Professional Documents
Culture Documents
6
المبحث الثامن :الجواز الرابع.
المبحث التَّاسع :آثار االبتعاد عن تحكيم شرع هللا.
والخارجيَّة فى دولة المرابطين. ِ الفصل الثالِث :السياسة ال َّداخليَّة
ويشتمل على ستة مباحث:
المبحث األول :حقوق الرعية الذين يعيشون فى الدولة.
المبحث الثاني :موقف الرعية فى دولة المرابطين.
المبحث الثالث :موقف المرابطين من الخالفة العباسية.
المبحث الرابع :عالقة األمير يوسف مع بنى حماد.
المبحث الخامس :عالقة المرابطين مع ملوك الطوائف.
المبحث السادس :عالقة المرابطين مع اإلسبان النصارى.
الفصل الرابع :سياسة المرابطين فى دولتهم المجيدة.
ويشتمل على خمسة مباحث:
المبحث األول :نظام الحكم واإلدارة.
المبحث الثاني :النظام القضائي.
المبحث الثالث :النظام العسكري.
المبحث الرابع :النظام المالي.
الفصل الخامس :أهم أعمال دولة المرابطين الحضارية.
ويشتمل على سبعة مباحث:
ُ ْ َ
المبحث األول :اآلثار المعمارية فى المغرب واألن َدلس.
المبحث الثاني :الحياة األدبية وال ِعل ِميَّة فى دولة المرابطين.
المبحث الثالث :من مشاهير علماء دولة المرابطين.
المبحث الرابع :علوم اللغة فى زمن المرابطين.
اريخ والجغرافيا. المبحث الخامس :علوم التَّ ِ
المبحث السادس :علوم الطب فى عصر المرابطين.
المبحث السابع :أسباب السقوط.
ثم نتائج البحث.
وأخيرًا ,أرجو من هللا تعالى أن يكون عمالً خالصًا لوجهه الكريم وأن يُثيبَنى على
يثيب إخوانى الذين أعانونى بكل ما َ حرف كتبتُه ,ويجعله فى ميزان حسناتي ،وأن ٍ كلِّ
إتمام هذا الكتاب ،سبحانك اللهم وبحمدك ,أشه ُد أن ال إله إال أنت، ِ لِ أج ن م ِ يملكون
أستغفرك وأتوب إليك ،وآخ ُر دعوانا أن الحم ُد هلل ربِّ العالمين.
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته
ورضوانه
على محمدـ محمد الصالبـى
اإلخوة الكرام ,يسرني أن تصل مالحظاتكم وانطباعاتكم حول هذا الكتاب وغيره من
كتبي من خالل دور النشر ,وأطلب من إخواني الدعاء بظهر الغيب باإلخالص هلل رب
العالمين ،والصواب للوصول للحقائق ومواصلة المسيرة في خدمة تاريخ أمتنا.
البريد اإللكتروني
E- Mail: abumohamed2@maktoob.com
7
الفصل األول
بناء دولة المرابطين
المبحث األول
الجذور التاريخية للمرابطين
تمهيد :
تعتبر قبائ ُل صنهاجة أقوى قبائل البربر وأشدها وأمنعها ,واشتهرت بقُ َّوة شكيمتها,
وكثرة رجالها الذين مألوا ال َّش َمال اإلفريقى وسكنوا جباله ،وسهوله وخصوصًا من
المغرب األوسط إلى المغرب األقصى.
انضوت تحت لوائه أكثر منْ واعتب َر بعضُ المؤرخين قبائل صنهاجة مثلت شعبًا
سبعين قبيلة بربرية ،و ِمن أهم هذه القبائل وأشهرها لمتونة ،وجدالة ،ولمطة ،ومسوفة،
وهى التى تك َّونت منها دولة المرابطين السُّنيَّة .وبعض المؤرخين يجعل القبائل
الصنهاجية لها أصل من حمير بن سبأ أى :إن أصلَهم يمانيِّون.
والبعض اآلخر يذهب إلى أنهم برابرة ال عالقة لهم بالعرب(.)1
-1تسمية الملثمين:
اريخ باسم ال ُملَثَّمين ،وأصبح اللثام شعارًا عُرفوا ْ
اشتهرت القبائل الصنهاجية فى التَّ ِ
به إلى أن تس َّموا بالمرابطين ،ويرى بعض المؤرخين إن ال ُملَثَّمين ينتسبون إلى قبيلة
لمتونة إحدى بطون صنهاجة ,وكانت لمتونة تتولى رئاسة سائر قبائل مسوفة،
ومسراته ،ومداسة ,وجدالة ،ولمطة ،وغيرها ،ثم آلت الرئاسة إلى قبيلة جدالة على
عهد األمير يحيى بن إبراهيم الجدالي(.)2
صا بقبيلة لمتونة ثم توسع وأصبح ويبدو أن إطالق اسم ال ُملَثَّمين فى بدايته كان خا ًّ
شعارًا لكل من حالف لمتونة ودخل تحت اسم سيادتها.
-2سبب تسميتهم:
وأ َّما سبب تسميتهم فقد وردت أقوال كثيرة فى سبب تسميتهم بذلك ،منها :إن أجدادهم
ظن إن أصل قبائل صنهاجة ِمن ِح ْميَر كانوا يتلثمون لشدة الحرِّ ،ويذهب إلى هذا الرأى َمن َّ
يرجع إلى الهجرات القديمة من المشرق ألسباب متعددة ،منها اقتصادية ,وسياسية.
ومنها :أنَّهم آمنوا بالرسول × وكانوا قلة فاضطرُّ وا للهرب لما غلبهم أهل الكفر
فتلثَّ ُموا بقصد التمويه ،وقيل :إن طائفة منهم أغارت على عدو لهم فخالفهم إلى
مواطنهم وهى خالية إال ِمن النساء واألطفال والشيوخ ،فأمر الشيو ُخ النسا َء بأن
لباس الحرب ويتلثَّ َمنَ ،ففر األعداء وهكذا اتخذوا اللثام سنة يالزمونه وارتقى
َ يرتدين
عندهم إلى مستوى رفيع فى حياتهم وأعرافهم ومما قيل فى اللثام:
)(1انظر :ابن أبي زرع ،روض القرطاس ،ص ( )746نقالً عن دولة المرابطين ص (.)19
11
المبحث الثاني
األمير يحيى بن إبراهيم (الزعيم السياسي)
كان األمير يحيى بن إبراهيم سيدًا مطاعًا فى قَومه لِما ُعرفَ عنه ِمن شجاعة
وكرم وجود ومقدرة قيادية عالية ,واشتهر برجاحة عقلة ونفاذ بصيرته وسداد رأيه
وحرصه على هداية قَومه.
خرج هذا األمير الجليل من ديار ال ُملَثَّمين قاصدًا بيت هللا الحرام ,ألداء فريضة
الحج تار ًكا الحكم البنه إبراهيم عام 427هـ 1035 -م(.)1
وكانت العادة أن يقترنَ الحج بطلب العلم ،وبعد أداء الفريضة ،انطلق األمير يحيى
يبحث عن المعرفة فى مدارس المغرب الفقهية طالبًا للعلم إلرواء روحه الظمأى إلى
ْ
ورمت به أقدا ُر هللا فى َحلَقَ ِة نور المعرفة اإلسالمية التى اندرست معالمها فى بالده,
َّ
إمام المغرب فى زمانه فى مدينة القيروان «اإلمام أبو عمران الفاسي» الذى تعلقت
نفسُ األمير يحيى بتعاليمه وفقهه ,وعرض نفسه على اإلمام أبى عمران الفاسى الذى
ورث زعامة المدرسة المالكية التى انتصرت على الهيمنة اإلسماعيلية العبيدية
َ
الباطنية الرافضية ،واستر َّدت حريتها كاملة بعد جهادهم المرير الذى أصبح َم ْعل ًما من
معالم أهل السنة فى ال َّش َمال اإلفريقي.
ب الشيخ أبو عمران باألمير يحيى لما لمسه فيه من حبه للخير وحرصه وأُع ِج َ
على التعلم ،وتحدث إليه األمير عن سوء األحوال االجتماعية فى بالده ،وجهل قبائلها
بأصول الدين وفروع الشريعة ،وطلب من أبى عمران أن يبعث معه أحد طلبته ليعلم
قَومه أصول الفقه والشريعة اإلسالمية(.)2
اريخ ,أن أبا عمران الفاسى هو الذى وضع الخطوط األولى وتذكر بعض كتب التَّ ِ
مع ال َّز ِعيم يحيى بن إبراهيم لقيام دولة صحراوية سنية فى المغرب على أسس دينية
صحيحة ,كى تستطيع القضاء على الفوضى السياسية والدينية التى كان المغرب
يتخبط فيها منذ سنوات عديدة ،وفى ذلك يقول صاحب كتاب «بعض مشاهير أعيان
فاس فى القديم»:
«ولما اجتمع أبو عمران مع يحيى بن إبراهيم ،ندبه إلى قتال برغواطة ،وقتال
زناتة على ما صدر منهم من الظلم ،واستنزال رؤسائهم من الوالية ،فوعده يحيى
بالنهوض
إلى ذلك» (.)3
وكان يحيى بن إبراهيم حريصًا على أخذ فقيه وعالم معه إلى قَومه ،ورأى أبو
عمران الفاسى ِمن أجل تحقيق األهداف التى رسموها ,أنه البُ َّد من المرور بمراحل
ضرورية فى بناء الدولة المنشودة ,من مرحلة التعريف بالمنهج وتكوين أفراده
)(1انظر :دولة المرابطين ،ص (.)19
)(2انظر :تاريخ المغرب واألندلس فى عصر المرابطين ،ص (.)38
)(3انظر :فى تاريخ المغرب واألندلس ،د .أحمد العبادي ،ص (.)271
12
وتربيتهم عليه ,وتنفيذ السياسة المرسومة بعد التكوين للوصول إلى مرحلة القُ َّوة
والتَّمكين.
فأحال أبو عمران أمير ال ُملَثَّمين على تلميذ له فى بالد السوس فى أقصى المغرب،
وهو الفقيه وجاج بن زلوا اللمطي ،الذى كان يقيم فى رباط هناك بمدينة نفيس يسمى
دار المرابطين ،ومن هذا ال ِّربَاط أرسل وجاج صحبة هذا األمير الفقيه عبد هللا بن
ياسين الجزولى ليفقه هؤالء الصحراويين فى أمور دينهم.
وكان يحيى بن إبراهيم بجانب تفكيره فى إخراج قَومه من ُّ
الظلُ َمات إلى النُّور
َّ
يفكر فى إنقاذ قَومه من الهيمنة الزناتية الظالمة ,التى كانت قبائل صنهاجة ال ُملَثمة
تعانى من جورها وقسوتها وإذاللها وإهانتها.
لقد رأى األمير يحيى أن طريق عزة قَومه فى تمسكهم باإلسالم الصحيح ،وقد
الحظ األمير يحيى بن إبراهيم أن ك َّل َمن حرَّكوا القبائل البربرية وهيأوها إلنشاء
الدول ،كانوا جميعًا من المتحمسين ِمن علماء الدين ،أو أصحاب الدعوات الدينية سواء
كانت خارجية بدعية ،أو إسماعيلية كفرية ،أو إدريسية مالكيةِ ،من أمثال :أبى الخطاب
عبد األعلى بن السمح المعافرى الخارجي ،وأبى عبد هللا الشيعى الباطني ،وإدريس بن
عبد هللا بن الحسن ابن على بن أبى طالب ,حتى برغواطة ذات الديانة الشركية
المجوسية اليهودية تز َّع َمها رجل ي َّدعى أنه ِمن أهل العلم ،وهو ميسرة الفقير ،وحتى
قبيلة غمارة تزعمها صالح البرغواطى الذى زعم أنه «صالح المؤمنين» الذى ورد
ذكره فى القرآن(.)1
لهذه الجولة التاريخيّة التى َمرَّت فى ذاكرته حرص على االهتمام بالشيخ عبد هللا
ياسين الرجل الفقيه العالم السنى ليعلم قَومه ويزكيهم ويفقههم.
كما كان األمير يحيى بن إبراهيم يخشى من خطر الجنوب ويهت ُم بدعوة القبائل
الوثنية لإلسالم.
وبدأ األمير يحيى فى شق طريقه المليء باألشواك من أجل إنقاذ قَومه وإعزازهم
فى الدنيا واآلخرة ،ورجع إلى أهله وعشيرته ومعه الرجل الربَّانى والفقيه المالكى
والمربى الصبور وال َّز ِعيم الدينى اإلمام عبد هللا ياسين ،وقبل الدخول فى سيرته نترجم
لإلمام السنى المالكى سيد القيروان فى زمانه.
***
)(1انظر :معالم تاريخ المغرب واألندلس ،د .حسين مؤنس ,ص (.)160
13
المبحث الثالث
أبو عمران الفاسي
مهندس الخطوط العريضة
لدولة المرابطين ( 368هـ 430 -هـ)
ذكر القاضى عياض فى «ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعالم مذهب
مالك» ترجمة أبى عمران الفاسى فقال« :هو موسى بن عيسى بن أبى حاج بن وليم
بن الخير ال َغفَجُومي ،و َغفَجُوم فخذ من زناتة من هوارة ,وأصله من فاس ،وبيته بها
بيت مشهور ،يعرفون ببنى أبى حاج ،ولهم عقب ،وفيهم نباهة إلى اآلن»(.)1
-1شيوخه:
تفقَّه بالقيروان عند أبى الحسن القابسي ،وسمع بها من أبى بكر الدويلي ،وعلى بن
أحمد اللواتى السوسي ،ورحل إلى قُرْ طُبَة ،فتفقَّه بها عند أبى محمد األصيلي ،وسمع
الحديث من أبى عثمان سعيد بن نصر ،وعبد الوارث بن سفيان ،وأحمد بن قاسم،
وغيرهم ،ثم رحل إلى المشرق ،فحج ودخل العراق ،فسمع من أبى الفتح ابن أبى
الفوارس ،وأبى الحسن على بن إبراهيم المستملي ،وأبى الحسن الخضر ،وغيرهم من
العراقيين( ،)2ودرس األصول على القاضى أبى بكر الباقالني ،وسمع بالحجاز من أبى
الحسن بن أبى فراس ،وأبى القاسم السقطي ،وبمصر من أبى الحسن ابن أبى جدار،
وأحمد بن نور القاضي ،ثم رجع إلى القيروان ،وسكنها ،وأصبح سيدها المطاع ،وأقبل
عليه طالب العلم من كل صوب ،وطارت فتاويه فى المشرق والمغرب ،واعتنى
النَّاس بقوله(.)3
-2أثره وتالميذه:
ابتدأ نشاطه العلمى سنة 402هـ ،حين عاد من المشرق ،فقد جلس للطلبة فى
المسجد ،وفى داره أيضًا ،وسرعان ما عُرف قدره ،واشتهرت إمامته ،وطار ذكره فى
اآلفاق ،وقد خلف اإلمام القابسى المتوفى سنة 403هـ ،فى نشر علوم السنة فى إفريقية
ورئاسة العلم بها ,ورحل إليه النَّاس من األقطار لسماع مروياته واستجازه من لم
يستطع االجتماع به(.)4
وكان يجلس فى حلقته ال ِعل ِميَّة من بعد صالة الصبح إلى صالة الظهر ،يحدثهم
ويملى عليهم ،ويقرأ لهم« ،فال يتكلم بشيء إال ُكتب عنه إلى أن مات».
يحدث بصحيح البُخارى و «التَّ ِ
اريخ الكبير» له أيضًا ،و«تصحيف ُ وكان
ال ُم َح ِّدثِين» للدارقطني ،وكان يح ّدث كذلك بمصنفاته فى الحديث والرجال والفقه ،وقد
)(1المرجع السابق.
)(2المرجع السابق.
)(3سير أعالم النبالء (ج.)17/546
)(4ترتيب المدارك (ج )7/246الطبعة المغربية.
)(5سير أعالم النبالء (ج.)456-17/545
)(6ترتيب المدارك (ج)7/246
15
وصان نفسك بالتكريم موالها خل أخى ثقة
ربك ِمن ٍّ
حياك ُّ
َّ
()7
ويؤتنا من وجوه البر أسناها هللا يجمعنا من بعد أوبتنا
هذه ترجمة موجزة لواضع الخطوط العريضة لدولة المرابطين.
وتُوفى -رحمه هللا -سنة ثالثين وأربعمائة من الهجرة.
***
)(1انظر :الصفات الالزمة للدعاة ،أحمد القطان ،جاسم المهلهل ،ص (.)20
18
الصفان
ِ ت
لك مهربًا وتالق ِ وإذا اضطررت إلى الجدال ولم
تجد
()1
غير جبانِ متجر ٍد هلل ص ْدق حملة واحمل بسيف ال ِّ
مخلص
وكم نحن محتاجون للدعاة الذين يتوغلون فى مواطن القبائل التى ابتعدت عن
إسالمها ودينها وإيمانها ,ليقودوها ِمن جديد إلى دعم حركة اإلسالم المعاصرة التى
استهدفها ك ٌّل ِمن النصارى واليهود والمالحدة الحاقدين.
صفَات التى ظهرت لى فى سيرة عبد هللا بن ياسين أنه كان -3المهابة :ومن ال ِّ
مهيبًا قويًا شديدًا ،فمن األدلة على ق َّوته البدنية ،خوضه الحروب بنفسه وتق ُّدمه فى
ميدان الفروسية بل جعل من منهجه الذى ربى عليه أصحابه فى هذا الجانب قوله
اط الْ َخ ْي ِل ُتر ِهبو َن بِ ِه َع ُد َّو اهللَِعدُّوا لَهم َّما استطَعتم ِّمن ُق َّوةٍ وِمن ِّرب ِتعالى﴿ :وأ ِ
ْ ُ َ َ ْ َ ُْ ُْ َ
َو َع ُد َّو ُك ْم﴾ [األنفال.]60 :
وفسَّر الرسول × القُ َّوة -فى هذه اآلية بالرمى بقوله« :أال إن ال ُق َّوة الرمي»(،)2
ق الهدف المطلوب ،وفى السنة والرمية إن لم تخرج من ساعد قوى ومتين فهى ال تُحقِّ ُ
نجد القُ َّوة البدنيَّةَ القت حظًا وافرًا ،فالرسول × هو أقوى األقوياء ،وكان يُشجِّ ع
أصحابه على اكتساب هذه الصفة ،بل رُبَّما كان يباريهم ،ويصارعهم،
ويسابقهم ،وكما تحدثنا السيرة عن ذلك ،يروى مرة أنه تسابق × مع عائشة
رضى الله عنها فسبقها مرَّة ،ثم سبقته مرَّة ،وكذلك تحدثنا السيرة عن
مصارعته × لأحد أصحابه فصرعه.
ومرَّ × على صبيان يرمون بالسهام؛ فأخذ يرمى معهم ويشجعهم ويذكى
فيهم روح البطولة والشَّجَاعَة والقُوَّة ،ويقول« :ارموا فإن أباكم
إسماعيل كان راميًا»(.)3
وهذه الآية والأحاديث الفعلية كانت منهج عبد الله بن ياسين
وأصحابه ،ولذلك تظهر لنا صلابة وقُوَّة أتباعه فى ميادين القتال.
ومفهوم القرآنِ للقُوَّة عام يشمل كل أنوع القُوَّة ،قال السعدى –
استَطَ ْعتُم ِّمن ُق َّوةٍ﴾ أي« :كل ما رحمه الله – فى تفسير قوله تعالىَّ ﴿ :ما ْ
تقدرون عليه ،من القُ َّوة العقلية ،والبدنية ،وأنواع األسلحة ,ونحو ذلك».
فدخل فى ذلك أنواع الصناعات التى تعمل فيها أصناف األسلحة واآلالت ،من
المدافع والرشاشات والبنادق ،والطيارات الجوية ،والمراكب البرية والبحرية،
والقِالع ،والخنادق ،وآالت الدفاع ،والرأى والسياسة ،التى بها يتقدم ال ُم ْسلِمون ،ويندفع
عنهم بها شرُّ أعدائهم ،وتعلم الرمى وال َّش َجاعَة ،والتدبير»(.)4
لقد جمع عبد هللا بن ياسين – رحمه هللا -من القُ َّوة الفكرية أنواعًا متعددة؛ من قُ َّوة
اإلدراك ،وقُ َّوة الصبر ،وقُ َّوة العلم ،وقُ َّوة التلقي ،وغيرها من القوى.
)(1نونية أبي عبد هللا القحطاني ،ص (.)39
)(2رواه مسلم رقم (.)910
)(3رواه البخاري فتح الباري( ،ج.)6/431
)(4انظر :الصفات الالزمة للدعاة ،ص (.)22
19
ومن هنا يتضح لنا حاجة العاملين فى الحركة اإلسالمية إلى هاتين القُ َّوتَيْن ،البدنية
والعقلية وجميع أنواع القوى الفكرية لتوظيفها فى الدعوة إلى هللا(.)1
ولقد أشار القرآن الكريم إلى قيمة القُ َّوة العقلية الفكرية وإلى القُ َّوة البدنية فى بنيان
أمة مجاهدة تحفز للنهوض بعبء النضال ،فى سبيل عقيدتها وحريتها ،وكان من
ومن عليه بهاتين القُ َّوتَيْن البدنية والعقلية ،قال تعالىَّ ﴿:
إن صفات قائدها أن هللا أعطاه َّ
ْج ْس ِم﴾ [البقرة .]247:فبسطة العلم إشارة ادهُ بسطَةً فِى ال ِْعل ِْم وال ِ
َ اصطََفاهُ َعلَْي ُك ْم َو َز َ َ ْ
اهللَ ْ
إلى القُ َّوة العقلية ،وبسطة الجسم إشارة إلى القُ َّوة البدنية ،قال الشيخ حسن البنا – رحمه
هللا – فى األصل األول من األصول العشرين :إن القُ َّوة تشمل قُ َّوة اإلنسان التى تجعله
قويًا فى نفسه وبدنه وعقله ،وعليه أن يباشر األسباب التى تجعله قويًا ،أ َّما قُ َّوة نفسه
فباإليمان ،وأ َّما قُ َّوة بدنه فبالرياضة والفروسية ونحوها ,أما قُ َّوة عقله فبالعلم» (.)2
واإلنسان ال ُم ْسلِم الذى وهبه هللا القُ َّوة العقلية والفكرية والبدنية ال ينسى دائ ًما وأبدًا
قُ َّوة القويِّ العزيز الذى أمده بكل خير وفالح وصالح ,وما سوى قُ َّوة هللا
فهى قُ َّوة ضئيلة هزيلة ،مهما أوتيت من وسائل البطش والقُ َّوة والتنكيل ،فهى بمثابة
ن﴾ [العنكبوت]41: ت الْعن َكب ِ
وت ل َْو َكانُوا َي ْعلَ ُمو َ ِ
خيوط العنكبوتَ ﴿:وإنَّ أ َْو َه َن الُْبيُوت لََب ْي ُ َ ُ
(.)3
قال سيِّد قُطب – رحمه هللا – فى ظالله« :وإن أصحاب الدعوات ،الذين
يتعرضون للفتنة واألذى واإلغراء واإلغواء لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة
الضخمة ،وال ينسوها لحظة ،وهم يواجهون القوى المختلفة المعادية ،التى تحاول
َسحْ قَهم وإبادتهم ،كلها خيوط عنكبوت فى حساب العقيدة الصحيحة»(.)4
الز ِعيم الديىن لدولة املرابطني األمانة ،فحنيالص َفات الفطرية الىت متيز هبا َّ
-4األمانة :ومن ِّ
اآلمر الناهى ىف قبائل امللَثَّمني ،مل
وجد الفقيه عبد اهلل بن ياسني أن القلوب التفت حوله ،وأصبح َ
ُ
يتدخل ىف ُسلطات األمري حيىي يُنافِس األمري حيىي بن إبراهيم ىف منصبه ،بل جنده مل يتجاوز حدوده ،ومل َّ
معا ،وهذا ُّ
يدل على أمانة مع مقدرته Zعلى إزاحته وإبعاده من الطريق ليتبوأ الزعامة السياسية والدينية ً
الداعية الفقيه عبد اهلل بن ياسني ,واألمانة صفة مهمة للعاملني ىف احلركة اإلسالمية ،فهى ذات أنوار
تشع على من حول الدعاة إىل اهلل فتجذهبم لالخنراط ىف ميادين العمل اإلسالمى الواسعة واحملتاجة لكل
جهد وشخص خملص هلذا الدين.
جدا.
واألمانة حتتاج إىل أشخاص أقوياء حلملها ,ومفهوم األمانة ىف القرآن واسع ً
وقد وصف اهلل املؤمنني الذين نالوا الفالح ىف الدنيا واآلخرة وورثوا جنة الفردوس بصفات منها
األمانة.
)(1المرجع السابق.
)(2انظر :رسالة التعاليم ,ص (.)10
)(3انظر :الصفات الالزمة للدعاة ،ص ( ,)22نقالً عن طريق الدعوة فى الظالل.
)(4انظر :الظالل :لسيد قطب ،نقالً عن الصفات الالزمة ألصحاب الدعوات ،ص (.)22
20
ألمانَاتِِه ْم َو َع ْه ِد ِه ْم َراعُو َن﴾ [المؤمنون.]8 :
ين ُه ْم َ
َّ ِ
قال تعاىلَ ﴿:والذ َ
أفرادا ،وراعون
يقول سيِّد قُطب – رمحه اهلل – ىف تفسري هذه اآلية« :وراعون ألماناهتم وعهدهم ً
ألماناهتم وعهدهم مجاعة ،واألمانات كثرية ىف عنق الفرد ،وىف عنق اجلماعة ،واجلماعة امل ْسلِمة مسئولة
ُ
عن أماناهتا العامة ،عن عهدها مع اهلل تعاىل ،وما يرتتب على هذا العهد من تبعات ،والنص حيمل
التعبري ويدعه يشمل كل أمانة ،وكل عهد ,ويصف املؤمنني بأهنم ألماناهتم وعهدهم راعون ،فهى صفة
رعى فيها العهود»(.)1ؤدى فيها األمانات وتُ َ
دائمة هلم ىف كل حني ،وما تستقيم حياة اجلماعة إال أن تُ َّ
فعبد اهلل بن ياسني – رمحه اهلل – اتصف باألمانة فعظم شأنه ىف نظر أتباعه وىف تاريخ امل ْسلِمني؛
ألنَّه كان أمينا ىف نفسه ومع إخوته ،ومحل أمانة اإلسالم ،وبذل كل ما ىف وسعه ،وحترك ُ
مبنهج اهلل ىف َّ ً
دنيا النَّاس لتحكيم شرع اهلل ،فأكسبته هذه الصفة ىف نفوس النَّاس قبوالً.
-5الحياء :والصفة اخلامسة الفطرية الىت ُجبل عليها عبد اهلل بن ياسني ,احلياء الذى هو شعبة
ب اإلميان ،ويظهر ذلك جليًا عندما طلب شيخه منه الذهاب مع حيىي ابن إبراهيم للدعوة فلم من ُش َع ِ
يعارض ومل يناقش بل استجاب لشيخه ,كما نالحظ ذلك ىف سريته مع حيىي بن إبراهيم الذى متلك
حب عبد اهلل بن ياسني وأسر فؤاده بإحسانه وكرمه وحرصه على دعوة النَّاس لدين اهلل ،فعندما قلبَه ُّ
عرض األمري حيىي على عبد اهلل بن ياسني ِربَاطًا ىف ضفاف هنر السنغال أجابه عبد اهلل بن ياسني الذى
وعرف
عازما على ترك جدالة وملتونة؛ ملا أصابه من عنتهم وظلمهم وجورهم ىف بداية دعوته هلمَّ . كان ً
العلماء احلياء فقالوا« :
أصل االستحياء االنقباض عن الشيء واالمتناع منه خوفًا من مواقعة القبيح»(.)2
وقال الجنيد« :إن الحياء يتولد من مشاهدة النعم ورؤية التقصير»(.)3
صفُ بها النبالء والشرفاء من النَّاس, صفَات الرائعة التى يتَّ ِ فالحياء من المعانى وال ِّ
َّحابِى الجليل أبو سعيد َ ص ال وصفه وقد ,ءً حيا وكان الرسول × أش َّد النَّاس
درها ،فإذاأش) َّد حيا ًء من العذراء فى ِخ ِ ال ُخدَريُّ بقوله« :كان رسو ُل هللاِ ×
رأى شيئًا يكرهه عَرفناه فى وجهه» .
(4
وقال رسول هللا ׫ :الحياء ال يأتى إال بخير» ( ،)5ومن الحياء غضُّ البصر،
وخفض الجناح ،وعدم رفع الصوت إال فى وجه الباطل.
فعلى العاملين فى الدعوة إلى هللا أن يُالزموا هذه الصفة الجميلة.
وتحث عليه ،هو الذىُّ فالحياء المطلوب فى صفة الداعية والذى تدعو إليه الشريعة
)(1تاريخ المغرب واألندلس فى عصر المرابطين ,حمدي عبد المنعم ،ص (.)42
)(2انظر :الصفات الالزمة للدعاة إلى هللا ,ص (.)63
)(3المصدر السابق ,ص (.)73-72-71
26
ال السكون وال الهمود ُ
قلت الحيلة هى التحرك
من تعلق بالقعود وهى الجهاد وهل يجاهد
ال التلذذ بالرقود وهى التلذذ بالمتاعب
وأى حر ال يذود هى أن تذود عن الحياض
الذل من ماء صديد هى أن تحس بأن كأس
()1
فى األرض شأنك أن تسود هى أن تعيش خليفة
-2النظام والدقة:
وظهرت صفة النظام والدقة فى شخصية الفقيه ابن ياسين عندما تكاثر عدد
المريدين فى رباطه الذى اتخذه قريبًا من نهر السنغال؛ حيث وضع شروطًا فى قبول
كل جديد كى يحفظ صفو جماعته من ال ُمخَ ِّربين ،فكان ينتقى أطهر ال ُملَثَّمين نفسًا
وأوفرهم قُ َّوة وأقدرهم على تحمل المشاق ،و َمن توفرت فيه الشروط واجتاز التجربة
بنجاح يتولى تعليمه وتثقيفه من قرآن وسنة وتفسير وحديث وأحكام الدين(.)2
وأصبح رباطه قمة فى النظام والدقة ,واختار إلدارته أحد األمراء ،وفى األمور
المهمة كان األمر شورى بين الجماعة اإلسالمية المرابطة(.)3
إن ديننا اإلسالمى َحثَّنا على النظام فى كل شيء ،ومن التطبيقات العملية على
ذلك نأخذ مثال السفر ،حيث أمر اإلسالم الركب إذا كانوا ثالثة أن يؤمروا عليهم
أميرًا ،حتى ال يختلفوا فى الطريق وتتبعثر جهودهم ،خصوصًا أن السفر ,كما قال
ك أنَّها عملية تريح الرسول × ,قطعة من العذاب ،فعملية التنظيم واختيار األمير ،ال ش َّ
المسافرين من أعباء كثيرة ،قال ׫ :إذا خرج ثالثة فى سفر فليؤمروا
أحدهم»( .)3فالبُ َّد إذاً من تعويد النفس وضبطها على النظام ،فال ُم ْسلِم ال يتربى تربية
منظمة ,إال إذا كان فى جماعة منظمة ذات ارتباط ونظام ودقة فى كل شيء ,وفى كل
أمر ،كما أن هذه الجماعة لها هدف جماعي ،يتحقق بتعاون الفرد وانصهاره فى بوتقة
الطاعة والنظام(.)4
-3القدرة على التعامل مع الناس:
تميَّزت شخصية الفقيه ابن ياسين بمقدرته فى تعامله مع أصناف النَّاس من أمراء
وعوام وتجار وغيرهم من طبقات ال ُمجْ تَ َمع الصنهاجي .كان -رحمه هللا -رقيق
الشعور ،ثائر العاطفة ،يقظ القلب ،بعيد اآلمال ،كبير المطامح فى اإلصالح ،وكان كل
همه أن ينتفع النَّاس بعلمه ودعوته ،ولذلك اختلط بالنَّاس ودرس أخالقهم وطبيعتهم عن
)(1الصفات الالزمة للدعاة إلى هللا ،ص (.)73
)3،(2دولة المرابطين ص (.)27
)(3مسلم ،كتاب المساجد ,باب من أحق باإلمامة )1/464( ،رقم (.)672
)(4انظر :الصفات الالزمة للدعاة ،ص (.)75
27
كثب ،وكان فى خطابه لِلنَّاس متحليًا بمكارم األخالق بعيدًا عن التجريح واإلساءة.
واتخذ من القرآن منهجًا فى أسلوبه ودعوته متمثالً بقول هللا تعالى﴿ :ا ْدعُ إِلَى
ِ ِ ِ ِ ْحك ِ يل ربِّ َ ِ ِ
َح َس ُن﴾[النحل.]125: ْحسََنِة َو َجادل ُْه ْم بِالَّتِى ه َي أ ْ
ْمة َوال َْم ْوعظَة ال َك بال َ
ِ
َسب ِ َ
نت فَظًّا اهلل لِ َ
نت ل َُه ْم َول َْو ُك َ وقد وصف نبيه الكريم × بقوله﴿ :فَبِما ر ْحم ٍة ِّمن ِ
َ َ َ َ
ك﴾ [آل عمران .]159 :فليقتد الداعى ال ُم ْسلِم برسول هللا ْب الَن َفضُّوا ِم ْن َح ْولِ َ غَلِي َ
ظ الْ َقل ِ
× ،وليكن شأنه وديدنه لمن يدعوهم ,ويتحمل صدور أى أذى منهم.
-4االستعداد للبذل والتضحية بكل شيء:
نجد الفقيه عبد هللا بن ياسين -رحمه هللا -قد بذل نفسه وماله ووقته وحياته ،وكل
شيء فى سبيل الغاية التى خرج من أجلها إلى قبائل صنهاجة ،وقد أيقن هذا الداعية
الربانى أنه ليس فى الدنيا جهاد ال تضحية معه ،إنَّما هو األجر الجزيل ،والثواب
الجميل.
إن ال ُم ْسلِم عندما يبذل ما فى وسعه من أجل دعوته ورضا ربه يرجو بذلك أعظم
الدرجات عند هللا ,والفوز والخلود والنعيم المقيم بالجنة ،وأعظم من ذلك إحالل
يل ِ
اهلل اه ُدوا فِى َسبِ ِ اج ُروا َو َج َ آمنُوا َو َه َ ين َ
َّ ِ
رضوان هللا عليه ،قال تعالى ﴿ :الذ َ
ك ُه ُم الْ َفائُِزو َن ُ يبَ ِّش ُر ُه ْم َر ُّب ُهم بَِر ْح َم ٍة بِأ َْموالِ ِهم وأَْن ُف ِس ِهم أَ ْعظَم َدرجةً ِع ْن َد ِ
اهلل َوأُولَئِ َ ُ ََ ْ َ ْ َ
يم﴾ [التوبة.]21-20 : ِ ِ ِ َّ ٍ ٍ ِّم ْنهُ َو ِر ْ
يم ُّمق ٌض َوان َو َجنَّات ل ُه ْم ف َيها نَع ٌ
اريخ ،ويبدلوا إن الذين ضحوا وبذلوا وجاهدوا ,استطاعوا أن يُغيِّروا مجرى التَّ ِ
أفكار ومبادئ البشر األرضية بمبادئ سامية ربانية.
فينبغى على العاملين فى مجال الدعوة اإلسالمية أن يجردوا أنفسهم من الهوى،
وينفضوا أنفسهم من كل بهرج وزينة ،وأن يبذلوا المال برضاء وسخاء ،ويبذلوا
العافية والصحة والسهر والتعب ،والمسير المضني ،لرفع دعوة هللا ،وإذا دعت الحاجة
إلى بذل الروح فال يضنون بها ،بل يجعلونها رخيصة بجانب مغفرته ورحمته
ورضوانه وجنته(.)1
دت اإلسهاب فى ذكر الصِّ فَات الالزمة فى الشخصية التى تريد أن تربى لقد تع َّم ُ
أمة وتنشئ شعبًا وتبنى دولة ،لع َّل هللا ينفعنا بالدراسة التحليلية للشخصيات الربانية
التى ظهرت فى أمتنا العظيمة.
***
29
واآلخرة ,بحيث يصير اإلنسان فى الدنيا مستحقًا لألوصاف المحمودة ،وفى
اآلخرة األجر والمثوبة وذلك فى قوله – سبحانه وتعالىَ ﴿ :-و ُي َز ِّكي ُك ْم﴾.
فالداعية إلى هللا يطهِّر نفوس النَّاس بوحى هللا ،وينمى أرواحهم وأقوالهم وأبدانهم،
ويرتفع بهم إلى المستوى الذى يليق بكرامة اإلنسان ،الذى كرَّمه ربه وفضَّله على
كثير ممن خلق.
-3التعليم ،تعليم النَّاس العلم النافع ،أى القرآن والحكمة ،وذلك فى قوله سبحانه
ِ ِ
ْمةَ﴾. من هذه اآليةَ ﴿ :و ُي َعلِّ ُم ُك ُم الْكتَ َ
اب َوالْحك َ
فهو واجب النبى × ,وواجب الدعاة إلى هللا إلى يوم الدين ،و«الكتاب» هو القرآن
ي لِلنَّاس؛ كل النَّاس ,إذ ما من خير للبشرية فى دينها ودنياها إال أمر الكريم ،وهو هد ً
به القرآن ،وما من شيء من هذا وذاك إال اشتمل عليه القرآنَّ ﴿ :ما َف َّرطْنَا فِى ال ِ
ْكتَ ِ
اب
يل ُك ِّل َش ْي ٍء﴾ و﴿تِْبيَانًا لِّ ُك ِّل َش ْي ٍء﴾. ِ
من َش ْيء﴾ و﴿َت ْفص َ
ٍ ِ
وقد سُمى القرآن الكريم قرآنًا من بين كتب هللا؛ ألنَّه جمع ثمرة هذه الكتب كلها،
بل جمع ثمرة العلوم والمعارف كلها ،إذ القرآن معناه الجمع واإلثبات.
والحكمة هي :إصابة الحق بالعلم والعقل ،ولها معان ،فهى من هللا سبحانه:
معرفة األشياء وإيجادها ،على غاية ما يكون اإلحكام ،ومن اإلنسان :معرفة
الموجودات ،والعلم بها ،وفعل الخيرات .و«الكتاب والحكمة» بهذه المعانى هما تنوير
األذهان بما تفتقر إليه من هدايات فى عالمى الغيب والشهادة ،وكم كانت قبائل
صنهاجة محتاجة لهذه الهدايات التى أصلحت اعتقادها وتصورها ومنهجها ،وأصبحت
قبائل تحمل أهم رسالة ودعوة ربانية بفضل هللا عليها ثم بجهود المخلصين من أمثال
الفقيه ابن ياسين.
-4واجتهد ابن ياسين – رحمه هللا – فى نقل النَّاس من ضالل الباطل إلى طريق
الحق ،ومن ظالم الجهل إلى نور العلم مسترشدًا بقول هللا تعالىَ ﴿ :و ُي َعلِّ ُم ُكم
صرُكم بحاضركم ،ويرسم لكم أسلم طريق َم تَ ُكونُوا َت ْعلَ ُمو َن﴾ أى يُبَ ِّ َّما ل ْ
لمستقبلكم.
كان أثر التربية القرآنية واضحًا فى شخصية ابن ياسين – رحمه هللا – حيث نجده
فى تبليغ رساالت هللا ال يُداهن وال يُجامل ,بل يأخذ بجميع األخالق الشرعية ،ويتوكل
ين ُيَبلِّغُو َن َّ ِ
على هللا فى الصدع بكلمة الحق ,وكأن بين عينيه قول هللا تعالى﴿ :الذ َ
اهلل ح ِ
ِ ِ ِ
سيبًا﴾ [األحزاب.]39 : َح ًدا إِالَّ اهللَ َو َك َفى بِ َ ِر َساالَت اهلل َويَ ْخ َش ْونَهُ َوالَ يَ ْخ َش ْو َن أ َ
وكان يش ُع ُر فى قرارة نفسه باإلثم والمعصية إن قعد وكتم ما علََّمه هللا –
ين يَكْتُ ُمو َن َما َّ ِ
سبحانه وتعالى-وهذا من أثر القران فى نفسه حيث قال تعالى﴿:إن الذ َ
اب أُولَئِ َ ات والْه َدى ِمن ب ْع ِد ما بَّينَّاهُ لِلنَّاس فِى ال ِ ِ
لع ُن ُه ُم اهللُ ك يَ َ ْكتَ ِ َ َ َ أَْن َزلْنَا م َن الَْبِّينَ ِ َ ُ
َو َيل َْع ُن ُه ُم الالَّ ِعنُو َن﴾
[البقرة.]159:
30
واآلية واضحة فى بيان أن َمن عرف الحق ،فقد وجب عليه أن يُبينه لِلنَّاس ،و َمن
لم يفعل فقد أثِم.
إننا محتاجون بأن نتربى على آيات هللا ،لنفهمها ثم لننطلق فى دنيا الناس عاملين
بها ابتغاء مرضاة هللا ،وطمعًا فى ثوابه ورغبة فى جنته ،وخوفًا من عقابه وشفقة من
ناره.
نعى هللا تعالى فى كتابه العزيز على أهل الكتاب عدم بيانهم أحكام هللا لِلنَّاس وكتمانها
ِ َّ ِ ِ
اب
ين أُوتُوا الْكتَ َقليل من متاع الدنيا ,فقال تعالىَ ﴿ :وإِ ْذ أَ َخ َذ اهللُ ميثَا َق الذ َ مقابل ثمن ٍ
س َما ِ ِ ِِ ِِ ِ
لَتَُبِّيُننَّهُ للنَّاس َوالَ تَكْتُ ُمونَهُ َفنَبَ ُذوهُ َو َر َاء ظُ ُهوره ْم َوا ْشَت َر ْوا به ثَ َمنًا قَليالً فَب ْئ َ
يَ ْشَت ُرو َن﴾ [آل عمران.]187:
وهكذا يا أخى الكريم نجد القرآن الكريم فى تربيته للدعاة إليه يرغبهم ويرهبهم،
فتنطلق القلوب تسعى للمثوبة والدرجات العلى؛ ألن ما عند هللا خير وأبقى.
كما نجد األحاديث النبوية التى تربى عليها ابن ياسين وتالميذه مشجعة لهم فى
السعى الدءوب من أجل إكمال مرحلة التعريف بنجاح.
فإن السنة النبوية المطهرة شارحة القرآن وقد فاضت باألحاديث فى هذا المجال.
روى اإلمام البخارى بسنده ،عن عبد هللا بن عباس –رضى هللا عنهما ,-فى باب:
تعريف النبى × وفد عبد القيس على أن يحفظوا اإليمان ،والعلم ،ويخبروا َمن
وراءهم ،قال مالك بن الحويرث -وهو من بنى عبد القيس -قال لنا النبى ׫ :ارجعوا
إلى أهليكم فعلِّموهم».
عن ابن عباس قال« :قال النبى × لما قَ ِدم إليه ،وفد عبد القيسَ :من الوفد ,أو َمن
القَوم؟» قالوا :ربيعة ,فقال« :مرحبًا بالقَوم ،أو الوفد ،غير خزايا وال ندامى»،
قالوا :إنا نأتيك من شقة بعيدة ،وبيننا وبينك هذا الحى من كفار مضر ،وال نستطيع أن
نأتيك إال فى شهر حرام ،فمرنا بأمر نخبر به َمن وراءنا ندخل به الجنة ،فأمرهم بأربع
ونهاهم عن أربع :أمرهم باإليمان باهلل عز وجل وحده ،قال« :هل تدرون ما اإليمان
باهلل وحده؟» قالوا :هللا ورسوله أعلم.
قال« :شهادة أن ال إله إال هللا ،وإن محمدًا رسول هللا ،وإقام الصالة،
وإيتاء الزكاة ،وصوم رمضان ،وتعطوا الخمس من المغنم».
ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت ،قال شعبة :ربما قال« :النقير» وربما قال:
«المقير» قال« :احفظوه وأخبروه َمن وراءكم»(.)1
وهذا الحديث النبوى الشريف نهج للقَوم لمعرفة أصول الدعوة فى مرحلة
التعريف ومعالجة األمراض بال ُمجْ تَ َمع ،حيث كانت عادة شرب الخمر قد انتشرت فى
ربوع هؤالء القَوم انتشار النار فى الهشيم ،ولذلك نهاهم رسول هللا × عن الدباء
أوان لشرب الخمر ،ومن مثل هذا الحديث ٍ والحنتم والمزفت التى كانت عبارة عن
يستلهم الدعاة أولويات مرحلة التعريف فى الدعوة إلى هللا تعالى ،وغيره من األحاديث
الكثيرة واإلرشادات النبوية الكريمة.
استم َّر الفقيه ابن ياسين فى تعريف النَّاس بأصول دينهم وأحكامه واألخالق التى
)(1مسلم :كتاب اإليمان ،باب األمر باإليمان باهلل تعالى ورسوله )1/46( ،رقم (.)17
31
تطلبها شريعتهم وحارب التقاليد واألعراف السيئة بكل شجاعة وجرأة.
إال إن هللا تعالى ابتاله بقَوم غالظ األكباد قساة القلوب فاصطدمت دعوة المصلح
الفقيه بأطماعهم؛ فتعرَّض للتضييق والش َّدة والعسف من بعض وجهاء قبائل صنهاجة
من قبيلة جدالة وحاولوا قتله إال إن هللا نجاه منهم.
فأشار األمير المخلص والتلميذ الوفى يحيى بن إبراهيم على ابن ياسين أن يذهبوا
إلى جزيرة فى حوض السنغال ليتربى األتباع فيها ابتغاء مرضاة هللا والدار اآلخرة.
وقال له :إن الجزيرة إذا حسر البحر دخلنا إليها على أقدامنا وإذا امتأل دخلنا فى
الزوارق ،وفيها الحالل المحض الذى ال تشك فيه من الشجر البري وصيد البر والبحر
من أصناف الطير والوحوش والحوت(.)1
وبذلك يكون ابن ياسين – رحمه هللا – ترك ديار ال ُملَثَّمين واختار جزيرة فى
حوض نهر السنغال للمرابطة وتربية المريدين على كتاب هللا وسنة رسوله × ،بعد أن
ترك صدى ودويًا لدعوته فى ديار ال ُملَثَّمين ،وبذلك قرَّر ابن ياسين أن ينتقل إلى
مرحلة التكوين مختارًا مكانًا مناسبًا لهذه المرحلة المهمة فى تاريخ دولة المرابطين
بعد أن نجح فى مرحلة التعريف فى إبالغ الدعوة والتعريف بها لهم.
ب -مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوية عند الفقيه ابن
ياسين:
تمهيد :اشتهر فى تاريخ المرابطين ما يُسمى برباط ابن ياسين ،وقبل أن نتعرض
لرباط ابن ياسين الذى اتخذه فى مرحلة التكوين أرى من باب الفائدة للقارئ الكريم أن
يأخذ فكرة مختصرة عن معنى ال ِّربَاط فى اإلسالم.
الرباط :حصن حربى يُقام فى الثغور المواجهة للعدو للذود عن ديار ال ُم ْسلِمين،
وهذه التسمية مقتبسة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة:
َعدُّوا لَهم َّما استطَعتم ِّمن ُق َّو ٍة وِمن ِّرب ِ
اط أما القرآن الكريم فمن قوله تعالى﴿ :وأ ِ
َ َ ْ َ ُْ ُْ َ
صابِ ُروا َو َرابِطُوا ِ ِ َّ
و وا
ُْ َ َ رب اص وان آم
َ َُ ين ذ ل ا ا الْ َخ ْي ِل﴾ [األنفال ,]60:ومن قوله تعالى﴿ :يَا َ
هَي
ُّ أ
َو َّات ُقوا اهللَ ل ََعلَّ ُك ْم ُت ْفلِ ُحو َن﴾ [آل عمران.]200 :
وفى الحديث النبوى فى البخارى جاء فضل الرِّ بَاط فى سبيل هللا تعالى عن سهل
بن سعد الساعدى أن رسول هللا × قال« :رباط يوم فى سبيل هللا خير من الدنيا
وما عليها ،وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها،
والروحة يروحها العبد فى سبيل هللا أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها»(.)2
وأصبحت كلمة مرابط تطلق على الشخص الذى خرج إلى الثغور للدفاع عن
ال ُم ْسلِمين من أعدائهم ،وأطلق ال ُم ْسلِمون على الثغر أى المحل الذى يقيمون فيه اسم ال ِّربَاط.
ويحتوى ال ِّربَاط على برج مراقبة وحصن صغير ،وقد أقام والة الثغور كثيرًا من
اريخ ،فكان فى بالد ما وراءهذه الرُّ بُط لحماية حدود الدولة اإلسالمية على مرِّ التَّ ِ
)(1انظر :دولة المرابطين ،ص (.)23
)(2رواه البخاري فى كتاب الجهاد والسير (ج ،)3/295حديث رقم (.)2892
32
النهر عشرة آالف رباط ،وكذلك فى ثغور الجزيرة الفراتية ،وكانت سواحل المغرب
المطلَّة على البحر المتوسط عرضة لغارات البيزنطيين أكثر من غيرها ,فأقيمت فيها
َّحابِى الجليل عقبة بن نافع
الرُّ بُط وشحنت بالمجاهدين للدفاع عنها ،حتى إن الص َ
الفهرى عندما أراد بناء مدينة القيروان بلغت الحماسة برجاله فاقترحوا عليه إقامتها
()1
على الساحل للمرابطة فيها ،وقالوا له :قرِّبها من البحر ليكون أهلها من المرابطين».
وقد توسَّعت الرُّ بُط فى عهد العباسيين ،وبنى الوالى العباسى هرثمة بن أعين أول
رباط فى إفريقية عام (179هـ 795 /م) ( )2وتوسَّع األغالبة فى هذا المجال تو ُّسعًا
عظي ًما ،وأقام الوالى زيادة هللا األغلبى رباط سوسة عام (206هـ822 /م).
وكان األغالبة يسمون هذه الرُّ بُط بالقصور والمحاريس ،وقد انتشرت من
اإلسكندرية إلى المحيط األطلسي ،وكان أهالى ال َّش َمال اإلفريقى يلجأون إليها إذا
داهمهم الغزاة ،وقد قاومت هذه الثغور أساطيل وجيوش البيزنطيين الذين عجزوا رغم
تفوقهم البحرى عن احتالل الساحل اإلفريقي ،وقد التزم المقيمون فى هذه الثغور
باالهتمام بالفروسية والتدريب عليها خاصَّة ،باإلضافة إلى كل التدريبات الجهادية
األخرى التى أهلتهم للقيام بمهماتهم على أكمل وجه من الذود عن حياض ال ُم ْسلِمين
والجهاد فى سبيل هللا.
وإلى جانب المهمات الجهادية التى قامت بها الثغور فقد اهتمت بالناحية ال ِعل ِميَّة،
فمع انتشارها أخذت التعاليم اإلسالمية تنتشر من خاللها ،وقد قام فقهاء أهل السنة
والجماعة فى تلك الثغور من فقهاء المالكية بدور ريادى عظيم فى وجه التيارات
الفكرية والمذهبية التى عصفت بالمشرق ،وكانت الرُّ بُط والثغور والقالع والحصون
هى المنطلق لنشر ما كان عليه رسول هللا × وأصحابه من عقيدة وعبادة وأخالق
ومعاملة ،وأصبحت الثغور فى ال َّش َمال اإلفريقى مدارس علمية تدرِّس أمور الدين من
فقه وحديث وتفسير وأصول وغيرها ،وكانت حياة أهل الثغور تقوم على أساس من
التعاون بين أفرادها لتحقيق حياة إسالمية مثالية ،وكان األفراد يجمعون المؤن بأنفسهم
عن طريق الصيد البرى والبحرى حسب موقع ال ِّربَاط ،وكذلك يقومون بإعداد الطعام،
وكل ما تتطلبه عمليات التموين من زراعة وصناعة آالتها باإلضافة إلى صناعة
األسلحة(.)3
وأ َّما من ناحية العبادة ،فالجماعة التى التزمت بال ِّربَاط مؤمنة بربها وبرسالة اإلسالم،
فكانت العبادة تقتصر على الصلوات الخمس جماعة ،وقد وضعت عقوبات لمن يتأ َّخر
عنها.
وفى أوقات السلم كانوا يحفظون القرآن وتفسيره وكل ما يمت إلى الدين بصلة،
ويقُومون بالمهمات التى تتعلق بحياة الرِّ بَاط ،وبما أن التبشير بهذا الدين والدعوة إليه
من أهم واجباتهم؛ فكانوا يخرجون إلى القبائل لهدايتها وترغيبها فى اإلسالم وتربيتها
عليه ،وقد أ َّدت الث ُغور فى ال َّش َمال اإلفريقى خدمات جليلة لإلسالم ولل ُم ْسلِمين ،فقد
عصمت أهل المغرب إلى حد كبير من الفِتَن التى سادت المشرق ،وكان لمنهج أهل
السنة والجماعة شوكة وحماة وعلماء وفقهاء فى تلك الربوع من عالمنا اإلسالمي،
)(1انظر :المالكي ،رياض النفوس ،ص (.)6
)(2دائرة المعارف اإلسالمية مادة رباط ،ص (.)19
)(3انظر :دولة المرابطين ،ص (.)25 ،24
33
وتميَّز أهل الثغور عن غيرهم بالزهد والتقشف والتفانى فى سبيل هللا ،وال يبتغى أهلها
اف ِمن َّرِّبنَا
من النَّاس من وراء ذلك جزاء وال شكورًا ،وإنما لسان حالهم ﴿ :إِنَّا نَ َخ ُ
وسا قَ ْمطَ ِر ًيرا﴾ (.)1
َي ْو ًما َعبُ ً
-1رباط عبد هللا بن ياسين:
أقام الفقيه العالم الرَّبانى المربى المجاهد ابن ياسين رباطه فى الحوض األدنى
لنهر السنغال ،وموقعه يدلُّ على أهداف ابن ياسين التى أعد لها ،فهو يقع قريبًا من
مملكة غانة الوثنية ،لذلك فهو ُمه َّدد دائ ًما باألعداء ،والبُ َّد للجماعة المقيمة فيه من
الجهاد ،وهو غير بعيد عن ديار ال ُملَثَّمين ،فيستند إليهم فى حاالت الخطر ،وتشكل تلك
الديار موردًا بشريًا ال ينضب لمن يريد االنضمام إليه ،وهذا يفسر كثرة عدد رجاله.
دخل ابن ياسين الجزيرة التى فى الحوض األدنى لنهر السنغال عام (433هـ/
1040م) ومعه أتباعه المخلصون ,ثم بدأ االنضمام إلى جماعته من أبناء ال ُملَثَّمين،
وتكاثر عدده حتى بلغ األلف رجل ،ولما كثر أتباعه ،وضع ابن ياسين شروطًا رآها
الزمة لكى ال يتأثر تنظيم رباطه الجديد ومرحلته التى بدأ الشروع فيها ،فكان ينتقى
أطهر ال ُملَثَّمين نفسًا وأوفرهم قُ َّوة وأقدرهم على تحمل المشاق ،كان يطلب منهم أن
وتصوراتهم التى تخالف اإلسالم ،ويدخلوا اإلسالم ُّ يتخلوا عن تقاليدهم وأعرافهم
بقلوب صافية ونفوس طاهرة وهمم عالية تسعى لتحكيم شرع هللا على وجه
المعمورة(.)2
وعمل جاهدًا على تحكيم شرع هللا على األفراد وفى ُمجْ تَ َمعه الجديد ،وكان يرى
أن َمن فاتته صالة من عمره عليه أن يقضيها ،وهى مسألة فقهية اختلف علماء األمة
فيها ،فمنهم َمن يكتفى بالتوبة النصوح ،ومنهم َمن يطلب قضاء ما فات.
وكان ابن ياسين يهتم اهتما ًما بال ًغا بالفقهاء والعلماء ويرفعهم إلى مراتب عالية
حيث التف حوله مجموعة من الفقهاء والعلماء ليساعدوه على تربية النَّاس وتعليمهم
وتأهيلهم للمرحلة القادمة.
وكان ال يمنعه الحياء من طرد َمن ال يراه مناسبًا لهدفه المنشود.
وكان أهل الرِّ بَاط فى قمة الصفاء الروحي ,ويعيشون حياة مثالية فى رباطهم،
فيتعاونون على قوتهم اليومى معتمدين على ما توفِّرُه لهم جزيرتهم من الصيد
البحري ،يقنعون بالقليل من الطَّعام ،ويرتدون الخشن من الثياب(.)3
كان رباط السنغال الذى أسَّسه الداعية الرَّبانى ابن ياسين منارة يشع نورُها
وخيرها وعلمها فى تلك الصحارى القاحلة ،فأصبح قطبًا جذابًا؛ عامالً على جذب أبناء
قبائل صنهاجة إليه ،ووفر األمن واالستقرار فى تلك الديار الصحراوية البعيدة،
فأصبحت القوافل تمرُّ بأمن وسالم دون أن يتعرض لها أحد بسوء ،وقد أ َّدى ذلك إلى
ازدهار التجارة.
36
ول فَ ُخ ُذوهُ َو َما َن َها ُك ْم َع ْنهُ
الر ُس ُ
وأمرهم باتباعه فيما أمر ونهىَ ﴿ :و َما آتَا ُك ُم َّ
فَا ْنَت ُهوا﴾
[الحشر.]7:
ين َّ ِ
وأمرهم باالستجابة لدعوته،واعتبر ما يدعوهم إليه هو الحياة ﴿ :يَا أ َُّي َها الذ َ
ك ْم﴾ [األنفال.]24: ول إِ َذا َد َعا ُكم لِ َما يَ ْحيَي ُ هلل َولِ َّ
لر ُس ِ استَ ِجيبوا ِ
آمنُوا ْ ُ َ
ضى مؤمنة خياراً ىف قبول ُحكمهَ ﴿:و َما َكا َن لِ ُم ْؤِم ٍن َوالَ ُم ْؤِمنَ ٍة إِذَا قَ َ ومل جيعل ملؤمن وال ٍ
ض َّل
ص اهللَ َو َر ُسولَهُ َف َق ْد َ ْخَي َرةُ ِم ْن أ َْم ِر ِه ْم َو َمن َي ْع ِ
اهلل ورسولُهُ أَمرا أَن ي ُكو َن لَهم ال ِ
ُُ َ ًْ ُ ََ ُ
ِ
ضالَالً ُّمبينًا﴾
َ
[األحزاب.]36:
وأقسم على نفى اإليمان ع َّمن أعرض عن تحكيمه ,أو لم يقبل حُك َمه راضيا ً
يما َش َج َر َب ْيَن ُه ْم ثُ َّم الَ يَ ِج ُدوا فِى ك الَ ي ْؤِمنُو َن حتَّى يح ِّكم َ ِ ُمسلِّماً﴿:فَالَ َو َربِّ َ
وك ف َ َ َُ ُ ُ
ِ أَْن ُف ِس ِه ْم َح َر ًجا ِّم َّما قَ َ
يما﴾ [النساء.]65: ت َويُ َسلِّ ُموا تَ ْسل ً ض ْي َ
ك الذى يميز اإليمان من وجعل -سبحانه وتعالى -قبول حُكمه أو التولى عنه المح َّ
ِ َّ
ول َوأَطَ ْعنَا ثُ َّم َيَت َولى فَري ٌق ِّم ْن ُهم ِّمنالر ُس ِ النفاق؛ قال تعالى﴿ :وي ُقولُو َن آمنَّا بِ ِ
اهلل َوبِ َّ َ ََ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ين َ وإذَا ُدعُوا إلَى اهلل َو َر ُسوله ليَ ْح ُك َم َب ْيَن ُه ْم إذَا فَري ٌق ِ ِ ِ ِ ك َو َما أُولَئِ َ َب ْع ِد ذَلِ َ
ك بال ُْم ْؤمن َ
اهلل َو َر ُسولِ ِهضو َن﴾ [النور ﴿ .]48 - 47:إِنَّما َكا َن َقو َل الْم ْؤِمنِين إِ َذا ُدعُوا إِلَى ِ
ُ َ ْ َ ِّم ْن ُهم ُّم ْع ِر ُ
ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن﴾ [النور.]51: لِيَ ْح ُك َم َب ْيَن ُه ْم أَن َي ُقولُوا َس ِم ْعنَا َوأَطَ ْعنَا َوأُولَئِ َ
ُس َوةٌ َحسنة لِّ َم ْن َكا َن اهلل أ ْول ِ وحث على االقتداء بالنىب ×﴿:لََق ْد َكا َن لَ ُكم فِى ر ُس ِ
َ ْ
َخ َر َوذَ َك َر اهللَ َكثِ ًيرا﴾ [األحزاب.]21: يرجو اهلل والْيوم اآل ِ
َ َ َْ َ َْ ُ
ودلَّت أحاديث كثرية على وجوب اتباع النىب × ,ولذلك سعى املرابطون لتحقيقها ىف حياهتم،
ومن ذلك ما رواه أبو هريرة أن النىب × قال« :كلُّ أمتى يدخلون الجنة إال من أبي ،قيل:
و َمن يأبى يا رسول هللا؟ قالَ :من أطاعنى دخل الجنة ،و َمن عصانى
فقد أبى» (.)1
ومن ذلك ما رواه العرباض بن سارية قال« :وعظنا رسول اهلل × موعظة وجلت منها القلوب،
ودع :فأوصنا ،قال« :أوصيكم بتقوى وذرفت منها العيون ،فقلنا :يا رسول اهلل ،كأهَّن ا موعظة ُم ِّ
َّمع والطاع ِة ،وإن تأ َّمر عليكم عبد ،وإنَّه َمن يعش منكم فسيرى هللا ،والس ِ
اختالفًا كثيرًا ،فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها
فى ذلك(.)3
ووضع ابن ياسين خطة شاملة تر َّكزت على توزيع النابغين من تالميذه على
القبائل التى دخلت فى دعوته ليعلموها القرآن وشرائع اإلسالم ،وبدأ ابن ياسين فى
تخطيط الدولة التى شرع لتأسيسها على أسس شرعية ربَّانية ،وفى ظنى أن الذى أسس
الدولة المرابطية فعليًا ونفذ أحكامها الشرعية هو يوسف بن تاشفين ،وهذا ما يتضح
من خالل دراسة هذه الدولة البهية ،ولما تُوفى األمير يحيى بن إبراهيم الجدالي ،ق َّدم
1
() نص على ذلك التشابه صاحب كتاب مفاخر البربر ،ص ( ،)77انظر :فى تاريخ المغرب واألندلس ،ص (
.)281
)(2فى تاريخ المغرب واألندلس ،ص (.)278
)(3المصدر السابق ،ص (.)289
)(4المصدر السابق ،ص (.)291
42
لقد اِتضح لى فى دراستى التاريخيّة لبالد المغرب أنَّها كانت تعانى من تف ُّكك
سياسي ،وتكونت دول طائفية منحرفة عن مناهج رب البرية ،وكانت شعوب تلك
الديار قد غرقت فى وحل الجهل ،ومستنقعات االنحراف وفساد التصور ،وضياع
األخالق ،وكثرة الظلم ،وانتشار العسف والجور .وكان علماء وفقهاء المرابطين على
علم ودراية ،وقد وضعوا فى ُخطَّتِهم الجهادية توحيد المغرب األقصى والقضاء على
الدولة الطائفية الكفرية ،وإزالة الظلم والجور والتعسف.
وعملوا على توحيد الديار المغربية وتربيتها على منهج سنى مالكي ،ومحاربة
المناهج الكفرية ،والقضاء على المذاهب البدعية من خوارج ومعتزلة وروافض
ومنعها من االنتشار أو أن يكون لها وجود.
د -الشروع فى توحيد المغرب األقصى:
فى عام 447هـ1055 /م اجتمع فقهاء سجلماسة ودرعة وكتبوا إلى ابن ياسين
يُر ِّغبونَه فى الوصول إليهم ليخلص بالدهم مما تعانيه من الحكام الطغاة الظلمة؛ زناتة
المغراويين وأميرهم مسعود بن واندين ،فجمع ابن ياسين شيوخ قَومه وقرأ عليهم
رسالة فقهاء سجلماسة ،فأشاروا عليه بم ِّد يد المعونة لهم ،وقالوا له« :أيُّها الشيخ الفقيه,
هذا ما يلزمنا فَ ِسرْ بنا على بركة هللا»(.)1
فخرجت جموع المرابطين فى شهر صفر سنة 447هـ إلى بالد درعة ،فتصدى
لهم األمير مسعود بن واندين بالقتال ،وانتهت المعركة بهزيمة المغراويين ومصرع
مسعود وتشتت جيشه ،وأسرع ابن ياسين بدخول سجلماسة ،وأصلح أحوالها ،وقدم
عليها عامالً من لمتونة وحامية مرابطية ثم عاد إلى الصحراء»(.)2
وفى عام 448هـ1056/م تُوفى األمير يحيى بن عمر اللمتونى فَعيَّن عبد هللا بن
ياسين أخاه أبا بكر بن عمر مكانه للقيادة ،ثم تأهَّب أبو بكر لغزو بالد السوس؛ ففى
ب بالد السوس ،واختار أبو بكر بن عمر ربيع الثَّانِى سنة 448هـ سار المرابطون َ
صوْ َ
ابن عمه يوسف بن تاشفين ليتولى القيادة على مقدمة الجيش المرابطي ،وكان ذلك أول
ظهور ليوسف بن تاشفين مؤسس دولة المرابطين وقائد مرحلة التَّمكين ،وتمكنوا من
احتالل اردوانت ،وقضوا على الروافض والوثنيين ،كما قاتلوا اليهود المنتشرين فى
تلك النواحى فأعادوا بذلك تلك المناطق إلى مذهب أهل السنة والجماعة(.)3
وسار المرابطون إلى مدينة أغمات ،وكان أميرها يومئ ٍذ لقوط بن يوسف بن على
المغراوى وحاصروها ,واضطر لقوط إلى الفرار عندما أيقن عبث المقاومة ،فخرج
يتلمس النجاة فى أهله وحشمه تحت جنح الظالم ،ودخل المرابطون أغمات عام
449هـ1057 /م وأقاموا فيها ما يقرب الشهرين ،وتحركوا حركات حربية ُمح َكمة
للقضاء على فلول ال ُمغراويين ،واستطاعوا قتل أمير أغمات وتزوج أبو بكر بن عمر
من زينب النفراوية زوجة لقوط المغراوي.
ثم سار أبو بكر بن عمر فى جموع المرابطين إلى أرض برغواطة وكان أميرهم
يومئ ٍذ أبا حفص بن عبد هللا بن أبى غفير بن محمد بن معاذ ،ونشبت بين المرابطين
)(1انظر :موسوعة المغرب العربي (.)2/128
)(2المصدر السابق.)2/182( ،
)(3فى المغرب واألندلس ،ص (.)293
43
والبرغواطيين وقائع ومعارك حامية الوطيس أصيب فيها العالم الربانى والمقاتل
الميدانى والفقيه الموجِّ ه ابن ياسين بجراح أودت بحياته إلى الشهادة ,نحسبه كذلك وال
نُز ِّكى على هللا أحدًا ،حمل على إثر تلك الجراح إلى مقرِّ القيادة فى معسكر المرابطين،
وقبل خروج روحه جمع رؤساء وشيوخ المرابطين وحثَّهم على الثبات فى القتال،
وح َّذرهم من عواقب التفرقة والتحاسد فى طلب الرياسة ،ولم يلبث أن فارق الحياة ،
()1
فعلى أمثال هؤالء الرحمة والمغفرة والرضوان من الرحيم الواحد المنان .واتفق رأى
المرابطين على اختيار أبى بكر ابن عمر للرياسة مكان ابن ياسين ،وأجمع شيوخ
المرابطين على مبايعة أبى بكر ,فجمع بين الزعامتين الدينية والسياسية ،بينما يؤكد كل
من القاضى عياض وابن خلدون أن المرابطين اتفقوا فيما بينهم على تقديم الشيخ
سليمان بن حدو ،ليرجعوا إليه فى مشاكلهم وقضايا دينهم ،وتولَّى القائد الجديد الزعامة
بهمة عالية وشجاعة فائقة ،واستعداد للتضحية والفداء من أجل إحياء دين هللا على
منهج النبوة ،وطمس المعالم الكفرية للدولة البرغواطية ،فأمر بتعبئة جيوشه المجاهدة
وخرج لقتال واستئصال الكفر من بالد المغرب ،فأثخن فى جنود الدولة البرغواطية،
وفرَّق جموعهم ،وكسر شوكتهم ،وأعلنوا الطاعة والوالء للدولة المجاهدة الجديدة ،ثم
قصد أبو بكر مدينة أغمات ،فمكث بها حتى شهر صفر سنة (452هـ1060 /م) ثم تابع
سيره فى بالد المغرب ،يفتح البلدان والقرى وحصون الجبال ،ففتح سائر بالد زناتة،
وفتح مكناسة ،وحاصر مدينة لواتة ودخلها عنوة فى شهر ربيع الثَّانِى سنة 452هـ ,ثم
عاد إلى أغمات التى اتخذها قاعدة عسكرية للمرابطين ومقرًا لألمير وأخوته ،وعندما
امتألت المدينة اتجه أبو بكر إلى اختيار عاصمة جديدة ،فوقع على موضع مدينة
مراكش الحالية ،وشرع فى بنائها ،فأتاه رسول من الصحراء يخبره بإغارة قبيلة جدالة
على قبيلة لمتونة ،فعيَّن ابن عمه يوسف ,وأسرع من أجل اإلصالح بين القبائل
المتنازعة ،وقسَّم الجيش إلى فريقين ،نصفه مع يوسف الذى شرع فى تأديب القبائل
المغربية المتمردة من مغراوة وزناتة وبنى يفرن وغيرهم ,ووقع اختياره على أربعة
من الق َّواد هم :محمد بن تميم الجدالي ،وعمر بن سليمان المسوفي ,ومدرك التلكاني،
وسير بن أبى بكر اللمتوني ،وعقد لكل منهم على خمسة آالف من قبيلته ،وسيرهم
لتأديب تلك القبائل المتمردة ،وسار فى أثرهم فغزوا قبائل المغرب قبيلة بعد قبيلة،
وبلدًا بعد بلد ،وكان بعضهم يفرون وبعضهم يقاتلونه ,والبعض اآلخر يدخلون فى
طاعته.
واستم َّر فى توحيد بالد المغرب وسنرى جهوده الجهادية فى سيرته الميمونة.
أما أبو بكر فقد استطاع نشر األمن فى الصحراء ،وأزال الخالف القائم بين لمتونة
وجدالة ،وتوسع فى جهاد قبائل السود الوثنية لتدخل فى دين هللا؛ حيث صاول وجاول
وقاتل الزنوج لتأمين حدود دولة المرابطين الجديدة بعد دعوة الزنوج للدخول فى
اإلسالم.
وبعد أن حقق أبو بكر بن عمر نجاحات هائلة فى مهمته الدعوية؛ رجع إلى
المغرب األقصى بجيوشه؛ فأكرمهم يوسف بن تاشفين إكرا ًما يليق بالقائد الربَّانى أبى
بكر بن عمر ،واختار أبو بكر يوسف نائبًا عنه على حُكم المغرب األقصى ،وأمره
بالعدل والرفق بال ُم ْسلِمين ,ثم و َّدعه وعاد إلى الصحراء وقد ز َّوده يوسف بطائفة
)(1تاريخ المغرب واألندلس ،ص (.)44
44
عظيمة من الهدايا الجليلة ،من المال والخيل والبغال واألسلحة المحالة بالذهب،
ُ
والجوارى والثياب الفاخرة والمؤن والدوابِّ ،وهناك استأنف الجهاد والغزو حتى قتل
فى إحدى غزواته فى سنة (480هـ1087/م)(.)1
قال ابن كثير فى «البداية والنهاية» عنه -أى عن أبى بكر بن عمر« :-اتفق له من
الناموس ما لم تتفق لغيره من ملوك ,كان يركب معه إذا سار لقتال عدو خمسمائة ألف
مقاتل ،كان يعتقد طاعته ،وكان مع هذا يقيم الحدود ويحفظ محارم اإلسالم ،ويحوط
الدين ويسير فى النَّاس سيرة شرعية ،مع صحة اعتقاده ودينه ،ومواالة الدولة
العباسية ،أصابته نشابة فى بعض غزواته فى حلقه فقتلته»(.)2
لقد كان أبو بكر بن عمر من أعظم قادة المرابطين ،وأتقاهم وأكثرهم ورعًا ودينًا
وحبًا للشهادة فى سبيل هللا ،وساهم فى توحيد بالد المغرب ،ونشر اإلسالم فى
الصحارى القاحلة وحدود السنغال والنيجر ،وجاهد القبائل الوثنية حتى خضعت
وانقادت لإلسالم وال ُم ْسلِمين ،ودخل من الزنوج أعداد كبيرة فى اإلسالم ,وساهموا فى
بناء دولة المرابطين الفتية ،وشاركوا فى الجهاد فى بالد األَ ْن َدلُس ,وصنعوا مع إخوانهم
ال ُم ْسلِمين فى دولة المرابطين حضارة متميزة.
هـ -تأمالت فى مسيرة ابن ياسين الجهادية:
لقد سار ابن ياسين فى دعوته لقبائل ال ُملَثَّمين الصنهاجية سيرة حسنة نقية ،وتدرَّج
بهم من مرحلة التعريف إلى التكوين ثم التنفيذ حيث شرع فى قتال القبائل التى لم
تحترم أو تُقدِّس حرمات هللا ،وأزال المنكرات ،واعتبر ذلك جهادًا فى سبيل هللا.
وقد الحظت أن إعالن الجهاد على القبائل التى تفشت فيها المنكرات جاء بعد
إعداد وشورى من أهل الحل والعقد ،وبعد أن أصبحت لهم شوكة قوية وإمام مطاع،
ومجلس من العلماء والفقهاء يقلبون أمور السلم والحرب.
ويكفى هؤالء األبطال على صحة جهادهم ما رواه مسلم فى صحيحه عن النبى ×
« :ما من نبى بعثه هللا فى أمة قبلى إال كان له من أ َّمته حواريون،
وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ،ثم إنَّها تخلف من بعدهم ُخلوف،
يقولون ماال يفعلون ،ويفعلون ما ال يؤمرون ،فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن،
ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ،ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ،وليس وراء
ذلك من اإليمان حبةُ خردل»(.)3
إن حركة المرابطين كانت موفقة حيث استطاعت أن تنسق مع علماء وفقهاء
سجلماسة إلسقاط الدولة الزناتية التى تفشى فيها الظلم والجور والعسف ،فعندما رأوا
ق المصلحة كان من أنفسهم االستطاعة والمقدرة على إزالة الظلم ،ورأوا أن تحقُّ َ
أرجح ،سارع الفقهاء والعلماء بالموافقة على مقترح ابن ياسين ،وتدفَّقت جيوش
المرابطين ،وتعاونت مع المستضعفين وطهَّرت البالد من هيمنة العابثين ،ونشرت
العدل بين ال ُم ْسلِمين ،ورفعت الضرائب والمكوس عن المظلومين ،وفى نظرى أن
نجاح حركة المرابطين كان بتوفيق هللا ،ثم إن القيادة الفعلية للعلماء والفقهاء ومجلس
الشورى الذى يُ َمثِّل أهل ال ِّحل والعقد ممن شهدت لهم جموع المرابطين بأنَّهم أهل لذلك
)2( ,)(1البداية والنهاية.)12/143( ،
2
() البداية والنهاية ( . )12/143
46
المبحث السادس
مرحلة التمكين والتوسع لدولة المرابطين
القائد الربانى يوسف بن تاشفين
500 - 400هـ 1106 -1009 /م
تمهيد:
قد علمت بأهم المراحل فى فقه الدعوة إلى هللا التى م َّر بها اإلمام ابن ياسين حيث
نجده نجح نجاحًا عظي ًما فى تنفيذ مرحلة التعريف واختيار العناصر التي تحمل
الدعوة ،ومرحلة المغالبة ،واستشهد فى مرحلة المغالبة وتولى القيادة فى هذه المرحلة
أبو بكر بن عمر الذى سار على نفس المنهج الذى رسمه ابن ياسين.
واستم َّر فى فتح مدن المغرب إال أنه ترك نصف جيش المرابطين البن عمه
يوسف ،ودخل بالباقى نحو الجنوب داعيًا ومجاهدًا ومصلحًا واستم َّر فى فتوحاته حتى
استشهد – رحمه هللا – وتولَّى األمر بالكلية القائد الربانى ابن تاشفين الذى أنهى مرحلة
المغالبة وانتقل إلى مرحلة التَّمكين.
أ -نسبه:
يوسف بن تاشفين بن إبراهيم اللمتونى الصنهاجي ,وأُ ُّمه بنت عم أبيه فاطمة بنت
سير بن يحيى بن وجاج بن وارتقين ،وكانت قبيلته قد سيطرت بسيادتها وقيادتها على
صنهاجة ،واحتفظت بالرئاسة منذ أن جعلها اإلمام ابن ياسين فيها بعد وفاة األمير
يحيى ابن إبراهيم الجدالى ،فنما عزي ًزا كري ًما فى قَومه.
قال عنه ال ُم َؤ ِّر ُخون من أمثال أشياخ« :خلق للزعامة» .
()1
()2
وإن اتهموا صنهاجة فهم هـــم ملك له ال َّش َرفُ العلى من حمير
كان يوسف أسمر اللون نقيُّه ,معتدل القامة ،نحيف الجسم ،خفيف العارضين،
رقيق الصوت ،أكحل العينين ،أقنى األنف ،له وفرة تبلغ شحمة األذن،
مقرون الحاجبين ,أجعد الشعر(.)3
كان يجمع بين جمال الطلعة وجمال الجسم ،وبين أبدع المواهب ،كان بطالً
شجاعًا ،نجدًا حاذقًا ،ج َّوادًا كري ًما ،زاهدًا فى زينة الدنيا ،عادالً متورعًا ,متقشفًا ,لباسه
الصوف ،وطعامه خبز الشعير ،ولحوم اإلبل وألبانها( .)4كان عزيز النَّفس كثير
الخوف من هللا.
كان يجمع الصفح والعفو عن الذنوب مهما كبرت ما عدا الذين يرتكبون الخيانة
فى حق الدِّين فال مجال للعفو عنهم(.)5
)(1انظر :فى تاريخ المغرب واألندلس ،د .أحمد العبادي ،ص ( 168إلى .)170
52
نهر أبرة سنة 1051م (.)2
***
تأثَّر ال ُم ْسلِمون بسقوط طُلَ ْي ِطلَة تأثُّرًا عميقًا على مختلف الساحة اإلسالمية فى األَ ْن َدلُس،
وتفجَّرت قريحة الشعراء فى استثارة الهمم والتحريض على الجهاد ،والتحذير من تفاقم
الخطر ،ومما قيل فى ذلك قول عبد هللا بن فرج اليحصبى المشهور بابن عسال الطليطلي:
فما المقام بها إال من الغلط يا أهل أندلس حثوا مطيتكم
ثوب الجزيرة منسوالً من الوسط الثوب ينسل من أطرافه وأرى
()2
كيف الحياة مع الحيات فى سفط ونحن بين عدو ال يفارقنا
ومن ذلك أيضًا:
فى العرف عارية إلى مردات يا أهل أندلس ردُّوا المعار فما
()3
وشاهنا آخر األبيات شهمات ألم تروا بيدق الكفار فرزنه
لقد كانت روما تقف بكل ما تملك من قُ َّوة معنوية ومادية خلف ألفونسو وجنوده
للقضاء على ال ُم ْسلِمين ،وأسبغوا على قتال ال ُم ْسلِمين صفة الحروب الصليبية المقدسة
وأصبح البابوات لهم دور فى توجيهها.
وندم المعتمد بن عبَّاد على فعلته خصوصًا عندما رأى ألفونسو يتوسَّع فى ض ِّم
ممالك ال ُم ْسلِمين إليه ،وأيقن إن الدائرة عليه قادمة ،واجتمع أمراء ال ُم ْسلِمين عندما رأوا
إن شبح السقوط ماثالً أمام أعينهم ،فاتحدوا ألول مرة واجتمعت كلمتهم على أن
يضعوا حدًا لفتوح ألفونسو ,وإذا كانت قواتهم ُمجْ تَ َمعة ال تكفى لرد عدوانه ،فقد اتفقت
كلمتهم على االستنجاد بالمرابطين فى إفريقية واستدعائهم إلى األَ ْن َدلُس ،عل ًما بإن
ك المغرب يوسف بن تاشفين، ملوك األَ ْن َدلُس كانت ترهِبُ الفرنج بإظهار مواالتهم ل َملِ ِ
وكان له شهرة تطايرت فى اآلفاق لما حققه من ض ِّم ِد َول إلى دولته وقضائه عليها,
واشتهر بين النَّاس أن ألبطال ال ُملَثَّمين فى المعارك ضربات بالسيوف تقد الفارس,
وطعنات تنظم الكلى ،فكان لهم بذلك ناموس ورعب فى قلوب المنتدبين لقتالهم(.)4
***
)(1انظر :الزالقة ,ص (.)18
( )2انظر :الزالقة ,ص (.)19 )(2وفيات األعيان (ج.)5/28 3
1
() أخرجه أحمد فى مسنده (ج.)4/286
2
() البخاري ،فتح الباري ،كتاب الرقاق ،باب ( 38رقم .)6501
3
() انظر :تاريخ األندلس ،ص ( ,)390د .عبد الرحمن الحجي.
57
نصارى ويهود يصرفون أمور دولة اإلسالم ،فهل يؤمن الذئب على الغنم!! (.)1
ثالثًـا :السبب الثالث االنغماس فى الشهوات والركون إلى الدعة والترف وعدم
إعداد األمة للجهاد ،إن األمة التى تركن إلى الدعة والترف واللهو ،وهى غالبة قاهرة
يجب أن تُعد غير مستحقة للريادة والقيادة ،فما بالك بأمة تغرق فى اللهو والدعة
والترف ،وهى ال تدرى إن كان العدو قد كسر حصنها واجتاحها ،أم أنه ال يزال ينتظر
تلك اللحظات؟!.
يقول المؤرخ النصرانى كوندي« :العرب هُزموا عندما نسوا فضائلهم التى جاءوا
بها ،وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح ،واالسترسال بالشهوات»(.)2
إن المؤرخين رأوا« :إن األَ ْن َدلُسيين ألقوا بأنفسهم فى أحضان النعيم ،ناموا فى ظل
ظليل من الغنى الواسع والحياة العابثة والمجون ،وما يرضى األهواء من ألوان الترف
الفاجر ،فذهبت أخالقهم كما ماتت فيهم حمية آبائهم البواسل ،وغدا التهتك والخالعة
واإلغراق فى المجون ،واهتمام النساء بمظاهر التبرج والزينة بالذهب والآللى ِمن
أبرز المميزات أيام االضمحالل التى استناموا للشهوات والسهرات الماجنة،
والجوارى الشاديات ،وإن شعبًا يهوى إلى هذا الدرك من االنحالل والميوعة ال
يستطيع أن يص ُمد رجاله لحرب أو جهاد»(.)3
دخل ال ُم ْسلِ ُمون األَ ْن َدلُس وأصبحوا ساداتها عندما كان نشيد طارق فى العبور «هللا
أكبر» وبقوا فيها زمنًا ،حين كان يحكمها أمثال عبد الرحمن الداخل عندما قُدم إليه
الخمر ليشرب فقال« :إنِّى محتاج لما يزيد فى عقلى ال ما ينقصه»(.)4
يقول الدكتور عبد الرحمن الحجى عن الفاتحين األوائل لألَ ْن َدلُس« :كانت غيرة
هؤالء المجاهدين شديدة على إسالمهم ،فدوه بالنفس وهى عندهم له رخيصة ،فهو
أغلى من حياتهم ,أشربت نفوسهم ُحبَّه ،غدا تصورهم وفكرهم ونورهم وربيع
حياتهم»(.)5
وضاعت ممالك األَ ْن َدلُس من يدى ال ُم ْسلِ ِمين عندما كان نشيد أحفاد الفاتحين:
راقت الخمرة والورد صحا ووزن العود وهات القدحا
وعندما قصد اإلفرنج بلنسية لغزوها عام 456هـ خرج أهلها للقائهم بثياب الزينة؛
فكانت وقعة بطرنة التى قال فيها الشاعر أبو إسحاق بن معلي:
ل الحرير عليكم ألوانًا
حَل َ
ُ لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم
()6
لو لم يكن ببطرنة ما كانا ما كان أقبحهم وأحسنكم بها
ضعف ال ُم ْسلِ ُمون فى األَ ْن َدلُس وسلب كثير من ديارهم لما تنافس الوالة وال ُح َّكام
من أجل إسعاد زوجاتهم وجواريهم بالباطل.
1
( )3مصرع غرناطة ،ص (.)93 () سقوط األندلس :د .ناصر العمر ،ص (.)24 2
3
( )5سقوط األندلس ،ص (.)27 () المصدر السابق ،ص (.)120 4
5
() انظر :تاريخ األندلس ،ص (.)211
6
() انظر :النصر والهزيمة ،ص (.)122
58
وإليك ما فعله ال ُم ْعتَ ِمد مع إحدى زوجاته :اشتهت زوجة ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد أن تمشى
فى الطين وتحمل القرب ،فأمر ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد أن ينشر المسك على الكافور
والزعفران وتحمل قربًا من طيب المسك وتخوض فيها تحقيقًا لشهواتها!!
ولكن هللا المعز المذل أراد أن تنقلب األمور على ال ُم ْعتَ ِمد ،فيؤخذ أسيرًا فى أغمات
وتبقى بناته يغزلن للنَّاس يتكسبن ،وفى ذلك يقول ال ُم ْعتَ ِمد وهو شاعر مجيد:
فساءك العيد فى أغمات مأسورًا فيما مضى كنت باألعياد
مسرورًا
يغزلن للناس ما يملكن قطميرًا ترى بناتك فى األطمار جائعة
أبصارهن حسيرات مكاسيرا برزن نحوك للتسليم خاشعة
كأنها لم تطأ مس ًكا وكافورًا
َّ يطأن فى الطين واألقدام حافية
()1
فإنما بات باألحالم مغرورًا سرُّ به
َمن بات بعدك فى ُملك ُي َ
وصدق الحبييب × ,المؤتى جوامع الكلم إذ يقول« :إذا تبايعتم بالعينة ،وأخذتم
أذناب البقر ،ورضيتم بالزرع ،وتركتم الجهاد ،سلَّط هللا عليكم ُذالً ،ال ينزعه
عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم»(.)2
رابعا :إلغاء الخالفة األموية وبداية عهد الطوائف:
ً
ك أن بداية االنهيار الفعلى فى األَ ْن َدلُس بزوال الخالفة األموية ,ونشأ على أثر
الش َّ
ذلك عهد السنوات الصعاب ،كانت كلمة األمة واحدة وخليفتهم واحدًا فأصبحت األمة
كما قال الشاعر:
أســـماء معتمد فيها ومعتضـد مما يزهدنى فى أرض أَ ْن َدلُس
()3
األسد ألقاب مملكة فى غير موضعها
ومل يكن ُح َّكام األَنْ َدلُس أهالً لقيادة األمة ىف عمومهم ،وامسع إىل ابن حزم وهو يقول عن هؤالء
احلُ َّكام« :واهلل لو علموا أن ىف عبادة الصلبان متشية أمورهم لبادروا إليها ،فنحن نراهم يستمدون
النصارى فيمكنوهنم من حرب امل ْسلِ ِمني ،لعن اهلل مجيعهم وسلط عليهم سي ًفا من سيوفه»(.)4
ُ
1
() نفح الطيب( ،ج.)274-4/273
2
() أخرجه أبو داود ،كتاب البيوع( ،باب ،56ت 54 /م).
3
() سقوط األندلس ،ص (.)31
4
() التاريخ األندلسي ،د .عبد الرحمن الحجي ،ص (.)325
59
ويقول الدكتور عبد الرمحن احلجى عن هؤالء احلُ َّكام« :وهكذا وجدت ىف األَنْ َدلُس أوضاع
حيكمها أمراء اتصف عدد منهم بصفات األثرة والغدر ،هانت لديهم معه مصاحل األمة ،وتُركت دون
مصاحلهم Zالذاتية ،باعوا أمتهم للعدو Zاملرتبص مثنًا لبقائهم ىف السُّلطة ،ولقد Zأصاب األمة من الضياع
بقدر ما ضيعوا من احلظ اخلُلقى املسلم ،احنرف هؤالء املسئولون Zعن النهج احلنيف ،الذى به كانت
األَنْ َدلُس وحضارته».
خامسًا :االختالف والتفرق بين المسلمين:
َّفرق مسة من مسات عصر ملوك الطوائف ،وكان بعضهم يستعدى النصارى
كان االختالف والت ُّ
ِ
عهودا وأحالفًا ضد إخواهنم ىف العقيدة ،ومن أجل شهوة سلطة
على إخوانه ويعقدون Zمع النصارى ً
تُراق على أرض األَنْ َدلُس دماء املصلني ،حىت قال ابن املرابط واصفًا حال ال ُم ْسلِ ِمين:
فيها وشمل الضد غير مبدد ما بال شمل ال ُم ْسلِ ِمين مب َّد ٌد
وطريق هذا الغدر غير ُممهَّد ماذا اعتذاركم غدًا لنبيكم
وتركتموهم للعدو المعتدي إن قال لِ َم فرَّطتم فى أُ َّمتي
ْ
()1
لكفى الحيا من وجه ذاك السي ِد تاهلل لو إن العقوبة لم تُخَف
وملا سقطت طُلَْي ِطلَة كان من العجيب إن بعض ملوك الطوائف وقفوا جامدين ال يتحركون
عددا منهم كان ِ
لنجدة طُلَْيطلَة ,وكأن األمر ال يعنيهم فاغرين أفواههم جبنًا وغفلة وتفاهة ،بل إن ً
عارضا له اخلضوع ،بذلة تأباها النفوس
يرمتى على أعتاب ألفونسو ملك النصارى طالبًا عونه ,أو ً
املسلِمة ،تغافلوا عن أن ألفونسو ال ِّ
يفرق
ُ
بني طُلَْي ِطلَة وغريها من القواعد األَنْ َدلُسية ،لكن العجب يزول إذا َّ
تذكرنا نزعتهم األنانية والعصبية.)2(Z
سادسا :تخلى بعض العلماء عن القيام بواجبهم:
ً
الشك أن حياة األمة ىف حياة علمائها فهم تاجها ومنارهتا وهم روحها ومادة حياهتا ,فكلما كان َّ
والرفعة والكرامة ،وكلَّما ابتعد العلماء عن
ِّ العزة حنو طريقه ىف األمة أمر كان انينيعلماء األمة َّ
ب ر
ودب ىف األمة
الربَّانية وتثاقلت نفوسهم إىل األرض ,وحرصوا على مصاحلهم Zالذاتية ,خبا نور األمةَّ ،
الضعف واجلهالة.
«فحني كانت األمة تغرق ىف األَنْ َدلُس بسبب االجتياح النصراينِّ املتالطم ،انصرف عدد من
العلماء إىل العناية املبالغة بالفقه املذهىب وفروعه ونسوا وتناسوا واقع األمة وآالمها»(.)3
1
() سقوط األندلس ،د .ناصر العمر ص (.)33
2
() المصدر السابق ،ص (.)34
3
() المصدر السابق ،ص (.)35
60
يغرنك ال ُف َّساق واملنتسبون إىل الفقه،
وبعض هؤالء هم ممن قال فيهم ابن حزم رمحه اهلل« :وال َّ
الشر شرهم ،الناصرون هلم على الالبسون جلود الضأن على قلوب السباع ،املزيِّنون ألهل ِّ
ُ
فسقهم».)1(Z
وال ننسى دور العلماء الربَّانيني الذين قاموا جبمع شتات األمة املمزق ,وبذلوا وسعهم ىف ذلك من
أمثال أىب الوليد الباجي ،وأىب حُمَ َّمد بن حزم ،وأىب إسحاق اإللبريى وغريهم ،عليهم رمحة اهلل وبركاته.
سابعًا :عدم سماع ملوك الطوائف لنصح العلماء:
مشكورا لتوحيد صفوف امل ْسلِ ِمني وتصدَّى أبو الوليد الباجى
ً جهدا
لقد بذل جمموعة من العلماء ً
ُ
هلذه املهمة بنفسه بعد عودته من املشرق اإلسالمي« ،فرفع صوته باالحتساب ،ومشى بني ملوك أهل
أمساعا واعية،
اجلزيرة لصلة Zما انبت من تلك األسباب ،فقام مقام مؤمن آل فرعون ،ولكنَّه مل يصادف ً
ألنَّه نفخ ىف عظام خنرة ،وعطف على أطالل داثرةَ ،بْي َد أنه ُكلَّما وفد على ملك منهم ىف ظاهر أمره
لقيه بالرتحيب ،وأجزل حظه ىف التنافس والتقريب ،وهو ىف باطن يستجهل نزعته ويستثقل طلعته ،وما
كان أفطن الفقيه -رمحه اهلل -بأمورهم وأعلمه بتدبريهم ،لكنَّه كان يرجو حاالً تثوب ،ومذنبًا
()2
يتوب»
ومل يكن ُح َّكام األَنْ َدلُس أهالً لقيادة األمة ،ومل تنفعهم نصائح العلماء حىت حلَّت هبم مصيبة
وكارثة أال وهى سقوط طُلَْي ِطلَةZ.
ثامنًا :مؤتمرات النصارى ومخططاتهم:
ومن مَثَّ على امل ْسلِ ِمني
استطاع النصارى أن يضعوا برامج حُم كمة للقضاء على ملوك الطوائف ِ
ُ
عموما ،وكان من أكرب اجملرمني من ملوك النصارى الذى أشرف على هذه امل َخطَّطَات وسهر على
ُ ً
تنفيذها فرناندو ملك قشتالة.
تاسعًا :وحدة كلمة النصارى:
ىف الوقت الذى كان امل ْسلِ ُمون Zىف األَنْ َدلُس يعانون من الت ُّ
َّفرق والشتات ،كان النصارى ىف وحدة
مواجهة أمة اإلسالم ىف األَنْ َدلُس.كلمة وتراص صفًّ ىف ُ
63
المبحث الثالث
العالم فى زمن ظهور دولة المرابطين
كانت أوروبا يتحكم فيها اإلقطاعيون ىف حالة مهجية بعيدة عن التحضُّر ومعامل احلضارة واملدنية.
وكان العامل اإلسالمى جُم َّزأ عند قيام دولة املرابطني ،فظهر ملوك الطوائف ىف بالد األَنْ َدلُس،
طه ُروا العراق من بىن بويه ،والعبيديون حكموا مصر ،وبنو مَحَّاد ىف املغرب واستطاع السالجقة أن يُ ِّ
األوسط ،واملعز بن باديس وأحفاده ىف املهدية.
وتوسع املرابطون ومشلت دولتهم أجزاء شاسعة من مشاىل إفريقية «جزء من اجلزائر والريف ىف
املغرب» ،وضربت جذورها ىف الصحراء حىت هنر النيجر والسنغال ،فرفعوا راية اإلسالم ىف تلك
األماكن البعيدة.
أمر اخلالفة ىف بغداد
وكان املشرق اإلسالمى ىف ظروف سياسية حرجة وصعبة قاسية حيث ُ
ض للخطر ،وال ميلك من أمر اخلالفة شيئًا وإمَّن ا هو رمز َّ
حتك َم فيه البويهيون ،ومن مهتز ,واخلليفة ُم َعَّر ٌ
بعدهم السالجقةَّ ,أما العبيديُّون ىف مصر فتحالفوا مع اإلفرنج من أجل مصاحلهم وأطماعهم ,فكان أمر
امل ْسلِ ِمني ىف غاية اخلطورة حىت قيَّض اهلل ألهل املشرق نور الدِّين حممود وصالح الدِّين األيوىب اللذين
ُ
قاما بدور عظيم ىف القضاء على النصارى والعبيديني ودحرهم ،وىف هذه الظروف الصعبة والعصيبةZ
منيعا ضد أطماع النصارى ىف سدا ً السنيَّة لتكون ًأرادت حكمة اهلل وقدرته أن خترج دولة املرابطني ُّ
األَنْ َدلُس ،ولتحمى الشمال اإلفريقى من غاراهتم وأطماعهم ،إنه تدبري العزيز العليم.
لقد أكرم اهلل تعاىل املرابطني وجنودهم بالدفاع والذود عن اإلسالم وامل ْسلِ ِمني وعن أعراضهم
ُ وأمواهلم وعقائدهم الىت ال تقدر بثمن.
وأعزَ اهلل األمة هبم ىف زمن عصيب ورفع اهلل هبم لواء اإلسالم ىف
ّ
املغرب واألَنْ َدلُس.
واستطاعوا جبهودهم اجلهادية أن ينقذوا إخواهنم ىف الدِّين من ظلم النصارى وحقدهم الدفني،
ومر الدهور.
مر العصورِّ Z نرباسا لألمة على ِّ
ويكبدوهم هزائم عسكرية أصبحت ً
أوالً :تكالب النصارى على المسل ِمين وأطماع ألفونســو التوسعية:
بعد سقوط طُلَْي ِطلَة بيد ألفونسو ،بدا له أن كل شيء ممكن ,وعمل على توحيد جهود النصارى،
واتفقوا على سحق دولة اإلسالم ىف األَنْ َدلُس ،معتقدين أن قدرهتم تكفيهم ألداء هذا املهمة املقدسة
لديهم.
ضخما ,واحتلوا
جيشا ً وكونوا ً
وتوحدت مدهنمَّ ،وترك النصارى خصوماهتم الدَّاخلِيَّةَّ ،
64
مدينة«قورية» من بىن األفطس ،ووصلوا إىل ضواحى إشبيلية ،وأحرقوا قراها وحقوهلا ،وسارت فرقة
من الفرسان إىل شذونة ،مث اخرتقت جزيرة طريف قرب مضيق جبل طارق ،كما حاصر القشتاليون-
مبعاونة جند من األرجونيني والقطلونيني الذين وضعهم ألفونسو السادس حتت قيادته -قلعة َس ْرقُ ْسطَة
حتما ،وتصبح الشواطئ اإلسبانية املطلَّةُ احلصينة الىت يضع سقوطها منطقة األبري «ابرة» ىف يد النصارى ً
على البحر األبيض املتوسط عرضة لغاراهتم ،يقول املؤرخ يوسف أشباخ« :وأثخن النصارى ىف والية
يردهم ىف احلرب أى اعتبار إنساىن ما دام األمر متعل ًقا بأعداء َس ْرقُ ْسطَة كلها بالنار والسيف ،ومل يكن ُّ
وعدا
الدِّين ،كما يعتقدون Z،ولكن احلصون اإلسالميَّة قاومتهم مقاومة Zشديدة ،وتلقى Zاملؤمتن بن هود ً
لوصول املدد السريع من إخوانه امل ْسلِ ِمني ىف جنوب اجلزيرةَ ،بْي َد أن النصارى شددوا الضعط على
ُ
يوما بعد يوم ،وخشى امل ْسلِ ُمون Zسقوط املعقل املنيع ،بعد أن أصبحت قواهتم وأحواهلم ىف َس ْرقُ ْسطَة ً
ُ
حتما دون قوى النصارى ،فتطلعوا إىل عون من اخلارج ،فاجتهت أبصارهم حالة يرثى هلا ،فقد كانت ً
إىل قوة املرابطني اجملاهدة ىف املغرب األقصى» .
()1
وأصبح ألفونسو اللعني يضغط على ممالك امل ْسلِ ِمني الكربى اجملاورة له أى مملكىت بطليوس
وإشبيلية؛ فأرسل إىل املَت َو ِّكل بن األفطس صاحبُ بطليوس يطلب منه أن يُسلِّم إليه القالع واحلصون
ُ
اجملاورة حلدوده مع تأدية اجلزية ،وضعُف مسلمو األَنْ َدلُس أمام هذه الضربات املاكرة ،وأصبح سقوط
مبلذاهتم وفسادهم ،حياربون أنفسهمZ املمالك قاب قوسني أو أدىن ،وظل ُح َّكام املمالك منغمسني َّ
ويؤدون هلم اجلزية مقابل تركهم على عروشهم الىت تزعزعت أمام وحيالفون النصارى ضد إخواهنمُّ ،
ضرباهتم ،واستخدم ملوك Zالطوائف املرتزقة من النصارى حلماية أنفسهم بعد أن فقدوا األمل ىف
وتعسفهم Z،وجعل اهلل بني أمراء الطوائف من التنافس شعوهبم ورعاياهم بسبب ظلمهم وجورهم ُّ
والتدابر والتقاطع والتحاسد والغرية ما مل جيعله بني الضرائر املرتفات والعشائر املتغايرات ,فلم تصل هلم
ىف اهلل يد ،وال نشأ على التعاضد عزم( ،)2لذلك اهنارت الروح املعنوية للشعب Zاألَنْ َدلُسى بعدما رأى
من أمرائه التخاذل واخليانة ,حىت كاد هذا الشعب الصابر يفقد القدرة على القتال مبا كان يرهقه
وعدو
بتز ٍّ َّص َارى ،وأصبح بني حاكم ُم ٍّ ُح َّكامه من الضرائب للتنعم Zبالعيش الرغيد ودفع اجلزية للن َ
مرتبص ،فقد ارتقى عرش إسبانيا النصرانية ألفونسو السادس بن فرديناند الذى كان يرغب ىف احتالل ٍ
اجلزيرة اإليربية ،وعادت حرب االسرتداد قوية على يده ،وقد بدأ أعماله احلربية مبدينة طُلَْي ِطلَة
فحاصرها سبع سنوات حىت سقطت بيده ىف 25آيار 1085م مستهل صفر 478هـ ,وقد أحدث
سقوطها دويًا هائالً ىف العامل اإلسالمى الغريب ،وبات امل ْسلِ ُمون ىف حال من الضياع التام( )3ال
ُ
يعرفون كيف يتصرفون ,وبدأوا بمغادرة المناطق المتاخمة أللفونسو ،وأصبحت مملكة
طُلَ ْي ِطلَة خالية من السكان الذين هجروها إلى بطليوس هربًا من االضطهاد وحفاظًا
1
() انظر الزالقة ،ص (.)32
2
() انظر :أعالم األعالم ،تحقيق د .عبادي ,ص (.)2411
3
() دولة المرابطين ،ص (.)61
65
على دينهم ،ورأى ألفونسو أن زمام األَ ْن َدلُس أصبح فى يده ،فضاعف غاراته على
جميع البالد؛ وتساقطت ال ُمدُن والقرى بين يدى اللعين الحقود وأرسل إلى ال ُمتَ َو ِّكل بن
األفطس وصاحب بطليوس يطلب إليه تسليم بعض الحصون ،والقالع المتاخمة لحدوده
مع تأدية الجزية ،ويتوعده بشر العواقب إذا رفض ،فر َّد ال ُمت ََو ِّكل بشجاعة ونبل معلنًا
تحديه ،وفى هذه الرسالة معا ٍن عميقة وفهم دقيق للموقف الحرج الذى أصبح فيه
ال ُم ْسلِ ُمون حيث قال ال ُمت ََو ِّكل..« :ولو علم – أى ألفونسو -أن هلل جنودًا أع َّز بهم كلمة
اإلسالم ,وأظهر بهم دين نبينا ُم َح َّمد × وأعزه على الكافرين ..وأما تعييرك لل ُم ْسلِ ِمين
وهى من أحوالهم فبالذنوب المركوبة ،ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من األمالك أى فيما َ
تتجرعه ...وباألمس كانت قطيعة المنصور على سلفك َ مصاب أذقناك كما كان أبوك
()1
أهدى ابنته إليه مع الذخائر التى كانت تفد كل عام عليه» .
وأرسل املَت َو ِّكل قاضيه العامل الفقيه أبا الوليد الباجى ليطوف على حواضر األَنْ َدلُس يدعو إىل ملِّ
وتوحيد الكلمة ،ومدافعة العدو ،ولكن مهمة القاضى مل تُكلل بالنجاح ألن ضعف األمراء، ُ الشعث
ٍ
عندئذ كتب املَت َو ِّكل إىل واهنيار مقومات الدولة ،وختاذل الشعب فرضت على احلُ َّكام اسرتضاء العدو،
ُ
األمري يوسف بن تاشفني( ،)2يصور له محنة األَ ْن َدلُس ويستنصره(« ،)3لما كان نور الهدى
-أيدك هللا -دليلك ,وسبيل الخير سبيلك ،ووضحت فى الصالح معالمك ،ووقفت على
أعز ناصر ،وعلى غزو الشرك أقدر الجهاد عزائمك ،وص َّح العلم بأنَّك لدعوة اإلسالم ُّ
قادر ،وجب أن تستدعى لما عضل الداء ،وتستغاث لما أحاط بالجزيرة من البالء ،فقد
كانت طوائف العدو المطيف بأنحائها عند إفراط تسلُّطها واعتدائها وشدة كلفها
واستشرائها تالطف باالحتيال ،وتستنزل باألموال ،ويخرج لها عن كل ذخيرة،
وتسترضى بكل خطيرة ،ولم يزل دأبها التشكك والعناد ،ودأبها اإلذعان واالنقياد حتى
نفذ المطارف والتالد ،وأتى على الظاهر والباطن النفاد ،وأيقنوا اآلن بضعف المنن،
وقويت أطماعهم فى افتتاح المدن ،واضطرمت فى ك ِّل جهة نارهم ،ورويت من دماء
ال ُم ْسلِ ِمين أسنتهم وشفارهم ،ومن أخطئ القتل منهم فإنما هم بأيديهم أسارى وسبايا،
يمتحنونهم بأنواع المحن والباليا ،وقد هموا بما أرادوه من التوثب ،وأشرفوا على ما
أملوه من التغلب ،فيا هللا ويا لل ُم ْسلِ ِمين أيسطو هكذا بالحق اإلفكُ ،ويغلب التوحيدَ
النصر ،أال ناصر هلذا املهتضم؟ أال حامى ملاالكفر ،وال يكشف هذه البلية ُ الشرك ،ويظهر على اإلميان ُ ُ
استبيح من احلرم؟ ،وإنا هلل على ما حلق عرشه من ثل ،وعزه من ذل ،فإهنا الرزيَّة الىت ليس فيها عزاء،
أعزك اهلل – بالنازلة ىف مدينة قورية
والبلية الىت ليس مثلها بالء ،ومن قبل هذا ما كنت خاطبتك – َّ
ومن فيها من امل ْسلِ ِمني باجلالء ،مث ما زال التخاذل يتزايد،
أعادها اهلل وإهَّن ا مؤيدة للجزيرة باخلالءَ ،
ُ
وحتصلت ىف يد العدو مدينة سرية ،وعليها قلعة والتدابر يتساند حىت ختلَّصت القضية وتضاعفت البلية َّ
جتاوزت حد القالع ىف احلصانة واالمتناع.
1
() المصدر السابق ،ص (.)62
2
() تاريخ ابن الكردبوس ص ( ،)88عن كتاب دولة المرابطين ،ص (.)62
3
() د .عدنان ،دولة اإلسالم فى األندلس ودول الطوائف ،ص (.)92-91
66
وهى من املدينة كنقطة دائرية تدركها من مجيع نواحيها ،ويستوى ىف األرض هبا قاصيها ودانيها،
وما هو إال نفس خافت وزمر داهق استوىل عليها عدو مشرتك وطاغية منافق ،إن مل تبادروا جبماعتكم
عجاالً ,وتتداركها ركبانًا ورجاالً ،وتنفروا حنوها خفافًا وثقاالً ،وما أحضكم على اجلهاد مبا ىف كتاب
اهلل فإنَّكم له أتلى ،وال مبا ىف حديث رسول اهلل × فإنكم إىل معرفته أهدى ،وكتاىب إليكم هذا حيمله
ويوضحها ،فإنه ملا توجه حنوك
ويشرحها ،ومشتمل على نكتة وهو يبينها ِّ يفصلها ُالشيخ الفقيه الواعظ ِّ
عولت على بيانه ,ووثقت بفصاحة احتسابًا ،وتكلف املشقة إليك طالبًا ثوابًاَّ ،
والسالم»(.)1
لسانهَّ ,
ثانيا :ألفونسو والمعتمد بن عباد:
ً
لقد وقع امل ْعتَ ِمد بن َعبَّاد ىف أخطاء كثرية؛ حيث تعاهد مع ألفونسو ضد إخوانه امل ْسلِ ِمني ىف
علمت -ال عهود أن يسمح له ألفونسو بأخذ ممالك ممن حوله إالَّ إن النصارى -كما ُ طُلَي ِطلَة Zمقابل ُ
ْ
مربرا لضرب احلصار على إشبيلية ,واحتالل قرطبة ،فطلب من ً جيد أن ألفونسو فأراد مواثيق، وال هلم
أنواعا من اإلذالل ِ امل ْعتَ ِمد حصونًا وقرى املوت ُّ
أحب إليه من تسليمها ,ومارس Zألفونسو مع املُْعتَمد ً ُ
والتجىن لتخرج امل ْعتَ ِمد عن طوره ويلغى االتفاقية اهلزيلة بني الطرفني وجيد ألفونسو والنصارى ما ِّ
يربر
ُ
أفعاله االنتقامية والوحشية.
فطلب ألفونسو من امل ْعتَ ِمد أن يسمح لزوجته القمطجية أن تلد ىف جامع قرطبة بناءً على نصيحة
األساقفة ،لأن الطرف ُ
الغرىب كان موقع كنيسة قرطبة القدمية ،وسأله أن تنزل بالزهراء مدينة اخلليفة
الناصر ،لتكون والدهتا بني طيب نسيم الزهراء وفضيلة Zموضع الكنيسة املزعوم( ،)2وأرسل إليه بعثة من
وقل أدبه إن كان له أدب، مخسمائة فارس برئاسة اليهودى ابن ساليب ألخذ اجلزية ،وجترأ السفري َّ
للم ْعتَ ِمد Zوقال« :ال تعتقدونى بسيطًا ألقبل مثلوخرج على العرف الدبلوماسي ،وأغلظ ىف القول ُ
هذه العملة المزيفة ,ال آخذ إال الذهب الصافي ،السنة القادمة ستكون مدنًا» .فأخذت
()3
ال ُم ْعتَ ِمد النخوة اإلسالميَّة وصلب اليهودي ،وقتل البعثة ،وبذلك يكون ألفونسو قد
تحصل على ما يريده ،وكان ألفونسو متجهًا لحصار قرطبة فل َّما وصل خبر البعثة
أقسم بآلهته ليغزون ال ُم ْعتَ ِمد فى إشبيلية ،وحرَّك جيوشه نحو غرب األَ ْن َدلُس فد َّمر كل
القرى والتخوم التى فى طريقه نحو إشبيلية ,وخرج فى جيش من طريق آخر يد ِّمر
ويخرِّ ب ويقتل ويحرق ويسفك ويسبي ،حتى وصل إلى جزيرة طريف أقصى جنوب
األَ ْن َدلُس على المضيق ،وأدخل قوائم فرسه فى البحر قائالً« :هذا آخر بالد األَ ْن َدلُس قد
وطئته»(.)4
و ِمن هنا أرسل إلى األمير يوسف بن تاشفين« :أ َّما بعد ..فال خفاء على ذى عينين
أنَّك أمير ال ُم ْسلِ ِمين بل الملة اإلسالميَّة ،كما أنا أمير الملة النصرانية ،ولم يخف عليك
1
( )2المصدر السابق نفسه. () دولة المرابطين ,ص (.)64-63 2
3
() المصدر السابق ،ص (.)66
4
( )2نفس المصدر السابق. ()دولة المرابطين ،ص (.)66
67
ما عليه رؤساؤكم باألَ ْن َدلُس من التخاذل والتواكل ،واإلهمال للرعية واإلخالد إلى
الراحة ،وأنا أسومهم الخسف ،فأخرب الدِّيار وأهتك األستار ،وأقتل الشبَّان وآسر
الولدان ،وال عذر لك فى التخلف عن نصرتهم إن أمكنك معرفة هذا ،وأنتم تعتقدون أن
هللا -تعالى -فرض على واحد منكم عشرة منا ،وأن قتالكم فى الجنة وقتالنا فى النار،
ونحن نعتقد أن هللا أظفرنا بكم وأعاننا عليكم ،وال تقدرون دفاعًا وال تستطيعون
امتناعًا ،وبلغنا عنك وأنَّك فى االحتفال عن نية االستقبال فال يدرى أكان الجبن بك أم
ي ما عندك من المراكب التكذيب بما أنزل عليك ،فإن كنت ال تستطيع الجواز فابعث إل َّ
نجوز إليك ،أناظرك فى أحب البقاع إليك؛ فإن غلبتنى فتلك نعمة جلبت إليك ،ونعمة
شملت بين يديك ،وإن غلبتك كانت لى اليد العليا عليك ,واستكملت اإلمارة ,وهللا يتم
اإلرادة»(.)1
فكان ر ُّد يوسف بن تاشفين – رحمه هللا – على ظهر الكتاب ذاته« :ما ترى ال ما
تسمع إن شاء هللا -تعالى » -وأردف:
()2
وال رسل إال الخميس العرمرم وال كتب إال المشرفية والقنا
وعاد ألفونسو املغرور املتكرب إىل إشبيلية حيث التقى جبيشه اآلخر أمام Zقصر امل ْعتَ ِمد بن َعبَّاد بضفة
لطرد الذباب ،ومل يتحمل النهر ،وحاصر املدينة ثالثة أيام ،وكتب إىل املعت ِمد يسأله أن يرسل إليه مروحة ُ
َْ
ُ
فرد « :قرأت كتابك وفهمت خيالءك وإعجابك ,وسأنظر إليك ىف مراوح من اجللود امل ْعتَ ِمد هذه اإلهانة َّ
ُ
اللمطية تروح منك وال تروح عليك»(.)3
ترك ألفونسو إشبيلية وسار حنو َس ْرقُ ْسطَة وحاصرها ،كانت شبه ضائعة تنتظر مصريها املؤمل,
كثريا ،مث أخذ بلنسية ,وأعطاها القادر بن ذى النون صاحب وصاحبها ابن هود ال يستطيع الدفاع ً
طُلَْي ِطلَة Zالسابق ،وهاجم مملكة املرية ,ووصل القشتاليون Zإىل نابار قرب غرناطة ,كان اخلطر على
شديدا ،وقلة الشجاعة واهنيار الروح املعنوية تثبط العزائم ،إذ أن مثانني قشتاليًا هزموا أربعمائة
األَنْ َدلُس ً
من املرية(.)4
ثالثًا :اجتماع علماء قرطبة:
أمام هذا الضياع املفزع الذى وصلت إليه ممالك األَنْ َدلُس؛ اجتمع علماء وفقهاء وزعماء قرطبة
للتشاور Zفيما جيب عمله إلنقاذ مدينتهم ،ووصل رأيهم بعد تبادل اآلراء واألفكار إىل استدعاء
املرابطني.
ورأى امل ْعتَ ِمد أن هذا الرأى فيه صواب ونفاذ بصرية؛ َّ
فجد ىف تقوية جيشه ورمم احلصون
وقرُر أن يطلب النجدة من إخوانه امل ْسلِ ِمني ،وتشاور ىف األمر مع ابنه الرشيد وزعماء إشبيلية
والقالعَّ ،
ُ
الذين أشاروا عليه مبهادنة ألفونسو واخلضوع لشروطه ،ولكن هذا الرأى مل جيد هوى ىف نفس امل ْعتَ ِمد
ُ
1
2
( )4الرياض المعطار ،ص ( )80للحميري. () تاريخ ابن الكردبوس ,ص (.)91 . 3
4
() تاريخ ابن الكردبوس ص ( ،)89نقالً عن دولة المرابطين ،ص (.)66
68
الذى خال بابنه الرشيد وكان وىل عهده وقال له« :أنا ىف هذه األَنْ َدلُس غريب بني حبر مظلم Zوعدو
رجى جمرم ،وليس لنا وىل وال ناصر إال اهلل ،وإن إخواننا وجرياننا ملوك األَنْ َدلُس ليس فيهم نفع ،وال يُ َ
منهم نصرة ،وال حيلة إن نزل بنا مصاب أو نالنا عدو ثقيل وهو اللعني أذفونش فقد أخذ طُلَْي ِطلَةZ
وعادت دار كفر وها هو قد رفع رأسه إلينا.
وإن نزل علينا طُلَْي ِطلَة ما يرفع عنا حىت يأخذ إشبيلية ،ونرى من الرأى أن نبعث إىل هذه
الصحراء وملك العدوة نستدعيه للجواز Zإلينا ليدافع عنا الكلب اللعني إذ ال قدرة لنا على ذلك
واخلاصة( .)1فأجابه الرشيد :يا َّ بأنفسنا ،فقد تلف جلاؤنا وتدبرت بل تربدت أجنادنا ,وبغضتنا العامة
أبت أتدخل علينا فى أَ ْن َدلُسنا َمن يسلبنا ملكنا ويبدد شملنا؟ فقال :أى بنى وهللا ال يسمع
ي اللعنة من على عنى أبدًا أنى أعدت األَ ْن َدلُس دار كفر وال تركتها للنصارى فتقوم عل َّ
منابر ال ُم ْسلِ ِمين مثل ما قامت على غيري ،وهللا ُخرز الجمال عندى خير من ُخرز
الخنازير»(.)2
ولما انتشر رأى ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد فى األَ ْن َدلُس حذره ملوك الطوائف من ذلك وقالوا
له« :الملك عقيم والسيفان ال يجتمعان فى غمد واحد» ،وعارض بشدة طلب العون من
المرابطين عبد هللا بن سكوت والى مالقة الذى كان يرى أن المرابطين أشد خطرًا من
النصارى ،ويجب االعتماد على القوة الذاتية لألَ ْن َدلُسيين( ،)3فأجابهم ال ُم ْعتَ ِمد« :رعى
الجمال خير من رعى الخنازير»( )4وأضاف :إن دهينا من مداخلة األضداد لنا فأهون
الشرَّين أمر الملثمين»(.)5
وقال للذين الموه على هذا الرأي :يا قوم إنَّى فى أمرى على حالين :حالة يقين
وحالة شك ،والبد لى من أحدهما ،أ َّما حالة الشك فإنِّى إن استندت إلى ابن تاشفين أو
ي ،ويمكن أن ال يفعال فهذه حالة شك. إلى األذفونش ففى الممكن أن يفيا لى ويبقيا عل َّ
وأ َّما حالة اليقين فإنِّى إن استندت إلى ابن تاشفين فإنى أرضى هللا ،وإن استندت
إلى األذفونش أسخطت هللا تعالى ،فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فألى شيء أدع
ما يرضى هللا وآتى ما يسخطه؟ حينئ ٍذ قصر أصحابه عن لومه(.)6
ولما عزَم على طلب النصرة من المرابطين؛ اتصل ال ُم ْعتَ ِمد بال ُمت ََو ِّكل بن األفطس
صاحب بطليوس ،وعبد هللا بن بلقين الصنهاجى صاحب غرناطة ،وطلب منهما أن
يرسل كل منهما قاضى مدينته حتى يكونوا وفدًا إلى المرابطين لمقابلة األمير يوسف
بن تاشفين ،وتش َّكلت البعثة من قاضى قرطبة ابن أدهم ،وقاضى بطليوس ابن مقانا,
وقاضى غرناطة ابن القليعي ,ومعهم وزير ال ُم ْعتَ ِمد أبو بكر بن زيدون ,وأسند ال ُم ْعتَ ِمد
إلى القضاة وعظ األمير يوسف وترغيبه فى الجهاد ،وأسند إلى وزيره إبرام العقود،
وحملت البعثة معها رسالة مكتوبة من ال ُم ْعتَ ِمد إلى األمير يوسف مؤرخة 479هـ ,وهذا
نصُّ ها« :بسم هللا الرحمن الرحيم ,وصلِّى هللا على سيدنا ُم َح َّمد وعلى آله وصحبه وسلم
تسلي ًما ..إلى حضرة اإلمام أمير المسلمين وناصر الدِّين ومحيى دعوة الخليفة ،اإلمام
1
( )3المصدر السابق ،ص (.)68 () دولة المرابطين ،ص (.)68 2
3
() المصدر السابق ،ص (.)69
4
( )2نفس المصدر السابق. () وفيات األعيان (.)7/115 5
6
() نفح الطيب (.)6/91
69
أبى يعقوب يوسف بن تاشفين ،القائم بعظيم أكبارها ،ال َّشاكر ألجاللها المعظِّم لما عظم
هللا من كريم مقدارها ،الالئذ بحرامها ,المنقطع إلى س ُّمو مجدها ,المستجير باهلل
وبطولها ُم َح َّمد عباد سالم كريم يخص الحضرة المعظمة السامية ورحمة هللا تعالى
وبركاته.
كتب المنقطع إلى كريم سلطانها من إشبيلية فى غرة جمادى األولى 479هـ/
1086م وإنَّه أيَّد هللا أمير ال ُم ْسلِ ِمين ونصر به الدِّين ،فإنَّا -نحن العرب -فى هذه
األَ ْن َدلُس قد تلفت قبائلنا ،وتفرَّق جمعنا ،وتغيَّرت أنسابنا بقطع المادة عنا من ضيعتنا؛
فصرنا شعوبًا ال قبائل ,وأشتاتًا ال قرابة وال عشائر ،فق َّل نصرنا ،وكثر ُش َّماتُنا ،وتولَّى
علينا هذا العدو المجرم اللعين ألفونسو وأناخ علينا بطُلَي ِْطلَة ووطئها بقدمه ،وأسر
ال ُم ْسلِ ِمين ،وأخذ البالد والقالع والحصون ،ونحن أهل هذه األَ ْن َدلُس ليس ألحد منا طاقة
على نصرة جاره وال أخيه ،ولو شاءوا لفعلوا إال أن الهواء والماء منعهم من ذلك ،وقد
ساءت األحوال ،وانقطعت اآلمال ،وأنت أيدك هللا سيد حمير ،ومليكها األكبر ،وأميرها
وزعيمها ،نزعت بهمتى إليك واستنصرت باهلل ثم بك ،واستغثت بحرمكم لتجوز بجهاد
هذا العدو الكافر وتحيون شريعة اإلسالم وتدينون على دين ُم َح َّمد × ،ولكم عند هللا
الثواب الكريم على حضرتكم السامية السالم ورحمة هللا وبركاته وال حول وال قوة إال
باهلل
()1
العلى العظيم» .
حتث األمري على إنقاذ األَنْ َدلُس.
وأرسلت Zوفود شعبية من الشيوخ والعلماء رسائل ُ
احلل
وتأثر املرابطون ملصاب إخواهنم ىف الدِّين ،وعرض أمريهم قضية مسلمى األَنْ َدلُس على أهل ِّ
والع ْقد Zعنده ،وأمجعوا ُعلى نصرة دينهم وإعزاز كلمة التوحيد ،وكان وزير يوسف ومستشاره Zأَنْ َدلُسى
َ
ِ
األصل امسه عبد الرمحن بن أسبط أو أسباط ،فنصحه املستشار بأن يطلب من امل ْعتَمد بن َعبَّاد اجلزيرة
ُ
اخلضراء لكى تكون آمنة لعبور Zاجليش ،وحلماية خطوط التموين ،وقال له :إن األمر هلل تعاىل ولكم،
وواجب على كل مسلم إغاثة أخيه املسلم واالنتصار له ،واقتنع األمري يوسف برأى وزيره ىف طلب
اجلزيرة اخلضراء ليجعل فيها أثقال جيشه وأجناده ويكون اجلواز بيده مىت شاء ،وقال األمري يوسف
لعبد الرمحن :صدقت يا عبد الرمحن ,لقد نبهتىن على شيء مل خيطر ببايل ,اكتب إليه بذلك.
نصه« :بسم اهلل الرمحن الرحيم ,وصلى اهلل وكتب ابن أسبط إىل امل ْعتَ ِمد بن َعبَّاد الكتاب التاىل ُّ
ُ
وصحبه وسلِّم. على سيدنا حُمَ َّمد وآله
من أمري امل ْسلِ ِمني وناصر الدِّين معني دعوة أمري املؤمنني ،إىل األمري أكرم املؤيد بنصرة اهلل تعاىل
امل ْعتَ ِمد على اهلل ُأىب القاسم حُمَ َّمد بن َعبَّاد أدام اهلل كرامته بتقواه ،ووفقه ملا يرضاه ،سالم عليكم ورمحة
ُ
اهلل وبركاته ،أما بعد:
فإنه وصل خطابك الكرمي ،فوقفنا على ما تضمنه من استدعائنا لنصرتك ،وما ذكرته من
كربتك ،وما كان من قلة محاية جريانك ،فنحن ميني لشمالك ومبادرون Zلنصرتك ومحايتك ،وواجب
1
() دولة المرابطين ص (.)71
70
علينا ىف الشَّرع ,وىف كتاب اهلل تعاىل ،وإنَّه ال ميكننا اجلواز إال أن تُسلِّم لنا اجلزيرة اخلضراء؛ تكون لنا
لكى يكون جوازنا إليك على أيدينا مىت شئنا ،فإن رأيت ذلك فاشهد على نفسك بذلك ,وابعث إلينا
بعقودها وحنن ىف أثر خطابك إن شاء اهلل تعاىل».
اطلع امل ْعتَ ِم د ابنه الرشيد على خطاب األمري يوسف فقال له :يا أبت أال تنظر إىل ما طلب؟ فقال
له امل ْعتَ ِمد :ياُ بىن هذا قليل ىف حق نصرة امل ْسلِ ِمني ،مث مجع امل ْعتَ ِمد القاضى والفقهاء ،وكتب عقد هبة
ُ ُ ُ
اجلزيرة اخلضراء لألمري يوسف ،وتسليمها له حبضورهم ،وكان حيكمها يزيد الراضى بن امل ْعتَ ِمد ،فبعث
ُ
إليه أمره بإخالئها وتسليمها للمرابطني لتكون رهناً بتصرف األمري يوسف( .)1وبعد موافقة امل ْعتَ ِمد
ُ
جتهز يوسف لتلبية نداء إخوانه ىف العقيدة راغبًا ىف األجر واملثوبة من اهلل بتأدية فريضة اجلهاد ،وكتب َّ
ب لنصرة هذا الدِّين ,ال يتوىل أمانًا ألهل األَنْ َدلُس أال يتعرض ألحد منهم ىف بلده وقال« :أنا أول منتَ َد ٍ
ُ
األمر أحد إال أنا بنفسي» وأعلن النفري العام ىف قوات املرابطني ،فأقبلت من مراكش ,ومن الصحراء
وبالد الزاب ,ومن خمتلف نواحى املغرب يتوافدون على قيادهتم الربَّانية ،وجهزت السفن لتحمل هذه
القوات ،وكان أول من نفَّذ أمر العبور قائد املرابطني النابغ داود ابن عائشة ,ومتركز ىف اجلزيرة
اخلضراء ،وتتابعت كتائب املرابطني ،وكانت معهم اجلمال الكثرية ،وقد أثار وجودها دهشة
األَنْ َدلُسيني Z،ألهَّن م مل يكونوا يعرفوهنا من قبل ،وقد أثَّر وجودها على اخليل فأخذت جتمح لدى رؤيتها.
وملا تكامل اجليش املرابطى بساحل اجلزيرة اخلضراء ,ركب األمري يوسف ومعه قادة من خرية
قادة املرابطني وصلحائهم ،وملا ركب واستوى على السفينة رفع يديه حنو السماء مناجيًا« :اللهم Zإن
َّ
فسهل علينا هذا البحر حىت نعربه ،وإن كان غري ذلك للم ْسلِ ِمني ِّ
ُ إصالح كنت تعلم أن جوازنا هذا
فصعبه حىت ال جنوزه»( .)2وسهل اهلل عبورهم ،وكان ذلك يوم اخلميس بعد الزوال منتصف ربيع
األول 479هـ حزيران 1086م ،وصلى األمري يوسف باجلزيرة اخلضراء صالة الظهر ،وقام أهل
اجلزيرة بضيافة املرابطني ،وظهر فرحهم وسرورهم على وجوههم ،وبدأ األمري يوسف ىف حتصني
ورمم أسوارها وما تصدَّع من أبراجها ،وشحنها باألسلحة واألطعمة وكلف جمموعة اجلزيرة اخلضراءَّ ،
من جنوده حبراستها مث ساروا حنو إشبيلية(.)3
سارع امل ْعتَ ِمد مع قادة قومه وشيوخ مدينته وفقهاء بالده الستقبال أمري املرابطني ،وملا التقى
بيوسف تعانقاُ طويالً مبودة وحب وإخالص وأخوة ىف الدِّين ،وتذاكرا نعم اهلل عليهما ،وتواصيا بالصرب
واجلهاد ىف سبيل نصرة دين امل ْسلِ ِمني ،وكان امل ْعتَ ِمد حُم َّمالً باهلدايا ،وأصدر أوامره لعمال البالد جبلب
ُ ُ
وجوادا باذالً للخري.
ً األرزاق لضيافة اجليش املرابطي ،وكان امل ْعتَ ِمد كرميًا
ُ
1
() دولة المرابطين ،ص ( ،)74مذكرات األمير عبد هللا صاحب غرناطة ص (.)103 ،102
2
() األندلس فى عهد المرابطين ،ص (.)79
3
( )2انظر :الحلل ,ص (.)79 () دولة المرابطين ،ص (.)75
71
ومنظرا هبيًا»(.)1
ً «عسكرا نقيًا
ً واستعرض امل ْعتَ ِمد اجليش املرابطى فرأى
ُ
وواصل األمري يوسف سريه حنو إشبيلية حيث كان يستقبل بالرتحاب مع جيشه املرابطى على
للم ْعتَ ِمد« :إمنا جئت ِ
امتداد الطريق حىت وصل حاضرة املُْعتَمد ،فأقام هبا ثالثة أيام لالسرتاحة ,مث قال ُ
ناويًا جهاد العدو حيثما كان توجهت»(.)2
وأثناء مقام األمري يوسف ىف إشبيلية بعث األمري يوسف إىل ملوك األَنْ َدلُس يستنفرهم للجهاد(،)3
فكان أول من لىب الدعوة عبد اهلل بن بلقني الصنهاجى صاحب غرناطة الذى خرج إليه بأمواله
ورجاله ،وأخوه متيم صاحب مالقة ،وأرسل ابن صمادح ابنه معز الدولة ىف فرقة من جيشه ,وسار
األمري الربَّاىن والقائد امليداىن حنو بطليوس ،فاستقبلهم صاحبها ال ُمت ََو ِّكل بن األفطس على
ثالث مراحل من المدينة( ,)4وق َّدم لهم الهدايا والضيافة وعلف الدواب وظهر منه جود
وكرم ،وأقام األمير أيا ًما عدة حتى يصل باقى المتطوعين إال أن أكثرهم لم يصل
-
النشغالهم بمدافعة النصارى ،فتابع سيره الجهادى حتى حطَّ رحاله عند سهل ِّ
الزالقَة
( ,)5وكان يبعد عن بطليوس ثمانية أميال.
ونظَّم يوسف بن تاشفين جيشه ،فجعل األَ ْن َدلُسيين جي ًشا ,مستقالً بذاته وأسند قيادته
إلى ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد الذى تولى المقدمة ،وأسندت الميمنة إلى ال ُمت ََو ِّكل بن األفطس،
وجعل أهل شرق األَ ْن َدلُس على الميسرة ،وباقى أهل األَ ْن َدلُس فى الساقة.
أ َّما الجيش المرابطى فتولى داود ابن عائشة قيادة فرسانه ،وأما سير بن أبى بكر فتولى
قيادة الحشم ،وبقية المرابطين مع حرس األمير يوسف بن تاشفين إلى جانب قيادته الجيش
اإلسالمي ،وعسكر المرابطون خلف األَ ْن َدلُسيين تفصل بينهم ربوة بقصد التمويه ،وكان
تعداد جيش المرابطين واألَ ْن َدلُسيين أكثر من 24ألف جندي( )6وتضاربت الروايات فى
ذلك.
وكان ألفونسو مشغوالً مبحاصرة َس ْرقُ ْسطَة ,وملا وصله اخلرب السعيد ارتبك وجزع ،وطلب Zمن
املستعني بن هود حاكم َس ْرقُ ْسطَة أن يدفع له ماالً مقابل فك احلصار ،فامتنع ابن هود ملا َعلِ َمه من
وقرر أال يساعد ألفونسو بأى مال يستعني به على قتال امل ْسلِ ِمني.
وصول املرابطني َّ
ُ
مسرعا إىل طُلَْي ِطلَة ،وأعلن االستنفار العام ،وحل نزاعه وخالفه
واضطر ألفونسو لرفع احلصار ،ورجع ً
َّ
مع بعض أمراء النصارى ،وأرسل إىل َمن وراء جبال ألربتات فأتته أفواج عديدة من النصارى متطاوعة من
كبريا ،ونظَّم جيشه وقسمه إىل صغريا أو ً أجل احلرب املُقدَّسة ،وجند الفونسو كل َمن يستطيع محل السالح ً
قسمني كبريين :أسند قيادة اجليش األول إىل ابن عمه الكونت غرسيا ورودريك ،وما لبث غرسيا أن
انسحب قبل بدء املعركة أثر خالف مع ألفونسو الذى أبقى رودريك ىف القيادة ،واحتفظ بقيادة اجليش
1
2
( )4مذكرات األمير عبد هللا بن رير ،ص (.)104 () دولة المرابطين ،ص (.)79 3
4
( )6وفيات األعيان( ،ج.)5/29 () دولة المرابطين ,ص (.)80 5
6
() دولة المرابطين ,ص (.)81
72
الثاىن وعنَّي على جناحيه سانتشور أمريز والكونت برجنار رميوند ,وتوىَّل هو القلب(« ,)1وكان جيش
ألفونسو يعتمد على الفرسان كمجموعة ,وكان الفارس يلبس الزرد والدروع الىت تغطيه من الرأس إىل
القدم كأنَّه حصن من احلديد يتحرك لتزداد شجاعته وجرأته».
وملا استعرض جيشه نفخ فيه الشيطان غروره وكربياءه ،وقال قولة تدل على جتذر كفره وعتوه
وفساد معتقده حيث قال« :هبذا اجليش ألقى حُمَ َّمدا وآل حُمَ َّمد واألنس واجلن واملالئكة»(.)2
«وكانت مجوع الرهبان والقسيسني أمام Zجيش ألفونسو امللعون يرفعون اإلجنيل والصلبان إلذكاء
احلماس الدِّيىن ىف نفوس اجلنود الذين بلغ عددهم أكثر من ستني أل ًفا»(.)3
وخرج ألفونسو جبيشه حنو بطليوس ،وكتب إىل امل ْعتَ ِمد بن َعبَّاد كتابًا جاء فيه« :إن صاحبكم
العناء فيما بقى ,وال أكلفكم تعبًا ،وأمضى إليكم يوسف قد تعىَّن من بالده وخاض البحار ،وأنا أكفيه ُ
وتوفريا عليكم»(.)4
ً وألقاكم ىف بالدكم رف ًقا بكم
وقصد ألفونسو بذلك أن تكون املعركة خارج بالده فإذا اهنزم وحلقوا به يكون مسريهم ىف
أرضهم والبد من االستعداد الكتساح بالده ،وبذلك تنجو من التدمري ،وإذا انتصر حدث ذلك ىف
أرض أعدائه.
الزالقَة وخيم على بعد ثالثة أميال من اجليش املسلم يفصل بينهما هنر
وصل ألفونسو إىل بطحاء ِّ
بطليوس يشرب منه املتحاربون(.)5
كبريا ,حيث شعر بعودة الروح املعنوية إىل أهاىل انزعاجا ً
ً لقد انزعج ألفونسو من جميء املرابطني
األَنْ َدلُس الذين كان يسومهم سوء العذاب ،يُقتِّل رجاهلم ويسىب نساءهم ،ويأخذ منهم اجلزية،
وحيتقرهم ويزدريهم ،ويتالعب مبصريهم ,وينتظر الفرصة الستئصاهلم من األَنْ َدلُس ،لتعم النصرانية ىف
سائر البالد ،ويرتفع الصليب على أعناق العباد ،وإذا باملرابطني يربكون خمططاته ويبددون أحالمه.
وخصوصا
ً يوجه ضربة قاصمة ملن كان السبب ىف استدعاء املرابطني لذلك أراد ألفونسو أن ِّ
للفارس املغوار امل ْعتَ ِمد بن َعبَّاد وقرينه املَت َو ِّكل بن األفطس ،وكان يرى أن نصره يعتمد على تكبيل
ُ ُ
القوة الدَّاخلِيَّة ىف األَنْ َدلُس باهلزائم املتتالية واملتالحقة.
أما املرابطون بعد ذلك سريجعون إىل وطنهم األصلى املغرب ،وبالقضاء على األَنْ َدلُس يسهل
القضاء على املرابطني بسبب جهلهم بالطبيعة اجلغرافية للبالد.
1
() انظر :الحلل ،ص (.)34
2
() انظر :األندلس فى عهد المرابطين ،ص (.)83
3
() انظر :الكامل( ،ج.)6/303
4
() الروض المعطار ،ص ( ،)88نفح الطيب (.)6/96
5
() ابن الكردبوس ص ( ،)93روض القرطاس ص ( ،)94نقالً عن دولة المرابطين ,ص (.)84
73
ومما ساعد ألفونسو على أن يعيش ىف تلك األحالم فتور معظم أهل األَنْ َدلُس بسبب ترفهم
ونعيمهم وجبنهم وحبهم للحياة وهروهبم من الشهادة ،كما أن أسباب اهلزمية خنرت ىف ذلك اجملتمع
املتهالك.
أما امل ْعتَ ِمد بن َعبَّاد صاحب إشبيلية واملَت َو ِّكل بن األفطس صاحب بطليوس فقد قررا امتشاق
شهيدا(.)1 ُ احلسامُ ،
ومن مات كان ً سعيدا َ
فمن ظفر عاش ً َ
ماعة ما وصلوا إىل ماوأما املرابطون الذين تربوا على تعاليم اإلسالم وأصول أهل السنة واجلَ َ
وصلوا إليه إال بعد تربية عميقة ،وتكوين فريد وإميان راسخ ساهم علماء وفقهاء املالكية ىف ذلك،
وعلى رأسهم الفقيد الشهيد ابن ياسني ,فقد مروا مبراحل صقلتهم وحروب زكتهم ،وأصبحوا
متشو قني إىل االستشهاد معتمدين على رب العباد ,آخذين بأسباب النصر املعنوية واملادية. ِّ
وكان رأى املرابطني إن املعركة ىف األَنْ َدلُس مصريية لألمة اإلسالميَّة وبذلك ال ميكن االعتماد
على شعب مهزوم وقع ىف أسر املعاصى والذنوب.
وكما أن انتصارهم ىف األَنْ َدلُس يرعب أعداءهم وخصومهم Zىف املغرب ويتم بنصرهم إنقاذ
اإلسالم واحلضارة Zىف ذلك البلد البعيد عن العامل اإلسالمي.
كان ألفونسو يقود حربًا صليبية شرسة ضد امل ْسلِ ِمني Z،ودعمته الكنيسة ىف روما باجلنود والعتاد
واألموال ،ورغبت بلدان اإلفرجنة بالوقوف مع ُ
ألفونسو ىف حربه املقدسة ضد امل ْسلِ ِمني.
ُ
ولكن اجلانب املعنوى عند إن اجلانب املادى عند النصارى كان أعلى بكثري مما عند املرابطنيَّ ،
املرابطني ال حدود له.
وأرسل يوسف بن تاشفني إىل ألفونسو كتابًا يعرض عليه الدخول ىف اإلسالم أو دفع اجلزية أو
احلرب ،ومما جاء ىف كتاب األمري« :بلغنا يا أذفونش أنَّك حنوت االجتماع بنا ,ومتنيَّت أن تكون لك
ك تعرب البحر عليها إلينا ،فقد جزناه إليك ،ومجع اهلل ىف هذه العرصة بيننا وبينك ،وترى عاقبة
ُف ْل ٌ
ادعائك (وما دعاء الكافرين إال ىف ضالل)» .
()2
وملا قرأ ألفونسو الكتاب زاد غضبه وذهب بعقله وقال« :أمبثل هذه املخاطبة خياطبىن وأنا وأىب
نغرم اجلزية ألهل ملته منذ مثانني سنة؟» ( )3وقال لرسول األمير يوسف« :قُل لألمير ال تتعب
نفسك أنا أصل إليك»( ،)4وإنَّنا سنلتقى فى ساحة المعركة ( ،)5ومعنى ذلك أن ألفونسو
اختار الحرب ،وحاول ألفونسو حامى حمى النصرانية فى إسبانيا أن يخدع ال ُم ْسلِ ِمين
1
() انظر :دولة المرابطين ،د .سعدون عباس ،ص (.)85
2
() وفيات األعيان (.)7/116
3
() دولة المرابطين ،ص (.)78
4
() روض القرطاس ،ص (.)94
5
() األندلس فى عصر المرابطين ،ص (.)82
74
ويمكر بهم ،فكتب إلى األمير يوسف فى تحديد يوم المعركة فكتب إليه« :إن بعد غد
الجمعة ال نحب مقابلتكم فيه ألنَّه عيدكم ،وبعده السبت يوم عيد اليهود ،وهم كثير فى
محلتنا ،وبعده األحد عيدنا ،فنحترم هذه األعياد ،ويكون اللقاء يوم االثنين» فكان
جواب األمير يوسف« :اتركوا اللعين وما أحب»( )1فاعترض ال ُم ْعتَ ِمد وقال لألمير
يوسف« :إنها حيلة منه وخديعة إنَّما يريد غدرنا فال تطمئن إليه ،وقصده الفتك بنا يوم
الجمعة فليكن الناس على استعداد له يوم الجمعة كل النَّهار»(.)2
واستعد ال ُم ْسلِ ُمون لرصد تحركات النصارى وكان حدس ال ُم ْعتَ ِمد صائبًا صحيحًا,
ورصدوا تحرك العدو نحوهم.
وانقض الجيش الذى يقوده رودريك بمنتهى العنف على معسكر ال ُم ْسلِ ِمين من
األَ ْن َدلُسيين فتص َّدى فرسان المرابطين الذين يقودهم داود ابن عائشة الذين أرسلهم
يوسف ابن تاشفين على عجل لدعم األَ ْن َدلُسيين ،وصمد المرابطون أمام هجوم
النصارى ،واضطر النصارى إلى االرتداد إلى خط دفاعهم الثانى وظهرت من داود
ابن عائشة وجنوده كفاءة قتالية لم يعرف لها مثيل ،واختار هللا من المرابطين شهداء،
واحتدم الصراع ،وزحف ألفونسو ببقية جيشه ،وأقرن زحفه بصياح هائل أفزع قلوب
األَ ْن َدلُسيين قبل خوضهم المعركة ،والذوا بالفرار ووجدوا أنفسهم أمام أسوار بطليوس
لالحتماء بها ،ولم يصمد منهم إال فارس األَ ْن َدلُسيين وقومه «ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد وأهل
إشبيلية» وأبلى بال ًء عظي ًما وعقرت تحته ثالثة أفراس ،وأصيب بجروح بليغة،
واستمرت المعركة الرهيبة ،وصمد ال ُم ْعتَ ِمد مع داود ابن عائشة حتى فلت السيوف،
وتكسرت الرماح ,وصبر ال ُم ْسلِ ُمون فى المعركة صبرًا عظي ًما سجل فى صفحات المجد
والعزة والكرامة فى تاريخنا المجيد.
وبدأت قوة ال ُم ْسلِ ِمين تضعف وتتقهقر أمام ضربات النصارى الحاقدة ،وأيقن
ألفونسو ببلوغ النصر ُمعتَقِدًا إن هذه هى قوة ال ُم ْسلِ ِمين المقاتلة التى ظهر اإلعياء
عليها ،وأخذت موقف المدافعة ،ولم يستغرق ألفونسو طويالً فى أحالمه حتى وثب
جيش من المرابطين إلى ميدان المعركة أرسله األمير يوسف بقيادة سير بن أبى بكر
على رأس الحشم لمساندة القوات اإلسالميَّة ،فتق َّوت بذلك معنوياتهم فى معركة مالت
إلى هزيمتهم ،وزحف األمير يوسف بحرسه المرابطي ،وقام بعملية التفاف سريعة
باغت فيها معسكر العدو من الخلف ،ووصل إلى خيامه وأحرقها وأباد حراسها ،ولم
ينج منهم إال القليل ،وكانت طبول المرابطين تدق بعنف فترتج منها األرض ،ورغاء
الجمال يتصاعد إلى السماء فبث الذعر فى نفوس األعداء وهلعت قلوبهم( .)3وذهل
ألفونسو عندما رأى بعض حرس معسكره فارِّ ين ،وأتته األخبار من داخل المعسكر
باستيالء المرابطين عليه ،وأنَّه خسر حوالى عشرة آالف قتيل( ,)4ووجد ألفونسو نفسه
محاصرًا من ال ُم ْسلِ ِمين فاضطر للقتال متقهقرًا نحو معسكره المحروق ،ولكن يوسف
لم يترك له الفرصة اللتقاط األنفاس ،فانقضَّ عليه كالسيل ،وقاتل ألفونسو عند ذلك
قتال المستميت ،وكان األمير يوسف يبث الحماس فى نفوس ال ُم ْسلِ ِمين قائالً« :يا معشر
ُزق منكم الشهادة فله الجنة ومن ال ُم ْسلِ ِمين اصبروا لجهاد أعداء هللا الكافرين ,ومن ر ِ
1
() الحلل الموشية ،ص (.)36
2
() أعالم األعالم ،تحقيق العبادي ,ص (.)243
3
( )2ابن الكردبوس ،ص (.)93 () الحلل الموشية ،ص (.)42 4
75
سلم فقد فاز باألجر العظيم والغنيمة» ،وكان رحمه هللا يقاتل فى مقدمة الصفوف وهو
ابن التاسعة والسبعين ،وكأن العناية اإللهية كانت تحميه( ،)1وكان فقهاء ال ُم ْسلِ ِمين
وصالحوهم يعظون الجنود ويشجعونهم على مصابرة أعداء الدِّين ،وفى هذا الجو
الرهيب من القتال الذى دام بضع ساعات وسقط فيه آالف القتلى ،وغمر الدم ساحة
المعركة عندما دفع األمير حرسه الخاص من السودان إلى القتال ،فترجل منهم أربعة
آالف كانوا مسلحين بدروق اللمط وسيوف الهند
ونزاريق الزان(.)2
اندفعوا إلى المعركة اندفاع األسود فحطموا مقاومة النصرانية ،وتكسَّرت
شوكتهم ,وانقض أسد من أسود ال ُم ْسلِ ِمين على ألفونسو وطعنه فى فخذه ،والذ
النصارى بالفرار ،وتمنى ألفونسو الموت على العيش ,ولجأ مع خمسمائة فارس من
فرسانه إلى تل قريب ينتظر الظالم لينجو من سيوف المرابطين(.)3
ومنع يوسف جنوده من اللحاق بهم ،وكانت مناسبة أللفونسو الذى تابع سيره مع
الظالم إلى طُلَي ِْطلَة ،وصل إليها مغمو ًما حزينًا كسيرًا جريحًا بعد أن فقد خيرة رجاله
وجنوده وقادة جيشه.
وفقد ألفونسو فى ال ِّزالقَة القسم األعظم من جيشه ،وأمر يوسف بضم رءوس
القتلى من النصارى ،فعمل ال ُم ْسلِ ُمون منها مآذن يؤذنون عليها ,واستشهد فى تلك
المعركة الخالدة جماعة من العلماء والفقهاء ،قلما يجود الزمان بمثلهم منهم قاضى
مراكش عبد الملك المصمودي ،والفقيه الناسك أبو العبَّاس بن رميلة القرطبي(.)4
وجمع ال ُم ْسلِ ُمون األسالب والغنائم التى تركها النصارى وراءهم فى ساحة المعركة،
وآثر األمير يوسف بها ملوك األَ ْن َدلُس ،وقد عرَّفهم أن هدفه الجهاد فى سبيل هللا
ونصرة اإلسالم(.)5
وأرسل األمير يوسف إلى المغرب أخبار النصر المبين وهذا نص خطابه« :
أ َّما بعد حمدًا هلل المتكفِّل بنصر أهل دينه الذى ارتضاه ،والصالة والسالم على
سيدنا ُم َح َّمد أفضل وأكرم خلقه ،فإن العدو الطاغية لما قربنا من حماه وتوافقنا بإزائه
بلغناه الدعوة ،وخيرناه بين اإلسالم والجزية والحرب ،فاختار الحرب ،فوقع االتفاق
بيننا وبينه على المالقاة يوم االثنين 15رجب وقال :الجمعة عيد ال ُم ْسلِ ِمين ,والسبت
عيد اليهود ,وفى عسكرنا منهم خلق كثير ،واألحد عيدنا نحن ،فافترقنا على ذلك،
وأضمر اللعين خالف ما شرطناه وعلمناه أنهم أهل خدع ونقض عهود فأخذنا أهبة
الحرب لهم ،وجعلنا عليهم العيون ليرفعوا إلينا أحوالهم ،فأتتنا األنباء فى سحر يوم
الجمعة 12رجب أن العدو قد قصد بجيوشه نحو ال ُم ْسلِ ِمين ،يرى أنه قد اغتنم فرصته
فى ذلك الحين ،فنبذت إليه أبطال ال ُم ْسلِ ِمين ،وفرسان المجاهدين فتغشته قبل أن
يتغشاها ،وتع َّدته قبل أن يتعداها ،وانقضت جيوش ال ُم ْسلِ ِمين على جيوشهم كانقضاض
1
() األندلس فى عهد المرابطين ،ص (.)85
2
() الروض المعطار ،ص (.)92
3
() ملوك الطوائف ،ص (.)314
4
() الروض المعطار ،ص (.)95
5
() المصدر السابق نفسه.
76
العقاب على عقيرته ،ووثبت عليهم وثوب األسد على فريسته ،وقصدنا برايته السعيدة
المنصورة فى سائر المشاهد مشتهرة ونظروا إلى جيوش لمتونة نحو ألفونسو – فل َّما
أبصر النصارى راياتنا المشتهرة المنتشرة ،ونظروا إلى مراكبنا المنتظمة المظفرة،
وأغشتهم بروق الصفاح ,وأظلَّتهم سحائب الرماح ,ونزلت بحوافر خيولهم رعود
الطبول بذلك الفياح ،فالتحم النصارى بطاغيتهم ألفونسو ،وحملوا على ال ُم ْسلِ ِمين حملة
منكرة؛ فتلقَّاهم المرابطون بنيَّات خالصة وهمم عالية ،فعصفت ريح الحرب وركبت
دائم السيوف والرماح ،بالطعن والضرب ،وطاحت المهج وأقلبت سيل الدماء فى
هرج ,ونزل من سماء هللا على أوليائه النصر العزيز والفرج.
وولَّى ألفونسو مطعونًا فى إحدى ركبتيه طعنة أفقدته إحدى ساقيه فى 500فارس
من ثمانين ألف فارس ومائتى ألف راجل قادهم هللا على المصارع والحتف العاجل،
وتخلَّص إلى جبل هنالك ,ونظر النهب والنيران فى محلته من كل جانب وهو من أعلى
الجبل ينظرها شذرًا ،ويحيد عنها صبرًا ،وال يستطيع عنها دفعًا وال لها نصرًا ،فأخذ
يدعو بالثبور والويل ،ويرجو النجاة فى ظالم الليل ،وأمير ال ُم ْسلِ ِمين يحمد هللا؛ قد ثبتت
فى وسط المعركة مراكبه المظفرة ،تحت ظالل بنوده المنتشرة منصورًا لجهاد مرفوع
األعداء ،ويشكر هللا تعالى على ما منحه من نيل السؤال والمراد ،فقد سرح الغارات
فى محالتهم تهدم بناءها ،وتصطلم ذخائرها وأسبابها ،وتريه رأى العين دمارها
ونهبها ،وألفونسو ينظر إليها نظر المغشى عليه ،ويعض غيظًا وأسفًا على أنامل كفيه،
فتتابعت البهرجة الفرار ،رؤساء األَ ْن َدلُس المهزومين نحو بطليوس والفار ،فتراجعوا
حذ ًرا من العار ،ولم يثبت منهم غير زعيم الرؤساء والق َّواد ،أبو القاسم ال ُم ْعتَ ِمد بن
َعبَّاد ،فأتى أمير ال ُم ْسلِ ِمين وهو مهيض الجناح ،مريض عنه وجراح ،فهنأه بالفتح
الجليل ،وتسلَّ َل ألفنش تحت الظالم فارًا ال يهدى وال ينام ومات من الخمسمائة فارس
الذين كانوا معه بالطريق أربعمائة فلم يدخل طُلَي ِْطلَة إال مائة فارس والحمد هلل على
ذلك كثيرًا.
وكانت هذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة يوم الجمعة 12رجب 479هـ23/
شهر أكتوبر 1086م ..العجمي(.)1
يزف إليه البشرى بالنصر ،وكان ُّ وأرسل ال ُم ْعتَ ِمد إلى ابنه الرشيد فى إشبيلية
الناس بانتظار األنباء على أحرِّ من الجمر ،وقد حمل الرسالة الحمام الزاجل وهى
مقتضبة إذ ال تتعدى السطرين ،هذا نصها« :اعلم أنه التقت جموع ال ُم ْسلِ ِمين بالطاغية
ألفونسو اللعين ففتح هللا لل ُم ْسلِ ِمين وهزم على أيديهم المشركين والحمد هلل رب
العالمين ،فأعلم بذلك من قبلك إخواننا ال ُم ْسلِ ِمين والسالم» ،وقرئت الرسالة بمسجد
إشبيلية فعمها السرور ،ثم توالت الكتب تفيض بأخبار النصر منها إنشاء الكاتب ابن
عبد هللا بن عبد البر النمرى وفيه يحدد تاريخ المعركة وسيرها وما أظهره ألفونسو من
الغدر واآلخرة للصالحين(.)2
وأصبح يوم ال ِّزالقَة عند المغاربة واألَ ْن َدلُسيين مثل يوم القادسية واليرموك« :يوم
لم يسمع بمثله من القادسية واليرموك ،فياله من فتح ما كان أعظمه ،يوم كبير ما كان
الزالقَة ثبتت قدم الدِّين بعد زالقها وعادت ظلمة الحق إلى إشراقها». أكرمه ،فيوم ِّ
1
() انظر :الحلل الموشية ،ص (.)47-45
2
() المصدر السابق ،ص (.)47
77
نتائج معركة الزالقة:
الزالقَة نتائج مهمة من أهمها: كانت لمعركة ِّ
صا بعد أن أنقذ هللا بها سقوط -1رفع الروح المعنوية ألهل األَ ْن َدلُس ,خصو ً
َسرْ قُ ْسطَة من سقوط محتَّم ،وأزاح عن ملوك الطوائف وأمرائها كابوس
النصارى ومتطلباتهم التى ال تنتهى من الجزية وغيرها.
-2سقوط هيبة ملوك الطوائف أمام رعاياهم خاصَّة أنهم قد هزموا فى بدء
المعركة ولوال أن أكرمهم هللا بالمرابطين لضاعت األَ ْن َدلُس.
-3امتناع الرعية عن دفع الضرائب المخالفة لتعاليم اإلسالم وتعلُّقهم بالمرابطين.
-4مهَّدت ال ِّزالقَة إلى إسقاط دول الطوائف فيما بعد على يد منقذيهم.
-5ظهور نجم يوسف بن تاشفين والمرابطين فى العالم أجمع.
-6انصياع قبائل المغرب التى كانت مترددة فى والئها وتنتظر فرصة الوثوب
الزالقَة أن جعلت تلك القبائل على المرابطين ،وبذلك تكون نتيجة معركة ِّ
تخلد إلى السكينة وأعلنت والءها التام.
-7عمت األفراح أرجاء العالم اإلسالمى فى شرقه وغربه وأعتقت الرقاب و ُس َّر
العلماء والفقهاء بهذا النبأ السعيد.
-8أصيب نصارى اإلسبان بهزيمة تعيسة أثَّرت فى نفوسهم ,وتحطمت آمالهم فى
االستيالء على أراضى ال ُم ْسلِ ِمين فى األَ ْن َدلُس وإبعادهم.
-9جعلت النصارى يُرتِّبون أمورهم ويو ِّحدون صفوفهم ,ويتنازلون عن
صراعاتهم ال َّداخلِيَّة.
وغير ذلك من النتائج المهمة التى غيرت مجرى تاريخ األَ ْن َدلُس وبالد المغرب.
الزالقَة عاد إلى إشبيلية ،ودعا بعد أن رتب األمير يوسف أموره بعد معركة ِّ
رؤساء األَ ْن َدلُس إلى اجتماع عام ،وطلب منهم االتفاق واالتحاد ضد عدوهم المشترك
الذى نخر فيهم بسبب اختالفهم؛ فأجابه الجميع بقبول وصيته وتحقيق رغبته ،وترك
ثالثة آالف جندى مرابطى للدفاع عن ثغور األَ ْن َدلُس بقيادة سير بن أبى بكر(.)1
رابعا :رجوع األمير يوسف إلى المغرب:
ً
يجن ثمرة
لقد عدد المؤرخون أسباب رجوع يوسف إلى المغرب وهو لم ِ
االنتصار بعد إلى أسباب منها:
-1وفاة ابنه األمير أبى بكر الذى استخلفه على سبتة وكان مريضًا.
-2اضطراب الحدود الشرقية بسبب تحالف بنى َح َّماد مع عرب بنى هالل
وحاولوا غزو المناطق الحدودية التابعة للدولة المرابطية.
-3أراد أن يتفقد الوالة وال ُح َّكام الذين تركهم فى ال ُمدُن والقرى ،وينظر فى أمور الرعية.
-4أراد أن يخرج من إلحاح مسلمى األَ ْن َدلُس الذين طلبوا منه تعقُّب ألفونسو وجنوده
حيث إنه رأى إن قواته ال تستطيع أن تسيطر على كل األَ ْن َدلُس التساع أراضيها.
1
() انظر :الحلل الموشية ،ص (.)47-45
78
-5خشى من إبراهيم بن أبى بكر بن عمر الذى زعم أنه له حق شرعى فى
استخالف والده المجاهد الكبير.
عظيما ىف حياة أمتنا أال وهو أن املعارك الفاصلة ىف إن نظرتى للتاريخ اإلسالمى ِّ
تؤكد ىل معىن ً
تارخيها اجمليد ال تكون إال لقوم Zأقاموا الشريعة على مستوى الشعب واجليش والقادة ،وهذا املعىن واضح
تدرجوا ىف مراحلهم وأقاموا شرع رهبم على أنفسهم.
ىف سرية املرابطني الذين َّ
وهلذا أرى أن من أقوى األسباب على اإلطالق ىف نصر اهلل للمرابطني هو متسكهم وحتكيمهم
كثريا أن نبني أثر حتكيم
للقرآن Zوالسنة على مستوى شعبهم ودولتهم وجيشهم وقائدهم ،ولذلك يهمنا ً
شرع اهلل ىف األمم والشعوب واجليوش واألفراد.
***
79
المبحث الرابع
أثر الحكم بما أنزل هللا على مجتمع المرابطين
تمهيد:
التأمل ىف كتاب اهلل وسنة رسوله × وىف حياة األمم والشعوب تعطى العبد معرفة أصيلة بأثر إن ُّ
سنن اهلل ىف األنفس والكون واآلفاق ,وأوضح مكان لسنن اهلل وقوانينه كتاب اهلل تعاىل ,قال تعاىل:
يم ِ ِ ﴿ي ِري ُد اهلل لِيبيِّن لَ ُكم وي ْه ِدي ُكم سنن الَّ ِذ ِ
وب َعلَْي ُك ْم َواهللُ َعل ٌ
ين من َق ْبل ُك ْم َو َيتُ َ
َ ُ َُ َ ْ َ َ َ ْ ُ َ ُ
يم﴾ [النساء.]26: ِ
َحك ٌ
صح عن رسول اهلل × باملطالعة ىف سنته × ،فقد كان يقتنص
وسنن اهلل تتضح بالدراسة فيما َّ
الفرص واألحداث ليدل أصحابه على شيء من السنن ،ومن ذلك أن
فشق ذلك على
ناقته × «العضباء» كانت ال تُسبق ،فحدث مرة أن سبقها أعراىب على قعود لهَّ ،
أصحاب النىب × ،فقال هلم × كاش ًفا عن سنة من سنن اهلل« :حق على هللا أن ال يرتفع
شيء من الدنيا إال وضعه» (.)1
ص ًيراوقال﴿ :ولَو قَاَتلَ ُكم الَّ ِذين َك َفروا لَولَّوا األ ْدبار ثُ َّم الَ ي ِج ُدو َن ولِيًّا والَ نَ ِ
َ َ َ ََ َ ُ َُ ُ َْ
ِ ِ ِ ِ
ت من َق ْب ُل َولَن تَج َد لسَُّنِة اهلل َت ْبديالً﴾ [الفتح. ]23 ،22:
()1 ِ اهلل الَّتِى قَ ْد َخلَ ْ
سنة ِ
ت ِمن َق ْبلِ ُك ْم خامسًا :ال ينتفع بها المعاندون ،ولكن يتعظ بها المتقون﴿:قَ ْد َخلَ ْ
ِّ ِ ِ ُسنَ ٌن فَ ِس ُيروا فِى األ َْر ِ
َّاس َو ُه ًدى ف َكا َن َعاقبَةُ ال ُْم َك ِّذب َ
ين َ ه َذا َبيَا ٌن للن ِ ض فَانْظُُروا َك ْي َ
ين﴾ [آل عمران.]138 ،137: ومو ِعظَةٌ لِّل ِ
ْمتَّق َ
ُ َ َْ
سادسًا :أنها تسرى على البر والفاجر ،فالمؤمنون – واألنبياء أعالهم قدرًا –
تسرى عليهم سنن هللا ,وهلل سنن جارية تتعلق باآلثار المترتبة على من امتثل شرع هللا
أو أعرض عنه ،وبما أن المرابطين التزموا بشرع هللا فى كل شئونهم ومرُّ وا بمراحل
طبيعية فى حياة الدول فإن أثر حكم هللا فيهم واضح وبيِّن.
1
() لقد استفدت من كتاب الحكم والتحاكم فى خطاب الوحي للشيخ عبد العزيز مصطفى كامل فى بيان أثر
الحكم بما أنزل هللا.
81
وللحكم بما أنزل هللا آثار دنيوية وأخرى أخروية ,أ َّما اآلثار الدنيوية التى ظهرت
لى فى دراستى لشعوب الملثمين التى قامت بهم دولة المرابطين فعدة أمور منها:
أوالً :االستخالف والتمكين:
حيث نجد أن المرابطين منذ زعيمهم عبد هللا بن ياسين حرصوا على إقامة شرع
هللا فى أنفسهم وأهليهم ،وأخلصوا هلل تحاكمهم فى سرِّهم وعالنيتهم ،فاهلل سبحانه
وتعالى ق َّواهم وش َّد أزرهم حتى استخلفهم فى األرض ،وأقام المرابطون شريعة هللا فى
األرض التى حكموها ،فمكن لهم المولى ع َّز وج َّل الملك ,ووطأ لهم السلطان.
وهذه سنة ربَّانية نافذة ال تتبدل فى الشعوب واألمم التى تسعى جاهدة وجادة
إلقامة شرع هللا تعالى.
والمتأمل فى القرآن الكريم يجد هذه السنة ماضية فى األفراد والشعوب واألمم،
فيوسف عليه السالم استخلف فى األرض بعد أن ابتُلى فأبلى وظهر منه أنه كان من
ك الْيوم لَ َدينا ِم ِك ِ
ين﴾ [يوسف ]54 :عرف ين أَم ٌ ٌ المخلَصين ،وعندما قال له الملك﴿ :إِنَّ َ َ ْ َ ْ َ
اج َعلْنِى
ال ْ أنه قد جاء أوان االستخالف ،فاستعد لتبعته ونهض لحمل رسالته فقال﴿:قَ َ
َعلَى
﴿و َك َذلِ َ
ك يم﴾ [يوسف ،]55:وصار بهذا من أهل التمكينَ :
ض إِنِّى ح ِفي ٌ ِ
ظ َعل ٌ َ َخ َزائِ ِن األ َْر ِ
ِ ِ
يب بَِر ْح َمتنَا َمن نَ َشاءُ َوالَ نُض ُ
يع ِ ض َيتََب َّوأُ ِم ْن َها َح ْي ُ
ث يَ َشاءُ نُص ُ ف فِى األ َْر ِوس َ ِ
َم َّكنَّا ليُ ُ
ين﴾ [يوسف.]56: ِِ
َج َر ال ُْم ْحسن َأْ
﴿ونُ ِري ُد أَن نَّ ُم َّن
وقد بيَّن هللا تعالى تحقُق سنة التمكين فى بنى إسرائيل ،قال تعالىَ :
ِ ِ ض ِع ُفوا فِى األ َْر ِ َّ ِ
ين﴾ [القصص.]5: ض َونَ ْج َعلَ ُه ْم أَئ َّمةً َونَ ْج َعلَ ُه ُم ال َْوا ِرث َ استُ ْ
ين ْ
َعلَى الذ َ
من هللا عليهم بالتمكين إنفا ًذا وكان بعد وراثة األرض واالستخالف فيها أن َّ
ِ ﴿ونُ َم ِّك َن ل َُه ْم فِى األ َْر ِ
ود ُه َما
ي ف ْر َع ْو َن َو َه َاما َن َو ُجنُ َض َونُ ِر َ لمشيئته السابقة ،قال تعالىَ :
ِم ْن ُهم َّما َكانُوا يَ ْح َذرو َن﴾ [القصص.]6:
ضح هذه السنة فى القرآن الكريم كما هى ملموسة فى واقع األمم والشعوب. وبذلك تت ِ
وقد خاطب هللا تعالى المؤمنين من هذه األمة واعدًا إياهم بما وعد به المؤمنين
الصالِحاتِ ِ ِ َّ ِ
آمنُوا م ْن ُك ْم َو َعملُوا َّ َين َ ﴿و َع َد اهللُ الذ َ قبلهم ،فقال سبحانه فى سورة النُّورَ :
ين ِمن ض﴾ [النور .]55:أى بدالً عن الكفار ﴿ َكما استَ ْخلَ َ َّ ِ
ف الذ َ َ ْ َّه ْم فِى األ َْر ِ ِ
لَيَ ْستَ ْخل َفن ُ
َق ْبلِ ِه ْم﴾ من بنى إسرائيل( ،)1فإذا حقق الناس اإليمان وتحاكموا إلى شريعة الرَّحمن،
ضى ل َُه ْم﴾ فتحقيق ﴿ولَيُ َم ِّكنَ َّن ل َُه ْم ِد َين ُه ُم الَّ ِذى ْارتَ َ
فستأتيهم ثمرة ذلك وأثره الباقى َ
التحاكم إلى الدِّين يتحقق به االستخالف ،وتحقيق الحكم به يوصل إلى الدِّين.
1
() انظر :تفسير الجاللين ،ص (.)466
82
وهذا ما رأيته فى دراستى للدولة السُّنيَّة التى أقامها المرابطون.
ثانيا :األمن االستقرار:
ً
كانت بالد المغرب قبل وصول المرابطين دويالت متنازعة فيما بينها ،بل بعض
هذه الدويالت لها معتقدات تخرجها عن الملة ،كما أن قبائل الملثمين كانت متناحرة
فيما بينها ،وصراعهم مع الزنوج لم يستقر مما ولَّد لهم الخوف واإلزعاج الشديد.
وبعد أن أكرم هللا المرابطين بتوحيد قبائل صنهاجة ،وساروا فى جهادهم المجيد
سيرة حسنة ،وتوحَّد المغرب األقصى كلُّه ،يسَّر هللا لهم األمن واالستقرار فى تلك
الربوع التى حكم فيها شرع هللا.
حيث نجد أن دولة المرابطين بعد أن استخلفت وم َّكن هللا لها ,أعطاها دواعى
األمن وأسباب االستقرار حتى تُحافظ على مكانتها ،وهذه سنة جارية ماضية ضمن هللاُ
ألهل اإليمان والعمل بشرعه وحكمه أن ييسر لهم األمن الذى ينشدون فى أنفسهم
وواقعهم ,فبيده -سبحانه -مقاليد األمور ،وتصريف األقدار ،وهو مقلب القلوب ،وهللا
يَهَبُ األمن المطلق لمن استقام على التوحيد وتطهر من الشرك بأنواعه.
يما َن ُه ْم بِظُل ٍْم أُولَئِ َ آمنُوا ول ِ َّ ِ
األم ُن َو ُهمك ل َُه ُم ْ سوا إِ َ َم َي ْلب ُ
ين َ َ ْ قال تعالى﴿:الذ َ
ُّم ْهتَ ُدو َن﴾ [األنعام .]82:فنفوسهم فى أمن من المخاوف ومن العذاب والشقاء ,إذا خلصت
هلل من الشرك صغيره وكبيره .إن تحكيم شرع هللا فيه راحة للنفوس لكونها تمس عدل
هللا ورحمته وحكمته ،إن هللا تعالى بعد أن وعد المؤمنين باالستخالف ثم التمكين لم
يحرمهم بعد ذلك من األمن والطمأنينة والبعد عن الخوف والفزع ،قال تعالىَ ﴿:و َع َد
ض َكما استَ ْخلَ َ َّ ِ ات لَيستَ ْخلِ َفن ِ الصالِح ِ ِ ِ َّ ِ
ين
ف الذ َ َّه ْم فى األ َْر ِ َ ْ ُ َْ آمنُوا م ْن ُك ْم َو َعملُوا َّ َ ين َ اهللُ الذ َ
َّهم ِّمن َب ْع ِد َخ ْوفِ ِه ْم أ َْمنًا ضى ل َُه ْم َولَيُبَ ِّدلَن ُ ِمن َق ْبلِ ِه ْم َولَيُ َم ِّكنَ َّن ل َُه ْم ِد َين ُه ُم الَّ ِذى ْارتَ َ
َي ْعبُ ُدونَنِى الَ يُ ْش ِر ُكو َن بِى َش ْيئًا﴾[النور .]55:وإن تحقيق العبودية هلل ونبذ الشرك بأنواعه
يحقق األمن فى النفوس على مستوى األفراد والشعوب.
وهذا ما حدث لقيادات المرابطين وشعبهم الذى انقاد لمنهج رب العالمين.
ثالثا :النصر والفتح:
ً
إن المرابطين حرصوا على نصرة دين هللا بكل ما يملكون ،وتحققت فيهم سنة هللا
فى نصرته لمن ينصره ,ألن هللا ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه
ين إِن َّ ِ
ي َع ِز ٌيز الذ َ نص َر َّن اهللُ َمن يَ ُ
نص ُرهُ إن اهللَ لََق ِو ٌّ ﴿ولَيَ ُ
بع َّزته وق َّوته ،قال تعالىَ :
الز َكاةَ وأَمروا بِالْمعر ِالصالَةَ َوآَت ُوا َّ َّاه ْم فِى األ َْر ِ
وف َو َن َه ْوا َع ِن ال ُْم ْن َك ِر َ ُْ َ َُ ض أَقَ ُاموا َّ َّم َّكن ُ
هلل َعاقِبَةُ األ ُُمو ِر﴾ [الحج.]40،41:
وِ
َ
يقول سيد قطب رحمه هللا« :وما حدث قط فى تاريخ البشرية أن استقامت جماعة
على هدى هللا إال منحها القوة والمنعة والسيادة فى نهاية المطاف إلعدادها لحمل أمانة
83
الخالفة فى األرض وتصريف الحياة . .إن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة هللا
والسير على هداه ،يشفقون من عداوة أعداء هللا ومكرهم ،ويشفقون من تألُّب الخصوم
عليهم ،ويشفقون من المضايقات االقتصادية وغير االقتصادية ،وإن هى إال أوهام
ف ِمن أَر ِ كأوهام قريش يوم قالت لرسول هللا ×﴿ :إِن َّنتَّبِ ِع ال ُْه َدى َم َع َ
ضنَا﴾ ك ُنتَ َخطَّ ْ ْ ْ
[القصص.]57:
فل َّما اتبعت هدى هللا سيطرت على مشارق األرض ومغاربها فى ربع قرن أو أقل
من الزمان»( .)1إن هللا تعالى أيد المرابطين على األعداء َّ
ومن عليهم بالفتح؛ فتح
األراضى وإخضاعها لحكم هللا تعالى ،وفتح القلوب وهدايتها لدين اإلسالم.
إن المرابطين عندما استجابوا وانقادوا لشريعة هللا جلبت لهم الفتح ،واستنزلت لهم
نصر هللا.
إن ال ُح َّكام والشعوب اإلسالميَّة التى تبتعد عن شريعة هللا تذل نفسها فى الدنيا واآلخرة.
إن مسئولية ال ُح َّكام والقضاة والعلماء فى الدعوة إلى تحكيم شرع هللا
مسئولية عظيمة يُسألون عنها يوم القيامة أمام هللا ،قال ابن تيمية -رحمه هللا:-
«إذا حكم والة األمر بغير ما أنزل هللا ،وقع بأسهم بينهم . .وهذا من أعظم
أسباب تغيُّر الدول كما جرى هذا مرة بعد مرة فى زماننا وغير زماننا ،و َمن
أراد هللا سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره ،فيسلك مسلك َمن أيده هللا
نص َرنَّ
﴿ولَيَ ُ
ونصره ،ويجتنب مسلك َمن خذله هللا وأهانه ،فإن هللا يقول فى كتابهَ :
هلل َعاقِبَةُ األ ُُمو ِر﴾ [الحج.]40،41: ي َع ِز ٌيز﴾ إلى ﴿و ِ
َ نص ُرهُ إن اهللَ لََق ِو ٌّ
اهللُ َمن يَ ُ
فقد وعد هللا بنصر من ينصره ،ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله ،ال نصر
َمن يحكم بغير ما أنزل هللا ويتكلم بما ال يعلم(.)2
رابعًا :العز والشرف:
اريخ يرجع إلى تم ُّس ِكهم إن عز المرابطين وشرفهم العظيم الذى ُسطِّر فى كتب التَّ ِ
بكتاب هللا وسنة رسوله × ،إن َمن يعتز باالنتساب لكتاب هللا الذى به تشرُف األمة،
وبه يعلو ذكرها وضع رجله على الطريق الصحيح وأصاب سنة هللا الجارية فى
ِ
إعزاز وتشريف من يتمسك بكتابه وسنة رسوله × ،قال تعالى﴿ :لََق ْد أَْن َزلْنَا إِل َْي ُك ْم كتَابًا
يه ِذ ْك ُر ُك ْم أَفَالَ َت ْع ِقلُو َن﴾ [األنبياء.]10 :
فِ ِ
قال ابن عبَّاس – رضى هللا عنهما -فى تفسير هذه اآلية :فيه شرفكم( ،)3فهذه األمة
ال تستمد الشرف والعزة إال من استمساكها بأَحكام اإلسالم ،كما قال عمر بن الخطاب
« :tإنَّا كنَّا أذل قوم ،فأع َّزنا هللا باإلسالم ،فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا هللا أذلنا
1
() فى ظالل القرآن( ،ج.)4/2407
2
() مجموع الفتاوى (ج.)35/388
3
() انظر :تفسير ابن كثير (ج.)3/170
84
هللا»( ،)1فعمر tكشف لنا بكلماته عن حقيقة االرتباط بين حال األمة ع ًزا وذالً ،مع
موقفها من الشريعة إقباالً وإدبارًا ،فما ع َّزت فى يوم بغير دين هللا ،وال ذلَّت فى يوم إال
باالنحراف عنه.
﴿من َكا َن يُ ِري ُد ال ِْع َّزةَ فَلِلَّ ِه ال ِْع َّزةُ َج ِم ًيعا﴾ [فاطر ]10:يعنى من طلب قال تعالىَ :
()2 َّ
العزة فليعتز بطاعة هللا عز وج َّل .
ن﴾ [المنافقون:
ين الَ َي ْعلَ ُمو َ ِِ ِ هلل ال ِْع َّزةُ ولِرسولِ ِه ولِل ِ ِ
وقال تعالى﴿ :و ِ
ين َولَك َّن ال ُْمنَافق َ
ْم ْؤمن َ
ََُ َ ُ َ
.]8
إننى عندما مررت بسيرة اإلمام ابن ياسين ذكرت وصفه بأنَّه ذو َمهَابَة عظيمة
فى نفوس أتباعه ,ونال شرفًا وعزة فى قومه.
ذكرت أنه إذا ركب للجهاد ركب ُ وعندما مررت بسيرة اإلمام أبى بكر بن عمر،
معه 500ألف من قومه يجاهدون معه.
وعندما ذكرت سيرة األمير يوسف بن تاشفين ذكرت وصفًا له كأنه ُخلق للزعامة.
ورأيت فى سيرة هؤالء األبطال ع ًّزا وشرفًا نالوه باالستعالء على شهوة النفس
والذل ،كان استعالؤهم على الخضوع الخانع لغير هللا واضحًا وباالستعالء على القيد ُّ
فى سيرتهم العطرة ،كانت حياتهم خضوعا ً هلل وخشوعا ،وخشية هلل وتقوى ومراقبة هلل
فى السراء والضراء ،وهذا هو سرُّ عزهم وشرفهم فى تاريخنا اإلسالمى المجيد.
لقد عاش المرابطون فى بركة من العيش ،ورغد من الحياة الطيبة التى وصلوا
إليها بإقامة دين هللا.
الس َم ِاء قال تعالى﴿:ولَو إن أ َْهل الْ ُقرى آمنُوا و َّات َقوا لََفتَ ْحنَا َعلَْي ِهم بر َك ٍ
ات ِّم َن َّ ََ َ َ ْ َ َ َْ
اهم بِما َكانُوا يك ِ واألَر ِ ِ
ْسبُو َن﴾ [األعراف.]96: َ ض َولَكن َك َّذبُ َ َ َ ُ َ
ن ذْ َخ
أ ف وا َ ْ
خامسًا :انتشار الفضائل وانزواء الرذائل:
لقد انتشرت الفضائل فى عصر المرابطين وانحسرت الرذائل ،فخرج جيل فيه
نبل وكرم وشجاعة وعطاء وتضحية من أجل العقيدة والشريعة ،متطلعًا إلى ما عند هللا
من الثواب ,يخشى من عقاب هللا؛ لقد استجاب ذلك المجتمع بشعبه ودولته و ُح َّكامه إلى
ما يُحييه من اإليمان والقرآن وسنة سيد األنام عليه أفضل الصالة والسالم.
إن آثار تحكيم شرع هللا فى الشعوب التى نفذت أوامر هللا ،ونواهيه ظاهرة بينة
اريخ ،وإن تلك اآلثار الطيبة التى أصابت دولة المرابطين لهى سنن من سنن لدارس التَّ ِ
هللا الجارية والماضية التى ال تستبدل وال تتغير ،فأى شعب يسعى لهذا المطلب الجليل
والعمل العظيم يصل إليه ولو بعد حين ،ويرى آثار ذلك التحكيم على أفراده ودولته
و ُح َّكامه.
1
() أخرجه الحاكم فى المستدرك فى اإليمان (ج.)1/62
2
() ابن كثير (ج.)2/526
85
اريخية اإلسالميَّة االستفادة الجادة من أولئك الذين إن الغرض من األبحاث التَّ ِ
سبقونا باإليمان؛ فى جهادهم وعلمهم وتربيتهم وسعيهم الدءوب لتحكيم شرع هللا،
وأخذهم بسنن التمكين وفقهه ,ومراعاة التدرُّ ج والمرحلية ،واالنتقاء من الشعب
واالرتقاء بهم نحو الكماالت اإلسالميَّة المنشودة.
إن االنتصارات العظيمة فى تاريخ أمتنا يجريها هللا تعالى على يدى َم ْن
الزالقَة ِمنأخلص لربه ودينه ،وأقام شرعه ،وز َّكى نفسه ،ولهذا لم يأت فتح ِّ
فراغ ,لقد جاهد المرابطون فى األَ ْن َدلُس وحققوا نصرً ا عظي ًما وفتحً ا مبينا فى
ً
الزالقَة وأنق َذ هللا بهم ال ُم ْسلِ ِمين.
معركة ِّ
***
86
المبحث الخامس
األندلـــــس بعد الزالقــــــة
بعد رجوع يوسف بن تاشفين إلى المغرب لألسباب التى ذكرتها تولى قيادة
المرابطين القائد الميدانى سير بن أبى بكر ,الذى واصل غاراته الناجحة مع أمير
أثخنت قواتُه مع قوات ْ بطليوس على أواسط البرتغال الحالية مما يلى تاجة ،وقد
المرابطين فى تلك البقاع.
كما وجَّه ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد ضربات موفقة بقيادته إلى عدة ُمدُن حول طُلَي ِْطلَة ,ثم
اتجه نحو أرض مرسية ،حيث استقرَّت جموع الفرسان النصارى بقيادة الكنبيطور فى
أحد الحصون القريبة التى تشن غاراتها على ُمدُن المسلمين ,خاصة مدينة المرية ,إال
أن ال ُم ْعتَ ِمد انهزم واضط َّر أن يلتجئ إلى قلعة لورقة فى كنف واليها ُم َح َّمد بن ليون ,ثم
توجه نحو قرطبة تار ًكا مرسية لمصيرها.
وبدأت قوات النصارى تتجمع حول ألفونسو الذى أربك ُمدُن شرق األَ ْن َدلُس,
متخذين من ِحصن لييط المنيع الواقع على مسيرة يوم من لورقة مرك ًزا لشنِّ الغارات
على أراضى ال ُم ْسلِ ِمين.
فلم يمض عام واحد على هزيمة ألفونسو حتى عاد نشاطه وجيشه ,ونقل مقر
العمليات إلى شرق األَ ْن َدلُس الذى خيمت عليه الفرقة السياسية ,بعكس غرب األَ ْن َدلس
ُ
الذى كانت تحكمه مملكتان قويتان هما مملكة إشبيلية وبطليوس ,تعضدهما فرقة من
المرابطين قوامها ثالثة آالف رجل على رأسها القائد العظيم سير بن أبى بكر(.)1
تأذى أهل غرب األَ ْن َدلُس من النصارى الحاقدين فتوافدت وفودهم على األمير
يوسف ,وخصوصًا أهل بلنسية ومرسية ولورقة ,يصفون لألمير يوسف ما نزل بهم
على أيدى النصارى الذى يتحكمون فى حصن لييط.
وعبر ال ُم ْعتَ ِمد المجاز إلى المغرب وطلب من يوسف العبور ،فاستجاب يوسف
لرغبته ،ت َّم جواز يوسف إلى الجزيرة الخضراء فى ربيع األول سنة 481هـ1088 /م,
ومن هناك كتب األمير يوسف إلى جميع أمراء األَ ْن َدلُس يدعوهم إلى الجهاد ،ثم تحرَّك
األمير يوسف إلى مالقة فى صحبة أميرها تميم بن بلقين ،كما لحق األمير عبد هللا بن
بلقين صاحب غرناطة ,والمعتصم بن صمادح ،فضالً عن ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد ،باإلضافة
إلى أمراء مرسية وشقورة وبسطة وجيان ،ولم يتخلف من ملوك الطوائف سوى ابن
األفطس صاحب بطليوس ،وتوجهت تلك الجموع لضرب الحصار على حصن لييط
الذى كان يسكنه ألف فارس واثنا عشر ألفًا من المشاة من جنود النصارى الحاقدين
أصحاب النزعة الصليبية االنتقامية ،واستبسل النصارى فى الدفاع عن الحصن وكانوا
يخرجون ليالً لالنقضاض على ال ُم ْسلِ ِمين وإلحاق الخسائر بهم.
واستم َّر الحصار بدون جدوى وظهرت صراعات ملوك الطوائف فيما بينهم
ووصلت لألمير يوسف الذى ساءه ذلك كثيرًا.
وشكى ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد لألمير يوسف خروج ابن رشيق صاحب مرسية عن
1
() تاريخ المغرب واألندلس ,ص (.)62
87
الطاعة ودفعه األموال أللفونسو السادس تقربًا إليه ،وظهرت المشاكل بين أبناء بلكين
عبد هللا وتميم لألمير يوسف ،وكأن ال عمل له إال حل المشاكل والمنازعات بين
األطراف المتنازعة.
وتضايق األمير يوسف من خيانة ابن رشيق الذى دفع أمواالً طائلة أللفونسو ,وعرض
األمر على الفقهاء والعلماء الذين أفتوا بإزاحته من حكمه وتسليمه لل ُم ْعتَ ِمد ،واستغاث ابن
رشيق باألمير يوسف الذى أجابه بأنَّها أَحكام الدِّين وال يستطيع مخالفتها (.)1
وأمر القائد سير بن أبى بكر باعتقاله وتسليمه لل ُم ْعتَ ِمد مشترطًا عليه إبقاءه حيًّا (.)2
وكانت لفتوى الفقهاء عند قادة المرابطين مكانة عظيمة يضعونها فوق كل اعتبار.
وف َّر جيش ابن رشيق من المعركة ،ومنع الزاد على جيش المرابطين و َمن
معه من األَ ْن َدلُسيين الذين يحاصرون الحصن ،فارتفعت األسعار ،ووقع الغالء
واضطربت األحوال ،وعندما علم ألفونسو بالخالفات التى وقعت حشد جي ً
شا
من أجل فك الحصار عن أتباعه فى حصن لييط ،فاضط َّر األمير يوسف إلى
فك الحصار خوفًا من معركة خاسرة غير مأمونة النتائج خاصة بعد الذى رآه
من ُح َّكام األَ ْن َدلُس وتآمرهم واتصالهم بالعدو ،ورجع األمير يوسف إلى لورقة
وترك أربعة آالف مرابطى بقيادة داود ابن عائشة للمحافظة على منطقة
مرسية وبعث بجنود إلى بلنسية بقيادة ُم َح َّمد بن تاشفين(.)3
واستطاع ألفونسو الوصول للحصن وأخرج من نجا من الموت ،ورأى أن ال فائدة
من االحتفاظ بالحصن ,ألنَّه يتطلب حماية كبيرة معرضة لمصير سابقاتها فقرَّر إخالءه
وتدميره ,واسترجع ابن َعبَّاد الحصن بعد أن أصبح أطالالً.
لقد أيقن األمير يوسف إن أمراء األَ ْن َدلُس ال يصلحون للحكم وال يعتمد عليهم فى
جهاد ،وبعد رجوع األمير يوسف فى عام 482هـ1089/م عرض األمر على الفقهاء
والعلماء فأفتوا له بضم األَ ْن َدلُس للمغرب.
وكان فقهاء وعلماء األَ ْن َدلُس يؤيدون ذلك ،وكذلك فقهاء وعلماء المغرب
والمشرق ،وأرسل اإلمام الغزالى وأبو بكر الطرطوشي( )4فتوى تؤيد عمله الجليل من
أجل توحيد صفوف ال ُم ْسلِ ِمين.
يقول الغزالي فى شأن أمراء الطوائف :فيجب على األمير وأشياعه قتال هؤالء
المتمردة وال سيما وقد استنجددوا بالنصارى( ،)5فقد أفتاه العلماء بجواز خلعهم
وإزاحتهم ،وبأنه فى حل مما تعهد لهم به من اإلبقاء عليهم في جوازه األول ،ألنهم
خانوا هللا بمعاهدتهم ألفونس على محاربة المسلمين؛ وبالتالي فإن عليه أن يبادر إلى
خلعهم جميعًا ،فإنك إن تركتهم وأنت قادر عليهم ،أغاروا بقية بالد المسلمين إلى الروم
وكنت أنت المحاسب بين يدي هللا( ،)6وكان ممن استفتى في هذا الموضوع الفقيه
1
() مذاكرات األمير عبد هللا ,ص (.)112
2
() انظر :دولة المرابطين ،ص (.)108
3
() ابن خلدون ,العبر( ،ج ،6ص .)187
4
() المصدر السابق نفسه.
5
() رسائل أبي بكر بن العربي ،تحقيق د.عصمت دندش ص .198
6
() االكتفاء البن الكردبوس ص (.)106
88
يوسف بن عيسى المعروف بأبي الملجوم(.)1
وطلب القضاة والفقهاء من يوسف أن يرجع ويوحد البالد بالقوة ،لتدخل تحت
الخالفة اإلسالميَّة فى بغداد.
لقد كان ملوك الطوائف يهتمون بمصالحهم الخاصة ال ينظرون إلى عزة أمتهم
حتى وصفهم ابن حزم بقوله« :لو وجدوا فى اعتناق النصرانية وسيلة لتحقيق أهوائهم
ومصالحهم لما ترددوا »(.)2
وكان ال ُم ْسلِ ُمون فى األَ ْن َدلُس يتمنون أن ينضموا إلى دولة المرابطين ,وعبَّر عن
ذلك فقهاؤهم وعلماؤهم وبرز الفقيه القاضى ابن القالعى «قاضى غرناطة» ,الذى
توطدت العالقة بينه وبين يوسف بن تاشفين منذ ذهاب أول بعثة إلى المغرب لطلب
النجدة ،إذ كان أحد أعضائها ,وكان يرى فى األمير يوسف صالحًا وعدالً وحز ًما.
حاول األمير عبد هللا ابن ملك غرناطة أن يتخلص منه فاعتقله ,ثم اضطر
إلى إطالق سراحه ،فهرب إلى قرطبة ،ومن هناك اتصل باألمير يوسف وأطلعه على
خفايا من األمور ،وأفتى بخلع ملوك الطوائف ,وتفاعل مسلمو األَ ْن َدلُس مع هذه
الفتوى الموفَّقَة(.)3
***
1
() األثر السياسي للعلماء في عصر المرابطين ،محمد بن بيّه ص (.)155
() رسالة ابن حزم ,نقالً عن دول الطوائف ,محمد عبد هللا عنان ,ص (.)406 2
3
() دولة المرابطين ،ص (.)113
89
المبحث السادس
فتوى فى جواز ضم األندلس بالقوة والقضاء على ملوك
الطوائف
أرسل اإلمام أبو بكر بن العربى المالكى إلى اإلمام الغزالى كتابًا يشرح فيه موقف
ملوك الطوائف باألَ ْن َدلُس من حركة يوسف بن تاشفين الجهادية ،ويطلب منه فتيا فى
ذلك ،قال اإلمام أبو بكر بن العربي« :وكان أشهر من لقينا من العلماء فى اآلفاق ،ومن
سارت بذكره الرفاق ،ولطول باعه فى العلم ورحب ذراعه ،اإلمام أبو حامد بن ُم َح َّمد
الطوسى الغزالي ،فاستدعينا منه فتيا وكتابًا ،واختصرت لفظ الفتيا لوقت ضاق عن
تقييدها لكن أنبه على معناها وهو :فى علم اإلمام ما ذكر فى وصف خالل أمير
ال ُم ْسلِ ِمين وناصر الدِّين أبى يعقوب يوسف بن تاشفين أمير المغربين األَ ْن َدلُس والعدوة،
وما أوضحت لديه من إعزاز الدِّين ،والذب عن ال ُم ْسلِ ِمين ،وهو حميرى النسب ومعه
المرابطون ،وقد وقفوا أنفسهم على الجهاد ،وقد كانت جزيرة األَ ْن َدلُس قد تملَّكها من
تاريخ ابتداء الفتنة سنة أربعمائة ,عدة ثوار تسوروا على البالد ،فضعف أهلها عن
مدافعتهم ،وتلقَّبُوا بألقاب الخلفاء وخطبُوا ألنفسهم ،وضربوا النقود بأسمائهم ،وأثاروا
الفتنة بينهم لرغبة كلِّ واحد منهم فى االستيالء على صاحبه ،واستبانوا الفُسَّاق فى
األرقاء والصنائع الطلقاء فى محاربة بعضهم بعضًا ،واستنجدوا بالنصارى عندما
اعتقد كل واحد منهم أنه أحق من صاحبه ،وعند ذهاب شوكة ال ُم ْسلِ ِمين ،وحينما
انكشف للنصارى ضعف ال ُم ْسلِ ِمين ،وعلموا المداخل والمخارج إلى بالد ال ُم ْسلِ ِمين،
طلبوا المعاقل وأخذوا بالحرب كثيرًا منها من غير مؤونة وال مشقَّة ،ثم لجأ الباقى من
ال ُم ْسلِ ِمين إلى المرابطين واستصرخوهم فلباهم أمير ال ُمسلِمين ووصل إلى البحر،
فاستاء بعض الرؤساء وفا ًء للمشركين ،وحقدًا على ال ُم ْسلِ ِمين فى استدعائهم له،
ووصل األمير إلى غرب األَ ْن َدلُس فمنحه هللا نصرًا ،وألجم الكفار السيف ،ثم عاود
الجواز فى العام الثالث من هذا الفتح فتهيبه العدو ،وتحصَّن منه ،ولم يخرج للقائه مع
تثاقل الرؤساء عنه ،وعثر ألحدهم على خطاب يشجع العدو على اللقاء ،واستولى على
من قدر عليه من الرؤساء من البالد والمعاقل ،وبقيت طائفة من رؤساء الثغر الشرقى
من جزيرة األَ ْن َدلُس ،حالفوا النصارى أو صاروا معه إلبًا ،ودعاهم أمير ال ُم ْسلِ ِمين إلى
الجهاد ،والدخول فى بيعة الجمهور ،فقالوا :ال جهاد إال مع إمام من قريش ،ولست به،
أو مع نائب عن اإلمام ،وما أنت ذلك ،فقال :أنا خادم اإلمام العبَّاسي ،فقالوا له :أظهر
لنا تقديمه إليك ،فقال :أو ليست الخطبة فى جميع بالدى له؟ فقالوا :ذلك احتيال.
ومردوا على النفاق ،فهل يجب قتالهم؟ وإذا ظفر بهم كيف الحكم فى أموالهم؟ وهل
على المسلم حرج فى قتالهم؟ وهل على اإلمام العبَّاسى أن يبعث بمنشور يتضمن
تقديمه له على جهادهم ،فإنهم إنَّما خرجوا عليه بأن األمير خادمه ،وهو يخطب له على
أكثر من ألفى منبر ،وتضرب السكة باسمه إلى غير ذلك ،ومتى وصف نفسه قال:
لست مستب ًّدا وإنما خادم أمير المؤمنين المستظهر ،وهذا أشهر أن يؤكد بالتحلية,
وأظهر من أن يجدد بالتزكية.
فللشيخ اإلمام األجل الزاهد واألوحد أبى حامد أتم األجر ،وأعم الشكر فى اإلنعام
90
بالمراجعة فى هذا السؤال إن شاء هللا تعالى(.)1
أوال :فتوى اإلمام الغزالى فى موقف كل من يوسف بن تاشفين وملوك الطوائف ً
والخالفة العباسية:
فأجاب اإلمام الغزالى رحمه هللا« :لقد سمعت من لسانه وهو الموثوق به الذى
يستغنى عن شهادته عن غيره وعن طبقة من ثقاة المغرب الفقهاء وغيرهم ،من سيرة
هذا األمير -أكثر هللا من األمراء أمثاله -ما أوجب الدعاء ألمثاله ،ولقد أصاب الحق
فى إظهار الشعار اإلمامى المستظهرى -حرس هللا على المستظهرين ظالله -وهذا هو
الواجب على كل ملك استولى على قطر من أقطار ال ُم ْسلِ ِمين فى مشارق األرض
ومغاربها ،فعليهم تزيين منابرهم بالدعاء لإلمام الحقِّ ،وإن لم يكن بلغهم صريح التقليد
من اإلمام ،أو تأخر عنهم ذلك لعائق ،وإذا نادى الملك المستولى بشعار الخالفة
العباسية ،وجب على كل الرعايا والرؤساء اإلذعان واالنقياد ،ولزمهم السمع
والطاعة ،وعليهم أن يعتقدوا أن طاعته هى طاعة اإلمام ،ومخالفته هى مخالفة اإلمام،
وكل من تمرد واستعصى وسل يده عن الطاعة ،فحكمه حكم الباغي ،وقد قال تعالى:
َصلِ ُحوا َب ْيَن ُه َما فَِإن َبغَ ْ
ت إِ ْح َد ُ ِِ ِ ِ ِ
اه َما َعلَى األُ ْخ َرى ﴿وإِن طَائ َفتَان م َن ال ُْم ْؤمن َ
ين اقْتََتلُوا فَأ ْ َ
يء إلَى أ َْم ِر اهلل﴾ [الحجرات .]9:والفيئة إلى أمر هللا ،الرجوع ِ ِ ِ ِ ِ َّ ِ
َف َقاتلُوا التى َت ْبغى َحتَّى تَف َ
إلى السلطان العادل المتمسك بوالء اإلمام الحق المنتسب إلى الخالفة العباسية ،فكل
متمرد على الحق فإنه مردود بالسيف إلى الحق ،فيجب على األمير وأشياعه قتال
هؤالء المتمردة عن طاعته ،وال سيَّما وقد استنجدوا بالنصارى المشركين وأوليائهم,
وهم أعداء هللا فى مقابلة ال ُم ْسلِ ِمين الذين هم أولياء هللا ،فمن أعظم القربات قتالهم إلى
أن يعودوا إلى طاعة األمير العادل المتمسك بطاعة الخالفة العباسية ,ويتركوا
َ َّ ()2
الكف عنهم ،وإذا قاتلوا لم يَجُز أن يُتَتَبَّ َع مدبرهم ،وال أن يُذفف على ُّ المخالفة ،وجب
الكف عنهم ،أعنى عن ال ُم ْسلِ ِمين ُّ جريحهم ,بل متى سقطت شوكتهم وانهزموا ،وجب
منهم دون النصارى الذين ال يبقى لهم عهد مع التشاغل بقتال ال ُم ْسلِ ِمين ،وأما ما يظفر
به من أموالهم فمردود عليهم أو على وريثهم ،وما يؤخذ من نسائهم وذراريهم فى
القتال مهدرة ال ضمان فيها وحكمهم فى الجملة فى البغى على األمير المتمسك بطاعة
الخالفة ،والمستولى على المنابر والبالد بقوة الشوكة حكم الباغى على نائب اإلمام ،فإنه
وإن تأ َّخر عنه صريح التقليد العتراض العوائق المانعة من وصول المنشور بالتقليد فهو
نائب بحكم قرينة الحال ،إذ يجب على اإلمام المصر أن يأذن لكل إمام عادل استولى على
قطر من أقطار األرض ،فى أن يخطب عليه ،وينادى بشعاره ويحمل الخلق على العدل
والنصفة ،وال ينبغى أن يظن باإلمام توقف فى الرضا بذلك واإلذن فيه.
وإن توقَّف فى كتبه المنشور ،فالكتب قد يعوق عن إنشائها وإيصالها المعاذير،
وأما اإلذن والرضا بعدما ظهر حال األمير فى العدل وال ِّسيَا َسة وابتغاء المصلحة
للتفويض والتعيين فال رخصة فى تركه ،وقد ظهر حال هذا األمير باالستفاضة ظهورًا
ال شك فيه ،وإن لم يكن عن إيصال الكتاب وإنشائه عائق ،وكانت هذه الفتنة ال تنطفئ
إال بأن يصل إليهم صريح اإلذن والتقليد بمنشور مقرون بما جرت العادة بمثله فى
1
() انظر :دراسات فى تاريخ المغرب ،د .أحمد العبادي ،ص (.)480-479
2
() ال يذفف :ال يجهز.
91
تقليد األمراء ،فيجب على حضرة الخالفة بذل ذلك .فإن اإلمام الحق عاقلة أهل
اإلسالم ،وال يحلُّ له أن يترك فى أقطار األرض فتنة ثائرة إال ويسعى فى إطفائها بكل
ممكن ،قال عمر « :tلو تركت جرباء على ضفة الفرات ،لم تطل بالهناء ،فأنا
المسئول عنها يوم القيامة» ,قال سليمان بن عبد الملك يو ًما وقد أحدق به الناس« :قد
كثر الناس» فقال عمر بن عبد العزيز« :خصماؤك يا أمير المؤمنين» ,يعنى أنَّك
مسئول عن كل واحد منهم إن ضيعت حق هللا فيهم أو أقمته ،فال رخصة فى التوقيف
عن إطفاء الفتنة فى قرى تحوى عشرة ،فكيف فى أقاليم وأقاليم إال أن يعوق عن ذلك
عائق ،ويمنع منه مانع ،المواقف القدسية اإلمامية المستظهرية حرس هللا جاللها أبصر
بها ,ونحن نعلم أن ال نستجيز التوقف عن إطفاء هذه الفتنة إال لعذر ظاهر وجب على
أهل الغرب أن ال يعتقدوا فى حضرة الخالفة إال ذلك ،فإن المسافة إذا بعدت وتخللها
المارقون عن ربقة الحق ،ولم يبعد أن يقتضى الرأى الشريف صيانة األوامر الشريفة
عن أن تمد إليها أعين الدولة فضالً عن أيديهم ،وأ َّما َمن يستجيز التوقُّف فيها من غير
عذر عن التقليد ألمير قد ظهرت شوكته وعرفت سياسته ،وتناطقت األلسن بعدله ،ولم
يعرف فى ذلك القطر من يجرى مجراه ،ويسد فى هذا الحال مسده ،فهذا اعتقاد فساد
فى حضرة الخالفة ,حاشاها من أن تُن َسب إلى قصور ،أو تقتضى فى نصرة أهل العدل
المتمسكين بخدمتها ،والمعتصمين بعروتها ،والقائمين فى أقطار األرض بإنفاذ
شعائرها وأوامرها المعلومة بقرائن األحوال ،فهذا حكم كل أمير عادل فى أقطار
األرض ،وحكم من بغى عليه ،وهللا أعلم(.)1
يتضح لى من فتوى اإلمام الغزالى أن رأيه فى قتال يوسف بن تاشفين لملوك
الطوائف مبنى على كون أولئك الملوك من البُغاة والخارجين عن سلطة الدولة
المرابطية التابعة للخالفة اإلسالميَّة.
وبهذا يتضح أن الفقهاء والعلماء رأوا ضرورة ضم األَ ْن َدلُس لقيادة المغرب
األقصى بعد أن فرَّط أمراء األَ ْن َدلُس فى أمور الشرع ومصالح الرعية ,وحالفوا
النصارى ضد إخوانهم ال ُم ْسلِ ِمين.
ك فى أن ما فعله األمير يوسف ضد ملوك الطوائف صحيح من الناحية وال ش َّ
الشرعية واالستراتيجية العسكرية والمنطلقات السياسية.
بل فى رأيى أن وجود ملوك الطوائف مفسدة عظيمة ،والسعى إلزالتهم خطوة
نحو توحيد الصفوف ،ونجد ُكتابًا من الغرب وأذياالً لهم من أبناء ال ُم ْسلِ ِمين يصفون ما
فعله األمير يوسف ضد ملوك الطوائف بأنَّه خروج عن اإلنسانية ،ودليل على
وتصو ِرهم المغلوط ،أ َّما بالنسبة للمؤرخ
ُّ الهمجية ،حسب وجهة نظرهم المغشوشة،
المسلم فإن ما قام به يوسف يعتبر عمالً عظي ًما ق َّدمه لألمة ،وحفظ به اإلسالم فى
األَ ْن َدلُس من انهيار ُمحقَّق ،وضبط األمور بعزم وحزم بعد فوضى وضياع وخنوع
واستسالم مارسه ملوك الطوائف دون اهتمام بدين أو شعب أو عقيدة.
لقد تميَّز يوسف بن تاشفين بوفائه التام للعهود ،وابتعاده عن األطماع الدنيوية،
وحرصه على إعزاز الدِّين ،وإزاحة العوائق التى تحول دون وحدة ال ُم ْسلِ ِمين ،ولذلك
أقدم على الخطوة المباركة من أجل توحيد األَ ْن َدلُس ،وضمها تحت قبضة دولته
الميمونة التابعة للخالفة العباسية السُّنيَّة.
1
() انظر :دراسات فى تاريخ المغرب واألندلس ،د .أحمد عبادي ,ص (.)484
92
إن كثيرًا من ال ُح َّكام المعاصرين المتسترين بالدِّين ،والذين يحالفون النصارى
الحاقدين واليهود الماكرين وأشياعهم وأتباعهم الكافرين ,واجب على الدولة اإلسالميَّة
السُّنيَّة الفتية أن تعمل على تخليص ال ُم ْسلِ ِمين من قبضتهم وتضمها إليها ،وتسعى من
أجل تحقيق ذلك بكل األمور الشرعية المعروفة.
وإذا تع َّذر وجود دولة سُنية لها هموم إسالميَّة وتطلعات شرعية فعلى الحركات
اإلسالميَّة أن توحِّد صفوفها للوصول إلى هذا الهدف المنشود ،ومن ثم السعى لتوحيد
األمة تحت دولة إسالميَّة تقوم على عقيدة التوحيد ،وتحكمها شريعة الرب المجيد ,وإذا
ما وصلت أى حركة معاصرة إلى ذلك الهدف المذكور تجد نفسها تحتاج إلى فتاوى
شرعية وتجارب لتستأنس بها فى مسيرتها المباركة ،ولذلك أرى من الفائدة العميمة
والخبرة الرشيدة دراسة الدول اإلسالميَّة التى قامت ،واجتهاداتهم فى الحروب،
وتربيتهم للشعوب ،لنسترشد بها ولنطورها على حسب متطلبات المرحلة التى نمرُّ بها.
ولذلك نجد أن األمم عمو ًما عندما تعد طالئع قيادية تهتم بدراسة الشعوب
والحركات التحررية ،والثورات اإلنسانية لتكون رصيدًا ألولئك الذين يعدون ويربون
على قيادة أمتهم فى المستقبل المنظور.
إن العقلية الضيقة المتحجرة عندما تكون فى سُدة القيادة ال تستطيع أن ترتقى
بجنودها ،وتجد نفسها تصطدم اصطدا ًما عنيفًا مع مستجدات الحياة ومشاكلها المعقدة.
اريخ اإلسالمى تُكسب الطالئع القيادية للحركة اإلسالميَّة المعاصرة إن تجارب التَّ ِ
ت مهمة فى مجال البناء والحركة والتنظيم والتكوين والتنفيذ والتمكين. خبرا ٍ
إن دروس التَّ ِ
اريخ تعلمنا أن العلماء الربَّانيين ،والفقهاء العاملين لهم مكانة فى
ٌ َّ
نفوس شعوبهم ،و َمهَابَة عند ُحكا ِمهم ،ولفتاويهم شأن عظيم فى شئون الحُكم والدول
والحروب وعزل الملوك وتولي ِة غيرهم . . .إلخ.
***
93
المبحث السابع
العبور الثالث لألمير يوسف بن تاشفين لألندلس
بعد طلب العلماء والفقهاء في األَ ْن َدلُس والمغرب والمشرق من األمير يوسف أن
ض َّم األَ ْن َدلُس إلى دولة المرابطين الفتية التابعة للخالفة العباسية السُّنيَّة ،عبر األمير ي ُ
يوسف بقوة ضخمة ,عبرت من سبتة إلى الجزيرة الخضراء وسار على رأس جيشه
إلى طُلَ ْي ِطلَة وأرسل فرقا ً من جيشه نحو مختلف المدن ،وسار بنفسه نحو مدينة
غرناطة.
واستطاع أن يفت َح غرناطة بعد شهرين من حصارها واعتقل أميرها ،عبد هللا بن
بلكين الصنهاجى الذى تحالف مع النصارى من أجل أمالكه ،ثم أرسله أسيرًا إلى
المغرب ،واستق َّر فى أغمات بالقرب من مراكش(.)1
وحاول ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد واألفطس أن يثنيا األمير يوسف عن عزمه ،ولكنَّه رفض
مقابلتهما ,وأيقنا أن زوالهما قريب.
وألقى المرابطون القبض على تميم بن بلكين والى مالقة وأرسل إلى إفريقية ،ثم
رجع األمير يوسف إلى سبتة ،وتولَّى القيادة السياسية والعسكرية القائد المحنك سير بن
أبى بكر ،وبدأ األمير يوسف فى إرسال الجيوش من المغرب إلى األَ ْن َدلُس للقضاء
الكلى على ملوك الطوائف ،وأصبحت القوة المرابطة فى األَ ْن َدلُس قوة ضاربة ال
يستطيع أحد الصمود أمامها ،وقسم األمير يوسف جيش المرابطين إلى أربعة أقسام:
-1جيش بقيادة سير بن أبى بكر توجَّه إلى إشبيلية.
-2وجيش سار إلى قرطبة بقيادة أبى عبد هللا بن الحاج وواليها ،آنذاك ،ولد
ال ُم ْعتَ ِمد الفتح أبو النصر.
-3وسار جرور اللمتونى إلى أرض رندة بجيش ثالث ،وفيها ولد آخر لل ُم ْعتَ ِمد
وهو يزيد الراضى باهلل.
-4وسار أبو زكريا بن واسندوا إلى المرية التى فيها المعتصم بن صمادح،
صديق ال ُم ْعتَ ِمد الحميم.
وبقى يوسف بن تاشفين فى سبتة على رأس جيش احتياطى لكى يقوم عند الحاجة
بإنجاد هذا الجيش أو ذاك(.)2
وسقطت قرطبة فى يد المرابطين فى صفر 484هـ1091/م بعد مقاومة عنيفة من
ابنى ال ُم ْعتَ ِمد اللذين قتال «المأمون ويزيد الراضي» ووصل المرابطون إلى ضواحى
طُلَ ْي ِطلَة مهددين ملوك النصارى ،واستولوا على قلعة رباح التى فتحت الطريق أمامهم
إلى قشتالة ،واشت َّد الخوف بال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد الذى أرسل إلى ألفونسو يستنجده ضد
المرابطين ،وعقد الخطر المشترك أواصر الصداقة بينهم.
1
() انظر :معركة الزالقة ،ص (.)62
2
() انظر :معركة الزالقة ص (.)62
94
وسقطت قومونة بعد حصار قصير فى ربيع األول 484/1091م ،وأصبح أمير
إشبيلية فى خطر عظيم ،وجاءته إمدادات النصارى التى أرسلها ألفونسو بقيادة الكونت
جومز ،وعدتها أربعون ألف رجل مرتجل ،وعشرون ألف فارس ،ووصلت إلى مقربة
من قرطبة وتص َّدى لهم القائد الشجاع إبراهيم بن إسحاق فى جند الشجعان ،ونشبت
بين الفريقين معركة حاسمة ،أصاب فيها المرابطون بالرغم من خسائرهم نصرًا كبيرًا
مبينًا ،وغدت إشبيلية بعد فرار النصارى تحت رحمة المرابطين ،وكانوا قد ضربوا
المحاصر ،وفتحت إشبيلية عنوة ِ حولها الحصار ،وكان سير بن أبى أبكر يقود الجيش
فى رجب 484هـ1091/م ،وكانت خاتمة ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد مأساة حزينة ،وكانت عبرة
لتقلُّب الدهر ،وذلك أن الرجل الذى لبث زهاء ربع قرن يقبض بيديه على مصاير
إسبانيا ،والذى كان يحكم سواد النصف الجنوبى لشبه الجزيرة ،والذى يرجع إليه سبب
استيالء ألفونسو السادس على طُلَ ْي ِطلَة ،والذى استدعى المرابطين إلى األَ ْن َدلُس ،اختتم
حياته الحافلة باألحداث فى غمرة البؤس والحزن فى أغمات المغرب فقد قبض عليه
بعد سقوط إشبيلية ،وعلى نسائه وأبنائه وبناته – وهم نحو مائة – وأرسلوا إلى
مراكش( ،)1وفى طريقه تألم ال ُم ْعتَ ِمد من قيده وضيقه وثقله فقال:
بذل الحديد وثقل القيود تبدَّلت من ظل ع ّزِ البنو ِد
وعضبًا رقيقًا صقيل الحديد وكان حديدى سنانًا ذليقًا
يعض بساقى عض األسود وقد صار ذلك وذا أدهما
لقد أطنب الشعراء والمؤرخون وأهل األدب فى سيرة ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد ،وسبب
ذلك أمور كثيرة وأهمها فى نظرى أن قضيته غريبة ،وشخصيته عجيبة ،وم َّر بأمور
رهيبة وكانت سيرته مليئة بالمتناقضات فهو الذى قال« :رعى اإلبل وال رعى
الخنازير» وهو الذى استعان بالنصارى ،وأجلب خيلهم ورجالهم ضد ال ُم ْسلِ ِمين،
وسيرته تبين لنا سنن هللا فى إعزاز من يشاء وإذالل من يشاء ،وإعطاء الملك لمن
يشاء ونزعه ممن يشاء.
ْك ِم َّم ْن
ْك َمن تَ َشاءُ َوتَنزِعُ ال ُْمل َ ْك ُت ْؤتِى ال ُْمل َ ك الْمل ِ ِ
قال تعالى﴿:قُ ِل اللَّ ُه َّم َمال َ ُ
ير﴾ [آل ٍ ِ تَ َشاءُ َوتُِع ُّز َمن تَ َشاءُ َوتُ ِذ ُّل َمن تَ َشاءُ بِيَ ِد َك الْ َخ ْي ُر إِنَّ َ
ك َعلَى ُك ِّل َش ْيء قَد ٌ
عمران.]26 :
وتوفى ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد فى أغمات سنة 488هـ -رحمه هللا تعالى.-
وفى النادر الغريب أنه نودى فى جنازته بالصالة على الغريب ،بعد عظم سلطانه
وجاللة شأنه ،فتبارك َمن له البقاء والع َّزة والكبرياء(.)2
من شعر المعتمد بن عباد:
دخل عليه ولده أبو هاشم والقيود قد عضت بساقيه فخاطب قيده فقال:
1
() المصدر السابق ،ص (.)64
2
() وفيات األعيان (ج.)5/37
95
أبيت أن تشفق أو ترحما قيدي ,أما تعلمنى ُمسل ًما
أكلته وال تهشم األعظُما دمى شرابٌ ،واللحم قد
فينثني ,والقلب قد هُشما يُبصرنى فيك أبو هاشم
ج ّرَعتهن السُّم وال َعلقما ت له مثله
ارحم أخيا ٍ
وقال ذات مرة بعد أن أحيط به فى إحدى معاركه:
وتَ ْنهنه القلبُ الصديع لما تماسكت الدموع
فليب ُد منك لهم ُخضوع قالوا الخضو ُ
ع سياسة
على فمى ال ّس ُّم النقيع وألذ من طعم ال ُخ َ
ضوع
القلب الضُّ لوع
َ مالكى وتُ ْ
سلم أتسلبْ عنى ال ُّدنا
أن ال تحصُِّننى الدروع قد ر ُ
ُمت يوم نِزالهم
ـص عن الحشى شيء َدفُوع وبرزت ليس سوى القميـ
بهواى ذلى وال ُخضوع تأخر ,لم ْ
يكن أجلى َّ
وكان فى أملى الرجوع سرت ُّ
قط إلى القتال ُ ما
()1
واألصل تتبعه الفُرو ْع شيم األولى أنا منهم
ولما تُوفِّى فى أغمات رثاه الشعراء بقصائد معبرة عن المشاعر اإلنسانية الدفينة,
وممن رثاه شاعره المخلص أبو بحر عبد الصمد بقصيدة طويلة أجاد فيها ،وأولها:
أم قد عدتك عن السماع عوادي ملك الملوك ،أسامع فأنادي
فيها كما قد كنت فى األعياد لما نقلت عن القصور ولم تكن
()2
وجعلت قبرك موضع اإلنشاد أقبلت فى الثرى لك خاضعًا
لقد كانت محنة ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد عظيمة ،وتعاطف معه كثير من المؤرخين
واألدباء والشعراء ،واتهموا يوسف بن تاشفين بالقسوة والغلظة وأنَّه صحراوى بدوى
1
() التاريخ اإلسالمي ،للذهبي ،حوادث ووفيات ،مجلد (490-481هـ) ,ص (.)271
2
() وفيات األعيان (ج.)5/37
96
نزعت الرحمة من قلبه ،واستدلُّوا أنه ذو نزعة توسعية دنيوية ،ولذلك أنزل العقوبة
المؤلمة على من استطاع من ملوك األَ ْن َدلُس وتخلَّص منهم.
والواقع يقول :إن ابن تاشفين لم يطمع فى األَ ْن َدلُس ،وتردد كثيرًا قبل العبور،
وعف عن الغنائم بعد ال ِّزالقَة وتركها لل ُم ْعتَ ِمد وألمراء األَ ْن َدلُس ،ولم يأخذ منها شيئًا، َّ
وكانت عودته ,ثم عاد فى الجواز الثانى بسبب اختالفات ملوك الطوائف الهزلي،
ف بعضهم مع ملوك النصارى ،ولما اشتد الخطب على أهل األَ ْن َدلُس ,وأفتى وتحالُ ِ
العلماء بخلع ملوك الطوائف حرصًا على سالمة الدِّين والعقيدة؛ قرَّر األمير يوسف أن
يضع حدًا لمهزلة ملوك الطوائف ,لقد آنَ -من أجل الشريعة والمصلحة العظمى
لألمة -لهذه الدويالت الهزيلة الضعيفة المتناحرة المتحالف بعضها مع األعداء أن
تنتهي ،وكما قال الشاعر محمود غنيم:
َّ
ليديه ,حطــمَ جانب المصـراع َمن عالج الباب العصى فلم يلن
فقد شغله هؤالء األمراء المتفرقون عن الجهاد والفتوحات والمرابطة فى سبيل هللا
لضعفهم وفرقتهم ،فلقوا جزاء خيانتهم وفرقتهم ،وابن تاشفين خص األمراء وحدهم
بشدة عقابه ,وعفا عن الشعب المسلم ،ألن التناقض جلى بين الشعب الذى تعلق
بالمرابطين وباألمير يوسف لعدله وحزمه وجهاده ،والذى حرص على رفع المظالم
والضرائب والمكوس عن كاهل الشعب الذى طلب من ملوكه االتحاد فى وجه
النصارى ،وبين األمراء والملوك الذين آثروا التَّفرُّ ق والخالفُ ،حبًّا فى الحكم،
وحفاظًا على مصالحهم الشخصية.
وهذا الذى قام به األمير يوسف ،وإزاحة الملوك من أعظم حسناته ومآثره الخالدة
فى تاريخه المجيد الذى تعتز به أمتنا العريقة.
وبسقوط إشبيلية تزعزعت باقى ال ُمدُن والحصون ،وأصبحت غرناطة ومالقة
وجيان وقرطبة وإشبيلية والمرية تحت حكم المرابطين فى وقت لم يتجاوز ثمانية عشر
شهرًا.
سقطت المرية بيد داود ابن عائشة ،هذا القائد المجاهد المرابط فى سبيل هللا، ْ ولما
المنصور بإسالمه ودينه وصفاء عقيدته وحفظه للعهود ،واصل سيره الموفق مع
جنوده البواسل ,وافتتح مرابيطر وبلنسية وشنتمرية ،ولم تغن أمراءهم معاونة
الكمبيادور وفرسانه ،فبلنسية كان بها يحيى بن ذى النون «القادر» ،وعلى الرغم من
أنه كان منضويًا تحت حماية ملك قشتالة ،وقد خفت إلنجاده فرقة كبيرة منهم ،وقوة من
المرتزقة المسل ِمين من مرسية بقيادة ابن طاهر على الرغم من كل هذا سقطت بلنسية
بيد المرابطين أصحاب األيادى المتوضئة ،والقلوب الطاهرة ،والضربات الفتاكة لكل
جبار عنيد.
واستم َّر داود ابن عائشة فى فتح حصون وقالع ُمدُن شرق إسبانية تحفُّه
العناية اإللهية ،وتنزل عليه الفتوحات الربَّانية ,ويخط للمغاربة ولألمة اإلسالميَّة
تاريخا مجيدًا باقيًا على مر العصور واألزمان ،واضحة معالم العقيدة واإليمان فى ً
نحته وكتبه بماء الذهب الصافي.
أ َّما القائد الربَّانى والفارس الميدانى سير بن أبى بكر فكان جهاده الميمون فى
غرب األَ ْن َدلُس؛ حيث زحف إلى بطليوس وأميرها يومئ ٍذ ُم َح َّمد بن األفطس «ال ُمت ََو ِّكل»
97
بعد أن فتح إشبيلية كما سلف ،فاستولى على شلب ويابرة ,ثم احت َّل بطليوس فى صفر
487هـ -آذار (مارس) 1094م.
وفى الوقت الذى سقطت فيه بطليوس ،استطاع المرابطون أن يفتحوا جزر
البليار ،التى كان واليها يومئ ٍذ من بنى شهيد أتباع أمراء بلنسية ودانية ،وأحسن
المرابطون صنعًا بفتح الجزر الشرقية «بليار» فى الوقت المالئم ،فقد كانت منعزلة
تعيش تحت هيمنة األسطول النصراني ،وقد تم الفتح على يد القائد البحرى ابن
تافرطست.
بذلك أصبحت إسبانيا المسلمة تحت قبضة دولة المرابطين الفتية سنة487هـ 1094/م،
ونستثنى من ذلك والية َسرْ قُ ْسطَة التى كان واليها أحمد بن هود «المستعين باهلل» الذى أبلى
بال ًء حسنًا فى جهاد النصارى ,وظهرت فيه شهامة ورجولة أقنعت األمير يوسف على
إبقائه فى ُمل ِكه ،وتحالف ابن هود مع إخوانه فى العقيدة ض َّد أعدائهم فى الدِّين ،وكان سدًا
منيعًا فى الثغور الشمالية وقد كلف النصارى خسائر هائلة فى األموال واألرواح.
واستطاع النصارى أن يحتلُّوا مدينة «بلنسية» عام 487هـ بقيادة القائد
النصرانى الكمبيادور الذى أمن قاضيها «ابن جحاف» ثم أحرقه بالنار ،وعمل المرابطون
على إرجاع بلنسية والحصون التى وقعت فى يد النصارى ،وتم َّكنوا من تحرير بلنسية عام
495هـ.
والجدير بالذكر أن بابا الفاتيكان أفتى ألهل إسبانيا و َمن حولهم من اإلفرنج إن
قتالهم فى األَ ْن َدلُس ضد ال ُم ْسلِ ِمين جهاد مقدس ,ولذلك لم يشارك اإلسبان فى حروب
النصارى الصليبية فى شرق العالم اإلسالمى فى هذه الفترة.
لقد كانت سياسة اإلسبان فى حروبهم لل ُم ْسلِ ِمين صليبية النزعة ،همجية الخلق،
خالية من األخالق ،ممزوجة بالغدر بعيدة عن العلم والحضارة.
وكانت سياسة المرابطين فى حروبهم وجهادهم مبنية على نشر اإلسالم ومكارم
األخالق فى أُطُر حضارية نابعة من مشكاة الوحيين كتاب هللا وسنة رسوله × (.)1
***
1
() انظر :معركة الزالقة ،ص (.)68
98
المبحث الثامن
الجواز الرابع لألمير يوسف فى األندلس
لما أصبحت إسبانيا المسلمة تحت حكم المرابطين بما فى ذلك َسرْ قُ ْسطَة التى حكمها
بنو هود ،عبر أبو يعقوب يوسف بن تاشفين العبور الرابع سنة 496هـ1103 /م بعد
استرداد بلنسية بعام واحد ،يبتغى تنظيم شئونها ،وليطلع على حسن سير اإلدارة ،ودعا
القادة والوالة وزعماء األَ ْن َدلُس ،وشيوخ القبائل المغربية التى تدين بالطاعة له إلى
االجتماع فى قرطبة ،وعيَّن ولده األصغر عليًّا «أبا الحسن» وليًّا للعهد؛ فقد ظهرت مواهبه
ونجابته ورجاحة عقله ولمس والده فيه الخصال الالزمة لحكم شعوب وأمم كثيرة(.)1
أوالً :نص والية العهد لألمير على بن يوسف:
عهد األمير يوسف إلى كاتبه الفقيه أبى ُم َح َّمد بن عبد الغفور أن يكتب نص والية
العهد وكان مشهورًا ببالغته ،وهذا هو النص« :الحمد هلل الذى رحم عباده
باالستخالف ،وجعل اإلمامة سبب االئتالف ،وصلى هللا على سيدنا ُم َح َّمد نبيه الكريم
الذى ألف القلوب المتنافرة ،وأذل لتواضعه عزة الملوك الجبابرة.
أما بعد :فإن أمير ال ُم ْسلِ ِمين وناصر الدِّين أبا يعقوب بن تاشفين لما استرعاه على
كثير من عباده المؤمنين ،خاف أن يسأله هللا غدًا عما استرعاه كيف تركه همالً لم
يستنب فيه سواه ،وقد أمر هللا بالوصية فيما دون هذه العظمة ،وجعلها من آكد األشياء
الكريمة ،كيف فى هذه األمور العائدة فى المصلحة الخاصة والجمهور ،وإن أمير
ال ُم ْسلِ ِمين بما لزمه من هذه الوظيفة وحضه هللا بها من النظر فى األمور الدِّينية
الشريفة ،قد أع ّز هللا رماحه وأحد سالحه ،فوجد ابنه األمير األجل أبا الحسن أكثرها
ارتياحًا إلى المعالى واهتزا ًزا ،وأكرمها سجية وأنفسها اعتزا ًزا ،فاستنابه فيما
استرعي ،ودعاه لما كان إليه ودعا ،بعد استشارة أهل الرأى على القرب والنأي،
فرضوه لما رضيه ،واصطفوه لما اصطفاه ،ورأوه أهالً أن يسترعى فيما استرعاه،
فأحضره مشترطًا عليه الشروط الجامعة بينهما وبين المشروط قبل ،وأجاب حين
دُعي ،بعد استخارة هللا الذى بيده الخيرة واالستعانة بحول هللا الذى من آمن به شكره،
وبعد ذلك مواعظ ووصية بلغت النصيحة مرامى قصية ،يقول فى ختامه شروطها
وتوثيق ربوطها ،كتب شهادته على النائب والمستنيب من رضى إمامتها على البعيد
-
والقريب ،وعلم عل ًما يقينًا بما وصاه فى هذا الترتيب وذلك فى عام 495هـ 1101 /م
(.)2
أ -وأوصى يوسف بن تاشفين ابنه عليًّا بما يلي:
أال يُ َعيّن فى مناصب ال ُح َّكام والقضاة فى الواليات والحصون وال ُمدُن إال
المرابطين من قبيلة لمتونة.
وأن يحتفظ فى األَ ْن َدلُس بجيش دائم حسن األجر من المرابطين ،قوامه سبعة عشر
ألف فارس ،يطعمون على حساب الدولة يوزعون كما يأتي :أربعة أالف فى والية
1
() انظر :معركة الزالقة ،ص (.)71
2
() الزالقة ص ( ،)72-71انظر :ابن الخطيب ،اإلحاطة (.)2/519،520
99
َسرْ قُ ْسطَة ،وسبعة آالف فى إشبيلية ،وثالثة آالف فى غرناطة ،وألف فى قرطبة،
والباقى قدره ألفان يحتلون قالع الحصون كحامية ،ويحسن أن يعهد إلى مسلمى
األَ ْن َدلُس بحراسة الحدود النصرانية ومحاربة النصارى ،فهم لهم معرفة أوسع وخبرة
أكبر على مقاتلة النصارى من المغاربة ،وأن يعمل على تشجيع األَ ْن َدلُسيين على روح
الجهاد وأن يكافئ المتفوقين فى الحرب منهم بالخيل والسالح والثياب والمال.
ونصح أبو يعقوب ابنه أن يعامل أهل األَ ْن َدلُس وخصوصًا قرطبة بالرفق واللين،
وأن يقوى عالقته األخوية مع بنى هود الذين هم طليعة األَ ْن َدلُسيين فى محاربة
النصارى.
ولما انتهى يوسف بن تاشفين من تنظيم شئون األَ ْن َدلُس وقسمها إلى ست واليات
هى إشبيلية ،غرناطة ،قرطبة ،بلنسية ،مرسية ،و َسرْ قُ ْسطَة ،عاد ابن تاشفين إلى
مراكش.
ب -لقد مرت سياسة المرابطين فى األندلس بمراحل ثالث:
-1مرحلة التدخل من أجل الجهاد وإنقاذ ال ُم ْسلِ ِمين ،وقد انتهت بانسحاب
المرابطين بمجرد انتصار ال ِّزالقَة.
-2مرحلة الحذر من ملوك الطوائف ،بعد أن ظل وضعهم وضع التنافر
والتحاسد والتباعد ،ولم يفكروا فى االندماج فى دولة واحدة ،بل فضل
بعضهم التقرب إلى األعداء للكيد ببعضهم.
-3مرحلة ضم األَ ْن َدلُس إلى المغرب ،فوضعوا حدا لمهزلة ملوك الطوائف.
100
المبحث التاسع
آثار االبتعاد عن تحكيم شرع هللا
على ملوك الطوائف
-1إن االبتعاد عن تحكيم شرع هللا تعالى يجلب لألفراد واألمة تعاسة وضن ًكا فى
الدنيا ،وهال ًكا وعذابًا فى اآلخرة ،وإن آثار االبتعاد عن شرع هللا لتبدو على
الحياة فى وجهتها الدِّينية واالجتماعية والسياسية واالقتصادية.
وإن الفتن تظل تتوالى وتترى على الناس حتى تمسَّ جميع شئون حياتهم ,قال
ِ صيب ُهم فِ ْتنَةٌ أَو ي ِ
ِ ِ ِ َّ ِ
يم﴾ اب أَل ٌص َيب ُه ْم َع َذ ٌ ْ ُ ين يُ َخال ُفو َن َع ْن أ َْم ِره أَن تُ َ ْ تعالىَ ﴿ :فلْيَ ْح َذ ِر الذ َ
[النور.]63:
لقد كانت فى ُم َمارسة ملوك الطوائف للحكم البعيد عن شرع هللا آثار على األمة،
فتجد اإلنسان المنغمس فى حياة المادة والجاهلية ُمصابا ً بالقلق والحيرة والخوف
والجبن يح َسب ك َّل صيحة عليه ،يخشى ِمن النصارى وال يستطيع أن يقف أمامهم وقفة
ع ٍّز وشموخ واستعالء ،وإذا تشجع فى معركة من المعارك ضعف قلبه أمام األعداء
ض َعن ِذ ْك ِرى ﴿و َم ْن أَ ْع َر َ
من أثر المعاصى على قلبه ،وأصبح فى ضنك من العيشَ :
ضن ًكا﴾ [طه.]124: فَإن لَهُ َم ِعي َشةً َ
-2أ َّما اآلثار على األمة األَ ْن َدلُسية فقد أصيبت بالتبلُّد وفقد اإلحساس بالذات ومات
ضميرها الروحي ،فال أمر بمعروف تأمر به ،وال نهى عن منكر تنهى عنه،
وأصابهم ما أصاب بنى إسرائيل عندما تركوا األمر بالمعروف والنهى عن
المنكر.
يسى ابْ ِن َم ْريَ َم ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ َّ ِ
يل َعلَى ل َسان َد ُاو َد َوع َ ين َك َف ُروا من بَنى إ ْس َرائ َ
قال تعالى﴿:لُع َن الذ َ
1
() أبو داود ،كتاب المالحم ،باب األمر بالمعروف ,رقم الحديث(.)4670
101
كما أن المجتمعات التى تخضع تحت ال ُح َّكام الذين تباعدوا عن شرع هللا تُ َذل
وتهان ,حتى تقوم أمام َمن خالف أمر هللا وتطلب العون من إخوانهم فى العقيدة,
إلرجاع حكم هللا فى مجتمعاتهم.
إن ملوك األَ ْن َدلُس انعكس انحرافهم على شباب األَ ْن َدلُس كلِّه ،وفرَّط أهل األَ ْن َدلُس
فى األمر بالمعروف والنهى عن المنكر ،وانعكس ذلك فى حركة الفتوحات اإلسالميَّة
فت ،ولذلك حرمت شعوب كثيرة من سعادتها فى الدنيا واآلخرة بسبب تضييع التى توقَّ ْ
األمانة والرسالة والدعوة إلى هذا الدِّين ،لقد قست قلوب ملوك الطوائف وكثير من
أتباعهم إال من رحم هللا ،وتركوا الحق وانقادوا للضالل ،وابتلوا بالنفاق وفضحهم هللا
بذلك ،وحرموا التوفيق والرجوع للصواب ،وخف دينهم وضعف إيمانهم ،بسبب
بطرهم للحق وغمطهم لحقوق الناس وابتعادهم عن شرع هللا تعالى.
-4لقد كانت ممالك األَ ْن َدلُس مليئة باالعتداءات على األنفس واألموال
واألعراض ،وتعطلت أَحكام هللا فيما بينهم ،ونشبت حروب وفتن وباليا
تولَّدت على أثرها عداوة وبغضاء لم تزل عنها حتى بعد زوالهم.
-5وبسبب االبتعاد عن كتاب هللا وسنة رسوله × سهلت مهمة النصارى فى
األَ ْن َدلُس فأصبحت شوكتهم تقوى وتحصلوا على مكاسب كبيرة ،وغاب نصر
هللا عن ملوك الطوائف وأهل األَ ْن َدلُس ،وحرموا من التمكين ،وأصبحوا فى
خوف وفزع من أعدائهم ،وبعض ال ُمدُن تبتلى بالجوع بسبب حصار
قتل النصارى من ال ُم ْسلِ ِمين وكم سبوا من نسائهم.النصارى لهم ,وكم َ
-6إن االبتعاد عن شرع هللا فى األَ ْن َدلُس ترتب عليه انتقاص األرض وضياع
الملك ،وتسلُّط الكفار وتوالى المصائب.
اريخ أنه إذا عُصى هللا -7إن من سنن هللا تعالى المستخ َرجة من حقائق الدِّين والتَّ ِ
تعالى ِم َمن يعرفونه َسلَّط عليهم َمن ال يعرفونه ،ولذلك سلَّط هللا النصارى
على ال ُم ْسلِ ِمين فى األَ ْن َدلُس ،وعندما تحرك الفقهاء والعلماء وبعض الملوك
واستنصروا إخوانهم فى الدِّين ،والتفوا حول دولة الشريعة نصرهم هللا على
أعدائهم ،ثم خلَّص هللا أهل األَ ْن َدلُس من ملوك الطوائف الظالمين وأبدلهم
بأمراء عادلين ،منقادين لشريعة رب العالمين.
-8إن الذنوب التى يهلك هللا بها القرون ويعذب بها األمم قسمان:
أولهما :معاندة الرسل والكفر بما جاءوا به.
وثانيهما :كفر النعم بالبطر واألشر ،وغمط الحق واحتقار الناس وظلم الضعفاء
ومحاباة األقوياء ،واإلسراف فى الفسق والفجور ،والغرور بالغنى
والثروة ،فهذا كلُّه من الكفر بنعمة هللا ،واستعمالها فى غير ما يرضيه من
نفع النَّاس والعد ِل العام ،والنَّوع الثَّانى من الذنوب هو الذى مارسه ملوك
األَ ْن َدلُس وأمراؤهم وأتقنوه إتقانًا عجيبًا.
***
102
الفصل الثالث
السياسة الداخلية والخارجية فى دولة المرابطين
المبحث األول
حقوق الرعية فى دولة المرابطين
إن هللا تعالى جعل بين الحاكم والمحكوم حقوقًا وواجبات متبادلة ،وبينت الشريعة
َّاعي:
الغرَّاء هذه الحقوق المتبادلة؛ فمن أهم حقوق الرعية على الر ِ
أوالً :العمل على اإلبقاء على عقيدة األمة صافية نقية:
وذلك عن طريق حفظ الدِّين على أصوله المستقرَّة ،وما أجمع عليه سلف األمة،
فهذا هو أهم األمور التى تلزم والة األمر تجاه الرعية( ،)1وأهم هذه األصول :التمسك
اريخية لدولة بالكتاب والسنة وإجماع القرون المفضلة األولى ،وفى دراستى التَّ ِ
المرابطين وجدت أن ُح َّكامها ساروا على هذا المنهج الذى رسمه شيوخهم الذين
سبقوهم ،ولذلك توحدت دولة المرابطين ،وكان لذلك المسلك سبب فى حماية األمة من
التَّفرُّ ق فى الدِّين إلى دروب األهواء والضالالت ،وكان حماية ووقاية للحاكم
والمحكوم فى دولة المرابطين على السواء من الزيع عن السبيل ،قال تعالى:
اهلل َج ِم ًيعا َوالَ َت َف َّرقُوا﴾ [آل عمران ]103 :أي :تمسَّكوا بدين هللا الذى صموا بِح ْب ِل ِ ِ
َ ﴿وا ْعتَ َُ
أمركم به ،وعهده الذى عهده إليكم ،فى كتابه إليكم من األلفة واالجتماع على كلمة
الحق والتسليم ألمر هللا»( ,)2لقد كان يوسف بن تاشفين ومن سبقه من ُح َّكام دولة
والجماعَة ،ال ُسبُل أهل الزيغ َ المرابطين على منهج الفرقة الناجية وسبيل أهل السنة
ِ ِ
ين َت َف َّرقُوا َوا ْخَتلَ ُفوا من َب ْعد َما ِ َّ
﴿والَ تَ ُكونُوا َكالذ َ والتفريق التى نهى هللا عنها فى قولهَ :
ِ ات َوأُولَئِ َ
جوهٌ﴾ [آل ض ُو ُجوهٌ َوتَ ْس َو ُّد ُو ُيم َ ي ْو َم َت ْبيَ ُّ
اب َعظ ٌك ل َُه ْم َع َذ ٌ اء ُه ُم الَْبِّينَ ُ
َج َ
عمران.]105،106:
والجماعَة
َ قال ابن عبَّاس –رضى هللا عنهما« :-يعنى تبيض وجوه أهل السنة
وتس َّود وجوه أهل الفرقة والزيغ»( ،)3لقد قام يوسف بن تاشفين بحماية أصول أهل
والجماعَة بتشجيع العلماء والفقهاء وبنشرها وحمل الناس عليها واستخدم فى َ السنة
ذلك سلطانه وصالحياته الشرعية(.)4
ثانيا :توحيد المغرب تحت راية الخالفة اإلسالمية:
ً
قام يوسف بن تاشفين بتوحيد المغرب األقصى تحت راية الخالفة اإلسالميَّة,
واستعمل من أجل هذا الهدف كافة األسباب المشروعة سواء بإصالح ذات البين بين
1
( )2تفسير الطبري( ،ج.)7/70 () األحكام السلطانية للماوردي ،ص (.)22 2
3
() تفسير ابن كثير( ،ج.)1/369
4
() انظر :الحكم والتحاكم( ،ج.)2/514
103
القبائل المتناحرة ،أو باستعمال القوة مع َمن استعصى عن اإلجابة ،وكان يسعى سعيًا
حثيثًا للقضاء على الشرور فى بالده ،ويعمل على إغالق أبوابها أوالً بأول وسبيله فى
ذلك« :تنفيذ األَحكام بين المتشاجرين ،وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تع َّم
النصفة ،فال يتعدى ظالم وال يضعف مظلوم»(.)1
ثالثًا :العمل على حماية األمة من المفسدين والمحاربين:
حيث استطاع أمير ال ُم ْسلِ ِمين يوسف بن تاشفين أن يؤمن السبل فى بالده ,وأن
يبسط األمن ,ويقمع األخطار التى هددت دولته من المارقين ,ونظم طرق األسفار
ومسارب التجارات.
وقد ع َّد علماء اإلسالم تأمين السبل والطرق حقًّا من حقوق الرعية التى سيُسأل
عنها كل راع ،فذكروا أن اإلمام يلزمه« :حماية بيضة اإلسالم ,والذب عن الحُرم،
()2
ليتصرف الناس فى معايشهم وينتشروا فى أسفارهم آمنين على أنفسهم وأموالهم» ,
ك أن تأمين السبل دليل بار ٌز على انتصار الدِّين وتمكينه ،فإنه × لما دَعا عدىوال ش َّ
بن حاتم إلى اإلسالم ،وعده – إن طالت به الحياة – أن يرى طرق ال ُم ْسلِ ِمين آمنة،
وسبلهم محفوظة لما يؤول إليه األمر من قوة ال ُم ْسلِ ِمين بعد ضعفهم ،فقد روى البخارى
فى صحيحه عن عدى بن حاتم قال« :بينما أنا عند النبى × إذا أتاه رجل فشكا إليه
الفاقة ،ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل ،فقال :يا عدى هل رأيت الحيرة؟ قلت :لم
أرها ،وقد أنبئت عنها ،قال :فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من
الحيرة حتى تطوف بالكعبة ال تخاف أحدًا إال هللا »...وفيه أن عديًا tقال بعدها:
«فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة ال تخاف إال هللا»(.)3
رابعا :العمل على حماية األمة من أعداء الخارج:
ً
قام األمير يوسف بن تاشفين – رحمه هللا – بأعمال عظيمة حماية لدولته وشعبه
عدو يحاول أن يعتدي ،واتخذ كل األسباب المتاحة من أجل تحقيق هذا العمل من ك ِّل ٍّ
المنشود من تحصين الثغور بال ُع َّدة المانعة والقوة الدافعة حتى ال يظفر األعداء بثغرة
ينتهكون بها محر ًما ,ويسفكون د ًما لمسلم أو معاهد (.)4
وقضى على ك ِّل محاوالت أعداء دولته من البرغواطيين والمغاورة وال َح َّماديين
الذين حاولوا ضم أراض من دولته ,وقضى على دويالت الكفر واإللحاد ,وألزم
ال َح َّماديين احترامه بالقوة.
ض َعت الشريعة ألجله:
خامسًا :حفظ ما ُو ِ
فقام بإقامة الحدود ،حتى تُصان محارم هللا عن االنتهاك ,وتحفظ حقوق العباد من
﴿وإِ َذا َح َك ْمتُ ْم َب ْي َن الن ِ
َّاس أَن أى إتالف أو استهالك ,ونفذ فى رعيَّتِه قوله تعالىَ :
1
() األحكام السلطانية للماوردي ،ص (.)22
2
( )4المصدر السابق ص (.)27
3
() أخرجه البخاري :كتاب المناقب ،باب عالمة النبوة( ،ج ،)6/706رقم الحديث (.)3595
4
( )2انظر :األحكام السلطانية ،للماوردي ،ص (.)23 () األحكام السلطانية ،ألبي يعلي.
104
تَ ْح ُك ُموا بِال َْع ْد ِل﴾ [النساء.]58:
سادسا :إعداد األمة إعدادًا جهاديًّا:
ً
ومسيرة المرابطين منذ خروجهم من رباط عبد هللا بن ياسين تدلُّ على أنَّهم قوم
مجاهدون ،وقام قادتهم بجهاد الوثنيين ,واستم َّر يوسف بن تاشفين فى قتال أهل الردة,
وغالة المبتدعة ,وتوحيد القبائل الخارجة عن نطاق الدولة ،وقام بواجبه فى جهاد
الكفرة المعاندين لإلسالم حتى أسلموا أو أدخلوا فى ذمة ال ُم ْسلِ ِمين قيا ًما بحق هللا تعالى
فى ظهور دينه على الدِّين كلِّه (.)1
سابعًا :القيام على تحصيل الصدقات وأموال الزكـــاة والخراج
والفيء:
حيث قام األمير يوسف باإلشراف على جباية وصرف الزكاة فى مصارفها
الشرعية من غير حيف وال عسف ،فكانت من مصادر دولة المرابطين الزكاة
والمكوس ،بل
َ والخراج والفيء وغيرها ،فكان األمير يوسف ال يأخذ الضرائب
أسقطها ,وإنَّما يأخذ المال من ِحلِّه ،ويضعه فى حقه ،وال يمنعه من مستحقه .
ِّ ()2
2
() انظر :السياسة الشرعية ،البن تيمية ،ص (.)29
3
() األحكام السلطانية للماوردي ,ص (.)29
105
أكنافك ،وابذل لها إنصافك ،والحرج من كل ما يَحيف عليها ويؤذيها ،ومن س َّدد عليها
من عمالك زيادة ،أو خرق فى أمرها عادة ،أو غي ََّر رس ًما ،أو ب َّدل حك ًما ،أو أخذ لنفسه
منها دره ًما ظل ًما فاعزله من عمله ،وعاقبه فى بدنه ،وألزمه فى ر ِّد ما أخذ متعديًا إلى
أهله ،واجعله نكاالً لغيره حتى ال يقدم منهم أحد على مثل فعله»(.)1
وكان األمير يوسف يُخطر أهل الوالية بتعيين الوالى الجديد؛ فكتب إلى
أهل سبتة بشأن األمير يحيى بن أبى بكر« :ونحن من وراء اختياره والفحص
عن أخباره ،فإذا وصل إليكم كتابنا؛ فالتزموا له السمع والطاعة ،والنصح
والمتابعة جهد االستطاعة»( )2باإلضافة إلى ذلك كان األمير يوسف كثير
الطواف فى مملكته لإلشراف على تنفيذ أوامره وتعليماته من قبل الوالة(,)3
واالطالع على أحوال الرعية والنظر فى أمورها.
***
1
() دولة المرابطين ,ص (.)66
2
() المرجع السابق ،ص (.)166
3
() األندلس فى عهد المرابطين.
استفدت فى مباحث أثر حكم هللا على دولة المرابطين ،وأثر ترك حكم الله والواجبات السياسية التي
قام بها األمير يوسف من كتاب الحكم والتحاكم فى خطاب الوحي ،للمؤلف عبد العزيز مصطفى
كامل.
106
المبحث الثاني
موقف الرعية فى دولة المرابطين
استوفت الرعية فى دولة المرابطين حقوقها الشرعية ،فكان طبيعيًّا ج ًّدا أن ْ لقد
ي واجباتها إلى ُح َّكامها ووالتها ,وأهم هذه الواجبات التى أدتها:
تؤد َ
أوالً :الطاعة:
كان مسلمو المغرب فى زمن دولة المرابطين يتقربون إلى هللا تعالى بطاعة
أميرهم واالنقياد له فى كل معروف ،ويرون هذه الطاعة حقًا ثابتًا ل ُح َّكامهم بنص
َطيعوا اهلل وأ ِ
َطيعُوا ِ َّ ِ
َ َ آمنُوا أ ُ ين َ القرآن وصريح السنة وصحيحها .قال تعالى﴿ :يَا أ َُّي َها الذ َ
األم ِر ِ
ول َوأُولى ْ
الر ُس َ
َّ
ِم ْن ُك ْم﴾ [النساء.]59:
وفى مجتمع المرابطين كانت الشريعة فوق الجميع يخضع لها الحاكم والمحكوم،
ولهذا فإن طاعة ال ُح َّكام كانت عندهم مقيدة دائ ًما بطاعة هللا ورسوله.
()1
قال ׫ :ال طاعة فى المعصية ،إنما الطاعة فى المعروف» .
ثانيا :النصرة:
ً
كان ال ُم ْسلِ ُمون تحت قيادة أمراء المرابطين يعاضدون وينصرون أمراءهم فى
الت ْق َوى ﴾
ْبر َو َّ
﴿وَت َع َاونُوا َعلَى ال ِّ
أمور دينهم وجهادهم لعدوهم عاملين بقوله تعالىَ :
[المائدة.]2:
وكانوا يكرمون من يقيم شرع هللا من ُح َّكامهم ،ويدافعون وينافحون عنه
ويكرمونه ويجلونه لقوله ׫ :إن من إجالل هللا تعالى :إكرام ذى الشيبة المسلم،
وحامل القرآن غير الغالى فيه والجافى عنه ,وإكرام ذى السلطان المقسط»(.)2
ثالثًا :النصح:
قامت هذه الدولة الميمونة المباركة على النصح المتبادل بين الحاكم والمحكومين،
ونجد إن أحد الوزراء يطلب من األمير يوسف عدم جواز البحر فى جهاده ضد
النصارى حتى يسلم ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد له الجزيرة الخضراء ،فيسمع األمير يوسف هذه
النصيحة وينفذها فى أرض الواقع ،وامتنع عن جواز البحر حتى تحصَّل على تلك
الجزيرة التى أفادته فى جهاده كثيرًا ،لقد كانت قيادات المرابطين تستمع للنصح فى
تواضع جم ،واستعداد نفسى رفيع يدل على عمق التربية العميقة التى تحصَّلوا عليها.
إن اإلسالم أوجب على الرعية أن تُناصح والة أمرها ،وقد جاء األمر بذلك فى
حديث من جوامع الكلم لرسول هللا × إذ يقول« :الدِّين النصيحة – ثالثًا – قال
الصحابة :لِ َمن يا رسول هللا؟ قال :هلل – ع َّز وجلَّ -ولكتابه ولرسوله وألئمة
1
() أخرجه البخاري فى كتاب األحكام ،باب السمع والطاعة ،حديث (.)7145
2
() رواه أبو داود ،كتاب األدب ،باب تنزيل الناس منازلهم (/23رقم .)4822
107
ال ُم ْسلِ ِمين وعامتهم»(.)1
ومعنى النصيحة لهم فى هذا الحديث« :معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه
وتذكيرهم به وتنبيههم فى رفق ولطف ،ومجانبة الوثوب عليهم ،والدعاء لهم
بالتوفيق»(.)2
وقال ׫ :ثالثة ال يُغل عليهن قلب امرئ مسلم :إخالص العمل هلل،
والنصح ألئمة ال ُم ْسلِ ِمين ،ولزوم جماعتهم»(.)3
لقد أكرم هللا ُح َّكام المرابطين ببطانة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر ,مرشدة
للصواب ،ناصحة للراعى والرعية ال تخشى إال هللا.
رابعا :التقويم:
ً
كان ال ُم ْسلِ ُمون الذين ارتبطوا بدولة المرابطين ال يجدون حرجًا وال مانعًا فى
إيصال ما يرونه من النصح واإلرشاد وتقويم األخطاء التى يقع فيها ال ُح َّكام أثناء
اجتهاداتهم فى شئون الحياة.
وهذا المبدأ قد استق َّر فى مفهوم الصحابة منذ بداية دعوة اإلسالم ،فهذا
الصدِّيق tعندما تولى الخالفة ،قام فى الصحابة خطيبًا ،فقال« :أيُّها الناس ,فإنِّى قد
ولِّيت عليكم ,ولست بخيركم ،فإن أحسنت فأعيونني ،وإن أسأت فق ِّوموني ،الصدق
أمانة ،والكذب خيانة ،والضعيف فيكم قوى عندى حتى أرجع عليه حقه -إن شاء هللا-
ع قوم الجهاد فى والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه -إن شاء هللا ،-ال يد ُ
سبيل هللا إال خذلهم هللا بذ ٍّل ،وال تشيع الفاحشة فى قوم إال ع َّمهم هللا بالبالء ,أطيعونى
ما أطعت هللا ورسوله ،فإذا عصيت هللا ورسوله ،فال طاعة لى عليكم ,قوموا إلى
صالتكم يرحمكم هللا»(.)4
وكان عمر tال يكتفى بإنصاف الناس من نفسه ،حتى ينصفهم من عُماله ووالته،
يسأل الرعية عمن أساء منهم ،وكان يقول« :إنِّى لم أبعث عمالى ليضربوا أبشاركم
وليشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم ،ولكنى استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة
ي حتى أقصه منه»(.)5 ي ،ليرفعها إل َّ
نبيكم ،ف َمن ظلمه عامله بمظلمة فال إذن له عل َّ
إن عالقة الحاكم بالمحكوم فى اإلسالم غرضها األول إعالء كلمة هللا ,وإعزاز
َّاعى والرعية ,وثانياً :فهى بعيدة كل البعد ع َّمن يجعلون فى مرتبة دينه ,ولمصلحة الر ِ
َمن ال يسألون فيها عما يفعلون ,وبين َمن يحقرون ويمتهنون ُح َّكامهم بدون وجه حق،
إن الحاكم فى اإلسالم له احترامه وحقوقه المستمدة من كتاب هللا وسنة رسوله ×،
وكذلك للمحكوم حقوقه المستم َّدة من أصل عقيدة اإلسالم ،لذلك نجد النصح والنقد
والتقويم بين الحاكم والمحكوم فى تاريخ اإلسالم على مرِّ العصور واألزمان ،فإذا
تأملت فى الدول التى سارت على شرع هللا المولى -ع َّز وج َّل -وجدت هذه المعالم
واضحة.
1
() رواه مسلم ،كتاب اإليمان ،باب بيان أن الدين النصيحة/23( ،رقم.)55
2
() جامع العلوم والحكم ،البن رجب ،ص (.)79
3
() انظر :صحيح ابن ماجه ،للشيخ األلباني رحمه هللا (ج2/182رقم.)248
4
() البداية والنهاية( ,ج )1/306إسناده صحيح.
5
() الطبقات الكبرى ،محمد بن سعد( ،ج.)8/222
108
وهذا يوسف بن تاشفين عندما دخل فى بالد األَ ْن َدلُس للجهاد فى سبيل هللا فأرسل
إلى أهل المرية من ممالك األَ ْن َدلُس ،وذكر لهم أن جماعة أفتوه بجواز طلب العون
اقتداء بعمر بن الخطَّاب tفر َّد قاضى المرية «أبو عبد هللا بن الفراء» على األمير
يوسف ر ًّدا فيه نقد وتقويم ونصح ،فلم يتعرَّض ذلك القاضى لعقوبة ،بل استمع إلى
نصحه وإرشاده وما رآه حقًّا ,وكان هذا القاضى من الدِّين والورع بمكان ،وهذا نصُّ
الجواب الذى أرسله إلى األمير يوسف« :أ َّما بعد ,ما ذكره أمير ال ُم ْسلِ ِمين من اقتضاء
المعونة وتأخيرى عن ذلك ،وإن أبا الوليد الباجى وجميع القضاة والفقهاء بالعُدوة
واألَ ْن َدلُس أفتوا بأن عمر ابن الخطاب tاقتضاها ،وكان صاحب رسول هللا ×
وضجيعه فى قبره ،وال يشك فى عدله ،فليس أمير المسلمين بصاحب رسول هللا × وال
بضجيعه فى قبره ،وال من ال يشك فى عدله ،فإن كان الفقهاء والقضاة أنزلوك بمنزلة
فى العدل فاهلل سائلهم عن تقلدهم فيك ،وما اقتضاها عمر حتى دخل مسجد رسول هللا
× وحلف أن ليس عنده درهم واحد من بيت مال ال ُم ْسلِ ِمين ينفقه عليهم ،فلتدخل المسجد
الجامع هناك بحضرة أهل العلم ،وتحلف أن ليس عندك درهم واحد ،وال فى بيت مال
المسلمين ,وحينئ ٍذ تستوجب ذلك ,والسالم»(.)6
ومحل الشاهد من هذه الرسالة هو النقد والتقويم المستمرُّ فى حياة األمة بين
علمائها وأمرائها بدون ظلم وجور واعتداء من الطرفين على بعضهما البعض ،وبذلك
تنطلق حضارة األمة بآفاقها المتنوعة لتحدث تغييرًا حضاريًا فى دنيا الناس ،مبنى
على النصح والتناصح ،والنقد والتقويم ،كما حدث فى دولة المرابطين السُّنيَّة.
***
6
() وفيات األعيان(ج.)7/119
109
المبحث الثالث
موقف المرابطين من الخالفة العباسية
رأى المرابطون إن مبايعة الخليفة العبَّاسى واجبة ،ولذلك أعطوا بيعتهم له لكونهم
مالكيين سنيين ،فاعترفوا بالخالفة العباسية واتخذوا السواد شعارًا لهم ،ونقشوا اسم
الخليفة العبَّاسى على نقودهم منذ منتصف القرن الخامس الهجري ،وبعد أن بسط
األمير يوسف سيادته على األَ ْن َدلُس طلب منه الفقهاء أن تكون واليته من الخليفة لتجب
طاعته على الكافة ،ونزوالً عند رغبتهم اتصل بالخليفة العبَّاسى أحمد المستظهر باهلل
512-487هـ 1094 /م1118 -م وأرسل إليه بعثة من عبد هللا بن ُم َح َّمد بن العربى
اإلمام المعروف ،وز َّودها بهدية ثمينة ,وبكتاب يذكر فيه ما فتح هللا على يده من البالد
وعز لإلسالم ،ويطلب فى ٍّ فى المغرب واألَ ْن َدلُس ،وما أحرزه من نصر للمسلمين،
النهاية تقليدًا بوالية البالد التى بسط نفوذه عليها ،وأ َّدت البعثة مهمتها بنجاح؛ فتلطَّفت
فى القول ,وأحسنت اإلبالغ وعادت إلى المغرب بتقليد الخليفة وعهده لألمير يوسف
بن تاشفين الذى ُس َّر بذلك سرورًا عظي ًما(.)1
لقد كانت دولة المرابطين من الناحية العملية تستطيع أن تستغنى عن الخالفة
العباسية الضعيفة ,حيث إن السلطان ال يملك من السلطة إال اسمه ،بل كان األمير
وحرصهم على تنفيذ َ يوسف أكثر قوة منه؛ يملك ويحكم ،ولكن حبَّهم لشريعة اإلسالم
أَحكام هللا فى أسوأ الظروف جعلهم يتقيدون بذلك ،لقد كانت توجيهات القرآن الكريم فى
وجوب لزوم الجماعة وذم التَّفرُّ ق واضحة المعالم بالنسبة إليهم ,ولقد كانت أحاديث
رسول هللا × فى هذا المضمار هى التى أرشدتهم لالنضمام للخالفة العباسية الضعيفة،
كات َوأُولَئِ َ اء ُه ُم الَْبِّينَ ُ ِ ِ َّ ِ
ين َت َف َّرقُوا َوا ْخَتلَ ُفوا من َب ْعد َما َج َ ﴿والَ تَ ُكونُوا َكالذ َ قال تعالىَ :
َّ ِ ِ
وه ُه ْم
َّت ُو ُج ُاس َود ْين ْ ض ُو ُجوهٌ َوتَ ْس َو ُّد ُو ُجوهٌ فَأ ََّما الذ َيم َ ي ْو َم َت ْبيَ ُّ
اب َعظ ٌل َُه ْم َع َذ ٌ
وه ُه ْم َّ ِ أَ ْك َفرتُم َب ْع َد إِيمانِ ُكم فَ ُذوقُوا ال َْع َذ َ ِ
ت ُو ُج ُ ضْ ين ْابيَ ّاب ب َما ُك ْنتُ ْم تَ ْك ُف ُرو َن َ وأ ََّما الذ َ َ ْ ْ ْ
ِ
فَِفى َر ْح َمة اهلل ُه ْم ف َيها َخال ُدو َن﴾ [آل عمران.]107-105:
ِ ِ ِ
﴿والَ تَ ُكونُوا
لقد ذكر ابن جرير بسنده عن ابن عبَّاس – رضى هللا عنهما :-قولهَ :
ين َت َف َّرقُوا َوا ْخَتلَ ُفوا﴾ ونحو هذا فى القرآن أمر هللا -جل ثناؤه -المؤمنين بالجماعة، َّ ِ
َكالذ َ
فنهاهم عن االختالف والفُرقة ،وأخبرهم إنَّما هلك َمن كان قبلهم بالمراء ,والخصومات
فى دين هللا»(.)2
واألحاديث فى هذا الشأن كثيرة :فعن ابن عبَّاس – رضى هللا عنهما – قال :قال
رسول هللا ×َ « :من فارق الجماعة شبرًا فكأنَّما خلع ربقة اإلسالم من عنقه» .
()3
1
() دولة المرابطين ،ص (.)157
2
() جامع البيان (ج.)4/39
3
() البخاري ،فتح الباري ،ج (.)13/7
110
وعن ابن عمر –رضى هللا عنهما – قال :سمعت رسول هللا × يقولَ « :من فارق
الجماعة ،فإنه يموت ِميتة جاهليَّة» (.)1
والمراد بميتة الجاهلية -وهى بكسر الميم -حالة الموت كموت أهل الجاهلية على
ضالل ،وليس له إمام مطاع ،ألنَّهم كانوا ال يعرفون ذلك ،وليس المراد أنه يموت
كافرًا ،بل يموت عاصيًا ،لقد ذهب علماء المرابطين إلى أن الجماعة المقصودة فى
الحديث جماعة ال ُم ْسلِ ِمين إذا اجتمعوا على أمير ،موافق للكتاب والسنة(.)2
هذا فى نظرى سبب دخول المرابطين تحت الخالفة العباسية ،وأما ما ذكره
المؤرخون أن من أسباب ذلك بعدهم عن العبَّاسيين ،ولذلك كانوا ال يخشونهم خاصَّة
بعد أن تطرَّق إليهم الفساد ،ودبَّ الضعف فيهم ،وهى ال تشكل أى خطر عليهم ،فإنِّى
استبعد ذلك حيث إن سياسة قادة المرابطين تقاد بالشرع ،وليس العكس ،فهم إسالميون
سياسيون ،وليسوا سياسيين إسالميين فى عالقاتهم الخارجيَّة وشئون دولتهم ال َّداخلِيَّة
وارتباطاتهم الدولية.
أوالً :الخطاب الذى رفعه الفقيه ابن العربى إلى الخليفة المستظهر
باهلل 512-487هـ:
يلتمس فيه تقليدًا يخ ِّول يوسف بن تاشفين حكم بالد المغرب واألَ ْن َدلُس :بسم هللا
الرحمن الرحيم عليه توكلي:
أسعد هللا الدنيا وأهلها بدوام أنوار المواقف المقدسة النبوية اإلمامية المستظهرية،
وضاعف مددها ،وال أرى ال ُم ْسلِ ِمين أمدها بغرائب مجد تبدعها ،وفرائض تشرعها
الخالفة ،ومستأنف سعود تحرص جنابها ،وال زالت األيام التى هى أليامها غرر ،وفى
إكليل الخالفة درر ،وللدهر تمائم ،وفى المحل غنائم ،والحمد هلل الذى جعل المواقف
المقدسة النبوية اإلمامية المستظهرية شرائط السواد ،وخصَّها بالمجد المؤثل المطول
باالنتساب ،كابرًا عن كابر إلى أعلى خندف( ،)3فهى أعالها عمادًا ,وأوراها فى مواقف
الفضل زنادًا ,أرومة الرسالة وجرثومة الخالفة ،إليها ينزع هاشم ،وعنها أخذت
المكارم ،مفاخر شهد لها الكتاب المنزل ،وعهد بتخليدها مخبرًا عن الوحى فى آله
وعقبه النبى المرسل ،قد آمنت بعصمة هللا من الغير ،وتحققت أواخرها على السنن
من به من توفيقنا أولها فى هداية البشر بحسن السير ،أوزعنا هللا الشكر على ما َّ
للتمسك بعراها الوثيقة ,واإلهداء بهداها إلى واضح الطريقة ،فهم فى الدِّين أمتنا ,ويوم
الدِّين وسليتنا ،استعملنا هللا من طاعته وطاعتهم بما يؤدى إلى مرضاته ومرضاتهم،
إنه الموفِّق الهادى ال ربَّ غيرُه.
وإن الخادم باألدعية المتقبلة للمواقف المقدسة النبوية اإلمامية المستظهرية ،ألهمه
هللا منها لما يسمع فيرفع بمنه لما علم بموجب الشرع أن بيعة اإلمام العادل من أركان
الديانة ،ومما يتعين ما يحتمل من رعاية األمانة.
هاجر إلى ذلك بنفسه وبابنه المسترق القن من أقصى المغارب ،معتقدًا أن عمله
1
() انظر :الشيخ األلباني رحمه هللا فى السلسلة الصحيحة (ج .)984 /
2
() انظر :وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق ،د .جمال أحمد ،ص (.)97
3
() خندف هي امرأة إلياس بن معز أحد جدود العرب ،وفد عرف بنوه بها :نهاية األرب فى معرفة أنساب
العرب ،ص (.)248
111
أفضل القرب والرغائب ،واحتمل برد الهواء وظمأ الهواجر ،واقتحم دون ذلك مسالك
بلغت فيها القلوب الحناجر ،ولم يثنه بحر يزخر ،وال قفر يذعر ويحتسب فى ذلك أثره،
ويرجو أن يقبل هللا يوم الجزاء عثره ،إلى أن انتهى هو وابنه إلى مدينة السالم ال زالت
محروسة من ِغي َر األيام ،عاصمة لمن التجأ إليه من مهتضمى األنام.
ولم يزل الخادم باألدعية المتقبلة بحول هللا يتوسَّل بهجرته ،ويتقرَّب بخلوص
عالنيته وسريرته ,ويسأل تشريف رقاعه ،بمالحظاتها ،والنَّظر من انقطاعه ،رغبة فى
الحظ الجسيم ،إلى أن وصل إلى المجلس السامى وخدم البساط العالي ،زاده هللا تعظي ًما
وتشريفًا ،وأنهى أغراض وفادته ومقاصد إدارته ,فنفذت األوامر الشريفة ،أدام هللا
سم َّوها وتشريفها ,واصطفى على الجميع ستر سلطانها ،وكنف إحسانها بقبول وسائله،
وإلحاح مطالبه ،وإضافة اإلحسان عليه.
ولما بسط له فى األمل ،وكان هو وابنه فى محلِّ الكرامة والجذل ،بدأ بعرض ما
هو عليه ناصر الدِّين ،وجامع كلمة ال ُم ْسلِ ِمين ،القائم بدعوة موالنا أمير المؤمنين
صلوات هللا عليه وعلى آبائه الطاهرين ،األمير أبو يعقوب يوسف بن تاشفين المتحرك
بالجهاد المتجهز إلى ال ُم ْسلِ ِمين باستئصال فئة العناد ،ولمة الفساد ،قام بدعوة اإلمامة
العباسية والناس أشياع ,وقد غلب عليهم قوم دعوا إلى أنفسهم ليسوا من الرهط الكريم،
وال من شعبة الطاهر الصميم ،فنبَّه جميع من كان فى أفق قيامه بالدعوة اإلمامية
العباسية ،وقاتل َمن توقَّف عنها منذ أربعين عا ًما إلى أن صار جميع َمن فى جهة
المغارب على سعتها وامتدادها له طاعة ،واجتمعت بحمد هللا على دعوته الموفَّقَة
الجماعة ،فيخطب اآلن للخالفة ،بسط هللا أنوارها ،وأعلى منارها على أكثر من ألفى
منبر وخمسمائة منبر ،فإن طاعته ضاعفها هللا من أول بالد اإلفرنج -استأصل هللا
شأفتهم ،ود َّمر جملتهم -إلى آخر بالد السوس مما يلى بالد غانة وهى بالد معادن
الذهب ،والمسافة بين الحدين المذكورين مسيرة خمسة أشهر ،وله وقائع فى جميع
أصناف الشرك من اإلفرنج وغيرهم قد فللت غربهم ،وقللت حزبهم ،وألفت جموعه
حربهم ،وهو مستم ٌّر على مجاهدتهم ،ومضايقتهم فى كل أفق ،وعلى كل الطرق ،وقد
استرجع كثيرًا من المعاقل التى استباحها الروم من أمور ال ُم ْسلِ ِمين ،وسبت أهلها قبل
حصول تلك الجهات فى حكم سلطانه ،وكانت ثغور ال ُم ْسلِ ِمين بها مستضامة ،وقد
وعز سلطانه, ِّ أعادها جده بحمد هللا إلى أولها ،واحترمت لحرمة ال ُم ْسلِ ِمين واإلسالم
وهذا دأبه ،وهجيراه الذى ال عمل له سواه.
وعدة جيوشه إذا جمعها لحركته ستون ألف فارس ,وكان أمله مواصلة الخدمة
والتشريف بإنهاء أعماله ،واإلعالم بمناقل أحواله وأفعاله ,وباحتماله على حماية دين
ال ُم ْسلِ ِمين ,وإقباله على مجاهدة المشركين ،إال أن الحائل المانع دون ذلك لاشفاته ،ولم
يزل محافظًا على ما هو عليه من إقامة الدعوة السعيدة ,واالعتراف بجمل النعم الوافدة
العديدة بفضل هللا ،ولقد وصل إلى ديار المشرق فى هذا العام قاضى من قضاة
المغرب يعرف بابن القاسم ،وذكر من حال هذا األمير ما يؤ ِّكد ما ذكرته ،ويؤيد ما
شرحته ،وأشاع القاضى المذكور ذلك بمكة ،وصل هللا تشريفها وتعظيمها ،وذكر لى
أن الروم على شفا جرف من تضييقه عليهم ،وحصاره لهم ،وقد تكرَّر إعالم الخادم
بذلك لما تلزمه من طاعة أولى األمر السيما هذا األمير ،وقد حظى بفضائل منها الدِّين
المتين ،والعدل المستبين ،وطاعة اإلمام ،وابتدأ جهاده بالمحاربة على إظهار دعوته،
112
وجميع ال ُم ْسلِ ِمين على طاعته واالرتباط بحماية ثغور ال ُم ْسلِ ِمين ،وهو ممن يقسم
بالسوية ،ويعدل فى الرعية ,وهللا ما فى طاعته مع سعتها دان منه ،وال ناء عنه من
البالد ما يجرى فيه على أحد من ال ُم ْسلِ ِمين رسم مكس ،وسبل ال ُم ْسلِ ِمين آمنة ،ونقوده
من الذهب والفضة سليمة من الشرب ،مطرزة باسم الخالفة ،ضاعف هللا تعظيمها
وجاللها.
هذه حقيقة حالِه ،وهللا يعلم أنى ما أسهبت وال لغوت ،بل لعلى قد أغفلت أو
قصَّرت ،ولموالنا أمير المؤمنين المستظهر باهلل ،صلوات هللا عليه وعلى آبائه
الطاهرين ،والطول العميم فى األمر ,تشريفه بقبول تأميله ،وفى اإلشارة إليه بما يقوى
أمره ،ويشد أزره ,ويؤيد سلطانه ،ويعلى شأنه ,مجريًا له على السنن الكريم ،الطول
العميم ،فوهللا ما فى األمراء وال فى شيع النصحاء األولياء من يجوز فى الوالء وصحة
االنتماء سبقه ،وال يلبس من النصيحة من الخالفة المقدسة المبنية على طريق النبوية،
ما يصل يده ويقوى أيده ويشد عضده بمنه وطوله.
وضراعة الخادم باألدعية المتقبلة لنفسه والبنه المسترق القن بعد االمتنان بإباحة
الصدر لهما إلى الوطن ،فقد بعد عنه سبعة أعوام ،وأقاما فى الجناب المخضب الظليل,
والكنف الرحب المأهول مدة عامين ،يستدرَّان النعم الحافلة جمالً بعد جمل ،ويكرعان
فى المشارب الجمة العذبة علالً بعد نهل ,فلله الهام الشريفة التى مسحت على شكيتها
من عدوان األيام بيد شيم الكرام ،فأزاحت عنهما جميع الشاكيات واآلالم . .ال أعدم هللا
موالنا اإلمام المستظهر باهلل أمير المؤمنين ،صلوات هللا عليه وعلى آبائه المنتخبين
مبرة تتضاعف بها المعالي ,وسعادة تحرز أسنى اآلمال ،وكفاية يستم ُّد بها حرية األيام
والليالي ،فذلك بيده وغيره معجزة ،وهو المنعم الج َّواد ،وكلُّ خير من طوله مستفاد ،ال
شريك له ،وال توفيق إال به والحمد هلل حق حمده ،وصلواته على سيد المرسلين رسوله
وعبده وعلى آله الطيبين ،وعترته المنتخبين الراشدين ،آباء أمير المؤمنين صلوات هللا
عليهم أجمعين إلى يوم الدِّين ،وحسبى هللا ونعم الوكيل»(.)1
إذا تأ َّملنا فى الرسالة المذكورة فإنها تدلُّنا على طابع رسائل ال ُح َّكام فى فترة
المرابطين ،وتدلنا على حسن اختيار دولة المرابطين لممثليها عند الخالفة العباسية
حيث إنَّها اختارت عال ًما فقيهًا ذا دراية وخبرة كبيرة فى مخاطبة ال ُح َّكام والخلفاء،
وبذلك نجحت تلك الوفادة وحققت أهدافها ،ورجعت تحمل معها ثمارها.
ثانيا :رد الخالفة العباسية على طلب دولة المرابطين:
ً
الش َّ
ك أن الخالفة العباسية دخلها سرور عظيم ,وكسبت مكسبًا معنويًا كبيرًا,
ولذلك حرص الخليفة على أن يرد بنفسه على خطاب ابن تاشفين حيث كتب سبعة
وثالثين سطرًا جاء فيها« :عرضت هذه القصة بمفاوز العز والعصمة ،ومواقف
اإلمامة المطهرة المكرمة ،زاد هللا جاللها ،وسبوغ ظاللها ،فخرجت المراسم الشريفة
بأن
ذلك الولى الذى أضحى بحبل اإلخالص معتص ًما ,ولشرطه ملتز ًما ،وإلى أداء فروضه
مسابقًا ،وكل فعله فيما هو بصدده للتوفيق من الوالء ،طويل نجاده ,إذ كان َمن غدا
بالدِّين تمسكه ,وفى الذيادة عنه مسلكه ،حقيقًا بأن يستتب صالح النظام على يده،
1
() دراسات فى تاريخ المغرب واألندلس ,د .أحمد العبادي ،ص (.)476
113
ويستشف من يومه حسن العقبى فى َمن يليه من الكفار ,وإتيان ما يقضى عليهم
ين َيلُونَ ُكم ِّم َن الْ ُك َّفا ِر﴾ [التوبة.]123 : ِ َّ ِ
باالجتياح والبوار ،اتباعه لقوله تعالى﴿:قَاتلُوا الذ َ
فهذا هو الواجب اعتماده الذى يقوم به الشرع ،وأن يؤلف شمل َمن فى جملته من
األنجاد على الطاعة اإلمامية التى هى العروة الوثقى والذخر األبقى واستقراه قوله
َطيعوا اهلل وأ ِ
َطيعُوا ِ َّ ِ
َ َ آمنُوا أ ُ ين َ تعالى العمل ،والبدار إلى التشبتث بسببه﴿ :يَا أ َُّي َها الذ َ
األم ِر ِم ْن ُك ْم﴾ [النساء.]59: ِ
ول َوأُولى ْ الر ُس ََّ
وليكن دأبه الجهاد فيما يكسب عند هللا الزلفى ,ويمنحه من رضاه القسم األكمل
ت ِمن س ٍ
وء َت َو ُّد ت ِم ْن َخ ْي ٍر ُّم ْح َ
ض ًرا َو َما َع ِملَ ْ ﴿ي ْو َم تَ ِج ُد ُك ُّل َن ْف ٍ
س َّما َع ِملَ ْ
ُ األوفىَ :
َم ًدا بَ ِعي ًدا﴾ [آل عمران.]30: ل َْو أن َب ْيَن َها َو َب ْينَهُ أ َ
وأن يختص رافعها وولده باإلرعاء الذى يضفو عليهما برده ،ويصفو لهما ورده،
وليظهر عليهما من المهاجرة جميل األثر ،ويؤول أمرهما فيما يرجو أنَّهما إلى استقامة
النظام وض ِّم النشر ،فليقابل األمر األسنى فى ذلك بامتثال واحتذاء مطاع المثال -إن
شاء هللا.)1(»-
لقد استطاعت دولة المرابطين أن تكون سندًا قويًا معنويًا للخالفة العباسية السُّنيَّة,
وبذلك تكون نفَّذت أوامر ربها ,واسترشدت بتوجيهات نبيها ،فأصابها بركة ذلك من
سمعتها العالمية فى ديار ال ُم ْسلِ ِمين ،وأصبحت جز ًءا من الخالفة العباسية التى اكتفت
منها بالطاعة المعنوية ،وبذلك تحصل أمراء المرابطين من اعتراف الخالفة العباسية
بدولتهم ,حيث إن المرابطين كانوا يعتقدون اعتقادًا راس ًخا أنه لن يعتبر ملكهم مشروعًا
إال إذا باركته اإلمامة القرشية العباسية.
واختلف المؤ ِّرخون فى زمن اتصال المرابطين بالخالفة العباسية :فابن األثير
يقول :إن أول اتصال بين المرابطين والعبَّاسيين قد حدث عقب انتصار ال ِّزالقَة,
واستيالء يوسف على األَ ْن َدلُس ,ويتفق مع ابن األثير فى هذا الرأى كلٌّ من ابن خلدون,
والقلقشندي ,والذهبي(.)2
وأنا أميل إلى أن اتصال المرابطين كان قبل ذلك بكثير حيث إن واضع الخطوط
العريضة لدولة المرابطين الفقيه «أبو عمران الفاسى القيرواني» ِمن أتباع العباسية,
وكلُّ الفقهاء الذين من مدرسته سُنيُّون مالكيُّون ،وبذلك يكون زعماء المرابطين ساروا
على نفس التعاليم السُّنيَّة المالكية.
ونجد أن نقود المرابطين قد نقش عليها أسماء الخلفاء العبَّاسيين منذ عام 450هـ،
أى منذ عهد األمير أبى بكر بن عمران ،وظ َّل اسم الخليفة العبَّاسى يذكر مقرونًا باسم
أبى بكر بن عمران إلى أن توفى فى عام 480هـ ،وخلفه يوسف بن تاشفين فذكر اسمه
على السكة مع اسم الخليفة العبَّاسي ،وهذا يدل على صلة المرابطين بالعبَّاسيين قبل
ك أن كتابة اسم الخليفة على عملة المرابطين تم بعد اتصالهم بالخليفة الزالقَة ،وال ش َّ ِّ
1
() دراسات فى تاريخ المغرب ،ص (.)478
2
() تاريخ المغرب واألندلس ،د .حمدي عبد المنعم ،ص (.)237
114
العبَّاسي ،وبعد أن تلقَّوا منه إجابة بقبول طاعتهم ,وتقليدًا بواليتهم(.)3
***
3
() المصدر السابق ،ص (.)236
115
المبحث الرابع
عالقة األمير يوسف مع بنى حماد
حرص األمير يوسف على عالقة حسن الجوار مع دولة بنى َح َّماد الصنهاجية
الح َّماديون يتحينون الفرصة لضم أطراف التى تقع فى شرق دولة المرابطين ،وكان َ
ُ ْ َ
من مملكة المرابطين ،وت َّم لهم ذلك عندما عبر األمير يوسف األن َدلس عام 479هـ،
فتحالفوا مع عرب بنى هالل؛ وغزوا المغرب األوسط ؛وعادوا إلى بالدهم محملين
بالغنائم ،وسكت يوسف عن االنتقام منهم ,وصالحهم ،ولم يرغب فى الدخول فى حرب
معهم مع وجود أسبابها حقنًا لدماء ال ُم ْسلِ ِمين وحفظًا لشوكتهم وقوتهم.
الح َّمادى فى عام 481هـ ,بعث األمير يوسف وعندما تُوفى الناصر بن علناس َ
بكتاب تعزية إلى ولده وخليفته المنصور ،مما يدل على نيَّات يوسف السلمية تجاه بنى
َح َّماد ،واستمرَّت حالة السلم بين الفريقين أكثر من عشر سنوات ,ثم نشب خالف بين
والى تلمسان المرابطى تاشفين بن تنغمير و ُح َّكام بنى َح َّماد ,فهاجم األمير تاشفين بدون
إذن من األمير يوسف ،واشت َّد الصِّراع بين الطرفين ,وتدخل األمير يوسف واستطاع
بحكمته وسياسته أن يحقن دماء ال ُم ْسلِ ِمين ،وعزل حاكم تلمسان تاشفين وعيَّن مكانه
األمير مزدلي ،وبعد أن ضم األمير يوسف األَ ْن َدلُس أضحت مملكة بجاية مال ًذا للفارِّين
من األَ ْن َدلُس ،ومع ذلك لم يحرك األمير يوسف ساكنًا تجاه عمل بنى َح َّماد ,وبقى األمر
كذلك حتى وفاته(.)1
لقد كان للتوجه السنى فى دولة ال َح َّماديين أثر فى تخفيف الصراع مع المرابطين،
كما إن لصلة القرابة الصنهاجية سببًا آخر ،وإال ما كانت تستطيع دولة ال َح َّماديين أن
الح َّماديين كانت من األسباب تقاوم جيوش المرابطين الفتية ،وفى نظرى إن بقاء دولة َ
ً
التى أضعفت الدولة الزيرية والصنهاجية ،وسببت توترًا وارتباكا لدولة المرابطين،
ولو ضمت لدولة المرابطين لكان أفيد لإلسالم وال ُم ْسلِ ِمين وللمغرب األوسط واألقصى.
* **
المبحث الخامس
عالقة المرابطين مع ملوك الطوائف
مرَّت عالقة المرابطين مع ملوك الطوائف بمراحل متعددة ،وهي :المسالمة،
التحالف ،القتال.
أوالً :مرحلة المسالمة:
ل َّما وصلت دولة المرابطين ذروة قوتها وحطت بجيوشها وأساطيلها على سهل
البحر المتوسط ارتعد ملوك الطوائف ،وأصابهم الخوف وركبهم اله ُّم ،وأصبحوا بين
قبضتين قويتين :بين النصارى الذين يمكن مداراتهم باألموال والتنازل عن بعض
الحصون ,وبين المرابطين الذى عرفوا بجهادهم واستعالئهم على متاع الدنيا ،وحبِّهم
للشهادة ,ورفع المظالم عن العباد ،وقد وصلهم ظلم ملوك األَ ْن َدلُس ،وقد اشتهر جنود
1
() دولة المرابطين ,ص (.)158
116
المرابطين بصيت عظيم فى تحقيق النصر فى المعارك ،وبأس شديد فى القتال مما
أدخل الرعب فى قلوب ملوك الطوائف ،فعقدوا اجتماعًا للتشاور فى أمر الخطر القادم
من الجنوب ،واستق َّر رأيهم أن يكتبوا لألمير يوسف يسألونه اإلعراض عنهم ,وأنَّهم
تحت طاعته ،وهذا نص الكتاب:
«أما بعد ,فإنَّك إن أعرضت عنا نسبت إلى كرم ,ولم تنسب إلى عجز ،وإن أجبنا
داعيك نسبنا إلى عقل ولم ننسب إلى وهن ،وقد اخترنا ألنفسنا أجمل نسبنا فاختر
لنفسك أكرم نسبتك ،فإنَّك بالمحل الذى ال يجب أن تُسبَق فيه إلى مكرمة ،وإن فى
استبقائك ذوى البيوت ما شئت من دوام ألمرك وثبوت والسالم»(.)1
وأرسلوا مع حامل الكتاب هدايا وتحفًا نفيسة.
وبعد أن تشاور األمير يوسف مع مستشاريه رأى إن يسالمهم ويرضى بما ق َّدموا
له من طاعة ,ور َّد عليهم بهذا الكتاب جاء فيه:
«بسم هللا الرحمن الرحيم من يوسف بن تاشفين سالم عليكم ورحمة هللا وبركاته،
تحية من سالمكم وسلم عليكم ,وحكمه التأييد والنصر فيما حكم عليكم ،وإنَّكم مما فى
أيديكم من الملك فى أوسع إباحة مخصوصين منا أكرم إيثار وسماحة ،فاستديموا
وفاءنا بوفائكم ,واستصلحوا إخاءنا بإصالح إخائكم ،وهللا ولى التوفيق لنا ولكم
والسالم».
وقد قرن األمير يوسف الكتاب بالتحف وبدرق اللمط التى ال توجد إال فى ديار
المرابطين ،ولما وصل كتابه إلى ملوك الطوائف فرحوا بذلك ،وتق َّوت نفوسهم على
قتال اإلسبان ،وأحب أهل األَ ْن َدلُس دولة المرابطين ُح َّكامهم ومحكوميهم(.)2
ثانيا :مرحلة التحالف:
ً
وبعد سقوط طُلَ ْي ِطلَة فى يد اإلسبان النصارى عام478هـ اضط َّر ملوك الطوائف
أن يطلبوا النجدة من األمير يوسف الذى لبى نداءهم ،وكان سببًا فى إيقاف زحف
النصارى على ممالك األَ ْن َدلُس ،وانتصر على ألفونسو فى معركة ِّ
الزالقَة المشهورة.
وبعد أن احتك األمير يوسف بملوك الطوائف ,ووقف على خيانتهم وتحالفهم مع
النصارى ,واتصالهم بأعداء ال ُم ْسلِ ِمين انتقلت العالقة من التحالف إلى العداوة.
ثالثًا :مرحلة العداوة:
استعرت نار الحرب بين المرابطين وملوك الطوائف انتهت بضم كل ممالك ْ حيث
األَ ْن َدلُس لدولة المرابطين إال َسرْ قُ ْسطَة التى حكمها أحمد بن هود ,والذى كان كالشوكة
فى حلق النصارى ،فقد قاومهم زمنًا طويالً ،وتراجع النصارى أمام صمود بنى هود
البطولي ،وأظهر بنو هود مقدرة فائقة على قتال النصارى مما جعل المرابطين
يحترمونهم ،وتوطَّدت العالقة الوديَّة بين األمير يوسف واألمير أحمد بن هود الذى
كان وفيًا فى عهوده ,ومخلصًا فى جهاده ,وحريصًا على أ َّمتِه ،ورضى المرابطون
ببقاء أحمد بن هود حاك ًما تابعًا لهم ,بذلك أصبحت األَ ْن َدلُس والية تابعة لدولة
1
() دولة المرابطين ,ص (.)159
2
() دولة المرابطين ,ص (.)160
117
-
المرابطين ،وتوارت العناصر والزعامات الهزيلة وانهار سلطان العصبيات الطائفية
(.)3
***
3
() انظر :األندلس فى عصر المرابطين ،ص (.)112
118
المبحث السادس
عالقة المرابطين مع اإلسبان والنصارى
1
() المرجع السابق نفسه.
2
() المرجع السابق نفسه.
3
() تاريخ المغرب واألندلس ،ص (.)251
4
() المصدر السابق نفسه.
5
() ابن أبي زرع ,ص (.)103
122
يحيى بن عمر اللمتوني ،فتلقَّب به يحيى كما تلقَّب به أخوه أبو بكر بن عمر بعد وفاته،
وعندما تولَّى يوسف بن تاشفين زعامة المرابطين منذ 464هـ ,ظ َّل يتلقب باإلمارة إلى
سقوط أبى بكر ابن عمر شهيدًا فى إحدى المعارك فى سنة 480هـ 1087 /م ,وعندئ ٍذ
أصبح يوسف الزعيم األوحد للمرابطين ،واجتمع إليه أشياخ قبيلته وعرضوا عليه أن
يتلقَّب بأمير المؤمنين ،إلن حقََّه أكبر من أن يُلقَّب باألمير فرفض ذلك قائالً« :حاشا أن
أسمى بهذا االسم ,إنما يتسمى به خلفاء بنى العبَّاس لكونهم من تلك الساللة الكريمة
وأنا رجلهم والقائم بدعوتهم»( ،)1ولكنَّهم قالوا له :إنه البد له من اسم يمتاز به على
سائر األمراء واقترحوا عليه لقب أمير ال ُم ْسلِ ِمين وناصر الدِّين ،وأصبح العمل جاريًا
به عند سائر المرابطين ،وقد صدرت الكتب تحمل هذا اللقب بعد وفاة أبى بكر بن
عمر على القول األرجح ,وهذا نص الكتاب الذى أرسله إلى الوالة والقادة والعلماء:
«بسم هللا الرحمن الرحيم وصلى هللا على سيدنا ُم َح َّمد وآله وصحبه وسلم تسلي ًماِ :من
أمير ال ُم ْسلِ ِمين وناصر الدِّين يوسف بن تاشفين إلى األشياخ واألعيان والكافة أهل
(فالنة) أدام هللا كرامتهم بتقواه ووفقهم لما يرضاه ،سالم عليكم ورحمة هللا وبركاته،
أ َّما بعد ,حمداً هلل أهل الحمد والشكر ،وميسر اليسر وواهب النصر ،والصالة على
ُم َح َّمد المبعوث بنور الفرقان والذكر ،وأنا كتبناه إليكم من حضرتنا العلية بمراكش -
حرسها هللا ،-وأنَّه ل َّما َم ّن هللا علينا بالفتح الجسيم ,وأسبغ علينا من أنعمه الظاهرة
والباطنة ,وهدانا وهداكم إلى شريعة ُم َح َّمد المصطفى نبينا الكريم صلى هللا عليه أفضل
الصالة وأتم التسليم؛ رأينا أن نُخصِّ ص أنفسنا بهذا االسم لنمتاز به على سائر أمراء
القبائل ،وهو أمير ال ُم ْسلِ ِمين وناصر الدِّين ،فمن خطب الخطبة العلية السامية فليخطبها
ولي العدل بمنِّه وكرمه والسالم»(.)2
بهذا االسم إن شاء هللا تعالى ,وهللا ُّ
ويرى بعض المؤرخين من أمثال أبى زرع فى «روض القرطاس» إلى أن
الزالقَة ،ولم يكن يُدعى به من قبل ،وأن األمير يوسف تلقَّب بأمير ال ُم ْسلِ ِمين فى يوم ِّ
ملوك وأمراء األَ ْن َدلُس وكانوا ثالثة عشر مل ًكا بايعوه وسلَّموا عليه باسم أمير ال ُم ْسلِ ِمين
وهو أول من سُمى به من ملوك المغرب.
وقد تأثَّر شعب النيجر بشكل خاص بالمرابطين ,وأطلق على ُح َّكامه لقب أمير
ال ُم ْسلِ ِمين ,وكانوا مالكيين فى المذهب ,ويرجع ذلك إلى أن المرابطين هم الذين نشروا
اإلسالم فى تلك الربوع النائية(.)3
ج -نائب األمير:
كان اتساع مملكة المرابطين سببًا فى اتخاذ ن َّواب ينوبون عن أمير المسلمين؛
حيث كان من المستحيل عليه أن يشرف وحده على تلك الدول المترامية األطراف،
فعيَّن بعض النواب المقرَّبين إليه ،فعيَّن نائبًا على شئون األَ ْن َدلُس ون َّوابًا على إقليم
المغرب ،وكان يراعى فى اختيار النائب أن يكون أقرب الناس إلى أمير ال ُم ْسلِ ِمين،
وأن يتوفر فيه حسن اإلدارة والكفاية العسكرية ويعتبر ممثالً أوليًا ألمير ال ُم ْسلِ ِمين,
ويستمد نائب األمير سلطته من األمير شخصيًا ،وكان ولى العهد نائبًا لألمير ،وتولى
1
() دولة المرابطين ,ص (.)162
2
() دولة المرابطين ،ص (.)163-162
3
() دولة المرابطين ,ص (.)163-162
123
نيابة األَ ْن َدلُس ،وكانت قرطبة هى المفضلة إلقامة ولى العهد لمكانتها السامية فى نفوس
األَ ْن َدلُسيين ،وأول نائب عيَّنه األمير يوسف على األَ ْن َدلُس القائد سير بن أبى بكر
اللمتوني ،ثم ب َّدل به ابنه أبا الطاهر تميم بن يوسف ،وتلى نيابة األَ ْن َدلُس من حيث
األهمية نيابة فاس بالمغرب ,وكان النائب يستقر فيها عندما كان األمير يوسف يعود
إلى مراكش كى ال تحدث ازدواجية فى السلطة(.)1
كانت مهمة النائب بالدرجة األولى عسكرية ,إذ كان عليه أن يخوض الحروب,
ويقمع الفتن وحركات التمرد ,يعاونه قادة كبار من لمتونة(.)2
وكان من سياسة يوسف بن تاشفين مع نوابه مراقبتهم ,وال يتيح لهم االستقرار فى
مناصبهم لعهود طويلة حتى ال يعملوا على االستقالل ،فكان الن َّواب دائ ًما معرَّضين
للنقل من والية إلى أخرى.
وكان نائب أمير ال ُم ْسلِ ِمين يتخذ لنفسه كتّابًا يقومون عنه بالمكاتبات ,أو تسند إليهم
بعض األعمال اإلدارية ،و ِم َمن ظهر من كتاب نواب أمير ال ُم ْسلِ ِمين على بن يوسف
فى األندلس الكاتب األديب أبو عبد هللا ُم َح َّمد بن أبى الخصال كاتب األمير ُم َح َّمد بن
الحاج ،وأبو بكر بن الصائغ كاتب األمير أبى بكر بن إبراهيم ،والزبير بن عمر
اللمتونى كاتب تاشفين بن علي ،وكانت حياة كل نائب من نواب أمير ال ُم ْسلِ ِمين صورة
ُمص َّغرة من حياة هذا األمير فكانوا يتخذون القصور والخدم والفقهاء واألعوان(.)3
د – تولية الوالة:
كان األمير يوسف يُ َعيِّن الوالة على األقاليم من لمتونة بشكل خاص وصنهاجة
بشكل عام؛ فولَّى أمراء قومه األقاليم ،فقبْل ضم األَ ْن َدلُس كان سير بن أبى بكر على
مدائن مكناسة وبالد مكاللة وبالد فازاز ،وولَّى عمر بن سليمان المسوفى مدينة فاس
وأحوازها ،وداود ابن عائشة سجلماسة ودرعة ،وتميم بن يوسف مدينة أغمات
ومراكش وبالد السوس وسائر بالد المصامدة وتدال وتامسنا ,وبعد ضم األَ ْن َدلُس عين
يوسف بن تاشفين القائد سير بن أبى بكر حاك ًما على األَ ْن َدلُس ،وف َّوض له تعيين وا ٍل
على كل بلد يفتحه ويكون من لمتونة.
وكان الوالة يخضعون مباشرة لنائب األمير ،و ُمنح األمير يوسف سلطات واسعة:
منها حق التصرف فى عزل وتعيين َمن دونهم ِمن الوالة المحليين ،و َمن يليهم ِمن
رجال السلطة ،وكذلك القيام بتحركات عسكرية داخل مناطق نفوذهم ،وكان األمير
يوسف وابنه من بعده يراقبون والتهم مراقبة شديدة ،ويجرى تبديلهم وعزلهم إذا
أساءوا ،وكانوا يضعون مصالح الرعية فى المقام األول عند تعيين الوالة(.)4
هـ -نظام الوزارة:
كان األمير يوسف بعيدًا كل البعد عن اتخاذ األلقاب واأللفاظ واالهتمام
1
() حركات النظام السياسي والحربي عند المرابطين ،ص (.)65
2
() مجلة كلية اآلداب ،جامعة القاهرة ،المجلد ( ،11ج ،)2/27تحت عنوان الثغر األعلى فى عهد
المرابطين,
د .حسين مؤنس.
3
() تاريخ المغرب واألندلس فى عصر المرابطين ،ص (.)263
4
() دولة المرابطين ,ص (.)165
124
بالمناصب ،فلم يتخذ وزراء بالمعنى المتعارف عليه ،ولم يمنح لقب وزير ألى
شخص ,إال أنه اتخذ لنفسه أعوانًا يرجع إلى مشورتهم ،و ُكتَّابًا يشرفون على ديوان
الرسائل أو اإلنشاء ،وكانت لديه هيئة استشارية تشترك فيها طائفة من الفقهاء،
واألعيان وال ُكتَّاب يالزمونه فى قصره وتنقالته يبدون آراءهم فى المشاكل المطروحة
للبحث ,وتبقى الكلمة الفاصلة لألمير ،أ َّما فى األمور المهمة فكان يجمع زعماء
المرابطين وأبناء عمومته من لمتونة للتداول واتخاذ اآلراء ،وكان االتصال باألمير
عن طريق األعوان من السهولة بمكان ،وساعد على ذلك ما امتاز به األمير من ُزهد
فى الدنيا ,وتطلع لآلخرة ,وحب البساطة ،وميل للتواضع.
ويذهب األمير يوسف فى مذهبه إلى أن الشورى معلمة وغير ملزمة وله فى ذلك
أدلة؛ حيث ذهب بعض المفسرين إلى إن الشورى غير ملزمة مستندين فى ذلك إلى
ت َفَتو َّكل َعلَى ِ
اهلل﴾. ِ
قوله تعالى﴿:فَإ َذا َع َز ْم َ َ ْ
ذهب اإلمام الطبرى إلى القول« :إذا ص َّح عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما
نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك ،فامض لما أمرناك به ،وافق ذلك آراء أصحابك
وما أشاروا به عليك أو خالفها ،وتو َّكل فيما تأتى من أمورك على ربِّك ،فثق به فى كل
ذلك ،وارض بقضائه فى جميعه دون آراء سائر خلقه ومعونتهم»(.)1
ويرى بعض العلماء أن رأى الشورى ولو أنه غير ملزم لكنَّه ينير الطريق
أمام الحاكم(.)2
وأضاف العالمة أبو األعلى المودودى فى قضية الشورى هل هى معلمة أو
ملزمة بعدًا آخر وهو طبيعة المجتمع وما يسوده من أخالق؛ حيث يقول« :ما وجدت
حك ًما قاطعًا فى هذا الباب فى أحاديث الرسول × ,غير أن العلماء قد استنبطوا من
عمل الصحابة فى عهد الخالفة الراشدة أن رئيس الدولة هو المسئول الحقيقى عن
شئون الدولة ،وعليه أن يُسيِّرها بمشاورة أهل الحل والعقد ،ولكنَّه ليس مقيدًا بأن
يعمل بما يتفقون عليه كلهم أو أكثرهم من اآلراء ،وبكلمة أخرى أنه يتمتع
بحق االعتراض على آرائهم.
ولكن هذا الرأى فى صورته المجملة كثيرًا ما يسبب سوء الفهم بالقياس إلى
أحوالهم وأوساطهم الحاضرة ،وال ينظرون إلى ذلك الزمان وال الوسط الذى قد أخذنا
الحلِّ وال َع ْقد فى عهد الخالفة الراشدة
هذا الرأى من أعمال األمة فيه ،فما كان أهل ِ
منقسمين إلى أحزاب متفرقة ,بل كانوا كلما دُعوا للمشاورة يأتون المجلس بقلوب
ملؤها اإلخالص . .ثم يوازن الخليفة بين الحجج الموافقة والمعارضة ويعرض عليهم
ما عنده من الدالئل ،ويبين رأيه ,وكان هذا الرأى فى عامة األحوال رأيًا يسلم به
أعضاء المجلس كلهم » . .ثم قال« :لم نعثر فى تاريخ الخالفة الراشدة كلِّه على مثال
واحد نرى فيه أهل ال ِح ِّل وال َع ْقد قد تفرقت آرائهم حتى آل األمر إلى عدد
األصوات»( ،)3وهذا تفريق جميل بين المجتمع اإلسالمى فى حاضرنا وبين المجتمع
اإلسالمى القائم على أسس دولة القرآن التى تربَّى المسلم على خشية هللا فال ينحرف
1
() تفسير الطبري( ،ج.)7/346
2
() د .عبد الحميد متولي ،مبدأ الشورى فى اإلسالم ،ص (.)52
3
() أبو األعلى المودودي ،نظرية اإلسالم وهديه فى السياسة والقانون ،ص (.)273،274
125
عن الجا َّدة.
وربما كان يوسف بن تاشفين وأمراء المرابطين ُمحقِّين فى أخذهم بالرأى القائل
بأن الشورى معلمة لألمير وليست ملزمة ،ولهم أدلة كثيرة للتدليل على هذا المبدأ.
إال أننى أرى الفائدة الكبرى واالستفادة العظمى فى زمننا هذا فى األخذ بالرأى
القائل بأنها ملزمة ،والقائلون بهذا القول لهم أدلتهم منها:
إن الشورى ملزمة للحاكم طالما أنَّها مؤيدة بالشرع والعقل ،فيقول ابن تيمية:
«وإذا استشارهم فإن بيَّن له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب أو سنة رسوله أو إجماع
ال ُم ْسلِ ِمين ،فعليه اتباع ذلك ،وال طاعة ألحد فى خالف ذلك ،وإن كان عظي ًما فى
ِ
ول َوأُولى
الر ُس َ َطيعوا اهلل وأ ِ
َطيعُوا َّ ِ َّ ِ
َ َ آمنُوا أ ُ
ين َ
الدِّين والدنيا ،لقوله تعالى﴿ :يَا أ َُّي َها الذ َ
األم ِر ِم ْن ُك ْم﴾ [النساء.)1(]59:
ْ
ولو كانت الشورى غير ملزمة ،لكان بإمكان النبى × أن يجنب الجماعة المسلمة
تلك التجربة المريرة التى تعرَّضت لها فى غزوة أحد – لو أنه قضى برأيه فى خطة
المعركة ،مستندًا إلى رؤياه . .ولم يستشر أصحابه ،أو لو أنه رجع عن الرأى عندما
سنحت له فرصة الرجوع . .ولكنَّه – وهو يقدر النتائج كلها – أنفذ الشورى . .ثم يجئ
األمر اإللهى له بالشورى – بعد المعركة -تثبيتًا للمبدأ فى مواجهة نتائجه المريرة
»( ،)2وبهذه األدلة التى ذكرتها نسترشد بهذا المبدأ فى مسيرتنا الحركية والدعوية
والتنظيمية التى تسعى إلعادة اإلسالم كنظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا،
ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبًا.
و – ديوان الرسائل والمكاتبات عند المرابطين:
كان المرابطون يهتمون بديوان اإلنشاء ،ولذلك حرصوا على أن يتواله رجال من
أشهر األدباء فى تلك الفترة جلهم أَ ْن َدلُسيون ،واهتم األمير يوسف بجلب األدباء والبلغاء
والفقهاء لهذه األعمال ،واستفاد من ُكتَّاب ملوك الطوائف ,وتوسع ديوان الرسائل مع
امتداد رقعة دولة المرابطين ،وانتفع المرابطون انتفاعًا عظي ًما بخبرة األَ ْن َدلُسيين
أصحاب الحضارة واألدب ،وأقبل المغاربة على ثقافة األَ ْن َدلُس ينهلون منها فى تواضع
المستفيدين ,وحدث تنافس بين ال ُكتَّاب ،وحاولوا أن يثبتوا جدارتهم فى هذا الفن،
وأصبح ديوان األمير يوسف متألقًا بالحضارة.
وقام ابنه على بتطوير ديوان الرسائل وجلب له كتابًا فى غاية البالغة ودقة
األسلوب ,وجمال التعبير ,ومما دفع األمير عليًا إلى تطوير دولته تربيته الرفيعة
وذكاؤه الوقَّاد ,واهتمامه بكتاب ملوك الطوائف ,وتقريبهم إليه فى زمانه ،فشعر بحاجته
إلى طائفة مثقفة تفهم لغة الوفود ،وتجيد فنون الكتابة ،و ِمن أشهر أولئك الكتاب
واألدباء والبلغاءُ ،م َح َّمد بن سليمان الكالعى المتوفى عام 508هـ ,وصفه ابن خاقان
فى «القالئد» بقوله« :غرة فى جبين الملك ،ودرَّة ال تصلح إال لذلك السلك ،باهت به
األيام ,وتاهت فى يمينه األقالم ،واشتملت عليه الدول اشتمال الكمام على النور،
1
() السياسة الشرعية ,البن تيمية ،ص (.)181،182
2
() سيد قطب ,فى ظالل القرآن( ,ج.)1/532
126
وانسربت إليه أمانى انسراب الماء على الغور»(.)1
ويقول عنه ابن الصيرفي« :الوزير الكاتب الناظم الناشر ،القائم بعمود الكتابة,
والحامل للواء البالغة ،والسابق الذى ال يشق غباره ،وال تخمد أبدًا أنواره ،اجتمع له براعة
النشر ،وجزالة النظم ،رقيق النسيج حصيف المتن رقعته وما شيت فى العين واليد»(.)2
وكذلك انضم إلى البالط المرابطى أبو ُم َح َّمد عبد المجيد بن عبدون ال ُمت ََوفَّى
520هـ ،وأبو القاسم ُم َح َّمد بن عبد هللا بن الجد الفهرى المتوفى فى عام 515هـ ،وابن
أبى الخصال الغافقى ال ُمتَ َوفَّى 540هـ ،وأبو زكريا بن ُم َح َّمد بن يوسف األنصارى
الغرناطى ال ُمتَ َوفَّى 570هـ فى غرناطة ،وأحمد بن أبى جعفر بن ُم َح َّمد بن عطية
القضاعى الذى نكبه عبد المؤمن بن على خليفة الموحِّ دين ،وغير هؤالء كثير من
األدباء والكتَّاب الذين عملوا فى خدمة دولة المرابطين زمن أمير ال ُم ْسلِ ِمين على بن
يوسف( ,)3وال ننسى أن الوزارة فى زمن على بن يوسف تط َّورت تطورًا ملحوظًا,
وأصبح الوزير بمنزلة السمع والبصر واللسان والقلب بالنسبة ألمير ال ُم ْسلِ ِمين ،وفى
األمثال :نعم الظهير الوزير.
كان الحكم فى دولة المرابطين قائما ً على أسس عسكرية ،فأمير ال ُم ْسلِ ِمين هو قائد
الجيش األعلى ،ومعاونوه هم قواد الجيش ،لهذا كان من الطبيعى أن يتسم منصب
الوزير بالطابع العسكرى كذلك ،ولكن لما كان األمر يتطلب من الوزير أيضًا كتابة
الوثائق ،والمراسيم وصياغتها فقد ُو ِجد فى دولة المرابطين صنفان من الوزراء.
-1وزراء عسكريون من قادة الجيش ,وهم من قرابة السلطان عادة أو من قبائل
لمتونة وصنهاجة التى قامت على أكتافهم دولة المرابطين.
-2وزراء ُكتَّاب وهم من الفقهاء.
وكان المغاربة يطلقون كلمة فقيه على العالم باألحكام الشرعية إال أن أهل
المشرق أصبح ذلك المصطلح عندهم يطلق على دارس الفقه عمو ًما من الطلبة.
وتوسَّع األمير على بن يوسف فى اتخاذ الوزراء والمستشارين من الفقهاء وكبار
العلماء ،وكان من أخصِّ وزرائه الفقيه مالك بن وهيب اإلشبيلى الذى شارك فى جميع
اريخ ،وهذا الفقيه هو الذى أشار العلوم ،ونظم الشعر ،وكتب مؤلفات فى الفلسفة والتَّ ِ
على سلطان المرابطين على بن يوسف بقتل ُم َح َّمد بن تومرت زعيم دولة الموحِّدين
فيما بعد ،حيث تفرَّس فيه حدة نفسه وذكاء خاطره ،واتساع عبارته ,فأشار على أمير
ال ُم ْسلِ ِمين بقتله أو اعتقاله ،قبل أن يستفحل خطره ،ألنَّه رجل مفسد وال يسمع كالمه
أحد إال مال إليه ,غير أن على بن يوسف توقف فى قتله واعتقاله ،وأبى ذلك عليه دينه،
لعدم ثبوت التهمة عليه ،وقد ص َّح ما تفرَّسه مالك بن وهيب ،إذ إنه على يد هذا المدعى
المهدية الكذاب ابن تومرت قامت دولة الموحدين التى قضت على دولة المرابطين فى
المغرب واألَ ْن َدلُس(.)4
1
() قالئد العقيان ،ص (.)104
2
() المركش ،عن ابن الصيرفى فى المعجب ,ص (.)164
3
() انظر :تاريخ المغرب واألندلس ،للدكتور حمدى عبد المنعم ،ص (.)271 ،270
4
() انظر :تاريخ المغرب واألندلس ،للدكتور حمدى عبد المنعم ،ص (.)368
127
***
128
المبحث الثاني
النظام القضائى فى دولة المرابطين
تمهيد:
للقضاء مكانة عظيمة ومنزلة شريفة ،وفاصل بين النَّاس فى خصوماتهم
وحاسم للتداعى وقاطع للتنازع ،وكان العرب فى جاهليتهم يعرفون منزلة القضاء,
ويختارون له أهله ,ويطلقون عليهم ال ُح َّكام ،واهتم المسلمون بهذا األمر ,ومارسه
رسول هللا × فى زمانه ،وسار الخلفاء من بعده على دربه ،وأصبح القضاء بعد رسول
هللا × فى عداد الوظائف الداخلة تحت الخالفة ،وتطور القضاء مع تطور دولة اإلسالم
فكان الخليفة يتخذ قاضيًا فى حاضرة الخالفة وقضاة آخرين فى الواليات واألمصار.
كان القضاء فى األمصار أول األمر ُمضافًا إلى الوالة حتى كانت خالفة عمر بن
الخطاب فجعله مستقالً عن نظر الوالي ،عيَّن له َمن يتفرَّد بالنظر فيه ,ومع استقالل
القضاء عن نظر الوالي ،فإن تقليد القضاء فى الواليات كان يتم فى الغالب عن طريق
الوالة بتفويض الخليفة لهم ،أ َّما فى العاصمة فكان الخليفة هو الذى يُعيِّن القاضى إلى
أن جاء الخليفة العبَّاسى أبو جعفر المنصور الذى انحرف بالقضاة نحو مركزية
الدولة ،وأخضع المؤسسات القضائية لرقابته المستمرَّة ،وجعل تقليد القضاة على قضاء
األمصار من قبله ،وتابعه على ذلك خلفاء بنى العبَّاس ،إلى أن استحدث منصب قاضى
القضاة فى فترة تالية ،فتولَّى قاضى القضاة النظر فى مؤهالت المرشحين للقضاء
ومراقبة الكفاءة المهنية للقضاة فى عاصمة الخالفة وخارجها ( ،)1واهت َّمت كلُّ الدول
التابعة للخالفة بتطوير نظامها القضائى وخصوصًا المرابطين الذين حرصوا على
إقامة العدل ونشره فى ربوع بالدهم ،فكان لمنصب القضاة أهمية كبيرة ،ولذلك
حرص أمراء المرابطين على تعيين القضاة ِم َّمن برزوا فى العلم والفقه وتميزوا
بالمقدرة على تولى هذه المناصب فى دولتهم دون االستناد على العصبية القبلية ،حتى
أصبح أكثر القضاة من غير قبيلة صنهاجة وهى سياسة حكيمة اتبعها األمير يوسف
رغبة فى تحقيق العدالة وتطبيق
تعاليم اإلسالم.
وقد منحهم رتبة عالية فى الدولة حتى كثرت أموالهم ،واتسعت مكاسبهم ،وكانوا
يستمدون نفوذهم من سلطة الدولة نفسها ،يحكمون وفق المذهب المالكي ،ويقوم بتنفيذ
أحكامهم الوالة وال ُح َّكام المحليون ،وقد شارك القضاة فى معارك الجهاد فى
الزالقَة منهم القاضى عبد الملك المصمودى األَ ْن َدلُس ،واستشهد بعضهم فى معركة ِّ
قاضى مراكش(.)2
وكانت السُّلطَة القضائية تتمتع باستقالل كبير عن السُّلطَة التنفيذية ،وكان تعيين
القاضى يصدر بمرسوم عن أمير المسلمين ،وكذلك عزله ،وكان ألهل البلدان التابعة
1
() تاريخ الحضارة العربية واإلسالمية ،د .محمد بطاينة ،ص (.)79
2
() دولة المرابطين ،ص (.)166
129
لدولة المرابطين حق الترشيح ل َمن يرونه مناسبًا لمنصب القضاء فى بلدهم.
قاض فى بلد معين فعليه أن يوضح األسباب ألهل
ٍ وإذا أراد أمير المسلمين عزل
ذلك البلد.
أ -منصب قاضى الجماعة فى األندلس:
يعتبر منصب قاضى الجماعة من أرفع المناصب القضائية فى األَ ْن َدلُس ،كان
صاحبه يشرف على القضاء فى جميع أنحاء األَ ْن َدلُس ،ومن المرجح إن هذا المنصب
الخطير كان ال يتواله إال كل َمن يثبت كفاءة عالية فى أمور القضاء ،وكان قاضى
الجماعة فى األَ ْن َدلُس يتمتع بسلطات واسعة ،ومنهم أبو القاسم أحمد بن ُم َح َّمد بن على
بن ُم َح َّمد بن عبد العزيز التغلبى الذى وجَّهه األمير يوسف بن تاشفين إلى اتباع الحق
بال برغم راغم وتشفق فى األحكام دون أن يعرف فى هللا لومة الئم ،فكتب له« :وال تُ ِ
من مالمة الئم ،فآس بين النَّاس فى عدلك ومجلسك حتى ال يطمع قوى فى حيفك وال
ييأس ضعيف فى عدلك ،وال يكن عندك أقوى ِمن الضعيف حتى تأخذ الحق له ،وال
أضعف ِمن القوى حتى تأخذ الحق منه.)1( » . .
ومن أشهر َمن تولَّى منصب قضاء الجماعة فى األَ ْن َدلُس فى عصر على بن
يوسف أبو الوليد ُم َح َّمد بن ُم َح َّمد بن أحمد بن رشد المالكى وأبو عبد هللا ُم َح َّمد بن أحمد
بن خلف إبراهيم التجيبى المعروف بابن الحاج(.)2
ب -قاضى الجماعة فى المغرب:
كانت رئاسة القضاء فى المغرب فى زمن دولة المرابطين تسند إلى قاضى
الجماعة بمراكش ،الذى كان يُسمى بقاضى قضاة المغرب أو بقاضى الحضرة ،وكان
على من يتولَّى هذا المنصب أن يكون ِمن المقربين إلى قلب أمير المسلمين يستفتيه فى
كل ما يعرض له من شئون ،ومن أشهر َمن تولَّى هذا المنصب :أبو ُم َح َّمد عبد هللا بن
ُم َح َّمد بن إبراهيم بن قاسم بن منصور اللخمي ،وأبو الحسن على بن عبد الرحمن
المعروف بابن أبى حقون ،وأبو سعيد خلوف بن خلف هللا.
لقد قطع المرابطون فى تنظيم القضاء شوطًا أبعد من مجرد تقسيم قضاء األَ ْن َدلُس
والمغرب وجعل زعامة القضاء فى كل منهما لقاضى القضاة ،أحدهما يختص باألَ ْن َدلُس
واآلخر بالمغرب ،بل إن المرابطين اتخذوا فقيهًا له السُّلطَة العليا على قضاء المغرب
واألَ ْن َدلُس على السواء ،ومن المرجح أن زعامة القضاء فى العدوتين كانت أحيانًا من
نصيب قاضى مراكش أو قاضى سبتة أو طنجة ،وأحيانًا أخرى لقاضى الجماعة بقرطبة .
()3
132
المبحث الثالث
النظم العســـــكرية
تمهيد:
صفات المجاهدين فى سبيل هللا:
إن الجهاد فى سبيل هللا عظيم الكلفة والمشقة على النفس البشرية ،قال تعالى:
ك ْم﴾ [البقرة: ال َو ُه َو ُك ْرهٌ لَّ ُك ْم َو َع َسى أَن تَك َْر ُهوا َش ْيئًا َو ُه َو َخ ْي ٌر لَّ ُ ب َعلَْي ُك ُم ال ِْقتَ ُ ِ
﴿ ُكت َ
.]216
ولذلك لم يستطع أن يقوم بالجهاد اإلسالمى على أصوله الصحيحة إال من رزقه
هللا صفات تجعله أهالً للقيام بهذه العبادة الكريمة.
واألصل العظيم الذى تنبثق منه كل صفات ال ُم َجا ِهدين سواء كانوا قادة أو جنودًا،
أو صفات الجيش كله هو اإليمان باهلل العلى العظيم الذى بقوته تقوى صفات
ال ُم َجا ِهدين ،وبضعفه تضعف تلك الصفات الرفيعة فى القادة واألفراد والجيش على حد
سواء ،ولذا قال ابن تيمية رحمه هللا« :وإذا كان أولياء هللا هم المؤمنين المتقين فبحسب
إيمان العبد وتقواه تكون واليته هلل تعالى ،فمن كان أكمل إيمانًا وتقوى ،وكان أكمل
والية هلل ،فالنَّاس متفاضلون فى والية هللا عز وجل بسبب تفاضلهم فى اإليمان
والتقوى»(.)1
والذى يكون إيمانه أكمل يحقق عبوديته هلل أكثر ،فيكون وقته كله عبادة وصبرًا
ت ِ
وعل ًما وتذكرًا وتقوى وإحسانًا وإخالصًا واعتزا ًزا بدينه ،قال تعالى﴿ :أ ََّم ْن ُه َو قَان ٌ
()2
1
() انظر :فى ظالل القرآن (ج.)6/3744
134
-3حرصوا على تزكية وتطهير جنودهم واالرتقاء بهم طاعةً هلل:
إن بُعد الجنود عن التعليم والتربية والتطهير يكون سببًا فى قسوة قلوبهم
وانغماسهم فى اآلثام والذنوب و ِمن ثَ َّم الهزيمة.
ث فِي ِه ْم َر ُسوالً ِّم ْن أَْن ُف ِس ِه ْم َي ْتلُو
ين إِ ْذ َب َع َ ِِ ِ
قال تعالى ﴿:لََق ْد من اهللُ َعلَى ال ُْمؤمن َ
ضالَ ٍلْمةَ َوإِ ْن َكانُوا ِمن َق ْب ُل ل َِفى َ ِ
اب َوالْحك َ
ِ ِِ
َعلَْي ِه ْم آيَاته َو ُي َز ِّكي ِه ْم َو ُي َعلِّ ُم ُه ُم الْكتَ َ
ُّمبِي ٍن﴾ [آل عمران.]164 :
َي ْتلُو َعلَْي ِه ْم آيَاتِِه
ين وقال تعالىُ ﴿:هو الَّ ِذى بع َ ِ
َر ُسوالً ِّم ْن ُه ْم
ث فى األ ُِّميِّ َ ََ َ
ضالَ ٍل ُّمبِي ٍن﴾ [الجمعة.]2: َ ِم ْن َق ْب ُل ل َِفى
ْمةَ َوإِن َكانُوا
َ ك ْكتَاب وال ِ
ْح ِ
َو ُي َز ِّكي ِه ْم َو ُي َعلِّ ُم ُه ُم ال َ َ
يقول سيِّد قطب رحمه هللا« :ويزكيهم ويطهرهم ويرفعهم وينقيهم :يطهر
قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم ،ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصالتهم ،ويطهر
حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم ،ويطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة
واألسطورة ,وما تبثه فى الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة
باإلنسان وبمعنى إنسانيته ،ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية ,وما تلوث به
المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم»(.)1
-4الخبرة بأمور الحرب والق َّوة فيها:
وظهر ذلك فى قادة المرابطين فى جهادهم من أجل توحيد المغرب األقصى كله,
والقضاء على دولة برغواطة الملحدة ،وما خاضوه من حروب ومعارك ظهرت فيها
خبرتهم الحربية ,ومقدرتهم على تنفيذ أساليب الكر والفر ،وظهرت خبرة القائد األعلى
يوسف بن تاشفين فى معركة ال ِّزالقَة التى أكسبت أركان الحرب خبرات عميقة؛
ساعدتهم فى جهادهم من أجل ضم األَ ْن َدلُس لدولتهم الفتية تحت راية اإلسالم بمنهجه
السنى القويم ،والقضاء على الخطر النصرانى فى األَ ْن َدلُس.
وفى القرآن الكريم نجد إشارة لطيفة تبين صفات القائد العسكرية وهي :العلم
ُوت َملِ ًكا قَالُوا أَنَّى ال ل َُه ْم نَبُِّي ُه ْم إن اهللَ قَ ْد َب َع َ
ث لَ ُك ْم طَال َ ﴿وقَ َ
والقوة ،كما قال تعالىَ :
ت َس َعةً ِمن الم ِ ْك علَينا ونَحن أ ِ ِ ِ
ال إن اهللَ ال قَ َ َ َم ُي ْؤ ََح ُّق بال ُْملْك م ْنهُ َول ْ
يَ ُكو ُن لَهُ ال ُْمل ُ َ ْ َ َ ْ ُ َ
ْجس ِم واهلل ي ْؤتِى م ْل َكهُ من ي َشاء واهلل و ِ ِ ِ ِ
اس ٌع َ َ ُ َ ُ َ ُ ادهُ بَ ْسطَةً فى الْعل ِْم َوال ْ َ ُ ُ اصطََفاهُ َعلَْي ُك ْم َو َز َ
ْ
يم﴾ [البقرة.]247 : ِ
َعل ٌ
وقد ظهر علمه وخبرته فى اختيار جنده ,ومعرفة الصالح منهم للجهاد وغير
الصالح ،وبرزت قوته فى صموده وصبره ومصابرته ونجاحه فى جهاده.
قال سيِّد قطب رحمه هللا« :وفى ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة
الحازمة المؤمنة ،وكلُّها واضحة فى قيادة طالوت ،تبرز فيها خبرته بالنفوس وعدم
1
() فى ظالل القرآن (ج.)1/507
135
اغتراره بالحماسة الظاهرة ,وعدم اكتفائه بالتجربة األولى ،ومحاولته اختبار الطاعة
والعزيمة فى نفوس جنوده قبل المعركة ،وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه ،ثم –
وهذا هو األهم – عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة ،ولم يثبت معه فى
النهاية إال تلك الفئة المختارة ،فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة اإليمان الخالص ,ووعد
() 1
هللا الصادق للمؤمنين».
-5البعد عن طلب القيادة وابتغاء الرئاسة:
وظهر لى هذا المعنى فى شخصية األمير ال ُم َجا ِهد الزاهد أبى بكر بن عمر،
فعندما لمس من ابن عمه مقدرة على القيادة أسند األمر إليه ،ودخل متوغالً فى
الصحراء الكبرى من أجل الدعوة والجهاد حتى أكرمه هللا بالشهادة ،وكان أمراء
المرابطين يرون اإلمارة قربة وعبادة يتقربون بها إلى هللا لنصر دينه وتحقيق مصالح
عباده ,وليست مغن ًما من جاه أو منصب أو مال.
-6إسناد األمور إلى أهلها:
وهذه الصفة ظهرت لى فى سيرة يوسف بن تاشفين فى تعيينه للوالة والقادة
والفقهاء ،وما كان ليمتنع عن عزل َمن قصَّر فى عمله ,ويعين َمن هو أفضل منه.
-7تربية الجندى على التسليم المطلق هلل ال لشخص القائد:
وكان أمراء المرابطين يضربون أروع األمثلة فى زرع هذه المعانى فى نفوس
ال ُم َجا ِهدين ،فهذا أمير المسلمين يرفع يديه نحو السماء مناجيًا المولى عز وجل« :اللهم
إن كنت تعلم أن فى جوازنا هذا إصالحًا للمسلمين فسهِّل علينا هذا البحر حتى نعبره،
وإن كان غير ذلك فصعبه حتى ال نجوزه»(.)2
وفى وسط معركة ال ِّزالقَة وهو يبث الحماس فى نفوس ال ُم َجا ِهدين« :يا معشر
المسلمين اصبروا لجهاد أعداء هللا الكافرين ,و َمن رزق منكم الشهادة فله الجنة ،و َمن
سلم فقد فاز باألجر العظيم والغنيمة»( ،)3وهكذا القائد المسلم هو الذى يربى جنوده
بالمواقف على تحقيق العبودية الخالصة هلل.
ولهذا لما قتل عبد هللا بن ياسين لم يتأثر المرابطون ,وقتل يحيى بن عمر ومن
بعده أبو بكر بن عمر ،وما زادهم ذلك إال إيمانًا وتسلي ًما ،وهذا يدل على حسن تربيتهم
لل ُم َجا ِهدين وتعلقهم وتسليمهم هلل ال لألشخاص ،أما تربية اليوم فى جيوش المسلمين
شبيهة بالفرعونية حيث يربى القائد جنوده على طاعته المطلقة فى الخير والشر ,كما
يربيهم على الخضوع الكامل لشخصه.
ووصف الشيخ ُم َح َّمد الغزالى – رحمه هللا – هذه التربية فقال« :إن الذى يدرس
المجتمعات الفاسدة ,ويتغلغل فى بحث عللها ،والذى يتتبع أعمال األدعياء وطالب
الزعامة ،ويستقصى وسائلهم الملتوية فى تسخير الجماهير للوصول إلى القمة ،والذى
يلحظ النهضات الكبرى وكيف يدركها الفشل فجأة ألنهم أصيبوا برجال يحبون
1
() فى ظالل القرآن (ج.)1/263
2
() دولة المرابطين ،ص (.)90
3
() دولة المرابطين.
136
الظهور ،فال يرحبون بالنصر إال إذا جاء عن طريقهم وحدهم ،أ َّما إذا جاء عن طريق
غيرهم فهو
البالء المبين»(.)1
وقال سعد جمعة« :والفرق بين اإلسالم والنُّظُم المعاصرة أن الوالء فى اإلسالم
هو هلل وحده ،بينما الوالء فى النُّظُم األخرى المنعوتة بالتقدمية ،هو للطاغية ،أو
الدكتاتور أو الحزب الحاكم أو الجيش العقائدى أو اإليديولوجية المتسلطة ،ولذا فهو
والء إكراه وضغط فكرى وقهر بوليسي ،ال والء الخير والمحبة والمودة والتقوى
واألخوة»(.)2
وكم نحن محتاجون إلى منهج اإلسالم الصحيح فى غرس الربانية والتسليم
المطلق هلل ال لألشخاص.
-8الحرص على قاعدة الشورى:
كان ألمير المسلمين فى دولة المرابطين ونائبه مجلسٌ حرب ٌّي يضم قواد الفرق
العسكرية المختلفة لدراسة الخطط الحربية ،وتلقى األوامر والتعليمات ِمن القائد
األعلى ,والتشاور فى أمور الجهاد والبالد والعباد ،واتصف قادة المرابطين بحرصهم
على إقامة مبدأ الشورى فيما بينهم.
فكان قرار الجهاد ضد النصارى فى األَ ْن َدلُس بعد شورى شارك فيها الشيوخ
والقادة والعلماء والفقهاء ،وكان قرار ضم ممالك الطوائف بعد شورى كذلك ,واشتهر
األمير يوسف بمشاورة ذوى الرأى من علماء الشريعة اإلسالمية وذوى الخبرة فيما
يعرض له من أمور.
-9الحرص على تحقيق األهداف والضبط اإلدارى وقوة التأثير:
ظهرت هذه الصفات فى شخصية يوسف بن تاشفين الذى أظهر مهارة إدارية
عندما فتح مدينة سجلماسة ,واستطاع أن يحقق أهداف المرابطين بعد جهاد دام ربع
قرن ،جنى بعدها المرابطون ثمرة أتعابهم وبسطوا سيطرتهم على المغرب األقصى،
ونُشر األمن فى ربوعه ،واستطاع يوسف بحسن سيرته وعدله أن يؤثِّر بق َّوة الحق
الذى التزمه على قبائل المصامدة وزناتة وغمارة وغيرها.
-10الشجاعة والكرم:
وظهرت هاتان الصفتان فى قادة المرابطين فى جهادهم فى األَ ْن َدلُس ,فبعد معركة
عف األمير يوسف وجنوده عن الغنائم وتركوها لملوك الطوائف ،مع كونهم ِّ
الزالقَة َّ
بذلوا ِمن الدماء والنفوس فى تلك المعركة ما ال يعلمه إال هللا ،فدل فعلهم ذلك على
شجاعتهم وكرمهم.
-11التصرف الحكيم السريع أمام المفاجآت:
وظهرت لى هذه الصفة عندما تدخل الحماديون ِمن الحدود الشرقية ،واعتدوا على
دولة المرابطين من أطرافها ,فجرَّد المرابطون لهم جي ًشا ,وردوهم إلى حدودهم,
1
() اإلسالم واالستبداد السياسي ،ص (.)35
2
() هللا أو الدمار ،ص (.)181
137
وشن هجو ًما على َّ وعقدوا معاهدة أمن وسالم ،وعندما أخطأ والى تلمسان المرابطى
بنى حماد دون إذن ِمن القيادة العليا عُزل ذلك القائد و ُعيِّن مكانه َمن هو أفضل منه,
وتراضوا مع بنى ح َّماد ،وعندما تأ َّكد األمير يوسف من خيانة ملوك الطوائف أس َر
بعضهم ,وقتل بعضهم ،وضرب الحصار على ممالكهم حتى أسقطها جميعًا ،وساعده
على تحقيق تلك األهداف قادة عظام اتصفوا بصفات عظيمة انعكست على جنود
المرابطين.
هذه بعض الصفات التى حرص المرابطون على غرسها فى قياداتهم وزعمائهم،
فكانت خيرًا وبركة على تلك الدولة السنية الفتية.
ب -المنهج التربوى لجيش المرابطين:
اهتم المرابطون بتربية جنودهم تربية جهادية ,اهتموا بجميع جوانبها الروحية
والنفسية والفكرية والجسدية ،وقد تميزت تربيتُهم الروحية بربط ال ُم َجا ِهد بالجنة
واالشتياق إليها ،فشهدت المعارك التى خاضوها ضد أعدائهم على حبهم للموت كحب
خصومهم النصارى للحياة.
وغرس علماء المرابطين فى نفوس جنودهم عقيدة اإليمان بالقدر ،فأصبح الفارس
منهم ينطلق كالسهم فى صفوف األعداء يضرب ذات اليمين وذات الشمال ،ال يخشى
إال هللا تعالى مؤمنًا باآليات القرآنية واألحاديث النبوية التى تدل على تعميق هذا
المفهوم فى نفوس ال ُم َجا ِهدين.
ت فِى َمنَ ِام َها َفيُ ْم ِس ُ
ك َم تَ ُم ْ ِ ِ
ين َم ْوت َها َوالَّتى ل ْ
قال تعالى﴿:اهلل يتوفَّى األَْن ُف ِ
س ح َ َ ُ ََ َ
َج ٍل ُّم َس ًّمى﴾ [الزمر ،]42:وقال تعالى: أ َى ل ِإ ى ر ُ ِ الَّتِى قَ َ
َ ت َ ُْ ُ ْ َ
خأل ا ل س ري و ضى َعلَْي َها ال َْم ْو َ
ْم ْؤ ِمنُو َن﴾ [التوبة: ِ
ب اهللُ لَنَا ُه َو َم ْوالَنَا َو َعلَى اهلل َفلْيََت َو َّك ِل ال ُ
َّ ِ
﴿قُل لن يُّص َيبنَا إِالَّ َما َكتَ َ
.]51
وقال ׫ :إن أحدَكم يجمع خلقه فى بطن أ ِّمه أربعين يو ًما نطفة ،ثم يكون علقة
مثل ذلك ،ثم يكون مضعة مثل ذلك ،ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع
كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد.)1( »..
وكانت وسائل المرابطين فى تقوية الجانب الروحى فى جنودهم وشعبهم المقاتل
تعتمد على إحياء شعيرة الصالة ،والصيام ،والزكاة ،والحج ،وتالوة القرآن ،والذكر،
وأما وسائلهم فى التربية النفسية فتعتمد على جهود العلماء والفقهاء الذين يقومون
بتزكيتهم وإيضاح حقيقة النفس والكون والحياة وغرض اإلنسان وهدفه فى هذه الدنيا.
وكانوا يرون أن أهم أسباب تربية النفوس أن تستعد دائما للجهاد ،وأن تتربى على
خشونة العيش والطعام والشراب ,وقلة النوم لتنمية فضيلة الصبر فى نفوسهم.
ج -أبرز الجوانب التربوية فى جيش المرابطين:
-1األخوة اإلسالمية:
1
() رواه البخاري ,رقم (.)3036
138
كانت من أسباب قوة الجيش المرابطى سريان روح األخوة بين جميع فصائل
الجيش ،وامتألت قلوبهم ونفوسهم بهذا المعنى السامى الذى كان سببًا فى تذويب
النعرات اإلقليمية والعرقية ،وجيوشهم تتكون ِمن الزنوج ،ومن قبائل صنهاجة
المتفرِّ قة ,ومن العرب ,ومن مسلمى اإلسبان ،وكل هذه الفصائل المتعددة
والمتنوعة ك َّونت أ َّمة واحدة.
َصلِ ُحوا َب ْي َن أ َ
َخ َويْ ُك ْم َو َّات ُقوا اهللَ ل ََعلَّ ُك ْم ِ
قال تعالى ﴿:إِنَّ َما ال ُْم ْؤمنُو َن إِ ْخ َوةٌ فَأ ْ
ُترحمو َن﴾ [الحجرات ,]10:وقال تعالى﴿:واذْ ُكروا نِ ْعم َ ِ
ت اهلل َعلَْي ُك ْم إِ ْذ ُك ْنتُ ْم أَ ْع َد ً
اء َ َ ُ ْ َُ
َصبَ ْحتُ ْم بِنِ ْع َمتِ ِه إِ ْخ َوانًا﴾ [آل عمران.]103: كِ
ف َْ َ ُ ُ ُ ْ َ ْ
أ ف م ب ولق ن يب فَأَلَّ َ
لقد تحلى جيش المرابطين بهذه الصفة الربانية العظيمة فق َّوت رابطة ال ُم َجا ِهدين,
وجعلتهم صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص فى مواجهة األعداء.
-2التواصى بالحق والتواصى بالصبر:
فعندما أصيب عبد هللا بن ياسين بجراح بالغة ,و ُح ِمل على إثرها إلى معسكره؛
وحذرهم من عواقبَّ جمع رؤساء وشيوخ المرابطين وحثَّهم على الثبات فى القتال،
التفرقة والتحاسد فى طلب الرئاسة وما لبت أن فارق الحياة(.)1
وهكذا جند هللا المجاهدون ال يتباطأون فى مناصحة بعضهم بعضًا ،لعلمهم أن فى
هذا التباطؤ هالكهم جميعًا الذى وصفه لهم الرسول × فى حديث النعمان بن بشير
-رضى هللا عنهما -فقال« :مثل القائم فى حدود اهلل والواقع فيها كمثل قوم استهموا
على سفينة ,فأصاب بعضهم أعالها ,وبعضهم أسفلها ,فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا
مروا على َمن فوقهم فقالوا :لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقًا ,ولم نؤذ َمن فوقنا, الماء ُّ
جميعا ,وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجواً فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا
جميعا»(.)2
ً
إن مفهوم الجندية اإلسالمية يترعرع فى بيئات التناصح والتواصى بالحق
والتواصى بالصبر.
-3إصالح ذات البين:
حرص المرابطون على نبذ الشقاق والقضاء على الخالف وعلى رأب الصدع
وإصالح ذات البين؛ لعلمهم أن فساد ذات البين يقضى على جند الجهاد أكثر مما
يقضى عليهم عدوهم الخارجى مهما قويت شوكته وكثر جنده ،فاتخذوا أسلوب الحكمة
واللين والرفق من أجل تحقيق هذا الهدف المنشود ،وإذا خرجت فئة تستمرئ الشقاق
أو تعمل على إيجاده؛ جرَّدوا لها الجيوش وأخضعوها بالقوة ،وهذا ما قام به األمير أبو
بكر بن عمر عندما تمرَّدت بعض قبائل الصحراء على مبادئ المرابطين ,واشتبكوا
مع بعض القبائل األخرى فى قتال؛ فخرج إليهم بجيشه الكثيف ,وأصلح ذات البين
1
() تاريخ المغرب واألندلس ،ص (.)44
2
() البخاري رقم ( ،)2493فتح الباري (ج.)5/132
139
مستعمالً فى ذلك القوة ،ومن أجل الضرورة وإصالح ذات البين أذن النبى × لمن أراد
أن يستعمل الكذب الذى ال يحل حرا ًما وال يحرم حالالً ,ال سيما إذا كان من باب
التورية والتعريض ،كما فى حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول هللا × يقول:
خيرا»(.)1
خيرا أو يقول ً «ليس الكذب الذى يصلح بين النَّاس فينمى ً
َّ
وحذر وجعل النبى × إصالح ذات البين أفضل ِمن الصالة والصيام والصدقة,
ِ
النبى × من فساد ذات البين ،قال رسول هللا ׫ :أال أخبركم بأفضل درجة من
الصيام والصالة والصدقة؟» ،قالوا :بلى يا رسول هللا ،قال« :إصالح ذات البين،
وفساد ذات البين الحالقة»(.)2
-4نصر الحق والثبات عليه:
لما أرسل فقها ُء سجلماسة ودرعة إلى الفقيه ابن ياسين ,يرغبون فى الوصول
إليهم ليخلص بالدهم مما تعانيه ِمن ال ُح َّكام الطغاة الظلمة زناتة المغراويين
وأميرهم مسعود بن وانودين ،فجمع ابن ياسين شيوخ قومه ,وقرأ عليهم رسالة
فقهاء سجلماسة؛ فأشاروا عليه بمد يد المعونة لهم ،وقالوا له« :أيها الشيخ الفقيه
هذا ما يلزمنا فسر بنا على بركة هللا تعالى»(.)3
ولما طلب ملوك الطائف العون ِمن المرابطين لنصرتهم على النصارى لبوا نداء
الحق ،لقد كان جيش المرابطين حريصًا على نصرة الحق وإحقاقه والقتال عليه.
لقد حرص المرابطون على أن يشملهم قول رسول هللا ׫ :ال يزال من أمتى أمة
قائمة بأمر اهلل ال يضرهم من خذلهم وال من خالفهم حتى يأتيهم أمر اهلل وهم على
خيرا يفقهه فى الدين ,وال تزال عصابة ِمن ِ
ذلك» ،وقوله ×َ « :من يُ ِرد اهلل به ً
()4
المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة»(.)5
إن صفة نصر الحق والثبات عليه والقتال عليه ليست دعوة تقال ،أو شعاراً يرفع
على مستوى الجماعات أو الدول أو الطوائف ,وإنَّما حقيقة لها داللتها الواقعية فى حياة
النَّاس ،وأى جماعة أو دولة تفقد صفة الفقه فى الدين ونصر الحق أو إحداهما فليست
أهالً ألن تكون هى الطائفة المنصورة.
وأى خلل يقع فى أى جماعة؛ فالبد أن يكون مصدره فقد إحدى الصفتين أو فقدهما
معًا أو ضعف فى إحداهما أو فيهما معًا(.)6
إن دولة المرابطين فى جيلها الريادى حققت صفة الفقه فى الدين متمثالً فى
1
() البخاري رقم ( ،)2692فتح الباري (ج.)5/299
2
() رواه الترمذي (ج .)633/
3
() تاريخ المغرب واألندلس ،ص (.)42
4
( )4البخاري رقم ( ،)3641فتح الباري (ج.)6/632
5
() مسلم (ج.)3/1524
6
() الجهاد فى سبيل هللا( ,ج.)2/95
140
فقهائها العظام ،فاستحقَّت أن تكون ِمن الطائفة المنصورة التى حالفها نصر هللا
وتوفيقه .وعندما ضعفت تلك الصفات آل أمرها إلى طائفة مغلوبة ،بل زالت ِمن
الوجود.
د -عناصر جيوش المرابطين:
-1الملثمون أو المرابطون :كانوا هم النواة األولى التى تك َّون منها الجيش
المرابطي ،وقد قامت الدولة على أكتافهم ,وقد اشتهر هؤالء الملثمون بقوة بأسهم فى
عدوهم فى الحرب ،وكانوا أثبت ِمن الجبال الرواسى فى المعارك ،ومهما تف َّوق عليهم ُّ
العدد فال يتقهقرون ،ولقد حققوا انتصارت رائعة فى معاركهم فى المغرب األقصى أو
فى معارك الجهاد فى األَ ْن َدلُس.
-2العرب :وش َّكلوا فرقة أصبحت ِمن أهم فرق الجيش المرابطى وشاركوا فى
معارك األَ ْن َدلُس ،وتنتمى بعض العناصر العربية إلى عرب األَ ْن َدلُس الذين استقرُّ وا فى
المغرب فى عصر األدارسة ،ويرجع البعض اآلخر إلى قبائل بنى هالل التى
انخرطت فى سلك جيش المرابطين ،وشاركوا فى معارك الجهاد ،ومن أشهر تلك
المعارك معركة كنسويجرة ..يقول ابن الكردبوس« :فجر ابن تاشفين عسكرًا جرارًا
من مرابطين وعرب وأَ ْن َدلُس الشرق والغرب ،وقدم عليهم قائده ُم َح َّمد بن الحاج،
فالتقوا بكنثرة فكانت بينهم جوالت وحمالت إلى أن زلزل هللا أقدام المشركين ,وولوا
مدبرين.)1(»...
كما شاركوا فى معركة إقليش ،فيقول ابن القطان« :واستشهد فى هذه الوقيعة –
أى إقليش – اإلمام الجزولي ،وكان رجل صدق ,وجماعة ِمن األعيان والعربان.)2(» ..
-3الحرس الخاص :كانت قوى الحرس الخاص تتألف ِمن أشجع الجند من
مختلف الواليات ،ويشترط فى قبولهم أن يكونوا من ذوى القوام الحسن والشجاعة
الفائقة والقوة والبراعة ،يقول أشباخ« :جمع يوسف بن تاشفين من تجار الرقيق من
أقليم غانا ،عددًا كبيرًا ِمن العبيد واختار منهم أمهرهم وزودهم بالسالح والخيل,
ودربهم على جميع فنون القتال ،وأنشأ من حرسه الخاص األسود ِمن ألفى رجل،
وأنشأ على هذا النمط حرسًا خاصًا ِمن األَ ْن َدلُسيين يتألف من فتيان ِمن النصارى
المعاهدين ،وكان يوسف يحبوهم بعطفه وصالته ،وينعم على َمن امتاز منهم
()3
باإلخالص والشجاعة بمختلف الهبات ِمن الخيل والثياب والسالح والعبيد» .
وبين الدكتور سعدون عبَّاس نصر هللا أن النصارى فى جيش المرابطين اعتنقوا
اإلسالم( ،)4وأصبح الحرس الخاص ركنًا أساسيًا من أركان الجيش المرابطي ،ال سيما
أن على بن يوسف ض َّم إليه الكثير من أسرى الحروب ,وشارك هذا الحرس الخاص
فى حراسة معاقل المغرب ،بل حتى فى حروب الدولة ضد ال ُم َو ِّح ِدين(.)5
1
() االكتفاء ،ص (.)108 ،107
2
() نظم الجمان ،ص ( ،)10-9انظر :الثغر األعلى ،األندلس ،ص (.)129
3
() تاريخ األندلس ،ألشباخ ،ص (.)480، 479
4
() دولة المرابطين ،ص (.)170
5
() تاريخ المغرب فى عصر المرابطين ،ص (.)298
141
-4الحشم :كانت فرق الحشم من أهم فرق الجيش المرابطي ,وكانت تتكون من
زناتة والمصامدة ،وكانت هذه الفرق تتقدم عادة الجيوش المرابطية فى القتال(.)1
هـ -فنون القتال:
لما تولَّى األمير يوسف مقاليد حكم المرابطين عمد إلى إصالح نظام تسليح الجيش
وطريقة إعداده للقتال ،ففى البدء كانت أسلحتهم يدوية ويعتمدون على اإلبل ,وهذه
األسلحة تصلح لحرب الصحراء ،أ َّما حرب المدن والحصون فإنها تتطلب وسائل
وأسلحة تتالءم مع الوضع الجديد الناشيء عن حرب الحصار؛ ولهذا ابتكر األمير
يوسف الخطة العسكرية المعروفة بالتقري ،وخطة التقرى تعتمد على توجيه الجيوش
إلى بالد معينة للقتال مع جيوشها فى معارك فاصلة ال لحصار المدن(.)2
وسلَّح الجيش بكل أنواع األسلحة المعروفة من مغربية وأَ ْن َدلُسية ونصرانية ,وكان
سالح كل فرقة ِمن الجيش يتناسب مع تركيبها ووضعها القتالي :فمشاة الصف األول
يتسلحون بالقنا الطوال وبدروق اللمط.
وكان لألمير يوسف الفضل فى تنظيم جيش المرابطين ,ومعرفة الرجال
ومواهبهم الفذة الذين أعادوا إلى األذهان تاريخ الفتوحات األولى ألمة اإلسالم ،لقد
كانت حركة المرابطين مقنعة للعالم فى زمانها بأن اإلسالم قادر فى كل زمان ومكان
على إنجاب القادة األفذاذ أمثال سير بن أبى بكر ،وداود ابن عائشة ،وابن فاطمة ,وابن
ميمون ومزدلى وغيرهم ،وعلى رأس الجميع القائد الربانى الذى أنقذ هللا به اإلسالم
فى األَ ْن َدلُس والمغرب يوسف بن تاشفين.
كان األمير يوسف أثناء المعارك يرتب جيشه وفق نظام خماسي؛ المقدمة:
ويحتلها الجنود المشاة ووحدة الفرسان الخفيفة ،والجناحان الميمنة والميسرة :وفيهما
حملة القسى والنبال وأكثرهم من أهل الثغور ،والقلب يتمركز فيه الفرسان المرابطون
المزودون باألسلحة الثقيلة والخفيفة ،والمؤخرة ويقودها األمير بنفسه وتتألف من
صفوة الجنود والحرس ،وكان لكل قسم من هذه األقسام قائده الخاص ،ويجتمع قادة
الوحدات قبيل المعركة على شكل مجلس حربى لتلقى األوامر والتعليمات ِمن القائد
األعلى يوسف(.)3
وتط َّو َرت فنون القتال عند المرابطين وأهدى ابن الصيرفى إلى األمير تاشفين بن
على قصيدة احتوت على فنون الحرب والقتال فقال:
كانت ملوك الفرس قبلك تولع أهديك من أدب السياسة ما به
ذكرى تحض المؤمنين وتنفع ألنت أدرى بها ولكنها
سيان تتبع ظاهرًا أو تتبع خندق عليك إذا ضربت محلة
1
() المصدر السابق نفسه.
2
() دولة المرابطين ،ص (.)44
3
() دولة المرابطين ,ص (.)172
142
كانت ملوك الفرس قبلك تولع أهديك من أدب السياسة ما به
يخشى وهو فى جود كفك يطمع حارب من يخشى عقابك بالذي
ـًا حيث التمكن والمجال األوسع قبل التهارش عبئ جيشك مفسحـ
والخيل تفحص بالرجال وتمزع إياك تعبئة الجيوش مضيقًا
واجعل أمامك منهم من يشجع حصن حواشيها ولكن فى قابها
وأمض كمينك خلفها إذا تدفع واحذر كمين الروم عند لقائها
تلقى العدو فشرُّ ه متوقع ال تبقين خلفك عندما
()1
بد ًءا تقدم فالنكوص يضعضع واصدمه أول وهلة ال ترتدع
ونستطيع أن نستخرج بعض فنون الحرب التى أوصى بها الشاعر فى قصيدته
لألمير تاشفين بن علي:
-1ضرورة حفر الخنادق حول المدن لحمايتها من أى خطر خارجي.
-2ضرورة تعبئة الجيوش وتنظيمها قبل المعركة بوقت كاف لكى تدخل هذه الجيوش
إلى المعركة ،وهى على أهبة االستعداد ،وحتى ال يأخذها العدو على غرة.
-3ضرورة وضع أقوى الفرق العسكرية فى جناحى الجيش ،وفى المقدمة ،بينما
يقود القائد العام للجيش المعركة من قلب جنده.
-4ضرورة نصب الكمائن خلف خطوط العدو.
-5عدم القتال وظهورهم إلى الماء ،ألن فى ذلك هلكة لجيوشهم.
-6ضرورة إحداث عنصر المفاجأة فى بداية المعركة ،عن طريق الصدام مع
العدو ،مع ضرورة التقدم وعدم التقهقر.
هذه بعض الفنون العسكرية التى طبقت فى دولة المرابطين.
وكان المرابطون فى بداية أمرهم قليلى الخبرة بفن الحصار العتمادهم على قوات
الفرسان المستعدة دائ ًما للهجوم ،إال أنهم بعد فترات من جهادهم استطاعوا أن يتقنوا َّ
فن
الحصار ،وتجلى ذلك بوضوح خالل حصارهم لقلعة شنتيرين الحصينة ،وتم ُّكنهم ِمن
التغلب عليها ،كما ظهرت براعتهم فى هذا الفن أثناء الحصار الذى فرضته الجيوش
اإلسالمية على مدينة غرناطة ,لحمايتها ِمن الفونسو المحارب خالل غزوته الكبرى
لألَ ْن َدلُس ،التى كان يهدف من ورائها تلبية دعوى النصارى المعاهدين فى مدينة
غرناطة إلى نصرتهم.
1
() تاريخ المغرب واألندلس ،ص (.)300
143
وضرب المرابطون الحصار ،وكان موفقًا وحقق نتائجه المطلوبة.
فن ضرب الحصار ،فقد تف َّوقوا أيضًا فى فنِّ التخلص ِمن الحصار، وكما أتقنوا َّ
كما حدث فى تخلصهم ِمن الحصار الذى ضربه الموحدون على مراكش عام 524هـ،
ودام ما يقرب من أربعين يو ًما ،ثم تم َّكنوا وأوقعوا بال ُم َوحِّ ِدين هزيمة منكرة عند
البحيرة(.)1
واهتم المرابطون بجميع األسلحة المعروفة فى زمانهم من نشاب وسهام ورماح
وسيوف ودروع ورعادات ومزاريق ودرق لمطية واألطاس.
و – األسطول:
ومع توسُّع المرابطين فى المغرب األقصى واستيالئهم على معظم مدنها ولم تبق
إال طنحة وسبتة ،شعر األمير يوسف بأهمية األسطول البحرى لما وصلت دولته إلى
شواطئ البحر األبيض ،وبعد القضاء على دولة برغواطة صاحبة األسطول البحرى
بدأ يوسف يهتم بتطوير أسطوله ،واستفاد من خبرات أهل األَ ْن َدلُس فى ذلك ،وأصبح
أسطول المرابطين يتقدم نحو الهيمنة على البحر المتوسط ،وأثمرت جهود يوسف فى
االهتمام باألسطول فى زمن ابنه علي.
وأصبح أسطول المرابطين بفضل هللا تعالى ،ثم قادته الكبار -وعلى رأسهم أبو
عبد هللا بن ميمون -قوة ضاربة هددت النصارى فى جنوب البحر المتوسط ,ونفَّس هللا
به كربات مسلمى الشمال اإلفريقي ،وحقق أسطول المرابطين انتصارات تجاوزت كل
تقدير وحسبان(.)2
ز– استيالء المرابطين على جزر البليار:
كانت جزيرة البليار خاضعة ل ُم َجا ِهد العامرى صاحب دانية ,الذى استقل بملكها
سنة 405هـ ،وولى عليها بعض الوالة ،ولما قتل ُم َجا ِهد فى سنة 436هـ تولَّى ابنه
على الذى وقع فى أسر بنى هود عام 468هـ ومات فى سرقسطة سجينًا عام 474هـ،
وكانت جزيرة ميورقة تابعة لجزر البليار وكان بها مبشر بن سليمان الذى أعلن
استقالله بميورقة ،وأما مدينة دانية فضمها المقتدر بن هود إلى سرقسطة ،ولما ضم
المرابطون ممالك الطوائف تركوا مبشر بن سليمان صاحب البليار حرًا تقديرًا لجهوده
التى بذلها لص ِّد النصارى ،وما اشتهر به من غيرة على مصالح المسلمين ،وقدرته
الفذة فى حماية ملكه من غارات النصارى المتتابعة فضالً عن كونه أق َّر العدل,
وأرضى الرعية ،وهكذا أصبح مبشر يحكم الجزائر الشرقية فى عهد يوسف بن
تاشفين ،وفى السنوات األولى من حكم على بن يوسف إلى عام 508هـ.
وعندما تحالف النصارى من أمراء فرنسا والبرتغال وإسبانيا وقرروا القضاء
على جزر مبشر بن سليمان خرجوا له فى خمسمائة سفينة ,وضربوا على جزيرة
ميورقة حصارًا عنيفًا ,وراسل مبشر أمير المسلمين على بن يوسف لنجدته ونصرة
المسلمين ،وتُوفى مبشر بن سليمان أثناء الحصار وقام بعده قريبه الربيع بن سليمان بن
1
() تاريخ المغرب واألندلس ،ص (.)311
2
() المصدر السابق نفسه ،ص (.)311
144
وسقطت ميورقة عام 508هـ ,وقتل النصارى ِمن المسلمين ,وسبوا نساء ْ ليون,
المسلمين ,وعاثوا فى األرض فسادًا ونهبًا وتخريبًا.
وعندما اقترب أسطول المرابطين بقيادة القائد البحرى ابن «تافرطاست» وجد
النصارى قد رحلوا وتركوها كأن لم تكن باألمس ,وفى الحال شرع ابن «تافرطاست»
فى تعمير الجزيرة ,وأعاد إليها الفارين من سكانها ،وكان قد لجأ منهم إلى الجبال
جموع غفيرة ,وبذلك أصبحت تلك الجزر تابعة لدولة المرابطين الفتية.
وكان لأسطول المرابطين الفضل بعد هللا فى التصدِّى ألطماع النورمنديين فى
مدن الشمال اإلفريقي ،وكان لأسطول المرابطين جهاد مشكور فى سواحل أوروبا
الجنوبية؛ مما ع َّزز من هيبة المسلمين فى نفوس النصارى الحاقدين ,فأغار على
سواحل جليقية وقطلونية وإيطاليا واإلمبراطورية البيزنطية(.)1
ومن أشهر قادة األسطول المرابطى أبو عبد هللا بن ميمون ,وتوارث أبناؤه من
بعده قيادة أساطيل المرابطين ,ولعبت أسرة بنى ميمون دورًا رياديًا فى حماية ثغور
والذود عن حوزتهم وأعراضهم وأموالهم وعقيدتهم. المسلمينَّ ,
ح – موانئ أسطول المرابطين:
كان المرية من أكبر موانئ األسطول المرابطى فى األَ ْن َدلُس ،وكان بها قسم
كبير من أسطول المرابطين بقيادة أمير البحر أبى عبد هللا ُم َح َّمد بن ميمون ،وكان
بالمرية دار صناعة للسفن ،ثم تأتى بعد المرية مدينة دانية التى تعتبر مقر قيادة
األسطول المرابطى فى األَ ْن َدلُس.
وكان موانئ أسطول المرابطين تنتشر على شواطئ سواحل المغرب واألَ ْن َدلُس،
ومن أشهرها طنجة ،وبجاية وإشبيلية والجزيرة الخضراء ،وجزر البليار(.)2
إن الشمال اإلفريقى ال ع َّزة لشعوبه وال كرامة إال بالتمسُّك بالمنهج الرباني،
وتربية شعوبه على االنقياد لمنهجه الرشيد ،ويحتاج ذلك لعلماء ربانيين وقادة
سياسيين يعرفون قيمة دينهم ،ويؤمنون بمنهج ربهم ،ويستع ُّدون لجهاد عدوهم,
ويهتمون بإحياء روح الجهاد ،ويغرسون معانى الشهادة فى شعوبهم حتى تتدفق
دماء اإلسالم من جديد فى شرايينهم ،ليعملوا على إرجاع األَ ْن َدلُس المفقود,
ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبًا.
***
1
() تاريخ المغرب واألندلس ،ص (.)311
2
() المصدر السابق (.)112
145
المبحث الرابع
النظام المالى فى عصر المرابطين
حرص المرابطون فى دولتهم على إسقاط الضرائب غير المشروعة عن كاهل
شعوبهم التى فرضها الزناتيون فى المغرب وملوك الطوائف فى األَ ْن َدلُس ،وكذلك
المكوس والرسوم والضرائب فى جبل طارق ،ولم يفرض المرابطون فى دولتهم رسم
مكس أو معونة خراج ال فى حاضرة وال فى بادية ،واتبعوا نظا ًما ماليًا يقوم على
قواعد اإلسالم ،وكان هذا النظام ظاهر المعالم فى زمن األمير يوسف بن تاشفين الذى
التزم بالكتاب والسنة فى جمع األموال وتوزيعها ،فاعتمد على الزكاة والعشر والجزية
وأخماس الغنائم ،وجبي بذلك ِمن األموال على الوجه الشرعى ما لم يجبه أحد ،وترك
فى خزائنه مبلغ ثالثة عشر ألف ربع ِمن الورق ،وخمسًا وأربعين ألفًا من دنانير
الذهب( .)1وأ َّما فى عصر على بن يوسف فاختلف األمر ,وفرض الضرائب على بعض
السلع ،وفرض ضريبة جديدة على مدن األَ ْن َدلُس الهامة ،وكان يُخصِّ ص دخلها إلقامة
أسوار جديدة وترميم األسوار القديمة ،وكان سبب فرض هذه الضريبة دخول ألفونسو
المحارب لألَ ْن َدلُس غازيًا عام 519هـ؛ فاضط َّر لتحصين المدن وترميم األسوار وتقوية
الجيوش؛ ففرض ضرائب تساعده فى تسديد هذه النفقات التى ال غنى عنها.
العملــــــــة:
كانت العملة الرئيسية لدولة المرابطين هى الدينار الذهبى الذى كان عماد
االقتصاد فى الدولة ,وظلَّت هذه العملة المرابطية الذهبية مستخدمة لعدة قرون ،حتى
بعد سقوط الدولة المرابطية ،كما استخدمت العملة الفضية المعروفة بالدرهم الفضي،
لتسهيل المعامالت التجارية.
ُ َ
وانتشرت دور سك العملة فى مختلف أجزاء الدولة فى المغرب أو فى األ ْن َدلس
مثل أغمات ,تلمسان ،سجلماسة ،فاس ،مراكش ،سبتة ،مكناسة ،طنجة ،شاطبة،
إشبيلية ،دانية ،غرناطة ،قرطبة ،مالقة ،مرسية ،سرقسطة ،وغيرها(.)2
1
() دولة المرابطين ،ص (.)179
2
() تاريخ المغرب واألندلس ،ص (.)320
146
الفصل الخامس
أهم أعمال دولة المرابطين الحضارية
المبحث األول
اآلثار المعمارية فى المغرب واألندلس
إن دولة المرابطين تركت آثارًا معمارية بارزة ظلَّت باقية على م ِّر الدهور وكرِّ
سمو حضارة المرابطين المعمارية ،ومن ِّ العصور؛ لترشد األجيال المتعاقبة على
أعظم هذه اآلثار على اإلطالق:
-1جامع القرويين:
من أهم المساجد الجامعة فى بالد المغرب وأكثرها شهرة لكونه جامعة إسالمية
عريقة ضاربة بجذورها فى أعماق التاريخ ،وكانت هذه الجامعة تقارع األزهر
الشريف فى العلم وتخريج الدعاة والعلماء والفقهاء.
ولقد م َّر جامع القرويين بثالثة أدوار:
األول عند تأسيسه سنة 254هـ859/م.
والثانى عند الزيادة فيه سنة 345هـ956/هـ.
والثالث عندما زيدت مساحته فى عصر على بن يوسف سنة 530/1135م.
وتولَّى مشروع زيادة مسجد القرويين وتوسيعه القاضى أبو عبد هللا ُم َح َّمد بن داود
بسبب ضيق المسجد بالنَّاس ,واضطرارهم للصالة فى الشوارع واألسواق فى يوم
الجمعة ،وحرص على أن يكون المال من أوقاف مساجد المسلمين ،وأشرف القاضى
أبو عبد هللا بنفسه على هذا المشروع الحضارى العظيم وكان تمام التوسعة عام
538هـ.
َّجت فى جامع القرويين على مرِّ العصور وك ِّر الدهور أفواج عديدة من ولقد تخر ْ
فقهاء األمة وعلماء الملة ودعاة الشريعة وال ُم َجا ِهدين األبرار والقادة العظام ،وكان
لمسجد القرويين عند المرابطين مكانة عظيمة فى نفوسهم.
وتذك ُر كتب التاريخ أن منبر جامع القرويين من أجمل منابر اإلسالم ،وتدل على
روعة المغاربة فى اختياراتهم الذوقية الرفيعة(.)1
-2المسجد الجامع بتلمسان:
وكان مقرًا لنشر علوم اإلسالم وتربية المسلمين على معانى القرآن ،وتم بناء هذا
المسجد عام 530هـ فى إمارة على بن يوسف ،وكانت هندسته المعمارية فى غاية
الجمال ودقة اإلتقان ،ورأى بعض المؤرخين إن البنيةَ المعمارية لمسجد تلمسان فيها
لمسات أَ ْن َدلُسية ,وفنون معمارية قرطبية ،بل بعضهم يرى أن عرفاء مسجد تلمسان
قلَّدوا جامع قرطبة تقليدًا مباشرًا فى لوحتى الرخام اللتين تكسوان إزار واجهة
1
() تاريخ المغرب واألندلس ،ص (.)366
147
المحراب بتلمسان ،وكذلك سقف المسجد الخشبى شبيه بسطح مسجد قرطبة ،وكذلك
البالط شبيهٌ به أيضًا.
انصهرت فى بوتقتها حضارة المغاربة ْ والذى يظهر أن دولة المرابطين
واألَ ْن َدلُسيين واألفارقة ،فتجد تلك المعالم الحضارية المختلفة فى كافة بقاع دولة
المرابطين ،وال ينكر تأثير المعالم الحضارية المعمارية األَ ْن َدلُسية فى جميع مدن
الدولة.
-3اآلثا ُر الحربية:
اهتم المرابطون بالحصون والقالع؛ ولذلك انتشرت فى المدن والثغور.
وزاد الاهتمام بالتحصينات العسكرية فى زمن على بن يوسف ,الذى أكثر من
األسوار والقالع والحصون للدفاع عن دولته فى المغرب ضد الحركات السياسية
والثورات العدائية المناهضة لدولة المرابطين ،وواصل األمير على اهتمامه بهذا األمر
كذلك فى األَ ْن َدلُس.
ومن أروع آثار المرابطين الحضارية الحربية أسوار مراكش حيث بدأ األمير
على بن يوسف فى بناء سور المدينة عام 520هـ وك َّمل بناء السور عام 522هـ(.)1
وانتشرت فكرة بناء األسوار فى األَ ْن َدلُس ،وفرضت الدولة على رعاياها ضريبة
تنفق على هذا الهدف االستراتيجى الجهادى الدفاعي.
و ِمن أشهر األسوار التى بنيت أو أعيد ترميمها فى األَ ْن َدلُس ،أسوار المرية
وأسوار قرطبة التى امتازت بأبراجها المستطيلة الضخمة المتقاربة ،وأسوار إشبيلية
من جهة نهر الوادى الكبير ،وبنى ال ُم َرابطون فى المناطق الوعرة حصونًا بالحجر،
وشحنوها بالجنود واألقوات؛ لكى تصمد للحصار مدة طويلة.
وكان عدد جنود الحصون والقالع ما يعادل 200فارس و 500راكب فى
كل حصن.
ومن أشهر قالع المرابطين فى األَ ْن َدلُس قلعة منتقوط التى تقع على بساتين
مرسية ،و ِمن أشهر قالع المرابطين فى المغرب قلعة تاسغيموت التى تقع على بعد
ثالثة كيلو مترات جنوب شرق مراكش ،وعلى بعد نحو عشرة كيلو مترات شرق
أغمات على سطح هضبة أطرافها ذات أجراف وعرة شديدة االنحراف ،يصعب على
الغازين ارتقاؤها ،وأسوارها تمتد على حافة الهضبة نفسها.
فن العمارة فى زمانهم تأثر بالغ التأثر إن قالع المرابطين وحصونهم تدل على أن َّ
بفنِّ العمارة األَ ْن َدلُسي(.)2
***
1
() المصدر السابق ،ص (.)372
2
() تاريخ المغرب واألندلس ،ص (.)377
148
المبحث الثاني
الحياة األدبية والعلمية فى دولة المرابطين
-1الحركة األدبية:
ازدهرت الحركة األدبية فى دولة المرابطين فى عهد األمير على بن يوسف الذى
اهتم بالشعر واألدب ،وشجَّع الشعراء واألدباء؛ فتوافدوا على بالطه من أهل األَ ْن َدلُس،
و ِمن الذين مدحوا األمير على بن يوسف الشاعر الكبير أبو العبَّاس أحمد بن عبد هللا
القيسى المعروف باألعمى التطيلى حيث قال:
وما أنت للملك بالسائس يا على العالء فى كل يوم
من بين مؤتل وموال يا ربيع البالد يا غيمة العالم
يا سليل األذواء واألقيال يا قريع األيام عن كل مسجد
()1
يعقوب ذكر مكارم وفعال لك من تاشفين أو من أبي
وكان الشعراء يقصدون ولى عهد الدولة فى زمن األمير على بن يوسف لمدح
ابنه تاشفين ،ومن أشهرهم الشاعر أبو بكر يحيى بن ُم َح َّمد بن يوسف ،كما حظى
الشعراء فى عصر على بن يوسف بمكانة عظيمة لدى األسرة الحاكمة وكبار القادة
وعمال الدولة على األقاليم المختلفة.
وكان األمير عبد هللا بن مزدلى موضع اهتمام الشعراء منهم ابن عطية الذى
قال فيه:
()2
واعتز تحت لوائك اإلسالم ضاءت بنور إيابك األيام
ومن قبل مدح الشعراء والده الذى قال فيه أبو عامر بن أرقم:
وللمسالك يحميها وللدول أنت األمير الذى للمجد همته
مناسب كالضحا والشمس فى الحمل لمزدلى لواء كان يرفعه
()3
وارتجى غوثه فى الحادث الجلل يا أيها الملك المرهب صولته
ووصل المديح إلى الفقهاء والعلماء لمكانتهم العالية فى دولة المرابطين ،فهذا
األعمى التطيلى يمدح القاضى الفقيه ابن أحمد قاضى الجماعة بقوله:
1
() األعمى التطيلي ,الديوان ,ص (.)104
2
() قالئد العقيان ،البن خاقان ،ص (.)210
3
() قالئد العقيان ،البن خاقان ،ص (.)133
149
وأن غربت بى عنك إحدى المغارب إليك ابن حمدين وإن َبُعد المدى
مرور الليالى وازدحام الشوائب صبابة ود لم يكدر جمامه
ترى على أعقابه كل شاغب وذكر عساها أن تكون مهزة
()1
وخطوى فيه ليس بالمتقارب بأيه ما كان الهوى متقاربًا
وال ننسى أن أعداء المرابطين ِمن الشعراء قاموا بالتندر بالمرابطين ،وبفقهاء
دولتهم ،وممن اشتهر بالهجاء والتندر فى هذا العصر الشاعر أبو بكر يحيى بن سهل
اليكي ،الذى هجا المرابطين ,ومن ذلك قوله:
ولو أنه يعلو على كيوان فى كل من ربط اللثام دناءة
من بطن زانية لظهر حصان ما الفخر عندهم سوى أن ينقلوا
وضعوا القرون مواضع التيجان المنتمون لحمير لكنهم
()2
واطلب شعاع النار فى الغدران ال تطلبن مرابطا ذا عفة
وازدهر فى عصر المرابطين لون آخر ِمن ألوان الشعر أعنى الطبيعة ،فقد شهد
هذا العصر ظهور عدد كبير ِمن الشعراء الذين نبغوا فى هذا الفن الشعري ،نذكر منهم
ابن سارة الشنتريني ،وابن الزقاق ،وابن خفاجة البلنسي ،وعبد الحق بن عطية ،ومن
ذلك قول الشنترينى الشاعر يصف البركة:
من األزهر أهداب لها وطف هلل مسجورة فى شكل ناظرة
فى مائها ولها من عرمض لخف فيها سالحف ألهانى تقصمها
برد الشتاء فتستدلى وتنصرف تنافر الشط إال حين يحضرها
()3
الجحف كأنَّها حين يُبديها تصرفها
وهذا أبو الحسن على بن عطية بن الزقاق يصف فرسًا أغر:
برقًا إذا جمع العتاق رهان وأغر مصقول األديم تخاله
من لحظ َمن فى متنه نشوان يطأ الثرى متبخترًا فكأنَّه
1
() األعمى التطيلي ,الديوان ,ص (.)5-4
2
() تاريخ المغرب ،ص (.)386
3
() قالئد العقيان ،ص (.)271
150
برقًا إذا جمع العتاق رهان وأغر مصقول األديم تخاله
()1
حسنًا وبين جفونه كيوان فكأن بدر التم فوق سراته
وهذا أبو جعفر بن سالم المعافرى يصف فى شعره الثلج:
تقرُّ به عين وتشنعه نفس ولم أر مثل الثلج فى حسن منظر
وقطر بال ماء يقلبه اللمس فنار بال نور يضيء له سنا
()2
كأن كئوس الماء يجمعه كأس ترى األرض منه فى مثال زجاجة
وهذا شاعر آخر يصف لنا قوسًا:
إذا دنا نزعها فالعيش منتزح يا رب مائسة األعطاف مخطفه
كما ترنم نشوان به قزح ظلَّت ُّ
ترن فظ َّل النزع يعطفها
()3
عنها قفل كوكب يرمى به قزح وقد تألَّف نصل السهم مندفعًا
وهذا ابن خفاجة يصف الربيع وهو ِم َّمن عاصر األمير على بن يوسف:
فأمزج لجينا منهما بنضار أذن الغمام بديمة وعقار
هزج الندامى مصفح األطيار وأربع على حكم الربيع بأجرع
عن صفحة تندى ِمن األزهار وكمامة حدر الصباح قناعها
أخالف كلِّ غمامة مدرار فى أبطح رضعت ثغور أقاحه
دور الندى ودارهم النوار نثرت بحجر الروض فيه يد الصبا
حلى الحباب سوالف األنهار وقد ارتدى غصن النقى وتقلَّدت
جذل وحيث الشطر بدء عذار فحللت حيث الماء صفحة ضاحك
()4
والطلُّ ينضج أوجه األشجار والروح تنفض بكرة لمم الرُبا
1
() المطرب من أشعار أهل المغرب ،البن دحية ،ص (.)106
2
() تاريخ المغرب ،ص (.)388
3
() المصدر السابق نفسه.
4
() ابن خفاجة ,الديوان ،ص (.)291-290
151
ازدهر الشعر واألدب فى عصر األمير على بن يوسف ازدهارًا عظي ًما شهدت َ لقد
بذلك قصائد شعراء المرابطين التى سجلت فى ذاكرة التاريخ الخالدة.
وما قيل عن انحطاط الشعر واألدب فى عصر المرابطين أكذوبة استشراقية بان
زيفها أمام حقائق التاريخ التى ال تُجامل وال تعرف التحايل.
وال ننسى شيوع فن الموشحات واألزجال فى عصر المرابطين ،يقول ابن خلدون
عن نشأة فنِّ الموشحات« :وأ َّما أهل األَ ْن َدلُس ،فلما كثُر الشعر فى قطرهم ,وته َّذبت
مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية ،استحدث المتأخرون منهم فنًا يسمونه بالموشح
ينظمونه أسماطًا وأغصانًا يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة ,ويسمون المتعدد
منها بيتًا واحدًا ,ويلتزمون عند قوافى تلك األغصان ,وأوزانها متتالية فيما بعد إلى
آخر القطعة ،وأكثر ما تنتهى عندهم إلى سبعة أبيات ،ويشمل كلُّ بيت على أغصان
عددها بحسب األغراض والمذاهب ,وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل فى القصائد,
وتجاوزوا فى ذلك إلى الغاية واستطرفه النَّاس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله
وقرب طريقه»(.)1
و ِمن أشهر وشاحى عصر المرابطين األعمى التطيلي ,ومن موشحاته:
ما اجتمعا إال ألمر كبار دمع مسفوح وضلوع حرار ماء
ونار
عمر قصير وعناء طويل بئس لعمرى ما أراد العذول
()2
ويا دموع قد أعانت مسيل يا زفرات نطقت عن غليل
فن التوشيح فى أهل وأما نشأة الزجل فقال ابن خلدون عنه« :إنه لما شاع ُّ
األَ ْن َدلُس ,وأخذ به الجمهور لسالسته وتنميق كالمه وترصيع أجزائه ،نسجت العامة
من أهل األمصار على منواله ،ونظموا فى طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن
ظم فيه على مناحيهم يلتزموا فيها إعرابًا ،واستحدثوا فنًا سموه بالزجل ،والتزموا النَّ ْ
إلى هذا العهد ،فجاءوا فيه بالغرائب ,واتسع فيه للبالغة مجال بحسب لغتهم
المستعجمة»(.)3
ويعتبر أبو بكر بن قزمان القرطبى أول من ابتكر الزجل.
ومن أشهر أزجاله ما كان فى مدح القاضى أحمد بن الحاج قوله:
وصل المظلوم لحق وانتصف غنى ومسكين يحضر اإلنكار واإلقرار ويقع
الفصل فالحين اجتمع فيه الثالثة الورع والعلم والدين فيزول الحق إذا زال ويدوم
الحق
()4
إذا دام .
هذه نبذة مختصرة عن بعض فنون األدب التى ازدهرت وترعرعت فى ظلِّ دولة
1
() ابن خلدون ,المقدمة ،ص (.)436
2
() ابن خلدون ,المقدمة ،ص (.)441
3
() الزجل فى األندلس ،لعبد العزيز األهواني ،ص (.)201
4
() المصدر السابق نفسه.
152
المرابطين.
***
153
المبحث الثالث
من مشاهير علماء دولة المرابطين
كانت دولة المرابطين مبنية على أسس شرعية ولذلك اهتمت بالعلماء والفقهاء
الذين ال دوام لدولة تريد أن تحكم بشرع هللا بدونهم ,ولذلك كثر ال ُم َحدِّثون والفقهاء،
نذكر منهم:
أوالً :أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد (ت 520هـ).
هو اإلمام العالمة شيخ المالكية ،قاضى الجماعة بقرطبة أبو الوليد.
أ -شيوخه:
ِمن أشهر شيوخه الذين تتلمذ عليهم أبو جعفر أحمد بن رزق ،وأبو مروان بن
سراج ،و ُم َح َّمد بن خيرة ،و ُم َح َّمد بن فرج الطالعي ،والحافظ أبو علي ,وأبو العبَّاس
بن دلهات.
قال ابن بشكوال فيه« :كان فقيهًا عال ًما ،حافظًا للفقه مقد ًما فيه على جميع أهل
عصره ،عارفًا بالفتوى ،بصيرًا بأقوال أئمة المالكية ،ناف ًذا فى علم الفرائض
واألصول ،من أهل الرياسة فى العلم ،والبراعة والفهم ،مع الدين والفضل ،والوقار
والحلم ،والسمت الحسن ،والهدى الصالح ،ومن تصانيفه كتاب «المقدمات» ألوائل
كتب المدونة ،وكتاب «البيان والتحصيل لما فى المستخرجة ِمن التوجيه والتعليل»،
واختصار «المبسوطة» ،واختصار «مشكل اآلثار» للطحاوي ،سمعنا عليه بعضها،
وسار فى القضاء بأحسن سيرة وأقوم طريقة ،ثم استعفى منه ،فأعفي ،ونشر كتبه،
وكان النَّاس يُع ِّولون عليه ويلجأون إليه ،وكان حسن الخلق ،سهل اللقاء ،كثير النفع
لخاصته جميل العشرة لهم ،بارًا بهم»(.)1
ب -ومن أشهر فتاوى ابن رشد الجد ما أفتاه فى شأن المعاهدين ِمن النصارى فى
بالد األَ ْن َدلُس بإبعادهم وتغريبهم لغدرهم بالمسلمين ومساعدتهم أللفونسو المحارب(،)2
عاش هذا العالم الجليل سبعين عا ًما ,ومات فى ذى القعدة سنة عشرين وخمسمائة،
وصلى عليه ابنه أبو القاسم ،وروى عنه أبو الوليد بن الدباغ فقال« :كان أفقه أهل
األَ ْن َدلُس ،وصنَّف شرح العتبية ،فبلغ فيه الغاية»(.)3
ثانيًا :الشهيد القاضى الفقيه أبو على الصدفي:
هو العالم الفقيه القاضى ال ُم َحدِّث الحسين بن ُم َح َّمد بن سُكرة.
أ -شيوخه:
روى عن أبى الوليد الباجي ،و ُم َح َّمد بن سعدون القروي ،وح َّج سنة إحدى
وثمانين ،ودخل مصر على أبى إسحاق الحبال ،وقد منعه المستنصر العبيدى الرافضى
ِمن التحديث.
1
() سير أعالم النبالء( ،ج.)19/502
2
() تاريخ المغرب ،ص (.)231
3
() سير أعالم النبالء (ج.)19/502
154
قال :فأول ما فاتحته الكالم أجابنى على غير سؤالي ،حذرًا أن أكون مدسوسًا
عليه ،حتى بسطته وأعلمتُه أنَّنى من أهل األَ ْن َدلُس أريد الحج ،فأجاز لى لفظًا ،وامتنع
من
غير ذلك.
رحل للعراق ،فسمع بالبصرة من جعفر بن ُم َح َّمد بن الفضل العباداني ،وعبد
الملك ابن شغبة ،وباألنبار :الخطيب أبا الحسن على بن ُم َح َّمد بن ُم َح َّمد األقطع،
وببغداد :على ابن الحسن بن قُريش بن الحسن صاحب ابن الصلت األهوازي ،وعاصم
بن الحسن األديب ،وأبا عبد هللا الحميدي.
وتفقَّه ببغداد على أبى بكر الشاشي ،وأخذ بالشام عن الفقيه نصر المقدسي ،ورجع
إلى بالده فى سنة تسعين بعلم كثير ،وأسانيد شاهقة ،واستوطن ُمرسية ،وجلس
لإلسماع بجامعها.
ورحل النَّاس إليه ،وكان عال ًما بالحديث وطرقه ,عارفًا بعلله ورجاله ،بصيرًا
بالجرح والتعديل ،مليح الخطِّ ،جيد الضبط ،كثير الكتابة ،حافظًا لمصنفات الحديث,
ذاكرًا لمتونها وأسانيدها ،وكان قائ ًما على «الصحيحين» مع «جامع» أبى عيسى
الترمذي ،ولى قضاء ُمر ِسيَّة ،ثم استعفى منه فأعفي ،وأقبل على نشر العلم وتأليفه،
وكان صالحًا ديِّنا ،عامالً بعلمه ،حلي ًما متواضعًا ،وخرَّج القاضى عياض شيوخه,
وذكر أنه أخذ عن مائة وستين شي ًخا ،وأنَّه جالس نحو أربعين شي ًخا ِمن الصالحين
والفضالء ,وأنَّه أكره على القضاء فوليه ،ثم اختفى حتى أعفى منه.
وتص َّدر فى زمن على بن يوسف فى نشر الكتاب والسنة فى مرسية باألَ ْن َدلُس,
وتوافد عليه الطالب من كل حدب وصوب لينهلوا من علمه الجم الغزير ,ونفع هللا به
المسلمين فى تلك األقطار.
ب -وفاته:
استشهد أبو على الصدفى فى وقعة قُتُ ْندَة بثغر األَ ْن َدلُس ،لست بقين من ربيع
األول ،وهو ِمن أبناء الستين ،وكانت هذه الوقعة على المسلمين ,وكان عيش أبى على
من كسب بضاعة مع ثقات إخوانه(.)1
انظر رحمك هللا إلى هذا الط َّود الشامخ ،والجبل الراسخ ،والبحر الزاخر فى حبه
لطلب العلم ونشره ،والدعوة إلى دينه والدفاع عنه ،وحبه للجهاد والرِّباط ،وحرصه
على أكل الحالل ،والتحرى فى لقمة العيش ،واالستعالء على الدنيا وزخارفها الكاذبة،
ويا تُ َرى كم نفس أحياها خبر استشهاد هذا العالم الفقيه الزاهد ،وكان – رحمه هللا –
الذود عن سنة سيِّد المرسلين ,ويكتبه لتالميذه ,منه ما قال أبو يتذ َّوق الشعر الذى فيه َّ
عبد هللا ُم َح َّمد بن على الصورى لنفسه:
عائبًا أهله ومن يدعيه قل لمن أنكر الحديث وأضحى
أم بجهل فالجه ُل ُخلُ ُ
ق السفيه أبعلم تقول هذا؟ أين لي
1
() سير أعالم النبالء (ج.)19/378
155
عائبًا أهله ومن يدعيه قل لمن أنكر الحديث وأضحى
من الترهات والتمويه؟ أيُعاب الذين هم حفظوا الدِّين
()1
راج ٌع كلُّ عالم وفقيه وإلى قولهم وما قد َر َووْ ه
ثالثًا :القاضى الفقيه أبو بكر بن العربي:
من أعظم فقهاء األَ ْن َدلُس فى عصر المرابطين ،هو القاضى أبو بكر ُم َح َّمد بن عبد
هللا ابن ُم َح َّمد المعافرى األَ ْن َدلُسي ،اإلشبيلي ,اإلمام العالمة ،المتبحر فى العلوم.
ولد عام 468هـ1076/م وتأ َّدب ببلده ،وقرأ القراءات ،ثم رحل إلى مصر ،والشام
وبغداد ومكة وكان يأخذ عن علماء أى بلد يرحل إليه حتى أتقن الفقه ،واألصول وقيد
الحديث ،واتسع فى الرواية ،وأتقن مسائل الخالف ،وتبحر فى التفسير ،وبرع فى
األدب والشعر ،وعاد إلى بلده إشبيلية بعلم كثير ،لم يأت به أحد قبله ِم َّمن كانت له
رحلة إلى المشرق(.)2
أ -مكانته العلمية:
قال الشيخ صديق حسن خان عن ابن العربي« :إمام فى األصول والفروع ،سمع
ودرس الفقه واألصول ,وجلس للوعظ والتفسير ،وصنَّف فى غير فنٍّ ،والتزم األمر
بالمعروف والنهى عن المنكر حتى أُوذى فى ذلك بذهاب كتبه وماله؛ فأحسن الصبر
على ذلك كله»(.)3
قال عنه القاضى عياض ,وهو ِم َّمن أخذوا عنه« :استقضى ببلده فنفع هللا به أهلها
لصرامته ،وشدة نفوذ أحكامه ،وكانت له فى الظالمين سورة مرهوبة ،وتؤثر عنه فى
قضائه أحكام غريبة ،ثم صرف عن القضاء ،وأقبل على نشر العلم وبثه»(.)4
قال عنه الشيخ أحمد بن ُم َح َّمد المقري« :علم األعالم ،الطاهر األثواب ،الباهر
األبواب ،الذى أنسى ذكاء إياس ،وترك التقليد للقياس ،وأنتج الفرع ِمن األصل ،وغدا
فى اإلسالم أمضى ِمن النصل»(.)5
ب -مؤلفاته:
لإلمام القاضى أبى بكر بن العربى مؤلفات كثيرة لم يصلنا أغلبها ،وقد قضى
أربعين سنة فى اإلمالء والتدريس ،وفى ِّ
بث ما حصَّله ِمن العلوم ،وصنَّف -رحمه هللا-
فى فنون متعددة منها :علوم القرآن ,والحديث ،و«مشكل القرآن والحديث» ،وأصول
الدين ،وكتب الزهد ،وأصول الفقه ،وكتب الفقه ،والجدال والخالف ،واللغة والنحو
والتاريخ ،و ِمن أشهر المؤلفات التى انتفع بها المسلمون «العواصم ِمن القواصم»،
«عارضة األحوذى فى شرح الترمذي»« ،أحكام القرآن»« ،القبس فى شرح موطأ
1
() تاريخ اإلسالم للذهبي ،وفيات عام ( ،)520-511ص (.)369
2
() انظر :أحكام القرآن فى المقدمة.
3
() المصدر السابق نفسه.
4
() المصدر السابق نفسه.
5
() انظر :العواصم ِمن القواصم ،ص (.)13
156
ابن أنس»« ،المسالك على موطأ مالك»« ,اإلنصاف فى مسائل الخالف»« ،أعيان
األعيان»« ،المحصول فى أصول الفقه»« ،قانون التأويل»(.)1
كان اإلمام ابن العربى يصول ويجول بفقهه فى بالد األَ ْن َدلُس ينور طرق الظالم
بعلمه ،ويقضى على الشبهات بحججه ،ويدمغ البدع المنتشرة بصبره وحلمه ودعوته،
وكان من أعمدة دولة المرابطين فى نشر الكتاب والسنة وتفقيه النَّاس وتربيتهم على
مبادئ اإلسالم وأخالق اإليمان ودرجات اإلحسان.
وله فوائد علمية سجَّلها فى كتبه وانتفع بها طالب العلم من بعده منها:
-1قوله :قال علماء الحديث :ما من رجل يطلب الحديث إال كان على وجهه
نضرة ،لقوله ׫ :نضر اهلل أمرأ سمع مقالتى فوعاها فأداها كما سمعها.»..
قال :وهذا دعاء منه × لحملة علمه ,البد بفضل هللا تعالى من نيل بركته.
-2ومنه قوله :كنت بمكة فى سنة 489هـ وكنت أشرب من ماء زمزم كثيرًا،
وكلَّما شربته نويت العلم واإليمان ،فنويت العلم واإليمان ،ففتح هللا لى ببركته فى
المقدار الذى يسَّره لى ِمن العلم ،ونسيت أن أشرب للعمل ،ويا ليتنى شربته لهما حتى
يفتح هللا لى فيهما ،ولم يقدر فكان صفوى للعلم أكثر منه للعمل(.)2
وفاته:
أتاه أجله «بمغلية» قرب مدينة «فاس» فى ربيع األول سنة 543هـ ،ودفن فى
فاس خارج باب المحروف على مسيرة يوم من فاس غربًا منها(.)3
رابعًا :القاضى الفقيه عياض:
هو القاضى أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى
اليحصبى السبتي ،كان إمام وقته فى الحديث وعلومه والنحو واللغة وكالم العرب
وأيامهم وأنسابهم ،وصنف التصانيف المفيدة ،ولد فى سبتة فى عام 476هـ ،وتتلمذ
على شيوخها ومن أشهرهم :القاضى أبو عبد هللا بن عيسى ،والخطيب أبو القاسم,
والفقيه إسحاق بن الفاسي ،وإبراهيم بن جعفر اللواتي ،وإبراهيم بن أحمد القيسي ،وأبو
بكر القاسم بن عبد الرحمن الكومى وغيرهم الكثير(.)4
أ -رحلته إلى األندلس:
كان خروجه لألَ ْن َدلُس من بيته يوم الثالثاء منتصف جمادى األولى سنة 507هـ،
وكان عمره إذ ذاك واحدًا وثالثين عا ًما ،و ِمن أشهر شيوخه الذين تتلمذ عليهم فى
قرطبة أبو ُم َح َّمد عبد الرحمن بن ُم َح َّمد المشهور بابن عتاب القرطبي ,وقاضى
الجماعة أبو
عبد هللا بن الحاج ،والفقيه أبو جعفر بن رزق ،وأبو مروان عبد الملك بن سراج ،وأبو
الوليد بن رشد الجد ،وأبو ُم َح َّمد عبد هللا بن أحمد بن سعيد األَ ْن َدلُسى اإلشبيلى وأبو
1
() انظر :ترجمته فى كتاب العواصم ِمن القواصم.
2
() انظر :العواصم ِمن القواصم ،ص (.)16
3
() وفيات األعيان (ج.)3/483
4
() المغرب واألندلس ،د .مصطفى الشكعة ،ص (.)124
157
علي الصدفي.
وتحصَّل على علوم غزيرة وتص َّدر للتعليم والتدريس ،وعُين فى القضاء ،ونبغ
فيه ,واشتهر بعلمه وعبادته وعدله وجوده ،وكانت مؤلفات القاضى عياض أكثرها فى
الحديث الشريف ،ثُ َّم فى التاريخ والطبقات ثم فى الفقه ،ثم فى القرآن(.)1
ب -مؤلفاته:
«الشفا بتعريف حقوق المصطفى» ،موضوعه فى السيرة النبوية -1
والعقيدة واألصول والتفسير والحديث.
«مشارق األنوار على صحيح اآلثار» وموضوعه تفسير غريب الحديث -2
فى الصحاح الثالثة« :موطأ مالك» و «صحيحى البخارى ومسلم» ،فضبط
أسماء الرجال واأللفاظ ,ونبَّه على مواضع األوهام والتصحيفات.
وفى هذا الكتاب قال الشاعر:
ومن عجب كون المشارق بالمغرب مشارق أنوار تب َّدت بســـــبتة
فأجابه آخر بقوله:
وإال فال فضل لتُرب على تُرب وما شرف األوطان إال رجالها
كتاب «اإلكمال» ،أكمل به كتاب «المعلم بفوائد كتاب مسلم» لشيخه -3
المازرى الفقيه المالكى ال ُم َحدِّث المتوفى سنة 536هـ.
كتاب «منهاج العوارف إلى روح المعارف» وهو فى شرح مشكل -4
الحديث.
كتاب «اإللماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع» فى مصطلح -5
الحديث.
كتاب «بغية الرائد فيما فى حديث أم زرع ِمن الفوائد». -6
كتاب «التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة» فى الفقه وجمع فى -7
هذه الكتاب فوائد وغرائب.
كتاب «اإلعالم بحدود قواعد اإلسالم» فى العقيدة. -8
كتاب «الخطب» يحتوى على خمسين خطبة من خطب الجمع. -9
-10كتاب «جامع التاريخ» فى التاريخ والطبقات.
-11كتاب «تاريخ سبتة» وهو مسودة.
« -12ترتيب المدارك وتقريب المسالك فى معرفة أعالم مذهب اإلمام
مالك».
« -13الغنية» وذكر فيه شيوخه وترجم لهم.
« -14المقاصد الحسان فيما يلزم اإلنسان».
« -15غنية الكتاب وبغية الطالب» ،فى األدب واإلنشاء ،وغيرها ِمن
1
() المصدر السابق ،ص (.)136-125
158
المخطوطات والكتب التى تدل على سمو منزلته وسالمة منهجه.
لقد برع القاضى عياض فى أمور ِع ََِِدة منها :القضاء والفقه والحديث واللغة واألدب ،وكان
شاعرًا مجيدًا ,وله موهبة رائعة تدل على قدرته على نظم الشعر ،ومن أروع ما قاله القاضى عياض
ِمن القصائد تلك التى أنشدها وهو يودِّع قرطبة فى عام 508هـ ،بعد أن تلقَّى العلم فيها من شيوخها،
دت له صالت بأهلها ومودة وصداقة وأخوة أكيدة ،فقال مودعًا المدينة األَ ْن َدلُسية ذات التاريخ
وتوطَّ ْ
العريق:
حُداتى َو ُز َّمت للفراق ركائبي أقول وقد ج َّد ارتحالى وغرَّدت
ومن أشعاره اإلخوانية التى وصف فيها ليلة جمعت من أصحابه كل ذى مكانة
وفضل وجاه:
غرا َء جامعة السرورْ َس َم َح الزمانُ بليل ٍة
قَطفَ األمانى والحبور ْ
أجنت ُّ
أكف جُناتِها
فيما تقدم من دهور ما فضَّ طينُ ختامها
بمثل أشباه البدور دارت على فلك السعود
حاز إرثًا عن أمير ما إن ترى إال أميرًا
وثَ َووْ ا بها عوض السرير تَخ ُذوا القلوب أسرة
()2
دوولَت األمور
وإن تُ ِ فعليهم وقف العال ُء
لقد اهت َّم األمير على بن يوسف بالقاضى عياض لما كان شابا وظهر ذكاؤه وانتشر
صيته ،فأكرمته دولة المرابطين ,وهيأت له األجواء للمزيد ِمن التحصيل والتفقه فى
1
() المغرب واألندلس ،د .مصطفى الشكعة ،ص (.)146-139
2
() المصدر السابق ،ص (.)149
159
الدين.
وكان القاضى عياض ال يحب كثرة األسفار واالرتحال ،ويالحظ المتتبع لسيرته
وحياته أنه كان قليل االرتحال بالقياس إلى معاصريه وأترابه ِمن العلماء والفقهاء
وال ُم َحدِّثين ،وكانت له نظرية عجيبة فى ذم السفر وبيان أضراره وعيوبه نظمه فى
الشعر ،وخالفه كثير ِمن العلماء فى نظرته المتفردة وإليك األبيات التى ذكرها فى ذم
السفر:
نجاةً ففى األسفار سب ُع عوائق تقعَّد عن األسفار إن كنت طالبًا
وأعظمها يا صاح سُكنى الفنادق تشوفُ إخوا ٍن وفق ُد أحب ٍة
أموال وخيفةُ سارق
ٍ وتبذي ُر ش وقلةُ مؤن ٍ
س وكثرةُ إيحا ٍ
وأعقبه دهر شدي ُد المضايق فقد كان ذا دهرًا تقادم عهده
()1
وجرِّ ب ففى التجريب عل ُم الحقائق فهذه مقالى والسالم كما بدا
وهذه فلسفة غريبة فى األسفار أخالف القاضى عياض – رحمه هللا – فيها ،إال
أنَّنى أقول إن اإلنسان فى أسفاره العلمية أو التجارية عندما يقضى مآربه عليه أن ينتقل
إلى غيرها ,حتى يحقق أهدافه ويرجع إلى وطنه وقومه غان ًما سال ًما مفيدًا ألهله
وشعبه ,وقد ذكر العلماء فى األسفار فوائد فقال الشافعى رحمه هللا:
وسافر ففى األسفار خمسُ فوائد تغرَّب عن األوطان فى طلب العلى
()2
وعل ٌم وآداب وصحبةُ ماج ٍد تفرج ه ِّم واكتسابُ معيش ٍة
ب
يجر لم يط ِ
إن ساح طاب وإن لم ِ إنِّى رأيت وقوف الماء يفسده
القوس لم يُصب
ِ والسه ُم لوال فِرا ُ
ق واألس ُد لوال فرا ُ
ق األرض ما افترست
()3
لملها النَّاس من عُجم ومن عرب
َّ والشمسُ لو وقفت فى الفلك دائمة
1
() انظر :النبوغ المغربي ،عبد هللا كنون( ،ج.)3/131
2
() ديوان الشافعي ،ص (.)57
3
() ديوان الشافعي ،ص (.)34
160
وكان ِم َّمن عاصر القاضى عياض العالمة الشيخ يعلى أبو جبل ,وكان له رأى
يخالف رأى القاضى عياض فى السفر نظمه فى هذه األبيات:
َفرُبَّ فائد ٍة تُلقى مع السفر سافر لتكسب فى األسفار فائدة
نصحًا ولو كنت بين الظل والشجر وال تُقم بمكان ال تُصيبُ به
()1
علم تك َّسبَهُ فى صحبة الخضر فإن «موسى» كليم هللا أعوزهُ
وتشو ٌ
ق متوق ُد الجمرات عندى ألجلك لوعة وصابة
ت
لقطين تلك الدار وال ُحجُرا ِ لكن سأهدى من جميل تحية
وله أبيات يصف فيها نفسه وشوقه إلى وطنه قالها فى مدينة «داي» ببالد المغرب
سنة 541هـ ،وكان قد ناهز الخامسة والستين ِمن العمر ،وكان مرغ ًما على البقاء فيها
ممنوعًا للرجوع إلى بالده فى زمن دولة ال ُم َوحِّ ِدين.
يعلم هللا وأنا أمر على هذه األبيات التى فجرت األحزان فى نفسي ،وألهبت
مشاعرى وهيجت األشواق إلى مدينتى «بنغازي» ومنطقتى «الحدائق» ،وذكرتنى
ببالدى العزيزة ليبيا ما تملكت دموع الشوق إلى مسقط رأسى الذى طالت مدة غيابى
عليه أكثر من أربعة عشر عا ًما نصفها مسجونًا فى بالدي ,والنصف اآلخر قضيتها
متنقالً بين البلدان ،ولم تكن تهمتى التى كلفتنى هذه العقوبة القاسية التى أحتسبها عند
هللا إال أن رضيت باهلل ربا وباإلسالم دينًا وب ُم َح َّمد نبيًا ورسوالً ×.
1
() المغرب واألندلس ,ص (.)150
2
() المصدر السابق نفسه.
3
() أزهار الرياض( ،ج.)4/180
161
إن أبيات القاضى عياض فى غربته أضفت على وأنا أترجم حياته مسحة ِمن
الحزن ,ولوعة ِمن األسى ,وإحساسًا بالحنين إلى أهلى ووطني ،وأحبتى وإخواني،
فقال القاضى – رحمه هللا – وهو يحاور حمامة مرَّت به:
أخا شجى بالنوح أو بغناء طارحى
ِ أقمرية األدواح باهلل
وخَرق بعيد الخافقين قوا ِء فكم من فال ٍة بين «داي» و «سبتة»
1
( )2المصدر السابق نفسه ,ص (.)150 () انظر :المغرب واألندلس ,ص (.)150 2
3
() انظر :أزهار الرياض( ،ج.)3/10
162
والظل ُم بين العالمين قدي ُم ظلموا عياضًا وهو يَحْ لُ ُم عنهم
كى يكتموه فإنَّه معلوم جعلوا مكانَ الرا ِء عينًا فى اسمه
()1
والروض حول فنائِها معدوم ْ
فاحت بطائ ُح سبتة لواله ما
وانتقل القاضى عياض إلى غرناطة ممتثالً ألمر األمير فهبَّ أهل غرناطة
الستقباله كما يستقبل الفاتحون ،وباهلل إنه لحق فاتح للعقول ,ومنور للقلوب ,ومطهر
للنفوس بعلمه الغزير ،و ُخلُقه المتواضع وسيرته العطرة.
وسار فى النَّاس سيرة العدل ،ورفع الظلم ،وإحقاق الحقوق دون خوف من أمير
أو وزير ،ونشط وضاق به ذرعًا َمن تعرَّضت مصالحه للخطر ،وال يستطيع الحصول
عليها إال بالظلم ،وأسفرت مكايد األشرار فى غرناطة عن عزل القاضى النزيه فى
عام 532هـ ,ورجع إلى بلده ليكون بعيدًا عن القضاء قريبًا لطالب العلم وحلقاته,
وقصده النَّاس وانتفع به العباد ,ونشر نور الكتاب والسنة فى البالد ،واستم َّر على تلك
الحالة الدعوية سبع سنين ،وفى أواخر دولة المرابطين عام 539هـ دعى ليتولَّى قضاء
سبتة من جديد ،وهو فى الثالثة والستين من عمره ،وكان شي ًخا جليالً وعال ًما عظي ًما،
وقاضيًا حكي ًما ,وأبًا رحي ًما ،فابتهج النَّاس لعودته ,وسار فيهم سابق سيرته ،وما مضت
شهور قليلة حتى سقطت دولة المرابطين على يد دولة ال ُم َو ِّح ِدين البدعية فاضط َّر
القاضى الجليل إلى خوض الحياة السياسية والحربية(.)2
د -معارك السياسة والحرب:
إن ظهور دولة ال ُم َو ِّح ِدين على يد المبتدع الكبير ُم َح َّمد بن تومرت كانت من
أسباب سقوط دولة المرابطين ،فطبيعى ج ًّدا أن يخوض حربًا ضد دولة ال ُم َوحِّ ِدين،
وتولَّى قيادة جيوش ال ُم َو ِّح ِدين عبد المؤمن بن على الذى استطاع بجيشه أن يحتل مدن
المغرب مثل فاس ومراكش وغيرهما.
ورأى القاضى عياض أن المصلحة العليا لمدينة سبتة وأهلها أن يبايع عبد المؤمن
حفاظًا على األعراض واألموال ،وتجنيب المدينة ِمن الدمار الشامل ,وقبل أمير
ال ُم َو ِّح ِدين تلك البيعة االضطرارية ،وما أن قام ُم َح َّمد بن هود بثورته على ال ُم َو ِّح ِدين
حتى استجاب أهل سبتة لذلك بزعامة القاضى عياض ،وقام السبتيون بقتل عامل
ال ُم َو ِّح ِدين وأصحابه ،وسار القاضى عياض إلى يحيى بن على المسوفى المعروف
بابن غانية فى قرطبة وبايعه ،وكان متمس ًكا بدعوة المرابطين ,وطلب منه أن يُعيِّن
واليًا على سبتة فبعث معه يحيى بن أبى بكر الصحراوى ،وأصبحت بذلك مدينة سبتة
خارجة عن دولة ال ُم َو ِّح ِدين ,وعادت إلى حكم المرابطين.
إال إن جيوش ال ُم َو ِّح ِدين استطاعت إخضاع مدينة سبتة وأهلها ,وأعادوا البيعة من
جديد لل ُم َو ِّح ِدين الذين قبلوا ذلك ,واشترطوا إبعاد القاضى عياض عن مدينته إلى
مراكش ،وقيل تدال ,إلى أن توفاه هللا تعالى.
1
() انظر :المغرب واألندلس ،ص (.)162
2
() المصدر السابق ,ص (.)162
163
إن موقف القاضى عياض كان منسج ًما مع عقيدته وعلمه ودعوته فى محاربته
لل ُم َو ِّح ِدين الذين اعتقدوا عصمة إمامهم ُم َح َّمد بن تومرت ،وغير ذلك ِمن العقائد
البدعية التى سنفصِّلها بإذن هللا تعالى عند كالمنا عن ال ُم َو ِّح ِدين.
إن القاضى عياض ليس من أهل السنة وحسب ،ولكنَّه فقيه أهل السنة آنذاك على
اإلطالق ،وهو كذلك يرى وجوب الوقوف أمام دعوة ابن تومرت ،وينبغى التخلُّص
منها حتى حانت أول فرصة ،وإن يكن قد بايع فالبيعة آنذاك كانت حفاظًا على سالمة
بلدته وأهلها ،أما وقد الحت الفرصة بخروج بعض المدن على سلطان ال ُم َوحِّ ِدين القائم
على بدعة اإلمامة المعصومة ،أما وقد جرت الريح بما ال تشتهى السفن؛ فإن ِمن العقل
االستسالم ثم المبايعة وله حكم المضطرِّ فى ذلك.
وإن سلطان ال ُم َو ِّح ِدين عبد المؤمن كان على مقدرة عجيبة ِمن الدهاء والمكر ،ولذلك
رأى لمصلحة دولته أن يضع الفقهاء والعلماء الذين يشك فى والئهم له فى مراكش،
ومنعهم ِمن العودة إلى بالدهم ،أو يضعهم فى مدن أخرى ليخدموا مخططات الدولة
الناشئة(.)1
هـ -وفاة القاضى عياض:
()2
توفى رحمه هللا فى منفاه بعيدًا عن وطنه فى عام 544هـ ودفن فى مراكش،
فعليه ِمن هللا الرحمة والمغفرة والرضوان على ما ق َّدمه لإلسالم.
هؤالء بعض العلماء الذين كان لهم سبق ومكانة فى دولة المرابطين ,وانتفع
النَّاس بعلمهم وفقههم ،ترجمت لهم ترجمة متواضعة ,كما برز فى علوم الفقه
والحديث كثير ِمن العلماء وال ُم َحدِّثين فى عصر دولة المرابطين منهم :أبو الحسن
على بن عبد الرحمن المعروف بابن أبى حقون وله مختصر فى أصول الفقه سماه
«بالمقتضب األشفى فى أصول المستصفى» ,ومنهم أبو ُم َح َّمد عبد هللا بن على بن
عبد هللا بن خلف بن أحمد بن عمر اللخمي ،ويعرف بالرشاطي ،وكانت له عناية
بالحديث والرجال والرواة والتواريخ ،وله كتاب سماه «اقتباس األنوار ،والتماس
األزهار فى أنساب الصحابة ورواة اآلثار» ،ومنهم أيضً ا أبو عبد هللا بن ُم َح َّمد بن
حسين بن أحمد بن ُم َح َّمد األنصاري ،وأبو جعفر أحمد بن عبد الصمد بن أبى
عبيدة بن ُم َح َّمد الخزرجي ،وقد ألف كتابًا فى أحكام الرسول × سماه «آفاق
الشموس وأعالق النفوس» ،وكتابًا آخر سماه «مقاطع الصلبان ومراتع رياض
أهل اإليمان» ،وأبو ُم َح َّمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية
المحاربى وله كتاب يُسمى «بالوجيز فى التفسير» ,وكذلك برز فى عصر على بن
يوسف ِمن الفقهاء وعلماء الحديث :أبو عبد هللا ُم َح َّمد بن حسين بن أحمد
األنصارى المعروف بابن أبى أحد عشر ،وأبو عبد هللا ُم َح َّمد بن أحمد بن سعيد بن
يربوع بن سليمان ،وأبو الوليد يوسف بن عبد العزيز بن يوسف بن عمر
المعروف بابن الدباغ ،وأبو عبد هللا
ُم َح َّمد بن أحمد بن خلف بن إبراهيم التجيبى المعروف بابن الحاج قاضى
الجماعة بقرطبة.
1
() سير أعالم النبالء( ،ج.)20/217
2
() سير أعالم النبالء( ,ج.)2/217
164
***
165
المبحث الرابع
علوم اللغة فى زمن المرابطين
ونبغ فى علوم اللغة فى عصر على بن يوسف عدد كبير ِمن العلماء المبرزين فى
النحو وعلوم اللغة نذكر منهم :أبا ُم َح َّمد ,عبد هللا بن ُم َح َّمد بن السيِّد البطليوسى النحوى
ت 521هـ ،وكان حجة فى علمه عال ًما متبحرًا فى النحو وعلوم اللغة ،وكان النَّاس
يجتمعون إليه ويقرأون عليه ،ومن تواليفه كتاب «االقتضاب فى شرح أدب الكتاب»,
وكتاب «التنبيه على األسباب الموجبة الختالف األمة» ,وكتاب آخر فى شرح الموطَّأ,
باإلضافة إلى ذلك كان شاعرًا مطبوعًا فمن نظمه قوله:
وأوصاله تحت التراب رميم أخو العلم حي خالد بعد موته
يظن ِمن األحياء وهو عديم ش على الثرى
وذو جهل ميت وهو ما ٍ
ومن أئمة اللغويين وأعالمهم فى عصر على بن يوسف ،أبو الحسن على بن أحمد
بن خلف األنصارى النحوي ،وقد كان من أهل المعرفة باآلداب واللغة ،متقد ًما فى علم
القراءات ،وأبو ُم َح َّمد بن أحمد بن عبد هللا بن ُم َح َّمد بن أحمد بن عبد هللا النحوى
المعروف بابن اللجاش ،وكان عال ًما متبحرًا فى النحو ،وأبو العبَّاس أحمد بن عبد
الجليل ابن عبد هللا المعروف بالتدميرى ت 555هـ ،ومن تواليفه «نظم القرطين وضم
أشعار السقطين» وجمع فيه أشعار «الكامل» للمبرد و «النوادر» ألبى على البغدادي،
كما له كتاب «التوطئة فى العربية» وله شرح على كتاب الفصيح لثعلب ،وله فى
شرح أبيات جمل الزجاجى كتاب سماه «شفاء الصدور» ،وكتاب «الفوائد والفرائد»،
ومنهم أبو العبَّاس أحمد بن عبد العزيز بن هشام بن غزوان الفري ،وكان من أهل
المعرفة بالنحو واللغة والعروض ,وله أرجوزة مزدوجة فى قراءة نافع وثانية فى
()1
قراءة ابن كثير ،ومن تواليفه كتاب «فوائد اإلفصاح عن شواهد اإليضاح»
***
المبحث الخامس
علوم التاريخ والجغرافيا فى عصر المرابطين
ظهر فى عصر المرابطين عدد كبير من أعالم الرواية والكتابة التاريخية
نذكر فى مقدمتهم :أبو زكريا بن يحيى بن يوسف األنصارى الغرناطى
المعروف بابن الصيرفى ،كان من أعالم عصر على بن يوسف فى البالغة
واألدب والتاريخ ،كتب بغرناطة عن األمير تاشفين بن على بن يوسف أيام أن
كان واليًا على األَ ْن َدلُس ،وألَّف فى تاريخ األَ ْن َدلُس فى العصر المرابطى كتابًا
سماه «األنوار الجلية فى تاريخ الدولة المرابطية» ،وكتابًا آخر سماه «قصص
األنباء وسياسة الرؤساء» ,وهما مؤلفان لم يصال إلينا مع األسف ،ولم يصل
1
() تاريخ المغرب واألندلس ،ص (.)400- 398
166
إلينا من مؤلفاته األولى سوى شذور نقلها المتأخرون مثل ابن الخطيب خاصة
روايته عن غزوة ألفونسو المحارب لألَ ْن َدلُس سنة 519هـ1125/م ،وقد توفى
ابن الصيرفى بغرناطة فى سنة 570هـ ،وهناك أيضً ا أبو الحسن على بن بسام
الشنترينى (ت542هـ) صاحب كتاب «الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة»,
وهذا الكتاب موسوعة أدبية تاريخية يتضمن تراث القرن الخامس الهجرى/
الحادي عشر الميالدي ،وأبو عبد هللا ُم َح َّمد بن خلف بن الحسن بن إسماعيل
الصدفي ،ويعرف بابن علقمة ,وهو من أهل مدينة بلنسية وله كتاب س َّماه
«البيان الواضح فى الملم الفادح» وتوفى ابن علقمة عام 509هـ1114/م ،وأبو
طالب عبد الجبار عبد هللا ابن أحمد بن أصبغ ،وله كتاب يسمى «عيون اإلمامة
ونواظر السياسة» ،وأبو عامر ُم َح َّمد بن أحمد بن عامر البلوى المعروف
بالسالمي ،وقد ألَّف كتابًا فى التاريخ سماه «درر القالئد وغرر الفوائد» ،وأبو
نصر الفتح بن ُم َح َّمد القيسى اإلشبيلي ،والمعروف بالفتح بن خاقان ،ومن
تواليفه كتاب «قالئد العقيان فى محاسن األعيان» ،وكتاب «مطمع األنفس
ومسرح التأنس» ,وكتاب «رواية المحاسن وغاية المحاسن» ,وأبو القاسم
خلف بن عبد الملك ويعرف بابن بشكوال ،وكان من أعالم المؤرخين فى
عصر المرابطين ،وأشهر تواليفه كتابه المعروف «بالصلة» ،الذى جعله تتمة
لكتاب ابن الفرضى فى تاريخ علماء األَ ْن َدلُس ،ومن تواليفه أيضً ا كتاب
«الغوامض والمبهمات» فى اثنى عشر جز ًءا ،وكتاب «المحاسن والفضائل
فى معرفة العلماء األفاضل» فى واحد وعشرين جز ًءا وقد توفى ابن بشكوال
فى رمضان 578هـ.
وفى مجال الجغرافية نبغ عدد من كبار جغرافى األَ ْن َدلُس والمغرب فى عصر
المرابطين نذكر منهم :الشريف أبو عبد هللا ُم َح َّمد اإلدريسي ,صاحب كتاب «نزهة
المشتاق فى اختراق اآلفاق» ،وقد ألَّف اإلدريسى لرجار الثَّانِى صاحب صقلية ،ولذا
يُعرف هذا الكتاب فى كتب الجغرافية العربية باسم الرجاري.
ومن جغرافيى عصر المرابطين عبد هللا بن إبراهيم بن وزمر الحجارى صاحب
كتاب «المسهب فى غرائب المغرب» ،وقد اتخذ بنو سعيد كتابه أساسًا لكتابهم
المعروف باسم «المغرب فى حلى المغرب»(.)1
***
1
() تاريخ المغرب واألندلس ،ص (.)403-401
167
المبحث السادس
علوم الطب فى عصر المرابطين
تقدمت العلوم الطبية والصيدالنية فى عصر المرابطين تقد ًما يشهد له
األسماء واألعالم التى تألقت فى حضارة األَ ْن َدلُس والمغرب ،وأشهرها ابن
زهر وهو اسم طبيب أَ ْن َدلُسى من أعظم أطباء اإلسالمِ ،م َّمن تركوا بصماتهم
واضحة فى تاريخ الحضارة اإلنسانية جمعاء ،وينتسب أبو مروان عبد الملك
بن زهر إلى أسرة أَ ْن َدلُسية لمعت فى ميدان الطب والعلوم الطبيعية والكيميائية,
عميدها األكبر هو أبو مروان عبد الملك ابن الفقيه ُم َح َّمد بن مروان بن األزهر
األيادى اإلشبيلي ،وكان والده الفقيه محمد بن مروان من جلة الفقهاء المتميزين
فى علم الحديث فى إشبيلية ،وقد رحل أبو مروان فى شبابه إلى المشرق وسمع
فى القيروان ومصر ،وتتلمذ علىأيدى علماء المشرق فى الطب ،ورجع إلى
األَ ْن َدلُس ،وأصبح من أشهر علماء الطب فيها ,وتوفى فى إشبيلية ،وورثه فى
علم الطب ابنه أبو العالء الذى تبوأ مكانة عظيمة فى دولة المرابطين ،ومن
تواليفه «الخواص» وكتابه «األدوية المفردة» وكتاب «اإليضاح بشواهد
االفتضاح» فى الرد على ابن رضوان فيما رده على حنين بن إسحاق فى
كتاب المدخل إلى «الطب» ،وكتاب «النكت الطبية» ،وكتاب «الطرر» ومقالة
وحمل إلى إشبيلية فى تركيب األدوية ،وتوفى أبو العالء فى قرطبة 525هـُ ,
ودفن بها ،وأمر األمير على بن يوسف بجمع كتبه ونسخها ،وتم ذلك عام
526هـ ,وورث ابنه أبو مروان من والده صناعة علوم الطب ،ونبغ فى هذا
المجال ،ولم يكن فى زمانه َمن يماثله أو ينافسه ،وكان له حظوة لدى األمراء
المرابطين ،فقد صنف لألمير أبى إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين كتابًا
سماه «االقتصاد فى صالح األجساد» ،ومن تواليفه أيضً ا كتاب «التيسير فى
المداواة والتدبير» وقد ألفه القاضى أبو الوليد بن رشد وهذا الكتاب يُعد من
أعظم مراجع الطب فى العصور الوسطى ،وله أيضً ا كتاب «األغذية» ،ومقالة
فى علل الكلى ،ورسالة فى علتى البرص والبهق ،وتوفى هذا العالم فى عام
557هـ فى إشبيلية.
ومن األطباء الذين برعوا فى عصر على بن يوسف :أبو عامر ُم َح َّمد بن أحمد بن
عامر البلوي ،وله فى الطب كتاب سماه «الشفا» ,وأبو الحسن على بن عبد الرحمن بن
سعيد السعدى وغيرهم.
ومما يؤكد اهتمام دولة المرابطين بالطب وجود منصب يعرف برئيس الصناعة
الطبية ,وهو منصب هام يقابل ما نطلق عليه اليوم اسم وزير الصحة ،إذ كان فيما يبدو
المسئول األول أمام األمير فى صناعة الطب ,وما يتعلق بها ِمن األدَويَة والعقاقير(.)1
***
1
() تاريخ المغرب واألندلس ،ص (.)409-407
168
المبحث السابع
أسباب سقوط دولة المرابطين
الملذات والشهوات عند ُح َّكام المرابطين َّ -1ظهور روح الدعة واالنغماس فى
ُ ْ َ
وأمرائهم فى أواخر عصر على بن يوسف ،وكان للمجتمع األن َدلسى تأثير ال
ينكر فى قادة وأمراء وحكام دولة المرابطين الذين استجابوا لنزوات شهواتهم
كوانغمسوا فى الحياة الدنيا ،فتحقَّق قول هللا تعالىَ ﴿:وإِذَا أ ََر ْدنَا أَن ُّن ْهلِ َ
اها تَ ْدِم ًيرا﴾ َق ْريَةً أ ََم ْرنَا ُم ْت َرفِ َيها َف َف َس ُقوا فِ َيها فَ َح َّق َعلَْي َها الْ َق ْو ُل فَ َد َّم ْرنَ َ
[اإلسراء.)1( ]16:
يقول سيِّد قطب رحمه هللا« :والمترفون فى ك ِّل أ َّمة هم طبقة الكبراء الناعمين
الذين يجدون المال ،ويجدون الخدم ،ويجدون الراحة ،فينعمون بالدعة والراحة،
وبالسيادة حتى تترهل نفوسهم وتأسن ،وترتع فى الفسق والمجانة وتستهتر بالقيم
والمقدسات والكرامات ،وتلغ فى األرض والحرمات ،وهم إذا لم يجدوا َم ْن يَضْ ِربُ
على أيديهم عاثوا فى األرض فسادًا ،ونشروا الفاحشة فى األمة وأشاعوها ،وأرخصوا
القيم العليا التى ال تعيش الشعوب إال بها ولها ،ومن ثَ َّم تتحلل األمة وتسترخي ،وتفقد
حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوى صفحتها.»..
واآلية تقرر سنة هللا هذه فى إهالك َمن انغمس فى الشهوات ،وأسرف فى
الملذات ،وتحلل ِمن القيم واألخالق والزم الفسق واالنحالل والفساد.
-2ظهور السفور واالختالط بين النساء والرجال ،وبدأت دولة المرابطين فى
هرها وصفا َءها الذى اتصف به جيلهم آخر عهد األمير على بن يوسف تفقد طُ َ
األول ،مما جعل الرعية المسلمة تتذمر من هذا االنحراف والفساد ،وتستجيب
لدعوة ُم َح َّمد بن تومرت الذى أظهر نفسه للناس بالزاهد والنَّاسك واآلمر
بالمعروف والناهى عن المنكر.
-3انحراف نظام الحكم عن نظام الشورى إلى الوراثى الذى سبب نزاعًا عنيفًا
على منصب والية العهد بين أوالد على بن يوسف ،كما تطلع مجموعة ِمن
األمراء إلى منصب األمير على ونازعوه فى سلطانه مما سبب تمزقًا داخليًا،
ففقدت الدولة المرابطية وحدتها األولى ،وكثرت الجيوب الداخلية فى كيان
الدولة ،وتفجرت ثورات عنيفة فى قرطبة ،وفى فاس وغيرهما ساهمت فى
إضعاف الوحدة السياسية وإسقاط هيبة الدولة المرابطية.
-4الضيق الفكرى الذى أصاب فقهاء المرابطين وحجرهم على أفكار النَّاس,
ومحاولة إلزامهم بفروع مذهب اإلمام مالك وحده ،وعملوا على منع بقية
المذاهب السنية تعصبًا لمذهبهم ،وكان لفقهاء المالكية نفوذ كبير مما جعلهم
يوسعون تعصبهم وتحجرهم الفكري.
ويرى بعض المؤرخين أن التعصب األعمى عند فقهاء المرابطين فى زمن األمير
1
() تاريخ المغرب واألندلس ص (.)409-407
169
على ابن يوسف كان السبب األول فى سقوط دولة المرابطين( ،)1لقد أسهم فقهاء
المالكية فى دولة المرابطين بقسط وافر فى تذمر الرعايا ،وإضعاف شأن اإلمارة ،لقد
استغل بعض الفقهاء نفوذهم من أجل جمع المال وبناء الدور ،وامتالك األرض،
وعاشوا حياة البذخ والرفاهية المفرطة ،وكان ذلك سببًا فى إيجاد ردة فعل عنيفة عند
أفراد المجتمع المرابطي ،وانبرى الشعراء فى تصوير حال الفقهاء فى تلك الفترة،
فقال أبو جعفر أحمد بن ُم َح َّمد المعروف بابن البني:
كالذئب أدلج فى الظالم العاتم أهل الرياء لبستم ناموسكم
وقسمتم األموال بابن القاسم فملكتم الدنيا بمذهب مالك
()2
وبأصبغ صبغت لكم فى العالم وركبتم شهب الدواب بأشهب
-5ومن أهم العوامل التى أسقطت دولة المرابطين :فقدها لكثير من قياداتها
وعلمائها العظام أمثال سير بن أبى بكر ،و ُم َح َّمد بن مزدلي ،و ُم َح َّمد ابن
فاطمة ،و ُم َح َّمد بن الحاج ،وأبى إسحاق بن دانية ،وأبى بكر بن واسينو ..فمن
لم يستشهد من كبار رجال الدولة أدركه الموت الطبيعي ،ولم يستطع ذلك
الجيل أن يغرس المبادئ والقيم التى حملها فى الجيل الذى بعده ،فاختلفت
قدرات الجيل الذى بعدهم واستعداداتهم ،وهذا درس مهم ألبناء الحركات
اإلسالمية فى أهمية توريث التجارب والخبرات المتنوعة والمتعددة لألجيال
المتالحقة(.)3
-6ومن أهم العوامل التى أنهكت دولة المرابطين ،أنها مرَّت بأزمة اقتصادية
حادة ،نتيجة النحباس المطر عدة سنوات ،وحلول الجفاف والقحط باألَ ْن َدلس
ُ
والمغرب ،وزاد من حدة األزمة االقتصادية أن أسراب الجراد هاجمت ما
بقى ِمن األخضر على وجه البالد مما هيأ الظروف النتشار مختلف األوبئة
بين كثير ِمن السكان ،ووقعت هذه األزمة فى الفترة الواقعة ما بين أعوام
524هـ530-م(.)4
-7ومن أهم األسباب الرئيسية فى زوال دولة المرابطين -فى نظرى – صدامها
المسلح مع جيوش ال ُم َوحِّ ِدين ،ورأيت أن أفرد له مبحثًا مستقالً( )5ويكون ذلك
عند دراسة دولة ال ُم َو ِّح ِدين إن شاء هللا.
***
1
() الزالقة بقيادة يوسف بن تاشفين ،ص (.)98
2
() انظر :سقوط دولة الموحدين ,للدكتور مراجع الغناي ،ص (.)31
3
() انظر :سقوط دولة الموحدين ,للدكتور مراجع الغناي ،ص (.)31
4
() المصدر السابق نفسه.
5
() المصدر السابق نفسه.
170
** * * نتائج البحث
إن فى معظم قبائل العالم اإلسالمى رجاالً لهم عقول راجحة وبعد نظر وتقدير -1
لألمور ،وفى أغلب األحيان يتولََّى أمر القبيلة أرجح النَّاس عقالً وأكثرهم جودًا،
وأعظمهم شجاعة ،وأخلصهم ألهله وعشيرته ،وشخصية األمير يحيى بن إبراهيم
الجدالى خير دليل على ما قلت ،ولذلك ِمن الدروس العميقة من هذا البحث هو
أهمية دور زعماء القبائل فى دعوة قبائلهم وعشائرهم ،وإيجاد الحماية الالزمة
للدعاة إلى هللا فى أوساط القبائل ،فعلى الحركات اإلسالمية العامة أن توثِّق
عالقتها مع هذه الشريحة ِمن المجتمع ،وتحرص على دعوتها لإلسالم لتنصهر
الربانية التى تبذل جهدها لتحكيم شرع هللا تعالى.
فى الدعوة َّ
الربانى والفقيه المالكى سيِّد الفقهاء فى القيروان فى
إن أبا عمران الفاسى العالم َّ -2
زمانه يعتبر هو واضع الخطوط العريضة لدولة المرابطين ،وكان – رحمه هللا –
يميز بين العمل العلنى فى الدعوة وفقهها وتعليم النَّاس ،وبين العمل السرى إلقامة
دولة سنية ،وكان رحمه هللا على اتصال بفقهاء أهل السنة فى مدن وقرى الشمال
اإلفريقي ،ولذلك لما تعرَّف أبو عمران الفاسى على األمير الصنهاجى يحيى بن
إبراهيم ،وعلم بأحوال قومه وحاجتهم لمنهج اإلسالم ومن يربيهم على ذلك ،اتصل
بأخيه الشيخ وجاج بن زلوا اللمطى فقيه المالكية بالسوس األقصى ،وكان فقيهًا
صالحًا يقيم بمدينة ملكوس ،وأطلعه على المهمة التى جاء من أجلها األمير يحيى،
فاختار لهذه المهمة تلميذه الذكى الفقيه العابد األلمعى عبد هللا بن ياسين الجزولى
صاحب العلوم المتنوعة والشخصية الجذَّابة التى تجرى فى دمائها صفات الدعاة
المتعددة ،وسار -رحمه هللا -وفق خطة محكمة بصبر وحلم وشجاعة فى قبائل
الملثمين.
نفذها اإلمام عبد هللا بن ياسين فى قبائل جزولةكانت مرحلة التعريف التى َّ -3
ولمتونة وغيرهما من أصعب المراحل ،وكادت تودى بحياته واستطاع أن يحارب
مظاهر الشرك والجهل فى مجتمع صنهاجة الصحراوي ،وأن يتحمل الكثير من
أجل تعليمهم اإلسالم وأركان اإليمان ومقامات اإلحسان.
وفى مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة اختار اإلمام عبد هللا بن ياسين -4
رباطه على مصبِّ نهر السنغال بعيدًا عن نفوذ األمراء وأصحاب الجاه واألموال،
وشكل نخبة صفوية ألزمها بلوائح تنظيمية ومبادئ سلوكية ،واجتهد فى تربيتها
وشكل منها مجلس الشورى.
وفى مرحلة المغالبة بعد أن أصبحت لإلمام ابن ياسين شوكة وقوة ومنعة ,استطاع -5
أن يقضى على قوة الشر فى قبائل لمتونة وجزولة وغيرها ،وأن يوحَِّدها على
منهج اإلسالم وعقيدة الرحمن ودعوة اإليمان.
كانت تربية عبد هللا بن ياسين ألتباعه رفيعة المستوى غرست فى نفوسهم حب -6
الشهادة ،والتلذُّذ بمتاعب الجهاد والحرص على هداية النَّاس ,واختار ألتباعه اسما ً
يدل على الرابطة السامية التى ربطت هذه الجموع التى كانت متناحرة وأصبحت
متآخية متعاونة أال وهى «المرابطون».
171
-7أصبح فقهاء المغرب األقصى واألحرار المتطلعون لتحكيم شرع هللا فى مدنهم
َّ
يتصلون بالمرابطين ،ويطلبون منهم مساعدتهم ألزالة الظُّلم الواقع عليهم من ُحكام
زناتة ،وبالفعل لبى المرابطون هذا النداء ,وتحركت جيوشهم القوية إلزالة المظالم
ونشر العدل ،والقضاء على دولة برغواطة الملحدة ،وعلى بقايا الروافض،
وأصبحت جبهاتهم متعددة نحو السنغال والنيجر ونحو فاس ومكناسة وطنجة،
وحققوا انتصارات رفيعة ودخلت أمم ِمن الزنوج والوثنيين فى اإلسالم.
-8استمرَّ اإلمام ابن ياسين يقود معارك التوحيد للمغرب األقصى من أجل إقامة دولة
سنية ،واستشهد فى تلك المعارك بعد أن ترك خلفه رجاالً آمنوا بسمو دعوتهم
وقدسية فكرتهم وروعة أهدافهم.
-9تولَّى قيادة المرابطين بعده اإلمام أبو بكر بن عمر الذى تميز بزهده وعبادته
وبساطته وحبه للجهاد واالستشهاد ،وكان إذا ركب للجهاد ركب معه 500ألف
مقاتل ِمن المرابطين ،فوضع هذا القائد الخطوة األولى لدولة المرابطين ,وأناب
ابن عمه يوسف ابن تاشفين على المغرب ،وتحرَّك بجيش عظيم نحو الصحارى
القاحلة لنشر اإلسالم فى النيجر والسنغال ومالي ،وأبلى بال ًء عظي ًما ,ودخلت أمم
وشعوب وقبائل ال يحصيها إال خالقها فى دين الفطرة ودعوة اإلسالم الخالدة ،ولما
رجع إلى ابن عمه األمير يوسف بن تاشفين فى المغرب وجده قد حقق فتوحات
عظيمة ،ووحَّد البالد ,وقضى على الفساد ،وأزال الظلم ونشر العدل ،فتنازل عن
اإلمارة البن عمه يوسف بعد أن أوصاه بتقوى هللا وذكَّره قدومه على هللا ،ثم
ودَّعه ,ودخل فى الصحراء الكبرى بجيشه الداعى إلى رضوان هللا وصراطه
المستقيم وأكرمه هللا بالشهادة فى قلب الصحراء الكبرى.
-10تولَّى أمير المرابطين األمير يوسف بن تاشفين؛ فنظم المدن ,وأرسى نظم الحكم,
وخطَّط للدولة المرابطية ،فشرع فى إنشاء دواوينها ومجالسها وإداراتها
وجيوشها ,ووضع األمراء والفقهاء والقضاة على المدن والقرى ،وأشرف على
مر بها على أنه قائد
تنفيذ أحكام هللا ،وأثبتت األيام والحروب والمحن التى َّ
عسكرى وسياسى ِمن الطراز األول ,وأحبه المرابطون والتفوا حوله وتطايرت
الركبان فى نشر سيرته وعدله وأحبه المسلمون.
-11أصاب المسلمين فى األَ ْن َدلُس أضرار جسيمة بسبب خنوع ملوك الطوائف
للنصارى وضعفهم فى الحكم ،مما عرض ممالك األَ ْن َدلُس ألطماع النصارى
الحاقدين الذين جاسوا خالل الديار فى األَ ْن َدلُس يقتلون ويذبحون ويسبون,
وأصبحت ممالك األَ ْن َدلُس اإلسالمية تتساقط فى أيديهم مدينة بعد مدينة ،وقرية
إثر قرية ،وحصنًا خلف حصن ،وركب المسلمين فزع عظيم فاضطرَّ ملوك
الطوائف أن يطلبوا الغوث والنصر ِمن األمير الربانى والقائد الميدانى يوسف
بن تاشفين ،وكان قرار ُح َّكام األَ ْن َدلُس فى استدعاء يوسف حكي ًما وتبَّناه الملك
المعتمد ابن عباد بكل ما يملك من حجة وقوة ،ولما قالوا للمعتمد سيضم األمير
يوسف إليه األَ ْن َدلُس ،فقال قولته المشهورة التى أصبحت مثالً رائعًا على ِّ
مر
العصور وكرِّ الدهور تتعلم منه األجيال الوفاء لدينها والوالء لعقيدتها حيث قال:
«رعى اإلبل وال رعى الخنازير» ،وقال المعتمد البنه :إن استدعاء األمير
172
يوسف أمر يرضى هللا تعالى ،ولن أكون أبدًا سببًا فى ضياع ديار المسلمين.
-12استجاب األمير يوسف لدعوة إخوانه فى العقيدة ,وعرض األمر على أهل
مشورته؛ وتحصل على موافقة العلماء والفقهاء ورجال الدولة المرابطية،
وحرك كتائب المرابطين بفرسانها الشجعان وجنودها األبطال وعبر المضيق،
وقاد األمير يوسف كتائب المسلمين فى األَ ْن َدلُس ،ووضع مع أركان جيشه خطة
محكمة للقضاء على جيش ألفونسو النصراني ،وسطر المرابطون فى تاريخ
الزالقَة ،وانتصر المسلمون وانهزم أمتنا مالحم العقيدة والفداء فى معركة ِّ
النصارى وحفظ هللا اإلسالم فى األَ ْن َدلُس لقرون بعد تلك المعركة التاريخية،
وبعد هذا النصر الرائع والنفيس الذى حققه المرابطون ورفعوا به راية اإلسالم
فى سماء األَ ْن َدلُس رجع األمير يوسف إلى المغرب ,وترك الغنائم لملوك األَ ْن َدلُس
الذين اختلفوا بعد ذلك وكادوا أن يضيعوا اإلسالم من جديد فى تلك الديار ،فطلب
فقهاء األَ ْن َدلُس ِمن األمير يوسف ضم األَ ْن َدلُس لحكم المرابطين ،وشجَّعه علماء
وفقهاء المغرب وتحصل على فتاوى من علماء المشرق من أمثال أبى بكر
الطرطوشى فى مصر ،وأبى حامد الغزالى فى العراق.
-13استطاع يوسف بن تاشفين أن يفتح مدن األَ ْن َدلُس ،وأن يضم الممالك إلى دولة
المرابطين ،وأسر بعض ملوك األَ ْن َدلُس الذين ثبت تعاونهم مع النصارى,
ووضعهم فى المغرب إلى أن توفاهم هللا ،وبذلك قضى على مهزلة ملوك
الطوائف.
لطخوا دولة المرابطين ,وخصوصًا األمير يوسف إال -14حاول المستشرقون أن ُي ِّ
َأنهم اصطدموا بحقائق التاريخ الناصعة التى دلَّت على عظمة األمير يوسف
ودولته الميمونة ,وحاول المستشرق رينهارت دوزى أن يشوِّه دولة المرابطين
ويصفها بالبربرية والتخلف ،ويصف السلطان على بن يوسف بالرجل التافه،
ويمدح ملوك الطوائف فى األَ ْن َدلُس الذين تحالفوا مع النصارى للقضاء على
حققوا وحدة وشن حملة مسعورة على جهاد المرابطين الذين َّ َّ اإلسالم والمسلمين،
صفوف المسلمين ،وهزموا أعداءهم النصارى ،وخلصوا المسلمين من هؤالء
الملوك الضعفاء ،لقد شتم دوزى المستشرق األمير يوسف ,ووصفه هو وابنه
بأنَّهم تافهون ،وأنا ال أستغرب من دوزى المستشرق أن يفقد توازنه ,ويخرج
عن نهج المؤرخين النزيه ،لقد كان المستشرق دوزى ملحدًا زنديقًا عد ًوا لإلسالم
والمسلمين ،كيف تريده أن يتحمل شعارات المرابطين الدالة على سمو عقيدتهم
وطهارة منهجهم ،وكأنى بالمستشرق دوزى وهو يقلب الدينار المرابطى
﴿و َمن َي ْبتَ ِغ غَْي َر ا ِإل ْسالَِم
والمكتوب على وجهيه «ال إله إال هللا ُم َح َّمد رسول هللا» َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ين﴾ ,وقد اشتاط غضبًا وفقد دينًا َفلَ ْن ُي ْقبَ َل م ْنهُ َو ُه َو فى اآلَخ َرة من ال َخاس ِر َ
عقله وغرق فى كفره ,فأباح لنفسه الكذب واالفتراء والزور ليهدئ من روعه
وانفعاله ،كيف يكون تافهًا من يوحد المغرب األقصى ويضم إليه األَ ْن َدلُس
ويقضى على ملوك الطوائف؟ لقد وصف المؤرخون المنصفون األمير يوسف
بأنه كان حاز ًما ضابطًا للنفس ماضى العزيمة عالى الهمة ،تحركه عقيدته
أما دولة المرابطين فقد أثبت التاريخ َّأنها دولة اإلسالمية وشريعته الربانيةَّ ،
173
أما ما قام به أعداؤها فى وصفها بالتخلف الحضارى حضارة وعلم وثقافةَّ ،
عار ِمن الحقائق ،وما كان
والتعصب المذهبى فهو قول باطل ال تسعفه األدلةٍ ،
دافع خصومهم ِمن ال ُم َو ِّح ِدين واألَ ْن َدلُسيين الذين حملوا عليهم حملة ظالمة إال من
باب التعصب الدينى أو المذهبي ،أو كراهية سياسية أو قومية حاولوا النيل من
دولة المرابطين السنية ،وتابع أولئك األقوام الذين مضوا بعض المستشرقين
ال ُم َحدثين أمثال المتعالم الحاقد الهولندى راينهارت دوزى ,وتابعه على ذلك نفر
ِمن المعاصرين أمثال ارشيبالد لويس فى كتابه «القوى البحرية والتجارية فى
حوض البحر المتوسط».
ُيعتبر ضم األَ ْن َدلُس إلى دولة المرابطين من أعظم أعمال األمير يوسف بن -15
تاشفين الجهادية.
كانت نظرة دولة المرابطين إلى الخالفة اإلسالمية العباسية فى بغداد صائبة -16
صحيحة ,لكونها منبثقة من منهج أهل السنة والجماعة ,ولذلك بايعوا الخليفة
العبَّاسي ,ورفعوا أعالمه وشعاره ،ودعوا له على منابرهم.
كانت عالقة الدولة المرابطية بالخالفة العبيدية فى مصر عدائية الختالف العقائد -17
والمناهج والمذاهب ،ولذلك حرص المرابطون على اقتالع بقايا الرفض والتشيع
من دولتهم.
كانت عالقة دولة المرابطين بالدولة الزيرية الصنهاجية ذات أبعاد استراتيجية -18
تعاونية ،بسبب وحدة المنهج والمعتقد والمذهب والقرابة التى بين زعماء
الدولتين ،ولذلك نجد تنسيقًا فى البحر المتوسط لإلغارة على أساطيل النصارى،
ونجد دع ًما اقتصاديًا فى دولة تميم بن المعز الزيرى لدولة المرابطين عندما
خاضوا جهادهم المقدس ضد النصارى.
حماد بالمرابطين فهى محفوفة بالتخوف ِمن الطرفين ،حيث نجد أما عالقة بنى َّ -19
ً
أن لبنى حمَّاد أطماعًا توسُّعية تستهدف أطرافا من دولة المرابطين ,كما نجد أن
استقروا فى حماية بنى حمَّاد ،إال أن سياسة
ُّ المعارضين األَ ْن َدلُسيين للمرابطين
األمير يوسف مع بنى حمَّاد تميَّزت بالحكمة وبعد النظر ,واالبتعاد عن الصدام,
مراعيًا فى ذلك أمورًا عديدة :منها قرابتهم ,واتحادهم فى المنهج والمعتقد
والمذهب.
كانت عالقة المرابطين مع ملوك النصارى عدائية ,أما مع أهل ال ِّذمة فكانت -20
محكومة بحكم الشريعة فيهم ،فقامت على العدل واإلنصاف.
كانت األَ ْن َدلُس مليئة بالشعراء واألدباء والفقهاء ,إال إن الوالء والبراء ضاع -21
مفهومه عند كثير من ملوكهم.
استطاع األَ ْن َدلُسيون أن ُيثروا دولة المرابطين بالشعراء واألدباء ،وأن يؤِّثروا فى -22
كثير من جوانبها المعمارية والفنية والثقافية.
الحضارة اإلسالمية فى زمن دولة المرابطين امتزجت بالعناصر اإلفريقية -23
والعربية واألَ ْن َدلُسية ,مما جعلها متميزة فى كثير من جوانبها الحضارية.
174
كان فى زمن المرابطين علماء وفقهاء ال زال أثرهم فى األمة ساريًا إلى يومنا -24
هذا ,من أمثال الفقيه القاضى أبو بكر بن العربي ،والوليد بن رشد ،والقاضى
عياض ،وال ُم َحدِّث الفقيه أبو على الصدفي ،وغيرهم كثير.
كان النظام العسكرى والقضائى واإلدارى والمالى مواكبًا لعصره ,منضبطًا -25
بأحكام اإلسالم فى دولة المرابطين.
استطاع أسطول المرابطين أن يحقق األمن واألمان لمسلمى الشمال اإلفريقي، -26
وأن ُيكبِّد النصارى فى جنوب البحر المتوسط خسائر هائلة.
إن اهتمام األمير على بن يوسف بالزهد والعبادة وتسليمه ألمور الملك فى آخر -27
كلف دولة المرابطين متاعب عظيمة ،ومن أعظم أيامه لألمراء خطأ عظيم َّ
األخطاء التى وقع فيها األمير على عدم أخذه بنصيحة وزيره الفقيه مالك بن
وهيب اإلشبيلى الذى أشار على األمير على بقتل ُم َح َّمد بن تومرت الكذَّاب زعيم
ال ُم َو ِّح ِدين ،وقال لألمير« :هذا رجل مفسد ال تؤمن غائلته ،وال يسمع كالمه أحد
إال مال إليه ،وإن وقع فى بالد المصامدة ثار علينا منه شر كبير».
إال أن األمير على بن يوسف رفض قتله ،فلما يئس مما أراد من قتل ابن
تومرت ،أشار عليه بسجنه حتى يموت ،فقال أمير المسلمين :نسجنه ,ولم يتعين
لنا عليه حق؟ وهل السجن إال أخو القتل ،ولكن نأمره يخرج عنا ِمن البلد,
وليتوجه
حيث شاء»(.)1
إن من أعظم أسباب سقوط الدول الذنوب والمعاصي ,وارتكاب الكبائر -28
والمظالم.
مقومات النصر متجسدة فى فى زمن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين كانت ِّ -29
دولته ،ومِن ْأبَين وأهم ما ظهر لى فى هذا البحث من مقومات النصر من أهمها،
أوالً :اإلعداد قبل المعركة ،ثانيًا :معرفة قوة العدو وإمكاناته ،والتوجيه المعنوي،
والتعمية على العدو ،والتحام القيادة مع الشعب ،ومتانة العقيدة ووضوحها،
القيادة المثلى ،عدم القتال لدنيا ،الحكمة فى اتخاذ القرارات ،صفات ال ُم َجا ِهدين
الخلقية والروحية ،مما مهَّدت لهم طريق النصر.
من أخطر ما تمرُّ به الدول والحركات عدم قدرتها على توريث أفكارها -30
ومناهجها وعقيدتها للجيل الذى بعدها.
إن االستهانة بالخصوم تؤدِّى إلى انهزام المستهزئ وانتصار المستهزأ به. -31
كان لنفوذ المرابطين فى بالد األَ ْن َدلُس أثر واضح المعالم فى الحروب الصليبية -32
فى الشام ،إذ أن دخولهم األَ ْن َدلُس منع الممالك الصليبية التى كانت تتجه إلى بالد
الشام ،بل إن ظهورهم فى تلك المرحلة التاريخية فى المغرب واألَ ْن َدلُس قد حال
دون اشتراك القوى األوروبية بكل ثقلها فى الحروب الصليبية فى الشرق،
1
() موسوعة المغرب العربي( ,ج.)189-2/188
175
وبذلك قدم المرابطون خدمات عظيمة وجليلة للشرق اإلسالمي(.)2
كانت حضارة المرابطين فى األَ ْن َدلُس والمغرب مقصدًا ألبناء العلم ِمن -33
األوروبيين الذين توالوا وتوافدوا على الأ َ ْن َدلُس لتلقى العلوم والصناعات ،بل إن
بعض ملوكهم أرسل بعثات لدراسة نظام الدولة والحكم وآداب السلوك ،وكل ما
يؤدى إلى سير األمور فى الدولة ,والسير بها فى مضمار الحضارة والتقدم.
تركت دولة المرابطين التى لم يصل عمرها الزمنى إلى مائة عام ,وهى فترة -34
قصيرة فى عمر الدول ,آثارًا واضحة جلية فى جميع المجاالت ,بل إن تلك
المآثر الحضارية تعدَّت حدود دولة المرابطين إلى أرجاء أخرى ِمن العالم
اإلسالمي.
إن ظهور دولة ال ُم َو ِّح ِدين وانقضاضها بعنف على دولة المرابطين تسبَّب فى -35
ضعف النواحى الحضارية والثقافية والسياسية والعسكرية عند المغاربة عمو ًما،
وفتحت مجاالً لملوك النصارى للقضاء على اإلسالم فى األَ ْن َدلُس فيما بعد.
إن لألفراد آجاالً محدودة ،وكذلك لكل دولة أجل محدود ,فإذا جاء أجلها ال -36
تستأخر وال تستقدم.
سنة هللا جارية فى إعزاز من يشاء وإذالل من يشاء ،ونزع الملك ِم َّمن يشاء -37
وإعطائه لمن يشاء.
***
2
() المصدر السابق نفسه.
176
الفهرس
الموضوع
الصفحة
اإلهداء 3......................................................................................
المقدمة5.......................................................................................
الفصل األول
بناء دولة المرابطين
المبحث األول :الجذور التاريخيّة للمرابطين 9..........................................
المبحث الثاني :األمير يحيى بن إبراهيم (الزعيم السياسي)15.........................
المبحث الثالث :أبو عمران الفاسي (مهندس الخطوط العريضة لدولة المرابطين)18....
المبحث الرابع :ال َّز ِعيم الدينى لدولة المرابطين عبد هللا بن ياسين21.................
المبحث الخامس :المراحل التى مر بها ابن ياسين لبناء الدولة36.....................
المبحث السادس :مرحلة التَّمكين والتوسع والقائد الرباني يوسف بن تاشفين59....
الفصل الثاني
المرابطون ودفاعاتهم عن مسلمى األَ ْن َدلُس
تمهيد 66...................................................................................... :
المبحث األول :الصراع بين طُلَي ِْطلَة وقُرْ طُبَة 68.........................................
المبحث الثاني :أسباب ضعف ال ُم ْسلِمين فى األَ ْن َدلُس وقوة النصارى72..............
المبحث الثالث :العالم فى زمن ظهور دولة المرابطين 80..............................
المبحث الرابع :أثَُر الحكم بما أنزل هللا على ُمجْ تَ َمع المرابطين 100....................
المبحث الخامس :األَ ْن َدلُس بعد الزالقة108..................................................
الموضوع
الصفحة
المبحث السادس :فتاوى فى جواز ضم األَ ْن َدلُس بالقوة والقضاء على ملوك الطوائف112...
المبحث السابع :العبور الثالث لألمير يوسف بن تاشفين لألندلس117..................
المبحث الثامن :الجواز الرابع لألمير يوسف في األندلس123...........................
المبحث التاسع :آثار االبتعاد عن تحكيم شرع هللا على ملوك الطوائف125...........
177
الفصل الثالث
والخارجيَّة فى دولة المرابطين
ِ السياسة ال َّداخليَّة
المبحث األول :حقوق الرعية فى دولة المرابطين128....................................
المبحث الثاني :موقف الرعية فى دولة المرابطين 133...................................
المبحث الثالث :موقف المرابطين من الخالفة العباسية137..............................
المبحث الرابع :عالقة األمير يوسف مع بنى حماد144...................................
المبحث الخامس :عالقة المرابطين مع ملوك الطوائف145..............................
المبحث السادس :عالقة المرابطين مع اإلسبان النصارى147...........................
الفصل الرابع
سياسة المرابطين فى دولتهم المجيدة
المبحث األول :نظم الحكم واإلدارة في دولة المرابطين149.............................
المبحث الثاني :النظام القضائي في دولة المرابطين160..................................
المبحث الثالث :النظم العسكرية165.........................................................
المبحث الرابع :النظام المالي في عصر المرابطين 182..................................
الفصل الخامس
أهم أعمال دولة المرابطين الحضارية
المبحث األول :اآلثار المعمارية فى المغرب واألَ ْن َدلُس183..............................
والعل ِميَّة فى دولة المرابطين186..........................
المبحث الثاني :الحياة األدبية ِ
الموضوع
الصفحة
المبحث الثالث :من مشاهير علماء دولة المرابطين 191..................................
المبحث الرابع :علوم اللغة فى زمن المرابطين205.......................................
اريخ والجغرافيا في عصر المرابطين206.................. المبحث الخامس :علوم التَّ ِ
المبحث السادس :علوم الطب فى عصر المرابطين208..................................
المبحث السابع :أسباب سقوط دولة المرابطين 210........................................
نتائج البحث 213.................................................................................
الفهرس221......................................................................................
***
178