Professional Documents
Culture Documents
المقـدمـة
الحمد ل رب العالمين ،والصلة والسلم على الهادي المين ،نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه ومن
سار على نهجه واتبع سنته إلى يوم الدين.
فإن نقد مقالت المبتدعة وأعمالهم ومسالكهم ،والرد عليهم ،وكشف ما عندهم من باطل ،والتحذير
من زيفهم ،وظيفــة العلمــاء ،ل يجوز التساهل فيها ،أو التقصير في أدائها ،إذ بها تتم حماية الدين
ونقاوته من شائبة الباطل ،وقد أكمل ال دينه ،وأتم نعمته ،ورضي السلم الذي جاء به محمد صلى
ال عليه و سلم دينًا ،قال تعالى ( :اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم السلم
دينًا) (المائدة .)3 :وقال تعالى ( :وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (الحشر .)7 :
ث فِي َأمْــ ِرنَا هَــذَا ما ليس منه فهو رَدّ) ( ،)1وفي رواية :
حدَ َ
وقال صلى ال عليه و سلم ( :مَنْ َأ ْ
عمِلَ عملً ليس عليه أمرُنا فهو رَدّ) (.)2 (من َ
قد أقام ال تعالى للعلماء ميزان الحق ،الذي َيزِنُون به القوال المخالفة ،ويصدرون عنه أحكامهم..
أقامه على العلم والعدل :العلم الذي يتبين به الحق من الباطل ،وتُقام به الحجة على قائله أو فاعــله،
قال تعالى ( :ول تَقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئول)
(السراء ،)36 :والعدل الذي يثبت به لكل ذي حق حقه من مدح أو ذم غير مغموط فيه ،ول
متعتع ،وبقدر متساوٍ مع الولياء والعداء ،قال تعالى ( :يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين ل شهداء
بالقسط ول يجرمنكم شنآن قوم على أن ل تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة .)8 :
ويُعد شيخ السلم ابن تيمية عََلمًا من أعلم الدين ،وإمامًا من أئمة الهدى ،نَافَحَ بلسانه وقلمه عن
سنّة ،وجاهد بنفسه رؤوس الفتنة ،ووقف موقف البطال من دعاة البدعة ،وصبر على ما لقاه في ال ّ
سبيل إعلء كلمة ال من ال َعنَت والمحنة ،فلم تَلن له قناة ،ولم تهن له عزيمة ،حتى أظهر ال بعلمه
وجهاده ومواقفه منهج أهل السنة ،ونشر على يديه عقيدتهم ،بعد أن كانت الغلبة في عصره لعقائد
أهل الكلم ،والرواج لقوال أهل البتداع.
واعتمد ابن تيمية في كل ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في أصول الدين وفروعه ،على
كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه و سلم ،غير متبع لهوى ،أو مقلد لشخاص ،فإن ال ذم في
كتابه الذين يتبعون الظـن وما تهوى النفس ،ويتركون اتباع ما جاءهم من ربهم الهدى ،قــــال ال
تعالـــــى ( :إن هي إل أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل ال بها من سلطان إن يتبعون إل الظن
وما تهوى النفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) (النجم ،)23 :وأقام العدل في حكمه على أقوال
الناس وأعمالهم ،وإن كانوا من المخالفين له في الصول ،مراعيا ما يسوغ فيه الخلف ،أو ما يقع
فيه خطأ بسبب اجتهاد ،أو تأول صحيــح ،أو ما يلئمه التماس العذر للمخالف ،فإن ذلك أسلم من
الوقوع في الظلم الذي حرمه ال تعالى على عباده ،أو القول على ال بغير حق ،وذلك أقرب
للتقوى.
فكان ابن تيمية قائمًا بميزان الحق ،الذي صرّح بوجوب الوزن به ،وأنه الحد الفاصل بين منهج أهل
السنة والجماعة ،ومنهج أهل البدع والغواية في الكلم على الناس ،قائلً ( :والكلم في الناس يجب
أن يكون بعلم وعدل ،ل بجهل وظلم ،كحال أهل البدع) (.)3
ذلك أن الصل حفظ جارحة اللسان من القول إل حقًا ،وحماية أعراض الناس من انتهاكها زورًا
ن بالِ واليومِ الخ ِر فلي ّتقِ الَ وليَقُلْ حقّا أو
وبُهتانًا ،قال صلى ال عليه و سلم ( :مَن كانَ يؤم ُ
حسْبِ امرئٍ من الشرّ أن َيحْ ِقرَ َأخَاه المسلم ،كلّ سكُت) ( ،)4وقال صلى ال عليه و سلم ِ ( :ب َ ل َي ْ
ع ْرضُه) (.)5 المسلمِ على المسلم حَرامَ ،دمُهُ ومالُهُ و ِ
وقد ح ّرمَ ال سبحانه أذية المؤمنين ،أو إساءة الظن بهم أو غيبتهم ،فقال سبحـانــه ( :والذين يؤذون
المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا ) ( الحــزاب .) 58 :وقال
تعالى ( :يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم ول تجسسوا ول يغتب
بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتقوا ال إن ال تواب رحيم)
ظمَ القول في المسلم بغير علم ،مرشدًا إلى إمساك اللسان عن الخوض في عّ(الحجرات ،)12 :و َ
عرضه بغير حق ،وموجهًا إلى تبرئة ساحته مما قيل فيه ،إبقاء على الصل :وهو عدالته من
الجارح ،وسلمته من القادح ،قال تعالى ( :إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم
وتحسبونه هينًا وهو عند ال عظيم ولول إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك) (النور
.)1516 :
إن اعتماد العلم والعدل شرطان في الكلم على الناس عمومًا ،وفي الحكم على أقوال المخالفين
وأعمالهم خصوصًا ..ل يعني المداهنة مع المبتدعة ،ول الدفاع عن باطلهم ،ول تذويب العقيدة أو
إضعاف جانبها أمام الضللة ،أو التقصير نحو إظهارها أو إعلئها على غيرها من القوال والراء
المخالفة ،لكنه المنهج الحق الذي شرعه ال لنبيائه وعباده ،وارتضاه لهم في كتبه ،واتبعه رسوله
صلى ال عليه و سلم ،وسار عليه سلف المة وعلماؤها ..يقول عنه شيخ السلم ابن تيميــة بعد
ع النبياء هم أهل العلم والعدل ،كان كلم أهل السلم والسنة ،مع الكفار
تقريــره ( :ولما كان َأ ْتبَا ُ
وأهل البدع ،بالعلم والعدل ل بالظن وما تهوى النفس) (.)6
يستهدف هذا المنهج ضبط الحكام ،لتصدر بعد تحر وتثبت ،وصيانتها من النسياق مع جواذب
الهواء ،وسلمتها من الجهل على الناس وبخسهم حقوقهم ..ويتحقق هذا المنهج في صياغة أصول
كلية قائمة على الدلة المعتبرة ،يرجع إليها من احتاج الكلم في الناس ،والحكم على أقوالهم
وأعمالهم كلما اقتضت الحاجة ،تفاديًا لما ينشأ عن الجهل بها من مفاسد وعظائم ل تخفى.
ومن يراجع كتب شيخ السلم ابن تيمية ورسائله ،يصل إلى نتيجة واضحة ،هي تمكّنه من تحديد
هذه الصول ،التي كثيرًا ما كان يشير إليها بحسب ما يقتضي المقام ،عند حواره ومناقشته ورده
على مقالت المبتدعة وأعمالهم ،والتي ساعدته على وحدة أسلوبه واستواء أحكامه ..وقد أبان رحمه
ال ،أهميتها ،فقال ( :لبد أن يكون مع النسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ،ليتكلم بعلم وعدل،
ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت ،وإل فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات ،وجهل وظلم في
الكليات ،فيتولد فساد عظيم) (.)7
الول :أنها قاعدة الوصول إلى أحكام دقيقة ومنضبطة ومنصفة ،مبنية على العلم والعدل ،وملتزمة
بالمنهج الحق.
الثاني :أنها سبيل الوقاية من التخبط في الحكام على غير هدى ،وما يتولد عنه من أضرار كبيرة
ومفاسد عظيمة ،تلحق بالفراد والجماعات.
لهذه الهمية ،رأيتُ جمع هذه الصول المتناثرة في مواضع مختلفة من مؤلفات شيخ السلم ابن
تيمية ،لكي يسهل النتفاع بها والرجوع إليها ،وقد حافظتُ على نصها ،معتمدًا على النقل من
مظانها ،ومجتهدًا في ترتيبها على حسب مراده منها ،باذلً غاية جهدي في التعرف على الصول
التي اعتمدها في الحكم على المبتدعة والكلم فيهم ،ول أقول :إني استطعتُ الحاطة بجميعها أو
اللمام بأجزائها ،ولكن حسبي أني جمعت ما تيسر لي منها مما أمكنني الوقوف عليه.
وال أسأل أن يلهمني رشدي ،وأن يرزقني صوابًا في القول والعمل ،وال وحده الهادي إلى سواء
السبيل.
هو المام المجتهد شيخ السلم ،تقي الدين أبو العبـــاس أحمـــد ابن عبد الحليـــم بن عبد الســلم
بن عبــد ال بن الخضـــر بن محمـــد ابن الخضر بن علي بن عبد ال بن تيمية الحراني(.)8
ولد بحَرّان( )9يوم الثنين عاشر ربيع الول ،سنة إحدى وستين وستمائة ،ونشأ في بيئة علمية،
فكان جده أبو البركات عبد السلم( )10ابن عبد ال ،صاحب كتاب ( :المنتقى من أخبار المصطفى
صلى ال عليه و سلم) ،من أئمة علماء المذهب الحنبلي ،ووالده من علماء المذهب ،اشتغل بالتدريس
والفتوى ،وولي مشيخة دار الحديث السكرية حتى وفاته(.)11
انتقل مع أسرته إلى دمشق على إثر تخريب التتار لبلده حران ،وهو ابن سبع سنين ،وبدت عليه
مخايل النجابة والذكاء والفطنة منذ صغره ،فحفظ القرآن في سن مبكرة ،ولم يتم العشرين إل وبلغ
من العلم مبلغه ،ذكر ابن عبد الهادي( )12في ترجمته :أن (شيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي
شيخ ،سمع مسند المام أحمد بن حنبل( )13مرات ،وسمع الكتب الستة الكبار والجزاء ،ومن
مسموعاته معجم الطبراني( )14الكبير ،وعُني بالحديث ،وقرأ ونسخ وتعلم الخط والحساب في
المكتب ،وحفظ القرآن ،وأقبل على الفقه ،وقرأ العربية على ابن عبد القوي( ،)15ثم فهمها ،وأخذ
يتأمل كتاب سيبويه( ،)16حتى فهم في النحو ،وأقبل على التفسير إقبالً كليًا ،حتى حاز فيه قَصَب
السّبق ،وأحكم أصول الفقه وغير ذلك ،هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة ،فانبهر أهل دمشق
من فرط ذكائه ،وسيلن ذهنه ،وقوة حافظته ،وسرعة إدراكه) (.)17
أفتى وله تسع عشرة سنة ،وشرع في التأليف وهو ابن هذا السن ،وتولى التدريس بعد وفاة والده،
سنة 682هـ بدار الحديث السكرية ،وله إحدى وعشرون سنة ،حتى اشتهر أمره بين الناس ،وبعد
صيته في الفاق( ،)18نظرًا لغزارة علمه وسعة معرفته ،فقد خصه ال باستعداد ذاتي أهّله لذلك،
منه قوة الحافظة ،وإبطاء النسيان ،فلم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء إل ويبقى غالبًا على
خاطره ،إما بلفظه أو معناه( .)19ففي محنته الولى بمصر ،صنف عدة كتب وهو بالسجن ،استدل
فيها بما احتاج إليه من الحاديث والثار ،وذكر فيها أقوال المحدثين والفقهاء ،وعزاها إلى قائليها
بأسمائهم ،كل ذلك بديهة اعتمادًا على حفظه ،فلما روجعت لم يعثر فيها على خطأ ول خلل(.)20
قضى حياته في التدريس والفتوى والتأليف والجهاد ،فكانت تفد إليه الوفود لسماع دروسه ،و َت ِردُه
الرسائل للستفتاء في مسائل العقيدة والشريعة ،فيجيب عليها كتابة ..ترك ثروة علمية تدل على
غزارة علمه وسعة اطلعه ،وتكامل إدراكه لطراف ما يبحثه واستوائه لديه ،ومن ذلك مسائل علم
الكلم ومباحث الفلسفة ،فهو يناقش المتكلمين والفلسفة بأدلتهم ،وينقد مناهجهم ،ويبطل حججهم بثقة
وعلم ،ذكر ابن عبد الهادي أن مصنفاته وفتاواه ورسائله ل يمكن ضبط عددها ،وأنه ل يَعلم أحدًا
من متقدمي المة جمع مثل ما جمعه ،وصنف نحو ما صنفه(.)21
شارك في معركة شقحب ،التي وقعت بين أهل الشام والبُغاة من التتار ،بقرب دمشق في شهر
رمضان سنة 702هـ ،وانتهت بانتصار أهل الشام ودحر التتار ،الذين أرادوا بسط نفوذهم في الشام،
وتوسيع سلطتهم على أطرافها ،وقد ضرب ابن تيمية في هذه المعركة أروع مثال للفارس الشجاع(
.)22
وجاهد المخالفين من أهل الهواء والبدع ،مستعينًا بسلح العلم ،ومتحليًا في منازلتهم بالعدل
والرحمة ،فقد حاور أهل الكلم ،مظهرًا منهج أهل السنة والجماعة في باب السماء والصفات،
ومفندًا آراءهم بالحجة والبيان ،وتصدى للفلسفة وغلة التصوف من أتباع ابن عربي()23
وتلميذه ،فكشف أستارهم ،وأبان عوار مسلكهم.
اتبع مسلك الجتهاد في المسائل العلمية (ففي بعض الحكام يفتي بما أداه إليه اجتهاده من موافقة
أئمة المذاهب الربعة ،وفي بعضها يفتي بخلفهم وبخلف المشهور من مذاهبهم ،وله اختيارات
كثيرة في مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده ،واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال
الصحابة والسلف) (.)24
ابتلي رحمه ال في سبيل إظهار الحق وبيانه ،ونصيحة المسلمين ،فصبر ،فقد وُشي به لدى
السلطان ،واتهم بالباطل زورًا وبهتانًا ،وسُجن بسبب ذلك مرارًا ،ليُثنى عن منهجه ،ويُحال بينه وبين
الناس ،ولكنه قابل ذلك كله بالصبر على َقدَر ال ،والرضا بقضائه ،والحِلْم على من آذاه ،والعفو
عنهم ،ول أدلّ على ذلك من رسالته التي بعثها من مصر إلى أهله وأنصاره في دمشق ،يدعوهم
فيها إلى تأليف القلوب وجمع الكلمة ،وإصلح ذات البين ،ويحذرهم فيها من أذية مـن آذاه أو
إهانتهـــم ،يقــول فيهــا ( :تعلمــون رضي ال عنكـم ،أنــي ل أحب أن يُؤذى أحدٌ من عموم
المسلمين فضلً عن أصحابنا بشيء أصلً ،بل لهم عندي من الكرامة والجلل والمحبة والتعظيم،
أضعاف أضعاف ما كان ،كل بحسبه ،ول يخلو الرجل إما أن يكون مجتهـدًا مصيبًا أو مخطئًا أو
مذنبًا ،فالول مشكور ،والثاني مع أجره على الجتهاد فمعفو عنه ،مغفور له ،والثالث فال يغفر لنا
وله ولسائر المسلمين ،فنطوي بساط الكلم لهذا الصل ،كقول القائل :فلن قصر ،فلن ما عمل،
فلن أوذي الشيخ بسببه ،فلن كان سبب هذه القضية ،فلن يتكلم في كيد فلن ،ونحو هذه الكلمات
التي فيها مذمة لبعض الصحاب والخوان ،فإني ل أسامح من آذاهم من هذا البـاب ،ول حول ول
قوة إل بال.)25( )...
اتصف بسلمة النفس ،والبراءة من التشفي والنتقام حتى ممن كاده ،ذُكر أن الناصر بن قلوون(
)26لما رجع إلى الحكم في مصر بعد خلعه ،جلس معه( ،وأخرج من جيبه فتاوى لبعض المشايخ
من خصومه في قتله ،واستفتاه في قتل بعضهم ،قال :ففهمت مقصوده ،وأن عنده حنقًا شديًا عليهم
ت في مدحهم والثناء لما خلعوه ،وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير( ،)27فشرع ُ
عليهم وشكرهم ،وأن هؤلء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك ،أما أنا فهم في حِلّ من حقي ومن
س ّكنْتُ ما عنده عليهم .قال :فكان قاضي المالكية زين الدين بن مخلوف( )28يقول بعد جهتي ،و َ
ذلك :ما رأينا أتقى من ابن تيميــة ،لم نُبق ممكنًا في السعي فيه ،ولما َقدِرَ علينا عفا عنا) (.)29
كان منهجه قائمًا على اتباع الدليل ،وغايته إظهار الحق والنتصار له ،دون خوف من أحد ول
مداهنة فيه ،فإنه (كان سيفًا مسلولً على المخالفين ،وشجى في حلوق أهل الهواء المبتدعين ،وإمامًا
قائمًا ببيان الحق ونصرة الدين) ( .)30من قرأ رسائله وتراثه العلمي ،أدرك دقة وصف تلميذه
الحافظ عمر بن علي البزار( )31لمنهجه لما قال ( :إذا نظر المنصف إليه بعين العدل ،يراه واقفًا
مع الكتاب والسنة ،ل يميله عنهما قول أحد كائنًا من كان ،ول يراقب في الخذ بعلومهما أحدًا ،ول
يخاف في ذلك أميرًا ول سلطانًا ول سوطًا ول سيفًا ،ول يرجع عنهما لقول أحد ،وهو مستمسك
بالعروة الوثقى واليــد الطــولى ،وعامــل بقــول ال تـعــالــــــى ( :فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى
ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر ذلك خير وأحسن تأويلً) (النســـــــاء ،)59 :
وبقــولـــه تعــالـــــى ( :وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى ال) (الشورى ،)10 :وما سمعنا أنه
اشتهر عن أحد منذ دهر طويل ما اشتهر عنه من كثرة متابعته للكتاب والسنة ،والمعان في تتبع
معانيهما ،والعمل بمقتضاهما ،ولهذا ل يرى في مسألة أقوالً للعلماء ،إل وقد أفتى بأبلغها موافقة
للكتاب والسنة ،وتحرى الخذ بأقومها من جهة المنقول والمعقول) (.)32
توفي رحمه ال وأسكنه الفردوس العلى ،ليلة الثنين ،العشرين من ذي القعدة ،سنة ثمان وعشرين
وسبعمائة ،بقلعة دمشق محبوسًا ،بعد مرض أصابه بضعة وعشرين يومًا ،فاشتد أسف الناس عليه..
قيل :إن عدد مَن حضر جنازته يزيد على نحو خمسمائة ألف( ،)33وإنه لم يسمع بجنازة حضرها
مثل هذا الجمع ،إل جنازة المام أحمد( )34رحمه ال.
يحسن قبل الشروع في بيان أصول شيخ السلم ابن تيمية في الحكم على أهل البدع ،أن أعرض
بشيء من الختصار ما يبين مفهومه رحمه ال للسنة ،ويحدد أهلها ،ويوضح طريقتهم ،ويبين
مفهومه للبدعة وتفاوتها ،ودعوته إلى العتصام بالسنة ،وتحذيره من البدعة وفسادها بحيث يتحدد
لنا موقفه من التباع والبتداع ابتداءً.
يرى أن السنة من الفعل هي ( :ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة ل ورسوله ،سواء فعله
رسول ال صلى ال عليه و سلم ،أو فُعل على زمانه ،أم لم يفعله ولم يفعل على زمانه ،لعدم
المقتضي حينئذ لفعله ،أو وجود المانع منه ،فإنه إذا ثبت أنه أمر به أو استحبه فهو سنة ،كما أمر
بإجلء اليهود والنصارى من جزيرة العرب( ،)35وكما جمع الصحابة القرآن في المصحف(،)36
وكما داوموا على قيام رمضان في المسجد جماعة(.)38( ))37
قصد الشيخ في هذا التعريف ،المعنى العام للسنة ،وهو الطريقة الموافقة لهدي الرسول صلى ال
عليه و سلم وعمل الصحابة رضي ال عنهم ،ول سيما الخلفاء الراشدون ،وقد استقاه من وصية
رسول ال صلى ال عليه و سلم ( :عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ،تمسكوا بها،
ل بدعةٍ ضللة) (.)39 ح َدثَات المور ،فإن كُلّ مُحدثةٍ بدعةٌ ،وك ّ
عضّوا عليها بالنواجذ ،وإياكم و ُم ْ
وَ
يرى أنهم المتبعون لسلف المة ،الذين عاشوا في القرون الثلثة المفضلة ،وحازوا كل فضيلة،
وثبت لهم ذلك بالضرورة ،وأنه (من المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة ،وما اتفق عليه
أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف ،أن خير قرون هذه المة في العمال والقوال والعتقاد...
القرن الول ،ثم الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم ،كما ثبت ذلك عن النبي صلى ال عليه و سلم من
غير وجه( ،)40وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة ،من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان
وعبادة ،وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل ..هذا ل يدفعه إل من كابر المعلوم بالضرورة من دين
السلم ،وأضله ال على علم) ( ،)41كما قال عبد ال بن عمر( )42رضي ال عنهما ( :مَن كان
منكم مستنًا فليستن بمن قد مات ،أولئك أصحاب محمد صلى ال عليه و سلم كانوا خير هذه المة،
أبرها قلوبًا ،وأعمقها علمًا ،وأقلها تكلفًا ..قوم اختارهم ال لصحبة نبيه ،ونقل دينه ،فتشبهوا بأخلقهم
وطرائقهم ،فهم أصحاب محمد صلى ال عليه و سلم ،كانوا على الهدى المستقيم) (.)43
وقال غيره ( :عليكم بآثار مَن سَلَف ،فإنهم جاءوا بما يكفي ويشفي ،ولم يحدث بعدهم خير كامن لم
يعلموه) ( ،)44وقال المام الشافعي(( : )45هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل ،وكل سبب
يُنال به علم أو يُدرك به هوى ،ورأيهم لنا خير من رأينا لنفسنا) (.)46
ح ّددَ رحمه ال أهل السنة والجماعة ،فقال ( :أهل السنة والجماعة من الصحابة جميعهم والتابعين،
وَ
وأئمة أهل السنة وأهل الحديث ،وجماهير الفقهاء والصوفية( ،)47مثل مالك( )48والثوري()49
والوزاعي( )50وحماد بن زيد( ،)51والشافعي ،وأحمد بن حنبل ،وغيرهم ،ومحققي أهل الكلم(
،)53( ))52فلم يحصر أهل السنة والجماعة في مدرسة معينة ،لن طريق السنة يتسع لكل من
اعتصم بها ،واتبع آثار السلف رحمهم ال تعالى).
بين المام ابن تيمية أن (طريقة أهل السنة والجماعة ،اتباع آثار رسول ال صلى ال عليه و سلم
باطنًا وظاهرًا ،واتباع سبيل السابقين الولين من المهاجرين والنصار ،واتباع وصية رسول ال
صلى ال عليه و سلم حيث قال ( :عليكم بسنتي) ( )54إلى آخر الحديث) ( ،)55فهم إنما سُموا
بأهل السنة لهذا المعنى ،وسُموا أهل الجماعة لن الجماعة هي الجتماع ،وضدها الفُرقة ،نسبة إلى
الصل الثالث وهو الجماع ،ويقصد به الجماع المنضبط ،وهو ما كان عليه السلف الصالح ،إذ
َب ْعدَهم َكثُر الختلف ،وافترقت المة(.)56
وإنما كان السلف على السنة ،لن غاية ما عندهم أن يكونوا موافقين لرسول ال صلى ال عليه و
سلم ،ولن عامة ما عندهم من العلم واليمان استفادوه منه صلى ال عليه و سلم ،الذي أخرجهم ال
به من الظلمات إلى النور ،وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد( ،)57لذا كان الحق معهم ،لن
(الحق دائمًا مع سنة رسول ال صلى ال عليه و سلم وآثاره الصحيحة ،وأن كل طائفة تضاف إلى
غيره إذا انفردت بقول عن سائر المة ،لم يكن القول الذي انفردت به إل خطأ ،بخلف المضاف
إليه أهل السنة والحديث ،فإن الصواب معهم دائمًا ،ومَن وافقهم كان الصواب معه دائمًا لموافقته
إياهم ،ومن خالفهم فإن الصواب معهم دونه في جميع أمور الدين ،فإن الحق مع الرسول صلى ال
عليه و سلم ،فمن كان أعلم بسنته وَأ ْتبَع لها كان الصواب معه ،وهؤلء هم الذين ل ينتصرون إل
لقوله ،ول يضافون إل إليه ،وهم أعلم الناس بسنته ،وأتبع لها ،وأكثر سلف المة كذلك ،لكن التفرق
والختلف كثير في المتأخرين) (.)58
لذا كانت متابعة السلف شعارًا للتمييز بين أهل السنة وأهل البدعة ،كما قال المام أحمد في رسالة
عبدوس بن مالك(( : )59أصول السنة عندنا :التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى ال عليه
و سلم) ( ،)60فعلم أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف ..ولما كان الرافضة()61
أشهر الطوائف بالبدعة ،حتــى إن العامــة ل تعرف مـن شعـائـر البـدع إل الرفض ،صار السني في
اصطلحهم مَن ل يكون رافضيًا ،وذلك لنهم أكثر مخالفة للحاديث النبوية ولمعاني القرآن ،وأكثر
قدحًا في سلف المة وأئمتها ،وطعنًا في جمهور المة من جميع الطوائف ،فلما كانوا أبعد عن
متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة( ،)62وهناك طوائف أقرب منهم إلى طريقة السلف مثل (متكلمة
أهل الثبات من الكُلّبية( )63والكرامية( )64والشعرية( )65مع الفقهاء والصوفية وأهل الحديث،
فهؤلء في الجملة ل يطعنون في السلف ،بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالتهم ،لكن كل من كان
بالحديث من هؤلء أعلم ،كان بمذهب السلف أعلم ،وله أتبع ،وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل
طائفة بقدر استنانها ،وقلة ابتداعها) (.)66
وهي (نوعان :نوع في القوال والعتقادات ،ونوع في الفعال والعبادات ،وهذا الثاني يتضمن
الول ،كما أن الول يدعو إلى الثاني) ( ،)69فمثال الول في القوال :بدعة الوراد المحدثة ،وفي
العتقادات :بدعة الرافضة والخوارج( ، )70والمعتزلة( ، )71والمرجئة( ،)72والجهمية(..)73
ومثال الثاني في الفعال :لبس الصوف عبادةً ،وعمل المولد( ،)74وفي العبادات ،الجهر بالنية في
الصلة ،والذان في العيدين(.)75
يرى أن البدعة تكون باطلً على قدر ما فيها من مخالفة للكتاب والسنة ،وابتعاد عن متابعة السلف،
فهي ليست باطلً محضًا ،إذ لو كانت كذلك لظهرت وبانت وما قُبلت ،كما أنها ليست حقًا محضًا ل
شــوب فيه ،وإل كـانت موافقــة للسنــة التي ل تنــاقض حقًا محضًا ل باطل فيه ،وإنما تشتمل على
حق وباطل( ،)76وعلى هذا يكون بعضها أشد من بعض( ،)77ويكون أهلها (على درجات :منهم
من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة ،ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة) (
.)78
وهذا التفاوت يقع في مسائل العقيدة والعبادة على حد سواء ،فإن (الجليل من كل واحد من الصنفين،
مسائل أصول ،والدقيق مسائل فروع) ( ..)79وما درج عليه الناس من تسمية مسائل العقيدة
الخبرية بالصول ،ومسائل العبادة العملية بالفروع ،تسمية محدثة ،قسمها طائفة من الفقهاء
المتكلمين ،وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية فعندهم أن المسائل العملية آكد وأهم من المسائل
الخبرية المتنازع فيها ،لذا كثر كلمهم فيها ،وكرهوا الكلم في الخرى ،كما أثر ذلك عن مالك
وغيره من أهل المدينة(.)80
وقد أشار الشيخ إلى هذا التفاوت من حيث قُرب ال ِفرَق و ُبعْدها عن الحق قائلً ( :وأصحاب ابن
كلب( )81كالحــارث المحاسبـــي( ،)82وأبي العباس القلنسي( ،)83ونحوهما ،خير من
الشعرية في هذا وهذا ،وكلما كان الرجل إلى السلف والئمة أقرب ،كان قوله أعلى وأفضل) (
.)84
يؤكد شيخ السلم على أنه ل عاصم من الوقوع في الباطل إل بملزمة السنة ،ذلك أن (السنة مثال
سفينة نوح عليه السلم ،من َر ِكبَها نجا ،ومن َتخَلّف عنها غرق ،قال الزهري( : )85كان من مضى
من علمائنا يقولون :العتصام بالسنة نجاة) ( ،)86لذا فإن المبتدعة لما كانوا مخالفين للسنة ،وقعوا
في الباطل وإن كانوا متأولين ،لنهم اتبعوا الهوى ،وضلوا طريق السنة المنصوب على العلم والعدل
والهدى ،ومن هُنا سُمي أصحاب البدع ،أصحاب الهواء(.)87
أما أهل العلم واليمان من السلف ،فإنهم تمسكوا بالسنة ،وكان منهجهم على النقيض من منهج
المبتدعة ،فهم (يجعلون كلم ال ورسوله هو الصل الذي يعتمد عليه ،وإليه يرد ما تنازع الناس
فيه ،فما وافقه كان حقًا ،وما خالفه كان باطلً ،ومن كان قصده متابعته من المؤمنين ،وأخطأ بعد
اجتهاده الذي استفرغ به وسعه ،غفر ال له خطأه ،سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الخبرية أو
المسائل العملية ،فإنه ليس كل ما كان معلومًا متيقنًا لبعض الناس ،يجب أن يكون معلومًا متيقنًا
لغيره ،وليس كل ما قاله رسول ال صلى ال عليه و سلم يعلمه كل الناس ويفهمونه ،بل كثير منهم
لم يسمع كثيرًا منه ،وكثير منهــم قد يشتبـــه عليـــه مـــا أراده ،وإن كـــان كلمـــه في نفســـه
محكـمًا مقــرونًا بما يبين مراده) (.)88
لكن إذا لم ُي ّتبَع منهج السلف ،فإنه يُخاف على المنتسبين إلى العلم والنظر العقلي ،وما َي ْتبَع ذلك ،من
الوقوع في بدعة القوال والعتقادات ،ويُخاف على المنتسبين إلى العبادة والرادة ،وما َي ْتبَع ذلك،
من الوقوع في بدعة الفعال والعبادات ،وكل ذلك من الضلل والبغي ،وقد أُمر المسلم أن يقول في
صلته ( :اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ول الضالين)
(الفاتحة ،)67 :آمين ،وصح عن النبي صلى ال عليه و سلم أنه قال ( :اليهــود مغضوب عليهم،
والنصــارى ضـالـون) ( ،)89قـــال سفيــان بن عيينة( : )90كانوا يقولون :من فَسَد من العلماء
ففيه شبه من اليهود ،ومن فسد من ال ُعبّاد ففيه شبه من النصارى ..وكان السلف يقولون :احذروا
فتنة العَالِم الفاجر ،والعابد الجاهل ،فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ،فطالب العلم إن لم يقترن بطلبه فِعْلُ
مــا يجـب عليـه ،و َت ْركُ ما يحرم عليه من العتصام بالكتاب والسنة ،وإل وقع في الضلل(.)91
حذر الشيخ من البدعة ،وبين أنها أشر من المعصيــة( ،)92لـذم رسول ال صلى ال عليه و سلم
إياها في قوله ( :شر المور محدثاتها ،وكل بدعة ضللة) ( ،)93وفي رواية ( :وكل ضللة في
النار) ( ..)94وذمه عليه الصلة والسلم الواقعين فيها ،في ذمه للرجل الذي اعترض على رسول
ضئْضِئي( )95هذا قومٌ َيحْ ِق ُر أح ُدكُم ن ِ خرُجُ مِ ْال صلى ال عليه و سلم في قسمته ،فقال فيه َ ( :ي ْ
صيَامِهِم ،و ِقرَا َءتَه مَ َع ِقرَاءتِهم ،يقرؤونَ القرآنَ ل ُيجَا ِوزُ صلتَهُ مَ َع صَل ِتهِم ،وصيامَهُ مَ َع ِ
ل ْقتَُلنّهم قَتلَ عاد) (ن ال ّر ِميّةَ ،لئِن أدرك ُتهُم َ
سهْمُ مِ َ
جرَهُمَ ،ي ْمرُقُون( )96مِنَ السلمِ ،كما َيمْ ُرقُ ال ّ حنَا ِ
َ
..)97وفي رواية ( :لو يعلمُ الذين يقاتلونهم ماذا لهم عن لسان محمدٍ ل ّتكَلُوا عن العمل) (..)98
ن قَتَلُوه) (.)99 وفي رواية ( :شر قَتْلَى تحتَ أديمِ السماء ،خير َقتْلَى َم ْ
قال الشيخ معلقًا على هذا الحديث ( :فهؤلء مع كثرة صلتهم وصيامهم وقراءتهم ،وما هم عليه من
العبادة والزهادة ،أمر النبيُ صلى ال عليه و سلم بقتلهم ،و َقتَلَهم علي بن أبي طالب( )100ومَن معه
من أصحاب النبي صلى ال عليه و سلم ،وذلك لخروجهم عن سُنة النبي وشريعته ،وأظن أني
ذكرتُ قول الشافعي :لن يُبتلى العبد بكل ذنب ،ما خل الشرك بال ،خير من أن يُبتلى بشيء من
هذه الهواء) (.)101
الول :أن البدع مفسدة للقلوب ،مزاحمة للسنة في إصلح النفوس ،فهي أشبه ما تكون بالطعام
الخبيث ،وفي هذا المعنى يقول (الشرائع أغذية القلوب ،فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل
للسنن ،فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث) (.)102
الثاني :أن البدع معارضة للسنن ،تقود أصحابها إلى العتقادات الباطلة والعمال الفاسدة والخروج
عن الشريعة ،وفي هذا المعنى يقول :مبينًا أن (من أسباب هذه العتقادات والحوال الفاسدة،
الخروج عن الشّرعة والمنهاج ،الذي بعث به الرسول صلى ال عليه و سلم إلينا ،فإن البدع هي
مبادئ الكفر ومظان الكفر ،كما أن السنن المشروعة هي مظاهر اليمان ،ومقوية لليمان ،فإنه يزيد
بالطاعة وينقص بالمعصية) ( ،)103وهذا ظاهر في منهج المبتدعة ،القائم على معارضة الكتاب
والسنة ،لـمّا (جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هي القوال المحكمة ،التي جعلوها أصول دينهم ،وجعلوا
قول ال ورسوله من المجمل الذي ل يُستفاد منه علم ول هدى ،فجعلوا المتشابه من كلمهم هو
المحكم ،والمحكم من كلم ال ورسوله هو المتشابــه ،كمـا يجعـل الجهميـة من المتفلسفـة والمعتزلـة
ونحوهـم ،ما أحدثوه من القوال التي نفوا بها صفات ال ،ونفوا بها رؤيته في الخرة ،وعُلُوه على
خَلْقه ،وكون القرآن كلمه ونحو ذلك ،جعلوا تلك القوال محكمة ،وجعلوا قول ال ورسوله مؤولً
عليها ،أو مردودًا ،أو غير ملتفت إليه ،ول متلقى للهدى منه) (.)104
الصل الول :العتذار لهل الصلح والفضل عما وقعوا فيه من بدعة عن اجتهاد ،وحمل كلمهم
المحتمل على أحسن محمل
ل ريب أن المجتهد إذا أخطأ فيما يسوغ فيه الجتهاد ،يعفى عنه خطؤه ،ويثاب ،لقول رسول ال
صلى ال عليه و سلم ( :إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ،وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله
أجر) ( ،)106لذا يُعذر كثير من العلماء والعباد ،بل والمراء فيما أحدثوه لنوع اجتهاد( ،)107فإن
كثيرًا (من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ،ولم يعلموا أنه بدعة ،إما لحاديث
ضعيفة ظنوها صحيحة ،وإما ليات فهموا منها ما لم ُيرَدْ منها ،وإما لرأي رَأَوْه وفي المسألة
نصوص لم تبلغهم ،وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله تعالى ( :ربنا ل تؤاخذنا إن
نسينا أو أخطأنا) (البقرة ،)286 :وفي الصحيح أن ال قال ( :قد فعلتُ) (.)109( ))108
وقد اعتذر الشيخ لبعض أهل الفضل والصلح ،ممن شهدوا سماع الصوفية ورقصهم متأولين ،قائلً
( :والذين شهدوا هذا اللغو متأولين من أهل الصدق والخلص والصلح ،غمرت حسناتهم ما كان
لهم فيه وفي غيره من السيئات ،أو الخطأ في مواقع الجتهاد ،وهذا سبيل كل صالحي هذه المة في
خطئهم وزلتهم) ( ،)110مستندًا في هذا على قول ال تعالى ( :والذي جاء بالصدق وصدّق به
أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر ال عنهم أسوأ الذي عملوا
ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعلمون) (الزمر .)35-33 :
كما اعتذر لشيوخ أهل التصوف ،الذين حسن ذكرهم وثبت إيمانهم ،فقال ( :لكن شيوخ أهل العلم
الذين لهم لسان صدق ،وإن وقع في كلم بعضهم ما هو خطأ منكر ،فأصل اليمان بال ورسوله إذا
كان ثابتًا ،غفر لحدهم خطأه الذي أخطأه بعد اجتهاد) (.)111
وإذا كان الجتهاد عذرًا في العفو عن الخطأ البدعي ،فإن هذا الخطأ ل ينقص من قدر المجتهد ،متى
كان من أهل القدم في الصلح والتقوى ،فإنه مع خطئه (قد يكون صدّيقًا عظيمًا ،فليس من شرط
الصدّيق أن يكون قوله كله صحيحًا ،وعمله كله سنة) ( ..)112كما أن فعل أهل الفضل للبدعة ليس
دليلً على صحتها ،فإن الصحة تُعرف من كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه و سلم ..قال رحمه
ال مبينًا هذا ( :إذا فعلها قوم ذوو فضل ودين ،فقد تركها في زمان هؤلء من كان معتقدًا لكراهتها،
وأنكرها قوم إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها فليسوا دونهم ،ولو كانوا دونهم في الفضل فقد تنازع
فيها أولو المر ،فتُرد إلى ال ورسوله) ( ..)113هذا إذا وقع الخطأ فيما يسوغ فيه الجتهاد ،أما من
أخطأ مخالفًا (الكتاب المستبين ،والسنة المستفيضة ،أو ما أجمع عليه سلف المة ،خلفًا ل يعذر فيه،
فهذا يُعامل بما يُعامل به أهل البدع) (.)114
وكذلك تُحمل القوال المحتملة لهل الفضل والصلح ،على أحسن محمل وأسلم مقصد ،من ذلك
حمْله رحمه ال لقول الجنيد( )115رحمه ال ( :التوحيد إفراد ال ِقدَم من الحدث) ،قائلً ( :هذا الكلم
َ
فيه إجمال ،والمحق يحمله محملً حسنًا ،وغير المحق يدخل فيه أشياء ...وأما الجنيد فمقصوده
التوحيد الذي يشير إليه المشايخ ،وهو التوحيد في القصد والرادة ،وما يدخل في ذلك من الخلص
والتوكل والمحبة ،وهو أن يُ ْفرَد الحق سبحانه وهو القـديم ،بهــذا كلـه ،فل يشركه في ذلك محدث،
وتمييز الرب من المربوب في اعتقادك وعبادتك ،وهذا حق صحيح ،وهو داخل في التوحيد الذي
بعث ال به رسله ،وأنزل به كتبه ..ومما يدخل في كلم الجنيد ،تمييز القديم عن المحدث ،وإثبات
مباينته له ،بحيث يعْلَمه ويشهد أن الخالق مباين للخلق ،خلفًا لما دخل فيه التحادية( )116من
المتصوفة وغيرهم من الذين يقولون بالتحاد معينًا أو مطلقًا) ( .)117ومنه أيضًا حمله قول بعض
الصوفية :ما عبدتك شوقًا إلى جنتك ،ول خوفًا من نارك ،ولكن لنظر إليك أو إجللً لك -مع ما
فيه من خطأ ،على حسن القصد -فيقول ( :وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين ،وأرباب
جدٌ صحيح ،وذوق سليم ،لكن ليس له عبارة تبين مراده ،فيقع الحوال والمقامات ،يكون لحدهم َو ْ
في كلمه غلط وسوء أدب( )118مع صحة مقصوده) (.)119
الصل الثاني :عدم تأثيم مجتهد إذا أخطأ في مسائل أصولية أو فرعية ..وأولى من ذلك ،عدم
تكفيره أو تفسيقه
نسب ابن تيميـــة هـــذا الحكـــم إلى السلف وأئمــة الفتــوى ،كأبي حنيفة( )120والشافعي والثوري
وداود( )121بن علي وغيرهم ،أنهم كانـوا ل يؤثمون مجتهدًا أخطأ في المسائل الصولية
والفروعية ،وذكر ذلك عنهم ابن حزم( )122وغيره ،وعلل هذا بأن أبا حنيفة والشافعي وغيرهمــا
كــانــوا يقبلـــون شهـــادة أهـــل الهــــــواء ،إل الخطابيـــة( ،)123ويصححون الصلة خلفهم(
،)124والكافر ل تُقبل شهادته على المسلمين ،ول يُصلى خلفه ،وأنهم قالوا :هذا هو القول
المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين ،أنهــم ل يكفــرون ول يفسّقــون ول
يؤثمون أحدًا من المجتهدين المخطئين ،ل في مسألة عملية ول علمية ،قالوا :والفرق بين مسائل
الصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع ،من أهل الكلم من المعتزلة والجهمية ،ومن سلك
سبيلهم ،وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه ،ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ول
غَوره(.)125
وبيّن رحمه ال بطلن رأي مَن قال :إن (مسائل الصول هي العلمية العتقادية ،التي يُطلب فيها
العلم والعتقاد فقط ،ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل -من جهة الحكم -فإن
المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده ،مثل وجوب الصلوات الخمس ،والزكاة ،وصوم شهر رمضان،
وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش ،وفي المسائل العلمية ،ما ل يأثم المتنازعون فيه ،كتنازع
الصحابة :هل رأى محمد ربه؟ كتنازعهم في بعض النصوص :هل قاله النبي صلى ال عليه و
سلم أم ل؟ وما أراد بمعناه؟ وكتنازعهم في بعض الكلمات ،هل هي من القرآن أم ل؟ وكتنازعهم في
بعض معاني القرآن والسنة :هل أراد ال ورسوله كذا وكذا؟ وكتنازع الناس في دقيق الكلم،
كمسألة الجوهر الفرد ،وتماثل الجسام ،وبقاء العراض ،ونحو ذلك ،فليس في هذا تكفيـر ول
تفسيق) (.)126
وأوضح الشيخ بطلن جعل العقائد هي الصول ،والعبادات والمعاملت هي الفروع ،فقال ( :الحق
أن الجليل من كل واحد من الصنفين مسائل أصول ،والدقيق مسائل فروع ،فالعلم بوجوب الواجبات،
كمباني السلم الخمس ،وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة ،كالعلم بأن ال على كل شيء قدير،
وبكل شيء عليم ،وأنه سميع بصير ،وأن القرآن كلم ال ،ونحو ذلك من القضايا الظاهرة
المتواترة ،ولهذا مَن جحد تلك الحكام العملية المجمع عليها كَفَر ،كما أن مَن جحد هذه كَفَر ..وقد
يكون القرار بالحكام العملية أوجب من القرار بالقضايا القولية ،بل هذا هو الغالب ،فإن القضايا
القولية يكفي فيها القرار بالجمل :وهو اليمان بال وملئكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت،
واليمان بال َقدَر خيره وشره ..وأما العمال الواجبة ،فلبد من معرفتها على التفصيل ،لن العمل بها
ل يمكن إل بعد معرفتها مفصلة ،ولهذا تُ ِقرّ المةُ مَن يُفصلها على الطلق وهم الفقهاء ،وإن كان قد
يُنكر على مَن يتكلم في تفصيل الجمل القولية ،للحاجة الداعية إلى تفصيل العمال الواجبة ،وعدم
الحاجة إلى تفصيل الجمل التي وجب اليمان بها مجملة) (.)127
وعلل رحمه ال ،عدم تأثيم المجتهد إذا أخطأ في مسائل أصولية أو فرعية بقوله ( :ليس كل مَن
اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق ،ول يستحق الوعيد إل مَن ترك مأمورًا أو فعل محظورًا،
وهذا قول الفقهاء والئمة( ،)128وهو القول المعروف عن سلف المة ،وقول جمهور المسلمين) (
.)129
لكنه ُي َفرّقُ بين خطأين :خطأ مؤاخذ عليه ،وخطأ مغفور له ،فيقول ( :مَن كان خطؤه لتفريطه فيما
يجب عليه من اتباع القرآن واليمان مثلً ،أو لتعديه حدود ال ،بسلوك السبيل التي نُهي عنها ،أو
لتباع هواه بغير هدىً من ال ،فهو الظالم لنفسه ،وهو من أهل الوعيد ،بخلف المجتهد في طاعة
ال ورسوله باطنًا وظاهرًا ،الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره ال ورسوله ،فهذا مغفور له خطؤه،
كما قال تعالى ( :آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بال وملئكته وكتبه ورسله
ل نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا )...إلى قوله ( :ربنا ل تؤاخذنا إن
نسينا أو أخطأنا) (البقرة ،)286-285 :وقد ثبت في صحيح مسلم ،عن النبي صلى ال عليه و
سلم ،أن ال قال ( :قد فعلتُ) ( ،)130وكذلك ثبت فيه من حديث ابن عباس( )131رضي ال
عنهما ( :أن النبي صلى ال عليه و سلم لم يقرأ بحرف من هاتين اليتين ومن سورة الفاتحة إل
أعطي ذلك) ( ،)132فهذا يبين استجابة هذا الدعاء للنبي والمؤمنين ،وأن ال ل يؤاخذهم إن نسوا
أو أخطأوا) (.)133
وإذا كان خطأ المجتهد من علماء المسلمين مغفورًا له ،فإنه ل يجوز تكفير أحد منهم بمجرد الخطأ،
بل ول يُ َفسّق ول يُؤثم ،وفي هذا الشأن يقول شيخ السلم ( :إن علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا
باجتهادهم ،ل يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلمه ...فإن تسليط الجهال على تكفير
علماء المسلمين من أعظم المنكرات ،وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض ،الذين يكفّرون أئمـة
المسلمين ،لما يعتقدون أنهم أخطأوا فيه من الدين ،وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء
المسلمين ل يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض ،بل كل أحد يؤخذ من قوله ويُترك إل رسول ال
ض كلمِه لخطأ أخطأه ،يكفر ،ول يفسق ،بل ول يأثم، صلى ال عليه و سلم ،وليس كُل مَن يُترك بع ُ
فإن ال تعالى قال في دعاء المؤمنين ( :ربنا ل تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة ،)286 :وفي
الصحيح عن النبي صلى ال عليه و سلم قال ( :إن ال قال :قد فعلتُ) (.)135( ))134
بل يرى الشيخ أن (دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطأوا ،هو من أحق الغراض
الشرعية.)136( )...
على أنه ينبغي أن يعلم أن رفع الثم عن العالم المجتهد إذا أخطـأ ،ل يعني الغضاء عن البدعة التي
أخطأ فيها ،فقد بيّن رحمه ال أن إثمها يزول للجتهاد أو غيره ،إل أنه يجب بيان حالها ،وعدم
القتداء بمن استحلها ،وأن ل يقصر أحد في طلب العلم المبيّن لحقيقتها( ،)137ذلك أن الثم مزال
عن المجتهد ،ل عن وجه المخالفة من المبتدع.
وتأكيدًا لما سبق ،فإن الشيخ يقرر أن مسلك أهل السنة ،عدم تكفير المجتهد المخطئ في المسائل
صدُه متابعةُ الرسول صلى ال عليه و سلم العملية أو المسائل العتقادية ،فيقول ( :إن المتأوّل الذي قَ ْ
ل ُيكَفّر ول يُ َفسّق إذا اجتهد فأخطأ ،وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية ،وأما مسائل العقائد
فكثيــر من النــاس كفّــروا المخطئين فيهــا ،وهــذا القــول ل يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين
لهم بإحسان ،ول يُعرف عن أحد من أئمة المسلمين ،وإنما هو في الصل من أقوال أهل البدع،
الذين يبتدعون بدعة ،ويكفرون من خالفهم ،كالخوارج والمعتزلة والجهمية ،ووقع ذلك في كثير من
أتباع الئمة ،كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ،وقد يسلكون في التكفير ذلك ،فمنهم
من يُكفّر أهل البدع مطلقًا ،ثم يجعل كل مَن خرج عما هو عليه ،من أهل البدع ..وهذا بعينه قول
الخوارج والمعتزلة والجهمية ،وهذا القول أيضًا ل يوجد في طائفة من أصحاب الئمة الربعة ول
غيرهم ،وليس فيهم من كفّر كل مبتدع ،بل المنقولت الصريحة عنهم تناقض ذلك ،ولكن قد يُنقل
عن أحدهم أنه كفّر مَن قال بعض القوال ،ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر ،ول يلزم إذا
كان القول كفرًا أن يُكفّر كلّ مَن قاله مع الجهل والتأويل) ( ..)138لذا كان (من عيوب أهل البدع،
خطّئــون ول يكفّرون) (.)139 تكفير بعضهم بعضًا ،ومن ممادح أهل العلم أنهــم ُي َ
الصل الثالث :عذر المبتدع ل يقتضي إقراره على ما أظهره من بدعة ،ول إباحة اتّباعه ،بل يجب
النكار عليه فيما يسوغ إنكاره ،مع مراعاة الدب في ذلك
يرى ابن تيمية أن المجتهد المبتدع ل يُقر على إظهار البدعة والدعوة إليها( ،)140متى تبينت
مخالفتها للكتاب والسنة ،بل ل يجوز متابعته فيها( ،نعم ،قد يكون متأولً ( )141في هذا الشرع ،أي
الذي ابتدعه ،فيُغفر له لجل تأويله ،إذا كان مجتهدًا الجتهاد الذي يُعفى معه عن المخطئ ،ويُثاب
ل قد
أيضًا على اجتهاده ،لكن ل يجوز اتباعه في ذلك ،كما ل يجوز اتباع سائر مَن قال أو عمل عم ً
عُلم الصواب في خلفه ،وإن كان القائل أو الفاعل مأجورًا أو معذورًا ،وقد قال سبحانه وتعالى :
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون ال والمسيح ابن مريم وما أمروا إل ليعبدوا إلهًا واحدًا ل
إله إل هو سبحانه عما يشركون) (التوبة ،)31 :قال عـدي بن حاتم( )142للنبي صلى ال عليه و
سلم ( :يـا رسـول ال! ما عبـــدوهم .قـــال ( :ما عبدوهم ،ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم،
وحرّموا عليهم الحلل فأطاعوهم) ( )143فمن أطاع أحدًا في دين لم يأذن به ال ،في تحليل أو
تحريم أو استحباب أو إيجاب ،فقد لحقه من هذا الذم نصيب) (.)144
ويؤكد رحمه ال ،أنه ل يكون معذورًا من اتبع مخالفًا لمر ال ورسوله صلى ال عليه و سلم مما
هو ظاهر بيّن ،فيقول ( :والذي يصدر عنه أمثال هذه المور(- )145أي المخالفة -إن كان معذورًا
بقصور في اجتهاده ،أو غيبة في عقله ،فليس مَن اتبعه بمعذور ،مع وضوح الحق والسبيل ،وإن
كانت سيئته مغفورة ،لما اقترن بها من حُسنِ قصدٍ ،وعملٍ صالحٍ ،فيجب بيان المحمود والمذموم،
لئل يكون لبسًا للحق والباطل) (.)146
وبيّن متى تجب المتابعة في المور الشرعية ،ومتى تمتنع ،وأحوال المجتهدين معها ،فقال :إن
(المور -الشرعية -تُعطى حقها من الكتاب والسنة ،فما جاء به الكتاب والسنة من الخبر والمر
والنهي وجب اتباعه ،ولم يُ ْلتَفت إلى مَن خالفه كائنًا مَن كان ،ولم يجز اتباع أحد في خلف ذلك كائنًا
مَن كان ،كما دل عليه الكتاب والسنة( )147وإجماع المة ،من اتباع الرسول وطاعته ...فإن كل
أحد من الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويُترك إل رسول ال صلى ال عليه و سلم ،وما من الئمة
ن مخالفتها للكتاب والسنة -فهو ل يتبع عليها ،مع أنه ل يُذم عليها) (
إل من له أقوال وأفعال َ -ت َبيّ َ
.)148
أما ما (لم يُعلم قطعًا مخالفتها للكتاب والسنة ،بل هي من موارد الجتهاد ،التي تنازع فيها أهل العلم
واليمان ،فهذه المور قد تكون قطعية عند بعض من بيّن ال له الحق فيها ،لكنه ل يمكنه أن يُلزم
الناس بما بان له ولم يبن لهم ...وقد تكون اجتهادية عنده أيضًا ،فهذه تسلم لكل مجتهد ومن قلده...
بحيث ل ينكر ذلك عليهم) ( ،)149وأما الذي ل يسلم إليه حاله فهو آتي المحرمات وتارك
الواجبات ،من غير تأويل سائغ أو عــذر مشـــروع ،فإنــه يجب النكــار عليه بحسب ما جاءت به
الشريعة ،من اليد واللسان والقلب( ،)150ويلحق به كل من أظهر مقالة تُخالف الكتاب والسنة،
فإنهــا من المنكــر الذي أمر ال بالنهــي عنـــه( )151في قولـه تعالـى ( :ولتكن منكم أمة يدعون
إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (آل عمران ..)104 :أما مَن اشتبه أمره
فيُتوقف معه ،فإن المام أن يخطئ في العفو ،خير من أن يخطئ في العقوبة (.)152
وإذا كان الجتهاد يغفر للعالم خطأه ،فإن هذا يقتضي التأدب معه ،ومراعاة حقه عند إنكار ما أظهره
من بدعة وبيان مخالفته للسنة ،وفي هذا يقول رحمه ال ( :وإن كان المخطئ المجتهد مغفورًا له
خطؤه ،وهو مأجور على اجتهاده ،فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب ،وإن
كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله ،ومن علم منه الجتهاد السائغ ،فل يجوز أن يُذكر على وجه الذم
والتأثيم له ،فإن ال غفر له خطأه ،بل يجب لما فيه من اليمان والتقوى موالته ومحبته ،والقيام بما
أوجب ال له من حقوقه ،من ثناء ودعاء وغير ذلك) (.)153
الصل الرابع :عدم الحكم على من وقع في بدعة أنه من أهل الهواء والبـدع ،ول معاداته بسببها،
إل إذا كانت البدعة مشتهرة مغلظة عند أهل العلم بالسنة
بيّن ابن تيمية أن (البدعة التي يعد بها الرجل من أهـل الهواء ،ما اشتهر عند أهل العلم مخالفتها
للكتاب والسنة ،كبدعة الخوارج والروافض والقدرية( )154والمرجئة) ( ..)155وغلظت أقوال
أصحابها فيها حتى أخرجتهم من عداد أهل السنة ،وفي هذا يقول عند عرضه لقوال هؤلء انتهاءً
ببدعة المرجئة ( :أما المرجئة فليسوا من هذه البدع المعظلة( ،)156بل قد دخل في قولهم طوائــف
من أهل الفقــه والعبــادة ،وما كانوا يعدون إل من أهل السنة ،حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من
القوال المغلظة) ( ،)157ويلحق بهؤلء ،بل هم أشد بدعة( ،الحجاج إلى القبور ،والمتخذون لها
أوثانًا ومساجد وأعيادًا ،فهؤلء لم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم منهم طائفة تُعرف،
ول كان في السلم قبر ول مشهد يُحج إليه ،بل هذا إنما ظهر بعد القرون الثلثة ..والبدعة كلما
كانت أظهر مخالفة للرسول صلى ال عليه و سلم يتأخر ظهورها ،وإنما يحدث أولً ما كان أخفى
مخالفة للكتاب والسنة ،كبدعة الخوارج) ( ،)158وهكذا فإن غلظ البدعة ليس مقصورًا على بدع
القرون الولى ،فإن بدع الشرك ظهرت بعد ذلك ،وهي أشد وأغلظ وأعظم خطرًا.
ويرى شيخ السلم ابن تيمية أن الذين يعدون من أهل الهواء والبدع ،هم من اتصفوا بما يلي :
أ ـ أنهم يجعلون ما ابتدعوه ،قولً يفارقون به جماعة المسلمين ،يوالون عليه ويعادون(.)159
وبهذا يتميز أهل السنة عن أهل البدعة ،فإن الذين وقعوا في البدعة (إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولً
يفارقون به جماعة المسلمين ،يوالون عليه ويعادون ،كان من نوع الخطأ ،وال سبحانه وتعالى يغفر
للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك ،ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف المة وأئمتهـــا ،لهــم مقــالت
قالـوها باجتهــاد ،وهي تخــالف ما ثبت في الكتاب والسنة ،بخلف من والى مُوَافِ َقهُ ،وعادى
ُمخَالِفَهُ ،وفرّق بين جماعة المسلمين ،وكفّر وفسّق ُمخَالِفَه دون ُموَافِقَه في مسائل الراء
والجتهادات ،واستحل قتال مخالفه دون موافقه ،فهؤلء من أهل التفرق والختلفات) (.)161
وكذلك فإن أئمة المسلمين متفقون على تبديع مَن خالف في المور المعلومة بالضطرار ،عند أهل
العلم بسنة رسول ال صلى ال عليه و سلم كالحاديث المتواترة عندهم في شفاعته وحوضه،
وخروج أهل الكبائر من النار ،والحاديث المتواترة عندهم في الصفات وال َقدَر والعلو والرؤية،
وغير ذلك من الصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته ،كما تواترت عندهم عنه ،بخــلف من
نــازع في مســائل الجتهــاد ،التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن عنه ،كالتنازع بينهم في الحكم
بشاهد ويمين ،وفي ال َقسَامة وال ُقرْعَة وغير ذلك(.)162
فمن كانت بدعته غليظة ،ظاهرة المخالفة للسنة عند أهل العلم ،وجبت عداوته بقدر بدعته ،بل يرى
شيخ السلم عقوبة مَن واله ،فيقول في معرض رده على التحادية ،وينتظم معهم مَن كان مثلهم :
عرِف(ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم ،أو ذبّ عنهم ،أو أثنى عليهم ،أو عظّم كتبهم ،أو ُ
بمساعدتهم ومعاونتهم ،أو كره الكلم فيهم ،أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلم ل يدري ما هو؟ أو مَن
قال إنه صنف هذا الكتاب؟ وأمثال هذه المعاذير التي ل يقولها إل جاهل أو منافق ،بل تجب عقوبة
كل من عرف حالهم ،ولم يعاون على القيام عليهم ،فإن القيام على هؤلء من أعظم الواجبات ،لنهم
أفسدوا العقول والديان على خَ ْلقٍ من المشايخ والعلماء والملوك والمراء ،وهم يسعون في الرض
فسادًا ،ويصدون عن سبيل ال) (.)163
أما ما كان دون ذلك من المسائل التي وقع فيها خلف ،فإنه ل يستوجب الفرقة والمعاداة ،والحكم
على المخالف من أهل البدعة والهوى ،فقد ذكر ابن تيمية أن من مسائل العتقاد التي وقع فيها
خلف بين أهل السنة والتباع ،مسألة رؤية الكفار ربهم في الخرة ،فجمهور أهل السنة يرون أن
ظ َهرَ التوحيدَ من منافقي
الكفار محجوبون عنها على الطلق ،ومن العلماء مَن يرى أنه يراه مَنْ َأ ْ
عرَصات يوم القيامة ،ثم يحتجب عنهم( )164عقوبة لهم. هذه المة والكفار ،في َ
لكــن أمـــــام هــــذه المســألـة ،وغيـــرها من مثيــلتــها ،تجب مراعــاة الداب التالية :
أ ـ (أن مَن سكت عن الكلم في هذه المسألة ،ولم يدع إلى شيء ،فإنه ل يحل هجره ،وإن كان يعتقد
أحد الطرفين ،فإن البدع التي هي أعظم منها ،ل يُهجر فيها إل الداعية دون الساكت ،فهذه أولى.
ب ـ أنه ل ينبغي لهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة محنة وشعارًا ،يفضلون بها بين إخوانهم
وأضدادهم ،فإن مثل هذا مما يكرهه ال ورسوله صلى ال عليه و سلم.
جـ ـ وكذلك ل يفاتحوا فيها عوام المسلمين ،الذين هم في عافية وسلم عن الفتن ،ولكن إذا سئل
الرجل عنها ،أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك ،ألقى إليه مما عنده من العلم ما يرجو النفع به،
بخلف اليمان بأن المؤمنين يرون ربهم في الخرة ،فإن اليمان بذلك فرض واجب ،لما قد تواتر
فيها عن النبي صلى ال عليه و سلم ،وصحابته وسلف المة) (.)165
الصل الخامس :ل يحكم بالهلك جزمًا على أحد خالف في العتقاد أو غيره ،ول على طائفة معينة
بأنها من الفرق الضالة الثنتين والسبعين ،إل إذا كانت المخالفة غليظة
ل ريب أن نجاة الفــراد والجماعـــات تكــون في السيــر على مثـل مـا ســـار عليــه رســول ال
صلى ال عليه و سلم وأصحابـــه رضــي ال عنهــم ،لقـــول رســول ال صلى ال عليه و سلم :
(تَفترقُ ُأ ّمتِي على ثلثٍ وسبعين فرقةً :اثنتان وسبعون في النار ،وواحدةٌ في الجنة ،وهي مَن كان
على ِمثْلِ ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ( ،)166هذه هي الفرقة الناجية ..فما مصير مَن خالف
اعتقادها؟ وهل يعد من الثنتين والسبعين فرقــة التي أشــار إليهـا الحديث؟
يبين ابن تيمية أنه (ليس كل مَن خالف في شيء مِن هذا العتقاد يجب أن يكون هالكًا ،فإن المنازع
قد يكون مجتهدًا مخطئًا يغفر ال خطأه ،وقد ل يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة،
وقد يكون له من الحسنات ما يمحو ال به سيئاته ..وإذا كانت ألفاظ الوعيـــد المتناولــة له ،ل يجــب
أن يدخــل فيهــــا المتـــأول والقـــانـت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك ،فهذا أولى،
بل موجب هذا الكلم أن من اعتقد ذلك نجا في هذا العتقاد ،ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيًا ،وقد
ل يكون ناجيًا ،كما يقال :مَن صمت نجا) ( ،)167فليس كل من تكلّم هلك.
كما يوضح ابن تيمية أنه ل يُحكم على طائفة معينة بأنها من الفرق الضالة الثنتين والسبعين التي
ذكرها رسول ال صلى ال عليه و سلم في الحديث ،وأنه ل سبيل إلى الجزم بأنها واحدة منها ،لن
(الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لبد له من دليل ،فإن ال حرّم القول
بل علم عمومًا ،وحرّم القول عليه بل علم خصوصًا) ( ،)168قال تعالى ( :قل إنما حرّم ربي
الفواحش ما ظهر منها وما بطن والثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بال ما لم ينزل به سلطانا)
(العراف .)33 :
نعم ورد تعيين بعض الفرق عن إمامين من أهل السنة همــا :يوسف بن أسباط( ،)169وعبد ال
بن المبارك( ،)170أنهما قال :أصول البدع أربعة :الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة ،فقيل
لبن المبارك :والجهمية ،فأجاب :بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى ال عليه و سلم ،وكان يقول
:إنا لنحكي كلم اليهود والنصارى ،ول نستطيع أن نحكي كلم الجهمية ..وهذا الذي قاله ،اتبعه
عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم ،قالوا :إن الجهمية كفار ،فل يدخلون في الثنتين
والسبعين فرقة ،كما ل يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون السلم وهم الزنادقة(
.)171
وروى المسيب بن واضح( )172أنه قال ( :أتيت يوسف بن أسباط ،فقلتُ :يا أبا محمد! إنك بقية
ممن مضى من العلماء ،وأنت حجة على من لقيت ،وأنت إمام سنة ،ولم آتك أسمع منك الحاديث،
ولكن أتيتك أسألك عن تفسيرها ،وقد جاء هذا الحديث ( :إن بني إسرائيل افترقت على إحدى
وسبعين فرقة ،وإن هذه المة ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة) ( ،)173فما هذه الفرق حتى
نجتنبهم؟ فقال :أصلها أربعة…) (.)174
فهذه الطوائف اشتهرت أقوالها المخالفة مخالفة غليظة للكتاب والسنة ،وافترقت عن أهل السنة
والجماعة ،افتراقًا بينًا في الصول من الدين مما ثبت بالضرورة ،فساغ لهذا المام الحكم عليها
بأنها من الفرق الضالة الثنتين والسبعين(.)175
الصل السادس :التحري في حال الشخص المعين ،المرتكب لموجب الكفر أو الفسق ،قبل تكفيره أو
تفسيقه ،بحيث ل يكفر ول يفسق أحد إل بعد إقامة الحجة عليه
نبه ابن تيمية إلى عظم مسألتي التكفير والتفسيق عمومًا ،فقال ( :اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق
هي من مسائل السماء والحكام ،التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الخرة ،وتتعلق بها
الموالة والمعاداة ،والقتل والعصمة ،وغير ذلك في الدار الدنيا ،فإن ال سبحانه أوجب الجنة
للمؤمنين ،وحرّم الجنة على الكافرين) (.)176
ولعظم المسألتين وخطرهما ،فإن إطلق الكفر أو الفسق على أحد ل يكون إل بموجب قطعي،
ولسيما الكفر فإنه يكون (بمثل تكذيب الرسول صلى ال عليه و سلم فيما أخبر به ،أو المتناع عن
متابعته مع العلم بصدقه ،مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم) ( ،)177ويتعلق بما يتعلق به اليمان،
وكلهما متعلق بالكتاب والسنة ،وهما متضادان ،فل إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته ،ول كفر
مع تصديقـــه وطاعتــه ،وحكمــه ل يتبين إل عن طريق الشرع( ،)178فليس لحد أن يكفر أحدًا
بهواه ،لن التكفير حق ل تعالى ،والذين يكفّرون بهواهم هم المبتدعة ،كالروافض الذين كفّروا أبا
بكر( ،)179وعمر( )180رضي ال عنهما ،والخوارج الحرورية( )181الذين كفّروا عليًا رضي
ال عنه ،وقاتلوا الناس على الدين( ،حتى يرجعــوا عمــا ثبت بالكتــاب والسنــــة وإجمــاع
الصحابــــة ،إلى ما ابتدعه هؤلء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن ..ومع هذا ،فقد صرّح علي
رضي ال عنه بأنهم مؤمنون ،ليسوا كفارًا ول منافقين ،وهذا بخلف ما كان يقوله بعض الناس،
كأبي إسحاق السفراييني( )182ومن اتبعه ،يقولون :ل نكفّر إل من يكفّرنا ،فإن الكفر ليس حقًا
لهم بل هو حق ل ،وليس للنســان أن َي ْكذِبَ على مــن يكــذب عليـه ،ول يفعل الفاحشة بأهل مَن
فعل الفاحشة بأهله ،ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك ،ولو قتله
بتجريع خمر أو تلوط لم يجز قتله بمثل ذلك ،لن هذا حرامٌ ،لحق ال) (.)183
ويصرّح في موضع آخر بأن هذا المسلك هو مسلك أهل العلم والسنة ،فيقول ( :فلهذا كان أهل العلم
والسنة ل يكفّرون مَن خالفهم ،وإن كان ذلك المخالفُ يكفّرهم ،لن الكفر حكم شرعي ،فليس
للنسان أن يعاقب بمثله ،كمن كذب عليك ،وزنى بأهلك ،ليس لك أن تكذب عليه ،ول تزني بأهله،
لن الكذب والزنا حرام لحق ال تعالى ،وكذلك التكفير حق ل ،فل ُيكَفّر إل من كَفّره ال ورسوله) (
.)184
كما أن أهل السنة ل يكفّرون أحدًا من أهل القبلة بالذنب والمعصية ،وإنما ذلك من فعل الخوارج
الذين يكفّرون بمطلق الذنوب( ،)185وفي هذا يقول رحمه ال ( :من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون
أقوالً يجعلونها واجبة في الدين ،بل يجعلونها من اليمان الذي لبد منه ،ويكفّرون مَن خالفهم فيها
ويستحلون دمه ،كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم ..وأهل السنة ل يبتدعون
قولً ،ول يكفّرون من اجتهد فأخطأ ،وإن كان مخالفًا لهم ،مكفّرا لهم ،مستحلً لدمائهم ،كما لم تكفّر
الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان( )186وعلي رضي ال عنهما ،ومن والهما ،واستحللهـم
لدماء المسلمين المخالفين لهم) (.)187
بل يقرر شيخ السلم (أنه ل يُجعل أح ٌد بمجرد ذنب يذنبــه ،ول ببدعة ابتدعها ،ولو دعا الناس
إليها ،كافرًا في الباطن إل إذا كان منافقًا ،فأما مَن كان في قلبه اليمان بالرسول وما جاء به ،وقد
غَلط في بعض ما تأوله من البدع ،فهذا ليس بكافر أصلً ،والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة
وقتالً للمة وتكفيرًا لها ،ولم يكن في الصحابة من يكفّرهم ،ول علي بن أبي طالب ول غيره ،بل
حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين) (.)188
ويعلل ابن تيمية منع إطلق الكفر على المعين ،أن له شروطًا وموانع تقتضي انتفاء العذر ،كالجهل
بالحكم وثبوت الحكم بالعلم( ،فل يلزم إذا كان القول كفرًا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل،
فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الخرة في حقه ...وإذا لم يكونوا في
نفس المر كفارًا ،لم يكونوا منافقين ،فيكونون من المؤمنين) (.)189
ذلك أن الكفر حكم شرعي ،ل يُحكم به على أح ٍد بمجرد الخطأ والغلط ،بل لبد من إقامة الحجة على
المحكوم عليه ،وفي هذا الشأن يقول رحمه ال ( :ليس لحد أن يكفّر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ
وغلط ،حتى تُقام عليه الحجة ،وتُبين له المحجة ،ومَن ثبت إسلمه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك ،بل
ل يزول إل بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة) (.)190
وقد حذّر الشيخ من تكفير أو تفسيق أو نسبة معصية إلى مجتهد معين ،أخطأ فيما يسوغ الجتهاد فيه
من المسائل العقدية والعملية ،فيقول ( :إني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسب معين إلى تكفير
وتفسيق ومعصية ،إل إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية ،التي من خالفها كان كافرًا تارة،
وفاسقًا أخرى ،وعاصيًا أخرى ،وإني أقرر أن ال قد غفر لهذه المة خطأها ،وذلك يعم الخطأ في
المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية ،ومازال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ،ولم
يشهد أحد منهم على أحد ل بكفـر ول بفسق ول معصية ،كما أنكر شُرَيح( )191قراءة من قرأ (بل
عجبتُ ويسخرون) (الصافات ،)12 :وقـــال :إن ال ل يعجب ،فبلــغ ذلك إبراهيم النخعـــي(
،)192فقال :إنما شُريــح شاعـــر يعجبه علمـــه ،كـــان عبد ال( )193أعلم منه ،وكان يقرأ :
(بل عجبتَ) ( ..)194وكما نازعت عائشة( )195رضي ال عنها ،وغيرها من الصحابة في رؤية
محمد صلى ال عليه و سلم ربه ،وقالت ( :مَن زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على ال الفرية) (
،)196ومع هذا ل تقول لبن عباس رضي ال عنهما ،ونحوه من المنازعين لها :إنه مفتر على
ال ..وكما نازعت في سماع الميت كلم الحي ،وفي تعذيب الميت ببكاء أهله ،وغير ذلك ..وقد آل
الشر بين السلف إلى القتتال ،مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعًا مؤمنتان ،وأن القتتال ل
يمنع العدالة الثابتة لهم ،لن المقاتل وإن كان باغيًا فهو متأول ،والتأويل يمنع الفسوق) (.)197
ويُفرّق الشيخ بين التكفير العام والتكفير المعين ،فهو يرى (أن التكفير العام كالوعيد العام ،يجب
القول بإطلقه وعمومه) ( ،)198وفق الموجب ،بغض النظر عن حالِ مُتلبّسه ،أما الكفر المعين فل
يُحكم به على أحد إل إذا توافرت فيه شروط الكفر ،وانتفت عنه موانعه ،دون تفريق بين المسائل
العقدية والعملية ..وتقريرًا لهـذا المعنــى يقـول رحمه ال ( :وحقيقة المر في ذلك ،أن القول قد
يكون كفرًا ،فيُطلق القول بتكفير صاحبه ،ويقال :من قال كذا فهو كافر ،لكن الشخص المعين الذي
قاله ل يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها ،وهذا كما في نصوص الوعيد ،فإن ال
سبحانه وتعالى يقول ( :إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون
سعيرًا ) (النساء .)10 :فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق ،لكن الشخص المعين ل يُشهد عليه
بالوعيد ،فل يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار ،لجواز أن ل يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت
مانع ،فقد ل يكون التحريم بلغه ،وقد يتوب من فعل المحرم ،وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو
عقوبة ذلك المحرم ،وقد يُبتلى بمصائب تكفر عنه ،وقد يشفع فيه شفيع مطاع ،وهكذا القوال التي
يكفر قائلها ،قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق ،وقد تكون عنده ولم تثبت
عنده ،أو لم يتمكن من فهمها ،وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره ال بها ،فمن كان من المؤمنين
مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ ،فإن ال يغفر له خطأه كائنًا ما كان ،سواء كان في المسائل النظرية
أو العملية ،هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى ال عليه و سلم وجماهير أئمة المسلمين) (.)199
بل يرى الشيخ أن التحري في حال المتأول المخطئ في مسائل العتقاد ،أولى من المخطئ في
المسائل العملية ،لخفاء الولى وظهور الثانية ،وفي هذا يقول ( :التحقيق في هذا :إن القول قد يكون
كفرًا ،كمقالت الجهمية الذين قالوا :إن ال ل يتكلم ول يرى في الخرة ،ولكن قد يخفى على بعض
الناس أنه كفر ،فيطلق القول بتكفير القائل ،كما قال السلف :مَن قال :القرآن مخلوق فهو كافر،
ومَن قال :إن ال ل يرى في الخرة فهو كافر ،ول يكفّر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما
تقدم ،كمن جحد وجوب الصلة والزكاة ،واستحل الخمر والزنا وتأول ،فإن ظهور تلك الحكام بين
المسلمين أعظم من ظهور هذه ،فإذا كان المتأول المخطئ في تلك ل يُحكم بكفره إل بعد البيان له
واستتابته ،كما فعل الصحابة( )200رضي ال عنهم ،في الطائفة الذين استحلوا الخمر ،ففي غير
ت فاحرقوني ،ثم ذلك أولى وأحرى ،وعلى هذا ُيخَرج الحديث الصحيح (في الذي قال :إذا أنا م ّ
اسحقوني في اليم ،فوال لئن قدر ال عليّ ليعذبني عذابًا ما عذّبه أحدًا من العالمين) ( )201وقد
غفر ال لهذا ،مع ما حصل له من الشك في قدرة ال وإعادته إذا حرقوه) (.)202
ويشهد لهذا المنهج فعل المام أحمد رحمه ال ،الذي تعرّض لفتنة خلق القرآن من قِبَل الجهمية نُفاة
الصفات ،فامتحنوه وضربوه وحبسوه بأمر من الخليفة المأمون( ،)203الذي وافقهم على التجهم،
ومع ذلك فإن المام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم ،وحللهم مما فعلوه به
من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر .ولو كانوا مرتدين عن السلم لم يجز الستغفار لهم،
فإن الستغفار للكفار ل يجوز ،بالكتاب( )204والسنة( )205والجماع ،وهذا يدل على أنه لم يكفر
المعين من الجهمية لجهلهم بالحكم أو غيره( ،)206هذا مع أن الجهمية أشد المبتدعة ضللً ،بل
المشهور عن المام أحمد وعامة أئمة السنة تكفيرهم ،قال فيهم (عبد ال بن المبارك :إنا لنحكي
كلم اليهود والنصارى ول نستطيع أن نحكي كلم الجهمية ،وقال غير واحد من الئمة :إنهم أكفر
من اليهود والنصارى) (.)207
أما غيرهم من أهل البدع ،فإنهم ل ُيكَفّرون ،مثل الشيعة المفضّلة لعليّ على أبي بكر رضي ال
عنهما ،وكذلك المرجئة ،فإن بدعتهم من جنس اختلف الفقهاء في الفروع ،أما القدرية المُقِـرّون
بالعلم( ،)208والروافض الذين ليسوا من الغالية( ،)209والخوارج ،فهم محل خلف بين أهل
العلم ،وقد أثر عن المام أحمد التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم ،والخوارج ،مع قوله :ما
أعلم قومًا شرًا من الخـوارج ،ونقل أبو نصر السجزي( )210عن أئمة السنة ،قولين في نوع كفر
الجهمية :الول أنه كفر ينقل عن الملة ،هو قول الكثر ،والثاني كفر ل ينقل عن الملة ..وذكر
الخطابي( : )211إن تكفير أهل السنة لهم ،على سبيل التغليظ(.)212
الصل السابع :الحرص على تأليف القلوب واجتماع الكلمة ،وإصلح ذات البين ،والحذر من أن
يكون الخلف في المسائل الفرعية العقدية والعملية ،سببًا في نقض عُرى الخوة والولء والبراء
بين المسلمين
يقول رحمه ال في هذا ( :تعلمون أن من القواعد العظيمة ،التي هي من جِماع الدين ،تأليف القلوب،
واجتماع الكلمة ،وصلح ذات البين ،فإن ال تعالى يقول ( :فاتقوا ال وأصلحوا ذات بينكم) (النفال
،)1 :ويقول ( :واعتصموا بحبل ال جميعًا ول تفرقوا) (آل عمران ،)103 :ويقول ( :ول تكونوا
كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (آل عمران .)105 :
وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والئتلف ،وتنهى عن الفرقة والختلف ..وأهل هذا
الصل ،هم أهل الجماعة ،كما أن الخارجين عنه هم أهل الفُرقة) (.)213
وبيّن الشيخ أن الخلف في المسائل الفرعية العقدية والعملية ،جرى بين الصحابة والتابعين من
سلف المة ،مع محافظتهم على هذه القاعدة ،وأن العاصم من ذلك كان في رد النزاع إلى كتاب ال
وسنة رسوله صلى ال عليه و سلم ،وابتغاء الحق وحده ،فيقول مقررًا مسلكهم رضي ال عنهم :
(وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم ،إذا تنازعوا في المر اتبعـــوا أمـــر ال تعالـى
في قولــه ( :فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر ذلك
خير وأحسن تأويلً) (النساء .)59 :وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة،
وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية ،مع بقاء اللفة والعصمة وأخوة الدين ..نعم من
خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة ،أو ما أجمع عليه سلف المة ،خلفًا ل يُعذر فيه ،فهـــذا
يعامــل بما يُعامـــل به أهــل البــدع ،فعائشــة أُم المؤمنين رضي ال عنها ،قد خالفت ابن عباس
وغيره من الصحابة ،في أن محمدًا صلى ال عليه و سلم رأى ربه ،وقالت ( :مَن زعم أن محمدًا
رأى ربه فقد أعظم على ال تعالى الفـرية) ( ،)214وجمهـــور المــــة علــى قــول ابن عباس
رضي ال عنهما ،مع أنهم ل يُبدّعون المانعين الذين وافقـــوا أم المؤمنين رضي ال عنها ،وكذلك
أنكرت أن يكون الموات يسمعون دعاء الحي ،لـمّا قيل لها :إن النبي صلى ال عليه و سلم قال :
(ما أنتــم بأسمع لمـا أقــول منهم) ( ،)215فقالت :إنما قال ( :إنهم ليعلمون الن أن ما قلتُ لهم
حق) ( ..)216ومع هذا فل ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال ،كما ثبت عن رسول ال صلى
ال عليه و سلم أنه قال ( :ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه ،إل ردّ ال
عليه روحه حتى يرد عليه السلم) ( ،)217وصح ذلك عن النبي صلى ال عليه و سلم ،إلى غير
ذلك من الحاديث ..وأم المؤمنين تأولت ،وال يرضى عنها ،وكذلك معاوية( )218رضي ال عنه،
نقل عنه في أمر المعراج أنه قال ( :إنما كان بروحه) ( ،)219والناس على خلف معاوية رضي
ال عنه ،ومثل هذا كثير).
وأما الختلف في الحكام فأكثر من أن ينضبط ،ولو كان كــل ما اختلف مسلمــان فــي شيء
تهاجــرا ،لـم يبق بين المسلمين عصمـــة ول أخوة ،ولقد كان أبو بكر وعمر رضي ال عنهما ،سيدا
المسلمين ،يتنازعان في أشياء ل يقصدان إل الخير ..وقد قال النبي صلى ال عليه و سلم لصحابه
يوم بني قريظة(( : )220ل يُصلين أحد العصرَ إل في بني قُريظة) ،فأدركتهم العصرُ في الطريق،
فقال قوم :ل نصلي إل في بني قريظة ،وفاتتهم العصر .وقال قوم :لم يُرد منا تأخير الصلة،
فصلوا في الطريق ،فلم يعب واحدًا من الطائفتين ،أخرجاه في الصحيحين( ،)221من حديث ابن
عمر رضي ال عنهما ،وهذا وإن كــان في الحكــام ،فما لم يكن من الصول المهمة فهو ملحق
بالحكام (.)222
وأكد الشيخ على مراعاة الخــوة والمــوالة بين المسلمين ،بحيــث ل يؤثر عليها ما يقع من خلف
بسبب دواع اجتهادية ،مبينًا أن العاصم من ذلك تقديم حق ال على حق النفس ،وفي هذا يقول :
(جعل ال ...عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض ،وجعلهم إخوة ،وجعلهم متناصرين متراحمين
متعاطفين ،وأمرهم سبحانه بالئتلف ،ونهاهم عن الفتراق والختلف ،فقال تعالى ( :واعتصموا
بحبل ال جميعًا ول تفرقوا) (آل عمــران ، )103 :وقـــــال تعــــالـــــى ( :إن الذين فرقوا دينهم
وكانوا شيعًا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى ال) (النعام )159 :الية ،فكيف يجوز مع هذا
لمة محمد صلى ال عليه و سلم أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ،ويعادي طائفة أخرى
بالظن والهوى بل برهان من ال تعالى ،وقد برّأ ال نبيه صلى ال عليه و سلم ممن كان هكذا .فهذا
ِفعْل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين ،واستحلوا دماء مَن خالفهم ..وأما أهل
السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل ال ،وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه،
وإن كان غيره أتقى ل منه ،وإنما الواجب أن يقدم من قدمه ال ورسوله ،ويؤخر من أخّره ال
ورسوله ،ويحـب مــا أحبــه ال ورســوله ،ويبغـض ما أبغضه ال ورسوله ،وينهى عما نهى ال
عنه ورســوله ،وأن يرضــى بما رضي ال به ورسوله ،وأن يكون المسلمون يدًا واحدة ،فكيف إذا
بلغ المر ببعض الناس إلى أن يُضلل غيره ويكفّره ،وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب
والسنة ،ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين ،فليس كل مَن أخطأ يكون كافرًا أو
فاسقًا ،بل قد عفى ال لهذه المة عن الخطأ والنسيان ،وقد قال ال تعالى في كتابه ،في دعاء الرسول
صلى ال عليه و سلم والمؤمنين ( :ربنا ل تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة .)286 :وثبت في
الصحيح أن ال قال ( :قد فعلت) ( ،)223لسيما وقد يكون من يوافقكم في أخص من السلم ،مثل
أن يكون مثلكم على مذهب الشافعي ،أو منتسبًا إلى الشيخ عدي( ،)224ثم بعد هذا قد يخالف في
شيء ،وربما كان الصواب معه ،فكيف يستحل عِرضه ودمه وماله؟ مع ما قد ذكر ال تعالى من
حقوق المسلم والمؤمن) (.)225
ولعل أظهر ما يقوّي وشيجة الخوة بين المسلمين ،ويحفظ تماسك جماعتهم ،العمل بأحكام الولء
والبراء التي شرعها ال في كتابه ،دون التفات إلى مناهج أخرى أو تعصّب لطوائف ،ذلك أن
(الولية ضد العداوة ،وأصل الولية المحبة والقُرب ،وأصل العداوة البغض والبُعد) ( ،)226وهما
أوثق عُرى اليمان كما أخبر الرسول صلى ال عليه و سلم ( :أوثق عُرى اليمان الحب في ال
والبغض في ال) ( ..)227وقد بيّن الشيخ أحكام الولء والبراء ،ولمن يكونان ويعطيان ،فقال :
(فأما الحمد والذم والحب والبغض والموالة والمعاداة ،فإنما تكون بالشياء التي أنزل ال بها
سلطانه ،وسلطانه كتابه ،فمن كان مؤمنًا وجبت موالته من أي صنف كان ،ومن كان كافرًا وجبت
معادته من أي صنف كان ،قال ال تعالى ( :إنما وليكم ال ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون
الصلة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول ال ورسوله والذين آمنوا فإن حزب ال هم الغالبون
) (المائدة ...)56-55 :
ومن كان فيه إيمان وفيه فجور ،أعطي من الموالة بحسب إيمانه ،ومن البغض بحسب فجوره ،ول
يخرج من اليمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي ،كما يقوله الخوارج والمعتزلة ،ول يُجعل
النبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفسّاق في اليمان والدين والحب والبغض
والموالة والمعاداة ،قال ال تعالى ( :وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت
إحداهما على الخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر ال فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل
وأقسطوا إن ال يحب المقسطين) إلى قولـه ( :إنما المؤمنون إخوة) (الحجرات ،)10-9 :فجعلهم
إخوة مع وجود القتتال والبغي) (.)228
كما ل يتنافى وجود الشر والمعصية والبدعة في شخص ،مع استحقاقه للموالة والكرام بقدر ما فيه
من خير وطاعة وسنة ،وفي هذا يقول الشيخ ( :وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور،
وطاعة ومعصية ،وسنة وبدعة ،استحق من الموالة والثواب بقدر ما فيه من الخير ،واستحق من
المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر ،فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الكرام والهانة،
فيجتمع له هذا وهذا) (.)229
ل بمبدأ الولء والبراء ،فإن الشيخ يقرر ( :أن الواجب على المسلم إذا صار في مدينة من
وعم ً
مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ،ويوالي المؤمنين ،ول يعاديهم ،وإن رأى بعضهم
ضالً أو غاويًا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك ،وإل فل يكلّف ال نفسًا إل وسعها ،وإذا كان قادرًا
على أن يُولّي في إمامة المسلمين الفضل ولّه ،وإن قدر أن يمنع من يُظهر البدع والفجور منعه) (
..)230وهكذا على مقتضى اتباع الحق وإظهاره ،خل المبتدعة الملحدة ،فهؤلء يجب البراء
منهم ،فإن الشيخ أنكر على من يعاون أو ينصر أهل الحلول والتحاد ،فقال ( :ومن هؤلء من
يعاونهم وينصرهم على أهل اليمان المنكرين للحلول والتحاد ،وهو شر ممن ينصر النصارى على
المسلمين ،فإن قول هؤلء شر من قول النصارى ،بل هو شر ممن ينصر المشركين على المسلمين،
فإن قول المشركين الذين يقولون :إنما نعبدهم ليقربونا إلى ال زلفى( ،)231خير من قول هؤلء،
فإن هؤلء أثبتوا خالقًا ومخلوقًا غيره ،يتقربون به إليه ،وهؤلء يجعلون وجود الخالق وجود
المخلوق) ( ،)232بخلف أهل الصلح والتقوى إذا وقعوا في بدعة متأولة وليست غليظة(،)233
فهؤلء تجب موالتهم ومحبتهم ،لن ما وقع منهم من قبيل الهفوة والزلة ،التي ل تنسخ ما لهم من
صلح وتقوى ،وقد وقع ذلك (من أكابر السلف المقتتلين في الفتنة ،والسلف المستحلين لطائفة من
الشربة المسكرة ،والمستحلين لربا ال َفضْل والمتعة ،والمستحلين للحشوش ،كما قال عبد ال بن
المبارك :رُبّ رجل في السلم ،له قدم حسن وآثار صالحة ،كانت منه الهفوة والزلة ،ل يُقتدى به
في هفوته وزلته) ( ..)234فهؤلء وأمثالهم معذورون ،لنهم مجتهدون ،لم يقصدوا فعل الحرام،
ول مخالفة السنة ،فهم حين استحلوا ذلك ل يعتقدون (أنه من المحرمات ،ول أنه داخل فيما ذمه ال
ورسوله ،فالمقاتل في الفتنة متأولً ل يعتقد أنه قتل مؤمنًا بغير حق ،والمبيح للمتعة والحشوش
ونكاح المحلل ل يعتقد أنا أباح زنا وسفاحًا ،والمبيح للنبيذ المتأول فيه ،ولبعض أنواع المعاملت
الربوية وعقود المخاطرات ،ل يعتقد أنه أباح الخمر والميسر والربا ..ولكن وقوع مثل هذا التأويل
من الئمة المتبوعين ،أهل العلم واليمان ،صار من أسباب المحن والفتنة ،فإن الذين يعظمونهم قد
يقتدون بهم في ذلك ،وقد ل يقفون عند الحد الذي انتهى إليه أولئك ،بل يتعدون ذلك ويزيدون
زيادات لم تصدر من أولئك الئمة السادة ،والذين يعلمون تحريم جنس ذلك الفعل ،قد يعتدون على
المتأولين بنوع من الذم فيما هو مغفور لهم ،ويتبعهم آخرون فيزيدون في الذم ما يستحلون به من
أعراض إخوانهم وغير أعراضهم ما حرّمه ال ورسوله) (.)235
وبهذا يتقرر أن الشيخ ل يرى الوقوع في البدعة عن شبهة أو تأول مبطلً لحقوق المسلم ،ومنها
الموالة ،التي من معانيها المحبة والنصرة والحماية ،بل هي ثابتة للمسلم المبتدع بقدر ما عنده من
إيمان ،فيحب بقــدر ما فيه من صلح ،وينصر على من ظلمه ،وإن كان فيه سوء ،وفي هذا يقول
رحمه ال ( :ومعلوم أن شر الكفار والمرتدين والخوارج ،أعظم من شر الظالم ،وأما إذا لم يكونوا
يظلمون المسلمين ،والمقاتل لهم يريد أن يظلمهم ،فهذا عدوان منه فل يعاون على عدوان) (،)236
مصداق قول الرسول صلى ال عليه و سلم ( :المسلم أخو المسلم ل يَظلمه ول ُيسْلمه) ( ،)237فما
دام المبتدع مسلمًا ،فإنه يثبت له هذا الحق.
الصل الثامن :النصاف في ذكر ما للمبتدعة من محامـد ومـذام ،وقبـول ما عندهم من حق ،وردّ
ما عندهم من باطل ،وأن ذلك سبيل المة الوسط
قرر شيخ السلم أن منهج أهل السنة والجماعة في الثناء والذم ،قائم على الكتاب والسنة والجماع،
فقال ( :وأهل السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والجماع ،وهو أن المؤمن يستحق
وعد ال وفضله والثواب على حسناته ،ويستحق العقاب على سيئاته ،وأن الشخص الواحد يجتمع
فيه ما يُثاب عليــه ومــا يعــاقب عليــه ،وما يحمد عليه وما يذم ،وما يحب منه وما يبغض منه) (
.)238
وبيّن رحمه ال ،أن هذا هو المنهج الصواب ،فقال ( :والصواب أن يُحمد من حال كل قوم ما حمده
ال ورسوله ،كما جاء به الكتاب والسنة ،ويذم من حال كل قوم ما ذمه ال ورسوله ،كما جاء به
الكتاب والسنة) ( ،)239ووضح الشيخ أن هذا المنهج يضاده منهج أهل البدع ،الذين ل يعذرون من
أخطأ مجتهدًا ،فيذمونه متغافلين عن حسناته ومحامده ،فقال ( :ومن جعل كل مجتهد في طاعة،
أخطأ في بعض المور ،مذمومًا معيبًا ممقوتًا ،فهو مخطئ ضال مبتدع) (.)240
وقد أظهر شيخ السلم مسلك أهل السنة والجماعة ،في ثنائه وذمه للرجال والطوائف والكتب،
وبيانه لقربهم من الحق وبعدهم عنه ،متبعًا في ذلك سبيل المة الوسط ،القائم على العدل
والنصاف ،وإعطاء كل ذي حق حقه ،من غير مداهنة في باطل ،ول غمط في حق ،ومن المثلة
على إنصافه :
أ ـ ذكره بعض محامد أهل البدع والهواء ،وبيانه أن أهل السنة يتبعون معهم العدل والنصاف،
يقول رحمه ال ( :والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد ،لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من
أهل الهواء ،فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين ،والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة،
والزيدية( )241من الشيعة خير منهم ،وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم ،وليس في أهل الهواء
أصدق ول أعبد من الخوارج ،ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العـــدل والنصــاف ول
يظلمونهم ،فإن الظلم حرام مطلقًا ،بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلء ،خير من بعضهم لبعض ،بل
هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض ،وهذا مما يعترفون هم به ،ويقـــولون :أنتــم
تنصفوننــا ما ل ينصف بعضنا بعضًا ،وهذا لن الصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد ،مبني على
جهل وظلم ،وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين ،فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في
ظلم الناس ،ول ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض ..والخوارج تكفّر
أهل الجماعة ،وكذلك أكثر المعتزلة يكفّرون من خالفهم ،وكذلك أكثر الرافضة ،ومن لم يكفّر فسّق،
وكذلك أكثر أهل الهواء ،يبتدعون رأيًا ويكفّرون من خالفهم فيه ،وأهل السنــة يتبعــون الحـق من
ربهم الذي جاء به الرسول ،ول يكفّرون من خالفهم فيه ،بل هم أعلم بالحـــق وأرحـــم بالخلــق،
كمــا وصــف ال به المسلمين بقولــه ( :كنتم خير أمة أخرجت للناس) (آل عمران ،)110 :قال
أبو هريرة( )242رضي ال عنه ( :كنتم خير الناس للناس) ( ،)243وأهل السنة نقاوة المسلمين،
فهم خير الناس للناس) (.)244
ويقول في موضع آخر ( :وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين ،من الرافضة والجهمية وغيرهم،
إلى بلد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير ،وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين ،وهو خير من
أن يكونوا كفارًا) (.)245
ب ـ تفصيله في الحكم على الصوفية والتصوف ،بما يظهر النصاف :فقد َبيّن رحمه ال تعالى ،أنه
وقع الجتهاد والتنازع في طريق الصوفية (فطائفة ذمت الصوفية والتصوف ،وقالوا :إنهم
مبتدعون خارجون عن السنة ،ونُقل عن طائفة من الئمة في ذلك من الكلم ما هو معروف ،وتبعهم
على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلم ،وطائفة غلت فيهم ،وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد
النبياء ،وكل طرفي هذه المور ذميم ،والصواب أنهم مجتهدون في طاعة ال ،كما اجتهد غيرهم
من أهل طاعة ال ،ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ،وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين،
وفي كل من الصنفين مــن قد يجتهـــد فيخطئ ،وفيهـــم من يذنـب فيتـوب أو ل يتوب ،ومن
المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه ،عاص لربه ،وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة،
ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم ،كالحلج( )246مثلً ،فإن أكثر مشايخ الطريق
أنكروه وأخرجوه من الطريق ،مثل الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره ،كما ذكر ذلك الشيخ أبو
عبد الرحمـــن السلمي( )247فــي طبقات الصوفية( ،)248وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب(
،)249في تاريخ بغداد(.)251( ))250
جـ ـ دفاعـــه عـــن اعتقـــاد بعـض مشايــخ الصوفيــة ،فقــد ناقـش أبا القاسم القشيري( ،)252في
دعواه أن اعتقاد أكابر مشايخ الصوفية مثل :الفضيــل بن عيــاض( ،)253وأبي سليمــان
الداراني( ،)254ويوسـف ابن أسباط ،وحذيفة المرعشي( ،)255ومعروف الكــرخي(،)256
ستَري( ،)257موافق لعتقاد كثير من المتكلمين والجنيــد ابن محمد ،وسهل بن عبد ال ال ّت ْ
الشعرية بما يطول نقله ،لذلك أقتصر منه على مقدمته ( :فصل فيما ذكره الشيخ أبو القاسم القشيري
في رسالته المشهورة ،من اعتقاد مشايخ الصوفية ،فإنه ذكر من متفرقات كلمهم ،ما يستدل به على
أنهم كانوا يوافقون اعتقاد كثير من المتكلمين الشعرية ،وذلك هو اعتقــــاد أبي القاســـم الذي تلقـــاه
عن أبي بكــر بن فــورك( ،)258وأبي إسحاق السفراييني .وهذا العتقاد غالبه موافق لصول
السلف وأهل السنة والجماعـــة ،لكنه مقصـــر عن ذلك ،ومتضمن تـرك بعض ما كانوا عليه،
وزيادة تخالف ما كانوا عليه ،والثابت الصحيح عن أكابر المشايخ ،يوافق ما كان عليه السلف ،وهذا
هو الذي كان يجب أن يذكر ،فإن في الصحيح الصريح المحفوظ عن أكابر المشايخ ،مثل :الفضيل
بن عياض ،وأبي سليمان الداراني ،ويوسف بن أسباط ،وحذيفة المرعشي ،ومعروف الكرخي ،وأبي
الجنيد بن محمد ،وسهل ابن عبد ال التستري ،وأمثال هؤلء ،ما يبين حقيقة مقالت المشايخ) (
.)259
وفي موضع آخر قال مفصلً حال أهل التصوف بما يدل على النصاف والعدل ( :والشيوخ الكابر
الذين ذكرهم أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية ،وأبو القاسم القشيري في الرسالة ،كانوا
على مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب أهــل الحديث ،كالفضيـل ابن عياض ،والجنيد بن محمـــد،
وسهــل بن عبــد ال التستـري ،وعمــرو بن عثمان( )260المكي ،وأبو عبد ال محمد بن خفيف
الشيرازي ،وغيرهم ،وكلمهم موجود في السنة ،وصنفوا فيها الكتب ،لكن بعض المتأخرين منهم
كان على طريقة بعض أهل الكلم في بعض فروع العقائد ،ولم يكن فيهم أحد على مذهب الفلسفة،
وإنما ظهر التفلسف في المتصوفة المتأخرين ،فصارت المتصوفة تارة على طريقة صوفية أهل
الحديث ،وهم خيارهم وأعلمهم ،وتارة على اعتقاد صوفية أهل الكلم فهؤلء دونهم ،وتارة على
اعتقاد صوفية الفلسفة كهؤلء الملحدة) ( ،)261أي القائلين بوحدة الوجود ،الملحدين في اليمان
بال ورسله واليوم الخر.
وبيّن رحمه ال ،منهجه في مناقشة ما ذكره أبو القاسم فقال ( :اجتهدتُ في اتباع سبيل المة الوسط،
الذين هم شهداء على الناس ،دون سبيل من قد يرفعه فوق قدره ،في اعتقاده وتصوفه على الطريقة
التي هي أكمل وأصح مما ذكره ،علماً وحالً وقولً وعملً واعتقادًا واقتصادًا ،أو يحطه دون قدره
فيهما ،ممن يسرف في ذم أهل الكلم ،أو ذم طريقة التصوف مطلقًا ،وال أعلم ..والذي ذكره أبو
القاسم ،فيه الحسن الجميل الذي يجب اعتقاده واعتماده ،وفيه المجمل الذي يأخذ المحق والمبطل،
وهذان قريبان ،وفيــه منقـــولت ضعيفــة ،ونقول عمــن ل يقتدى بهم في ذلك ،فهذان مردودان،
وفيه كلم حمله على معنى ،وصاحبه لم يقصد نفس ما أراده هو ،ثم إنه لم يذكر عنهم إل كلمات
قليلة ل تشفي في هذا الباب ،وعنهم في هذا الباب من الصحيح الصريح الكبير ما هو شفاء للمقتدي
بهم ،الطالب لمعرفة أصولهم ،وقد كتبتُ هنا نكتًا يُعرف بها الحال) (.)262
د ـ تأكيده على اتباع منهج العدل ،في قبول قول المخالفين وآثارهم ورواياتهم وردها ،وذلك تصديقًا
لقول معاذ بن جبل( )263رضي ال عنه ( :اقبلوا الحق من كل من جاء به ،وإن كان كافرًا -أو قال
فاجرًا -واحذروا زيغة الحكيم ،قالوا :كيف تعلــم أن الكافــر يقـول الحــق؟ قال :على الحق نور) (
،)264وهو ما عبّر عنه ابن تيمية بقوله ( :وال قد أمرنا أل نقول إل الحق ،وأل نقول عليه إل
بعلم ،وأمرنا بالعدل والقسط ،فل يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني ،فضلً عن الرافضي ،قولً
فيه حق أن نتركه أو نرده كله ،بل ل نرد إل ما فيه من الباطل دون مافيه من الحق) (.)265
ووضّح شيخ السلم كيفية الستفادة من هذا المنهج ،في التعامل مـــع مـــرويــات المخالفين
وآثارهــــم ،ممثـــلً لهــا بمــــا (جمعـــــه الشيــخ أبو عبــد الرحمن السلمي ونحوه في تاريخ أهل
الصّفّة ،وأخبار زهّاد السلف ،وطبقات الصوفية ،يُستفـــاد منه فوائـــد جليلــة ،ويتجنب منه ما فيه
من الروايات الباطلة ،ويتوقف فيما فيه من الروايات الضعيفة ،وهكذا كثير من أهل الروايات ،ومن
أهل الراء والذواق ،من الفقهاء والزهاد والمتكلمين وغيرهم ،يوجد فيما يأثرونه عمن قبلهم ،وفيما
يذكرونه معتقدين له ،شيء كثير ..وأمر عظيم من الهدى ودين الحق الذي بعث ال به رسولَه،
ويوجد أحيانًا عندهم من جنس الروايات الباطلة أو الضعيفة ،ومن جنس الراء والذواق الفاسدة أو
المحتملة شيء كثير ،ومن له في المة لسان صدق عام ،بحيث يُثنى عليه ويُحمد في جماهير أجناس
المة ،فهؤلء هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى ،وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم ،وعامته من
موارد الجتهاد التي يُعذرون فيها ،وهم الذين يتبعون العدل والعلم ،فهم بعداء عن الجهل والظلم،
وعن اتباع الظن وما تهوى النفس) (.)266
هـ ـ دفاعه عن بعض طوائف أهل الكلم( ،)267وتفضيله لهم على من دونهم ،لنتسابهم إلى
مذهب أهل السنة والجماعة ،في ردهم على أهل البدع المشهورين بمخالفة السنة والجماعة،
كالخوارج ،مما يدل على إنصافه ،قال رحمه ال ( :ومعلوم باتفاق المسلمين أن مَن هو دون
الشعرية ،كالمعتزلة والشيعة الذين يوجبون السلم ويحرمون ما وراءه ،فهم خير من الفلسفة
الذين يسوّغون التدين بدين السلم واليهود والنصارى ،فكيف بالطوائف المنتسبين إلى مذهب أهل
السنة والجماعة كالشعرية والكرامية والسالمية( )268وغيرهم؟ فإن هؤلء مع إيجابهم دين
السلم وتحريمهم ما خالفه ،يردون على أهل البدع المشهورين بمخالفة السنة والجماعة ،كالخوارج
والشيعة والقدرية والجهمية ،ولهم في تكفير هؤلء نزاع وتفصيل ،فمن جعل الفيلسوف الذي يبيح
دين المشركين واليهود والنصارى ،خير من اثنتين وسبعين فرقة فليس بمسلم ،فكيف بمن جعله
خيرًا من طوائف أهل الكلم المنتسبين إلى الذب عن أهل السنة والجماعة) (.)269
و ـ ثناؤه على بعض علماء المسلمين ممن لهم قدم راسخة ،واعتذاره عن خطئهم ،من أمثال القاضي
أبي بكر الباقلني( ،)270وأبي ذر الهروي( ،)271وهما من علماء الشاعرة :
قال عن القاضي الباقلني ( :فيه من الفضائل العظيمة ،والمحاسن الكثيرة ،والرد على الزنادقة
والملحدين وأهل البدع ،حتى إنه لم يكن في المنتسبين إلى ابن كُلّب والشعري أجلّ منه ،ول أحسن
كتبًا وتصنيفًا ،وبسببه انتشر هذا القول) (.)272
وقال عن الهروي ( :أبو ذر فيه من العلم والدين ،والمعرفة بالحديث والسنة ،وانتصابه لرواية
البخاري( ،)273عن شيوخه الثلثة ،وغير ذلك من المحاسن والفضائل ،ما هو معروف به ،وكان
قد قدم بغداد من هراة ،فأخذ طريقة ابن الباقلني وحملها إلى الحرم ،فتكلّم فيه وفي طريقته من
تكلّم ،كأبي نصر السجزي ،وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني( )274وأمثالهما من أكابر أهل العلم
والدين ،بما ليس هذا موضعه ،وهو ممن يرجح طريقة الضبعي( ،)275والثقفي( ،)276على
طريقة ابن خزيمة( )277وأمثاله من أهل الحديث ..وأهل المغرب كانوا يحجون فيجتمعون به
ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة ،ويدلهم على أصلها ،فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق ،كما
رحل أبو الوليد الباجي( ،)278فأخذ طريقة أبي جعفر السمناني( )279الحنفي ،صاحب القاضي
أبي بكر( ،)280ورحل بعده القاضي أبو بكر العربي ،فأخذ طريقة أبي المعالي( )281في الرشاد.
ثم إنه ما من هؤلء إل مَن له في السلم مساع مشكورة ،وحسنات مبرورة ،وله في الرد على كثير
من أهل اللحاد والبدع ،والنتصار لكثير من مسائل أهل السنة والدين ،ما ل يخفى على مَن عرف
أحوالهم ،وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف ،لكن لما التبس عليهم هذا الصل المأخوذ ابتداء
عن المعتزلة ،وهم فضلء عقلء ،احتاجوا طرده والتزام لوازمه ،فلزمهم بسبب ذلك من القوال ما
أنكره المسلمون من أهل العلم والدين ،وصار الناس بسبب ذلك :منهم من يعظّمهم لما لهم من
المحاسن والفضائل ،ومنهم من يذمهم لما وقع في كلمهم من البدع والباطل ،وخيار المور
أوسطها ،وهذا ليس مخصوصًا بهؤلء ،بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين ،وال يتقبل
من جميع عباده المؤمنين الحسنات ،ويتجاوز لهم عن السيئات ( :ربنا اغفر لنا ولخواننا الذين
سبقونا باليمان ول تجعل في قلوبنا غلً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) (الحشر ،)10 :ول
ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين ،من جهة الرسول صلى ال عليه و سلم ،وأخطأ في بعض
ذلك ،فال يغفر له خطأه ،تحقيقًا للدعاء الذي استجابه ال لنبيه وللمؤمنين ،حيث قالوا ( :ربنا ل
تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة ،)286 :ومن اتبع ظنّه وهواه ،فأخذ يشنع على من خالفه بما
وقع فيه من خطأ ظنّه صوابًا َب ْعدَ اجتهاده -وهو من البدع المخالفة للسنة -فإنه يلزمه نظير ذلك أو
أعظم أو أصغر فيمن يعظمه هو من أصحابه) (.)282
ز ـ دقة تقويمه لكتابي قوت القلوب وإحياء علوم الدين ،وإنصافه في إثبات ما لهما وما عليهما ،في
إجابته لمن سأله عنهما ،قال رحمه ال تعالى ( :أما كتاب قوت القلوب ،وكتاب الحياء تبع له فيما
يذكره من أعمال القلوب :مثل الصبر والشكر والحب والتوكل والتوحيد ونحو ذلك ،وأبو طالب(
)283أعلم بالحديث والثر ،وكلم أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم ،من أبي حامد الغزالي(
،)284وكلمه أسدّ وأجود تحقيقًا ،وأبعد عن البدعة ،مع أن في قوت القلوب أحاديث ضعيفة
وموضوعة وأشياء كثيرة مردودة ،وأما ما في الحياء من الكلم في المهلكات ،مثل الكلم على
ال ِكبْر والعُجب والرياء والحسد ونحو ذلك ،فغالبه منقول من كلم الحارث المحاسبي في الرعاية،
ومنه ما هو مقبول ،ومنه ما هو مردود ،ومنه ما هو متنازع فيه ،والحياء فيه فوائد كثيرة لكن فيه
مواد مذمومة ،فإنه فيه مواد فاسدة من كلم الفلسفة ،تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد ،فإذا ذكر
معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين ،وقد أنكر أئمة الدين على
أبي حامد الغزالي هذا في كتبه( ،)285وقالوا :مرضه الشفاء ،يعني شفاء ابن سينا( )286في
الفلسفة ،وفيه أحاديث وآثار ضعيفة ،بل موضوعة كثيرة ،وفيه أشياء من أغاليط الصوفية
و ُترّهَاتِهم ،وفيه مع ذلك من كلم المشايخ الصوفية ،العارفين المستقيمين ،في أعمال القلوب،
الموافق للكتاب والسنة ،ومن غير ذلك من العبادات والدب ،ما هو موافق للكتاب والسنة ،ما هو
أكثر مما يرد منه ،فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه) (.)287
الصل التاسع :رعاية شروط المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،في المر بالسنة والنهي عن
البدعة ،وتقديم الهم فالهم في ذلك
أكد شيخ السلم ابن تيمية على أهمية العمل بشروط المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،في المر
بالسنة والنهي عن البدعة ،وحذّر من سوء النية والنتصار للهوى ،لما يؤديان إليه من إبطال العمل،
وإشاعة الفرقة ،فقال ( :والمر بالسنة والنهي عن البدعة ،هما أمر بمعروف ونهي عن منكر ،وهو
من أفضل العمال الصالحة ،فيجب أن يبتغى به وجه ال ،وأن يكون مطابقًا للمر ،وفي الحديث(
)288من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ،فينبغي أن يكــون عالمًا بمــا يأمــر بـــه ،عالمًا بما
ينهى عنه ،رفيقًا بما يأمر به ،رفيقًا فيما ينهى عنه ،حليمًا فيما يأمر به ،حليمًا فيما ينهى عنه ،فالعلم
قبل المر ،والرفق مع المر ،والحلم مع المر ،فإن لم يكن عالمًا لم يكن له أن يقفو ما ليس له به
علم ..وإن كان عالمًا ولم يكن رفيقًا ،كان كالطبيب الذي ل رفق فيه ،فيغلظ على المريض فل يقبل
منه ،وكالمؤدب الغليظ الذي ل يقبل منه الولد ،وقد قال تعالى لموسى وهارون عليهما السلم :
( فقول له قولً لينًا لعله يتذكر أو يخشى) (طه ..)44 :ثم إذا أمر أو نهى ،فلبد أن يُؤذى في
العادة ،فعليه أن يصبر ويحلم ،كما قال تعالى ( :أقم الصلة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر
واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم المور) (لقمان ..)17 :وقد أمر ال نبيه بالصبر على
أذى المشركين في غير موضع ،وهو إمام المرين بالمعروف والناهين عن المنكر ،فإن النسان
عليه أولً أن يكون أمره ل ،وقصده طاعة ال فيما أمر به ،وهو يحب صلح المأمور ،أو إقامة
الحجة عليه ..فإن َفعَلَ ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره ،كان ذلك خطيئة ل يقبلها
ال ،وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء ،كان عمله حابطًا ،ثم إذا ُردّ عليه ذلك ،أو أوذي ،أو
نسب إلى أنه مخطئ ،وغرضه فاسد ،طلبت نفسه النتصار لنفسه ،وأتاه الشيطان ،فكان مبدأ عمله
ل ،ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه ،وربما اعتدى على ذلك المؤذي ،وهكذا
يصيب أصحاب المقالت المختلفة ،إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه ،وأنه على السنة ،فإن
أكثرهم قد صار لهم في ذلك هـــوى أن ينتصـــر جـاهــهـــم أو رياستــهــم ،وما نُســـب إليــهــم ،ل
يقصدون أن تكون كلمة ال هي العليا ،وأن يكون الدين كله ل ،بل يغضبون على مَن خالفهم ،وإن
كان مجتهدًا معذورًا ل يغضب ال عليه ،ويرضون عمن كان يوافقهم ،وإن كان جاهلً سيء القصد،
ليس له علم ول حسن قصد ،فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده ال ورسوله ،ويذموا من لم
يذمه ال ورسوله ،وتصير موالتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم ،ل على دين ال ورسوله) (
.)289
ودعا شيخ السلم ابن تيمية إلى سلمة النية ،واتّباع الحسان في مراتب النكار ،مع جميع
المبتدعة مهما غلظت بدعتهم ،ومنهم الرافضة ،لقصد الصلح ،فيقول ( :وهكذا الرد على أهل
البدع من الرافضة وغيرهم ،إن لم يقصد فيه بيان الحق ،وهدي الخلق ورحمتهم والحسان إليهم ،لم
يكن عمله صالحًا ،وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ،ليحذرها
العباد ،كما في نصوص الوعيد وغيرها ،وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيرًا ،والمقصود بذلك ردعه،
وردع أمثاله ،للرحمة والحسان ل للتشفي والنتقام ...وهذا مبني على مسألتين :
إحداهما أن الذنب ل يوجب كفر صاحبه ،كما تقوله الخوارج ،بل ول تخليده في النار ومنع الشفاعة
فيه ،كما يقوله المعتزلة.
الثاني :أن المتأول الذي قصده متابعة الرسول ،ل يُكفّر ول يُفسّق إذا اجتهد فأخطأ ،وهذا مشهور
عند الناس في المسائل العملية ،وأما مسائل العتقـــاد فكثيــر من الناس كفّروا المخطئين فيهــا،
وهذا القــول ل يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ،ول يُعرف عن أحد من أئمة
المسلمين ،وإنما هو في الصل من أقوال أهل البدع ،الذين يبتدعون بدعة ،ويكفّرون من خالفهم،
كالخوارج والمعتزلة والجهمية) (.)290
ولما كان المر بالسنة والنهي عن البدعة من الواجبات العملية ،فإن الشيخ يؤكد على مراعاة الدب
في ذلك ،واتباع ما يؤدي إلى إصلح النفوس واستقامتها ،من جهة القتداء والقبول ،ودفع ما يؤول
إلى مفسدة أعظم ،وتقديم الهم فالهم ،ومراعاة المصالح ،وفي هذا الشأن يدعو فيقول ( :عليك هنا
بأدبين :
أحدهما :أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنًا وظاهرًا ،في خاصتك وخاصة من يطيعك،
واعرف المعروف وانكر المنكر.
والثاني :أن تدعو الناس إلى السنة بحسب المكان ،فإذا رأيتَ مَن يعمل هذا ول يتركه إل إلى شر
منه ،فل تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه ،أو بترك واجب أو مندوب ،تركه أضر من فعل
ذلك المكروه ،ولكن إذا كان في البدعة من الخير فعوّض عنه من الخير المشــــروع بحســـب
المكـــان ،إذ النفــوس ل تتـــرك شيئًا إل بشــيء ،ول ينبغي لحد أن يترك خيرًا إل إلى مثله أو
إلى خير منه).
ثم قال ( :وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات ،تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو
المر به ،ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من
الكراهة ،بل الدين هو المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ول قوام لحدهما إل بصاحبه ،فل يُنهى
عن منكر إل ويُؤمر بمعروف يغني عنه ،كما يُؤمر بعبادة ال سبحانه ،ويُنهى عن عبادة ما سواه ،إذ
رأس المر شهادة أن ل إله إل ال ،والنفوس خُلقت لتعمل ل لتترك ،وإنما الترك مقصود لغيره ،فإن
لم يشتغل بعمل صالح وإل لم يترك العمل السيء أو الناقص ،لكن لما كان في العمال السيئة ما
يفسد عليها العمل الصالح ،نُهيت عنه حفظًا للعمل الصالح) (.)291
وينبه الشيخ إلى أن حقيقة العلم تظهر من المر والناهي ،في تقديم الهم فالهم عند ازدحام
المصالح والمفاسد ،أو تركه النهي في حال إذا كان النتقال سيكون إلى ما هو أشد شرًا وفسادًا،
وهذا يقع في العمال المختلفة التي فيها خير وشر ،ويضرب أمثلة عملية لهذا الفقه ،فيقول :
(فتعظيم المولد( )292واتخاذه موسمًا ،قد يفعله بعض الناس ويكون فيه أجر عظيم لحسن قصده،
وتعظيمه لرسول ال صلى ال عليه و سلم ،كما قدمتُه لك أنه َيحْسُن من بعض الناس ما يُستقبح من
المؤمن المسدد ،ولهذا قيل للمام أحمد عن بعض المراء :إنه أنفق على مصحف ألف دينار أو
نحو ذلك ،فقال :دعهم ،فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب ،أو كما قال .مع أن مذهبه أن زخرفة
المصاحف مكروهة ،وقد تأول بعض الصحاب أنه أنفقها في تجويد الورق والخط ،وليس مقصود
أحمد هذا ،وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة وفيه أيضًا مفسدة كُره لجلها ،فهـــؤلء إن لم
يفعلوا هــذا وإل اعتاضــوا بفسـادٍ ل صلح فيه ،مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور ،من كتب
السمار أو الشعار ،أو حكمة فارس والروم .فتفطّن لحقيقة الدين ،وانظر ما اشتملت عليه الفعال
من المصالح الشرعية والمفاسد ،بحيث تعرف ما مراتب المعروف ومراتب المنكر ،حتى تقدم أهمها
عند الزدحام ،فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل) (.)293
ومن الوقائع العملية التي يُقدم فيها الهم فالهم ،دفعًا لمفسدة أعظم ،ما ذكره ابن القيم( )294في
هذا الشأن ،مستشهدًا بفقــه شيخـه ابن تيمية ( :إذا رأيتَ أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج
كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة ،إل إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى ال ورسوله،
كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك ..وإذا رأيتَ الفسّاق قد اجتمعوا على لهو أو لعب أو سماع
مُكاء وتصدية ،فإن نقلتهم عنه إلى طاعة ال فهو المراد ،وإل كان تركهم على ذلك خيرًا من أن
تفرغهم لما هو أعظم من ذلك ،فكان ما هم فيه شاغلً لهم عن ذلك ..وكما إذا كان الرجل مشتغلً
بكتب المجون ونحوها ،وخِفْتَ من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلل والسحر ،فدعه و ُك ُتبَه
الولى ،وهذا باب واسع ،وسمعتُ شيخ السلم ابن تيمية ،قدس ال روحه ونوّر ضريحه ،يقول :
مررتُ أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر ،فأنكر عليهم مَن كان معي،
فأنكرتُ عليه ،وقلتُ له :إنما حرّم ال الخمر لنها تصد عن ذكر ال وعن الصلة ،وهؤلء يصدهم
الخمر عن قتل النفوس ،وسبي الذرية ،وأخذ الموال ،فدعهم) (.)295
ومن الوقائع التي تُراعى فيها المصالح ،وتُدفع فيها المفاسد ،أو تُقلل بحسب المكان ،ما ذكره شيخ
ظهِر المنكر ،إذا لم يمكن صرفه عن المامة (إل بشر السلم ابن تيمية في مسألة الصلة خلف ُم ْ
أعظم ضررًا من ضرر ما أظهره من المنكر ،فل يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ،ول دفع
أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين ،فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها،
وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب المكان ،ومطلوبها ترجيح خير الخيرين ،إذا لم يمكن أن يجتمعا
جميعًا ،ودفع شر الشرين ،إذا لم يندفعا جميعًا ،فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إل بضرر
جمَع والعياد زائد على ضرر إمامته ،لم يجز ذلك ،بل يُصلى خلفه ما ل يمكن فعلها إل خلفه ،كال ُ
والجماعة ،إذا لم يكن هناك إمام غيره ،ولهذا كان الصحابة يُصلّون خلف الحجاج( ،)296والمختار
بن أبي عبيد الثقفي( ،)297وغيرهما الجمعة والجماعة ،فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادًا
من القتداء فيها بإمام فاجر ،ل سيما إذا كان التخلف عنهما ل يدفع فجوره ،فيبقى ترك المصلحة
الشرعية بدون دفع تلك المفسدة) (.)298
ولما كان قَدْر النكار مراعى فيه المصلحة ،فإنها قد تكون في استعمال القوة للقضاء على البدعة
الغليظة ،وإلى هذا وجّه شيخ السلم ابن تيمية في التعامل مع (أهل البدع والضلل ،والكذب
والجهل ،وتبديل الدين وتغيير شريعة الرسل -وأنهم -أولى بأن ُيجَاهَدوا باليد واللسان بحسب
المكان ،وأنهم فيما استحلوه من جهاد أهل العلم والسنة ،من جنس الخوارج المارقين ،بل هم شر
من أولئك ،فإن أولئك لم يكونوا يدعون إلى الشرك ومعصية الرسول ،وظنهم أنهم ينصرونهم ،ظن
باطل ل ينفعهم) (.)299
وعلى العموم ،فإن النكار على أئمة البدع من أهل المقالت المخالفة للكتاب والسنة ،وبيان حالهم،
وتحذير المسلمين من باطلهم ،ودفع أذاهم ،واجب على الكفاية باتفاق المسلمين ،ل يجوز التساهل
فيه أو التقصير نحوه ،لما يترتب على ذلك من فساد القلوب وفساد الدين ،وفي هذا يقول شيخ
السلم ( :ومثل أئمة البدع من أهل المقالت المخالفة للكتاب والسنة ،أو العبادات المخالفة للكتاب
والسنة ،فإن بيان حالهم ،وتحذير المة منهم ،واجب باتفاق المسلمين ،حتى قيل لحمد بن حنبل :
الرجل يصوم ويصلي ويعتكف ،أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال :إذا قام وصلى واعتكف
فإنما هو لنفسه ،وإذا تكلم في أهل البدع ،فإنما هو للمسلين ،هذا أفضل .فبيّن أن نفع هذا عام
للمسلمين في دينهم ،من جنس الجهاد في سبيل ال ،إذ تطهير سبيل ال ودينه ومنهاجه وشرعته،
ودفع بغي هؤلء وعدوانهم على ذلك ،واجب على الكفاية باتفاق المسلمين ،ولول من يقيمه ال لدفع
ضرر هؤلء لفسد الدين ،وكان فساده أعظم من فساد استيلء العدو من أهل الحرب ،فإن هؤلءإذا
استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إل تبعًا ،وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء) (
.)300
الصل العاشر :مشروعية عقوبة الداعي إلى البدعة بما يحقق الزجر والتأديب والمصلحة ،لن
ضرره متعد إلى غيره ،بخلف المسر فإنه تُقبل علنيته ،ويُوكل سره إلى ال تعالى
بيّن شيخ السلم ابن تيمية أن السلف والئمة نهجوا منهج التفريق بين المبتدع الداعية وغير
الداعية ،في التعامل معهما( ،فإن الدعاة إلى البدع ل تُقبل شهادتهم ،ول يُصلى خلفهم ،ول يؤخذ
عنهم العلم ،ول يُناكَحون ،فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا ،ولهذا يفرّقون بين الداعية وغير الداعية ،لن
الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة ،بخــلف الكــاتم فإنــه ليس شرًا مــن المنافقين الــذين
كــان النبي صلى ال عليه و سلم يقبل علنيتهم ،ويكِل سرائرهم إلى ال ،مع علمه بحال كثير منهم،
ولهذا جاء في الحديث :إن المعصيــة إذا خفيت لم تضـــر إل صاحبها ،ولكن إذا أُعلنت فلم تُنكر
ضرت العامة ،وذلك لن النبي صلى ال عليه و سلم قال ( :إن الناس إذا رَأَوْا المنكر فلم يغيروه
أوشك أن يعمّهم ال بعقاب منه) ( ..)301فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها بخلف الباطنة ،فإن
عقوبتها على صاحبها خاصة) (.)302
وهذه العقوبة مقيدة بما إذا لم يكن الداعي متأولً ،وكانت بدعته غليظة ،وأدت إلى كفّه عن البدعة،
وتنفير الناس منها.
وعلى العموم( ،من قامت عليه الحجة استحق العقوبة ،وإل كانت أعماله البدعية المنهي عنها باطلة
ل ثواب فيها ،وكانت منقصة له خافضة له بحسب بُعده عن السنة ،فإن هذا حكم أهل الضلل ،وهو
البعد عن الصراط المستقيم ،وما يستحقه أهله من الكرامة ،ثم مَن قامت عليه الحجة استحق العقوبة،
وإل كان بعده ونقصه وانخفاض درجته ،وما يلحقه في الدنيا والخرة ،من انخفاض منزلته وسقوط
حرمته وانحطاط درجته هو جزاؤه ،وال حكم عدل ل يظلم مثقال ذرة ،وهو عليم حكيم لطيف لما
يشاء ،سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا ( :له الحمد في الولى والخرة وله الحكم
وإليه تُرجعون) (القصص .)303( ))70 :
ولما كانت الغاية من عقوبة المبتدع الداعية كفّه عن بدعته وزجره ،وابتعاد العامة عن متابعته،
تنوعت العقوبة بما يحقق ذلك ويرعى المصلحة ،فإنه قد يعاقب أحيانًا بالذم ،وذكر ما فيه من فجور
ومعصية ،لينكشف حاله للناس .ويعلل شيخ السلم مشروعية هذه العقوبة فيقول ( :لهذا لم يكن
للمعلن بالبدع والفجور غيبة ،كما روي ذلك عن الحسن البصري( )304وغيره ،لنه لما أعلن ذلك
استحق عقوبة المسلمين له ،وأدنى ذلك أن يُذم عليه لينزجر ،ويكف الناس عنه وعن مخالطته ،ولو
لم يُذم ويُذكّر بما فيه من الفجور والمعصية أو البدعة لغتر به الناس ،وربما حمل بعضهم على أن
يرتكب ما هو عليه ،ويزداد أيضًا هو جرأة وفجورًا ومعاصي ،فإذا ُذكّر بما فيه انكفّ ،وانكف غيره
عن ذلك ،وعن صحبته ومخالطته) (.)305
وقد تقتضي المصلحة إيقاع عقوبة أشد على الداعية المبتدع ،متى دعا إلى مفسدة عظيمة ،وواجه
الحق الظاهر ،فيُعاقب بالهجر أو التعزير أو القتل ،إذا كان ل يرتدع إل بإحداها ،وإلى هذا أشار ابن
تيمية في قوله ( :فإن الحق إذا كان ظاهرًا قد عرفه المسلمون ،وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى
عزّر ،كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي بدعته ،فإنه يجب منعه من ذلك ،فإذا ُهجِر و ُ
عسْل التميمي( ،)307وكما كان المسلمون يفعلونه ،أو قُتل كما َقتَل صبِيغ( )306بن ِ
ال عنه ،ب َ
جعْد بن درهم( ،)308وغيلن القدري( )309وغيرهما ،كان ذلك هو المصلحة، المسلمون ال َ
بخلف ما إذا ترك داعيًا ،وهو ل يقبل الحق إما لهواه وإما لفساد إدراكه ،فإنه ليس في مخاطبته إل
مفسدة ،وضرر عليه وعلى المسلمين ...والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف ،وكان مقصود الداعي
إلى البدعة إضرار الناس ،قوبل بالعقوبة) (.)310
وبيّن شيخ السلم أن (الهجر يختلف باختلف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم ،فإن
المقصود به زجر المهجور وتأديبه ،ورجوع العامة عن مثل حاله ،فإن كانت المصلحة في ذلك
راجحة ،بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته ،كان مشروعًا ،وإن كان ل المهجور ول
غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر ،والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته ،لم
يشرع الهجر ،بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهَجر ،والهَجر لبعض الناس أنفع من
التأليف ،ولهذا كان النبي صلى ال عليه و سلم يتألف قومًا ويهجر آخرين ،كما أن الثلثة الذين
خُلّفوا ،كانوا خيرًا من أكثر المؤلفة قلوبهم ،لما كان أولئك سادة مطاعين في عشائرهم ،فكانت
المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم ،وهؤلء كانوا مؤمنين ،والمؤمنون سواهم كثير ،فكان في هجرهم
عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم ،وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة ،والمهادنة تارة ،وأخذ
الجزية تارة ،كل ذلك بحسب الحوال والمصالح) ( .)311على أنه ينبغي أن يعلم أن الهجر عقوبة
لدفع ضرر ناشئ عن بدعة غليظة أو معصية كبيرة ،فل يُهجر من كان مستترًا على معصية
صغيرة ،أو مسرًا لبدعة غير مكفرة( ،)312أو من كانت بدعته فيما يسوغ فيه الجتهاد من المسائل
الدقيقة ،وقد أشار شيخ السلم إلى بعض هذه المسائل عند جوابه على مسألة رؤية الكفار ربهم في
عرَصات يوم القيامة ،فقال ( :ليست هذه المسألة فيما علمت مما يوجب المهاجرة والمقاطعة ،فإن َ
الذين تكلموا فيها َقبْلَنا عامتهم أهل سنة واتباع ،وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا ،كما
اختلف الصحابة رضي ال عنهم ،والناس بعدهم ،في رؤية النبي صلى ال عليه و سلم ربه في
الدنيا ،وقالوا فيها كلمات غليظة ،كقول أم المؤمنين عائشة رضي ال عنها ( :مَن زعم أن محمدًا
رأى ربه فقد أعظم على ال الفرية) ( ،)313ومع هذا فمـــا أوجب هـــذا النــزاع تهاجرًا ول
تقاطعًا ..وكذلك ناظر المام أحمد أقوامًا من أهل السنة ،في مسألة الشهادة للعشرة بالجنة ،حتى آلت
المناظرة إلى ارتفاع الصوات ،وكان أحمد وغيره يرون الشهادة ،ولم يهجروا من امتنع من
الشهادة ،إلى مسائل نظير هذه كثيرة) ( ..)314ومسائل الحكام العملية أكثر ،بل الخلف فيها
أشهر ،ولم يتهاجر أئمة المسلمين في الفقه بسببها ولم يتقاطعوا ،وقد خطّأ شيخ السلم الذين فهموا
أن الهجر عام في جميع الحوال ،والذين أعرضوا عنه بالكلية ،فقال ( :إن أقوامًا جعلوا ذلك عامًا،
فاستعملوا من الهجـــر والنكــار ما لم يؤمــروا بـه ،فل يجب ول يستحب ،وربما تركوا به واجبات
أو مستحبات ،وفعلوا به محرمات ،وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره
من السيئات البدعية ،بل تركوها ترك المعرض ل ترك المنتهي الكاره ،أو وقعوا فيها ،وقد
يتركونها ترك المنتهي الكاره ،ول ينهون عنها غيرهم ،ول يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق
العقوبة عليها ،فيكونون قد ضيّعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابًا أو استحبابًا ،فهم بين فعل
المنكر أو ترك المنهي عنه ،وذلك فعل ما نهوا عنه ،وترك ما أمروا به ،فهذا هذا ،ودين ال وسط
بين الغالي فيه والجافي عنه) (.)315
ويقرر شيخ السلم أن القتل عقوبة تعزيرية ،ذهب إليها المام مالك( ،)316وطائفة من أصحاب
الشافعي وأحمد وغيرهم( ،)317تشرع في حق (الداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد ،فإن
النبي صلى ال عليه و سلم قال ( :أينما لقيتموهم فاقتلوهم) ( ،)318وقال ( :لئن أدركتُهم لقتلنهم
عسْل ( :لو وجدتك محلوقًا لضربتُ الذي قتل عاد) ( ..)319وقال عمر رضي ال عنه لصبيغ بن ِ
فيــه عينــاك) ( ..)320ولن علي بن أبي طـالب رضي ال عنه طلب أن يقتل عبد ال بن سبأ(
،)321أول الرافضة ،حتى هرب منه ،ولن هؤلء من أعظم المفسدين في الرض ،فإذا لم يندفع
فسادهم إل بالقتل قُتلوا ،ول يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول ،أو كان في قتله مفسدة
راجحة ،ولهذا ترك النبي صلى ال عليه و سلم قتل ذلك الخارجي ابتداءً ،لئل يتحدث الناس أن
ي قتلهم أول ما ظهروا ،لنهم محمدًا يقتل أصحابه ،ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام ،ولهذا ترك عل ّ
كانوا خلقًا كثيرًا ،وكانوا داخلين في الطاعة والجماعــة ظاهــرًا ،لم يحاربوا أهل الجماعة ،ولم يكن
يتبين له أنهم هم) (.)322
وعقوبة القتل ل تدل على ردة صاحبها ،فهو إنما (يقتل لكف ضرره عن الناس ،كما يقتل المحارب
وإن لم يكن في نفس المر كافرًا ،فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته ،وعلى هذا قتل غيلن
القدري وغيره ،قد يكون على هذا الوجه) ( ،)323وتتم هذه العقوبة بعد اليأس من صلح الداعي
إلى البدعة ،وإقامة الحجة عليه ،كما فعل المسلمون مع غيلن ،فإنهم (ناظروه وبيّنوا له الحق ،كما
فعل عمــــر ابن عبد العزيز( )324رضي ال عنه ،واستتابه ثم نكث التوبة بعد ذلك فقتلوه ،وكذلك
علي رضي ال عنه ،بعث ابن عباس رضي ال عنهما ،إلى الخوارج فناظرهم ،ثم رجع نصفهم ،ثم
قاتل الباقين) (.)325
كذلك فإن عقوبة الداعي ،بأي نوع من العقوبات الزاجرة له ليست دليلً على ما يلي :
أ ـ استحقاقه للثم ،فإنه قد يكون المعاقَب معذورًا ،وفي هذا يقول شيخ السلم ( :يعاقب من دعا إلى
بدعة تضر الناس في دينهم ،وإن كان قد يكون معذورًا فيها في نفس المر ،لجتهاد أو تقليد) (
.)326
ب ـ سلب العدالة منه ،فإنه قد يكون المعاقَب عدلً أو رجلً صالحًا( ،ومن هذا هجر المام أحمد
الذين أجابوا في المحنة -أي محنة القول بخلق القرآن -قبل القيد ،ولمن تاب بعد الجابة ،ولمن فعل
بدعة ما ،مع أن فيهم أئمة الحديث والفقه والتصوف والعبادة ،فإن هجره لهم والمسلمون معه ،ل
يمنع معرفة قدر فضلهم ،كما أن الثلثة الذين خُلّفوا ،لما أمر النبي صلى ال عليه و سلم المسلمين
بهجرهم ،لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق ،حتى قد قيل :إن اثنين منهما شهدا بدرًا ،وقد قال :
(كأن ال اطلع على أهل بدر فقال :اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم) ( …)327فإن عقوبة الدنيا
المشروعة من الهجران إلى القتل ،ل يمنع أن يكون المعاقب عدلً أو رجلً صالحًا) (.)328
أما غير الداعية ممن وقع في معصية أو بدعة ،فإن حكمه حكم غيره من المسلمين ،ول أدل على
جمَل وصِفّين ،فإنهم كانوا (يوالي
ذلك مما وقع بين السلف من الصحابة والتابعين من اقتتال في الـ َ
بعضهم بعضًا موالة الدين ،ل يعادون كمعاداة الكفار ،فيقبل بعضهم شهادة بعض ،ويأخذ بعضهم
العلم عن بعض ،ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض ،مع ما كان
بينهم من القتال والتلعن وغير ذلك) (.)329
الصل العاشر :مشروعية عقوبة الداعي إلى البدعة بما يحقق الزجر والتأديب والمصلحة ،لن
ضرره متعد إلى غيره ،بخلف المسر فإنه تُقبل علنيته ،ويُوكل سره إلى ال تعالى
بيّن شيخ السلم ابن تيمية أن السلف والئمة نهجوا منهج التفريق بين المبتدع الداعية وغير
الداعية ،في التعامل معهما( ،فإن الدعاة إلى البدع ل تُقبل شهادتهم ،ول يُصلى خلفهم ،ول يؤخذ
عنهم العلم ،ول يُناكَحون ،فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا ،ولهذا يفرّقون بين الداعية وغير الداعية ،لن
الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة ،بخــلف الكــاتم فإنــه ليس شرًا مــن المنافقين الــذين
كــان النبي صلى ال عليه و سلم يقبل علنيتهم ،ويكِل سرائرهم إلى ال ،مع علمه بحال كثير منهم،
ولهذا جاء في الحديث :إن المعصيــة إذا خفيت لم تضـــر إل صاحبها ،ولكن إذا أُعلنت فلم تُنكر
ضرت العامة ،وذلك لن النبي صلى ال عليه و سلم قال ( :إن الناس إذا رَأَوْا المنكر فلم يغيروه
أوشك أن يعمّهم ال بعقاب منه) ( ..)301فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها بخلف الباطنة ،فإن
عقوبتها على صاحبها خاصة) (.)302
وهذه العقوبة مقيدة بما إذا لم يكن الداعي متأولً ،وكانت بدعته غليظة ،وأدت إلى كفّه عن البدعة،
وتنفير الناس منها.
وعلى العموم( ،من قامت عليه الحجة استحق العقوبة ،وإل كانت أعماله البدعية المنهي عنها باطلة
ل ثواب فيها ،وكانت منقصة له خافضة له بحسب بُعده عن السنة ،فإن هذا حكم أهل الضلل ،وهو
البعد عن الصراط المستقيم ،وما يستحقه أهله من الكرامة ،ثم مَن قامت عليه الحجة استحق العقوبة،
وإل كان بعده ونقصه وانخفاض درجته ،وما يلحقه في الدنيا والخرة ،من انخفاض منزلته وسقوط
حرمته وانحطاط درجته هو جزاؤه ،وال حكم عدل ل يظلم مثقال ذرة ،وهو عليم حكيم لطيف لما
يشاء ،سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا ( :له الحمد في الولى والخرة وله الحكم
وإليه تُرجعون) (القصص .)303( ))70 :
ولما كانت الغاية من عقوبة المبتدع الداعية كفّه عن بدعته وزجره ،وابتعاد العامة عن متابعته،
تنوعت العقوبة بما يحقق ذلك ويرعى المصلحة ،فإنه قد يعاقب أحيانًا بالذم ،وذكر ما فيه من فجور
ومعصية ،لينكشف حاله للناس .ويعلل شيخ السلم مشروعية هذه العقوبة فيقول ( :لهذا لم يكن
للمعلن بالبدع والفجور غيبة ،كما روي ذلك عن الحسن البصري( )304وغيره ،لنه لما أعلن ذلك
استحق عقوبة المسلمين له ،وأدنى ذلك أن يُذم عليه لينزجر ،ويكف الناس عنه وعن مخالطته ،ولو
لم يُذم ويُذكّر بما فيه من الفجور والمعصية أو البدعة لغتر به الناس ،وربما حمل بعضهم على أن
يرتكب ما هو عليه ،ويزداد أيضًا هو جرأة وفجورًا ومعاصي ،فإذا ُذكّر بما فيه انكفّ ،وانكف غيره
عن ذلك ،وعن صحبته ومخالطته) (.)305
وقد تقتضي المصلحة إيقاع عقوبة أشد على الداعية المبتدع ،متى دعا إلى مفسدة عظيمة ،وواجه
الحق الظاهر ،فيُعاقب بالهجر أو التعزير أو القتل ،إذا كان ل يرتدع إل بإحداها ،وإلى هذا أشار ابن
تيمية في قوله ( :فإن الحق إذا كان ظاهرًا قد عرفه المسلمون ،وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى
عزّر ،كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي بدعته ،فإنه يجب منعه من ذلك ،فإذا ُهجِر و ُ
عسْل التميمي( ،)307وكما كان المسلمون يفعلونه ،أو قُتل كما َقتَل صبِيغ( )306بن ِ
ال عنه ،ب َ
جعْد بن درهم( ،)308وغيلن القدري( )309وغيرهما ،كان ذلك هو المصلحة، المسلمون ال َ
بخلف ما إذا ترك داعيًا ،وهو ل يقبل الحق إما لهواه وإما لفساد إدراكه ،فإنه ليس في مخاطبته إل
مفسدة ،وضرر عليه وعلى المسلمين ...والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف ،وكان مقصود الداعي
إلى البدعة إضرار الناس ،قوبل بالعقوبة) (.)310
وبيّن شيخ السلم أن (الهجر يختلف باختلف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم ،فإن
المقصود به زجر المهجور وتأديبه ،ورجوع العامة عن مثل حاله ،فإن كانت المصلحة في ذلك
راجحة ،بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته ،كان مشروعًا ،وإن كان ل المهجور ول
غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر ،والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته ،لم
يشرع الهجر ،بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهَجر ،والهَجر لبعض الناس أنفع من
التأليف ،ولهذا كان النبي صلى ال عليه و سلم يتألف قومًا ويهجر آخرين ،كما أن الثلثة الذين
خُلّفوا ،كانوا خيرًا من أكثر المؤلفة قلوبهم ،لما كان أولئك سادة مطاعين في عشائرهم ،فكانت
المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم ،وهؤلء كانوا مؤمنين ،والمؤمنون سواهم كثير ،فكان في هجرهم
عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم ،وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة ،والمهادنة تارة ،وأخذ
الجزية تارة ،كل ذلك بحسب الحوال والمصالح) ( .)311على أنه ينبغي أن يعلم أن الهجر عقوبة
لدفع ضرر ناشئ عن بدعة غليظة أو معصية كبيرة ،فل يُهجر من كان مستترًا على معصية
صغيرة ،أو مسرًا لبدعة غير مكفرة( ،)312أو من كانت بدعته فيما يسوغ فيه الجتهاد من المسائل
الدقيقة ،وقد أشار شيخ السلم إلى بعض هذه المسائل عند جوابه على مسألة رؤية الكفار ربهم في
عرَصات يوم القيامة ،فقال ( :ليست هذه المسألة فيما علمت مما يوجب المهاجرة والمقاطعة ،فإن َ
الذين تكلموا فيها َقبْلَنا عامتهم أهل سنة واتباع ،وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا ،كما
اختلف الصحابة رضي ال عنهم ،والناس بعدهم ،في رؤية النبي صلى ال عليه و سلم ربه في
الدنيا ،وقالوا فيها كلمات غليظة ،كقول أم المؤمنين عائشة رضي ال عنها ( :مَن زعم أن محمدًا
رأى ربه فقد أعظم على ال الفرية) ( ،)313ومع هذا فمـــا أوجب هـــذا النــزاع تهاجرًا ول
تقاطعًا ..وكذلك ناظر المام أحمد أقوامًا من أهل السنة ،في مسألة الشهادة للعشرة بالجنة ،حتى آلت
المناظرة إلى ارتفاع الصوات ،وكان أحمد وغيره يرون الشهادة ،ولم يهجروا من امتنع من
الشهادة ،إلى مسائل نظير هذه كثيرة) ( ..)314ومسائل الحكام العملية أكثر ،بل الخلف فيها
أشهر ،ولم يتهاجر أئمة المسلمين في الفقه بسببها ولم يتقاطعوا ،وقد خطّأ شيخ السلم الذين فهموا
أن الهجر عام في جميع الحوال ،والذين أعرضوا عنه بالكلية ،فقال ( :إن أقوامًا جعلوا ذلك عامًا،
فاستعملوا من الهجـــر والنكــار ما لم يؤمــروا بـه ،فل يجب ول يستحب ،وربما تركوا به واجبات
أو مستحبات ،وفعلوا به محرمات ،وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره
من السيئات البدعية ،بل تركوها ترك المعرض ل ترك المنتهي الكاره ،أو وقعوا فيها ،وقد
يتركونها ترك المنتهي الكاره ،ول ينهون عنها غيرهم ،ول يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق
العقوبة عليها ،فيكونون قد ضيّعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابًا أو استحبابًا ،فهم بين فعل
المنكر أو ترك المنهي عنه ،وذلك فعل ما نهوا عنه ،وترك ما أمروا به ،فهذا هذا ،ودين ال وسط
بين الغالي فيه والجافي عنه) (.)315
ويقرر شيخ السلم أن القتل عقوبة تعزيرية ،ذهب إليها المام مالك( ،)316وطائفة من أصحاب
الشافعي وأحمد وغيرهم( ،)317تشرع في حق (الداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد ،فإن
النبي صلى ال عليه و سلم قال ( :أينما لقيتموهم فاقتلوهم) ( ،)318وقال ( :لئن أدركتُهم لقتلنهم
عسْل ( :لو وجدتك محلوقًا لضربتُ الذيقتل عاد) ( ..)319وقال عمر رضي ال عنه لصبيغ بن ِ
فيــه عينــاك) ( ..)320ولن علي بن أبي طـالب رضي ال عنه طلب أن يقتل عبد ال بن سبأ(
،)321أول الرافضة ،حتى هرب منه ،ولن هؤلء من أعظم المفسدين في الرض ،فإذا لم يندفع
فسادهم إل بالقتل قُتلوا ،ول يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول ،أو كان في قتله مفسدة
راجحة ،ولهذا ترك النبي صلى ال عليه و سلم قتل ذلك الخارجي ابتداءً ،لئل يتحدث الناس أن
ي قتلهم أول ما ظهروا ،لنهممحمدًا يقتل أصحابه ،ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام ،ولهذا ترك عل ّ
كانوا خلقًا كثيرًا ،وكانوا داخلين في الطاعة والجماعــة ظاهــرًا ،لم يحاربوا أهل الجماعة ،ولم يكن
يتبين له أنهم هم) (.)322
وعقوبة القتل ل تدل على ردة صاحبها ،فهو إنما (يقتل لكف ضرره عن الناس ،كما يقتل المحارب
وإن لم يكن في نفس المر كافرًا ،فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته ،وعلى هذا قتل غيلن
القدري وغيره ،قد يكون على هذا الوجه) ( ،)323وتتم هذه العقوبة بعد اليأس من صلح الداعي
إلى البدعة ،وإقامة الحجة عليه ،كما فعل المسلمون مع غيلن ،فإنهم (ناظروه وبيّنوا له الحق ،كما
فعل عمــــر ابن عبد العزيز( )324رضي ال عنه ،واستتابه ثم نكث التوبة بعد ذلك فقتلوه ،وكذلك
علي رضي ال عنه ،بعث ابن عباس رضي ال عنهما ،إلى الخوارج فناظرهم ،ثم رجع نصفهم ،ثم
قاتل الباقين) (.)325
كذلك فإن عقوبة الداعي ،بأي نوع من العقوبات الزاجرة له ليست دليلً على ما يلي :
أ ـ استحقاقه للثم ،فإنه قد يكون المعاقَب معذورًا ،وفي هذا يقول شيخ السلم ( :يعاقب من دعا إلى
بدعة تضر الناس في دينهم ،وإن كان قد يكون معذورًا فيها في نفس المر ،لجتهاد أو تقليد) (
.)326
ب ـ سلب العدالة منه ،فإنه قد يكون المعاقَب عدلً أو رجلً صالحًا( ،ومن هذا هجر المام أحمد
الذين أجابوا في المحنة -أي محنة القول بخلق القرآن -قبل القيد ،ولمن تاب بعد الجابة ،ولمن فعل
بدعة ما ،مع أن فيهم أئمة الحديث والفقه والتصوف والعبادة ،فإن هجره لهم والمسلمون معه ،ل
يمنع معرفة قدر فضلهم ،كما أن الثلثة الذين خُلّفوا ،لما أمر النبي صلى ال عليه و سلم المسلمين
بهجرهم ،لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق ،حتى قد قيل :إن اثنين منهما شهدا بدرًا ،وقد قال :
(كأن ال اطلع على أهل بدر فقال :اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم) ( …)327فإن عقوبة الدنيا
المشروعة من الهجران إلى القتل ،ل يمنع أن يكون المعاقب عدلً أو رجلً صالحًا) (.)328
أما غير الداعية ممن وقع في معصية أو بدعة ،فإن حكمه حكم غيره من المسلمين ،ول أدل على
جمَل وصِفّين ،فإنهم كانوا (يوالي
ذلك مما وقع بين السلف من الصحابة والتابعين من اقتتال في الـ َ
بعضهم بعضًا موالة الدين ،ل يعادون كمعاداة الكفار ،فيقبل بعضهم شهادة بعض ،ويأخذ بعضهم
العلم عن بعض ،ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض ،مع ما كان
بينهم من القتال والتلعن وغير ذلك) (.)329
يذهب شيخ السلم ابن تيمية إلى أن البدعة مهما غلظت ،ذنب من الـذنــوب ،ومــا مــن ذنب إل
ويغفـــره ال تعـالـى ،مستــدلً بقولـه تعالـى ( :قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ل تقنطوا من
رحمة ال إن ال يغفر الذنوب جميعًا) (الزمر ،)53 :قائلً :هي (آية عظيمة جامعة ،من أعظم
اليات نفعًا ،وفيها رد على طوائف ،رد على من يقول :إن الداعي إلى البدعة ل تقبل توبته،
ويحتجون بحديث إسرائيلي ،فيه (أنه قيل لذلك الداعية :فكيف بمن أضللت) ( ،)344وهذا يقوله
طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث ،وليسوا من العلماء بذلك ،كأبي علي الهوازي()345
وأمثاله ،ممن ل يميزون بين الحاديث الصحيحة والموضوعة ،وما يحتج به وما ل يحتـــج به ،بل
يـروون كل ما في الباب محتجين به ،وقد حكى هذا طائفةٌ قولً في مذهب أحمد أو رواية عنه،
وظاهر مذهبه مع مذاهب سائر أئمة المسلمين ،أنه تُقبل توبته كما تُقبل توبة الداعي إلى الكفر،
وتوبة من فتن الناس عن دينهم ،وقد تاب قادة الحزاب ،مثل أبي سفيان بن حرب( ،)345والحارث
بن هشام( ،)346وسُهيل بن عمرو( ،)347وصفوان بن أمية( ،)348وعكرمة بن أبي جهل(
،)349وغيرهم بعد أن قُتل على الكفر بدعائهم من قُتل ،وكانوا من أحسن الناس إسلمًا ،وغفر ال
لهم ،قال تعالــى ( :قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف) (النفال ..)38 :وعمرو بن
العاص( )350كان من أعظم الدعاة إلى الكفر واليذاء للمسلمين ،وقد قال له النبي صلى ال عليه و
سلم لما أسلم ( :يا عمرو ،أما علمت أن السلم َيجُبّ ما كان قبله؟) ( ..) 352( ))351ومن البدع
الغليظة التي نص شيخ السلم ابن تيمية على قبول توبة التائب منها ،بدعة سب الصحابة()253
رضي ال عنهم ،وبدعة التحادية ووحدة الوجود(.)254
وقد بيّن شيخ السلم رحمه ال غلط مَن ذهب إلى أن توبة الداعي إلى البدعة ل تُقبل ،من جهة
الدليل من الكتاب والسنة ،فإن ال بيّن في كتابه أنه يتوب على أئمة الكفر ،الذين أهم أعظم من أئمــة
البــدع ،فـقال تعالــى ( :إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم
عذاب الحريق) (البروج .)10 :قال الحسن ( :انظروا إلى هذا الكلم ،عذّبوا أولياءه وفتنوهم ،ثم
هو يدعوهم إلى التوبة) ( .)255وقال تعالى عن المشركين ( :فإذا انسلخ الشهر الحُرم فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ،فإن تابوا وأقاموا الصلة
وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن ال غفور رحيم ) (التــوبــــة ..)5 :وقال تعالى ( :قد كفر الذين قالوا
إن ال ثالث ثلثة وما من إله إل إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب
أليم أفل يتوبون إلى ال ويستغفرونه وال غفور رحيم ) (المائدة ..)74-73 :وأما السنة فإنها دلت
على قبول توبة القاتل ،كما في حديث (الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا ،فسأل هل له من توبة ،فدُلّ
على رجل عالم ،فقال :نعم ،ومن يحول بينه وبين التوبة) ( ..)256والقتل من الذنوب الكبيرة ،ثم
إنه ليس في الكتـاب والسنــة ما ينـافـي ذلك ول نصوص الوعيد ،بل علم يقينًا أن كل ذنب فيه
وعيد ،فإن لحوق الوعيد به مشروط بعدم التوبة ،إذ نصوص التوبة مبينة لتلك النصوص ،كالوعيد
في الشرك وأكل الربا(.)257
ووجّه رحمه ال أقوال القائلين بعدم قبول توبة الداعي إلى البدعة بما يلي :
أ ـ مَن قال :توبة الداعي غير مقبولة ،فيعني :أن التوبة المجردة ُتسْقط حق ال في العقاب ،دون
حق المظلومين(.)258
ب ـ ومَن قال :البدعة ل يُتاب منها ،فيقصد بذلك ( :أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه ال ول
رسـوله ،قد زُين له ســوء عملـه فـرآه حسنًا ،فهـو ل يتوب مادام يراه حسنًا ،لن أول التوبة العلم
بأن فعله سيء ليتوب منه ،أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ،ليتوب ويفعله،
فمادام يرى فعله حسنًا ،وهو سيء في نفس المر ،فإنه ليتوب) (.)259
جـ ـ ومَن قال :إن ال حجر التوبة على كل صاحب بدعة ،فإنه يقصد :إنه (ل يتوب منها ،لنه
يحسب أنه على هدى ،ولو تاب لتاب عليه ،كما يتوب على الكافر) (.)260
وهكذا فما ورد مما يدل على عدم قبول التوبة ،فمحمول على تلك المعاني ،أو أن قائلي تلك القوال
قالوها على وجه التغليظ على أهل البدع ،لتنفير الناس من البدع ،وذلك لقوة دليل من يقول بقبول
التوبة.
الخــاتمــــة
وبعد هذا ،فإن شيخ السلم ابن تيمية استطاع بتحرير هذه الصول :
1ـ أن يقيم ميزان القسط في وزن أقوال المبتدعة وآرائهم ،وأن يضبط به الحكم عليها ،بحيث يقبل
منها ما وافق الحق ،ويرد منها ما خالفه.
2ـ أن يظهر منهج أهل السنة والجماعة فى الحكم على المبتدعة ،وأن يبين أنه قائم على العدل
غمْط في حق. والعلـــم ،من غيـــر مداهنـــة في باطــل ،ول َ
3ـ أن ييسر لهل العلم سبيل النتهاء إلى أحكام دقيقة ومنضبطة ،وسالمة من الظلم والجهل،
يردون إليها الجزئيات قبل إصدار أحكامهم ،ويعلمون بها حقيقة القوال والراء ،وما تستحقه من
أحكام.
4ـ أن يدفع الفساد الناشئ عن مخالفة منهج العدل والعلم في الحكم على المبتدعة ،من الوقوع في
الظلم والكذب ،والساءة إلى الناس ،وبخس حقوقهم ،والتخبط في الحكام والمناهج ،وإحداث الفرقة
والبغضاء ،وإثارة الفتن والعداوات ،إلى غير ذلك من العظائم.
فما أحوج طلب العلم إلى دراسة هذه الصول وتمعنها ،والستفادة منها علميًا وعمليًا ..فإنها
رسمت المسلك العدل الذي أمر به القرآن الكريم ،في قوله تعالى ( :يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين
ل شهداء بالقسط ول يجرمنكم شنآن قوم على أن ل تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا ال إن ال
خبير بما تعملون) (المائدة .)8 :
والحمد ل رب العالمين ،والصلة والسلم على الهادي المين نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه
أجمعين.