You are on page 1of 24

‫تفريغ محاضرة فضيلة الشيخ الدكتور‪ /‬كهلن بن نبهان‬

‫الخروصي المعنونة بـ )الحضارة في القرآن الكريم بناءً‬


‫وانهيارًا)‬

‫ألقاها بجامع السيدة ميزون بالخوض بتاريخ ‪ 5‬محرم‬


‫‪1431‬هـ الموافق ‪ 2009/12/21‬م‪.‬‬

‫المحاضرة موجودة بالصيغة الصوتية على مكتبة مشروع‬


‫"فذكر" بموقع المجرة‪.‬‬
‫===============‬

‫أعوذ بالله من الشيطان الرجيم‬


‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫الحمد لله رب العالمين حمدا ً كثيرا ً طيبا ً مباركا ً فيه كما‬
‫يحب ربنا ويرضى‬
‫وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك له ‪ ،‬له الملك‬
‫وله الحمد ‪ ،‬بيده الخير وهو على كل شيء قدير‬
‫وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا ً عبد الله ورسوله ‪،‬‬
‫وصفوته من خلقه وخليله ‪ ،‬أرسله الله بشيرا ً ونذيرا ً ‪،‬‬
‫وداعيا ً إليه بإذنه وسراجا ً منيرا ً ‪ ،‬فبلغ الرسالة وأدى‬
‫المانة ونصح المة وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه‬
‫اليقين ‪ ،‬اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪.‬‬

‫أما بعد أيها الخوة الكرام والخوات الفضليات ‪،‬‬


‫فالسلم عليكم جميعا ً ورحمة الله وبركاته‪.‬‬

‫وأعتذر إليكم على التأخر ‪ ،‬فقد كان موضوع المحاضرة‬


‫هو سبب تأخري في الحقيقة ‪ ،‬وسأحكي لكم ما حصل‬
‫لحقا ً بإذن الله عز وجل‪.‬‬

‫كما أني مع شكري لكم جميعا ً على حضوركم الطيب‬


‫واجتماعكم المبارك في هذا الجامع الطاهر الشريف‬
‫فإني أهنئكم جميعا ً بمناسبة العام الهجري الجديد‬
‫ن‬
‫ة وأم ٍ‬
‫ر وبرك ٍ‬
‫وأسأل الله عز وجل أن يجعله عام خي ٍ‬
‫ن وسلم ٍ لنا وللمسلمين جميعا ً ‪..‬‬
‫وأما ٍ‬

‫موضوع المحاضرة كما سمعتم "الحضارة في القرآن‬


‫الكريم بناءً وانهيارًا" ‪ ،‬وهو موضوع تحدث فيه الكثيرون‬
‫‪ ،‬وكتب فيه الكثيرون ‪ ،‬في الماضي كما في الحاضر ‪،‬‬
‫وهو من حيث ذاته جديٌر أن ُيكتب فيه وأن ُيتحدث عنه‬
‫وأن ُتبين معالمه وأن ُتسطر عناصره ومفرداته ‪ ،‬وأن‬
‫ب إلى النفوس ‪،‬‬ ‫ُتجّلى حقائقه ‪ ،‬لنه يتعلق بشي ٍ‬
‫ء حبي ٍ‬
‫ق على أهميته ‪ ،‬ولذلك كان‬‫متف ٍ‬‫ي في العقول ‪ُ ،‬‬‫مرض ٍ‬
‫اختيارنا لهذا الموضوع‪.‬‬

‫وكنت أظن أنه من المواضيع السهلة ولعل اختياري له‬


‫كان لهذا السبب لكني لما أتيت لعلي أنتفع بشي مما‬
‫ة مفيدة وجدت نفسي في‬ ‫كتب فأقدمه إليكم مادة نافع ً‬
‫متاهة ‪ ،‬فل الذي وجدته يرضيني ‪ ،‬ول كل الذي قرأته‬
‫أيضا ً تمكنت أن أستوعبه في ظل العنوان الذي تم‬
‫إختياره ‪ ،‬فمثل ً أتيت إلى تعريف الحضارة فإذا بي أجد‬
‫ف أقدم ‪ ،‬وما‬
‫ما يزيد على المئة تعريف ‪ ،‬فأي تعري ٍ‬
‫الحضارة؟ وما مقومات الحضارة؟وما هي المعاني‬
‫الصحيحة للحضارة التي ينبغي أن نتداولها في مثل هذا‬
‫اللقاء الطيب النافع؟ ثم كيف تناول القرآن الكريم‬
‫موضوع الحضارة؟ فضل ً عن مقومات بناء الحضارة أو‬
‫ة ما؟‪.‬‬‫عوامل إنهيار حضار ٍ‬

‫وحاولت ولجأت إلى شبكة المعلومات في النترنت‬


‫لكني كنت كلما ازددت بحثا ً في الحقيقة ازددت حير ً‬
‫ة‬
‫كتب ل‬‫لني كما قلت لم أجد ‪ ،‬وهذا ل يعني أن ما ُ‬
‫س ّ‬
‫طر ليس بالمادة النافعة الثرية‬ ‫ون و ُ‬
‫يغني ‪ ،‬أو أن ما دُ ّ‬
‫الغنية ‪ ،‬وإنما اطلعي أنا في الحقيقة ما كان كما‬
‫ي أن أعترف‪.‬‬
‫ينبغي ‪ ،‬وعل ّ‬

‫ي اليوم بعد صلة العصر‬ ‫إلى أن فتح الله عز وجل عل ّ‬


‫بضعة آيات وجدت أنها ألصق بالموضوع وأقرب إلى‬
‫دللته ومفاهيمه لني ل أريد أن أتناول موضوع‬
‫الحضارة كما تناوله العلماء المسلمون أو العلماء غير‬
‫المسلمين الذين اشتغلوا بهذا النوع من البحاث‬
‫بمختلف الثقافات والخلفيات التي ينتسبون إليها ‪ ،‬لن‬
‫ع طويل وُألفت فيه‬ ‫هذا الموضوع مع أهميته موضو ٌ‬
‫ى واضحا ً سهل ً‬‫مئات المجلدات لكننا نريد أن نقّرب معن ً‬
‫بسيطا ً مستمدا ً من كتاب الله عز وجل‪.‬‬

‫وكلمة الحضارة لم ترد في القرآن الكريم ‪ ،‬ولذلك قد‬


‫يظن ظان أن القرآن لم يتناول موضوع الحضارة لن‬
‫كلمة الحضارة لم ترد فيه لكن هذا الظن خاطئ ومن‬
‫كتب وتناول وتحدث عن موضوع الحضارة تعرض لجملة‬
‫من اليات القرآنية التي لها صلة بموضوع الحضارة ‪،‬‬
‫عموما ً قبل أن أذكر لكم اليات التي أرى أنها أقرب‬
‫إلى موضوع الحضارة أريد أن أعرفكم بعناصر حديثي‬
‫إليكم الليلة ‪ ،‬فبعد هذه المقدمة أريد أن تشاركوني‬
‫الحيرة قليل ً في معنى الحضارة ‪ ،‬ثم سنعرج على‬
‫تناول القرآن الكريم لموضوع الحضارة ‪ ،‬ثم سننظر‬
‫قدر المستطاع في عوامل قيام الحضارات وعوامل‬
‫ة فقط على‬ ‫انهيارها ‪ ،‬وبعد ذلك سوف نطل إطلل ً‬
‫الحضارة السائدة المهيمة في عالم اليوم وأبرز‬
‫معالمها لنختم بدور الفرد ‪ ،‬دور الواحد منا الحضاري ‪،‬‬
‫وهو عنوان في حد ذاته كبير قد يحتاج إلى لقاءات‬
‫وجلسات ‪ ،‬وعسى أن يسمح لنا الوقت بمشيئة الله‬
‫تعالى بأن نستعرض كل هذه العناصر‪.‬‬

‫أعود فأقول سائل ً الن‪ :‬ما الحضارة؟ هل الحضارة هي‬


‫الثقافة؟ أو الحضارة هي الفكر؟ أو الحضارة تعني‬
‫الدين؟ أو أن الحضارة هي العقل؟ أو الحضارة هي‬
‫المدنية؟ أو الحضارة هي الوحي ؟ أو أن الحضارة هي‬
‫كلمة مقابلة للبداوة؟ ما الحضارة؟‬
‫كل هذه التعريفات هي بعض التعريفات التي عرفت‬
‫بها كلمة الحضارة عمومًا‪ ،‬وقد استخدمت في سياقات‬
‫فكرية كثيرة مترادفة أحيانا ومتقاربة أحيانا أخرى‬
‫ومكملة لبعضها في مناسبات أخرى ‪ ،‬فبعض الناس‬
‫يجعل الحضارة هي المستوى الثقافي وبعضهم يتكلم‬
‫عن الحضارة باعتبارها الدين فقط‪ ،‬ثم بعد ذلك ُيختلف‬
‫في مفهوم الدين‪.‬‬

‫وبعضهم يجعل الحضارة رديفة المدنية ‪ ،‬وكلها‬


‫مصطلحات حديثة ليس شيءٌ من هذه المصطلحات‬
‫باستثناء الدين والعقل والوحي هي مما ورد في كتاب‬
‫الله عز وجل ومما تم تناوله الدبيات السلمية الولى‪.‬‬

‫لكني أريد أن أدعي أنه ل أهمية لتعريف الحضارة ‪،‬‬


‫يعني لسنا بحاجة إلى أن نضع تعريفا ً جامعا ً مانعا ً كما‬
‫يقول المتكلمون للحضارة ‪ ،‬لن الحضارة معروفة ‪،‬‬
‫ولذلك صارت ليست المجتمعات فقط أوالمم‬
‫والشعوب توصف بأنها حضارية أو متحضرة أو ل ‪ ،‬وإنما‬
‫حتى بعض التصرفات كأن يتأخر محاضر مثل ً عن إلقاء‬
‫محاضرته فيوصف بأنه تصرف غير حضاري أو غير‬
‫متحضر ‪ ،‬وأحيانا ً حتى طريقة الكل ُيقال بأن هذه‬
‫الطريقة غير متحضرة في الكل ‪ ،‬وأحيانا ً في الكلم‬
‫يقول أسلوبه في الحديث متحضر ‪ ،‬ولذلك يبدو بأن‬
‫هذه الكلمة بعيدا ً عن مناقشة المفكرين والدباء‬
‫والكّتاب والمشتغلين بالحضارة يبدوا أنها سهلة ‪ ،‬وهي‬
‫سهلة في الحقيقة ‪ ،‬إذا أردنا أن نتقن معرفة شيء‬
‫فلننظر إليه على اعتباراته السهلة البسيطة البدائية ‪،‬‬
‫لن الحضارة تشمل كل ما قلناه كل ما تحدثنا عنه من‬
‫المدنية والثقافة والفكر ومكونات الدين والوحي وكذا‬
‫بالنسبة إلى العقل وكذا بالنسبة إلى ما يقابل البداوة ‪،‬‬
‫ل‬‫تجد أن كل هذه تتناول جانبا ً من جوانب الحضارة وك ٌ‬
‫نظر إلى الحضارة بهذا الجانب الذي يغّلبه ويظن أنه هو‬
‫المظهر الوضح في دللت الحضارة ‪ ،‬ومنهم من حاول‬
‫أن يجمع ‪ ،‬هذا فيما يتعلق بالحضارة عمومًا‪.‬‬
‫وبالتالي فل حاجة لي إلى أن أختار تعريفا ً من‬
‫التعاريف التي كما قلت تزيد على المئة ‪ -‬هذا مما‬
‫اطلعت عليه أنا فقط ‪ -‬أن أختار تعريفا ً لقدمه إليكم‬
‫لنه كما قلت يبدو أن الناس يتحدثون عن الحضارة في‬
‫كل اللغات ليس في اللغة العربية فقط ‪ ،‬مصطلح‬
‫الحضارة وما يرادفه في اللغات الخرى هو كذلك ‪،‬‬
‫ع له تجد أن العلماء‬‫ع مان ٍ‬
‫ف جام ٍ‬‫حينما ُيؤتى إلى تعري ٍ‬
‫‪،‬علماء الجتماع وعلماء التاريخ وعلماء الديان‬
‫والمفكرين والدباء‪ ،‬يحيرون القارئ حينما يريدون أن‬
‫ي محدد ‪ ،‬أما في واقع حياة‬ ‫يحملوهم على تعريف علم ٍ‬
‫الناس فيبدوا أنهم يعرفون الحضارة ومعالمها‬
‫وملمحها ‪ ،‬لكننا مع ذلك نحتاج إلى أن نضع بعض‬
‫المعالم للمعاني الصحيحة للحضارة بعد أن قدمت‬
‫ذكر من مما يتصل بالمدنية والثقافة‬ ‫وقلت أن كل ما ُ‬
‫والفكر والجتماع والتاريخ واللغة هذه جميعا ً هي من‬
‫مكونات الحضارة ‪ ،‬فكأن الحضارة هي الوعاء الشامل‬
‫لكل هذه المفاهيم والدللت‪.‬‬

‫لكن حينما نتأمل كتاب الله عز وجل نجد أن ما نعرفه‬


‫نحن اليوم بأنه حضارة وما نصف به مجتمعا ً من‬
‫المجتمعات بأنه مجتمع متحضر نجد أنه موجود في‬
‫كتاب الله عز وجل ‪ ،‬في سورة النحل يقول ربنا تبارك‬
‫ة‬‫مئ ِن ّ ً‬‫مط ْ َ‬ ‫ة ّ‬‫من َ ً‬ ‫تآ ِ‬ ‫ة كَإان َ ْ‬ ‫قْري َ ً‬ ‫مث َل ً َ‬‫ه َ‬ ‫ب الل ّ ُ‬ ‫ضَر َ‬‫و َ‬‫وتعالى ‪َ } :‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫عم ِ الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ت ب ِأن ْ ُ‬‫فَر ْ‬ ‫فك َ َ‬
‫ن َ‬ ‫كا ٍ‬‫م َ‬‫ل َ‬ ‫من ك ُ ّ‬ ‫غدا ً ّ‬
‫ها َر َ‬ ‫ق َ‬ ‫رْز ُ‬
‫ها ِ‬ ‫ي َأِتي َ‬
‫ن{‬ ‫عو َ‬ ‫كاُنوا ْ ي َ ْ‬
‫صن َ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ف بِ َ‬ ‫و ِ‬ ‫خ ْ‬‫وال ْ َ‬‫ع َ‬ ‫جو ِ‬ ‫س ال ْ ُ‬
‫ه ل َِبا َ‬‫ها الل ّ ُ‬ ‫ذا َ‬
‫ق َ‬ ‫فأ َ َ‬ ‫َ‬
‫النحل ‪ ، 112:‬يذكر الله سبحانه وتعالى لنا في كتابه‬
‫الكريم هذا المثل لهذه القرية ويصورها القرآن الكريم‬
‫على أحسن ما تكون عليه حالت الحضارات ‪ ،‬فهذه‬
‫القرية التي يقصها لنا القرآن الكريم مثل ً للعتبار‬
‫صورت في أرقى مراتب ما نعرفه نحن اليوم‬ ‫والعظة ُ‬
‫من معاني الحضارة ‪ ،‬وما هي معالمها؟ المن‪ :‬كانت‬
‫ن على النفس وعلى‬ ‫آمنة ‪ ،‬الطمأنينة ‪ ،‬فهو أم ٌ‬
‫العراض وعلى الموال وعلى الخلق ‪ ،‬وهي طمأنينة‬
‫داخلية واستقرار وسكون فردي وجماعي ‪ ،‬كانت آمنة‬
‫مطمئنة يأتيها رزقها رغدا ً من كل مكان ‪ ،‬رخاء‬
‫عبر‬ ‫إقتصادي ‪ ،‬رفاهية في العيش ‪ ،‬إزدهار معيشي ُ‬
‫عنه بالرغد في العيش ‪ ،‬وأن هذا الرغد يأتيها ‪ ،‬يأتيها‬
‫رزقها رغدا ً من كل مكان ‪ ،‬فهي غاية الرخاء‬
‫القتصادي والزدهار المالي والمعيشي الذي ترقى‬
‫إليه المجتمعات‪.‬‬

‫إذن المن وما فيه من معاني المان بكل أنواعه ‪،‬‬


‫المن الفردي والداخلي والجماعي والمجتمعي ‪،‬‬
‫والطمأنينة أيضا ً ‪ ،‬الطمأنينة النفسية والنشراح‬
‫الصدري وسكون هذه النفوس ‪ ،‬والرفاهية في‬
‫المعيشة ‪ ،‬هذه هي المعالم الظاهرة للحضارة‪.‬‬
‫دوا‬‫عب ُ ُ‬‫فل ْي َ ْ‬‫هذا المعنى يتكرر في قول الله عز وجل ‪َ )) :‬‬
‫َ‬
‫ف‬
‫و ٍ‬‫خ ْ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬
‫من َ ُ‬
‫وآ َ‬
‫ع َ‬
‫جو ٍ‬
‫ن ُ‬
‫م ْ‬
‫م ِ‬
‫ه ْ‬
‫م ُ‬ ‫ذي أطْ َ‬
‫ع َ‬ ‫ت ال ّ ِ‬
‫ذا ال ْب َي ْ ِ‬
‫ه َ‬
‫ب َ‬
‫َر ّ‬
‫(( مرة أخرى ‪) ،‬أطعمهم من جوع( إمتنان ‪ ،‬هذه الية‬
‫وردت في سياق امتنان من قبل المولى الكريم جل‬
‫وعل على عباده المخاطبين أهل مكة ‪ ،‬في سياق المر‬
‫لهم بالعبادة يمتن عليهم بما أنعم عليهم وأبرز‬
‫هذهالنعم التي يحكيها في هذا السياق أنه أطعمهم من‬
‫جوع ‪ ،‬وهذا يصلنا بماذا؟ بــ )يأتيها رزقها رغدا ً من كل‬
‫مكان( ‪ ،‬و)آمنهم من خوف( مرة أخرى فينتفي عنهم‬
‫الخوف ‪ ،‬كل أنواع الخوف ‪ ،‬ل خوف ل على النفس ول‬
‫ء مما يهم‬ ‫على العراض ول على الموال ول على شي ٍ‬
‫الفرد أن يكون فيه من أحوال وأوضاع ومقتنيات ‪.‬‬

‫فإذن المستوى المعيشي الذي يتحقق فيه المن‬


‫والمان والطمأنينة ورغد العيش هي المظاهر البرز‬
‫للحضارة ‪ ،‬لكن كيف يتحقق ذلك؟ ما هي عناصر ذلك؟‬
‫هذا باب آخر‪ .‬لكن متى يحكم على مجتمع أنه متحضر ؟‬
‫حينما تحققت فيه ‪ ،‬إذا وجد الرخاء القتصادي وانعدم‬
‫المن فل حضارة ‪ ،‬أو فل حضارة صحيحة فل حضارة‬
‫حقيقية ‪ ،‬إذا تحقق المن ووجدت الطمأنينة لكن لم‬
‫يكن هناك رخاءٌ اقتصادي ول رغد في العيش ‪ ،‬فإن هذا‬
‫يعني أن الحضارة ناقصة ‪ ،‬أن معالم أو مظاهر هذه‬
‫الحضارة ناقصة‪ ،‬لذلك في نفس سياق الية من سورة‬
‫النحل )فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع( ‪،‬‬
‫وهنا نتذكر )أطعمهم من جوع( ‪) ،‬فأذاقها الله لباس‬
‫الجوع والخوف( ‪ ،‬وهنا )وآمنهم من خوف( ‪..‬فلذلك‬
‫حينما ُيسلب مجتمع من المجتمعات مظاهر الحضارة ما‬
‫هي؟ما الذي يسلب منهم ؟ُتسلب منهم هذه المظاهر‬
‫بحيث تكون الحياة مليئة بالخوف ‪ ،‬فل أمن ول استقرار‬
‫ول طمأنينة ‪ ،‬تنتشر الحروب وينتشر الفساد ويعم‬
‫الطغيان والظلم ول رفاهية عيش فيظل الناس في‬
‫ضنك من العيش ولواء من الحياة ول يتمكنون من بلوغ‬
‫الحاجيات والتحسينيات التي ُيسعى إليها ‪ ،‬ولذلك بعض‬
‫الناس لما قال أن الحضارة هي مقابل البداوة ‪ ،‬لماذا؟‬
‫لن البداوة في حقيقتها الكتفاء بضرورات الحياة ‪،‬‬
‫وهذا تعريف ابن خلدون ‪ ،‬البدوي يكتفي بضرورات‬
‫الحياة لكن المتحضر ‪ -‬أي الذي ل يعيش في بادية ‪،‬‬
‫يعيش في مدينة أو قرية يعيش في حضر ‪ -‬فإنه ل‬
‫يكتفي بضرورات الحياة بل يتعدى ذلك إلى الحاجيات‬
‫والتحسينيات وهذا يصلنا بإحدى المحاضرات في هذا‬
‫الجامع حينما تحدثنا عن مقاصد الشريعة ‪ ،‬ذلك كما‬
‫قلت أن حياة البادية في الصل تكتفي بضرورات‬
‫الحياة أما حياة الحضري فهي تتوسع لكي تشمل‬
‫الحاجيات ثم التحسينيات وهنا يتعدى إبن خلدون ويذكر‬
‫الترف في المعيشة ‪ ،‬يسمي هذا التوسع الترف ترفا ً‬
‫في المعيشة ويسميه قصدا ً لنه بعد ذلك سوف يذكر‬
‫الثار لن بالتوسع يبلغ الترف ذروته ثم يشرع في‬
‫هَرم كما هي حياة النسان ‪ ،‬وهذه هي نظرية ابن‬ ‫ال َ‬
‫خلدون فيما يتصل بالحضارات ‪ ،‬وتناولها كثيٌر من‬
‫علماء المسلمين تأييدا ً ومعارضة وكثيٌر أيضا ً من غير‬
‫ة‪.‬‬ ‫المسلمين تأييدا ً ومعارض ً‬
‫لكن عموما ً نحن ل يهمنا ذلك ‪ ،‬الذي يهمنا أن مظاهر‬
‫الحضارة هي هذه التي أشارت إليها هذه اليات‬
‫د‬
‫ق ْ‬ ‫َ‬
‫القرآنية ‪ ،‬ويمكن أن يضاف إليها قصة أهل سبأ ))ل َ‬
‫ل‬ ‫ما ٍ‬ ‫ش َ‬‫و ِ‬ ‫ن َ‬ ‫مي ٍ‬ ‫عن ي َ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫جن َّتا ِ‬ ‫ة َ‬ ‫م آي َ ٌ‬ ‫سك َن ِ ِ‬
‫ه ْ‬ ‫م ْ‬ ‫في َ‬ ‫سب َإ ٍ ِ‬ ‫ن لِ َ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫فوٌر )‬ ‫ب َ‬
‫غ ُ‬ ‫وَر ّ‬ ‫ة َ‬ ‫ه ب َل ْدَةٌ طَي ّب َ ٌ‬ ‫شك ُُروا ل َ ُ‬ ‫وا ْ‬‫م َ‬ ‫ق َرب ّك ُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫من ّرْز‬ ‫ك ُُلوا ِ‬
‫وب َدّل َْنا ُ‬ ‫ضوا َ َ‬ ‫فأ َ ْ‬
‫هم‬ ‫رم ِ َ‬ ‫ع ِ‬‫ل ال ْ َ‬ ‫سي ْ َ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ِ‬ ‫عل َي ْ‬‫سل َْنا َ‬ ‫فأْر َ‬ ‫عَر ُ‬ ‫‪َ (15‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ر‬
‫سدْ ٍ‬ ‫من ِ‬ ‫ء ّ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫و َ‬ ‫ل َ‬ ‫وأث ْ ٍ‬ ‫ط َ‬ ‫م ٍ‬ ‫خ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫واَتى أك ُ ٍ‬ ‫ن ذَ َ‬ ‫جن ّت َي ْ ِ‬
‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫جن ّت َي ْ ِ‬ ‫بِ َ‬
‫ل )‪ ، (( (16‬هذه الرفاهية القتصادية ‪ ،‬الرفاهية في‬ ‫قِلي ٍ‬ ‫َ‬
‫المعيشة ‪ ،‬مذكورة في قصة أهل سبأ للدللة على‬
‫المستوى المعيشي المتحضر الذي وصلوا إليه ‪.‬‬

‫إذن مظاهر الحضارة والوج الذي يمكن أن تصل إليه‬


‫المجتمعات حتى توصف بأنها متحضرة هي هذه المعالم‬
‫‪ ،‬لكن دعونا نتأمل مرة أخرى في كتاب الله عز وجل‬
‫لننظر في كيف توسع القرآن الكريم في مثل هذه‬
‫المعاني؟ يعني أنا ذكرت أن آية سورة النحل خاصة‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫ه ْ‬
‫من َ ُ‬
‫وآ َ‬
‫ع َ‬
‫جو ٍ‬
‫ن ُ‬
‫م ْ‬
‫م ِ‬
‫ه ْ‬
‫م ُ‬ ‫ذي أطْ َ‬
‫ع َ‬ ‫وقوله تعالى ‪)) :‬ال ّ ِ‬
‫ف (( فيها من الدللت الكثيرة التي تفتح أبوابا ً‬ ‫و ٍ‬
‫خ ْ‬
‫َ‬
‫للدارسين والباحثين من طلبة العلم ومن المتخصصين‬
‫لدراسة موضوع الحضارة ومظاهر الحضارة في ظل‬
‫هاتين اليتين الكريمتين‪.‬‬

‫لكن القرآن الكريم لم يكتفي في عرضه الذي نعرفه‬


‫نحن اليوم بعيدا ً عن المصطلح واستخدام المصطلح ‪،‬‬
‫لكن من حيث المعنى والدللة لم يكتفي القرآن الكريم‬
‫بتناول موضوع الحضارة بمثل هذه السياقات‪ ،‬بل هناك‬
‫سياقات أخرى عديدة ‪ ،‬ولعلي أزعم وأدع هذا الموضوع‬
‫مجال ً للبحث والدراسة أيضا ً أن ما قصه لنا القرآن‬
‫الكريم من قصص المم السابقة الغابرة والقرون‬
‫والولى والقرى التي بين الله سبحانه ما وصلت إليه‬
‫ل ومن تقلب أحوال‬ ‫ثم ما آلت إليه وما أصابها من نكا ٍ‬
‫وتغير أوضاع كما أيضا ً ما قوبل به النبياء والمرسلون‬
‫بل والرسالت التي جاءوا بها إلى أقوامهم ‪ ،‬حينما‬
‫يتعرض القرآن الكريم لكل هذه السياقات فإنما يلفت‬
‫أنظارنا نحن المخاطبين بهذا القرآن العظيم إلى‬
‫السباب الحقيقية للحضارة ‪ ،‬حينما يتعرض لقصص‬
‫المم الغابرة والقرون الولى وقصص القرى وقصص‬
‫المم والشعوب وما أصابها ‪ ،‬وحينما يدعونا إلى أن‬
‫ننظر ونتأمل ونبحث ونسير لننظر في الثار الباقية‬
‫والمنطمسة للمم والقرى والشعوب التي كانت قبلنا ‪،‬‬
‫ويحكي لنا ما كان منهم في مواجهة النبياء‬
‫والمرسلين ‪ ،‬ثم ما أصابهم بعد ذلك جراء ما واجهوا به‬
‫أنبيائهم ورسلهم ‪ ،‬فإن ذلك جميعا ً في كتاب الله عز‬
‫وجل هو دعوة واضحة للنظر في السباب الحقيقية‬
‫التي يمكن أن تتحقق بها الحضارة الحقيقية للناس ‪،‬‬
‫ولذلك ل حاجة لي لن أستعرض لكم هذه السياقات‬
‫القرآنية لنها كثيرة ومعروفة في كتاب الله عز وجل‬
‫بدءا ً من أبسطها أو من أظهرها مما ل تزال آثاره باقية‬
‫إلى يومنا هذا أو مما انطمس وباد واختفى وقص لنا‬
‫القرآن الكريم قصصه لكي يبقى معتبرا ً ولكي يكون لنا‬
‫موعظة وذكرى فإن ذلك كله كما قلت إنما هو دعوة‬
‫للتأمل في السباب الحقيقية التي يكون فيها البناء‬
‫الحقيقي للحضارات وأيضا ً دعوة للعتبار من عوامل‬
‫انهيار الحضارات‪.‬‬

‫كيف يمكن أن تنهار هذه الحضارات‬


‫ت ال ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ماِد }‪{7‬‬ ‫ع َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫م َ‬ ‫عاٍد}‪ {6‬إ َِر َ‬ ‫ك بِ َ‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫ع َ‬ ‫ف َ‬ ‫ف َ‬ ‫م ت ََر ك َي ْ َ‬ ‫))أل َ ْ‬
‫في ال ْب َِلِد }‪ ، (({8‬هذا المقطع‬ ‫ها ِ‬ ‫مث ْل ُ َ‬ ‫ق ِ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫م يُ ْ‬ ‫ال ِّتي ل َ ْ‬
‫في ال ْب َِلِد(( ‪ ،‬تصوروا ما نوع هذه‬ ‫ها ِ‬ ‫مث ْل ُ َ‬ ‫ق ِ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫م يُ ْ‬ ‫))ال ِّتي ل َ ْ‬
‫واِد‬ ‫خَر ِبال ْ َ‬ ‫ص ْ‬
‫جاُبوا ال ّ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مودَ ال ّ ِ‬ ‫وث َ ُ‬ ‫البلد التي كانوا فيها )) َ‬
‫ن طَ َ‬ ‫وَتاِد )‪ (( (10‬ثم قال ))ال ّ ِ‬ ‫َ‬
‫وا‬ ‫غ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ِذي اْل ْ‬ ‫و َ‬ ‫ع ْ‬ ‫فْر َ‬ ‫و ِ‬ ‫)‪َ (9‬‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫سادَ )‪َ (12‬‬ ‫ْ‬
‫ها ال َ‬ ‫فأك ْث َُروا ِ‬ ‫َ‬ ‫في الب ِلِد )‪َ (11‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ه ْ‬ ‫علي ْ ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ص ّ‬ ‫ف َ‬ ‫ف َ‬ ‫في َ‬ ‫ِ‬
‫صاِد )‪، (( (14‬‬ ‫مْر َ‬ ‫ْ‬
‫ن َرب ّك لِبال ِ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب )‪ (13‬إ ِ ّ‬ ‫ذا ٍ‬ ‫ع َ‬ ‫وط َ‬ ‫َ‬ ‫س ْ‬ ‫َرب ّك َ‬ ‫َ‬
‫وكذا مرة أخرى في قصة فرعون وقومه مع موسى‬
‫من‬ ‫كوا ِ‬ ‫م ت ََر ُ‬ ‫وأنبياء بني إسرائيل دعوة للعتبار )) ك َ ْ‬
‫كوا‬ ‫م ت ََر ُ‬ ‫ن (( أنظروا إلى هذا التعبير )) ك َ ْ‬ ‫عُيو ٍ‬ ‫و ُ‬ ‫ت َ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫م ٍ‬‫ع َ‬ ‫ون َ ْ‬‫ريم ٍ )‪َ (26‬‬ ‫قام ٍ ك َ ِ‬ ‫م َ‬
‫َ‬
‫و َ‬ ‫ع َ‬ ‫وُزُرو ٍ‬ ‫ن )‪َ (25‬‬ ‫عُيو ٍ‬ ‫و ُ‬ ‫ت َ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫من َ‬ ‫ِ‬
‫ن)‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫وما آ َ‬ ‫ً‬ ‫ق ْ‬‫ها َ‬ ‫وَرث َْنا َ‬ ‫وأ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ن )‪ (27‬ك َذَل ِ َ‬ ‫هي َ‬ ‫ها َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫فاك ِ ِ‬ ‫في َ‬ ‫كاُنوا ِ‬
‫ن‬ ‫ري َ‬ ‫منظَ ِ‬ ‫كاُنوا ُ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬ ‫ض َ‬ ‫واْلْر ُ‬ ‫ماء َ‬ ‫س َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ه ُ‬ ‫علي ْ ِ‬
‫ت َ َ‬ ‫ما ب َك َ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫‪َ (28‬‬
‫)‪.(( (29‬‬

‫هذا أطلل لحضارات بائدة ‪ :‬الجنات والعيون والزروع‬


‫والمقام الكريم ‪ ،‬ول تزال آثار أو أطلل هذه الحضارات‬
‫البائدة ل تزال باقية إلى يومنا لكي تكون معتبرا ً‬
‫للمسلم حتى يدكر ويتدبر ويعلم أن هذه المظاهر‬
‫المشروعة المباحة ل بد أن يصاحبها مطالب ‪ ،‬ل بد أن‬
‫تكون هنالك شرائط لكي ل تكون هذه المظاهر مظاهر‬
‫جوفاء فارغة وتبقى معتبرا للناس بعدك لن الله‬
‫سبحانه وتعالى يورث الرض لمن شاء من عباده ولذلك‬
‫نجد وهذه فيها من العبر والعظات في كتاب الله عز‬
‫وجل وما ينبغى أن نقف عنده في سورة الحج يقول‬
‫ي‬
‫ه َ‬‫و ِ‬
‫ها َ‬ ‫ة أَ ْ‬
‫هل َك َْنا َ‬ ‫قْري َ ٍ‬‫من َ‬ ‫الله سبحانه وتعالى )) َ َ‬
‫فك َأّين ّ‬
‫ها (( إذن واضح فهي‬ ‫ش َ‬ ‫عُرو ِ‬ ‫عَلى ُ‬ ‫ة َ‬‫وي َ ٌ‬‫خا ِ‬‫ي َ‬ ‫ه َ‬ ‫ة َ‬
‫ف ِ‬ ‫م ٌ‬ ‫َ‬
‫ظاِلـ َ‬
‫خاوية على عروشها بعدما أهكلها الله سبحانه وتعالى ‪،‬‬
‫خاوية على عروشها فأسقفها واقعة وأصابخها الخراب‬
‫ولكن في مقابل هذه السورة يذكر لنا ربنا تبارك تعالى‬
‫مباشرة معلما آخر لكي نتأمل وننظر فهي خاوية على‬
‫د(( البئر موجودة‬ ‫شي ٍ‬‫م ِ‬ ‫ر ّ‬ ‫ص ٍ‬
‫ق ْ‬ ‫و َ‬ ‫عطّل َ ٍ‬
‫ة َ‬ ‫م َ‬ ‫ر ّ‬ ‫وب ِئ ْ ٍ‬‫عروشها )) َ‬
‫والقصر مشيد لكن الله عز وجل يقص لنا هذا المثل‬
‫للعتبار والتعاظ في مقام إهلك أهل هذه القرية‬
‫الذين كانوا ينتفعون من تلك البئر ويسكنون في تلك‬
‫القصور المشيدة ‪ ،‬أين هم الن؟ ذهبوا ولم تبق إل‬
‫آثارهم‪ .‬فإذن هذه ليست حضارة بعدما باد أهلها مع‬
‫بقاء مظاهرها ‪ ،‬مع بقاء البئر لكنها معطلة فل أحد‬
‫ينتفع منها ‪ ،‬ومع بقاء القصر وهو مشيد قائم لكنه ل‬
‫أحد فيه ول حياة حوله ‪ ،‬ل حياة فيه ول حياة حوله ‪،‬‬
‫وهذا يذكرنا أيضا ً في سورة هود ‪ ،‬فالله سبحانه‬
‫ك‬‫عل َي ْ َ‬
‫ه َ‬
‫ص ُ‬ ‫قَرى ن َ ُ‬
‫ق ّ‬ ‫ن أ َن َْبا ِ‬
‫ء ال ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫وتعالى يقول ‪ )) :‬ذَل ِ َ‬
‫ك ِ‬
‫د(( محصود‪.‬‬ ‫صي ٌ‬‫ح ِ‬
‫و َ‬‫م(( ل يزال قائما ً تراه )) َ‬ ‫ها َ‬
‫قائ ِ ٌ‬ ‫من ْ َ‬
‫ِ‬

‫هذه قطع لمسافات طويلة وتوفير لجهود فكرية بشرية‬


‫هائلة في ظني ما كان لهذه المة أن تتمكن منها لول‬
‫أن الله عز وجل قرب لها المسافات وأكرمها بهذا‬
‫الدين لن الوصول إلى هذه المرحلة الفكرية من‬
‫معرفة أسباب بقاء الحضارات وعوامل اندثارها وكيف‬
‫ُيتوصل إلى ذلك تقرب في كتاب الله في القرآن‬
‫العظيم لكي تكون حاضرة لدى المسلمين المخاطبين‬
‫بهذا القرآن بحيث ل حاجة لهم كبيرة إلى أن يعودوا‬
‫ر مما ألف وسطر وإلى دراسة ما يحتاج إلى‬ ‫إلى كثي ٍ‬
‫دراسة من هذه الثار القائمة أو الحصيدة الباقية أو‬
‫المعطلة أو المشيدة ‪ ،‬هذه تقّرب في كتاب الله عز‬
‫وجل لهؤلء المخاطبين تكريما ً لهذا الكتاب العزيز حتى‬
‫يكونوا على دراية وعلى علم ومعرفة بأن في هذا‬
‫الكون سننا ً ل تتغير ‪ ،‬وأن لهذه السنن شواهد جعلها‬
‫الله سبحانه وتعالى لهم حتى ل يقعوا فيما وقع فيه‬
‫غيرهم فتزول حضارتهم وتجري سنة الله عز وجل في‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫ول ُ َ‬
‫ها ب َي ْ َ‬ ‫دا ِ‬ ‫ك اْلّيا ُ‬
‫م نُ َ‬ ‫وت ِل ْ َ‬
‫هذه البسيطة بالمداولة )) َ‬
‫س ((‪.‬‬‫الّنا ِ‬

‫فإذن تناول القرآن الكريم لموضوع الحضارة تناول كل‬


‫هذه الصور والنماط ‪ ،‬كل هذه السياقات التي ذكرتها‬
‫ن‬‫كو َ‬ ‫لكم ومثلها كثير في كتاب الله عز وجل ‪)) ،‬أ َت ُت َْر ُ‬
‫ن (( ‪ ،‬كلمة )آمنين( تذكرنا بما ذكرته‬ ‫هَنا آ َ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ها ُ‬
‫ما َ‬‫في َ‬
‫ِ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫في بداية هذه المحاضرة ))أت ُت َْر ُ‬
‫مِني َ‬‫هَنا آ ِ‬
‫ها ُ‬ ‫ما َ‬‫في َ‬
‫ن ِ‬
‫كو َ‬
‫ن )‪ (( (147‬الرخاء القتصادي‬ ‫عُيو ٍ‬
‫و ُ‬‫ت َ‬
‫جّنا ٍ‬ ‫في َ‬ ‫)‪ِ (146‬‬
‫م )‪(148‬‬‫ضي ٌ‬ ‫ه ِ‬‫ها َ‬ ‫ع َ‬ ‫ل طَل ْ ُ‬ ‫خ ٍ‬‫ون َ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫وُزُرو ٍ‬ ‫الذي تحدثنا عنه ‪َ )) ،‬‬
‫ن )‪ (( (149‬لذلك كلمة‬ ‫هي َ‬‫ر ِ‬ ‫فا ِ‬‫ل ب ُُيوًتا َ‬ ‫ن ال ْ ِ‬
‫جَبا ِ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫حُتو َ‬‫وت َن ْ ِ‬ ‫َ‬
‫"رفاهية العيش" التي استعملتها في مطلع الحديث‬
‫ليست بدعا ً من الستخدام القرآني لمثل هذه‬
‫قوا الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫فات ّ ُ‬ ‫المصطلحات ‪ ،‬لكن بعد ذلك ماذا؟ )) َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(151‬‬ ‫في َ‬‫ر ِ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مَر ال ْ ُ‬ ‫عوا أ ْ‬ ‫وَل ت ُ ِ‬
‫طي ُ‬ ‫ن )‪َ (150‬‬ ‫عو ِ‬ ‫طي ُ‬ ‫وأ ِ‬ ‫َ‬
‫ن )‪ (( (152‬في‬ ‫حو َ‬ ‫صل ِ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ول ي ُ ْ‬ ‫ض َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬‫س ُ‬‫ن ي ُف ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ِ‬
‫سورة الشعراء بعد ذكر سلسلة مما أصاب أقوام رسل‬
‫الله الكرام عليهم السلم‪.‬‬

‫وحتى من ُبعث فيهم رسولنا محمد صلى الله عليه‬


‫وسلم مشركو العرب خاطبهم القرآن الكريم بمثل هذا‬
‫الخطاب ‪ ،‬وبالتالي الخطاب لهم خطاب لهذه المة ‪،‬‬
‫َ‬
‫وا ك َ ْ‬
‫م‬ ‫م ي ََر ْ‬ ‫فالله سبحانه وتعالى يخاطبهم بقوله ‪ )) :‬أل َ ْ‬
‫م‬ ‫ما ل َ ْ‬ ‫ض َ‬ ‫ِ‬ ‫في اْل َْر‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫مك ّّنا ُ‬ ‫ن َ‬ ‫قْر ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ِ‬ ‫قب ْل ِ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫هل َك َْنا ِ‬ ‫أَ ْ‬
‫َ‬ ‫ن ُمك ّن ل َك ُم َ‬
‫هاَر‬‫عل َْنا اْلن ْ َ‬ ‫ج َ‬ ‫و َ‬ ‫مدَْراًرا َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ِ‬ ‫عل َي ْ‬
‫ماءَ َ‬ ‫س َ‬ ‫سل َْنا ال ّ‬ ‫وأْر َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫وأن ْ َ‬ ‫هلك َْنا ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫شأَنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ب ِذُُنوب ِ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫فأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ح َت ِ ِ‬‫ن تَ ْ‬‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬‫تَ ْ‬
‫ن )‪ ، (( (6‬إذن سموا ما شئتم من‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫قْرًنا آ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫د ِ‬‫ع ِ‬ ‫بَ ْ‬
‫حضارات قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬بعض‬
‫الكّتاب يتحفظون أن نطلق على ما كان من أحوال‬
‫المم والشعوب قبل الرسالة الخاتمة أن نطلق عليها‬
‫اسم "حضارة" ‪ ،‬ول أعرف لماذا ذلك؟!! ل حرج في أن‬
‫يقال "الحضارة الغريقية" و"الحضارة الرومانية"‬
‫و"الحضارة الغربية" و"الحضارة الشرقية" ‪ ،‬ل حرج في‬
‫ذلك لن الحضارة كما قلت ُتتناول من جوانب شتى‬
‫والعبرة بالمضمون والدللة ل بالمصطلح والمبنى ‪،‬‬
‫لكن هل هي حضارة حقيقية؟ هل هي حضارة صحيحة‬
‫قائمة؟ ل ُيشترط ذلك ‪ ،‬نحن حينما نطلق تسمية‬
‫حضارة ل يعني هذا الموافقة على كونها مكتملة‬
‫الركان بمعاييرنا نحن أو ل لكن هي في كثير من‬
‫أحوالها مشتملة على كثير من جوانب الحضارة التي‬
‫نتحدث عنها ‪ ،‬ولذلك قص لنا القرآن الكريم قصص‬
‫هؤلء المم والشعوب ‪ ،‬ما فائدة أن يقص الله تعالى‬
‫للمسلمين وهم ل يزالون في مكة المكرمة ‪ ،‬في سورة‬
‫م)‬ ‫ت الّرو ُ‬ ‫غل ِب َ ِ‬ ‫الروم سورة مكية يقص لهم )) الم )‪ُ (1‬‬
‫ن )‪(3‬‬ ‫غل ُِبو َ‬ ‫سي َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫د َ َ‬
‫غلب ِ ِ‬ ‫ع ِ‬ ‫ن بَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ِ‬ ‫في أ َدَْنى اْل َْر‬ ‫‪ِ (2‬‬
‫َ‬
‫ذ‬
‫مئ ِ ٍ‬‫و َ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫عدُ َ‬ ‫ن بَ ْ‬ ‫م ْ‬‫و ِ‬ ‫ل َ‬ ‫قب ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫مُر ِ‬ ‫ه اْل ْ‬ ‫ن ل ِل ّ ِ‬ ‫سِني َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ض ِ‬ ‫في ب ِ ْ‬ ‫ِ‬
‫ه(( ‪ ،‬نصر الله لمن؟ للروم‬ ‫ر الل ّ ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫ن )‪ (4‬ب ِن َ ْ‬ ‫مُنو َ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ح ال ْ ُ‬ ‫فَر ُ‬‫يَ ْ‬
‫الذين قص الله تعالى للمؤمنين هؤلء القلة في مكة‬
‫المكرمة أنهم غلبوا وأن المؤمنين انزعجوا من هزيمة‬
‫أهل الكتاب على أيدي المجوس الفرس الذين ما كانوا‬
‫ن سماوي‪.‬‬ ‫يؤمنون بدي ٍ‬
‫وحتى في سياقات كثيرة الله سبحانه وتعالى حينما‬
‫يخاطب المشركين يعلم رسوله محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم أن يخاطب المشركين بما يستخدمون من‬
‫ن(( ‪ ،‬يقر أنهم يعبدون‬ ‫دو َ‬ ‫عب ُ ُ‬‫ما ت َ ْ‬ ‫مصطلحات ))َل أ َ ْ‬
‫عب ُدُ َ‬
‫ن (( فيسمي ما هم فيه من عبادة الصنام‬ ‫دو َ‬ ‫عب ُ ُ‬‫ما ت َ ْ‬‫)) َ‬
‫ن (( ‪ ،‬إذن‬
‫ي ِدي ِ‬
‫ول ِ َ‬
‫م َ‬‫م ِدين ُك ُ ْ‬ ‫يسميه عبادة‪ ،‬ويقول ))ل َك ُ ْ‬
‫الن ليست العبرة في أن نحجر نحن أن نستخدم‬
‫مصطلحا ً للتعبير عن معنى معين ‪.‬‬

‫فإذن كما قلت أريد أن أقول لندرس أو لنتفحص في‬


‫أحوال ما شئنا من أحوال المم الغابرة من الحضارات‬
‫التي ل يزال الناس يدرسونها ول تزال آثارها باقية‬
‫سواء كانت آثارا ً علمية أو فكرية أو معمارية أو فنية أو‬
‫غير ذلك ‪ ،‬سوف تجدون أن هناك مظاهر كانت موجودة‬
‫وجد فيها أولئك القوام لكن خلل ً‬‫لتلك الحياة التي ُ‬
‫أصاب تلك الحياة فأدى إلى زوالها‪.‬‬

‫لذلك بعدما تأملنا في مفهوم الحضارة في القرآن‬


‫الكريم وكيف تناول القرآن الكريم للحضارة قياما ً‬
‫وانهيارا ً ينبغي لنا أن ننظر في مفردات الحضارة ‪،‬‬
‫كيف تقوم الحضارة؟ ما هي الحضارة؟ شيء معنوي‬
‫يوصف به كما قلت مستوى معيشي معين لناس ‪ ،‬ما‬
‫هي مفرداتها التي ُينظر بها إلى كون الحضارة هذه‬
‫حضارة صحيحة أو ل ‪ ،‬حضارة صالحة أو ل ‪ ،‬طبعا ً قوام‬
‫الحياة هو الفرد ‪ ،‬النسان ‪ ،‬أنا أتحدث الن عن مفردات‬
‫الحضارات في القرآن الكريم‪ ،‬قد ل تكون كلها موجودة‬
‫‪ ،‬هذه التي سوف أذكرها في المفردات التي يتحدث‬
‫عنها غيري أو ل تكون موجودة فيما يكتبه غير‬
‫المسلمين من مفردات الحضارة لكنها هي كذلك في‬
‫كتاب الله عز وجل حسبما يظهر لي‪ :‬النسان ‪ ،‬ثم دين‬
‫هذا النسان أو الوحي ‪ ،‬ثم النظام الذي يعيش به هذا‬
‫النسان ‪ -‬سآتي إلى تفسير هذه الكلمة ‪ ، -‬ثم الخلق‬
‫التي يحيا بها ‪ ،‬الفكر والعلم ‪ ،‬الصلة مع الخرين ومع‬
‫مفردات الوجود ‪.‬‬
‫النسان‬
‫لماذا بدأت بالنسان؟ لن القرآن الكريم علمنا أن‬
‫جعل خليفة في هذه الرض ‪ ،‬وبالتالي فبناء‬ ‫النسان ُ‬
‫الحضارة في القرآن الكريم ينطلق من أساس أن‬
‫النسان خليفة في الرض ‪ ،‬طالما أنه خليفة فهذا‬
‫يعني بأنه ليس أصيل ً فيها يتصرف فيها كما يشاء ‪ ،‬إذن‬
‫هذا مبدأ واضح ومع سهولته ووضوحه لكنه يمثل فارقا ً‬
‫كبيرا ً بين الحضارة في القرآن الكريم وبين الحضارة‬
‫في النظمة والمفاهيم الخرى ‪ ،‬ول بد أن نعي هذا‬
‫ة أن النسان في القرآن الكريم في هذا‬ ‫المبدأ بداي ً‬
‫الدين الحنيف هو خليفة في الرض ‪ ،‬جعله الله تعالى‬
‫خليفة في هذه الرض يتصرف وفق إرادة من استخلفه‬
‫ف لهذا النسان‬ ‫م وتكلي ٌ‬ ‫جل وعل ‪ ،‬وهذا الستخلف تكري ٌ‬
‫َ‬ ‫ول َ َ‬
‫م (( ‪،‬‬ ‫مَنا ب َِني آدَ َ‬ ‫قدْ ك َّر ْ‬ ‫لذلك نجد في القرآن الكريم )) َ‬
‫َ‬
‫ويم ٍ (( ‪ ،‬تكريم ‪..‬‬ ‫ق ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ح َ‬ ‫في أ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫سا َ‬ ‫قَنا اْل ِن ْ َ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫قدْ َ‬ ‫))ل َ َ‬
‫حَنا (( أي منزلة‬ ‫ن ُرو ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫في ِ‬ ‫خَنا ِ‬ ‫ف ْ‬ ‫فن َ َ‬ ‫أحسن تقويم ‪َ )) ..‬‬
‫وئ إياها صانع الحضارات النسان!‬ ‫عظيمة هذه التي ب ّ‬
‫إذن منزلة ل يمكن أن نتصور وجودها في غير هذا‬
‫الدين العظيم المنزل من عند الله تبارك وتعالى الذي‬
‫خاطبنا به في كتابه الكريم ‪ ،‬لكننا نغفل أحيانا ً ل نتصور‬
‫ة (( ‪ ،‬ويقول‬ ‫ف ً‬ ‫خِلي َ‬ ‫ض َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ع ٌ‬
‫في الْر ِ‬ ‫ل ِ‬ ‫جا ِ‬ ‫هذه المعاني ))إ ِّني َ‬
‫عوا ل َ ُ‬
‫ه‬ ‫ق ُ‬ ‫ف َ‬ ‫حي َ‬ ‫ن ُرو ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫في ِ‬ ‫ت ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫ون َ َ‬
‫ه َ‬ ‫وي ْت ُ ُ‬‫س ّ‬ ‫ذا َ‬ ‫فإ ِ َ‬ ‫‪َ )) :‬‬
‫عَلى‬ ‫َ‬
‫ة َ‬ ‫مان َ َ‬ ‫ضَنا اْل َ‬ ‫عَر ْ‬ ‫ن (( ‪ ،‬ويقول ‪)) :‬إ ِّنا َ‬ ‫دي َ‬ ‫ج ِ‬ ‫سا ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ف ْ‬‫ش َ‬ ‫وأ ْ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ق َ‬ ‫ها َ‬ ‫ملن َ َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫فأب َي ْ َ‬ ‫جَبا ِ‬ ‫وال ِ‬ ‫ض َ‬ ‫والْر ِ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫هوًل (( ‪ ،‬لذلك‬ ‫ج ُ‬‫ما َ‬ ‫ن ظَُلو ً‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن إ ِن ّ ُ‬ ‫سا ُ‬ ‫ها اْل ِن ْ َ‬ ‫مل َ َ‬ ‫ح َ‬ ‫و َ‬ ‫ها َ‬ ‫من ْ َ‬‫ِ‬
‫هذا النسان حينما يحمل هذه المانة وحينما يؤدي حق‬
‫التكريم وحينما يكون من الصنف الذي ل يرد إلى‬
‫أسفل سافلين بإيمانه وعمله الصالح ينال رضوان الله‬
‫ن رأت‬ ‫سبحانه وتعالى وُيكرم بالثواب الذي فيه ما ل عي ٌ‬
‫ن سمعت ول خطر على قلب بشر‪.‬‬ ‫ول أذ ٌ‬

‫ولهذا هذا النسان يستطيع أن يصنع الحضارة ‪ ،‬لكن‬


‫في ظل مثل هذه التعاليم التي كرمته وكلفته وبينت‬
‫خلق في أحسن تقويم وأن فيه نفخة من روح الله‬ ‫أنه ُ‬
‫ُ‬
‫عز وجل وأن الملئكة أسجدت له تكليفا ً للملئكة‬
‫َ‬
‫وتشريفا ً لبني آدم ‪ ،‬وأن الله عز وجل يقول ‪َ)) :‬يا أي ّ َ‬
‫ها‬
‫قَناك ُم من ذَك َر ُ‬
‫عوًبا‬ ‫ش ُ‬ ‫م ُ‬ ‫عل َْناك ُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫و َ‬ ‫وأن َْثى َ‬ ‫ٍ َ‬ ‫ْ ِ ْ‬ ‫خل َ ْ‬‫س إ ِّنا َ‬ ‫الّنا ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م (( ‪ ،‬أنا‬ ‫قاك ُ ْ‬ ‫ه أت ْ َ‬ ‫عن ْدَ الل ّ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫مك ُ ْ‬‫ن أك َْر َ‬ ‫فوا إ ِ ّ‬‫عاَر ُ‬ ‫قَبائ ِ َ‬
‫ل ل ِت َ َ‬ ‫و َ‬
‫َ‬
‫أتحدث الن عن العنصر الول من عناصر صنع‬
‫الحضارات ‪ ،‬وترون المقدار الهائل من عوامل بناء‬
‫الحضارات بناءً صحيحا ً قويما ً ‪ ،‬ول زلت أتحدث عن‬
‫النسان فقط ‪ ،‬لم أتحدث بعد عن الدين ‪ ،‬ولكم أن‬
‫تقارنوا بين هذه النظرة إلى هذا النسان وهذه المنزلة‬
‫التي تبوأها النسان في هذا الدين ‪ ،‬النسان أيا ً كان‬
‫ذكرا ً كان أو أنثى بنص الية الكريمة لن هناك من‬
‫الفكار والطروحات ما بوأ النسان هذه المنزلة لكنه‬
‫بوأ النسان الذكر ولم يبوأ النثى مثل هذه المنزلة ‪،‬‬
‫وهناك أيضا ً من المفاهيم والطروحات والنظريات ما‬
‫س آخر ‪ ،‬ول داعي‬ ‫س ما دون جن ٍ‬ ‫بوأ النسان من جن ٍ‬
‫للدخول في تفاصيل لنها معروفة ويمكن أن ُيحصل‬
‫ة أيضا ً ‪ ،‬لكن النسان في القرآن الكريم‬ ‫عليها بسهول ٍ‬
‫حينما نأتي إلى موضوع التكريم والحترام والتقدير‬
‫حمل إياها والمساواة في أصل‬ ‫والمنزلة والمانة التي ُ‬
‫الخلقة نجد الخطاب للنسان ‪ ،‬لبني آدم ‪ ،‬كما هي في‬
‫اليات التي ذكرتها ول حاجة إلى إعادتها‪.‬‬
‫وأيضا ً ليس النسان الفرد ‪ ،‬لم ُيخاطب باعتباره فردا ً ‪،‬‬
‫ر )‪(2‬‬ ‫س ٍ‬ ‫خ ْ‬ ‫في ُ‬ ‫ن لَ ِ‬ ‫سا َ‬ ‫ن اْل ِن ْ َ‬ ‫وإنما أيضا ً باعتبار الجماعة ))إ ِ ّ‬
‫مُلوا‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫مُنوا (( الجماعة )) إ ِّل ال ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫إ ِّل ال ّ ِ‬
‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬
‫ر )‪.(( (3‬‬ ‫صب ْ ِ‬ ‫وا ِبال ّ‬ ‫ص ْ‬‫وا َ‬ ‫وت َ َ‬‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫وا ِبال ْ َ‬‫ص ْ‬ ‫وا َ‬ ‫وت َ َ‬‫ت َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬‫ال ّ‬
‫إذن هذا ما يتصل بالعنصر الول‪.‬‬
‫العنصر الثاني هو الدين ‪ ،‬يعني هذا النسان هل ُترك‬
‫سدى في هذه الحياة؟ كيف له أن يسير؟ كيف له أن‬
‫يحيا؟ كيف له أن يتعامل مع غيره؟ ما هي الغاية من‬
‫وجوده؟ الجابة على كل هذه السئلة تعني الدين ‪،‬‬
‫ولذلك الله سبحانه وتعالى أكرم هذا النسان بهذا‬
‫ن فسيح ل يمكن لنا أن‬ ‫الدين ‪ ،‬بهذا الوحي ‪ ،‬وهذا ميدا ٌ‬
‫نحصره في مثل هذه المحاضرة ‪ ،‬ما يتصل بالدين‬
‫باعتباره مكونا ً أصيل ً ضروريا ً ل بد منه للحضارة‬
‫الصحيحة أمٌر ل جدال فيه وواضح المعالم في كتاب‬
‫الله عز وجل ‪ ،‬والشواهد فيه ل يكاد ُتحصى ‪ ،‬كما قلت‬
‫حينما تقرأون في قصص القرون الغابرة وأنباء القرى‬
‫التي قصها لنا ربنا تبارك وتعالى ‪ ،‬دعوة النبياء‬
‫والمرسلين ‪ ،‬أقوامهم ‪ ،‬وما لقاهم به أقوامهم ‪ ،‬ما‬
‫ت وطغيان أو من استجابة لما يدعوهم‬ ‫لقوه من عن ٍ‬
‫إليه ‪ ،‬وحينما نتأمل أيضا ً في المثال التي قصها لنا‬
‫ربنا تبارك وتعالى ‪ -‬وقد ذكرت طائفة منها في‬
‫المحاضرة ‪ -‬نجد أن قوام بقاء الحضارة واستمرار‬
‫المن والمان والطمأنينة ورفاهية العيش ل يكون إل‬
‫بالستجابة لوامر الله عز وجل ‪ ،‬وهذا واضح ‪،‬‬
‫والستجابة لوامر الله تعالى التي جاء بها النبياء‬
‫والمرسلون هي الدين ‪ ،‬لن من الخطاء التي أيضا ً يقع‬
‫فيها بعض المسلمين حينما يتحدثون عن الدين باعتباره‬
‫مكونا ً في بناء الحضارة يتحدثون عن الدين مكونا ً روحيا ً‬
‫‪ ،‬ول ينبغي ذلك ‪ ،‬لن الدين الذي أنزله الله سبحانه‬
‫وتعالى وارتضاه لنا هو ليس مكونا ً روحيا ً فقط‪ ،‬هو‬
‫ن يدعو إلى العلم وإلى التعقل والتفكر والنظر ‪ ،‬هو‬ ‫دي ٌ‬
‫ن يدعو إلى عمارة هذه الرض ‪ ،‬هو دين يدعو إلى‬ ‫دي ٌ‬
‫ن يبين السنن‬ ‫إصلحها وعدم الفساد فيها‪ ،‬هو دي ٌ‬
‫ن‬
‫والثار التي تكون عليها الحياة هانئة مطمئنة ‪ ،‬هو دي ٌ‬
‫يبيح الستمتاع بالطيبات من الرزق ويحرم الخبائث ‪،‬‬
‫ن يحفظ عقل النسان وصحته وماله وعرضه‬ ‫هو دي ٌ‬
‫ن يدعوه إلى أن يعيش حياة هانئة طيبة‬ ‫وخلقه ‪ ،‬هو دي ٌ‬
‫في هذه الحياة الدنيا ‪ ،‬إذن هو دين يتناول الجوانب‬
‫المادية كما يتناول أيضا ً الجوانب الروحية والجوانب‬
‫المعنوية من كينونة هذا النسان وبقائه في هذه الحياة‬
‫واستمراره فيها‪.‬‬

‫فإذن بما في هذا الدين من عقيدة تصل هذا العبد‬


‫الضعيف المخلوق بالله سبحانه وتعالى الخالق القادر‬
‫القوي القاهر وتصله بالحياة الخرة ‪ ،‬وتدعوه إلى أن‬
‫ن بما هو‬ ‫يؤمن إيمانا ً فيه جزء من الغيبيات كما فيه إيما ٌ‬
‫مشهود ‪ ،‬عقيدة تدعو إلى توحيد الله عز وجل وتأمر‬
‫بعبادة هذا الخالق لستحقاقه للعبادة ‪ ،‬وتصل دعوات‬
‫سائر النبياء والمرسلين بهذا الوحي اللهي الذي هو‬
‫ق لذوي العقول‬ ‫ي سائ ٌ‬ ‫ع إله ٌ‬ ‫كما يقول العلماء وض ٌ‬
‫باختيارهم إلى ما هو خيٌر لهم بالذات‪.‬‬
‫وهذا الدين هو الذي قرر المبادئ المتعلقة بتكريم‬
‫النسان وباحترامه وبالمنزلة التي بوئ إياها‬
‫خل َ ْ‬ ‫َ‬
‫ن ذَك َ ٍ‬
‫ر‬ ‫م ْ‬ ‫قَناك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫س إ ِّنا َ‬
‫ها الّنا ُ‬
‫وبمخاطبته بقوله ))َيا أي ّ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫م‬‫مك ُ ْ‬
‫ن أك َْر َ‬ ‫عاَر ُ‬
‫فوا إ ِ ّ‬ ‫ل ل ِت َ َ‬ ‫و َ‬
‫قَبائ ِ َ‬ ‫عوًبا َ‬‫ش ُ‬ ‫عل َْناك ُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫ج َ‬ ‫و َ‬ ‫وأن َْثى َ‬‫َ‬
‫م (( ‪ ،‬هذا الدين هو الذي يتضمن‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫عن ْد الل ّه أ َْ‬
‫ت‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َ‬
‫التشريع وأسس التقاضي والحقوق والواجبات ويبين‬
‫للناس حقوقهم ويؤديها إليهم ويطالبهم بأداء‬
‫واجباتهم وبدفعها للخرين ‪ ،‬هذا الدين هو الذي يبين‬
‫أن من سنن الحياة التدافع وأن من سنن الوجود بقاء‬
‫الخير والشر ‪ ،‬وأن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده‬
‫ويمتحنهم ليبلوا الشكور من الكفور والصابر من الذاكر‬
‫والمؤمن من الكافر‪.‬‬

‫ثم مع هذه العقيدة هناك شريعة تبين للنسان كيف‬


‫يقوم بسائر شؤونه بدءا ً من أقلها ‪ ،‬كيف يطهر نفسه‬
‫ب‬
‫ح ّ‬‫وي ُ ِ‬‫ن َ‬ ‫واِبي َ‬ ‫ب الت ّ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫باطنا ً وظاهرا ً ))إ ِ ّ‬
‫ن (( ‪ ،‬ويبين له علم يقوم الحكم في هذا‬ ‫ري َ‬‫ه ِ‬‫مت َطَ ّ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫قدْ‬‫الدين الحنيف ‪ ،‬وأنه يقوم على العدالة والقسط ))ل َ َ‬
‫أ َرسل َْنا رسل ََنا بال ْبيَنات َ‬
‫ن‬‫ميَزا َ‬ ‫وال ْ ِ‬
‫ب َ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫ه ُ‬
‫ع ُ‬ ‫م َ‬‫وأن َْزل َْنا َ‬‫ِ َ‬ ‫ِ َ ّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫ط (( ‪ ،‬هذا الدين هو الذي يدعوهم‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ْ‬
‫س ِبال ِ‬‫م الّنا ُ‬ ‫قو َ‬ ‫ل ِي َ ُ‬
‫دُلوا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عَلى أّل ت َ ْ‬
‫ع ِ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬‫ن َ‬ ‫م َ‬
‫شن َآ ُ‬ ‫من ّك ُ ْ‬‫ر َ‬‫ج ِ‬‫وَل ي َ ْ‬ ‫إلى العدالة )) َ‬
‫وى ((‪.‬‬ ‫ق َ‬‫ب ِللت ّ ْ‬ ‫قَر ُ‬‫و أَ ْ‬
‫ه َ‬‫دُلوا ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫ا ْ‬

‫ن خوطب به هذا النسان لكي‬ ‫إذن نحن نتحدث عن دي ٍ‬


‫يتمكن هذا النسان من تشييد حضارة صحيحة حقيقية‬
‫ولكي يتجنب كل عوامل إنهيار الحضارات ‪ ،‬وطبيعة هذا‬
‫الدين لنني قلت أن من مفردات الحضارات )النظام(‬
‫الذي يعطي صبغته لواقع حياة الناس ‪ ،‬كيف ذلك؟‬
‫هناك من النظمة ما يغلب الجانب المادي فتطغى‬
‫المادية على حياة الناس وتكون الصبغة والصفة الغالبة‬
‫أن تكون الحياة مادية ‪ ،‬وهذا واقع معروف ‪ ،‬هناك في‬
‫المقابل أيضا ً من يغلب جانب الروحانيات فتكون صفة‬
‫حضارة معينة أنها تغلب الروحانيات ‪ ،‬قد ل تكون نحن‬
‫نتكلم عن حضارة الن في هذا السياق باعتبار المفهوم‬
‫العام للحضارة ‪ ،‬إذن طبيعة هذه الحضارة ‪ -‬طبيعة‬
‫الحياة ‪ -‬أنها مغلبة لجانب الروحانيات ‪ ،‬هناك من‬
‫الحضارات ما يقوم على أساس إنكار اليمان بالله‬
‫تماما ً وأن الدين أفيون الشعوب ‪ ،‬الحاصل هناك أنظمة‬
‫وهناك مدنيات وثقافات وأفكار تغلب عليها طبيعة‬
‫معينة في نظام الحياة ‪ ،‬هذه الطبيعة يختارها النسان‬
‫نفسه لعوامل كثيرة داخلية وخارجية ‪ ،‬وبحسب هذه‬
‫الطبيعة التي يختارها النسان يكون بقاء الحضارة أو‬
‫زوالها كما ل يخفى ‪ ،‬فمتى كانت طبيعة النظام الذي‬
‫يختاره النسان ليقيم عليه حضارته أيا ً كانت بعيدة عن‬
‫فطرة هذا النسان وبالتالي تكون بعيدة عن الوحي‬
‫وعن مراشد الوحي وهدايات الدين يكون انحراف هذه‬
‫الحضارة وبالتالي يكون زوالها طالت المدة أو قصرت ‪،‬‬
‫لذلك نجد سنة المداولة ‪ ،‬متى ما أخذت الحضارات‬
‫بالنواميس الكونية التي أودعها الله عز وجل في هذا‬
‫كتب لها البقاء ‪ ،‬ومتى ما تنكبت وطغت وسادها‬ ‫الكون ُ‬
‫الظلم والفساد زالت وحل محلها غيرها وهذا صحيح‬
‫دعي النتساب إلى السلم ‪ ،‬إن لم‬ ‫حتى على من ي ّ‬
‫يفهم مكونات حضارته السلمية فهما ً صحيحا ً فإنه لن‬
‫يتمكن من المحافظة على حضارته‪.‬‬
‫ويدخل في هذا المكون ليس فقط مجرد النظريات‬
‫حينما نقول طبيعة هذا النظام ‪ ،‬وإنما تفاعل هذا‬
‫النسان مع المبادئ المكونة لذلك النظام ‪ ،‬فالمسلمون‬
‫مثل ً أكرمهم الله عز وجل بهذا الدين الذي يوافق‬
‫الفطرة ويلبي حاجات هذا النسان ‪ ..‬الحاجات الجسدية‬
‫والمادية والروحية والعاطفية والوجدانية والعقلية‬
‫والفكرية ‪ ،‬هكذا نعتقد ول حاجة لنا إلى أن نثبت في‬
‫هذا السياق الن ‪ ،‬لكن هكذا نعتقد ‪ ..‬أن هذا الدين‬
‫يلبي كل حاجات هذا النسان بمختلف أنواعها وأنماطها‬
‫وأصنافها سواءً كانت حاجات للفرد أو للجماعة أو‬
‫للمجتمع ‪ ،‬طيب إن لم يتفاعل هذا المسلم مع هذا‬
‫النظام هل يتمكن من إقامة حضارة؟ لن يتمكن‪..‬لذلك‬
‫ترون حينما أخفق المسلمون في تطبيق مبادئ دينهم‬
‫وفي فهم المنزلة التي بوأهم إيانا ربنا تبارك وتعالى‬
‫وفي إدراكهم للرسالة التي ينبغي لهم أن يؤدوها في‬
‫هذه الحياة حينما خاطبهم المولى جل وعل بقوله ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ة أُ ْ‬ ‫ُ‬
‫ف‬ ‫عُرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫مُرو َ‬‫س ت َأ ُ‬ ‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬ ‫ر َ‬ ‫خ ِ‬ ‫م ٍ‬‫خي َْر أ ّ‬‫م َ‬ ‫))ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ه (( ‪ ،‬وحينما خاطبهم‬ ‫ن ِبالل ّ ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫وت ُ ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ر َ‬ ‫ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫من ْك َ‬ ‫ع ِ‬‫ن َ‬‫و َ‬ ‫ه ْ‬‫وت َن ْ َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫سطا ل ِت َكوُنوا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫داءَ‬
‫ه َ‬‫ش َ‬ ‫و َ‬ ‫ة َ‬‫م ً‬‫مأ ّ‬ ‫علَناك ْ‬ ‫ج َ‬‫وكذَل ِك َ‬ ‫بقوله ‪َ )) :‬‬
‫س (( حينما لم يؤدوا هذا الدور ولم يتفاعلوا‬ ‫َ َ‬
‫على الّنا ِ‬
‫مع هذه المنزلة ومع تلك المبادئ أخفقوا وتراجعوا‬
‫وأخذ زمام ريادة الحضارة غيرهم‪.‬‬
‫قبل ذلك هناك مؤلف باللغة النجليزية معنى عنوانه‬
‫)ألف عام من التاريخ مفقود( ‪..‬تعرفون ماذا يدرسون‬
‫ر من المناهج التعليمية الغربية؟ كيف كان البناء‬ ‫في كثي ٍ‬
‫الحضاري في مناهجهم؟ كيف يعلمونه لناشئتهم؟‬
‫حضارة إغريقية ‪ ..‬حضارة رومانية ‪ ..‬عصور مظلمة‬
‫‪..‬ثم بداية النهضة ‪ ..‬ثم النهضة العلمية والثورة‬
‫الصناعية ‪..‬ثم الثورة العلمية إلى أن ننتهي إلى عصر‬
‫العولمة ‪.‬ل ننتبه نحن بين الحضارة الرومانية وما‬
‫يسمونه بالعصور المظلمة ‪ ،‬تعرفون كم العصور‬
‫المظلمة؟ ألف سنة حتى بدأت الثورة العلمية عندهم‬
‫في أوروبا ‪ ،‬هذه اللف سنة متى كانت؟ يعني الدولة‬
‫الرومانية بانتشار السلم إنكمشت على نفسها وذلك‬
‫كان في أواخر القرن السادس الميلدي ‪ ،‬ثم بدء الثورة‬
‫العلمية في أوروبا كان بعد ‪ 1600‬ميلدي ‪ ،‬هذه هي‬
‫اللف العام التي يسمونها ‪ Dark Ages‬العصور‬
‫المظلمة‪ ..‬إذن كيف حصلت هذه النقلة من حضارة‬
‫رومانية وعصور مظلمة إلى ثورة علمية؟ كيف!!! هذه‬
‫اللف سنة هي التي أبدع فيها المسلمون ‪ ،‬في اللف‬
‫عام من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى ‪1600‬‬
‫ميلدي الحداث التي حصلت في القرن السابع عشر‬
‫الميلدي في العالم السلمي ‪ ..‬ألف عام من الزدهار‬
‫الحضاري ومن النتاج العلمي ومن التقدم الصناعي‬
‫والمعرفي والفكري ثم لما غلبت المسلمين عوامل‬
‫النهيار ساد غيرهم فأخذوا بالسباب ‪ ..‬بنواميس هذه‬
‫الحياة وسنن هذا الوجود فتقدم غيرهم وتأخروا هم ‪،‬‬
‫والكتاب موجود في موقع إلكتروني إسمه مسلم‬
‫هيراتيج دوت كوم ‪http://www.muslimheritage.com‬‬
‫يبحث في تاريخ اللف عام ‪ ،‬يخاطب الغربيين يقول‬
‫لهم أنتم لم تأتوا بالثورة العلمية وبالحضارة المعاصرة‬
‫من العصور المظلمة ‪ ،‬أتيتم بها من إنتاج حضارة أخرى‬
‫هي حضارة المسلمين ‪ ،‬وقد أعدوا ‪..‬حتى البارحة كنت‬
‫أنظر في الموقع ‪ ..‬ثمانية عشر فرعا ً من فروع العلوم‬
‫مما كان للمسلمين إسهامات بالغة فيها ل تزال كثيٌر‬
‫من نظرياتها تدرس إلى اليوم في هذه الجامعات‬
‫الغربية ‪.‬‬
‫إذن ليست العبرة بالنظريات والمبادئ التي ُتحشى بها‬
‫ون في الكتب‬ ‫الدمغة أو ُيل ّ‬
‫قن إياها الناشئة أو ُتد ّ‬
‫طر في المحافل والدواوين ‪ ،‬وإنما العبرة‬ ‫وُتس ّ‬
‫بالعمل ‪ ..‬العبرة بالتطبيق ‪ ،‬وهذا التطبيق يعني التعاظ‬
‫وئ إياها هذا‬‫والعتبار ويعني إدراك المنزلة التي ب ُ ّ‬
‫النسان وأنه خليفة في هذه الرض يتصرف وفق أوامر‬
‫مستخلفه جل وعل في المال الذي ينفقه ‪..‬في‬
‫سيرورته في هذه الحياة ‪..‬في نظرته إلى الحياة‬
‫ل‪..‬في المآل الذي يريده لنفسه حينما ينقلب إليه ‪..‬‬ ‫أص ً‬
‫ة من حركاته وسكناته ‪..‬‬ ‫ة وسكن ٍ‬‫في كل حرك ٍ‬

‫تفاعله هذا هو الذي يؤدي إلى المكون الخر للحضارات‬


‫وهو العلم والمعرفة ‪ ،‬لنه ل يمكن أن تنشأ حضارة‬
‫دون علوم ومعارف ‪ ،‬ومن إكرام الله عز وجل لعباده‬
‫أن دينهم هذا يدعوهم إلى العلم ‪ ..‬يدعوهم إلى‬
‫الختراع وإلى الكتشاف وإلى الصناعة وإلى كل ما‬
‫فيه خيٌر لهذا النسان لكي يكون صالحا ً في هذه الرض‬
‫ولكي يمنع عنها الفساد ‪ ،‬ولكي يرقى في حياته مما‬
‫يشمل كل أنواع الزراعة والتجارة والصناعة وسائر‬
‫ة لهذا‬ ‫أنواع العلوم والمعارف أيضا ً مما فيه مصلح ٌ‬
‫النسان ‪ ،‬فإذن ل نشاز بين ما ُيطلب من هذا النسان‬
‫من ميادين العلم والمعرفة وبين ما يطلبه منه دينه في‬
‫موازين هذا الشرع الحنيف ‪ ..‬وأنا الن أنتقل سريعا ً‬
‫شى‬ ‫خ َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫لن هذه المسألة أيضا ً واضحة حتى آية ))إ ِن ّ َ‬
‫ء(( وردت في سياق بيان آيات الله‬ ‫ما ُ‬‫عل َ َ‬‫ه ال ْ ُ‬‫عَباِد ِ‬‫ن ِ‬‫م ْ‬‫ه ِ‬‫الل ّ َ‬
‫في الكون ‪ ،‬لم ترد للحديث عن علماء الشريعة‬
‫وبالتالي كانت الخاتمة أن علماء الشريعة هم أشد‬
‫الناس خشية لله عز وجل ‪ ..‬ل ل ‪ ..‬الية وردت في‬
‫سياق بيان آيات الله تعالى في الجبال وفي السماء‬
‫وفي هذه الرض وفي الشجار ‪ ..‬أي العلوم الكونية‬
‫شى‬ ‫خ َ‬‫ما ي َ ْ‬ ‫ليس العلوم الشرعية ‪ ،‬ثم يأتي بعد ذلك ))إ ِن ّ َ‬
‫ء(( ‪ ،‬وأهل العلوم يقولون حتى‬ ‫ما ُ‬‫عل َ َ‬‫ه ال ْ ُ‬‫عَباِد ِ‬‫ن ِ‬‫م ْ‬‫ه ِ‬‫الل ّ َ‬
‫مَثل المتفرغ لطلب‬ ‫في كثير من التفاصيل الفقهية ً‬
‫ً‬
‫علم ٍ ديني إن كان في حقيقته غنيا ل ُيعطى من الزكاة‬
‫حينما يتفرغ فيحتاج إلى المال لنما هو متفرغ له دون‬
‫سعيه لكسب الرزق ل يعود إل على نفسه بالنفع‬
‫والفائدة ‪ ،‬أما إن كان متفرغ لعلم ينتفع منه المجتمع‬
‫فإنه ُيعطى من الزكاة‪.‬‬
‫ل أيضا ً ل مناقشة فيه لكن للتأكيد فقط أن‬ ‫وهذا مجا ٌ‬
‫مما يؤهل المسلمين لحضارة حقيقية أن يعتنوا بالعلم‬
‫والمعرفة ‪ ،‬أما أن يتعاملوا ويتعاطوا مع أسباب‬
‫ت ومبادئ نظرية فقط دونما‬ ‫الحضارة من خلل نظريا ٍ‬
‫محاولة لكتساب العلوم والمعارف والبحث والستقصاء‬
‫والتجربة والوصول إلى حقائق ونتائج علمية تنفع‬
‫العالم وتفيد المجتمع والنسانية بأسرها فإنه ل يمكن‬
‫لهم أن يأخذوا بزمام الريادة في الحضارة النسانية ‪،‬‬
‫وكل الدوافع موجودة في دينهم لكي تدفعهم حتى‬
‫يحققوا هذه العلوم والمعارف ‪ ،‬مع اشتغالهم ل شك‬
‫بالعلم الذي يبين لهم كيف يعبدون الله سبحانه وتعالى‬
‫وكيف يتعاملون مع نتائج العلوم التطبيقية والكونية‬
‫التي يصلون إليها ‪ ،‬لن منهج القرآن ‪ ..‬منهج‬
‫السلم ‪..‬فيما يتصل بالعلوم والمعارف ل يقف فقط‬
‫عند مسألة كيف نصل إلى العلوم‪ ،‬كيف نصل إلى نتيجة‬
‫علمية معينة ‪ ،‬وإنما كيف نستخدم هذا العلم ‪ ،‬ولذلك‬
‫حينما تسلم المسلمون الريادة العلمية كانت علومهم‬
‫في صالح هذه النسانية ‪ ،‬وينبغي أن تكون دوما ً كذلك‬
‫لن الله عز وجل بين أن من أسباب زوال المم‬
‫إغترارهم بعلمهم وتنازعهم بالعلوم والمعارف ‪ ،‬هذا‬
‫ة في الشر ‪ ،‬وأن‬ ‫التنازع يعني أن تكون هناك منافس ٌ‬
‫من أسباب إنهيار الحضارات أيضا ً الفساد في الرض ‪،‬‬
‫والفساد أو الفساد في الرض إنما يكون حتى من‬
‫نتائج العلوم والمعارف كما نرى اليوم مما أصاب البيئة‬
‫والكون ‪ ،‬وهو داخل في صميم مكونات الحضارة لن‬
‫من المكونات التي ذكرتها أيضا ً صلة هذا النسان‬
‫الصانع للحضارة المخاطب بهذا الدين المأمور بالتعلم‬
‫وبالمعرفة والبحث العلمي المؤهل لنظام رباني موافق‬
‫للفطرة السليمة ‪ ،‬هذا النسان مأموٌر أن يحسن تعامله‬
‫مع مفردات هذا الوجود سواءً كانت من بني البشر ‪..‬‬
‫ت أو‬‫ت من جمادا ٍ‬ ‫من بني جنسه ‪ ..‬أو كانت من مفردا ٍ‬
‫من بهائم عجماوات في هذه الحياة‪ ،‬هذا الفرد مأموٌر‬
‫أن يحسن تعامله مع كل مفردات هذا الوجود وبالتالي‬
‫من مسئوليته وأمانته الحضارية أن يحسن في تعامله‬
‫مع مفردات هذه الحياة فل يفسد في الرض ‪ ،‬وبالتالي‬
‫ر من علماء المسلمين بفضل الله‬ ‫نجد اليوم عناية بكثي ٍ‬
‫عز وجل ببيان التشريعات التي ُتعنى بالبيئة ‪..‬‬
‫بالكون ‪ ..‬بالحياة في القرآن العظيم وفي هذا التشريع‬
‫الحنيف ‪ ،‬وهي فعل ً من ضمن المور التي كان ينبغي‬
‫لنا الهتمام بها ‪ ،‬إذا سألنا الفرد الواحد أبسط وسائل‬
‫حماية البيئة هي ماذا؟ العناية بالطاقة ‪ ،‬كل أنواع‬
‫الطاقة من كهرباء وماء وطاقة شمسية وكل أنواع‬
‫الطاقات التي يستفيد منها النسان هي أقل ما يمكن‬
‫أن يقدمه الفرد حفظا ً للبيئة لكن أثرها كبير ‪ ،‬حتى‬
‫ر( حتى في أداء‬ ‫ر جا ٍ‬ ‫هذه )ل تسرف ولو كنت على نه ٍ‬
‫العبادة الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من‬
‫ر‪ ،‬ما يتصل بآداب‬ ‫ر جا ٍ‬ ‫السراف حتى ولو كان على نه ٍ‬
‫قضاء الحاجة حتى في أبسط أحكامها الفقهية وفيها‬
‫ٌ‬
‫مراعاة وحفظ للبيئة ويقاس على ذلك ما يتصل بأحكام ٍ‬
‫فيها الكثير من التشريعات المتصلة بــ ‪ -‬كما قلت ‪-‬‬
‫المفردات المحيطة بهذا النسان‪.‬‬
‫ثم نختم بمنظومة الخلق ‪ ،‬لنه ل يمكن أن تستقيم‬
‫خُلقّية سليمة ‪ ..‬يستحيل‬ ‫حضارةٌ ما دون منظومة قَيمّية ُ‬
‫‪ ..‬كل ما تحدثنا عنه إلى الن وهي ‪ ..‬يعني الفصل هنا‬
‫للتعريف لما تكلمت عن النسان ‪ ،‬عوامل قيام أو‬
‫انهيار الحضارات من النسان والدين والنظام والعلم‬
‫والتعامل مع مفردات الوجود كلها الفصل فيها إنما هو‬
‫للتفهيم والتسهيل وإل فهي مترابطة بعضها مع‬
‫بعض ‪ ،‬وكذا الحال بالنسبة لهذا المكون الذي هو‬
‫منظومة القيم والخلق ‪ ،‬ولذلك لم ُتترك مسألة‬
‫الخلق في هذا الدين الحنيف وفي القرآن العظيم لم‬
‫تترك للناس وإنما جاءت أيضا ً القيم والخلق منصوصا ً‬
‫عليها في كتاب الله عز وجل كمثل قول الله تعالى ‪:‬‬
‫ضى رب َ َ‬
‫ساًنا((‬
‫ح َ‬‫ن إِ ْ‬
‫وال ِدَي ْ ِ‬ ‫وِبال ْ َ‬‫دوا إ ِّل إ ِّياهُ َ‬ ‫عب ُ ُ‬‫ك أّل ت َ ْ‬ ‫َ ّ‬ ‫و َ‬
‫ق َ‬ ‫)) َ‬
‫إلى آخر اليات التي وردت في سورة السراء ‪ ،‬يعني‬
‫م(( ‪،‬‬ ‫على ُ ُ‬ ‫ك لَ َ‬‫وإ ِن ّ َ‬
‫ظي ٍ‬ ‫ع ِ‬ ‫ق َ‬ ‫خل ٍ‬ ‫تقريرها كمبدأ )) َ‬
‫غِلي َ‬
‫ظ‬ ‫ف ّ‬
‫ظا َ‬ ‫ول َ ْ‬
‫و ك ُن ْ َ‬
‫ت َ‬ ‫م َ‬
‫ه ْ‬‫ت لَ ُ‬
‫ه ل ِن ْ َ‬‫ن الل ّ ِ‬‫م َ‬
‫ة ِ‬‫م ٍ‬
‫ح َ‬‫ما َر ْ‬ ‫)) َ‬
‫فب ِ َ‬
‫ك(( ‪،‬‬ ‫ول ِ َ‬‫ح ْ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ضوا ِ‬‫ف ّ‬ ‫ب َلن ْ َ‬
‫قل ْ ِ‬ ‫ال ْ َ‬

‫سًنا(( ‪،‬‬
‫ح ْ‬
‫س ُ‬ ‫و ُ ُ‬
‫قولوا ِللّنا ِ‬ ‫)) َ‬
‫م‬
‫عن ِت ّ ْ‬
‫ما َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫زيٌز َ‬‫ع ِ‬
‫م َ‬ ‫سك ُ ْ‬‫ف ِ‬‫ن أ َن ْ ُ‬‫م ْ‬
‫ل ِ‬ ‫سو ٌ‬ ‫م َر ُ‬ ‫جاءَك ُ ْ‬ ‫))ل َ َ‬
‫قدْ َ‬
‫م(( ‪،‬‬
‫حي ٌ‬ ‫ف َر ِ‬ ‫ءو ٌ‬‫ن َر ُ‬ ‫مِني َ‬
‫ؤ ِ‬ ‫م ِبال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫ص َ‬ ‫ري ٌ‬ ‫ح ِ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫سي ّئ َ َ‬
‫ة(( ‪،‬‬ ‫ن ال ّ‬
‫س ُ‬
‫ح َ‬
‫يأ ْ‬ ‫ع ِبال ِّتي ِ‬
‫ه َ‬ ‫))ادْ َ‬
‫ف ْ‬
‫َ‬ ‫جاِدُلوا أ َ ْ‬
‫ن(( ‪،‬‬
‫س ُ‬
‫ح َ‬
‫يأ ْ‬ ‫ب إ ِّل ِبال ِّتي ِ‬
‫ه َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ه َ‬ ‫وَل ت ُ َ‬
‫)) َ‬

‫ة‬
‫سن َ ِ‬ ‫ة ال ْ َ‬
‫ح َ‬ ‫عظ َ ِ‬
‫و ِ‬ ‫وال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫ة َ‬ ‫حك ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫ك ِبال ْ ِ‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫ع إ َِلى َ‬
‫سِبي ِ‬ ‫))ادْ ُ‬
‫َ‬
‫ن((‪.‬‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫يأ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫م ِبال ِّتي ِ‬ ‫جاِدل ْ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫و َ‬
‫َ‬

‫هذه القيم والخلق جاءت بموازين ربانية من عند الله‬


‫ب وعقاب ‪ ،‬لذلك هي من‬ ‫عز وجل ويترتب عليها ثوا ٌ‬
‫الدين المخاطب به هذا النسان لن بها قوام‬
‫الحضارة ‪ ،‬أما حينما تنتشر الرذائل بكل أنواعها ويعم‬
‫ط من أنماط‬ ‫الفساد وتنعدم العدالة حتى في كل نم ٍ‬
‫تفاعل هذا النسان سوف يكون المآل زوال الحضارة‬
‫خُلقية وأن‬ ‫وانهيارها ‪ ،‬لذلك نجد أن التشريعات ال ُ‬
‫الخلق حاضرة في كل التشريعات الخرى ‪ ،‬حينما‬
‫نتحدث عن المعاملت المالية القتصادية نجد أن‬
‫ت(( ‪،‬‬ ‫قا ِ‬ ‫صدَ َ‬ ‫وي ُْرِبي ال ّ‬ ‫ه الّرَبا َ‬ ‫ق الل ّ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫م َ‬ ‫الخلق حاضرة ))ي َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن اْل ْ‬ ‫دول َ ً‬ ‫ي َل ي َ ُ‬
‫ه‬
‫ق ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫وآُتوا َ‬ ‫م (( ‪َ )) ،‬‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ء ِ‬ ‫غن َِيا ِ‬ ‫ة ب َي ْ َ‬ ‫ن ُ‬ ‫كو َ‬ ‫ْ‬ ‫))ك َ‬
‫َ‬
‫ل‬ ‫قب َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫هك ُ ْ‬‫جو َ‬ ‫وّلوا ُ‬
‫و ُ‬ ‫ن تُ َ‬ ‫س ال ْب ِّر أ ْ‬ ‫ه(( ‪)) ،‬ل َي ْ َ‬ ‫صاِد ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م َ‬ ‫و َ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وآَتى‬ ‫ن (( ثم قال )) َ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْب ِّر َ‬ ‫ول َك ِ ّ‬ ‫ب َ‬ ‫ر ِ‬‫غ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫ق َ‬ ‫ر ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن(( ‪،‬‬ ‫كي َ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫مى َ‬ ‫وال ْي ََتا َ‬ ‫قْرَبى َ‬ ‫وي ال ْ ُ‬ ‫ه ذَ ِ‬ ‫حب ّ ِ‬ ‫عَلى ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ما َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫والرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن الغش وعن‬
‫التدليس وعن الغرر وعن تلقي السلع وعن الظلم‬
‫وينهى عن بيع الحاضر للبادي حتى ل يكون هناك غرٌر‬
‫ش يؤدي إلى ظلم ويأمر بحسن القضاء ويبين‬ ‫فاح ٌ‬
‫عاقبة المعاملت الربوية ويؤكد ما جاء في القرآن‬
‫)) َ ْ‬
‫ه(( ‪ ،‬الرسول صلى الله‬ ‫سول ِ ِ‬ ‫وَر ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫حْر ٍ‬ ‫فأذَُنوا ب ِ َ‬
‫عليه وسلم يقول ‪) :‬لعن الله الربا وآكله وموكله وكاتبه‬
‫وشاهده ( ‪ ،‬وقال‪ ) :‬هم سواء ( يعني في الثم ‪ ،‬ولذلك‬
‫تعاني النسانية اليوم من ويلت حضارات مادية غلبت‬
‫المادة على حساب هذه القيم الخلقية وعلى حساب‬
‫أسس ومبادئ العدالة والقسط فإذا بهم يعانون أشد‬
‫المعاناة ‪.‬‬
‫وتملك هذه المة من الرصيد الذي يمكن أن تقدمه‬
‫ك إ ِّل‬
‫سل َْنا َ‬ ‫َ‬
‫ما أْر َ‬
‫و َ‬
‫للخرين لن هذا الدين دين رحمة )) َ‬
‫ُ‬
‫ن(( ‪ ،‬وبالتالي هذه الرحمة التي أريدت‬ ‫مي َ‬‫عال َ ِ‬
‫ة ل ِل ْ َ‬
‫م ً‬
‫ح َ‬
‫َر ْ‬
‫للعالمين جميعا ً تؤهل الحضارة المنصوصة أو‬
‫الموصوفة في القرآن الكريم لكي تكون حضارة عالمية‬
‫ة في طبيعتها كما‬ ‫لنها إنسانية في خطابها عالمي ٌ‬
‫يقول كثيٌر من المفسرين وهذا معنى ذلك ‪ ،‬لنها ُتعنى‬
‫بالنسان وتصلح أحوال النسان وتبسط العدل وتظلل‬
‫الناس بوارف ظلل القسط والرحمة والرفق كما أنها‬
‫تصلهم بالله سبحانه وتعالى وتؤدي بهم إلى حسن‬
‫الخاتمة وتذكرهم بالمآل الذي ينقلبون إليه وتجعل كل‬
‫أفعالهم وأقوالهم في هذه الحياة مما يمكن أن ينالوا‬
‫به الجر والثواب إن هم استجابوا لداعي الله سبحانه‬
‫وتعالى وأدركوا عظم هذه الرسالة الحضارية التي‬
‫كلفوا بها وأدوها حق الداء وامتثلوا أمر‬ ‫نيطت بهم و ُ‬
‫الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بوجودهم في هذه‬
‫الحياة والمنقلب الذي إليه ينقلبون ‪.‬‬

‫في ظني أن هذه أبرز المعالم التي أردت أن أتحدث‬


‫عنها في هذا اللقاء ‪ ،‬بقي هناك في الحقيقة عنصران‬
‫لم نتمكن من الوصول إليهما لتشعب الموضوع ولطوله‬
‫‪ ،‬لكن هذان العنصران بمعنى السمة الغالبة للحضارات‬
‫المادية السائدة الن ودور الفرد فيها ليست بخافية‬
‫على أحد فل يخفى عليكم بأن السمة الغالبة للحضارات‬
‫السائدة الن هي السمة المادية أول ً وأنها تسعى إلى‬
‫نشر ثقافة الستهلك ثانيا ً ‪ ،‬وأنها تتحدث بمنطق القوة‬
‫العسكرية ثالثا ً ‪ ،‬وبالتالي يمكن للفرد المسلم الواحد‬
‫أن يتعامل مع هذا الواقع الذي هو فيه بعدما تبينت له‬
‫معالم حضارته الحقيقية القويمة الراشدة يمكن له أن‬
‫ع‬
‫يتعامل مع هذا الواقع بعقل وبخلق رفيع وبفهم وا ٍ‬
‫ي‬
‫ح راشد حتى يتمكن أن يكون له دوٌر حضار ٌ‬ ‫صحي ٍ‬
‫فاعل‪.‬‬

‫نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم إلى ما فيه‬


‫الخير وأن يلهمنا رشدنا وأن يرينا الحق حقا ً ويرزقنا‬
‫اتباعه وأن يرينا الباطل باطل ً ويعيننا على اجتنابه إنه‬
‫ع مجيب ‪ ،‬اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا ً‬ ‫تعالى سمي ٌ‬
‫مرحوما ً ‪ ،‬واجعل تفرقنا من بعده تفرقا ً معصوما ً ول‬
‫تجعل فينا ول منا ول معنا شقيا ً ول محروما ً ‪ ،‬وصلى‬
‫الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ‪،‬‬
‫والسلم عليكم ورحمة الله وبركاته‪.‬‬

‫إنتهت المحاضرة بحمد لله‬

You might also like