You are on page 1of 178

‫صفحات من التاريخ اإلسالمي‬

‫في الشمال اإلفريقي‬

‫فقه التمكين عند‬


‫دولة المرابطين‬
‫تأليف‬
‫جميع الحقوق محفوظة‬

‫الطبعة األولى‪1427 :‬هـ ‪2006 -‬م‬


‫رقم اإليداع‪13403/2006 :‬‬
‫بطاقة الفهرسة‬
‫فهرسة أثناء النشر إعداد الهيئة المصرية العامة‬
‫لدار الكتب والوثائق القومية‬
‫إدارة الشئون الفنية‬
‫الصالبي‪ ،‬على محمد‪.‬‬
‫فقه التمكين عند دولة المرابطين‬
‫تأليف‪ /‬على محمد الصالبي‪ .‬ط‪ -1‬القاهرة‬
‫مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة ‪2006 ،‬‬
‫تدمك‪977 - 6119 - 84 -0 :‬‬ ‫‪ 224‬ص؛ ‪ 24‬سم‬
‫‪ -1‬المرابطون‬
‫‪953.0713‬‬ ‫أ‪ -‬العنوان‬

‫مركز السالم للتجهيز الفني‬


‫عبد الحميد عمر‬
‫‪01069626‬‬
‫‪47‬‬
‫مؤسسـة اقـــــرأ‬
‫للنشر والتوزيع والترجمة‬
‫‪ 10‬ش أحمد عمارة ‪ -‬بجوار حديقة الفسطاط‬
‫القاهرة ت‪ 5326610 :‬محمول‪0101175447 -0102327302:‬‬
‫‪www.iqraakotob.com‬‬
‫‪Email: info@iqraakotob.com‬‬
‫اإلهــــــداء‬
‫إلى أبناء ال َّش َمال اإلفريقى خصوصًا‪,‬‬
‫وأبناء األُ َّمة عمو ًما‬
‫أهدى هذا الكتاب سائالً المولى‬
‫عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى‬
‫أن يكون خالصًا لوجهه الكريم‬

‫اء َربِِّه‬ ‫ق‬


‫َ‬ ‫‪+‬فَمن َكا َن يرجو لِ‬
‫َْ ُ ِ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫صال ًحا َوالَ يُ ْشر ْك‬ ‫َفلَْي ْع َم ْل َع َمالً َ‬
‫َح ًدا" [الكهف‪.]110:‬‬ ‫ِبعب َ ِ ِ‬
‫ادة َربِّه أ َ‬ ‫َ‬
4
‫مقدمـــــــــة‬
‫إن الحمد هلل‪ ,‬نحمده‪ ,‬ونستعينه‪ ،‬ونستغفره‪ ,‬ونعوذ باهلل ِمن شرور أنفسنا‪ ،‬ومن‬
‫سيِّئات أعمالنا‪َ ,‬من يهده هللا فال ُمض َّل له‪ ،‬و َمن يُضلِل فال هادى له‪ ،‬وأَشه ُد أن ال إله إال‬
‫هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأشه ُد إن ُمحمدًا عبده ورسوله‪.‬‬
‫ن﴾ [آل‬ ‫آمنُوا َّات ُقوا اهللَ َح َّق ُت َقاتِِه َوالَ تَ ُموتُ َّن إِالَّ َوأَْنتُم ُّم ْسلِ ُمو َ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫﴿يَا أ َُّي َها الذ َ‬
‫عمران‪.]102 :‬‬
‫اح َد ٍة َو َخلَ َق ِم ْن َها َز ْو َج َها‬
‫س وِ‬ ‫َّ ِ‬
‫الذى َخلَ َق ُكم ِّمن َّن ْف ٍ َ‬ ‫َّاس َّات ُقوا َربَّ ُك ُم‬
‫﴿يَا أ َُّي َها الن ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وب َّ ِ‬
‫األر َح َام إن اهللَ َكا َن‬ ‫اءلُو َن بِه َو ْ‬
‫َو َّات ُقوا اهللَ الذى تَ َس َ‬ ‫ث م ْن ُه َما ِر َجاالً َكث ًيرا َون َس ً‬
‫اء‬ ‫ََ‬
‫ِ‬
‫َعلَْي ُك ْم َرقيبًا﴾ [النساء‪.]1:‬‬
‫صلِ ْح لَ ُك ْم أَ ْع َمالَ ُك ْم َو َيغْ ِف ْر‬
‫آمنُوا َّات ُقوا اهللَ َوقُولُوا َق ْوالً َس ِدي ًدا‬
‫يُ ْ‬ ‫‪‬‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫﴿يَا أ َُّي َها الذ َ‬
‫يما﴾ [األحزاب‪.]71-70 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لَ ُك ْم ذُنُوبَ ُك ْم َو َمن يُط ِع اهللَ َو َر ُسولَهُ َف َق ْد فَ َاز َف ْو ًزا َعظ ً‬
‫وبعد‪ :‬فإن أصدق الحديث كتاب هللا تعالى‪ ،‬وخير الهدي‪ ،‬هدى محمد ×‪ ,‬وش َّر‬
‫األمور محدثاتُها‪ ،‬وك َّل ُمحدث ٍة بدعة‪ ،‬وك َّل بدعة ضاللة‪.‬‬
‫أما بعد‪ :‬يا ربِّ لك الحم ُد كما ينبغى لجالل وجهك‪ ,‬وعظيم سلطانك‪ ,‬لك الحمد‬
‫حتى ترضى‪ ,‬ولك الحم ُد إذا رضيت‪.‬‬
‫اريخ اإلسالمى فى ال َّش َمال اإلفريقي) يتحدث عن دولة‬ ‫هذا الكتاب الرابع (صفحات من التَّ ِ‬
‫المرابطين السُّنيَّة منذ نشأتها وحتى سقوطها‪ ،‬ويتعرَّضُ لسنن هللا فى بناء الد َول وإحيا ِء‬
‫الشعوب‪ ،‬فيُع ِطى نبذة تاريخيّة عن أصول القبائل التى قامت عليها دولة المرابطين‪ ،‬فيتكلم عن‬
‫مواطنها‪ ,‬ومواقعها‪ ,‬وحياتها االجتماعية والسياسية واالقتصادية والدينية قبل دخول اإلمام عبد‬
‫هللا بن ياسين فى قلب الصحراء الكبرى لدعوة قبائل صنهاجة إلى اإلسالم‪ ,‬وكيف تعامل ذلك‬
‫اإلمام مع تلك القبائل‪ ،‬وجعل منها أ َّمةً تحمل اإلسالم عقيدةً ودعوةً ومنهجًا‪ ،‬كما يسلط هذا‬
‫الكتاب األضواء على زعماء دولة المرابطين ِمن أمثال األمير يحيى بن إبراهيم‪ ،‬واألمير أبى‬
‫بكر ابن عمر‪ ،‬ويوسف بن تاشفين‪ ,‬ويتكلم عن خط َسيْر المرابطين فى توحيد المغرب‬
‫األقصى‪ ،‬وتو ُّغلِهم ال َّدع َِوى فى جنوب المغرب نحو غانا ومالى وغيرها من ِد َول إفريقيا‪,‬‬
‫ويتحدث عن دفاع المرابطين عن مسلمى األَ ْن َدلُس‪ ,‬وأسباب ضعف ال ُم ْسلِمين هناك‪ ،‬وعن أثر‬
‫والخارجيَّة‪ ,‬وكيف أعطوا‬
‫ِ‬ ‫شرع هللا فى ُمجْ تَ َمع المرابطين‪ ،‬وعن سياستهم ال َّداخليَّة‬ ‫ِ‬ ‫تحكيم‬
‫حقوق الرعية من خالل دستور دولتهم السُّنيَّة‪ ،‬وما موقف الرعية من دولة المرابطين؟‬
‫ويتحدث عن عالقة دولة المرابطين بالخالفة العباسية‪ ،‬ودولة بنى حماد وملوك‬
‫الطوائف واإلسبان والنصارى‪ ،‬ويعطى نبذة مختصرة عن أنظمة الدولة المرابطية‪،‬‬
‫كنظام الحكم واإلدارة‪ ,‬والنظام القضائي‪ ,‬والنظام العسكري‪ ،‬والنظام المالي‪ ,‬ويدافع‬
‫عن دولة المرابطين ويبين مآثرها الحضارية من أعمال معمارية وحياة أدبيَّة علمية‬
‫وفقهية وتاريخيّة وجغرافية وطبية‪ ،‬ويجد القارئ الكريم فى ثنايا هذا البحث تركي ًزا‬
‫على معرفة سنن هللا‪ ,‬وكيفية التعامل معها ِمن خالل الوقائع التاريخيَّة‪ ,‬وأهمية العلماء‬
‫فى قيادة األمة نحو المجد والع َّزة والكرامة‪ ،‬وكيف حرصوا على األخ ِذ باألسباب‬
‫‪5‬‬
‫ُ‬
‫ويتحدث عن أهمية سنة التدرُّ ج فى‬ ‫الماديَّة والمعنويَّة التى حققت النَّصر على األعداء‪،‬‬
‫صوى فى تحقيق األهداف‬ ‫ُ‬
‫تغيير الشعوب وبناء الدول‪ ،‬ويعطى للتربية الربَّانية أهمية ق َ‬
‫العُظ َمى لألمة سواء على مستوى القادة فى أخالقهم وعلمهم وجهادهم‪ ,‬أو على مستوى‬
‫الشعوب فى استجابتها لكتاب ربِّها وسنة نبيِّها وقيادتها ال ُمخلصة‪.‬‬
‫وهذا الجهد المتواضع حاول أن يسلط األضواء على فقه التَّمكين ِمن خالل التحليل‬
‫والتفسير لألحداث التى وقعت فى دولة المرابطين‪.‬‬
‫والهدف من هذا الكتاب‪:‬‬
‫‪-1‬التعريف بزعماء دولة المرابطين ِمن أمثال‪ :‬عبد هللا بن ياسين‪ ،‬ويحيى بن‬
‫إبراهيم‪ ,‬وأبى بكر بن عمر‪ ,‬ويوسف بن تاشفين‪ ،‬وأبى عمران الفاسي‪.‬‬
‫اريخى لدولة المرابطين‪،‬‬ ‫‪ -2‬إظهار معا ٍن فى فقه التَّمكين من خالل المنظور التَّ ِ‬
‫فيوضح مراحل التَّمكين التى َمرَّت بها الحركة المرابطية إلى أن وصلت إلى الدولة‪،‬‬
‫وما األسباب التى اتخذوها والشروط التى حققوها؟ وما األهداف التى نفَّذوها ل َّما‬
‫وصلوا إلى ال ُح ْكم‪.‬‬
‫الدول‪ ,‬وعوامل بنائها‪ ،‬وأسباب‬ ‫‪ -3‬تسهيل َمبدأ االعتبار واالتعاظ بمعرفة أحوال َ‬
‫س وال ُمجْ تَ َمعات‪.‬‬ ‫سقوطها‪ ،‬والنظر فى سنن هللا فى اآلفاق‪ ،‬وفى األَ ْنفُ ِ‬
‫‪ -4‬االهتمام بمعرفة عقيدة أهل السنة والجماعة‪ ،‬وتربية أبناء األمة عليها‪،‬‬
‫وكيف كان اهتمام المرابطين بهذه العقيدة التى استمدوها من كتاب هللا وسنة رسوله ×‪.‬‬
‫‪ -4‬إثراء المكتبة اإلسالمية التاريخيّة باألبحاث المنبثقة عن عقيدة صحيحة‬
‫وتصور سليم بعيدة عن سموم المستشرقين‪ ،‬وأفكار العلمانيين الذين يسعون لقلب‬ ‫ُّ‬
‫الحقائق التاريخيّة من أجل خدمة أهدافهم‪.‬‬
‫أما خطة الكتاب‪ :‬فقد قمت بتقسيمه إلى خمسة فصول‪:‬‬
‫الفصل األول‪ :‬بناء دولة المرابطين ويشتمل على ستة مباحث‪:‬‬
‫المبحث األول‪ :‬الجذور التاريخية للمرابطين‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬األمير يحيى بن إبراهيم‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬أبو عمران الفاسي‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬ال َّز ِعيم الدينى عبد هللا بن ياسين‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬المراحل التى مر بها ابن ياسين لبناء الدولة‪.‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬مرحلة التَّمكين‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫الفصل الثانِي‪ :‬المرابطون ودفاعاتهم عن مسلمى األن َدلس‪.‬‬
‫ويشتمل على تسعة مباحث‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫المبحث األول‪ :‬الصراع بين طلَي ِْطلَة وقرْ طبَة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫المبحث الثاني‪ :‬أسباب ضعف ال ُم ْسلِمين فى األن َدلس‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬العالم زمن ظهور دولة المرابطين‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬أثَ ُر الحكم بما أنزل هللا على ُمجْ تَ َمع المرابطين‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬األَ ْن َدلُس بعد الزالقة‪.‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬الفتاوى فى جواز ضم األَ ْن َدلُس‪.‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬العبور الثالث لألمير يوسف بن تاشفين‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫المبحث الثامن‪ :‬الجواز الرابع‪.‬‬
‫المبحث التَّاسع‪ :‬آثار االبتعاد عن تحكيم شرع هللا‪.‬‬
‫والخارجيَّة فى دولة المرابطين‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الفصل الثالِث‪ :‬السياسة ال َّداخليَّة‬
‫ويشتمل على ستة مباحث‪:‬‬
‫المبحث األول‪ :‬حقوق الرعية الذين يعيشون فى الدولة‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬موقف الرعية فى دولة المرابطين‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬موقف المرابطين من الخالفة العباسية‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬عالقة األمير يوسف مع بنى حماد‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬عالقة المرابطين مع ملوك الطوائف‪.‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬عالقة المرابطين مع اإلسبان النصارى‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬سياسة المرابطين فى دولتهم المجيدة‪.‬‬
‫ويشتمل على خمسة مباحث‪:‬‬
‫المبحث األول‪ :‬نظام الحكم واإلدارة‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬النظام القضائي‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬النظام العسكري‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬النظام المالي‪.‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬أهم أعمال دولة المرابطين الحضارية‪.‬‬
‫ويشتمل على سبعة مباحث‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫المبحث األول‪ :‬اآلثار المعمارية فى المغرب واألن َدلس‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬الحياة األدبية وال ِعل ِميَّة فى دولة المرابطين‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬من مشاهير علماء دولة المرابطين‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬علوم اللغة فى زمن المرابطين‪.‬‬
‫اريخ والجغرافيا‪.‬‬ ‫المبحث الخامس‪ :‬علوم التَّ ِ‬
‫المبحث السادس‪ :‬علوم الطب فى عصر المرابطين‪.‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬أسباب السقوط‪.‬‬
‫ثم نتائج البحث‪.‬‬
‫وأخيرًا‪ ,‬أرجو من هللا تعالى أن يكون عمالً خالصًا لوجهه الكريم وأن يُثيبَنى على‬
‫يثيب إخوانى الذين أعانونى بكل ما‬ ‫َ‬ ‫حرف كتبتُه‪ ,‬ويجعله فى ميزان حسناتي‪ ،‬وأن‬ ‫ٍ‬ ‫كلِّ‬
‫إتمام هذا الكتاب‪ ،‬سبحانك اللهم وبحمدك‪ ,‬أشه ُد أن ال إله إال أنت‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫أج‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫يملكون‬
‫أستغفرك وأتوب إليك‪ ،‬وآخ ُر دعوانا أن الحم ُد هلل ربِّ العالمين‪.‬‬
‫الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته‬
‫ورضوانه‬
‫على محمدـ محمد الصالبـى‬
‫اإلخوة الكرام‪ ,‬يسرني أن تصل مالحظاتكم وانطباعاتكم حول هذا الكتاب وغيره من‬
‫كتبي من خالل دور النشر‪ ,‬وأطلب من إخواني الدعاء بظهر الغيب باإلخالص هلل رب‬
‫العالمين‪ ،‬والصواب للوصول للحقائق ومواصلة المسيرة في خدمة تاريخ أمتنا‪.‬‬
‫البريد اإللكتروني‬
‫‪E- Mail: abumohamed2@maktoob.com‬‬

‫‪7‬‬
‫الفصل األول‬
‫بناء دولة المرابطين‬
‫المبحث األول‬
‫الجذور التاريخية للمرابطين‬
‫تمهيد ‪:‬‬
‫تعتبر قبائ ُل صنهاجة أقوى قبائل البربر وأشدها وأمنعها‪ ,‬واشتهرت بقُ َّوة شكيمتها‪,‬‬
‫وكثرة رجالها الذين مألوا ال َّش َمال اإلفريقى وسكنوا جباله‪ ،‬وسهوله وخصوصًا من‬
‫المغرب األوسط إلى المغرب األقصى‪.‬‬
‫انضوت تحت لوائه أكثر من‬‫ْ‬ ‫واعتب َر بعضُ المؤرخين قبائل صنهاجة مثلت شعبًا‬
‫سبعين قبيلة بربرية‪ ،‬و ِمن أهم هذه القبائل وأشهرها لمتونة‪ ،‬وجدالة‪ ،‬ولمطة‪ ،‬ومسوفة‪،‬‬
‫وهى التى تك َّونت منها دولة المرابطين السُّنيَّة‪ .‬وبعض المؤرخين يجعل القبائل‬
‫الصنهاجية لها أصل من حمير بن سبأ أى‪ :‬إن أصلَهم يمانيِّون‪.‬‬
‫والبعض اآلخر يذهب إلى أنهم برابرة ال عالقة لهم بالعرب(‪.)1‬‬
‫‪ -1‬تسمية الملثمين‪:‬‬
‫اريخ باسم ال ُملَثَّمين‪ ،‬وأصبح اللثام شعارًا عُرفوا‬ ‫ْ‬
‫اشتهرت القبائل الصنهاجية فى التَّ ِ‬
‫به إلى أن تس َّموا بالمرابطين‪ ،‬ويرى بعض المؤرخين إن ال ُملَثَّمين ينتسبون إلى قبيلة‬
‫لمتونة إحدى بطون صنهاجة‪ ,‬وكانت لمتونة تتولى رئاسة سائر قبائل مسوفة‪،‬‬
‫ومسراته‪ ،‬ومداسة‪ ,‬وجدالة‪ ،‬ولمطة‪ ،‬وغيرها‪ ،‬ثم آلت الرئاسة إلى قبيلة جدالة على‬
‫عهد األمير يحيى بن إبراهيم الجدالي(‪.)2‬‬
‫صا بقبيلة لمتونة ثم توسع وأصبح‬ ‫ويبدو أن إطالق اسم ال ُملَثَّمين فى بدايته كان خا ًّ‬
‫شعارًا لكل من حالف لمتونة ودخل تحت اسم سيادتها‪.‬‬
‫‪ -2‬سبب تسميتهم‪:‬‬
‫وأ َّما سبب تسميتهم فقد وردت أقوال كثيرة فى سبب تسميتهم بذلك‪ ،‬منها‪ :‬إن أجدادهم‬
‫ظن إن أصل قبائل صنهاجة‬ ‫ِمن ِح ْميَر كانوا يتلثمون لشدة الحرِّ‪ ،‬ويذهب إلى هذا الرأى َمن َّ‬
‫يرجع إلى الهجرات القديمة من المشرق ألسباب متعددة‪ ،‬منها اقتصادية‪ ,‬وسياسية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنَّهم آمنوا بالرسول × وكانوا قلة فاضطرُّ وا للهرب لما غلبهم أهل الكفر‬
‫فتلثَّ ُموا بقصد التمويه‪ ،‬وقيل‪ :‬إن طائفة منهم أغارت على عدو لهم فخالفهم إلى‬
‫مواطنهم وهى خالية إال ِمن النساء واألطفال والشيوخ‪ ،‬فأمر الشيو ُخ النسا َء بأن‬
‫لباس الحرب ويتلثَّ َمنَ ‪ ،‬ففر األعداء وهكذا اتخذوا اللثام سنة يالزمونه وارتقى‬
‫َ‬ ‫يرتدين‬
‫عندهم إلى مستوى رفيع فى حياتهم وأعرافهم ومما قيل فى اللثام‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬دولة المرابطين فى المغرب واألندلس‪ ،‬د‪ .‬سعدون عباس ص (‪.)13-12‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ المغرب واألندلس فى عصر المرابطين‪ ،‬د‪ .‬حمدي عبد المنعم‪ ،‬ص (‪.)27‬‬
‫‪8‬‬
‫وإن انتموا صنهاجة فه ُم ه ُم‬ ‫قَوم لهم درك العال فى حمير‬
‫(‪)1‬‬
‫غلب الحيا ُء عليه ُم فتلثَّموا‬
‫َ‬ ‫لما َح َووْ ا إحْ َرا َز ُك ّلَ فضيلة‬
‫‪ -3‬موطن الملثمين‪:‬‬
‫سكن ال ُملَثَّمون الصحراء الكبرى الممتدة من غدامس شرقًا إلى المحيط األطلسى‬
‫غربًا‪ ،‬و ِمن جبال درن شماالً إلى أواسط الصحراء الكبرى جنوبًا‪.‬‬
‫ولم تكن هذه األماكن والمواطن تجرى بها أنهار دائمة‪ ,‬وكانت قليلة األمطار‬
‫وأحيانًا تُحبَسُ عنها األمطار لسنوات عديدة؛ فيتعرض سكانها للمجاعة فيرتحلون‬
‫لطلب الماء والكأل‪ ،‬فتفرقوا حول الواحات الصغيرة فى تلك الصحارى الممتدة‬
‫األطراف‪ ،‬وك َّونوا قرى بدائية تتماشى مع ظروف حياتهم الرعوية(‪.)2‬‬
‫‪ -4‬حياتُهم االقتصادية‪:‬‬
‫تو َّزع ال ُملَثَّمون حول الواحات بحثًا عن المياه وعملوا فى الزراعة وخاصَّة‬
‫زراعة الشعير الذى ينبت فى األرض الفقيرة ويكفيه قليل من الماء‪ ،‬وقد ازدهرت‬
‫زراعته فى منطقة أزكى التى تسكنها قبيلة لمتونة‪.‬‬
‫وكان النخي ُل ِمن أهم أشجارهم‪ ،‬وكانت مدينة سجلماسة من أهم واحات الصحراء‬
‫عمرانًا بشجر النخيل‪ ,‬واستفاد ال ُملَثَّمون من ظل أشجار النخيل؛ فزرعوا البطيخ‬
‫والقرع والكوسى والقثاء‪ ،‬وشهدت بعض الواحات زراعة الذرة‪ ،‬وازدهرت فى واحة‬
‫سجلماسة زراعة القطن وقصب ال ُّس َّكر‪ .‬وكانت وسيلة الزراعة فى تلك الواحات‬
‫الصحراوية المحراث البدائى الذى تجرُّ ه الجمال‪.‬‬
‫وكانت تلك القبائل تهتم بتربية الحيوانات للحصول على قوتهم ولكى يستعملوها‬
‫فى تنقالتهم‪ ،‬ومن أهم الحيوانات التى اهتَ ُّموا بها اإلبل‪ ،‬والتى كانوا يشربون ألبانها‬
‫ويأكلون لحومها ويستفيدون من أوبارها وجلودها لصناعة العباءات واأللبسة والنعال‬
‫وأسقف البيوت الصغيرة‪.‬‬
‫وكذلك اهتَ ُّموا بتربية البغال والحمير الستخدامها فى النقل المحلي(‪.)3‬‬
‫بقر وغنم وماعز الستعمال ألبانها ولحومها فى‬ ‫واهتَ ُّموا بتربية المواشى ِمن ٍ‬
‫غذائهم‪ ,‬وجلودها وأصوافها فى لباسهم‪ ،‬واهتَ ُّموا بتربية النحل للحصول على العسل‬
‫والشمع‪ ,‬وقد مارسوا الصي َد وخاصة صيد البقر الوحشي‪.‬‬
‫وازدهرت الصناعات المحلية لالكتفاء الذاتي‪ ،‬وتط َّورت فى الكم والنوع‬
‫الصناعات المنزلية‪ ,‬وكذلك األدوات الحربية التى ازدهرت بسبب الحروب المستمرَّة‬
‫بين ال ُملَثَّمين وجيرانهم الوثنيين من السودان وغانا‪ ,‬واهتَ ُّموا بصناعة السروج ولجم‬
‫الخيل‪ ،‬وازدهرت الصناعات الغذائية فاستخرجوا الزيت من ثمر الفرتى وذلك بعصر‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬وفيات األعيان (ج‪.)7/130‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬دولة المرابطين فى المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)13‬‬
‫‪ )(3‬انظر ‪ :‬دولة المرابطين‪ ,‬ص(‪.)15‬‬
‫‪9‬‬
‫قشره‪ ،‬واستعملوه فى طهى الطعام وإنارة السُّرج ليالً‪ ،‬وكانوا يمزجونه بالرمل‬
‫ويطلون به أسطح المنازل فيخفف من شدة الحر‪ ،‬ويمنع تسرُّ ب الماء‪ ،‬واشتهرت مدينة‬
‫تارودانت بصناعة قصب السكر‪ ،‬والمنسوجات واأللبسة من الصوف والقطن والوبر‪,‬‬
‫وكانوا يصنعون من ثمار القرع أوانى يضعون فيها الملح والبهارات‪.‬‬
‫و ِمن أهم المعادن فى بالد ال ُملَثَّمين؛ الملح ويكثر فى أوليل وتفاري‪ ،‬واألخيرة‬
‫تضم معظم مناجمه وهى على شكل ألواح يُقطِّ ُعهَا العبيد وتحملُها الجمال إلى بالد‬
‫السودان وغانا‪ ،‬وكان الحمل الواحد يُباع فى أيواالتن بعشرة مثاقيل ِمن الذهب‪ ،‬أما فى‬
‫مالى فكان يُباع بعشرين مثقاالً‪ ،‬وربما ارتفع إلى الثالثين‪ .‬كان للملح أهمية فى حياتهم‬
‫االقتصادية‪ ،‬إذ كانوا يقطعونه قطعًا صغيرة يقايضون به كالذهب والفضة‪ ،‬وكان‬
‫الفائض من إنتاجهم الزراعى والصناعى يُص َّدر إلى خارج بالدهم(‪.)1‬‬
‫‪ -5‬أهمية موقع الملثمين‪:‬‬
‫كانت بالد ال ُملَثَّمين المم َّر الوحيد بين األَ ْن َدلُس وأواسط إفريقية؛ فكانت تسلكه‬
‫القوافل على ثالث طرق‪ ،‬فالطريق األول وهو الطريق الساحلى على المحيط األطلسى‬
‫ينطلق من أغادير مارًا بنواكشوط حتى مصبِّ نهر السنغال‪ ,‬يقابله طريق داخلى غير‬
‫بعيد عنه لجهة الشرق هو طريق تارودانت أويل‪ ،‬أما الطريق الثَّانِى وهو األوسط‬
‫فيمتد من أواسط المغرب إلى قلب الصحراء حيث بلدان مالى والنيجر‪,‬يبدأ هذا الطريق‬
‫من سجلماسة ويمر بأزكى حتى أودغشت فى بالد النيجر‪.‬‬
‫والطريق الثالث واألخير وهو طريق الصحراء يمتد من السودان الغربى إلى‬
‫الطرُق ِمن صعوبات طبيعية‪ ،‬فتحرك الرمال‬ ‫أواسط الصحراء شرقًا‪ ,‬وال تخلو هذه ُّ‬
‫يمحى معالمها وتتعرض القوافل المارة بها إلى مخاطر ال تُحمد عقباها‪ ،‬ولذلك‬
‫احتاجت هذه القوافل للقُصّاص من ال ُملَثَّمين لكى يقودوا القوافل فى تلك الصحارى‬
‫حتى تصل إلى بر أمانها مقابل مبالغ مالية على المجهود الرائع العظيم‪.‬‬
‫ونشطت حركة التجارة بين إفريقيا الغربية وبالد المغرب واألَ ْن َدلُس بسبب الدور‬
‫الريادى الذى قامت به قبائل لمتونة ومسوفة وجدالة التى ك َّونت حلقة االتصال الناجحة‬
‫والمثمرة لألطراف المشاركة‪ ,‬وكثُرت األسواق التجارية التى تعرض فيها بضائع بالد‬
‫األَ ْن َدلُس والمغرب األقصى وبالد السودان الغربى حيث يتم التبادل بالتقايض‪,‬أو‬
‫بالذهب والفضة على حسب االتفاق بين المتبايعين‪ ،‬ومن أشهر تلك األسواق التى‬
‫اشتهرت فى تاريخ البالد‪ :‬أوغشت‪ ،‬أغمات‪ ،‬أسيال(‪.)2‬‬
‫‪ -6‬الحياة االجتماعية فى بالد الملـثمين‪:‬‬
‫وأدى ازدهار التجارة فى بالد ال ُملَثَّمين إلى ظهور طبقة من األثرياء تجمعت‬
‫لديهم أموال عظيمة بسبب نشاطهم التجاري‪ ،‬وعلى رأس هذه الطبقة األمراء الذين‬
‫استأثروا بالحكم وحافظوا على مصالحهم‪ ،‬وكانت هذه الطبقة مستعدة لمقاومة َمن يُه ِّددُ‬
‫مصالحها‪,‬أو يحاول انتزاع مكانتها وثروتها وجاهها‪ ،‬مستخدمين من أجل تلك األهداف‬
‫األساليب المشروعة وال ُمحرَّمة‪ ،‬ويساندهم فى ذلك الفقهاء المحليون الذين ارتبطت‬
‫مصالحهم بهم وأصبحت أطماعهم والسعى لتحقيقها فوق أحكام هللا‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)16‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق ‪ ،‬ص (‪.)18‬‬
‫‪10‬‬
‫واحتكرت هذه الطبقة األراضى الزراعية فى الواحات‪ ،‬وكذلك مناجم الملح‬
‫وقطعان الماشية‪ ،‬أى جميع مصادر الثروة‪ ,‬وكانت تبنى بيوتها بطريقة تدل على‬
‫ترفعها عن سائر النَّاس‪ ,‬ومعلوم لدى الدارسين والباحثين فى تاريخ ال ُمجْ تَ َمعات‬
‫البشرية أنه عندما تظهر طبقة ذات ثراء مفرط ينتج عنه ظهور طبقة من الفقراء‬
‫المدقعين فى فقرهم‪ ,‬وهذا ما حدث فى ال ُمجْ تَ َمع ال ُملَثَّم‪ ،‬حيث نجد أن عامة النَّاس‬
‫أصابهم الفقر واضطروا إلى االشتغال برعى المواشى وبالعمل فى األراضى‬
‫الزراعية‪ ،‬ويؤدون الضرائب لألمراء واألعيان الذين استغلوهم استغالالً مشينًا‪،‬‬
‫وكانت طبقة الفقراء تتعرض للمجاعة فى سنوات الجفاف وكانت منازلهم من أغصان‬
‫األشجار و ُمغطاة بالجلود كاألكواخ‪.‬‬
‫وظهرت فى ال ُمجْ تَ َمع ال ُملَثَّم كثرة العبيد الذين استُخدموا وسُخروا للعمل فى مناجم‬
‫الملح‪ ،‬وجلُّهم كانوا أسرى فى الحروب التى نشبت بين ال ُملَثَّمين والوثنيين‪ ،‬وارتفع‬
‫شأن العبيد فيما بعد؛فكانوا فرقة خاصة فى جيش المرابطين‪ ،‬واشتهرت المرأة ال ُملَثَّمة‬
‫لهن منزلة رفيعة فاقت‬ ‫بالجمال‪ ،‬وهى سمراء اللون‪ ,‬وبعض نساء الطبقة العليا كانت َّ‬
‫منزلة الرجال فى بعض األحيان‪.‬‬
‫وانتشرت عادات خبيثة فى ال ُمجْ تَ َمع ال ُملَثَّم تتنافى مع تعاليم اإلسالم‪ ،‬بل هى‬
‫عادات غارقة فى مستنقعات الجاهلية‪ ،‬ومن أبشع هذه العادات السيئة الزواج بأكثر من‬
‫أربع حرائر‪ ،‬وعادة الزنى‪ ،‬ومصادقة الرجل للمرأة المتزوجة بعلم زوجها وحضوره‪،‬‬
‫وغابت العقيدة اإلسالمية الصحيحة عن ذلك ال ُمجْ تَ َمع واضطربت تصوراتُه وانحرف‬
‫عن الصراط المستقيم‪ ,‬بعدما كان أجداد هذا ال ُمجْ تَ َمع قد آمنوا باهلل ربًّا وباإلسالم دينًا‬
‫وبمحمد × نبيًّا ورسوالً‪ ،‬ونبذوا ديانتهم المجوسية القديمة‪ ،‬بل كان أجداد هذا ال ُمجْ تَ َمع‬
‫دعاة إلى هللا ‪ ،‬ورفعوا لواء الجهاد ‪ ,‬وخاضوا حروبًا فى سبيل إعالء كلمة اإلسالم‬
‫الخالدة التى وصلتهم بعد فتح األَ ْن َدلُس‪.‬‬
‫واشته َر ِمن ملوك ال ُملَثَّمين بحرصهم على نشر اإلسالم وكسر شوكة من يعاديه‬
‫الملك «تيولوثان بن تيكالن اللمتوني» الذى حارب القبائل الوثنية ونشر بينها اإلسالم‪،‬‬
‫وبعد وفاته سنة ‪222‬هـ خلفه حفيده اآلثر الذى دام حكمه حتى وفاته عام ‪287‬هـ‪،‬‬
‫فخلفه ابنه تميم الذى قتل عام ‪306‬هـ‪920 /‬م على يد مشايخ صنهاجة‪.‬‬
‫وبعد ذلك افترقت كلمة ال ُملَثَّمين‪ ,‬وضاعت كثير من تعاليم الدين واستم َّر شتاتهم‬
‫مدة مائة وعشرين سنة الى أن قام باألمر األمير محمد بن تيفاوت اللمتوني(‪ )1‬الذى‬
‫و َّحدَهم‪ ،‬وقد استشهد هذا األمير بعد ثالث سنوات من حُك ِمه على يد الوثنيين‪ ،‬فقام‬
‫باألمر بعده صهره األمير يحيى بن إبراهيم الجدالى الذى قاد قَومه نحو دين هللا بعد‬
‫رجوعه ِمن ِحجِّ ه ورحلته المشهورة‪.‬‬
‫***‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬ابن أبي زرع‪ ،‬روض القرطاس‪ ،‬ص (‪ )746‬نقالً عن دولة المرابطين ص (‪.)19‬‬
‫‪11‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫األمير يحيى بن إبراهيم (الزعيم السياسي)‬
‫كان األمير يحيى بن إبراهيم سيدًا مطاعًا فى قَومه لِما ُعرفَ عنه ِمن شجاعة‬
‫وكرم وجود ومقدرة قيادية عالية‪ ,‬واشتهر برجاحة عقلة ونفاذ بصيرته وسداد رأيه‬
‫وحرصه على هداية قَومه‪.‬‬
‫خرج هذا األمير الجليل من ديار ال ُملَثَّمين قاصدًا بيت هللا الحرام‪ ,‬ألداء فريضة‬
‫الحج تار ًكا الحكم البنه إبراهيم عام ‪427‬هـ ‪1035 -‬م(‪.)1‬‬
‫وكانت العادة أن يقترنَ الحج بطلب العلم‪ ،‬وبعد أداء الفريضة‪ ،‬انطلق األمير يحيى‬
‫يبحث عن المعرفة فى مدارس المغرب الفقهية طالبًا للعلم إلرواء روحه الظمأى إلى‬
‫ْ‬
‫ورمت به أقدا ُر هللا فى َحلَقَ ِة‬ ‫نور المعرفة اإلسالمية التى اندرست معالمها فى بالده‪,‬‬
‫َّ‬
‫إمام المغرب فى زمانه فى مدينة القيروان «اإلمام أبو عمران الفاسي» الذى تعلقت‬
‫نفسُ األمير يحيى بتعاليمه وفقهه‪ ,‬وعرض نفسه على اإلمام أبى عمران الفاسى الذى‬
‫ورث زعامة المدرسة المالكية التى انتصرت على الهيمنة اإلسماعيلية العبيدية‬
‫َ‬
‫الباطنية الرافضية‪ ،‬واستر َّدت حريتها كاملة بعد جهادهم المرير الذى أصبح َم ْعل ًما من‬
‫معالم أهل السنة فى ال َّش َمال اإلفريقي‪.‬‬
‫ب الشيخ أبو عمران باألمير يحيى لما لمسه فيه من حبه للخير وحرصه‬ ‫وأُع ِج َ‬
‫على التعلم‪ ،‬وتحدث إليه األمير عن سوء األحوال االجتماعية فى بالده‪ ،‬وجهل قبائلها‬
‫بأصول الدين وفروع الشريعة‪ ،‬وطلب من أبى عمران أن يبعث معه أحد طلبته ليعلم‬
‫قَومه أصول الفقه والشريعة اإلسالمية(‪.)2‬‬
‫اريخ‪ ,‬أن أبا عمران الفاسى هو الذى وضع الخطوط األولى‬ ‫وتذكر بعض كتب التَّ ِ‬
‫مع ال َّز ِعيم يحيى بن إبراهيم لقيام دولة صحراوية سنية فى المغرب على أسس دينية‬
‫صحيحة‪ ,‬كى تستطيع القضاء على الفوضى السياسية والدينية التى كان المغرب‬
‫يتخبط فيها منذ سنوات عديدة‪ ،‬وفى ذلك يقول صاحب كتاب «بعض مشاهير أعيان‬
‫فاس فى القديم»‪:‬‬
‫«ولما اجتمع أبو عمران مع يحيى بن إبراهيم‪ ،‬ندبه إلى قتال برغواطة‪ ،‬وقتال‬
‫زناتة على ما صدر منهم من الظلم‪ ،‬واستنزال رؤسائهم من الوالية‪ ،‬فوعده يحيى‬
‫بالنهوض‬
‫إلى ذلك» (‪.)3‬‬
‫وكان يحيى بن إبراهيم حريصًا على أخذ فقيه وعالم معه إلى قَومه‪ ،‬ورأى أبو‬
‫عمران الفاسى ِمن أجل تحقيق األهداف التى رسموها‪ ,‬أنه البُ َّد من المرور بمراحل‬
‫ضرورية فى بناء الدولة المنشودة‪ ,‬من مرحلة التعريف بالمنهج وتكوين أفراده‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)19‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ المغرب واألندلس فى عصر المرابطين‪ ،‬ص (‪.)38‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬فى تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬د‪ .‬أحمد العبادي‪ ،‬ص (‪.)271‬‬
‫‪12‬‬
‫وتربيتهم عليه‪ ,‬وتنفيذ السياسة المرسومة بعد التكوين للوصول إلى مرحلة القُ َّوة‬
‫والتَّمكين‪.‬‬
‫فأحال أبو عمران أمير ال ُملَثَّمين على تلميذ له فى بالد السوس فى أقصى المغرب‪،‬‬
‫وهو الفقيه وجاج بن زلوا اللمطي‪ ،‬الذى كان يقيم فى رباط هناك بمدينة نفيس يسمى‬
‫دار المرابطين‪ ،‬ومن هذا ال ِّربَاط أرسل وجاج صحبة هذا األمير الفقيه عبد هللا بن‬
‫ياسين الجزولى ليفقه هؤالء الصحراويين فى أمور دينهم‪.‬‬
‫وكان يحيى بن إبراهيم بجانب تفكيره فى إخراج قَومه من ُّ‬
‫الظلُ َمات إلى النُّور‬
‫َّ‬
‫يفكر فى إنقاذ قَومه من الهيمنة الزناتية الظالمة‪ ,‬التى كانت قبائل صنهاجة ال ُملَثمة‬
‫تعانى من جورها وقسوتها وإذاللها وإهانتها‪.‬‬
‫لقد رأى األمير يحيى أن طريق عزة قَومه فى تمسكهم باإلسالم الصحيح‪ ،‬وقد‬
‫الحظ األمير يحيى بن إبراهيم أن ك َّل َمن حرَّكوا القبائل البربرية وهيأوها إلنشاء‬
‫الدول‪ ،‬كانوا جميعًا من المتحمسين ِمن علماء الدين‪ ،‬أو أصحاب الدعوات الدينية سواء‬
‫كانت خارجية بدعية‪ ،‬أو إسماعيلية كفرية‪ ،‬أو إدريسية مالكية‪ِ ،‬من أمثال‪ :‬أبى الخطاب‬
‫عبد األعلى بن السمح المعافرى الخارجي‪ ،‬وأبى عبد هللا الشيعى الباطني‪ ،‬وإدريس بن‬
‫عبد هللا بن الحسن ابن على بن أبى طالب‪ ,‬حتى برغواطة ذات الديانة الشركية‬
‫المجوسية اليهودية تز َّع َمها رجل ي َّدعى أنه ِمن أهل العلم‪ ،‬وهو ميسرة الفقير‪ ،‬وحتى‬
‫قبيلة غمارة تزعمها صالح البرغواطى الذى زعم أنه «صالح المؤمنين» الذى ورد‬
‫ذكره فى القرآن(‪.)1‬‬
‫لهذه الجولة التاريخيّة التى َمرَّت فى ذاكرته حرص على االهتمام بالشيخ عبد هللا‬
‫ياسين الرجل الفقيه العالم السنى ليعلم قَومه ويزكيهم ويفقههم‪.‬‬
‫كما كان األمير يحيى بن إبراهيم يخشى من خطر الجنوب ويهت ُم بدعوة القبائل‬
‫الوثنية لإلسالم‪.‬‬
‫وبدأ األمير يحيى فى شق طريقه المليء باألشواك من أجل إنقاذ قَومه وإعزازهم‬
‫فى الدنيا واآلخرة‪ ،‬ورجع إلى أهله وعشيرته ومعه الرجل الربَّانى والفقيه المالكى‬
‫والمربى الصبور وال َّز ِعيم الدينى اإلمام عبد هللا ياسين‪ ،‬وقبل الدخول فى سيرته نترجم‬
‫لإلمام السنى المالكى سيد القيروان فى زمانه‪.‬‬
‫***‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬معالم تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬د‪ .‬حسين مؤنس‪ ,‬ص (‪.)160‬‬
‫‪13‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫أبو عمران الفاسي‬
‫مهندس الخطوط العريضة‬
‫لدولة المرابطين (‪ 368‬هـ ‪ 430 -‬هـ)‬
‫ذكر القاضى عياض فى «ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعالم مذهب‬
‫مالك» ترجمة أبى عمران الفاسى فقال‪« :‬هو موسى بن عيسى بن أبى حاج بن وليم‬
‫بن الخير ال َغفَجُومي‪ ،‬و َغفَجُوم فخذ من زناتة من هوارة‪ ,‬وأصله من فاس‪ ،‬وبيته بها‬
‫بيت مشهور‪ ،‬يعرفون ببنى أبى حاج‪ ،‬ولهم عقب‪ ،‬وفيهم نباهة إلى اآلن»(‪.)1‬‬
‫‪ -1‬شيوخه‪:‬‬
‫تفقَّه بالقيروان عند أبى الحسن القابسي‪ ،‬وسمع بها من أبى بكر الدويلي‪ ،‬وعلى بن‬
‫أحمد اللواتى السوسي‪ ،‬ورحل إلى قُرْ طُبَة‪ ،‬فتفقَّه بها عند أبى محمد األصيلي‪ ،‬وسمع‬
‫الحديث من أبى عثمان سعيد بن نصر‪ ،‬وعبد الوارث بن سفيان‪ ،‬وأحمد بن قاسم‪،‬‬
‫وغيرهم‪ ،‬ثم رحل إلى المشرق‪ ،‬فحج ودخل العراق‪ ،‬فسمع من أبى الفتح ابن أبى‬
‫الفوارس‪ ،‬وأبى الحسن على بن إبراهيم المستملي‪ ،‬وأبى الحسن الخضر‪ ،‬وغيرهم من‬
‫العراقيين(‪ ،)2‬ودرس األصول على القاضى أبى بكر الباقالني‪ ،‬وسمع بالحجاز من أبى‬
‫الحسن بن أبى فراس‪ ،‬وأبى القاسم السقطي‪ ،‬وبمصر من أبى الحسن ابن أبى جدار‪،‬‬
‫وأحمد بن نور القاضي‪ ،‬ثم رجع إلى القيروان‪ ،‬وسكنها‪ ،‬وأصبح سيدها المطاع‪ ،‬وأقبل‬
‫عليه طالب العلم من كل صوب‪ ،‬وطارت فتاويه فى المشرق والمغرب‪ ،‬واعتنى‬
‫النَّاس بقوله(‪.)3‬‬
‫‪ -2‬أثره وتالميذه‪:‬‬
‫ابتدأ نشاطه العلمى سنة ‪402‬هـ‪ ،‬حين عاد من المشرق‪ ،‬فقد جلس للطلبة فى‬
‫المسجد‪ ،‬وفى داره أيضًا‪ ،‬وسرعان ما عُرف قدره‪ ،‬واشتهرت إمامته‪ ،‬وطار ذكره فى‬
‫اآلفاق‪ ،‬وقد خلف اإلمام القابسى المتوفى سنة ‪403‬هـ‪ ،‬فى نشر علوم السنة فى إفريقية‬
‫ورئاسة العلم بها‪ ,‬ورحل إليه النَّاس من األقطار لسماع مروياته واستجازه من لم‬
‫يستطع االجتماع به(‪.)4‬‬
‫وكان يجلس فى حلقته ال ِعل ِميَّة من بعد صالة الصبح إلى صالة الظهر‪ ،‬يحدثهم‬
‫ويملى عليهم‪ ،‬ويقرأ لهم‪« ،‬فال يتكلم بشيء إال ُكتب عنه إلى أن مات»‪.‬‬
‫يحدث بصحيح البُخارى و «التَّ ِ‬
‫اريخ الكبير» له أيضًا‪ ،‬و«تصحيف‬ ‫ُ‬ ‫وكان‬
‫ال ُم َح ِّدثِين» للدارقطني‪ ،‬وكان يح ّدث كذلك بمصنفاته فى الحديث والرجال والفقه‪ ،‬وقد‬

‫‪ )(1‬ترتيب المدارك‪ ،‬الطبعة المغربية‪( ،‬ج‪.)244-7/243‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬مدرسة الحديث فى القيروان (ج‪.)766-2/765‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬مدرسة الحديث فى القيروان‪( ,‬ج‪)766-765 /2‬‬
‫‪14‬‬
‫انتشرت روايتها فى األَ ْن َدلُس أيضًا عن طريق تالميذه من أهلها(‪.)1‬‬
‫وكان متضلعًا فى كالم الرواة جرحًا وتعديالً‪ ،‬ومعرفة سيرهم ووفياتهم وغير‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وكان العامة من أهل القيروان خصوصًا يرجعون إليه فيما يلم بهم ويستفتونه‪.‬‬
‫كما كان الموفدون فى مهمات سياسية إلى القيروان يسألونه ويستفتونه ويستفيدون‬
‫من علمه‪.‬‬
‫وكان له اهتمام بالبالد البعيدة ويرسل إليها من يقَوم بنشر العلم كما حدث فى‬
‫اهتمامه بصحراء المغرب‪ ،‬وما نتج عن ذلك االهتمام من قيام دولة المرابطين فى تلك‬
‫المناطق النائية(‪.)2‬‬
‫وقد تتلمذ عليه عدد كبير من النَّاس من أهل إفريقية والمغرب‪ ،‬واألَ ْن َدلُس‪،‬‬
‫وصقلية‪ ،‬قال الذهبي‪« :‬تخرَّج بهذا اإلمام خلق من الفقهاء والعلماء»(‪.)3‬‬
‫‪ -3‬ثناء العلماء عليه‪:‬‬
‫قال تلميذه الحافظ حاتم الطرابلسي‪« :‬لقيتُه بالقيروان فى رحلتى سنة ‪402‬هـ‪،‬‬
‫وكان ِمن أحفظ النَّاس‪ ,‬وأعلمهم وكان جمع حفظ المذهب المالكي‪ ،‬وحفظ حديث‬
‫النبى ×‪ ,‬والمعرفة بمعانيه‪ ،‬وكان يُقرئ بالسبعة‪ ،‬ويُجودها مع المعرفة بالرجال‪،‬‬
‫والمعدلين منهم والمجرحين‪.)4( » . . .‬‬
‫وقال الذهبي‪« :‬اإلمام الكبير العالمة عالم القيروان‪ . . .‬أحد األعالم‪ . . .‬تخرَّج به‬
‫خلق من الفقهاء والعلماء»(‪.)5‬‬
‫وقال أبو بكر الباقالنى ألبى عمران الفاسي‪« :‬لو اجتمعت فى مدرستى أنت وعبد‬
‫الوهاب بن نصر‪ -‬وكان إذ ذاك بالموصل – الجتمع فيها علم مالك‪ :‬أنت تحفظه‪ ,‬وهو‬
‫ينصره لو رآكما مالك لسر بكما»(‪.)6‬‬
‫‪ -4‬شعره‪:‬‬
‫عندما كتب محمد بن على الطبنى أبياتًا من الشعر وأرسلها إلى أبى عمران‬
‫الفاسى بمناسبة العزم على الذهاب إلى بيت هللا الحرام‪ ،‬أجاب أبو عمران الفاسى بهذه‬
‫األبيات‪:‬‬
‫وصان نفسك بالتكريم موالها‬ ‫خل أخى ثقة‬
‫ربك ِمن ٍّ‬
‫حياك ُّ‬
‫َّ‬
‫فهو العليم بما يبديه موالها‬ ‫كل غم وشان ال يوفقها‬
‫ِمن ِّ‬
‫وقولها إن تسر ودعتك هللا‬ ‫الرحمن حرمتها‬
‫وال أضاع لها َّ‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬سير أعالم النبالء (ج‪.)17/546‬‬
‫‪ )(4‬ترتيب المدارك (ج‪ )7/246‬الطبعة المغربية‪.‬‬
‫‪ )(5‬سير أعالم النبالء (ج‪.)456-17/545‬‬
‫‪ )(6‬ترتيب المدارك (ج‪)7/246‬‬
‫‪15‬‬
‫وصان نفسك بالتكريم موالها‬ ‫خل أخى ثقة‬
‫ربك ِمن ٍّ‬
‫حياك ُّ‬
‫َّ‬
‫(‪)7‬‬
‫ويؤتنا من وجوه البر أسناها‬ ‫هللا يجمعنا من بعد أوبتنا‬
‫هذه ترجمة موجزة لواضع الخطوط العريضة لدولة المرابطين‪.‬‬
‫وتُوفى ‪ -‬رحمه هللا ‪ -‬سنة ثالثين وأربعمائة من الهجرة‪.‬‬
‫***‬

‫‪ )(7‬المصدر السابق (ج‪.)7/52‬‬


‫‪16‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫الزعيم الدينى لدولة المرابطين‬
‫عبد هللا بن ياسين‬
‫هو عبد هللا بن ياسين بن مكوك بن سير بن على الجزولي‪ ,‬أصله من قرية‬
‫«تماماناوت» فى طرف صحراء غانة(‪.)1‬‬
‫درس على فقيه السوس وجاج بن زلوا‪ ،‬رحل إلى األَ ْن َدلُس فى عهد ملوك‬
‫الطوائف وأقام بها سبع سنين(‪ ,)2‬واجتهد فى تحصيل العلوم اإلسالمية‪ ,‬ثم أصبح ِمن‬
‫خيرة طالب الفقيه وجاج بن زلوا فعندما طلب أبو عمران الفاسى ِمن تلميذه وجاج ابن‬
‫زلوا أن يرسل مع يحيى بن إبراهيم فقيهًا عال ًما دينًا تقيًا مربيًا فاضالً وقع االختيار‬
‫على عبد هللا بن ياسين الصنهاجى الذى كان عال ًما بتقاليد قَومه وأعرافهم وبيئتهم‬
‫وأحوالهم‪.‬‬
‫ودخل عب ُد هللا بن ياسين مع يحيى بن إبراهيم فى مضارب ومواطن ومساكن‬
‫ال ُملَثَّمين من قبيلة جدالة فى عام ‪ 430‬هـ‪1038 /‬م فاستقبله أهلُها واستمعوا له‪ ،‬وأخذ‬
‫يعلمهم‪ ،‬فكان تعلي ُمه باللغة العربية لطلبة العلم‪ ،‬واإلرشاد الدينى للعامة بلهجة أهل‬
‫الصحراء البربرية‪.‬‬
‫القى عبد هللا بن ياسين كثيرًا من الصعوبات‪ ،‬فقد وجد أكثر ال ُملَثَّمين ال يصلون‬
‫وال يعرفون من اإلسالم إال اسمه‪ ،‬وعم الجهل عليهم‪ ،‬وانحرفوا عن معالم العقيدة‬
‫الصحيحة وتلوثت أخالقُهم وأحكام دينهم‪ ،‬واصطدمت تعاليمه بمصالح األمراء‬
‫واألشراف‪ ،‬فثاروا عليه‪ ،‬وكادوا يقتلوه‪ ،‬إال أنه ترك قبيلة جدالة‪ ،‬وانتقل إلى قبيلة‬
‫لمتونة‪ ،‬و ِمن ث َّم اختار رباطه المشهور على مصب نهر السنغال‪ ،‬بعد انتشار صيته‪،‬‬
‫وتعلُّق النَّاس به‪ ،‬فهرعوا إليه ليربيهم وينظمهم ويعلمهم‪.‬‬
‫اريخ نستطيع أن نقول‪ :‬إن عبد هللا بن ياسين – رحمه هللا‪ -‬نجح‬ ‫و ِمن خالل ُكتب التَّ ِ‬
‫ُ‬
‫فى رسالته الدعوية ألسباب ُمه َّمة يجب أن يعرفَها الدعاة إلى هللا‪ ,‬أال وهى ما وهبه هللا‬
‫ِمن صفات فطرية‪ ,‬وما اكتسبه فى حياته من صفات عقلية‪ ,‬وصفات حركية‪.‬‬
‫أ‪ -‬و ِمن أهم الصِّ فَات الفطرية التى ظهرت لى من سيرته‪:‬‬
‫‪ -1‬الذكاء‪ :‬فكان ‪-‬رحمه هللا‪ -‬عمي َ‬
‫ق الفهم‪ ,‬صاحب حجة‪ ،‬يُقيم الدليل على‬
‫خصومه من الفقهاء‪ ،‬والمحليين الذين تحالفوا مع األمراء واألعيان للقضاء عليه أو‬
‫طرده‪.‬‬
‫واختياره لمكان أنسب لتربية أتباعه وتعليمهم يدل على ذكائه وبعد نظره‪ ,‬ويظهر‬
‫ذلك فى حروبه التى خاضها لتوحيد القبائل الصنهاجية‪ ،‬ثم انتقاله للقضاء على‬
‫والتصور‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫المخالفين له فى المنهج والمعتقد‬
‫‪ -2‬الشجاعة‪ :‬حيث إنه دخل الصحراء داعيًا إلى هللا تعالى مع إن غيره ِمن‬
‫تالميذ أبى عمران الفاسى اعتذروا وكذلك من تالميذ وجاج بن زلوا‪.‬‬
‫‪ )(1‬دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪ )21‬نقالً عن البكري المغرب‪ ,‬ص (‪.)165‬‬
‫‪ )(2‬ابن الخطيب‪ ,‬الخلل‪ ,‬ص (‪.)191‬‬
‫‪17‬‬
‫وامتازَ بشجاعة وصالبة عظيمة فى دعوته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر‪،‬‬
‫وفى جهاده حتى إنه استشهد فى إحدى معاركه ضد أعدائه‪.‬‬
‫أفضل ال َّش َجاعَة‪ ،‬أال وهى الصَّراحة فى‬ ‫َ‬ ‫فكان ُشجاعًا عظيم االحتمال‪ ،‬ومارس‬
‫العل ِميَّة ولم‬‫الحقِّ‪ ،‬وكتمان السرِّ إذ إنه كان قد خطط مع يحيى بن إبراهيم المراحل ِ‬
‫يتسرَّب منها شيء ألعدائه حتى أخذت حيز التنفيذ‪.‬‬
‫وال َّش َجاعَة فى الحق وفى ميادين القتال بالنسبة لل ُم ْسلِم تدلُّ على قُ َّوة عقيدته‬
‫التصور وانحراف المنهج‪ ،‬ومن المعلوم أن صفاء العقيدة يرفع‬ ‫ُّ‬ ‫وسالمتها من غَبش‬
‫الهمة وينمى ال َّش َجاعَة‪ ،‬ويلهب المشاعر‪ ،‬ويذكى الروح‪ ,‬ويربط الفؤاد وينور العقل‪،‬‬
‫ويو ِّس ُع المدارك‪ ،‬والعاملون فى الدعوة إلى هللا ينبغى عليهم أن يكونوا شجعانًا فهى منه‬
‫وإليه‪.‬‬
‫اد ُه ْم‬
‫َّاس قَ ْد َج َمعُوا لَ ُك ْم فَا ْخ َش ْو ُه ْم َف َز َ‬
‫إن الن َ‬ ‫ال ل َُه ُم النَّاسُ َّ‬
‫ين قَ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬الذ َ‬
‫ض ٍل لَّ ْم يَ ْم َس ْس ُه ْم‬ ‫إِيمانًا وقَالُوا حسبنَا اهلل ونِ ْعم الْوكِيل ‪ ‬فَا ْن َقلَبوا بِنِ ْعم ٍة ِّمن ِ‬
‫اهلل َوفَ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ َ َ ُ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ َ‬
‫ض ٍل َعظ ٍيم﴾ [آل عمران‪.]174-173 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َوا َن اهلل َواهللُ ذُو فَ ْ‬ ‫ُسوءٌ َو َّاتَبعُوا ِر ْ‬
‫وحامل دين هللا ينبغى أال يستكين‪ ،‬وال يجبن‪ ،‬وال يخور عزمه؛ ألنه صاحب‬
‫رسالة ُمق َّدس ٍة ِمن عند العليم الحكيم‪ ،‬سار على نهجها رسل هللا ِمن قبل‪ ،‬فنصرهم هللا‪,‬‬
‫وانتقم ِمن عدوهم‪.‬‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫ثم ترضى بعده أن تستكينا‬ ‫إن نفسًا ترتضى اإلسالم دينًا‬
‫ثم تهوى العيش نفس لن تكونا‬ ‫أو ترى اإلسالم فى أرض مهينًا‬
‫(‪)1‬‬
‫فى عداد ال ُم ْسلِمين العظماء‬
‫وكم نحن محتاجون إلى شجاعة الدعاة إلى هللا َمن أمثال الفقيه عبد هللا بن ياسين‬
‫ونزيل بها المنكرات الظاهرة‪ ،‬وندم َغ ال ُّشبُهات الخادعة بالنورين‬ ‫لندك بها الباطل‪ِ ،‬‬
‫كتاب هللا وسنة رسوله ×‪.‬‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫الصفان‬
‫ِ‬ ‫ت‬‫لك مهربًا وتالق ِ‬ ‫وإذا اضطررت إلى الجدال ولم‬
‫تجد‬
‫والشر َع سيفك وابد فى الميدان‬ ‫فاجعل كتاب هللا درعًا ساب ًغا‬
‫واركب جواد العزم فى الجوالن‬ ‫والسنة البيضاء دونك جُنة‬
‫فالصبر أوث ُ‬
‫ق عُد ِة اإلنسان‬ ‫واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى‬
‫الفارس الطعان‬
‫ِ‬ ‫هلل درُّ‬ ‫ق ُك ّلَ معان ٍد‬
‫واطعن برمح الح ِّ‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الصفات الالزمة للدعاة‪ ،‬أحمد القطان‪ ،‬جاسم المهلهل‪ ،‬ص (‪.)20‬‬
‫‪18‬‬
‫الصفان‬
‫ِ‬ ‫ت‬
‫لك مهربًا وتالق ِ‬ ‫وإذا اضطررت إلى الجدال ولم‬
‫تجد‬
‫(‪)1‬‬
‫غير جبان‬‫ِ‬ ‫متجر ٍد هلل‬ ‫ص ْدق حملة‬ ‫واحمل بسيف ال ِّ‬
‫مخلص‬
‫وكم نحن محتاجون للدعاة الذين يتوغلون فى مواطن القبائل التى ابتعدت عن‬
‫إسالمها ودينها وإيمانها‪ ,‬ليقودوها ِمن جديد إلى دعم حركة اإلسالم المعاصرة التى‬
‫استهدفها ك ٌّل ِمن النصارى واليهود والمالحدة الحاقدين‪.‬‬
‫صفَات التى ظهرت لى فى سيرة عبد هللا بن ياسين أنه كان‬ ‫‪ -3‬المهابة‪ :‬ومن ال ِّ‬
‫مهيبًا قويًا شديدًا‪ ،‬فمن األدلة على ق َّوته البدنية‪ ،‬خوضه الحروب بنفسه وتق ُّدمه فى‬
‫ميدان الفروسية بل جعل من منهجه الذى ربى عليه أصحابه فى هذا الجانب قوله‬
‫اط الْ َخ ْي ِل ُتر ِهبو َن بِ ِه َع ُد َّو اهللِ‬‫َعدُّوا لَهم َّما استطَعتم ِّمن ُق َّوةٍ وِمن ِّرب ِ‬‫تعالى‪﴿ :‬وأ ِ‬
‫ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ُْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫َو َع ُد َّو ُك ْم﴾ [األنفال‪.]60 :‬‬
‫وفسَّر الرسول × القُ َّوة ‪ -‬فى هذه اآلية بالرمى بقوله‪« :‬أال إن ال ُق َّوة الرمي»(‪،)2‬‬
‫ق الهدف المطلوب‪ ،‬وفى السنة‬ ‫والرمية إن لم تخرج من ساعد قوى ومتين فهى ال تُحقِّ ُ‬
‫نجد القُ َّوة البدنيَّةَ القت حظًا وافرًا‪ ،‬فالرسول × هو أقوى األقوياء‪ ،‬وكان يُشجِّ ع‬
‫أصحابه ‪ ‬على اكتساب هذه الصفة‪ ،‬بل رُبَّما كان يباريهم‪ ،‬ويصارعهم‪،‬‬
‫ويسابقهم‪ ،‬وكما تحدثنا السيرة عن ذلك‪ ،‬يروى مرة أنه تسابق × مع عائشة‬
‫رضى الله عنها فسبقها مرَّة‪ ،‬ثم سبقته مرَّة‪ ،‬وكذلك تحدثنا السيرة عن‬
‫مصارعته × لأحد أصحابه فصرعه‪.‬‬
‫ومرَّ × على صبيان يرمون بالسهام؛ فأخذ يرمى معهم ويشجعهم ويذكى‬
‫فيهم روح البطولة والشَّجَاعَة والقُوَّة‪ ،‬ويقول‪« :‬ارموا فإن أباكم‬
‫إسماعيل كان راميًا»(‪.)3‬‬
‫وهذه الآية والأحاديث الفعلية كانت منهج عبد الله بن ياسين‬
‫وأصحابه‪ ،‬ولذلك تظهر لنا صلابة وقُوَّة أتباعه فى ميادين القتال‪.‬‬
‫ومفهوم القرآنِ للقُوَّة عام يشمل كل أنوع القُوَّة‪ ،‬قال السعدى –‬
‫استَطَ ْعتُم ِّمن ُق َّوةٍ﴾ أي‪« :‬كل ما‬ ‫رحمه الله – فى تفسير قوله تعالى‪َّ ﴿ :‬ما ْ‬
‫تقدرون عليه‪ ،‬من القُ َّوة العقلية‪ ،‬والبدنية‪ ،‬وأنواع األسلحة‪ ,‬ونحو ذلك»‪.‬‬
‫فدخل فى ذلك أنواع الصناعات التى تعمل فيها أصناف األسلحة واآلالت‪ ،‬من‬
‫المدافع والرشاشات والبنادق‪ ،‬والطيارات الجوية‪ ،‬والمراكب البرية والبحرية‪،‬‬
‫والقِالع‪ ،‬والخنادق‪ ،‬وآالت الدفاع‪ ،‬والرأى والسياسة‪ ،‬التى بها يتقدم ال ُم ْسلِمون‪ ،‬ويندفع‬
‫عنهم بها شرُّ أعدائهم‪ ،‬وتعلم الرمى وال َّش َجاعَة‪ ،‬والتدبير»(‪.)4‬‬
‫لقد جمع عبد هللا بن ياسين – رحمه هللا‪ -‬من القُ َّوة الفكرية أنواعًا متعددة؛ من قُ َّوة‬
‫اإلدراك‪ ،‬وقُ َّوة الصبر‪ ،‬وقُ َّوة العلم‪ ،‬وقُ َّوة التلقي‪ ،‬وغيرها من القوى‪.‬‬
‫‪ )(1‬نونية أبي عبد هللا القحطاني‪ ،‬ص (‪.)39‬‬
‫‪ )(2‬رواه مسلم رقم (‪.)910‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري فتح الباري‪( ،‬ج‪.)6/431‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الصفات الالزمة للدعاة‪ ،‬ص (‪.)22‬‬
‫‪19‬‬
‫ومن هنا يتضح لنا حاجة العاملين فى الحركة اإلسالمية إلى هاتين القُ َّوتَيْن‪ ،‬البدنية‬
‫والعقلية وجميع أنواع القوى الفكرية لتوظيفها فى الدعوة إلى هللا(‪.)1‬‬
‫ولقد أشار القرآن الكريم إلى قيمة القُ َّوة العقلية الفكرية وإلى القُ َّوة البدنية فى بنيان‬
‫أمة مجاهدة تحفز للنهوض بعبء النضال‪ ،‬فى سبيل عقيدتها وحريتها‪ ،‬وكان من‬
‫ومن عليه بهاتين القُ َّوتَيْن البدنية والعقلية‪ ،‬قال تعالى‪َّ ﴿:‬‬
‫إن‬ ‫صفات قائدها أن هللا أعطاه َّ‬
‫ْج ْس ِم﴾ [البقرة‪ .]247:‬فبسطة العلم إشارة‬ ‫ادهُ بسطَةً فِى ال ِْعل ِْم وال ِ‬
‫َ‬ ‫اصطََفاهُ َعلَْي ُك ْم َو َز َ َ ْ‬
‫اهللَ ْ‬
‫إلى القُ َّوة العقلية‪ ،‬وبسطة الجسم إشارة إلى القُ َّوة البدنية‪ ،‬قال الشيخ حسن البنا – رحمه‬
‫هللا – فى األصل األول من األصول العشرين‪ :‬إن القُ َّوة تشمل قُ َّوة اإلنسان التى تجعله‬
‫قويًا فى نفسه وبدنه وعقله‪ ،‬وعليه أن يباشر األسباب التى تجعله قويًا‪ ،‬أ َّما قُ َّوة نفسه‬
‫فباإليمان‪ ،‬وأ َّما قُ َّوة بدنه فبالرياضة والفروسية ونحوها‪ ,‬أما قُ َّوة عقله فبالعلم» (‪.)2‬‬
‫واإلنسان ال ُم ْسلِم الذى وهبه هللا القُ َّوة العقلية والفكرية والبدنية ال ينسى دائ ًما وأبدًا‬
‫قُ َّوة القويِّ العزيز الذى أمده بكل خير وفالح وصالح‪ ,‬وما سوى قُ َّوة هللا‬
‫فهى قُ َّوة ضئيلة هزيلة‪ ،‬مهما أوتيت من وسائل البطش والقُ َّوة والتنكيل‪ ،‬فهى بمثابة‬
‫ن﴾ [العنكبوت‪]41:‬‬ ‫ت الْعن َكب ِ‬
‫وت ل َْو َكانُوا َي ْعلَ ُمو َ‬ ‫ِ‬
‫خيوط العنكبوت‪َ ﴿:‬وإنَّ أ َْو َه َن الُْبيُوت لََب ْي ُ َ ُ‬
‫(‪.)3‬‬
‫قال سيِّد قُطب – رحمه هللا – فى ظالله‪« :‬وإن أصحاب الدعوات‪ ،‬الذين‬
‫يتعرضون للفتنة واألذى واإلغراء واإلغواء لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة‬
‫الضخمة‪ ،‬وال ينسوها لحظة‪ ،‬وهم يواجهون القوى المختلفة المعادية‪ ،‬التى تحاول‬
‫َسحْ قَهم وإبادتهم‪ ،‬كلها خيوط عنكبوت فى حساب العقيدة الصحيحة»(‪.)4‬‬
‫الز ِعيم الديىن لدولة املرابطني األمانة‪ ،‬فحني‬‫الص َفات الفطرية الىت متيز هبا َّ‬
‫‪ -4‬األمانة‪ :‬ومن ِّ‬
‫اآلمر الناهى ىف قبائل امللَثَّمني‪ ،‬مل‬
‫وجد الفقيه عبد اهلل بن ياسني أن القلوب التفت حوله‪ ،‬وأصبح َ‬
‫ُ‬
‫يتدخل ىف ُسلطات األمري حيىي‬ ‫يُنافِس األمري حيىي بن إبراهيم ىف منصبه‪ ،‬بل جنده مل يتجاوز حدوده‪ ،‬ومل َّ‬
‫معا‪ ،‬وهذا ُّ‬
‫يدل على أمانة‬ ‫مع مقدرته‪ Z‬على إزاحته وإبعاده من الطريق ليتبوأ الزعامة السياسية والدينية ً‬
‫الداعية الفقيه عبد اهلل بن ياسني‪ ,‬واألمانة صفة مهمة للعاملني ىف احلركة اإلسالمية‪ ،‬فهى ذات أنوار‬
‫تشع على من حول الدعاة إىل اهلل فتجذهبم لالخنراط ىف ميادين العمل اإلسالمى الواسعة واحملتاجة لكل‬
‫جهد وشخص خملص هلذا الدين‪.‬‬
‫جدا‪.‬‬
‫واألمانة حتتاج إىل أشخاص أقوياء حلملها‪ ,‬ومفهوم األمانة ىف القرآن واسع ً‬
‫وقد وصف اهلل املؤمنني الذين نالوا الفالح ىف الدنيا واآلخرة وورثوا جنة الفردوس بصفات منها‬
‫األمانة‪.‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬رسالة التعاليم‪ ,‬ص (‪.)10‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الصفات الالزمة للدعاة‪ ،‬ص (‪ ,)22‬نقالً عن طريق الدعوة فى الظالل‪.‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الظالل‪ :‬لسيد قطب‪ ،‬نقالً عن الصفات الالزمة ألصحاب الدعوات‪ ،‬ص (‪.)22‬‬
‫‪20‬‬
‫ألمانَاتِِه ْم َو َع ْه ِد ِه ْم َراعُو َن﴾ [المؤمنون‪.]8 :‬‬
‫ين ُه ْم َ‬
‫َّ ِ‬
‫قال تعاىل‪َ ﴿:‬والذ َ‬
‫أفرادا‪ ،‬وراعون‬
‫يقول سيِّد قُطب – رمحه اهلل – ىف تفسري هذه اآلية‪« :‬وراعون ألماناهتم وعهدهم ً‬
‫ألماناهتم وعهدهم مجاعة‪ ،‬واألمانات كثرية ىف عنق الفرد‪ ،‬وىف عنق اجلماعة‪ ،‬واجلماعة امل ْسلِمة مسئولة‬
‫ُ‬
‫عن أماناهتا العامة‪ ،‬عن عهدها مع اهلل تعاىل‪ ،‬وما يرتتب على هذا العهد من تبعات‪ ،‬والنص حيمل‬
‫التعبري ويدعه يشمل كل أمانة‪ ،‬وكل عهد‪ ,‬ويصف املؤمنني بأهنم ألماناهتم وعهدهم راعون‪ ،‬فهى صفة‬
‫رعى فيها العهود»(‪.)1‬‬‫ؤدى فيها األمانات وتُ َ‬
‫دائمة هلم ىف كل حني‪ ،‬وما تستقيم حياة اجلماعة إال أن تُ َّ‬
‫فعبد اهلل بن ياسني – رمحه اهلل – اتصف باألمانة فعظم شأنه ىف نظر أتباعه وىف تاريخ امل ْسلِمني؛‬
‫ألنَّه كان أمينا ىف نفسه ومع إخوته‪ ،‬ومحل أمانة اإلسالم‪ ،‬وبذل كل ما ىف وسعه‪ ،‬وحترك ُ‬
‫مبنهج اهلل ىف‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫دنيا النَّاس لتحكيم شرع اهلل‪ ،‬فأكسبته هذه الصفة ىف نفوس النَّاس قبوالً‪.‬‬
‫‪ -5‬الحياء‪ :‬والصفة اخلامسة الفطرية الىت ُجبل عليها عبد اهلل بن ياسني‪ ,‬احلياء الذى هو شعبة‬
‫ب اإلميان‪ ،‬ويظهر ذلك جليًا عندما طلب شيخه منه الذهاب مع حيىي ابن إبراهيم للدعوة فلم‬ ‫من ُش َع ِ‬
‫يعارض ومل يناقش بل استجاب لشيخه‪ ,‬كما نالحظ ذلك ىف سريته مع حيىي بن إبراهيم الذى متلك‬
‫حب عبد اهلل بن ياسني وأسر فؤاده بإحسانه وكرمه وحرصه على دعوة النَّاس لدين اهلل‪ ،‬فعندما‬ ‫قلبَه ُّ‬
‫عرض األمري حيىي على عبد اهلل بن ياسني ِربَاطًا ىف ضفاف هنر السنغال أجابه عبد اهلل بن ياسني الذى‬
‫وعرف‬
‫عازما على ترك جدالة وملتونة؛ ملا أصابه من عنتهم وظلمهم وجورهم ىف بداية دعوته هلم‪َّ .‬‬ ‫كان ً‬
‫العلماء احلياء فقالوا‪« :‬‬
‫أصل االستحياء االنقباض عن الشيء واالمتناع منه خوفًا من مواقعة القبيح»(‪.)2‬‬
‫وقال الجنيد‪« :‬إن الحياء يتولد من مشاهدة النعم ورؤية التقصير»(‪.)3‬‬
‫صفُ بها النبالء والشرفاء من النَّاس‪,‬‬ ‫صفَات الرائعة التى يتَّ ِ‬ ‫فالحياء من المعانى وال ِّ‬
‫َّحابِى الجليل أبو سعيد‬ ‫َ‬ ‫ص‬ ‫ال‬ ‫وصفه‬ ‫وقد‬ ‫‪,‬‬‫ء‬‫ً‬ ‫حيا‬ ‫وكان الرسول × أش َّد النَّاس‬
‫درها‪ ،‬فإذا‬‫أش) َّد حيا ًء من العذراء فى ِخ ِ‬ ‫ال ُخدَريُّ ‪ ‬بقوله‪« :‬كان رسو ُل هللاِ ×‬
‫رأى شيئًا يكرهه عَرفناه فى وجهه» ‪.‬‬
‫(‪4‬‬

‫وقال رسول هللا ×‪« :‬الحياء ال يأتى إال بخير» (‪ ،)5‬ومن الحياء غضُّ البصر‪،‬‬
‫وخفض الجناح‪ ،‬وعدم رفع الصوت إال فى وجه الباطل‪.‬‬
‫فعلى العاملين فى الدعوة إلى هللا أن يُالزموا هذه الصفة الجميلة‪.‬‬
‫وتحث عليه‪ ،‬هو الذى‬‫ُّ‬ ‫فالحياء المطلوب فى صفة الداعية والذى تدعو إليه الشريعة‬

‫‪ )(1‬فى ظالل القرآن‪ ,‬ص (‪.)2456‬‬


‫‪ )(2‬الصفات الالزمة لحياة الدعاة‪ ,‬ص (‪.)27-26‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق نفسه‪ ,‬ص (‪.)27-26‬‬
‫‪ )(4‬البخاري‪ ،‬فتح الباري‪( ,‬ج‪.)12/151‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري (‪.)6117‬‬
‫‪21‬‬
‫يحث صاحبه على‬ ‫ُّ‬ ‫يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصى والوقوع فى اآلثام‪ ،‬وفى نفس الوقت‬
‫والذود عنه‪ ،‬والوقوف أمام الباطل بشتى أنواعه‪.‬‬ ‫العمل ال َّد ُءوب لإلسالم‪ ،‬ومناصرة الح ِّق َّ‬
‫قال رسول هللا ×‪« :‬اإليمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول ال إله إال هللا‪,‬‬
‫وأدناها إماطة األذى عن الطريق‪ ،‬والحياء شعبة من اإليمان»(‪.)1‬‬
‫صفة الفاضلة البُ َّد منها فى أخالق ال ُّدعاة الربَّانيين وال‬ ‫إن هذا الخلق الكريم وال ِّ‬
‫َّ‬
‫يمنعهم هذا الخلق أن يُفرِّطوا فى طلب معالى األمور والصعود على ُسلم الفضائل‪،‬‬
‫والوصول إلى الغايات النبيلة من تفقه فى الدين وتعلم العلم والحرص عليه‪.‬‬
‫فعن عائشة –رضى هللا عنها‪ -‬قال‪« :‬نِع َم النساء نساء األنصار‪ ،‬لم يمنعهن الحياء‬
‫أن يتفقهن فى الدين»(‪.)2‬‬
‫‪ -6‬الحلم‪ :‬والصفة السادسة من الصِّ فَات الفطرية التى يالحظها الباحث فى حياة‬
‫الحلم‪ ،‬فنجده عندما تم َّكن من قبائل جدالة ولمتونة‬ ‫الفقيه عبد هللا بن ياسين هى صفة ِ‬
‫التى حاربت دعوته عفا عنها وأحسن إليها‪ ،‬وكل من انصاع ألحكام هللا من المخالفين‬
‫والمحاربين له عفا عنه‪.‬‬
‫والحلم كما هو معلوم سيد األخالق؛ فالحليم هو الذى يتحمل أسباب الغضب‪,‬‬
‫فيصبر ويتأنى‪ ,‬وال يثور‪.‬‬
‫من هنا ينبغى على الداعية أن يمأل صدره بالحلم‪ ,‬ألن طريق الدعوة محفوفة‬
‫بالمكاره‪ ،‬والمتاعب واإليذاء‪ ،‬والبطش‪ ،‬والسخرية‪ ،‬وهذه كلها عقبات تزدحم فى وجه‬
‫الداعية والدعاة إلى هللا(‪.)3‬‬
‫ولقد ض َرب هللا لنا فى كتابه العزيز نماذج ِمن حلم رسله وسعة صدورهم على ما‬
‫َّ ِ‬
‫ال ال َْمألُ الذ َ‬
‫ين‬ ‫القوه من إيذاء وابتالء من قَومهم‪ ،‬قال تعالى عن هُود عليه السالم‪﴿ :‬قَ َ‬
‫س بِى‬ ‫ِِ‬ ‫اك فِى س َفاه ٍة وإِنَّا لَنظُن َ ِ‬ ‫َك َف ُروا ِمن قَومِ ِه إِنَّا لََن َر َ‬
‫ال يَا قَوم ل َْي َ‬ ‫ين ‪ ‬قَ َ‬
‫ُّك م َن الْ َكاذب َ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اهةٌ ول ِ‬
‫ين ‪ ‬أ َُبلِّغُ ُك ْم ِر َساالَت َربِّى َوأَنَا لَ ُك ْم نَاص ٌح أَم ٌ‬
‫ين‬ ‫ب ال َْعالَم َ‬ ‫ول ِّمن َّر ِّ‬ ‫َكنِّى َر ُس ٌ‬ ‫َس َف َ َ‬
‫﴾ [األعراف‪.]68-66 :‬‬
‫ص َّورت لنا هذه اآليات مقدار الحلم الذى يتصف به هود عليه السالم وسعة‬
‫صدره‪ ،‬حيث لم يعبأ بهذا السباب‪ ،‬وبهذه السخرية والشتائم‪ ،‬ولم يطش لها حلمه‪ ،‬بل‬
‫قابل هذه الشتائم والسباب والسخرية بدعوة التوحيد‪ ،‬ووضَّح لهم مهمة رسالته وأخيرًا‬
‫نصحهم بالحسنى وأنَّه أمين على ذلك‪.‬‬
‫التصور‪ ،‬وخصوصًا إذا علمنا أن حلمه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫أ َّما رسول هللا × فكان حلمه‪ ،‬يفوق حد‬
‫كان مع القدرة على البطش ور ِّد الفعل بأنكى وأعتى‪ ،‬فقد روى أنس بن مالك ‪ ‬قال‪:‬‬
‫«كنت أمشى مع رسول هللا ×‪ ,‬وعليه برد نجرانى غليظ الحاشية‪ ،‬فأدركه أعرابي‪،‬‬
‫نظرت إلى صفحة عاتق رسول هللا × وقد أثَّرت بها‬ ‫ُ‬ ‫فجذبه بردائه جذبة شديدة حتى‬
‫حاشية الرداء من شدة جذبته ثم قال‪« :‬يا ُم َح َّمد‪ُ ,‬مرْ لى من مال هللا الذى عندك‪ ،‬فالتفتَ‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم رقم (‪.)35‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم (ج‪.)1/261‬‬
‫‪ )(3‬انظر ‪ :‬الصفات الالزمة للدعاة إلى هللا‪ ،‬ص (‪.)30‬‬
‫‪22‬‬
‫إليه فضحك‪ ،‬ثم أمر له بعطاء»(‪.)1‬‬
‫إن الدعاة إلى هللا تعالى الذين يسعون إلقامة شرع هللا على منهج النبوة الخالد‪،‬‬
‫لمحتاجون إلى هذه الصفة الرفيعة فى حركتهم الدائبة والمستمرة‪ ،‬وإن كتب التَّ ِ‬
‫اريخ‬
‫اإلسالمى تبين لنا أن طالئع الفتح والتَّمكين دائ ًما وأبدًا تكون هذه الصفة بارزة فى‬
‫صفوفهم‪.‬‬
‫‪ -7‬الجاذبية الفطرية‪ :‬وهذه الصفة بارزة للعيان فى شخصية الفقيه عبد هللا‬
‫ابن ياسين وبها ج َذب قلوب أبناء الصنهاجيين بدون تكلُّف‪ ,‬وهى من أقوى العناصر‬
‫التى تكونت منها شخصية الفقيه ابن ياسين‪.‬‬
‫لقد استطاع أن يملك قلوب َمن جالسوه وسمعوا حديثه من أمثال يحيى بن إبراهيم‪،‬‬
‫ويحيى بن عمر‪ ،‬وأبى بكر بن عمر‪ ،‬وغيرهم من قادة الصنهاجيين وشيخوخهم‪ ،‬وال‬
‫صفَات المهمة فى شخصية الداعية هى من العطايا‬ ‫ك إن ما ذكرناه من هذه ال ِّ‬ ‫ش َّ‬
‫العظيمة التى يهبها هللا لفئة من عباده الذين أخلصوا القول والعمل‪.‬‬
‫إن صالَتِى ونُس ِكى وم ْحياي ومماتِى ِ‬
‫هلل‬ ‫ََ َ َ َََ‬ ‫َ ُ‬ ‫وكان قول هللا تعالى متمثالً فيهم‪﴿:‬قُ ْل َّ َ‬
‫الم ْسلِمين﴾ [األنعام‪.]162،163 :‬‬
‫ت َوأَنَا أ ََّو ُل ُ‬‫ك أُِم ْر ُ‬
‫يك لَهُ َوبِ َذلِ َ‬
‫ين ‪ ‬الَ َش ِر َ‬ ‫ِ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬ ‫َر ِّ‬
‫ب ‪ -‬من الصفات المكتسبة فى شخصية الفقيه ابن ياسين‪:‬‬
‫‪ -1‬الصدق‪ :‬وظهر ذلك فى أقواله وأفعاله ومخالطته لِلنَّاس‪ ،‬فكان صادقًا فى‬
‫دعوته وفى عرضها‪ ،‬وفى مخاطبته لِلنَّاس‪ ،‬وال يهاب أحدًا‪ ,‬وال يخشى فى هللا لومة‬
‫الئم‪ ،‬وال همزة هماز‪ ،‬وال لمزة ل َّماز‪.‬‬
‫ولمس النَّاس صدقه فى أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر‪ ,‬وفى حربه للبدع‪ ,‬وفى‬
‫تعليمه لِلنَّاس وجهاده فى سبيل هللا فتأثر أتباعه به غاية التأثر‪.‬‬
‫آمنُوا‬ ‫َّ ِ‬ ‫ُّ‬
‫ين َ‬‫وحثنا القرآن الكريم على التخلق بهذه الصفة فقال تعالى‪﴿:‬يَا أ َُّي َها الذ َ‬
‫ين﴾ [التوبة‪.]119 :‬‬ ‫َّات ُقوا اهلل و ُكونُوا مع َّ ِ ِ‬
‫الصادق َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ‬
‫وكانت التوجيهات النبوية الكريمة للصحابة رضوان هللا عليهم تحثُّهم على‬
‫ص ْدق يهدى إلى البر‪ ،‬وإن‬ ‫الصِّ ْدق‪ ،‬فعن ابن مسعود ‪ ,‬عن النبى × أنه قال‪« :‬إن ال ِّ‬
‫الب َّر يهدى إلى الجنَّة‪ ،‬وإن الرَّجل ليصدُق ويتحرى الصِّ ْدق حتى يكتب عند‬
‫هللا صديقًا»(‪.)2‬‬
‫الص ْدق من أهم صفات املنتسبني للعمل‪ Z‬اإلسالمى القائمني بإرشاد النَّاس إلى دين هللا‪،‬‬ ‫ويُعتََب ُر ِّ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫وليع تما ًما أن دعوته جاءت بالصِّ ْدق‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿:‬والذى‬ ‫فليعلم ذلك كل داعية‪،‬‬
‫ِ‬
‫ص َّد َق بِ ِه أُولَئِ َ‬
‫ك ُه ُم ال ُْمَّت ُقو َن﴾ [الزمر‪.]33:‬‬ ‫اء بِ ِّ‬
‫الص ْدقِ َو َ‬ ‫َج َ‬
‫وقد شهد ال ُمؤَ ِّر ُخون حتى الذين طعنوا فى دولة المرابطين على صدق زعيمها‬
‫عبد هللا بن ياسين‪ ،‬لقد ساد ابن ياسين فى قبائل ال ُملَثَّمين بصدقه فى دعوته‪.‬‬

‫‪ )(1‬أخرجه البخاري فى الفتح (‪ ،)7/63‬والحديث (‪.)3149‬‬


‫‪ )(2‬أخرجه البخاري في الفتح (‪ ،)13/121‬الحديث (‪.)2094‬‬
‫‪23‬‬
‫‪ -2‬ضبط النفس واالبتعاد عن التهور واالنفعال‪ :‬ويظهر ذلك جليًا فى‬
‫شخصية ابن ياسين عندما باشر األمير يحيى بن عمر اللمتونى القتال‪ ,‬وأمضى الحرب‬
‫بنفسه فأ َّدبه ابن ياسين وضربه بالسوط عشرين مرة‪ ,‬وبيَّن له أن ذلك خطأ‪ ،‬ألن األمير‬
‫ال يقاتل وإنَّما يقف يُح ِّرض النَّاس ويُق ِّوى نفوسهم فإن حياة األمير حياة عسكره‪ ،‬وموته‬
‫فناء جيشه‪.‬‬
‫واعتبَ َر عبد هللا بن ياسين إقدام األمير يحيى على القتال فيه تهور وعدم ضبط النفس‪.‬‬
‫كما يدلُّ على ضبط نفس الفقيه ابن ياسين‪ ،‬وابتعاده عن التَّهَ ُّور أنه لم يعلن الجهاد‬
‫حتى أع َّد ُع َّدتَه‪ ،‬واستكمل أمره وأخذه بمراحله‪ ،‬وربى رجاله‪ ،‬ولذلك عندما خاض‬
‫جهاده كان موفقًا منصورًا‪ ،‬ولم تستطع القُ َّوة المعارضة له أن تقضى عليه(‪.)1‬‬
‫إن الداعية يتعرض أثناء قيامه بعمله اإلصالحي‪ ،‬إلى كثير من الجدال والتحدى‬
‫واألذى‪ ،‬فعليه أن يتحلَّى بالصبر‪ ،‬وضبط النفس؛ ألن طريق الدعوة كما هو معروف‬
‫طويل ويحتاج إلى صبر حتى الوصول إلى نهايته‪.‬‬
‫فعملية ضبط النفس وعدم التَّهَ ُّور واإلسراع فى تهدئة الجو مطلوب من الداعية‬
‫قبل التورُّ ط فيما ال تُح َم ُد عقباه‪.‬‬
‫يصور‬ ‫ِّ‬ ‫إن ضبط النفس يتم بموازين ُمحددة تقى صاحبها من مغبة انسياقه وراء ما‬
‫له خياله‪ ،‬ويراه فى نظره هو األسلم فعندئ ٍذ يغضب‪ ،‬ويندفع ويتعجل األمور فيتورَّط‪,‬‬
‫وتصورُها لنا تصويرًا كأنَّنا نلمسه‬ ‫ِّ‬ ‫ولقد ذكر لنا القرآن قصة تعطى هذه المعاني‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ث لَنَا َمل ًكا ُّن َقات ْل‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ونشاهده‪ ،‬تلك قصة المأل من بنى إسرائيل‪﴿:‬إِ ْذ قَالُوا لنَب ٍّي ل ُه ُم ْاب َع ْ‬
‫اهلل﴾[البقرة‪.]246 :‬‬ ‫يل ِ‬ ‫فِى َسبِ ِ‬
‫وفى هذه القصة عبر وعظات‪ ،‬فإن أش َّد النَّاس حماسة واندفاعًا وتهورًا‪ ،‬قد‬
‫ِ‬
‫ب‬‫ال َه ْل َع َس ْيتُ ْم إِن ُكت َ‬ ‫يكون أشد النَّاس جزعًا وانهيارًا وهزيمة ونقضًا للعهد‪﴿:‬قَ َ‬
‫اهلل َوقَ ْد أُ ْخ ِر ْجنَا ِمن ِديَا ِرنَا‬ ‫يل ِ‬ ‫ال أَالَّ ُت َقاتِلُوا قَالُوا َو َما لَنَا أَالَّ ُن َقاتِ َل فِى َسبِ ِ‬
‫َعلَْي ُك ُم ال ِْقتَ ُ‬
‫ال َتولَّوا إِالَّ قَلِيالً ِّم ْن ُهم واهلل َعلِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾ [البقرة‪:‬‬ ‫يم بالظَّالم َ‬‫ْ َ ُ ٌ‬ ‫ب َعلَْي ِه ُم الْقتَ ُ َ ْ‬ ‫َوأ َْبنَائنَا َفلَ َّما ُكت َ‬
‫‪.]246‬‬
‫وهكذا نكثوا وعدهم‪ ،‬وتفلَّتوا من الطاعة‪ ،‬ونكصوا عن التكليف‪ ،‬وهذا شأن‬
‫المتهورين المتس ِّرعين‪ ،‬الذين ال يُقدِّرون الظروف‪ ،‬وال يحسبون الصحيح وال يعرفون‬
‫قيمة للتكاليف الملقاة على عاتقهم(‪.)2‬‬
‫ورحم هللا الشيخ حسن البنا حيث يقول‪« :‬أيُّها األخوان ال ُم ْسلِمون‪ ،‬وبخاصة‬
‫المتحمسون المتعجلون منكم‪ ،‬اسمعوها منى كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر ‪ -‬فى‬
‫مؤتمركم هذا الجامع‪ -‬إن طريقكم هذا مرسومة خطواته‪ ,‬موضوعة حدوده‪ ،‬ولست‬
‫مخالفًا هذه الحدود التى اقتنعت كل االقتناع بأنَّها أسلم طريق للوصول‪ ،‬ف َمن أراد منكم‬
‫أن يستعجل ثمرة قبل نضجها‪ ،‬أو يقطف زهرة قبل أوانها‪ ،‬فلست معه فى ذلك بحال‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬روض القرطاس ص (‪.)80-79‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الصفات الالزمة للدعاة‪ ,‬ص (‪.)44‬‬
‫‪24‬‬
‫وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات‪ ...‬ألجموا نزوات‬
‫العواطف‪ ،‬بنظرات العقول‪ ،‬وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف‪ ،‬وألزموا الخيال‬
‫صدق الحقيقة والواقع‪ ،‬واكتشفوا الحقائق فى أضواء الخيال الزاهية البرَّاقة‪ ،‬وال تميلوا‬
‫ك َّل الميل فتذروها كالمعلقة‪ ،‬وال تصادموا نواميس الكون‪ ،‬فإنها غالبة‪ ،‬ولكن غالبوها‪،‬‬
‫واستخدموها‪ ،‬وحوّلوا تيارها‪ ،‬واستعينوا ببعضها على بعض‪ ،‬وترقَّبوا ساعة النصر‬
‫وما هى منكم ببعيد»(‪.)1‬‬
‫فينبغى على العاملين فى الحركة اإلسالمية أن يُ ْد ِر ُكوا هذا جيدًا‪ ,‬ويتركوا عنهم‬
‫المتهور‪ ،‬ويتفهموا أصول العمل‪ ,‬ويُ ْد ِر ُكوا الواقع الذى يحيط بهم‪ ,‬وينبذوا‬
‫ِّ‬ ‫الحماس‬
‫المجازفات الفاشلة؛ إن واقعنا المعاصر يحتاج إلى صفة ضبط النفس وعدم التَّهَ ُّور‬
‫للعاملين فى الدعوة إلى هللا عز وجل‪.‬‬
‫‪ -3‬اإلرادة القوية‪:‬‬
‫لقد شهد ال ُمؤَرِّ ُخون ال ُم ْسلِمون وغيرهم أن ابن ياسين – رحمه هللا تعالى – كان ذا‬
‫بسمو دعوته‪ ,‬وقدسيَّة فكرتِه‪ ،‬وعزم على أن يعيش‬ ‫ِّ‬ ‫همة وعزيمة ال تهزها الجبال‪ ,‬آمن‬
‫وأدرك أن األمانة التى يحملها ودخل بها الصحراء الكبرى‬ ‫َ‬ ‫لها ويموت فى سبيلها‪،‬‬
‫تبعتها عظيمة؛ فعليه أن يصبر فى عزيمة قوية‪ ،‬وإيمان ثابت ويقين ال يدخله تردد وال‬
‫شك‪.‬‬
‫فداو َم على العمل الجاد وأخ َذ بقُ َّوة وعزم ومثابرة ومصابرة حتى تحقق إعزاز دين‬ ‫َ‬
‫هللا فى تلك الصحارى القاحلة المقفرة الخالية من العلماء والفقهاء‪ ،‬فأصبحت بفضل هللا‬
‫ثم بجهده وجهاده مليئة بالدعاة والفقهاء والعلماء والمجاهدين‪.‬‬
‫فينبغى علينا ونحن فى طريق الدعوة سائرون أن نأخذ أمر الدعوة بقُ َّوة‪ ،‬وإرادة‬
‫قوية وعزيمة ماضية‪ ،‬وهمة متطلعة للمعالي‪ ،‬ونترك حياة الرخاء واللين والدعة‪،‬‬
‫ونقتدى بسيد الدعاة الرسول × فى عزمه وقُ َّوة إرادته‪ ،‬وجمال صبره وشدة تحمله‪،‬‬
‫وعظم حلمه‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الصفات العقلية التى ظهرت فى شخصية ابن ياسين‪:‬‬
‫‪ -1‬القدرة على الفهم واالستيعاب‪ :‬استطاع ابن ياسين أن يفهم ويستوعب‬
‫العل ِميَّة التى كانت فى زمانه من فقه وحديث ولغة وأصول وغيرها من العلوم‬ ‫المناهج ِ‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫حتى تأهَّل ألن يكون أهال لحمل الرسالة التى كلفه بها شيوخه‪ ،‬كما انجلى لى قدرته‬
‫على فهم واقعه الذى يريد تغييره وحدد أولويات المرحلة التى هو فيها وشرع فى‬
‫إصالحها‪ ،‬كما أنه استوعب الظروف السياسية فى زمانه‪ ,‬واستطاع أن يستفيد منها‬
‫لدعوته‪.‬‬
‫فينبغى على العاملين فى الدعوة اإلسالمية أن يكون لهم وعى سياسى بواقعهم‪ ،‬وخبرة‬
‫باألساليب الحركية والتنظيمية‪ ,‬ومهارة فى التخطيط المنظم المتزن حتى نستطيع أن نواجه‬
‫العدوان الشرس ال ُموجَّه ألمتنا اإلسالمية ونتصدى له بأسلوب كله حكمة وحنكة‪.‬‬
‫ومن هنا يتوجب على األخ الداعية‪ ،‬أن تكون عنده قدرة على الفهم والتجارب‬
‫والسرعة فى التنفيذ‪ ،‬وأن يتسلح بالمعرفة التا َّمة‪ ،‬وأن يفهم دعوته حق الفهم كى‬
‫‪ )(1‬مجموعة الرسائل‪ ،‬لحسن البنا‪ ,‬ص (‪.)180‬‬
‫‪25‬‬
‫بالخبِّ ‪ ,‬وال ال ِخبُّ يخدعني»‪.‬‬
‫يستطيع أن يُبلغَها حق التبليغ‪ ،‬قال عمر ‪« :‬لست ِ‬
‫‪ -2‬النظر الثاقب والقدرة على الوصول للقرار الحاسم دون تردد‪:‬‬
‫ويظهر ذلك فى سيرة الفقيه عبد هللا بن ياسين عندما طلب فقهاء سجلماسة ودرعة‬
‫فى عام ‪447‬هـ منه القدوم ليخلصهم من الحكام والطغاة الظلمة من زناتة المغراويين‪،‬‬
‫ومن أميرهم مسعود بن أنودين‪ ،‬فجمع ابن ياسين شيوخ قَومه وقرأ عليهم رسالة فقهاء‬
‫سجلماسة‪ ،‬فأشاروا عليه بم ِّد يد العون لهم‪ ،‬وقالوا له‪:‬‬
‫«أيها الشيخ الفقيه هذا ما يلزمنا فسر على بركة هللا»؛ فأخذ قراره الحاسم‪,‬‬
‫وتحركت جموع المرابطين فى شهر صفر سنة ‪447‬هـ إلى بالد درعة‪ ،‬واشتبكت مع‬
‫المغراويين الذين انهزموا أمام المرابطين وتشتت جموعهم‪ ,‬ودخل ابن ياسين‬
‫سجلماسة‪ ،‬وأصلح أحوالها وق َّدم عليها عامالً من أتباعه وجعل فيها حامية من جنوده‬
‫ورجع إلى الصحراء(‪.)1‬‬
‫فعلى العاملين فى الدعوة اإلسالمية‪ ,‬االتصاف بصفة النظر الثاقب‪ ،‬وسرعة اتخاذ‬
‫القرار الحاسم دون أى تردد‪ ،‬ودون أى ريب‪ ،‬لأن الداعية الربانى ينظر بنور هللا‪،‬‬
‫وهذا النُّور اإللهي‪ ،‬إذا ح َّل فى قلب المؤمن يولِّد فيه البصيرة الثاقبة‪ ,‬التى يعرف بها‬
‫ك بها الصِّعاب(‪َ ﴿ .)2‬ي ْه ِدى اهللُ لِنُو ِر ِه َمن يَ َشاءُ ﴾‬
‫الحقائق‪ ،‬ويزن بها األمور‪ ،‬ويدر ُ‬
‫[النور‪.]35:‬‬
‫د ‪ -‬الصفات الحركية التى ظهرت للباحثين فى شخصية ابن ياسين‪:‬‬
‫‪ -1‬الشعور بالمسئولية‪:‬‬
‫والتزود‬
‫ُّ‬ ‫وبدأ الشعور بالمسئولية فى حياة ابن ياسين منذ أن رغب فى التحصيل‬
‫للعلم واالستعداد للدعوة‪ ,‬وازداد ظهور ذلك فى شخصيته عندما دخل مع األمير يحيى‬
‫ابن إبراهيم فى قبائل ال ُملَثَّمين حيث تولد فى أعماقه شعور بمسئولية الدعوة فى هذه‬
‫األمة الجاهلة من قبائل صنهاجة‪ ،‬وكان شعورًا جرى فى عروقه جريان الدم‪ ،‬فأحسَّ‬
‫بعظمة التكليف‪ ,‬وأعباء المسئولية فقام بأدائها خير أداء‪.‬‬
‫إن األمة اإلسالمية فى هذه األيام بمسيس الحاجة إلى العناصر التى تتحرك ذاتيًا‬
‫نحو مسئوليتها‪ ،‬وبحاجة إلى عناصر تتقد نفوسها شعورًا وإحساسًا بواجباتها‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وبحاجة إلى عناصر يغلى فيها الشعور لهذا الدِّين‪ ،‬وهى تريد عناصر ال‬
‫يهدأ تفكيرها للعمل لهذا الدين ساعة من ليل أو نهار‪.‬‬
‫فالشعور بالمسئولية أمر البُ َّد منه لكل داعية نذر نفسه هلل ولرسوله ولدينه‪ ،‬وعليه‬
‫أن يتحرك فى هذه الحياة بمقدار ما يحمله من مسئولية‪ ,‬ألن حياة الداعية هى التحرك‬
‫لإلسالم ال القعود وال الهمود(‪.)3‬‬
‫وقد أحسن الشيخ الدكتور يوسف القرضاوى عندما قال‪:‬‬

‫‪ )(1‬تاريخ المغرب واألندلس فى عصر المرابطين‪ ,‬حمدي عبد المنعم‪ ،‬ص (‪.)42‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الصفات الالزمة للدعاة إلى هللا‪ ,‬ص (‪.)63‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق‪ ,‬ص (‪.)73-72-71‬‬
‫‪26‬‬
‫ال السكون وال الهمود‬ ‫ُ‬
‫قلت الحيلة هى التحرك‬
‫من تعلق بالقعود‬ ‫وهى الجهاد وهل يجاهد‬
‫ال التلذذ بالرقود‬ ‫وهى التلذذ بالمتاعب‬
‫وأى حر ال يذود‬ ‫هى أن تذود عن الحياض‬
‫الذل من ماء صديد‬ ‫هى أن تحس بأن كأس‬
‫(‪)1‬‬
‫فى األرض شأنك أن تسود‬ ‫هى أن تعيش خليفة‬
‫‪ -2‬النظام والدقة‪:‬‬
‫وظهرت صفة النظام والدقة فى شخصية الفقيه ابن ياسين عندما تكاثر عدد‬
‫المريدين فى رباطه الذى اتخذه قريبًا من نهر السنغال؛ حيث وضع شروطًا فى قبول‬
‫كل جديد كى يحفظ صفو جماعته من ال ُمخَ ِّربين‪ ،‬فكان ينتقى أطهر ال ُملَثَّمين نفسًا‬
‫وأوفرهم قُ َّوة وأقدرهم على تحمل المشاق‪ ،‬و َمن توفرت فيه الشروط واجتاز التجربة‬
‫بنجاح يتولى تعليمه وتثقيفه من قرآن وسنة وتفسير وحديث وأحكام الدين(‪.)2‬‬
‫وأصبح رباطه قمة فى النظام والدقة‪ ,‬واختار إلدارته أحد األمراء‪ ،‬وفى األمور‬
‫المهمة كان األمر شورى بين الجماعة اإلسالمية المرابطة(‪.)3‬‬
‫إن ديننا اإلسالمى َحثَّنا على النظام فى كل شيء‪ ،‬ومن التطبيقات العملية على‬
‫ذلك نأخذ مثال السفر‪ ،‬حيث أمر اإلسالم الركب إذا كانوا ثالثة أن يؤمروا عليهم‬
‫أميرًا‪ ،‬حتى ال يختلفوا فى الطريق وتتبعثر جهودهم‪ ،‬خصوصًا أن السفر‪ ,‬كما قال‬
‫ك أنَّها عملية تريح‬ ‫الرسول ×‪ ,‬قطعة من العذاب‪ ،‬فعملية التنظيم واختيار األمير‪ ،‬ال ش َّ‬
‫المسافرين من أعباء كثيرة‪ ،‬قال ×‪« :‬إذا خرج ثالثة فى سفر فليؤمروا‬
‫أحدهم»(‪ .)3‬فالبُ َّد إذاً من تعويد النفس وضبطها على النظام‪ ،‬فال ُم ْسلِم ال يتربى تربية‬
‫منظمة‪ ,‬إال إذا كان فى جماعة منظمة ذات ارتباط ونظام ودقة فى كل شيء‪ ,‬وفى كل‬
‫أمر‪ ،‬كما أن هذه الجماعة لها هدف جماعي‪ ،‬يتحقق بتعاون الفرد وانصهاره فى بوتقة‬
‫الطاعة والنظام(‪.)4‬‬
‫‪ -3‬القدرة على التعامل مع الناس‪:‬‬
‫تميَّزت شخصية الفقيه ابن ياسين بمقدرته فى تعامله مع أصناف النَّاس من أمراء‬
‫وعوام وتجار وغيرهم من طبقات ال ُمجْ تَ َمع الصنهاجي‪ .‬كان ‪ -‬رحمه هللا‪ -‬رقيق‬
‫الشعور‪ ،‬ثائر العاطفة‪ ،‬يقظ القلب‪ ،‬بعيد اآلمال‪ ،‬كبير المطامح فى اإلصالح‪ ،‬وكان كل‬
‫همه أن ينتفع النَّاس بعلمه ودعوته‪ ،‬ولذلك اختلط بالنَّاس ودرس أخالقهم وطبيعتهم عن‬
‫‪ )(1‬الصفات الالزمة للدعاة إلى هللا‪ ،‬ص (‪.)73‬‬
‫‪ )3،(2‬دولة المرابطين ص (‪.)27‬‬
‫‪ )(3‬مسلم‪ ،‬كتاب المساجد‪ ,‬باب من أحق باإلمامة‪ )1/464( ،‬رقم (‪.)672‬‬
‫‪ )(4‬انظر ‪ :‬الصفات الالزمة للدعاة‪ ،‬ص (‪.)75‬‬
‫‪27‬‬
‫كثب‪ ،‬وكان فى خطابه لِلنَّاس متحليًا بمكارم األخالق بعيدًا عن التجريح واإلساءة‪.‬‬
‫واتخذ من القرآن منهجًا فى أسلوبه ودعوته متمثالً بقول هللا تعالى‪﴿ :‬ا ْدعُ إِلَى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ْحك ِ‬ ‫يل ربِّ َ ِ ِ‬
‫َح َس ُن﴾[النحل‪.]125:‬‬ ‫ْحسََنِة َو َجادل ُْه ْم بِالَّتِى ه َي أ ْ‬
‫ْمة َوال َْم ْوعظَة ال َ‬‫ك بال َ‬
‫ِ‬
‫َسب ِ َ‬
‫نت فَظًّا‬ ‫اهلل لِ َ‬
‫نت ل َُه ْم َول َْو ُك َ‬ ‫وقد وصف نبيه الكريم × بقوله‪﴿ :‬فَبِما ر ْحم ٍة ِّمن ِ‬
‫َ َ َ َ‬
‫ك﴾ [آل عمران‪ .]159 :‬فليقتد الداعى ال ُم ْسلِم برسول هللا‬ ‫ْب الَن َفضُّوا ِم ْن َح ْولِ َ‬ ‫غَلِي َ‬
‫ظ الْ َقل ِ‬
‫×‪ ،‬وليكن شأنه وديدنه لمن يدعوهم‪ ,‬ويتحمل صدور أى أذى منهم‪.‬‬
‫‪ -4‬االستعداد للبذل والتضحية بكل شيء‪:‬‬
‫نجد الفقيه عبد هللا بن ياسين ‪ -‬رحمه هللا‪ -‬قد بذل نفسه وماله ووقته وحياته‪ ،‬وكل‬
‫شيء فى سبيل الغاية التى خرج من أجلها إلى قبائل صنهاجة‪ ،‬وقد أيقن هذا الداعية‬
‫الربانى أنه ليس فى الدنيا جهاد ال تضحية معه‪ ،‬إنَّما هو األجر الجزيل‪ ،‬والثواب‬
‫الجميل‪.‬‬
‫إن ال ُم ْسلِم عندما يبذل ما فى وسعه من أجل دعوته ورضا ربه يرجو بذلك أعظم‬
‫الدرجات عند هللا‪ ,‬والفوز والخلود والنعيم المقيم بالجنة‪ ،‬وأعظم من ذلك إحالل‬
‫يل ِ‬
‫اهلل‬ ‫اه ُدوا فِى َسبِ ِ‬ ‫اج ُروا َو َج َ‬ ‫آمنُوا َو َه َ‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫رضوان هللا عليه‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬الذ َ‬
‫ك ُه ُم الْ َفائُِزو َن ‪ُ ‬يبَ ِّش ُر ُه ْم َر ُّب ُهم بَِر ْح َم ٍة‬ ‫بِأ َْموالِ ِهم وأَْن ُف ِس ِهم أَ ْعظَم َدرجةً ِع ْن َد ِ‬
‫اهلل َوأُولَئِ َ‬ ‫ُ ََ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ‬
‫يم﴾ [التوبة‪.]21-20 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِّم ْنهُ َو ِر ْ‬
‫يم ُّمق ٌ‬‫ض َوان َو َجنَّات ل ُه ْم ف َيها نَع ٌ‬
‫اريخ‪ ،‬ويبدلوا‬ ‫إن الذين ضحوا وبذلوا وجاهدوا‪ ,‬استطاعوا أن يُغيِّروا مجرى التَّ ِ‬
‫أفكار ومبادئ البشر األرضية بمبادئ سامية ربانية‪.‬‬
‫فينبغى على العاملين فى مجال الدعوة اإلسالمية أن يجردوا أنفسهم من الهوى‪،‬‬
‫وينفضوا أنفسهم من كل بهرج وزينة‪ ،‬وأن يبذلوا المال برضاء وسخاء‪ ،‬ويبذلوا‬
‫العافية والصحة والسهر والتعب‪ ،‬والمسير المضني‪ ،‬لرفع دعوة هللا‪ ،‬وإذا دعت الحاجة‬
‫إلى بذل الروح فال يضنون بها‪ ،‬بل يجعلونها رخيصة بجانب مغفرته ورحمته‬
‫ورضوانه وجنته(‪.)1‬‬
‫دت اإلسهاب فى ذكر الصِّ فَات الالزمة فى الشخصية التى تريد أن تربى‬ ‫لقد تع َّم ُ‬
‫أمة وتنشئ شعبًا وتبنى دولة‪ ،‬لع َّل هللا ينفعنا بالدراسة التحليلية للشخصيات الربانية‬
‫التى ظهرت فى أمتنا العظيمة‪.‬‬
‫***‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الصفات الالزمة للدعاة إلى هللا‪ ,‬ص (‪ 74‬وما بعدها)‪.‬‬


‫‪28‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫المراحل التى مر بها ابن ياسين فى دعوته‬
‫اريخى لسيرته أنه م َّر بعدة مراحل قبل أن تقوم‬ ‫نستطيع أن نقرر من االستقراء التَّ ِ‬
‫دولة المرابطين‪ ،‬وبعض المراحل عاصرها وأشرف عليها وبعضها اآلخر قام بها‬
‫أتباعه المخلصون‪.‬‬
‫أما المراحل التى َمرَّت بها دولة المرابطين قبل قيامها فهى مرحلة التعريف‬
‫والتكوين والتنفيذ‪ ،‬أما مرحلة التَّمكين فهى التى جعلت مالمح دولة المرابطين واضحة‬
‫للعيان‪ ،‬إن المراحل التى عاصرها وأشرف عليها بنفسه هى مرحلة التعريف والتكوين‬
‫وجزء من التنفيذ‪ ،‬أما بقية المعارك فقام بها تالميذه المخلصون من أمثال أبى بكر بن‬
‫عمر‪ ،‬ويوسف ابن تاشفين‪ ،‬وأ َّما صاحب الفضل بعد هللا تعالى فى مرحلة التَّمكين‬
‫والتوسع واالنتشار الفعلي‪ ،‬فهو يوسف بن تاشفين منقذ األَ ْن َدلُس من الضياع ومبيد‬
‫الحركات الكفرية البدعية من الوجود‪.‬‬
‫‪ -1‬مرحلة الدعوة والتعريف باإلسالم‪:‬‬
‫قام ابن ياسين فى هذه المرحلة بتعريف النَّاس بالعقيدة اإلسالمية الصحيحة؛‬
‫موضحًا لهم أركان اإليمان الستة‪« :‬اإليمان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر‬
‫وقضائه وقدره» على أصول منهج أهل السنة والجماعة‪ ،‬واهتم بتنقية العقيدة‬
‫اإلسالمية من اللوثات الشركية والوثنية التى خالطت عقائد ال ُملَثَّمين فى تلك الفترة‪.‬‬
‫واهتم بتعليم النَّاس الصالة والزكاة وأحكام الصيام حيث وجدهم ال يعرفون من‬
‫اإلسالم إال اسمه‪ ،‬وحارب العادات السيئة التى تصطدم مع ثوابت الدين من زنى‬
‫وزواج بأكثر من أربع‪ ،‬وغير ذلك من األعراف والتقاليد الممزوجة بالجهل والتخلف‬
‫والضالل‪ ،‬وبذل جهدًا فى بيان أصول اإلسالم لِلنَّاس وحاول جاهدًا أن يربطهم بالكتاب‬
‫والسنة وإجماع األمة‪ ،‬وأوضح لِلنَّاس ضرورة االلتزام بالسنة وأنَّها هى المبينة للقرآن‬
‫الكريم‪ ،‬بل هى شرح وتفصيل للقرآن العظيم‪ ،‬وعمل على تفسير نصوص الدين‬
‫بأسلوب يالئم عقول ال ُملَثَّمين‪ ,‬وأزال الشبهات التى تعلقت بأذهان النَّاس من قبائل‬
‫صنهاجة‪ ,‬وكان همه جمع النَّاس على اإلسالم ومبادئه والعمل به على العموم‪.‬‬
‫ودعا النَّاس جميعًا إلى محبَّة كل أعمال الخير وكراهية كل أنواع الشر‪.‬‬
‫ونستطيع أن نقول‪:‬إن هذه المرحلة فى دعوة ابن ياسين كانت انطالقًا من قوله‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تعالى‪َ ﴿:‬ك َما أ َْر َسلْنَا في ُك ْم َر ُسوالً ِّم ْن ُك ْم َي ْتلُو َعلَْي ُك ْم آيَاتنَا َو ُي َز ِّكي ُك ْم َو ُي َعلِّ ُم ُك ُم الْكتَ َ‬
‫اب‬
‫ِ‬
‫َم تَ ُكونُوا َت ْعلَ ُمو َن﴾ [البقرة‪.]151 :‬‬ ‫ْمةَ َو ُي َعلِّ ُم ُكم َّما ل ْ‬
‫َوالْحك َ‬
‫وهذه اآلية ح َّدد هللا بها وظيفة النبى × وواجبه‪ ,‬وكذلك الدعاة من أمته من بعده‪,‬‬
‫حيث نجد الداعية الفقيه ابن ياسين سلك فى دعوته هذه األمور أو الوظائف أو‬
‫الواجبات وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬تبليغ وحى هللا على النَّاس‪ ،‬وذلك فى قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ي ْتلُو َعلَْي ُك ْم آيَاتِنَا‪.﴾...‬‬
‫‪ -2‬تزكية نفوس النَّاس وتطهيرها وتنميتها بالخيرات والبركات فى الدنيا‬

‫‪29‬‬
‫واآلخرة‪ ,‬بحيث يصير اإلنسان فى الدنيا مستحقًا لألوصاف المحمودة‪ ،‬وفى‬
‫اآلخرة األجر والمثوبة وذلك فى قوله – سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :-‬و ُي َز ِّكي ُك ْم﴾‪.‬‬
‫فالداعية إلى هللا يطهِّر نفوس النَّاس بوحى هللا‪ ،‬وينمى أرواحهم وأقوالهم وأبدانهم‪،‬‬
‫ويرتفع بهم إلى المستوى الذى يليق بكرامة اإلنسان‪ ،‬الذى كرَّمه ربه وفضَّله على‬
‫كثير ممن خلق‪.‬‬
‫‪ -3‬التعليم‪ ،‬تعليم النَّاس العلم النافع‪ ،‬أى القرآن والحكمة‪ ،‬وذلك فى قوله سبحانه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْمةَ﴾‪.‬‬ ‫من هذه اآلية‪َ ﴿ :‬و ُي َعلِّ ُم ُك ُم الْكتَ َ‬
‫اب َوالْحك َ‬
‫فهو واجب النبى ×‪ ,‬وواجب الدعاة إلى هللا إلى يوم الدين‪ ،‬و«الكتاب» هو القرآن‬
‫ي لِلنَّاس؛ كل النَّاس‪ ,‬إذ ما من خير للبشرية فى دينها ودنياها إال أمر‬ ‫الكريم‪ ،‬وهو هد ً‬
‫به القرآن‪ ،‬وما من شيء من هذا وذاك إال اشتمل عليه القرآن‪َّ ﴿ :‬ما َف َّرطْنَا فِى ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬
‫اب‬
‫يل ُك ِّل َش ْي ٍء﴾ و﴿تِْبيَانًا لِّ ُك ِّل َش ْي ٍء﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫من َش ْيء﴾ و﴿َت ْفص َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫وقد سُمى القرآن الكريم قرآنًا من بين كتب هللا؛ ألنَّه جمع ثمرة هذه الكتب كلها‪،‬‬
‫بل جمع ثمرة العلوم والمعارف كلها‪ ،‬إذ القرآن معناه الجمع واإلثبات‪.‬‬
‫والحكمة هي‪ :‬إصابة الحق بالعلم والعقل‪ ،‬ولها معان‪ ،‬فهى من هللا سبحانه‪:‬‬
‫معرفة األشياء وإيجادها‪ ،‬على غاية ما يكون اإلحكام‪ ،‬ومن اإلنسان‪ :‬معرفة‬
‫الموجودات‪ ،‬والعلم بها‪ ،‬وفعل الخيرات‪ .‬و«الكتاب والحكمة» بهذه المعانى هما تنوير‬
‫األذهان بما تفتقر إليه من هدايات فى عالمى الغيب والشهادة‪ ،‬وكم كانت قبائل‬
‫صنهاجة محتاجة لهذه الهدايات التى أصلحت اعتقادها وتصورها ومنهجها‪ ،‬وأصبحت‬
‫قبائل تحمل أهم رسالة ودعوة ربانية بفضل هللا عليها ثم بجهود المخلصين من أمثال‬
‫الفقيه ابن ياسين‪.‬‬
‫‪ -4‬واجتهد ابن ياسين – رحمه هللا – فى نقل النَّاس من ضالل الباطل إلى طريق‬
‫الحق‪ ،‬ومن ظالم الجهل إلى نور العلم مسترشدًا بقول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬و ُي َعلِّ ُم ُكم‬
‫صرُكم بحاضركم‪ ،‬ويرسم لكم أسلم طريق‬ ‫َم تَ ُكونُوا َت ْعلَ ُمو َن﴾ أى يُبَ ِّ‬ ‫َّما ل ْ‬
‫لمستقبلكم‪.‬‬
‫كان أثر التربية القرآنية واضحًا فى شخصية ابن ياسين – رحمه هللا – حيث نجده‬
‫فى تبليغ رساالت هللا ال يُداهن وال يُجامل‪ ,‬بل يأخذ بجميع األخالق الشرعية‪ ،‬ويتوكل‬
‫ين ُيَبلِّغُو َن‬ ‫َّ ِ‬
‫على هللا فى الصدع بكلمة الحق‪ ,‬وكأن بين عينيه قول هللا تعالى‪﴿ :‬الذ َ‬
‫اهلل ح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫سيبًا﴾ [األحزاب‪.]39 :‬‬ ‫َح ًدا إِالَّ اهللَ َو َك َفى بِ َ‬ ‫ِر َساالَت اهلل َويَ ْخ َش ْونَهُ َوالَ يَ ْخ َش ْو َن أ َ‬
‫وكان يش ُع ُر فى قرارة نفسه باإلثم والمعصية إن قعد وكتم ما علََّمه هللا –‬
‫ين يَكْتُ ُمو َن َما‬ ‫َّ ِ‬
‫سبحانه وتعالى‪-‬وهذا من أثر القران فى نفسه حيث قال تعالى‪﴿:‬إن الذ َ‬
‫اب أُولَئِ َ‬ ‫ات والْه َدى ِمن ب ْع ِد ما بَّينَّاهُ لِلنَّاس فِى ال ِ‬ ‫ِ‬
‫لع ُن ُه ُم اهللُ‬ ‫ك يَ َ‬ ‫ْكتَ ِ‬ ‫َ َ َ‬ ‫أَْن َزلْنَا م َن الَْبِّينَ ِ َ ُ‬
‫َو َيل َْع ُن ُه ُم الالَّ ِعنُو َن﴾‬
‫[البقرة‪.]159:‬‬
‫‪30‬‬
‫واآلية واضحة فى بيان أن َمن عرف الحق‪ ،‬فقد وجب عليه أن يُبينه لِلنَّاس‪ ،‬و َمن‬
‫لم يفعل فقد أثِم‪.‬‬
‫إننا محتاجون بأن نتربى على آيات هللا‪ ،‬لنفهمها ثم لننطلق فى دنيا الناس عاملين‬
‫بها ابتغاء مرضاة هللا‪ ،‬وطمعًا فى ثوابه ورغبة فى جنته‪ ،‬وخوفًا من عقابه وشفقة من‬
‫ناره‪.‬‬
‫نعى هللا تعالى فى كتابه العزيز على أهل الكتاب عدم بيانهم أحكام هللا لِلنَّاس وكتمانها‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب‬
‫ين أُوتُوا الْكتَ َ‬‫قليل من متاع الدنيا‪ ,‬فقال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ أَ َخ َذ اهللُ ميثَا َق الذ َ‬ ‫مقابل ثمن ٍ‬
‫س َما‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫لَتَُبِّيُننَّهُ للنَّاس َوالَ تَكْتُ ُمونَهُ َفنَبَ ُذوهُ َو َر َاء ظُ ُهوره ْم َوا ْشَت َر ْوا به ثَ َمنًا قَليالً فَب ْئ َ‬
‫يَ ْشَت ُرو َن﴾ [آل عمران‪.]187:‬‬
‫وهكذا يا أخى الكريم نجد القرآن الكريم فى تربيته للدعاة إليه يرغبهم ويرهبهم‪،‬‬
‫فتنطلق القلوب تسعى للمثوبة والدرجات العلى؛ ألن ما عند هللا خير وأبقى‪.‬‬
‫كما نجد األحاديث النبوية التى تربى عليها ابن ياسين وتالميذه مشجعة لهم فى‬
‫السعى الدءوب من أجل إكمال مرحلة التعريف بنجاح‪.‬‬
‫فإن السنة النبوية المطهرة شارحة القرآن وقد فاضت باألحاديث فى هذا المجال‪.‬‬
‫روى اإلمام البخارى بسنده‪ ،‬عن عبد هللا بن عباس –رضى هللا عنهما‪ ,-‬فى باب‪:‬‬
‫تعريف النبى × وفد عبد القيس على أن يحفظوا اإليمان‪ ،‬والعلم‪ ،‬ويخبروا َمن‬
‫وراءهم‪ ،‬قال مالك بن الحويرث‪ -‬وهو من بنى عبد القيس‪ -‬قال لنا النبى ×‪« :‬ارجعوا‬
‫إلى أهليكم فعلِّموهم»‪.‬‬
‫عن ابن عباس قال‪« :‬قال النبى × لما قَ ِدم إليه‪ ،‬وفد عبد القيس‪َ :‬من الوفد‪ ,‬أو َمن‬
‫القَوم؟» قالوا‪ :‬ربيعة‪ ,‬فقال‪« :‬مرحبًا بالقَوم‪ ،‬أو الوفد‪ ،‬غير خزايا وال ندامى»‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬إنا نأتيك من شقة بعيدة‪ ،‬وبيننا وبينك هذا الحى من كفار مضر‪ ،‬وال نستطيع أن‬
‫نأتيك إال فى شهر حرام‪ ،‬فمرنا بأمر نخبر به َمن وراءنا ندخل به الجنة‪ ،‬فأمرهم بأربع‬
‫ونهاهم عن أربع‪ :‬أمرهم باإليمان باهلل عز وجل وحده‪ ،‬قال‪« :‬هل تدرون ما اإليمان‬
‫باهلل وحده؟» قالوا‪ :‬هللا ورسوله أعلم‪.‬‬
‫قال‪« :‬شهادة أن ال إله إال هللا‪ ،‬وإن محمدًا رسول هللا‪ ،‬وإقام الصالة‪،‬‬
‫وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬وتعطوا الخمس من المغنم»‪.‬‬
‫ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت‪ ،‬قال شعبة‪ :‬ربما قال‪« :‬النقير» وربما قال‪:‬‬
‫«المقير» قال‪« :‬احفظوه وأخبروه َمن وراءكم»(‪.)1‬‬
‫وهذا الحديث النبوى الشريف نهج للقَوم لمعرفة أصول الدعوة فى مرحلة‬
‫التعريف ومعالجة األمراض بال ُمجْ تَ َمع‪ ،‬حيث كانت عادة شرب الخمر قد انتشرت فى‬
‫ربوع هؤالء القَوم انتشار النار فى الهشيم‪ ،‬ولذلك نهاهم رسول هللا × عن الدباء‬
‫أوان لشرب الخمر‪ ،‬ومن مثل هذا الحديث‬ ‫ٍ‬ ‫والحنتم والمزفت التى كانت عبارة عن‬
‫يستلهم الدعاة أولويات مرحلة التعريف فى الدعوة إلى هللا تعالى‪ ،‬وغيره من األحاديث‬
‫الكثيرة واإلرشادات النبوية الكريمة‪.‬‬
‫استم َّر الفقيه ابن ياسين فى تعريف النَّاس بأصول دينهم وأحكامه واألخالق التى‬
‫‪ )(1‬مسلم ‪ :‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب األمر باإليمان باهلل تعالى ورسوله‪ )1/46( ،‬رقم (‪.)17‬‬
‫‪31‬‬
‫تطلبها شريعتهم وحارب التقاليد واألعراف السيئة بكل شجاعة وجرأة‪.‬‬
‫إال إن هللا تعالى ابتاله بقَوم غالظ األكباد قساة القلوب فاصطدمت دعوة المصلح‬
‫الفقيه بأطماعهم؛ فتعرَّض للتضييق والش َّدة والعسف من بعض وجهاء قبائل صنهاجة‬
‫من قبيلة جدالة وحاولوا قتله إال إن هللا نجاه منهم‪.‬‬
‫فأشار األمير المخلص والتلميذ الوفى يحيى بن إبراهيم على ابن ياسين أن يذهبوا‬
‫إلى جزيرة فى حوض السنغال ليتربى األتباع فيها ابتغاء مرضاة هللا والدار اآلخرة‪.‬‬
‫وقال له‪ :‬إن الجزيرة إذا حسر البحر دخلنا إليها على أقدامنا وإذا امتأل دخلنا فى‬
‫الزوارق‪ ،‬وفيها الحالل المحض الذى ال تشك فيه من الشجر البري وصيد البر والبحر‬
‫من أصناف الطير والوحوش والحوت(‪.)1‬‬
‫وبذلك يكون ابن ياسين – رحمه هللا – ترك ديار ال ُملَثَّمين واختار جزيرة فى‬
‫حوض نهر السنغال للمرابطة وتربية المريدين على كتاب هللا وسنة رسوله ×‪ ،‬بعد أن‬
‫ترك صدى ودويًا لدعوته فى ديار ال ُملَثَّمين‪ ،‬وبذلك قرَّر ابن ياسين أن ينتقل إلى‬
‫مرحلة التكوين مختارًا مكانًا مناسبًا لهذه المرحلة المهمة فى تاريخ دولة المرابطين‬
‫بعد أن نجح فى مرحلة التعريف فى إبالغ الدعوة والتعريف بها لهم‪.‬‬
‫ب ‪ -‬مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوية عند الفقيه ابن‬
‫ياسين‪:‬‬
‫تمهيد‪ :‬اشتهر فى تاريخ المرابطين ما يُسمى برباط ابن ياسين‪ ،‬وقبل أن نتعرض‬
‫لرباط ابن ياسين الذى اتخذه فى مرحلة التكوين أرى من باب الفائدة للقارئ الكريم أن‬
‫يأخذ فكرة مختصرة عن معنى ال ِّربَاط فى اإلسالم‪.‬‬
‫الرباط‪ :‬حصن حربى يُقام فى الثغور المواجهة للعدو للذود عن ديار ال ُم ْسلِمين‪،‬‬
‫وهذه التسمية مقتبسة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة‪:‬‬
‫َعدُّوا لَهم َّما استطَعتم ِّمن ُق َّو ٍة وِمن ِّرب ِ‬
‫اط‬ ‫أما القرآن الكريم فمن قوله تعالى‪﴿ :‬وأ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ُْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫صابِ ُروا َو َرابِطُوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫و‬ ‫وا‬
‫ُْ َ َ‬ ‫ر‬‫ب‬ ‫اص‬ ‫وا‬‫ن‬ ‫آم‬
‫َ َُ‬ ‫ين‬ ‫ذ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫الْ َخ ْي ِل﴾ [األنفال‪ ,]60:‬ومن قوله تعالى‪﴿ :‬يَا َ‬
‫ه‬‫َي‬
‫ُّ‬ ‫أ‬
‫َو َّات ُقوا اهللَ ل ََعلَّ ُك ْم ُت ْفلِ ُحو َن﴾ [آل عمران‪.]200 :‬‬
‫وفى الحديث النبوى فى البخارى جاء فضل الرِّ بَاط فى سبيل هللا تعالى عن سهل‬
‫بن سعد الساعدى ‪ ‬أن رسول هللا × قال‪« :‬رباط يوم فى سبيل هللا خير من الدنيا‬
‫وما عليها‪ ،‬وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها‪،‬‬
‫والروحة يروحها العبد فى سبيل هللا أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها»(‪.)2‬‬
‫وأصبحت كلمة مرابط تطلق على الشخص الذى خرج إلى الثغور للدفاع عن‬
‫ال ُم ْسلِمين من أعدائهم‪ ،‬وأطلق ال ُم ْسلِمون على الثغر أى المحل الذى يقيمون فيه اسم ال ِّربَاط‪.‬‬
‫ويحتوى ال ِّربَاط على برج مراقبة وحصن صغير‪ ،‬وقد أقام والة الثغور كثيرًا من‬
‫اريخ‪ ،‬فكان فى بالد ما وراء‬‫هذه الرُّ بُط لحماية حدود الدولة اإلسالمية على مرِّ التَّ ِ‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)23‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري فى كتاب الجهاد والسير (ج‪ ،)3/295‬حديث رقم (‪.)2892‬‬
‫‪32‬‬
‫النهر عشرة آالف رباط‪ ،‬وكذلك فى ثغور الجزيرة الفراتية‪ ،‬وكانت سواحل المغرب‬
‫المطلَّة على البحر المتوسط عرضة لغارات البيزنطيين أكثر من غيرها‪ ,‬فأقيمت فيها‬
‫َّحابِى الجليل عقبة بن نافع‬
‫الرُّ بُط وشحنت بالمجاهدين للدفاع عنها‪ ،‬حتى إن الص َ‬
‫الفهرى عندما أراد بناء مدينة القيروان بلغت الحماسة برجاله فاقترحوا عليه إقامتها‬
‫(‪)1‬‬
‫على الساحل للمرابطة فيها‪ ،‬وقالوا له‪ :‬قرِّبها من البحر ليكون أهلها من المرابطين»‪.‬‬
‫وقد توسَّعت الرُّ بُط فى عهد العباسيين‪ ،‬وبنى الوالى العباسى هرثمة بن أعين أول‬
‫رباط فى إفريقية عام (‪179‬هـ ‪795 /‬م) (‪ )2‬وتوسَّع األغالبة فى هذا المجال تو ُّسعًا‬
‫عظي ًما‪ ،‬وأقام الوالى زيادة هللا األغلبى رباط سوسة عام (‪206‬هـ‪822 /‬م)‪.‬‬
‫وكان األغالبة يسمون هذه الرُّ بُط بالقصور والمحاريس‪ ،‬وقد انتشرت من‬
‫اإلسكندرية إلى المحيط األطلسي‪ ،‬وكان أهالى ال َّش َمال اإلفريقى يلجأون إليها إذا‬
‫داهمهم الغزاة‪ ،‬وقد قاومت هذه الثغور أساطيل وجيوش البيزنطيين الذين عجزوا رغم‬
‫تفوقهم البحرى عن احتالل الساحل اإلفريقي‪ ،‬وقد التزم المقيمون فى هذه الثغور‬
‫باالهتمام بالفروسية والتدريب عليها خاصَّة‪ ،‬باإلضافة إلى كل التدريبات الجهادية‬
‫األخرى التى أهلتهم للقيام بمهماتهم على أكمل وجه من الذود عن حياض ال ُم ْسلِمين‬
‫والجهاد فى سبيل هللا‪.‬‬
‫وإلى جانب المهمات الجهادية التى قامت بها الثغور فقد اهتمت بالناحية ال ِعل ِميَّة‪،‬‬
‫فمع انتشارها أخذت التعاليم اإلسالمية تنتشر من خاللها‪ ،‬وقد قام فقهاء أهل السنة‬
‫والجماعة فى تلك الثغور من فقهاء المالكية بدور ريادى عظيم فى وجه التيارات‬
‫الفكرية والمذهبية التى عصفت بالمشرق‪ ،‬وكانت الرُّ بُط والثغور والقالع والحصون‬
‫هى المنطلق لنشر ما كان عليه رسول هللا × وأصحابه من عقيدة وعبادة وأخالق‬
‫ومعاملة‪ ،‬وأصبحت الثغور فى ال َّش َمال اإلفريقى مدارس علمية تدرِّس أمور الدين من‬
‫فقه وحديث وتفسير وأصول وغيرها‪ ،‬وكانت حياة أهل الثغور تقوم على أساس من‬
‫التعاون بين أفرادها لتحقيق حياة إسالمية مثالية‪ ،‬وكان األفراد يجمعون المؤن بأنفسهم‬
‫عن طريق الصيد البرى والبحرى حسب موقع ال ِّربَاط‪ ،‬وكذلك يقومون بإعداد الطعام‪،‬‬
‫وكل ما تتطلبه عمليات التموين من زراعة وصناعة آالتها باإلضافة إلى صناعة‬
‫األسلحة(‪.)3‬‬
‫وأ َّما من ناحية العبادة‪ ،‬فالجماعة التى التزمت بال ِّربَاط مؤمنة بربها وبرسالة اإلسالم‪،‬‬
‫فكانت العبادة تقتصر على الصلوات الخمس جماعة‪ ،‬وقد وضعت عقوبات لمن يتأ َّخر‬
‫عنها‪.‬‬
‫وفى أوقات السلم كانوا يحفظون القرآن وتفسيره وكل ما يمت إلى الدين بصلة‪،‬‬
‫ويقُومون بالمهمات التى تتعلق بحياة الرِّ بَاط‪ ،‬وبما أن التبشير بهذا الدين والدعوة إليه‬
‫من أهم واجباتهم؛ فكانوا يخرجون إلى القبائل لهدايتها وترغيبها فى اإلسالم وتربيتها‬
‫عليه‪ ،‬وقد أ َّدت الث ُغور فى ال َّش َمال اإلفريقى خدمات جليلة لإلسالم ولل ُم ْسلِمين‪ ،‬فقد‬
‫عصمت أهل المغرب إلى حد كبير من الفِتَن التى سادت المشرق‪ ،‬وكان لمنهج أهل‬
‫السنة والجماعة شوكة وحماة وعلماء وفقهاء فى تلك الربوع من عالمنا اإلسالمي‪،‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المالكي‪ ،‬رياض النفوس‪ ،‬ص (‪.)6‬‬
‫‪ )(2‬دائرة المعارف اإلسالمية مادة رباط‪ ،‬ص (‪.)19‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)25 ،24‬‬
‫‪33‬‬
‫وتميَّز أهل الثغور عن غيرهم بالزهد والتقشف والتفانى فى سبيل هللا‪ ،‬وال يبتغى أهلها‬
‫اف ِمن َّرِّبنَا‬
‫من النَّاس من وراء ذلك جزاء وال شكورًا‪ ،‬وإنما لسان حالهم‪ ﴿ :‬إِنَّا نَ َخ ُ‬
‫وسا قَ ْمطَ ِر ًيرا﴾ (‪.)1‬‬
‫َي ْو ًما َعبُ ً‬
‫‪ -1‬رباط عبد هللا بن ياسين‪:‬‬
‫أقام الفقيه العالم الرَّبانى المربى المجاهد ابن ياسين رباطه فى الحوض األدنى‬
‫لنهر السنغال‪ ،‬وموقعه يدلُّ على أهداف ابن ياسين التى أعد لها‪ ،‬فهو يقع قريبًا من‬
‫مملكة غانة الوثنية‪ ،‬لذلك فهو ُمه َّدد دائ ًما باألعداء‪ ،‬والبُ َّد للجماعة المقيمة فيه من‬
‫الجهاد‪ ،‬وهو غير بعيد عن ديار ال ُملَثَّمين‪ ،‬فيستند إليهم فى حاالت الخطر‪ ،‬وتشكل تلك‬
‫الديار موردًا بشريًا ال ينضب لمن يريد االنضمام إليه‪ ،‬وهذا يفسر كثرة عدد رجاله‪.‬‬
‫دخل ابن ياسين الجزيرة التى فى الحوض األدنى لنهر السنغال عام (‪433‬هـ‪/‬‬
‫‪1040‬م) ومعه أتباعه المخلصون‪ ,‬ثم بدأ االنضمام إلى جماعته من أبناء ال ُملَثَّمين‪،‬‬
‫وتكاثر عدده حتى بلغ األلف رجل‪ ،‬ولما كثر أتباعه‪ ،‬وضع ابن ياسين شروطًا رآها‬
‫الزمة لكى ال يتأثر تنظيم رباطه الجديد ومرحلته التى بدأ الشروع فيها‪ ،‬فكان ينتقى‬
‫أطهر ال ُملَثَّمين نفسًا وأوفرهم قُ َّوة وأقدرهم على تحمل المشاق‪ ،‬كان يطلب منهم أن‬
‫وتصوراتهم التى تخالف اإلسالم‪ ،‬ويدخلوا اإلسالم‬ ‫ُّ‬ ‫يتخلوا عن تقاليدهم وأعرافهم‬
‫بقلوب صافية ونفوس طاهرة وهمم عالية تسعى لتحكيم شرع هللا على وجه‬
‫المعمورة(‪.)2‬‬
‫وعمل جاهدًا على تحكيم شرع هللا على األفراد وفى ُمجْ تَ َمعه الجديد‪ ،‬وكان يرى‬
‫أن َمن فاتته صالة من عمره عليه أن يقضيها‪ ،‬وهى مسألة فقهية اختلف علماء األمة‬
‫فيها‪ ،‬فمنهم َمن يكتفى بالتوبة النصوح‪ ،‬ومنهم َمن يطلب قضاء ما فات‪.‬‬
‫وكان ابن ياسين يهتم اهتما ًما بال ًغا بالفقهاء والعلماء ويرفعهم إلى مراتب عالية‬
‫حيث التف حوله مجموعة من الفقهاء والعلماء ليساعدوه على تربية النَّاس وتعليمهم‬
‫وتأهيلهم للمرحلة القادمة‪.‬‬
‫وكان ال يمنعه الحياء من طرد َمن ال يراه مناسبًا لهدفه المنشود‪.‬‬
‫وكان أهل الرِّ بَاط فى قمة الصفاء الروحي‪ ,‬ويعيشون حياة مثالية فى رباطهم‪،‬‬
‫فيتعاونون على قوتهم اليومى معتمدين على ما توفِّرُه لهم جزيرتهم من الصيد‬
‫البحري‪ ،‬يقنعون بالقليل من الطَّعام‪ ،‬ويرتدون الخشن من الثياب(‪.)3‬‬
‫كان رباط السنغال الذى أسَّسه الداعية الرَّبانى ابن ياسين منارة يشع نورُها‬
‫وخيرها وعلمها فى تلك الصحارى القاحلة‪ ،‬فأصبح قطبًا جذابًا؛ عامالً على جذب أبناء‬
‫قبائل صنهاجة إليه‪ ،‬ووفر األمن واالستقرار فى تلك الديار الصحراوية البعيدة‪،‬‬
‫فأصبحت القوافل تمرُّ بأمن وسالم دون أن يتعرض لها أحد بسوء‪ ،‬وقد أ َّدى ذلك إلى‬
‫ازدهار التجارة‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)27‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)28-27‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫وتميَّزَ ذلك ال ِّربَاط بحسن إدارته وتنظيمه وتشكيله مما ساعد على قُ َّوة النواة‬
‫األولى لدولة المرابطين حيث تشكل مجلس الشورى‪ ,‬وجماعة للحلِّ والعقد تطورت‬
‫مع مرور األيام‪ ,‬وأصبحت مرجعية عليا لِ ْل ُملَثَّ ِمين‪.‬‬
‫‪ -2‬أصول المنهجية العلمية والفقهية عند الفقيه ابن ياسين التى ربى عليها‬
‫أتباعه‪:‬‬
‫يُعتَبر الفقيه ابن ياسين من علماء أهل السنة والجماعة‪ ,‬مالكى المذهب‪ ،‬واستم َّد‬
‫أصول فهمه من أصول المالكية التى كانت وال زالت ضاربة بجذورها فى قلوب أهالى‬
‫ال َّش َمال اإلفريقي‪ ،‬إالَّ أنه كانت له اجتهاداته الحركية والتنظيمية التى أملتها عليه طبيعة‬
‫نقول عنه بأنَّه فقيه مالكى حركي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫دعوته التى عاشها وتحرك بها‪ ،‬وبذلك نستطيع أن‬
‫ويرى علماء المالكية الذين تتلمذ ابن ياسين على كتبهم وفقههم أن المذهب المالكى له‬
‫أصول فى االستنباط واستخراج األدلة الشرعية ومن هذه األصول‪:‬‬
‫المصدر األول‪ :‬القرآن الكريم‪ :‬كان اإلمام مالك يرى أن القرآن قد اشتمل على‬
‫كليات الشريعة‪ ،‬وأنه عمدة الدين‪ ،‬وآية الرسالة‪ ،‬ولم تكن نظرته إليه كنظرة الجدليين‪،‬‬
‫فابتعد عن نظر المتكلمين‪ ،‬هل القرآن لفظ ومعنى‪ ,‬أو معنى فقط‪ ،‬وهو عنده اللفظ‬
‫والمعنى‪ ،‬كما هو إجماع َمن يعت ُّد بهم من ال ُم ْسلِمين‪ ،‬ورُوى أنه كان يقول‪ :‬إن َمن يقول‬
‫بأن القرآن مخلوق فهو زنديق يجب قتله‪ ،‬ولذا لم يعتبر الترجمة قرآنا يُتلى تجوز به‬
‫الصالة‪ ،‬بل هى تفسير أو وجه من وجوه المعنى المعقول‪ ،‬وهو يأخذ بنص القرآن‪،‬‬
‫وظاهره ومفهومه‪ ،‬ويعتبر العلة التى يأتى التنبيه عليها(‪.)1‬‬
‫إن القرآن الكريم هو المرجعية العليا البن ياسين وأتباعه وكان موقفهم اإلذعان‬
‫والتسليم لكل ما جاء فيه‪ ،‬وما يتعلق بالعقائد أو العبادات أو األخالق أو المعامالت‪,‬‬
‫فالقرآن الكريم لم يفرِّق بينها‪ ,‬فكلُّها تتضمن كلمات هللا الهادية إلى أقوم سبيل‪ ،‬الداعية‬
‫إلى كل هدى ورشد‪ ،‬والمح ِّذرة من كل ضاللة وغي‪ ،‬فكان وأتباعه على بينة من ربهم‬
‫وبصيرة من دينهم؛ فلم تتحير عقولهم أو ترتاب قلوبهم‪ ،‬أو يتردد عزمهم فى أى‬
‫تصور أو معتقد أو خلق أرشد إليه القرآن‪ ،‬إليمانهم العميق بقوله تعالى‪﴿ :‬الَ يَأْتِ ِيه‬
‫يد﴾ [فصلت‪.]42:‬‬ ‫اطل ِمن بي ِن ي َدي ِه والَ ِمن َخل ِْف ِه تَن ِزيل ِّمن ح ِك ٍيم ح ِم ٍ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ٌ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ ْ َ‬ ‫الْبَ ُ‬
‫وكان تدبُّ ُر ابن ياسين وفقهاء المرابطين للقرآن الكريم معينًا لهم على استنباط‬
‫األحكام الشرعية‪.‬‬
‫اب﴾ [ص‪:‬‬ ‫َّبروا آيَاتِِه َولِيَتَ َذ َّكر أُولُو األلْبَ ِ‬ ‫ِّ‬ ‫اب أَْن َزلْنَاهُ إِل َْي َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ك ُمبَ َار ٌك ليَد َّ ُ‬ ‫قال تعالى‪﴿:‬كتَ ٌ‬
‫‪ ,]29‬وقال تعالى‪﴿ :‬أَفَالَ يتَ َد َّبرو َن الْ ُقرآ َن ولَو َكا َن ِمن ِع ْن ِد غَْي ِر ِ‬
‫اهلل ل ََو َج ُدوا فِ ِيه‬ ‫ْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ ُ‬
‫وب‬ ‫ا ْختِالَفًا َكثِيرا﴾ [النساء‪ .]82:‬وقال عز وجل‪﴿ :‬أَفَالَ َيتَ َد َّبرو َن الْ ُق ْرآ َن أ َْم َعلَى ُقلُ ٍ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫أَ ْق َفال َُها﴾ [محمد‪.]24:‬‬
‫لقد فهم المرابطون أن القرآن الكريم لم ينزل ليُتلى على األموات‪ ،‬بل نزل‬
‫ليحكم األحياء‪ ،‬وأنَّه لم ينزله هللا تعالى إال من أجل اتباعه والعمل به‪ ،‬وبذلك‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ التشريع‪ ،‬مناع القطان‪ ،‬ص (‪.)291‬‬


‫‪35‬‬
‫اب أَْن َزلْنَاهُ ُمبَ َار ٌك فَاتَّبِعُوهُ َو َّات ُقوا‬ ‫ِ‬
‫ينال ال ُمتبِع والعامل به رحمة هللا تعالى‪َ ﴿ :‬و َه َذا كتَ ٌ‬
‫ل ََعلَّ ُك ْم ُت ْر َح ُمو َن﴾ [األنعام‪.]155:‬‬
‫إن هللا تعالى حدد فى كتابه أهداف القرآن الكريم فى الحياة وال ُمجْ تَ َمع فى عبارات‬
‫ْح ِّق لِتَ ْح ُك َم‬‫اب بِال َ‬
‫أ ْبيَن من الشمس فى رابعة النهار‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬إِنَّا أَْنزلْنَا إِلَي َ ِ‬
‫ك الْكتَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫اء ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّاس بِ َما أ ََر َ‬
‫َب ْي َن الن ِ‬
‫اك اهللُ﴾ [النساء‪ ،]105:‬وقال تعالى‪﴿ :‬يَا أ َْه َل الْكتَاب قَ ْد َج َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اء ُكم ِّم َن‬ ‫َر ُسولُنَا ُيَبيِّ ُن لَ ُك ْم َكث ًيرا ِّم َّما ُك ْنتُ ْم تُ ْخ ُفو َن م َن الْكتَاب َو َي ْع ُفو َعن َكثي ٍر قَ ْد َج َ‬
‫السالَِم َويُ ْخ ِر ُج ُهم ِّم َن‬
‫ض َوانَهُ ُسبُ َل َّ‬ ‫ين ‪َ ‬ي ْه ِدى بِ ِه اهللُ َم ِن َّاتبَ َع ِر ْ‬ ‫اب ُّمبِ ٌ‬
‫ِ‬
‫ور َوكتَ ٌ‬ ‫ِ‬
‫اهلل نُ ٌ‬
‫اط ُّم ْستَ ِق ٍيم﴾ [المائدة‪ .]16-15 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫صر ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬
‫الظلُ َمات إلَى النُّو ِر بإ ْذنه َو َي ْهدي ِه ْم إلَى َ‬
‫ات أ َّ‬
‫َن‬ ‫الصالِح ِ‬ ‫﴿إِ َّن َه َذا الْ ُقرآ َن ي ْه ِدى لِلَّتِى ِهي أَقْوم ويب ِّشر الْم ْؤِمنِ َّ ِ‬
‫ين َي ْع َملُو َن َّ َ‬ ‫ين الذ َ‬ ‫َ َ ُ َ َُ ُ ُ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َج ًرا َكبِ ًيرا ‪َ ‬وأ َّ‬
‫يما﴾ [اإلسراء‪-9 :‬‬ ‫ين الَ ُي ْؤمنُو َن باآلَخ َرة أَ ْعتَ ْدنَا ل َُه ْم َع َذابًا أَل ً‬ ‫َن الذ َ‬ ‫ل َُه ْم أ ْ‬
‫‪.]10‬‬
‫إن من أسباب قُ َّوة المرابطين وتوفيق هللا لهم تمسكهم بكتاب هللا‪.‬‬
‫المصدر الثانى‪ :‬السنة النبوية‪ :‬اعتمد المرابطون وخصوصًا فقيههم األكبر ابن‬
‫ياسين على السنة النبوية فى استنباط األحكام الشرعية وألزموا أنفسهم وغيرهم بمنهج‬
‫هللا تعالى‪.‬‬
‫والسنة عند المرابطين‪ :‬هى المنهج النبوى المفصل فى تعاليم اإلسالم وتطبيقه‬
‫ين إِ ْذ َب َع َ‬
‫ث‬ ‫ِِ‬
‫وتربية األمة عليه‪ ،‬والذى يتجسد فيه قوله تعالى‪﴿ :‬لََق ْد َم َّن اهللُ َعلَى ال ُْمؤمن َ‬
‫ْمةَ َوإِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب َوالْحك َ‬‫في ِه ْم َر ُسوالً ِّم ْن أَْن ُفس ِه ْم َي ْتلُو َعلَْي ِه ْم آيَاته َو ُي َز ِّكي ِه ْم َو ُي َعلِّ ُم ُه ُم الْكتَ َ‬
‫ضالَ ٍل ُّمبِي ٍن﴾ [آل عمران‪.]164:‬‬ ‫َكانُوا ِمن َق ْب ُل ل َِفى َ‬
‫ويتمثل ذلك فى أقواله × وأفعاله وتقريراته‪.‬‬
‫فالقرآن‪ :‬هو الدستور الذى يحوى األصول والقواعد األساسية لإلسالم وعقائده‬
‫وعباداته‪ ،‬وأخالقه‪ ،‬ومعامالته‪ ،‬وآدابه‪.‬‬
‫والسنة‪ :‬هى البيان النظرى والتطبيق العملى للقرآن فى ذلك كلِّه‪.‬‬
‫ورأى علماء المرابطين وجوب اتباع الرسول × فى أقواله وأفعاله وتقريراته‬
‫ول﴾ [النساء‪.]59:‬‬‫الر ُس َ‬
‫َطيعُوا َّ‬‫َطيعوا اهلل وأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َ َ‬ ‫آمنُوا أ ُ‬ ‫ين َ‬ ‫مستندين بقوله تعالى‪﴿ :‬يَا أ َُّي َها الذ َ‬
‫ول َف َق ْد أَطَ َ‬
‫اع اهللَ﴾[النساء‪.]80:‬‬ ‫وجعل طاعته طاعة هلل تعالى‪َ ﴿:‬م ْن يُ ِط ِع َّ‬
‫الر ُس َ‬
‫وجعل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬طاعته االهتداء‪َ ﴿ :‬وإِن تُ ِطيعُوهُ َت ْهتَ ُدوا﴾ [النور‪.]54:‬‬
‫وجعل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬اتباع النبى × دليالً على محبة هللا ومغفرته‪﴿ :‬قُ ْل إِن‬
‫ُك ْنتُ ْم تُ ِحبُّو َن اهللَ فَاتَّبِعُونِى يُ ْحبِْب ُك ُم اهللُ َو َيغْ ِف ْر لَ ُك ْم ذُنُوبَ ُ‬
‫ك ْم﴾ [آل عمران‪.]31:‬‬

‫‪36‬‬
‫ول فَ ُخ ُذوهُ َو َما َن َها ُك ْم َع ْنهُ‬
‫الر ُس ُ‬
‫وأمرهم باتباعه فيما أمر ونهى‪َ ﴿ :‬و َما آتَا ُك ُم َّ‬
‫فَا ْنَت ُهوا﴾‬
‫[الحشر‪.]7:‬‬

‫ين‬ ‫َّ ِ‬
‫وأمرهم باالستجابة لدعوته‪،‬واعتبر ما يدعوهم إليه هو الحياة‪ ﴿ :‬يَا أ َُّي َها الذ َ‬
‫ك ْم﴾ [األنفال‪.]24:‬‬ ‫ول إِ َذا َد َعا ُكم لِ َما يَ ْحيَي ُ‬ ‫هلل َولِ َّ‬
‫لر ُس ِ‬ ‫استَ ِجيبوا ِ‬
‫آمنُوا ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ضى‬ ‫مؤمنة خياراً ىف قبول ُحكمه‪َ ﴿:‬و َما َكا َن لِ ُم ْؤِم ٍن َوالَ ُم ْؤِمنَ ٍة إِذَا قَ َ‬ ‫ومل جيعل ملؤمن وال ٍ‬
‫ض َّل‬
‫ص اهللَ َو َر ُسولَهُ َف َق ْد َ‬ ‫ْخَي َرةُ ِم ْن أ َْم ِر ِه ْم َو َمن َي ْع ِ‬
‫اهلل ورسولُهُ أَمرا أَن ي ُكو َن لَهم ال ِ‬
‫ُُ‬ ‫َ‬ ‫ًْ‬ ‫ُ ََ ُ‬
‫ِ‬
‫ضالَالً ُّمبينًا﴾‬
‫َ‬
‫[األحزاب‪.]36:‬‬
‫وأقسم على نفى اإليمان ع َّمن أعرض عن تحكيمه‪ ,‬أو لم يقبل حُك َمه راضيا ً‬
‫يما َش َج َر َب ْيَن ُه ْم ثُ َّم الَ يَ ِج ُدوا فِى‬ ‫ك الَ ي ْؤِمنُو َن حتَّى يح ِّكم َ ِ‬ ‫ُمسلِّماً‪﴿:‬فَالَ َو َربِّ َ‬
‫وك ف َ‬ ‫َ َُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫أَْن ُف ِس ِه ْم َح َر ًجا ِّم َّما قَ َ‬
‫يما﴾ [النساء‪.]65:‬‬ ‫ت َويُ َسلِّ ُموا تَ ْسل ً‬ ‫ض ْي َ‬
‫ك الذى يميز اإليمان من‬ ‫وجعل ‪-‬سبحانه وتعالى ‪ -‬قبول حُكمه أو التولى عنه المح َّ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ول َوأَطَ ْعنَا ثُ َّم َيَت َولى فَري ٌق ِّم ْن ُهم ِّمن‬‫الر ُس ِ‬ ‫النفاق؛ قال تعالى‪﴿ :‬وي ُقولُو َن آمنَّا بِ ِ‬
‫اهلل َوبِ َّ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ‪َ ‬وإذَا ُدعُوا إلَى اهلل َو َر ُسوله ليَ ْح ُك َم َب ْيَن ُه ْم إذَا فَري ٌق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك َو َما أُولَئِ َ‬ ‫َب ْع ِد ذَلِ َ‬
‫ك بال ُْم ْؤمن َ‬
‫اهلل َو َر ُسولِ ِه‬‫ضو َن﴾ [النور‪ ﴿ .]48 - 47:‬إِنَّما َكا َن َقو َل الْم ْؤِمنِين إِ َذا ُدعُوا إِلَى ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِّم ْن ُهم ُّم ْع ِر ُ‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن﴾ [النور‪.]51:‬‬ ‫لِيَ ْح ُك َم َب ْيَن ُه ْم أَن َي ُقولُوا َس ِم ْعنَا َوأَطَ ْعنَا َوأُولَئِ َ‬
‫ُس َوةٌ َحسنة لِّ َم ْن َكا َن‬ ‫اهلل أ ْ‬‫ول ِ‬ ‫وحث على االقتداء بالنىب ×‪﴿:‬لََق ْد َكا َن لَ ُكم فِى ر ُس ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫َخ َر َوذَ َك َر اهللَ َكثِ ًيرا﴾ [األحزاب‪.]21:‬‬ ‫يرجو اهلل والْيوم اآل ِ‬
‫َ َ َْ َ‬ ‫َْ ُ‬
‫ودلَّت أحاديث كثرية على وجوب اتباع النىب ×‪ ,‬ولذلك سعى املرابطون لتحقيقها ىف حياهتم‪،‬‬
‫ومن ذلك ما رواه أبو هريرة أن النىب × قال‪« :‬كلُّ أمتى يدخلون الجنة إال من أبي‪ ،‬قيل‪:‬‬
‫و َمن يأبى يا رسول هللا؟ قال‪َ :‬من أطاعنى دخل الجنة‪ ،‬و َمن عصانى‬
‫فقد أبى» (‪.)1‬‬
‫ومن ذلك ما رواه العرباض بن سارية قال‪« :‬وعظنا رسول اهلل × موعظة وجلت منها القلوب‪،‬‬
‫ودع‪ :‬فأوصنا‪ ،‬قال‪« :‬أوصيكم بتقوى‬ ‫وذرفت منها العيون‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬كأهَّن ا موعظة ُم ِّ‬
‫َّمع والطاع ِة‪ ،‬وإن تأ َّمر عليكم عبد‪ ،‬وإنَّه َمن يعش منكم فسيرى‬ ‫هللا‪ ،‬والس ِ‬
‫اختالفًا كثيرًا‪ ،‬فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها‬

‫‪ )(1‬أخرجه البخاري (‪.)7280‬‬


‫‪37‬‬
‫بالنواجذ‪ ،‬وإيَّاكم و ُمحدَثات األمر‪ ،‬فإن كل بدعة ضاللة»(‪.)1‬‬
‫ظهرت آثار التزامهم بسنة‬
‫ْ‬ ‫إن قبائل صنهاجة الذين ُعرفوا بامللَثَّمني مث أُطلق عليهم اسم املرابطني‬
‫كونوا هبا‬ ‫ُ‬
‫النىب × ىف كل مناشط حياهتم؛ ىف التعلم والتزكية واجلهاد والسياسة‪ ,‬وغريها من األمور الىت َّ‬
‫دولتهم املعروفة‪.‬‬
‫السنيَّة‬
‫المصدر الثالث‪ :‬عمل أهل المدينة‪ :‬الذى اهتمت به املدرسة املالكية املغربية ُّ‬
‫عموما عمل أهل املدينة حيث إهَّن ا دار اهلجرة‪ ،‬وهبا تنزل القرآن‪ ،‬وأقام رسول اهلل × ومعه أصحابه هبا‪،‬‬ ‫ً‬
‫وأهل املدينة أعرف النَّاس بالتنزيل‪ ،‬ومبا كان من بيان رسول اهلل ×‪ ،‬على هذا رأى املالكيُّون‪ Z‬أن عملهم‬
‫باالقتداء بعلماء أهل املدينة ىف أقواهلم وأفعاهلم حجة‪ ،‬وقدَّموا ذلك على القياس‪ ،‬وعلى خرب الواحد‪،‬‬
‫وىف كتاب اإلمام مالك إىل الليث ابن سعد الفقيه املصري‪« :‬إن النَّاس تبع ألهل املدينة‪ ،‬الىت إليها‬
‫كانت اهلجرة‪ ،‬وهبا‬
‫تنزل القرآن»(‪.)2‬‬
‫وسار فقهاء الدولة املرابطية وعلى رأسهم الفقيه عبد اهلل بن ياسني على هذا الطريق ومل يُغرِّي وا أو‬
‫يبدلوا أو يرضوا بغريه حوالً‪.‬‬
‫الص َحاىِب الذى ال يعرف له خمالف‬
‫المصدر الرابع‪ :‬قو ُل الصحابي‪ :‬جعل املالكية قول َّ‬
‫حجة‪ ،‬واعتمدوا ىف ذلك على ما ذكر اإلمام مالك ىف «الموطأ» حيث اعتمد فى كثير من‬
‫فتاويه على العديد من أقوال الصَّحابَة الذين هم أعلم بالتأويل‬
‫وأعرف بالمقاصد‪.‬‬
‫وحين تتعدد أقوال الصَّحابَة فى المسألة الواحدة يختار علماء المالكية من أقوالهم‬
‫ما يتفق مع عمل أهل المدينة‪.‬‬
‫سلَة‪ :‬اعتبر المالكية المصالح المرسلة دليالً‬ ‫المصدر الخامس‪ :‬المصال ُح ال ُمرْ َ‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫شرعيًا ومارسوها ممارسة عملية فى الحياة‪ ،‬وأصلوا لها أصوال فى جلب المنفعة‪،‬‬
‫ودفع المفسدة‪ ،‬وقاسوا بهذه القواعد األمور التى لم يشهد لها الشرع بإبطال وال باعتبار‬
‫ُمعيَّن‪ ،‬ألن تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها فى الخلق‪ ،‬والمقاصد إما‬
‫ضرورية أو حاجية‪ ،‬أو تحسينية‪.‬‬
‫والضرورية‪ :‬هى التى البُ َّد منها فى قيام مصالح الدين والدنيا فى الضروريات‬
‫الخمس فى الملل جميعًا وهي‪ :‬حفظ الدين‪ ،‬والنفس‪ ،‬والنسل‪ ،‬والمال‪ ،‬والعقل‪.‬‬
‫والحاجية‪ :‬هى التى تؤدى إلى رفع الضيق والحرج والمشقة‪.‬‬
‫والتحسينية‪ :‬هى المتعلقة بمكارم األخالق وكون هذه المعانى مقصودة عرف‬
‫بأدلة كثيرة ال حصر لها من الكتاب والسنة‪ ،‬مما يدلُّ على مقاصد الشرع‪ ،‬ولذا ذهب‬

‫‪ )(1‬أخرجه أبو داود (‪ ,)4607‬والترمذي (‪.)2676‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ التشريع اإلسالمي‪ ،‬ص (‪.)292-291‬‬
‫‪38‬‬
‫المالكية إلى أن المصلحة تكون حجة‪ ،‬ويعتبر بعض الباحثين القول بالمصلحة من‬
‫خصوصيات مذهب المالكية‪.‬‬
‫المصد ُر السادس‪ :‬القياس‪ :‬وهو من أصول المنهجية ِ‬
‫العل ِميَّة التى سار عليها‬
‫ابن ياسين وربى عليها أتباعه‪.‬‬
‫المصدر السابع‪ :‬سد الذرائع‪ :‬سار عليه ابن ياسين فى منهجه العلمى فى‬
‫تأصيل أصول فقه مذهبه‪ ,‬وسار على نهج فقهاء المالكية فى االقتداء باإلمام مالك –‬
‫رحمه هللا – الذى أكثر إكثارًا شديدًا من العمل بسد الذرائع‪ ،‬حتى اعتبر بعض العلماء‬
‫العمل بها من خصوصيات مذهبه‪ ,‬حتى وصفه الشاطبى بأنَّه كان شديد المبالغة فى س ِّد‬
‫الذرائع(‪.)1‬‬
‫ج ‪ -‬مرحلة المغالبة التى قام بها ابن ياسين‪:‬‬
‫بعد أن قطع ابن ياسين بأصحابه وأتباعه مرحلة التكوين العقدى والفقهى‬
‫والحركى والتنظيمى والتربوي‪ ،‬وأصبح معه رجال يعتمد عليهم فى تبليغ دعوة هللا‬
‫على فهم صحيح لكتاب هللا‪ ،‬وفقه واسع لسنة نبيه ×‪ ,‬ورغبهم فى ثواب هللا تعالى‪،‬‬
‫وطلب مرضاته‪ ،‬وخ َّوفهم من عقابه‪ ،‬وتم َّكن حُبُّ االتباع من قائدهم العالم الفقيه‪ ،‬بدأ‬
‫ابن ياسين بإرسال البعوث إلى القبائل‪ ،‬لترغيب النَّاس فى اإلسالم‪ ،‬فلبى مجموعة من‬
‫أشراف صنهاجة هذه الدعوة المحكمة والتفوا حوله‪.‬‬
‫ثم أمر ابن ياسين أتباعه وتالميذه أن يذهب كل منهم إلى قبيلته أو عشيرته‬
‫يدعوهم إلى العمل بأحكام هللا وسنة نبيه ×‪ ،‬فلما لم يجدوا استجابة من أقوامهم‪ ،‬خرج‬
‫إليهم بنفسه‪ ،‬فجمع أشياخ القبائل‪ ،‬ووعظهم وحذرهم عقاب هللا‪ ،‬واستم َّر فى ذلك سبعة‬
‫أيام‪ ،‬فلم يزدادوا إال فسقًا‪ ،‬فل َّما يئس منهم أعلن الجهاد عليهم(‪.)2‬‬
‫ع المرابطين أوالً صوب قبيلة جدالة‪ ،‬حيث اشتبكوا معهم فى معركة‬ ‫تحرَّكت جمو ُ‬
‫شرسة وأوقعوا بهم الهزيمة‪ ،‬وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا‪ ،‬وانقاد الباقون ألحكام اإلسالم‪ ،‬ثم‬
‫سار ابن ياسين إلى قبيلة لمتونة فقاتلهم وانتصر عليهم‪ ،‬ودخلوا فى طاعة ابن ياسين‪،‬‬
‫وبايعوه على إقامة الكتاب والسنة‪ ،‬ثم مضى إلى قبيلة مسوفة التى دخلت تحت لوائه‬
‫وبايعوه على ما بايعته قبائل جدالة ولمتونة‪ ،‬فلما شهدت قبائل صنهاجة هذه األحداث‬
‫بادرت إلى مبايعة ابن ياسين على بذل الطاعة له‪ ،‬وقلدتها كثير من القبائل الصحراوية‬

‫فى ذلك(‪.)3‬‬
‫ووضع ابن ياسين خطة شاملة تر َّكزت على توزيع النابغين من تالميذه على‬
‫القبائل التى دخلت فى دعوته ليعلموها القرآن وشرائع اإلسالم‪ ،‬وبدأ ابن ياسين فى‬
‫تخطيط الدولة التى شرع لتأسيسها على أسس شرعية ربَّانية‪ ،‬وفى ظنى أن الذى أسس‬
‫الدولة المرابطية فعليًا ونفذ أحكامها الشرعية هو يوسف بن تاشفين‪ ،‬وهذا ما يتضح‬
‫من خالل دراسة هذه الدولة البهية‪ ،‬ولما تُوفى األمير يحيى بن إبراهيم الجدالي‪ ،‬ق َّدم‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬التشريع والفقه فى اإلسالم‪ ،‬مناع القطان‪ ،‬ص (‪.)294‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬ابن أبي زرع‪ ،‬روض القرطاس‪ ،‬ص (‪.)85‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬د‪ .‬حمدي عبد المنعم‪ ،‬ص (‪.)41‬‬
‫‪39‬‬
‫ابن ياسين مكانه يحيى بن عمر اللمتونى وكان من أهل الدين والفضل‪ ،‬كما كان منقادًا‬
‫فى جميع أموره إلمامه ابن ياسين(‪.)1‬‬
‫وبذلك أصبحت القبائل الصنهاجية فى المغرب األقصى لها قيادة دينية وسياسية‬
‫ومجالس شورى تُدبِّ ُر دفتها وحركتها‪ ،‬فتطلعت لتوحيد المغرب األقصى كله وإزالة‬
‫كل عائق يمنعها من تحكيم شرع ربها‪.‬‬
‫الوضع السياسى فى المغرب األقصى عند ظهور المرابطين‪:‬‬
‫كان المغرب األقصى فى أوائل القرن الخامس الهجرى فى محنة سياسية ودينية؛‬
‫حيث ظهرت دعوات منحرفة عن اإلسالم وحقيقته وجوهره األصيل‪ ،‬واستطاعت‬
‫بعض الدعوات البدعية الكفرية أن تُش ِّكل كيانًا سياسيًا تحتمى به‪ ,‬وأصبح المغرب‬
‫األقصى شبيهًا باألَ ْن َدلُس فى زمن ملوك الطوائف‪ ،‬وكانت الطوائف التى سادت‬
‫المغرب قبيل وصول المرابطين تتكون من أربع شوكات قوية لها وزنها فى المغرب‬
‫األقصى‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬قبائل غمارة فى ال َّش َمال‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬قبائل برغواطة فى المغرب‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬قبائل زناتة وكانت تك ِّون نطاقًا حول الطوائف السابقة ال ِسيَّ َما برغواطة‪.‬‬
‫رابعًا‪ :‬طوائف الشيعة والرافضة والوثنيين فى الجنوب‪.‬‬
‫‪ -1‬الطائفة األُولى‪ :‬قبائل غمارة‪:‬‬
‫كانت تسكن جبال الرِّ يف الممتدة من ناحية البحر المتوسط من سبتة وطنجة غربًا‪،‬‬
‫إلى وادى نكور بالقرب من المزمة أو ال ُح َسيْمة الحالية شرقًا‪ ،‬وتمتد بالدُهم جنوبًا إلى‬
‫قرب فاس‪ ,‬وكانت غمارة بطنًا من بطون مصمودة وظهر فيها مشعوذون‪ ،‬وقصدتهم‬
‫الخوارج للمنعة فى جبالهم‪ ،‬ووصفهم ال ُمؤَ ِّر ُخون من أمثال ابن خلدون وغيره‪ :‬بأنَّهم‪:‬‬
‫«عريقون فى الجاهلية؛ بل الجهالة‪ ،‬والبعد عن الشرائع بالبداوة واالنتباذ عن مواطن‬
‫الخير‪ ،‬وتنبَّأ فيهم إنسان يعرف بحاميم بن َمنِّ هللا‪ ،‬ولُقِّب بالمفتري‪ ،‬وفى رواية أخرى‬
‫بالمقتدي‪ -‬ولعلها هى األصل ثم حُرِّ فت إلى المفترى – والجبل الذى تنبِّأ فيه يُنسب‬
‫إليه‪ ،‬وهو جبل على مقربة من تطوان‪ ،‬وأجابه بشر كثير من غمارة وأقروا بنبوته‪،‬‬
‫ووضع لهم شريعة استهواهم برخصها‪ ،‬فر َّد لهم الصالة صالتين عند طلوع الشمس‬
‫وعند غروبها‪ ،‬ووضع لهم قرآنًا بلسانهم «أى البربرى»‪ ،‬ومن تعاليمه أنه أح َّل لهم‬
‫أكل أنثى الخنزير‪ ،‬وأسقط عنهم الحج والطهر والوضوء‪ ،‬وحرَّم عليهم الحوت حتى‬
‫يُذكى‪ ،‬وحرَّم بيض كل طائر‪ . .‬إلخ»(‪.)2‬‬
‫وقد قتل هذا المشعوذ الزنديق فى النصف األول من القرن الرابع الهجرى فى‬
‫طنجة فى حروبه مع قبائل مصمودة الساحلية على حد قول البكرى وابن خلدون‪ ،‬أو‬
‫فى حروبه مع جيوش الخليفة األموى عبد الرَّحمن الناصر على حد قول صاحب‬
‫«االستبصار»‪ ،‬وصاحب «مفاخر البربر»(‪.)3‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)31‬‬
‫‪ )(2‬انطر ‪ :‬االستبصار فى عجائب األمصار‪ ،‬لمؤلف مجهول‪ ،‬ص (‪.)190‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬كتاب االستبصار‪ ،‬ص (‪ ،)192-191‬ومفاخر البربر‪ ,‬ص (‪.)77‬‬
‫‪40‬‬
‫واستمرَّت البدع الكفرية بالرغم من موت المتنبى المشعوذ وظهر أحد أبنائه‬
‫ويُدعَى عيسى وكان ُمب َّجالً فى قَومه‪ ،‬وكانت قبائل غمارة غارقة فى اإلباحيَّة بين‬
‫النساء والرجال‪ ،‬وكان رجالهم يربون شعورهم كالنساء ويتخذونها ضفائر ويطيبونها‬
‫ويتعممون بها‪ . . .‬إلخ(‪.)1‬‬
‫‪ -2‬الطائفةُ البرغواطيَّة‪:‬‬
‫ك َّونت هذه الطائفة الكافرة دولة لها فى القرن الثَّانِى للهجرة فى إقليم تامسنا أو ما‬
‫يُسمى اليوم بالشاوية(‪ ،)2‬وكانت دولتهم تمت ُّد من ال ِّربَاط الحالية إلى ثغر فضالة الذى‬
‫صبِّ وادى أُ ِّم الربيع‪.‬‬ ‫كان قاعدة ألسطولها‪ ،‬وتنتهى عند بلدة أزمور عند َم َ‬
‫ونجد أن المؤرخين اختلفوا حول اسم برغواطة‪ ،‬فبعضهم يرى بأنَّه لم يكن اس ًما‬
‫لقبيلة ُمعينة يجمعها أصل واحد أو أب واحد‪ ،‬بل كان اس ًما ألخالط من البربر اجتمعوا‬
‫على شخص يهودى األصل‪ ،‬ا َّدعى النبوة‪ ،‬اسمه صالح بن طريف بن شمعون‬
‫البرباطي‪ ،‬نسبة إلى وادى البرباط فى جنوب األَ ْن َدلُس؛ فصارت كلمة برباطى تطلق‬
‫ُ‬
‫على كل من اعتنق ديانته‪ ،‬ثم ُح ِّرفَت إلى برغواطي(‪.)3‬‬
‫ويرى ابن خلدون أن برغواطة قبيلة من المصامدة وأن ملوكها كانوا من مصامدة‬
‫المغرب(‪.)4‬‬
‫ومن عقائد هذه الطائفة الضالَّة اعتقادهم بأن صالح بن طريف هو المقصود بقوله‬
‫صالِ ُح‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫تعالى فى سورة التحريم‪َ ﴿:‬وإِن تَظَ َ‬
‫اه َرا َعلَْيه فَإ َّن اهللَ ُه َو َم ْوالَهُ َوج ْب ِر ُ‬
‫يل َو َ‬
‫ك ظَ ِه ٌير﴾ [التحريم‪ .]4:‬وزعم زعيمهم أنه المهدى األكبر‬ ‫ين َوال َْمالَئِ َكةُ َب ْع َد ذَلِ َ‬‫ِِ‬
‫ال ُْم ْؤمن َ‬
‫الذى يخرج فى آخر الزمان لقتال المسيح الدجال‪ ،‬وأن عيسى ابن مريم يكون من‬
‫أصحابه ويُصلِّى خلفه‪.‬‬
‫وشرع ألتباعه صوم رجب‪ ,‬واألكل فى رمضان‪ ،‬وفى الوضوء غسل السرة‬
‫والخاصرتين باإلضافة إلى طريقة الوضوء عند ال ُم ْسلِمين‪ ،‬وفرض عليهم خمس‬
‫صلوات فى النَّهار وخمس صلوات فى الليل‪ ،‬وبعض صلواتهم إيماء بال سجود‪،‬‬
‫وبعضها على كيفية صالة ال ُم ْسلِمين‪ ،‬وعند ابتداء الصالة يضع الفرد إحدى يديه على‬
‫األخرى‪ ،‬ويقول بالبربرية‪ :‬ابسمن باكش‪ ،‬وتفسيره باسم هللا‪ ،‬ثم مقر ياكش‪ ،‬أى هللا‬
‫أكبر‪ ،‬ويقولون فى تسليمهم بالبربرية‪ :‬أيحن ياكش‪ ،‬ووردام ياكش هللا أحد ال مثيل له‪.‬‬
‫كما وضع‬
‫صالح بن طريف قرآنًا باللغة البربرية فى ثمانين سورة أكثرها منسوب إلى أسماء‬
‫النبيين‪ ،‬أولها سورة أيوب وآخرها سورة يونس‪.‬‬
‫تزوج النساء فوق األربع‪ ،‬وأباح لهم الطالق‪ ،‬وحرَّم عليهم زواج بنت‬ ‫وأباح لهم ُّ‬
‫العم‪ ،‬وزواج ال ُم ْسلِمات‪ ،‬كذلك شرع قتل السارق‪ ،‬ورجم الزاني‪ ،‬ونفى الكاذب‪ ،‬وحرَّم‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬فى تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬د‪ .‬العبادي‪ ،‬ص (‪.)278‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)279‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)279‬‬
‫‪ )(4‬ابن خلدون‪ ،‬العبر‪( ،‬ج‪.)2/210‬‬
‫‪41‬‬
‫رأس كل حيوان‪ ،‬وحرَّم ذبح الديك‪ ،‬والحوت أى السمك‪ ،‬وال يُؤ َكل إال أن يُذكى «أى‬
‫يذبح» والبيض عندهم حرام‪ ،‬وليس عندهم أذان وال إقامة وهم يكتفون فى معرفة‬
‫األوقات بصياح الديوك‪ ،‬ولذلك حرَّموها إلى غير ذلك من التعاليم الشيطانية وإلى ح ٍّد‬
‫كبير تشبه ديانة حاميت المفترى فى غمارة(‪.)1‬‬
‫لقد كانت تعاليم هذه الدولة الكفرية متأثرة بتعاليم اليهود المنحرفة‪ ،‬وكذلك ببعض‬
‫مشوهة لإلسالم تعمل للقضاء عليه‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫التعاليم اإلسالمية حيث يمكننا أن نقول إنَّها ديانة‬
‫وكانت هذه الدولة عند أهل السنة والجماعة مجوسًا منحرفين مارقين عن الدين‬
‫الحنيف‪ ،‬ولهذا فرضوا قتالهم واستحلوا دماءهم‪.‬‬
‫واستمرَّت هذه الدعوة الكفرية منذ سنة ‪125‬هـ فى خالفة هشام بن عبد الملك إلى‬
‫ظهور أهل السنة المرابطين ال ُملَثَّمين الذى قضوا عليهم قضا ًء ُمبر ًما‪ ،‬وقد ذكرت كتب‬
‫اريخ أن حكام المغرب قبل مجيء المرابطين‪ ،‬كاألدارسة واألمويين والزناتيين قد‬ ‫التَّ ِ‬
‫قاتلوا برغواطة وأنزلوا بها هزائم منكرة وخسائر فادحة‪.‬‬
‫لقد قاسى المغرب األقصى محنة كبيرة بسبب هذه الدولة الكفرية والطائفية البدعية‬
‫وكان خطرها أشد وأقوى مما تص ِّوره كتب التَّ ِ‬
‫اريخ(‪.)2‬‬
‫‪ -3‬الطائفة الثالثة‪ :‬وهى الدولة الزناتية‪:‬‬
‫وهى تتك َّون من قبائل مكناسة ومغراوة وبنى يفرن وغيرها من القبائل الزناتية‬
‫التى حكمت المغرب سنين بعد زوال نفوذ األدارسة‪ ،‬حيث قامت بدور إيجابى فى‬
‫حرب الدولة البرغواطية‪ ،‬إال أن حكام هذه الدولة اشتهروا بالجور والظلم والتعسف‬
‫فى آخر زمانهم(‪.)3‬‬
‫‪ -4‬الطائفة الرابعة‪ :‬طوائف الشيعة والوثنيين‪:‬‬
‫كان محلُّهم جنوب المغرب فى أقصى بالد السوس‪ ،‬وكانوا عبارة عن أقليَّات‬
‫ُمبعثَرة‪.‬‬
‫أ َّما الشيعة فقد انتشروا فى مدينة تارودانت ونواحيها وكانوا دعاة للفكر الشيعى‬
‫الرافضي‪ ،‬وبعضهم يرجع جذورهم وأصول فكرتهم للدولة العبيدية الرافضية التى‬
‫اريخ اإلسالمى فى ال َّش َمال اإلفريقى «الدولة العبيدية‬‫جاء ذكرها فى صفحات من التَّ ِ‬
‫ً‬
‫الرافضية»‪ ,‬لقد كان الصراع عنيفا بين الشيعة وبين أهل السنة فى كل ناحية وضاحية‬
‫ومكان فى المغرب كله‪ ،‬وتوج جهاد أهل السنة بالقضاء على الدولة العبيدية إال أن‬
‫بقايا جذورهم أزالها المرابطون بقوتهم السُّنيَّة الميمونة‪ ،‬أما الوثنيون فكانوا يسكنون‬
‫األطلس الكبير فى جبل وعر‪ ،‬وكان الوثنيون يعبدون الكبش‪ ،‬ويبدو أنَّهم تأثروا‬
‫بديانات مصرية قديمة كانت تعبد الكبش فى زمن الفراعنة ويسمونه اإلله خنوم‪ ،‬فكأن‬
‫طقوس هؤالء الوثنيين وعباداتهم من رواسب مؤثرات مصرية قديمة(‪.)4‬‬

‫‪1‬‬
‫() نص على ذلك التشابه صاحب كتاب مفاخر البربر‪ ،‬ص (‪ ،)77‬انظر ‪ :‬فى تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‬
‫‪.)281‬‬
‫‪ )(2‬فى تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)278‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)289‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)291‬‬
‫‪42‬‬
‫لقد اِتضح لى فى دراستى التاريخيّة لبالد المغرب أنَّها كانت تعانى من تف ُّكك‬
‫سياسي‪ ،‬وتكونت دول طائفية منحرفة عن مناهج رب البرية‪ ،‬وكانت شعوب تلك‬
‫الديار قد غرقت فى وحل الجهل‪ ،‬ومستنقعات االنحراف وفساد التصور‪ ،‬وضياع‬
‫األخالق‪ ،‬وكثرة الظلم‪ ،‬وانتشار العسف والجور‪ .‬وكان علماء وفقهاء المرابطين على‬
‫علم ودراية‪ ،‬وقد وضعوا فى ُخطَّتِهم الجهادية توحيد المغرب األقصى والقضاء على‬
‫الدولة الطائفية الكفرية‪ ،‬وإزالة الظلم والجور والتعسف‪.‬‬
‫وعملوا على توحيد الديار المغربية وتربيتها على منهج سنى مالكي‪ ،‬ومحاربة‬
‫المناهج الكفرية‪ ،‬والقضاء على المذاهب البدعية من خوارج ومعتزلة وروافض‬
‫ومنعها من االنتشار أو أن يكون لها وجود‪.‬‬
‫د ‪ -‬الشروع فى توحيد المغرب األقصى‪:‬‬
‫فى عام ‪447‬هـ‪1055 /‬م اجتمع فقهاء سجلماسة ودرعة وكتبوا إلى ابن ياسين‬
‫يُر ِّغبونَه فى الوصول إليهم ليخلص بالدهم مما تعانيه من الحكام الطغاة الظلمة؛ زناتة‬
‫المغراويين وأميرهم مسعود بن واندين‪ ،‬فجمع ابن ياسين شيوخ قَومه وقرأ عليهم‬
‫رسالة فقهاء سجلماسة‪ ،‬فأشاروا عليه بم ِّد يد المعونة لهم‪ ،‬وقالوا له‪« :‬أيُّها الشيخ الفقيه‪,‬‬
‫هذا ما يلزمنا فَ ِسرْ بنا على بركة هللا»(‪.)1‬‬
‫فخرجت جموع المرابطين فى شهر صفر سنة ‪447‬هـ إلى بالد درعة‪ ،‬فتصدى‬
‫لهم األمير مسعود بن واندين بالقتال‪ ،‬وانتهت المعركة بهزيمة المغراويين ومصرع‬
‫مسعود وتشتت جيشه‪ ،‬وأسرع ابن ياسين بدخول سجلماسة‪ ،‬وأصلح أحوالها‪ ،‬وقدم‬
‫عليها عامالً من لمتونة وحامية مرابطية ثم عاد إلى الصحراء»(‪.)2‬‬
‫وفى عام ‪448‬هـ‪1056/‬م تُوفى األمير يحيى بن عمر اللمتونى فَعيَّن عبد هللا بن‬
‫ياسين أخاه أبا بكر بن عمر مكانه للقيادة‪ ،‬ثم تأهَّب أبو بكر لغزو بالد السوس؛ ففى‬
‫ب بالد السوس‪ ،‬واختار أبو بكر بن عمر‬ ‫ربيع الثَّانِى سنة ‪448‬هـ سار المرابطون َ‬
‫صوْ َ‬
‫ابن عمه يوسف بن تاشفين ليتولى القيادة على مقدمة الجيش المرابطي‪ ،‬وكان ذلك أول‬
‫ظهور ليوسف بن تاشفين مؤسس دولة المرابطين وقائد مرحلة التَّمكين‪ ،‬وتمكنوا من‬
‫احتالل اردوانت‪ ،‬وقضوا على الروافض والوثنيين‪ ،‬كما قاتلوا اليهود المنتشرين فى‬
‫تلك النواحى فأعادوا بذلك تلك المناطق إلى مذهب أهل السنة والجماعة(‪.)3‬‬
‫وسار المرابطون إلى مدينة أغمات‪ ،‬وكان أميرها يومئ ٍذ لقوط بن يوسف بن على‬
‫المغراوى وحاصروها‪ ,‬واضطر لقوط إلى الفرار عندما أيقن عبث المقاومة‪ ،‬فخرج‬
‫يتلمس النجاة فى أهله وحشمه تحت جنح الظالم‪ ،‬ودخل المرابطون أغمات عام‬
‫‪449‬هـ‪1057 /‬م وأقاموا فيها ما يقرب الشهرين‪ ،‬وتحركوا حركات حربية ُمح َكمة‬
‫للقضاء على فلول ال ُمغراويين‪ ،‬واستطاعوا قتل أمير أغمات وتزوج أبو بكر بن عمر‬
‫من زينب النفراوية زوجة لقوط المغراوي‪.‬‬
‫ثم سار أبو بكر بن عمر فى جموع المرابطين إلى أرض برغواطة وكان أميرهم‬
‫يومئ ٍذ أبا حفص بن عبد هللا بن أبى غفير بن محمد بن معاذ‪ ،‬ونشبت بين المرابطين‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬موسوعة المغرب العربي (‪.)2/128‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق‪.)2/182( ،‬‬
‫‪ )(3‬فى المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)293‬‬
‫‪43‬‬
‫والبرغواطيين وقائع ومعارك حامية الوطيس أصيب فيها العالم الربانى والمقاتل‬
‫الميدانى والفقيه الموجِّ ه ابن ياسين بجراح أودت بحياته إلى الشهادة‪ ,‬نحسبه كذلك وال‬
‫نُز ِّكى على هللا أحدًا‪ ،‬حمل على إثر تلك الجراح إلى مقرِّ القيادة فى معسكر المرابطين‪،‬‬
‫وقبل خروج روحه جمع رؤساء وشيوخ المرابطين وحثَّهم على الثبات فى القتال‪،‬‬
‫وح َّذرهم من عواقب التفرقة والتحاسد فى طلب الرياسة‪ ،‬ولم يلبث أن فارق الحياة ‪،‬‬
‫(‪)1‬‬

‫فعلى أمثال هؤالء الرحمة والمغفرة والرضوان من الرحيم الواحد المنان‪ .‬واتفق رأى‬
‫المرابطين على اختيار أبى بكر ابن عمر للرياسة مكان ابن ياسين‪ ،‬وأجمع شيوخ‬
‫المرابطين على مبايعة أبى بكر‪ ,‬فجمع بين الزعامتين الدينية والسياسية‪ ،‬بينما يؤكد كل‬
‫من القاضى عياض وابن خلدون أن المرابطين اتفقوا فيما بينهم على تقديم الشيخ‬
‫سليمان بن حدو‪ ،‬ليرجعوا إليه فى مشاكلهم وقضايا دينهم‪ ،‬وتولَّى القائد الجديد الزعامة‬
‫بهمة عالية وشجاعة فائقة‪ ،‬واستعداد للتضحية والفداء من أجل إحياء دين هللا على‬
‫منهج النبوة‪ ،‬وطمس المعالم الكفرية للدولة البرغواطية‪ ،‬فأمر بتعبئة جيوشه المجاهدة‬
‫وخرج لقتال واستئصال الكفر من بالد المغرب‪ ،‬فأثخن فى جنود الدولة البرغواطية‪،‬‬
‫وفرَّق جموعهم‪ ،‬وكسر شوكتهم‪ ،‬وأعلنوا الطاعة والوالء للدولة المجاهدة الجديدة‪ ،‬ثم‬
‫قصد أبو بكر مدينة أغمات‪ ،‬فمكث بها حتى شهر صفر سنة (‪452‬هـ‪1060 /‬م) ثم تابع‬
‫سيره فى بالد المغرب‪ ،‬يفتح البلدان والقرى وحصون الجبال‪ ،‬ففتح سائر بالد زناتة‪،‬‬
‫وفتح مكناسة‪ ،‬وحاصر مدينة لواتة ودخلها عنوة فى شهر ربيع الثَّانِى سنة ‪452‬هـ‪ ,‬ثم‬
‫عاد إلى أغمات التى اتخذها قاعدة عسكرية للمرابطين ومقرًا لألمير وأخوته‪ ،‬وعندما‬
‫امتألت المدينة اتجه أبو بكر إلى اختيار عاصمة جديدة‪ ،‬فوقع على موضع مدينة‬
‫مراكش الحالية‪ ،‬وشرع فى بنائها‪ ،‬فأتاه رسول من الصحراء يخبره بإغارة قبيلة جدالة‬
‫على قبيلة لمتونة‪ ،‬فعيَّن ابن عمه يوسف‪ ,‬وأسرع من أجل اإلصالح بين القبائل‬
‫المتنازعة‪ ،‬وقسَّم الجيش إلى فريقين‪ ،‬نصفه مع يوسف الذى شرع فى تأديب القبائل‬
‫المغربية المتمردة من مغراوة وزناتة وبنى يفرن وغيرهم‪ ,‬ووقع اختياره على أربعة‬
‫من الق َّواد هم‪ :‬محمد بن تميم الجدالي‪ ،‬وعمر بن سليمان المسوفي‪ ,‬ومدرك التلكاني‪،‬‬
‫وسير بن أبى بكر اللمتوني‪ ،‬وعقد لكل منهم على خمسة آالف من قبيلته‪ ،‬وسيرهم‬
‫لتأديب تلك القبائل المتمردة‪ ،‬وسار فى أثرهم فغزوا قبائل المغرب قبيلة بعد قبيلة‪،‬‬
‫وبلدًا بعد بلد‪ ،‬وكان بعضهم يفرون وبعضهم يقاتلونه‪ ,‬والبعض اآلخر يدخلون فى‬
‫طاعته‪.‬‬
‫واستم َّر فى توحيد بالد المغرب وسنرى جهوده الجهادية فى سيرته الميمونة‪.‬‬
‫أما أبو بكر فقد استطاع نشر األمن فى الصحراء‪ ،‬وأزال الخالف القائم بين لمتونة‬
‫وجدالة‪ ،‬وتوسع فى جهاد قبائل السود الوثنية لتدخل فى دين هللا؛ حيث صاول وجاول‬
‫وقاتل الزنوج لتأمين حدود دولة المرابطين الجديدة بعد دعوة الزنوج للدخول فى‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫وبعد أن حقق أبو بكر بن عمر نجاحات هائلة فى مهمته الدعوية؛ رجع إلى‬
‫المغرب األقصى بجيوشه؛ فأكرمهم يوسف بن تاشفين إكرا ًما يليق بالقائد الربَّانى أبى‬
‫بكر بن عمر‪ ،‬واختار أبو بكر يوسف نائبًا عنه على حُكم المغرب األقصى‪ ،‬وأمره‬
‫بالعدل والرفق بال ُم ْسلِمين‪ ,‬ثم و َّدعه وعاد إلى الصحراء وقد ز َّوده يوسف بطائفة‬
‫‪ )(1‬تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)44‬‬
‫‪44‬‬
‫عظيمة من الهدايا الجليلة‪ ،‬من المال والخيل والبغال واألسلحة المحالة بالذهب‪،‬‬
‫ُ‬
‫والجوارى والثياب الفاخرة والمؤن والدوابِّ ‪ ،‬وهناك استأنف الجهاد والغزو حتى قتل‬
‫فى إحدى غزواته فى سنة (‪480‬هـ‪1087/‬م)(‪.)1‬‬
‫قال ابن كثير فى «البداية والنهاية» عنه ‪-‬أى عن أبى بكر بن عمر‪« :-‬اتفق له من‬
‫الناموس ما لم تتفق لغيره من ملوك‪ ,‬كان يركب معه إذا سار لقتال عدو خمسمائة ألف‬
‫مقاتل‪ ،‬كان يعتقد طاعته‪ ،‬وكان مع هذا يقيم الحدود ويحفظ محارم اإلسالم‪ ،‬ويحوط‬
‫الدين ويسير فى النَّاس سيرة شرعية‪ ،‬مع صحة اعتقاده ودينه‪ ،‬ومواالة الدولة‬
‫العباسية‪ ،‬أصابته نشابة فى بعض غزواته فى حلقه فقتلته»(‪.)2‬‬
‫لقد كان أبو بكر بن عمر من أعظم قادة المرابطين‪ ،‬وأتقاهم وأكثرهم ورعًا ودينًا‬
‫وحبًا للشهادة فى سبيل هللا‪ ،‬وساهم فى توحيد بالد المغرب‪ ،‬ونشر اإلسالم فى‬
‫الصحارى القاحلة وحدود السنغال والنيجر‪ ،‬وجاهد القبائل الوثنية حتى خضعت‬
‫وانقادت لإلسالم وال ُم ْسلِمين‪ ،‬ودخل من الزنوج أعداد كبيرة فى اإلسالم‪ ,‬وساهموا فى‬
‫بناء دولة المرابطين الفتية‪ ،‬وشاركوا فى الجهاد فى بالد األَ ْن َدلُس‪ ,‬وصنعوا مع إخوانهم‬
‫ال ُم ْسلِمين فى دولة المرابطين حضارة متميزة‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬تأمالت فى مسيرة ابن ياسين الجهادية‪:‬‬
‫لقد سار ابن ياسين فى دعوته لقبائل ال ُملَثَّمين الصنهاجية سيرة حسنة نقية‪ ،‬وتدرَّج‬
‫بهم من مرحلة التعريف إلى التكوين ثم التنفيذ حيث شرع فى قتال القبائل التى لم‬
‫تحترم أو تُقدِّس حرمات هللا‪ ،‬وأزال المنكرات‪ ،‬واعتبر ذلك جهادًا فى سبيل هللا‪.‬‬
‫وقد الحظت أن إعالن الجهاد على القبائل التى تفشت فيها المنكرات جاء بعد‬
‫إعداد وشورى من أهل الحل والعقد‪ ،‬وبعد أن أصبحت لهم شوكة قوية وإمام مطاع‪،‬‬
‫ومجلس من العلماء والفقهاء يقلبون أمور السلم والحرب‪.‬‬
‫ويكفى هؤالء األبطال على صحة جهادهم ما رواه مسلم فى صحيحه عن النبى ×‬
‫‪« :‬ما من نبى بعثه هللا فى أمة قبلى إال كان له من أ َّمته حواريون‪،‬‬
‫وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره‪ ،‬ثم إنَّها تخلف من بعدهم ُخلوف‪،‬‬
‫يقولون ماال يفعلون‪ ،‬ويفعلون ما ال يؤمرون‪ ،‬فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن‪،‬‬
‫ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن‪ ،‬ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن‪ ،‬وليس وراء‬
‫ذلك من اإليمان حبةُ خردل»(‪.)3‬‬
‫إن حركة المرابطين كانت موفقة حيث استطاعت أن تنسق مع علماء وفقهاء‬
‫سجلماسة إلسقاط الدولة الزناتية التى تفشى فيها الظلم والجور والعسف‪ ،‬فعندما رأوا‬
‫ق المصلحة كان‬ ‫من أنفسهم االستطاعة والمقدرة على إزالة الظلم‪ ،‬ورأوا أن تحقُّ َ‬
‫أرجح‪ ،‬سارع الفقهاء والعلماء بالموافقة على مقترح ابن ياسين‪ ،‬وتدفَّقت جيوش‬
‫المرابطين‪ ،‬وتعاونت مع المستضعفين وطهَّرت البالد من هيمنة العابثين‪ ،‬ونشرت‬
‫العدل بين ال ُم ْسلِمين‪ ،‬ورفعت الضرائب والمكوس عن المظلومين‪ ،‬وفى نظرى أن‬
‫نجاح حركة المرابطين كان بتوفيق هللا‪ ،‬ثم إن القيادة الفعلية للعلماء والفقهاء ومجلس‬
‫الشورى الذى يُ َمثِّل أهل ال ِّحل والعقد ممن شهدت لهم جموع المرابطين بأنَّهم أهل لذلك‬
‫‪ )2( ,)(1‬البداية والنهاية‪.)12/143( ،‬‬
‫‪2‬‬
‫() البداية والنهاية ( ‪. )12/143‬‬

‫‪ )(3‬صحيح مسلم رقم (‪ ,50‬ج‪.)1/70‬‬


‫‪45‬‬
‫كانت حساباتهم دقيقة‪ ,‬وفتاويهم موزونة‪ ،‬ومعاركهم مدروسة‪.‬‬
‫أما قتالهم لبرغواطة‪ ,‬وغمارة‪ ,‬ذات المعتقدات ال ُكفرية واالنحرافات العقدية فهذا‬
‫يعتبر من أعظم أعمالهم الجهادية‪ ,‬عندما وقفوا إلزالة الدولة الشركية واقتلعوها من‬
‫بأصول سنية زكية بهية‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫جذورها‪ ،‬وبُدِّلت‬
‫الحظت أن للعلماء شبكة عملية لالتصال والتشاور ووضع الخطط الالزمة‬ ‫ُ‬ ‫كما‬
‫َّ‬
‫إلحياء اإلسالم فى الش َمال اإلفريقي‪ ،‬حيث نجد أن اإلمام أبا عمران الفاسى هو الذى‬
‫وضع الخطوط العريضة واإلرشادات النافعة لدولة المرابطين‪ ،‬ثم وجَّه األمير يحيى‬
‫بن إبراهيم إلى موقع من مواقع حلقة االتصال الواسعة بين العلماء ليرسل قائد تلك‬
‫الجهة وهو ابن وجاج مع األمير يحيى أحد األفراد الذين يتوسم فيهم ذكا ًء ونجابةً‬
‫وصالحًا وتفوقًا للدعوة فى قبائل صنهاجة‪ ,‬وكان اختيار ابن وجاج فى محله الذى‬
‫استم َّر على اتصاله بشيوخه‪.‬‬
‫كما أن علماء سجلماسة كانوا ضمن شبكة من شبكات التعاون بين فقهاء أهل‬
‫السنة‪ ،‬فهم الذين شجَّعوا جيوش المرابطين لتوحيد الديار المغربية تحت لواء دولة‬
‫سنية‪.‬‬
‫***‬

‫‪46‬‬
‫المبحث السادس‬
‫مرحلة التمكين والتوسع لدولة المرابطين‬
‫القائد الربانى يوسف بن تاشفين‬
‫‪ 500 - 400‬هـ ‪1106 -1009 /‬م‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫قد علمت بأهم المراحل فى فقه الدعوة إلى هللا التى م َّر بها اإلمام ابن ياسين حيث‬
‫نجده نجح نجاحًا عظي ًما فى تنفيذ مرحلة التعريف واختيار العناصر التي تحمل‬
‫الدعوة‪ ،‬ومرحلة المغالبة‪ ،‬واستشهد فى مرحلة المغالبة وتولى القيادة فى هذه المرحلة‬
‫أبو بكر بن عمر الذى سار على نفس المنهج الذى رسمه ابن ياسين‪.‬‬
‫واستم َّر فى فتح مدن المغرب إال أنه ترك نصف جيش المرابطين البن عمه‬
‫يوسف‪ ،‬ودخل بالباقى نحو الجنوب داعيًا ومجاهدًا ومصلحًا واستم َّر فى فتوحاته حتى‬
‫استشهد – رحمه هللا – وتولَّى األمر بالكلية القائد الربانى ابن تاشفين الذى أنهى مرحلة‬
‫المغالبة وانتقل إلى مرحلة التَّمكين‪.‬‬
‫أ ‪ -‬نسبه‪:‬‬
‫يوسف بن تاشفين بن إبراهيم اللمتونى الصنهاجي‪ ,‬وأُ ُّمه بنت عم أبيه فاطمة بنت‬
‫سير بن يحيى بن وجاج بن وارتقين‪ ،‬وكانت قبيلته قد سيطرت بسيادتها وقيادتها على‬
‫صنهاجة‪ ،‬واحتفظت بالرئاسة منذ أن جعلها اإلمام ابن ياسين فيها بعد وفاة األمير‬
‫يحيى ابن إبراهيم الجدالى ‪ ،‬فنما عزي ًزا كري ًما فى قَومه‪.‬‬
‫قال عنه ال ُم َؤ ِّر ُخون من أمثال أشياخ‪« :‬خلق للزعامة» ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫(‪)2‬‬
‫وإن اتهموا صنهاجة فهم هـــم‬ ‫ملك له ال َّش َرفُ العلى من حمير‬
‫كان يوسف أسمر اللون نقيُّه‪ ,‬معتدل القامة‪ ،‬نحيف الجسم‪ ،‬خفيف العارضين‪،‬‬
‫رقيق الصوت‪ ،‬أكحل العينين‪ ،‬أقنى األنف‪ ،‬له وفرة تبلغ شحمة األذن‪،‬‬
‫مقرون الحاجبين‪ ,‬أجعد الشعر(‪.)3‬‬
‫كان يجمع بين جمال الطلعة وجمال الجسم‪ ،‬وبين أبدع المواهب‪ ،‬كان بطالً‬
‫شجاعًا‪ ،‬نجدًا حاذقًا‪ ،‬ج َّوادًا كري ًما‪ ،‬زاهدًا فى زينة الدنيا‪ ،‬عادالً متورعًا‪ ,‬متقشفًا‪ ,‬لباسه‬
‫الصوف‪ ،‬وطعامه خبز الشعير‪ ،‬ولحوم اإلبل وألبانها(‪ .)4‬كان عزيز النَّفس كثير‬
‫الخوف من هللا‪.‬‬
‫كان يجمع الصفح والعفو عن الذنوب مهما كبرت ما عدا الذين يرتكبون الخيانة‬
‫فى حق الدِّين فال مجال للعفو عنهم(‪.)5‬‬

‫‪ )(1‬األندلس فى عهد المرابطين والموحدين‪ ,‬ص (‪.)65‬‬


‫‪ )(2‬وفيات األعيان‪( :‬ج‪.)7/130‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬الروض القرطاس‪ ،‬ص (‪.)87‬‬ ‫‪ )(3‬دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)36‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ )(5‬دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)36‬‬


‫‪47‬‬
‫ربَّته األحداث وصاغت من شخصيته قائدًا ف ًذا‪ ،‬وبرهنت األيا ُم على أنه له مقدرة‬
‫على فهم واقعه‪ ,‬قادر على النهوض بقَومه وشعبه وجيشه نحو حياة إسالمية حضارية‬
‫أفضل‪.‬‬
‫تلقَّى يوسف تعاليمه األولى فى قلب الصحراء من أفواه ال ُم َح ِّدثِين والفقهاء‪ ،‬ونما‬
‫وترعرع وتربَّى على تعاليم اإلمام الفقيه ابن ياسين‪ ،‬ونبغ فى فنون رجال الحرب‪،‬‬
‫وفى السياسة الشرعية التى تتلمذ على الفقهاء فيها‪ ،‬وقام بها خير قيام‪ ,‬وسنرى ذلك ‪-‬‬
‫بإذن هللا‪ -‬فى بحثنا هذا‪.‬‬
‫اريخ أنه تزوج زينب النفروية بعد أن طلَّقها ابن عمه أبو بكر بن‬ ‫تذ ُكر كتب التَّ ِ‬
‫عمر عندما عزم على السفر إلى الصحراء للجهاد والدعوة واإلصالح‪ ،‬فقال لها‪ :‬أنت‬
‫امرأة جميلة بضَّة‪ ،‬ال طاقة لك على حرارة الصحراء‪ ،‬وإنِّى مطلقك؛ فإذا انقضت‬
‫عدتك فانكحى ابن عمى يوسف بن تاشفين‪ ،‬وتز َّوجها يوسف بعد تمام ع َّدتِها‪ ،‬وكانت‬
‫زينب بنت إسحاق مشهورة بالجمال والرئاسة‪ ,‬بارعة الحسن‪ ,‬حازمة‪ ,‬لبيبة‪ ,‬ذات عقل‬
‫رصين‪ ,‬ورأى سديد‪ ,‬ومعرفة بإدارة األمور‪ ،‬فكانت نِ ْع َم الزوجة المعينة لزوجها‪ ,‬وقد‬
‫اريخ هذه المرأة‪ ,‬واعتبرتها من خيرة نساء دولة المرابطين‪ ،‬وتوفيت‬ ‫مدحت كتب التَّ ِ‬
‫عام ‪464‬هـ‪1071 /‬م‪.‬‬
‫وتز َّوج األمير يوسف من سيدة أندلسية تُدعَى قمر وال تذكر كتب التَّ ِ‬
‫اريخ عنها‬
‫شيئًا‪ ،‬ويقال‪ :‬هى التى أنجبت األمير علي ولى العهد‪ ،‬وأمير األَ ْن َدلُس والمغرب بعد‬
‫والده‪.‬‬
‫وتز َّوج يوسف امرأة تسمى عائشة‪ ,‬وأنجبت له األمير محمد الذى نسب إليها فصار‬
‫ُزق يوسف مجموعة من الذكور واإلناث بكرهم تميم الذى‬ ‫يدعى محمد ابن عائشة‪َ ،‬ور ِ‬
‫توفى غداة معركة الزالقة وكان واليًا على سبتة‪ ،‬وعل ٌّي الذى تولى اإلمارة بعده‪،‬‬
‫وإبراهيم‪ ,‬ومحمد الذى كان أحد القادة البارزين فى جيش والده وأ َّما بناته فهما‪ :‬كونة‬
‫ورقيَّة(‪.)1‬‬
‫ب ‪ -‬المراحل العسكرية التى مر بها يوسف فى جيش المرابطين‪:‬‬
‫‪448-452 -1‬هـ ‪1060-1056 /‬م‪:‬‬
‫كان فى هذه المرحلة مجرد قائد من قواد المرابطين يتلقَّى األوامر وينفِ ُذها بكل‬
‫نجاح‪ ،‬وكانت هذه المرحلة غنية بالتجارب والخبرات التى شحذت ذهنه وأهَّلته‬
‫للمرحلة التالية‪ ،‬فكأنَّها كانت ممارسة للسلطة‪ ،‬واالطالع على خفاياها دون تح ُّمل‬
‫المسئولية‪ ،‬استطاع بعدها تسلُّم اإلمارة بكل األوامر التى و ِّكلت إليه بكل همة ونشاط‬
‫ودون تردد‪ ،‬وقاد المرابطين إلى النصر فى ميادين الجهاد والعزة والكرامة والشرف‪.‬‬
‫وظهر نجم يوسف للمرابطين فى معركة الواحات ‪448‬هـ ‪1056 -‬م التى كان فيها‬
‫قائدًا لمقدمة جيش المرابطين المهاجم‪ ،‬وبعد فتح مدينة سجلماسة عيَّنه األمير أبو بكر‬
‫واليًا عليها‪ ،‬فأظهر مهارة إدارية فى تنظيمها‪ ،‬ثم غزا بالد جزولة وفتح ماسة ثم سار‬
‫إلى تارودانت قاعدة بالد السوس وفتحها‪ ,‬وكان بها طائفة من الشيعة البجليين نسبة‬
‫إلى مؤسسها على بن عبد هللا البجلي‪ ،‬وقتل المرابطون أولئك الشيعة‪ ,‬وتح َّول َمن بقى‬

‫‪ )(1‬دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)38‬‬


‫‪48‬‬
‫منهم على قيد الحياة إلى السنة‪.‬‬
‫ثم جاء دور أغمات‪ ،‬كانت مدينة مزدهرة حضاريًّا إذ كانت أحد مراكز النصرانية‬
‫القديمة‪ ,‬ومقرًا للبربر المتهودين‪ ،‬كان يحكمها األمير لقوط بن يوسف بن على‬
‫المغراوي‪.‬‬
‫تلقَّى يوسفُ التعليمات من األمير أبى بكر بالزحف نحوها‪ ,‬ومهاجمتها‪ ,‬ود ِّكها‪،‬‬
‫ودخل المرابطون المدينة (‪449‬هـ‪1057 /‬م)‪.‬‬
‫وسار المرابطون وفى جملتهم يوسف نحو دولة برغواطة «الدولة الكافرة‬
‫الملحدة» ونشبت المعارك بين الفريقين‪ ،‬وأصيب خاللها اإلمام ابن ياسين بجراح بالغة‬
‫توفى على أثرها كما علمتَ فى ‪451‬هـ ‪1059 /‬م‪.‬‬
‫كان استشهاد اإلمام الفقيه عبد هللا بن ياسين البداية األولى فى دفع يوسف إلى‬
‫رئاسة الدولة الناشئة‪.‬‬
‫إذ إن جانب اإلمامة يغلب على جانب اإلمارة فى عهد اإلمام ابن ياسين‪ ،‬وبعد‬
‫وفاته تولَّى أبو بكر بن عمر‪ ،‬فرجح جانب اإلمارة على جانب اإلمامة‪ ،‬وأخذت الدولة‬
‫الناشئة تتحول إلى طابع سياسى جديد‪ ,‬ومرَّت بها ظروف تتطلب رجاالً من طراز‬
‫يوسف بن تاشفين‪.‬‬
‫وعندما دخل أبو بكر بن عمر بجيوشه إلى الصحراء‪ ,‬وأناب ابن عمه يوسف على‬
‫المغرب‪ ,‬ظهرت خاللها مواهب يوسف العسكرية واإلدارية والتنظيمية والحركية‬
‫والدعوية‪ ،‬وسلم النَّاسُ بزعامته‪ ,‬وبدأ فى تأسيس دولته بالحزم والعلم والجد والمثابرة‬
‫والبذل والعطاء‪.‬‬
‫وعندما رجع أبو بكر من الصحراء جمع أشياخ المرابطين من لمتونة وأعيان‬
‫الدولة‪ ،‬وال ُكتَّاب والشهود‪ ،‬وأشهدهم على نفسه بالتخلى ليوسف عن اإلمارة‪ ،‬وعلَّل‬
‫األمير أبو بكر هذا التنازل البن عمه يوسف لدينه وفضله وشجاعته وحزمه ونجدته‬
‫وعدله وورعه وسداد رأيه ويمن نقيبته‪ ،‬وأوصاه الوصية التالية «يا يوسف إنِّى قد‬
‫ولَّيتُك هذا األمر وإنِّى مسئول عنه؛ فاتق هللا فى ال ُم ْسلِمين‪ ,‬وأعتقنى وأعتق نفسك من‬
‫النار‪ ،‬وال تُضيِّع من أمر رعيتك شيئًا؛ فإنَّك مسئول عنهم‪ ،‬وهللا تعالى يصلحك ويمدك‬
‫ويوفقك للعمل الصالح والعدل فى رعيتك‪ ,‬وهو خليفتى عليك وعليهم» (‪.)1‬‬
‫ويحلو لبعض ال ُكتَّاب من المؤرخين أن يُفَس َِّر هذا اإليثار والتنازل عن ال ُملك بإن‬
‫أبا بكر خشى من سطوة يوسف الذى أظهر له عدم استعداده التنازل عن الملك؛ وسيرة‬
‫الرجُلين من الصالح والتقوى تنافى ادعاءهم الباطل‪.‬‬
‫‪ -2‬فتح ال َم ْغ ِرب األقصى ال َّش َمالى ‪454‬هـ ‪477 -‬هـ ‪:‬‬
‫قام يوسف بن تاشفين نحو المغرب ال َّش َمالى لينتزعه من أيدى الزناتيين‪ ,‬واستخدم‬
‫من أجل تحقيق هذا الهدف المنشود إرسال الجيوش للقضاء على جيوش المخالفين‬
‫مستفيدًا من الخالفات السياسية بين قادة المدن‪ ،‬فحالف بعضها من أجل قتال الباقي‪،‬‬
‫واستطاع أن يد ُخ َل مدينة فاس صلحًا عام ‪455‬هـ‪ ،‬ثم تمرَّد أهلها عليه إال أنه استطاع‬
‫إخماد جميع الثورات التى قامت ضد المرابطين بجهاده‪ ،‬وكفاحه المستم ِّر‪ ،‬حتى ت َّم له‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬روض القرطاس‪ ،‬ص (‪.)86‬‬
‫‪49‬‬
‫فتح جميع البالد من الريف إلى طنجة عام ‪460‬هـ ‪1067 /‬م‪.‬‬
‫وأعاد فتح فاس عنوة بحصار ضربه عليها بجيش قوامه مائة ألف جندى عام‬
‫‪462‬هـ‪1069 /‬م‪ ,‬فقضى على شوكة مغراوة وبنى يقرن وسائر زناتة‪ ،‬ونظم المساجد‬
‫والفنادق وأصلح األسواق‪ ،‬وخرج من فاس عام ‪463‬هـ إلى بالد ملوية وفتحها‬
‫واستولى على حصون وطاط من بالد طنجة (‪.)1‬‬
‫‪ -3‬لقب اإلمارة‪:‬‬
‫بعد هذه االنتصارات الناجحة استدعى شيوخ وأمراء المغرب من قبائل زناتة‬
‫ومصمودة وغمارة‪ ،‬وأكرمهم وبذل لهم العطاء وأحسن إليهم‪ ،‬وبايعوه على اإلمارة‬
‫وخرج بهم يطوف فى أقاليم المغرب يتابع األمراء ويحاسب الوالة‪ ،‬وينشر العدل‬
‫ويرفع المظالم فهابته النفوس‪ ،‬واقتنعت أنها أمام رجل دولة عبقرى فذ‪.‬‬
‫وبعد أن رجع من تلك الجولَة التفقدية اإلصالحية سار بجيوشه عام (‪465‬هـ‪/‬‬
‫‪1072‬م) لغزو الدمنة من بالد طنجة وفتح جبل علودان ‪ ،‬وفى عام (‪467‬هـ‪1074/‬م)‬
‫استولى على جبل غياثة وبنى مكود وبنى رهينة من أحواز تازا‪ ,‬وجعلها حدًّا فاصالً‬
‫ظن فيه أنه من أهل‬ ‫بينه وبين زناتة الهاربة إلى الشرق‪ ،‬وأبعد عن المغرب ك َّل َمن َّ‬
‫العصيان‪ ،‬فأصبح خالصًا له مرتاحًا إلى طاعته مطمئنًا إلى خلوده إلى السكينة والهدوء‬
‫غير تواق للثورة عليه‪.‬‬
‫وأصبحت منطقة تازا ثغرًا منيعًا بينه وبين زناتة؛ ولذلك اعتبر ال ُم َؤ ِّر ُخون عام‬
‫‪467‬هـ‪1074 /‬م فاصالً فى تاريخ الدولة المرابطية إذ بسط يوسف نفوذه على سائر‬
‫المغرب األقصى ال َّش َمالى باستثناء طنجة وسبتة‪.‬‬
‫وسيَّر يوسف بن تاشفين إلى طنجة جي ًشا من اثنى عشر ألف فارس مرابطى‬
‫وعشرين ألفًا من سائر القبائل‪ ,‬وأسند قيادته إلى صالح بن عمران عام ‪470‬هـ‪،‬‬
‫وعندما اقتربت جيوش المرابطين من طنجة برز إليهم الحاجب بن سكوت على رأس‬
‫جيش وهو شيخ يناهز التسعين‪ ،‬وانتصر المرابطون وفتحوا طنجة وقتل فى تلك‬
‫المعارك الحاجب بن سكوت(‪ .)2‬وبعد فتح طنجة استأنف األمير يوسف تو ُّس َعه نحو‬
‫الشرق لمطاردة زناتة التى لجأت إلى تلمسان‪ ،‬وكان هدفه القضاء على أى مقاومة‬
‫تُهَدِّد دولة المرابطين فى المستقبل‪ ،‬وبدأت عمليات الهجوم الوقائى التى استطاعت أن‬
‫تحقق أهدافها وتهزم جيش تلمسان المعادى وتأسر قائده معلى بن يعلى المغراوى الذى‬
‫قُتل على الفور‪ ،‬ورجعت كتائب المرابطين إلى مراكش‪ ,‬ثم عاد يوسف نحو الريف‪،‬‬
‫وغزا تلك األراضى وضم مدينة تكرور ولم تعمر بعد ذلك‪.‬‬
‫ثم رجع بجيوشه نحو وهران وتنس وجبال وانشريش ووادى الشلف حتى دخل‬
‫مدينة الجزائر‪ ,‬وتوقف عند حدود مملكة بجاية التى حكمها بنو ح َّماد ‪-‬فرع من‬
‫صنهاجة‪.‬‬
‫وبنى يوسف فى مدينة الجزائر جامعًا ال يزال إلى اليوم ويُعرف بالجامع الكبير‪.‬‬
‫وعاد إلى مراكش عام ‪475‬هـ‪1081/‬م وبذلك توحَّد المغرب األقصى بعد جهاد‬
‫استم َّر ثالثين عا ًما‪ ،‬وأصبحت دولة المرابطين فى مرحلة التَّمكين الفعلية‪ ,‬وفى عام‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬روض القرطاس‪ ،‬ص (‪ ,)91‬العبر (‪.)6/185‬‬
‫‪ )(2‬انظر ‪ :‬دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)50‬‬
‫‪50‬‬
‫‪476‬هـ ‪1083 /‬م وجَّه األمير يوسف ابنه ال ُمع َّز فى جيش إلى سبتة لفتحها إذ كانت‬
‫المدينة الوحيدة التى لم تخضع له‪ ,‬كان يح ُك ُمها بعد وفاة الحاجب بن سكوت ابنه ضياء‬
‫المعز برًا وبحرًا‪ ,‬ودارت معركة بحرية طاحنة‪ ،‬وفى نهاية‬ ‫ُّ‬ ‫الدولة يحيى‪ ,‬فحاصرها‬
‫المطاف استطاع المرابطون أن يفتحوا سبتة‪ ،‬وقتل ضياء الدولة بعد أن ألقى القبض‬
‫عليه‪ ،‬وكان ذلك عام ‪477‬هـ‪1084 /‬م(‪ .)1‬بعد هذه الجولة الجهادية الموفَّقَة تم توحيد‬
‫المغرب األقصى بجميع نواحيه بعد عمل جا ٍّد مستم ٍّر‪ ،‬وأصبحت الدولة المرابطية قُ َّوة‬
‫ال يُستهان بها تُشكل خطرًا على النصارى فى األندلس‪ ،‬وملجأ ً وحصنًا للمسلمين فى‬
‫األندلس‪ ،‬حيث إن النصارى استفحل خطرهم فى األَ ْن َدلُس‪ ،‬حيث قامت دويالت فى كل‬
‫مدينة وصلت إلى ثالث وعشرين دويلة تناحرت فيما بينها‪ ،‬وعُرف حكامها بملوك‬
‫الطوائف وتلقَّبوا باأللقاب الخالفية كالمأمون والمعتمد والمستعين والمعتصم والمتوكل‬
‫إلى غير ذلك من األلقاب‪ ،‬ووصف هذه الحالة المشينة الشاعر أبو على الحسن بن‬
‫رشيق‪:‬‬
‫سماع مقتدر فيها ومعتضد‬ ‫مما يزهدنى فى أرض أندلس‬
‫كالهرِّ يحكى انتفاضًا صولة‬ ‫ألقاب مملكة فى غير موضعها‬
‫األسد‬
‫لقد آلت أوضاع األَ ْن َدلُس إلى السوء‪ ،‬وأصبحت ال حول لها وال قُ َّوة مما شجع‬
‫النصارى على توجيه ضربات إلى ال ُم ْسلِمين‪ ،‬وقد شنوا حربًا ال هوادة فيها نابعة من‬
‫شعورهم العدائى للعرب وال ُم ْسلِمين‪ ،‬تهدف إلى طردهم من إسبانيا‪ ،‬وبدأت هذه الحرب‬
‫بدافع الحقد الصليبي‪ ,‬وأضافوا إليها مع مرور األيام عامل القَومية وأطلقوا عليها‬
‫حرب االسترداد (‪.)2‬‬
‫ولم تكن للمقاومة اإلسالمية فى األَ ْن َدلُس القدرة على إيقاف الم ِّد الصليبى الزاحف‬
‫للخالص من ال ُم ْسلِمين‪ ،‬فاضط َّر أهل األَ ْن َدلُس إلى طلب العون من المرابطين‪.‬‬
‫***‬

‫‪ )(1‬انظر ‪ :‬االستقصار (‪ ،)1/111‬وانظر‪ :‬دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)53‬‬


‫‪ )(2‬انظر ‪ :‬دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)59‬‬
‫‪51‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫المرابطون ودفاعهم عن مسلمى األندلس‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫ِّس إمارة أموية فى األَ ْن َدلُس سنة ‪138‬هـ‪ ،‬وبدأ‬ ‫استطاع عب ُد الرحمن الداخل أن يُؤس َ‬
‫عصر الخالفة األموية فى األَ ْن َدلُس سنة (‪316‬هـ‪929/‬م) عندما أعلنها عبد الرحمن‬
‫الناصر‪ ،‬الذى اشتهر بالحزم والذكاء والعدل‪ ،‬والعقل وال َّش َجاعَة وحبه لإلصالح‬
‫وحرصه عليه‪.‬‬
‫ووحَّد األَ ْن َدلُس بالقُ َّوة والسياسة وأعاد وحدتها وقوتها ومكانتها‪ ,‬وحارب المتمردين‬
‫من حكام ال َّش َمال اإلسبانى وأخضعهم لشروطه‪.‬‬
‫وكان سبب إعالنه الخالفة فى األَ ْن َدلُس ضعف الخالفة العباسية‪ ،‬وظهور الدولة‬
‫العُبيدية فى ال َّش َمال اإلفريقي‪ ،‬فأعلن الخالفة‪ ،‬وتلقَّب بأمير المؤمنين الناصر لدين هللا‬
‫(‪ .)1‬وفى عام ‪400‬هـ ‪1009 /‬م بدأ ظهور عصر الطوائف فى األَ ْن َدلُس‪ ،‬الذى دام حتى‬
‫عام ‪484‬هـ‪1091 /‬م‪.‬‬
‫وكان ذلك بسبب سقوط الخالفة األموية التى نخرتها األطماع واألحقاد‬
‫ي بعض الشخصيات للمجد الشخصى متناسيًا‬ ‫والصراعات ال َّداخليَّة على الحكم‪ ،‬وسع ُ‬
‫ً‬
‫فى ذلك مصالح األمة وضرورة وحدتها لتقف صفا واحدًا أمام أعدائها‪.‬‬
‫لقد انقسمت األَ ْن َدلُس إلى دويالت‪ ,‬واتخذ حكامها ألقابهم تبعًا لحجم دويالتهم‬
‫وال أو قاض‪.‬‬
‫فأحدهم‪ :‬ملك أو أمير‪ ،‬أو ٍ‬
‫ونظ ًرا الختالف القوى والرياسات‪ ،‬فقد أخذ القوى يبطش باألضعف‪ ،‬واألضعفُ‬
‫يدرأ الخطر بالتحالف مع جاره القوي‪ ،‬وأحيانًا يستنجد بأمراء النصارى مقابل ثمن‬
‫باهظ‪.‬‬
‫وتك َّونت من هذه الدويالت العديدة أربع ِد َول رئيسية‪:‬‬
‫‪ -1‬فى جنوب األَ ْن َدلُس‪ ،‬حكم األدارسة اإلفريقيون أو بنو حمود أصحاب مالقة‪،‬‬
‫وحالفهم أمير غرناطة وقرمونة‪ ،‬وألبيرة وجيان وأستجة‪ ،‬فضالً عن حكمهم‬
‫مليلة وطنجة وسبتة فى شمال المغرب‪.‬‬
‫‪ -2‬بنو عباد أمراء إشبيلية‪ ،‬أقوى ملوك الطوائف‪ ،‬ومن حلفائهم بنو جهور فى‬
‫قُرْ طُبَة‪ ،‬وبنو األفطس أصحاب بطليوس فى جنوب وغرب األَ ْن َدلُس‪.‬‬
‫‪ -3‬بنو ذى النون أمراء طُلَ ْي ِطلَة‪ ،‬الذين حكموا أواسط إسبانيا‪ ،‬والذين وقفوا فى‬
‫وجه بنى عباد‪ ،‬وكلفهم ذلك دفع جزية لملك قشتالة النصرانى التماسًا لعونه‬
‫ضد خصومهم‪.‬‬
‫‪ -4‬بنو عامر فى بلنسية ومرسية الذين حكموا فى شرقى إسبانيا‪ ،‬وطبقًا لظروفهم‪،‬‬
‫فقد كانوا يحالفون األدارسة تارة أو بنى عباد‪ ،‬أو بنى ذى النون تارة‬
‫أخرى‪ . . .‬بسط بنو عامر نفوذهم على الثغور الممتدة من مرية حتى مصبِّ‬

‫‪ )(1‬انظر ‪ :‬فى تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬د‪ .‬أحمد العبادي‪ ،‬ص (‪ 168‬إلى ‪.)170‬‬
‫‪52‬‬
‫نهر أبرة سنة ‪1051‬م (‪.)2‬‬
‫***‬

‫‪ )(2‬انظر ‪ :‬الزالقة‪ ,‬شوقي أبو خليل‪ ,‬ص (‪.)12‬‬


‫‪53‬‬
‫المبحث األول‬
‫الصراع بين طليطلة وقرطبة‬
‫عندما تولى المأمون يحيى بن ذى النُّون عام ‪1043‬م‪ ،‬إمارة طُلَي ِْطلَة اغتنم عون‬
‫حليفه القوى عبد العزيز بن أبى عامر‪ ،‬واستأجر الفرسان النصارى من القشتاليين‬
‫ليبطش بمحمد بن جهور أمير قُرْ طُبَة‪ ،‬فتدخل بنو عباد أصحاب إشبيلية‪ ،‬وبنو األفطس‬
‫أصحاب بطليوس للوقوف ضد صاحب طُلَي ِْطلَة الذى كان يهددهم جميعًا‪ ،‬وسار أمراء‬
‫لبلة وولبة وجزيرة شليطش للانضمام إلى الحلف الذى تزعمه صاحب لبلة عبد العزيز‬
‫اليحصبى ليعقد محالفة مع قُرْ طُبَة‪.‬‬
‫تحرَّك الجميع تطبيقًا لهذا التحالف إلنجاد قُرْ طُبَة‪ ،‬فانتهز ابن عباد أمير إشبيلية‬
‫هذه الفرصة واكتفى بإرسال خمسمائة فارس إلى ابن جهور‪ ،‬وزحف فى جيش قوى‬
‫على لبلة‪ ،‬وولبة وجزيرة شليطش وأكسونية واستولى عليها‪ ،‬ثم فتح قرمونة سنة‬
‫‪1053‬م‪ ,‬طالت الحرب بين طُلَ ْي ِطلَة وقُرْ طُبَة‪ ،‬ودامت أعوا ًما‪ ،‬وكانت سجاالً‪ ،‬وأراد‬
‫المأمون صاحب طُلَ ْي ِطلَة حسم الموقف‪ ،‬فأوقع بقوات قُرْ طُبَة وحليفاتها هزيمة شديدة‪،‬‬
‫واستطاع الوصول إلى قُرْ طُبَة فحاصرها‪ ،‬فبادرت إشبيلية إلى إغاثتها‪ ،‬فأرسل ابن‬
‫عباد ابنه محمدًا على رأس جيش قوى فيه وزيره أبو بكر محمد بن عمار الموصوف‬
‫برجاحة عقله‪ ،‬وشدة ذكائه‪ ,‬وز َّودهما بخطة وأوامر سرية خاصَّة‪.‬‬
‫واستطاع جيش ابن عباد أن يفك الحصار عن قُرْ طُبَة‪ ،‬واضط َّر الطليطليون لرفع‬
‫الحصار‪ ,‬وارتدوا عنها‪ ،‬وخرج القرطبيون ليطاردوا أعداءهم فأتموا بذلك هزيمة‬
‫الطليطليين(‪.)1‬‬
‫ت ُخطَّةُ ابن عباد السرية وكان محتواها دخول قُرْ طُبَة عندما يخرج منها‬ ‫ونُفِّ َذ ْ‬
‫أهلها خلف الطليطليين‪ ،‬ودخلتها قوات ابن عباد دون معارضة‪ ،‬واحتلت مراكزها‬
‫غدر بهم‪ ،‬وبذلك سقطت‬ ‫َ‬ ‫الحصينة قبل أن يفطن القرطبيون إلى أن َمن جاء لنُص َرتِهم‬
‫دولة بنى جهور فى قُرْ طُبَة ولم يمض على قيامها ثالثون عا ًما فى محنة محزنة وخيانة‬
‫فظيعة‪ ،‬وأصبح ابن عباد أمير إشبيلية أقوى أمراء األَ ْن َدلُس ال ُم ْسلِمة‪ ،‬تخ َّوف المأمون‬
‫أمير طُلَ ْي ِطلَة من قُ َّوة ابن عباد أمير إشبيلية التى نمت نم ًوا سريعًا‪ ،‬وبخاصَّة بعد أن‬
‫حالفه العامريون أمراء قسطلون ومربيطر وشاطبة المرية ودانية‪ ،‬فحاول التحالف مع‬
‫صهره زوج ابنته عبد الملك المظفر حاكم بلنسية الذى رفض ذلك ُمحتَ ًّجا بأن وقوف‬
‫العامريين إلى جانب إشبيلية يجعل إقدامه على هذا التحالف خطرًا على بلنسية‪ ،‬فما‬
‫كان من المأمون إال أن عقد حلفًا مع فرديناند األول صاحب قشتالة‪.‬‬
‫وهجمت القوات المشتركة المتحالفة «قوات المأمون وفرديناند األول» على‬
‫بلنسية‪ ،‬فسقطت والية بلنسية كلُّها فى يد المأمون فى تشرين األول سنة ‪1065‬م‪ ,‬عاد‬
‫بعدها إلى طُلَ ْي ِطلَة ليجهز قواته لقتال ابن عباد‪ ،‬وحال بينه وبين ما أراد وفاة فرديناند‬
‫األول‪ ،‬ونشوب حرب ضروس بين أوالده‪ ،‬فنقض المأمون عهده مع قشتالة‪ ،‬وامتنع‬
‫عن دفع الجزية‪ ،‬مما أدى إلى حرمانه من معونة النصارى‪ ،‬وهى المعونة التى لم‬
‫يستطع أن يحارب أمير إشبيلية بدونها‪ ،‬فلما ت َّم أمر الحكم لسانشو ابن فرديناند سنة‬
‫‪ )(1‬انظر ‪ :‬الزالقة‪ ,‬ص (‪.)14‬‬
‫‪54‬‬
‫‪1070‬م‪ ,‬هرب أخوه ألفونسو إلى المأمون صاحب طُلَي ِْطلَة والتجأ أخوه الثَّانِى جارسية‬
‫إلى المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية‪ ،‬وفى سنة ‪461‬هـ‪1069 /‬م توفى المعتضد بن‬
‫عباد أمير إشبيلية‪ ،‬فخلفه ابنه ال ُملقَّب بالمعتمد على هللا‪ ،‬ولم يكن أمام األمير الجديد ما‬
‫يخشاه إال أمير طُلَ ْي ِطلَة الذى ملك بلنسية فى الوقت نفسه‪ ،‬أما بقيَّة ملوك الطوائف فقد‬
‫انكسرت شوكتهم وتزعزع كيانهم فى حروبهم ال َّداخليَّة من غزوات النصارى المتتابعة‬
‫عليهم‪.‬‬
‫واستطاع المأمون حاكم طُلَي ِْطلَة أن يتو َّس َع ويحقق انتصارات واسعة سنة ‪1073‬م‬
‫على مرسية وأريولة وعدة مدن أخرى‪ ،‬وبهذا أصبح األمير األقوى الذى يسيطر على‬
‫أواسط إسبانيا كلِّها‪ ،‬وبخاصة بعد أن فاز ألفونسو بحكم قشتالة بعد وفاة «شانجة»‬
‫وتحالف مع المأمون الذى رعاه وحماه عند محنته وتعاهد األميران على أن يرتبطا‬
‫معًا برباط الصداقة الوثيق‪.‬‬
‫خوف من توسُّع أمير طُلَي ِْطلَة الذى فاجأ المعتمد بتحالفه‬ ‫ٍ‬ ‫وأصبح أمير إشبيلية فى‬
‫مع بنى هود أصحاب سرقسطة وبنى األفطس أصحاب بطليوس‪ ،‬وهاجم خصمه من‬
‫ثالث جهات لكى يُح ِك َم تسديد الضربة إلى قُرْ طُبَة؛ فسقطت دون مقاومة تُذ َكر سنة‬
‫‪468‬هـ‪ ,‬ولكن المأمون تُوفى بعد دخولها بأيام قالئل؛ فرجع جنده عنها إلى طُلَي ِْطلَة‪،‬‬
‫واسترد ابن عباد قُرْ طُبَة‪ ،‬وبقيت إشبيلية تحت حكم ابن عباد حتى استولى عليها‬
‫المرابطون سنة ‪474‬م‪.‬‬
‫وأرسل ابن عباد سفيره ووزيره البارع ابن عمار إلى عاصمة قشتالة يومئ ٍذ‪,‬‬
‫وتحالف مع ألفونسو‪ ،‬وتعهَّد بها ملك قشتالة بمعاونة أمير إشبيلية بالجند والمرتزقة‬
‫ضد جميع ال ُم ْسلِمين‪ ،‬ويتعهَّ ُد ابن عباد مقابل ذلك أن يدفع إلى ملك قشتالة جزية كبيرة‪،‬‬
‫وتعهَّ َد بأال يتعرض لمشروع ألفونسو فى افتتاح طُلَي ِْطلَة‪ ،‬وهكذا ضحى ابن عباد بمعقل‬
‫ال ُم ْسلِمين إسبانيا ال ُم ْسلِمة‪ ،‬لكى يفوز ببسط سيادته على اإلمارات التى لم تخضع له‬
‫بعد‪ ،‬وهى إمارات غرناطة وبطليوس وسرقسطة(‪.)1‬‬
‫واستفاد ألفونسو من هذه االتفاقية وأعلنها حربًا ال هوادة فيها على طُلَ ْي ِطلَة التى‬
‫حمته من مطاردة أخيه سانشو‪ ,‬ونسى األمير الطموح للتوسُّع ك َّل عهوده ومواثيقه‪,‬‬
‫وشرع فى غدره بِ َمن أحسن إليه‪.‬‬
‫ض َّمها إلى سلطانه وكان حاكمها عبد‬ ‫وتحرَّك المعتمد بن عباد بجيشه نحو غرناطة لي ُ‬
‫ُّ‬
‫هللا بلكين بن باديس‪ ،‬وكان ابن هود أمير سرقسطة يرى الخطر يشتد عليه يو ًما فيو ًما من‬
‫شانشو األول ملك أرجون‪ ،‬فلم يستطع إنجاد طُلَي ِْطلَة سوى أمير بطليوس يحيى بن األفطس‬
‫ال ُملَقَّب بالمنصور‪ ،‬فجمع قواته وسار إلى لقاء ألفونسو‪ ،‬ولكن ألفونسو الذى كان قد أثخن‬
‫فى والية طُلَ ْي ِطلَة‪ ،‬حتى صيرها قف ًرا بلقعًا‪ ،‬شعر باقتراب المنصور‪ ،‬فانسحب‪ ,‬ولكنَّه كرَّر‬
‫الرجعة فى العام التالي؛ فعاث فى بسائط طُلَي ِْطلَة وخرَّبها مرة أخرى‪ ،‬وزحف المعتمد على‬
‫بطليوس‪ ،‬وبهذا استطاع أن يُحول دون معاونة بنى األفطس لطُلَي ِْطلَة حيث القادر بن ذى‬
‫النون‪ ،‬ولم يستطع أمير سرقسطة من بنى هود «المؤتمن» معاونة القادر معاونة قوية‬
‫خشية أن تقع سرقسطة ذاتها فريسة البن عباد أو النصارى‪ ،‬وهو فى جهاد ضد أرجون‬
‫وبرشلونة‪ ،‬واستمرَّت الحرب أعوا ًما‪ ،‬وألفونسو يفسد فى بالد ال ُم ْسلِمين «طُلَ ْي ِطلَة» و َمن‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الزالقة‪ ,‬ص (‪.)17‬‬


‫‪55‬‬
‫حولها فسادًا‪.‬‬
‫وفى السابع والعشرين من المحرم سنة ‪478‬هـ ‪ -‬الخامس والعشرين من آيار‬
‫«مايو» سنة ‪1085‬م استطاع أن يدخل طُلَي ِْطلَة «عاصمة القوط القديمة» ودخلت‬
‫طُلَ ْي ِطلَة بذلك إلى حظيرة النصرانية بعد أن حكمها ال ُم ْسلِمون ثالثمائة واثنين وسبعين‬
‫عا ًما‪ ،‬واتخذها ملك قشتالة حاضرة ملكه من ذلك الحين‪ ،‬وأصبحت بذلك عاصمة‬
‫إسبانيا النصرانية‪.‬‬
‫وهكذا انتهت دولة ذى النون فى طُلَي ِْطلَة لتستم َّر فى بلنسية ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫تأثَّر ال ُم ْسلِمون بسقوط طُلَ ْي ِطلَة تأثُّرًا عميقًا على مختلف الساحة اإلسالمية فى األَ ْن َدلُس‪،‬‬
‫وتفجَّرت قريحة الشعراء فى استثارة الهمم والتحريض على الجهاد‪ ،‬والتحذير من تفاقم‬
‫الخطر‪ ،‬ومما قيل فى ذلك قول عبد هللا بن فرج اليحصبى المشهور بابن عسال الطليطلي‪:‬‬
‫فما المقام بها إال من الغلط‬ ‫يا أهل أندلس حثوا مطيتكم‬
‫ثوب الجزيرة منسوالً من الوسط‬ ‫الثوب ينسل من أطرافه وأرى‬
‫(‪)2‬‬
‫كيف الحياة مع الحيات فى سفط‬ ‫ونحن بين عدو ال يفارقنا‬
‫ومن ذلك أيضًا‪:‬‬
‫فى العرف عارية إلى مردات‬ ‫يا أهل أندلس ردُّوا المعار فما‬
‫(‪)3‬‬
‫وشاهنا آخر األبيات شهمات‬ ‫ألم تروا بيدق الكفار فرزنه‬
‫لقد كانت روما تقف بكل ما تملك من قُ َّوة معنوية ومادية خلف ألفونسو وجنوده‬
‫للقضاء على ال ُم ْسلِمين‪ ،‬وأسبغوا على قتال ال ُم ْسلِمين صفة الحروب الصليبية المقدسة‬
‫وأصبح البابوات لهم دور فى توجيهها‪.‬‬
‫وندم المعتمد بن عبَّاد على فعلته خصوصًا عندما رأى ألفونسو يتوسَّع فى ض ِّم‬
‫ممالك ال ُم ْسلِمين إليه‪ ،‬وأيقن إن الدائرة عليه قادمة‪ ،‬واجتمع أمراء ال ُم ْسلِمين عندما رأوا‬
‫إن شبح السقوط ماثالً أمام أعينهم‪ ،‬فاتحدوا ألول مرة واجتمعت كلمتهم على أن‬
‫يضعوا حدًا لفتوح ألفونسو‪ ,‬وإذا كانت قواتهم ُمجْ تَ َمعة ال تكفى لرد عدوانه‪ ،‬فقد اتفقت‬
‫كلمتهم على االستنجاد بالمرابطين فى إفريقية واستدعائهم إلى األَ ْن َدلُس‪ ،‬عل ًما بإن‬
‫ك المغرب يوسف بن تاشفين‪،‬‬ ‫ملوك األَ ْن َدلُس كانت ترهِبُ الفرنج بإظهار مواالتهم ل َملِ ِ‬
‫وكان له شهرة تطايرت فى اآلفاق لما حققه من ض ِّم ِد َول إلى دولته وقضائه عليها‪,‬‬
‫واشتهر بين النَّاس أن ألبطال ال ُملَثَّمين فى المعارك ضربات بالسيوف تقد الفارس‪,‬‬
‫وطعنات تنظم الكلى‪ ،‬فكان لهم بذلك ناموس ورعب فى قلوب المنتدبين لقتالهم(‪.)4‬‬
‫***‬
‫‪ )(1‬انظر ‪ :‬الزالقة‪ ,‬ص (‪.)18‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬الزالقة‪ ,‬ص (‪.)19‬‬ ‫‪ )(2‬وفيات األعيان (ج‪.)5/28‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ )(4‬وفيات األعيان (ج‪.)17/114‬‬


‫‪56‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫أسباب ضعف المسلمين فى األندلس وقوة النصارى‬
‫أولاً‪ :‬ضعف العقيدة اإلسالمية‪ ,‬واالنحراف عن المنهج الربَّانى وهذا السبب‬
‫هو األساس‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬مواالة النصارى‪ ,‬والثقة بهم‪ ,‬والتحالف معهم؛ حيث نجد أن تاريخ األَ ْن َدلُس‬ ‫ً‬
‫مليء بالتحالف مع النصارى إلى أن بلغ ذروة رهيبة واضطرب بسبب ذلك مفهوم‬
‫الوالء والبراء‪ ،‬والحُبِّ فى هللا والبغض فى هللا‪ ،‬بل هذه المعانى كادت تندثر‪.‬‬
‫إن األمة حين تخالف أم َر ربِّها‪ ,‬وتنحرف عن طريقِه‪ ,‬فالبُ َّد أن يح َّل بها سخطُه‪,‬‬
‫ين اتَّ َخ ُذوا‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمنُوا الَ َتتَّخ ُذوا الذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫وتستوفى أسباب نقمتِه‪ .‬قال تعالى‪﴿:‬يَا أ َُّي َها الذ َ‬
‫اء َو َّات ُقوا اهللَ إِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْكت ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب من َق ْبل ُك ْم َوالْ ُك َّف َار أ َْوليَ َ‬ ‫ين أُوتُوا ال َ َ‬ ‫دينَ ُك ْم ُه ُز ًوا َولَعبًا ِّم َن الذ َ‬
‫ين﴾ [المائدة‪.]57:‬‬ ‫ِِ‬
‫ُك ْنتُم ُّم ْؤمن َ‬
‫ين َو َمن‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َّخ ِذ الْم ْؤِمنو َن الْ َكافِ ِرين أَولِي ِ‬ ‫وقوله ع َّز وجلَّ‪﴿ :‬الَ يت ِ‬
‫اء من ُدون ال ُْم ْؤمن َ‬ ‫َ ََْ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬
‫اهلل فِى َش ْي ٍء﴾ [آل عمران‪.]28:‬‬ ‫ك َفلَْيس ِمن ِ‬
‫َ َ‬ ‫َي ْف َع ْل ذَلِ َ‬
‫اهلل والْيوِم اآل ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َخ ِر ُي َوادُّو َن َم ْن َح َّ‬
‫اد اهللَ‬ ‫وقوله تعالى‪﴿ :‬الَ تَج ُد َق ْو ًما ُي ْؤمنُو َن بِ َ َ ْ‬
‫اء ُه ْم﴾ [المجادلة‪.]22:‬‬
‫َو َر ُسولَهُ َول َْو َكانُوا آبَ َ‬
‫ق ع َُرى‬ ‫وقد أبان رسول هللا × طريق األمة فى الوالء والبراء‪ ،‬فقال‪« :‬أَوثَ ُ‬
‫اإليمان المواالة فى هللا‪ ،‬والمعاداة فى هللا‪ ،‬والحبُّ فى هللا‪ ،‬والبغض فى‬
‫هللا»(‪.)1‬‬
‫ويقول × فيما يرويه عن ربه ‪-‬ع َّز وجلَّ‪َ « :-‬من عادى لى ولًيًّّا فقد آذانته‬
‫بالحرب»(‪.)2‬‬
‫فإذا كان هذا كله ُمسطَّرًا فى كتاب ربِّها وسنة نبيها وتخالفه‪ ،‬فالبُ َّد أن تُرى فيها‬
‫سنة هللا التى ال تتغير وال تتبدل‪.‬‬
‫فحين تجد أن المعتمد بن َعبَّاد يذهب إلى ملك قشتالة ويطلب منه الصلح ويدفع له‬
‫المال‪ ،‬نراه جاهدًا فى حرب أمراء الطوائف واستئصالهم‪ ،‬أما كان األفضل له أن يتحد‬
‫مع إخوانه أمراء الطوائف؛ وفى ذلك مصلحة له ولهم ولألَ ْن َدلُس عامة‪ ،‬ولإلسالم‬
‫وأهله‪ ،‬ولكنَّك ال تجنى من الشوك العنب(‪.)3‬‬
‫بل ضعف مفهو ُم الوالء والبراء حتى إن بعض ُح َّكام ال ُم ْسلِ ِمين استوزروا وزراء‬

‫‪1‬‬
‫() أخرجه أحمد فى مسنده (ج‪.)4/286‬‬
‫‪2‬‬
‫() البخاري‪ ،‬فتح الباري‪ ،‬كتاب الرقاق‪ ،‬باب (‪ 38‬رقم ‪.)6501‬‬
‫‪3‬‬
‫() انظر ‪ :‬تاريخ األندلس‪ ،‬ص (‪ ,)390‬د‪ .‬عبد الرحمن الحجي‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫نصارى ويهود يصرفون أمور دولة اإلسالم‪ ،‬فهل يؤمن الذئب على الغنم!! (‪.)1‬‬
‫ثالثًـا‪ :‬السبب الثالث االنغماس فى الشهوات والركون إلى الدعة والترف وعدم‬
‫إعداد األمة للجهاد‪ ،‬إن األمة التى تركن إلى الدعة والترف واللهو‪ ،‬وهى غالبة قاهرة‬
‫يجب أن تُعد غير مستحقة للريادة والقيادة‪ ،‬فما بالك بأمة تغرق فى اللهو والدعة‬
‫والترف‪ ،‬وهى ال تدرى إن كان العدو قد كسر حصنها واجتاحها‪ ،‬أم أنه ال يزال ينتظر‬
‫تلك اللحظات؟!‪.‬‬
‫يقول المؤرخ النصرانى كوندي‪« :‬العرب هُزموا عندما نسوا فضائلهم التى جاءوا‬
‫بها‪ ،‬وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح‪ ،‬واالسترسال بالشهوات»(‪.)2‬‬
‫إن المؤرخين رأوا‪« :‬إن األَ ْن َدلُسيين ألقوا بأنفسهم فى أحضان النعيم‪ ،‬ناموا فى ظل‬
‫ظليل من الغنى الواسع والحياة العابثة والمجون‪ ،‬وما يرضى األهواء من ألوان الترف‬
‫الفاجر‪ ،‬فذهبت أخالقهم كما ماتت فيهم حمية آبائهم البواسل‪ ،‬وغدا التهتك والخالعة‬
‫واإلغراق فى المجون‪ ،‬واهتمام النساء بمظاهر التبرج والزينة بالذهب والآللى ِمن‬
‫أبرز المميزات أيام االضمحالل التى استناموا للشهوات والسهرات الماجنة‪،‬‬
‫والجوارى الشاديات‪ ،‬وإن شعبًا يهوى إلى هذا الدرك من االنحالل والميوعة ال‬
‫يستطيع أن يص ُمد رجاله لحرب أو جهاد»(‪.)3‬‬
‫دخل ال ُم ْسلِ ُمون األَ ْن َدلُس وأصبحوا ساداتها عندما كان نشيد طارق فى العبور «هللا‬
‫أكبر» وبقوا فيها زمنًا‪ ،‬حين كان يحكمها أمثال عبد الرحمن الداخل عندما قُدم إليه‬
‫الخمر ليشرب فقال‪« :‬إنِّى محتاج لما يزيد فى عقلى ال ما ينقصه»(‪.)4‬‬
‫يقول الدكتور عبد الرحمن الحجى عن الفاتحين األوائل لألَ ْن َدلُس‪« :‬كانت غيرة‬
‫هؤالء المجاهدين شديدة على إسالمهم‪ ،‬فدوه بالنفس وهى عندهم له رخيصة‪ ،‬فهو‬
‫أغلى من حياتهم‪ ,‬أشربت نفوسهم ُحبَّه‪ ،‬غدا تصورهم وفكرهم ونورهم وربيع‬
‫حياتهم»(‪.)5‬‬
‫وضاعت ممالك األَ ْن َدلُس من يدى ال ُم ْسلِ ِمين عندما كان نشيد أحفاد الفاتحين‪:‬‬
‫راقت الخمرة والورد صحا‬ ‫ووزن العود وهات القدحا‬
‫وعندما قصد اإلفرنج بلنسية لغزوها عام ‪456‬هـ خرج أهلها للقائهم بثياب الزينة؛‬
‫فكانت وقعة بطرنة التى قال فيها الشاعر أبو إسحاق بن معلي‪:‬‬
‫ل الحرير عليكم ألوانًا‬
‫حَل َ‬
‫ُ‬ ‫لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم‬
‫(‪)6‬‬
‫لو لم يكن ببطرنة ما كانا‬ ‫ما كان أقبحهم وأحسنكم بها‬
‫ضعف ال ُم ْسلِ ُمون فى األَ ْن َدلُس وسلب كثير من ديارهم لما تنافس الوالة وال ُح َّكام‬
‫من أجل إسعاد زوجاتهم وجواريهم بالباطل‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫(‪ )3‬مصرع غرناطة‪ ،‬ص (‪.)93‬‬ ‫() سقوط األندلس‪ :‬د‪ .‬ناصر العمر‪ ،‬ص (‪.)24‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫(‪ )5‬سقوط األندلس‪ ،‬ص (‪.)27‬‬ ‫() المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)120‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪5‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ األندلس‪ ،‬ص (‪.)211‬‬
‫‪6‬‬
‫() انظر‪ :‬النصر والهزيمة‪ ،‬ص (‪.)122‬‬
‫‪58‬‬
‫وإليك ما فعله ال ُم ْعتَ ِمد مع إحدى زوجاته‪ :‬اشتهت زوجة ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد أن تمشى‬
‫فى الطين وتحمل القرب‪ ،‬فأمر ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد أن ينشر المسك على الكافور‬
‫والزعفران وتحمل قربًا من طيب المسك وتخوض فيها تحقيقًا لشهواتها!!‬
‫ولكن هللا المعز المذل أراد أن تنقلب األمور على ال ُم ْعتَ ِمد‪ ،‬فيؤخذ أسيرًا فى أغمات‬
‫وتبقى بناته يغزلن للنَّاس يتكسبن‪ ،‬وفى ذلك يقول ال ُم ْعتَ ِمد وهو شاعر مجيد‪:‬‬
‫فساءك العيد فى أغمات مأسورًا‬ ‫فيما مضى كنت باألعياد‬
‫مسرورًا‬
‫يغزلن للناس ما يملكن قطميرًا‬ ‫ترى بناتك فى األطمار جائعة‬
‫أبصارهن حسيرات مكاسيرا‬ ‫برزن نحوك للتسليم خاشعة‬
‫كأنها لم تطأ مس ًكا وكافورًا‬
‫َّ‬ ‫يطأن فى الطين واألقدام حافية‬
‫(‪)1‬‬
‫فإنما بات باألحالم مغرورًا‬ ‫سرُّ به‬
‫َمن بات بعدك فى ُملك ُي َ‬
‫وصدق الحبييب ×‪ ,‬المؤتى جوامع الكلم إذ يقول‪« :‬إذا تبايعتم بالعينة‪ ،‬وأخذتم‬
‫أذناب البقر‪ ،‬ورضيتم بالزرع‪ ،‬وتركتم الجهاد‪ ،‬سلَّط هللا عليكم ُذالً‪ ،‬ال ينزعه‬
‫عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم»(‪.)2‬‬
‫رابعا‪ :‬إلغاء الخالفة األموية وبداية عهد الطوائف‪:‬‬
‫ً‬
‫ك أن بداية االنهيار الفعلى فى األَ ْن َدلُس بزوال الخالفة األموية‪ ,‬ونشأ على أثر‬
‫الش َّ‬
‫ذلك عهد السنوات الصعاب‪ ،‬كانت كلمة األمة واحدة وخليفتهم واحدًا فأصبحت األمة‬
‫كما قال الشاعر‪:‬‬
‫أســـماء معتمد فيها ومعتضـد‬ ‫مما يزهدنى فى أرض أَ ْن َدلُس‬
‫(‪)3‬‬
‫األسد‬ ‫ألقاب مملكة فى غير موضعها‬

‫وكما قال اآلخر‪:‬‬


‫فيها أمير المؤمنين ومنبر‬ ‫وتفرَّقوا شيعًا فكل محلة‬

‫ومل يكن ُح َّكام األَنْ َدلُس أهالً لقيادة األمة ىف عمومهم‪ ،‬وامسع إىل ابن حزم وهو يقول عن هؤالء‬
‫احلُ َّكام‪« :‬واهلل لو علموا أن ىف عبادة الصلبان متشية أمورهم لبادروا إليها‪ ،‬فنحن نراهم يستمدون‬
‫النصارى فيمكنوهنم من حرب امل ْسلِ ِمني‪ ،‬لعن اهلل مجيعهم وسلط عليهم سي ًفا من سيوفه»(‪.)4‬‬
‫ُ‬
‫‪1‬‬
‫() نفح الطيب‪( ،‬ج‪.)274-4/273‬‬
‫‪2‬‬
‫() أخرجه أبو داود‪ ،‬كتاب البيوع‪( ،‬باب ‪ ،56‬ت ‪54 /‬م)‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() سقوط األندلس‪ ،‬ص (‪.)31‬‬
‫‪4‬‬
‫() التاريخ األندلسي‪ ،‬د‪ .‬عبد الرحمن الحجي‪ ،‬ص (‪.)325‬‬
‫‪59‬‬
‫ويقول الدكتور عبد الرمحن احلجى عن هؤالء احلُ َّكام‪« :‬وهكذا وجدت ىف األَنْ َدلُس أوضاع‬
‫حيكمها أمراء اتصف عدد منهم بصفات األثرة والغدر‪ ،‬هانت لديهم معه مصاحل األمة‪ ،‬وتُركت دون‬
‫مصاحلهم‪ Z‬الذاتية‪ ،‬باعوا أمتهم للعدو‪ Z‬املرتبص مثنًا لبقائهم ىف السُّلطة‪ ،‬ولقد‪ Z‬أصاب األمة من الضياع‬
‫بقدر ما ضيعوا من احلظ اخلُلقى املسلم‪ ،‬احنرف هؤالء املسئولون‪ Z‬عن النهج احلنيف‪ ،‬الذى به كانت‬
‫األَنْ َدلُس وحضارته»‪.‬‬
‫خامسًا‪ :‬االختالف والتفرق بين المسلمين‪:‬‬
‫َّفرق مسة من مسات عصر ملوك الطوائف‪ ،‬وكان بعضهم يستعدى النصارى‬
‫كان االختالف والت ُّ‬
‫ِ‬
‫عهودا وأحالفًا ضد إخواهنم ىف العقيدة‪ ،‬ومن أجل شهوة سلطة‬
‫على إخوانه ويعقدون‪ Z‬مع النصارى ً‬
‫تُراق على أرض األَنْ َدلُس دماء املصلني‪ ،‬حىت قال ابن املرابط واصفًا حال ال ُم ْسلِ ِمين‪:‬‬
‫فيها وشمل الضد غير مبدد‬ ‫ما بال شمل ال ُم ْسلِ ِمين مب َّد ٌد‬
‫وطريق هذا الغدر غير ُممهَّد‬ ‫ماذا اعتذاركم غدًا لنبيكم‬
‫وتركتموهم للعدو المعتدي‬ ‫إن قال لِ َم فرَّطتم فى أُ َّمتي‬
‫ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫لكفى الحيا من وجه ذاك السي ِد‬ ‫تاهلل لو إن العقوبة لم تُخَف‬

‫وملا سقطت طُلَْي ِطلَة كان من العجيب إن بعض ملوك الطوائف وقفوا جامدين ال يتحركون‬
‫عددا منهم كان‬ ‫ِ‬
‫لنجدة طُلَْيطلَة‪ ,‬وكأن األمر ال يعنيهم فاغرين أفواههم جبنًا وغفلة وتفاهة‪ ،‬بل إن ً‬
‫عارضا له اخلضوع‪ ،‬بذلة تأباها النفوس‬
‫يرمتى على أعتاب ألفونسو ملك النصارى طالبًا عونه‪ ,‬أو ً‬
‫املسلِمة‪ ،‬تغافلوا عن أن ألفونسو ال ِّ‬
‫يفرق‬
‫ُ‬
‫بني طُلَْي ِطلَة وغريها من القواعد األَنْ َدلُسية‪ ،‬لكن العجب يزول إذا َّ‬
‫تذكرنا نزعتهم األنانية والعصبية‪.)2(Z‬‬
‫سادسا‪ :‬تخلى بعض العلماء عن القيام بواجبهم‪:‬‬
‫ً‬
‫الشك أن حياة األمة ىف حياة علمائها فهم تاجها ومنارهتا وهم روحها ومادة حياهتا‪ ,‬فكلما كان‬ ‫َّ‬
‫والرفعة والكرامة‪ ،‬وكلَّما ابتعد العلماء عن‬
‫ِّ‬ ‫العزة‬ ‫حنو‬ ‫طريقه‬ ‫ىف‬ ‫األمة‬ ‫أمر‬ ‫كان‬ ‫انيني‬‫علماء األمة َّ‬
‫ب‬ ‫ر‬
‫ودب ىف األمة‬
‫الربَّانية وتثاقلت نفوسهم إىل األرض‪ ,‬وحرصوا على مصاحلهم‪ Z‬الذاتية‪ ,‬خبا نور األمة‪َّ ،‬‬
‫الضعف واجلهالة‪.‬‬
‫«فحني كانت األمة تغرق ىف األَنْ َدلُس بسبب االجتياح النصراينِّ املتالطم‪ ،‬انصرف عدد من‬
‫العلماء إىل العناية املبالغة بالفقه املذهىب وفروعه ونسوا وتناسوا واقع األمة وآالمها»(‪.)3‬‬
‫‪1‬‬
‫() سقوط األندلس‪ ،‬د‪ .‬ناصر العمر ص (‪.)33‬‬
‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)34‬‬
‫‪3‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)35‬‬
‫‪60‬‬
‫يغرنك ال ُف َّساق واملنتسبون إىل الفقه‪،‬‬
‫وبعض هؤالء هم ممن قال فيهم ابن حزم رمحه اهلل‪« :‬وال َّ‬
‫الشر شرهم‪ ،‬الناصرون هلم على‬ ‫الالبسون جلود الضأن على قلوب السباع‪ ،‬املزيِّنون ألهل ِّ‬
‫ُ‬
‫فسقهم»‪.)1(Z‬‬
‫وال ننسى دور العلماء الربَّانيني الذين قاموا جبمع شتات األمة املمزق‪ ,‬وبذلوا وسعهم ىف ذلك من‬
‫أمثال أىب الوليد الباجي‪ ،‬وأىب حُمَ َّمد بن حزم‪ ،‬وأىب إسحاق اإللبريى وغريهم‪ ،‬عليهم رمحة اهلل وبركاته‪.‬‬
‫سابعًا‪ :‬عدم سماع ملوك الطوائف لنصح العلماء‪:‬‬
‫مشكورا لتوحيد صفوف امل ْسلِ ِمني وتصدَّى أبو الوليد الباجى‬
‫ً‬ ‫جهدا‬
‫لقد بذل جمموعة من العلماء ً‬
‫ُ‬
‫هلذه املهمة بنفسه بعد عودته من املشرق اإلسالمي‪« ،‬فرفع صوته باالحتساب‪ ،‬ومشى بني ملوك أهل‬
‫أمساعا واعية‪،‬‬
‫اجلزيرة لصلة‪ Z‬ما انبت من تلك األسباب‪ ،‬فقام مقام مؤمن آل فرعون‪ ،‬ولكنَّه مل يصادف ً‬
‫ألنَّه نفخ ىف عظام خنرة‪ ،‬وعطف على أطالل داثرة‪َ ،‬بْي َد أنه ُكلَّما وفد على ملك منهم ىف ظاهر أمره‬
‫لقيه بالرتحيب‪ ،‬وأجزل حظه ىف التنافس والتقريب‪ ،‬وهو ىف باطن يستجهل نزعته ويستثقل طلعته‪ ،‬وما‬
‫كان أفطن الفقيه ‪ -‬رمحه اهلل‪ -‬بأمورهم وأعلمه بتدبريهم‪ ،‬لكنَّه كان يرجو حاالً تثوب‪ ،‬ومذنبًا‬
‫(‪)2‬‬
‫يتوب»‬
‫ومل يكن ُح َّكام األَنْ َدلُس أهالً لقيادة األمة‪ ،‬ومل تنفعهم نصائح العلماء حىت حلَّت هبم مصيبة‬
‫وكارثة أال وهى سقوط طُلَْي ِطلَة‪Z.‬‬
‫ثامنًا‪ :‬مؤتمرات النصارى ومخططاتهم‪:‬‬
‫ومن مَثَّ على امل ْسلِ ِمني‬
‫استطاع النصارى أن يضعوا برامج حُم كمة للقضاء على ملوك الطوائف ِ‬
‫ُ‬
‫عموما‪ ،‬وكان من أكرب اجملرمني من ملوك النصارى الذى أشرف على هذه امل َخطَّطَات وسهر على‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫تنفيذها فرناندو ملك قشتالة‪.‬‬
‫تاسعًا‪ :‬وحدة كلمة النصارى‪:‬‬
‫ىف الوقت الذى كان امل ْسلِ ُمون‪ Z‬ىف األَنْ َدلُس يعانون من الت ُّ‬
‫َّفرق والشتات‪ ،‬كان النصارى ىف وحدة‬
‫مواجهة أمة اإلسالم ىف األَنْ َدلُس‪.‬‬‫كلمة وتراص صفًّ ىف ُ‬

‫عاشرًا‪ :‬غدر النصارى ونقضهم للعهود‪:‬‬


‫مل يكن النصارى عُبَّاد الصليب حمالً للعهود‪ Z‬وأهالً للوفاء إال يف القليل النادر؛ فهم تبع ملصاحلهم‪Z‬‬
‫وأهوائهم‪ ,‬وهى الىت حتكم وفاءهم ونقضهم‪.)3(Z‬‬
‫سوا َحظًّا ِّم َّما ذُ ِّك ُروا بِ ِه‬ ‫ِ‬ ‫قال تعاىل‪ِ َّ ِ :‬‬
‫ين قَالُوا إِنَّا نَ َ‬
‫ص َارى أَ َخ ْذنَا ميثَا َق ُه ْم َفنَ ُ‬ ‫﴿وم َن الذ َ‬
‫َ‬
‫‪1‬‬
‫() مجموع رسائل ابن حزم (ج‪.)3/173‬‬
‫‪2‬‬
‫() الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة‪ ,‬الشنتريني‪ ،‬القسم الثاني‪ ،‬ص (‪.)95‬‬
‫‪3‬‬
‫() سقوط األندلس‪ ،‬ص (‪.)40‬‬
‫‪61‬‬
‫اء إِلَى َي ْوِم ال ِْقيَ َام ِة َو َس ْو َ‬
‫ف ُينَبُِّئ ُه ُم اهللُ بِ َما َكانُوا‬ ‫ضَ‬ ‫فَأَ ْغ َر ْينَا َب ْيَن ُه ُم ال َْع َد َاو َة َوالَْب ْغ َ‬
‫صَنعُو َن﴾ [املائدة‪.]14:‬‬ ‫يَ ْ‬
‫لقد سطَّر النصارى ىف األَنْ َدلُس تارخيًا مليئًا بالدماء وهتك األعراض‪ ،‬وقتل النفوس وسىب النساء‪.‬‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْعتَ ُدو َن﴾ [التوبة‪.]14:‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬الَ َي ْر ُقبُو َن فِى ُم ْؤِم ٍن إِالًّ َوالَ ِذ َّمةً َوأُولَئِ َ‬
‫َّص َارى َحتَّى َتتَّبِ َع ِملََّت ُه ْم﴾[البقرة‪.]12:‬‬ ‫ود َوالَ الن َ‬ ‫نك الَْي ُه ُ‬
‫ضى َع َ‬ ‫َن َت ْر َ‬
‫﴿ول ْ‬
‫وقال تعاىل‪َ :‬‬
‫املعوجة من أجل حتقيق‬ ‫َّ‬ ‫للم ْسلِ ِمني فمارسوا كل األساليب‬ ‫لقد استمات النصارى ىف حرهبم ُ‬
‫أهدافهم الشيطانية‪.‬‬
‫الحادى عشر‪ :‬التخاذل عن نصرة من يحتاج إلى نصرة‪:‬‬
‫لقد كانت أحاديث الرسول × ىف تلك املرحلة ُمعطَّلة كأهَّن م مل يسمعوا قول رسول اهلل ×‪:‬‬
‫«المسلم أخو المسلم ال يظلمه وال يسلمه»(‪ ,)1‬وقوله ×‪« :‬المؤمن للمؤمن كالبنيان‬
‫يشد بعضه بعضًا»(‪.)2‬‬
‫لقد ختاذل ملوك الطوائف عن نصرة َمن يستحق النصرة‪ ،‬وإليك ما حدث ىف طُلَْي ِطلَة‪ ،‬يقول‬
‫الدكتور عبد الرمحن احلجى عن سقوط طُلَْي ِطلَة‪ Z‬وموقف ُح َّكام الطوائف‪« :‬قام حاكم بطليوس عمر بن‬
‫حُمَ َّمد األفطس امللقب باملَت َو ِّكل على اهلل ببعض واجبه جتاه طُلَْي ِطلَة ىف حمنتها‪ ،‬الىت لو َّأدى بقيَّةُ ملوك‬
‫ُ‬
‫الطوائف ما جيب عليهم ملا القت هذا املصري‪ ،‬وحلَ َم ْوها ومَح وا أنفسهم‪ ،‬كان بعضهم‪ Z‬ال هم له إال‬
‫حتقيق مصلحته‪ Z‬وإشباع أنانيته‪ ,‬وكأن األَنْ َدلُس وجدت ملنفعته وليرتبع على كرسى حكم‪ ،‬مهما كان‬
‫قصري العمر ذليل املكان مهزوز القواعد»(‪.)3‬‬
‫فهذه جمموعة من األسباب الىت َّأدت إىل احلالة التعيسة الىت آلت إليها األَنْ َدلُس‪ ،‬وعندى أن من‬
‫أعظم األسباب ىف خذالن األمة ابتعادها عن منهج رهبا وضياع عقيدهتا وتربيتها على الرتف والدعة‪،‬‬
‫وترك اجلهاد ىف سبيل اهلل‪ ،‬ولذلك عندما ترىَّب املرابطون على معاىن اجلهاد ىف سبيل اهلل‪ ،‬ومنهج أهل‬
‫السنة‪ ,‬وفقهم اهلل إلقامة دينه وإعزاز سنة نبيه ونصرة إخواهنم ىف الدِّين‪.‬‬
‫وم َهابَة‪ ،‬وملا فُقد‬
‫إن اجلهاد من أعظم الدروس‪ ,‬فلما ُوجد ىف األَنْ َدلُس بقيت األمة ىف عزة ومنعة َ‬
‫مطمعا لكل جبار عنيد أو متكرب ال يؤمن بيوم احلساب‪ .‬قال رسول اهلل ×‪« :‬رأسُ‬ ‫أصبحت األمة ً‬
‫األمر اإلسالم وعموده الصَّالة وذروة سنامه الجهاد» ‪ .‬وقال ×‪« :‬لغدوةٌ فى‬
‫)‬‫‪4‬‬ ‫(‬

‫سبيل هللا أو روحة خير من الدنيا وما فيها»(‪.)5‬‬


‫‪1‬‬
‫() أخرجه البخاري‪ ،‬كتاب المظالم‪ ،‬رقم (‪ ،)2442‬مع الفتح (ج‪.)5/116‬‬
‫‪2‬‬
‫() البخاري مع الفتح كتاب المظالم رقم (‪ 2446‬ج‪.)5/117‬‬
‫‪3‬‬
‫() انظر ‪ :‬التاريخ األندلسي‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫() الترمذي‪ ,‬باب اإليمان‪ ،‬باب (‪ )8‬رقم (‪.)2616‬‬
‫‪5‬‬
‫() البخاري مع الفتح رقم (‪ 2792‬ج‪.)17 / 6‬‬
‫‪62‬‬
***

63
‫المبحث الثالث‬
‫العالم فى زمن ظهور دولة المرابطين‬
‫كانت أوروبا يتحكم فيها اإلقطاعيون ىف حالة مهجية بعيدة عن التحضُّر ومعامل احلضارة واملدنية‪.‬‬
‫وكان العامل اإلسالمى جُم َّزأ عند قيام دولة املرابطني‪ ،‬فظهر ملوك الطوائف ىف بالد األَنْ َدلُس‪،‬‬
‫طه ُروا العراق من بىن بويه‪ ،‬والعبيديون حكموا مصر‪ ،‬وبنو مَحَّاد ىف املغرب‬ ‫واستطاع السالجقة أن يُ ِّ‬
‫األوسط‪ ،‬واملعز بن باديس وأحفاده ىف املهدية‪.‬‬
‫وتوسع املرابطون ومشلت دولتهم أجزاء شاسعة من مشاىل إفريقية «جزء من اجلزائر والريف ىف‬
‫املغرب»‪ ،‬وضربت جذورها ىف الصحراء حىت هنر النيجر والسنغال‪ ،‬فرفعوا راية اإلسالم ىف تلك‬
‫األماكن البعيدة‪.‬‬
‫أمر اخلالفة ىف بغداد‬
‫وكان املشرق اإلسالمى ىف ظروف سياسية حرجة وصعبة قاسية حيث ُ‬
‫ض للخطر‪ ،‬وال ميلك من أمر اخلالفة شيئًا وإمَّن ا هو رمز َّ‬
‫حتك َم فيه البويهيون‪ ،‬ومن‬ ‫مهتز‪ ,‬واخلليفة ُم َعَّر ٌ‬
‫بعدهم السالجقة‪َّ ,‬أما العبيديُّون ىف مصر فتحالفوا مع اإلفرنج من أجل مصاحلهم وأطماعهم‪ ,‬فكان أمر‬
‫امل ْسلِ ِمني ىف غاية اخلطورة حىت قيَّض اهلل ألهل املشرق نور الدِّين حممود وصالح الدِّين األيوىب اللذين‬
‫ُ‬
‫قاما بدور عظيم ىف القضاء على النصارى والعبيديني ودحرهم‪ ،‬وىف هذه الظروف الصعبة والعصيبة‪Z‬‬
‫منيعا ضد أطماع النصارى ىف‬ ‫سدا ً‬ ‫السنيَّة لتكون ً‬‫أرادت حكمة اهلل وقدرته أن خترج دولة املرابطني ُّ‬
‫األَنْ َدلُس‪ ،‬ولتحمى الشمال اإلفريقى من غاراهتم وأطماعهم‪ ،‬إنه تدبري العزيز العليم‪.‬‬
‫لقد أكرم اهلل تعاىل املرابطني وجنودهم بالدفاع والذود عن اإلسالم وامل ْسلِ ِمني وعن أعراضهم‬
‫ُ‬ ‫وأمواهلم وعقائدهم الىت ال تقدر بثمن‪.‬‬
‫وأعزَ اهلل األمة هبم ىف زمن عصيب ورفع اهلل هبم لواء اإلسالم ىف‬
‫ّ‬
‫املغرب واألَنْ َدلُس‪.‬‬
‫واستطاعوا جبهودهم اجلهادية أن ينقذوا إخواهنم ىف الدِّين من ظلم النصارى وحقدهم الدفني‪،‬‬
‫ومر الدهور‪.‬‬
‫مر العصور‪ِّ Z‬‬ ‫نرباسا لألمة على ِّ‬
‫ويكبدوهم هزائم عسكرية أصبحت ً‬
‫أوالً‪ :‬تكالب النصارى على المسل ِمين وأطماع ألفونســو التوسعية‪:‬‬
‫بعد سقوط طُلَْي ِطلَة بيد ألفونسو‪ ،‬بدا له أن كل شيء ممكن‪ ,‬وعمل على توحيد جهود النصارى‪،‬‬
‫واتفقوا على سحق دولة اإلسالم ىف األَنْ َدلُس‪ ،‬معتقدين أن قدرهتم تكفيهم ألداء هذا املهمة املقدسة‬
‫لديهم‪.‬‬
‫ضخما‪ ,‬واحتلوا‬
‫جيشا ً‬ ‫وكونوا ً‬
‫وتوحدت مدهنم‪َّ ،‬‬‫وترك النصارى خصوماهتم الدَّاخلِيَّة‪َّ ،‬‬

‫‪64‬‬
‫مدينة«قورية» من بىن األفطس‪ ،‬ووصلوا إىل ضواحى إشبيلية‪ ،‬وأحرقوا قراها وحقوهلا‪ ،‬وسارت فرقة‬
‫من الفرسان إىل شذونة‪ ،‬مث اخرتقت جزيرة طريف قرب مضيق جبل طارق‪ ،‬كما حاصر القشتاليون‪-‬‬
‫مبعاونة جند من األرجونيني والقطلونيني الذين وضعهم ألفونسو السادس حتت قيادته‪ -‬قلعة َس ْرقُ ْسطَة‬
‫حتما‪ ،‬وتصبح الشواطئ اإلسبانية املطلَّةُ‬ ‫احلصينة الىت يضع سقوطها منطقة األبري «ابرة» ىف يد النصارى ً‬
‫على البحر األبيض املتوسط عرضة لغاراهتم‪ ،‬يقول املؤرخ يوسف أشباخ‪« :‬وأثخن النصارى ىف والية‬
‫يردهم ىف احلرب أى اعتبار إنساىن ما دام األمر متعل ًقا بأعداء‬ ‫َس ْرقُ ْسطَة كلها بالنار والسيف‪ ،‬ومل يكن ُّ‬
‫وعدا‬
‫الدِّين‪ ،‬كما يعتقدون‪ Z،‬ولكن احلصون اإلسالميَّة قاومتهم مقاومة‪ Z‬شديدة‪ ،‬وتلقى‪ Z‬املؤمتن بن هود ً‬
‫لوصول املدد السريع من إخوانه امل ْسلِ ِمني ىف جنوب اجلزيرة‪َ ،‬بْي َد أن النصارى شددوا الضعط على‬
‫ُ‬
‫يوما بعد يوم‪ ،‬وخشى امل ْسلِ ُمون‪ Z‬سقوط املعقل املنيع‪ ،‬بعد أن أصبحت قواهتم وأحواهلم ىف‬ ‫َس ْرقُ ْسطَة ً‬
‫ُ‬
‫حتما دون قوى النصارى‪ ،‬فتطلعوا إىل عون من اخلارج‪ ،‬فاجتهت أبصارهم‬ ‫حالة يرثى هلا‪ ،‬فقد كانت ً‬
‫إىل قوة املرابطني اجملاهدة ىف املغرب األقصى» ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫وأصبح ألفونسو اللعني يضغط على ممالك امل ْسلِ ِمني الكربى اجملاورة له أى مملكىت بطليوس‬
‫وإشبيلية؛ فأرسل إىل املَت َو ِّكل بن األفطس صاحبُ بطليوس يطلب منه أن يُسلِّم إليه القالع واحلصون‬
‫ُ‬
‫اجملاورة حلدوده مع تأدية اجلزية‪ ،‬وضعُف مسلمو األَنْ َدلُس أمام هذه الضربات املاكرة‪ ،‬وأصبح سقوط‬
‫مبلذاهتم وفسادهم‪ ،‬حياربون أنفسهم‪Z‬‬ ‫املمالك قاب قوسني أو أدىن‪ ،‬وظل ُح َّكام املمالك منغمسني َّ‬
‫ويؤدون هلم اجلزية مقابل تركهم على عروشهم الىت تزعزعت أمام‬ ‫وحيالفون النصارى ضد إخواهنم‪ُّ ،‬‬
‫ضرباهتم‪ ،‬واستخدم ملوك‪ Z‬الطوائف املرتزقة من النصارى حلماية أنفسهم بعد أن فقدوا األمل ىف‬
‫وتعسفهم‪ Z،‬وجعل اهلل بني أمراء الطوائف من التنافس‬ ‫شعوهبم ورعاياهم بسبب ظلمهم وجورهم ُّ‬
‫والتدابر والتقاطع والتحاسد والغرية ما مل جيعله بني الضرائر املرتفات والعشائر املتغايرات‪ ,‬فلم تصل هلم‬
‫ىف اهلل يد‪ ،‬وال نشأ على التعاضد عزم(‪ ،)2‬لذلك اهنارت الروح املعنوية للشعب‪ Z‬األَنْ َدلُسى بعدما رأى‬
‫من أمرائه التخاذل واخليانة‪ ,‬حىت كاد هذا الشعب الصابر يفقد القدرة على القتال مبا كان يرهقه‬
‫وعدو‬
‫بتز ٍّ‬ ‫َّص َارى‪ ،‬وأصبح بني حاكم ُم ٍّ‬ ‫ُح َّكامه من الضرائب للتنعم‪ Z‬بالعيش الرغيد ودفع اجلزية للن َ‬
‫مرتبص ‪ ،‬فقد ارتقى عرش إسبانيا النصرانية ألفونسو السادس بن فرديناند الذى كان يرغب ىف احتالل‬ ‫ٍ‬
‫اجلزيرة اإليربية‪ ،‬وعادت حرب االسرتداد قوية على يده‪ ،‬وقد بدأ أعماله احلربية مبدينة طُلَْي ِطلَة‬
‫فحاصرها سبع سنوات حىت سقطت بيده ىف ‪ 25‬آيار ‪1085‬م مستهل صفر ‪478‬هـ‪ ,‬وقد أحدث‬
‫سقوطها دويًا هائالً ىف العامل اإلسالمى الغريب‪ ،‬وبات امل ْسلِ ُمون ىف حال من الضياع التام(‪ )3‬ال‬
‫ُ‬
‫يعرفون كيف يتصرفون‪ ,‬وبدأوا بمغادرة المناطق المتاخمة أللفونسو‪ ،‬وأصبحت مملكة‬
‫طُلَ ْي ِطلَة خالية من السكان الذين هجروها إلى بطليوس هربًا من االضطهاد وحفاظًا‬
‫‪1‬‬
‫() انظر الزالقة‪ ،‬ص (‪.)32‬‬
‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬أعالم األعالم‪ ،‬تحقيق د‪ .‬عبادي‪ ,‬ص (‪.)2411‬‬
‫‪3‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)61‬‬
‫‪65‬‬
‫على دينهم‪ ،‬ورأى ألفونسو أن زمام األَ ْن َدلُس أصبح فى يده‪ ،‬فضاعف غاراته على‬
‫جميع البالد؛ وتساقطت ال ُمدُن والقرى بين يدى اللعين الحقود وأرسل إلى ال ُمتَ َو ِّكل بن‬
‫األفطس وصاحب بطليوس يطلب إليه تسليم بعض الحصون‪ ،‬والقالع المتاخمة لحدوده‬
‫مع تأدية الجزية‪ ،‬ويتوعده بشر العواقب إذا رفض‪ ،‬فر َّد ال ُمت ََو ِّكل بشجاعة ونبل معلنًا‬
‫تحديه‪ ،‬وفى هذه الرسالة معا ٍن عميقة وفهم دقيق للموقف الحرج الذى أصبح فيه‬
‫ال ُم ْسلِ ُمون حيث قال ال ُمت ََو ِّكل‪..« :‬ولو علم – أى ألفونسو‪ -‬أن هلل جنودًا أع َّز بهم كلمة‬
‫اإلسالم‪ ,‬وأظهر بهم دين نبينا ُم َح َّمد × وأعزه على الكافرين‪ ..‬وأما تعييرك لل ُم ْسلِ ِمين‬
‫وهى من أحوالهم فبالذنوب المركوبة‪ ،‬ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من األمالك أى‬ ‫فيما َ‬
‫تتجرعه‪ ...‬وباألمس كانت قطيعة المنصور على سلفك‬ ‫َ‬ ‫مصاب أذقناك كما كان أبوك‬
‫(‪)1‬‬
‫أهدى ابنته إليه مع الذخائر التى كانت تفد كل عام عليه» ‪.‬‬
‫وأرسل املَت َو ِّكل قاضيه العامل الفقيه أبا الوليد الباجى ليطوف على حواضر األَنْ َدلُس يدعو إىل ملِّ‬
‫وتوحيد الكلمة‪ ،‬ومدافعة العدو‪ ،‬ولكن مهمة القاضى مل تُكلل بالنجاح ألن ضعف األمراء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الشعث‬
‫ٍ‬
‫عندئذ كتب املَت َو ِّكل إىل‬ ‫واهنيار مقومات الدولة‪ ،‬وختاذل الشعب فرضت على احلُ َّكام اسرتضاء العدو‪،‬‬
‫ُ‬
‫األمري يوسف بن تاشفني(‪ ،)2‬يصور له محنة األَ ْن َدلُس ويستنصره(‪« ،)3‬لما كان نور الهدى‬
‫‪-‬أيدك هللا‪ -‬دليلك‪ ,‬وسبيل الخير سبيلك‪ ،‬ووضحت فى الصالح معالمك‪ ،‬ووقفت على‬
‫أعز ناصر‪ ،‬وعلى غزو الشرك أقدر‬ ‫الجهاد عزائمك‪ ،‬وص َّح العلم بأنَّك لدعوة اإلسالم ُّ‬
‫قادر‪ ،‬وجب أن تستدعى لما عضل الداء‪ ،‬وتستغاث لما أحاط بالجزيرة من البالء‪ ،‬فقد‬
‫كانت طوائف العدو المطيف بأنحائها عند إفراط تسلُّطها واعتدائها وشدة كلفها‬
‫واستشرائها تالطف باالحتيال‪ ،‬وتستنزل باألموال‪ ،‬ويخرج لها عن كل ذخيرة‪،‬‬
‫وتسترضى بكل خطيرة‪ ،‬ولم يزل دأبها التشكك والعناد‪ ،‬ودأبها اإلذعان واالنقياد حتى‬
‫نفذ المطارف والتالد‪ ،‬وأتى على الظاهر والباطن النفاد‪ ،‬وأيقنوا اآلن بضعف المنن‪،‬‬
‫وقويت أطماعهم فى افتتاح المدن‪ ،‬واضطرمت فى ك ِّل جهة نارهم‪ ،‬ورويت من دماء‬
‫ال ُم ْسلِ ِمين أسنتهم وشفارهم‪ ،‬ومن أخطئ القتل منهم فإنما هم بأيديهم أسارى وسبايا‪،‬‬
‫يمتحنونهم بأنواع المحن والباليا‪ ،‬وقد هموا بما أرادوه من التوثب‪ ،‬وأشرفوا على ما‬
‫أملوه من التغلب‪ ،‬فيا هللا ويا لل ُم ْسلِ ِمين أيسطو هكذا بالحق اإلفكُ‪ ،‬ويغلب التوحيدَ‬
‫النصر‪ ،‬أال ناصر هلذا املهتضم؟ أال حامى ملا‬‫الكفر‪ ،‬وال يكشف هذه البلية ُ‬ ‫الشرك‪ ،‬ويظهر على اإلميان ُ‬ ‫ُ‬
‫استبيح من احلرم؟‪ ،‬وإنا هلل على ما حلق عرشه من ثل‪ ،‬وعزه من ذل‪ ،‬فإهنا الرزيَّة الىت ليس فيها عزاء‪،‬‬
‫أعزك اهلل – بالنازلة ىف مدينة قورية‬
‫والبلية الىت ليس مثلها بالء‪ ،‬ومن قبل هذا ما كنت خاطبتك – َّ‬
‫ومن فيها من امل ْسلِ ِمني باجلالء‪ ،‬مث ما زال التخاذل يتزايد‪،‬‬
‫أعادها اهلل وإهَّن ا مؤيدة للجزيرة باخلالء‪َ ،‬‬
‫ُ‬
‫وحتصلت ىف يد العدو مدينة سرية‪ ،‬وعليها قلعة‬ ‫والتدابر يتساند حىت ختلَّصت القضية وتضاعفت البلية َّ‬
‫جتاوزت حد القالع ىف احلصانة واالمتناع‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)62‬‬
‫‪2‬‬
‫() تاريخ ابن الكردبوس ص (‪ ،)88‬عن كتاب دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)62‬‬
‫‪3‬‬
‫() د‪ .‬عدنان‪ ،‬دولة اإلسالم فى األندلس ودول الطوائف‪ ،‬ص (‪.)92-91‬‬
‫‪66‬‬
‫وهى من املدينة كنقطة دائرية تدركها من مجيع نواحيها‪ ،‬ويستوى ىف األرض هبا قاصيها ودانيها‪،‬‬
‫وما هو إال نفس خافت وزمر داهق استوىل عليها عدو مشرتك وطاغية منافق‪ ،‬إن مل تبادروا جبماعتكم‬
‫عجاالً‪ ,‬وتتداركها ركبانًا ورجاالً‪ ،‬وتنفروا حنوها خفافًا وثقاالً‪ ،‬وما أحضكم على اجلهاد مبا ىف كتاب‬
‫اهلل فإنَّكم له أتلى‪ ،‬وال مبا ىف حديث رسول اهلل × فإنكم إىل معرفته أهدى‪ ،‬وكتاىب إليكم هذا حيمله‬
‫ويوضحها‪ ،‬فإنه ملا توجه حنوك‬
‫ويشرحها‪ ،‬ومشتمل على نكتة وهو يبينها ِّ‬ ‫يفصلها ُ‬‫الشيخ الفقيه الواعظ ِّ‬
‫عولت على بيانه‪ ,‬ووثقت بفصاحة‬ ‫احتسابًا‪ ،‬وتكلف املشقة إليك طالبًا ثوابًا‪َّ ،‬‬
‫والسالم»(‪.)1‬‬
‫لسانه‪َّ ,‬‬
‫ثانيا‪ :‬ألفونسو والمعتمد بن عباد‪:‬‬
‫ً‬
‫لقد وقع امل ْعتَ ِمد بن َعبَّاد ىف أخطاء كثرية؛ حيث تعاهد مع ألفونسو ضد إخوانه امل ْسلِ ِمني ىف‬
‫علمت ‪ -‬ال عهود‬ ‫أن يسمح له ألفونسو بأخذ ممالك ممن حوله إالَّ إن النصارى ‪ -‬كما ُ‬ ‫طُلَي ِطلَة‪ Z‬مقابل ُ‬
‫ْ‬
‫مربرا لضرب احلصار على إشبيلية‪ ,‬واحتالل قرطبة‪ ،‬فطلب من‬ ‫ً‬ ‫جيد‬ ‫أن‬ ‫ألفونسو‬ ‫فأراد‬ ‫مواثيق‪،‬‬ ‫وال‬ ‫هلم‬
‫أنواعا من اإلذالل‬ ‫ِ‬ ‫امل ْعتَ ِمد حصونًا وقرى املوت ُّ‬
‫أحب إليه من تسليمها‪ ,‬ومارس‪ Z‬ألفونسو مع املُْعتَمد ً‬ ‫ُ‬
‫والتجىن لتخرج امل ْعتَ ِمد عن طوره ويلغى االتفاقية اهلزيلة بني الطرفني وجيد ألفونسو والنصارى ما ِّ‬
‫يربر‬
‫ُ‬
‫أفعاله االنتقامية والوحشية‪.‬‬
‫فطلب ألفونسو من امل ْعتَ ِمد أن يسمح لزوجته القمطجية أن تلد ىف جامع قرطبة بناءً على نصيحة‬
‫األساقفة‪ ،‬لأن الطرف ُ‬
‫الغرىب كان موقع كنيسة قرطبة القدمية‪ ،‬وسأله أن تنزل بالزهراء مدينة اخلليفة‬
‫الناصر‪ ،‬لتكون والدهتا بني طيب نسيم الزهراء وفضيلة‪ Z‬موضع الكنيسة املزعوم(‪ ،)2‬وأرسل إليه بعثة من‬
‫وقل أدبه إن كان له أدب‪،‬‬ ‫مخسمائة فارس برئاسة اليهودى ابن ساليب ألخذ اجلزية‪ ،‬وجترأ السفري َّ‬
‫للم ْعتَ ِمد‪ Z‬وقال‪« :‬ال تعتقدونى بسيطًا ألقبل مثل‬‫وخرج على العرف الدبلوماسي‪ ،‬وأغلظ ىف القول ُ‬
‫هذه العملة المزيفة‪ ,‬ال آخذ إال الذهب الصافي‪ ،‬السنة القادمة ستكون مدنًا» ‪ .‬فأخذت‬
‫(‪)3‬‬

‫ال ُم ْعتَ ِمد النخوة اإلسالميَّة وصلب اليهودي‪ ،‬وقتل البعثة‪ ،‬وبذلك يكون ألفونسو قد‬
‫تحصل على ما يريده‪ ،‬وكان ألفونسو متجهًا لحصار قرطبة فل َّما وصل خبر البعثة‬
‫أقسم بآلهته ليغزون ال ُم ْعتَ ِمد فى إشبيلية‪ ،‬وحرَّك جيوشه نحو غرب األَ ْن َدلُس فد َّمر كل‬
‫القرى والتخوم التى فى طريقه نحو إشبيلية‪ ,‬وخرج فى جيش من طريق آخر يد ِّمر‬
‫ويخرِّ ب ويقتل ويحرق ويسفك ويسبي‪ ،‬حتى وصل إلى جزيرة طريف أقصى جنوب‬
‫األَ ْن َدلُس على المضيق‪ ،‬وأدخل قوائم فرسه فى البحر قائالً‪« :‬هذا آخر بالد األَ ْن َدلُس قد‬
‫وطئته»(‪.)4‬‬
‫و ِمن هنا أرسل إلى األمير يوسف بن تاشفين‪« :‬أ َّما بعد‪ ..‬فال خفاء على ذى عينين‬
‫أنَّك أمير ال ُم ْسلِ ِمين بل الملة اإلسالميَّة‪ ،‬كما أنا أمير الملة النصرانية‪ ،‬ولم يخف عليك‬
‫‪1‬‬
‫(‪ )2‬المصدر السابق نفسه‪.‬‬ ‫() دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)64-63‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)66‬‬
‫‪4‬‬
‫(‪ )2‬نفس المصدر السابق‪.‬‬ ‫()دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)66‬‬
‫‪67‬‬
‫ما عليه رؤساؤكم باألَ ْن َدلُس من التخاذل والتواكل‪ ،‬واإلهمال للرعية واإلخالد إلى‬
‫الراحة‪ ،‬وأنا أسومهم الخسف‪ ،‬فأخرب الدِّيار وأهتك األستار‪ ،‬وأقتل الشبَّان وآسر‬
‫الولدان‪ ،‬وال عذر لك فى التخلف عن نصرتهم إن أمكنك معرفة هذا‪ ،‬وأنتم تعتقدون أن‬
‫هللا ‪ -‬تعالى ‪ -‬فرض على واحد منكم عشرة منا‪ ،‬وأن قتالكم فى الجنة وقتالنا فى النار‪،‬‬
‫ونحن نعتقد أن هللا أظفرنا بكم وأعاننا عليكم‪ ،‬وال تقدرون دفاعًا وال تستطيعون‬
‫امتناعًا‪ ،‬وبلغنا عنك وأنَّك فى االحتفال عن نية االستقبال فال يدرى أكان الجبن بك أم‬
‫ي ما عندك من المراكب‬ ‫التكذيب بما أنزل عليك‪ ،‬فإن كنت ال تستطيع الجواز فابعث إل َّ‬
‫نجوز إليك‪ ،‬أناظرك فى أحب البقاع إليك؛ فإن غلبتنى فتلك نعمة جلبت إليك‪ ،‬ونعمة‬
‫شملت بين يديك‪ ،‬وإن غلبتك كانت لى اليد العليا عليك‪ ,‬واستكملت اإلمارة‪ ,‬وهللا يتم‬
‫اإلرادة»(‪.)1‬‬
‫فكان ر ُّد يوسف بن تاشفين – رحمه هللا – على ظهر الكتاب ذاته‪« :‬ما ترى ال ما‬
‫تسمع إن شاء هللا ‪-‬تعالى‪ » -‬وأردف‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وال رسل إال الخميس العرمرم‬ ‫وال كتب إال المشرفية والقنا‬

‫وعاد ألفونسو املغرور املتكرب إىل إشبيلية حيث التقى جبيشه اآلخر أمام‪ Z‬قصر امل ْعتَ ِمد بن َعبَّاد بضفة‬
‫لطرد الذباب‪ ،‬ومل يتحمل‬ ‫النهر‪ ،‬وحاصر املدينة ثالثة أيام‪ ،‬وكتب إىل املعت ِمد يسأله أن يرسل إليه مروحة ُ‬
‫َْ‬
‫ُ‬
‫فرد ‪« :‬قرأت كتابك وفهمت خيالءك وإعجابك‪ ,‬وسأنظر إليك ىف مراوح من اجللود‬ ‫امل ْعتَ ِمد هذه اإلهانة َّ‬
‫ُ‬
‫اللمطية تروح منك وال تروح عليك»(‪.)3‬‬
‫ترك ألفونسو إشبيلية وسار حنو َس ْرقُ ْسطَة وحاصرها‪ ،‬كانت شبه ضائعة تنتظر مصريها املؤمل‪,‬‬
‫كثريا‪ ،‬مث أخذ بلنسية‪ ,‬وأعطاها القادر بن ذى النون صاحب‬ ‫وصاحبها ابن هود ال يستطيع الدفاع ً‬
‫طُلَْي ِطلَة‪ Z‬السابق‪ ،‬وهاجم مملكة املرية‪ ,‬ووصل القشتاليون‪ Z‬إىل نابار قرب غرناطة‪ ,‬كان اخلطر على‬
‫شديدا‪ ،‬وقلة الشجاعة واهنيار الروح املعنوية تثبط العزائم‪ ،‬إذ أن مثانني قشتاليًا هزموا أربعمائة‬
‫األَنْ َدلُس ً‬
‫من املرية(‪.)4‬‬
‫ثالثًا‪ :‬اجتماع علماء قرطبة‪:‬‬
‫أمام هذا الضياع املفزع الذى وصلت إليه ممالك األَنْ َدلُس؛ اجتمع علماء وفقهاء وزعماء قرطبة‬
‫للتشاور‪ Z‬فيما جيب عمله إلنقاذ مدينتهم‪ ،‬ووصل رأيهم بعد تبادل اآلراء واألفكار إىل استدعاء‬
‫املرابطني‪.‬‬
‫ورأى امل ْعتَ ِمد أن هذا الرأى فيه صواب ونفاذ بصرية؛ َّ‬
‫فجد ىف تقوية جيشه ورمم احلصون‬
‫وقرُر أن يطلب النجدة من إخوانه امل ْسلِ ِمني‪ ،‬وتشاور ىف األمر مع ابنه الرشيد وزعماء إشبيلية‬
‫والقالع‪َّ ،‬‬
‫ُ‬
‫الذين أشاروا عليه مبهادنة ألفونسو واخلضوع لشروطه‪ ،‬ولكن هذا الرأى مل جيد هوى ىف نفس امل ْعتَ ِمد‬
‫ُ‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫(‪ )4‬الرياض المعطار‪ ،‬ص (‪ )80‬للحميري‪.‬‬ ‫() تاريخ ابن الكردبوس‪ ,‬ص (‪.)91‬‬ ‫‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪4‬‬
‫() تاريخ ابن الكردبوس ص (‪ ،)89‬نقالً عن دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)66‬‬
‫‪68‬‬
‫الذى خال بابنه الرشيد وكان وىل عهده وقال له‪« :‬أنا ىف هذه األَنْ َدلُس غريب بني حبر مظلم‪ Z‬وعدو‬
‫رجى‬ ‫جمرم‪ ،‬وليس لنا وىل وال ناصر إال اهلل‪ ،‬وإن إخواننا وجرياننا ملوك األَنْ َدلُس ليس فيهم نفع‪ ،‬وال يُ َ‬
‫منهم نصرة‪ ،‬وال حيلة إن نزل بنا مصاب أو نالنا عدو ثقيل وهو اللعني أذفونش فقد أخذ طُلَْي ِطلَة‪Z‬‬
‫وعادت دار كفر وها هو قد رفع رأسه إلينا‪.‬‬
‫وإن نزل علينا طُلَْي ِطلَة ما يرفع عنا حىت يأخذ إشبيلية‪ ،‬ونرى من الرأى أن نبعث إىل هذه‬
‫الصحراء وملك العدوة نستدعيه للجواز‪ Z‬إلينا ليدافع عنا الكلب اللعني إذ ال قدرة لنا على ذلك‬
‫واخلاصة(‪ .)1‬فأجابه الرشيد‪ :‬يا‬ ‫َّ‬ ‫بأنفسنا‪ ،‬فقد تلف جلاؤنا وتدبرت بل تربدت أجنادنا‪ ,‬وبغضتنا العامة‬
‫أبت أتدخل علينا فى أَ ْن َدلُسنا َمن يسلبنا ملكنا ويبدد شملنا؟ فقال‪ :‬أى بنى وهللا ال يسمع‬
‫ي اللعنة من على‬ ‫عنى أبدًا أنى أعدت األَ ْن َدلُس دار كفر وال تركتها للنصارى فتقوم عل َّ‬
‫منابر ال ُم ْسلِ ِمين مثل ما قامت على غيري‪ ،‬وهللا ُخرز الجمال عندى خير من ُخرز‬
‫الخنازير»(‪.)2‬‬
‫ولما انتشر رأى ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد فى األَ ْن َدلُس حذره ملوك الطوائف من ذلك وقالوا‬
‫له‪« :‬الملك عقيم والسيفان ال يجتمعان فى غمد واحد»‪ ،‬وعارض بشدة طلب العون من‬
‫المرابطين عبد هللا بن سكوت والى مالقة الذى كان يرى أن المرابطين أشد خطرًا من‬
‫النصارى‪ ،‬ويجب االعتماد على القوة الذاتية لألَ ْن َدلُسيين(‪ ،)3‬فأجابهم ال ُم ْعتَ ِمد‪« :‬رعى‬
‫الجمال خير من رعى الخنازير»(‪ )4‬وأضاف‪ :‬إن دهينا من مداخلة األضداد لنا فأهون‬
‫الشرَّين أمر الملثمين»(‪.)5‬‬
‫وقال للذين الموه على هذا الرأي‪ :‬يا قوم إنَّى فى أمرى على حالين‪ :‬حالة يقين‬
‫وحالة شك‪ ،‬والبد لى من أحدهما‪ ،‬أ َّما حالة الشك فإنِّى إن استندت إلى ابن تاشفين أو‬
‫ي‪ ،‬ويمكن أن ال يفعال فهذه حالة شك‪.‬‬ ‫إلى األذفونش ففى الممكن أن يفيا لى ويبقيا عل َّ‬
‫وأ َّما حالة اليقين فإنِّى إن استندت إلى ابن تاشفين فإنى أرضى هللا‪ ،‬وإن استندت‬
‫إلى األذفونش أسخطت هللا تعالى‪ ،‬فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فألى شيء أدع‬
‫ما يرضى هللا وآتى ما يسخطه؟ حينئ ٍذ قصر أصحابه عن لومه(‪.)6‬‬
‫ولما عزَم على طلب النصرة من المرابطين؛ اتصل ال ُم ْعتَ ِمد بال ُمت ََو ِّكل بن األفطس‬
‫صاحب بطليوس‪ ،‬وعبد هللا بن بلقين الصنهاجى صاحب غرناطة‪ ،‬وطلب منهما أن‬
‫يرسل كل منهما قاضى مدينته حتى يكونوا وفدًا إلى المرابطين لمقابلة األمير يوسف‬
‫بن تاشفين‪ ،‬وتش َّكلت البعثة من قاضى قرطبة ابن أدهم‪ ،‬وقاضى بطليوس ابن مقانا‪,‬‬
‫وقاضى غرناطة ابن القليعي‪ ,‬ومعهم وزير ال ُم ْعتَ ِمد أبو بكر بن زيدون‪ ,‬وأسند ال ُم ْعتَ ِمد‬
‫إلى القضاة وعظ األمير يوسف وترغيبه فى الجهاد‪ ،‬وأسند إلى وزيره إبرام العقود‪،‬‬
‫وحملت البعثة معها رسالة مكتوبة من ال ُم ْعتَ ِمد إلى األمير يوسف مؤرخة ‪479‬هـ‪ ,‬وهذا‬
‫نصُّ ها‪« :‬بسم هللا الرحمن الرحيم‪ ,‬وصلِّى هللا على سيدنا ُم َح َّمد وعلى آله وصحبه وسلم‬
‫تسلي ًما‪ ..‬إلى حضرة اإلمام أمير المسلمين وناصر الدِّين ومحيى دعوة الخليفة‪ ،‬اإلمام‬
‫‪1‬‬
‫(‪ )3‬المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)68‬‬ ‫() دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)68‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)69‬‬
‫‪4‬‬
‫(‪ )2‬نفس المصدر السابق‪.‬‬ ‫() وفيات األعيان (‪.)7/115‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪6‬‬
‫() نفح الطيب (‪.)6/91‬‬
‫‪69‬‬
‫أبى يعقوب يوسف بن تاشفين‪ ،‬القائم بعظيم أكبارها‪ ،‬ال َّشاكر ألجاللها المعظِّم لما عظم‬
‫هللا من كريم مقدارها‪ ،‬الالئذ بحرامها‪ ,‬المنقطع إلى س ُّمو مجدها‪ ,‬المستجير باهلل‬
‫وبطولها ُم َح َّمد عباد سالم كريم يخص الحضرة المعظمة السامية ورحمة هللا تعالى‬
‫وبركاته‪.‬‬
‫كتب المنقطع إلى كريم سلطانها من إشبيلية فى غرة جمادى األولى ‪479‬هـ‪/‬‬
‫‪1086‬م وإنَّه أيَّد هللا أمير ال ُم ْسلِ ِمين ونصر به الدِّين‪ ،‬فإنَّا ‪ -‬نحن العرب ‪ -‬فى هذه‬
‫األَ ْن َدلُس قد تلفت قبائلنا‪ ،‬وتفرَّق جمعنا‪ ،‬وتغيَّرت أنسابنا بقطع المادة عنا من ضيعتنا؛‬
‫فصرنا شعوبًا ال قبائل‪ ,‬وأشتاتًا ال قرابة وال عشائر‪ ،‬فق َّل نصرنا‪ ،‬وكثر ُش َّماتُنا‪ ،‬وتولَّى‬
‫علينا هذا العدو المجرم اللعين ألفونسو وأناخ علينا بطُلَي ِْطلَة ووطئها بقدمه‪ ،‬وأسر‬
‫ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬وأخذ البالد والقالع والحصون‪ ،‬ونحن أهل هذه األَ ْن َدلُس ليس ألحد منا طاقة‬
‫على نصرة جاره وال أخيه‪ ،‬ولو شاءوا لفعلوا إال أن الهواء والماء منعهم من ذلك‪ ،‬وقد‬
‫ساءت األحوال‪ ،‬وانقطعت اآلمال‪ ،‬وأنت أيدك هللا سيد حمير‪ ،‬ومليكها األكبر‪ ،‬وأميرها‬
‫وزعيمها‪ ،‬نزعت بهمتى إليك واستنصرت باهلل ثم بك‪ ،‬واستغثت بحرمكم لتجوز بجهاد‬
‫هذا العدو الكافر وتحيون شريعة اإلسالم وتدينون على دين ُم َح َّمد ×‪ ،‬ولكم عند هللا‬
‫الثواب الكريم على حضرتكم السامية السالم ورحمة هللا وبركاته وال حول وال قوة إال‬
‫باهلل‬
‫(‪)1‬‬
‫العلى العظيم» ‪.‬‬
‫حتث األمري على إنقاذ األَنْ َدلُس‪.‬‬
‫وأرسلت‪ Z‬وفود شعبية من الشيوخ والعلماء رسائل ُ‬
‫احلل‬
‫وتأثر املرابطون ملصاب إخواهنم ىف الدِّين‪ ،‬وعرض أمريهم قضية مسلمى األَنْ َدلُس على أهل ِّ‬
‫والع ْقد‪ Z‬عنده‪ ،‬وأمجعوا ُعلى نصرة دينهم وإعزاز كلمة التوحيد‪ ،‬وكان وزير يوسف ومستشاره‪ Z‬أَنْ َدلُسى‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫األصل امسه عبد الرمحن بن أسبط أو أسباط‪ ،‬فنصحه املستشار بأن يطلب من امل ْعتَمد بن َعبَّاد اجلزيرة‬
‫ُ‬
‫اخلضراء لكى تكون آمنة لعبور‪ Z‬اجليش‪ ،‬وحلماية خطوط التموين‪ ،‬وقال له‪ :‬إن األمر هلل تعاىل ولكم‪،‬‬
‫وواجب على كل مسلم إغاثة أخيه املسلم واالنتصار له‪ ،‬واقتنع األمري يوسف برأى وزيره ىف طلب‬
‫اجلزيرة اخلضراء ليجعل فيها أثقال جيشه وأجناده ويكون اجلواز بيده مىت شاء‪ ،‬وقال األمري يوسف‬
‫لعبد الرمحن‪ :‬صدقت يا عبد الرمحن‪ ,‬لقد نبهتىن على شيء مل خيطر ببايل‪ ,‬اكتب إليه بذلك‪.‬‬
‫نصه‪« :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ,‬وصلى اهلل‬ ‫وكتب ابن أسبط إىل امل ْعتَ ِمد بن َعبَّاد الكتاب التاىل ُّ‬
‫ُ‬
‫وصحبه وسلِّم‪.‬‬ ‫على سيدنا حُمَ َّمد وآله‬
‫من أمري امل ْسلِ ِمني وناصر الدِّين معني دعوة أمري املؤمنني‪ ،‬إىل األمري أكرم املؤيد بنصرة اهلل تعاىل‬
‫امل ْعتَ ِمد على اهلل ُأىب القاسم حُمَ َّمد بن َعبَّاد أدام اهلل كرامته بتقواه‪ ،‬ووفقه ملا يرضاه‪ ،‬سالم عليكم ورمحة‬
‫ُ‬
‫اهلل وبركاته‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫فإنه وصل خطابك الكرمي‪ ،‬فوقفنا على ما تضمنه من استدعائنا لنصرتك‪ ،‬وما ذكرته من‬
‫كربتك‪ ،‬وما كان من قلة محاية جريانك‪ ،‬فنحن ميني لشمالك ومبادرون‪ Z‬لنصرتك ومحايتك‪ ،‬وواجب‬
‫‪1‬‬
‫() دولة المرابطين ص (‪.)71‬‬
‫‪70‬‬
‫علينا ىف الشَّرع‪ ,‬وىف كتاب اهلل تعاىل‪ ،‬وإنَّه ال ميكننا اجلواز إال أن تُسلِّم لنا اجلزيرة اخلضراء؛ تكون لنا‬
‫لكى يكون جوازنا إليك على أيدينا مىت شئنا‪ ،‬فإن رأيت ذلك فاشهد على نفسك بذلك‪ ,‬وابعث إلينا‬
‫بعقودها وحنن ىف أثر خطابك إن شاء اهلل تعاىل»‪.‬‬
‫اطلع امل ْعتَ ِم د ابنه الرشيد على خطاب األمري يوسف فقال له‪ :‬يا أبت أال تنظر إىل ما طلب؟ فقال‬
‫له امل ْعتَ ِمد‪ :‬ياُ بىن هذا قليل ىف حق نصرة امل ْسلِ ِمني‪ ،‬مث مجع امل ْعتَ ِمد القاضى والفقهاء‪ ،‬وكتب عقد هبة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اجلزيرة اخلضراء لألمري يوسف‪ ،‬وتسليمها له حبضورهم‪ ،‬وكان حيكمها يزيد الراضى بن امل ْعتَ ِمد‪ ،‬فبعث‬
‫ُ‬
‫إليه أمره بإخالئها وتسليمها للمرابطني لتكون رهناً بتصرف األمري يوسف(‪ .)1‬وبعد موافقة امل ْعتَ ِمد‬
‫ُ‬
‫جتهز يوسف لتلبية نداء إخوانه ىف العقيدة راغبًا ىف األجر واملثوبة من اهلل بتأدية فريضة اجلهاد‪ ،‬وكتب‬ ‫َّ‬
‫ب لنصرة هذا الدِّين‪ ,‬ال يتوىل‬ ‫أمانًا ألهل األَنْ َدلُس أال يتعرض ألحد منهم ىف بلده وقال‪« :‬أنا أول منتَ َد ٍ‬
‫ُ‬
‫األمر أحد إال أنا بنفسي» وأعلن النفري العام ىف قوات املرابطني‪ ،‬فأقبلت من مراكش‪ ,‬ومن الصحراء‬
‫وبالد الزاب‪ ,‬ومن خمتلف نواحى املغرب يتوافدون على قيادهتم الربَّانية‪ ،‬وجهزت السفن لتحمل هذه‬
‫القوات‪ ،‬وكان أول من نفَّذ أمر العبور قائد املرابطني النابغ داود ابن عائشة‪ ,‬ومتركز ىف اجلزيرة‬
‫اخلضراء‪ ،‬وتتابعت كتائب املرابطني‪ ،‬وكانت معهم اجلمال الكثرية‪ ،‬وقد أثار وجودها دهشة‬
‫األَنْ َدلُسيني‪ Z،‬ألهَّن م مل يكونوا يعرفوهنا من قبل‪ ،‬وقد أثَّر وجودها على اخليل فأخذت جتمح لدى رؤيتها‪.‬‬
‫وملا تكامل اجليش املرابطى بساحل اجلزيرة اخلضراء‪ ,‬ركب األمري يوسف ومعه قادة من خرية‬
‫قادة املرابطني وصلحائهم‪ ،‬وملا ركب واستوى على السفينة رفع يديه حنو السماء مناجيًا‪« :‬اللهم‪ Z‬إن‬
‫َّ‬
‫فسهل علينا هذا البحر حىت نعربه‪ ،‬وإن كان غري ذلك‬ ‫للم ْسلِ ِمني ِّ‬
‫ُ‬ ‫إصالح‬ ‫كنت تعلم أن جوازنا هذا‬
‫فصعبه حىت ال جنوزه»(‪ .)2‬وسهل اهلل عبورهم‪ ،‬وكان ذلك يوم اخلميس بعد الزوال منتصف ربيع‬
‫األول ‪479‬هـ حزيران ‪1086‬م‪ ،‬وصلى األمري يوسف باجلزيرة اخلضراء صالة الظهر‪ ،‬وقام أهل‬
‫اجلزيرة بضيافة املرابطني‪ ،‬وظهر فرحهم وسرورهم على وجوههم‪ ،‬وبدأ األمري يوسف ىف حتصني‬
‫ورمم أسوارها وما تصدَّع من أبراجها‪ ،‬وشحنها باألسلحة واألطعمة وكلف جمموعة‬ ‫اجلزيرة اخلضراء‪َّ ،‬‬
‫من جنوده حبراستها مث ساروا حنو إشبيلية(‪.)3‬‬
‫سارع امل ْعتَ ِمد مع قادة قومه وشيوخ مدينته وفقهاء بالده الستقبال أمري املرابطني‪ ،‬وملا التقى‬
‫بيوسف تعانقاُ طويالً مبودة وحب وإخالص وأخوة ىف الدِّين‪ ،‬وتذاكرا نعم اهلل عليهما‪ ،‬وتواصيا بالصرب‬
‫واجلهاد ىف سبيل نصرة دين امل ْسلِ ِمني‪ ،‬وكان امل ْعتَ ِمد حُم َّمالً باهلدايا‪ ،‬وأصدر أوامره لعمال البالد جبلب‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وجوادا باذالً للخري‪.‬‬
‫ً‬ ‫األرزاق لضيافة اجليش املرابطي‪ ،‬وكان امل ْعتَ ِمد كرميًا‬
‫ُ‬

‫‪1‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪ ،)74‬مذكرات األمير عبد هللا صاحب غرناطة ص (‪.)103 ،102‬‬
‫‪2‬‬
‫() األندلس فى عهد المرابطين‪ ،‬ص (‪.)79‬‬
‫‪3‬‬
‫(‪ )2‬انظر ‪ :‬الحلل‪ ,‬ص (‪.)79‬‬ ‫() دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)75‬‬
‫‪71‬‬
‫ومنظرا هبيًا»(‪.)1‬‬
‫ً‬ ‫«عسكرا نقيًا‬
‫ً‬ ‫واستعرض امل ْعتَ ِمد اجليش املرابطى فرأى‬
‫ُ‬
‫وواصل األمري يوسف سريه حنو إشبيلية حيث كان يستقبل بالرتحاب مع جيشه املرابطى على‬
‫للم ْعتَ ِمد‪« :‬إمنا جئت‬ ‫ِ‬
‫امتداد الطريق حىت وصل حاضرة املُْعتَمد‪ ،‬فأقام هبا ثالثة أيام لالسرتاحة‪ ,‬مث قال ُ‬
‫ناويًا جهاد العدو حيثما كان توجهت»(‪.)2‬‬
‫وأثناء مقام األمري يوسف ىف إشبيلية بعث األمري يوسف إىل ملوك األَنْ َدلُس يستنفرهم للجهاد(‪،)3‬‬
‫فكان أول من لىب الدعوة عبد اهلل بن بلقني الصنهاجى صاحب غرناطة الذى خرج إليه بأمواله‬
‫ورجاله‪ ،‬وأخوه متيم صاحب مالقة‪ ،‬وأرسل ابن صمادح ابنه معز الدولة ىف فرقة من جيشه‪ ,‬وسار‬
‫األمري الربَّاىن والقائد امليداىن حنو بطليوس‪ ،‬فاستقبلهم صاحبها ال ُمت ََو ِّكل بن األفطس على‬
‫ثالث مراحل من المدينة(‪ ,)4‬وق َّدم لهم الهدايا والضيافة وعلف الدواب وظهر منه جود‬
‫وكرم‪ ،‬وأقام األمير أيا ًما عدة حتى يصل باقى المتطوعين إال أن أكثرهم لم يصل‬
‫‪-‬‬
‫النشغالهم بمدافعة النصارى‪ ،‬فتابع سيره الجهادى حتى حطَّ رحاله عند سهل ِّ‬
‫الزالقَة‬
‫(‪ ,)5‬وكان يبعد عن بطليوس ثمانية أميال‪.‬‬
‫ونظَّم يوسف بن تاشفين جيشه‪ ،‬فجعل األَ ْن َدلُسيين جي ًشا‪ ,‬مستقالً بذاته وأسند قيادته‬
‫إلى ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد الذى تولى المقدمة‪ ،‬وأسندت الميمنة إلى ال ُمت ََو ِّكل بن األفطس‪،‬‬
‫وجعل أهل شرق األَ ْن َدلُس على الميسرة‪ ،‬وباقى أهل األَ ْن َدلُس فى الساقة‪.‬‬
‫أ َّما الجيش المرابطى فتولى داود ابن عائشة قيادة فرسانه‪ ،‬وأما سير بن أبى بكر فتولى‬
‫قيادة الحشم‪ ،‬وبقية المرابطين مع حرس األمير يوسف بن تاشفين إلى جانب قيادته الجيش‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وعسكر المرابطون خلف األَ ْن َدلُسيين تفصل بينهم ربوة بقصد التمويه‪ ،‬وكان‬
‫تعداد جيش المرابطين واألَ ْن َدلُسيين أكثر من ‪ 24‬ألف جندي(‪ )6‬وتضاربت الروايات فى‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وكان ألفونسو مشغوالً مبحاصرة َس ْرقُ ْسطَة‪ ,‬وملا وصله اخلرب السعيد ارتبك وجزع‪ ،‬وطلب‪ Z‬من‬
‫املستعني بن هود حاكم َس ْرقُ ْسطَة أن يدفع له ماالً مقابل فك احلصار‪ ،‬فامتنع ابن هود ملا َعلِ َمه من‬
‫وقرر أال يساعد ألفونسو بأى مال يستعني به على قتال امل ْسلِ ِمني‪.‬‬
‫وصول املرابطني َّ‬
‫ُ‬
‫مسرعا إىل طُلَْي ِطلَة‪ ،‬وأعلن االستنفار العام‪ ،‬وحل نزاعه وخالفه‬
‫واضطر ألفونسو لرفع احلصار‪ ،‬ورجع ً‬
‫َّ‬
‫مع بعض أمراء النصارى‪ ،‬وأرسل إىل َمن وراء جبال ألربتات فأتته أفواج عديدة من النصارى متطاوعة من‬
‫كبريا‪ ،‬ونظَّم جيشه وقسمه إىل‬ ‫صغريا أو ً‬ ‫أجل احلرب املُقدَّسة‪ ،‬وجند الفونسو كل َمن يستطيع محل السالح ً‬
‫قسمني كبريين‪ :‬أسند قيادة اجليش األول إىل ابن عمه الكونت غرسيا ورودريك‪ ،‬وما لبث غرسيا أن‬
‫انسحب قبل بدء املعركة أثر خالف مع ألفونسو الذى أبقى رودريك ىف القيادة‪ ،‬واحتفظ بقيادة اجليش‬

‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫(‪ )4‬مذكرات األمير عبد هللا بن رير‪ ،‬ص (‪.)104‬‬ ‫() دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)79‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪4‬‬
‫(‪ )6‬وفيات األعيان‪( ،‬ج‪.)5/29‬‬ ‫() دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)80‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪6‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)81‬‬
‫‪72‬‬
‫الثاىن وعنَّي على جناحيه سانتشور أمريز والكونت برجنار رميوند‪ ,‬وتوىَّل هو القلب(‪« ,)1‬وكان جيش‬
‫ألفونسو يعتمد على الفرسان كمجموعة‪ ,‬وكان الفارس يلبس الزرد والدروع الىت تغطيه من الرأس إىل‬
‫القدم كأنَّه حصن من احلديد يتحرك لتزداد شجاعته وجرأته»‪.‬‬
‫وملا استعرض جيشه نفخ فيه الشيطان غروره وكربياءه‪ ،‬وقال قولة تدل على جتذر كفره وعتوه‬
‫وفساد معتقده حيث قال‪« :‬هبذا اجليش ألقى حُمَ َّمدا وآل حُمَ َّمد واألنس واجلن واملالئكة»(‪.)2‬‬
‫«وكانت مجوع الرهبان والقسيسني أمام‪ Z‬جيش ألفونسو امللعون يرفعون اإلجنيل والصلبان إلذكاء‬
‫احلماس الدِّيىن ىف نفوس اجلنود الذين بلغ عددهم أكثر من ستني أل ًفا»(‪.)3‬‬
‫وخرج ألفونسو جبيشه حنو بطليوس‪ ،‬وكتب إىل امل ْعتَ ِمد بن َعبَّاد كتابًا جاء فيه‪« :‬إن صاحبكم‬
‫العناء فيما بقى‪ ,‬وال أكلفكم تعبًا‪ ،‬وأمضى إليكم‬ ‫يوسف قد تعىَّن من بالده وخاض البحار‪ ،‬وأنا أكفيه ُ‬
‫وتوفريا عليكم»(‪.)4‬‬
‫ً‬ ‫وألقاكم ىف بالدكم رف ًقا بكم‬
‫وقصد ألفونسو بذلك أن تكون املعركة خارج بالده فإذا اهنزم وحلقوا به يكون مسريهم ىف‬
‫أرضهم والبد من االستعداد الكتساح بالده‪ ،‬وبذلك تنجو من التدمري‪ ،‬وإذا انتصر حدث ذلك ىف‬
‫أرض أعدائه‪.‬‬
‫الزالقَة وخيم على بعد ثالثة أميال من اجليش املسلم يفصل بينهما هنر‬
‫وصل ألفونسو إىل بطحاء ِّ‬
‫بطليوس يشرب منه املتحاربون(‪.)5‬‬
‫كبريا‪ ,‬حيث شعر بعودة الروح املعنوية إىل أهاىل‬ ‫انزعاجا ً‬
‫ً‬ ‫لقد انزعج ألفونسو من جميء املرابطني‬
‫األَنْ َدلُس الذين كان يسومهم سوء العذاب‪ ،‬يُقتِّل رجاهلم ويسىب نساءهم‪ ،‬ويأخذ منهم اجلزية‪،‬‬
‫وحيتقرهم ويزدريهم‪ ،‬ويتالعب مبصريهم‪ ,‬وينتظر الفرصة الستئصاهلم من األَنْ َدلُس‪ ،‬لتعم النصرانية ىف‬
‫سائر البالد‪ ،‬ويرتفع الصليب على أعناق العباد‪ ،‬وإذا باملرابطني يربكون خمططاته ويبددون أحالمه‪.‬‬
‫وخصوصا‬
‫ً‬ ‫يوجه ضربة قاصمة ملن كان السبب ىف استدعاء املرابطني‬ ‫لذلك أراد ألفونسو أن ِّ‬
‫للفارس املغوار امل ْعتَ ِمد بن َعبَّاد وقرينه املَت َو ِّكل بن األفطس‪ ،‬وكان يرى أن نصره يعتمد على تكبيل‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫القوة الدَّاخلِيَّة ىف األَنْ َدلُس باهلزائم املتتالية واملتالحقة‪.‬‬
‫أما املرابطون بعد ذلك سريجعون إىل وطنهم األصلى املغرب‪ ،‬وبالقضاء على األَنْ َدلُس يسهل‬
‫القضاء على املرابطني بسبب جهلهم بالطبيعة اجلغرافية للبالد‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬الحلل‪ ،‬ص (‪.)34‬‬
‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬األندلس فى عهد المرابطين‪ ،‬ص (‪.)83‬‬
‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬الكامل‪( ،‬ج‪.)6/303‬‬
‫‪4‬‬
‫() الروض المعطار‪ ،‬ص (‪ ،)88‬نفح الطيب (‪.)6/96‬‬
‫‪5‬‬
‫() ابن الكردبوس ص (‪ ،)93‬روض القرطاس ص (‪ ،)94‬نقالً عن دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)84‬‬
‫‪73‬‬
‫ومما ساعد ألفونسو على أن يعيش ىف تلك األحالم فتور معظم أهل األَنْ َدلُس بسبب ترفهم‬
‫ونعيمهم وجبنهم وحبهم للحياة وهروهبم من الشهادة‪ ،‬كما أن أسباب اهلزمية خنرت ىف ذلك اجملتمع‬
‫املتهالك‪.‬‬
‫أما امل ْعتَ ِمد بن َعبَّاد صاحب إشبيلية واملَت َو ِّكل بن األفطس صاحب بطليوس فقد قررا امتشاق‬
‫شهيدا(‪.)1‬‬ ‫ُ‬ ‫احلسام‪ُ ،‬‬
‫ومن مات كان ً‬ ‫سعيدا َ‬
‫فمن ظفر عاش ً‬ ‫َ‬
‫ماعة ما وصلوا إىل ما‬‫وأما املرابطون الذين تربوا على تعاليم اإلسالم وأصول أهل السنة واجلَ َ‬
‫وصلوا إليه إال بعد تربية عميقة‪ ،‬وتكوين فريد وإميان راسخ ساهم علماء وفقهاء املالكية ىف ذلك‪،‬‬
‫وعلى رأسهم الفقيد الشهيد ابن ياسني‪ ,‬فقد مروا مبراحل صقلتهم وحروب زكتهم‪ ،‬وأصبحوا‬
‫متشو قني إىل االستشهاد معتمدين على رب العباد‪ ,‬آخذين بأسباب النصر املعنوية واملادية‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫وكان رأى املرابطني إن املعركة ىف األَنْ َدلُس مصريية لألمة اإلسالميَّة وبذلك ال ميكن االعتماد‬
‫على شعب مهزوم وقع ىف أسر املعاصى والذنوب‪.‬‬
‫وكما أن انتصارهم ىف األَنْ َدلُس يرعب أعداءهم وخصومهم‪ Z‬ىف املغرب ويتم بنصرهم إنقاذ‬
‫اإلسالم واحلضارة‪ Z‬ىف ذلك البلد البعيد عن العامل اإلسالمي‪.‬‬
‫كان ألفونسو يقود حربًا صليبية شرسة ضد امل ْسلِ ِمني‪ Z،‬ودعمته الكنيسة ىف روما باجلنود والعتاد‬
‫واألموال‪ ،‬ورغبت بلدان اإلفرجنة بالوقوف مع ُ‬
‫ألفونسو ىف حربه املقدسة ضد امل ْسلِ ِمني‪.‬‬
‫ُ‬
‫ولكن اجلانب املعنوى عند‬ ‫إن اجلانب املادى عند النصارى كان أعلى بكثري مما عند املرابطني‪َّ ،‬‬
‫املرابطني ال حدود له‪.‬‬
‫وأرسل يوسف بن تاشفني إىل ألفونسو كتابًا يعرض عليه الدخول ىف اإلسالم أو دفع اجلزية أو‬
‫احلرب‪ ،‬ومما جاء ىف كتاب األمري‪« :‬بلغنا يا أذفونش أنَّك حنوت االجتماع بنا‪ ,‬ومتنيَّت أن تكون لك‬
‫ك تعرب البحر عليها إلينا‪ ،‬فقد جزناه إليك‪ ،‬ومجع اهلل ىف هذه العرصة بيننا وبينك‪ ،‬وترى عاقبة‬
‫ُف ْل ٌ‬
‫ادعائك (وما دعاء الكافرين إال ىف ضالل)» ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫وملا قرأ ألفونسو الكتاب زاد غضبه وذهب بعقله وقال‪« :‬أمبثل هذه املخاطبة خياطبىن وأنا وأىب‬
‫نغرم اجلزية ألهل ملته منذ مثانني سنة؟» (‪ )3‬وقال لرسول األمير يوسف‪« :‬قُل لألمير ال تتعب‬
‫نفسك أنا أصل إليك»(‪ ،)4‬وإنَّنا سنلتقى فى ساحة المعركة (‪ ،)5‬ومعنى ذلك أن ألفونسو‬
‫اختار الحرب‪ ،‬وحاول ألفونسو حامى حمى النصرانية فى إسبانيا أن يخدع ال ُم ْسلِ ِمين‬
‫‪1‬‬
‫() انظر ‪ :‬دولة المرابطين‪ ،‬د‪ .‬سعدون عباس‪ ،‬ص (‪.)85‬‬
‫‪2‬‬
‫() وفيات األعيان (‪.)7/116‬‬
‫‪3‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)78‬‬
‫‪4‬‬
‫() روض القرطاس‪ ،‬ص (‪.)94‬‬
‫‪5‬‬
‫() األندلس فى عصر المرابطين‪ ،‬ص (‪.)82‬‬
‫‪74‬‬
‫ويمكر بهم‪ ،‬فكتب إلى األمير يوسف فى تحديد يوم المعركة فكتب إليه‪« :‬إن بعد غد‬
‫الجمعة ال نحب مقابلتكم فيه ألنَّه عيدكم‪ ،‬وبعده السبت يوم عيد اليهود‪ ،‬وهم كثير فى‬
‫محلتنا‪ ،‬وبعده األحد عيدنا‪ ،‬فنحترم هذه األعياد‪ ،‬ويكون اللقاء يوم االثنين» فكان‬
‫جواب األمير يوسف‪« :‬اتركوا اللعين وما أحب»(‪ )1‬فاعترض ال ُم ْعتَ ِمد وقال لألمير‬
‫يوسف‪« :‬إنها حيلة منه وخديعة إنَّما يريد غدرنا فال تطمئن إليه‪ ،‬وقصده الفتك بنا يوم‬
‫الجمعة فليكن الناس على استعداد له يوم الجمعة كل النَّهار»(‪.)2‬‬
‫واستعد ال ُم ْسلِ ُمون لرصد تحركات النصارى وكان حدس ال ُم ْعتَ ِمد صائبًا صحيحًا‪,‬‬
‫ورصدوا تحرك العدو نحوهم‪.‬‬
‫وانقض الجيش الذى يقوده رودريك بمنتهى العنف على معسكر ال ُم ْسلِ ِمين من‬
‫األَ ْن َدلُسيين فتص َّدى فرسان المرابطين الذين يقودهم داود ابن عائشة الذين أرسلهم‬
‫يوسف ابن تاشفين على عجل لدعم األَ ْن َدلُسيين‪ ،‬وصمد المرابطون أمام هجوم‬
‫النصارى‪ ،‬واضطر النصارى إلى االرتداد إلى خط دفاعهم الثانى وظهرت من داود‬
‫ابن عائشة وجنوده كفاءة قتالية لم يعرف لها مثيل‪ ،‬واختار هللا من المرابطين شهداء‪،‬‬
‫واحتدم الصراع‪ ،‬وزحف ألفونسو ببقية جيشه‪ ،‬وأقرن زحفه بصياح هائل أفزع قلوب‬
‫األَ ْن َدلُسيين قبل خوضهم المعركة‪ ،‬والذوا بالفرار ووجدوا أنفسهم أمام أسوار بطليوس‬
‫لالحتماء بها‪ ،‬ولم يصمد منهم إال فارس األَ ْن َدلُسيين وقومه «ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد وأهل‬
‫إشبيلية» وأبلى بال ًء عظي ًما وعقرت تحته ثالثة أفراس‪ ،‬وأصيب بجروح بليغة‪،‬‬
‫واستمرت المعركة الرهيبة‪ ،‬وصمد ال ُم ْعتَ ِمد مع داود ابن عائشة حتى فلت السيوف‪،‬‬
‫وتكسرت الرماح‪ ,‬وصبر ال ُم ْسلِ ُمون فى المعركة صبرًا عظي ًما سجل فى صفحات المجد‬
‫والعزة والكرامة فى تاريخنا المجيد‪.‬‬
‫وبدأت قوة ال ُم ْسلِ ِمين تضعف وتتقهقر أمام ضربات النصارى الحاقدة‪ ،‬وأيقن‬
‫ألفونسو ببلوغ النصر ُمعتَقِدًا إن هذه هى قوة ال ُم ْسلِ ِمين المقاتلة التى ظهر اإلعياء‬
‫عليها‪ ،‬وأخذت موقف المدافعة‪ ،‬ولم يستغرق ألفونسو طويالً فى أحالمه حتى وثب‬
‫جيش من المرابطين إلى ميدان المعركة أرسله األمير يوسف بقيادة سير بن أبى بكر‬
‫على رأس الحشم لمساندة القوات اإلسالميَّة‪ ،‬فتق َّوت بذلك معنوياتهم فى معركة مالت‬
‫إلى هزيمتهم‪ ،‬وزحف األمير يوسف بحرسه المرابطي‪ ،‬وقام بعملية التفاف سريعة‬
‫باغت فيها معسكر العدو من الخلف‪ ،‬ووصل إلى خيامه وأحرقها وأباد حراسها‪ ،‬ولم‬
‫ينج منهم إال القليل‪ ،‬وكانت طبول المرابطين تدق بعنف فترتج منها األرض‪ ،‬ورغاء‬
‫الجمال يتصاعد إلى السماء فبث الذعر فى نفوس األعداء وهلعت قلوبهم(‪ .)3‬وذهل‬
‫ألفونسو عندما رأى بعض حرس معسكره فارِّ ين‪ ،‬وأتته األخبار من داخل المعسكر‬
‫باستيالء المرابطين عليه‪ ،‬وأنَّه خسر حوالى عشرة آالف قتيل(‪ ,)4‬ووجد ألفونسو نفسه‬
‫محاصرًا من ال ُم ْسلِ ِمين فاضطر للقتال متقهقرًا نحو معسكره المحروق‪ ،‬ولكن يوسف‬
‫لم يترك له الفرصة اللتقاط األنفاس‪ ،‬فانقضَّ عليه كالسيل‪ ،‬وقاتل ألفونسو عند ذلك‬
‫قتال المستميت‪ ،‬وكان األمير يوسف يبث الحماس فى نفوس ال ُم ْسلِ ِمين قائالً‪« :‬يا معشر‬
‫ُزق منكم الشهادة فله الجنة ومن‬ ‫ال ُم ْسلِ ِمين اصبروا لجهاد أعداء هللا الكافرين‪ ,‬ومن ر ِ‬
‫‪1‬‬
‫() الحلل الموشية‪ ،‬ص (‪.)36‬‬
‫‪2‬‬
‫() أعالم األعالم‪ ،‬تحقيق العبادي‪ ,‬ص (‪.)243‬‬
‫‪3‬‬
‫(‪ )2‬ابن الكردبوس‪ ،‬ص (‪.)93‬‬ ‫() الحلل الموشية‪ ،‬ص (‪.)42‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪75‬‬
‫سلم فقد فاز باألجر العظيم والغنيمة»‪ ،‬وكان رحمه هللا يقاتل فى مقدمة الصفوف وهو‬
‫ابن التاسعة والسبعين‪ ،‬وكأن العناية اإللهية كانت تحميه(‪ ،)1‬وكان فقهاء ال ُم ْسلِ ِمين‬
‫وصالحوهم يعظون الجنود ويشجعونهم على مصابرة أعداء الدِّين‪ ،‬وفى هذا الجو‬
‫الرهيب من القتال الذى دام بضع ساعات وسقط فيه آالف القتلى‪ ،‬وغمر الدم ساحة‬
‫المعركة عندما دفع األمير حرسه الخاص من السودان إلى القتال‪ ،‬فترجل منهم أربعة‬
‫آالف كانوا مسلحين بدروق اللمط وسيوف الهند‬
‫ونزاريق الزان(‪.)2‬‬
‫اندفعوا إلى المعركة اندفاع األسود فحطموا مقاومة النصرانية‪ ،‬وتكسَّرت‬
‫شوكتهم‪ ,‬وانقض أسد من أسود ال ُم ْسلِ ِمين على ألفونسو وطعنه فى فخذه‪ ،‬والذ‬
‫النصارى بالفرار‪ ،‬وتمنى ألفونسو الموت على العيش‪ ,‬ولجأ مع خمسمائة فارس من‬
‫فرسانه إلى تل قريب ينتظر الظالم لينجو من سيوف المرابطين(‪.)3‬‬
‫ومنع يوسف جنوده من اللحاق بهم‪ ،‬وكانت مناسبة أللفونسو الذى تابع سيره مع‬
‫الظالم إلى طُلَي ِْطلَة‪ ،‬وصل إليها مغمو ًما حزينًا كسيرًا جريحًا بعد أن فقد خيرة رجاله‬
‫وجنوده وقادة جيشه‪.‬‬
‫وفقد ألفونسو فى ال ِّزالقَة القسم األعظم من جيشه‪ ،‬وأمر يوسف بضم رءوس‬
‫القتلى من النصارى‪ ،‬فعمل ال ُم ْسلِ ُمون منها مآذن يؤذنون عليها‪ ,‬واستشهد فى تلك‬
‫المعركة الخالدة جماعة من العلماء والفقهاء‪ ،‬قلما يجود الزمان بمثلهم منهم قاضى‬
‫مراكش عبد الملك المصمودي‪ ،‬والفقيه الناسك أبو العبَّاس بن رميلة القرطبي(‪.)4‬‬
‫وجمع ال ُم ْسلِ ُمون األسالب والغنائم التى تركها النصارى وراءهم فى ساحة المعركة‪،‬‬
‫وآثر األمير يوسف بها ملوك األَ ْن َدلُس‪ ،‬وقد عرَّفهم أن هدفه الجهاد فى سبيل هللا‬
‫ونصرة اإلسالم(‪.)5‬‬
‫وأرسل األمير يوسف إلى المغرب أخبار النصر المبين وهذا نص خطابه‪« :‬‬
‫أ َّما بعد حمدًا هلل المتكفِّل بنصر أهل دينه الذى ارتضاه‪ ،‬والصالة والسالم على‬
‫سيدنا ُم َح َّمد أفضل وأكرم خلقه‪ ،‬فإن العدو الطاغية لما قربنا من حماه وتوافقنا بإزائه‬
‫بلغناه الدعوة‪ ،‬وخيرناه بين اإلسالم والجزية والحرب‪ ،‬فاختار الحرب‪ ،‬فوقع االتفاق‬
‫بيننا وبينه على المالقاة يوم االثنين ‪ 15‬رجب وقال‪ :‬الجمعة عيد ال ُم ْسلِ ِمين‪ ,‬والسبت‬
‫عيد اليهود‪ ,‬وفى عسكرنا منهم خلق كثير‪ ،‬واألحد عيدنا نحن‪ ،‬فافترقنا على ذلك‪،‬‬
‫وأضمر اللعين خالف ما شرطناه وعلمناه أنهم أهل خدع ونقض عهود فأخذنا أهبة‬
‫الحرب لهم‪ ،‬وجعلنا عليهم العيون ليرفعوا إلينا أحوالهم‪ ،‬فأتتنا األنباء فى سحر يوم‬
‫الجمعة ‪ 12‬رجب أن العدو قد قصد بجيوشه نحو ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬يرى أنه قد اغتنم فرصته‬
‫فى ذلك الحين‪ ،‬فنبذت إليه أبطال ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬وفرسان المجاهدين فتغشته قبل أن‬
‫يتغشاها‪ ،‬وتع َّدته قبل أن يتعداها‪ ،‬وانقضت جيوش ال ُم ْسلِ ِمين على جيوشهم كانقضاض‬
‫‪1‬‬
‫() األندلس فى عهد المرابطين‪ ،‬ص (‪.)85‬‬
‫‪2‬‬
‫() الروض المعطار‪ ،‬ص (‪.)92‬‬
‫‪3‬‬
‫() ملوك الطوائف‪ ،‬ص (‪.)314‬‬
‫‪4‬‬
‫() الروض المعطار‪ ،‬ص (‪.)95‬‬
‫‪5‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪76‬‬
‫العقاب على عقيرته‪ ،‬ووثبت عليهم وثوب األسد على فريسته‪ ،‬وقصدنا برايته السعيدة‬
‫المنصورة فى سائر المشاهد مشتهرة ونظروا إلى جيوش لمتونة نحو ألفونسو – فل َّما‬
‫أبصر النصارى راياتنا المشتهرة المنتشرة‪ ،‬ونظروا إلى مراكبنا المنتظمة المظفرة‪،‬‬
‫وأغشتهم بروق الصفاح‪ ,‬وأظلَّتهم سحائب الرماح‪ ,‬ونزلت بحوافر خيولهم رعود‬
‫الطبول بذلك الفياح‪ ،‬فالتحم النصارى بطاغيتهم ألفونسو‪ ،‬وحملوا على ال ُم ْسلِ ِمين حملة‬
‫منكرة؛ فتلقَّاهم المرابطون بنيَّات خالصة وهمم عالية‪ ،‬فعصفت ريح الحرب وركبت‬
‫دائم السيوف والرماح‪ ،‬بالطعن والضرب‪ ،‬وطاحت المهج وأقلبت سيل الدماء فى‬
‫هرج‪ ,‬ونزل من سماء هللا على أوليائه النصر العزيز والفرج‪.‬‬
‫وولَّى ألفونسو مطعونًا فى إحدى ركبتيه طعنة أفقدته إحدى ساقيه فى ‪ 500‬فارس‬
‫من ثمانين ألف فارس ومائتى ألف راجل قادهم هللا على المصارع والحتف العاجل‪،‬‬
‫وتخلَّص إلى جبل هنالك‪ ,‬ونظر النهب والنيران فى محلته من كل جانب وهو من أعلى‬
‫الجبل ينظرها شذرًا‪ ،‬ويحيد عنها صبرًا‪ ،‬وال يستطيع عنها دفعًا وال لها نصرًا‪ ،‬فأخذ‬
‫يدعو بالثبور والويل‪ ،‬ويرجو النجاة فى ظالم الليل‪ ،‬وأمير ال ُم ْسلِ ِمين يحمد هللا؛ قد ثبتت‬
‫فى وسط المعركة مراكبه المظفرة‪ ،‬تحت ظالل بنوده المنتشرة منصورًا لجهاد مرفوع‬
‫األعداء‪ ،‬ويشكر هللا تعالى على ما منحه من نيل السؤال والمراد‪ ،‬فقد سرح الغارات‬
‫فى محالتهم تهدم بناءها‪ ،‬وتصطلم ذخائرها وأسبابها‪ ،‬وتريه رأى العين دمارها‬
‫ونهبها‪ ،‬وألفونسو ينظر إليها نظر المغشى عليه‪ ،‬ويعض غيظًا وأسفًا على أنامل كفيه‪،‬‬
‫فتتابعت البهرجة الفرار‪ ،‬رؤساء األَ ْن َدلُس المهزومين نحو بطليوس والفار‪ ،‬فتراجعوا‬
‫حذ ًرا من العار‪ ،‬ولم يثبت منهم غير زعيم الرؤساء والق َّواد‪ ،‬أبو القاسم ال ُم ْعتَ ِمد بن‬
‫َعبَّاد‪ ،‬فأتى أمير ال ُم ْسلِ ِمين وهو مهيض الجناح‪ ،‬مريض عنه وجراح‪ ،‬فهنأه بالفتح‬
‫الجليل‪ ،‬وتسلَّ َل ألفنش تحت الظالم فارًا ال يهدى وال ينام ومات من الخمسمائة فارس‬
‫الذين كانوا معه بالطريق أربعمائة فلم يدخل طُلَي ِْطلَة إال مائة فارس والحمد هلل على‬
‫ذلك كثيرًا‪.‬‬
‫وكانت هذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة يوم الجمعة ‪ 12‬رجب ‪479‬هـ‪23/‬‬
‫شهر أكتوبر ‪1086‬م ‪ ..‬العجمي(‪.)1‬‬
‫يزف إليه البشرى بالنصر‪ ،‬وكان‬ ‫ُّ‬ ‫وأرسل ال ُم ْعتَ ِمد إلى ابنه الرشيد فى إشبيلية‬
‫الناس بانتظار األنباء على أحرِّ من الجمر‪ ،‬وقد حمل الرسالة الحمام الزاجل وهى‬
‫مقتضبة إذ ال تتعدى السطرين‪ ،‬هذا نصها‪« :‬اعلم أنه التقت جموع ال ُم ْسلِ ِمين بالطاغية‬
‫ألفونسو اللعين ففتح هللا لل ُم ْسلِ ِمين وهزم على أيديهم المشركين والحمد هلل رب‬
‫العالمين‪ ،‬فأعلم بذلك من قبلك إخواننا ال ُم ْسلِ ِمين والسالم»‪ ،‬وقرئت الرسالة بمسجد‬
‫إشبيلية فعمها السرور‪ ،‬ثم توالت الكتب تفيض بأخبار النصر منها إنشاء الكاتب ابن‬
‫عبد هللا بن عبد البر النمرى وفيه يحدد تاريخ المعركة وسيرها وما أظهره ألفونسو من‬
‫الغدر واآلخرة للصالحين(‪.)2‬‬
‫وأصبح يوم ال ِّزالقَة عند المغاربة واألَ ْن َدلُسيين مثل يوم القادسية واليرموك‪« :‬يوم‬
‫لم يسمع بمثله من القادسية واليرموك‪ ،‬فياله من فتح ما كان أعظمه‪ ،‬يوم كبير ما كان‬
‫الزالقَة ثبتت قدم الدِّين بعد زالقها وعادت ظلمة الحق إلى إشراقها»‪.‬‬ ‫أكرمه‪ ،‬فيوم ِّ‬
‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬الحلل الموشية‪ ،‬ص (‪.)47-45‬‬
‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)47‬‬
‫‪77‬‬
‫نتائج معركة الزالقة‪:‬‬
‫الزالقَة نتائج مهمة من أهمها‪:‬‬ ‫كانت لمعركة ِّ‬
‫صا بعد أن أنقذ هللا بها سقوط‬ ‫‪ -1‬رفع الروح المعنوية ألهل األَ ْن َدلُس‪ ,‬خصو ً‬
‫َسرْ قُ ْسطَة من سقوط محتَّم‪ ،‬وأزاح عن ملوك الطوائف وأمرائها كابوس‬
‫النصارى ومتطلباتهم التى ال تنتهى من الجزية وغيرها‪.‬‬
‫‪ -2‬سقوط هيبة ملوك الطوائف أمام رعاياهم خاصَّة أنهم قد هزموا فى بدء‬
‫المعركة ولوال أن أكرمهم هللا بالمرابطين لضاعت األَ ْن َدلُس‪.‬‬
‫‪ -3‬امتناع الرعية عن دفع الضرائب المخالفة لتعاليم اإلسالم وتعلُّقهم بالمرابطين‪.‬‬
‫‪ -4‬مهَّدت ال ِّزالقَة إلى إسقاط دول الطوائف فيما بعد على يد منقذيهم‪.‬‬
‫‪ -5‬ظهور نجم يوسف بن تاشفين والمرابطين فى العالم أجمع‪.‬‬
‫‪ -6‬انصياع قبائل المغرب التى كانت مترددة فى والئها وتنتظر فرصة الوثوب‬
‫الزالقَة أن جعلت تلك القبائل‬ ‫على المرابطين‪ ،‬وبذلك تكون نتيجة معركة ِّ‬
‫تخلد إلى السكينة وأعلنت والءها التام‪.‬‬
‫‪ -7‬عمت األفراح أرجاء العالم اإلسالمى فى شرقه وغربه وأعتقت الرقاب و ُس َّر‬
‫العلماء والفقهاء بهذا النبأ السعيد‪.‬‬
‫‪ -8‬أصيب نصارى اإلسبان بهزيمة تعيسة أثَّرت فى نفوسهم‪ ,‬وتحطمت آمالهم فى‬
‫االستيالء على أراضى ال ُم ْسلِ ِمين فى األَ ْن َدلُس وإبعادهم‪.‬‬
‫‪ -9‬جعلت النصارى يُرتِّبون أمورهم ويو ِّحدون صفوفهم‪ ,‬ويتنازلون عن‬
‫صراعاتهم ال َّداخلِيَّة‪.‬‬
‫وغير ذلك من النتائج المهمة التى غيرت مجرى تاريخ األَ ْن َدلُس وبالد المغرب‪.‬‬
‫الزالقَة عاد إلى إشبيلية‪ ،‬ودعا‬ ‫بعد أن رتب األمير يوسف أموره بعد معركة ِّ‬
‫رؤساء األَ ْن َدلُس إلى اجتماع عام‪ ،‬وطلب منهم االتفاق واالتحاد ضد عدوهم المشترك‬
‫الذى نخر فيهم بسبب اختالفهم؛ فأجابه الجميع بقبول وصيته وتحقيق رغبته‪ ،‬وترك‬
‫ثالثة آالف جندى مرابطى للدفاع عن ثغور األَ ْن َدلُس بقيادة سير بن أبى بكر(‪.)1‬‬
‫رابعا‪ :‬رجوع األمير يوسف إلى المغرب‪:‬‬
‫ً‬
‫يجن ثمرة‬
‫لقد عدد المؤرخون أسباب رجوع يوسف إلى المغرب وهو لم ِ‬
‫االنتصار بعد إلى أسباب منها‪:‬‬
‫‪ -1‬وفاة ابنه األمير أبى بكر الذى استخلفه على سبتة وكان مريضًا‪.‬‬
‫‪ -2‬اضطراب الحدود الشرقية بسبب تحالف بنى َح َّماد مع عرب بنى هالل‬
‫وحاولوا غزو المناطق الحدودية التابعة للدولة المرابطية‪.‬‬
‫‪ -3‬أراد أن يتفقد الوالة وال ُح َّكام الذين تركهم فى ال ُمدُن والقرى‪ ،‬وينظر فى أمور الرعية‪.‬‬
‫‪ -4‬أراد أن يخرج من إلحاح مسلمى األَ ْن َدلُس الذين طلبوا منه تعقُّب ألفونسو وجنوده‬
‫حيث إنه رأى إن قواته ال تستطيع أن تسيطر على كل األَ ْن َدلُس التساع أراضيها‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() انظر ‪ :‬الحلل الموشية‪ ،‬ص (‪.)47-45‬‬
‫‪78‬‬
‫‪ -5‬خشى من إبراهيم بن أبى بكر بن عمر الذى زعم أنه له حق شرعى فى‬
‫استخالف والده المجاهد الكبير‪.‬‬
‫عظيما ىف حياة أمتنا أال وهو أن املعارك الفاصلة ىف‬ ‫إن نظرتى للتاريخ اإلسالمى ِّ‬
‫تؤكد ىل معىن ً‬
‫تارخيها اجمليد ال تكون إال لقوم‪ Z‬أقاموا الشريعة على مستوى الشعب واجليش والقادة‪ ،‬وهذا املعىن واضح‬
‫تدرجوا ىف مراحلهم وأقاموا شرع رهبم على أنفسهم‪.‬‬
‫ىف سرية املرابطني الذين َّ‬
‫وهلذا أرى أن من أقوى األسباب على اإلطالق ىف نصر اهلل للمرابطني هو متسكهم وحتكيمهم‬
‫كثريا أن نبني أثر حتكيم‬
‫للقرآن‪ Z‬والسنة على مستوى شعبهم ودولتهم وجيشهم وقائدهم‪ ،‬ولذلك يهمنا ً‬
‫شرع اهلل ىف األمم والشعوب واجليوش واألفراد‪.‬‬
‫***‬

‫‪79‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫أثر الحكم بما أنزل هللا على مجتمع المرابطين‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫التأمل ىف كتاب اهلل وسنة رسوله × وىف حياة األمم والشعوب تعطى العبد معرفة أصيلة بأثر‬ ‫إن ُّ‬
‫سنن اهلل ىف األنفس والكون واآلفاق‪ ,‬وأوضح مكان لسنن اهلل وقوانينه كتاب اهلل تعاىل‪ ,‬قال تعاىل‪:‬‬
‫يم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿ي ِري ُد اهلل لِيبيِّن لَ ُكم وي ْه ِدي ُكم سنن الَّ ِذ ِ‬
‫وب َعلَْي ُك ْم َواهللُ َعل ٌ‬
‫ين من َق ْبل ُك ْم َو َيتُ َ‬
‫َ‬ ‫ُ َُ َ ْ َ َ َ ْ ُ َ‬ ‫ُ‬
‫يم﴾ [النساء‪.]26:‬‬ ‫ِ‬
‫َحك ٌ‬
‫صح عن رسول اهلل × باملطالعة ىف سنته ×‪ ،‬فقد كان يقتنص‬
‫وسنن اهلل تتضح بالدراسة فيما َّ‬
‫الفرص واألحداث ليدل أصحابه على شيء من السنن‪ ،‬ومن ذلك أن‬
‫فشق ذلك على‬
‫ناقته × «العضباء» كانت ال تُسبق‪ ،‬فحدث مرة أن سبقها أعراىب على قعود له‪َّ ،‬‬
‫أصحاب النىب ×‪ ،‬فقال هلم × كاش ًفا عن سنة من سنن اهلل‪« :‬حق على هللا أن ال يرتفع‬
‫شيء من الدنيا إال وضعه» (‪.)1‬‬

‫والسرْي ‪ ،‬وىف األزمنة من التَّا ِريخ‬


‫وقد أرشدنا كتاب اهلل إىل تتبع آثار السنن ىف األمكنة بالسعى َّ‬
‫والسري‪.‬‬
‫ِّ‬
‫ف َكا َن‬ ‫ت ِمن َق ْبلِ ُك ْم ُسنَ ٌن فَ ِس ُيروا فِى األ َْر ِ‬
‫ض فَانْظُُروا َك ْي َ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬قَ ْد َخلَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾ [آل عمران‪.]138 ،137:‬‬ ‫ْمتَّق َ‬ ‫ين ‪َ ‬ه َذا َبيَا ٌن للن ِ‬
‫َّاس َو ُه ًدى َو َم ْوعظَةٌ لل ُ‬ ‫َعاقبَةُ ال ُْم َك ِّذب َ‬
‫والتفكر‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬قُ ِل انْظُُروا َما َذا ِفى‬ ‫ُّ‬ ‫وأرشدنا القرآن الكرمي إىل معرفة السنن بالنظر‬
‫ٍ‬
‫ات َوالنُّ ُذ ُر َعن َق ْوم الَّ ُي ْؤِمنُو َن ‪َ ‬ف َه ْل َي ْنتَ ِظ ُرو َن إِالَّ‬ ‫ض َو َما ُتغْنِى اآلَيَ ُ‬ ‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾ [يونس‪،101:‬‬ ‫ين َخلَ ْوا من َق ْبل ِه ْم قُ ْل فَا ْنتَظ ُروا إِنِّى َم َع ُكم ِّم َن ال ُْم ْنتَظ ِر َ‬ ‫مثْ َل أَيَّ ِام الذ َ‬
‫‪.]102‬‬
‫ومن خالل آيات القرآن يظهر لنا أن السنن اإللهية تختص بخصائص‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ض اهللُ لَهُ‬
‫يما َف َر َ‬
‫َكا َن َعلَى النَّب ِّي م ْن َح َر ٍج ف َ‬ ‫﴿ما‬
‫أوالً‪ :‬أنَّها قدر سابق‪ :‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ورا﴾ [األحزاب‪.]38:‬‬ ‫ِ‬
‫أ َْم ُر اهلل قَ َد ًرا َّم ْق ُد ً‬ ‫ين َخلَ ْوا ِمن َق ْب ُل َو َكا َن‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬
‫ُسَّنةَ اهلل فى الذ َ‬
‫أى أن حكم اهلل تعاىل وأمره الذى يقدره كائن ال حمالة‪ ،‬وواقع ال حميد عنه‪ ،‬وال معدل‪ ،‬فما شاء‬
‫كان وما مل يشأ مل يكن‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() أخرجه البخاري‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب ناقة رسول هللا × (ج‪ ،)6/86‬حديث رقم (‪.)2872‬‬
‫‪80‬‬
‫ين فِى‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫ثانيًا‪ :‬أنَّها ال تتحول وال تتبدل‪ :‬قال تعاىل‪﴿ :‬لَئن ل ْم يَنتَه ال ُْمنَاف ُقو َن َوالذ َ‬
‫يها إِالَّ قَلِيالً ‪‬‬ ‫َّك بِ ِهم ثُ َّم الَ يجا ِورونَ َ ِ‬
‫ك فَ‬ ‫َُ ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َوال ُْم ْرج ُفو َن فى ال َْمدينَة لَُن ْغ ِر َين َ ْ‬ ‫ُقلُوبِ ِهم َّم َر ٌ‬
‫ين‬‫ِ‬
‫َملْعُون َ‬
‫ين َخلَ ْوا ِمن َق ْب ُل َولَن تَ ِج َد لِسَُّنةِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ َْينَ َما ثُق ُفوا أُخ ُذوا َو ُقِّتلُوا َت ْقتيالً ‪ ‬سنة اهلل فى الذ َ‬
‫ِ‬
‫اهلل‬
‫َت ْب ِديالً﴾ [األحزاب‪.]62-60:‬‬

‫ص ًيرا‬‫وقال‪﴿ :‬ولَو قَاَتلَ ُكم الَّ ِذين َك َفروا لَولَّوا األ ْدبار ثُ َّم الَ ي ِج ُدو َن ولِيًّا والَ نَ ِ‬
‫‪‬‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ ُ َُ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت من َق ْب ُل َولَن تَج َد لسَُّنِة اهلل َت ْبديالً﴾ [الفتح‪. ]23 ،22:‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫ِ‬ ‫اهلل الَّتِى قَ ْد َخلَ ْ‬
‫سنة ِ‬

‫ين َك َف ُروا إِن يَ َنت ُهوا ُيغََف ْر ل َُه ْم‬ ‫ِِ‬


‫ثالثًا‪ :‬أنها ماضية ال تتوقف‪ :‬قال تعالى‪﴿:‬قُل للَّذ َ‬
‫األولين﴾ [األنفال‪.]38:‬‬‫َ‬ ‫َّت‬
‫ت ُسن ُ‬ ‫ض ْ‬
‫ودوا َف َق ْد َم َ‬ ‫ف َوإِن َيعُ ُ‬ ‫َّما قَ ْد َسلَ َ‬
‫ض‬‫رابعًا‪ :‬أنها ال تُخالف وال تنفع مخالفتها‪ :‬قال تعالى‪﴿ :‬أَ َفلَ ْم يَ ِس ُيروا فِى األ َْر ِ‬
‫ين ِمن َق ْبلِ ِه ْم َكانُوا أَ ْك َث َر ِم ْن ُه ْم َوأَ َش َّد ُق َّوةً َوآثَ ًارا فِى‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ف َكا َن َعاقبَةُ الذ َ‬ ‫َفيَنظُُروا َك ْي َ‬
‫ات فَ ِر ُحوا بِ َما‬ ‫ْسبو َن ‪َ ‬فلَ َّما جاء ْت ُهم رسلُ ُهم بِالْبِّينَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫األ َْر ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ْ ُُ‬ ‫ض فَ َما أَ ْغنَى َع ْن ُهم َّما َكانُوا يَك ُ‬
‫ِع ْن َد ُهم ِّم َن ال ِْعل ِْم َو َحا َق بِ ِهم َّما‬
‫اهلل َو ْح َدهُ َو َك َف ْرنَا بِ َما ُكنَّا بِ ِه‬
‫َكانُوا بِ ِه يسَت ْه ِزئُو َن ‪َ ‬فلَ َّما رأَوا بأْسنَا قَالُوا آمنَّا بِ ِ‬
‫َ‬ ‫َْ ََ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬
‫ُم ْش ِرك َ‬
‫ين ‪‬‬
‫ت فِى ِعبَ ِاد ِه َو َخ ِس َر‬ ‫اهلل الَّتِى قَ ْد َخلَ ْ‬
‫َّت ِ‬ ‫ْسنَا ُسن َ‬ ‫ك يَن َفعُ ُه ْم إِ َ‬
‫يما ُن ُه ْم ل ََّما َرأ َْوا بَأ َ‬ ‫َفلَ ْم يَ ُ‬
‫ك‬‫ُهنَالِ َ‬
‫الْ َكافِ ُرو َن﴾ [غافر‪.]85-82:‬‬

‫ت ِمن َق ْبلِ ُك ْم‬ ‫خامسًا‪ :‬ال ينتفع بها المعاندون‪ ،‬ولكن يتعظ بها المتقون‪﴿:‬قَ ْد َخلَ ْ‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُسنَ ٌن فَ ِس ُيروا فِى األ َْر ِ‬
‫َّاس َو ُه ًدى‬ ‫ف َكا َن َعاقبَةُ ال ُْم َك ِّذب َ‬
‫ين ‪َ ‬ه َذا َبيَا ٌن للن ِ‬ ‫ض فَانْظُُروا َك ْي َ‬
‫ين﴾ [آل عمران‪.]138 ،137:‬‬ ‫ومو ِعظَةٌ لِّل ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬ ‫َ َْ‬
‫سادسًا‪ :‬أنها تسرى على البر والفاجر‪ ،‬فالمؤمنون – واألنبياء أعالهم قدرًا –‬
‫تسرى عليهم سنن هللا‪ ,‬وهلل سنن جارية تتعلق باآلثار المترتبة على من امتثل شرع هللا‬
‫أو أعرض عنه‪ ،‬وبما أن المرابطين التزموا بشرع هللا فى كل شئونهم ومرُّ وا بمراحل‬
‫طبيعية فى حياة الدول فإن أثر حكم هللا فيهم واضح وبيِّن‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() لقد استفدت من كتاب الحكم والتحاكم فى خطاب الوحي للشيخ عبد العزيز مصطفى كامل فى بيان أثر‬
‫الحكم بما أنزل هللا‪.‬‬
‫‪81‬‬
‫وللحكم بما أنزل هللا آثار دنيوية وأخرى أخروية‪ ,‬أ َّما اآلثار الدنيوية التى ظهرت‬
‫لى فى دراستى لشعوب الملثمين التى قامت بهم دولة المرابطين فعدة أمور منها‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬االستخالف والتمكين‪:‬‬
‫حيث نجد أن المرابطين منذ زعيمهم عبد هللا بن ياسين حرصوا على إقامة شرع‬
‫هللا فى أنفسهم وأهليهم‪ ،‬وأخلصوا هلل تحاكمهم فى سرِّهم وعالنيتهم‪ ،‬فاهلل سبحانه‬
‫وتعالى ق َّواهم وش َّد أزرهم حتى استخلفهم فى األرض‪ ،‬وأقام المرابطون شريعة هللا فى‬
‫األرض التى حكموها‪ ،‬فمكن لهم المولى ع َّز وج َّل الملك‪ ,‬ووطأ لهم السلطان‪.‬‬
‫وهذه سنة ربَّانية نافذة ال تتبدل فى الشعوب واألمم التى تسعى جاهدة وجادة‬
‫إلقامة شرع هللا تعالى‪.‬‬
‫والمتأمل فى القرآن الكريم يجد هذه السنة ماضية فى األفراد والشعوب واألمم‪،‬‬
‫فيوسف عليه السالم استخلف فى األرض بعد أن ابتُلى فأبلى وظهر منه أنه كان من‬
‫ك الْيوم لَ َدينا ِم ِك ِ‬
‫ين﴾ [يوسف‪ ]54 :‬عرف‬ ‫ين أَم ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫المخلَصين‪ ،‬وعندما قال له الملك‪﴿ :‬إِنَّ َ َ ْ َ ْ َ‬
‫اج َعلْنِى‬
‫ال ْ‬ ‫أنه قد جاء أوان االستخالف‪ ،‬فاستعد لتبعته ونهض لحمل رسالته فقال‪﴿:‬قَ َ‬
‫َعلَى‬
‫﴿و َك َذلِ َ‬
‫ك‬ ‫يم﴾ [يوسف‪ ،]55:‬وصار بهذا من أهل التمكين‪َ :‬‬
‫ض إِنِّى ح ِفي ٌ ِ‬
‫ظ َعل ٌ‬ ‫َ‬ ‫َخ َزائِ ِن األ َْر ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يب بَِر ْح َمتنَا َمن نَ َشاءُ َوالَ نُض ُ‬
‫يع‬ ‫ِ‬ ‫ض َيتََب َّوأُ ِم ْن َها َح ْي ُ‬
‫ث يَ َشاءُ نُص ُ‬ ‫ف فِى األ َْر ِ‬‫وس َ‬ ‫ِ‬
‫َم َّكنَّا ليُ ُ‬
‫ين﴾ [يوسف‪.]56:‬‬ ‫ِِ‬
‫َج َر ال ُْم ْحسن َ‬‫أْ‬
‫﴿ونُ ِري ُد أَن نَّ ُم َّن‬
‫وقد بيَّن هللا تعالى تحقُق سنة التمكين فى بنى إسرائيل‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ِع ُفوا فِى األ َْر ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين﴾ [القصص‪.]5:‬‬ ‫ض َونَ ْج َعلَ ُه ْم أَئ َّمةً َونَ ْج َعلَ ُه ُم ال َْوا ِرث َ‬ ‫استُ ْ‬
‫ين ْ‬
‫َعلَى الذ َ‬
‫من هللا عليهم بالتمكين إنفا ًذا‬ ‫وكان بعد وراثة األرض واالستخالف فيها أن َّ‬
‫ِ‬ ‫﴿ونُ َم ِّك َن ل َُه ْم فِى األ َْر ِ‬
‫ود ُه َما‬
‫ي ف ْر َع ْو َن َو َه َاما َن َو ُجنُ َ‬‫ض َونُ ِر َ‬ ‫لمشيئته السابقة‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫ِم ْن ُهم َّما َكانُوا يَ ْح َذرو َن﴾ [القصص‪.]6:‬‬
‫ضح هذه السنة فى القرآن الكريم كما هى ملموسة فى واقع األمم والشعوب‪.‬‬ ‫وبذلك تت ِ‬
‫وقد خاطب هللا تعالى المؤمنين من هذه األمة واعدًا إياهم بما وعد به المؤمنين‬
‫الصالِحاتِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمنُوا م ْن ُك ْم َو َعملُوا َّ َ‬‫ين َ‬ ‫﴿و َع َد اهللُ الذ َ‬ ‫قبلهم‪ ،‬فقال سبحانه فى سورة النُّور‪َ :‬‬
‫ين ِمن‬ ‫ض﴾ [النور‪ .]55:‬أى بدالً عن الكفار ﴿ َكما استَ ْخلَ َ َّ ِ‬
‫ف الذ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َّه ْم فِى األ َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫لَيَ ْستَ ْخل َفن ُ‬
‫َق ْبلِ ِه ْم﴾ من بنى إسرائيل(‪ ،)1‬فإذا حقق الناس اإليمان وتحاكموا إلى شريعة الرَّحمن‪،‬‬
‫ضى ل َُه ْم﴾ فتحقيق‬ ‫﴿ولَيُ َم ِّكنَ َّن ل َُه ْم ِد َين ُه ُم الَّ ِذى ْارتَ َ‬
‫فستأتيهم ثمرة ذلك وأثره الباقى َ‬
‫التحاكم إلى الدِّين يتحقق به االستخالف‪ ،‬وتحقيق الحكم به يوصل إلى الدِّين‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() انظر ‪ :‬تفسير الجاللين‪ ،‬ص (‪.)466‬‬
‫‪82‬‬
‫وهذا ما رأيته فى دراستى للدولة السُّنيَّة التى أقامها المرابطون‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬األمن االستقرار‪:‬‬
‫ً‬
‫كانت بالد المغرب قبل وصول المرابطين دويالت متنازعة فيما بينها‪ ،‬بل بعض‬
‫هذه الدويالت لها معتقدات تخرجها عن الملة‪ ،‬كما أن قبائل الملثمين كانت متناحرة‬
‫فيما بينها‪ ،‬وصراعهم مع الزنوج لم يستقر مما ولَّد لهم الخوف واإلزعاج الشديد‪.‬‬
‫وبعد أن أكرم هللا المرابطين بتوحيد قبائل صنهاجة‪ ،‬وساروا فى جهادهم المجيد‬
‫سيرة حسنة‪ ،‬وتوحَّد المغرب األقصى كلُّه‪ ،‬يسَّر هللا لهم األمن واالستقرار فى تلك‬
‫الربوع التى حكم فيها شرع هللا‪.‬‬
‫حيث نجد أن دولة المرابطين بعد أن استخلفت وم َّكن هللا لها‪ ,‬أعطاها دواعى‬
‫األمن وأسباب االستقرار حتى تُحافظ على مكانتها‪ ،‬وهذه سنة جارية ماضية ضمن هللاُ‬
‫ألهل اإليمان والعمل بشرعه وحكمه أن ييسر لهم األمن الذى ينشدون فى أنفسهم‬
‫وواقعهم‪ ,‬فبيده ‪ -‬سبحانه ‪ -‬مقاليد األمور‪ ،‬وتصريف األقدار‪ ،‬وهو مقلب القلوب‪ ،‬وهللا‬
‫يَهَبُ األمن المطلق لمن استقام على التوحيد وتطهر من الشرك بأنواعه‪.‬‬
‫يما َن ُه ْم بِظُل ٍْم أُولَئِ َ‬ ‫آمنُوا ول ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫األم ُن َو ُهم‬‫ك ل َُه ُم ْ‬ ‫سوا إِ َ‬ ‫َم َي ْلب ُ‬
‫ين َ َ ْ‬ ‫قال تعالى‪﴿:‬الذ َ‬
‫ُّم ْهتَ ُدو َن﴾ [األنعام‪ .]82:‬فنفوسهم فى أمن من المخاوف ومن العذاب والشقاء‪ ,‬إذا خلصت‬
‫هلل من الشرك صغيره وكبيره‪ .‬إن تحكيم شرع هللا فيه راحة للنفوس لكونها تمس عدل‬
‫هللا ورحمته وحكمته‪ ،‬إن هللا تعالى بعد أن وعد المؤمنين باالستخالف ثم التمكين لم‬
‫يحرمهم بعد ذلك من األمن والطمأنينة والبعد عن الخوف والفزع‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و َع َد‬
‫ض َكما استَ ْخلَ َ َّ ِ‬ ‫ات لَيستَ ْخلِ َفن ِ‬ ‫الصالِح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين‬
‫ف الذ َ‬ ‫َّه ْم فى األ َْر ِ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫آمنُوا م ْن ُك ْم َو َعملُوا َّ َ‬ ‫ين َ‬ ‫اهللُ الذ َ‬
‫َّهم ِّمن َب ْع ِد َخ ْوفِ ِه ْم أ َْمنًا‬ ‫ضى ل َُه ْم َولَيُبَ ِّدلَن ُ‬ ‫ِمن َق ْبلِ ِه ْم َولَيُ َم ِّكنَ َّن ل َُه ْم ِد َين ُه ُم الَّ ِذى ْارتَ َ‬
‫َي ْعبُ ُدونَنِى الَ يُ ْش ِر ُكو َن بِى َش ْيئًا﴾[النور‪ .]55:‬وإن تحقيق العبودية هلل ونبذ الشرك بأنواعه‬
‫يحقق األمن فى النفوس على مستوى األفراد والشعوب‪.‬‬
‫وهذا ما حدث لقيادات المرابطين وشعبهم الذى انقاد لمنهج رب العالمين‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬النصر والفتح‪:‬‬
‫ً‬
‫إن المرابطين حرصوا على نصرة دين هللا بكل ما يملكون‪ ،‬وتحققت فيهم سنة هللا‬
‫فى نصرته لمن ينصره‪ ,‬ألن هللا ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه‬
‫ين إِن‬ ‫َّ ِ‬
‫ي َع ِز ٌيز ‪ ‬الذ َ‬ ‫نص َر َّن اهللُ َمن يَ ُ‬
‫نص ُرهُ إن اهللَ لََق ِو ٌّ‬ ‫﴿ولَيَ ُ‬
‫بع َّزته وق َّوته‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫الز َكاةَ وأَمروا بِالْمعر ِ‬‫الصالَةَ َوآَت ُوا َّ‬ ‫َّاه ْم فِى األ َْر ِ‬
‫وف َو َن َه ْوا َع ِن ال ُْم ْن َك ِر‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ َُ‬ ‫ض أَقَ ُاموا َّ‬ ‫َّم َّكن ُ‬
‫هلل َعاقِبَةُ األ ُُمو ِر﴾ [الحج‪.]40،41:‬‬
‫وِ‬
‫َ‬
‫يقول سيد قطب رحمه هللا‪« :‬وما حدث قط فى تاريخ البشرية أن استقامت جماعة‬
‫على هدى هللا إال منحها القوة والمنعة والسيادة فى نهاية المطاف إلعدادها لحمل أمانة‬

‫‪83‬‬
‫الخالفة فى األرض وتصريف الحياة‪ . .‬إن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة هللا‬
‫والسير على هداه‪ ،‬يشفقون من عداوة أعداء هللا ومكرهم‪ ،‬ويشفقون من تألُّب الخصوم‬
‫عليهم‪ ،‬ويشفقون من المضايقات االقتصادية وغير االقتصادية‪ ،‬وإن هى إال أوهام‬
‫ف ِمن أَر ِ‬ ‫كأوهام قريش يوم قالت لرسول هللا ×‪﴿ :‬إِن َّنتَّبِ ِع ال ُْه َدى َم َع َ‬
‫ضنَا﴾‬ ‫ك ُنتَ َخطَّ ْ ْ ْ‬
‫[القصص‪.]57:‬‬
‫فل َّما اتبعت هدى هللا سيطرت على مشارق األرض ومغاربها فى ربع قرن أو أقل‬
‫من الزمان»(‪ .)1‬إن هللا تعالى أيد المرابطين على األعداء َّ‬
‫ومن عليهم بالفتح؛ فتح‬
‫األراضى وإخضاعها لحكم هللا تعالى‪ ،‬وفتح القلوب وهدايتها لدين اإلسالم‪.‬‬
‫إن المرابطين عندما استجابوا وانقادوا لشريعة هللا جلبت لهم الفتح‪ ،‬واستنزلت لهم‬
‫نصر هللا‪.‬‬
‫إن ال ُح َّكام والشعوب اإلسالميَّة التى تبتعد عن شريعة هللا تذل نفسها فى الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫إن مسئولية ال ُح َّكام والقضاة والعلماء فى الدعوة إلى تحكيم شرع هللا‬
‫مسئولية عظيمة يُسألون عنها يوم القيامة أمام هللا‪ ،‬قال ابن تيمية ‪ -‬رحمه هللا‪:-‬‬
‫«إذا حكم والة األمر بغير ما أنزل هللا‪ ،‬وقع بأسهم بينهم‪ . .‬وهذا من أعظم‬
‫أسباب تغيُّر الدول كما جرى هذا مرة بعد مرة فى زماننا وغير زماننا‪ ،‬و َمن‬
‫أراد هللا سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره‪ ،‬فيسلك مسلك َمن أيده هللا‬
‫نص َرنَّ‬
‫﴿ولَيَ ُ‬
‫ونصره‪ ،‬ويجتنب مسلك َمن خذله هللا وأهانه‪ ،‬فإن هللا يقول فى كتابه‪َ :‬‬
‫هلل َعاقِبَةُ األ ُُمو ِر﴾ [الحج‪.]40،41:‬‬ ‫ي َع ِز ٌيز﴾ إلى ﴿و ِ‬
‫َ‬ ‫نص ُرهُ إن اهللَ لََق ِو ٌّ‬
‫اهللُ َمن يَ ُ‬
‫فقد وعد هللا بنصر من ينصره‪ ،‬ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله‪ ،‬ال نصر‬
‫َمن يحكم بغير ما أنزل هللا ويتكلم بما ال يعلم(‪.)2‬‬
‫رابعًا‪ :‬العز والشرف‪:‬‬
‫اريخ يرجع إلى تم ُّس ِكهم‬ ‫إن عز المرابطين وشرفهم العظيم الذى ُسطِّر فى كتب التَّ ِ‬
‫بكتاب هللا وسنة رسوله ×‪ ،‬إن َمن يعتز باالنتساب لكتاب هللا الذى به تشرُف األمة‪،‬‬
‫وبه يعلو ذكرها وضع رجله على الطريق الصحيح وأصاب سنة هللا الجارية فى‬
‫ِ‬
‫إعزاز وتشريف من يتمسك بكتابه وسنة رسوله ×‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬لََق ْد أَْن َزلْنَا إِل َْي ُك ْم كتَابًا‬
‫يه ِذ ْك ُر ُك ْم أَفَالَ َت ْع ِقلُو َن﴾ [األنبياء‪.]10 :‬‬
‫فِ ِ‬

‫قال ابن عبَّاس – رضى هللا عنهما‪ -‬فى تفسير هذه اآلية‪ :‬فيه شرفكم(‪ ،)3‬فهذه األمة‬
‫ال تستمد الشرف والعزة إال من استمساكها بأَحكام اإلسالم‪ ،‬كما قال عمر بن الخطاب‬
‫‪« :t‬إنَّا كنَّا أذل قوم‪ ،‬فأع َّزنا هللا باإلسالم‪ ،‬فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا هللا أذلنا‬

‫‪1‬‬
‫() فى ظالل القرآن‪( ،‬ج‪.)4/2407‬‬
‫‪2‬‬
‫() مجموع الفتاوى (ج‪.)35/388‬‬
‫‪3‬‬
‫() انظر ‪ :‬تفسير ابن كثير (ج‪.)3/170‬‬
‫‪84‬‬
‫هللا»(‪ ،)1‬فعمر ‪ t‬كشف لنا بكلماته عن حقيقة االرتباط بين حال األمة ع ًزا وذالً‪ ،‬مع‬
‫موقفها من الشريعة إقباالً وإدبارًا‪ ،‬فما ع َّزت فى يوم بغير دين هللا‪ ،‬وال ذلَّت فى يوم إال‬
‫باالنحراف عنه‪.‬‬
‫﴿من َكا َن يُ ِري ُد ال ِْع َّزةَ فَلِلَّ ِه ال ِْع َّزةُ َج ِم ًيعا﴾ [فاطر‪ ]10:‬يعنى من طلب‬ ‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫(‪)2‬‬ ‫َّ‬
‫العزة فليعتز بطاعة هللا عز وج َّل ‪.‬‬
‫ن﴾ [المنافقون‪:‬‬
‫ين الَ َي ْعلَ ُمو َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫هلل ال ِْع َّزةُ ولِرسولِ ِه ولِل ِ ِ‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬و ِ‬
‫ين َولَك َّن ال ُْمنَافق َ‬
‫ْم ْؤمن َ‬
‫ََُ َ ُ‬ ‫َ‬
‫‪.]8‬‬

‫إننى عندما مررت بسيرة اإلمام ابن ياسين ذكرت وصفه بأنَّه ذو َمهَابَة عظيمة‬
‫فى نفوس أتباعه‪ ,‬ونال شرفًا وعزة فى قومه‪.‬‬
‫ذكرت أنه إذا ركب للجهاد ركب‬ ‫ُ‬ ‫وعندما مررت بسيرة اإلمام أبى بكر بن عمر‪،‬‬
‫معه ‪ 500‬ألف من قومه يجاهدون معه‪.‬‬
‫وعندما ذكرت سيرة األمير يوسف بن تاشفين ذكرت وصفًا له كأنه ُخلق للزعامة‪.‬‬
‫ورأيت فى سيرة هؤالء األبطال ع ًّزا وشرفًا نالوه باالستعالء على شهوة النفس‬
‫والذل‪ ،‬كان استعالؤهم على الخضوع الخانع لغير هللا واضحًا‬ ‫وباالستعالء على القيد ُّ‬
‫فى سيرتهم العطرة‪ ،‬كانت حياتهم خضوعا ً هلل وخشوعا‪ ،‬وخشية هلل وتقوى ومراقبة هلل‬
‫فى السراء والضراء‪ ،‬وهذا هو سرُّ عزهم وشرفهم فى تاريخنا اإلسالمى المجيد‪.‬‬
‫لقد عاش المرابطون فى بركة من العيش‪ ،‬ورغد من الحياة الطيبة التى وصلوا‬
‫إليها بإقامة دين هللا‪.‬‬
‫الس َم ِاء‬ ‫قال تعالى‪﴿:‬ولَو إن أ َْهل الْ ُقرى آمنُوا و َّات َقوا لََفتَ ْحنَا َعلَْي ِهم بر َك ٍ‬
‫ات ِّم َن َّ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬
‫اهم بِما َكانُوا يك ِ‬ ‫واألَر ِ ِ‬
‫ْسبُو َن﴾ [األعراف‪.]96:‬‬ ‫َ‬ ‫ض َولَكن َك َّذبُ َ َ َ ُ َ‬
‫ن‬ ‫ذ‬‫ْ‬ ‫َخ‬
‫أ‬ ‫ف‬ ‫وا‬ ‫َ ْ‬
‫خامسًا‪ :‬انتشار الفضائل وانزواء الرذائل‪:‬‬
‫لقد انتشرت الفضائل فى عصر المرابطين وانحسرت الرذائل‪ ،‬فخرج جيل فيه‬
‫نبل وكرم وشجاعة وعطاء وتضحية من أجل العقيدة والشريعة‪ ،‬متطلعًا إلى ما عند هللا‬
‫من الثواب‪ ,‬يخشى من عقاب هللا؛ لقد استجاب ذلك المجتمع بشعبه ودولته و ُح َّكامه إلى‬
‫ما يُحييه من اإليمان والقرآن وسنة سيد األنام عليه أفضل الصالة والسالم‪.‬‬
‫إن آثار تحكيم شرع هللا فى الشعوب التى نفذت أوامر هللا‪ ،‬ونواهيه ظاهرة بينة‬
‫اريخ‪ ،‬وإن تلك اآلثار الطيبة التى أصابت دولة المرابطين لهى سنن من سنن‬ ‫لدارس التَّ ِ‬
‫هللا الجارية والماضية التى ال تستبدل وال تتغير‪ ،‬فأى شعب يسعى لهذا المطلب الجليل‬
‫والعمل العظيم يصل إليه ولو بعد حين‪ ،‬ويرى آثار ذلك التحكيم على أفراده ودولته‬
‫و ُح َّكامه‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() أخرجه الحاكم فى المستدرك فى اإليمان (ج‪.)1/62‬‬
‫‪2‬‬
‫() ابن كثير (ج‪.)2/526‬‬
‫‪85‬‬
‫اريخية اإلسالميَّة االستفادة الجادة من أولئك الذين‬ ‫إن الغرض من األبحاث التَّ ِ‬
‫سبقونا باإليمان؛ فى جهادهم وعلمهم وتربيتهم وسعيهم الدءوب لتحكيم شرع هللا‪،‬‬
‫وأخذهم بسنن التمكين وفقهه‪ ,‬ومراعاة التدرُّ ج والمرحلية‪ ،‬واالنتقاء من الشعب‬
‫واالرتقاء بهم نحو الكماالت اإلسالميَّة المنشودة‪.‬‬
‫إن االنتصارات العظيمة فى تاريخ أمتنا يجريها هللا تعالى على يدى َم ْن‬
‫الزالقَة ِمن‬‫أخلص لربه ودينه‪ ،‬وأقام شرعه‪ ،‬وز َّكى نفسه‪ ،‬ولهذا لم يأت فتح ِّ‬
‫فراغ‪ ,‬لقد جاهد المرابطون فى األَ ْن َدلُس وحققوا نصرً ا عظي ًما وفتحً ا مبينا فى‬
‫ً‬
‫الزالقَة وأنق َذ هللا بهم ال ُم ْسلِ ِمين‪.‬‬
‫معركة ِّ‬
‫***‬

‫‪86‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫األندلـــــس بعد الزالقــــــة‬
‫بعد رجوع يوسف بن تاشفين إلى المغرب لألسباب التى ذكرتها تولى قيادة‬
‫المرابطين القائد الميدانى سير بن أبى بكر‪ ,‬الذى واصل غاراته الناجحة مع أمير‬
‫أثخنت قواتُه مع قوات‬ ‫ْ‬ ‫بطليوس على أواسط البرتغال الحالية مما يلى تاجة‪ ،‬وقد‬
‫المرابطين فى تلك البقاع‪.‬‬
‫كما وجَّه ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد ضربات موفقة بقيادته إلى عدة ُمدُن حول طُلَي ِْطلَة‪ ,‬ثم‬
‫اتجه نحو أرض مرسية‪ ،‬حيث استقرَّت جموع الفرسان النصارى بقيادة الكنبيطور فى‬
‫أحد الحصون القريبة التى تشن غاراتها على ُمدُن المسلمين‪ ,‬خاصة مدينة المرية‪ ,‬إال‬
‫أن ال ُم ْعتَ ِمد انهزم واضط َّر أن يلتجئ إلى قلعة لورقة فى كنف واليها ُم َح َّمد بن ليون‪ ,‬ثم‬
‫توجه نحو قرطبة تار ًكا مرسية لمصيرها‪.‬‬
‫وبدأت قوات النصارى تتجمع حول ألفونسو الذى أربك ُمدُن شرق األَ ْن َدلُس‪,‬‬
‫متخذين من ِحصن لييط المنيع الواقع على مسيرة يوم من لورقة مرك ًزا لشنِّ الغارات‬
‫على أراضى ال ُم ْسلِ ِمين‪.‬‬
‫فلم يمض عام واحد على هزيمة ألفونسو حتى عاد نشاطه وجيشه‪ ,‬ونقل مقر‬
‫العمليات إلى شرق األَ ْن َدلُس الذى خيمت عليه الفرقة السياسية‪ ,‬بعكس غرب األَ ْن َدلس‬
‫ُ‬
‫الذى كانت تحكمه مملكتان قويتان هما مملكة إشبيلية وبطليوس‪ ,‬تعضدهما فرقة من‬
‫المرابطين قوامها ثالثة آالف رجل على رأسها القائد العظيم سير بن أبى بكر(‪.)1‬‬
‫تأذى أهل غرب األَ ْن َدلُس من النصارى الحاقدين فتوافدت وفودهم على األمير‬
‫يوسف‪ ,‬وخصوصًا أهل بلنسية ومرسية ولورقة‪ ,‬يصفون لألمير يوسف ما نزل بهم‬
‫على أيدى النصارى الذى يتحكمون فى حصن لييط‪.‬‬
‫وعبر ال ُم ْعتَ ِمد المجاز إلى المغرب وطلب من يوسف العبور‪ ،‬فاستجاب يوسف‬
‫لرغبته‪ ،‬ت َّم جواز يوسف إلى الجزيرة الخضراء فى ربيع األول سنة ‪481‬هـ‪1088 /‬م‪,‬‬
‫ومن هناك كتب األمير يوسف إلى جميع أمراء األَ ْن َدلُس يدعوهم إلى الجهاد‪ ،‬ثم تحرَّك‬
‫األمير يوسف إلى مالقة فى صحبة أميرها تميم بن بلقين‪ ،‬كما لحق األمير عبد هللا بن‬
‫بلقين صاحب غرناطة‪ ,‬والمعتصم بن صمادح‪ ،‬فضالً عن ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى أمراء مرسية وشقورة وبسطة وجيان‪ ،‬ولم يتخلف من ملوك الطوائف سوى ابن‬
‫األفطس صاحب بطليوس‪ ،‬وتوجهت تلك الجموع لضرب الحصار على حصن لييط‬
‫الذى كان يسكنه ألف فارس واثنا عشر ألفًا من المشاة من جنود النصارى الحاقدين‬
‫أصحاب النزعة الصليبية االنتقامية‪ ،‬واستبسل النصارى فى الدفاع عن الحصن وكانوا‬
‫يخرجون ليالً لالنقضاض على ال ُم ْسلِ ِمين وإلحاق الخسائر بهم‪.‬‬
‫واستم َّر الحصار بدون جدوى وظهرت صراعات ملوك الطوائف فيما بينهم‬
‫ووصلت لألمير يوسف الذى ساءه ذلك كثيرًا‪.‬‬
‫وشكى ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد لألمير يوسف خروج ابن رشيق صاحب مرسية عن‬

‫‪1‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ,‬ص (‪.)62‬‬
‫‪87‬‬
‫الطاعة ودفعه األموال أللفونسو السادس تقربًا إليه‪ ،‬وظهرت المشاكل بين أبناء بلكين‬
‫عبد هللا وتميم لألمير يوسف‪ ،‬وكأن ال عمل له إال حل المشاكل والمنازعات بين‬
‫األطراف المتنازعة‪.‬‬
‫وتضايق األمير يوسف من خيانة ابن رشيق الذى دفع أمواالً طائلة أللفونسو‪ ,‬وعرض‬
‫األمر على الفقهاء والعلماء الذين أفتوا بإزاحته من حكمه وتسليمه لل ُم ْعتَ ِمد‪ ،‬واستغاث ابن‬
‫رشيق باألمير يوسف الذى أجابه بأنَّها أَحكام الدِّين وال يستطيع مخالفتها (‪.)1‬‬
‫وأمر القائد سير بن أبى بكر باعتقاله وتسليمه لل ُم ْعتَ ِمد مشترطًا عليه إبقاءه حيًّا (‪.)2‬‬
‫وكانت لفتوى الفقهاء عند قادة المرابطين مكانة عظيمة يضعونها فوق كل اعتبار‪.‬‬
‫وف َّر جيش ابن رشيق من المعركة‪ ،‬ومنع الزاد على جيش المرابطين و َمن‬
‫معه من األَ ْن َدلُسيين الذين يحاصرون الحصن‪ ،‬فارتفعت األسعار‪ ،‬ووقع الغالء‬
‫واضطربت األحوال‪ ،‬وعندما علم ألفونسو بالخالفات التى وقعت حشد جي ً‬
‫شا‬
‫من أجل فك الحصار عن أتباعه فى حصن لييط‪ ،‬فاضط َّر األمير يوسف إلى‬
‫فك الحصار خوفًا من معركة خاسرة غير مأمونة النتائج خاصة بعد الذى رآه‬
‫من ُح َّكام األَ ْن َدلُس وتآمرهم واتصالهم بالعدو‪ ،‬ورجع األمير يوسف إلى لورقة‬
‫وترك أربعة آالف مرابطى بقيادة داود ابن عائشة للمحافظة على منطقة‬
‫مرسية وبعث بجنود إلى بلنسية بقيادة ُم َح َّمد بن تاشفين(‪.)3‬‬
‫واستطاع ألفونسو الوصول للحصن وأخرج من نجا من الموت‪ ،‬ورأى أن ال فائدة‬
‫من االحتفاظ بالحصن‪ ,‬ألنَّه يتطلب حماية كبيرة معرضة لمصير سابقاتها فقرَّر إخالءه‬
‫وتدميره‪ ,‬واسترجع ابن َعبَّاد الحصن بعد أن أصبح أطالالً‪.‬‬
‫لقد أيقن األمير يوسف إن أمراء األَ ْن َدلُس ال يصلحون للحكم وال يعتمد عليهم فى‬
‫جهاد‪ ،‬وبعد رجوع األمير يوسف فى عام ‪482‬هـ‪1089/‬م عرض األمر على الفقهاء‬
‫والعلماء فأفتوا له بضم األَ ْن َدلُس للمغرب‪.‬‬
‫وكان فقهاء وعلماء األَ ْن َدلُس يؤيدون ذلك‪ ،‬وكذلك فقهاء وعلماء المغرب‬
‫والمشرق‪ ،‬وأرسل اإلمام الغزالى وأبو بكر الطرطوشي(‪ )4‬فتوى تؤيد عمله الجليل من‬
‫أجل توحيد صفوف ال ُم ْسلِ ِمين‪.‬‬
‫يقول الغزالي فى شأن أمراء الطوائف‪ :‬فيجب على األمير وأشياعه قتال هؤالء‬
‫المتمردة وال سيما وقد استنجددوا بالنصارى(‪ ،)5‬فقد أفتاه العلماء بجواز خلعهم‬
‫وإزاحتهم‪ ،‬وبأنه فى حل مما تعهد لهم به من اإلبقاء عليهم في جوازه األول‪ ،‬ألنهم‬
‫خانوا هللا بمعاهدتهم ألفونس على محاربة المسلمين؛ وبالتالي فإن عليه أن يبادر إلى‬
‫خلعهم جميعًا‪ ،‬فإنك إن تركتهم وأنت قادر عليهم‪ ،‬أغاروا بقية بالد المسلمين إلى الروم‬
‫وكنت أنت المحاسب بين يدي هللا(‪ ،)6‬وكان ممن استفتى في هذا الموضوع الفقيه‬
‫‪1‬‬
‫() مذاكرات األمير عبد هللا‪ ,‬ص (‪.)112‬‬
‫‪2‬‬
‫() انظر ‪ :‬دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)108‬‬
‫‪3‬‬
‫() ابن خلدون‪ ,‬العبر‪( ،‬ج‪ ،6‬ص ‪.)187‬‬
‫‪4‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫() رسائل أبي بكر بن العربي ‪ ،‬تحقيق د‪.‬عصمت دندش ص ‪.198‬‬
‫‪6‬‬
‫() االكتفاء البن الكردبوس ص (‪.)106‬‬
‫‪88‬‬
‫يوسف بن عيسى المعروف بأبي الملجوم(‪.)1‬‬
‫وطلب القضاة والفقهاء من يوسف أن يرجع ويوحد البالد بالقوة‪ ،‬لتدخل تحت‬
‫الخالفة اإلسالميَّة فى بغداد‪.‬‬
‫لقد كان ملوك الطوائف يهتمون بمصالحهم الخاصة ال ينظرون إلى عزة أمتهم‬
‫حتى وصفهم ابن حزم بقوله‪« :‬لو وجدوا فى اعتناق النصرانية وسيلة لتحقيق أهوائهم‬
‫ومصالحهم لما ترددوا »(‪.)2‬‬
‫وكان ال ُم ْسلِ ُمون فى األَ ْن َدلُس يتمنون أن ينضموا إلى دولة المرابطين‪ ,‬وعبَّر عن‬
‫ذلك فقهاؤهم وعلماؤهم وبرز الفقيه القاضى ابن القالعى «قاضى غرناطة»‪ ,‬الذى‬
‫توطدت العالقة بينه وبين يوسف بن تاشفين منذ ذهاب أول بعثة إلى المغرب لطلب‬
‫النجدة‪ ،‬إذ كان أحد أعضائها‪ ,‬وكان يرى فى األمير يوسف صالحًا وعدالً وحز ًما‪.‬‬
‫حاول األمير عبد هللا ابن ملك غرناطة أن يتخلص منه فاعتقله‪ ,‬ثم اضطر‬
‫إلى إطالق سراحه‪ ،‬فهرب إلى قرطبة‪ ،‬ومن هناك اتصل باألمير يوسف وأطلعه على‬
‫خفايا من األمور‪ ،‬وأفتى بخلع ملوك الطوائف‪ ,‬وتفاعل مسلمو األَ ْن َدلُس مع هذه‬
‫الفتوى الموفَّقَة(‪.)3‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() األثر السياسي للعلماء في عصر المرابطين‪ ،‬محمد بن بيّه ص (‪.)155‬‬
‫() رسالة ابن حزم‪ ,‬نقالً عن دول الطوائف‪ ,‬محمد عبد هللا عنان‪ ,‬ص (‪.)406‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)113‬‬
‫‪89‬‬
‫المبحث السادس‬
‫فتوى فى جواز ضم األندلس بالقوة والقضاء على ملوك‬
‫الطوائف‬
‫أرسل اإلمام أبو بكر بن العربى المالكى إلى اإلمام الغزالى كتابًا يشرح فيه موقف‬
‫ملوك الطوائف باألَ ْن َدلُس من حركة يوسف بن تاشفين الجهادية‪ ،‬ويطلب منه فتيا فى‬
‫ذلك‪ ،‬قال اإلمام أبو بكر بن العربي‪« :‬وكان أشهر من لقينا من العلماء فى اآلفاق‪ ،‬ومن‬
‫سارت بذكره الرفاق‪ ،‬ولطول باعه فى العلم ورحب ذراعه‪ ،‬اإلمام أبو حامد بن ُم َح َّمد‬
‫الطوسى الغزالي‪ ،‬فاستدعينا منه فتيا وكتابًا‪ ،‬واختصرت لفظ الفتيا لوقت ضاق عن‬
‫تقييدها لكن أنبه على معناها وهو‪ :‬فى علم اإلمام ما ذكر فى وصف خالل أمير‬
‫ال ُم ْسلِ ِمين وناصر الدِّين أبى يعقوب يوسف بن تاشفين أمير المغربين األَ ْن َدلُس والعدوة‪،‬‬
‫وما أوضحت لديه من إعزاز الدِّين‪ ،‬والذب عن ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬وهو حميرى النسب ومعه‬
‫المرابطون‪ ،‬وقد وقفوا أنفسهم على الجهاد‪ ،‬وقد كانت جزيرة األَ ْن َدلُس قد تملَّكها من‬
‫تاريخ ابتداء الفتنة سنة أربعمائة‪ ,‬عدة ثوار تسوروا على البالد‪ ،‬فضعف أهلها عن‬
‫مدافعتهم‪ ،‬وتلقَّبُوا بألقاب الخلفاء وخطبُوا ألنفسهم‪ ،‬وضربوا النقود بأسمائهم‪ ،‬وأثاروا‬
‫الفتنة بينهم لرغبة كلِّ واحد منهم فى االستيالء على صاحبه‪ ،‬واستبانوا الفُسَّاق فى‬
‫األرقاء والصنائع الطلقاء فى محاربة بعضهم بعضًا‪ ،‬واستنجدوا بالنصارى عندما‬
‫اعتقد كل واحد منهم أنه أحق من صاحبه‪ ،‬وعند ذهاب شوكة ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬وحينما‬
‫انكشف للنصارى ضعف ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬وعلموا المداخل والمخارج إلى بالد ال ُم ْسلِ ِمين‪،‬‬
‫طلبوا المعاقل وأخذوا بالحرب كثيرًا منها من غير مؤونة وال مشقَّة‪ ،‬ثم لجأ الباقى من‬
‫ال ُم ْسلِ ِمين إلى المرابطين واستصرخوهم فلباهم أمير ال ُمسلِمين ووصل إلى البحر‪،‬‬
‫فاستاء بعض الرؤساء وفا ًء للمشركين‪ ،‬وحقدًا على ال ُم ْسلِ ِمين فى استدعائهم له‪،‬‬
‫ووصل األمير إلى غرب األَ ْن َدلُس فمنحه هللا نصرًا‪ ،‬وألجم الكفار السيف‪ ،‬ثم عاود‬
‫الجواز فى العام الثالث من هذا الفتح فتهيبه العدو‪ ،‬وتحصَّن منه‪ ،‬ولم يخرج للقائه مع‬
‫تثاقل الرؤساء عنه‪ ،‬وعثر ألحدهم على خطاب يشجع العدو على اللقاء‪ ،‬واستولى على‬
‫من قدر عليه من الرؤساء من البالد والمعاقل‪ ،‬وبقيت طائفة من رؤساء الثغر الشرقى‬
‫من جزيرة األَ ْن َدلُس‪ ،‬حالفوا النصارى أو صاروا معه إلبًا‪ ،‬ودعاهم أمير ال ُم ْسلِ ِمين إلى‬
‫الجهاد‪ ،‬والدخول فى بيعة الجمهور‪ ،‬فقالوا‪ :‬ال جهاد إال مع إمام من قريش‪ ،‬ولست به‪،‬‬
‫أو مع نائب عن اإلمام‪ ،‬وما أنت ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬أنا خادم اإلمام العبَّاسي‪ ،‬فقالوا له‪ :‬أظهر‬
‫لنا تقديمه إليك‪ ،‬فقال‪ :‬أو ليست الخطبة فى جميع بالدى له؟ فقالوا‪ :‬ذلك احتيال‪.‬‬
‫ومردوا على النفاق‪ ،‬فهل يجب قتالهم؟ وإذا ظفر بهم كيف الحكم فى أموالهم؟ وهل‬
‫على المسلم حرج فى قتالهم؟ وهل على اإلمام العبَّاسى أن يبعث بمنشور يتضمن‬
‫تقديمه له على جهادهم‪ ،‬فإنهم إنَّما خرجوا عليه بأن األمير خادمه‪ ،‬وهو يخطب له على‬
‫أكثر من ألفى منبر‪ ،‬وتضرب السكة باسمه إلى غير ذلك‪ ،‬ومتى وصف نفسه قال‪:‬‬
‫لست مستب ًّدا وإنما خادم أمير المؤمنين المستظهر‪ ،‬وهذا أشهر أن يؤكد بالتحلية‪,‬‬
‫وأظهر من أن يجدد بالتزكية‪.‬‬
‫فللشيخ اإلمام األجل الزاهد واألوحد أبى حامد أتم األجر‪ ،‬وأعم الشكر فى اإلنعام‬

‫‪90‬‬
‫بالمراجعة فى هذا السؤال إن شاء هللا تعالى(‪.)1‬‬
‫أوال‪ :‬فتوى اإلمام الغزالى فى موقف كل من يوسف بن تاشفين وملوك الطوائف‬ ‫ً‬
‫والخالفة العباسية‪:‬‬
‫فأجاب اإلمام الغزالى رحمه هللا‪« :‬لقد سمعت من لسانه وهو الموثوق به الذى‬
‫يستغنى عن شهادته عن غيره وعن طبقة من ثقاة المغرب الفقهاء وغيرهم‪ ،‬من سيرة‬
‫هذا األمير ‪-‬أكثر هللا من األمراء أمثاله ‪ -‬ما أوجب الدعاء ألمثاله‪ ،‬ولقد أصاب الحق‬
‫فى إظهار الشعار اإلمامى المستظهرى‪ -‬حرس هللا على المستظهرين ظالله‪ -‬وهذا هو‬
‫الواجب على كل ملك استولى على قطر من أقطار ال ُم ْسلِ ِمين فى مشارق األرض‬
‫ومغاربها‪ ،‬فعليهم تزيين منابرهم بالدعاء لإلمام الحقِّ‪ ،‬وإن لم يكن بلغهم صريح التقليد‬
‫من اإلمام‪ ،‬أو تأخر عنهم ذلك لعائق‪ ،‬وإذا نادى الملك المستولى بشعار الخالفة‬
‫العباسية‪ ،‬وجب على كل الرعايا والرؤساء اإلذعان واالنقياد‪ ،‬ولزمهم السمع‬
‫والطاعة‪ ،‬وعليهم أن يعتقدوا أن طاعته هى طاعة اإلمام‪ ،‬ومخالفته هى مخالفة اإلمام‪،‬‬
‫وكل من تمرد واستعصى وسل يده عن الطاعة‪ ،‬فحكمه حكم الباغي‪ ،‬وقد قال تعالى‪:‬‬
‫َصلِ ُحوا َب ْيَن ُه َما فَِإن َبغَ ْ‬
‫ت إِ ْح َد ُ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫اه َما َعلَى األُ ْخ َرى‬ ‫﴿وإِن طَائ َفتَان م َن ال ُْم ْؤمن َ‬
‫ين اقْتََتلُوا فَأ ْ‬ ‫َ‬
‫يء إلَى أ َْم ِر اهلل﴾ [الحجرات‪ .]9:‬والفيئة إلى أمر هللا‪ ،‬الرجوع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫َف َقاتلُوا التى َت ْبغى َحتَّى تَف َ‬
‫إلى السلطان العادل المتمسك بوالء اإلمام الحق المنتسب إلى الخالفة العباسية‪ ،‬فكل‬
‫متمرد على الحق فإنه مردود بالسيف إلى الحق‪ ،‬فيجب على األمير وأشياعه قتال‬
‫هؤالء المتمردة عن طاعته‪ ،‬وال سيَّما وقد استنجدوا بالنصارى المشركين وأوليائهم‪,‬‬
‫وهم أعداء هللا فى مقابلة ال ُم ْسلِ ِمين الذين هم أولياء هللا‪ ،‬فمن أعظم القربات قتالهم إلى‬
‫أن يعودوا إلى طاعة األمير العادل المتمسك بطاعة الخالفة العباسية‪ ,‬ويتركوا‬
‫َ َّ (‪)2‬‬
‫الكف عنهم‪ ،‬وإذا قاتلوا لم يَجُز أن يُتَتَبَّ َع مدبرهم‪ ،‬وال أن يُذفف على‬ ‫ُّ‬ ‫المخالفة‪ ،‬وجب‬
‫الكف عنهم‪ ،‬أعنى عن ال ُم ْسلِ ِمين‬ ‫ُّ‬ ‫جريحهم‪ ,‬بل متى سقطت شوكتهم وانهزموا‪ ،‬وجب‬
‫منهم دون النصارى الذين ال يبقى لهم عهد مع التشاغل بقتال ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬وأما ما يظفر‬
‫به من أموالهم فمردود عليهم أو على وريثهم‪ ،‬وما يؤخذ من نسائهم وذراريهم فى‬
‫القتال مهدرة ال ضمان فيها وحكمهم فى الجملة فى البغى على األمير المتمسك بطاعة‬
‫الخالفة‪ ،‬والمستولى على المنابر والبالد بقوة الشوكة حكم الباغى على نائب اإلمام‪ ،‬فإنه‬
‫وإن تأ َّخر عنه صريح التقليد العتراض العوائق المانعة من وصول المنشور بالتقليد فهو‬
‫نائب بحكم قرينة الحال‪ ،‬إذ يجب على اإلمام المصر أن يأذن لكل إمام عادل استولى على‬
‫قطر من أقطار األرض‪ ،‬فى أن يخطب عليه‪ ،‬وينادى بشعاره ويحمل الخلق على العدل‬
‫والنصفة‪ ،‬وال ينبغى أن يظن باإلمام توقف فى الرضا بذلك واإلذن فيه‪.‬‬
‫وإن توقَّف فى كتبه المنشور‪ ،‬فالكتب قد يعوق عن إنشائها وإيصالها المعاذير‪،‬‬
‫وأما اإلذن والرضا بعدما ظهر حال األمير فى العدل وال ِّسيَا َسة وابتغاء المصلحة‬
‫للتفويض والتعيين فال رخصة فى تركه‪ ،‬وقد ظهر حال هذا األمير باالستفاضة ظهورًا‬
‫ال شك فيه‪ ،‬وإن لم يكن عن إيصال الكتاب وإنشائه عائق‪ ،‬وكانت هذه الفتنة ال تنطفئ‬
‫إال بأن يصل إليهم صريح اإلذن والتقليد بمنشور مقرون بما جرت العادة بمثله فى‬
‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬دراسات فى تاريخ المغرب‪ ،‬د‪ .‬أحمد العبادي‪ ،‬ص (‪.)480-479‬‬
‫‪2‬‬
‫() ال يذفف ‪ :‬ال يجهز‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫تقليد األمراء‪ ،‬فيجب على حضرة الخالفة بذل ذلك‪ .‬فإن اإلمام الحق عاقلة أهل‬
‫اإلسالم‪ ،‬وال يحلُّ له أن يترك فى أقطار األرض فتنة ثائرة إال ويسعى فى إطفائها بكل‬
‫ممكن‪ ،‬قال عمر ‪« :t‬لو تركت جرباء على ضفة الفرات‪ ،‬لم تطل بالهناء‪ ،‬فأنا‬
‫المسئول عنها يوم القيامة»‪ ,‬قال سليمان بن عبد الملك يو ًما وقد أحدق به الناس‪« :‬قد‬
‫كثر الناس» فقال عمر بن عبد العزيز‪« :‬خصماؤك يا أمير المؤمنين»‪ ,‬يعنى أنَّك‬
‫مسئول عن كل واحد منهم إن ضيعت حق هللا فيهم أو أقمته‪ ،‬فال رخصة فى التوقيف‬
‫عن إطفاء الفتنة فى قرى تحوى عشرة‪ ،‬فكيف فى أقاليم وأقاليم إال أن يعوق عن ذلك‬
‫عائق‪ ،‬ويمنع منه مانع‪ ،‬المواقف القدسية اإلمامية المستظهرية حرس هللا جاللها أبصر‬
‫بها‪ ,‬ونحن نعلم أن ال نستجيز التوقف عن إطفاء هذه الفتنة إال لعذر ظاهر وجب على‬
‫أهل الغرب أن ال يعتقدوا فى حضرة الخالفة إال ذلك‪ ،‬فإن المسافة إذا بعدت وتخللها‬
‫المارقون عن ربقة الحق‪ ،‬ولم يبعد أن يقتضى الرأى الشريف صيانة األوامر الشريفة‬
‫عن أن تمد إليها أعين الدولة فضالً عن أيديهم‪ ،‬وأ َّما َمن يستجيز التوقُّف فيها من غير‬
‫عذر عن التقليد ألمير قد ظهرت شوكته وعرفت سياسته‪ ،‬وتناطقت األلسن بعدله‪ ،‬ولم‬
‫يعرف فى ذلك القطر من يجرى مجراه‪ ،‬ويسد فى هذا الحال مسده‪ ،‬فهذا اعتقاد فساد‬
‫فى حضرة الخالفة‪ ,‬حاشاها من أن تُن َسب إلى قصور‪ ،‬أو تقتضى فى نصرة أهل العدل‬
‫المتمسكين بخدمتها‪ ،‬والمعتصمين بعروتها‪ ،‬والقائمين فى أقطار األرض بإنفاذ‬
‫شعائرها وأوامرها المعلومة بقرائن األحوال‪ ،‬فهذا حكم كل أمير عادل فى أقطار‬
‫األرض‪ ،‬وحكم من بغى عليه‪ ،‬وهللا أعلم(‪.)1‬‬
‫يتضح لى من فتوى اإلمام الغزالى أن رأيه فى قتال يوسف بن تاشفين لملوك‬
‫الطوائف مبنى على كون أولئك الملوك من البُغاة والخارجين عن سلطة الدولة‬
‫المرابطية التابعة للخالفة اإلسالميَّة‪.‬‬
‫وبهذا يتضح أن الفقهاء والعلماء رأوا ضرورة ضم األَ ْن َدلُس لقيادة المغرب‬
‫األقصى بعد أن فرَّط أمراء األَ ْن َدلُس فى أمور الشرع ومصالح الرعية‪ ,‬وحالفوا‬
‫النصارى ضد إخوانهم ال ُم ْسلِ ِمين‪.‬‬
‫ك فى أن ما فعله األمير يوسف ضد ملوك الطوائف صحيح من الناحية‬ ‫وال ش َّ‬
‫الشرعية واالستراتيجية العسكرية والمنطلقات السياسية‪.‬‬
‫بل فى رأيى أن وجود ملوك الطوائف مفسدة عظيمة‪ ،‬والسعى إلزالتهم خطوة‬
‫نحو توحيد الصفوف‪ ،‬ونجد ُكتابًا من الغرب وأذياالً لهم من أبناء ال ُم ْسلِ ِمين يصفون ما‬
‫فعله األمير يوسف ضد ملوك الطوائف بأنَّه خروج عن اإلنسانية‪ ،‬ودليل على‬
‫وتصو ِرهم المغلوط‪ ،‬أ َّما بالنسبة للمؤرخ‬
‫ُّ‬ ‫الهمجية‪ ،‬حسب وجهة نظرهم المغشوشة‪،‬‬
‫المسلم فإن ما قام به يوسف يعتبر عمالً عظي ًما ق َّدمه لألمة‪ ،‬وحفظ به اإلسالم فى‬
‫األَ ْن َدلُس من انهيار ُمحقَّق‪ ،‬وضبط األمور بعزم وحزم بعد فوضى وضياع وخنوع‬
‫واستسالم مارسه ملوك الطوائف دون اهتمام بدين أو شعب أو عقيدة‪.‬‬
‫لقد تميَّز يوسف بن تاشفين بوفائه التام للعهود‪ ،‬وابتعاده عن األطماع الدنيوية‪،‬‬
‫وحرصه على إعزاز الدِّين‪ ،‬وإزاحة العوائق التى تحول دون وحدة ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬ولذلك‬
‫أقدم على الخطوة المباركة من أجل توحيد األَ ْن َدلُس‪ ،‬وضمها تحت قبضة دولته‬
‫الميمونة التابعة للخالفة العباسية السُّنيَّة‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() انظر ‪ :‬دراسات فى تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬د‪ .‬أحمد عبادي‪ ,‬ص (‪.)484‬‬
‫‪92‬‬
‫إن كثيرًا من ال ُح َّكام المعاصرين المتسترين بالدِّين‪ ،‬والذين يحالفون النصارى‬
‫الحاقدين واليهود الماكرين وأشياعهم وأتباعهم الكافرين‪ ,‬واجب على الدولة اإلسالميَّة‬
‫السُّنيَّة الفتية أن تعمل على تخليص ال ُم ْسلِ ِمين من قبضتهم وتضمها إليها‪ ،‬وتسعى من‬
‫أجل تحقيق ذلك بكل األمور الشرعية المعروفة‪.‬‬
‫وإذا تع َّذر وجود دولة سُنية لها هموم إسالميَّة وتطلعات شرعية فعلى الحركات‬
‫اإلسالميَّة أن توحِّد صفوفها للوصول إلى هذا الهدف المنشود‪ ،‬ومن ثم السعى لتوحيد‬
‫األمة تحت دولة إسالميَّة تقوم على عقيدة التوحيد‪ ،‬وتحكمها شريعة الرب المجيد‪ ,‬وإذا‬
‫ما وصلت أى حركة معاصرة إلى ذلك الهدف المذكور تجد نفسها تحتاج إلى فتاوى‬
‫شرعية وتجارب لتستأنس بها فى مسيرتها المباركة‪ ،‬ولذلك أرى من الفائدة العميمة‬
‫والخبرة الرشيدة دراسة الدول اإلسالميَّة التى قامت‪ ،‬واجتهاداتهم فى الحروب‪،‬‬
‫وتربيتهم للشعوب‪ ،‬لنسترشد بها ولنطورها على حسب متطلبات المرحلة التى نمرُّ بها‪.‬‬
‫ولذلك نجد أن األمم عمو ًما عندما تعد طالئع قيادية تهتم بدراسة الشعوب‬
‫والحركات التحررية‪ ،‬والثورات اإلنسانية لتكون رصيدًا ألولئك الذين يعدون ويربون‬
‫على قيادة أمتهم فى المستقبل المنظور‪.‬‬
‫إن العقلية الضيقة المتحجرة عندما تكون فى سُدة القيادة ال تستطيع أن ترتقى‬
‫بجنودها‪ ،‬وتجد نفسها تصطدم اصطدا ًما عنيفًا مع مستجدات الحياة ومشاكلها المعقدة‪.‬‬
‫اريخ اإلسالمى تُكسب الطالئع القيادية للحركة اإلسالميَّة المعاصرة‬ ‫إن تجارب التَّ ِ‬
‫ت مهمة فى مجال البناء والحركة والتنظيم والتكوين والتنفيذ والتمكين‪.‬‬ ‫خبرا ٍ‬
‫إن دروس التَّ ِ‬
‫اريخ تعلمنا أن العلماء الربَّانيين‪ ،‬والفقهاء العاملين لهم مكانة فى‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫نفوس شعوبهم‪ ،‬و َمهَابَة عند ُحكا ِمهم‪ ،‬ولفتاويهم شأن عظيم فى شئون الحُكم والدول‬
‫والحروب وعزل الملوك وتولي ِة غيرهم‪ . . .‬إلخ‪.‬‬
‫***‬

‫‪93‬‬
‫المبحث السابع‬
‫العبور الثالث لألمير يوسف بن تاشفين لألندلس‬

‫بعد طلب العلماء والفقهاء في األَ ْن َدلُس والمغرب والمشرق من األمير يوسف أن‬
‫ض َّم األَ ْن َدلُس إلى دولة المرابطين الفتية التابعة للخالفة العباسية السُّنيَّة‪ ،‬عبر األمير‬ ‫ي ُ‬
‫يوسف بقوة ضخمة‪ ,‬عبرت من سبتة إلى الجزيرة الخضراء وسار على رأس جيشه‬
‫إلى طُلَ ْي ِطلَة وأرسل فرقا ً من جيشه نحو مختلف المدن‪ ،‬وسار بنفسه نحو مدينة‬
‫غرناطة‪.‬‬
‫واستطاع أن يفت َح غرناطة بعد شهرين من حصارها واعتقل أميرها‪ ،‬عبد هللا بن‬
‫بلكين الصنهاجى الذى تحالف مع النصارى من أجل أمالكه‪ ،‬ثم أرسله أسيرًا إلى‬
‫المغرب‪ ،‬واستق َّر فى أغمات بالقرب من مراكش(‪.)1‬‬
‫وحاول ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد واألفطس أن يثنيا األمير يوسف عن عزمه‪ ،‬ولكنَّه رفض‬
‫مقابلتهما‪ ,‬وأيقنا أن زوالهما قريب‪.‬‬
‫وألقى المرابطون القبض على تميم بن بلكين والى مالقة وأرسل إلى إفريقية‪ ،‬ثم‬
‫رجع األمير يوسف إلى سبتة‪ ،‬وتولَّى القيادة السياسية والعسكرية القائد المحنك سير بن‬
‫أبى بكر‪ ،‬وبدأ األمير يوسف فى إرسال الجيوش من المغرب إلى األَ ْن َدلُس للقضاء‬
‫الكلى على ملوك الطوائف‪ ،‬وأصبحت القوة المرابطة فى األَ ْن َدلُس قوة ضاربة ال‬
‫يستطيع أحد الصمود أمامها‪ ،‬وقسم األمير يوسف جيش المرابطين إلى أربعة أقسام‪:‬‬
‫‪ -1‬جيش بقيادة سير بن أبى بكر توجَّه إلى إشبيلية‪.‬‬
‫‪ -2‬وجيش سار إلى قرطبة بقيادة أبى عبد هللا بن الحاج وواليها‪ ،‬آنذاك‪ ،‬ولد‬
‫ال ُم ْعتَ ِمد الفتح أبو النصر‪.‬‬
‫‪ -3‬وسار جرور اللمتونى إلى أرض رندة بجيش ثالث‪ ،‬وفيها ولد آخر لل ُم ْعتَ ِمد‬
‫وهو يزيد الراضى باهلل‪.‬‬
‫‪ -4‬وسار أبو زكريا بن واسندوا إلى المرية التى فيها المعتصم بن صمادح‪،‬‬
‫صديق ال ُم ْعتَ ِمد الحميم‪.‬‬
‫وبقى يوسف بن تاشفين فى سبتة على رأس جيش احتياطى لكى يقوم عند الحاجة‬
‫بإنجاد هذا الجيش أو ذاك(‪.)2‬‬
‫وسقطت قرطبة فى يد المرابطين فى صفر ‪484‬هـ‪1091/‬م بعد مقاومة عنيفة من‬
‫ابنى ال ُم ْعتَ ِمد اللذين قتال «المأمون ويزيد الراضي» ووصل المرابطون إلى ضواحى‬
‫طُلَ ْي ِطلَة مهددين ملوك النصارى‪ ،‬واستولوا على قلعة رباح التى فتحت الطريق أمامهم‬
‫إلى قشتالة‪ ،‬واشت َّد الخوف بال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد الذى أرسل إلى ألفونسو يستنجده ضد‬
‫المرابطين‪ ،‬وعقد الخطر المشترك أواصر الصداقة بينهم‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬معركة الزالقة‪ ،‬ص (‪.)62‬‬
‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬معركة الزالقة ص (‪.)62‬‬
‫‪94‬‬
‫وسقطت قومونة بعد حصار قصير فى ربيع األول ‪484/1091‬م‪ ،‬وأصبح أمير‬
‫إشبيلية فى خطر عظيم‪ ،‬وجاءته إمدادات النصارى التى أرسلها ألفونسو بقيادة الكونت‬
‫جومز‪ ،‬وعدتها أربعون ألف رجل مرتجل‪ ،‬وعشرون ألف فارس‪ ،‬ووصلت إلى مقربة‬
‫من قرطبة وتص َّدى لهم القائد الشجاع إبراهيم بن إسحاق فى جند الشجعان‪ ،‬ونشبت‬
‫بين الفريقين معركة حاسمة‪ ،‬أصاب فيها المرابطون بالرغم من خسائرهم نصرًا كبيرًا‬
‫مبينًا‪ ،‬وغدت إشبيلية بعد فرار النصارى تحت رحمة المرابطين‪ ،‬وكانوا قد ضربوا‬
‫المحاصر‪ ،‬وفتحت إشبيلية عنوة‬ ‫ِ‬ ‫حولها الحصار‪ ،‬وكان سير بن أبى أبكر يقود الجيش‬
‫فى رجب ‪484‬هـ‪1091/‬م‪ ،‬وكانت خاتمة ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد مأساة حزينة‪ ،‬وكانت عبرة‬
‫لتقلُّب الدهر‪ ،‬وذلك أن الرجل الذى لبث زهاء ربع قرن يقبض بيديه على مصاير‬
‫إسبانيا‪ ،‬والذى كان يحكم سواد النصف الجنوبى لشبه الجزيرة‪ ،‬والذى يرجع إليه سبب‬
‫استيالء ألفونسو السادس على طُلَ ْي ِطلَة‪ ،‬والذى استدعى المرابطين إلى األَ ْن َدلُس‪ ،‬اختتم‬
‫حياته الحافلة باألحداث فى غمرة البؤس والحزن فى أغمات المغرب فقد قبض عليه‬
‫بعد سقوط إشبيلية‪ ،‬وعلى نسائه وأبنائه وبناته – وهم نحو مائة – وأرسلوا إلى‬
‫مراكش(‪ ،)1‬وفى طريقه تألم ال ُم ْعتَ ِمد من قيده وضيقه وثقله فقال‪:‬‬
‫بذل الحديد وثقل القيود‬ ‫تبدَّلت من ظل ع ّزِ البنو ِد‬
‫وعضبًا رقيقًا صقيل الحديد‬ ‫وكان حديدى سنانًا ذليقًا‬
‫يعض بساقى عض األسود‬ ‫وقد صار ذلك وذا أدهما‬
‫لقد أطنب الشعراء والمؤرخون وأهل األدب فى سيرة ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد‪ ،‬وسبب‬
‫ذلك أمور كثيرة وأهمها فى نظرى أن قضيته غريبة‪ ،‬وشخصيته عجيبة‪ ،‬وم َّر بأمور‬
‫رهيبة وكانت سيرته مليئة بالمتناقضات فهو الذى قال‪« :‬رعى اإلبل وال رعى‬
‫الخنازير» وهو الذى استعان بالنصارى‪ ،‬وأجلب خيلهم ورجالهم ضد ال ُم ْسلِ ِمين‪،‬‬
‫وسيرته تبين لنا سنن هللا فى إعزاز من يشاء وإذالل من يشاء‪ ،‬وإعطاء الملك لمن‬
‫يشاء ونزعه ممن يشاء‪.‬‬
‫ْك ِم َّم ْن‬
‫ْك َمن تَ َشاءُ َوتَنزِعُ ال ُْمل َ‬ ‫ْك ُت ْؤتِى ال ُْمل َ‬ ‫ك الْمل ِ‬ ‫ِ‬
‫قال تعالى‪﴿:‬قُ ِل اللَّ ُه َّم َمال َ ُ‬
‫ير﴾ [آل‬ ‫ٍ ِ‬ ‫تَ َشاءُ َوتُِع ُّز َمن تَ َشاءُ َوتُ ِذ ُّل َمن تَ َشاءُ بِيَ ِد َك الْ َخ ْي ُر إِنَّ َ‬
‫ك َعلَى ُك ِّل َش ْيء قَد ٌ‬
‫عمران‪.]26 :‬‬
‫وتوفى ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد فى أغمات سنة ‪488‬هـ ‪-‬رحمه هللا تعالى‪.-‬‬
‫وفى النادر الغريب أنه نودى فى جنازته بالصالة على الغريب‪ ،‬بعد عظم سلطانه‬
‫وجاللة شأنه‪ ،‬فتبارك َمن له البقاء والع َّزة والكبرياء(‪.)2‬‬
‫من شعر المعتمد بن عباد‪:‬‬
‫دخل عليه ولده أبو هاشم والقيود قد عضت بساقيه فخاطب قيده فقال‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)64‬‬
‫‪2‬‬
‫() وفيات األعيان (ج‪.)5/37‬‬
‫‪95‬‬
‫أبيت أن تشفق أو ترحما‬ ‫قيدي‪ ,‬أما تعلمنى ُمسل ًما‬
‫أكلته وال تهشم األعظُما‬ ‫دمى شرابٌ ‪ ،‬واللحم قد‬
‫فينثني‪ ,‬والقلب قد هُشما‬ ‫يُبصرنى فيك أبو هاشم‬
‫ج ّرَعتهن السُّم وال َعلقما‬ ‫ت له مثله‬
‫ارحم أخيا ٍ‬
‫وقال ذات مرة بعد أن أحيط به فى إحدى معاركه‪:‬‬
‫وتَ ْنهنه القلبُ الصديع‬ ‫لما تماسكت الدموع‬
‫فليب ُد منك لهم ُخضوع‬ ‫قالوا الخضو ُ‬
‫ع سياسة‬
‫على فمى ال ّس ُّم النقيع‬ ‫وألذ من طعم ال ُخ َ‬
‫ضوع‬
‫القلب الضُّ لوع‬
‫َ‬ ‫مالكى وتُ ْ‬
‫سلم‬ ‫أتسلبْ عنى ال ُّدنا‬
‫أن ال تحصُِّننى الدروع‬ ‫قد ر ُ‬
‫ُمت يوم نِزالهم‬
‫ـص عن الحشى شيء َدفُوع‬ ‫وبرزت ليس سوى القميـ‬
‫بهواى ذلى وال ُخضوع‬ ‫تأخر‪ ,‬لم ْ‬
‫يكن‬ ‫أجلى َّ‬
‫وكان فى أملى الرجوع‬ ‫سرت ُّ‬
‫قط إلى القتال‬ ‫ُ‬ ‫ما‬
‫(‪)1‬‬
‫واألصل تتبعه الفُرو ْع‬ ‫شيم األولى أنا منهم‬
‫ولما تُوفِّى فى أغمات رثاه الشعراء بقصائد معبرة عن المشاعر اإلنسانية الدفينة‪,‬‬
‫وممن رثاه شاعره المخلص أبو بحر عبد الصمد بقصيدة طويلة أجاد فيها‪ ،‬وأولها‪:‬‬
‫أم قد عدتك عن السماع عوادي‬ ‫ملك الملوك‪ ،‬أسامع فأنادي‬
‫فيها كما قد كنت فى األعياد‬ ‫لما نقلت عن القصور ولم تكن‬
‫(‪)2‬‬
‫وجعلت قبرك موضع اإلنشاد‬ ‫أقبلت فى الثرى لك خاضعًا‬
‫لقد كانت محنة ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد عظيمة‪ ،‬وتعاطف معه كثير من المؤرخين‬
‫واألدباء والشعراء‪ ،‬واتهموا يوسف بن تاشفين بالقسوة والغلظة وأنَّه صحراوى بدوى‬
‫‪1‬‬
‫() التاريخ اإلسالمي‪ ،‬للذهبي‪ ،‬حوادث ووفيات‪ ،‬مجلد (‪490-481‬هـ)‪ ,‬ص (‪.)271‬‬
‫‪2‬‬
‫() وفيات األعيان (ج‪.)5/37‬‬
‫‪96‬‬
‫نزعت الرحمة من قلبه‪ ،‬واستدلُّوا أنه ذو نزعة توسعية دنيوية‪ ،‬ولذلك أنزل العقوبة‬
‫المؤلمة على من استطاع من ملوك األَ ْن َدلُس وتخلَّص منهم‪.‬‬
‫والواقع يقول‪ :‬إن ابن تاشفين لم يطمع فى األَ ْن َدلُس‪ ،‬وتردد كثيرًا قبل العبور‪،‬‬
‫وعف عن الغنائم بعد ال ِّزالقَة وتركها لل ُم ْعتَ ِمد وألمراء األَ ْن َدلُس‪ ،‬ولم يأخذ منها شيئًا‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وكانت عودته‪ ,‬ثم عاد فى الجواز الثانى بسبب اختالفات ملوك الطوائف الهزلي‪،‬‬
‫ف بعضهم مع ملوك النصارى‪ ،‬ولما اشتد الخطب على أهل األَ ْن َدلُس‪ ,‬وأفتى‬ ‫وتحالُ ِ‬
‫العلماء بخلع ملوك الطوائف حرصًا على سالمة الدِّين والعقيدة؛ قرَّر األمير يوسف أن‬
‫يضع حدًا لمهزلة ملوك الطوائف‪ ,‬لقد آنَ ‪ -‬من أجل الشريعة والمصلحة العظمى‬
‫لألمة‪ -‬لهذه الدويالت الهزيلة الضعيفة المتناحرة المتحالف بعضها مع األعداء أن‬
‫تنتهي‪ ،‬وكما قال الشاعر محمود غنيم‪:‬‬
‫َّ‬
‫ليديه‪ ,‬حطــمَ جانب المصـراع‬ ‫َمن عالج الباب العصى فلم يلن‬
‫فقد شغله هؤالء األمراء المتفرقون عن الجهاد والفتوحات والمرابطة فى سبيل هللا‬
‫لضعفهم وفرقتهم‪ ،‬فلقوا جزاء خيانتهم وفرقتهم‪ ،‬وابن تاشفين خص األمراء وحدهم‬
‫بشدة عقابه‪ ,‬وعفا عن الشعب المسلم‪ ،‬ألن التناقض جلى بين الشعب الذى تعلق‬
‫بالمرابطين وباألمير يوسف لعدله وحزمه وجهاده‪ ،‬والذى حرص على رفع المظالم‬
‫والضرائب والمكوس عن كاهل الشعب الذى طلب من ملوكه االتحاد فى وجه‬
‫النصارى‪ ،‬وبين األمراء والملوك الذين آثروا التَّفرُّ ق والخالف‪ُ ،‬حبًّا فى الحكم‪،‬‬
‫وحفاظًا على مصالحهم الشخصية‪.‬‬
‫وهذا الذى قام به األمير يوسف‪ ،‬وإزاحة الملوك من أعظم حسناته ومآثره الخالدة‬
‫فى تاريخه المجيد الذى تعتز به أمتنا العريقة‪.‬‬
‫وبسقوط إشبيلية تزعزعت باقى ال ُمدُن والحصون‪ ،‬وأصبحت غرناطة ومالقة‬
‫وجيان وقرطبة وإشبيلية والمرية تحت حكم المرابطين فى وقت لم يتجاوز ثمانية عشر‬
‫شهرًا‪.‬‬
‫سقطت المرية بيد داود ابن عائشة‪ ،‬هذا القائد المجاهد المرابط فى سبيل هللا‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ولما‬
‫المنصور بإسالمه ودينه وصفاء عقيدته وحفظه للعهود‪ ،‬واصل سيره الموفق مع‬
‫جنوده البواسل‪ ,‬وافتتح مرابيطر وبلنسية وشنتمرية‪ ،‬ولم تغن أمراءهم معاونة‬
‫الكمبيادور وفرسانه‪ ،‬فبلنسية كان بها يحيى بن ذى النون «القادر»‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫أنه كان منضويًا تحت حماية ملك قشتالة‪ ،‬وقد خفت إلنجاده فرقة كبيرة منهم‪ ،‬وقوة من‬
‫المرتزقة المسل ِمين من مرسية بقيادة ابن طاهر على الرغم من كل هذا سقطت بلنسية‬
‫بيد المرابطين أصحاب األيادى المتوضئة‪ ،‬والقلوب الطاهرة‪ ،‬والضربات الفتاكة لكل‬
‫جبار عنيد‪.‬‬
‫واستم َّر داود ابن عائشة فى فتح حصون وقالع ُمدُن شرق إسبانية تحفُّه‬
‫العناية اإللهية‪ ،‬وتنزل عليه الفتوحات الربَّانية‪ ,‬ويخط للمغاربة ولألمة اإلسالميَّة‬
‫تاريخا مجيدًا باقيًا على مر العصور واألزمان‪ ،‬واضحة معالم العقيدة واإليمان فى‬ ‫ً‬
‫نحته وكتبه بماء الذهب الصافي‪.‬‬
‫أ َّما القائد الربَّانى والفارس الميدانى سير بن أبى بكر فكان جهاده الميمون فى‬
‫غرب األَ ْن َدلُس؛ حيث زحف إلى بطليوس وأميرها يومئ ٍذ ُم َح َّمد بن األفطس «ال ُمت ََو ِّكل»‬

‫‪97‬‬
‫بعد أن فتح إشبيلية كما سلف‪ ،‬فاستولى على شلب ويابرة‪ ,‬ثم احت َّل بطليوس فى صفر‬
‫‪487‬هـ ‪ -‬آذار (مارس) ‪1094‬م‪.‬‬
‫وفى الوقت الذى سقطت فيه بطليوس‪ ،‬استطاع المرابطون أن يفتحوا جزر‬
‫البليار‪ ،‬التى كان واليها يومئ ٍذ من بنى شهيد أتباع أمراء بلنسية ودانية‪ ،‬وأحسن‬
‫المرابطون صنعًا بفتح الجزر الشرقية «بليار» فى الوقت المالئم‪ ،‬فقد كانت منعزلة‬
‫تعيش تحت هيمنة األسطول النصراني‪ ،‬وقد تم الفتح على يد القائد البحرى ابن‬
‫تافرطست‪.‬‬
‫بذلك أصبحت إسبانيا المسلمة تحت قبضة دولة المرابطين الفتية سنة‪487‬هـ ‪1094/‬م‪،‬‬
‫ونستثنى من ذلك والية َسرْ قُ ْسطَة التى كان واليها أحمد بن هود «المستعين باهلل» الذى أبلى‬
‫بال ًء حسنًا فى جهاد النصارى‪ ,‬وظهرت فيه شهامة ورجولة أقنعت األمير يوسف على‬
‫إبقائه فى ُمل ِكه‪ ،‬وتحالف ابن هود مع إخوانه فى العقيدة ض َّد أعدائهم فى الدِّين‪ ،‬وكان سدًا‬
‫منيعًا فى الثغور الشمالية وقد كلف النصارى خسائر هائلة فى األموال واألرواح‪.‬‬
‫واستطاع النصارى أن يحتلُّوا مدينة «بلنسية» عام ‪487‬هـ بقيادة القائد‬
‫النصرانى الكمبيادور الذى أمن قاضيها «ابن جحاف» ثم أحرقه بالنار‪ ،‬وعمل المرابطون‬
‫على إرجاع بلنسية والحصون التى وقعت فى يد النصارى‪ ،‬وتم َّكنوا من تحرير بلنسية عام‬
‫‪495‬هـ‪.‬‬
‫والجدير بالذكر أن بابا الفاتيكان أفتى ألهل إسبانيا و َمن حولهم من اإلفرنج إن‬
‫قتالهم فى األَ ْن َدلُس ضد ال ُم ْسلِ ِمين جهاد مقدس‪ ,‬ولذلك لم يشارك اإلسبان فى حروب‬
‫النصارى الصليبية فى شرق العالم اإلسالمى فى هذه الفترة‪.‬‬
‫لقد كانت سياسة اإلسبان فى حروبهم لل ُم ْسلِ ِمين صليبية النزعة‪ ،‬همجية الخلق‪،‬‬
‫خالية من األخالق‪ ،‬ممزوجة بالغدر بعيدة عن العلم والحضارة‪.‬‬
‫وكانت سياسة المرابطين فى حروبهم وجهادهم مبنية على نشر اإلسالم ومكارم‬
‫األخالق فى أُطُر حضارية نابعة من مشكاة الوحيين كتاب هللا وسنة رسوله × (‪.)1‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() انظر ‪ :‬معركة الزالقة‪ ،‬ص (‪.)68‬‬
‫‪98‬‬
‫المبحث الثامن‬
‫الجواز الرابع لألمير يوسف فى األندلس‬
‫لما أصبحت إسبانيا المسلمة تحت حكم المرابطين بما فى ذلك َسرْ قُ ْسطَة التى حكمها‬
‫بنو هود‪ ،‬عبر أبو يعقوب يوسف بن تاشفين العبور الرابع سنة ‪496‬هـ‪1103 /‬م بعد‬
‫استرداد بلنسية بعام واحد‪ ،‬يبتغى تنظيم شئونها‪ ،‬وليطلع على حسن سير اإلدارة‪ ،‬ودعا‬
‫القادة والوالة وزعماء األَ ْن َدلُس‪ ،‬وشيوخ القبائل المغربية التى تدين بالطاعة له إلى‬
‫االجتماع فى قرطبة‪ ،‬وعيَّن ولده األصغر عليًّا «أبا الحسن» وليًّا للعهد؛ فقد ظهرت مواهبه‬
‫ونجابته ورجاحة عقله ولمس والده فيه الخصال الالزمة لحكم شعوب وأمم كثيرة(‪.)1‬‬
‫أوالً‪ :‬نص والية العهد لألمير على بن يوسف‪:‬‬
‫عهد األمير يوسف إلى كاتبه الفقيه أبى ُم َح َّمد بن عبد الغفور أن يكتب نص والية‬
‫العهد وكان مشهورًا ببالغته‪ ،‬وهذا هو النص‪« :‬الحمد هلل الذى رحم عباده‬
‫باالستخالف‪ ،‬وجعل اإلمامة سبب االئتالف‪ ،‬وصلى هللا على سيدنا ُم َح َّمد نبيه الكريم‬
‫الذى ألف القلوب المتنافرة‪ ،‬وأذل لتواضعه عزة الملوك الجبابرة‪.‬‬
‫أما بعد‪ :‬فإن أمير ال ُم ْسلِ ِمين وناصر الدِّين أبا يعقوب بن تاشفين لما استرعاه على‬
‫كثير من عباده المؤمنين‪ ،‬خاف أن يسأله هللا غدًا عما استرعاه كيف تركه همالً لم‬
‫يستنب فيه سواه‪ ،‬وقد أمر هللا بالوصية فيما دون هذه العظمة‪ ،‬وجعلها من آكد األشياء‬
‫الكريمة‪ ،‬كيف فى هذه األمور العائدة فى المصلحة الخاصة والجمهور‪ ،‬وإن أمير‬
‫ال ُم ْسلِ ِمين بما لزمه من هذه الوظيفة وحضه هللا بها من النظر فى األمور الدِّينية‬
‫الشريفة‪ ،‬قد أع ّز هللا رماحه وأحد سالحه‪ ،‬فوجد ابنه األمير األجل أبا الحسن أكثرها‬
‫ارتياحًا إلى المعالى واهتزا ًزا‪ ،‬وأكرمها سجية وأنفسها اعتزا ًزا‪ ،‬فاستنابه فيما‬
‫استرعي‪ ،‬ودعاه لما كان إليه ودعا‪ ،‬بعد استشارة أهل الرأى على القرب والنأي‪،‬‬
‫فرضوه لما رضيه‪ ،‬واصطفوه لما اصطفاه‪ ،‬ورأوه أهالً أن يسترعى فيما استرعاه‪،‬‬
‫فأحضره مشترطًا عليه الشروط الجامعة بينهما وبين المشروط قبل‪ ،‬وأجاب حين‬
‫دُعي‪ ،‬بعد استخارة هللا الذى بيده الخيرة واالستعانة بحول هللا الذى من آمن به شكره‪،‬‬
‫وبعد ذلك مواعظ ووصية بلغت النصيحة مرامى قصية‪ ،‬يقول فى ختامه شروطها‬
‫وتوثيق ربوطها‪ ،‬كتب شهادته على النائب والمستنيب من رضى إمامتها على البعيد‬
‫‪-‬‬
‫والقريب‪ ،‬وعلم عل ًما يقينًا بما وصاه فى هذا الترتيب وذلك فى عام ‪495‬هـ ‪1101 /‬م‬
‫(‪.)2‬‬
‫أ‪ -‬وأوصى يوسف بن تاشفين ابنه عليًّا بما يلي‪:‬‬
‫أال يُ َعيّن فى مناصب ال ُح َّكام والقضاة فى الواليات والحصون وال ُمدُن إال‬
‫المرابطين من قبيلة لمتونة‪.‬‬
‫وأن يحتفظ فى األَ ْن َدلُس بجيش دائم حسن األجر من المرابطين‪ ،‬قوامه سبعة عشر‬
‫ألف فارس‪ ،‬يطعمون على حساب الدولة يوزعون كما يأتي‪ :‬أربعة أالف فى والية‬

‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬معركة الزالقة‪ ،‬ص (‪.)71‬‬
‫‪2‬‬
‫() الزالقة ص (‪ ،)72-71‬انظر‪ :‬ابن الخطيب‪ ،‬اإلحاطة (‪.)2/519،520‬‬
‫‪99‬‬
‫َسرْ قُ ْسطَة‪ ،‬وسبعة آالف فى إشبيلية‪ ،‬وثالثة آالف فى غرناطة‪ ،‬وألف فى قرطبة‪،‬‬
‫والباقى قدره ألفان يحتلون قالع الحصون كحامية‪ ،‬ويحسن أن يعهد إلى مسلمى‬
‫األَ ْن َدلُس بحراسة الحدود النصرانية ومحاربة النصارى‪ ،‬فهم لهم معرفة أوسع وخبرة‬
‫أكبر على مقاتلة النصارى من المغاربة‪ ،‬وأن يعمل على تشجيع األَ ْن َدلُسيين على روح‬
‫الجهاد وأن يكافئ المتفوقين فى الحرب منهم بالخيل والسالح والثياب والمال‪.‬‬
‫ونصح أبو يعقوب ابنه أن يعامل أهل األَ ْن َدلُس وخصوصًا قرطبة بالرفق واللين‪،‬‬
‫وأن يقوى عالقته األخوية مع بنى هود الذين هم طليعة األَ ْن َدلُسيين فى محاربة‬
‫النصارى‪.‬‬
‫ولما انتهى يوسف بن تاشفين من تنظيم شئون األَ ْن َدلُس وقسمها إلى ست واليات‬
‫هى إشبيلية‪ ،‬غرناطة‪ ،‬قرطبة‪ ،‬بلنسية‪ ،‬مرسية‪ ،‬و َسرْ قُ ْسطَة‪ ،‬عاد ابن تاشفين إلى‬
‫مراكش‪.‬‬
‫ب‪ -‬لقد مرت سياسة المرابطين فى األندلس بمراحل ثالث‪:‬‬
‫‪ -1‬مرحلة التدخل من أجل الجهاد وإنقاذ ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬وقد انتهت بانسحاب‬
‫المرابطين بمجرد انتصار ال ِّزالقَة‪.‬‬
‫‪ -2‬مرحلة الحذر من ملوك الطوائف‪ ،‬بعد أن ظل وضعهم وضع التنافر‬
‫والتحاسد والتباعد‪ ،‬ولم يفكروا فى االندماج فى دولة واحدة‪ ،‬بل فضل‬
‫بعضهم التقرب إلى األعداء للكيد ببعضهم‪.‬‬
‫‪ -3‬مرحلة ضم األَ ْن َدلُس إلى المغرب‪ ،‬فوضعوا حدا لمهزلة ملوك الطوائف‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫المبحث التاسع‬
‫آثار االبتعاد عن تحكيم شرع هللا‬
‫على ملوك الطوائف‬
‫‪ -1‬إن االبتعاد عن تحكيم شرع هللا تعالى يجلب لألفراد واألمة تعاسة وضن ًكا فى‬
‫الدنيا‪ ،‬وهال ًكا وعذابًا فى اآلخرة‪ ،‬وإن آثار االبتعاد عن شرع هللا لتبدو على‬
‫الحياة فى وجهتها الدِّينية واالجتماعية والسياسية واالقتصادية‪.‬‬
‫وإن الفتن تظل تتوالى وتترى على الناس حتى تمسَّ جميع شئون حياتهم‪ ,‬قال‬
‫ِ‬ ‫صيب ُهم فِ ْتنَةٌ أَو ي ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يم﴾‬ ‫اب أَل ٌ‬‫ص َيب ُه ْم َع َذ ٌ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ين يُ َخال ُفو َن َع ْن أ َْم ِره أَن تُ َ ْ‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬فلْيَ ْح َذ ِر الذ َ‬
‫[النور‪.]63:‬‬
‫لقد كانت فى ُم َمارسة ملوك الطوائف للحكم البعيد عن شرع هللا آثار على األمة‪،‬‬
‫فتجد اإلنسان المنغمس فى حياة المادة والجاهلية ُمصابا ً بالقلق والحيرة والخوف‬
‫والجبن يح َسب ك َّل صيحة عليه‪ ،‬يخشى ِمن النصارى وال يستطيع أن يقف أمامهم وقفة‬
‫ع ٍّز وشموخ واستعالء‪ ،‬وإذا تشجع فى معركة من المعارك ضعف قلبه أمام األعداء‬
‫ض َعن ِذ ْك ِرى‬ ‫﴿و َم ْن أَ ْع َر َ‬
‫من أثر المعاصى على قلبه‪ ،‬وأصبح فى ضنك من العيش‪َ :‬‬
‫ضن ًكا﴾ [طه‪.]124:‬‬ ‫فَإن لَهُ َم ِعي َشةً َ‬
‫‪ -2‬أ َّما اآلثار على األمة األَ ْن َدلُسية فقد أصيبت بالتبلُّد وفقد اإلحساس بالذات ومات‬
‫ضميرها الروحي‪ ،‬فال أمر بمعروف تأمر به‪ ،‬وال نهى عن منكر تنهى عنه‪،‬‬
‫وأصابهم ما أصاب بنى إسرائيل عندما تركوا األمر بالمعروف والنهى عن‬
‫المنكر‪.‬‬
‫يسى ابْ ِن َم ْريَ َم‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫يل َعلَى ل َسان َد ُاو َد َوع َ‬ ‫ين َك َف ُروا من بَنى إ ْس َرائ َ‬
‫قال تعالى‪﴿:‬لُع َن الذ َ‬

‫س َما َكانُوا‬ ‫ِ‬


‫اه ْو َن َعن ُّمن َك ٍر َف َعلُوهُ لَب ْئ َ‬
‫َكانُوا الَ َيَتنَ َ‬ ‫‪‬‬ ‫ص ْوا َو َكانُوا َي ْعتَ ُدو َن‬ ‫َذلِ َ‬
‫ك بِ َما َع َ‬
‫َي ْف َعلُو َن﴾ [المائدة‪.]79 ،78 :‬‬
‫ي أ َّمة ال تعظِّم شرع هللا أمرًا ونهيًا فإنها تسقط كما سقط بنو إسرائيل‪ ،‬قال‬ ‫فإن أ َّ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫رسول هللا ×‪« :‬كال وهللا لتأ ُمرُن بالمعروف ولتنه ُون عن المنكر ولتأخذن على‬ ‫َّ‬
‫يد الظالم ولتأطرنَّه على الحق أطرًا‪ ،‬ولتقصرنه على الحق قصرًا‪ ،‬أو‬
‫ليضربن هللا بقلوب بعضكم بعضًا‪ ,‬ثم ليلعننكم كما لعنهم»(‪.)1‬‬
‫‪ -3‬إن ملوك األَ ْن َدلُس تحققت فيهم سنة هللا الماضية بسبب تغيُّر النفوس من الطاعة‬
‫ك ُمغَِّي ًرا‬ ‫َم يَ ُ‬ ‫واالنقياد إلى المخالفة والتمرد على أَحكام هللا‪َ ﴿ :‬ذلِ َ ِ‬
‫ك بإن اهللَ ل ْ‬
‫ِّن ْع َمةً أَْن َع َم َها َعلَى َق ْوٍم َحتَّى ُيغَِّي ُروا َما بِأَْن ُف ِس ِه ْم﴾ [األنفال‪.]53:‬‬

‫‪1‬‬
‫() أبو داود‪ ،‬كتاب المالحم‪ ،‬باب األمر بالمعروف‪ ,‬رقم الحديث(‪.)4670‬‬
‫‪101‬‬
‫كما أن المجتمعات التى تخضع تحت ال ُح َّكام الذين تباعدوا عن شرع هللا تُ َذل‬
‫وتهان‪ ,‬حتى تقوم أمام َمن خالف أمر هللا وتطلب العون من إخوانهم فى العقيدة‪,‬‬
‫إلرجاع حكم هللا فى مجتمعاتهم‪.‬‬
‫إن ملوك األَ ْن َدلُس انعكس انحرافهم على شباب األَ ْن َدلُس كلِّه‪ ،‬وفرَّط أهل األَ ْن َدلُس‬
‫فى األمر بالمعروف والنهى عن المنكر‪ ،‬وانعكس ذلك فى حركة الفتوحات اإلسالميَّة‬
‫فت‪ ،‬ولذلك حرمت شعوب كثيرة من سعادتها فى الدنيا واآلخرة بسبب تضييع‬ ‫التى توقَّ ْ‬
‫األمانة والرسالة والدعوة إلى هذا الدِّين‪ ،‬لقد قست قلوب ملوك الطوائف وكثير من‬
‫أتباعهم إال من رحم هللا‪ ،‬وتركوا الحق وانقادوا للضالل‪ ،‬وابتلوا بالنفاق وفضحهم هللا‬
‫بذلك‪ ،‬وحرموا التوفيق والرجوع للصواب‪ ،‬وخف دينهم وضعف إيمانهم‪ ،‬بسبب‬
‫بطرهم للحق وغمطهم لحقوق الناس وابتعادهم عن شرع هللا تعالى‪.‬‬
‫‪ -4‬لقد كانت ممالك األَ ْن َدلُس مليئة باالعتداءات على األنفس واألموال‬
‫واألعراض‪ ،‬وتعطلت أَحكام هللا فيما بينهم‪ ،‬ونشبت حروب وفتن وباليا‬
‫تولَّدت على أثرها عداوة وبغضاء لم تزل عنها حتى بعد زوالهم‪.‬‬
‫‪ -5‬وبسبب االبتعاد عن كتاب هللا وسنة رسوله × سهلت مهمة النصارى فى‬
‫األَ ْن َدلُس فأصبحت شوكتهم تقوى وتحصلوا على مكاسب كبيرة‪ ،‬وغاب نصر‬
‫هللا عن ملوك الطوائف وأهل األَ ْن َدلُس‪ ،‬وحرموا من التمكين‪ ،‬وأصبحوا فى‬
‫خوف وفزع من أعدائهم‪ ،‬وبعض ال ُمدُن تبتلى بالجوع بسبب حصار‬
‫قتل النصارى من ال ُم ْسلِ ِمين وكم سبوا من نسائهم‪.‬‬‫النصارى لهم‪ ,‬وكم َ‬
‫‪ -6‬إن االبتعاد عن شرع هللا فى األَ ْن َدلُس ترتب عليه انتقاص األرض وضياع‬
‫الملك‪ ،‬وتسلُّط الكفار وتوالى المصائب‪.‬‬
‫اريخ أنه إذا عُصى هللا‬ ‫‪ -7‬إن من سنن هللا تعالى المستخ َرجة من حقائق الدِّين والتَّ ِ‬
‫تعالى ِم َمن يعرفونه َسلَّط عليهم َمن ال يعرفونه‪ ،‬ولذلك سلَّط هللا النصارى‬
‫على ال ُم ْسلِ ِمين فى األَ ْن َدلُس‪ ،‬وعندما تحرك الفقهاء والعلماء وبعض الملوك‬
‫واستنصروا إخوانهم فى الدِّين‪ ،‬والتفوا حول دولة الشريعة نصرهم هللا على‬
‫أعدائهم‪ ،‬ثم خلَّص هللا أهل األَ ْن َدلُس من ملوك الطوائف الظالمين وأبدلهم‬
‫بأمراء عادلين‪ ،‬منقادين لشريعة رب العالمين‪.‬‬
‫‪ -8‬إن الذنوب التى يهلك هللا بها القرون ويعذب بها األمم قسمان‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬معاندة الرسل والكفر بما جاءوا به‪.‬‬
‫وثانيهما‪ :‬كفر النعم بالبطر واألشر‪ ،‬وغمط الحق واحتقار الناس وظلم الضعفاء‬
‫ومحاباة األقوياء‪ ،‬واإلسراف فى الفسق والفجور‪ ،‬والغرور بالغنى‬
‫والثروة‪ ،‬فهذا كلُّه من الكفر بنعمة هللا‪ ،‬واستعمالها فى غير ما يرضيه من‬
‫نفع النَّاس والعد ِل العام‪ ،‬والنَّوع الثَّانى من الذنوب هو الذى مارسه ملوك‬
‫األَ ْن َدلُس وأمراؤهم وأتقنوه إتقانًا عجيبًا‪.‬‬
‫***‬

‫‪102‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫السياسة الداخلية والخارجية فى دولة المرابطين‬
‫المبحث األول‬
‫حقوق الرعية فى دولة المرابطين‬
‫إن هللا تعالى جعل بين الحاكم والمحكوم حقوقًا وواجبات متبادلة‪ ،‬وبينت الشريعة‬
‫َّاعي‪:‬‬
‫الغرَّاء هذه الحقوق المتبادلة؛ فمن أهم حقوق الرعية على الر ِ‬
‫أوالً‪ :‬العمل على اإلبقاء على عقيدة األمة صافية نقية‪:‬‬
‫وذلك عن طريق حفظ الدِّين على أصوله المستقرَّة‪ ،‬وما أجمع عليه سلف األمة‪،‬‬
‫فهذا هو أهم األمور التى تلزم والة األمر تجاه الرعية(‪ ،)1‬وأهم هذه األصول‪ :‬التمسك‬
‫اريخية لدولة‬ ‫بالكتاب والسنة وإجماع القرون المفضلة األولى‪ ،‬وفى دراستى التَّ ِ‬
‫المرابطين وجدت أن ُح َّكامها ساروا على هذا المنهج الذى رسمه شيوخهم الذين‬
‫سبقوهم‪ ،‬ولذلك توحدت دولة المرابطين‪ ،‬وكان لذلك المسلك سبب فى حماية األمة من‬
‫التَّفرُّ ق فى الدِّين إلى دروب األهواء والضالالت‪ ،‬وكان حماية ووقاية للحاكم‬
‫والمحكوم فى دولة المرابطين على السواء من الزيع عن السبيل‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫اهلل َج ِم ًيعا َوالَ َت َف َّرقُوا﴾ [آل عمران‪ ]103 :‬أي‪ :‬تمسَّكوا بدين هللا الذى‬ ‫صموا بِح ْب ِل ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫﴿وا ْعتَ ُ‬‫َ‬
‫أمركم به‪ ،‬وعهده الذى عهده إليكم‪ ،‬فى كتابه إليكم من األلفة واالجتماع على كلمة‬
‫الحق والتسليم ألمر هللا»(‪ ,)2‬لقد كان يوسف بن تاشفين ومن سبقه من ُح َّكام دولة‬
‫والجماعَة‪ ،‬ال ُسبُل أهل الزيغ‬ ‫َ‬ ‫المرابطين على منهج الفرقة الناجية وسبيل أهل السنة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َت َف َّرقُوا َوا ْخَتلَ ُفوا من َب ْعد َما‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫﴿والَ تَ ُكونُوا َكالذ َ‬ ‫والتفريق التى نهى هللا عنها فى قوله‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ات َوأُولَئِ َ‬
‫جوهٌ﴾ [آل‬ ‫ض ُو ُجوهٌ َوتَ ْس َو ُّد ُو ُ‬‫يم ‪َ ‬ي ْو َم َت ْبيَ ُّ‬
‫اب َعظ ٌ‬‫ك ل َُه ْم َع َذ ٌ‬ ‫اء ُه ُم الَْبِّينَ ُ‬
‫َج َ‬
‫عمران‪.]105،106:‬‬
‫والجماعَة‬
‫َ‬ ‫قال ابن عبَّاس –رضى هللا عنهما‪« :-‬يعنى تبيض وجوه أهل السنة‬
‫وتس َّود وجوه أهل الفرقة والزيغ»(‪ ،)3‬لقد قام يوسف بن تاشفين بحماية أصول أهل‬
‫والجماعَة بتشجيع العلماء والفقهاء وبنشرها وحمل الناس عليها واستخدم فى‬ ‫َ‬ ‫السنة‬
‫ذلك سلطانه وصالحياته الشرعية(‪.)4‬‬
‫ثانيا‪ :‬توحيد المغرب تحت راية الخالفة اإلسالمية‪:‬‬
‫ً‬
‫قام يوسف بن تاشفين بتوحيد المغرب األقصى تحت راية الخالفة اإلسالميَّة‪,‬‬
‫واستعمل من أجل هذا الهدف كافة األسباب المشروعة سواء بإصالح ذات البين بين‬
‫‪1‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطبري‪( ،‬ج‪.)7/70‬‬ ‫() األحكام السلطانية للماوردي‪ ،‬ص (‪.)22‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫() تفسير ابن كثير‪( ،‬ج‪.)1/369‬‬
‫‪4‬‬
‫() انظر‪ :‬الحكم والتحاكم‪( ،‬ج‪.)2/514‬‬
‫‪103‬‬
‫القبائل المتناحرة‪ ،‬أو باستعمال القوة مع َمن استعصى عن اإلجابة‪ ،‬وكان يسعى سعيًا‬
‫حثيثًا للقضاء على الشرور فى بالده‪ ،‬ويعمل على إغالق أبوابها أوالً بأول وسبيله فى‬
‫ذلك‪« :‬تنفيذ األَحكام بين المتشاجرين‪ ،‬وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تع َّم‬
‫النصفة‪ ،‬فال يتعدى ظالم وال يضعف مظلوم»(‪.)1‬‬
‫ثالثًا‪ :‬العمل على حماية األمة من المفسدين والمحاربين‪:‬‬
‫حيث استطاع أمير ال ُم ْسلِ ِمين يوسف بن تاشفين أن يؤمن السبل فى بالده‪ ,‬وأن‬
‫يبسط األمن‪ ,‬ويقمع األخطار التى هددت دولته من المارقين‪ ,‬ونظم طرق األسفار‬
‫ومسارب التجارات‪.‬‬
‫وقد ع َّد علماء اإلسالم تأمين السبل والطرق حقًّا من حقوق الرعية التى سيُسأل‬
‫عنها كل راع‪ ،‬فذكروا أن اإلمام يلزمه‪« :‬حماية بيضة اإلسالم‪ ,‬والذب عن الحُرم‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ليتصرف الناس فى معايشهم وينتشروا فى أسفارهم آمنين على أنفسهم وأموالهم» ‪,‬‬
‫ك أن تأمين السبل دليل بار ٌز على انتصار الدِّين وتمكينه‪ ،‬فإنه × لما دَعا عدى‬‫وال ش َّ‬
‫بن حاتم إلى اإلسالم‪ ،‬وعده – إن طالت به الحياة – أن يرى طرق ال ُم ْسلِ ِمين آمنة‪،‬‬
‫وسبلهم محفوظة لما يؤول إليه األمر من قوة ال ُم ْسلِ ِمين بعد ضعفهم‪ ،‬فقد روى البخارى‬
‫فى صحيحه عن عدى بن حاتم قال‪« :‬بينما أنا عند النبى × إذا أتاه رجل فشكا إليه‬
‫الفاقة‪ ،‬ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل‪ ،‬فقال‪ :‬يا عدى هل رأيت الحيرة؟ قلت‪ :‬لم‬
‫أرها‪ ،‬وقد أنبئت عنها‪ ،‬قال‪ :‬فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من‬
‫الحيرة حتى تطوف بالكعبة ال تخاف أحدًا إال هللا‪ »...‬وفيه أن عديًا ‪ t‬قال بعدها‪:‬‬
‫«فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة ال تخاف إال هللا»(‪.)3‬‬
‫رابعا‪ :‬العمل على حماية األمة من أعداء الخارج‪:‬‬
‫ً‬
‫قام األمير يوسف بن تاشفين – رحمه هللا – بأعمال عظيمة حماية لدولته وشعبه‬
‫عدو يحاول أن يعتدي‪ ،‬واتخذ كل األسباب المتاحة من أجل تحقيق هذا العمل‬ ‫من ك ِّل ٍّ‬
‫المنشود من تحصين الثغور بال ُع َّدة المانعة والقوة الدافعة حتى ال يظفر األعداء بثغرة‬
‫ينتهكون بها محر ًما‪ ,‬ويسفكون د ًما لمسلم أو معاهد (‪.)4‬‬
‫وقضى على ك ِّل محاوالت أعداء دولته من البرغواطيين والمغاورة وال َح َّماديين‬
‫الذين حاولوا ضم أراض من دولته‪ ,‬وقضى على دويالت الكفر واإللحاد‪ ,‬وألزم‬
‫ال َح َّماديين احترامه بالقوة‪.‬‬
‫ض َعت الشريعة ألجله‪:‬‬
‫خامسًا‪ :‬حفظ ما ُو ِ‬
‫فقام بإقامة الحدود‪ ،‬حتى تُصان محارم هللا عن االنتهاك‪ ,‬وتحفظ حقوق العباد من‬
‫﴿وإِ َذا َح َك ْمتُ ْم َب ْي َن الن ِ‬
‫َّاس أَن‬ ‫أى إتالف أو استهالك‪ ,‬ونفذ فى رعيَّتِه قوله تعالى‪َ :‬‬
‫‪1‬‬
‫() األحكام السلطانية للماوردي‪ ،‬ص (‪.)22‬‬
‫‪2‬‬
‫(‪ )4‬المصدر السابق ص (‪.)27‬‬
‫‪3‬‬
‫() أخرجه البخاري‪ :‬كتاب المناقب‪ ،‬باب عالمة النبوة‪( ،‬ج‪ ،)6/706‬رقم الحديث (‪.)3595‬‬
‫‪4‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬األحكام السلطانية‪ ،‬للماوردي‪ ،‬ص (‪.)23‬‬ ‫() األحكام السلطانية‪ ،‬ألبي يعلي‪.‬‬
‫‪104‬‬
‫تَ ْح ُك ُموا بِال َْع ْد ِل﴾ [النساء‪.]58:‬‬
‫سادسا‪ :‬إعداد األمة إعدادًا جهاديًّا‪:‬‬
‫ً‬
‫ومسيرة المرابطين منذ خروجهم من رباط عبد هللا بن ياسين تدلُّ على أنَّهم قوم‬
‫مجاهدون‪ ،‬وقام قادتهم بجهاد الوثنيين‪ ,‬واستم َّر يوسف بن تاشفين فى قتال أهل الردة‪,‬‬
‫وغالة المبتدعة‪ ,‬وتوحيد القبائل الخارجة عن نطاق الدولة‪ ،‬وقام بواجبه فى جهاد‬
‫الكفرة المعاندين لإلسالم حتى أسلموا أو أدخلوا فى ذمة ال ُم ْسلِ ِمين قيا ًما بحق هللا تعالى‬
‫فى ظهور دينه على الدِّين كلِّه (‪.)1‬‬
‫سابعًا‪ :‬القيام على تحصيل الصدقات وأموال الزكـــاة والخراج‬
‫والفيء‪:‬‬
‫حيث قام األمير يوسف باإلشراف على جباية وصرف الزكاة فى مصارفها‬
‫الشرعية من غير حيف وال عسف‪ ،‬فكانت من مصادر دولة المرابطين الزكاة‬
‫والمكوس‪ ،‬بل‬
‫َ‬ ‫والخراج والفيء وغيرها‪ ،‬فكان األمير يوسف ال يأخذ الضرائب‬
‫أسقطها‪ ,‬وإنَّما يأخذ المال من ِحلِّه‪ ،‬ويضعه فى حقه‪ ،‬وال يمنعه من مستحقه ‪.‬‬
‫ِّ (‪)2‬‬

‫ثامنًا‪ :‬تحرى األمانة فى اختيار المناصب‪:‬‬


‫حرص األمير يوسف على أن يختار األمناء واألكفاء وأسند إليهم الواليات‬
‫وقيادات الجنود ومناصب القضاة‪ ،‬وحرص على أن يولِّى كل عمل من أعمال‬
‫أصلح َمن يجده لذلك العمل‪ ،‬واختار وانتخب أحسن وأنفع العناصر لدولته‬ ‫َ‬ ‫ال ُم ْسلِ ِمين‬
‫السُّنيَّة من أجل أن يقوم بواجبه نحو رعيَّتِه‪.‬‬
‫تاسعًا‪ :‬اإلشراف المباشر على شئون الدولة‪:‬‬
‫اعتاد األمير يوسف أن يُشرف بنفسه على أمور رعيَّتِه‪ ،‬ويتابع والته‪ ,‬ويزورهم‬
‫فى مواطنهم‪ ,‬ويستمع للنَّاس‪ ،‬وما كان يعتمد على التفويض وحده؛ خوفًا من هللا تعالى‬
‫َّاس بِال َ‬
‫ْح ِّق‬ ‫اح ُك ْم َب ْي َن الن ِ‬ ‫اك َخلِي َفةً فِى األ َْر ِ‬
‫ض فَ ْ‬ ‫الذى قال فى كتابه‪﴿:‬يَا َد ُاو ُد إِنَّا َج َعلْنَ َ‬
‫اهلل﴾ [ص‪ ,]26 :‬وقد ع َّد اإلمام الماوردى هذا األمر‬ ‫يل ِ‬ ‫ك َعن َسبِ ِ‬ ‫والَ َتتَّبِ ِع ال َْهوى َفي ِ‬
‫ضلَّ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫من حقوق الرعية على الوالي‪ ،‬وذكر أنه يلزمه‪« :‬أن يباشر بنفسه مشارفة األمور‪,‬‬
‫يعول على التفويض‬ ‫وتصفح األحوال؛ لينهض بسياسة األمة وحراسة الملة‪ ،‬وال ِّ‬
‫تشاغالً بل َّذة‪ ,‬أو عبادة؛ فقد يخون األمين‪ ,‬ويغش الناصح‪.)3( »...‬‬
‫كان األمير يوسف يراقب والته مراقبة شديدة‪ ,‬وال يترد ُد فى تبديلهم وعزلهم إذا‬
‫أساءوا‪ ،‬وكان يضع مصلحة الرعية فى المقام األول عند تعيين الوالة ويوصيهم بها‬
‫خيرًا‪ ،‬وقد جاء فى كتابه إلى عبد هللا ابن فاطمة‪« :‬فاتخذ الحق إيمانك‪ ،‬وارفع لدعوة‬
‫المظلوم حجابك‪ ،‬وال تسد فى وجه المضطهد بابك‪ ،‬ووطن للرعية ‪-‬أحاطها هللا ‪-‬‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬السياسة الشرعية‪ ،‬البن تيمية‪ ،‬ص (‪.)29‬‬
‫‪3‬‬
‫() األحكام السلطانية للماوردي‪ ,‬ص (‪.)29‬‬
‫‪105‬‬
‫أكنافك‪ ،‬وابذل لها إنصافك‪ ،‬والحرج من كل ما يَحيف عليها ويؤذيها‪ ،‬ومن س َّدد عليها‬
‫من عمالك زيادة‪ ،‬أو خرق فى أمرها عادة‪ ،‬أو غي ََّر رس ًما‪ ،‬أو ب َّدل حك ًما‪ ،‬أو أخذ لنفسه‬
‫منها دره ًما ظل ًما فاعزله من عمله‪ ،‬وعاقبه فى بدنه‪ ،‬وألزمه فى ر ِّد ما أخذ متعديًا إلى‬
‫أهله‪ ،‬واجعله نكاالً لغيره حتى ال يقدم منهم أحد على مثل فعله»(‪.)1‬‬
‫وكان األمير يوسف يُخطر أهل الوالية بتعيين الوالى الجديد؛ فكتب إلى‬
‫أهل سبتة بشأن األمير يحيى بن أبى بكر‪« :‬ونحن من وراء اختياره والفحص‬
‫عن أخباره‪ ،‬فإذا وصل إليكم كتابنا؛ فالتزموا له السمع والطاعة‪ ،‬والنصح‬
‫والمتابعة جهد االستطاعة»(‪ )2‬باإلضافة إلى ذلك كان األمير يوسف كثير‬
‫الطواف فى مملكته لإلشراف على تنفيذ أوامره وتعليماته من قبل الوالة(‪,)3‬‬
‫واالطالع على أحوال الرعية والنظر فى أمورها‪.‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)66‬‬
‫‪2‬‬
‫() المرجع السابق‪ ،‬ص (‪.)166‬‬
‫‪3‬‬
‫() األندلس فى عهد المرابطين‪.‬‬
‫استفدت فى مباحث أثر حكم هللا على دولة المرابطين‪ ،‬وأثر ترك حكم الله والواجبات السياسية التي‬
‫قام بها األمير يوسف من كتاب الحكم والتحاكم فى خطاب الوحي‪ ،‬للمؤلف عبد العزيز مصطفى‬
‫كامل‪.‬‬
‫‪106‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫موقف الرعية فى دولة المرابطين‬
‫استوفت الرعية فى دولة المرابطين حقوقها الشرعية‪ ،‬فكان طبيعيًّا ج ًّدا أن‬ ‫ْ‬ ‫لقد‬
‫ي واجباتها إلى ُح َّكامها ووالتها‪ ,‬وأهم هذه الواجبات التى أدتها‪:‬‬
‫تؤد َ‬
‫أوالً‪ :‬الطاعة‪:‬‬
‫كان مسلمو المغرب فى زمن دولة المرابطين يتقربون إلى هللا تعالى بطاعة‬
‫أميرهم واالنقياد له فى كل معروف‪ ،‬ويرون هذه الطاعة حقًا ثابتًا ل ُح َّكامهم بنص‬
‫َطيعوا اهلل وأ ِ‬
‫َطيعُوا‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َ َ‬ ‫آمنُوا أ ُ‬ ‫ين َ‬ ‫القرآن وصريح السنة وصحيحها‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬يَا أ َُّي َها الذ َ‬
‫األم ِر‬ ‫ِ‬
‫ول َوأُولى ْ‬
‫الر ُس َ‬
‫َّ‬
‫ِم ْن ُك ْم﴾ [النساء‪.]59:‬‬
‫وفى مجتمع المرابطين كانت الشريعة فوق الجميع يخضع لها الحاكم والمحكوم‪،‬‬
‫ولهذا فإن طاعة ال ُح َّكام كانت عندهم مقيدة دائ ًما بطاعة هللا ورسوله‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫قال ×‪« :‬ال طاعة فى المعصية‪ ،‬إنما الطاعة فى المعروف» ‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬النصرة‪:‬‬
‫ً‬
‫كان ال ُم ْسلِ ُمون تحت قيادة أمراء المرابطين يعاضدون وينصرون أمراءهم فى‬
‫الت ْق َوى ﴾‬
‫ْبر َو َّ‬
‫﴿وَت َع َاونُوا َعلَى ال ِّ‬
‫أمور دينهم وجهادهم لعدوهم عاملين بقوله تعالى‪َ :‬‬
‫[المائدة‪.]2:‬‬
‫وكانوا يكرمون من يقيم شرع هللا من ُح َّكامهم‪ ،‬ويدافعون وينافحون عنه‬
‫ويكرمونه ويجلونه لقوله ×‪« :‬إن من إجالل هللا تعالى‪ :‬إكرام ذى الشيبة المسلم‪،‬‬
‫وحامل القرآن غير الغالى فيه والجافى عنه‪ ,‬وإكرام ذى السلطان المقسط»(‪.)2‬‬
‫ثالثًا‪ :‬النصح‪:‬‬
‫قامت هذه الدولة الميمونة المباركة على النصح المتبادل بين الحاكم والمحكومين‪،‬‬
‫ونجد إن أحد الوزراء يطلب من األمير يوسف عدم جواز البحر فى جهاده ضد‬
‫النصارى حتى يسلم ال ُم ْعتَ ِمد بن َعبَّاد له الجزيرة الخضراء‪ ،‬فيسمع األمير يوسف هذه‬
‫النصيحة وينفذها فى أرض الواقع‪ ،‬وامتنع عن جواز البحر حتى تحصَّل على تلك‬
‫الجزيرة التى أفادته فى جهاده كثيرًا‪ ،‬لقد كانت قيادات المرابطين تستمع للنصح فى‬
‫تواضع جم‪ ،‬واستعداد نفسى رفيع يدل على عمق التربية العميقة التى تحصَّلوا عليها‪.‬‬
‫إن اإلسالم أوجب على الرعية أن تُناصح والة أمرها‪ ،‬وقد جاء األمر بذلك فى‬
‫حديث من جوامع الكلم لرسول هللا × إذ يقول‪« :‬الدِّين النصيحة – ثالثًا – قال‬
‫الصحابة‪ :‬لِ َمن يا رسول هللا؟ قال‪ :‬هلل – ع َّز وجلَّ‪ -‬ولكتابه ولرسوله وألئمة‬
‫‪1‬‬
‫() أخرجه البخاري فى كتاب األحكام‪ ،‬باب السمع والطاعة‪ ،‬حديث (‪.)7145‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه أبو داود‪ ،‬كتاب األدب‪ ،‬باب تنزيل الناس منازلهم (‪/23‬رقم ‪.)4822‬‬
‫‪107‬‬
‫ال ُم ْسلِ ِمين وعامتهم»(‪.)1‬‬
‫ومعنى النصيحة لهم فى هذا الحديث‪« :‬معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه‬
‫وتذكيرهم به وتنبيههم فى رفق ولطف‪ ،‬ومجانبة الوثوب عليهم‪ ،‬والدعاء لهم‬
‫بالتوفيق»(‪.)2‬‬
‫وقال ×‪« :‬ثالثة ال يُغل عليهن قلب امرئ مسلم‪ :‬إخالص العمل هلل‪،‬‬
‫والنصح ألئمة ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬ولزوم جماعتهم»(‪.)3‬‬
‫لقد أكرم هللا ُح َّكام المرابطين ببطانة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر‪ ,‬مرشدة‬
‫للصواب‪ ،‬ناصحة للراعى والرعية ال تخشى إال هللا‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬التقويم‪:‬‬
‫ً‬
‫كان ال ُم ْسلِ ُمون الذين ارتبطوا بدولة المرابطين ال يجدون حرجًا وال مانعًا فى‬
‫إيصال ما يرونه من النصح واإلرشاد وتقويم األخطاء التى يقع فيها ال ُح َّكام أثناء‬
‫اجتهاداتهم فى شئون الحياة‪.‬‬
‫وهذا المبدأ قد استق َّر فى مفهوم الصحابة منذ بداية دعوة اإلسالم‪ ،‬فهذا‬
‫الصدِّيق ‪ t‬عندما تولى الخالفة‪ ،‬قام فى الصحابة خطيبًا‪ ،‬فقال‪« :‬أيُّها الناس‪ ,‬فإنِّى قد‬
‫ولِّيت عليكم‪ ,‬ولست بخيركم‪ ،‬فإن أحسنت فأعيونني‪ ،‬وإن أسأت فق ِّوموني‪ ،‬الصدق‬
‫أمانة‪ ،‬والكذب خيانة‪ ،‬والضعيف فيكم قوى عندى حتى أرجع عليه حقه ‪-‬إن شاء هللا‪-‬‬
‫ع قوم الجهاد فى‬ ‫والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه ‪ -‬إن شاء هللا‪ ،-‬ال يد ُ‬
‫سبيل هللا إال خذلهم هللا بذ ٍّل‪ ،‬وال تشيع الفاحشة فى قوم إال ع َّمهم هللا بالبالء‪ ,‬أطيعونى‬
‫ما أطعت هللا ورسوله‪ ،‬فإذا عصيت هللا ورسوله‪ ،‬فال طاعة لى عليكم‪ ,‬قوموا إلى‬
‫صالتكم يرحمكم هللا»(‪.)4‬‬
‫وكان عمر ‪ t‬ال يكتفى بإنصاف الناس من نفسه‪ ،‬حتى ينصفهم من عُماله ووالته‪،‬‬
‫يسأل الرعية عمن أساء منهم‪ ،‬وكان يقول‪« :‬إنِّى لم أبعث عمالى ليضربوا أبشاركم‬
‫وليشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم‪ ،‬ولكنى استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة‬
‫ي حتى أقصه منه»(‪.)5‬‬ ‫ي‪ ،‬ليرفعها إل َّ‬
‫نبيكم‪ ،‬ف َمن ظلمه عامله بمظلمة فال إذن له عل َّ‬
‫إن عالقة الحاكم بالمحكوم فى اإلسالم غرضها األول إعالء كلمة هللا‪ ,‬وإعزاز‬
‫َّاعى والرعية‪ ,‬وثانياً‪ :‬فهى بعيدة كل البعد ع َّمن يجعلون فى مرتبة‬ ‫دينه‪ ,‬ولمصلحة الر ِ‬
‫َمن ال يسألون فيها عما يفعلون‪ ,‬وبين َمن يحقرون ويمتهنون ُح َّكامهم بدون وجه حق‪،‬‬
‫إن الحاكم فى اإلسالم له احترامه وحقوقه المستمدة من كتاب هللا وسنة رسوله ×‪،‬‬
‫وكذلك للمحكوم حقوقه المستم َّدة من أصل عقيدة اإلسالم‪ ،‬لذلك نجد النصح والنقد‬
‫والتقويم بين الحاكم والمحكوم فى تاريخ اإلسالم على مرِّ العصور واألزمان‪ ،‬فإذا‬
‫تأملت فى الدول التى سارت على شرع هللا المولى ‪ -‬ع َّز وج َّل ‪-‬وجدت هذه المعالم‬
‫واضحة‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب بيان أن الدين النصيحة‪/23( ،‬رقم‪.)55‬‬
‫‪2‬‬
‫() جامع العلوم والحكم‪ ،‬البن رجب‪ ،‬ص (‪.)79‬‬
‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬صحيح ابن ماجه‪ ،‬للشيخ األلباني رحمه هللا (ج‪2/182‬رقم‪.)248‬‬
‫‪4‬‬
‫() البداية والنهاية‪( ,‬ج‪ )1/306‬إسناده صحيح‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫() الطبقات الكبرى‪ ،‬محمد بن سعد‪( ،‬ج‪.)8/222‬‬
‫‪108‬‬
‫وهذا يوسف بن تاشفين عندما دخل فى بالد األَ ْن َدلُس للجهاد فى سبيل هللا فأرسل‬
‫إلى أهل المرية من ممالك األَ ْن َدلُس‪ ،‬وذكر لهم أن جماعة أفتوه بجواز طلب العون‬
‫اقتداء بعمر بن الخطَّاب ‪ t‬فر َّد قاضى المرية «أبو عبد هللا بن الفراء» على األمير‬
‫يوسف ر ًّدا فيه نقد وتقويم ونصح‪ ،‬فلم يتعرَّض ذلك القاضى لعقوبة‪ ،‬بل استمع إلى‬
‫نصحه وإرشاده وما رآه حقًّا‪ ,‬وكان هذا القاضى من الدِّين والورع بمكان‪ ،‬وهذا نصُّ‬
‫الجواب الذى أرسله إلى األمير يوسف‪« :‬أ َّما بعد‪ ,‬ما ذكره أمير ال ُم ْسلِ ِمين من اقتضاء‬
‫المعونة وتأخيرى عن ذلك‪ ،‬وإن أبا الوليد الباجى وجميع القضاة والفقهاء بالعُدوة‬
‫واألَ ْن َدلُس أفتوا بأن عمر ابن الخطاب ‪ t‬اقتضاها‪ ،‬وكان صاحب رسول هللا ×‬
‫وضجيعه فى قبره‪ ،‬وال يشك فى عدله‪ ،‬فليس أمير المسلمين بصاحب رسول هللا × وال‬
‫بضجيعه فى قبره‪ ،‬وال من ال يشك فى عدله‪ ،‬فإن كان الفقهاء والقضاة أنزلوك بمنزلة‬
‫فى العدل فاهلل سائلهم عن تقلدهم فيك‪ ،‬وما اقتضاها عمر حتى دخل مسجد رسول هللا‬
‫× وحلف أن ليس عنده درهم واحد من بيت مال ال ُم ْسلِ ِمين ينفقه عليهم‪ ،‬فلتدخل المسجد‬
‫الجامع هناك بحضرة أهل العلم‪ ،‬وتحلف أن ليس عندك درهم واحد‪ ،‬وال فى بيت مال‬
‫المسلمين‪ ,‬وحينئ ٍذ تستوجب ذلك‪ ,‬والسالم»(‪.)6‬‬
‫ومحل الشاهد من هذه الرسالة هو النقد والتقويم المستمرُّ فى حياة األمة بين‬
‫علمائها وأمرائها بدون ظلم وجور واعتداء من الطرفين على بعضهما البعض‪ ،‬وبذلك‬
‫تنطلق حضارة األمة بآفاقها المتنوعة لتحدث تغييرًا حضاريًا فى دنيا الناس‪ ،‬مبنى‬
‫على النصح والتناصح‪ ،‬والنقد والتقويم‪ ،‬كما حدث فى دولة المرابطين السُّنيَّة‪.‬‬
‫***‬

‫‪6‬‬
‫() وفيات األعيان(ج‪.)7/119‬‬
‫‪109‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫موقف المرابطين من الخالفة العباسية‬
‫رأى المرابطون إن مبايعة الخليفة العبَّاسى واجبة‪ ،‬ولذلك أعطوا بيعتهم له لكونهم‬
‫مالكيين سنيين‪ ،‬فاعترفوا بالخالفة العباسية واتخذوا السواد شعارًا لهم‪ ،‬ونقشوا اسم‬
‫الخليفة العبَّاسى على نقودهم منذ منتصف القرن الخامس الهجري‪ ،‬وبعد أن بسط‬
‫األمير يوسف سيادته على األَ ْن َدلُس طلب منه الفقهاء أن تكون واليته من الخليفة لتجب‬
‫طاعته على الكافة‪ ،‬ونزوالً عند رغبتهم اتصل بالخليفة العبَّاسى أحمد المستظهر باهلل‬
‫‪512-487‬هـ ‪1094 /‬م‪1118 -‬م وأرسل إليه بعثة من عبد هللا بن ُم َح َّمد بن العربى‬
‫اإلمام المعروف‪ ،‬وز َّودها بهدية ثمينة‪ ,‬وبكتاب يذكر فيه ما فتح هللا على يده من البالد‬
‫وعز لإلسالم‪ ،‬ويطلب فى‬ ‫ٍّ‬ ‫فى المغرب واألَ ْن َدلُس‪ ،‬وما أحرزه من نصر للمسلمين‪،‬‬
‫النهاية تقليدًا بوالية البالد التى بسط نفوذه عليها‪ ،‬وأ َّدت البعثة مهمتها بنجاح؛ فتلطَّفت‬
‫فى القول‪ ,‬وأحسنت اإلبالغ وعادت إلى المغرب بتقليد الخليفة وعهده لألمير يوسف‬
‫بن تاشفين الذى ُس َّر بذلك سرورًا عظي ًما(‪.)1‬‬
‫لقد كانت دولة المرابطين من الناحية العملية تستطيع أن تستغنى عن الخالفة‬
‫العباسية الضعيفة‪ ,‬حيث إن السلطان ال يملك من السلطة إال اسمه‪ ،‬بل كان األمير‬
‫وحرصهم على تنفيذ‬ ‫َ‬ ‫يوسف أكثر قوة منه؛ يملك ويحكم‪ ،‬ولكن حبَّهم لشريعة اإلسالم‬
‫أَحكام هللا فى أسوأ الظروف جعلهم يتقيدون بذلك‪ ،‬لقد كانت توجيهات القرآن الكريم فى‬
‫وجوب لزوم الجماعة وذم التَّفرُّ ق واضحة المعالم بالنسبة إليهم‪ ,‬ولقد كانت أحاديث‬
‫رسول هللا × فى هذا المضمار هى التى أرشدتهم لالنضمام للخالفة العباسية الضعيفة‪،‬‬
‫ك‬‫ات َوأُولَئِ َ‬ ‫اء ُه ُم الَْبِّينَ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َت َف َّرقُوا َوا ْخَتلَ ُفوا من َب ْعد َما َج َ‬ ‫﴿والَ تَ ُكونُوا َكالذ َ‬ ‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫وه ُه ْم‬
‫َّت ُو ُج ُ‬‫اس َود ْ‬‫ين ْ‬ ‫ض ُو ُجوهٌ َوتَ ْس َو ُّد ُو ُجوهٌ فَأ ََّما الذ َ‬‫يم ‪َ ‬ي ْو َم َت ْبيَ ُّ‬
‫اب َعظ ٌ‬‫ل َُه ْم َع َذ ٌ‬
‫وه ُه ْم‬ ‫َّ ِ‬ ‫أَ ْك َفرتُم َب ْع َد إِيمانِ ُكم فَ ُذوقُوا ال َْع َذ َ ِ‬
‫ت ُو ُج ُ‬ ‫ضْ‬ ‫ين ْابيَ ّ‬‫اب ب َما ُك ْنتُ ْم تَ ْك ُف ُرو َن ‪َ ‬وأ ََّما الذ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ ْ‬
‫ِ‬
‫فَِفى َر ْح َمة اهلل ُه ْم ف َيها َخال ُدو َن﴾ [آل عمران‪.]107-105:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫﴿والَ تَ ُكونُوا‬
‫لقد ذكر ابن جرير بسنده عن ابن عبَّاس – رضى هللا عنهما‪ :-‬قوله‪َ :‬‬
‫ين َت َف َّرقُوا َوا ْخَتلَ ُفوا﴾ ونحو هذا فى القرآن أمر هللا‪ -‬جل ثناؤه ‪-‬المؤمنين بالجماعة‪،‬‬ ‫َّ ِ‬
‫َكالذ َ‬
‫فنهاهم عن االختالف والفُرقة‪ ،‬وأخبرهم إنَّما هلك َمن كان قبلهم بالمراء‪ ,‬والخصومات‬
‫فى دين هللا»(‪.)2‬‬
‫واألحاديث فى هذا الشأن كثيرة‪ :‬فعن ابن عبَّاس – رضى هللا عنهما – قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا ×‪َ « :‬من فارق الجماعة شبرًا فكأنَّما خلع ربقة اإلسالم من عنقه» ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫‪1‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)157‬‬
‫‪2‬‬
‫() جامع البيان (ج‪.)4/39‬‬
‫‪3‬‬
‫() البخاري‪ ،‬فتح الباري‪ ،‬ج (‪.)13/7‬‬
‫‪110‬‬
‫وعن ابن عمر –رضى هللا عنهما – قال‪ :‬سمعت رسول هللا × يقول‪َ « :‬من فارق‬
‫الجماعة‪ ،‬فإنه يموت ِميتة جاهليَّة» (‪.)1‬‬
‫والمراد بميتة الجاهلية ‪-‬وهى بكسر الميم‪ -‬حالة الموت كموت أهل الجاهلية على‬
‫ضالل‪ ،‬وليس له إمام مطاع‪ ،‬ألنَّهم كانوا ال يعرفون ذلك‪ ،‬وليس المراد أنه يموت‬
‫كافرًا‪ ،‬بل يموت عاصيًا‪ ،‬لقد ذهب علماء المرابطين إلى أن الجماعة المقصودة فى‬
‫الحديث جماعة ال ُم ْسلِ ِمين إذا اجتمعوا على أمير‪ ،‬موافق للكتاب والسنة(‪.)2‬‬
‫هذا فى نظرى سبب دخول المرابطين تحت الخالفة العباسية‪ ،‬وأما ما ذكره‬
‫المؤرخون أن من أسباب ذلك بعدهم عن العبَّاسيين‪ ،‬ولذلك كانوا ال يخشونهم خاصَّة‬
‫بعد أن تطرَّق إليهم الفساد‪ ،‬ودبَّ الضعف فيهم‪ ،‬وهى ال تشكل أى خطر عليهم‪ ،‬فإنِّى‬
‫استبعد ذلك حيث إن سياسة قادة المرابطين تقاد بالشرع‪ ،‬وليس العكس‪ ،‬فهم إسالميون‬
‫سياسيون‪ ،‬وليسوا سياسيين إسالميين فى عالقاتهم الخارجيَّة وشئون دولتهم ال َّداخلِيَّة‬
‫وارتباطاتهم الدولية‪.‬‬
‫أوالً‪ :‬الخطاب الذى رفعه الفقيه ابن العربى إلى الخليفة المستظهر‬
‫باهلل ‪512-487‬هـ‪:‬‬
‫يلتمس فيه تقليدًا يخ ِّول يوسف بن تاشفين حكم بالد المغرب واألَ ْن َدلُس‪ :‬بسم هللا‬
‫الرحمن الرحيم عليه توكلي‪:‬‬
‫أسعد هللا الدنيا وأهلها بدوام أنوار المواقف المقدسة النبوية اإلمامية المستظهرية‪،‬‬
‫وضاعف مددها‪ ،‬وال أرى ال ُم ْسلِ ِمين أمدها بغرائب مجد تبدعها‪ ،‬وفرائض تشرعها‬
‫الخالفة‪ ،‬ومستأنف سعود تحرص جنابها‪ ،‬وال زالت األيام التى هى أليامها غرر‪ ،‬وفى‬
‫إكليل الخالفة درر‪ ،‬وللدهر تمائم‪ ،‬وفى المحل غنائم‪ ،‬والحمد هلل الذى جعل المواقف‬
‫المقدسة النبوية اإلمامية المستظهرية شرائط السواد‪ ،‬وخصَّها بالمجد المؤثل المطول‬
‫باالنتساب‪ ،‬كابرًا عن كابر إلى أعلى خندف(‪ ،)3‬فهى أعالها عمادًا‪ ,‬وأوراها فى مواقف‬
‫الفضل زنادًا‪ ,‬أرومة الرسالة وجرثومة الخالفة‪ ،‬إليها ينزع هاشم‪ ،‬وعنها أخذت‬
‫المكارم‪ ،‬مفاخر شهد لها الكتاب المنزل‪ ،‬وعهد بتخليدها مخبرًا عن الوحى فى آله‬
‫وعقبه النبى المرسل‪ ،‬قد آمنت بعصمة هللا من الغير‪ ،‬وتحققت أواخرها على السنن‬
‫من به من توفيقنا‬ ‫أولها فى هداية البشر بحسن السير‪ ،‬أوزعنا هللا الشكر على ما َّ‬
‫للتمسك بعراها الوثيقة‪ ,‬واإلهداء بهداها إلى واضح الطريقة‪ ،‬فهم فى الدِّين أمتنا‪ ,‬ويوم‬
‫الدِّين وسليتنا‪ ،‬استعملنا هللا من طاعته وطاعتهم بما يؤدى إلى مرضاته ومرضاتهم‪،‬‬
‫إنه الموفِّق الهادى ال ربَّ غيرُه‪.‬‬
‫وإن الخادم باألدعية المتقبلة للمواقف المقدسة النبوية اإلمامية المستظهرية‪ ،‬ألهمه‬
‫هللا منها لما يسمع فيرفع بمنه لما علم بموجب الشرع أن بيعة اإلمام العادل من أركان‬
‫الديانة‪ ،‬ومما يتعين ما يحتمل من رعاية األمانة‪.‬‬
‫هاجر إلى ذلك بنفسه وبابنه المسترق القن من أقصى المغارب‪ ،‬معتقدًا أن عمله‬
‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬الشيخ األلباني رحمه هللا فى السلسلة الصحيحة (ج ‪.)984 /‬‬
‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق‪ ،‬د‪ .‬جمال أحمد‪ ،‬ص (‪.)97‬‬
‫‪3‬‬
‫() خندف هي امرأة إلياس بن معز أحد جدود العرب‪ ،‬وفد عرف بنوه بها‪ :‬نهاية األرب فى معرفة أنساب‬
‫العرب‪ ،‬ص (‪.)248‬‬
‫‪111‬‬
‫أفضل القرب والرغائب‪ ،‬واحتمل برد الهواء وظمأ الهواجر‪ ،‬واقتحم دون ذلك مسالك‬
‫بلغت فيها القلوب الحناجر‪ ،‬ولم يثنه بحر يزخر‪ ،‬وال قفر يذعر ويحتسب فى ذلك أثره‪،‬‬
‫ويرجو أن يقبل هللا يوم الجزاء عثره‪ ،‬إلى أن انتهى هو وابنه إلى مدينة السالم ال زالت‬
‫محروسة من ِغي َر األيام‪ ،‬عاصمة لمن التجأ إليه من مهتضمى األنام‪.‬‬
‫ولم يزل الخادم باألدعية المتقبلة بحول هللا يتوسَّل بهجرته‪ ،‬ويتقرَّب بخلوص‬
‫عالنيته وسريرته‪ ,‬ويسأل تشريف رقاعه‪ ،‬بمالحظاتها‪ ،‬والنَّظر من انقطاعه‪ ،‬رغبة فى‬
‫الحظ الجسيم‪ ،‬إلى أن وصل إلى المجلس السامى وخدم البساط العالي‪ ،‬زاده هللا تعظي ًما‬
‫وتشريفًا‪ ،‬وأنهى أغراض وفادته ومقاصد إدارته‪ ,‬فنفذت األوامر الشريفة‪ ،‬أدام هللا‬
‫سم َّوها وتشريفها‪ ,‬واصطفى على الجميع ستر سلطانها‪ ،‬وكنف إحسانها بقبول وسائله‪،‬‬
‫وإلحاح مطالبه‪ ،‬وإضافة اإلحسان عليه‪.‬‬
‫ولما بسط له فى األمل‪ ،‬وكان هو وابنه فى محلِّ الكرامة والجذل‪ ،‬بدأ بعرض ما‬
‫هو عليه ناصر الدِّين‪ ،‬وجامع كلمة ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬القائم بدعوة موالنا أمير المؤمنين‬
‫صلوات هللا عليه وعلى آبائه الطاهرين‪ ،‬األمير أبو يعقوب يوسف بن تاشفين المتحرك‬
‫بالجهاد المتجهز إلى ال ُم ْسلِ ِمين باستئصال فئة العناد‪ ،‬ولمة الفساد‪ ،‬قام بدعوة اإلمامة‬
‫العباسية والناس أشياع‪ ,‬وقد غلب عليهم قوم دعوا إلى أنفسهم ليسوا من الرهط الكريم‪،‬‬
‫وال من شعبة الطاهر الصميم‪ ،‬فنبَّه جميع من كان فى أفق قيامه بالدعوة اإلمامية‬
‫العباسية‪ ،‬وقاتل َمن توقَّف عنها منذ أربعين عا ًما إلى أن صار جميع َمن فى جهة‬
‫المغارب على سعتها وامتدادها له طاعة‪ ،‬واجتمعت بحمد هللا على دعوته الموفَّقَة‬
‫الجماعة‪ ،‬فيخطب اآلن للخالفة‪ ،‬بسط هللا أنوارها‪ ،‬وأعلى منارها على أكثر من ألفى‬
‫منبر وخمسمائة منبر‪ ،‬فإن طاعته ضاعفها هللا من أول بالد اإلفرنج ‪-‬استأصل هللا‬
‫شأفتهم‪ ،‬ود َّمر جملتهم ‪ -‬إلى آخر بالد السوس مما يلى بالد غانة وهى بالد معادن‬
‫الذهب‪ ،‬والمسافة بين الحدين المذكورين مسيرة خمسة أشهر‪ ،‬وله وقائع فى جميع‬
‫أصناف الشرك من اإلفرنج وغيرهم قد فللت غربهم‪ ،‬وقللت حزبهم‪ ،‬وألفت جموعه‬
‫حربهم‪ ،‬وهو مستم ٌّر على مجاهدتهم‪ ،‬ومضايقتهم فى كل أفق‪ ،‬وعلى كل الطرق‪ ،‬وقد‬
‫استرجع كثيرًا من المعاقل التى استباحها الروم من أمور ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬وسبت أهلها قبل‬
‫حصول تلك الجهات فى حكم سلطانه‪ ،‬وكانت ثغور ال ُم ْسلِ ِمين بها مستضامة‪ ،‬وقد‬
‫وعز سلطانه‪,‬‬ ‫ِّ‬ ‫أعادها جده بحمد هللا إلى أولها‪ ،‬واحترمت لحرمة ال ُم ْسلِ ِمين واإلسالم‬
‫وهذا دأبه‪ ،‬وهجيراه الذى ال عمل له سواه‪.‬‬
‫وعدة جيوشه إذا جمعها لحركته ستون ألف فارس‪ ,‬وكان أمله مواصلة الخدمة‬
‫والتشريف بإنهاء أعماله‪ ،‬واإلعالم بمناقل أحواله وأفعاله‪ ,‬وباحتماله على حماية دين‬
‫ال ُم ْسلِ ِمين‪ ,‬وإقباله على مجاهدة المشركين‪ ،‬إال أن الحائل المانع دون ذلك لاشفاته‪ ،‬ولم‬
‫يزل محافظًا على ما هو عليه من إقامة الدعوة السعيدة‪ ,‬واالعتراف بجمل النعم الوافدة‬
‫العديدة بفضل هللا‪ ،‬ولقد وصل إلى ديار المشرق فى هذا العام قاضى من قضاة‬
‫المغرب يعرف بابن القاسم‪ ،‬وذكر من حال هذا األمير ما يؤ ِّكد ما ذكرته‪ ،‬ويؤيد ما‬
‫شرحته‪ ،‬وأشاع القاضى المذكور ذلك بمكة‪ ،‬وصل هللا تشريفها وتعظيمها‪ ،‬وذكر لى‬
‫أن الروم على شفا جرف من تضييقه عليهم‪ ،‬وحصاره لهم‪ ،‬وقد تكرَّر إعالم الخادم‬
‫بذلك لما تلزمه من طاعة أولى األمر السيما هذا األمير‪ ،‬وقد حظى بفضائل منها الدِّين‬
‫المتين‪ ،‬والعدل المستبين‪ ،‬وطاعة اإلمام‪ ،‬وابتدأ جهاده بالمحاربة على إظهار دعوته‪،‬‬

‫‪112‬‬
‫وجميع ال ُم ْسلِ ِمين على طاعته واالرتباط بحماية ثغور ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬وهو ممن يقسم‬
‫بالسوية‪ ،‬ويعدل فى الرعية‪ ,‬وهللا ما فى طاعته مع سعتها دان منه‪ ،‬وال ناء عنه من‬
‫البالد ما يجرى فيه على أحد من ال ُم ْسلِ ِمين رسم مكس‪ ،‬وسبل ال ُم ْسلِ ِمين آمنة‪ ،‬ونقوده‬
‫من الذهب والفضة سليمة من الشرب‪ ،‬مطرزة باسم الخالفة‪ ،‬ضاعف هللا تعظيمها‬
‫وجاللها‪.‬‬
‫هذه حقيقة حالِه‪ ،‬وهللا يعلم أنى ما أسهبت وال لغوت‪ ،‬بل لعلى قد أغفلت أو‬
‫قصَّرت‪ ،‬ولموالنا أمير المؤمنين المستظهر باهلل‪ ،‬صلوات هللا عليه وعلى آبائه‬
‫الطاهرين‪ ،‬والطول العميم فى األمر‪ ,‬تشريفه بقبول تأميله‪ ،‬وفى اإلشارة إليه بما يقوى‬
‫أمره‪ ،‬ويشد أزره‪ ,‬ويؤيد سلطانه‪ ،‬ويعلى شأنه‪ ,‬مجريًا له على السنن الكريم‪ ،‬الطول‬
‫العميم‪ ،‬فوهللا ما فى األمراء وال فى شيع النصحاء األولياء من يجوز فى الوالء وصحة‬
‫االنتماء سبقه‪ ،‬وال يلبس من النصيحة من الخالفة المقدسة المبنية على طريق النبوية‪،‬‬
‫ما يصل يده ويقوى أيده ويشد عضده بمنه وطوله‪.‬‬
‫وضراعة الخادم باألدعية المتقبلة لنفسه والبنه المسترق القن بعد االمتنان بإباحة‬
‫الصدر لهما إلى الوطن‪ ،‬فقد بعد عنه سبعة أعوام‪ ،‬وأقاما فى الجناب المخضب الظليل‪,‬‬
‫والكنف الرحب المأهول مدة عامين‪ ،‬يستدرَّان النعم الحافلة جمالً بعد جمل‪ ،‬ويكرعان‬
‫فى المشارب الجمة العذبة علالً بعد نهل‪ ,‬فلله الهام الشريفة التى مسحت على شكيتها‬
‫من عدوان األيام بيد شيم الكرام‪ ،‬فأزاحت عنهما جميع الشاكيات واآلالم‪ . .‬ال أعدم هللا‬
‫موالنا اإلمام المستظهر باهلل أمير المؤمنين‪ ،‬صلوات هللا عليه وعلى آبائه المنتخبين‬
‫مبرة تتضاعف بها المعالي‪ ,‬وسعادة تحرز أسنى اآلمال‪ ،‬وكفاية يستم ُّد بها حرية األيام‬
‫والليالي‪ ،‬فذلك بيده وغيره معجزة‪ ،‬وهو المنعم الج َّواد‪ ،‬وكلُّ خير من طوله مستفاد‪ ،‬ال‬
‫شريك له‪ ،‬وال توفيق إال به والحمد هلل حق حمده‪ ،‬وصلواته على سيد المرسلين رسوله‬
‫وعبده وعلى آله الطيبين‪ ،‬وعترته المنتخبين الراشدين‪ ،‬آباء أمير المؤمنين صلوات هللا‬
‫عليهم أجمعين إلى يوم الدِّين‪ ،‬وحسبى هللا ونعم الوكيل»(‪.)1‬‬
‫إذا تأ َّملنا فى الرسالة المذكورة فإنها تدلُّنا على طابع رسائل ال ُح َّكام فى فترة‬
‫المرابطين‪ ،‬وتدلنا على حسن اختيار دولة المرابطين لممثليها عند الخالفة العباسية‬
‫حيث إنَّها اختارت عال ًما فقيهًا ذا دراية وخبرة كبيرة فى مخاطبة ال ُح َّكام والخلفاء‪،‬‬
‫وبذلك نجحت تلك الوفادة وحققت أهدافها‪ ،‬ورجعت تحمل معها ثمارها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬رد الخالفة العباسية على طلب دولة المرابطين‪:‬‬
‫ً‬
‫الش َّ‬
‫ك أن الخالفة العباسية دخلها سرور عظيم‪ ,‬وكسبت مكسبًا معنويًا كبيرًا‪,‬‬
‫ولذلك حرص الخليفة على أن يرد بنفسه على خطاب ابن تاشفين حيث كتب سبعة‬
‫وثالثين سطرًا جاء فيها‪« :‬عرضت هذه القصة بمفاوز العز والعصمة‪ ،‬ومواقف‬
‫اإلمامة المطهرة المكرمة‪ ،‬زاد هللا جاللها‪ ،‬وسبوغ ظاللها‪ ،‬فخرجت المراسم الشريفة‬
‫بأن‬
‫ذلك الولى الذى أضحى بحبل اإلخالص معتص ًما‪ ,‬ولشرطه ملتز ًما‪ ،‬وإلى أداء فروضه‬
‫مسابقًا‪ ،‬وكل فعله فيما هو بصدده للتوفيق من الوالء‪ ،‬طويل نجاده‪ ,‬إذ كان َمن غدا‬
‫بالدِّين تمسكه‪ ,‬وفى الذيادة عنه مسلكه‪ ،‬حقيقًا بأن يستتب صالح النظام على يده‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫() دراسات فى تاريخ المغرب واألندلس‪ ,‬د‪ .‬أحمد العبادي‪ ،‬ص (‪.)476‬‬
‫‪113‬‬
‫ويستشف من يومه حسن العقبى فى َمن يليه من الكفار‪ ,‬وإتيان ما يقضى عليهم‬
‫ين َيلُونَ ُكم ِّم َن الْ ُك َّفا ِر﴾ [التوبة‪.]123 :‬‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫باالجتياح والبوار‪ ،‬اتباعه لقوله تعالى‪﴿:‬قَاتلُوا الذ َ‬
‫فهذا هو الواجب اعتماده الذى يقوم به الشرع‪ ،‬وأن يؤلف شمل َمن فى جملته من‬
‫األنجاد على الطاعة اإلمامية التى هى العروة الوثقى والذخر األبقى واستقراه قوله‬
‫َطيعوا اهلل وأ ِ‬
‫َطيعُوا‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َ َ‬ ‫آمنُوا أ ُ‬ ‫ين َ‬ ‫تعالى العمل‪ ،‬والبدار إلى التشبتث بسببه‪﴿ :‬يَا أ َُّي َها الذ َ‬
‫األم ِر ِم ْن ُك ْم﴾ [النساء‪.]59:‬‬ ‫ِ‬
‫ول َوأُولى ْ‬ ‫الر ُس َ‬‫َّ‬
‫وليكن دأبه الجهاد فيما يكسب عند هللا الزلفى‪ ,‬ويمنحه من رضاه القسم األكمل‬
‫ت ِمن س ٍ‬
‫وء َت َو ُّد‬ ‫ت ِم ْن َخ ْي ٍر ُّم ْح َ‬
‫ض ًرا َو َما َع ِملَ ْ‬ ‫﴿ي ْو َم تَ ِج ُد ُك ُّل َن ْف ٍ‬
‫س َّما َع ِملَ ْ‬
‫ُ‬ ‫األوفى‪َ :‬‬
‫َم ًدا بَ ِعي ًدا﴾ [آل عمران‪.]30:‬‬ ‫ل َْو أن َب ْيَن َها َو َب ْينَهُ أ َ‬
‫وأن يختص رافعها وولده باإلرعاء الذى يضفو عليهما برده‪ ،‬ويصفو لهما ورده‪،‬‬
‫وليظهر عليهما من المهاجرة جميل األثر‪ ،‬ويؤول أمرهما فيما يرجو أنَّهما إلى استقامة‬
‫النظام وض ِّم النشر‪ ،‬فليقابل األمر األسنى فى ذلك بامتثال واحتذاء مطاع المثال ‪ -‬إن‬
‫شاء هللا‪.)1(»-‬‬
‫لقد استطاعت دولة المرابطين أن تكون سندًا قويًا معنويًا للخالفة العباسية السُّنيَّة‪,‬‬
‫وبذلك تكون نفَّذت أوامر ربها‪ ,‬واسترشدت بتوجيهات نبيها‪ ،‬فأصابها بركة ذلك من‬
‫سمعتها العالمية فى ديار ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬وأصبحت جز ًءا من الخالفة العباسية التى اكتفت‬
‫منها بالطاعة المعنوية‪ ،‬وبذلك تحصل أمراء المرابطين من اعتراف الخالفة العباسية‬
‫بدولتهم‪ ,‬حيث إن المرابطين كانوا يعتقدون اعتقادًا راس ًخا أنه لن يعتبر ملكهم مشروعًا‬
‫إال إذا باركته اإلمامة القرشية العباسية‪.‬‬
‫واختلف المؤ ِّرخون فى زمن اتصال المرابطين بالخالفة العباسية‪ :‬فابن األثير‬
‫يقول‪ :‬إن أول اتصال بين المرابطين والعبَّاسيين قد حدث عقب انتصار ال ِّزالقَة‪,‬‬
‫واستيالء يوسف على األَ ْن َدلُس‪ ,‬ويتفق مع ابن األثير فى هذا الرأى كلٌّ من ابن خلدون‪,‬‬
‫والقلقشندي‪ ,‬والذهبي(‪.)2‬‬
‫وأنا أميل إلى أن اتصال المرابطين كان قبل ذلك بكثير حيث إن واضع الخطوط‬
‫العريضة لدولة المرابطين الفقيه «أبو عمران الفاسى القيرواني» ِمن أتباع العباسية‪,‬‬
‫وكلُّ الفقهاء الذين من مدرسته سُنيُّون مالكيُّون‪ ،‬وبذلك يكون زعماء المرابطين ساروا‬
‫على نفس التعاليم السُّنيَّة المالكية‪.‬‬
‫ونجد أن نقود المرابطين قد نقش عليها أسماء الخلفاء العبَّاسيين منذ عام ‪450‬هـ‪،‬‬
‫أى منذ عهد األمير أبى بكر بن عمران‪ ،‬وظ َّل اسم الخليفة العبَّاسى يذكر مقرونًا باسم‬
‫أبى بكر بن عمران إلى أن توفى فى عام ‪480‬هـ‪ ،‬وخلفه يوسف بن تاشفين فذكر اسمه‬
‫على السكة مع اسم الخليفة العبَّاسي‪ ،‬وهذا يدل على صلة المرابطين بالعبَّاسيين قبل‬
‫ك أن كتابة اسم الخليفة على عملة المرابطين تم بعد اتصالهم بالخليفة‬ ‫الزالقَة‪ ،‬وال ش َّ‬ ‫ِّ‬

‫‪1‬‬
‫() دراسات فى تاريخ المغرب‪ ،‬ص (‪.)478‬‬
‫‪2‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬د‪ .‬حمدي عبد المنعم‪ ،‬ص (‪.)237‬‬
‫‪114‬‬
‫العبَّاسي‪ ،‬وبعد أن تلقَّوا منه إجابة بقبول طاعتهم‪ ,‬وتقليدًا بواليتهم(‪.)3‬‬
‫***‬

‫‪3‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)236‬‬
‫‪115‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫عالقة األمير يوسف مع بنى حماد‬
‫حرص األمير يوسف على عالقة حسن الجوار مع دولة بنى َح َّماد الصنهاجية‬
‫الح َّماديون يتحينون الفرصة لضم أطراف‬ ‫التى تقع فى شرق دولة المرابطين‪ ،‬وكان َ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫من مملكة المرابطين‪ ،‬وت َّم لهم ذلك عندما عبر األمير يوسف األن َدلس عام ‪479‬هـ‪،‬‬
‫فتحالفوا مع عرب بنى هالل؛ وغزوا المغرب األوسط ؛وعادوا إلى بالدهم محملين‬
‫بالغنائم‪ ،‬وسكت يوسف عن االنتقام منهم‪ ,‬وصالحهم‪ ،‬ولم يرغب فى الدخول فى حرب‬
‫معهم مع وجود أسبابها حقنًا لدماء ال ُم ْسلِ ِمين وحفظًا لشوكتهم وقوتهم‪.‬‬
‫الح َّمادى فى عام ‪481‬هـ‪ ,‬بعث األمير يوسف‬ ‫وعندما تُوفى الناصر بن علناس َ‬
‫بكتاب تعزية إلى ولده وخليفته المنصور‪ ،‬مما يدل على نيَّات يوسف السلمية تجاه بنى‬
‫َح َّماد‪ ،‬واستمرَّت حالة السلم بين الفريقين أكثر من عشر سنوات‪ ,‬ثم نشب خالف بين‬
‫والى تلمسان المرابطى تاشفين بن تنغمير و ُح َّكام بنى َح َّماد‪ ,‬فهاجم األمير تاشفين بدون‬
‫إذن من األمير يوسف‪ ،‬واشت َّد الصِّراع بين الطرفين‪ ,‬وتدخل األمير يوسف واستطاع‬
‫بحكمته وسياسته أن يحقن دماء ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬وعزل حاكم تلمسان تاشفين وعيَّن مكانه‬
‫األمير مزدلي‪ ،‬وبعد أن ضم األمير يوسف األَ ْن َدلُس أضحت مملكة بجاية مال ًذا للفارِّين‬
‫من األَ ْن َدلُس‪ ،‬ومع ذلك لم يحرك األمير يوسف ساكنًا تجاه عمل بنى َح َّماد‪ ,‬وبقى األمر‬
‫كذلك حتى وفاته(‪.)1‬‬
‫لقد كان للتوجه السنى فى دولة ال َح َّماديين أثر فى تخفيف الصراع مع المرابطين‪،‬‬
‫كما إن لصلة القرابة الصنهاجية سببًا آخر‪ ،‬وإال ما كانت تستطيع دولة ال َح َّماديين أن‬
‫الح َّماديين كانت من األسباب‬ ‫تقاوم جيوش المرابطين الفتية‪ ،‬وفى نظرى إن بقاء دولة َ‬
‫ً‬
‫التى أضعفت الدولة الزيرية والصنهاجية‪ ،‬وسببت توترًا وارتباكا لدولة المرابطين‪،‬‬
‫ولو ضمت لدولة المرابطين لكان أفيد لإلسالم وال ُم ْسلِ ِمين وللمغرب األوسط واألقصى‪.‬‬
‫* **‬
‫المبحث الخامس‬
‫عالقة المرابطين مع ملوك الطوائف‬
‫مرَّت عالقة المرابطين مع ملوك الطوائف بمراحل متعددة‪ ،‬وهي‪ :‬المسالمة‪،‬‬
‫التحالف‪ ،‬القتال‪.‬‬
‫أوالً‪ :‬مرحلة المسالمة‪:‬‬
‫ل َّما وصلت دولة المرابطين ذروة قوتها وحطت بجيوشها وأساطيلها على سهل‬
‫البحر المتوسط ارتعد ملوك الطوائف‪ ،‬وأصابهم الخوف وركبهم اله ُّم‪ ،‬وأصبحوا بين‬
‫قبضتين قويتين‪ :‬بين النصارى الذين يمكن مداراتهم باألموال والتنازل عن بعض‬
‫الحصون‪ ,‬وبين المرابطين الذى عرفوا بجهادهم واستعالئهم على متاع الدنيا‪ ،‬وحبِّهم‬
‫للشهادة‪ ,‬ورفع المظالم عن العباد‪ ،‬وقد وصلهم ظلم ملوك األَ ْن َدلُس‪ ،‬وقد اشتهر جنود‬
‫‪1‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)158‬‬
‫‪116‬‬
‫المرابطين بصيت عظيم فى تحقيق النصر فى المعارك‪ ،‬وبأس شديد فى القتال مما‬
‫أدخل الرعب فى قلوب ملوك الطوائف‪ ،‬فعقدوا اجتماعًا للتشاور فى أمر الخطر القادم‬
‫من الجنوب‪ ،‬واستق َّر رأيهم أن يكتبوا لألمير يوسف يسألونه اإلعراض عنهم‪ ,‬وأنَّهم‬
‫تحت طاعته‪ ،‬وهذا نص الكتاب‪:‬‬
‫«أما بعد‪ ,‬فإنَّك إن أعرضت عنا نسبت إلى كرم‪ ,‬ولم تنسب إلى عجز‪ ،‬وإن أجبنا‬
‫داعيك نسبنا إلى عقل ولم ننسب إلى وهن‪ ،‬وقد اخترنا ألنفسنا أجمل نسبنا فاختر‬
‫لنفسك أكرم نسبتك‪ ،‬فإنَّك بالمحل الذى ال يجب أن تُسبَق فيه إلى مكرمة‪ ،‬وإن فى‬
‫استبقائك ذوى البيوت ما شئت من دوام ألمرك وثبوت والسالم»(‪.)1‬‬
‫وأرسلوا مع حامل الكتاب هدايا وتحفًا نفيسة‪.‬‬
‫وبعد أن تشاور األمير يوسف مع مستشاريه رأى إن يسالمهم ويرضى بما ق َّدموا‬
‫له من طاعة‪ ,‬ور َّد عليهم بهذا الكتاب جاء فيه‪:‬‬
‫«بسم هللا الرحمن الرحيم من يوسف بن تاشفين سالم عليكم ورحمة هللا وبركاته‪،‬‬
‫تحية من سالمكم وسلم عليكم‪ ,‬وحكمه التأييد والنصر فيما حكم عليكم‪ ،‬وإنَّكم مما فى‬
‫أيديكم من الملك فى أوسع إباحة مخصوصين منا أكرم إيثار وسماحة‪ ،‬فاستديموا‬
‫وفاءنا بوفائكم‪ ,‬واستصلحوا إخاءنا بإصالح إخائكم‪ ،‬وهللا ولى التوفيق لنا ولكم‬
‫والسالم»‪.‬‬
‫وقد قرن األمير يوسف الكتاب بالتحف وبدرق اللمط التى ال توجد إال فى ديار‬
‫المرابطين‪ ،‬ولما وصل كتابه إلى ملوك الطوائف فرحوا بذلك‪ ،‬وتق َّوت نفوسهم على‬
‫قتال اإلسبان‪ ،‬وأحب أهل األَ ْن َدلُس دولة المرابطين ُح َّكامهم ومحكوميهم(‪.)2‬‬
‫ثانيا‪ :‬مرحلة التحالف‪:‬‬
‫ً‬
‫وبعد سقوط طُلَ ْي ِطلَة فى يد اإلسبان النصارى عام‪478‬هـ اضط َّر ملوك الطوائف‬
‫أن يطلبوا النجدة من األمير يوسف الذى لبى نداءهم‪ ،‬وكان سببًا فى إيقاف زحف‬
‫النصارى على ممالك األَ ْن َدلُس‪ ،‬وانتصر على ألفونسو فى معركة ِّ‬
‫الزالقَة المشهورة‪.‬‬
‫وبعد أن احتك األمير يوسف بملوك الطوائف‪ ,‬ووقف على خيانتهم وتحالفهم مع‬
‫النصارى‪ ,‬واتصالهم بأعداء ال ُم ْسلِ ِمين انتقلت العالقة من التحالف إلى العداوة‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬مرحلة العداوة‪:‬‬
‫استعرت نار الحرب بين المرابطين وملوك الطوائف انتهت بضم كل ممالك‬ ‫ْ‬ ‫حيث‬
‫األَ ْن َدلُس لدولة المرابطين إال َسرْ قُ ْسطَة التى حكمها أحمد بن هود‪ ,‬والذى كان كالشوكة‬
‫فى حلق النصارى‪ ،‬فقد قاومهم زمنًا طويالً‪ ،‬وتراجع النصارى أمام صمود بنى هود‬
‫البطولي‪ ،‬وأظهر بنو هود مقدرة فائقة على قتال النصارى مما جعل المرابطين‬
‫يحترمونهم‪ ،‬وتوطَّدت العالقة الوديَّة بين األمير يوسف واألمير أحمد بن هود الذى‬
‫كان وفيًا فى عهوده‪ ,‬ومخلصًا فى جهاده‪ ,‬وحريصًا على أ َّمتِه‪ ،‬ورضى المرابطون‬
‫ببقاء أحمد بن هود حاك ًما تابعًا لهم‪ ,‬بذلك أصبحت األَ ْن َدلُس والية تابعة لدولة‬

‫‪1‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)159‬‬
‫‪2‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)160‬‬
‫‪117‬‬
‫‪-‬‬
‫المرابطين‪ ،‬وتوارت العناصر والزعامات الهزيلة وانهار سلطان العصبيات الطائفية‬
‫(‪.)3‬‬
‫***‬

‫‪3‬‬
‫() انظر ‪ :‬األندلس فى عصر المرابطين‪ ،‬ص (‪.)112‬‬
‫‪118‬‬
‫المبحث السادس‬
‫عالقة المرابطين مع اإلسبان والنصارى‬

‫كانت عالقة المرابطين مع نصارى اإلسبان عدائية بصورة دائمة إذ لم‬


‫يتخللها أى اتصال وديٍّ خصوصً ا فى زمن األمير يوسف بن تاشفين‪،‬‬
‫واالتصال الوحيد الذى حدث عن طريق الرسائل بين األمير يوسف وألفونسو‬
‫أثناء قيام هذا األخير بحملته العدائية على مملكة ال ُمعْ تَ ِمد‪ ،‬ووصوله إلى مضيق‬
‫جبل طارق إذ أرسل إلى األمير يوسف رسالة تفيض تهديدًا ووعيدًا‪ ،‬ويذكر‬
‫فيها حالة ملوك الطوائف‪ ،‬وكان جواب األمير يوسف مختصرً ا‪ :‬الجواب ما‬
‫ترى ال ما تسمع‪ -‬إن شاء هللا ‪ -‬تعالى‪ -‬وأردف‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وال رسل إال الخميس العرمرم‬ ‫وال كتب إال المشرفية والقنا‬
‫واستم َّر جهاد المرابطين للنصارى الذين امتنعوا عن دخول اإلسالم‪ ,‬ورفضوا‬
‫دفع الجزية‪ ,‬وحملوا السيف ضد ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬أ َّما الذين دفعوا الجزية‪ ,‬وعاشوا داخل‬
‫دولة المرابطين؛ فكانت أَحكام اإلسالم فى أهل ال ِّذ َّمة تحفهم وتحفظ حقوقهم‪.‬‬
‫أوالً‪ :‬عاملتهم دولة المرابطين معاملة أهل الذمة‪:‬‬
‫فكانت عليهم واجبات فى دولة ال ُم ْسلِ ِمين منها‪:‬‬
‫‪ -1‬التزام الجزية‪ ،‬وإجراء أَحكام أهل ال ِّذ َّمة عليهم‪.‬‬
‫‪ -2‬ترك ما فيه ضرر على ال ُم ْسلِ ِمين فى أنفسهم وأموالهم؛ كالتعدى على‬
‫ال ُم ْسلِ ِمين بضرب أو نهب‪.‬‬
‫‪ -3‬تحاشى ما فيه غضاضة على ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬كذكر اإلسالم أو القرآن أو الرسول‬
‫× بما ال ينبغي‪.‬‬
‫‪ -4‬تجنُّب ما فيه إظهار منكر‪ ،‬كشرب الخمر فى األماكن العامة لل ُم ْسلِ ِمين‪.‬‬
‫‪ -5‬التميُّز عن ال ُم ْسلِ ِمين بعالمة خاصة يُعرفون بها‪ ،‬كأن تكون فى اللباس‬
‫أو غيره(‪.)2‬‬
‫ثانيا‪ :‬حقوقهم فى دولة المسل ِمين‪:‬‬
‫ً‬
‫الكف عنهم والحماية لهم‪ ،‬ليكونوا بالكف آمنين‪ ،‬وبالحماية محروسين(‪ .)3‬روى‬
‫نافع عن ابن عمر قال‪« :‬احفظونى فى ذمتي»(‪ )4‬واألَحكام فيما يتعلق بأهل ال ِّذ َّمة كثيرة‬
‫يرجع إليها فى كتب الفقه المختصة‪.‬‬
‫***‬
‫‪1‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)66‬‬
‫‪2‬‬
‫() انظر المغني‪ :‬البن قدامة‪( ،‬ج‪.)618-10/606‬‬
‫‪3‬‬
‫() األحكام السلطانية للماوردي‪ ,‬ص (‪.)143‬‬
‫‪4‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫سياسة المرابطين فى دولتهم المجيدة‬
‫المبحث األول‬
‫نظم الحكم واإلدارة فى دولة المرابطين‬
‫أوال‪ :‬النظام اإلدارى‪:‬‬
‫‪ -1‬نظام إمارة المسلمين‪:‬‬
‫كان النظام السائد فى إمارة ال ُم ْسلِ ِمين عند المرابطين يعتمد على اختيار األمير‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫استَ َجابُوا ل َربِّه ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫ين ْ‬
‫وفق فقه الشورى‪ ،‬وكانوا حريصين على تطبيق قول هللا تعالى‪﴿ :‬الذ َ‬
‫اه ْم ُي ْن ِف ُقو َن﴾ [الشورى‪.]38 :‬‬ ‫ِ‬ ‫َوأَقَ ُاموا َّ‬
‫ورى َب ْيَن ُه ْم َوم َّما َر َزقْنَ ُ‬
‫الصالَ َة َوأ َْم ُر ُه ْم ُش َ‬
‫وكان زعماء المرابطين يتشاورون فى الوسائل التى تعين على تمكين الحق‬
‫وإظهار الصواب‪ ،‬ونشر الصالح بين العباد‪ ،‬واقتدوا بالقرآن الكريم فى توجيهه‬
‫ِ‬ ‫ف َع ْنهم و ِ‬
‫األم ِر﴾ [آل عمران‪.]159:‬‬ ‫اسَت ْغف ْر ل َُه ْم َو َشا ِو ْر ُه ْم فى ْ‬ ‫للرسول ×‪﴿ :‬فَا ْع ُ ُ ْ َ ْ‬
‫«أى ال يصدنك ما كان منهم من خطأ رأيهم فيما بدا منهم يوم أحد عن أن تستعين‬
‫برأيهم فى مواقع أخرى‪ ،‬فإنَّما كان قد حصل فلتة تُغفر وعثرة تُقال‪ ,‬وشاورهم فى أمر‬
‫الحرب وأمثاله مما يجرى فيه المشاورة»(‪.)1‬‬
‫دلت اآلية على أن الشورى قد أمر بها الرسول × فى مهمات األمة‬ ‫وقد َّ‬
‫ومصالحها كالحرب ونحوها‪ ،‬وذلك فى غير أمر التشريع‪ ،‬ألن أمر التشريع إن كان‬
‫فيه وحى فال محيد عنه‪ ،‬وهى توجيه لكل والة األمر بعده أن يشاوروا عن أمر الدِّين‬
‫والدنيا‪ ،‬وما ليس فيه نصٌّ واضح‪ ،‬وهى تشمل هنا المشاورة فى شئون األمة‬
‫ومصالحها(‪.)2‬‬
‫وكان مذهبهم فى الشورى مذهب المالكية وليس الخصوص‪ ،‬قال ابن خويز منداد‪:‬‬
‫«واجب على الوالة مشاورة العلماء فيما ال يعلمون‪ ،‬وفيما يشكل من أمور الدِّين‪،‬‬
‫ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب‪ ،‬ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح‪ ،‬ووجوه‬
‫الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البالد وعمارتها»(‪.)3‬‬
‫وأشار ابن العربى إلى وجوبها بأنها سبب الصواب‪ ,‬فقال‪« :‬والشورى مسبار‬
‫العقل وسبب الصواب»‪ ،‬ويشير إلى أننا مأمورون بتحرى الصواب فى مصالح األمة‬
‫وما يتوقف عليه الواجب فهو واجب(‪.)4‬‬
‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬تفسير أبي السعود‪( ،‬ج‪.)1/558‬‬
‫‪2‬‬
‫() انظر ‪ :‬تفسير القرطبي‪( ،‬ج‪.)4/205‬‬
‫‪3‬‬
‫() تفسير القرطبي‪( ,‬ج‪.)4/205‬‬
‫‪4‬‬
‫() ابن العربي‪.‬‬
‫‪120‬‬
‫ويذهب ابن عطية أيضًا إلى الوجوب‪ ،‬بل يؤكد هذا الوجوب فيقول‪« :‬الشورى من‬
‫قواعد الشريعة وعزائم األَحكام‪ ،‬ومن ال يستشير أهل العلم فعزله واجب‪ ،‬وهذا ما ال‬
‫اختالف فيه»(‪.)1‬‬
‫لقد كان نظام الشورى هو األساس الذى اعتمده المرابطون فى نظام حكمهم فى‬
‫بداية دولة المرابطين قبل يوسف بن تاشفين‪ ،‬فقد كان المرابطون يختارون بكامل‬
‫الحرية رئيسهم الذى يتم تعيينه بعد عقد مجلس من زعماء القبائل والوالة والعلماء‬
‫والفقهاء يشارك فيه شيوخ المرابطين وأعيانهم‪ ،‬بهذه الطريقة تم اختيار عبد هللا بن‬
‫ياسين‪ ،‬الذى لم يحرص على استمرار اإلمارة فى أسرته‪ ،‬كما أنه لم يباشر أى ضغط‬
‫على المرابطين فى اختيار يحيى بن عمر ثم أبى بكر بن عمر‪ ،‬بل كانت وصيته‬
‫األخيرة للمرابطين قوله‪« :‬إياكم والمخالفة والتحاسد على الرياسة‪ ،‬فإن هللا يؤتى ملكه‬
‫من يشاء‪ ،‬ويستخلف فى أرضه من أحب من عباده‪ ،‬ولقد ذهبت عنكم فانظروا من‬
‫تقدمونه منكم‪ ،‬يقوم بأمركم ويقود جيوشكم‪ ،‬ويغزو عدوكم‪ ،‬ويقسم بينكم فيئكم‪ ،‬ويأخذ‬
‫زكاتكم وأعشاركم»(‪.)2‬‬
‫ومن هذه الوصية يتبين أن الزعيم األول للمرابطين‪ ،‬لم يكن يرى طريقة الحكم‬
‫الوراثي‪ ،‬أما يوسف بن تاشفين فقد كان يخشى أن يعود األمر فوضى بعده وأن تنفصم‬
‫عرى هذه الوحدة‪ ،‬وتنتهى هذه الدعوة التى عمل جاهدًا على تبيلغها زهاء نصف قرن‪،‬‬
‫لذلك رأى يوسف أن يُ َعيّن واليًا للعهد يستخلفه بعد موته‪ ,‬وهكذا حدث انحراف فى‬
‫اختيار الحاكم عند المرابطين من الشورى إلى النظام الوراثى منذ أن اختار يوسف بن‬
‫تاشفين ابنه عليًا واليًا لوالية العهد‪ ،‬وكان اجتهاد يوسف بن تاشفين فى هذا التعديل‬
‫الخطير يعتمد على رأيه أن اجتهاده ذلك يحفظ وحدة بالده ودولته‪ ،‬ويقضى على‬
‫التنافس من أجل الحكم ورأى مصلحة بالده وشعبه تقتضى اختيار ابنه‪.‬‬
‫كان من الطبيعى أن يمهِّد لفكرته فى اختيار ولى العهد‪ ,‬ولذلك شاور كل َمن يهمه‬
‫األمر حول هذا االختيار‪ ،‬ولهذا بادر بمشاورة الفقهاء والقضاة وزعماء القبائل وأفراد‬
‫األسرة المرابطية وكبار رجال الدولة فى سنة ‪495‬هـ ‪1101 /‬م‪ ،‬وناقشهم فى‬
‫المبررات التى دفعته إلى اختياره‪ ،‬فوافقه الجميع على ما اعتزم عليه‪ ،‬وعلى أثر ذلك‬
‫قرئ مرسوم البيعة الذى يتضمن األسباب التى حملته على هذا االختيار‪ ،‬والشروط‬
‫الواجب توافرها فيه‪ ،‬والمبادئ التى ينبغى أن يسير عليها‪ ،‬وهذا المرسوم كتبه الوزير‬
‫الفقيه أبو ُم َح َّمد بن عبد الغفور‪ ،‬وكان من أعالم البالغة فى ذلك العصر»(‪.)3‬‬
‫ونستخلص من نص الوثيقة التى ذكرتها فيما مضى‪ :‬أن يوسف بن تاشفين اتبع‬
‫مبدأين فى اختياره ولده أبا الحسن عليًا وليًا لعهده‪.‬‬
‫أولهما‪ :‬مبدأ االختيار‪:‬‬
‫فقد أشارت الوثيقة التى ذكرتها إلى أن يوسف قد اختار ِمن بين أوالده َمن هو‬
‫أصلح لقيادة تلك الدولة المترامية األطراف‪« :‬فوجد ابنه األمير األجل أبا الحسن‬
‫أكثرها ارتياحًا إلى المعالى واهتزا ًزا‪ ،‬وأكرمها سجية وأنفسها اعتزا ًزا‪ ،‬فاستنابه فيما‬
‫‪1‬‬
‫() ابن أبي زرع القرطاس‪ ،‬ص (‪.)90‬‬
‫‪2‬‬
‫() المرجع السابق‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() انظر ‪ :‬الحلل الموشية‪ ،‬ص (‪.)57-56‬‬
‫‪121‬‬
‫استرعى ودعاه لما كان إليه دعا»(‪.)1‬‬
‫ثانيهما‪ :‬مبدأ الشورى‪:‬‬
‫فقد أخذ يوسف به‪ ،‬وتمسَّك بما جاء فى القرآن الكريم‪ ,‬وما جاء على لسان‬
‫نبيه × ‪ ,‬وما سار عليه الخلفاء الراشدون‪« :‬ودعاه لما كان إليه دعا‪ ،‬بعد استشارة أهل‬
‫الرأى على القرب والنأي»(‪.)2‬‬
‫كما أشار مرسوم البيعة إلى أنَّها كانت مشروطة ببعض الشروط اشترطها األمير‬
‫يوسف على ابنه‪ ،‬وأهم تلك الشروط التمسك بالمبادئ التى دعا إليها اإلمام عبد هللا بن‬
‫ياسين من إعالن الجهاد على أعداء اإلسالم‪ ،‬واحترام الفقهاء والقضاة والعلماء‪،‬‬
‫والعمل على إقامة العدل بين الرعية‪ ،‬باإلضافة إلى بعض األمور التى تتعلق بضمان‬
‫أمن الدولة من وضع سبعة عشر ألف فارس باألَ ْن َدلُس موزعة على أقطار معلومة‪،‬‬
‫يكون منها بإشبيلية سبعة آالف فارس وبقرطبة ألف فارس وباقى العدد على ثغور‬
‫للذب والمرابطة فى الحصون المعاينة للعدو(‪.)3‬‬ ‫ال ُم ْسلِ ِمين َّ‬
‫وفى عام ‪496‬هـ دخل يوسف بن تاشفين قرطبة‪ ،‬وجمع كبار رجال الدولة وأمراء‬
‫لمتونة أشياخ البالد‪ ،‬وقادة الرأى والفقهاء والعلماء والقضاة‪ ،‬وتال عليهم عقد البيعة‬
‫البنه على الذى سبقت اإلشارة إليه‪ ،‬وضمنه األسباب التى حملته على اختياره وليًا‬
‫للعهد‪ ،‬ثم أخذ البيعة له من جميع الحاضرين‪ ،‬وأقسم هؤالء يمين الطاعة والوالء‪ ،‬ثم‬
‫وقَّعوا على عقد البيعة‪ ،‬وقام على أثر ذلك‪ ،‬فأقسم أمام الحاضرين بالتزام شروط العقد‬
‫وترسم ال ِّسيَا َسة التى رسمها أبوه‪ ،‬ثم أشهد الكتاب ووقَّع على الوثيقة(‪.)4‬‬
‫أ‪ -‬وفاة األمير يوسف‪:‬‬
‫ثم عاد يوسف بن تاشفين إلى المغرب‪ ،‬حيث مرض مرضه األخير الذى استم َّر‬
‫زهاء عامين وشهرين‪ ،‬وانتهى بوفاته عن مائة عام حافلة بالجهاد والدعوة وإعزاز‬
‫دين هللا‪ ،‬وكانت سنة وفاته ‪ 500‬هـ ‪ 2 /‬سبتمبر ‪1106‬م وكان ولى العهد يقوم أثناء‬
‫مرض أبيه بتصريف أمور الحكم نيابة عن أبيه‪ ،‬ونجح نجاحًا كبيرًا فى إدارة دفَّة‬
‫الحكم لدولة المرابطين‪ ,‬وكانت آخر وصية من يوسف البنه فى مستهلِّ سنة ‪500‬هـ‪،‬‬
‫أن أوصى ولده وولى عهده بعده أبا الحسن عليًّا بثالث وصايا أولها‪« :‬أال يهيج أهل‬
‫جبل درن و َمن وراءه من المصامدة وأهل القبلة» والثانية‪« :‬أن يهادن بنى هود‬
‫باألَ ْن َدلُس‪ ,‬وأن يتركهم حائلين بينه وبين الروم» والثالثة‪« :‬يقبل ِم َّمن أحسن من أهل‬
‫قرطبة ويتجاوز عن مسيئهم»(‪.)5‬‬
‫ب‪ -‬لقب أمير المسلمين‪:‬‬
‫كان زعماء المرابطين يطلقون على أنفسهم لقب األمراء‪ ،‬وظل المرابطون‬
‫يطلقون لقب األمير على كل زعيم يتولى أمرهم ابتدا ًء من عهد أمير لمتونة أبى زكريا‬

‫‪1‬‬
‫() المرجع السابق نفسه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() المرجع السابق نفسه‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)251‬‬
‫‪4‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫() ابن أبي زرع‪ ,‬ص (‪.)103‬‬
‫‪122‬‬
‫يحيى بن عمر اللمتوني‪ ،‬فتلقَّب به يحيى كما تلقَّب به أخوه أبو بكر بن عمر بعد وفاته‪،‬‬
‫وعندما تولَّى يوسف بن تاشفين زعامة المرابطين منذ ‪464‬هـ‪ ,‬ظ َّل يتلقب باإلمارة إلى‬
‫سقوط أبى بكر ابن عمر شهيدًا فى إحدى المعارك فى سنة ‪480‬هـ ‪1087 /‬م‪ ,‬وعندئ ٍذ‬
‫أصبح يوسف الزعيم األوحد للمرابطين‪ ،‬واجتمع إليه أشياخ قبيلته وعرضوا عليه أن‬
‫يتلقَّب بأمير المؤمنين‪ ،‬إلن حقََّه أكبر من أن يُلقَّب باألمير فرفض ذلك قائالً‪« :‬حاشا أن‬
‫أسمى بهذا االسم‪ ,‬إنما يتسمى به خلفاء بنى العبَّاس لكونهم من تلك الساللة الكريمة‬
‫وأنا رجلهم والقائم بدعوتهم»(‪ ،)1‬ولكنَّهم قالوا له‪ :‬إنه البد له من اسم يمتاز به على‬
‫سائر األمراء واقترحوا عليه لقب أمير ال ُم ْسلِ ِمين وناصر الدِّين‪ ،‬وأصبح العمل جاريًا‬
‫به عند سائر المرابطين‪ ،‬وقد صدرت الكتب تحمل هذا اللقب بعد وفاة أبى بكر بن‬
‫عمر على القول األرجح‪ ,‬وهذا نص الكتاب الذى أرسله إلى الوالة والقادة والعلماء‪:‬‬
‫«بسم هللا الرحمن الرحيم وصلى هللا على سيدنا ُم َح َّمد وآله وصحبه وسلم تسلي ًما‪ِ :‬من‬
‫أمير ال ُم ْسلِ ِمين وناصر الدِّين يوسف بن تاشفين إلى األشياخ واألعيان والكافة أهل‬
‫(فالنة) أدام هللا كرامتهم بتقواه ووفقهم لما يرضاه‪ ،‬سالم عليكم ورحمة هللا وبركاته‪،‬‬
‫أ َّما بعد‪ ,‬حمداً هلل أهل الحمد والشكر‪ ،‬وميسر اليسر وواهب النصر‪ ،‬والصالة على‬
‫ُم َح َّمد المبعوث بنور الفرقان والذكر‪ ،‬وأنا كتبناه إليكم من حضرتنا العلية بمراكش ‪-‬‬
‫حرسها هللا ‪ ،-‬وأنَّه ل َّما َم ّن هللا علينا بالفتح الجسيم‪ ,‬وأسبغ علينا من أنعمه الظاهرة‬
‫والباطنة‪ ,‬وهدانا وهداكم إلى شريعة ُم َح َّمد المصطفى نبينا الكريم صلى هللا عليه أفضل‬
‫الصالة وأتم التسليم؛ رأينا أن نُخصِّ ص أنفسنا بهذا االسم لنمتاز به على سائر أمراء‬
‫القبائل‪ ،‬وهو أمير ال ُم ْسلِ ِمين وناصر الدِّين‪ ،‬فمن خطب الخطبة العلية السامية فليخطبها‬
‫ولي العدل بمنِّه وكرمه والسالم»(‪.)2‬‬
‫بهذا االسم إن شاء هللا تعالى‪ ,‬وهللا ُّ‬
‫ويرى بعض المؤرخين من أمثال أبى زرع فى «روض القرطاس» إلى أن‬
‫الزالقَة‪ ،‬ولم يكن يُدعى به من قبل‪ ،‬وأن‬ ‫األمير يوسف تلقَّب بأمير ال ُم ْسلِ ِمين فى يوم ِّ‬
‫ملوك وأمراء األَ ْن َدلُس وكانوا ثالثة عشر مل ًكا بايعوه وسلَّموا عليه باسم أمير ال ُم ْسلِ ِمين‬
‫وهو أول من سُمى به من ملوك المغرب‪.‬‬
‫وقد تأثَّر شعب النيجر بشكل خاص بالمرابطين‪ ,‬وأطلق على ُح َّكامه لقب أمير‬
‫ال ُم ْسلِ ِمين‪ ,‬وكانوا مالكيين فى المذهب‪ ,‬ويرجع ذلك إلى أن المرابطين هم الذين نشروا‬
‫اإلسالم فى تلك الربوع النائية(‪.)3‬‬
‫ج‪ -‬نائب األمير‪:‬‬
‫كان اتساع مملكة المرابطين سببًا فى اتخاذ ن َّواب ينوبون عن أمير المسلمين؛‬
‫حيث كان من المستحيل عليه أن يشرف وحده على تلك الدول المترامية األطراف‪،‬‬
‫فعيَّن بعض النواب المقرَّبين إليه‪ ،‬فعيَّن نائبًا على شئون األَ ْن َدلُس ون َّوابًا على إقليم‬
‫المغرب‪ ،‬وكان يراعى فى اختيار النائب أن يكون أقرب الناس إلى أمير ال ُم ْسلِ ِمين‪،‬‬
‫وأن يتوفر فيه حسن اإلدارة والكفاية العسكرية ويعتبر ممثالً أوليًا ألمير ال ُم ْسلِ ِمين‪,‬‬
‫ويستمد نائب األمير سلطته من األمير شخصيًا‪ ،‬وكان ولى العهد نائبًا لألمير‪ ،‬وتولى‬
‫‪1‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)162‬‬
‫‪2‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)163-162‬‬
‫‪3‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)163-162‬‬
‫‪123‬‬
‫نيابة األَ ْن َدلُس‪ ،‬وكانت قرطبة هى المفضلة إلقامة ولى العهد لمكانتها السامية فى نفوس‬
‫األَ ْن َدلُسيين‪ ،‬وأول نائب عيَّنه األمير يوسف على األَ ْن َدلُس القائد سير بن أبى بكر‬
‫اللمتوني‪ ،‬ثم ب َّدل به ابنه أبا الطاهر تميم بن يوسف‪ ،‬وتلى نيابة األَ ْن َدلُس من حيث‬
‫األهمية نيابة فاس بالمغرب‪ ,‬وكان النائب يستقر فيها عندما كان األمير يوسف يعود‬
‫إلى مراكش كى ال تحدث ازدواجية فى السلطة(‪.)1‬‬
‫كانت مهمة النائب بالدرجة األولى عسكرية‪ ,‬إذ كان عليه أن يخوض الحروب‪,‬‬
‫ويقمع الفتن وحركات التمرد‪ ,‬يعاونه قادة كبار من لمتونة(‪.)2‬‬
‫وكان من سياسة يوسف بن تاشفين مع نوابه مراقبتهم‪ ,‬وال يتيح لهم االستقرار فى‬
‫مناصبهم لعهود طويلة حتى ال يعملوا على االستقالل‪ ،‬فكان الن َّواب دائ ًما معرَّضين‬
‫للنقل من والية إلى أخرى‪.‬‬
‫وكان نائب أمير ال ُم ْسلِ ِمين يتخذ لنفسه كتّابًا يقومون عنه بالمكاتبات‪ ,‬أو تسند إليهم‬
‫بعض األعمال اإلدارية‪ ،‬و ِم َمن ظهر من كتاب نواب أمير ال ُم ْسلِ ِمين على بن يوسف‬
‫فى األندلس الكاتب األديب أبو عبد هللا ُم َح َّمد بن أبى الخصال كاتب األمير ُم َح َّمد بن‬
‫الحاج‪ ،‬وأبو بكر بن الصائغ كاتب األمير أبى بكر بن إبراهيم‪ ،‬والزبير بن عمر‬
‫اللمتونى كاتب تاشفين بن علي‪ ،‬وكانت حياة كل نائب من نواب أمير ال ُم ْسلِ ِمين صورة‬
‫ُمص َّغرة من حياة هذا األمير فكانوا يتخذون القصور والخدم والفقهاء واألعوان(‪.)3‬‬
‫د – تولية الوالة‪:‬‬
‫كان األمير يوسف يُ َعيِّن الوالة على األقاليم من لمتونة بشكل خاص وصنهاجة‬
‫بشكل عام؛ فولَّى أمراء قومه األقاليم‪ ،‬فقبْل ضم األَ ْن َدلُس كان سير بن أبى بكر على‬
‫مدائن مكناسة وبالد مكاللة وبالد فازاز‪ ،‬وولَّى عمر بن سليمان المسوفى مدينة فاس‬
‫وأحوازها‪ ،‬وداود ابن عائشة سجلماسة ودرعة‪ ،‬وتميم بن يوسف مدينة أغمات‬
‫ومراكش وبالد السوس وسائر بالد المصامدة وتدال وتامسنا‪ ,‬وبعد ضم األَ ْن َدلُس عين‬
‫يوسف بن تاشفين القائد سير بن أبى بكر حاك ًما على األَ ْن َدلُس‪ ،‬وف َّوض له تعيين وا ٍل‬
‫على كل بلد يفتحه ويكون من لمتونة‪.‬‬
‫وكان الوالة يخضعون مباشرة لنائب األمير‪ ،‬و ُمنح األمير يوسف سلطات واسعة‪:‬‬
‫منها حق التصرف فى عزل وتعيين َمن دونهم ِمن الوالة المحليين‪ ،‬و َمن يليهم ِمن‬
‫رجال السلطة‪ ،‬وكذلك القيام بتحركات عسكرية داخل مناطق نفوذهم‪ ،‬وكان األمير‬
‫يوسف وابنه من بعده يراقبون والتهم مراقبة شديدة‪ ،‬ويجرى تبديلهم وعزلهم إذا‬
‫أساءوا‪ ،‬وكانوا يضعون مصالح الرعية فى المقام األول عند تعيين الوالة(‪.)4‬‬
‫هـ ‪ -‬نظام الوزارة‪:‬‬
‫كان األمير يوسف بعيدًا كل البعد عن اتخاذ األلقاب واأللفاظ واالهتمام‬
‫‪1‬‬
‫() حركات النظام السياسي والحربي عند المرابطين‪ ،‬ص (‪.)65‬‬
‫‪2‬‬
‫() مجلة كلية اآلداب‪ ،‬جامعة القاهرة‪ ،‬المجلد ‪( ،11‬ج‪ ،)2/27‬تحت عنوان الثغر األعلى فى عهد‬
‫المرابطين‪,‬‬
‫د‪ .‬حسين مؤنس‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس فى عصر المرابطين‪ ،‬ص (‪.)263‬‬
‫‪4‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)165‬‬
‫‪124‬‬
‫بالمناصب‪ ،‬فلم يتخذ وزراء بالمعنى المتعارف عليه‪ ،‬ولم يمنح لقب وزير ألى‬
‫شخص‪ ,‬إال أنه اتخذ لنفسه أعوانًا يرجع إلى مشورتهم‪ ،‬و ُكتَّابًا يشرفون على ديوان‬
‫الرسائل أو اإلنشاء‪ ،‬وكانت لديه هيئة استشارية تشترك فيها طائفة من الفقهاء‪،‬‬
‫واألعيان وال ُكتَّاب يالزمونه فى قصره وتنقالته يبدون آراءهم فى المشاكل المطروحة‬
‫للبحث‪ ,‬وتبقى الكلمة الفاصلة لألمير‪ ،‬أ َّما فى األمور المهمة فكان يجمع زعماء‬
‫المرابطين وأبناء عمومته من لمتونة للتداول واتخاذ اآلراء‪ ،‬وكان االتصال باألمير‬
‫عن طريق األعوان من السهولة بمكان‪ ،‬وساعد على ذلك ما امتاز به األمير من ُزهد‬
‫فى الدنيا‪ ,‬وتطلع لآلخرة‪ ,‬وحب البساطة‪ ،‬وميل للتواضع‪.‬‬
‫ويذهب األمير يوسف فى مذهبه إلى أن الشورى معلمة وغير ملزمة وله فى ذلك‬
‫أدلة؛ حيث ذهب بعض المفسرين إلى إن الشورى غير ملزمة مستندين فى ذلك إلى‬
‫ت َفَتو َّكل َعلَى ِ‬
‫اهلل﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قوله تعالى‪﴿:‬فَإ َذا َع َز ْم َ َ ْ‬
‫ذهب اإلمام الطبرى إلى القول‪« :‬إذا ص َّح عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما‬
‫نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك‪ ،‬فامض لما أمرناك به‪ ،‬وافق ذلك آراء أصحابك‬
‫وما أشاروا به عليك أو خالفها‪ ،‬وتو َّكل فيما تأتى من أمورك على ربِّك‪ ،‬فثق به فى كل‬
‫ذلك‪ ،‬وارض بقضائه فى جميعه دون آراء سائر خلقه ومعونتهم»(‪.)1‬‬
‫ويرى بعض العلماء أن رأى الشورى ولو أنه غير ملزم لكنَّه ينير الطريق‬
‫أمام الحاكم(‪.)2‬‬
‫وأضاف العالمة أبو األعلى المودودى فى قضية الشورى هل هى معلمة أو‬
‫ملزمة بعدًا آخر وهو طبيعة المجتمع وما يسوده من أخالق؛ حيث يقول‪« :‬ما وجدت‬
‫حك ًما قاطعًا فى هذا الباب فى أحاديث الرسول ×‪ ,‬غير أن العلماء قد استنبطوا من‬
‫عمل الصحابة فى عهد الخالفة الراشدة أن رئيس الدولة هو المسئول الحقيقى عن‬
‫شئون الدولة‪ ،‬وعليه أن يُسيِّرها بمشاورة أهل الحل والعقد‪ ،‬ولكنَّه ليس مقيدًا بأن‬
‫يعمل بما يتفقون عليه كلهم أو أكثرهم من اآلراء‪ ،‬وبكلمة أخرى أنه يتمتع‬
‫بحق االعتراض على آرائهم‪.‬‬
‫ولكن هذا الرأى فى صورته المجملة كثيرًا ما يسبب سوء الفهم بالقياس إلى‬
‫أحوالهم وأوساطهم الحاضرة‪ ،‬وال ينظرون إلى ذلك الزمان وال الوسط الذى قد أخذنا‬
‫الحلِّ وال َع ْقد فى عهد الخالفة الراشدة‬
‫هذا الرأى من أعمال األمة فيه‪ ،‬فما كان أهل ِ‬
‫منقسمين إلى أحزاب متفرقة‪ ,‬بل كانوا كلما دُعوا للمشاورة يأتون المجلس بقلوب‬
‫ملؤها اإلخالص‪ . .‬ثم يوازن الخليفة بين الحجج الموافقة والمعارضة ويعرض عليهم‬
‫ما عنده من الدالئل‪ ،‬ويبين رأيه‪ ,‬وكان هذا الرأى فى عامة األحوال رأيًا يسلم به‬
‫أعضاء المجلس كلهم‪ » . .‬ثم قال‪« :‬لم نعثر فى تاريخ الخالفة الراشدة كلِّه على مثال‬
‫واحد نرى فيه أهل ال ِح ِّل وال َع ْقد قد تفرقت آرائهم حتى آل األمر إلى عدد‬
‫األصوات»(‪ ،)3‬وهذا تفريق جميل بين المجتمع اإلسالمى فى حاضرنا وبين المجتمع‬
‫اإلسالمى القائم على أسس دولة القرآن التى تربَّى المسلم على خشية هللا فال ينحرف‬
‫‪1‬‬
‫() تفسير الطبري‪( ،‬ج‪.)7/346‬‬
‫‪2‬‬
‫() د‪ .‬عبد الحميد متولي‪ ،‬مبدأ الشورى فى اإلسالم‪ ،‬ص (‪.)52‬‬
‫‪3‬‬
‫() أبو األعلى المودودي‪ ،‬نظرية اإلسالم وهديه فى السياسة والقانون‪ ،‬ص (‪.)273،274‬‬
‫‪125‬‬
‫عن الجا َّدة‪.‬‬
‫وربما كان يوسف بن تاشفين وأمراء المرابطين ُمحقِّين فى أخذهم بالرأى القائل‬
‫بأن الشورى معلمة لألمير وليست ملزمة‪ ،‬ولهم أدلة كثيرة للتدليل على هذا المبدأ‪.‬‬
‫إال أننى أرى الفائدة الكبرى واالستفادة العظمى فى زمننا هذا فى األخذ بالرأى‬
‫القائل بأنها ملزمة‪ ،‬والقائلون بهذا القول لهم أدلتهم منها‪:‬‬
‫إن الشورى ملزمة للحاكم طالما أنَّها مؤيدة بالشرع والعقل‪ ،‬فيقول ابن تيمية‪:‬‬
‫«وإذا استشارهم فإن بيَّن له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب أو سنة رسوله أو إجماع‬

‫ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬فعليه اتباع ذلك‪ ،‬وال طاعة ألحد فى خالف ذلك‪ ،‬وإن كان عظي ًما فى‬
‫ِ‬
‫ول َوأُولى‬
‫الر ُس َ‬ ‫َطيعوا اهلل وأ ِ‬
‫َطيعُوا َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َ َ‬ ‫آمنُوا أ ُ‬
‫ين َ‬
‫الدِّين والدنيا‪ ،‬لقوله تعالى‪﴿ :‬يَا أ َُّي َها الذ َ‬
‫األم ِر ِم ْن ُك ْم﴾ [النساء‪.)1(]59:‬‬
‫ْ‬
‫ولو كانت الشورى غير ملزمة‪ ،‬لكان بإمكان النبى × أن يجنب الجماعة المسلمة‬
‫تلك التجربة المريرة التى تعرَّضت لها فى غزوة أحد – لو أنه قضى برأيه فى خطة‬
‫المعركة‪ ،‬مستندًا إلى رؤياه‪ . .‬ولم يستشر أصحابه‪ ،‬أو لو أنه رجع عن الرأى عندما‬
‫سنحت له فرصة الرجوع‪ . .‬ولكنَّه – وهو يقدر النتائج كلها – أنفذ الشورى‪ . .‬ثم يجئ‬
‫األمر اإللهى له بالشورى – بعد المعركة‪ -‬تثبيتًا للمبدأ فى مواجهة نتائجه المريرة‬
‫»(‪ ،)2‬وبهذه األدلة التى ذكرتها نسترشد بهذا المبدأ فى مسيرتنا الحركية والدعوية‬
‫والتنظيمية التى تسعى إلعادة اإلسالم كنظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا‪،‬‬
‫ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبًا‪.‬‬
‫و – ديوان الرسائل والمكاتبات عند المرابطين‪:‬‬
‫كان المرابطون يهتمون بديوان اإلنشاء‪ ،‬ولذلك حرصوا على أن يتواله رجال من‬
‫أشهر األدباء فى تلك الفترة جلهم أَ ْن َدلُسيون‪ ،‬واهتم األمير يوسف بجلب األدباء والبلغاء‬
‫والفقهاء لهذه األعمال‪ ،‬واستفاد من ُكتَّاب ملوك الطوائف‪ ,‬وتوسع ديوان الرسائل مع‬
‫امتداد رقعة دولة المرابطين‪ ،‬وانتفع المرابطون انتفاعًا عظي ًما بخبرة األَ ْن َدلُسيين‬
‫أصحاب الحضارة واألدب‪ ،‬وأقبل المغاربة على ثقافة األَ ْن َدلُس ينهلون منها فى تواضع‬
‫المستفيدين‪ ,‬وحدث تنافس بين ال ُكتَّاب‪ ،‬وحاولوا أن يثبتوا جدارتهم فى هذا الفن‪،‬‬
‫وأصبح ديوان األمير يوسف متألقًا بالحضارة‪.‬‬
‫وقام ابنه على بتطوير ديوان الرسائل وجلب له كتابًا فى غاية البالغة ودقة‬
‫األسلوب‪ ,‬وجمال التعبير‪ ,‬ومما دفع األمير عليًا إلى تطوير دولته تربيته الرفيعة‬
‫وذكاؤه الوقَّاد‪ ,‬واهتمامه بكتاب ملوك الطوائف‪ ,‬وتقريبهم إليه فى زمانه‪ ،‬فشعر بحاجته‬
‫إلى طائفة مثقفة تفهم لغة الوفود‪ ،‬وتجيد فنون الكتابة‪ ،‬و ِمن أشهر أولئك الكتاب‬
‫واألدباء والبلغاء‪ُ ،‬م َح َّمد بن سليمان الكالعى المتوفى عام ‪508‬هـ‪ ,‬وصفه ابن خاقان‬
‫فى «القالئد» بقوله‪« :‬غرة فى جبين الملك‪ ،‬ودرَّة ال تصلح إال لذلك السلك‪ ،‬باهت به‬
‫األيام‪ ,‬وتاهت فى يمينه األقالم‪ ،‬واشتملت عليه الدول اشتمال الكمام على النور‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫() السياسة الشرعية‪ ,‬البن تيمية‪ ،‬ص (‪.)181،182‬‬
‫‪2‬‬
‫() سيد قطب‪ ,‬فى ظالل القرآن‪( ,‬ج‪.)1/532‬‬
‫‪126‬‬
‫وانسربت إليه أمانى انسراب الماء على الغور»(‪.)1‬‬
‫ويقول عنه ابن الصيرفي‪« :‬الوزير الكاتب الناظم الناشر‪ ،‬القائم بعمود الكتابة‪,‬‬
‫والحامل للواء البالغة‪ ،‬والسابق الذى ال يشق غباره‪ ،‬وال تخمد أبدًا أنواره‪ ،‬اجتمع له براعة‬
‫النشر‪ ،‬وجزالة النظم‪ ،‬رقيق النسيج حصيف المتن رقعته وما شيت فى العين واليد»(‪.)2‬‬
‫وكذلك انضم إلى البالط المرابطى أبو ُم َح َّمد عبد المجيد بن عبدون ال ُمت ََوفَّى‬
‫‪520‬هـ‪ ،‬وأبو القاسم ُم َح َّمد بن عبد هللا بن الجد الفهرى المتوفى فى عام ‪515‬هـ‪ ،‬وابن‬
‫أبى الخصال الغافقى ال ُمتَ َوفَّى ‪540‬هـ‪ ،‬وأبو زكريا بن ُم َح َّمد بن يوسف األنصارى‬
‫الغرناطى ال ُمتَ َوفَّى ‪570‬هـ فى غرناطة‪ ،‬وأحمد بن أبى جعفر بن ُم َح َّمد بن عطية‬
‫القضاعى الذى نكبه عبد المؤمن بن على خليفة الموحِّ دين‪ ،‬وغير هؤالء كثير من‬
‫األدباء والكتَّاب الذين عملوا فى خدمة دولة المرابطين زمن أمير ال ُم ْسلِ ِمين على بن‬
‫يوسف(‪ ,)3‬وال ننسى أن الوزارة فى زمن على بن يوسف تط َّورت تطورًا ملحوظًا‪,‬‬
‫وأصبح الوزير بمنزلة السمع والبصر واللسان والقلب بالنسبة ألمير ال ُم ْسلِ ِمين‪ ،‬وفى‬
‫األمثال‪ :‬نعم الظهير الوزير‪.‬‬
‫كان الحكم فى دولة المرابطين قائما ً على أسس عسكرية‪ ،‬فأمير ال ُم ْسلِ ِمين هو قائد‬
‫الجيش األعلى‪ ،‬ومعاونوه هم قواد الجيش‪ ،‬لهذا كان من الطبيعى أن يتسم منصب‬
‫الوزير بالطابع العسكرى كذلك‪ ،‬ولكن لما كان األمر يتطلب من الوزير أيضًا كتابة‬
‫الوثائق‪ ،‬والمراسيم وصياغتها فقد ُو ِجد فى دولة المرابطين صنفان من الوزراء‪.‬‬
‫‪ -1‬وزراء عسكريون من قادة الجيش‪ ,‬وهم من قرابة السلطان عادة أو من قبائل‬
‫لمتونة وصنهاجة التى قامت على أكتافهم دولة المرابطين‪.‬‬
‫‪ -2‬وزراء ُكتَّاب وهم من الفقهاء‪.‬‬
‫وكان المغاربة يطلقون كلمة فقيه على العالم باألحكام الشرعية إال أن أهل‬
‫المشرق أصبح ذلك المصطلح عندهم يطلق على دارس الفقه عمو ًما من الطلبة‪.‬‬
‫وتوسَّع األمير على بن يوسف فى اتخاذ الوزراء والمستشارين من الفقهاء وكبار‬
‫العلماء‪ ،‬وكان من أخصِّ وزرائه الفقيه مالك بن وهيب اإلشبيلى الذى شارك فى جميع‬
‫اريخ‪ ،‬وهذا الفقيه هو الذى أشار‬ ‫العلوم‪ ،‬ونظم الشعر‪ ،‬وكتب مؤلفات فى الفلسفة والتَّ ِ‬
‫على سلطان المرابطين على بن يوسف بقتل ُم َح َّمد بن تومرت زعيم دولة الموحِّدين‬
‫فيما بعد‪ ،‬حيث تفرَّس فيه حدة نفسه وذكاء خاطره‪ ،‬واتساع عبارته‪ ,‬فأشار على أمير‬
‫ال ُم ْسلِ ِمين بقتله أو اعتقاله‪ ،‬قبل أن يستفحل خطره‪ ،‬ألنَّه رجل مفسد وال يسمع كالمه‬
‫أحد إال مال إليه‪ ,‬غير أن على بن يوسف توقف فى قتله واعتقاله‪ ،‬وأبى ذلك عليه دينه‪،‬‬
‫لعدم ثبوت التهمة عليه‪ ،‬وقد ص َّح ما تفرَّسه مالك بن وهيب‪ ،‬إذ إنه على يد هذا المدعى‬
‫المهدية الكذاب ابن تومرت قامت دولة الموحدين التى قضت على دولة المرابطين فى‬
‫المغرب واألَ ْن َدلُس(‪.)4‬‬

‫‪1‬‬
‫() قالئد العقيان‪ ،‬ص (‪.)104‬‬
‫‪2‬‬
‫() المركش‪ ،‬عن ابن الصيرفى فى المعجب‪ ,‬ص (‪.)164‬‬
‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬للدكتور حمدى عبد المنعم‪ ،‬ص (‪.)271 ،270‬‬
‫‪4‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬للدكتور حمدى عبد المنعم‪ ،‬ص (‪.)368‬‬
‫‪127‬‬
***

128
‫المبحث الثاني‬
‫النظام القضائى فى دولة المرابطين‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫للقضاء مكانة عظيمة ومنزلة شريفة‪ ،‬وفاصل بين النَّاس فى خصوماتهم‬
‫وحاسم للتداعى وقاطع للتنازع‪ ،‬وكان العرب فى جاهليتهم يعرفون منزلة القضاء‪,‬‬
‫ويختارون له أهله‪ ,‬ويطلقون عليهم ال ُح َّكام‪ ،‬واهتم المسلمون بهذا األمر‪ ,‬ومارسه‬
‫رسول هللا × فى زمانه‪ ،‬وسار الخلفاء من بعده على دربه‪ ،‬وأصبح القضاء بعد رسول‬
‫هللا × فى عداد الوظائف الداخلة تحت الخالفة‪ ،‬وتطور القضاء مع تطور دولة اإلسالم‬
‫فكان الخليفة يتخذ قاضيًا فى حاضرة الخالفة وقضاة آخرين فى الواليات واألمصار‪.‬‬
‫كان القضاء فى األمصار أول األمر ُمضافًا إلى الوالة حتى كانت خالفة عمر بن‬
‫الخطاب فجعله مستقالً عن نظر الوالي‪ ،‬عيَّن له َمن يتفرَّد بالنظر فيه‪ ,‬ومع استقالل‬
‫القضاء عن نظر الوالي‪ ،‬فإن تقليد القضاء فى الواليات كان يتم فى الغالب عن طريق‬
‫الوالة بتفويض الخليفة لهم‪ ،‬أ َّما فى العاصمة فكان الخليفة هو الذى يُعيِّن القاضى إلى‬
‫أن جاء الخليفة العبَّاسى أبو جعفر المنصور الذى انحرف بالقضاة نحو مركزية‬
‫الدولة‪ ،‬وأخضع المؤسسات القضائية لرقابته المستمرَّة‪ ،‬وجعل تقليد القضاة على قضاء‬
‫األمصار من قبله‪ ،‬وتابعه على ذلك خلفاء بنى العبَّاس‪ ،‬إلى أن استحدث منصب قاضى‬
‫القضاة فى فترة تالية‪ ،‬فتولَّى قاضى القضاة النظر فى مؤهالت المرشحين للقضاء‬
‫ومراقبة الكفاءة المهنية للقضاة فى عاصمة الخالفة وخارجها (‪ ،)1‬واهت َّمت كلُّ الدول‬
‫التابعة للخالفة بتطوير نظامها القضائى وخصوصًا المرابطين الذين حرصوا على‬
‫إقامة العدل ونشره فى ربوع بالدهم‪ ،‬فكان لمنصب القضاة أهمية كبيرة‪ ،‬ولذلك‬
‫حرص أمراء المرابطين على تعيين القضاة ِم َّمن برزوا فى العلم والفقه وتميزوا‬
‫بالمقدرة على تولى هذه المناصب فى دولتهم دون االستناد على العصبية القبلية‪ ،‬حتى‬
‫أصبح أكثر القضاة من غير قبيلة صنهاجة وهى سياسة حكيمة اتبعها األمير يوسف‬
‫رغبة فى تحقيق العدالة وتطبيق‬
‫تعاليم اإلسالم‪.‬‬
‫وقد منحهم رتبة عالية فى الدولة حتى كثرت أموالهم‪ ،‬واتسعت مكاسبهم‪ ،‬وكانوا‬
‫يستمدون نفوذهم من سلطة الدولة نفسها‪ ،‬يحكمون وفق المذهب المالكي‪ ،‬ويقوم بتنفيذ‬
‫أحكامهم الوالة وال ُح َّكام المحليون‪ ،‬وقد شارك القضاة فى معارك الجهاد فى‬
‫الزالقَة منهم القاضى عبد الملك المصمودى‬ ‫األَ ْن َدلُس‪ ،‬واستشهد بعضهم فى معركة ِّ‬
‫قاضى مراكش(‪.)2‬‬
‫وكانت السُّلطَة القضائية تتمتع باستقالل كبير عن السُّلطَة التنفيذية‪ ،‬وكان تعيين‬
‫القاضى يصدر بمرسوم عن أمير المسلمين‪ ،‬وكذلك عزله‪ ،‬وكان ألهل البلدان التابعة‬

‫‪1‬‬
‫() تاريخ الحضارة العربية واإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬محمد بطاينة‪ ،‬ص (‪.)79‬‬
‫‪2‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)166‬‬
‫‪129‬‬
‫لدولة المرابطين حق الترشيح ل َمن يرونه مناسبًا لمنصب القضاء فى بلدهم‪.‬‬
‫قاض فى بلد معين فعليه أن يوضح األسباب ألهل‬
‫ٍ‬ ‫وإذا أراد أمير المسلمين عزل‬
‫ذلك البلد‪.‬‬
‫أ ‪ -‬منصب قاضى الجماعة فى األندلس‪:‬‬
‫يعتبر منصب قاضى الجماعة من أرفع المناصب القضائية فى األَ ْن َدلُس‪ ،‬كان‬
‫صاحبه يشرف على القضاء فى جميع أنحاء األَ ْن َدلُس‪ ،‬ومن المرجح إن هذا المنصب‬
‫الخطير كان ال يتواله إال كل َمن يثبت كفاءة عالية فى أمور القضاء‪ ،‬وكان قاضى‬
‫الجماعة فى األَ ْن َدلُس يتمتع بسلطات واسعة‪ ،‬ومنهم أبو القاسم أحمد بن ُم َح َّمد بن على‬
‫بن ُم َح َّمد بن عبد العزيز التغلبى الذى وجَّهه األمير يوسف بن تاشفين إلى اتباع الحق‬
‫بال برغم راغم وتشفق‬ ‫فى األحكام دون أن يعرف فى هللا لومة الئم‪ ،‬فكتب له‪« :‬وال تُ ِ‬
‫من مالمة الئم‪ ،‬فآس بين النَّاس فى عدلك ومجلسك حتى ال يطمع قوى فى حيفك وال‬
‫ييأس ضعيف فى عدلك‪ ،‬وال يكن عندك أقوى ِمن الضعيف حتى تأخذ الحق له‪ ،‬وال‬
‫أضعف ِمن القوى حتى تأخذ الحق منه‪.)1( » . .‬‬
‫ومن أشهر َمن تولَّى منصب قضاء الجماعة فى األَ ْن َدلُس فى عصر على بن‬
‫يوسف أبو الوليد ُم َح َّمد بن ُم َح َّمد بن أحمد بن رشد المالكى وأبو عبد هللا ُم َح َّمد بن أحمد‬
‫بن خلف إبراهيم التجيبى المعروف بابن الحاج(‪.)2‬‬
‫ب‪ -‬قاضى الجماعة فى المغرب‪:‬‬
‫كانت رئاسة القضاء فى المغرب فى زمن دولة المرابطين تسند إلى قاضى‬
‫الجماعة بمراكش‪ ،‬الذى كان يُسمى بقاضى قضاة المغرب أو بقاضى الحضرة‪ ،‬وكان‬
‫على من يتولَّى هذا المنصب أن يكون ِمن المقربين إلى قلب أمير المسلمين يستفتيه فى‬
‫كل ما يعرض له من شئون‪ ،‬ومن أشهر َمن تولَّى هذا المنصب‪ :‬أبو ُم َح َّمد عبد هللا بن‬
‫ُم َح َّمد بن إبراهيم بن قاسم بن منصور اللخمي‪ ،‬وأبو الحسن على بن عبد الرحمن‬
‫المعروف بابن أبى حقون‪ ،‬وأبو سعيد خلوف بن خلف هللا‪.‬‬
‫لقد قطع المرابطون فى تنظيم القضاء شوطًا أبعد من مجرد تقسيم قضاء األَ ْن َدلُس‬
‫والمغرب وجعل زعامة القضاء فى كل منهما لقاضى القضاة‪ ،‬أحدهما يختص باألَ ْن َدلُس‬
‫واآلخر بالمغرب‪ ،‬بل إن المرابطين اتخذوا فقيهًا له السُّلطَة العليا على قضاء المغرب‬
‫واألَ ْن َدلُس على السواء‪ ،‬ومن المرجح أن زعامة القضاء فى العدوتين كانت أحيانًا من‬
‫نصيب قاضى مراكش أو قاضى سبتة أو طنجة‪ ،‬وأحيانًا أخرى لقاضى الجماعة بقرطبة ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫جـ ‪ -‬مجلس الشورى القضائي‪:‬‬


‫كان للقاضى فى صحبته مجموعة من فقهاء البلد الذى تولَّى قضاءه ليشاورهم قبل‬
‫أن يصدر األحكام‪ ،‬وكان قاضى المدينة يتولى اختيار هؤالء الفقهاء من أهل مدينته‪،‬‬
‫ِم َّمن يُعرفون بالورع والتقوى والتبحر فى الفقه والعلوم الدينية‪ ،‬ويحدد ابن عبدون‬
‫هؤالء الفقهاء والمشاورين بأربعة‪ :‬اثنين يشتركان فى مجلس القاضي‪ ،‬واثنين يقعدان‬
‫‪1‬‬
‫() الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة‪ ،‬ابن بسام (ج‪. )2/106‬‬
‫‪2‬‬
‫() تاريخ المرابطين‪ ،‬ص (‪.)287‬‬
‫‪3‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)288‬‬
‫‪130‬‬
‫فى المسجد الجامع (‪.)1‬‬
‫د‪ -‬القضاء العسكري‪:‬‬
‫عرفت دولة المرابطين ما يمكن تسميته بالقضاء العسكري‪ ،‬وكان يمارسه قضاة‬
‫مختصون بحل مشاكل الجند فى مواضع خاصَّة بالمعسكرات‪ ،‬كما كانوا يشتركون فى‬
‫ِّ‬
‫لحث الجند وتشجيعهم على القتال‪ ،‬وكان هؤالء القضاة يسمون بقضاة المحلة أو‬ ‫القتال‬
‫قضاة الجند‪ ،‬وممن ذكرهم التاريخ فيمن تولَّوا منصب القضاء العسكري‪ :‬عبد الرحيم‬
‫بن إسماعيل الذى ُعيِّن قاضيًا فى معسكر أمير المسلمين على بن يوسف بمدينة سال(‪.)2‬‬
‫هـ ‪ -‬قضاء الذميين فى دولة المرابطين‪:‬‬
‫أما بالنسبة ألهل ال ِّذمة فى األَ ْن َدلُس‪ ،‬فقد كان رجال الدين النصارى واليهود‬
‫يتولون القضاء لهم‪ ،‬دون أن يتدخل فيهم قضاة المسلمين‪ ،‬أجاز الفقهاء تقليد ال ِّذمى‬
‫القضاء ألهل ال ِّذمة‪ ،‬وفى األَ ْن َدلُس خصص المسلمون ألهل ال ِّذمة قاضيًا يعرف بقاضى‬
‫النصارى أو قاضى العجم‪ ،‬أما إذا كانت الخصومة بين ذمى ومسلم فإن قضاة‬
‫المسلمين يتولون الفصل بينهما‪ ،‬وفى هذا الصدد يشير أشباخ إلى أن النصارى كانوا‬
‫«يتمتعون بحرية الشعائر ويحتفظون ببعض القوانين القوطية ولهم أساقفتهم‬
‫وقضاتهم»(‪.)3‬‬
‫و‪ -‬شجون وأحزان وآالم وآمال‪:‬‬
‫إن السعى إلقامة دولة اإلسالم فى أى بقعة من بقاع العالم يحتاج للطالئع‬
‫التى تسعى لهذا الهدف العظيم وفقه األخذ بأسباب التمكين فى جميع األصعدة‬
‫ومختلف الميادين‪.‬‬
‫وإذا نظرنا فى النُّظُم القضائية التى البد منها فى أى دولة دينية أو علمانية وسألنا‬
‫أنفسنا ما حظ الحركات اإلسالمية من هذا الفقه؟ وما هى الخطط التى وضعت إليجاد‬
‫هذه النُّظُم القضائية الشرعية التى البد منها فى أسلمة الدولة؟ وما هى الوسائل التى‬
‫اتخذتها؟ وهل بدأت فى إيجاد الكوادر التى تجمع فقه الشريعة والنُّظُم المعاصرة بحيث‬
‫تستطيع أن تقدم نموذجًا حيًا لقدرة اإلسالم على مواكبة التطور والتقدم بمفهومه‬
‫الصحيح المنبثق من عقيدة األمة ودينها وشريعتها لكانت اإلجابة محزنة‪.‬‬
‫إن السعى لتحقيق هذه الجزئية ِمن الجزئيات المطلوبة فى إقامة الدول يحتاج ِمن‬
‫مضن وسهر متواصل‪ ،‬وتصميم أكيد على الوصول‬ ‫ٍ‬ ‫العاملين فى هذه الميادين إلى جهد‬
‫للهدف‪ ،‬وسعى دءوب ممزوج بالدموع والعرق والدماء‪ ،‬وهمم ال تعرف الوهن‪،‬‬
‫وعزائم تنخر فى هياكل الجاهلية ليدخل من خالل تلك الثقوب نور اإليمان وهدى‬
‫القرآن لينتشر رويدًا رويدًا؛ زاحفًا على الظالم والضالل والظلم والكفران‪ ،‬وإعادة‬
‫دولة اإلسالم فى أثوابها الزاهية‪ ،‬وتيجانها الناصعة‪ ،‬وعدلها المنتظر‪ ،‬وآفاقها الواسعة‪،‬‬
‫ووظائفها المتعددة من إقامة الصالة وإيتاء الزكاة واألمر بالمعروف والنهى عن‬
‫المنكر‪ ،‬ونصرة المستضعفين ومقارعة الظالمين‪ ،‬وفتح أبواب الجهاد وشراء سلعة‬
‫‪1‬‬
‫()المرجع السابق‪ ,‬ص (‪.)289‬‬
‫‪2‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص(‪.)291‬‬
‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ األندلس‪ ،‬ألشباخ‪ ,‬ص (‪.)82‬‬
‫‪131‬‬
‫الجنة بالمهج واألنفس واألرواح ثمنًا لها‪ .‬إن أصحاب تلك األهداف السامية والنبيلة‬
‫البد لهم من أن يتميزوا فى حياتهم عن غيرهم فإن اآلمال العظيمة ال يصل إليها إال‬
‫أصحاب النفوس الكبيرة‪.‬‬
‫تعبت من مرادها األجسام‬ ‫وإذا كانت النفوس كبـــارًا‬
‫إن تحديات الحركة اإلسالمية كثيرة جدًا فعليها أن تستعين بخالقها على تحقيق‬
‫أهدافها‪ ,‬وعليها أن تكثر العمل وتُقلِّل ِمن الجدل‪ ،‬وتهتم بالرواحل وتترك المثبطين‪،‬‬
‫وتصعد بأبنائها على كل المجاالت واألصعدة وتهتم بتربيتهم وتزكيتهم وتفجير طاقاتهم‬
‫وتوجيهها حتى ت ُس َّد الثغرات المتعددة‪ ،‬وعليها أن تحرص على أوقات أبنائها وتشغلهم‬
‫بالنافع المفيد لألمة ولهم‪.‬‬
‫إن تحريك الشعوب اإلسالمية نحو التغيير إلقامة شرع هللا مقيد بسنن هللا فى‬
‫المجتمعات والدول واألشخاص‪ ،‬وسنن هللا ال تجامل وال ترحم وال تتغير وال تتبدل‪،‬‬
‫فعلينا أن نفقه سنن هللا لنحسن التعامل معها‪ ,‬ونأخذ بها فى خطواتنا إلقامة دولة اإلسالم‬
‫ونشر شريعة الرَّحمن‪.‬‬
‫***‬

‫‪132‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫النظم العســـــكرية‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫صفات المجاهدين فى سبيل هللا‪:‬‬
‫إن الجهاد فى سبيل هللا عظيم الكلفة والمشقة على النفس البشرية‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ك ْم﴾ [البقرة‪:‬‬ ‫ال َو ُه َو ُك ْرهٌ لَّ ُك ْم َو َع َسى أَن تَك َْر ُهوا َش ْيئًا َو ُه َو َخ ْي ٌر لَّ ُ‬ ‫ب َعلَْي ُك ُم ال ِْقتَ ُ‬ ‫ِ‬
‫﴿ ُكت َ‬
‫‪.]216‬‬
‫ولذلك لم يستطع أن يقوم بالجهاد اإلسالمى على أصوله الصحيحة إال من رزقه‬
‫هللا صفات تجعله أهالً للقيام بهذه العبادة الكريمة‪.‬‬
‫واألصل العظيم الذى تنبثق منه كل صفات ال ُم َجا ِهدين سواء كانوا قادة أو جنودًا‪،‬‬
‫أو صفات الجيش كله هو اإليمان باهلل العلى العظيم الذى بقوته تقوى صفات‬
‫ال ُم َجا ِهدين‪ ،‬وبضعفه تضعف تلك الصفات الرفيعة فى القادة واألفراد والجيش على حد‬
‫سواء‪ ،‬ولذا قال ابن تيمية رحمه هللا‪« :‬وإذا كان أولياء هللا هم المؤمنين المتقين فبحسب‬
‫إيمان العبد وتقواه تكون واليته هلل تعالى‪ ،‬فمن كان أكمل إيمانًا وتقوى‪ ،‬وكان أكمل‬
‫والية هلل‪ ،‬فالنَّاس متفاضلون فى والية هللا عز وجل بسبب تفاضلهم فى اإليمان‬
‫والتقوى»(‪.)1‬‬
‫والذى يكون إيمانه أكمل يحقق عبوديته هلل أكثر‪ ،‬فيكون وقته كله عبادة وصبرًا‬
‫ت‬ ‫ِ‬
‫وعل ًما وتذكرًا وتقوى وإحسانًا وإخالصًا واعتزا ًزا بدينه ‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬أ ََّم ْن ُه َو قَان ٌ‬
‫(‪)2‬‬

‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫اء اللَّْي ِل َساج ًدا َوقَائ ًما يَ ْح َذ ُر اآلَخ َرةَ َو َي ْر ُجو َر ْح َمةَ َربِّه قُ ْل َه ْل يَ ْستَ ِوى الذ َ‬
‫ين‬ ‫آنَ َ‬
‫آمنُوا َّات ُقوا‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬ ‫ين الَ َي ْعلَ ُمو َن إِنَّ َما َيتَ َذ َّكر أُولُو األلْبَ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َ‬ ‫اب ‪ ‬قُ ْل يَا عبَاد الذ َ‬ ‫ُ‬ ‫َي ْعلَ ُمو َن َوالذ َ‬
‫الصابِ ُرو َن‬
‫اس َعةٌ إِنَّ َما ُي َوفَّى َّ‬ ‫اهلل و ِ‬
‫َ‬
‫ض ِ‬ ‫الد ْنيَا َحسنة َوأ َْر ُ‬ ‫َح َسنُوا فِى َه ِذ ِه ُّ‬ ‫ين أ ْ‬
‫ِِ‬
‫َربَّ ُك ْم للَّذ َ‬
‫ت أل ْن‬ ‫ِّين ‪َ ‬وأُِم ْر ُ‬ ‫ت أَ ْن أَ ْعبُ َد اهللَ ُم ْخلِ ً َّ‬
‫صا لهُ الد َ‬ ‫اب ‪ ‬قُ ْل إِنِّى أُِم ْر ُ‬ ‫َجر ُه ْم بِغَْي ِر ِحس ٍ‬
‫َ‬ ‫أ َْ‬
‫ِِ‬
‫ين﴾ [الزمر‪.]12-9 :‬‬ ‫أَ ُكو َن أ ََّو َل ال ُْم ْسلم َ‬
‫إن زعماء المرابطين فى تاريخهم المجيد حرصوا على تربية شعبهم ال ُم َجا ِهد‬
‫على صفات ال ُم َجا ِهدين سواء على مستوى األفراد أو القادة أو الجيش أو الشعب‪.‬‬
‫أ ‪ -‬صفات القائد العسكرى عند المرابطين‪:‬‬
‫إذا نظرنا فى سيرة قادة ال ُم َجا ِهدين فى دولة المرابطين نجد أن خيار قادتهم تميَّزوا‬
‫بصفات أهَّلَتهم لقيادة الجيوش وتحقيق النصر وإلحاق الهزائم باألعداء‪ ،‬و ِمن أ ْشهر‬
‫أولئك القادة الذين تميَّزوا بصفاتهم القيادية أبو بكر بن عمر‪ ،‬ويحيى بن عمر‪ ،‬ويوسف‬
‫‪1‬‬
‫() الفتاوى (ج‪.)11/175‬‬
‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬الجهاد فى سبيل هللا‪ ،‬د‪ .‬عبد هللا القادري‪( ،‬ج‪.)2/5‬‬
‫‪133‬‬
‫بن تاشفين‪ ,‬وأبو ُم َح َّمد مزدلي‪ ,‬وسير بن أبى بكر‪ ،‬وأبو عبد هللا ُم َح َّمد بن الحاج‪،‬‬
‫وداود ابن عائشة‪ ،‬وعبد هللا بن فاطمة وغيرهم كثير‪.‬‬
‫نالحظ أنهم تميَّزوا بأمور أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬اإلكثار ِمن طاعة هللا وإعداد النفس لتح ُّمل المشاق‪:‬‬
‫حيث تربَّوا على حسن صلتهم بربهم الذى يمدهم بالعون بقدر ما يحققون له‬
‫العبودية؛ فكان لهم حظ ِمن القرآن والصيام والقيام وحسن الصلة واإلنفاق فى سبيل‬
‫هللا‪ ،‬وكان لتربية عبد هللا بن ياسين لهم فى رباطه أثر كبير الزمهم على طول حياتهم‪،‬‬
‫فكان فى مرحلة التكوين يُربِّى أتباعه على الذكر والتو ُّكل على هللا‪ ,‬والصبر على‬
‫األذيَّة فى سبيل هللا‪ ،‬وكان يعلِّمهم أساليب إتعاب النفس فى ذات هللا حتى تستطيع أن‬
‫تتحمل المشاق فى سبيله‪ ،‬وكان منهجه فى ترسيخ هذه المعانى فى نفوس أتباعه القرآن‬
‫الكريم‪:‬‬
‫ص ِم ْنهُ قَلِيالً ‪ ‬أ َْو ِز ْد‬ ‫ص َفهُ أَ ِو ان ُق ْ‬
‫ِ‬
‫﴿يَا أ َُّي َها ال ُْم َّز ِّم ُل ‪ ‬قُ ِم اللَّْي َل إِالَّ قَليالً ‪ ‬نِ ْ‬
‫اشئَةَ اللَّْي ِل ِه َي أَ َش ُّد‬ ‫ك َقوالً ثَِقيالً ‪ ‬إن نَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعلَْيه َو َرت ِِّل الْ ُق ْرآ َن َت ْرتيالً ‪ ‬إِنَّا َس ُنلْقى َعلَْي َ ْ‬
‫َّل إِل َْي ِه‬
‫ك َوَتبَت ْ‬ ‫َّها ِر َس ْب ًحا طَ ِويالً ‪َ ‬واذْ ُك ِر ْ‬
‫اس َم َربِّ َ‬ ‫وطئًا وأَقْوم قِيالً ‪ ‬إن ل َ ِ‬
‫َك فى الن َ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ‬
‫اصبِ ْر َعلَى َما‬ ‫و‬ ‫ال‬ ‫ي‬‫ِ‬‫ك‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ذ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫خ‬ ‫َّ‬
‫ت‬ ‫ا‬ ‫ف‬ ‫و‬‫ه‬ ‫َّ‬
‫ال‬ ‫ِ‬
‫إ‬ ‫َه‬
‫ل‬ ‫ِ‬
‫إ‬ ‫ال‬ ‫ب‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫غ‬‫الم‬ ‫و‬ ‫ق‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫ش‬‫َت ْ ً َ ِّ َ ْ‬
‫ْم‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫ي‬‫ِ‬
‫ت‬ ‫ب‬
‫َُ َ ُ َ ً َ ْ‬
‫‪‬‬ ‫َ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫‪‬‬
‫َي ُقولُو َن َو ْاه ُج ْر ُه ْم َه ْج ًرا َج ِميالً﴾ [المزمل‪.]10-1:‬‬
‫يقول سيِّد قطب رحمه هللا فى «ظالله» فى ترسيخ هذه المعانى فى نفوس الدعاة‪:‬‬
‫«إن الذى يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا ولكنَّه يعيش صغيرًا ويموت صغيرًا‪ ،‬فأ َّما‬
‫الكبير الذى يحمل العبء فماله والنَّوم‪ ،‬وماله والراحة‪ ،‬وماله والفراش الدافئ‪ ،‬والعيش‬
‫الهادئ‪ ،‬والمتاع المريح‪ ،‬ولقد عرف رسول هللا × حقيقة األمر وق َّدره‪ ،‬فقال لخديجة –‬
‫رضى هللا عنها‪ -‬وهى تدعوه أن يطمئن وينام‪« :‬مضى عهد النوم يا خديجة» أجل‬
‫مضى عهد النوم‪ ,‬وما عاد منذ اليوم إال السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق»(‪.)1‬‬
‫لقد كان قادة المرابطين فى تربيتهم الرشيدة جادين بعيدين عن الهزل واللهو‬
‫واللعب‪ ,‬وتميز فيهم أبو بكر بن عمر‪ ,‬ويوسف بن تاشفين‪ ،‬فكان لهما السبق على‬
‫أتباعهما فى كل مجال ِمن المجاالت التى تُعتَبر من ضرورات القائد الناجح‪.‬‬
‫‪ -2‬القدوة الحسنة للجنود‪:‬‬
‫حيث نجد أن قادة المرابطين يقودون المعارك بأنفسهم‪ ,‬فقتل عبد هللا بن ياسين فى‬
‫ساحات الوغي‪ ،‬ويحيى بن عمر كذلك‪ ,‬وأبو بكر بن عمر فى جهاده فى الصحراء‬
‫الكبرى‪ ،‬كما كان يوسف بن تاشفين يقود الحرس الخاص الذى أعده النتزاع النصر‬
‫ِمن األعداء فى الساعات الحرجة‪ ،‬ويندفع بجواده فى ميادين الجهاد عندما يشت ُّد وطيس‬
‫المعركة‪ ،‬وضربوا أمثلة رائعة فى إيمانهم وعملهم الصالح وشجاعتهم وكرمهم‬
‫الفياض وحزمهم وإيثارهم وإقدامهم‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() انظر ‪ :‬فى ظالل القرآن (ج‪.)6/3744‬‬
‫‪134‬‬
‫‪ -3‬حرصوا على تزكية وتطهير جنودهم واالرتقاء بهم طاعةً هلل‪:‬‬
‫إن بُعد الجنود عن التعليم والتربية والتطهير يكون سببًا فى قسوة قلوبهم‬
‫وانغماسهم فى اآلثام والذنوب و ِمن ثَ َّم الهزيمة‪.‬‬
‫ث فِي ِه ْم َر ُسوالً ِّم ْن أَْن ُف ِس ِه ْم َي ْتلُو‬
‫ين إِ ْذ َب َع َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫قال تعالى‪ ﴿:‬لََق ْد من اهللُ َعلَى ال ُْمؤمن َ‬
‫ضالَ ٍل‬‫ْمةَ َوإِ ْن َكانُوا ِمن َق ْب ُل ل َِفى َ‬ ‫ِ‬
‫اب َوالْحك َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َعلَْي ِه ْم آيَاته َو ُي َز ِّكي ِه ْم َو ُي َعلِّ ُم ُه ُم الْكتَ َ‬
‫ُّمبِي ٍن﴾ [آل عمران‪.]164 :‬‬
‫َي ْتلُو َعلَْي ِه ْم آيَاتِِه‬
‫ين‬ ‫وقال تعالى‪ُ ﴿:‬هو الَّ ِذى بع َ ِ‬
‫َر ُسوالً ِّم ْن ُه ْم‬
‫ث فى األ ُِّميِّ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫ضالَ ٍل ُّمبِي ٍن﴾ [الجمعة‪.]2:‬‬ ‫َ‬ ‫ِم ْن َق ْب ُل ل َِفى‬
‫ْمةَ َوإِن َكانُوا‬
‫َ‬ ‫ك‬ ‫ْكتَاب وال ِ‬
‫ْح‬ ‫ِ‬
‫َو ُي َز ِّكي ِه ْم َو ُي َعلِّ ُم ُه ُم ال َ َ‬
‫يقول سيِّد قطب رحمه هللا‪« :‬ويزكيهم ويطهرهم ويرفعهم وينقيهم‪ :‬يطهر‬
‫قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم‪ ،‬ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصالتهم‪ ،‬ويطهر‬
‫حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم‪ ،‬ويطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة‬
‫واألسطورة‪ ,‬وما تبثه فى الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة‬
‫باإلنسان وبمعنى إنسانيته‪ ،‬ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية‪ ,‬وما تلوث به‬
‫المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم»(‪.)1‬‬
‫‪ -4‬الخبرة بأمور الحرب والق َّوة فيها‪:‬‬
‫وظهر ذلك فى قادة المرابطين فى جهادهم من أجل توحيد المغرب األقصى كله‪,‬‬
‫والقضاء على دولة برغواطة الملحدة‪ ،‬وما خاضوه من حروب ومعارك ظهرت فيها‬
‫خبرتهم الحربية‪ ,‬ومقدرتهم على تنفيذ أساليب الكر والفر‪ ،‬وظهرت خبرة القائد األعلى‬
‫يوسف بن تاشفين فى معركة ال ِّزالقَة التى أكسبت أركان الحرب خبرات عميقة؛‬
‫ساعدتهم فى جهادهم من أجل ضم األَ ْن َدلُس لدولتهم الفتية تحت راية اإلسالم بمنهجه‬
‫السنى القويم‪ ،‬والقضاء على الخطر النصرانى فى األَ ْن َدلُس‪.‬‬
‫وفى القرآن الكريم نجد إشارة لطيفة تبين صفات القائد العسكرية وهي‪ :‬العلم‬
‫ُوت َملِ ًكا قَالُوا أَنَّى‬ ‫ال ل َُه ْم نَبُِّي ُه ْم إن اهللَ قَ ْد َب َع َ‬
‫ث لَ ُك ْم طَال َ‬ ‫﴿وقَ َ‬
‫والقوة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫ت َس َعةً ِمن الم ِ‬ ‫ْك علَينا ونَحن أ ِ ِ ِ‬
‫ال إن اهللَ‬ ‫ال قَ َ‬ ‫َ‬ ‫َم ُي ْؤ َ‬‫َح ُّق بال ُْملْك م ْنهُ َول ْ‬
‫يَ ُكو ُن لَهُ ال ُْمل ُ َ ْ َ َ ْ ُ َ‬
‫ْجس ِم واهلل ي ْؤتِى م ْل َكهُ من ي َشاء واهلل و ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اس ٌع‬ ‫َ َ ُ َ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ادهُ بَ ْسطَةً فى الْعل ِْم َوال ْ َ ُ ُ‬ ‫اصطََفاهُ َعلَْي ُك ْم َو َز َ‬
‫ْ‬
‫يم﴾ [البقرة‪.]247 :‬‬ ‫ِ‬
‫َعل ٌ‬
‫وقد ظهر علمه وخبرته فى اختيار جنده‪ ,‬ومعرفة الصالح منهم للجهاد وغير‬
‫الصالح‪ ،‬وبرزت قوته فى صموده وصبره ومصابرته ونجاحه فى جهاده‪.‬‬
‫قال سيِّد قطب رحمه هللا‪« :‬وفى ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة‬
‫الحازمة المؤمنة‪ ،‬وكلُّها واضحة فى قيادة طالوت‪ ،‬تبرز فيها خبرته بالنفوس وعدم‬
‫‪1‬‬
‫() فى ظالل القرآن (ج‪.)1/507‬‬
‫‪135‬‬
‫اغتراره بالحماسة الظاهرة‪ ,‬وعدم اكتفائه بالتجربة األولى‪ ،‬ومحاولته اختبار الطاعة‬
‫والعزيمة فى نفوس جنوده قبل المعركة‪ ،‬وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه‪ ،‬ثم –‬
‫وهذا هو األهم – عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة‪ ،‬ولم يثبت معه فى‬
‫النهاية إال تلك الفئة المختارة‪ ،‬فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة اإليمان الخالص‪ ,‬ووعد‬
‫(‪) 1‬‬
‫هللا الصادق للمؤمنين»‪.‬‬
‫‪ -5‬البعد عن طلب القيادة وابتغاء الرئاسة‪:‬‬
‫وظهر لى هذا المعنى فى شخصية األمير ال ُم َجا ِهد الزاهد أبى بكر بن عمر‪،‬‬
‫فعندما لمس من ابن عمه مقدرة على القيادة أسند األمر إليه‪ ،‬ودخل متوغالً فى‬
‫الصحراء الكبرى من أجل الدعوة والجهاد حتى أكرمه هللا بالشهادة‪ ،‬وكان أمراء‬
‫المرابطين يرون اإلمارة قربة وعبادة يتقربون بها إلى هللا لنصر دينه وتحقيق مصالح‬
‫عباده‪ ,‬وليست مغن ًما من جاه أو منصب أو مال‪.‬‬
‫‪ -6‬إسناد األمور إلى أهلها‪:‬‬
‫وهذه الصفة ظهرت لى فى سيرة يوسف بن تاشفين فى تعيينه للوالة والقادة‬
‫والفقهاء‪ ،‬وما كان ليمتنع عن عزل َمن قصَّر فى عمله‪ ,‬ويعين َمن هو أفضل منه‪.‬‬
‫‪ -7‬تربية الجندى على التسليم المطلق هلل ال لشخص القائد‪:‬‬
‫وكان أمراء المرابطين يضربون أروع األمثلة فى زرع هذه المعانى فى نفوس‬
‫ال ُم َجا ِهدين‪ ،‬فهذا أمير المسلمين يرفع يديه نحو السماء مناجيًا المولى عز وجل‪« :‬اللهم‬
‫إن كنت تعلم أن فى جوازنا هذا إصالحًا للمسلمين فسهِّل علينا هذا البحر حتى نعبره‪،‬‬
‫وإن كان غير ذلك فصعبه حتى ال نجوزه»(‪.)2‬‬
‫وفى وسط معركة ال ِّزالقَة وهو يبث الحماس فى نفوس ال ُم َجا ِهدين‪« :‬يا معشر‬
‫المسلمين اصبروا لجهاد أعداء هللا الكافرين‪ ,‬و َمن رزق منكم الشهادة فله الجنة‪ ،‬و َمن‬
‫سلم فقد فاز باألجر العظيم والغنيمة»(‪ ،)3‬وهكذا القائد المسلم هو الذى يربى جنوده‬
‫بالمواقف على تحقيق العبودية الخالصة هلل‪.‬‬
‫ولهذا لما قتل عبد هللا بن ياسين لم يتأثر المرابطون‪ ,‬وقتل يحيى بن عمر ومن‬
‫بعده أبو بكر بن عمر‪ ،‬وما زادهم ذلك إال إيمانًا وتسلي ًما‪ ،‬وهذا يدل على حسن تربيتهم‬
‫لل ُم َجا ِهدين وتعلقهم وتسليمهم هلل ال لألشخاص‪ ،‬أما تربية اليوم فى جيوش المسلمين‬
‫شبيهة بالفرعونية حيث يربى القائد جنوده على طاعته المطلقة فى الخير والشر‪ ,‬كما‬
‫يربيهم على الخضوع الكامل لشخصه‪.‬‬
‫ووصف الشيخ ُم َح َّمد الغزالى – رحمه هللا – هذه التربية فقال‪« :‬إن الذى يدرس‬
‫المجتمعات الفاسدة‪ ,‬ويتغلغل فى بحث عللها‪ ،‬والذى يتتبع أعمال األدعياء وطالب‬
‫الزعامة‪ ،‬ويستقصى وسائلهم الملتوية فى تسخير الجماهير للوصول إلى القمة‪ ،‬والذى‬
‫يلحظ النهضات الكبرى وكيف يدركها الفشل فجأة ألنهم أصيبوا برجال يحبون‬
‫‪1‬‬
‫() فى ظالل القرآن (ج‪.)1/263‬‬
‫‪2‬‬
‫() دولة المرابطين ‪ ،‬ص (‪.)90‬‬
‫‪3‬‬
‫() دولة المرابطين‪.‬‬
‫‪136‬‬
‫الظهور‪ ،‬فال يرحبون بالنصر إال إذا جاء عن طريقهم وحدهم‪ ،‬أ َّما إذا جاء عن طريق‬
‫غيرهم فهو‬
‫البالء المبين»(‪.)1‬‬
‫وقال سعد جمعة‪« :‬والفرق بين اإلسالم والنُّظُم المعاصرة أن الوالء فى اإلسالم‬
‫هو هلل وحده‪ ،‬بينما الوالء فى النُّظُم األخرى المنعوتة بالتقدمية‪ ،‬هو للطاغية‪ ،‬أو‬
‫الدكتاتور أو الحزب الحاكم أو الجيش العقائدى أو اإليديولوجية المتسلطة‪ ،‬ولذا فهو‬
‫والء إكراه وضغط فكرى وقهر بوليسي‪ ،‬ال والء الخير والمحبة والمودة والتقوى‬
‫واألخوة»(‪.)2‬‬
‫وكم نحن محتاجون إلى منهج اإلسالم الصحيح فى غرس الربانية والتسليم‬
‫المطلق هلل ال لألشخاص‪.‬‬
‫‪ -8‬الحرص على قاعدة الشورى‪:‬‬
‫كان ألمير المسلمين فى دولة المرابطين ونائبه مجلسٌ حرب ٌّي يضم قواد الفرق‬
‫العسكرية المختلفة لدراسة الخطط الحربية‪ ،‬وتلقى األوامر والتعليمات ِمن القائد‬
‫األعلى‪ ,‬والتشاور فى أمور الجهاد والبالد والعباد‪ ،‬واتصف قادة المرابطين بحرصهم‬
‫على إقامة مبدأ الشورى فيما بينهم‪.‬‬
‫فكان قرار الجهاد ضد النصارى فى األَ ْن َدلُس بعد شورى شارك فيها الشيوخ‬
‫والقادة والعلماء والفقهاء‪ ،‬وكان قرار ضم ممالك الطوائف بعد شورى كذلك‪ ,‬واشتهر‬
‫األمير يوسف بمشاورة ذوى الرأى من علماء الشريعة اإلسالمية وذوى الخبرة فيما‬
‫يعرض له من أمور‪.‬‬
‫‪ -9‬الحرص على تحقيق األهداف والضبط اإلدارى وقوة التأثير‪:‬‬
‫ظهرت هذه الصفات فى شخصية يوسف بن تاشفين الذى أظهر مهارة إدارية‬
‫عندما فتح مدينة سجلماسة‪ ,‬واستطاع أن يحقق أهداف المرابطين بعد جهاد دام ربع‬
‫قرن‪ ،‬جنى بعدها المرابطون ثمرة أتعابهم وبسطوا سيطرتهم على المغرب األقصى‪،‬‬
‫ونُشر األمن فى ربوعه‪ ،‬واستطاع يوسف بحسن سيرته وعدله أن يؤثِّر بق َّوة الحق‬
‫الذى التزمه على قبائل المصامدة وزناتة وغمارة وغيرها‪.‬‬
‫‪ -10‬الشجاعة والكرم‪:‬‬
‫وظهرت هاتان الصفتان فى قادة المرابطين فى جهادهم فى األَ ْن َدلُس‪ ,‬فبعد معركة‬
‫عف األمير يوسف وجنوده عن الغنائم وتركوها لملوك الطوائف‪ ،‬مع كونهم‬ ‫ِّ‬
‫الزالقَة َّ‬
‫بذلوا ِمن الدماء والنفوس فى تلك المعركة ما ال يعلمه إال هللا‪ ،‬فدل فعلهم ذلك على‬
‫شجاعتهم وكرمهم‪.‬‬
‫‪ -11‬التصرف الحكيم السريع أمام المفاجآت‪:‬‬
‫وظهرت لى هذه الصفة عندما تدخل الحماديون ِمن الحدود الشرقية‪ ،‬واعتدوا على‬
‫دولة المرابطين من أطرافها‪ ,‬فجرَّد المرابطون لهم جي ًشا‪ ,‬وردوهم إلى حدودهم‪,‬‬
‫‪1‬‬
‫() اإلسالم واالستبداد السياسي‪ ،‬ص (‪.)35‬‬
‫‪2‬‬
‫() هللا أو الدمار‪ ،‬ص (‪.)181‬‬
‫‪137‬‬
‫وشن هجو ًما على‬ ‫َّ‬ ‫وعقدوا معاهدة أمن وسالم‪ ،‬وعندما أخطأ والى تلمسان المرابطى‬
‫بنى حماد دون إذن ِمن القيادة العليا عُزل ذلك القائد و ُعيِّن مكانه َمن هو أفضل منه‪,‬‬
‫وتراضوا مع بنى ح َّماد‪ ،‬وعندما تأ َّكد األمير يوسف من خيانة ملوك الطوائف أس َر‬
‫بعضهم‪ ,‬وقتل بعضهم‪ ،‬وضرب الحصار على ممالكهم حتى أسقطها جميعًا‪ ،‬وساعده‬
‫على تحقيق تلك األهداف قادة عظام اتصفوا بصفات عظيمة انعكست على جنود‬
‫المرابطين‪.‬‬
‫هذه بعض الصفات التى حرص المرابطون على غرسها فى قياداتهم وزعمائهم‪،‬‬
‫فكانت خيرًا وبركة على تلك الدولة السنية الفتية‪.‬‬
‫ب ‪ -‬المنهج التربوى لجيش المرابطين‪:‬‬
‫اهتم المرابطون بتربية جنودهم تربية جهادية‪ ,‬اهتموا بجميع جوانبها الروحية‬
‫والنفسية والفكرية والجسدية‪ ،‬وقد تميزت تربيتُهم الروحية بربط ال ُم َجا ِهد بالجنة‬
‫واالشتياق إليها‪ ،‬فشهدت المعارك التى خاضوها ضد أعدائهم على حبهم للموت كحب‬
‫خصومهم النصارى للحياة‪.‬‬
‫وغرس علماء المرابطين فى نفوس جنودهم عقيدة اإليمان بالقدر‪ ،‬فأصبح الفارس‬
‫منهم ينطلق كالسهم فى صفوف األعداء يضرب ذات اليمين وذات الشمال‪ ،‬ال يخشى‬
‫إال هللا تعالى مؤمنًا باآليات القرآنية واألحاديث النبوية التى تدل على تعميق هذا‬
‫المفهوم فى نفوس ال ُم َجا ِهدين‪.‬‬
‫ت فِى َمنَ ِام َها َفيُ ْم ِس ُ‬
‫ك‬ ‫َم تَ ُم ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َم ْوت َها َوالَّتى ل ْ‬
‫قال تعالى‪﴿:‬اهلل يتوفَّى األَْن ُف ِ‬
‫س ح َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ََ َ‬
‫َج ٍل ُّم َس ًّمى﴾ [الزمر‪ ،]42:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫أ‬ ‫َى‬ ‫ل‬ ‫ِ‬‫إ‬ ‫ى‬ ‫ر‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الَّتِى قَ َ‬
‫َ‬ ‫ت َ ُْ ُ ْ َ‬
‫خ‬‫أل‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ر‬‫ي‬ ‫و‬ ‫ضى َعلَْي َها ال َْم ْو َ‬
‫ْم ْؤ ِمنُو َن﴾ [التوبة‪:‬‬ ‫ِ‬
‫ب اهللُ لَنَا ُه َو َم ْوالَنَا َو َعلَى اهلل َفلْيََت َو َّك ِل ال ُ‬
‫َّ ِ‬
‫﴿قُل لن يُّص َيبنَا إِالَّ َما َكتَ َ‬
‫‪.]51‬‬
‫وقال ×‪« :‬إن أحدَكم يجمع خلقه فى بطن أ ِّمه أربعين يو ًما نطفة‪ ،‬ثم يكون علقة‬
‫مثل ذلك‪ ،‬ثم يكون مضعة مثل ذلك‪ ،‬ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع‬
‫كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد‪.)1( »..‬‬
‫وكانت وسائل المرابطين فى تقوية الجانب الروحى فى جنودهم وشعبهم المقاتل‬
‫تعتمد على إحياء شعيرة الصالة‪ ،‬والصيام‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والحج‪ ،‬وتالوة القرآن‪ ،‬والذكر‪،‬‬
‫وأما وسائلهم فى التربية النفسية فتعتمد على جهود العلماء والفقهاء الذين يقومون‬
‫بتزكيتهم وإيضاح حقيقة النفس والكون والحياة وغرض اإلنسان وهدفه فى هذه الدنيا‪.‬‬
‫وكانوا يرون أن أهم أسباب تربية النفوس أن تستعد دائما للجهاد‪ ،‬وأن تتربى على‬
‫خشونة العيش والطعام والشراب‪ ,‬وقلة النوم لتنمية فضيلة الصبر فى نفوسهم‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أبرز الجوانب التربوية فى جيش المرابطين‪:‬‬
‫‪ -1‬األخوة اإلسالمية‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫() رواه البخاري‪ ,‬رقم (‪.)3036‬‬
‫‪138‬‬
‫كانت من أسباب قوة الجيش المرابطى سريان روح األخوة بين جميع فصائل‬
‫الجيش‪ ،‬وامتألت قلوبهم ونفوسهم بهذا المعنى السامى الذى كان سببًا فى تذويب‬
‫النعرات اإلقليمية والعرقية‪ ،‬وجيوشهم تتكون ِمن الزنوج‪ ،‬ومن قبائل صنهاجة‬
‫المتفرِّ قة‪ ,‬ومن العرب‪ ,‬ومن مسلمى اإلسبان‪ ،‬وكل هذه الفصائل المتعددة‬
‫والمتنوعة ك َّونت أ َّمة واحدة‪.‬‬
‫َصلِ ُحوا َب ْي َن أ َ‬
‫َخ َويْ ُك ْم َو َّات ُقوا اهللَ ل ََعلَّ ُك ْم‬ ‫ِ‬
‫قال تعالى‪ ﴿:‬إِنَّ َما ال ُْم ْؤمنُو َن إِ ْخ َوةٌ فَأ ْ‬
‫ُترحمو َن﴾ [الحجرات‪ ,]10:‬وقال تعالى‪﴿:‬واذْ ُكروا نِ ْعم َ ِ‬
‫ت اهلل َعلَْي ُك ْم إِ ْذ ُك ْنتُ ْم أَ ْع َد ً‬
‫اء‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ َُ‬
‫َصبَ ْحتُ ْم بِنِ ْع َمتِ ِه إِ ْخ َوانًا﴾ [آل عمران‪.]103:‬‬ ‫ك‬‫ِ‬
‫ف َْ َ ُ ُ ُ ْ َ ْ‬
‫أ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ب‬ ‫و‬‫ل‬‫ق‬ ‫ن‬ ‫ي‬‫ب‬ ‫فَأَلَّ َ‬
‫لقد تحلى جيش المرابطين بهذه الصفة الربانية العظيمة فق َّوت رابطة ال ُم َجا ِهدين‪,‬‬
‫وجعلتهم صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص فى مواجهة األعداء‪.‬‬
‫‪ -2‬التواصى بالحق والتواصى بالصبر‪:‬‬
‫فعندما أصيب عبد هللا بن ياسين بجراح بالغة‪ ,‬و ُح ِمل على إثرها إلى معسكره؛‬
‫وحذرهم من عواقب‬‫َّ‬ ‫جمع رؤساء وشيوخ المرابطين وحثَّهم على الثبات فى القتال‪،‬‬
‫التفرقة والتحاسد فى طلب الرئاسة وما لبت أن فارق الحياة(‪.)1‬‬
‫وهكذا جند هللا المجاهدون ال يتباطأون فى مناصحة بعضهم بعضًا‪ ،‬لعلمهم أن فى‬
‫هذا التباطؤ هالكهم جميعًا الذى وصفه لهم الرسول × فى حديث النعمان بن بشير‬
‫‪-‬رضى هللا عنهما‪ -‬فقال‪« :‬مثل القائم فى حدود اهلل والواقع فيها كمثل قوم استهموا‬
‫على سفينة‪ ,‬فأصاب بعضهم أعالها‪ ,‬وبعضهم أسفلها‪ ,‬فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا‬
‫مروا على َمن فوقهم فقالوا‪ :‬لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقًا‪ ,‬ولم نؤذ َمن فوقنا‪,‬‬ ‫الماء ُّ‬
‫جميعا‪ ,‬وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا‬‫ً‬ ‫فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا‬
‫جميعا»(‪.)2‬‬
‫ً‬
‫إن مفهوم الجندية اإلسالمية يترعرع فى بيئات التناصح والتواصى بالحق‬
‫والتواصى بالصبر‪.‬‬
‫‪ -3‬إصالح ذات البين‪:‬‬
‫حرص المرابطون على نبذ الشقاق والقضاء على الخالف وعلى رأب الصدع‬
‫وإصالح ذات البين؛ لعلمهم أن فساد ذات البين يقضى على جند الجهاد أكثر مما‬
‫يقضى عليهم عدوهم الخارجى مهما قويت شوكته وكثر جنده‪ ،‬فاتخذوا أسلوب الحكمة‬
‫واللين والرفق من أجل تحقيق هذا الهدف المنشود‪ ،‬وإذا خرجت فئة تستمرئ الشقاق‬
‫أو تعمل على إيجاده؛ جرَّدوا لها الجيوش وأخضعوها بالقوة‪ ،‬وهذا ما قام به األمير أبو‬
‫بكر بن عمر عندما تمرَّدت بعض قبائل الصحراء على مبادئ المرابطين‪ ,‬واشتبكوا‬
‫مع بعض القبائل األخرى فى قتال؛ فخرج إليهم بجيشه الكثيف‪ ,‬وأصلح ذات البين‬
‫‪1‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)44‬‬
‫‪2‬‬
‫() البخاري رقم (‪ ،)2493‬فتح الباري (ج‪.)5/132‬‬
‫‪139‬‬
‫مستعمالً فى ذلك القوة‪ ،‬ومن أجل الضرورة وإصالح ذات البين أذن النبى × لمن أراد‬
‫أن يستعمل الكذب الذى ال يحل حرا ًما وال يحرم حالالً‪ ,‬ال سيما إذا كان من باب‬
‫التورية والتعريض‪ ،‬كما فى حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول هللا × يقول‪:‬‬
‫خيرا»(‪.)1‬‬
‫خيرا أو يقول ً‬ ‫«ليس الكذب الذى يصلح بين النَّاس فينمى ً‬
‫َّ‬
‫وحذر‬ ‫وجعل النبى × إصالح ذات البين أفضل ِمن الصالة والصيام والصدقة‪,‬‬
‫ِ‬
‫النبى × من فساد ذات البين‪ ،‬قال رسول هللا ×‪« :‬أال أخبركم بأفضل درجة من‬
‫الصيام والصالة والصدقة؟»‪ ،‬قالوا‪ :‬بلى يا رسول هللا‪ ،‬قال‪« :‬إصالح ذات البين‪،‬‬
‫وفساد ذات البين الحالقة»(‪.)2‬‬
‫‪ -4‬نصر الحق والثبات عليه‪:‬‬
‫لما أرسل فقها ُء سجلماسة ودرعة إلى الفقيه ابن ياسين‪ ,‬يرغبون فى الوصول‬
‫إليهم ليخلص بالدهم مما تعانيه ِمن ال ُح َّكام الطغاة الظلمة زناتة المغراويين‬
‫وأميرهم مسعود بن وانودين‪ ،‬فجمع ابن ياسين شيوخ قومه‪ ,‬وقرأ عليهم رسالة‬
‫فقهاء سجلماسة؛ فأشاروا عليه بمد يد المعونة لهم‪ ،‬وقالوا له‪« :‬أيها الشيخ الفقيه‬
‫هذا ما يلزمنا فسر بنا على بركة هللا تعالى»(‪.)3‬‬
‫ولما طلب ملوك الطائف العون ِمن المرابطين لنصرتهم على النصارى لبوا نداء‬
‫الحق‪ ،‬لقد كان جيش المرابطين حريصًا على نصرة الحق وإحقاقه والقتال عليه‪.‬‬
‫لقد حرص المرابطون على أن يشملهم قول رسول هللا ×‪« :‬ال يزال من أمتى أمة‬
‫قائمة بأمر اهلل ال يضرهم من خذلهم وال من خالفهم حتى يأتيهم أمر اهلل وهم على‬
‫خيرا يفقهه فى الدين‪ ,‬وال تزال عصابة ِمن‬ ‫ِ‬
‫ذلك» ‪ ،‬وقوله ×‪َ « :‬من يُ ِرد اهلل به ً‬
‫(‪)4‬‬

‫المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة»(‪.)5‬‬
‫إن صفة نصر الحق والثبات عليه والقتال عليه ليست دعوة تقال‪ ،‬أو شعاراً يرفع‬
‫على مستوى الجماعات أو الدول أو الطوائف‪ ,‬وإنَّما حقيقة لها داللتها الواقعية فى حياة‬
‫النَّاس‪ ،‬وأى جماعة أو دولة تفقد صفة الفقه فى الدين ونصر الحق أو إحداهما فليست‬
‫أهالً ألن تكون هى الطائفة المنصورة‪.‬‬
‫وأى خلل يقع فى أى جماعة؛ فالبد أن يكون مصدره فقد إحدى الصفتين أو فقدهما‬
‫معًا أو ضعف فى إحداهما أو فيهما معًا(‪.)6‬‬
‫إن دولة المرابطين فى جيلها الريادى حققت صفة الفقه فى الدين متمثالً فى‬
‫‪1‬‬
‫() البخاري رقم (‪ ،)2692‬فتح الباري (ج‪.)5/299‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه الترمذي (ج ‪.)633/‬‬
‫‪3‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)42‬‬
‫‪4‬‬
‫(‪ )4‬البخاري رقم (‪ ،)3641‬فتح الباري (ج‪.)6/632‬‬
‫‪5‬‬
‫() مسلم (ج‪.)3/1524‬‬
‫‪6‬‬
‫() الجهاد فى سبيل هللا‪( ,‬ج‪.)2/95‬‬
‫‪140‬‬
‫فقهائها العظام‪ ،‬فاستحقَّت أن تكون ِمن الطائفة المنصورة التى حالفها نصر هللا‬
‫وتوفيقه‪ .‬وعندما ضعفت تلك الصفات آل أمرها إلى طائفة مغلوبة‪ ،‬بل زالت ِمن‬
‫الوجود‪.‬‬
‫د ‪ -‬عناصر جيوش المرابطين‪:‬‬
‫‪ -1‬الملثمون أو المرابطون‪ :‬كانوا هم النواة األولى التى تك َّون منها الجيش‬
‫المرابطي‪ ،‬وقد قامت الدولة على أكتافهم‪ ,‬وقد اشتهر هؤالء الملثمون بقوة بأسهم فى‬
‫عدوهم فى‬ ‫الحرب‪ ،‬وكانوا أثبت ِمن الجبال الرواسى فى المعارك‪ ،‬ومهما تف َّوق عليهم ُّ‬
‫العدد فال يتقهقرون‪ ،‬ولقد حققوا انتصارت رائعة فى معاركهم فى المغرب األقصى أو‬
‫فى معارك الجهاد فى األَ ْن َدلُس‪.‬‬
‫‪ -2‬العرب‪ :‬وش َّكلوا فرقة أصبحت ِمن أهم فرق الجيش المرابطى وشاركوا فى‬
‫معارك األَ ْن َدلُس‪ ،‬وتنتمى بعض العناصر العربية إلى عرب األَ ْن َدلُس الذين استقرُّ وا فى‬
‫المغرب فى عصر األدارسة‪ ،‬ويرجع البعض اآلخر إلى قبائل بنى هالل التى‬
‫انخرطت فى سلك جيش المرابطين‪ ،‬وشاركوا فى معارك الجهاد‪ ،‬ومن أشهر تلك‬
‫المعارك معركة كنسويجرة‪ ..‬يقول ابن الكردبوس‪« :‬فجر ابن تاشفين عسكرًا جرارًا‬
‫من مرابطين وعرب وأَ ْن َدلُس الشرق والغرب‪ ،‬وقدم عليهم قائده ُم َح َّمد بن الحاج‪،‬‬
‫فالتقوا بكنثرة فكانت بينهم جوالت وحمالت إلى أن زلزل هللا أقدام المشركين‪ ,‬وولوا‬
‫مدبرين‪.)1(»...‬‬
‫كما شاركوا فى معركة إقليش‪ ،‬فيقول ابن القطان‪« :‬واستشهد فى هذه الوقيعة –‬
‫أى إقليش – اإلمام الجزولي‪ ،‬وكان رجل صدق‪ ,‬وجماعة ِمن األعيان والعربان‪.)2(» ..‬‬
‫‪ -3‬الحرس الخاص‪ :‬كانت قوى الحرس الخاص تتألف ِمن أشجع الجند من‬
‫مختلف الواليات‪ ،‬ويشترط فى قبولهم أن يكونوا من ذوى القوام الحسن والشجاعة‬
‫الفائقة والقوة والبراعة‪ ،‬يقول أشباخ‪« :‬جمع يوسف بن تاشفين من تجار الرقيق من‬
‫أقليم غانا‪ ،‬عددًا كبيرًا ِمن العبيد واختار منهم أمهرهم وزودهم بالسالح والخيل‪,‬‬
‫ودربهم على جميع فنون القتال‪ ،‬وأنشأ من حرسه الخاص األسود ِمن ألفى رجل‪،‬‬
‫وأنشأ على هذا النمط حرسًا خاصًا ِمن األَ ْن َدلُسيين يتألف من فتيان ِمن النصارى‬
‫المعاهدين‪ ،‬وكان يوسف يحبوهم بعطفه وصالته‪ ،‬وينعم على َمن امتاز منهم‬
‫(‪)3‬‬
‫باإلخالص والشجاعة بمختلف الهبات ِمن الخيل والثياب والسالح والعبيد» ‪.‬‬
‫وبين الدكتور سعدون عبَّاس نصر هللا أن النصارى فى جيش المرابطين اعتنقوا‬
‫اإلسالم(‪ ،)4‬وأصبح الحرس الخاص ركنًا أساسيًا من أركان الجيش المرابطي‪ ،‬ال سيما‬
‫أن على بن يوسف ض َّم إليه الكثير من أسرى الحروب‪ ,‬وشارك هذا الحرس الخاص‬
‫فى حراسة معاقل المغرب‪ ،‬بل حتى فى حروب الدولة ضد ال ُم َو ِّح ِدين(‪.)5‬‬
‫‪1‬‬
‫() االكتفاء‪ ،‬ص (‪.)108 ،107‬‬
‫‪2‬‬
‫() نظم الجمان‪ ،‬ص (‪ ،)10-9‬انظر‪ :‬الثغر األعلى‪ ،‬األندلس‪ ،‬ص (‪.)129‬‬
‫‪3‬‬
‫() تاريخ األندلس‪ ،‬ألشباخ‪ ،‬ص (‪.)480، 479‬‬
‫‪4‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)170‬‬
‫‪5‬‬
‫() تاريخ المغرب فى عصر المرابطين‪ ،‬ص (‪.)298‬‬
‫‪141‬‬
‫‪ -4‬الحشم‪ :‬كانت فرق الحشم من أهم فرق الجيش المرابطي‪ ,‬وكانت تتكون من‬
‫زناتة والمصامدة‪ ،‬وكانت هذه الفرق تتقدم عادة الجيوش المرابطية فى القتال(‪.)1‬‬
‫هـ ‪ -‬فنون القتال‪:‬‬
‫لما تولَّى األمير يوسف مقاليد حكم المرابطين عمد إلى إصالح نظام تسليح الجيش‬
‫وطريقة إعداده للقتال‪ ،‬ففى البدء كانت أسلحتهم يدوية ويعتمدون على اإلبل‪ ,‬وهذه‬
‫األسلحة تصلح لحرب الصحراء‪ ،‬أ َّما حرب المدن والحصون فإنها تتطلب وسائل‬
‫وأسلحة تتالءم مع الوضع الجديد الناشيء عن حرب الحصار؛ ولهذا ابتكر األمير‬
‫يوسف الخطة العسكرية المعروفة بالتقري‪ ،‬وخطة التقرى تعتمد على توجيه الجيوش‬
‫إلى بالد معينة للقتال مع جيوشها فى معارك فاصلة ال لحصار المدن(‪.)2‬‬
‫وسلَّح الجيش بكل أنواع األسلحة المعروفة من مغربية وأَ ْن َدلُسية ونصرانية‪ ,‬وكان‬
‫سالح كل فرقة ِمن الجيش يتناسب مع تركيبها ووضعها القتالي‪ :‬فمشاة الصف األول‬
‫يتسلحون بالقنا الطوال وبدروق اللمط‪.‬‬
‫وكان لألمير يوسف الفضل فى تنظيم جيش المرابطين‪ ,‬ومعرفة الرجال‬
‫ومواهبهم الفذة الذين أعادوا إلى األذهان تاريخ الفتوحات األولى ألمة اإلسالم‪ ،‬لقد‬
‫كانت حركة المرابطين مقنعة للعالم فى زمانها بأن اإلسالم قادر فى كل زمان ومكان‬
‫على إنجاب القادة األفذاذ أمثال سير بن أبى بكر‪ ،‬وداود ابن عائشة‪ ،‬وابن فاطمة‪ ,‬وابن‬
‫ميمون ومزدلى وغيرهم‪ ،‬وعلى رأس الجميع القائد الربانى الذى أنقذ هللا به اإلسالم‬
‫فى األَ ْن َدلُس والمغرب يوسف بن تاشفين‪.‬‬
‫كان األمير يوسف أثناء المعارك يرتب جيشه وفق نظام خماسي؛ المقدمة‪:‬‬
‫ويحتلها الجنود المشاة ووحدة الفرسان الخفيفة‪ ،‬والجناحان الميمنة والميسرة‪ :‬وفيهما‬
‫حملة القسى والنبال وأكثرهم من أهل الثغور‪ ،‬والقلب يتمركز فيه الفرسان المرابطون‬
‫المزودون باألسلحة الثقيلة والخفيفة‪ ،‬والمؤخرة ويقودها األمير بنفسه وتتألف من‬
‫صفوة الجنود والحرس‪ ،‬وكان لكل قسم من هذه األقسام قائده الخاص‪ ،‬ويجتمع قادة‬
‫الوحدات قبيل المعركة على شكل مجلس حربى لتلقى األوامر والتعليمات ِمن القائد‬
‫األعلى يوسف(‪.)3‬‬
‫وتط َّو َرت فنون القتال عند المرابطين وأهدى ابن الصيرفى إلى األمير تاشفين بن‬
‫على قصيدة احتوت على فنون الحرب والقتال فقال‪:‬‬
‫كانت ملوك الفرس قبلك تولع‬ ‫أهديك من أدب السياسة ما به‬
‫ذكرى تحض المؤمنين وتنفع‬ ‫ألنت أدرى بها ولكنها‬
‫سيان تتبع ظاهرًا أو تتبع‬ ‫خندق عليك إذا ضربت محلة‬

‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)44‬‬
‫‪3‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ,‬ص (‪.)172‬‬
‫‪142‬‬
‫كانت ملوك الفرس قبلك تولع‬ ‫أهديك من أدب السياسة ما به‬
‫يخشى وهو فى جود كفك يطمع‬ ‫حارب من يخشى عقابك بالذي‬
‫ـًا حيث التمكن والمجال األوسع‬ ‫قبل التهارش عبئ جيشك مفسحـ‬
‫والخيل تفحص بالرجال وتمزع‬ ‫إياك تعبئة الجيوش مضيقًا‬
‫واجعل أمامك منهم من يشجع‬ ‫حصن حواشيها ولكن فى قابها‬
‫وأمض كمينك خلفها إذا تدفع‬ ‫واحذر كمين الروم عند لقائها‬
‫تلقى العدو فشرُّ ه متوقع‬ ‫ال تبقين خلفك عندما‬
‫(‪)1‬‬
‫بد ًءا تقدم فالنكوص يضعضع‬ ‫واصدمه أول وهلة ال ترتدع‬
‫ونستطيع أن نستخرج بعض فنون الحرب التى أوصى بها الشاعر فى قصيدته‬
‫لألمير تاشفين بن علي‪:‬‬
‫‪ -1‬ضرورة حفر الخنادق حول المدن لحمايتها من أى خطر خارجي‪.‬‬
‫‪ -2‬ضرورة تعبئة الجيوش وتنظيمها قبل المعركة بوقت كاف لكى تدخل هذه الجيوش‬
‫إلى المعركة‪ ،‬وهى على أهبة االستعداد‪ ،‬وحتى ال يأخذها العدو على غرة‪.‬‬
‫‪ -3‬ضرورة وضع أقوى الفرق العسكرية فى جناحى الجيش‪ ،‬وفى المقدمة‪ ،‬بينما‬
‫يقود القائد العام للجيش المعركة من قلب جنده‪.‬‬
‫‪ -4‬ضرورة نصب الكمائن خلف خطوط العدو‪.‬‬
‫‪ -5‬عدم القتال وظهورهم إلى الماء‪ ،‬ألن فى ذلك هلكة لجيوشهم‪.‬‬
‫‪ -6‬ضرورة إحداث عنصر المفاجأة فى بداية المعركة‪ ،‬عن طريق الصدام مع‬
‫العدو‪ ،‬مع ضرورة التقدم وعدم التقهقر‪.‬‬
‫هذه بعض الفنون العسكرية التى طبقت فى دولة المرابطين‪.‬‬
‫وكان المرابطون فى بداية أمرهم قليلى الخبرة بفن الحصار العتمادهم على قوات‬
‫الفرسان المستعدة دائ ًما للهجوم‪ ،‬إال أنهم بعد فترات من جهادهم استطاعوا أن يتقنوا َّ‬
‫فن‬
‫الحصار‪ ،‬وتجلى ذلك بوضوح خالل حصارهم لقلعة شنتيرين الحصينة‪ ،‬وتم ُّكنهم ِمن‬
‫التغلب عليها‪ ،‬كما ظهرت براعتهم فى هذا الفن أثناء الحصار الذى فرضته الجيوش‬
‫اإلسالمية على مدينة غرناطة‪ ,‬لحمايتها ِمن الفونسو المحارب خالل غزوته الكبرى‬
‫لألَ ْن َدلُس‪ ،‬التى كان يهدف من ورائها تلبية دعوى النصارى المعاهدين فى مدينة‬
‫غرناطة إلى نصرتهم‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)300‬‬
‫‪143‬‬
‫وضرب المرابطون الحصار‪ ،‬وكان موفقًا وحقق نتائجه المطلوبة‪.‬‬
‫فن ضرب الحصار‪ ،‬فقد تف َّوقوا أيضًا فى فنِّ التخلص ِمن الحصار‪،‬‬ ‫وكما أتقنوا َّ‬
‫كما حدث فى تخلصهم ِمن الحصار الذى ضربه الموحدون على مراكش عام ‪524‬هـ‪،‬‬
‫ودام ما يقرب من أربعين يو ًما‪ ،‬ثم تم َّكنوا وأوقعوا بال ُم َوحِّ ِدين هزيمة منكرة عند‬
‫البحيرة(‪.)1‬‬
‫واهتم المرابطون بجميع األسلحة المعروفة فى زمانهم من نشاب وسهام ورماح‬
‫وسيوف ودروع ورعادات ومزاريق ودرق لمطية واألطاس‪.‬‬
‫و – األسطول‪:‬‬
‫ومع توسُّع المرابطين فى المغرب األقصى واستيالئهم على معظم مدنها ولم تبق‬
‫إال طنحة وسبتة‪ ،‬شعر األمير يوسف بأهمية األسطول البحرى لما وصلت دولته إلى‬
‫شواطئ البحر األبيض‪ ،‬وبعد القضاء على دولة برغواطة صاحبة األسطول البحرى‬
‫بدأ يوسف يهتم بتطوير أسطوله‪ ،‬واستفاد من خبرات أهل األَ ْن َدلُس فى ذلك‪ ،‬وأصبح‬
‫أسطول المرابطين يتقدم نحو الهيمنة على البحر المتوسط‪ ،‬وأثمرت جهود يوسف فى‬
‫االهتمام باألسطول فى زمن ابنه علي‪.‬‬
‫وأصبح أسطول المرابطين بفضل هللا تعالى‪ ،‬ثم قادته الكبار ‪-‬وعلى رأسهم أبو‬
‫عبد هللا بن ميمون‪ -‬قوة ضاربة هددت النصارى فى جنوب البحر المتوسط‪ ,‬ونفَّس هللا‬
‫به كربات مسلمى الشمال اإلفريقي‪ ،‬وحقق أسطول المرابطين انتصارات تجاوزت كل‬

‫تقدير وحسبان(‪.)2‬‬
‫ز– استيالء المرابطين على جزر البليار‪:‬‬
‫كانت جزيرة البليار خاضعة ل ُم َجا ِهد العامرى صاحب دانية‪ ,‬الذى استقل بملكها‬
‫سنة ‪405‬هـ‪ ،‬وولى عليها بعض الوالة‪ ،‬ولما قتل ُم َجا ِهد فى سنة ‪436‬هـ تولَّى ابنه‬
‫على الذى وقع فى أسر بنى هود عام ‪468‬هـ ومات فى سرقسطة سجينًا عام ‪474‬هـ‪،‬‬
‫وكانت جزيرة ميورقة تابعة لجزر البليار وكان بها مبشر بن سليمان الذى أعلن‬
‫استقالله بميورقة‪ ،‬وأما مدينة دانية فضمها المقتدر بن هود إلى سرقسطة‪ ،‬ولما ضم‬
‫المرابطون ممالك الطوائف تركوا مبشر بن سليمان صاحب البليار حرًا تقديرًا لجهوده‬
‫التى بذلها لص ِّد النصارى‪ ،‬وما اشتهر به من غيرة على مصالح المسلمين‪ ،‬وقدرته‬
‫الفذة فى حماية ملكه من غارات النصارى المتتابعة فضالً عن كونه أق َّر العدل‪,‬‬
‫وأرضى الرعية‪ ،‬وهكذا أصبح مبشر يحكم الجزائر الشرقية فى عهد يوسف بن‬
‫تاشفين‪ ،‬وفى السنوات األولى من حكم على بن يوسف إلى عام ‪508‬هـ‪.‬‬
‫وعندما تحالف النصارى من أمراء فرنسا والبرتغال وإسبانيا وقرروا القضاء‬
‫على جزر مبشر بن سليمان خرجوا له فى خمسمائة سفينة‪ ,‬وضربوا على جزيرة‬
‫ميورقة حصارًا عنيفًا‪ ,‬وراسل مبشر أمير المسلمين على بن يوسف لنجدته ونصرة‬
‫المسلمين‪ ،‬وتُوفى مبشر بن سليمان أثناء الحصار وقام بعده قريبه الربيع بن سليمان بن‬
‫‪1‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)311‬‬
‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص (‪.)311‬‬
‫‪144‬‬
‫وسقطت ميورقة عام ‪508‬هـ‪ ,‬وقتل النصارى ِمن المسلمين‪ ,‬وسبوا نساء‬ ‫ْ‬ ‫ليون‪,‬‬
‫المسلمين‪ ,‬وعاثوا فى األرض فسادًا ونهبًا وتخريبًا‪.‬‬
‫وعندما اقترب أسطول المرابطين بقيادة القائد البحرى ابن «تافرطاست» وجد‬
‫النصارى قد رحلوا وتركوها كأن لم تكن باألمس‪ ,‬وفى الحال شرع ابن «تافرطاست»‬
‫فى تعمير الجزيرة‪ ,‬وأعاد إليها الفارين من سكانها‪ ،‬وكان قد لجأ منهم إلى الجبال‬
‫جموع غفيرة‪ ,‬وبذلك أصبحت تلك الجزر تابعة لدولة المرابطين الفتية‪.‬‬
‫وكان لأسطول المرابطين الفضل بعد هللا فى التصدِّى ألطماع النورمنديين فى‬
‫مدن الشمال اإلفريقي‪ ،‬وكان لأسطول المرابطين جهاد مشكور فى سواحل أوروبا‬
‫الجنوبية؛ مما ع َّزز من هيبة المسلمين فى نفوس النصارى الحاقدين‪ ,‬فأغار على‬
‫سواحل جليقية وقطلونية وإيطاليا واإلمبراطورية البيزنطية(‪.)1‬‬
‫ومن أشهر قادة األسطول المرابطى أبو عبد هللا بن ميمون‪ ,‬وتوارث أبناؤه من‬
‫بعده قيادة أساطيل المرابطين‪ ,‬ولعبت أسرة بنى ميمون دورًا رياديًا فى حماية ثغور‬
‫والذود عن حوزتهم وأعراضهم وأموالهم وعقيدتهم‪.‬‬ ‫المسلمين‪َّ ,‬‬
‫ح – موانئ أسطول المرابطين‪:‬‬
‫كان المرية من أكبر موانئ األسطول المرابطى فى األَ ْن َدلُس‪ ،‬وكان بها قسم‬
‫كبير من أسطول المرابطين بقيادة أمير البحر أبى عبد هللا ُم َح َّمد بن ميمون‪ ،‬وكان‬
‫بالمرية دار صناعة للسفن‪ ،‬ثم تأتى بعد المرية مدينة دانية التى تعتبر مقر قيادة‬
‫األسطول المرابطى فى األَ ْن َدلُس‪.‬‬
‫وكان موانئ أسطول المرابطين تنتشر على شواطئ سواحل المغرب واألَ ْن َدلُس‪،‬‬
‫ومن أشهرها طنجة‪ ،‬وبجاية وإشبيلية والجزيرة الخضراء‪ ،‬وجزر البليار(‪.)2‬‬
‫إن الشمال اإلفريقى ال ع َّزة لشعوبه وال كرامة إال بالتمسُّك بالمنهج الرباني‪،‬‬
‫وتربية شعوبه على االنقياد لمنهجه الرشيد‪ ،‬ويحتاج ذلك لعلماء ربانيين وقادة‬
‫سياسيين يعرفون قيمة دينهم‪ ،‬ويؤمنون بمنهج ربهم‪ ،‬ويستع ُّدون لجهاد عدوهم‪,‬‬
‫ويهتمون بإحياء روح الجهاد‪ ،‬ويغرسون معانى الشهادة فى شعوبهم حتى تتدفق‬
‫دماء اإلسالم من جديد فى شرايينهم‪ ،‬ليعملوا على إرجاع األَ ْن َدلُس المفقود‪,‬‬
‫ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبًا‪.‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)311‬‬
‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق (‪.)112‬‬
‫‪145‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫النظام المالى فى عصر المرابطين‬
‫حرص المرابطون فى دولتهم على إسقاط الضرائب غير المشروعة عن كاهل‬
‫شعوبهم التى فرضها الزناتيون فى المغرب وملوك الطوائف فى األَ ْن َدلُس‪ ،‬وكذلك‬
‫المكوس والرسوم والضرائب فى جبل طارق‪ ،‬ولم يفرض المرابطون فى دولتهم رسم‬
‫مكس أو معونة خراج ال فى حاضرة وال فى بادية‪ ،‬واتبعوا نظا ًما ماليًا يقوم على‬
‫قواعد اإلسالم‪ ،‬وكان هذا النظام ظاهر المعالم فى زمن األمير يوسف بن تاشفين الذى‬
‫التزم بالكتاب والسنة فى جمع األموال وتوزيعها‪ ،‬فاعتمد على الزكاة والعشر والجزية‬
‫وأخماس الغنائم‪ ،‬وجبي بذلك ِمن األموال على الوجه الشرعى ما لم يجبه أحد‪ ،‬وترك‬
‫فى خزائنه مبلغ ثالثة عشر ألف ربع ِمن الورق‪ ،‬وخمسًا وأربعين ألفًا من دنانير‬
‫الذهب(‪ .)1‬وأ َّما فى عصر على بن يوسف فاختلف األمر‪ ,‬وفرض الضرائب على بعض‬
‫السلع‪ ،‬وفرض ضريبة جديدة على مدن األَ ْن َدلُس الهامة‪ ،‬وكان يُخصِّ ص دخلها إلقامة‬
‫أسوار جديدة وترميم األسوار القديمة‪ ،‬وكان سبب فرض هذه الضريبة دخول ألفونسو‬
‫المحارب لألَ ْن َدلُس غازيًا عام ‪519‬هـ؛ فاضط َّر لتحصين المدن وترميم األسوار وتقوية‬
‫الجيوش؛ ففرض ضرائب تساعده فى تسديد هذه النفقات التى ال غنى عنها‪.‬‬
‫العملــــــــة‪:‬‬
‫كانت العملة الرئيسية لدولة المرابطين هى الدينار الذهبى الذى كان عماد‬
‫االقتصاد فى الدولة‪ ,‬وظلَّت هذه العملة المرابطية الذهبية مستخدمة لعدة قرون‪ ،‬حتى‬
‫بعد سقوط الدولة المرابطية‪ ،‬كما استخدمت العملة الفضية المعروفة بالدرهم الفضي‪،‬‬
‫لتسهيل المعامالت التجارية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وانتشرت دور سك العملة فى مختلف أجزاء الدولة فى المغرب أو فى األ ْن َدلس‬
‫مثل أغمات‪ ,‬تلمسان‪ ،‬سجلماسة‪ ،‬فاس‪ ،‬مراكش‪ ،‬سبتة‪ ،‬مكناسة‪ ،‬طنجة‪ ،‬شاطبة‪،‬‬
‫إشبيلية‪ ،‬دانية‪ ،‬غرناطة‪ ،‬قرطبة‪ ،‬مالقة‪ ،‬مرسية‪ ،‬سرقسطة‪ ،‬وغيرها(‪.)2‬‬

‫‪1‬‬
‫() دولة المرابطين‪ ،‬ص (‪.)179‬‬
‫‪2‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)320‬‬
‫‪146‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫أهم أعمال دولة المرابطين الحضارية‬
‫المبحث األول‬
‫اآلثار المعمارية فى المغرب واألندلس‬

‫إن دولة المرابطين تركت آثارًا معمارية بارزة ظلَّت باقية على م ِّر الدهور وكرِّ‬
‫سمو حضارة المرابطين المعمارية‪ ،‬ومن‬ ‫ِّ‬ ‫العصور؛ لترشد األجيال المتعاقبة على‬
‫أعظم هذه اآلثار على اإلطالق‪:‬‬
‫‪ -1‬جامع القرويين‪:‬‬
‫من أهم المساجد الجامعة فى بالد المغرب وأكثرها شهرة لكونه جامعة إسالمية‬
‫عريقة ضاربة بجذورها فى أعماق التاريخ‪ ،‬وكانت هذه الجامعة تقارع األزهر‬
‫الشريف فى العلم وتخريج الدعاة والعلماء والفقهاء‪.‬‬
‫ولقد م َّر جامع القرويين بثالثة أدوار‪:‬‬
‫األول عند تأسيسه سنة ‪254‬هـ‪859/‬م‪.‬‬
‫والثانى عند الزيادة فيه سنة ‪345‬هـ‪956/‬هـ‪.‬‬
‫والثالث عندما زيدت مساحته فى عصر على بن يوسف سنة ‪530/1135‬م‪.‬‬
‫وتولَّى مشروع زيادة مسجد القرويين وتوسيعه القاضى أبو عبد هللا ُم َح َّمد بن داود‬
‫بسبب ضيق المسجد بالنَّاس‪ ,‬واضطرارهم للصالة فى الشوارع واألسواق فى يوم‬
‫الجمعة‪ ،‬وحرص على أن يكون المال من أوقاف مساجد المسلمين‪ ،‬وأشرف القاضى‬
‫أبو عبد هللا بنفسه على هذا المشروع الحضارى العظيم وكان تمام التوسعة عام‬
‫‪538‬هـ‪.‬‬
‫َّجت فى جامع القرويين على مرِّ العصور وك ِّر الدهور أفواج عديدة من‬ ‫ولقد تخر ْ‬
‫فقهاء األمة وعلماء الملة ودعاة الشريعة وال ُم َجا ِهدين األبرار والقادة العظام‪ ،‬وكان‬
‫لمسجد القرويين عند المرابطين مكانة عظيمة فى نفوسهم‪.‬‬
‫وتذك ُر كتب التاريخ أن منبر جامع القرويين من أجمل منابر اإلسالم‪ ،‬وتدل على‬
‫روعة المغاربة فى اختياراتهم الذوقية الرفيعة(‪.)1‬‬
‫‪ -2‬المسجد الجامع بتلمسان‪:‬‬
‫وكان مقرًا لنشر علوم اإلسالم وتربية المسلمين على معانى القرآن‪ ،‬وتم بناء هذا‬
‫المسجد عام ‪530‬هـ فى إمارة على بن يوسف‪ ،‬وكانت هندسته المعمارية فى غاية‬
‫الجمال ودقة اإلتقان‪ ،‬ورأى بعض المؤرخين إن البنيةَ المعمارية لمسجد تلمسان فيها‬
‫لمسات أَ ْن َدلُسية‪ ,‬وفنون معمارية قرطبية‪ ،‬بل بعضهم يرى أن عرفاء مسجد تلمسان‬
‫قلَّدوا جامع قرطبة تقليدًا مباشرًا فى لوحتى الرخام اللتين تكسوان إزار واجهة‬
‫‪1‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)366‬‬
‫‪147‬‬
‫المحراب بتلمسان‪ ،‬وكذلك سقف المسجد الخشبى شبيه بسطح مسجد قرطبة‪ ،‬وكذلك‬
‫البالط شبيهٌ به أيضًا‪.‬‬
‫انصهرت فى بوتقتها حضارة المغاربة‬ ‫ْ‬ ‫والذى يظهر أن دولة المرابطين‬
‫واألَ ْن َدلُسيين واألفارقة‪ ،‬فتجد تلك المعالم الحضارية المختلفة فى كافة بقاع دولة‬
‫المرابطين‪ ،‬وال ينكر تأثير المعالم الحضارية المعمارية األَ ْن َدلُسية فى جميع مدن‬
‫الدولة‪.‬‬
‫‪ -3‬اآلثا ُر الحربية‪:‬‬
‫اهتم المرابطون بالحصون والقالع؛ ولذلك انتشرت فى المدن والثغور‪.‬‬
‫وزاد الاهتمام بالتحصينات العسكرية فى زمن على بن يوسف‪ ,‬الذى أكثر من‬
‫األسوار والقالع والحصون للدفاع عن دولته فى المغرب ضد الحركات السياسية‬
‫والثورات العدائية المناهضة لدولة المرابطين‪ ،‬وواصل األمير على اهتمامه بهذا األمر‬
‫كذلك فى األَ ْن َدلُس‪.‬‬
‫ومن أروع آثار المرابطين الحضارية الحربية أسوار مراكش حيث بدأ األمير‬
‫على بن يوسف فى بناء سور المدينة عام ‪520‬هـ وك َّمل بناء السور عام ‪522‬هـ(‪.)1‬‬
‫وانتشرت فكرة بناء األسوار فى األَ ْن َدلُس‪ ،‬وفرضت الدولة على رعاياها ضريبة‬
‫تنفق على هذا الهدف االستراتيجى الجهادى الدفاعي‪.‬‬
‫و ِمن أشهر األسوار التى بنيت أو أعيد ترميمها فى األَ ْن َدلُس‪ ،‬أسوار المرية‬
‫وأسوار قرطبة التى امتازت بأبراجها المستطيلة الضخمة المتقاربة‪ ،‬وأسوار إشبيلية‬
‫من جهة نهر الوادى الكبير‪ ،‬وبنى ال ُم َرابطون فى المناطق الوعرة حصونًا بالحجر‪،‬‬
‫وشحنوها بالجنود واألقوات؛ لكى تصمد للحصار مدة طويلة‪.‬‬
‫وكان عدد جنود الحصون والقالع ما يعادل ‪ 200‬فارس و ‪ 500‬راكب فى‬
‫كل حصن‪.‬‬
‫ومن أشهر قالع المرابطين فى األَ ْن َدلُس قلعة منتقوط التى تقع على بساتين‬
‫مرسية‪ ،‬و ِمن أشهر قالع المرابطين فى المغرب قلعة تاسغيموت التى تقع على بعد‬
‫ثالثة كيلو مترات جنوب شرق مراكش‪ ،‬وعلى بعد نحو عشرة كيلو مترات شرق‬
‫أغمات على سطح هضبة أطرافها ذات أجراف وعرة شديدة االنحراف‪ ،‬يصعب على‬
‫الغازين ارتقاؤها‪ ،‬وأسوارها تمتد على حافة الهضبة نفسها‪.‬‬
‫فن العمارة فى زمانهم تأثر بالغ التأثر‬ ‫إن قالع المرابطين وحصونهم تدل على أن َّ‬
‫بفنِّ العمارة األَ ْن َدلُسي(‪.)2‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)372‬‬
‫‪2‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)377‬‬
‫‪148‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫الحياة األدبية والعلمية فى دولة المرابطين‬
‫‪ -1‬الحركة األدبية‪:‬‬
‫ازدهرت الحركة األدبية فى دولة المرابطين فى عهد األمير على بن يوسف الذى‬
‫اهتم بالشعر واألدب‪ ،‬وشجَّع الشعراء واألدباء؛ فتوافدوا على بالطه من أهل األَ ْن َدلُس‪،‬‬
‫و ِمن الذين مدحوا األمير على بن يوسف الشاعر الكبير أبو العبَّاس أحمد بن عبد هللا‬
‫القيسى المعروف باألعمى التطيلى حيث قال‪:‬‬
‫وما أنت للملك بالسائس‬ ‫يا على العالء فى كل يوم‬
‫من بين مؤتل وموال‬ ‫يا ربيع البالد يا غيمة العالم‬
‫يا سليل األذواء واألقيال‬ ‫يا قريع األيام عن كل مسجد‬
‫(‪)1‬‬
‫يعقوب ذكر مكارم وفعال‬ ‫لك من تاشفين أو من أبي‬
‫وكان الشعراء يقصدون ولى عهد الدولة فى زمن األمير على بن يوسف لمدح‬
‫ابنه تاشفين‪ ،‬ومن أشهرهم الشاعر أبو بكر يحيى بن ُم َح َّمد بن يوسف‪ ،‬كما حظى‬
‫الشعراء فى عصر على بن يوسف بمكانة عظيمة لدى األسرة الحاكمة وكبار القادة‬
‫وعمال الدولة على األقاليم المختلفة‪.‬‬
‫وكان األمير عبد هللا بن مزدلى موضع اهتمام الشعراء منهم ابن عطية الذى‬
‫قال فيه‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫واعتز تحت لوائك اإلسالم‬ ‫ضاءت بنور إيابك األيام‬
‫ومن قبل مدح الشعراء والده الذى قال فيه أبو عامر بن أرقم‪:‬‬
‫وللمسالك يحميها وللدول‬ ‫أنت األمير الذى للمجد همته‬
‫مناسب كالضحا والشمس فى الحمل‬ ‫لمزدلى لواء كان يرفعه‬
‫(‪)3‬‬
‫وارتجى غوثه فى الحادث الجلل‬ ‫يا أيها الملك المرهب صولته‬
‫ووصل المديح إلى الفقهاء والعلماء لمكانتهم العالية فى دولة المرابطين‪ ،‬فهذا‬
‫األعمى التطيلى يمدح القاضى الفقيه ابن أحمد قاضى الجماعة بقوله‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫() األعمى التطيلي‪ ,‬الديوان‪ ,‬ص (‪.)104‬‬
‫‪2‬‬
‫() قالئد العقيان‪ ،‬البن خاقان‪ ،‬ص (‪.)210‬‬
‫‪3‬‬
‫() قالئد العقيان‪ ،‬البن خاقان‪ ،‬ص (‪.)133‬‬
‫‪149‬‬
‫وأن غربت بى عنك إحدى المغارب‬ ‫إليك ابن حمدين وإن َبُعد المدى‬
‫مرور الليالى وازدحام الشوائب‬ ‫صبابة ود لم يكدر جمامه‬
‫ترى على أعقابه كل شاغب‬ ‫وذكر عساها أن تكون مهزة‬
‫(‪)1‬‬
‫وخطوى فيه ليس بالمتقارب‬ ‫بأيه ما كان الهوى متقاربًا‬
‫وال ننسى أن أعداء المرابطين ِمن الشعراء قاموا بالتندر بالمرابطين‪ ،‬وبفقهاء‬
‫دولتهم‪ ،‬وممن اشتهر بالهجاء والتندر فى هذا العصر الشاعر أبو بكر يحيى بن سهل‬
‫اليكي‪ ،‬الذى هجا المرابطين‪ ,‬ومن ذلك قوله‪:‬‬
‫ولو أنه يعلو على كيوان‬ ‫فى كل من ربط اللثام دناءة‬
‫من بطن زانية لظهر حصان‬ ‫ما الفخر عندهم سوى أن ينقلوا‬
‫وضعوا القرون مواضع التيجان‬ ‫المنتمون لحمير لكنهم‬
‫(‪)2‬‬
‫واطلب شعاع النار فى الغدران‬ ‫ال تطلبن مرابطا ذا عفة‬
‫وازدهر فى عصر المرابطين لون آخر ِمن ألوان الشعر أعنى الطبيعة‪ ،‬فقد شهد‬
‫هذا العصر ظهور عدد كبير ِمن الشعراء الذين نبغوا فى هذا الفن الشعري‪ ،‬نذكر منهم‬
‫ابن سارة الشنتريني‪ ،‬وابن الزقاق‪ ،‬وابن خفاجة البلنسي‪ ،‬وعبد الحق بن عطية‪ ،‬ومن‬
‫ذلك قول الشنترينى الشاعر يصف البركة‪:‬‬
‫من األزهر أهداب لها وطف‬ ‫هلل مسجورة فى شكل ناظرة‬
‫فى مائها ولها من عرمض لخف‬ ‫فيها سالحف ألهانى تقصمها‬
‫برد الشتاء فتستدلى وتنصرف‬ ‫تنافر الشط إال حين يحضرها‬
‫(‪)3‬‬
‫الجحف‬ ‫كأنَّها حين يُبديها تصرفها‬
‫وهذا أبو الحسن على بن عطية بن الزقاق يصف فرسًا أغر‪:‬‬
‫برقًا إذا جمع العتاق رهان‬ ‫وأغر مصقول األديم تخاله‬
‫من لحظ َمن فى متنه نشوان‬ ‫يطأ الثرى متبخترًا فكأنَّه‬

‫‪1‬‬
‫() األعمى التطيلي‪ ,‬الديوان‪ ,‬ص (‪.)5-4‬‬
‫‪2‬‬
‫() تاريخ المغرب‪ ،‬ص (‪.)386‬‬
‫‪3‬‬
‫() قالئد العقيان‪ ،‬ص (‪.)271‬‬
‫‪150‬‬
‫برقًا إذا جمع العتاق رهان‬ ‫وأغر مصقول األديم تخاله‬
‫(‪)1‬‬
‫حسنًا وبين جفونه كيوان‬ ‫فكأن بدر التم فوق سراته‬
‫وهذا أبو جعفر بن سالم المعافرى يصف فى شعره الثلج‪:‬‬
‫تقرُّ به عين وتشنعه نفس‬ ‫ولم أر مثل الثلج فى حسن منظر‬
‫وقطر بال ماء يقلبه اللمس‬ ‫فنار بال نور يضيء له سنا‬
‫(‪)2‬‬
‫كأن كئوس الماء يجمعه كأس‬ ‫ترى األرض منه فى مثال زجاجة‬
‫وهذا شاعر آخر يصف لنا قوسًا‪:‬‬
‫إذا دنا نزعها فالعيش منتزح‬ ‫يا رب مائسة األعطاف مخطفه‬
‫كما ترنم نشوان به قزح‬ ‫ظلَّت ُّ‬
‫ترن فظ َّل النزع يعطفها‬
‫(‪)3‬‬
‫عنها قفل كوكب يرمى به قزح‬ ‫وقد تألَّف نصل السهم مندفعًا‬
‫وهذا ابن خفاجة يصف الربيع وهو ِم َّمن عاصر األمير على بن يوسف‪:‬‬
‫فأمزج لجينا منهما بنضار‬ ‫أذن الغمام بديمة وعقار‬
‫هزج الندامى مصفح األطيار‬ ‫وأربع على حكم الربيع بأجرع‬
‫عن صفحة تندى ِمن األزهار‬ ‫وكمامة حدر الصباح قناعها‬
‫أخالف كلِّ غمامة مدرار‬ ‫فى أبطح رضعت ثغور أقاحه‬
‫دور الندى ودارهم النوار‬ ‫نثرت بحجر الروض فيه يد الصبا‬
‫حلى الحباب سوالف األنهار‬ ‫وقد ارتدى غصن النقى وتقلَّدت‬
‫جذل وحيث الشطر بدء عذار‬ ‫فحللت حيث الماء صفحة ضاحك‬
‫(‪)4‬‬
‫والطلُّ ينضج أوجه األشجار‬ ‫والروح تنفض بكرة لمم الرُبا‬

‫‪1‬‬
‫() المطرب من أشعار أهل المغرب‪ ،‬البن دحية‪ ،‬ص (‪.)106‬‬
‫‪2‬‬
‫() تاريخ المغرب‪ ،‬ص (‪.)388‬‬
‫‪3‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫() ابن خفاجة‪ ,‬الديوان‪ ،‬ص (‪.)291-290‬‬
‫‪151‬‬
‫ازدهر الشعر واألدب فى عصر األمير على بن يوسف ازدهارًا عظي ًما شهدت‬ ‫َ‬ ‫لقد‬
‫بذلك قصائد شعراء المرابطين التى سجلت فى ذاكرة التاريخ الخالدة‪.‬‬
‫وما قيل عن انحطاط الشعر واألدب فى عصر المرابطين أكذوبة استشراقية بان‬
‫زيفها أمام حقائق التاريخ التى ال تُجامل وال تعرف التحايل‪.‬‬
‫وال ننسى شيوع فن الموشحات واألزجال فى عصر المرابطين‪ ،‬يقول ابن خلدون‬
‫عن نشأة فنِّ الموشحات‪« :‬وأ َّما أهل األَ ْن َدلُس‪ ،‬فلما كثُر الشعر فى قطرهم‪ ,‬وته َّذبت‬
‫مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية‪ ،‬استحدث المتأخرون منهم فنًا يسمونه بالموشح‬
‫ينظمونه أسماطًا وأغصانًا يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة‪ ,‬ويسمون المتعدد‬
‫منها بيتًا واحدًا‪ ,‬ويلتزمون عند قوافى تلك األغصان‪ ,‬وأوزانها متتالية فيما بعد إلى‬
‫آخر القطعة‪ ،‬وأكثر ما تنتهى عندهم إلى سبعة أبيات‪ ،‬ويشمل كلُّ بيت على أغصان‬
‫عددها بحسب األغراض والمذاهب‪ ,‬وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل فى القصائد‪,‬‬
‫وتجاوزوا فى ذلك إلى الغاية واستطرفه النَّاس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله‬
‫وقرب طريقه»(‪.)1‬‬
‫و ِمن أشهر وشاحى عصر المرابطين األعمى التطيلي‪ ,‬ومن موشحاته‪:‬‬
‫ما اجتمعا إال ألمر كبار‬ ‫دمع مسفوح وضلوع حرار ماء‬
‫ونار‬
‫عمر قصير وعناء طويل‬ ‫بئس لعمرى ما أراد العذول‬
‫(‪)2‬‬
‫ويا دموع قد أعانت مسيل‬ ‫يا زفرات نطقت عن غليل‬
‫فن التوشيح فى أهل‬ ‫وأما نشأة الزجل فقال ابن خلدون عنه‪« :‬إنه لما شاع ُّ‬
‫األَ ْن َدلُس‪ ,‬وأخذ به الجمهور لسالسته وتنميق كالمه وترصيع أجزائه‪ ،‬نسجت العامة‬
‫من أهل األمصار على منواله‪ ،‬ونظموا فى طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن‬
‫ظم فيه على مناحيهم‬ ‫يلتزموا فيها إعرابًا‪ ،‬واستحدثوا فنًا سموه بالزجل‪ ،‬والتزموا النَّ ْ‬
‫إلى هذا العهد‪ ،‬فجاءوا فيه بالغرائب‪ ,‬واتسع فيه للبالغة مجال بحسب لغتهم‬
‫المستعجمة»(‪.)3‬‬
‫ويعتبر أبو بكر بن قزمان القرطبى أول من ابتكر الزجل‪.‬‬
‫ومن أشهر أزجاله ما كان فى مدح القاضى أحمد بن الحاج قوله‪:‬‬
‫وصل المظلوم لحق وانتصف غنى ومسكين يحضر اإلنكار واإلقرار ويقع‬
‫الفصل فالحين اجتمع فيه الثالثة الورع والعلم والدين فيزول الحق إذا زال ويدوم‬
‫الحق‬
‫(‪)4‬‬
‫إذا دام ‪.‬‬
‫هذه نبذة مختصرة عن بعض فنون األدب التى ازدهرت وترعرعت فى ظلِّ دولة‬
‫‪1‬‬
‫() ابن خلدون‪ ,‬المقدمة‪ ،‬ص (‪.)436‬‬
‫‪2‬‬
‫() ابن خلدون‪ ,‬المقدمة‪ ،‬ص (‪.)441‬‬
‫‪3‬‬
‫() الزجل فى األندلس‪ ،‬لعبد العزيز األهواني‪ ،‬ص (‪.)201‬‬
‫‪4‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪152‬‬
‫المرابطين‪.‬‬
‫***‬

‫‪153‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫من مشاهير علماء دولة المرابطين‬
‫كانت دولة المرابطين مبنية على أسس شرعية ولذلك اهتمت بالعلماء والفقهاء‬
‫الذين ال دوام لدولة تريد أن تحكم بشرع هللا بدونهم‪ ,‬ولذلك كثر ال ُم َحدِّثون والفقهاء‪،‬‬
‫نذكر منهم‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد (ت ‪520‬هـ)‪.‬‬
‫هو اإلمام العالمة شيخ المالكية‪ ،‬قاضى الجماعة بقرطبة أبو الوليد‪.‬‬
‫أ‪ -‬شيوخه‪:‬‬
‫ِمن أشهر شيوخه الذين تتلمذ عليهم أبو جعفر أحمد بن رزق‪ ،‬وأبو مروان بن‬
‫سراج‪ ،‬و ُم َح َّمد بن خيرة‪ ،‬و ُم َح َّمد بن فرج الطالعي‪ ،‬والحافظ أبو علي‪ ,‬وأبو العبَّاس‬
‫بن دلهات‪.‬‬
‫قال ابن بشكوال فيه‪« :‬كان فقيهًا عال ًما‪ ،‬حافظًا للفقه مقد ًما فيه على جميع أهل‬
‫عصره‪ ،‬عارفًا بالفتوى‪ ،‬بصيرًا بأقوال أئمة المالكية‪ ،‬ناف ًذا فى علم الفرائض‬
‫واألصول‪ ،‬من أهل الرياسة فى العلم‪ ،‬والبراعة والفهم‪ ،‬مع الدين والفضل‪ ،‬والوقار‬
‫والحلم‪ ،‬والسمت الحسن‪ ،‬والهدى الصالح‪ ،‬ومن تصانيفه كتاب «المقدمات» ألوائل‬
‫كتب المدونة‪ ،‬وكتاب «البيان والتحصيل لما فى المستخرجة ِمن التوجيه والتعليل»‪،‬‬
‫واختصار «المبسوطة»‪ ،‬واختصار «مشكل اآلثار» للطحاوي‪ ،‬سمعنا عليه بعضها‪،‬‬
‫وسار فى القضاء بأحسن سيرة وأقوم طريقة‪ ،‬ثم استعفى منه‪ ،‬فأعفي‪ ،‬ونشر كتبه‪،‬‬
‫وكان النَّاس يُع ِّولون عليه ويلجأون إليه‪ ،‬وكان حسن الخلق‪ ،‬سهل اللقاء‪ ،‬كثير النفع‬
‫لخاصته جميل العشرة لهم‪ ،‬بارًا بهم»(‪.)1‬‬
‫ب‪ -‬ومن أشهر فتاوى ابن رشد الجد ما أفتاه فى شأن المعاهدين ِمن النصارى فى‬
‫بالد األَ ْن َدلُس بإبعادهم وتغريبهم لغدرهم بالمسلمين ومساعدتهم أللفونسو المحارب(‪،)2‬‬
‫عاش هذا العالم الجليل سبعين عا ًما‪ ,‬ومات فى ذى القعدة سنة عشرين وخمسمائة‪،‬‬
‫وصلى عليه ابنه أبو القاسم‪ ،‬وروى عنه أبو الوليد بن الدباغ فقال‪« :‬كان أفقه أهل‬
‫األَ ْن َدلُس‪ ،‬وصنَّف شرح العتبية‪ ،‬فبلغ فيه الغاية»(‪.)3‬‬
‫ثانيًا‪ :‬الشهيد القاضى الفقيه أبو على الصدفي‪:‬‬
‫هو العالم الفقيه القاضى ال ُم َحدِّث الحسين بن ُم َح َّمد بن سُكرة‪.‬‬
‫أ‪ -‬شيوخه‪:‬‬
‫روى عن أبى الوليد الباجي‪ ،‬و ُم َح َّمد بن سعدون القروي‪ ،‬وح َّج سنة إحدى‬
‫وثمانين‪ ،‬ودخل مصر على أبى إسحاق الحبال‪ ،‬وقد منعه المستنصر العبيدى الرافضى‬
‫ِمن التحديث‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() سير أعالم النبالء‪( ،‬ج‪.)19/502‬‬
‫‪2‬‬
‫() تاريخ المغرب‪ ،‬ص (‪.)231‬‬
‫‪3‬‬
‫() سير أعالم النبالء (ج‪.)19/502‬‬
‫‪154‬‬
‫قال‪ :‬فأول ما فاتحته الكالم أجابنى على غير سؤالي‪ ،‬حذرًا أن أكون مدسوسًا‬
‫عليه‪ ،‬حتى بسطته وأعلمتُه أنَّنى من أهل األَ ْن َدلُس أريد الحج‪ ،‬فأجاز لى لفظًا‪ ،‬وامتنع‬
‫من‬
‫غير ذلك‪.‬‬
‫رحل للعراق‪ ،‬فسمع بالبصرة من جعفر بن ُم َح َّمد بن الفضل العباداني‪ ،‬وعبد‬
‫الملك ابن شغبة‪ ،‬وباألنبار‪ :‬الخطيب أبا الحسن على بن ُم َح َّمد بن ُم َح َّمد األقطع‪،‬‬
‫وببغداد‪ :‬على ابن الحسن بن قُريش بن الحسن صاحب ابن الصلت األهوازي‪ ،‬وعاصم‬
‫بن الحسن األديب‪ ،‬وأبا عبد هللا الحميدي‪.‬‬
‫وتفقَّه ببغداد على أبى بكر الشاشي‪ ،‬وأخذ بالشام عن الفقيه نصر المقدسي‪ ،‬ورجع‬
‫إلى بالده فى سنة تسعين بعلم كثير‪ ،‬وأسانيد شاهقة‪ ،‬واستوطن ُمرسية‪ ،‬وجلس‬
‫لإلسماع بجامعها‪.‬‬
‫ورحل النَّاس إليه‪ ،‬وكان عال ًما بالحديث وطرقه‪ ,‬عارفًا بعلله ورجاله‪ ،‬بصيرًا‬
‫بالجرح والتعديل‪ ،‬مليح الخطِّ‪ ،‬جيد الضبط‪ ،‬كثير الكتابة‪ ،‬حافظًا لمصنفات الحديث‪,‬‬
‫ذاكرًا لمتونها وأسانيدها‪ ،‬وكان قائ ًما على «الصحيحين» مع «جامع» أبى عيسى‬
‫الترمذي‪ ،‬ولى قضاء ُمر ِسيَّة‪ ،‬ثم استعفى منه فأعفي‪ ،‬وأقبل على نشر العلم وتأليفه‪،‬‬
‫وكان صالحًا ديِّنا‪ ،‬عامالً بعلمه‪ ،‬حلي ًما متواضعًا‪ ،‬وخرَّج القاضى عياض شيوخه‪,‬‬
‫وذكر أنه أخذ عن مائة وستين شي ًخا‪ ،‬وأنَّه جالس نحو أربعين شي ًخا ِمن الصالحين‬
‫والفضالء‪ ,‬وأنَّه أكره على القضاء فوليه‪ ،‬ثم اختفى حتى أعفى منه‪.‬‬
‫وتص َّدر فى زمن على بن يوسف فى نشر الكتاب والسنة فى مرسية باألَ ْن َدلُس‪,‬‬
‫وتوافد عليه الطالب من كل حدب وصوب لينهلوا من علمه الجم الغزير‪ ,‬ونفع هللا به‬
‫المسلمين فى تلك األقطار‪.‬‬
‫ب‪ -‬وفاته‪:‬‬
‫استشهد أبو على الصدفى فى وقعة قُتُ ْندَة بثغر األَ ْن َدلُس‪ ،‬لست بقين من ربيع‬
‫األول‪ ،‬وهو ِمن أبناء الستين‪ ،‬وكانت هذه الوقعة على المسلمين‪ ,‬وكان عيش أبى على‬
‫من كسب بضاعة مع ثقات إخوانه(‪.)1‬‬
‫انظر رحمك هللا إلى هذا الط َّود الشامخ‪ ،‬والجبل الراسخ‪ ،‬والبحر الزاخر فى حبه‬
‫لطلب العلم ونشره‪ ،‬والدعوة إلى دينه والدفاع عنه‪ ،‬وحبه للجهاد والرِّباط‪ ،‬وحرصه‬
‫على أكل الحالل‪ ،‬والتحرى فى لقمة العيش‪ ،‬واالستعالء على الدنيا وزخارفها الكاذبة‪،‬‬
‫ويا تُ َرى كم نفس أحياها خبر استشهاد هذا العالم الفقيه الزاهد‪ ،‬وكان – رحمه هللا –‬
‫الذود عن سنة سيِّد المرسلين‪ ,‬ويكتبه لتالميذه‪ ,‬منه ما قال أبو‬ ‫يتذ َّوق الشعر الذى فيه َّ‬
‫عبد هللا ُم َح َّمد بن على الصورى لنفسه‪:‬‬
‫عائبًا أهله ومن يدعيه‬ ‫قل لمن أنكر الحديث وأضحى‬
‫أم بجهل فالجه ُل ُخلُ ُ‬
‫ق السفيه‬ ‫أبعلم تقول هذا؟ أين لي‬

‫‪1‬‬
‫() سير أعالم النبالء (ج‪.)19/378‬‬
‫‪155‬‬
‫عائبًا أهله ومن يدعيه‬ ‫قل لمن أنكر الحديث وأضحى‬
‫من الترهات والتمويه؟‬ ‫أيُعاب الذين هم حفظوا الدِّين‬
‫(‪)1‬‬
‫راج ٌع كلُّ عالم وفقيه‬ ‫وإلى قولهم وما قد َر َووْ ه‬
‫ثالثًا‪ :‬القاضى الفقيه أبو بكر بن العربي‪:‬‬
‫من أعظم فقهاء األَ ْن َدلُس فى عصر المرابطين‪ ،‬هو القاضى أبو بكر ُم َح َّمد بن عبد‬
‫هللا ابن ُم َح َّمد المعافرى األَ ْن َدلُسي‪ ،‬اإلشبيلي‪ ,‬اإلمام العالمة‪ ،‬المتبحر فى العلوم‪.‬‬
‫ولد عام ‪468‬هـ‪1076/‬م وتأ َّدب ببلده‪ ،‬وقرأ القراءات‪ ،‬ثم رحل إلى مصر‪ ،‬والشام‬
‫وبغداد ومكة وكان يأخذ عن علماء أى بلد يرحل إليه حتى أتقن الفقه‪ ،‬واألصول وقيد‬
‫الحديث‪ ،‬واتسع فى الرواية‪ ،‬وأتقن مسائل الخالف‪ ،‬وتبحر فى التفسير‪ ،‬وبرع فى‬
‫األدب والشعر‪ ،‬وعاد إلى بلده إشبيلية بعلم كثير‪ ،‬لم يأت به أحد قبله ِم َّمن كانت له‬
‫رحلة إلى المشرق(‪.)2‬‬
‫أ‪ -‬مكانته العلمية‪:‬‬
‫قال الشيخ صديق حسن خان عن ابن العربي‪« :‬إمام فى األصول والفروع‪ ،‬سمع‬
‫ودرس الفقه واألصول‪ ,‬وجلس للوعظ والتفسير‪ ،‬وصنَّف فى غير فنٍّ ‪ ،‬والتزم األمر‬
‫بالمعروف والنهى عن المنكر حتى أُوذى فى ذلك بذهاب كتبه وماله؛ فأحسن الصبر‬
‫على ذلك كله»(‪.)3‬‬
‫قال عنه القاضى عياض‪ ,‬وهو ِم َّمن أخذوا عنه‪« :‬استقضى ببلده فنفع هللا به أهلها‬
‫لصرامته‪ ،‬وشدة نفوذ أحكامه‪ ،‬وكانت له فى الظالمين سورة مرهوبة‪ ،‬وتؤثر عنه فى‬
‫قضائه أحكام غريبة‪ ،‬ثم صرف عن القضاء‪ ،‬وأقبل على نشر العلم وبثه»(‪.)4‬‬
‫قال عنه الشيخ أحمد بن ُم َح َّمد المقري‪« :‬علم األعالم‪ ،‬الطاهر األثواب‪ ،‬الباهر‬
‫األبواب‪ ،‬الذى أنسى ذكاء إياس‪ ،‬وترك التقليد للقياس‪ ،‬وأنتج الفرع ِمن األصل‪ ،‬وغدا‬
‫فى اإلسالم أمضى ِمن النصل»(‪.)5‬‬
‫ب ‪ -‬مؤلفاته‪:‬‬
‫لإلمام القاضى أبى بكر بن العربى مؤلفات كثيرة لم يصلنا أغلبها‪ ،‬وقد قضى‬
‫أربعين سنة فى اإلمالء والتدريس‪ ،‬وفى ِّ‬
‫بث ما حصَّله ِمن العلوم‪ ،‬وصنَّف ‪-‬رحمه هللا‪-‬‬
‫فى فنون متعددة منها‪ :‬علوم القرآن‪ ,‬والحديث‪ ،‬و«مشكل القرآن والحديث»‪ ،‬وأصول‬
‫الدين‪ ،‬وكتب الزهد‪ ،‬وأصول الفقه‪ ،‬وكتب الفقه‪ ،‬والجدال والخالف‪ ،‬واللغة والنحو‬
‫والتاريخ‪ ،‬و ِمن أشهر المؤلفات التى انتفع بها المسلمون «العواصم ِمن القواصم»‪،‬‬
‫«عارضة األحوذى فى شرح الترمذي»‪« ،‬أحكام القرآن»‪« ،‬القبس فى شرح موطأ‬
‫‪1‬‬
‫() تاريخ اإلسالم للذهبي‪ ،‬وفيات عام (‪ ،)520-511‬ص (‪.)369‬‬
‫‪2‬‬
‫() انظر ‪ :‬أحكام القرآن فى المقدمة‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫() انظر‪ :‬العواصم ِمن القواصم‪ ،‬ص (‪.)13‬‬
‫‪156‬‬
‫ابن أنس»‪« ،‬المسالك على موطأ مالك»‪« ,‬اإلنصاف فى مسائل الخالف»‪« ،‬أعيان‬
‫األعيان»‪« ،‬المحصول فى أصول الفقه»‪« ،‬قانون التأويل»(‪.)1‬‬
‫كان اإلمام ابن العربى يصول ويجول بفقهه فى بالد األَ ْن َدلُس ينور طرق الظالم‬
‫بعلمه‪ ،‬ويقضى على الشبهات بحججه‪ ،‬ويدمغ البدع المنتشرة بصبره وحلمه ودعوته‪،‬‬
‫وكان من أعمدة دولة المرابطين فى نشر الكتاب والسنة وتفقيه النَّاس وتربيتهم على‬
‫مبادئ اإلسالم وأخالق اإليمان ودرجات اإلحسان‪.‬‬
‫وله فوائد علمية سجَّلها فى كتبه وانتفع بها طالب العلم من بعده منها‪:‬‬
‫‪ -1‬قوله‪ :‬قال علماء الحديث‪ :‬ما من رجل يطلب الحديث إال كان على وجهه‬
‫نضرة‪ ،‬لقوله ×‪« :‬نضر اهلل أمرأ سمع مقالتى فوعاها فأداها كما سمعها‪.»..‬‬
‫قال‪ :‬وهذا دعاء منه × لحملة علمه‪ ,‬البد بفضل هللا تعالى من نيل بركته‪.‬‬
‫‪ -2‬ومنه قوله‪ :‬كنت بمكة فى سنة ‪489‬هـ وكنت أشرب من ماء زمزم كثيرًا‪،‬‬
‫وكلَّما شربته نويت العلم واإليمان‪ ،‬فنويت العلم واإليمان‪ ،‬ففتح هللا لى ببركته فى‬
‫المقدار الذى يسَّره لى ِمن العلم‪ ،‬ونسيت أن أشرب للعمل‪ ،‬ويا ليتنى شربته لهما حتى‬
‫يفتح هللا لى فيهما‪ ،‬ولم يقدر فكان صفوى للعلم أكثر منه للعمل(‪.)2‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫أتاه أجله «بمغلية» قرب مدينة «فاس» فى ربيع األول سنة ‪543‬هـ‪ ،‬ودفن فى‬
‫فاس خارج باب المحروف على مسيرة يوم من فاس غربًا منها(‪.)3‬‬
‫رابعًا‪ :‬القاضى الفقيه عياض‪:‬‬
‫هو القاضى أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى‬
‫اليحصبى السبتي‪ ،‬كان إمام وقته فى الحديث وعلومه والنحو واللغة وكالم العرب‬
‫وأيامهم وأنسابهم‪ ،‬وصنف التصانيف المفيدة‪ ،‬ولد فى سبتة فى عام ‪476‬هـ‪ ،‬وتتلمذ‬
‫على شيوخها ومن أشهرهم‪ :‬القاضى أبو عبد هللا بن عيسى‪ ،‬والخطيب أبو القاسم‪,‬‬
‫والفقيه إسحاق بن الفاسي‪ ،‬وإبراهيم بن جعفر اللواتي‪ ،‬وإبراهيم بن أحمد القيسي‪ ،‬وأبو‬
‫بكر القاسم بن عبد الرحمن الكومى وغيرهم الكثير(‪.)4‬‬
‫أ‪ -‬رحلته إلى األندلس‪:‬‬
‫كان خروجه لألَ ْن َدلُس من بيته يوم الثالثاء منتصف جمادى األولى سنة ‪507‬هـ‪،‬‬
‫وكان عمره إذ ذاك واحدًا وثالثين عا ًما‪ ،‬و ِمن أشهر شيوخه الذين تتلمذ عليهم فى‬
‫قرطبة أبو ُم َح َّمد عبد الرحمن بن ُم َح َّمد المشهور بابن عتاب القرطبي‪ ,‬وقاضى‬
‫الجماعة أبو‬
‫عبد هللا بن الحاج‪ ،‬والفقيه أبو جعفر بن رزق‪ ،‬وأبو مروان عبد الملك بن سراج‪ ،‬وأبو‬
‫الوليد بن رشد الجد‪ ،‬وأبو ُم َح َّمد عبد هللا بن أحمد بن سعيد األَ ْن َدلُسى اإلشبيلى وأبو‬
‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬ترجمته فى كتاب العواصم ِمن القواصم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬العواصم ِمن القواصم‪ ،‬ص (‪.)16‬‬
‫‪3‬‬
‫() وفيات األعيان (ج‪.)3/483‬‬
‫‪4‬‬
‫() المغرب واألندلس‪ ،‬د‪ .‬مصطفى الشكعة‪ ،‬ص (‪.)124‬‬
‫‪157‬‬
‫علي الصدفي‪.‬‬
‫وتحصَّل على علوم غزيرة وتص َّدر للتعليم والتدريس‪ ،‬وعُين فى القضاء‪ ،‬ونبغ‬
‫فيه‪ ,‬واشتهر بعلمه وعبادته وعدله وجوده‪ ،‬وكانت مؤلفات القاضى عياض أكثرها فى‬
‫الحديث الشريف‪ ،‬ثُ َّم فى التاريخ والطبقات ثم فى الفقه‪ ،‬ثم فى القرآن(‪.)1‬‬
‫ب‪ -‬مؤلفاته‪:‬‬
‫«الشفا بتعريف حقوق المصطفى»‪ ،‬موضوعه فى السيرة النبوية‬ ‫‪-1‬‬
‫والعقيدة واألصول والتفسير والحديث‪.‬‬
‫«مشارق األنوار على صحيح اآلثار» وموضوعه تفسير غريب الحديث‬ ‫‪-2‬‬
‫فى الصحاح الثالثة‪« :‬موطأ مالك» و «صحيحى البخارى ومسلم»‪ ،‬فضبط‬
‫أسماء الرجال واأللفاظ‪ ,‬ونبَّه على مواضع األوهام والتصحيفات‪.‬‬
‫وفى هذا الكتاب قال الشاعر‪:‬‬
‫ومن عجب كون المشارق بالمغرب‬ ‫مشارق أنوار تب َّدت بســـــبتة‬
‫فأجابه آخر بقوله‪:‬‬
‫وإال فال فضل لتُرب على تُرب‬ ‫وما شرف األوطان إال رجالها‬
‫كتاب «اإلكمال»‪ ،‬أكمل به كتاب «المعلم بفوائد كتاب مسلم» لشيخه‬ ‫‪-3‬‬
‫المازرى الفقيه المالكى ال ُم َحدِّث المتوفى سنة ‪536‬هـ‪.‬‬
‫كتاب «منهاج العوارف إلى روح المعارف» وهو فى شرح مشكل‬ ‫‪-4‬‬
‫الحديث‪.‬‬
‫كتاب «اإللماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع» فى مصطلح‬ ‫‪-5‬‬
‫الحديث‪.‬‬
‫كتاب «بغية الرائد فيما فى حديث أم زرع ِمن الفوائد»‪.‬‬ ‫‪-6‬‬
‫كتاب «التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة» فى الفقه وجمع فى‬ ‫‪-7‬‬
‫هذه الكتاب فوائد وغرائب‪.‬‬
‫كتاب «اإلعالم بحدود قواعد اإلسالم» فى العقيدة‪.‬‬ ‫‪-8‬‬
‫كتاب «الخطب» يحتوى على خمسين خطبة من خطب الجمع‪.‬‬ ‫‪-9‬‬
‫‪ -10‬كتاب «جامع التاريخ» فى التاريخ والطبقات‪.‬‬
‫‪ -11‬كتاب «تاريخ سبتة» وهو مسودة‪.‬‬
‫‪« -12‬ترتيب المدارك وتقريب المسالك فى معرفة أعالم مذهب اإلمام‬
‫مالك»‪.‬‬
‫‪« -13‬الغنية» وذكر فيه شيوخه وترجم لهم‪.‬‬
‫‪« -14‬المقاصد الحسان فيما يلزم اإلنسان»‪.‬‬
‫‪« -15‬غنية الكتاب وبغية الطالب»‪ ،‬فى األدب واإلنشاء‪ ،‬وغيرها ِمن‬
‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)136-125‬‬
‫‪158‬‬
‫المخطوطات والكتب التى تدل على سمو منزلته وسالمة منهجه‪.‬‬
‫لقد برع القاضى عياض فى أمور ِع ََِِدة منها‪ :‬القضاء والفقه والحديث واللغة واألدب‪ ،‬وكان‬
‫شاعرًا مجيدًا‪ ,‬وله موهبة رائعة تدل على قدرته على نظم الشعر‪ ،‬ومن أروع ما قاله القاضى عياض‬
‫ِمن القصائد تلك التى أنشدها وهو يودِّع قرطبة فى عام ‪508‬هـ‪ ،‬بعد أن تلقَّى العلم فيها من شيوخها‪،‬‬
‫دت له صالت بأهلها ومودة وصداقة وأخوة أكيدة‪ ،‬فقال مودعًا المدينة األَ ْن َدلُسية ذات التاريخ‬
‫وتوطَّ ْ‬
‫العريق‪:‬‬
‫حُداتى َو ُز َّمت للفراق ركائبي‬ ‫أقول وقد ج َّد ارتحالى وغرَّدت‬

‫وصارت هواء من فؤاد ترائبي‬ ‫وقد غمضت من كثرة الدمع مقلتي‬

‫وداعى لألحباب ال للحبائب‬ ‫ق إال وقفة يستحثها‬


‫ولم تب َ‬

‫وسقى ربُاها بالعهاد السواكب‬ ‫رعى هللا جيرانًا بقرطبة العُال‬

‫طليق ال ُمحيَّا ُمستالن الجوانب‬ ‫وحيَّا زمانًا بينهم قد ألفته‬

‫معهاد جار أو مودة صاحب‬ ‫أإخواننا باهلل فيها تذاكروا‬


‫(‪)1‬‬
‫كأنى فى أهلى وبين أقاربي‬ ‫ُ‬
‫غدوت بهم من برهم واحتفائهم‬

‫ومن أشعاره اإلخوانية التى وصف فيها ليلة جمعت من أصحابه كل ذى مكانة‬
‫وفضل وجاه‪:‬‬
‫غرا َء جامعة السرورْ‬ ‫َس َم َح الزمانُ بليل ٍة‬
‫قَطفَ األمانى والحبور‬ ‫ْ‬
‫أجنت ُّ‬
‫أكف جُناتِها‬
‫فيما تقدم من دهور‬ ‫ما فضَّ طينُ ختامها‬
‫بمثل أشباه البدور‬ ‫دارت على فلك السعود‬
‫حاز إرثًا عن أمير‬ ‫ما إن ترى إال أميرًا‬
‫وثَ َووْ ا بها عوض السرير‬ ‫تَخ ُذوا القلوب أسرة‬
‫(‪)2‬‬
‫دوولَت األمور‬
‫وإن تُ ِ‬ ‫فعليهم وقف العال ُء‬
‫لقد اهت َّم األمير على بن يوسف بالقاضى عياض لما كان شابا وظهر ذكاؤه وانتشر‬
‫صيته‪ ،‬فأكرمته دولة المرابطين‪ ,‬وهيأت له األجواء للمزيد ِمن التحصيل والتفقه فى‬
‫‪1‬‬
‫() المغرب واألندلس‪ ،‬د‪ .‬مصطفى الشكعة‪ ،‬ص (‪.)146-139‬‬
‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص (‪.)149‬‬
‫‪159‬‬
‫الدين‪.‬‬
‫وكان القاضى عياض ال يحب كثرة األسفار واالرتحال‪ ،‬ويالحظ المتتبع لسيرته‬
‫وحياته أنه كان قليل االرتحال بالقياس إلى معاصريه وأترابه ِمن العلماء والفقهاء‬
‫وال ُم َحدِّثين‪ ،‬وكانت له نظرية عجيبة فى ذم السفر وبيان أضراره وعيوبه نظمه فى‬
‫الشعر‪ ،‬وخالفه كثير ِمن العلماء فى نظرته المتفردة وإليك األبيات التى ذكرها فى ذم‬
‫السفر‪:‬‬
‫نجاةً ففى األسفار سب ُع عوائق‬ ‫تقعَّد عن األسفار إن كنت طالبًا‬
‫وأعظمها يا صاح سُكنى الفنادق‬ ‫تشوفُ إخوا ٍن وفق ُد أحب ٍة‬
‫أموال وخيفةُ سارق‬
‫ٍ‬ ‫وتبذي ُر‬ ‫ش وقلةُ مؤن ٍ‬
‫س‬ ‫وكثرةُ إيحا ٍ‬
‫وأعقبه دهر شدي ُد المضايق‬ ‫فقد كان ذا دهرًا تقادم عهده‬
‫(‪)1‬‬
‫وجرِّ ب ففى التجريب عل ُم الحقائق‬ ‫فهذه مقالى والسالم كما بدا‬
‫وهذه فلسفة غريبة فى األسفار أخالف القاضى عياض – رحمه هللا – فيها‪ ،‬إال‬
‫أنَّنى أقول إن اإلنسان فى أسفاره العلمية أو التجارية عندما يقضى مآربه عليه أن ينتقل‬
‫إلى غيرها‪ ,‬حتى يحقق أهدافه ويرجع إلى وطنه وقومه غان ًما سال ًما مفيدًا ألهله‬
‫وشعبه‪ ,‬وقد ذكر العلماء فى األسفار فوائد فقال الشافعى رحمه هللا‪:‬‬
‫وسافر ففى األسفار خمسُ فوائد‬ ‫تغرَّب عن األوطان فى طلب العلى‬
‫(‪)2‬‬
‫وعل ٌم وآداب وصحبةُ ماج ٍد‬ ‫تفرج ه ِّم واكتسابُ معيش ٍة‬

‫وقال اإلمام الشافعى فى االغتراب أيضًا‪:‬‬


‫ب‬ ‫من راح ٍة فَد ِ‬
‫َع األوطان واغتر ِ‬ ‫ب‬
‫َقل وذى أد ِ‬
‫ما فى المقام لذى ع ِ‬
‫وانصب فإن لذي َد العيش فى النصب‬ ‫سافر تجد عوضًا عمن تفارقه‬

‫ب‬
‫يجر لم يط ِ‬
‫إن ساح طاب وإن لم ِ‬ ‫إنِّى رأيت وقوف الماء يفسده‬

‫القوس لم يُصب‬
‫ِ‬ ‫والسه ُم لوال فِرا ُ‬
‫ق‬ ‫واألس ُد لوال فرا ُ‬
‫ق األرض ما افترست‬
‫(‪)3‬‬
‫لملها النَّاس من عُجم ومن عرب‬
‫َّ‬ ‫والشمسُ لو وقفت فى الفلك دائمة‬

‫‪1‬‬
‫() انظر ‪ :‬النبوغ المغربي‪ ،‬عبد هللا كنون‪( ،‬ج‪.)3/131‬‬
‫‪2‬‬
‫() ديوان الشافعي‪ ،‬ص (‪.)57‬‬
‫‪3‬‬
‫() ديوان الشافعي‪ ،‬ص (‪.)34‬‬
‫‪160‬‬
‫وكان ِم َّمن عاصر القاضى عياض العالمة الشيخ يعلى أبو جبل‪ ,‬وكان له رأى‬
‫يخالف رأى القاضى عياض فى السفر نظمه فى هذه األبيات‪:‬‬
‫َفرُبَّ فائد ٍة تُلقى مع السفر‬ ‫سافر لتكسب فى األسفار فائدة‬

‫نصحًا ولو كنت بين الظل والشجر‬ ‫وال تُقم بمكان ال تُصيبُ به‬
‫(‪)1‬‬
‫علم تك َّسبَهُ فى صحبة الخضر‬ ‫فإن «موسى» كليم هللا أعوزهُ‬

‫ومن شعره فى األشواق ما نظمه من أبيات واصفًا فيها شوقه وحنينه‬


‫لزيارة المدينة المنورة فقال‪:‬‬
‫هدى األنام و ُخصَّ باآليا ِ‬
‫ت‬ ‫ومن به‬
‫يا دار خير المرسلين َ‬

‫وتشو ٌ‬
‫ق متوق ُد الجمرات‬ ‫عندى ألجلك لوعة وصابة‬

‫من تلكم الجدران والعرصات‬ ‫ي عه ٌد إن مألت محاجري‬


‫وعل َّ‬
‫من كثرة التقبيل والرَّشقات‬ ‫َّ‬
‫ألعفرن مصونَ شيبى بينها‬
‫(‪)2‬‬
‫أبدًا ولو سعيا على الوجنات‬ ‫لوال العوادى واألعادى زرتها‬

‫ت‬
‫لقطين تلك الدار وال ُحجُرا ِ‬ ‫لكن سأهدى من جميل تحية‬

‫تغشاه باآلصال والبُكرات‬ ‫أذكى ِمن المسك المفتق نفحةً‬


‫(‪)3‬‬
‫ونَوامى التسليم والبركات‬ ‫وتخصه بزواكى الصلوات‬

‫وله أبيات يصف فيها نفسه وشوقه إلى وطنه قالها فى مدينة «داي» ببالد المغرب‬
‫سنة ‪541‬هـ‪ ،‬وكان قد ناهز الخامسة والستين ِمن العمر‪ ،‬وكان مرغ ًما على البقاء فيها‬
‫ممنوعًا للرجوع إلى بالده فى زمن دولة ال ُم َوحِّ ِدين‪.‬‬
‫يعلم هللا وأنا أمر على هذه األبيات التى فجرت األحزان فى نفسي‪ ،‬وألهبت‬
‫مشاعرى وهيجت األشواق إلى مدينتى «بنغازي» ومنطقتى «الحدائق»‪ ،‬وذكرتنى‬
‫ببالدى العزيزة ليبيا ما تملكت دموع الشوق إلى مسقط رأسى الذى طالت مدة غيابى‬
‫عليه أكثر من أربعة عشر عا ًما نصفها مسجونًا فى بالدي‪ ,‬والنصف اآلخر قضيتها‬
‫متنقالً بين البلدان‪ ،‬ولم تكن تهمتى التى كلفتنى هذه العقوبة القاسية التى أحتسبها عند‬
‫هللا إال أن رضيت باهلل ربا وباإلسالم دينًا وب ُم َح َّمد نبيًا ورسوالً ×‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() المغرب واألندلس‪ ,‬ص (‪.)150‬‬
‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() أزهار الرياض‪( ،‬ج‪.)4/180‬‬
‫‪161‬‬
‫إن أبيات القاضى عياض فى غربته أضفت على وأنا أترجم حياته مسحة ِمن‬
‫الحزن‪ ,‬ولوعة ِمن األسى‪ ,‬وإحساسًا بالحنين إلى أهلى ووطني‪ ،‬وأحبتى وإخواني‪،‬‬
‫فقال القاضى – رحمه هللا – وهو يحاور حمامة مرَّت به‪:‬‬
‫أخا شجى بالنوح أو بغناء‬ ‫طارحى‬
‫ِ‬ ‫أقمرية األدواح باهلل‬

‫تهيج من شوقى ومن بُرحائي‬ ‫فقد أرقتنى من هديلك رنة‬

‫غريب «بداي» قد بُليتَ بدا ِء‬ ‫لعلك مثلى يا حما ُم فإنني‬

‫وخَرق بعيد الخافقين قوا ِء‬ ‫فكم من فال ٍة بين «داي» و «سبتة»‬

‫كما ضعْضعتنى زفزةُ الصعداء‬ ‫ق فيه للرياح خواف ٌ‬


‫ق‬ ‫تصف ُ‬

‫بنت ورائي‬ ‫ْ‬


‫أريقت يوم ُ‬ ‫دموعًا‬ ‫يذكرنى سحُّ المياه بأرضها‬

‫أشجار ترف لِرائي‬


‫ِ‬ ‫خَ مائل‬ ‫ويعجبنى فى سهلها وحزنها‬
‫(‪)1‬‬
‫سيجمع منَّا الشمل بعد تنائي‬ ‫التفرق حكمهُ‬
‫ُّ‬ ‫لع َّل الذى كان‬

‫جـ ‪ -‬عياض والقضاء‪:‬‬


‫رجع القاضى عياض إلى سبتة بعد أن أت َّم ما أراد من علوم األَ ْن َدلُس‪ ,‬وكان دخوله‬
‫لمدينته الحبيبة إلى نفسه عام (‪508‬هـ)‪ ،‬وفرح أهل سبتة بابنهم البار‪ ،‬وتص َّدر للتعليم‬
‫والتدريس بعد أن امتحنه علماء مدينة سبتة فى الفقه المالكي‪ ،‬وأصبح من أهل مجلس‬
‫الشورى‪ ،‬وكان حينئذ فى الثانية والثالثين من عمره أو يزيد قليالً‪ ،‬وكانت تلك المرحلة‬
‫سببًا فى إعداده ليتسنم سدة القضاة الشريفة الرفيعة فى سبتة(‪.)2‬‬
‫ولما كان عياض فى التاسعة والثالثين من عمره تولى القضاء‪ ،‬وكان ذلك عام‬
‫‪515‬هـ‪ ،‬وظ َّل متربعًا على كرسى القضاء فى بلده سبتة ستة عشر عا ًما‪ ،‬فسار فيها أحسن‬
‫سيرة‪ ,‬وكان محمود الطريقة مشكور الحالة‪ ،‬أقام جميع الحدود على ضروبها واختالف‬
‫أنواعها‪ ،‬وبنى الزيادة الغربية فى جامع سبتة التى كمل بها جماله وترك فى بلده آثارًا‬
‫محمودة(‪.)3‬‬
‫ويبدو أن بعض األمراء لم يعجبهم حزم وعدالة القاضى عياض‪ ،‬كما خافوا من‬
‫كثرة أتباعه وانتشار صيته ومحبة النَّاس له‪ ،‬فلذلك عزموا على نقله إلى غرناطة‪ ,‬ولم‬
‫يذكروا سببًا مقنعًا‪ ،‬مما جعل الفقيه أبا الحسن بن هارون المالقى يمدح القاضى عياضًا‬
‫فى أبيات سجلتها ذاكرة التاريخ‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫(‪ )2‬المصدر السابق نفسه‪ ,‬ص (‪.)150‬‬ ‫() انظر‪ :‬المغرب واألندلس‪ ,‬ص (‪.)150‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬أزهار الرياض‪( ،‬ج‪.)3/10‬‬
‫‪162‬‬
‫والظل ُم بين العالمين قدي ُم‬ ‫ظلموا عياضًا وهو يَحْ لُ ُم عنهم‬
‫كى يكتموه فإنَّه معلوم‬ ‫جعلوا مكانَ الرا ِء عينًا فى اسمه‬
‫(‪)1‬‬
‫والروض حول فنائِها معدوم‬ ‫ْ‬
‫فاحت بطائ ُح سبتة‬ ‫لواله ما‬
‫وانتقل القاضى عياض إلى غرناطة ممتثالً ألمر األمير فهبَّ أهل غرناطة‬
‫الستقباله كما يستقبل الفاتحون‪ ،‬وباهلل إنه لحق فاتح للعقول‪ ,‬ومنور للقلوب‪ ,‬ومطهر‬
‫للنفوس بعلمه الغزير‪ ،‬و ُخلُقه المتواضع وسيرته العطرة‪.‬‬
‫وسار فى النَّاس سيرة العدل‪ ،‬ورفع الظلم‪ ،‬وإحقاق الحقوق دون خوف من أمير‬
‫أو وزير‪ ،‬ونشط وضاق به ذرعًا َمن تعرَّضت مصالحه للخطر‪ ،‬وال يستطيع الحصول‬
‫عليها إال بالظلم‪ ،‬وأسفرت مكايد األشرار فى غرناطة عن عزل القاضى النزيه فى‬
‫عام ‪532‬هـ‪ ,‬ورجع إلى بلده ليكون بعيدًا عن القضاء قريبًا لطالب العلم وحلقاته‪,‬‬
‫وقصده النَّاس وانتفع به العباد‪ ,‬ونشر نور الكتاب والسنة فى البالد‪ ،‬واستم َّر على تلك‬
‫الحالة الدعوية سبع سنين‪ ،‬وفى أواخر دولة المرابطين عام ‪539‬هـ دعى ليتولَّى قضاء‬
‫سبتة من جديد‪ ،‬وهو فى الثالثة والستين من عمره‪ ،‬وكان شي ًخا جليالً وعال ًما عظي ًما‪،‬‬
‫وقاضيًا حكي ًما‪ ,‬وأبًا رحي ًما‪ ،‬فابتهج النَّاس لعودته‪ ,‬وسار فيهم سابق سيرته‪ ،‬وما مضت‬
‫شهور قليلة حتى سقطت دولة المرابطين على يد دولة ال ُم َو ِّح ِدين البدعية فاضط َّر‬
‫القاضى الجليل إلى خوض الحياة السياسية والحربية(‪.)2‬‬
‫د‪ -‬معارك السياسة والحرب‪:‬‬
‫إن ظهور دولة ال ُم َو ِّح ِدين على يد المبتدع الكبير ُم َح َّمد بن تومرت كانت من‬
‫أسباب سقوط دولة المرابطين‪ ،‬فطبيعى ج ًّدا أن يخوض حربًا ضد دولة ال ُم َوحِّ ِدين‪،‬‬
‫وتولَّى قيادة جيوش ال ُم َو ِّح ِدين عبد المؤمن بن على الذى استطاع بجيشه أن يحتل مدن‬
‫المغرب مثل فاس ومراكش وغيرهما‪.‬‬
‫ورأى القاضى عياض أن المصلحة العليا لمدينة سبتة وأهلها أن يبايع عبد المؤمن‬
‫حفاظًا على األعراض واألموال‪ ،‬وتجنيب المدينة ِمن الدمار الشامل‪ ,‬وقبل أمير‬
‫ال ُم َو ِّح ِدين تلك البيعة االضطرارية‪ ،‬وما أن قام ُم َح َّمد بن هود بثورته على ال ُم َو ِّح ِدين‬
‫حتى استجاب أهل سبتة لذلك بزعامة القاضى عياض‪ ،‬وقام السبتيون بقتل عامل‬
‫ال ُم َو ِّح ِدين وأصحابه‪ ،‬وسار القاضى عياض إلى يحيى بن على المسوفى المعروف‬
‫بابن غانية فى قرطبة وبايعه‪ ،‬وكان متمس ًكا بدعوة المرابطين‪ ,‬وطلب منه أن يُعيِّن‬
‫واليًا على سبتة فبعث معه يحيى بن أبى بكر الصحراوى‪ ،‬وأصبحت بذلك مدينة سبتة‬
‫خارجة عن دولة ال ُم َو ِّح ِدين‪ ,‬وعادت إلى حكم المرابطين‪.‬‬
‫إال إن جيوش ال ُم َو ِّح ِدين استطاعت إخضاع مدينة سبتة وأهلها‪ ,‬وأعادوا البيعة من‬
‫جديد لل ُم َو ِّح ِدين الذين قبلوا ذلك‪ ,‬واشترطوا إبعاد القاضى عياض عن مدينته إلى‬
‫مراكش‪ ،‬وقيل تدال‪ ,‬إلى أن توفاه هللا تعالى‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)162‬‬
‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق‪ ,‬ص (‪.)162‬‬
‫‪163‬‬
‫إن موقف القاضى عياض كان منسج ًما مع عقيدته وعلمه ودعوته فى محاربته‬
‫لل ُم َو ِّح ِدين الذين اعتقدوا عصمة إمامهم ُم َح َّمد بن تومرت‪ ،‬وغير ذلك ِمن العقائد‬
‫البدعية التى سنفصِّلها بإذن هللا تعالى عند كالمنا عن ال ُم َو ِّح ِدين‪.‬‬
‫إن القاضى عياض ليس من أهل السنة وحسب‪ ،‬ولكنَّه فقيه أهل السنة آنذاك على‬
‫اإلطالق‪ ،‬وهو كذلك يرى وجوب الوقوف أمام دعوة ابن تومرت‪ ،‬وينبغى التخلُّص‬
‫منها حتى حانت أول فرصة‪ ،‬وإن يكن قد بايع فالبيعة آنذاك كانت حفاظًا على سالمة‬
‫بلدته وأهلها‪ ،‬أما وقد الحت الفرصة بخروج بعض المدن على سلطان ال ُم َوحِّ ِدين القائم‬
‫على بدعة اإلمامة المعصومة‪ ،‬أما وقد جرت الريح بما ال تشتهى السفن؛ فإن ِمن العقل‬
‫االستسالم ثم المبايعة وله حكم المضطرِّ فى ذلك‪.‬‬
‫وإن سلطان ال ُم َو ِّح ِدين عبد المؤمن كان على مقدرة عجيبة ِمن الدهاء والمكر‪ ،‬ولذلك‬
‫رأى لمصلحة دولته أن يضع الفقهاء والعلماء الذين يشك فى والئهم له فى مراكش‪،‬‬
‫ومنعهم ِمن العودة إلى بالدهم‪ ،‬أو يضعهم فى مدن أخرى ليخدموا مخططات الدولة‬
‫الناشئة(‪.)1‬‬
‫هـ ‪ -‬وفاة القاضى عياض‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫توفى رحمه هللا فى منفاه بعيدًا عن وطنه فى عام ‪544‬هـ ودفن فى مراكش‪،‬‬
‫فعليه ِمن هللا الرحمة والمغفرة والرضوان على ما ق َّدمه لإلسالم‪.‬‬
‫هؤالء بعض العلماء الذين كان لهم سبق ومكانة فى دولة المرابطين‪ ,‬وانتفع‬
‫النَّاس بعلمهم وفقههم‪ ،‬ترجمت لهم ترجمة متواضعة‪ ,‬كما برز فى علوم الفقه‬
‫والحديث كثير ِمن العلماء وال ُم َحدِّثين فى عصر دولة المرابطين منهم‪ :‬أبو الحسن‬
‫على بن عبد الرحمن المعروف بابن أبى حقون وله مختصر فى أصول الفقه سماه‬
‫«بالمقتضب األشفى فى أصول المستصفى»‪ ,‬ومنهم أبو ُم َح َّمد عبد هللا بن على بن‬
‫عبد هللا بن خلف بن أحمد بن عمر اللخمي‪ ،‬ويعرف بالرشاطي‪ ،‬وكانت له عناية‬
‫بالحديث والرجال والرواة والتواريخ‪ ،‬وله كتاب سماه «اقتباس األنوار‪ ،‬والتماس‬
‫األزهار فى أنساب الصحابة ورواة اآلثار»‪ ،‬ومنهم أيضً ا أبو عبد هللا بن ُم َح َّمد بن‬
‫حسين بن أحمد بن ُم َح َّمد األنصاري‪ ،‬وأبو جعفر أحمد بن عبد الصمد بن أبى‬
‫عبيدة بن ُم َح َّمد الخزرجي‪ ،‬وقد ألف كتابًا فى أحكام الرسول × سماه «آفاق‬
‫الشموس وأعالق النفوس»‪ ،‬وكتابًا آخر سماه «مقاطع الصلبان ومراتع رياض‬
‫أهل اإليمان»‪ ،‬وأبو ُم َح َّمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية‬
‫المحاربى وله كتاب يُسمى «بالوجيز فى التفسير»‪ ,‬وكذلك برز فى عصر على بن‬
‫يوسف ِمن الفقهاء وعلماء الحديث‪ :‬أبو عبد هللا ُم َح َّمد بن حسين بن أحمد‬
‫األنصارى المعروف بابن أبى أحد عشر‪ ،‬وأبو عبد هللا ُم َح َّمد بن أحمد بن سعيد بن‬
‫يربوع بن سليمان‪ ،‬وأبو الوليد يوسف بن عبد العزيز بن يوسف بن عمر‬
‫المعروف بابن الدباغ‪ ،‬وأبو عبد هللا‬
‫ُم َح َّمد بن أحمد بن خلف بن إبراهيم التجيبى المعروف بابن الحاج قاضى‬
‫الجماعة بقرطبة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() سير أعالم النبالء‪( ،‬ج‪.)20/217‬‬
‫‪2‬‬
‫() سير أعالم النبالء‪( ,‬ج‪.)2/217‬‬
‫‪164‬‬
***

165
‫المبحث الرابع‬
‫علوم اللغة فى زمن المرابطين‬
‫ونبغ فى علوم اللغة فى عصر على بن يوسف عدد كبير ِمن العلماء المبرزين فى‬
‫النحو وعلوم اللغة نذكر منهم‪ :‬أبا ُم َح َّمد‪ ,‬عبد هللا بن ُم َح َّمد بن السيِّد البطليوسى النحوى‬
‫ت ‪521‬هـ‪ ،‬وكان حجة فى علمه عال ًما متبحرًا فى النحو وعلوم اللغة‪ ،‬وكان النَّاس‬
‫يجتمعون إليه ويقرأون عليه‪ ،‬ومن تواليفه كتاب «االقتضاب فى شرح أدب الكتاب»‪,‬‬
‫وكتاب «التنبيه على األسباب الموجبة الختالف األمة»‪ ,‬وكتاب آخر فى شرح الموطَّأ‪,‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك كان شاعرًا مطبوعًا فمن نظمه قوله‪:‬‬
‫وأوصاله تحت التراب رميم‬ ‫أخو العلم حي خالد بعد موته‬
‫يظن ِمن األحياء وهو عديم‬ ‫ش على الثرى‬
‫وذو جهل ميت وهو ما ٍ‬
‫ومن أئمة اللغويين وأعالمهم فى عصر على بن يوسف‪ ،‬أبو الحسن على بن أحمد‬
‫بن خلف األنصارى النحوي‪ ،‬وقد كان من أهل المعرفة باآلداب واللغة‪ ،‬متقد ًما فى علم‬
‫القراءات‪ ،‬وأبو ُم َح َّمد بن أحمد بن عبد هللا بن ُم َح َّمد بن أحمد بن عبد هللا النحوى‬
‫المعروف بابن اللجاش‪ ،‬وكان عال ًما متبحرًا فى النحو‪ ،‬وأبو العبَّاس أحمد بن عبد‬
‫الجليل ابن عبد هللا المعروف بالتدميرى ت ‪555‬هـ‪ ،‬ومن تواليفه «نظم القرطين وضم‬
‫أشعار السقطين» وجمع فيه أشعار «الكامل» للمبرد و «النوادر» ألبى على البغدادي‪،‬‬
‫كما له كتاب «التوطئة فى العربية» وله شرح على كتاب الفصيح لثعلب‪ ،‬وله فى‬
‫شرح أبيات جمل الزجاجى كتاب سماه «شفاء الصدور»‪ ،‬وكتاب «الفوائد والفرائد»‪،‬‬
‫ومنهم أبو العبَّاس أحمد بن عبد العزيز بن هشام بن غزوان الفري‪ ،‬وكان من أهل‬
‫المعرفة بالنحو واللغة والعروض‪ ,‬وله أرجوزة مزدوجة فى قراءة نافع وثانية فى‬
‫(‪)1‬‬
‫قراءة ابن كثير‪ ،‬ومن تواليفه كتاب «فوائد اإلفصاح عن شواهد اإليضاح»‬
‫***‬

‫المبحث الخامس‬
‫علوم التاريخ والجغرافيا فى عصر المرابطين‬
‫ظهر فى عصر المرابطين عدد كبير من أعالم الرواية والكتابة التاريخية‬
‫نذكر فى مقدمتهم‪ :‬أبو زكريا بن يحيى بن يوسف األنصارى الغرناطى‬
‫المعروف بابن الصيرفى‪ ،‬كان من أعالم عصر على بن يوسف فى البالغة‬
‫واألدب والتاريخ‪ ،‬كتب بغرناطة عن األمير تاشفين بن على بن يوسف أيام أن‬
‫كان واليًا على األَ ْن َدلُس‪ ،‬وألَّف فى تاريخ األَ ْن َدلُس فى العصر المرابطى كتابًا‬
‫سماه «األنوار الجلية فى تاريخ الدولة المرابطية»‪ ،‬وكتابًا آخر سماه «قصص‬
‫األنباء وسياسة الرؤساء»‪ ,‬وهما مؤلفان لم يصال إلينا مع األسف‪ ،‬ولم يصل‬
‫‪1‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)400- 398‬‬
‫‪166‬‬
‫إلينا من مؤلفاته األولى سوى شذور نقلها المتأخرون مثل ابن الخطيب خاصة‬
‫روايته عن غزوة ألفونسو المحارب لألَ ْن َدلُس سنة ‪519‬هـ‪1125/‬م‪ ،‬وقد توفى‬
‫ابن الصيرفى بغرناطة فى سنة ‪570‬هـ‪ ،‬وهناك أيضً ا أبو الحسن على بن بسام‬
‫الشنترينى (ت‪542‬هـ) صاحب كتاب «الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة»‪,‬‬
‫وهذا الكتاب موسوعة أدبية تاريخية يتضمن تراث القرن الخامس الهجرى‪/‬‬
‫الحادي عشر الميالدي‪ ،‬وأبو عبد هللا ُم َح َّمد بن خلف بن الحسن بن إسماعيل‬
‫الصدفي‪ ،‬ويعرف بابن علقمة‪ ,‬وهو من أهل مدينة بلنسية وله كتاب س َّماه‬
‫«البيان الواضح فى الملم الفادح» وتوفى ابن علقمة عام ‪509‬هـ‪1114/‬م‪ ،‬وأبو‬
‫طالب عبد الجبار عبد هللا ابن أحمد بن أصبغ‪ ،‬وله كتاب يسمى «عيون اإلمامة‬
‫ونواظر السياسة»‪ ،‬وأبو عامر ُم َح َّمد بن أحمد بن عامر البلوى المعروف‬
‫بالسالمي‪ ،‬وقد ألَّف كتابًا فى التاريخ سماه «درر القالئد وغرر الفوائد»‪ ،‬وأبو‬
‫نصر الفتح بن ُم َح َّمد القيسى اإلشبيلي‪ ،‬والمعروف بالفتح بن خاقان‪ ،‬ومن‬
‫تواليفه كتاب «قالئد العقيان فى محاسن األعيان»‪ ،‬وكتاب «مطمع األنفس‬
‫ومسرح التأنس»‪ ,‬وكتاب «رواية المحاسن وغاية المحاسن»‪ ,‬وأبو القاسم‬
‫خلف بن عبد الملك ويعرف بابن بشكوال‪ ،‬وكان من أعالم المؤرخين فى‬
‫عصر المرابطين‪ ،‬وأشهر تواليفه كتابه المعروف «بالصلة»‪ ،‬الذى جعله تتمة‬
‫لكتاب ابن الفرضى فى تاريخ علماء األَ ْن َدلُس‪ ،‬ومن تواليفه أيضً ا كتاب‬
‫«الغوامض والمبهمات» فى اثنى عشر جز ًءا‪ ،‬وكتاب «المحاسن والفضائل‬
‫فى معرفة العلماء األفاضل» فى واحد وعشرين جز ًءا وقد توفى ابن بشكوال‬
‫فى رمضان ‪578‬هـ‪.‬‬
‫وفى مجال الجغرافية نبغ عدد من كبار جغرافى األَ ْن َدلُس والمغرب فى عصر‬
‫المرابطين نذكر منهم‪ :‬الشريف أبو عبد هللا ُم َح َّمد اإلدريسي‪ ,‬صاحب كتاب «نزهة‬
‫المشتاق فى اختراق اآلفاق»‪ ،‬وقد ألَّف اإلدريسى لرجار الثَّانِى صاحب صقلية‪ ،‬ولذا‬
‫يُعرف هذا الكتاب فى كتب الجغرافية العربية باسم الرجاري‪.‬‬
‫ومن جغرافيى عصر المرابطين عبد هللا بن إبراهيم بن وزمر الحجارى صاحب‬
‫كتاب «المسهب فى غرائب المغرب»‪ ،‬وقد اتخذ بنو سعيد كتابه أساسًا لكتابهم‬
‫المعروف باسم «المغرب فى حلى المغرب»(‪.)1‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)403-401‬‬
‫‪167‬‬
‫المبحث السادس‬
‫علوم الطب فى عصر المرابطين‬
‫تقدمت العلوم الطبية والصيدالنية فى عصر المرابطين تقد ًما يشهد له‬
‫األسماء واألعالم التى تألقت فى حضارة األَ ْن َدلُس والمغرب‪ ،‬وأشهرها ابن‬
‫زهر وهو اسم طبيب أَ ْن َدلُسى من أعظم أطباء اإلسالم‪ِ ،‬م َّمن تركوا بصماتهم‬
‫واضحة فى تاريخ الحضارة اإلنسانية جمعاء‪ ،‬وينتسب أبو مروان عبد الملك‬
‫بن زهر إلى أسرة أَ ْن َدلُسية لمعت فى ميدان الطب والعلوم الطبيعية والكيميائية‪,‬‬
‫عميدها األكبر هو أبو مروان عبد الملك ابن الفقيه ُم َح َّمد بن مروان بن األزهر‬
‫األيادى اإلشبيلي‪ ،‬وكان والده الفقيه محمد بن مروان من جلة الفقهاء المتميزين‬
‫فى علم الحديث فى إشبيلية‪ ،‬وقد رحل أبو مروان فى شبابه إلى المشرق وسمع‬
‫فى القيروان ومصر‪ ،‬وتتلمذ علىأيدى علماء المشرق فى الطب‪ ،‬ورجع إلى‬
‫األَ ْن َدلُس‪ ،‬وأصبح من أشهر علماء الطب فيها‪ ,‬وتوفى فى إشبيلية‪ ،‬وورثه فى‬
‫علم الطب ابنه أبو العالء الذى تبوأ مكانة عظيمة فى دولة المرابطين‪ ،‬ومن‬
‫تواليفه «الخواص» وكتابه «األدوية المفردة» وكتاب «اإليضاح بشواهد‬
‫االفتضاح» فى الرد على ابن رضوان فيما رده على حنين بن إسحاق فى‬
‫كتاب المدخل إلى «الطب»‪ ،‬وكتاب «النكت الطبية»‪ ،‬وكتاب «الطرر» ومقالة‬
‫وحمل إلى إشبيلية‬ ‫فى تركيب األدوية‪ ،‬وتوفى أبو العالء فى قرطبة ‪525‬هـ‪ُ ,‬‬
‫ودفن بها‪ ،‬وأمر األمير على بن يوسف بجمع كتبه ونسخها‪ ،‬وتم ذلك عام‬
‫‪526‬هـ‪ ,‬وورث ابنه أبو مروان من والده صناعة علوم الطب‪ ،‬ونبغ فى هذا‬
‫المجال‪ ،‬ولم يكن فى زمانه َمن يماثله أو ينافسه‪ ،‬وكان له حظوة لدى األمراء‬
‫المرابطين‪ ،‬فقد صنف لألمير أبى إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين كتابًا‬
‫سماه «االقتصاد فى صالح األجساد»‪ ،‬ومن تواليفه أيضً ا كتاب «التيسير فى‬
‫المداواة والتدبير» وقد ألفه القاضى أبو الوليد بن رشد وهذا الكتاب يُعد من‬
‫أعظم مراجع الطب فى العصور الوسطى‪ ،‬وله أيضً ا كتاب «األغذية»‪ ،‬ومقالة‬
‫فى علل الكلى‪ ،‬ورسالة فى علتى البرص والبهق‪ ،‬وتوفى هذا العالم فى عام‬
‫‪557‬هـ فى إشبيلية‪.‬‬
‫ومن األطباء الذين برعوا فى عصر على بن يوسف‪ :‬أبو عامر ُم َح َّمد بن أحمد بن‬
‫عامر البلوي‪ ،‬وله فى الطب كتاب سماه «الشفا»‪ ,‬وأبو الحسن على بن عبد الرحمن بن‬
‫سعيد السعدى وغيرهم‪.‬‬
‫ومما يؤكد اهتمام دولة المرابطين بالطب وجود منصب يعرف برئيس الصناعة‬
‫الطبية‪ ,‬وهو منصب هام يقابل ما نطلق عليه اليوم اسم وزير الصحة‪ ،‬إذ كان فيما يبدو‬
‫المسئول األول أمام األمير فى صناعة الطب‪ ,‬وما يتعلق بها ِمن األدَويَة والعقاقير(‪.)1‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس‪ ،‬ص (‪.)409-407‬‬
‫‪168‬‬
‫المبحث السابع‬
‫أسباب سقوط دولة المرابطين‬
‫الملذات والشهوات عند ُح َّكام المرابطين‬ ‫َّ‬ ‫‪ -1‬ظهور روح الدعة واالنغماس فى‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وأمرائهم فى أواخر عصر على بن يوسف‪ ،‬وكان للمجتمع األن َدلسى تأثير ال‬
‫ينكر فى قادة وأمراء وحكام دولة المرابطين الذين استجابوا لنزوات شهواتهم‬
‫ك‬‫وانغمسوا فى الحياة الدنيا‪ ،‬فتحقَّق قول هللا تعالى‪َ ﴿:‬وإِذَا أ ََر ْدنَا أَن ُّن ْهلِ َ‬
‫اها تَ ْدِم ًيرا﴾‬ ‫َق ْريَةً أ ََم ْرنَا ُم ْت َرفِ َيها َف َف َس ُقوا فِ َيها فَ َح َّق َعلَْي َها الْ َق ْو ُل فَ َد َّم ْرنَ َ‬
‫[اإلسراء‪.)1( ]16:‬‬
‫يقول سيِّد قطب رحمه هللا‪« :‬والمترفون فى ك ِّل أ َّمة هم طبقة الكبراء الناعمين‬
‫الذين يجدون المال‪ ،‬ويجدون الخدم‪ ،‬ويجدون الراحة‪ ،‬فينعمون بالدعة والراحة‪،‬‬
‫وبالسيادة حتى تترهل نفوسهم وتأسن‪ ،‬وترتع فى الفسق والمجانة وتستهتر بالقيم‬
‫والمقدسات والكرامات‪ ،‬وتلغ فى األرض والحرمات‪ ،‬وهم إذا لم يجدوا َم ْن يَضْ ِربُ‬
‫على أيديهم عاثوا فى األرض فسادًا‪ ،‬ونشروا الفاحشة فى األمة وأشاعوها‪ ،‬وأرخصوا‬
‫القيم العليا التى ال تعيش الشعوب إال بها ولها‪ ،‬ومن ثَ َّم تتحلل األمة وتسترخي‪ ،‬وتفقد‬
‫حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوى صفحتها‪.»..‬‬
‫واآلية تقرر سنة هللا هذه فى إهالك َمن انغمس فى الشهوات‪ ،‬وأسرف فى‬
‫الملذات‪ ،‬وتحلل ِمن القيم واألخالق والزم الفسق واالنحالل والفساد‪.‬‬
‫‪ -2‬ظهور السفور واالختالط بين النساء والرجال‪ ،‬وبدأت دولة المرابطين فى‬
‫هرها وصفا َءها الذى اتصف به جيلهم‬ ‫آخر عهد األمير على بن يوسف تفقد طُ َ‬
‫األول‪ ،‬مما جعل الرعية المسلمة تتذمر من هذا االنحراف والفساد‪ ،‬وتستجيب‬
‫لدعوة ُم َح َّمد بن تومرت الذى أظهر نفسه للناس بالزاهد والنَّاسك واآلمر‬
‫بالمعروف والناهى عن المنكر‪.‬‬
‫‪ -3‬انحراف نظام الحكم عن نظام الشورى إلى الوراثى الذى سبب نزاعًا عنيفًا‬
‫على منصب والية العهد بين أوالد على بن يوسف‪ ،‬كما تطلع مجموعة ِمن‬
‫األمراء إلى منصب األمير على ونازعوه فى سلطانه مما سبب تمزقًا داخليًا‪،‬‬
‫ففقدت الدولة المرابطية وحدتها األولى‪ ،‬وكثرت الجيوب الداخلية فى كيان‬
‫الدولة‪ ،‬وتفجرت ثورات عنيفة فى قرطبة‪ ،‬وفى فاس وغيرهما ساهمت فى‬
‫إضعاف الوحدة السياسية وإسقاط هيبة الدولة المرابطية‪.‬‬
‫‪ -4‬الضيق الفكرى الذى أصاب فقهاء المرابطين وحجرهم على أفكار النَّاس‪,‬‬
‫ومحاولة إلزامهم بفروع مذهب اإلمام مالك وحده‪ ،‬وعملوا على منع بقية‬
‫المذاهب السنية تعصبًا لمذهبهم‪ ،‬وكان لفقهاء المالكية نفوذ كبير مما جعلهم‬
‫يوسعون تعصبهم وتحجرهم الفكري‪.‬‬
‫ويرى بعض المؤرخين أن التعصب األعمى عند فقهاء المرابطين فى زمن األمير‬
‫‪1‬‬
‫() تاريخ المغرب واألندلس ص (‪.)409-407‬‬
‫‪169‬‬
‫على ابن يوسف كان السبب األول فى سقوط دولة المرابطين(‪ ،)1‬لقد أسهم فقهاء‬
‫المالكية فى دولة المرابطين بقسط وافر فى تذمر الرعايا‪ ،‬وإضعاف شأن اإلمارة‪ ،‬لقد‬
‫استغل بعض الفقهاء نفوذهم من أجل جمع المال وبناء الدور‪ ،‬وامتالك األرض‪،‬‬
‫وعاشوا حياة البذخ والرفاهية المفرطة‪ ،‬وكان ذلك سببًا فى إيجاد ردة فعل عنيفة عند‬
‫أفراد المجتمع المرابطي‪ ،‬وانبرى الشعراء فى تصوير حال الفقهاء فى تلك الفترة‪،‬‬
‫فقال أبو جعفر أحمد بن ُم َح َّمد المعروف بابن البني‪:‬‬
‫كالذئب أدلج فى الظالم العاتم‬ ‫أهل الرياء لبستم ناموسكم‬
‫وقسمتم األموال بابن القاسم‬ ‫فملكتم الدنيا بمذهب مالك‬
‫(‪)2‬‬
‫وبأصبغ صبغت لكم فى العالم‬ ‫وركبتم شهب الدواب بأشهب‬
‫‪ -5‬ومن أهم العوامل التى أسقطت دولة المرابطين‪ :‬فقدها لكثير من قياداتها‬
‫وعلمائها العظام أمثال سير بن أبى بكر‪ ،‬و ُم َح َّمد بن مزدلي‪ ،‬و ُم َح َّمد ابن‬
‫فاطمة‪ ،‬و ُم َح َّمد بن الحاج‪ ،‬وأبى إسحاق بن دانية‪ ،‬وأبى بكر بن واسينو‪ ..‬فمن‬
‫لم يستشهد من كبار رجال الدولة أدركه الموت الطبيعي‪ ،‬ولم يستطع ذلك‬
‫الجيل أن يغرس المبادئ والقيم التى حملها فى الجيل الذى بعده‪ ،‬فاختلفت‬
‫قدرات الجيل الذى بعدهم واستعداداتهم‪ ،‬وهذا درس مهم ألبناء الحركات‬
‫اإلسالمية فى أهمية توريث التجارب والخبرات المتنوعة والمتعددة لألجيال‬
‫المتالحقة(‪.)3‬‬
‫‪ -6‬ومن أهم العوامل التى أنهكت دولة المرابطين‪ ،‬أنها مرَّت بأزمة اقتصادية‬
‫حادة‪ ،‬نتيجة النحباس المطر عدة سنوات‪ ،‬وحلول الجفاف والقحط باألَ ْن َدلس‬
‫ُ‬
‫والمغرب‪ ،‬وزاد من حدة األزمة االقتصادية أن أسراب الجراد هاجمت ما‬
‫بقى ِمن األخضر على وجه البالد مما هيأ الظروف النتشار مختلف األوبئة‬
‫بين كثير ِمن السكان‪ ،‬ووقعت هذه األزمة فى الفترة الواقعة ما بين أعوام‬
‫‪524‬هـ‪530-‬م(‪.)4‬‬
‫‪ -7‬ومن أهم األسباب الرئيسية فى زوال دولة المرابطين‪ -‬فى نظرى – صدامها‬
‫المسلح مع جيوش ال ُم َوحِّ ِدين‪ ،‬ورأيت أن أفرد له مبحثًا مستقالً(‪ )5‬ويكون ذلك‬
‫عند دراسة دولة ال ُم َو ِّح ِدين إن شاء هللا‪.‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() الزالقة بقيادة يوسف بن تاشفين‪ ،‬ص (‪.)98‬‬
‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬سقوط دولة الموحدين‪ ,‬للدكتور مراجع الغناي‪ ،‬ص (‪.)31‬‬
‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬سقوط دولة الموحدين‪ ,‬للدكتور مراجع الغناي‪ ،‬ص (‪.)31‬‬
‫‪4‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪170‬‬
‫**‬ ‫* * نتائج البحث‬
‫إن فى معظم قبائل العالم اإلسالمى رجاالً لهم عقول راجحة وبعد نظر وتقدير‬ ‫‪-1‬‬
‫لألمور‪ ،‬وفى أغلب األحيان يتولََّى أمر القبيلة أرجح النَّاس عقالً وأكثرهم جودًا‪،‬‬
‫وأعظمهم شجاعة‪ ،‬وأخلصهم ألهله وعشيرته‪ ،‬وشخصية األمير يحيى بن إبراهيم‬
‫الجدالى خير دليل على ما قلت‪ ،‬ولذلك ِمن الدروس العميقة من هذا البحث هو‬
‫أهمية دور زعماء القبائل فى دعوة قبائلهم وعشائرهم‪ ،‬وإيجاد الحماية الالزمة‬
‫للدعاة إلى هللا فى أوساط القبائل‪ ،‬فعلى الحركات اإلسالمية العامة أن توثِّق‬
‫عالقتها مع هذه الشريحة ِمن المجتمع‪ ،‬وتحرص على دعوتها لإلسالم لتنصهر‬
‫الربانية التى تبذل جهدها لتحكيم شرع هللا تعالى‪.‬‬
‫فى الدعوة َّ‬
‫الربانى والفقيه المالكى سيِّد الفقهاء فى القيروان فى‬
‫إن أبا عمران الفاسى العالم َّ‬ ‫‪-2‬‬
‫زمانه يعتبر هو واضع الخطوط العريضة لدولة المرابطين‪ ،‬وكان – رحمه هللا –‬
‫يميز بين العمل العلنى فى الدعوة وفقهها وتعليم النَّاس‪ ،‬وبين العمل السرى إلقامة‬
‫دولة سنية‪ ،‬وكان رحمه هللا على اتصال بفقهاء أهل السنة فى مدن وقرى الشمال‬
‫اإلفريقي‪ ،‬ولذلك لما تعرَّف أبو عمران الفاسى على األمير الصنهاجى يحيى بن‬
‫إبراهيم‪ ،‬وعلم بأحوال قومه وحاجتهم لمنهج اإلسالم ومن يربيهم على ذلك‪ ،‬اتصل‬
‫بأخيه الشيخ وجاج بن زلوا اللمطى فقيه المالكية بالسوس األقصى‪ ،‬وكان فقيهًا‬
‫صالحًا يقيم بمدينة ملكوس‪ ،‬وأطلعه على المهمة التى جاء من أجلها األمير يحيى‪،‬‬
‫فاختار لهذه المهمة تلميذه الذكى الفقيه العابد األلمعى عبد هللا بن ياسين الجزولى‬
‫صاحب العلوم المتنوعة والشخصية الجذَّابة التى تجرى فى دمائها صفات الدعاة‬
‫المتعددة‪ ،‬وسار‪ -‬رحمه هللا‪ -‬وفق خطة محكمة بصبر وحلم وشجاعة فى قبائل‬
‫الملثمين‪.‬‬
‫نفذها اإلمام عبد هللا بن ياسين فى قبائل جزولة‬‫كانت مرحلة التعريف التى َّ‬ ‫‪-3‬‬
‫ولمتونة وغيرهما من أصعب المراحل‪ ،‬وكادت تودى بحياته واستطاع أن يحارب‬
‫مظاهر الشرك والجهل فى مجتمع صنهاجة الصحراوي‪ ،‬وأن يتحمل الكثير من‬
‫أجل تعليمهم اإلسالم وأركان اإليمان ومقامات اإلحسان‪.‬‬
‫وفى مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة اختار اإلمام عبد هللا بن ياسين‬ ‫‪-4‬‬
‫رباطه على مصبِّ نهر السنغال بعيدًا عن نفوذ األمراء وأصحاب الجاه واألموال‪،‬‬
‫وشكل نخبة صفوية ألزمها بلوائح تنظيمية ومبادئ سلوكية‪ ،‬واجتهد فى تربيتها‬
‫وشكل منها مجلس الشورى‪.‬‬
‫وفى مرحلة المغالبة بعد أن أصبحت لإلمام ابن ياسين شوكة وقوة ومنعة‪ ,‬استطاع‬ ‫‪-5‬‬
‫أن يقضى على قوة الشر فى قبائل لمتونة وجزولة وغيرها‪ ،‬وأن يوحَِّدها على‬
‫منهج اإلسالم وعقيدة الرحمن ودعوة اإليمان‪.‬‬
‫كانت تربية عبد هللا بن ياسين ألتباعه رفيعة المستوى غرست فى نفوسهم حب‬ ‫‪-6‬‬
‫الشهادة‪ ،‬والتلذُّذ بمتاعب الجهاد والحرص على هداية النَّاس‪ ,‬واختار ألتباعه اسما ً‬
‫يدل على الرابطة السامية التى ربطت هذه الجموع التى كانت متناحرة وأصبحت‬
‫متآخية متعاونة أال وهى «المرابطون»‪.‬‬
‫‪171‬‬
‫‪ -7‬أصبح فقهاء المغرب األقصى واألحرار المتطلعون لتحكيم شرع هللا فى مدنهم‬
‫َّ‬
‫يتصلون بالمرابطين‪ ،‬ويطلبون منهم مساعدتهم ألزالة الظُّلم الواقع عليهم من ُحكام‬
‫زناتة‪ ،‬وبالفعل لبى المرابطون هذا النداء‪ ,‬وتحركت جيوشهم القوية إلزالة المظالم‬
‫ونشر العدل‪ ،‬والقضاء على دولة برغواطة الملحدة‪ ،‬وعلى بقايا الروافض‪،‬‬
‫وأصبحت جبهاتهم متعددة نحو السنغال والنيجر ونحو فاس ومكناسة وطنجة‪،‬‬
‫وحققوا انتصارات رفيعة ودخلت أمم ِمن الزنوج والوثنيين فى اإلسالم‪.‬‬
‫‪ -8‬استمرَّ اإلمام ابن ياسين يقود معارك التوحيد للمغرب األقصى من أجل إقامة دولة‬
‫سنية‪ ،‬واستشهد فى تلك المعارك بعد أن ترك خلفه رجاالً آمنوا بسمو دعوتهم‬
‫وقدسية فكرتهم وروعة أهدافهم‪.‬‬
‫‪ -9‬تولَّى قيادة المرابطين بعده اإلمام أبو بكر بن عمر الذى تميز بزهده وعبادته‬
‫وبساطته وحبه للجهاد واالستشهاد‪ ،‬وكان إذا ركب للجهاد ركب معه ‪500‬ألف‬
‫مقاتل ِمن المرابطين‪ ،‬فوضع هذا القائد الخطوة األولى لدولة المرابطين‪ ,‬وأناب‬
‫ابن عمه يوسف ابن تاشفين على المغرب‪ ،‬وتحرَّك بجيش عظيم نحو الصحارى‬
‫القاحلة لنشر اإلسالم فى النيجر والسنغال ومالي‪ ،‬وأبلى بال ًء عظي ًما‪ ,‬ودخلت أمم‬
‫وشعوب وقبائل ال يحصيها إال خالقها فى دين الفطرة ودعوة اإلسالم الخالدة‪ ،‬ولما‬
‫رجع إلى ابن عمه األمير يوسف بن تاشفين فى المغرب وجده قد حقق فتوحات‬
‫عظيمة‪ ،‬ووحَّد البالد‪ ,‬وقضى على الفساد‪ ،‬وأزال الظلم ونشر العدل‪ ،‬فتنازل عن‬
‫اإلمارة البن عمه يوسف بعد أن أوصاه بتقوى هللا وذكَّره قدومه على هللا‪ ،‬ثم‬
‫ودَّعه‪ ,‬ودخل فى الصحراء الكبرى بجيشه الداعى إلى رضوان هللا وصراطه‬
‫المستقيم وأكرمه هللا بالشهادة فى قلب الصحراء الكبرى‪.‬‬
‫‪ -10‬تولَّى أمير المرابطين األمير يوسف بن تاشفين؛ فنظم المدن‪ ,‬وأرسى نظم الحكم‪,‬‬
‫وخطَّط للدولة المرابطية‪ ،‬فشرع فى إنشاء دواوينها ومجالسها وإداراتها‬
‫وجيوشها‪ ,‬ووضع األمراء والفقهاء والقضاة على المدن والقرى‪ ،‬وأشرف على‬
‫مر بها على أنه قائد‬
‫تنفيذ أحكام هللا‪ ،‬وأثبتت األيام والحروب والمحن التى َّ‬
‫عسكرى وسياسى ِمن الطراز األول‪ ,‬وأحبه المرابطون والتفوا حوله وتطايرت‬
‫الركبان فى نشر سيرته وعدله وأحبه المسلمون‪.‬‬
‫‪ -11‬أصاب المسلمين فى األَ ْن َدلُس أضرار جسيمة بسبب خنوع ملوك الطوائف‬
‫للنصارى وضعفهم فى الحكم‪ ،‬مما عرض ممالك األَ ْن َدلُس ألطماع النصارى‬
‫الحاقدين الذين جاسوا خالل الديار فى األَ ْن َدلُس يقتلون ويذبحون ويسبون‪,‬‬
‫وأصبحت ممالك األَ ْن َدلُس اإلسالمية تتساقط فى أيديهم مدينة بعد مدينة‪ ،‬وقرية‬
‫إثر قرية‪ ،‬وحصنًا خلف حصن‪ ،‬وركب المسلمين فزع عظيم فاضطرَّ ملوك‬
‫الطوائف أن يطلبوا الغوث والنصر ِمن األمير الربانى والقائد الميدانى يوسف‬
‫بن تاشفين‪ ،‬وكان قرار ُح َّكام األَ ْن َدلُس فى استدعاء يوسف حكي ًما وتبَّناه الملك‬
‫المعتمد ابن عباد بكل ما يملك من حجة وقوة‪ ،‬ولما قالوا للمعتمد سيضم األمير‬
‫يوسف إليه األَ ْن َدلُس‪ ،‬فقال قولته المشهورة التى أصبحت مثالً رائعًا على ِّ‬
‫مر‬
‫العصور وكرِّ الدهور تتعلم منه األجيال الوفاء لدينها والوالء لعقيدتها حيث قال‪:‬‬
‫«رعى اإلبل وال رعى الخنازير»‪ ،‬وقال المعتمد البنه‪ :‬إن استدعاء األمير‬

‫‪172‬‬
‫يوسف أمر يرضى هللا تعالى‪ ،‬ولن أكون أبدًا سببًا فى ضياع ديار المسلمين‪.‬‬
‫‪ -12‬استجاب األمير يوسف لدعوة إخوانه فى العقيدة‪ ,‬وعرض األمر على أهل‬
‫مشورته؛ وتحصل على موافقة العلماء والفقهاء ورجال الدولة المرابطية‪،‬‬
‫وحرك كتائب المرابطين بفرسانها الشجعان وجنودها األبطال وعبر المضيق‪،‬‬
‫وقاد األمير يوسف كتائب المسلمين فى األَ ْن َدلُس‪ ،‬ووضع مع أركان جيشه خطة‬
‫محكمة للقضاء على جيش ألفونسو النصراني‪ ،‬وسطر المرابطون فى تاريخ‬
‫الزالقَة‪ ،‬وانتصر المسلمون وانهزم‬ ‫أمتنا مالحم العقيدة والفداء فى معركة ِّ‬
‫النصارى وحفظ هللا اإلسالم فى األَ ْن َدلُس لقرون بعد تلك المعركة التاريخية‪،‬‬
‫وبعد هذا النصر الرائع والنفيس الذى حققه المرابطون ورفعوا به راية اإلسالم‬
‫فى سماء األَ ْن َدلُس رجع األمير يوسف إلى المغرب‪ ,‬وترك الغنائم لملوك األَ ْن َدلُس‬
‫الذين اختلفوا بعد ذلك وكادوا أن يضيعوا اإلسالم من جديد فى تلك الديار‪ ،‬فطلب‬
‫فقهاء األَ ْن َدلُس ِمن األمير يوسف ضم األَ ْن َدلُس لحكم المرابطين‪ ،‬وشجَّعه علماء‬
‫وفقهاء المغرب وتحصل على فتاوى من علماء المشرق من أمثال أبى بكر‬
‫الطرطوشى فى مصر‪ ،‬وأبى حامد الغزالى فى العراق‪.‬‬
‫‪ -13‬استطاع يوسف بن تاشفين أن يفتح مدن األَ ْن َدلُس‪ ،‬وأن يضم الممالك إلى دولة‬
‫المرابطين‪ ،‬وأسر بعض ملوك األَ ْن َدلُس الذين ثبت تعاونهم مع النصارى‪,‬‬
‫ووضعهم فى المغرب إلى أن توفاهم هللا‪ ،‬وبذلك قضى على مهزلة ملوك‬
‫الطوائف‪.‬‬
‫لطخوا دولة المرابطين‪ ,‬وخصوصًا األمير يوسف إال‬ ‫‪ -14‬حاول المستشرقون أن ُي ِّ‬
‫َأنهم اصطدموا بحقائق التاريخ الناصعة التى دلَّت على عظمة األمير يوسف‬
‫ودولته الميمونة‪ ,‬وحاول المستشرق رينهارت دوزى أن يشوِّه دولة المرابطين‬
‫ويصفها بالبربرية والتخلف‪ ،‬ويصف السلطان على بن يوسف بالرجل التافه‪،‬‬
‫ويمدح ملوك الطوائف فى األَ ْن َدلُس الذين تحالفوا مع النصارى للقضاء على‬
‫حققوا وحدة‬ ‫وشن حملة مسعورة على جهاد المرابطين الذين َّ‬ ‫َّ‬ ‫اإلسالم والمسلمين‪،‬‬
‫صفوف المسلمين‪ ،‬وهزموا أعداءهم النصارى‪ ،‬وخلصوا المسلمين من هؤالء‬
‫الملوك الضعفاء‪ ،‬لقد شتم دوزى المستشرق األمير يوسف‪ ,‬ووصفه هو وابنه‬
‫بأنَّهم تافهون‪ ،‬وأنا ال أستغرب من دوزى المستشرق أن يفقد توازنه‪ ,‬ويخرج‬
‫عن نهج المؤرخين النزيه‪ ،‬لقد كان المستشرق دوزى ملحدًا زنديقًا عد ًوا لإلسالم‬
‫والمسلمين‪ ،‬كيف تريده أن يتحمل شعارات المرابطين الدالة على سمو عقيدتهم‬
‫وطهارة منهجهم‪ ،‬وكأنى بالمستشرق دوزى وهو يقلب الدينار المرابطى‬
‫﴿و َمن َي ْبتَ ِغ غَْي َر ا ِإل ْسالَِم‬
‫والمكتوب على وجهيه «ال إله إال هللا ُم َح َّمد رسول هللا» َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾‪ ,‬وقد اشتاط غضبًا وفقد‬ ‫دينًا َفلَ ْن ُي ْقبَ َل م ْنهُ َو ُه َو فى اآلَخ َرة من ال َخاس ِر َ‬
‫عقله وغرق فى كفره‪ ,‬فأباح لنفسه الكذب واالفتراء والزور ليهدئ من روعه‬
‫وانفعاله‪ ،‬كيف يكون تافهًا من يوحد المغرب األقصى ويضم إليه األَ ْن َدلُس‬
‫ويقضى على ملوك الطوائف؟ لقد وصف المؤرخون المنصفون األمير يوسف‬
‫بأنه كان حاز ًما ضابطًا للنفس ماضى العزيمة عالى الهمة‪ ،‬تحركه عقيدته‬
‫أما دولة المرابطين فقد أثبت التاريخ َّأنها دولة‬ ‫اإلسالمية وشريعته الربانية‪َّ ،‬‬
‫‪173‬‬
‫أما ما قام به أعداؤها فى وصفها بالتخلف الحضارى‬ ‫حضارة وعلم وثقافة‪َّ ،‬‬
‫عار ِمن الحقائق‪ ،‬وما كان‬
‫والتعصب المذهبى فهو قول باطل ال تسعفه األدلة‪ٍ ،‬‬
‫دافع خصومهم ِمن ال ُم َو ِّح ِدين واألَ ْن َدلُسيين الذين حملوا عليهم حملة ظالمة إال من‬
‫باب التعصب الدينى أو المذهبي‪ ،‬أو كراهية سياسية أو قومية حاولوا النيل من‬
‫دولة المرابطين السنية‪ ،‬وتابع أولئك األقوام الذين مضوا بعض المستشرقين‬
‫ال ُم َحدثين أمثال المتعالم الحاقد الهولندى راينهارت دوزى‪ ,‬وتابعه على ذلك نفر‬
‫ِمن المعاصرين أمثال ارشيبالد لويس فى كتابه «القوى البحرية والتجارية فى‬
‫حوض البحر المتوسط»‪.‬‬
‫ُيعتبر ضم األَ ْن َدلُس إلى دولة المرابطين من أعظم أعمال األمير يوسف بن‬ ‫‪-15‬‬
‫تاشفين الجهادية‪.‬‬
‫كانت نظرة دولة المرابطين إلى الخالفة اإلسالمية العباسية فى بغداد صائبة‬ ‫‪-16‬‬
‫صحيحة‪ ,‬لكونها منبثقة من منهج أهل السنة والجماعة‪ ,‬ولذلك بايعوا الخليفة‬
‫العبَّاسي‪ ,‬ورفعوا أعالمه وشعاره‪ ،‬ودعوا له على منابرهم‪.‬‬
‫كانت عالقة الدولة المرابطية بالخالفة العبيدية فى مصر عدائية الختالف العقائد‬ ‫‪-17‬‬
‫والمناهج والمذاهب‪ ،‬ولذلك حرص المرابطون على اقتالع بقايا الرفض والتشيع‬
‫من دولتهم‪.‬‬
‫كانت عالقة دولة المرابطين بالدولة الزيرية الصنهاجية ذات أبعاد استراتيجية‬ ‫‪-18‬‬
‫تعاونية‪ ،‬بسبب وحدة المنهج والمعتقد والمذهب والقرابة التى بين زعماء‬
‫الدولتين‪ ،‬ولذلك نجد تنسيقًا فى البحر المتوسط لإلغارة على أساطيل النصارى‪،‬‬
‫ونجد دع ًما اقتصاديًا فى دولة تميم بن المعز الزيرى لدولة المرابطين عندما‬
‫خاضوا جهادهم المقدس ضد النصارى‪.‬‬
‫حماد بالمرابطين فهى محفوفة بالتخوف ِمن الطرفين‪ ،‬حيث نجد‬ ‫أما عالقة بنى َّ‬ ‫‪-19‬‬
‫ً‬
‫أن لبنى حمَّاد أطماعًا توسُّعية تستهدف أطرافا من دولة المرابطين‪ ,‬كما نجد أن‬
‫استقروا فى حماية بنى حمَّاد‪ ،‬إال أن سياسة‬
‫ُّ‬ ‫المعارضين األَ ْن َدلُسيين للمرابطين‬
‫األمير يوسف مع بنى حمَّاد تميَّزت بالحكمة وبعد النظر‪ ,‬واالبتعاد عن الصدام‪,‬‬
‫مراعيًا فى ذلك أمورًا عديدة‪ :‬منها قرابتهم‪ ,‬واتحادهم فى المنهج والمعتقد‬
‫والمذهب‪.‬‬
‫كانت عالقة المرابطين مع ملوك النصارى عدائية‪ ,‬أما مع أهل ال ِّذمة فكانت‬ ‫‪-20‬‬
‫محكومة بحكم الشريعة فيهم‪ ،‬فقامت على العدل واإلنصاف‪.‬‬
‫كانت األَ ْن َدلُس مليئة بالشعراء واألدباء والفقهاء‪ ,‬إال إن الوالء والبراء ضاع‬ ‫‪-21‬‬
‫مفهومه عند كثير من ملوكهم‪.‬‬
‫استطاع األَ ْن َدلُسيون أن ُيثروا دولة المرابطين بالشعراء واألدباء‪ ،‬وأن يؤِّثروا فى‬ ‫‪-22‬‬
‫كثير من جوانبها المعمارية والفنية والثقافية‪.‬‬
‫الحضارة اإلسالمية فى زمن دولة المرابطين امتزجت بالعناصر اإلفريقية‬ ‫‪-23‬‬
‫والعربية واألَ ْن َدلُسية‪ ,‬مما جعلها متميزة فى كثير من جوانبها الحضارية‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫كان فى زمن المرابطين علماء وفقهاء ال زال أثرهم فى األمة ساريًا إلى يومنا‬ ‫‪-24‬‬
‫هذا‪ ,‬من أمثال الفقيه القاضى أبو بكر بن العربي‪ ،‬والوليد بن رشد‪ ،‬والقاضى‬
‫عياض‪ ،‬وال ُم َحدِّث الفقيه أبو على الصدفي‪ ،‬وغيرهم كثير‪.‬‬
‫كان النظام العسكرى والقضائى واإلدارى والمالى مواكبًا لعصره‪ ,‬منضبطًا‬ ‫‪-25‬‬
‫بأحكام اإلسالم فى دولة المرابطين‪.‬‬
‫استطاع أسطول المرابطين أن يحقق األمن واألمان لمسلمى الشمال اإلفريقي‪،‬‬ ‫‪-26‬‬
‫وأن ُيكبِّد النصارى فى جنوب البحر المتوسط خسائر هائلة‪.‬‬
‫إن اهتمام األمير على بن يوسف بالزهد والعبادة وتسليمه ألمور الملك فى آخر‬ ‫‪-27‬‬
‫كلف دولة المرابطين متاعب عظيمة‪ ،‬ومن أعظم‬ ‫أيامه لألمراء خطأ عظيم َّ‬
‫األخطاء التى وقع فيها األمير على عدم أخذه بنصيحة وزيره الفقيه مالك بن‬
‫وهيب اإلشبيلى الذى أشار على األمير على بقتل ُم َح َّمد بن تومرت الكذَّاب زعيم‬
‫ال ُم َو ِّح ِدين‪ ،‬وقال لألمير‪« :‬هذا رجل مفسد ال تؤمن غائلته‪ ،‬وال يسمع كالمه أحد‬
‫إال مال إليه‪ ،‬وإن وقع فى بالد المصامدة ثار علينا منه شر كبير»‪.‬‬
‫إال أن األمير على بن يوسف رفض قتله‪ ،‬فلما يئس مما أراد من قتل ابن‬
‫تومرت‪ ،‬أشار عليه بسجنه حتى يموت‪ ،‬فقال أمير المسلمين‪ :‬نسجنه‪ ,‬ولم يتعين‬
‫لنا عليه حق؟ وهل السجن إال أخو القتل‪ ،‬ولكن نأمره يخرج عنا ِمن البلد‪,‬‬
‫وليتوجه‬
‫حيث شاء»(‪.)1‬‬
‫إن من أعظم أسباب سقوط الدول الذنوب والمعاصي‪ ,‬وارتكاب الكبائر‬ ‫‪-28‬‬
‫والمظالم‪.‬‬
‫مقومات النصر متجسدة فى‬ ‫فى زمن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين كانت ِّ‬ ‫‪-29‬‬
‫دولته‪ ،‬ومِن ْأبَين وأهم ما ظهر لى فى هذا البحث من مقومات النصر من أهمها‪،‬‬
‫أوالً‪ :‬اإلعداد قبل المعركة‪ ،‬ثانيًا‪ :‬معرفة قوة العدو وإمكاناته‪ ،‬والتوجيه المعنوي‪،‬‬
‫والتعمية على العدو‪ ،‬والتحام القيادة مع الشعب‪ ،‬ومتانة العقيدة ووضوحها‪،‬‬
‫القيادة المثلى‪ ،‬عدم القتال لدنيا‪ ،‬الحكمة فى اتخاذ القرارات‪ ،‬صفات ال ُم َجا ِهدين‬
‫الخلقية والروحية‪ ،‬مما مهَّدت لهم طريق النصر‪.‬‬
‫من أخطر ما تمرُّ به الدول والحركات عدم قدرتها على توريث أفكارها‬ ‫‪-30‬‬
‫ومناهجها وعقيدتها للجيل الذى بعدها‪.‬‬
‫إن االستهانة بالخصوم تؤدِّى إلى انهزام المستهزئ وانتصار المستهزأ به‪.‬‬ ‫‪-31‬‬
‫كان لنفوذ المرابطين فى بالد األَ ْن َدلُس أثر واضح المعالم فى الحروب الصليبية‬ ‫‪-32‬‬
‫فى الشام‪ ،‬إذ أن دخولهم األَ ْن َدلُس منع الممالك الصليبية التى كانت تتجه إلى بالد‬
‫الشام‪ ،‬بل إن ظهورهم فى تلك المرحلة التاريخية فى المغرب واألَ ْن َدلُس قد حال‬
‫دون اشتراك القوى األوروبية بكل ثقلها فى الحروب الصليبية فى الشرق‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫() موسوعة المغرب العربي‪( ,‬ج‪.)189-2/188‬‬
‫‪175‬‬
‫وبذلك قدم المرابطون خدمات عظيمة وجليلة للشرق اإلسالمي(‪.)2‬‬
‫كانت حضارة المرابطين فى األَ ْن َدلُس والمغرب مقصدًا ألبناء العلم ِمن‬ ‫‪-33‬‬
‫األوروبيين الذين توالوا وتوافدوا على الأ َ ْن َدلُس لتلقى العلوم والصناعات‪ ،‬بل إن‬
‫بعض ملوكهم أرسل بعثات لدراسة نظام الدولة والحكم وآداب السلوك‪ ،‬وكل ما‬
‫يؤدى إلى سير األمور فى الدولة‪ ,‬والسير بها فى مضمار الحضارة والتقدم‪.‬‬
‫تركت دولة المرابطين التى لم يصل عمرها الزمنى إلى مائة عام‪ ,‬وهى فترة‬ ‫‪-34‬‬
‫قصيرة فى عمر الدول‪ ,‬آثارًا واضحة جلية فى جميع المجاالت‪ ,‬بل إن تلك‬
‫المآثر الحضارية تعدَّت حدود دولة المرابطين إلى أرجاء أخرى ِمن العالم‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫إن ظهور دولة ال ُم َو ِّح ِدين وانقضاضها بعنف على دولة المرابطين تسبَّب فى‬ ‫‪-35‬‬
‫ضعف النواحى الحضارية والثقافية والسياسية والعسكرية عند المغاربة عمو ًما‪،‬‬
‫وفتحت مجاالً لملوك النصارى للقضاء على اإلسالم فى األَ ْن َدلُس فيما بعد‪.‬‬
‫إن لألفراد آجاالً محدودة‪ ،‬وكذلك لكل دولة أجل محدود‪ ,‬فإذا جاء أجلها ال‬ ‫‪-36‬‬
‫تستأخر وال تستقدم‪.‬‬
‫سنة هللا جارية فى إعزاز من يشاء وإذالل من يشاء‪ ،‬ونزع الملك ِم َّمن يشاء‬ ‫‪-37‬‬
‫وإعطائه لمن يشاء‪.‬‬
‫***‬

‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪176‬‬
‫الفهرس‬
‫الموضوع‬
‫الصفحة‬
‫اإلهداء ‪3......................................................................................‬‬
‫المقدمة‪5.......................................................................................‬‬
‫الفصل األول‬
‫بناء دولة المرابطين‬
‫المبحث األول‪ :‬الجذور التاريخيّة للمرابطين ‪9..........................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬األمير يحيى بن إبراهيم (الزعيم السياسي)‪15.........................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬أبو عمران الفاسي (مهندس الخطوط العريضة لدولة المرابطين)‪18....‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬ال َّز ِعيم الدينى لدولة المرابطين عبد هللا بن ياسين‪21.................‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬المراحل التى مر بها ابن ياسين لبناء الدولة‪36.....................‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬مرحلة التَّمكين والتوسع والقائد الرباني يوسف بن تاشفين‪59....‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫المرابطون ودفاعاتهم عن مسلمى األَ ْن َدلُس‬
‫تمهيد ‪66...................................................................................... :‬‬
‫المبحث األول‪ :‬الصراع بين طُلَي ِْطلَة وقُرْ طُبَة ‪68.........................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬أسباب ضعف ال ُم ْسلِمين فى األَ ْن َدلُس وقوة النصارى‪72..............‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬العالم فى زمن ظهور دولة المرابطين ‪80..............................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬أثَُر الحكم بما أنزل هللا على ُمجْ تَ َمع المرابطين ‪100....................‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬األَ ْن َدلُس بعد الزالقة‪108..................................................‬‬
‫الموضوع‬
‫الصفحة‬
‫المبحث السادس‪ :‬فتاوى فى جواز ضم األَ ْن َدلُس بالقوة والقضاء على ملوك الطوائف‪112...‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬العبور الثالث لألمير يوسف بن تاشفين لألندلس‪117..................‬‬
‫المبحث الثامن‪ :‬الجواز الرابع لألمير يوسف في األندلس‪123...........................‬‬
‫المبحث التاسع‪ :‬آثار االبتعاد عن تحكيم شرع هللا على ملوك الطوائف‪125...........‬‬

‫‪177‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫والخارجيَّة فى دولة المرابطين‬
‫ِ‬ ‫السياسة ال َّداخليَّة‬
‫المبحث األول‪ :‬حقوق الرعية فى دولة المرابطين‪128....................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬موقف الرعية فى دولة المرابطين ‪133...................................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬موقف المرابطين من الخالفة العباسية‪137..............................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬عالقة األمير يوسف مع بنى حماد‪144...................................‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬عالقة المرابطين مع ملوك الطوائف‪145..............................‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬عالقة المرابطين مع اإلسبان النصارى‪147...........................‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫سياسة المرابطين فى دولتهم المجيدة‬
‫المبحث األول‪ :‬نظم الحكم واإلدارة في دولة المرابطين‪149.............................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬النظام القضائي في دولة المرابطين‪160..................................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬النظم العسكرية‪165.........................................................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬النظام المالي في عصر المرابطين ‪182..................................‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫أهم أعمال دولة المرابطين الحضارية‬
‫المبحث األول‪ :‬اآلثار المعمارية فى المغرب واألَ ْن َدلُس‪183..............................‬‬
‫والعل ِميَّة فى دولة المرابطين‪186..........................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬الحياة األدبية ِ‬
‫الموضوع‬
‫الصفحة‬
‫المبحث الثالث‪ :‬من مشاهير علماء دولة المرابطين ‪191..................................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬علوم اللغة فى زمن المرابطين‪205.......................................‬‬
‫اريخ والجغرافيا في عصر المرابطين‪206..................‬‬ ‫المبحث الخامس‪ :‬علوم التَّ ِ‬
‫المبحث السادس‪ :‬علوم الطب فى عصر المرابطين‪208..................................‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬أسباب سقوط دولة المرابطين ‪210........................................‬‬
‫نتائج البحث ‪213.................................................................................‬‬
‫الفهرس‪221......................................................................................‬‬

‫***‬

‫‪178‬‬

You might also like