You are on page 1of 92

5

‫مقدمات تأصيلية‬

‫المقدمة‪:‬‬
‫إن الحمد لله‪ ،‬نحمده ونستعينه‪ ،‬ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بالله‬
‫من شرور أنفسنا‪ ،‬وسيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده الله فل مضل له‪،‬‬
‫ومن يضلل فل هادي له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك‬
‫له وأشهد أن محمدا ً عبده ورسوله‪.‬‬
‫ه ول‬ ‫ق ُتقات ِ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن آمنوا اّتقوا ْ الله َ‬ ‫)يا أّيها الذي َ‬
‫ن‪] ‬آل عمران‪) .[102:‬يا أّيها‬ ‫مسِلمو َ‬ ‫ن إل ّ وأنُتم ّ‬ ‫َتموت ُ ّ‬
‫ة‬‫حد ِ‬ ‫س وا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫خل َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫قكم من َنف ٍ‬ ‫س اّتقوا رب ّكم الذي َ‬ ‫الّنا ُ‬
‫كثيرا ً وِنساءً‬ ‫رجال ً َ‬ ‫هما ِ‬ ‫من ُ‬ ‫ث ِ‬
‫جها وب َ ّ‬ ‫منها َزو َ‬ ‫ق ِ‬ ‫خل َ َ‬ ‫و َ‬
‫ه‬
‫ن الل َ‬ ‫مإ ّ‬ ‫ه والْرحا َ‬ ‫نب ِ‬ ‫ءلو َ‬ ‫ه الذي َتسا َ‬ ‫واّتقوا ْ الل َ‬
‫ن آمنوا‬ ‫كم َرقيبا ً‪] ‬النساء‪) .[1:‬يا أّيها الذي َ‬ ‫علي ُ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬
‫كم أعمال َ ُ‬
‫كم‬ ‫سديدا ً * ُيصِلح ل َ ُ‬ ‫قول ً َ‬ ‫قولوا َ‬ ‫هو ُ‬ ‫اّتقوا الل َ‬
‫فقد‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫سول ُ‬ ‫ه وَر ُ‬ ‫ع الل َ‬ ‫َ‬ ‫كم ُ‬ ‫فر ل َ ُ‬
‫من ي ُطِ ِ‬ ‫ذنوب َكم و َ‬ ‫غ ِ‬‫وي َ ْ‬
‫عظيما ً‪] ‬الحزاب‪.[71-70:‬‬ ‫فوزا ً َ‬ ‫فاَز َ‬ ‫َ‬
‫ن الهدي‬
‫أما بعد‪ ،‬فإن أصدق الحديث كتاب الله‪ ،‬وأحس َ‬
‫ل محدثة بدعة‪ ،‬وك ّ‬
‫ل‬ ‫هدي محمد ×‪ ،‬وشّر المور محدثاتها‪ ،‬وك ّ‬
‫بدعة ضللة‪ ،‬وك ّ‬
‫ل ضللة في النار‪.‬‬
‫ثم إن العلوم الشرعية ضرورة لزمة لنجاة العباد في‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬وشرف العلم بشرف المعلوم‪ ،‬وأشرف العلوم‬
‫وأسماها على الطلق بالنسبة للفرد‪ ،‬علم التوحيد بأقسامه‬
‫الثلثة )اللوهية‪ ،‬الربوبية‪ ،‬والأسماء والصفات(‪ ،‬ثم تتفاوت‬
‫درجات العلوم بقدر تفاوتها في حفظ مقاصد الشريعة‬
‫ظ الضروريات لقيام‬ ‫السلمية‪ ،‬وإن من أسمى مقاصدها‪ ،‬حف َ‬
‫الحياة النسانيـة‪ ،‬وأهمها‪ :‬الدين‪ ،‬والنفس‪ ،‬والعقل‪ ،‬والنسل‪،‬‬
‫والمال‪.‬‬
‫ظ الدين‪ ،‬كتعلم ما هو‬ ‫فمن العلوم ما يكون مقصده حف َ‬
‫معلوم من الدين بالضرورة من علوم التوحيد وبعض علوم‬
‫الفقه‪ ،‬والعمل بأحكام الدين والحكم به والدعوة إليه والجهاد‬
‫لجله ورد الشبهات والبدع عنه‪ .‬ومن العلوم ما يكون ضروريا ً‬

‫‪6‬‬
‫لحفظ النفس‪ ،‬كتحريم العتداء على النفس‪ ،‬والقصاص‪ ،‬وسد‬
‫الذرائع المؤدية للقتل‪ .‬ومنها ما هو ضروري لحفظ المال‪،‬‬
‫كالحث على التكسب‪ ،‬وتحريم العتداء عليه‪ ،‬وتحريم إضاعته‪،‬‬
‫وتعلم ما شرع من الحدود لحفظه‪ ،‬وتوثيق الديون والشهاد‬
‫عليها‪ .‬ومنها ما هو ضروري لحفظ النسل‪ ،‬كأحكام النكاح‪ ،‬ومنها‬
‫ما هو ضروري لحفظ العقل‪ ،‬كتحريم مفسدات العقل الحسية‬
‫والمعنوية‪ ،‬ووجوب الحد على شارب الخمر‪.‬‬
‫أما أعظم العلوم بالنسبة للجماعة ‪ -‬مع عظم علم‬
‫ف ُ‬
‫ظ‬ ‫ح َ‬
‫التوحيد وأهميته للفرد والمجتمع ‪ -‬فهو ذلك العلم الذي ي َ ْ‬
‫لها هذه الضرورات كلها‪ ،‬الدين ومنه التوحيد‪ ،‬والنفس‪ ،‬والعقل‪،‬‬
‫والنسل‪ ،‬والمال‪ .‬وقد اتفق العلماء على حقيقة هذا العلم‪،‬‬
‫ماه‪)) :‬الحكام‬ ‫واختلفوا في تسميته‪ ،‬فالماوردي الشافعي س ّ‬
‫السلطانية((‪ ،‬وإمام الحرمين الجويني سماه‪)) :‬غياث المم((‪،‬‬
‫وابن جماعة سماه‪) :‬تحرير الحكام في تدبير أهل السلم(‬
‫وابن تيمية سماه‪)) :‬السياسة الشرعية في إصلح الراعي‬
‫والرعية(( وغيرهم‪.‬‬
‫من تسمية ابن تيمية هذه‪ ،‬والتي قبلها‪ ،‬و))غياث‬ ‫فك ّ‬
‫ل ِ‬
‫ت إليه من أن هذا العلم من أهم‬‫المم((‪ ،‬تدل على ما ذهب ْ ُ‬
‫العلوم بالنسبة للجماعة‪ ،‬لن الجهل به يؤدي إلى التصرف مع‬
‫الخرين بحماقة تضيع هذه الضرورات‪ ،‬أو بعضا منها‪.‬‬
‫حفظ للمجتمع هذه‬ ‫وممن كتب في هذا العلم الذي ي َ ْ‬
‫الضرورات كلها‪ ،‬من المعاصرين‪ ،‬الدكتور يوسف القرضاوي‪،‬‬
‫سماه‪)) :‬السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة‬
‫ومقاصدها((‪ ،‬والدكتور خالد الفهد‪ ،‬سماه‪)) :‬الفقه‬
‫السياسي السلمي((‪ ،‬والدكتور خالد العنبري‪ ،‬سماه‪)) :‬فقه‬
‫السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة وأقوال‬
‫سلف المة((‪ ،‬وغيرهم مما يدل على أهمية هذا العلم بالنسبة‬
‫للجماعة‪.‬‬
‫وعليه فإن إسقاط هذا النوع من الفقه السياسي من‬
‫المة‪ ،‬سواء كان ذلك بسبب إنكاره‪ ،‬أو بعدم تفعيله وتطبيقه‪ ،‬أو‬
‫بفهمه خلف الواقع‪ ،‬يترتب عليه مخاطر ل حصر لها تصيب‬
‫ل‪ .‬وها نحن جميعا شيبا ً وشبابًا‪ ،‬ذكورا ً‬
‫قِات َ‬
‫م َ‬
‫من المة السلمية َ‬
‫وإناثًا‪ ،‬صغارا ً وكبارًا‪ ،‬ندفع الثمن غاليا جراء تلك السياسة‬
‫ً‬
‫ض الشباب‬ ‫ت على ألسنة بع ِ‬ ‫جَر ْ‬
‫الدخيلة على السلم‪ ،‬التي َ‬
‫‪7‬‬
‫وا بهذا الفقه من خلف أظهرهم‪ ،‬وتجردوا‬ ‫ق ْ‬
‫المعاصرين‪ ،‬حين أل َ‬
‫منه‪ ،‬بل ذهب بعض سفهاء الحلم‪ ،‬حدثاء السنان منهم‪ ،‬إلى‬
‫التصريح بإنكاره‪ ،‬والنكار على العلماء الكبار العاملين به‪ ،‬بل‬
‫طعنوا فيهم وفي علمهم‪ ،‬فخل الجو لهم ـ حسب زعمهم ـ‬
‫ليتصدروا الفتوى بل علم في الشريعة‪ ،‬وبجهل في الواقع‪،‬‬
‫فضلوا وأضلوا‪.‬‬
‫وقد نقل لنا ابن القيم مؤيدا ً لما جرى بين شافعي وابن‬
‫عقيل في تفسير قول الشافعي‪)) :‬ل سياسة إل ما وافق‬
‫الشرع((‪.‬‬
‫فقال له ابن عقيل‪)) :‬السياسة ما كان فعل ً يكون معه‬
‫الناس أقرب إلى الصلح‪ ،‬وأبعد عن الفساد‪ ،‬وإن لم يضعه‬
‫الرسول ×‪ ،‬ول نزل به وحي‪ .‬فإن أردت بقولك‪ :‬إل ما‬
‫وافق الشرع‪ ،‬أي‪ :‬لم يخالف ما نطق به الشرع‪ ،‬فصحيح‪ .‬وإن‬
‫ط وتغليط للصحابة‪.‬‬ ‫أردت ل سياسة إل ما نطق به الشرع فَغَل َ ٌ‬
‫فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما ل‬
‫يجحده عالم بالسنن‪ ،‬ولو لم يكن إل تحريق عثمان المصاحف‬
‫فإنه كان رأيا ً اعتمدوا فيه مصلحة المة‪ ،‬وتحريق علي ‪‬‬
‫الزنادقة في الخاديد‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫أججت ناري ودعوت‬ ‫لما رأيت المر أمرا ً‬
‫ً )‪(1‬‬ ‫منكرا ً‬
‫قنبرا ((‬

‫انتهى((‪.‬‬
‫لذا فإنه من الواجب على فريق من العلماء العاملين‪ ،‬أن‬
‫يولوا هذا العلم في هذا الزمان أولوية خاصة‪ ،‬وبأسرع ما يمكن‬
‫لوقف نزيف الدم‪ ،‬والدمار الشامل المحدق بالمة السلمية‪.‬‬
‫كما وعلى شباب الصحوة أن يتعلموه جنبا ً إلى جنب‪ ،‬مع علوم‬
‫التوحيد‪ ،‬والفقه وأصولــه‪ ،‬والقرآن وعلومـه‪ ،‬وعلوم اللغـة‪ ،‬ول‬
‫يرغبوا عنه بحجج ل يستقيم أمرهــا‪ ،‬ول تقف أمام واجب التفقه‬
‫في الواقع المطلوب مـن كل فرد بحسبه‪.‬‬
‫وعليهـــم كـــذلك أن يعلمـــوا عـــن أي الجهـــات يأخـــذونه‬
‫ويتعلمــونه‪ ،‬وعليهييم أن ل يسييلموا قيييادتهم الفكرييية‬
‫لمفاهيم ونظرات حزب التحرييير السياسييية‪ ،‬المتييأثرة‬
‫بنظرييية ميياركس للتفسييير المييادي للتاريييخ‪ ،‬ول لميين‬

‫‪))1‬الطرق الحكمية((‪) ،‬ص ‪.(18-17‬‬

‫‪8‬‬
‫ميية الكييبرى‬‫أعجييب بفكييره‪ ،‬أو تييأثر بييه‪ ،‬فإنهييا الطا ّ‬
‫والهلك بعينييه‪ .‬بـــل أصـــبحت هـــذه المفـــاهيم والنظـــرات‬
‫السياسية التحريرية هي الحاكمة على تفكير كــثير مــن الشــباب‬
‫والشــياب والــذكور والنــاث دون شــعور منهــم‪ ،‬فخييرج جييل‬
‫جهييدهم وجهييادهم عيين المصييلحة العاميية للسييلم‬
‫والمسييلمين‪ ،‬وتراهييم بعييد حييين ميين بييذل الجهييود‬
‫والطاقييات‪ ،‬خاصيية حييدثاء السيينان منهييم ‪ ،‬يقومييون‬
‫بمراجعييات فكرييية لتصييحيح الفكييار والسييتغفار عيين‬
‫الخطاء والخطار‪.‬‬
‫لذا فإن التقليل من شأن هذا العلم‪ ،‬أو فهمه على خلف‬
‫الواقع‪ ،‬يضعنا أمام مواجهة غير متكافئة مع ألد خصومنا‬
‫وأعدائنا‪ ،‬الذين يتربصون بديننا وبالضرورات الربع الخرى‬
‫وبغيرها الدوائر‪ ،‬مما يعرضنا إلى سخط الله تعالى‪ ،‬بل قد يدفع‬
‫بنا المر إلى أن نكون من الخسرين أعما ً‬
‫ل‪ ،‬مع اعتقادنا بأننا‬
‫نحسن صنعًا‪ ،‬كما حصل لنا في بعض ديار المسلمين‪ ،‬ول يزال‬
‫المر مرشحا ً للتكرار‪.‬‬
‫ولكي نفقه واقعنا السياسي المعاصر‪ ،‬ل بد من توفر‬
‫أمرين اثنين‪:‬‬
‫• العمل بأحكام الشريعة السلمية‪ ،‬أولها علوم العقيدة‪،‬‬
‫فأركان السلم الخمسة‪ ،‬والقيم الخلقية لتزكية النفس‪،‬‬
‫كالعدل والصدق والمانة والعفاف والرحمة‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫• معرفة الواقع معرفة صحيحة‪ ،‬بعيدة عن التضليل‬
‫والخداع‪.‬‬
‫لذا فإن هذه الدراسة اكتفت ببيان بعض الموضوعات‬
‫ت للقارىء الرجوع‬ ‫ذات العلقة بفقه السياسة الشرعية‪ ،‬وَترك َ ْ‬
‫صر في الحاطة به‪.‬‬ ‫ن هذا العلم لستدراكه لمن ق ّ‬ ‫مظا ّ‬
‫إلى َ‬
‫ثم كشفت الدراسة عن مصدر الخطر والدمار ـ أعني‬
‫اليهودية ـ الذي أصاب المة السلمية‪ ،‬وكشفت كذلك عن‬
‫أخطر أذرعها التي ابتليت به أمتنا والعالم أجمع في واقعنا‬
‫المعاصر‪ ،‬والذي ل يزال يقتلنا في كل مكان‪ ،‬ونحن ل نشعر به‬
‫ول نراه‪ ،‬بل ذهب بنا المر إلى ما هو أسوء من ذلك‪ ،‬حين نسبنا‬
‫جميع جرائمه إلى غيره‪ ،‬فتوجهنا إلى محاربة هذا الغير وتركنا‬
‫هذا العدو الول والخطر يحاربنا في ديننا‪ ،‬ويهدم مقدساتنا‬

‫‪9‬‬
‫بمئات اللف من المساجد‪ ،‬ويسفك دماءنا بمئات المليين‪،‬‬
‫ويحتل أرضنا بعشرات المليين من الكيلومترات المربعة‪،‬‬
‫وينهب ثروات بلدنا بالمليارات‪ ،‬وينتهك أعراضنا‪ ،‬بل لم يكتف‬
‫البعض بتجاهل هذا الخطر الشتراكي الشرقي الداهم‬
‫المتواصل – مع اعتبار الخطر الغربي ‪ -‬بل ذهبوا إلى التحالف‬
‫معه بحجة التقاء المصالح‪ ،‬ولم يدروا أنها مصالح مزورة‬
‫موهومة‪ ،‬فكانت النتيجة دمارا ً على دمار‪ ،‬وخرابا ً على خراب‪،‬‬
‫وإفسادا ً في الرض باسم الجهاد‪.‬‬
‫لهذا ولغيره‪ ،‬صيغت أفكار هذا البحث القليل في‬
‫صفحاته‪ ،‬الكبير في أهميته عسى الله تعالى أن يهدي به من‬
‫يشاء من عباده‪.‬‬
‫والحمد لله رب العالمين‪.‬‬

‫كتبه‪:‬‬
‫عدنان عبد الرحيم الصوص‬
‫شهر تموز من عام ‪2006‬‬

‫‪10‬‬
11
‫تعريفات أصولية‬
‫تعريف قواعد الفقه السياسي‬
‫ة‪ :‬هي الساس‪ .‬واصطلحا ً‪ :‬حكم كلي‬ ‫القاعدة لغ ً‬
‫ف أحكامها منه‪.‬‬
‫ينطبق على جميع جزئياته أو أكثرها‪ ،‬لُِتعَر َ‬
‫القاعدة الفقهية‪ :‬هي المبادىء العامة في الفقه‬
‫السلمي التي تتضمن أحكاما ً شرعية عامة تنطبق على الوقائع‬
‫والحوادث التي تدخل تحت موضوعها)‪.(2‬‬
‫ومن المثلة على القواعد الفقهية‪)) :‬الصل في‬
‫الكلم الحقيقة((‪)) .‬المور بمقاصدها((‪)) .‬اليقين ل يزول بالشك((‪.‬‬
‫))ل اجتهاد في مورد النص((‪)) .‬الصل براءة الذمة((‪)) .‬المشقة‬
‫تجلب التيسير((‪)) .‬الضرورات تبيح المحظورات((‪)) .‬الضرورة‬
‫تقدر بقدرها((‪)) .‬ل ضرر ول ضرار((‪)) .‬درء المفاسد أولى من‬
‫جلب المصالح((‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫ت لتحقيق المصالح الضرورية‬ ‫ضع َ ْ‬
‫فالقواعد العامة وُ ِ‬
‫والحاجية والتحسينية‪ ,‬ونحن لن نتوسع في مباحث الفقه‬
‫السياسي‪ ،‬في هذا البحث‪ ،‬ولكن أردنا إلقاء الضوء على أهمية‬
‫هذه القواعد الفقهية في مجال السياسة الشرعية‪ ،‬أو ما يسميه‬
‫البعض الفقه السياسي‪ ،‬فإن لهذه القواعد مصادرها الخاصة‪،‬‬
‫كتب الكثير في هذا الباب قديما ً وحديثا ً)‪.(3‬‬ ‫فقد ُ‬
‫الفقه السياسي‪:‬‬
‫))هو مجموعة الحكام الشرعية التي تتناول الحكام‬
‫السياسية‪ ،‬كالحكم‪ ،‬وإدارة الدولة‪ ،‬والعلقات الخارجية‪ .‬وهذه‬
‫الحكام مستنبطة من مصادر الفقه السلمي‪ ،‬بالضافة إلى‬
‫العراف والتقاليد التي درجت عليها الدولة السلمية بما ل‬
‫)‪(4‬‬
‫يتنافى والمبادىء السلمية((‪.‬‬

‫‪))2‬المدخل لدراسة الشريعة السلمية((‪ ،‬د‪ .‬عبدالكريم زيدان‪) ،‬ص‬


‫‪.(90‬‬
‫‪3‬من هذه المراجع‪)) :‬الشباه والنظائر((‪ ،‬للسيوطي‪)) ،‬الفروق((‪،‬‬
‫للقرافي‪)) ،‬إعلم الموقعين((‪ ،‬لبن القيم‪ ،‬و))العتصام((‪ ،‬للشاطبي‪،‬‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫‪))4‬الفقه السياسي السلمي((‪ ،‬د‪ .‬خالد الفهداوي‪) ،‬ص‪ ،(78 :‬الطبعة‬
‫الولى‪.(2003) ،‬‬

‫‪12‬‬
‫ويعرفه الستاذ عبدالوهاب خ ّ‬
‫لف بقوله‪:‬‬
‫ما ت ُد َّبر فيه‬
‫))إن علم السياسة الشرعية ُيبحث فيه عَ ّ‬
‫شؤون الدول السلمية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول‬
‫)‪.(5‬‬
‫السلم‪ ،‬وإن لم يقم على كل تدبر دليل خاص((‬

‫العمل السياسي‪:‬‬
‫))مجمل النشاطات والمواقف والراء السياسية التي‬
‫يتبناها الفراد‪ ،‬أو الجماعات تجاه الدولة‪ ،‬أو الحكم(()‪.(6‬‬
‫مدى الحاجة لقواعد الفقه السياسي‪:‬‬
‫ل شك أن الكتاب والسنة هما رأس مصادر التشريع‬
‫السلمي‪ ،‬ول شك كذلك في ضرورة توفر الضوابط والصول‬
‫العامة لستنباط الحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية‪ ،‬وهذه‬
‫القواعد والصول قد بسطت فيما يعرف بكتب أصول الفقه‬
‫السلمي‪ .‬وعلى طالب العلم أن يرجع إليها في مظانها‬
‫ليستقيم أمر الفقه لديه‪ ،‬ومنه فقه السياسة الشرعية الذي‬
‫نحن بصدد دراسة بعض مباحثه وفقهه المعاصر‪.‬‬
‫))فقواعد الفقه السياسي السلمي مرتبطة ارتباطا َ وثيقا ّ‬
‫بتحقيق مقاصد الشريعة وأهدافها العامة‪ .‬والمصالح المرسلة‬
‫تدخل ـ ضمنا َ ـ في مصادر تلقي الحكام الشرعية المنضبطة‬
‫بقواعد كلية(()‪.(7‬‬
‫ولبيان خطر التفريط بهذا الفقه‪ ،‬أو فهمه بخلف الواقع‪،‬‬
‫نضرب لذلك مثال ً نظريا ً وآخر واقعيًا‪:‬‬
‫المثال النظري على أهمية الفقه السياسي‪:‬‬
‫لو فرضنا وجود عدوين للمسلمين‪ ،‬الول )س(‪ ،‬والثاني‬
‫)ص(‪ ،‬وكان العدو )س( أشد عداًء للسلم وللمسلمين‪ ،‬من‬
‫ما لظرف‬ ‫العدو )ص( بعشرة أضعاف‪ .‬ولكن لو استطاعت جهة ّ‬
‫من الظروف‪ ،‬أن ُتغّير هذه الحقيقة لدينا‪ ،‬فأصبحنا ننظر إلى‬

‫‪)) 5‬السياسة الشرعية ونظام الدولة((‪) ،‬ص ‪ ،(21‬المطبعة السلفية‪،‬‬


‫القاهرة‪1350 ،‬هـ‪ .‬عن كتاب ))الفقه السياسي السلمي((‪ ،‬د‪ .‬خالد‬
‫الفهداوي‪) ،‬ص ‪.(78‬‬
‫‪6‬المرجع السابق‪) ،‬ص ‪.(78‬‬
‫‪7‬المرجع السابق‪.(78) ،‬‬

‫‪13‬‬
‫العدو الثانوي )ص( على أنه العدو الكبر والخطر علينا من‬
‫العدو )س( أضعافا كثيرة‪ .‬ماذا سيترتب على ذلك؟‬
‫ل شك أننا سنوجه جميع طاقاتنا لمحاربة العدو الوهمي‬
‫أو الثانوي )ص(‪ ،‬ونترك العدو الحقيقي الكبر يفتك بنا‪ ،‬ولن‬
‫ضّللون أو مخدوعون‬ ‫م َ‬
‫نشعر ونحن نتجاهل الخطر الكبر بأننا ُ‬
‫أبدًا‪ .‬لننا نعتقد بصحة تصوراتنا وفهمنا للواقع‪ ،‬ول نحسب أننا‬
‫على غير هدىً البتة‪ .‬ولك أن تتصور ما سيحل بالمة السلمية‬
‫إذا استمرت على هذه الحالة من التضليل السياسي الذي قلب‬
‫الحقيقة واستنزف الطاقة‪.‬‬
‫هذه نتيجة تصوراتنا الخطأ في تصنيف العداء‪ ،‬فكيف إذا‬
‫ازداد المر بنا سوءا‪ ،‬فأصبحنا نرى المعروف منكرا والمنكر‬
‫معروفا ً كما هو حاصل معنا هذه اليام؟‬
‫ومن أمثلة هذه الحالة التي نرى فيها المعروف منكرا‬
‫والمنكر معروفًا‪ ،‬ما أخبر عنه النبي × في زمن السنوات‬
‫ن فيها‬
‫خوّ ُ‬ ‫دق فيها الكاذب وي ُك َ ّ‬
‫ذب الصادق‪ ،‬وي ُ َ‬ ‫ص ّ‬
‫الخداعة‪ ،‬التي ي ُ َ‬
‫المين وُيؤتمن الخائن‪ .‬وهذه المظاهر الخداعة إنما نتجت عن‬
‫الجهل في فقه الواقع السياسي‪ ،‬وقيام جهات مشبوهة بعكسه‬
‫لدى المسلمين‪ ،‬فتنبه‪.‬‬
‫المثال الواقعي على أهمية الفقه السياسي‪:‬‬
‫ل على وقوع المسلمين في‬ ‫وهذا مثال واقعي قديم د ّ‬
‫حبائل التضليل السياسي‪ ،‬حين رأوا المعروف منكرا والمنكر‬
‫معروفًا‪ ،‬فصدقوا الك َذ ََبة‪ ،‬وك ّ‬
‫ذبوا الصادقين‪ ،‬وأتمنوا الخونة‪ ،‬وخونوا‬
‫المناء‪.‬‬
‫كان هذا المثال في القرن الرابع من الهجرة في زمن‬
‫الخلفة العباسية‪ .‬فبعد أن وطدت الدولة الفاطمية العبيدية‬
‫الشيعية أركانها في بلد المغرب العربي‪)) ،‬بعث عبيدالله‬
‫المهدي أول خلفائهم جيوشه لفتتاح مصر‪ ،‬أكثر من مرة‪ .‬وعلى‬
‫الرغم من استيلئها سنة )‪302‬هـ‪914-‬م(‪ ،‬على بعض المدن‬
‫المصرية كبرقة والسكندرية والفيوم‪ ،‬إل أنها ارتدت على‬
‫)‪(8‬‬
‫أعقابها أمام المقاومة المصرية وجند الخلفة العباسية(( في‬
‫عهد الدولة الخشيدية‪ .‬وفي سنة )‪332‬هـ‪944-‬م( أعادت‬
‫‪))8‬الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية((‪ ،‬لمحمد عبد الله عنان‪،‬‬
‫)ص ‪ ،(22-18‬ط‪ .1983 ،3/‬بتصرف‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ت مرة‬
‫الجيوش الفاطمية الستيلء على السكندرية‪ ،‬ولكنها ُرد ّ ْ‬
‫أخرى‪.‬‬
‫]))وبعد هذا الفشل المتكرر الذي منيت به القوة‬
‫العسكرية الفاطمية‪ ،‬أمام المقاومة المصرية وجند الخلفة‬
‫العباسية‪ ،‬اعتمد المعز الفاطمي لسقاط مصر على أسلوب‬
‫الدعاية التحريضية من خلل ))دعاة يبثون دعوته خفية‪،‬‬
‫ويبشرون بالفتح الفاطمي(()‪.(9‬‬
‫واستمرت هذه الدعوات المشبوهة لعدة عقود في جو‬
‫مشحون بالخلفات والفوضى والضطراب في أواخر حكم‬
‫الدولة الخشيدية في مصر‪ ،‬فأخذ الشعب المصري ينقم على‬
‫ولة أمره‪ ،‬حتى وصلت المعارضة للخلفة العباسية إلى ذوي‬
‫الشأن من الزعماء والجند‪ ،‬فقد كان فريق من أولئك الجند هم‬
‫الذين دعوا الفاطميين إلى غزو مصر‪ .‬وازداد سخط الشعب‬
‫المصري على ولة أمره‪ ،‬بعد أن تولى حكم مصر أسود خصي‪،‬‬
‫اسمه )كافور(‪.‬‬
‫وكانت الدولة الفاطمية تجلب إليها النظار بقوتها وغناها‪،‬‬
‫فأصبح سواد الشعب المصري يؤثر النضواء تحت لواء‬
‫دولة قوية فتية‪) ،‬الدولة الفاطمية(‪ ،‬على الستمرار‬
‫في معاناة هذه الفوضى السياسية والجتماعية التي‬
‫سادت بلد مصر‪ .‬وهكذا ألفى الفاطميون حين مقدمهم إلى‬
‫مصر‪ ،‬جوا ً ممهدا ً يبشر بتحقيق الفتح المنشود على خير‬
‫الوجوه(([ )‪ (10‬أهـ‪ .‬فتم لهم السيطرة على بلد مصر في منتصف‬
‫شعبان سنة ‪358‬هـ‪.‬‬
‫فإذا علمت أن نسب الفاطميين الشيعة يعود على الرجح‬
‫إلى اليهود)‪ ،(11‬وليس إلى المجوس‪ ،‬أدركت مدى درجة الغثائية‬
‫‪9‬المصدر السابق‪) ،‬ص ‪.(29‬‬
‫‪10‬المصدر السابق‪) ،‬ص ‪ ،(29-1‬بتصرف‪ .‬وقد اعتمد المؤلف على‬
‫العديد من المراجع التاريخية‪ ،‬منها‪ :‬كتاب‪)) :‬الخطط(( للمقريزي‪) ،‬‬
‫‪ .(127-2/126‬وكتاب‪)) :‬وفيات العيان(( لبن خلكان في ترجمة‬
‫القائد جوهر‪ .(1/148 ) ،‬وانظر ) ‪ .(3/440‬وكتاب‪)) :‬اتعاظ الحنفاء((‬
‫)ص ‪.(147-146‬‬
‫‪11‬كتاب‪ )) :‬النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة(( ابن تغري بردي‪،‬‬
‫_‪ .(76-4/75‬وكتاب‪)) :‬وفيات العيان(( لبن خلكان‪ .(3/82) ،‬وكتاب‪:‬‬
‫))معجم البلدان(( لياقوت الحموي‪ .(231-5/230) ،‬وكتاب‪)) :‬سير‬
‫أعلم النبلء(( للذهبي‪.(142 -15/141) ،‬‬

‫‪15‬‬
‫التي كانت تتسم بها الشعوب الغافلة المسلمة في بلد مصر‪ ،‬حيث‬
‫استطاعت الجاسوسية اليهودية أن تنفث سمومها في عقولهم‪،‬‬
‫مستخدمة شتى أنواع الدعاية المغرضة‪ ،‬فجعلتهم ينظرون إلى‬
‫الدولة الفاطمية بروح العجاب‪ ،‬فصدقوا الك َذ ََبة‪ ،‬وائتمنوا الخونة‪.‬‬
‫ذبوا الصادقين‪ ،‬وخونوا المناء ولة المر في دولة الخلفة‬‫وك ّ‬
‫العباسية‪ ،‬بل تآمروا عليها وعلى ولة أمورهم‪ ،‬وانضموا إلى‬
‫َ‬
‫السياسة اليهودية لسقاطها‪ ،‬بل رحبوا بها وفرحوا بنصر الكذ ََبة‬
‫خوََنة عليها‪ ،‬فماذا كانت نتيجة عدم الوعي‪ ،‬والتضليل السياسي‬ ‫ال َ‬
‫الذي أصيبوا به؟‬
‫كانت النتيجة الدمار الشامل الذي أصاب الضرورات‬
‫الخمس للحياة النسانية‪ ،‬فقد عطل الفاطميون الحدود‪،‬‬
‫وأباحوا الفروج‪ ،‬وسفكوا الدماء‪ ،‬وسّبوا النبياء‪ ،‬ولعنوا‬
‫دعوا الربوبية‪ .‬وصادروا الملك )التأميم()‪.(12‬‬ ‫السلف‪ ،‬وا ّ‬
‫فلما علم الناس حقيقية أمرهم ضاقوا بهم ذرعيًا‪،‬‬
‫وسّبوهيم ولعنوهم‪ ،‬حتى أصدر فيهم علمياء العصر‬
‫فتيوى تحذر منهم ومن شرهم وتبين لهم حقيقة‬
‫أمرهم‪ ،‬وما كيان لهؤل العلماء ول لغيرهم من العاميية‪،‬‬
‫ء‪ ،‬لو‬
‫أن يخدعوا بهذه الدعيوة الباطنييية الكاذبية ابتدا ً‬
‫أنهم درسيوا عقائدهيا ومذهبها‪ ،‬ولما رحبييوا بهذه‬
‫الدولية الباطنيية فييي بلدهم‪.‬‬
‫وهذا هو حكم علماء العصر فيهم‪ ،‬بعد أربع وأربعين سنة من‬
‫احتللهم لبلد مصر‪ ،‬ينقله لنا ابن تغري بردي فيقول‪:‬‬
‫))السنة السادسة عشرة من ولية الحاكم منصور على‬
‫مصر‪ :‬وهي سنة اثنتين وأربعمائة‪ ،‬فيها في شهر ربيع الخر كتب‬
‫الخليفة القادر العباسي محضرا ً في معنى الخلفاء المصريين‬
‫والقدح في أنسابهم وعقائدهم وقرئت النسخ ببغداد‪ ،‬وأخذت فيها‬
‫خطوط القضاة والئمة والشراف بما عندهم من العلم بمعرفة‬
‫نسب الديصانية‪ ،‬قالوا‪ :‬وهم منسوبون إلى ديصان بن سعيد‬
‫الخرمي إخوان الكافرين ونطف الشياطين شهادة يتقربون بها إلى‬
‫الله ومعتقدين ما أوجب الله على العلماء أن ينشروه للناس‬
‫فشهدوا جميعا ً أن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقب‬
‫‪12‬مصادرة الملك ذكرت في كتاب‪ )) :‬الخطط أو المواعظ والعتبار‬
‫بذكر الخطط والثار(( للمقريزي‪ .(3/23) ،‬وكتاب‪)) :‬تاريخ يحي‬
‫النطاكي((‪) ،‬ص ‪.(206‬‬

‫‪16‬‬
‫بالحاكم‪ ،‬حكم الله عليه بالبوار والخزي والنكال‪ :‬ابن معد بن‬
‫إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد‪ ،‬ل أسعده الله‪ .‬فإنه لما صار‬
‫إلى المغرب تسمى بعبيد الله وتلقب بالمهدي هو ومن تقدمه‬
‫من سلفه الرجاس النجاس‪ ،‬عليه وعليهم اللعنة‪،‬‬
‫أدعياء‪ ،‬خوارج‪ ،‬ل نسب لهم في ولد علي بن أبي‬
‫طالب‪ ،‬وأن ذلك باطل‪ ،‬وزور‪ ،‬وأنهم ل يعلمون أن أحدا ً من‬
‫الطالبيين توقف عن إطلق القول في هؤلء الخوارج أنهم أدعياء‪.‬‬
‫وقد كان هذا النكار شائعا ً بالحرمين في أول أمرهم بالمغرب‪،‬‬
‫منتشرا ً انتشارا ً يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم‪ ،‬أو يذهب وهم‬
‫إلى تصديقهم‪ ،‬وأن هذا الناجم بمصر هو وسلفه‪ ،‬كفار وفساق‬
‫فجار زنادقة ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون‪ ،‬قد عطلوا‬
‫الحدود‪ ،‬وأباحوا الفروج‪ ،‬وسفكوا الدماء‪ ،‬وسبوا النبياء‪،‬‬
‫ولعنوا السلف‪ ،‬وادعوا الربوبية‪.‬‬
‫وكتب خلق كثير في المحضر المذكور الذي حرر في شهر‬
‫ربيع الخر سنة اثنتين وأربعمائة منهم‪:‬‬
‫الشريف الرضي‪ ،‬والمرتضى أخوه‪ ،‬وابن الزرق الموسوي‪،‬‬
‫ومحمد بن محمد بن عمر بن أبي يعلى العلويون‪ ،‬والقاضي أبو‬
‫محمد عبد الله بن الكفاني‪ ،‬والقاضي أبو القاسم الجزري‪ ،‬والمام‬
‫أبو حامد السفرايني‪ ،‬والفقيه أبو محمد الكشفلي‪ ،‬والفقيه أبو‬
‫الحسين القدوري الحنفي‪ ،‬والفقيه أبو علي بن حمكان‪ ،‬وأبو‬
‫القاسم التنوخي‪ ،‬والقاضي أبو عبد الله الصيمري‪ .‬انتهى أمر‬
‫المحضر باختصار‪ .‬فلما بلغ الحاكم قامت قيامته وهان في أعين‬
‫الناس لكتابة هؤلء العلماء العلم في المحضر)‪.(13‬‬
‫وفي ترجمة ابن الشواء‪ ،‬أورد كمال الدين عمر بن أبي‬
‫جرادة أنشودة له‪ ،‬يصف فيها تمكن اليهود في عصره‪:‬‬
‫غاية آمالهم وقــد‬ ‫يهود هذا الزمــان‬
‫ملـكوا‬ ‫قد بلغوا‬
‫ومنهم المستشــار‬ ‫العز فيهم والمـــال‬
‫والملك‬ ‫عندهم‬
‫تهودوا قد تهود‬ ‫يا أهل مصر قد‬
‫)‪( 14‬‬
‫الفلك((‬ ‫نصحت لكم‬
‫‪))13‬النجوم الزاهرة(( )‪.(231-229 /4‬‬
‫‪))14‬بغية الطلب في تاريخ حلب((‪ ،(697 -2/696) ،‬ط‪1988 ،/‬‬

‫‪17‬‬
‫وقد صور لنا الأستاذ محمد عبدالله عنان‪ ،‬مشهد انتقام‬
‫دعوا بها‪،‬‬‫خ ِ‬
‫شعب مصر وجيشه الساخط من الدولة الفاطمية التي ُ‬
‫والتي طالما لعبت في عقولهم‪ ،‬وعاثت في أرضهم الفساد‪،‬‬
‫وحكمتهم بالحديد والنار‪ ،‬في صفحة )‪ (210-209‬من كتابه‪:‬‬
‫))الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية((‪ .‬فكانت نهاية‬
‫دولتهم في سنة ) ‪(411‬هـ‪.‬‬
‫هذه إحدى التجارب المّرة التي لدغنا منها‪ ،‬ولم تكن هي‬
‫الولى أبدًا‪ ،‬وليست الخيرة قطعًا‪ ،‬فل زلنا نلدغ من نفس الجحر‬
‫اليهودي بأساليبه المتطورة مع الزمن بصور وأشكال متعددة‪،‬‬
‫وحقيقته واحدة‪.‬‬
‫السس الضرورية لفقه واقعنا السياسي‪:‬‬
‫ينبثق الفقه السياسي أساسا ً من العقيدة السلمية‪،‬‬
‫ومعززا ً بالشعائر التعبدية‪ ،‬ومؤيدا ً بالقيم والخلق النبيلة‪ .‬وهو‬
‫يقوم على مجموعة من السس الضرورية لجلب المصالح‬
‫وتكثيرها‪ ،‬ودرء المفاسد وتقليلها‪ ،‬وهذه السس يعتمد بعضها‬
‫على بعض وهي‪:‬‬
‫أول ‪ :‬فقه الواقيييع‬
‫ثانيًا‪ :‬فقه الموازنات‬
‫ثالثًا‪ :‬فقه الولويات‬
‫رابعًا‪ :‬فقه التغيير‬

‫‪18‬‬
‫أو ً‬
‫ل‪ :‬فقه الواقع‬
‫تعريفات‪:‬‬
‫الفقه لغة‪:‬‬
‫ما‬
‫م ّ‬‫ه ك َِثيًرا ّ‬ ‫ف َ‬
‫ق ُ‬ ‫ما ن َ ْ‬
‫ب َ‬
‫عي ْ ُ‬ ‫قاُلوا ْ َيا ُ‬
‫ش َ‬ ‫مطلق الفهم‪َ ) .‬‬
‫ل‪] ‬هود‪ ، [91:‬أي‪ :‬ل نفهم كثيرا ً مما تقول‪ ،‬ومن دعاء‬ ‫تَ ُ‬
‫قو ُ‬
‫الرسول × لبن عباس ‪)) :‬اللهم فقهه في الدين‪ ،‬وعلمه‬
‫التأويل(()‪ .(15‬أي‪ :‬فهمه معناه‪.‬‬
‫الواقع‪:‬‬
‫هو مجموعة الحقائق والسنن الكونية‪ ،‬ومنها الفطرة‬
‫النسانية‪ ،‬وكلها محكمة‪ ،‬أي‪ :‬ل تتبدل ول تتحول‪ .‬يضاف إلى‬
‫الواقع كذلك كل ما يحدث من حوادث‪.‬‬
‫فقه الواقع‪:‬‬
‫هو فهم ومعرفة الحقائق والسنن الكونية‪ ،‬والفطر‬
‫النسانية‪ ،‬معرفة يقينية‪ .‬لتساهم في مواكبة الواقع المعاصر‬
‫ومعايشته على أكمل وجه‪ ،‬إذ أن الشريعة السلمية دعت إلى‬
‫التفاعل مع السنن الكونية للفادة منها‪ ،‬والحذر من مخاطرها‪،‬‬
‫ضمن الثوابت‪ ،‬والصول التي ل يعذر المسلم بالخروج عنها‪.‬‬
‫أهمية فقه الواقع‪:‬‬
‫الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء‪ ،‬بل هو المتفرد‬
‫بالخلق دون غيره‪ ،‬ول يسأل عما يفعل‪ ،‬فقد شــاءت الله تعالى‬
‫أن يخلق هذا الكون بما فيه من أرض وسماوات وما بث فيهما‬
‫ت‬‫وا ِ‬
‫ما َ‬
‫س َ‬ ‫خل ْ ُ‬
‫ق ال ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ن آَيات ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫و ِ‬ ‫من دابة‪ ،‬قال تعــالى‪َ ) :‬‬
‫ة‪] ‬الشورى‪ .[29:‬وقال‬ ‫داب ّ ٍ‬ ‫من َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ْ َ‬
‫ه َ‬ ‫في ِ‬ ‫ث ِ‬‫ما ب َ ّ‬
‫و َ‬
‫ض َ‬ ‫والْر ِ‬ ‫َ‬
‫ض‬ ‫ر‬‫ت وال َ‬ ‫وا‬ ‫ما‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ب‬‫ر‬ ‫ن‬ ‫إ‬‫)‬ ‫تعالى‪:‬‬
‫ْ َ‬ ‫ّ َ َ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ّ َ ّ ُ‬
‫شي الل ّي ْ َ‬ ‫في ست ّ َ‬
‫ل‬ ‫غ ِ‬ ‫ش يُ ْ‬‫عْر ِ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬ ‫وى َ‬ ‫ست َ َ‬‫ما ْ‬ ‫ة أّيام ٍ ث ُ ّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫م‬
‫جو َ‬ ‫والن ّ ُ‬ ‫مَر َ‬‫ق َ‬ ‫ْ‬
‫وال َ‬ ‫س َ‬‫م َ‬ ‫ش ْ‬ ‫وال ّ‬ ‫حِثيًثا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫هاَر ي َطلب ُ ُ‬ ‫الن ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب‬ ‫ه َر ّ‬ ‫ك الل ّ ُ‬‫مُر ت ََباَر َ‬‫وال ْ‬ ‫ق َ‬‫خل ْ ُ‬‫ه ال ْ َ‬‫ه أل َ ل َ ُ‬ ‫ر ِ‬‫م ِ‬‫ت ب ِأ ْ‬ ‫خَرا ٍ‬ ‫س ّ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ن‪] ‬العراف‪ .[54:‬قال القرطبي في تفسير قوله تعالى‪:‬‬ ‫مي َ‬ ‫َ‬
‫عال ِ‬ ‫ْ‬
‫ال َ‬

‫‪15‬متفق عليه‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ر(‪ :‬فيه مسألتان‪ :‬الولى‪ :‬صدق الله في‬
‫م ُ‬
‫وال ْ‬ ‫خل ْ ُ‬
‫ق َ‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫)أل َ ل َ ُ‬
‫خبره فله الخلق وله المر خلقهم وأمرهم بما أحب‪.‬‬
‫َ‬
‫خل ْ ُ‬
‫ق‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى‪) :‬أل َ ل َ ُ‬
‫ر( أي‪:‬له الملك والتصرف‪.‬‬ ‫َ‬
‫م ُ‬
‫وال ْ‬
‫َ‬
‫فالخلق‪ :‬هو الكون بما فيه من جمادات وأحياء‪ ،‬وهو‬
‫نتيجة لمر الله تعالى بأن يكون‪ ،‬فكان‪ .‬كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫كن‬‫ه ُ‬‫ل لَ ُ‬ ‫ذا أ ََردَْناهُ َأن ن ّ ُ‬
‫قو َ‬ ‫ء إِ َ‬
‫ي ٍ‬ ‫ول َُنا ل ِ َ‬
‫ش ْ‬ ‫ما َ‬
‫ق ْ‬ ‫)إ ِن ّ َ‬
‫ن‪] ‬النحل‪ .[40:‬وفقه هذا النوع يسمى‪) :‬فقه الواقع(‬ ‫كو ُ‬‫في َ ُ‬ ‫َ‬
‫الكوني‪.‬‬
‫والمر على عدة أحوال‪:‬‬
‫• أمر الله تعالى وكلمته التي بها خلق الجمادات والحياء‪،‬‬
‫ءإ َ َ‬ ‫ول َُنا ل ِ َ‬ ‫ما َ‬
‫ه‬
‫ذا أَردَْنا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ي ٍ‬
‫ش ْ‬ ‫ق ْ‬ ‫كما في قوله تعالى‪) :‬إ ِن ّ َ‬
‫َ‬ ‫َأن ن ّ ُ‬
‫مُرهُ إ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫ما أ ْ‬ ‫ن‪] ‬النحل‪) .[40:‬إ ِن ّ َ‬ ‫كو ُ‬ ‫في َ ُ‬‫كن َ‬ ‫ه ُ‬‫ل لَ ُ‬
‫قو َ‬
‫َ‬ ‫أ ََرادَ َ‬
‫ن‪] ‬يس‪ .[82:‬وهذا‬ ‫كو ُ‬ ‫في َ ُ‬
‫ن َ‬ ‫ه كُ ْ‬‫ل لَ ُ‬ ‫قو َ‬‫ن يَ ُ‬
‫شي ًْئا أ ْ‬
‫النوع من المر المتعلق بإيجاد المخلوقات‪ ،‬يسمى كذلك بـ‬
‫)فقه الواقع( الكوني‪.‬‬
‫• أمر الله تعالى لتدبير الكون بما فيه من جمادات وأحياء‪:‬‬
‫َ‬
‫ض‬
‫والْر َ‬‫ت َ‬‫وا ِ‬
‫ما َ‬
‫س َ‬ ‫خل َ َ‬
‫ق ال ّ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ن َرب ّك ُ ُ‬
‫)إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫في ست ّ َ‬
‫مَر‬
‫ش ي ُدَب ُّر ال ْ‬ ‫عْر ِ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬ ‫وى َ‬ ‫ست َ َ‬
‫ما ْ‬ ‫ة أّيام ٍ ث ُ ّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ه َرب ّك ْ‬ ‫ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫ُ‬
‫ه ذَل ِك ُ‬ ‫د إ ِذْن ِ ِ‬
‫ع ِ‬ ‫من ب َ ْ‬ ‫ّ‬
‫ع إ ِل ِ‬ ‫من َ‬
‫َ‬ ‫في ٍ‬ ‫ش ِ‬
‫َ‬
‫ما ِ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ه َ‬ ‫ج َ‬‫و ْ‬‫م َ‬ ‫ق ْ‬
‫فأ ِ‬ ‫ن‪] ‬يونس‪َ ) .[3:‬‬ ‫فل َ ت َذَك ُّرو َ‬ ‫دوهُ أ َ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫فا ْ‬ ‫َ‬
‫ها‬‫عل َي ْ َ‬ ‫س َ‬ ‫فطََر الّنا َ‬ ‫ه ال ِّتي َ‬ ‫فطَْرةَ الل ّ ِ‬ ‫فا ِ‬ ‫حِني ً‬ ‫ن َ‬ ‫دي ِ‬ ‫ِلل ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ْ‬
‫ن أكث ََر‬ ‫ولك ِ ّ‬ ‫م َ‬ ‫قي ّ ُ‬ ‫ن ال َ‬ ‫دي ُ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫ه ذَل ِ َ‬‫ق الل ِ‬ ‫خل ِ‬ ‫ل لِ َ‬ ‫دي َ‬ ‫َل ت َب ْ ِ‬
‫ن‪] ‬الروم‪ .[30:‬وهذا المر هو السنن‬ ‫مو َ‬ ‫عل َ ُ‬‫س َل ي َ ْ‬ ‫الّنا ِ‬
‫الكونية التي فطر الله تعالى الجمادات والحياء عليها‪.‬‬
‫كدوران الرض حول الشمس‪ ،‬وإنزال الغيث‪ ،‬وتوسع الكون‬
‫في الجمادات‪ .‬وكغريزة التكاثر‪ ،‬والمأكل والمشرب‪ ،‬والنوم‪،‬‬
‫والصحة والمرض‪ ،‬والتدين في الحياء من البشر وأمثالهم‪.‬‬
‫وهذا النوع يسمى كذلك بـ )فقه الواقع( الكوني‪.‬‬
‫• أمر الله تعالى الحياء‪ ،‬ومنهم النس والجن بطاعته‬
‫ن‪‬‬
‫دو ِ‬ ‫عب ُ ُ‬‫س إ ِّل ل ِي َ ْ‬‫لن َ‬ ‫ِ‬ ‫وا ْ‬
‫ن َ‬‫ج ّ‬ ‫ت ال ْ ِ‬‫ق ُ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ما َ‬ ‫وعبادته‪َ ) :‬‬
‫و َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬‫هأ ِ‬ ‫مْرت َِني ب ِ ِ‬ ‫م إ ِل ّ َ‬
‫ما أ َ‬ ‫ه ْ‬
‫تل ُ‬ ‫قل ُ‬ ‫ما ُ‬ ‫]الذاريات‪َ ) .[56:‬‬
‫‪20‬‬
‫َ‬
‫م{ ]المائدة‪َ) .[117:‬يا أي ّ َ‬
‫ها‬ ‫وَرب ّك ُ ْ‬‫ه َرّبي َ‬ ‫دوا ْ الل ّ َ‬ ‫عب ُ ُ‬‫ا ْ‬
‫من‬ ‫ن ِ‬‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫وال ِ‬
‫م َ‬ ‫ُ‬
‫قك ْ‬ ‫َ‬
‫خل َ‬‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫م ال ِ‬ ‫ُ‬
‫دوا َرب ّك ُ‬ ‫ْ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫سا ْ‬ ‫الّنا ُ‬
‫ن‪] ‬البقرة‪ .[21:‬وهذا المر‪ ،‬هو المر‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َت ّ ُ‬‫عل ّك ُ ْ‬ ‫م لَ َ‬‫قب ْل ِك ُ ْ‬‫َ‬
‫الشرعي‪ ،‬الذي تعبد الله به عباده‪ ،‬فأرسل لغايته الرسل ‪،‬‬
‫وأنزل الشرائع والكتب‪ ,‬وهو ما يسمى بـ )فقه الشرع(‪.‬‬
‫سّنتان حاكمتان‪ :‬السنة الكونية)فقه الواقع(‬ ‫إذن هما ُ‬
‫ء‪،‬‬
‫المتعلق بما نتج عن أمر الله من إيجاد الخلق ابتدا ً‬
‫ثم تدبير شؤونهم ومعاشهم‪ ،‬وما يحدث لهم من حوادث‪.‬‬
‫والسنة الشرعية )فقه الشرع( المتعلق بأمر الله لعباده‬
‫بالطاعة والعبادة‪ ،‬وهي أوامره المتعلقة بالفعل والترك‪ .‬فلكي‬
‫يحيى النسان الحياة الطيبة عليه أن يعلم هاتين السنتين‪ ،‬ثم‬
‫يعمل بمقتضاهما‪ .‬ومن فرط في معرفة أحداهما أو تجاهلها أو‬
‫ظن في نفسه معرفتها فقد ضل سواء السبيل‪ ،‬ومن ضل سواء‬
‫السبيل انقلبت حياته‪ :‬من نعمة إلى نقمة‪ ،‬ومن أمن إلى خوف‪،‬‬
‫ومن سعة في الرزق إلى جوع وفقر‪ ،‬ومن خير إلى شر‪.‬‬
‫ن لَ ُ‬
‫ه‬ ‫فإ ِ ّ‬‫ري َ‬ ‫كْ ِ‬ ‫عن ِذ‬ ‫ض َ‬ ‫عَر َ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫م ْ‬‫و َ‬‫قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫مى‪] ‬طه‪.[124:‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫ضن ً‬ ‫عي َ‬
‫ع َ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م ال ِ‬ ‫و َ‬ ‫شُرهُ ي َ ْ‬ ‫ون َ ْ‬‫كا َ‬ ‫ة َ‬ ‫ش ً‬ ‫م ِ‬ ‫َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ِ‬ ‫وهذا المر مبين في قوله تعالى‪َ) :‬يا أي ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫مالك ْ‬ ‫ع َ‬‫مأ ْ‬ ‫ُ‬
‫ح لك ْ‬ ‫صل ِ ْ‬ ‫دا * ي ُ ْ‬ ‫دي ً‬
‫س ِ‬‫وًل َ‬ ‫ق ْ‬‫قوُلوا َ‬ ‫و ُ‬‫ه َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫ات ّ ُ‬
‫د‬
‫ق ْ‬ ‫ف َ‬‫ه َ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫وَر ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ع الل ّ َ‬ ‫من ي ُطِ ْ‬ ‫و َ‬‫م َ‬ ‫م ذُُنوب َك ُ ْ‬ ‫فْر ل َك ُ ْ‬ ‫غ ِ‬
‫وي َ ْ‬ ‫َ‬
‫ما‪] ‬الحزاب‪ .[71-70:‬فالقول السديد‬ ‫ظي ً‬‫ع ِ‬ ‫وًزا َ‬ ‫َ‬
‫فاَز ف ْ‬ ‫َ‬
‫)الصادق( بحاجة إلى سداد في معرفة الواقع‪ ،‬ولكي نحصل‬
‫على الثمرات الواردة في الية الكريمة‪ ،‬ل بد من اجتماع أمرين‬
‫اثنين‪:‬‬
‫معرفة الخلق والمر‪ ،‬أي‪ :‬الواقع والشرع‪.‬‬ ‫•‬
‫التقوى التي هي مقتضى تلك المعرفة‪.‬‬ ‫•‬
‫وهاتان السنتان الحاكمتان )الخلق والمر( مهمتان‬
‫ومطلوبتان لصدار الحكام ومن ثم العمال‪ ،‬وخاصة لهل العلم‬
‫المفتين والقضاة والرعاة الحاكمين‪.‬‬
‫قال ابن القيم تحت عنوان‪)) :‬تمكن الحاكم والمفتي‬
‫بنوعين من الفهم((‪:‬‬

‫‪21‬‬
‫))ول يتمكن المفتي ول الحاكم من الفتوى والحكم بالحق‬
‫إل بنوعين من الفهم‪ :‬إحداهما‪ :‬فهم الواقع والفقه فيه‪،‬‬
‫واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والمارات والعلمات‬
‫حتى يحيط به علما ً‪.‬‬
‫والنوع الثاني‪ :‬فهم الواجب في الواقع‪ ،‬وهو فهم حكم‬
‫الله الذي حكم به في كتابه‪ ،‬أو على لسان رسوله في هذا‬
‫الواقع‪ ،‬ثم يطبق أحدهما على الخر‪ .‬فمن بذل جهده واستفرغ‬
‫وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا ً‪ .‬فالعالم‪ :‬من‬
‫يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم‬
‫الله ورسوله‪ ،‬كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر‬
‫إلى معرفة براءته وصدقه‪ .‬وكما توصل سليمان صلى الله عليه‬
‫وسلم بقوله‪ :‬ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما‪ ،‬إلى‬
‫معرفة عين الم‪ (16)((..‬أهـ‪.‬‬
‫ولهذا قال رسول الله ×‪)) :‬القضاة ثلثة‪ :‬واحد في الجنة‬
‫واثنان في النار‪ ،‬فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى‬
‫به‪ .‬ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار‪ .‬ورجل‬
‫)‪.(17‬‬
‫قضى للناس على جهل فهو في النار((‬

‫ويقول )ابن القيم( محمد بن أيوب الزرعي‪ ،‬محذرا من‬


‫تبعات التقصير في معرفة الواقع والشريعة‪:‬‬
‫))‪...‬هذا موضع مزلة أقدام‪ ،‬وهو مقام ضنك ومعترك‬
‫صعب‪ .‬فَّرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرؤوا‬
‫أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة ل تقوم‬
‫بها مصالح العباد‪ ،‬وسدوا على نفوسهم طرقاً عديدة من طرق‬
‫معرفة الحق من الباطل‪ ،‬بل عطلوها مع علمهم قطعاً وعلم‬
‫غيرهم بأنها أدلة حق ظنا ً منهم منافاتها لقواعد الشرع‪ .‬والذي‬
‫أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة‪،‬‬
‫وتقصير في معرفة الواقع‪ ،‬وتنزيل أحدهما على‬
‫الخر‪ .‬فلما رأى ولة المر ذلك وأن الناس ل يستقيم أمرهم‬
‫إل بشيء زائد على ما فهمه هؤلء من الشريعة‪ ،‬أحدثوا لهم‬
‫قوانين سياسية ينتظم بها أمر العالم‪ ،‬فتولد من تقصير‬
‫أولئك في الشريعة وإحداث ما أحدثوه من أوضاع سياستهم‪،‬‬
‫شر طويل وفساد عريض‪ ،‬وتفاقم المر وتعذر استدراكه‪.‬‬
‫‪))16‬إعلم الموقعين(( )‪.(88 -1/87‬‬
‫‪17‬رواه أبو داود‪ ،‬وابن ماجة والترمذي وصححه الشيخ الألباني‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫وأفرطت طائفة أخرى فسوغت منه ما ينافى حكم‬
‫الله ورسوله‪ ،‬وكل الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما‬
‫بعث الله به رسوله فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم‬
‫الناس بالقسط‪ ،‬وهو العدل الذي به قامت السماوات والرض‪،‬‬
‫فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهه بأي طريق‬
‫كان فثم شرع الله ودينه‪ ،‬والله تعالى لم يحصر طرق‬
‫العدل وأدلته وعلماته في شيء‪ ،‬ونفي غيرها من الطرق التي‬
‫هي مثلها أو أقوى منها‪ ،‬بل بين ما شرعه من الطرق أن‬
‫مقصوده إقامة العدل‪ ،‬وقيام الناس بالقسط‪ ،‬فأي طريق‬
‫استخرج بها العدل والقسط‪ ،‬فهي من الدين‪ ،‬ل يقال إنها‬
‫مخالفة له‪ ،‬فل تقول‪ :‬إن السياسة العادلة مخالفة لما‬
‫نطق به الشرع بل موافقة لما جاء به بل هي جزء من‬
‫أجزائه‪ .‬ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم وإنما هي شرع‬
‫حق(()‪.(18‬‬
‫مصادر معرفة الواقع‪:‬‬
‫بما أن فقه الواقع معتبر لصحة العتقاد والتصورات وما‬
‫يترتب على ذلك من صدق في القوال وصواب في العمال‪.‬‬
‫فمن الواجب أخذ هذا الفقه من مصادره الصادقة المعتبرة‪،‬‬
‫وأول هذه المصادر صدقاً الوحي بشقيه القرآن الكريم الذي ل‬
‫يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه‪ ،‬والسنة النبوية‬
‫الصحيحة‪ ،‬وهما منهج للحياة البشرية الكريمة الصالحة‪ ،‬سواء‬
‫كان ذلك من جهة علقة العبد بخالقه‪ ،‬أم علقة العبد بالعبد‪ ،‬أم‬
‫علقته بالكون‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك فقد ترك الوحي أمورا ً من‬
‫الواقع‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق بعلقة العبد بالعبد أو علقته بالكون‬
‫لتقدير الناس للوصول إلى معرفة حقائقها‪ .‬فقد أكد القرآن‬
‫على ضرورة التحري عن أخبار الفساق قبل ردها أو الخذ بها‪،‬‬
‫َ‬
‫ق‬
‫س ٌ‬ ‫م َ‬
‫فا ِ‬ ‫جاءك ُ ْ‬
‫مُنوا ِإن َ‬
‫نآ َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قال تعالى‪َ) :‬يا أي ّ َ‬
‫عَلى‬ ‫َ‬
‫حوا َ‬
‫صب ِ ُ‬
‫فت ُ ْ‬ ‫هال َ ٍ‬
‫ة َ‬ ‫ج َ‬
‫ما ب ِ َ‬‫و ً‬ ‫صيُبوا َ‬
‫ق ْ‬ ‫فت َب َي ُّنوا أن ت ُ ِ‬‫ب ِن َب َأ ٍ َ‬
‫ن‪] ‬الحجرات‪.[6:‬‬
‫مي َ‬ ‫عل ْت ُ ْ‬
‫م َناِد ِ‬ ‫ف َ‬‫ما َ‬ ‫َ‬
‫وهذا التحري له طرقه ومصادره وأساليبه‪ ،‬وهو متطور‬
‫مع الزمن لتطور أساليب الدجل والعمل الجاسوسي المنظم‪،‬‬
‫فَت ََر َ‬
‫ك أمره للناس ولفهامهم‪.‬‬
‫‪))18‬بدائع الفوائد(( )‪ ،(676-3/674‬ط‪ ،1/‬مكة المكرمة‪ ،‬دار الباز‬
‫للنشر‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫وفي علقة العبد بالكون‪ ،‬فقد أرشدنا الله تعالى إلى‬
‫أدب آخر في التعامل مع الوحي كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫س‬
‫ت ِللّنا ِ‬
‫قي ُ‬ ‫وا ِ‬
‫م َ‬
‫ي َ‬
‫ه َ‬
‫ل ِ‬ ‫هل ّ ِ‬
‫ة ُ‬
‫ق ْ‬ ‫ن ال ِ‬
‫ع ِ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬
‫ك َ‬ ‫)ي َ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ها‬
‫ر َ‬
‫هو ِ‬ ‫من ظُ ُ‬ ‫ت ِ‬ ‫وا ْ ال ْب ُُيو َ‬‫ن ت َأت ُ ْ‬ ‫س ال ْب ِّر ب ِأ ْ‬ ‫ول َي ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ح ّ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ها‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫واب ِ َ‬‫ن أب ْ َ‬
‫م ْ‬‫ت ِ‬ ‫وأُتوا الب ُُيو َ‬ ‫ن ات ّقى َ‬ ‫م ِ‬ ‫ن الب ِّر َ‬ ‫ولك ِ ّ‬ ‫َ‬
‫ن‪] ‬البقرة‪.[189:‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬‫م تُ ْ‬ ‫ُ‬
‫علك ْ‬‫ّ‬ ‫َ‬
‫هل َ‬ ‫ّ‬
‫قوا الل َ‬‫ْ‬ ‫وات ّ ُ‬ ‫َ‬
‫فقد جاء قوم وسألوا الرسول × عن الهّلة‪ ،‬فأجابهم‬
‫الوحي بعلقتها بالمواقيت والحج فقط‪ ،‬ثم رد ّ عليهم قصدهم‬
‫الذي أرادوا منه معرفة ما وراء ذلك‪ ،‬كطبيعة القمر وخصائصه‬
‫وا ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن ت َأت ُ ْ‬ ‫س ال ْب ِّر ب ِأ ْ‬ ‫ول َي ْ َ‬
‫ومكوناته من خلل الوحي‪ ،‬فقال‪َ ) :‬‬
‫ها‪ ،‬بل أمرهم لمعرفة حقيقة القمر‬ ‫ر َ‬
‫هو ِ‬ ‫من ظُ ُ‬ ‫ت ِ‬‫ال ْب ُُيو َ‬
‫الكونية بأن يأتوا البيوت من أبوابها‪ ،‬أي‪ :‬أهل العلم‬
‫َ‬ ‫المتخصصين‪ ،‬قال تعالى‪ْ ) :‬‬
‫ها‪ ،‬لن‬ ‫واب ِ َ‬ ‫ن أب ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫وأُتوا ْ ال ْب ُُيو َ‬
‫َ‬
‫القرآن الكريم لم يتطرق إلى بيان كل الحقائق العلمية والسنن‬
‫الكونية عن الكون إن كان فيه ما يدل على ذلك‪ ،‬ولو قصد ذلك‬
‫لحتاج المر إلى أضعاف أضعاف عدد آيات القرآن الكريم‪ ،‬فََرد ّ‬
‫وأ ُْتوا ْ‬ ‫أمر معرفة ذلك إلى أهل والعلم والختصاص‪َ ) :‬‬
‫َ‬
‫م آَيات َِنا‬ ‫ه ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫سن ُ ِ‬‫ها‪ .‬ولذا قال تعالى‪َ ) :‬‬ ‫واب ِ َ‬‫ن أب ْ َ‬
‫م ْ‬‫ت ِ‬‫ال ْب ُُيو َ‬
‫َ‬ ‫في َأن ُ‬
‫ه‬
‫م أن ّ ُ‬ ‫ه ْ‬‫ن لَ ُ‬
‫حّتى ي َت َب َي ّ َ‬ ‫م َ‬‫ه ْ‬ ‫سَِ‬
‫ف ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ق َ‬
‫فا ِ‬ ‫في اْل َ‬ ‫ِ‬
‫د‪‬‬ ‫ء َ‬ ‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫على ك ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫هي ٌ‬‫ش ِ‬ ‫ي ٍ‬‫ش ْ‬ ‫ه َ‬‫ف ب َِرب ّك أن ّ ُ‬
‫م ي َك ِ‬ ‫ول ْ‬ ‫قأ َ‬‫ح ّ‬
‫ال َ‬
‫]فصلت‪ .[53:‬أي بالعلم بالبحث والتنقيب‪.‬‬
‫في‬‫فّرطَْنا ِ‬
‫ما َ‬
‫وقد يحتج بعضهم‪ ،‬بقوله تعالى‪ّ ) :‬‬
‫ء‪] ‬النعام‪ .[38:‬لفهم الواقع كله من خلل‬
‫ي ٍ‬ ‫من َ‬
‫ش ْ‬ ‫ب ِ‬
‫الك َِتا ِ‬
‫الوحي‪ :‬القرآن والسنة فقط‪ .‬وهذه الية ل تدل على مرادهم‪،‬‬
‫فالمقصود بالكتاب‪ :‬هو أم الكتاب‪ ،‬أو اللوح المحفوظ‪ .‬قال‬
‫ً‬
‫الطبري في تفسيرها بسنده عن ابن عباس‪)) :‬ما تركنا شيئا إل‬
‫قد كتبناه في أم الكتاب((‪ .‬وقال القرطبي‪)) :‬أي في اللوح‬
‫المحفوظ((‪ .‬ومما يدل على صحة هذا التأويل قول الرسول ×‪:‬‬
‫))إن أول ما خلق الله القلم‪ ،‬فقال له‪ :‬اكتب‪ .‬قال‪ :‬ما‬
‫أكتب قال‪ :‬اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى‬
‫البد(()‪. (19‬‬

‫‪19‬تخريج السيوطي ‪) :‬ت( عن عبادة بن الصامت‪ .‬تحقيق الشيخ‬


‫اللباني‪) :‬صحيح( انظر حديث رقم‪ (2017) :‬في ))صحيح الجامع((‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫ومن الدلة على أن معرفة العبد لواقع هذا الكون‪ ،‬ليست‬
‫محصورة بالوحي فقط‪ ،‬قول رسول الله ×‪)) :‬أنتم أعلم بأمر‬
‫دنياكم(()‪.(20‬‬
‫ونص الحديث بتمامه‪:‬‬
‫))أن النبي × مرّ بقوم يلقحون فقال‪ :‬لو لم‬
‫تفعلوا لصلح قال‪ :‬فخرج شيصاً فمر بهم فقال‪ :‬ما‬
‫لنخلكم قالوا‪ :‬قلت كذا وكذا قال‪ :‬أنتم أعلم بأمر‬
‫دنياكم(()‪.(21‬‬
‫مع أن القرآن الكريم قد أشار إلى إحدى وظائف الرياح‪:‬‬
‫)التلقيح(‪ ،‬أي تلقيح أزهار النباتات‪ ،‬كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫) َ‬
‫ح‪] ‬الحجر‪ .[22:‬لكن هذه السنة‬
‫ق َ‬ ‫ح لَ َ‬
‫وا ِ‬ ‫سل َْنا الّرَيا َ‬
‫وأْر َ‬
‫َ‬
‫الكونية ل تصلح لتأبير النخل‪ ،‬وعُلم ذلك من الخبرة‪ :‬الدراسة‬
‫والتجربة‪.‬‬
‫وعليه فإن العتماد على الوحي في معرفة ما يتعلق‬
‫بقوانين الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات أو صناعة المتفجرات‬
‫والقنابل النووية والكهرباء وغير ذلك يعتبر من الجهل الذي ل‬
‫يقول به عاقل‪ ،‬ويدخل في ذلك كذلك أخبار الفرق والحزاب‬
‫والمذاهب وما اتفقت عليه‪ ،‬وما اختلفت فيه وأخبار الدول‬
‫والملوك والمراء والرؤساء والساسة والفراد‪.‬‬
‫ومن المؤسف أن يحمل البعض قول الرسول ×‪)) :‬أنتم‬
‫أعلم بأمر دنياكم(( على فراسة المؤمن‪ ،‬ففيه تعطيل واضح‪،‬‬
‫بل قتل لمادة البحث العلمي لكتشاف أسرار هذا الكون!!!‬
‫أمور مهمة لفهم الواقع‪:‬‬
‫)أ( أصناف الناس في معرفة الحقيقة‪:‬‬
‫يختلف الناس في معرفة الحقيقة وفهم الواقع على‬
‫أربعة أصناف‪:‬‬
‫الصنف الول‪ :‬من يريد معرفة الحقيقة عن طريق‬
‫النظر في الشكل الخارجي فقط‪ ،‬كأن يمتدح شخصا ما لطول‬
‫لحيته‪ ،‬أو لعمامته‪ ،‬أو للباسه المتواضع‪ ،‬وإن كانت هذه إحدى‬
‫‪20‬تخريج السيوطي‪) :‬م( عن أنس وعائشة‪ .‬تحقيق الشيخ اللباني‪:‬‬
‫)صحيح( انظر حديث رقم‪ (1488) :‬في ))صحيح الجامع((‪‌.‬‬
‫‪21‬مسلم برقم )‪.(2363‬‬

‫‪25‬‬
‫إشارات الصلح‪ ،‬إل أنها ل تكفي لمعرفة واقع الشخص معرفة‬
‫يقينية‪ .‬وهذا الصنف من أضل الناس‪.‬‬
‫الصنف الثاني‪ :‬من يريد معرفة الحقيقة عن طريق‬
‫القوال والتصريحات الدعائية فقط‪ ،‬وإن كانت هذه إحدى‬
‫إشارات الصلح‪ ،‬إل أنها ل تكفي لمعرفة واقع الشخص معرفة‬
‫يقينية‪.‬‬
‫ض للتضليل‪ ،‬وذلك لمكانية وقوع‬
‫معر ٌ‬
‫وهذا الصنف ُ‬
‫مّنا ِبالل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫لآ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫و ِ‬ ‫الكذب‪ ،‬قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫ن‪] ‬البقرة‪ .[8:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬
‫م بِ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫ما ُ‬ ‫و َ‬ ‫ر َ‬ ‫خ ِ‬ ‫وم ِ اْل ِ‬ ‫وِبال ْي َ ْ‬ ‫َ‬
‫ة الدّن َْيا‬ ‫حَيا ِ‬ ‫ْ‬
‫في ال َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ول ُ‬‫ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ك َ‬ ‫جب ُ َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ن يُ ْ‬‫م ْ‬ ‫س َ‬ ‫) َ‬
‫َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫و ِ‬
‫و أل َ ّ‬
‫د‬ ‫ه َ‬‫و ُ‬ ‫ه َ‬ ‫قل ْب ِ ِ‬ ‫في َ‬ ‫ما ِ‬ ‫عَلى َ‬ ‫ه َ‬ ‫هدُ الل ّ َ‬ ‫ش ِ‬ ‫وي ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ها‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫وإ ِ َ‬ ‫ْ‬
‫في َ‬ ‫سد َ ِ‬‫ض ل ِي ُف ِ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫عى ِ‬ ‫س َ‬ ‫ولى َ‬ ‫ذا ت َ َ‬ ‫صام ِ* َ‬ ‫خ َ‬ ‫ال ِ‬
‫د‪] ‬البقرة‪:‬‬ ‫سا َ‬‫ف َ‬ ‫ْ‬
‫ب ال َ‬ ‫ح ّ‬‫ه ل يُ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫والل ُ‬ ‫ل َ‬ ‫س َ‬ ‫والن ّ ْ‬ ‫ث َ‬ ‫حْر َ‬ ‫ْ‬
‫ك ال َ‬ ‫هل ِ َ‬ ‫وي ُ ْ‬ ‫َ‬
‫‪.[205-204‬‬
‫الصنف الثالث‪ :‬من يريد معرفة الحقيقة عن طريق‬
‫رؤية الفعال فقط‪ ،‬وإن كانت هذه إحدى إشارات الصلح‬
‫القوية‪ ،‬إل أنها ل تكفي لمعرفة واقع الشخص معرفة يقينية‪،‬‬
‫معرض للتضليل كذلك‪ ،‬من صورتين‪:‬‬‫وهذا الصنف ُ‬
‫• صورة المنافق الذي يشهد الجمعة والجماعات‪ ،‬فلو‬
‫خدعت به‪.‬‬‫نظرت إلى ظاهر عمله فقط‪ُ ،‬‬
‫• صورة المرائي ولو بأفضل العمال والطاعات‪ ،‬كقراءة‬
‫القرآن والجهاد والصدقة‪ ،‬فهذا النوع يخالف ظاهره باطنه‪.‬‬
‫والحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة ‪ ،‬الذي يخبرنا‬
‫فيه النبي × عن أول ثلثة تسّعر فيهم النار يوم القيامة أدل‬
‫دليل على صحة ذلك‪ .‬وقول النبي ×‪)) :‬إنما العمال‬
‫بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته‬
‫إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله‪ ،‬ومن‬
‫كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته‬
‫إلى ما هاجر إليه((‪] .‬رواه البخاري ومسلم وغيرهما[‪.‬‬
‫الصنف الرابع‪ :‬من يريد معرفة الحقيقة عن طريق‬
‫قراءة الفكار والعقائد‪ ،‬فهذا الصنف ل يضل ول يزل بإذن الله‪،‬‬

‫‪26‬‬
‫ول يلدغ من جحر واحد مرتين‪ .‬وهذا السلوب هو الدق‬
‫والصوب‪ ،‬ول يستطيعه أو ُيطيقه كثير من الناس‪.‬‬
‫وأصحاب هذا الصنف هم الفقهاء في الواقع‪ ،‬ينذرون‬
‫أقوامهم ويأخذون بأيديهم بعيدا ً عن مواطن الزلل والخديعة‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ر‬ ‫وِلي اْل ْ‬
‫م ِ‬ ‫وإ َِلى أ ْ‬‫ل َ‬ ‫سو ِ‬ ‫دوهُ إ َِلى الّر ُ‬ ‫و َر ّ‬‫ول َ ْ‬
‫قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫م‪] ( ..‬النساء‪.[83:‬‬ ‫ه ْ‬‫من ْ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫ست َن ْب ِ ُ‬
‫طون َ ُ‬ ‫ن يَ ْ‬
‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬‫م ُ‬ ‫م لَ َ‬
‫عل ِ َ‬ ‫ه ْ‬
‫من ْ ُ‬
‫ِ‬
‫س الحاجة إلى هذا الصنف من الناس‬ ‫ونحن في أم ّ‬
‫داعات التي أخبر عنها النبي ×‪:‬‬
‫وتكثيره‪ ،‬في زمن السنوات الخ ّ‬
‫))ثم يأتي على الناس سنوات خداعات‪ُ ،‬يصدّقُ فيها‬
‫ب فيها الصادق‪ ،‬ويؤتمن فيها الخائين‪،‬‬ ‫الكاذب‪ ،‬وُيكذّ ُ‬
‫ون فيهيا المين‪ ،‬وينطق فيها الرويبضة‪ ،‬قييل‪:‬‬ ‫وُيخ ّ‬
‫وما الرويبضة؟ قيال‪ :‬الرجل التافه يتكلم في أمر‬
‫العامة(()‪.(22‬‬
‫كي يقوم أولئك بتصحيح الصورة‪ ،‬وإحقاق الحق‪ ،‬وتصويب‬
‫الوضاع‪ ،‬فكيف الحال بأمة ترى الصادق كاذبا ً والكاذب صادقا ً ؟‬
‫وكيف بأمة ترى المين خائنا ً والخائن أمينا ؟!‬

‫‪))22‬صحيح ابن ماجة((‪ ،‬رقم‪ (4036 ) :‬عن أبي هريرة ‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫كها‪:‬‬ ‫أمثلة من الخدع التي وقعنا في َ‬
‫شَر ِ‬
‫‪ -1‬تظاهر مصطفى كمال أتاتورك اليهودي بالسلم‪ ،‬حتى‬
‫تمكن من القضاء على الدولة العثمانية‪ ،‬وسلخ تركيا علنية‬
‫عن السلم)‪ .(23‬فلو أن المسلمين لم يأمنوا جانبه‪،‬‬
‫واحترسوا منه لحتمال مخادعته للمسلمين بصفته يهودياً‬
‫سابقاً لما لدغوا من جحره‪ ،‬فالغاية عند اليهود تبرر‬
‫الوسيلة‪ .‬وعلى رأس هذه الوسائل الكذب المبرمج‬
‫والخديعة‪.‬‬
‫‪ -2‬التحالف القديم بين السلميين والشتراكيين بقيادة لينين‬
‫في روسيا النصرانية قبل الثورة البلشفية الشيوعية)‪،(24‬‬
‫وبعد نجاح الثورة تم الهجوم على الجمهوريات السلمية‬
‫المستقلة‪ .‬فلو أنهم لم يأمنوا جانبه‪ ،‬واحترسوا منه لحتمال‬
‫مخادعته للمسلمين بصفته شيوعياً لما لدغوا من جحره‪،‬‬
‫فالغاية عند الشيوعية تبرر الوسيلة‪ ،‬وعلى رأس هذه‬
‫الوسائل الكذب المبرمج والخديعة‪.‬‬
‫‪ -3‬قيام الرئيس جمال عبد الناصر الشتراكي بالنضمام إلى‬
‫الخوان المسلمين حتى تمكن من استلم السلطة ليقضي‬
‫على الحركة السلمية‪)) ،‬فقد قرر مجلس قيادة الثورة في‬
‫ل جماعة الخوان‬ ‫ح ّ‬
‫جلسته المنعقدة في ‪َ 12/1/1954‬‬
‫المسلمين‪ ،‬واتهمهم بقلب نظام الحكم‪ ،‬والتصال بالنجليز((‬
‫)‪.(25‬‬
‫يقول حسين محمد حمودة أحد الضباط الحرار في‬
‫جماعة الخوان المسلمين بهذا الشأن‪)) :‬كانت الخلية‬
‫الرئيسية في تنظيم الخوان المسلمين داخل القوات‬
‫المسلحة مكونة من سبعة ضباط هم‪ :‬عبد المنعم عبد‬
‫الرءوف وجمال عبد الناصر وكمال الدين حسن وسعد‬
‫توفيق وخالد محي الدين وحسين حمودة وصلح خليفة((‪.‬‬
‫وقال‪)) :‬التقينا نحن السبعة وحضر اجتماعنا الصاغ محمود‬

‫‪))23‬الفعى اليهودية في معاقل السلم((‪ ،‬عبد الله التل‪) ،‬ص ‪،85 ،75‬‬
‫‪.(90‬‬
‫‪24‬طارق حجي في كتابه ))أفكار ماركسية في الميزان((‪ ،‬ص ‪ ،65‬دار‬
‫المعارف‪.‬‬
‫‪25‬جريدة الجمهوربة‪ 15 ،‬يناير ‪ ،1954‬الصفحة الرئيسية‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫لبيب وكيل جماعة الخوان المسلمين‪ ،‬وتكررت اجتماعاتنا‬
‫مرة كل أسبوع في منزل عبد المنعم عبد الرءوف بالسيدة‬
‫زينب‪ ،‬وفي منزل جمال عبد الناصر‪ ...‬وتكررت اجتماعاتنا‬
‫السبوعية ولم تنقطع أبدا طيلة الفترة )‪-1944‬‬
‫‪ (1948‬أربع سنوات وأربعة اشهر(()‪.(26‬‬
‫فإن كان الخوان المسلمون يعلمون أن جمال عبد‬
‫الناصر كان عضواً في خلية شيوعية قبل الثورة اسمها‬
‫الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني) حدتو()‪ (27‬فتلك‬
‫مصيبة‪ ،‬وإن كانوا ل يعلمون فالمصيبة أعظم‪ .‬فلو أنهم لم‬
‫يأمنوا جانبه‪ ،‬واحترسوا منه لحتمال مخادعته للمسلمين‬
‫سابقا على أقل تقدير لما لدغوا‬
‫ً‬ ‫بصفته شيوعياً‪ ،‬أو شيوعياً‬
‫من جحره‪ ،‬فالغاية عند الشيوعية تبرر الوسيلة‪ ،‬وعلى رأس‬
‫الوسائل الكذب المبرمج والخديعة‪.‬‬
‫‪ -4‬تظاهر ميشيل يوسف عفلق اليهودي بالنصرانية‪ ،‬ثم‬
‫مَنه‬ ‫كذبا وزورا ً)‪ .(28‬وأ ِ‬
‫مَنه من أ ِ‬ ‫ً‬ ‫علن عن إسلمه بعد وفاته‬ ‫ُأ ْ‬
‫من غثاء المسلمين‪ ،‬وساروا على نهجه الشتراكي‪ ،‬وصدق‬
‫بعض الغثاء قصة إسلمه الموهومة‪ .‬فلو أنهم لم يأمنوا‬
‫جانبه‪ ،‬واحترسوا منه لحتمال مخادعته للمسلمين بصفته‬
‫سابقا‪ ،‬أو اشتراكياً على أقل‬‫ً‬ ‫يهودياً أو شيوعياً‪ ،‬أو شيوعيا ً‬
‫تقدير ما لدغوا من جحره‪ ،‬فالغاية عند اليهودية والشيوعية‬
‫تبرر الوسيلة‪ ،‬وعلى رأس هذه الوسائل الكذب المبرمج‬
‫والخديعة‪.‬‬
‫‪ -5‬بعد نجاح الثورة الشيعية المامية الخمينية في إيران‪،‬‬
‫أعلن عن قيام جمهورية إيران السلمية‪ ،‬قام عامة‬
‫المسلمين بتهنئة بعضهم بعضَا‪ ،‬وظنوا بهذه الثورة خيرا‪ً،‬‬
‫علما ً أن الخميني يعتقد بالخط الثوري الماركسي الشيوعي‪.‬‬
‫‪ .‬فلو أنهم لم يأمنوا جانبه‪ ،‬واحترسوا منه لحتمال مخادعته‬

‫‪))26‬أسرار حركة الضباط الحرار(( )ص ‪.(33‬‬


‫‪27‬المرجع السابق‪) ،‬ص ‪ ،(157‬وفيه قيام عبد الناصر بنقض التفاق‬
‫بينه وبين الخوان على الحكم بكتاب الله‪ ،‬وفتكه بالحركة السلمية‬
‫)ص ‪ ،(167-161‬وراجع كتاب‪)) :‬فشل حركة يوليو بعدائها للتيار‬
‫السلمي(( للدكتور جابر الحاج )ص ‪.(34‬‬
‫‪28‬نقل خبر إسلمه وسائل العلم في حينه‪ .‬وقد ذكر يهودية أبيه‬
‫يوسف عفلق‪ ،‬الذي اعتنق النصرانية‪ ،‬عن الموقع‪:‬‬
‫‪www.moqatel.com/mokatel/DataBehoth/Siasia2/HezbBath/Mokatel3-1-2.htm‬‬

‫‪29‬‬
‫إماميا‪ ،‬أو شيوعياً‪ ،‬أو اشتراكياً على‬
‫ً‬ ‫للمسلمين بصفته شيعياً‬
‫أقل تقدير ما لدغوا من جحره‪ ،‬فالغاية عند الشيعة‬
‫والشيوعية تبرر الوسيلة‪ ،‬وعلى رأس هذه الوسائل الكذب‬
‫المبرمج )التقية(‪ ،‬والخديعة‪.‬‬
‫‪ -6‬والدجال وهو أسوأ خدعة منتظرة‪ ،‬وزمان خروجه قد‬
‫خدِعَ بمن سبق ذكرهم‪ ،‬فكيف‬ ‫يكون قد اقترب‪ ،‬فمن ُ‬
‫سينجو من فتنته؟ مع العلم أن علم تسخير الشعوب الذي‬
‫تقوم عليه الشتراكية اليهودية يزداد تطوراً مع الزمن‪.‬‬
‫)ب( الكذب‪:‬‬
‫الكذب هو عكس حقيقة الخلق‪ ،‬أو عكس الواقع‪ ،‬وهو‬
‫من أقبح الخلق الذميمة‪ ،‬ومصيبة المصائب‪ ،‬وأشنعه ما كان‬
‫عن قصد‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫ع‬
‫م َ‬
‫س ْ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫عل ْ ٌ‬ ‫ه ِ‬ ‫ك بِ ِ‬ ‫س لَ َ‬ ‫ما ل َي ْ َ‬ ‫ف َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ول َ ت َ ْ‬ ‫) َ‬ ‫•‬
‫ُ‬ ‫وال ْ ُ‬
‫ؤول ً‪‬‬ ‫س ُ‬ ‫م ْ‬‫ه َ‬ ‫عن ْ ُ‬‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ك َ‬ ‫ل أولئ ِ َ‬ ‫ؤادَ ك ُ ّ‬‫ف َ‬ ‫صَر َ‬ ‫وال ْب َ َ‬‫َ‬
‫]السراء‪.[36:‬‬
‫خامس ُ َ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ه ِإن َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ت الل ّ ِ‬ ‫عن َ َ‬ ‫ن لَ ْ‬‫ةأ ّ‬ ‫وال ْ َ ِ َ‬ ‫) َ‬ ‫•‬
‫ن‪] ‬النور‪.[7:‬‬ ‫كاِذِبي َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن ال ْ ِ ْ‬ ‫جاء َ‬ ‫ج َ‬ ‫) َ‬
‫علم ِ‬ ‫م َ‬‫ك ِ‬ ‫ما َ‬ ‫د َ‬‫ع ِ‬ ‫من ب َ ْ‬ ‫ه ِ‬
‫ع أ َبَناءَنا َ‬
‫في ِ‬‫ك ِ‬ ‫حآ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ف َ‬ ‫•‬
‫ساءَنا‬ ‫ون ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫وأب َْناءك ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫وا ْ ن َدْ ُ ْ‬ ‫عال َ ْ‬ ‫ل تَ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عل‬ ‫ج َ‬‫فن َ ْ‬‫ل َ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ثُ ّ‬
‫م ن َب ْت َ ِ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫سَنا وأن ُ‬ ‫ف َ‬ ‫وأن ُ‬ ‫م َ‬ ‫ساءك ُ ْ‬ ‫ون ِ َ‬ ‫َ‬
‫ن‪] ‬آل عمران‪.[61:‬‬ ‫ِ َ‬ ‫بي‬‫ذ‬‫ِ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫َ‬ ‫نة‬‫َ‬ ‫لّ ْ‬
‫ع‬
‫ن‪] ‬آل‬
‫مو َ‬ ‫عل َ ُ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬‫ب َ‬ ‫ذ َ‬‫ه ال ْك َ ِ‬‫عَلى الل ّ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫وي َ ُ‬‫) َ‬ ‫•‬
‫عمران‪.[95:‬‬
‫وجاء في الحاديث‪:‬‬
‫• ))ثم إن الصدق يهدى إلى البر‪ ،‬وإن البر يهدى‬
‫إلى الجنة‪ ،‬وإن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقا‪.‬‬
‫وإن الكذب يهدى إلى الفجور‪ ،‬وإن الفجور يهدى‬
‫إلى النار‪ ،‬وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله‬
‫كذابا(( ]متفق عليه[‪.‬‬
‫• ))ثم أربع من كن فيه كان منافقا ً خالصا ً‪ ،‬ومن‬
‫كانت فيه خصلة منهن‪ ،‬كانت فيه خصلة من النفاق‬

‫‪30‬‬
‫حتى يدعها‪ :‬إذا أؤتمن خان‪ ،‬وإذا حدث كذب‪ ،‬وإذا‬
‫عاهد غدر‪ ،‬وإذا خاصم فجر(( ]متفق عليه[‪.‬‬
‫ي الرجل إلى غير‬ ‫• ))إن من أعظم الفرى‪ ،‬أن يدع َ‬
‫أبيه‪ ،‬أو يري عينه ما لم تره‪ ،‬أو يقول على رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل((‪] .‬رواه‬
‫البخاري[‪.‬‬
‫أنواع الكذب‪:‬‬
‫يقسم الكذب من جهة قائله إلى قسمين هما‪:‬‬
‫‪ .1‬الكذب المؤسسي‪ :‬هو الكذب المنطلق من عقيدة‪،‬‬
‫أو مبدأ‪ ،‬أو دين‪ ،‬مثل الكذب في الديانة اليهودية المحرفة‬
‫التي تجيز الكذب لتباعها في تعاملهم مع غيرهم‪ ،‬سواء كان‬
‫ذلك لجلب منفعة أو درء مفسدة‪ ،‬بل هو عندهم قربى‬
‫يتقربون بها إلى الله بزعمهم‪ .‬ومثلها العقيدة المامية‬
‫الباطنية التي تتخذ الكذب والّتقّية ديناً‪ ،‬بل فيها ـ على حد‬
‫زعمهم ـ تسعة أعشار الدين‪.‬‬
‫وأما الكذب في المبدأ الشتراكي الصهيوني فهو الركيزة‬
‫الكبرى عندهم‪ .‬فأصحاب هذا النوع من الكذب يعاملون‬
‫مل دعواهم على مبدأ المواراة‬ ‫ح َ‬
‫بالحذر الشديد‪ ،‬وت ُ ْ‬
‫والمداهنة واللف والدوران‪ ،‬ومن جهة هؤلء يكون الخوف‬
‫والحتراس لباطنيتهم ولفسادهم‪ .‬فلو قالوا‪)) :‬نحن مع‬
‫السلم أو نحترم الحريات الدينية أو أننا ننبذ الرهاب((‬
‫وأمثال ذلك من الكلم الحسن‪ ،‬فل يجب علينا قبول زعمهم‬
‫وتصديقهم‪ ،‬بل علينا حمل هذه التصريحات على المراوغة‬
‫والخديعة‪ ،‬وإل أصبنا بنار تضليلتهم السياسية وغير‬
‫السياسية‪ .‬فصاحب هذا النوع من الكذب تراه منشرح‬
‫الصدر راضٍ عن فعله‪ ،‬بل يتقرب إلى الله تعالى بكذبه‪ .‬ول‬
‫يجوز حمل هذا النوع من الكذب على أنه شخصي‪ ،‬ككذب‬
‫زعماء اليهود والشتراكيين والشيعة المامية‪ ،‬ولو حملنا هذا‬
‫الكذب المؤسسي على أنه شخصي لضللنا‪ ،‬فكيف بنا إذا‬
‫دقناهم؟‬‫ص ّ‬
‫َ‬
‫‪ .2‬الكذب الشخصي‪ :‬وهذا الكذب يصدر عن شخص‬
‫رم ممارسة الكذب بين أتباعه‪ ،‬ويحرم على‬ ‫يدين بدين يُحَ ّ‬

‫‪31‬‬
‫أتباعه ممارسته على الخرين)‪ .(29‬ومن أمثلته‪ ،‬المسلم الذي‬
‫جه النتقاد إلى شخصه‬ ‫يقع في جريمة الكذب‪ ،‬فالعاقل يُوَ ّ‬
‫هو‪ ،‬ل إلى الدين السلمي الذي ينتمي إليه‪ ،‬ومن فعل ذلك‬
‫فقد خلط المور وضلل الناس وأساء إلى السلم‪ ،‬وعلى‬
‫هذا يقاس كل دين يحرم الكذب على أتباعه‪ ،‬كالنصرانية‬
‫في النجيل‪ .‬فصاحب هذا النوع من الكذب تراه يشعر‬
‫ن‬
‫بالذنب فيستغفر الله ويتوب إليه‪ .‬إذن من الضلل الب َي ّ ِ‬
‫ل الكذب المؤسسي على الكذب الشخصي‪ ،‬وبالعكس‪.‬‬ ‫م ُ‬
‫ح ْ‬
‫َ‬
‫ذبُه المؤسسي وجب ترك روايته‬ ‫وعليه فمن ثبت ك َ ِ‬
‫والتحذير من مقولته‪ ،‬خاصة إذا اتخذ من الكذب وسيلة لتحقيق‬
‫أهدافه‪ ،‬كما هو الحال في اليهودية والمبدأ الشتراكي والمامية‬
‫الباطنية‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن تيمية عددا ً من الطرق التي ُيعلم‬
‫بها كذب المنقول‪ ،‬منها‪:‬‬
‫علم بالتواتر‬
‫))أن ي َْروي‪ -‬أي الراوي‪ -‬خلف ما ُ‬
‫والستفاضة‪ ،‬مثل‪ :‬أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة‪،‬‬
‫واتبعه طوائف كثيرة من بني حنيفة فكانوا مرتدين ليمانهم بهذا‬
‫المتنبئ الكذاب‪ .‬وأن أبا لؤلؤة قاتل عمر‪ ،‬كان مجوسياً كافراً‪.‬‬
‫وان أبا الهرمزان كان مجوسياً أسلم‪ .‬وأن أبا بكر كان يصلي‬
‫بالناس مدة مرض الرسول × ويخلفه بالمامة بالناس لمرضه‪.‬‬
‫وأن أبا بكر وعمر دفن في حجرة عائشة مع ×‪.‬‬
‫ومثل ما يعلم من غزوات النبي × التي كان فيها القتال‪،‬‬
‫حد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف‪.‬‬ ‫كبدر وأ ُ‬
‫والتي لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها‪ .‬وما نزل من‬
‫القرآن في الغزوات‪ ،‬كنزول النفال بسبب بدر‪ ،‬ونزول آخر آل‬
‫عمران بسبب أحد‪ ،‬ونزول أولها بسبب نصارى نجران‪ ،‬ونزول‬
‫سورة الحشر بسبب بني النضير‪ ،‬ونزول الحزاب بسبب‬
‫الخندق‪ ،‬ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية‪ ،‬ونزول براءة‬
‫بسبب غزوة تبوك‪ ،‬وغيرها و أمثال ذلك‪.‬‬
‫فإذا روى في الغزوات وما يتعلق بها ما يعلم أنه خلف‬
‫م أنه كذب‪ .‬مثل ما يروي هذا الرافضي‪ ،‬وأمثاله من‬
‫الواقع عُل ِ َ‬

‫‪29‬إل في ظروف معينة مقيدة استثنائية‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫الرافضة وغيرهم من الكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات‬
‫كما تقدم التنبيه عليه‪ .‬ومثل أن يعلم نزول القرآن في أي وقت‬
‫كان‪ .‬كما يعلم أن سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة و‬
‫النفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة‪ .‬وأن النعام‬
‫والعراف ويونس وهودا ً ويوسف والكهف وطه ومريم واقتربت‬
‫الساعة وهل أتى على النسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة‬
‫فة كانت بالمدينة‪ .‬وأن‬‫ص ّ‬
‫بمكة‪ .‬وأن المعراج كان بمكة‪ .‬وأن ال ُ‬
‫أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صلى‬
‫ة منزلً‬
‫ف ُ‬
‫ص ّ‬
‫الله عليه وسلم ولم يكونوا ناساً معينين بل كانت ال ُ‬
‫ينزل بها من ل أهل له من الغرباء القادمين وممن دخل فيهم‬
‫سعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحي المؤمنين‬
‫وكالعرنيين الذين ارتدوا عن السلم(()‪.(30‬‬
‫)ج( قانون عاملي القتناع هما التكرار والزمن‪ ،‬أو‬
‫الغزارة والزمن‪:‬‬
‫وهذا القانون أهمها وأخطرها‪ ،‬وبه انتشرت أفكار حزب‬
‫التحرير‪ .‬فبالتكرار والزمن عبد غير الله‪ ،‬فأصبح عزير ابن الله‬
‫عند اليهود‪ ،‬والمسيح ابن الله عند النصارى‪ ،‬وبهذا القانون‬
‫أصبحت الوثان والصنام‪ ،‬والشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬والبقر آلهة عند‬
‫الغثاء من الناس‪.‬‬
‫وبهذا القانون‪ ،‬انتشرت البدع والخرافات في الدين‪ .‬و‬
‫بالتكرار والزمن كذلك‪ ،‬عاد الناس إلى التوحيد ونبذ البدع‬
‫والخرافات مرة أخرى‪ .‬ويهمنا أن نوضح للقارىء الكريم علقة‬
‫هذا القانون في عصرنا الراهن بمصدر الشر على وجه الرض‪،‬‬
‫فاليهود اتخذوا الكذب وسيلة كبرى لتحقيق غاياتهم‪.‬‬
‫)د( السنوات الخداعة‪:‬‬
‫بما أن الكذب هو عكس للواقع وللحقيقة‪ ،‬تقوم عليه‬
‫دعوات هدامة)‪ (31‬تقصد الفساد والفساد في المجتمعات‬
‫النسانية من خلل إثارة مجموعة من الفكار والتصورات‬
‫والمفاهيم الكاذبة‪ .‬وبهذه التصورات المزعومة يعتقد الناس ـ أو‬
‫فقل إن شئت الغثاء من الناس ـ بمجموعة من المصالح‬
‫والمفاسد الموهومة‪ .‬فتصبح هذه المصالح والمفاسد هي‬
‫‪))30‬منهاج السنة النبوية(( )‪.(438 -7/437‬‬

‫‪31‬مثل‪ :‬اليهودية والشتراكية والشيعة المامية وحزب التحرير‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫الحاكمة على تصرفات من اعتقد بها باعتبارها الحقّ الذي ل‬
‫حق غيره‪ ،‬وما علموا أن هذه المصالح هي في الحقيقة مفاسد‬
‫حوا وتحالفوا مع‬‫ض ّ‬
‫خالصة‪ ،‬بل هي خطة عدوهم فيهم‪ ،‬طالما َ‬
‫أعدائهم ـ أمثال الشتراكية والمامية الباطنية الحاقدة ـ من‬
‫أجل تحقيقها‪ .‬وما علموا كذلك أن المفاسد التي تصوروها‪ ،‬إنما‬
‫هي مصالح‪ ،‬أو أنها تصنف ضمن باب ))درء المفسدة الكبرى‬
‫بالمفسدة الصغرى((‪.‬‬
‫مط َّبقة في هذا الباب اتهام‬
‫ومن أخطر الساليب ال ُ‬
‫الصادق بالكذب‪ ،‬والمين بالخيانه‪ ،‬وبالعكس‪ .‬ففي الوقت الذي‬
‫ونة من الشتراكيين الشيوعيين‪،‬‬ ‫ُيخدع فيه الناس بالك َذ َب َةِ ال َ‬
‫خ َ‬
‫والشيعة المامية‪ ،‬تجدهم يتهمون الصادق والمين من‬
‫السلميين والوطنيين العادلين‪ ،‬فيعيش الناس في بيئة سياسية‬
‫واجتماعية موبوءة‪ ،‬خداعة كما وصفها الرسول × في قوله‪:‬‬
‫))إن بين يدي الساعة سنين خداعة‪ ،‬يصدق فيها الكاذب‪ ،‬ويكذب‬
‫فيها الصادق‪ ،‬ويؤتمن فيها الخائن‪ ،‬ويخون فيها المين‪ ،‬وينطق‬
‫فيها الرويبضة‪ .‬قيل‪ :‬وما الرويبضة؟ قيل‪ :‬المرء التافه يتكلم‬
‫في أمر العامة(()‪.(32‬‬
‫وبسبب هذه الحالة التي تصيب الناس‪ ،‬يصبح الناس‬
‫))غثاء كغثاء السيل((‪ .‬فتجدهم ينطلقون مع هذا التيار الفكري‬
‫المخادع‪ ،‬إلى الهداف التي حددها لهم مسبقا‪ ،‬أو حّيدها‪ ،‬وهم ل‬
‫يشعرون بخطته فيهم‪ ،‬ول بوجوده أص ً‬
‫ل‪ .‬فتجدهم يقاتلون‬
‫إخوانهم‪ ،‬كقتالهم لبعض الدول السلمية التي ل زالت من خير‬
‫الدول في تطبيق السلم‪ ،‬ويقاتلون أصدقاءهم‪ ،‬كبعض الدول‬
‫الغربية غير المحاربة لنا في الدين‪ ،‬بل تجدهم ينصرون أعداءهم‬
‫من الشتراكيين اليهود‪ ،‬والمامية الباطنية تحت باب التقاء‬
‫المصالح في صراعنا مع الصليبية أو اليهود‪ .‬فانطبق علينا قول‬
‫الرسول الله ×‪)) :‬يوشك المم أن تداعى عليكم كما‬
‫تداعى الكلة إلى قصعتها((‪ .‬فقال قائل‪ :‬ومن قلة نحن‬
‫يومئذ؟ قال‪)) :‬بل أنتم يومئذ كثير‪ ،‬ولكنكم غثاء كغثاء‬
‫السيل‪ ،‬ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم‪،‬‬
‫وليقذفن الله في قلوبكم الوهن((‪ .‬فقال قائل‪ :‬يا رسول‬
‫الله وما الوهن؟ قال‪)) :‬حب الدنيا وكراهية الموت(()‪.(33‬‬

‫‪) 32‬صحيح(‪)) ،‬السلسلة الصحيحة((‪ .‬برقم )‪.(2253‬‬


‫‪))33‬السلسلة الصحيحة(( رقم )‪ ،(647‬قال الشيخ اللباني‪ :‬صحيح‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫)هي( قانون إماتة الحتمالت الحية وإحياء‬
‫الحتمالت الميتة‪:‬‬
‫يقوم هذا القانون على إثارة الغثاء ضد أمر موهوم ل‬
‫وجود له‪ ،‬أو تضخيم أحد الخطار المتوقعة قليلة الثر‪ .‬وفي‬
‫المقابل يتم إماتة الخطر الول والعظم بعدم الشارة إليه‬
‫بالمرة‪ ،‬أو التقليل من خطره‪.‬‬
‫فقد عانى الناس ول زالوا‪ ،‬من هذا القانون القاتل‪ ،‬إذ به‬
‫يتوجه الناس لقتال السراب‪ ،‬ويتركون عدوهم الكبر يعيث في‬
‫الرض الفساد‪ .‬فقد قتلت الشيوعية )الشرق( من المسلمين‪،‬‬
‫حوالي )‪ (200‬مليون مسلم‪ ،‬في غضون )‪ (70‬سنة فقط‪ ،‬في‬
‫حين لم تقتل الصليبية )الغرب( من المسلمين ماضياً وحاضراً‬
‫على مر التاريخ السلمي‪ ،‬أكثر من )‪ (5‬مليين مسلم‪ ،‬منهم‬
‫مليون مسلم في الجزائر‪ ،‬وهدمت الشيوعية )الشرق( من‬
‫مساجد المسلمين مئات اللف‪ ،‬في حين يزداد عددها في‬
‫الغرب‪ ،‬وأغلقت الشيوعية )الشرق( مئات اللف من دور‬
‫القرآن والمدارس السلمية‪ ،‬في حين يزداد عددها في الغرب‪.‬‬
‫وألغت الشيوعية )الشرق( اللغة العربية لغة القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وانتشرت في الغرب‪ .‬ثم بعد كل هذا مات الخطر‬
‫الشيوعي )الشرق(‪ .‬مع العلم أنه يوجد حاليا ً في عام )‬
‫‪1427‬هـ‪2006 /‬م(‪ ،‬حوالي مائـة حزب يسـاري منتشرة في‬
‫الدول العربيـة)‪ .(34‬وليس المقصود أنها غير مؤثرة في واقعنا‪،‬‬
‫بل هي على العكس تمامًا‪ ،‬بل منها أنظمة قائمة على سدة‬
‫الحكم‪ .‬وبهذا فقد تضخم الخطر الغربي وتضخم لدى‬
‫المسلمين!!!‬
‫ولم نلتفت إلى تحذير النبي × المتكرر‪ :‬أن الخطر القادم‬
‫من الشرق‪ .‬أل يدل ذلك أننا فعلً غثاء كغثاء السيل‪ ،‬فقد وجهنا‬
‫سيل الدعاية الفكري الجارف لن نوجه كل عدائنا إلى الغرب‬
‫ونترك الشرق‪ ،‬فاستجبنا لندائه‪.‬‬
‫ومن الصور التي ساعدت على قلب الحقائق وانعكاس‬
‫فهم الواقع لدى المسلمين‪ ،‬أن أصحاب القلم والتحليل‬

‫‪))34‬الحزاب السياسية في العالم العربي((‪ ،‬إصدار مركز القدس‬


‫للدراسات السياسية‪) ،‬ص ‪ .(200-150‬وهو عبارة عن توثيق‬
‫مان ‪ 13-12‬حزيران‪.2004/‬‬ ‫لفعاليات المؤتمر الذي عقد في ع ّ‬
‫‪35‬‬
‫السياسي المتأثرين بدعاية حزب التحرير‪ ،‬المدافعة عن‬
‫الماركسية الشتراكية بطريقة مدروسة‪ ،‬يصفون دائماً وبكل‬
‫إصرار‪ ،‬الجرائم التي ارتكبتها الشتراكية في طول بلد السلم‬
‫وعرضها‪ ،‬بأنها من صنع الغرب‪ ،‬وبمخططات أمريكية على وجه‬
‫الخصوص‪ ،‬ويتهمون حكام هذه الدول الشتراكية التي ذاق فيها‬
‫المسلمون أقسى أنواع العذاب والقتل والتشريد والجوع‬
‫والفقر‪ ،‬بالعمالة لمريكا أو لبريطانيا‪ .‬كجرائم النظم‬
‫الشتراكية‪ ،‬في مصر والعراق وسوريا وليبيا واليمن‪ ،‬والجزائر‪،‬‬
‫والصومال‪ ،‬وإثيوبيا واندونيسيا وأفغانستان وغيرها من الدول‪،‬‬
‫بل ذهبت هذه القلم إلى صرف النظر عن جرائم التحاد‬
‫السوفيتي نفسه‪ ،‬باعتباره صاحب النظرية الشتراكية‬
‫المريكية!!!‬
‫وكذلك جرائم الشتراكية في البوسنة والهرسك‪،‬‬
‫وكوسوفا‪ ،‬بل ذهبت هذه القلم إلى ما هو أبعد من ذلك‪،‬‬
‫فاعتبرت تحرك حلف شمال الطلسي بقيادة الوليات المتحدة‬
‫المريكية ضد الشتراكيين الصرب‪ ،‬كان لتصفية السلم في‬
‫دول البلقان‪ ،‬وهكذا يضلل الغثاء من الناس حين يصدقون هذه‬
‫الكاذيب والكاذيب التي ليس لها حدود‪.‬‬
‫ومن الصور التي ساعدت على قلب الحقائق وانعكاس‬
‫فهم الواقع لدى المسلمين كذلك‪ ،‬وصفهم لكل ما تقوم به‬
‫أمريكا من تضييق وفرض عقوبات و حرب‪ ،‬تقصدها ضد الدول‬
‫الشتراكية العربية وغير العربية‪ ،‬إنما هو موجه ضد السلم‬
‫والمسلمين‪ ،‬مثل حربها ضد نظام البعث العربي الشتراكي‬
‫العراقي‪ ،‬وتضييقها على النظام الشتراكي في سورية‪،‬‬
‫ومراقبتها الحثيثة والموجهة ضد إيران‪ ،‬والعقوبات على ليبيا‬
‫والسودان‪ .‬وجرائم الشتراكية في البوسنة والهرسك‪ ،‬وكوسوفا‬
‫كما مر من قريب‪.‬‬
‫وقد انتقل هذا النحراف الول المتمثل بالتضليل‬
‫العلمي‪ ،‬إلى قلب الحقائق وانعكاس فهم الواقع لدى كثير من‬
‫المسلمين‪ ،‬بفعل قانون التكرار والزمن‪ ،‬ومنهم إخوة لنا في‬
‫العقيدة والمنهج الصحيح‪ ،‬القائم على الكتاب والسنة قولً‬
‫وعملً‪ ،‬مما أدى إلى شق الصف الواحد الذي لزال متماسكا‬
‫قويا إلى وقت ليس ببعيد‪ ،‬فأدى بهؤلء الذين وقعوا في هذا‬
‫التضليل العلمي ممن يرون الواقع بآذانهم ل بأعينهم‪ ،‬إلى‬
‫انحراف ثان‪ ،‬وهو‪ :‬تكفير بعضهم للنظمة السلمية كلها‪،‬‬

‫‪36‬‬
‫وخاصة الدول السلمية التي تعادي الشتراكية اليهودية‪ ،‬وعلى‬
‫رأسها المملكة العربية السعودية‪ ،‬ثم الردن‪.‬‬
‫وهذا النحراف أدى إلى انحراف ثالث‪ :‬وهو رمي كبار‬
‫علماء المسلمين‪ ،‬ممن ل يرون كفر هذه النظمة التي تعادي‬
‫الشتراكية‪ ،‬من باب‪ :‬من لم يكفر الكافر ـ على حد زعمهم ـ‬
‫فهو كافر‪ ،‬سواء كان هؤلء العلماء يعملون داخل حكومات تلك‬
‫النظمة‪ ،‬أو خارجها‪ ،‬وعلى رأس هؤلء العلماء هيئة كبار العلماء‬
‫في السعودية‪ ،‬وعلماء الزهر الشريف في مصر‪ ،‬ومشيخة‬
‫الشام‪ ،‬وأولهم الشيخ ناصر الدين اللباني رحمه الله‪ ،‬فقد رموا‬
‫كل هؤلء العلماء وأمثالهم‪ ،‬بالخيانة ووصفوهم بالرجاء‪،‬‬
‫والتخذيل أو بـ )أئمة القعدة(‪ ،‬أو التزلف للسلطين‪ ،‬فأدى ذلك‬
‫إلى انحراف رابع وهو‪ :‬التشكيك في منهج هؤلء العلماء لدى‬
‫بعضهم‪ ،‬والتحذير منهم‪ ،‬فأدى إلى تناحر فئتين من مدرسة‬
‫واحدة‪ ،‬تراشقا بالتهم والخيانة‪ ،‬بل وصل المر ببعضهم إلى‬
‫رمي الخر بالكفر‪ ،‬عياذاً بالله‪.‬‬
‫هذه النحرافات المتتالية التي قد تصل في المستقبل‪،‬‬
‫إلى حد الحتراب بين أصحاب الفئة الواحدة‪ ،‬بل وصلت‪ ،‬لتدلنا‬
‫على مدى خطورة التهاون بفقه السياسة الشرعية في السلم‪،‬‬
‫فالعالم ل غنى له عن هذا الفقه‪ ،‬الذي ل تكون النجاة من‬
‫علميا دقيقاً‪.‬‬
‫ً‬ ‫الفتن‪ ،‬إل بضبطه وتأصيله تأصيلً‬
‫فقد أدت هذه الفتن إلى التطاول على خير الناس‪ ،‬إذ‬
‫بمثلها أو بأسلوبها المشابه‪ ،‬البعيد عن التأصيل العلمي‪ ،‬قتل‬
‫عثمان بن عفان ‪ ،‬حتى وصل الكره له إلى حد التذمر من‬
‫حكمه ودعاء الله تعالى لتغيير حكمه‪.‬‬
‫فقد نقل لنا ابن كثير في قصة قتله‪ ،‬أن المرأة كانت‬
‫تجيء في زمان عثمان إلى بيت المال فتحمل حملها من‬
‫)‪(35‬‬
‫الخيرات من بيت المال‪ ،‬وتقول‪)) :‬اللهم بدل اللهم غير(( ‪.‬‬
‫وهذه المرأة وأمثالها هي من المسلمين‪ ،‬الذين خدعوا‬
‫بالدعاية السبئية الباطنية‪ ،‬ليست عدوة لله تعالى عن قصد‬
‫أبداً‪ ،‬فكيف يكون أمر الدعاية المغرض مع من هم أدنى شأناً‬
‫ومنزلة من عثمان ‪‬؟‬
‫تقول البروتوكولت‪:‬‬

‫‪))35‬البداية والنهاية((‪.(194 / 7) ،‬‬

‫‪37‬‬
‫))ولضمان الرأي العام يجب أول ً‪ :‬أن نحيره كل الحيرة‬
‫بتغييرات من جميع النواحي لكل أساليب الراء المتناقضة حتى‬
‫يضيع المميون )غير اليهود( في متاهتهم‪ .‬وعندئذ سيفهمون أن‬
‫خير ما يسلكون من طرق هو أن ل يكون لهم رأي في‬
‫السياسية‪ :‬هذه المسائل ل يقصد منها أن يدركها الشعب‪ ،‬بل‬
‫يجب أن تظل من مسائل القادة الموجهين فحسب‪ .‬وهذا هو‬
‫السر الول‪ .‬والسر الثاني)‪ (36‬وهو ضروري لحكومتنا الناجحة ـ‬
‫أن تتضاعف وتتضخم الخطاء والعادات والعواطف والقوانين‬
‫العرفية في البلد‪ ،‬حتى ل يستطيع إنسان أن يفكر بوضوح في‬
‫ظلمها المطبق‪ ،‬وعندئذ يتعطل فهم الناس بعضهم بعضا ً(()‬
‫‪.(82-5/81‬‬
‫))من الخطير جدا ً في سياستنا أن تتذكروا التفصيل‬
‫المذكور آنفًا‪ ،‬فإنه سيكون عونا ً كبيرا ً لنا حينما تناقش مثل هذه‬
‫المسائل‪ :‬توزيع السلطة‪ ،‬وحرية الكلم‪ ،‬وحرية الصحافة‬
‫والعقيدة‪ ،‬وحقوق تكوين الهيئات‪ ،‬والمساواة في نظر القانون‪،‬‬
‫وحرمة الممتلكات والمساكن‪ ،‬ومسألة فرض الضرائب )فكرة‬
‫سرية فرض الضرائب( والقوة الرجعية للقوانين‪ .‬كل المسائل‬
‫المشابهة لذلك ذات طبيعة تجعل من غير المستحسن مناقشتها‬
‫علنا ً أمام العامة‪ .‬فحيثما تستلزم الحوال ذكرها للرعاع يجب‬
‫أن ل تحصى‪ ،‬ولكن يجب أن تنشر عنها بعض قرارات بغير‬
‫مضي في التفصيل‪ .‬ستعمل قرارات مختصة بمبادئ الحق‬
‫المستحدث على حسب ما ترى‪ .‬وأهمية الكتمان تكمن في‬
‫حقيقة أن المبدأ الذي ل يذاع علنا ً يترك لنا حرية العمل‪ ،‬مع أن‬
‫مبدأ كهذا إذا أعلن مرة واحدة يكون كأنه قد تقرر(()‪-10/108‬‬
‫‪.(109‬‬
‫))وسنصور الخطاء التي ارتكبها المميون )غير اليهود(‬
‫في إدارتهم بأفضح اللوان‪ .‬وسنبدأ بإثارة شعور الزدراء نحو‬
‫منهج الحكم السابق‪ ،‬حتى إن المم ستفضل حكومة السلم في‬
‫جو العبودية على حقوق الحرية التي طالما مجدوها ‪ ...‬وسنوجه‬
‫عناية خاصة إلى الخطاء التاريخية للحكومات الممية‪)((..‬‬
‫‪.(158-14/156‬‬

‫‪36‬هذان السران من أخطر الأسرار السياسية‪ ،‬وعليهما تبنى النتائج‬


‫الخطيرة المشار إلى بعضها في الفقرة التالية لهما )من كلم‬
‫المترجم(‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫))وسنتقدم بدراسة مشكلت المستقبل بدل ً من‬
‫الكلسيكيات )‪ (Classics‬وبدراسة التاريخ القديم الذي يشتمل‬
‫على مثل )‪ (Examples‬سيئة أكثر من اشتماله على مثل‬
‫حسنة)‪ ،(37‬وسنطمس في ذاكرة النسان العصور الماضية التي‬
‫قد تكون شؤما علينا‪ ،‬ول نترك إل الحقائق التي ستظهر أخطاء‬
‫الحكومات في ألوان قاتمة فاضحة(()‪.(188-16/187‬‬
‫))غير أني سأسألكم توجيه عقولكم إلى أنه ستكون بين‬
‫النشرات الهجومية نشرات نصدرها نحن لهذا الغرض‪ ،‬ولكنها ل‬
‫تهاجم إل النقط التي نعتزم تغييرها في سياستنا‪ .‬ولن يصل‬
‫طرف من خبر إلى المجتمع من غير أن يمر على إرادتنا‪ .‬وهذا‬
‫ما قد وصلنا إليه حتى في الوقت الحاضر كما هو واقع‪ :‬فالخبار‬
‫تتسلمها وكالت )‪ (Agencies‬قليلة)‪ (38‬تتركز فيها الخبار من كل‬
‫أنحاء العالم‪ .‬وحينما نصل إلى السلطة ستنضم هذه الوكالت‬
‫ً‬
‫جميعا إلينا‪ ،‬ولن تنشر إل ما نختار نحن التصريح به من الخبار((‬
‫)‪.(136-12/135‬‬
‫))إن القيود التي سنفرضها على النشرات الخاصة‪ ،‬كما‬
‫بينت‪ ،‬ستمكننا من أن نتأكد من النتصار على أعدائنا‪ .‬إذ لن‬
‫تكون لديهم وسائل صحفية تحت تصرفهم يستطيعون حقيقة‬
‫أن يعبروا بها تعبيرا ً كامل ً عن آرائهم‪ ،‬ولن نكون مضطرين ولو‬
‫إلى عمل تنفيذ كامل لقضاياهم(()‪.(12/145‬‬
‫‪ .‬وبهذا يتذكر العقلء‪ ،‬قول الرسول ×‪)) :‬إن بين يدي‬
‫الساعة سنين خداعة‪ ،‬يصدق فيها الكاذب‪ ،‬ويكذب فيها الصادق‪،‬‬
‫ون فيها المين‪ ،‬وينطق فيها‬‫ويؤتمن فيها الخائن‪ ،‬ويخ ّ‬
‫الرويبضة ‪ .‬قيل‪ :‬وما الرويبضة ؟ قال‪ :‬المرء )الرجل( التافه‬
‫يتكلم في أمر العامة(()‪. (39‬‬

‫‪37‬أي‪ :‬إن اليهود سيدرسون يومئذ للشباب صفحات التاريخ السود‬


‫ليعرفوهم أن الشعوب عندما كانت محكومة بالنظم القديمة كانت‬
‫حياتها سيئة ول يدرسون لهم الفترات التي كانت الشعوب فيها‬
‫سعيدة‪ ،‬لكي يقنعوهم بهذه الدراسة الكاذبة الزائفة أن النظام‬
‫الجديد أفضل من القديم‪ ،‬وهذا ما يجري في روسيا الن‪ .‬وفي كل‬
‫بلد عقب كل انقلب سياسي)من كلم المترجم(‪.‬‬
‫‪38‬أي الوكالت الإخبارية‪ ،‬ويلحظ أن معظم هذه الوكالت تخضع‬
‫لليهود الن‪ ،‬فمعظم ما كانوا يشتهونه قد تحقق لهم الن )من كلم‬
‫المترجم(‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫وساحة هذا القانون‪) ،‬قانون إماتة الحتمالت الحية‬
‫وإحياء الحتمالت الميتة(‪ :‬الشعوب الغافلة )الغثاء( التي‬
‫تسعى الصهيونية والشيوعية الشتراكية إلى فصل قوتها عن‬
‫القوى الحاكمة‪ ،‬بل جعل قوة الشعب سندا ً إلى جانبهم‪ ،‬وهذا‬
‫السلوب من أمضى الساليب المستخدمة لسقاط النظمة‪،‬‬
‫لن تحالف القوى الحاكمة مع شعوبها يحول دون هدم اليهود‬
‫للدول المستهدفة‪ .‬وليت المسلمين يدركون ما يحاك ضدهم‪،‬‬
‫وما ينتظرهم من مصائب بعد سقوط النظمة المعتدلة‬
‫السلمية والوطنية المتبقية في ديارنا ـ السعودية‪ ،‬والردن‬
‫وأخواتهما ـ التي طالما تعمل اليهودية للفصل بينها وبين‬
‫ساحقا بأساليب‬
‫ً‬ ‫شعوبها‪ ،‬وقد نجحت في تحقيق ذلك نجاحاً‬
‫شتى‪.‬‬
‫تقول البروتوكولت الصهيونية اليهودية‪:‬‬
‫))إننا نخشى تحالف القوة الحاكمة في المميين )غير‬
‫اليهود( مع قوة الرعاع العمياء‪ ،‬غير أننا قد اتخذنا كل‬
‫الحتياطات لنمنع احتمال وقوع هذا الحادث‪ .‬فقد أقمنا بين‬
‫القوتين سدا ً قوامه الرعب الذي تحسه القوتان‪ ،‬كل من‬
‫الخرى‪ .‬وهكذا تبقى قوة الشعب سندا ً إلى جانبنا‪ ،‬وسنكون‬
‫وحدنا قادتها‪ ،‬وسنوجهها لبلوغ أغراضنا(()‪.(40‬‬
‫المثلة التطبيقية على هذا القانون‪:‬‬
‫هذه بعض المثلة الواقعية التي أظهرت مدى تأثرنا‬
‫بقانون‪)) :‬إماتة الحتمالت الحية وإحياء الحتمالت الميتة((‪.‬‬
‫‪ .1‬ألم تنتقد الشعوب الغافلة سياسة السعودية والردن‪ ،‬في‬
‫حين هدأت ونامت ضد سياسة الشتراكية اليهودية في ليبيا‬
‫الذي اقترح تسليم المسجد القصى لليهود وبناء مسجد‬
‫آخر‪ ،‬واقترح إنشاء دولة إسرائيلية فلسطينية سماها‬
‫مه )زمردة(‬ ‫)إسراطين(؟؟؟ علماً بأن القذافي ربته أ ّ‬
‫اليهودية؟؟؟‬

‫‪) 39‬صحيح (‪)) ،‬السلسلة الصحيحة((‪ ،‬للشيخ اللباني رحمه الله‪ ،‬رقم )‬
‫‪. (2253‬‬

‫‪40‬البروتوكول‪.(9) :‬‬

‫‪40‬‬
‫‪ .2‬ألم تنتقد الشعوب الغافلة وجود القوات المريكية في‬
‫السعودية ودول الخليج‪ ،‬بينما ل ترى القوات الروسية‬
‫والخبراء الروس بعشرات اللف في الدول الشتراكية‬
‫العربية‪ ،‬مثل سوريا والعراق واليمن الجنوبي سابقا‪ ،‬وإيران‬
‫الفارسية؟؟؟‬
‫‪ .3‬ألم ي َث ُْر العالم السلمي‪ ،‬بل العالم كله ضد تنفيذ قرار‬
‫التحالف بإزالة النظام الشتراكي في العراق‪ ،‬في حين‬
‫سكت العالم إلى حد كبير أمام قرار الحرب ضد حركة‬
‫طالبان؟؟؟!!!‪.‬‬
‫‪ .4‬ألم يتحرك العالم السلمي ومؤسساته الرسمية ليستنكر‬
‫جريمة العتداء على القرآن الكريم ـ وهذا حسن ـ في حين‬
‫هدأ الشارع السلمي ومؤسساته ضد قيام الشتراكية في‬
‫أوزبكستان ـ وهي إحدى الجمهوريات السلمية ذات‬
‫الستقلل الصوري عن التحاد السوفيتي السابق ـ في تلك‬
‫الثناء‪ ،‬بقتل )‪ (750‬مسلم؟ لماذا؟ لن جريمة العتداء على‬
‫القرآن الكريم كانت على يد أمريكا المعادية للشتراكية‬
‫اليهودية‪ ،‬علما ً أن معاداة الشتراكية هي في الحقيقة ضد‬
‫المشروع الصهيوني الكبر للسيطرة على العالم كله‪ ،‬لذا‬
‫ثارت الشعوب‪ .‬وأما الجريمة الثانية التي قتل فيها )‪(750‬‬
‫مسلما كانت على يد الشتراكية ربيبة اليهودية‪ ،‬فتجد‬
‫الشعوب قد تخدرت‪.‬‬
‫‪ .5‬ألم تثر الصحافة العالمية ضد معاملة المريكان للسجناء‬
‫في سجن أبو غريب ول زالت منذ أكثر من ثلثة أشهر‪ ،‬في‬
‫حين لم تسمع تلك الصحافة بجرائم الشتراكية والمقابر‬
‫الجماعية في نفس السجن في حكم البعث الشتراكي‪ ،‬بل‬
‫لم تعرف الصحافة‪ ،‬ول نحن معها اسمه قبل ذلك‪ ،‬إل‬
‫قليل؟؟؟!!!‬
‫ً‬
‫‪ .6‬أين حركة الغثاء ضد بناء جدار الفصل العنصري في‬
‫فلسطين على يد اليهود؟؟؟!!!‬
‫‪ .7‬أين حركة الغثاء ضد المقابر الجماعية وهتك العراض‬
‫المنظم من الشتراكيين في البوسنة والهرسك وكوسوفو‬
‫والعراق والصومال والتحاد السوفيتي والصين؟؟؟‬

‫‪41‬‬
‫ألم تقتل الشتراكية من المسلمين حوالي )‪(200‬‬
‫مليون مسلم‪ ،‬ول زالت تقتل؟؟؟ ألم تهدم مئات اللف‬
‫من المساجد ول زالت تهدم؟؟؟ ألم ت ُل ِْغ اللغة العربية‬
‫في الصين والتحاد السوفيتي‪ ،‬ول زالت ملغاة في‬
‫الصين؟؟؟‬
‫‪ .8‬ألم تنتقد الشعوب الغافلة سياسة السعودية ودول الخليج‬
‫النفطية‪ ،‬في حين لم تتطرق إلى نقد سياسات الدول‬
‫النفطية الشتراكية‪ ،‬التي أحرقت النفط في آباره‪ ،‬أو أهدته‬
‫إلى أسيادها اليساريين بأرخص الثمان؟‬
‫‪ .9‬هل يسمع أحد بـ )قانون لينين( الذي يقضي بالعمل على‬
‫إقامة دولة لليهود في فلسطين‪ ،‬وبناء على هذا القانون‬
‫أقيمت دولة إسرائيل؟ بينما هل يجهل أحد )وعد بلفور(؟‬
‫‪...‬إلخ‪.‬‬
‫إذن هناك حقائق كبيرة وخطيرة جدا تموت ول تذكر‪،‬‬
‫وأخرى حقيرة تحيا وتضخم على حساب الولى!!‬
‫فمن الذي أمات الولى وأحيا الثانية لدى الغثاء من‬
‫الناس‪ ،‬وكيف يتم ذلك؟ وهل لهذا القانون دوٌر في فتنة‬
‫الدجال؟ أسئلة بحاجة ماسة إلى إجابات صادقة!!‬
‫تقول بروتوكولت حكماء صهيون‪:‬‬
‫))وبفضل هذه الجراءات سنكون قادرين على إثارة‬
‫عقل الشعب وتهدئته في المسائل السياسية‪ ،‬حينما يكون‬
‫ضروريا ً لنا أن نفعل ذلك(()‪ .(41‬وهذا ما هو حاصل بالفعل‪ ،‬تثور‬
‫الشعوب للدفاع عن اليهود وابنتها الشتراكية‪ ،‬وتهدأ أمام‬
‫مخططاتهم وجرائمهم‪.‬‬
‫)و( سياسة التشهير‪:‬‬
‫إن من أخطار الكذب وأساليبه الوضيعة سياسة التشهير‬
‫بالمعارضين‪ ،‬فبعض الخصوم من اليهود وأفراخهم أمثال‬
‫درون على مواجهة الحق‬ ‫ق ِ‬
‫الشيوعية والشيعة المامية‪ ،‬ل ي َ ْ‬
‫بالحجة والبيان‪ ،‬فتجدهم يسارعون إلى التشهير بالخصوم‪،‬‬
‫وخاصة أهل العلم لتنفير الناس من الحق والحقيقة التي‬
‫ينتهجون‪ .‬فيبقى سوق باطلهم وإفكهم رائجًا‪ ،‬ومصالحهم‬

‫‪41‬البروتوكول‪.(12) :‬‬

‫‪42‬‬
‫دم هذا السلوب الحقير‬ ‫الموهومة والمزعومة قائمة‪ .‬وقد اسُتخ ِ‬
‫م المعارضون لدعوة التوحيد أنبياءهم‬ ‫منذ زمن بعيد‪ ،‬فقد ات ّهَ َ‬
‫بشتى انواع التهم الباطلة‪ ،‬ومن صور ذلك‪:‬‬
‫• التهام بالكذب والسحر والجنون والسفاهة‪ :‬قال‬
‫َ‬
‫من‬ ‫هم ّ‬ ‫قب ْل ِ ِ‬ ‫من َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما أَتى ال ّ ِ‬ ‫ك َ‬ ‫تعالى‪) :‬ك َذَل ِ َ‬
‫ن‪] ‬الذاريات‪.[52:‬‬ ‫قاُلوا سا ِ َ‬ ‫ل إ ِّل َ‬
‫جُنو ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫حٌر أ ْ‬ ‫َ‬ ‫سو ٍ‬ ‫ّر ُ‬
‫َ‬
‫ن‪] ‬الذاريات‪:‬‬ ‫جُنو ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫حٌر أ ْ‬ ‫سا ِ‬ ‫ل َ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫وّلى ب ُِرك ْن ِ ِ‬ ‫فت َ َ‬ ‫) َ‬
‫ُ‬
‫حٌر‬ ‫سا ِ‬ ‫ذا ل َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن إِ ّ‬ ‫و َ‬ ‫ع ْ‬ ‫فْر َ‬ ‫وم ِ ِ‬ ‫من َ‬
‫ق ْ‬ ‫مل ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫قا َ‬ ‫‪َ ) .[39‬‬
‫َ‬
‫ذٌر‬
‫من ِ‬ ‫هم ّ‬ ‫جاء ُ‬ ‫جُبوا أن َ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫م‪] ‬العراف‪َ ) .[109:‬‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫َ‬
‫ب‪] ‬ص‪.[4:‬‬ ‫ذا ٌ‬ ‫حٌر ك َ ّ‬ ‫سا ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن َ‬ ‫فُرو َ‬ ‫كا ِ‬ ‫ْ‬
‫ل ال َ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ّ‬
‫ه إ ِّنا ل َن ََراكَ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ِ‬ ‫و ِ‬ ‫من ق ْ‬ ‫ن كفُروا ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫مل ال ِ‬ ‫)قال ال َ‬
‫ن‪] ‬العراف‪.[66:‬‬ ‫ن الكاِذِبي َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫وإ ِّنا لن َظن ّك ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ة ِ‬ ‫ه ٍ‬ ‫فا َ‬ ‫س َ‬ ‫في َ‬ ‫ِ‬
‫• حادثة الفك‪ :‬تتمثل في التشهير والتنفير من دعوة‬
‫النبي ×‪ ،‬من خلل اتهام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها‬
‫فِتها‪ .‬فقد تولى إشاعة هذه الجريمة زعيم‬ ‫ع ّ‬ ‫ضها و ِ‬ ‫ب ِعِْر ِ‬
‫مها في أكرم بيت‬ ‫س ّ‬ ‫المنافقين في المدينة المنورة‪ ،‬فأطلق ُ‬
‫من البيوت على الله‪ ،‬ولم ي َْعلم هذا المنافق‪ ،‬بل إنه يعلم أن‬
‫في فعلته الشنيعة هذه طعنا ً في حكم الله سبحانه وتعالى‬
‫وإرادته‪ ،‬الذي اختار عائشة الطاهرة زوجاً للنبي الكريم ×‪.‬‬
‫ن الله‬ ‫وعلى الرغم من فداحة هذه الجريمة النكراء‪ ،‬إل أ ّ‬
‫سبحانه وتعالى وصفها بالخير‪ ،‬لما فيها من دروس وعبر‬
‫ة‬
‫صب َ ٌ‬‫ع ْ‬ ‫ك ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫ؤوا ِباْل ِ ْ‬ ‫جا ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫عظيمة‪ .‬قال تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م‪] ‬النور‪:‬‬ ‫خي ٌْر ل ّك ُ ْ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫ل ُ‬ ‫كم ب َ ْ‬ ‫شّرا ل ّ ُ‬ ‫سُبوهُ َ‬ ‫ح َ‬ ‫م َل ت َ ْ‬ ‫منك ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫‪.[11‬‬
‫من هذه العبر‪:‬‬
‫‪ .1‬تأخر نزول براءة عائشة رضي الله عنها لكثر من شهر‪،‬‬
‫وفي ذلك امتحان لردود الفعال لدى المؤمنين‪ .‬فالشاعة‬
‫كلما طال رواجها دون بيان زيفها‪ ،‬حصدت أكثر وجندت‬
‫عددا ً أكبر من المتشككين من الناس‪ ،‬وفي ذلك بلء‬
‫وتمحيص لليمان‪.‬‬
‫‪ .2‬تأثيم كل من ردد الشاعة‪ ،‬ولزعيمها الكبر العذاب‬
‫ب‬ ‫ما اك ْت َ َ‬
‫س َ‬ ‫هم ّ‬
‫من ْ ُ‬
‫ئ ّ‬
‫ر ٍ‬
‫م ِ‬ ‫العظيم‪ ،‬قال تعالى‪) :‬ل ِك ُ ّ‬
‫لا ْ‬
‫ب‬ ‫ع َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫م لَ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ه ْ‬ ‫وّلى ك ِب َْرهُ ِ‬
‫من ْ ُ‬ ‫ذي ت َ َ‬‫وال ّ ِ‬
‫ن اْل ِث ْم ِ َ‬‫م َ‬ ‫ِ‬
‫م‪] ‬النور‪.[11:‬‬ ‫ظي ٌ‬
‫ع ِ‬‫َ‬
‫‪43‬‬
‫‪ .3‬على المسلم المسارعة في الذب عن عرض كل مؤمن‬
‫علم صلحه وتقواه يقينًا‪ ،‬وخاصة إذا كانت التهمة كبيرة‬ ‫ُ‬
‫ومستبعدة‪ ،‬ول يجب عليه في هذه الحال التبين والتحقق‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫ها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫من صدق الخبر انطلقا ً من قوله تعالى‪َ) :‬يا أي ّ َ‬
‫َ‬
‫صيُبوا‬‫فت َب َي ُّنوا أن ت ُ ِ‬‫ق ب ِن َب َأ ٍ َ‬
‫س ٌ‬
‫فا ِ‬ ‫م َ‬ ‫جاءك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِإن َ‬ ‫آ َ‬
‫ن‪‬‬
‫مي َ‬ ‫عل ْت ُ ْ‬
‫م َناِد ِ‬ ‫ما َ‬
‫ف َ‬ ‫عَلى َ‬ ‫حوا َ‬ ‫صب ِ ُ‬‫فت ُ ْ‬‫ة َ‬‫هال َ ٍ‬‫ج َ‬
‫ما ب ِ َ‬
‫و ً‬
‫ق ْ‬ ‫َ‬
‫]الحجرات‪ .[6:‬فإن انتظار نتائج التحقيق ل يصلح في مثل هذا‬
‫المقام‪.‬‬
‫لذا فقد أّنب القرآن الكريم المسلمين لعدم المسارعة‬
‫إلى َرد ّ الشاعة وانتظار القول الفصل من الوحي‪ ،‬بل‬
‫ظيم‪،‬‬ ‫ن العَ ِ‬‫مِبين والب ُْهتا ِ‬ ‫طالبهم بوصفه فورا ً بإل ِْفك ال ّ‬
‫فالنتظار في مثل هذه الحال ليس في محله‪ ،‬وهو من‬
‫الورع البارد الذي يؤدي إلى نتائج سلبية‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ت‬‫مَنا ُ‬‫ؤ ِ‬ ‫وال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ن َ‬‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫موهُ ظَ ّ‬ ‫عت ُ ُ‬‫م ْ‬
‫س ِ‬ ‫وَل إ ِذْ َ‬ ‫)ل َ ْ‬
‫ن‪ ‬سورة‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫ك ّ‬ ‫ف ٌ‬ ‫ذا إ ِ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫قاُلوا َ‬ ‫و َ‬
‫خي ًْرا َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫س ِ‬
‫ف ِ‬ ‫ب َِأن ُ‬
‫ن‬
‫كو ُ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫قل ُْتم ّ‬‫موهُ ُ‬ ‫عت ُ ُ‬‫م ْ‬ ‫س ِ‬ ‫وَل إ ِذْ َ‬ ‫ول َ ْ‬ ‫النــور)‪َ ) .(12‬‬
‫َ‬
‫م‪‬‬
‫ظي ٌ‬ ‫ع ِ‬ ‫ن َ‬ ‫هَتا ٌ‬ ‫ه َ‬
‫ذا ب ُ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫حان َ َ‬ ‫سب ْ َ‬
‫ذا ُ‬ ‫ه َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ل ََنا أن ن ّت َك َل ّ َ‬
‫]النور‪.[16:‬‬
‫‪ .4‬أثرت الشاعة في مختلف درجات المؤمنين‪ ،‬منهم من‬
‫خاض مع الخائضين‪ ،‬مثل حسان بن ثابت‪ ،‬ومسطح بن‬
‫أثاثة‪ ،‬وحمنة بنت جحش‪ .‬ونقل الطبري بأسانيده اختلف‬
‫الرواة في الشخص الذي تولى كبره‪ ،‬على قولين‪:‬‬
‫الول‪ :‬هو حسان بن ثابت والثاني‪ :‬عبد الله بن أبي بن‬
‫سلول‪ ،‬ورجح الطبري الثاني حيث قال‪)) :‬وأولى القولين في‬
‫ذلك بالصواب قول من قال‪ :‬الذي تولى كبره من عصبة‬
‫الفك كان عبد الله بن أبي‪ ،‬وذلك أنه ل خلف بين أهل‬
‫العلم بالسير أنه الذي بدأ بذكر الفك(( أ‪ .‬هـ‪.‬‬
‫ومن الصحابة ـ علي ‪ ‬ـ ممن نصح النبي × بطلق‬
‫زوجه‪ ،‬ومنهم من توقف في المر ظاهرًا‪ ،‬وعلى رأسهم‬
‫النبي ×‪.‬‬
‫ولعل قول عائشة لمن حضر من المؤمنين‪ ،‬وفيهم النبي‬
‫مها أم رومان‪)) :‬والله لئن حلفت لتصدقوني‪ ،‬ولئن‬ ‫×‪ ،‬وأ ّ‬
‫مثلكم كيعقوب وبنيه‪ ،‬والله‬ ‫َ‬
‫مثلي و َ‬‫قلت لتعذروني‪َ ،‬‬
‫‪44‬‬
‫المستعان على ما تصفون‪ .‬قالت‪ :‬وانصرف ـ أي النبي ـ‬
‫فلم يقل شيئا((‪ .‬وهؤلء الذين تناقلوا الخبر بألسنتهم أثموا‬
‫ب‬
‫س َ‬‫ما اك ْت َ َ‬
‫هم ّ‬
‫من ْ ُ‬
‫ئ ّ‬
‫ر ٍ‬
‫م ِ‬ ‫فيما قالوا‪ .‬قال تعالى‪) :‬ل ِك ُ ّ‬
‫لا ْ‬
‫ب‬ ‫ع َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫م لَ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ه ْ‬ ‫وّلى ك ِب َْرهُ ِ‬
‫من ْ ُ‬ ‫وال ّ ِ‬
‫ذي ت َ َ‬ ‫ن اْل ِث ْم ِ َ‬‫م َ‬ ‫ِ‬
‫م‪ .‬أما ابن سلول فقد تولى كبره‪.‬‬ ‫ظي ٌ‬
‫ع ِ‬‫َ‬
‫خي ََرة‬
‫من هذه الحادثة يجب أن ل نستبعد خوض بعض ال ِ‬
‫من المؤمنين بالباطل‪ ،‬وإذا حصل فعلينا أن ل نغتر بقولهم‪،‬‬
‫وأن ل نشهر بهم‪ ،‬بل ننصحهم بالحكمة ل بالتجريح والتقبيح‪.‬‬
‫فها هو شاعر الدعوة حسان بن ثابت‪ ،‬قد لوثته الشاعة‪،‬‬
‫والشاعة إذا تكررت تقررت‪ ،‬وظنها الناس حقيقة‪ ،‬وأسلوب‬
‫تكرار الشاعة مع الزمن‪ ،‬من أمضى الساليب التي‬
‫يستخدها المغرضون‪.‬‬
‫‪ .5‬الشاعة سلح الجبناء‪ ،‬وهي ل تفرق بين صالح وغيره‪ ،‬بل‬
‫إن مقصود الشاعة عادة‪ ،‬النيل من الصالحين الصادقين‬
‫المناء من المؤمنين‪ ،‬لذا فعلى المؤمن ابتداًء‪ ،‬أن يظن بكل‬
‫من ظهر صلحه خيرًا‪ ،‬ولو توجهت إليه الشاعة‪ .‬أو أن‬
‫صد ْقَ وأمانة من طالته الشاعات وتكررت‬ ‫ب على ظنه ِ‬‫ي َغْل ُ َ‬
‫في حقه‪ ،‬سواء كان ذلك شخصا ً أم جماعة أم دولة‪ ،‬ول‬
‫يجوز العتماد على هذه القاعدة كليًا‪ ،‬حتى يعززها بدراسة‬
‫الفكار والمعتقدات التي من خللها سيعلم الحقيقة‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫ثانيًا‪ :‬فقه الموازنات‬

‫ُيعد فقه الموازنات أو فقه التعارض والترجيح‪ ،‬من العلوم‬


‫الأساسية الواجب معرفتها على طالب العلم لضبط فقه الواقع‪،‬‬
‫لما له من حاجة ماسة في مختلف شؤون الحياة النسانية‪ ،‬لذا‬
‫تجد أن هذا العلم يمارس من قبل الناس جميعا ً في حياتهم‬
‫المعيشية‪ ،‬للترجيح بين مصلحتين‪ ،‬أو بين مفسدتين‪ ،‬أو الموازنة‬
‫بين المصالح والمفاسد‪.‬‬
‫وتشتد الضرورة لفقه الموازنات‪ ،‬لتقرير مسائل فقه‬
‫ما تتعارض أمامهم‬‫السياسة الشرعية عند أولي المر‪ .‬فكثيرا ّ‬
‫المصلحة والمفسدة‪ ،‬أو المنافع مع بعضها البعض‪ ،‬أوالمفاسد‬
‫مع بعضها البعض‪ .‬وعليه جاء هذا العلم‪ ،‬الذي أرسى قواعده‬
‫علماء الصول‪ ،‬ليضع أمام المعنيين من المراء والقضاة‬
‫والسياسيين القواعد الضابطة للوصول إلى المصلحة المرجوة‬
‫عند تعارض الدلة‪.‬‬
‫أقسام فقه الموازنات‪:‬‬
‫يقسم فقه الموازنات إلى ثلثة أقسام رئيسية‪ ،‬وقد‬
‫استنبط العلماء قواعد هذا الفقه من القرآن والسنة‪:‬‬
‫)أ( الموازنة بين المصالح‪:‬‬
‫المصلحة لغة‪ :‬هي المنفعة‪ .‬وضدها يسمى‪ :‬مفسدة‪.‬‬
‫والمصلحة في الصطلح كما عرفها الغزالي هي‪)) :‬عبارة‬
‫في الصل عن جلب منفعة أو دفع مفسدة‪...‬والمحافظة على‬
‫مقصود الشرع‪ ،‬ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهي‬
‫)الدين‪ ,‬والنفس‪ ،‬والنسل‪ ،‬والعقل‪ ,‬والمال(‪...‬فكل ما يتضمن‬
‫حفظ هذه الصول الخمسة فهو مصلحة‪ ،‬وكل ما يفوت هذه‬
‫الصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة(()‪,(42‬‬
‫ومن الدلة التي استنبط منها العلماء قاعدة‬
‫ما َ‬
‫ذا‬ ‫ك َ‬‫سأ َُلون َ َ‬ ‫الموازنة بين المصالح‪ :‬قوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫وي َ ْ‬
‫و‪] ‬البقرة‪ .[219:‬فقدم القرآن الكريم‬ ‫ف َ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫ع ْ‬ ‫ن ُ‬
‫ق ِ‬ ‫ف ُ‬
‫قو َ‬ ‫ُين ِ‬
‫‪))42‬المستصفى((‪) ،‬ص ‪ ،(251‬عن كتاب ))مقاصد الشريعة((‪ ،‬لليوبي‬
‫)ص ‪.(390‬‬

‫‪46‬‬
‫مصلحة النفاق على العيال في حال عدم وفرة المال‪ ،‬على‬
‫مصلحة النفاق على الفقير‪.‬‬
‫قال العز بن عبد السلم‪)) :‬واعلم أن تقديم الصلح‬
‫فالصلح‪ ،‬ودرء الفسد فالفسد‪ ،‬مركوز في طبائع‬
‫العباد نظرا ً لهم من رب الرباب(()‪ .(43‬ويقول‪)) :‬والشريعة‬
‫كلها مصالح إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح(()‪.(44‬‬
‫يقول ابن تيمية‪)) :‬إذ الشريعة مبناها على تحصيل‬
‫المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬والورع‬
‫ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين‬
‫وإن حصل أدناهما(()‪ .(45‬ويقول‪)) :‬ومطلوبها ـ أي الشريعة ـ‬
‫ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً‪،‬‬
‫ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً(()‪.(46‬‬
‫)ب( الموازنة بين المصالح والمفاسد‪:‬‬
‫الصلح والفساد ضدان ذكرهما الله تعالى في آية‬
‫ح‪] ‬البقرة‪.[220:‬‬
‫صل ِ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬
‫سد َ ِ‬
‫ف ِ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫والل ّ ُ‬
‫ه يَ ْ‬ ‫واحدة‪َ ) :‬‬
‫وذكرهما منفردين في آيات أخر‪ ،‬كقوله تعالى‪) :‬إ ِّنا ل َ‬
‫ن ُضي َ‬
‫ن‪] ‬العراف‪ .[170:‬وقوله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫حي َ‬
‫صل ِ ِ‬‫م ْ‬‫جَر ال ْ ُ‬ ‫عأ ْ‬ ‫ِ ُ‬
‫ن‪] ‬يونس‪.[81:‬‬
‫دي َ‬
‫س ِ‬ ‫م ْ‬
‫ف ِ‬ ‫ْ‬
‫ل ال ُ‬‫م َ‬ ‫ع َ‬
‫ح َ‬ ‫صل ِ ُ‬ ‫َ‬
‫ه ل يُ ْ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ومن اليات الدالة على الموازنة بين المصالح‬
‫والمفاسد‪:‬‬
‫ق ْ‬
‫ل‬ ‫ر ُ‬ ‫س ِ‬ ‫مي ْ ِ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫ر َ‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫خ ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫ك َ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬ ‫قوله تعالى‪) :‬ي َ ْ‬
‫َ‬
‫من‬ ‫مآ أك ْب َُر ِ‬ ‫ه َ‬ ‫م ُ‬ ‫وإ ِث ْ ُ‬‫س َ‬ ‫ِ‬ ‫ع ِللّنا‬ ‫ف ُ‬‫مَنا ِ‬ ‫م ك َِبيٌر َ‬
‫و َ‬ ‫ما إ ِث ْ ٌ‬ ‫ه َ‬ ‫في ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫مآ أك ْب َُر‬ ‫نّ ْ‬
‫ه َ‬ ‫م ُ‬‫وإ ِث ْ ُ‬ ‫ما‪] ‬البقرة‪ .[219:‬ففي قوله تعالى‪َ ) :‬‬ ‫ه َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ف ِ‬
‫ما‪ ،‬دللة واضحة على الموازنة بين المصالح‬ ‫ه َ‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫ف ِ‬ ‫من ن ّ ْ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ما‪.‬‬ ‫ه َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫من ن ّ ْ‬ ‫مآ أك ْب َُر ِ‬ ‫ه َ‬ ‫م ُ‬ ‫وإ ِث ْ ُ‬ ‫والمفاسد‪ .‬في قوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫َ‬ ‫دُلوا ْ َ‬ ‫َ‬
‫و‬
‫حدَةً أ ْ‬ ‫وا ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ع ِ‬‫م أل ّ ت َ ْ‬ ‫فت ُ ْ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫فإ ِ ْ‬‫وقوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫عوُلوا ْ‪] ‬النساء‪ .[2:‬وفيها‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك أدَْنى أل ّ ت َ ُ‬ ‫م ذَل ِ َ‬‫مان ُك ُ ْ‬
‫ت أي ْ َ‬ ‫مل َك َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬

‫‪))43‬قواعد الحكام في مصالح النام(( )ص ‪.(7‬‬


‫‪44‬المصدر السابق )ص ‪.(11‬‬
‫‪))45‬فتاوى ابن تيمية في الفقه(( )‪.(30/193‬‬
‫‪))46‬فتاوى ابن تيمية في الفقه(( )‪.(23/343‬‬

‫‪47‬‬
‫تقديم مصلحة الزواج من واحدة‪ ،‬على مفسدة التعدد في‬
‫الزواج من النساء‪.‬وقاعدتها الصولية‪)) :‬درء المفاسد أولى‬
‫من جلب المنافع((‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية‪ ....)) :‬فالواجبات والمستحبات لبد أن‬
‫تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة‪ ,‬إذ بهذا بعثت الرسل‬
‫ونزلت الكتب‪.(47)((...‬‬
‫)ج( الموازنة بين المفاسد‪:‬‬
‫ذكر القرآن الكريم قصة الخضر ‪ ‬حين خرق السفينة‬
‫وهي صالحة‪ .‬فقد أحدث فيها مفسدة‪ ،‬ليدفع بها مفسدة أعظم‪،‬‬
‫أل وهي غصب السفينة من قبل الملك‪ .‬فلول هذا الخرق أو‬
‫المفسدة لخذها الملك‪ ،‬وضاع أهلها الذين يقتاتون بما رزقهم‬
‫ف َ‬
‫ة َ‬ ‫َ‬
‫ت‬‫كان َ ْ‬ ‫فين َ ُ‬
‫س ِ‬ ‫الله من دخلها‪ .‬قال تعالى‪) :‬أ ّ‬
‫ما ال ّ‬
‫ها‬ ‫ن أَ ِ‬
‫عيب َ َ‬
‫َ‬
‫تأ ْ‬ ‫فأَرد ّ‬
‫في ال ْبحر َ َ‬
‫َ ْ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫مُلو َ‬
‫ع َ‬
‫ن يَ ْ‬
‫كي َ‬
‫سا ِ‬
‫م َ‬‫لِ َ‬
‫با‪] ‬الكهف‪:‬‬ ‫ة َ‬ ‫خذ ُ ك ُ ّ‬ ‫ْ‬ ‫مل ِ ٌ‬ ‫و َ‬
‫ص ً‬
‫غ ْ‬ ‫فين َ ٍ‬
‫س ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ك ي َأ ُ‬ ‫هم ّ‬ ‫وَراء ُ‬
‫ن َ‬‫كا َ‬ ‫َ‬
‫‪.[79‬‬
‫وفي هذه القصة دليل على جواز قصد إحداث مفسدة‬
‫ما‪ ،‬لدفع أخرى راجحة‪ ،‬ول ُيعد ذلك من باب الخيانة للمانة أو‬
‫ّ‬
‫للمة‪.‬‬
‫ض الواقع نفسه بضغط من‬ ‫فكيف يكون الحال إذا فََر َ‬
‫الرعية المطالبين ببعض المور خلف الولى‪ ،‬كقيادة المرأة‬
‫للسيارات‪ ،‬أو عملها خارج البيت‪ ،‬أو بالضغط من قبلهم‪ ،‬أو من‬
‫قبل العداء لقبول بعض المفاسد المخالفة للشريعة‪،‬‬
‫كالمشاركة في المجالس البرلمانية بطريقة النتخابات‪ ،‬أو‬
‫تشكيل الحزاب‪ ،‬أو الستعانة بالجيوش غير المسلمة لدفع عدو‬
‫صائل‪ ،‬أو توقيع معاهدة سلم مع العداء والتنازل فيها عن‬
‫بعض الحقوق‪ ،‬أو بالضغط من قبل العداء لتسليمهم بعض‬
‫الرعايا المسلمين في ظروف خاصة حرجة‪ ،‬ل شك أن عمل‬
‫مثل هذه المور في مثل هذه الحوال القاهرة أولى بالجواز‪،‬‬
‫لما سيترتب على عدم الستجابة لهذه الضغوط من مفاسد‬
‫كبيرة تهدد وجود الدولة السلمية‪.‬‬

‫‪))47‬الفتاوى(( )‪.(28/26‬‬

‫‪48‬‬
‫فقد روى تاج الدين السبكي في أحداث سنة ‪616‬هـ‪،‬‬
‫قصة حصلت بين جنكزخان طاغية التتار والسلطان علء الدين‬
‫خوارزمشاه محمد بن تكش‪ ،‬أحد سلطين المماليك‪ ،‬وكان ملكا ً‬
‫عظيمًا‪ ،‬اتسعت ممالكه‪ ،‬وعظمت هيبته‪ ،‬وأذعنت له العباد‪...‬‬
‫مل هذا السلطان نتيجة ما حل بالمسلمين على يد‬ ‫ح ّ‬
‫والقصة ت ُ َ‬
‫التتار من ألوان الدمار والقتل‪ ،‬بسبب عدم تسليم نفس واحدة‬
‫من المسلمين لجنكيزخان‪ ،‬وتفصيل القصة بتصرف يسير‪ ،‬كما‬
‫يلي‪:‬‬
‫))ان جماعة من التجار المسلمين‪ ،‬خرجوا الى بلد‬
‫جنكزخان دون إذن السلطان خوازمشاه ومعهم المستظرفات‪.‬‬
‫فقابلهم جنكزخان وأكرمهم غاية الكرام‪ ،‬وردا ً على سؤاله لهم‪:‬‬
‫لي شيء انقطعتم عنا؟ فقالوا‪ :‬إن السلطان خوارزمشاه منع‬
‫التجار من المسافرة إلى بلدك‪ ،‬ولو علم بنا لهلكنا‪.‬‬
‫فأرسل جنكزخان رسله إلى خوارزمشاه لعادة العلقات‬
‫التجارية المتبادلة بين البلدين‪ .‬وأرسل من جهته تجارا ً معهم‬
‫أموال ل تعد ول تحصى‪ .‬فلما انتهوا إلى الترار عمد نائب‬
‫خوارزمشاه بها‪ ،‬فكتب إلى خوارزمشاه بأن يقتلهم ويأخذ‬
‫أموالهم‪ .‬فأصدر خوارزمشاه مرسوما ً بقتلهم وسلب ما كان‬
‫معهم‪ .‬فأرسل جنكزخان إلى خوارزمشاه‪ :‬هذا الذي جرى‪،‬‬
‫أعلمني هل هو عن رضى منك؟ إن لم يكن برضاك فنحن‬
‫نطلب بدمائهم من نائب الترار‪.‬‬
‫فكان جواب خوارزمشاه‪ :‬أن هذا كان بعلمي وأمري‪ ،‬وما‬
‫بيننا إل السيف‪ .‬فقام ولده السلطان جلل الدين وكان عاقل ً‬
‫وأشار على والده أن يتلطف في الجواب ويخلي بين‬
‫جنكزخان ونائب الترار‪ ،‬ويسلطه على دم واحدة‬
‫يحمي به المسلمين من نهر جيحون إلى قريب بلد‬
‫الشام‪ ،‬ومساجد ل تحصى عددها‪ ،‬ومدارس‪ ،‬وأمم ل‬
‫يحصون‪ ،‬وأقاليم‪ .‬فأبى والده إل السيف وأمر بقتل‬
‫الرسل‪.‬‬
‫ت كل قطرة من‬
‫جَر ْ‬
‫فيالها من فعلة ما كان أقبحها! أ ْ‬
‫دمائهم سيل ً من دماء المسلمين(()‪.(48‬انتهى‬

‫‪))48‬طبقات الشافعية((‪ .(233-1/232) ،‬تحت عنوان‪ :‬واقعة جنكزخان‬


‫وحفيده هولكو‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫وهذا ما حصل لحركة طالبان من قريب‪ .‬حيث‬
‫رفضت ما كان رفضه سببا ً في ضياع دولة وسقوطها‪.‬‬
‫وعلى الذين ل يستطيعون تقدير هذه المور‪ ،‬ترك خيار التقدير‬
‫لولي العلم الفقهاء في الواقع‪ ،‬ثم احترام رأيهم‪ ،‬وعدم‬
‫التعرض للحومهم‪ ،‬فهم ما قاموا بذلك إل لحفظ مقاصد‬
‫الشريعة‪ ،‬وعلى رأسها حفظ الضرورات‪.‬‬
‫وفي باب الترجيح بين المفاسد كذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫قَتا ٌ‬
‫ل‬ ‫ل ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫في ِ‬‫ل ِ‬ ‫قَتا ٍ‬‫حَرام ِ ِ‬ ‫ر ال ْ َ‬ ‫ه ِ‬‫ش ْ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫ك َ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬‫)ي َ ْ‬
‫د‬
‫ج ِ‬
‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫وال َ‬ ‫ه َ‬ ‫فٌر ب ِ ِ‬ ‫ُ‬
‫وك ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫عن َ‬ ‫صد ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه كِبيٌر َ‬ ‫َ‬ ‫في ِ‬ ‫ِ‬
‫وال ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫فت ْن َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫عندَ الل ّ ِ‬ ‫ه أك ْب َُر ِ‬ ‫من ْ ُ‬‫ه ِ‬ ‫هل ِ ِ‬
‫جأ ْ‬ ‫خَرا ُ‬ ‫وإ ِ ْ‬‫حَرام ِ َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ل‪] ‬البقرة‪ .[217:‬فمن باب درء المفسدة‬ ‫قت ْ ِ‬ ‫م َ‬‫أك ْب َُر ِ‬
‫الكبرى بالصغرى‪ ،‬أجاز لنا القرآن الكريم القتال في الشهر‬
‫الحرام مع أنه كبير‪ ،‬لدفع ما هو أكبر‪.‬‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫وةً ل ّل ّ ِ‬ ‫دا َ‬‫ع َ‬ ‫س َ‬ ‫ِ‬ ‫شدّ الّنا‬ ‫ن أَ َ‬ ‫جد َ ّ‬ ‫وقوله تعالى‪) :‬ل َت َ ِ‬
‫ودّةً‬ ‫م َ‬ ‫م ّ‬ ‫ه ْ‬‫قَرب َ ُ‬‫ن أَ ْ‬ ‫ول َت َ ِ‬
‫جد َ ّ‬ ‫كوا ْ َ‬‫شَر ُ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ذي َ‬‫وال ّ ِ‬ ‫هودَ َ‬ ‫مُنوا ْ ال ْي َ ُ‬‫آ َ‬
‫َ‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬‫ن ِ‬ ‫ك ب ِأ ّ‬ ‫صاَرى ذَل ِ َ‬ ‫وا ْ إ ِّنا ن َ َ‬‫قال ُ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مُنوا ْ ال ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ّل ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن‪] ‬المائدة‪.[82:‬‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬ ‫م ل َ يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫وأن ّ ُ‬ ‫هَباًنا َ‬ ‫وُر ْ‬ ‫ن َ‬ ‫سي َ‬ ‫سي ِ‬ ‫ق ّ‬ ‫ِ‬
‫ودللة الية‪ :‬ذكر لنا القرآن أسماء أشد الناس عداوة‬
‫للمؤمنين من بين جميع العداء‪ ،‬لخذ الحيطة والحذر من‬
‫جهتهم‪ .‬لذا فّرق الله سبحانه وتعالى بين المقاتلين لنا في الدين‬
‫ن‬
‫ع ِ‬
‫ه َ‬‫م الل ّ ُ‬ ‫من العداء من غيرهم‪ ،‬كما في قوله‪َ) :‬ل ي َن ْ َ‬
‫هاك ُ ُ‬
‫من‬ ‫كم ّ‬ ‫جو ُ‬ ‫ر ُ‬ ‫خ ِ‬‫م يُ ْ‬ ‫ول َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫دي ِ‬ ‫في ال ّ‬ ‫م ِ‬ ‫قات ُِلوك ُ ْ‬ ‫م يُ َ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ب‬‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫سطوا إ ِلي ْ ِ‬
‫ق ِ ُ‬ ‫وت ُ ْ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫م أن ت َب َّرو ُ‬ ‫رك ُ ْ‬ ‫ِدَيا ِ‬
‫قات َُلوك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ع ِ‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫هاك ُ ُ‬ ‫ما ي َن ْ َ‬ ‫ن*إ ِن ّ َ‬ ‫طي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ِ‬ ‫م ْ‬‫ال ْ ُ‬
‫عَلى‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫هُروا َ‬ ‫ظا َ‬ ‫م َ‬ ‫رك ُ ْ‬ ‫من ِدَيا ِ‬ ‫كم ّ‬ ‫جو ُ‬ ‫خَر ُ‬ ‫وأ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫دي ِ‬ ‫في ال ّ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ولئ ِ َ‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫م َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ه ُ‬
‫ك ُ‬ ‫فأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ول ُ‬ ‫من ي َت َ َ‬ ‫و َ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫ول ْ‬ ‫م أن ت َ َ‬ ‫جك ْ‬ ‫خَرا ِ‬ ‫إِ ْ‬
‫يقول ابن تيمية‪)) :‬إذ الشريعة‬ ‫ن‪]‬الممتحنة‪.[9-8:‬‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫ال ّ‬
‫مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد‬
‫وتقليلها‪ ،‬والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع‬
‫شر الشرين وإن حصل أدناهما(()‪ .(49‬ويقول‪)) :‬ومطلوبها ـ‬

‫‪))49‬فتاوى ابن تيمية في الفقه(( )‪.(30/193‬‬

‫‪50‬‬
‫اي الشريعة ـ ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً‬
‫ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً(()‪.(50‬‬
‫إذن في حالة تعارض المفاسد‪ ،‬وانطلقأ َ من قوله تعالى‪:‬‬
‫م‪] ‬التغابن‪ ،[16:‬فإنه ُيصار إلى‬ ‫ست َطَ ْ‬
‫عت ُ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫قوا الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫فات ّ ُ‬
‫) َ‬
‫دفعهما جميعًا‪ ،‬فإذا لم يندفعا جميعاً‪ ،‬دفعنا الفسد فالفسد‪،‬‬
‫على النحو التالي‪:‬‬
‫‪ -‬تدفع المفسدة المجمع عليها بالمفسدة المختلف فيها(()‪.(51‬‬
‫‪ -‬تدفع المفسدة الكبرى بالصغرى)‪.(52‬‬
‫‪ -‬تدفع المفسدة التي يترتب عليها ضرر عام بالتي يترتب عليها‬
‫ضرٌر خاص)‪.(53‬‬
‫الموازنة بين العداء‪:‬‬
‫أعداء السلم ليسوا سواًء‪ ،‬كما يظن أغلب العوام في‬
‫هذا الزمان‪ .‬وهذه الفكرة أثارها حزب التحرير والشيوعيون‬
‫والشتراكيون بين المسلمين لضللهم وخداعهم وصرفهم عن‬
‫أشد الناس عداوة للذين آمنوا‪ ،‬فراجت بيننا بالتكرار والزمن‪،‬‬
‫ن(‪.‬‬‫خوَ ٌ‬‫مقولة‪) :‬كلهم أعداء‪ ،‬أو كلهم َ‬
‫سّلمات‪ ،‬فترتب على ذلك‪،‬‬ ‫م َ‬ ‫ت هذه المقولة من ال ُ‬ ‫واعت ُب َِر ْ‬
‫ليس فقط تكذيب النظمة الصادقة وتخوين النظمة المينة‪،‬‬
‫َ‬
‫التي أمرنا الله تعالى أن نكون معهم‪ ،‬كما في قوله‪َ) :‬يا أي ّ َ‬
‫ها‬
‫ن‪] ‬التوبة‪:‬‬ ‫قي َ‬‫صاِد ِ‬
‫ع ال ّ‬ ‫م َ‬‫كوُنوا ْ َ‬ ‫و ُ‬ ‫قوا ْ الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫مُنوا ْ ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫‪ .[119‬بل انقلب هذا العداء للنظمة الصادقة والمينة إلى‬
‫عطف على أعدائنا البعثيين والشيوعيين وأمثالهم‪ .‬وهذا المر‬
‫جلل وشره مستطير‪ .‬فعكسوا الواقع والحقيقة في قول الله‬
‫مُنوا ْ‬
‫نآ َ‬ ‫وةً ل ّل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫دا َ‬ ‫ع َ‬‫س َ‬ ‫شدّ الّنا ِ‬ ‫ن أَ َ‬‫جد َ ّ‬ ‫تعالى‪) :‬ل َت َ ِ‬
‫ودّةً‬‫م َ‬‫م ّ‬‫ه ْ‬ ‫ن أَ ْ‬
‫قَرب َ ُ‬ ‫جد َ ّ‬ ‫ول َت َ ِ‬
‫كوا ْ َ‬ ‫شَر ُ‬‫ن أَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫هودَ َ‬‫ال ْي َ ُ‬
‫َ‬
‫م‬
‫ه ْ‬‫من ْ ُ‬
‫ن ِ‬ ‫صاَرى ذَل ِ َ‬
‫ك ب ِأ ّ‬ ‫وا ْ إ ِّنا ن َ َ‬
‫قال ُ َ‬ ‫ن َ‬‫ذي َ‬ ‫مُنوا ْ ال ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ل ّل ّ ِ‬
‫هباًنا َ‬
‫ن‪] ‬المائدة‪.[82:‬‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬‫م ل َ يَ ْ‬ ‫ه ْ‬‫وأن ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫وُر ْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سي َ‬ ‫سي ِ‬ ‫ق ّ‬ ‫ِ‬

‫‪))50‬فتاوى ابن تيمية في الفقه(( )‪.(23/343‬‬


‫‪))51‬مقاصد الشريعة السلمية((‪ ،‬للدكتور محمد سعد اليوبي‪) ،‬ص‬
‫‪ ،(399‬ط‪ ،1/‬دار الهجرة‪.‬‬
‫‪52‬المصدر السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬
‫‪53‬المصدر السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫ومن الدلة القرآنية الواردة لبيان فقه الموازنات بين‬
‫العداء‪:‬‬
‫ض‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫قوله تعالى‪ُ ) :‬‬
‫في أدَْنى الْر ِ‬ ‫م* ِ‬ ‫ت الّرو ُ‬ ‫غل ِب َ ِ‬
‫ن‬
‫سِني َ‬ ‫ع ِ‬ ‫د َ َ‬
‫ض ِ‬‫في ب ِ ْ‬ ‫ن* ِ‬ ‫غل ُِبو َ‬ ‫سي َ ْ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫غلب ِ ِ‬ ‫ع ِ‬
‫من ب َ ْ‬ ‫هم ّ‬
‫َ‬
‫و ُ‬ ‫َ‬
‫ح‬ ‫ذ يَ ْ‬
‫فَر ُ‬ ‫مئ ِ ٍ‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫َ ْ َ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫م‬
‫ْ ُ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫لِ‬
‫ن‪] ‬الرم‪. [3-2:‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫الملفت للنظر أن هذا الحدث‪ :‬هزيمة الروم أمام‬
‫الفرس‪ ،‬يبعد عن المدينة المنورة مسافة ل تقل عن )‪(1000‬‬
‫كم‪ .‬فلو لم يذكر لنا القرآن الكريم هذه الحادثة‪ ،‬لما ترتب على‬
‫المسلمين مفسدة تلحق بهم في ديارهم حينها‪ .‬إنما أراد منا‬
‫الشارع الحكيم أن نوظف هذا الحدث لمصلحتنا‪ ،‬ونحكم عليه‬
‫من خلل ثوابتنا وأصولنا وقواعدنا الفقهية السياسية‪.‬‬
‫فتجد أن المسلمين قد تعاطفوا مع الروم لنهم القرب‬
‫إلى ديننا من الفرس‪ ,‬علما ً أن هذا التعاطف معهم ليس من‬
‫باب الولء أو العمالة لهم في شيء‪ .‬إنما هو من باب تقليل‬
‫الشر في الرض قدر المكان‪ ،‬ولو بتغيير الشر الكبر والكفر‬
‫الكبر )الفرس(‪ ،‬بالشر الصغر والكفر الصغر )الروم(‪ ،‬تطبيقا ً‬
‫للقواعد الصولية‪)) :‬دفع الضرر الكبر بالضرر الصغر(( أو‪:‬‬
‫))اختيار أدنى المفسدتين(( أو ))درء المفاسد وتقليلها((‪ ،‬ول يقال‬
‫في مثل هذا الموضع )كلهم كفار( )‪ ،(54‬فهناك كفر وكفر أكبر‪،‬‬
‫وشر وشر أكبر‪.‬‬
‫وياللسف تجد البعض يوافقنا على هذه القواعد الأصولية‬
‫نظريًا‪ ،‬لكنه يخالفنا عمليا ً وواقعيًا‪ ،‬حين نقرر أن الخطر‬
‫الشتراكي اليهودي هو الكبر والشد على مصالح المسلمين‬
‫من الخطر الرأسمالي الغربي‪ ،‬انسجاما ً مع الواقع الذي نراه‬
‫ضمن تقريرات الشرع‪ ،‬ول يرونه بسبب الدعايه المضللة‪ ،‬ومع‬
‫مُنوا ْ‬
‫نآ َ‬ ‫وةً ل ّل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫دا َ‬
‫ع َ‬
‫س َ‬ ‫ن أَ َ‬
‫شدّ الّنا ِ‬ ‫الية القرآنية‪) :‬ل َت َ ِ‬
‫جد َ ّ‬
‫ودّةً‬‫م َ‬
‫م ّ‬‫ه ْ‬ ‫ن أَ ْ‬
‫قَرب َ ُ‬ ‫ول َت َ ِ‬
‫جد َ ّ‬ ‫كوا ْ َ‬ ‫شَر ُ‬‫ن أَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫هودَ َ‬‫ال ْي َ ُ‬
‫قال ُوا ْ إّنا ن َصارى ذَل ِ َ َ‬
‫م‬
‫ه ْ‬‫من ْ ُ‬
‫ن ِ‬ ‫ك ب ِأ ّ‬ ‫َ َ‬ ‫ن َ َ َ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫مُنوا ْ ال ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ل ّل ّ ِ‬
‫ن‪] ‬المائدة‪.[82:‬‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬‫م ل َ يَ ْ‬ ‫ه ْ‬
‫وأن ّ ُ‬
‫هَباًنا َ‬ ‫وُر ْ‬ ‫ن َ‬ ‫سي َ‬ ‫سي ِ‬ ‫ق ّ‬ ‫ِ‬
‫هجرة المسلمين إلى بلد الحبشة النصرانية‪:‬‬
‫‪54‬وقول‪) :‬كلهم كفار( ليس في المعاملة في الدنيا‪ ،‬بل في حكم‬
‫الخرة أنهم كلهم في النار‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫فهل يستقيم اتهام الصحابة المهاجرين إلى الحبشة‬
‫النصرانية بالولء والعمالة لها‪ ،‬لقبولهم العيش في كنف‬
‫النصارى وتحت حكمهم؟ إن المر ليس كذلك‪ ،‬إنما كانت‬
‫هجرتهم إلى الحبشة‪ ،‬من باب ))اختيار أدنى المفسدتين((‪،‬‬
‫فمفسدة قريش )الوثنية(‪ ،‬أبناء العمومة‪ ،‬أعظم من مفسدة‬
‫الحبشة )النصارى(‪ ،‬هذه مقاييس الشرع إعمال ً للمصالح‪ ،‬مع‬
‫أننا نسمع من يردد مقولة‪ :‬أّنا ضد أي عداء كان ضد أي عربي‪،‬‬
‫نقول‪ :‬حتى لو كان اشتراكيا ً كافرًا؟ فعجبا ً لهؤلء!!‬
‫فانطلقا ً من مقصد الشريعة السمى‪ )) :‬تحصيل‬
‫المصالح و تكميلها‪ ,‬وتعطيل المفاسد وتقليلها(( نقول باختصار‪:‬‬
‫علينا أن ل نرفض‪ ،‬بل نؤيد كل ما يؤدي إلى تغيير الواقع من‬
‫الشر إلى شر أقل منه‪ ،‬فإن ذلك يدفع باتجاه تقليل الشر في‬
‫الرض‪ ،‬وبالتالي يساهم في قرب النصر‪.‬‬
‫لذا قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه الله تعالى‪)) :‬ليس‬
‫العاقل الذي يعلم الخير من الشر إنما العاقل الذي يعلم خير‬
‫الخيرين وشر الشرين(()‪.(55‬‬
‫ويقول‪)) :‬فل يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ول‬
‫دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين‪ ،‬فإن الشريعة‬
‫جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها‬
‫بحسب المكان‪ ،‬ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن‬
‫يجتمعا جميعاً‪ ،‬ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً(()‪.(56‬‬
‫ويقول‪)) :‬إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح‬
‫وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬والورع ترجيح خير الخيرين‬
‫بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما(()‪.(57‬‬
‫إذن من الورع أن ندفع شر الشرين‪) :‬الشتراكية‬
‫الصهيونية( بالشر الدنى‪) :‬الديموقراطية الغربية(‪ ،‬ول يكون‬
‫ذلك إل في حالت الضطرار‪ ،‬أما في حالة الختيار‪ ،‬فل شرقية‬
‫ول غربية‪.‬‬
‫ولقد رفع الخميني الشتراكي الشيعي المامي شعار‪) :‬ل‬
‫شرقية ول غربية( أيام شاه إيران الرأسمالي‪ ،‬فلما استلم‬

‫‪))55‬فتاوى ابن تيمية في الفقه(( )‪.(20/54‬‬


‫‪))56‬فتاوى ابن تيمية في الفقه(( )‪.(23/343‬‬
‫‪))57‬فتاوى ابن تيمية في الفقه(( )‪.(30/193‬‬

‫‪53‬‬
‫الخميني الحكم جعلها شرقية اشتراكية وحارب التوجه‬
‫الرأسمالي الغربي الذي كان سائداً أيام الشاه‪ ،‬ولو كان مسلماً‬
‫حقا كما يدعي لرفض التوجه للشرق الشتراكي كذلك‪ ،‬إنما‬ ‫ً‬
‫استدرج غثاء المسلمين بشعاره المضلل حينئذ‪ ،‬وخدعهم بذلك‪،‬‬
‫وربط إيران بموسكو رأسًا‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫ثالثا‪ :‬فقه الولويات‬

‫ُيعد فقه الولويات من السس المهمة المرتبط بفقه‬


‫السياسة الشرعية‪ ،‬وفي العادة فإن ضبط فقه الموازنات‬
‫السابق الذكر‪ ،‬يعين الفقهاء على تحديد الولويات‪.‬‬
‫المقصود بفقه الولويات‪:‬‬
‫ما‪،‬‬
‫ترتيب العمال المطلوب القيام بها لتحقيق هدف ّ‬
‫حسب الهمية والحاجة إليها في الزمان أوالمكان المحددين‪،‬‬
‫بحيث ل نقدم المهم على الهم‪ ،‬ول ما هو من الدرجة الصغرى‬
‫على الدرجة الكبرى‪.‬‬
‫ولما كان الهدف المنشود لدى المسلمين عموما ً هو‬
‫العمل بكتاب الله وسنة نبيه وتطبيقهما في المجتمع السلمي‪،‬‬
‫للخروج من الزمات المختلفة‪ ،‬وليتحقق بذلك النصر على‬
‫الشهوات والشبهات والعداء‪ ،‬فإن الحاجة لفقه الولويات له‬
‫حضوره وأهميته‪ .‬وليس من الصعب على المسلمين التفاق‬
‫على تحديد شروط النصر‪ ،‬أو شروط التغيير‪ ،‬بقدر اتفاقهم على‬
‫تحديد الأولويات الواجب العمل بها في هذه المرحلة الحرجة‪.‬‬
‫فقد نتفق على ضرورة هذه الشروط‪ ،‬لكن سرعان ما نختلف‬
‫على أولويات العمل بها‪.‬‬
‫أهم الموضوعات في ترتيب سلم الولويات في‬
‫الفقه السياسي‬
‫• العقيدة أول ً‪:‬‬
‫وفيه العمل على تجذير اليمان الصادق في المة‪ ،‬وعبادة‬
‫ن ي َك ْ ُ‬
‫فْر‬ ‫م ْ‬ ‫الله وحده واجتناب الطاغوت‪ .‬قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫ف َ‬
‫ة‬
‫و ِ‬
‫عْر َ‬‫ك ِبال ْ ُ‬‫س َ‬‫م َ‬
‫ست َ ْ‬
‫دا ْ‬ ‫ق ِ‬ ‫ف َ‬‫ه َ‬‫من ِبالل ّ ِ‬ ‫وي ُ ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ت َ‬ ‫غو ِ‬ ‫طا ُ‬ ‫ِبال ّ‬
‫ُ‬ ‫ول َ َ‬
‫سول ً‬
‫ة ّر ُ‬‫م ٍ‬ ‫لأ ّ‬ ‫في ك ُ ّ‬ ‫عث َْنا ِ‬
‫قد ْ ب َ َ‬ ‫ى‪] ‬البقرة‪َ ) .[256:‬‬ ‫ق َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫وث ْ َ‬
‫جت َن ُِبوا ْ ال ّ‬ ‫َ‬
‫ت‪] ‬النحل‪.[36:‬‬ ‫غو َ‬‫طا ُ‬ ‫وا ْ‬
‫ه َ‬ ‫دوا ْ الل ّ َ‬
‫عب ُ ُ‬
‫نا ْ‬ ‫أ ِ‬
‫فالعقيدة مقدمة على كل عمل مهما كانت سمو درجته‪،‬‬
‫فل نصر ول عز ول كرامة مع الشرك‪ ،‬ل في الدنيا ول في‬
‫الخرة‪ .‬ومن المهم تقديم رابطة العقيدة على كل رابطة من‬
‫دونها مهما كانت صلتها بالفرد‪ ،‬كرابطة القرابة والنسب‪،‬‬

‫‪55‬‬
‫ورابطة الرض‪ ،‬ورابطة القومية‪ ،‬وأمثالها‪ .‬قال تعالى‪َ) :‬ل‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ن َ‬ ‫دو َ‬ ‫وا ّ‬ ‫ر يُ َ‬ ‫ِ‬ ‫وم ِ اْل ِ‬
‫خ‬ ‫وال ْي َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ن ِبالل ّ ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫ما ي ُ ْ‬ ‫و ً‬ ‫ق ْ‬ ‫جد ُ َ‬ ‫تَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫و‬‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫و أب َْناء ُ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫كاُنوا آَباء ُ‬ ‫و َ‬ ‫ول َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫وَر ُ‬ ‫ه َ‬ ‫حادّ الل ّ َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ه ُ‬ ‫في قلوب ِ ِ‬ ‫ب ِ‬ ‫ولئ ِك كت َ َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫شيَرت َ ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫وان َ ُ‬ ‫خ َ‬ ‫إِ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ري‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫خل ُ‬ ‫وي ُدْ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫هم ب ُِرو ٍ‬ ‫وأي ّدَ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ما َ‬ ‫لي َ‬ ‫ا ِْ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫ه ْ‬ ‫عن ْ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ي الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ها َر ِ‬ ‫في َ‬ ‫ن ِ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫هاُر َ‬ ‫ها اْلن ْ َ‬ ‫حت ِ َ‬ ‫من ت َ ْ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ه ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫ب الل ِ‬ ‫حْز َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ه أل إ ِ ّ‬ ‫ب الل ِ‬ ‫حْز ُ‬ ‫ولئ ِك ِ‬ ‫هأ ْ‬ ‫عن ْ ُ‬ ‫ضوا َ‬ ‫وَر ُ‬ ‫َ‬
‫ن‪] ‬المجادلة‪.[22:‬‬ ‫ُ َ‬ ‫حو‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫ف‬ ‫ْ‬ ‫م‬‫ا ُ‬‫ْ‬ ‫ل‬
‫• الركان مقدمة على سائر الفرائض‪:‬‬
‫بعد سلمة العقيدة‪ ،‬تأتي أركان السلم في الولوية‬
‫لعظم شأنها‪ ،‬ويكفي أن يقال فيها‪ ،‬ما جاء عن النبي ×‪)) :‬بني‬
‫السلم على خمس‪ :‬شهادة أن ل إله إل الله وأن‬
‫محمدا رسول الله وإقام الصلة وإيتاء الزكاة وصوم‬
‫رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلً((‪ .‬فهي من‬
‫المعلوم من الدين بالضرورة‪ ،‬فمن أنكرها‪ ،‬أو استهزأ بها‪ ،‬فقد‬
‫كفر‪.‬‬
‫• الفرائض مقدمة على النوافل‪:‬‬
‫عن أبي هريرة ‪ ‬عن النبي × أنه قال‪)) :‬يقول الله‬
‫تعالى‪ :‬من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة‪ ،‬وما‬
‫تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ول يزال‬
‫عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته‪(( ...‬‬
‫]صحيح[‪.‬‬
‫ودللة الحديث واضحة في قوله‪)) :‬وما تقرب إلي‬
‫عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه((؛ فالفرائض أحب إلى‬
‫الله تعالى من النوافل‪ ،‬التي تأتي بالدرجة التالية‪ ،‬وهذه‬
‫الفرائض المقصودة هي ما انعقد عليها إجماع المة من دون‬
‫الركان السابقة‪ .‬منها حرمة الربا‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬والحدود‪،‬‬
‫والمواريث‪ ،‬والزواج‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫• تقديم فهم الصحابة على غيرهم‪:‬‬
‫المقصود تقديم إجماع فهم الصحابة على غيرهم‪ ،‬لقوله‬
‫ن لَ ُ‬
‫ه‬ ‫ما ت َب َي ّ َ‬
‫د َ‬
‫ع ِ‬
‫من ب َ ْ‬ ‫سو َ‬
‫ل ِ‬ ‫ق الّر ُ‬
‫ق ِ‬ ‫من ي ُ َ‬
‫شا ِ‬ ‫تعالى‪َ ) :‬‬
‫و َ‬
‫وّلى‬
‫ما ت َ َ‬ ‫ول ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ن نُ َ‬
‫مِني َ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ل ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ع َ‬
‫غي َْر َ‬ ‫وي َت ّب ِ ْ‬
‫دى َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫‪56‬‬
‫را‪] ‬النساء‪.[115:‬‬
‫صي ً‬
‫م ِ‬
‫ت َ‬
‫ساء ْ‬
‫و َ‬
‫م َ‬
‫هن ّ َ‬
‫ج َ‬
‫ه َ‬
‫صل ِ ِ‬
‫ون ُ ْ‬
‫َ‬
‫قال ابن كثير في تفسيرها‪)) :‬ومن يشاقق الرسول من‬
‫طريقا غير طريق‬
‫ً‬ ‫بعد ما تبين له الهدى‪ ،‬أي‪ :‬ومن سلك‬
‫الشريعة التي جاء بها الرسول ×‪ ،‬فصار في شق والشرع في‬
‫شق‪ ،‬وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح‬
‫ن(‪ :‬هذا ملزم‬
‫مِني َ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ل ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ع َ‬
‫غي َْر َ‬ ‫وي َت ّب ِ ْ‬
‫له‪ ،‬وقوله ) َ‬
‫للصفة الولى ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع‪ ،‬وقد تكون‬
‫لما اجتمعت عليه المة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه‬
‫تحقيقاً‪ ،‬فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ‬
‫تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم(( اهـ‪.‬‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ري َ‬‫ج ِ‬ ‫ها ِ‬ ‫م َ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫وُلو َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫قو َ‬ ‫ساب ِ ُ‬ ‫وال ّ‬ ‫) َ‬
‫َ‬
‫م‬
‫ه ْ‬
‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ي الل ّ ُ‬
‫ض َ‬ ‫ن ّر ِ‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫هم ب ِإ ِ ْ‬ ‫عو ُ‬ ‫ن ات ّب َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫ر َ‬ ‫ِ‬ ‫صا‬ ‫والن َ‬ ‫َ‬
‫هاُر‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ها الن ْ َ‬ ‫حت َ َ‬‫ري ت َ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫عد ّ ل ُ‬ ‫وأ َ‬ ‫ه َ‬ ‫عن ْ ُ‬ ‫ضوا َ‬ ‫وَر ُ‬ ‫َ‬
‫م‪] ‬التوبة‪.[100:‬‬ ‫ظي‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫دا‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ها‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫دي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫خا‬
‫َ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫وقال رسول الله ×‪)) :‬خير أمتي قرني‪ ،‬ثم الذين‬
‫يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم(( ]رواه البخاري‪[.‬‬
‫• البناء الخلقي‪:‬‬
‫سوًل‬ ‫ُ‬
‫ن َر ُ‬ ‫مّيي َ‬ ‫في اْل ّ‬ ‫ث ِ‬‫ع َ‬ ‫ذي ب َ َ‬ ‫و ال ّ ِ‬ ‫لقوله تعالى‪ُ ) :‬‬
‫ه َ‬
‫ب‬‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫ه ُ‬ ‫م ُ‬ ‫عل ّ ُ‬
‫وي ُ َ‬‫م َ‬‫ه ْ‬ ‫كي ِ‬ ‫وي َُز ّ‬‫ه َ‬ ‫م آَيات ِ ِ‬
‫ه ْ‬ ‫م ي َت ُْلو َ َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ّ‬
‫ن‪‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫من َ‬
‫قب ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫مِبي ٍ‬‫ل ّ‬ ‫ضل ٍ‬ ‫في َ‬ ‫لل ِ‬ ‫وِإن كاُنوا ِ‬ ‫ة َ‬
‫م َ‬ ‫حك َ‬ ‫وال ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫من‬ ‫ح َ‬‫سورة الجمعة)‪ .(2‬قال تعالى‪) :‬قدْ أفل َ‬
‫ها‪] ‬الشمس‪ .[9:‬فتزكية النفس المؤمنة بالخلق الحسن‬ ‫كا َ‬ ‫َز ّ‬
‫والقيم النبيلة من ضرورات التغيير المنشود‪ .‬بل إن بناء الهيكل‬
‫الخلقي له أكبر الثر في التأثير في الخرين‪ ،‬لن حسن‬
‫الخلق من مقومات ثبات المجتمع ولمعان بريقه في عيون‬
‫الغير‪.‬‬
‫• رعاية الضروريات‪ ،‬ثم الحاجيات‪ ،‬ثم‬
‫التحسينيات‪:‬‬
‫لقد جاءت الشريعة السلمية بجملة من المصالح للعناية‬
‫بها وإقامتها في المجتمع‪ ،‬ولتفاوت درجات هذه المصالح في‬
‫الهمية‪ ،‬تقدم المصالح الضرورية على المصالح الحاجية‪ ،‬وتقدم‬
‫المصالح الحاجية على المصالح التحسينية‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫أ( الضروريات‪:‬‬
‫يقول الشاطبي في تعريفها‪)) :‬ما ل بد منها في قيام‬
‫مصالح الدين والدنيا‪ ،‬بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على‬
‫استقامة‪ ،‬بل على فساد وتهارج وفوت حياة‪ ،‬وفي الخرى فوت‬
‫النجاة والنعيم‪ ،‬والرجوع بالخسران المبين(( )‪. (58‬‬
‫وقد جاءت كل أمة بحفظها وهي‪ :‬حفظ الدين‪ ,‬والنفس‪،‬‬
‫والنسل‪ ،‬والعقل‪ ,‬والمال‪ ,‬وقد شرع السلم لحفظ هذه‬
‫الضروريات ما يجلبها وما يحفظها‪ ،‬وهي متفاوتة في درجاتها‪،‬‬
‫فأولها وأولها‪ ،‬حفظ الدين‪ ،‬فهو مقصد الحياة‪ ،‬لقوله تعالى‪:‬‬
‫ن‪] ‬الذاريات‪.[56:‬‬
‫دو ِ‬ ‫س إ ِّل ل ِي َ ْ‬
‫عب ُ ُ‬ ‫وا ْ ِ‬
‫لن َ‬ ‫ن َ‬ ‫ت ال ْ ِ‬
‫ج ّ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ق ُ‬ ‫ما َ‬ ‫) َ‬
‫و َ‬
‫فل يجوز التنازل عن الدين وتركه لجل أي من هذه‬
‫الضرورات‪ ،‬إل من أكره وقلبه مطمئن باليمان‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ُ‬
‫قل ْب ُ ُ‬
‫ه‬ ‫و َ‬ ‫ن أك ْ ِ‬
‫ره َ َ‬ ‫ه إ ِل ّ َ‬
‫م ْ‬ ‫مان ِ ِ‬
‫د إي َ‬
‫ع ِ‬
‫من ب َ ْ‬ ‫فَر ِبالل ّ ِ‬
‫ه ِ‬ ‫من ك َ َ‬
‫) َ‬
‫صدًْرا‬
‫ر َ‬ ‫ف ِ‬‫ح ِبال ْك ُ ْ‬‫شَر َ‬‫من َ‬ ‫كن ّ‬ ‫ول َ ِ‬
‫ن َ‬‫ما ِ‬
‫لي َ‬
‫ن ِبا ِ‬ ‫مطْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬ ‫ُ‬
‫م‪] ‬النحل‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫ظي‬‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ب‬
‫ٌ‬ ‫ذا‬‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫َ ُ ْ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ٌ ّ َ‬‫ب‬ ‫ض‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫غ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ي‬‫َ‬
‫َ ْ ِ ْ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫‪ ،[106‬كما حصل مع عمار بن ياسر رضي الله عنه‪ ،‬إذ شتم‬
‫نبيه‪ ،‬تحت الكراه‪.‬‬
‫ب( الحاجيات‪:‬‬
‫وهي التي يتعلق بها رفع الحرج في العبادات والعادات‬
‫والمعاملت)‪ .(59‬فقد تميزت هذه الشريعة السمحاء برفع الحرج‬
‫ن‬
‫دي ِ‬‫في ال ّ‬ ‫م ِ‬‫عل َي ْك ُ ْ‬ ‫ع َ‬
‫ل َ‬ ‫ج َ‬
‫ما َ‬‫و َ‬ ‫عن أهلها‪ ،‬لقوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫سا‬
‫ف ً‬ ‫ف الل ّ ُ‬
‫ه نَ ْ‬ ‫ج‪] ‬الحج‪ .[78:‬وقوله تعالى‪) :‬ل َ ي ُك َل ّ ُ‬ ‫حَر ٍ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ِ‬
‫ها‪] ‬البقرة‪ .[286:‬والحاجة إلى الحاجيات تكون دون‬ ‫ع َ‬‫س َ‬
‫و ْ‬ ‫ّ‬
‫إ ِل ُ‬
‫الضرورات التي لو فقدت لختل نظام الحياة‪.‬‬
‫حقَ بالناس حرج ومشقة‪ ،‬في‬ ‫فالحاجيات لو فقدت ل َل َ ِ‬
‫عباداتهم‪ ،‬كالصيام في نهار رمضان للمسافر والمريض‪ ،‬وما‬
‫يلحق بالناس من حرج في عاداتهم‪ ،‬كالمأكل والمشرب‬
‫والمسكن والملبس‪ ،‬ودرجة الحاجيات في هذه العادات هي‬
‫درجة التوسط‪ ،‬فالحد الدنى منها يعد من الضروريات‪ ،‬والحد‬

‫‪))58‬الموافقات(( )‪.(2/8‬‬
‫‪59‬انظر‪)) :‬الموافقات((‪ ،‬للشاطبي‪)) ،(2/11) :‬الحكام(( للمدي )‬
‫‪.(3/274‬‬

‫‪58‬‬
‫العلى من التحسينيات‪.‬‬
‫ج( التحسينيات‪:‬‬
‫تكون فيما يتعلق بمكارم الخلق)‪ .(60‬وهي‪ :‬ما ل يرجع‬
‫إلى ضرورة ول إلى حاجة‪ ،‬وهي‪)) :‬خادم للصل الضروري‬
‫ومحسنة لصورته الخاصة(()‪ .(61‬وبها يظهر ))كمال المة في‬
‫نظامها حتى تعيش أمة آمنة مطمئنة‪ ،‬ولها بهجة منظر المجتمع‬
‫في مرأى بقية المم حتى تكون الأمة السلمية مرغوباً في‬
‫الندماج فيها‪ ،‬أو في التقرب منها(()‪.(62‬‬

‫‪))60‬الموافقات((‪ ،‬للشاطبي )‪.(2/11‬‬


‫‪))61‬الموافقات((‪ ،‬للشاطبي )‪.(2/42‬‬
‫‪))62‬مقاصد الشريعة((‪ ،‬لبن عاشور‪) ،‬ص ‪.(82‬‬

‫‪59‬‬
‫رابعًا‪ :‬فقه التغيير‬

‫تسعى كل أمة من المم عبر التاريخ للحصول على‬


‫التغيير اليجابي الذي يحقق لها المصالح ويدرأ عنها المفاسد‪،‬‬
‫وفق معتقداتها وأخلقها‪ .‬لذا فقد اختلفت مدارس التغيير‬
‫وتباينت نتيجة لتلك المبادىء والمعتقدات‪.‬‬
‫ففي الوقت الذي سعت فيه بعض المدارس أمثال‬
‫الملحدين وعبدة الوثان‪ ،‬إلى المخلوق لنيل التغيير اليجابي‪،‬‬
‫توجهت أخرى من أتباع الديانات السماوية إلى الخالق‪ .‬ثم‬
‫تباينت بعد ذلك رؤى أصحاب المذاهب الرضية إلى طرق شتى‪،‬‬
‫ففى الوقت الذي رأى فيه البعض النطلق إلى الهدف من‬
‫صَرهُ آخرون في التغيير السياسي‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫ح َ‬
‫التغيير القتصادي‪َ ،‬‬
‫أما داخل المدرسة السلمية‪ ،‬فقد تباينت كذلك رؤى‬
‫الصلح والتغيير‪ ،‬قديما وحديثًا‪ ،‬فمن جهة مصدر التلقي‪ ،‬انقسم‬
‫الصلحيون إلى ثلث مدارس‪:‬‬
‫• مدرسة النقل )الوحي(‪ :‬وهؤلء ينطلقون من العقيدة‬
‫السليمة ومحاربة الشرك‪ ،‬والدعوة إلى التباع ونبذ‬
‫البتداع‪ ،‬وهم السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان‪،‬‬
‫وشعارهم في الواقع المعاصر )التصفية والتربية(‪.‬‬
‫• مدرسة العقل‪ :‬وهؤلء يقدمون العقل على النقل‬
‫)الوحي(‪ .‬وأشهر رؤوسهم المعتزلة والشاعرة‪.‬‬
‫• مدرسة الكشف والذوق‪ :‬وهؤلء ينطلقون من الكشف‬
‫الصوفي للوصول إلى الحقيقة‪ ،‬وهي في نظرهم وحدة‬
‫الوجود‪.‬‬
‫• أما من جهة ساحة التغيير‪ ،‬فقد انقسمت رؤى الصلح‬
‫والتغيير إلى‪:‬‬
‫• مدرسة الدعوة إلى التغييرعن طريق تغيير ما بالنفس‪،‬‬
‫حّتى‬‫وم ٍ َ‬ ‫ما ب ِ َ‬
‫ق ْ‬ ‫غي ُّر َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ل َ يُ َ‬ ‫لقوله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م‪] ‬الرعد‪ .[11:‬وأصحاب هذه‬ ‫ه ْ‬‫س ِ‬
‫ف ِ‬‫ما ب ِأ َن ْ ُ‬
‫غي ُّروا ْ َ‬
‫يُ َ‬
‫المدرسة هم السواد العظم في كل زمان‪ ،‬وهم السلف‬
‫الصالح ومن تبعهم بإحسان‪ ،‬ومن المعاصرين‪ :‬السلفيون‪،‬‬

‫‪60‬‬
‫والخوان المسلمون‪ ،‬وجماعة الدعوة والتبليغ‪،‬‬
‫والصوفيون‪.‬‬
‫• مدرسة الدعوة إلى التغييرعن طريق تغيير النظمة‬
‫القائمة‪ ،‬وأصحاب هذه المدرسة هم‪ :‬الخوارج قديمًا‪،‬‬
‫و)حزب التحرير السلمي( حديثًا‪ ،‬وهم الوحيدون الذين‬
‫خرجوا عن السواد العظم‪ ،‬ومنهج السلف الصالح عبر‬
‫العصور‪ ،‬ومنهجهم يقوم على تغيير النظمة الحاكمة ليقوم‬
‫السلم كله في الناس‪.‬‬
‫ومع التكرار والزمن‪ ،‬فقد تأثر بطرح الخوارج وحزب‬
‫التحرير‪ ،‬كثيرون ممن ينتسبون إلى الجماعات السلمية‬
‫الخرى‪ ،‬مثل الخوان المسلمين‪ -‬في وقت مبكر‪-‬‬
‫والسلفية‪ ،‬والصوفية‪ ،‬والدعوة والتبليغ‪ .‬ففي الوقت الذي‬
‫اكتفى فيه بعض هؤلء من المتأثرين بالخوارج وبفكر حزب‬
‫التحرير بالمعارضة السياسية ومناكفة النظمة القائمة‬
‫سلميًا‪ ،‬دعا البعض الخر منهم إلى الخروج على النظمة‬
‫بحمل السلح‪ ،‬وتطور المر ببعضهم إلى التكفير والتفجير‬
‫وإذا علمنا أن مؤسس حزب التحرير الشيخ‬ ‫العشوائي‪.‬‬
‫تقي الدين النبهاني‪ ،‬كان بعثياً اشتراكيا ً )‪ .(63‬وكان عضوا ً‬
‫في )كتلة القوميين العرب( اليسارية)‪ ،(64‬قبل تأسيسه‬
‫لحزب التحريـر‪ ،‬تبين لنا مصدر فسـاد منهج حزب التحرير‬
‫في التغيير‪.‬‬
‫فالشتراكية ـ وهي من أصل يهودي ـ تقوم على تطبيق‬
‫نظرية ماركس للتفسير المادي للتاريخ‪ ،‬وهذه النظرية‬
‫تعمل على قلب النظم السياسية والجتماعية القائمة في‬
‫العالم أجمع‪ ،‬ومنها الدول السلمية التي تعادي اليسار‪،‬‬
‫ت هذه النظرية في فكر الحزب وكتبه ومنشوراته‪،‬‬ ‫فَ َ‬
‫سَر ْ‬
‫ومن ثم إلى أفراده‪ ،‬ومن ثم إلى المة السلمية‪.‬‬
‫أما من جهة طبيعة التغيير ومادته‪ ،‬فقد تباينت الجماعات‬
‫السلمية المعاصرة فيه تباينا ً واضحاً‪ ،‬علماً بأن الجميع يقولون‬
‫بأنهم يتخذون من الكتاب والسنة دستورًا‪ ،‬ومنهجاً في التغيير‪.‬‬
‫‪))63‬موسوعة الحركات السلمية في الوطن العربي وإيران وتركيا((‪،‬‬
‫)ص ‪ ،(397‬إصدار مركز دراسات الوحدة العربية‪.‬‬
‫‪))64‬القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين من ‪-1917‬‬
‫‪ ، ((1948‬تأليف‪ :‬بيان نويهض‪) ،‬ص ‪ ،(900‬طبعة بيروت‪.(1981) ،‬‬

‫‪61‬‬
‫وهذا هو أهم وأبرز جانب من الجوانب التي ركزت عليها كل‬
‫جماعة‪:‬‬
‫أبرز جانب اشتهرت به‬ ‫اسم‬
‫الجماعة‬
‫العقيدة ومجانبة البدع بالمر‬ ‫السلفية‬
‫والنهي‬
‫الذكر والدروشة‬ ‫الصوفية‬
‫الحركة والتنظيم والتجميع‬ ‫الخوان‬
‫كيفما اتفق‬ ‫المسلمون‬
‫السياسة‬ ‫حزب التحرير‬
‫المر بالمعروف والوعظ‬ ‫الدعوة‬
‫القصصي‬ ‫والتبليغ‬
‫وهذه الجوانب كلها ل شك أنها من دعوة السلم‬
‫الشاملة‪ ،‬إل أن الصوفية اتخذت من الذكر جسرا ً لتعبر من‬
‫خلله إلى أوحال الشرك‪ .‬وحزب التحرير اتخذ من السياسة‬
‫جعَل َُهم‬
‫المغرضة المخالفة للواقع طريقا ً لضلل المسلمين‪ ،‬وَ َ‬
‫ل الشتراكية الفكري الجارف‪.‬‬ ‫سي ْ ْ‬
‫بذلك غثاء ل ِ َ‬
‫إن الكتفاء بجانب واحد من جوانب التغيير المذكورة‪،‬‬
‫وغيرها ممن لم تذكر كالجانب الجتماعي‪ ،‬والثقافي‬
‫والقتصادي‪ ،‬ل يحقق التغيير المنشود‪ ،‬حتى تتكامل هذه‬
‫الجوانب كلها في المجتمع المسلم‪ ،‬ثم ل بد أن يسير بها‬
‫المصلحون وفق السنة الكونية التي ل تتبدل ول تتغير لتحقيق‬
‫ه ل َ يُ َ‬
‫غي ُّر‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫التغيير المنشود‪ ،‬المتمثلة في قوله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م‪] ‬الرعد‪.[11:‬ولهمية‬ ‫سه ْ‬‫ف ِ‬‫ما بأن ْ ُ‬‫غي ُّروا ْ َ‬
‫حّتى ي ُ َ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ما ب ِ َ‬
‫ق ْ‬ ‫َ‬
‫هذه السنة الكونية ولخطورة تجاهلها‪ ،‬أو تخطيها ل بد من إقامة‬
‫الحجج والبراهين الدالة عليها‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫حتى يغيروا ما بأنفسهم‬
‫وقفة قصيرة مع خطر الصراع مع النظمة‬

‫ليعلم أولئك البعض‪ ،‬ممن قل اعتبارهم لسنن الله تعالى‬


‫في خلقه‪ ،‬أن ما ذهبوا إليه من تصورات في طريق التغيير‬
‫المنشود‪ ،‬سيؤدي إلى النشغال بالحاكم‪ ،‬وتركيز الصراع مع‬
‫النظام السياسي القائم وإسقاطه‪ ،‬فينتج عن ذلك ازدياد الفساد‬
‫والفساد في الناس لتوقف مسيرة المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر أو إعاقتها بحجة النشغال بتغيير منكر الحكام‪.‬‬
‫فمشروع الصراع مع النظمة الحاكمة وضرب الحاكم‬
‫بالمحكوم من أهم الساليب المستخدمة من قبل الصهيونية‬
‫وذراعها القوى ) الشتراكية( للسيطرة على العالم‪ ،‬فعن‬
‫طريق الثورات الشعبية التي يقفون خلفها ويوجهونها بواسطة‬
‫عملئهم الشتراكيين على اختلف أسمائهم‪ ،‬يقودون الثورة‬
‫ويركبون الموجة‪ ،‬ويقومون بعد ذلك بتصفية المعارضة‪ ،‬مهما‬
‫كان دينها أو عرقها‪.‬‬
‫وللتدليل على ذلك نقرأ في بروتوكولت حكماء صهيون‬
‫ما يلي‪:‬‬
‫))وذلك حين يحين الوقت لتغيير كل الحكومات القائمة‬
‫من أجل أوتقراطيتنا‪ ،‬أن تعرفنا لملكنا التوقراطي)‪ (65‬يمكننا أن‬
‫نتحقق منه قبل إلغاء الدساتير‪ ،‬أعني بالضبط أن تعرف أن‬
‫حكمنا سيبدأ في اللحظة ذاتها حين يصرخ الناس الذين مزقتهم‬
‫الخلفات وتعذبوا تحت إفلس حكامهم )وهذا ما سيكون مدبراً‬
‫ً‬ ‫عالميا‬ ‫على أيدينا( فيصرخون هاتفين‪ :‬اخلعوهم وأعطونا حاكماً‬
‫واحداً يستطيع أن يوحدنا‪ ،‬ويمحق كل أسباب الخلف‪ ،‬وهي‬
‫الحدود والقوميات والديان والديون ونحوها‪ ..‬حاكماً يستطيع أن‬
‫يمنحنا السلم والراحة اللذين ل يمكن أن يوجدا في ظل‬
‫وافيا أنه‬
‫ً‬ ‫رؤسائنا وملوكنا وممثلينا‪ .‬ولكنكم تعلمون علماً دقيقاً‬
‫لكي يصرخ الجمهور بمثل هذا الرجاء‪ ،‬لبد أن يستمر في كل‬
‫البلد اضطراب العلقات القائمة بين الشعوب والحكومات‪،‬‬

‫‪65‬الوتوقراطية هي‪ :‬نظام الحكم الفردي الستبدادي‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫((‬ ‫فتستمر العداوات والحروب والكراهية والموت استشهاداً أيضاً‬
‫)‪. (66‬‬
‫))إننا نخشى تحالف القوى الحاكمة مع المميين )غير‬
‫اليهود( مع قوة الرعاع العمياء‪ ،‬غير أننا قد اتخذنا كل‬
‫الحتياطيات لنمنع احتمال حدوث هذا الحادث‪ .‬فقد أقمنا بين‬
‫القوتين سداً قوامه الرعب الذي تحسه القوتان كل من الخرى‪،‬‬
‫وهكذا تبقى قوة الشعب سنداً إلى جانبنا‪ ،‬سنكون وحدنا قادتها‪،‬‬
‫وسنوجهها لبلوغ أغراضنا(()‪.(67‬‬
‫وتقول أيضًا‪:‬‬
‫)‪(68‬‬
‫ومعظما من كل رعاياه ـ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫محبوبا‬ ‫))ولكي يكون الملك‬
‫يجب أن يخاطبهم جهاراً مرات كثيرة‪ .‬فمثل هذه الجراءات‬
‫ستجعل القوتين في انسجام‪ ،‬أعني قوة الشعب وقوة الملك‬
‫اللتين قد فصلنا بينهما في البلد الممية )غير اليهودية( بإبقائنا‬
‫كل منهما في خوف دائم من الخرى‪ .‬ولقد كان لزاماً علينا أن‬
‫نبقي كلتا القوتين في خوف من الخرى‪ ،‬لنهما حين انفصلتا‬
‫وقعتا تحت نفوذنا(()‪.(69‬‬
‫وقبل البدء بالستدلل على ما ذهبنا إليه من أن التغيير‬
‫المنشود يكون بتغيير النفس أولً)‪ ،(70‬علينا أن نتذكر حقيقة‬
‫شرعية‪ ،‬أن اللتزام بالسلم ل يصح إل إذا كان خالصاً لله‬
‫تعالى‪ ،‬فإيمان المصالح والمنافع‪ ،‬وإيمان الكراه والقهر مخالف‬
‫لقوله تعالى‪) :‬وما أمروا إل ليعبدوا الله مخلصين له‬
‫الدين ‪]‬البينة‪ ،[5:‬ومخالف لقول الرسول ×‪)) :‬إنما العمال‬
‫بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى الله‬
‫ورسوله‪ ،‬فهجرته إلى الله ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته إلى دنيا‬
‫يصيبها أو امرأة ينكحها‪ ،‬فهجرته إلى ما هاجر إليه(( ]متفق‬
‫عليه[‪.‬‬

‫‪66‬البروتوكول العاشر‪.‬‬
‫‪67‬البروتوكول التاسع‪.‬‬
‫‪68‬المقصود بالملك‪) :‬ملك إسرائيل( بعد تتويجه لحكم العالم‪ ،‬أو أي‬
‫حاكم أو ديكتاتور ممن يأتون بانقلب عسكري موجه من قبل اليسار‬
‫)الماركسية(‪.‬‬
‫‪69‬البروتوكول الرابع والعشرون‪.‬‬
‫وخامسا‪...‬وعاشراً‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ورابعا‬ ‫وثانيا وثالثاً‬
‫ً‬ ‫‪70‬‬

‫‪64‬‬
‫فمن تظاهر بالسلم طلبا ً لمنفعة أو دفعا ً لمفسدة‪ ،‬أو‬
‫تزلفا ً لحاكم‪ ،‬فقد نافق ومن نافق خسر خسرانا ً مبينًا‪ ،‬ومقصود‬
‫الشريعة إخراج الناس من ظلمات الشرك إلى نور اليمان‪،‬‬
‫فعلينا أن نتذكر هذه الحقيقة للهمية الساسية‪.‬‬
‫الدلة على أن التغيير يكون بتغيير ما بالنفس‬
‫اليات القرآنية‪:‬‬
‫ورد في القرآن الكريم‪ ،‬العديد من اليات الدالة على‬
‫إثبات التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية والنشغال‬
‫بذلك‪ ،‬منها‪:‬‬
‫صالحا‪ ،‬وإذا‬
‫ً‬ ‫أولً‪ :‬إذا صلحت الرعية أفرزت حاكماً‬
‫فسدت الرعية أفرزت حاكما فاسداً‪ :‬ورد هذا المفهوم‬
‫الجلي في العديد من المواضع من كتاب الله تعالى منها‪:‬‬
‫ن‬
‫مي َ‬ ‫ض ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫ع َ‬‫وّلي ب َ ْ‬ ‫وك َذَل ِ َ‬
‫ك نُ َ‬ ‫‪ -1‬قوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫ن‪] ‬النعام‪.[129:‬‬‫سُبو َ‬‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬
‫ما َ‬
‫ضا ب ِ َ‬
‫ع ً‬
‫بَ ْ‬
‫تدل الية على أن الله تعالى يولي بعض ظلمة المجتمع‬
‫بعضاً في الحكم‪ ،‬فإذا علمنا أن الحاكم هو إفراز من المجتمع‪،‬‬
‫ود على نفسه من يراه الصلح لتحقيق أهدافه‬ ‫وأن المجتمع ُيس ّ‬
‫وغاياته‪ ،‬دل ذلك بكل تأكيد على أن القاعدة العامة تقول‪)) :‬إذا‬
‫صالحا‪ ،‬وإذا فسدت الرعية أفرزت‬‫ً‬ ‫صلحت الرعية أفرزت حاكماً‬
‫حاكماً فاسداً((‪.‬‬
‫ينقل القرطبي قول ابن عباس وابن زيد في تفسير هذه‬
‫الية قائلً‪:‬‬
‫قال ابن عباس‪)) :‬إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم‬
‫خيارهم‪ ،‬وإذا سخط الله عن قوم ولى أمرهم شرارهم((‪.‬‬
‫وقال ابن زيد‪ُ)) :‬نسّلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه‬
‫ويذله‪ ،‬وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه يسلط الله‬
‫عليه ظالماً آخــر‪ ،‬ويدخل في اليـة جميع من يظلم نفسه أو‬
‫يظلم الرعية أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق‬
‫وغيرهم(()‪ (71‬انتهى‪.‬‬
‫قال ابن أبي العز الحنفي‪:‬‬

‫‪))71‬تفسير القرطبي(( )‪.(7/85‬‬

‫‪65‬‬
‫))فإذا أراد الرعية أن يتخّلصوا من ظلم المير فليتركوا‬
‫الظلم(()‪.(72‬‬
‫وقال الشيخ اللباني رحمه الله‪:‬‬
‫))وفي هذا بيان لطريق الخلص من ظلم الحكام الذين‬
‫هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا‪ ،‬وهو أن يتوب المسلمون إلى‬
‫ربهم ويصححوا عقيدتهم ويربوا أنفسهم وأهليهم على السلم‬
‫وم ٍ‬ ‫ما ب ِ َ‬
‫ق ْ‬ ‫غي ُّر َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ل َ يُ َ‬ ‫الصحيح تحقيقا لقوله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م‪] ‬الرعد‪ ،[11:‬وإلى ذلك أشار أحد‬ ‫ه ْ‬‫س ِ‬ ‫ما ب ِأ َن ْ ُ‬
‫ف ِ‬ ‫غي ُّروا ْ َ‬
‫حّتى ي ُ َ‬
‫َ‬
‫)‪(73‬‬
‫بقوله‪)) :‬أقيموا دولة السلم في قلوبكم‬ ‫الدعاة المعاصرين‬
‫تقم لكم على أرضكم((‪ .‬وليس طريق الخلص ما يتوهم بعض‬
‫الناس وهو الثورة بالسلح على الحكام‪ .‬بواسطة النقلبات‬
‫العسكرية)‪ (74‬فإنها مع كونها من بدع العصر الحاضر فهي‬
‫مخالفة لنصوص الشريعة التي منها المر بتغيير ما بالنفس‬
‫وكذلك فل بد من إصلح القاعدة لتأسيس البناء عليها‪:‬‬
‫ه‪] ‬الحج‪ ،(75)(([40:‬انتهى‪.‬‬ ‫صر ُ‬ ‫من َين ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫)ولينصر ّ‬
‫وفي معرض حديثه عن أسباب انتقال المر من الخلفة‬
‫إلى الملك‪ ،‬قال ابن تيمية‪)) :‬وقد ذكرت في غير هذا الموضع‪،‬‬
‫ملوك ونوابهم من الولة‪ ،‬والقضاة‬ ‫أن مصير المر إلى ال ُ‬
‫والمراء‪ ،‬ليس لنقص فيهم فقط‪ ،‬بل لنقص في الراعي والرعية‬
‫و ّ‬
‫ل عليكم(()‪ ،(76‬وقد قال الله‬ ‫جميعا‪ ،‬فإنه))كما تكونوا ي ُ َ‬
‫ن بعضاً ‪]‬الحج‪:‬‬
‫ض الظالمي َ‬ ‫ك نولي بع َ‬ ‫تعالى‪ ) :‬وكذل ِ َ‬
‫‪،( 77)(([40‬انتهى‪.‬‬

‫‪))72‬شرح العقيدة الطحاوية((‪ ،‬ط‪ 1399 ،5 /‬هـ‪) ،‬ص ‪.(430‬‬


‫‪73‬قال الشيخ اللباني رحمه الله‪ :‬وهو الستاذ حسن الهضيبي ‪ -‬رحمه‬
‫الله‪.-‬‬
‫‪74‬من أمثلة هذه النقلبات‪ ،‬انقلب )ثورة ‪ 23‬يوليو ‪1952‬‬
‫الشتراكية( في مصر‪ ،‬والثورات الشتراكية الخرى في كل من‪،‬‬
‫سوريا وليبيا واليمن والعراق والصومال والسودان والجزائر وإيران‬
‫وإندونيسيا‪.‬‬
‫‪))75‬العقيدة الطحاوية((‪ ،‬شرح وتعليق‪ ،‬ط‪ /‬المكتب السلمي ‪1978‬‬
‫)ص ‪.(47‬‬
‫‪76‬ضعفه الشيخ ناصر في ))السلسلة الضعيفة(( )‪) ،(1/490‬رقم‬
‫‪.(320‬‬
‫‪))77‬مجموع الفتاوى(( )‪.(35/20‬‬

‫‪66‬‬
‫حّتى‬
‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬‫ما ب ِ َ‬ ‫غي ُّر َ‬‫ه َل ي ُ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫‪ -2‬قوله تعالى‪ ) :‬إ ِ ّ‬
‫ءا‬
‫سو ً‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫وإ ِ َ‬ ‫ما ب َِأن ُ‬
‫وم ٍ ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ذا أَرادَ الل ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫س ِ‬‫ف ِ‬ ‫غي ُّروا َ‬
‫يُ َ‬
‫ل‪] ‬الرعد‪.[11:‬‬‫وا ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬
‫دون ِ ِ‬ ‫ن ُ‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬‫ما ل َ ُ‬ ‫و َ‬‫ه َ‬ ‫مَردّ ل َ ُ‬
‫فَل َ‬ ‫َ‬
‫وهذه الية أصرح في الدللة على المراد‪ ،‬وهي عامة‬
‫تشمل نوعي التغيير سواء من الخير إلى الشر أو العكس‪.‬‬
‫ونلحظ أن الية تتحدث عن تغيير يحدث في القوم ـ أي‬
‫الجماعة ـ وليس في شخص الحاكم دون المحكوم‪ .‬وليس‬
‫بالضرورة أن يحصل التغيير بتغيير فئة قليلة في المجتمع‪ ،‬إنما‬
‫المراد أن يكون التغيير غالبا فيه‪ .‬وتجدر الشارة إلي أن الله‬
‫تعالى قد وعد بالتغيير إلى الخير والتمكين للمؤمنين في الرض‬
‫بعد توفر شروط وانتفاء موانع كما سيأتي بيانه قريباً إن شاء‬
‫الله تعالى‪.‬‬
‫يقول الطبري في تفسيرها‪)) :‬إن الله ل يغير ما بقوم من‬
‫عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم‪ ،‬حتى يغيروا ما بأنفسهم‬
‫من ذلك بظلم بعضهم بعضاً‪ ،‬واعتداء بعضهم على بعض‪ ،‬فتحل‬
‫بهم حينئذ عقوبته وتغييره(()‪.(78‬‬
‫وقال القرطبي و ابن كثير بمثله‪.‬‬
‫ويقول ابن القيم‪:‬‬
‫))وهل زالت عن أحد قط نعمة إل بشؤم معصيته‪ ،‬فإن‬
‫الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه‪ ،‬ول يغيرها عنه حتى‬
‫ه َل ي ُ َ‬
‫غي ُّر‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه‪) :‬إ ِ ّ‬
‫فسهم وإ َ َ‬ ‫َ‬
‫ذا أَرادَ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ما ب ِأن ُ ِ ِ ْ َ ِ‬ ‫غي ُّروا َ‬‫حّتى ي ُ َ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ما ب ِ َ‬
‫ق ْ‬ ‫َ‬
‫ل‪‬‬ ‫وا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫دو‬
‫ُ ْ ِ ْ ُ ِ ِ ِ ْ َ ٍ‬ ‫ن‬‫م‬ ‫م‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫د‬
‫َ َ ّ ُ َ َ‬ ‫ر‬‫م‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ءا‬
‫بِ ْ ٍ ُ ً‬
‫سو‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫ق‬
‫]الرعد‪.(79)(([11:‬‬
‫ويقول محب الدين الخطيب في كلم نفيس‪:‬‬
‫))وقد يظن من ل نظر له في حياة الشعوب وسياستها‬
‫أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون‪.‬‬
‫وهذا خطأ‪ ،‬فللبيئة التأثير في الحاكم‪ ،‬وفي نظام الحكم أكثر‬
‫مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة‪ .‬وهذا من‬

‫‪))78‬تفسير الطبري(( )‪.(13/121‬‬


‫‪))79‬بدائع الفوائد(( )‪.(2/432‬‬

‫‪67‬‬
‫حّتى‬
‫وم ٍ َ‬ ‫ما ب ِ َ‬
‫ق ْ‬ ‫ه َل ي ُ َ‬
‫غي ُّر َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫معاني قول الله عز وجل‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م((()‪ ،(80‬انتهى‪.‬‬ ‫ه ْ‬
‫س ِ‬ ‫ما ب َِأن ُ‬
‫ف ِ‬ ‫غي ُّروا َ‬
‫يُ َ‬
‫ثانياً‪ :‬أن العذاب ينزل بذنوب القوام من أهل القرى‪،‬‬
‫وليس الولة فقط‪:‬‬
‫وسبب وضع هذا العنوان أن البعض قد ابتعد عن الحق‬
‫كثيراً في رسم حدود مسؤولية الحكام‪ ،‬فأناط بهم تغيير كل‬
‫شيء في المجتمع سواء وقع المر ضمن دائرة مسؤوليته‪ ،‬أم‬
‫ضمن دوائر أصحاب المسؤوليات الخرى‪ ،‬التي ذكرها الحديث‬
‫الشريف‪)) :‬كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته‪.((...‬‬
‫واليات الدالة على المعنى المذكور في العنوان كثيرة‪،‬‬
‫منها‪:‬‬
‫ي َ‬ ‫قري َ‬ ‫َ‬
‫ة ثُ ّ‬
‫م‬ ‫م ٌ‬
‫ظال ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫و ِ‬
‫ها َ‬‫ت لَ َ‬‫مل َي ْ ُ‬
‫ةأ ْ‬ ‫ن َ ْ َ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫وك َأي ّ ْ‬ ‫• ) َ‬
‫ر‪] ‬الحج‪.[48:‬‬ ‫صي ُ‬ ‫م ِ‬‫ي ال ْ َ‬ ‫وإ ِل َ ّ‬‫ها َ‬ ‫خذْت ُ َ‬‫أَ َ‬
‫شأ َْنا‬
‫وَأن َ‬ ‫ة َ‬‫م ً‬ ‫ت َ‬
‫ظال ِ َ‬ ‫ة َ‬
‫كان َ ْ‬ ‫قْري َ ٍ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ص ْ‬
‫ق َ‬ ‫م َ‬ ‫وك َ ْ‬ ‫• ) َ‬
‫ن‪] ‬النبياء‪.[11:‬‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ما آ َ‬ ‫و ً‬ ‫ق ْ‬ ‫ها َ‬ ‫عدَ َ‬‫بَ ْ‬
‫من الملحظ أن هذه اليات تؤكد بوضوح وجلء‪ ،‬أن‬
‫السبب المباشر لوقوع العذاب‪ ،‬وقوع الظلم من أهل القرى‬
‫عامة حكاماً ومحكومين وليس بذنوب الحكام فقط‪ .‬وأنها سنة‬
‫ك‬ ‫فل َ ْ‬
‫م يَ ُ‬ ‫الله التي قد خلت في عباده‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫ه ال ِّتي َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫د‬
‫ق ْ‬ ‫ة الل ّ ِ‬
‫سن ّ َ‬
‫سَنا ُ‬ ‫وا ب َأ َ‬ ‫م لَ ّ‬
‫ما َرأ ْ‬ ‫ه ْ‬‫مان ُ ُ‬
‫م ِإي َ‬
‫ه ْ‬‫ع ُ‬
‫ف ُ‬‫ي َن ْ َ‬
‫ن‪] ‬غافر‪.[85:‬‬‫فُرو َ‬ ‫كا ِ‬‫ك ال ْ َ‬
‫هَنال ِ َ‬
‫سَر ُ‬ ‫خ ِ‬‫و َ‬
‫ه َ‬‫عَباِد ِ‬ ‫في ِ‬ ‫ت ِ‬ ‫خل َ ْ‬‫َ‬
‫قال ابن القيم‪:‬‬
‫))ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال‬
‫المم الذين أزال نعمه عنهم‪ ،‬وجد سبب ذلك جميعه إنما هو‬
‫مخالفة أمره وعصيان رسله‪ ،‬وكذلك من نظر في أحوال أهل‬
‫عصره وما أزال الله عنهم من نعمه‪ ،‬وجد ذلك كله من سوء‬
‫عواقب الذنوب‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫فإن المعاصي‬ ‫إذا كنت في نعمة‬
‫تزيل النعم‬ ‫فارعها‬

‫‪80‬في كتاب ))العواصم من القواصم(( )ص ‪.(77‬‬

‫‪68‬‬
‫فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته‪ ،‬ول‬
‫حصلت فيها الزيادة بمثل شكره‪ ،‬ول زالت عن العبد بمثل‬
‫معصيته لربه‪ ،‬فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في‬
‫الحطب اليابس(()‪ ،(81‬انتهى‪.‬‬
‫ويقول كذلك‪:‬‬
‫))فما أزيلت نعم الله بغير معصيته‪ ،‬إذا كنت في نعمة‬
‫فارعها‪ ،‬فإن المعاصي تزيل النعم‪ .‬فآفتك من نفسك‪ ،‬وبلؤك‬
‫من نفسك‪ ،‬وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك‪ ،‬وبلغت‬
‫من معاداة نفسك ما ل يبلغ العدو منك‪ .‬كما قيل‪ :‬ما يبلغ‬
‫العداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه(()‪ ،(82‬انتهى‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬إن البركة تنزل بسبب تحقق إيمان أهل القرى جميعا ً‬
‫وليس الولة فقط‪.‬‬
‫واليات في ذلك كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫حَنا‬‫فت َ ْ‬‫وا ل َ َ‬‫ق ْ‬‫وات ّ َ‬
‫مُنوا َ‬ ‫قَرى آ َ‬ ‫ل ال ْ ُ‬‫ه َ‬‫ن أَ ْ‬ ‫وأ ّ‬
‫)ول َ َ‬
‫َ ْ‬ ‫•‬
‫َ‬
‫ن كذُّبوا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ولك ِ ْ‬ ‫ض َ‬‫والْر ِ‬ ‫ء َ‬‫ما ِ‬
‫س َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫م ب ََركا ٍ‬ ‫ه ْ‬‫علَي ْ ِ‬
‫َ‬
‫ن‪] ‬العراف‪.[96:‬‬ ‫سُبو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫خذَْنا ُ‬
‫ه ْ‬ ‫فأ َ‬ ‫َ‬
‫رابعًا‪ :‬شروط تحقق الوعد بالتمكين والستخلف‬
‫)التغيير إلى الخير( متعلقة بالجماعة وليس بالولة‬
‫فقط‪.‬‬
‫ومن اليات الدالة على ذلك ما يلي‪:‬‬
‫•‬
‫ت‬
‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫عدَ الل ّ ُ‬ ‫و َ‬ ‫) َ‬
‫ف ال ّ ِ‬ ‫خل َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ض كَ َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫هم ِ‬ ‫فن ّ ُ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ل َي َ ْ‬
‫ضى‬ ‫ذي اْرت َ َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ِدين َ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫مك ّن َ ّ‬‫ول َي ُ َ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫قب ْل ِ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫دون َِني لَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عب ُ ُ‬
‫مًنا ي َ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ِ‬ ‫ف‬‫و ِ‬ ‫خ ْ‬‫د َ‬ ‫ع ِ‬‫ن بَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ولي ُب َدّلن ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫لَ ُ‬
‫ول َئ ِ َ‬ ‫ك َ ُ‬ ‫عدَ ذَل ِ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ر ُ‬
‫ك‬ ‫فأ ْ‬ ‫فَر ب َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫شي ًْئا َ‬ ‫ن ِبي َ‬ ‫كو َ‬ ‫ش ِ‬ ‫يُ ْ‬
‫ن‪] ‬النور‪.[55:‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫فا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ُ‬
‫تضمنت الية الشروط الواجبة لتحقيق وعد الله تعالى‬
‫لعباده بالستخلف والتمكين في الرض‪ ،‬وهما تحقق اليمان‬
‫‪))81‬بدائع الفوائد(( )‪.(2/432‬‬
‫‪))82‬طريق الهجرتين(( )‪ .(111 -1/110‬وانظر‪)) :‬الفوائد(( )‪،1/181‬‬
‫‪.(210‬‬

‫‪69‬‬
‫والعمل الصالح‪ ،‬ومن الملحظ أن الخطاب في الية جاء بصيغة‬
‫الجمع‪ ) :‬آمنوا منكم‪ ،‬ليستخلفنهم (‪ ،‬ولم يأت بصيغة الفرد‬
‫للتأكيد على ما نحن بصدد تقديم البراهين عليه‪ ،‬من أن التغيير‬
‫يكون بعموم المجتمع ل بخصوص الفراد‪ ،‬كالحكام على سبيل‬
‫ط به سلمة اليمان‬ ‫منا ٍ‬
‫المثال‪ .‬ثم اخُتتمت الية بشرط آخر ُ‬
‫وصحته‪ ،‬وهو عدم الشرك لضمان سلمة توحيد كلمة )ل إله إل‬
‫دون َِني‬ ‫الله(‪ ،‬ولو كان شيئا ً يسيرا ً كما في قوله تعالى‪) :‬ي َ ْ‬
‫عب ُ ُ‬
‫شي ًْئا‪.‬‬
‫ن ِبي َ‬ ‫ر ُ‬
‫كو َ‬ ‫َل ي ُ ْ‬
‫ش ِ‬
‫الحاديث النبوية‪:‬‬
‫• عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي × دخل‬
‫عليها فزعا يقول‪)):‬ل إله إل الله‪ ،‬ويل للعرب من شر‬
‫قد اقترب‪ ،‬فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل‬
‫هذه‪ ،‬وحلق بين أصبعيه البهام والتي تليها‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أنهلك وفينا الصالحون؟‬
‫قال‪ :‬نعم إذا كثر الخبث(()‪.(83‬‬
‫ودللة الحديث‪ :‬أن الهلك ينزل بالعباد إذا كثر الخبث‪ ،‬ول‬
‫تتحقق كثرة الخبث في المجتمع إل بفساد أكثره‪ ،‬وفساد الحاكم‬
‫وحده دون المجتمع ل يتحقق به كثرة الخبث‪ ،‬فثبت أن العذاب‬
‫ينزل بذنوب القوام من أهل القرى رعاة ورعية‪ ،‬وليس بذنوب‬
‫الحكام فقط‪.‬‬
‫• وعن أبي أمامة ‪ ‬قال‪ :‬قال ×‪)) :‬لتنقضن عرى‬
‫السلم عروة عروة‪ ،‬فكلما انتقضت عروة تشبث‬
‫ً‬
‫الناس بالتي تليها‪ ،‬فأولهن نقضا الحكم‪ ،‬وآخرهن الصلة((‬
‫)‪.(84‬‬
‫ودللة الحديث‪ :‬أن إعادة عروة الحكم إلى موضعها في‬
‫التطبيق‪ ،‬ل بد أن يسبقها إعادة تطبيق العرى الخرى بدءا من‬
‫الصلة وهكذا‪ ،‬فإن القاعدة العامة تقول‪) :‬أول قطعة تفكك‪،‬‬
‫آخر قطعة تركب(‪.‬‬
‫•‬
‫عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‪ :‬قال رسول الله‬
‫×‪)) :‬أل كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته‪،‬‬
‫‪83‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪)84‬صحيح(‪ ،‬رواه ابن حبان في ))صحيحه((‪ ،‬وصححه الشيخ اللباني في‬
‫))الترغيب والترهيب((‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫فالمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن‬
‫رعيته‪ ،‬والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول‬
‫عن رعيته‪ ،‬والمرأة راعية على بيت زوجها وولده‬
‫وهي مسئولة عنهم‪ ،‬وعبد الرجل راع على مال‬
‫سيده وهو مسؤول عنه‪ ،‬أل فكلكم راع وكلكم‬
‫مسؤول عن رعيته(( )‪.(85‬‬
‫قال ابن حجر‪:‬‬
‫))قال الخطابي‪ :‬اشتركوا أي المام والرجل ومن ذكر‬
‫في التسمية‪ ،‬أي في الوصف‪ ،‬بالراعي‪ ،‬ومعانيهم مختلفة‪،‬‬
‫فرعاية المام العظم حياطة الشريعة بإقامة الحدود والعدل‬
‫في الحكم‪ ،‬ورعاية الرجل أهله‪ ،‬سياسته لمرهم وإيصالهم‬
‫حقوقهم‪ ،‬ورعاية المرأة تدبير أمر البيت والولد والخدم‬
‫والنصيحة للزوج في كل ذلك‪ ،‬ورعاية الخادم حفظ ما تحت‬
‫يده‪ ،‬والقيام بما يجب عليه من خدمته(()‪ ،(86‬انتهى‪.‬‬
‫وقال النووي‪:‬‬
‫))قال العلماء‪ :‬الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلح‬
‫ما قام عليه‪ ،‬وما هو تحت نظره‪ .‬ففيه أن كل من كان تحت‬
‫نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه‬
‫ودنياه ومتعلقاته(()‪.(87‬‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫وقال القرطبي في شرح قوله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫يأ ْمرك ُ َ‬
‫ت إ َِلى أهل ِ َ‬
‫ها‪] ‬النساء‪.[58:‬‬ ‫دوا ْ ال َ‬
‫ماَنا ِ‬ ‫م أن ُتؤ ّ‬‫َ ُ ُ ْ‬
‫))فجعل في هذه الحاديث الصحيحة كل هؤلء رعاة‬
‫وحكاما على مراتبهم(()‪ ،(88‬انتهى‪.‬‬
‫ً‬
‫قلت‪ :‬وهكذا تكتمل دوائر المسؤولية دون إفراط ول‬
‫تفريط‪ .‬وهذا المر يعكس عظمة السلم العظيم حيث لم‬
‫مناطا ً بفرد‪ ،‬أو بفئة من الناس أبدًا‪ ،‬فهو دين‬
‫يجعل قيام الدين ُ‬
‫الجماعة‪.‬‬

‫‪85‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪))86‬فتح الباري(( )‪.(13/113‬‬
‫‪))87‬شرح النووي على صحيح مسلم(( )‪.(12/213‬‬
‫‪))88‬تفسير القرطبي(( )‪.(5/258‬‬

‫‪71‬‬
‫• عن أبي أيوب ‪ ‬قال‪ :‬سمعت رسول الله × يقول‪)) :‬ما‬
‫بعث الله من نبي ول كان بعده من خليفة إل له‬
‫بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن‬
‫ل‪ ،‬فمن وقي شرها‬ ‫المنكر‪ ،‬وبطانة ل تألوه خبا ً‬
‫فقد وقي(()‪.(89‬‬
‫قال ابن حجر في الشرح‪:‬‬
‫))ونقل ابن التين عن أشهب‪ :‬إنه ينبغي للحاكم أن يتخذ‬
‫من يستكشف له أحوال الناس في السر‪ ،‬وليكن ثقة مأمونا ً‬
‫فطنا ً عاقل ً‪ ،‬لن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من‬
‫قبوله قول من ل يوثق به إذا كان هو حسن الظن به‪ ،‬فيجب‬
‫عليه أن يتثبت في مثل ذلك(()‪ ،(90‬انتهى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إذا كان تحقيق العدل في الرعية مقصود التشريع‬
‫اللهي‪ ،‬وقد أنيط هذا المر بالحاكم‪ ،‬وأمر الحاكم إنما يكون‬
‫بأهل مشورته وبطانته الخيرة‪ ،‬فإنه يلزم الرعية أن يجعلوا من‬
‫أنفسهم بطانة لحاكمهم ول يتركونه وشأنه لشياطين النس‬
‫والجن‪ ،‬ول أن يتعففوا عن أداء هذا الواجب‪ ،‬وخاصة في الزمنة‬
‫التي يقل فيها الكفاء من المناء الصالحين‪ ،‬فإنهم لو فعلوا ذلك‬
‫وتخلوا عن مواقع المسؤولية‪ ،‬فقد خدموا أعداء المة وساهموا‬
‫في تسلط بطانة السوء على رقابهم‪ ،‬في حين أنهم مأمورون‬
‫َ‬
‫بأن ل يتخذوا بطانة من دونهم‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ) :‬ياأي ّ َ‬
‫ها‬
‫ْ‬
‫م َل ي َأُلون َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫دون ِك ُ ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫طان َ ً‬ ‫ذوا ب ِ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫مُنوا َل ت َت ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ضاءُ ِ‬ ‫غ َ‬ ‫ت ال ْب َ ْ‬ ‫قدْ ب َدَ ْ‬ ‫م َ‬ ‫عن ِت ّ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫دوا َ‬ ‫و ّ‬ ‫خَباًل َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫ت إِ ْ‬ ‫م اْلَيا ِ‬ ‫قدْ ب َي ّّنا ل َك ُ ْ‬ ‫م أك ْب َُر َ‬ ‫ه ْ‬ ‫دوُر ُ‬ ‫ص ُ‬ ‫في ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ما ت ُ ْ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫بو‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫بو‬ ‫ح‬‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫*‬ ‫ن‬ ‫لو‬‫ُ‬ ‫ق‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ك‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وإ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫نا‬
‫َ ّ َ‬ ‫م‬ ‫آ‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ذا‬‫َ‬ ‫إ‬ ‫و‬
‫َِ َ ِ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ب‬ ‫ؤ ِ ُ َ ِ ِ َ ِ‬
‫تا‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫با‬ ‫ن‬ ‫نو‬ ‫م‬ ‫وت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫موُتوا‬ ‫ل ُ‬ ‫ظق ْ‬ ‫ُ‬ ‫غي ْ ِ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫م َ‬ ‫م الَنا ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫علي ْك ْ‬ ‫َ‬ ‫ضوا َ‬ ‫ع ّ‬ ‫وا َ‬ ‫خل ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ر‪] ‬آل عمران‪-118 :‬‬ ‫دو ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫ذا ِ‬ ‫م بِ َ‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫غي ْظِك ُ ْ‬ ‫بِ َ‬
‫‪.[119‬‬
‫يقول ابن كثير في تفسيرها‪:‬‬

‫‪89‬رواه البخاري رقم )‪ ،(6237‬ورقم )‪ ،(7198‬وفي رواية صفوان بن‬


‫سليم يقول‪)) :‬ما بعث الله من نبي ول بعده من خليفة((‪.‬‬
‫‪))90‬فتح الباري(( )‪.(13/190‬‬

‫‪72‬‬
‫))يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ‬
‫المنافقين بطانة‪ :‬أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه‬
‫لعدائهم‪ .‬والمنافقون بجهدهم وطاقتهم ل يألون المؤمنين‬
‫ل‪ ،‬أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن‪ ،‬وبما‬ ‫خبا ً‬
‫دون ما يعنت المؤمنين‪،‬‬ ‫يستطيعون من المكر والخديعة‪ ،‬ويو ّ‬
‫ت‬
‫قدْ ب َدَ ْ‬‫ويحرجهم ويشق عليهم ‪ ....‬ثم قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫َ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ال ْب َ ْ‬
‫م أك ْب َ ُ‬
‫ر(‪،‬‬ ‫ه ْ‬
‫دوُر ُ‬ ‫ص ُ‬‫في ُ‬ ‫خ ِ‬‫ما ت ُ ْ‬
‫و َ‬
‫م َ‬
‫ه ْ‬
‫ه ِ‬
‫وا ِ‬
‫ف َ‬ ‫م ْ‬
‫ضاءُ ِ‬
‫غ َ‬
‫أي قد لح على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم من العداوة‬
‫مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للسلم‬
‫وأهله ما ل يخفى مثله على لبيب عاقل((‪.‬انتهى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا وقد كثر المنافقون الذين يتربصون بالسلم‬
‫وأهله في هذا الزمان‪ ،‬وعلى رأسهم كثير من المنتمين‬
‫للحركات القومية والشتراكية من بعثية وناصرية وغيرهم‪ ،‬إذ‬
‫ينطلقون بقوة إلى مهادنة ومداهنة السلميين باعتبارهم القوة‬
‫الكامنة )الرعاع( التي هم بحاجة ماسة لها مرحليا ً للسيطرة‬
‫على ما تبقى من الدول غير الشتراكية في العالم السلمي‬
‫فتنبه‪.‬‬
‫فهم يظهرون الولء الظاهري للحكم القائم المستهدف‪،‬‬
‫مع أنه قد بدت بعض البغضاء من أفواههم مستغلين هامش‬
‫الديموقراطية‪ ،‬وما تخفي صدورهم أكبر‪ ،‬وهو تغيير النظام بآخر‬
‫اشتراكي أو شيعي رافضي‪.‬‬
‫إذن لزم المة أن تجعل من نفسها البطانة الصالحة‬
‫ل‪ ،‬حتى يستقيم‬‫للحاكم دون غيرها ما استطاعت إلى ذلك سبي ً‬
‫أمره ويسعد الناس بعدله‪ .‬وعليه يلزمها قبل ذلك‪ ،‬السعي إلى‬
‫إيجاد البطانة الصالحة التي ستقوم بأداء هذا الواجب‪ ،‬وذلك‬
‫بتربية الجيال الناشئة‪ ،‬ول يكون ذلك بدون إيجاد السرة‬
‫المسلمة ول الفرد المسلم‪.‬‬
‫• وعن النعمان بن بشير ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول الله ×‪:‬‬
‫))‬
‫‪..‬أل وإن في الجسد مضغة‪ ،‬إذا صلحت صلح الجسد‬
‫كله‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كله‪ ،‬أل وهي‬
‫القلب(()‪.(91‬‬

‫‪91‬متفق عليه‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫نلحظ من هذا الحديث الشريف‪ ،‬أن صلح الفرد أو‬
‫فساده مرتبط بصلح قلبه أو فساده وليس مرتبطا ً بصلح‬
‫الرعاة أو فسادهم‪ .‬فكم من قلوب صلحت مع فساد رعاتها؟‬
‫وكم من قلوب فسدت مع صلح رعاتها؟‬
‫فل يوجد للحاكم تأثير سحري على قلوب العباد ليصلح أو‬
‫يفسد‪ .‬فلو كان مجرد وصول الرجل الصالح إلى الحكم في‬
‫مجتمع فاسد‪ ،‬يغير واقع المجتمع بقرار ملزم منه‪ ,‬لتخذ من‬
‫ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة‪ ,‬فعدوله عن ذلك‬
‫وتركه للعروض المغرية التي تقدمت له بها قريش‪ ،‬مقابل ترك‬
‫الدعوة‪ ،‬دل على مخالفة هذه الطريقة لسنة الله تعالى في‬
‫تغيير المجتمعات‪ .‬فترك نقل السنة‪ ،‬نقل للترك‪.‬‬
‫• وقال رسول الله ×‪)) :‬من ولي منكم عملً فأراد‬
‫الله به خيراً جعل له وزيراً صالحاً‪ ،‬إن نسي ذكره‬
‫وإن ذكر أعانه(()‪.(92‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا الحديث يعزز مفهوم الحديث السابق‪ .‬إذ‬
‫كيف يتحقق مراد الله تعالى بالخير لولي المر دون وجود‬
‫الوزير الصالح ؟ وكيف يوجد الوزير الصالح دون وجود المجتمع‬
‫الصالح؟ وكيف يكون ذلك دون وجود السرة المسلمة والفرد‬
‫المسلم؟‬
‫من القصص القرآني‪:‬‬
‫قصة موسى ‪ ‬مع فرعون‪:‬‬ ‫•‬

‫ة الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬ ‫ه اذْك ُُروا ن ِ ْ‬
‫ع َ‬ ‫م ِ‬ ‫و ِ‬
‫ق ْ‬‫سى ل ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬ ‫قا َ‬ ‫وإ ِذْ َ‬‫) َ‬
‫َ‬
‫سوءَ‬ ‫م ُ‬ ‫ُ‬
‫مون َك ْ‬ ‫سو ُ‬‫ن يَ ُ‬ ‫و َ‬ ‫ع ْ‬
‫فْر َ‬ ‫ل ِ‬ ‫نآ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫جاك ْ‬ ‫م إ ِذْ أن َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬‫َ‬
‫َ‬
‫في‬ ‫و ِ‬‫م َ‬ ‫ساءَك ُ ْ‬ ‫ن نِ َ‬ ‫حُيو َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫وي َ ْ‬‫م َ‬ ‫ن أب َْناءَك ُ ْ‬ ‫حو َ‬ ‫وي ُذَب ّ ُ‬
‫ب َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ع َ‬‫ال ْ َ‬
‫م‪] ‬ابراهيم‪.[6:‬‬ ‫ظي ٌ‬ ‫ع ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ب ََلءٌ ِ‬ ‫ذَل ِك ُ ْ‬
‫يقول ابن كثير‪:‬‬
‫))إن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته‪ ...‬مضمونها‬
‫أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل‪ .‬ويقال‬

‫‪92‬تخريج السيوطي ‪) :‬ن( عن عائشة‪ .‬تحقيق الشيخ اللباني‪:‬‬


‫)صحيح( انظر حديث رقم‪ (6596) :‬في ))صحيح الجامع((‌‪ .‬و))سنن‬
‫النسائي(( )‪ ،(7/159‬بسند آخر وهو صحيح‪.‬وفي ))السلسة الصحيحة((‬
‫)‪.(1/881‬‬

‫‪74‬‬
‫ماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل‬ ‫س ّ‬
‫بعد تحدث ُ‬
‫منهم يكون لهم به دولة ورفعة‪ ،‬وهكذا جاء حديث الفتن كما‬
‫سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى فعند ذلك‬
‫أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني‬
‫إسرائيل وأن تترك البنات((‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫ولكن بعد أن صدر المر الفرعوني هذا ـ باعتباره أمرا‬
‫إلهيا ً عند قومه ـ بقتل المواليد الذكور من بني إسرائيل خشية‬
‫أن يزول ملكه على يد رجل منهم‪ ،‬نجد أنه لم يطبق هذا المر‬
‫على المعني بالقضية لمعارضة امرأة فرعون تنفيذ حكم القتل‬
‫في موسى الرضيع حين رأته‪ ،‬فقالت كلمتها‪ :‬ل تقتلوه‪.‬‬
‫ك َل‬
‫ول َ َ‬
‫ن ِلي َ‬ ‫عي ْ ٍ‬‫قّرةُ َ‬‫ن ُ‬ ‫و َ‬ ‫ع ْ‬ ‫مَرأ َةُ ِ‬
‫فْر َ‬ ‫تا ْ‬ ‫قال َ ْ‬‫و َ‬
‫) َ‬
‫م َل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه ْ‬
‫و ُ‬
‫دا َ‬‫ول َ ً‬
‫خذَهُ َ‬‫و ن َت ّ ِ‬
‫عَنا أ ْ‬ ‫ن َين َ‬
‫ف َ‬ ‫سى أ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫قت ُُلوهُ َ‬‫تَ ْ‬
‫ن‪] ‬القصص‪ .[9:‬مما يدل على أن حكم الحاكم قد‬ ‫عُرو َ‬
‫ش ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫يتخلف أحيانا بأتفه السباب ممن حوله‪ ،‬وهذا يؤكد على أثر‬
‫البطانة في حكمه‪ .‬فثبتت ضرورة إيجاد البطانة الصالحة أول‬
‫كي تعين الحاكم على الخير والستقامة‪.‬‬
‫لكن من أين تأتي البطانة الصالحة؟‬
‫إنها‪ ،‬طبعاً إفراز من المجتمع‪ ،‬فإن كان المجتمع صالحا ً‬
‫تكون البطانة صالحة‪ ،‬وإن كان المجتمع سيئا ً ـ كما هو واقعنا ـ‬
‫تكون البطانة سيئة‪.‬‬
‫فرضية‪:‬‬
‫فاسقا‪ ،‬استيقظ يوما ما ليجد‬
‫ً‬ ‫تقول‪ :‬لو أن مجتمعاً‬
‫حاكمه‪ ،‬بقدرة الله تعالى‪ ،‬قد صلح أو آمن‪ ،‬فهل بالضرورة أن‬
‫يتوب المجتمع من ساعته ويرجع إلى الله تعالى؟‬
‫مما مضى ـ أخي القارىء ـ يتضح لنا بطلن الزعم بأن‬
‫صلح المجتمع وفساده مناط بصلح الحاكم وفساده‪ ،‬فقد تاب‬
‫النجاشي وآمن ولم يقدر أن يظهر إيمانه فضل ً عن أمر رعيته‬
‫به‪ .‬وهرقل عظيم الروم لم يقدر على جبر حاشيته على اتباع‬
‫فهذه النظرة الصنمية للحاكم‪ ،‬وإضفاء صفة اللهية‬ ‫النبي ×‪.‬‬
‫عليه‪ ،‬كأنه يقول للشيء‪ :‬كن فيكون‪ ،‬نظرة خبيثة خبث الشرك‬
‫نفسه‪ ،‬يقعد الناس بسببها عن القيام بواجباتهم من الأمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ويترك بذلك المجتمع للتراجع‬

‫‪75‬‬
‫مجتمعا فاجراً بمعظمه‪،‬‬
‫ً‬ ‫إلى الخلف يوماً بعد يوم‪ ،‬حتى يغدو‬
‫وفي هذا لفت نظر لولئك الذين يدندنون حول )شرك‬
‫القصور(‪ ،‬مع أنهم أقرب إلى التورط في ذلك‪ ،‬ذلك بأنهم‬
‫وا الحاكم المنشود هالة العصمة التي ل تكون لغير نبي‪،‬‬‫أعط ْ‬
‫ولربطهم النجاة في الدارين به‪ ،‬مع قيام الدلة الواقعية على‬
‫خلف ذلك‪ ،‬عصمنا الله وإياهم من اتباع الهوى‪.‬‬
‫وحتى ل يساء الفهم ويهمش دور الحاكم بالكلية فنقع في‬
‫انحراف في الطرف الخر‪ ،‬وحتى ل نغفل حدود دوائر‬
‫المسؤولية فيختلط بعضها ببعض فيتقاعس الحاكم عن‬
‫الواجبات المناطة به ويلقي بالمسؤولية على عاتق الرعية‪،‬‬
‫وكذلك حتى ل تلقي الرعية بمسؤولياتها وواجباتها على عاتق‬
‫الحاكم‪ ،‬بإحدى الحجج السابقة التي مر مناقشتها‪ ،‬ل بد لك أخي‬
‫القارىء أن تستذكر ما مر معك قريباً بهذا الخصوص‪.‬‬
‫وبالضافة إلى ذلك أقول‪ :‬إن الحاكم وحاشيته الصالحة‪،‬‬
‫تكون سيطرتهم على الساحة المكشوفة بقدر قوة أفراد‬
‫الحاشية‪ ،‬والجماعات التي خلف هذه الحاشية تدعمها‪ ،‬فكلما‬
‫ضعف إيمانهم وخارت عزائمهم‪ ،‬ونخرت فيهم أسباب الفساد‬
‫الخلقية المنافية للعدل والصدق والمانة من اعتبار‬
‫المحسوبيات وقبول الرشاوى والوصولية‪ ،‬أدى ذلك إلى ضعف‬
‫واضح في الجهاز الحكومي‪ ،‬وبالتالي في تطبيق الحكام‬
‫والقوانين مما ينعكس سلباً على سمعة الدولة والنظام الحاكم‪.‬‬
‫فيجد كل صاحب غرض ما يريد في تأليب غثاء الناس ضدها‪،‬‬
‫مما يعين المتربصين من أعدائنا أمثال الشتراكيين على تحقيق‬
‫أطماعهم وإسقاط أنظمتنا السلمية المعارضة والمعادية‬
‫للشتراكية‪ .‬وبهذا المعنى يكون البعض منا قد سعى مع‬
‫حسن النية في جلب المفاسد أو تكثيرها وهو ل‬
‫يعلم‪.‬‬
‫وكلما قوي اليمان في أفراد الحاشية‪ ،‬كانت فاعليتهم‬
‫في تطبيق الحكام ومنع ظهور المنكرات أعظم‪ ،‬فالقضية إذن‬
‫نسبية‪ .‬ومن جانب آخر إذا كان المنكر مما يقع في الساحة‬
‫المستورة‪ ،‬فكيف للحاكم وحاشيته الوصول إليه ومنعه؟‬
‫قَرُبوا ْ‬
‫ول َ ت َ ْ‬
‫وأضرب مثل لتوضيح المر‪ ،‬قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫سِبيل ً‪] ‬السراء‪.[32:‬‬
‫ساء َ‬‫و َ‬
‫ة َ‬ ‫ح َ‬
‫ش ً‬ ‫ن َ‬
‫فا ِ‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫الّزَنى إ ِن ّ ُ‬

‫‪76‬‬
‫ولمنع وقوع الزنا في المجتمع ل بد من محاربته ومراقبته‬
‫في كل مكان‪ .‬فعلى الساحة المكشوفة‪ ,‬يستطيع الحاكم‬
‫ببطانته الصالحة إغلق دور الزنا المباشر‪ ,‬وكل ما يؤدي إلى‬
‫وقوع الزنا‪ ,‬مثل حفلت الرقص العامة‪ ,‬وبرك السباحة العامة‪,‬‬
‫ومخالفات الشواطئ المختلطة‪ ,‬ورياضة النساء التي تتكشف‬
‫ن‪ ،‬من تزلج وألعاب القوى والسباحة والرقص في‬ ‫فيها عوراته ّ‬
‫الماء‪ ،‬ومسابقات ملكات الجمال وغيرها الكثير‪.‬‬
‫كما يستطيع الحاكم ببطانته الصالحة أن يمنع جميع‬
‫مة‬‫مظاهر الختلط المحرم في الساحات والماكن العا ّ‬
‫مة‪ ,‬وكذلك أن يحد ّ من مظاهر‬‫والجامعات والمواصلت العا ّ‬
‫السفور والعريّ المنتشر في الشوارع‪ ,‬والسينما والصور‬
‫الفاضحة‪ ,‬وأن يراقب ما يجوز وما ل يجوز نشره من مطبوعات‬
‫ومنشورات وصحف ومجلت‪ ،‬وما شاكل ذلك من أمور‪.‬‬
‫أما على الساحة المستورة فإن دور الحاكم وبطانته‬
‫الصالحة ينتهي ليبدأ دور أصحاب المسؤوليات الخرى من آباء‬
‫وأمهات ومربين وكل من له علقة بالمنكر‪ ،‬أي‪ :‬إن الحاكم ل‬
‫يستطيع منع الزنا في البيوت المستورة‪ ,‬ول الختلط المحرم‬
‫ول المنكرات في السر‪ .‬كما أنه ل يفعل شيئا ً لما بجري من‬
‫مخالفات ومحرمات داخل المؤسسات الخاصة‪ ،‬والمكاتب‪ ،‬ول‬
‫داخل سيارات الجرة الخاصة والعامة‪ ،‬ول التعري بين القارب‬
‫ومع الصحاب‪ ,‬وما يجري داخل البيوت من منكرات العراس‪،‬‬
‫ول يستطيع كذلك أن يمنع ما تعرضه قنوات الدول الخرى غير‬
‫الملتزمة الفضائية وغير الفضائية على شاشات التلفاز‬
‫والنترنت‪ ،‬ول ما يجري تبادله كذلك من مخالفات وصور‬
‫شاّبات في أجهزة الهواتف النقالة‪ .‬ول‬‫فاضحة بين الشباب وال ّ‬
‫يستطيع أن يتتبع جميع الماكن والشوارع التي تظهر فيه النساء‬
‫الكاسيات العاريات وخاصة ما يجري في القرى والرياف بعيدا ً‬
‫عن أعين السلطة‪.‬‬
‫وهنا تجدر الملحظة بأنه‪ ،‬أينما غاب الرقيب انتهكت‬
‫المحرمات‪ ،‬حتى لو فرضت القوانين الرادعة لذلك‪ ،‬خصوصا ً‬
‫في مجتمع منهارٍ أخلقيا ً وسلوكيًا‪ ،‬لذا أكد السلم على مراقبة‬
‫الله تعالى في السر والعلن‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫فكلما ضعف الجهاز التنفيذي)‪ (93‬عند الحاكم ومراقبته لله‬
‫تعالى انتشرت مظاهر المحرمات لضعف المتابعة‪ ،‬بل يؤدي‬
‫إلى وقوع هذا الجهاز فيما حرم الله أو خالف القانون‪.‬‬
‫وعندنا في الردن قانون يمنع التدخين في المكاتب‬
‫مة‪ ,‬ويقضي بدفع غرامة مالّية على كل مخالف‪،‬‬ ‫والماكن العا ّ‬
‫ورغم التأكيد المستمر عليه من الحكومة‪ ,‬إل أننا لم نر لهذا‬
‫القانون أثرًا‪ ,‬لنتهاكه من قبل الكبير والصغير‪ ,‬من داخل الجهاز‬
‫التنفيذي أو من خارجه‪ ,‬فغدا حبرا ً على ورق‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫غياب البطانة الصالحة‪ ،‬بل غياب البطانة الصالحة المؤثرة‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية‬
‫ورفع ظلمهم لنفسهم والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬
‫درجات التغيير ومراتبه‬

‫لما خلق الله تعالى الخلق ابتلهم أيهم أحسن عم ً‬


‫ل‪ ,‬فل‬
‫زالوا على التوحيد حتى اجتالتهم الشياطين‪ ،‬فأرسل الله لهم‬
‫النبيين تترى يدعونهم إلى السلم ـ دين النبياء جميعا ً ـ من‬
‫جديد‪ ,‬وهو دين الرحمة‪ ,‬يرحم الله به عباده الصالحين‪ ,‬فكانت‬
‫هداية الخلق للحق مقصودة لذاتها‪ ,‬وهي أسمى مقصد من‬
‫مقاصد الديانات السماوية جميعها‪.‬‬
‫لذا حرص السلم باعتباره آخر الشرائع وناسخا ً لها كل‬
‫الحرص على إخراج العباد من الظلمات إلى النور‪ ,‬وأوجب‬
‫لأجل ذلك المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ,‬وذلك لتحقيق‬
‫أمرين اثنين‪:‬‬
‫الول‪ :‬زيادة الخير في المم من خلل المر بالمعروف‪،‬‬
‫وأعظمه تحقق التوحيد وأركان السلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬التقليل من المنكرات من خلل النهي عن‬
‫المنكر‪ ,‬وأكبره الشرك بالله والكبائر‪.‬‬
‫وبما أن أهل الخير يتفاوتون في الدرجات فيما بينهم‪,‬‬
‫وأهل الشر كذلك‪ ،‬فإن المطلوب‪:‬‬

‫‪93‬الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي في الدولة يتشكلن من‬


‫أشخاص مواطنين في الصل‪ ،‬قبل أن يكونوا حكوميين‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫‪ -1‬رفع نسبة الخير في المجتمع‪ ,‬وذلك بزيادة الخير من‬
‫درجة إلى أخرى ـ أي من درجة الكمال إلى الكمل ـ‪.‬‬
‫‪ -2‬التقليل من نسبة الشر في المجتمع من الدرجة السـوأ‪،‬‬
‫إلى الدرجة القــل ســوءًا‪.‬‬
‫وتحقيقا ً للمعاني السابقة أ ّ‬
‫صل أهل الفقه قواعد أصولّية‪,‬‬
‫منها قاعدة))ترجيح خير الخيرين‪ ،‬ودفع شر الشرين((‪ ،‬وهذا باب‬
‫عظيم من أبواب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ,‬إذ بالعمل‬
‫به تتنّزل رحمة الله تعالى على العباد وينجون من عذابه‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى‪:‬‬
‫))فل يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ول دفع أخف‬
‫الضررين بتحصيل أعظم الضررين‪ ،‬فإن الشريعة جاءت‬
‫بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب‬
‫المكان‪ ،‬ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا‬
‫جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا ً(()‪.(94‬‬
‫ويقول‪:‬‬
‫))إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها‬
‫وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت‬
‫أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما(()‪.(95‬‬
‫ور الرسم التالي‪:‬‬
‫ولتوضيح المر‪ ,‬علينا أن نتص ّ‬

‫‪))94‬فتاوى ابن تيمية في الفقه(( )‪.(23/343‬‬


‫‪))95‬فتاوى ابن تيمية في الفقه(( )‪.(30/193‬‬

‫‪79‬‬
‫شكل)‪(1‬‬
‫اتجاه‬ ‫موقف‬ ‫اتجاه‬
‫سلبي‬ ‫محايد‬ ‫ايجابي‬
‫)شر‬ ‫)خير‬

‫بذل عمل عمل عمل موق عم عمل عمل بذل‬


‫ل اللس الركا المال‬ ‫ف‬ ‫الما الركا اللس القل‬
‫والنف‬ ‫ن‬ ‫ب محايد القل ان‬ ‫ان‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫س‬ ‫ب‬ ‫من‬
‫السل موقف متآمر ضد السلم‬ ‫موقف متعاطف مع‬
‫تدرج في البراء‬ ‫م‬ ‫السلم تدرج في الولء‬
‫سال‬ ‫سال‬ ‫سال‬ ‫سال‬ ‫موج‬ ‫موج‬ ‫موج‬ ‫موج‬
‫ب‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫صفر‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫ب‬
‫‪4‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪4‬‬

‫سلبي‬
‫اتجاه‬ ‫موقف‬ ‫إيجابي‬
‫محايد‬ ‫اتجاه‬

‫قاعدة‪ :‬تعطيل‬ ‫موقف محايد‬ ‫قاعدة‪ :‬تحصيل‬


‫المفاسد وتقليلها‬ ‫المصالح وتكميلها‬
‫)دفع شر الشرين(‬ ‫)ترجيح خير الخيرين(‬
‫يمثل هذا الرسم موقف الشخص المقصود أو الجماعة أو‬
‫الدولة من السلم كما يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬نقطة المنتصف ) الصفر(‪ ,‬وتمثل موقف الحياد من السلم‪,‬‬
‫غير مؤيد وغير معارض‪.‬‬
‫ب‪ -‬التجاه إلى اليمين‪ ,‬ويمثل أربع درجات‪:‬‬
‫‪ -1‬عمل القلب باليمان‪ ،‬ويشمل )قول القلب‪ ،‬أي تصديقه‪،‬‬
‫وعمل القلب‪ ،‬أي خضوعه وانقياده( وهو أصل اليمان‪ ،‬أو‬
‫ده الدنى)‪.(96‬‬
‫ح ّ‬
‫‪))96‬فتاوى ابن تيمية في الفقه(( )‪.(7/637،263،644،377،639‬‬

‫‪80‬‬
‫‪ -2‬عمل باللسان‪ :‬وتشمل الدرجة السابقة‪ ,‬ويضاف إليها‬
‫التعبير عن التعاطف مع السلم باللسان‪ ,‬كأن يقول‪:‬‬
‫السلم دين الحق وهكذا‪.‬‬
‫‪ -3‬عمل بالركان‪ :‬وتشمل الدرجات السابقة وإقامة أركان‬
‫السلم في النفس )صلة‪ ,‬صوم‪(...‬‬
‫‪ -4‬بذل النفس والمال‪ ,‬وتشمل الدرجات السابقة جميعًا‪،‬‬
‫ويضاف إليها بذل المال والنفس دفاعا ً عن السلم والدعوة‬
‫إليه‪.‬‬
‫ج‪ -‬التجاه إلى اليسار‪ ,‬ويمثل بأربع درجات‪:‬‬
‫‪ -1‬عمل القلب بالكفر‪ ,‬ويشمل ) قول القلب‪ ،‬أي تكذيبه‪،‬‬
‫وعمل القلب‪ ،‬أي عدم الخضوع والنقياد( وهو حد الكفر‬
‫الدنى‪.‬‬
‫‪ -2‬عمل باللسان‪ ,‬ويشمل الدرجة السابقة ويضاف إليها‬
‫استعمال اللسان في الصد عن السلم‪ ,‬كأن يقول‪ :‬السلم‬
‫دين رجعي وباطل‪ ،‬أو يسخر من العلماء‪.‬‬
‫‪ -3‬عمل بالركان‪ ,‬ويشمل الدرجات السابقة‪ ،‬ويضاف إليها‬
‫ترك الواجبات‪ ،‬وفعل المحرمات‪.‬‬
‫‪ -4‬بذل النفس والمال‪ ,‬ويشمل الدرجات السابقة ويضاف‬
‫إليها بذل المال والنفس في محاربة السلم‪.‬‬
‫درجات المر بالمعروف‪:‬‬
‫درجات اليمان‪ ,‬ويمثلها الدرجات من موجب )‪ (1+‬إلى‬
‫موجب)‪ ,(4+‬أدناها الدرجة الولى )عمل القلب( وأعلها‬
‫الرابعة بذل النفس والمال‪ ,‬فلو استطاع أحد الدعاة أن ينقل‬
‫شخصا ً من الدرجة الولى)عمل القلب‪ :‬أي تصديقه وخضوعه(‪،‬‬
‫إلى الدرجة الثانية )عمل اللسان‪ :‬أي التعاطف مع السلم‬
‫بالقول( لكانت نقلة في التجاه اليجابي‪ ،‬فكيف لو نقله إلى‬
‫الدرجتين الثالثة أو الرابعة؟‪.‬‬
‫وهكذا لو استطاع أن ينقل شخصا ً من الدرجة الثالثة إلى‬
‫الرابعة أو من الثانية إلى الثالثة‪ ,‬إذن فكل نقلة باتجاه اليمين‬
‫تعتبر نقلة إيجابية‪ ،‬وبهذا العمل نكون قد طبقنا قاعدة تحصيل‬

‫‪81‬‬
‫المصالح وتكميلها‪ ،‬أو ترجيح خير الخيرين‪ .‬ونكون قد والينا‬
‫المؤمنين بقدر درجة إيمانهم وبذلهم للسلم‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن النتقال ما بين الدرجات )‪ (1+‬و)‪+‬‬
‫‪ ،(4‬ل يلحظه البعض من الناس‪ ،‬وخاصة ما بين الدرجة والتي‬
‫تليها مباشرة‪ ،‬مع انه باب من أبواب الدعوة‪ ،‬إذ به يزداد‬
‫المعروف في الرض تدريجيًا‪ ،‬وهذا مقصود لذاته‪.‬‬
‫درجات النهي عن المنكر‪:‬‬
‫درجات الكفر‪ ,‬ويمثلها الدرجات من )‪ (1-‬إلى )‪ (4-‬أدناها‬
‫الدرجة )‪ :(1-‬درجة )كفر القلب‪ :‬أي تكذيبه‪ ،‬وعدم الخضوع‬
‫والنقياد( وأعلها )‪) :(4-‬بذل النفس والمال في الصد عن‬
‫السلم(‪ .‬فلو استطاع أحد الدعاة أن ينقل شخصا ً من الدرجة‬
‫)‪ (4-‬درجة‪ :‬بذل المال والنفس في محاربة السلم‪ ،‬إلى‬
‫الدرجــة )‪ :(3-‬التي يقوم فيها الشخص بالمنكرات‪ ,‬لكانت نقلة‬
‫في التجاه اليجابي‪ ،‬فكيف لو نقله من الدرجة )‪ (4-‬الـى )‪:(1-‬‬
‫درجة )كفر القلب(؟‪.‬‬
‫إذا ً بهذا العمل وعلى الرغم من أننا لم نوفق بإخراج‬
‫الشخص من الكفر إلى اليمان‪ ،‬نكون قد عملنا بقاعدة تعطيل‬
‫المفاسد وتقليلها‪ ،‬أو دفع شر الشرين‪ .‬وعادينا الكافرين بقدر‬
‫درجة كفرهم وصدهم عن دين السلم‪ ،‬فكلما ازدادوا بموقفهم‬
‫دوا‬‫ص ّ‬
‫و َ‬ ‫ن كَ َ‬
‫فُروا َ‬ ‫سوءًا‪ ،‬زيد عذابهم‪ .‬قال تعالى‪) :‬ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ما َ‬
‫كاُنوا‬ ‫ب بِ َ‬ ‫ع َ‬
‫ذا ِ‬ ‫وقَ ال َ‬ ‫ذاًبا َ‬
‫ف ْ‬ ‫ع َ‬
‫م َ‬
‫ه ْ‬
‫زدَْنا ُ‬ ‫ل الل ّ ِ‬
‫ه ِ‬ ‫سِبي ِ‬
‫ن َ‬ ‫ع ْ‬ ‫َ‬
‫ن‪] ‬النحل‪ .[88:‬ومن المعلوم أن النتقال ما بين‬ ‫دو َ‬‫س ُ‬
‫ف ِ‬ ‫يُ ْ‬
‫الدرجـات )‪ (4-‬و)‪ ،(1-‬ل يلحظه كثير من الناس‪ ،‬وخاصة ما‬
‫بين الدرجة والتي تليها مباشرة‪ ،‬مع أنه باب من أبواب الدعوة‪،‬‬
‫إذ به ينحسر الفساد في الرض تدريجيا‪ ،،‬وهذا مقصود لذاته‬
‫كذلك‪ .‬فلو أن مسلما‪ ، ،‬قام بعمل كانت نتيجته بقاء الكفر‪،‬‬
‫ولكن انتقل موقف أهله من )‪ (1-‬الى )‪ ،(2-‬أو من )‪ (3-‬الــى‬

‫‪82‬‬
‫)‪ ،(4-‬كان عمله محرمًا‪ .‬فكيف به لو قام بعمل أخرج به البعض‬
‫من دائرة السلم إلى الكفر‪ ،‬وهو يظن نفسه محسنًا؟‬
‫ومما يجدر التنبيه إليه‪ :‬أن البعض ممن قل علمهم بهذا‪،‬‬
‫قد يصنف العلماء العاملين بهذا المنهج الصولي بالعمالة‪ ،‬إذا‬
‫أفتوا بدفع الشر الكبر بالشر الصغر‪ ،‬إذا لم يندفعا جميعًا‪،‬‬
‫ومثاله‪ ،‬انظر الحاشية)‪.(97‬‬
‫ولتوضيح المر أكثر نضرب مثلً بما حدث في صلح‬
‫الحديبية‪ ،‬ولماذا سمي بالفتح المبين ؟‬
‫لقد بدأت دعوة رسول الله × بمفرده‪ ،‬ومع الزمن‬
‫والصبر على أذى المشركين‪ ،‬بدأ الناس بالنتقال من درجات‬
‫الكفر})‪ {(1-)-(4-‬إلى درجات اليمان })‪ ،{(4+)-(1+‬ولقد‬
‫كانوا متفاوتين في موقفهم الولي من السلم حين دُعوا إليه‪،‬‬
‫فلم يكونوا كلهم في الدرجة )‪ (4-‬المعادية للسلم بالمال‬
‫والنفس‪ ،‬كموقف أبي جهل لعنه الله‪ ،‬ومع استمرار الدعوة أخذ‬
‫المشركون بالنتقال من درجة إلى التي تليها باتجاه السلم‪،‬‬
‫ومنهم من دخل فيه وبدأ بالترقي في درجات السلم‬
‫})‪+‬موجب ‪+)-(1‬موجب ‪ ،{(4‬إل أن الدرجة الرابعة )‪+‬موجب‬
‫‪ (4‬في العهد المكي‪ ،‬كانت ببذل المال في سبيل الدعوة فقط‪،‬‬
‫ولم يكن قد فرض الجهاد بعد‪.‬‬
‫وبعد الهجرة إلى المدينة‪ ،‬قويت شوكة المسلمين‪،‬‬
‫وقاموا بالعديد من الغزوات‪ ،‬وعلى رأسها )بدر الكبرى(‪ .‬وفي‬
‫السنة السادسة من الهجرة وقّعَ الرسول صلى الله عليه وسلم‬
‫صلح الحديبية مع قريش‪ ،‬وأخذ بنشر الدعوة خارج المدينة‬
‫المنورة مستغلً فترة وضع القتال لمدة عشر سنين‪ ،‬فازداد عدد‬
‫المسلمين‪ ،‬فدخل فيه في غضون سنتين أكثر ممن أسلموا في‬
‫تسعة عشر عاما ً مضت‪ ،‬وممن أسلم في هذه الفترة خالد بن‬
‫الوليد رضي الله عنه‪.‬‬

‫‪97‬دفع الخطر الاشتراكي الكبر‪ ،‬بالخطر الرأسمالي‪ ،‬ومن صور‬


‫الاشتراكية )النظام اليراني الخميني‪ ،‬والنظام البعثي الشتراكي في‬
‫العراق وسوريا‪ ،‬ونظام كل من ليبيا‪ ،‬وتونس‪ ،‬والجزائر‪ ،‬والصين‪،‬‬
‫وكوريا الشمالية‪ ،‬وكوبا‪ ،‬وروسيا التحادية وهكذا‪ .‬ومن صور‬
‫الرأسمالية‪ :‬دول أوروبا‪ ،‬وأمريكا وأمثالها‪ .‬انظر كتابنا‬
‫))المنابرالعلمية بين تجاهل الخطر الشتراكي وظاهرة معاداة‬
‫أمريكا((‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫يقول ابن كثير في تفسير أول سورة الفتح‪:‬‬
‫مبينا ً( أي‪َ :‬بيّ ً‬
‫نا ظاهرًا‪،‬‬ ‫فتحنا لك فتحا ً ُ‬
‫))فقوله‪) :‬إنا َ‬
‫والمراد به صلح الحديبية‪ .‬فإنه حصل بسببه خير جزيل‪ ،‬وآمن‬
‫الناس واجتمع بعضهم ببعض وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر‬
‫العلم النافع واليمان((‬

‫ويقول الطبري في تفسيره‪:‬‬


‫دون ذَِلك َ‬
‫فتحاً قريباً( يعني‪:‬‬ ‫من ُ‬ ‫جع َ‬
‫ل ِ‬ ‫))قوله‪َ ) :‬‬
‫ف َ‬
‫صلح الحديبية؛ وما فتح في السلم فتح كان أعظم منه‪ ،‬إنما‬
‫كان القتال حيث التقى الناس‪ ،‬فلما كانت الهدنة وضعت الحرب‬
‫وآمن الناس كلهم بعضهم بعضاً‪ ،‬فالتقوا فتفاوضوا في الحديث‬
‫والمنازعة‪ ،‬فلم يكلم أحد بالسلم يعقل شيئا إل دخل فيه‪،‬‬
‫فلقد دخل في تينك السنتين في السلم مثل من‬
‫كان في السلم قبل ذلك وأكثر((‪.‬‬
‫أقول‪ :‬لماذا تضاعف عدد المسلمين في غضون سنتين‬
‫فقط؟‬
‫نعلم مما سبق من قول الطبري وابن كثير وغيرهما‪ ،‬أن‬
‫السبب في ذلك‪ ،‬هو توقيع الهدنة ووضع الحرب‪ ،‬لن مناخ‬
‫الحروب يؤجج النفوس ويشحنها للدفاع عن المعتقدات والرض‬
‫والعرض‪ ،‬فتأخذ المشركين حمية الجاهلية‪.‬‬
‫فلو نزل الرسول ×‪ ،‬على رأي عمر بن الخطاب وعامة‬
‫الصحابة رضي الله عنهم‪ ،‬وقاتلوا المشركين حين منعوهم من‬
‫أداء العمرة‪ ،‬وقامت الحرب‪ ،‬لتراجع كل أؤلئك الذين كانوا قد‬
‫اقتربوا من السلم عدة درجات عن درجاتهم‪ ،‬فبعضهم كان قد‬
‫أوشك على الدخول في السلم‪ ،‬فوصل إلى الدرجة )الصفر(‬
‫درجة الحياد‪ ،‬وبعضهم وصل إلى الدرجة )‪ :(1-‬درجة )كفر‬
‫القلب‪ :‬أي تكذيبه‪ ،‬وعدم الخضوع والنقياد(‪ ،‬وبعضهم إلى‬
‫الدرجة )‪ :(2-‬درجة )استعمال اللسان في الصد عن السلم(‪،‬‬
‫وهكذا‪ .‬وبهذا يتبين لنا أن النصر الحقيقي والفتح المبين‪ ،‬هو فتح‬
‫القلوب للدخول في السلم‪ ،‬ويكون أحياناً في الموطن الذي‬

‫‪84‬‬
‫يراه الناس‪ ،‬موطن ذل وهزيمة‪ ،‬فمن كان يتصور أن في هاتين‬
‫السنتين سيدخل في السلم من المشركين أكثر من عدد من‬
‫وجيها آخر‬
‫ً‬ ‫أسلم منذ تسعة عشر عاما ً مضت؟ فكان ذلك سبباً‬
‫لفتح مكة‪ .‬ألم يرتجف أبو سفيان من عدد جيش فتح مكة‬
‫المقدر بعشرة آلف مقاتل من المسلمين؟‬
‫لذا على المسلين أن يحرصوا على كل أسلوب‬
‫حسن يقرب المشركين من السلم ولو خطوة‪ ،‬وأن‬
‫يتجنبوا كل ما يبعدهم عن السلم ولو خطوة‪.‬‬
‫فهل ما يقوم به بعض الجهلة باسم السلم‬
‫وتحت يافطات إسلمية من أعمال إرهابية وصلت إلى‬
‫حد ذبح البرياء‪ 98‬والتفاخر بذلك ونشره مصوراً في‬
‫وسائل العلم‪ ،‬يقرب غير المسلمين من السلم‪،‬‬
‫أم أن هذه العمال ستشكك حديثي العهد بهذا الدين‪،‬‬
‫فضلً عن أن يدخلوا فيه؟‬
‫ن لَ ْ‬
‫م‬ ‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬‫ع ْ‬ ‫ه َ‬‫كمُ الل ّ ُ‬ ‫ها ُ‬ ‫ألم يقل الله تعالى‪َ) :‬ل ي َن ْ َ‬
‫خرجوك ُم من ديارك ُ َ‬
‫ن‬
‫مأ ْ‬ ‫ْ ِ ْ ِ َ ِ ْ‬ ‫م يُ ْ ِ ُ‬ ‫ول َ ْ‬
‫ن َ‬ ‫دي ِ‬
‫في ال ّ‬‫م ِ‬ ‫قات ُِلوك ُ ْ‬
‫يُ َ‬
‫ن‪‬‬
‫طي َ‬‫س ِ‬ ‫ق ِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه يُ ِ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫سطوا إ ِلي ْ ِ‬
‫ق ِ ُ‬
‫وت ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ه ْ‬
‫ت َب َّرو ُ‬
‫]الممتحنة‪[8:‬؟‬
‫ألم تحمل الية ردا ً مسبقا ً على تصورات البعض الخاطئة‬
‫في هذه اليام‪ ،‬ممن يعتقدون أن مجرد معاملة من لم يقاتلوننا‬
‫في ديننا من غير المسلمين‪ ،‬بالبر والحسان ي ُعَد ّ من باب‬
‫الموالة لهم؟‬
‫بناء على ما سبق ذكره‪ ،‬فإنه يحسن أن نبين العلقة‬
‫الطردية بين العمال الصالحة من جهة ودرجة التغيير إلى‬
‫الحسن في المجتمع من جهة أخرى‪ .‬وكذلك العلقة العكسية‬
‫القائمة بين العمال السيئة من جهة‪ ،‬ودرجة التغيير إلى‬
‫الحسن في المجتمع من جهة أخرى‪.‬‬
‫فقد مضت سنة الله تعالى أن تغيير النفس في‬
‫م فيه وتظهر‪ ،‬وتكون‬ ‫المجتمع بما يرضي الله تعالى بنسبة تع ّ‬
‫هي الغلب‪ ،‬سيؤدي ذلك بإذن الله وتوفيقه إلى تغيير ما بالقوم‬
‫‪98‬ومن صور أعمالهم المنحرفة تكفيرهم لمن مارس حقه في‬
‫النتخابات في العراق‪ ،‬ومن ثم قتلهم في مراكز القتراع‪ ،‬إذ قاموا‬
‫يوم القتراع بـ )‪ (13‬عملية قتل فيها العشرات من المقترعين‪ ،‬كما‬
‫تناقلته وسائل العلم‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫إلى الحسن‪ .‬والتغيير الكلي المطلوب‪ ،‬هو محصلة‬
‫إيجابية لتغيير جميع ما في النفس البشرية من‬
‫الفكار والمعتقدات التي تبنى عليها العمال‬
‫والقوال‪.‬‬
‫وعليه فإنه يلزم كل فرد من أفراد المجتمع الحرص على‬
‫ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يتعرف على درجة تعاطفه مع السلم‪ ،‬هل هي مؤيدة‬
‫بالقلب فقط‪ ،‬أم أنها بالقلب واللسان‪ ،‬أم أنها أرفع من‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪ -2‬المبادرة بنقل نفسه من الدرجة التي يشغلها حاليًا‪ ،‬إلى‬
‫الدرجة التي تليها‪ ،‬والتي تليها‪ ،‬وهكذا‪ ،‬لقوله تعالى‪:‬‬
‫ها‬‫ض َ‬‫عْر ُ‬
‫ة َ‬‫جن ّ ٍ‬
‫و َ‬
‫م َ‬‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬‫ة ِ‬ ‫فَر ٍ‬ ‫غ ِ‬ ‫عوا إ َِلى َ‬
‫م ْ‬ ‫ر ُ‬
‫سا ِ‬‫و َ‬ ‫) َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‪] ‬آل عمران‪:‬‬ ‫قي َ‬ ‫ت ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫عد ّ ْ‬‫ضأ ِ‬ ‫واْلْر ُ‬‫ت َ‬‫وا ُ‬‫ما َ‬‫س َ‬‫ال ّ‬
‫‪ .[133‬وإن لم يستطع أن يترقى من درجة إلى أخرى‪ ،‬عليه‬
‫أن يترقى في الدرجة الواحدة‪ ،‬وذلك لتفاوت أهل التوحيد‬
‫في الدرجة الواحدة‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬يتفاوت المصلون‬
‫في أجرهم بقدر حسن إقامتهم للصلة‪ :‬أركانها‪ ،‬وطهورها‪،‬‬
‫وخشوعها‪ ،‬ونوافلها‪ ،‬وموضعها‪ .‬وكذلك يتفاوتون في‬
‫الصدقات‪ ،‬وغيره‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يدعوا المسلمين إلى النتقال من درجة إلى أخرى‬
‫تليها في اليجابية‪ ،‬ليزداد اليمان في المجتمع‪ ،‬فتقترب‬
‫محصلته من الدرجة التي يرضاها الله تعالى لستحقاق‬
‫التغيير اليجابي المنشود في القوم‪.‬‬
‫‪ -4‬على المسلم أن يشعر أنه بترقية أي فرد من أفراد‬
‫المجتمع‪ ،‬من درجة إيجابية إلى أخرى‪ ،‬يزداد اليمان في‬
‫المجتمع‪ ،‬فيقترب من الدرجة التي يرضاها الله تعالى‬
‫لستحقاق التغيير اليجابي المنشود في القوم‪ .‬فإن أي‬
‫ل شأنه في نظر فاعله‪ ،‬يعد ّ‬ ‫زيادة في المعروف مهما ق ّ‬
‫بركة‪ ،‬قال ×‪)) :‬ل تحقرن من المعروف شيئًا‪ ،‬ولو أن‬
‫تلقى أخاك بوجه طليق(( ]رواه مسلم[‪.‬‬
‫‪ -5‬على المسلم العتراف‪ ،‬بأن تراجعه‪ ،‬أو أي فرد من أفراد‬
‫المجتمع‪ ،‬من درجة إلى التي تليها في التجاه السلبي‪،‬‬
‫سيؤدي إلى نقصان درجة اليمان في المجتمع‪ ،‬وبالتالي‬
‫نقصان معدله‪ ،‬أي أنه بهذا التراجع يساهم بالبتعاد عن‬
‫‪86‬‬
‫الدرجة التي يرضاها الله تعالى لستحقاق التغيير اليجابي‬
‫المنشود في القوم‪ ،‬وبالتالي يساهم في الهزيمة التي‬
‫ل صلته‪ ،‬أو صائم ٍ‬ ‫ستلحق بالمسلمين‪ .‬أي‪ :‬إذا ترك مص ٍ‬
‫ة‬
‫ة دعوته‪ ،‬وأمثال ذلك‪ ،‬أو ارتكب معصي ً‬‫صومه‪ ،‬أو داعي ٌ‬
‫صغرت أم كبرت‪ ،‬فإن هذا التراجع عن أداء واجب أو الجرأة‬
‫على فعل محرم‪ ،‬يؤدي إلى ما ذكرنا‪ .‬وبهذا سندرك المعاني‬
‫العظيمة‪ ،‬والعبر في قوله ×‪)) :‬مثل القائم في حدود‬
‫الله والواقع فيها‪ ،‬كمثل قوم استهموا على‬
‫سفينة‪ ،‬فصار بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها‪.‬‬
‫فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا‬
‫على من فوقهم فقالوا‪ :‬لو أنا خرقنا في نصيبنا‬
‫خرقا ً ولم نؤذ من فوقنا‪ ،‬فإن تركوهم وما أرادوا‬
‫هلكوا جميعا ً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا‬
‫جميعا ً((‪] .‬رواه البخاري والترمذي[‪.‬‬
‫‪ -6‬فإنه من الخير‪ ،‬أن يقوم الدعاة والوعاظ والعلماء بنشر‬
‫هذه المفاهيم في الناس‪ ،‬ليقبلوا على الخير أو يزدادوا بها‬
‫خيرا‪ ،‬وليجتنبوا الشر‪ ،‬أو ينقصوا منه ما استطاعوا إلى ذلك‬
‫سبي ً‬
‫ل‪.‬‬
‫قواعد يجب مراعاتها عند التغيير‪:‬‬
‫‪ -1‬التدرج في تطبيق السلم العام حسب الحال‬
‫والقدرة‪:‬‬
‫لقد اتسم التشريع السلمي بالتدرج‪ ،‬سواء كان ذلك في‬
‫العقائد أم في الحكام‪ ،‬ففي الوقت الذي كان فيه التركيز على‬
‫العقائد في المراحل الولى من الدعوة في مكة المكرمة‪ ،‬تأخر‬
‫فرض كثير من الحكام بعد الهجرة إلى المدينة‪ ،‬حتى إن الكفار‬
‫ضاقوا بهذه السنة الكونية‪ ،‬وطالبوا بإنزال القرآن جملة واحدة‪.‬‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫ل َ‬ ‫وَل ن ُّز َ‬‫فُروا ل َ ْ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬‫قا َ‬‫و َ‬
‫قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫وَرت ّل َْناهُ‬
‫ك َ‬ ‫ؤادَ َ‬ ‫ف َ‬‫ه ُ‬ ‫حدَةً ك َذَل ِ َ‬
‫ك ل ِن ُث َب ّ َ‬
‫ت بِ ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫مل َ ً‬
‫ة َ‬ ‫ج ْ‬
‫ن ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫قْرآ ُ‬
‫رِتيًل‪] ‬الفرقان‪ .[32:‬ثم أكد القرآن الكريم على هذه السنة‬ ‫تَ ْ‬
‫الكونية‪ ،‬سنة التدرج في تطبيق السلم في قوله تعالى‪:‬‬
‫ث‬ ‫عَلى ُ‬
‫مك ْ ٍ‬ ‫س َ‬ ‫قَرأ َهُ َ َ‬
‫قَناهُ ل ِت َ ْ‬
‫فَر ْ‬‫قْرآنا ً َ‬‫و ُ‬‫) َ‬
‫على الّنا ِ‬
‫زيل ً‪] ‬السراء‪.[106:‬‬ ‫ْ‬
‫ون َّزلَناهُ َتن ِ‬‫َ‬

‫‪87‬‬
‫وهذا التدرج الذي نعنيه يكون في التطبيق وليس في‬
‫التشريع‪ .‬فقد اكتمل الدين والحمد لله‪ .‬ول يصار إلى تطبيق‬
‫هذه السنة إل في المجتمعات التي قد غلب الجهل في الدين‬
‫على أفرادها‪ ،‬أو جديدة العهد باللتزام بالسلم‪ ،‬أو جديدة العهد‬
‫مُنوا‬ ‫قل ل ّ ْ‬
‫م تُ ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫مّنا ُ‬
‫بآ َ‬ ‫ت اْل َ ْ‬
‫عَرا ُ‬ ‫قال َ ِ‬
‫بالكفر‪ ،‬قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫َ‬
‫في‬‫ن ِ‬ ‫ما ُ‬ ‫لي َ‬‫لا ِْ‬ ‫خ ِ‬‫ما ي َدْ ُ‬ ‫ول َ ّ‬‫مَنا َ‬‫سل َ ْ‬‫قوُلوا أ ْ‬ ‫كن ُ‬ ‫ول َ ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ه ل ي َل ِت ْكم ّ‬ ‫َ‬
‫سول ُ‬ ‫وَر ُ‬‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫عوا الل َ‬ ‫طي ُ‬ ‫وِإن ت ُ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫قلوب ِك ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫م‪] ‬الحجرات‪.[14:‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر ّر ِ‬ ‫غ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫شي ًْئا إ ِ ّ‬
‫م َ‬ ‫مال ِك ُ ْ‬‫ع َ‬ ‫أَ ْ‬
‫لذا فقد بدأ السلم بغرس العقيدة وتقوية اليمان في‬
‫النفوس أول ً لتهيئتها لقبول الحكام التي أخذت بالنزول فيما بعد‬
‫تترى‪ .‬ففرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة‪ ،‬أما‬
‫الحج ))ففرض في السنة السادسة على قول جمهور العلماء‪,‬‬
‫وفي التاسعة أو العاشرة على قول ابن القيم(()‪ .(99‬أما النهي‬
‫عن المحرمات‪ ،‬فحرمت الخمر‪ ،‬وفرضت الحدود في المدينة‬
‫المنورة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ومن الدلة على اعتبار سنة التدرج في التغيير‪:‬‬
‫)أ( أن السلم لم يمنع الرق دفعة واحدة‪ ،‬ولم يحسم أمره‬
‫سريعًا‪ ،‬وذلك لحاجة المجتمعات النسانية إليه‪ ،‬ولكنه قام‬
‫بخطوات مع الزمن أدت إلى تجفيفه وتطهيره من المجتمع‪.‬‬
‫والخشية تساورني من أن بعض الجهال بمقاصد الشريعة‬
‫السلمية سيعيدون العبودية باسم تطبيق أحكام السلم‪،‬‬
‫ضاربين عرض الحائط بما سيترتب على خطوتهم هذه من‬
‫الساءة إلى سمعة السلم في واقعنا المعاصر الذي ينتقص‬
‫فيه العالم العبودية وعصورها الجاهلية‪ ،‬فيؤدي ذلك إلى إغلق‬
‫قلوب غير المسلمين أمام المد السلمي الزاحف‪ ،‬وتشكك‬
‫قريبي العهد بالكفر منهم فيه‪.‬‬
‫سلم‬‫لذا فتطبيق السلم دفعة واحدة على مجتمع لم ي ُ ْ‬
‫أمره لله تعالى ينطوي على مخاطر كثيرة‪ ،‬وهو ضد سنة الله‬
‫تعالى في التغيير‪ ،‬ويؤيد هذا القاعدة الفقهية المعروفة‪ :‬أنه‬
‫يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة‪ .‬وقد حاولت حركة طالبان‬
‫في أفغانستان فرض أحكام السلم دفعة واحدة‪ ،‬كما ينادي‬
‫بذلك حزب التحرير‪ ،‬فكّرهت الدنيا في السلم وفي المسلمين‪،‬‬
‫الحج‪.‬‬ ‫‪))99‬فقه السنة((‪ ،‬لسيد سابق‪ ،‬كتاب‬

‫‪88‬‬
‫وكان نهاية أمرها خسرانا ً مبينًا‪ ،‬وأدى ذلك إلى زوالها في وقت‬
‫مبكر‪ .‬ولو أنها اتخذت أسلوب التدرج والحكمة الحسنة في‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬لكان أقرب إلى مراعاة‬
‫مقاصد الشريعة السمحة‪ ،‬ولكن ما هكذا يا سعد تورد البل!!‬
‫)ب( التدرج في تحريم الخمر على ثلث مراحل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬بين فيها القرآن الكريم أن من نعم الله تعالى‬
‫على العباد‪ ،‬ما سخر لهم من ثمرات النخيل والعناب‪ ،‬وما‬
‫كر ومن رزق حسن‪ ،‬كما في قوله تعالى‪:‬‬ ‫س َ‬ ‫يتخذون منه من َ‬
‫سك ًَرا‬ ‫َ‬
‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ن ِ‬ ‫ذو َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ب ت َت ّ ِ‬‫عَنا ِ‬ ‫وال ْ‬ ‫ل َ‬ ‫خي ِ‬
‫ت الن ّ ِ‬ ‫مَرا ِ‬‫من ث َ َ‬ ‫) َ‬
‫و ِ‬
‫ن‪] ‬النحل‪:‬‬‫قُلو َ‬ ‫ع ِ‬
‫وم ٍ ي َ ْ‬ ‫ق ْ‬ ‫ة لّ َ‬
‫ك لي َ ً‬ ‫في ذَل ِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫سًنا إ ِ ّ‬
‫ح َ‬ ‫رْز ً‬
‫قا َ‬ ‫و ِ‬
‫َ‬
‫سكَر ليس‬ ‫َ‬ ‫‪ .[67‬فقد لفت القرآن أنظار المسلمين‪ ،‬إلى أن ال ّ‬
‫من الرزق الحسن‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أمرهم بعد ذلك بأن ل يقربوا الصلة وهم‬
‫مُنوا ْ ل َ‬ ‫َ‬
‫نآ َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫سكارى‪ ،‬كما في قوله تعالى ‪َ) :‬يا أي ّ َ‬
‫قربوا ْ الصل َةَ َ‬
‫موا ْ َ‬
‫ما‬ ‫عل َ ُ‬
‫ى تَ ْ‬
‫حت ّ َ‬ ‫س َ‬
‫كاَرى َ‬ ‫م ُ‬
‫وأنت ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫تَ ْ َ ُ‬
‫قوُلو َ‬
‫ن‪] ‬النساء‪.[43:‬‬ ‫تَ ُ‬
‫َ‬
‫ها‬‫الثالثة‪ :‬نزل التحريم كما في قوله تعالى‪َ) :‬يا أي ّ َ‬
‫َ‬
‫ب‬‫صا ُ‬ ‫والن َ‬ ‫سُر َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫مي ْ ِ‬ ‫مُر َ‬‫خ ْ‬‫ما ال ْ َ‬
‫مُنوا ْ إ ِن ّ َ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫عل ّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫جت َن ُِبوهُ ل َ َ‬‫فا ْ‬ ‫ن َ‬
‫طا ِ‬‫شي ْ َ‬‫ل ال ّ‬ ‫م ِ‬
‫ع َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫س ّ‬‫ج ٌ‬ ‫ر ْ‬
‫م ِ‬ ‫والْزل َ ُ‬ ‫َ‬
‫ن‪] ‬المائدة‪.[90:‬‬ ‫حو َ‬ ‫ْ‬
‫ت ُفل ِ ُ‬
‫‪ -2‬تغير الفتوى بحسب تغير الزمنة والمكنة‬
‫والحوال‪:‬‬
‫يقول ابن القيم تحت عنوان‪) :‬فصل في تغير الفتوى‬
‫واختلفها بحسب تغير الزمنة والمكنة والحوال والنيات‬
‫والعوائد(‪:‬‬
‫))هذا فصل عظيم النفع جدًا‪ ،‬وقع بسبب الجهل به غلط‬
‫عظيم على الشريعة‪ ،‬أوجب من الحرج والمشقة‪ ،‬وتكليف ما ل‬
‫سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب‬
‫المصالح ل تأتي به‪ ،‬فإن الشريعة مبناها وأساسها على‬
‫الحكم‪ ،‬ومصالح العباد‪ ،‬في المعاش والمعاد‪ ،‬وهي‬
‫عدل كلها‪ ،‬ورحمة كلها‪ ،‬ومصالح كلها‪ ،‬وحكمة كلها‪،‬‬
‫فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور‪ ،‬وعن الرحمة إلى‬

‫‪89‬‬
‫ضدها‪ ،‬وعن المصلحة إلى المفسدة‪ ،‬وعن الحكمة إلى العبث‪،‬‬
‫فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل‪ .‬فالشريعة عدل‬
‫الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته‬
‫الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دللة‬
‫وأصدقها ‪...‬‬
‫ونحن نذكر ـ والقول لبن القيم ـ تفصيل ما أجملناه في‬
‫هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة((‪.‬‬
‫ثم يتابع ابن القيم القول تحت عنوان‪) :‬النكار له‬
‫شروط(‪:‬‬
‫المثال الول‪:‬‬
‫أن النبي × شرع لمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل‬
‫بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله‪ ،‬فإذا كان إنكار‬
‫المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه ل‬
‫يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله‪ ،‬وهذا كالنكار‬
‫على الملوك والولة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة‬
‫إلى آخر الدهر‪ ،‬وقد استأذن الصحابة رسول الله × في قتال‬
‫المراء الذين يؤخرون الصلة عن وقتها‪ ،‬وقالوا‪ :‬أفل نقاتلهم؟‬
‫فقال‪)) :‬ل‪ ،‬ما أقاموا الصلة(( وقال‪)) :‬من رأى من أميره‬
‫ما يكرهه فليصبر‪ ،‬ول ينزعن يدا ً من طاعته((‪ .‬ومن‬
‫تأمل ما جرى على السلم في الفتن الكبار والصغار‪،‬‬
‫رآها من إضاعة هذا الصل‪ ،‬وعدم الصبر على منكر‬
‫فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه‪ ،‬فقد كان رسول‬
‫الله × يرى بمكة أكبر المنكرات‪ ،‬ول يستطيع تغييرها‪ ،‬بل لما‬
‫فتح الله مكة وصارت دار إسلم‪ ،‬عزم على تغيير البيت ورده‬
‫على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك ـ مع قدرته عليه ـ خشية‬
‫وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب‬
‫عهدهم بالسلم وكونهم حديثي عهد بكفر‪ .‬ولهذا لم يأذن في‬
‫النكار على المراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم‬
‫منه كما وجد سواء‪.‬‬
‫أربع درجات للنكار‪:‬‬
‫فإنكار المنكر أربع درجات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أن يزول ويخلفه ضده‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫الثانية‪ :‬أن يقل وإن لم يزل بجملته‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن يخلفه ما هو مثله‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬أن يخلفه ما هو شر منه‪.‬‬
‫فالدرجتان الوليان مشروعتان‪ ،‬والثالثة موضع اجتهاد‪،‬‬
‫والرابعة محرمة‪.‬‬
‫فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج‪ ،‬كان‬
‫إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إل إذا نقلتهم منه إلى‬
‫ما هو أحب إلى الله ورسوله‪ ،‬كرمي النشاب وسباق الخيل‬
‫ونحو ذلك‪ .‬وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو‬
‫سماع مكاء وتصدية‪ ،‬فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو‬
‫المراد‪ ،‬وإل كان تركهم على ذلك خيرا ً من أن تفرغهم لما هو‬
‫أعظم من ذلك‪ ،‬فكان ما هم فيه شاغل ً لهم عن ذلك‪ ،‬وكما إذا‬
‫كان الرجل مشتغل ً بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها‬
‫انتقاله إلى كتب البدع والضلل والسحر‪ ،‬فدعه وكتبه الولى‬
‫وهذا باب واسع‪.‬‬
‫وسمعت شيخ السلم ابن تيمية قدس الله روحه ونور‬
‫ضريحه يقول‪ :‬مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم‬
‫منهم يشربون الخمر‪ ،‬فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه‬
‫وقلت له‪ :‬إنما حرم الله الخمر لنها تصد عن ذكر الله وعن‬
‫الصلة‪ ،‬وهؤلء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية‬
‫وأخذ الموال فدعهم(()‪ ،(100‬انتهى‪.‬‬
‫ثم ذكر ابن القيم فصول ً عديدة مستدل ً بها على تغير‬
‫الفتوى منها‪) :‬فصل‪ :‬النهي عن قطع اليدي في الغزو(‪،‬و)فصل‪:‬‬
‫سقوط حد السرقة في المجاعة(‪.‬‬
‫المجالس النيابية الديموقراطية وتغير الفتوى‪:‬‬
‫ومن المثلة المعاصرة على تغير الفتوى بتغير المكان‬
‫والزمان والحوال‪ ،‬حكم المشاركة في المجالس النيابية‪.‬‬
‫فالحكم فيها على وجوه‪:‬‬
‫• عدم جواز‪ ،‬بل تحريم المطالبة بالمجالس النيابية‬
‫الديموقراطية في الدول السلمية التي تكون فيها كلمة‬

‫‪))100‬إعلم الموقعين(( )‪.(6-3/3‬‬

‫‪91‬‬
‫الله هي العليا‪ ،‬وكلمة الذين كفروا السفلى‪ ،‬والتي تحفظ‬
‫فيها الضرورات الخمس وتصان‪ ،‬مثل المملكة العربية‬
‫السعودية‪ ،‬لما يترتب على إقرار الحكم النيابي فيها‪ ،‬جعل‬
‫كلمة الذين كفروا مساوية لكلمة الله تعالى‪ ،‬بحجة‬
‫المساواة في الحريات العامة‪ ،‬وخصوصا ً حرية التعبير عن‬
‫الرأي‪.‬‬
‫ولكن لو قامت الدولة بإقرار هذا النظام الديموقراطي‬
‫تحت ضغط الواقع والجماهير ـ كما حصل في الكويت‬
‫والردن ـ وترتب على عدم الستجابة لهذه المطالب‬
‫مفسدة أعظم من وجود مفسدة الحكم الديموقراطي‪ ،‬أو‬
‫فرض هذا النظام الديموقراطي بالقوة‪ -‬كما حصل في‬
‫العراق‪ -‬فإنه ل يجوز للمسلمين ترك المشاركة في الحكم‬
‫الديموقراطي بحجة كفره‪ ،‬لما في هذا الترك من ترك‬
‫لمقاصد الشريعة‪ ،‬وفقه الموازنات‪ ،‬وإخلء مواقع صنع‬
‫القرار لغير المسلمين‪ ،‬وهذا يؤدي إلى الضرار بالضرورات‬
‫الخمس‪ ،‬ومصالح السلم والمسلمين عامة في هذا البلد‪.‬‬
‫• جواز المطالبة بالمجالس النيابية الديموقراطية في‬
‫الدول السلمية التي تكون فيها كلمة الذين كفروا العليا‪،‬‬
‫ول تحفظ فيها الضرورات الخمس ول تصان‪ ،‬مثل سوريا‪،‬‬
‫والجزائر‪ ،‬وتونس‪ ،‬وليبيا‪ ،‬والعراق ـ قبل سقوط النظام‬
‫الشتراكي ـ وسائر الدول الشتراكية عمومًا‪ .‬لما يترتب‬
‫على إقرار الحكم النيابي فيها‪ ،‬من رفع القيود على‬
‫الضرورات الخمس‪ ،‬وبالتالي رفع كلمة الله تعالى في‬
‫المجتمع من خلل إتاحة الفرصة للدعوة إلى الله تعالى‪،‬‬
‫ول تقدح عملية‬ ‫والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫المشاركة في المجالس النيابية الديموقراطية في براءة‬
‫المشاركين من الشرك وأهله‪ .‬وقد ارتكب أهل السنة في‬
‫العراق أبشع جريمة في التاريخ الحديث‪ -‬بعد سقوط الحكم‬
‫الشتراكي في العراق‪ -‬حين تركوا مراكز صنع القرار للد‬
‫أعدائهم من الشيوعيين والشيعة والشتراكيين‪ ،‬بحجج‬
‫)‪(101‬‬
‫‪،‬‬ ‫وأوهام‪ ،‬ل علقة لها بمقاصد الشريعة‪ ،‬وفقه الموازنات‬
‫فأدى ذلك إلى تمكين هؤلء العداء من ديننا ورقابنا وأموالنا‬
‫‪101‬فقد أفتى السيستاني الشيعة بالنار لكل من ل يشارك في النتخابات‪ ،‬في حين‬
‫أفتى الزرقاوي ـ وليس من أهل الفتيا ـ بالنار والتفجير لكل من يشارك من أهل‬
‫السنة‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫وأعراضنا حين تركوا لهم معظم مؤسسات الدولة المدنية‬
‫والعسكرية والمنية‪ ،‬ومعظم مراكز النفوذ في السلطات‬
‫التشريعية والتنفيذية والقضائية‪ ،‬وخاصة‪ ،‬أن أهل السنة في‬
‫العراق‪ ،‬بما فيهم الكراد‪ ،‬يشكلون أغلبية راجحة‪.‬‬
‫كما أنه من أعجب العجب أن يترفع‪ ،‬أو يزهد المسلمون‪،‬‬
‫في استلم الحكم في الدولة وإدارة شؤونها بعد تمكنهم‬
‫منها‪-‬كما حصل في مصر بعد النقلب على حكم الملك‬
‫فاروق‪ -‬وتركها لجمال عبد الناصر الشتراكي وزبانيته‪،‬‬
‫ليفسد في أرض مصر وأهلها كما يشاء‪.‬‬
‫‪ -3‬مراعاة الضرورات‪:‬‬
‫الضرورات هي غير المصالح الضرورية للحياة‪ .‬وهي‬
‫تعني في الصطلح‪)) :‬بلوغ المرء حدا ً إذا لم يتناول الممنوع‬
‫هلك أو قارب(()‪. (102‬‬
‫وقد أولت الشريعة السلمية قاعدة الضرورات أهمية‬
‫خاصة‪ ،‬استنبطها الفقهاء من الدلة الفقهية التفصيلية‪ ،‬منها‪:‬‬
‫قاعدة )الضرورات تبيح المحظورات(‪ ،‬وقاعدة )الضرورات تقدر‬
‫بقدرها(‪ .‬وهذه القواعد معلومة لعامة طلبة العلم‪ ،‬ومشتهرة‬
‫بينهم‪ .‬وهم يحسنون استعمالها في الحكام المتعلقة‬
‫بالضرورات الفردية فقط‪ ،‬خاصة في أبواب الطعمة والشربة‪.‬‬
‫علما ً أن للفراد ضروراتهم‪ ،‬وللمجتمع ضروراته‪ .‬يقول الدكتور‬
‫يوسف القرضاوي‪:‬‬
‫))والضرورات الشرعية ليست كلها فردية‪ ،‬كما قد يتوهم‪.‬‬
‫فللمجتمع ضروراته‪ ،‬كما للفرد ضروراته‪ ،‬فهناك ضرورات‬
‫اقتصادية‪ ،‬وسياسية‪ ،‬وعسكرية‪ ،‬واجتماعية‪ ،‬لها أحكامها‬
‫الستثنائية التي توجبها الشريعة‪ ،‬مراعاة لمصالح البشر‪ ،‬التي‬
‫هي أساس التشريع السلمي كله(()‪ ،(103‬انتهى‪.‬‬
‫لعل البعض ل يعجبه هذا القتباس عن الدكتور‬
‫القرضاوي‪ ،‬بحجة مخالفتنا له في بعض المسائل الفقهية‪ ،‬أو‬
‫لعل هذا البعض من الناس‪ ،‬سيحذر من قراءة هذا الكتاب أو‬
‫سيشهر بكاتبه لجل هذا القتباس‪ .‬والجواب على ذلك من‬
‫وجوه‪:‬‬
‫‪))102‬الشباه والنظائر((‪) ،‬ص‪.(85/‬‬
‫‪)) ()103‬السياسة الشرعية(( ‪) ،‬ص ‪ ،(326‬ط‪.1998 ،1/‬‬

‫‪93‬‬
‫‪-‬‬
‫دلنا هذا العتراض الذي ليس في محله‪ ،‬على الزمة التي‬
‫يعيشها البعض في فهم فقه السياسة الشرعية‪ ،‬وسياسة‬
‫التعامل مع المخالف‪ .‬فهؤلء بحاجة ماسة لعلج أمرهم في‬
‫هذا الباب بأسرع ما يمكن‪ ،‬كي ل يتطور المر بهم إلى جعل‬
‫المر من باب الولء والبراء الذي يؤدي إلى التدابر‬
‫والتباغض والتلعن‪ ،‬وقد يؤدي ببعض حدثاء السنان‪ ،‬سفهاء‬
‫الحلم إلى التقاتل‪.‬‬
‫‪-‬‬
‫ينظر في القتباس هل هو موافق للحق أم مخالف له‪ ،‬فإن‬
‫كان موافقًا‪ ،‬ففيم العتراض إذن‪ ،‬وقد اقتبسنا عن أبي‬
‫حامد الغزالي من قبل‪ ،‬وما أدراك ما الغزالي؟ فهو إمام‬
‫دها‪ ،‬ولكن أهل العلم قد شهدوا له بالحجة‬
‫قع ّ ُ‬
‫م َ‬
‫الصوفية و ُ‬
‫في علم الصول‪ .‬والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها‬
‫التقطها‪.‬‬
‫‪-‬‬
‫أما إذا كان القتباس غير موافق للحق‪ ،‬فل يصار إلى ترك‬
‫جميع أقوال صاحبه لجله‪ .‬ولو كان الصل ترك جميع أقوال‬
‫المخالف لنا في بعض المسائل‪ ،‬لتركنا جميع أقوال أهل‬
‫العلم قاطبة‪ .‬فما من عالم إل وله من المسائل ما خالف‬
‫بعض ما تراه أنت حقًا‪ .‬فهل يجوز لك لجل ذلك‪ ،‬ترك جميع‬
‫أقوال المام أبي حنيفة‪ ،‬والمام مالك‪ ،‬والمام الشافعي‪،‬‬
‫لعدم تكفيرهم تارك الصلة تكاس ً‬
‫ل؟ أو ترك جميع أقوال‬
‫المام أحمد لتكفيره تارك الصلة؟ وهل يجوز لمن ل يرى‬
‫جواز دخول الوزارات الحكومية والمناصب الرسمية في‬
‫الحكومات الطاغوتية أن يترك جميع أقوال ابن تيمية‪ ،‬بحجة‬
‫أنه يرى جواز ذلك؟ وهل يجوز لمن يرى كفر تارك عمل‬
‫الجوارح بالكلية‪ ،‬ترك جميع أقوال الئمة العلم الربعة‪،‬‬
‫وابن حزم‪ ،‬وابن تيمية‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬بحجة أنهم ل يكفرونه؟ ما‬
‫لكم كيف تحكمون؟!‬

‫كتبه‪:‬‬
‫عدنان عبد الرحيم الصوص‬

‫‪94‬‬
2006 ‫شهر تموز من عام‬
AdnanSous@Yahoo.Com
079-5928729

95
‫الفهرس‬

‫‪5..........................................................................................‬‬
‫مقدمات تأصيلية‪6.....................................................................‬‬
‫تعريف قواعد الفقه السياسي‪12..............................................................................‬‬
‫أول ً‪ :‬فقه الواقـــع‪18.........................................................................................‬‬
‫هجرة المسلمين إلى بلد الحبشة النصرانية‪52................................:‬‬
‫فهل يستقيم اتهام الصحابة المهاجرين إلى الحبشة النصرانية بالولء‬
‫والعمالة لها‪ ،‬لقبولهم العيش في كنف النصارى وتحت حكمهم؟ إن المر‬
‫ليس كذلك‪ ،‬إنما كانت هجرتهم إلى الحبشة‪ ،‬من باب ))اختيار أدنى‬
‫المفسدتين((‪ ،‬فمفسدة قريش )الوثنية(‪ ،‬أبناء العمومة‪ ،‬أعظم من‬
‫مفسدة الحبشة )النصارى(‪ ،‬هذه مقاييس الشرع إعمال ً للمصالح‪ ،‬مع أننا‬
‫نسمع من يردد مقولة‪ :‬أّنا ضد أي عداء كان ضد أي عربي‪ ،‬نقول‪ :‬حتى لو‬
‫كان اشتراكيا ً كافرًا؟ فعجبا ً لهؤلء!!‪53............................................‬‬
‫فانطلقا ً من مقصد الشريعة السمى‪ )) :‬تحصيل المصالح و تكميلها‪,‬‬
‫وتعطيل المفاسد وتقليلها(( نقول باختصار‪ :‬علينا أن ل نرفض‪ ،‬بل نؤيد كل‬
‫ما يؤدي إلى تغيير الواقع من الشر إلى شر أقل منه‪ ،‬فإن ذلك يدفع‬
‫باتجاه تقليل الشر في الرض‪ ،‬وبالتالي يساهم في قرب النصر‪53..........‬‬

‫‪96‬‬

You might also like