You are on page 1of 85

1

‫فقه التغيير‬
‫بين‬

‫شرك القبور وشرك القصور‬


‫)منطلق العمل لستئناف الحياة السلمية(‬

‫عدنان بن عبد الرحيم الصوص‬

‫‪2‬‬
3
‫المقدمة‬

‫إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بالله من شرور‬


‫أنفسنا وسيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده الله فل مضل له ومن يضلل فل‬
‫هادي له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك له وأشهد أن‬
‫محمدا ً عبده ورسوله‪.‬‬
‫ن إل ّ‬ ‫ه ول َتموت ُ ّ‬ ‫ق ُتقات ِ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن آمنوا اّتقوا ْ الله َ‬ ‫)يا أّيها الذي َ‬
‫س اّتقوا ْ‬ ‫]آل عمران‪) .[102:‬يا أّيها الّنا ُ‬ ‫ن‪‬‬ ‫مسِلمو َ‬ ‫وأنُتم ّ‬
‫جها‬ ‫َ َ‬ ‫زو‬ ‫منها‬ ‫َ ِ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫خ‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ة‬‫ِ‬ ‫حد‬ ‫ِ‬ ‫وا‬ ‫س‬ ‫نف‬ ‫َ‬ ‫من‬ ‫كم‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫الذي‬ ‫كم‬ ‫رب ّ ُ‬
‫ٍ‬
‫ن‬‫ءلو َ‬ ‫ه الذي َتسا َ‬ ‫كثيرا وِنساءً واّتقوا الل َ‬‫ْ‬ ‫ً‬ ‫رجال ً َ‬ ‫هما ِ‬ ‫من ُ‬ ‫ث ِ‬ ‫وب َ ّ‬
‫كم َرقيبا ً‪] ‬النساء‪) .[1:‬يا أّيها‬ ‫علي ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ه كا َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫مإ ّ‬ ‫ه والْرحا َ‬ ‫ب ِ‬
‫ُ‬
‫سديدا ‪ُ ‬يصِلح لكم‬‫َ‬ ‫ً‬ ‫قول ً َ‬ ‫قولوا َ‬ ‫هو ُ‬ ‫ن آمنوا اّتقوا الل َ‬ ‫الذي َ‬
‫فقد‬ ‫ه َ‬ ‫سول ُ‬ ‫َ‬ ‫ه وَر ُ‬ ‫ع الل َ‬ ‫َ‬ ‫فر لكم ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫من ي ُطِ ِ‬ ‫ذنوب َكم و َ‬ ‫غ ِ‬ ‫أعمالكم وي َ ْ‬
‫عظيما ‪] ‬الحزاب‪.[71-70:‬‬ ‫ً‬ ‫فوزا ً َ‬ ‫فاَز َ‬ ‫َ‬
‫ن الهدي هدي‬ ‫أما بعد‪ ،‬فإن أصدق الحديث كتاب الله‪ ،‬وأحس َ‬
‫ل محدثة‬ ‫محمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وشر المور محدثاتها‪ ،‬وك ّ‬
‫ل ضللة في النار‪ .‬أما بعد‪:‬‬ ‫بدعة‪ ،‬وكل بدعة ضللة‪ ،‬وك ّ‬
‫فإن أهمية العمل الصالح في السلم ‪ -‬عقيدة وشريعة وتزكية‬
‫– لثره اليجابي على حياة الفرد والمجتمع‪ ،‬سواء كان ذلك في الدنيا‬
‫أم في الخرة‪ ،‬ففي معرض الستخلف والتمكين والمن السياسي‪،‬‬
‫ت‬
‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫عدَ الل ّ ُ‬ ‫و َ‬ ‫قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫م‬ ‫ه ْ‬ ‫قب ْل ِ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ف ال ّ ِ‬ ‫خل َ َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ض كَ َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫هم ِ‬ ‫فن ّ ُ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ل َي َ ْ‬
‫د‬
‫ع ِ‬ ‫ن بَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫ولي ُب َدّلن ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ضى ل ُ‬‫َ‬ ‫ذي اْرت َ َ‬ ‫م ال ِ‬‫ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ِدين َ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫نل ُ‬ ‫َ‬ ‫مك ّن َ ّ‬ ‫ول َي ُ َ‬ ‫َ‬
‫د‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ع َ‬ ‫فَر ب َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫ئا‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫بي‬ ‫ِ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫كو‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ش‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫دو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫نا‬ ‫ً‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ه‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫و‬
‫ْ‬ ‫خ‬ ‫َ‬
‫ن‪] ‬النور‪.[55:‬‬ ‫س ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ول َئ ِ َ‬ ‫ك َِ ُ‬ ‫ذَل ِ َ‬
‫قو َ‬ ‫فا ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ك ُ‬ ‫فأ ْ‬
‫وفي معرض المن الجتماعي والفوز والنجاح يوم القيامة‪ ،‬قال‬
‫م ْ‬ ‫ل صال ِحا من ذَك َر أ َ ُ‬ ‫تعالى‪) :‬من َ‬
‫ن‬‫م ٌ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫و ُ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬ ‫و أنَثى َ‬ ‫ٍ ْ‬ ‫م َ َ ً ِ ْ‬ ‫ع ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كاُنوا‬ ‫ما َ‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫ح‬
‫ّ َ َ َ ْ ِ َ ّ ُ ْ ْ َ ْ ِ ْ َ ِ َ‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ر‬ ‫ج‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫ج‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ط‬ ‫ً‬ ‫ة‬ ‫حَيا‬ ‫ه َ‬ ‫حي ِي َن ّ ُ‬ ‫فل َن ُ ْ‬ ‫َ‬
‫مُنوا ْ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قَرى آ َ‬ ‫ه َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫وأ ّ‬ ‫ول َ ْ‬ ‫ن‪] ‬النحل‪ .[97:‬وقال تعالى‪َ ) :‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ع َ‬ ‫يَ ْ‬
‫كن‬ ‫ول َ ِ‬ ‫َ‬ ‫هم ب ََر َ‬ ‫حَنا َ َ‬ ‫قوا ْ ل َ َ‬ ‫وات ّ َ‬
‫ض َ‬ ‫والْر ِ‬ ‫ماء َ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ت ّ‬ ‫كا ٍ‬ ‫علي ْ ِ‬ ‫فت َ ْ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن‪] ‬العراف‪ .[96:‬لذلك فقد‬ ‫سُبو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ب‬ ‫هم‬ ‫ُ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫أ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ا‬ ‫بو‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ك‬
‫سعى النبياء وورثتهم من العلماء المصلحين منذ فجر التاريخ للعمل‬
‫على تحقيق هذه المعاني في أقوامهم‪.‬‬
‫وفي أواخر القرن الماضي ظهر مصطلحان جديدان في ساحة‬
‫العمل السلمي‪ ،‬هما مصطلحا‪" :‬شرك القصور" و"شرك القبور"؛ هذان‬
‫المصطلحان لم يكونا سوى صياغة جديدة معاصرة يسعى من خللها‬

‫‪4‬‬
‫صانعوها إلى حسم الخلف الدائر بين المسلمين لستئناف الحياة‬
‫السلمية وتطبيق حكم الله في الرض‪.‬‬
‫ففي حين رأى فيه السواد العظم‪ ،‬أن نواة التغيير تبدأ من الفرد ثم‬
‫الجماعة فالدولة حسب السنن الكونية التي ل تتبدل ول تتحول؛ فقد رأى‬
‫ل‪ ،‬باعتبار الخلفة هي القضية‬ ‫البعض أنها تبدأ بإيجاد الخليفة المسلم أو ً‬
‫ً‬
‫المصيرية للمة‪ ،‬ورتبوا على هذا القول أمورا منها‪ :‬القول بأن الدين ل‬
‫يقوم بدون دولة ول بدون سلطة‪ ،‬وأن سياسة تغيير ما بالنفس وإصلح‬
‫الفرد والمجتمع‪ ،‬ليست سياسة ترقيع ل تقدم ول تؤخر في حسم‬
‫الصراع مع الباطل‪ ،‬وتطيل من عمره‪ ،‬بل ذهبوا إلى رمي مخالفيهم‬
‫بأنهم "يؤذون هذا الدين من حيث ل يشعرون بل يطعنونه الطعنة‬
‫النجلء بمثل هذه الهتمامات الجانبية الهزيلة" على حد زعمهم‪.‬‬
‫ثم تطور المر بهم إلى القول بأن شرك الحاكمية هو منبع‬
‫المنكرات كلها‪ ،‬باعتباره المنكر الكبر والشر العظم‪ ،‬يقول أحد‬
‫المنظرين لهذا الفكر‪:‬‬
‫"فأما المجتمعات الجاهلية التي ل تتحاكم إلى شريعة‬
‫الله‪ ،‬فالمنكر الكبر فيها والهم‪ ،‬هو المنكر الذي تنبع‬
‫منه كل المنكرات‪ :‬هو رفض ألوهية الله برفض شريعته‬
‫للحياة ‪ ...‬وهذا المنكر الكبير الساسي الجذري هو الذي‬
‫يجب أن يتجه إليه النكار قبل الدخول في المنكرات‬
‫الجزئية التي هي تبع لهذا المنكر الكبر وفرع عنه وعرض‬
‫له ‪ ...‬إنه ل جدوى من ضياع الجهد‪ ..‬جهد الخيرين‬
‫الصالحين من الناس‪ ..‬في مقاومة المنكرات الجزئية‪،‬‬
‫الناشئة بطبيعتها من المنكر الول‪ :‬منكر الجرأة على الله‬
‫وادعاء خصائص اللوهية‪ ،‬ورفض ألوهية الله برفض‬
‫شريعته للحياة‪ ..‬ل جدوى من ضياع الجهد في مقاومة‬
‫منكرات هي مقتضيات ذلك المنكر الول وثمراته النكده‬
‫بل جدال"أهـ‪.‬‬

‫وأمام هذا الغلو في دور الخليفة في التغيير على حساب دور الفرد‬
‫ثم المجتمع‪ ،‬رد علماء السلف من السواد العظم على أصحاب هذا‬
‫الرأي‪ ،‬واعتبروه بعيدا ً عن أمر الله تعالى في كتابه‪ ،‬وعن سيرة‬
‫الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهديه‪ ،‬كما سيأتي بيانه لحقًا‪.‬‬
‫لذا‪ ،‬فإنني في هذا الكتاب سأبرهن على أن نظرية إيجاد الخليفة‬
‫المسلم قبل تحقق عملية التغيير الشاملة لما في أنفس عموم الناس‪،‬‬
‫فكرة بعيدة عن الواقع‪ ،‬وليس لها علقة بالشرع السلمي فحسب‪ ،‬بل‬
‫بالشرائع السماوية كلها‪ ،‬ومخالفة لسنن الله الكونية التي ل تتحول ول‬
‫تتبدل‪ ،‬وأن جذورها تعود إلى الماضي القديم منذ أن بدأ الصراع بين‬

‫‪5‬‬
‫الخير والشر‪ ،‬وأول من حمل لواء هذا الصراع هو إبليس عليه اللعنة‪،‬‬
‫ومن ثم نقله إلى شياطين النس والجن‪ ،‬وعلى رأس شياطين النس‬
‫ُ‬ ‫ول ُ ِ‬
‫فل َي ُب َت ّك ُ ّ‬
‫ن‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫مَرن ّ ُ‬‫ول ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫من ّي َن ّ ُ‬ ‫ول َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ضل ّن ّ ُ‬ ‫اليهود‪ ،‬قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫شي ْطا َ‬ ‫خذْ ال ّ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ق الل ِ‬ ‫خل َ‬ ‫ْ‬ ‫ن َ‬ ‫غي ُّر ّ‬‫فلي ُ َ‬‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫مَرن ّ ُ‬‫ول ُ‬ ‫عام ِ َ‬ ‫ن ال َن ْ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫آ َ‬
‫مِبيًنا‪] ‬النساء‪ .[119:‬فهذه‬ ‫سَراًنا ُ‬ ‫خ ْ‬ ‫سَر ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ه فقدْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ول ِّيا ِ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫غي ُّر َ‬ ‫َ‬
‫ه ل يُ َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫السنة في التغيير المنطلقة من قوله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م؛ هي من خلق الله‪ ،‬وقد توعد إبليس‬ ‫ه ْ‪‬‬
‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ما ب ِأ َن ْ ُ‬ ‫غي ُّروا ْ َ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫بِ َ‬
‫بالعمل على تغييرها في الناس بمساعدة شياطين النس والجن‪.‬‬
‫وعليه فإنني سأقدم للقارئ الكريم الرد على أهم الشبهات التي‬
‫يتمسك بها القائلون بتغيير المجتمع من خلل تغيير الولة أو‬
‫أنظمة الحكم "شرك القصور" على حساب الدعوة لتغيير ما بالنفس‬
‫كإنكار عموم الشرك وغيره‪ ،‬وقد سموه "شرك القبور" تصغيرا ً له‪،‬‬
‫وهذه الشبهات هي‪:‬‬
‫الشبهة الولى‪ :‬تقول بضرورة معالجة شرك الحاكمية ‪ -‬شرك‬
‫القصور ‪ -‬هذا الزمان أول ً وجعله على أول سلم الولويات في العمل‬
‫لجل التغيير‪.‬‬
‫ة‪ :‬هل شرك القصور هو البدعة الكبرى والشرك‬ ‫ً‬ ‫الثاني‬ ‫الشبهة‬
‫الكبر كما يقول البعض؟‬
‫الشبهة الثالثة‪ :‬فإن قلتم أننا لم نقصد بقولنا عن شرك الحاكمية‬
‫أنه البدعة الكبرى والشرك العظم لنه العظم درجة‪ ,‬إنما قصدنا أن‬
‫هذه البدعة لم توجد في التاريخ السلمي من قبل؟‬
‫الشبهة الرابعة‪ :‬إذا أراد المخالف أن هذه البدعة بدعة شرك‬
‫القصور‪ ،‬هي الكبر باعتبار أنها ل أصل لها في التاريخ السلمي‪ ،‬من‬
‫الناحيتين السلوكية والتشريعية‪.‬‬
‫الشبهة الخامسة‪ :‬إذا أراد المخالف أن هذه البدعة؛ بدعـة شرك‬
‫القصور‪ ،‬هـي الكبر والعظم‪ ،‬لنه لول مرة فـي التاريخ تعيش المة‬
‫هذه الحالـة من التجزئة والتعدديـة الدولية‪.‬‬
‫الشبهة السادسة‪ :‬لو قال المخالف‪ :‬لقد نظرت إلى سيرة‬
‫سلف المة من العلماء‪ ,‬فوجدتهم قد ركزوا في دعوتهم على أكبر‬
‫النحرافات الفكرية والعقدية المنتشرة في زمانهم‪ ,‬كالنحراف في‬
‫عقيدة السماء والصفات‪ ,‬والقدر‪ ,‬والوعد والوعيد‪ ,‬ونحو ذلك من العقائد‬
‫ص بها زمان دون آخر‪ ,‬وعلى ذلك وباعتبار أن بدعة هذا العصر‬ ‫التي اخت ّ‬
‫الكثر شيوعا‪ ،‬هي بدعة الحاكمية لغير الله‪ ,‬وأنها الشرك الكبر‪ ,‬جعلت‬ ‫ً‬
‫محاربتها من أولويات العمل السلمي‪.‬‬
‫الشبهة السابعة‪ :‬لو قال المخالف‪ :‬إن إقامة الحدود على‬
‫الرعية‪ ،‬مقدم على إصلحها – أي أن لها الولوية ‪ -‬لما في ذلك من زجر‬
‫م‬‫ول َك ُ ْ‬
‫للعصاة والمجرمين‪ ،‬وبالتالي يستقيم المجتمع‪ ،‬لقوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫ُ‬
‫ن ]البقرة‪.[179:‬‬ ‫قو َ ‪‬‬ ‫م ت َت ّ ُ‬‫عل ّك ُ ْ‬ ‫ب لَ َ‬ ‫وِلي الل َْبا ِ‬ ‫حَياةٌ َيا أ ْ‬ ‫ص َ‬‫صا ِ‬ ‫ق َ‬ ‫في ال ْ ِ‬ ‫ِ‬

‫‪6‬‬
‫ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم‪" :‬حد يعمل في الرض خير لهل‬
‫الرض من أن يمطروا أربعين صباحًا")‪‌ .(1‬‬
‫الشبهة الثامنة‪ :‬فإن قال المخالف لم نرد بالبدعة الكبرى‬
‫والشرك العظم للعتبارات التي ذكرتم‪ ،‬إنما اعتبرنا ذلك لن إقامة‬
‫الدين في الرض مناطة بالحاكم واستقامته‪ ،‬فباستقامتة وصلح حاله‬
‫يصلح المجتمع‪ ،‬وبفساد حاله يفسد المجتمع؛ لدوره الساسي في‬
‫التغيير‪.‬‬
‫والحمد لله رب العالمين‪.‬‬

‫المؤلف‬

‫‪1‬تخريج الشيخ اللباني‪) :‬ن هـ( عن أبي هريرة‪ .‬تحقيق الشيخ اللباني‪:‬‬
‫)حسن(‪ ،‬انظر حديث رقم‪ (3130) :‬في "صحيح الجامع"‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫الشبهات التي يحتج بها من يقول بتغيير المجتمع‬
‫عن طريق تغيير الولة أو أنظمة الحكم‬
‫من خلل اطلعي على الموضوعات المتعلقة بفقه التغيير فقد‬
‫رصدت العديد من الشبهات التي استدل بها فريق من الناس على أن‬
‫طريق التغيير ل يكون إل من خلل التركيز على تغيير الولة الظلمة أو‬
‫النظمة القائمة على الحكم بغير ما انزل الله‪ ،‬وقد بلغت ثماني شبهات‪،‬‬
‫وهي‪:‬‬
‫الشبهة الولى‪ :‬تقول بضرورة معالجة شرك الحاكمية‪-‬‬
‫شرك القصور‪ -‬هذا الزمان أول وجعله على أول سلم‬
‫الولويات في العمل لجل التغيير‪.‬‬
‫مناقشة هذه الرؤية من السيرة النبوية‪:‬‬
‫‪ .1‬هل الشرك يقتصر على شرك القصور "الحاكمية"‪ ،‬أم أن شرك‬
‫الحاكمية أنواع عديدة؟ جواب ذلك‪ :‬الشرك غير مقتصر على شرك‬
‫القصور "الحاكمية"‪ ،‬وشرك الحاكمية أنواع عديدة‪ ،‬فهناك قطاعات‬
‫كبيرة من المسلمين أفرادا ً وجماعات غارقة في كثير من أصناف‬
‫الشرك مثل‪ ،‬شرك الربوبية‪ ،‬شرك اللوهية‪ ،‬شرك السماء والصفات‪،‬‬
‫الشرك اللفظي‪ ،‬والشرك العملي‪ ،‬وشرك في الولء والبراء ‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫‪ .2‬حين بدأ الرسول – صلى الله عليه وسّلم‪ -‬دعوته‪ ،‬بدأ ببناء‬
‫المجتمع المسلم من خلل تربية الفراد والسر المسلمة‪ ،‬وأول ما بدأ به‬
‫هو محاربة أصناف الشرك المتمثلة في التصورات الخاطئة عن الله‬
‫تعالى وأسمائه وصفاته‪ ،‬وكل ما يتفرع عن ل إله إل الله من عقائد‪،‬‬
‫وغرس فيهم كذلك أن الحكم لله تعالى مرحلة أولى ضرورية تسبق‬
‫استلم زمام المور لتحكيم شرع الله على العباد وإقامة الحدود‬
‫والسياسات الشرعية المتعلقة بالمجتمعات السلمية وغير السلمية‪.‬‬
‫عل َ َ‬
‫فْر‬ ‫غ ِ‬‫ست َ ْ‬‫وا ْ‬ ‫ه إ ِل ّ الل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ه ل َ إ ِل َ َ‬ ‫م أن ّ ُ‬‫فا ْ ْ‬‫لذا كان نزول قوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫واك ْ ‪‬‬ ‫مث ْ َ‬
‫و َ‬
‫م َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫مت َقلب َك ْ‬ ‫م ُ‬ ‫عل ُ‬‫َ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫ّ‬
‫والل ُ‬ ‫ت َ‬‫مَنا ِ‬
‫ؤ ِ‬ ‫وال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ن َ‬
‫مِني َ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ول ِل ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ل ِذَن ْب ِ َ‬
‫ك َ‬
‫]محمد‪ ،[19:‬كان متقدما ً في العهد المكي‪ .‬هذا في الجانب العقدي‪ ،‬أما‬
‫في الجانب الشعائري فقد أقام الرسول صلى الله عليه وسّلم‪ ،‬ذلك في‬
‫الفراد جميعا ً – سوى النفاق ‪ -‬في مرحلة سبقت مرحلة استلم الحكم‪،‬‬
‫بحيث ل نجد فيهم رجل ً يتخلف عن صلة الفجر والعشاء جماعة إل رجل ً‬
‫معلوم النفاق!! وأما الخلق والتربية والتزكية‪ ،‬فكان لها كذلك الحظ‬
‫والنصيب الوافر‪ ،‬ومما ركز الشرع على محاربته‪ :‬صفات المنافقين من‬
‫الكذب والخيانة وإخلف الوعد‪.‬‬
‫‪ .3‬لوضع النقاط على الحروف يقصد صاحب هذه الفكار بشرك‬
‫القصور شرك الدساتير والنظمة‪ ،‬ل شرك الحاكمية بعمومه‪ ،‬لن شرك‬
‫الحاكمية له تعلق بكل أصناف الشرك السابقة الذكر‪ ،‬فمن اعتقد أن‬
‫فلنا ً يعلم الغيب فقد وقع في شرك الحاكمية من جهة انه ترك حكم‬

‫‪8‬‬
‫الله تعالى أنه ل يعلم الغيب إل الله‪ ،‬ومن دعا غير الله فقد أشرك في‬
‫الحاكمية‪ ،‬من جهة أنه عارض حكم الله تعالى في سلب إجابة الدعاء‬
‫عن المدعو غير الله‪ ،‬ومن عطل ونفى صفات الله تعالى فقد أشرك‬
‫في حاكمية الله تعالى من جهة انه خالف حكم الله تعالى في أن له‬
‫ها‪] ‬العراف‪،[180:‬‬ ‫سَنى َ‬ ‫ماء ال ْ ُ‬ ‫أسماء وصفات ‪‬ول ِل ّ ِ َ‬
‫عوهُ ب ِ َ‬
‫فادْ ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫س َ‬
‫ه ال ْ‬ ‫َ‬
‫وغير ذلك‪ .‬وكذا من استغاث بغير الله فقد أشرك في حكم الله تعالى‬
‫في ربوبيته‪ ،‬لنه عارض حكم الله تعالى في سلب النفع والضر عن غير‬
‫الله تعالى إل فيما يقدر عليه المخلوق‪ ،‬وكذلك الحال فيمن عطل حكم‬
‫صله من حدود شرعية فقد أشرك في حاكمية‬ ‫الله تعالى فيما بّينه وف ّ‬
‫الله تعالى لنه عارض حكم الله تعالى في ذلك‪ .‬إذن يوجد قسمان‬
‫لشرك الحاكمية‪:‬‬
‫ً‬
‫الول ‪ :‬بين العباد جميعا‪ ،‬رعاة ورعية من جهة‪ ،‬وبين الله تعالى‬
‫من جهة ثانية‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬شرك يتعلق فيما بين العباد أنفسهم كالحكام‬
‫والتشريعات التي سّنتها النظمة لضبط العلقة القائمة فيما بينهم‪،‬‬
‫خالفت بذلك ما ثبت من تشريعات إلهية مخالفة صريحة‪ ،‬أدت إلى‬
‫تعطيلها‪ ،‬عدا كثيرا ً من القوانين الوضعية التي وضعت دون مخالفة ول‬
‫تعطيل لنصوص الشرع‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق بالمصالح المرسلة والمور‬
‫الحادثة التكنولوجية‪.‬‬
‫ّ‬
‫إذن فلندقق النظر في سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم ‪-‬‬
‫لننظر‪ ،‬ضد أي من الشركين بدأ المعركة؟ فهل بدأ محاربة الشرك‬
‫الثاني المتعلق بالجنايات وأحكامها "الحدود"؟ علما ً أن هذه الحكام‬
‫مبسوطة في كتب الفقه ل العقيدة‪ ،‬عدا ما هو متعلق بالسياسـة‬
‫الشرعية‪.‬‬
‫ً‬
‫هذا من جانب‪ ،‬ومن جانب آخر أتساءل – عاكسا المر ‪ -‬بأي‬
‫التوحيدين بدأ الرسول صلى الله عليه وسّلم دعوته؟ هل بدأ بإقامة‬
‫التوحيد الول أم التوحيد الثاني؟‪.‬‬
‫ل شك أخي الكريم أن كل مسلم يعلم يقينا ً ل ظنا ً أن هدي الرسول‬
‫ي ل لبس فيه‪ ،‬أنه من‬ ‫– صلى الله عليه وسّلم‪ -‬في ذلك واضح جل ّ‬
‫الناحية الولى‪ ،‬أقام التوحيد فيما يضبط العلقة بين العباد وخالقهم‪ .‬ومن‬
‫ناحية ثانية‪ ،‬لبد أن يتأخر تفعيل وإقامة التوحيد الثاني لحين استلم‬
‫الحكم لتعلقه المباشر فيما بين العباد‪ ،‬الذي يحتاج إلى حاكم وخليفة‬
‫يقيم ذلك فيهم يرضون بحكمه وقضائه‪ ،‬وخاصة أن معظم مفردات هذا‬
‫التوحيد الثاني هي من أبواب الفقه )حد السرقة‪ ،‬حد الخمر‪ ،‬القذف‬
‫والزنا‪ ،‬والتعازير(‪.‬‬
‫إذن مما سبق ثبت أن محاربة شرك القبور على حد تعبيرهم ‪-‬‬
‫الشرك الول كما مر معك سابقا ً ‪ -‬يسبق محاربة الشرك الثاني "شرك‬
‫القصور"‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫وجدير بالملحظة‪ ،‬أن تحقيق القضاء على شرك القصور‪ ،‬إنما هو‬
‫نتيجة طبيعية حتمية تكون بعد تحقيق محاربة الشرك الول والقضاء‬
‫عليه‪ ،‬ول يحتاج بعد ذلك إلى هذه الجهود الذهنية والعملية المبالغ فيها‬
‫التي صرفت الناس والدعاة عن الواجب الول‪ ،‬وبعثرت الجهود وشتتتها‪،‬‬
‫تلك التي كانت ستصب حتما ً لصالح التجاه الول‪ ،‬فأطالت بذلك أمد‬
‫الصراع مع شرك القصور من جهة‪ ،‬وأخرت حسم الموقف مع الشرك‬
‫الول – القبور كما يزعمون ‪ -‬من جهة أخرى‪.‬‬
‫ومن الدلة على ضرورة هذا الترتيب في بناء أو إعادة بناء المة من‬
‫عرى‬ ‫ن ُ‬ ‫ض ّ‬‫جديد قول الرسول – صلى الله عليه وسّلم ‪َ" :-‬لتنق َ‬
‫عروة تشبث الناس‬ ‫عروة فكلما انتقضت ُ‬ ‫عروة ُ‬ ‫السلم ُ‬
‫ن الصلة" ‪.‬‬
‫)‪( 2‬‬
‫حكم وآخره ّ‬ ‫ً‬
‫ن نقضا ال ُ‬ ‫بالتي تليها فأوله ّ‬
‫فإذا أردنا إعادة بناء عرى السلم إلى ما كانت عليه‪ ،‬لبد من البدء‬
‫ببناء عروة الصلة‪ ،‬ثم يليها في البناء عرى السلم تترى‪ ،‬حتى نصل إلى‬
‫ل‪ ،‬إذ أن أول قطعة تفك‬ ‫عروة الحكم‪ ،‬وهذا قانون معلوم بالضرورة عق ً‬
‫من السلح آخر قطعة تركب‪.‬‬
‫وهل يعقل أن نقيم سقف البناء قبل إقامة دعائمه؟!! وهل تقام‬
‫الدعائم قبل الساس؟!!‬
‫وهل يعقل كذلك أن تسقط دعائم البناء ويبقى السقف قائمًا؟!!‬
‫فإذا كانت الحياة والعيش ل تستقيم تحت سقف بناء ل جدر له‪ ،‬ول‬
‫أبواب وشبابيك‪ ،‬فكيف تطيب الحياة والعيش تحت عروة الحكم – على‬
‫افتراض وقوع ذلك ‪ -‬دون وجود باقي العرى الخرى في المجتمع؟!‬
‫عروة الحكم قبل عرى السلم‬ ‫وإذا كان المر هو استحالة وضع ُ‬
‫الخرى‪ ،‬فكيف يتصور عاقل أن توضع هذه العروة‪ ،‬بمعناها الثاني – في‬
‫من‬‫ذك َْرى ل ِ َ‬‫ك لَ ِ‬
‫في ذَل ِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫أول سلم الولويات في العمل السلمي؟ ‪‬إ ِ ّ‬
‫د ]ق‪.[37:‬‬ ‫هي ‪ٌ‬‬ ‫ش ِ‬‫و َ‬‫ه َ‬
‫و ُ‬
‫ع َ‬‫م َ‬
‫س ْ‬ ‫قى ال ّ‬ ‫و أ َل ْ َ‬ ‫َ‬
‫بأ ْ‬‫قل ْ ٌ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫كا َ‬
‫ة‪ :‬هل شرك القصور هو البدعة الكبرى‬ ‫الشبهة الثاني ً‬
‫والشرك الكبر كما يقول البعض؟‬
‫جوابه‪ :‬أن الشرك إما أن يلحق ضرره بالفرد أو بالجماعة‪ ،‬أو‬
‫بالفرد والجماعة على الترتيب‪.‬‬
‫المر الول‪ :‬هل شرك القصور‪ -‬الشرك الثاني ‪ -‬أخطر على‬
‫العبد‪ ،‬أم أنه الشرك الول ‪ -‬شرك العباد مع الله ‪ -‬؟‬
‫الجابة‪ :‬يجب العلم أن غاية العبد أن ُيسلم أمره لله تعالى‪ ،‬فيخرج‬
‫نفسه من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد لينجو من عذاب جهنم‪ .‬وهذا‬
‫أول عمل للنبياء جميعًا؛ إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البشر من الكفر إلى‬
‫اليمان‪ ،‬ولو لم يتحقق التمكين في الرض لهذه الجماعة المؤمنة التي‬
‫اتبعت النبياء‪.‬‬
‫‪2‬تخريج اللباني‪) :‬حم حب ك( عن أبي أمامة‪ .‬تحقيق اللباني‪) :‬صحيح(‬
‫انظر حديث رقم‪ (5075) :‬في "صحيح الجامع"‌‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫إذن فهل القضاء علـى شرك القصور يعني بالضرورة القضـاء على‬
‫الشرك الول ‪ -‬شرك ما بين العبد وربه ‪-‬؟‬
‫الجواب‪ :‬ل‪ ،‬لن أنبياء ومرسلين لم يستطيعوا القضاء على هذا‬
‫الشرك في نفوس أصحابه‪ ،‬رغم ما معهم من التأييد والبرهان الرباني‪.‬‬
‫إذن فالشرك الول هو أخطر على العبد من الشرك الثاني‪ ،‬لنه لو‬
‫مات موحدا ً لله تعالى تحت راية طاغوتية وأحكام كفرية – كموت‬
‫النجاشي في قومه ‪ -‬فاز ونجا‪ ،‬ولو مات العبد مشركا ً بالله تعالى‬
‫الشرك الول‪ ،‬يعني فيما بينه وبين الله تعالى‪ ،‬ولو في ظل خلفة‬
‫ي بن‬‫راشدة‪ ،‬ل يغنيه ذلك من الله شيئا‪ ،‬وكان خالدا ً في جهنم ‪ -‬كأب ّ‬
‫خلف ‪.-‬‬
‫إذن البدعة الكبرى والشرك العظم بالنسبة للفرد هو الشرك الول‬
‫حد ل يمكن أن يتأثر‬ ‫وليس شرك القصور‪ ،‬وهذا ل يعني أن الفرد المو ّ‬
‫بشرك القصور ول يصيبه ظلم‪ ،‬لكن هذا الظلم الواقع عليه يستدرك‬
‫ويرفع عنه‪ ،‬ويأخذ حقه كامل ً يوم القيامة من أولئك الظالمين‬
‫والطواغيت‪ .‬في حين أن العبد المشرك الذي استظل بخلفة راشدة ل‬
‫يستطيع النجاة مما استحق من عقوبة بسبب ما اقترفت يداه من‬
‫شرك يوم القيامة‪ ،‬أي‪ :‬ل تنفعه الخلفة الراشدة لعدم تحقق التوحيد‬
‫فيه أصل!!!‬
‫وعليه فقد اتضح لنا أن الشرك الول يعد الخطر على العبد‪ ,‬ويعتبر‬
‫البدعة الكبرى والعظمى بالنسبة له‪.‬‬
‫المر الثاني‪ :‬هل شرك القصور‪ -‬الشرك الثاني ‪ -‬أخطر على‬
‫الجماعة‪ ،‬أم أنه الشرك الول ‪ -‬شرك العباد مع الله ‪-‬؟‬
‫ل‪ ،‬هل يعني بالضرورة أن يكون أثر شرك‬ ‫وللجابة‪ :‬أقول سائ ً‬
‫القصور سيئا ً من الناحية المادية‪ ،‬على المجتمع الذي يسود فيه؟‬
‫لماذا هذا السؤال؟ لننا نرى أن البلد الرأسمالية – منها‪ ،‬السويد‪,‬‬
‫سويسرا‪ ,‬انجلترا‪ ,‬وحتى أمريكا – على الرغم من وقوعها في هذا‬
‫الشرك إل أن الحياة المادية التي يتمتع بها المجتمع الغربي أصبحت‬
‫حلما ً تحلم به كثير من المجتمعات السلمية هذا الزمان‪.‬‬
‫لماذا إذن شرك القصور عندنا له أثر سيء على المجتمع بينما عند‬
‫الغرب‪ ,‬ل يظهر منه ذلك – وأقصد ماديا ل روحيا ً ‪-‬؟ إذن ل بد من توفر‬
‫عوامل أخرى تضاف إلى شرك القصور ليعطي أثرا سيئا ً على مجتمعه‪,‬‬
‫وليس هو بذاته‪ ،‬ومنها )اللأخلقيات(‪.‬‬
‫لذلك نستطيع القول‪ ,‬إذا اجتمع شرك القصور مع الخلقيات – حب‬
‫العدل والصدق‪ ,‬والمواطنة‪ ,‬والمانة‪ ,‬والوفاء بالعهد‪ ,‬واليثار‪ ,‬والتكافل‬
‫الجتماعي‪ ,‬وما شابه ذلك – يعطي غالبا ً حياة مادية كريمة للمجتمع‪,‬‬
‫وإذا افترقا أدى ذلك إلى عكس ذلك‪.‬‬
‫فبتحقيق التوحيد الول‪ ,‬توحيد ما بين العبد وربه‪ ,‬نصل في المجتمع‬
‫إلى النتائج التالية‪:‬‬

‫‪11‬‬
‫حياة روحية كريمة‪ ,‬واطمئنان نفسي‪.‬‬ ‫‪-1‬‬
‫النجاة من النار‪.‬‬ ‫‪-2‬‬
‫حياة مادية كريمة في ظل التوحيد الثاني توحيد‬ ‫‪-3‬‬
‫القصور إذا وجدت الخلقيات‪ ،‬أو حياة مادية سيئة في ظل‬
‫التوحيد الثاني مع عدم وجود الخلقيات‪.‬‬
‫حياة مادية كريمة‪ ,‬تحت أحكام الشرك الثاني شرك‬ ‫‪-4‬‬
‫القصور مع وجود الخلقيات أو حياة مادية سيئة تحت أحكام‬
‫شرك القصور مع عدم وجود الخلقيات‪.‬‬
‫أما نتائج تحقيق التوحيد الثاني توحيد القصور‪ ،‬على حساب التوحيد‬
‫الول توحيد العبد لربه على المجتمع هي‪:‬‬
‫• حياة مادية كريمة مع وجود الخلقيات‪ ،‬أو حياة مادية سيئة مع‬
‫عدم وجود الخلقيات‪.‬‬
‫• حياة روحية ميتة‪.‬‬
‫• الخلود في جهنم‪.‬‬
‫فالسؤال‪ ,‬أي النتيجتين أقوم وأسلم للمجتمع يا أولي اللباب؟؟!!!‬
‫وكيف يجرؤ شخص بعد هذا البيان أن يتقول على الشرع بالظن‪ ,‬قائل‬
‫أن شرك القصور هو البدعة الكبرى والشرك العظم؟ فهل عندكم من‬
‫علم بهذا من الكتاب والسنة ما يدل على حسن فهمكم؟‬
‫فإن قلتم نعم وأوردتم لنا آيات الحاكمية – وهي على العموم ول‬
‫يجوز حملها على الخصوص كما مر معنا سابقا ً إل بتفصيل – باعتبارها‬
‫مَر أ َل ّ‬‫هأ َ‬
‫من العبودية والعبادة‪ ،‬كقوله تعالى‪) :‬إن ال ْحك ْم إل ّ ل ِل ّ َ‬
‫ِ‬ ‫ُ ُ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ه ]يوسف‪.[40:‬‬ ‫دوا ْ إ ِل ّ إ ِّيا ‪ُ‬‬ ‫عب ُ ُ‬‫تَ ْ‬
‫قلنا لكم‪ :‬وكذلك الدعاء ورد في الكتاب والسنة على أنه العبادة‬
‫وأنه من العبادة‪ .‬كقوله تعالى على لسان خليله إبراهيم عليه السلم‪:‬‬
‫سى أ َل ّ‬ ‫ع َ‬ ‫عو َرّبي َ‬ ‫وأ َدْ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫من ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ما ت َدْ ُ‬ ‫و َ‬
‫م َ‬ ‫زل ُك ُ ْ‬
‫عت َ ِ‬‫وأ َ ْ‬‫) َ‬
‫ن‬ ‫دو ِ‬ ‫من ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫عب ُ ُ‬‫ما ي َ ْ‬ ‫و َ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫عت ََزل ُ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫َ‬
‫فل ّ‬ ‫قّيا ‪َ ‬‬ ‫ش ِ‬ ‫عاء َرّبي َ‬ ‫ن ب ِدُ َ‬ ‫كو َ‬ ‫أَ ُ‬
‫عل َْنا ن َب ِّيا‪] ‬مريم‪.[49:‬‬ ‫ج َ‬ ‫وك ُّل َ‬ ‫ب َ‬ ‫قو َ‬ ‫ع ُ‬‫وي َ ْ‬
‫ق َ‬ ‫ح َ‬ ‫س َ‬‫ه إِ ْ‬ ‫هب َْنا ل َ ُ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ّ ِ‬
‫وقول الرسول صلى الله عليه وسّلم‪" :‬الدعاء هو العبادة" ‪.‬‬
‫)‪( 3‬‬

‫وبهذا يكون شرك دعاء غير الله هو البدعة الكبرى والشرك‬


‫العظم‪ .‬إذن فأي الشركين أكبر‪ ،‬شرك القصور أم شرك الدعاء والحجة‬
‫ماء‬‫س َ‬ ‫في ال ّ‬ ‫ذي ِ‬ ‫و ال ّ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬‫فيهما واحدة؟ وإذا أوردتم قول الله تعالى‪َ ) :‬‬
‫م ]الزخرف‪ ،[84:‬للتدليل على‬ ‫عِلي ُ ‪‬‬ ‫م ال ْ َ‬‫كي ُ‬‫ح ِ‬ ‫و ال ْ َ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬‫ه َ‬ ‫ض إ ِل َ ٌ‬‫في الْر ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ه َ‬ ‫إ ِل َ ٌ‬
‫زعمكم‪ ،‬أي أن الله تعالى هو المعبود في الرض كما هو في السماء‪.‬‬
‫قلنا لكم أن هذه آية عامة تدل على جميع مظاهر العبودية ومن‬
‫ضمنها التوحيد الول‪ ,‬توحيد العبد لربه‪ ,‬والتوحيد الثاني‪ ,‬توحيد القصور‪,‬‬
‫‪3‬أخرجه الترمذي‪ :‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ ،‬وقال الشيخ اللباني في صحيح‬
‫الترمذي‪ :‬صحيح‪ ،‬ورقمه )‪ .(3372‬وانظر‪" :‬صحيح الجامع الصغير"‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫ولهذا يحق لنا أن نزعم بهذه الية كذلك‪ ،‬أن التوحيد الول هو الهم‪،‬‬
‫وعنه ينتج أن الشرك الول هو البدعة الكبرى والشرك العظم‪.‬‬
‫ول َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ل الل ُ‬ ‫مآ َأنَز َ‬‫هم ب ِ َ‬ ‫كم ب َي ْن َ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫نا ْ‬ ‫وأ ِ‬
‫وإذا أوردتم قوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫َ‬
‫ه إ ِل َي ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫ع أَ ْ‬
‫ك‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أنَز َ‬ ‫ض َ‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫عن‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫نو‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫م أن ي َ‬ ‫حذَْر ُ ْ‬ ‫وا ْ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫واء ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ت َت ّب ِ ْ‬
‫ن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫وإ ِ ّ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫ض ذُنوب ِ ِ‬ ‫ع ِ‬ ‫هم ب ِب َ ْ‬ ‫صيب َ ُ‬
‫ه أن ي ُ ِ‬ ‫ريدُ الل ُ‬ ‫ما ي ُ ِ‬
‫م أن ّ َ‬ ‫عل ْ‬ ‫وا فا ْ‬ ‫ول ْ‬ ‫فِإن ت َ َ‬
‫ن ]المائدة‪ .[49:‬فليس في الية ما يدل‬ ‫قو َ ‪‬‬‫س ُ‬ ‫فا ِ‬ ‫س لَ َ‬‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ك َِثيًرا ّ‬
‫على أن الحكم بما انزل الله بين العباد هو العظم‪ ,‬غير التأكيد على‬
‫الحكم بما انزل الله والتحذير من مخالفته‪ .‬وعليك أخي القارئ أن‬
‫تستعرض آيات الحاكمية في نفسك‪ ,‬فهل تجد فيها ما يدل على ما‬
‫يزعمون؟‬

‫‪13‬‬
‫الشبهة الثالثة‪ :‬فإن قلتم أننا لم نقصد بقولنا عن شرك‬
‫الحاكمية أنه البدعة الكبرى والشرك العظم لنه العظم‬
‫درجة‪ ,‬إنما قصدنا أن هذه البدعة لم توجد في التاريخ‬
‫السلمي من قبل؟‬
‫قلت‪ :‬جواب ذلك من وجوه‪:‬‬
‫الخطأ اللغوي الذي وقعتم فيه‪ ,‬فكلمة البدعة الكبرى‬ ‫‪-1‬‬
‫والشرك العظم إذا أطلقت ل تدل على مرادكم هذا‪ ,‬إذن لزمكم‬
‫تقييد اللفظ وتوضيحه‪.‬‬
‫هل يعني بالضرورة وقوع المر لول مرة في التاريخ‪،‬‬ ‫‪-2‬‬
‫يدل على أنه العظم والكبر‪ ,‬فمثل شرك الحلف بغير الله إذا‬
‫ن بعد عدم ٍ هل يعني انه الشرك العظم‪ ،‬وشتم‬ ‫انتشر في زما ٍ‬
‫الدين والنبي كذلك على رأيكم فقد انتشر هذا الزمان بعد عدم‪،‬‬
‫فهل يعني انه الشرك العظم والكبر مع أنه من الشرك الكبر؟!‬
‫ونحن نعلم أن الشرك الكبر هو أن تجعل لله ندا وهو خلقك‪.‬‬
‫هناك من الشرك ما وقع في المة من بعد عدم‪ ،‬كدعاء‬ ‫‪-3‬‬
‫غير الله والستغاثة بهم‪ ،‬وادعاء علم الغيب لشخاص وغير ذلك‬
‫مما ل زال منتشرا في المة‪ ،‬فهل يعني ذلك انه الشرك الكبر‬
‫والعظم؟! وهنا إذا كان المر كذلك يحق لنا أن نرشح هذه‬
‫الصناف من الشرك للولوية‪ ،‬وعلى أنها الكبر والعظم باعتبارها‬
‫هي القدم ول تزال معششة بين ظهرانينا‪ ،‬ولكن ليس هكذا‬
‫تحسب المور‪ .‬إذن فقد ثبت بعد هذا البيان تهافت هذه الشبهة‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫الشبهة الرابعة‪ :‬إذا أراد المخالف أن هذه البدعة بدعة‬
‫شرك القصور‪ ،‬هي الكبر باعتبار أنها ل أصل لها في‬
‫التاريخ السلمي‪ ،‬من الناحيتين السلوكية والتشريعية‪.‬‬
‫‪ -1‬الناحية السلوكية‪:‬‬
‫فجواب ذلك‪:‬‬
‫إن من يقرأ التاريخ السلمي سيجد فيه ما يدل على تكرار مثل ما‬
‫نراه من انحراف عن منهج الله هذه اليام والخروج عن شريعة السلم‪،‬‬
‫ووجود مساحات شاسعة من البلد السلمية تضم فيها شرار الخلق‬
‫المستحقين للجهاد والغزو‪.‬‬
‫وللتدليل على ذلك‪ ،‬سأحيل المطلع إلى عالم ثقة‪ ،‬جاهد بلسانه‬
‫وقلمه وسيفه في سبيل دعوة الحق‪ ،‬إنه شيخ السلم ابن تيمية رحمه‬
‫الله تعالى‪ .‬إذ يقول عن واقع العالم السلمي في عصره‪ ،‬في "مجموع‬
‫الفتاوى"‪ ..." :‬وأما بلد إفريقية فأعرابها غالبون عليها‪ ،‬وهم من شر‬
‫الخلق بل هم مستحقون للجهاد والغزو"‪.‬‬
‫ويقول عن بلد المغرب القصى‪" :‬فمع استيلء النصارى على أكثر‬
‫بلدهم ل يقولون بجهاد النصارى هناك‪ ،‬بل في عسكرهم من النصارى‬
‫الذين يحملون الصلبان خلق عظيم"‪.‬‬
‫ويقول‪" :‬وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن‬
‫الشريعة‪ ،‬وفيهم من البدع والضلل والفجور ما ل يعلمه إل الله وأهل‬
‫اليمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون‪ ،‬وإنما تكون القوة والعزة في‬
‫هذا الوقت لغير أهل السلم بهذه البلد‪ ،‬ل سيما وقد غلب فيهم‬
‫الرفض")‪ ،(4‬انتهى‪.‬‬
‫والملحظ من كلم شيخ السلم ابن تيمية هذا أنه لم يبق من رقعة‬
‫السلم المترامية الطراف في زمانه إل ما استثناه هو من بلد الشام‬
‫وبلد مصر بمساحة إجمالية تصل إلى حوالـي ثمانية بالمائة فقط من‬
‫كامل مساحة رقعة العالم السلمي وقتئذ‪ .‬واعتبر ابن تيمية – رحمه‬
‫الله ‪ -‬دولة المماليك هي دولة السلم‪ ،‬الواجب عزها ونصرها‪ ،‬ووصفها‬
‫بأنها كتيبة السلم بعزها يعز السلم وبذلها يذل السلم‪.‬‬
‫وحتى ل نظلم الواقع السلمي‪ ،‬فإن مستوى دولة المماليك لم يكن‬
‫كدرجة الخلفاء الراشدين ول حتى بمستوى الدولة الموية أو العباسية‬
‫من ناحية اللتزام العام بأحكام السلم والخلق السلمية‪ ،‬فقد وجد‬
‫فيها من الفساد السياسي والخلقي والجتماعي والتشريعي ما يشابه‬
‫ما نراه من فساد في الدول السلمية في عصرنا هذا‪ ،‬بل يزيد أحيانا‪.‬‬
‫وتكفينا هنا بعض الشارات الدالة على ذلك؛ لن هذا المر مبسوط‬
‫في كتبه المتخصصة في دراسة التاريخ‪.‬‬
‫أ‪ -‬مدة الحكم وتغير السلطين‪ :‬حكمت دولة المماليك من )‬
‫‪1250‬م‪1517 -‬م(‪ ،‬أي ‪ 267‬سنة‪ ،‬تغيرت فيها السلطين إحدى وستين‬
‫‪4‬الجزء )‪) (28‬ص ‪.(534-532‬‬

‫‪15‬‬
‫مرة‪ ،‬خلل هذه الفترة‪ ،‬حكمت أول امرأة في السلم "شجرة الدر"‬
‫قرابة أربعة أشهر في عام ‪1250‬م‪ .‬والملحظ في هذه الفترة مع‬
‫السف كثرة تغير السلطان قت ً‬
‫ل‪.‬‬
‫ففي سنة ‪1421‬م‪ ،‬حكم كل من السلطان أحمد بن شيخ وططر‬
‫ومحمد بن ططر‪ ،‬ثلثة سلطين في سنة واحدة‪ .‬أما عدد المرات التي‬
‫تغير فيها السلطان مرتين في السنة فقد تكررت إحدى عشرة مرة‪.‬‬
‫ب‪ -‬الظاهر بيبرس يقتل قطز‪ :‬في سنة ‪698‬هـ‪ ،‬وبعد انتصار‬
‫قطز في معركة عين جالوت التي أنهت الخطر التتري على المة‬
‫السلمية وقتئذ‪ ،‬قام بيبرس بقتله في مكيدة دبرها له قبل وصوله إلى‬
‫مصر‪.‬‬
‫ج‪ -‬سجن ابن تيمية‪ :‬تم اعتقال ابن تيمية رحمه الله وسجنه‬
‫على يد الولة والسلطين‪ ،‬على أثر فتوى شرعية واتهامات أخرى باطلة‬
‫نسبت إليه ظلمًا‪ ،‬وقد كانت وفاته في سجن القلعة في دمشق عند‬
‫المماليك‪.‬‬
‫د‪ -‬انتشار الخمور‪ :‬يقول ابن كثير عن الملك المظفر قطز‪" :‬كان‬
‫رجل ً صالحا ً كثير الصلة في الجماعة ول يتعاطى المسكر‪ ،‬ول شيئا ً مما‬
‫يتعاطاه الملوك")‪ ،(5‬انتهى‪.‬‬
‫ويقول أبو شامة شهاب الدين المقدسي في ترجمة السلطان نور‬
‫الدين محمود زنكي‪" :‬فهو الذي حدد للملوك اتباع سنة العدل والنصاف‬
‫وترك المحرمات من المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك‪ ،‬فإنهم كانوا‬
‫م أحدهم بطنه وفرجه ل يعرف معروفا ً ول ينكر‬ ‫قبل ذلك كالجاهلية ه ّ‬
‫منكرًا‪ ،‬حتى جاء بدولته‪ ،‬فوقف مع أوامر الشرع ونواهيه وألزم بذلك‬
‫أتباعه وذويه‪ ،‬فاقتدى به غيره منهم")‪ ،(6‬انتهى‪.‬‬
‫ويقول أبو شامة كذلك ناقل ً عن كتاب "البرق الشامي"‪ " :‬وهو– أي‬
‫نور الدين زنكي ‪ -‬الذي أعاد رونق السلم وقد غلب الكفر وبلغ‬
‫الضر‪.(7)"...‬‬
‫هـ‪ -‬الترف وكنز الموال‪ :‬فقد كانت ظاهرة عامة اشتهر بها‬
‫المراء‪ ،‬راجع في ذلك ما ضبط عند المير حسام الدين طرنطاي نائب‬
‫السلطنة زمن خليل بن قلون "وما ضبط عند نائب السلطة "سلر"‬
‫زمن السلطان الناصر قلوون من الموال والتحف ما لم يسمع بمثله‬
‫في الملوك‪ ،‬إذ تضمنت القوائم التي كتبها أحد القضاة الذين ندبوا لجرد‬
‫هذه التركة جميع ما اشتملت‪ ،‬واستغرق جردها أربعة أيام")‪.(8‬‬
‫ارجع إلى هذا المصدر واقرأ لتجد ذكر القناطير المقنطرة من‬
‫الذهب والفضة والماس واللؤلؤ والياقوت والزمرد والدراهم والدنانير‬

‫‪"5‬البداية والنهاية" )‪.(13/235‬‬


‫‪ 6‬كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين" )‪.(1/6‬‬
‫‪7‬كتاب "الروضتين" )‪.(1/10‬‬
‫‪8‬كتاب "المماليك" )ص ‪ (242‬للدكتور الباز‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫وغير ذلك من الواني الذهبية والفضية والقبية الحريرية الملونة‬
‫والمغراة بسنجاب‪ ,‬والسروج الذهبية‪ ,‬والخيول والبغال والجمال‪ ،‬أما‬
‫الغنام والبقار فهي أكثر من أن تحصى‪ ,‬فضل ً عن الملك والضياع‬
‫والمعاصر والشون والمراكب والعبيد والخدم والمماليك والجواري‪ .‬هذا‬
‫على سبيل المثال‪.‬‬
‫أما عن المراسم وموسيقى الجيش‪ ,‬ووصف القلع وما بداخلها‬
‫وطريقة الخدمة فيها وملبس المراء والجند وصفتها‪ ,‬والشارات ذوات‬
‫الرواح من الحيوانات والطيور وصفتها‪ ,‬ومراسم الدخول على المراء‬
‫والسلطين‪ ،‬وصفة مراكب السلطان والمراء والجند وما تزين به‪,‬‬
‫وصفة مجالس المراء في بيوتهم ومن يجلس عن يمينه وعن شماله‪,‬‬
‫وصفة المراسم المتخذة في رحلة الصيد وطريقة الخدمة ‪ ...‬وغير ذلك‬
‫مما يطول ذكره فضل ً عن تفصيله‪ ,‬فعن كل هذا‪ ,‬ستفاجأ أخي القارئ‬
‫أن ما تراه هذه اليام من مراسم يقل عن ما كان موجودًا‪ ,‬وللتأكد من‬
‫ذلك راجع ما كتب عن المماليك في هذا الباب فيما ذكرت لك من‬
‫المراجع‪.‬‬
‫على سبيل المثال أذكر ما قاله ابن كثير في مراسم الحتفال‬
‫بتنصيب السلطان الملك الظاهر‪ ,‬بعد اعترافه بقتل الملك المظفر قطز‪,‬‬
‫حيث قال ابن كثير‪ ..." :‬ولقبوه الملك الظاهر‪ -‬أي ركن الدين بيبرس‬
‫البندقداري – فجلس على سرير المملكة وحكمه‪ ,‬ودقت البشائر‬
‫وضربت الطبول والبوقات‪ ,‬وصفرت الشغابة‪ ,‬وزعقت الشاووشية بين‬
‫يديه‪ ,‬وكان يوما ً مشهودا ً وتوكل على الله واستعان به‪ ,‬ثم دخل مصر‬
‫والعساكر في خدمته‪ ,‬فدخل قلعة الجبل وجلس على كرسيها‪ ,‬فحكم‬
‫وعدل وقطع ووصل وولى وعزل‪ ,‬وكان شهما ً شجاعًا‪ ,‬أقامه الله للناس‬
‫لشدة احتياجهم إليه في هذا الوقت الشديد والمر العسير")‪.(9‬‬
‫قلت‪ :‬انظر كيف يثني عليه لما فيه صلح المة‪ ،‬مع كل ما ذكر عنه‬
‫من فساد‪ ،‬إذ العبرة عند أهل العلم النجباء غلبة المصلحة العامة وإن‬
‫وجد فساد شخصي‪.‬‬
‫‪ -2‬تحكيم الدساتير والقوانين الوضعية‪:‬‬
‫سألقي الضوء على مثالين اثنين من الدول في التاريخ السلمي‬
‫التي حكمت بالدساتير والقوانين الوضعية‪ ،‬هما‪:‬‬
‫أ‪ -‬دولة المماليك وتطبيق القوانين غير السلمية )الياسة(‪:‬‬
‫وهي نقطة مثيرة للجدل والستغراب‪ ,‬لذلك سأتركك أخي القارئ‬
‫مع المؤرخين والكتاب كي يحدثوك عن هذه النقطة‪.‬‬
‫يقول احمد بن علي المقريزي‪" :‬درب أرقطاي‪ ,‬هذا الدرب بحارة‬
‫الروم ‪ ...‬وهو أرقطاي المير سيف الدين الحاج أرقطاي‪ ,‬أحد مماليك‬
‫الملك الأشرف خليل بن قلوون وصار إلى أخيه الملك الناصر محمد‬
‫فجعله جمدارا‪ ،‬وكان هو والمير ايتمش نائب الكرك بينهما أخوة ولهما‬
‫‪"9‬البداية والنهاية" )‪.(13/236‬‬

‫‪17‬‬
‫معرفة بلسان الترك القيجاقي‪ ,‬ويرجع إليهما في "الياسة" يعني اليسق‬
‫التي هي شريعة جنكيزخان‪ ,‬التي تقول العامة وأهل الجهل في زماننا‪:‬‬
‫هذا حكم السياسة ‪ ...‬يريدون حكم الياسة")‪.(10‬‬
‫ويقول جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي التابكي‪:‬‬
‫"قلت‪ :‬كان الملك الظاهر ‪ -‬رحمه الله – يسير على قاعدة ملوك التتار‪,‬‬
‫وغالب أحكام جنكيزخان من أمر"اليسق والتورا"‪ ,‬واليسق هو الترتيب‪,‬‬
‫والتورا‪ :‬المذهب باللغة التركية‪ ,‬وأصل لفظ اليسق )سي يسا(‪ ,‬وهي‬
‫لفظة مركبة من كلمتين‪ ,‬صدر الكلمة‪ :‬سي بالعجمة‪ ,‬وعجزها يسا‬
‫بالتركي‪ ,‬لن )سي( بالعجمي‪ ,‬ثلثة‪ ,‬ويسا بالمغلي الترتيب‪ ,‬فكأنه قال‪:‬‬
‫التراتيب الثلثة‪ ,‬وسبب هذه الكلمة أن جنكيزخان‪ ,‬ملك المغل كان‬
‫قسم ممالكه في أولده الثلثة‪ ,‬وجعلها ثلثة أقسام وأوصاهم بوصايا لم‬
‫يخرج عنها الترك إلى يومنا هذا مع كثرتهم واختلف أديانهم فصاروا‬
‫يقولون‪ :‬سي يسا )يعني التراتيب الثلثة التي رتبها جنكيزخان(‪ ,‬فصارت‬
‫الترك يقولون"سي يسا" فثقل ذلك على العامة فحرفوها على عادة‬
‫تحاريفهم‪ ,‬وقالوا سياسة"‪ .‬ثم إن الترك أيضا حذفوا صدر الكلمة فقالوا‪:‬‬
‫يسا مدة طويلة‪ ,‬ثم قالوا‪ :‬يسق واستمر ذلك إلى يومنا هذا")‪ ،(11‬انتهى‪.‬‬
‫ويقول أبو شامة‪" :‬وكان نور الدين لما صارت له الموصل قد أمر‬
‫كمشتكين شحنة الموصل‪ ,‬أن ل يعمل شيئا ً إل بالشرع إذا أمر القاضي‬
‫والنواب كلهم شيئا ً إل بأمر الشيخ عمر المل‪ ,‬وقال وكان ل يعمل إل‬
‫بالسياسة ‪ -‬أي الشيخ عمر‪ -‬وبطلت الشحنكية في أكابر الدولة‪ ,‬وقالوا‬
‫عار وأرباب الفساد‪ ,‬ول يجيء من هذا شيء إل‬ ‫لمكمشتكين قد كثر الد ّ‬
‫بالقتل والصلب‪ ,‬فلو كتبت إلى نور الدين‪ ,‬وقلت له في ذلك‪ ,‬فكتب إلى‬
‫عار والمفسدين وقطاع الطرق قد كثروا‬ ‫نور الدين وقال له‪ :‬إن الد ّ‬
‫ويحتاج إلى نوع من سياسة )أي ياسة( فمثل هذا ل يجيء إل بقتل‬
‫وصلب وضرب‪ ,‬وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يجيء يشهد له‪,‬‬
‫قال‪ :‬فقلب نور الدين كتابه وكتب على ظهره أن الله تعالى خلق الخلق‬
‫وهو أعلم بمصلحتهم وشرع لهم شريعة‪ ,‬وهو أعلم بما يصلحهم‪ ,‬وأن‬
‫مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه الكمال فيها‪ ,‬ولو علم أن على‬
‫الشريعة زيادة في المصلحة لشرعه‪ ,‬فما لنا حاجة إلى زيادة على ما‬
‫شرعه الله تعالى")‪.(12‬‬
‫ويقول أبو شامة وهو يصف حياة السلطان الملك العادل نور الدين‬
‫عد له‪ ،‬أنه لم يعاقب العقوبة التي‬‫محمود زنكي‪" :‬قال ابن الثير وما ُ‬
‫يعاقب بها الملوك في هذه العصار على الظنة والتهمة‪ ,‬بل يطلب‬

‫‪10‬في كتابه "المواعظ والعتبار – "الخطط المقريزية" )الجزء الثاني‪ ,‬صفحة‬


‫‪ ,359‬طبعة دار الكتب‪ ,‬بيروت(‪.‬‬
‫‪"11‬النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة " )ص ‪ (255-254‬في طبعة‬
‫مصورة عن طبعة دار الكتب‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫"الروضتين في أخبار الدولتين" )ج ‪ ,1‬ص ‪ - (13‬طبعة دار الجبل‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫الشهود على المتهم‪ ,‬فان قامت البينة الشرعية‪ ,‬عاقبه العقوبة الشرعية‬
‫د‪ ,‬فدفع الله بهذا الفعل عن الناس من الشر ما يوجد في غير‬ ‫من غير تع ّ‬
‫وليته مع شدة السياسة والمبالغة في العقوبة والخذ بالظنة‪ ,‬وأمنت‬
‫بلده مع سعتها وقل المفسدون ببركة العدل واتباع الشرع المطهر")‪،(13‬‬
‫انتهى‪.‬‬
‫ما اكتشف سنة ‪569‬هـ أمر‬ ‫ويقول أبو شامة عن صلح الدين ل ّ‬
‫الفتنة التي دبرها أنصار الفاطميين من الجند لعادة ملكهم‪" :‬ثم أمر‬
‫السلطان – يعني صلح الدين – بإحضار مقدميهم واعتقالهم لقامة‬
‫السياسة فيهم")‪.(14‬‬
‫ويقول ابن فضل الله العمري من بين الوصايا الموجهة لوالي‬
‫الحرب‪" :‬وليخلص من الحقوق ما رفع إليه‪ ,‬ويطالب به من مطل به‪,‬‬
‫وقد أوجب الحق عليه‪ ,‬وليتفقد أرباب النحل لزيفهم المردود‪ ,‬وليقم‬
‫عليهم السياسة‪ ,‬إذا لم تمض عليهم الحدود")‪ ،(15‬انتهى‪.‬‬
‫كذلك يقول الدكتور السيد الباز‪" :‬ومن أهم قواعد الحكم في الدولة‬
‫المملوكية إعداد طبقة للعتماد عليها في الحرب والدارة‪ ,‬تألفت هذه‬
‫الطبقة من المماليك المجلوبين صغار السن من بلد القبجاق واستقروا‬
‫في الطباق حيث تلقوا التدريب الحربي والتعليم الديني‪ ,‬وخضعوا لما‬
‫فرض عليهم من أساليب التدريب والتأديب‪ ,‬وهي ل تخرج كثيرا ً عن‬
‫التقاليد المعروفة عند التتار‪ ,‬فعلى الرغم من أن هؤلء المماليك نشئوا‬
‫بدار السلم‪ ,‬إل أنهم احتاجوا في ذات أنفسهم إلى الرجوع إلى حكـم‬
‫الياسة‪ .‬فسار السلطان "الظاهـر بيبرس" على هذه القاعدة فيما يتعلق‬
‫بالنظم الحربية وإنزال العقوبـات الصارمة لمن يرتكب جرائم‪ ,‬إذا ل‬
‫تكفي الحدود الشرعية فـي ردعهم‪ ,‬فمن بين الوصايـا الموجهة لوالي‬
‫الحرب وصية بمكافحة الخمر والحشيش وتفقد أرباب النحل وإقامة‬
‫حكم السياسة إذا لم تكف الحدود الشرعية")‪ ،(16‬انتهى‪.‬‬
‫ويقول دوروتيا كرافولسكي)‪ ..." :(17‬وهكذا فان اعتناق مغول القبيلة‬
‫الذهبية للسلم‪ ،‬يظهر وكأنه النتيجة المنطقية لكون الياسة ولو في‬
‫بعض شرائعها موافقة للشريعة المحمدية‪ ,‬ثم أن دفاع العمري عن‬
‫الياسة لن فيها "ما يوافق الشريعة" يشكل دفاعا ً مستترا ً عن المماليك‬
‫بمصر الذين كانوا يطبقون بعض أحكام الياسة في أوساطها")‪ ،(18‬انتهى‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫كتاب "الروضتين" )ج ‪ ،1‬ص ‪.(7‬‬
‫‪14‬كتاب "الروضتين" )ج ‪1‬ص ‪.(219‬‬
‫‪15‬كتاب "التعريف في المصطلح الشريف"‪ ,‬تحقيق د‪ .‬سمير ألدروبي‪) ,‬ص‬
‫‪.(134‬‬
‫‪16‬كتاب "المماليك" )ص ‪.(255‬‬
‫‪17‬محقق كتاب "مسالك البصار في ممالك المصار‪ -‬دولة المماليك الولى"‪.‬‬
‫‪18‬في مقدمته لكتاب ابن فضل الله العمري المتوفى سنة ‪749‬هـ‪1349 ,‬م‬
‫في كتابه "مسالك البصار في ممالك المصار‪ ،‬دولة المماليك الولى‪ ,‬نشر‬
‫المركز السلمي للبحوث )ص ‪.(31‬‬

‫‪19‬‬
‫قلت‪ :‬نلحظ مما سبق ذكره أن مجموعة القوانين والتقاليد التي‬
‫وضعها جنكيزخان لتنظيم النواحي السياسية والحربية والقتصادية‬
‫والجتماعية لم تطبقها دولة المماليك جميعًا‪ ،‬سوى ما يتعلق منها‬
‫بالعساكر والجند وما يقع بينهم من نزاع وخلف‪ ,‬وما يترتب على ذلك‬
‫الخلف والنزاع من عقوبات لتأديبهم وأخذهم بالنظام‪.‬‬
‫وقد بينت لنا كتب التاريخ بعض تلك القوانين الصارمة في حق‬
‫المخالف‪ ,‬إذ نص هذا القانون الجنكيزخاني على عقوبة القتل لجرائم‬
‫الزنا‪ ,‬واللواط والقتل والسرقة‪ ,‬والكذب والتجسس‪ ,‬والسحر أو تعمد‬
‫إخفاء مملوك أو محاولة إطعام أسير دون إذن وليه‪ .‬وحّرم هذا القانون‬
‫غسل الثياب وأوجب لبسها حتى تبلى‪ ,‬وألزم القانون نساء العساكر‬
‫القيام بأعمال الرجال في السخرة طيلة مدة غيابهم‪ ,‬وألزمهم عند رأس‬
‫كل سنة بعرض سائر بناتهن البكار ليختار منهن السلطان لنفسه‬
‫وأولده‪ ,‬وغير ذلك)‪.(19‬‬
‫لم يكن قصدي قط‪ ،‬من التطرق إلى هذه النحرافات في الدولة‬
‫المملوكية‪ ،‬بيان ما فيها من فساد‪ ,‬فان بحث هذا المر يطول‪ ,‬إنما‬
‫جاءت في معرض الرد على الشبهة‪ ،‬ثم أخذ العبرة من التاريخ الماضي‬
‫لمعاشنا‪.‬‬
‫وهنا ل بد من سؤال يفرض نفسه‪ ,‬كيف أثنى ابن تيمية عليها‪,‬‬
‫وعليها ما عليها من انتقادات حتى وصلت إلى قضية التشريع والحتكام‬
‫إلى الياسة )اليسق( فيما يختص بأمر الجند بحجة أن أحكام الشريعة ل‬
‫تكفي في ردعهم وتأديبهم؟‬
‫إن ابن تيمية رحمه الله‪ ,‬قد أفضى إلى ما قدم وبالعودة إلى أقواله‬
‫في الصفحات القليلة الماضية‪ ,‬التي بين وعرض فيها أحوال العالم‬
‫السلمي في عصره‪ ,‬يتضح للقارئ أن دولة المماليك هي أفضل ما وجد‬
‫في عصره خدمة للدين والشريعة‪ ,‬كونها الحاضنة لبقية السلم‬
‫وشرائعه‪ ،‬والقل بعدًاعن المحجة البيضاء والطريق الواضح من غيرها‬
‫من الدول السلمية المنتشرة وقتئذ‪ ،‬فقد شهد لها ابن تيمية‪ ،‬كما يجب‬
‫على كل منصف‪ ،‬هذه الشهادة لفقهه الشرعي الثاقب‪ ،‬ولفهم الواقع‬
‫الذي يعيش‪ ,‬إذ انه كان واقعيا ً يطبق القواعد الصولية المعروفة‪.‬‬
‫وللسف فإن البعض حين عرضت عليه هذه الحقائق‪ ،‬قال‪" :‬أخطأ ابن‬
‫تيمية"‪.‬‬
‫فكان رحمه الله‪ ,‬يفرق بين أفضل الخيرين فيفضل الول منهما‪,‬‬
‫ويفرق بين أسوأ الشرين‪ ,‬فيختار القل منهما ويتعامل معه مضطرا‪,‬‬
‫وقد يدافع عنه ويأمر الناس بالدفاع عنه والوقوف إلى جانبه كما حصل‬
‫معه رحمه الله في وقوفه مع المماليك ضد التتر الذين سعوا في الرض‬
‫فسادًا‪ ،‬رغم أنهم أعلنوا إسلمهم وتردد كثير من العلماء في إعطاء‬
‫فتوى تقضي بوجوب محاربتهم‪ ،‬ولكن فقه المام ابن تيمية أصدر فيهم‬
‫‪19‬عن كتاب "المماليك" )ص ‪ (251‬للدكتور الباز‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫فتواه المعروفة التي رفع الله تعالى بها شرهم عن بقية السلم في‬
‫مصر وبقية بلد الشام‪.‬‬
‫لذا قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه الله تعالى‪" :‬ليس العاقل‬
‫الذي يعلم الخير من الشر إنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر‬
‫الشرين")‪ ،(20‬فكانت مواقفه العملية مبنية على أصوله العلمية‪.‬‬
‫وقد تعلم تلميذه ابن القيم منه هذا المنهج القويم‪ ،‬وأفتى به‪ ،‬حيث‬
‫قال في شروط النكار ودرجاته‪:‬‬
‫"النكار له شروطه‪:‬‬
‫المثال الول‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لمته إيجاب‬
‫إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله‪ ،‬فإذا‬
‫كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله‪ ،‬فإنه‬
‫ل يسوغ إنكاره‪ ،‬وان كان الله يبغضه ويمقت أهله وهذا كالنكار على‬
‫الملوك والولة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر‬
‫الدهر‪ .‬وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في‬
‫قتال المراء الذين يؤخرون الصلة عن وقتها وقالوا‪ :‬أفل نقاتلهم؟ فقال‪:‬‬
‫"ل ما أقاموا الصلة"‪ ،‬وقال‪" :‬من رأى من أميره ما يكرهه‪،‬‬
‫فليصبر ول ينزعن يدا ً من طاعته")‪.(21‬‬
‫"ومن تأمل ما جرى على السلم في الفتن الكبار والصغار‪ ،‬رآها‬
‫من إضاعة هذا الصل‪ ،‬وعدم الصبر على منكر‪ ،‬فطلب إزالته فتولد منه‬
‫ما هو اكبر منه‪ .‬فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة‬
‫أكبر المنكرات‪ ،‬ول يستطيع تغييرها‪ ،‬بل لما فتح الله مكة وصارت دار‬
‫إسلم‪ ،‬عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم‪ ،‬ومنعه من ذلك‬
‫مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش‬
‫لذلك‪ ،‬لقرب عهدهم بالسلم‪ ،‬وكونهم حديثي عهد بكفر‪ ،‬ولهذا لم يأذن‬
‫في النكار على المراء باليد‪ ،‬لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه‬
‫كما وجد سواء"‪.‬‬
‫وعن درجات النكار يقول‪:‬‬
‫"فإنكار المنكر أربع درجات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أن يزول ويخلفه ضده‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن يقل وإن لم يزل بجملته‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن يخلفه ما هو مثله‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬أن يخلفه ما هو شر منه‪.‬‬

‫‪"20‬مجموع فتاوى ابن تيمية في الفقه" )ج ‪ 20‬ص ‪.(54‬‬


‫‪"21‬صحيح الجامع الصغير لللباني"‪ .‬ورواية الشيخان عن ابن عباس قال‪:‬‬
‫قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬من رأى من أميره ما يكرهه‬
‫فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجاهلية فيموت إل مات ميتة‬
‫جاهلية"‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫فالدرجتان الوليان مشروعتان والثالثة موضع اجتهاد والرابعة‬
‫محرمة‪.‬‬
‫فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج‪ ،‬كان إنكارك‬
‫عليهم من عدم الفقه والبصيرة‪ ،‬إل إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى‬
‫الله ورسوله‪ ،‬كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك‪ ،‬وإذا رأيت‬
‫الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية‪ ،‬فإن نقلتهم‬
‫عنه إلى طاعة الله فهو المراد‪ ،‬وإل كان تركهم على ذلك خيراً من أن‬
‫تفرغهم لما هو أعظم من ذلك‪ ،‬فكان ما هم فيه شاغل ً لهم عن ذلك‪،‬‬
‫وكما إذا كان الرجل مشتغل ً بكتب المجون ونحوها‪ ،‬وخفت من نقله عنها‬
‫انتقاله إلى كتب البدع والضلل والسحر‪ ،‬فدعه وكتبه الولى‪ ،‬وهذا باب‬
‫واسع‪.‬‬
‫وسمعت شيخ السلم ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه‬
‫يقول‪ :‬مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون‬
‫الخمر‪ ،‬فأنكر عليهم من كان معي‪ ،‬فأنكرت عليه وقلت له‪ :‬إنما حرم‬
‫الله الخمر لنها تصد عن ذكر الله وعن الصلة‪ ،‬وهؤلء يصدهم الخمر‬
‫عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الموال فدعهم")‪ ،(22‬انتهى‪.‬‬
‫وإذا حق لبي بكر الصديق ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم‬
‫جميعًا‪ ،‬أن يتعاطفوا مع الروم حين هزمهم الفرس‪ ،‬لنهم القرب إلى‬
‫ديننا من الفرس وأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا ً يتلى مؤيدا ً موقف‬
‫هم‬ ‫ح ُ‬ ‫الصحابة‪ -‬رضي الله عنهم‪ -‬كما في قوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫كم ب َي ْن َ ُ‬ ‫نا ْ‬ ‫وأ ِ‬ ‫َ‬
‫ه َ‬ ‫ع أَ ْ‬ ‫مآ َأنَز َ‬
‫ض‬
‫َ ْ ِ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫عن‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫نو‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫م أن ي َ‬ ‫حذَْر ُ ْ‬ ‫وا ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫واء ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ول َ ت َت ّب ِ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫بِ َ‬
‫هم‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وا َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ك َ‬ ‫َ‬
‫ه إ ِلي ْ َ‬ ‫ّ‬ ‫ما أنَز َ‬ ‫َ‬
‫صيب َ ُ‬ ‫ه أن ي ُ ِ‬ ‫ريدُ الل ُ‬ ‫ما ي ُ ِ‬‫م أن ّ َ‬ ‫عل ْ‬ ‫فا ْ‬ ‫ول ْ‬ ‫فِإن ت َ َ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫َ‬
‫ن ]المائدة‪،[49:‬‬ ‫قو َ ‪‬‬ ‫س ُ‬ ‫فا ِ‬ ‫سل َ‬‫َ‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ّ‬ ‫را‬ ‫ً‬ ‫ثي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫إ‬
‫َ ِ‬‫و‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫نو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ذ‬ ‫ض‬ ‫ع‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫بِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫د‬ ‫َ‬ ‫م‪ِ ‬‬ ‫وقوله تعالى‪) :‬الم‪ُ ‬‬
‫ع ِ‬‫ن بَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫ض َ‬ ‫في أدَْنى الْر ِ‬ ‫ت الّرو ُ‬ ‫غل ِب َ ْ‬
‫د‬
‫ع ُ‬‫ن بَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫و ِ‬ ‫ل َ‬ ‫قب ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫مُر ِ‬ ‫ه ال ْ‬ ‫ن ل ِل ِ‬ ‫ّ‬ ‫سِني َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ن‪ِ ‬‬ ‫َ َ‬
‫ض ِ‬ ‫في ب ِ ْ‬ ‫غل ُِبو َ‬ ‫سي َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫غلب ِ ِ‬
‫زيُز‬ ‫ع ِ‬ ‫و ال ْ َ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬ ‫شاءُ َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫صُر َ‬ ‫ه َين ُ‬ ‫ر الل ّ ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫ن ‪ ‬ب ِن َ ْ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ح ال ْ ُ‬ ‫فَر ُ‬ ‫ذ يَ ْ‬ ‫مئ ِ ٍ‬‫و َ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫َ‬
‫م ]الروم‪ .[5-1:‬وأجاز الرسول ‪ -‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬رهان أبي‬ ‫ّ‬ ‫حي ُ ‪‬‬ ‫الّر ِ‬
‫بكر لقريش على هذا المر‪ -‬وكان ذلك قبل تحريمه‪.(23)-‬‬
‫إذا كان المر كذلك‪ ،‬فمن باب أولى أن يتعاطف ابن تيمية مع دولة‬
‫المماليك‪ ،‬بل يدافع عنها بنفسه وماله‪ ،‬رغم ما صدر منها في حقه ما‬
‫أودعه هو وأصحابه السجن عدة مرات حيث مات رحمه الله تعالى في‬
‫سجن القلعة سنة ) ‪728‬هـ(‪ ،‬وبقي فيه ابن قيم الجوزية بعد موت شيخه‬
‫ثم أفرج عنه بعد ذلك‪.‬‬
‫داعات لفقه هذا المام‬ ‫ّ‬ ‫الخ‬ ‫السنوات‬ ‫هذه‬ ‫في‬ ‫أقول‪ :‬ما أحوجنا‬
‫الكبير؟‬

‫‪"22‬إعلم الموقعين" )‪.(5 -3/4‬‬


‫‪23‬تفسير القرطبي‪ ،‬وابن كثير‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫فأي الدول السلمية هي الكثر تطبيقا ً لشعائر ديننا والخلص‬
‫لقضايانا‪ ،‬لنوليها جل اهتمامنا وعطفنا؟)‪.(24‬‬
‫وأي البلد السلمية البعد عن ديننا والسوأ علينا من غيرها لنح ّ‬
‫ذر‬
‫الناس منها فضل عن عدم التعاطف معها؟ أين نحن من فقه الواقع‬
‫المزعوم وأين نحن من فقه الواقع المظلوم؟؟‬
‫؟؟!!‪ ،‬بل مع‬ ‫أم نريدها صراعا مع النظمة القائمة عن)جنب وطرف( ‌‬
‫النظمة المعتدلة التي ل زال فيها بقية من خير‪ ،‬وعلى رأسها المملكة‬
‫العربية السعودية‪ ،‬المستهدفة بكل معنى الكلمة مع السف‪.‬‬
‫وماذا ستكون النتيجة بعد ذلك إل ما رأيناه بأم أعيننا ول زلنا نراه من‬
‫تجاربنا التي لدغنا منها اللدغات تلو اللدغات‪.‬‬
‫ر!!‬
‫ولكن هيهات هيهات لمن يصحو ويعتب ‌‬
‫ب‪ -‬الخلفة العثمانية وتطبيق الدستور الوضعي والقوانين‬
‫غير السلمية‪:‬‬
‫أما قصة تغيير الدستور السلمي والقوانين السلمية في زمن‬
‫الخلفة العثمانية فقد كانت أول محاولة لتغيير الدستور سنة ‪،(25)1839‬‬
‫حيث تضمنت أفكارا ً أوروبية مع محاولة مراعاة السلم‪ .‬واستمرت‬
‫محاولت يهود الدونمة بواسطة عملئهم وعلى رأسهم مدحت باشا‬
‫الذي تولى مقاليد الصدارة العظمى في دولة الخلفة تغيير الدستور‪،‬‬
‫فألف لجنة تضم مدنيين وعلماء وعسكريين لوضع مشروع دستور‬
‫الدولة‪.‬‬
‫وبعد مصاعب بالغة أقرت اللجنة المشروع مستوحى من الدستور‬
‫البلجيكي‪ ،‬وقد نشر تحت اسم "قانون أساس" في ‪23/12/1876‬م‪،‬‬
‫فأصبح دستور الدولة الرسمي‪ ،‬أي صار الدستور البلجيكي مع مراعاة‬
‫بعض النواحي السلمية دستورا ً للدولة السلمية‪.‬‬
‫ولكن السلطان عبد الحميد والعلماء وكبار المسلمين لم يضعوه‬
‫موضع التنفيذ وقاوموه حتى ثار "حزب تركيا الفتاة" على السلطان سنة‬
‫‪ ،1908‬فأعلنوا الدستور في ‪21/7/1908‬م في سالونيك)‪ .(26‬حيث نرى‬
‫أن الخليفة لم يستطع أن يبعد الدستور المنحرف عن الدولة لن أكثر‬
‫المتنفذين من الشعب كانوا يريدونه‪.‬‬
‫"هذا من الناحية الدستورية‪ ،‬أما من ناحية الحكام الشرعية التي‬
‫يحكم فيها القضاة فان تغييرها إلى قوانين بدأ قبل ذلك‪ ،‬فإنه منذ عام‬
‫‪1856‬م‪ ،‬بدأت الحركة لخذ القوانين الغربية ‪ ...‬ففي سنة ‪1857‬م‬
‫سنت الدولة قانون الجزاء العثماني‪ ،‬وفي سنة ‪1858‬م سنت قانون‬
‫الحقوق والتجارة‪ ،‬وفي سنة ‪1870‬م جعلت المحاكم قسمين‪ :‬محاكم‬

‫‪24‬لعل جاهل ً بالواقع يقول‪ :‬إن كل الأنظمة في الشر سواء‪ ،‬والرد عليه بعد‬
‫صفحات‪.‬‬
‫‪25‬كيف هدمت الخلفة‪ ،‬لعبد القديم زلوم‪) ،‬ص ‪.(36‬‬
‫‪"26‬كيف هدمت الخلفة"‪ ،‬لعبد القديم زلوم‪) ،‬ص ‪.(42‬‬

‫‪23‬‬
‫شرعية‪ ،‬ومحاكم نظامية‪ ،‬ووضع لها نظام‪ ،‬ثم في سنة ‪1877‬م وضعت‬
‫لئحة تشكيل المحاكم النظامية‪ .‬وفي سنة ‪1878‬م وضع قانون أصول‬
‫المحاكمات الحقوقية والجزائية‪ ،‬وصدرت فيها الفتوى من شيخ السلم‬
‫وفتاوى العلماء بجواز أخذها لنها ل تخالف السلم‪.(27)"...‬‬

‫‪27‬المرجع السابق )ص ‪.(43‬‬

‫‪24‬‬
‫الشبهة الخامسة‪ :‬إذا أراد المخالف أن هذه البدعة‪ ،‬بدعة‬
‫شرك القصور‪ ،‬هي الكبر والعظم‪ ،‬لنه لول مرة في‬
‫التاريخ تعيش المة هذه الحالة من التجزئة والتعددية‬
‫الدولية‪.‬‬
‫"لول مرة في التاريخ"‪:‬‬
‫كثيرا ً ما نسمع هذه الجملة تصف أحداثا في معرض الذم‪ ،‬تخرج من‬
‫أفواه غير العلماء للتدليل على قبح فعل ما والتنفير منه‪ ،‬وبغض النظر‬
‫عن الدوافع المشبوهة لدى البعض ممن يقف وراء إطلق هذه الكلمة‪،‬‬
‫إل أننا نحسن الظن بكثير من قائليها‪.‬‬
‫وسأضرب لذلك مثل‪:‬‬
‫حين استعانت السعودية بالقوات الدولية في حربها ضد النظام‬
‫الشتراكي في العراق‪ ،‬وقف من وقف من العلماء واصفا ً الحدث على‬
‫أنه الول في التاريخ‪ ،‬ونحن نعلم والعقلء معنا أن هذا افتراء على‬
‫التاريخ‪ ،‬وقد حدث مثل هذا في القرن الماضي‪.‬‬
‫نعود إلى موضوعنا لنرى عجبا ً في واقع المة السلمية من ناحية‬
‫التجزئة والتفرقة التي مرت بها‪ ،‬فما أن انتهت الخلفة الموية‪ ،‬سنة )‬
‫‪132‬هـ(‪ ،‬الموافق )‪750‬م( وبداية الخلفة العباسية وانتهاء ما يسمى‬
‫بالعصر الذهبي‪193 ،‬هـ‪809 /‬م‪ ،‬حتى بدأت الدولة السلمية بالتجزئة‪،‬‬
‫ولكي تعرف أخي القارئ مدى التجزئة في العالم السلمي وقتئذ‪ ،‬فإنني‬
‫أقدم لك هذه الرقام التي توصلت إليها من خلل حسبة بسيطة أخذت‬
‫مني القليل من البحث في "أطلس تاريخ السلم"‪ ،‬للمؤلف الدكتور‬
‫حسين مؤنس‪.‬‬
‫عرض الطلس بالشرح والخرائط تاريخ السلم منذ ظهور السلم‬
‫إلى آخر القرن الرابع عشر الهجري‪ ,‬ثم لخص ذلك في جداول تاريخية‬
‫من صفحة ) ‪ ,(42 -35‬وضع فيه السنوات على الخط العامودي والقاليم‬
‫على الخط الفقي‪ .‬وفيما يلي بيان عدد الدويلت السلمية في السنوات‬
‫المختارة‪:‬‬
‫ففي سنة ) ‪873‬م(‪ ،‬وجدت عشر دويلت – هذا الرقم سيتضاعف‬
‫لمن أراد التدقيق ‪ -‬وهي‪:‬‬
‫‪-3‬‬ ‫في بلد المغرب‪ -1 :‬الغاربة ‪ -2‬الرستميون‪ -‬تاهرت‬
‫الدارسة‪-‬ويليلي‪.‬‬
‫‪-2‬‬ ‫‪ -1 :‬بنو طاهر)الطاهريون(‬ ‫في خراسان‬
‫الصفاريون‪.‬‬
‫‪ :‬الطولونيون‪.‬‬ ‫في مصر‬
‫‪ :‬الزيديون‪.‬‬ ‫في اليمن‬
‫في ما وراء النهر والترك‪ :‬السامانيون‪.‬‬
‫‪ :‬المويون‪.‬‬ ‫في الندلس‬
‫وثورة الترك ‪ :‬تركيا‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫وفي عام ) ‪1180‬م(‪ ،‬وجدت خمس عشرة دولة‪ ،‬منبها ً على أن هذا‬
‫العدد إنما هو جزء يسير من الواقع‪ ،‬لكن تكفينا منه الشارة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫الغزنويون في أفغانستان‪.‬‬ ‫‪-1‬‬
‫المويون في الندلس‪ ،‬علما أن الندلس كانت‬ ‫‪-2‬‬
‫مقسمة‪.‬‬
‫السلجوقيون في بغداد‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫السلجوقيون في الروم‪.‬‬ ‫‪-4‬‬
‫الموحدون في المغرب‪.‬‬ ‫‪-5‬‬
‫اليوبيون في مصر والشام‪.‬‬ ‫‪-6‬‬
‫التابكة في أذريبجان‪.‬‬ ‫‪-7‬‬
‫التابكة في أربيل‪.‬‬ ‫‪-8‬‬
‫التابكة في الجزيرة‪.‬‬ ‫‪-9‬‬
‫التابكة في سنجار‪.‬‬ ‫‪-10‬‬
‫التابكة في فاس‪.‬‬ ‫‪-11‬‬
‫التابكة في الموصل‪.‬‬ ‫‪-12‬‬
‫الحشاشون‪.‬‬ ‫‪-13‬‬
‫بنو حماد في المغرب‪.‬‬ ‫‪-14‬‬
‫الغوريون في أفغانستان والهند‪.‬‬ ‫‪-15‬‬
‫وعن عالم التفرقة في العالم السلمي‪ ،‬يحدثنا المؤرخ عبد الغني‬
‫بن سعيد الزدي في وقت مبكر بعد وفاة المتوكل بن المعتصم بن‬
‫الرشيد ) سنة ‪247‬هـ( تحت عنوان‪" :‬ملوك مصر بعد ضعف‬
‫الخلفة العباسية"‪ ،‬يقول‪" :‬وفي خلفة أمير المؤمنين عمر بن‬
‫الخطاب رضي الله عنه افتتحت الديار المصرية والبلد الشامية على يد‬
‫عمرو بن العاص ولم تزل في النيابة أيام الخلفاء الراشدين ودولة بني‬
‫أمية وبني العباس إلى أن ضعفت الخلفة العباسية بعد قتل المتوكل بن‬
‫المعتصم بن الرشيد سنة سبع وأربعين ومائتين‪ .‬وتغلب على النواحي‬
‫كل متملك لها‪ ،‬فانفرد أحمد بن طولون بمملكة مصر والشام‪ ،‬ثم دولة‬
‫الخشيد‪ ،‬وبعده كافور أبو المسك‪ .‬ولما مات قدم جوهر القائد من قبل‬
‫المعز الفاطمي من المغرب‪ ،‬فملكها من غير ممانع‪ ،‬وأسس القاهرة‪،‬‬
‫وذلك في سنة إحدى وستين وثلثمائة‪.‬‬
‫وقدم المعز إلى مصر بجنوده وأمواله ومعه رمم آبائه وأجداده‬
‫محمولة في توابيت وسكن بالقصرين وادعى الخلفة لنفسه دون‬
‫العباسيين‪ .‬وأول ظهور أمرهم في سنة سبعين ومائتين‪ .‬فظهر عبد الله‬
‫بن عبيد الملقب بالمهدي‪ ،‬وهو جد بني عبيد الحلفاء المصريين العبيديين‬
‫الروافض باليمن‪ ،‬وأقام على ذلك إلى سنة ثمان وسبعين‪ ،‬فحج تلك‬
‫السنة واجتمع بقبيلة من كنانة فأعجبهم حاله‪ ،‬فصحبهم إلى مصر ورأى‬
‫منهم طاعة وقوة فصحبهم إلى المغرب فنما شأنه وشأن أولده من‬

‫‪26‬‬
‫بعده‪ ،‬إلى إن حضر المعز لدين الله أبو تميم معد بن اسمعي بن القائم‬
‫ابن المهدي إلى مصر وهو أولهم فملكوا نيفا ومائتين من السنين‪ ،‬إلى‬
‫أن ضعف أمرهم في أيام العاضد وسوء سياسة وزيره شاور")‪.(28‬‬
‫وهنا تبرز مسألة وهي‪ :‬عند غياب الدولة السلمية الم أو‬
‫المام العظم‪ ,‬هل يثبت للدول القائمة حكمها فتصح لهم‬
‫البيعة ويكون الجهاد ماضيا ً معهم وبإذنهم‪ ,‬وتكون علقاتهم‬
‫مع الغير لها صبغة شرعية؟‬
‫وقد أجبنا على هذه المسألة بالتفصيل في كتابنا وفضيلة الشيخ أبو‬
‫حمزة سمير مراد حفظه الله "مسائل في الجهاد" في المسألة الرابعة‪.‬‬
‫ولكن نختصر منه ما يفيدنا في إعداد مسائل هذا الكتاب‪.‬‬
‫ً‬
‫مة فرقا بين‬ ‫"قبل الجابة على هذا التساؤل ل بد من التنبيه أن ث ّ‬
‫حالتي القدرة والعجز عند تطبيق المر والنهي‪ ,‬قال المام ابن تيمية‬
‫رحمه الله تعالى‪" :‬ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الشياء وان‬
‫كانت واجبة أو محرمة في الصل لعدم إمكان البلغ الذي تقوم به حجة‬
‫الله في الوجوب أو التحريم‪ ,‬فان العجز مسقط للمر والنهي وان كان‬
‫واجبا ً في الصل")‪.(29‬‬
‫مة فرق بين حالي الختيار والضطرار‪ ,‬ومن لم يفرق‬ ‫وبمعنى آخر ث ّ‬
‫ضطّر‬‫ُ‬ ‫نا ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ف َ‬‫بينهما "فقد جهل المعقول والمنقول" لقوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫ه إ َّ‬
‫م ]البقرة‪ .[173:‬وقوله‬ ‫حي ٌ ‪‬‬
‫فوٌر َر ِ‬ ‫غ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫عل َي ْ ِ ِ‬‫م َ‬‫فَل إ ِث ْ َ‬ ‫عاٍد َ‬ ‫ول َ َ‬ ‫غ َ‬ ‫َ‬
‫غي َْر َبا ٍ‬
‫م إ ِل َي ْ ‪ِ‬‬
‫ه‬ ‫رْرت ُ ْ‬‫ضطُ ِ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫م إ ِّل َ‬
‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫حّر َ‬
‫ما َ‬ ‫م َ‬‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ص َ‬ ‫ف ّ‬ ‫قدْ َ‬ ‫و َ‬‫تعالى‪َ ) :‬‬
‫]النعام‪.[119 :‬‬
‫فالمسألة بين يدي البحث هي فرع عن أصل وهو حكم عقد‬
‫المامة‪.‬‬
‫فمن المعلوم أن "المامة موضوعة لخلفة النبوة في حراسة‬
‫"الدين وسياسة الدنيا‪ ,‬وعقدها لمن يقوم بها في المة واجب بالجماع‬
‫وإن شذ عنهم الصم")‪.(30‬‬
‫وإن لهذه المامة شروطا ً وأحكامًا‪ ,‬ومن أحكامها‪:‬‬
‫* حكم تعدد الئمة وفيه عدة أقوال‪:‬‬
‫القول الول ‪ :‬قول الكرامية بجواز ذلك مطلقا‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬قول الجمهور‪ :‬عدم جواز تعدد المام العظم‬
‫محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬إذا بويع لخليفتين فاقتلوا‬
‫الخر منهما")‪ .(31‬وقوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬من أتاكم وأمركم‬
‫جميعا على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق‬

‫‪"28‬المتوارين الذين اختفوا خوفا ً من الحجاج"‪) ،‬ج ‪ 1‬ص ‪ ،(26 -25‬ط‪،1/‬‬


‫‪1410‬هـ‪ ،‬دار القلم‪ -‬الدار الشامية‪ .‬تحقيق مشهور حسن‪.‬‬
‫‪"29‬مجموع الفتاوى" )‪.(61-20/60‬‬
‫‪"30‬الحكام السلطانية" للماوردي )ص ‪.(5‬‬
‫‪31‬رواه مسلم في المارة رقم )‪.(1853‬‬

‫‪27‬‬
‫جماعتكم فاقتلوه")‪ .(32‬وقوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬ومن بايع‬
‫إماما ً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع‪,‬‬
‫فان جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الخر")‪.(33‬‬
‫القول الثالث‪ :‬يصح للضطرار‪ ,‬وله ثلث صور‪:‬‬
‫الصورة الولى‪ :‬التباعد في القطار‪ ،‬ومن الفقهاء الذين‬
‫قالوا بجواز تعدد الئمة لتباعد القطار‪ :‬الشوكاني)‪ ،(34‬وابن كثير)‪،(35‬‬
‫والقرطبي)‪ ،(36‬وأحمد بن غنيم بن سالم المالكي)‪ ،(37‬والستاذ أبو‬
‫اسحق‪ :‬ونقل عنه كل من ابن كثير في قوله السابق‪ ،‬والنووي في‬
‫"روضة الطالبين")‪.(38‬‬
‫الصورة الثانية‪ :‬التغلب‪ ،‬ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز‬
‫تعدد الئمة للتغلب‪ :‬إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان)‪،(39‬‬
‫ي)‪ ،(40‬ومحمد بن عبد الوهاب)‪.(41‬‬ ‫صنعان ّ‬
‫وال ّ‬
‫الصورة الثالثة‪ :‬العجز أو المعصية أو غير ذلك‪ ،‬ومن‬
‫الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد الئمة للعجز أو المعصية أو‬
‫غير ذلك‪ :‬ابن تيمية‪" :‬والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد‬
‫والباقون نوابه‪ ,‬فإذا فرض أن المة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها‬
‫أو عجز من الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة‪ ,‬لكان يجب على كل‬
‫إمام أن يقيم الحدود‪ ,‬ويستوفي الحقوق‪.(42)" ...‬‬
‫* أقوال الفقهاء في ذكر صور لتعدد الئمة في التاريخ‬
‫السلمي‪:‬‬
‫‪ -‬محمد بن عبد الوهاب‪" :‬لن الناس من زمن طويل قبل‬
‫المام احمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد")‪.(43‬‬
‫ي‪" :‬إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلد‬ ‫صنعان ّ‬‫‪ -‬ال ّ‬
‫السلمية من أثناء الدولة العباسية‪ ,‬بل استقل أهل كل إقليم بقائم‬

‫‪32‬رواه مسلم في المارة رقم )‪.(1852‬‬


‫‪33‬رواه مسلم رقم )‪ (1844‬وأوله‪" :‬انه لم يكن نبي قبلي"‪.‬‬
‫‪"34‬السيل الجرار" )‪.(4/512‬‬
‫‪"35‬التفسير" )‪.(1/73‬‬
‫‪36‬في تفسيره‪" :‬الجامع لحكام القرآن" )‪.(1/273‬‬
‫‪37‬في كتابه "الفواكه الدواني" )‪.(1/396‬‬
‫‪.(10/47)38‬‬
‫‪"39‬منار السبيل" )‪ ,(2/353‬وقد توفي عام ‪1353‬هـ‪.‬‬
‫‪"40‬سبل السلم شرح بلوغ المرام من أدلة الحكام" )‪.(3/499‬‬
‫‪"41‬الدرر السنية في الجوبة النجدية" )‪.(7/932‬‬
‫‪"42‬مجموع الفتاوى" )‪.(176 -175 /34‬‬
‫‪43‬الدرر السنية في الجوبة النجدية )‪.(7/932‬‬

‫‪28‬‬
‫بأمورهم")‪.(44‬‬
‫‪ -‬ابن كثير‪" :‬قلت‪ :‬وهذا يشبه حال الخلفاء من بني العباس‬
‫بالعراق‪ ,‬والفاطميين بمصر‪ ,‬والمويين بالمغرب‪.(45)"...‬‬
‫‪ -‬الشوكاني‪" :‬وأما بعد انتشار السلم واتساع رقعته وتباعد‬
‫أطرافه فمعلوم انه قد صار في كل قطر أو أقطار الولية إلى إمام أو‬
‫سلطان وفي القطر الخر كذلك")‪.(46‬‬
‫‪ -‬ابن تيمية‪" :‬ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن‬
‫هذه الطائفة – أي المماليك – هي أقوم الطوائف بدين السلم علما‪ً.‬‬
‫عمل ً وجهادا ً عن شرق الرض ومغربها‪ ...‬وسكان اليمن ضعاف عاجزون‬
‫عن الجهاد‪ ,‬أو مضيعون له‪ ,‬وهم مضيعون لمن ملك هذه البلد‪ ... ،‬وأما‬
‫سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة‪ ... ،‬وأهل‬
‫اليمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون‪ ,‬وإنما تكون القوة والعزة في‬
‫هذا الوقت لغير أهل السلم بهذه البلد‪ ... ،‬وأما بلد أفريقية فأعرابها‬
‫غالبون عليها‪ ,‬وهم من شر الخلق‪ ...،‬وأما المغرب القصى فمع استيلء‬
‫الفرنج على أكثر بلدهم‪ ,‬ل يقومون بجهاد النصارى هناك‪ ,‬بل في‬
‫عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم‪ .‬فهذا وغيره‬
‫مما يبين أن هذه العصابة بالشام في هذا الوقت هم كتيبة السلم‪,‬‬
‫وعزهم عز السلم‪ ,‬وذلهم ذل السلم‪.(47)"...،‬‬
‫قلت‪ :‬وبالنظر إلى مقاصد التشريع‪ ,‬التي تبين لنا مدى أهمية المن‬
‫والمان‪ ,‬وأن من مقاصد الدولة السلمية حفظ البلد والعباد والدين‪ ,‬ولو‬
‫فرض تطبيق القول بعدم جواز كون الدويلت السلمية دويلت صحيحة‪,‬‬
‫وعدم جواز تطبيق كونها دول ً لها أحكام الدولة الم‪ ,‬لتنازع الناس نزاعا ً‬
‫ل انقطاع له‪ ,‬من أجل تحقيق الوجود الصحيح للدولة الم‪ ,‬المر الذي‬
‫يؤدي إلى ضياع البلد والعباد‪ ,‬وانتهاك الحرمات والعراض‪ ,‬واستحلل‬
‫الموال بغير وجه حق‪ ,‬مما يجعل هذا القول محض خطأ ونحن في قولنا‬
‫بأن هذه الدويلت لها – كل واحدة على حدة – حكم الدولة الم‪ ,‬حسما‬
‫لمادة النزاع والفساد‪ ,‬نحن بهذا ُنعمل قواعد الشرع التي منها‪- :‬‬
‫‪ -1‬الضرر ُيزال‪" ،‬عموم البلوى يرفع الحكم أو يخففه"‪.‬‬
‫‪ -2‬تحقيق المقاصد أولى من النظر إلى الوسائل؛ لنه بإعمال هذه‬
‫القواعد في إثبات شرعية هذه الدول على وجه الجمال‪ ,‬ينتج لنا ما‬
‫يحفظ الضرورات الخمس التي جاءت كل أمة بحفظها‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬
‫مجانب للصواب‪ ,‬مؤد ٍ إلى ضياٍع وفساٍد‪,‬‬ ‫فالقول بخلف ما قلنا‪ُ ,‬‬
‫والشرع جاء بعصمة مال الرجل ودمه وعرضه‪ ,‬فكيف بدماء أناس‬
‫مسلمين وذميين وغيرهم وأموالهم وأعراضهم‪ ,‬إذ القائل بغير ما قلنا‪,‬‬

‫‪44‬سبل السلم شرح بلوغ المرام من أدلة الحكام )‪.(3/499‬‬


‫‪45‬تفسير ابن كثير )‪.(1/73‬‬
‫‪46‬السيل الجرار )‪.(4/512‬‬
‫‪"47‬مجموع الفتاوى" )‪.(534-28/533‬‬

‫‪29‬‬
‫فكأنما ُيهدر وُيبيح كل ما ذكرنا‪ ,‬المر الذي يصادم قواعد الشرع‬
‫مطلقًا"‪ ،‬انتهى الملخص‪.‬‬
‫من الجهل أن يظن بنا البعض‪ ،‬أننا نرضى من خلل عرضنا لما‬
‫سلف‪ ،‬بحالة الخروج عن شرع الله‪ ،‬أو حالة الشرذمة والتجزئة التي‬
‫نعيشها هذه اليام‪ ،‬أو تكريس هذا الواقع والدعوة إليه‪ ،‬إنما يأتي عرض‬
‫هذه المسألة من باب العلم بالواقع الصحيح‪ ،‬وذلك لن معرفته ومعرفة‬
‫الحكام الشرعية ضرورة شرعية للحكم والقضاء‪ ،‬فالخطأ في فهم‬
‫الواقع أو تجاهله عند إصدار الفتاوى في النوازل يؤدي بنا إلى المهالك‪،‬‬
‫تماما ً كالذي يفتي وهو يجهل الحكام الشرعية‪ .‬يقول الله تعالى‪) :‬يا‬
‫كم‬ ‫سديدا ً ‪ُ ‬يصِلح ل َ ُ‬ ‫قول ً َ‬ ‫قولوا َ‬ ‫هو ُ‬ ‫ن آمنوا اّتقوا الل َ‬ ‫أّيها الذي َ‬
‫ه فقد‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سول ُ‬ ‫ه وَر ُ‬‫ع الل َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أعمال َ ُ‬
‫من ي ُطِ ِ‬ ‫فر لكم ذنوب َكم و َ‬ ‫غ ِ‬
‫كم وي َ ْ‬
‫عظيما ً‪] ‬الحزاب‪ ،[71-70:‬فالقول السديد هو الموافق‬ ‫فوزا ً َ‬ ‫فاَز َ‬ ‫َ‬
‫والمطابق للواقع الذي به يصلح الله أعمالنا ويغفر لنا ذنوبنا‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫قوُلوا ل ِما ت َص ُ َ‬
‫م‬ ‫حَرا ٌ‬ ‫ذا َ‬ ‫ه َ‬
‫و َ‬ ‫ل َ‬‫حل ٌ‬ ‫ذا َ‬‫ه َ‬‫ب َ‬ ‫م ال ْك َ ِ‬
‫ذ َ‬ ‫سن َت ُك ُ ْ‬ ‫ف أل ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ول َ ت َ ُ‬ ‫) َ‬
‫ب لَ‬ ‫ذ َ‬ ‫ْ‬
‫ه الك َ ِ‬ ‫ّ‬
‫على الل ِ‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬‫فت َُرو َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن ال ِ‬ ‫ب إِ ّ‬ ‫ذ َ‬ ‫ْ‬
‫ه الك َ ِ‬ ‫ّ‬
‫على الل ِ‬ ‫َ‬ ‫فت َُروا َ‬ ‫ل ِت َ ْ‬
‫ن ]النحل‪.[116:‬‬ ‫حو َ ‪‬‬ ‫فل ِ ُ‬‫يُ ْ‬

‫‪30‬‬
‫الشبهة السادسة‪ :‬لو قال المخالف‪ :‬لقد نظرت إلى‬
‫سيرة سلف المة من العلماء‪ ,‬فوجدتهم قد ركزوا في‬
‫دعوتهم على أكبر النحرافات الفكرية والعقدية المنتشرة‬
‫في زمانهم‪ ,‬كالنحراف في عقيدة السماء والصفات‪,‬‬
‫ص‬
‫والقدر‪ ,‬والوعد والوعيد‪ ,‬ونحو ذلك من العقائد التي اخت ّ‬
‫بها زمان دون آخر‪ ,‬وعلى ذلك وباعتبار أن بدعة العصر‬
‫الكثر شيوعًا‪ ،‬هي بدعة الحاكمية لغير الله‪ ,‬وأنها الشرك‬
‫الكبر‪ ,‬جعلت محاربتها من أولويات العمل السلمي‪.‬‬
‫جواب ذلك‪:‬‬
‫أن ما قام العلماء بإنكاره قديمًا‪ ,‬ل يزال ممتدا ً حديثًا‪ ,‬لكن‬ ‫‪-1‬‬
‫ل وقد يكثر‪ ,‬وعلى سبيل المثال نجد أن معتقدات الصوفّية‬ ‫قد يق ّ‬
‫قد كثرت حتى تسربل بها غالب أفراد المة في الباكستان‬
‫صة ودول الجمهورّيات السلمية في الّتحاد‬ ‫وأفغانستان خا ّ‬
‫مة‪ ,‬ونجد كذلك‬ ‫السوفيتي سابقا ً وإيران وبلد المغرب العربي عا ّ‬
‫نسبتها عالية في كل من مصر والسودان والعراق وبنسبة أقل في‬
‫بلد الشام‪.‬‬
‫لم يكن منهج علماء السلف السكوت عن النحرافات‬ ‫‪-2‬‬
‫المنتشرة في زمانهم حتى تشيع في المة‪ ،‬بل كان هديهم التحذير‬
‫من النحرافات ومحاربتها وهي في مهدها‪ ،‬فهذا ابن عباس يحذر‬
‫عمر رضي الله عنه‪ ،‬من خطر من دخل السلم من علوج‬
‫المجوس الذين بدأوا في النتشار في المدينة‪ .‬وهذا علي وابن‬
‫عباس رضي الله عنهما يناظران الخوارج في أفكارهم قبل سعة‬
‫جل لنا التاريخ مواقف سلف المة في التصدي‬ ‫انتشارها‪ .‬وكم س ّ‬
‫لحركة الترجمة عن كتب اليونان الفلسفية قبل امتدادها في طول‬
‫العالم السلمي وعرضه!!! فاقرأ إن شئت ما ورد عن الئمة‬
‫الربعة ومن قبلهم في النهي عن ذلك وليس هذا بحثه‪.‬‬
‫أما عن النحرافات التشريعية في الدويلت السلمية‪،‬‬ ‫‪-3‬‬
‫ففي الماضي كان غالب الدويلت المنشقة عن سلطان المة‬
‫باطنية خارجة عن السلم أصل‪ ،‬كما يوجد في هذا الزمان )للتأكد‬
‫راجع واقع العالم السلمي أيام ابن تيمية كما مر معك سابقا(‪.‬‬
‫وكذلك في المقابل قد وجد من الدول السلمية قديمًا‪ ،‬ما يمثل‬
‫دولة السلم بمساحة تقل عن ثمانية في المائة من كامل مساحة العالم‬
‫ذ‪ ،‬كما هو الحال في دولة المماليك‪ ،‬وقد انتشرت فيها‬ ‫السلمي وقتئ ٍ‬
‫الفكار الصوفية‪ ،‬والنحرافات العقدية التي سجن ابن تيمية بسبب‬
‫إنكارها ومحاربتها‪ ،‬كما وقع فيها من النحراف في التشريع كتحكيم‬
‫الياسة )اليسق( فيما يتعلق منها بأحكام الجند وتأديبهم‪ ،‬كما مر معك‬
‫سابقا‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫وفي المقابل نجد في هذا الزمان من الدويلت السلمية‬
‫ً‬
‫)السعودية( التي ل تقل مساحتها عن مساحة دولة المماليك قديما ول‬
‫تزيد في انحرافاتها عن انحراف دولة المماليك سواء في الجانب‬
‫التشريعي أو الجانب السلوكي الخلقي‪ ،‬أما في الجانب الدعوي‬
‫والدفاع عن السلم وصفاء العقيدة ونقائها فقد سبقت الدولة السعودية‬
‫كل سابق‪ ،‬ومن أراد التفاعل مع هذه النقطة بالذات قبل ردها عليه‪:‬‬
‫أول‪ :‬أن يراجع تاريخ العالم السلمي‪ ،‬ليلحظ ما وصل إليه من‬
‫النحرافات‪ ،‬وأن ينظر إلى واقعه الذي يعيشه في هذا الزمان بعين‬
‫العقل ل العاطفة‪ ،‬بعيدا ً عن كل مظاهر الطبل العلمي المغرض‬
‫المشبوه الذي يقلب الحقائق ويزور التاريخ‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬عليه أن يتذكر كيف أن الحرب النفسية امتدت إلى عقول‬
‫قطاعات من المة في زمن عثمان رضي الله عنه‪ ،‬رغم أنه خير البشر‬
‫يمشي في زمانه على الرض‪ ،‬حتى أظهرته الظالم المستبد‪ ،‬وقتل‬
‫متهما ً بالفسق والظلم بل كفره البعض‪ ،‬فكيف يكون الحال مع ولة‬
‫أمور لن يصلوا إلى عشر معشار عثمان رضي الله عنه في الفضل‬
‫والستقامة والعدل والمنزلة عند الله تعالى؟! لنتذكر هذا جيدًا‪.‬‬
‫لذا قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه الله تعالى‪" :‬ليس العاقل‬
‫الذي يعلم الخير من الشر إنما العاقل الذي يعلم خير‬
‫الخيرين وشر الشرين ")‪.(48‬‬
‫وبناء على ما سبق ذكره‪ ،‬نلحظ ما يلي‪:‬‬
‫أن واقعنا المعاصر‬ ‫•‬
‫لم يكن حالة ل نظير لها في التاريخ السلمي كما أراد المخالف‪ ،‬ل‬
‫من الناحية التشريعية ول من الناحية السلوكية بشكل عام‪.‬‬
‫ونلحظ كذلك وجود‬ ‫•‬
‫دويلت إسلمية معاصرة‪ ،‬تقترب في الفضل من دولة المماليك‪ ،‬بل‬
‫إن دولة المماليك تقل عن بعضها في الجانب التشريعي والسلوكي‬
‫والدعوي وجهاد الكلمة‪.‬‬
‫ونلحظ كذلك أن‬ ‫•‬
‫كثيرا من العقائد والفكار التي عملت المة قديماً على إنكارها‬
‫ومحاربتها‪ ،‬ل زالت منتشرة في مساحات شاسعة من بلد المة‬
‫السلمية‪ ،‬وعليه يحق لنا في المقابل أن نجعل من محاربة هذه‬
‫الفكار المخالفة والدخيلة على السلم‪ ،‬والواسعة النتشار‪ ،‬على‬
‫أول سلم الوليات في العمل السلمي‪.‬‬
‫وعلى فرض أن‬ ‫•‬
‫هذه البدعة بدعة شرك القصور هي البدعة العظم والنحراف‬
‫الكبر في هذا الزمان‪ ،‬إل أنه ل بد من مراعاة الولويات التي قبلها‪،‬‬

‫‪"48‬فتاوى ابن تيمية" في الفقه )ج ‪ 20‬ص ‪.(54‬‬

‫‪32‬‬
‫لن تحقيق الستخلف له شروطه‪ ،‬فانتفاء هذه الشروط أو بعضا‬
‫منها يؤدي إلى انتفاء حصول المشروط أي تحقق الخلفة‪ .‬إذن ل‬
‫مناص أمامنا من التدرج للوصول إلى نصرة الله تعالى لنا‪ ،‬ابتداء‬
‫باليمان والعمل الصالح ثم محاربة كل مظاهر الشرك وتوحيد الله‬
‫تعالى في عبادته كما مر معنا سابقا في شرح قوله تعالى‪" :‬وعد‬
‫الله الذين آمنوا منكم‪"...‬الية‪.‬‬
‫إن كثيرا ً من‬ ‫•‬
‫المسلمين اليوم ينطلق في حكمه وبالتالي في تعامله مع النظمة‬
‫القائمة من خلل نظرة البيض والسود فقط‪ ،‬فالبيض عندهم يمثل‬
‫الخلفة الراشدة فقط‪ ،‬والسود ما دون الخلفة الراشدة‪ ،‬وقد‬
‫تناسوا أن هناك نحو ) ‪ (2000‬لون واقعة ما بين البيض والسود‬
‫تميز بالعين المجردة‪.‬‬
‫فبنظرتهم هذه المخالفة للسلم‪ ،‬قد عطلوا من القواعد الصولية‬
‫الهامة الكثير‪ :‬منها قاعدة‪" :‬معرفة أفضل الخيرين وأسوأ‬
‫الشرين"‪ ،‬وقاعدة‪" :‬دفع المفسدة العظمى بالصغرى"‪،‬‬
‫وقاعدة‪" :‬درء المفاسد أولى من جلب المنافع"‪ ،‬وقاعدة‪:‬‬
‫"الضرورات تبيح المحظورات"‪ ،‬وقاعدة‪" :‬عموم البلوى"‪،‬‬
‫وقاعدة‪" :‬الحكم مناط بالقدرة"‪ .‬وليس هذا فقط‪ ،‬بل تركوا قول‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم المحكم‪" :‬سيأتي على الناس‬
‫داعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق‬ ‫سنوات خ ّ‬
‫ون فيها المين وينطق فيها‬ ‫ّ‬ ‫ويخ‬ ‫الخائن‬ ‫فيها‬ ‫ويؤتمن‬
‫الرويبضة! قيل‪ :‬وما الرويبضة؟ قال‪ :‬الرجل التافه يتكلم‬
‫في أمر العامة")‪.(49‬‬
‫فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بوجود الصادقين والمناء‪،‬‬
‫فكما أننا متفقون على وجود بعض النظمة الخائنة لدينها و ُ‬
‫لمتها‬
‫ولوطنها‪ ،‬والتي طالما صفق لها الغثاء من الناس وخدعوا بما صاحوا به‬
‫ونادوا من بيانات كاذبة ضد إسرائيل‪ ،‬فانطبق عليهم شطر الحديث‬
‫"يصدق الكاذب ويؤتمن الخائن"؛ فكذلك يوجد في الواقع الصنف‬
‫مينا عن رؤيتهم‬ ‫الخر من النظمة من الصادقين والمناء‪ ،‬لكننا ع ّ‬
‫ومعرفتهم‪ ،‬لننا غثاء حملنا تيار فكري جارف‪ ،‬يقول لنا عنهم خون‬
‫وكذبة‪ ،‬فنردد معه‪ ،‬ونقول نعم هم كذلك‪ ،‬وقد وصل المر بالبعض من‬
‫هؤلء الغثاء‪ ،‬أن قدم روحه في هذا السبيل الغثائي بكل إخلص‪ ،‬وهذا‬
‫يكشف لنا عن مدى تقدم علم الجاسوسية المتصهين‪ ،‬وذراعه القوى‬
‫الاشتراكي)‪ ،(50‬ول حول ول قوة إل بالله العلي العظيم‪.‬‬
‫‪"49‬السلسلة الصحيحة" )‪ ،(4/508‬و"صحيح ابن ماجة" لللباني‪ ،‬رقم )‬
‫‪ ،(2/1339) ،(4036‬بدون كلمة )يتكلم(‪..‬‬
‫‪50‬أما حزب التحرير‪ ،‬فإننا نعتقد جازمين أن نوايا أفراده صالحة‪ ،‬ولكنهم‬
‫أقنعوا بمفاهيم ونظريات وتحليلت سياسية عكست الواقع‪ ،‬ومهدت للمد‬

‫‪33‬‬
‫)‪(51‬‬
‫احتمالت تقسيمات النظمة حسب أمانتهم أو خيانتهم‬
‫أنظمة أمينة‬ ‫أنظمة خائنة كاذبة‬ ‫الحكم‬ ‫الرق‬
‫صادقة‬ ‫م‬
‫كلهم أمناء صادقون‬ ‫كلهم خون كاذبون‬ ‫‪ 1‬غير‬
‫بدرجة واحدة‬ ‫بدرجة واحدة‬ ‫واقعي‬
‫كلهم أمناء صادقون‬ ‫كلهم خون كاذبون‬ ‫‪ 2‬غير‬
‫بدرجات متفاوتة‬ ‫بدرجات متفاوتة‬ ‫واقعي‬
‫أكثرهم أمناء صادقون‬ ‫أكثرهم خون كاذبون‪،‬‬ ‫‪ 3‬واقعي‬
‫وبعضهم خون كاذبون‬ ‫وبعضهم أمناء صادقون‬
‫وبسبب تسرب‬ ‫•‬
‫بعض الفكار الموجهة المسمومة إلى عقول المسلمين اليوم التي‬
‫تقف خلفها مراكز توجيه متخصصة‪ ،‬فانه يوجد من التصنيفات‬
‫الجاهزة وقوالب العمالة والتخوين لصاحب الخلفة الراشدة‬
‫المنتظرة – كما أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر‬
‫الزمان ‪ -‬ما يؤلب الغثاء من الناس عليه وعلى خلفته‪ ،‬في ظل‬
‫سيطرة الصهيونية والشتراكية على وسائل العلم‪ ،‬وعدم وعي‬
‫المسلمين بواقعهم‪ ،‬حيث ل يفرقون بين العدو والصديق‪ ،‬بل‬
‫ينحازون إلى العدو ضد الصديق‪ ،‬وصدق قول الله تعالى فينا‪:‬‬
‫)وفيكم سماعون لهم‪.‬‬
‫على المة أن تتعلم‬ ‫•‬
‫فقه الواقع تعلما‪ ،‬كما تتعلم القراءة والكتابة‪ ،‬لن كثيرا من هذه‬
‫القلم‪ ،‬جاهدت في سبيل الشيطان وهي تظن أنها تحسن صنعا‪،‬‬
‫فليتها ما تعلمت وكتبت ما ظنته علما وبقيت على جهلها البسيط‬
‫وأمّيتها‪ ،‬فالجهل المركب أخطر على المجتمع وأشنع‪ ،‬لن صاحب‬
‫الجهل البسيط يشعر بتقصيره تجاه واجب طلب العلم‪ .‬أما الخر‬
‫فأّنا له ذلك وهو يعتقد أنه على الحق‪.‬‬

‫الشتراكي في بلد السلم‪ ،‬حين ألصقوا كل جرائم الشتراكية بالرأسمالية‪.‬‬


‫‪51‬هذا التقسيم يراد به النظمة في الدول العربية والسلمية بدرجة أولى‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫هل البروتوكولت من وضع اليهود؟‬
‫يذهب البعض إلى التشكيك في نسبة البروتوكولت لليهود لغايات‬
‫وأسباب متعددة؛ وإن كان هذا الزعم الغريب ملفتا ً للنظر‪ ،‬ويضع‬
‫علمات استفهام حول أصحابه‪ ،‬إل أننا مضطرون للرد عليه مهما كانت‬
‫قسوته أو مجافاته للحق‪.‬‬
‫فقد رد القرآن الكريم على ادعاءات وشبهات الكافرين بالحجة‬
‫الساطعة‪ ،‬وبين لهم سوء ظنونهم ومساوئ اعتقاداتهم في العديد من‬
‫المواضع القرآنية‪.‬‬
‫ل‪ ،‬هل يعقل أن تصل الدرجة في البعض أن يشك في أن الله‬ ‫فمث ً‬
‫تعالى خير من الرباب والنداد ؟ حتى قال الله تعالى رادا ً عليهم‪) :‬آلل ّ ُ‬
‫ه‬
‫َ‬ ‫فّر ُ‬
‫مت َ َ‬ ‫ََ‬ ‫ر ُ‬ ‫َ‬
‫خي ٌْر أم ِ‬‫ن َ‬ ‫قو َ‬ ‫ب ّ‬ ‫ن ]النمل‪ ،[59:‬وقال‪) :‬أأْرَبا ٌ‬ ‫كو َ ‪‬‬ ‫ش ِ‬‫ما ي ُ ْ‬‫خي ٌْر أ ّ‬‫َ‬
‫ر ]يوسف‪.[39:‬‬ ‫ها ُ ‪‬‬ ‫ق ّ‬‫حدُ ال ْ َ‬‫وا ِ‬‫ه ال ْ َ‬
‫الل ّ ُ‬
‫إذن ل بد من مواجهة الشبهات والتضليلت مهما كانت سخيفة‬
‫وساقطة من أساسها‪ ،‬وذلك لقامة الحجة على أصحابها وحماية الفراد‬
‫من النسياق خلف زخرفها والفتتان بها‪ ،‬قال الله تعالى واصفا ً حال‬
‫م ]التوبة‪.[47:‬‬ ‫ه ْ‪‬‬‫ن لَ ُ‬
‫عو َ‬
‫ما ُ‬
‫س ّ‬
‫م َ‬ ‫فيك ُ ْ‬ ‫البعض مع المنافقين‪َ ) :‬‬
‫و ِ‬
‫در الطبعة الخامسة النجليزية للبروتوكولت‬ ‫مص ّ‬
‫يقول البريطان ُ‬
‫الصادرة عام ‪" :1921‬إن نفاد طبعة أخرى أيضا ً من هذا الكتاب ليدل‬
‫على أنه لم ينقص تلهف الناس على استقبال أخبار بروتوكولت صهيون‪،‬‬
‫وأنه ليزداد وضوحا ً كل يوم أن سياسة البروتوكولت الن تطبق بعنف‬
‫على الأمميين‪ ،‬لن حكوماتهم كما يفخر المستر إسرائيل زانجفيل‬
‫مطوقة باليهود ووكلئهم‪ .‬إن العالم مدين للستاذ البروفيسور سرجي‬
‫نيلوس بنشر هذا الكتاب المفزع للعالم سنة ‪1901‬م ‪ ...‬ويزعم اليهود‬
‫ضرورة‪ ،‬أن البروتوكولت مزيفة‪ ،‬ولكن الحرب العظمى ليست زورًا‪،‬‬
‫ول مصير روسيا زورًا‪ ،‬وبهذين المرين تنبأ حكماء صهيون منذ أمد طويل‬
‫يرجع إلى سنة ‪1901‬م"‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫ويتجلى تطبيق ما ورد في البروتوكولت عند قراءة الساليب‬
‫المستخدمة في الحرب الثورية الشيوعية اليهودية على الأمميين‬
‫لتحقيق أهدافهم‪.‬‬
‫قال محمد خليفة التونسي‪" :‬وكذلك تنبه بعض الكتاب الذين قارنوا‬
‫بين تلك الفظائع البلشفية والبروتوكولت الصهيونية فسموا‬
‫البروتوكولت "النجيل البلشفي" لما لحظوا بينهما من توافق عجيب‪.‬‬
‫كما لحظ كاتب إنجليزي مناورات اليهود للتشكيك في نسبة الكتاب‬
‫إليهم‪ ،‬ففند مزاعمهم بحجج كثيرة‪ :‬من بين ذلك التوافق العجيب بين‬
‫نبوءات البروتوكولت في سنة ‪ 1901‬وتلك الويلت التي رمى بها اليهود‬

‫‪35‬‬
‫العالم كفتنة البلشفية اليهودية وغيرها من الفتن في روسيا وسائر البلد‬
‫الوروبية ")‪.(52‬‬
‫بمعنى آخر إذا كان الخطر الشيوعي حقيقة قائمة ليس خيا ً‬
‫ل‪ ،‬وإذا‬
‫كانت الشيوعية من صنع اليهود‪ ،‬وإذا كان ما ورد في البروتوكولت من‬
‫أساليب ثورية يوافق تماما ً ما تقوم به الحرب الثورية الشيوعية‪ ،‬فقد دل‬
‫ذلك كله على أن البروتوكولت هي حقيقة واقعة يقف خلفها اليهود بل‬
‫ريب‪ ،‬وهاك المثال التالي‪:‬‬
‫يعتبر اليهود الحريات السياسية ضرورة ووسيلة مرحلية فقط‪ ،‬ل‬
‫حقيقة واقعة‪ ،‬يطالبون بها ويسخرونها لصالحهم إذا كانوا خارج الحكم ‪-‬‬
‫باعتبارها طعما ً لجذب العامة ‪ .-‬ولكن يحرمونها الشعوب المقهورة بعد‬
‫توليهم أو وكلئهم للحكم‪.‬‬
‫يقول البروتوكول الول ‪" :‬أن الحرية السياسية ليست حقيقة‪ ،‬بل‬
‫)‪(53‬‬

‫فكرة‪ .‬ويجب أن يعرف النسان كيف يسخر هذه الفكرة عندما تكون‬
‫ضرورية‪ ،‬فيتخذها طعما ً لجذب العامة إلى صفه‪ ،‬إذا كان قد قرر أن‬
‫ينتزع سلطة منافس له"‪.‬‬
‫وفي البروتوكول الثاني والعشرين يقرر اليهود بعد استلمهم الحكم‬
‫نسف الحريات جميعا ً كحرية " نشر العقيدة والمساواة ونحوها")‪ .(54‬بل‬
‫بعد استلم الحكم يصير الناس سخرة وعبيدا ً)‪.(55‬‬
‫هذا هو موقف اليهود من الحريات السياسية قبل سيطرتهم على‬
‫السلطات وبعد ذلك‪ ،‬فهل اختلف الموقف الشتراكي من الحريات‬
‫السياسية عن موقف اليهود هذا‪.‬‬
‫للجابة على ذلك‪:‬‬
‫يجب التذكير بأن البروتوكولت إنما وضعها اليهود لتكون في غاية‬
‫السرية‪ ،‬وليست قابلة للنشر‪ ،‬إنما نشرت رغما ً عنهم‪ ،‬لذلك فقد‬
‫عكست الخلق الحقيقية والنوايا السيئة لليهود تجاه العالم‪ ،‬بخلف‬
‫موقف إسرائيل اليجابي المعلن تجاه هذه الحريات‪ ،‬إذ به تخادع الرأي‬
‫العام العالمي لتنال الدعم والتأييد الدولي لقضاياه‪ ،‬بينما مباديء‬
‫الماركسية الشيوعية صيغت صياغة لتكون علنية تخاطب الجماهير‬
‫والعمال والمثقفين‪ ،‬لذلك ظهرت منافقة مخادعة مضللة للشعوب‪.‬‬
‫ففي الوقت الذي وعدت الجماهير الساذجة نظريا ً بالحريات‬
‫السياسية والديمقراطية وحقوق النسان إن هي ظفرت بالسلطة‪،‬‬
‫نجدها في الجانب العملي الواقعي بعد السيطرة على الحكم‪ ،‬قد‬
‫حرمت الجماهير من أبسط الحريات العامة وحقوق النسان‪ ،‬حتى أنها‬

‫‪52‬مقدمة كتاب "الخطر اليهودي‪ ،‬بروتوكولت حكماء صهيون"‪) ،‬ص ‪.(35‬‬


‫‪53‬صفحة )‪ ،(29‬ط‪ ،‬مكتبة اليمان‪ ،‬المنصورة‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪54‬صفحة )‪ ،(241‬ط‪ ،‬مكتبة اليمان‪ ،‬المنصورة‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪55‬برتوكول رقم )‪) (5‬ص ‪ .(175‬وبروتوكول رقم )‪) (23‬ص ‪ ،(245‬وغيره‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫قد حولت البلد إلى نصفين‪ ،‬نصف للقبور وللمقابر الجماعية‪ ،‬والنصف‬
‫الخر للسجون النفرادية وغير النفرادية‪.‬‬
‫كيف ظهرت البروتوكولت؟‬
‫يقول البروفسور سرجي نيلوس في مقدمة كتاب "بروتوكولت‬
‫حكماء صهيون"‪" :‬لقد تسلمت من صديق)‪ (56‬شخصي‪ -‬هو الن ميت ‪-‬‬
‫مخطوطا ً يصف بدقة ووضوح عجيبين خطة وتطورا ً لمؤامرة عالمية‬
‫مشئومة‪ ،‬موضوعها الذي تشمله هو جر العالم الحائر إلى التفكك‬
‫والنحلل المحتوم‪ .‬هذه الوثيقة وقعت في حوزتي منذ أربع سنوات )‬
‫‪1901‬م(‪ ،‬وهي بالتأكيد صورة حقة في النقل من وثائق أصليـة‪ ،‬سرقتها‬
‫سيدة فرنسية‪ ،‬من أحـد الكابر ذوي النفوذ والرياسة السامية من زعماء‬
‫الماسونية الحرة‪ ،‬وقد تمت السرقة في نهايـة اجتماع سري بهذا‬
‫الرئيس في فرنسا‪ ،‬حيث وكر "المؤتمر الماسوني اليهودي"‪ ،‬وللذين‬
‫يريدون أن يروا ويسمعوا‪ ،‬أخاطر بنشر هذا المخطوط تحت عنوان‪:‬‬
‫"بروتوكولت حكماء صهيون"‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫ومن المثير أن البروفيسور سرجي نيلوس بعد الطلع على أسرار‬
‫هذا المخطط اليهودي الجرامي كان قد تنبأ بسقوط روسيا بيد اليهود‬
‫قبل سقوطها على يد اليهود البلشفة الشيوعيين حين قال‪" :‬ولنؤجل‬
‫ساعة انهيار روسيا")‪ .(57‬وقال عن حركة الفعى اليهودية‪" :‬ولكن السهام‬
‫تشير إلى حركتها التالية نحو موسكو وكييف وأودسا")‪ .(58‬فهل كان‬
‫سرجي كاهنا أم يعلم الغيب أم أنها القراءة الصحيحة للواقع؟!‬
‫تنص البروتوكولت صراحة في مواطن عديدة منها على أنها من‬
‫وضع اليهود‪ ،‬وهذا ملخص لتلك المواطن وموضعها من الكتاب )رقم‬
‫الصفحة ‪ /‬رقم البروتوكول( ‪:59‬‬
‫ورد ذكر الشعب‬ ‫•‬
‫المختار الدال على اليهود في المواضع التالية‪،(76/5) ،(77/5 ) :‬‬
‫) ‪.(230/20 ) ،(154/13 ) ،(158/14 ) ،(154/14 ) ،(132/11‬‬
‫مِلك‬
‫ورد ذكر َ‬ ‫•‬
‫إسرائيل في المواضع التالية‪،(245/23 ) ،(197/17 ) ،(184/15 ) :‬‬
‫) ‪.(250/24 ) ،(250/24‬‬
‫ورد قولهم عن‬ ‫•‬
‫الجيال القادمة أنها "ستصغي إلى تعاليمنا على دين موسى" في‬
‫الموضع‪.(155/14 ) :‬‬

‫‪56‬هو أليكس نيقول نيفتش كبير جماعة أعيان روسيا الشرقية‪ .‬كما جاء في‬
‫الحاشية‪.‬‬
‫‪57‬مقدمة كتاب "بروتوكولت حكماء صهيون"‪.‬‬
‫‪58‬تعقيب البروفيسور سرجي نيلوس على البروتوكولت‪.‬‬
‫‪59‬طبعة مكتبة اليمان‪ ،‬المنصورة‪ ،‬أمام جامعة الزهر‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫قلت‪ :‬وأقوى الدلة على تجريم المتهم على الطلق‪ ،‬اعترافه‬
‫الصريح الواضح‪ .‬فلم يصر البعض على عدم نسبة هذا الكتاب إلى اليهود‬
‫ول يعترفون بأنه من وضعهم‪ ،‬أو أنهم وضعوه للدعاية فقط كقول حزب‬
‫التحرير؟ وما حكم التستر على الجاني؟ أل يخشى من ينفي نسبة‬
‫البروتوكولت إلى اليهود اللعن من الله؟‬
‫فقد "لعن الله من آوى محدثا" ‪ -‬أي‪ :‬لعن الله من تستر‬
‫)‪(60‬‬

‫على صاحب جريمة مطلوب للعدالة ‪ -‬فكيف بمن يتستر على المصدر‬
‫الول للجرائم "وعلى مفسدي العالم ومحركي الفتن فيه وجلديه")‪(61‬؟‬
‫وكذلك الحال بمن يتستر على جرائم الشيوعية اليهودية بمختلف‬
‫أسمائها‪ ،‬التي سجلت الرقم القياسي العالمي في حملت الإبادة‬
‫والدمار وأعمال السلب والنهب وغيره‪.‬‬

‫‪60‬صحيح مسلم‪.‬‬
‫‪61‬اليهودي الدكتور أوسكار ليفي‪ ،‬البروتوكولت )ص ‪.(5‬‬

‫‪38‬‬
‫الشبهة السابعة‪ :‬لو قال المخالف‪ :‬إن إقامة الحدود على‬
‫الرعية‪ ،‬مقدم على إصلحها – أي أن لها الولوية‪ -‬لما في‬
‫ذلك من زجر للعصاة والمجرمين‪ ،‬وبالتالي يستقيم‬
‫ُ‬ ‫في ال ْ ِ‬
‫وِلي‬ ‫حَياةٌ َيا أ ْ‬ ‫ص َ‬ ‫صا ِ‬‫ق َ‬ ‫م ِ‬‫ول َك ُ ْ‬‫المجتمع‪ ،‬لقوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫َ‬
‫ن ]البقرة‪ .[179:‬ولقول الرسول صلى الله‬ ‫قو َ ‪‬‬‫م ت َت ّ ُ‬‫عل ّك ُ ْ‬‫ب لَ َ‬‫اْلل َْبا ِ‬
‫عليه وسلم‪" :‬حد يعمل في الرض خير لهل الرض من أن‬
‫يمطروا أربعين صباحا")‪‌ .(62‬‬
‫الجواب‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وِلي‬ ‫حَياةٌ َيا أ ْ‬‫ص َ‬‫صا ِ‬ ‫ق َ‬ ‫في ال ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ولك ُ ْ‬‫‪ -‬إن الية الكريمة‪َ ) :‬‬
‫َ‬
‫ن تفيدنا فقط في ردع القتلة‪ ،‬إذا أرادوا القتل‬ ‫قو َ ‪‬‬‫م ت َت ّ ُ‬‫عل ّك ُ ْ‬‫ب لَ َ‬‫اْلل َْبا ِ‬
‫الحرام لخوفهم على أنفسهم من القتل بالقصاص الشرعي الذي ل‬
‫يحابي أحدا ً‪ ،‬فلو لم يصن الشرع الحكيم حق المقتول ظلمًا‪ ،‬لسعى‬
‫أهل المقتول إلى أخذ حقهم بأيديهم‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬ولسوء تقدير المخلوق‬
‫بما ينفعه أو يضره‪ ،‬فقد يتجاوز في النتقام إلى انتهاك حقوق أخرى‬
‫للقاتل‪ ،‬فيقوم أهل القاتل من باب النتقام لرد حقوقهم إلى ممارسة‬
‫القتل مرة أخرى‪ ،‬وهكذا تهدر أنفس كثيرة في المجتمع‪ ،‬لذلك وبوجود‬
‫هذا القصاص الشرعي العادل يحيا المجتمع‪.‬‬
‫قال القرطبي‪" :‬ولكم في القصاص حياة" هذا من الكلم البليغ‬
‫الوجيز كما تقدم‪ .‬ومعناه‪ :‬ل يقتل بعضكم بعضا; رواه سفيان عن‬
‫السدي عن أبي مالك‪ .‬والمعنى‪ :‬أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه‬
‫ازدجـر من يريد قتل آخر‪ ,‬مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معاً‪ .‬وكانت‬
‫العرب إذا قتل الرجل الخر حمي قبيلهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا ً إلى‬
‫قتل العدد الكثير; فلما شرع الّله القصاص قنع الكل به وتركوا القتتال;‬
‫فلهم في ذلك حياة‪ .‬اتفق أئمة الفتوى على أنه ل يجوز لحد أن يقتص‬
‫من أحد حقه دون السلطان‪ ,‬وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض;‬
‫وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك; ولهذا جعل الّله‬
‫السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض" انتهى‪.‬‬
‫ة( يقول تعالى‪،‬‬ ‫حَيا ٌ‬‫ص َ‬‫صا ِ‬ ‫ق َ‬ ‫في ال ْ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ول َك ُ ْ‬‫وقال ابن كثير‪" :‬وقوله‪َ ) :‬‬
‫وفي شرع القصاص لكم‪ ،‬وهو قتل القاتل حكمة عظيمة‪ ،‬وهي بقاء‬
‫المهج وصونها‪ ،‬لنه إذا علم القاتل أنه يقتل‪ ،‬انكف عن صنيعه فكان في‬
‫ذلك حياة للنفوس‪ ،‬وفي الكتب المتقدمة‪) :‬القتل أنفى للقتل(‪ ،‬فجاءت‬
‫هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز "ولكم في القصاص حياة"‪.‬‬
‫قال أبو العالية جعل الله القصاص حياة فكم من رجل يريد أن يقتل‬
‫فتمنعه مخافة أن يقتل‪ .‬وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي‬
‫مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان"‪.‬‬

‫‪62‬تخريج الشيخ اللباني‪) :‬ن هـ( عن أبي هريرة‪ .‬تحقيق الشيخ اللباني‪:‬‬
‫)حسن( انظر حديث رقم‪ (3130) :‬في "صحيح الجامع"‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫قلت‪ :‬وعلى الرغم من إقرار تطبيق الحكام الشرعية في‬
‫القصاص والحدود الخرى في النظام‪ ،‬لبد أن يكون المجتمع صالحا ً‬
‫ل‪ ،‬لكي ينعكس ذلك إيجابا ً على المجتمع‪ ،‬لن السلطة‬ ‫بعمومه أو ً‬
‫التنفيذية في الجهاز الحكومي هم من البشر وليسوا ملئكة‪ ،‬يعتريهم ما‬
‫يعتريهم من شبهات وشهوات تضعف نفوسهم عن متابعة تطبيق الحكم‬
‫كما يريدهم الله تعالى بعيدين عن تأثير العلقات الجتماعية‬
‫والمحسوبيات وقبول الرشاوى والهدايا التي تضعف أمر مراقبة أمر الله‬
‫تعالى‪ ،‬فلكي يكون الجهاز التنفيذي قويا ً وصلبا ً ل يتأثر بمثل هذه‬
‫الضغوطات‪ ،‬وجب رفع درجة اليمان عنده‪ ،‬وبالتالي وجب إصلح‬
‫المجتمع الذي سيفرزه‪ ،‬فنكون بذلك عدنا إلى سنة الله تعالى الكونية‬
‫في الصلح من جديد‪.‬‬
‫لذلك فقد رأينا وقوع كثير من النحرافات والتساهل في تطبيق‬
‫أحكام القصاص والحدود في أنظمة الحكم السلمية المختلفة‪ ،‬وقد‬
‫ضربنا لذلك مثالين اثنين في التاريخ السلمي‪ ،‬كما مر معك من قريب‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬الصلح مقصوده موافقة الظاهر للباطن‪ ،‬فالمتناع عن‬
‫ارتكاب الجريمة ل يعني بالضرورة صلح الممتنع عنها‪ ،‬أو حصول التغيير‬
‫اليجابي بقلبه‪ .‬وسيأتي بيان معنى التغيير من كلم ابن تيمية لحقًا‪ ،‬لذلك‬
‫لو فرضنا أن نظاما ً صارما ً طبق الحكام والحدود‪ ،‬على أفراد المجتمع‬
‫وخضعوا لها في الظاهر‪ ،‬بل هم لها كارهون‪ ،‬فإن ذلك ل يعتبر من باب‬
‫تغيير ما بالنفس الذي يترتب عليه تغيير المجتمع‪ ،‬حتى تخضع لها‬
‫قلوبهم‪" .‬فإن ما في النفس مما يناقض محبة الله و التوكل عليه و‬
‫الخلص له و الشكر له يعاقب عليه لن هذه المور كلها واجبة‪ .‬فإذا‬
‫خلي القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه‬
‫الواجبات ")‪.(63‬‬
‫فل بد إذن من وجود فئة من الناس سيخضعون للنظام ظاهرا‬
‫دون قلوبهم‪ ،‬وآخرون ل يخضعون ل ظاهرا ً ول باطنًا‪ ،‬وقسم ثالث هم‬
‫المؤمنون الذين وقعوا في الذنوب فأتبعوا أمرهم توبة وندمًا‪ .‬فالمطلوب‬
‫من الصالحين تجاههم جميعا العمل على تخفيض نسبتهم في المجتمع‬
‫بالمر بالمعروف )بالمعروف( والنهي عن المنكر )بل منكر( حتى تقل‬
‫نسبتهم ويظهر الصلح في المجتمع ويعم‪ .‬لذلك ستساهم إقامة الحدود‬
‫في جعل فئة المتمردين عليها ظاهرا وباطنا في حدودها الدنيا فقط‪،‬‬
‫بحيث ينظر الناس إلى أهلها بازدراء‪ ،‬فيقل نقل العدوى منهم إلى‬
‫غيرهم إلى حده الدنى‪ ،‬بذلك يبقى المجتمع سليما معافى‪.‬‬
‫أما بالنسبة للحديث الشريف‪" :‬حد يعمل في الرض خير‬
‫لهل الرض من أن يمطروا أربعين صباحاً"‪ ،‬فهو ل يصلح‬
‫للستدلل على ما نحن فيه‪ ،‬ول يوجد فيه ولو دللة ظنية تفيد بأن إصلح‬
‫النظم أولى من إصلح المجتمع‪ ،‬فإن معناه الواضح ل يتعدى تسمية‬
‫‪"63‬مجموع الفتاوى" )ج‪ 14:‬ص ‪.(109‬‬

‫‪40‬‬
‫فوائده الدنيوية على المجتمع‪ ،‬ولو صح الستدلل بالحديث‪ ،‬لكان من‬
‫الولى الستدلل بما هو أكثر منه فائدة على المجتمع‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫خير م َ‬
‫ر ]القدر‪ .[3:‬وكقوله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬ ‫ن أل ْ ِ‬
‫ف َ‬
‫شهْ ‪ٍ‬‬ ‫ة ال ْ َ‬
‫قد ْرِ َ ْ ٌ ِ ْ‬ ‫)ل َي ْل َ ُ‬
‫"من قام ليلة القدر إيمانا ً واحتسابا ً غفر له ما تقدم من‬
‫ذنبه"‪ .‬وأمثال ذلك في القرآن والسنة كثير‪.‬‬
‫ففي الية من الخير الخروي لفراد المجتمع‪ ،‬ما هو أعظم فائدة‬
‫من أن يمطروا أربعون يومًا‪ ،‬ومن قال بعكس ذلك فقد جهل المعقول‬
‫والمنقول‪ .‬فهل يقدم خير دنيوي )مطر( على خير أخروي )عبادة ألف‬
‫شهر(؟ وعليه وباستخدام نفس الطريقة في الستدلل‪ ،‬نقول أن‬
‫الدعوة إلى إقامة ليلة القدر مقدم على إصلح النظام بإقامة الحدود‪.‬‬
‫ولكننا ل نعتبر هذا الستدلل موفقا ً البتة‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫الشبهة الثامنة‪ :‬فإن قال المخالف لم نرد بالبدعة‬
‫الكبرى والشرك العظم للعتبارات التي ذكرتم‪ ،‬إنما اعتبرنا‬
‫ذلك لن إقامة الدين في الرض مناطة بالحاكم واستقامته‪،‬‬
‫فباستقامته وصلح حاله يصلح المجتمع‪ ،‬وبفساد حاله يفسد‬
‫المجتمع؛ لدوره الساسي في التغيير‪.‬‬
‫يفهم من ظاهر النص العربي هذا‪ ،‬أنه متى وجد الحاكم الصالح في‬
‫الحكم‪ ،‬صلح المجتمع والعكس صحيح‪ .‬فهل مفهوم هذه الشبهة سليم؟‬
‫قبل البدء بالجابة على هذا السؤال‪ ،‬علينا أن نتذكر حقيقة شرعية‪،‬‬
‫أن اللتزام بالسلم ل يصح إل إذا كان خالصا ً لله تعالى‪ ،‬فإيمان المصالح‬
‫مُروا إ ِل ّ‬ ‫ُ‬
‫ما أ ِ‬ ‫والمنافع‪ ،‬وإيمان الكراه والقهر مخالف لقوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫و َ‬
‫ن ]البينة‪ ،[5:‬ومخالف لقول الرسول‬ ‫دي َ ‪‬‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ه ال ّ‬ ‫صي َ‬
‫خل ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫دوا الل ّ َ‬
‫ه ُ‬ ‫عب ُ ُ‬
‫ل ِي َ ْ‬
‫صلى الله عليه وسلم‪" :‬إنما العمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما‬
‫نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله‪ ،‬فهجرته إلى الله‬
‫ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها‪،‬‬
‫فهجرته إلى ما هاجر إليه"‪.‬‬
‫فمن تظاهر بالسلم طلبا ً لمنفعة أو دفعا ً لمفسدة‪ ،‬فقد نافق ومن‬
‫نافق دخل النار‪ ،‬ومقصود الشريعة إخراج الناس من ظلمات النار إلى‬
‫نور اليمان‪ ،‬فعلينا أن نتذكر هذا خلل المناقشة‪.‬‬
‫وللخطورة البالغة لهذه الشبهة‪ ،‬خصصت الفصل التالي للرد عليها‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫سنة الله تعالى في التغيير‬
‫م ]البينة‪[5:‬‬
‫ه ْ‪‬‬
‫س ِ‬ ‫ما ب َِأن ُ‬
‫ف ِ‬ ‫غي ُّروا َ‬
‫حّتى ي ُ َ‬
‫وم ٍ َ‬ ‫ما ب ِ َ‬
‫ق ْ‬ ‫غي ُّر َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ل َ يُ َ‬ ‫)إ ِ ّ‬
‫ملوك‬ ‫"وقد ذكرت في غير هذا الموضع‪ ،‬أن مصير المر إلى ال ُ‬
‫ونوابهم من الولة‪ ،‬والقضاة والمراء‪ ،‬ليس لنقص فيهم فقط‪ ،‬بل لنقص‬
‫في الراعي والرعية جميعًا‪ ،‬فإنه "كما تكونوا يول عليكم"‪ ،‬وقد قال الله‬
‫ن‬
‫سُبو َ ‪‬‬ ‫كاُنوا ْ ي َك ْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ضا ب ِ َ‬‫ع ً‬ ‫ن بَ ْ‬ ‫مي َ‬ ‫ض ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫ع َ‬ ‫وّلي ب َ ْ‬ ‫ك نُ َ‬ ‫وك َذَل ِ َ‬ ‫تعالى‪َ ) :‬‬
‫]النعام‪ "[129:‬ابن تيمية ‪.‬‬
‫)‪(64‬‬

‫"وفي هذا بيان لطريق الخلص من ظلم الحكام الذين هم "من‬


‫جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا"‪ ،‬وهو أن يتوب المسلمون إلى ربهم ويصححوا‬
‫عقيدتهم ويربوا أنفسهم وأهليهم على السلم الصحيح تحقيقا ً لقوله‬
‫م ]البينة‪:‬‬ ‫ه ْ‪‬‬ ‫س ِ‬‫ف ِ‬ ‫ما ب َِأن ُ‬
‫غي ُّروا َ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ما ب ِ َ‬
‫غي ُّر َ‬ ‫ه ل َ يُ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫بقوله‪" :‬أقيموا دولة‬ ‫)‪(65‬‬
‫‪ ،[5‬وإلى ذلك أشار أحد الدعاة المعاصرين‬
‫السلم في قلوبكم تقم لكم على أرضكم"‪ .‬وليس طريق الخلص ما‬
‫يتوهم بعض الناس وهو الثورة بالسلح على الحكام بواسطة النقلبات‬
‫العسكرية فإنها مع كونها من بدع العصر الحاضر؛ فهي مخالفة لنصوص‬
‫الشريعة التي منها المر بتغيير ما بالنفس‪ ،‬وكذلك فل بد من إصلح‬
‫هّ‬
‫ن الل َ‬ ‫صُرهُ إ ِ ّ‬ ‫من َين ُ‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫صَر ّ‬ ‫ول ََين ُ‬ ‫القاعدة لتأسيس البناء عليها‪َ ) :‬‬
‫ز ]الحج‪ ،[40:‬الشيخ اللباني ‪.‬‬
‫)‪(66‬‬
‫زي ٌ ‪‬‬ ‫ع ِ‬‫ي َ‬‫و ّ‬
‫ق ِ‬ ‫لَ َ‬
‫"وقد يظن من ل نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم‬
‫يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون‪ ،‬وهذا خطا فللبيئة‬
‫التأثير في الحاكم‪ ،‬وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم من‬
‫ه لَ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫التأثير على البيئة‪ ،‬وهذا من معاني قول الله عز وجل‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م"‪ .‬محب الدين الخطيب ‪.‬‬
‫) ‪( 67‬‬
‫ه ْ‪‬‬ ‫س ِ‬
‫ف ِ‬ ‫ما ب َِأن ُ‬‫غي ُّروا َ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ما ب ِ َ‬
‫غي ُّر َ‬‫يُ َ‬

‫‪"64‬مجموع الفتاوى" )‪.(35/20‬‬


‫‪65‬قال الشيخ اللباني رحمه الله‪ :‬وهو الستاذ حسن الهضيبي ‪ -‬رحمه الله‪.-‬‬
‫‪"66‬العقيدة الطحاوية"‪ ،‬شرح وتعليق‪ ،‬ط‪ /‬المكتب السلمي ‪) 1978‬ص‬
‫‪.(47‬‬
‫‪67‬في التعليق على كتاب "العواصم من القواصم" )ص ‪.(77‬‬

‫‪43‬‬
‫بين يدي الموضوع‬
‫يذهب البعض إلى أن الصلح المنشود‪ ،‬وإقامة الدين في الرض‬
‫منوط بالحاكم واستقامته‪ ،‬فباستقامة الحاكم وصلح حاله يصلح‬
‫المجتمع‪ ،‬وبانحرافه وفساد حاله يفسد المجتمع‪ ،‬أو لنهم يتصورون أن‬
‫له دورا ًً أساسيا ً في التغيير‪.‬‬
‫وحال هؤلء كمن يزعم أن لدى الحاكم عصا ً سحرية يستطيع بها أن‬
‫يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون‪ ،‬وهذا في اعتقادنا مخالف للقرآن‬
‫والسنة ولسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم‪ ،‬إذ بين القرآن الكريم‬
‫وصحيح السنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم‪ ،‬أن إقامة الدين‬
‫في النفس‪ ،‬شرط لتحقيق التغيير المنشود فـي المجتمع والتأييـد‬
‫بالنصر والتمكين‪.‬‬
‫ما‬ ‫غي ُّروا َ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ما ب ِ َ‬ ‫غي ُّر َ‬ ‫ه ل يُ َ‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫قال تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م ]البينة‪.[5:‬‬ ‫ه ْ‪‬‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ب َِأن ُ‬
‫ت‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫عدَ الل ّ ُ‬ ‫و َ‬ ‫وقال تعالى‪َ ) :‬‬
‫م‬
‫ه ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫ل َي َ ْ‬
‫ن قب ْل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ف ال ِ‬ ‫خل َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ضك َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫هم ِ‬ ‫فن ّ ُ‬ ‫ست َ ْ‬
‫د‬
‫ع ِ‬ ‫ن بَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ول َي ُب َدّل َن ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ضى ل َ ُ‬ ‫ذي اْرت َ َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ِدين َ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫مك ّن َ ّ‬ ‫ول َي ُ َ‬ ‫َ‬
‫ك‬‫عدَ ذَل ِ َ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ئا‬‫ً‬ ‫ي‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫بي‬ ‫ن‬ ‫كو‬ ‫ُ‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫دو‬ ‫ب‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫نا‬ ‫ً‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫و‬ ‫خ‬
‫َ‬
‫َ َ ْ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ ِ‬ ‫ْ ِ ْ ْ َ ْ ُ ُ‬
‫ن ]النور‪.[55:‬‬ ‫قو َ ‪‬‬ ‫س ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ول َئ ِ َ‬ ‫َ ُ‬
‫فا ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ك ُ‬ ‫فأ ْ‬
‫وقد ل يعلم أصحاب هذا التجاه‪ ،‬أن سنة الله تعالى في تغيير‬
‫المجتمعات ‪ -‬من الخير إلى الشر أو العكس ‪ -‬من السنن الكونية النافذة‬
‫في الخلق‪ ،‬التي ل تتبدل ول تتحول لي سبب من السباب‪ ،‬سواء كان‬
‫ذلك لقرابة أو نسب أو جاه أو سلطان أو حتى لقربى من الله تعالى‪،‬‬
‫فمن الغريب أن البعض يظن هذا الظن السيئ بالله تعالى بالرغم من‬
‫التأكيدات القرآنية على هذا الثابت الكوني في عدة مواضع من كتاب‬
‫الله تعالى منها‪:‬‬
‫هّ‬
‫ة الل ِ‬ ‫سن ّ ِ‬ ‫جدَ ل ِ ُ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫ول ْ‬ ‫َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن قب ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫وا ِ‬ ‫خل ْ‬‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫في ال ِ‬‫ّ‬ ‫ه ِ‬ ‫ّ‬
‫ة الل ِ‬ ‫سن ّ َ‬ ‫• ) ُ‬
‫ديل ‪] ً ‬الحزاب‪.[62:‬‬ ‫ت َب ْ ِ‬
‫ة الل ّ ِ‬ ‫َ‬
‫ه‬ ‫سن ّ ِ‬ ‫جدَ ل ِ ُ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫فل َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫وِلي َ‬ ‫ة ال ّ‬ ‫سن ّ َ‬ ‫ن إل ّ ُ‬ ‫ل ي َن ْظُُرو َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ف َ‬ ‫• ) َ‬
‫ويل ‪] ً ‬فاطر‪.[43:‬‬ ‫ح ِ‬ ‫ه تَ ْ‬ ‫ة الل ّ ِ‬ ‫سن ّ ِ‬ ‫جدَ ل ِ ُ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫ول َ ْ‬ ‫ديل ً َ‬ ‫ت َب ْ ِ‬
‫ه‬‫ة الل ّ ِ‬ ‫سن ّ ِ‬ ‫جدَ ل ِ ُ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫ول َ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫قب ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫قدْ َ‬ ‫ه ال ِّتي َ‬ ‫ة الل ّ ِ‬ ‫سن ّ َ‬ ‫• ) ُ‬
‫ديل ‪] ً ‬فاطر‪.[23:‬‬ ‫ت َب ْ ِ‬
‫فلو كان لهذه السنة أن تتبدل أو تتحول لتبدلت أو تحولت ولو قليل ً‬
‫لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من موقف كان أحوج ما‬
‫يكون لها‪ ،‬سواء في بداية الدعوة في مكة حين كانت مرحلة الضعف‬
‫المتمثلة بالصبر واحتمال أذى المشركين‪ ،‬أو في حالة القوة في المدينة‬

‫‪44‬‬
‫المنورة في مواقف متعددة‪ ،‬كغزوة أحد)‪ (68‬وغزوة حنين)‪ .(69‬وما جاء‬
‫في قصة زوجة نوح عليه السلم وولده‪ ،‬وزوجة لوط عليه السلم‪ ،‬ما‬
‫يدل على أن القرابة والنسب ل يوقفان سنة الله تعالى‪.‬‬
‫ةَ‬ ‫َ‬
‫مَرأ َ‬ ‫وا ِ ْ‬
‫ح َ‬ ‫مَرأةَ ُنو ٍ‬ ‫فُروا ا ِ ْ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مث َل ً ل ِل ّ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ب الل ّ ُ‬ ‫ضَر َ‬ ‫قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫غن َِيا‬ ‫م يُ ْ‬ ‫َ‬
‫ما فل ْ‬‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫خان ََتا ُ‬ ‫َ‬
‫نف َ‬ ‫ط َ‬ ‫ُلو ٍ‬
‫حي ْ ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫عَباِدَنا َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫عب ْدَي ْ ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ح َ‬ ‫كان ََتا ت َ ْ‬
‫ن ]التحريم‪.[10:‬‬ ‫خِلي َ ‪‬‬ ‫دا ِ‬ ‫ع ال ّ‬ ‫م َ‬‫خَل الّناَر َ‬ ‫ل ادْ ُ‬ ‫قي َ‬ ‫و ِ‬‫شي ًْئا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫ه َ‬ ‫عن ْ ُ‬‫َ‬
‫َ‬ ‫ف َ‬ ‫ه َ‬
‫هِلي‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن اب ِْني ِ‬ ‫ب إِ ّ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫قا َ‬ ‫ح َرب ّ ُ‬ ‫دى ُنو ٌ‬ ‫وَنا َ‬‫وقال تعالى‪َ ) :‬‬
‫ن ]هود‪ .[45:‬فجاء الجواب‪:‬‬ ‫مي َ ‪‬‬ ‫ك‬ ‫حا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ح‬ ‫ك ال ْحق وأ َن ْت أ َ‬ ‫عدَ َ‬ ‫و ْ‬
‫َ ِ ِ‬ ‫َ ّ َ َ ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫وإ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫سأل ْ‬ ‫ت‬ ‫فل‬ ‫َ‬ ‫ح‬ ‫ل‬ ‫صا‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫غ‬ ‫ٌ‬
‫ل‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ه‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬‫ن‬‫إ‬ ‫ح‬ ‫نو‬ ‫يا‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫)‬
‫َ ْ ِ‬ ‫ُْ َ ِ ٍ‬ ‫ِّ ُ َ َ‬ ‫َ ُ ُ ِّ ُ ْ َ ِ ْ ْ ِ‬
‫ْ‬ ‫ك أَ‬ ‫م إ ِّني أ َ ِ‬
‫ن ]هود‪.[46:‬‬ ‫هِلي َ ‪‬‬ ‫جا‬
‫َ ِ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫َ ِ ْ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬
‫كو‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫عظُ َ ْ‬
‫ن‬ ‫عل ْ ٌ‬ ‫ه ِ‬ ‫ك بِ ِ‬ ‫س لَ َ‬ ‫ما ل َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫وليعلم أولئك البعض‪ ،‬ممن قل اعتبارهم لسنن الله تعالى في خلقه‪،‬‬
‫أن ما ذهبوا إليه من تصورات في طريق التغيير المنشود‪ ،‬سيؤدي إلى‬
‫النشغال بالحاكم‪ ،‬وتركيز الصراع مع النظام السياسي القائم وإسقاطه‪،‬‬
‫فينتج عن ذلك ازدياد الفساد والفساد في الناس لتوقف مسيرة المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر أو إعاقتها بحجة النشغال بتغيير منكر‬
‫الحكام‪.‬‬
‫فمشروع الصراع مع النظمة الحاكمة وضرب الحاكم بالمحكوم من‬
‫أهم الساليب المستخدمة من قبل الصهيونية وذراعها القوى‬
‫"الشتراكية" للسيطرة على العالم‪ ،‬والرافضة القائمة على تصدير‬
‫الثورة‪ .‬فمن خلل الثورات الشعبية التي يقفون خلفها ويوجهونها‬
‫بواسطة عملئهم الشتراكيين على اختلف أسمائهم‪ ،‬يقودون الثورة‬
‫ويركبون الموجة‪ ،‬ويقومون بعد ذلك بتصفية المعارضة‪ ،‬مهما كان دينها‬
‫أو عرقها‪ .‬وللتدليل على ذلك نقرأ في "بروتوكولت حكماء صهيون" ما‬
‫يلي‪:‬‬
‫"وذلك حين يحين الوقت لتغيير كل الحكومات القائمة من أجل‬
‫أوتقراطيتنا‪ ،‬أن تعرفنا لملكنا التوقراطي)‪ (70‬يمكننا أن نتحقق منه قبل‬
‫إلغاء الدساتير‪ ،‬أعني بالضبط أن تعرف أن حكمنا سيبدأ في اللحظة‬
‫ذاتها حين يصرخ الناس الذين مزقتهم الخلفات وتعذبوا تحت إفلس‬
‫حكامهم )وهذا ما سيكون مدبرا ً على أيدينا( فيصرخون هاتفين‪:‬‬
‫اخلعوهم وأعطونا حاكما ً عالميا ً واحدا يستطيع أن يوحدنا‪ ،‬ويمحق كل‬
‫أسباب الخلف‪ ،‬وهي الحدود والقوميات والديان والديون ونحوها ‪...‬‬
‫ة َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ها‬ ‫مث ْل َي ْ َ‬ ‫م ِ‬ ‫صب ْت ُ ْ‬ ‫قد ْ أ َ‬ ‫صيب َ ٌ‬‫م ِ‬ ‫م ُ‬ ‫صاب َت ْك ُ ْ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ول َ ّ‬ ‫كما في قوله تعالى‪) :‬أ َ‬
‫‪68‬‬

‫عَلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫ء‬
‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه َ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫د أن ْ ُ‬ ‫عن ْ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫و ِ‬ ‫ه َ‬‫ل ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ذا ُ‬ ‫ه َ‬ ‫م أّنى َ‬ ‫قل ْت ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫ديٌر‪] ‬آل عمران‪.[165:‬‬ ‫ق ِ‬ ‫َ‬
‫م‬‫و َ‬ ‫وي َ ْ‬‫ة َ‬ ‫ن ك َِثيَر ٍ‬ ‫واطِ َ‬ ‫م َ‬
‫في َ‬ ‫ه ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫صَرك ُ ْ‬ ‫قد ْ ن َ َ‬ ‫‪69‬كما في قوله تعالى‪) :‬ل َ َ‬
‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ت َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ضا َ‬ ‫و َ‬ ‫شي ًْئا َ‬‫م َ‬ ‫عن ْك ُ ْ‬‫ن َ‬ ‫غ ِ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫فل َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫م ك َث َْرت ُك ُ ْ‬ ‫جب َت ْك ُ ْ‬‫ع َ‬‫ن إ ِذْ أ َ ْ‬ ‫حن ََي ْ ٍ‬
‫ُ‬
‫ن‪] ‬التوبة‪.[25:‬‬ ‫ري َ‬ ‫مدْب ِ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ّ‬
‫ولي ْت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫تث ّ‬ ‫حب َ ْ‬ ‫ما َر ُ‬ ‫ض بِ َ‬ ‫اْلْر ُ‬
‫‪70‬الوتوقراطية نظام الحاكم الفرد المستبد المطلق‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫حاكما يستطيع أن يمنحنا السلم والراحة اللذين ل يمكن أن يوجدا في‬
‫ظل رؤسائنا وملوكنا وممثلينا‪ .‬ولكنكم تعلمون علما دقيقا وافيا أنه لكي‬
‫يصرخ الجمهور بمثل هذا الرجاء‪ ،‬لبد أن يستمر في كل البلد اضطراب‬
‫العلقات القائمة بين الشعوب والحكومات‪ ،‬فتستمر العداوات والحروب‬
‫والكراهية والموت استشهادا أيضًا")‪.(71‬‬
‫"إننا نخشى تحالف القوى الحاكمة مع المميين )غير اليهود( مع قوة‬
‫الرعاع العمياء‪ ،‬غير أننا قد اتخذنا كل الحتياطيات لنمنع احتمال حدوث‬
‫هذا الحادث‪ .‬فقد أقمنا بين القوتين سدا قوامه الرعب الذي تحسه‬
‫القوتان كل من الخرى‪ ،‬وهكذا تبقى قوة الشعب سندا ً إلى جانبنا‪،‬‬
‫سنكون وحدنا قادتها‪ ،‬وسنوجهها لبلوغ أغراضنا")‪.(72‬‬
‫وتقول أيضًا‪:‬‬
‫"ولكي يكون الملك محبوبا ً ومعظما ً من كل رعاياه – يجب أن‬
‫(‬ ‫‪73‬‬‫)‬

‫يخاطبهم جهارا ً مرات كثيرة‪ .‬فمثل هذه الجراءات ستجعل القوتين في‬
‫انسجام‪ ،‬أعني قوة الشعب وقوة الملك اللتين قد فصلنا بينهما في البلد‬
‫الممية )غير اليهودية( بإبقائنا كل ً منهما في خوف دائم من الخرى‪ .‬ولقد‬
‫كان لزاما علينا أن نبقي كلتا القوتين في خوف من الخرى‪ ،‬لنهما حين‬
‫انفصلتا وقعتا تحت نفوذنا")‪.(74‬‬
‫وقبل البدء بالستدلل على ما ذهبنا إليه من أن التغيير المنشود‬
‫يكون بتغيير النفس أول)‪ ،(75‬علينا أن نتذكر حقيقة شرعية‪ ،‬أن اللتزام‬
‫بالسلم ل يصح إل إذا كان خالصا ً لله تعالى‪ ،‬فإيمان المصالح والمنافع‪،‬‬
‫ُ‬
‫دوا‬ ‫مُروا إل ّ ل ِي َ ْ‬
‫عب ُ ُ‬ ‫ما أ ِ‬ ‫وإيمان الكراه والقهر مخالف لقوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫و َ‬
‫ن ]البينة‪ ،[5:‬ومخالف لقول الرسول صلى الله عليه‬ ‫صي َ ‪‬‬
‫خل ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه ُ‬
‫وسلم‪" :‬إنما العمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى‪ ،‬فمن‬
‫كانت هجرته إلى الله ورسوله‪ ،‬فهجرته إلى الله ورسوله‪،‬‬
‫ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها‪ ،‬فهجرته‬
‫إلى ما هاجر إليه"‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فمن تظاهر بالسلم طلبا لمنفعة أو دفعا لمفسدة‪ ،‬أو تزلفا لحاكم‪،‬‬
‫فقد نافق ومن نافق خسر خسرانا ً مبينًا‪ ،‬ومقصود الشريعة إخراج‬
‫الناس من ظلمات النار إلى نور اليمان‪ ،‬فعلينا أن نتذكر هذه الحقيقة‬
‫للهمية الساسية‪.‬‬

‫‪71‬البروتوكول العاشر‪.‬‬
‫‪72‬البروتوكول التاسع‪.‬‬
‫‪73‬المقصود بالملك )ملك إسرائيل بعد تتويجه لحكم العالم(‪ ،‬أو أي حاكم أو‬
‫ديكتاتور ممن يأتون بانقلب عسكري موجه من قبل اليسار )الماركسية(‪.‬‬
‫‪74‬البروتوكول الرابع والعشرون‪.‬‬
‫‪75‬وثانيا ً وثالثا ً ورابعا ً وخامسا ً ‪ ...‬وعاشرًا‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫اليات‬
‫ورد في القرآن الكريم‪ ،‬العديد من اليات الدالة على إثبات التعاضد‬
‫وتركيز العمل على إصلح الرعية والنشغال بذلك‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أول‪ -‬إذا صلحت الرعية أفرزت حاكما ً صالحًا‪ ،‬وإذا فسدت‬
‫الرعية أفرزت حاكما ً فاسدا ً‪:‬‬
‫ورد هذا المفهوم الجلي في العديد من المواضع من كتاب الله‬
‫تعالى منها‪:‬‬
‫ما‬
‫ضا ب ِ َ‬ ‫ع ً‬ ‫ن بَ ْ‬
‫مي َ‬ ‫ّ‬
‫ض الظال ِ ِ‬ ‫ع َ‬ ‫ولي ب َ ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وكذَل ِك ن ُ َ‬ ‫‪ -1‬قوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫ن ]النعام‪.[129:‬‬ ‫كاُنوا ْ ي َك ْ ِ‬
‫سُبو َ ‪‬‬ ‫َ‬
‫تدل الية على أن الله تعالى يولي بعض ظلمة المجتمع بعضا في‬
‫ود‬‫الحكم‪ ،‬فإذا علمنا أن الحاكم هو إفراز من المجتمع‪ ،‬وأن المجتمع ُيس ّ‬
‫على نفسه من يراه الصلح لتحقيق أهدافه وغاياته‪ ،‬دل ذلك بكل تأكيد‬
‫على أن القاعدة العامة تقول‪) :‬إذا صلحت الرعية أفرزت حاكما ً صالحا‪ً،‬‬
‫وإذا فسدت الرعية أفرزت حاكما ً فاسدًا()‪.( 76‬‬
‫ينقل القرطبي قول ابن زيد وابن عباس في تفسير هذه الية قائ ً‬
‫ل‪:‬‬
‫"قال ابن زيد‪ُ :‬نسّلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله‪ ،‬وهذا تهديد‬
‫للظالم إن لم يمتنع من ظلمه يسلط الله عليه ظالما آخر‪ .‬ويدخل في‬
‫الية جميع من يظلم نفسه أو يظلم الرعية أو التاجر يظلم الناس في‬
‫تجارته أو السارق وغيرهم‪.‬‬
‫وقال ابن عباس‪ :‬إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم وإذا‬
‫سخط الله عن قوم ولى أمرهم شرارهم")‪ ،(77‬انتهى‪.‬‬
‫قال ابن أبي العز الحنفي‪" :‬وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلنه‬
‫يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من‬
‫جورهم بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الجور‪،‬‬
‫فإن الله ما سّلطهم علينا إل لفساد أعمالنا‪ ،‬والجزاء من جنس العمل‪،‬‬
‫ما‬‫و َ‬‫فعلينا الجتهاد في الستغفار والتوبة وإصلح العمل‪ ،‬قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫عن ك َِثي ٍ ‪‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ر‬ ‫فو َ‬ ‫ع ُ‬ ‫وي َ ْ‬
‫م َ‬ ‫ديك ُ ْ‬‫ت أي ْ ِ‬
‫سب َ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫فب ِ َ‬‫ة َ‬
‫صيب َ ٍ‬
‫م ِ‬ ‫من ّ‬ ‫كم ّ‬ ‫صاب َ ُ‬
‫أ َ‬

‫‪76‬قد يقول قائل‪ :‬لم ل يتغلب حاكم ظالم فاسد على مجتمع صالح بعملية‬
‫انقلبية ثورية أو بعمل جاسوسي منظم يتظاهر فيه صاحبه بالسير لتحقيق‬
‫أهداف وغايات المجتمع المستهدف؟ قلت‪ :‬إمكانية نجاح هذا الرجل‬
‫الفاسد المنافق واردة‪ ،‬فإذا حصل ذلك دل المر على نقص في المجتمع‪،‬‬
‫ودليل نقصه‪ ،‬ضعف الوعي بصفات المنافقين وأعمالهم الجاسوسية التي‬
‫بينها الله تعالى في كتابه الكريم‪ ،‬أو تساهل بها طمعا في استغلل ما ينتج‬
‫عنه‪ .‬ومن التغيير بما في النفس‪ ،‬معرفة مكر الماكرين ودراية ما‬
‫يخططون ويتآمرون‪ ،‬فمن نام عن هذا‪ ،‬فقد أساء معرفة سنن الله تعالى‪.‬‬
‫ومن وقع في ذلك فل يلومن إل نفسه فإن العدو يقظان‪.‬‬
‫‪"77‬تفسير القرطبي" )ج ‪ 7‬ص ‪.(85‬‬

‫‪47‬‬
‫ضا‪] ‬النعام‪،[129:‬‬ ‫ع ً‬ ‫ن بَ ْ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ض ال ّ‬ ‫ع َ‬ ‫وّلي ب َ ْ‬ ‫ك نُ َ‬ ‫وك َذَل ِ َ‬ ‫]الشورى‪َ ) .[30:‬‬
‫فإذا أراد الرعية أن يتخّلصوا من ظلم المير فليتركوا الظلم" ‪.‬‬
‫)‪( 78‬‬

‫وقال الشيخ اللباني رحمه الله‪" :‬وفي هذا بيان لطريق الخلص من‬
‫ظلم الحكام الذين هم "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا"‪ ،‬وهو أن يتوب‬
‫المسلمون إلى ربهم ويصححوا عقيدتهم ويربوا أنفسهم وأهليهم على‬
‫حّتى‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ما ب ِ َ‬ ‫غي ُّر َ‬ ‫ه ل َ يُ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫السلم الصحيح تحقيقا ً لقوله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م ]البينة‪ ،[5:‬وإلى ذلك أشار أحد الدعاة‬ ‫ه ْ‪‬‬‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ما ب َِأن ُ‬ ‫غي ُّروا َ‬‫يُ َ‬
‫المعاصرين)‪ (79‬بقوله‪" :‬أقيموا دولة السلم في قلوبكم تقم لكم على‬
‫أرضكم"‪ .‬وليس طريق الخلص ما يتوهم بعض الناس وهو الثورة‬
‫بالسلح على الحكام‪ .‬بواسطة النقلبات العسكرية)‪ ،(80‬فإنها مع كونها‬
‫من بدع العصر الحاضر فهي مخالفة لنصوص الشريعة التي منها المر‬
‫بتغيير ما بالنفس‪ ،‬وكذلك فل بد من إصلح القاعدة لتأسيس البناء‬
‫ز ]الحج‪.[40:‬‬ ‫زي ٌ ‪‬‬ ‫ع ِ‬ ‫ي َ‬ ‫و ّ‬ ‫ق ِ‬‫ه لَ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫صُرهُ إ ِ ّ‬ ‫من َين ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫صَر ّ‬ ‫ول ََين ُ‬ ‫عليها‪َ ) :‬‬
‫وفي معرض حديثه عن أسباب انتقال المر من الخلفة إلى الملك‪،‬‬
‫قال ابن تيمية‪" :‬وقد ذكرت في غير هذا الموضع‪ ،‬أن مصير المر إلى‬
‫ملوك ونوابهم من الولة‪ ،‬والقضاة والمراء‪ ،‬ليس لنقص فيهم فقط‪،‬‬ ‫ال ُ‬
‫بل لنقص في الراعي والرعية جميعا ‪ ،‬فإنه‪" :‬كما تكونوا يول‬ ‫ً‬
‫ن‬‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ض ال ّ‬ ‫ع َ‬ ‫وّلي ب َ ْ‬ ‫ك نُ َ‬ ‫وك َذَل ِ َ‬ ‫عليكم" وقد قال الله تعالى‪َ ) :‬‬
‫)‪( 81‬‬

‫ضا‪ ،(82)"‬رحمه الله‪.‬‬ ‫ع ً‬ ‫بَ ْ‬


‫قلت‪ :‬تعليقا ً على قول ابن عباس رضي الله عنه‪ ،‬ومتى يرضى الله‬
‫تعالى من قوم فيولي أمرهم خيارهم؟ ل شك إذا كانوا صالحين‪ .‬ومتى‬
‫يسخط الله على قوم فيولي أمرهم شرارهم؟ ل شك إذا كانوا فاسدين‪.‬‬
‫وهذا هو جوهر القاعدة‪ ) :‬إذا صلحت الرعية أفرزت حاكما ً صالحًا‪ ،‬وإذا‬
‫فسدت الرعية أفرزت حاكما ً فاسدًا(‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية والنشغال‬
‫بذلك‪ ،‬من المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح للحاكم بشروطه‬
‫وضوابطه‪.‬‬
‫ما‬
‫غي ُّروا َ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ما ب ِ َ‬ ‫غي ُّر َ‬ ‫ه ل َ يُ َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫‪ -2‬قوله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫فسهم وإ َ َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬‫ما ل ُ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫مَردّ ل ُ‬ ‫فل َ‬ ‫ءا َ‬ ‫سو ً‬ ‫وم ٍ ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ذا أَرادَ الل ّ ُ‬ ‫ب ِأن ُ ِ ِ ْ َ ِ‬
‫ل ]الرعد‪.[11:‬‬ ‫وا ٍ ‪‬‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ه ِ‬
‫دون ِ ِ‬ ‫ُ‬

‫‪"78‬شرح العقيدة الطحاوية‪ ،‬ط‪ 1399 ،5 /‬هـ‪ ،‬ص ‪.430‬‬


‫‪79‬قال اللباني رحمه الله‪ :‬وهو الستاذ حسن الهضيبي ‪ -‬رحمه الله‪.-‬‬
‫‪80‬من أمثلة هذه النقلبات‪ :‬انقلب )ثورة ‪ 23‬يوليو ‪ 1952‬الشتراكية( في‬
‫مصر‪ ،‬والثورات الشتراكية الخرى في كل منك سوريا وليبيا واليمن‬
‫والعراق والصومال والسودان والجزائر وإيران وإندونيسيا‪.‬‬
‫‪81‬ضعفه الشيخ ناصر في "السلسلة الضعيفة" )‪ ،(1/490‬رقم )‪.(320‬‬
‫‪"82‬مجموع الفتاوى" )‪.(35/20‬‬

‫‪48‬‬
‫وهذه الية أصرح في الدللة على المراد‪ ،‬وهي عامة تشمل نوعي‬
‫التغيير سواء من الخير إلى الشر أو العكس‪.‬‬
‫ونلحظ أن الية تتحدث عن تغيير يحدث في القوم ‪ -‬أي الجماعة ‪-‬‬
‫وليس في شخص الحاكم دون المحكوم‪ ،‬وليس بالضرورة أن يحصل‬
‫التغيير بتغيير فئة قليلة في المجتمع‪ ،‬إنما المراد أن يكون التغيير غالبا ً‬
‫فيه‪ .‬وتجدر الشارة إلي أن الله تعالى قد وعد بالتغيير إلى الخير‬
‫والتمكين للمؤمنين في الرض بعد توفر شروط وانتفاء موانع كما‬
‫سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى‪.‬‬
‫يقول الطبري في تفسيرها‪" :‬إن الله ل يغير ما بقوم من عافية‬
‫ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم‪ ،‬حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك‬
‫بظلم بعضهم بعضا‪ ،‬واعتداء بعضهم على بعض‪ ،‬فتحل بهم حينئذ عقوبته‬
‫وتغييره")‪.(83‬‬
‫ويقول القرطبي فيها‪" :‬لن الله ل يغير ما بقوم من النعمة والعافية‬
‫حتى يغيروا ما بأنفسهم بالصرار على الكفر فإن أصروا حان الجل‬
‫المضروب ونزلت بهم")‪.(84‬‬
‫ويقول كذلك‪" :‬أخبر الله تعالى في هذه الية أنه ل يغير ما بقوم‬
‫حتى يقع منهم تغيير إما منهم أو من الناظر لهم أو ممن هو منهم‬
‫بسبب‪ ،‬كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم‪،‬‬
‫هذا من أمثلة الشريعة‪ ،‬فليس معنى الية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إل‬
‫بأن يتقدم منه ذنب‪ ،‬بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير‪ ،‬كما قال صلى‬
‫الله عليه وسلم وقد سئل‪" :‬أنهلك وفينا الصالحون؟ قال‪ :‬نعم‬
‫ة‬‫فت ْن َ ً‬ ‫قوا ِ‬ ‫وات ّ ُ‬‫إذا كثر الخبث"‪ ،‬والله أعلم" ‪ .‬كما قال الله تعالى‪َ ) :‬‬
‫)‪(85‬‬
‫َ‬
‫د‬
‫دي ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫موا أ ّ‬ ‫عل َ ُ‬
‫وا ْ‬ ‫ة َ‬ ‫ص ً‬
‫خا ّ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫موا ِ‬ ‫ن ظَل َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫صيب َ ّ‬ ‫ل َ تُ ِ‬
‫ب ]النفال‪ .[25:‬وبمثل هذا قال ابن كثير ‪.‬‬
‫)‪(86‬‬
‫قا ِ ‪‬‬ ‫ع َ‬‫ال ْ ِ‬
‫قلت‪ :‬فإن تأخر العذاب عن أمة ل تزال على معصية‪ ،‬فإنما هو‬
‫ول َ‬ ‫لحكمة أو يكون استدراجا ً لهذا الظالم‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫ما ي ُ َ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫م ُ‬ ‫فل ً َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫وم ٍ‬ ‫م ل ِي َ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫خُر ُ‬‫ؤ ّ‬ ‫ن إ ِن ّ َ‬‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ما ي َ ْ‬‫ع ّ‬ ‫غا ِ‬ ‫سب َ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫تَ ْ‬
‫ر ]إبراهيم‪ .[42:‬وقوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬ثم‬ ‫صا ُ ‪‬‬
‫ه الب ْ َ‬ ‫في ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫تَ ْ‬
‫خ ُ‬
‫ذ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وكذَل ِك أ ْ‬ ‫َ‬ ‫إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته قال‪ :‬ثم قرأ ‪َ ‬‬
‫م َ‬ ‫َ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ي َ‬ ‫خذَ ال ْ ُ‬ ‫ذا أ َ َ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫د‪. "‬‬ ‫خذَهُ أِلي ٌ‬ ‫ك إِ َ‬
‫)‪( 87‬‬
‫دي ٌ‬ ‫ش ِ‬ ‫ة إِ ّ‬‫م ٌ‬‫ظال ِ َ‬ ‫ه َ‬‫و ِ‬‫قَرى َ‬
‫وعن معنى التغيير وحقيقته‪ ،‬يقول ابن تيمية رحمه الله‪" :‬لفظ التغير‬
‫لفظ مجمل‪ ،‬فالتغير في اللغة المعروفة ل يراد به مجرد كون المحل‬
‫قامت به الحوادث فان الناس ل يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا‬
‫‪"83‬تفسير الطبري" )ج ‪ 13‬ص ‪.(121‬‬
‫‪"84‬تفسير القرطبي" )ج ‪ 9‬ص ‪.(292‬‬
‫‪"85‬تفسير القرطبي" )ج ‪ 9‬ص ‪.(294‬‬
‫‪"86‬تفسير ابن كثير" )ج ‪ 2‬ص ‪.(321‬‬
‫‪87‬رواه البخاري برقم )‪.(4409‬‬

‫‪49‬‬
‫تحركت‪ :‬إنها قد تغيرت‪ ،‬ول يقولون للنسان إذا تكلم ومشى انه تغير‪،‬‬
‫ول يقولون إذا طاف وصلى‪ ،‬وأمر ونهى‪ ،‬وركب انه تغير‪ ،‬إذا كان ذلك‬
‫عادته‪ ،‬بل إنما يقولون تغير لمن استحال من صفة إلى صفة‪ ،‬كالشمس‬
‫إذا زال نورها ظاهرا ً ل يقال إنها تغيرت‪ ،‬فإذا اصفرت قيل تغيرت‪.‬‬
‫وكذلك النسان إذا مرض أو تغير جسمه بجوع أو تعب قيل قد‬
‫تغير‪ ،‬وكذلك إذا تغير خلقه ودينه‪ ،‬مثل أن يكون فاجرا فينقلب ويصير‬
‫برا‪ ،‬أو يكون برا فينقلب فاجرا ً فإنه يقال قد تغير‪ .‬وفى الحديث‪" :‬رأيت‬
‫)‪( 88‬‬
‫وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم متغيرًا‪ ،‬لما رأى‬
‫م حركته‬ ‫منه أثر الجوع ولم يزل يراه يركع ويسجد" فلم يس ّ‬
‫تغيرًا‪ ،‬وكذلك يقال فلن قد تغير على فلن إذا صار يبغضه بعد المحبة‪،‬‬
‫فإذا كان ثابتا ً على مودته لم يسم هشته إليه وخطابه له تغيرًا‪.‬‬
‫وإذا جرى على عادته في أقواله وأفعاله فل يقال أنه قد تغير‪ ،‬قال‬
‫م‪.‬‬
‫ه ْ‪‬‬ ‫س ِ‬‫ف ِ‬ ‫ما ب ِأ َن ْ ُ‬‫غي ُّروا ْ َ‬‫حّتى ي ُ َ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ما ب ِ َ‬
‫ق ْ‬ ‫غي ُّر َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ل َ يُ َ‬ ‫الله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة يقولون ويفعلون ما هو‬
‫خير‪ ،‬لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم‪ ،‬فإذا انتقلوا عن ذلك‪ ،‬فاستبدلوا‬
‫بقصد الخير قصد الشر‪ ،‬وباعتقاد الحق اعتقاد الباطل‪ ،‬قيل قد غيروا ما‬
‫بأنفسهم‪ ،‬مثل من كان يحب الله ورسوله والدار الخرة‪ ،‬فتغير قلبه‬
‫وصار ل يحب الله ورسوله والدار الخرة‪ ،‬فهذا قد غير ما في نفسه"‪،‬‬
‫انتهى)‪.(89‬‬
‫ويقول ابن القيم‪" :‬وهل زالت عن أحد قط نعمة إل بشؤم معصيته‪،‬‬
‫فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه‪ ،‬ول يغيرها عنه حتى يكون‬
‫حّتى‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ما ب ِ َ‬ ‫ه ل َ يُ َ‬
‫غي ُّر َ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫هو الساعي في تغييرها عن نفسه‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م ]الرعد‪.(90)[11:‬‬ ‫ه ْ‪‬‬‫س ِ‬‫ف ِ‬ ‫ما ب ِأ َن ْ ُ‬‫غي ُّروا ْ َ‬‫يُ َ‬
‫وقد استدل الشيخ اللباني رحمه الله تعالى بالية‪ ،‬لصلح القاعدة‬
‫ل‪" :‬وفي هذا بيان لطريق الخلص من ظلم‬ ‫لتأسيس البناء عليها‪ ،‬قائ ً‬
‫الحكام الذين هم "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا" وهو أن يتوب‬
‫المسلمون إلى ربهم ويصححوا عقيدتهم ويربوا أنفسهم وأهليهم على‬
‫حّتى‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ما ب ِ َ‬ ‫ه ل َ يُ َ‬
‫غي ُّر َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫السلم الصحيح تحقيقا لقوله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م‪ ،‬وإلى ذلك أشار أحد الدعاة المعاصرين بقوله‪:‬‬
‫)‪(91‬‬
‫ه ْ‪‬‬ ‫س ِ‬‫ف ِ‬ ‫ما ب ِأ َن ْ ُ‬‫غي ُّروا ْ َ‬‫يُ َ‬
‫"أقيموا دولة السلم في قلوبكم تقم لكم على أرضكم"‪ .‬وليس طريق‬
‫الخلص ما يتوهم بعض الناس وهو الثورة بالسلح على الحكام ‪.‬‬
‫بواسطة النقلبات العسكرية فإنها مع كونها من بدع العصر الحاضر‬
‫فهي مخالفة لنصوص الشريعة التي منها المر بتغيير ما بالنفس وكذلك‬

‫‪88‬هكذا في الصل‪ ،‬ولعلها )رؤي(‪.‬‬


‫‪"89‬مجموع الفتاى" )‪ .(250-6/249‬وانظر‪" :‬رسالة في معنى كون الرب عاد ً‬
‫ل"‬
‫لبن تيمية‪.(1/134) :‬‬
‫‪"90‬بدائع الفوائد" )ج ‪ 2‬ص ‪.(432‬‬
‫‪91‬قال اللباني رحمه الله‪ :‬وهو الستاذ حسن الهضيبي ‪ -‬رحمه الله‪.-‬‬

‫‪50‬‬
‫من‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫صَر ّ‬ ‫ول ََين ُ‬
‫فل بد من إصلح القاعدة لتأسيس البناء عليها ‪َ ‬‬
‫ز ]الحج‪.(92)[40:‬‬ ‫زي ٌ ‪‬‬‫ع ِ‬ ‫ي َ‬ ‫و ّ‬ ‫ق ِ‬ ‫ه لَ َ‬
‫ن الل ّ َ‬ ‫صُرهُ إ ِ ّ‬ ‫َين ُ‬
‫ويقول محب الدين الخطيب‪" :‬وقد يظن من ل نظر له في حياة‬
‫الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون‬
‫حيثما يكون‪ .‬وهذا خطأ‪ ،‬فللبيئة التأثير في الحاكم‪ ،‬وفي نظام الحكم‬
‫أكثر مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة‪ .‬وهذا من معاني‬
‫غي ُّروا ْ َ‬
‫ما‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ما ب ِ َ‬ ‫غي ُّر َ‬ ‫ه ل َ يُ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫قول الله عز وجل‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م")‪.(93‬‬ ‫ه ْ‪‬‬ ‫س ِ‬‫ف ِ‬ ‫ب ِأ َن ْ ُ‬
‫لحظ ما تحته خط فإنه كلم نفيس‪.‬‬
‫كما وقد أشار ابن خلدون إلى أهمية العدل في قصة حكاها عن‬
‫دين عندهم في‬ ‫المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب ال ّ‬
‫وصيته للملك بهرام بن بهرام‪ ,‬فقال له‪" :‬أيها الملك‪ ,‬إن الملك ل يتم‬
‫عزه إل بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه ول‬
‫قوام للشريعة إل بالملك‪ ،‬ول عز للملك إل بالرجال‪ ،‬ول قوام للرجال إل‬
‫بالمال‪ ،‬ول سبيل إلى المال إل بالعمارة‪ ،‬ول سبيل للعمارة إل بالعدل‬
‫والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب وجعل له‬
‫قّيما ً وهو الملك"‪ ،‬انتهى)‪.(94‬‬
‫وكلم الموبذان هذا والذي أعجب ابن خلدون يدل على أنه حكيم‬
‫ه الملك على دور‬ ‫ك ربطا ً صحيحا ً حين نب َ‬ ‫مل ِ ِ‬ ‫لربطه بين قوام الشريعة وال َ‬
‫بطانة الملك ورعيته "الرجال" في تحمل المسؤولية‪ ,‬ودور المال في‬
‫العمارة‪ ,‬ول عمارة إل بالعدل والعدل الميزان أي‪ :‬الشرع‪ .‬وبعبارة أخرى‬
‫كأنه يقول له‪ :‬إذا أردت أن تنجح في تطبيق حكم الله وتغيير الظلم في‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫ل‪ ،‬وهذا هو قول الله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬ ‫الواقع‪ ,‬فعليك بإصلح الناس أو ً‬
‫َ‬
‫م‪ .‬وليس كما يصر عليه‬ ‫ه ْ‪‬‬ ‫ِ‬ ‫س‬
‫ف ِ‬ ‫ما ب ِأن ْ ُ‬ ‫غي ُّروا ْ َ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬‫ما ب ِ َ‬ ‫غي ُّر َ‬ ‫ل َ يُ َ‬
‫التحريريون بأن التغيير يكون بالحاكم فقط" ‪.‬‬
‫)‪( 95‬‬

‫َ‬ ‫‪ -3‬قوله تعالى‪) :‬ذَل ِ َ َ‬


‫ها‬
‫م َ‬ ‫ع َ‬ ‫ة أن ْ َ‬ ‫م ً‬ ‫ع َ‬ ‫غي ًّرا ن ِ ْ‬
‫م َ‬‫ك ُ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫ه لَ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ك ب ِأ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫عِلي ٌ ‪‬‬ ‫ع َ‬ ‫مي ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫وأ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ما ب ِأن ُ‬ ‫غي ُّروا َ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫عَلى َ‬ ‫َ‬
‫]النفال‪.[53:‬‬
‫هذه الية الكريمة واضحة الدللة في سنة الله تعالى في التغيير من‬
‫الخير إلى الشر‪ ،‬وفيها التأكيد على أن مدار التغيير يكون بتغير ما في‬
‫نفوس غالب المجتمع من النعمة إلى كفرها‪ ،‬كما في قوله تعالى‪":‬‬
‫ة مطْمئ ِن ّ ً ْ‬ ‫مث ًَل َ‬
‫دا‬
‫غ ً‬ ‫ها َر َ‬ ‫ق َ‬ ‫رْز ُ‬ ‫ها ِ‬ ‫ة ي َأِتي َ‬ ‫َ‬ ‫من َ ً ُ‬ ‫تآ ِ‬ ‫كان َ ْ‬ ‫ة َ‬ ‫قْري َ ً‬ ‫ه َ‬‫ب الل ّ ُ‬ ‫ضَر َ‬ ‫و َ‬ ‫) َ‬
‫‪"92‬العقيدة الطحاوية"‪ ،‬شرح وتعليق‪ ،‬ط‪ /‬المكتب السلمي ‪) 1978‬ص‬
‫‪.(47‬‬
‫‪93‬في كتاب "العواصم من القواصم" )ص ‪.(77‬‬
‫‪"94‬مقدمة ابن خلدون")ص ‪.(287‬‬
‫‪95‬عن كتابنا وفضيلة الشيخ سمير مراد‪" ،‬مسائل في الجهاد"‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى‪ ،‬مطبعة الشباب‪) ،‬ص ‪ ،(85‬عمان ‪ -‬الردن‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫ع‬ ‫جو ِ‬ ‫س ال ْ ُ‬ ‫ه ل َِبا َ‬ ‫ها الل ّ ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ذا َ‬ ‫فأ َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫عم ِ الل ّ ِ‬ ‫ت ب ِأن ْ ُ‬
‫َ‬
‫فَر ْ‬ ‫فك َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫كا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ن ]النحل‪.[112:‬‬ ‫عو َ ‪‬‬ ‫صن َ ُ‬ ‫ما كاُنوا ي َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ف بِ َ‬ ‫و ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫ْ‬
‫وال َ‬ ‫َ‬
‫يقول ابن تيمية في معناها‪" :‬وهذا التغيير نوعان‪ :‬أحدهما‪ :‬أن يبدو‬
‫ذلك فيبقى قول ً وعمل ً يترتب عليه الذم و العقاب‪ .‬والثاني‪ :‬أن يغيروا‬
‫اليمان الذي في قلوبهم بضده من الريب و الشك و البغض‪ ،‬و يعزموا‬
‫على ترك فعل ما أمر الله به و رسوله‪ ،‬فيستحقوا العذاب هنا على ترك‬
‫المأمور‪ ،‬و هناك على فعل المحظور‪ .‬وكذلك ما في النفس مما يناقض‬
‫محبة الله والتوكل عليه والخلص له والشكر له‪ ،‬يعاقب عليه لن هذه‬
‫المور كلها واجبة‪ .‬فإذا خلى القلب عنها و اتصف بأضدادها استحق‬
‫العذاب على ترك هذه الواجبات")‪ ،(96‬انتهى‪.‬‬
‫ثانيَا‪ -‬أن العذاب ينزل بذنوب القوام من أهل القرى‪،‬‬
‫وليس الولة فقط‪.‬‬
‫وسبب وضع هذا العنوان أن البعض قد ابتعد عن الحق كثيرا في‬
‫رسم حدود مسؤولية الحكام‪ ،‬فأناط بهم تغيير كل شيء في المجتمع‬
‫سواء وقع المر ضمن مسؤوليته أم ضمن أصحاب المسؤوليات الخرى‬
‫التي ذكرها الحديث الشريف‪" :‬كلكم راع وكلكم مسئول عن‬
‫رعيته‪ ."...‬واليات الدالة على المعنى المذكور في العنوان كثيرة‪،‬‬
‫منها‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ها‬ ‫خذْت ُ َ‬ ‫مأ َ‬ ‫ةث ّ‬ ‫ُ‬ ‫م ٌ‬ ‫ي ظال ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫و ِ‬ ‫ها َ‬ ‫تل َ‬ ‫ملي ْ ُ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫ن قْري َ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫وكأي ّ ْ‬ ‫• ) َ‬
‫ر ]الحج‪.[48:‬‬ ‫صي ُ ‪‬‬ ‫َ ِ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ي‬‫وإ ِل َ ّ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ها‬ ‫عدَ َ‬ ‫وأنشأَنا ب َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ة َ‬ ‫م ً‬ ‫ت ظال ِ َ‬ ‫ة كان َ ْ‬ ‫ن قْري َ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ص ْ‬ ‫مق َ‬ ‫وك ْ‬ ‫• ) َ‬
‫ن ]النبياء‪.[11:‬‬ ‫ري َ ‪‬‬ ‫ِ‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫آ‬ ‫ما‬ ‫و ً‬ ‫ق ْ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ك ال ْ ُ‬ ‫هل ِ َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫ما َ‬
‫ها‬ ‫م َ‬ ‫في أ ّ‬ ‫ث ِ‬ ‫ع َ‬ ‫حّتى ي َب ْ َ‬ ‫قَرى َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ُ‬ ‫كا َ‬ ‫و َ‬ ‫• ) َ‬
‫ها‬‫هل َُ‬ ‫وأ ْ‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫رى‬ ‫ق‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫كي‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫نا‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫نا‬ ‫ت‬ ‫يا‬ ‫آ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ً‬
‫ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ ِ‬‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ِ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫سو َ‬
‫ي‬ ‫ل‬ ‫َر ُ‬
‫ن ]القصص‪.[59:‬‬ ‫مو َ ‪‬‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫َ‬
‫هل َك َْنا َ َ‬ ‫ة أَ ْ‬ ‫عَلى َ‬
‫ن ]النبياء‪.[95:‬‬ ‫عو َ ‪‬‬ ‫ج ُ‬ ‫م ل ي َْر ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ها أن ّ ُ‬ ‫قْري َ ٍ‬ ‫م َ‬ ‫حَرا ٌ‬ ‫و َ‬ ‫• ) َ‬
‫رْز ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ة َ‬ ‫مث َل ً َ‬ ‫ّ‬
‫ها‬ ‫ق َ‬ ‫ها ِ‬ ‫ة ي َأِتي َ‬ ‫مئ ِن ّ ً‬ ‫مط َ‬ ‫ة ُ‬ ‫من َ ً‬ ‫تآ ِ‬ ‫كان َ ْ‬ ‫قْري َ ً‬ ‫ه َ‬ ‫ب الل ُ‬ ‫ضَر َ‬ ‫و َ‬ ‫• ) َ‬
‫س‬ ‫ّ‬ ‫ذا َ‬ ‫فأ َ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫فك َ‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫نك ّ‬ ‫ُ‬ ‫َر َ‬
‫ه ل َِبا َ‬ ‫ها الل ُ‬ ‫ق َ‬ ‫عم ِ الل ِ‬ ‫ت ب ِأن ْ ُ‬ ‫فَر ْ‬ ‫مكا ٍ‬ ‫ل َ‬ ‫م ْ‬ ‫دا ِ‬ ‫غ ً‬
‫ن ]النحل‪.[112:‬‬ ‫عو َ ‪‬‬ ‫صن َ ُ‬ ‫ما كاُنوا ي َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ف بِ َ‬ ‫و ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫وال َ‬ ‫ْ‬ ‫ع َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫جو ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ع ْ‬ ‫فو َ‬ ‫ع ُ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫فب ِ َ‬ ‫ة َ‬ ‫صيب َ ٍ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫صاب َك ُ ْ‬ ‫ما أ َ‬ ‫و َ‬ ‫• ) َ‬
‫ر ]الشورى‪.[30:‬‬ ‫ك َِثي ٍ ‪‬‬
‫ة أوَ‬
‫ع ٌ ْ‬ ‫ر َ‬ ‫قا ِ‬ ‫عوا َ‬ ‫صن َ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫صيب ُ ُ‬ ‫فُروا ت ُ ِ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫ول ي ََزا ُ‬ ‫• ) َ‬
‫ف‬
‫خل ِ ُ‬ ‫ه ل يُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ح ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫عدُ الل ِ‬ ‫و ْ‬ ‫ي َ‬ ‫حّتى ي َأت ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ر ِ‬ ‫دا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ريًبا ِ‬ ‫لق ِ‬ ‫تَ ُ‬
‫د‪] ‬الرعد‪.[31:‬‬ ‫ال ْ ِ َ َ‬ ‫عا‬ ‫مي‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ه ْ‬‫من ْ ُ‬ ‫و ِ‬ ‫صًبا َ‬ ‫حا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫سل َْنا َ‬ ‫ن أْر َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫ه َ‬ ‫خذَْنا ب ِذَن ْب ِ ِ‬ ‫فك ُل ً أ َ‬ ‫• ) َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫و ِ‬ ‫ض َ‬ ‫ه الْر َ‬ ‫فَنا ب ِ ِ‬ ‫س ْ‬ ‫خ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫و ِ‬ ‫ة َ‬ ‫ح ُ‬ ‫صي ْ َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫خذَت ْ ُ‬ ‫ن أَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫‪"96‬مجموع الفتاوى" )ج ‪ 14‬ص ‪.(109‬‬

‫‪52‬‬
‫م‬ ‫ه ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ف َ‬ ‫كاُنوا أ َن ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ول َك ِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ه ل ِي َظْل ِ َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬ ‫قَنا َ‬ ‫غَر ْ‬ ‫أَ ْ‬
‫ن ]العنكبوت‪.[40:‬‬ ‫مو َ ‪‬‬ ‫ي َظْل ِ ُ‬
‫فمن المثلة على هذه القرى الظالمة التي قد أهلكها الله تعالى‬
‫بذنوبهم‪:‬‬
‫قوم عاد‪:‬‬
‫ر ]القمر‪.[18:‬‬ ‫ون ُذُ ِ ‪‬‬ ‫ذاِبي َ‬ ‫ع َ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ف َ‬ ‫فك َي ْ َ‬ ‫عادٌ َ‬ ‫ت َ‬ ‫• )ك َذّب َ ْ‬
‫َ‬
‫مَر‬‫عوا أ ْ‬ ‫وات ّب َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫سل َ ُ‬ ‫وا ُر ُ‬ ‫ص ْ‬ ‫ع َ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ت َرب ّ ِ‬ ‫دوا ِبآَيا ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫ج َ‬ ‫عادٌ َ‬ ‫ك َ‬ ‫وت ِل ْ َ‬ ‫• ) َ‬
‫د ]هود‪.[59:‬‬ ‫عِني ٍ‪‬‬ ‫ر َ‬ ‫ل َ ّ ٍ‬ ‫بـا‬ ‫ج‬ ‫كُ ّ‬
‫قوم ثمود‪:‬‬
‫• ) َ‬
‫دى‬ ‫ه َ‬ ‫عَلى ال ْ ُ‬ ‫مى َ‬ ‫ع َ‬ ‫حّبوا ال ْ َ‬ ‫ست َ َ‬ ‫فا ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫هدَي َْنا ُ‬ ‫ف َ‬ ‫مودُ َ‬ ‫ما ث َ ُ‬ ‫وأ ّ‬ ‫َ‬
‫ن ]فصلت‪:‬‬ ‫سُبو َ ‪‬‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ب‬
‫ُ ِ ِ َ‬ ‫ن‬ ‫هو‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬‫ِ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫صا‬ ‫خذَ ُ ْ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ت‬ ‫فأ َ َ‬ ‫َ‬
‫‪.[17‬‬
‫• فرعون وقومه‪:‬‬
‫م ك َذُّبوا ِبآَيات َِنا‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ه ْ‬ ‫قب ْل ِ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ِ‬ ‫ن َ‬ ‫و َ‬ ‫ع ْ‬ ‫فْر َ‬ ‫ل ِ‬ ‫بآ ِ‬ ‫• )ك َدَأ ِ‬
‫ب ]آل عمران‪.[11:‬‬ ‫قا ِ ‪‬‬ ‫ع َ‬ ‫ديدُ ال ْ ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫ه َ‬ ‫والل ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ه ب ِذُُنوب ِ ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫خذَ ُ‬ ‫فأ َ َ‬ ‫َ‬
‫هّ‬ ‫م كَ َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ت الل ِ‬ ‫فُروا ِبآَيا ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫قب ْل ِ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ِ‬ ‫ن َ‬ ‫و َ‬ ‫ع ْ‬ ‫فْر َ‬ ‫ل ِ‬ ‫بآ ِ‬ ‫• )ك َدَأ ِ‬
‫ب ]النفال‪:‬‬ ‫قا ِ ‪‬‬ ‫ع َ‬ ‫ْ‬
‫ديدُ ال ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫ي َ‬ ‫و ّ‬ ‫ق ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫ه ب ِذُُنوب ِ ِ‬
‫ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫خذَ ُ‬ ‫فأ َ َ‬ ‫َ‬
‫‪.[52‬‬
‫من الملحظ أن هذه اليات تؤكد بوضوح وجلء‪ ،‬أن السبب المباشر‬
‫لوقوع العذاب‪ ،‬وقوع الظلم من أهل القرى عامة )آل فرعون‪ ،‬ثمود(‬
‫حكاما ً ومحكومين وليس بذنوب الحكام فقط‪ .‬وأنها سنة الله التي قد‬
‫ما‬‫م لَ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫مان ُ ُ‬ ‫م ِإي َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ع ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫ك ي َن ْ َ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫فل َ ْ‬ ‫خلت في عباده‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫هَنال ِكَ‬ ‫سَر ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عَباِد ِ‬ ‫في ِ‬ ‫ت ِ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫قدْ َ‬ ‫ه ال ِّتي َ‬ ‫ة الل ّ ِ‬ ‫سن ّ َ‬ ‫سَنا ُ‬ ‫وا ب َأ َ‬ ‫َرأ ْ‬
‫ن ]غافر‪.[85:‬‬ ‫فُرو َ ‪‬‬ ‫كا ِ‬‫ال ْ َ‬
‫يقول ابن القيم‪" :‬ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من‬
‫أحوال المم الذين أزال نعمه عنهم‪ ،‬وجد سبب ذلك جميعه إنما هو‬
‫مخالفة أمره وعصيان رسله‪ ،‬وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره‬
‫وما أزال الله عنهم من نعمه‪ ،‬وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب‪،‬‬
‫كما قيل‪:‬‬
‫فإن المعاصي‬ ‫إذا كنت في‬
‫تزيل النعم‬ ‫نعمة فارعها‬
‫فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته‪ ،‬ول حصلت فيها‬
‫الزيادة بمثل شكره‪ ،‬ول زالت عن العبد بمثل معصيته لربه‪ ،‬فإنها نار‬
‫النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس")‪.(97‬‬
‫ويقول كذلك‪" :‬فما أزيلت نعم الله بغير معصيته‪ ،‬إذا كنت في نعمة‬
‫فارعها‪ ،‬فإن المعاصي تزيل النعم‪ .‬فآفتك من نفسك‪ ،‬وبلؤك من‬

‫‪"97‬بدائع الفوائد" )ج ‪ 2‬ص ‪.(432‬‬

‫‪53‬‬
‫نفسك‪ ،‬وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك‪ ،‬وبلغت من معاداة‬
‫نفسك ما ل يبلغ العدو منك‪ .‬كما قيل‪ :‬ما يبلغ العداء من جاهل ما يبلغ‬
‫الجاهل من نفسه")‪.(98‬‬
‫ويقول ابن كثير في ترجمة النقفور ملك الرمن واسمه الدمستق‬
‫الذي توفي في سنة ثنتين وقيل خمس وقيل ست وخمسين وثلثمائة‪:‬‬
‫"كان هذا الملعون من أغلظ الملوك قلبًا‪ ،‬وأشدهم كفرًا‪ ،‬وأقواهم بأسا‪ً،‬‬
‫وأحدهم شوكة وأكثرهم قتل ً وقتال للمسلمين في زمانه‪ ،‬واستمرت في‬
‫يديه قهرا ً وأضيفت إلى مملكة الروم قدرًا‪ ،‬وذلك لتقصير أهل ذلك‬
‫الزمان وظهور البدع الشنيعة فيهم وكثرة العصيان من‬
‫الخاص والعام منهم وفشو البدع فيهم وكثرة الرفض‬
‫والتشيع منهم وقهر أهل السنة بينهم‪ .‬فلهذا أديل عليهم أعداء‬
‫السلم فانتزعوا ما بأيديهم من البلد مع الخوف الشديد ونكد العيش‬
‫والفرار من بلد إلى بلد‪ ،‬فل يبيتون ليلة إل في خوف من قوارع العداء‪،‬‬
‫وطوارق الشرور المترادفة فالله المستعان‪.‬‬
‫وقد ورد حلب في مائتي ألف مقاتل بغتة في سنة إحدى وخمسين‬
‫وثلثمائة‪ ،‬وجال فيها جولة ففر من بين يديه صاحبها سيف الدولة‪،‬‬
‫ففتحها اللعين عنوة وقتل من أهلها الرجال والنساء ما ل يعلمه إل الله‪،‬‬
‫وخرب دار سيف الدولة التي كانت ظاهر حلب‪ ،‬وأخذ أموالها وحواصلها‬
‫وعددها وبدد شملها وفرق عددها واستفحل أمر الملعون بها‪ .‬فإنا لله‬
‫وإنا إليه راجعون")‪.(99‬‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم‬
‫لنفسهم والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح‬
‫للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬
‫ثالثا‪ -‬أن البركة تنزل بسبب تحقق إيمان أهل القرى‬
‫جميعا وليس الولة فقط‪.‬‬
‫واليات في ذلك كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ه َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫وأ ّ‬ ‫ول ْ‬ ‫) َ‬ ‫•‬
‫ء‬
‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫َ‬
‫م ب ََركا ٍ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫حَنا َ‬ ‫وا لفت َ ْ‬
‫َ‬
‫وات ّق ْ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫القَرى آ َ‬
‫ن ]العراف‪:‬‬ ‫سُبو َ ‪‬‬ ‫ْ‬
‫ما كاُنوا ي َك ِ‬ ‫َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ْ‬
‫خذَنا ُ‬ ‫َ‬
‫ن كذُبوا فأ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ولك ِ ْ‬ ‫ض َ‬ ‫والْر ِ‬ ‫َ‬
‫‪.[96‬‬
‫م‬‫هي ُ‬ ‫ل إ ِب َْرا ِ‬ ‫قا َ‬ ‫وإ ِذْ َ‬ ‫) َ‬ ‫•‬
‫َ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت َ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫ن الث ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫هل َ ُ‬‫واْرُزقْ أ ْ‬ ‫مًنا َ‬ ‫دا آ ِ‬ ‫ذا ب َل َ ً‬ ‫ه َ‬
‫ل َ‬ ‫ع ْ‬ ‫ج َ‬
‫با ْ‬ ‫َر ّ‬
‫وم ِ الخر‪] ‬البقرة‪.[126:‬‬ ‫ْ‬
‫والي َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫م ِبالل ِ‬ ‫ه ْ‬‫من ْ ُ‬ ‫ِ‬
‫مأ َ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫موا‬ ‫قا ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫و أن ّ ُ‬ ‫ول ْ‬ ‫) َ‬ ‫•‬
‫ن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ز َ‬ ‫ُ‬ ‫جي َ‬
‫م ْ‬ ‫م لكلوا ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ن َرب ّ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ل إ ِلي ْ ِ‬ ‫ما أن ِ‬ ‫و َ‬‫ل َ‬ ‫والن ِ‬ ‫وَراةَ َ‬ ‫الت ّ ْ‬
‫‪"98‬طريق الهجرتين" )ج ‪ 1‬ص ‪ .(111 -110‬وانظر‪" :‬الفوائد" )ج ‪ 1‬ص‬
‫‪.(210 ،181‬‬
‫‪"99‬البداية والنهاية"‪) ،‬ج ‪ 11‬ص ‪.(243‬‬

‫‪54‬‬
‫قهم ومن ت َحت أ َرجل ِهم من ْه ُ‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫وك َِثيٌر ِ‬ ‫صدَةٌ َ‬ ‫قت َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ُ‬ ‫م ٌ‬ ‫مأ ّ‬ ‫و ِ ِ ْ َ ِ ْ ْ ِ ْ ُ ِ ْ ِ ُ ْ‬ ‫ف ْ‬ ‫َ‬
‫ن ]المائدة‪.[66:‬‬ ‫ملو َ ‪‬‬ ‫ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫ساءَ َ‬ ‫َ‬
‫ل‬‫سو ُ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫)لك ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫•‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وأن ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ه ْ‬ ‫ولئ ِك ل ُ‬ ‫وأ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫وال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫دوا ب ِأ ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫جا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ع ُ‬ ‫م َ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ِ‬ ‫َ‬
‫ن ]التوبة‪.[88:‬‬ ‫حو َ ‪‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫مفل ِ ُ‬ ‫م ال ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫ولئ ِك ُ‬ ‫وأ ْ‬ ‫ت َ‬ ‫خي َْرا ُ‬
‫حا‬ ‫صال ِ ً‬ ‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫ع ِ‬ ‫)من َ‬ ‫•‬
‫ة‬ ‫َ‬
‫حَياةً طي ّب َ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه َ‬ ‫حي ِي َن ّ ُ‬ ‫ن فلن ُ ْ‬ ‫م ٌ‬ ‫مؤ ِ‬ ‫و ُ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬ ‫و أنثى َ‬ ‫رأ ْ‬ ‫ن ذك ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ن ]النحل‪.[97:‬‬ ‫مُلو َ ‪‬‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫نوا‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ما‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫ج‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫ج‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫َ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ْ ِ َّ ُ ْ ْ َ ُ ْ ِ ْ َ ِ َ‬
‫ن‬
‫َ ِ َ ِ ِ َ‬‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫با‬ ‫ع‬ ‫يا‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ق‬ ‫ُ‬ ‫)‬ ‫•‬
‫َ‬
‫ة‬
‫سن َ ٌ‬ ‫ح َ‬ ‫ه الدّن َْيا َ‬ ‫ذ ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫في َ‬ ‫سُنوا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ل ِل ّ ِ‬ ‫قوا َرب ّك ُ ْ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫آ َ‬
‫ر‬ ‫َ‬ ‫و ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫غي ْ ِ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫جَر ُ‬ ‫نأ ْ‬ ‫صاب ُِرو َ‬ ‫فى ال ّ‬ ‫ما ي ُ َ‬ ‫ة إ ِن ّ َ‬ ‫ع ٌ‬ ‫س َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ض الل ِ‬ ‫وأْر ُ‬ ‫َ‬
‫ب ]الزمر‪.[10:‬‬ ‫سا ٍ ‪‬‬ ‫ح َ‬ ‫ِ‬
‫) َ‬
‫موا‬ ‫قا ُ‬ ‫ست َ َ‬ ‫وا ْ‬ ‫وأل ّ ْ‬ ‫َ‬ ‫•‬
‫قا‪] ‬الجن‪.[16:‬‬ ‫ماءً غدَ ً‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫قي َْنا ُ‬ ‫س َ‬ ‫ةل ْ‬ ‫ق ِ‬ ‫ري َ‬ ‫ّ‬
‫على الط ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بينت اليات السابقة أن البركات والثمرات والخيرات وغيرها تنزل‬
‫بسبب تحقق إيمان أهل القرى واستقامتهم وتقواهم وعملهم الصالح‬
‫حكاما ً ومحكومين‪ ،‬وليس الحكام فقط‪ ،‬وذلك لن الفعال والسماء‬
‫مُنوا"‪،‬‬ ‫المستخدمة في الخطاب جاءت بصيغ الجمع كقوله تعالى‪" :‬آ َ‬
‫وا"‪ ،‬و"استقاموا"‪ ،‬وغيره(‪ ،‬أو بصيغ العموم‪ ،‬كقوله تعالى‪" :‬من‬ ‫ق ْ‬ ‫و"ات ّ َ‬
‫قَرى"‪ ،‬ولم تأت بصيغة الفرد أو الخصوص للتأكيد على‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ل"‪ ،‬أ ْ‬‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ع ِ‬‫َ‬
‫ما نحن بصدد التأكيد عليه‪ ،‬من أن التغيير يكون بعموم المجتمع ل‬
‫بخصوص الفراد كالحكام على سبيل؟‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم‬
‫لنفسهم والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح‬
‫للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬
‫رابعًا‪ -‬شروط تحقق الوعد بالتمكين والستخلف‬
‫"التغيير إلى الخير" متعلقة بالجماعة وليس بالولة فقط‪.‬‬
‫ومن اليات الدالة على ذلك ما يلي‪:‬‬
‫ت‬‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ملوا ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫عدَ الل ّ ُ‬ ‫و َ‬ ‫• ) َ‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل َي َ ْ‬
‫ن قب ْل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ف ال ِ‬ ‫خل َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ضك َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫هم ِ‬ ‫خل ِفن ّ ُ‬ ‫ست َ ْ‬
‫د‬
‫ع ِ‬ ‫ن بَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ول َي ُب َدّل َن ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ضى ل َ ُ‬ ‫ذي اْرت َ َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ِدين َ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫مك ّن َ ّ‬ ‫ول َي ُ َ‬ ‫َ‬
‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ئا‬ ‫ً‬ ‫ي‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫بي‬ ‫ن‬ ‫كو‬ ‫ُ‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫دو‬ ‫ب‬
‫ْ ِ ْ ْ ً َ ْ ُ ُ َ‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫نا‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫خ‬ ‫َ‬
‫َ َ ْ َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ِ‬ ‫ُ ِ‬
‫ن ]النور‪.[55:‬‬ ‫قو َ ‪‬‬ ‫س ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ول َئ ِ َ‬ ‫ك َ ُ‬ ‫ذَل ِ َ‬
‫فا ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ك ُ‬ ‫فأ ْ‬
‫تضمنت الية الشروط الواجبة لتحقيق وعد الله تعالى لعباده‬
‫بالستخلف والتمكين في الرض‪ ،‬وهما تحقق اليمان والعمل الصالح‪،‬‬
‫م‪،‬‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫ومن الملحظ أن الخطاب في الية جاء بصيغة الجمع‪) :‬آ َ‬
‫هم(‪ ،‬ولم يأت بصيغة الفرد للتأكيد على ما نحن بصدد التأكيد‬ ‫فن ّ ُ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ل َي َ ْ‬

‫‪55‬‬
‫عليه‪ ،‬من أن التغيير يكون بعموم المجتمع ل بخصوص الفراد كالحكام‬
‫مناط به سلمة اليمان‬ ‫على سبيل المثال‪ .‬ثم اخُتتمت الية بشرط آخر ُ‬
‫وصحته‪ ،‬وهو عدم الشرك لضمان سلمة توحيد كلمة )ل إله إل الله(‪،‬‬
‫ن ِبي‬ ‫كو َ‬ ‫ر ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫دون َِني ل َ ي ُ ْ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫ولو كان شيئا ً يسيرا ً كما في قوله تعالى‪) :‬ي َ ْ‬
‫شي ًْئا(‪.‬‬
‫َ‬
‫وعليه فإن الية تدل على أن شروط تحقق الوعد بالتمكين متعلقة‬
‫بالجماعة وليس بالولة فقط‪.‬‬
‫ومما يزيد المر وضوحا أن القرآن الكريم قد بين لنا السس الثلث‪:‬‬
‫)الكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬والخلق( التي أرسل بها الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم لبناء المجتمع وحسن سلمته كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫م ي َت ُْلو َ َ‬ ‫ُ‬
‫م‬
‫ه ْ‬ ‫علي ْ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫سول ً ِ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫مّيي َ‬ ‫في اْل ّ‬ ‫ث ِ‬ ‫ع َ‬ ‫ذي ب َ َ‬ ‫و ال ّ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫• ) ُ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫كاُنوا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫وإ ِ ْ‬ ‫ة َ‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ْ‬
‫وال ِ‬ ‫ب َ‬ ‫م الك َِتا َ‬‫ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ُ‬ ‫عل ُ‬ ‫ّ‬ ‫وي ُ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫وي َُز ّ‬
‫كي ِ‬ ‫ه َ‬ ‫آَيات ِ ِ‬
‫ن ]الجمعة‪.[2:‬‬ ‫مِبي ٍ ‪‬‬ ‫ل ُ‬ ‫ضل ٍ‬ ‫َ‬ ‫في َ‬ ‫لل ِ‬ ‫َ‬ ‫قب ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫سول ً ِ‬ ‫م َر ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫ن إ ِذْ ب َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫• )ل َ‬ ‫َ‬
‫في ِ‬ ‫ث ِ‬ ‫ع َ‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫على ال ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫م ّ‬ ‫قدْ َ‬
‫ب‬ ‫م الك َِتا َ‬ ‫ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ُ‬ ‫عل ُ‬ ‫ّ‬ ‫وي ُ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ّ‬
‫وي َُزكي ِ‬ ‫ه َ‬ ‫م آَيات ِ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫علي ْ ِ‬
‫َ‬ ‫م ي َت ْلوا َ‬ ‫ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫ن ]آل عمران‪:‬‬ ‫مِبي ٍ ‪‬‬ ‫ل ُ‬ ‫ضل ٍ‬ ‫في َ‬ ‫ل لَ ِ‬ ‫قب ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫كاُنوا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫وإ ِ ْ‬ ‫ة َ‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫وال ْ ِ‬ ‫َ‬
‫‪.[164‬‬
‫ك‬ ‫م آَيات ِ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ي َت ُْلو َ َ‬ ‫سول ً ِ‬ ‫• )َرب َّنا َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫م َر ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫في ِ‬ ‫ث ِ‬ ‫ع ْ‬ ‫واب ْ َ‬
‫م‬
‫كي ُ ‪‬‬ ‫َ ِ‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ز‬‫َ ِ ُ‬‫زي‬ ‫ع‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ت‬ ‫ْ َ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫إ‬
‫ِ ْ ِّ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ّ‬
‫كي‬ ‫ز‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫َِ َ َ ِ َ َ َُ‬‫َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ب‬ ‫تا‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫ه ْ‬ ‫م ُ‬ ‫عل ّ ُ‬ ‫وي ُ َ‬ ‫َ‬
‫]البقرة‪.[129:‬‬
‫قال القرطبي في تفسيرها‪" :‬الكتاب"‪ :‬القرآن‪ ،‬و"الحكمة"‪:‬‬
‫المعرفة بالدين‪ ,‬والفقه في التأويل‪ ,‬والفهم الذي هو سجية ونور من‬
‫الله تعالى; قاله مالك‪ ...‬وقال ابن زيد و قتادة‪" :‬الحكمة" السنة وبيان‬
‫الشرائع‪ .‬وقيل‪ :‬الحكم والقضاء خاصة; والمعنى متقارب ‪ ...‬ويزكيهم‪:‬‬
‫أي يطهرهم من وضر الشرك; عن ابن جريج وغيره‪ .‬والزكاة‪ :‬التطهير‪,‬‬
‫وقد تقدم"‪.‬‬
‫وبمثل قول القرطبي قال ابن كثير ناقل عن أئمة التفسير‪.‬‬
‫وا‬ ‫وآت َ ْ‬ ‫صلةَ َ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫قا ُ‬ ‫ض أَ َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫مك ّّنا ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫• )ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ة‬
‫قب َ ُ‬ ‫عا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ول ِل ّ ِ‬ ‫ر َ‬ ‫من ْك َ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ع ْ‬ ‫وا َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ون َ َ‬
‫ف َ‬ ‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مُروا ِبال ْ َ‬ ‫وأ َ‬ ‫كاةَ َ‬ ‫الّز َ‬
‫ُُ‬
‫ر ]الحج‪.[41:‬‬ ‫مو ِ ‪‬‬ ‫ال ُ‬
‫رد القرطبي القول بأن الية نزلت في الخلفاء الربعة فقط دون‬
‫غيرهم وقال‪" :‬قلت‪ :‬هذه الحال لم تختص بالخلفاء الربعة رضي الله‬
‫عنهم حتى يخصوا بها من عموم الية‪ ,‬بل شاركهم في ذلك جميع‬
‫المهاجرين بل وغيرهم ‪ ...‬فصح أن الية عامة لمة محمد صلى الله‬
‫عليه وسلم غير مخصوصة‪ ،‬إذ التخصيص ل يكون إل بخبر ممن يجب له‬
‫التسليم‪ ,‬ومن الصل المعلوم التمسك بالعموم" اهـ‪ ،‬تفسير القرطبي‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫وبعد أن ذكر ابن كثير في تفسيره‪ ،‬قول عثمان بن عفان وقول أبي‬
‫العالية أنها نزلت في الصحابة قال‪" :‬قال الصباح بن سواده الكندي‪:‬‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫مك ّّنا ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول‪" :‬ال ّ ِ‬
‫ض" الية‪ ،‬ثم قال أل إنها ليست على الوالي وحده‪ ،‬ولكنها‬ ‫في الْر ِ‬ ‫ِ‬
‫على الوالي والمولى عليه‪ ،‬أل أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم‪،‬‬
‫وبما للوالي عليكم منه‪ .‬إن لكم على الوالي من ذلكم أن يأخذكم‬
‫بحقوق الله عليكم‪ ،‬وأن يأخذ لبعضكم من بعض‪ ،‬وأن يهديكم للتي هي‬
‫أقوم ما استطاع‪ ،‬وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة‪ ،‬ول‬
‫المستكره بها‪ ،‬ول المخالف سرها علنيتها‪ .‬وقال عطية العوفي هذه الية‬
‫ت‬
‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫عدَ الل ّ ُ‬ ‫و َ‬ ‫كقوله‪َ " :‬‬
‫ض" اهـ‪.‬‬ ‫في الْر ِ‬ ‫هم ِ‬ ‫فن ّ ُ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ل َي َ ْ‬
‫قلت‪ :‬ول يفهم من الية أن المر بإقامة الصلة وإيتاء الزكاة والمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر ل يكون إل بعد قيام الخلفة‪ ،‬فإن هذا‬
‫الفهم السقيم كما يحلوا للبعض‪ ،‬يقصد به صرف المة عن البناء‬
‫الصحيح لركان السلم في المجتمع‪ ،‬والتي بدون تحقيقها سيتخلف‬
‫قطعا ً وعد الله لعباده بالستخلف والتمكين في الرض‪ ،‬كما مر بيانه في‬
‫الية قبل قليل‪ .‬ثم إن هذا الفهم المعوج ينقضه واقع السلف الصالح‬
‫قبل قيام الدولة السلمية‪ ،‬إذ أنهم كانوا قبل ذلك قد أقاموا الصلة في‬
‫أنفسهم وفيما استرعاهم الله تعالى‪ ،‬وأمروا بالمعروف ونهوا عن‬
‫المنكر‪ ،‬ولم ينتظروا قيام الدولة السلمية لعلمهم المسبق أن قيام‬
‫التوحيد واليمان والعمل الصالح في المجتمع شرط للستخلف‬
‫والتمكين ل العكس كما يزعم هؤلء النفر‪ ،‬وإن لم يصرحوا بها فإن واقع‬
‫دعوتهم ينطق بها‪ ،‬وليس هذا مكان سرد أقوالهم في ذلك‪ .‬ومن‬
‫الملحظ كذلك أن الخطاب في الية جاء بصيغ الجمع )الذين‪ ،‬أقاموا‪،‬‬
‫وآتوا‪ ،‬وأمروا‪ ،‬ونهوا(‪ ،‬ولم يأت بصيغة الفرد للتأكيد على ما نحن بصدد‬
‫التأكيد عليه‪ ،‬من أن التغيير يكون بعموم المجتمع ل بخصوص الفراد‬
‫كالولة على سبيل المثال‪.‬‬
‫وعليه فإن الية تدل على أن شروط تحقق الوعد بالتمكين متعلقة‬
‫بالجماعة‪ ،‬ل بالولة وحدهم‪.‬‬
‫ي‬ ‫م اث ْن َ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫عث َْنا ِ‬ ‫وب َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ميَثاقَ ب َِني إ ِ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫خذَ الل ّ ُ‬ ‫قدْ أ َ َ‬ ‫ول َ َ‬ ‫• ) َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫م‬‫وآت َي ْت ُ ْ‬ ‫صلةَ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫مت ُ ْ‬ ‫ق ْ‬ ‫نأ َ‬ ‫م لئ ِ ْ‬ ‫عك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه إ ِّني َ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬ ‫قيًبا َ‬ ‫شَر ن َ ِ‬ ‫ع َ‬ ‫َ‬
‫ضا‬‫قْر ً‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬ ‫وأ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م الل َ‬ ‫ضت ُ ْ‬ ‫قَر ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫مو ُ‬ ‫عّزْرت ُ ُ‬ ‫و َ‬ ‫سِلي َ‬ ‫م ب ُِر ُ‬ ‫من ْت ُ ْ‬ ‫وآ َ‬ ‫الّزكاةَ َ‬
‫ن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫خلن ّك ْ‬ ‫ولدْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫سي ّئات ِك ْ‬ ‫م َ‬ ‫عن ْك ْ‬ ‫ن َ‬ ‫سًنا لكفَر ّ‬ ‫ح َ‬ ‫َ‬
‫ء‬ ‫وا‬ ‫س‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ض‬ ‫د‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ر‬ ‫ها‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ها‬
‫َ َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ِ ْ ْ‬ ‫َ َ ْ َ ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫تَ ْ ِ َ‬‫ت‬ ‫ح‬
‫ل ]المائدة‪.[12:‬‬ ‫سِبي ِ ‪‬‬ ‫ال ّ‬
‫ز َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ل إ ِلي ْ ُ ِ‬ ‫ما أن ِ‬ ‫و َ‬ ‫ل َ‬ ‫جي َ‬
‫َ‬
‫لن ِ‬ ‫وا ْ ِ‬ ‫وَراةَ َ‬ ‫موا الت ّ ْ‬ ‫قا ُ‬ ‫مأ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫و أن ّ ُ‬ ‫ول َ ْ‬ ‫• ) َ‬
‫ة‬‫م ٌ‬‫مأ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م لك َلوا ِ‬ ‫ُ‬
‫جل ِ ِ‬ ‫ت أْر ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫و ِ‬
‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫ق ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ف ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫َرب ّ ِ‬
‫ن ]المائدة‪.[66:‬‬ ‫ملو َ ‪‬‬ ‫ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫ساءَ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫وكِثيٌر ِ‬ ‫َ‬ ‫صدَةٌ َ‬ ‫قت َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬

‫‪57‬‬
‫وهاتان اليتان تحملن نفس الدللة التي تحملها اليات السابقة‪،‬‬
‫فمعية الله تعالى وبسط الرزق لعباده فيهما مشروطتان بتحقق العمل‬
‫الصالح وإقامة حكم الله من قبل الجماعة‪ ،‬وليس من الحكام‪.‬‬
‫ن‬‫صُرهُ إ ِ ّ‬ ‫من َين ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫صَر ّ‬ ‫ول ََين ُ‬ ‫قال ابن تيمية‪" :‬فان الله يقول‪َ ) :‬‬
‫َ‬
‫ة‬
‫صل َ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫ض أقا ُ‬ ‫َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫مك ّّنا ُ‬ ‫ن ِإن ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫ز ال ّ ِ‬ ‫زي ٌ ‪‬‬ ‫ع ِ‬ ‫ي َ‬ ‫و ّ‬ ‫ق ِ‬ ‫ه لَ َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫َ‬
‫ة‬
‫قب َ ُ‬‫عا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ول ِل ّ ِ‬ ‫ر َ‬ ‫منك َ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫وا َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ون َ َ‬ ‫ف َ‬ ‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مُروا ِبال ْ َ‬ ‫وأ َ‬ ‫كاةَ َ‬ ‫وا الّز َ‬ ‫وآت َ ُ‬ ‫َ‬
‫مورِ‪] ‬الحج‪ .[41-40:‬وأي معروف أعظم من اليمان بالله وأسمائه‬ ‫ال ُ‬
‫ُ‬
‫وآياته وأي منكر أعظم من اللحاد في أسماء الله وآياته")‪.(100‬‬
‫قلت‪ :‬ول يفهم مما سبق أن المام العظم أو السلطان غير معني‬
‫موا‬ ‫قا ُ‬ ‫ض أَ َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫مك ّّنا ُ‬ ‫ن ِإن ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫بتطبيق ما تضمنته الية‪) :‬ال ّ ِ‬
‫كاةَ َ‬
‫ر‪ ،‬بل‬ ‫منك َ ِ ‪‬‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫وا َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ون َ َ‬ ‫ف َ‬ ‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬‫مُروا ِبال ْ َ‬ ‫وأ َ‬ ‫َ‬ ‫وا الّز َ‬ ‫وآت َ ُ‬ ‫صلةَ َ‬ ‫ال ّ‬
‫عليه واجب حمل الناس على ذلك كي تستقيم له الولية‪ ،‬كما في قوله‬
‫َ‬ ‫عل َْنا َ‬
‫ن‬
‫م ب َي ْ َ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫فا ْ‬ ‫ض َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ً‬ ‫خِلي َ‬ ‫ك َ‬ ‫ج َ‬ ‫وودُ إ ِّنا َ‬ ‫دا ُ‬ ‫تعالى‪َ) :‬يا َ‬
‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫بي‬ ‫س‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ض‬ ‫ي‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫وى‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ع‬ ‫ح ّ َ َِّ ْ‬
‫ب‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫ول‬ ‫ق‬ ‫س ِبال ْ َ‬
‫ِ َ‬ ‫ِ ِ ّ‬ ‫ْ َ ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ ِ‬ ‫َ َ‬ ‫الّنا ِ‬
‫ب‬
‫سا ِ ‪‬‬ ‫ح َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫و َ‬ ‫سوا ي َ ْ‬ ‫ما ن َ ُ‬ ‫ديدٌ ب ِ َ‬ ‫ش ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫ع َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ه لَ ُ‬ ‫ل الل ّ ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ع ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ضّلو َ‬ ‫يَ ِ‬
‫]ص‪.[26:‬‬
‫قال ابن تيمية رحمه الله‪" :‬من أحمد بن تيمية‪ ،‬إلى سلطان‬
‫المسلمين‪ ،‬وولى أمر المؤمنين‪ ،‬نائب رسول الله في أمته بإقامة فرض‬
‫الدين وسنته‪ ،‬أيده الله تأييدا ً يصلح به له وللمسلمين أمر الدنيا والخرة‪،‬‬
‫ويقيم به جميع المور الباطنة والظاهرة‪ ،‬حتى يدخل في قول الله‬
‫ة‬ ‫َ‬
‫وا الّزكا َ‬ ‫وآت َ ُ‬ ‫صلةَ َ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫قا ُ‬ ‫ض أَ َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫مك ّّنا ُ‬ ‫ن ِإن ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫تعالى‪) :‬ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ر(‪ ،‬وفى قوله صلى الله عليه‬ ‫منك َ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫وا َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ون َ َ‬ ‫ف َ‬ ‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مُروا ِبال ْ َ‬ ‫وأ َ‬ ‫َ‬
‫وسلم‪" :‬سبعة يظلهم الله في ظله يوم ل ظل إل ظله إمام‬
‫عادل‪ "..‬إلى آخر الحديث‪ .‬وفى قوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬من دعا‬
‫إلى هدى كان له من الجر مثل أجو رمن تبعه من غير أن‬
‫ينقص من أجورهم شئ"‪ .‬وقد استجاب الله الدعاء في السلطان‬
‫فجعل فيه من الخير الذي شهدت به قلوب المة ما فضله به على‬
‫غيره‪ ،‬والله المسئول أن يعينه‪ ،‬فانه أفقر خلق الله إلى معونة الله‬
‫مُلوا‬ ‫ع ِ‬‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫عدَ الل ّ ُ‬ ‫و َ‬ ‫وتأييده‪ .‬قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ف ال ِ‬‫ّ‬ ‫خل َ‬ ‫َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ض كَ َ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫ت ل َي َ ْ‬
‫في الْر ِ‬ ‫هم ِ‬ ‫فن ّ ُ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ال ّ‬
‫د‬
‫ع ِ‬ ‫ن بَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫ولي ُب َدّلن ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ضى ل ُ‬ ‫َ‬ ‫ذي اْرت َ َ‬ ‫ّ‬
‫م ال ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ِدين َ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫نل ُ‬ ‫َ‬ ‫مكن َ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولي ُ َ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫قب ْل ِ ِ‬
‫ن ِبي شي ْئا( الية‪ .‬وصلح أمر‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ركو َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫دون َِني ل ي ُش ِ‬ ‫َ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫مًنا ي َ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ف ِ‬‫و ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫َ‬
‫السلطان بتجريد المتابعة لكتاب الله وسنة رسوله ونبيه وحمل الناس‬
‫على ذلك‪ ،‬فإنه سبحانه جعل صلح أهل التمكين في أربعة أشياء‪ ،‬إقام‬
‫الصلة وإيتاء الزكاة والمر بالمعروف والنهى عن المنكر")‪.(101‬‬

‫‪"100‬مجموع الفتاوى" )‪.(12/511‬‬


‫‪"101‬مجموع الفتاوى" )‪.(242-28/241‬‬

‫‪58‬‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم‬
‫لنفسهم والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح‬
‫للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫الحاديث‬
‫• عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم دخل عليها فزعا ً يقول‪" :‬ل إله إل الله ويل للعرب من‬
‫شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل‬
‫هذه وحلق بين أصبعيه البهام والتي تليها فقلت يا‬
‫رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر‬
‫الخبث")‪.(102‬‬
‫ودللة الحديث أن الهلك ينزل بالعباد إذا كثر الخبث‪ ،‬ول تتحقق‬
‫كثرة الخبث في المجتمع إل بفساد أكثره‪ ،‬وفساد الحاكم وحده دون‬
‫المجتمع ل يتحقق به كثرة الخبث‪ ،‬فثبت أن العذاب ينزل بذنوب القوام‬
‫من أهل القرى رعاة ورعية وليس بذنوب الرعاة فقط‪.‬‬
‫• عن أبي أمامة رضي الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم‪" :‬لتنقضن عرى السلم عروة عروة فكلما‬
‫انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضا‬
‫الحكم وآخرهن الصلة")‪.(103‬‬
‫ودللة الحديث أن إعادة عروة الحكم إلى موضعها في التطبيق ل بد‬
‫أن يسبقها إعادة تطبيق العرى الخرى بدءا من الصلة وهكذا‪ ،‬فان‬
‫القاعدة العامة تقول‪) :‬أول قطعة تفك آخر قطعة تركب(‪.‬‬
‫• عن عبد الله بن عمر قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه‬
‫ع وكلكم مسئول عن رعيته فالمام‬ ‫وسلم‪" :‬أل ُ‬
‫كلكم را ٍ‬
‫ع وهو مسؤول عن رعيته والرجل‬ ‫الذي على الناس را ٍ‬
‫راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته والمرأة‬
‫راعية على بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم وعبد‬
‫الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه أل فكلكم‬
‫راع وكلكم مسؤول عن رعيته")‪.(104‬‬
‫قال ابن حجر‪" :‬قال الخطابي‪ :‬اشتركوا أي المام والرجل ومن ذكر‬
‫في التسمية‪ ،‬أي في الوصف‪ ،‬بالراعي‪ ،‬ومعانيهم مختلفة‪ ،‬فرعاية المام‬
‫العظم حياطة الشريعة بإقامة الحدود والعدل في الحكم‪ ،‬ورعاية‬
‫الرجل أهله‪ ،‬سياسته لمرهم وإيصالهم حقوقهم‪ ،‬ورعاية المرأة تدبير‬
‫أمر البيت والولد والخدم والنصيحة للزوج في كل ذلك‪ ،‬ورعاية الخادم‬
‫حفظ ما تحت يده‪ ،‬والقيام بما يجب عليه من خدمته‪ .‬قوله أل فكلكم‬
‫راع وكلكم مسئول عن رعيته")‪.(105‬‬
‫‪"102‬رواه البخاري ومسلم‪ ،‬وذكره اللباني في "السلسلة الصحيحة" )ج‬
‫‪ ،(2/685‬وفي "صحيح الترمذي" )ج ‪ ،(4/479‬وغيره‬
‫‪"103‬صحيح"‪ ،‬رواه ابن حبان في "صحيحه"‪ ،‬وصححه الشيخ اللباني في‬
‫"الترغيب والترهيب"‪.‬‬
‫‪104‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪105‬في "فتح الباري" )ج ‪ 13‬ص ‪.(113‬‬

‫‪60‬‬
‫وقال النووي‪" :‬قال العلماء‪ :‬الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم‬
‫صلح ما قام عليه‪ ،‬وما هو تحت نظره‪ .‬ففيه أن كل من كان تحت نظره‬
‫شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه‬
‫ومتعلقاته")‪.(106‬‬
‫م َأن‬ ‫مُرك ُ ْ‬
‫ْ‬
‫ه ي َأ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫وقـال القرطبي في شرح قولـه تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫ها ‪ :( ..‬فجعل في هذه الحاديث الصحيحة‬ ‫هل ِ َ‬ ‫ت إ َِلى أ َ ْ‬ ‫ماَنـا ِ‬ ‫َ‬
‫دوا ْ ال َ‬ ‫ُتؤ ّ‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(107‬‬
‫كل هؤلء رعاة وحكاما على مراتبهم"‬
‫قلت‪ :‬وهكذا تكتمل دوائر المسؤولية دون إفراط ول تفريط‪ .‬وهذا‬
‫مناطا ً‬ ‫المر يعكس جمال السلم العظيم حيث لم يجعل قيام الدين ُ‬
‫بفرد أو بصنف من الناس أبدا‪ ،‬فهو دين الجماعة‪.‬‬
‫• عن أبي أيوب رضي الله عنه قال‪ :‬سمعت رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم يقول‪" :‬ما بعث الله من نبي ول كان بعده من‬
‫خليفة إل له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن‬
‫المنكر وبطانة ل تألوه خبال فمن وقي شرها فقد‬
‫وقي")‪.(108‬‬
‫قال ابن حجر في الشرح‪" :‬ونقل ابن التين عن أشهب‪ :‬إنه ينبغي‬
‫للحاكم أن يتخذ من يستكشف له أحوال الناس في السر‪ ،‬وليكن ثقة‬
‫مأمونا فطنا عاقل‪ ،‬لن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من‬
‫قبوله قول من ل يوثق به إذا كان هو حسن الظن به‪ ،‬فيجب عليه أن‬
‫يتثبت في مثل ذلك")‪.(109‬‬
‫قلت‪ :‬إذا كان تحقيق العدل في الرعية مقصود التشريع اللهي‪،‬‬
‫وقد أنيط هذا المر بالحاكم‪ ،‬وأمر الحاكم إنما يكون بأهل مشورته‬
‫وبطانته الخيرة‪ ،‬فإنه يلزم الرعية أن يجعلوا من أنفسهم بطانة‬
‫لحاكمهم ول يتركونه وشأنه لشياطين النس والجن ول أن يتعففوا عن‬
‫أداء هذا الواجب‪ ،‬وخاصة في الزمنة التي يقل فيها الكفاء من المناء‬
‫الصالحين‪ ،‬فإنهم لو فعلوا ذلك وتخلوا عن مواقع المسؤولية‪ ،‬فقد خدموا‬
‫أعداء المة وساهموا في تسلط بطانة السوء على رقابهم‪ ،‬في حين‬
‫أنهم مأمورون بأن ل يتخذوا بطانة من دونهم‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ) :‬يا‬
‫خَباًل‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م َ‬ ‫م ل َ ي َأُلون َك ُ ْ‬ ‫دون ِك ُ ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫طان َ ً‬‫ذوا ب ِ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫مُنوا ل َ ت َت ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫أي ّ َ‬
‫في‬ ‫خ ِ‬ ‫ما ت ُ ْ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫ف َ‬‫ن أَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ضاءُ ِ‬ ‫غ َ‬ ‫ت ال ْب َ ْ‬ ‫قدْ ب َدَ ْ‬ ‫م َ‬ ‫عن ِت ّ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫دوا َ‬ ‫و ّ‬ ‫َ‬
‫ء‬ ‫َ‬
‫ول ِ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫أ‬‫ها‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫ق‬
‫ِ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ت‬ ‫يا‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫د‬‫ق‬‫َ‬ ‫ر‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ر‬ ‫دو‬ ‫ص‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫‪‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قاُلوا‬ ‫م َ‬ ‫قوك ُ ْ‬ ‫ذا ل َ ُ‬ ‫وإ ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ب ك ُل ّ ِ‬ ‫ن ِبال ْك َِتا ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫وت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫حّبون َك ُ ْ‬ ‫ول ي ُ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫حّبون َ ُ‬ ‫تُ ِ‬

‫‪"106‬شرح النووي على صحيح مسلم" )ج ‪ 12‬ص ‪.(213‬‬


‫‪"107‬تفسير القرطبي" )ج ‪ 5‬ص ‪.(258‬‬
‫‪108‬رواه البخاري رقم )‪ .(6237‬ورقمه في "الفتح" )‪ ،(7198‬وفي رواية‬
‫صفوان بن سليم يقول‪" :‬ما بعث الله من نبي ول بعده من خليفة"‪.‬‬
‫‪"109‬فتح الباري" )‪.(13/190‬‬

‫‪61‬‬
‫موُتوا‬ ‫ل ُ‬ ‫ق ْ‬‫ظ ُ‬‫غي ْ ِ‬
‫ن ال َ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫م َ‬‫م اْل ََنا ِ‬
‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫ضوا َ‬ ‫ع ّ‬‫وا َ‬ ‫خل َ ْ‬‫ذا َ‬‫وإ ِ َ‬‫مّنا َ‬‫آ َ‬
‫ر ]آل عمران‪.[118-118:‬‬ ‫دو ِ ‪‬‬‫ص ُ‬‫ت ال ّ‬ ‫ذا ِ‬ ‫م بِ َ‬ ‫عِلي ٌ‬
‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ُ‬
‫غي ْظِك ْ‬ ‫بِ َ‬
‫ً‬
‫يقول ابن كثير في تفسيرها‪" :‬يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده‬
‫المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة‪ :‬أي يطلعونهم على سرائرهم وما‬
‫يضمرونه لعدائهم‪ .‬والمنافقون بجهدهم وطاقتهم ل يألون المؤمنين‬
‫ل‪ ،‬أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن‪ ،‬وبما‬ ‫خبا ً‬
‫يستطيعون من المكر والخديعة‪ ،‬ويوّدون ما يعنت المؤمنين‪ ،‬ويحرجهم‬
‫ما‬
‫و َ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬
‫ه ِ‬‫وا ِ‬ ‫ن أَ ْ‬
‫ف َ‬ ‫م ْ‬‫ضاءُ ِ‬‫غ َ‬‫ت ال ْب َ ْ‬‫قدْ ب َدَ ْ‬ ‫ويشق عليهم ‪ ...‬ثم قال تعالى‪َ " :‬‬
‫م أ َك ْب َُر"‪ ،‬أي قد لح على صفحات وجوههم وفلتات‬ ‫ه ْ‬ ‫دوُر ُ‬ ‫ص ُ‬
‫في ُ‬ ‫خ ِ‬
‫تُ ْ‬
‫ألسنتهم من العداوة مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من‬
‫البغضاء للسلم وأهله ما ل يخفي مثله علي لبيب عاقل"‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا وقد كثر المنافقون الذين يتربصون بالسلم وأهله هذا‬
‫الزمان‪ ،‬وعلى رأسهم كثير من المنتمين للحركات القومية والشتراكية‬
‫من بعثية وناصرية وغيرهم‪ ،‬إذ ينطلقون بقوة إلى مهادنة ومداهنة‬
‫السلميين باعتبارهم القوة الكامنة "الرعاع" التي هم بحاجة ماسة لها‬
‫مرحليا للسيطرة على ما تبقى من الدول غير الشتراكية في العالم‬
‫السلمي فتنبه‪ .‬فهم يظهرون الولء الظاهري للحكم القائم المستهدف‪،‬‬
‫مع أنه قد بدت بعض البغضاء من أفواههم مستغلين هامش‬
‫الديمقراطية‪ ،‬وما تخفي صدورهم أكبر وهو تغيير النظام بآخر اشتراكي‬
‫أو شيعي رافضي‪ .‬إذن لزم المة أن تجعل من نفسها البطانة الصالحة‬
‫للحاكم دون غيرها ما استطاعت إلى ذلك سبيل‪ ،‬حتى يستقيم أمره‬
‫ويسعد الناس بعدله‪ .‬وعليه لزمها قبل ذلك‪ ،‬السعي إلى إيجاد البطانة‬
‫الصالحة التي ستقوم بأداء هذا الواجب‪ ،‬وذلك بتربية الجيال الناشئة‪ ،‬ول‬
‫يكون ذلك بدون إيجاد السرة المسلمة ول الفرد المسلم‪.‬‬
‫• حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا قال‪ :‬سمعت عامرا يقول‪ :‬سمعت‬
‫النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫قال‪" :‬مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل‬
‫قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلها‬
‫وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا‬
‫من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في‬
‫نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا‬
‫هلكوا جميعا ً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا‬
‫جميعاً")‪.(110‬‬
‫ودللة الحديث‪ ،‬في قوله‪" :‬فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا‬
‫جميعا ً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ً" هكذا بصيغ‬
‫الجمع )يتركوهم‪ ،‬أخذوا(‪ ،‬فإن مسؤولية المر بالمعروف والنهي عن‬

‫‪"110‬متفق عليه"‪ ،‬واللفظ للبخاري‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫المنكر مناطة بالجماعة )التغيير( ل بفرد من أفراد المة أو فئة دون‬
‫أخرى‪.‬‬
‫• "إنما الدين النصيحة‪ .‬قالوا‪ :‬لمن يا رسول الله؟ قال‪:‬‬
‫لله ولكتابه ولرسوله ولئمة المسلمين وعامتهم"‪.111‬‬
‫ودللة الحديث أن النصيحة بما فيها من أمر بالمعروف ونهي عن‬
‫المنكر‪ ،‬عامة لعموم أفراد المجتمع رعاة ورعية‪.‬‬
‫• وعن النعمان بن بشير قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم‪" :‬الحلل بين والحرام بين وبينهما مشتبهات‪ ،‬ل‬
‫يعلمهن كثير من الناس‪ ،‬فمن اتقى الشبهات استبرأ‬
‫لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام‪،‬‬
‫كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه‪ ،‬أل وإن‬
‫لكل ملك حمى‪ ،‬أل وإن حمى الله محارمه‪ ،‬أل وإن في‬
‫الجسد مضغة‪ ،‬إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت‬
‫فسد الجسد كله‪ ،‬أل وهي القلب")‪.(112‬‬
‫نلحظ من هذا الحديث الشريف‪ ،‬أن صلح الفرد أو فساده مرتبط‬
‫بصلح قلبه أو فساده وليس مرتبط بصلح الحاكم أو فساده‪ .‬فكم من‬
‫قلوب صلحت مع فساد حكامها؟ وكم من قلوب فسدت مع صلح‬
‫حكامها؟‬
‫فل يوجد للحاكم تأثير سحري على قلوب العباد ليصلح و يفسد‪ ،‬فلو‬
‫كان مجرد وصول الرجل الصالح إلى الحكم في مجتمع فاسد‪ ،‬يغير واقع‬
‫المجتمع بقرار ملزم منه‪ ,‬لتخذ من ذلك رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم سنة‪ ,‬فعدوله عن ذلك وتركه للعروض المغرية التي تقدمت له بها‬
‫قريش‪ ،‬مقابل ترك الدعوة‪ ،‬دل على مخالفة هذه الطريقة لسنة الله‬
‫تعالى في تغيير المجتمعات‪ .‬فترك نقل السنة‪ ،‬نقل للترك‪.‬‬
‫• "من ولي منكم عمل ً فأراد الله به خيرا ً جعل له‬
‫وزيرا ً صالحا ً إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه")‪.(113‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا الحديث يعزز مفهوم الحديث السابق‪ .‬إذ كيف يتحقق‬
‫مراد الله تعالى بالخير لولي المر دون وجود الوزير الصالح؟ وكيف‬
‫يوجد الوزير الصالح دون وجود المجتمع الصالح؟ وكيف يكون ذلك دون‬
‫وجود السرة المسلمة والفرد المسلم؟‬
‫وهنا قد يطرح البعض سؤال ً مهمًا‪ :‬هل يجوز دخول الوزارة‬
‫في حكومة ظالمة؟‬

‫‪"111‬صحيح سنن النسائي" لللباني رقم ) ‪ ،(4198‬و"صحيح الترمذي" رقم )‬


‫‪ ،(1926‬وغيره‪.‬‬
‫‪"112‬متفق عليه"‪.‬‬
‫‪113‬تخريج السيوطي‪) :‬ن( عن عائشة‪ .‬تحقيق اللباني‪" :‬صحيح"‪ .‬انظر‬
‫حديث رقم‪ (6596) :‬في "صحيح الجامع"‌‪ .‬و"سنن النسائي" )‪،(7/159‬‬
‫بسند آخر وهو صحيح‪ .‬وفي "السلسة الصحيحة" )‪.(1/881‬‬

‫‪63‬‬
‫وجوابه‪ :‬أن شيخ السلم ابن تيمية رحمه الله تعالى أجاز الولية‬
‫بقصد تخفيف الظلم فيها ودفع أكثره باحتمال أيسره مستدل بالصول‬
‫الشرعية‪ ،‬وقصة تولي يوسف عليه السلم خزائن الرض في نظام كافر‬
‫فضل ً عن ظالم‪ ،‬وذلك في فصل جامع في تعارض الحسنات أو‬
‫السيئات‪ ،‬ننقل منه ما يلي‪:‬‬
‫"لكن أقول هنا‪ :‬إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعه‬
‫كالمارة والولية والقضاء ونحو ذلك‪ ،‬إذا كان ل يمكنه أداء واجباته وترك‬
‫محرماته‪ ،‬ولكن يتعمد ذلك ما ل يفعله غيره قصدا ً وقدرة‪ :‬جازت له‬
‫الولية‪ ،‬وربما وجبت! وذلك لن الولية إذا كانت من الواجبات التي‬
‫يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو وقسم الفيء وإقامة الحدود‬
‫وأمن السبيل كان فعلها واجبًا‪ ،‬فإذا كان ذلك مستلزما ً لتولية بعض من ل‬
‫يستحق وأخذ بعض ما ل يحل‪ ،‬وإعطاء بعض من ل ينبغي ول يمكنه ترك‬
‫ذلك صار هذا من باب ما ل يتم الواجب أو المستحب إل به فيكون واجبا ً‬
‫أو مستحبا ً إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب‪،‬‬
‫بل لو كانت الولية غير واجبة‪ ،‬وهي مشتملة على ظلم ومن تولها أقام‬
‫الظلم حتى تولها شخص قصد بذلك تخفيف الظلم فيها ودفع أكثره‬
‫باحتمال أيسره كان ذلك حسنا مع هذه النية وكان فعله لما يفعله‬
‫من السيئة بنية دفع ما هو اشد منها جيدا ً‪.‬‬
‫وهذا باب يختلف باختلف النيات والمقاصد‪ ،‬فمن طلب منه ظالم‬
‫قادر وألزمه مال ً فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم‬
‫وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن ل يظلم ودفعه ذلك لو أمكن‬
‫كان محسنًا‪ ،‬ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا ً‪ .‬وإنما الغالب في هذه‬
‫الشياء فساد النية والعمل؛ أما النية فبقصده السلطان والمال‪ ،‬وأما‬
‫العمل فبفعل المحرمات وبترك الواجبات ل لجل التعارض ول لقصد‬
‫النفع والصلح‪.‬‬
‫ثم الولية وان كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق‬
‫الرجل المعين غيرها أوجب أو أحب فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا ً تارة‬
‫واستحبابا ً أخرى‪ ،‬ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن‬
‫الرض لملك مصر‪ ،‬بل ومسألته أن يجعله على خزائن الرض‪ ،‬وكان هو‬
‫ل‬ ‫من َ‬
‫قب ْ ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫س ُ‬ ‫م ُيو ُ‬ ‫جاءك ُ ْ‬ ‫قدْ َ‬ ‫ول َ َ‬‫وقومه كفارا ً كما قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫ه‪ ،‬الية‪ .‬وقال تعالى عنه‪:‬‬ ‫كم ب ِ ِ‪‬‬ ‫جاء ُ‬ ‫ما َ‬ ‫م ّ‬ ‫ك ّ‬ ‫ش ّ‬‫في َ‬ ‫م ِ‬ ‫زل ْت ُ ْ‬‫ما ِ‬ ‫ت َ‬
‫ف َ‬ ‫ِبال ْب َي َّنا ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫د‬
‫ح ُ‬‫وا ِ‬‫ه ال ْ َ‬ ‫خي ٌْر أم ِ الل ّ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫قو َ‬ ‫فّر ُ‬ ‫مت َ َ‬‫ب ّ‬ ‫ن أأْرَبا ٌ‬‫ج ِ‬‫س ْ‬ ‫ي ال ّ‬ ‫حب َ ِ‬ ‫)َيا َ‬
‫صا ِ‬
‫ؤ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫كم‪،‬‬ ‫وآَبآ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ها أنت ُ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫مي ْت ُ ُ‬
‫س ّ‬ ‫ماء َ‬ ‫س َ‬ ‫ه إ ِل ّ أ ْ‬ ‫دون ِ ِ‬‫من ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫عب ُ ُ‬
‫ما ت َ ْ‬
‫هاُر ‪َ ‬‬‫ق ّ‬
‫الية‪.‬‬
‫ومعلوم أنه مع كفرهم ل بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض‬
‫الموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته‪ ،‬ول تكون‬
‫تلك جارية على سنة النبياء وعدلهم‪ ،‬ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل‬
‫كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله‪ ،‬فان القوم لم يستجيبوا له لكن‬

‫‪64‬‬
‫فعل الممكن من العدل والحسان‪ ،‬ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين‬
‫من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك وهذا كله داخل في‬
‫قوله‪) :‬فاتقوا الله ما استطعتم(‪.‬‬
‫فإذا ازدحم واجبان ل يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الخر‬
‫في هذه الحال واجبا ً ولم يكن تاركه لجل فعل الوكد تارك واجب في‬
‫الحقيقة‪ .‬وكذلك إذا اجتمع محرمان ل يمكن ترك أعظمهما إل بفعل‬
‫أدناهما لم يكن فعل الدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة وان‬
‫سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الطلق لم يضر‪.‬‬
‫ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر‪ ،‬وفعل المحرم للمصلحة‬
‫الراجحة أو لضرورة أو لدفع ما هو أحرم‪ ،‬وهذا كما يقال لمن نام عن‬
‫صلة أو نسيها إنه صلها في غير الوقت المطلق قضاء‪.‬‬
‫هذا وقد قال النبي‪" :‬من نام عن صلة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها‬
‫فان ذلك وقتها ل كفارة لها إل ذلك"‪.‬‬
‫هذا وباب التعارض باب واسع جدا ً لسيما في الزمنة والمكنة التي‬
‫نقصت فيها آثار النبوة وخلفة النبوة‪ ،‬فان هذه المسائل تكثر فيها‪ ،‬وكلما‬
‫ازداد النقص ازدادت هذه المسائل‪ ،‬ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين‬
‫المة‪ ،‬فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الشتباه والتلزم‪،‬‬
‫فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وان تضمن‬
‫سيئات عظيمة‪ ،‬وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب‬
‫لخر‪ ،‬وإن ترك حسنات عظيمة والمتوسطون الذين ينظرون المرين قد‬
‫ل يتبين لهم أو لكثرهم مقدار المنفعة والمضرة‪ ،‬أو يتبين لهم فل يجدون‬
‫من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات‪ ،‬لكون الهواء قارنت الراء‪،‬‬
‫ولهذا جاء في الحديث‪" :‬إن الله يحب البصر النافذ عند ورود‬
‫الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات"‪ .‬فينبغي‬
‫للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل‪.‬‬
‫وقد يكون الواجب في بعضها كما بينته فيما تقدم العفو عند المر‬
‫والنهي في بعض الشياء‪ ،‬ل التحليل والسقاط‪ ،‬مثل أن يكون في أمره‬
‫بطاعة فعل لمعصية أكبر منها‪ ،‬فيترك المر بها دفعا لوقوع تلك‬
‫المعصية‪ ،‬مثل أن ترفع مذنبا ً إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في‬
‫العقوبة ما يكون أعظم ضررا ً من ذنبه‪ ،‬ومثل أن يكون في نهيه عن‬
‫بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات‪،‬‬
‫فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو‬
‫عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر‪.‬‬
‫العالم تارة يأمر وتارة ينهي وتارة يبيح وتارة يسكت عن المر أو‬
‫النهي أو الباحة‪ ،‬كالمر بالصلح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد‬
‫الخالص أو الراجح‪ ،‬وعند التعارض يرجح الراجح كما تقدم بحسب‬
‫المكان‪ ،‬فأما إذا كان المأمور والمنهي ل يتقيد بالممكن إما لجهله وإما‬
‫لظلمه ول يمكن إزالة جهله وظلمه‪ ،‬فربما كان الصلح الكف والمساك‬

‫‪65‬‬
‫عن أمره ونهيه‪ ،‬كما قيل إن من المسائل مسائل جوابها السكوت‪ ،‬كما‬
‫سكت الشارع في أول المر عن المر بأشياء والنهي عن أشياء حتى‬
‫عل السلم وظهر‪ ،‬فالعالم في البيان والبلغ كذلك قد يؤخر البيان‬
‫والبلغ لشياء إلى وقت التمكن كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان‬
‫أحكام إلى وقت تمكن رسول الله تسليما إلى بيانها")‪ ،(114‬انتهى‪.‬‬
‫حرمه‪،‬‬‫وهنا نذكر إخواننا بالتحلي بالتقوى والصبر‪ ،‬فمن تعجل المر ُ‬
‫منعه‪ ،‬وسددوا وقاربوا في زمن الفتن الذي أصبح فيه‬ ‫ومن تقاعس عنه ُ‬
‫الظاهر منها أكثر مما بطن‪ .‬وليعلم إخوتي أن من تخلف في حال‬
‫القدرة‪ ،‬عن ملئ مقعد فيه درء لمفسدة أعظم‪ ،‬يعد جناية على السلم‬
‫والمسلمين‪ ،‬كما أننا بحاجة ماسة إلى هذا الفهم السليم على منهج شيخ‬
‫السلم ابن تيمية رحمه الله‪ ،‬وتطبيقه قبل زوال أوانه‪ ،‬وقبل الندم‪.‬‬
‫وعجبا ً فأن بعضا منا ل يتعظ بما سلف من أحداث جّرت على المة‬
‫السلمية الكثير من المصائب‪ ،‬ويا ليتها خففت من المنكر ‪ -‬حين عملت‬
‫على إزالته ‪ -‬لهان الخطب‪ ،‬لكننا ازددنا بعملها مفسدة‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم‬
‫لنفسهم والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح‬
‫للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬

‫‪"114‬مجموع الفتاوى" )‪.(59-20/55‬‬

‫‪66‬‬
‫القصص‬
‫من القصص القرآني‪:‬‬
‫• قصة موسى عليه السلم مع‬
‫فرعون‪:‬‬
‫ة الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬ ‫ع َ‬‫ه اذْك ُُروا ن ِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫و ِ‬‫ق ْ‬ ‫سى ل ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬ ‫قا َ‬ ‫وإ ِذْ َ‬ ‫قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ب‬‫ذا ِ‬ ‫ع َ‬‫سوءَ ال َ‬ ‫م ُ‬ ‫ُ‬
‫مون َك ْ‬ ‫سو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫و َ‬ ‫ع ْ‬‫فْر َ‬ ‫ل ِ‬ ‫نآ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جاك ُ ْ‬‫م إ ِذْ أن َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ن َرب ّك ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م َبلءٌ ِ‬ ‫في ذَل ِك ْ‬ ‫و ِ‬‫م َ‬ ‫ساءَك ْ‬ ‫ن نِ َ‬ ‫حُيو َ‬ ‫ست َ ْ‬‫وي َ ْ‬
‫م َ‬ ‫ن أب َْناءَك ْ‬ ‫حو َ‬ ‫وي ُذَب ّ ُ‬ ‫َ‬
‫م ]إبراهيم‪.[6:‬‬ ‫ظي ٌ ‪‬‬ ‫ع ِ‬ ‫َ‬
‫يقول ابن كثير‪" :‬أن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته ‪...‬‬
‫مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل‪ .‬ويقال‬
‫ماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم‬ ‫س ّ‬‫بعد تحدث ُ‬
‫يكون لهم به دولة ورفعة‪ ،‬وهكذا جاء حديث الفتن كما سيأتي في‬
‫موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى‪ ،‬فعند ذلك أمر فرعون لعنه‬
‫الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات"‬
‫انتهى‪.‬‬
‫ً‬
‫ولكن بعد أن صدر المر الفرعوني هذا ‪ -‬باعتباره أمرا إلهيا عند‬
‫قومه ‪ -‬بقتل المواليد الذكور من بني إسرائيل خشية أن يزول ملكه‬
‫على يد رجل منهم‪ ،‬نجد أنه لم يطبق هذا المر على المعني بالقضية‬
‫لمعارضة امرأة فرعون تنفيذ حكم القتل في موسى الرضيع حين رأته‪،‬‬
‫ن ِلي‬ ‫عي ْ ٍ‬ ‫قّرةُ َ‬ ‫ن ُ‬ ‫و َ‬ ‫ع ْ‬ ‫فْر َ‬ ‫مَرأ َةُ ِ‬ ‫تا ْ‬ ‫قال َ ْ‬ ‫و َ‬‫فقالت كلمتها‪ ،‬ل تقتلوه‪َ ) .‬‬
‫م َل ي َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫عُرو َ ‪‬‬ ‫ش ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫دا َ‬‫ول َ ً‬ ‫خذَهُ َ‬ ‫و ن َت ّ ِ‬ ‫عَنا أ ْ‬ ‫ف َ‬‫ن َين َ‬ ‫سى أ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫قت ُُلوهُ َ‬ ‫ك َل ت َ ْ‬ ‫ول َ َ‬ ‫َ‬
‫]القصص‪ .[9:‬مما يدل على أن حكم الحاكم قد يتخلف أحيانا بأتفه‬
‫السباب ممن حوله‪ ،‬وهذا يؤكد على أثر البطانة في حكمه‪ .‬فثبتت‬
‫ضرورة إيجاد البطانة الصالحة أول كي تعين الحاكم على الخير‬
‫والستقامة‪.‬‬
‫لكن من أين تأتي البطانة الصالحة؟ إنها‪ ،‬طبعا إفراز من المجتمع‪،‬‬
‫فإن كان المجتمع صالحا تكون البطانة صالحة‪ ،‬وإن كان المجتمع سيئا‪-‬‬
‫كما هو واقعنا‪ -‬تكون البطانة سيئة‪.‬‬
‫من قصص السنة‪:‬‬
‫‪ -1‬قصة هرقل ومحاولة إسلمه‪:‬‬
‫حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال‪ :‬أخبرنا شعيب عن الزهري‬
‫قال‪ :‬أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود‪ ،‬أن عبد الله‬
‫بن عباس‪ ،‬أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره‪ ،‬ثم أن هرقل أرسل‬
‫إليه في ركب من قريش‪ ،‬وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش‪،‬‬
‫فأتوه وهم بإيلياء‪ ،‬فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم‪ ،‬ثم‬
‫دعاهم ودعا بترجمانه فقال‪ :‬أيكم أقرب نسبا ً بهذا الرجل الذي يزعم‬
‫أنه نبي‪ ،‬فقال أبو سفيان فقلت‪ :‬أنا أقربهم نسبا‪ ،‬فقال‪ :‬أدنوه مني‬

‫‪67‬‬
‫وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره‪ .‬ثم قال لترجمانه‪ :‬قل لهم إني‬
‫سائل هذا عن هذا الرجل‪ ،‬فإن كذبني فكذبوه‪ ،‬فوالله لول الحياء من‬
‫أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه‪ .‬ثم كان أول ما سألني عنه أن قال‪:‬‬
‫كيف نسبه فيكم؟ قلت‪ :‬هو فينا ذو نسب قال‪ :‬فهل قال هذا القول‬
‫منكم أحد قط قبله؟ قلت‪ :‬ل قال‪ :‬فهل كان من آبائه من ملك؟‬
‫قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت‪ :‬بل‬
‫ضعفاؤهم قال‪ :‬أيزيدون أم ينقصون؟ قلت‪ :‬بل يزيدون قال‪ :‬فهل‬
‫يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فهل‬
‫كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فهل‬
‫يغدر؟ قلت‪ :‬ل‪ .‬ونحن منه في مدة ل ندري ما هو فاعل فيها‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ولم تمكني كلمة أدخل فيها غير هذه الكلمة‪ .‬قال‪ :‬فهل قاتلتموه؟‬
‫قلت‪ :‬نعم قال‪ :‬فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت الحرب بيننا وبينه‬
‫سجال‪ ،‬ينال منا وننال منه قال‪ :‬ماذا يأمركم؟ قلت‪ :‬يقول اعبدوا‬
‫الله وحده ول تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم‪ ،‬ويأمرنا‬
‫بالصلة والصدق والعفاف والصلة‪ ،‬فقال‪ :‬للترجمان‪ ،‬قل له‪ :‬سألتك‬
‫عن نسبه فذكرت ذو نسب‪ ،‬فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها‪.‬‬
‫وسألتك‪ :‬هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن ل‪ .‬فقلت لو كان‬
‫أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله‪ .‬وسألتك‬
‫هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن ل‪ .‬قلت‪ :‬فلو كان من آبائه‬
‫من ملك‪ ،‬قلت رجل يطلب ملك أبيه‪ .‬وسألتك هل كنتم تتهمونه‬
‫بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن ل‪ ،‬فقد أعرف أنه لم يكن‬
‫ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله‪ .‬وسألتك أشراف الناس‬
‫اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل‪.‬‬
‫وسألتك‪ :‬أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون‪ ،‬وكذلك أمر‬
‫اليمان حتى يتم‪ .‬وسألتك‪ :‬أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل‬
‫فيه؟ فذكرت أن ل‪ .‬وكذلك اليمان حين تخالط بشاشته القلوب‪.‬‬
‫وسألتك‪ :‬هل يغدر؟ فذكرت‪ :‬أن ل‪ .‬وكذلك الرسل ل تغدر‪ .‬وسألتك‪:‬‬
‫بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ول تشركوا به شيئا‬
‫وينهاكم عن عبادة الوثان ويأمركم بالصلة والصدق والعفاف‪ .‬فإن‬
‫كان ما تقول حقا ً فسيملك موضع قدمي هاتين‪ .‬وقد كنت أعلم أنه‬
‫خارج لم أكن أظن أنه منكم‪ .‬فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت‬
‫لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه‪ .‬ثم دعا بكتاب رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى‪ .‬فدفعه‬
‫إلى هرقل فقرأه فإذا فيه‪ :‬بسم الله الرحمن الرحيم‪ .‬من محمد عبد‬
‫الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم‪ .‬سلم على من اتبع الهدى أما‬
‫بعد‪ :‬فإني أدعوك بدعاية السلم‪ .‬أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين‪،‬‬
‫وا ْ إ َِلى‬
‫عال َ ْ‬
‫ب تَ َ‬‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ه َ‬ ‫فإن توليت فإن عليك إثم الريسيين‪ .‬وَيا أ َ ْ‬
‫ك َل َمة سواء بين ََنا وبين َك ُ َ‬
‫ول َ‬ ‫شي ًْئا َ‬‫ه َ‬ ‫ك بِ ِ‬‫ر َ‬‫ش ِ‬‫ول َ ن ُ ْ‬‫ه َ‬‫عب ُدَ إ ِل ّ الل ّ َ‬
‫م أل ّ ن َ ْ‬
‫َ َْ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ ٍ َ َ‬

‫‪68‬‬
‫دوا ْ‬ ‫قوُلوا ْ ا ْ‬ ‫وا ْ َ‬ ‫َ‬
‫ه ُ‬‫ش َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ول ّ ْ‬
‫فِإن ت َ َ‬ ‫ن الل ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫دو ِ‬ ‫عضا ً أْرَباًبا ّ‬
‫من ُ‬ ‫ضَنا ب َ ْ‬‫ع ُ‬ ‫خذَ ب َ ْ‬
‫ي َت ّ ِ‬
‫ن‪.‬‬‫مو َ ‪‬‬ ‫َ‬
‫سل ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ب ِأّنا ُ‬
‫قال أبو سفيان‪ :‬فلما قال ما قال‪ ،‬وفرغ من قراءة الكتاب‪ ،‬كثر‬
‫عنده الصخب‪ ،‬وارتفعت الصوات وأخرجنا‪ .‬فقلت لصحابي حين‬
‫مُر بن أبي كبشة‪ ،‬إنه يخافه ملك بني الصفر‪ .‬فما‬ ‫رأ ْ‬
‫أخرجنا‪ :‬لقد أمِ َ‬
‫زلت موقنا ً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي السلم‪.‬‬
‫فا على نصارى‬ ‫ق ّ‬‫وكان بن الناطور ‪ -‬صاحب إيلياء وهرقل ‪ -‬سُ ُ‬
‫الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما ً خبيث النفس‪ ،‬فقال‬
‫بعض بطارقته‪ :‬قد استنكرنا هيئتك‪ .‬قال ابن الناطور‪ :‬وكان هرقل حزاء‬
‫ينظر في النجوم‪ ،‬فقال لهم حين سألوه‪ :‬إني رأيت الليلة حين نظرت‬
‫في النجوم ملك الختان قد ظهر‪ ،‬فمن يختتن من هذه المة؟ قالوا‪:‬‬
‫ليس يختتن إل اليهود‪ ،‬واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من‬
‫اليهود‪ .‬فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان‬
‫يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ .‬فلما استخبره هرقل‬
‫قال‪ :‬اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم ل فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن‪،‬‬
‫وسأله عن العرب فقال‪ :‬هم يختتنون فقال هرقل هذا ملك هذه المة‬
‫قد ظهر‪ .‬ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم‪.‬‬
‫وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه‬
‫يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي‪.‬‬
‫فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص‪ ،‬ثم أمر بأبوابها‬
‫فغلقت‪ ،‬ثم اطلع فقال‪ :‬يا معشر الروم‪ ،‬هل لكم في الفلح والرشد‬
‫وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى‬
‫البواب فوجدوها قد غلقت‪ ،‬فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من اليمان‬
‫قال‪ :‬ردوهم علي‪ .‬وقال‪ :‬إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على‬
‫دينكم‪ ،‬فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عنه‪ ،‬فكان ذلك آخر شأن هرقل‪.‬‬
‫رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري)‪.(115‬‬
‫قلت‪ :‬حسب ما شاهده أبو سفيان ونقله لنا‪ ،‬كانت رغبة هرقل‬
‫بالسلم لول خذلن بطانته له ومعارضتهم لذلك‪.‬‬
‫والشاهد من القصة أن الحاكم ل يستطيع أن يحقق كل رغباته‬
‫المخالفة لهواء بطانته‪ ،‬لذا لزم المة أن تسعى ليجاد البطانة الصالحة‬
‫في الحكم‪ ،‬وأن لهذه البطانة أثرا واضحا في قرارات الحاكم‪ .‬وعليه فان‬
‫التركيز على إيجاد الحاكم الصالح دون إيجاد البطانة الصالحة‪ ،‬يعد عمل ً‬
‫مخالفا لمنهج الله تعالى في التغيير‪ ،‬ومضيعة للوقت يسعد به العداء‪.‬‬
‫وقد مضى التدليل على أن الصراع السياسي مع النظمة ‪ -‬المعادية‬
‫للماركسية خاصة ‪ -‬هو من أولويات العمل الجاسوسي عند الصهاينة كما‬
‫ورد في بروتوكولت حكماء صهيون‪.‬‬

‫‪115‬رواه البخاري‪.(10- 1/7) ،‬‬

‫‪69‬‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم‬
‫لنفسهم والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح‬
‫للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬
‫‪ -2‬قصة النجاشي ملك الحبشة‪:‬‬
‫فقد بكي حتى اخضّلت لحيته حين تل عليه جعفر بن أبي طالب من‬
‫سورة مريم‪ ,‬وما ورد من نبأ عيسى عليه السلم وأمه مريم‪ ,‬وقال‪" :‬إن‬
‫هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة")‪.(116‬‬
‫ثم روى لنا البخاري ومسلم ما يدل على إسلم الملك العادل‬
‫النجاشي‪ ,‬وصلة الرسول صلى الله عليه وسلم صلة الغائب عليه‪.‬‬
‫والشاهد من هذه الروايات‪ ,‬أن النجاشي رغم وجوده في سدة الحكم‪,‬‬
‫لم يستطع أن يؤثر على رعيته فيدخلوا السلم‪ ,‬بل عارضوه وتآمروا‬
‫عليه ونصره الله تعالى عليهم‪ ,‬وكتم عنهم إسلمه‪ ،‬وتظاهر أنه على‬
‫نصرانيته‪ ،‬وهذا ما يدل على أن الحاكم ل يملك تلك القوى السحرية في‬
‫التغيير‪.‬‬
‫وهنا يجدر بنا أن نذكر بقول محب الدين الخطيب مرة أخرى‪:‬‬
‫"وقد يظن من ل نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم‬
‫يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون متى أراد‪ .‬وهذا غير صحيح‪ ،‬فللبيئة‬
‫دورها في التأثير في الحاكم وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام‬
‫ن‬
‫الحكم من التأثير على البيئة‪ .‬وهذا من معاني قول الله عز وجل‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م(")‪.(117‬‬‫ه ْ‬
‫س ِ‬
‫ف ِ‬ ‫ما ب ِأ َن ْ ُ‬
‫غي ُّروا ْ َ‬
‫حّتى ي ُ َ‬
‫وم ٍ َ‬ ‫ما ب ِ َ‬
‫ق ْ‬ ‫ه ل َ يُ َ‬
‫غي ُّر َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫فرضية‪:‬‬
‫ً‬
‫تقول لو أن مجتمعا فاسقا‪ ،‬استيقظ يوما ما ليجد حاكمه‪ ،‬بقدرة الله‬‫ً‬ ‫ً‬
‫تعالى‪ ،‬قد صلح أو آمن‪ ،‬فهل بالضرورة أن يتوب المجتمع من ساعته‬
‫ويرجع إلى الله تعالى؟‬
‫مما مضى ‪ -‬أخي القارىء ‪ -‬يتضح لنا بطلن الزعم بان صلح‬
‫المجتمع وفساده مناط بصلح الحاكم وفساده‪ ،‬فقد تاب النجاشي وآمن‬
‫ولم يقدر أن يظهر إيمانه فضل ً عن أمر رعيته به‪ .‬وهرقل عظيم الروم‬
‫لم يقدر على جبر حاشيته اتباع النبي صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫فهذه النظرة الصنمية للحاكم‪ ،‬وإضفاء صفة اللهية عليه‪ ،‬كأنه يقول‬
‫للشيء كن فيكون‪ ،‬نظرة خبيثة خبث الشرك نفسه‪ ،‬يقعد الناس بسببها‬
‫عن القيام بواجباتهم من أمر بمعروف ونهي عن المنكر‪ ،‬ويترك بذلك‬
‫المجتمع للتراجع إلى الخلف يوما ً بعد يوم‪ ،‬حتى يغدو مجتمعا ً فاجرا ً‬
‫بمعظمه‪ ،‬وفي هذا لفت نظر لولئك الذين يدندنون حول "شرك‬
‫القصور" مع أنهم أقرب إلى التورط في ذلك‪ ،‬عصمنا الله وإياهم من‬
‫اتباع الهوى‪.‬‬

‫‪116‬ابن هشام‪.‬‬
‫‪117‬كتاب "العواصم من القواصم" )ص ‪.(77‬‬

‫‪70‬‬
‫وحتى ل يساء الفهم ويهمش دور الحاكم بالكلية فنقع في انحراف‬
‫في الطرف الخر‪ ،‬وحتى ل نغفل حدود دوائر المسؤولية فيختلط بعضها‬
‫ببعض فيتقاعس الحاكم عن الواجبات المناطة به ويلقى بالمسؤولية‬
‫على عاتق الرعية‪ ،‬وكذلك حتى ل تلقى الرعية بمسؤولياتها وواجباتها‬
‫على عاتق الحاكم‪ ،‬بإحدى الحجج السابقة التي مر مناقشتها‪ ،‬ل بد لك‬
‫أخي القارىء أن تستذكر ما مر معك قريبا ً بهذا الخصوص‪.‬‬
‫وبالضافة إلى ذلك أقول‪ :‬إن الحاكم وحاشيته الصالحة‪ ،‬تكون‬
‫سيطرتهم على الساحة المكشوفة بقدر قوة أفراد الحاشية‪ ،‬والجماعات‬
‫التي خلف هذه الحاشية تدعمها‪ ،‬فكلما ضعف إيمانهم وخارت عزائمهم‪،‬‬
‫ونخرت فيهم أسباب الفساد الخلقية المنافية للعدل والصدق والمانة‬
‫من اعتبار المحسوبيات وقبول الرشاوى والوصولية‪ ،‬أدى ذلك إلى‬
‫ضعف واضح في الجهاز الحكومي‪ ،‬وبالتالي في تطبيق الحكام‬
‫والقوانين مما ينعكس سلبا ً على سمعة الدولة والنظام الحاكم‪ ،‬فيجد‬
‫كل صاحب غرض ما يريد في تأليب غثاء الناس ضدها‪ ،‬مما يعين‬
‫المتربصين من أعدائنا أمثال الشتراكيين على تحقيق أطماعهم‬
‫وإسقاط أنظمتنا السلمية المعارضة والمعادية للشتراكية‪ .‬وبهذا‬
‫المعنى يكون البعض منا قد سعى مع حسن النية في جلب‬
‫المفاسد أو تكثيرها وهو ل يعلم‪.‬‬
‫وكلما قوي اليمان في أفراد الحاشية‪ ،‬كانت فاعليتهم في تطبيق‬
‫الحكام ومنع ظهور المنكرات أعظم‪ ،‬فالقضية إذن نسبية‪ .‬ومن جانب‬
‫آخر إذا كان المنكر مما يقع في الساحة المستورة‪ ،‬فكيف للحاكم‬
‫وحاشيته الوصول إليه ومنعه؟‬
‫قَرُبوا ْ الّزَنى(‪ ،‬ولمنع‬
‫ول َ ت َ ْ‬
‫َ‬ ‫)‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قال‬ ‫المر‪،‬‬ ‫وأضرب مثل ً لتوضيح‬
‫وقوع الزنا في المجتمع ل بد من محاربته ومراقبته في كل مكان‪ .‬فعلى‬
‫الساحة المكشوفة‪ ,‬يستطيع الحاكم ببطانته الصالحة إغلق دور الزنا‬
‫المباشر‪ ,‬وكل ما يؤدي إلى وقوع الزنا‪ ,‬مثل حفلت الرقص العامة‪,‬‬
‫وبرك السباحة العامة‪ ,‬ومخالفات الشواطئ المختلطة‪ ,‬ورياضة النساء‬
‫ن‪ ،‬من تزلج وألعاب القوى والسباحة والرقص‬ ‫التي تتكشف فيها عوراته ّ‬
‫في الماء‪ ،‬ومسابقات ملكات الجمال وغيرها الكثير‪.‬‬
‫كما يستطيع الحاكم ببطانته الصالحة أن يمنع جميع مظاهر‬
‫مة والجامعات والمواصلت‬ ‫الختلط المحرم في الساحات والماكن العا ّ‬
‫مة‪ ,‬وكذلك أن يحد ّ من مظاهر السفور والعريّ المنتشر في‬ ‫العا ّ‬
‫الشوارع‪ ,‬والسينما والصور الفاضحة‪ ,‬وأن يراقب ما يجوز وما ل يجوز‬
‫نشره من مطبوعات ومنشورات وصحف ومجلت‪ ،‬وما شاكل ذلك من‬
‫أمور‪.‬‬
‫أما على الساحة المستورة فان دور الحاكم وبطانته الصالحة ينتهي‬
‫ليبدأ دور أصحاب المسؤوليات الخرى من آباء وأمهات ومربين وكل من‬
‫له علقة بالمنكر‪ ،‬أي أن الحاكم ل يستطيع منع الزنا في البيوت‬

‫‪71‬‬
‫المستورة‪ ,‬ول الختلط المحرم ول المنكرات في السر‪ ،‬ول التعري بين‬
‫القارب ومع الصحاب‪ ,‬وما يجري داخل البيوت من منكرات العراس‪،‬‬
‫ول يستطيع أن يمنع ما تعرضه قنوات الدول الخرى غير الملتزمة‬
‫الفضائية وغير الفضائية على شاشات التلفاز والنترنت‪ ،‬ول ما يجري‬
‫تبادله كذلك من صور فاضحة بين الشباب والشاّبات في أجهزة الهواتف‬
‫النقالة‪.‬‬
‫ول يستطيع أن يتتبع جميع الماكن والشوارع التي تظهر فيها النساء‬
‫الكاسيات العاريات وخاصة ما يجري في القرى والرياف بعيدا ً عن أعين‬
‫السلطة‪ .‬وهنا تجدر الملحظة‪ ,‬أينما غاب الرقيب انتهكت المحرمات‪،‬‬
‫لذا أكد السلم على مراقبة الله تعالى في السر والعلن‪ .‬فكلما ضعف‬
‫الجهاز التنفيذي)‪ (118‬عند الحاكم ومراقبته لله تعالى كلما انتشرت‬
‫مظاهر المحرمات لضعف المتابعة بل يؤدي إلى وقوع هذا الجهاز فيما‬
‫حرم الله أو خالف القانون‪ ,‬وعندنا في الردن قانون يمنع التدخين في‬
‫مة‪ ,‬ويقضي بدفع غرامة مالّية على كل مخالف‬ ‫المكاتب والماكن العا ّ‬
‫ورغم التأكيد المستمر عليه من الحكومة‪ ,‬إل أننا لم نر لهذا القانون أثرا‪ً,‬‬
‫لنتهاكه من قبل الكبير والصغير‪ ,‬من داخل الجهاز التنفيذي أو من‬
‫خارجه‪ ,‬فغدا حبرا ً على ورق‪ ،‬وذلك بسبب غياب البطانة الصالحة‪ ،‬بل‬
‫غياب البطانة الصالحة المؤثرة‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم‬
‫لنفسهم والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح‬
‫للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬

‫‪118‬الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي في الدولة يتشكلن من أشخاص‬


‫مواطنين في الصل‪ ،‬قبل أن يكونوا حكوميين‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫الخلصة‬
‫مما سبق تبين لنا ما يلي‪:‬‬
‫سنة الله تعالى حاكمة ل تتحول ول تتبدل‪.‬‬ ‫‪-1‬‬
‫إذا صلحت الرعية أفرزت حاكما صالحا‪ ،‬وإذا فسدت‬ ‫‪-2‬‬
‫الرعية أفرزت حاكما ً فاسدا‪ً.‬‬
‫أن العذاب ينزل بذنوب القوام من أهل القرى جميعا‬ ‫‪-3‬‬
‫وليس الولة فقط‪.‬‬
‫أن البركة تنزل بسبب تحقق إيمان أهل القرى‪ ،‬وليس‬ ‫‪-4‬‬
‫الولة فقط‪.‬‬
‫شروط تحقق الوعد بالتمكين والستخلف متعلقة‬ ‫‪-5‬‬
‫بالجماعة ولة ورعية‪.‬‬
‫التغيير المنشود في المجتمع‪ ،‬يتحقق بما في القوم عامة‬ ‫‪-6‬‬
‫من خير‪ .‬وليس في شخص الوالي والولة دون الرعية‪ ،‬أو فئة‬
‫قليلة في المجتمع‪ ،‬إنما المطلوب أن يكون التغيير غالبا فيه‪.‬‬
‫يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية‬ ‫‪-7‬‬
‫والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬بالحكمة‬
‫والموعظة الحسنة‪ ،‬والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫درجات التغيير‬
‫ل‪ ,‬فل زالوا على‬ ‫لما خلق الله تعالى الخلق ابتلهم أيهم أحسن عم ً‬
‫التوحيد حتى اجتالتهم الشياطين‪ ،‬فأرسل الله لهم النبيين تترا ً يدعونهم‬
‫إلى السلم‪ -‬دين النبياء جميعا ً‪ -‬من جديد‪ ,‬وهو دين الرحمة‪ ,‬يرحم الله‬
‫به عباده الصالحين‪ ,‬فكانت هداية الخلق للحق مقصودة لذاتها‪ ,‬وهي‬
‫أسمى مقصد من مقاصد الديانات السماوية جميعها‪ .‬لذا حرص السلم‬
‫باعتباره آخر الديانات وناسخا ً لها كل الحرص على إخراج العباد من‬
‫الظلمات إلى النور‪ ,‬وأوجب لأجل ذلك المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ ,‬وذلك لتحقيق أمرين اثنين‪:‬‬
‫الول‪ :‬زيادة الخير في المم من خلل المر بالمعروف‪ ،‬وأعظمه‬
‫تحقق التوحيد وأركان السلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬التقليل من المنكرات من خلل النهي عن المنكر‪ ,‬وأكبره‬
‫الشرك بالله والكبائر‪.‬‬
‫وبما أن أهل الخير يتفاوتون في الدرجات فيما بينهم‪ ,‬وأهل الشر‬
‫كذلك‪ ،‬فان المطلوب‪:‬‬
‫رفع نسبة الخير في المجتمع‪ ,‬وذلك بزيادة الخير من‬ ‫‪-1‬‬
‫درجة إلى أخرى –أي من درجة الكمال إلى الكمل‪.-‬‬
‫التقليل من نسبة الشر في المجتمع من الدرجة السوء‪،‬‬ ‫‪-2‬‬
‫إلى الدرجة القل سوءا‪ً.‬‬
‫صل أهل الفقه قواعد أصولّية‪ ,‬منها‬ ‫وتحقيقا ً للمعاني السابقة أ ّ‬
‫قاعدة "ترجيح خير الخيرين‪ ،‬ودفع شر الشرين"‪ .‬وهذا باب عظيم من‬
‫أبواب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ,‬إذ بالعمل به تتنّزل رحمة الله‬
‫تعالى على العباد وينجون من عذابه‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى‪" :‬فل يجوز دفع الفساد‬
‫القليل بالفساد الكثير ول دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين‪،‬‬
‫فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد‬
‫وتقليلها بحسب المكان‪ ،‬ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن‬
‫يجتمعا جميعا ً ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا")‪.(119‬‬
‫ويقول‪" :‬إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل‬
‫المفاسد وتقليلها والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر‬
‫الشرين وإن حصل أدناهما")‪.(120‬‬
‫ور الرسم التالي‪:‬‬
‫ولتوضيح المر‪ ,‬علينا أن نتص ّ‬

‫‪"119‬فتاوى ابن تيمية في الفقه" )ج ‪ 23‬ص ‪.(343‬‬


‫‪"120‬فتاوى ابن تيمية في الفقه" )ج ‪ 30‬ص ‪.(193‬‬

‫‪74‬‬
‫إتجاه إيجابي‬
‫إتجاه سلبي‬ ‫موقف‬ ‫)خيرالخيرين‬
‫)شر الشرين(‬ ‫محايد‬ ‫( الخيرين(‬
‫الخيرين(‬
‫بذل‬ ‫عم‬ ‫بذل‬
‫عم‬ ‫عم‬ ‫عم‬ ‫عم‬
‫الما‬ ‫ل‬ ‫موق‬ ‫عمل‬ ‫الما‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ل‬ ‫الل‬ ‫ف‬ ‫اللس‬ ‫ل‬
‫الرك‬ ‫القل‬ ‫القل‬ ‫الرك‬
‫والن‬ ‫سا‬ ‫ان‬ ‫والنف‬
‫ان‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫ان‬
‫فس‬ ‫ن‬ ‫محاي‬ ‫س‬
‫موقف متعاطف مع‬ ‫د‬ ‫موقف متآمر ضد‬
‫السلم‬ ‫السلم‬
‫)تدرج في الولء(‬ ‫من‬ ‫)تدرج في البراء(‬

‫الس‬
‫لم‬
‫‪4+‬‬ ‫‪3+‬‬ ‫‪2+‬‬ ‫‪1+‬‬ ‫‪1-‬‬ ‫‪2-‬‬ ‫‪3-‬‬ ‫‪4-‬‬

‫صفر‬

‫إتجاه إيجابي‬
‫إتجاه سلبي‬ ‫)خيرالخيرين‬
‫موقف‬
‫)شر الشرين(‬ ‫(‬
‫محايد‬
‫الخيرين(‬

‫قاعدة‪ :‬تحصيل‬ ‫قاعدة‪ :‬تعطيل‬


‫موق‬
‫المصالح وتكميلها‬ ‫المفاسد وتقليلها‬
‫ف‬
‫)ترجيح خير‬ ‫)دفع شر‬
‫محايد‬
‫الخيرين(‬ ‫الشرين(‬

‫يمثل هذا الرسم موقف الشخص المقصود أو الجماعة أو الدولة‬


‫من السلم كما يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬نقطة المنتصف "الصفر" وتمثل موقف الحياد من السلم‪ ,‬غير‬
‫مؤيد وغير معارض‪.‬‬
‫ب‪ -‬التجاه إلى اليمين‪ ,‬ويمثل أربع درجات‪:‬‬

‫‪75‬‬
‫‪ -1‬عمل القلب باليمان‪ ،‬ويشمل‪) :‬قول القلب‪ ،‬أي تصديقه‪ ،‬وعمل‬
‫‪،‬‬ ‫ده الدنى‬
‫)‪(121‬‬
‫القلب‪ ،‬أي خضوعه وانقياده( وهو أصل اليمان‪ ،‬أو ح ّ‬
‫أي مع النطق بالشهادة‪.‬‬
‫‪ -2‬عمل باللسان‪ :‬وتشمل الدرجة السابقة‪ ,‬ويضاف إليها التعبير‬
‫عن التعاطف مع السلم باللسان‪ ,‬كأن يقول السلم دين الحق‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫‪ -3‬عمل بالركان‪ :‬وتشمل الدرجات السابقة وإقامة أركان السلم‬
‫في النفس )صلة‪ ,‬صوم‪.(...‬‬
‫‪ -4‬بذل النفس والمال‪ ,‬وتشمل الدرجات السابقة جميعا ً ويضاف‬
‫إليها بذل المال والنفس دفاعا ً عن السلم والدعوة إليه‪.‬‬
‫ج‪ -‬التجاه إلى اليسار‪ ,‬ويمثل بأربع درجات‪.‬‬
‫‪ -1‬عمل القلب بالكفر‪ ,‬ويشمل ) قول القلب‪ ،‬إي تكذيبه‪ ،‬وعمل‬
‫القلب‪ ،‬أي عدم الخضوع والنقياد( وهو حد الكفر الدنى‪.‬‬
‫‪ -2‬عمل باللسان‪ ,‬ويشمل الدرجة السابقة ويضاف إليها استعمال‬
‫اللسان في الصد عن السلم‪ ,‬كأن يقول السلم دين رجعي‬
‫وباطل‪ ،‬أو يسخر من العلماء‪.‬‬
‫‪ -3‬عمل بالركان‪ ,‬ويشمل الدرجات السابقة‪ ،‬ويضاف إليها ترك‬
‫الواجبات‪ ،‬وفعل المحرمات‪.‬‬
‫‪ -4‬بذل النفس والمال‪ ,‬ويشمل الدرجات السابقة ويضاف إليها بذل‬
‫المال والنفس في محاربة السلم‪.‬‬
‫درجات المر بالمعروف‪:‬‬
‫درجات اليمان‪ ,‬ويمثلها الدرجات من )‪ (1 +‬إلى )‪ ,(4 +‬أدناها‬
‫الدرجة الولى )عمل القلب( وأعلها الرابعة بذل النفس والمال‪ ,‬فلو‬
‫استطاع أحد الدعاة أن ينقل شخصا ً من الدرجة الولى)عمل القلب‪ :‬أي‬
‫تصديقه وخضوعه(‪ ،‬إلى الدرجة الثانية )عمل اللسان‪ :‬أي التعاطف مع‬
‫السلم بالقول( لكانت نقلة في التجاه اليجابي‪ ،‬فكيف لو نقله إلى‬
‫الدرجات الثالثة أو الرابعة؟‪ .‬وهكذا لو استطاع أن ينقل شخصا ً من‬
‫الدرجة الثالثة إلى الرابعة أو من الثانية إلى الثالثة‪ ,‬إذن فكل نقلة باتجاه‬
‫اليمين تعتبر نقلة ايجابية وبهذا العمل نكون قد طبقنا قاعدة تحصيل‬
‫المصالح وتكميلها‪ ،‬أو ترجيح خير الخيرين‪ .‬ونكون قد والينا المؤمنين‬
‫بقدر درجة إيمانهم وبذلهم للسلم‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن النتقال ما بين الدرجات )‪ (1 +‬و)‪ ،(4 +‬ل‬
‫يلحظه البعض من الناس وخاصة ما بين الدرجة والتي تليها مباشرة‪ ،‬مع‬
‫انه باب من أبواب الدعوة‪ ،‬إذ به يزداد المعروف في الرض تدريجيا‪،‬‬
‫وهذا مقصود لذاته‪.‬‬

‫‪"121‬فتاوى ابن تيمية في الفقه" )ج ‪ ،7‬ص ‪.(637،263،644،377،639‬‬

‫‪76‬‬
‫درجات النهي عن المنكر‪:‬‬
‫درجات الكفر‪ ,‬ويمثلها الدرجات من )‪ (1 -‬إلى )‪ (4 -‬أدناها الدرجة )‪-‬‬
‫‪ :(1‬درجة )كفر القلب‪ :‬أي تكذيبه‪ ،‬وعدم الخضوع والنقياد(‪ ،‬وأعلها )‪-‬‬
‫‪) :(4‬بذل النفس والمال في الصد عن السلم(‪ .‬فلو استطاع أحد‬
‫الدعاة أن ينقل شخصا ً من الدرجة )‪ (4 -‬درجة‪ :‬بذل المال والنفس في‬
‫محاربة السلم‪ ،‬إلى الدرجة )‪ :(3 -‬التي يقوم فيها الشخص بالمنكرات‪,‬‬
‫لكانت نقلة في التجاه اليجابي‪ ،‬فكيف لو نقله من الدرجة )‪ (4 -‬الـى )‪-‬‬
‫‪ :(1‬درجة )كفر القلب(؟‪.‬‬
‫إذا ً بهذا العمل وعلى الرغم من أننا لم نوفق بإخراج الشخص من‬
‫الكفر إلى اليمان‪ ،‬نكون قد عملنا بقاعدة تعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬أو‬
‫دفع شر الشرين‪ .‬وعادينا الكافرين بقدر درجة كفرهم وصدهم عن دين‬
‫السلم‪ ،‬فكلما ازدادوا بموقفهم سوءا‪ ،‬زيد عذابهم‪.‬‬
‫م‬‫ه ْ‬
‫زدَْنا ُ‬ ‫ّ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫قال تعالى‪) :‬ال ّ ِ‬
‫ه ِ‬
‫ل الل ِ‬‫سِبي ِ‬
‫ن َ‬‫ع ْ‬
‫دوا َ‬ ‫ص ّ‬‫و َ‬‫فُروا َ‬ ‫ذي َ‬
‫ن ]النحل‪.[88:‬‬ ‫دو َ ‪‬‬‫س ُ‬‫ف ِ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي ُ ْ‬ ‫ب بِ َ‬ ‫ع َ‬
‫ذا ِ‬ ‫وقَ ال َ‬ ‫ذاًبا َ‬
‫ف ْ‬ ‫ع َ‬
‫َ‬
‫ومن المعلوم أن النتقال ما بين الدرجات )‪ (4 -‬و)‪ ،(1-‬ل يلحظه‬
‫كثير من الناس‪ ،‬وخاصة ما بين الدرجة والتي تليها‪ ،‬مع انه باب من‬
‫أبواب الدعوة‪ ،‬إذ به يقل الفساد في الرض تدريجيا‪ ،‬وهذا مقصود لذاته‬
‫كذلك‪.‬‬
‫فلو أن مسلما ‪ ،‬قام بعمل كانت نتيجته بقاء الكفر‪ ،‬وانتقال موقف‬
‫أهله من )‪ (1 -‬إلـى )‪ ،(2 -‬أو من )‪ (3 -‬إلى )‪ ،(4 -‬كان عمله محرما ً)‪.(122‬‬
‫فكيف به لو قام بعمل أخرج به البعض من دائرة السلم إلى الكفر‪،‬‬
‫وهو يظن نفسه محسنًا؟‬
‫ومما يجدر التنبيه إليه‪ :‬أن البعض ممن قل علمهم بهذا‪ ،‬قد يصنف‬
‫العلماء العاملين بهذا المنهج الصولي بالعمالة‪ ،‬إذا أفتوا بدفع شر الشر‬
‫الكبر بالصغر‪ ،‬إذا لم يندفعا جميعًا‪ ،‬ومثاله)‪.(123‬‬
‫ولتوضيح المر أكثر نضرب مثل بما حدث في صلح الحديبية‪ ،‬ولماذا‬
‫سمي بالفتح المبين ؟‬
‫لقد بدأت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بمفرده‪ ،‬ومع‬
‫الزمن والصبر على أذى المشركين‪ ،‬بدأ الناس بالنتقال من درجات‬
‫الكفر})‪ {(1-)-(4 -‬إلى درجات اليمان })‪ ،{(4 +)- (1 +‬ولقد كانوا‬
‫متفاوتين في موقفهم الولي من السلم حين دُعوا إليه‪ ،‬فلم يكونوا‬

‫‪122‬أنظر الملحق رقم )‪ ،(2‬وفيه رد الجماعة السلمية على تنظيم القاعدة‪.‬‬


‫‪123‬دفع الخطر الشتراكي الكبر‪ ،‬بالخطر الرأسمالي‪ ،‬ومن صور الشتراكية‪:‬‬
‫)النظام اليراني الخميني‪ ،‬والنظام البعثي الشتراكي في العراق وسوريا‪،‬‬
‫ونظام كل من ليبيا‪ ،‬وتونس‪ ،‬والجزائر‪ ،‬والصين‪ ،‬وكوريا الشمالية‪ ،‬وكوبا‪،‬‬
‫وروسيا التحادية وهكذا‪ .‬ومن صور الرأسمالية‪ ،‬دول أوروبا‪ ،‬وأمريكا‬
‫وأمثالهما‪ .‬إنظر كتابنا "المنابرالعلمية بين تجاهل الخطر الشتراكي‬
‫وظاهرة معاداة أمريكا"‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫كلهم في الدرجة )‪ (4 -‬المعادية للسلم بالمال والنفس‪ ،‬كموقف أبي‬
‫جهل لعنه الله‪ ،‬ومع استمرار الدعوة أخذ المشركون بالنتقال من درجة‬
‫إلى التي تليها باتجاه السلم‪ ،‬ومنهم من دخل فيه وبدأ بالترقي في‬
‫درجات السلم })‪ ،{(4+)-(1 +‬إل أن الدرجة الرابعة )‪ (4 +‬في العهد‬
‫المكي‪ ،‬كانت ببذل المال في سبيل الدعوة فقط‪ ،‬ولم يكن قد فرض‬
‫الجهاد بعد‪.‬‬
‫وبعد هجرة إلى المدينة‪ ،‬قويت شوكة المسلمين‪ ،‬وقاموا بالعديد من‬
‫الغزوات‪ ،‬وعلى رأسها "بدر الكبرى"‪ .‬وفي السنة السادسة من الهجرة‬
‫وقع الرسول صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية مع قريش‪ ،‬وأخذ بنشر‬
‫الدعوة خارج المدينة المنورة مستغل فترة وضع القتال لمدة عشر‬
‫سنين‪ ،‬فازداد عدد المسلمين‪ ،‬فدخل فيه في غضون سنتين أكثر ممن‬
‫أسلموا في تسعة عشر عام مضت‪ ،‬وممن أسلم في هذه الفترة خالد‬
‫بن الوليد رضي الله عنه‪.‬‬
‫حَنا‬ ‫َ‬
‫يقول ابن كثير في تفسير أول سورة الفتح‪ " :‬فقوله‪) :‬إ ِّنا فت َ ْ‬
‫مِبيًنا‪] ‬الفتح‪ .[1:‬أي‪ :‬بينا ظاهرا‪ ،‬والمراد به صلح الحديبية‪.‬‬ ‫حا ّ‬ ‫ك َ‬
‫فت ْ ً‬ ‫لَ َ‬
‫فإنه حصل بسببه خير جزيل‪ ،‬وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض وتكلم‬
‫المؤمن مع الكافر وانتشر العلم النافع واليمان")‪.(124‬‬
‫من‬ ‫ل ِ‬ ‫ع َ‬
‫ج َ‬ ‫ويقول الطبري في تفسيره } ‪" :{26/186‬قوله‪َ } :‬‬
‫ف َ‬
‫ريًبا{ يعني‪ :‬صلح الحديبية‪ .‬وما فتح في السلم‬ ‫حا َ‬
‫ق ِ‬ ‫ك َ‬
‫فت ْ ً‬ ‫ن ذَل ِ َ‬
‫دو ِ‬‫ُ‬
‫فتح كان أعظم منه‪ ،‬إنما كان القتال حيث التقى الناس‪ ،‬فلما كانت‬
‫الهدنة وضعت الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا فالتقوا فتفاوضوا‬
‫في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد بالسلم يعقل شيئا إل دخل فيه‪،‬‬
‫فلقد دخل في تينك السنتين في السلم مثل من كان في السلم قبل‬
‫ذلك وأكثر"‪.‬‬
‫لماذا تضاعف عدد المسلمين في غضون سنتين فقط؟‬
‫نعلم مما سبق من قول الطبري وابن كثير وغيرهما‪ ،‬أن السبب في‬
‫ذلك‪ ،‬هو توقيع الهدنة ووضع الحرب‪ ،‬لن مناخ الحروب يؤجج النفوس‬
‫ويشحنها للدفاع عن المعتقدات والرض والعرض‪ ،‬فتأخذ المشركين‬
‫حمية الجاهلية‪ .‬فلو نزل الرسول صلى الله عليه وسلم‪ ،‬على رأي عمر‬
‫بن الخطاب وعامة الصحابة رضي الله عنهم‪ ،‬وقاتلوا المشركين حين‬
‫منعوهم من أداء العمرة‪ ،‬وقامت الحرب‪ ،‬لتراجع كل أولئك الذين كانوا‬
‫قد اقتربوا من السلم عدة درجات عن درجاتهم‪ ،‬فبعضهم كان قد‬
‫أوشك على الدخول في السلم‪ ،‬فوصل إلى الدرجة )الصفر( درجة‬
‫الحياد‪ ،‬وبعضهم وصل إلى الدرجة )‪ :(1 -‬درجة )كفر القلب‪ :‬أي تكذيبه‪،‬‬
‫وعدم الخضوع والنقياد(‪ ،‬وبعضهم إلى الدرجة )‪ :(2-‬درجة )استعمال‬
‫اللسان في الصد عن السلم(‪ ،‬وهكذا‪ .‬وبهذا يتبين لنا أن النصر‬
‫الحقيقي والفتح المبين‪ ،‬هو فتح القلوب للدخول في السلم‪ ،‬ويكون‬
‫‪"124‬تفسير ابن كثير" )‪.(4/307‬‬

‫‪78‬‬
‫أحيانا في الموطن الذي يراه الناس‪ ،‬موطن ذل وهزيمة‪ ،‬فمن كان‬
‫يتصور أن في هاتين السنتين سيدخل في السلم من المشركين أكثر‬
‫من عدد من أسلم منذ تسعة عشر عاما مضت؟ فكان ذلك سببا ً وجيها‬
‫آخر لفتح مكة‪ .‬ألم يرتجف أبو سفيان من عدد جيش فتح مكة المقدر‬
‫بعشرة آلف مقاتل من المسلمين؟‬
‫لذا على المسلين أن يحرصوا على كل أسلوب حسن يقرب‬
‫المشركين من السلم ولو خطوة‪ ،‬وأن يتجنبوا كل ما يبعدهم عن‬
‫السلم ولو خطوة‪ ،‬فهل ما يقوم به بعض الجهلة باسم السلم وتحت‬
‫)‪(125‬‬
‫يافطات إسلمية من أعمال إرهابية وصلت إلى حد ذبح البرياء‬
‫والتفاخر بذلك ونشره مصورا ً في وسائل العلم‪ ،‬ما يقرب غير‬
‫المسلمين من السلم‪ ،‬أم أن هذه العمال ستشكك من أسلموا بهذا‬
‫الدين فضل عن أن يدخلوا فيه أو أن يقتربوا منه خطوة؟‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قات ِلوك ْ‬ ‫م يُ َ‬ ‫َ‬
‫نل ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫ع ْ‬
‫ه َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫هاك ُ ْ‬ ‫ألم يقل الله تعالى‪) :‬ل َ ي َن ْ َ‬
‫س ُ‬ ‫َ‬
‫طوا‬ ‫ق ِ‬ ‫وت ُ ْ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ن ت َب َّرو ُ‬‫مأ ْ‬ ‫رك ُ ْ‬
‫ن ِدَيا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جوك ُ ْ‬ ‫ر ُ‬‫خ ِ‬ ‫ول َ ْ‬
‫م يُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫دي ِ‬‫في ال ّ‬ ‫ِ‬
‫ن ]الممتحنة‪.[8:‬‬ ‫طي َ ‪‬‬‫ِ ِ‬ ‫س‬ ‫ق‬‫ْ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫ي‬
‫َ ُ ِ ّ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫إِ ْ ِ ْ ِ ّ‬
‫إ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫ل‬
‫ألم تحمل الية ردا ً مسبقا ً على تصورات البعض في هذه اليام‪،‬‬
‫ممن يعتقدون أن مجرد معاملة من لم يعادوننا لديننا من غير‬
‫المسلمين‪ ،‬بالبر والحسان موالة لهم؟‬
‫بناء على ما سبق ذكره‪ ،‬فإنه يحسن أن نبين العلقة الطردية بين‬
‫العمال الصالحة من جهة ودرجة التغيير إلى الحسن في المجتمع من‬
‫جهة أخرى‪ .‬وكذلك العلقة العكسية القائمة بين العمال السيئة من‬
‫جهة‪ ،‬ودرجة التغيير إلى الحسن في المجتمع من جهة أخرى‪.‬‬
‫فقد مضت سنة الله تعالى أن تغيير النفس في المجتمع بما‬
‫م فيه وتظهر‪ ،‬وتكون هي الغلب‪ ،‬سيؤدي‬ ‫يرضي الله تعالى بنسبة تع ّ‬
‫ذلك بإذن الله وتوفيقه إلى تغيير ما بالقوم إلى الحسن‪ .‬والتغيير‬
‫الكلي المطلوب‪ ،‬هو محصلة إيجابية لتغيير جميع ما في‬
‫النفس البشرية من الفكار والمعتقدات التي تبنى عليها‬
‫العمال والقوال‪.‬‬
‫وعليه يلزم كل فرد من أفراد المجتمع الحرص على ما يلي‪:‬‬
‫أن يتعرف على درجة تعاطفه مع السلم‪ ،‬هل هي مؤيدة‬ ‫‪-1‬‬
‫بالقلب فقط‪ ،‬أم أنها بالقلب واللسان‪ ،‬أم أنها أرفع من ذلك‪.‬‬
‫‪ -2‬المبادرة بنقل نفسه من الدرجة التي يشغلها حاليا‪ ،‬إلى الدرجة‬
‫عوا إ َِلى‬ ‫ر ُ‬ ‫سا ِ‬ ‫و َ‬ ‫التي تليها‪ ،‬والتي تليها‪ ،‬وهكذا‪ ،‬لقوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫‪125‬ومن صور أعمالهم المنحرفة تكفيرهم لمن مارس حقه في النتخابات‬
‫في العراق‪ ،‬ومن ثم قتلهم في مراكز القتراع‪ ،‬إذ قاموا يوم القتراع بـ )‬
‫‪ (13‬عملية قتل فيها العشرات من المقترعين‪ ،‬كما تناقلته وسائل العلم‪.‬‬
‫راجع الملحق رقم )‪ (2‬ففيه رد الجماعة السلمية في مصر على أعمال‬
‫القاعدة‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫ت‬
‫عدّ ْ‬‫ض أُ ِ‬
‫والْر ُ‬‫ت َ‬ ‫وا ُ‬
‫ما َ‬
‫س َ‬
‫ها ال ّ‬
‫ض َ‬
‫عْر ُ‬
‫ة َ‬‫جن ّ ٍ‬
‫و َ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫م ْ‬
‫ة ِ‬ ‫فَر ٍ‬ ‫غ ِ‬‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ن ]آل عمران‪ .[123:‬وإن لم يستطع أن يترقى من درجة‬ ‫قي َ ‪‬‬ ‫مت ّ ِ‬‫ل ِل ْ ُ‬
‫إلى أخرى‪ ،‬عليه أن يترقى في الدرجة الواحدة‪ ،‬وذلك لتفاوت أهل‬
‫التوحيد في الدرجة الواحدة‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬يتفاوت المصلون‬
‫في أجرهم بقدر حسن إقامتهم للصلة‪ ،‬أركانها وطهورها‪،‬‬
‫وخشوعها‪ ،‬ونوافلها‪ ،‬وغيره‪.‬‬
‫أن يدعوا المسلمين إلى النتقال من درجة إلى أخرى‬ ‫‪-3‬‬
‫تليها في اليجابية ليزداد اليمان في المجتمع‪ ،‬فيقترب من الدرجة‬
‫التي يرضاها الله تعالى لستحقاق التغيير اليجابي المنشود في‬
‫القوم‪.‬‬
‫‪ -4‬على المسلم أن يشعر أنه بترقية أي فرد من أفراد المجتمع من‬
‫درجة إيجابية إلى أخرى‪ ،‬يزداد اليمان في المجتمع‪ ،‬فيقترب من‬
‫الدرجة التي يرضاها الله تعالى لستحقاق التغيير اليجابي المنشود‬
‫ل شأنه في نظر‬ ‫في القوم‪ .‬فإن أي زيادة في المعروف مهما ق ّ‬
‫فاعله‪ ،‬يعد ّ بركة‪ ،‬قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬ل تحقرن من‬
‫المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق" }رواه مسلم{‪.‬‬
‫‪ -5‬على المسلم العتراف بأن تراجعه أو أي فرد من أفراد المجتمع‬
‫من درجة إلى التي تليها بالتجاه السلبي‪ ،‬سيؤدي إلى نقصان درجة‬
‫اليمان في المجتمع‪ ،‬وبالتالي نقصان معدله‪ ،‬أي أنه بهذا التراجع‬
‫يساهم بالبتعاد عن الدرجة التي يرضاها الله تعالى لستحقاق‬
‫التغيير اليجابي المنشود في القوم‪ ،‬وبالتالي يساهم في الهزيمة‬
‫التي ستلحق بالمسلمين‪ .‬أي‪ :‬إذا ترك مصليا صلته‪ ،‬أو صائما‬
‫صومه‪ ،‬أو داعية دعوته‪ ،‬وأمثال ذلك‪ ،‬أو ارتكب معصية صغرت أم‬
‫كبرت‪ ،‬فإن هذا التراجع عن أداء واجب أو التجرؤ على فعل محرم‪،‬‬
‫يؤدي إلى ما ذكرنا‪ .‬وبهذا سندرك المعاني العظيمة والعبر في‬
‫قوله صلى الله عليه وسلم‪ " :‬مثل القائم في حدود الله والواقع‬
‫فيها‪ ،‬كمثل قوم استهموا على سفينة‪ ،‬فصار بعضهم أعلها‬
‫وبعضهم أسفلها‪ .‬فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا‬
‫على من فوقهم فقالوا‪ :‬لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقـا ً ولم نؤذ من‬
‫فوقنا‪ ،‬فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ً وإن أخذوا على أيديهم‬
‫نجوا ونجوا جميعا" }رواه البخاري والترمذي{‪.‬‬
‫فإنه من الخير أن يقوم الدعاة والوعاظ والعلماء بنشر‬ ‫‪-6‬‬
‫هذه المفاهيم في الناس ليقبلوا على الخير أو يزدادوا بها خيرا‪،‬‬
‫وليجتنبوا الشر‪ ،‬أو ينقصوا منه ما استطاعوا إلى ذلك سبي ً‬
‫ل‪.‬‬
‫* على الرغم من أن الصراع بين الخير والشر لن ينتهي بعد حتى‬
‫قيام الساعة‪ ،‬كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن عبد الله بن‬
‫مسعود قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬ل تقوم‬
‫الساعة إل على شرار الخلق"‪ .‬فإن الواجب يقتضي استمرار‬

‫‪80‬‬
‫العمل والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وليس من العقل ترك‬
‫البعض لواجباتهم بحجة كثرة الخبث‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬فإن دوائر‬
‫المسئولية تتسع وتزداد‪ ،‬وخاصة في زمن يعود فيه السلم غريبا كما‬
‫بدأ‪ ،‬فطوبى فيه للغرباء‪ ،‬الذين يصلحون إذا فسد الناس‪ ،‬كما جاء في‬
‫الحديث)‪ .(126‬كما ويتأكد في مثل هذا الحال الصبر على أذى الكفار‬
‫والمنافقين وجهال المسلمين أو غثائهم‪ ،‬ممن سيطلقون ألسنتهم‬
‫بالتجريح والتشهير والتهام لمعارضيهم‪ ،‬فإن البعض في مثل هذه‬
‫الجواء يترك النهي عن المنكر ومحاربة الفكار الوافدة الهدامة‪ ،‬لخوفه‬
‫على بعض مصالحه الدنيوية‪ ،‬من مال أو سمعة أو جاه أو سلطان أو‬
‫لجهله بسنن الله تعالى في التغيير‪ ،‬فإن الصلح يتأكد على كل فرد‬
‫بحسبه في وقت الفتن أكثر مما في غيره‪ ،‬ولو أن الرسول صلى الله‬
‫عليه وسلم وصحبه الكرام رضي الله عنهم‪ ،‬حسبوا لذلك حسابًا‪ ،‬لما‬
‫فتحت بلد الروم وبلد الفرس‪ ،‬بل لما قامت للسلم قائمة‪.‬‬
‫كما وإن البعض ممن قل علمهم كذلك ل يبالون لما سمعوا أو لما‬
‫أصابهم من أذى في سبيل الله والنهي عن المنكر‪ ،‬وهذا جيد‪ ،‬ولكنهم‬
‫يصبرون كل هذا الصبر ويضحون بأنفس ما يملكون في غير الطريق‬
‫السوي والصراط المستقيم‪ ،‬فيصاب المسلمون بسوء اجتهاداتهم‬
‫وجهادهم سوءا‪ ،‬فنحن اليوم بحاجة ماسة في طريق العمل والدعوة‬
‫إلى السلم‪ ،‬إلى رجال ونساء قد جمعوا بين صحة العمل والتصورات ‪-‬‬
‫في فقه سنة الله في التغيير‪ -‬والبذل والعطاء دونما نظر إلى أولئك‬
‫المثبطين والمخذلين عن سلوك الطريق السوي والصراط المستقيم‪،‬‬
‫وليعلم هذا الصنف من الدعاة والعلماء أن أجرهم كأجر السابقين‬
‫م أ َل ّ‬‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫و َ‬ ‫الولين من المهاجرين والنصار‪ ،‬مصداقا لقوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫ضل‬ ‫ْ َ‬ ‫ول ِل ّ ِ‬ ‫ل الل ّ ِ‬ ‫ف ُ‬
‫والْر َ ِ‬ ‫ت َ‬
‫ُ‬
‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬
‫ث ال ّ‬ ‫ميَرا ُ‬ ‫ه ِ‬ ‫ه َ‬
‫َ‬
‫سِبي ِ‬ ‫في َ‬ ‫قوا ِ‬ ‫ُتن ِ‬
‫م‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ظ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬‫َ‬ ‫ل‬‫و‬‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ت‬‫قا‬‫َ‬
‫ْ ِ َ َ‬‫و‬ ‫ح‬ ‫ت‬‫ف‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ل‬‫ْ ِ‬ ‫ب‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫من‬ ‫َ ِ‬ ‫ق‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫أن‬ ‫ن‬ ‫ّ ْ‬‫م‬ ‫كم‬ ‫ُ‬ ‫من‬
‫ِ‬ ‫وي‬ ‫يَ ْ َ ِ‬
‫ت‬ ‫س‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫سَنى‬ ‫ح ْ‬ ‫ه ال ُ‬ ‫عدَ الل ُ‬ ‫و َ‬ ‫وك ُل ً َ‬ ‫قات َلوا َ‬ ‫و َ‬‫عدُ َ‬ ‫من ب َ ْ‬ ‫قوا ِ‬ ‫ف ُ‬‫ن أن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫ة ّ‬ ‫ج ً‬ ‫دََر َ‬
‫ر ]الحديد‪.[10:‬‬ ‫خِبي ٌ ‪‬‬ ‫ن َ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ّ‬
‫والل ُ‬ ‫َ‬
‫* وعليه فإن العمل بالكشف عن جذور الصراع السياسي وما نتج‬
‫عنه وسينتج‪ ،‬من آثار تدميرية على المة السلمية بعمومها‪ ،‬أو العمل‬
‫على بيان فقه الولويات في الفكر السلمي‪ ،‬يعد ذلك كله من أوجب‬
‫الواجبات‪ ،‬ومن الجهاد في سبيل الله تعالى الذي يصب في صالح‬

‫‪"126‬إن السلم بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء‪.‬‬
‫قيل من هم يا رسول الله قال‪ :‬الذين يصلحون إذا فسد الناس"‪.‬‬
‫صححه الشيخ اللباني رحمه الله تعالى في "السلسلة الصحيحة" )‬
‫‪ ،(3/297‬برقم )‪.(1273‬‬

‫‪81‬‬
‫م‬
‫ه ْ‬
‫دي َن ّ ُ‬ ‫فيَنا ل َن َ ْ‬
‫ه ِ‬ ‫دوا ِ‬
‫ه ُ‬‫جا َ‬
‫ن َ‬ ‫وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫السلم والمسلمين‪ .‬قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫ن ]العنكبوت‪.[69:‬‬ ‫سِني َ ‪‬‬
‫ح ِ‬ ‫ع ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ه لَ َ‬
‫م َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫سب ُل ََنا َ‬
‫وإ ِ ّ‬ ‫ُ‬
‫محاولت غير ناجحة لتطبيق الشريعة السلمية‬
‫‪ -1‬تطبيق الشريعة السلمية في السودان‪:‬‬
‫يقول الدكتور المكاشفي طه الكباشي)‪:(127‬‬
‫"غابت الشريعة السلمية عن واقع حياة الناس في السودان ما‬
‫يقارب القرن من الزمان‪ ،‬أي منذ سقوط دولة المهدية السلمية في‬
‫السودان في أواخر القرن الثامن عشر الميلدي")‪.(128‬‬
‫ويقول‪" :‬صدرت في السودان منذ شهر سبتمبر عام ‪1983‬م عدة‬
‫قوانين‪ ،‬تناولت معظم جوانب الحياة في الجنايات والمعاملت والثبات‬
‫وأصول التقاضي والزكاة والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬كما صدر‬
‫قانون القوات المسلحة الذي أصبح شعارها‪) ...‬ل إله إل الله( في حال‬
‫السلم‪ ،‬و)الله أكبر( في حال الحرب‪.(129)"...‬‬
‫قلت‪ :‬وعلى الرغم من أن الدكتور المكاشفي‪ ،‬كان من المتأثرين‬
‫بمن يقول‪ :‬إن تطبيق الشريعة السلمية ل يقتضي أن يسبقه تربية‬
‫عامة للشعوب‪ ،‬لن الحكم بما أنزل الله تربية في حد ذاته مصداقا ً‬
‫وا‬‫وآت َ ْ‬ ‫صلةَ ُ َ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫قا ُ‬ ‫ض أَ َ‬
‫ِ‬ ‫في الْر‬ ‫م ِ‬
‫ه ْ‬‫مك ّّنا ُ‬
‫ن َ‬‫ن إِ ْ‬‫ذي َ‬ ‫لقوله تعالى‪) :‬ال ّ ِ‬
‫ُ‬ ‫كاةَ َ‬
‫ر‬‫مو ِ ‪‬‬ ‫ة ال ُ‬ ‫قب َ ُ‬
‫عا ِ‬
‫ه َ‬ ‫ول ِل ّ ِ‬
‫ر َ‬ ‫من ْك َ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬
‫ع ْ‬
‫وا َ‬‫ه ْ‬‫ون َ َ‬
‫ف َ‬‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬‫مُروا ِبال ْ َ‬
‫وأ َ‬‫َ‬ ‫الّز َ‬
‫]الحج‪.[41:‬‬
‫وعلى الرغم من اعترافه من قيام نظام جعفر النميري بإراقة‬
‫الخمور وإغلق أماكن الفساد والمنكر‪ ،‬وتحويل المصارف الربوية إلى‬
‫إسلمية‪ ،‬وعلى الرغم من اعترافه بتطبيق حد السرقة والحرابة دون‬
‫الوصول إلى حالة الصلح القتصادي‪ .‬إل أنه قد اعترف بعد تعثر‬
‫مشروع تطبيق الشريعة السلمية في السودان حيث قال‪:‬‬
‫"تطبيق الشريعة السلمية يحتاج إلى إيمان وحماس كل الجهات‬
‫المنوط بها تنفيذ الشريعة السلمية حتى ل تكون حبرا على ورق‪،‬‬
‫فالحاكم يشترط فيه النزاهة والمصداقية‪ ،‬والقاضي والشرطي وغيرهما‬
‫يفترض فيهما الحماس وصدق التوجه‪ ،‬وليست هذه شروطا تعجيزية أو‬
‫مثالية أو كمالية‪ ،‬فالكمال لله وحده‪ ،‬ولكن المطلوب صدق التوجه‬
‫والحماس لتطبيق الشريعة السلمية‪ ،‬لن وجود خلل في بعض الجهات‬
‫ربما يؤدي الى تناحرها وتضاربها واختلفها‪ ،‬فل بد من صدق توجه جميع‬
‫الجهزة‪ ،(130)".‬انتهى‪.‬‬

‫‪127‬دكتوراة في الفقه المقارن‪ ،‬تولى رئاسة الجهاز القضائي للخرطوم‬


‫عامي ‪.1984،1985‬‬
‫‪"128‬تطبيق الشريعة السلمية في السودان بين الحقيقة والثارة"‪ ،‬ط ‪،2‬‬
‫‪ ،1986‬دار الزهراء‪) ،‬ص ‪.(7‬‬
‫‪129‬المرجع السابق )ص ‪.(12‬‬

‫‪82‬‬
‫قلت‪ :‬تعليقا ً على قول الكاتب" تطبيق الشريعة السلمية يحتاج‬
‫إلى إيمان وحماس كل الجهات المنوط بها تنفيذ الشريعة السلمية حتى‬
‫ل تكون حبرا ً على ورق"‪.‬‬
‫أليست الجهات المنوط بها تنفيذ الشريعة السلمية ) الجهزة( هي‬
‫من المجتمع في الصل؟‬
‫أليست الجهات المنوط بها تنفيذ الشريعة السلمية "الجهزة" هي‬
‫إفراز من المجتمع؟‬
‫كيف يقال إذن إن تطبيق الشريعة السلمية ل يقتضي أن يسبقه‬
‫تربية عامـة للشعوب؟‬
‫حّتى‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬‫ما ب ِ َ‬‫غي ُّر َ‬ ‫ه ل َ يُ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫وأين نحن من قوله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م؟‬
‫ه ْ‪‬‬‫س ِ‬ ‫ما ب ِأ َن ْ ُ‬
‫ف ِ‬ ‫غي ُّروا ْ َ‬ ‫يُ َ‬
‫نعم إن تطبيق الشريعة السلمية يحتاج إلى إيمان وحماس كل‬
‫الجهات المنوط بها تنفيذ الشريعة السلمية حتى ل تكون حبرا ً على‬
‫ورق‪ ،‬فقد لمس الكاتب بنفسه أثر البطانة السيئة للحاكم في عرقلة‬
‫مشروع تطبيق الشريعة‪ ،‬حين أراد أن يرد على جملة من الشبهات التي‬
‫أثيرت حول تنفيذ الشريعة السلمية‪ ،‬فقامت الجهات اليسارية المتنفذة‬
‫في جميع وسائل العلم ) صحف‪ ،‬إذاعة‪ ،‬تلفزيون( بالحيلولة دون نشر‬
‫رده على تلك الشبهات‪ ،‬حتى سلك طريق المحاضرات والندوات في‬
‫مختلف مدن وأقاليم السودان)‪.(131‬‬
‫وتعليقا ً على قول الكاتب‪ " :‬إن تطبيق الشريعة السلمية ل يقتضي‬
‫أن يسبقه تربية عامة للشعوب‪ ،‬لن الحكم بما أنزل الله تربية في حد‬
‫موا‬ ‫قا ُ‬‫ض أَ َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫مك ّّنا ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫ذي َ‬‫ذاته مصداقا لقوله تعالى‪) :‬ال ّ ِ‬
‫هّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫كاةَ َ‬
‫ول ِل ِ‬
‫ر َ‬ ‫من ْك َ ِ‬
‫ن ال ُ‬ ‫ع ْ‬‫وا َ‬‫ه ْ‬ ‫ون َ َ‬
‫ف َ‬ ‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬‫مُروا ِبال َ‬ ‫وأ َ‬‫َ‬ ‫وا الّز َ‬ ‫وآت َ ْ‬
‫صلةَ َ ُُ‬ ‫ال ّ‬
‫ر ]الحج‪..[41:‬‬ ‫مو ِ ‪‬‬ ‫ة ال ُ‬ ‫قب َ ُ‬
‫عا ِ‬‫َ‬
‫م يربي تطبيق الشريعة السلمية كل الجهات المنوط بها تنفيذ‬ ‫مل ْ‬ ‫ل َ‬
‫الشريعة السلمية؟ بل نجدها قد رفضته وحاربته‪.‬‬

‫‪"130‬تطبيق الشريعة السلمية في السودان بين الحقيقة والثارة"‪ ،‬ط ‪،2‬‬


‫‪ ،1986‬دار الزهراء‪) ،‬ص ‪.(122-121‬‬
‫‪"131‬تطبيق الشريعة السلمية في السودان بين الحقيقة والثارة"‪،‬ط ‪،2‬‬
‫‪ ،1986‬دار الزهراء‪) ،‬ص ‪.(33‬‬

‫‪83‬‬
‫‪ -2‬تطبيق الشريعة السلمية في الباكستان‪:‬‬
‫ومن المحاولت التي لم يكتب لها النجاح في تطبيق الشريعة‬
‫السلمية بالضافة إلى التجربة السودانية‪ ،‬التجربة الباكستانية التي‬
‫أعلنها الرئيس الباكستاني ضياء الحق رحمه الله تعالى عام ‪1979‬م‪.‬‬
‫وهذه دعوة للخوة الباحثين لدراسة هذه المحاولة وأسباب فشلها‪.‬‬
‫وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‪.‬‬

‫أبو أيمن‬
‫عدنان بن عبد الرحيم الصوص‬
‫عمان‪ -‬الردن‬
‫كانون الثاني ‪2005‬‬
‫البريد اللكتروني‬
‫) ‪(AdnanSous@Yahoo.Com‬‬

‫‪84‬‬
‫الفهرس‬
‫كيف ظهرت البروتوكولت؟‪37.......................................................................‬‬

‫‪85‬‬

You might also like