Professional Documents
Culture Documents
مقدمات تأصيلية
المقدمة:
إن الحمد لله ،نحمده ونستعينه ،ونستغفره ،ونعوذ بالله
من شرور أنفسنا ،وسيئات أعمالنا ،من يهده الله فل مضل له،
ومن يضلل فل هادي له ،وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك
له وأشهد أن محمدا ً عبده ورسوله.
ه ول ق ُتقات ِ ِ ح ّ ن آمنوا اّتقوا ْ الله َ )يا أّيها الذي َ
ن] آل عمران) .[102:يا أّيها مسِلمو َ ن إل ّ وأنُتم ّ َتموت ُ ّ
ةحد ِ س وا ِ ُ َ
خل َ ُ ْ
قكم من َنف ٍ س اّتقوا رب ّكم الذي َ الّنا ُ
كثيرا ً وِنساءً رجال ً َ هما ِ من ُ ث ِ
جها وب َ ّ منها َزو َ ق ِ خل َ َ و َ
ه
ن الل َ مإ ّ ه والْرحا َ نب ِ ءلو َ ه الذي َتسا َ واّتقوا ْ الل َ
ن آمنوا كم َرقيبا ً] النساء) .[1:يا أّيها الذي َ علي ُ ن َ كا َ
كم أعمال َ ُ
كم سديدا ً * ُيصِلح ل َ ُ قول ً َ قولوا َ هو ُ اّتقوا الل َ
فقد ه َ َ
سول ُ ه وَر ُ ع الل َ َ كم ُ فر ل َ ُ
من ي ُطِ ِ ذنوب َكم و َ غ ِوي َ ْ
عظيما ً] الحزاب.[71-70: فوزا ً َ فاَز َ َ
ن الهدي
أما بعد ،فإن أصدق الحديث كتاب الله ،وأحس َ
ل محدثة بدعة ،وك ّ
ل هدي محمد × ،وشّر المور محدثاتها ،وك ّ
بدعة ضللة ،وك ّ
ل ضللة في النار.
ثم إن العلوم الشرعية ضرورة لزمة لنجاة العباد في
الدنيا والخرة ،وشرف العلم بشرف المعلوم ،وأشرف العلوم
وأسماها على الطلق بالنسبة للفرد ،علم التوحيد بأقسامه
الثلثة )اللوهية ،الربوبية ،والأسماء والصفات( ،ثم تتفاوت
درجات العلوم بقدر تفاوتها في حفظ مقاصد الشريعة
ظ الضروريات لقيام السلمية ،وإن من أسمى مقاصدها ،حف َ
الحياة النسانيـة ،وأهمها :الدين ،والنفس ،والعقل ،والنسل،
والمال.
ظ الدين ،كتعلم ما هو فمن العلوم ما يكون مقصده حف َ
معلوم من الدين بالضرورة من علوم التوحيد وبعض علوم
الفقه ،والعمل بأحكام الدين والحكم به والدعوة إليه والجهاد
لجله ورد الشبهات والبدع عنه .ومن العلوم ما يكون ضروريا ً
6
لحفظ النفس ،كتحريم العتداء على النفس ،والقصاص ،وسد
الذرائع المؤدية للقتل .ومنها ما هو ضروري لحفظ المال،
كالحث على التكسب ،وتحريم العتداء عليه ،وتحريم إضاعته،
وتعلم ما شرع من الحدود لحفظه ،وتوثيق الديون والشهاد
عليها .ومنها ما هو ضروري لحفظ النسل ،كأحكام النكاح ،ومنها
ما هو ضروري لحفظ العقل ،كتحريم مفسدات العقل الحسية
والمعنوية ،ووجوب الحد على شارب الخمر.
أما أعظم العلوم بالنسبة للجماعة -مع عظم علم
ف ُ
ظ ح َ
التوحيد وأهميته للفرد والمجتمع -فهو ذلك العلم الذي ي َ ْ
لها هذه الضرورات كلها ،الدين ومنه التوحيد ،والنفس ،والعقل،
والنسل ،والمال .وقد اتفق العلماء على حقيقة هذا العلم،
ماه)) :الحكام واختلفوا في تسميته ،فالماوردي الشافعي س ّ
السلطانية(( ،وإمام الحرمين الجويني سماه)) :غياث المم((،
وابن جماعة سماه) :تحرير الحكام في تدبير أهل السلم(
وابن تيمية سماه)) :السياسة الشرعية في إصلح الراعي
والرعية(( وغيرهم.
من تسمية ابن تيمية هذه ،والتي قبلها ،و))غياث فك ّ
ل ِ
ت إليه من أن هذا العلم من أهمالمم(( ،تدل على ما ذهب ْ ُ
العلوم بالنسبة للجماعة ،لن الجهل به يؤدي إلى التصرف مع
الخرين بحماقة تضيع هذه الضرورات ،أو بعضا منها.
حفظ للمجتمع هذه وممن كتب في هذا العلم الذي ي َ ْ
الضرورات كلها ،من المعاصرين ،الدكتور يوسف القرضاوي،
سماه)) :السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة
ومقاصدها(( ،والدكتور خالد الفهد ،سماه)) :الفقه
السياسي السلمي(( ،والدكتور خالد العنبري ،سماه)) :فقه
السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة وأقوال
سلف المة(( ،وغيرهم مما يدل على أهمية هذا العلم بالنسبة
للجماعة.
وعليه فإن إسقاط هذا النوع من الفقه السياسي من
المة ،سواء كان ذلك بسبب إنكاره ،أو بعدم تفعيله وتطبيقه ،أو
بفهمه خلف الواقع ،يترتب عليه مخاطر ل حصر لها تصيب
ل .وها نحن جميعا شيبا ً وشبابًا ،ذكورا ً
قِات َ
م َ
من المة السلمية َ
وإناثًا ،صغارا ً وكبارًا ،ندفع الثمن غاليا جراء تلك السياسة
ً
ض الشباب ت على ألسنة بع ِ جَر ْ
الدخيلة على السلم ،التي َ
7
وا بهذا الفقه من خلف أظهرهم ،وتجردوا ق ْ
المعاصرين ،حين أل َ
منه ،بل ذهب بعض سفهاء الحلم ،حدثاء السنان منهم ،إلى
التصريح بإنكاره ،والنكار على العلماء الكبار العاملين به ،بل
طعنوا فيهم وفي علمهم ،فخل الجو لهم ـ حسب زعمهم ـ
ليتصدروا الفتوى بل علم في الشريعة ،وبجهل في الواقع،
فضلوا وأضلوا.
وقد نقل لنا ابن القيم مؤيدا ً لما جرى بين شافعي وابن
عقيل في تفسير قول الشافعي)) :ل سياسة إل ما وافق
الشرع((.
فقال له ابن عقيل)) :السياسة ما كان فعل ً يكون معه
الناس أقرب إلى الصلح ،وأبعد عن الفساد ،وإن لم يضعه
الرسول × ،ول نزل به وحي .فإن أردت بقولك :إل ما
وافق الشرع ،أي :لم يخالف ما نطق به الشرع ،فصحيح .وإن
ط وتغليط للصحابة. أردت ل سياسة إل ما نطق به الشرع فَغَل َ ٌ
فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما ل
يجحده عالم بالسنن ،ولو لم يكن إل تحريق عثمان المصاحف
فإنه كان رأيا ً اعتمدوا فيه مصلحة المة ،وتحريق علي
الزنادقة في الخاديد ،وقال:
أججت ناري ودعوت لما رأيت المر أمرا ً
ً )(1 منكرا ً
قنبرا ((
انتهى((.
لذا فإنه من الواجب على فريق من العلماء العاملين ،أن
يولوا هذا العلم في هذا الزمان أولوية خاصة ،وبأسرع ما يمكن
لوقف نزيف الدم ،والدمار الشامل المحدق بالمة السلمية.
كما وعلى شباب الصحوة أن يتعلموه جنبا ً إلى جنب ،مع علوم
التوحيد ،والفقه وأصولــه ،والقرآن وعلومـه ،وعلوم اللغـة ،ول
يرغبوا عنه بحجج ل يستقيم أمرهــا ،ول تقف أمام واجب التفقه
في الواقع المطلوب مـن كل فرد بحسبه.
وعليهـــم كـــذلك أن يعلمـــوا عـــن أي الجهـــات يأخـــذونه
ويتعلمــونه ،وعليهييم أن ل يسييلموا قيييادتهم الفكرييية
لمفاهيم ونظرات حزب التحرييير السياسييية ،المتييأثرة
بنظرييية ميياركس للتفسييير المييادي للتاريييخ ،ول لميين
8
ميية الكييبرىأعجييب بفكييره ،أو تييأثر بييه ،فإنهييا الطا ّ
والهلك بعينييه .بـــل أصـــبحت هـــذه المفـــاهيم والنظـــرات
السياسية التحريرية هي الحاكمة على تفكير كــثير مــن الشــباب
والشــياب والــذكور والنــاث دون شــعور منهــم ،فخييرج جييل
جهييدهم وجهييادهم عيين المصييلحة العاميية للسييلم
والمسييلمين ،وتراهييم بعييد حييين ميين بييذل الجهييود
والطاقييات ،خاصيية حييدثاء السيينان منهييم ،يقومييون
بمراجعييات فكرييية لتصييحيح الفكييار والسييتغفار عيين
الخطاء والخطار.
لذا فإن التقليل من شأن هذا العلم ،أو فهمه على خلف
الواقع ،يضعنا أمام مواجهة غير متكافئة مع ألد خصومنا
وأعدائنا ،الذين يتربصون بديننا وبالضرورات الربع الخرى
وبغيرها الدوائر ،مما يعرضنا إلى سخط الله تعالى ،بل قد يدفع
بنا المر إلى أن نكون من الخسرين أعما ً
ل ،مع اعتقادنا بأننا
نحسن صنعًا ،كما حصل لنا في بعض ديار المسلمين ،ول يزال
المر مرشحا ً للتكرار.
ولكي نفقه واقعنا السياسي المعاصر ،ل بد من توفر
أمرين اثنين:
• العمل بأحكام الشريعة السلمية ،أولها علوم العقيدة،
فأركان السلم الخمسة ،والقيم الخلقية لتزكية النفس،
كالعدل والصدق والمانة والعفاف والرحمة ،وغيرها.
• معرفة الواقع معرفة صحيحة ،بعيدة عن التضليل
والخداع.
لذا فإن هذه الدراسة اكتفت ببيان بعض الموضوعات
ت للقارىء الرجوع ذات العلقة بفقه السياسة الشرعية ،وَترك َ ْ
صر في الحاطة به. ن هذا العلم لستدراكه لمن ق ّ مظا ّ
إلى َ
ثم كشفت الدراسة عن مصدر الخطر والدمار ـ أعني
اليهودية ـ الذي أصاب المة السلمية ،وكشفت كذلك عن
أخطر أذرعها التي ابتليت به أمتنا والعالم أجمع في واقعنا
المعاصر ،والذي ل يزال يقتلنا في كل مكان ،ونحن ل نشعر به
ول نراه ،بل ذهب بنا المر إلى ما هو أسوء من ذلك ،حين نسبنا
جميع جرائمه إلى غيره ،فتوجهنا إلى محاربة هذا الغير وتركنا
هذا العدو الول والخطر يحاربنا في ديننا ،ويهدم مقدساتنا
9
بمئات اللف من المساجد ،ويسفك دماءنا بمئات المليين،
ويحتل أرضنا بعشرات المليين من الكيلومترات المربعة،
وينهب ثروات بلدنا بالمليارات ،وينتهك أعراضنا ،بل لم يكتف
البعض بتجاهل هذا الخطر الشتراكي الشرقي الداهم
المتواصل – مع اعتبار الخطر الغربي -بل ذهبوا إلى التحالف
معه بحجة التقاء المصالح ،ولم يدروا أنها مصالح مزورة
موهومة ،فكانت النتيجة دمارا ً على دمار ،وخرابا ً على خراب،
وإفسادا ً في الرض باسم الجهاد.
لهذا ولغيره ،صيغت أفكار هذا البحث القليل في
صفحاته ،الكبير في أهميته عسى الله تعالى أن يهدي به من
يشاء من عباده.
والحمد لله رب العالمين.
كتبه:
عدنان عبد الرحيم الصوص
شهر تموز من عام 2006
10
11
تعريفات أصولية
تعريف قواعد الفقه السياسي
ة :هي الساس .واصطلحا ً :حكم كلي القاعدة لغ ً
ف أحكامها منه.
ينطبق على جميع جزئياته أو أكثرها ،لُِتعَر َ
القاعدة الفقهية :هي المبادىء العامة في الفقه
السلمي التي تتضمن أحكاما ً شرعية عامة تنطبق على الوقائع
والحوادث التي تدخل تحت موضوعها).(2
ومن المثلة على القواعد الفقهية)) :الصل في
الكلم الحقيقة(()) .المور بمقاصدها(()) .اليقين ل يزول بالشك((.
))ل اجتهاد في مورد النص(()) .الصل براءة الذمة(()) .المشقة
تجلب التيسير(()) .الضرورات تبيح المحظورات(()) .الضرورة
تقدر بقدرها(()) .ل ضرر ول ضرار(()) .درء المفاسد أولى من
جلب المصالح(( ،وغيرها.
ت لتحقيق المصالح الضرورية ضع َ ْ
فالقواعد العامة وُ ِ
والحاجية والتحسينية ,ونحن لن نتوسع في مباحث الفقه
السياسي ،في هذا البحث ،ولكن أردنا إلقاء الضوء على أهمية
هذه القواعد الفقهية في مجال السياسة الشرعية ،أو ما يسميه
البعض الفقه السياسي ،فإن لهذه القواعد مصادرها الخاصة،
كتب الكثير في هذا الباب قديما ً وحديثا ً).(3 فقد ُ
الفقه السياسي:
))هو مجموعة الحكام الشرعية التي تتناول الحكام
السياسية ،كالحكم ،وإدارة الدولة ،والعلقات الخارجية .وهذه
الحكام مستنبطة من مصادر الفقه السلمي ،بالضافة إلى
العراف والتقاليد التي درجت عليها الدولة السلمية بما ل
)(4
يتنافى والمبادىء السلمية((.
12
ويعرفه الستاذ عبدالوهاب خ ّ
لف بقوله:
ما ت ُد َّبر فيه
))إن علم السياسة الشرعية ُيبحث فيه عَ ّ
شؤون الدول السلمية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول
).(5
السلم ،وإن لم يقم على كل تدبر دليل خاص((
العمل السياسي:
))مجمل النشاطات والمواقف والراء السياسية التي
يتبناها الفراد ،أو الجماعات تجاه الدولة ،أو الحكم(().(6
مدى الحاجة لقواعد الفقه السياسي:
ل شك أن الكتاب والسنة هما رأس مصادر التشريع
السلمي ،ول شك كذلك في ضرورة توفر الضوابط والصول
العامة لستنباط الحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ،وهذه
القواعد والصول قد بسطت فيما يعرف بكتب أصول الفقه
السلمي .وعلى طالب العلم أن يرجع إليها في مظانها
ليستقيم أمر الفقه لديه ،ومنه فقه السياسة الشرعية الذي
نحن بصدد دراسة بعض مباحثه وفقهه المعاصر.
))فقواعد الفقه السياسي السلمي مرتبطة ارتباطا َ وثيقا ّ
بتحقيق مقاصد الشريعة وأهدافها العامة .والمصالح المرسلة
تدخل ـ ضمنا َ ـ في مصادر تلقي الحكام الشرعية المنضبطة
بقواعد كلية(().(7
ولبيان خطر التفريط بهذا الفقه ،أو فهمه بخلف الواقع،
نضرب لذلك مثال ً نظريا ً وآخر واقعيًا:
المثال النظري على أهمية الفقه السياسي:
لو فرضنا وجود عدوين للمسلمين ،الول )س( ،والثاني
)ص( ،وكان العدو )س( أشد عداًء للسلم وللمسلمين ،من
ما لظرف العدو )ص( بعشرة أضعاف .ولكن لو استطاعت جهة ّ
من الظروف ،أن ُتغّير هذه الحقيقة لدينا ،فأصبحنا ننظر إلى
13
العدو الثانوي )ص( على أنه العدو الكبر والخطر علينا من
العدو )س( أضعافا كثيرة .ماذا سيترتب على ذلك؟
ل شك أننا سنوجه جميع طاقاتنا لمحاربة العدو الوهمي
أو الثانوي )ص( ،ونترك العدو الحقيقي الكبر يفتك بنا ،ولن
ضّللون أو مخدوعون م َ
نشعر ونحن نتجاهل الخطر الكبر بأننا ُ
أبدًا .لننا نعتقد بصحة تصوراتنا وفهمنا للواقع ،ول نحسب أننا
على غير هدىً البتة .ولك أن تتصور ما سيحل بالمة السلمية
إذا استمرت على هذه الحالة من التضليل السياسي الذي قلب
الحقيقة واستنزف الطاقة.
هذه نتيجة تصوراتنا الخطأ في تصنيف العداء ،فكيف إذا
ازداد المر بنا سوءا ،فأصبحنا نرى المعروف منكرا والمنكر
معروفا ً كما هو حاصل معنا هذه اليام؟
ومن أمثلة هذه الحالة التي نرى فيها المعروف منكرا
والمنكر معروفًا ،ما أخبر عنه النبي × في زمن السنوات
ن فيها
خوّ ُ دق فيها الكاذب وي ُك َ ّ
ذب الصادق ،وي ُ َ ص ّ
الخداعة ،التي ي ُ َ
المين وُيؤتمن الخائن .وهذه المظاهر الخداعة إنما نتجت عن
الجهل في فقه الواقع السياسي ،وقيام جهات مشبوهة بعكسه
لدى المسلمين ،فتنبه.
المثال الواقعي على أهمية الفقه السياسي:
ل على وقوع المسلمين في وهذا مثال واقعي قديم د ّ
حبائل التضليل السياسي ،حين رأوا المعروف منكرا والمنكر
معروفًا ،فصدقوا الك َذ ََبة ،وك ّ
ذبوا الصادقين ،وأتمنوا الخونة ،وخونوا
المناء.
كان هذا المثال في القرن الرابع من الهجرة في زمن
الخلفة العباسية .فبعد أن وطدت الدولة الفاطمية العبيدية
الشيعية أركانها في بلد المغرب العربي)) ،بعث عبيدالله
المهدي أول خلفائهم جيوشه لفتتاح مصر ،أكثر من مرة .وعلى
الرغم من استيلئها سنة )302هـ914-م( ،على بعض المدن
المصرية كبرقة والسكندرية والفيوم ،إل أنها ارتدت على
)(8
أعقابها أمام المقاومة المصرية وجند الخلفة العباسية(( في
عهد الدولة الخشيدية .وفي سنة )332هـ944-م( أعادت
))8الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية(( ،لمحمد عبد الله عنان،
)ص ،(22-18ط .1983 ،3/بتصرف.
14
ت مرة
الجيوش الفاطمية الستيلء على السكندرية ،ولكنها ُرد ّ ْ
أخرى.
]))وبعد هذا الفشل المتكرر الذي منيت به القوة
العسكرية الفاطمية ،أمام المقاومة المصرية وجند الخلفة
العباسية ،اعتمد المعز الفاطمي لسقاط مصر على أسلوب
الدعاية التحريضية من خلل ))دعاة يبثون دعوته خفية،
ويبشرون بالفتح الفاطمي(().(9
واستمرت هذه الدعوات المشبوهة لعدة عقود في جو
مشحون بالخلفات والفوضى والضطراب في أواخر حكم
الدولة الخشيدية في مصر ،فأخذ الشعب المصري ينقم على
ولة أمره ،حتى وصلت المعارضة للخلفة العباسية إلى ذوي
الشأن من الزعماء والجند ،فقد كان فريق من أولئك الجند هم
الذين دعوا الفاطميين إلى غزو مصر .وازداد سخط الشعب
المصري على ولة أمره ،بعد أن تولى حكم مصر أسود خصي،
اسمه )كافور(.
وكانت الدولة الفاطمية تجلب إليها النظار بقوتها وغناها،
فأصبح سواد الشعب المصري يؤثر النضواء تحت لواء
دولة قوية فتية) ،الدولة الفاطمية( ،على الستمرار
في معاناة هذه الفوضى السياسية والجتماعية التي
سادت بلد مصر .وهكذا ألفى الفاطميون حين مقدمهم إلى
مصر ،جوا ً ممهدا ً يبشر بتحقيق الفتح المنشود على خير
الوجوه(([ ) (10أهـ .فتم لهم السيطرة على بلد مصر في منتصف
شعبان سنة 358هـ.
فإذا علمت أن نسب الفاطميين الشيعة يعود على الرجح
إلى اليهود) ،(11وليس إلى المجوس ،أدركت مدى درجة الغثائية
9المصدر السابق) ،ص .(29
10المصدر السابق) ،ص ،(29-1بتصرف .وقد اعتمد المؤلف على
العديد من المراجع التاريخية ،منها :كتاب)) :الخطط(( للمقريزي) ،
.(127-2/126وكتاب)) :وفيات العيان(( لبن خلكان في ترجمة
القائد جوهر .(1/148 ) ،وانظر ) .(3/440وكتاب)) :اتعاظ الحنفاء((
)ص .(147-146
11كتاب )) :النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة(( ابن تغري بردي،
_ .(76-4/75وكتاب)) :وفيات العيان(( لبن خلكان .(3/82) ،وكتاب:
))معجم البلدان(( لياقوت الحموي .(231-5/230) ،وكتاب)) :سير
أعلم النبلء(( للذهبي.(142 -15/141) ،
15
التي كانت تتسم بها الشعوب الغافلة المسلمة في بلد مصر ،حيث
استطاعت الجاسوسية اليهودية أن تنفث سمومها في عقولهم،
مستخدمة شتى أنواع الدعاية المغرضة ،فجعلتهم ينظرون إلى
الدولة الفاطمية بروح العجاب ،فصدقوا الك َذ ََبة ،وائتمنوا الخونة.
ذبوا الصادقين ،وخونوا المناء ولة المر في دولة الخلفةوك ّ
العباسية ،بل تآمروا عليها وعلى ولة أمورهم ،وانضموا إلى
َ
السياسة اليهودية لسقاطها ،بل رحبوا بها وفرحوا بنصر الكذ ََبة
خوََنة عليها ،فماذا كانت نتيجة عدم الوعي ،والتضليل السياسي ال َ
الذي أصيبوا به؟
كانت النتيجة الدمار الشامل الذي أصاب الضرورات
الخمس للحياة النسانية ،فقد عطل الفاطميون الحدود،
وأباحوا الفروج ،وسفكوا الدماء ،وسّبوا النبياء ،ولعنوا
دعوا الربوبية .وصادروا الملك )التأميم().(12 السلف ،وا ّ
فلما علم الناس حقيقية أمرهم ضاقوا بهم ذرعيًا،
وسّبوهيم ولعنوهم ،حتى أصدر فيهم علمياء العصر
فتيوى تحذر منهم ومن شرهم وتبين لهم حقيقة
أمرهم ،وما كيان لهؤل العلماء ول لغيرهم من العاميية،
ء ،لو
أن يخدعوا بهذه الدعيوة الباطنييية الكاذبية ابتدا ً
أنهم درسيوا عقائدهيا ومذهبها ،ولما رحبييوا بهذه
الدولية الباطنيية فييي بلدهم.
وهذا هو حكم علماء العصر فيهم ،بعد أربع وأربعين سنة من
احتللهم لبلد مصر ،ينقله لنا ابن تغري بردي فيقول:
))السنة السادسة عشرة من ولية الحاكم منصور على
مصر :وهي سنة اثنتين وأربعمائة ،فيها في شهر ربيع الخر كتب
الخليفة القادر العباسي محضرا ً في معنى الخلفاء المصريين
والقدح في أنسابهم وعقائدهم وقرئت النسخ ببغداد ،وأخذت فيها
خطوط القضاة والئمة والشراف بما عندهم من العلم بمعرفة
نسب الديصانية ،قالوا :وهم منسوبون إلى ديصان بن سعيد
الخرمي إخوان الكافرين ونطف الشياطين شهادة يتقربون بها إلى
الله ومعتقدين ما أوجب الله على العلماء أن ينشروه للناس
فشهدوا جميعا ً أن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقب
12مصادرة الملك ذكرت في كتاب )) :الخطط أو المواعظ والعتبار
بذكر الخطط والثار(( للمقريزي .(3/23) ،وكتاب)) :تاريخ يحي
النطاكي(() ،ص .(206
16
بالحاكم ،حكم الله عليه بالبوار والخزي والنكال :ابن معد بن
إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد ،ل أسعده الله .فإنه لما صار
إلى المغرب تسمى بعبيد الله وتلقب بالمهدي هو ومن تقدمه
من سلفه الرجاس النجاس ،عليه وعليهم اللعنة،
أدعياء ،خوارج ،ل نسب لهم في ولد علي بن أبي
طالب ،وأن ذلك باطل ،وزور ،وأنهم ل يعلمون أن أحدا ً من
الطالبيين توقف عن إطلق القول في هؤلء الخوارج أنهم أدعياء.
وقد كان هذا النكار شائعا ً بالحرمين في أول أمرهم بالمغرب،
منتشرا ً انتشارا ً يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم ،أو يذهب وهم
إلى تصديقهم ،وأن هذا الناجم بمصر هو وسلفه ،كفار وفساق
فجار زنادقة ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون ،قد عطلوا
الحدود ،وأباحوا الفروج ،وسفكوا الدماء ،وسبوا النبياء،
ولعنوا السلف ،وادعوا الربوبية.
وكتب خلق كثير في المحضر المذكور الذي حرر في شهر
ربيع الخر سنة اثنتين وأربعمائة منهم:
الشريف الرضي ،والمرتضى أخوه ،وابن الزرق الموسوي،
ومحمد بن محمد بن عمر بن أبي يعلى العلويون ،والقاضي أبو
محمد عبد الله بن الكفاني ،والقاضي أبو القاسم الجزري ،والمام
أبو حامد السفرايني ،والفقيه أبو محمد الكشفلي ،والفقيه أبو
الحسين القدوري الحنفي ،والفقيه أبو علي بن حمكان ،وأبو
القاسم التنوخي ،والقاضي أبو عبد الله الصيمري .انتهى أمر
المحضر باختصار .فلما بلغ الحاكم قامت قيامته وهان في أعين
الناس لكتابة هؤلء العلماء العلم في المحضر).(13
وفي ترجمة ابن الشواء ،أورد كمال الدين عمر بن أبي
جرادة أنشودة له ،يصف فيها تمكن اليهود في عصره:
غاية آمالهم وقــد يهود هذا الزمــان
ملـكوا قد بلغوا
ومنهم المستشــار العز فيهم والمـــال
والملك عندهم
تهودوا قد تهود يا أهل مصر قد
)( 14
الفلك(( نصحت لكم
))13النجوم الزاهرة(( ).(231-229 /4
))14بغية الطلب في تاريخ حلب(( ،(697 -2/696) ،ط1988 ،/
17
وقد صور لنا الأستاذ محمد عبدالله عنان ،مشهد انتقام
دعوا بها،خ ِ
شعب مصر وجيشه الساخط من الدولة الفاطمية التي ُ
والتي طالما لعبت في عقولهم ،وعاثت في أرضهم الفساد،
وحكمتهم بالحديد والنار ،في صفحة ) (210-209من كتابه:
))الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية(( .فكانت نهاية
دولتهم في سنة ) (411هـ.
هذه إحدى التجارب المّرة التي لدغنا منها ،ولم تكن هي
الولى أبدًا ،وليست الخيرة قطعًا ،فل زلنا نلدغ من نفس الجحر
اليهودي بأساليبه المتطورة مع الزمن بصور وأشكال متعددة،
وحقيقته واحدة.
السس الضرورية لفقه واقعنا السياسي:
ينبثق الفقه السياسي أساسا ً من العقيدة السلمية،
ومعززا ً بالشعائر التعبدية ،ومؤيدا ً بالقيم والخلق النبيلة .وهو
يقوم على مجموعة من السس الضرورية لجلب المصالح
وتكثيرها ،ودرء المفاسد وتقليلها ،وهذه السس يعتمد بعضها
على بعض وهي:
أول :فقه الواقيييع
ثانيًا :فقه الموازنات
ثالثًا :فقه الولويات
رابعًا :فقه التغيير
18
أو ً
ل :فقه الواقع
تعريفات:
الفقه لغة:
ما
م ّه ك َِثيًرا ّ ف َ
ق ُ ما ن َ ْ
ب َ
عي ْ ُ قاُلوا ْ َيا ُ
ش َ مطلق الفهمَ ) .
ل] هود ، [91:أي :ل نفهم كثيرا ً مما تقول ،ومن دعاء تَ ُ
قو ُ
الرسول × لبن عباس )) :اللهم فقهه في الدين ،وعلمه
التأويل(() .(15أي :فهمه معناه.
الواقع:
هو مجموعة الحقائق والسنن الكونية ،ومنها الفطرة
النسانية ،وكلها محكمة ،أي :ل تتبدل ول تتحول .يضاف إلى
الواقع كذلك كل ما يحدث من حوادث.
فقه الواقع:
هو فهم ومعرفة الحقائق والسنن الكونية ،والفطر
النسانية ،معرفة يقينية .لتساهم في مواكبة الواقع المعاصر
ومعايشته على أكمل وجه ،إذ أن الشريعة السلمية دعت إلى
التفاعل مع السنن الكونية للفادة منها ،والحذر من مخاطرها،
ضمن الثوابت ،والصول التي ل يعذر المسلم بالخروج عنها.
أهمية فقه الواقع:
الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء ،بل هو المتفرد
بالخلق دون غيره ،ول يسأل عما يفعل ،فقد شــاءت الله تعالى
أن يخلق هذا الكون بما فيه من أرض وسماوات وما بث فيهما
توا ِ
ما َ
س َ خل ْ ُ
ق ال ّ ه َ ن آَيات ِ ِ
م ْ و ِ من دابة ،قال تعــالىَ ) :
ة] الشورى .[29:وقال داب ّ ٍ من َ ما ِ ْ َ
ه َ في ِ ث ِما ب َ ّ
و َ
ض َ والْر ِ َ
ض رت وال َ وا ما س ال ق َ ل خ
َ ذي ّ ل ا ه ّ لال م ُ كبر ن إ) تعالى:
ْ َ ّ َ َ ِ َ َ ِ ُ ِ ّ َ ّ ُ
شي الل ّي ْ َ في ست ّ َ
ل غ ِ ش يُ ْعْر ِ عَلى ال ْ َ وى َ ست َ َما ْ ة أّيام ٍ ث ُ ّ ِ ِ ِ
م
جو َ والن ّ ُ مَر َق َ ْ
وال َ س َم َ ش ْ وال ّ حِثيًثا َ ه َ ُ ْ
هاَر ي َطلب ُ ُ الن ّ َ
َ َ َ
ب ه َر ّ ك الل ّ ُمُر ت ََباَر َوال ْ ق َخل ْ ُه ال ْ َه أل َ ل َ ُ ر ِم ِت ب ِأ ْ خَرا ٍ س ّ م َ ُ
ن] العراف .[54:قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: مي َ َ
عال ِ ْ
ال َ
15متفق عليه.
19
َ َ
ر( :فيه مسألتان :الولى :صدق الله في
م ُ
وال ْ خل ْ ُ
ق َ ه ال ْ َ
)أل َ ل َ ُ
خبره فله الخلق وله المر خلقهم وأمرهم بما أحب.
َ
خل ْ ُ
ق ه ال ْ َ
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى) :أل َ ل َ ُ
ر( أي:له الملك والتصرف. َ
م ُ
وال ْ
َ
فالخلق :هو الكون بما فيه من جمادات وأحياء ،وهو
نتيجة لمر الله تعالى بأن يكون ،فكان .كما في قوله تعالى:
كنه ُل لَ ُ ذا أ ََردَْناهُ َأن ن ّ ُ
قو َ ء إِ َ
ي ٍ ول َُنا ل ِ َ
ش ْ ما َ
ق ْ )إ ِن ّ َ
ن] النحل .[40:وفقه هذا النوع يسمى) :فقه الواقع( كو ُفي َ ُ َ
الكوني.
والمر على عدة أحوال:
• أمر الله تعالى وكلمته التي بها خلق الجمادات والحياء،
ءإ َ َ ول َُنا ل ِ َ ما َ
ه
ذا أَردَْنا ُ ِ ي ٍ
ش ْ ق ْ كما في قوله تعالى) :إ ِن ّ َ
َ َأن ن ّ ُ
مُرهُ إ ِ َ
ذا ما أ ْ ن] النحل) .[40:إ ِن ّ َ كو ُ في َ ُكن َ ه ُل لَ ُ
قو َ
َ أ ََرادَ َ
ن] يس .[82:وهذا كو ُ في َ ُ
ن َ ه كُ ْل لَ ُ قو َن يَ ُ
شي ًْئا أ ْ
النوع من المر المتعلق بإيجاد المخلوقات ،يسمى كذلك بـ
)فقه الواقع( الكوني.
• أمر الله تعالى لتدبير الكون بما فيه من جمادات وأحياء:
َ
ض
والْر َت َوا ِ
ما َ
س َ خل َ َ
ق ال ّ ه ال ّ ِ
ذي َ م الل ّ ُ
ن َرب ّك ُ ُ
)إ ِ ّ
َ في ست ّ َ
مَر
ش ي ُدَب ُّر ال ْ عْر ِ عَلى ال ْ َ وى َ ست َ َ
ما ْ ة أّيام ٍ ث ُ ّ ِ ِ ِ
م ُ
ه َرب ّك ْ ّ
م الل ُ ُ
ه ذَل ِك ُ د إ ِذْن ِ ِ
ع ِ من ب َ ْ ّ
ع إ ِل ِ من َ
َ في ٍ ش ِ
َ
ما ِ َ
ك ه َ ج َو ْم َ ق ْ
فأ ِ ن] يونسَ ) .[3: فل َ ت َذَك ُّرو َ دوهُ أ َ عب ُ ُ فا ْ َ
هاعل َي ْ َ س َ فطََر الّنا َ ه ال ِّتي َ فطَْرةَ الل ّ ِ فا ِ حِني ً ن َ دي ِ ِلل ّ
َ َ ْ ّ ْ
ْ
ن أكث ََر ولك ِ ّ م َ قي ّ ُ ن ال َ دي ُ ك ال ّ ه ذَل ِ َق الل ِ خل ِ ل لِ َ دي َ َل ت َب ْ ِ
ن] الروم .[30:وهذا المر هو السنن مو َ عل َ ُس َل ي َ ْ الّنا ِ
الكونية التي فطر الله تعالى الجمادات والحياء عليها.
كدوران الرض حول الشمس ،وإنزال الغيث ،وتوسع الكون
في الجمادات .وكغريزة التكاثر ،والمأكل والمشرب ،والنوم،
والصحة والمرض ،والتدين في الحياء من البشر وأمثالهم.
وهذا النوع يسمى كذلك بـ )فقه الواقع( الكوني.
• أمر الله تعالى الحياء ،ومنهم النس والجن بطاعته
ن
دو ِ عب ُ ُس إ ِّل ل ِي َ ْلن َ ِ وا ْ
ن َج ّ ت ال ْ ِق ُ خل َ ْ
ما َ وعبادتهَ ) :
و َ
َ َ َ ْ
نهأ ِ مْرت َِني ب ِ ِ م إ ِل ّ َ
ما أ َ ه ْ
تل ُ قل ُ ما ُ ]الذارياتَ ) .[56:
20
َ
م{ ]المائدةَ) .[117:يا أي ّ َ
ها وَرب ّك ُ ْه َرّبي َ دوا ْ الل ّ َ عب ُ ُا ْ
من ن ِذي َ ّ
وال ِ
م َ ُ
قك ْ َ
خل َذي َ ّ
م ال ِ ُ
دوا َرب ّك ُ ْ عب ُ ُ سا ْ الّنا ُ
ن] البقرة .[21:وهذا المر ،هو المر قو َ م ت َت ّ ُعل ّك ُ ْ م لَ َقب ْل ِك ُ َْ
الشرعي ،الذي تعبد الله به عباده ،فأرسل لغايته الرسل ،
وأنزل الشرائع والكتب ,وهو ما يسمى بـ )فقه الشرع(.
سّنتان حاكمتان :السنة الكونية)فقه الواقع( إذن هما ُ
ء،
المتعلق بما نتج عن أمر الله من إيجاد الخلق ابتدا ً
ثم تدبير شؤونهم ومعاشهم ،وما يحدث لهم من حوادث.
والسنة الشرعية )فقه الشرع( المتعلق بأمر الله لعباده
بالطاعة والعبادة ،وهي أوامره المتعلقة بالفعل والترك .فلكي
يحيى النسان الحياة الطيبة عليه أن يعلم هاتين السنتين ،ثم
يعمل بمقتضاهما .ومن فرط في معرفة أحداهما أو تجاهلها أو
ظن في نفسه معرفتها فقد ضل سواء السبيل ،ومن ضل سواء
السبيل انقلبت حياته :من نعمة إلى نقمة ،ومن أمن إلى خوف،
ومن سعة في الرزق إلى جوع وفقر ،ومن خير إلى شر.
ن لَ ُ
ه فإ ِ ّري َ كْ ِ عن ِذ ض َ عَر َ ن أَ ْ م ْو َقال تعالىَ ) :
مى] طه.[124: َ ْ ح ُ ضن ً عي َ
ع َ ةأ ْ م ِ قَيا َ م ال ِ و َ شُرهُ ي َ ْ ون َ ْكا َ ة َ ش ً م ِ َ
ّ َ
مُنوا نآ َ ذي َ ها ال ِ وهذا المر مبين في قوله تعالىَ) :يا أي ّ َ
َ َ َ
م ُ
مالك ْ ع َمأ ْ ُ
ح لك ْ صل ِ ْ دا * ي ُ ْ دي ً
س ِوًل َ ق ْقوُلوا َ و ُه َ قوا الل ّ َ ات ّ ُ
د
ق ْ ف َه َ سول َ ُ وَر ُ ه َ ع الل ّ َ من ي ُطِ ْ و َم َ م ذُُنوب َك ُ ْ فْر ل َك ُ ْ غ ِ
وي َ ْ َ
ما] الحزاب .[71-70:فالقول السديد ظي ًع ِ وًزا َ َ
فاَز ف ْ َ
)الصادق( بحاجة إلى سداد في معرفة الواقع ،ولكي نحصل
على الثمرات الواردة في الية الكريمة ،ل بد من اجتماع أمرين
اثنين:
معرفة الخلق والمر ،أي :الواقع والشرع. •
التقوى التي هي مقتضى تلك المعرفة. •
وهاتان السنتان الحاكمتان )الخلق والمر( مهمتان
ومطلوبتان لصدار الحكام ومن ثم العمال ،وخاصة لهل العلم
المفتين والقضاة والرعاة الحاكمين.
قال ابن القيم تحت عنوان)) :تمكن الحاكم والمفتي
بنوعين من الفهم((:
21
))ول يتمكن المفتي ول الحاكم من الفتوى والحكم بالحق
إل بنوعين من الفهم :إحداهما :فهم الواقع والفقه فيه،
واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والمارات والعلمات
حتى يحيط به علما ً.
والنوع الثاني :فهم الواجب في الواقع ،وهو فهم حكم
الله الذي حكم به في كتابه ،أو على لسان رسوله في هذا
الواقع ،ثم يطبق أحدهما على الخر .فمن بذل جهده واستفرغ
وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا ً .فالعالم :من
يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم
الله ورسوله ،كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر
إلى معرفة براءته وصدقه .وكما توصل سليمان صلى الله عليه
وسلم بقوله :ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما ،إلى
معرفة عين الم (16)((..أهـ.
ولهذا قال رسول الله ×)) :القضاة ثلثة :واحد في الجنة
واثنان في النار ،فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى
به .ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار .ورجل
).(17
قضى للناس على جهل فهو في النار((
22
وأفرطت طائفة أخرى فسوغت منه ما ينافى حكم
الله ورسوله ،وكل الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما
بعث الله به رسوله فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم
الناس بالقسط ،وهو العدل الذي به قامت السماوات والرض،
فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهه بأي طريق
كان فثم شرع الله ودينه ،والله تعالى لم يحصر طرق
العدل وأدلته وعلماته في شيء ،ونفي غيرها من الطرق التي
هي مثلها أو أقوى منها ،بل بين ما شرعه من الطرق أن
مقصوده إقامة العدل ،وقيام الناس بالقسط ،فأي طريق
استخرج بها العدل والقسط ،فهي من الدين ،ل يقال إنها
مخالفة له ،فل تقول :إن السياسة العادلة مخالفة لما
نطق به الشرع بل موافقة لما جاء به بل هي جزء من
أجزائه .ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم وإنما هي شرع
حق(().(18
مصادر معرفة الواقع:
بما أن فقه الواقع معتبر لصحة العتقاد والتصورات وما
يترتب على ذلك من صدق في القوال وصواب في العمال.
فمن الواجب أخذ هذا الفقه من مصادره الصادقة المعتبرة،
وأول هذه المصادر صدقاً الوحي بشقيه القرآن الكريم الذي ل
يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه ،والسنة النبوية
الصحيحة ،وهما منهج للحياة البشرية الكريمة الصالحة ،سواء
كان ذلك من جهة علقة العبد بخالقه ،أم علقة العبد بالعبد ،أم
علقته بالكون ،وعلى الرغم من ذلك فقد ترك الوحي أمورا ً من
الواقع ،وخاصة فيما يتعلق بعلقة العبد بالعبد أو علقته بالكون
لتقدير الناس للوصول إلى معرفة حقائقها .فقد أكد القرآن
على ضرورة التحري عن أخبار الفساق قبل ردها أو الخذ بها،
َ
ق
س ٌ م َ
فا ِ جاءك ُ ْ
مُنوا ِإن َ
نآ َ ها ال ّ ِ
ذي َ قال تعالىَ) :يا أي ّ َ
عَلى َ
حوا َ
صب ِ ُ
فت ُ ْ هال َ ٍ
ة َ ج َ
ما ب ِ َو ً صيُبوا َ
ق ْ فت َب َي ُّنوا أن ت ُ ِب ِن َب َأ ٍ َ
ن] الحجرات.[6:
مي َ عل ْت ُ ْ
م َناِد ِ ف َما َ َ
وهذا التحري له طرقه ومصادره وأساليبه ،وهو متطور
مع الزمن لتطور أساليب الدجل والعمل الجاسوسي المنظم،
فَت ََر َ
ك أمره للناس ولفهامهم.
))18بدائع الفوائد(( ) ،(676-3/674ط ،1/مكة المكرمة ،دار الباز
للنشر.
23
وفي علقة العبد بالكون ،فقد أرشدنا الله تعالى إلى
أدب آخر في التعامل مع الوحي كما في قوله تعالى:
س
ت ِللّنا ِ
قي ُ وا ِ
م َ
ي َ
ه َ
ل ِ هل ّ ِ
ة ُ
ق ْ ن ال ِ
ع ِ سأ َُلون َ َ
ك َ )ي َ ْ
ْ َ
ها
ر َ
هو ِ من ظُ ُ ت ِ وا ْ ال ْب ُُيو َن ت َأت ُ ْ س ال ْب ِّر ب ِأ ْ ول َي ْ َ
ج َ ح ّ وال ْ َ َ
ها َ ْ ْ ْ َ ْ َ
واب ِ َن أب ْ َ
م ْت ِ وأُتوا الب ُُيو َ ن ات ّقى َ م ِ ن الب ِّر َ ولك ِ ّ َ
ن] البقرة.[189: حو َ فل ِ ُم تُ ْ ُ
علك ّْ َ
هل َ ّ
قوا الل َْ وات ّ ُ َ
فقد جاء قوم وسألوا الرسول × عن الهّلة ،فأجابهم
الوحي بعلقتها بالمواقيت والحج فقط ،ثم رد ّ عليهم قصدهم
الذي أرادوا منه معرفة ما وراء ذلك ،كطبيعة القمر وخصائصه
وا ْ ْ َ
ن ت َأت ُ ْ س ال ْب ِّر ب ِأ ْ ول َي ْ َ
ومكوناته من خلل الوحي ،فقالَ ) :
ها ،بل أمرهم لمعرفة حقيقة القمر ر َ
هو ِ من ظُ ُ ت ِال ْب ُُيو َ
الكونية بأن يأتوا البيوت من أبوابها ،أي :أهل العلم
َ المتخصصين ،قال تعالىْ ) :
ها ،لن واب ِ َ ن أب ْ َ م ْ ت ِ وأُتوا ْ ال ْب ُُيو َ
َ
القرآن الكريم لم يتطرق إلى بيان كل الحقائق العلمية والسنن
الكونية عن الكون إن كان فيه ما يدل على ذلك ،ولو قصد ذلك
لحتاج المر إلى أضعاف أضعاف عدد آيات القرآن الكريم ،فََرد ّ
وأ ُْتوا ْ أمر معرفة ذلك إلى أهل والعلم والختصاصَ ) :
َ
م آَيات َِنا ه ْ ري ِ سن ُ ِها .ولذا قال تعالىَ ) : واب ِ َن أب ْ َ
م ْت ِال ْب ُُيو َ
َ في َأن ُ
ه
م أن ّ ُ ه ْن لَ ُ
حّتى ي َت َب َي ّ َ م َه ْ سَِ
ف ِ و ِ ق َ
فا ِ في اْل َ ِ
د ء َ ل َ ُ
على ك ّ َ َ ْ َ َ ْ
هي ٌش ِ ي ٍش ْ ه َف ب َِرب ّك أن ّ ُ
م ي َك ِ ول ْ قأ َح ّ
ال َ
]فصلت .[53:أي بالعلم بالبحث والتنقيب.
فيفّرطَْنا ِ
ما َ
وقد يحتج بعضهم ،بقوله تعالىّ ) :
ء] النعام .[38:لفهم الواقع كله من خلل
ي ٍ من َ
ش ْ ب ِ
الك َِتا ِ
الوحي :القرآن والسنة فقط .وهذه الية ل تدل على مرادهم،
فالمقصود بالكتاب :هو أم الكتاب ،أو اللوح المحفوظ .قال
ً
الطبري في تفسيرها بسنده عن ابن عباس)) :ما تركنا شيئا إل
قد كتبناه في أم الكتاب(( .وقال القرطبي)) :أي في اللوح
المحفوظ(( .ومما يدل على صحة هذا التأويل قول الرسول ×:
))إن أول ما خلق الله القلم ،فقال له :اكتب .قال :ما
أكتب قال :اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى
البد((). (19
24
ومن الدلة على أن معرفة العبد لواقع هذا الكون ،ليست
محصورة بالوحي فقط ،قول رسول الله ×)) :أنتم أعلم بأمر
دنياكم(().(20
ونص الحديث بتمامه:
))أن النبي × مرّ بقوم يلقحون فقال :لو لم
تفعلوا لصلح قال :فخرج شيصاً فمر بهم فقال :ما
لنخلكم قالوا :قلت كذا وكذا قال :أنتم أعلم بأمر
دنياكم(().(21
مع أن القرآن الكريم قد أشار إلى إحدى وظائف الرياح:
)التلقيح( ،أي تلقيح أزهار النباتات ،كما في قوله تعالى:
) َ
ح] الحجر .[22:لكن هذه السنة
ق َ ح لَ َ
وا ِ سل َْنا الّرَيا َ
وأْر َ
َ
الكونية ل تصلح لتأبير النخل ،وعُلم ذلك من الخبرة :الدراسة
والتجربة.
وعليه فإن العتماد على الوحي في معرفة ما يتعلق
بقوانين الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات أو صناعة المتفجرات
والقنابل النووية والكهرباء وغير ذلك يعتبر من الجهل الذي ل
يقول به عاقل ،ويدخل في ذلك كذلك أخبار الفرق والحزاب
والمذاهب وما اتفقت عليه ،وما اختلفت فيه وأخبار الدول
والملوك والمراء والرؤساء والساسة والفراد.
ومن المؤسف أن يحمل البعض قول الرسول ×)) :أنتم
أعلم بأمر دنياكم(( على فراسة المؤمن ،ففيه تعطيل واضح،
بل قتل لمادة البحث العلمي لكتشاف أسرار هذا الكون!!!
أمور مهمة لفهم الواقع:
)أ( أصناف الناس في معرفة الحقيقة:
يختلف الناس في معرفة الحقيقة وفهم الواقع على
أربعة أصناف:
الصنف الول :من يريد معرفة الحقيقة عن طريق
النظر في الشكل الخارجي فقط ،كأن يمتدح شخصا ما لطول
لحيته ،أو لعمامته ،أو للباسه المتواضع ،وإن كانت هذه إحدى
20تخريج السيوطي) :م( عن أنس وعائشة .تحقيق الشيخ اللباني:
)صحيح( انظر حديث رقم (1488) :في ))صحيح الجامع((.
21مسلم برقم ).(2363
25
إشارات الصلح ،إل أنها ل تكفي لمعرفة واقع الشخص معرفة
يقينية .وهذا الصنف من أضل الناس.
الصنف الثاني :من يريد معرفة الحقيقة عن طريق
القوال والتصريحات الدعائية فقط ،وإن كانت هذه إحدى
إشارات الصلح ،إل أنها ل تكفي لمعرفة واقع الشخص معرفة
يقينية.
ض للتضليل ،وذلك لمكانية وقوع
معر ٌ
وهذا الصنف ُ
مّنا ِبالل ّ ِ
ه لآ َ قو ُ ن يَ ُ م ْ س َ ن الّنا ِ م ْ و ِ الكذب ،قال تعالىَ ) :
ن] البقرة .[8:وقال تعالى: مِني َ ؤ ِ م ْ
م بِ ُ ه ْ ما ُ و َ ر َ خ ِ وم ِ اْل ِ وِبال ْي َ ْ َ
ة الدّن َْيا حَيا ِ ْ
في ال َ ه ِ ول ُُ ق ْ ك َ جب ُ َ ع ِ ن يُ ْم ْ س َ ) َ
َ ن الّنا ِ م ْ و ِ
و أل َ ّ
د ه َو ُ ه َ قل ْب ِ ِ في َ ما ِ عَلى َ ه َ هدُ الل ّ َ ش ِ وي ُ ْ َ
ها ْ َ ْ ّ وإ ِ َ ْ
في َ سد َ ِض ل ِي ُف ِ في الْر ِ عى ِ س َ ولى َ ذا ت َ َ صام ِ* َ خ َ ال ِ
د] البقرة: سا َف َ ْ
ب ال َ ح ّه ل يُ ِ َ ّ
والل ُ ل َ س َ والن ّ ْ ث َ حْر َ ْ
ك ال َ هل ِ َ وي ُ ْ َ
.[205-204
الصنف الثالث :من يريد معرفة الحقيقة عن طريق
رؤية الفعال فقط ،وإن كانت هذه إحدى إشارات الصلح
القوية ،إل أنها ل تكفي لمعرفة واقع الشخص معرفة يقينية،
معرض للتضليل كذلك ،من صورتين:وهذا الصنف ُ
• صورة المنافق الذي يشهد الجمعة والجماعات ،فلو
خدعت به.نظرت إلى ظاهر عمله فقطُ ،
• صورة المرائي ولو بأفضل العمال والطاعات ،كقراءة
القرآن والجهاد والصدقة ،فهذا النوع يخالف ظاهره باطنه.
والحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة ،الذي يخبرنا
فيه النبي × عن أول ثلثة تسّعر فيهم النار يوم القيامة أدل
دليل على صحة ذلك .وقول النبي ×)) :إنما العمال
بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ،فمن كانت هجرته
إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ،ومن
كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته
إلى ما هاجر إليه((] .رواه البخاري ومسلم وغيرهما[.
الصنف الرابع :من يريد معرفة الحقيقة عن طريق
قراءة الفكار والعقائد ،فهذا الصنف ل يضل ول يزل بإذن الله،
26
ول يلدغ من جحر واحد مرتين .وهذا السلوب هو الدق
والصوب ،ول يستطيعه أو ُيطيقه كثير من الناس.
وأصحاب هذا الصنف هم الفقهاء في الواقع ،ينذرون
أقوامهم ويأخذون بأيديهم بعيدا ً عن مواطن الزلل والخديعة،
َ ُ
ر وِلي اْل ْ
م ِ وإ َِلى أ ْل َ سو ِ دوهُ إ َِلى الّر ُ و َر ّول َ ْ
قال تعالىَ ) :
م] ( ..النساء.[83: ه ْمن ْ ُ
ه ِ ست َن ْب ِ ُ
طون َ ُ ن يَ ْ
ذي َ ه ال ّ ِم ُ م لَ َ
عل ِ َ ه ْ
من ْ ُ
ِ
س الحاجة إلى هذا الصنف من الناس ونحن في أم ّ
داعات التي أخبر عنها النبي ×:
وتكثيره ،في زمن السنوات الخ ّ
))ثم يأتي على الناس سنوات خداعاتُ ،يصدّقُ فيها
ب فيها الصادق ،ويؤتمن فيها الخائين، الكاذب ،وُيكذّ ُ
ون فيهيا المين ،وينطق فيها الرويبضة ،قييل: وُيخ ّ
وما الرويبضة؟ قيال :الرجل التافه يتكلم في أمر
العامة(().(22
كي يقوم أولئك بتصحيح الصورة ،وإحقاق الحق ،وتصويب
الوضاع ،فكيف الحال بأمة ترى الصادق كاذبا ً والكاذب صادقا ً ؟
وكيف بأمة ترى المين خائنا ً والخائن أمينا ؟!
27
كها: أمثلة من الخدع التي وقعنا في َ
شَر ِ
-1تظاهر مصطفى كمال أتاتورك اليهودي بالسلم ،حتى
تمكن من القضاء على الدولة العثمانية ،وسلخ تركيا علنية
عن السلم) .(23فلو أن المسلمين لم يأمنوا جانبه،
واحترسوا منه لحتمال مخادعته للمسلمين بصفته يهودياً
سابقاً لما لدغوا من جحره ،فالغاية عند اليهود تبرر
الوسيلة .وعلى رأس هذه الوسائل الكذب المبرمج
والخديعة.
-2التحالف القديم بين السلميين والشتراكيين بقيادة لينين
في روسيا النصرانية قبل الثورة البلشفية الشيوعية)،(24
وبعد نجاح الثورة تم الهجوم على الجمهوريات السلمية
المستقلة .فلو أنهم لم يأمنوا جانبه ،واحترسوا منه لحتمال
مخادعته للمسلمين بصفته شيوعياً لما لدغوا من جحره،
فالغاية عند الشيوعية تبرر الوسيلة ،وعلى رأس هذه
الوسائل الكذب المبرمج والخديعة.
-3قيام الرئيس جمال عبد الناصر الشتراكي بالنضمام إلى
الخوان المسلمين حتى تمكن من استلم السلطة ليقضي
على الحركة السلمية)) ،فقد قرر مجلس قيادة الثورة في
ل جماعة الخوان ح ّ
جلسته المنعقدة في َ 12/1/1954
المسلمين ،واتهمهم بقلب نظام الحكم ،والتصال بالنجليز((
).(25
يقول حسين محمد حمودة أحد الضباط الحرار في
جماعة الخوان المسلمين بهذا الشأن)) :كانت الخلية
الرئيسية في تنظيم الخوان المسلمين داخل القوات
المسلحة مكونة من سبعة ضباط هم :عبد المنعم عبد
الرءوف وجمال عبد الناصر وكمال الدين حسن وسعد
توفيق وخالد محي الدين وحسين حمودة وصلح خليفة((.
وقال)) :التقينا نحن السبعة وحضر اجتماعنا الصاغ محمود
))23الفعى اليهودية في معاقل السلم(( ،عبد الله التل) ،ص ،85 ،75
.(90
24طارق حجي في كتابه ))أفكار ماركسية في الميزان(( ،ص ،65دار
المعارف.
25جريدة الجمهوربة 15 ،يناير ،1954الصفحة الرئيسية.
28
لبيب وكيل جماعة الخوان المسلمين ،وتكررت اجتماعاتنا
مرة كل أسبوع في منزل عبد المنعم عبد الرءوف بالسيدة
زينب ،وفي منزل جمال عبد الناصر ...وتكررت اجتماعاتنا
السبوعية ولم تنقطع أبدا طيلة الفترة )-1944
(1948أربع سنوات وأربعة اشهر(().(26
فإن كان الخوان المسلمون يعلمون أن جمال عبد
الناصر كان عضواً في خلية شيوعية قبل الثورة اسمها
الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني) حدتو() (27فتلك
مصيبة ،وإن كانوا ل يعلمون فالمصيبة أعظم .فلو أنهم لم
يأمنوا جانبه ،واحترسوا منه لحتمال مخادعته للمسلمين
سابقا على أقل تقدير لما لدغوا
ً بصفته شيوعياً ،أو شيوعياً
من جحره ،فالغاية عند الشيوعية تبرر الوسيلة ،وعلى رأس
الوسائل الكذب المبرمج والخديعة.
-4تظاهر ميشيل يوسف عفلق اليهودي بالنصرانية ،ثم
مَنه كذبا وزورا ً) .(28وأ ِ
مَنه من أ ِ ً علن عن إسلمه بعد وفاته ُأ ْ
من غثاء المسلمين ،وساروا على نهجه الشتراكي ،وصدق
بعض الغثاء قصة إسلمه الموهومة .فلو أنهم لم يأمنوا
جانبه ،واحترسوا منه لحتمال مخادعته للمسلمين بصفته
سابقا ،أو اشتراكياً على أقلً يهودياً أو شيوعياً ،أو شيوعيا ً
تقدير ما لدغوا من جحره ،فالغاية عند اليهودية والشيوعية
تبرر الوسيلة ،وعلى رأس هذه الوسائل الكذب المبرمج
والخديعة.
-5بعد نجاح الثورة الشيعية المامية الخمينية في إيران،
أعلن عن قيام جمهورية إيران السلمية ،قام عامة
المسلمين بتهنئة بعضهم بعضَا ،وظنوا بهذه الثورة خيراً،
علما ً أن الخميني يعتقد بالخط الثوري الماركسي الشيوعي.
.فلو أنهم لم يأمنوا جانبه ،واحترسوا منه لحتمال مخادعته
29
إماميا ،أو شيوعياً ،أو اشتراكياً على
ً للمسلمين بصفته شيعياً
أقل تقدير ما لدغوا من جحره ،فالغاية عند الشيعة
والشيوعية تبرر الوسيلة ،وعلى رأس هذه الوسائل الكذب
المبرمج )التقية( ،والخديعة.
-6والدجال وهو أسوأ خدعة منتظرة ،وزمان خروجه قد
خدِعَ بمن سبق ذكرهم ،فكيف يكون قد اقترب ،فمن ُ
سينجو من فتنته؟ مع العلم أن علم تسخير الشعوب الذي
تقوم عليه الشتراكية اليهودية يزداد تطوراً مع الزمن.
)ب( الكذب:
الكذب هو عكس حقيقة الخلق ،أو عكس الواقع ،وهو
من أقبح الخلق الذميمة ،ومصيبة المصائب ،وأشنعه ما كان
عن قصد .قال تعالى:
ع
م َ
س ْ ن ال ّ م إِ ّ عل ْ ٌ ه ِ ك بِ ِ س لَ َ ما ل َي ْ َ ف َ ق ُ ول َ ت َ ْ ) َ •
ُ وال ْ ُ
ؤول ً س ُ م ْه َ عن ْ ُن َ كا َ ك َ ل أولئ ِ َ ؤادَ ك ُ ّف َ صَر َ وال ْب َ ََ
]السراء.[36:
خامس ُ َ
نم َ ن ِ كا َ ه ِإن َ عل َي ْ ِ
ه َ ت الل ّ ِ عن َ َ ن لَ ْةأ ّ وال ْ َ ِ َ ) َ •
ن] النور.[7: كاِذِبي َ ال ْ َ
ن ال ْ ِ ْ جاء َ ج َ ) َ
علم ِ م َك ِ ما َ د َع ِ من ب َ ْ ه ِ
ع أ َبَناءَنا َ
في ِك ِ حآ ّ ن َ م ْ ف َ •
ساءَنا ون ِ َ م َ وأب َْناءك ُ ْ َ وا ْ ن َدْ ُ ْ عال َ ْ ل تَ َ ق ْ ف ُ َ
َ َ
عل ج َفن َ ْل َ ه ْ م ثُ ّ
م ن َب ْت َ ِ سك ُ ْ ف َ سَنا وأن ُ ف َ وأن ُ م َ ساءك ُ ْ ون ِ َ َ
ن] آل عمران.[61: ِ َ بيذِ َ
كا ْ ل ا لى َ ع
َ ه
ِ ّ لال َ نةَ لّ ْ
ع
ن] آل
مو َ عل َ ُ
م يَ ْ ه ْ و ُب َ ذ َه ال ْك َ ِعَلى الل ّ ِ ن َ قوُلو َ وي َ ُ) َ •
عمران.[95:
وجاء في الحاديث:
• ))ثم إن الصدق يهدى إلى البر ،وإن البر يهدى
إلى الجنة ،وإن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقا.
وإن الكذب يهدى إلى الفجور ،وإن الفجور يهدى
إلى النار ،وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله
كذابا(( ]متفق عليه[.
• ))ثم أربع من كن فيه كان منافقا ً خالصا ً ،ومن
كانت فيه خصلة منهن ،كانت فيه خصلة من النفاق
30
حتى يدعها :إذا أؤتمن خان ،وإذا حدث كذب ،وإذا
عاهد غدر ،وإذا خاصم فجر(( ]متفق عليه[.
ي الرجل إلى غير • ))إن من أعظم الفرى ،أن يدع َ
أبيه ،أو يري عينه ما لم تره ،أو يقول على رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل((] .رواه
البخاري[.
أنواع الكذب:
يقسم الكذب من جهة قائله إلى قسمين هما:
.1الكذب المؤسسي :هو الكذب المنطلق من عقيدة،
أو مبدأ ،أو دين ،مثل الكذب في الديانة اليهودية المحرفة
التي تجيز الكذب لتباعها في تعاملهم مع غيرهم ،سواء كان
ذلك لجلب منفعة أو درء مفسدة ،بل هو عندهم قربى
يتقربون بها إلى الله بزعمهم .ومثلها العقيدة المامية
الباطنية التي تتخذ الكذب والّتقّية ديناً ،بل فيها ـ على حد
زعمهم ـ تسعة أعشار الدين.
وأما الكذب في المبدأ الشتراكي الصهيوني فهو الركيزة
الكبرى عندهم .فأصحاب هذا النوع من الكذب يعاملون
مل دعواهم على مبدأ المواراة ح َ
بالحذر الشديد ،وت ُ ْ
والمداهنة واللف والدوران ،ومن جهة هؤلء يكون الخوف
والحتراس لباطنيتهم ولفسادهم .فلو قالوا)) :نحن مع
السلم أو نحترم الحريات الدينية أو أننا ننبذ الرهاب((
وأمثال ذلك من الكلم الحسن ،فل يجب علينا قبول زعمهم
وتصديقهم ،بل علينا حمل هذه التصريحات على المراوغة
والخديعة ،وإل أصبنا بنار تضليلتهم السياسية وغير
السياسية .فصاحب هذا النوع من الكذب تراه منشرح
الصدر راضٍ عن فعله ،بل يتقرب إلى الله تعالى بكذبه .ول
يجوز حمل هذا النوع من الكذب على أنه شخصي ،ككذب
زعماء اليهود والشتراكيين والشيعة المامية ،ولو حملنا هذا
الكذب المؤسسي على أنه شخصي لضللنا ،فكيف بنا إذا
دقناهم؟ص ّ
َ
.2الكذب الشخصي :وهذا الكذب يصدر عن شخص
رم ممارسة الكذب بين أتباعه ،ويحرم على يدين بدين يُحَ ّ
31
أتباعه ممارسته على الخرين) .(29ومن أمثلته ،المسلم الذي
جه النتقاد إلى شخصه يقع في جريمة الكذب ،فالعاقل يُوَ ّ
هو ،ل إلى الدين السلمي الذي ينتمي إليه ،ومن فعل ذلك
فقد خلط المور وضلل الناس وأساء إلى السلم ،وعلى
هذا يقاس كل دين يحرم الكذب على أتباعه ،كالنصرانية
في النجيل .فصاحب هذا النوع من الكذب تراه يشعر
ن
بالذنب فيستغفر الله ويتوب إليه .إذن من الضلل الب َي ّ ِ
ل الكذب المؤسسي على الكذب الشخصي ،وبالعكس. م ُ
ح ْ
َ
ذبُه المؤسسي وجب ترك روايته وعليه فمن ثبت ك َ ِ
والتحذير من مقولته ،خاصة إذا اتخذ من الكذب وسيلة لتحقيق
أهدافه ،كما هو الحال في اليهودية والمبدأ الشتراكي والمامية
الباطنية.
وقد ذكر ابن تيمية عددا ً من الطرق التي ُيعلم
بها كذب المنقول ،منها:
علم بالتواتر
))أن ي َْروي -أي الراوي -خلف ما ُ
والستفاضة ،مثل :أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة،
واتبعه طوائف كثيرة من بني حنيفة فكانوا مرتدين ليمانهم بهذا
المتنبئ الكذاب .وأن أبا لؤلؤة قاتل عمر ،كان مجوسياً كافراً.
وان أبا الهرمزان كان مجوسياً أسلم .وأن أبا بكر كان يصلي
بالناس مدة مرض الرسول × ويخلفه بالمامة بالناس لمرضه.
وأن أبا بكر وعمر دفن في حجرة عائشة مع ×.
ومثل ما يعلم من غزوات النبي × التي كان فيها القتال،
حد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف. كبدر وأ ُ
والتي لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها .وما نزل من
القرآن في الغزوات ،كنزول النفال بسبب بدر ،ونزول آخر آل
عمران بسبب أحد ،ونزول أولها بسبب نصارى نجران ،ونزول
سورة الحشر بسبب بني النضير ،ونزول الحزاب بسبب
الخندق ،ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية ،ونزول براءة
بسبب غزوة تبوك ،وغيرها و أمثال ذلك.
فإذا روى في الغزوات وما يتعلق بها ما يعلم أنه خلف
م أنه كذب .مثل ما يروي هذا الرافضي ،وأمثاله من
الواقع عُل ِ َ
32
الرافضة وغيرهم من الكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات
كما تقدم التنبيه عليه .ومثل أن يعلم نزول القرآن في أي وقت
كان .كما يعلم أن سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة و
النفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة .وأن النعام
والعراف ويونس وهودا ً ويوسف والكهف وطه ومريم واقتربت
الساعة وهل أتى على النسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة
فة كانت بالمدينة .وأنص ّ
بمكة .وأن المعراج كان بمكة .وأن ال ُ
أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صلى
ة منزلً
ف ُ
ص ّ
الله عليه وسلم ولم يكونوا ناساً معينين بل كانت ال ُ
ينزل بها من ل أهل له من الغرباء القادمين وممن دخل فيهم
سعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحي المؤمنين
وكالعرنيين الذين ارتدوا عن السلم(().(30
)ج( قانون عاملي القتناع هما التكرار والزمن ،أو
الغزارة والزمن:
وهذا القانون أهمها وأخطرها ،وبه انتشرت أفكار حزب
التحرير .فبالتكرار والزمن عبد غير الله ،فأصبح عزير ابن الله
عند اليهود ،والمسيح ابن الله عند النصارى ،وبهذا القانون
أصبحت الوثان والصنام ،والشمس ،والقمر ،والبقر آلهة عند
الغثاء من الناس.
وبهذا القانون ،انتشرت البدع والخرافات في الدين .و
بالتكرار والزمن كذلك ،عاد الناس إلى التوحيد ونبذ البدع
والخرافات مرة أخرى .ويهمنا أن نوضح للقارىء الكريم علقة
هذا القانون في عصرنا الراهن بمصدر الشر على وجه الرض،
فاليهود اتخذوا الكذب وسيلة كبرى لتحقيق غاياتهم.
)د( السنوات الخداعة:
بما أن الكذب هو عكس للواقع وللحقيقة ،تقوم عليه
دعوات هدامة) (31تقصد الفساد والفساد في المجتمعات
النسانية من خلل إثارة مجموعة من الفكار والتصورات
والمفاهيم الكاذبة .وبهذه التصورات المزعومة يعتقد الناس ـ أو
فقل إن شئت الغثاء من الناس ـ بمجموعة من المصالح
والمفاسد الموهومة .فتصبح هذه المصالح والمفاسد هي
))30منهاج السنة النبوية(( ).(438 -7/437
33
الحاكمة على تصرفات من اعتقد بها باعتبارها الحقّ الذي ل
حق غيره ،وما علموا أن هذه المصالح هي في الحقيقة مفاسد
حوا وتحالفوا معض ّ
خالصة ،بل هي خطة عدوهم فيهم ،طالما َ
أعدائهم ـ أمثال الشتراكية والمامية الباطنية الحاقدة ـ من
أجل تحقيقها .وما علموا كذلك أن المفاسد التي تصوروها ،إنما
هي مصالح ،أو أنها تصنف ضمن باب ))درء المفسدة الكبرى
بالمفسدة الصغرى((.
مط َّبقة في هذا الباب اتهام
ومن أخطر الساليب ال ُ
الصادق بالكذب ،والمين بالخيانه ،وبالعكس .ففي الوقت الذي
ونة من الشتراكيين الشيوعيين، ُيخدع فيه الناس بالك َذ َب َةِ ال َ
خ َ
والشيعة المامية ،تجدهم يتهمون الصادق والمين من
السلميين والوطنيين العادلين ،فيعيش الناس في بيئة سياسية
واجتماعية موبوءة ،خداعة كما وصفها الرسول × في قوله:
))إن بين يدي الساعة سنين خداعة ،يصدق فيها الكاذب ،ويكذب
فيها الصادق ،ويؤتمن فيها الخائن ،ويخون فيها المين ،وينطق
فيها الرويبضة .قيل :وما الرويبضة؟ قيل :المرء التافه يتكلم
في أمر العامة(().(32
وبسبب هذه الحالة التي تصيب الناس ،يصبح الناس
))غثاء كغثاء السيل(( .فتجدهم ينطلقون مع هذا التيار الفكري
المخادع ،إلى الهداف التي حددها لهم مسبقا ،أو حّيدها ،وهم ل
يشعرون بخطته فيهم ،ول بوجوده أص ً
ل .فتجدهم يقاتلون
إخوانهم ،كقتالهم لبعض الدول السلمية التي ل زالت من خير
الدول في تطبيق السلم ،ويقاتلون أصدقاءهم ،كبعض الدول
الغربية غير المحاربة لنا في الدين ،بل تجدهم ينصرون أعداءهم
من الشتراكيين اليهود ،والمامية الباطنية تحت باب التقاء
المصالح في صراعنا مع الصليبية أو اليهود .فانطبق علينا قول
الرسول الله ×)) :يوشك المم أن تداعى عليكم كما
تداعى الكلة إلى قصعتها(( .فقال قائل :ومن قلة نحن
يومئذ؟ قال)) :بل أنتم يومئذ كثير ،ولكنكم غثاء كغثاء
السيل ،ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم،
وليقذفن الله في قلوبكم الوهن(( .فقال قائل :يا رسول
الله وما الوهن؟ قال)) :حب الدنيا وكراهية الموت(().(33
34
)هي( قانون إماتة الحتمالت الحية وإحياء
الحتمالت الميتة:
يقوم هذا القانون على إثارة الغثاء ضد أمر موهوم ل
وجود له ،أو تضخيم أحد الخطار المتوقعة قليلة الثر .وفي
المقابل يتم إماتة الخطر الول والعظم بعدم الشارة إليه
بالمرة ،أو التقليل من خطره.
فقد عانى الناس ول زالوا ،من هذا القانون القاتل ،إذ به
يتوجه الناس لقتال السراب ،ويتركون عدوهم الكبر يعيث في
الرض الفساد .فقد قتلت الشيوعية )الشرق( من المسلمين،
حوالي ) (200مليون مسلم ،في غضون ) (70سنة فقط ،في
حين لم تقتل الصليبية )الغرب( من المسلمين ماضياً وحاضراً
على مر التاريخ السلمي ،أكثر من ) (5مليين مسلم ،منهم
مليون مسلم في الجزائر ،وهدمت الشيوعية )الشرق( من
مساجد المسلمين مئات اللف ،في حين يزداد عددها في
الغرب ،وأغلقت الشيوعية )الشرق( مئات اللف من دور
القرآن والمدارس السلمية ،في حين يزداد عددها في الغرب.
وألغت الشيوعية )الشرق( اللغة العربية لغة القرآن
الكريم ،وانتشرت في الغرب .ثم بعد كل هذا مات الخطر
الشيوعي )الشرق( .مع العلم أنه يوجد حاليا ً في عام )
1427هـ2006 /م( ،حوالي مائـة حزب يسـاري منتشرة في
الدول العربيـة) .(34وليس المقصود أنها غير مؤثرة في واقعنا،
بل هي على العكس تمامًا ،بل منها أنظمة قائمة على سدة
الحكم .وبهذا فقد تضخم الخطر الغربي وتضخم لدى
المسلمين!!!
ولم نلتفت إلى تحذير النبي × المتكرر :أن الخطر القادم
من الشرق .أل يدل ذلك أننا فعلً غثاء كغثاء السيل ،فقد وجهنا
سيل الدعاية الفكري الجارف لن نوجه كل عدائنا إلى الغرب
ونترك الشرق ،فاستجبنا لندائه.
ومن الصور التي ساعدت على قلب الحقائق وانعكاس
فهم الواقع لدى المسلمين ،أن أصحاب القلم والتحليل
36
وخاصة الدول السلمية التي تعادي الشتراكية اليهودية ،وعلى
رأسها المملكة العربية السعودية ،ثم الردن.
وهذا النحراف أدى إلى انحراف ثالث :وهو رمي كبار
علماء المسلمين ،ممن ل يرون كفر هذه النظمة التي تعادي
الشتراكية ،من باب :من لم يكفر الكافر ـ على حد زعمهم ـ
فهو كافر ،سواء كان هؤلء العلماء يعملون داخل حكومات تلك
النظمة ،أو خارجها ،وعلى رأس هؤلء العلماء هيئة كبار العلماء
في السعودية ،وعلماء الزهر الشريف في مصر ،ومشيخة
الشام ،وأولهم الشيخ ناصر الدين اللباني رحمه الله ،فقد رموا
كل هؤلء العلماء وأمثالهم ،بالخيانة ووصفوهم بالرجاء،
والتخذيل أو بـ )أئمة القعدة( ،أو التزلف للسلطين ،فأدى ذلك
إلى انحراف رابع وهو :التشكيك في منهج هؤلء العلماء لدى
بعضهم ،والتحذير منهم ،فأدى إلى تناحر فئتين من مدرسة
واحدة ،تراشقا بالتهم والخيانة ،بل وصل المر ببعضهم إلى
رمي الخر بالكفر ،عياذاً بالله.
هذه النحرافات المتتالية التي قد تصل في المستقبل،
إلى حد الحتراب بين أصحاب الفئة الواحدة ،بل وصلت ،لتدلنا
على مدى خطورة التهاون بفقه السياسة الشرعية في السلم،
فالعالم ل غنى له عن هذا الفقه ،الذي ل تكون النجاة من
علميا دقيقاً.
ً الفتن ،إل بضبطه وتأصيله تأصيلً
فقد أدت هذه الفتن إلى التطاول على خير الناس ،إذ
بمثلها أو بأسلوبها المشابه ،البعيد عن التأصيل العلمي ،قتل
عثمان بن عفان ،حتى وصل الكره له إلى حد التذمر من
حكمه ودعاء الله تعالى لتغيير حكمه.
فقد نقل لنا ابن كثير في قصة قتله ،أن المرأة كانت
تجيء في زمان عثمان إلى بيت المال فتحمل حملها من
)(35
الخيرات من بيت المال ،وتقول)) :اللهم بدل اللهم غير(( .
وهذه المرأة وأمثالها هي من المسلمين ،الذين خدعوا
بالدعاية السبئية الباطنية ،ليست عدوة لله تعالى عن قصد
أبداً ،فكيف يكون أمر الدعاية المغرض مع من هم أدنى شأناً
ومنزلة من عثمان ؟
تقول البروتوكولت:
37
))ولضمان الرأي العام يجب أول ً :أن نحيره كل الحيرة
بتغييرات من جميع النواحي لكل أساليب الراء المتناقضة حتى
يضيع المميون )غير اليهود( في متاهتهم .وعندئذ سيفهمون أن
خير ما يسلكون من طرق هو أن ل يكون لهم رأي في
السياسية :هذه المسائل ل يقصد منها أن يدركها الشعب ،بل
يجب أن تظل من مسائل القادة الموجهين فحسب .وهذا هو
السر الول .والسر الثاني) (36وهو ضروري لحكومتنا الناجحة ـ
أن تتضاعف وتتضخم الخطاء والعادات والعواطف والقوانين
العرفية في البلد ،حتى ل يستطيع إنسان أن يفكر بوضوح في
ظلمها المطبق ،وعندئذ يتعطل فهم الناس بعضهم بعضا ً(()
.(82-5/81
))من الخطير جدا ً في سياستنا أن تتذكروا التفصيل
المذكور آنفًا ،فإنه سيكون عونا ً كبيرا ً لنا حينما تناقش مثل هذه
المسائل :توزيع السلطة ،وحرية الكلم ،وحرية الصحافة
والعقيدة ،وحقوق تكوين الهيئات ،والمساواة في نظر القانون،
وحرمة الممتلكات والمساكن ،ومسألة فرض الضرائب )فكرة
سرية فرض الضرائب( والقوة الرجعية للقوانين .كل المسائل
المشابهة لذلك ذات طبيعة تجعل من غير المستحسن مناقشتها
علنا ً أمام العامة .فحيثما تستلزم الحوال ذكرها للرعاع يجب
أن ل تحصى ،ولكن يجب أن تنشر عنها بعض قرارات بغير
مضي في التفصيل .ستعمل قرارات مختصة بمبادئ الحق
المستحدث على حسب ما ترى .وأهمية الكتمان تكمن في
حقيقة أن المبدأ الذي ل يذاع علنا ً يترك لنا حرية العمل ،مع أن
مبدأ كهذا إذا أعلن مرة واحدة يكون كأنه قد تقرر(()-10/108
.(109
))وسنصور الخطاء التي ارتكبها المميون )غير اليهود(
في إدارتهم بأفضح اللوان .وسنبدأ بإثارة شعور الزدراء نحو
منهج الحكم السابق ،حتى إن المم ستفضل حكومة السلم في
جو العبودية على حقوق الحرية التي طالما مجدوها ...وسنوجه
عناية خاصة إلى الخطاء التاريخية للحكومات الممية)((..
.(158-14/156
38
))وسنتقدم بدراسة مشكلت المستقبل بدل ً من
الكلسيكيات ) (Classicsوبدراسة التاريخ القديم الذي يشتمل
على مثل ) (Examplesسيئة أكثر من اشتماله على مثل
حسنة) ،(37وسنطمس في ذاكرة النسان العصور الماضية التي
قد تكون شؤما علينا ،ول نترك إل الحقائق التي ستظهر أخطاء
الحكومات في ألوان قاتمة فاضحة(().(188-16/187
))غير أني سأسألكم توجيه عقولكم إلى أنه ستكون بين
النشرات الهجومية نشرات نصدرها نحن لهذا الغرض ،ولكنها ل
تهاجم إل النقط التي نعتزم تغييرها في سياستنا .ولن يصل
طرف من خبر إلى المجتمع من غير أن يمر على إرادتنا .وهذا
ما قد وصلنا إليه حتى في الوقت الحاضر كما هو واقع :فالخبار
تتسلمها وكالت ) (Agenciesقليلة) (38تتركز فيها الخبار من كل
أنحاء العالم .وحينما نصل إلى السلطة ستنضم هذه الوكالت
ً
جميعا إلينا ،ولن تنشر إل ما نختار نحن التصريح به من الخبار((
).(136-12/135
))إن القيود التي سنفرضها على النشرات الخاصة ،كما
بينت ،ستمكننا من أن نتأكد من النتصار على أعدائنا .إذ لن
تكون لديهم وسائل صحفية تحت تصرفهم يستطيعون حقيقة
أن يعبروا بها تعبيرا ً كامل ً عن آرائهم ،ولن نكون مضطرين ولو
إلى عمل تنفيذ كامل لقضاياهم(().(12/145
.وبهذا يتذكر العقلء ،قول الرسول ×)) :إن بين يدي
الساعة سنين خداعة ،يصدق فيها الكاذب ،ويكذب فيها الصادق،
ون فيها المين ،وينطق فيهاويؤتمن فيها الخائن ،ويخ ّ
الرويبضة .قيل :وما الرويبضة ؟ قال :المرء )الرجل( التافه
يتكلم في أمر العامة((). (39
39
وساحة هذا القانون) ،قانون إماتة الحتمالت الحية
وإحياء الحتمالت الميتة( :الشعوب الغافلة )الغثاء( التي
تسعى الصهيونية والشيوعية الشتراكية إلى فصل قوتها عن
القوى الحاكمة ،بل جعل قوة الشعب سندا ً إلى جانبهم ،وهذا
السلوب من أمضى الساليب المستخدمة لسقاط النظمة،
لن تحالف القوى الحاكمة مع شعوبها يحول دون هدم اليهود
للدول المستهدفة .وليت المسلمين يدركون ما يحاك ضدهم،
وما ينتظرهم من مصائب بعد سقوط النظمة المعتدلة
السلمية والوطنية المتبقية في ديارنا ـ السعودية ،والردن
وأخواتهما ـ التي طالما تعمل اليهودية للفصل بينها وبين
ساحقا بأساليب
ً شعوبها ،وقد نجحت في تحقيق ذلك نجاحاً
شتى.
تقول البروتوكولت الصهيونية اليهودية:
))إننا نخشى تحالف القوة الحاكمة في المميين )غير
اليهود( مع قوة الرعاع العمياء ،غير أننا قد اتخذنا كل
الحتياطات لنمنع احتمال وقوع هذا الحادث .فقد أقمنا بين
القوتين سدا ً قوامه الرعب الذي تحسه القوتان ،كل من
الخرى .وهكذا تبقى قوة الشعب سندا ً إلى جانبنا ،وسنكون
وحدنا قادتها ،وسنوجهها لبلوغ أغراضنا(().(40
المثلة التطبيقية على هذا القانون:
هذه بعض المثلة الواقعية التي أظهرت مدى تأثرنا
بقانون)) :إماتة الحتمالت الحية وإحياء الحتمالت الميتة((.
.1ألم تنتقد الشعوب الغافلة سياسة السعودية والردن ،في
حين هدأت ونامت ضد سياسة الشتراكية اليهودية في ليبيا
الذي اقترح تسليم المسجد القصى لليهود وبناء مسجد
آخر ،واقترح إنشاء دولة إسرائيلية فلسطينية سماها
مه )زمردة( )إسراطين(؟؟؟ علماً بأن القذافي ربته أ ّ
اليهودية؟؟؟
) 39صحيح ()) ،السلسلة الصحيحة(( ،للشيخ اللباني رحمه الله ،رقم )
. (2253
40البروتوكول.(9) :
40
.2ألم تنتقد الشعوب الغافلة وجود القوات المريكية في
السعودية ودول الخليج ،بينما ل ترى القوات الروسية
والخبراء الروس بعشرات اللف في الدول الشتراكية
العربية ،مثل سوريا والعراق واليمن الجنوبي سابقا ،وإيران
الفارسية؟؟؟
.3ألم ي َث ُْر العالم السلمي ،بل العالم كله ضد تنفيذ قرار
التحالف بإزالة النظام الشتراكي في العراق ،في حين
سكت العالم إلى حد كبير أمام قرار الحرب ضد حركة
طالبان؟؟؟!!!.
.4ألم يتحرك العالم السلمي ومؤسساته الرسمية ليستنكر
جريمة العتداء على القرآن الكريم ـ وهذا حسن ـ في حين
هدأ الشارع السلمي ومؤسساته ضد قيام الشتراكية في
أوزبكستان ـ وهي إحدى الجمهوريات السلمية ذات
الستقلل الصوري عن التحاد السوفيتي السابق ـ في تلك
الثناء ،بقتل ) (750مسلم؟ لماذا؟ لن جريمة العتداء على
القرآن الكريم كانت على يد أمريكا المعادية للشتراكية
اليهودية ،علما ً أن معاداة الشتراكية هي في الحقيقة ضد
المشروع الصهيوني الكبر للسيطرة على العالم كله ،لذا
ثارت الشعوب .وأما الجريمة الثانية التي قتل فيها )(750
مسلما كانت على يد الشتراكية ربيبة اليهودية ،فتجد
الشعوب قد تخدرت.
.5ألم تثر الصحافة العالمية ضد معاملة المريكان للسجناء
في سجن أبو غريب ول زالت منذ أكثر من ثلثة أشهر ،في
حين لم تسمع تلك الصحافة بجرائم الشتراكية والمقابر
الجماعية في نفس السجن في حكم البعث الشتراكي ،بل
لم تعرف الصحافة ،ول نحن معها اسمه قبل ذلك ،إل
قليل؟؟؟!!!
ً
.6أين حركة الغثاء ضد بناء جدار الفصل العنصري في
فلسطين على يد اليهود؟؟؟!!!
.7أين حركة الغثاء ضد المقابر الجماعية وهتك العراض
المنظم من الشتراكيين في البوسنة والهرسك وكوسوفو
والعراق والصومال والتحاد السوفيتي والصين؟؟؟
41
ألم تقتل الشتراكية من المسلمين حوالي )(200
مليون مسلم ،ول زالت تقتل؟؟؟ ألم تهدم مئات اللف
من المساجد ول زالت تهدم؟؟؟ ألم ت ُل ِْغ اللغة العربية
في الصين والتحاد السوفيتي ،ول زالت ملغاة في
الصين؟؟؟
.8ألم تنتقد الشعوب الغافلة سياسة السعودية ودول الخليج
النفطية ،في حين لم تتطرق إلى نقد سياسات الدول
النفطية الشتراكية ،التي أحرقت النفط في آباره ،أو أهدته
إلى أسيادها اليساريين بأرخص الثمان؟
.9هل يسمع أحد بـ )قانون لينين( الذي يقضي بالعمل على
إقامة دولة لليهود في فلسطين ،وبناء على هذا القانون
أقيمت دولة إسرائيل؟ بينما هل يجهل أحد )وعد بلفور(؟
...إلخ.
إذن هناك حقائق كبيرة وخطيرة جدا تموت ول تذكر،
وأخرى حقيرة تحيا وتضخم على حساب الولى!!
فمن الذي أمات الولى وأحيا الثانية لدى الغثاء من
الناس ،وكيف يتم ذلك؟ وهل لهذا القانون دوٌر في فتنة
الدجال؟ أسئلة بحاجة ماسة إلى إجابات صادقة!!
تقول بروتوكولت حكماء صهيون:
))وبفضل هذه الجراءات سنكون قادرين على إثارة
عقل الشعب وتهدئته في المسائل السياسية ،حينما يكون
ضروريا ً لنا أن نفعل ذلك(() .(41وهذا ما هو حاصل بالفعل ،تثور
الشعوب للدفاع عن اليهود وابنتها الشتراكية ،وتهدأ أمام
مخططاتهم وجرائمهم.
)و( سياسة التشهير:
إن من أخطار الكذب وأساليبه الوضيعة سياسة التشهير
بالمعارضين ،فبعض الخصوم من اليهود وأفراخهم أمثال
درون على مواجهة الحق ق ِ
الشيوعية والشيعة المامية ،ل ي َ ْ
بالحجة والبيان ،فتجدهم يسارعون إلى التشهير بالخصوم،
وخاصة أهل العلم لتنفير الناس من الحق والحقيقة التي
ينتهجون .فيبقى سوق باطلهم وإفكهم رائجًا ،ومصالحهم
41البروتوكول.(12) :
42
دم هذا السلوب الحقير الموهومة والمزعومة قائمة .وقد اسُتخ ِ
م المعارضون لدعوة التوحيد أنبياءهم منذ زمن بعيد ،فقد ات ّهَ َ
بشتى انواع التهم الباطلة ،ومن صور ذلك:
• التهام بالكذب والسحر والجنون والسفاهة :قال
َ
من هم ّ قب ْل ِ ِ من َ ن ِ ذي َ ما أَتى ال ّ ِ ك َ تعالى) :ك َذَل ِ َ
ن] الذاريات.[52: قاُلوا سا ِ َ ل إ ِّل َ
جُنو ٌ م ْ و َ حٌر أ ْ َ سو ٍ ّر ُ
َ
ن] الذاريات: جُنو ٌ م ْ و َ حٌر أ ْ سا ِ ل َ قا َ و َ ه َ وّلى ب ُِرك ْن ِ ِ فت َ َ ) َ
ُ
حٌر سا ِ ذا ل َ َ ه َ ن َ ن إِ ّ و َ ع ْ فْر َ وم ِ ِ من َ
ق ْ مل ِ ل ال ْ َ قا َ َ ) .[39
َ
ذٌر
من ِ هم ّ جاء ُ جُبوا أن َ ع ِ و َ م] العرافَ ) .[109: عِلي ٌ َ
ب] ص.[4: ذا ٌ حٌر ك َ ّ سا ِ ذا َ ه َ ن َ فُرو َ كا ِ ْ
ل ال َ قا َ و َ م َ ه ْ من ْ ُ ّ
ه إ ِّنا ل َن ََراكَ َ ْ َ َ ّ ُ ْ َ َ
م ِ و ِ من ق ْ ن كفُروا ِ ذي َ مل ال ِ )قال ال َ
ن] العراف.[66: ن الكاِذِبي َ َ ْ م َ َ
وإ ِّنا لن َظن ّك ِ ُ َ ة ِ ه ٍ فا َ س َ في َ ِ
• حادثة الفك :تتمثل في التشهير والتنفير من دعوة
النبي × ،من خلل اتهام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
فِتها .فقد تولى إشاعة هذه الجريمة زعيم ع ّ ضها و ِ ب ِعِْر ِ
مها في أكرم بيت س ّ المنافقين في المدينة المنورة ،فأطلق ُ
من البيوت على الله ،ولم ي َْعلم هذا المنافق ،بل إنه يعلم أن
في فعلته الشنيعة هذه طعنا ً في حكم الله سبحانه وتعالى
وإرادته ،الذي اختار عائشة الطاهرة زوجاً للنبي الكريم ×.
ن الله وعلى الرغم من فداحة هذه الجريمة النكراء ،إل أ ّ
سبحانه وتعالى وصفها بالخير ،لما فيها من دروس وعبر
ة
صب َ ٌع ْ ك ُ ف ِ ؤوا ِباْل ِ ْ جا ُ ن َ ذي َ ن ال ّ ِ عظيمة .قال تعالى) :إ ِ ّ
م] النور: خي ٌْر ل ّك ُ ْ و َ ه َ ل ُ كم ب َ ْ شّرا ل ّ ُ سُبوهُ َ ح َ م َل ت َ ْ منك ُ ْ ّ
.[11
من هذه العبر:
.1تأخر نزول براءة عائشة رضي الله عنها لكثر من شهر،
وفي ذلك امتحان لردود الفعال لدى المؤمنين .فالشاعة
كلما طال رواجها دون بيان زيفها ،حصدت أكثر وجندت
عددا ً أكبر من المتشككين من الناس ،وفي ذلك بلء
وتمحيص لليمان.
.2تأثيم كل من ردد الشاعة ،ولزعيمها الكبر العذاب
ب ما اك ْت َ َ
س َ هم ّ
من ْ ُ
ئ ّ
ر ٍ
م ِ العظيم ،قال تعالى) :ل ِك ُ ّ
لا ْ
ب ع َ
ذا ٌ م لَ ُ
ه َ ه ْ وّلى ك ِب َْرهُ ِ
من ْ ُ ذي ت َ َوال ّ ِ
ن اْل ِث ْم ِ َم َ ِ
م] النور.[11: ظي ٌ
ع َِ
43
.3على المسلم المسارعة في الذب عن عرض كل مؤمن
علم صلحه وتقواه يقينًا ،وخاصة إذا كانت التهمة كبيرة ُ
ومستبعدة ،ول يجب عليه في هذه الحال التبين والتحقق
َ
ن ها ال ّ ِ
ذي َ من صدق الخبر انطلقا ً من قوله تعالىَ) :يا أي ّ َ
َ
صيُبوافت َب َي ُّنوا أن ت ُ ِق ب ِن َب َأ ٍ َ
س ٌ
فا ِ م َ جاءك ُ ْ مُنوا ِإن َ آ َ
ن
مي َ عل ْت ُ ْ
م َناِد ِ ما َ
ف َ عَلى َ حوا َ صب ِ ُفت ُ ْة َهال َ ٍج َ
ما ب ِ َ
و ً
ق ْ َ
]الحجرات .[6:فإن انتظار نتائج التحقيق ل يصلح في مثل هذا
المقام.
لذا فقد أّنب القرآن الكريم المسلمين لعدم المسارعة
إلى َرد ّ الشاعة وانتظار القول الفصل من الوحي ،بل
ظيم، ن العَ ِمِبين والب ُْهتا ِ طالبهم بوصفه فورا ً بإل ِْفك ال ّ
فالنتظار في مثل هذه الحال ليس في محله ،وهو من
الورع البارد الذي يؤدي إلى نتائج سلبية ،قال تعالى:
تمَنا ُؤ ِ وال ْ ُ
م ْ ن َمُنو َ ؤ ِ م ْ ن ال ْ ُ موهُ ظَ ّ عت ُ ُم ْ
س ِ وَل إ ِذْ َ )ل َ ْ
ن سورة مِبي ٌ ك ّ ف ٌ ذا إ ِ ْ ه َ قاُلوا َ و َ
خي ًْرا َ م َ ه ْ س ِ
ف ِ ب َِأن ُ
ن
كو ُ ما ي َ ُ قل ُْتم ّموهُ ُ عت ُ ُم ْ س ِ وَل إ ِذْ َ ول َ ْ النــور)َ ) .(12
َ
م
ظي ٌ ع ِ ن َ هَتا ٌ ه َ
ذا ب ُ ْ ك َ حان َ َ سب ْ َ
ذا ُ ه َ م بِ َ ل ََنا أن ن ّت َك َل ّ َ
]النور.[16:
.4أثرت الشاعة في مختلف درجات المؤمنين ،منهم من
خاض مع الخائضين ،مثل حسان بن ثابت ،ومسطح بن
أثاثة ،وحمنة بنت جحش .ونقل الطبري بأسانيده اختلف
الرواة في الشخص الذي تولى كبره ،على قولين:
الول :هو حسان بن ثابت والثاني :عبد الله بن أبي بن
سلول ،ورجح الطبري الثاني حيث قال)) :وأولى القولين في
ذلك بالصواب قول من قال :الذي تولى كبره من عصبة
الفك كان عبد الله بن أبي ،وذلك أنه ل خلف بين أهل
العلم بالسير أنه الذي بدأ بذكر الفك(( أ .هـ.
ومن الصحابة ـ علي ـ ممن نصح النبي × بطلق
زوجه ،ومنهم من توقف في المر ظاهرًا ،وعلى رأسهم
النبي ×.
ولعل قول عائشة لمن حضر من المؤمنين ،وفيهم النبي
مها أم رومان)) :والله لئن حلفت لتصدقوني ،ولئن × ،وأ ّ
مثلكم كيعقوب وبنيه ،والله َ
مثلي و َقلت لتعذرونيَ ،
44
المستعان على ما تصفون .قالت :وانصرف ـ أي النبي ـ
فلم يقل شيئا(( .وهؤلء الذين تناقلوا الخبر بألسنتهم أثموا
ب
س َما اك ْت َ َ
هم ّ
من ْ ُ
ئ ّ
ر ٍ
م ِ فيما قالوا .قال تعالى) :ل ِك ُ ّ
لا ْ
ب ع َ
ذا ٌ م لَ ُ
ه َ ه ْ وّلى ك ِب َْرهُ ِ
من ْ ُ وال ّ ِ
ذي ت َ َ ن اْل ِث ْم ِ َم َ ِ
م .أما ابن سلول فقد تولى كبره. ظي ٌ
ع َِ
خي ََرة
من هذه الحادثة يجب أن ل نستبعد خوض بعض ال ِ
من المؤمنين بالباطل ،وإذا حصل فعلينا أن ل نغتر بقولهم،
وأن ل نشهر بهم ،بل ننصحهم بالحكمة ل بالتجريح والتقبيح.
فها هو شاعر الدعوة حسان بن ثابت ،قد لوثته الشاعة،
والشاعة إذا تكررت تقررت ،وظنها الناس حقيقة ،وأسلوب
تكرار الشاعة مع الزمن ،من أمضى الساليب التي
يستخدها المغرضون.
.5الشاعة سلح الجبناء ،وهي ل تفرق بين صالح وغيره ،بل
إن مقصود الشاعة عادة ،النيل من الصالحين الصادقين
المناء من المؤمنين ،لذا فعلى المؤمن ابتداًء ،أن يظن بكل
من ظهر صلحه خيرًا ،ولو توجهت إليه الشاعة .أو أن
صد ْقَ وأمانة من طالته الشاعات وتكررت ب على ظنه ِي َغْل ُ َ
في حقه ،سواء كان ذلك شخصا ً أم جماعة أم دولة ،ول
يجوز العتماد على هذه القاعدة كليًا ،حتى يعززها بدراسة
الفكار والمعتقدات التي من خللها سيعلم الحقيقة.
45
ثانيًا :فقه الموازنات
46
مصلحة النفاق على العيال في حال عدم وفرة المال ،على
مصلحة النفاق على الفقير.
قال العز بن عبد السلم)) :واعلم أن تقديم الصلح
فالصلح ،ودرء الفسد فالفسد ،مركوز في طبائع
العباد نظرا ً لهم من رب الرباب(() .(43ويقول)) :والشريعة
كلها مصالح إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح(().(44
يقول ابن تيمية)) :إذ الشريعة مبناها على تحصيل
المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ،والورع
ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين
وإن حصل أدناهما(() .(45ويقول)) :ومطلوبها ـ أي الشريعة ـ
ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً،
ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً(().(46
)ب( الموازنة بين المصالح والمفاسد:
الصلح والفساد ضدان ذكرهما الله تعالى في آية
ح] البقرة.[220:
صل ِ ِ ن ال ْ ُ
م ْ م َ
سد َ ِ
ف ِ م ال ْ ُ
م ْ عل َ ُ والل ّ ُ
ه يَ ْ واحدةَ ) :
وذكرهما منفردين في آيات أخر ،كقوله تعالى) :إ ِّنا ل َ
ن ُضي َ
ن] العراف .[170:وقوله تعالى) :إ ِ ّ
ن حي َ
صل ِ ِم ْجَر ال ْ ُ عأ ْ ِ ُ
ن] يونس.[81:
دي َ
س ِ م ْ
ف ِ ْ
ل ال ُم َ ع َ
ح َ صل ِ ُ َ
ه ل يُ ْ الل ّ َ
ومن اليات الدالة على الموازنة بين المصالح
والمفاسد:
ق ْ
ل ر ُ س ِ مي ْ ِ وال ْ َ ر َ ِ م
خ ْ ن ال ْ َ ِ ع
ك َ سأ َُلون َ َ قوله تعالى) :ي َ ْ
َ
من مآ أك ْب َُر ِ ه َ م ُ وإ ِث ْ ُس َ ِ ع ِللّنا ف ُمَنا ِ م ك َِبيٌر َ
و َ ما إ ِث ْ ٌ ه َ في ِ ِ
َ
مآ أك ْب َُر نّ ْ
ه َ م ُوإ ِث ْ ُ ما] البقرة .[219:ففي قوله تعالىَ ) : ه َ ع ِ ف ِ
ما ،دللة واضحة على الموازنة بين المصالح ه َ ِ ع
ف ِ من ن ّ ْ ِ
َ
ما. ه َ ع ِ ف ِ من ن ّ ْ مآ أك ْب َُر ِ ه َ م ُ وإ ِث ْ ُ والمفاسد .في قوله تعالىَ ) :
َ دُلوا ْ َ َ
و
حدَةً أ ْ وا ِ ف َ ع ِم أل ّ ت َ ْ فت ُ ْ خ ْ ن ِ فإ ِ ْوقوله تعالىَ ) :
عوُلوا ْ] النساء .[2:وفيها َ َ َ
ك أدَْنى أل ّ ت َ ُ م ذَل ِ َمان ُك ُ ْ
ت أي ْ َ مل َك َ ْ ما َ َ
47
تقديم مصلحة الزواج من واحدة ،على مفسدة التعدد في
الزواج من النساء.وقاعدتها الصولية)) :درء المفاسد أولى
من جلب المنافع((.
يقول ابن تيمية ....)) :فالواجبات والمستحبات لبد أن
تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة ,إذ بهذا بعثت الرسل
ونزلت الكتب.(47)((...
)ج( الموازنة بين المفاسد:
ذكر القرآن الكريم قصة الخضر حين خرق السفينة
وهي صالحة .فقد أحدث فيها مفسدة ،ليدفع بها مفسدة أعظم،
أل وهي غصب السفينة من قبل الملك .فلول هذا الخرق أو
المفسدة لخذها الملك ،وضاع أهلها الذين يقتاتون بما رزقهم
ف َ
ة َ َ
تكان َ ْ فين َ ُ
س ِ الله من دخلها .قال تعالى) :أ ّ
ما ال ّ
ها ن أَ ِ
عيب َ َ
َ
تأ ْ فأَرد ّ
في ال ْبحر َ َ
َ ْ ِ ن ِ مُلو َ
ع َ
ن يَ ْ
كي َ
سا ِ
م َلِ َ
با] الكهف: ة َ خذ ُ ك ُ ّ ْ مل ِ ٌ و َ
ص ً
غ ْ فين َ ٍ
س ِ ل َ ك ي َأ ُ هم ّ وَراء ُ
ن َكا َ َ
.[79
وفي هذه القصة دليل على جواز قصد إحداث مفسدة
ما ،لدفع أخرى راجحة ،ول ُيعد ذلك من باب الخيانة للمانة أو
ّ
للمة.
ض الواقع نفسه بضغط من فكيف يكون الحال إذا فََر َ
الرعية المطالبين ببعض المور خلف الولى ،كقيادة المرأة
للسيارات ،أو عملها خارج البيت ،أو بالضغط من قبلهم ،أو من
قبل العداء لقبول بعض المفاسد المخالفة للشريعة،
كالمشاركة في المجالس البرلمانية بطريقة النتخابات ،أو
تشكيل الحزاب ،أو الستعانة بالجيوش غير المسلمة لدفع عدو
صائل ،أو توقيع معاهدة سلم مع العداء والتنازل فيها عن
بعض الحقوق ،أو بالضغط من قبل العداء لتسليمهم بعض
الرعايا المسلمين في ظروف خاصة حرجة ،ل شك أن عمل
مثل هذه المور في مثل هذه الحوال القاهرة أولى بالجواز،
لما سيترتب على عدم الستجابة لهذه الضغوط من مفاسد
كبيرة تهدد وجود الدولة السلمية.
))47الفتاوى(( ).(28/26
48
فقد روى تاج الدين السبكي في أحداث سنة 616هـ،
قصة حصلت بين جنكزخان طاغية التتار والسلطان علء الدين
خوارزمشاه محمد بن تكش ،أحد سلطين المماليك ،وكان ملكا ً
عظيمًا ،اتسعت ممالكه ،وعظمت هيبته ،وأذعنت له العباد...
مل هذا السلطان نتيجة ما حل بالمسلمين على يد ح ّ
والقصة ت ُ َ
التتار من ألوان الدمار والقتل ،بسبب عدم تسليم نفس واحدة
من المسلمين لجنكيزخان ،وتفصيل القصة بتصرف يسير ،كما
يلي:
))ان جماعة من التجار المسلمين ،خرجوا الى بلد
جنكزخان دون إذن السلطان خوازمشاه ومعهم المستظرفات.
فقابلهم جنكزخان وأكرمهم غاية الكرام ،وردا ً على سؤاله لهم:
لي شيء انقطعتم عنا؟ فقالوا :إن السلطان خوارزمشاه منع
التجار من المسافرة إلى بلدك ،ولو علم بنا لهلكنا.
فأرسل جنكزخان رسله إلى خوارزمشاه لعادة العلقات
التجارية المتبادلة بين البلدين .وأرسل من جهته تجارا ً معهم
أموال ل تعد ول تحصى .فلما انتهوا إلى الترار عمد نائب
خوارزمشاه بها ،فكتب إلى خوارزمشاه بأن يقتلهم ويأخذ
أموالهم .فأصدر خوارزمشاه مرسوما ً بقتلهم وسلب ما كان
معهم .فأرسل جنكزخان إلى خوارزمشاه :هذا الذي جرى،
أعلمني هل هو عن رضى منك؟ إن لم يكن برضاك فنحن
نطلب بدمائهم من نائب الترار.
فكان جواب خوارزمشاه :أن هذا كان بعلمي وأمري ،وما
بيننا إل السيف .فقام ولده السلطان جلل الدين وكان عاقل ً
وأشار على والده أن يتلطف في الجواب ويخلي بين
جنكزخان ونائب الترار ،ويسلطه على دم واحدة
يحمي به المسلمين من نهر جيحون إلى قريب بلد
الشام ،ومساجد ل تحصى عددها ،ومدارس ،وأمم ل
يحصون ،وأقاليم .فأبى والده إل السيف وأمر بقتل
الرسل.
ت كل قطرة من
جَر ْ
فيالها من فعلة ما كان أقبحها! أ ْ
دمائهم سيل ً من دماء المسلمين(().(48انتهى
49
وهذا ما حصل لحركة طالبان من قريب .حيث
رفضت ما كان رفضه سببا ً في ضياع دولة وسقوطها.
وعلى الذين ل يستطيعون تقدير هذه المور ،ترك خيار التقدير
لولي العلم الفقهاء في الواقع ،ثم احترام رأيهم ،وعدم
التعرض للحومهم ،فهم ما قاموا بذلك إل لحفظ مقاصد
الشريعة ،وعلى رأسها حفظ الضرورات.
وفي باب الترجيح بين المفاسد كذلك قوله تعالى:
قَتا ٌ
ل ل ِ ق ْ ه ُ في ِل ِ قَتا ٍحَرام ِ ِ ر ال ْ َ ه ِش ْ ن ال ّ ع ِ ك َ سأ َُلون َ َ)ي َ ْ
د
ج ِ
س ِ م ْ ْ
وال َ ه َ فٌر ب ِ ِ ُ
وك ْ ه َ ّ
ل الل ِ سِبي ِ عن َ صد ّ َ و َ ه كِبيٌر َ َ في ِ ِ
وال ْ ِ َ َ
ة
فت ْن َ ُ ه َ عندَ الل ّ ِ ه أك ْب َُر ِ من ْ ُه ِ هل ِ ِ
جأ ْ خَرا ُ وإ ِ ْحَرام ِ َ ال ْ َ
ن ال ْ َ َ
ل] البقرة .[217:فمن باب درء المفسدة قت ْ ِ م َأك ْب َُر ِ
الكبرى بالصغرى ،أجاز لنا القرآن الكريم القتال في الشهر
الحرام مع أنه كبير ،لدفع ما هو أكبر.
ن
ذي َ وةً ل ّل ّ ِ دا َع َ س َ ِ شدّ الّنا ن أَ َ جد َ ّ وقوله تعالى) :ل َت َ ِ
ودّةً م َ م ّ ه ْقَرب َ ُن أَ ْ ول َت َ ِ
جد َ ّ كوا ْ َشَر ُ ن أَ ْ ذي َوال ّ ِ هودَ َ مُنوا ْ ال ْي َ ُآ َ
َ
مه ْ من ْ ُن ِ ك ب ِأ ّ صاَرى ذَل ِ َ وا ْ إ ِّنا ن َ َقال ُ َ ن َ ذي َ مُنوا ْ ال ّ ِ نآ َ ذي َ ل ّل ّ ِ
َ
ن] المائدة.[82: ست َك ْب ُِرو َ م ل َ يَ ْ ه ْ وأن ّ ُ هَباًنا َ وُر ْ ن َ سي َ سي ِ ق ّ ِ
ودللة الية :ذكر لنا القرآن أسماء أشد الناس عداوة
للمؤمنين من بين جميع العداء ،لخذ الحيطة والحذر من
جهتهم .لذا فّرق الله سبحانه وتعالى بين المقاتلين لنا في الدين
ن
ع ِ
ه َم الل ّ ُ من العداء من غيرهم ،كما في قولهَ) :ل ي َن ْ َ
هاك ُ ُ
من كم ّ جو ُ ر ُ خ ِم يُ ْ ول َ ْ ن َ دي ِ في ال ّ م ِ قات ُِلوك ُ ْ م يُ َ ن لَ ْ ذي َ ال ّ ِ
َ
بح ّ ه يُ ِ ن الل ّ َ م إِ ّ ه ْ َ
سطوا إ ِلي ْ ِ
ق ِ ُ وت ُ ْم َ ه ْ م أن ت َب َّرو ُ رك ُ ْ ِدَيا ِ
قات َُلوك ُ ْ
م ن َ ذي َ ن ال ّ ِ ع ِ ه َ م الل ّ ُ هاك ُ ُ ما ي َن ْ َ ن*إ ِن ّ َ طي َ س ِ ق ِ م ْال ْ ُ
عَلى و َ َ
هُروا َ ظا َ م َ رك ُ ْ من ِدَيا ِ كم ّ جو ُ خَر ُ وأ ْ ن َ دي ِ في ال ّ ِ
م ولئ ِ ََ ُ م َ ّ ّ َ ُ
ه ُ
ك ُ فأ ْ ه ْ ول ُ من ي َت َ َ و َم َ ه ْ و ُ ول ْ م أن ت َ َ جك ْ خَرا ِ إِ ْ
يقول ابن تيمية)) :إذ الشريعة ن]الممتحنة.[9-8: مو َ ظال ِ ُ ال ّ
مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد
وتقليلها ،والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع
شر الشرين وإن حصل أدناهما(() .(49ويقول)) :ومطلوبها ـ
50
اي الشريعة ـ ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً
ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً(().(50
إذن في حالة تعارض المفاسد ،وانطلقأ َ من قوله تعالى:
م] التغابن ،[16:فإنه ُيصار إلى ست َطَ ْ
عت ُ ْ ما ا ْ قوا الل ّ َ
ه َ فات ّ ُ
) َ
دفعهما جميعًا ،فإذا لم يندفعا جميعاً ،دفعنا الفسد فالفسد،
على النحو التالي:
-تدفع المفسدة المجمع عليها بالمفسدة المختلف فيها(().(51
-تدفع المفسدة الكبرى بالصغرى).(52
-تدفع المفسدة التي يترتب عليها ضرر عام بالتي يترتب عليها
ضرٌر خاص).(53
الموازنة بين العداء:
أعداء السلم ليسوا سواًء ،كما يظن أغلب العوام في
هذا الزمان .وهذه الفكرة أثارها حزب التحرير والشيوعيون
والشتراكيون بين المسلمين لضللهم وخداعهم وصرفهم عن
أشد الناس عداوة للذين آمنوا ،فراجت بيننا بالتكرار والزمن،
ن(.خوَ ٌمقولة) :كلهم أعداء ،أو كلهم َ
سّلمات ،فترتب على ذلك، م َ ت هذه المقولة من ال ُ واعت ُب َِر ْ
ليس فقط تكذيب النظمة الصادقة وتخوين النظمة المينة،
َ
التي أمرنا الله تعالى أن نكون معهم ،كما في قولهَ) :يا أي ّ َ
ها
ن] التوبة: قي َصاِد ِ
ع ال ّ م َكوُنوا ْ َ و ُ قوا ْ الل ّ َ
ه َ مُنوا ْ ات ّ ُ نآ َ ال ّ ِ
ذي َ
.[119بل انقلب هذا العداء للنظمة الصادقة والمينة إلى
عطف على أعدائنا البعثيين والشيوعيين وأمثالهم .وهذا المر
جلل وشره مستطير .فعكسوا الواقع والحقيقة في قول الله
مُنوا ْ
نآ َ وةً ل ّل ّ ِ
ذي َ دا َ ع َس َ شدّ الّنا ِ ن أَ َجد َ ّ تعالى) :ل َت َ ِ
ودّةًم َم ّه ْ ن أَ ْ
قَرب َ ُ جد َ ّ ول َت َ ِ
كوا ْ َ شَر ُن أَ ْ ذي َ وال ّ ِ هودَ َال ْي َ ُ
َ
م
ه ْمن ْ ُ
ن ِ صاَرى ذَل ِ َ
ك ب ِأ ّ وا ْ إ ِّنا ن َ َ
قال ُ َ ن َذي َ مُنوا ْ ال ّ ِ نآ َ ذي َل ّل ّ ِ
هباًنا َ
ن] المائدة.[82: ست َك ْب ُِرو َم ل َ يَ ْ ه ْوأن ّ ُ َ وُر ْ َ ن َ سي َ سي ِ ق ّ ِ
51
ومن الدلة القرآنية الواردة لبيان فقه الموازنات بين
العداء:
ض ْ َ َ قوله تعالىُ ) :
في أدَْنى الْر ِ م* ِ ت الّرو ُ غل ِب َ ِ
ن
سِني َ ع ِ د َ َ
ض ِفي ب ِ ْ ن* ِ غل ُِبو َ سي َ ْم َ ه ْغلب ِ ِ ع ِ
من ب َ ْ هم ّ
َ
و ُ َ
ح ذ يَ ْ
فَر ُ مئ ِ ٍ و َ
َ ْ َ ي و ُ د ع
ْ َ ب من ِ و
َ ُ
ل ْ ب َ
ق من ِ ر م
ْ ُ لْ ا ه
ِ ّ ل لِ
ن] الرم. [3-2: مُنو َ ؤ ِم ْ ال ْ ُ
الملفت للنظر أن هذا الحدث :هزيمة الروم أمام
الفرس ،يبعد عن المدينة المنورة مسافة ل تقل عن )(1000
كم .فلو لم يذكر لنا القرآن الكريم هذه الحادثة ،لما ترتب على
المسلمين مفسدة تلحق بهم في ديارهم حينها .إنما أراد منا
الشارع الحكيم أن نوظف هذا الحدث لمصلحتنا ،ونحكم عليه
من خلل ثوابتنا وأصولنا وقواعدنا الفقهية السياسية.
فتجد أن المسلمين قد تعاطفوا مع الروم لنهم القرب
إلى ديننا من الفرس ,علما ً أن هذا التعاطف معهم ليس من
باب الولء أو العمالة لهم في شيء .إنما هو من باب تقليل
الشر في الرض قدر المكان ،ولو بتغيير الشر الكبر والكفر
الكبر )الفرس( ،بالشر الصغر والكفر الصغر )الروم( ،تطبيقا ً
للقواعد الصولية)) :دفع الضرر الكبر بالضرر الصغر(( أو:
))اختيار أدنى المفسدتين(( أو ))درء المفاسد وتقليلها(( ،ول يقال
في مثل هذا الموضع )كلهم كفار( ) ،(54فهناك كفر وكفر أكبر،
وشر وشر أكبر.
وياللسف تجد البعض يوافقنا على هذه القواعد الأصولية
نظريًا ،لكنه يخالفنا عمليا ً وواقعيًا ،حين نقرر أن الخطر
الشتراكي اليهودي هو الكبر والشد على مصالح المسلمين
من الخطر الرأسمالي الغربي ،انسجاما ً مع الواقع الذي نراه
ضمن تقريرات الشرع ،ول يرونه بسبب الدعايه المضللة ،ومع
مُنوا ْ
نآ َ وةً ل ّل ّ ِ
ذي َ دا َ
ع َ
س َ ن أَ َ
شدّ الّنا ِ الية القرآنية) :ل َت َ ِ
جد َ ّ
ودّةًم َ
م ّه ْ ن أَ ْ
قَرب َ ُ ول َت َ ِ
جد َ ّ كوا ْ َ شَر ُن أَ ْ ذي َ وال ّ ِ هودَ َال ْي َ ُ
قال ُوا ْ إّنا ن َصارى ذَل ِ َ َ
م
ه ْمن ْ ُ
ن ِ ك ب ِأ ّ َ َ ن َ َ َ ِ ذي َ مُنوا ْ ال ّ ِ نآ َ ذي َل ّل ّ ِ
ن] المائدة.[82: ست َك ْب ُِرو َم ل َ يَ ْ ه ْ
وأن ّ ُ
هَباًنا َ وُر ْ ن َ سي َ سي ِ ق ّ ِ
هجرة المسلمين إلى بلد الحبشة النصرانية:
54وقول) :كلهم كفار( ليس في المعاملة في الدنيا ،بل في حكم
الخرة أنهم كلهم في النار.
52
فهل يستقيم اتهام الصحابة المهاجرين إلى الحبشة
النصرانية بالولء والعمالة لها ،لقبولهم العيش في كنف
النصارى وتحت حكمهم؟ إن المر ليس كذلك ،إنما كانت
هجرتهم إلى الحبشة ،من باب ))اختيار أدنى المفسدتين((،
فمفسدة قريش )الوثنية( ،أبناء العمومة ،أعظم من مفسدة
الحبشة )النصارى( ،هذه مقاييس الشرع إعمال ً للمصالح ،مع
أننا نسمع من يردد مقولة :أّنا ضد أي عداء كان ضد أي عربي،
نقول :حتى لو كان اشتراكيا ً كافرًا؟ فعجبا ً لهؤلء!!
فانطلقا ً من مقصد الشريعة السمى )) :تحصيل
المصالح و تكميلها ,وتعطيل المفاسد وتقليلها(( نقول باختصار:
علينا أن ل نرفض ،بل نؤيد كل ما يؤدي إلى تغيير الواقع من
الشر إلى شر أقل منه ،فإن ذلك يدفع باتجاه تقليل الشر في
الرض ،وبالتالي يساهم في قرب النصر.
لذا قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه الله تعالى)) :ليس
العاقل الذي يعلم الخير من الشر إنما العاقل الذي يعلم خير
الخيرين وشر الشرين(().(55
ويقول)) :فل يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ول
دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين ،فإن الشريعة
جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها
بحسب المكان ،ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن
يجتمعا جميعاً ،ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً(().(56
ويقول)) :إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح
وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ،والورع ترجيح خير الخيرين
بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما(().(57
إذن من الورع أن ندفع شر الشرين) :الشتراكية
الصهيونية( بالشر الدنى) :الديموقراطية الغربية( ،ول يكون
ذلك إل في حالت الضطرار ،أما في حالة الختيار ،فل شرقية
ول غربية.
ولقد رفع الخميني الشتراكي الشيعي المامي شعار) :ل
شرقية ول غربية( أيام شاه إيران الرأسمالي ،فلما استلم
53
الخميني الحكم جعلها شرقية اشتراكية وحارب التوجه
الرأسمالي الغربي الذي كان سائداً أيام الشاه ،ولو كان مسلماً
حقا كما يدعي لرفض التوجه للشرق الشتراكي كذلك ،إنما ً
استدرج غثاء المسلمين بشعاره المضلل حينئذ ،وخدعهم بذلك،
وربط إيران بموسكو رأسًا.
54
ثالثا :فقه الولويات
55
ورابطة الرض ،ورابطة القومية ،وأمثالها .قال تعالىَ) :ل
نم ْ ن َ دو َ وا ّ ر يُ َ ِ وم ِ اْل ِ
خ وال ْي َ ْ ه َ ن ِبالل ّ ِ مُنو َ ؤ ِ ما ي ُ ْ و ً ق ْ جد ُ َ تَ ِ
َ َ َ
ومأ ْ ه ْ و أب َْناء ُ مأ ْ ه ْ كاُنوا آَباء ُ و َ ول َ ْ ه َ سول َ ُ وَر ُ ه َ حادّ الل ّ َ َ
م ُ ُ َ َ َ ُ َ
ه ُ في قلوب ِ ِ ب ِ ولئ ِك كت َ َ مأ ْ ه ْ شيَرت َ ُ ع ِ و َ مأ ْ ه ْ وان َ ُ خ َ إِ ْ
ُ َ
ري ج ِ ت تَ ْ جّنا ٍ م َ ه ْ خل ُ وي ُدْ ِ ه َ من ْ ُ ح ّ هم ب ُِرو ٍ وأي ّدَ ُ ن َ ما َ لي َ ا ِْ
َ
م ه ْ عن ْ ُ ه َ ي الل ّ ُ ض َ ها َر ِ في َ ن ِ دي َ خال ِ ِ هاُر َ ها اْلن ْ َ حت ِ َ من ت َ ْ ِ
م ّ َ َ ّ َ َ ُ
ه ُ ه ُ ب الل ِ حْز َ ن ِ ه أل إ ِ ّ ب الل ِ حْز ُ ولئ ِك ِ هأ ْ عن ْ ُ ضوا َ وَر ُ َ
ن] المجادلة.[22: ُ َ حو ِ لف ْ ما ُْ ل
• الركان مقدمة على سائر الفرائض:
بعد سلمة العقيدة ،تأتي أركان السلم في الولوية
لعظم شأنها ،ويكفي أن يقال فيها ،ما جاء عن النبي ×)) :بني
السلم على خمس :شهادة أن ل إله إل الله وأن
محمدا رسول الله وإقام الصلة وإيتاء الزكاة وصوم
رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلً(( .فهي من
المعلوم من الدين بالضرورة ،فمن أنكرها ،أو استهزأ بها ،فقد
كفر.
• الفرائض مقدمة على النوافل:
عن أبي هريرة عن النبي × أنه قال)) :يقول الله
تعالى :من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ،وما
تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ول يزال
عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته(( ...
]صحيح[.
ودللة الحديث واضحة في قوله)) :وما تقرب إلي
عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه((؛ فالفرائض أحب إلى
الله تعالى من النوافل ،التي تأتي بالدرجة التالية ،وهذه
الفرائض المقصودة هي ما انعقد عليها إجماع المة من دون
الركان السابقة .منها حرمة الربا ،وبر الوالدين ،والحدود،
والمواريث ،والزواج ،وغيرها.
• تقديم فهم الصحابة على غيرهم:
المقصود تقديم إجماع فهم الصحابة على غيرهم ،لقوله
ن لَ ُ
ه ما ت َب َي ّ َ
د َ
ع ِ
من ب َ ْ سو َ
ل ِ ق الّر ُ
ق ِ من ي ُ َ
شا ِ تعالىَ ) :
و َ
وّلى
ما ت َ َ ول ّ ِ
ه َ ن نُ َ
مِني َ
ؤ ِ ل ال ْ ُ
م ْ سِبي ِ ع َ
غي َْر َ وي َت ّب ِ ْ
دى َ ال ْ ُ
ه َ
56
را] النساء.[115:
صي ً
م ِ
ت َ
ساء ْ
و َ
م َ
هن ّ َ
ج َ
ه َ
صل ِ ِ
ون ُ ْ
َ
قال ابن كثير في تفسيرها)) :ومن يشاقق الرسول من
طريقا غير طريق
ً بعد ما تبين له الهدى ،أي :ومن سلك
الشريعة التي جاء بها الرسول × ،فصار في شق والشرع في
شق ،وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح
ن( :هذا ملزم
مِني َ
ؤ ِ ل ال ْ ُ
م ْ سِبي ِ ع َ
غي َْر َ وي َت ّب ِ ْ
له ،وقوله ) َ
للصفة الولى ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع ،وقد تكون
لما اجتمعت عليه المة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه
تحقيقاً ،فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ
تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم(( اهـ.
َ
ن
ري َج ِ ها ِ م َن ال ْ ُ م َ ن ِ وُلو َ ن ال ّ قو َ ساب ِ ُ وال ّ ) َ
َ
م
ه ْ
عن ْ ُ
ه َ ي الل ّ ُ
ض َ ن ّر ِ سا ٍ ح َ هم ب ِإ ِ ْ عو ُ ن ات ّب َ ُ ذي َ وال ّ ِ ر َ ِ صا والن َ َ
هاُر َ َ َ ْ
ها الن ْ َ حت َ َري ت َ ْ ج ِ ت تَ ْ جّنا ٍ م َ ه ْ عد ّ ل ُ وأ َ ه َ عن ْ ُ ضوا َ وَر ُ َ
م] التوبة.[100: ظي ع ْ لا ز و َ
ف ْ ل ا َ
ك ِ لَ ذ دا ب َ أ ها في ِ ن دي ِ لخا
َ
ُ ِ َ ُ ْ ً َ َ َ ِ
وقال رسول الله ×)) :خير أمتي قرني ،ثم الذين
يلونهم ،ثم الذين يلونهم(( ]رواه البخاري[.
• البناء الخلقي:
سوًل ُ
ن َر ُ مّيي َ في اْل ّ ث ِع َ ذي ب َ َ و ال ّ ِ لقوله تعالىُ ) :
ه َ
بم ال ْك َِتا َ ه ُ م ُ عل ّ ُ
وي ُ َم َه ْ كي ِ وي َُز ّه َ م آَيات ِ ِ
ه ْ م ي َت ُْلو َ َ
علي ْ ِ ه ْ من ْ ُ ّ
ن َ َ من َ
قب ْ ُ َ ْ ْ
مِبي ٍل ّ ضل ٍ في َ لل ِ وِإن كاُنوا ِ ة َ
م َ حك َ وال ِ َ
َ ْ َ َ
من ح َسورة الجمعة) .(2قال تعالى) :قدْ أفل َ
ها] الشمس .[9:فتزكية النفس المؤمنة بالخلق الحسن كا َ َز ّ
والقيم النبيلة من ضرورات التغيير المنشود .بل إن بناء الهيكل
الخلقي له أكبر الثر في التأثير في الخرين ،لن حسن
الخلق من مقومات ثبات المجتمع ولمعان بريقه في عيون
الغير.
• رعاية الضروريات ،ثم الحاجيات ،ثم
التحسينيات:
لقد جاءت الشريعة السلمية بجملة من المصالح للعناية
بها وإقامتها في المجتمع ،ولتفاوت درجات هذه المصالح في
الهمية ،تقدم المصالح الضرورية على المصالح الحاجية ،وتقدم
المصالح الحاجية على المصالح التحسينية.
57
أ( الضروريات:
يقول الشاطبي في تعريفها)) :ما ل بد منها في قيام
مصالح الدين والدنيا ،بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على
استقامة ،بل على فساد وتهارج وفوت حياة ،وفي الخرى فوت
النجاة والنعيم ،والرجوع بالخسران المبين(( ). (58
وقد جاءت كل أمة بحفظها وهي :حفظ الدين ,والنفس،
والنسل ،والعقل ,والمال ,وقد شرع السلم لحفظ هذه
الضروريات ما يجلبها وما يحفظها ،وهي متفاوتة في درجاتها،
فأولها وأولها ،حفظ الدين ،فهو مقصد الحياة ،لقوله تعالى:
ن] الذاريات.[56:
دو ِ س إ ِّل ل ِي َ ْ
عب ُ ُ وا ْ ِ
لن َ ن َ ت ال ْ ِ
ج ّ خل َ ْ
ق ُ ما َ ) َ
و َ
فل يجوز التنازل عن الدين وتركه لجل أي من هذه
الضرورات ،إل من أكره وقلبه مطمئن باليمان ،قال تعالى:
ُ
قل ْب ُ ُ
ه و َ ن أك ْ ِ
ره َ َ ه إ ِل ّ َ
م ْ مان ِ ِ
د إي َ
ع ِ
من ب َ ْ فَر ِبالل ّ ِ
ه ِ من ك َ َ
) َ
صدًْرا
ر َ ف ِح ِبال ْك ُ ْشَر َمن َ كن ّ ول َ ِ
ن َما ِ
لي َ
ن ِبا ِ مطْ َ
مئ ِ ّ ُ
م] النحل:
ٌ ظيِ ع
َ ب
ٌ ذاَ ع
َ م ه َ
َ ُ ْ لو ه
ِ ّ ل ال ن م
ٌ ّ َب ض
َ َ
غ م ه يَ
َ ْ ِ ْ لع َ
ف
،[106كما حصل مع عمار بن ياسر رضي الله عنه ،إذ شتم
نبيه ،تحت الكراه.
ب( الحاجيات:
وهي التي يتعلق بها رفع الحرج في العبادات والعادات
والمعاملت) .(59فقد تميزت هذه الشريعة السمحاء برفع الحرج
ن
دي ِفي ال ّ م ِعل َي ْك ُ ْ ع َ
ل َ ج َ
ما َو َ عن أهلها ،لقوله تعالىَ ) :
سا
ف ً ف الل ّ ُ
ه نَ ْ ج] الحج .[78:وقوله تعالى) :ل َ ي ُك َل ّ ُ حَر ٍ
ن َ م ِْ
ها] البقرة .[286:والحاجة إلى الحاجيات تكون دون ع َس َ
و ْ ّ
إ ِل ُ
الضرورات التي لو فقدت لختل نظام الحياة.
حقَ بالناس حرج ومشقة ،في فالحاجيات لو فقدت ل َل َ ِ
عباداتهم ،كالصيام في نهار رمضان للمسافر والمريض ،وما
يلحق بالناس من حرج في عاداتهم ،كالمأكل والمشرب
والمسكن والملبس ،ودرجة الحاجيات في هذه العادات هي
درجة التوسط ،فالحد الدنى منها يعد من الضروريات ،والحد
))58الموافقات(( ).(2/8
59انظر)) :الموافقات(( ،للشاطبي)) ،(2/11) :الحكام(( للمدي )
.(3/274
58
العلى من التحسينيات.
ج( التحسينيات:
تكون فيما يتعلق بمكارم الخلق) .(60وهي :ما ل يرجع
إلى ضرورة ول إلى حاجة ،وهي)) :خادم للصل الضروري
ومحسنة لصورته الخاصة(() .(61وبها يظهر ))كمال المة في
نظامها حتى تعيش أمة آمنة مطمئنة ،ولها بهجة منظر المجتمع
في مرأى بقية المم حتى تكون الأمة السلمية مرغوباً في
الندماج فيها ،أو في التقرب منها(().(62
59
رابعًا :فقه التغيير
60
والخوان المسلمون ،وجماعة الدعوة والتبليغ،
والصوفيون.
• مدرسة الدعوة إلى التغييرعن طريق تغيير النظمة
القائمة ،وأصحاب هذه المدرسة هم :الخوارج قديمًا،
و)حزب التحرير السلمي( حديثًا ،وهم الوحيدون الذين
خرجوا عن السواد العظم ،ومنهج السلف الصالح عبر
العصور ،ومنهجهم يقوم على تغيير النظمة الحاكمة ليقوم
السلم كله في الناس.
ومع التكرار والزمن ،فقد تأثر بطرح الخوارج وحزب
التحرير ،كثيرون ممن ينتسبون إلى الجماعات السلمية
الخرى ،مثل الخوان المسلمين -في وقت مبكر-
والسلفية ،والصوفية ،والدعوة والتبليغ .ففي الوقت الذي
اكتفى فيه بعض هؤلء من المتأثرين بالخوارج وبفكر حزب
التحرير بالمعارضة السياسية ومناكفة النظمة القائمة
سلميًا ،دعا البعض الخر منهم إلى الخروج على النظمة
بحمل السلح ،وتطور المر ببعضهم إلى التكفير والتفجير
وإذا علمنا أن مؤسس حزب التحرير الشيخ العشوائي.
تقي الدين النبهاني ،كان بعثياً اشتراكيا ً ) .(63وكان عضوا ً
في )كتلة القوميين العرب( اليسارية) ،(64قبل تأسيسه
لحزب التحريـر ،تبين لنا مصدر فسـاد منهج حزب التحرير
في التغيير.
فالشتراكية ـ وهي من أصل يهودي ـ تقوم على تطبيق
نظرية ماركس للتفسير المادي للتاريخ ،وهذه النظرية
تعمل على قلب النظم السياسية والجتماعية القائمة في
العالم أجمع ،ومنها الدول السلمية التي تعادي اليسار،
ت هذه النظرية في فكر الحزب وكتبه ومنشوراته، فَ َ
سَر ْ
ومن ثم إلى أفراده ،ومن ثم إلى المة السلمية.
أما من جهة طبيعة التغيير ومادته ،فقد تباينت الجماعات
السلمية المعاصرة فيه تباينا ً واضحاً ،علماً بأن الجميع يقولون
بأنهم يتخذون من الكتاب والسنة دستورًا ،ومنهجاً في التغيير.
))63موسوعة الحركات السلمية في الوطن العربي وإيران وتركيا((،
)ص ،(397إصدار مركز دراسات الوحدة العربية.
))64القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين من -1917
، ((1948تأليف :بيان نويهض) ،ص ،(900طبعة بيروت.(1981) ،
61
وهذا هو أهم وأبرز جانب من الجوانب التي ركزت عليها كل
جماعة:
أبرز جانب اشتهرت به اسم
الجماعة
العقيدة ومجانبة البدع بالمر السلفية
والنهي
الذكر والدروشة الصوفية
الحركة والتنظيم والتجميع الخوان
كيفما اتفق المسلمون
السياسة حزب التحرير
المر بالمعروف والوعظ الدعوة
القصصي والتبليغ
وهذه الجوانب كلها ل شك أنها من دعوة السلم
الشاملة ،إل أن الصوفية اتخذت من الذكر جسرا ً لتعبر من
خلله إلى أوحال الشرك .وحزب التحرير اتخذ من السياسة
جعَل َُهم
المغرضة المخالفة للواقع طريقا ً لضلل المسلمين ،وَ َ
ل الشتراكية الفكري الجارف. سي ْ ْ
بذلك غثاء ل ِ َ
إن الكتفاء بجانب واحد من جوانب التغيير المذكورة،
وغيرها ممن لم تذكر كالجانب الجتماعي ،والثقافي
والقتصادي ،ل يحقق التغيير المنشود ،حتى تتكامل هذه
الجوانب كلها في المجتمع المسلم ،ثم ل بد أن يسير بها
المصلحون وفق السنة الكونية التي ل تتبدل ول تتغير لتحقيق
ه ل َ يُ َ
غي ُّر ن الل ّ َ
التغيير المنشود ،المتمثلة في قوله تعالى) :إ ِ ّ
م] الرعد.[11:ولهمية سه ْف ِما بأن ْ ُغي ُّروا ْ َ
حّتى ي ُ َ وم ٍ َ ما ب ِ َ
ق ْ َ
هذه السنة الكونية ولخطورة تجاهلها ،أو تخطيها ل بد من إقامة
الحجج والبراهين الدالة عليها.
62
حتى يغيروا ما بأنفسهم
وقفة قصيرة مع خطر الصراع مع النظمة
63
(( فتستمر العداوات والحروب والكراهية والموت استشهاداً أيضاً
). (66
))إننا نخشى تحالف القوى الحاكمة مع المميين )غير
اليهود( مع قوة الرعاع العمياء ،غير أننا قد اتخذنا كل
الحتياطيات لنمنع احتمال حدوث هذا الحادث .فقد أقمنا بين
القوتين سداً قوامه الرعب الذي تحسه القوتان كل من الخرى،
وهكذا تبقى قوة الشعب سنداً إلى جانبنا ،سنكون وحدنا قادتها،
وسنوجهها لبلوغ أغراضنا(().(67
وتقول أيضًا:
)(68
ومعظما من كل رعاياه ـ
ً ً محبوبا ))ولكي يكون الملك
يجب أن يخاطبهم جهاراً مرات كثيرة .فمثل هذه الجراءات
ستجعل القوتين في انسجام ،أعني قوة الشعب وقوة الملك
اللتين قد فصلنا بينهما في البلد الممية )غير اليهودية( بإبقائنا
كل منهما في خوف دائم من الخرى .ولقد كان لزاماً علينا أن
نبقي كلتا القوتين في خوف من الخرى ،لنهما حين انفصلتا
وقعتا تحت نفوذنا(().(69
وقبل البدء بالستدلل على ما ذهبنا إليه من أن التغيير
المنشود يكون بتغيير النفس أولً) ،(70علينا أن نتذكر حقيقة
شرعية ،أن اللتزام بالسلم ل يصح إل إذا كان خالصاً لله
تعالى ،فإيمان المصالح والمنافع ،وإيمان الكراه والقهر مخالف
لقوله تعالى) :وما أمروا إل ليعبدوا الله مخلصين له
الدين ]البينة ،[5:ومخالف لقول الرسول ×)) :إنما العمال
بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ،فمن كانت هجرته إلى الله
ورسوله ،فهجرته إلى الله ورسوله ،ومن كانت هجرته إلى دنيا
يصيبها أو امرأة ينكحها ،فهجرته إلى ما هاجر إليه(( ]متفق
عليه[.
66البروتوكول العاشر.
67البروتوكول التاسع.
68المقصود بالملك) :ملك إسرائيل( بعد تتويجه لحكم العالم ،أو أي
حاكم أو ديكتاتور ممن يأتون بانقلب عسكري موجه من قبل اليسار
)الماركسية(.
69البروتوكول الرابع والعشرون.
وخامسا...وعاشراً.
ً ً ورابعا وثانيا وثالثاً
ً 70
64
فمن تظاهر بالسلم طلبا ً لمنفعة أو دفعا ً لمفسدة ،أو
تزلفا ً لحاكم ،فقد نافق ومن نافق خسر خسرانا ً مبينًا ،ومقصود
الشريعة إخراج الناس من ظلمات الشرك إلى نور اليمان،
فعلينا أن نتذكر هذه الحقيقة للهمية الساسية.
الدلة على أن التغيير يكون بتغيير ما بالنفس
اليات القرآنية:
ورد في القرآن الكريم ،العديد من اليات الدالة على
إثبات التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية والنشغال
بذلك ،منها:
صالحا ،وإذا
ً أولً :إذا صلحت الرعية أفرزت حاكماً
فسدت الرعية أفرزت حاكما فاسداً :ورد هذا المفهوم
الجلي في العديد من المواضع من كتاب الله تعالى منها:
ن
مي َ ض ال ّ
ظال ِ ِ ع َوّلي ب َ ْ وك َذَل ِ َ
ك نُ َ -1قوله تعالىَ ) :
ن] النعام.[129:سُبو َكاُنوا ي َك ْ ِ
ما َ
ضا ب ِ َ
ع ً
بَ ْ
تدل الية على أن الله تعالى يولي بعض ظلمة المجتمع
بعضاً في الحكم ،فإذا علمنا أن الحاكم هو إفراز من المجتمع،
ود على نفسه من يراه الصلح لتحقيق أهدافه وأن المجتمع ُيس ّ
وغاياته ،دل ذلك بكل تأكيد على أن القاعدة العامة تقول)) :إذا
صالحا ،وإذا فسدت الرعية أفرزتً صلحت الرعية أفرزت حاكماً
حاكماً فاسداً((.
ينقل القرطبي قول ابن عباس وابن زيد في تفسير هذه
الية قائلً:
قال ابن عباس)) :إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم
خيارهم ،وإذا سخط الله عن قوم ولى أمرهم شرارهم((.
وقال ابن زيدُ)) :نسّلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه
ويذله ،وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه يسلط الله
عليه ظالماً آخــر ،ويدخل في اليـة جميع من يظلم نفسه أو
يظلم الرعية أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق
وغيرهم(() (71انتهى.
قال ابن أبي العز الحنفي:
65
))فإذا أراد الرعية أن يتخّلصوا من ظلم المير فليتركوا
الظلم(().(72
وقال الشيخ اللباني رحمه الله:
))وفي هذا بيان لطريق الخلص من ظلم الحكام الذين
هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ،وهو أن يتوب المسلمون إلى
ربهم ويصححوا عقيدتهم ويربوا أنفسهم وأهليهم على السلم
وم ٍ ما ب ِ َ
ق ْ غي ُّر َ ن الل ّ َ
ه ل َ يُ َ الصحيح تحقيقا لقوله تعالى) :إ ِ ّ
م] الرعد ،[11:وإلى ذلك أشار أحد ه ْس ِ ما ب ِأ َن ْ ُ
ف ِ غي ُّروا ْ َ
حّتى ي ُ َ
َ
)(73
بقوله)) :أقيموا دولة السلم في قلوبكم الدعاة المعاصرين
تقم لكم على أرضكم(( .وليس طريق الخلص ما يتوهم بعض
الناس وهو الثورة بالسلح على الحكام .بواسطة النقلبات
العسكرية) (74فإنها مع كونها من بدع العصر الحاضر فهي
مخالفة لنصوص الشريعة التي منها المر بتغيير ما بالنفس
وكذلك فل بد من إصلح القاعدة لتأسيس البناء عليها:
ه] الحج ،(75)(([40:انتهى. صر ُ من َين ُ ه َ ن الل ُ )ولينصر ّ
وفي معرض حديثه عن أسباب انتقال المر من الخلفة
إلى الملك ،قال ابن تيمية)) :وقد ذكرت في غير هذا الموضع،
ملوك ونوابهم من الولة ،والقضاة أن مصير المر إلى ال ُ
والمراء ،ليس لنقص فيهم فقط ،بل لنقص في الراعي والرعية
و ّ
ل عليكم(() ،(76وقد قال الله جميعا ،فإنه))كما تكونوا ي ُ َ
ن بعضاً ]الحج:
ض الظالمي َ ك نولي بع َ تعالى ) :وكذل ِ َ
،( 77)(([40انتهى.
66
حّتى
وم ٍ َ ق ْما ب ِ َ غي ُّر َه َل ي ُ َ ن الل ّ َ -2قوله تعالى ) :إ ِ ّ
ءا
سو ً ه بِ َ ّ َ وإ ِ َ ما ب َِأن ُ
وم ٍ ُ ق ْ ذا أَرادَ الل ُ م َ ه ْس ِف ِ غي ُّروا َ
يُ َ
ل] الرعد.[11:وا ٍ ن َ م ْ ه ِ
دون ِ ِ ن ُم ْ م ِ ه ْما ل َ ُ و َه َ مَردّ ل َ ُ
فَل َ َ
وهذه الية أصرح في الدللة على المراد ،وهي عامة
تشمل نوعي التغيير سواء من الخير إلى الشر أو العكس.
ونلحظ أن الية تتحدث عن تغيير يحدث في القوم ـ أي
الجماعة ـ وليس في شخص الحاكم دون المحكوم .وليس
بالضرورة أن يحصل التغيير بتغيير فئة قليلة في المجتمع ،إنما
المراد أن يكون التغيير غالبا فيه .وتجدر الشارة إلي أن الله
تعالى قد وعد بالتغيير إلى الخير والتمكين للمؤمنين في الرض
بعد توفر شروط وانتفاء موانع كما سيأتي بيانه قريباً إن شاء
الله تعالى.
يقول الطبري في تفسيرها)) :إن الله ل يغير ما بقوم من
عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم ،حتى يغيروا ما بأنفسهم
من ذلك بظلم بعضهم بعضاً ،واعتداء بعضهم على بعض ،فتحل
بهم حينئذ عقوبته وتغييره(().(78
وقال القرطبي و ابن كثير بمثله.
ويقول ابن القيم:
))وهل زالت عن أحد قط نعمة إل بشؤم معصيته ،فإن
الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه ،ول يغيرها عنه حتى
ه َل ي ُ َ
غي ُّر ن الل ّ َ
يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه) :إ ِ ّ
فسهم وإ َ َ َ
ذا أَرادَ الل ّ ُ
ه ما ب ِأن ُ ِ ِ ْ َ ِ غي ُّروا َحّتى ي ُ َ وم ٍ َ ما ب ِ َ
ق ْ َ
ل وا ن م ه ندو
ُ ْ ِ ْ ُ ِ ِ ِ ْ َ ٍ نم م هَ ل ما و هَ ل د
َ َ ّ ُ َ َ رم لَ َ
ف ءا
بِ ْ ٍ ُ ً
سو م و َ
ق
]الرعد.(79)(([11:
ويقول محب الدين الخطيب في كلم نفيس:
))وقد يظن من ل نظر له في حياة الشعوب وسياستها
أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون.
وهذا خطأ ،فللبيئة التأثير في الحاكم ،وفي نظام الحكم أكثر
مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة .وهذا من
67
حّتى
وم ٍ َ ما ب ِ َ
ق ْ ه َل ي ُ َ
غي ُّر َ ن الل ّ َ
معاني قول الله عز وجل) :إ ِ ّ
م((() ،(80انتهى. ه ْ
س ِ ما ب َِأن ُ
ف ِ غي ُّروا َ
يُ َ
ثانياً :أن العذاب ينزل بذنوب القوام من أهل القرى،
وليس الولة فقط:
وسبب وضع هذا العنوان أن البعض قد ابتعد عن الحق
كثيراً في رسم حدود مسؤولية الحكام ،فأناط بهم تغيير كل
شيء في المجتمع سواء وقع المر ضمن دائرة مسؤوليته ،أم
ضمن دوائر أصحاب المسؤوليات الخرى ،التي ذكرها الحديث
الشريف)) :كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.((...
واليات الدالة على المعنى المذكور في العنوان كثيرة،
منها:
ي َ قري َ َ
ة ثُ ّ
م م ٌ
ظال ِ َ ه َ و ِ
ها َت لَ َمل َي ْ ُ
ةأ ْ ن َ ْ َ ٍ م ْ ن ِ وك َأي ّ ْ • ) َ
ر] الحج.[48: صي ُ م ِي ال ْ َ وإ ِل َ ّها َ خذْت ُ َأَ َ
شأ َْنا
وَأن َ ة َم ً ت َ
ظال ِ َ ة َ
كان َ ْ قْري َ ٍن َ م ْ مَنا ِ ص ْ
ق َ م َ وك َ ْ • ) َ
ن] النبياء.[11: ري َ خ ِ ما آ َ و ً ق ْ ها َ عدَ َبَ ْ
من الملحظ أن هذه اليات تؤكد بوضوح وجلء ،أن
السبب المباشر لوقوع العذاب ،وقوع الظلم من أهل القرى
عامة حكاماً ومحكومين وليس بذنوب الحكام فقط .وأنها سنة
ك فل َ ْ
م يَ ُ الله التي قد خلت في عباده ،كما قال تعالىَ ) :
ه ال ِّتي َ ْ َ
د
ق ْ ة الل ّ ِ
سن ّ َ
سَنا ُ وا ب َأ َ م لَ ّ
ما َرأ ْ ه ْمان ُ ُ
م ِإي َ
ه ْع ُ
ف ُي َن ْ َ
ن] غافر.[85:فُرو َ كا ِك ال ْ َ
هَنال ِ َ
سَر ُ خ ِو َ
ه َعَباِد ِ في ِ ت ِ خل َ َْ
قال ابن القيم:
))ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال
المم الذين أزال نعمه عنهم ،وجد سبب ذلك جميعه إنما هو
مخالفة أمره وعصيان رسله ،وكذلك من نظر في أحوال أهل
عصره وما أزال الله عنهم من نعمه ،وجد ذلك كله من سوء
عواقب الذنوب ،كما قيل:
فإن المعاصي إذا كنت في نعمة
تزيل النعم فارعها
68
فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته ،ول
حصلت فيها الزيادة بمثل شكره ،ول زالت عن العبد بمثل
معصيته لربه ،فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في
الحطب اليابس(() ،(81انتهى.
ويقول كذلك:
))فما أزيلت نعم الله بغير معصيته ،إذا كنت في نعمة
فارعها ،فإن المعاصي تزيل النعم .فآفتك من نفسك ،وبلؤك
من نفسك ،وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك ،وبلغت
من معاداة نفسك ما ل يبلغ العدو منك .كما قيل :ما يبلغ
العداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه(() ،(82انتهى.
ثالثًا :إن البركة تنزل بسبب تحقق إيمان أهل القرى جميعا ً
وليس الولة فقط.
واليات في ذلك كثيرة ،منها:
حَنافت َ ْوا ل َ َق ْوات ّ َ
مُنوا َ قَرى آ َ ل ال ْ ُه َن أَ ْ وأ ّ
)ول َ َ
َ ْ •
َ
ن كذُّبوا َ َ ْ َ َ
ولك ِ ْ ض َوالْر ِ ء َما ِ
س َن ال ّ م ْ ت ِ م ب ََركا ٍ ه ْعلَي ْ ِ
َ
ن] العراف.[96: سُبو َ كاُنوا ي َك ْ ِ ما َ م بِ َ خذَْنا ُ
ه ْ فأ َ َ
رابعًا :شروط تحقق الوعد بالتمكين والستخلف
)التغيير إلى الخير( متعلقة بالجماعة وليس بالولة
فقط.
ومن اليات الدالة على ذلك ما يلي:
•
ت
حا ِ صال ِ َ مُلوا ال ّ ع ِ و َ م َ من ْك ُ ْ مُنوا ِ نآ َ ذي َ ه ال ّ ِ عدَ الل ّ ُ و َ ) َ
ف ال ّ ِ خل َ َ َ ْ
ن
ذي َ ست َ ْ ما ا ْ ض كَ َ في الْر ِ هم ِ فن ّ ُ خل ِ َ ست َ ْ ل َي َ ْ
ضى ذي اْرت َ َ م ال ّ ِ ه ْ م ِدين َ ُ ه ْ ن لَ ُ مك ّن َ ّول َي ُ َم َ ه ْ قب ْل ِ ِ ن َ م ْ ِ
دون َِني لَ َ َ َ
عب ُ ُ
مًنا ي َ ْ مأ ْ ه ْ ِ فو ِ خ ْد َ ع ِن بَ ْ م ْ م ِ ه ْ ولي ُب َدّلن ّ ُ م َ ه ْ لَ ُ
ول َئ ِ َ ك َ ُ عدَ ذَل ِ َ ن كَ َ ر ُ
ك فأ ْ فَر ب َ ْ م ْ و َ شي ًْئا َ ن ِبي َ كو َ ش ِ يُ ْ
ن] النور.[55: قو َ س ُ فا ِ م ال ْ َ ه ْ ُ
تضمنت الية الشروط الواجبة لتحقيق وعد الله تعالى
لعباده بالستخلف والتمكين في الرض ،وهما تحقق اليمان
))81بدائع الفوائد(( ).(2/432
))82طريق الهجرتين(( ) .(111 -1/110وانظر)) :الفوائد(( )،1/181
.(210
69
والعمل الصالح ،ومن الملحظ أن الخطاب في الية جاء بصيغة
الجمع ) :آمنوا منكم ،ليستخلفنهم ( ،ولم يأت بصيغة الفرد
للتأكيد على ما نحن بصدد تقديم البراهين عليه ،من أن التغيير
يكون بعموم المجتمع ل بخصوص الفراد ،كالحكام على سبيل
ط به سلمة اليمان منا ٍ
المثال .ثم اخُتتمت الية بشرط آخر ُ
وصحته ،وهو عدم الشرك لضمان سلمة توحيد كلمة )ل إله إل
دون َِني الله( ،ولو كان شيئا ً يسيرا ً كما في قوله تعالى) :ي َ ْ
عب ُ ُ
شي ًْئا.
ن ِبي َ ر ُ
كو َ َل ي ُ ْ
ش ِ
الحاديث النبوية:
• عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي × دخل
عليها فزعا يقول)):ل إله إل الله ،ويل للعرب من شر
قد اقترب ،فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل
هذه ،وحلق بين أصبعيه البهام والتي تليها،
فقلت :يا رسول الله ،أنهلك وفينا الصالحون؟
قال :نعم إذا كثر الخبث(().(83
ودللة الحديث :أن الهلك ينزل بالعباد إذا كثر الخبث ،ول
تتحقق كثرة الخبث في المجتمع إل بفساد أكثره ،وفساد الحاكم
وحده دون المجتمع ل يتحقق به كثرة الخبث ،فثبت أن العذاب
ينزل بذنوب القوام من أهل القرى رعاة ورعية ،وليس بذنوب
الحكام فقط.
• وعن أبي أمامة قال :قال ×)) :لتنقضن عرى
السلم عروة عروة ،فكلما انتقضت عروة تشبث
ً
الناس بالتي تليها ،فأولهن نقضا الحكم ،وآخرهن الصلة((
).(84
ودللة الحديث :أن إعادة عروة الحكم إلى موضعها في
التطبيق ،ل بد أن يسبقها إعادة تطبيق العرى الخرى بدءا من
الصلة وهكذا ،فإن القاعدة العامة تقول) :أول قطعة تفكك،
آخر قطعة تركب(.
•
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :قال رسول الله
×)) :أل كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته،
83رواه البخاري ومسلم.
)84صحيح( ،رواه ابن حبان في ))صحيحه(( ،وصححه الشيخ اللباني في
))الترغيب والترهيب((.
70
فالمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن
رعيته ،والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول
عن رعيته ،والمرأة راعية على بيت زوجها وولده
وهي مسئولة عنهم ،وعبد الرجل راع على مال
سيده وهو مسؤول عنه ،أل فكلكم راع وكلكم
مسؤول عن رعيته(( ).(85
قال ابن حجر:
))قال الخطابي :اشتركوا أي المام والرجل ومن ذكر
في التسمية ،أي في الوصف ،بالراعي ،ومعانيهم مختلفة،
فرعاية المام العظم حياطة الشريعة بإقامة الحدود والعدل
في الحكم ،ورعاية الرجل أهله ،سياسته لمرهم وإيصالهم
حقوقهم ،ورعاية المرأة تدبير أمر البيت والولد والخدم
والنصيحة للزوج في كل ذلك ،ورعاية الخادم حفظ ما تحت
يده ،والقيام بما يجب عليه من خدمته(() ،(86انتهى.
وقال النووي:
))قال العلماء :الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلح
ما قام عليه ،وما هو تحت نظره .ففيه أن كل من كان تحت
نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه
ودنياه ومتعلقاته(().(87
ن الل ّ َ
ه وقال القرطبي في شرح قوله تعالى) :إ ِ ّ
َ يأ ْمرك ُ َ
ت إ َِلى أهل ِ َ
ها] النساء.[58: دوا ْ ال َ
ماَنا ِ م أن ُتؤ َّ ُ ُ ْ
))فجعل في هذه الحاديث الصحيحة كل هؤلء رعاة
وحكاما على مراتبهم(() ،(88انتهى.
ً
قلت :وهكذا تكتمل دوائر المسؤولية دون إفراط ول
تفريط .وهذا المر يعكس عظمة السلم العظيم حيث لم
مناطا ً بفرد ،أو بفئة من الناس أبدًا ،فهو دين
يجعل قيام الدين ُ
الجماعة.
85متفق عليه.
))86فتح الباري(( ).(13/113
))87شرح النووي على صحيح مسلم(( ).(12/213
))88تفسير القرطبي(( ).(5/258
71
• عن أبي أيوب قال :سمعت رسول الله × يقول)) :ما
بعث الله من نبي ول كان بعده من خليفة إل له
بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن
ل ،فمن وقي شرها المنكر ،وبطانة ل تألوه خبا ً
فقد وقي(().(89
قال ابن حجر في الشرح:
))ونقل ابن التين عن أشهب :إنه ينبغي للحاكم أن يتخذ
من يستكشف له أحوال الناس في السر ،وليكن ثقة مأمونا ً
فطنا ً عاقل ً ،لن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من
قبوله قول من ل يوثق به إذا كان هو حسن الظن به ،فيجب
عليه أن يتثبت في مثل ذلك(() ،(90انتهى.
قلت :إذا كان تحقيق العدل في الرعية مقصود التشريع
اللهي ،وقد أنيط هذا المر بالحاكم ،وأمر الحاكم إنما يكون
بأهل مشورته وبطانته الخيرة ،فإنه يلزم الرعية أن يجعلوا من
أنفسهم بطانة لحاكمهم ول يتركونه وشأنه لشياطين النس
والجن ،ول أن يتعففوا عن أداء هذا الواجب ،وخاصة في الزمنة
التي يقل فيها الكفاء من المناء الصالحين ،فإنهم لو فعلوا ذلك
وتخلوا عن مواقع المسؤولية ،فقد خدموا أعداء المة وساهموا
في تسلط بطانة السوء على رقابهم ،في حين أنهم مأمورون
َ
بأن ل يتخذوا بطانة من دونهم ،كما في قوله تعالىَ) :ياأي ّ َ
ها
ْ
م َل ي َأُلون َك ُ ْ
م دون ِك ُ ْ ن ُ م ْ ة ِ طان َ ً ذوا ب ِ َ خ ُ مُنوا َل ت َت ّ ِ نآ َ ذي َ ال ّ ِ
مه ْ ه ِ وا ِ ف َ ن أَ ْ م ْ ضاءُ ِ غ َ ت ال ْب َ ْ قدْ ب َدَ ْ م َ عن ِت ّ ْ ما َ دوا َ و ّ خَباًل َ َ
َ
ن ت إِ ْ م اْلَيا ِ قدْ ب َي ّّنا ل َك ُ ْ م أك ْب َُر َ ه ْ دوُر ُ ص ُ في ُ خ ِ ما ت ُ ْ و َ َ
م ُ ك َ ن بو ح
ِ ي ل َ و م ه َ ن بو حِ ُ ت ء
ِ ل َ و ُ أ م ُ ت ْ ن َ أ ه
َ * ن لوُ ق
ِ ع َ ت م ُ ت ْ ن ُ ك
ْ ّ ُ ُ ْ َ ّ ْ ْ َ ْ ْ
وإ ِ َ
ذا نا
َ ّ َ م آ لوا ُ قا َ م ْ ُ ك قو ُ َ ل ذاَ إ و
َِ َ ِ ه ّ ل ُ ك ب ؤ ِ ُ َ ِ ِ َ ِ
تا ك ْ لبا ن نو م وت ُ ْ َ
موُتوا ل ُ ظق ْ ُ غي ْ ِ ن ال َ م ْ ل ِ م َ م الَنا ِ ْ ُ
علي ْك ْ َ ضوا َ ع ّ وا َ خل ْ َ َ
ر] آل عمران-118 : دو ِ ص ُ ت ال ّ ذا ِ م بِ َ عِلي ٌ ه َ ّ
ن الل َ م إِ ّ غي ْظِك ُ ْ بِ َ
.[119
يقول ابن كثير في تفسيرها:
72
))يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ
المنافقين بطانة :أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه
لعدائهم .والمنافقون بجهدهم وطاقتهم ل يألون المؤمنين
ل ،أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن ،وبما خبا ً
دون ما يعنت المؤمنين، يستطيعون من المكر والخديعة ،ويو ّ
ت
قدْ ب َدَ ْويحرجهم ويشق عليهم ....ثم قال تعالىَ ) :
َ ن أَ ْ ال ْب َ ْ
م أك ْب َ ُ
ر(، ه ْ
دوُر ُ ص ُفي ُ خ ِما ت ُ ْ
و َ
م َ
ه ْ
ه ِ
وا ِ
ف َ م ْ
ضاءُ ِ
غ َ
أي قد لح على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم من العداوة
مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للسلم
وأهله ما ل يخفى مثله على لبيب عاقل((.انتهى.
قلت :هذا وقد كثر المنافقون الذين يتربصون بالسلم
وأهله في هذا الزمان ،وعلى رأسهم كثير من المنتمين
للحركات القومية والشتراكية من بعثية وناصرية وغيرهم ،إذ
ينطلقون بقوة إلى مهادنة ومداهنة السلميين باعتبارهم القوة
الكامنة )الرعاع( التي هم بحاجة ماسة لها مرحليا ً للسيطرة
على ما تبقى من الدول غير الشتراكية في العالم السلمي
فتنبه.
فهم يظهرون الولء الظاهري للحكم القائم المستهدف،
مع أنه قد بدت بعض البغضاء من أفواههم مستغلين هامش
الديموقراطية ،وما تخفي صدورهم أكبر ،وهو تغيير النظام بآخر
اشتراكي أو شيعي رافضي.
إذن لزم المة أن تجعل من نفسها البطانة الصالحة
ل ،حتى يستقيمللحاكم دون غيرها ما استطاعت إلى ذلك سبي ً
أمره ويسعد الناس بعدله .وعليه يلزمها قبل ذلك ،السعي إلى
إيجاد البطانة الصالحة التي ستقوم بأداء هذا الواجب ،وذلك
بتربية الجيال الناشئة ،ول يكون ذلك بدون إيجاد السرة
المسلمة ول الفرد المسلم.
• وعن النعمان بن بشير قال :قال رسول الله ×:
))
..أل وإن في الجسد مضغة ،إذا صلحت صلح الجسد
كله ،وإذا فسدت فسد الجسد كله ،أل وهي
القلب(().(91
91متفق عليه.
73
نلحظ من هذا الحديث الشريف ،أن صلح الفرد أو
فساده مرتبط بصلح قلبه أو فساده وليس مرتبطا ً بصلح
الرعاة أو فسادهم .فكم من قلوب صلحت مع فساد رعاتها؟
وكم من قلوب فسدت مع صلح رعاتها؟
فل يوجد للحاكم تأثير سحري على قلوب العباد ليصلح أو
يفسد .فلو كان مجرد وصول الرجل الصالح إلى الحكم في
مجتمع فاسد ،يغير واقع المجتمع بقرار ملزم منه ,لتخذ من
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ,فعدوله عن ذلك
وتركه للعروض المغرية التي تقدمت له بها قريش ،مقابل ترك
الدعوة ،دل على مخالفة هذه الطريقة لسنة الله تعالى في
تغيير المجتمعات .فترك نقل السنة ،نقل للترك.
• وقال رسول الله ×)) :من ولي منكم عملً فأراد
الله به خيراً جعل له وزيراً صالحاً ،إن نسي ذكره
وإن ذكر أعانه(().(92
قلت :وهذا الحديث يعزز مفهوم الحديث السابق .إذ
كيف يتحقق مراد الله تعالى بالخير لولي المر دون وجود
الوزير الصالح ؟ وكيف يوجد الوزير الصالح دون وجود المجتمع
الصالح؟ وكيف يكون ذلك دون وجود السرة المسلمة والفرد
المسلم؟
من القصص القرآني:
قصة موسى مع فرعون: •
ة الل ّ ِ
ه م َ ه اذْك ُُروا ن ِ ْ
ع َ م ِ و ِ
ق ْسى ل ِ َ مو َ ل ُ قا َ وإ ِذْ َ) َ
َ
سوءَ م ُ ُ
مون َك ْ سو ُن يَ ُ و َ ع ْ
فْر َ ل ِ نآ ِ م ْ م ِ ُ
جاك ْ م إ ِذْ أن َ عل َي ْك ُ َْ
َ
في و ِم َ ساءَك ُ ْ ن نِ َ حُيو َ ست َ ْ وي َ ْم َ ن أب َْناءَك ُ ْ حو َ وي ُذَب ّ ُ
ب َ ذا ِ ع َال ْ َ
م] ابراهيم.[6: ظي ٌ ع ِ م َ ن َرب ّك ُ ْ م ْ م ب ََلءٌ ِ ذَل ِك ُ ْ
يقول ابن كثير:
))إن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته ...مضمونها
أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل .ويقال
74
ماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل س ّ
بعد تحدث ُ
منهم يكون لهم به دولة ورفعة ،وهكذا جاء حديث الفتن كما
سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى فعند ذلك
أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني
إسرائيل وأن تترك البنات(( ،انتهى.
ولكن بعد أن صدر المر الفرعوني هذا ـ باعتباره أمرا
إلهيا ً عند قومه ـ بقتل المواليد الذكور من بني إسرائيل خشية
أن يزول ملكه على يد رجل منهم ،نجد أنه لم يطبق هذا المر
على المعني بالقضية لمعارضة امرأة فرعون تنفيذ حكم القتل
في موسى الرضيع حين رأته ،فقالت كلمتها :ل تقتلوه.
ك َل
ول َ َ
ن ِلي َ عي ْ ٍقّرةُ َن ُ و َ ع ْ مَرأ َةُ ِ
فْر َ تا ْ قال َ ْو َ
) َ
م َل َ َ
ه ْ
و ُ
دا َول َ ً
خذَهُ َو ن َت ّ ِ
عَنا أ ْ ن َين َ
ف َ سى أ ْ ع َ قت ُُلوهُ َتَ ْ
ن] القصص .[9:مما يدل على أن حكم الحاكم قد عُرو َ
ش ُ يَ ْ
يتخلف أحيانا بأتفه السباب ممن حوله ،وهذا يؤكد على أثر
البطانة في حكمه .فثبتت ضرورة إيجاد البطانة الصالحة أول
كي تعين الحاكم على الخير والستقامة.
لكن من أين تأتي البطانة الصالحة؟
إنها ،طبعاً إفراز من المجتمع ،فإن كان المجتمع صالحا ً
تكون البطانة صالحة ،وإن كان المجتمع سيئا ً ـ كما هو واقعنا ـ
تكون البطانة سيئة.
فرضية:
فاسقا ،استيقظ يوما ما ليجد
ً تقول :لو أن مجتمعاً
حاكمه ،بقدرة الله تعالى ،قد صلح أو آمن ،فهل بالضرورة أن
يتوب المجتمع من ساعته ويرجع إلى الله تعالى؟
مما مضى ـ أخي القارىء ـ يتضح لنا بطلن الزعم بأن
صلح المجتمع وفساده مناط بصلح الحاكم وفساده ،فقد تاب
النجاشي وآمن ولم يقدر أن يظهر إيمانه فضل ً عن أمر رعيته
به .وهرقل عظيم الروم لم يقدر على جبر حاشيته على اتباع
فهذه النظرة الصنمية للحاكم ،وإضفاء صفة اللهية النبي ×.
عليه ،كأنه يقول للشيء :كن فيكون ،نظرة خبيثة خبث الشرك
نفسه ،يقعد الناس بسببها عن القيام بواجباتهم من الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ،ويترك بذلك المجتمع للتراجع
75
مجتمعا فاجراً بمعظمه،
ً إلى الخلف يوماً بعد يوم ،حتى يغدو
وفي هذا لفت نظر لولئك الذين يدندنون حول )شرك
القصور( ،مع أنهم أقرب إلى التورط في ذلك ،ذلك بأنهم
وا الحاكم المنشود هالة العصمة التي ل تكون لغير نبي،أعط ْ
ولربطهم النجاة في الدارين به ،مع قيام الدلة الواقعية على
خلف ذلك ،عصمنا الله وإياهم من اتباع الهوى.
وحتى ل يساء الفهم ويهمش دور الحاكم بالكلية فنقع في
انحراف في الطرف الخر ،وحتى ل نغفل حدود دوائر
المسؤولية فيختلط بعضها ببعض فيتقاعس الحاكم عن
الواجبات المناطة به ويلقي بالمسؤولية على عاتق الرعية،
وكذلك حتى ل تلقي الرعية بمسؤولياتها وواجباتها على عاتق
الحاكم ،بإحدى الحجج السابقة التي مر مناقشتها ،ل بد لك أخي
القارىء أن تستذكر ما مر معك قريباً بهذا الخصوص.
وبالضافة إلى ذلك أقول :إن الحاكم وحاشيته الصالحة،
تكون سيطرتهم على الساحة المكشوفة بقدر قوة أفراد
الحاشية ،والجماعات التي خلف هذه الحاشية تدعمها ،فكلما
ضعف إيمانهم وخارت عزائمهم ،ونخرت فيهم أسباب الفساد
الخلقية المنافية للعدل والصدق والمانة من اعتبار
المحسوبيات وقبول الرشاوى والوصولية ،أدى ذلك إلى ضعف
واضح في الجهاز الحكومي ،وبالتالي في تطبيق الحكام
والقوانين مما ينعكس سلباً على سمعة الدولة والنظام الحاكم.
فيجد كل صاحب غرض ما يريد في تأليب غثاء الناس ضدها،
مما يعين المتربصين من أعدائنا أمثال الشتراكيين على تحقيق
أطماعهم وإسقاط أنظمتنا السلمية المعارضة والمعادية
للشتراكية .وبهذا المعنى يكون البعض منا قد سعى مع
حسن النية في جلب المفاسد أو تكثيرها وهو ل
يعلم.
وكلما قوي اليمان في أفراد الحاشية ،كانت فاعليتهم
في تطبيق الحكام ومنع ظهور المنكرات أعظم ،فالقضية إذن
نسبية .ومن جانب آخر إذا كان المنكر مما يقع في الساحة
المستورة ،فكيف للحاكم وحاشيته الوصول إليه ومنعه؟
قَرُبوا ْ
ول َ ت َ ْ
وأضرب مثل لتوضيح المر ،قال تعالىَ ) :
سِبيل ً] السراء.[32:
ساء َو َ
ة َ ح َ
ش ً ن َ
فا ِ ه َ
كا َ الّزَنى إ ِن ّ ُ
76
ولمنع وقوع الزنا في المجتمع ل بد من محاربته ومراقبته
في كل مكان .فعلى الساحة المكشوفة ,يستطيع الحاكم
ببطانته الصالحة إغلق دور الزنا المباشر ,وكل ما يؤدي إلى
وقوع الزنا ,مثل حفلت الرقص العامة ,وبرك السباحة العامة,
ومخالفات الشواطئ المختلطة ,ورياضة النساء التي تتكشف
ن ،من تزلج وألعاب القوى والسباحة والرقص في فيها عوراته ّ
الماء ،ومسابقات ملكات الجمال وغيرها الكثير.
كما يستطيع الحاكم ببطانته الصالحة أن يمنع جميع
مةمظاهر الختلط المحرم في الساحات والماكن العا ّ
مة ,وكذلك أن يحد ّ من مظاهروالجامعات والمواصلت العا ّ
السفور والعريّ المنتشر في الشوارع ,والسينما والصور
الفاضحة ,وأن يراقب ما يجوز وما ل يجوز نشره من مطبوعات
ومنشورات وصحف ومجلت ،وما شاكل ذلك من أمور.
أما على الساحة المستورة فإن دور الحاكم وبطانته
الصالحة ينتهي ليبدأ دور أصحاب المسؤوليات الخرى من آباء
وأمهات ومربين وكل من له علقة بالمنكر ،أي :إن الحاكم ل
يستطيع منع الزنا في البيوت المستورة ,ول الختلط المحرم
ول المنكرات في السر .كما أنه ل يفعل شيئا ً لما بجري من
مخالفات ومحرمات داخل المؤسسات الخاصة ،والمكاتب ،ول
داخل سيارات الجرة الخاصة والعامة ،ول التعري بين القارب
ومع الصحاب ,وما يجري داخل البيوت من منكرات العراس،
ول يستطيع كذلك أن يمنع ما تعرضه قنوات الدول الخرى غير
الملتزمة الفضائية وغير الفضائية على شاشات التلفاز
والنترنت ،ول ما يجري تبادله كذلك من مخالفات وصور
شاّبات في أجهزة الهواتف النقالة .ولفاضحة بين الشباب وال ّ
يستطيع أن يتتبع جميع الماكن والشوارع التي تظهر فيه النساء
الكاسيات العاريات وخاصة ما يجري في القرى والرياف بعيدا ً
عن أعين السلطة.
وهنا تجدر الملحظة بأنه ،أينما غاب الرقيب انتهكت
المحرمات ،حتى لو فرضت القوانين الرادعة لذلك ،خصوصا ً
في مجتمع منهارٍ أخلقيا ً وسلوكيًا ،لذا أكد السلم على مراقبة
الله تعالى في السر والعلن.
77
فكلما ضعف الجهاز التنفيذي) (93عند الحاكم ومراقبته لله
تعالى انتشرت مظاهر المحرمات لضعف المتابعة ،بل يؤدي
إلى وقوع هذا الجهاز فيما حرم الله أو خالف القانون.
وعندنا في الردن قانون يمنع التدخين في المكاتب
مة ,ويقضي بدفع غرامة مالّية على كل مخالف، والماكن العا ّ
ورغم التأكيد المستمر عليه من الحكومة ,إل أننا لم نر لهذا
القانون أثرًا ,لنتهاكه من قبل الكبير والصغير ,من داخل الجهاز
التنفيذي أو من خارجه ,فغدا حبرا ً على ورق ،وذلك بسبب
غياب البطانة الصالحة ،بل غياب البطانة الصالحة المؤثرة.
وعليه ،يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية
ورفع ظلمهم لنفسهم والنشغال بذلك ،بالمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ،والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه.
درجات التغيير ومراتبه
78
-1رفع نسبة الخير في المجتمع ,وذلك بزيادة الخير من
درجة إلى أخرى ـ أي من درجة الكمال إلى الكمل ـ.
-2التقليل من نسبة الشر في المجتمع من الدرجة السـوأ،
إلى الدرجة القــل ســوءًا.
وتحقيقا ً للمعاني السابقة أ ّ
صل أهل الفقه قواعد أصولّية,
منها قاعدة))ترجيح خير الخيرين ،ودفع شر الشرين(( ،وهذا باب
عظيم من أبواب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ,إذ بالعمل
به تتنّزل رحمة الله تعالى على العباد وينجون من عذابه.
يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى:
))فل يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ول دفع أخف
الضررين بتحصيل أعظم الضررين ،فإن الشريعة جاءت
بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب
المكان ،ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا
جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا ً(().(94
ويقول:
))إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها
وتعطيل المفاسد وتقليلها ،والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت
أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما(().(95
ور الرسم التالي:
ولتوضيح المر ,علينا أن نتص ّ
79
شكل)(1
اتجاه موقف اتجاه
سلبي محايد ايجابي
)شر )خير
سلبي
اتجاه موقف إيجابي
محايد اتجاه
80
-2عمل باللسان :وتشمل الدرجة السابقة ,ويضاف إليها
التعبير عن التعاطف مع السلم باللسان ,كأن يقول:
السلم دين الحق وهكذا.
-3عمل بالركان :وتشمل الدرجات السابقة وإقامة أركان
السلم في النفس )صلة ,صوم(...
-4بذل النفس والمال ,وتشمل الدرجات السابقة جميعًا،
ويضاف إليها بذل المال والنفس دفاعا ً عن السلم والدعوة
إليه.
ج -التجاه إلى اليسار ,ويمثل بأربع درجات:
-1عمل القلب بالكفر ,ويشمل ) قول القلب ،أي تكذيبه،
وعمل القلب ،أي عدم الخضوع والنقياد( وهو حد الكفر
الدنى.
-2عمل باللسان ,ويشمل الدرجة السابقة ويضاف إليها
استعمال اللسان في الصد عن السلم ,كأن يقول :السلم
دين رجعي وباطل ،أو يسخر من العلماء.
-3عمل بالركان ,ويشمل الدرجات السابقة ،ويضاف إليها
ترك الواجبات ،وفعل المحرمات.
-4بذل النفس والمال ,ويشمل الدرجات السابقة ويضاف
إليها بذل المال والنفس في محاربة السلم.
درجات المر بالمعروف:
درجات اليمان ,ويمثلها الدرجات من موجب ) (1+إلى
موجب) ,(4+أدناها الدرجة الولى )عمل القلب( وأعلها
الرابعة بذل النفس والمال ,فلو استطاع أحد الدعاة أن ينقل
شخصا ً من الدرجة الولى)عمل القلب :أي تصديقه وخضوعه(،
إلى الدرجة الثانية )عمل اللسان :أي التعاطف مع السلم
بالقول( لكانت نقلة في التجاه اليجابي ،فكيف لو نقله إلى
الدرجتين الثالثة أو الرابعة؟.
وهكذا لو استطاع أن ينقل شخصا ً من الدرجة الثالثة إلى
الرابعة أو من الثانية إلى الثالثة ,إذن فكل نقلة باتجاه اليمين
تعتبر نقلة إيجابية ،وبهذا العمل نكون قد طبقنا قاعدة تحصيل
81
المصالح وتكميلها ،أو ترجيح خير الخيرين .ونكون قد والينا
المؤمنين بقدر درجة إيمانهم وبذلهم للسلم.
ومن المعلوم أن النتقال ما بين الدرجات ) (1+و)+
،(4ل يلحظه البعض من الناس ،وخاصة ما بين الدرجة والتي
تليها مباشرة ،مع انه باب من أبواب الدعوة ،إذ به يزداد
المعروف في الرض تدريجيًا ،وهذا مقصود لذاته.
درجات النهي عن المنكر:
درجات الكفر ,ويمثلها الدرجات من ) (1-إلى ) (4-أدناها
الدرجة ) :(1-درجة )كفر القلب :أي تكذيبه ،وعدم الخضوع
والنقياد( وأعلها )) :(4-بذل النفس والمال في الصد عن
السلم( .فلو استطاع أحد الدعاة أن ينقل شخصا ً من الدرجة
) (4-درجة :بذل المال والنفس في محاربة السلم ،إلى
الدرجــة ) :(3-التي يقوم فيها الشخص بالمنكرات ,لكانت نقلة
في التجاه اليجابي ،فكيف لو نقله من الدرجة ) (4-الـى ):(1-
درجة )كفر القلب(؟.
إذا ً بهذا العمل وعلى الرغم من أننا لم نوفق بإخراج
الشخص من الكفر إلى اليمان ،نكون قد عملنا بقاعدة تعطيل
المفاسد وتقليلها ،أو دفع شر الشرين .وعادينا الكافرين بقدر
درجة كفرهم وصدهم عن دين السلم ،فكلما ازدادوا بموقفهم
دواص ّ
و َ ن كَ َ
فُروا َ سوءًا ،زيد عذابهم .قال تعالى) :ال ّ ِ
ذي َ
ما َ
كاُنوا ب بِ َ ع َ
ذا ِ وقَ ال َ ذاًبا َ
ف ْ ع َ
م َ
ه ْ
زدَْنا ُ ل الل ّ ِ
ه ِ سِبي ِ
ن َ ع ْ َ
ن] النحل .[88:ومن المعلوم أن النتقال ما بين دو َس ُ
ف ِ يُ ْ
الدرجـات ) (4-و) ،(1-ل يلحظه كثير من الناس ،وخاصة ما
بين الدرجة والتي تليها مباشرة ،مع أنه باب من أبواب الدعوة،
إذ به ينحسر الفساد في الرض تدريجيا ،،وهذا مقصود لذاته
كذلك .فلو أن مسلما ، ،قام بعمل كانت نتيجته بقاء الكفر،
ولكن انتقل موقف أهله من ) (1-الى ) ،(2-أو من ) (3-الــى
82
) ،(4-كان عمله محرمًا .فكيف به لو قام بعمل أخرج به البعض
من دائرة السلم إلى الكفر ،وهو يظن نفسه محسنًا؟
ومما يجدر التنبيه إليه :أن البعض ممن قل علمهم بهذا،
قد يصنف العلماء العاملين بهذا المنهج الصولي بالعمالة ،إذا
أفتوا بدفع الشر الكبر بالشر الصغر ،إذا لم يندفعا جميعًا،
ومثاله ،انظر الحاشية).(97
ولتوضيح المر أكثر نضرب مثلً بما حدث في صلح
الحديبية ،ولماذا سمي بالفتح المبين ؟
لقد بدأت دعوة رسول الله × بمفرده ،ومع الزمن
والصبر على أذى المشركين ،بدأ الناس بالنتقال من درجات
الكفر}) {(1-)-(4-إلى درجات اليمان }) ،{(4+)-(1+ولقد
كانوا متفاوتين في موقفهم الولي من السلم حين دُعوا إليه،
فلم يكونوا كلهم في الدرجة ) (4-المعادية للسلم بالمال
والنفس ،كموقف أبي جهل لعنه الله ،ومع استمرار الدعوة أخذ
المشركون بالنتقال من درجة إلى التي تليها باتجاه السلم،
ومنهم من دخل فيه وبدأ بالترقي في درجات السلم
})+موجب +)-(1موجب ،{(4إل أن الدرجة الرابعة )+موجب
(4في العهد المكي ،كانت ببذل المال في سبيل الدعوة فقط،
ولم يكن قد فرض الجهاد بعد.
وبعد الهجرة إلى المدينة ،قويت شوكة المسلمين،
وقاموا بالعديد من الغزوات ،وعلى رأسها )بدر الكبرى( .وفي
السنة السادسة من الهجرة وقّعَ الرسول صلى الله عليه وسلم
صلح الحديبية مع قريش ،وأخذ بنشر الدعوة خارج المدينة
المنورة مستغلً فترة وضع القتال لمدة عشر سنين ،فازداد عدد
المسلمين ،فدخل فيه في غضون سنتين أكثر ممن أسلموا في
تسعة عشر عاما ً مضت ،وممن أسلم في هذه الفترة خالد بن
الوليد رضي الله عنه.
83
يقول ابن كثير في تفسير أول سورة الفتح:
مبينا ً( أيَ :بيّ ً
نا ظاهرًا، فتحنا لك فتحا ً ُ
))فقوله) :إنا َ
والمراد به صلح الحديبية .فإنه حصل بسببه خير جزيل ،وآمن
الناس واجتمع بعضهم ببعض وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر
العلم النافع واليمان((
84
يراه الناس ،موطن ذل وهزيمة ،فمن كان يتصور أن في هاتين
السنتين سيدخل في السلم من المشركين أكثر من عدد من
وجيها آخر
ً أسلم منذ تسعة عشر عاما ً مضت؟ فكان ذلك سبباً
لفتح مكة .ألم يرتجف أبو سفيان من عدد جيش فتح مكة
المقدر بعشرة آلف مقاتل من المسلمين؟
لذا على المسلين أن يحرصوا على كل أسلوب
حسن يقرب المشركين من السلم ولو خطوة ،وأن
يتجنبوا كل ما يبعدهم عن السلم ولو خطوة.
فهل ما يقوم به بعض الجهلة باسم السلم
وتحت يافطات إسلمية من أعمال إرهابية وصلت إلى
حد ذبح البرياء 98والتفاخر بذلك ونشره مصوراً في
وسائل العلم ،يقرب غير المسلمين من السلم،
أم أن هذه العمال ستشكك حديثي العهد بهذا الدين،
فضلً عن أن يدخلوا فيه؟
ن لَ ْ
م ذي َن ال ّ ِع ْ ه َكمُ الل ّ ُ ها ُ ألم يقل الله تعالىَ) :ل ي َن ْ َ
خرجوك ُم من ديارك ُ َ
ن
مأ ْ ْ ِ ْ ِ َ ِ ْ م يُ ْ ِ ُ ول َ ْ
ن َ دي ِ
في ال ّم ِ قات ُِلوك ُ ْ
يُ َ
ن
طي َس ِ ق ِ ب ال ْ ُ
م ْ ح ّ ن الل ّ َ
ه يُ ِ م إِ ّ ه ْ َ
سطوا إ ِلي ْ ِ
ق ِ ُ
وت ُ ْ
م َ ه ْ
ت َب َّرو ُ
]الممتحنة[8:؟
ألم تحمل الية ردا ً مسبقا ً على تصورات البعض الخاطئة
في هذه اليام ،ممن يعتقدون أن مجرد معاملة من لم يقاتلوننا
في ديننا من غير المسلمين ،بالبر والحسان ي ُعَد ّ من باب
الموالة لهم؟
بناء على ما سبق ذكره ،فإنه يحسن أن نبين العلقة
الطردية بين العمال الصالحة من جهة ودرجة التغيير إلى
الحسن في المجتمع من جهة أخرى .وكذلك العلقة العكسية
القائمة بين العمال السيئة من جهة ،ودرجة التغيير إلى
الحسن في المجتمع من جهة أخرى.
فقد مضت سنة الله تعالى أن تغيير النفس في
م فيه وتظهر ،وتكون المجتمع بما يرضي الله تعالى بنسبة تع ّ
هي الغلب ،سيؤدي ذلك بإذن الله وتوفيقه إلى تغيير ما بالقوم
98ومن صور أعمالهم المنحرفة تكفيرهم لمن مارس حقه في
النتخابات في العراق ،ومن ثم قتلهم في مراكز القتراع ،إذ قاموا
يوم القتراع بـ ) (13عملية قتل فيها العشرات من المقترعين ،كما
تناقلته وسائل العلم.
85
إلى الحسن .والتغيير الكلي المطلوب ،هو محصلة
إيجابية لتغيير جميع ما في النفس البشرية من
الفكار والمعتقدات التي تبنى عليها العمال
والقوال.
وعليه فإنه يلزم كل فرد من أفراد المجتمع الحرص على
ما يلي:
-1أن يتعرف على درجة تعاطفه مع السلم ،هل هي مؤيدة
بالقلب فقط ،أم أنها بالقلب واللسان ،أم أنها أرفع من
ذلك.
-2المبادرة بنقل نفسه من الدرجة التي يشغلها حاليًا ،إلى
الدرجة التي تليها ،والتي تليها ،وهكذا ،لقوله تعالى:
هاض َعْر ُ
ة َجن ّ ٍ
و َ
م َن َرب ّك ُ ْ م ْة ِ فَر ٍ غ ِ عوا إ َِلى َ
م ْ ر ُ
سا ِو َ ) َ
ُ َ
ن] آل عمران: قي َ ت ل ِل ْ ُ
مت ّ ِ عد ّ ْضأ ِ واْلْر ُت َوا ُما َس َال ّ
.[133وإن لم يستطع أن يترقى من درجة إلى أخرى ،عليه
أن يترقى في الدرجة الواحدة ،وذلك لتفاوت أهل التوحيد
في الدرجة الواحدة ،فعلى سبيل المثال ،يتفاوت المصلون
في أجرهم بقدر حسن إقامتهم للصلة :أركانها ،وطهورها،
وخشوعها ،ونوافلها ،وموضعها .وكذلك يتفاوتون في
الصدقات ،وغيره.
-3أن يدعوا المسلمين إلى النتقال من درجة إلى أخرى
تليها في اليجابية ،ليزداد اليمان في المجتمع ،فتقترب
محصلته من الدرجة التي يرضاها الله تعالى لستحقاق
التغيير اليجابي المنشود في القوم.
-4على المسلم أن يشعر أنه بترقية أي فرد من أفراد
المجتمع ،من درجة إيجابية إلى أخرى ،يزداد اليمان في
المجتمع ،فيقترب من الدرجة التي يرضاها الله تعالى
لستحقاق التغيير اليجابي المنشود في القوم .فإن أي
ل شأنه في نظر فاعله ،يعد ّ زيادة في المعروف مهما ق ّ
بركة ،قال ×)) :ل تحقرن من المعروف شيئًا ،ولو أن
تلقى أخاك بوجه طليق(( ]رواه مسلم[.
-5على المسلم العتراف ،بأن تراجعه ،أو أي فرد من أفراد
المجتمع ،من درجة إلى التي تليها في التجاه السلبي،
سيؤدي إلى نقصان درجة اليمان في المجتمع ،وبالتالي
نقصان معدله ،أي أنه بهذا التراجع يساهم بالبتعاد عن
86
الدرجة التي يرضاها الله تعالى لستحقاق التغيير اليجابي
المنشود في القوم ،وبالتالي يساهم في الهزيمة التي
ل صلته ،أو صائم ٍ ستلحق بالمسلمين .أي :إذا ترك مص ٍ
ة
ة دعوته ،وأمثال ذلك ،أو ارتكب معصي ًصومه ،أو داعي ٌ
صغرت أم كبرت ،فإن هذا التراجع عن أداء واجب أو الجرأة
على فعل محرم ،يؤدي إلى ما ذكرنا .وبهذا سندرك المعاني
العظيمة ،والعبر في قوله ×)) :مثل القائم في حدود
الله والواقع فيها ،كمثل قوم استهموا على
سفينة ،فصار بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها.
فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا
على من فوقهم فقالوا :لو أنا خرقنا في نصيبنا
خرقا ً ولم نؤذ من فوقنا ،فإن تركوهم وما أرادوا
هلكوا جميعا ً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا
جميعا ً((] .رواه البخاري والترمذي[.
-6فإنه من الخير ،أن يقوم الدعاة والوعاظ والعلماء بنشر
هذه المفاهيم في الناس ،ليقبلوا على الخير أو يزدادوا بها
خيرا ،وليجتنبوا الشر ،أو ينقصوا منه ما استطاعوا إلى ذلك
سبي ً
ل.
قواعد يجب مراعاتها عند التغيير:
-1التدرج في تطبيق السلم العام حسب الحال
والقدرة:
لقد اتسم التشريع السلمي بالتدرج ،سواء كان ذلك في
العقائد أم في الحكام ،ففي الوقت الذي كان فيه التركيز على
العقائد في المراحل الولى من الدعوة في مكة المكرمة ،تأخر
فرض كثير من الحكام بعد الهجرة إلى المدينة ،حتى إن الكفار
ضاقوا بهذه السنة الكونية ،وطالبوا بإنزال القرآن جملة واحدة.
عل َي ْ ِ
ه ل َ وَل ن ُّز َفُروا ل َ ْ ن كَ َ ذي َ ل ال ّ ِقا َو َ
قال تعالىَ ) :
وَرت ّل َْناهُ
ك َ ؤادَ َ ف َه ُ حدَةً ك َذَل ِ َ
ك ل ِن ُث َب ّ َ
ت بِ ِ وا ِ مل َ ً
ة َ ج ْ
ن ُ ال ْ ُ
قْرآ ُ
رِتيًل] الفرقان .[32:ثم أكد القرآن الكريم على هذه السنة تَ ْ
الكونية ،سنة التدرج في تطبيق السلم في قوله تعالى:
ث عَلى ُ
مك ْ ٍ س َ قَرأ َهُ َ َ
قَناهُ ل ِت َ ْ
فَر ْقْرآنا ً َو ُ) َ
على الّنا ِ
زيل ً] السراء.[106: ْ
ون َّزلَناهُ َتن َِ
87
وهذا التدرج الذي نعنيه يكون في التطبيق وليس في
التشريع .فقد اكتمل الدين والحمد لله .ول يصار إلى تطبيق
هذه السنة إل في المجتمعات التي قد غلب الجهل في الدين
على أفرادها ،أو جديدة العهد باللتزام بالسلم ،أو جديدة العهد
مُنوا قل ل ّ ْ
م تُ ْ
ؤ ِ مّنا ُ
بآ َ ت اْل َ ْ
عَرا ُ قال َ ِ
بالكفر ،قال تعالىَ ) :
َ
فين ِ ما ُ لي َلا ِْ خ ِما ي َدْ ُ ول َ ّمَنا َسل َ ْقوُلوا أ ْ كن ُ ول َ ِ َ
ن
م ْ ُ َ
ه ل ي َل ِت ْكم ّ َ
سول ُ وَر ُه َ ّ
عوا الل َ طي ُ وِإن ت ُ ِ م َ ُ
قلوب ِك ْ ُ ُ
م] الحجرات.[14: حي ٌ فوٌر ّر ِ غ ُ ه َ ّ
ن الل َ شي ًْئا إ ِ ّ
م َ مال ِك ُ ْع َ أَ ْ
لذا فقد بدأ السلم بغرس العقيدة وتقوية اليمان في
النفوس أول ً لتهيئتها لقبول الحكام التي أخذت بالنزول فيما بعد
تترى .ففرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة ،أما
الحج ))ففرض في السنة السادسة على قول جمهور العلماء,
وفي التاسعة أو العاشرة على قول ابن القيم(() .(99أما النهي
عن المحرمات ،فحرمت الخمر ،وفرضت الحدود في المدينة
المنورة ،وهكذا.
ومن الدلة على اعتبار سنة التدرج في التغيير:
)أ( أن السلم لم يمنع الرق دفعة واحدة ،ولم يحسم أمره
سريعًا ،وذلك لحاجة المجتمعات النسانية إليه ،ولكنه قام
بخطوات مع الزمن أدت إلى تجفيفه وتطهيره من المجتمع.
والخشية تساورني من أن بعض الجهال بمقاصد الشريعة
السلمية سيعيدون العبودية باسم تطبيق أحكام السلم،
ضاربين عرض الحائط بما سيترتب على خطوتهم هذه من
الساءة إلى سمعة السلم في واقعنا المعاصر الذي ينتقص
فيه العالم العبودية وعصورها الجاهلية ،فيؤدي ذلك إلى إغلق
قلوب غير المسلمين أمام المد السلمي الزاحف ،وتشكك
قريبي العهد بالكفر منهم فيه.
سلملذا فتطبيق السلم دفعة واحدة على مجتمع لم ي ُ ْ
أمره لله تعالى ينطوي على مخاطر كثيرة ،وهو ضد سنة الله
تعالى في التغيير ،ويؤيد هذا القاعدة الفقهية المعروفة :أنه
يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة .وقد حاولت حركة طالبان
في أفغانستان فرض أحكام السلم دفعة واحدة ،كما ينادي
بذلك حزب التحرير ،فكّرهت الدنيا في السلم وفي المسلمين،
الحج. ))99فقه السنة(( ،لسيد سابق ،كتاب
88
وكان نهاية أمرها خسرانا ً مبينًا ،وأدى ذلك إلى زوالها في وقت
مبكر .ولو أنها اتخذت أسلوب التدرج والحكمة الحسنة في
المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،لكان أقرب إلى مراعاة
مقاصد الشريعة السمحة ،ولكن ما هكذا يا سعد تورد البل!!
)ب( التدرج في تحريم الخمر على ثلث مراحل:
الولى :بين فيها القرآن الكريم أن من نعم الله تعالى
على العباد ،ما سخر لهم من ثمرات النخيل والعناب ،وما
كر ومن رزق حسن ،كما في قوله تعالى: س َ يتخذون منه من َ
سك ًَرا َ
ه َ من ْ ُ
ن ِ ذو َ خ ُ ب ت َت ّ ِعَنا ِ وال ْ ل َ خي ِ
ت الن ّ ِ مَرا ِمن ث َ َ ) َ
و ِ
ن] النحل:قُلو َ ع ِ
وم ٍ ي َ ْ ق ْ ة لّ َ
ك لي َ ً في ذَل ِ َ ن ِ سًنا إ ِ ّ
ح َ رْز ً
قا َ و ِ
َ
سكَر ليس َ .[67فقد لفت القرآن أنظار المسلمين ،إلى أن ال ّ
من الرزق الحسن.
الثانية :أمرهم بعد ذلك بأن ل يقربوا الصلة وهم
مُنوا ْ ل َ َ
نآ َ ها ال ّ ِ
ذي َ سكارى ،كما في قوله تعالى َ) :يا أي ّ َ
قربوا ْ الصل َةَ َ
موا ْ َ
ما عل َ ُ
ى تَ ْ
حت ّ َ س َ
كاَرى َ م ُ
وأنت ُ ْ
َ ّ تَ ْ َ ُ
قوُلو َ
ن] النساء.[43: تَ ُ
َ
هاالثالثة :نزل التحريم كما في قوله تعالىَ) :يا أي ّ َ
َ
بصا ُ والن َ سُر َ وال ْ َ
مي ْ ِ مُر َخ ْما ال ْ َ
مُنوا ْ إ ِن ّ َ
نآ َ ذي َ ال ّ ِ
َ
عل ّك ُ ْ
م جت َن ُِبوهُ ل َ َفا ْ ن َ
طا ِشي ْ َل ال ّ م ِ
ع َن َ م ْ س ّج ٌ ر ْ
م ِ والْزل َ ُ َ
ن] المائدة.[90: حو َ ْ
ت ُفل ِ ُ
-2تغير الفتوى بحسب تغير الزمنة والمكنة
والحوال:
يقول ابن القيم تحت عنوان) :فصل في تغير الفتوى
واختلفها بحسب تغير الزمنة والمكنة والحوال والنيات
والعوائد(:
))هذا فصل عظيم النفع جدًا ،وقع بسبب الجهل به غلط
عظيم على الشريعة ،أوجب من الحرج والمشقة ،وتكليف ما ل
سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب
المصالح ل تأتي به ،فإن الشريعة مبناها وأساسها على
الحكم ،ومصالح العباد ،في المعاش والمعاد ،وهي
عدل كلها ،ورحمة كلها ،ومصالح كلها ،وحكمة كلها،
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ،وعن الرحمة إلى
89
ضدها ،وعن المصلحة إلى المفسدة ،وعن الحكمة إلى العبث،
فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل .فالشريعة عدل
الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته
الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دللة
وأصدقها ...
ونحن نذكر ـ والقول لبن القيم ـ تفصيل ما أجملناه في
هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة((.
ثم يتابع ابن القيم القول تحت عنوان) :النكار له
شروط(:
المثال الول:
أن النبي × شرع لمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل
بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله ،فإذا كان إنكار
المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه ل
يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله ،وهذا كالنكار
على الملوك والولة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة
إلى آخر الدهر ،وقد استأذن الصحابة رسول الله × في قتال
المراء الذين يؤخرون الصلة عن وقتها ،وقالوا :أفل نقاتلهم؟
فقال)) :ل ،ما أقاموا الصلة(( وقال)) :من رأى من أميره
ما يكرهه فليصبر ،ول ينزعن يدا ً من طاعته(( .ومن
تأمل ما جرى على السلم في الفتن الكبار والصغار،
رآها من إضاعة هذا الصل ،وعدم الصبر على منكر
فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه ،فقد كان رسول
الله × يرى بمكة أكبر المنكرات ،ول يستطيع تغييرها ،بل لما
فتح الله مكة وصارت دار إسلم ،عزم على تغيير البيت ورده
على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك ـ مع قدرته عليه ـ خشية
وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب
عهدهم بالسلم وكونهم حديثي عهد بكفر .ولهذا لم يأذن في
النكار على المراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم
منه كما وجد سواء.
أربع درجات للنكار:
فإنكار المنكر أربع درجات:
الولى :أن يزول ويخلفه ضده.
90
الثانية :أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة :أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة :أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الوليان مشروعتان ،والثالثة موضع اجتهاد،
والرابعة محرمة.
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج ،كان
إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إل إذا نقلتهم منه إلى
ما هو أحب إلى الله ورسوله ،كرمي النشاب وسباق الخيل
ونحو ذلك .وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو
سماع مكاء وتصدية ،فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو
المراد ،وإل كان تركهم على ذلك خيرا ً من أن تفرغهم لما هو
أعظم من ذلك ،فكان ما هم فيه شاغل ً لهم عن ذلك ،وكما إذا
كان الرجل مشتغل ً بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها
انتقاله إلى كتب البدع والضلل والسحر ،فدعه وكتبه الولى
وهذا باب واسع.
وسمعت شيخ السلم ابن تيمية قدس الله روحه ونور
ضريحه يقول :مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم
منهم يشربون الخمر ،فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه
وقلت له :إنما حرم الله الخمر لنها تصد عن ذكر الله وعن
الصلة ،وهؤلء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية
وأخذ الموال فدعهم(() ،(100انتهى.
ثم ذكر ابن القيم فصول ً عديدة مستدل ً بها على تغير
الفتوى منها) :فصل :النهي عن قطع اليدي في الغزو(،و)فصل:
سقوط حد السرقة في المجاعة(.
المجالس النيابية الديموقراطية وتغير الفتوى:
ومن المثلة المعاصرة على تغير الفتوى بتغير المكان
والزمان والحوال ،حكم المشاركة في المجالس النيابية.
فالحكم فيها على وجوه:
• عدم جواز ،بل تحريم المطالبة بالمجالس النيابية
الديموقراطية في الدول السلمية التي تكون فيها كلمة
91
الله هي العليا ،وكلمة الذين كفروا السفلى ،والتي تحفظ
فيها الضرورات الخمس وتصان ،مثل المملكة العربية
السعودية ،لما يترتب على إقرار الحكم النيابي فيها ،جعل
كلمة الذين كفروا مساوية لكلمة الله تعالى ،بحجة
المساواة في الحريات العامة ،وخصوصا ً حرية التعبير عن
الرأي.
ولكن لو قامت الدولة بإقرار هذا النظام الديموقراطي
تحت ضغط الواقع والجماهير ـ كما حصل في الكويت
والردن ـ وترتب على عدم الستجابة لهذه المطالب
مفسدة أعظم من وجود مفسدة الحكم الديموقراطي ،أو
فرض هذا النظام الديموقراطي بالقوة -كما حصل في
العراق -فإنه ل يجوز للمسلمين ترك المشاركة في الحكم
الديموقراطي بحجة كفره ،لما في هذا الترك من ترك
لمقاصد الشريعة ،وفقه الموازنات ،وإخلء مواقع صنع
القرار لغير المسلمين ،وهذا يؤدي إلى الضرار بالضرورات
الخمس ،ومصالح السلم والمسلمين عامة في هذا البلد.
• جواز المطالبة بالمجالس النيابية الديموقراطية في
الدول السلمية التي تكون فيها كلمة الذين كفروا العليا،
ول تحفظ فيها الضرورات الخمس ول تصان ،مثل سوريا،
والجزائر ،وتونس ،وليبيا ،والعراق ـ قبل سقوط النظام
الشتراكي ـ وسائر الدول الشتراكية عمومًا .لما يترتب
على إقرار الحكم النيابي فيها ،من رفع القيود على
الضرورات الخمس ،وبالتالي رفع كلمة الله تعالى في
المجتمع من خلل إتاحة الفرصة للدعوة إلى الله تعالى،
ول تقدح عملية والمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المشاركة في المجالس النيابية الديموقراطية في براءة
المشاركين من الشرك وأهله .وقد ارتكب أهل السنة في
العراق أبشع جريمة في التاريخ الحديث -بعد سقوط الحكم
الشتراكي في العراق -حين تركوا مراكز صنع القرار للد
أعدائهم من الشيوعيين والشيعة والشتراكيين ،بحجج
)(101
، وأوهام ،ل علقة لها بمقاصد الشريعة ،وفقه الموازنات
فأدى ذلك إلى تمكين هؤلء العداء من ديننا ورقابنا وأموالنا
101فقد أفتى السيستاني الشيعة بالنار لكل من ل يشارك في النتخابات ،في حين
أفتى الزرقاوي ـ وليس من أهل الفتيا ـ بالنار والتفجير لكل من يشارك من أهل
السنة.
92
وأعراضنا حين تركوا لهم معظم مؤسسات الدولة المدنية
والعسكرية والمنية ،ومعظم مراكز النفوذ في السلطات
التشريعية والتنفيذية والقضائية ،وخاصة ،أن أهل السنة في
العراق ،بما فيهم الكراد ،يشكلون أغلبية راجحة.
كما أنه من أعجب العجب أن يترفع ،أو يزهد المسلمون،
في استلم الحكم في الدولة وإدارة شؤونها بعد تمكنهم
منها-كما حصل في مصر بعد النقلب على حكم الملك
فاروق -وتركها لجمال عبد الناصر الشتراكي وزبانيته،
ليفسد في أرض مصر وأهلها كما يشاء.
-3مراعاة الضرورات:
الضرورات هي غير المصالح الضرورية للحياة .وهي
تعني في الصطلح)) :بلوغ المرء حدا ً إذا لم يتناول الممنوع
هلك أو قارب((). (102
وقد أولت الشريعة السلمية قاعدة الضرورات أهمية
خاصة ،استنبطها الفقهاء من الدلة الفقهية التفصيلية ،منها:
قاعدة )الضرورات تبيح المحظورات( ،وقاعدة )الضرورات تقدر
بقدرها( .وهذه القواعد معلومة لعامة طلبة العلم ،ومشتهرة
بينهم .وهم يحسنون استعمالها في الحكام المتعلقة
بالضرورات الفردية فقط ،خاصة في أبواب الطعمة والشربة.
علما ً أن للفراد ضروراتهم ،وللمجتمع ضروراته .يقول الدكتور
يوسف القرضاوي:
))والضرورات الشرعية ليست كلها فردية ،كما قد يتوهم.
فللمجتمع ضروراته ،كما للفرد ضروراته ،فهناك ضرورات
اقتصادية ،وسياسية ،وعسكرية ،واجتماعية ،لها أحكامها
الستثنائية التي توجبها الشريعة ،مراعاة لمصالح البشر ،التي
هي أساس التشريع السلمي كله(() ،(103انتهى.
لعل البعض ل يعجبه هذا القتباس عن الدكتور
القرضاوي ،بحجة مخالفتنا له في بعض المسائل الفقهية ،أو
لعل هذا البعض من الناس ،سيحذر من قراءة هذا الكتاب أو
سيشهر بكاتبه لجل هذا القتباس .والجواب على ذلك من
وجوه:
))102الشباه والنظائر(() ،ص.(85/
)) ()103السياسة الشرعية(( ) ،ص ،(326ط.1998 ،1/
93
-
دلنا هذا العتراض الذي ليس في محله ،على الزمة التي
يعيشها البعض في فهم فقه السياسة الشرعية ،وسياسة
التعامل مع المخالف .فهؤلء بحاجة ماسة لعلج أمرهم في
هذا الباب بأسرع ما يمكن ،كي ل يتطور المر بهم إلى جعل
المر من باب الولء والبراء الذي يؤدي إلى التدابر
والتباغض والتلعن ،وقد يؤدي ببعض حدثاء السنان ،سفهاء
الحلم إلى التقاتل.
-
ينظر في القتباس هل هو موافق للحق أم مخالف له ،فإن
كان موافقًا ،ففيم العتراض إذن ،وقد اقتبسنا عن أبي
حامد الغزالي من قبل ،وما أدراك ما الغزالي؟ فهو إمام
دها ،ولكن أهل العلم قد شهدوا له بالحجة
قع ّ ُ
م َ
الصوفية و ُ
في علم الصول .والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها
التقطها.
-
أما إذا كان القتباس غير موافق للحق ،فل يصار إلى ترك
جميع أقوال صاحبه لجله .ولو كان الصل ترك جميع أقوال
المخالف لنا في بعض المسائل ،لتركنا جميع أقوال أهل
العلم قاطبة .فما من عالم إل وله من المسائل ما خالف
بعض ما تراه أنت حقًا .فهل يجوز لك لجل ذلك ،ترك جميع
أقوال المام أبي حنيفة ،والمام مالك ،والمام الشافعي،
لعدم تكفيرهم تارك الصلة تكاس ً
ل؟ أو ترك جميع أقوال
المام أحمد لتكفيره تارك الصلة؟ وهل يجوز لمن ل يرى
جواز دخول الوزارات الحكومية والمناصب الرسمية في
الحكومات الطاغوتية أن يترك جميع أقوال ابن تيمية ،بحجة
أنه يرى جواز ذلك؟ وهل يجوز لمن يرى كفر تارك عمل
الجوارح بالكلية ،ترك جميع أقوال الئمة العلم الربعة،
وابن حزم ،وابن تيمية ،وغيرهم ،بحجة أنهم ل يكفرونه؟ ما
لكم كيف تحكمون؟!
كتبه:
عدنان عبد الرحيم الصوص
94
2006 شهر تموز من عام
AdnanSous@Yahoo.Com
079-5928729
95
الفهرس
5..........................................................................................
مقدمات تأصيلية6.....................................................................
تعريف قواعد الفقه السياسي12..............................................................................
أول ً :فقه الواقـــع18.........................................................................................
هجرة المسلمين إلى بلد الحبشة النصرانية52................................:
فهل يستقيم اتهام الصحابة المهاجرين إلى الحبشة النصرانية بالولء
والعمالة لها ،لقبولهم العيش في كنف النصارى وتحت حكمهم؟ إن المر
ليس كذلك ،إنما كانت هجرتهم إلى الحبشة ،من باب ))اختيار أدنى
المفسدتين(( ،فمفسدة قريش )الوثنية( ،أبناء العمومة ،أعظم من
مفسدة الحبشة )النصارى( ،هذه مقاييس الشرع إعمال ً للمصالح ،مع أننا
نسمع من يردد مقولة :أّنا ضد أي عداء كان ضد أي عربي ،نقول :حتى لو
كان اشتراكيا ً كافرًا؟ فعجبا ً لهؤلء!!53............................................
فانطلقا ً من مقصد الشريعة السمى )) :تحصيل المصالح و تكميلها,
وتعطيل المفاسد وتقليلها(( نقول باختصار :علينا أن ل نرفض ،بل نؤيد كل
ما يؤدي إلى تغيير الواقع من الشر إلى شر أقل منه ،فإن ذلك يدفع
باتجاه تقليل الشر في الرض ،وبالتالي يساهم في قرب النصر53..........
96