستعملة فيه ،نظرا لخطورته وقداسته.
( )4/447
فقال الحنفية والمالكية ( : )1يصح انعقاد الزواج بكل لفظ يدل على تمليك العين في الحال ،كالتزويج
والنكاح والتمليك ،والجعل ،والهبة والعطية والصدقة ،بشرط توافر النية أو القرينة الدالة على أن
المراد باللفظ هو الزواج ،وبشرط فهم الشهود للمقصود؛ لن عقد الزواج كغيره من العقود التي تنشأ
بتراضي العاقدين ،فيصح بكل لفظ يدل على تراضيهما وإرادتهما .وقد ورد لفظ ( الهبة ) في القرآن
الكريم دالً على صحة استعماله لبرام الزواج ،كما ورد في السنة النبوية استعمال عبارة ( التمليك ).
أما الوارد في القرآن فقوله تعالى{ :وامرأةً مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد أن يستنكحها خالصة
لك من دون المؤمنين} ( )2الخصوصية للنبي صلّى ال عليه وسلمفيقولهتعالى { خالصة لك}
[الحزاب ]50/33:ليست في انعقاد زواجه بلفظ «الهبة» وإنما في صحة زواجه بغير مهر.
وأما الوارد في السنة فقوله عليه السلم لخاطب من الصحابة يحفظ سورا من القرآن« :ملّكتكها بما
معك من القرآن» (. )3
ول يصح الزواج بلفظ ل يفيد الملك كإجارة وإعارة ووصية ورهن ووديعة ونحوها ،ول باللفاظ
المصحفة مثل تجوزت.
وقال فقهاء الشافعية والحنابلة ( : )4يشترط لصحة عقد الزواج استعمال لفظي «زوج أو نكح» وما
يشتق منهما لمن يفهم اللغة العربية .أما من ل يعرف اللغة العربية فيصح الزواج منه بالعبارة التي
تؤدي الغرض المقصود ،وتفهم هذا المعنى؛ لن عقد الزواج له خطورة لوروده على المرأة وهي
حرة ،وشرع لغراض سامية
-------------------------------
( )1فتح القدير ،346/2 :الدر المختار ورد المحتار لبن عابدين 368/2 :ومابعدها ،القوانين الفقهية:
ص ،195الشرح الكبير للدردير 220/2 :ومابعدها ،بداية المجتهد.168/2 :
( )2الحزاب. 50 :
( )3متفق عليه بين البخاري ومسلم وأحمد (نيل الوطار.)170/6 :
( )4مغني المحتاج ،139/3 :المغني 532/6 :ومابعدها.
( )4/448
منها تكثير النسل وبقاء النوع النساني ،وتكوين السر ،ففيه معنى التعبد ل ،بتكثير عباد ال الذين
يعبدونه ،مما يوجب علينا التزام ما ورد به الشرع ،ولم يرد في القرآن الكريم إل هذان اللفظان فقط
وهما (النكاح والتزويج) وذلك في أكثر من عشرين آية :منها{ :فانكحوا ما طاب لكم من النساء} ()1
[النساء ]4/3ومنها {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها} (. )2
ويمكن أن يكون رأي الحنفية والمالكية أرجح ،لن الزواج كغيره من العقود ،فيصح بكل لفظ ينبئ
عن الرضا والرادة.
صيغة اللفظ أو نوع الفعل :
اتفق الفقهاء على صحة انعقاد العقد بالفعل الماضي ،لن صيغته أدل على المراد وأقرب إلى تحقيق
مقصود وهو إنشاؤها في الحال ،فينعقد بها العقد من غير توقف على شيء آخر كالنية أو القرينة ،وقد
تعارف الناس استعمال هذه الصيغة ( ، )3وأقرهم السلم عليها واستعملها الرسول صلّى ال عليه
وسلم في جميع العقود ،لفادتها تنجيز العقد حالً ودللتها على الرادة الجازمة وحدوث الشيء قطعا
من غيراحتمال معنى آخر ،مثل بعت ،واشتريت ،ورهنت ،ووهبت ،وزوجت ،وأعرت ،وقبلت ،ونحو
ذلك.
واتفق الفقهاء أيضا على النعقاد بصيغة المضارع إذا توافرت نية الحال أو دلت القرينة على إرادة
إنشاء العقد حالً؛ لن المضارع يدل على الحال والستقبال ،ففيه احتمال الوعد والمساومة ،فكان ل
بد من النية لتعيين المراد في الحال ،وإنشاء العقد حالً ،مثل أبيع وأشتري وأزوجك وأقبل وأرضى.
وينعقد العقد بالجملة السمية على الصح ،مثل أنا بائع لك كذا ،أو واهب لك كذا ،فقال آخر :أنا قابل:
أو قال :نعم.
-------------------------------
( )1النساء.3 :
( )2الحزاب.37 :
( )3نصت المادة 168من المجلة على ما يأتي :اليجاب والقبول في البيع عبارة عن كل لفظين
مستعملين لنشاء البيع في عرف البلدة.
( )4/449
واختلف الفقهاء في انعقاد العقد بلفظ المر الذي يعبر به عن المستقبل ،مثل :بعني أو اشتر مني ،أو
آجرني ،أو خذه بكذا.
فقال الحنفية ( : )1إن ماعدا عقد الزواج ل ينعقد عقده بلفظ المر ،ولو نوى ذلك ،ما لم يقل القائل
المر مرة أخرى في المثال السابق :اشتريت ،أو بعت ،أو استأجرت؛ لن لفظ المر مجرد طلب
وتكليف ،فل يكون قبولً ول إيجابا .أو كانت العبارة تنبئ عن إيجاب أو قبول مقدر (مفهوم ضمنا)
يقتضيه المعنى ويستلزمه كأن يقول المشتري :اشتريت منك هذا بكذا ،فقال البائع :خذه ،و ال يبارك
لك ،فكأنه قال :بعتك فخذه (المجلة :م .)172
وأما عقد الزواج فيصح بصيغة المر مثل :زوجيني نفسك ،فقالت :زوجتك ،أو قال الرجل لولي
المرأة أو وكيلها :زوجني فلنة ،فأجاب :زوجتك ،لن لفظ المر للمساومة ،وعقد الزواج يسبق عادة
بالخطبة ،فل يقصد بهذا المر الوعد والمساومة ،وإنما المقصود به إنشاء العقد ،ل مقدمات العقد
وهي الخطبة ،فيحمل على اليجاب والقبول .أما غير الزواج كالبيع مثلً ،فإنه يحصل فجأة بدون
مقدمات غالبا ،فيكون المر فيه مساومة ،عملً بحقيقة لفظ المر ،ويكون المراد به العدة أو المساومة،
ول يعدل عن المعنى الحقيقي للفظ إلى شيء آخر إل بدليل ،ولم يوجد الدليل في البيع ،بخلف
الزواج ،كما تقدم.
-------------------------------
( )1البدائع 133/5 :ومابعدها ،فتح القدير مع العناية 75/5 :وما بعدها ،حاشية ابن عابدين 9/4 :وما
بعدها ،المجلة :م .172-169
( )4/450
وقال جمهور الفقهاء غير الحنفية ( : )1ينعقد العقد بلفظ المر بدون حاجة للفظ ثالث من المر ،سواء
أكان بيعا أم زواجا؛ لن أساس العقد هو التراضي ،وقد جرى العرف على استعمال صيغة المر في
إنشاء العقود كالماضي والمضارع ،فينعقد بها العقد ،ويكون المر أو المستدعي عاقدا فعلً :بائعا أو
مشتريا مثلً ،وهذا الرأي هو الرجح لما فيه من تحقيق مصالح الناس ومراعاة أعرافهم وعاداتهم
دون مصادمة النصوص الشرعية.
واتفق الفقهاء على عدم انعقاد العقد بصيغة الستقبال :وهي صيغة المضارع المقرون بالسين أو
سوف مثل :سأبيعك؛ لن ذكر السين يدل على إرادة العقد في المستقبل ،فهو وعد بالعقد وليس عقدا،
أي أنه يدل على عدم إرادة الحال ،فل ينعقد بها العقد ،حتى ولو نوى بها العاقد اليجاب والقبول.
كذلك ل ينعقد العقد بصيغة الستفهام ،لدللتها على المستقبل ،لنها سؤال الىجاب والقبول ،وليست
إيجابا ول قبولً ،كأن يقول المشتري :أتبيع مني هذا الشيء؟ فقال البائع :بعت ،ل ينعقد العقد إل إذا
انضم لذلك لفظ ثالث يقوله المشتري مرة أخرى :اشتريت؛ لن لفظ الستفهام ل يستعمل للحال حقيقة.
ثانيا ـ التعاقد بالفعال (العقد بالمعاطاة ) :
قد ينعقد العقد بدون قول أو لفظ ،وإنما بفعل يصدر من المتعاقدين ويسمى في الفقه بالمعاطاة أو
التعاطي أو المراوضة :وهو التعاقد بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي دون تلفظ بإيجاب أو قبول (
. )2
-------------------------------
( )1مواهب الجليل للحطاب ،240-228/4 :حاشية الدسوقي 3/3 :ومابعدها ،بداية المجتهد،168/2 :
مغني المحتاج ،5-4/2 :المغني.560/3 :
( )2نصت المادة 175من المجلة على ما يأتي« :حيث إن المقصد الصلي من اليجاب والقبول هو
تراضي الطرفين ،فينعقد البيع بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي ،ويسمى هذا بيع التعاطي»
وذكرت المادة أمثلة لذلك.
( )4/451
مثل أن يأخذ المشتري المبيع ،ويدفع للبائع الثمن ،أو يدفع البائع المبيع ،فيدفع له الخر ثمنه من غير
تكلم ول إشارة ،سواء أكان المبيع حقيرا أم نفيسا.
ففي البيع لو وجد الرجل سلعة مسعرة كتب عليها الثمن كساعة أو حلي ،فناول الثمن للبائع وأخد
السلعة دون إيجاب وقبول لفظيين ،انعقد البيع لدللته على التراضي في عرف الناس .كذلك ينعقد لو
اقتصر المشتري على دفع عربون؛ لنه جزء من الثمن.
وفي الجارة :لو ركب النسان سيارة من وسائل النقل ،ثم دفع ثمن التذكرة إلى الجابي دون كلم
متبادل صح اليجار عرفا.
لكن الفقهاء اختلفوا في التعاقد بالتعاطي في العقود المالية على أقوال ثلثة:
الول ـ مذهب الحنفية ( )1والحنابلة ( : )2ينعقد العقد بالتعاطي فيما تعارفه الناس ،سواء أكان
الشيء يسيرا كالبيضة والرغيف والجريدة أم نفيسا (كثير الثمن) كالدار والرض والسيارة؛ لن
تعارف الناس دليل ظاهر على التراضي ،سواء تمت المبادلة الفعلية من الجانبين ،أو من جانب واحد
ومن الخر اللفظ على الصح المفتى به ،وسواء في ذلك البيع والجارة والعارة والهبة والرجعة.
وذلك بشرط أن يكون ثمن المعقود عليه معلوما تماما ،وإل فسد العقد ،وأل يصرح العاقد مع التعاطي
بعدم الرضا بالعقد.
والقانون المدني السوري يتفق مع هذا الرأي ،كما جاء في المادة (. )1/93
-------------------------------
( )1البدائع ،134/5 :فتح القدير ،77/5 :الدر المختار ورد المحتار 11/4 :ومابعدها.
( )2غاية المنتهى.5/2 :
( )4/452
الثاني ـ مذهب مالك وأصل مذهب أحمد ( : )1ينعقد العقد بالفعل أو بالتعاطي متى كان واضح
الدللة على الرضا ،سواء تعارفه الناس أم ل ،وهذا الرأي أوسع من سابقه وأيسر على الناس ،فكل ما
يدل على البيع أو الجارة ،أو الشركة أو الوكالة وسائر العقود الخرى ما عدا الزواج ينعقد العقد به؛
لن المعول عليه وجود ما يدل على إرادة المتعاقدين من إنشاء العقد وإبرامه والرضا به ،وقد تعامل
الناس به من عصر النبوة فما بعده .ولم ينقل عن النبي صلّى ال عليه وسلم وأصحابه القتصار على
اليجاب والقبول ،ول إنكار التعاطي ،فكانت القرينة كافية على الدللة على الرضا.
الثالث ـ مذهب الشافعية والشيعة والظاهرية ( : )2ل تنعقد العقود بالفعال أو بالمعاطاة لعدم قوة
دللتها على التعاقد؛ لن الرضا أمر خفي ،ل دليل عليه إل باللفظ ،وأما الفعل فقد يحتمل غير المراد
من العقد ،فل يعقد به العقد ،وإنما يشترط أن يقع العقد باللفاظ الصريحة أو الكنائية ،أو ما يقوم
مقامها عند الحاجة كالشارة المفهمة أو الكتابة.
ونظرا لما يشتمل عليه هذا المذهب من تشدد وشكلية محدودة ومجافاة لمبدأ المرونة والسماحة
واليسر ،فقد اختار جماعة من الشافعية منهم النووي والبغوي والمتولي ،صحة انعقاد بيع المعاطاة في
كل ما يعده الناس بيعا ،لنه لم يثبت اشتراط لفظ ،فيرجع للعرف كسائر اللفاظ المطلقة،
-------------------------------
( )1مواهب الجليل 228/4 :ومابعدها ،الشرح الكبير ،3/3 :بداية المجتهد ،161/2 :المغني،561/3 :
فتاوى ابن تيمية 267/3 :ومابعدها.
( )2مغني المحتاج 3/2 :ومابعدها ،المهذب ،257/1 :المختصر النافع في فقه المامية :ص ،142
المحلى لبن حزم ،404/8 :المهذب.257/1 :
( )4/453
وبعض الشافعية كابن سريج والرّوياني خصص جواز بيع المعاطاة بالمحقّرات أي غير النفيسة :هي
ما جرت العادة فيها بالمعاطاة كرطل خبز ،أو رغيف ،وحزمة بقل ونحوها (. )1
عقد الزواج :وبغض النظر عن الختلف السابق في التعاقد بالمعاطاة ،أجمع الفقهاء على أن الزواج
ل ينعقد بالفعل ،كإعطاء المهر مثلً ،بل ل بد من القول للقادر عليه؛ لن عقد الزواج خطير مقدس له
آثار دائمة على المرأة ،فكان ل بد من الحتياط له ،وإتمامه بأقوى الدللت على الرادة :وهو القول،
حفاظاَ على كرامة المرأة ومستقبلها ،وصونا لها عن البتذال ،ولن عقد الزواج يتطلب الشهاد عليه،
تمييزا له عن السفاح أو الزنا ،ول يتمكن الشهود من معرفة عقد الزواج إل بسماع لفظ اليجاب
والقبول (. )2
وكالزواج عند المام الشافعي :الطلق والخلع والرجعة ،ل تجوز إل بالقول.
ثالثا ـ التعاقد بالشارة :
الشارة إما من الناطق أو من الخرس.
أ ـ إذا كان العاقد قادرا على النطق فل ينعقد بإشارته ،بل عليه أن يعبر عن إرادته بلسانه لفظا أو
كتابة؛ لن الشارة وإن دلت على الرادة ل تفيد اليقين المستفاد من اللفظ أو الكتابة ،فل بد من
العبارة ،وإل لم ينشأ العقد عند الحنفية والشافعية (. )3
-------------------------------
( )1سيأتي بحثه في عقد البيع.
( )2الدر المختار 364/2 :وتنص المادة 5من قانون الحوال الشخصية السوري على ما يأتي:
«ينعقد الزواج بإيجاب من أحد العاقدين ،وقبول من الخر» والمادة 6تنص« :يكون اليجاب والقبول
في الزواج باللفاظ التي تفيد معناه لغة أو عرفا» .
( )3البدائع ،135/5 :حاشية ابن عابدين ، 9/4 :نهاية المحتاج.11/3 :
( )4/454
لكن القانون المدني السوري وغيره في المادة )1/93أجاز انعقاد العقد بالشارة المتداولة عرفا ،ولو
كانت من الناطق ،إذ لم يقيدها بالخرس .وهذا يتفق مع مذهب المالكية والحنابلة ( )1الذين يجيزون
التعبير عن الرادة من الناطق بالشارة المفهمة ،لنها أولى في الدللة من الفعل الذي ينعقد به العقد،
كما تقدم في المعاطاة.
ب ـ وأما العاقد العاجز عن النطق كالخرس ومعتقل اللسان ،فإن كان يحسن الكتابة فل بد منها على
الرواية الراجحة عند الحنفية؛ لن الكتابة أبلغ في الدللة وأبعد عن الحتمال من الشارة ،فيلجأ إليها.
وإن كان ل يحسن الكتابة ،وله إشارة مفهمة ،فتقوم مقام النطق باللسان باتفاق الفقهاء للضرورة ،حتى
ليحرم من حق التعاقد ،وعليه نصت القاعدة الفقهية ( :الشارات المعهودة للخرس كالبيان باللسان )
(م 70.من المجلة) .هذا إذا كان الخرس أصليا ،بأن ولد أخرس ،فأما إذا كان عارضا بأن طرأ عليه
الخرس ،فل تعتبر إشارته إل إذا دام به الخرس حتى وقع اليأس من كلمه ،وصارت الشارة
مفهومة ،فيلحق بالخرس الصلي.
رابعا ـ التعاقد بالكتابة :
يصح التعاقد بالكتابة بين طرفين ،ناطقين أو عاجزين عن النطق ،حاضرين في مجلس واحد ،أو
غائبين ،وبأي لغة يفهمها المتعاقدان ،بشرط أن تكون الكتابة مستبينة (بأن تبقى صورتها بعد النتهاء
منها) ومرسومة (مسطرة بالطريقة المعتادة بين الناس بذكر المرسل إليه وتوقيع المرسل) ،فإذا كانت
غير مستبينة كالرقم أو الكتابة على الماء أو في الهواء ،أو غير مرسومة كالرسالة الخالية من التوقيع
مثلً ،لم ينعقد بها العقد ،وعليه نصت القاعدة الفقهية:
-------------------------------
( )1الشرح الكبير ،3/3 :المغني.562/5 :
( )4/455
( )4/456
و اشترط الفقهاء لنعقاد العقد شروطا ثلثة في اليجاب والقبول هي (: )1
- 1وضوح دللة اليجاب والقبول ،أي أن يكون كل من اليجاب والقبول واضح الدللة على مراد
العاقدين ،بأن تكون مادة اللفظ المستعمل لهما في كل عقد تدل لغة أو عرفا على نوع العقد المقصود
للعاقدين؛ لن الرادة الباطنة خفية ،ولن العقود يختلف بعضها عن بعض في موضوعها وأحكامها،
فإذا لم يعرف بيقين أن العاقدين قصدا عقدا بعينه ل يمكن إلزامهما بأحكامه الخاصة به.
ول يشترط لهذه الدللة لفظ أو شكل معين ،فإن الشكلية في غير عقد الزواج والعقود العينية كالهبة
والرهن غير مطلوبة فقها؛ لن العبرة في العقود للمعاني ،ل لللفاظـ والمباني ،فيصح البيع بلفظ
الهبة بعوض ،وينعقد الزواج بلفظـ الهبة إذا اقترن بالمهر.
- 2تطابق القبول واليجاب :بأن يكون القبول موافقا لليجاب ،بأن يرد على كل ما أوجبه الموجب
وبما أوجبه ،أي على كل محل العقد ،ومقدار العوض في عقود المعاوضات ،سواء أكانت الموافقة
حقيقية ،كما لو قال البائع :بعتك الشيء بعشرة ،فيقول المشتري :اشتريته بعشرة ،أو ضمنية ،كما لو
قال المشتري في المثال السابق :اشتريته بخمس عشرة .أو أن تقول المرأة :زوجتك نفسي بمئة،
فيقول الزوج :قبلت الزواج بمئة وخمسين ،فالتوافق متحقق ضمنا ،وهذه المخالفة خير للموجب .لكن
العقد ل يلزم إل بالمقدار الذي وجهه الموجب أي مئة في المثال الخير ،وأما الزيادة فموقوفة على
قبول الموجب في مجلس العقد ،فإن قبل به الموجب لزم القابل؛لن المال ل يدخل في ملك إنسان بغير
اختياره إل في الميراث.
-------------------------------
( )1البدائع 136/5 :ومابعدها ،حاشية ابن عابدين ،5/4 :فتح القدير ،80/5 :أحكام المعاملت
الشرعية للشيخ علي الخفيف :ص 69ومابعدها ،مغني المحتاج 5/2 :ومابعدها ،حاشية الدسوقي:
،5/3غاية المنتهى ،4/2 :نهاية المحتاج.10-8/3 :
( )4/457
فإن لم يتطابق القبول مع اليجاب ،وحدثت مخالفة بينهما ،ل ينعقد العقد ،كأن خالف القابل في محل
العقد ،فقبل غيره ،أو بعضه ،مثل قول البائع :بعتك الرض الفلنية ،فيقول المشتري :قبلت شراء
الرض المجاورة لها ،أو قبلت شراء نصفها بنصف الثمن المتفق عليه ،فل ينعقد العقد لمخالفته محل
العقد ،أو لتفرق الصفقة على البائع ،والمشتري ل يملك تفريقها أي تجزئتها.
وإذا خالف في مقدار الثمن ،فقبل بأقل مما ذكر البائع ،ل ينعقد العقد أيضا ،وكذا لو خالف في وصف
الثمن ل في قدره ،كأن أوجب البائع بثمن حال نقدي ،فقبل المشتري بثمن مؤجل ،أو أوجب بأجل إلى
شهر معين ،فقبل المشتري بأجل أبعد منه ،لم ينعقد البيع في الحالتين ،لعدم تطابق القبول مع اليجاب،
وحينئذ لبد من إيجاب جديد.
ويختلف القانون المدني مع الفقه الحنفي في حالة المخالفة إلى خيرللموجب ،إذ يقرر القانونيون ()1
أن العقد ل يتم ،كما يفهم من صريح المادة ( )97مدني سوري «إذا اقترن القبول بما يزيد في
اليجاب أو يقيد منه أو يعدل فيه ،اعتبر رفضا يتضمن إيجابا جديدا» لكن يتفق ذلك مع ظاهر مذهب
الشافعي (. )2
- 3اتصال القبول باليجاب :بأن يكون اليجاب والقبول في مجلس واحد إن كان الطرفان حاضرين
معا ،أو في مجلس علم الطرف الغائب باليجاب.
ويتحقق التصال بأن يعلم كل من الطرفين بما صدر عن الخر بأن يسمع اليجاب ويفهمه ،وبأل
يصدر منه ما يدل على إعراضه عن العقد ،سواء من الموجب أو من القابل.
ومجلس العقد :هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد .وبعبارة أخرى :اتحاد الكلم
في موضوع التعاقد.
ويشترط لتحقيق معنى اتصال القبول باليجاب شروط ثلثة هي (: )3
-------------------------------
( )1الوسيط للسنهوري :ص 219ومابعدها.
( )2مغني المحتاج.6/2 :
( )3الملكية ونظرية العقد للستاذ الشيخ محمد أبو زهرة :ص ،175ط . 1939
( )4/458
أولها ـ أن يكونا في مجلس واحد ،وثانيها ـ أل يصدر من أحد العاقدين ما يدل على إعراضه،
ثالثها ـ أل يرجع الموجب في إيجابه قبل قبول القابل الخر.
الشرط الول ـ أن يتحد مجلس اليجاب والقبول :فل يجوز أن يكون اليجاب في مجلس ،والقبول
في مجلس آخر؛ لن اليجاب ل يعد جزءا من العقد إل إذا التحق به القبول .فلو قال البائع :بعتك
الدار بثمن كذا ،أو آجرتك المنزل بأجرة كذا ،ثم انتقل الموجب إلى مكان آخر بعيد عن مجلسه الول
بحوالي مترين أو ثلثة ،أو إلى غرفة أخرى ،انتهى المجلس الول ،فإذا قبل القابل بعد هذا النتقال لم
ينعقد العقد ،ويحتاج إلى إيجاب جديد؛ لن الىجاب كلم اعتباري ل بقاء له إذا لم ينضم إليه القبول
في حال واحدة من المجلس.
( )4/459
( )4/460
صيغة العقد :هي ماصدر من المتعاقدين دالً على توجه إرادتهما الباطنة لنشاء العقد وإبرامه.
وتعرف تلك الرادة الباطنة بواسطة اللفظ أو القول أو ما يقوم مقامه من الفعل (المعاطاة) أو الشارة
أو الكتابة .وهذه الصيغة هي اليجاب والقبول الدالن على تراضي الجانبين بإنشاء التزام بينهما،
وتسمى الصيغة عند القانونيين التعبير عن الرادة.
والتعبير عن الرادة العقدية الجازمة يكون بأي صيغة تدل عرفا أو لغة على إنشاء العقد،سواء بالقول
أو بالفعل أو بالشارة أو بالكتابة (. )1
والقول أو اللفظ مثل بعت واشتريت ،ورهنت وارتهنت ،ووهبت وقبلت ،وزوجت وتزوجت.
والفعل أو المعاطاة أو المراوضة :هو التعاقد بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي دون تلفظ بإيجاب
أو قبول ( ، )2كأن يأخذ المشتري المبيع ويدفع الثمن للبائع دون كلم من كل الطرفين أو من
أحدهما ،سواء أكان المبيع حقيرا بسيطا أم نفيسا .وهذا جائز عند جمهور العلماء غير الشافعية،
لتعارفه بين الناس ،لكن عقد الزواج بالجماع ل ينعقد ول يصح بالفعل أو بالمعاطاة كإعطاء المهر
مثلً ،بل ل بدّ فيه من النطق باليجاب والقبول ،لخطورته وأهميته ،وتأثيره الدائم على المرأة،
وحفاظا على حرمات العراض المصونة شرعا.
ويجوز انعقاد العقد بإشارة الخرس أو معتقل اللسان المفهومة باتفاق الفقهاء للضرورة ،حتى ل يحرم
من حق التعاقد ،لذا نصت القاعدة الفقهية« :الشارات المعهودة للخرس كالبيان باللسان» (المجلة :م
.)70
-------------------------------
( )1مجلة الحكام العدلية (م .)174 ،173
( )2المجلة (م .)175
( )4/461
وأجاز فقهاء المالكية والحنابلة التعبير عن الرادة من الناطق بالشارة المفهمة المتداولة عرفا ،لنها
أولى في الدللة من الفعل الذي ينعقد به العقد ،كما في المعاطاة (. )1
ويصح التعاقد بالكتابة بين طرفين في رأي الحنفية والمالكية سواء أكانا ناطقين أم عاجزين عن
النطق ،حاضرين في مجلس واحد أم غائبين ،وبأي لغة يفهمها المتعاقدان ،بشرط أن تكون الكتابة
مستبينة (بأن تبقى صورتها بعد النتهاء منها) ومرسومة (مسطرة بالطريقة المعتادة بين الناس بذكر
المرسل إليه وتوقيع المرسل) فإذا كانت غير مستبينة كالكتابة على الماء أو في الهواء ،أو غير
مرسومة كالرسالة الخالية من التوقيع مثلً ،لم ينعقد بها العقد ( ، )2وعليه نصت القاعدة الفقهية:
( الكتاب كالخطاب ) (المجلة :م .)96مثل أن يرسل شخص خطابا لخر يقول فيه ( :بعتك سيارتي
بكذا ) فإذا وصله الكتاب ،وقال في مجلس قراءة الكتاب :قبلت ،انعقد البيع .أما إن ترك المجلس أو
صدر منه ما يدل على العراض عن اليجاب ،كان قبوله غير معتبر.
وإرسال رسول إلى آخر حامل مضمون اليجاب مثل إرسال الكتاب ،ويعتبر مجلس وصول الرسول
هو مجلس العقد ،فيلتزم أن يقبل فيه ،فإن قام من المجلس قبل أن يقبل ،انتهى مفعول اليجاب ،ويكون
المعول عليه هو مجلس بلوغ الرسالة أو الكتابة ،كأن يقول شخص :بعت لفلن كذا ،فاذهب يا فلن
وقل له هذا ،فذهب فأخبره ،فقبل المشتري في مجلسه ذلك ،صح العقد.
ومهمة الرسول أضعف من مهمة الوكيل ،لن الرسول مجرد مفوض بنقل تعبير المرسل دون زيادة
أو نقصان ،أما الوكيل فإنه يتولى إبرام العقد بعبارته ،ول
-------------------------------
( )1الشرح الكبير للدردير ،3/3 :المغني.562/5 :
( )2الدر المختار ورد المحتار لبن عابدين 10/4 :وما بعدها ،فتح القدير ،79/5 :البدائع،137/5 :
الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي.3/3 :
( )4/462
يتقيد في الوكالة المطلقة إل بالمعتاد المتعارف عليه ،أما في الوكالة المقيدة بمكان أو زمان أو شخص
أو محل معقود عليه أو بدل عقدي فيتم التعاقد بين الوكيل والقابل بعبارة الوكيل المقيدة بقيود الوكالة،
وتعود حقوق العقد أي اللتزامات إلى الوكيل بعكس الرسول ل يتحمل شيئا منها ،أما حكم العقد
الصلي أي نقل الملكية فيعود إلى الموكل والمرسل على السواء.
ول ينعقد عقد الزواج بالكتابة إذا كان العاقدان حاضرين في مجلس واحد ،إل في حال العجز عن
النطق كالخرس ،لن الزواج يشترط لصحته حضور الشهود العدول وسماعهم كلم العاقدين ،وهذا ل
يتيسر في حال الكتابة.
وقيد الشافعية والحنابلة صحة التعاقد مطلقا بالكتابة أو الرسالة فيما إذا كان العاقدان غائبين ،أما في
حال الحضور فل حاجة إلى الكتابة ،لن العاقد قادر على النطق ،فل ينعقد العقد بغيره (. )1
كيفية إبرام التعاقد بالهاتف واللسلكي ونحوهما من وسائل التصال الحديثة :
ليس المراد من اتحاد المجلس المطلوب في كل عقد كما بينا كون المتعاقدين في مكان واحد ،لنه قد
يكون مكان أحدهما غير مكان الخر ،إذا وجد بينهما واسطة اتصال ،كالتعاقد بالهاتف أو اللسلكي أو
بالمراسلة (الكتابة) وإنما المراد باتحاد المجلس :اتحاد الزمن أو الوقت الذي يكون المتعاقدان مشتغلين
فيه بالتعاقد ،فمجلس العقد :هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مقبلين على التفاوض في العقد (، )2
وعن هذا قال الفقهاء «إن المجلس يجمع المتفرقات» (. )3
-------------------------------
( )1المهذب ،257/1 :غاية المنتهى.4/2 :
( )2المدخل الفقهي العام للستاذ مصطفى الزرقاء :ف .171
( )3البدائع.137/5 :
( )4/463
وعلى هذا يكون مجلس العقد في المكالمة الهاتفية أو اللسلكية :هو زمن التصال ما دام الكلم في
شأن العقد ،فإن انتقل المتحدثان إلى حديث آخر انتهى المجلس.
ومجلس التعاقد بإرسال رسول أو بتوجيه خطاب أو بالبرقية أو التلكس أو الفاكس ونحوها :هو مجلس
تبليغ الرسالة ،أو وصول الخطاب أو البرقية أو إشعار التلكس والفاكس ،لن الرسول سفير ومعبر
عن كلم المرسل ،فكأنه حضر بنفسه وخوطب باليجاب فقبل ،في المجلس .فإن تأخر القبول إلى
مجلس ثان ،لم ينعقد العقد .وبه تبين أن مجلس التعاقد بين حاضرين :هو محل صدور اليجاب،
ومجلس التعاقد بين غائبين :هو محل وصول الكتاب أو تبليغ الرسالة ،أو المحادثة الهاتفية.
لكن للمرسل أو للكاتب أن يرجع عن إيجابه أمام شهود ،بشرط أن يكون قبل قبول الخر ووصول
الرسالة أو الخطاب ونحوه من البراق والتلكس والفاكس .ويرى جمهور المالكية أنه ليس للموجب
الرجوع قبل أن يترك فرصة للقابل يقرر العرف مداها ،كما تقدم.
هذا وإن بقية شروط اليجاب والقبول عدا اتحاد المجلس ل بد من توافرها في وسائط التصال
الحديثة.
زمن إتمام العقد في التعاقد بين غائبين :
أجمع الفقهاء على أن العقد ينعقد بين الغائبين كما في آلت التصال الحديثة بمجرد إعلن القبول ،ول
يشترط العلم بالقبول بالنسبة للطرف الموجب الذي وجه اليجاب (. )1
فلو كان المتعاقدان يتحدثان بالهاتف أو بالسلكي ،وقال أحدهما للخر :بعتك الدار أو السيارة الفلنية،
وقال الخر :قبلت ،انعقد العقد ،بمجرد إعلن القبول ،ولو لم يعلم الموجب بالقبول ،بأن انقطع
التصال بينهما.
-------------------------------
( )1التعبير عن الرادة في الفقه السلمي للدكتور وحيد سوار :ص ،118طبع الجزائر.
( )4/464
ولو وجهّ أحد العاقدين خطابا أو برقية إلى آخر أو تلكسا أو فاكسا ،وفيها إيجاب ببيع شيء ،أو بإبرام
عقد زواج ،انعقد العقد بعد وصول البرقية أو الخطاب ونحوهما ،وإعلن الخر قبوله ،دون حاجة إلى
علم الموجب أو سماعه بالقبول.
لكن إبعادا لكل لبس أو غموض ،وتمكينا من إثبات العقد ،وتأكيدا لبرامه ،جرى العرف الحاضر في
التلكس مثلً ونحوه على إرسال تلكس العرض ،ثم تلكس القبول ،ثم تلكس البيع ،وساعد على ترسيخ
هذا العرف ما تنص عليه بعض القوانين الوضعية كالقانون المدني المصري ،فإنه نص على ما يلي:
في التعاقد بين حاضرين :تنص المادة ( )91على أن «التعبير عن الرادة ينتج أثره في الوقت الذي
يتصل فيه بعلم من وجه إليه ،ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به ،ما لم يقم الدليل على عكس
ذلك» واشتراط السماع أو العلم بالقبول حتى بين الحاضرين أخذ به بعض فقهاء الحنفية مثل النسفي
وابن كمال باشا.
وفي التعاقد بين غائبين :تنص المادة ( )97على ما يلي« :يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في
المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول ،مالم يوجد اتفاق أو نص قانوني بغير ذلك،
ويفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان والزمان اللذين وصل إليه فيهما هذا القبول» .
وأرى الخذ بضرورة العلم بالقبول بالنسبة للموجب في التعاقد بين غائبين بسبب تقدم وسائل التصال
الحديثة وتعقد المعاملت ،وتحقيقا لستقرار التعامل ومنعا ليقاع الموجب في القلق ،وتمكينا من إثبات
العقد وإلزام القابل ،فإن جهل الموجب بالقبول يوقعه في حرج شديد ،وهذا
( )4/465
( )4/466
العرف الشائع بين الناس هو المحكم في بيان اتحاد المجلس أو تغيره ،فإذا صدر القبول في حال اتحاد
المجلس ،نشأ العقد ،وإذا صدر القبول بعد تغير المجلس لم يعتبر ولم ينشأ به العقد .وضابط ذلك أن
القبول يكون معتبرا ما دام لم يتخلل بينه وبين اليجاب ما يعد إعراضا عن العقد من أحد الطرفين،
وما دام المجلس قائما (. )1
وتحقيق هذا المبدأ عند الحنفية ( : )2أنه لو أوجب أحد الطرفين البيع ،فقام الخر عن المجلس قبل
القبول ،أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلف المجلس ،ثم قبل ،ل ينعقد العقد؛ لن القيام دليل
العراض والرجوع عن العقد.
والحتكام إلى العرف في بيان ما يغير المجلس متفق عليه بين المذاهب ( )3حتى
-------------------------------
( )1الموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى :ص .259
( )2البدائع ،137/5 :فتح القدير والهداية 78/5 :و .80
( )3مواهب الجليل للحطاب 240/4 :ومابعدها ،المجموع للنووي ،201/9 :مغني المحتاج،45/2 :
المحلي على المنهاج ،191/2 :الباجوري على ابن قاسم ،360/1:غاية المنتهى.4/2 :
( )4/467
عند بعض الشافعية القائلين بفورية القبول؛ لن الفورية شيء ،والحكم بتغير المجلس شيء آخر ،فإنهم
قالوا :يعتبر العرف في تفرق العاقدين عن المجلس ،فما يعده الناس تفرقا يلزم به العقد ،وما ل فل؛
لن ما ليس له حد في اللغة ول في الشرع ،يرجع فيه إلى العرف ،فلو كان العاقدان في دار كبيرة
يتغير المجلس بالخروج من البيت إلى صحن الدار ،أو بالعكس ،وإن كانا في دار صغيرة أو في
سفينة أو مسجد صغير يتغير المجلس بخروج أحدهما منه ،أوبصعود السطح ،وإن كانا في سوق
أوصحراء يتغير المجلس بأن يولي أحدهما ظهره ويمشي قليلً كثلث خطوات .ولو تناديا بالعقد من
مكان بعيد ،بقي المجلس ما لم يفارق أحدهما مكانه ،فإن مشى كل منهما ولو إلى صاحبه ،تغير
المجلس .ولو تماشى الطرفان مسافة دام المجلس ،وإن زادت المدة على ثلثة أيام ما لم يعرضا عما
يتعلق بالعقد.
الشرط الثالث ـ أل يرجع الموجب في إيجابه قبل قبول القابل:
ل بد لنعقاد العقد من استمرار الموجب على إيجابه الذي وجهه للقابل ،فإن عدل عن إيجابه ،لم يصح
القبول.
وهل يصح العدول عن اليجاب في مجلس العقد؟
أجاب جمهور الفقهاء (الحنفية والشافعية والحنابلة) ( )1بأنه للموجب أن يرجع عن إيجابه قبل صدور
القبول من الطرف الخر ،ويبطل اليجاب حينئذ؛ لن اللتزام بالعقد لم ينشأ بعد ،ول ينشأ إل بارتباط
القبول باليجاب ،ولن الموجب حر التصرف بملكه وحقوقه ،وبإيجابه أثبت للطرف الخر حق
التملك ،وحق الملك أقوى من حق التملك ،فيقدم عليه عند التعارض؛ لن الول ثابت
-------------------------------
( )1البدائع ،134/5 :مغني المحتاج ،43/2 :غاية المنتهى.29/2 :
( )4/468
لصاحبه أصالة والثاني ل يثبت إل برضا الطرف الول ،والتراضي بين الجانبين أساسي لصحة
العقود.
والقانون المدني في المادة ( )95يتفق مع هذا الرأي ،فإنه إذا لم يتعين ميعاد للقبول يجوز للموجب
التحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فورا.
وقال أكثرية المالكية ( : )1ليس للموجب الرجوع عن إيجابه ،وإنما يلتزم بالبقاء على إيجابه حتى
يعرض الطرف الخر عنه ،أو ينتهي المجلس؛ لن الموجب قد أثبت للطرف الخر حق القبول
والتملك ،فله استعماله وله رفضه ،فإذا قبل ثبت العقد ،وإذا أعرض عن اليجاب لم ينشأ العقد .وعليه
ل يكون الرجوع مبطلً لليجاب.
تعيين مدة للقبول :إذا حدد الموجب للطرف الخر مدة للقبول ،فيلتزم بها عند فقهاء المالكية؛ لنهم
قالوا كما تقدم :ليس للموجب الرجوع عن إيجابه قبل قبول الخر ،فيكون من باب أولى ملتزما بالبقاء
على إيجابه إذا عين ميعادا للقبول كأن يقول :أنا على إيجابي مدة يومين مثلً ،فيلزمه هذا التقييد ولو
انتهى المجلس .وهذا يتفق مع المبدأ العام في الشريعة وهو «المسلمون على شروطهم» ( ، )2ومثل
هذا الشرط ل ينافي مقتضى العقد.
والقانون المدني في المادة ( )94يقرر ذلك« :إذا عين ميعاد للقبول التزم الموجب بالبقاء على إيجابه
إلى أن ينقضي هذا الميعاد .وقد يستخلص الميعاد من ظروف الحال ،أو من طبيعة التعامل» .
-------------------------------
( )1مواهب الجليل للحطاب.241/4 :
( )2هو حديث نبوي رواه الترمذي عن عمرو بن عوف ،وقال :هذا حديث حسن صحيح (نيل
الوطار.)254/5 :
( )4/469
العقود التي ل يشترط فيها اتحاد المجلس :
اتحاد المجلس شرط في جميع العقود ما عدا ثلثة :الوصية ،واليصاء ،والوكالة.
أما الوصية (وهي تصرف مضاف إلى مابعد الموت) :فيستحيل فيها تحقق اتحاد المجلس؛ لن القبول
ل يصح من الموصى له في حال حياة الموصي ،وإنما يكون بعد وفاته مصرا على الوصية.
وأما اليصاء (وهو جعل الغير وصيا على أولده ليرعى شؤونهم بعد وفاته) :فل يلزم صدور القبول
في حياة الموصي ،وإنما يصح بعد وفاته ،وعلى كل حال ل يصبح وصيا إل بعد وفاة الموصي ،وإن
قبل في حياته.
وأما الوكالة (وهي تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل في أثناء الحياة) فمبنية على التوسعة واليسر
والسماحة ،فل يشترط فيها اتحاد المجلس؛ لن قبولها قد يكون باللفظ (القول) ،أو بالفعل بأن يشرع
الوكيل في فعل ما وكل فيه ،ويصح فيها توكيل الغائب (أي غير الموجود في مجلس العقد) ،فبمجرد
علمه بالتوكيل له القيام بالعمل الموكل فيه (. )1
وكالوكالة عند الحنابلة :كل عقد جائز غير لزم يصح القبول فيه على التراخي ،مثل الشركة
والمضاربة والمزارعة والمساقاة ،والوديعة والجعالة.
مبطلت اليجاب :يبطل اليجاب بالمور التالية (: )2
- 1رجوع الموجب عنه قبل القبول في المجلس ،على رأي الجمهور.
- 2رفض اليجاب من الطرف الخر ،إما صراحة كأن يقول :ل أقبل ،أو ضمنا كأن يعرض عنه
إما بالقيام عن المجلس بعد القعود ،أو بالشتغال بعمل آخر كأكل ،أو سماع حديث آخر ،أو قراءة
خبر صحفي ونحوه.
- 3انتهاء مجلس العقد ،بتفرق العاقدين عرفا؛ لن اليجاب يظل قائما في المجلس ،فلما انتهى بطل
مفعوله ،لن المجلس يجمع المتفرقات.
-------------------------------
( )1البدائع 20/6 :ومابعدها ،القوانين الفقهية :ص ،328نهاية المحتاج ،21/4 :مغني المحتاج:
،222/2غاية المنتهى.147/2 :
( )2الدر المختار وحاشية ابن عابدين ،21/4 :فتح القدير 80/5 :ومابعدها ،الشرح الكبير،5/3 :
مغني المحتاج ،6/2 :غاية المنتهى.5/2 :
( )4/470
- 4خروج الموجب عن أهليته قبل القبول بالموت أو بالجنون أو بالغماء ونحوه وكذا فقد القابل
أهليته بهذه السباب؛ لن انعقاد العقد يتوقف على توافر الهلية ،فإذا فقدت لم ينعقد العقد ،لحتمال
وجود الرجوع عن اليجاب ،أو لعدم فهم القبول ،أو لعدم صدور قبول معتبر شرعا.
- 5هلك محل العقد قبل القبول ،أو تغيره بما يصيره شيئا آخر ،مثل قلع عين حيوان ،أو انقلب
عصير العنب خمرا ،ونحو ذلك.
العنصر الثاني ـ العاقد :
اليجاب والقبول اللذان يكونان ركن العقد كما تقدم ،ل يتصور وجودهما من غير عاقد ،فالعاقد ركيزة
التعاقد الصلية .لكن ليس كل واحد صالحا لبرام العقود ،فبعض الناس ل يصلح لي عقد ،وبعضهم
يصلح لنشاء بعض العقود ،وآخرون صالحون لكل عقد.
وهذا يعني أن العاقد ل بد له من أهلية للتعاقد بالصالة عن نفسه ،أو ولية شرعية للتعاقد بالنيابة عن
غيره .ويستلزم ذلك بحث الهلية والولية ،لكن بقدر إجمالي ،وأما تفصيل أحكام الهلية والولية
فمتروك لكتب الفقه والصول ( )1المطولة ،ولمادة الحوال الشخصية ومدخل القانون ،إذ إن
نصوص الهلية والولية موزعة بين قانون الحوال الشخصية والقانون المدني السوريين.
والذي يهمنا من بحث الهلية أن العاقد يشترط فيه عند الحنفية والمالكية ( : )2أن يكون عاقلً أي
مميزا أتم سن السابعة ( ، )3فل ينعقد تصرف غير المميز لصغر أو إغماء أو جنون ،وتصح
تصرفات الصبي المميز ( )4المالية على التفصيل التي (راجع المادة ( 967من المجلة):
أ ـ التصرفات النافعة نفعا محضا :وهي التي يترتب عليها دخول شيء في ملكه من غير مقابل،
كالحتطاب ،والحتشاش والصطياد ،وقبول الهبة والصدقة والوصية والكفالة بالدين ،تصح من
الصبي المميز دون إذن ول إجازة من الولي ،لنها لنفعه التام.
-------------------------------
( )1راجع كتب الصول وكتابي أصول الفقه السلمي 163/1 :ومابعدها ،ط دار الفكر.
( )2حاشية ابن عابدين ،5/4 :الشرح الكبير.5/3 :
( )3المميز :هو الذي إذا كلم بشيء من مقاصد العقلء فهمه وأحسن الجواب عنه.
( )4اشترط الشافعية والحنابلة لنعقاد العقود :الرشد وهو البلوغ مع العقل ،وصلح الدين والمال ،فل
يصح التصرف من صبي ول مجنون ول من محجور عليه بسفه أي تبذير المال .واستثنى الحنابلة
شراء الشيء اليسير وتصرف الصبي بإذن وليه (مغني المحتاج ،7/2 :غاية المنتهى.)5/2 :
( )4/471
ب ـ التصرفات الضارة ضررا محضا :وهي التي يترتب عليها خروج شيء من ملكه دون مقابل،
كالطلق والهبة والصدقة والقراض وكفالته لغيره بالدين أو بالنفس ل تصح من الصبي العاقل ول
تنفذ ،ولو أجازها وليه؛ لن الولي ل يملك إجازة هذه التصرفات لما فيها من الضرر.
ج ـ التصرفات المترددة بين الضرر والنفع :وهي التي تحتمل الربح والخسارة كالبيع والشراء
واليجار والستئجار والزواج والمزارعة والمساقاة والشركات ونحوها ،تصح من الصبي المميز،
ولكنها تكون موقوفة على إذن الولي أو إجازته مادام صغيرا أو على إجازته لنفسه بعد البلوغ؛ لن
للمميز جانبا من الدراك غير قليل ( . )1فإن أجيزت نفذت ،وإل بطلت ،والجازة تجبر نقص
الهلية.
والشخاص بالنسبة للهلية :إما عديم الهلية وغير المميز فتعد تصرفاتهما باطلة ،أو ناقص الهلية
كالصبي المميز فيصح بعض تصرفاته ،ويبطل بعضها الخر ،ويتوقف بعضها على الجازة على
التفصيل السابق ،أو كامل الهلية وهو الراشد الذي تصح منه كل التصرفات وتنفذ ما لم يكن محجورا
عليه بسبب السفه أو الدين ،أو كان ممنوعا من التصرف بسبب مرض الموت أو الفقد أو الغياب.
وكل ذلك يضطرنا إلى بحث الهلية والولية.
-------------------------------
( )1التلويح على التوضيح 165/2 :ومابعدها.
( )4/472
وبه تعرف أحكام الهلية إجمالً علما بأن القانون المدني استمد أحكامها من الفقه السلمي وذلك في
المواد ( )50-46وقد اعتبر القانون أحكام الهلية من قواعد النظام العام التي ل يجوز للفراد التفاق
على خلفها ،فكل اتفاق مخالف لحكامها باطل ،ول يجوز للشخص التنازل عن أهليته ول التعديل في
أحكامها (المادة .)50
أولً ـ الهلية :
الهلية في اللغة :الصلحية ،وفي اصطلح الفقهاء :هي صلحية الشخص لثبوت الحقوق المشروعة
له ووجوبها عليه ،وصحة التصرفات منه .وهي نوعان :أهلية وجوب ،وأهلية أداء (. )1
أ ـ أهلية الوجوب :هي صلحية الشخص لللزام واللتزام ،أو هي صلحية الشخص لثبوت الحقوق
له كاستحقاق قيمة المتلف من ماله ،أو وجوبها عليه كالتزامه بثمن المبيع وعوض القرض ،أي أن
لهذه الهلية عنصرين:
عنصر إيجابي :وهو صلحية كسب الحقوق بأن يكون دائنا ،وهو عنصر اللزام أو الدائنية.
وعنصر سلبي :وهو صلحية تحمل الواجبات أو اللتزامات بأن يكون مدينا ،وهو عنصر اللتزام أو
المديونية.
-------------------------------
( )1مرآة الصول ،435/2 :التقرير والتحبير ،164/2 :كشف السرار على أصول البزدوي ص
،1357حاشية نسمات السحار :ص .272
( )4/473
ومناط هذه الهلية :هو الحياة أو الصفة النسانية ( ، )1فكل إنسان حتى الجنين في بطن أمه له أهلية
وجوب ،والهلية تبدأ في الفقه مع بدء الشخصية ،فهي ملزمة للشخصية ،وصفة من صفات
الشخصية .والشخصية تبدأ في فقهنا منذ بدء تكون الجنين في الرحم وتنتهي بالموت.
وفي القانون المدني تبدأ بتمام ولدة النسان حيا ،وتنتهي بموته (م .)31
والعنصر السلبي للهلية (أي المديونية) يتطلب وجود شيء آخر في الشخصية وهو الذمة :وهي
وصف شرعي مقدر كوعاء اعتباري في الشخص تثبت فيه الديون واللتزامات المترتبة عليه.
وبناء عليه :يتوقف ثبوت الحق للشخص على وجود أهلية فيه .وأما ثبوت الديون عليه فيتوقف على
وجود ظرف اعتباري مفترض في كل شخص هو الذمة.
فيقال :لفلن في ذمة فلن مبلغ مالي كذا (. )2
وأهلية الوجوب نوعان :ناقصة وكاملة.
أهلية الوجوب الناقصة :هي صلحية الشخص لثبوت الحقوق له فقط أي تؤهله لللزام ليكون دائنا ل
مدينا .وتثبت للجنين في بطن أمه قبل الولدة .وسبب نقص أهليته أمران :فهو من جهة يعد جزءا من
أمه ،ومن جهة أخرى يعد إنسانا مستقلً عن أمه ،متهيئا للنفصال عنها بعد تمام تكوينه .لذا فإنه
تثبت له بعض الحقوق الضرورية النافعة له :وهي التي ل تحتاج إلى قبول ،وهي أربعة أنواع (: )3
- 1النسب من أبويه.
- 2الميراث من قريبه المورث ،فيوقف له أكبر النصيبين على تقدير كونه ذكرا أو أنثى.
- 3استحقاق الوصية الموصى له بها.
- 4استحقاقه حصته من غلت الوقف الموقوفة عليه.
لكن الحقوق المالية الثلثة الخيرة ليست للجنين فيهاملكية نافذة في الحال بل تتوقف على ولدته حيا.
فإن ولد حيا ثبتت له ملكية مستندة إلى وقت وجود سببها أي بأثر رجعي .وإن ولد ميتا رد نصيبه إلى
أصحابه المستحقين له .فغلة الوقف تعطى لبقية المستحقين ،والموصى به يرد إلى ورثة الموصي،
وحصة الميراث المجمدة له توزع لبقية الورثة .وثبوت الحق للجنين في الوقف هو رأي الحنفية
والمالكية ،أما رأي الشافعية والحنابلة فل يثبت له حق التملك إل بالرث والوصية ،فل يصح عندهم
الوقف على الجنين ،لنه يشترط إمكان التملك في الحال وهو ل يتملك.
-------------------------------
( )1المدخل الفقهي العام للستاذ الزرقاء :ف .408
( )2المرجع السابق :ف ،410مدخل نظرية اللتزام في الفقه للستاذ الزرقاء أيضا :ف 118
ومابعدها.
( )3كشف السرار على أصول البزدوي :ص 1359ومابعدها ،القواعد لبن رجب الحنبلي :ص
178ومابعدها.
( )4/474
أما الحقوق التي تحتاج إلى قبول كالشراء والهبة فل تثبت له ،ولو مارسها عنه وليه (الب أو الجد)
إذ ليس له ضرورة بها ،ولن الشراء له يلزمه بالثمن وهو ليس أهلً لللتزام.
وأما الواجبات أو اللتزامات لغيره فل تلزمه ،كنفقة أقاربه المحتاجين (. )1
والخلصة :إن الجنين له ذمة ناقصة تؤهله لكتساب بعض الحقوق فقط ،وليست له ذمة كاملة صالحة
لكتساب الحقوق واللتزام بالواجبات.
أهلية الوجوب الكاملة :هي صلحية الشخص لثبوت الحقوق له ،وتحمل الواجبات (أو اللتزامات).
وتثبت للشخص منذ ولدته حيا ،دون أن تفارقه في جميع أدوار حياته ،فيصلح لكتساب الحقوق
واللتزام بالواجبات .ول يوجد إنسان فاقد لهذه الهلية.
وتحديد وجود الولدة :فيه رأيان للفقهاء ،قال الحنفية ( : )2تثبت أهلية الوجوب بمجرد ظهور أكثر
الجنين حيا .وقال غير الحنفية ( : )3ل تثبت هذه الهلية إل بتمام ولدة الجنين حيا .وبهذا الرأي أخذ
القانون المدني السوري (م )13وقانون الحوال الشخصية السوري (م .)1/236،2/260
وأما الحقوق الثابتة للطفل بعد الولدة :فهي التي تحصل له نتيجة التصرف الذي يمكن للولي أو
الوصي أن يمارسه بالنيابة عنه ،كتملك ما يشترى له أو يوهب له.
وأما اللتزامات الواجبة على الطفل فهي كل ما يستطاع أداؤه عنه من ماله ،سواء من حقوق العباد أو
من حقوق ال ،وهي:
( )1العواض المالية في الفعال المدنية كثمن المشتريات وأجرة الدار ،أو في الفعال الجنائية
كتعويض المتلفات التي يتلفها من أموال الخرين.
-------------------------------
( )1قرر فقهاء الحنابلة إيجاب نفقة القارب على الحمل من ماله (القواعد لبن رجب :ص .)181
( )2شرح السراجية :ص 216وما بعدها.
( )3المغني 316/6 :ومابعدها.
( )4/475
( )2والضرائب المالية للدولة كعشر الزرع وخراج الرض (ضريبة الراضي الزراعية) وضريبة
ورسوم الجمارك والمباني وضريبة الدخل ونحوها.
( )3والصلت الجتماعية المنوطة بالغنى كنفقة القارب والمعسرين وزكاة الفطر في رأي أبي حنيفة
وأبي يوسف ( . )1وزكاة المال في رأي جمهور الفقهاء غير الحنفية ( ، )2رعاية لمصلحة الفقراء
والمحتاجين والمجتمع بصفة عامة ،وهو رأي أقوم وأفضل وأحق بالعمل ،لسيما في ظروفنا
الحاضرة.
وأما الحنفية فلم يوجبوا الزكاة في مال الصبي لنهم اعتبروها عبادة مالية ،والطفل ل يكلف بالتكاليف
الدينية إل بعد البلوغ.
ويلحظ أن أهلية الوجوب ،ولو كانت كاملة ليس لها أثر في إنشاء العقود ،فكل تصرف من الطفل
غير المميز ،حتى ولو كان نافعا نفعا محضا له كقبول الهبة أو الوصية ،يعد باطلً ،لن عبارته
ملغاة.
كذلك ل يجب على الطفل غير المميز شيء من العبادات الدينية كالصلة والصوم والحج.
وأما الذمة المالية فتثبت للطفل كاملة بمجرد الولدة وتلزمه طوال الحياة.
- 2أهلية الداء :هي صلحية الشخص لصدور التصرفات منه (أو لممارستها ومباشرتها) على وجه
يعتد به شرعا ،وهي ترادف المسؤولية ،وتشمل حقوق ال من صلة وصوم وحج وسواها،
والتصرفات القولية أو الفعلية الصادرة عن الشخص .فالصلة ونحوها التي يؤديها النسان تسقط عنه
الواجب ،والجناية على مال الغير توجب المسؤولية.
-------------------------------
( )1التلويح على التوضيح 163/2 :ومابعدها ،ط صبيح ،كشف السرار :ص 136ومابعدها.
( )2بداية المجتهد 236/1 :ومابعدها ،ط الستقامة.
( )4/476
وأساس ثبوتها أو مناط هذه الهلية هو التمييز أو العقل والدراك ،فمن ثبتت له أهلية الداء صحت
عباداته الدينية كالصلة والصوم ،وتصرفاته المدنية كالعقود (. )1
ول وجود لهذه الهلية للجنين أصلً ،ول للطفل قبل بلوغ سن التمييز وهو تمام سن السابعة .فقبل
التمييز تكون هذه الهلية منعدمة ،والمجنون مثل غير المميز ل تترتب على تصرفاتهما آثار شرعية،
وتكون عقودهما باطلة ،إل أنهما يؤاخذان ماليا بالجناية أو العتداء على نفس الغير أو على ماله.
ويقوم الولي (الب أو الجد) أو الوصي بمباشرة العقود والتصرفات التي يحتاجها الطفل غير المميز
أو المجنون.
وأهلية الداء نوعان :ناقصة وكاملة.
أهلية الداء الناقصة :هي صلحية الشخص لصدور بعض التصرفات منه دون البعض الخر ،وهي
التي يتوقف نفاذها على رأي غيره ،وهذه الهلية تثبت للشخص في دور التمييز بعد تمام سن السابعة
إلى البلوغ .ويعد في حكم المميز :الشخص المعتوه الذي لم يصل به العته إلى درجة اختلل العقل
وفقده ،وإنما يكون ضعيف الدراك والتمييز.
ويفرق بالنسبة للمميز والمعتوه بين حقوق ال وحقوق العباد:
أما حقوق ال تعالى :فتصح من الصبي المميز كاليمان والكفر ( )2والصلة والصيام والحج ،ولكن
ل يكون ملزما بأداء العبادات إل على جهة التأديب والتهذيب ،ول يستتبع فعله عهدة في ذمته ،فلو
شرع في صلة ل يلزمه المضي فيها ،ولو أفسدها ل يجب عليه قضاؤها.
وأما حقوق العباد فعند الشافعي وأحمد :تعد عقود الصبي وتصرفاته باطلة.
وأما عند الحنفية :فإن تصرفاته المالية أقسام ثلثة :نافعة نفعا محضا وضارة ضررا محضا ،ودائرة
بين النفع والضرر ،على النحو السابق الذي تقدم.
وأهلية الداء الكاملة :هي صلحية الشخص لمباشرة التصرفات على وجه يعتد به شرعا دون توقف
على رأي غيره .وتثبت لمن بلغ الحلم عاقلً أي للبالغ الرشيد ،فله بموجبها ممارسة كل العقود ،من
غير توقف على إجازة أحد.
-------------------------------
( )1التلويح على التوضيح 164/2 :ومابعدها ،كشف السرار :ص 1368ومابعدها.
( )2اختلف الفقهاء في صحة الكفر من الصبي بالنسبة لحكام الدنيا مع اتفاقهم على اعتبار الكفر منه
في أحكام الخرة .فعند أبي حنيفة ومحمد :تعتبر منه ردته ،فيحرم من الميراث وتبين امرأته .وعند
أبي يوسف والشافعي :ل يحكم بصحة ردته في أحكام الدنيا ،لن الرتداد ضرر محض ل يشوبه
منفعة ،فل يصح من الصبي ول يحرم من الرث ول تبين منه امرأته بالردة.
( )4/477
والبلوغ يحصل إما بظهور علمة من علماته الطبيعية كاحتلم الولد (أي النزال) ومجيء العادة
الشهرية (الحيض) عند النثى ،أو بتمام الخامسة عشرة عند جمهور الفقهاء غير أبي حنيفة لكل من
الفتى والفتاة ،وعليه الفتوى والعمل ،جاء في المادة ( 985مجلة)« :يثبت حد البلوغ بالحتلم
والحبال والحيض والحبل» ونصت المادة ( 986مجلة)« :على أن منتهى البلوغ خمس عشرة سنة»
.
وقدر أبو حنيفة سن البلوغ بثماني عشرة سنة للفتى وسبع عشرة سنة للفتاة.
وقدره المام مالك لهما بتمام ثماني عشرة سنة ،وقيل بتمام السابعة عشرة سنة والدخول في الثامنة
عشرة (. )1
والسبب في ارتباط هذه الهلية بالبلوغ :هو أن الصل فيها أن تتحقق بتوافر العقل ،ولما كان العقل
من المور الخفية ارتبط بالبلوغ ،لنه مظنة العقل ،والحكام ترتبط بعلل ظاهرة منضبطة ،فيصبح
الشخص عاقلً بمجرد البلوغ ،وتثبت له حينئذ أهلية أداءٍ كاملة ما لم يعترضه عارض من عوارض
الهلية .وعندها يصبح النسان أهلً للتكاليف الشرعية ،ويجب عليه أداؤها ،ويأثم بتركها ،وتصح منه
جميع العقود والتصرفات ،وتترتب عليه مختلف آثارها ويؤاخذ شرعا على جميع العمال أو الفعال
الجنائية الصادرة عنه.
أدوار الهلية :
يفهم مما سبق أن أهلية النسان من مبدأ حياته في بطن أمه إلى اكتمال رجولته تمر في مراحل خمس
أو أدوار خمسة هي:
دور الجنين ،ودور الطفولة (عدم التمييز) ،ودور التمييز ،ودور البلوغ ،ودور الرشد (. )2
-------------------------------
( )1تفسير القرطبي ،37/5 :الشرح الكبير.393/3 :
( )2راجع التقرير والتحبير 166/2 :ومابعدها ،مرآة الصول 452/2 :ومابعدها ،فواتح الرحموت:
156/1وما بعدها ،حاشية نسمات السحار :ص ،273التلويح على التوضيح ،كشف السرار،
المرجعان السابقان.
( )4/478
الدور الول ـ دور الجنين :يبدأ من بدء الحمل وينتهى بالولدة ،وفيه تثبت للجنين أهلية وجوب
ناقصة تمكنه من ثبوت أربعة حقوق ضرورية له ذكرت سابقا ،وليست له أهلية أداء ول ذمة مالية.
الدور الثاني ـ دور الطفولة :ويبدأ من وقت الولدة ويستمر إلى وقت التمييز وهو بلوغ السابعة من
العمر .وفيه تثبت للطفل غير المميز أهلية وجوب كاملة ،فيستحق الحقوق ويلتزم بالواجبات التي
تكون نتيجة ممارسة وليه بعض التصرفات نيابة عنه ،فإذا اشتري له أو وهب له ملك ،وجب عليه
العوض في المعاوضات المالية ،وتكون له ذمة كاملة.
وليست له أهلية أداء ،فتكون أقواله كلها هدرا ،وعقوده باطلة ،حتى ولو كانت نافعة نفعا محضا له
كقبول الهبة أو الوصية ،وينوب عنه فيها وليه الشرعي أو وصيه .جاء في المادة ( 966مجلة)« :ل
يصح تصرفات الصغير غير المميز وإن أذن له وليه» .
كذلك تكون أفعاله هدرا سواء أكانت دينية كالصلة والصيام فل تصح منه ،أو مدنية كقبض المبيع أو
الوديعة أو القرض ،فل تصح.
وأما جناياته كالقتل والضرب والقطع فل تستوجب العقوبة البدنية ،كالقصاص والحبس ،ول يحرم من
الميراث بقتل مورثه لسقوط المؤاخذة عنه ،وإنما يلزم في ماله بدفع التعويض أو ضمان ما أتلفه من
النفس والموال حفاظا عليها.
الدور الثالث ـ دور التمييز :يبدأ بعد سن السابعة ويستمر إلى البلوغ عاقلً.
ومعنى التمييز :أن يصبح الولد بحالة يميز فيها بين الخير والشر ،والنفع والضرر ،ويعرف معاني
اللفاظ إجمالً ،فيدرك أن البيع مثلً سالب للمال وأن الشراء جالب للملك.
( )4/479
وفيه تثبت للمميز أهلية أداء ناقصة :دينية ،ومدنية ،فتصح منه العبادات البدنية كالصلة والصيام،
ويثاب عليها ،وإن لم تكن مفروضة عليه .كما تصح منه مباشرة التصرفات المالية ،مثل قبول الهبة
أو الصدقة مطلقا ،والبيع والشراء موقوفا على إجازة وليه .ول يصح منه التصرف الضار بمصلحته
كالتبرع بشيء من أمواله ،على ما سبق بيانه.
الدور الرابع ـ دور البلوغ :يبدأ من البلوغ إلى وقت الرشد .وقد اتفق الفقهاء عملً باليات القرآنية (
)1والحاديث النبوية ( )2على أن البالغ يصبح مكلفا بجميع التكاليف الشرعية .وتكتمل لديه أهلية
الداء الدينية ،فيطالب باليمان بعناصره الستة (بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر وبالقدر
خيره وشره) وبالسلم بأركانه الخمسة (شهادة أن ل إله إل ال وأن محمد ا رسول ال ،وإقام
الصلة وإيتاء الزكاة ،وصوم رمضان ،وحج البيت من استطاع إليه سبيلً) .وبتطبيق أحكام الشريعة
من المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والجهاد في سبيل ال ،واحترام الموال والنفس
والعراض ،واجتناب المحظورات الشرعية والمعاصي والمنكرات التي تضر بمصلحة الفرد
والجماعة.
وأما أهلية الداء المدنية:فتكتمل عند الفقهاء ،خلفا للقانون ،بسن البلوغ إذا بلغ الولد راشدا ،فتنفذ
تصرفاته المالية وتسلم إليه أمواله .فإن لم يؤنس منه الرشد ،فل تنفذ تصرفاته ،ول تسلم إليه أمواله؛
لن الشرع جعل البلوغ أمارة على كمال العقل ،فإن ثبت العكس عمل به .وسن الرشد في القانون
السوري 81سنة ،و 12سنة في القانون المصري.
الدور الخامس ـ دور الرشد :الرشد أكمل مراحل الهلية ،ومعناه عند
-------------------------------
( )1مثل قوله تعالى { :وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح[ }...النساء.]6/4:
( )2مثل قول النبي صلّى ال عليه وسلم « :رفع القلم عن ثلثة :عن المجنون المغلوب على عقله
حتى يبرأ ،وعن النائم حتى يستيقظ ،وعن الصبي حتى يحتلم» رواه أحمد في مسنده وأبو داود
والحاكم عن علي وعمر.
( )4/480
الفقهاء ( : )1حسن التصرف في المال من الوجهة الدنيوية ،ولو كان فاسقا من الوجهة الدينية (م
947مجلة) ويتوافر بتحقق الخبرة المالية بتدبير الموال وحسن استثمارها .وهو أمر يختلف باختلف
الشخاص والبيئة والثقافة.
فقد يرافق البلوغ ،وقد يتأخر عنه قليلً أو كثيرا ،وقد يتقدمه ،لكن ل اعتبار له قبل البلوغ ،ومرجعه
إلى الختبار والتجربة عملً بالية القرآنية{ :وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح ،فإن آنستم منهم
رشدا ،فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء.]6/4:
وبناء عليه :إذا بلغ الشخص رشيدا كملت أهليته ،وارتفعت الولية عنه ،وسلمت إليه أمواله ،ونفذت
تصرفاته وإقراراته.
وإن بلغ غير رشيد بقي ناقص أهلية الداء ،واستمرت الولية المالية عليه عند جمهور الفقهاء ،فل
تنفذ تصرفاته ،ول تسلم إليه أمواله .أما الولية على النفس كالتأديب والتطبيب والتعليم والتزويج
فترتفع عنه بمجرد بلوغه عاقلً ،أي أن اشتراط الرشد محصور في التصرفات المالية ،وأما غير ذلك
كالزواج والطلق فإنها نافذة منه بمجرد البلوغ عاقلً.
وخالف أبو حنيفة في هذا فقال :إذا بلغ الشخص عاقلً غير رشيد كملت أهليته ،وارتفعت الوليةعنه،
احتراما لدميته وحفاظا على كرامته ،ولكن ل تسلم إليه أمواله على سبيل الحتياط والتأديب .ل على
سبيل الحجر عليه ،لنه ل
-------------------------------
( )1هذا ما فسره ابن عباس ،وهو مذهب الحنفية والمالكية .ويرى الشافعية أن الرشد :هو أن يتصف
بالبلوغ والصلح لدينه وماله (الدر المختار ،105/5 :بداية المجتهد ،278/2 :الشرح الصغير:
،393/3المغني ،467/4 :مغني المحتاج.)168 ،7/2 :
( )4/481
يرى الحجر على السفيه (أي المبذر) ،وأما منع أمواله عنه فينتهي :إما بالرشد فعلً ،أو ببلوغه خمسا
وعشرين سنة (. )1
وليس للرشد سن معينة عند جمهور الفقهاء ،وإنما متروك لستعداد الشخص وتربيته وبيئته ،وليس
في النصوص الشرعية تحديد له.
أما قانون الحوال الشخصية السوري ( م ) 16والقانون المدني السوري (م )46فقد حدد سن الرشد
فيها بـ ( )18سنة ميلدية كاملة ،وفي القانون المصري ( )21سنة .فما قبل هذه السن ل تسلم
للشخص أمواله ،ول تنفذ تصرفاته ،فإذا بلغ النسان هذه السن سلمت إليه أمواله إذا لم يكن محجورا
عليه.
ورفع سن الرشد إلى هذا الحد يتفق مع ظروف الحياة الحديثة ،التي تعقّدت فيها المعاملت،
وتدهورت فيها الخلق ،وشاع الخداع والحتيال ،ول مانع في الشريعة من ذلك عملً بما تقتضيه
المصلحة في حماية الناشئة وصيانة أموالهم.
عوارض الهلية
أهلية الداء :هي أساس التعامل والتعاقد كما عرفنا ،إل أن هذه الهلية قد يعترضها بعض العوارض
فتؤثر فيها ،والعوارض :هي ما يطرأ على النسان فيزيل أهليته أو ينقصها أو يغير بعض أحكامها.
وهي نوعان عند علماء أصول الفقه:
- 1عوارض سماوية :وهي التي لم يكن للشخص في إيجادها اختيار واكتساب.
- 2وعوارض مكتسبة :وهي التي يكون للشخص دخل واختبار في تحصيلها.
-------------------------------
( )1الدر المختار ورد المحتار ،104/5 :بداية المجتهد 276/2 :ومابعدها .والعوارض السماوية أكثر
تغييرا وأشد تأثيرا ،مثل الجنون والعته والغماء والنوم ،ومرض الموت.
والعوارض المكتسبة :مثل السكر والسفه والدين.
( )4/482
وسأقتصر هنا على إعطاء فكرة موجزة عن هذه العوارض ،ما عدا مرض الموت والدين فإنهما
يتطلبان مزيدا من البحث واليضاح.
- 1الجنون :اختلل في العقل ينشأ عنه اضطراب أو هيجان ( . )1وحكمه أنه سواء أكان مُطْبقا
(مستمرا) أم غير مطبق (متقطع) معدم للهلية حال وجوده ،فتكون تصرفات المجنون القولية والفعلية
كغير المميز لغية باطلة ل أثر لها.
ولكنه يطالب بضمان أفعاله الجنائية على النفس أو المال ( . )2جاء في المادة ( 979مجلة):
( المجنون المطبق هو في حكم الصغير غير المميز ).
- 2العته :ضعف في العقل ينشأ عنه ضعف في الوعي والدراك ،يصير به المعتوه مختلط الكلم،
فيشبه مرة كلم العقلء ،ومرة كلم المجانين .ويتميز المعتوه عن المجنون بالهدوء في أوضاعه فل
يضرب ول يشتم كالمجنون .فالمعتوه إذن :هو من كان عليل الفهم مختلط الكلم فاسد التدبير .وحكمه
حكم الصبي المميز كما سبق ،أي أن لصاحبه أهلية أداء ناقصة (. )3
- 3الغماء :تعطل القوى المدركة المحركة حركة إرادية بسبب مرض يعرض للدماغ أو القلب.
وهو يشبه النوم في تعطيل العقل ،إل أن النوم عارض طبيعي ،والغماء غير طبيعي،
-------------------------------
( )1المدخل الفقهي للستاذ الزرقاء :ف .460
( )2مرآة الصول ،439/2 :التقرير والتحبير ،173/2 :كشف السرار :ص ،1083التلويح على
التوضيح.167/2 :
( )3المراجع السابقة :المرآة ،441/2التقرير والتحبير ،176/2 :كشف السرار 1394/2 :الدر
المختار ورد المحتار ،100/5 :التلويح.168/2 :
( )4/483
فيكون حكمهما واحدا في التصرفات ،وهو إلغاؤها وبطلنها لنعدام القصد عند المغمى عليه (. )1
- 4النوم :فتور طبيعي يعتري النسان في فترات منتظمة أو غير منتظمة ل يزيل العقل ،بل يمنعه
عن العمل ،ول يزيل الحواس الظاهرة ،بل يمنعها أيضا عن العمل .وعبارات النائم كالمغمى عليه ل
اعتبار لها إطلقا (. )2
سكْر :حالة تعرض للنسان بامتلء دماغه من البخرة المتصاعدة إليه ،فيتعطل معه عقله
- 5ال ّ
المميز بين المور الحسنة والقبيحة .وهو نوعان :سكر بطريق مباح كالحاصل من الدواء أو البنج ،أو
حالة الضطرار أو الكراه .وسكر بطريق حرام كالحاصل من الخمر أو أي مسكر آخر حتى البيرة.
والسكر بنوعيه ل يذهب العقل ،بل يعطله فترة من الزمن ،ويزيل الرادة والقصد.
وحكمه على المشهور عند المالكية وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة ( : )3أنه يبطل العبارة ول
يترتب عليها التزام ،فتبطل عقوده وتصرفاته لعدم سلمة القصد أو الرادة ،سواء أكان بطريق مباح
أو محظور ،فل يصح يمينه وطلقه وإقراره ول بيعه وهبته ول سائر أقواله ( . )4إل أن المالكية
قالوا في الطلق :لو سكر سكرا حراما صح طلقه ،إل أن ل يميز فل طلق عليه لنه صار
كالمجنون.
-------------------------------
( )1المراجع السابقة.
( )2المراجع السابقة.
( )3الشرح الكبير ،265/2 ،5/3 :أعلم الموقعين ،48/4 :ط السعادة ،زاد المعاد 40/4 :ومابعدها،
غاية المنتهى.113/3 :
( )4وهذا رأي المام أحمد في رواية عنه اختارها جماعة من الحنابلة ،والطحاوي والكرخي وأبو
يوسف وزفر من الحنفية ،والمزني وابن سريج و غيرهما من الشافعية .وبه أخذ قانون الحوال
الشخصية في سورية ومصر.
( )4/484
وقال جمهور الفقهاء (غير المذكورين) ( : )1يفرق بين السكر بمباح فليس لعبارته أي اعتبار ،وبين
السكر بمحرم ،فتقبل عبارته زجرا له وعقابا على تسببه في تعطيل عقله ،فتعد تصرفاته من قول أو
فعل صحيحة نافذة ،عقابا وزجرا له ولمثاله ،سواء في ذلك الزواج والطلق والبيع والشراء
والجارة ،والرهن والكفالة ونحوها.
- 6السفه :خفة تعتري النسان ،فتحمله على العمل بخلف موجب العقل والشرع مع قيام العقل
حقيقة ،والمراد به هنا ما يقابل الرشد :وهو تبذير المال وإنفاقه في غير حكمة ،ولو في أمور الخير
عند الحنفية (( )2م 946مجلة) كبناء المساجد والمدارس والملجئ.
والسفه ل يؤثر في الهلية ،فيظل السفيه كامل الهلية ،لكنه يمنع من بعض التصرفات.
الحجر على السفيه ( : )3قد يبلغ الشخص سفيها ،وقد يطرأ عليه السفه بعد بلوغه راشدا.
أ ـ من بلغ سفيها :اتفق الفقهاء على أنّ الصبي إذا بلغ سفيها يمنع عنه ماله ،ويظل تحت ولية وليه،
لقوله تعالى{ :ول تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل ال لكم قياما وارزقوهم فيها} [النساء.]5/4:
ويستمر هذا المنع أبدا عند جمهور الفقهاء والصاحبين ،حتى يتحقق رشده لقوله تعالى { :فإن آنستم
منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء.]6/4:
جاء في المادة ( 982مجلة)« :إذا بلغ الصبي غير الرشيد لم تدفع إلىه أمواله ،ما لم يتحقق رشده،
ويمنع من التصرف كما في السابق» .
وقال أبو حنيفة :تنتهي فترة منع ماله عنه ببلوغه خمسا وعشرين سنة؛ لن هذه السن غالبا يتحقق
فيها الرشد ،فإن لم يرشد ل ينتظر منه رشد بعدئذ .وأما تصرفاته في فترة منع ماله عنه فل ينفذ منها
إل ما كان نافعا نفعا محضا له أو الوصية في حدود الثلث ،أو كانت ل تقبل الفسخ :وهي الزواج
والطلق والرجعة واليمين .ويمنع من باقي التصرفات.
ب ـ من بلغ رشيدا ثم صار سفيها :ل يجيز أبو حنيفة الحجر عليه ،لنه حر في تصرفاته ،والحجر
ينافي الحرية ،وفيه إهدار لنسانيته وكرامته.
-------------------------------
( )1كشف السرار :ص ،1471التلويح ،175/2 :التقرير والتحبير ،193/2 :مرآة الصول:
.454/2
( )2الدر المختار ،102/5 :تبيين الحقائق .192/5 :إل أن الشافعي لم يجعل السراف في وجوه البر
سفها (مغني المحتاج.)168/2 :
( )3الحجر :هو منع نفاذ التصرفات القولية.
( )4/485
وقال جمهور الفقهاء ،والصاحبان (أبو يوسف ومحمد) وبرأيهما يفتى في المذهب الحنفي :يجوز
الحجر على السفيه ،رعاية لمصلحته ،ومحافظة على ماله ،حتى ل يكون عالة على غيره .ويكون
حكمه حينئذ حكم الصبي المميز في التصرفات ( )1؛ لقوله تعالى{ :ول تؤتوا السفهاء أموالكم}
[النساء ]5/4:وقوله سبحانه{ :فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا ،أو ل يستطيع أن يمل هو،
فليملل وليه بالعدل} [البقرة ]282/2:مما يدل على ثبوت الولية على السفيه ( . )2إل أن الحجر على
السفيه في هذه الحالة يكون بحكم قضائي ،بالتثبت من السفه أو التبذير ،ومنعا من إلحاق الضرر بمن
يتعامل مع السفيه من غير بينة وتحقق من حاله .وهذا رأي أبي يوسف والشافعي وأحمد ومالك
رحمهم ال تعالى.
والحجر في هذه الحالة محصور في التصرفات التي تحتمل الفسخ ،ويبطلها الهزل كالبيع والجارة
والرهن .أما التصرفات التي ل تحتمل الفسخ ول يبطلها الهزل كالزواج والطلق والرجعة والخلع،
فل يحجر عليه بالجماع.
-------------------------------
( )1وعليه نصت المادة ( 990مجلة) :السفيه المحجور عليه هو في المعاملت كالصغير المميز»...
.
( )2كشف السرار :ص ،1489التلويح على التوضيح ،191/2 :التقرير والتحبير ،201/2 :مرآة
الصول ،459/2 :الدر المختار 102/5 :ومابعدها ،بداية المجتهد ،279 ،276/2 :مغني المحتاج:
،170/2المغني ،469/4 :الشرح الصغير 382/3 :ومابعدها.
( )4/486
( )4/487
هذا مع العلم بأن أصل المذهب الحنفي عدم جواز الحجر بسبب الدين .لكن المفتى به عند الحنفية هو
قول الصاحبين وهو جواز الحجر .وكانت ديونه مستغرقة لماله (أي محيطة بها) وطلب الدائنون
الغرماء الحجر عليه ( )1وهذا هو المفلس ،والمفلس لغة :من ل مال له ،وشرعا ،من دينه أكثر من
ماله .وأجاز المالكية الحجر على المدين المفلس دون حاجة لحكم قضائي ،أي على الغريم نفسه ،ولو
كان الدين المحيط بالمال مؤجلً.
وبالحجر على المدين تنتقص أهليته ،ويصبح كالصغير المميز ،ومتى وقع الحجر عليه صارت
تصرفاته المالية التي تضر بدائنيه موقوفة على إجازتهم ،سواء أكانت تلك التصرفات تبرعات محضة
كالهبة أو الوقف ،أم معاوضات مشتملة على المحاباة في الثمن ،كالبيع بأقل من القيمة ،أو الشراء
بأكثر من القيمة ،فإن أجازوا التصرف نفذ ،وإن رفضوه بطل.
وهذا يعني عند الحنفية :أنه إذا صح الحجر على المدين ،صار المحجور كمريض عليه ديون الصحة،
فكل تصرف أدى إلى إبطال حق الدائنين الغرماء ،فالحجر (أي المنع من التصرف) يؤثر فيه كالهبة
والصدقة.
وأما البيع :فإن كان بمثل القيمة جاز ،وإن كان بغبن فل يجوز ،ويتخير المشتري بين إزالة الغبن،
وبين الفسخ ،كبيع المريض.
ويجوز له الزواج بمهر المثل والطلق والخلع ونحو ذلك ،كما يجوز له قبول الهبات والتبرعات.
- 8مرض الموت :
البحث فيه يتناول تعريفه وما يلحق به ،والحقوق المتعلقة به ،وحقوق المريض
-------------------------------
( )1نصت المادة ( 998مجلة) على ما يأتي «لو ظهر عند الحاكم مماطلة المديون في أداء دينه حال
كونه مقتدرا ،وطلب الغرماء بيع ماله وتأدية دينه حجر الحاكم ماله .وإذا امتنع عن بيعه وتأدية الدين
باعه الحاكم وأدى دينه »..ونصت المادة ( )999على جواز حجر الحاكم المدين المفلس الذي دينه
مساوٍ لماله أو أزيد...
( )4/488
نفسه ،وحقوق الدائنين والموصى لهم والورثة ،وتصرفات المريض نفسه ،وإقراره (. )1
أ ـ تعريفه :هو المرض الذي يعجز الرجل أو المرأة عن ممارسة أعمالها المعتادة ويتصل به الموت
قبل مضي سنة من بدئه ،إذا لم يكن في حالة تزايد أو تغير ،فإن كان يتزايد اعتبر مرض موت من
تاريخ اشتداده أو تغيره ،ولو دام أكثر من سنة (م 1595مجلة).
ويقال لصاحبه :المريض؛ ويقابله :الصحيح .وهذا هو مراد فقهاء الحنفية عند إطلق كلمة ( المريض
) أي من هو في مرض الموت .أو كلمة ( الصحيح ) أي من ليس في حال مرض الموت ،ولو كان
مريضا بمرض آخر.
ول بد لتوافر معنى مرض الموت من أمرين :أن يكون مما يغلب فيه الهلك عادة وأن يتصل به
الموت فعلً ،ولو من حادث آخر كالقتل والحرق والغرق وغيرها.
وبناء عليه ألحق الفقهاء به حالت مثل (: )2
ركاب سفينة جاءتها ريح عاصف ،وظنوا أن الموت نازل بهم.
السرى لدى دولة اعتادت قتلهم.
المجاهد الذي خرج للقاء العدو بائعا نفسه في سبيل ال والوطن.
ب ـ حكمه والحقوق المتعلقة به :مرض الموت ل ينافي أهلية وجوب الحكام الشرعية في حقه،
سواء حقوق ال وحقوق العباد وأهلية العبادة ،لنه لتأثير له على الذمة والعقل والنطق.
ول ينافي أيضا أهلية الداء؛ لنه ل يخل بالعقل ،فتجب للمصاب به حقوق غيره ،كما تجب على
الصحيح .وتظل عباراته وأقواله معتبرة كالبيع والهبة والجارة والزواج والطلق وسائر التصرفات.
إل أنه يحجر عليه ويمنع من بعض التصرفات كالمديون حماية لحقوق الدائنين التي تصبح متعلقة
بماله بعد أن كانت متعلقة بذمته فقط ،وحماية لحقوق الورثة أيضا التي تصبح متعلقة بأعيان
وموجودات التركة نفسها في رأي أبي حنيفة خلفا لصاحبيه.
ج ـ حقوق المريض الخاصة :تصرفات المريض الضرورية الخاصة بشخصه وأسرته نافذة ،ل
تتوقف على إجازة أحد ،وهي ما يلي:
أولً ـ النفقات الضرورية اللزمة للطعام والكسوة والسكنى له ولمن تلزمه نفقته ،أو اللزمة للعلج
كأجر الطبيب وثمن الدواء وأجور عملية جراحية ونحوها.
-------------------------------
( )1راجع التلويح على التوضيح ،177/2 :كشف السرار :ص ،1427التقرير والتحبير،186/2 :
مرآة الصول ،447/2 :البدائع 224/7 :ومابعدها ،الدر المختار 481/4 :ومابعدها.
( )2الموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى :ص .340
( )4/489
ثانيا ـ الزواج :للمريض إبرام عقد زواج ،لنه قد يحتاج إلى من يخدمه أو يؤنسه ،بشرط أل يزيد
المهر الذي يحدده على مهر المثل ،فإن زاد عليه كانت الزيادة تبرعا وصية موقوفة على إجازة
الورثة إن زادت على ثلث التركة ،فإن كانت في حدود هذا الثلث نفذت بدون إجازتهم.
ثالثا :الطلق :الطلق نافذ أثناء مرض الموت باتفاق الفقهاء ،لكنه إذا كان بائنا بغير رضا المرأة
ومات الرجل في أثناء العدة ،استحقت الميراث منه ،لنه بطلقها يعتبر فارّ ا (هاربا) من ميراثها،
فيعامل بنقيض مقصوده .وهذا رأي الحنفية ،وعليه العمل في المحاكم الحالية ( . )1والخلع جائز
أيضا كالطلق لكن الرجل ل يستحق من بدل الخلع الذي تدفعه المرأة له إذا ماتت في العدة إل القل
من ثلثة (بدل الخلع ،وثلث تركة الزوجة ،ونصيب الزوج من ميراثه منها) .وإن ماتت بعد العدة
استحق القل من اثنين (بدل الخلع ،وثلث التركة).
رابعا ـ العقود الواردة على المنافع ،سواء أكانت بعوض أم بغير عوض كالجارة والعارة
والمزارعة والمساقاة ونحوها .للمريض مباشرة هذه العقود ولو كان العقد بأقل من عوض المثل ،دون
أن يحق لحد من الورثة أو الدائنين العتراض عليه؛ لن المنافع ليست أموالً في مذهب الحنفية ،فل
يتعلق بها حق لحد الورثة أو الدائنين ،ولن التصرف في المنافع ينتهي بمجرد موت أحد العاقدين،
فل يكون هناك حاجة لعتراض الدائنين أو الورثة .وأما غير الحنفية الذين يعدون المنافع أموالً ،فإن
التصرف فيها خاضع لجازة أصحاب الحق.
خامسا ـ العقود المتعقلة بالربح ول تمس رأس المال كالشركة والمضاربة تصحان من المريض ،ولو
بغبن؛ لن الربح كالمنافع ل حق لحد فيه ،ولن الشركة تبطل بموت المريض ،فل ضرر فيها على
أحد؛ لن حقوق الورثة أو الدائنين تتعلق بأعيان التركة أو بماليتها.
-------------------------------
( )1هناك آراء أخرى :يرى الحنابلة أنها تستحق الميراث ولو انقضت عدتها مالم تتزوج قبل موته.
ويرى المالكية :أنها تستحق الميراث ولو تزوجت غيره قبل الموت .وقال الشافعية :لتستحق الميراث
أصلً ،ولو مات زوجها وهي في العدة.
( )4/490
والخلصة :إن كل تصرف يضطر إليه المريض ،أو ل يمس حقوق الدائنين أو الورثة هو نافذ ل
يتوقف على إجازة أحد.
د ـ حقوق الدائنين :تأتي بعد حقوق المريض الخاصة .فإذا كان المريض مدينا منع من التصرف
الضار بمصلحة الدائنين .وعليه إذا كان المريض مدينا بدين مستغرق (محيط بكل ماله) منع من
التبرعات أو ما في حكمها ،كالهبة والوقف والوصية بشيء من أمواله ،والبيع أو الشراء بالمحاباة.
ويكون تصرفه موقوفا على إجازة الدائنين بعد وفاة المريض.
وإن كان المريض مدينا بدين غير مستغرق ،اعتبر تصرفه مع غير الوارث نافذا إذا لم يشتمل على
غبن فاحش .أما إذا حدث التصرف مع وارث ،فله حكم الوصية :ينفذ من الثلث بعد وفاء الديون.
ويتوقف على إجازة الورثة فيما يزيد عن الثلث.
هـ ـ حقوق الموصى له :للمريض أن يوصي بقدر ثلث التركة ،فإذا مات مدينا بدين مستغرق
للتركة بطلت الوصية ،إل إذا أجازها الدائنون .وإذا لم يكن مدينا أو مدينا بدين غير مستغرق نفذت
الوصية لجنبي في حدود ثلث التركة .وإن كانت الوصية لوارث صارت موقوفة على إجازة الورثة،
مهما كان الموصى به ،لقوله عليه الصلة والسلم« :ل وصية لوارث» .
( )4/491
و ـ حقوق الورثة :تتعلق حقوق الورثة بثلث تركة المريض بعد وفاء الديون وتنفيذ الوصايا .فإن لم
يكن هناك ديون ول وصايا استحقوا التركة كلها .و تأتي حقوقهم بعد حقوق الدائنين والموصى لهم.
وبناء عليه :كل تصرف من المريض ليضر بحقوق الورثة يكون صحيحا نافذا ل اعتراض لحد
عليه .وإن كان التصرف ضارا بحقوقهم ،كان لهم مع نفاذه حال الحياة حق إبطاله بعد الموت إن كان
مما يقبل الفسخ كالتبرعات .لكن ما نوع حق الورثة بالتركة :هل هو حق شخصي أو حق عيني (
)1؟
قال أبو حنيفة :يتعلق حق الورثة بمالية التركة إن تصرف المريض لجنبي غير وارث ،ويتعلق حقهم
بأعيان التركة وذاتها نفسها إن تصرف المريض لوارث ،أي أن حقهم في الحالة الثانية حق عيني،
وفي الولى حق شخصي .ويترتب عليه :يصح تصرف المريض لغير الوارث ببعض أموال التركة
بمثل القيمة ،دون اعتراض من أحد الورثة .ول يصح تصرف المريض لوارث ببعض أموال التركة
ولو بقيمته بل أي غبن .ويحق لباقي الورثة نقض هذا التصرف لما فيه من ضرر بمصلحتهم؛ لن
حقهم تعلق بأعيان التركة ،وإيثار بعض الورثة على بعض ل يجوز .أما في حال تصرف المريض
مع غير الورثة فإن حقهم تعلق بقيمة التركة أو ماليتها.
وقال الصاحبان (أبو يوسف ومحمد) :يتعلق حق الورثة كحق الدائنين العاديين بمالية التركة ،أي
بقيمتها ،ل بأعيانها ،سواء أكان تصرف المريض مع وارث أم غير وارث .فيصح تصرف المريض
بمال مطلقا (لوارث أو لغير وارث) إذا كان بثمن المثل أي بدون غبن ،إذ ليس فيه ضرر بباقي
الورثة؛ لن حقوقهم في التركة متعلقة بناحية أنها مال فقط.
-------------------------------
( )1الحق الشخصي :هو علقة بين شخصين يكون أحدهما مكلفا تجاه الخر بعمل أو بالمتناع عن
عمل كحق الدائن في ذمة المدين ،أو حق المودع على الوديع في أل يستعمل الوديعة .والحق العيني:
علقة مباشرة بين شخص وشيء معين بذاته مثل حق الملكية على الموال وحق الرتفاق المقرر
على عقار معين مثل حق المرور أو المسيل.
( )4/492
والخلصة :أن هناك ـ على الرأي الراجح وهو رأي أبي حنيفة ـ فرقا بين حق الدائنين وحق
الورثة :وهو أن حق الدائنين يتعلق بمال المدين فقط ،ل بأعيان التركة نفسها .حتى جاز للمريض
مبادلة مال بيعا أو شراءً دون حاجة لذن الدائن ،ويجوز للورثة إعطاء الدائن دينه نقدا ،ثم يتصرفون
بأعيان التركة كما يشاؤون.
ز ـ تصرفات المريض :إذا كان التصرف الصادر من المريض ل يقبل الفسخ أو البطال كالزواج
والطلق والرجعة والعفو عن القصاص ،نفذ بعد الموت في حدود ثلث التركة .وإن كان التصرف
قابلً للفسخ ،كان موقوفا على إجازة أصحاب الحق بعد الوفاة إذا كان ضارا بمصلحتهم كالتبرع
والهبة والوقف وبيع المحاباة ،وكالبيع المشتمل على غبن .فإن كان التصرف ل غبن فيه ،ومع أجنبي
غير وارث ،نفذ ولم يتوقف على إجازة أحد.
ح ـ إقرار المريض :للمريض أن يقر بدين عليه لجنبي أو لوارث .فإن كان لجنبي غير وارث فهو
صحيح نافذ دون حاجة لجازة الورثة ،ولو أحاط القرار بجميع ماله (م 1601مجلة) ،لكن تقدم عليه
عند الحنفية ديون الصحة (. )1
وإن كان القرار لوارث فل ينفذ إل بإجازة باقي الورثة ،فإن أجازوه نفذ ،وإل بطل .لكن يصح
القرار لوارث استثناء كما في حال القرار بقبض أمانته الموجودة عند وارث ،أو باستهلك المانة
أو الوديعة الموجودة عنده لوارث (م 1598مجلة).
-------------------------------
( )1ديون الصحة :هي الديون التي تثبت قبل مرض الموت ،ولو بالقرار وحده حينئذ .وقال غير
الحنفية :دين الصحة ودين المرض يتساويان ،فل يقدم دين الصحة على دين المرض ،لنهما حقان
ثابتان.
( )4/493
( )4/494
المميز ،كان باطلً .فإن كان العاقد ناقص الهلية كالصبي المميز ،توقف عقده المتردد بين الضرر
والنفع كالبيع على إجازة وليه أو وصيه ،على ما سبق بيانه.
- 3إذا صدر العقد من صاحب أهلية أداء كاملة ،ولكنه فاقد الولية ،وهو الفضولي ،كان موقوفا
على إجازة المعقود له ،على ما سيتضح في بحث لحق ،أي أنني سأخصص مبحثا مستقلً لكل من
الوكالةوالفضالة باعتبارهما من أنواع النيابة عن الغير حال الحياة.
أنواع الولية :الولية إما أن تكون أصلية :بأن يتولى الشخص عقدا أوتصرفا لنفسه ،بأن يكون كامل
أهلية الداء (بالغا عاقلً راشدا) ،أو نيابية :بأن يتولى الشخص أمور غيره.
والولية النيابية أو النيابة الشرعية عن الغير :إما أن تكون اختيارية أو إجبارية (: )1
الختيارية :هي الوكالة أي تفويض التصرف والحفظ إلى الغيرعلى ماسيأتي.
والجبارية :هي تفويض الشرع أو القضاء التصرف لمصلحة القاصر ،كولية الب أو الجد أو
الوصي على الصغير ،وولية القاضي على القاصر .فمصدر ولية الب أو الجد أو القاضي هو
الشرع .ومصدر ولية الوصي إما اختيار الب أو الجد ،أو تعيين القاضي.
والولية النيابية الجبارية :إما أن يكون ولية على النفس أو ولية على المال.
الولية على النفس :هي الشراف على شؤون القاصر الشخصية كالتزويج والتعليم والتأديب والتطبيب
والتشغيل في حرفة ونحو ذلك .وليس هنا محل بحثها.
والولية على المال :هي الشراف على شؤون القاصر المالية من حفظ المال واستثماره وإبرام العقود
والتصرفات المتعلقة بالمال .وهي محل البحث هنا.
-------------------------------
( )1البدائع.152/5 :
( )4/495
الولياء ودرجاتهم:
الولية على النفس :تثبت للقرب فالقرب من العصبات ( )1على الترتيب التالي:
- 1البنوة (البناء ثم أبناء البناء) فابن المجنون والمجنونة مثلً يتولى شؤونهما الشخصية.
- 2البوة (الباء ثم الجداد).
3ـ الخوة (الخوة ثم أبناء الخوة).
- 4العمومة (العمام ثم أبناء العمام).
وهذا هو ترتيب الرث والولية في الزواج ،وقد نصت على ذلك المادة ( )21من قانون الحوال
الشخصية السوري.
والولية على المال :بالنسبة للصغير القاصر :تثبت عند الحنفية على الترتيب التالي :الب ،ثم وصي
الب ،ثم الجد ،ثم القاضي ،ثم وصي القاضي :وهو من يعينه القاضي.
-------------------------------
( )1العصبات :قرابة الشخص الذكور من جهة الب ،كالخ والعم وابن العم.
( )4/496
والسبب في هذا الترتيب ( : )1أن الب أوفر الناس شفقة على ولده .ويعقبه وصيه الذي اختاره ليقوم
مقامه ،والظاهر أنه ما اختاره من بين سائر الناس إل لعلمه بأن شفقته على الصغير مثل شفقته عليه.
والجد يأتي بعدئذ لن شفقته دون شفقة الب .ووصيه يليه ويقوم مقامه ،لنه وثقه وارتضاه .والقاضي
أمين على مصالح المة وبخاصة اليتامى فصلح أن يكون وليا ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :السلطان
ولي من ل ولي له» .
يتبين من ذلك أن الب ،والجد أب الب لهما ولية تامة على النفس وعلى المال معا .وقد نصت على
ذلك المادة ( )170من قانون الحوال الشخصية السوري« :للب ثم للجد العصبي ولية على نفس
القاصر وماله ،وهما ملتزمان بالقيام بها» .
كما نصت المادة )1/172على من تثبت له الولية على المال« :للب وللجد العصبي عند عدمه دون
غيرهما ولية على مال القاصر حفظا وتصرفا واستثمارا» .ونصت المادة ( )177على الوصي
المختار :وهو من يختاره الب أو الجد قبل موته« :يجوز للب وللجد عند فقدان الب أن يقيم وصيا
مختارا لولده القاصر ،أو الحمل ،وله أن يرجع عن إيصائه» .ونصت المادة ( )771على وصي
القاضي :وهو من يعينه القاضي« :إذا لم يكن للقاصر أو الحمل وصي مختار تعين المحكمة وصيا» .
من يحتاج إلى الولية :
تثبت الولية على الصغير القاصر والمجنون والمعتوه ،والمغفل ،والسفيه ،وقد اصطلح قانون الحوال
الشخصية السوري في المادة ( )163على تسميات لنواع الولية على هؤلء كما يبدو من النص
التالي:
« - 1النيابة الشرعية عن الغير تكون إما ولية ،أو وصاية أو قوامة ،أو وكالة قضائية.
- 2الولية للقارب للب أو غيره ،والوصاية على اليتام ،والقوامة على المجانين والمعتوهين،
والمغفلين والسفهاء .والوكالة القضائية عن المفقودين » .
والحقيقة أن حالت النيابة الشرعية الربع هذه كلها داخلة تحت كلمة (الولية) عند فقهائنا كما تبين
لدينا.
-------------------------------
( )1البدائع.155 ،152/5 :
( )4/497
أما الولية على مال الصغير القاصر :فتكون لحد الولياء الستة الذين ذكروا سابقا وهم (الب
ووصيه ،والجد ووصيه ،والقاضي ووصيه) (. )1
وأما الولية على المجنون أو المعتوه :إذا بلغ على هذه الحالة ،فإنها تكون لمن كان وليه قبل البلوغ
من أب أو جد أو وصي ،باتفاق المذاهب الربعة ،كما تقدم.
فإن بلغ الشخص رشيدا ثم طرأ عليه الجنون أو العته ،عادت إلىه ولية من كان وليه قبل البلوغ،
على الرأي الراجح عند الحنفية ،والشافعية (. )2
وقال المالكية والحنابلة :تكون الولية عليه حينئذ للقاضي ،ول تعود لمن كانت له من أب أو جد؛ لن
الولية سقطت ببلوغ الصغير رشيدا ،والساقط ليعود (. )3
وقانون الحوال الشخصية السوري أخذ بالرأي الثاني في المادة ( )002وهي - 1ً« :المجنون
والمعتوه محجوران لذاتهما ،ويقام على كل منهما قيم بوثيقة» ومعنى المادة أن تصرفات المجنون
والمعتوه تعد باطلة ،ولو قبل شهر قرار الحجر عليهما ،حماية لمصالحهما.
وأما القانون المدني السوري في المادة ( )115فلم يعتبر تصرفات المجنون والمعتوه باطلة إل بعد
شهر قرار الحجر عليهما حماية لستقرار المعاملت إل في حالتين استثناهما نص المادة وهي:
- 1يقع باطلً تصرف المجنون والمعتوه ،إذا صدر التصرف بعد شهر قرار الحجر.
- 2أما إذا صدر التصرف قبل شهر قرار الحجر ،فل يكون باطلً إل إذا كانت حالة الجنون أو
العته شائعة وقت التعاقد ،أو كان الطرف الخر على بينة منها.
وأما الولية على السفيه وذي الغفلة :فإنها تكون للقاضي باتفاق المذاهب الربعة ( )4؛ لن الحجر
عليهما متوقف على قضاء القاضي ،حفاظا على مالهما ومراعاة لمصلحتهما.
وعلى هذا تكون تصرفاتهما صحيحة نافذة قبل إيقاع الحجر عليهما .نصت المادة ( )2/200من قانون
الحوال الشخصية السوري على ذلك فيما يأتي« :السفيه والمغفل يحجران قضاء ،وتصرفاتهما قبل
القضاء نافذة ،ويقام على كل منهما قيم بقرار الحجر نفسه ،أو بوثيقة على حدة» .
-------------------------------
( )1الولية في مذهبي المالكية والحنابلة تكون أولً للب ثم لوصيه ،ثم للحاكم ،ثم لمن يقيمه أمينا
عنه ول ولية للجد وغيره من القرابة (الشرح الكبير للدردير ،292/3 :غاية المنتهى )140/2 :وعند
الشافعية :الولية للب أولً ثم للجد أبي الب ،ثم لوصيهما ثم القاضي أي العدل المين (نهاية
المحتاج.)355/3 :
( )2تبيين الحقائق 195/5 :وما بعدها ،مغني المحتاج ،171/2 :نهاية المحتاج.356/3 :
( )3غاية المنتهى ،142/2 :الشرح الكبير للدردير.292/3 :
( )4المراجع السابقة :مغني المحتاج.170/2 :
( )4/498
واشترط القانون المدني السوري لبطال تصرف المغفل والسفيه شهر قرار الحجر إل في حالتين
نصت المادة ( )116منه على ما يأتي:
« -1إذا صدر تصرف من ذي الغفلة أو من السفيه بعد شهر قرار الحجر ،سرى على هذا التصرف
ما يسري على تصرفات الصبي المميز من أحكام.
- 2أما التصرف الصادر قبل شهر قرار الحجر ،فل يكون باطلً أو قابلً للبطال ،إل إذا كان نتيجة
استغلل أو تواطؤ» .
وأما الوكالة القضائية :فهي نوع من الولية قررتها القوانين النافذة في أحوال ثلث:
- 1المفقود والغائب :نص قانون الحوال الشخصية السوري في المواد ( )206 - 202على
أصولهما والحكام المتعلقة بهما ،ومنها أن المفقود :هو كل شخص ل تعرف حياته أو مماته ،أو
تكون حياته محققة ،ولكن ل يعرف له مكان (م )202ومنها أنه يعتبر كالمفقود :الغائب الذي منعته
ظروف قاهرة من الرجوع إلى مقامه أو إدارة شؤونه بنفسه ،أو بوكيل عنه ،مدة أكثر من سنة،
وتعطلت بذلك مصالحه أو مصالح غيره.
أما حكم زوجة المفقود فقد نصت المادة ( )109من هذا القانون على أنه« :إذا غاب الزوج بل عذر
مقبول ،أو حكم بعقوبة السجن أكثر من ثلث سنوات ،جاز لزوجته بعد سنة من الغياب أو السجن أن
تطلب إلى القاضي التفريق ،ولو كان له مال تستطيع النفاق منه» .
والتفريق للغيبة بعد سنة في هذه المادة مأخوذ من القول المعتمد في مذهب المالكية .وأما أموال
المفقود :فقد نصت المادة ( )302من هذا القانون على حكمها فيما يأتي:
- 1يوقف للمفقود من تركة مورثه نصيبه فيها ،فإن ظهر حيا أخذه ،وإن حكم بموته رد نصيبه إلى
من يستحقه من الورثة وقت موت مورثه.
- 2إن ظهر حيا بعد الحكم بموته ،أخذ ما بقي من نصيبه في أيدي الورثة ول توزع تركة المفقود
قبل موته أو الحكم باعتباره ميتا عند بلوغه الثمانين من العمر (م .)205
- 2المصاب بعاهتين من ثلث عاهات هي الصمم والبكم والعمى.
( )4/499
نص القانون المدني السوري على ذلك في المادة ( - 1« :)118إذا كان الشخص أصم أبكم ،أو أعمى
أصم ،أو أعمى أبكم ،وتعذر عليه بسبب ذلك التعبير عن إرادته ،جاز للمحكمة أن تعين له مساعدا
قضائيا يعاونه في التصرفات التي تقتضي مصلحته فيها ذلك» .
- 3المحكوم عليه بالشغال الشاقة أو بالعتقال:
نص قانون العقوبات السوري في المادة 50على عقوبة تبعية لهذا الشخص بالضافة إلى السجن،
وهي الحجر عليه ،أو منعه من التصرف بماله ،وتعيين وصي يشرف على أمواله ،ونص هذه المادة
ما يأتي:
« - 1كل محكوم عليه بالشغال الشاقة أو بالعتقال يكون في خلل تنفيذ عقوبته في حالة الحجر،
وتنقل ممارسة حقوقه على أملكه ،ما خل الحقوق الملزمة للشخص (أي كالطلق) إلى وصي وفقا
لحكام قانون الحوال الشخصية المتعلقة بتعيين الوصياء على المحجور عليهم ،وكل عمل وإدارة أو
تصرف يقوم به المحكوم عليه يعتبر باطلً بطلنا مطلقا مع الحتفاظ بحقوق الغير من ذوي النية
الحسنة ،ول يمكن أن يسلم إلى المحكوم عليه أي مبلغ من دخله ما خل المبالغ التي يجيزها القانون
وأنظمة السجون» .
مبدأ الولية :
تبدأ الولية على الشخاص منذ ولدتهم ،وتستمر حتى سن الرشد ،أما الجنين فل ولية لحد عليه
قبل الولدة عند غالبية الفقهاء ،فلو اشترى له شخص شيئا أو وهب له شيء ،فل يتملكه ،حتى ولو
ولد حيا ،وإنما تثبت له الحقوق الضرورية الربعة التي ذكرت سابقا.
( )4/500
لكن قانون الحوال الشخصية السوري في المادة ( )176الذي أخذ بالمقرر في فقه الشريعة الزيدية،
وقانون الولية على المال الصادر بمصر سنة 1952م أجازا للب أو للجد تعيين وصي للحمل
المستكن .والوصي المقصود هنا في تقديري ليس مجرد أمين لحفظ المال حتى الولدة كما فهم كثير
من الشراح ،وإنما الذي له صلحيات الوصياء عادة ،عملً بإطلق النص ،وبالمفهوم من التسوية في
الحكم بين وصي الحمل ،ووصي القاصر في مادة واحدة ،وتحقيقا للهدف المنشود من تعيين الوصي
وهو رعاية مصلحة الجنين وتثمير ماله وتنميته فضلً عن حفظه.
شروط الولي :
الولية مسؤولية كبرى في إدارة أموال وأعمال الغير ،ويترتب عليها نفاذ التصرفات غالبا ،لذا يشترط
في الولي الخاص كالب أو ا لجد أو الولي العام كالقاضي وناظر الوقف ومدير المؤسسة الخيرية
شروط إما في شخصه أو في تصرفاته (. )1
- 1كمال أهلية الداء بالبلوغ والعقل ،فل ولية للمجنون ول للصغير ،لنه ل ولية لهما على
أنفسهما ،فل تكون لهما ولية على غيرهما ،إذ فاقد الشيء ليعطيه.
- 2اتحاد الدين بين الولي والمولى عليه ،فل تثبت ولية لغير المسلم على المسلم ،كما ل ولية
للمسلم على غير المسلم؛ لن اتحاد الدين باعث غالبا على الشفقة ورعاية المصلحة.
-------------------------------
( )1مختصر الطحاوي :ص 160ومابعدها ،البدائع ،153/5 :الدر المختار ورد المحتار.495/5 :
( )4/501
- 3العدالة :أي الستقامة على أمور الدين والخلق والمروءات ( ، )1فل ولية للفاسق؛ لن فسقه
يجعله متهما في رعاية مصالح غيره.
- 4القدرة على التصرف مع المانة :لن المقصود من الولية تحقيق مصلحة المولى عليه ،وهي ل
تتحقق مع العجز وعدم المانة (. )2
- 5رعاية مصلحة المولى عليه في التصرفات ،لقوله تعالى{ :ول تقربوا مال اليتيم إل بالتي هي
أحسن} [السراء ]34/17:فليس للولي سلطة في مباشرة التصرفات الضارة بالمولى عليه ضررا
محضا ،كالتبرع من مال القاصر بالهبة أو الصدقة ،أو البيع أو الشراء بغبن فاحش ،أو الطلق .فإن
أمكن تنفيذها على الولي نفسه نفذت وإل كانت باطلة.
أما التصرفات النافعة نفعا محضا كقبول الهبة والوصية والكفالة بالمال ،والتصرفات المترددة بين
الضرر والنفع كالبيع والشراء بغبن يسير أو بمثل القيمة ،فتكون صحيحة نافذة.
إذا أخل الولي بأحد هذه الشروط ،جاز للقاضي تبديله بسبب نقص الهلية أو الكفر أو الفسق .فإن
صار الولي غير أمين ضم القاضي إليه مساعدا آخر يعينه.
-------------------------------
( )1نصت المادة 1/178على ما يلي« : :يجب أن يكون الوصي عدلً قادرا على القيام بالوصاية ذا
أهلية كاملة ،وأن يكون من ملة القاصر» .
( )2منع قانون الحوال الشخصية السوري في المادة 2/178الوصي من الولية في حالت،ونصها
هو:
ل يجوز أن يكون وصيا:
أ ـ المحكوم عليه في جريمة سرقة أو إساءة الئتمان ،أو تزوير أو في جريمة من الجرائم المخلة
بالخلق والداب العامة.
ب ـ المحكوم بإفلسه إلى أن يعاد إليه اعتباره.
ج ـ من قرر الب أو الجد عند عدمه حرمانه من التعيين قبل وفاته إذا ثبت ذلك ببينة خطية.
د ـ من كان بينه هو أو أحد أصوله أو فروعه أو زوجه وبين القاصر نزاع قضائي ،أو خلف
عائلي يخشى منه على مصلحة القاصر.
( )4/502
( )4/503
الوكالة
الوكالة :نيابة شرعية عن الغير حال الحياة ،وهي نوع من الولية كما تقدم ،وأبحث فيها ما يأتي:
تعريفها ،ركنها ،شروطها ،أنواعها وتصرفات الوكيل ،هل للوكيل توكيل غيره؟ تعدد الوكلء ،الفرق
بين الرسول والوكيل ،حكم العقد وحقوقه في حال التوكيل ،انتهاء الوكالة.
تعريف الوكالة ومشروعيتها :
الوكالة في اللغة تطلق ويراد بها إما ا لحفظ ،كما في قوله تعالى{ :وقالوا :حسبنا ال ونعم الوكيل} [آل
عمران ]173/3:أي الحافظ .وإما التفويض ،كما في قوله سبحانه{ :وعلى ال فليتوكل المتوكلون}
[إبراهيم{ ]12/14:إني توكلت على ال ربي وربكم} [هود ]56/11:ويقال :وكل أمره إلى فلن :أي
فوضه إليه واكتفى به.
وعند الفقهاء يراد بها المعنيان ،وإن كان المعنى الول تبعيا والثاني هو
الصل .وعبارة الحنفية ( )1في تعريفها :هي إقامة الشخص غيره مقام نفسه في تصرف جائز
معلوم .أو هي :تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل.
وعبارة المالكية والشافعية والحنابلة ( )2في تعريفها :هي تفويض شخص ماله فعله مما يقبل النيابة
إلى غيره ليفعله في حياته .وضابط ما يقبل النيابة هو ما يأتي:
هو كل تصرف جاز للشخص مباشرته بنفسه ولو من حيث المبدأ جاز له التوكيل فيه.
والناس قديما وحديثا بحاجة يومية إلى الوكالة في كثير من أحوالهم وأمورهم ،إما أنفة أو عدم لياقة
بمباشرة الشيء بالذات كتوكيل المير أو الوزير ،وإما عجزا عن المر كتوكيل المحامين في
الخصومات ،والخبراء بالبيع والشراء في التجارات.
-------------------------------
( )1تبيين الحقائق ،254/4 :البدائع ،19/6 :رد المحتار.417/4 :
( )2مغني المحتاج ،217/2 :الشرح الكبير للدردير ،377/3 ،غاية المنتهى.147/2 :
( )4/504
لذا أقرتها الشرائع السماوية ،قال تعالى في القرآن الكريم حكاية عن أصحاب الكهف{ :فابعثوا أحدكم
بورقكم هذه إلى المدينة ،فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه[ }..الكهف ]19/18:الية .وفي
السنة النبوية :وكل النبي صلّى ال عليه وسلم حكيم بن حزام (أو عروة البارقي) بشراء شاة أضحية (
. )1ووكل عمرو ابن أمية الضمري في زواج أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي بالحبشة ( . )2ووكل
في القيام بأعمال الدولة كجباية الزكاة وإدارة الجيش وولية القاليم.
الوكالة بأجر :تصح الوكالة بأجر ،وبغير أجر ،لن النبي صلّى ال عليه وسلم كان يبعث عماله لقبض
الصدقات ،ويجعل لهم عمولة ( . )3فإذا تمت الوكالة بأجر ،لزم العقد ،ويكون للوكيل حكم الجير،
أي أنه يلزم الوكيل بتنفيذ العمل ،وليس له التخلي عنه بدون عذر يبيح له ذلك ،وإذا لم يذكر الجر
صراحة حكم العرف :فإن كانت مأجورة عادة كتوكيل المحامين وسماسرة البيع والشراء ،لزم أجر
المثل ،ويدفعه أحد العاقدين بحسب العرف .وإن كانت غير مأجورة عرفا ،كانت مجانا ،أو تبرعا،
ل بالصل في الوكالت :وهو أن تكون بغير أجر على سبيل التعاون في الخير .وهذا النوع ل
عم ً
يلزم فيه المضي في العمل ،بل للوكيل التخلي عنه في أي وقت .وهذا مذهب الحنفية والمالكية
والحنابلة ( . )4وقال الشافعية :الوكالة ولو بجُعل جائزة أي غير لزمة من الجانبين (. )5
-------------------------------
( )1توكيل حكيم رواه أبو داود والترمذي عن حكيم بن حزام نفسه ،وتوكيل البارقي رواه أحمد
والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن عروة نفسه (نيل الوطار.)270/5 :
( )2رواه أبو داود في سننه ( .)468/1
( )3التلخيص الحبير.275 ،251 ،176/1 :
( )2تكملة فتح القدير ،123/6 :المغني ،85/5 :القوانين الفقهية :ص ،329الشرح الكبير396/3 :
ومابعدها.
( )5نهاية المحتاج 38/4 :ومابعدها.
( )4/505
ركن الوكالة :ركن الوكالة :اليجاب والقبول ،اليجاب من الموكل كأن يقول :وكلتك بكذا ،أو افعل
كذا ،أو أذنت لك أن تفعل كذا ونحوه .والقبول من الوكيل كأن يقول :قبلت ونحوه .ول يشترط في
القبول كونه لفظا أو قولً ،وإنما يصح أن يكون بالفعل .فإذا علم الوكيل بالتوكيل ،فباشر التصرف
الموكل فيه ،اعتبر ذلك قبولً ،ول يشترط في الوكالة (كما عرفنا في بحث مجلس العقد) اتحاد مجلس
اليجاب والقبول ،وإنما يكفي العلم بالوكالة ومباشرة التصرف.
والوكالة بغير أجر عقد جائز غير لزم ( )1أي يجوز لحد العاقدين فسخه متى شاء.
والوكالة باعتبارها إطلقا في التصرف يصح أن تكون منجزة في الحال ،كأنت وكيلي من الن في
كذا ،كما يصح عند الحنفية والحنابلة ( : )2أن تكون مضافة إلى وقت في المستقبل ،كأنت وكيلي في
الدعوى الفلنية في الشهر القادم ،أو معلقة على شرط ،مثل :إن قدم فأنت وكيلي في بيع هذا الكتاب،
لحاجة الناس إلى ذلك.
وقال الشافعية في الصح :ل يصح تعليق الوكالة بشرط من صفة أو وقت ،مثل :إن قدم زيد أو رأس
الشهر فقد وكلتك بكذا ،لما في التعليق من غرر (أي احتمال) ،لكن يصح عندهم جعل الوكالة منجزة
في الحال ،واشتراط بدء التصرف معلقا على شرط ،مثل أنت وكيلي الن في بيع هذه الرض ،ولكن
ل تبعها إل بعد شهر ،أو إل إذا تركت وظيفتي.
-------------------------------
( )1بداية المجتهد ،297/2 :المغني ،113/5 :غاية المنتهى ،154/2 :مغني المحتاج231/2 :
ومابعدها ،الدر المختار.433/4 :
( )2البدائع ،20/6 :غاية المنتهى ،147/2 :المغني.85/5 :
( )4/506
( )4/507
- 2أن يكون التصرف مباحا شرعا :فل يجوز التوكيل في فعل محرم شرعا ،كالغصب أو العتداء
على الغير.
- 3أن يكون مما يقبل النيابة ،كالبيع والشراء والجارة والتبرع ،ورد الودائع وقضاء الديون
ونحوها.
وذلك لن التصرفات بالنظر لقبولها النيابة وعدم قبولها أنواع ثلثة:
نوع يقبل النيابة اتفاقا ،كما تقدم.
ونوع ل يقبل النيابة اتفاقا ،كاليمين ،والعبادات الشخصية المحضة كالصلة والصيام والطهارة من
الحدث.
ونوع مختلف فيه كاستيفاء القصاص والحدود الشرعية .فقال الحنفية ( : )1ليجوز التوكيل فيها ،بل
ل بد من حضور الموكل وقت الستيفاء (أي التنفيذ) ،ولن غيبته شبهة ،والحدود تدرأ بالشبهات.
وقال غير الحنفية ( : )2يجوز التوكيل باستيفاء الحدود والقصاص ،سواء أحضر الموكل أم غاب؛
لن الحاجة قد تدعو لذلك ،ولن الوكيل كالصيل.
أنواع الوكالة :للوكالة أنواع منها ما يأتي:
أولً ـ الوكالة الخاصة والعامة :قد تكون الوكالة خاصة وقد تكون عامة (. )3
الوكالة الخاصة :هي النابة في تصرف معين ،كبيع أرض أو سيارة معينة ،وإجارة عقار محدد،
وتوكيل في دعوى معينة .وحكمها :أن الوكيل مقيد بما وكل فيه ،وإل كان فضوليا.
-------------------------------
( )1المبسوط ،106 ،9/19 :فتح القدير ،104/6 :البدائع ،21/6 :رد المحتار والدر المختار:
.418/4
( )2بداية المجتهد ،297/2 :الشرح الكبير ،378/3 :المغني ،84/5 :مغني المحتاج،221/2 :
المهذب.349/1 :
( )3الدر المختار وحاشية ابن عابدين ،416/4 :بداية المجتهد.297/2 :
( )4/508
والوكالة العامة :هي النابة العامة في كل تصرف أو شيء ،مثل أنت وكيلي في كل التصرفات ،أو
في كل شيء ،أو اشتر لي ما شئت أو ما رأيت ،وحكمها أن الوكيل يملك كل تصرف يملكه الموكل
وتجوز النيابة فيه ،ما عدا التصرفات الضارة بالموكل كالتبرعات من هبة ووقف ونحوهما،
والسقاطات من طلق وإبراء ونحوهما .فل يملك الوكيل هبة شيء من أموال الموكل ،ول طلق
زوجة الموكل ،إل بالنص على ذلك صراحة.
ثانيا ـ الوكالة المقيدة والمطلقة :قد تكون الوكالة أيضا مقيدة أو مطلقة (. )1
الوكالة المقيدة :هي التي يقيد فيها تصرف الوكيل بشروط معينة ،مثل وكلتك في بيع أرضي بثمن
حال قدره كذا ،أو مؤجل إلى مدة كذا ،أو مقسّط على أقساط معينة .وحكمها :أن الوكيل يتقيد بما قيده
به الموكل ،أي أنه يراعي القيد ما أمكن ،سواء بالنسبة للشخص المتعاقد معه أو لمحل العقد ،أو بدل
المعقود عليه .فإذا خالف الوكيل ل يلزم الموكل بالتصرف إل إذا كان خلفا إلى خير ،فيلزمه ،كأن
يبيع الشيء الموكل ببيعه بأكثر من الثمن المحدد له ،أو بثمن حال بدلً من الثمن المؤجل أو المقسط.
وإذا لم يلزم الموكل بالتصرف بسبب المخالفة ،كان الوكيل فضوليا ،ولزمه التصرف إن كان وكيلً
بالشراء لنه متهم بالشراء لنفسه .أما الوكيل بالبيع إذا خالف أمر الموكل فيتوقف على إجازة الموكل،
ول يلزم الوكيل بالعقد ،لتعذر تنفيذه عليه.
-------------------------------
( )1البدائع 27/6 :ومابعدها ،مختصر الطحاوي :ص 110ومابعدها ،المبسوط ،39/19 :الدر
المختار 421/4 :ومابعدها ،مجمع الضمانات :ص ،249تكملة فتح القدير 70/6 :وما بعدها.
( )4/509
والوكالة المطلقة :هي التي ل يقيد فيها الوكيل بشيء مثل :وكلتك في بيع هذه الرض ،من غير تحديد
ثمن معين ،أو كيفية معينة لوفاء الثمن .وحكمها عند أبي حنفية :أن المطلق يجري على إطلقه،
فللوكيل التصرف بأي ثمن قليلً أو كثيرا ،ولو بغبن فاحش ،معجلً أو مؤجلً ،صحيحا أو مريضا؛
لن الصل في اللفظ المطلق أن يجري على إطلقه ،ول يجوز تقييده إل بدليل ،كوجود تهمة ،ول
يعتمد على العرف ،لن العرف في البلد متعارض.
وقال الصاحبان ،وعلى رأيهما الفتوى ،ورأيهما هو الراجح وبه قال الشافعية والحنابلة والمالكية ()1
:يتقيد الوكيل بما تعارفه الناس ،فإذا خالف المتعارف كان فضوليا في تصرفه ،وتوقف نفاذه على
رضا الموكل .فليس للوكيل بالبيع مثلً أن يبيع بغبن فاحش :وهو ما ل يتساهل فيه الناس عادة ،ول
أن يبيع بغير النقد الغالب في البلد ،ول أن يبيع بثمن مؤجل أو مقسط إل إذا جرى العرف في مثله؛
لن الوكيل منهي عن ال ضرار بالموكل ،مأمور بالنصح له.
وفي الزواج :ليس للوكيل أن يزوج الموكل بامرأة ل تكافئه ،أو بمهر فيه غبن فاحش ،فإن فعل ذلك
كان تصرفا موقوفا على إجازة الموكل ،فإن أجازه نفذ ،وإل بطل.
حكم تصرفات الوكيل :
يترتب على الوكالة ثبوت ولية التصرف الذي تناوله التوكيل ،وسأذكر أهم التصرفات في أهم أنواع
الوكالت.
-------------------------------
( )1الشرح الكبير ،382/3 :المهذب 353/1 :ومابعدها ،مغني المحتاج ،229 -223/2 :بداية
المجتهد ،298/2 :المغني ،124/5 :قواعد الحكام لبن عبد السلم ،107/2 :ط الستقامة.
( )4/510
- 1الوكيل بالخصومة :أي بالمرافعة أمام القضاء كالمحامي اليوم ،يملك كل ما يتعلق بالدعوى وما
ل بد منه فيها ،ومن ذلك القرار على موكله عند الحنفية ما عدا زفر ( )1؛ لن مهمة الوكيل بيان
الحق وإثباته ،ل المنازعة فيه فقط ،وبيان الحق قد يكون إنكارا لدعوى الخصم ،وقد يكون إقرارا.
وقال زفر وأئمة المذاهب الثلثة الخرى ( : )2ل يقبل إقرار الوكيل بالخصومة على موكله بقبض
الحق وغيره ،لن التوكيل بالخصومة معناه التوكيل بالمنازعة ،والقرار مسالمة ،لنه يترتب عليه
إنهاء الخصومة ،فل يملكه الوكيل كالبراء .كذلك يملك الوكيل بالخصومة قبض المال المحكوم به
لموكله عند الحنفية ما عدا زفر ( )3؛ لن هذا من تمام الخصومة ،والخصومة ل تنتهي إل بالقبض،
والوكيل أمين على مصالح موكله (. )4
وقال زفر والشافعية والحنابلة ( : )5ليملك القبض ،لن الرجل الثقة بالتقاضي والمخاصمة قد ليكون
أمينا في قبض الحقوق.
- 2الوكيل بالبيع :إذا كان مقيد التصرف يتقيد بالقيد الذي حدده له الموكل بالتفاق بين الفقهاء ،فإذا
خالف القيد ،لينفذ تصرفه على الموكل ،ولكن يتوقف على إجازته ،إل إذا كانت مخالفته إلى خير؛
لنه محقق لمقصود الموكل ضمنا.
-------------------------------
( )1البدائع ،24/6 :تكملة الفتح ،10/6 :المبسوط ،4/19 :الدر المختار ،430/4 :الكتاب مع شرحه
اللباب.151/2 :
( )2بداية المجتهد ،297/2 :الشرح الكبير ،379/3 :المهذب ،351/1 :المغني.91/5 :
( )3البدائع 24/6 :ومابعدها ،تكملة فتح القدير ،96/6 :المبسوط ،19/19 :مجمع الضمانات :ص
.261
( )4قال المرغيناني صاحب الهداية :والفتوى اليوم على قول زفر رحمه ال ،لظهور الخيانة في
الوكلء ،وقد يؤتمن على الخصومة من ل يؤتمن على المال.
( )5المهذب ،351/1 :المغني.91/5 :
( )4/511
فإذا كان وكيلً بالبيع بثمن ما ،فباع بأقل ،ل ينفذ ،لنه خلف إلى شر ،وإن باع بأكثر ،نفذ ،لنه
خلف إلى خير ،وإذا وكل بالبيع نقدا فباع مؤجلً لم ينفذ إل بإجازة الموكل ،وإذا وكل بالبيع مؤجلً
فباع نقدا ،نفذ.
وإن كان الوكيل مطلق التصرف :فيعمل عند أبي حنيفة بمقتضى الطلق ،فله أن يبيع بأي ثمن كان،
قليلً أو كثيرا ،حتى بالغبن الفاحش ،عاجلً أو آجلً ،كما أوضحت سابقا ،عملً بإطلق الحرية للوكيل
بالتصرف.
وقال الصاحبان وبرأيهما يفتى ،وبقية الئمة الثلث :يتقيد الوكيل المطلق بالمتعارف ،فل يبيع إل
بالنقود المتداولة ،وبمثل القيمة ،وبالمعجل ،فل يبيع بالعيان ،ول بما ل يتغابن الناس فيه عادة ،أي
بالغبن اليسير ،ول بالنسيئة المؤجلة (. )1
وفي حال المخالفة يكون العقد موقوفا على إجازة الموكل عند الحنفية ،باطلً عند الشافعية.
وليس للوكيل بالبيع عند أبي حنيفة أن يبيع لنفسه ول لزوجته وأبيه وجده وولده وسائر من ل تقبل
شهادته له؛ لنه متهم في ذلك بمراعاة مصلحته أو إيثار العين المبيعة لقاربه.
وقال الصاحبان :يجوز له أن يبيع لهؤلء ل لنفسه بمثل القيمة أو أكثر؛ لن التوكيل مطلق ،والبيع
لحد من هؤلء أو غيرهم سواء ،ول تهمة هنا؛ لن ملكه وأملكهم متباينة ،فالمنافع منقطعة فيما
بينهم (. )2
-------------------------------
( )1المراجع السابقة في بحث الوكالة المقيدة والمطلقة.
( )2البدائع ،28/6 :تكملة فتح القدير 67/6 :ومابعدها ،رد المحتار ،424/4 :مجمع الضمانات :ص
.261
( )4/512
وتوسط غير الحنفية بين الرأيين ،فأجاز المالكية للوكيل بالبيع أن يبيع لزوجته ووالده الرشيد إذا لم
يحابهما ،ولم يجيزوا له البيع لنفسه أو من في رعايته من صغير أو سفيه أو مجنون (. )1
وأجاز الشافعية في الصح وفي رواية عن أحمد له البيع بمثل القيمة لبيه وجده وابنه البالغ وسائر
فروعه المستقلين عنه لعدم التهمة ،ولم يجيزوا له أن يبيع لنفسه وولده الصغير أو المجنون أو السفيه
( . )2
- 3الوكيل بالشراء :مثل الوكيل بالبيع من التقيد بما قيده به الموكل ،في الثمن وفي جنس المشترى
ونوعه وصفته ،أو إطلق الحرية في التصرف إذا كانت الوكالة مطلقة .فإذا خالف الوكيل أحد القيود
ل يلزم الموكل بالشراء ،إل إذا كان خلفا إلى خير ،فيلزمه .ووقع الشراء للوكيل نفسه باتفاق الفقهاء
( ، )3بعكس الوكيل بالبيع؛ لن المشتري قد يتهم بأنه كان يريد الشراء لنفسه ،فلما تبين أنه غبن غبنا
فاحشا أظهر أنه يشتري باسم موكله.
كذلك ل يملك الوكيل بالشراء عند أبي حنيفة كالوكيل بالبيع أن يشتري من نفسه ،أو زوجته أو أبيه أو
جده ،أو ولده وولد ولده ،وكل من ل تقبل شهادته له للتهمة في ذلك.
وقال الصاحبان :يجوز إذا اشترى بمثل القيمة أو بأقل أو بزيادة يتغابن الناس في مثلها عادة (. )4
-------------------------------
( )1الشرح الكبير 387/3 :وما بعدها.
( )2مغني المحتاج 224/2 :ومابعدها ،نهاية المحتاج 26/4 :ومابعدها ،المغني 107/5 :ومابعدها.
( )3البدائع 29/6 :ومابعدها ،مختصر الطحاوي :ص 110ومابعدها ،المبسوط ،39/19 :تكملة فتح
القدير .75/6 :الدر المختار ،421/4 :مغني المحتاج ،229/2 :المهذب ،354/1 :بداية المجتهد:
،298/2الشرح الكبير ،382/3 :المغني.107 ،124/5 :
( )4المراجع السابقة.
( )4/513
- 4الوكالة في الزواج والطلق ،والجارة والرهن ونحوها من إدارة الموال :يتقيد الوكيل في ذلك
بما يقيده به الموكل ،وليس له أن يتصرف بما فيه ضرر.
- 5هل للوكيل توكيل غيره؟
إذا كانت الوكالة خاصة أو مقيدة بأن يعمل الوكيل بنفسه ،لم يجز له توكيل غيره فيما وكل فيه.
وإن كانت الوكالة مطلقة أو عامة بأن قال له :اصنع ما شئت ،جاز له توكيل الغير ،ويكون هذا الغير
ل مع الول عن الموكل .هذا عند الحنفية (. )1
وكي ً
وقال المالكية ( : )2ليس للوكيل أن يوكل غيره إل أن يكون الوكيل ل يليق به تولي ما وكل فيه
بنفسه ،كأن يكون وجيها ،والموكل به حقير فله التوكيل حينئذ.
وقال الشافعية والحنابلة ( : )3ليس للوكيل أن يوكل غيره بل إذن الموكل متى كان قادرا على ما
وكل فيه .أما إذا لم يكن قادرا على القيام بكل ما وكل فيه ،فله أن يوكل غيره ويكون الوكيل الثاني
ل مع الول عن الموكل.
وكي ً
- 6تعدد الوكلء :
قد يتعدد الوكلء عن الشخص الواحد في التصرفات والخصومات ،أو المرافعة أمام القضاء ،كما
يحدث عادة في كثير من ا لحيان ،فيكون هناك وكيلن أو أكثر في القضايا الخطيرة .ويعرف تفصيل
حكم تصرفات الوكلء مما يأتي (. )4
فإن تعدد الوكلء كلً في عقد خاص وأعمال خاصة ،كان لكل منهم أن ينفرد في مباشرة ما وكل فيه
دون استشارة غيره .وإن كان العمل واحدا ،فلكل واحد القيام به وحده أيضا ،فتنتهي حينئذ وكالة
الخرين.
-------------------------------
( )1البدائع ،25/6 :تكملة فتح القدير 89/6 :ومابعدها.
( )2الشرح الكبير للدردير.388/3 :
( )3مغني المحتاج ،226/2 :المغني.88/5 :
( )4البدائع ،32/6 :تكملة فتح القدير.88-86/6 :
( )4/514
وإن كان التوكيل للجميع في عقد واحد ،فليس لحدهم ـ دون إذن الموكل ـ النفراد بالتصرف بما
وكلوا فيه؛ لن تعددهم كان بقصد تحقيق التعاون والتشاور فيما بينهم ضمانا لصالح الموكل ،ويستثنى
من ذلك ما ل يحتاج من التصرفات لتبادل الرأي كرد الودائع ووفاء الديون ،أو ما ل يمكن فيه
الجتماع كالمرافعة أمام القضاء ،بشرط إعداد مذكرات الدفاع بالشتراك بين جميع الوكلء.
الفرق بين الوكالة والرسالة :
يحسن بيان الفرق بين الوكيل والرسول تمهيدا لمعرفة من يلتزم بحقوق العقد ،إذ يختلف الوكيل عن
الرسول (. )1
فالوكيل :هو الذي يتصرف برأيه وعبارته وتقديره ،فيساوم ويعقد العقود حسبما يرى من المصلحة،
ويتحمل تبعات تصرفاته ،ويستغني غالبا عن إضافة العقد إلى موكله ،فيقول :بعت أو اشتريت كذا،
ل :باع أو اشترى فلن ،فإذا أسند العقد لموكله ،صار مجرد سفير ومعبر عن كلم الصيل ،فيصبح
عندئذ كالرسول.
والرسول :هو الذي يقتصر على نقل عبارة مرسله ،دون أن يتصرف برأيه وإرادته ،وإنما يبلّغ عبارة
المرسل ،وينقل رغبته وإرادته في التصرف ،فيقول للمرسل إليه :أرسلني فلن لبلغك كذا ،فيضيف
عبارته دائما للمرسل ،ول يتحمل شيئا من التزامات التعاقد.
حكم العقد وحقوقه في الوكالة :
حكم العقد :هو الغرض والغاية منه .ويراد به هنا الثر الذي يترتب على العقد شرعا .ففي عقد البيع:
يكون الحكم :هو ثبوت ملكية المبيع للمشتري واستحقاق الثمن للبائع ،وفي عقد الجارة :الحكم هو
تملك المستأجر المنفعة ،واستحقاق الجرة للمؤجر.
-------------------------------
( )1راجع مختصر أحكام المعاملت الشرعية لستاذنا علي الخفيف :ص 117ومابعدها.
( )4/515
واتفق الفقهاء على أن حكم العقد الذي يتم بواسطة وكيل :يقع مباشرة للموكل نفسه ،ل للوكيل؛ لن
الوكيل يعمل في الحقيقة لموكله وبأمره ،فهو قد استمد وليته منه ( . )1ويترتب عليه أن المسلم لو
وكل غير مسلم في شراء خمر أو خنزير ،لم يصح الشراء؛ لن المسلم ليس له أن يتملك شيئا من
هذين.
حقوق العقد :هي العمال واللتزامات التي ل بد منها للحصول على حكمه أو على الغاية والغرض
منه ،مثل تسليم المبيع ،وقبض الثمن ،والرد بالعيب أو بسبب خيار الشرط أو الرؤية ،وضمان رد
الثمن ،إذ استحق ( )2المبيع مثلً.
فإذا باشر المرء العقد بنفسه ولمصلحته عاد إليه حكم العقد وحقوقه .وأما إن توسط وكيل في إجراء
العقد وإبرامه ،عاد حكم العقد إلى الموكل كما عرفنا ،وأما حقوق العقد فتارة ترجع إلى الموكل ،وتارة
ترجع إلى الوكيل بحسب نوع التصرف الذي يتوله الوكيل.
والتصرفات التي يمارسها الوكيل نوعان :
النوع الول ـ ما يلزم أن يضيفه الوكيل إلى الموكل ،ول يجوز له إضافته إلى نفسه ،فإن أضافه إلى
نفسه وقع العقد له ل للموكل ،مثل الزواج والطلق والخلع ،والعقود العينية أي التي ل تتم إل بالقبض
وهي خمسة (الهبة والعارة واليداع والقرض والرهن) .يلزم الوكيل أن يقول حين إبرام العقد :قبلت
زواج فلنة لفلن ،وطلقت امرأة فلن ،ووهبتك من مال فلن ،ول يصح أن يقول :تزوجت أو طلقت
على كذا و وهبت؛ فينصرف أثر التصرف إليه ،أي أن الزواج يكون للوكيل حينئذ ل للموكل ،ويقع
الطلق عنه ،ل عن الموكل ،ويلزم الهبة من ماله ل من مال الموكل.
-------------------------------
( )1تبيين الحقائق ،256/4الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة :ص ،137المغني
لبن قدامة ،130/5 :مغني المحتاج 229/2 :ومابعدها ،بداية المجتهد.298/2 :
( )2الستحقاق :هو أن يدعي أحد ملكية شيء موجود في يد غيره ويثبتها بالبينة ،ويقضى له بها.
( )4/516
وحكم هذا النوع أن حقوق التصرف ترجع إلى الموكل ،ول يطالب الوكيل منها بشيء أصلً؛ لن
الوكيل في هذه التصرفات يكون سفيرا ومعبرا محضا عن الموكل .فإذا كان الشخص وكيلً عن
الزوج ل يطالب بالمهر ،وإنما يطالب الزوج ،وإذا كان وكيلً عن المرأة ل يطالب بإزفافها إلى بيت
زوجها ،وإنما تطالب المرأة أو وليها .ولو كان وكيلً عن الواهب ليلزم الوكيل بتسليم العين
الموهوبة ،وإنما يطالب الموكل نفسه ،ول يلزم الوكيل بتسليم الموهوب إذا كان وكيلً عن الموهوب
له.
النوع الثاني :ما ل يلزم أن يضيفه الوكيل إلى الموكل ،وإنما يصح إضافته له أو لنفسه كالمعاوضات
المالية ،مثل البيع والشراء والجارة والصلح الذي هو في معنى البيع (أي الصلح بعوض عن إقرار)
فيصح أن يقول الوكيل :بعت أو اشتريت ،كما يصح أن يقول :بعت مال فلن ،واشتريت لفلن.
وحكم هذا النوع :أن الوكيل إذا أضاف التصرف للموكل ،مثل :اشتريت لفلن ،رجعت الحقوق
للموكل ،ولزمته هو ،ول يطالب الوكيل بشيء ،لنه في هذه الحالة مجرد سفير ومعبر عن الصيل.
وإن أضاف الوكيل التصرف لنفسه رجعت إليه الحقوق دون الموكل؛ لنه هو الذي باشر العقد ول
يعرف الطرف الخر سواه .فإذا كان وكيلً عن البائع لزمه تسليم المبيع للمشتري ،وقبض الثمن .وإذا
كان وكيلً عن المشتري واطلع على عيب المبيع ،أو أظهر أن المبيع مستحق لغير البائع ،كان هو
المكلف بمقاضاة البائع وخصومته ،ويلزمه ضمان الثمن للمشتري حال استحقاق المبيع ،كما يلزمه
دفع الثمن للبائع إذا كان المبيع سليما من العيوب.
ويستثنى من ذلك ما إذا كان العاقد ليس من أهل لزوم العهدة (أي ليس أهلً للمسؤولية والتزام
الحقوق) إما لنقص أهليته كالصبي المحجور عن التصرف ،أو لنشغاله كالقاضي وأمين القاضي،
فترجع الحقوق حينئذ للموكل نفسه ،ل إلى الوكيل.
( )4/517
هذا هو مذهب الحنفية ( . )1ويوافقهم المالكية والشافعية ( )2في ذلك أي في أن حقوق العقد تتعلق
بالوكيل دون الموكل.
وقال الحنابلة ( : )3إن حقوق العقد ترجع للموكل دون الوكيل؛ لن الوكيل عندهم مجرد سفير ومعبر
عن العاقد الصيل .لكن في هذا الرأي إضاعة للغرض من الوكالة؛ لن الموكل يوكل غيره في
أموره ليخفف عن نفسه عناء مباشرته لها ،أو لنه ل يليق به أن يباشرها ،أو لعدم قدرته على القيام
بها ،فإذا عادت الحقوق للموكل نفسه لم يتحقق له الغرض من الوكالة (. )4
-------------------------------
( )1البدائع 33/6 :ومابعدها ،تكملة فتح القدير 16/6 :ومابعدها ،تبيين الحقائق ،256/4 :رد المحتار:
،419/4الكتاب مع اللباب. 141/2 :
( )2المدونة الكبرى ،186 ،83/10 :الشرح الصغير 506/3 :ومابعدها ،نهاية المحتاج ،47/4 :مغني
المحتاج.230/2 :
( )3كشاف القناع ،238/2 :المغني ،97/5 :مطالب أولي النهي شرح غاية المنتهى. 462/3 :
( )4الموال ونظرية العقد للمرحوم محمد يوسف موسى :ص .376
( )4/518
( )4/519
وإذا وكل الزوج شخصا بطلق زوجته متى شاء ،فل يملك الزوج الموكل الرجوع عن الوكالة إل
برضا المرأة.
ولو أراد المدين السفر إلى بلد ،فطلب منه دائنه أن يوكل عنه شخصا ليخاصمه في طلب الدين وقت
الحاجة ،فوكل وكيلً إجابة لطلبه وسافر ،فليس له أن يعزل الوكيل إل برضا الدائن .الفضالة
قد ينعقد العقد بالفضالة التي تتخذ بالجازة حكم الوكالة .فمن الفضولي ،وما حكم تصرفاته عند
الفقهاء ،وما أثر إجازة تصرفاته ،وما شروط صحة الجازة ،وهل يملك فسخ العقد الصادر منه قبل
الجازة؟
تعريف الفضولي :الفضولي في اللغة :هو من يشتغل بما ل يعنيه أو بما ليس له .وعمله هذا يسمى
فضالة .وعند الفقهاء له معنى قريب من هذا .وهو من يتصرف في شؤون غيره ،دون أن يكون له
ولية على التصرف .أو من يتصرف في حق غيره بغير إذن شرعي كأن يزوج من لم يأذن له في
الزواج ،أو يبيع أو يشتري ملك الغير بدون تفويض ،أو يؤجر أو يستأجر لغيره دون ولية أو توكيل.
فهذا التصرف يسمى فضالة.
حكم تصرفاته عند الفقهاء :للفقهاء رأيان في تصرف الفضولي:
أولهما ـ للحنفية والمالكية ( : )1تصرفات الفضولي تقع منعقدة صحيحة ،لكنها موقوفة على إجازة
صاحب الشأن :وهو من صدر التصرف لجله ،إن أجازه نفذ ،وإن رده بطل ( . )2واستدلوا على
رأيهم بما يأتي:
-------------------------------
( )1البدائع 148/5 :ومابعدها ،فتح القدير مع العناية 309/5 :ومابعدها ،رد المحتار،142 ،6/4 :
بداية المجتهد ،171/2 :الشرح الكبير مع الدسوقي ،12/3 :القوانين الفقهية :ص .245
( )2فرق الحنفية بين بيع الفضولي وشراء الفضولي .أما بيع الفضولي فينعقد صحيحا موقوفا على
الجازة ،سواء أضاف الفضولي العقد لنفسه أم إلى المالك ،وأما شراء الفضولي ففيه تفصيل:
إن أضاف الفضولي الشراء لنفسه نفذ العقد عليه ،لن الصل أن يكون تصرف النسان لنفسه ل
لغيره ،وإذا وجد العقد نفاذا على العاقد نفذ عليه ول يتوقف .وإن أضاف الفضولي الشراء لغيره ،أو
لم يجد نفاذا عليه لعدم الهلية ،كأن يكون العاقد صبيا أو محجورا ،انعقد الشراء صحيحا موقوفا على
إجازة هذا الغير الذي تم الشراء له ،فإن أجازه نفذ عليه ،واعتبر الفضولي وكيلً ترجع إلىه حقوق
العقد من حين نشوء العقد (البدائع ،150 -148/5 :مختصر الطحاوي :ص ،83الدر المختار ورد
المحتار.)143/4 :
( )4/520
ل ـ بعموم اليات القرآنية الدال على مشروعية البيع ،مثل قوله تعالى{ :وأحل ال البيع} [البقرة:
أو ً
]275/2والفضولي كامل الهلية ،فإعمال عقده أولى من إهماله ،وربما كان في العقد مصلحة للمالك،
وليس فيه أي ضرر بأحد؛ لن المالك له أل يجيز العقد ،إن لم يجد فيه فائدة.
ثانيا ـ بما ثبت ـ في الحديث المتقدم في الوكالة ـ أن النبي صلّى ال عليه وسلم أعطى عروة
البارقي ـ أحد أصحابه ـ دينارا ليشتري له به شاة ،فاشترى شاتين بالدينار ،وباع إحداهما بدينار،
وجاء للنبي صلّى ال عليه وسلم بدينار وشاة ،فقال له «بارك ال لك في صفقة يمينك» فشراء الشاة
الثانية وبيعها لم يكن بإذن النبي عليه السلم ،وهو عمل فضولي جائز بدليل إقرار الرسول له.
وخلصة هذا الرأي :أن الملكية أو الولية هي من شروط نفاذ التصرف ،فإذا لم يكن العاقد مالكا ول
ولية له ،كان العقد موقوفا.
الرأي الثاني ـ للشافعية والحنابلة والظاهرية ( : )1تصرف الفضولي باطل ،ل يصح ولو أجازه
صاحب الشأن؛ لن الجازة تؤثر في عقد موجود ،وهذا العقد ل وجود له منذ نشأته ،فل تصيره
الجازة موجودا .واستدلوا بما يأتي:
أولً ـ بأن تصرف الفضولي تصرف فيما ل يملك ،وتصرف النسان فيما ل يملكه منهي عنه
شرعا ،والنهي يقتضي عدم مشروعية المنهي عنه عندهم ،وذلك في قوله صلّى ال عليه وسلم لحكيم
بن حزام« :ل تبع ما ليس عندك» ( )2أي ما ليس مملوكا لك،
-------------------------------
( )1المجموع للنووي 284 ،281/9 :ومابعدها ،مغني المحتاج ،15/2 :كشاف القناع11/2 :
ومابعدها ،القواعد لبن رجب :ص ،417غاية المنتهى ،8/2 :المحلى ،503/8 :م .1460
( )2نص الحديث كما رواه أحمد« :إذا اشتريت شيئا فل تبعه حتى تقبضه» .وجاء في حديث عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده فيما رواه الخمسة« :ل يحل سلف ول بيع ،ول شرطان في بيع ،ول ربح
ما لم َيضْمن ،ول بيع ما ليس عندك» (نيل الوطار ،157/5 :سبل السلم.)16/3 :
( )4/521
وسبب النهي اشتمال العقد على الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم وقت العقد ،وما يترتب
عليه من النزاع.
وقالوا عن حديث عروة البارقي :إنه كان وكيلً مطلقا عن النبي صلّى ال عليه وسلم ،وتصرفاته
التي قام بها تنفذ ،لنها تمت بمقتضى وكالة خالف فيها الوكيل إلى خير ،فينفذ تصرفه.
ثانيا ـ إن أي تصرف ل يوجد شرعا إل بتوافر الولية والهلية عند العاقد ،وهذه الولية ل تكون إل
بالملك أو بالذن من المالك ،والفضولي ليس مالكا لما يتصرف فيه ول مأذونا له من المالك
بالتصرف ،فل يكون لتصرفه وجود شرعا ،ول يترتب عليه أي أثر.
وخلصة هذا الرأي :أن الملكية أو الولية من شروط انعقاد التصرف ،فإذا لم يتوفر شرط النعقاد
كان التصرف باطلً.
( )4/522
وقد أخذ القانون المدني السوري في مواد عشر ( )198-189برأي الحنفية والمالكية ،وطبق عليها
قواعد الوكالة إذا أقر رب العمل ما قام به الفضولي (م ،)191لكنه حصر الفضالة بقيام الفضولي
بشأن عاجل لشخص آخر ،كما يفهم من تعريفها (م « :)189الفضالة :هي أن يتولى شخص عن قصد
القيام بشأن عاجل لحساب شخص آخر ،دون أن يكون ملزما بذلك» .
شروط إجازة تصرف الفضولي :
اشترط الحنفية القائلون بصحة تصرف الفضولي شروطا ثلثة :أحدها في المجيز ،وثانيها في
الجازة ،وثالثها في نفس التصرف (: )1
- 1أن يكون للعقد مجيز ( )2حالة إنشاء العقد :أي أن يكون صاحب الشأن مستطيعا إصدار العقد
بنفسه ،فإن لم يكن كذلك وقع العقد باطلً من مبدأ المر ،وعلى هذا إذا طلق فضولي امرأة زوج بالغ
عاقل ،أو وهب ماله ،أو باعه بغبن فاحش ،انعقد التصرف موقوفا على الجازة؛ لن صاحب الشأن
كان يستطيع أن يصدر هذه التصرفات بنفسه ،فيستطيع إجازتها بعد وقوعها ،فكان للتصرف مجيز
حالة إنشائه.
أما لو فعل فضولي شيئا من هذه التصرفات بالنسبة لصغير ،فل ينعقد التصرف أصلً؛ لن الصغير
ليس أهلً لهذه التصرفات الضارة ،فل يكون أهلً لجازتها ،فلم يكن لها مجيز حين نشوء التصرف.
فإن كان التصرف قابلً لجازة ولي الصغير كالبيع بمثل القيمة أو أكثر ،وكان للصغير ولي ،انعقد
موقوفا على إجازته ،أو على إجازة الصغير بعد البلوغ.
- 2أن تكون الجازة حين وجود العاقدين (الفضولي والطرف الخر) والمعقود عليه وصاحب
الشأن :فلو حصلت الجازة بعد هلك واحد من هؤلء الربعة ،بطل التصرف ،ولم تفد الجازة شيئا؛
لن الجازة تؤثر في التصرف ،فلبد من قيام التصرف ،وقيامه بقيام العاقدين والمعقود عليه.
-------------------------------
( )1البدائع ،151-149/5 :فتح القدير ،311/5 :الدر المختار ورد المحتار 141/4 :ومابعدها.146 ،
( )2المجيز :هو صاحب المصلحة والشأن في التصرف ،والذي له حق تقرير وإمضاء التصرف أو
رفضه.
( )4/523
- 3أل يمكن تنفيذ العقد على الفضولي عند رفض صاحب الشأن :مثل بيع ملك الغير أو إجارته،
سواء أضاف العقد لنفسه أم لصاحب المال ،ومثل شراء شيء لغيره أو استئجار شيء لغيره وأضاف
العقد لذلك الغير .ففي كل هذه الحالت يكون العقد موقوفا.
أما إذا أمكن تنفيذ العقد على الفضولي عند عدم إجازته ،فينفذ على الفضولي كشراء شيء أو
استئجاره مضيفا العقد لنفسه ،فيلزمه هو.
أثر إجازة تصرف الفضولي :
يترتب على الجازة من صاحب الشأن أثران :أحدهما ـ جعل التصرف نافذا .ثانيهما ـ جعل
الفضولي وكيلً يلتزم بحقوق التصرف؛ لن «الجازة اللحقة كالوكالة السابقة» (. )1
أما تاريخ نفاذ التصرف بالجازة فيختلف بحسب نوع التصرف:
إن كان من التصرفات التي ل تقبل التعليق بالشرط كعقود المعاوضات المالية (البيع واليجار
ونحوهما) فإنها تنفذ من وقت إنشائها أي أن للجازة أثرا رجعيا؛ لن آثارها ل تتراخى عنها ،وتكون
زوائد الشيء وغلته كالجرة مملوكة لمن وقع العقد له ،أي للمشتري في عقد البيع؛ لن الجازة
اللحقة كالوكالة السابقة.
وإن كان التصرف مما يصح تعليقه بالشرط كالكفالة والحوالة والوكالة والطلق ،فإنه ينفذ من وقت
الجازة؛ لن هذه التصرفات معلقة في المعنى على الجازة.
وإن كان التصرف يتطلب التسليم الفعلي كالهبة ،فينفذ من وقت تسليم الموهوب له.
فسخ تصرف الفضولي :
تصرف الفضولي غير ملزم لصاحب الشأن ،فيجوز حينئذ فسخه .والفسخ قد يكون من صاحب الشأن
(البائع أو المشتري مثلً)؛ لن التصرف موقوف على رضاه وإجازته ،فما لم يجزه لم يتم التصرف.
وقد يكون الفسخ من الفضولي نفسه في عقد البيع قبل إجازة المالك صاحب الشأن حتى يدفع عن نفسه
الحقوق التي تلزمه لو أجاز المالك.
-------------------------------
( )1البدائع.151/5 :
( )4/524
أما عقد الزواج فليس للفضولي فسخه؛ لنه عقد ترجع فيه الحقوق إلى الصيل صاحب الشأن (. )1
هل لفضولي واحد أن يعقد العقد عن الطرفين؟
عرفنا سابقا أن تعدد العاقد شرط في انعقاد العقد ،فليس للفضولي الواحد إبرام العقد سواء في البيع أو
الزواج وغيرهما ،بل يبطل اليجاب ول تلحقه الجازة ( ، )2سواء أكان فضوليا من الجانبين ،أم من
جانب واحد ومن الجانب الخر أصيلً عن نفسه ،أو وكيلً ،أو وليا عن القاصر .فلو قال :بعت دار
فلن ،وقبلت الشراء عن فلن ،أو زوجت فلنا فتاة اسمها كذا ،وقبلت هذه الفتاة لفلن ،لم ينعقد
العقد.
العنصر الثالث ـ محل العقد :
محل العقد أو المعقود عليه :هو ما وقع عليه التعاقد ،وظهرت فيه أحكامه وآثاره .وهو قد يكون عينا
مالية كالمبيع والمرهون والموهوب ،وقد يكون عينا غير مالية كالمرأة في عقد الزواج ،وقد يكون
منفعة كمنفعة الشيء المأجور في إجارة
-------------------------------
( )1البدائع ،151/5 :فتح القدير.312 -309/5 :
( )2حاشية ابن عابدين.448/2 :
( )4/525
( )4/526
المضامين والملقيح ( ، )1وعن بيع ما ليس عند النسان ( )2؛ لن المبيع فيها وقت التعاقد معدوم.
واستثنى هؤلء الفقهاء من هذه القاعدة العامة في منع التصرف بالمعدوم عقود السلَم والجارة
والمساقاة والستصناع ( )3مع عدم وجود المحل المعقود عليه حين إنشاء العقد ،استحسانا مراعاة
لحاجة الناس إليها ،وتعارفهم عليها ،وإقرار الشرع صحة السلم والجارة ،والمساقاة ( )4ونحوها.
واكتفى المالكية ( )5باشتراط هذا الشرط في المعاوضات المالية ،أما في عقود التبرعات كالهبة
والوقف والرهن فأجازوا أل يكون محل العقد موجودا حين التعاقد ،وإنما يكفي أن يكون محتمل
الوجود في المستقبل.
-------------------------------
( )1المضامين :ما في أصلب البل ،والملقيح :ما في بطون النوق .وهذه البيوع كانت متعارفة في
الجاهلية .والحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر (نصب الراية.)10/4 :
( )2رواه أحمد وأصحاب السنن الربعة ،وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده بلفظ « :ل يحل سلف وبيع ،ول شرطان في بيع ،ول ربح ما لم يضمن ،ول
بيع ما ليس عندك » ( .سبل السلم.)16/3 :
( )3السلم :هو بيع آجل بعاجل أي بيع شيء غير موجود بثمن حال ،كما يفعل الزراع مع التجار في
بيعهم المحصولت الزراعية قبل الحصاد .وقد أجازه الشرع في السنة « :من أسلف فليسلف في كيل
معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » والجارة هي عقد على المنافع بعوض .وقد ثبتت مشروعيتها
بالقرآن والسنة وإجماع العلماء ،والستصناع :هو التفاق على عمل الصانع بأن يصنع شيئا نظير
عوض معين ،بخامات من عنده ،كما نفعل مع الخياطين والنجارين والحدادين مثلً .وقد أجيز
بالجماع لحاجة الناس إلى التعامل به في كل زمان ومكان.
( )4المساقاة :هي تعهد العمل على سقاية وتربية الشجار بنسبة من الناتج .وقد ثبت تشريعها في
السنة .ومثلها المزارعة :هي العمل على استثمار الراضي الزراعية بنسبة من المحصول.
( )5القوانين الفقهية :ص ،367الشرح الصغير ،305/3 :ط دار المعارف بمصر .قال ابن رشد في
بداية المجتهد« :324/2 :ول خلف في جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقع الوجود ،وبالجملة :كل
ما ل يصح بيعه في الشرع من جهة الغرر » .
( )4/527
وأما الحنابلة ( : )1فلم يشترطوا هذا الشرط ،واكتفوا بمنع البيع المشتمل على الغرر ( )2الذي نهى
حمْل في البطن دون الم ،وبيع اللبن في الضرع ،والصوف على ظهر الغنم.
عنه الشرع ،مثل بيع ال َ
وأجازوا فيما عدا ذلك ـ كما قرر ابن تيمية وابن القيم ـ بيع المعدوم عند العقد إذا كان محقق
الوجود في المستقبل بحسب العادة ،كبيع الدار على الهيكل أو الخريطة؛ لنه لم يثبت النهي عن بيع
المعدوم ل في الكتاب ول في السنة ول في كلم الصحابة ،وإنما ورد في السنة النهي عن بيع الغرر:
وهو ما ل يقدر على تسليمه ،سواء أكان موجودا أم معدوما كبيع الفرس والجمل الشارد ،فليست العلة
في المنع ل العدم ول الوجود ،فبيع المعدوم إذا كان مجهول الوجود في المستقبل باطل للغرر ،ل
للعدم.
بل إن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع ،فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدء صلحه ،والحب
بعد اشتداده ،والعقد في هذه الحالة ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد.
وأما حديث النهي عن بيع ما ليس عند النسان فالسبب فيه :هو الغرر لعدم القدرة على التسليم ،ل أنه
معدوم.
-------------------------------
( )1أعلم الموقعين 8/2 :ومابعدها ،نظرية العقد لبن تيمية :ص ،224المغني.208 ،200/4 :
( )2روى الجماعة إل البخاري عن أبي هريرة «نهى النبي صلّى ال عليه وسلم عن بيع الحصاة
وعن بيع الغرر» أي نهى عن بيع المبيع المشتمل على غرر ،فالمبيع نفسه ل البيع هو الغرر،
كالثمرة قبل بدو صلحها .والغرر :ماتردد بين السلمة والعطب .أو ما ل يقدر المتعاقد على تسليمه
موجودا كان أو معدوما .وبيع الحصاة :أي ماوقعت عليه الحصاة من عدة أشياء (نيل الوطار:
.)147/5
( )4/528
( )4/529
د ـ إذا بدا صلح بعض الشجار المثمرة في بستان أو في بساتين متجاورة يجوز بيع ما ظهر
صلحه وما لم يظهر عند المالكية والشيعة المامية وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة ،عملً بحسن
الظن بال تعالى وبمسامحة النسان لخيه ،وتعارف الناس عليه ،إلحاقا لما لم يظهر صلحه بما
ظهر ،ودفعا للمشقة على الناس في تعاملهم.
ولم يجز ذلك الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية والظاهرية والباضية؛ لن العقد اشتمل على معلوم
ومجهول قد ل يخرجه ال تعالى من الشجرة ،ولعدم القدرة على تسليم المبيع كله.
والخلصة :إن من منع البيع في هذه الصور أراد الحتياط في أخذ مال الغير ،ومن أجاز البيع أراد
التيسير على الناس ومراعاة العراف.
( )4/530
هذا ويتفق القانون المدني السوري (م )132،133مع الفقه السلمي في هذا الشرط ،فقد شرط فقهاء
القانون في محل اللتزام أن يكون شيئا موجودا وقت نشوء اللتزام ،أو قابلً للوجود في المستقبل ()1
،لكن ل يجوز قانونا ول شرعا بيع التركة المستقبلة ،فل يجوز للوارث بيع حصته من تركة مورثه
وهو على قيد الحياة .ويجوز قانونا ل شرعا بيع المؤلف مؤلفه قبل إتمامه ،وبيع المحصولت
المستقبلة قبل أن تنبت بثمن مقدر ،وبيع النتاج الذي لم يولد ،ويمكن تصحيح هذه العقود على رأي ابن
تيمية الذي يجيز العقد على ا لشيء الذي يمكن وجوده في المستقبل إذا امتنع الغرر.
- 2أن يكون المعقود عليه مشروعاً:
يشترط أن يكون محل العقد قابلً لحكمه شرعا ،باتفاق الفقهاء ( ، )2بأن يكون مالً مملوكا متقوما،
فإن لم يكن كذلك ،كان العقد عليه باطلً ،فبيع غير المال كالميتة والدم ( ، )3أو هبتها أو رهنها أو
وقفها أو الوصية بها باطل؛ لن غير المال ل يقبل التمليك أصلً ،وذبيحة الوثني والملحد والمجوسي
والمرتد كالميتة.
ويبطل بيع غير المملوك أو هبته :وهو المباح للناس غير المحرز كالسمك في الماء والطير في الهواء
والكل والحطب والتراب والحيوانات البرية أو الشيء المخصص للنفع العام كالطرقات والنهار
والجسور والقناطر العامة؛ لنها غير مملوكة لشخص أو ل تقبل التملك الشخصي.
والتصرف بغير المتقوم باطل أيضا :وهو ما ل يمكن ادخاره ول النتفاع به شرعا ،كالخمر
والخنزير بين المسلمين.
-------------------------------
( )1النظرية العامة لللتزام للدكتور عبد الحي حجازي :ص .65
( )2البدائع ،140/5 :حاشية ابن عابدين ،3/4 :مغني المحتاج 11/2 :ومابعدها ،الشرح الصغير:
22/3ومابعدها ،غاية المنتهى 6/2 :وما بعدها.
( )3أجاز الشافعية والحنابلة خلفا لبي حنيفة ومالك بيع حليب المرأة المرضع للحاجة إليه وتحقيق
النفع به ،وأجاز الحنابلة بيع أعضاء النسان كالعين وقطعة الجلد إذا كان ينتفع بها ليرقع بها جسم
الخر لضرورة الحياء ،وبناء عليه يجوز بيع الدم الن للعمليات الجراحية للضرورة (راجع المغني:
.)260/4
( )4/531
وأما آلت الملهي كأدوات الموسيقا المختلفة فيجوز بيعها عند أبي حنيفة لمكان النتفاع بالدوات
المركبة منها ،ولنها مال في ذاتها ،ول ينعقد بيعها عند الصاحبين وبقية الئمة؛ لنها معدة للفساد
واللهو .وبناء عليه يضمن قيمتها من يتلف شيئا منها عند أبي حنيفة ،ول يضمن عند غيره من
الفقهاء.
ويبطل التصرف بكل شيء ،ل يقبل بطبيعته حكم العقد الوارد عليه ،فالموال التي يتسارع إلىها
الفساد كالخضروات والفواكه ل تصلح محلً للرهن؛ لن حكمه :وهو حبس المرهون لمكان استيفاء
الدين منه عند عدم الداء في وقته ،ل تقبله هذه الموال .والمرأة من المحارم كالخت والعمة بالنسبة
لقريبها المحرم ل تصلح محلً لعقد الزواج .والعمل الممنوع شرعا كالقتل والغصب والسرقة
والتلف ل يصح الجارة عليه.
ويتفق القانون مع الفقه السلمي في اشتراط هذا الشرط ،فقد شرط القانونيون أن يكون الشيء داخلً
في دائرة التعامل .وأن يكون في بعض الحوال مملوكا للملتزم بنقل ملكيته ،وذلك في الحقوق العينية
المنصبة على شيء معين بالذات ( ، )1إل أن فقهاء الشرع يجعلون تحريم الشرع وعدمه هو المحكم
في جعل محل اللتزام مشروعا أم غير مشروع ،والقانون يحكّم في ذلك قواعد النظام العام والداب.
-------------------------------
( )1نظرية اللتزام للدكتور حجازي :ص .71 ،65
( )4/532
- 3أن يكون مقدور التسليم وقت التعاقد :
يشترط باتفاق الفقهاء توافر القدرة على التسليم وقت التعاقد ،فل ينعقد العقد إذا لم يكن العاقد قادرا
على تسليم المعقود عليه ،وإن كان موجودا ومملوكا للعاقد.ويكون العقد باطلً.
وهذا الشرط مطلوب في المعاوضات المالية باتفاق العلماء وفي التبرعات ( )1عند غير المام مالك،
فل يصح بيع الحيوان الشارد ول إجارته ورهنه وهبته ووقفه ونحوها ،ول يصح التعاقد بيعا أو
إجارة أو هبة على الطير في الهواء والسمك في البحر والصيد بعد فراره والمغصوب في يد الغاصب
والدار في الرض المحتلة من العدو ،لعدم القدرة على التسليم.
وأجاز المام مالك أن يكون معجوز التسليم حال التعاقد محلً لعقد الهبة وغيره من التبرعات (. )2
فيصح عنده هبة الحيوان الفارّ وإعارته والوصية به ،لنه في التبرع ل يثور شيء من النزاع حول
تسليم المعقود عليه؛ لن المتبرع فاعل خير ومحسن ،والمتبرع له ل يلحقه ضرر من عدم التنفيذ،لنه
ل ول كثيرا ،فل يكون هناك ما يؤدي إلى النزاع والخصام الذي يوجد في المعاوضات
لم يبذل قلي ً
المالية.
وهذا الشرط لم يذكر عند القانونيين ،ويظهر أنهم ل يشترطونه.
- 4أن يكون معينا معروفا للعاقدين :
لبد عند الفقهاء أن يكون محل العقد معلوما علما يمنع من النزاع؛ للنهي الوارد في السنة عن بيع
الغرر وعن بيع المجهول (. )3
-------------------------------
( )1البدائع ،119/6 ،147/5 ،187/4 :بداية المجتهد ،156/2 :الشرح الكبير ،11/3 :الشرح
الصغير ،22/3 :المهذب ،262/1 :مغني المحتاج ،12/2 :المغني 200/4 :ومابعدها ،غاية المنتهى:
.10/2
( )2الشرح الصغير.142/4 :
( )3سبق تخريج الحديث ،رواه الجماعة إل البخاري عن أبي هريرة «أن النبي صلّى ال عليه وسلم
نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر» وبيع الحصاة :أن يقول :بعتك من هذه الثواب ما وقعت عليه
هذه الحصاة ،ويرمي الحصاة .أو يقول :من هذه الرض ما انتهت إليه في الرمي (نيل الوطار:
.)147/5
( )4/533
والعلم يتحقق إما بالشارة إليه إذا كان موجودا ،أو بالرؤية عند العقد أو قبله بوقت ل يحتمل تغيره
فيه ،ورؤية بعضه كافية إذا كانت أجزاؤه متماثلة ،أو بالوصف المانع للجهالة الفاحشة ،وذلك ببيان
الجنس والنوع والمقدار ،كأن يكون المبيع حديدا من الصلب أو الفولذ من حجم معين.
فل يصح التصرف بالمجهول جهالة فاحشة :وهي التي تفضي إلى المنازعة.
ويكون العقد فاسدا عند الحنفية ،باطلً عند غير الحنفية ،وتغتفر الجهالة اليسيرة ،وهي التي ل تؤدي
إلى المنازعة ويتسامح الناس فيها عادة.
كما ل يصح التصرف بما يشتمل على الغرر .ويلحظ أن الغرر أعم من الجهالة فكل مجهول غرر،
وليس كل غرر مجهولً ،فقد يوجد الغرر بدون الجهالة كما في شراء الشيء الهارب المعلوم الصفة،
ولكن ل توجد الجهالة بدون الغرر (. )1
وهذا الشرط مطلوب في المعاوضات المالية كالبيع واليجار باتفاق الفقهاء ،أما اشتراطه في غيرها
فمحل اختلف:
فالشافعية والحنابلة ( )2يشترطونه في عقود المعاوضات المالية وفي غير المالية كعقد الزواج ،وفي
عقود التبرعات كالهبة والوصية والوقف.
-------------------------------
( )1الفروق للقرافي المالكي ،265/3 :تهذيب الفروق بهامشه 170/3 :ومابعدها.
( )2مغني المحتاج ،16/2:المهذب ،263/1،266 :المغني ،234 ،209/4 :غاية المنتهى،11/2 :
332وما بعدها.60 ،18/3 ،
( )4/534
وقصره الحنفية ( )3على المعاوضات المالية وغير المالية ،ول يشترطونه في عقود التبرعات
كالوصية والكفالة ،فيصح التبرع مع جهالة المحل؛ لن الجهالة فيه ل تؤدي إلى النزاع ،كأن يوصي
شخص بجزء من ماله ،ويكون البيان متروكا للورثة .وكأن يقول الكفيل :أنا ضامن ما على فلن من
مال.
واكتفى المالكية ( )4باشتراطه في عقود المعاوضات المالية فقط ،فأبطلوا كل عقد بيع مثلً إذا كان
مشتملً على جهالة المبيع أو الثمن .ولم يشترطوا هذا الشرط في عقود المعاوضات غير المالية ،وفي
عقود التبرعات ،فأجازوا الزواج المشتمل على غرر قليل ل كثير كأثاث بيت ،ل على شيء شارد أو
ضائع؛ لن القصد من المهر هو المودة واللفة فأشبه التبرع فاغتفرت فيه الجهالة اليسيرة ،ل
الفاحشة؛ لن في الزواج شبها بالمعاوضات ،وصححوا التبرع بالمجهول جهالة فاحشة؛ لن القصد
منه الحسان بالصرف والتوسعة على الناس ،ول يترتب على ذلك نزاع.
-------------------------------
( )1المبسوط ،49 ،26/13 :البدائع ،158/5 :فتح القدير ،222 ،113/5 :الدر المختار،30/4 :
.125
( )2الشرح الكبير ،106/3 :القوانين الفقهية :ص ،269المنتقى على الموطأ ،298/4 :الفروق:
150/1ومابعدها.
( )4/535
والقانون المدني في المادة ( )134اشترط هذا الشرط أيضا ،متجاوزا عن الجهالة اليسيرة إذا كان
المحل غير معين بالذات ،أي معينا بنوعه فقط .فقال فقهاء القانون :يشترط أن يكون الشيء معينا أو
قابلً للتعيين بشرط بيان طرق التعيين اللحق .فإذا كان الشيء محل اللتزام مما يعين بذاته وجب أن
تكون ذاتيته معروفة .وإذا كان الشيء مما يعيّن بنوعه لزم أن يذكر جنسه ونوعه ومقداره (. )1
والشرع والقانون وإن اتفقا على هذا الشرط من حيث المبدأ ،لكنهما يختلفان في التطبيق ،فالشرعيون
يوجبون تعيين محل العقد تعيينا تاما ل يتطرق إليه أي احتمال ،وإل كان العقد فاسدا عند الحنفية
باطلً عند غيرهم ،ول يجيزون كون المحل قابلً للتعيين ،والقانون يكتفي بكون المحل قابلً للتعيين،
وإن لم يكن معينا وقت التعاقد ،كالتعهد بتوريد أغذية معينة النوع لمدرسة أو مشفى.
وأخيرا اشترط غير الحنفية ( )2شرطا خامسا :وهو أن يكون المبيع طاهرا لنجسا ول متنجسا؛ لن
جواز البيع يتبع الطهارة ،فكل ما كان طاهرا أي ما يباح
-------------------------------
( )1موجز النظرية العامة لللتزام لستاذنا الدكتور عبد الحي حجازي :ص 66ومابعدها.
( )2مواهب الجليل 258/4:ومابعدها ،الشرح الكبير ،10/3 :بداية المجتهد 125/2 :ومابعدها،
القوانين الفقهية :ص ،246المهذب 261/1 :ومابعدها ،مغني المحتاج ،11/2 :المغني251/4،255 :
وما بعدها ،غاية المنتهى 6/2 :ومابعدها.
( )4/536
النتفاع به شرعا يجوز بيعه عندهم .وأما النجس والمتنجس فيبطل بيعه ،والنجس :مثل الكلب ولو
كان معلما للنهي عن بيعه ،والخنزير والميتة والدم والزبل والحشرات والبهائم الكاسرة التي ل يؤكل
لحمها كالسد والذئب ،والطيور الجارحة كالنسر والغراب والحدأة ،والمتنجس الذي ل يمكن تطهيره
كالخل والدبس واللبن .لكن أجاز هؤلء الفقهاء بيع المختلف في نجاسته كالبغل والحمار ،وبيع الهر
وطيور الصيد كالصقر والعقاب المعلم ،والطير المقصود صوته كالهزار والبلبل والببغاء.
ولم يشترط الحنفية ( )1هذا الشرط ،فأجازوا بيع النجاسات كشعر الخنزير وجلد الميتة للنتفاع بها إل
ما ورد النهي عن بيعه منها كالخمر والخنزير والميتة والدم ( ، )2كما أجازوا بيع الحيوانات
المتوحشة ،والمتنجس الذي يمكن النتفاع به في غير الكل .والضابط عندهم :أن كل ما فيه منفعة
تحل شرعا ،فإن بيعه يجوز ،لن العيان خلقت لمنفعة النسان بدليل قوله تعالى{ :خلق لكم ما في
الرض جميعا} [البقرة]29/2:
-------------------------------
( )1البدائع 142/5 :ومابعدها ،فتح القدير.122/8 ،188/5 :
( )2روى أحمد والشيخان عن جابر بن عبد ال أنه سمع رسول ال صلّى ال عليه وسلم يقول عام
الفتح ـ فتح مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة ـ وهو بمكة« :إن ال ورسوله حرّم بيع الخمر
والميتة والخنزير والصنام( »..سبل السلم )5/3 :وروى أحمد وأبو داود عن ابن عباس …« :وإن
ال إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه» (نيل الوطار.)142-141/5 :
( )4/537
( )4/538