You are on page 1of 144

‫هذه الزهرة الحمراء‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫إن طريقضضا جميل فسضضيحا يغريضضك بالتوغضضل‪ ،‬تتفضضرع عنضضه دروب ضضضيقة‪،‬‬
‫وانعطافات حادة‪ ،‬لن تدعك شرطة السير والمضضرور تسضير فيضضه بسضضيارتك دون‬
‫علمات تحذير حمراء‪ ،‬وإشضضارات للخطضضار‪ ،‬فترسضضم لضضك خطضضأ عمودي ًضضا وسضضط‬
‫مثلضضث يطلضضب منضضك النتبضضاه‪ ،‬وخطضضأ أفقيضضا أبيضضض وسضضط دائرة حمضضراء يمنعضضك‬
‫ما منكسًرا جنضضب سضضهم مسضضتقيم مشضضطوبا بخضضط أحمضضر يمنعضضك‬ ‫الدخول‪ ،‬وسه ً‬
‫تجاوز من يسير أمامك‪ ،‬وسبقه بسيارتك‪.‬‬
‫فما من سائر يلتزم حدود هذه اللفتات‪ ،‬إل ويصل مراده وغايته آمًنا‪،‬‬
‫ساكن القلب‪ ،‬في لذة غامرة‪.‬‬
‫وطريق العمل السلمي الحركي واسع لحب‪ ،‬ولكن شأنه مشابه‪ ،‬إذ‬
‫أوجدت الجتهادات الشاذة والهواء في جوانبه وخلله دروبا ضيقة‪،‬‬
‫وانعطافات مهلكة‪ ،‬وعوائق معرقلة‪ ،‬أبت الغيرة عليك غير إنارته لك بأنوار‬
‫ساطعة لمعة‪ ،‬في صف مستقيم‪ ،‬تكشف لك دربك إذا حل ظلم الفتن‪ ،‬وغير‬
‫التصدي لتحذيرك من الهاوية بإشارة حمراء‪ ،‬ليسلم "منطلقك"‪.‬‬
‫لكن الروابط بيننا روابط قلبية‪ ،‬ومشاعرنا رقيقة‪ ،‬ومعاني الوصال معك‬
‫متبخترة مياسة‪ ،‬بالغة اللطف‪ ،‬فأبت إشارتنا أن تتمثل خطأ وسهما‪ ،‬بل نبتت‬
‫زهرة حمراء في أرض قلبي‪ ،‬تعكس أوراقها ومضات صفاء نفوس سالف‬
‫المؤمنين‪ ،‬وخفة روح الشعراء‪ ،‬تنبهك إلى أخطار الطريق‪.‬‬
‫بدت في حمرة م ذوب قلب‬ ‫فهذى زهرة نبتت بتربي‬
‫فلي قلب‪ ،‬وهذا القلب حسبي‬ ‫تقبلها‪ ،‬بهذا القلب رفقا‬
‫نبتت في قلب إقبال من قبل‪ ،‬وأودعها هديته الحجازية‪ ،‬فما أدري بعد‪:‬‬
‫أهذه الحمرة القانية في زهرتي هي حمرة خجل‪ ،‬من واقع كثير من الدعاة‬
‫انتسب إلى رهطهم‪ ،‬ألهاهم انتصارهم لنفوسهم عن الموازين الشرعية في‬
‫الخلف‪ ،‬فهم في حيصة اضطراب‪ ،‬تفوتهم معها الفرص‪ ،‬والنصر منهم قريب‪،‬‬
‫ولو سكنوا‪ ،‬لتناوشوه؟‬
‫أم هي حمرة الدماء النازفة سقت زهرتي‪ ،‬من قلب جرحته مصائب‬
‫المسلمين‪ ،‬وفتن هؤلء الدعاة‪ ،‬في وقت يلزمنا فيه الكثير من الجد‪ ،‬ليناسب‬
‫ضخامة الحاجة؟‬
‫إل أنه نزف مؤلم من جرح آذاني‪ ،‬لم أستطع معه كبت النين‪،‬‬
‫فخالطت لغتي الرقيقة ألفاظ عتاب شديد وتأنيب وتقريع‪ ،‬عسى أن تنكسر‬
‫لنيني قلوب المختلفين‪ ،‬فتعاف لغطها اللهب‪ ،‬وتسكن إلى إفياء التآخي‬
‫الباردة‪.‬‬
‫بل هي تنهدات وعبرات‪ ،‬تابعت بها كمال عبد الرحيم رشيد‪ ،‬في شدوه‬
‫مع الغرباء‪ ،‬يوم‪:‬‬
‫آذاه جرح أوجعه‪ ،‬فبكي وأبكي من معه‬
‫جرح قديم راعف‪ ،‬أحيا القصيد ورجعه‬
‫فكان هذا الحياء لقصيد فقهاء الدعوة‪ ،‬وكان هذا الترجيع‪ ،‬الذي ل يملك‬
‫معه صاحب القلب الصادق إل المشاركة في البكاء‪.‬‬
‫غير أنه بكاء له نسب مع بكاء الحسرة واليأس‪ ،‬فإن من العار أن نبكي‬
‫عا‪ ،‬كما أن من الظلم للجيل الجديد من ناشئة الضضدعوة‬ ‫هذا البكاء الممنوع شر ً‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫أن نبكيهم ونحن نراهم يفتحون تباعا أبواب المضضال فضضي همضضة عاليضضة وتصضضميم‬
‫على الستدراك‪ ،‬إنما هو بكاء مفروض في الفطرة على كل نفضضس‪ ،‬عنضضد كضضل‬
‫وخزة مؤلمة‪ ،‬يخالطه بكاء حياء بين يضضدي رب رقيضضب سضضبحانه‪ ،‬يحضضب أن يضضرى‬
‫مآقي عبده تترقرق فيها دموع الخشية بعد الخطاء‪.‬‬
‫فانزل أخي‪ ،‬واسق زهرتي‪ ،‬فإن أمامك مزالق وعوائق‪ ،‬وهي منتصبة‬
‫لك‪ ،‬تداعب أوراق الحمراء نسمات اليمان‪ ،‬تنبهك إلى أدب السير في‪ ...‬هذا‬
‫الطريق‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫]‪ [1‬زمرة القلب الواحد‬
‫عهود متكاملة تلك التي يلتزم الدعاة بها‪ ،‬ل ينفك بعضها عن بعض‪ ،‬ول‬
‫تتجزأ‪.‬‬
‫فهم يعلنون ميثاقهم مع أول قدم‪:‬‬
‫فاشهدوا عهودنا‪:‬‬ ‫الكفوف في الكفوف‬
‫والمضضاء والفنا‬ ‫الثبات في الصفوف‬
‫فكما أنهما المضاء والفناء تسرع إليهما عصبة الدعاة الفقهاء‪ ،‬عبر جهاد‬
‫مستبصر‪ ،‬فإنها الطاعة الواعية‪ ،‬والثبات في صفوف ل تسمع خللها لغية‪.‬‬
‫ضا يدفع إلى‬‫وكما أن اليمان بالجنة يدفع إلى سباق في الجهاد‪ ،‬فإنه أي ً‬
‫سباق آخر في الطاعة والحب الخوي والصفاء القلبي‪ ،‬بين أفراد الجماعة‬
‫المسلمة‪ ،‬كل يحرص على أن يكون ضمن المقدمة السابقة‪ ،‬والزمرة الولى‬
‫التي تدخل الجنة‪ ،‬بما كان لهم من الوحدة‪ ،‬وأنهم –كما يقول النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم‪-:-‬‬
‫)‪(1‬‬
‫)ل اختلف بينهم ول تباغض‪ ،‬قلوبهم قلب واحد( ‪.‬‬
‫فهي طاعة تبغي أن تصيب هذا الصفاء‪ ،‬وتنسب صاحبها إلى هذه‬
‫الزمرة الفائزة‪ ،‬من اليمان تنطلق‪ ،‬وبقواعده تسترشد‪ ،‬وإليه تعود‪ ،‬وليست‬
‫هي استكانة خاضع راهب‪ ،‬ول تملق طامع مصلحي راغب‪.‬‬
‫إنها طاعة إسلمية مميزة‪ ،‬ليست ككل طاعة‪ ،‬يعتبرها الدعاة ركنا في‬
‫إيمانهم‪ ،‬ل كمال له بدونها‪ ،‬ويعتوره النقص بفقدانها‪.‬‬
‫طاعة‬ ‫ويرون‬ ‫قوم يرون الحق نصر أميرهم‬
‫أمره إيماًنا‬
‫ولذلك يسوغ من أجلها اتهام العقل عند اختلف الجتهاد‪ ،‬والضغط‬
‫على القلب عند نداء الراغبات‪ ،‬حفظا لهذا اليمان من أن ينثلم‪.‬‬
‫فتور واخلط‬
‫وما دامت هذه الطاعة قد انتسبت إلى اليمان‪ ،‬فأنها معرضة لما‬
‫يتعرض له اليمان من الزيادة والنقص‪ ،‬فإن اليمان يزيد وينقص كما يقول‬
‫جمهور المحدثين والفقهاء‪ ،‬وأصبحت ككل عمل إيماني‪ ،‬يعلو فيصل الوج‬
‫دا وممارسة‪ ،‬وينحدر متضائل تارة أخرى‪ ،‬والفائز من ل‬ ‫والذروة أحياًنا اعتقا ً‬
‫يغالي عند التعالي‪ ،‬ول يسرف عند الهبوط‪ ،‬بأن يلزم هدى السنة النبوية‬
‫الشريفة‪ ،‬كما قال النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬في الحديث الصحيح من أن‪:‬‬
‫)لكل عمل شره‪ ،‬ولكل شرة فترة‪ ،‬فمن كانت فترته إلى سنتي فقد‬
‫اهتدى()‪.(2‬‬
‫ضا‪:‬‬
‫وفي لفظ آخر صحيح أي ً‬
‫)‪(3‬‬
‫)فمن كانت شرته إلى سنتي فقد اهتدى( ‪.‬‬
‫والشرة‪ :‬هي بلوغ أقصى الجد والجتهاد والحرص على التقان‪.‬‬
‫والفترة‪ :‬هي الفتور‪ ،‬أي التراخي‪ ،‬من بعد الجد‪ ،‬والجنوح إلى الكسل‬
‫والسكون وإيثار الدعة والراحة‪.‬‬
‫‪ ()1‬صحيح البخاري ‪.4/143‬‬
‫‪ ()2‬مسند المام أحمد‪ ،‬وصححه أحمد محمد شاكر‪.‬‬
‫‪ ()3‬مسند المام أحمد‪ ،‬وصححه أحمد محمد شاكر‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫والطاعة من هذا الكل‪ ،‬لها شرة وفترة‪ ،‬وتتضح صورها للمؤمن أو‬
‫تغبش‪ ،‬وتقييد الطاعة المتصاعدة بالعزة السنية والحيلولة دون تحول خنوعا‬
‫وذل‪ :‬جمال إنما يكمله جمال آخر يمسك بزمام رغبة التفلت الجامحة ويمنع‬
‫تأديتها إلى تسيب وتفرد وافتتان يحرم مقترفه أجر العمل الجماعي‪ ،‬ويمنعه‬
‫ولوج الجنة مع تلك الزمرة‪ ،‬ويظل هذان الجمالن يتألقان حتى يغدو وجه‬
‫الواحد من المؤمنين الذين مع تلك الزمرة على هيئة القمر البدر ليلة تمامه‪،‬‬
‫كما أخبر الرسول ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬في نفس الحديث النف‪.‬‬
‫من هنا كان فحص القلب واجبا‪ ،‬ليعرف المؤمن درجته من الزيادة‬
‫والنقصان‪ ،‬فيحمد ربه أو يستدرك‪.‬‬
‫ومن هنا كان نداء الجنيد رحمه الله أن‪:‬‬
‫)انظر ماذا خالط قلبك؟(‬
‫طا‪ ،‬أي أنها شوائب‪ ،‬تعكر الصفاء‪ ،‬و توهم بالطمئنان في‬ ‫فسماها أخل ً‬
‫غير موضع الرجاء‪.‬‬
‫أخلط مردية‪ ،‬تغر وتخدع‪ ،‬تعطيك الصورة‪ ،‬وتمنعك الحقيقة‪ ،‬وتطرحك‬
‫أرضا من بعد شرة‪ ،‬وتسرق منك هوية النتساب إلى زمرة القلب‪.‬‬
‫فتعرف عليها معنا‪ ،‬في جولة فقهية‪ ،‬نكفك بالعلم شر الجهل‪.‬‬
‫وداد وانتماء‬
‫وإنما يساعد على التعرف‪ :‬النصاف فإنك مجاهد والمجاهد حر رفض‬
‫الذي فتحركن وللحر سمات وطباع‪ ،‬ذاك السير إلى العز أولها‪ ،‬وليس بكملها‪،‬‬
‫وكما أن الحر به يعرف‪ ،‬فإنه برد الجميل من بعده ينخلع عن نوع من خلق‬
‫العبودية ويصرف‪ ،‬وذلك الذي أشار إليه المام الشافعي حين يقول‪:‬‬
‫)الحر من راعي وداد لحظة‪ ،‬أو انتمي لمن أفاده لفظه(‪.‬‬
‫وهذه الدعوة علمتك دهًرا معنى الوداد‪ ،‬وأفادتك كل اللفاظ ل مجرد‬
‫لفظة‪ ،‬فإن كنت حًرا‪ :‬راعيت ودادها‪ ،‬وأخلصت لها‪ ،‬وابتعدت عن فتن تربص‬
‫بها‪ ،‬وإن سلبك النتصار للنفس حريتك فشأنك وما اخترت‪.‬‬
‫ول ينتصب أحد لفتنة من بعد ستر‪ ،‬ول يكسل كسلن فينقطع ويترك‬
‫ويستبدل أصحاب بأصحاب‪ ،‬إل لنقص معنى الحرية فيه‪ ،‬وإل لتقمصه بعض‬
‫أثواب عبودية الدنيا‪.‬‬
‫وما ثبت داعية على الطريق‪ ،‬وازداد بذل وإيثاًرا‪ ،‬إل لكتمال معنى‬
‫الحرية والوفاء فيه‪ ،‬ومراعاته الوداد‪ ،‬وما أرشد إليه الشافعي من النتماء‪.‬‬
‫وإنه معدن الخلق والعفة نحرص عليه قبل أن يكون شرط علم‬
‫وكفاية إدارة‪ ،‬وكانت الطاعة من قبل في جمهرة الدعاة تتحرى عفة القائد‬
‫قبل أن تسأل عن خبرته في السياسية‪ ،‬فقال الشاعر‪:‬‬
‫عف الضمير مهذب‬ ‫سكن الدعاة إلى أمير سلمة‬
‫الخلق‬
‫قبل الكف بأوكد الميثاق‬ ‫أعطته صفقتها الضمائر طاعة‬
‫وكل نريد‪ ،‬خلقا وخبرة‪ ،‬ولكن ميزان الدعاة في أحكام التفاضل يقدم‬
‫دا عن أعراف السياسة‪ ،‬يعلمون أن الخلق تقوى‪ ،‬وأن التقوى باب‬ ‫ويؤخر بعي ً‬
‫ما‪.‬‬
‫الوعي‪ ،‬بوجودها يتعلم الساذج‪ ،‬ويلهم الصواب إلها ً‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ثم أنه تأديب شامل يجبر الحر على دوام النتماء إلى الدعاة الذين‬
‫ربوه‪ ،‬وما هي لفظة عابرة‪.‬‬
‫بهم هدي الشرق والمغرب‬ ‫فإن دعاة غذوك الفكر‬
‫ونعم لعمرك ما أدبوا‬ ‫وفي أدب منهم نشأت‬
‫وقد حفزك القرآن إلى أن تقيس توقير المؤدب المربي على توقير‬
‫المسلم للرسول ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬لما قال الله تعالى‪:‬‬
‫ضا(‪.‬‬ ‫ضك ُ ْ‬
‫م ب َعْ ً‬ ‫م ك َد ُ َ‬
‫عاِء ب َعْ ِ‬ ‫ل ب َي ْن َك ُ ْ‬
‫سو ِ‬ ‫جعَُلوا د ُ َ‬
‫عاَء الّر ُ‬ ‫)ل َ ت َ ْ‬
‫)فلبد من امتلء القلوب بالتوقير لرسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪-‬‬
‫حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه‪ ،‬وهي لفتة ضرورية‪ ،‬فلبد‬
‫للمربي من وقار‪ ،‬ول بد للقائد من هيبة‪ .‬وفرق بين أن يكون هو متواضعا هينا‬
‫لينا‪ ،‬وأن ينسوا هم أنه مربيهم فيدعوه دعاء بعضهم لبعض‪ .‬يجب أن تبقى‬
‫للمربي منزلة في نفوس من يربيهم يرتفع بها عليهم في قرارة شعورهم‪،‬‬
‫ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير()‪.(4‬‬
‫وللرسول ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬المثل الكمل‪ ،‬ولكنها الموعظة‬
‫تستلزم القياس‪.‬‬
‫ول تقولن‪ :‬فلن من أترابي‪ ،‬أو‪ :‬هو متأخر عني‪ ،‬لم يربني‪ ،‬فربما أسدى‬
‫لك نصيحة يوما ما عصمتك‪ ،‬ورب ناشيء لم يعرف الدعوة إل هذا اليوم‪ ،‬ترى‬
‫من حماسته ما يعديك‪ ،‬ويستفزك للخير‪ ،‬وكل ذلك تربية‪ ،‬يطلب منك لمثلها‬
‫الوداد‪.‬‬
‫المارة الناصحة سباقة‬
‫ول شك أنه واجب مزدوج وحرص ينبغي أن يصدر عن كل الطرفين‪:‬‬
‫قيادة تسبق‪ ،‬وداعية يطيع‪.‬‬
‫فالقيادة يجب أن تكون سابقة لمجموع الدعاة في طرحها للجتهاد‬
‫الذي يقتضيه تطور الوضاع‪ ،‬وفي تنسيقها لدروس التجربة‪ ،‬فإن من لم‬
‫تسعفه بفقه واضح سيدور دوما مع الخطأ‪ ،‬ويراوح في مكان محصور‪ ،‬وليس‬
‫لك من سبيل لوم‪ ،‬وإل أرهقته من أمره عسًرا‪.‬‬
‫والقيادة من بعد يجب أن تكون سابقة في توفير مناخ العمل للجميع‬
‫وفقا لتطور كفاياتهم‪ ،‬ونمو آمالهم‪ ،‬وتوسع آفاقهم‪ ،‬وإل فإن من لم تصرف‬
‫طاقته في دروب الخير المستقيمة سيبددها في متاهات الشر‪ ،‬أو يجمعها‬
‫ليعصف بك‪.‬‬
‫وكل ذلك من كما معاني النصح والجهد الواجبة على كل أمير في قول‬
‫النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪:-‬‬
‫)ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم ل يجهد لهم وينصح إل لم يدخل‬
‫معهم الجنة( )‪.(5‬‬
‫أنها طاقة هائلة تتمثل في كل جيل من الدعاة‪ ،‬إما أن يجاد استخدامها‪،‬‬
‫وإل ضغطت وهدمت‪ ،‬بطغيان وفتن وتهورات‪.‬‬
‫وتقتاده من جانبيه فيتبع‬ ‫هو السيل إن واجهته انقدت طوعه‬

‫‪ ()4‬في ظلل القرآن ‪.18/127‬‬


‫‪ ()5‬صحيح مسلم ‪.1/88‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ما‪ ،‬يكون خيرا‬ ‫فأمر الطاقة المعطلة المحبوسة كالفيضان والسيل تما ً‬
‫لمن عرف شق الجداول للستفادة منه‪ ،‬وضرًرا لمن أهمل‪ ،‬فكل جيل سيل‪،‬‬
‫دا أو نتركه يضر‪.‬‬ ‫بيدنا أن نجعله مفي ً‬
‫التحريش الغامض‬
‫وكأن هذا هو السر الكامن فيما قرره القرآن الكريم من تفرق‬
‫المسلمين وجعل بأسهم بينهم إذا تركوا الجهاد‪ ،‬فإن في الجهاد تصريفا‬
‫للطاقة في دروب الخير‪ ،‬تتحول لتستهلك نفسها إذا حصرت‪ ،‬وفي قوله‬
‫َ‬
‫م(‪ :‬إيماء جلي إلى‬ ‫ما غَي َْرك ُ ْ‬
‫ل قَوْ ً‬
‫ست َب ْدِ ْ‬
‫ما وَي َ ْ‬ ‫فُروا ي ُعَذ ّب ْك ُ ْ‬
‫م عَ َ‬
‫ذاًبا أِلي ً‬ ‫تعالى‪) :‬إ ِل ّ َتن ِ‬
‫هذا المعني‪.‬‬
‫قال ابن تيمية في تفسيرها‪:‬‬
‫)قد يكون العذاب من عنده‪ ،‬وقد يكون بأيدي العباد‪ ،‬فإذا ترك الناس‬
‫الجهاد في سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة حتى تقع بينهم‬
‫الفتنة كما هو الواقع‪ ،‬فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله‬
‫قلوبهم‪ ،‬وألف بينهم‪ ،‬وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم‪ ،‬وإذا لم ينفروا في‬
‫سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعا‪ ،‬ويذيق بعضهم بأس بعض( )‪.(6‬‬
‫وقديما قال أهل المثل‪:‬‬
‫)العسكر الذي تسوده البطالة يجيد المشاغبات(‪.‬‬
‫فإنما يكون تحريش الشيطان في مجالت الركود‪ ،‬ولئن أنجى الله‬
‫المصلين من عبادة الشيطان‪ ،‬فإنه سبحانه قد ترك له مجال للتحريش‪ ،‬كما‬
‫قال النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪:-‬‬
‫)إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة‬
‫العرب‪ ،‬ولكن في التحريش بينهم()‪.(7‬‬
‫ل يقول لهم‪ :‬هذا تحريش‪ ،‬وأنا شيطان‪ ،‬وإنما يلبس لباس الزاهد‬
‫العابد‪ ،‬ويتكلم بفصاحة الناصح المين‪ ،‬حتى إذا خدع وأوهم‪ ،‬وفرق وأبهم‪ ،‬ولي‬
‫مقهقها وهم يبكون‪.‬‬
‫ما أسلوب الشيطان‪:‬‬ ‫هكذا دائ ً‬
‫)يعرض الشر في معرض الخير‪ ،‬والتمييز في ذلك غامض‪ ،‬وأكثر العباد‬
‫به يهلكون( )‪.(8‬‬
‫ل خير في طاعة هاوية‬
‫وإنما يعصى الشيطان بمبادرة من الداعية يجدد فيها عزمه على‬
‫الطاعة‪ ،‬فإنه هو المسؤول عن هذه المبادرة‪ ،‬وإليه يتوجه الخطاب‪ ،‬وإن ظن‬
‫أن في الطاعة تفويتا لصواب يعتقده‪ ،‬فإنما يبني كيان الجماعات والجيوش‬
‫والدول على هذا التنازل من الكثرة لقلة ترسم الطريق وتقود‪ ،‬كافرها‬
‫ومسلمها‪ ،‬في القرون الولى وفي المستقبل‪.‬‬
‫ومن أحدث ما قرأنا عن شروط انتصار الجيوش كلم القائد النكليزي‬
‫مونتغمري‪ ،‬المنتصر في العلمين على رومل‪ ،‬حين يقول في مذكراته‪:‬‬

‫‪ ()6‬مجموع فتاوى ابن تيمية ‪.15/44‬‬


‫‪ ()7‬صحيح مسلم ‪.8/138‬‬
‫‪ ()8‬إحياء علوم الدين ‪.3/29‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫)إنني أدخلت عنصرا مهما في نظام العمل‪ ،‬وهو أن أوامر القيادة يجب‬
‫أن ل تناقش من قبل الضباط الصغار‪ ،‬كما لحظت عادة في كثير من‬
‫الحالت‪ ،‬لنه متى كثرت لخطط لبد أن يفشل الجنود‪ ،‬لكونهم غير واثقين‬
‫من صوابية خطة واحدة()‪.(9‬‬
‫فكثرة الدلء بالراء تسبب الخلف‪ ،‬فالجدال‪ ،‬فتضييع الوقت‪ ،‬فاختلف‬
‫القلوب‪ ،‬ففقدان الحماسة‪ ،‬فالوهن والتراجع‪.‬‬
‫عندئذ تكون الطاعة محكومة بالهوى‪ ،‬يطيع المطيعون فيما وافق‬
‫مذاهبهم وكان المر عليهم خفيفا‪ ،‬ويعصون إن خولفوا وكان المر عليهم‬
‫ثقيل‪.‬‬
‫)يسارعون إلى الطاعة فيما يحبون‪ ،‬ويبطئون فيما يكرهون‪ .‬فإن‬
‫امتحنوا بأمر يكرهونه وفيه صلح الجماعة عذروا وولوا‪ ،‬أو أطاعوا كارهين‪،‬‬
‫وامتثلوا ساخطين‪.‬‬
‫وإنما أداء الواجب أن تؤديه في المنشط والمكره‪ ،‬وتصدع به فيما تحب‬
‫دا ل هوادة‬ ‫و تبغض‪ ،‬وأن تتلقاه عزيمة ل رخصة فيها‪ ،‬وحزما ل تردد فيه‪ ،‬وج ً‬
‫لديه‪ ،‬حتى ل يكون للرأي فيه تردد‪ ،‬ول للهوى فيه خيار‪ .‬وهو الواجب تلقاه‬
‫ما‪ ،‬و تحتمله صابًرا‪ ،‬وهو حلو عندك‪ ،‬وإن أمر‪ ،‬ونافع‪،‬‬ ‫راضيا‪ ،‬وتمضي به مقد ً‬
‫وإن بك أضر‪.‬‬
‫هكذا تمضى الجماعات والحاد بواجباتها‪ ،‬غي رمعذرة فيها‪ ،‬حتى يكون‬
‫أداء الواجب ديدنا ل مفر منه‪ ،‬وعزما ل محيص عنه‪.‬‬
‫)‪(10‬‬
‫ذلكم قياس الصدق في الحاد‪ ،‬وميزان الخلص في الجماعات( ‪.‬‬
‫وإنما تلك الطاعة الهاوية بقية من خلق بني إسرائيل يربأ المؤمن‬
‫م ال ْ ِ‬
‫قَتا ُ‬
‫ل‬ ‫ب عَل َي ْهِ ُ‬ ‫بنفسه عنها‪ ،‬فإنهم طلبوا القتال في سبيل الله‪) ،‬فَل َ ّ‬
‫ما ك ُت ِ َ‬
‫م(‪.‬‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫ت َوَل ّ ْ‬
‫وا إ ِل ّ قَِليل ً ّ‬
‫)سمة خاصة من سمات بني إسرائيل في نقض العهد‪ ،‬والنكث بالوعد‪،‬‬
‫والتفلت من الطاعة‪ ،‬والنكوص عن التكليف‪ ،‬وتفرق الكلمة‪ ،‬والتولي عن‬
‫الحق البين‪.‬‬
‫ولكن هذه كذلك سمة كل جماعة ل تنضج تربيتها اليمانية‪ ،‬فهي سمة‬
‫بشرية عامة ل تغير منها إل التربية اليمانية العالية الطويلة المد‪ ،‬العميقة‬
‫التأثير‪ .‬وهي –من ثم‪ -‬سمة ينبغي للقيادة أن تكون منها على حذر‪ ،‬وأن‬
‫تحسب حسابها في الطريق الوعر‪ ،‬كي ل تفاجأ بها‪ ،‬فيتعاظمها المر‪ ،‬فهي‬
‫متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الوشاب‪ ،‬ولم تصهر ولم‬
‫تطهر من هذه العقابيل()‪.(11‬‬
‫من أجل ذلك كانت التربية على الطاعة من أسس دعوتنا‪ ،‬فأوضح‬
‫المام المرشد أ‪ ،‬طريقنا يعتمد علي‪:‬‬
‫)التكوين‪ :‬باستخلص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد وضم بعضها‬
‫إلى بعض(‪.‬‬

‫‪ ()9‬مجلة )الحوادث( اللبنانية عدد ‪ 865‬الصادر في ‪.8/6/1973‬‬


‫‪ ()10‬الشوارد‪ ،‬لعبد الوهاب عزام ‪ /6/‬مع تصرف‪.‬‬
‫‪ ()11‬الظلل ‪.2/226‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫دا حقيقيا‬ ‫)والدعوة فيه "خاصة" ل يتصل بها إل من استعد استعدا ً‬
‫لتحمل أعباء جهاد طويل المدى‪ ،‬كثير التبعات‪ ،‬وأول بوادر هذا الستعداد‪:‬‬
‫"كمال الطاعة"(‪.‬‬
‫ما‪" :‬أمر وطاعة" من غير تردد‪ ،‬ول‬ ‫والشعار في هذه المرحلة‪) :‬دائ ً‬
‫مراجعة‪ ،‬ول شك‪ ،‬ول حرج()‪.(12‬‬
‫]‪ [2‬نحو تربية تستدرك‬
‫ما تأمل متأمل من دعاة السلم ذاك الحوار الصريح بين موسى عليها‬
‫السلم والعبد الرحيم إل وفرح بكلمة تقال له تبين له أدب الطاعة‪.‬‬
‫دا؟‬
‫)قال له موسى‪ :‬هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رش ً‬
‫قال‪ :‬إنك لن تستطيع مع صبرا‪ ،‬وكيف تصبر على ما لم تحط به خبًرا؟‬
‫قال‪ :‬ستجدني إن شاء الله صابًرا‪ ،‬ول أعصى لك أمًرا(‪.‬‬
‫إنها ليست بالكلمات العابرة يقولها موسى يراعي بها أدب المجاملة‪،‬‬
‫ولكنه عهد سن خلله سنة طاعة التابع لمن اختار اتباعه برضاه‪ ،‬واصطلحات‬
‫شرعية يعرف مدلولها رسم بها قانون تفويض القادة حق المر‪.‬‬
‫ما يخرجه إلى‬ ‫دا من بعد أن خاف عليه العبد الرحيم إبها ً‬ ‫وإنما قالها توكي ً‬
‫حيرة ففترة‪ ،‬وأن يكون مكاًنا تلجأ إليه الدهشة‪.‬‬
‫وبهذا التخوف من العبد الرحيم‪ ،‬وإيراده احتمال ذهول التابع‪ ،‬حازت‬
‫بحوث فقه الدعوة مسوغا وسببا مقبول لن تخاطب الحين بعد الحين كل‬
‫داعية‪ ،‬تحذره الغفلة وبطء الوفاء‪ ،‬فإن من هو خير منه قد خوطب بمثل ذلك‬
‫وجرى معه الحوار‪ ،‬ولم يك عاصيا إذ ذاك‪ ،‬ول أظهر استغرابا ول كان قد حار‪.‬‬
‫إن الطاعة ليست بدعة نتنادى لها اليوم‪ ،‬ولكنها المذهب القديم الذي‬
‫أعلنه موسى عليه السلم‪ ،‬فأداه فنه في الطاعة إلى فن في القيادة سديد‪.‬‬
‫أل وأن أزمة السلم ومشكلته الحاضة تكمن في حاجته إلى القادة‪،‬‬
‫ولن يصل مخلص إلى وعي فن القيادة حتى تتعود قدمه المشي في درب‬
‫الطاعة اللحب السليك‪.‬‬
‫لذة تغري القلب فيتورط‬
‫ويتساءل البعض عن شباب ناشئة‪ ،‬امتلت قلوبهم أول مقدمهم الدعوة‬
‫إيماًنا ومحبة وأخوة وحماسة‪ ،‬فلما لبثوا سنوات‪ ،‬بردت حماستهم واختلفت‬
‫آراؤهم وخرجوا إلى تعصب فرق بينهم‪.‬‬
‫إنه وصف يترجم ظاهرة تتكرر في بلد شتى‪ ،‬في أوقات متعاقبة‪.‬‬
‫وسبب ذلك –والله اعلم‪ -‬أن القلب النساني يشعر بلذة عارمة إذا‬
‫تمكن صاحبه من تنفيذ ما يعتقده صوابا‪ ،‬لكنه ل يقنع‪ ،‬بل يتسع ممتدا إلى‬
‫آفاق مترامية فيتطلع إلى إشباع كامل يستغرق هذا المتداد الواسع ويريد‬
‫تصاعد اللذة سريعا‪ ،‬فل يصبر‪ ،‬بما أودع الله فيه من سر العجلة‪ ،‬فيخرج‬
‫مدفوعا بطمعه وعجلته إلى إفراط في تشغيل الجوارح بما يعود باللذة على‬
‫القلب‪ ،‬فتتعب‪ ،‬وينعكس تعبها على القلب في صورة ملل‪ ،‬فتخلط اللذة‬
‫بالمغارم وتعود ثقل محمول‪ ،‬من بعد ما كانت مركبا حامل‪ ،‬وتظل المغارم‬
‫تضغط عليها حتى ينكمش ويضيق من بعد التساع الذي جبل عليه وشب في‬

‫‪ ()12‬المجموعة‪ /‬رسالة التعاليم‪.16/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫كنفه فل يعود فيه محل لحلم‪ ،‬ول لحتمال يتركه لغيره في أن يصيب‪ ،‬ول‬
‫لمصلحة غيره في أن تأخذ حقها‪.‬‬
‫إن هذه الظاهرة في عمل القلوب وطبائعها تفسر لنا بعض جوانب ما‬
‫نرى في عمل الدعوات السلمية من جناية الخطاء التخطيطية والتربوية‬
‫على أمثال هؤلء الشباب الدعاة‪ ،‬ولعل البعض يظن أن أمر تصويبها يحتاج‬
‫إلى معادلت وإحصاءات وخطوط بيان‪ ،‬بينما هو أقرب من ذلك لمن جرب‬
‫عن كثب‪ ،‬إذ يمكنه أن يتناوش التصويب من خلل معرفة بسيطة بسياسة‬
‫القلوب‪ ،‬ليست بنائية عنه‪ ،‬ول هي في مكان بعيد‪.‬‬
‫إن قرة عين الدعاة برؤية زمرة القلب الواحد‪ ،‬والنغماس فيها‪ ،‬تجر‬
‫جًرا إلى تلمس ما فعله ضعف التربية بالمس من فتن ولدت ذهول عن‬
‫قواعد التعامل اليماني‪ ،‬وجفل خللها النصار‪.‬‬
‫ولبد أن نراجع أنفسنا ونستدرك نقصنا‪ ،‬بجولة إيمانية طويلة نصفي‬
‫فيها عقائدنا ونزيد عبادتنا‪ ،‬ونسمو بأخلقنا وأذواقنا‪ ،‬ونثبت قلوبنا‪ ،‬ونجرد‬
‫دعوتنا للخرين على أساس عقائدي إيماني يزهد بنا معها الطامع‬
‫والمستعجل‪ ،‬ومتقلب القلب‪.‬‬
‫ريث يوحي‬
‫إنها ليست بدائية السلوب‪ ،‬ول بداوة المحيط‪ ،‬جعلتا دعوة كل النبياء‬
‫عليهم السلم تركز على معنى التوحيد‪ ،‬وتدندن حوله‪ ،‬وتتممه بمكارم‬
‫الخلق‪.‬‬
‫كل إنهم ‪ .... .....‬ليسوا كما يظن المستعجلون‪.‬‬
‫إنها حكمة الله جعلتهم يعلمون أتباعهم الريث والحتجاب التربوي‪،‬‬
‫وفصاحة اللغة القلبية‪.‬‬
‫وهو حب الله‪ ،‬يروونه ويبشرون به من يكون حليما متأنيا‪ ،‬كما قال‬
‫النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬للشج رضي الله عنه رئيس قبيل عبد القيس‪:‬‬
‫"إن فيك لخصلتين يحبهما الله‪ :‬الحلم والناة")‪.(13‬‬
‫فحلم الحليم حصانة له ضد الفتتان يعصمه من الغضب والنتصار‬
‫للنفس‪ ،‬فيلزم العدل في أحكامه‪ ،‬وأما تأني المتأني فأظهر في تأديته إلى‬
‫العصمة‪ ،‬إذ يمنح فرصة للتأمل والقياس‪ ،‬فيزول اللتباس‪.‬‬
‫وإنها فطنة الرسول ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬حين رأي تكرر اليات التي‬
‫تذم المتكبرين‪ ،‬فراح يعلم الجيال مقاصد القرآن‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"الكبر‪ :‬بطر الحق‪ ،‬وغمط الناس")‪.(14‬‬
‫أي جحد الحتكام إلى قواعد الشرع‪ ،‬وغمط الناس حقوقهم بعدم‬
‫تنزيلهم منازلهم‪ ،‬وبتجاهل حسنات المخالفين‪.‬‬
‫ورثة النبياء على درب الناة‬
‫ثم هي كذلك الحكمة كانت تحوط ورثة النبياء حين كان إغراء المال‬
‫يقوى‪ ،‬أو حين كانت الفتن تسود‪ ،‬ويكثر قيل وقال‪.‬‬

‫‪ ()13‬صحيح مسلم ‪.1/37/65‬‬


‫‪ ()14‬صحيح مسلم ‪.1/37/65‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫فا هو بأول طرق لبواب الدعاة حين طرق أولئك باب الفضيل بن‬
‫عياض رحمه الله‪.‬‬
‫)فاطلع عليهم من كوة وهو يبكي‪ ،‬والدموع تتقاطر من وجهة ولحيته‪،‬‬
‫وهو يضطرب‪.‬‬
‫فقال له‪ :‬ما بالكم؟‬
‫فقالوا له‪ :‬عظنا يا أبا علي(‬
‫ول هو بأول جواب من مثله حين وعظمهم قال‪:‬‬
‫)عليكم بالقرآن‪.‬‬
‫عليكم بالسنة‪.‬‬
‫عليكم بالصلة‪.‬‬
‫ويحكم!!‬
‫هذا الزمان ليس بزمان حديث‪ ،‬وإنما هو زمان‪ :‬احفظ لسانك‪ ،‬وأخف‬
‫مكانك‪ ،‬وعالج بالليل‪ ،‬وخذ ما تعرفن ودع ما تنكر(‪.‬‬
‫إنها السياسة التربوية الدائمة لكل جماعة إسلمية عاملة‪.‬‬
‫يريد السلم أن نصفيها قلوًبا‪.‬‬
‫تربية طويلة‪ ،‬لطول مما منحناها من الوقت آنفا‪ ،‬مادتها القرآن والسنة‬
‫وخلوات الثلث الخر‪ ،‬تعلمنا صواب القول والعمل وإنكار الذات‪ ،‬ونقذف في‬
‫القلب ميزاًنا فرقانا بين معروف ومنكر‪.‬‬
‫يجب أن تتعود قلوب الدعاة على أن تأخذ ما تعرف أخذ عبادة وسرور‬
‫ورجاء ثواب‪ ،‬وأن تدع ما تنكر‪ ،‬ترك عبادة ونفور وخوف عقاب‪.‬‬
‫طريقة سلفية في تعليم الوفاء‬
‫وبهذه السجية أشرق جمال وفاء من وفي ممن سلف وظل ينير‬
‫مجالس أجيال الذاكرين حتى وصل إلى دعاة اليوم يحثهم إلى اتساء واقتداء‪،‬‬
‫ويلوم من تخلف ويوسعه تقريعا‪.‬‬
‫إنها ومضات إشراق الوفاء تدفع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى‬
‫التغني بها وإلى جعلها عنوان المسلم‪ ،‬فسيرها كلمات هاديات لما جاءه عدى‬
‫ابن حاتم الطائي رضي الله عه في وفد‪.‬‬
‫يقول عدي‪:‬‬
‫)فجعل يدعو رجل رجل‪ ،‬ويسميهم‪ .‬فقلت‪ :‬أما تعرفني يا أمير‬
‫المؤمنين؟‬
‫قال‪ :‬بلي‪.‬‬
‫أسلمت إذ كفروا‪.‬‬
‫وأقبلت إذ أدبروا‪.‬‬
‫ووفيت إذ غدروا‪.‬‬
‫وعرفت إذ أنكروا‪.‬‬
‫)‪(15‬‬
‫فقال عدي‪ :‬فل أبالي إذا( ‪.‬‬
‫تلك جوانب شخصية المسلم الحق وهويته‪.‬‬
‫إقبال حين الدبار‪.‬‬

‫‪ ()15‬صحيح البخاري ‪.5/221‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ووفاء حين الغدر‪.‬‬
‫ومعين حين النكار‪.‬‬
‫ل يبالي بعدها أن جهل اسمه الجاهلون أو ذهل عن نسبه الناظرون‪،‬‬
‫طالما أ‪،‬ه شمخ بمنقباته على حضيض من حام حول دنيا وحظوظ‪ ،‬وتسامي‬
‫بهن محلقا إلى الفق العلى‪.‬‬
‫ثم يظل خير طالب السلمة يزداد ويعظم حتى يكون مربيا لغيره‬
‫معلما‪ ،‬يعلمهم سبيل الستر والبراءة‪ ،‬كما كان التابعي الجليل كعب بن سور‬
‫رحمه الله‪ ،‬فإنه لما حدث الخلف بين الصحابة‪ ،‬وجر إلى القتال‪:‬‬
‫)دخل في بيت‪ ،‬وطين عليه‪ ،‬وجعل فيه كوة يناول منها طعامه وشرابه‬
‫اعتزال للفتنة()‪.(16‬‬
‫ومن لم يخبر التربية يظن ذلك تكلفا يهيجه الرياء‪ ،‬وربما سارع إلى‬
‫رمي كعب بقلة العقل‪ ،‬ولكنها التربية بالمنظر العملي‪ ،‬يفعل ذلك ليراه‬
‫المتورط المستدرج والمدعو المغري فيكون ثم سؤال من أنفسهما لنفسهما‬
‫ومراجعة وتحقيق وتدقيق‪ ،‬لعل القلوب تسكن وتهدأ فترجع إلى العقول‬
‫فكرتها وتنظر المور مع عاقبتها‪ ،‬وتتجاوز رؤية يومها إلى مصيرها في غدها‪.‬‬
‫وإنما يكون هذا العتزال إذا كان ثمة إشكال‪ ،‬أو إرهاق ودماء‪.‬‬
‫أما حين تتوافر الدلة على شرعية أمير‪ ،‬فليس غير الطاعة‪ ،‬مهما‬
‫نازعه الناكثون‪.‬‬
‫]‪ [3‬التأويل المستدرج‬
‫ما برح مقدار إدراك معنى الخوة يميز ويفاضل بين الدعاة‪ .‬ولن يرتقي‬
‫داعية إلى أوج الوعي إل إذا اعتبر إبراز خلق الخوة اليمانية وتعليم موازين‬
‫الخاء هدفا أساسًيا من بين أهداف الدعوة السلمية‪ ،‬وإل إذا أدرك أن إحلل‬
‫هذا الخلق في التعامل الواقعي بين المسلمين‪ ،‬وتجسيده في صورة جماعة‬
‫عمل متآخية‪ ،‬يخول الدعوة دعاء النجاح‪ ،‬ويمنحها لوحدة مسوغ الوجود حتى‬
‫دا‪.‬‬
‫ولو لم تصب سرعة التأثير‪ ،‬أو صد عنها جمهور سذج الناس صدو ً‬
‫أخوة العمل لله‬
‫إنها أخوة العقيدة التي يكفي تمثلها في فئة قليلة‪ ،‬تورثها بالتعليم إلى‬
‫خلف يواصل إحياءها‪.‬‬
‫وإنها أخوة العمل التي تتخطى اللوان والقوام‪ ،‬وتمزج العاملين مًعا‪،‬‬
‫لتفني خصائصهم‪ ،‬وتكون ثم سبيكة تجيب طارقها برنين واحد متجانس‪:‬‬
‫نغدو ونسري‬ ‫إن يبل مصطنع الخاء فإننا‬
‫في إخاء تالد‬
‫عذب تحدر من‬ ‫أو يختلف ماء الوصال فماؤنا‬
‫غمام واحد‬
‫عمل أقمناه مقام‬ ‫أو يفترق نسب يؤلف بيننا‬
‫الوالد‬
‫إفاء‪ ،‬ووصال وعمل‪.‬‬
‫نبضات تعني أمل الحياة‪.‬‬

‫‪ ()16‬طبقات ابن سعد ‪.7/92‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ونغمات تسلي القافلة السارية نحو فجر جديد‪.‬‬
‫فمن عرف فضل الحادي‪ ،‬واستحلى النصات لنبضات قلبه‪ ،‬تشعره‬
‫استمرارية الحياة حين سكون الجسد‪ ،‬ل شك يسوؤه التشويش‪ ،‬وتقطع لذته‬
‫الهزة‪.‬‬
‫وبمقدار ما يكون إدراك مغزي الخاء وما يؤدي إليه من فقه الطاعة‬
‫سامًيا‪ ،‬يكون تلبيس التشويش‪ ،‬وما يؤدي إليه من الفتراق‪ ،‬ويذهب الواقف‬
‫بإزاء كل منهما بنصيبه وحظه‪ ،‬هذا بسموه وما نال‪ ،‬وهذا بتيهه وما فقد‪.‬‬
‫ولقد قالها الشيخ حامد عسكرية رحمه الله في أنفار شوشوا على‬
‫المام رحمه الله‪ ،‬وأشار إليهم أن‪:‬‬
‫) هؤلء ل خير فيهم‪ ،‬فقد فقدوا إدراكهم لسمو الدعوة‪ ،‬وفقدوا إيمانهم‬
‫لطاعة القيادة‪ ،‬ومن فقد هذين فل خير فيه في صفنا()‪.(17‬‬
‫بل وأكثر من مجرد حرمان الصف من خيرهم‪ ،‬فإن الفتنة إذا بدأت‬
‫مبكرة في المجموعة العاملة‪ ،‬أو جددت وأحيت ما كان قد قطع من جذور‬
‫فرقة قديمة‪ ،‬فإنها توفر مناخا نفسيا دائما في الجيال اللحقة يسمح بتكرار‬
‫الفتتان‪ ،‬وربما عذر المقلد‪ ،‬وناء الرائد بإثمه‪ ،‬بما سن من بدعة تغري المتأخر‬
‫وتستجيش‪.‬‬
‫بداية الفتنة تأويل‬
‫وسبب ذلك أحياًنا‪ :‬أن القلب كالعين في إبصارها‪ ،‬فتجد عينا ل تبصر‬
‫البعيد‪ ،‬وأخرى ل تبصر بمجرد ضباب طفيف أو غبار خفيف فضل عن أن تكون‬
‫في ظلم‪.‬‬
‫فإبصار القلب تابع لقوة الفقه ونور اليمان ومقدارهما‪ ،‬وكلما كان‬
‫المر المختلف يه من سياسة الدعوة ل يضبطه نص واضح‪ ،‬ويلزم فيه الرجوع‬
‫إلى القواعد العامة وقواعد جلب المصالح وسد المفاسد وأبواب الشبهات‪:‬‬
‫كان استنباط الفقه فيه أصعب‪ ،‬والفتوى به تحليل وتحريما‪ ،‬أو استحبابا‬
‫وكراهة‪ :‬أشد صعوبة‪ ،‬لن التأويل له مجال في الحكم آنذاك‪ ،‬ولو نظرنا إلى‬
‫فقهاء القرون الولى لوجدنا أنهم ألزموا أنفسهم باحتياطات كثيرة في هذه‬
‫البواب من السياسة الشرعية‪ ،‬ومع ذلك أخطأ بعضهم وأتي بالغريب الذي‬
‫يأباه جمهور الفقهاء‪ ،‬فكيف بنا نحن في هذا الزمن المتأخر؟‬
‫ثم أتم المام البنا رحمه الله فقه الوائل‪ ،‬فوضع أصول صحيحة لسير‬
‫الدعوة ومراحلها‪ ،‬ومفاهيم عامة تحدد إطار الفكرة وأساليب التعبير‪ ،‬وتلبس‬
‫الرعيل الول الذين معه بكل ذلك‪ ،‬وبإرشاده‪ :‬أطالوا مرحلة التربية‪ ،‬وجردوا‬
‫الدعوة على أساس عقائدي‪ ،‬وابتعدوا عن التحالف مع الحزاب‪ ،‬وحذروا أن‬
‫يقعوا في هيمنة الكبراء‪ .‬غير أن البعض دخلوا باب التأ‪,‬يل تدريجا‪ ،‬ومالوا عن‬
‫التربية الصيلة المعهودة إلى استعجال يضطرون معه إلى تساهل في توثيق‬
‫الرجال‪ ،‬فأبعدتهم تأويلتهم عن جوهر الدعوة الذي عرفت به‪ ،‬كما أبعدت‬
‫سلفهم في صدر السلم عن جوهر السلم‪ ،‬مع غلبة الورع آنذاك‪.‬‬
‫ومثلما رأينا انتصار صاحب كل تأويل إلى تأويله حين أنكر عليهم جمهور‬
‫التابعين والفقهاء‪ ،‬فنشأ القول بالقدر والتجهم والعتزال والرجاء والخروج‪،‬‬

‫‪ ()17‬مذكرات الدعوة والداعية‪.113/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫نرى اليوم تواصيا لمتأولة‪ ،‬ونشوء فقه غريب يجيز باسم مصلحة الدعوة‬
‫تجهما في الوجه‪ ،‬وتهجما في اللسان‪ ،‬واعتزال للعمل‪ ،‬وخروجا عن البيعة‪ ،‬ل‬
‫يدرون أن ذلك ما هو بالجديد‪.‬‬
‫سواد ينتشر‬
‫ولتحذير هذا المعدن الول الخر‪ ،‬القديم‪ ،‬الجديد‪ :‬ضرب الله مثل‪،‬‬
‫فأمرنا أول بالوفاء فقال‪:‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ها وَقَضد ْ‬‫كيضدِ َ‬ ‫ن ب َعْضد َ ت َوْ ِ‬‫مضا َ‬ ‫َ‬
‫ضضضوا الي ْ َ‬‫ق ُ‬‫م وَل َ َتن ُ‬ ‫عاهَضضدت ّ ْ‬ ‫ذا َ‬‫" وَأ َوُْفوا ب ِعَهْضدِ اللضهِ إ ِ َ‬
‫ن"‪.‬‬ ‫فعَُلو َ‬ ‫ما ت َ ْ‬‫م َ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬
‫ن الل َ‬ ‫م كَ ِ‬
‫فيل ً إ ِ ّ‬ ‫ه عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جعَل ْت ُ ُ‬
‫م الل َ‬ ‫َ‬
‫)والوفاء بعهد الله يشمل بيعضضة المسضضلمين للرسضضول ‪-‬صضضلى اللضضه عليضضه‬
‫وسلم‪ -‬ويشمل كل عهد على معروف يأمر به الله( )‪.(18‬‬
‫ثم قال لمن له قلب يحذر‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫كال ِّتي ن َ َ‬
‫خل ً‬ ‫مان َك ُ ْ‬
‫م دَ َ‬ ‫ن أي ْ َ‬‫ذو َ‬ ‫خ ُ‬ ‫كاًثا ت َت ّ ِ‬‫من ب َعْدِ قُوّةٍ أن َ‬ ‫ت غَْزلَها ِ‬ ‫ض ْ‬ ‫ق َ‬ ‫كوُنوا َ‬ ‫)وَل َ ت َ ُ‬
‫م (‪.‬‬‫ب َي ْن َك ُ ْ‬
‫)فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والضضرأي‪،‬‬
‫تفتل غزلها‪ ،‬ثم تنقضه مرة أخرى قطعا منكوثة ومحلولة()‪.(19‬‬
‫ويجئ كلم النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬يبين أمثضضال اللضضه تعضضالى الضضتي‬
‫يضربها للناس‪ ،‬ويوضح أنها مسألة استعداد في بعض القلوب لقبول الفتتضضان‪،‬‬
‫فمن الناس من جعل الله فيه فطضضرة صضضالحة تنكضضر الفتضضن‪ ،‬ومنهضضم مضضن يضضأبى‬
‫بعض الهداية فيضله الله‪ ،‬فمضضن أباهضضا ابتضضداء‪ :‬أباهضضا انتهضضاء‪ ÷،‬ومضضن رحضضب بهضضا‬
‫دا يظل يتسع حتى يتم أسضضوداده مضضع نهايتهضضا‪ ،‬كمضضا‬ ‫ابتداء‪ :‬طبعت في قلبه سوا ً‬
‫ورد في الحديث الصحيح عند مسلم عن حذيفضضة بضضن اليمضضان رضضضي اللضضه عنضضه‬
‫قال‪ :‬سمعت رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬يقول‪:‬‬
‫دا‪ ،‬فضضأي قلضضب أشضضربها‬ ‫)تعرض الفتن على القلوب كالحصضضير‪ ،‬عضضودا عضضو ً‬
‫نكت فيه نكتة سوداء‪ ،‬وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء‪ ،‬حتى تصير علضضى‬
‫قلبيين‪ ،‬على أبيض مثل الصفا‪ ،‬فل تضره فتنة مضضا دامضضت السضضماوات والرض‪،‬‬
‫دأ‪ ،‬كالكوز مجخيا‪ ،‬ل يعضضرف معروفضضا ول ينكضضر منك ضًرا‪ ،‬إل مضضا‬ ‫والخر أسود مربا ً‬
‫)‪(20‬‬
‫أشرب من هواه( ‪.‬‬
‫وربمضضا يملضضك القلضضب السضضتعداد للفتنضضة‪ ،‬لكضن وقضضت الرخضاء والعافيضضة ل‬
‫يفضضضحه ويتسضضتر عليضضه‪ ،‬فضضإذا اكتنفتضضه الشضضبهات‪ ،‬وهيجتضضه المهيجضضات‪ ،‬انفضضضح‬
‫وانكشف‪.‬‬
‫وشضبهوه فضي ذلضك بصضاحب الصضضدر المريضضض‪ ،‬مضضا أحسضضن تنفسضضه أيضام‬
‫الصفاء‪ ،‬فإذا أثارت الريح الغبار‪ :‬لهث‪ ،‬وضاف نفسه‪ ،‬واختنق‪.‬‬
‫أو كحوض ماء راكد‪ ،‬ترسب الطين في قعره‪ ،‬تلقضي فيضه حجضًرا صضغيًرا‬
‫فيختلط كله وقد كنت تظنه زلزل‪ ،‬أما الحوض النظيف‪ ،‬فإن إلقاء الحجر فيضضه‬
‫يزيضضده جمضضال‪ ،‬بمضضا أحضضدث مضضن دوائر المضضواج الضضتي تعكضضس ظلل الغصضضان‬
‫الخضراء‪.‬‬
‫انظر آثار حجر الفتنة في القلوب تحكضضم عليهضضا‪ ،‬ول تغضضترن بظضضاهر مضضن‬
‫الركود موهم‪ ،‬ول تستكبرون وصفنا للمفتتن أنه كالكوز المنكوس‪ ،‬فكضضم رأينضضا‬
‫من انتهت به أيامه إلى ترك الصلة‪.‬‬
‫الدعوة محفوظة‬

‫الظلل ‪.14/93‬‬ ‫‪()18‬‬


‫الظلل ‪.14/94‬‬ ‫‪()19‬‬
‫صحيح مسلم ‪ ،1/89‬وقوله‪ :‬أسود مرباًدا‪ ،‬أي شدة البياض في سواد‪ ،‬وقوله‪ :‬مجخيا‪ ،‬أي منكوسا‪ ،‬وفي‬ ‫‪()20‬‬
‫ابن المبارك ‪ 504‬قوله لعلي رضي الله عنه يقرب من هذا الحديث‪.‬‬ ‫زهد‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫واعلم أن من أبي‪ :‬لن يضر الدعوة شضضيئا‪ ،‬فإنهضضا محفوظضضة‪ ،‬وليضضس لمضضا‬
‫تبني يد الله هادم‪ ،‬وأن قول المخلضضص يخلضضص صضضدقه‪ ،‬وتضضأبي فمضضا تزكضضو لبضضاغ‬
‫بواطله‪.‬‬
‫وكما قال عبد القادر عودة رحمه الله‪:‬‬
‫)إنها دعوة الله وليست دعضضوة أشضضخاص‪ ،‬وإن اللضضه علضضم المسضضلمين أن‬
‫الدعوة ترتبط به ول ترتبضط بالضدعاة إليهضا‪ ،‬وأن حضظ الشضخاص منهضا أن مضن‬
‫عمل لها أكرمه الله بعمله‪ ،‬ومن ترك العمل لها فقد أبعضضد الخيضضر عضضن نفسضضه‪،‬‬
‫وما يضر الدعوة شيئا()‪.(21‬‬
‫بل لحظ المام البنا رحمه الله حضضدوث النفضضع للضضدعوة‪ ،‬فضضروى أنضضه لمضضا‬
‫أصدر أحضضد المخضضالفين كراسضضا يهضضاجم فيضضه القضضائمين بضضأمر الضضدعوة‪ ،‬ورد عليضضه‬
‫القائمون‪) ،‬ما كاد هذا الضضرد ينشضضر حضضتى تلقفضضه النضضاس‪ ،‬ولفتضضت هضضذه الحركضضة‬
‫أنظارهم إلى الدعوة‪ ،‬وأخذوا يهتمون بكل مضضا يتصضضل بالجماعضضة‪ ،‬فكضضانت تلضضك‬
‫الحركة من أكبر العوامل على انتشار وانضمام عناصر كثيرة من الناس)‪.(22‬‬
‫النسافات‬
‫ولهذا أشفق الولون على أهضضل الفتضضن‪ ،‬وحضضذروهم سضضوء العاقبضضة فكضضان‬
‫حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول‪:‬‬
‫)إياكم والفتن‪ ،‬ل يشضضخص إليهضضا أحضضد‪ ،‬فضضوالله مضضا شضضخص إليهضضا أحضضد إل‬
‫نسفته‪ ،‬كما ينسف السيل الدمن(‪.‬‬
‫ويصور لنا قتادة بن دعامة رحمه الله‪ ،‬وهضضو أحضضد أجلء التضضابعين‪ ،‬تجربضضة‬
‫فتنة رآها‪ ،‬ويضع أمامنا نتائجها التي رآها فيقول‪:‬‬
‫ما يسرعون إلى الفتن وينزعون فيها‪ ،‬وأمسك أقوام‬ ‫)قد رأينا والله أقوا ً‬
‫عن ذلك هيبة لله ومخافة منه‪ ،‬فلما انكشفت‪ :‬ذا الذين أمسكوا أطيب نفسضضا‪،‬‬
‫وأثلج صدوًرا‪ ،‬وأخف ظهوًرا من الذين أسرعوا إليهضضا وينزعضضون فيهضضا‪ ،‬وصضضارت‬
‫أعمال أولئك حزازات على قلوبهم كلما ذكروها‪ .‬وأيم الله! لو أن الناس كانوا‬
‫يعرفون منها إذا أقبلت ما عرفوا منها إذ أدبرت لعقضضل فيهضضا جيضضل مضضن النضضاس‬
‫كثير(‪.‬‬
‫ووالله قد رأينا ما رأى قتادة‪ ،‬وعرفنا بعض من شارك فضضي الفتضضن تكضضاد‬
‫أجسادهم تتهدم وقلوبهم تتقطع كلما ذكروا ما كانوا فيه من العز‪ ،‬وما آل إليه‬
‫أمرهم بعد من النغمار‪.‬‬
‫ول ينجضضو مضضن هضضذه الفتضضن إل السضضيد‪ ،‬صضضاحب أخلق السضضيادة‪ ،‬الحليضضم‪،‬‬
‫المحب للتوبة‪ ،‬فإنه قد ينخضضدع بزخضضارف يصضضوغها المفتتضضن‪ ،‬لكنضضه سضضرعان مضضا‬
‫يرجع إلى رشده وصوابه‪ ،‬وهو ثالث الثلثة الذين عددهم حذيفة حين قال‪:‬‬
‫)إن الفتنة وكلت بثلث‪:‬‬
‫بالحاد النحرير الذي ل يرتفع له شيء إل قمعه بالسيف‪.‬‬
‫وبالخطيب الذي يدعو إليها‪.‬‬
‫وبالسيد‪.‬‬
‫فأما هذان فتبطحهما لوجوهما‪.‬‬

‫‪ ()21‬مجلة )الدعوة( العدد ‪.52‬‬


‫‪ ()22‬مذكرات الدعوة والداعية ‪.117/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وأما السيد فتبحثه‪ ،‬حتى تبلوا ما عنده(‪.‬‬
‫فالحاد النحرير ليس له رجاء النجاة‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬كما قال ابضضن عبضضاس فضضي بعضضض مضضا‬ ‫والخطيب فيها صاحب سيف أي ً‬
‫يؤثر عنه‪ :‬أن سيفه لسانه‪ ،‬فهو مع صاحبه‪.‬‬
‫إل السيد‪ ،‬فإن الفتنة هي امتحان له‪ ،‬فإن كانت أخلق السيادة فيه أكثر‬
‫ميزها‪ ،‬وإن كانت أقل جرفته‪ ،‬فقد يفيق فضي أولهضا‪ ،‬وقضضد يفيضضق فضي وسضضطها‪،‬‬
‫وقد يفيق وهي على مشارف نهايتها‪ ،‬بمقدار ما فيضضه مضضن النبضضل‪ ،‬وبمقضضدار مضضا‬
‫عنده من العلم‪ ،‬فإن )الفتنة إذا أقبلت‪ :‬عرفها كل عضضالم‪ ،‬وإذا أدبضضرت‪ :‬عرفهضضا‬
‫كل جاهل( كما يقول الحسن البصري سيد التابعين)‪ ،(23‬فإن كان علمضضه كضضامل‪:‬‬
‫أبصرها قبل مجيئها ورأى نتائجها وكأنه يهتك حجب الغيب‪ ،‬ويتأخر وقت إدراكه‬
‫لضررها كلما كان علمه أقل‪ ،‬فإذا انتهت فل فضل له في رؤية تشتت دعاتهضضا‬
‫وإفلسهم‪ ،‬فإنها تكون مشاهدة بصر ل إدراك قلب‪ ،‬يتمكن منها من ل عقل له‬
‫ضا‪ ،‬وعندئذ لن تنقذه إل توبة نصوحة جازمة تبعضده عضن فتنضة مقبلضة أخضرى‪،‬‬ ‫أي ً‬
‫يتزود لها التقوى‪ ،‬ويأتم بالدليل‪ ،‬ويسلك الصضراط‪ ،‬ويضضدور بعضدها ضضمن نظضام‬
‫الجماعة وخطتها وأعرافها‪.‬‬
‫]‪ [4‬سلسل العيوب‬
‫كل صادق فضي إسضلم وجهضه للضه تعضالى‪ ،‬يضدرك –مضع أول خطضوة‪ -‬أنضه‬
‫مهاجر إلى الله وحده‪ ،‬فار إليه‪ ،‬فل يزال متعجل مشتاًقا‪.‬‬
‫وهو مع أول فراره هذا‪ ،‬يدرك علو مدرجه‪ ،‬ويعلم أنه طبقات‪ ،‬فل يضضزال‬
‫دا‪ ،‬موقنا أن مرتبة الجنة العليا تقتضي علوا في نيته‪ ،‬وترفعضضا فضضي‬ ‫مرتقيا صاع ً‬
‫مسلكه‪ ،‬عن الخلط والنقصان‪.‬‬
‫فهو يريد استكمال عناصر اليمان كلما علم أن هناك ثمة ثلمضضة‪ ،‬ويعضضزم‬
‫لذلك عزمة‪ ،‬فإذا شرع في الستكمال‪ :‬أدرك ضرورة الصضضفاء فيضضه‪ ،‬وأن يرفضضأ‬
‫ويرتق بجنس ما وهبه الله من خير آنفا‪ ،‬أل يفضحه النشاز‪ ،‬فيعزم لذلك عزمة‬
‫أخرى‪ ،‬فثالثة تستدعي رابعة‪ ،‬في نهضات متواليات‪ ،‬حتى يصيب مراده‪.‬‬
‫وأما من خلضضط‪ :‬فقضضد غلضضط‪ ،‬ل يسضضتطيع تنضضاوش السضضتكمال مضضن مقعضضد‬
‫تخليط بعيد‪ ،‬ول الرتواء من كأس ممزجة مشوبة ليس فيها الصريح‪.‬‬
‫ذو العيب يحتاج الدعاية‬
‫ولقد شبهوا المستكمل النقي ببدر تمام كيف أنه استدار‪ ،‬لم يتربع ولضضم‬
‫يتطاول!‪.‬‬
‫فالبدر تمدحه خاصة الشعراء‪ ،‬حتى امتلت دواوينهم بوصف بهائه‪ ،‬وهضضو‬
‫صامت ساكت‪ ،‬بعلوه وقار الطمئنان‪ ،‬أنه لن يغفل عن روعته أحد‪ ،‬فمن ملتذ‬
‫ضا‪ ،‬ومنبه اللسان‪.‬‬‫برؤيته في صمت أي ً‬
‫قالوا‪ :‬أمضضا النضضاقص‪ ،‬المفضضضوح بفتضضوق ل رتضضق لهضضا‪ ،‬فهضضو كضضالقمر حيضضن‬
‫يخسف‪ ،‬يخرج عن سكينته وصمته ويحتاج لضجيج الطبول‪ ،‬ومضضدائح الطفضضال‪،‬‬
‫ويستجيش حماسة العجائز‪ ،‬يهيب بهن أن ينكضرن علضى حضوت ابتلعضه واعتضدى‬
‫على حقه وجماله‪.‬‬
‫التمام الصامت‬

‫‪ ()23‬تاريخ البخاري الكبير ج ‪/2‬ق ‪.2/322‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ولذلك كانت وصية السلف أن‪ :‬التمام التمام‪.‬‬
‫أرسضضلها أبضضو بكضضر رضضضي اللضضه عنضضه مضضن وراء الصضضحراء إلضضى خالضضد بعضضد‬
‫انتصاراته في العراق‪ ،‬أن‪:‬‬
‫)ليهنك أبا سليمان النيضضة والحظضضوة‪ ،‬فضضأتمم‪ :‬يتضضم اللضضه لضضك‪ ،‬ول يضضدخلنك‬
‫عجب فتخسر وتخذل‪ ،‬وإيضاك أن تضدل بعمضل‪ ،‬فضإن اللضه لضه المضن‪ ،‬وهضو ولضي‬
‫الجزاء‪.(24)(...‬‬
‫يطلب منه التمام الصامت في غير وقوف عن السير حتى يكون كذلك‬
‫البدر‪.‬‬
‫ثم ورثها عن خالد أحمد بن حنبل‪ ،‬فما وقف‪ ،‬حتى قال صاحبه المحدث‬
‫إبراهيم الحربي‪:‬‬
‫دا‪ ،‬وليل ونهاًرا‪ ،‬فمضضا‬ ‫)لقد صحبته عشرين سنة‪ ،‬صيفا وشتاًءا‪ ،‬وحًرا وبر ً‬
‫لقيته في يوم إل وهو زائد عليه بالمس()‪.(25‬‬
‫لم يعرف الوقوف فضل عن التخلف ورجوع القهقري‪ ،‬إنا هضضو المرتقضضى‬
‫المتعجل المتمم‪.‬‬
‫تثبيت وتثبيط‬
‫ولبثوا في التقدم الجرئ حتى دخلوا السباق‪ ،‬كضضل يحضضب أن يقضضرب مضضن‬
‫الكمال أدنى‪ ،‬حتى ليأتي أحدهم الديار البكر‪ ،‬ويرتاد كل يوم منضضزل فضضضل لضضم‬
‫يعرف لحد قلبه‪ ،‬ويأتي في التنافس بجديضضد‪ ،‬لضم يكضضن لضضه ول لغيضضره بضالمس‪،‬‬
‫وحتى راح الشاعر يتساءل ويبدي دهشته مخاطبا أحدهم‪:‬‬
‫دا‬
‫في غاية ما زلت فيها مفر ً‬ ‫عجبا بإنك سالم من وحشة‬
‫يتعجب كيف لم يرجف فؤاده وهو المتوحد بل أنيس معه يشاركه خلقضضه‬
‫الذي هو فيه‪ ،‬كأنه طليعة جيش‪...‬‬
‫ذا بتفرده هذا‪ ،‬ثابتا بتثبيت الله تعالى‪:‬‬ ‫ما‪ ،‬ملت ً‬ ‫فأما الموفق فيمضي قد ً‬
‫َ‬
‫مُنوا‪.(..‬‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م فَث َب ُّتوا ال ّ ِ‬
‫معَك ُ ْ‬ ‫ملئ ِك َةِ أّني َ‬ ‫ك إ َِلى ال ْ َ‬
‫حي َرب ّ َ‬ ‫)إ ِذ ْ ُيو ِ‬
‫ة(‪.‬‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا وَِفي ال َ ِ‬
‫خَر ِ‬ ‫ت ِفي ال ْ َ‬ ‫ل الّثاب ِ ِ‬ ‫قوْ ِ‬ ‫مُنوا ِبال ْ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ه ال ّ ِ‬ ‫ت الل ُ‬‫)ي ُث َب ّ ُ‬
‫وقد قال تعالى لكرم خلقه عليه‪:‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫شي ْئا قِليل (‪.‬‬ ‫ً‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ن إ ِلي ْهِ ْ‬‫ت ت َْرك َ ُ‬ ‫كد ّ‬ ‫قد ْ ِ‬ ‫)وَل َوْل َ َأن ث َب ّت َْنا َ‬
‫ك لَ َ‬
‫)فالخلق كلهم قسمان‪ :‬موفق بالتثبيت‪ ،‬ومخذول بترك التثبيت()‪.(26‬‬
‫وأمضضا الراجضضف فيعلضضن برجفتضضه للشضضيطان عضضن ضضضعفه فيضضأتيه ي صضضورة‬
‫النيس‪ ،‬يحاوره‪ ،‬ويسارره‪ ،‬حتى يجد فرصة إلقاء كلمة التثبيط‪...‬‬
‫إنها رجفة المتوغل الضعيف‪ ،‬توقف ول تضضؤخر‪ ،‬والعاصضضم منهضضا إنمضضا هضضو‬
‫الصدق‪.‬‬
‫)فضضأثبت النضضاس قلبضضا‪ :‬أثبتهضضم قضضول‪ ،‬والقضضول الثضضابت هضضو القضضول الحضضق‬
‫والصدق‪ ،‬وهو ضد القول الباطل الكذب‪.‬‬

‫‪ ()24‬تاريخ الطربي ‪.3/385‬‬


‫‪ ()25‬مناقب أحمد لبن الجوزي ‪.140/‬‬
‫‪ ()26‬إعلم الموقعين ‪ 1/177‬طبعة محمد محيي الدين‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫فالقول نوعان‪ :‬ثابت له حقيقة‪ ،‬وباطل ل حقيقة له‪ ،‬وأثبت القول كلمضضة‬
‫التوحيد ولوازمها‪ ،‬فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والخرة‪ ،‬ولهضضذا‬
‫ترى الصادق مضضن أثبضضت النضضاس وأشضضجعهم قلبضضا‪ ،‬والكضضاذب مضضن أمهضضن النضضاس‬
‫وأخبثهم وأكثرهم تلونا وأقلهم ثباًتا‪ ،‬وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من‬
‫ثبات قلبه وقت الخبار وشجاعته ومهابته‪ ،‬ويعرفون كذب الكضضاذب بضضضد ذلضضك‪،‬‬
‫ول يخفى ذلك إل على ضعيف البصيرة()‪.(27‬‬
‫ولهذا كضضان دواء الضضضعيف إن أراد الوقايضضة مضضن هضضذه الرجفضضة أن يكضضون‬
‫صادقا‪ ،‬وهو الدواء الذي عصم به أبو ذر رضي الله عهه نفسه منها لمضضا عضضرف‬
‫ما هو عليه من الضعف فقال‪:‬‬
‫)يا رسول الله‪ :‬أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قضضال‪ :‬تكضضف شضضرك‬
‫عن الناس‪ ،‬فإنها صدقة منك على نفسك()‪.(28‬‬
‫فكف شره ولم يفتتن زمن الفتنة‪ ،‬يعينه صدقه‪ ،‬إذ لم تقل الغضبراء ولضضم‬
‫تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبضضي ذر‪ ،‬كمضضا قضضال النضضبي ‪-‬صضضلى اللضضه‬
‫عليه وسلم‪.-‬‬
‫لكن المفتقر إلى درجة أبضي ذر فضضي الصضضدق يضضدخل فضي الشضضر بمقضضدار‬
‫فقره‪ ،‬فل ترى ضعيفا بعده إل وهو بخيل في التصدق على نفسضضه يلفضضه الشضضح‬
‫الشديد المفضوح‪ ،‬أو يحرمها من الطيبات فحسب‪ ،‬بمقدار قربضضه مضضن الكضضذب‬
‫أو بعده عنه‪.‬‬
‫للعيوب نقاط انطلق‬
‫ولو سلم بعد هذا البخل لهان خطبه‪ ،‬ولكن العيضضب مضضن شضضأن أن يتتضضابع‬
‫بشكلين مزدوجين‪ :‬عدوى وتنوعا‪ ،‬فيكون كضضثيرة تقعضضد بصضضاحبها وتسضضري إلضضى‬
‫غيره كعدوى المرض‪.‬‬
‫أما العدوى‪ :‬فإن وحشته الولى قد أوقفته عن التقدم بما رجف فضضؤاده‪،‬‬
‫لتفرده في خصلة خير قد زهد فيها غيره‪ ،‬ثم يخطضئ ويضأتي عيبضا‪ ،‬ومضن شضأن‬
‫البشر الخطأ‪ ،‬فيربا بنفسه ثانية عن التفرد في الخطضضأ ويعتضضاد طلضضب النيضضس‪،‬‬
‫وينسى طريق التوبة القريب‪ ،‬فيكون داعيا للخطأ‪ ،‬كما قال زهير ابن نعيم‪:‬‬
‫)يخطضضئ فيحضضب أن النضضاس قضضد أخطضضأوا( فيصضضبح بالفتنضضة فضضي كضضل واد‪،‬‬
‫فا‪.‬‬
‫ينشرها أفقًيا‪ ،‬ويصير راجفا مرج ً‬
‫وأما التتابع النوعي‪ :‬فلن العيوب مترابطة‪ ،‬بعضها يستلزم البعض‪ ،‬مثل‬
‫ترابط أخلق اليمان‪ ،‬وهو ما قرره الفضيل بن عياض حين قال‪:‬‬
‫)من أراد أن يسلم من الغيبة فليسضضد علضضى نفسضضه بضضاب الظنضضون‪ ،‬فمضضن‬
‫سلم من الظن‪ :‬سلم مضضن التجسضضس‪ ،‬ومضضن سضضلم مضضن التجسضضس‪ :‬سضضلم مضضن‬
‫الغيبة(‪.‬‬

‫‪()27‬إعلم الموقعين ‪.1/177‬‬


‫‪ ()28‬صحيح مسلم ‪.1/62‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ول شك أن الفضيل قطع ذكر التوالي اسضضتفزاز لنباهتضضك‪ ،‬فضضإن العيضضوب‬
‫تترى‪ ،‬بعضضضها يضضردف بعضضضا فضضآخر مضضا ذكضضره الفضضضيل‪ ،‬وهضضي الغيبضضة‪ :‬هضضي أول‬
‫سلسلة أخرى‪ ،‬فضضإن الغيبضضة تقضضود إلضضى الحسضضد‪ ،‬والحسضضد يقضضود إلضضى النميمضضة‪،‬‬
‫والنميمة تقود إلى الكذب‪ ،‬ومن استجاز الكذب لم يتورع عن النزاع‪ ،‬إلى مائة‬
‫عيب‪.‬‬
‫وهذا ما يقرره الستاذ المرشد الهضيبي‪ ،‬فإنه يري أن أكثر الشرور تبدأ‬
‫بالغيبة ويقول‪:‬‬
‫ما حقا إل إذا أصبحت عقيدته جضضزءا ل‬ ‫)وليعلم المسلم أنه ل يكون مسل ً‬
‫يتجزأ من أخلقه وسلوكه‪ ،‬فيكون عادل مع الناس جميعا ويحذر نضضوازع الهضضوى‬
‫أن تميل به عن هذا العدل مع أقرب النضضاس إليضضه‪ ،‬فل يضضذكر إخضضوانه بسضضوء ول‬
‫بغتابهم‪ ،‬ول يلمزهم‪ ،‬فإن أكثر الشرور إنما تنشأ عن مثل ذلك()‪.(29‬‬
‫ورأس هذه الشرور في مشاهدات الفضيل‪ :‬ارتفاع الخوة‪.‬‬
‫يقول رحمه الله‪.‬‬
‫)إذا ظهرت الغيبة‪ ،‬ارتفعت الخوة في الله‪.‬‬
‫إنما مثلكم في ذلك الزمان مثل شيء مطلي بالضضذهب والفضضضة‪ ،‬داخلضضه‬
‫خشب‪ ،‬وخارجه حسن(‪.‬‬
‫هي سلسلة طويلة من العيوب‪ ،‬كل يكشضضف بعضضض الحلقضضات المتقاربضضة‬
‫منها‪ ،‬وكما وصضضف الفضضضيل بعضضضها‪ ،‬كشضضف الرجضضال الصضضالح أبضضو بكضضر الحكيضضم‬
‫الوراق بعضا آخر منها‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)إذا غلب الهوى‪ :‬أظلضضم القلضضب‪ ،‬وإذا أظلضضم القلضضب‪ ،‬ضضضاق الصضضدر‪ ،‬وإذا‬
‫ضاق الصدر‪ :‬ساء الخلق‪ ،‬وإذا ساء الخلق‪ ،‬أبغضه الخلق(‪.‬‬
‫توالد مستمر‪:‬‬
‫وكمضضا كضضانت الغيبضضة وكضضان الهضضوى نقضضاط انطلق لعيضضوب كضضثيرة‪ :‬يكضضون‬
‫النتصار للنفس نقطة تنطلق منها أيضا جملة وسائل ملتوية‪.‬‬
‫)ويظهر أن النفس النسانية إذا ألح عليها معنى النتصار ولو بغير الحق‬
‫لم تعد تفكر فيما عداه وإن ساقتها وسائلها الملتويضضة إلضضى الهزيمضضة المتكضضررة‬
‫حتى تصل إلى الهزيمة التامة( )‪.(30‬‬
‫وكل ذلك يصبح مجتمع الدعاة الصضضغير كمضضا يصضضيب مجتمضضع المسضضلمين‬
‫الكبير إذا اعترتهم الغفلة‪ .‬ومن مرت أمام نظره فتنة سلمه الله منهضضا‪ :‬عضضرف‬
‫مقدار صواب الفضضضيل والضضوراق والهضضضيبي‪ ،‬والمجضضادل ينكضضر احتمضضال تعضضرض‬
‫الضدعاة لغيبضة‪ ،‬يسضميها النقضد الضذاتي‪ ،‬وينكضر تلبضس الداعيضة بضالهوى‪ ،‬يسضميه‬
‫الجتهاد والوعي الجديد وما شاء مضضن السضضماء‪ ،‬ومضضا دري أنضضه مضضن جهلضضه فضضي‬
‫إغواء‪ ،‬ومن هواه في إغراء‪.‬‬
‫]‪ [5‬سهام الشيطان‬
‫هي سلسضضل مقيضضدة موثقضضة‪ ،‬كمضضا أنهضضا سلسضضل متتابعضضة متوالضضدة‪ ،‬تلضضك‬
‫العيوب الثالمة الثالبة‪ ،‬تشل صاحبها عن حيوية في الخير وحراك‪ ،‬وتشده إلضضى‬
‫أرض الجمود‪.‬‬

‫‪ ()29‬مجلة )المسلمون(‪.1/420 ،‬‬


‫‪ ()30‬مذكرات الدعوة والداعية‪.112/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫لها تزين وتزيين‪.‬‬
‫ولسان طويل وترهيب‪.‬‬
‫لكنها جبانة عند لقاء المؤمن‪ ،‬تخاف انتباهه‪.‬‬
‫ل قليل من الثم‬
‫لذلك كان التخلص من سجن العيضضوب الخلقيضضة وأسضرها يمثضل المرحلضضة‬
‫الضرورية الولى في الصياغة التربوية للداعية المسلم‪ ،‬نحرص علضضى التحريضضر‬
‫قبل إعطاء الوعي وتعليم الفقه والتدريب علضى كسضضب النصضضار‪ ،‬ل نهتضم قبضضل‬
‫تقطيع وتكسير حديد سلسل العيوب بشيء‪.‬‬
‫فمن تجاوز هذه الخطوة في البداية الصضضحيحة فكأنمضضا هضضو مضضراوح فضضي‬
‫مكانه‪ ،‬لم يبرح موضعه‪ ،‬وإن قطع المسافات بدونها‪ ،‬وأقام الشهود على قضضدم‬
‫النتساب‪ ،‬وليس هو إل في تكرير وتقليد لذاك الرجل الضضذي جضضاء إلضضى الزاهضضد‬
‫أبي علي الدقاق‪ ،‬يشتاق إلى مواعظه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)قد قطعت إليك مسافة(‪.‬‬
‫أي سافر إليه من بلد بعيدة يبتغي أن يكون له تلميذا وصاحبا‪ ،‬يظضن أن‬
‫طول رحلته يمنحه أولوية على غيره في القرب من أبي علي‪.‬‬
‫فقال له أبو علي‪:‬‬
‫)ليس هذا المر بقطع المسضضافات‪ ،‬فضضارق نفسضضك بخطضضوة‪ :‬يحصضضل لضضك‬
‫مقصودك(‪.‬‬
‫وهذه هي النفس المضضارة بالسضضوء‪ ،‬ذات العيضضوب‪ ،‬عناهضضا أبضضو علضضي‪ ،‬لضضن‬
‫يحصل مقصود الدعوة في الداعية حتى يفارقها بخطوة تكضضون دليل علضضى أنضضه‬
‫قد حل وثاقها له‪.‬‬
‫أي وثضضاق كضضان‪ ،‬بسلسضضل غلظ أم دقضضاق رفضضاع‪ ،‬مضضا دام منهضضن تكضضتيف‬
‫وإقعاد‪.‬‬
‫وهذا هو الضضذي أدركضضه عمضضر بضضن عبضضد العزيضضز بثضضاقب بصضضيرته اليمانيضضة‪،‬‬
‫فطفق يلح على الواحد من ولته على القاليم أن‪:‬‬
‫)‪(31‬‬
‫)ل يكونن شيء أهم إليك من نفسك‪ ،‬فإنه ل قليل من الثم( ‪.‬‬
‫دا‪ ،‬قليله وكثيره‪ ،‬هذا الثم‪.‬‬‫يراه كله قي ً‬
‫فلما تخلص عمر والذين معه مضضن قليلضضه‪ ،‬واهضضتزت الرض لضضذلك وربضضت‬
‫وأنبتت مضن كضل زوج بهيضج‪ ،‬أيقنهضا النضاس نظريضة لعمضر فضي طلضب كضل خيضر‬
‫وصاغها شاعرهم وصية‪:‬‬
‫وكبيرها فهو التقضضي‬ ‫خل الذنوب صغيضضضرها‬
‫ض الشوك يحذر ما يري‬ ‫واصنع كماش فضضضوق أر‬
‫إن الجبال من الحصضى‬ ‫ل تحقضضرن صغيضضضرة‬
‫وتمثيضضل التقضضوى بحضضذر الماشضضي فضضوق أرض كضضثيرة الشضضوك يضضؤثر عضضن‬
‫الفاروق رضي الله عنه‪ ،‬وبذلك جمع الشاعر بين خلصة فقضضه العمريضضن‪ ،‬ومضضن‬
‫كا من شضضدة‬ ‫عرج ساعة لشوكة شيكها‪ ،‬حتى وجد منقاشا‪ ،‬ثم استخرجها ضاح ً‬
‫صغرها كأنها ذرة‪ ،‬عرف أ‪ ،‬ل قليل من الثم حقا‪.‬‬
‫نحو براءة عمرية‬

‫‪ ()31‬تاريخ الطبري ‪.6/569‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ولول أنهما أول المبادرين إلى تطبيق حكمتهما لما خلدت‪ ،‬لكنه هو‬
‫الفاروق لما مات رثته ابنة أبي خيثمة فصاحت‪:‬‬
‫)واعمراه‪...‬‬
‫)‪(32‬‬
‫أمات الفتن‪ ،‬وأحيا السنن‪ ،‬خرج نقي الثوب‪ ،‬بريئا من العيب( ‪.‬‬
‫بكل معنى البراءة والنقاء‪.‬‬
‫أفرأيت كيف انتبهت إلى سر مناقبه!‬
‫إنه سر براءة الداعية من العيب يفعل لدعوة السلم أفاعيلها وفتوحها‪،‬‬
‫وكفي به من سر وسلح‪.‬‬
‫وأحدنا اليوم تخالط قلبه أدران الغرور‪ ،‬ويوهمه خيره القليل‪ ،‬فيغتر‬
‫إدلل‪ ،‬وبتوقف عن الستزادة امتناًنا‪ ،‬آمنا غير وجل‪ ،‬وقانعا غير طامع‪.‬‬
‫ولو أنا ذكرنا ما كان عليه أمر العمرين والسلف‪ ،‬ثم أجرينا المقارنة‬
‫والمقايسة‪ ،‬لتجدد لنا الخوف‪ ،‬وانبعثت الرغبة‪ ،‬وحصل الحث‪ ،‬وعرفنا قدر‬
‫نفوسنا‪.‬‬
‫ولكن خلف نخشى الفضيحة‪.‬‬
‫قالها صادقة صريحة الرجل الزاهد عبد العزيز بن أبي رواد رحمه الله‪،‬‬
‫واعترف بأننا‪:‬‬
‫)إذا ذكرت أحوال السلف بيننا‪ :‬افتضحنا كلنا(‪.‬‬
‫كلهم في القرن الثالث‪ ،‬فأي فضيحة لمن في القرن الخامس عشر؟‪.‬‬
‫ل ترفع سعرك‪....‬‬
‫يفضحنا العجب بالنفس‪.‬‬
‫والمعجب مفضوح ول شك بفضيحتين‪:‬‬
‫ضا‪ ،‬إذ ما زال القدماء يقولون عن فلن‪:‬‬ ‫بفضيحة الزلل والسقوط أر ً‬
‫)إن العجب أخذ برجله فزل(‪ ،‬كمن يهمل النظر في السوق إلى موضضضع‬
‫مضضا‪،‬‬
‫قدمه‪ ،‬فيزلق بقشر أو يعثر بحجر‪ ،‬فمن راث لحضضاله وشضضامت‪ ،‬ويقضضوم مته ً‬
‫تأتيه النصائح من كل جانب‪ ،‬وما هو بحاجة إليها بعد ارتجاج عظامه‪.‬‬
‫أو يغالي‪ :‬يطلب لنفسه السعر العالي‪ ،‬فيفضحه الشافعي‪ ،‬وينضضادي فضضي‬
‫السوق‪:‬‬
‫)من سامي بنفسه فوق ما يساوي‪ :‬رده الله تعالى إلى قيمته(‪.‬‬
‫وسبب العجب أن المعتقد له يستصغر ما علم من ذنوبه‪ ،‬وينسى كضضثيًرا‬
‫منها‪.‬‬
‫فبشر بن الحارث الحافي يعرف العجب بأنه‪:‬‬
‫)أن تستكثر عملك‪ ،‬وتستقل عمل غيرك(‪.‬‬
‫وهذا الجانب من العتداء والزدراء هو الجانب الظهر في العجب حيضضن‬
‫فحصه سفيان الثوري‪ ،‬حتى كأنه قصر تعريف العجب فيه‪ ،‬فحذرك‪:‬‬
‫)إعجابك بنفسك حتى يخيل إليك أنك أفضل مضضن أخ لضضك‪ ،‬وعسضضى أن ل‬
‫تصيب من العمل مثل الذي يصيب‪ ،‬ولعله أن يكون هضضو أورع منضضك عمضضا حضضرم‬
‫الله‪ ،‬وأزكي منك عمل(‪.‬‬

‫‪ ()32‬تاريخ الطبري ‪.4/218‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وكأن الفضيل بن عياض رآه رؤية الثضضوري‪ ،‬فجعلضضه مسضضتقل عضضن جضضانب‬
‫الستكثار الذي ذكره بشر‪ ،‬ومستقل عن نسيان الذنب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)إذا ظفر إبليس من آدم بإحدى خصال قضضال‪ :‬ل أطلضضب غيرهضضا‪ :‬إعجضضابه‬
‫بنفسه‪ ،‬واستكثاره عمله‪ ،‬ونسيانه ذنوبه(‪.‬‬
‫وهذا يعني أن هذه الثلث‪ ،‬الجامعة لوصاف العجب حين رآه الصالحون‬
‫من زواياه المختلفة‪ ،‬هي رأس السوء عند الفضضيل‪ ،‬بحيضث أن إبليضس يضضمن‬
‫بعدها كل عيب يحبه‪.‬‬
‫أي أن العجب أصل كل بلء وفتنة عنده‪.‬‬
‫يجدد بذلك ما نقل له عن عيسى عليه السلم لما قال‪:‬‬
‫)كم من سراج قد اطفأته الريح‪ ،‬وكم من عبادة قد أفسدها العجب(‪.‬‬
‫فالعمل الصالح ضياء ونور‪ ،‬يتحول إلى ظلم إذا هبت ريح العجب عليه‪،‬‬
‫هكذا بهبة واحدة‪.‬‬
‫صرعي المدائح الخمس‬
‫قال الثوري‪:‬‬
‫)فإن لم تكن معجبا بنفسك فإياك أن تحب محمدة الناس‪ ،‬ومحمدته‬
‫أن تحب أن يكرموك بعملك‪ ،‬ويروا لك به شرفا ومنزلة في صدورهم(‪.‬‬
‫* وهذا هو السهم الثاني من سهام الشيطان بعد العجب‪ ،‬يعمل أحدهم‬
‫عمله وهو يريد المكانة به‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬يأتيهم ما يأتي من جهة حب‬ ‫وصرعى هذا السهم كثيرون أي ً‬
‫المحمدة العملية‪.‬‬
‫* فمنه هذا‪ ،‬ومنه ما يأتي من جهة حب محمدة الناس القولية‪ ،‬يحربون‬
‫في مدحه بلغتهم لغراض في نفوسهم‪ ،‬وهو أدرى بمضضا بيضضن جنضضبيه لضضو أذكضضر‪،‬‬
‫لكنه ينسى فيغضضتر‪ ،‬ويعضضرض عضضن ناصضضح أميضضن يعلمضضه أدب الضضدنيا والضضدين مضضن‬
‫قريب‪:‬‬
‫ل يغلبن جهل من أطراك‬ ‫يا جاهل غرة إفراط مادحه‬
‫علمك بك‬
‫أعلم‬ ‫وأنت‬ ‫أثنى وقال بل علم أحاط به‬
‫بالمحصول من ريبك‬
‫لكنه إن لم يعرف هو منزلته فإن الفضيل بن عياض قد وضع فضضي يضضدك‬
‫ميزاًنا تشخص به فصيلته‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)إن من علمة المنافق أن يحب المدح بما ليس فيه‪ ،‬ويكضضره الضضذم فمضضا‬
‫فيه‪ ،‬ويبغض من يبصره بعيوبه(‪.‬‬
‫فتراه لو مدحه أحد ينتفخ صدره في الحال‪ ،‬ويطرب‪ ،‬وتسضضبح الخيضضالت‬
‫حا له‪ :‬أتقلب بسرعة إلضضى حالضضة‬ ‫في بحار من اللذة الغامرة‪ ،‬فإذا جاء آخر ناص ً‬
‫غريبة‪ ،‬يضيق فيها صدره‪ ،‬وتتسارع أنفاسه‪ ،‬وينفلت لسانه بكل لفظ خشن‪.‬‬
‫إن ستر الله تعالى لكثير من زلتنا وعيوبنا إنما هو نعمة كبرى‪ ،‬وكل منا‬
‫أدرى بحقيقة نفسه من غيره‪ ،‬وما تزكيه الغير لنا إل من شباك الستهواء التي‬
‫ينصبها الشيطان‪.‬‬
‫ولقد تأمل خالد بن صفوان في أحوال الناس فحذرك‪:‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ما غرهم ستر الله‪ ،‬وفتنهم حسن الثناء‪ ،‬فل يغلبن جهل غير بك‬ ‫)أن أقوا ً‬
‫علمك بنفسك(‪.‬‬
‫* ومنه نوع ثالث‪ ،‬وهو مبادرة الناقص لمدح نفسضه بلسضانه‪ ،‬ذكضره اللضه‬
‫تعالى فقال‪) :‬فل تزكوا أنفسكم(‪ ،‬وجعله رباح القيسي سضضبب فسضضاد العمضضال‬
‫لما سئل‪:‬‬
‫)ما الذي أفسد على العمل أعمالهم؟‬
‫فقال‪ :‬حمد النفس‪ ،‬ونسيان النعم(‪.‬‬
‫واستدل به الشاعر على وجود المعايب فقال‪:‬‬
‫لتنقص يبديه فيه مدحها‬ ‫عجبا لمادح نفسه ل يهتدي‬
‫ذكرى معايبه فيدري قبحها‪.‬‬ ‫مدح الفتى عند التحدث نفسه‬
‫* ومنه نوع رابع غريب‪ ،‬فإن بعضضض مضضن يتمكضضن منهضضم العجضضب‪ ،‬ويضضرون‬
‫افتضضضاح أمرهضضم‪ ،‬يلجضضأون إلضضى ذم أنفسضضهم أمضضام الغيضضر‪ ،‬ظنضضا منهضضم أن الضضذم‬
‫سيؤدي إلى اعتقاد المقابل بعضضدهم عضضن العجضضب ومضضا دروا أن التواضضضع منحضضة‬
‫ربانية ل تفتعل افتعال‪ ،‬وإنما تتنضضزل علضضى مضضن يعلضضم اللضضه صضضدق تضضوجهه‪ ،‬وقضضد‬
‫كشف الحسن البصري أمر هؤلء‪ ،‬وأكد لنا أن‪:‬‬
‫)من ذم نفسه في المل فقد مدحها‪ ،‬وذلك من علمات الرياء(‪.‬‬
‫ومنه نوع خامس أكثر غرابضضة‪ ،‬إذ يسضضخر الشضضيطان لعاشضضق المضضدح مضضن‬
‫يقوم بدور متوسط‪ ،‬فهو ل ينصحه‪ ،‬يخاف أن تتجدد ثورته‪ ،‬ول يمضضدحه‪ ،‬يخضضاف‬
‫دا بالسضضذاجة‪،‬‬ ‫أن ننكر عليه‪ ،‬بل يلجأ إلى ذكر عيوب أقرانه الخرين‪ ،‬يرمي زيضض ً‬
‫وعمًرا بالدنيوية والكسل‪ ،‬فتهدأ النفس الثائرة‪ ،‬وتطرب من جديد‪ ،‬ونرى فيهضضا‬
‫صورة واقعية تصدق الفضيل حين يقول‪:‬‬
‫)إن من علمة المنافق أن يفرح إذا سمع بعيب أحد من أقرانه(‪.‬‬
‫كفى بالله مزكيا‬
‫ما‪ ،‬واتهمها بالتقصير‪ ،‬ورأى أن مضضا يعملضضه‬ ‫لكن الكيس من دان نفسه دائ ً‬
‫مهما كثر قليل بجانب حقيقة شكر الله‪.‬‬
‫وأحد السبعة الذين يظلمهم الله فضضي ظلضضه يضضوم ل ظضضل إل ظلضضه‪ :‬رجضضل‬
‫تصدق بيمنه صدقة ل تعلمها شماله‪ ،‬ومثله الذي يفتح الله على يديه بالعمضضال‬
‫الصالحة ل يعلمها إل قليضضل‪ ،‬ويراهضا المسضضلمون فل يعرفضضون صضاحبها والضضدعاة‬
‫يهتفون من أول يومهم أن‪ :‬الله غايتنا‪.‬‬
‫فما ضرهم أن يحشروا مع قتلى نهاوند الذين ل يعرفهم الناس‪ ،‬بل الله‬
‫يعرفهم‪.‬‬
‫يقول مدرك بن عوف الحمسي‪:‬‬
‫)بينا أنا عند عمر رضي الله تعالى عنه إذ أتضضاه رسضضول النعمضضان مقضضرن‪،‬‬
‫فجعل عمر يسأله عن الناس‪ ،‬فجعل الرجل يذكر من أصضضيب النضضاس بنهاونضضد‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬فلن بن فلن‪ ،‬وفلن بن فلن‪ ،‬ثم قال الرسول‪ :‬وآخرون ل نعرفهم‪.‬‬
‫فقال عمر رضي الله عنه‪ :‬لكن الله يعرفهم()‪.(33‬‬
‫وفي لفظ آخر‪:‬‬

‫‪ ()33‬الخراج لبي يوسف‪.35/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫)ولكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم()‪.(34‬‬
‫وإنما يسد باب الفتن في الضضدعوة بمثضضل هضضؤلء الجنضضود الضضذين يجضضردون‬
‫عملهم الله‪ ،‬ول يحفلون بمعرفة غيرهم أو جهلهم لما يعملون‪ ،‬وإل فإنها سام‬
‫الشيطان قاتلة‪.‬‬
‫]‪ [6‬الهوى الناقض للبدء النابض‬
‫إن الله جميل يحب الجمال‪.‬‬
‫يحبه لعبده‪ ،‬يريده أن يكون جميل‪.‬‬
‫وأجمل الجمال‪ :‬تجريد العبودية لله تعالى‪ ،‬خالصة‪ ،‬نقية‪ ،‬من غير خلط‪.‬‬
‫ليس للجمال الذي يحبه الله ترجمة أرفع من هذه‪.‬‬
‫عيش مع جمال موازين السلم‪.‬‬
‫ومع جمال حديث رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪.-‬‬
‫ومع جمال فقه ورثته من المجتهدين‪.‬‬
‫ومع جمال سضضيرة أئمضضة المضضؤمنين‪ ،‬مضضن مجاهضضد وزاهضضد‪ ،‬وجنضضدي وقضضائد‬
‫باستقلل‪.‬‬
‫فمن خلط المعية فقد شان الولء وغلظ‪.‬‬
‫ولكن يجرده‪ ،‬على الذي لنا من مذهب أبي القاسم الجنيد البغدادي‪.‬‬
‫قال أبو بكر الكتاني‪:‬‬
‫جرت مسألة في محبة الله تعضضالى بمكضضة‪ ،‬فتكلضضم الشضضيوخ فيهضضا‪ ،‬وكضضان‬
‫الجنيد أصغرهم سنا‪ ،‬فقالوا‪ :‬هات ما عندك يا عراقي‪.‬‬
‫فأطرق رأسه‪ ،‬ودمعت عيناه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫)عبد ذاهب عن نفسه‪ ،‬متصل بذكر به‪ ،‬قضضائم بضضأداء حقضضوقه‪ ،‬نضضاظر إليضضه‬
‫بقلبه‪.‬‬
‫فإن تكلم فبالله‪ ،‬وإن نطق فعن الله‪ ،‬وإن تحرك فبأمر الله‪ ،‬وإن سكن‬
‫فمع الله‪.‬‬
‫)‪(35‬‬
‫فهو بالله‪ ،‬ولله‪ ،‬ومع الله( ‪.‬‬
‫مع الله في كل حال‪...‬‬
‫*مع الله في سبحات الفكر‪:‬‬
‫يسضضيح فكضضره فضضي خلضضوات الليضضالي مضضع عظيضضم صضضنع اللضضه‪ ،‬يتضضدبر خلضضق‬
‫الرضيين والسماوات وما فيهن من جمضضال وكمضضال‪ ،‬وتجضضول خضضواطره مضضع مضضا‬
‫يوجبه الله عليه من النذارة والدعوة إليه‪.‬‬
‫*مع الله في لمحات البصر‪:‬‬
‫يرى اليات التي تدل علضضى أنضضه واحضضد‪ ،‬ويطضضالع دلئل إعجضضازه‪ ،‬ويشضضاهد‬
‫واقع الناس‪ ،‬مضا بيضن محبضوب مطمئن أنضزل اللضضه سضكينته عليضه وألبسضضه رداء‬
‫المهابة‪ ،‬وقلق مذموم ملعون‪ ،‬قد حلت نقمة الله فيه‪.‬‬
‫*مع الله حال احتدام الخطر‪:‬‬

‫‪ ()34‬مجلة )المسلمون(‪.35/‬‬
‫‪ ()35‬مدارج السالكين ‪.3/16‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫يضوقن أن اللضه ل يخضذله عنضد وقضوع الذى وتصضاعد الصضراع‪ ،‬وأن فضوق‬
‫عسر المحن يسًرا ربانًيا‪ ،‬يستجلبه بوحدة يحرص عليها مضع إخضضوانه المضضؤمنين‪،‬‬
‫يراغم الشيطان بها عند اختلف الجتهاد‪ ،‬وتزيينات النفراد‪.‬‬
‫*مع الله في الرهط والمؤتمر‪:‬‬
‫يستمتع بجمال زحف النبي بعد النبي‪ ،‬يقاتل معهم مضضن أرهضضاط الربييضضن‬
‫كثير‪ ،‬ويعرف ما يحبه الله من ضضضوابط العمضضل الجمضضاعي والتضضآمر بضضالمعروف‪،‬‬
‫وأنه ل مؤتمر إل واحتمال تباين الرأي قائم خلل محاوراته‪ ،‬وأنضه ل خطضر فضي‬
‫التباين إذا لم يكن ثم انتصار للنفوس‪.‬‬
‫*مع الله في حب أهل التقي‪:‬‬
‫دا‪،‬‬‫يغبطهم علضضى حكمضضة أوتوهضضا‪ ،‬ومزيضضد عمضضل وفقضضوا لضضه‪ ،‬فيشضضغفهم و ً‬
‫ويتملق لهم لمضضا يضضرى كلمتهضضم مجتمعضضة‪ ،‬وخطتهضضم واحضضدة‪ ،‬عسضضاهم يضضدخلونه‬
‫الزمرة‪.‬‬
‫*مع الله في كره من قد فجر‪:‬‬
‫دا‬
‫يفاصلهم في استعلء‪ ،‬ويتميز بعزة‪ ،‬ويتطهر عن تشبه‪ ،‬ويستصضضغر كي ض ً‬
‫ما هم بضارين به من أحد إل بإذن القدير‪.‬‬
‫فكذلك يكون في كل حال‪ ...‬مع الله‬
‫مع الله في لمحضضات البصر‬ ‫مع الله في سبضضحات الفكر‬
‫مع الله في الرهط والمؤتمضر‬ ‫مع الله حال احتضضدام الخطر‬
‫)‪(36‬‬
‫مع الله في كره قضد فجضضضر‬ ‫مع الله في حب أهضضل التقى‬
‫ومع حقيقة النسان ومصيره‬
‫ثم يتم واقعيته‪ ،‬فيرى حقيقضضة ضضضعف النسضضان وقصضضوره‪ ،‬ويرثضضي حضضاله‬
‫بألفاظ الحسن البصري‪ ،‬يقلب كفيه‪ ،‬ويرسل دمعته عليه‪ ،‬ويقول معه‪:‬‬
‫)مسكين ابن آدم‪..‬‬
‫محتوم الجل‪ ،‬مكتوم المل‬
‫)‪(37‬‬
‫أسير جوعه‪ ،‬صريع شبعه‪ ،‬تؤذيه البقة‪ ،‬وتقتله الشرقة( ‪.‬‬
‫يطيضضل التأمضضل فضضي هضضذا الجضضل الضضذي يطضضوق النسضضان‪ ،‬ويخضضوف نفسضضه‬
‫بحقيقة الموت التي المحتوم‪ ،‬ويعير سمعه إلضضى الفقيضضه القضضادري العلضضوي‪ ،‬إن‬
‫أعوزته البلغة‪ ،‬وهو يعظه‪:‬‬
‫وزخارف الدنيا الدنية‬ ‫الدهر عن طمع يغضضر ويخدع‬
‫تطمع‬
‫طمًعا‪ ،‬وأسياف المنية‬ ‫وأعنه المال يطلقها الرجضضضأ‬
‫تقطع‬
‫والناس بعضهم لبعض يتبع‬ ‫والموت آت‪ ،‬والحياة مضضريضرة‬
‫)‪(38‬‬
‫خبرا‪ ،‬فكن خبرا بخير يسمع‬ ‫واعلم بأنك عن قليل صضضائضضر‬

‫‪ ()36‬للميري في ديوان مع الله‪ ،29/‬من قصيدة طويلة ألجأنا هذا المقدار الذي اقتبسناه منها إلى بعض‬
‫التجوز في العروض في البيت‪.‬‬
‫‪ ()37‬أدب الدنيا والدين للمارودي ‪.73/‬‬
‫‪ ()38‬ذيل طبقات الحنابلة ‪.1/429‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ويظل يرتقي في المشضضاهدة حضضتى يستشضضعر الخضضرة مضضن بعضضد المضضوت‪،‬‬
‫وتكون رؤيته القلبية لها كالرؤية العيانية‪ ،‬مثل رؤية المحدث الزاهد عبد العزيز‬
‫بن أبي رواد الذي كان‪) :‬كأنه يطلع إلى القيامة( )‪ ،(39‬فيتردد قلبه بين بشاشضضة‬
‫الطلل على الجنة‪ ،‬ولذعة الطلع على النار‪ ،‬حتى يرتجف بدنه طمًعا وخيفة‪،‬‬
‫فيعتقل لسانه عن ذكر الموال‪ ،‬والقصور والمناصب والنساء‪ ،‬وتصير مجالسه‬
‫كمجالس المام أحمد‪:‬‬
‫)‪(40‬‬
‫)مجالس آخرة‪ ،‬ل يذكر فيها شيء من أمر الدنيا( ‪.‬‬
‫المرتقى يخاف السقوط‬
‫فما يزال بعد ذلك محاصًرا بمشاهد القيامة‪ ،‬وحقيقضة المضوت القريضب‪،‬‬
‫وفضيحة الضضضعف البشضضري‪ ،‬فيفضضر يطلضضب فهمضضا لحكمضضة اللضضه أسضضمى‪ ،‬ويجضضدد‬
‫التجرد‪ ،‬يبغي زيادة سكينة تحميه هول المشاهد والحقائق والفضائح‪ ،‬ثم يطلبه‬
‫أخرى‪ ،‬فأخرى‪ ،‬في تجديد نيات وتوبات‪ ،‬حتى يحلق عاليا‪ ،‬ويبلغ ذروة العيضضش‬
‫مع أوامر الله‪.‬‬
‫هنا‪ :‬يميل بصره إلى أدنى‪ ،‬فيهوله احتمال السقوط بدفعة من شضضيطان‬
‫جا‪ ،‬فيشضضرع يضضدرس أوصضضاف‬ ‫عدو‪ ،‬فيحذو ‪ ،‬ويخشى هوى يهوي به نزول وتدحر ً‬
‫هذا الهوى‪ ،‬من قبل أن ينقض عليضضه فضضي أعضالي جضضوه وهضضو ل يعرفضضه‪ ،‬ويسضأل‬
‫فقهاء القلوب‪ ،‬من زاهد وشاعر‪ ،‬ينعتونه له‪.‬‬
‫فإنما سمى الهوى )لنضضه يهضضوى بصضضاحبه( كمضضا يقضضول الشضضعبي‪ ،‬التضضابعي‬
‫الكوفي)‪.(41‬‬
‫أي أنه مشتق من السقوط‪.‬‬
‫وى( معناه‪ :‬سقط وجنح للغروب‪.‬‬ ‫جم ِ إ ِ َ‬
‫ذا هَ َ‬ ‫وقول الله تعالى‪َ) :‬والن ّ ْ‬
‫فالضضذي يتمكضضن منضضه الهضضوى‪ ،‬ويخضضالف دللضضة القضضرآن والحضضديث ووصضضايا‬
‫الفقهاء‪ :‬لن تراه إل في تعضضثره ووقضضوع يكبضضه علضضى وجهضضه‪ ،‬ل يعضضرف اتزان ًضضا ول‬
‫دا‪.‬‬
‫صعو ً‬
‫سبب الهوى‬
‫وسببه‪ :‬وسضضخ يكضضون فضضي القلضضب‪ ،‬مضضن طمضضع وحسضضد وانتصضضار للنفضضس‪،‬‬
‫يحجب الرؤية أو يشوشها‪ ،‬كالذي ينظر من وراء زجاجة سوداء‪.‬‬
‫أو يضاف إلى ذلك‪ :‬ضعف عين الهاوي‪ ،‬تكون مقلتضضه شوسضضاء‪ ،‬متقاربضضة‬
‫الجفان‪ ،‬ضيقة المجال‪ ،‬فتزداد صورة الحق الشرعي عنده غبشا ول تتكامل‪.‬‬
‫ولذلك أوصاه الشاعر أن‪:‬‬
‫انظر أوصاه الشاعر أن‪:‬‬
‫انظر‪ ،‬وإياك الهوى‪ ،‬ل تمكنن‬
‫سلطانه من مقلة شوساء‬
‫فجراثيم تلك الوساخ تغزو المقلضضة الشوسضضاء‪ ،‬فتلتهضضب‪ ،‬فتعمضضى إن لضضم‬
‫تعالج‪ ،‬كما أن تلك الجراثيم تكثر في نفس القلب‪ ،‬حضضتى يقضضف نبضضضه‪ ،‬فيكضضون‬
‫الهوى ناقصا لحيوية البداية النابضة‪.‬‬
‫الهوى أسر وقيد‬
‫‪ ()39‬تهذيب التهذيب ‪.6/339‬‬
‫‪ ()40‬مناقب أحمد‪.214/‬‬
‫‪ ()41‬أدب الدنيا والدين‪.14/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ومع أن ابن آدم محتوم الجل‪ ،‬وأنه‪:‬‬
‫)أسير عمر يسير()‪.(42‬‬
‫فإنه يضع نفسه في أسر آخر يختضضاره‪ ،‬لضضو خل إلضى نفسضضه لعجضضب كيضضف‬
‫اختاره‪.‬‬
‫كضضذلك وصضضفه ابضضن تيميضضة‪ ،‬فضضإنه لمضضا سضضجن لضضم يظهضضر حزنضضا‪ ،‬وقضضال‪:‬‬
‫)المحبوس من حبس قلبه عن ربه‪ ،‬والمأسور من أسره هواه()‪.(43‬‬
‫فجعل الهوى أسًرا‪.‬‬
‫مع ذلك ترى الناس يقعضضون فيضضه مضضرة بعضضد مضضرة‪ ،‬لمضضا فيضضه مضضن إغضضراء‪،‬‬
‫والعاقل يقيد نفسضضه عنضضه إن جربضضه مضضرة‪ ،‬أل يسضضهو فيسضضتجيب ثانيضضة للغضضراء‪،‬‬
‫فيكون كحر لم يصب أصل الحرية واعتنى بصورتها‪ ،‬فمد يديه لقيضضد الهضضوى‪ ،‬أو‬
‫كعبد استخذى لتعبيده لما خدعوه وبدلوا أسماء القيود‪ ،‬وجاءه الناصضضح الميضضن‬
‫الصريح بقيد يحوطه عن مشيه إلى الهوى‪ ،‬فرفضه‪.‬‬
‫وهما من تعجب عبد الوهاب عزام لقلة معرفتهما‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وأبي في الحياة قيد سواه‬ ‫قيد الحر نفسه برضاه‬
‫)‪(44‬‬
‫وترى العبد راضيا كل قيد غير تقييد نفسه عن هواه‬
‫والحقيقة أن هذا القيد الثاني الذي يمنع النفلت إلى الهوى ليضضس بقيضضد‬
‫وإن استعار اسمه‪ ،‬وإنما هو محض ارتبضضاط بضضالله وأمضضره ونهيضضه‪ ،‬يظضضن القلضضب‬
‫الساذج أنه من جنس القيود‪ ،‬فيطلب التحضرر منضه‪ ،‬فيسضتدرجه إغضراء الهضوى‪،‬‬
‫فيكوب ميادينه وعرصاته‪ ،‬يحسب أنه المتحرر‪ ،‬وبئست حرية الهواء‪.‬‬
‫دا‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫دا واح ً‬‫جزم وليد العظمي بذلك‪ ،‬ولم يجعل بين الحالتين إل ح ً‬
‫)‪(45‬‬
‫فإنما هو بالهواء جواب‬ ‫والقلب ما لم يكن بالله مرتب ً‬
‫طا‬
‫حرية اسمها‪ :‬الرتباط‬
‫أو تقلب ودوران اسمهما‪ :‬الحرية‪.‬‬
‫تنازع يقود إلى البطالة‬
‫وللهوى أربع مضرات أخر سوى هذا السر‪ ،‬رآها ثقات الطباء عند أهضضل‬
‫الهوى وأحصوها‪:‬‬
‫منهضضا‪ :‬أنضضه يصضضد عضضن الحضضق‪ ،‬بحيضضث تضضأتي بالضضدليل والحجضضة‪ ،‬فيجحضضدهما‬
‫الهاوى‪ ،‬وكان أعظم تخوف أمير المؤمنين علي رضي الله عه من ذلك‪ ،‬فقضال‬
‫دا‪:‬‬
‫متشد ً‬
‫)إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتين‪:‬‬
‫طول المل‪ ،‬واتباع الهوى‪.‬‬
‫فأما طول المل فينسي الخرة‪.‬‬
‫)‪(46‬‬
‫وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق( ‪.‬‬
‫ومنها إفساد العقل‪ ،‬فتكون اجتهاداته معيبة غير موزونة‪.‬‬

‫أدب الدنيا والدين‪.104/‬‬ ‫‪()42‬‬


‫ذيل طبقات الحنابلة ‪.2/402‬‬ ‫‪()43‬‬
‫ديوان المثاني‪.147 /‬‬ ‫‪()44‬‬
‫مجلة التربية السلمية‪.494/‬‬ ‫‪()45‬‬
‫الزهد لحمد‪.130/‬‬ ‫‪()46‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫فخذ بمنهج من يعصي هواه وقد أطاع أهككل الحجككا فككي كككل‬
‫مؤتمر‬
‫إن الهوى يفسد العقل السليم ومن يعص الهوى عاش فككي‬
‫أمن من الضرر‬
‫ومنها التنازع بين الخوان‪ ،‬وتطوير اختلف وجهضضات النظضضر إلضضى تخضضالف‬
‫بين القلوب‪.‬‬
‫وقد استقصى سيد قطب أخبار المختلفين‪ ،‬فتبين له أنضضه‪) :‬ليضضس الضضذي‬
‫يثير النزاع هو اختلف وجهات النظر‪ ،‬إنما هو الهوى الضذي يجعضل كضل صضاحب‬
‫وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق في غيرها‪ ،‬وإنما هو وضع الذات في‬
‫كفة‪ ،‬والحق في كفة‪ ،‬وترجيح الذات على الحق ابتداء()‪.(47‬‬
‫ومنها –وليس بآخرها‪ :-‬البطالضضة‪ ،‬وتضضرك الجماعضضة‪ ،‬والقعضضود عضضن العمضضل‬
‫والمشاركة في أبواب الخير التي يطرقها الدعاة‪ ،‬حتى ينسضضى معنضضى النشضضاط‬
‫ومغزى الدعوة‪ ،‬فإنها‪:‬‬
‫هوى نفس يقود إلى البطالة‬ ‫ثلث مهلكات ل محضضاله‬
‫)‪(48‬‬
‫وعجب ظاهر في كل حضاله‬ ‫وشح ل يزال يطاع دأبضضا‬
‫ضرورة علج الهوى‬
‫وأضر من هذه الضرار كلها‪ :‬أن يكون المرء متماديا ل يعالج هواه‪ ،‬غيضضر‬
‫مسرع إلى مخالفته‪ ،‬حتى أن مثضضل أبضضي العتاهيضضة يضضضجر ويتضضأفف مضضن بضضرودة‬
‫صاحبه في ذلك‪ ،‬فيخاطبه‪:‬‬
‫فلرب خير في مخالفة‬ ‫خالف هواك إذا دعاك لريبة‬
‫الهوى‬
‫حتى‬ ‫متى؟‬ ‫حتى‬ ‫حتى متى ل ترعوى‪ ،‬يا صاحبي‬
‫متى؟ وإلى متى؟‬
‫ويتعجب ثانية لفتوره وعدم المسارعة إلى الصلح فيقول‪:‬‬
‫سبحانه‪ ،‬إن الهوى لغلوب‬ ‫سبحان ربك كيف يغلبك الهوى‬
‫إصلح نفسك فترة ونكوب‬ ‫سبحان ربك ما تزال وفيك عضن‬
‫وكان صاحبه كان كبعض من نراهم اليضضوم‪ ،‬ينكضرون تلبسضضهم بضالهوى‪ ،‬ل‬
‫يكتشفونه‪ ،‬فيقعدون عن تداو وعلج‪ ،‬ولكن الطضضبيب المضضاهر يكتشضضف وإن لضضم‬
‫يحسوا به‪.‬‬
‫وقد ينبيك بالمر‬ ‫ومن يطع الهوى يعرف هواه‬
‫الخبير‬
‫فالخبير‪ ،‬ومن عنده علم الفتضضن وصضضفات الشضضر‪ :‬يعضضرف الهضضوى الكضضامن‬
‫المستقر من آثاره الظاهرة ل محالة‪.‬‬
‫ولذلك يجب الصغاء لطبيب خبير من السضضلف طلضضب منضضا إضضضعاف هضضذا‬
‫العدو فقال‪:‬‬
‫)الهوى ل يترك العبودية تصفو‪ ،‬وما لضضم يشضضتغل السضضالك بإضضضعاف هضضذا‬
‫العدو الذي بين جنبيه ل تصح له قدم‪ ،‬ولو أتى بأعمال تسد الخافقين‪.‬‬

‫‪ ()47‬الظلل ‪.10/26‬‬
‫‪ ()48‬نفح الطيب ‪.8/59‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫والرجل كل الرجل مضضن داوى المضضراض مضضن الخضضارج‪ ،‬وشضضرع فضضي قلضضع‬
‫أصولها من الباطن‪ ،‬حتى يصفو وقته‪ ،‬ويطيب ذكره‪ ،‬ويدوم أنسه(‪.‬‬
‫سماها رجولة‪ ،‬ووافقه مصطفى صادق الرافعي في ذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)إنما الرجولة في خلل ثلث‪:‬‬
‫عمل الرجل على أن يكضضون فضضي موضضضعه مضضن الواجبضضات كلهضضا قبضضل أن‬
‫يكون في هواه‪.‬‬
‫وقبوله ذلك الموضع بقبول العامل الواثق من أجره العظيم‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬قدرته على العمل والقبول إلى النهاية()‪.(49‬‬
‫ولو استقام العاملون على هذه الثلث لما وجضضدت فتنضضة مجضضال للظهضضور‬
‫دا‪.‬‬
‫أب ً‬
‫أداء الواجب‪ ،‬بانتظار الجر الرباني ل الثناء العاجل ول الرئاسة‪.‬‬
‫والثابت على ذلك‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬هو علج صعب‪ ...‬لكنه لذيذ‪.‬‬
‫صعب وشديد‪ ،‬كما قال أبو العتاهية‪:‬‬
‫وما كرم المرء إل التقى‬ ‫أشد الجهاد جهاد الهوي‬
‫ببذل الجميل‪ ،‬وكف الذى‬ ‫وأخلق ذي الفضل معروفة‬
‫أي كف أي ظنونه وأذى لسانه‪ ،‬عن المضضؤمنين‪ ،‬ويضضزداد شضضدة إن أطضضال‬
‫الهمال فيما قرر المحدث الثقة الزاهد الكوفي محمد بن كناسة في قوله‪:‬‬
‫إذا اعتادت النفس الرضاع من الهوى‬
‫)‪(50‬‬
‫فإن فطام النفس عنه شديد‬
‫لكن صعوبة هذا العلج تخف بعد المباشضضرة فيضضه‪ ،‬ويضضأتيه المضضدد نضضم رب‬
‫رحيم‪.‬‬
‫وحين ذاك‪ ،‬ومع كل جولة ينتصر فيها على هواه‪ ،‬ينتشي ويلتذ لذة ليس‬
‫كمثلها لذة‪ ،‬كلذة من يرتقي قمة صعبة ويعلوها‪ ،‬فإن‪:‬‬
‫)في قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة(‪.‬‬
‫)‪(51‬‬
‫كما يقول ابن الجوزي‬
‫وإنما نعني بعلج الهوى‪ :‬مناقضته ومخالفته‪ ،‬والعمل بضد ما ينادي‪ ،‬كما‬
‫ورد في قول الشاعر‪:‬‬
‫رمت بك أقصى مهاوي الخديعة‬ ‫هي النفس إن أنت سامحتها‬
‫وإن واصلتك أجزها القطيعة‬ ‫فإن شئت فوزا فناقض هوها‬
‫)‪(52‬‬
‫فميعادها كسراب بقيعة‬ ‫ول تعبأن بميعادها‬
‫بل ربما ذلك ل يكفضضي‪ ،‬فضضإنه يضضراوده مضضرة أخضضرى‪ ،‬ولكضضن نحتقضضره علضضى‬
‫طريقة سيد الزهاد إبراهيم بن أدم حين وصفه ابن أخته محمد بن كناسة‪:‬‬
‫)‪(53‬‬
‫*أهان الهوى حتى تجنبه الهوى*‬

‫وحي القلم ‪.1/368‬‬ ‫‪()49‬‬


‫الغاني ‪.13/342‬‬ ‫‪()50‬‬
‫صيد الخاطر‪.58/‬‬ ‫‪()51‬‬
‫نفح الطيب ‪.7/362‬‬ ‫‪()52‬‬
‫شطر في الغاني ‪.13/337‬‬ ‫‪()53‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫فنزدريه‪ ،‬ونهزأ به‪ ،‬ونضحك عليه‪ ،‬حتى يولي مدبًرا‪ ،‬يتجنب المرور عضضبر‬
‫دربنا بعدها أبدا‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫]‪ [7‬تأليف الرواح‬
‫أصبحت علمة السضالك‪ ،‬الصضضادق فضي هجرتضه إلضى اللضضه تعضالى‪ ،‬علمضضة‬
‫واضحة يتعرف إليها الداعية الذي أرهبته أهوال وصف الهضضوى النضضاقض لحيويضضة‬
‫البتداء المتحرك الضضدفاق النضضابض‪ ،‬تعرفضضا سضضريًعا ل يحتضضاج إلضضى مزيضضد فراسضضة‬
‫وتجربة‪.‬‬
‫فليس من عجب إذن أن يسرع أبو علضضي الروذبضضاري الشضضارة إليهضضا لمضضا‬
‫سألوه عنها‪ ،‬ول عجب ثانية للبلغة التي انبغت له وكانت بين يديه‪ ،‬حين طفق‬
‫يمنح هوية العمل وفق شروط ثلثة‪ ،‬ويحكر صادق السلوك علي‪:‬‬
‫)من سلك طريق المصطفى‪.‬‬
‫وأطعم الهوى ذوق الجفا‪.‬‬
‫)‪(54‬‬
‫وكانت الدنيا منه على القفا( ‪.‬‬
‫ليس لمقبل على دنيا‪ ،‬أو صريع هوى معهم نصيب‪.‬‬
‫عصبة العزم باقية‬
‫إنه سلوك طريق المصطفى ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬أول الشروط‪ ،‬بضضل‬
‫البديهية التي قد ل يرى البعض حاجة لذكرها‪ ،‬ولكن مضن يعلضضم أن بعضضض آيضضات‬
‫الله هن أم الكتاب وآخر يعدلن الثلث‪ :‬يعلم أيضا أن بعض كلمضضات المصضضطفى‬
‫‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬المحددة لطريقه الذي ندب لنا الروذباري سلوكه‪ :‬هن‬
‫أمهات الحديث‪ ،‬يضعن الموازين‪ ،‬ويرسين القواعد‪ ،‬ويجمعن المتفرق‪ ،‬وإياهن‬
‫يعني الروذباري قبل أن يكون عني الجزئيات‪ ،‬وعليهن يؤكد‪.‬‬
‫ولقد تحدث ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬عن أمة حزم ضمن أمتضضه العظمضضى‬
‫التي تنتسب إليه‪ ،‬ل تترخص مع المترخصين‪ ،‬ول تغفل مع الغافلين‪ ،‬بضضل تأخضضذ‬
‫القرآن والسنة بعزم‪ ،‬ثم جعل لها علمة صارت ميزانا إسلميا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)لن تزال هذه المككة قائمككة علككى أمككر اللككه‪ ،‬ل يضككرهم مككن‬
‫خالفهم حتى يأتي أمر الله(‪.‬‬
‫أي أن الداعية المسلم حيث يبحث مستقبل الدعوة السلمية عليضضه أن‬
‫ل يفترض مجرد افتراض بقاء وثبات المجموعة الحازمة ضمن المة السلمية‬
‫الواسعة ثبات استمرار على مر العصور‪ ،‬إذ تقنع بمثل هذا الفتراض كل نفس‬
‫مليئة بالمل‪ ،‬ولكن يتيقن الداعية ذلك يقين عقيدة‪.‬‬

‫‪ ()54‬تاريخ بغداد ‪.1/332‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫تكامل يتبادل الخير‬
‫وذو النظر الجزئي يصرف المقصود بهذه المة إلى صنف من العضضاملين‬
‫يبهره خيره وفضله‪ ،‬فمن قائل أنهم أهل الحديث‪ ،‬ومن قائل أنهم الفقهضضاء‪ ،‬أو‬
‫ثالث يرى أنهم الزهاد‪ ،‬أو المرة النهاة عن المنكر‪.‬‬
‫والصواب أنها المة المتكاملة الختصاصات‪ ،‬التي يعطي وجودها صضضورة‬
‫حركية بحاجات السلم المتعددة‪ ،‬كما رآها المام النووي‪:‬‬
‫)فرقة من أنواع المؤمنين ممن يقيم أمر الله تعالى‪ ،‬من مجاهد وفقيه‪،‬‬
‫ومحدث وزاهد‪ ،‬وآمر بالمعروف‪ ،‬وغير ذلك من أنواع الخير ول يلزم اجتماعهم‬
‫في مكان واحد‪ ،‬بل يجوز أن يكونوا متفرقين()‪.(55‬‬
‫يعني تفضضرق المكضضان‪ ،‬النبثضضات والنتشضضار‪ ،‬ل تفضضرق الكلمضضة والبعضضد عضضن‬
‫التشاور وإهمال السلوب الواحد‪.‬‬
‫وهذا من فقه النووي في العمل ومعاني الدعوة‪.‬‬
‫أما من قصرها على طائفة معينة فإنما يصضضيب بمقضضدار مضضا فضضي الواحضضد‬
‫النموذج من أفراد تلك الطائفضضة مضضن كمضضال فضضي الصضضياغة التربويضضة والعمليضضة‪،‬‬
‫كالمضضام أحمضضد بضضن حنبضضل حيضضن ذكضضر أنهضضم أهضضل الحضضديث‪ ،‬فضضإنه رأي شخصضضية‬
‫المحدث جامعة لرواية الحديث المسضضند والفقضضه فضضي متضضونه‪ ،‬والزهضضد ومكضضارم‬
‫الخلق‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والجهاد‪ ،‬فقصر الوصف عليهضضم‬
‫وأصاب‪ ،‬ثم خلفه على توالي القرون خلف أخذوا مضضن تفسضضيره حروفضضه‪ ،‬ولضضم‬
‫يلتفتوا إلى الواقضضع الموصضضوف وكمضضال صضضياغات الضضدعاة نضضم المحضضدثين الضضذين‬
‫عضدوه في جولته مع الجهمية والمعتزلة‪ ،‬فعكفوا منفرديضضن علضى ألفضضاظ مضضن‬
‫الحديث مجردة‪ ،‬وتركوا المجتمع يربيه من ل دين له‪ ،‬والسياسة يمارسضضها كضضل‬
‫عميل وفاسق‪ ،‬يظنون أنهم المة القائمة على أمر الله‪.‬‬
‫ول شك أن جماعة من أفضضراد تكضضاملت صضضياغة كضضل واحضضد منهضضم فقضضرن‬
‫العلم بالجهاد والمر والنهي بالزهد‪ :‬أرفع من جماعضضة أخضضرى يكمضضل اختصضضاص‬
‫الواحد منهم اختصاص الخر‪.‬‬
‫وهذا ما يضع الجماعة المتصدية للقيام بضضأمر اللضضه أمضضام واجضضب التربيضضة‬
‫الجماعية التي تأخذ من خير هذا ليشاركه هذا‪ ،‬ومضضن خيضضر هضضذا فتفيضضضه علضضى‬
‫هذا‪ ،‬فيبطل أمر من خالفهم‪ ،‬بما سدوا من ثغرات‪ ،‬قد ينفذ منها هذا المخالف‬
‫إلى أحدهم فيضرهم‪.‬‬
‫واجب تربوي ل تظنن أن السلف غفلوا عضن إدراكضضه أو تلبيضضة متطلبضضاته‪،‬‬
‫بل ل تزال قصص حياة بعضهم تنتظر من يفيد منها مضضن دعضضاة السضضلم اليضضوم‬
‫عا‪ ،‬من بعد ا بنت جيل من الدعاة في يومها الماضضضي‪ ،‬أصضضلحوا مضضا‬ ‫اقتداء واتبا ً‬
‫أفسد الضعفاء‪ ،‬وقوموا ما حرفه الدنيويون‪.‬‬
‫نظرية الشكال المؤتلفة‬
‫يبرز منهم في الصدر الول‪ :‬التابعي المحدث الفقيه المربي الشاعر‪:‬‬
‫عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي‪ ،‬حفيد أخي عبضضد اللضضه‬
‫بن مسعود رضي الله عنه‪ ،‬وأحد فقهضضاء المدينضضة السضضبعة‪ ،‬ومضضن رؤوس العلضضم‬

‫‪ ()55‬فتح الباري بشرح البخاري ‪ 1/174‬طبعة الحلبي‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫والنباهة الذين تلمذوا لعبد الله بن عبضضاس وأبضضي سضضعيد الخضضدري وأبضضي هريضضرة‬
‫والنعمان بن بشير وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعنهم أجمعين)‪.(56‬‬
‫نهج عبيد الله منهجا تربويا سماه‪) :‬التأليف بيضضن الرواح(‪ ،‬وخلضضد عنضضوانه‬
‫شعرا فقال‪:‬‬
‫إذا لم يؤلف روح‬ ‫وما يلبث الفتيان أن يتفرقوا‬
‫)‪(57‬‬
‫شكل إلى شكل‬
‫ظاهرة بيت شعر تحركت به شفقة شاعر ليطرب قلوبا يبهجها الحضضرف‬
‫البليغ‪ ،‬لكنه لمن عرف خلفياته يمثل خلصة تجربة تربوية انسابت عضضبر سضضيرة‬
‫مرب مصلح لتغذي قلوب يلذعها تفرق المسلمين‪.‬‬
‫يجزم أنه إحلل اللفة بين الرواح‪ ،‬أو هو الختلف المشتت‪.‬‬
‫يعنضضي ذلضضك أن مضضذهبه الضضتربوي ل يبضضدأ ول يكتفضضي بإعطضضاء العقضضول مضضا‬
‫تحتاجه من علم شرعي‪ ،‬وتربية فكرية‪ ،‬وخبرة سياسية‪ ،‬ودراسضضة واقعيضضة‪ ،‬بضضل‬
‫يعتني بالقلوب أول يجعلها متشاكلة‪ ،‬ويظل يواصل عنضضايته بهضضا إن التفضضت إلضضى‬
‫العقول بعد‪.‬‬
‫فمغزى نظريته أنها تعطي للتربية الروحية الولوية‪.‬‬
‫وربما أعطت نظرة سريعة لحديث عبيد الله بن عبد الله فضضي صضضحيحي‬
‫البخاري ومسلم صورة قريبة من التفصيل لما كان يربي أصحابه عليه‪ ،‬ولكضضن‬
‫التفصيل كل التفصيل تفهمه إن علمت أن تربيته أنتجت عمر بضضن عبضضد العزيضضز‬
‫رحمه الله‪ ،‬مثال المتجرد‪ ،‬ونموذج الحاكم العادل‪ ،‬إذ كضضان هضضو مضضؤدبه الخضضاص‬
‫ومربيه الذي لقنه معاني اليمان‪.‬‬
‫فمن بهرته شخصية عمر‪ :‬عليه أن ينظضضر مضضن صضضاغ عمضضر وكضضان وراءه‪،‬‬
‫ويفحص نظرية التأليف التي ألفت بين قلبه وقلوب عصبة الخير الضضتي عضضاونته‬
‫في إشاعة العلم والعدل في المصار‪ ،‬ممن صقلتهم صحبة عبيد الله بضضن عبضضد‬
‫الله‪ ،‬من أمثال‪ :‬أبي بكر بن محمد بضضن عمضضرو بضضن حضضزم‪ ،‬أحضضد فقهضضاء المدينضضة‬
‫السبعة ووالي عمر على المدينة‪ ،‬والزهري زعيم المحدثين‪ ،‬وسعد بن إبراهيم‬
‫بن عبد الرحمن بن عوف‪ ،‬وعراك بن مالك القاضي‪ ،‬وصالح بن كيسان‪.‬‬
‫فلقد علمهم عبيد الله أسس السلوك في عصر الفتضضن الضضذي عاشضضوه‪،‬‬
‫واستطاع بنظريته التربوية أن يوجههم لتأسيس مجتمع السلم والعلم من بعد‬
‫ما كادت الخلفات تسضضتهلك مضا عنضضد النضضاس مضن خيضضر‪ ،‬وأداه صضضدق نيتضضه فضي‬
‫مسعاه‪ ،‬وتركيزه على تربية عمر بن عبد العزيز مضضن بعضضد‪ ،‬ووعيضضه للحتمضضالت‬
‫التي تكتنف مستقبل عمر‪ ،‬إلضى تأييضد ربضاني رفضع عمضر إلضى السضلطة‪ ،‬ليعلضم‬
‫النضضاس علضضم الخضضرة مضضن مركضضز القضضوة المهضضاب ل مضضن زوايضضا المستضضضعفين‬
‫المنسية‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬حال السلم بين عمر والتمام‪ ،‬وشوش أبو مسلم الخراساني فيما‬
‫بعد على تلمذة جيل الصلح الذي وعضضي نظريضضة تضضأليف الرواح‪ ،‬لكنهضضا كضضانت‬
‫بارقة ول زالت تنير طريق الدعاة السائرين‪ ،‬وكلمة باقية في عقب عبيضضد اللضه‬
‫من حزب تأليف الرواح‪.‬‬

‫‪ ()56‬تهذيب التهذيب ‪.7/33‬‬


‫‪ ()57‬الغاني ‪.9/144‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫مع السراب في النشيد‬
‫فلقد ظل وميض البارقة يتوالى‪ ،‬حتى استنار به إقبال من بعد القضضرون‪،‬‬
‫فجدد حكمة عبيضد اللضه‪ ،‬وراح يضضترنم فضي ريضاض لهضور‪ ،‬تتهضادى نغمتضه‪ ،‬تعلضم‬
‫المسلم الجديد‪:‬‬
‫في سوى بيئته يلقي رداه‬ ‫كل من أوتى حظا من حياة‬
‫)‪(58‬‬
‫ومع السرب بلحن فاصدح‬ ‫بلبل أنت‪ ،‬ففي الروض أمرح‬
‫فليست الدنيويات بيئة المسلم‪ ،‬ول مجرد الفكرة تعصضضمه‪ ،‬ول الهضضداف‬
‫الجزئية تهبه الحياة‪ ،‬بل مؤتمر المؤمنين الشامل اليات ومجمعهضضم المتكامضضل‬
‫الذي يتهادى الخير‪.‬‬
‫يريد إقبال أن ل ننفرد‪ ،‬ول نأتي بنغمة نشاز تسلب اللحن جماله‪.‬‬
‫يريدنا سرب لسضان واحضد بعضد مضا كنضا زمضضرة قلضب واحضد‪ ،‬نمضضرح مضرح‬
‫المال‪ ،‬ل نحزن حزن اليأس‪.‬‬
‫يريد تشذيبا في نفوس الجميضضع‪ ،‬نبضضتر بضضه كضضل نتضضوء زائد فيهضضن‪ ،‬ليتسضضق‬
‫خطهن المستقيم‪ ،‬أي‪ :‬محاسبة النفس وعتابها‪ ،‬فإن لم تستح فتقريعها‪.‬‬
‫علمك بالفساد صلح‬
‫فلقد كاد أمية بن أبضضي الصضضلت –وظلم الجاهليضضة مضضن حضضوله‪ -‬أن يسضضلم‬
‫بهذه المحاسبة ومثيلتها‪ ،‬يوم قال‬
‫)‪(59‬‬
‫يعلم أن البصير رامقها‬ ‫عبد دعا نفسه فعاتبها‬
‫فسنها أمية سنة فطرية قبل أن تكون أمر شضضرع‪ ،‬تبكضضت مضضن لضضم يأخضضذ‬
‫الكتاب بقضضوة‪ ،‬أن شضضاعًرا جاهليضضا سضضبقه فضضي الفقضضه‪ ،‬فضضأيقن أن يصضضيرا عليمضضا‬
‫يراقب خلجات النفوس من فوق سبع سضضماوات ويحصضضيها ويعضضدها عضضدا‪ ،‬وراح‬
‫يلوم نفسه ويدقق في النقاش‪.‬‬
‫والمسلم الصادق يزيد على ذلك‪ ،‬فينظم نداء الفطضرة بإرشضاد القضرآن‪،‬‬
‫وتفزعه احتمالت النفس وزخارف تمنياتها‪ ،‬فيلجأ إلضضى اللضضه رأسضضا وبل إبطضضاء‪،‬‬
‫يردد خلف تلميذ الثوري يوسف بن أسباط دعاءه‪:‬‬
‫)اللهم عرفني نفس(‪.‬‬
‫فإن في النفس من السرار والخفايضضا مضضا ل يكشضضفه إل عضضون اللضضه لنضضا‪،‬‬
‫حتى أستاذا في علم النفس مثل سهل بن عبضضد اللضضه التسضضتري الزاهضضد يجضضزم‬
‫بأن‪:‬‬
‫)معرفة النفس أخفى من معرفة العدو(‪.,‬‬
‫أي أن عيوبها تتستر وتموه أمرها كما يتستر العدو ويخادع‪ ،‬لكنه خفاء ل‬
‫بد من اقتحامه واستجلئه إذا أردنا النفس الزكية‪ ،‬وتعيين مكضضان العلضضة يسضضبق‬
‫مقص الجراح‪.‬‬
‫لس الشفاء قبل‬ ‫إن بحث الطيب عن داء ذي الداء‬
‫الشفاء‬
‫أو كما قال زاهد مكة الثقة وهيب بن الورد‪:‬‬
‫)إن من صلح نفسي‪ :‬علمضضي بفسضضادها‪ ،‬وكفضضي للمضضؤمن مضضن الشضضر أن‬

‫‪ ()58‬ديوان السرار والرموز‪.120/‬‬


‫‪ ()59‬عيون الخبار ‪.2/375‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫دا ل يصلحه(‪ ،‬وكقول حسن البصري‪) :‬ل يزال العبد بخيضضر مضضا علضضم‬ ‫يعرف فسا ً‬
‫)‪(60‬‬
‫الذي يفسد عليه عمله( ‪.‬‬
‫فل يزهدنك فيها أنها معرفة عيوب وتأمل سالب‪ ،‬بل أنظرهضضا علضضى أنهضضا‬
‫خطوة ضرورية في طريق الصلح كما نظرها وهيب‪.‬‬
‫وأنظرها على أنهضا صضضفة ل غنضضى عنهضا للداعيضضة إن أراد أن يتحقضضق فضي‬
‫الدعوة‪ ،‬فإن من لم يعرف نفسه وينكر عليهضضا منكرهضضا‪ :‬ل يسضضتطيع أن يعضضرف‬
‫نفس غيره ويقوم اعوجاجها‪.‬‬
‫تلك مادة في قانون العمل عند الكيلني تقول‪:‬‬
‫)إذا كنت منكًرا على نفسك‪ :‬قدرت على النكار على غيرك‪.‬‬
‫على قدر قوة إيمانك تزيل المنكرات‪ ،‬وعلى قدر ضعفه تقعد في بيتضضك‬
‫وتتخارس عن إزالتها‪.‬‬
‫)‪(61‬‬
‫أقدام اليمان هي التي تثبت عند لقاء شياطين النس والجن( ‪.‬‬
‫إنها حروف ليست كغيرها أن يقول الكيلني‪:‬‬
‫)تقعد في بيتك وتتخارس(‪.‬‬
‫جرسها مخيف‪.‬‬
‫إنها حروف هجاء مر في لغة الدعاة‪.‬‬
‫ويا له من عار يأنف منه كل عزيز نفس‪ ،‬والغيور ل ينسى هذه الجملضضة‪،‬‬
‫كأنه يرى وجه الكيلني يطل عضضبر القضضرون‪ ،‬يهتضضك عليضضه سضضتار النافضضذة‪ ،‬يعيضضره‬
‫تواريه بالبيوت‪ ،‬وتلبسه بعيوب تقود إلى قعود‪.‬‬
‫تنقية وصفاء‬
‫طا‪ ،‬ولكننا عرفنا الغيبة وحب المدحة والهوى‪:‬‬ ‫وتسميها اللغة عيوبا وأخل ً‬
‫سلسل مقيدة وسهام شيطان‪ ،‬ونواقض بدايات نابضات‪.‬‬
‫دا حيضضن يوصضضي أخضضاه‬ ‫فل جرم أن يسمى الثورى الريضضاء بعضضد ذلضضك فسضضا ً‬
‫ويقول‪:‬‬
‫)إياك وما يفسد عليك عملك‪ ،‬فإنما يفسد عليك عملك الرياء(‪.‬‬
‫يمر عليه هكذا ول يعرفه‪ ،‬غير نضضاس ول عضضاجز‪ ،‬بضضل لنضضه أمضضام معنضضى ل‬
‫يمكن تعريفه‪ ،‬إنما يعرفه البرئ منه فقط‪ ،‬كما يقرر الفضيل بضضن عيضضاش حيضضن‬
‫يقول‪:‬‬
‫)ل يعرف الرياء إل مخلص(‬
‫فمن ذاق حلوة الخلص‪ :‬عرف مرارة الرياء‪ ،‬ليس من طريقة أخرى‪.‬‬
‫يكن مخلصا ثم كفي‪ ،‬وسلم على عباد الله المخلصين‪.‬‬
‫آخرك نتن يا هذا‪...‬‬
‫وإل فإن الرياء يولد عجبا‪ ،‬ينسى معه أن الناس تراب وماء‪ ،‬وينسى منة‬
‫ما‪ ،‬فيتبخضضتر‪ ،‬ويتصضضنع ويتكلضضف المظضضاهر والفصضضاحة‪،‬‬ ‫الله عليضضه إذ جعلضضه مسضضل ً‬
‫ويستأجر له حاشية تحيطه بهيبة عارية‪.‬‬
‫ولضضو درى أولضضه وحاضضضره ومنتهضضاه لوقضضف مكضضان الشضضاعر الضضذي يصضضفه‬
‫متعجبا‪ ،‬ولزاد تعجبا!!‬

‫‪ ()60‬كتاب الزهد‪ ،‬لبن المبارك‪.528 /‬‬


‫‪ ()61‬الفتح الرباني‪.30/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫فضائح مزرية نسيها المعجب فضحك منها الشاعر‪:‬‬
‫وكان بالمس نظفه مذره‬ ‫عجب من معجب بصورته‬
‫يصير في اللحد جيفة قذره‬ ‫وفي غده بعد حسن صورته‬
‫)‪(62‬‬
‫ما بين ثوبيه يحمل العذره‬ ‫وهو على تيهه ونخوته‬
‫ولذلك منع الثقات إسماع الثقضضة مثلهضضم كلمضضة مضضدح فيضضه‪ ،‬بسضضبب قضضرب‬
‫قميص العجب من النفوس‪ ،‬أل تتناوله يد الممدوح فتلبسه‪ ،‬حتى خشضضي عمضضر‬
‫بن الخطاب على مثل أبي موسى الشعري رضضضي اللضضه عنهمضضا مضضا قضضد يولضضده‬
‫المدح من غرور في نفسه فقال لنس رضي الله عنه يصف أبا موسضضى‪) :‬أمضضا‬
‫إنه كيس‪ ،‬ول تسمعها إياه()‪.(63‬‬
‫فإن وقع أحد في العجب‪ ،‬وعاون الثقات الشيطان على أخيهم بمدحهم‬
‫له في الوجه على حين غفلة من أنفسهم‪ :‬تطور العجب إلضضى كضضبر فيضضه غمضضط‬
‫حق الخرين‪ ،‬ونسي التواضع‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬كما قال يونس بن عبيد‪:‬‬
‫)ليس في هذه المة رياء خالص‪ ،‬ول كبر خالص‪.‬‬
‫فقيل له‪ :‬لماذا؟‬
‫فقال‪ :‬ل كبر مع السجود‪ ،‬ول رياء مع التوحيد(‪.‬‬
‫ولكن هذا السجود يحقق المنزلة الضضواطئة الضضدنيا مضضن الفضضضل‪ ،‬وفوقهضضا‬
‫درجات من الفضل تتصاعد حتى تسمو‪ ،‬وقد أمرنا بالتقان والمزيد‪ ،‬وإنما ذلك‬
‫دين المتكاسلين‪ ،‬أن يرضوا بالقليل وينفذوا الضروري الذي يرفع عنهم شضضبهة‬
‫الكفر والنفاق‪.‬‬
‫وماذا على داعية السلم لو أشبع نفسه بدل ذلك باستعلء على نمضضوذج‬
‫الناس المنحرف‪ ،‬وجمع في الوقت نفسه تواضًعا لخيضه؟ ويضبين مضذهبه لمضن‬
‫يظن أنه في تناقض فيقول‪:‬‬
‫للصديق‪،‬‬ ‫إل‬ ‫وأشمخ‪،‬‬ ‫أنيه على كل النام نزاهة‬
‫)‪(64‬‬
‫تأدبا‬
‫فهو شموخ النزاهة‪ ،‬يسع الداعية‪ ،‬يغنيه عن الكبر‪ ،‬وهضضو تواضضضع الخضضوة‬
‫يتأدب به الداعية بل تهمة خنوع‪ ،‬بل يلحق برعيل من دعاة خمسمائة سضضبقوه‪،‬‬
‫قص المام البنا علينا في مذكرات الدعوة والداعية قصة رضاهم بعامل نجضضار‬
‫أميرا عليهم لما عنده من الفقه والصلح والتضضضحية‪ ،‬وإعراضضضهم عمضضن يحمضضل‬
‫شهادة الزهر العالمية‪.‬‬
‫ولذلك ثبتوا‪ ،‬وغشيت قلوبهم السكينة في ظلل الدعوة؟‬
‫)أل تككرى أنككه مككن شككمخ برأسككه إلككى السككقف شككجه‪ ،‬ومككن‬
‫تطأطأ‪ :‬أظله وأكنه(؟‬
‫]‪ [8‬الجندية طريق القيادة‬
‫حين تدعي نظرية ما دعواها‪ ،‬فإن اللحظات الحرجة وحضضرارة التحضضديات‬
‫هي التي تكذبها آنذاك أو تصدقها‪ ،‬فيرسخ مدلولها أو يهمل‪ ،‬ويصير أساسا في‬
‫التعامل والتفاضل أو يعرض عنه‪.‬‬
‫‪ ()62‬أدب الدنيا والدين‪.210/‬‬
‫‪ ()63‬طبقات ابن سعد ‪.2/345‬‬
‫‪ ()64‬ديوان البهاء زهير‪.35/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وحين أدلضى عبيضد اللضه بضن عبضد اللضه بضن عتبضة بنظريتضه فضي الشضكال‬
‫الروحية المؤتلفة‪ ،‬وجربها في أصحابه وتلمذته‪ :‬كان عليه أن ينتظر يوم فصل‬
‫يؤيد مذهبه أو يخونه‪ ،‬فيتكفل بنقله للجيال اللحقة‪ ،‬أو يسلمه النسيان‪.‬‬
‫المارة حمل ثقيل‬
‫ولقد كان يوم خلفة تلميذه عمر بن عبد العزيز هو ذاك اليضضوم الفصضضل‪،‬‬
‫فلئن لم يكن ثمة جيش عاص يتحدى تلميذه وراء أسضضوار دمشضضق‪ ،‬فضضإن هنضضاك‬
‫تحديات نفس مقبلة على إغراءات الرياسة‪ ،‬وبط ضًرا اجتماعي ًضضا‪ ،‬ورخضضاوة خلضضف‬
‫لسلف الهمة والجهاد‪.‬‬
‫ومع كل خطوة لعمر حين كان يرتقي المنبر ليخطب خطبته الولى‪:‬‬
‫كانت ترتجف قلوب الذين يظنون أن عبيد الله قد أحيا فيهضضم فقهضضا كضضاد‬
‫ينحرف بالتأويل‪ ،‬وتزداد دقات قلضوبهم مضع اسضتدارة عمضر‪ ،‬يخضافون أن تغلضب‬
‫شهوة تنفر الناس عن مذهبهم التربوي‪ ،‬وتزهدهم فيه‪.‬‬
‫إنها رجفة الحاسم‪ ،‬ل الشك في الفقضضه المسضضند‪ ،‬إذ ربمضضا كضضان للخضضوف‬
‫معنى لو كان لسان عمر يتكلم أو عقله المجرد‪ ،‬لكنها كانت دموعه ثم‪ ،‬وكضضان‬
‫قلبه‪...‬‬
‫كان فوق المنبر خريج مدرسة يحاول أن يفي لستاذه‪ ،‬ويطمئن أشكاله‬
‫ويحزن متواضعا لفتيان لم يعرفوا ما عرف تفرقوا‪ ،‬فانطلق يعلن انتصار عبيضضد‬
‫الله‪.‬‬
‫)أل إني لست بخيركم‪ ،‬ولكني رجل منكم‪ ،‬غير أن اللضضه جعلنضضي أثقلكضضم‬
‫حمل( )‪.(65‬‬
‫وهذا الشعور هو أدنى ما تحس به الرواح المؤلفة وتتميز به عن غيرها‪،‬‬
‫فحين تزول المزايضا المصضطعنة‪ ،‬والطبضاع المتكلفضة‪ ،‬ويحضل التواضضع‪ ،‬وتسضود‬
‫الخوة‪ :‬لن يبقي من معنى المارة والرئاسة إل ثقلها الثقيل‪.‬‬
‫عمر يطور مذهب التأليف‬
‫لقد أبرد عمر حقا بكلماته هذه قلوبضا طضال همهضا واشضتياقها إلضى رؤيضة‬
‫واقع يظنه الضعاف خيال مثاليات‪ ،‬وتحليق تمنيات‪.‬‬
‫دا لمستقبل‪ ،‬وإخباًرا عضضن شضضعور متضضوار فضضي‬ ‫نعم‪ ،‬كانت كلمات عمر وع ً‬
‫كامن الصدر‪ ،‬ولكضضن كفضضى بوعضضود الحضضرار ضضضماًنا‪ ،‬وبأخبضضارهم صضضدقا‪ ،‬ولضضذلك‬
‫أسضضلس لضضه النضضاس القيضضاد‪ ،‬وحصضضل منهضضم تجضضاوب سضضريع معضضه‪ ،‬أحسضضن عمضضر‬
‫استغلله أيما إحسان‪ ،‬فطور نظرية أستاذه في التأليف‪ ،‬فجعل ابتضضداء التربيضضة‬
‫ينطلق من معالجة أعقد عقدتين في الجماعات‪ :‬عقضضدة الفضضراغ‪ ،‬وعقضضدة حضضب‬
‫الرئاسة والتنازع عليها‪.‬‬
‫حا‬
‫فالمطالع لسيرة عمر يجد بشدة اهتمضضامه بعلج هضضذين العيضضبين واض ض ً‬
‫وظضضل تضضأثيره فضضي ذلضضك ينطضضق الشضضاعر بعضضد الشضضاعر‪ ،‬والحكيضضم بعضضد الحكيضضم‬
‫يستمدون من تجربته معاني الصلح‪.‬‬
‫عرف عمر سيئات الفراغ‪ ،‬فأوجد للناس شغل خير ألهاهم‪ ،‬إن لم يكضضن‬
‫عمل عمرانيا وسعيا في مصالح المسلمين‪ ،‬فشغل تأمليضضا مضضع النفضضس‪ ،‬وفكضضرا‬
‫في القلب‪ ،‬يفيضان من بعد عزمات فنهضات‪.‬‬

‫‪ ()65‬طبقات ابن سعد ‪.5/340‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫لقضضد أخرجهضضم مضضن الغفلضضة والهمضضال والضضبرود‪ ،‬إلضضى التضضذكر والفحضضص‬
‫حا عند من يعرف تربية الجماعضضات‪ ،‬وفضضي‬ ‫والستدراك‪ ،‬وكفى بهذا الخراج نجا ً‬
‫خطبة وكلمات كلها تسضضمية وإشضضارة إلضضى عيضضوب النفضضوس‪ ،‬وطضضرق إصضضلحها‪،‬‬
‫وترقب الموت‪ ،‬ورجاء رحمة الله‪ ،‬وخضضوف عقضضابه‪ ،‬ثضضم زاد فاسضضتقدم الخضضوارج‬
‫إلى دمشق‪ ،‬وأمرهم بإنهاء تفردهم ولزوم الجماعضضة‪ ،‬وذكرهضضم ضضضرر الفرقضضة‪،‬‬
‫فبات جميع النضضاس فضي شضغل وادكضار‪ ،‬بمثلهمضضا انتفضع أبضضو العتاهيضة مضن بعضضد‪،‬‬
‫فاتضحت له مثالب الفراغ‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أهل الفراغ ذوو‬ ‫ما أحسن الشغل في تدبير منفعة‬
‫خوض وإرجاف‬
‫فالمشتغل جاد فيما هو فيه‪ ،‬يربي قلبه‪ ،‬ويعلي همته‪ ،‬والفارغ الكسضضول‬
‫يفتش في الفتن عن لهو يؤنسه‪.‬‬
‫ثم دعا عمر ثانية إلى زهد في المناصب هو أهم من الزهد في الموال‪،‬‬
‫سضضا‪ ،‬ووعضضظ‬ ‫واسضضتخلص مضضن الفتضضن الضضتي حضضدثت فضضي الصضضدر الول درو ً‬
‫المستشرقين للرئاسة مواعظ أماتت فيهم حبها‪ ،‬بمثلها انتفع أبو العتاهية مرة‬
‫أخرى‪ ،‬فحذرك‪:‬‬
‫يطغي ويحدث بدعة وضلل‬ ‫أخي‪ :‬من عشق الرئاسة خفت أن‬
‫وتخوفه هذا صضضواب لضضم يبضضالغ فيضضه‪ ،‬فضإن شضضرع اللضضه وعضضرف المضضؤمنين‬
‫ينفران عن طلب الرئاسضضة‪ ،‬فمضضن طلبهضضا تمحضضل لضضذلك ولبضضد‪ ،‬فيزيضضن الضضذميم‪،‬‬
‫فتكون البدعة‪ ،‬ويقمع المخالفة لها ويعاديه‪ ،‬فتكضضون الضضضللة‪ ،‬ومضضن نظضضر إلضضى‬
‫عهد ما بعد عمر‪ :‬أدرك ذلك‪ ،‬فإن القلوب عزفت عمضضا قبحضضه وآمنضضت‪ ،‬إل قلبضضا‬
‫دا من قلوب أقربائه‪ ،‬عشق الرئاسة‪ ،‬فسضضقاه السضضم‪ ،‬فمضضات عمضضر‪ ،‬فكضضان‬ ‫واح ً‬
‫عصر الضللة‪ ،‬والسنوات العجاف‪.‬‬
‫مدرسة الثوري تواصل التربية‬
‫ولما هالت المربين تلك الضللة التي عكرت صفاء تاريخ المسلمين بعد‬
‫عمر‪ :‬أصفقوا على دم التنضضازع علضضى الرئاسضضة وتحضضذير الجيضضال اللحقضضة منضضه‪،‬‬
‫وجعلوه أصل مستقل من أصول التربية السلمية‪ ،‬يتجاوز أن يكون مجرد علج‬
‫واقع أرهق الذين بعد عمر‪.‬‬
‫فللثوري كلم كثير جزل في ذلك تصدر به المربين‪ ،‬يبذؤه بتقريضضر واقضضع‬
‫الناس‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫)ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرياسة(‪.‬‬
‫ورؤياه هذه ظلت تؤرقه‪ ،‬حتى أمسك بقلمه يكتب رسضضالته المشضضهورة‪،‬‬
‫إلى صاحبه عباد بن عباد‪ ،‬وإلى كل عباد من الدعاة في كل الجيال‪ ،‬أن‪:‬‬
‫)إياك وحب الرياسة‪ ،‬فإن الرجل تكون الرياسة أحب إليضضه مضضن الضضذهب‬
‫والفضة‪ ،‬وهو باب غامض ل يبصره إل البصير مضضن العلمضضاء السماسضضرة فتفقضضد‬
‫نفسك‪ ،‬وأعمل بنية(‪.‬‬
‫ثم جسد حقيقة ينساها طلب الرئاسة‪ ،‬فذكرهم أن‪:‬‬
‫)من طلب الرياسة قبل مجيئها‪ :‬فرت منه(‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫أي‪ :‬يبقضضى عليضضه وزر الشضضوق الثضضم‪ ،‬وزفضضرة الصضضدر الراغضضم‪ ،‬ليضضس إل‪،‬‬
‫ويرجع صفر اليدين‪ ،‬وبخفضضي حنيضضن‪ ،‬لضضم يضضذهب لبعضضد مضضن فضضضح نفسضضه أمضضام‬
‫جمهور العاملين‪.‬‬
‫*وكما كانت نظرية الشكال المؤتلفضضة مضضذهبا لعبيضضد اللضضه بضضن عبضضد اللضضه‬
‫جسده في جماعة عمل متآخية استدركت التفرق‪ :‬كان نداء الحذر فضضي طلضضب‬
‫الرئاسة مذهبا للثوري جسده في جماعة زهد محتسبة استدركت تفرقضضا آخضضر‪،‬‬
‫ولنت ل نفس هارون الرشيد‪ ،‬فشغل الناس معه بحج أو بغزو‪ ،‬سنة فسنة‪.‬‬
‫*وعل الفضيل بن عياض هضضو أهضضم أركضضان تلضضك الجماعضضة الضضتي عضضضدت‬
‫الثوري في شرح مذهبه من بعده‪ ،‬إذ صحبه وأخذ علمه‪ ،‬وتضضأخرت وفضضاته عنضضه‬
‫قرابة ثلثين سنة‪ ،‬كان يكضضثر خللهضضا ذم التكلضضف فضضي طلضضب الرياسضضات وعلضضى‬
‫الخص تركيضضزه علضضى كشضضف النفسضضية المعقضضدة الغربيضضة الضضتي يحملهضضا طضضالب‬
‫الرياسة‪.‬‬
‫يقول الفضيل‪:‬‬
‫)ما أحب أحد الرياسة إل أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب ليتميز هضضو‬
‫دا عنضضده بخيضضر‪ ،‬ومضضن عشضضق الرياسضضة فقضضد‬ ‫بالكمال‪ ،‬ويكره أن يذكر الناس أح ً‬
‫تودع من صلحه(‪.‬‬
‫ومن لم يجرب العمال الجماعية يستغرب مثل هذا أو يستبعده‪ ،‬ولكضضن‬
‫الممارس يحفظ قصصا تصدق الفضضيل أيمضا تصضديق‪ ،‬فضإن العمضضل السضلمي‬
‫حين يدع النتقاء‪ ،‬ويلهيه التكاثر بالعضاء‪ :‬يدخله أصحاب التخليط ويظهر فضضي‬
‫محيطه مثل هذا الذي وصفه الفضيل‪.‬‬
‫فمن لم يزهد في الرياسة صار ميؤوسا منه عند الفضيل‪ ،‬أي وإن زهضضد‬
‫في الموال وأطيب الطعام وجمال النساء‪ ،‬لن )الزهد في الرياسة أشضضد مضضن‬
‫الزهد فضضي الضضدنيا(‪ ،‬كمضضا يقضضول صضضاحبه وصضضاحب الثضضوري‪ ،‬الزاهضضد يوسضضف بضضن‬
‫أسباط‪.‬‬
‫كلم ل يقولونه اعتباط ًضضا‪ ،‬بضضل كضضانت تضضأملتهم فضضي مصضضائر الجيضضل الضضذي‬
‫عرفوه تعمل كعمل دوائر الحصاء الحديثة‪ ،‬يحصضضون مضضن كمضضل ونقضضص‪ ،‬ومضضن‬
‫وصل ومن خانته قدمه‪ ،‬والعثرة الضضتي عثرهضا‪ ،‬إن كضانت فضي أول الطريضق‪ ،‬أو‬
‫عند الوسط‪ ،‬أو لما كاد أن ينتهي ولم يبضضق لضضه إل خطضضوة الفضضوز‪ ،‬ثضضم يعطونضضك‬
‫نتائج الحصاء في أقوالهم هذه‪.‬‬
‫تجريب وتدرج‪...‬‬
‫ضضضا دوره فضضي التحضضذير آنضضذاك‪ ،‬ولفضضت الشضضعراء أنظضضار‬ ‫وأخضضذ الشضضعر أي ً‬
‫المتنضضازعين إلضى كضثرة العضضداء مضن حضضولهم‪ ،‬وشضماتتهم بالضضذي يحضضص ل بيضن‬
‫المؤمنين‪ ،‬وانتفاعهم به نفعضا مباشضرا فضي عمضل جضاد إيجضابي يسضتغل فرصضة‬
‫انشغال المؤمنين بأنفسهم‪ ،‬فأرسلها شاعر ذاك العصر زفرة ألم‪:‬‬
‫ل تستقال‪ ،‬ودعوة لم‬ ‫إن التنازع في الرئاسة زلة‬
‫تنصر‬
‫من‬ ‫ووراءكم‬ ‫أو ما ترون الشامتين أمامكم‬
‫مضمر أو مظهر‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وهذا في الحقيقة هو الوصف الضضدائم لظضضروف وآثضضار كضضل نضضزاع‪ ،‬بضضل إن‬
‫كثرة العداء اليوم‪ ،‬وخططهم المنظمة‪ ،‬تجعل المحنة الحالية أعنف محنة مضضر‬
‫بهضضا السضضلم فضضي تضضاريخه‪ ،‬وتسضضتدعي أقصضضى درجضضات الوحضضدة اليمانيضضة بيضضن‬
‫العاملين‪.‬‬
‫والنجاة من فتن اليوم لن تكون إل بضضاللجوء إلضضى الشضضرط الضضذي وضضضعه‬
‫سلفنا بالمس وأودعوا فيضضه خلصضضة تجربتهضضم فضضي اكتشضضاف مسضضلك الوصضضول‬
‫الصضحيح إلضى الرئاسضة‪ ،‬فضإنهم لضم يعضترفوا إل بالطاعضة طريقضا إلضى القيضادة‪،‬‬
‫وجزموا بأن من لم يكن في آخر الصضضفوف‪ ،‬تغمضضره عجاجضضة المتقضضدمين‪ ،‬فلضضن‬
‫دا قيادتهم إن شغر المكان واحتيج إليه‪.‬‬ ‫يستطيع أب ً‬
‫جزمه‬ ‫يجرب‬ ‫لم‬ ‫من‬ ‫ولذاك كانوا ل يرأس منهم‬
‫مرؤوسا‬
‫رهج الخميس فلن‬ ‫من لم يقد فيطير في خيشومه‬
‫يقود خميسا‬
‫قانون تضضدج‪ ،‬ومرحلضضة اختبضضار‪ ،‬إذا أسضضاء خللهضضا العامضضل أدب الجنديضضة‪ ،‬و‬
‫استعجل‪ ،‬وتطاول‪ :‬جوزي بالحرمان‪ ،‬ودعضضوى إلضضى التوبضضة‪ ،‬وأرجضضع إلضضى محضضل‬
‫البداية يستأنف المحاولة‪.‬‬
‫ل‪ ..‬يا عباد الرحمن‬
‫ليس فضي هضذا القضانون اعتضداء‪ ،‬ول احتكضار أو تجضبر‪ ،‬وإنمضا هضو صضياغة‬
‫تجريبية لسنة النبي ‪-‬صلى اللضضه عليضضه وسضضلم‪ -‬فضضي اختيضضار المضضراء‪ ،‬فضضإنه كضضان‬
‫يقول‪:‬‬
‫)‪(66‬‬
‫)إنا ل نولي هذا من سأله ول من حرص عليه( ‪.‬‬
‫أي هذا المر من شؤون المسلمين‪.‬‬
‫وشدد في النصيحة الصريحة لعبد الرحمن بن سضضمرة رضضضي اللضضه عنضضه‪،‬‬
‫فقال له‪:‬‬
‫)يا عبد الرحمن بضضن سضضمرة‪ :‬ل تسضضأل المضضارة‪ ،‬فإنضضك إن أعطيتهضضا عضضن‬
‫مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها()‪.(67‬‬
‫مع أن عبد الرحمن نضضم صضضالحي صضضحابته وشضضجعانهم‪ ،‬ويكفيضضه أنضضه لمضضا‬
‫التزم وصية النبي ‪-‬صلى الله عليه وسضضلم‪ -‬هضضذه صضضار قضضائد جيضضش المسضضلمين‬
‫الذي كلف بفتح كابل عاصمة الفغان‪ ،‬وكان حصنها من أمنع الحصون‪ ،‬وسقط‬
‫عنده من شهداء المسلمين ما لم يكن في معركة أخرى‪.‬‬
‫سيد يشرح‪...‬‬
‫ول يظنن أن هذا المنع عن طلب المارة سيفوت فرصضضة اللتفضضات إلضضى‬
‫خير صاحب الكفاية الصامت‪ ،‬فإن العمل اليومي يكشف ولبد كل قابلية لضضدى‬
‫دا‪ ،‬فيتساءل‪:‬‬ ‫الدعاة‪ ،‬وهي ظاهرة يؤكدها سيد قطب تأكي ً‬
‫)لمضضاذا ل يزكضي النضضاس أنفسضضهم فضي المجتمضضع المسضضلم‪ ،‬ول يرشضضحون‬
‫أنفسهم للوظائف‪ ،‬ول يقومون لشخاصضضهم بدعايضضة مضضا كضضي يختضضاروا لمجلضضس‬
‫الشورى أو للمامة أو للمارة(؟‪.‬‬

‫‪ ()66‬صحيح البخاري ‪.9/80‬‬


‫‪ ()67‬صحيح البخاري ‪.9/79‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ويجيب‪:‬‬
‫)إن الناس فضضي المجتمضضع المسضضلم ل يحتضضاجون لشضضيء مضضن هضضذا لبضضراز‬
‫أفضليتهم وأحقيتهم‪ ،‬كمضا أن المناصضب والوظضائف فضي هضذا المجتمضع تكليضف‬
‫دا بالتزاحم عليضضه –اللهضضم إل ابتغضضاء الجضضر بضضالنهوض بضضالواجب‬‫ثقيل ل يغري أح ً‬
‫وللخدمضضة الشضضاقة ابتغضضاء رضضضوان اللضضه تعضضالى‪ -‬ومضضن ثضضم ل يسضضأل المناصضضب‬
‫والوظائف إل المتهافتون عليها لحاجة في نفوسهم‪ ،‬وهؤلء يجب أن يمنعوها‪.‬‬
‫ولكضضن هضضذه الحقيقضضة ل تفهضضم إل بمراجعضضة النشضضأة الطبيعيضضة للمجتمضضع‬
‫ضا‪.‬‬
‫المسلم وإدراك طبيعة تكوينه العضوي أي ً‬
‫إن الحركة هي العنصر المكون لذلك المجتمع‪ ،‬فالمجتمع المسضضلم وليضضد‬
‫الحركة بالعقيدة السلمية‪...‬‬
‫أول‪ :‬تجئ العقيدة من مصدرها اللهي متمثلة في تبليغ الرسول وعملضضه‬
‫–على عهد النبوات‪ -‬أو متمثلة في دعوة الداعية بما جاء من عند الله وما بلغه‬
‫رسوله‪ -‬على مدار الزمان بعد ذلك‪ -‬فيستجيب للدعوة ناس‪ ،‬يتعرضضضون للذى‬
‫والفتنة من الجاهليضضة الحاكمضضة لسضضائدة فضضي أرض الضضدعوة‪ ،‬فمنهضضم مضضن يفتضضن‬
‫دا‪ ،‬ومنهضضم مضضن‬ ‫ويرتد‪ ،‬ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه‪ ،‬فيقضي نحبه شهي ً‬
‫ينتظر حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق‪.‬‬
‫هؤلء يفتح الله عليهم‪ ،‬ويجعضضل منهضضم سضضتاًرا لقضضدره‪ ،‬ويمكضضن لهضضم فضضي‬
‫الرض تحقيقا لوعده بنصر من ينصره‪ ،‬والتمكين في الرض له‪ ،‬ليقيم مملكضضة‬
‫الله في الرض –أي لينفضضذ حكضضم اللضضه فضضي الرض‪ -‬ليضضس لضضه مضضن هضضذا النصضضر‬
‫والتمكين شيء‪ ،‬إنما هو نصر لدين الله‪ ،‬وتمكين لربوبية الله في العباد‪.‬‬
‫وهؤلء ل يقفون بهذا الدين عند حدود أرض معينة‪ ،‬ول عند حدود جنضضس‬
‫معين‪ ،‬ول عند حدود قوم أو لون أو لغضضة أو مقضضوم واحضضد مضضن تلضضك المقومضضات‬
‫البشضضرية الرضضضية الهزيلضضة السضضخيفة! إنمضضا ينطلقضضون بهضضذه العقيضضدة الربانيضضة‬
‫ليحرروا النسان‪ ،‬كل النسان‪ ،‬في الرض‪ ،‬كل الرض‪ ،‬من العبودية لغير الله‪،‬‬
‫وليرفعوه عن العبودية للطواغيت‪ ،‬أًيا كانت هذه الطواغيت‪.‬‬
‫وفي أثناء الحركة بهذا الضضدين –وقضضد لحظنضضا أنهضضا ل تتوقضضف عنضضد إقامضضة‬
‫الدولة المسلمة في بقعة مضن الرض‪ ،‬ول تقضف عنضد حضدود أرض أو جنضس أو‬
‫قوم –تتميز أقدار الناس‪ ،‬وتتحدد مقاماتهم في المجتمع‪ ،‬ويقضضوم هضضذا التحديضضد‬
‫وذلك التميز على موازين وقيم إيمانية‪ ،‬الجميع يتعارفون عليها‪ ،‬من البلء فضضي‬
‫الجهاد‪ ،‬والتقضضوى والصضضلح والعبضضادة والخلق‪ ،‬والقضضدرة والكفضاءة‪ ،‬وكلهضا قيضم‬
‫يحكم عليها الواقع‪ ،‬وتبرزها الحركة‪ ،‬ويعرفها المجتمع ويعرف المتسضضمين بهضضا‪،‬‬
‫ومن ثم ل يحتاج أصحابها أن يزكوا أنفسضهم‪ ،‬ول أن يطلبضوا المضارة أو مراكضز‬
‫الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية‪...‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وفي المجتمع المسلم الذي نشضضأ هضضذه النشضضأة‪ ،‬وقضضام تركيبضضه العضضضوي‬
‫على أساس التميز فضي أثنضضاء الحركضضة بتلضضك القيضضم اليمانيضضة –كمضا حضضدث فضضي‬
‫المجتمع المسلم من تميز السابقين من المهاجرين‪ ،‬ثضضم النصضضار‪ ،‬وأهضضل بضضدر‪،‬‬
‫وأهل بيعة الرضوان‪ ،‬ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل‪ -‬ثضضم ظضضل يتميضضز النضضاس‬
‫فيه بحسن البلء في السلم‪ ،‬في هذا المجتمع ل يبخس الناس بعضهم بعضضضا‪،‬‬
‫ول ينكر الناس فضائل المتميزين – مهما غلب الضعف البشري أصحابه أحيانضضا‬
‫فغلبتهم الطمضضاع –وعنضضدئذ تنتفضضي الحاجضضة‪ -‬مضضن جضضانب آخضضر – إلضضى أن يزكضضي‬
‫المتميزون أنفسهم ويطلبوا المارة أو مراكز الشورى والتضضوجيه علضضى أسضضاس‬
‫هذه التزكية‪.‬‬
‫ولقد يخيل للناس الن أن هذه خاصية متفردة للمجتمضضع المسضضلم الول‬
‫بسبب نشأته التاريخية‪ ،‬ولكنهم ينسون أن أي مجتمع مسلم لن يوجد إل بمثل‬
‫دا إل أن تقوم دعوة لدخال النضضاس فضي هضضذا‬ ‫هذه النشأة‪ ..‬لن يوجد اليوم أو غ ً‬
‫الدين من جديد‪ ،‬وإخراجهم من الجاهلية لتي صاروا إليها‪ ..‬وهذه نقطضضة البضضدء‪،‬‬
‫ثم تعقبها الفتنة والبتلء‪ -‬كما حدث أول مرة‪ -‬فأمضضا نضضاس فيفتنضضون ويرتضضدون‪،‬‬
‫وأما ناس فيصدقون ما عاهدوا الله عليضضه فيقضضضون نحبهضضم ويموتضضون شضضهداء‪،‬‬
‫وأما ناس فيصبرون ويصابرون ويصرون على السلم‪ ،‬يكرهون أن يعودوا إلى‬
‫الجاهلية كما يكره أحدهم أن يلقضضى فضضي النضضار‪ ،‬حضضتى يحكضضم اللضضه بينهضضم وبيضضن‬
‫قومهم بالحق‪ ،‬ويمكن لهم في الرض –كما أمكن للمسلمين أول مرة‪ -‬فيقوم‬
‫في أرض من أرض الله نظام إسلمي‪ ..‬ويومئذ تكن الحركة مضضن نقطضضة البضضدء‬
‫إلى قيام النظضضام السضضلمي قضضد ميضضزت المجاهضضدين المتحركيضضن إلضضى طبقضضات‬
‫إيمانية‪ ،‬وفق الموازين والقيم اليمانية‪ ...‬ويومئذ لن يحتاج هضضؤلء إلضضى ترشضضيح‬
‫أنفسضضهم وتزكيتهضضا‪ ،‬لن مجتمعهضضم الضضذي جاهضضد كلضضه معهضضم يعرفهضضم ويزكيهضضم‬
‫ويرشحهم‪.‬‬
‫ولقد يقال بعد هذا‪ :‬ولكن هذا يكون في المرحلضضة الولضضى‪ ،‬فضضإذا اسضضتقر‬
‫المجتمع بعد ذلك؟‬
‫وهذا السؤال من ل يعرف طبيعة هذا الدين‪ ،‬إن هذا الدين يتحرك دائما‬
‫ول يكف عن الحركة‪.‬‬
‫‪...‬يتحرك لتحرير النسان‪ ..‬كل النسضضان فضضي الرض‪ ...‬كضضل الرض مضضن‬
‫العبودية لغير الله‪ ،‬وليرفعه عن العبوديضضة للطضضواغيت‪ ،‬بل حضضدود مضضن الرض أو‬
‫الجنضضس أو القضضوم أو أي مقضضوم مضضن المقومضضات البشضضرية الرضضضية الهزيلضضة‬
‫السخيفة‪.‬‬
‫وإذن‪ ،‬فسضضتظل الحركضضة –الضضتي هضي طبيعضضة هضضذا الضضدين الصضضلية‪ -‬تميضضز‬
‫دا ليركد هذا المجتمضضع‬ ‫أصحاب البلء وأصحاب الكفايات والمواهب‪ ،‬ول تقف أب ً‬
‫ويأسن‪ -‬إل أن ينحرف عن السلم‪ -‬وسيظل الحكم الفقهي –الخضضاص بتحريضضم‬
‫ما وعضضامل فضضي محيطضضه‬ ‫تزكية النفس وطلب العمل على أسا هذه التزكية‪ -‬قائ ً‬
‫الملئم‪ ...‬ذات المحيط الذي نشأ أول مرة وعمل فيه‪...‬‬
‫ثم يقضال‪ :‬ولكضضن المجتمضع حيضن يتسضع ل يعضضرف النضضاس بعضضهم بعضضضا‪،‬‬
‫ويصبح الكفاء الموهوبون في حاجة في إعلن عن أنفسهم وتزكيتهضضا‪ ،‬وطلضضب‬
‫العمل على أساس هذه التزكية‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وهذا القول كذلك وهم ناشيء مضضن التضضأثر بواقضضع المجتمعضضات الجاهليضضة‬
‫الحاضرة‪ ،‬إن المجتمع المسلم يكون أهل كل محلة فيه متعضضارفين متواصضضلين‬
‫متكافلين‪ -‬كما هي طبيعة التربية والتكضضوين والتضضوجيه واللضضتزام فضضي المجتمضضع‬
‫المسلم‪ -‬ومن ثم يكون أهل كل محلة عارفين بأصضضحاب الكفايضضات والمضضواهب‬
‫فيهم‪ ،‬موزونة هذه الكفايات والمواهب بموازين وقيم إيمانيضضة‪ ،‬فل يعضضز عليهضضم‬
‫أن ينتدبوا هم من بينهم أهل البلء والتقوى والكفاية‪ ،‬سواء لمجلضضس الشضضورى‬
‫أو للشؤون المحلية‪ ،‬أما المارات العامة فيختار لها المام –الذي اختارته المة‬
‫بعد ترشيح أهل الحل والعقد‪ ،‬أو أهل الشورى له‪ -‬يختار لها مضضن بيضضن مجمضضوع‬
‫الرجال المختارين الذين ميزتهم الحركة‪ ،‬والحركة دائبة كما قلنا في المجتمضضع‬
‫المسلم‪ ،‬والجهاد ماض إلى يوم القيامة()‪.(68‬‬
‫وهذا الكلم لسيد كلم صضضحيح صضضائب‪ ،‬يظهضضر صضضوابه علضضى القضضل فضضي‬
‫الجماعة السلمية الحركية إن لم نوافقه على احتمال حصضضول هضضذه الظضضاهرة‬
‫في المجتمع السلمي العام المحكومة بحكومة إسلمية‪.‬‬
‫بل إن أزمة الحركة السضضلمية الحاضضضرة إنمضضا هضضي أزمضضة قلضضة المربيضضن‬
‫والداريين من أصحاب القابليات الممتازة والصفات العاليضضة‪ ،‬ولضضن يغفضضل قضضائد‬
‫عن ذي علم وتقوى متحمس في وقت يمسك فيضضه بالعدسضضة المكضضبرة يفتضضش‬
‫عنهم تفتيشا‪ ،‬ولكن تجارب القضضادة تكضضره بعضضث وتضضأمير المتكلضضف المستشضضرق‬
‫المغرور‪ ،‬فنظن نحن أنهم قد غفلوا عنه‪ ،‬وما هي بالغفلة‪.‬‬
‫الستثناء ل يقلد‬
‫أما قصة الصضضدائي رضضضي اللضه عنضه حيضن طلضضب المضارة وأجضابه النضضبي‬
‫‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬فإنما هي استثناء اقتضته المصلحة وأوجبته الظروف‪،‬‬
‫وذلك أن رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬أرسل بعثضضا إلضضى اليمضضن ليحضضارب‬
‫بني صداء‪ ،‬فشفع فيهم أحدهم‪ ،‬وأسضضلم‪ ،‬وجضضاء بوفضضد منهضضم إلضضى رسضضول اللضضه‬
‫‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬معلنيضن إسضلمهم‪ ،‬وكضان هضذا الشضفيع مطاعضا فيهضم‪،‬‬
‫فطلب من رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬أن يؤمره عليهم‪ ،‬فأجضضابه إلضضى‬
‫ما طلب ففي ذلك كما يقول ابن القيم‪:‬‬
‫)جضضواز تضضأمير المضضام وتضضوليته لمضضن سضضأله ذلضضك إذا رآه كفضضؤا‪ ،‬ول يكضضون‬
‫سؤاله مانًعا من توليته‪ ،‬ول يناقض هذا قوله في الحديث الخر‪ :‬إنضضا لضضن نضضولي‬
‫على عملنا من أراده‪ ،‬فإن الصدائي إنما سأله أن يضضؤمره علضضى قضضومه خاصضضة‪،‬‬
‫عا فيهم محببا إليهم‪ ،‬وكان مقصده إصلحهم ودعاءهم إلى السلم‪،‬‬ ‫وكان مطا ً‬
‫فرأى النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬أن مصلحة قومه في توليته‪ ،‬فأجابه إليهضضا‪،‬‬
‫ورأى أن ذلك السائل إنما سأله الولية لحظ نفسه ومصلحته هو‪ ،‬فمنعه منها‪،‬‬
‫فولي للمصلحة ومنع للمصلحة فكانت توليته لله‪ ،‬ومنعه لله()‪.(69‬‬
‫فها أنت ترى أنه هو الذي استتابهم‪ ،‬وأنهم بلد بعيدة منزوية ليس فيهم‬
‫لو رجعوا أصلح منه‪ ،‬فأقره النضضبي ‪-‬صضضلى اللضضه عليضضه وسضضلم‪ -‬علضضى طلبضضه‪ ،‬ول‬
‫نحفظ في السيرة قصة أخرى مماثلة لها‪.‬‬
‫يوسف والخزائن‬

‫‪ ()68‬في ظلل القرآن جض ‪ 13‬ص ‪.14‬‬


‫‪ ()69‬زاد المعاد ‪.3/53‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫كذلك قول يوسف عليه السلم للعزيز‪:‬‬
‫م(‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫جعَل ِْني عََلى َ‬
‫فيظ عَِلي ٌ‬ ‫ح ِ‬‫ض إ ِّني َ‬ ‫ن الْر ِ‬ ‫خَزائ ِ ِ‬ ‫)‪..‬ا ْ‬
‫فإنه )كان حصيفا فضضي اختيضضار اللحظضضة الضضتي يسضضتجاب لضضه فيهضضا لينهضضض‬
‫بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشضضد أ‪,‬قضضات الزمضضة‪ ،‬وليكضضون‬
‫مسؤول عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره‪ ،‬طوال سضضبع سضضنوات‪،‬‬
‫ل زرع فيها ول شرع‪ ،‬فليضضس هضضذا غنمضضا يطلبضضه يوسضضف لنفسضضه‪ ،‬فضضإن التكفضضل‬
‫بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية ل يقول أحد أنه غنيمة‪ ،‬إنما هي تبعضضة‬
‫يهرب منها الرجال‪ ،‬لنها قد تكلفهم رؤوسهم( )‪.(70‬‬
‫وقد فهم الفقيه الندلسي أبو بكر الطرطوشي من قول يوسف‪:‬‬
‫)أن من حصل بين يدي ملك ل يعرف قدره‪ ،‬أو أمة ل يعرفضضون‪ ،‬فخضضاف‬
‫على نفسه‪ ،‬أو أراد إبراز فضله‪ :‬جاز له أن ينبههم عن مكانه وما يحسنه‪ ،‬دفعا‬
‫للشر عن نفسه‪ ،‬أو إظهاًرا لفضله فيجعل في مكانه(‪.‬‬
‫قضضال‪) :‬وفيضضه فضضائدة أخضضرى‪ :‬وهضضو أنضضه إن رأى المضضور فضضي يضضد الخونضضة‬
‫واللصوص ومن ل يؤدى المانة‪ ،‬ويعلم من نفسه أداء المانة مع الكفاية‪ :‬جضضاز‬
‫له أن ينبه السلطان على أمانته وكفايته‪.‬‬
‫ولهذا قال بعض العلماء من أصحاب الشافعي‪ :‬مضن كمضضل فيضضه الجتهضاد‬
‫وشروط القضاء‪ :‬جاز له أن ينبه السلطان على مكانه ويخطبه خطة القضاء‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬بل يجب ذلك عليه إذا كان المر في يدي من ل يقوم به(‬
‫)‪.(71‬‬
‫وما ذهب إليه ظاهر الصواب‪ ،‬أي في مواجهة الظالم والضعيف‪ ،‬وعلضضى‬
‫ذلك يحمضل قضول أصضحاب الشضافعي‪ ،‬ولكضن يجضب أن ل يغيضب عضن البضال أن‬
‫يوسف كان يخاطب ملكا كافًرا‪ ،‬وأنه لم يطلب ما طلضضب إل مضضن بعضضد تعريضضض‬
‫ظاهر بتأميره من قبل العزيز‪ ،‬على ما يدل عليه سياق السضضورة‪ ،‬فضضإن العزيضضز‬
‫َ‬
‫ن‬
‫كيض ٌ‬ ‫م ل َضد َي َْنا ِ‬
‫م ِ‬ ‫ك ال ْي َضوْ َ‬
‫ل إ ِن ّض َ‬‫ه قَضضا َ‬
‫مض ُ‬ ‫مضضا ك َل ّ َ‬
‫سضضي فَل َ ّ‬
‫ف ِ‬‫ه ل ِن َ ْ‬ ‫صض ُ‬
‫خل ِ ْ‬ ‫قال‪) :‬ائ ُْتوِني ب ِهِ أ ْ‬
‫ست َ ْ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫َ‬
‫مي ٌ‬‫أ ِ‬
‫فطريقة اليجاز البلغي القرآ‪،‬ي حضضذفت مضضا يفهضضم ضضضمنا‪ ،‬فضضإن رسضضول‬
‫الملك قال ليوسف فيمضا يبضدو‪ :‬إن الملضك يضدعوك‪ ،‬وقضد سضمعناه يفصضح عضن‬
‫رغبته في استعمالك وتأميرك‪ ،‬وتأكد ذلك ليوسف في الشضضارة الواضضضحة فضضي‬
‫خطاب الملك له حين وصفه بالتمكين والمانة‪.‬‬
‫وعليه‪ :‬فإن تجزئة تفسير قول يوسف وجعلضضه نسضضبيا واجضضب‪ ،‬بالتضضضييق‬
‫على أناس في تقليد يوسف‪ ،‬والتوسعة على آخرين‪.‬‬
‫فمن كان من الدعاة مقربا من القضضائد‪ ،‬مسضضتعمل فضي عمضضل مهضضم يضضدل‬
‫على أن القائد وثقه وقواه وأمنه إلى درجة سمحت له باستعماله وجعلضضه مضضن‬
‫دا عن الغرور‪ -‬أن يشير على القضضائد‬ ‫أعوانه‪ ،‬فإنه يسعه –إذا آنس من نفسه بع ً‬
‫أن يستعمله في عمل آخر قريب في أهميته مما هو فيه‪ ،‬هو أكثر اتقانا له‪ ،‬أو‬
‫يرى أن مصضضلحة مضضا تضضوجب تلضضك خفيضضت علضضى القضضائد‪ .‬ويلجضضأ خلل ذلضضك إلضضى‬
‫التعريض دون التصريح ما أمكنه وعيرض رأيه بأدب كامل ولفظ رقيق‪.‬‬

‫‪ ()70‬في ظلل القرآن جض ‪ 13‬ص ‪.11‬‬


‫‪ ()71‬سراج الملوك‪.79/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وأما من كان من الدعاة غير مستعمل فضضي عمضضل مضضن أعمضضال الضضدعوة‪،‬‬
‫ويرويد أن يطلب نوع عمل مهما صغر‪ ،‬أو مستعمل في عمل صضغير ويريضد أن‬
‫دا‪ ،‬وتقييضضده‬
‫يستعمل في عمل كبير ل يقاربه‪ ،‬فالباب ضيق أمضضامه ضضضيقا شضضدي ً‬
‫بالحاديث الصحيحة الواردة في المنع أصوب حتى ولضضو وجضضد فضضي نفسضضه قضضوة‬
‫وكفاية‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬
‫في التأني السلمة‪...‬‬
‫وخير له من ذلك أن يتأنى في تحديث نفسه بالمارة‪ ،‬فضإن التضأني زيضن‬
‫كله‪.‬‬
‫*يتأني أول إلى حين اكتمال فقهه ووعيه‪ ،‬ينفذ وصية عمر بضضن الخطضضاب‬
‫رضي الله عنه حين قال‪:‬‬
‫)‪(72‬‬
‫)تفقهوا قبل أن تسودوا(‬
‫فيجب على الداعية أن يتفقه‪ ،‬لسيادة وقيادة من يأتي بعده من أفواج‬
‫اليبين إلى اليمان‪.‬‬
‫*ويتأنى ثانيا إلى حين اكتمال رجولته وتجربته الحياتية‪ ،‬فإن اليام ل‬
‫تزال تزيد المرء تجربة وعلما كما زادت الشاعر الذي خاطبك‪:‬‬
‫فيما أظن وعلم بارع شاف‬ ‫أخي عندي من اليام تجربة‬
‫فينفذ وصية المام الشافعي حين يقول‪:‬‬
‫)إذا تصدر الحدث‪ :‬فاته علم كثير()‪.(73‬‬
‫*ويتأنى ثالثة فيث ذلك أيام الفتن على الخص‪ ،‬ويكون متوقفا حذرا‪،‬‬
‫ينفذ وصية أبي العتاهية هذه المرة‪:‬‬
‫والصبر للحق أحياًنأ‬ ‫إصبر على الحق تستعذب مغبته‬
‫له مضض‬
‫قد يبرم المر أحياًنا‬ ‫وما استربت فكن وقافة حذًرا‬
‫فينتقض‬
‫وأقل ما في الفتن أنها ريبة كلها‪ ،‬وقد ترى الفتنة أنها قد أبرمت أمرها‬
‫وأحكمت خطتها‪ ،‬فينقضها وعي الدعاة المؤمنين‪.‬‬
‫نكلها إلى القادة أفضل‪..‬‬
‫والداعية المتواضع الثقة قد تعزف نفسضضه عضضن المضضارة‪ ،‬لكنضضه يقضضع فضضي‬
‫اختلف مع غيره عند ترشيحه للخريضضن لبعضضض المضضارات‪ ،‬فيسضضرع المختلفضضان‬
‫إلى التعصيب لجتهادهما‪ ،‬في فضضورة مضضن الحمضضاة‪ ،‬ويجضضزم كضضل منهمضضا بتخطئة‬
‫صاحبه‪ ،‬أو العتقاد بأنه يخالفه لنوع هوى ومن باب التعسف‪.‬‬
‫ومثل هذه الظاهرة خطر ول شك‪ ،‬لكنهضضا تسضضتحيل بسضضرعة إلضضى مجضضرد‬
‫هاجس عابر خال من الضرر إذا انتبضه كضل منهمضا إلضى وجضوب مراعضاة الداب‬
‫الشرعية في علقات الدعوة‪ ،‬كما أسرع أبو بكر وعمر رضي الله عنهمضضا إلضضى‬
‫مراعاتها حين‪:‬‬
‫)قدم ركب من بني تميم على النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬فقضضال أبضضو‬
‫بكر‪ :‬أمر القعقعاع بن معبد بن زرارة‪.‬‬

‫‪ ()72‬صحيح البخاري ‪.1/28‬‬


‫‪ ()73‬فتح الباري ‪.1/175‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫قال عمر‪ :‬بل أمر القرع بن حابس‪.‬‬
‫قال‪ :‬أبو بكر‪ :‬ما أردت إل خلفي‪.‬‬
‫قال عمر‪ :‬ما أردت خلفك‪.‬‬
‫فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما‪ ،‬فنزل في ذلضضك‪ :‬يضضا أيهضضا الضضذين آمنضضوا ل‬
‫تقدموا بين يدي الله ورسوله()‪.(74‬‬
‫ول شك أن تذكر الدعاة دوما لهذا الدب‪ ،‬والتطلع لقول قضضادتهم وإنفضضاذ‬
‫اختياراتهم‪ :‬يجرد مثل هذه الخلفات من كل خطر بتاًتا‪.‬‬
‫فإن تشضدد القضادة‪ ،‬وأقصضوا عضن المسضؤولية عضن الجماعضة مضن لن أو‬
‫انحرف أو خالف‪ :‬فبالحزم أخذوا‪ ،‬ليس في ذلك ضير‪.‬‬
‫وإن تساهلوا‪ ،‬وعفوا وتجاوزوا‪ ،‬فبسد الذريعة وقواعد لم الشمل أخذوا‪،‬‬
‫ليس في ذلك ضير آخر‪.‬‬
‫كل ذلك صواب في أعراف سياسة الجماعات‪ ،‬تؤيضد الظضروف النسضبية‬
‫المختلفة هذا المسلك أو ذاك‪ ،‬ما لم يكن ثمة هوى‪.‬‬
‫دا أو جندًيا‪.‬‬ ‫ورحمة الله على من تجرد وغلب هواه‪ ،‬قائ ً‬
‫]‪ [9‬أنوار الفطنة تبدد ظلمات الفتنة‬
‫الجندية طريضق القيضادة‪ ،‬ويوجضد ثمضة غضرور عنضد البعضض وتجضاوز يجضب‬
‫تشذيبهما‪.‬‬
‫ما‪.‬‬
‫كذلك مضى فقه الدعوة صريحا حاس ً‬
‫إنها صراحة والله‪ ،‬ل تظنن أنهضضا خشضضونة فتهضضرب منهضضا وتعافهضضا نفسضضك‪،‬‬
‫فإن أصررت على وصفها بأنها خشونة‪ ،‬فإنما هي خشونة التربية الضضتي سضضلكها‬
‫عبد القادر الكيلني من قبل‪ ،‬فظنوا كما ظننت‪ ،‬فقال لهم‪:‬‬
‫)ل تهربوا من خشونة كلمي‪ ،‬فما رباني إل الخشضضن فضضي ديضضن اللضضه عضضز‬
‫وجل( )‪.(75‬‬
‫ونقول لدعاة اليوم كما قال‪ :‬ل تهربوا من خشونة كلمنا وصراحته‪ ،‬فإن‬
‫الكلمات الدبلوماسية ل تنفع في تربيضة الضدعاة‪ ،‬ول أسضاليب اليمضاء‪ ،‬بضل هضي‬
‫الشارة الواضحة فحسب تربي‪ ،‬بل اعتداء وجرح‪.‬‬
‫أثناء التأني يكون الحساب‬
‫وأولى للداعية المسلم أن يكون صريحا مع نفسه قبل ذاك‪ ،‬يخلضضو خلل‬
‫تأنيه في الفتن‪ ،‬وخلل انتظاره اكتمال فقه‪ ،‬فيحاسضضب نفسضضه بعاتبهضضا‪ ،‬أل يقضضع‬
‫في الشبهات‪.‬‬
‫فمن لم يحاسب نفسه في أموره‬
‫يقع في عظيم مشكل متشابه‬
‫فإن مهمضضل نفسضضه تزدريضضه الشضضبه‪ ،‬فل تقنضضع منضضه بطفيضضف‪ ،‬وإنمضضا تضضأتيه‬
‫الشضضبهات كضضبيرة‪ ،‬عظيمضضة الشضضكال‪ ،‬خفيضضة التضضوريط‪ ،‬تضضوهم القلضضب‪ ،‬فيتعكضضر‬
‫الشعور‪ ،‬أو تؤلب اللسان‪ ،‬فيلحن النطق‪ .‬أو تميل بضضالذن‪ ،‬فيتشضضوش السضضمع‪،‬‬
‫أو تغلق الجفان‪ ،‬فيغبش النظر‪.‬‬
‫ولبد لطالب الفقه من حساب وعتاب‪.‬‬

‫‪ ()74‬صحيح البخاري ‪.5/213‬‬


‫‪ ()75‬الفتح الرباني لعبد القادر ‪.162/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ازدواج‪ ...‬والقلب واحد‬
‫يعاتب القلب‪ :‬لم يكبح؟ ولضضم يريضضد قطضضع استرسضضاله مضضع معضضاني الخيضضر‬
‫وعزمات العمل‪ ،‬ويأذن لغراء الدنيويات أ‪ ،‬يسامره؟‬
‫إنها ساعات التخليضضط أصضضبحت تطضضول فضضي يضضوم الضضدعاة‪ ،‬وكضضأن سضضمت‬
‫المس قد تغير‪.‬‬
‫ولو صدق أحدنا نفسه‪ ،‬وأفصح عن حقيقته‪ ،‬لعترف بالضضذي اعضضترف بضضه‬
‫أبو العتاهية حين قال‪:‬‬
‫تزاهدت في الدنيا‪ ،‬وإني لراغب‬
‫أرى رغبتي ممزوجة بزهادتي‬
‫فأكثرنا يقع في هذا التخليط‪ :‬قضضدم فضضي الضضدعوة‪ ،‬وقضضدم فضضي الضضدنيويات‬
‫والرغبات والمال العراض‪.‬‬
‫لم نتمحض‪.‬‬
‫وقد أتعبنا الذين يربوننا وأرهقناهم‪.‬‬
‫فل نحن ممن ييأس العمل منهم فيضضتركهم وهضضو فضضي مضضأمن مضضن اللضضوم‪،‬‬
‫لقدم الدعوة ذاك‪ ،‬ول نحن بالمشمرين حق التشمير فنريحه‪ ،‬بل يعوقنضضا قضضدم‬
‫الضضدنيا عضضن سضضرعة انطلق عضضرف بهضضا جيضضل الضضدعوة الول إلضضى أ‘لم ل زالضضت‬
‫مرفوعة والله لنا كما رفعت له‪.‬‬
‫وما هي إل ساعة عتاب واحدة تنهي تعدد الولء لو تدبرنا‪.‬‬
‫هزة إيقاظ‪ ،‬لكتف غفلة‪ ،‬من لسان صراحة يعرف كيف يقول‪:‬‬
‫تيقظ‪ ،‬تيقظ‪ ..‬تيقظ‬
‫تيقظ‪ ،‬فإنك في غفلة‬
‫يميد بك السكر فيمن يميد‬
‫تنافس في جمع مال حطام‬
‫وكل يزول‪ ،‬وكل يبيضضد‬
‫كأنك لم تركيف الفنا‬
‫وكيف يموت الغلم الجليد‬
‫وتنقص في كل تنفيسة‬
‫وأنك في ظنك قد تضضزيد‬
‫فهي الحلم وأضضضغاثها تخضضدع‪ ...‬توهمنضضا أننضضا نريضضد‪ ،‬وإنمضضا هضضي النفضضاس‬
‫تواصل نقصها‪ ،‬والسكر بالتكاثر يميد بنا فيمن يميد‪.‬‬
‫مصاعب‪ ..‬ول صمت لها‪..‬‬
‫ويعاتب الداعية من بعد لسانه‪ :‬لم يستحل اللحن والهذر والجدال؟ ولضضو‬
‫فقه المرء لدرك أن صدق الندفاع يغني عن صدق اللسان أصل‪ ،‬فهو في غير‬
‫حاجة إلى كثرة كلم لو كان صادقا‪.‬‬
‫والداعية يسبق بفعلضضه قبضضل أن يفصضضح بلسضضانه‪ ،‬يقتضضدي فضضي ذلضضك بضضأبي‬
‫الفضل بن مالك لما وصفه تلميذه الجنيد فقال‪) :‬يسبق فعله قوله()‪.(76‬‬
‫فإ‪ ،‬قال واحتاج إلضضى النطضضق‪ :‬فهضضو القضضول الواحضضد الضضذي ل يتبضضدل‪ ،‬وهضضو‬
‫القول الواضح الذي ل تلعثم فيه‪.‬‬

‫‪ ()76‬تاريخ بغداد ‪.14/422‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫إذا اختلفت سبل الرجال وجدته‬
‫مقيما على نهج من القول واضح‬
‫نهج واحد‪ ،‬بوضوح كامل‪ ،‬يكشفان عن قلب في الصدر واحضضد‪ ،‬ل قلضضوب‬
‫موزعة‪ ،‬وعن ثبات في صفاء‪ ،‬لم تكدرهما رجرجة ول أخلط‪ ،‬فإن اللسضضان مضضا‬
‫زال يترجم للقلب‪ ،‬ولم تزل عفتهمضضا سضضواء‪ ،‬ولهمضضا شضضرف وعضضرض مشضضترك‪،‬‬
‫وإنما فسق اللفاظ من فسق الشغاف‪ ،‬وما اللسن إل مغارف للفئدة‪ ،‬تمامضضا‬
‫كما رآها البارحة يحيي بن معاذ على حقيقتها‪ ،‬فوصفها لك‪ ،‬ونبهك إلى أن‪:‬‬
‫)القلضضوب كالقضضدور فضضي الصضضدور‪ ،‬تغلضضي بمضضا فيهضضا‪ ،‬ومغارفهضضا‪ :‬ألسضضنتها‪،‬‬
‫فانتظر الرجل حتى يتكلم‪ ،‬فإن لسانه يغترف لك ما في قلبضضه‪ ،‬مضضن بيضضن حلضضو‬
‫وحامض‪ ،‬وعذب وأجاج‪ ،‬يخبرك عن طعم قلبه‪ :‬اغتراف لسانه(‪.‬‬
‫جا كما يبدو لول وهلضضة‪ ،‬لكضضن فيضضه روعضضة الحقيقضضة‪،‬‬ ‫تشبيه قد يكون ساذ ً‬
‫وصدق الوصف‪ .‬اغتراف اللسان يذيقك طعم القلب‪ ،‬ما كذب والله وما غلضضط‪،‬‬
‫ولم يتقدم بين يدي الله المستأثر بعلم ما في الصدور‪ ،‬لكنها فراسضضة اليمضضان‪:‬‬
‫تسمع حركات اللسان وتميز نغماته‪ ،‬فترى الذي يجيش بين الضلوع‪.‬‬
‫ثم يأتيك صحب من دعاة بعد هذا‪ ،‬يملون ليلهضضم رئاء ومضضراء‪ ،‬وتشضضقيق‬
‫كلم وتدقيق ألفاظ‪ ،‬والفرص تمر من بيضضن أيضضديهم ومضضن خلفهضضم‪ ،‬يرقبضضون أن‬
‫تتدلى لهم عجيبة الدنيا الكضبرى فضي اسضتئناف الحكضم السضلمي بحبضل تضدليا‪،‬‬
‫ويحملون بقطاف لم يتقنوا سقي ثمره‪ ،‬ينسضون أن الضدهر ل يضأتي بالعجضائب‪،‬‬
‫وإنما هي تضحيات‪ ،‬الرجال وخالصضضات الفعضضال‪ ،‬ل اللغضضو‪ ،‬ول تقليضضب الكفضضوف‬
‫والمناحة على واقع المسلمين‪.‬‬
‫وصحاب في جدال‬
‫ومضي غير صائب‬
‫يرقبون الدهر أن‬
‫يأتي عنهم بالعجائب‬
‫فإذا واتتهم اليام‬
‫فالربآن سائب‬
‫وتضيع الفرصة المثلي‬
‫ول تجدي المنادب‬
‫ضل من يأمل أن‬
‫)‪(77‬‬
‫يقهر باللغو المصاعب‬
‫ولئن سألتهم‪ :‬لم التشقيق والتدقيق؟‬
‫ليقولن نريد الفقضضه‪ ،‬ونبغضضي الضضوعي‪ ،‬ونتقضضن التخطيضضط‪ ،‬وهضضم بضضذلك قضضد‬
‫أخطأوا من حيث أصابوا‪ ،‬واختلط الحق الذي ذهبضضوا إليضضه بباطضضل مضضن مخالفضضة‬
‫أحكام التفاضل‪ ،‬فإنهم تمسكوا بفرع على حساب أصضل‪ ،‬ودنضدنوا حضول سضنن‬
‫قد تفوت معها فرائض الخوة‪ ،‬ووعي قد تنسى الرواح بعده دروب التأليف‪.‬‬

‫‪ ()77‬للميري في ديوان ألوان طيف‪.400/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ولو تأملوا بهدوء وحسبوا ووازنوا‪ ،‬لعرفوا أن لقاء الدعاة الهضادئ‪ ،‬تحضت‬
‫جناح التحابب والحترام المتبادل‪ :‬خير من طلب صاخب للضضوعي‪ ،‬فضإنه لضو لضم‬
‫يكن في اللقاء إل تثبيت بعض الدعاة لبعض‪ ،‬وإل السناد النفسي في مثل هذه‬
‫المحن الشديدة والضراء الطويلة‪ ،‬لنال لقاؤهم وصف النجضضاح‪ ،‬لكنهضضم صضضحب‬
‫يستعجلون‪.‬‬
‫لماذا الجفاف يا عين؟‬
‫وعبر عتاب سريع من الداعية لذنه‪ ،‬يلتفت خللضضه إلضضى منضضاد ينضضاديه أن‪:‬‬
‫)يا أيها الرجل‪ :‬ل تكن كالمنخل‪ ،‬يرسل أطيب ما فيه‪ ،‬ويمسك الحثالة()‪.(78‬‬
‫ويتعهد له أن يشيع أطيب مضضا يسضضمع‪ ،‬ويسضضتر لفضضظ المسضضتعجل النضضادم‪،‬‬
‫وخيالت الحالم النائم‪:‬‬
‫ينتقل رابعضا إلضضى عتضضاب طويضضل لعينضضه‪ .‬يسضضألها أول‪ :‬لضضم تخطضئ فتختضضار‬
‫الجفاف وتقحط؟‬
‫وصواب من مقلة‪ :‬أن تصوبا‪.‬‬
‫كما يقول الشاعر‪:‬‬
‫فصوابها أن ترسله وابل صيبا على أرض الخطضاء‪ ،‬بيضن يضدي رب غفضور‬
‫يحب أن يتملق له عبده بالدمع‪ ،‬ويحب أن يسمعه‪ ،‬في الثلث الخر من الليل‪،‬‬
‫وبالعشي والبكار‪ ،‬يحاسب نفسه ويلوم‪ ،‬ويكرر مع ابن القيضضم يخضضاطب نفسضضه‬
‫أن‪:‬‬
‫)لله ملك السموات والرض‪ ،‬واستقرض منك حبة‪ ،‬فبخلضضت بهضضا‪ .‬وخلضضق‬
‫سبع أبحر‪ ،‬وأحب منك دمعة‪ ،‬فقحطت بها عينك()‪ .(79‬ويظل يرددها حتى يظن‬
‫أنه قد استوفى إنذارها‪.‬‬
‫ل تظلم نفسي باختيار الظلم‪..‬‬
‫ثم يعاتب عينه من بعد ثانية‪ :‬لم تنظضضر ضضضياء العمضضل السضضلمي ظلمضضا؟‬
‫ولم تتشاءم بدل أن تتفاءل لدعوة اليمان بالخير؟‬
‫نعم صعب هو الوصول لدولة القرآن‪ ،‬ولن يأتي ادهضضر بعجيبضضة مضضن دون‬
‫جد‪.‬‬
‫لكنه ضضضياء كلضضه العمضضل لهضضا‪ ،‬ليضضس بظلم‪ ،‬وإن ظضضن المسضضتعجل وجضضود‬
‫تباطؤ أو تعثر‪.‬‬
‫وهل أسطع مضن ضضياء النيضة‪ ،‬وضضياء الجضر‪ ،‬وضضياء الخضوة؟ إن طضول‬
‫دا‪ ،‬ولئن يرجع الداعية بها وحدها خير لضضه مضضن‬ ‫الطريق لن يعدم هذه الضواء أب ً‬
‫قعود يوسوس به التشاؤم‪.‬‬
‫ولكن بعض الضضدعاة يظلمضضون أنفسضضهم بنظضضرة متشضضائمة إلضضى مسضضتقبل‬
‫الضضدعوة‪ ،‬ويتهمضضون التخطيضضط والقضضادة والرعيضضل‪ ،‬فيعضضتزلون مجضضالت العمضضل‬
‫الوضاءة وهي من حولهم تنادي وتهيب‪.‬‬
‫وإنمضضا الظلم ظلم المتشضضائم فحسضضب‪ ،‬إذ حبضضس نفسضضه عضضن الضضضياء‪،‬‬
‫والضواء تنير درب غيره‪.‬‬

‫‪ ()78‬سراج الملوك‪.14/‬‬
‫‪ ()79‬الفوائد لبن القيم‪.67/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وتفهيم المتشضائم بهضذه الحقيقضة معضضلة صضعبة‪ ،‬فضإن فاقضد الشضيء ل‬
‫يعطيه‪ ،‬ول يستطيع تصور ما نقول والتصديق بوجود الضواء‪.‬‬
‫لكن عبد الوهاب عزام ضرب مثل تشبيهيا انتقل منه إلى التفهيم فأجاد‪،‬‬
‫فافترض للمتشائم أنه في حجرة مقفلة سوداء‪ ،‬أليس يبقى مضضن حولهضضا ضضضوء‬
‫الشمس؟‬
‫حجرة ملؤها الظلم حوتني‬
‫وحوتها أشعة القمراء‬
‫فلما أثبت هذه الحقيقة‪ :‬قاس للمتشائم حالة عليها‪ ،‬فقال معقبا‪:‬‬
‫رب نفس تلفها ظلمات‬
‫)‪(80‬‬
‫وهي في عالم كثير الضياء‬
‫أي كذلك النفس أحياًنا‪ ،‬تضع نفسها في الظلم باختيارهضضا والضضضياء مضضن‬
‫حولها كثير وافر‪ ،‬حتى تنسى تدريجًيا أن هناك ثمة ضياء عافته‪ ،‬فتنكر وجضضوده‪،‬‬
‫فيعجب المستنيرون‪ ،‬فيزداد المحبضضوس الضضواهم إنكضضاًرا‪ ،‬ويظضضن العجضضب تكلفضضا‬
‫وملحاة‪ ،‬فيفتتضضن‪ ،‬ويصضضرخ فضضي حجرتضضه المغلقضضة السضضوداء‪ ،‬فل يجضضد إل صضضدى‬
‫دا‪.‬‬
‫الظلمات‪ ،‬فيزداد فتنة‪ ،‬يظن الصدى تأيي ً‬
‫لكن الذين فطنوا لمثال عزام في الساحات وعرصات العمضضل ماضضضون‪،‬‬
‫تغمرهم أنوار الفطنة‪ ،‬وتغشاهم السكينة‪.‬‬
‫إنه الخبر القديم الحديث لنوار المال وظلمضضات الفتضضن‪ ،‬ليضضس هضضو خضضبر‬
‫من نراهم اليضضوم فحسضضب‪ ،‬فضضإن عبضضد القضضادر الكيلنضضي صضضادف المسضضتظلمين‪،‬‬
‫فوضع لهم معادلة قصيرة سهلة‪ ،‬لو أدركوا لخرجوا من تيههم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)إذا خرج الزور‪ :‬دخل النور( )‪.(81‬‬
‫زور سضضوء الظنضضون فضضي القلضضب‪ ،‬المسضضبب للتشضضاؤم وعبضضوس الضضوجه‪،‬‬
‫فالظلم‪.‬‬
‫ابتسامة الحياء مفتاح النوار‬
‫وخروج الزور يكون بالبتسامة وبانشراح الوجه عند اللقضضاء‪ ،‬فضضإن فيهمضضا‬
‫حماية أكيدة من الوقوع في أخطاء الظنون والتعرض لسهام الوسوسضضة‪ ،‬ومضضا‬
‫أكفهر وجه وعبس إل ترك في نفس المقابل من التصارح والتناصح‪.‬‬
‫أفل ترى أن الطلقة جنة‬
‫من سوء ما تجني الظنون ومعقل؟‬
‫ول يطاوع البتسام الفم إل بلزوم حسن التأويضضل‪ ،‬يضضرى الداعيضضة الخطضضأ‬
‫والجتهاد المخالف فيسبق صاحبهما إلى تلمضضس العضضذر والتضضبرير‪ ،‬ويميضضل إلضضى‬
‫أجمل تفسير‪ ،‬ثم يحرص على أن يقرن البتسامة والطلق بحيضضاء لتتميضضز عضضن‬
‫ابتسامة الستصغار‪ ،‬التي قد يزينها الشيطان بل يتخلق بخلق البهاء زهير حين‬
‫فخر فقال‪:‬‬
‫إذا قلت قول كنت للقول فاعل‬
‫وكان حيائي كافلي وضميني‬
‫تبشر عني بالوفاء بشاشتي‬

‫‪ ()80‬ديوان المثاني لعزام‪.69/‬‬


‫‪ ()81‬فتوح الغيب لعبد القادر‪.37/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وينطق نور الصدق فوق جبيني‬
‫فهما حياء وبشاشة‪ ،‬يبدوان مًعا‪.‬‬
‫أو‪ :‬هي الفطنضضة‪ ،‬مفتاحهضضا‪ :‬ابتسضضامة الحيضضاء يبتسضضمها الداعيضضة‪ ،‬فتتضضوالي‬
‫عا‪ ،‬وتتكامل‪ ،‬يعضد بعضها بعضا‪ ،‬لتبدد ما هنالك من ظلمات‬ ‫النوار‪ ،‬وتفيض تبا ً‬
‫الفتنة وتعصم من قواصم الغواء‪...‬‬
‫إنها مصادر نور أوقدها فقضضه الضضدعوة مضضن قبضضل‪ ،‬ل تضضزال قائمضضة تضضضيء‪،‬‬
‫تنتظر من يلوز بها من المحتضضاطين الحضضذرين‪ ،‬والمسضضتدركين التضضائبين‪ ،‬لضضتريهم‬
‫درب السلمة الصحيح يوم تغزو الفتن زمرة القلب الواحد‪ ،‬ويسضضتدرج التأويضضل‬
‫الدعاة‪ ،‬وتولد الغيبة سلسل العيوب‪ ،‬ويرمي الشيطان بسهام الغرور والهضضوى‬
‫والكبر وحب المدح‪ ،‬فتفترق الرواح بعد تأليف‪ ،‬ويحتد التنازع في الرئاسة‪.‬‬
‫النور الول‪:‬‬
‫الستعاذة بالله من الفتن‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫فأول قبس يتناوله الذي يري الفتنة مقبلة‪ :‬قبس الستعاذة بضضالله منهضضا‪،‬‬
‫كما أمرنا رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬حين لقننا التعضضوذ منهضضا بضضإطلق‪،‬‬
‫وكما فعل عمار بضضن ياسضضر رضضضي اللضضه عنضضه لمضضا تعضضوذ مضضن فتنضضة الخلف بيضضن‬
‫المسلمين‪ ،‬فقال‪- :‬فيما أخرجه البخاري‪ -‬حين بدت بوادرها‪) :‬أعضضوذ بضضالله مضضن‬
‫الفتن(‪.‬‬
‫مع أن عمار قد شهد له النضضبي ‪-‬صضضلى اللضضه عليضضه وسضضلم‪ -‬بضضأنه مضضن فئة‬
‫العدل‪ ،‬وتقتله الفئة الباغية‪.‬‬
‫قال ابن حجر في الفتح‪:‬‬
‫)فيه دليل علضضى اسضضتحباب السضضتعاذة مضضن الفتضضن ولضضو علضضم المضضرء أنضضه‬
‫متمسك فيها بالحق‪ ،‬لنها قد تفضي إلى وقوع ما ل يري وقوعه()‪.(82‬‬
‫فقل مع عمار أيها الداعية وردد‪ :‬أعوذ بالله من الفتن‪ ،‬وأكضضثر منهضضا فضضي‬
‫كل أحوالك‪ :‬يعيذك الله منها ويقبلك ويعصمك وإن كنت ساذجا‪ ،‬فضضإنه سضضبحانه‬
‫مضضا‪ ،‬فضضإن تجربضضة‬‫معين معيذ يرحم رجفة الخائف‪ ،‬وذلك الظن به عضضز وجضضل دو ً‬
‫المستعيذين تجزم بأنه‪:‬‬
‫بخالقه‪ :‬نجاه منهن خالقه‬ ‫إذا اعتصم المخلوق من فتن الهوى‬
‫ولكن انتبه‪ :‬ليست الستعاذة العابرة تجزيك بل أقرع باب اللضضه بإلحضضاح‪،‬‬
‫واهجر من يأبي القرع معك وتجنب صضحبته‪ ،‬واطضرح نفسضك علضى عتبضة ربضك‬
‫العزيز بذل‪ ،‬حتى تسمع نداء المان‪.‬‬
‫تلك وصية الناصح الحكيم‪ ،‬إليك وإلى الزاهد يوسضضف بضضن الحسضضين‪ ،‬لمضضا‬
‫شكا له يوسف من نفسه أخلقا ل يرضاها‪ ،‬وركونا إلى الدنيا يفتنه‪ ،‬فكتب إليه‬
‫أن‪:‬‬
‫)بسم الله الرحمن الرحيم ‪ :‬وصل كتابك وفهمت ما ذكرت‪ ،‬ومخاطبضضك‬
‫أكرمك الله شضضريكك فضضي شضضكواك‪ ،‬ونظيضضرك فضضي بلضضواك‪ ،‬إن رأيضضت أن تضضديم‬
‫الدعاء وقرع الباب‪ ،‬فإن من قرع الباب ولم يعجز عن القرع‪ :‬دخضضل‪ ،‬وإن تهيضضأ‬
‫لك ما تريد من الصفاء والطهارة فدع ما أنت فيه من البلء واقتراف مسضضاوئ‬
‫ل تجدي منفعة في دينك ول دنياك‪ ،‬وتجنب قرب من ل تأمنه على نفسك فضضي‬
‫مواصلة الغفلة والبطالة‪ ،‬واستعن على ذلك كله بالقناعة والتجضضزي‪ ،‬وسضضله أن‬
‫يمنك عليك بتوبة(‪.‬‬
‫]‪ [10‬تناصح وتغافر‬
‫والله‪ ،‬إن أمر قرآننا لكما أقسم الله‪:‬‬
‫ل(‪.‬‬‫ما هُوَ ِبال ْهَْز ِ‬
‫ل ‪ ،‬وَ َ‬ ‫ل فَ ْ‬
‫ص ٌ‬ ‫ه لَ َ‬
‫قوْ ٌ‬ ‫)إ ِن ّ ُ‬
‫دور فصل جاد‪ ،‬أراده الله تعالى للقرآن‪.‬‬
‫وسيرة مفاصلة جادة‪ ،‬ليس معها هزل‪ ،‬فرضت تبعا لذلك على من‬
‫يختار النتساب إلى سرايا رجال القرآن‪.‬‬
‫ظا على‬‫وجد مقابل ليس بمستغرب‪ ،‬مازال يتداعي إليه الباطل‪ ،‬حفا ً‬
‫نفسه‪ ،‬ودفاعا عن مصالحه‪ ،‬يرد به على جدنا‪.‬‬

‫‪ ()82‬فتح الباري ‪.2/89‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وإذا بأمر دعوة السلم كله جد أني نظرته‪ ،‬ل يستطيع فيها الداعية‬
‫السملم أن يتمنى أمنية من أماني الهزل‪ ،‬ول تنبغي له‪ ،‬وإل‪ :‬فقد الثبات‪،‬‬
‫وتدحرج أمام الجد الهادر السائر‪.‬‬
‫نرى الدهر قد جد في أمرنا‬
‫فياويل تدبيرنا إن هزل‬
‫وهذا ما يلقي على عاتق كل جيل من الدعاة‪ ،‬يشرفه الله تعالى بكاية‬
‫حاجة مرحلة متميزة من مراحل المعركة المستمرة عبر القرون‪ ،‬واجبا من‬
‫التربية الصعبة‪ ،‬وسمتا من التشدد في الختيار‪ ،‬يكفل بهما تقاء المجموعة‬
‫وتماسك البناء‪.‬‬
‫إذا اختل شيئا بناء الساس‬
‫تضاعف في الصرح ذاك الخلل‬
‫وإنما ثمن هذا الساس المتين‪ :‬أن يرفع الدعاة القواعد من التنظيم‬
‫بشمول محيط وميزان‪ ،‬وأن يرمموا ما استهلكته الشبهات حين كانت تمر في‬
‫ثنايا اليام‪.‬‬
‫فل بد من رأب كل الصدوع‬
‫وجمع الصفوف‪ ،‬ودرء العلل‬
‫ولبد من قصد ذات الله‬
‫)‪(83‬‬
‫وحشد القوى‪ ،‬ليصح العمل‬
‫ومعنى ذلك‪ :‬أن نلجأ دوما إلى تربية تسلك بنا في مسارين دائمين‪،‬‬
‫وخطين متكاملين‪:‬‬
‫مسالك التجرد اليماني‪ ،‬ونيل الرضا الربضضاني‪ ،‬بضضاطراح شضضهوة النفضضس‪،‬‬
‫وتعليم تمييز اللقضضاء الشضضيطاني‪ ،‬مضضن خلل تأسضضيس تكتضضل ينضضوي عمل حركيضضا‬
‫فكريا سياسًيا‪ ،‬يتجاوز أشكال التعاون الجتماعي الخيري‪.‬‬
‫ومسار الستدراك بعلج ما هنالك من عيضضب طضضرأ بعضضد صضضحة‪ ،‬أو نقضضص‬
‫فضح المنظر بعد كمال‪ ،‬مضضن خلف‪ ،‬أو تخطيضضط‪ ،‬أو سضضير بل تحديضضد تخطيضضط‪.‬‬
‫وأنوار الفطنة التي أضاء منها أول ما أضاء نور الستعاذة بالله من الفتن‪ ،‬هضي‬
‫أنوار أوقدت لتنير مراحل من كضضل هضضذين المسضضارين‪ ،‬فهضضي تضضؤنس المؤسضضس‬
‫الرائد‪ ،‬كما تهدى العاثر المنيب‪.‬‬
‫فالعائذ بالله المستغفر يتوغل في دربه على ضوء‪:‬‬
‫النور الثاني‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫تنقية النية مما علق بها من شوائب‬
‫نور أناره خالد رضي الله عنه يوم احتدمت اليرموك فقال‪:‬‬
‫)إن هضذا يضوم مضن أيضام اللضه‪ ،‬ل ينبغضي فيضه الفخضر ول البغضي‪ ،‬أخلصضوا‬
‫جهادكم‪ ،‬وأريدوا الله بعملكم‪ ،‬فإن هذا يوم له ما بعده()‪.(84‬‬
‫ونقول بالذي قال‪:‬‬

‫‪ ()83‬هذه البيات الربعة للميري في ألوان طيف‪.99/‬‬


‫‪ ()84‬تاريخ الطبري ‪.3/395‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫)إن أيامنا هذه الضضتي نصضضاول فيهضضا جاهليضضة القضضرن العشضضرين لسضضتئناف‬
‫الحياة السلمية إنما هي من أيام الله التي لها ما بعدها‪ ،‬فإنه ل ينبغي للداعية‬
‫أن تجره فتنة إلى فخر وتطاول على أصحابه‪ ،‬ول إلى بغي وعضضدوان علضضى ذي‬
‫إمرة قد بويع‪.‬‬
‫إخلصا يتجاوز معناه الوعظي العابر الذي تلوكه السضضن القصضضاص‪ ،‬إلضضى‬
‫تأمل استقرائي صامت‪ ،‬يحصي ما جنته النيات المشوبة الممزجة من موبقات‬
‫وكبائر أضرت بسير الحركة السلمية الحاضرة‪ ،‬وهزته وأرادت له الحيدة عضضن‬
‫خطة المستقيم‪ ،‬لول أن الله عصم القادة‪ ،‬ومن عليهم بثبات وسكينة‪.‬‬
‫من أجل ذلك أوصى فقه الدعوة أن من لضضم يتعضضظ فيسضضارع إلضضى تنقيضضة‬
‫نيته‪ :‬سارعنا نحن إلى تنقية الجماعة منه‪.‬‬
‫بها جزم المام البنا فقال‪:‬‬
‫)إن الخلص أساس النجضضاح‪ ،‬وإن اللضضه بيضضده المضضر كلضضه‪ ،‬وإن أسضضلفكم‬
‫الكرام لم ينتصروا إل بقوة إيمانهم وطهارة أرواحهم‪ ،‬وذكاء نفوسهم وإخلص‬
‫قلضضوبهم‪ ،‬وعملهضضم عضضن عقيضضدة واقتنضضاع جعلضضوا كضضل شضضيء وقفضضا عليهضضا‪ ،‬حضضتى‬
‫اختلطت نفوسهم بعقيدتهم‪ ،‬وعقيدتهم بنفوسهم‪ ،‬فكانوا هضضم الفكضضرة‪ ،‬وكضضانت‬
‫الفكضضرة إيضضاهم‪ ،‬فضضإن كنتضضم كضضذلك ففكضضروا‪ ،‬واللضضه يلهمكضضم الرشضضد والسضضداد‪،‬‬
‫واعملوا‪ ،‬والله يؤيضضديكم بالمقضضدرة والنجضضاح‪ ،‬وإن كضضان فيكضضم مريضضض بضضالقلب‪،‬‬
‫معلول الغاية‪ ،‬مستور المطامع‪ ،‬مجروح الماضضي‪ ،‬فضأخرجوا مضن بينكضم‪ ،‬فضإنه‬
‫حاجز للرحمة‪ ،‬حائل دون التوفيق( )‪.(85‬‬
‫أنظر قوله‪ :‬إنه حاجز للرحمة‪ ،‬ودقق في تاريخنا القريب‪ :‬كم من قصضضة‬
‫وواقعة لها لسان يتهم الشرط المتساهل في التجميع بحجضضز أشضضكال الرحمضضة‬
‫المتعددة‪ ،‬من نصر و تمكين‪ ،‬وسكينة وطمأنينة‪ ،‬ووحدة ووفاق؟‬
‫إن الكثير من عثرات السير مردها إلى أهل الشوائب الضضذين احتضضضنتهم‬
‫الجماعة على سذاجة منها‪ ،‬وفي غفلة من نفسها‪.‬‬
‫وقديما قال ابن الجوزي صادقا‪:‬‬
‫)إنما يتعثر من لم يخلص()‪.(86‬‬
‫ضضضا قلبضضا واحضضدا‬
‫وهضضو إن كضضان يعنضضي بضضذلك الفضضرد‪ ،‬إل أن للمجموعضضة أي ً‬
‫كا يضره مرض البضعة الصغيرة منه كما يضر مرض بعضضض قلضضب الفضضرد‬ ‫مشتر ً‬
‫ذاك الفرد‪ ،‬فإذا مضضرض داعيضضة بريضضاء‪ :‬تضضضررت جماعضضة الضضدعاة كلهضضا بمرضضضه‪،‬‬
‫وتعثرت ومرض قلبها‪ ،‬حتى يتخلص منه بتوبة‪ ،‬أو تتخلص منه بإبعاد‪.‬‬
‫وقبل ابن الجوزي بقليل كان الكيلني ينادي‪:‬‬
‫)يا غلم‪ :‬فقضضه اللسضضان بل عمضضل القلضضب ل يخطيضضك إلضضى الحضضق خطضضوة‪.‬‬
‫السير سير القلب( )‪.(87‬‬
‫ضا‪ ،‬فإن مما يخشى على الضضدعوات أن تطيضضل‬ ‫ومعناه الجماعي كذلك أي ً‬
‫لسانها‪ ،‬فتكثر تأليف الكتب‪ ،‬وتتخضذ لهضا مضن الصضحف ميضداًنا‪ ،‬وتتعضب درجضات‬
‫المنابر بخطبائها‪ ،‬وتترك تأليف الرواح وتربيضضة القلضضوب‪ ،‬فتقضضف ل تخطضضو نحضضو‬
‫التمكين خطوة‪ ،‬كوقفة غلم الكيلني‪.‬‬
‫‪ ()85‬مجلة )الدعوة( عدد ‪.50‬‬
‫‪ ()86‬صيد الخاطر‪.355/‬‬
‫‪ ()87‬الفتح الرباني‪.39/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وربما كان الضرر أبلغ من ذلك‪ ،‬فإن التعثر يبقى السضضير معضضه مسضضتمًرا‪،‬‬
‫والوقوف يحفظ الجماعة سالمة قائمة على القل‪ ،‬لكن تلبضضس الجماعضضة كلهضضا‬
‫بالرياء قد يدفعها في طريق الضمحلل الذي شضضاهده التضضابع الربيضضع بضضن خضضثيم‬
‫في أعمال الحاد فقال‪:‬‬
‫)‪(88‬‬
‫)كل ما ل يراد به وجه الله‪ :‬يضمحل( ‪.‬‬
‫فريضضاء الجماعضضات ليضضس بغريضضب‪ ،‬بضضل شضضوهد فضضي التاريضضخ الفكضضري‬
‫والسياسضضي مضضراًرا‪ ،‬متلبسضضا شضضكل مضضن التكلضضف للصضضطلحات‪ ،‬ومضضن التبنضضي‬
‫للجتهادات الشاذة التي ربما زل بها لسضضان الفقهضضاء القضضدمين والمحضضدثين‪ ،‬أو‬
‫مندفعا في طريق التكاثر بالعضاء على حساب النوعيات‪.‬‬
‫والظلم يزحف تدريجًيا مع أشكال التراجع الثلث هذه‪ ،‬فإن العاثر حيضضن‬
‫عثرته يكون رأسه أقرب إلى الرض‪ ،‬ملتهيا بتخليص نفسه من هوية‪ ،‬فينقطضضع‬
‫عن رؤية المنار حينا‪ ،‬والواقف يخدره السكون فتضضأتيه سضضنة أو نضضوم‪ ،‬فيغتمضضص‬
‫جفنه‪ ،‬وشأن المضمحل أوضح‪ ،‬وبذلك يتحقق كون الرياء من ظلمضضات الفتنضضة‪،‬‬
‫وكون الخلص من أنوار الفطنة‪.‬‬
‫وبسبب ظلمته هذه وصف زاهد الصضضحابة شضضداد بضضن اوس رضضضي اللضضه‬
‫عنه الشهوة التي تقترن به بأنهاخفية‪ ،‬فإنه‪ ،‬حين حضضضرته الوفضاة وطلبضضوا منضضه‬
‫وصية يودع خللها خلصة فقه في العمل قال‪:‬‬
‫)‪(89‬‬
‫‪.‬‬ ‫)إن أخوف ما أخاف عليكم‪ ،‬الرياء‪ ،‬والشهوة الخفية(‬
‫أي أنها تتسلل مستغلة ظلم الرياء‪.‬‬
‫دا‪ ،‬فقضضد سضضئل التضضابعي‬ ‫ومع هذا فإن الستدراك في هذا الباب بسيط ج ً‬
‫طلحة بن مصرف عنه‪ ،‬فأرشد المرائي إلى أن يقول‪:‬‬
‫)اللهم اغفر لي ريائي وسمعتي(‪.‬‬
‫هذا فقط من لسان ندم‪.‬‬
‫فاستغفر مما كضضان مضضن ريضضاء ل تعلمضضه مضضن نفسضضك‪ ،‬اللضضه يعلمضضه‪ ،‬وأبضضدأ‬
‫صفحة جديدة بيضاء‪ ،‬ثم سلم عليك إذ تقتبس لهلك قبسا من‪:‬‬
‫النور الثالث‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫قبول النصيحة وطلبها من الخبراء‬
‫جضا فضي‬ ‫وكان الحسن البصري ملحاحا في الحضث علضى هضذا الخلضق‪ ،‬لها ً‬
‫تزيينه‪ ،‬حتى جعله ثلث العيش‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)لم يبق من العيش إل ثلث‪:‬‬
‫أخ لك تصيب من عشرته خيًرا‪ ،‬فإن زغت عن الطريق‪ :‬قومك‪.‬‬
‫وكفاف من عيش ليس لحد عليك فيه تبعة‪.‬‬
‫)‪(90‬‬
‫وصلة في جمع‪ ،‬تكفي سهوها‪ ،‬وتستوجب أجرها( ‪.‬‬
‫فزينة الحياة عنده‪ ،‬فضضي جيضضل التضضابعين ذلضضك‪ ،‬كضضانت ترتفضضع عضضن الرض‬
‫وتتناقص‪ ،‬حتى لم يبق منها مما يري إل هذه الثلث التي يتقضضدمها الخ الناصضضح‬
‫المقوم لعوجاجك‪ ،‬فكم ثمن بقية الزينة هذه في يومنا هذا؟‬
‫ثم جعل الحسن التقدم بالنصيحة خصلة ضرورة للمؤمن الذي‪:‬‬
‫‪ ()88‬طبقات ابن سعد ‪.6/186‬‬
‫‪ ()89‬زهد ابن المبارك‪.393 /‬‬
‫‪ ()90‬تاريخ بغداد ‪.6/99‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫)هو مرآة أخيه‪ ،‬إن رأى منه ما ل يعجبه‪ :‬سدده وقمضضه ووجهضضه‪ ،‬وحضضاطه‬
‫في السر والعلنية( )‪.(91‬‬
‫فالعين تنظر منها ما دنا ونأى‬
‫ول ترى نفسها إل بمرآة‬
‫وعند عمر بن العزيز هو‪ :‬من إحسان الصلتن الخوانية وواجباتها‪ ،‬وذاك‬
‫قوله‪:‬‬
‫)من وصل أخاه بنصيحة له في دينه‪ ،‬ونظضضر لضضه فضضي صضضلح دنيضضاه‪ ،‬فقضضد‬
‫أحسن صلته‪ ،‬وأدى واجب حقه( )‪.(92‬‬
‫ومثل التقدم بالنصيحة‪ ،‬قبولها‪:‬‬
‫فالصضضادق يفضضرح بهضضا‪ ،‬ولكضضن )وصضضف اللضضه تعضضالى الكضضاذبين ببغضضضهم‬
‫للناصحين‪ ،‬إذ قال‪ :‬ولكن ل تحبون الناصحين( )‪.(93‬‬
‫وللناصح الحق في أن يسقط مضضن عينضضه مضضن يضضرد نصضضيحته‪ ،‬وأن يسضضتن‬
‫بسنة الشافعي التي بينها في قوله‪:‬‬
‫دا فقبل مني إل هبته واعتقدت مضضودته‪ ،‬ول رد أحضضد علضضي‬ ‫)ما نصحت أح ً‬
‫النصح إل سقط من عيني ورفضته(‪.‬‬
‫اتخذ صاحبا يحصي عليك‬
‫ولكن‪ ،‬إن عاش الشافعي حتى رأى من يرد نصيحته‪ ،‬فإن التضضابعين فضضي‬
‫الجيل الذي قبله‪ ،‬كانوا يبادئون بالسؤال مبادأة‪ ،‬يرجون الصلح‪.‬‬
‫فعمر بن عبد العزيز كان يقول لموله مزاحم‪:‬‬
‫)إن الولة جعلوا العيون على العوام‪ ،‬وأنضضا أجعلضضك عينضضي علضضى نفسضضي‪،‬‬
‫فإن سمعت مني كلمة تربأ بي عنها‪ ،‬أو فعال ل تحبه‪ ،‬فعظنضضي عنضضده‪ ،‬وانهنضضي‬
‫عنه( )‪.(94‬‬
‫وكان سيد تابعي الشام بلل بن سعد يقضضول لصضضاحبه عبضضد الرحمضضن بضضن‬
‫يزيد‪:‬‬
‫)‪(95‬‬
‫)بلغني أن المؤمن مرآة أخيه‪ ،‬فهل تستريب من أمري شيئا؟(‬
‫وأصرح منهما‪ :‬ميمن بن مهران قدوة أهل الجزيرة‪ ،‬فضضإنه عضضرض نفسضضه‬
‫على جمع من أصحابه وقال لهم‪:‬‬
‫)قولوا في ما أكره في وجهي‪ ،‬لن الرجل ل ينصح أخاه حتى يقضضول لضضه‬
‫في وجهة=ه ما يكره(‪.‬‬
‫هذا فعل الصالحين‪.‬‬
‫هو‪ ..‬أو السماح للعيوب بالتراكم‪.‬‬

‫زهد ابن المبارك‪.232 /‬‬ ‫‪()91‬‬


‫تاريخ الطبري ‪.6/572‬‬ ‫‪()92‬‬
‫إحياء علوم الدين ‪.2/183‬‬ ‫‪()93‬‬
‫عيون الخبار لبن قتيبة ‪.2/18‬‬ ‫‪()94‬‬
‫زهد ابن المبارك‪.485 /‬‬ ‫‪()95‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ولداعية اليوم في فعلهم موعظة ونضضور وبلغ‪ ،‬ول بضضد لضضه أن يخضضرج مضضن‬
‫الفتن التي من حوله بأسئلة عمرية ميمونة‪ ،‬تبعث سضضمت التبضضاع ذاك وتعيضضده‬
‫حيا‪ ،‬فأنه لول كبر واعتداد رأيناهما لعقل مقدمات الفتن المندرسضضة جيضضل مضضن‬
‫عا‪ ،‬وأخذتهم أخذة رابيضضة‪ ،‬وكضضان‬ ‫المغرورين كثير عددهم‪ ،‬بطحتهم لوجوههم تبا ً‬
‫من الممكن أن ينجوا منها لو أعطوا نم أنفسهم أذنا صاغية‪ ،‬لكنهم كانوا قوما‬
‫يصدون‪.‬‬
‫وذهبضضت فتنتهضضم‪ ،‬وثبضضت الجضضر للثضضابتين‪ ،‬وبقضضي طريضضق العمضضل الواسضضع‬
‫اللحب‪ ،‬وبقيت أنوار الستعاذة والخلص والتناصح‪ ،‬تقود المسالك إلى‪:‬‬
‫نور رابع وهاج‪ ،‬هو‪:‬‬
‫نعليب نفسية التغافر‬
‫أوقده الزاهد ابن السماك واعظ هارون الرشيد لما‪) :‬قال له صديق‬
‫دا نتعاتب( كأنها كانت هفوة من ابن السماك أو زلة تعكر‬ ‫الميعاد بيني وبينك غ ً‬
‫لها قلب صديقة‪.‬‬
‫فقال له ابن السماك رحمه الله تعالى‪:‬‬
‫دا نتغافر(‪.‬‬
‫)بل بيني وبينك غ ً‬
‫وهو جواب يأخذ بمجامع القلوب‪ ،‬ملؤه فقه وواقعية‪ ،‬يشير إلى وجود‬
‫قلب وراء هذا اللسان يلذعه واقع المسلمين‪ ،‬وتؤلمه أسباب تفرقهم‪.‬‬
‫وكذلك يكون استدراك الوازن لتسرع الحساس‪.‬‬
‫فلماذا التعاتب المكفهر بين الخوان؟ كل منهم يطلضضب مضضن صضضاحبه أن‬
‫ما‪.‬‬
‫يكون معصو ً‬
‫أليس التغافر أولى وأطهر وأبرد للقلب؟‬
‫أليس جمال الحياة أن تقول لخيك كلما صافحته‪ :‬رب اغفر لضضي ولخضضي‬
‫هذا‪ ،‬ثم تضمر في قلبك أنك قد غفرت له تقصيره تجاهك؟‬
‫أو ليس عبوس التعاتب تعكيرا تصطاد الفتن فيه كيف تشاء؟‬
‫بلي والله‪.‬‬
‫ولقد كان شاعر أسبق من دعاة يدعون الفقه‪ ،‬فراح يمرح ويتغنى‪...‬‬
‫من اليوم تعارفنا‬
‫ونطوي ما جرى منا‬
‫فل كان ول صار‬
‫ول قلتم ول قلنا‬
‫وإن كان ولبد‬
‫من العتب فبالحسنى‬
‫ثم يأبى إل أن يزيد مرحه‪ ،‬فيبدل نغمته‪:‬‬
‫تعالوا بنا نطوى الحديث الذي جرى‬
‫ول سمع الواشى بذاك ول درى‬
‫تعالوا بنا حتى نعود إلى الرضا‬
‫وحتى كأن العهد لم يتغيرا‬
‫لقد طال شرح القال والقيل بيننا‬
‫وما طال ذاك الشرح إل ليقصرا‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫من اليوم تاريخ المحبة بيننا‬
‫عفا الله عن ذاك العتاب الذي جرى‬
‫ثم يبدل نغمته ثالثة‪ ،‬ويتملق أصحابه ليديم محبة أخويضضة لذيضضذة قضضد ذاق‬
‫طعمها الفريد‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫تعالوا نخل العتب عنا ونصطلح‬
‫وعودوا بنا للوصل والعود أحمد‬
‫ول تخدشوا بالعتب وجه محبة‬
‫له بهجة أنوارها نتوقد‬
‫فل تخدش أيها الداعية‪ ،‬بالله عليك‪ ،‬وجه محبة منيرة ل زالت فضضذا فيهضضا‬
‫والنضضاس مضضن حولضضك تسضضتهلكهم العضضداوات‪ ،‬وإل وضضضعت نفسضضك علضضى شضضفير‬
‫الستهلك‪ ...‬إن التغافر خير‪.‬‬
‫]‪ [11‬شرط بشرط‬
‫دليل ماهر رفيق‪ ،‬عالم بديار آبائه وأجداده وشعابها‪ ،‬بينا هو يمشي معه‬
‫دا عن العمران‪ :‬رأى تائها هائما فضضي الظلم‪،‬‬ ‫سلحه‪ ،‬في ليلة غياب القمر‪ ،‬بعي ً‬
‫ل يميز معاني مواقع النجوم‪ ،‬أيتركه يهيم بيضضن يضضدي الضضذئاب؟ فكضضذلك الداعيضضة‬
‫المجرب الذي لقنه المحنكون أصول الدعوة‪ ،‬ينكسر قلبه شفقة ورحمضضة كلهضضا‬
‫رأى هائما في ظلمات الفتنة بيضضن يضضدي أصضضحاب المطضضامع والغضضراض فيضضامنه‬
‫ويوصله أهله‪ ،‬ويؤنسه أثناء الطريق بدروس في مواقع النجوم وأبراج السضضماء‬
‫ودللتها على الجهات كي ل يضل ثانية‪ ،‬ويوصل غيره لو رآه تائها‪.‬‬
‫وأنوار الفطنة هذه هي‪ :‬الكضضواكب الضضدراري فضضي سضضماء الضضدعوة‪ ،‬تضضزداد‬
‫بريقا ولمعاًنا كلما زاد الظلم لتزيل وحشة المنفرد وتهدي التائه الطريق‪.‬‬
‫عتاب بمقدمة تفسير وخاتمة ابتسام‬
‫وللتغافر الذي أصر عليه ابن السماك وتنوعت له ألحان الشاعر‪ :‬أهمية‬
‫خاصة كأهمية نجم قطب الشمال بين نجم السماء‪ ،‬فضضان الكضضثير مضضن حضضوادث‬
‫نكوص الدعاة ترجع إلى فلتة لسان أو هفوة تعامضضل لضضم يغتفروهضضا‪ ،‬والغفضضران‬
‫منهضضم قريضضب‪ .‬أو إلضضى ظضضن يتوهمضضون معضضه حصضضول تعضضد تجضضاههم أو تقصضضير‪،‬‬
‫وتمحيص الخبار أو طلب التعليل منهم أقرب‪.‬‬
‫ولو أنهم عتبوا بلسان خفيض نم غير استفزاز لكان خيًرا لهم‪ ،‬ولوجضضدوا‬
‫من يثني على طيبهم كثناء الشاعر على أصحابه حين أسر عتبهم قلبه فقال‪:‬‬
‫عتبتم فلم نعلم لطيب حديثكم‬
‫أذلك عتب أم رضى وتودد‬
‫وأظهر من ذلك خيًرا لو قدم المستعتب بين يدي عتبه مقدمضضة تفسضضير‪،‬‬
‫فيطمئن صاحبه أنها جلسة تصارح وتغافر‪ ،‬ل معركة تناحر‪ ،‬وأنه يريد أن يفضضرغ‬
‫مضضا فضضي صضضدره أمضضام كفضضؤ لضضه وحضضبيب‪ ،‬ترويحضضا للقلضضوب‪ ،‬وقطعضضا لمحضضاولت‬
‫الشيطان‪ ،‬ل التماسا لسبب هجر‪ ،‬ول تفكيًرا باتهام‪.‬‬
‫ثم كم هي إيمانية هذه الجلسة‪ ،‬وكم روحانيتها لو ختما بخاتمضضة ابتسضضام‬
‫يقول معه لخيه‪.‬‬
‫قد قضينا لبانة من عتاب‬
‫وجميل تعاتب الكفاء‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ومع العتب والعتاب فإني‬
‫حاضر الصفح واسع العفاء‬
‫ما للذي يتوجه إليه العتاب‪ ،‬ليضضس‬ ‫فهو تعاتب أحباب‪ ،‬يؤتي لجماله‪ ،‬وإكرا ً‬
‫فيه نوع انتصار للنفس‪ ،‬وقبول العذر بعده يكون أدعى وآكد وأحرى بالتقديم‪.‬‬
‫فعذرك مبسوط لدينا مقدم‬
‫وودك مقبول بأهل ومرحب‬
‫ولست بتقليب اللسان مصارما‬
‫خليلي إذا ما القلب لم يتقلب‬
‫وهذا هو المهم‪.‬‬
‫المهم أن القلب لم يتقلب تقلبا دنيويا تحركه الهواء‪ ،‬وإنمضضا كضان يعتقضد‬
‫ما تمليه مصالح الدعوة فيصيب ويضضأتي الخطضضأ‪ ،‬ولجتهضضاده المصضضيب أجضضر بعضضد‬
‫أجر‪ ،‬وأما الخطأ فينتظره تغافر بين الخوان‪ ،‬وغفران من الله أكبر‪.‬‬
‫فإذا عرفت السالك يسر التغافر‪ ،‬وغلظة الظلم‪ :‬طمع واندفع نحو‪:‬‬
‫نور خامس شعاعه‪:‬‬
‫التقوى في الغضب الهاجم‬
‫فل يتكلم إل حقا صدقا‪ ،‬إذ‪) :‬يروي أن الفتنة لما وقعت قال طلق بن‬
‫حبيب‪ :‬اتقوها بالتقوى‪(..‬‬
‫فهي دواء عام يوصف لكل أعراض الفتن‪ ،‬ولكن خصضص بكضر بضن عبيضد‬
‫الله المزني مذهبين من مذاهب التقوى المتعددة لصضضحاب الضدرجات العاليضضة‪،‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫)‪(96‬‬
‫)ل يكون الرجل تقيا حتى يكون تقي المطعم‪ ،‬وتقي الغضب( ‪.‬‬
‫فالداعية المرتقي ل يكمل إل بأن يكون غضبه لله‪ ،‬فإن كان‪ :‬وصل إلى‬
‫قمة أحمد بن حنبل‪ ،‬وشاركه في الفخر باعتلئها‪ ،‬فإنه كان‪:‬‬
‫)يغضب لله ول يغضب لنفسه‪ ،‬ول ينتصر لهضضا‪ ،‬فضضإذا كضضان فضضي أمضضر مضضن‬
‫الدين‪ :‬اشتد غضبه حتى كأنه ليس هو()‪.(97‬‬
‫وإنما تتحقق هذه الصورة بإلجام اللسان‪ ،‬فل يدعه حًرا‪ ،‬وازًنا كل كلمضضة‬
‫يفوه بها‪ ،‬أل يتهم بريئا أو يحتج يظن مجرد أو يستنجد بسخرية وتنابز‪ ،‬فيقطضضع‬
‫المحسن إحسانه بسببه‪ ،‬ويعتزل العزيز‪.‬‬
‫وذو التجربة يعضرف مضا يكمضن فضي الكلم وطبضائع نضبراته مضن إمكانضات‬
‫الصلح والفسضضاد‪ ،‬فيتعضضود الحضضذر‪ ،‬ويضضدقق فضضي وزن حروفضضه‪ ،‬إذ هاهنضضا يظهضضر‬
‫الورع‪ ،‬فليس غير النادر الشاذ من الناس يستعمل يده ورجله للبطش والذى‪،‬‬
‫لكنه اللسان اللسان الذي أشار إليه عمر بن الخطاب فقال‪:‬‬
‫)ل يعجبنكضضم مضضن الرجضضل طنطنتضضه‪ ،‬ولكنضضه مضضن أدى المانضضة وكضضف عضضن‬
‫أعراض الناس فهو الرجل( )‪.(98‬‬
‫طنطنة التفاخر والتفيقه‪ ،‬وأمانة الدعوة‪ ،‬وأعراض الدعاة العاملين‪.‬‬
‫ولذلك قال يونس بن عبيد‪:‬‬
‫)يعرف ورع الرجل في كلمه إذا تكلم(‪.‬‬
‫‪ ()96‬الغنية للشيخ عبد القادر الكيلني ‪.1/143‬‬
‫‪ ()97‬مناقب أحمد‪.218 /‬‬
‫‪ ()98‬زهد ابن المبارك‪.234 /‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫واعتبر الشاعر الرد الخاطئ جناية‪ ،‬فقال يصف مجادلة‪:‬‬
‫وجني علي فقال غير صواب‬ ‫أخطا ورد علي غير جوابي‬
‫وباللسان الطضضاهر‪ :‬سضضبق مضضن سضضبق‪ ،‬وتقضضدم أبضضو بكضضر بضضدر بضضن المنضضذر‬
‫المغازلي الزاهد صحبه بمراحل‪ ،‬فقال المام أحمد‪:‬‬
‫)من مثل بدر؟‬
‫)‪(99‬‬
‫بدر قد ملك لسانه( ‪.‬‬
‫ملكة وسيطر عليه‪ ،‬وتصرف فيه كيف شاء الورع ل كيف ينطلق الهوى‪.‬‬
‫وسئل إبراهيم الخواص الزاهد عن الورع ما هضضو؟ فقضضال‪ ) :‬أن ل يتكلضضم‬
‫العبد إل بالحق‪ ،‬غضب أو رضي()‪ .(100‬فجعله كل الورع‪.‬‬
‫ل يعني بضضذلك نفضضي صضضورة أخضضرى للضضورع‪ ،‬وإنمضضا راعضضي حاجضضة السضضائل‬
‫وطبيعة الظرف التي راعاها النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬في حديث‪:‬‬
‫)المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده()‪.(101‬‬
‫ضا‪:‬‬ ‫فأنوار الورع وافرة‪ ،‬وامتلك اللسان منها‪ ،‬ومنها أي ً‬
‫نور سادس‪ ،‬مصدره‪:‬‬
‫عا‬‫وزن المسلم بحسناته وأخطائه م ً‬
‫فنذكر لصاحب الهفوة المستفزة صوابه الذي قد يطغي عليها‪ ،‬ونرى‬
‫للميري المجتهد بذله وتاريخه وسابقاته المنتجة وعطاءه المستمر إذا خالفناه‬
‫في مذاهبه‪.‬‬
‫والذي يتأمل العمال الجماعية يدرك أن معادن الرجال إنما تستبين‬
‫في المواطن الحرجة التي تستدعي الفقه والقلب المؤمن‪ ،‬وبمواقفه فيها‬
‫يرجح ميزانه إلى إحدى الكفتين‪ :‬الجداره أو الضعف‪ ،‬كمواطن الخلف‬
‫العارمة التي يطيش خللها التعامل‪ ،‬والعذاب والمحن التي ل يصبر لها إل‬
‫ملئ الهمة‪ ،‬ومواطن الغراء وتسهيل كسب الموال والمناصب التي ل يفضل‬
‫النغماس في أعمال الدعوة اليومية عليها إل من يطل ببصره على جنان‬
‫عريضة‪ .‬أما الزلت العادية‪ ،‬واللمم‪ ،‬والحرف الغاضب‪ ،‬والنبرة المنفعلة‪،‬‬
‫وكسل يومين‪ ،‬فلم يبرأ منها أحد‪ ،‬ول يكاد‪.‬‬
‫والشريعة كلها قد بنيت على مراعاة هذا التكافؤ‪ ،‬واعتبار هذه القاعدة‬
‫في الترجيح‪ ،‬ورب الناس يزن بهذا الميزان يوم القيامة‪ ،‬ولكن البعض ينسى‪.‬‬
‫فمن أراد إتقان أدب السلم في الجرح والتعديل‪ :‬عليه أن يعلم أن‪:‬‬
‫ضا‪ ،‬أن من كثرت حسناته وعظمت‪ ،‬وكان له‬ ‫)من قواعد الشرع‪ ،‬والحكمة أي ً‬
‫في السلم تأثير ظاهر‪ ،‬فإنه يحتمل منه ما ل يحتمل لغيره‪ ،‬ويعفي عنه ما ل‬
‫يعفي عن غيره‪ ،‬فإن المعصية خبث‪ ،‬والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث‪،‬‬
‫بخلف الماء القليل‪ ،‬فإنه ل يحتمل أدنى خبث‪.‬‬
‫ومن هذا قول النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬لعمر‪" :‬وما يدريك لعل‬
‫الله اطلع على أهل بدر فقال‪ :‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"‪ .‬وهذا هو‬
‫المانع له ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬من قتل من جس عليه وعلى المسلمين‬
‫وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم‪ ،‬فأخبر ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬أنه شهد‬
‫‪ ()99‬تاريخ بغداد ‪.6/8 ،7/104‬‬
‫‪ ()100‬المصدر ذاته والصفحة ذاتها‪.‬‬
‫‪ ()101‬صحيح البخاري ‪.1/11‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫بدًرا‪ ،‬فدل على أن مقتضى عقوبته قائم‪ ،‬لكن منع من ترتب أثره عليه ما له‬
‫من المشهد العظيم‪ ،‬فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له‬
‫من الحسنات‪.‬‬
‫ولما حض النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬على الصدقة‪ ،‬فأخرج عثمان‬
‫رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة قال‪ :‬ما ضر عثمان ما عمل بعدها()‪.(102‬‬

‫‪ ()102‬مفتاح دار السعادة لبن القيم ‪.1/176‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫عائشة تطبق الميزان‪...‬‬
‫وكذلك حال حسان بن ثابت رضي الله عنه‪ :‬قذف عائشضضة‪ ،‬وبقضضي حبضضه‬
‫في نفس النبي ‪-‬صضضلى اللضضه عليضضه وسضضلم‪ -‬وأصضضحابه وأجيضضال المسضضلمين مضضن‬
‫بعدهم‪ ،‬للذي كان عليه من المنافحة بشعره عن رسول الله ‪-‬صلى اللضضه عليضضه‬
‫وسلم‪ ،-‬حتى أن عائشة ردت على ابن أختها عروة بن الزبيضضر بضضن العضضوام لمضضا‬
‫سبه وقالت‪:‬‬
‫)يا ابن أختي‪ :‬دعه‪ ،‬فإنه كان ينافح عضضن رسضضول اللضضه ‪-‬صضضلى اللضضه عليضضه‬
‫وسلم‪.(103)(-‬‬
‫وقريب من ذلك شهادة أخرى لعائشضضة فضضي أمضضر زينضضب بنضضت جحضضش أم‬
‫المؤمنين رضي الله عنهما‪ ،‬فإنه كان بينهما ما يكون بين الضضضرائر‪ ،‬وكضضان فضضي‬
‫زينب من الطباع ما يؤخذ عليها‪ ،‬ولكن ذلك لم يمنع عائشة من إنصافها والثناء‬
‫على فعالها اليمانية‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫)هي التي كانت تساميني من أزواج النبي ‪-‬صلى الله عليه وسضضلم‪ -‬فضضي‬
‫المنزلة عند رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ ،-‬ولم أر امرأة قضضط خي ضًرا فضضي‬
‫الدين من زينب وأتقى لله عز وجضضل واشضضد ابتضضذال لنفسضضها فضضي العمضضل الضضذي‬
‫تصدق به وتقرب به‪ ،‬ما عدا سورة من حضضدة كضضانت فيهضضا‪ ،‬تسضضرع منهضضا الفيئة(‬
‫)‪.(104‬‬
‫أي سريعة البرود بعد احتداد غضبها‪.‬‬
‫وقد وضعتنا عائشة رضي الله عنها هنا أمضضام نمضضوذجين ينتقلن بنضضا إلضضى‬
‫خطابين‪:‬‬
‫نموذج زينب‪ ،‬ونخاطب بمناسبته هؤلء الدعاة من إخواننا الحبضضة الضضذين‬
‫نشهد لهم بالدين وصدق الحديث وابتذال أنفسهم في أعمضضال دعضضوة السضضلم‪،‬‬
‫لمضضاذا تلزمهضضم حضضتى الن فضضورات الغضضضب وحضضدة اللفضضاظ ويغلقهضضم العنضضاد‬
‫المتحدي؟ أليس البحث الهادئ أولضضى؟ أو ليضضس القتضضداء بزينضضب فضضي الرجضضوع‬
‫السريع أجمل؟‬
‫ونموذج عائشة نفسها‪ ،‬ونخاطب بمناسبته المتزمت المبالغ في تشدده‪،‬‬
‫الذي يظلم إخوانه‪ ،‬فل يعترف بفضل ذي فضضضل واسضضع إذا هفضضا‪ ،‬والضضذي يظلضضم‬
‫الدعوة‪ ،‬فل يدعها تنتفع بضذي اختصضضاص مفيضد خلضضط مضع كفضايته خصضضلة يعضاب‬
‫عليها‪.‬‬
‫إن سضضمت التشضضدد‪ ،‬وطلضضب الصضضفات المتكاملضضة‪ ،‬إنمضضا يجضضب للقضضادة‬
‫والمربين‪ ،‬وأما ما دون ذلك فإن العمل السلمي ينتفع مضن كضل إمكانيضضة خيضضر‬
‫مهما ضمرت وصغرت‪ ،‬ويدير في فلكه كل متعاطف مهما أقلته العيوب الضضتي‬
‫ل تعود بضرر على مجمل الدعاة‪.‬‬
‫وأولى لنضا وأصضوب أن نقتضدي بعائشضضة رضضي اللضضه عنهضا فضي إنصضضافها‪،‬‬
‫دا في‬ ‫وبتلميذها سعيد بن المسيب لما أسرع فهم طريقتها فأوجزها وصاغها بن ً‬
‫قانون الجرح والتعديل السلمي فقال‪:‬‬

‫‪ ()103‬صحيح مسلم ‪.7/163‬‬


‫‪ ()104‬سنن النسائي ‪.7/65‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫)ليضس مضن شضريف ول عضالم ول ذي فضضل إل وفيضه عيضب‪ ،‬ولكضن مضن‬
‫الناس من ل ينبغي أن تذكر عيوبه‪ ،‬فمن كضضان فضضضله أكضضثر مضضن نقصضضه‪ :‬وهضضب‬
‫نقصه لفضله(‪.‬‬
‫والزم أخاك فإن كل أخ ترى‬
‫فله مساوئ مرة ومحاسن‬
‫وابتسم بعد المتعاضة من قول تسرع به أخوك فندم‪ ،‬وأطل ابتسامتك‪،‬‬
‫فإننا نحب أن نراك بها‪ ،‬ونحب أن نسألك عنها‪ ،‬ونحب أن نسمعك تقول‪:‬‬
‫أتاني مقال من أخ فاغتفرته‬
‫وإن كان فيما دونه وجه معتب‬
‫وذكرت نفسي عند امتعاضها‬
‫محاسن تعفو الذنب عن كل مذنب‬
‫فما باله إن لم يكن ذنبا وكان مجرد تدلل وتمنع مما يكون بين القضضران‬
‫حيضضن تأخضضذهم نشضضوة الحمضضد علضضى الهدايضضة واليمضضان إذ يضضرون أنفسضضهم –دون‬
‫الناس‪ -‬في المحل العقائدي العز الرفع؟‬
‫أو‪ :‬إذا طلبت الجمل فاسضضتر ول تخضضبر‪ ،‬وتخلضضق بخلضضق الكضضرام‪ ،‬واكضضذب‬
‫علينا وقل‪ :‬ما ثم إل خير ووفاء‪.‬‬
‫إن الكرام صحبتهم‬
‫ستروا القبيح وأظهروا الحسنا‬
‫وانتظر التلفي‪ ،‬إن الحسنات يذهبن السيئات‪.‬‬
‫وما الناس إل من مسيء ومحسن‬
‫وكم من مسيء قد تلفي فأحسنا‬
‫والتلفي يقتضي التأني‪ ،‬ومنح الفرصة‪ ،‬وغمض جفن‪ ،‬لعل حياءه يغنيضضك‬
‫عن لسانك‪ ،‬وعسى أن يرده حليب طاهر رضعه من قبل فيقبل‪.‬‬
‫أمنية‪ ،‬ول سعد لها‪...‬‬
‫فإذا رسخ فيك خلق النصاف‪ ،‬ووزنت غيرك بصوابه كما تزنه بأخطضضائه‪:‬‬
‫كنت أهل لن يصارحك أميرك في أمر لعلك تنسضضاه‪ ،‬كمضضا صضضارح ذاك الخليفضضة‬
‫القوى الحجضضة مضضن الخلفضضاء المسضضلمين الوائل جيضضل المسضضلمين الضضذي حكمضضه‬
‫فقال‪:‬‬
‫)أنصفونا يا معشر الرعية‪ .‬تريدون منا أن نسير فيكضضم سضضيرة أبضضي بكضضر‬
‫وعمر رضي الله عنهما‪ ،‬ول تسيرون فينا ول فضضي أنفسضضكم بسضضيرة رعيضضة أبضضي‬
‫بكر وعمر( )‪.(105‬‬
‫ونقول لك كالذي قال‪:‬‬
‫أنصف أيها الداعية‪ ،‬وكن عادل واقعيا‪ ،‬فإنك تريد من القادة إنجضضاز لعلضضه‬
‫الن في مثل صعوبة فتوح أبو بكر وعمر‪ ،‬وأنت ل تهب دعوتضضك مضضا وهبضضه جنضضد‬
‫أبي بكر وعمر‪!...‬‬
‫تجمضضع المضضوال‪ ،‬وتخشضضى الفقضضر‪ ،‬وتطيضضل سضضمرك مضضع زوجضضك‪ ،‬وتعطضضي‬
‫الدعوة فضول الوقات‪ ،‬ثم تريد أن ترى المعجزة‪.‬‬
‫كل‪ ،‬كل‪...‬‬

‫‪ ()105‬عيون الخبار لبن قتيبة ‪.1/9‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫بل شرط بشرط‪.‬‬
‫من أراد أميًرا كأبي بكر‪ ...‬فليكن كخالد وكسعد‪.‬‬
‫رضي الله عنهم أجمعين‪.‬‬
‫ثم ليس أبعد من ذلك‪ ،‬فضإن سضضنة النضضبي ‪-‬صضضلى اللضضه عليضضه وسضضلم‪ -‬لضضم‬
‫يطقها أبو بكر نفسه‪ ،‬بل قال‪:‬‬
‫)أيها الناس‪ :‬لوددت أن هذا كفانية غيري‪ ،‬ولئن أخضضذتموني بسضضنة نضضبيكم‬
‫ما من الشضيطان‪ ،‬وإن كضان‬ ‫‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬ما أطيقها‪ ،‬إن كان لمعصو ً‬
‫لينزل عليه الوحي من السماء( )‪.(106‬‬
‫ولئن أخذنا القادة بسنة نبينا ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬ما يطقونها‪ ،‬ولكضضن‬
‫لنا عليهم الحرص كل الحرص على تحري الصضضوب والصضضلح‪ ،‬وبضضذل المجهضضود‬
‫في تحري المنافع للمؤمنين‪.‬‬

‫]‪ [12‬إنه‪ ...‬دم الدعوة‬


‫يعتبر تاريخ الصدر الول من السلف الصالح من مصادر فقه الدعوة‬
‫الرئيسة‪ ،‬فإنهم بأفعالهم وطريقتهم في الحياة كانوا أفصح من خلف ينطلق‬
‫بقلمه لتدوين فقه الدعوة من تأمل نظري مجرد‪ .‬وقد حددوا بسيرتهم ما‬
‫يجب للداعية من صفات‪ ،‬وما يسوغ للدعوة أن تسلمه من أساليب ووسائل‪.‬‬
‫فبعضهم لم يتكلم بغير حديث رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬إل‬
‫جمل يسيرة‪ ،‬ولكنه أرى الناس تطبيقا رائًعا للحديث وأفعال شدتهم إلى‬
‫القتداء‪.‬‬
‫وإنما يرجي لدعوة السلم النجاح اليوم إذا أدركت هذه الحقيقة‬
‫القديمة‪ ،‬ل بشيء آخر‪ ،‬فتحرص على أن تنزل ساحة العلمانية كل جوال فعال‬
‫حا‪.‬‬
‫صامت‪ ،‬يري الرضيين من نفسه قوة‪ ،‬قبل أن يسمعهم من لسانه تفاص ً‬
‫ومحمد بن سيرين‪ ،‬التابعي البصري‪ :‬قدوة من قدوات الصمت الناطق‬
‫أولئك‪ ،‬وله مذهب في التجرد سماه صاحبه أبو قلبة الجرمي‪ :‬امتلك النفس‪،‬‬
‫فقال يفاخر بابن سيرين جمعا من الدعاة‪:‬‬
‫عا‪ ،‬وأملككم‬ ‫)إصرفوه حيث شئتم‪ ،‬فلتجدنه أشدكم ور ً‬
‫لنفسه()‪.(107‬‬
‫فالداعية يملك نفسه‪ ،‬ومن ثم فهو الذي يخطط لها طريقها ومستقبلها‪،‬‬
‫ول يدعها تملكه‪ ،‬فإن من لم يملك نفسه‪ :‬يفقد حريته‪ ،‬وتكون هي المستعبدة‬
‫له‪ ،‬وإنما هذه دعوة الحرار والبرار‪ ،‬يتصدرها كل حر سريع الخطو‪ ،‬ومن‬
‫‪ ()106‬مسند أحمد‪ ،‬حديث رقم ‪ 80‬بسند حسن‪.‬‬
‫‪ ()107‬تاريخ بغداد ‪.5/334/370‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫رضى أن يكون مملوكا ويرسف في الغلل والقيود فإنما يكون في آخر‬
‫القافلة‪ ،‬أو تدعه وتمضى‪.‬‬
‫ومنذئذ أضيف إلى فقه الدعوة شرط جديد من شروط الدعاة يلزم‬
‫المتصدي أن يملك نفسه كما ملكها ابن سيرين‪ ،‬وأن يحررها من القيود كما‬
‫حررها ابن سيرين‪.‬‬
‫وقد قال ابن السماك من قبل‪:‬‬
‫)إن الرجاء حبل في قلبك‪ ،‬قيد في رجلك‪ ،‬فأخرج الرجاء من قلبك‪:‬‬
‫تحل القيد من رجلك( )‪.(108‬‬
‫ويقصد بالرجاء‪ :‬المل الدنيوي‪ ،‬فإنه يقيد الرجل عن النطلق في‬
‫دا في الحتمال‪.‬‬‫أعمال تتطلب التضحية وتضع إزهاق الروح وار ً‬
‫إنما ذلك الواهم فقط يغريه المل‪ ،‬أما الفطن فيدرك أنها قافلة ليست‬
‫ككل قافلة‪ ،‬ويعلم أنها قافلة النور هو فيها‪ ،‬وأنها تسير في درب كله نور‪ ،‬قد‬
‫توغلت فيه‪ ،‬فيحل قيود الطمع ويواكبها‪ ،‬ويلزم أهلها إذ يرفعون أبصارهم‬
‫إلى هالة‪:‬‬
‫النور السابع‪ ،‬هو‪:‬‬
‫اللتفات إلى عيب النفس‬
‫فينشغل الداعية بإصلح عيوبه‪ ،‬ويدع إعابة الخرين‪ ،‬وتسقط زلتهم‪.‬‬
‫وكان السري السقطي البغدادي يتخوف خوفا عظيما من سريان‬
‫مرض تتبع عيوب الناس إلى جماعة السالكين إلى الله‪ ،‬فكثر تحذيره منه‪،‬‬
‫وصنع إحصاءات خلقية اجتماعية لبيان مدى تأثيره السيئ وإظهار تعدد أنواع‬
‫سلبياته‪ ،‬ووضع تقريًرا طويل حفظت لنا منه كتب الزهد والرقائق فقرات منه‬
‫كثيرة‪ ،‬وأجمل في خاتمته نتيجة استقرائه فقال‪:‬‬
‫)ما رأيت شيئا أحبط للعمال‪ ،‬ول أفسد للقلوب‪ ،‬ول أسرع في هلك‬
‫العبد‪ ،‬ول أدوم للحزان‪ ،‬ول اقرب للمقت‪ ،‬ول ألزم لمحبة الرياء والعجب‬
‫والرياسة من قلة معرفة العبد لنفسه‪ ،‬ونظره في عيوب الناس(‪.‬‬
‫فهي سلبيات يعددها‪ ،‬كل منها يكفي لتعكير صفو السكينة اليمانية‪.‬‬
‫وقد أشار في مقدمة تقريره إلى أن‪:‬‬
‫)من علمة الستدراج للعبد‪ :‬عماه عن عيبه‪ ،‬واطلعه على عيوب‬
‫الناس(‪.‬‬
‫جا‪ ،‬أي تغريًرا من شيطان‪ ،‬يمني ضحيته بوجود‬ ‫فجعل بدايته‪ :‬استدرا ً‬
‫بعض لذة في آخر طريق وعر بعيد ويغريها بنيلها‪ ،‬فتلج‪ ،‬فتنقطع‪ ،‬فينفرد بها‬
‫بل نصير أو ظهير‪ ،‬فيقهرها‪ ،‬كما يقهر الجيش أعداءه الضعاف بإظهار تراجع‬
‫مفتعل يغريهم بالتوغل دون حساب خط رجعة‪.‬‬
‫ولما نودي على السري بعد ذلك للولوغ في أعراض الناس وولوج‬
‫مجالس إحصاء عيوب الخرين ناداهم بأعلى صوته‪:‬‬
‫)إن في النفس لشغل عن الناس(‪.‬‬
‫وإنها لصيحة حق لها أن يصرخها كل دعاة السلم الن‪ ،‬والخبير بتلبيس‬
‫دا‪.‬‬
‫إبليس يدرك مزالق هذا الباب جي ً‬

‫‪ ()108‬تاريخ بغداد ‪.5/334/370‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫أسباب مرض الغمز وأعراضه‬
‫والذين رصدوا أسباب هذا المرض الخبيث يؤكدون أنه ظاهرة دفاع‬
‫عن النفس ليس إل‪ ،‬فأصحاب العيوب يتوقعون نقدا لهم من ناصح أمين‬
‫ما‪ ،‬فيتداعون إلى أخذ زمام المبادرة وتحويل الهجوم بهمز ولمز‬ ‫يظنونه مهاج ً‬
‫من وراء ظهر‪.‬‬
‫فأجرأ من رأيت بظهر غيب‬
‫على عيب‬
‫الرجال‪ :‬ذوو العيوب‬
‫حتى بضضاتت هضضذه الخصضضلة فاضضضحة لكضضل ذي لسضضان طويضضل‪ ،‬مغنيضضة عضضن‬
‫الفراسة‪ ،‬فقال السامع للمهذار‪:‬‬
‫)قد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر من عيب الناس‪ ،‬لن الطالب‬
‫للعيوب إنما يطلب بقدر ما فيه منها()‪.(109‬‬
‫ولذلك كان السلف عموما على أشد الخوف من هذا الخلق الردئ‬
‫الذي قد يلبسه إبليس رداء النصح والمر بالمعروف‪ ،‬وصاحب القلب الحي‬
‫يميز هذا عن هذا بوضوح‪ ،‬لكنها الغفلة التي ابتأس لها التابعي عون ابن عبد‬
‫الله بن عتبة بن مسعود حين كان يساعد أخاه عبيد الله في تطبيق نظرية‬
‫تأليف الرواح‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫دا تفرغ لعيب الناس إل من غفلة غفلها عن نفسه(‪.‬‬ ‫)ا أحسب أح ً‬
‫فالغفلة سبب ظاهر ول شك‪ ،‬لولها لعتنى بملكه‪ ،‬ولشغله الغرس‬
‫وجنى الثمار‪.‬‬
‫أما أهم أعراض مرض الغمز فهو تواصي مرضاه بإخفاء مناقب الغير‬
‫وفضح هفواتهم‪.‬‬
‫رآهم كذلك النسابة البكري‪ ،‬فقال لرؤبة بن العجاج‪:‬‬
‫)ما أعداء المروءة؟‬
‫قال‪ :‬تخبرني‬
‫)‪(110‬‬
‫‪.‬‬ ‫قال‪ :‬بنو عم السوء‪ ،‬إن رأوا حسنا ستره‪ ،‬وإن رأءا سيئا أذاعوه(‬
‫ضا‪ ،‬فتعجب من حالهم وكيف أنهم‪:‬‬ ‫ورآهم الشاعر أي ً‬
‫إن يسمعوا الخير‪ :‬يخفوه‪ ،‬وإن سمعوا‬
‫شًرا‪ :‬أذاعوه‪ ،‬وإن‬
‫لم يسمعوا‪ :‬كذبوا‬
‫ول شر عند جماعة المؤمنين والحمد لله‪ ،‬لكن ذلك خلقهم دائما‪ ،‬ل‬
‫يعجبهم ما عليه المؤمنون من الخير‪ ،‬فإن حدثت هفوة يعلمون ما وراءها من‬
‫نية صادقة‪ :‬طبلوا وزمروا‪.‬‬
‫ضا‪ :‬التهويل والمبالغة‪ ،‬واستعمال العدسة‬ ‫ومن أعراض هذا المرض أي ً‬
‫المكبرة للتفتيش عن صغائر الغير‪.‬‬
‫ذكر أبو هريرة رضي الله عه ذلك عنهم‪ ،‬فقال لهم‪:‬‬

‫‪ ()109‬عيون الخبار لبن قتيبة ‪.2/14‬‬


‫‪ ()110‬مفتاح دار السعادة لبن القيم ‪.1/168‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫)يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه‪ ،‬وينسى الجذع في عين نفسه!!(‬
‫)‪ .(111‬د‬
‫ثم رأى الشاعر منهم معاندا بأبي النصاف‪ ،‬فجدد له قول أبي هريرة‪،‬‬
‫ووبخه‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫وتعذر نفسك إما أسأت‬
‫وغيرك بالعذر ل تعذر!‬
‫وتبصر في العين منه الذي‬
‫وفي عينك الجذع ل تبصر!‬
‫علج الهمز برقابة القريب‬
‫ولكن ما جعل الله من داء إل وجعل له من الدوية ما يذهب به‪.‬‬
‫وكأي مرض نفاقي آخر فإن الهمز يداوي أول ما يداوي بتذكر رقابة‬
‫الله‪ ،‬فإنه الدواء العام الخاص‪ ،‬فيعلم أن الله نم قلبه قريب‪ ،‬وعلى لسانه‬
‫رقيب‪ ،‬ويسكت تائبا‪ ،‬ويعزف عن صاحبه لو أتاه من الغد يدعوه إلى جلسة‬
‫غيبة‪ ،‬ويشرح أمره‪ ،‬ويحدثه عن النور الذي أناره الله في قلبه فأضاء زاوية‬
‫كانت فيه مظلمة‪ ،‬ويقول له‪:‬‬
‫يمنعني من عيب غيري الذي‬
‫أعرفه عندي من‬
‫العيب‬
‫عيبي لهم بالظن مني لهم‬
‫ولست من‬
‫عيبي في ريب‬
‫إن كان عيبي غاب عنهم فقد‬
‫أحصى ذنوبي‬
‫)‪(112‬‬
‫عالم الغيب‬
‫ويقول صريحة لصاحبه‪ ،‬ويهدده محذًرا‪:‬‬
‫ل تلتمس من مساوي الناس ما ستروا‬
‫فيكشف الله سترا‬
‫عن مساويكا‬
‫واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا‬
‫دا منهم‬‫ول تعب أح ً‬
‫)‪(113‬‬
‫بما فيكا‬
‫فإن لم يصغ له‪ :‬تركه‪ ،‬ومضى فضضي طريضضق النضضوار‪ ،‬يبضضدد مضضا قضضد يكضضون‬
‫هنالك من بقايا الظلم بنور النصح مع الله الذي أوقده له زين العابضضدين علضضي‬
‫بن الحسين بن علي رضي الله عنهم لما قال‪:‬‬
‫)إذا نصح العبد لله تعالى في سره‪ :‬أطلعه الله تعالى على مساوي‬
‫عمله‪ ،‬فتشاغل بذنوبه عن معايب الناس(‪.‬‬

‫‪ ()111‬فضل الله الصمد شرح الدب المفرد للبخاري ‪.2/48‬‬


‫‪ ()112‬تاريخ بغداد ‪.10/83‬‬
‫‪ ()113‬عيون الخبار ‪.2/18‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫فزين العابدين يجعل معرفة المسلم بعيوبه منحة ربانية‪ ،‬و أنها لكذلك‬
‫والله‪.‬‬
‫فإذا قرن التائب سكوته ونصحه لله بدعاء يتضرع فيه‪ :‬كما نوره‬
‫السابع‪.‬‬
‫ويستحب له هنا أن يكون خلف عبد الوهاب عزام‪ ،‬يردد مناجاته ربه‪:‬‬
‫إن في النفس بغضه لناس‬
‫اصلحني وحببنهم إليا‬
‫واغسل الحقد والهوى من فؤادي‬
‫)‪(114‬‬
‫واجعلني لكل حق وليا‬
‫يقول آمين‪ ،‬وينطلق من فوره بعد ذاك لتمام أنواره‪ ،‬ويندفع نحو‬
‫ومضات‪:‬‬
‫النور الثامن‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫صون الذن عن استماع الغمز‬
‫فيدعها في عافية من بعد ما عافى لسانه من تتبع زلت الناس وانتبه‬
‫لعيوب نفسه‪ ،‬إذ‪:‬‬
‫)ليس من جارحة أشد ضررا على العبد –بعد لسانه‪ -‬من سمعه‪ ،‬لنه‬
‫عا في الفتنة(‪.‬‬
‫أسرع رسول إلى القلب‪ ،‬وأقرب وقو ً‬
‫فسمعك صن عن قبيح الكلم‬
‫كصون اللسان‬
‫عن النطق به‬
‫فإنك عند استماع القبيح‬
‫شريك لقائه‬
‫)‪(115‬‬
‫فانتبه‬
‫وهذا ما يستدعيه التعجل اليماني المستحب للسائر في طريق النوار‪،‬‬
‫فإن استماعه للهماز يضيع عليه وقته الثمين إن لم يضره‪ ،‬ويفوت عليه‬
‫اللتذاذ بمنظر شروق‪:‬‬
‫النور التاسع‪ ،‬الساطع ببريق‪:‬‬
‫المسارة في نصيحة القادة‬
‫فلما لم يعط النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬جعيل بضن سضراقة الضضمري‬
‫رضي الله عنه شيئا من المال‪ ،‬وهو المهاجر المجاهد‪ ،‬وأعطى مضضن هضضو دونضضه‪،‬‬
‫وظنها سعد بن أبي وقاص‪ ،‬رضي الله عنه إهمضضال لجعيضضل‪ ،‬وأراد تضضوثيقه‪ :‬قضضام‬
‫حا‪:‬‬‫النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬مقتر ً‬
‫قال سعد‪:‬‬
‫)فساررته قلت‪ :‬مالك عن فلن‪ ،‬والله إني لراه مؤمًنا؟ قال‪ :‬أو‬
‫ما( )‪.(116‬‬
‫مسل ً‬
‫فذكر ابن حجر أن هذا الحديث يتضمن من الفقه‪:‬‬
‫)أن السرار بالنصيحة أولى من العلن(‪.,‬‬
‫‪ ()114‬ديوان المثاني ‪.97/‬‬
‫‪ ()115‬أدب الدنيا والدين‪.257/‬‬
‫‪ ()116‬صحيح البخاري ‪.2/147‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫قال‪:‬‬
‫)‪(117‬‬
‫‪.‬‬ ‫)وقد يتعين إذا جر العلن إلى مفسدة(‬
‫ولما طلبوا من أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يكلم بعض المراء‬
‫حول أمر ضجروه منه قال‪:‬‬
‫)إنكم لترون أني ل أكلمه؟‬
‫إل أسمعكم أني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا ل أكون أول من‬
‫فتحه؟()‪.(118‬‬
‫فأخبرهم أنه لم يغفل عن ذلك‪ ،‬وأنه كلمه‪ ،‬ولكن في السر‪ ،‬خوفا أن‬
‫يستغل أهل الهواء كلمه‪ ،‬فيتخذونه ذريعة إلى الفتن والمفاسد‪.‬‬
‫فلهذا يسمي هذا النور‪ :‬نور أسامة‪ ،‬وما زال يتولي إيقاده من دعاة‬
‫اليوم كل أسامة‪.‬‬
‫ً‬
‫ل تعن سفاكا!!‬
‫ويصور لنا أبو معبد عبد الله بن عكيم الجهني‪ ،‬وهو أحد قدماء التابعين‬
‫المخضرمين الثقات ممن أدرك رمن النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬ولم يره‪،‬‬
‫مبلغ أساه وندمه وحسرته على كلمات تفوه بها زمن عثمان رضي الله عنه‬
‫نصحه بهن جهاًرا‪ ،‬يظن أن فيه مساوئ‪ ،‬وحاشا الراشد الثالث من المساوئ‬
‫فتلقف كلماته أصحاب الغراض‪ ،‬واستباحوا دمه الشريف بهن وأمثالهن‪.‬‬
‫وراموا دم السلم ل من جهالة‬
‫ول خطأ‪ ،‬بل‬
‫حاولوه على عمد‬
‫ففي حلقة دراسية انعقدت في المدينة لتدريب وتفقيه الجيل الجديد‬
‫من رجال دولة السلم المكلف باستدراك ما صنعته الفتنة‪ :‬حاضر عبد الله‬
‫بن عكيم‪ ،‬وطفق يلخص لهم تجارب المخلصين فقال‪:‬‬
‫دا بعد عثمان(‪.‬‬ ‫)ل أعين على دم خليفة أب ً‬
‫وكانت كلمة مثيرة منه حقا‪.‬‬
‫وتأخذ الجميع إطراقة‪ ،‬فما ثم إل عيون تتبادل لنظر مستغربة ما يقوله‬
‫الرجل الصالح‪.‬‬
‫دا‬
‫ما لهذا الشيخ البرئ المؤمن الذي لم يرفع في وجه عثمان سيفا أب ً‬
‫يتهم نفسه ويلومها على ما لم يفعل؟‬
‫وينبري جزئ لسؤاله‪:‬‬
‫)يا أبا معبد‪ :‬أو أعنت على دمه(؟‬
‫فيقول‪:‬‬
‫)‪(119‬‬
‫‪.‬‬ ‫)إني لرى ذكر مساوئ الرجل عونا على دمه(‬
‫فهو يتهم نفسه بجزء من دم عثمان لنه رأى بأم عينه كيف أن ما ظنه‬
‫وقام في نفسه من أنه الحق قد أدى إلى استغلل الرعاع له حين يتكلم به‪،‬‬
‫وكيف طوروه حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه‪.‬‬

‫‪ ()117‬فتح الباري طبعة البابي ‪.1/88‬‬


‫‪ ()118‬صحيح البخاري ‪.4/147‬‬
‫‪ ()119‬رواه البخاري في تاريخه الكبير جض ‪/1‬ق ‪ 1/32‬بسند صحيح‪ ،‬وابن سعد في الطبقات ‪.3/80‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫إنها حساسية النفس الصادقة في توبتها ينطق بها ابن عكيم‪ ،‬مع أنه ما‬
‫كان يكره عثمان حين تفوه بتلك الكلمات‪ ،‬فإن ابنه يقول‪:‬‬
‫)كان أبي يحب عثمان()‪.(120‬‬
‫وهذا يقتضي أنه قال كلماته الناقدة بلهجة المحب وما فيها من الرفق‬
‫واللين‪ ،‬ومع ذلك نتج عنها من المفاسد ما نتج‪ ،‬فكيف لو أنضاف إلى علنية‬
‫النقد لفظ ردئ‪ ،‬وعبرت عنه لهجة عنيفة؟‬
‫إن الجيل الجديد من رجال دعوة السلم الحديث –إذ هو يتفقه اليوم‬
‫في حلقاته الدراسية لستدراك ما صنعته فتن المس‪ -‬مدعو إلى ملحظة‬
‫المغزى العظيم المهم لقصة عبد الله بن عكيم‪ ،‬وتجربته الصادقة‪.‬‬
‫جا أيها الداعية‪ ،‬فإنها تحريشات من حولك لسفك دم‬ ‫ل تكن ساذ ً‬
‫الدعوة‪.‬‬
‫احذر‪ ،‬والتفت إلى عيب نفسك‪ ،‬وصن سمعك وسارر بنصيحتك ونقدك‪،‬‬
‫ول تعن بلسانك‪.‬‬
‫إنه دم الدعوة‪.‬‬
‫]‪ [13‬دعوة القول الطيب‬
‫منظر جميل في كل بدل منظر أولئك البسطاء المتواصعين من أهل‬
‫الرياف والقرى حين يجتمعون يوما في السبوع يقيمون سوقهم فيما بينهم‪،‬‬
‫فيتبادلون إنتاجهم مقايضة‪ ،‬ويبيعون للغريب ما جمعوه جملة‪ ،‬بل ميزان مدقق‬
‫أو حساب طويل‪ ،‬يبنون تعاملهم وبيوعهم على النيات البيضاء‪ ،‬والحياء‪،‬‬
‫والقناعة‪ ،‬وأسس الكرم‪ ،‬وشكر الله على ما يمنحهم من رزق‪ ،‬حتى إن‬
‫أحدهم ليذهب من سوقه ليبذر بذره‪ ،‬فيقول مع كل حفنة حبوب ينثرها على‬
‫أرضه‪ :‬للطير وما قسم الله‪ ،‬يرى للطير حقا في كرمه‪.‬‬
‫لكنا لتعقيد والتدقيق إنما يكون في أسواق المدن‪ ،‬ونيات التطفيف‬
‫تجدها عند كثير ممن يبيع أو يشترى من أهلها‪ ،‬يريد البائع أعلى ربح‪ ،‬ويريد‬
‫المشتري أرخص ثمن‪ ،‬ولذلك احتاجوا إلى الموازين واعتبروها حكما بينهم‪،‬‬
‫وباتت تبعد شبهة التطفيف والمخادعة عن الطرفين‪ ،‬فل تبقى أحدهما قلقا‪،‬‬
‫كما أصبحت تمنع شهوة التطفيف بعد ذاك‪ ،‬يستطيع أحدهما التحايل‪ ،‬خوفا أن‬
‫يفضحه الميزان‪.‬‬
‫وأنوار الفطنة هذه التي ل زلنا نمشى في أضوائها إنما هي موازين‬
‫أيضا‪ ،‬ترد الشبهات وتجليها‪ ،‬وتبرد الشهوات وتسكنها إذا لف التعقيد مجتمع‬
‫الدعاة‪ ،‬واستعرت الفتن أو اقترب ظلمها‪ ،‬ولذلك كان ابن تيمية كثيرا ما‬
‫يصف المؤمن بأنه صاحب " بصر نافذ عند ورود الشبهات‪ ،‬وعقل كامل عند‬
‫حلول الشهوات"‪ ،‬وركز على وجوب غلق هذين البابين اللذين تقتحتم الفتن‬
‫منهما حصن الجماعات‪ :‬الشبهات والشهوات‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لو تعامل الدعاة بالنيات‪ ،‬والقناعة‪ ،‬والتواضع‪ ،‬والشكر على نعمة‬
‫السلم والنتساب للدعوة‪ ،‬لوهبهم الله صواب الخطو بل تكلف‪ ،‬ولما احتاجوا‬
‫إلى ميزان وتدقيق‪ ،‬ولغشيتهم السكينة التي ينام أهل الرياف في ظلها‪ ،‬غير‬
‫أن فيهم نفًرا يطففون‪.‬‬

‫‪ ()120‬تهذيب التهذيب ‪.5/324‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫حقيقة يجب أن نعترف بها‪.‬‬
‫لقد تعقدنا بعض التعقيد‪ ،‬وتركنا سمت البساطة‪ ،‬ومازج التكلف طبيعتنا‬
‫المنسابة المنسرحة الهينة اللينة التي أودعها الرعيل الرائد فينا‪ ،‬ولبد من‬
‫علج بمتابعة طلب هذه الموازين النوار‪.‬‬
‫شبهة معترضة‬
‫ولقد وصف النور التاسع بأنه ساطع‪ ،‬لما للمسارة في نصيحة القادة‬
‫من بريق لمع يحرم الفتن من بيئتها الطبيعية التي تتوالد فيها‪ ،‬ولكن ربما‬
‫ظن داعية أن المسارة في النصيحة تنافي طبائع السلم وسمته في الحث‬
‫على المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬ورأى في إنكار المرأة على عمر‬
‫رضي الله عنه في المسجد جهاًرا دليل ينفي نورانية المسارة‪.‬‬
‫والمر ليس كذلك عند من عرف مقاصدنا‪ ،‬إذ لو افترضنا صحة قصة‬
‫إنكار هذه المرأة على عمر –التي يضعفها الشيخ محمد ناصر الدين اللباني‪-‬‬
‫وفحصنا فحواها‪ ،‬لما وجدنا لها علقة بسياسة أو عقيدة أو موقف عام‬
‫جماعي‪ ،‬وإنما تتناول أمر مهور الزوجات‪ ،‬أو أمر توزيع بعض العطايا على من‬
‫له حق في بيت المال‪ ،‬في قصة أخرى تروى‪ ،‬فضل عن أن العامي المجهول‬
‫الذي اعترض أو المرأة المجهولة‪ ،‬ل يصلح عملهما أن يناهض الدب الذي‬
‫اختاره سعد بن أبي وقاص أو أسامة‪ ،‬وهما على ما يعرف عنهما من الفقه‬
‫والتجربة‪ ،‬ول أن يكون مصدًرا لصول الدعوة وابن حجر يفتيك بعد ابن عكيم‬
‫بوجوب السرار عند خوف المفسدة‪.‬‬
‫إن نصيحة قادة العدل الذين يتحرون السير على موجب فقه الراشدين‬
‫غير مواقف العلماء الجريئة في النكار على الظلمة والمبتدعة‪ ،‬وإنما ندعو‬
‫نحن إلى مسارة ل في مثل هذه المور التي يحتاجها الناس في أمر معاشهم‬
‫اليومي‪ ،‬بل فيما يتعلق بسياسة الجماعة الداخلية والخارجية ومواقفها العامة‪،‬‬
‫وفي أيام الفتنة خاصة‪ ،‬خوفا من استغلل أصحاب الغراض للنقد المعلن‪ ،‬أو‬
‫اغترار المخلصين السذج وأصحاب التجربة القليلة بظاهرة‪ ،‬إذ تصبح النصيحة‬
‫في موطن يوجد فيه مثل هؤلء مترددة بين مصلحتين‪ :‬مصلحة علنية النقد‪،‬‬
‫ومصلحة عدم إتاحة فرصة لستغلل المغرض أو لغترار الساذج به‪ .‬وبين‬
‫ضررين‪ :‬ضرر القتصار على إسماع النصيحة لنفر قليل فقط‪ ،‬وضرر‬
‫الستغلل والغترار‪ ،‬فيعمل بالقاعدة الفقهية العامة في دفع أعظم‬
‫المفسدتين باحتمال أدناهما‪ ،‬وجلب أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما‪ ،‬وهي‬
‫قاعدة أجمع الفقهاء على اعتبارها ويقرها العقل‪ ،‬وتوجبها التجارب الوافرة‬
‫في تاريخ السلم القديم والحديث‪.‬‬
‫بل وإن عمر رضي الله عنه قد أسرع هو نفسه قبل غيره إلى المتناع‬
‫عن بحث المور العامة أمام الجمهور الواسع الذي قد يضم المغرضين‬
‫والسذج‪ ،‬واقتصر على إسماع من يظن فيه الفقه والنبل فحسب‪ ،‬وذلك حين‬
‫أراد أن يقوم في مكة أيام موسم الحج خطيبا ليفند لغطا لغط به بعض‬
‫الجهال حول بيعة أبي بكر رضي الله عنه وأحداث يوم السقيفة‪ ،‬فقال له عبد‬
‫الرحمن بن عوف رضي الله عنه‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫)يا أمير المؤمنين‪ :‬ل تفعل‪ ،‬فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم‪،‬‬
‫فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس‪ ،‬وأنا أخشى أن تقوم‬
‫فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير‪ ،‬وأن ل يعوها‪ ،‬وأن ل يضعوها على‬
‫مواضعها‪ ،‬فأمهل حتى تقدم المدينة‪ ،‬فإنها دار الهجرة والسنة‪ ،‬فتخلص بأهل‬
‫الفقه وأشراف الناس‪ ،‬فتقول ما قلت متمكًنا‪ ،‬فيعي أهل العلم مقالتك‪،‬‬
‫ويضعونها على موضعها‪.‬‬
‫فقال عمر‪ :‬أما والله إن شاء الله لقومن بذلك أول مقام أقومه‬
‫بالمدينة()‪.(121‬‬
‫فها قد تضافر لدليلنا من جديد‪ :‬رأي ابن عوف‪ ،‬وفعل عمر‪ ،‬رضي الله‬
‫عنهما‪.‬‬
‫وهكذا الداعية‪ :‬ل يضع كلمه إل عند من هو أهل لوعيه‪ ،‬وليعتبر بما‬
‫رأينا في الفتن‪ ،‬فإنها تكون أول ما تكون خفيفة‪ ،‬ثم يتلقف أصحاب شهوة‬
‫ما‪.‬‬
‫الرياسة نقد الثقات‪ ،‬ويزيدون فيه عشرة أمثاله‪ ،‬فيكون هد ً‬
‫إن الداعية الفطن الكيس إن كان عنده قول يري أن ل بد من قوله‬
‫لغير قادته فإنما يقوله لهل الفقه من الدعاة وأشرافهم الذين تأدبوا بآداب‬
‫السنة طويل‪ ،‬ويسارر به‪ ،‬ل يوزعه هاهنا وهاهنا‪.‬‬
‫يسارر‪ ،‬أو يتحرى الحلماء النبلء العقلء القدماء‪ ،‬أصحاب القدام‬
‫المنظور المأثورة‪ ،‬ثم يسرع بعد أن ألقى التبعة نحو‪:‬‬
‫النور العاشر‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫القلل من الكلم‬
‫فإنما يسألك الله عن فصاحة قلبك ل فصاحة لسانك‪ ،‬ول شك أنها‬
‫مسألة نسبية مسألة اللسان‪ ،‬فليس أحسن وأبلغ من سكوت إذا كثر اللغط‪،‬‬
‫ول أجمل من كلم الناصح المر بالمعروف إذا أصلح‪.‬‬
‫فالمؤمن‪:‬‬
‫)يحسبه الجاهل صميتا عيبا‪ ،‬وحكمته أصمتته‪ ،‬ويحسبه الحمق مهذاًرا‪،‬‬
‫والنصيحة لله أنطقته(‪.‬‬
‫وهو ذاك النموذج الذي رآه الشاعر‪:‬‬
‫ضحوك السن‪ :‬إن نطقوا بخير‬
‫وعند الشر‪:‬‬
‫مطراق عبوس‬
‫تكلم وسدد ما استطعت فإنما‬
‫كلمك حي‬
‫والسكوت جماد‬
‫فإن لم تجد قول سديدا تقوله‬
‫فصمتك عن غير‬
‫السداد سداد‬

‫‪ ()121‬صحيح البخاري ‪.8/209‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وهذا هو عين الصلح الذي أراده الصالحون لكل لسان‪ ،‬فمن صلح‬
‫لسانه عندهم‪ ،‬أي نطق بالخير وسكت حين الفتن‪ :‬صلح عمله كله‪ ،‬وفي ذلك‬
‫كان التابعي يونس بن عبيد يقول‪:‬‬
‫)خصلتان إذا صلحتا من العبد صلح ما سواهما‪ :‬أمر صلته‪ ،‬ولسانه(‪.‬‬
‫ثم زاد فقال‪:‬‬
‫)ما صلح لسان أحد إل وصلح سائر عمله( فهو المفتاح المبارك‪ ،‬ولود‬
‫الخيرات‪ ،‬من أصلحه تفتحت فيه البصائر‪ ،‬وهجر الكبائر والصغائر‪.‬‬
‫الكلمة الطيبة ترفع درجات‬
‫ولذلك كثير كلم رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬في بيان أهمية‬
‫اللسان‪ ،‬وجعل سكوته في موطن الشبهة ترجمة اليمان‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)من كان يؤمن بالله واليوم الخر فليقل خيًرا أو ليصمت( وفي لفظ‪:‬‬
‫)أو ليسكت( )‪.(122‬‬
‫فقول الخير من اليمان‪ ،‬حتى أن الكلمة الواحدة لترفع صاحبها‬
‫درجات‪ ،‬كما في قول النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪:-‬‬
‫)إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ل يلقي لها بال يرفع الله بها‬
‫درجات( )‪.(123‬‬
‫ومن اجل ذلك رغب في هذه الكلمات الخيرة‪ ،‬فقال‪) :‬أطيبوا الكلم(‬
‫)‪.(124‬‬
‫يدلهم على باب الدرجات‪ ،‬وسلم العلو‪ ،‬إذ ليس أروع من كلمة حق‬
‫منك‪ ،‬أو إصلح‪ ،‬حين يفتتن لسان غيرك‪:‬‬
‫فإن عجز المرء‪ :‬فإنه السكوت‪ ،‬إذ ربما تبدل الكلمة الواحدة ميزانه‬
‫فيردي‪ ،‬كما قال النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪:-‬‬
‫)إن العبد ليتكلم الكلمة من سخط الله ل يلقى لها بال‪ ،‬يهوي بها في‬
‫جهنم( )‪.(125‬‬
‫والميزان في هذا‪ ،‬هنا في القوال كما في العمال‪ ،‬هو قول رسول‬
‫الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪:-‬‬
‫)‪(126‬‬
‫‪.‬‬ ‫)إذا حاك في نفسك شيء فدعه(‬
‫)‪(127‬‬
‫‪.‬‬ ‫فإن )أكثر خطايا ابن آدم في لسانه(‬
‫فلينظر داعية نفسه‪ ،‬وليرفق بها‪ ،‬وليلزم الجمل المفيدة‪ ،‬وحروف‬
‫البناء‪ ،‬وليطب كلمه‪ ،‬يكون طيبا‪ ،‬فإن نصف التربية قول موجه‪ ،‬وليدع حرفا‬
‫حاك في الصدر‪ ،‬فإن الشيطان يؤز‪ ،‬يحرف النفس إلى طلب انتصار وغلبة‪،‬‬
‫فتكون الوخزة‪ ،‬والتهمة المتسرعة‪ ،‬والنبزة‪ .‬أو بشجعها على طلب سلمة‬
‫ودعة‪ ،‬فتكون حروف اللين‪.‬‬

‫البخاري ‪ ،8/125‬صحيح مسلم ‪.1/5‬‬ ‫صحيح‬ ‫‪()122‬‬


‫البخاري ‪.8/125‬‬ ‫صحيح‬ ‫‪()123‬‬
‫الجامع الصغير لللباني ‪.1/340‬‬ ‫صحيح‬ ‫‪()124‬‬
‫البخاري ‪.8/125‬‬ ‫صحيح‬ ‫‪()125‬‬
‫الجامع الصغير ‪.1/191‬‬ ‫صحيح‬ ‫‪()126‬‬
‫الجامع الصغير ‪.1/385‬‬ ‫صحيح‬ ‫‪()127‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫والطريق القرب لهذا الرفق الطيب‪ :‬أن يتشبه الداعية بعلي بن أبي‬
‫طالب رضي الله عنه‪ ،‬ويقلده لتشمله دعوة النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪-‬‬
‫حين دعا له فقال‪:‬‬
‫)‪(128‬‬
‫‪.‬‬ ‫)اللهم اهد قلبه وثبت لسانه(‬
‫فلم يتقلب لسان علي‪.‬‬
‫فانظر‪ :‬لم يكتف حتى ذكر اللسان‪ ،‬وبين أن ثبات اللسان قرين هداية‬
‫القلب أو نتاجها!‬
‫وإل‪ ،‬فإن لنا حين نرى لساًنا قلقا لحنا أن نتهم القلب الذي تحته بعدم‬
‫استكمال الهداية‪ ،‬وأنه بحاجة إلى الواعظ الناصح الذي يعلمه الفصاحة في‬
‫الحق‪ ،‬ويدق له وتدا يثبته في تيارات الهواء‪.‬‬
‫وإنما هو نموذج دعاء حفظه الرواة فروه لك‪ ،‬تعليما للغة الدعاء‬
‫وتلقينا‪ ،‬كي تقول لخيك يوم ترى بوادر الفتن‪) :‬اللهم اهد قلبه وثبت لسانه(‪.‬‬
‫تقولها بعد قولك‪.‬‬
‫)اللهم اغفر لي‪ ،‬ولخي هذا(‪.‬‬
‫مًعا‪ ،‬مرة بعد مرة‪ ،‬كلما لقيته‪.‬‬
‫صواب القول من صواب العمل‬
‫وبهذا تكون قد أديت واجبك‪ ،‬وأحسنت أجمل الحسان الخوي‪.‬‬
‫أما فقه الدعوة‪ ،‬فمن واجبه أن يستمر في عرض غرر النصائح‪ ،‬لعل‬
‫حريصا ينتفع‪ ،‬أو جريئا يتأنى‪ ،‬ليتأمل وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ‬
‫يقول له‪:‬‬
‫)‪(129‬‬
‫‪.‬‬ ‫)أقلل من الكلم‪ ،‬فإنما لك ما وعي عنك(‬
‫أو وصية عمر الفاروق رضي الله عنه إذ يترحم فيقول‪) :‬رحم الله‬
‫امرءا أمسك فضل القول‪ ،‬وقدم فضل العمل()‪.(130‬‬
‫أو وصية أبي الدرداء رضي الله عه لما ذهب في الصراحة لبعد منهما‬
‫فقال‪:‬‬
‫)أنصف أذنيك من فيك‪ ،‬فإنما جعل لك أذنان اثنتان وفم واحد‪ ،‬لتسمع‬
‫أكثر مما تقول( )‪.(131‬‬
‫تلك وصاياهم‪.‬‬
‫كانوا جيل جهاد وبناء‪ ،‬ربته المعاناة والممارسة‪ ،‬وصقلته الشدائد‪،‬‬
‫وعرفوا من خللها قدرة البذل الصامت على تناوش الغايات‪ ،‬فخافوا أن يقطع‬
‫هذر ما نصرهم المسترسل في سيره‪.‬‬
‫إن اللغو شين كله‪ ،‬وضرره أيام التمكين ليس أقل من ضرره أيام‬
‫المحن‪.‬‬
‫وعلى دعاة السلم أن ينطلقوا اليوم من هذه الحقيقة‪ ،‬فينطقوا فيا‬
‫بينهم بالخير الواسع‪ ،‬والمعني الكبير‪ ،‬والفقه المفيد‪ ،‬في عبارة ضيقة المبنى‬
‫موجزة‪ ،‬فإن الكثار مظنة الخطأ‪ ،‬من غيبة‪ ،‬أو تهمة برئ‪ ،‬أو اضطرار‬
‫طبقات ابن سعد ‪.2/337‬‬ ‫‪()128‬‬
‫عيون الخبار ‪.1/109‬‬ ‫‪()129‬‬
‫عيون الخبار ‪.1/330‬‬ ‫‪()130‬‬
‫عيون الخبار ‪.1/177‬‬ ‫‪()131‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫لستعمال دليل ضعيف‪ ،‬ومن وجد في نفسه بقية شوق إلى تحريك اللسان‬
‫فدون القرآن‪ ،‬ومزيد التسبيح‪ ،‬والحمد‪ .‬ودونه مجالس الواهمين والدنيويين‪،‬‬
‫يصدع فيها بحق السلم ما شاء‪.‬‬
‫نمط تربوي لبد منه لجيلنا‪ ،‬كي تتهيأ الجوارح لفضل فائض من العمل‬
‫بمثله أمات عمل الفتن في جيله‪ ،‬فانبغت له الفتوح‪.‬‬
‫وفتحنا المنتظر رهن بطريقة عمر‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬أو التردي المعاكس الذي ل يقف‪ ،‬بل يستمر نازل هاويا‪ ،‬فإن‬
‫القول والعمل مرتبطان‪ ،‬فإن أخطأت العمل‪ :‬احتاجت نفسك إلى ستر الخطأ‬
‫بخطأ من القول آخر زوًرا‪.‬‬
‫ذلك ما لحظه أحد الصالحين فقال‪:‬‬
‫)‪(132‬‬
‫‪.‬‬ ‫)لن يضيع امرؤ صواب القول حتى يضيع صواب العمل(‬
‫هكذا‪ ،‬في متوالية رديئة‪ ،‬تقدم ستر الفضيحة على قول الحقيقة‪،‬‬
‫والتسويغ المدلس على التوبة والعتذار‪ ،‬في ظن بعيد من النتصار يراه‬
‫قريبا‪ ،‬واللحن يهتك حجابه‪.‬‬
‫وذهب الصمت عرفا !‬
‫وكان نتاج ذاك الحرص الراشد على الصمت الفعال فوجا آخر من‬
‫التابعين يترادفون على درب العمل ويجددون النصح التربوي بإقلل الكلم‪.‬‬
‫منهم التابعي المهلب بن أبي صفرة الزدي حين يقول‪:‬‬
‫)‪(133‬‬
‫‪.‬‬ ‫دا على لسانه(‬
‫)يعجبني أن أرى عقل الرجل الكريم زائ ً‬
‫كلمة تستوى في ظاهرها مع ما نسمع من طرف لسان أكثر الوعاظ‪،‬‬
‫دا متحمسا لقتال الخوارج تمثل حساسية‬ ‫لكنها عند من يعرف المهلب قائ ً‬
‫روح وخزها شذوذ الخوارج عن إجماع المسلمين‪ ،‬ولذعة قلب كواه تفاصحهم‬
‫وتبجحهم الزائد إزاء عقل يناديهم باجتماع تتمكن معه جيوش السلم من‬
‫مواصلة الزحف على معاقل الكفر بدل تطاحن داخلي بين طرفين كلهما‬
‫موحد‪.‬‬
‫*ثم عمر بن عبد العزيز الذي يقول‪:‬‬
‫)من عد كلمه من عمله‪ :‬قل كلمه( )‪.(134‬‬
‫يذكرك‪ ،‬لعلك نسيت‪ ،‬أنك تحاسب على الكلم حسابا مثل الذي على‬
‫عمل الجوارح‪.‬‬
‫وانظر الترابط بين مشاهدته الواضحة لهذه الحقيقة‪ ،‬وبين رشده‬
‫وعدله وطبيعة حكمه الفذة‪.‬‬
‫حتى إن المطالع لكتب المواعظ ليكاد يرى تواطؤا بينه وبين أساتذة‬
‫التربية الذين عضدوه على إقرار القلل من الكلم خطا تربوية للمجتمع‪،‬‬
‫ومن أبرز هؤلء‪ :‬الحسن البصري‪ ،‬وميمون بن مهران‪ ،‬وعبيد بن عبد الله بن‬
‫عتبة‪ ،‬وبقية فقهاء المدينة‪.‬‬
‫*ونقلة قريبة إلى الجيل الذي بعدهم ترينا استمرار هذا السمت عند‬
‫الثقات‪ ،‬ففي مرثية المحدث الثقة محمد بن كناسة الكوفي لخاله الزاهد‬
‫‪ ()132‬سراج الملوك للطرطوشي‪.375/‬‬
‫‪ ()133‬تاريخ بغداد ‪.9/300‬‬
‫‪ ()134‬الزهد لبن مبارك ‪.129/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫المشهور إبراهيم بن أدهم إشادة بهذا الخلق وبيان تكامله مع الصفات‬
‫اليمانية الخرى وارتباطه بها‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫زهود يري الدنيا صغيرا عظيمها‬
‫وفي لحق الله‬
‫فيها معظما‬
‫وأكثر ما تلقاه في القوم صامتا‬
‫فإن قال‪ :‬بذ‬
‫القائلين وأحكما‬
‫فاستصغار الدنيا‪ ،‬والوفاء‪ ،‬ل يبدو جمالهما الكامل إل إذا اقترنا بصمت‪.‬‬
‫*ثم أستاذ الزهد في الجيل التالي‪ :‬بشر بن الحارث الحافي‪ ،‬عضيد‬
‫أحمد بن حنبل‪.‬‬
‫قالوا‪:‬‬
‫)‪(135‬‬
‫‪.‬‬ ‫)ما أخرجت بغداد أتم عقل‪ ،‬ول أحفظ للسانه من بشر(‬
‫فأبانوا –من وجه آخر‪ -‬ارتباط حفظ اللسان بالعقل‪ ،‬فهو قد حفظ‬
‫لسانه من اللغو‪ ،‬فوهبه الله لسانا جريئا في موقف صدق إزاء أمير خدعته‬
‫البدعة‪ ،‬فكان يجوب شوارع بغداد يوم تعذيب المام أحمد‪ .‬ينتصر له‪ ،‬ويثبت‬
‫الناس ويقود جمهور محبيه المتكتل أمام قصر المعتصم‪.‬‬
‫وهذا اللسان –لعمرو الله‪ -‬هو اللسان الذي يجب أن يحرص عليه‬
‫الدعاة‪ ،‬وبه يفخرون‪.‬‬
‫لسان اللهج بحديث في مسند أحمد‪ ،‬والترويج لعقيدة أحمد‪ ،‬وقيادة من‬
‫يقتفي طريقة أحمد وطرق من سبق أحمد ومن خلفه من أئمة الفقه‬
‫والفضل‪ ،‬ل لسان التثبيط والتخذيل‪.‬‬
‫ورحم الله داعية أمسك فضل القول‪ ،‬وقدم فضل العمل‪.‬‬
‫كلمة قالها عمر‪..‬‬
‫ولم نبتدعها نحن‪.‬‬
‫]‪ [14‬خير يعاف الصاخبين‬
‫بذل لذيذ‪ ،‬ونصر يتوالي‪.‬‬
‫عنوان صادق للسنوات الخيرة من عهد رسول الله ‪-‬صلى الله عليه‬
‫وسلم‪-‬عكس طابعه الكامل على المهاجرين والنصار رضوان الله عليهم‪،‬‬
‫فتركهم يتقلبون في أنواع من الفرح غامرة‪ ،‬يستشعرون حمدا من أحكام‬
‫الفروض والمندوبات والحرام والمكروهات ينزل به جبريل عليه السلم من‬
‫السماء كل يوم‪ ،‬أو ينطق به النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬فينحسر مع كل‬
‫نزول ونطق خلق من الجاهلية بشع‪ ،‬ويكتب عليه الجلء ويزاح‪ ،‬ليتاح لهم‬
‫مجال أن يسألوا عن مكملت الخير الذي هم فيه‪.‬‬
‫إل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه‪ ،‬كان ل يقنع‪ ،‬فما أن يشارك إخوته‬
‫من الصحابة فرحهم هذا حتى تلذع ابتسامة قلبه تخوفات من احتمالت شر‬
‫مبهم يراه مقبل‪ ،‬يجهل صفته وعلمته‪ ،‬فيظل وجل‪ ،‬حتى ينعته رسول الله‬

‫‪ ()135‬تهذيب التهذيب ‪.1/445‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬ويذكر له بوادره ومقدمات التي شتنبهه يوما ما إلى‬
‫الحتياط ورفع صوته بأذان التحذير‪.‬‬
‫كان يريد علما يكمل علم الخير‪ ،‬فصار يحرص على أن يخلو برسول‬
‫الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬يسأله‪:‬‬
‫يقول حذيفة‪:‬‬
‫)كان الناس يسألون رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬عن الخير‪،‬‬
‫وكنت أسأله عن الشر‪ ،‬مخافة أن يدركني( )‪.(136‬‬
‫فأتقن علم الشر بهذا الحرص‪ ،‬وأحاط خبرا بما سيكون من فتن وسوء‬
‫ونفاق‪ ،‬حتى احتاج إلى علمه كبار الصحابة‪ ،‬وطفق مثل عمر رضي الله عنه‬
‫يسأله ويستشيره‪.‬‬
‫والمغزى الكبر هنا يكمن في استجابة رسول الله ‪-‬صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ -‬لحذيفة‪ ،‬وجوابه له‪ ،‬وقبوله تعليمه علم الشر‪.‬‬
‫لم يقل له‪ :‬إننا في خير‪ ،‬ونسير من نصر إلى نصر‪ ،‬فاصرف عنك‬
‫الهواجس‪ ،‬بل أجابه وأعلمه‪.‬‬
‫وإنما تستمد نحن مسوغات تطرق بحوث فقه الدعوة لعلم الفتن‬
‫والقواصم‪ ،‬وما ينجي منها من النوار والعواصم‪ ،‬من مواطأة النبي ‪-‬صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ -‬لحذيفة وتزويده له بما أراد‪.‬‬
‫نتعلم علم الشر كي نراه ونميزه قبل أن يغزونا‪.‬‬
‫ففي الزمن النبوي الكريم لم تكن هناك فتنة عارمة غير فتنة النفاق‬
‫التي تتابعت آيات القرآن تجزم أنها غير ضارة مسيرة السلم‪ ،‬فكان الصحابة‬
‫يواجهونها وهم على يقين تام من التغلب عليها‪ ،‬يرونها شوكة في الطريق‬
‫ليس غير‪.‬‬
‫لكن من شأن الجماعات العاملة أن يكون فيها خلف في وجهات النظر‬
‫واجتهاد متباين‪ ،‬وأن يندس فيها الضعيف الطامع‪ ،‬والعدو المخرب‪ ،‬فأراد‬
‫حذيفة أن يحتاط‪ ،‬فقبل النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬احتياطه‪ ،‬فحدثه وشرح‬
‫له‪ ،‬لننقل نحن لدعاة السلم اليوم حديثه‪ ،‬وحديث من شرح حديثه من فقهاء‬
‫العمل‪ ،‬ونتأمل فيما تحقق منه ووعته المة تجربة من تجاربها‪ ،‬فنقيس عليه‪،‬‬
‫ونستخلص منه العبر‪.‬‬
‫قافلة السكينة تتهادى‬
‫ومن طبيعة أنوار الفطنة أنها مستمرة الشعاع‪ ،‬ولذلك نرى نور القلل‬
‫من الكلم يرسل حزم ضوء هادية أخرى تستهل بسبب ثان يدعو عمر بن عبد‬
‫العزيز إلى السكوت‪ ،‬فيقول‪) :‬إني لدع كثيرا من الكلم مخافة المباهاة()‪.(137‬‬
‫وهذا من أخفى البواب التي يقتحم منها الشيطان على الداعية‪ ،‬إذ‬
‫تأتيه بعض البلغة‪ ،‬سليقة أو تكلفا وتصنًعا‪ ،‬فتعجبه‪ ،‬فيقول من غير نية تعليم‬
‫أو نصح‪ ،‬فل يبارك الله بها‪ ،‬ول يأبه أصحابه لها بال‪ ،‬فيتعصب لها‪ ،‬ويجد في‬
‫قلبه شيئا تجاههم يضعف مشاعره الخوية‪.‬‬

‫‪ ()136‬صحيح البخاري ‪.9/65‬‬


‫‪ ()137‬طبقات ابن سعد ‪.5/368‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫* وتظل مسوغات الصمت الخرى من بعد هذا تستجلب لها خياًرا‬
‫آخرين‪ ،‬كما ا ستجلبت المهلب وبشًرا لحافي‪ ،‬فيقول التابعي الكبير عطاء ابن‬
‫أبي رباح‪:‬‬
‫) إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلم‪ ،‬وكانوا يعدون فضول الكلم‬
‫ما عدا ثلًثا‪:‬‬
‫كتاب الله أن يتلوه‪.‬‬
‫أو أمر بمعروف‪ ،‬أو نهي عن منكر‪.‬‬
‫وأن ينطق بحاجته التي ل بد منها(‪.‬‬
‫* ويضر الحسن البصري –إذ يختار لنفسه الصمت‪ -‬مثل للمفكر‬
‫والمهذار يقول فيه‪:‬‬
‫)كانوا يقولون‪ :‬إن لسان الحكيم من وراء قلبه‪ ،‬فإذا أراد أن يقول‪:‬‬
‫يرجع إلى قلبه‪ ،‬فإن كان له‪ :‬قال‪ ،‬وإن كان عليه‪ :‬أمسك وإن الجاهل قلبه في‬
‫طرف لسانه ل يرجع إلى القلب‪ ،‬فما أتى على لسانه تكلم به()‪.(138‬‬
‫* ويتولى علم السير تعريفنا بحكيم من هؤلء الذين عناهم الحسن‪،‬‬
‫يعرض كلمه على قلبه‪ ،‬فل ينطق قبل أن يعد لنفسه جواًبا‪.‬‬
‫اسمه‪ :‬حاتم الصم‪ ،‬زاهد قديم رأوه قليل الكلم‪ ،‬فسألوه‪ ،‬فقال‪) :‬إني‬
‫ل أحب أن أتكلم كلمة قبل أن أعد جوابها لله‪ ،‬فإذا قال الله تعالى لي يوم‬
‫القيامة‪ :‬لم قلت كذا؟ قلت‪ :‬يارب‪ :‬لكذا( )‪.(139‬‬
‫*وعد الفضيل بن عياض كثرة الكلم خصلة من ثلث خصال تقسي‬
‫القلب‪ ،‬وزاد فجعله مرة أخرى علمة من علمات النفاق إذا اقترن بقلة‬
‫العمل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)المؤمن قليل الكلم كثير العمل‪ ،‬والمنافق كثير الكلم قليل العمل(‪.‬‬
‫فطلب من حملة القرآن‪ ،‬من أجل ذلك‪ ،‬أن يقفلوا أفواههم إل من‬
‫حديث خير‪ ،‬فإن‪:‬‬
‫)حامل القرآن حامل راية السلم‪ ،‬ل ينبغي له أن يلغو مع من يلغو‪ ،‬ول‬
‫أن يلهو مع من يلهو‪ ،‬ول أن يسهو مع من يسهو(‪.‬‬
‫وليس أوعظ من أن يتصور أحدنا نفسه مع أولئك اللغين الزحين من‬
‫طلبة الحديث المخالفين لعراف شيوخهم‪ ،‬والفضيل يشترط غضبا وينادي‪:‬‬
‫)مهل يا ورثة النبياء‪ ،‬مهل يا ورثة النبياء‪ ،‬إنكم أئمة يقتدى بكم(‪.‬‬
‫وإنها لحقيقة يذكرنا بها الفضيل يجب أن ل تغيب عن بالنا‪.‬‬
‫إن مجرد حملنا للقرآن‪ ،‬وطلبنا للحديث يضعنا في مقام القدوة‬
‫والمامة‪ ،‬ولبد من وفاء حق هذا المقام‪.‬‬
‫*ويمر بنا طريق الصمت على آخر من الزهاد اسمه‪:‬‬
‫داود الطائي‪ ،‬زاد فاشترى من الناس بصمته شهادة خير تنطق يوم‬
‫يسأله الله‪ ،‬سلمه إيها ابن السماك يوم موته‪ ،‬في وقفة على قبره‪ ،‬حين‬
‫فرغوا من دفنه‪ ،‬فناداه أمام الجمع المحتشد‪:‬‬
‫)يا داود‪:‬‬

‫‪ ()138‬الزهد لبن المبارك‪.131 /‬‬


‫‪ ()139‬تاريخ بغداد ‪.8/243‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫كنت تسهر ليلك إذ الناس ينامون‪.‬‬
‫وكنت تربح إذ الناس يخسرون‪.‬‬
‫)‪(140‬‬
‫‪.‬‬ ‫وكنت تسلم إذ الناس يخوضون(‬
‫فاستغفر له من حضر‪ ،‬فهي في يمينه حجة يوم اللقاء‪ ،‬وهي في‬
‫الكتاب موعظة لولى اللباب تحركهم إلى شراء السلمة من وريث لبن‬
‫السماك‪.‬‬
‫*وعلى درب الصمت نفسه سار الجواليقي اللغوي‪ ،‬صاحب إعراب‬
‫القرآن‪ ،‬وأحد أعيان ثقات فقهاء الحنابلة ببغداد‪ ،‬فكان‪:‬‬
‫)‪(141‬‬
‫‪.‬‬ ‫)طويل الصمت‪ ،‬ل يقول الشيء إل بعد التحقيق والفكر الطويل(‬
‫صمت السندان!‬
‫*وتله الشيخ العارف عبد القادر الكيلني‪ ،‬قدوة الحنابلة بالعراق في‬
‫القرن السادس‪ ،‬والمربي المستدرك‪ ،‬فقد عرف خبر من تقدمه‪ ،‬ورأى أثر‬
‫دا‪ ،‬وبقايا أنصار البدع‬ ‫منقبتهم‪ ،‬ثم التفت فرأى واقعا يعبث فيه اللهو فسا ً‬
‫البويهية وفلول المعتزلة تتربص لغتنام فرصة عودة إلى التسلط‪ ،‬فصار يركز‬
‫في تربيته لللوف التي تحضر مواعظه على ضرورة العمل الصامت‪.‬‬
‫)أريد منكم أعمال بل كلم‪.‬‬
‫العارف العامل لوجه الله سندان يدق عليه وهو ل ينطق‪.‬‬
‫أرض يمشى عليها تغير وتبدل وهو أخرس( )‪.(142‬‬
‫هكذا‪ ،‬كالرض المعطاءة الخيرة هو الداعية‪ ،‬تخضر‪ ،‬ويعلو نباتها‬
‫ويحصد‪ ،‬فينفع الناس‪ ،‬منهم الشكور ومنهم الكفور‪ ،‬وهي ساكنة راضية‪.‬‬
‫وكسندان الحداد‪ ،‬كتلة صلب‪ ،‬تنزل عليه المطرقة مرة بعد مرة‪،‬‬
‫شديدة موجعة‪ ،‬وهو هادئ ‪ ،‬قانع بما يحمل للناس من خير ونفع‪.‬‬
‫دا‪ ،‬ول‬ ‫أو‪ :‬هو كغلم الطبيب جالينوس‪ ،‬فقد كان جالينوس ل يعلم أح ً‬
‫دا‪ ،‬خوفا من شيوع أسرار طبه‪ ،‬فتظاهر غلم بالتخارس‬ ‫يوظف مساع ً‬
‫دا‪ ،‬حتى حفظ علمه على غفلة من‬ ‫والسذاجة‪ ،‬فقبله جالينوس واختاره مساع ً‬
‫أستاذة‪ ،‬فنطق‪.‬‬
‫)أما سمعت بغلم جالينوس الحكيم كيف تخارس وتباله وتساكت حتى‬
‫حفظ كل علم عنده؟()‪.(143‬‬
‫وكذلك العلوم والحكم‪ ،‬تتعزز وتتأبى‪ ،‬تريد من يتملق لها بالوداعة‪.‬‬
‫*فقارن بين أرض صامتة‪ ،‬وسندان قانع صابر‪ ،‬وبين صوت أزعج السد‪،‬‬
‫فأرسل كليلة ودمنة يستجليان الخبر‪ ،‬فوجداه طبل معلقا في شجرة تحرك‬
‫الريح غصنا فيقرعه‪ ،‬فشقاه بأظفرهما‪ ،‬فنام ملك الغابة مستريحا!!‬
‫*وليكن شعارك أن‪ :‬ل لغو‪ ،‬ول أصوات‪ ،‬بل استمتاع بأضواء بعد أضواء‪.‬‬
‫فالتفت يمينا الن‪ ،‬تجد مصباح‪:‬‬
‫النور الحادي عشر‪ ،‬يلمع بفضائل‪:‬‬
‫المساك عن الجدل‬
‫تاريخ بغداد ‪.8/355‬‬ ‫‪()140‬‬
‫ذيل طبقات الحنابلة ‪.1/205‬‬ ‫‪()141‬‬
‫الفتح الرباني ‪.46/38‬‬ ‫‪()142‬‬
‫الفتح الرباني ‪.46/38‬‬ ‫‪()143‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ويقال له أيضا‪ :‬المراء‪ ،‬وهو من لوازم إقلل الكلم وناتجه‪ ،‬ومن‬
‫مكملته التي تتم زينه‪.‬‬
‫فالجدل خلق ردئ كثير السوء‪ ،‬وتتجسم آثاره في الجماعات بشكل‬
‫أبرز مما يلحق الفراد منه‪ ،‬فإن الفرد قد ل يتجاوز أن يجد ضيقا في صدره‬
‫إن تجادل مع صاحب له بمعزل وعلى انفراد‪ ،‬ولكن الجماعة التي يتجادل فيها‬
‫اثنان‪ ،‬على مسمع من البقية‪ ،‬تحرم من الخير المقترب منها‪ ،‬ولو لم تتعدد‬
‫فيها جهات الجدل وأعداد المتجادلين‪ ،‬كأن من طبيعة الخير أن يجفل من‬
‫قليل الصخب‪ ،‬ويأبى الدخول على قوم ل يستقبلونه بسكون‪ ،‬ولو كانوا‬
‫صالحين‪.‬‬
‫ففي صحيح البخاري‪:‬‬
‫)أن رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬خرج يخبر بليلة القدر‪ ،‬فتلحي‬
‫رجلن من المسلمين‪ ،‬فقال‪ :‬إني خرجت لخبركم بليلة القدر‪ ،‬وأنه تلحي‬
‫فلن وفلن فرفعت‪ ،‬و عسى أن يكون خيًرا لكم‪ .‬إلتمسوها في التسع والسبع‬
‫والخمس()‪.(144‬‬
‫والملحاة‪ :‬هي المنازعة والمخاصمة التي تتضمن جدل‪ ،‬وفي صحيح‬
‫مسلم أنهما كانا‪) :‬يحتقان( أي يدعي كل منهما أنه المحق دون صاحبه‪.‬‬
‫وتعبيره ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬بعسى‪ :‬من باب التأويل بالمتسحب‪،‬‬
‫إشارة إلى ما سيكون من زيادة بذل المجهود التماسها‪ ،‬وإل فإن في الجزم‬
‫بتعيين ليلة القدر من الخير للمة السلمية في جميع أجيالها ما هو ظاهر لمن‬
‫عرف قيمة الدعاء‪.‬‬
‫ولمثل هذا السلب جعله التابعي مسلم بن يسار جهل يجد الشيطان‬
‫خلله مجال‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)إياكم والمراء‪ ،‬فإنها ساعة جهل العالم‪ ،‬وبها يبتغي الشيطان زلته(‪.‬‬
‫بل هي أكثر من زلة وأكثر من سوء‪ ،‬فإن المام الوزاعي قد أحصاها‬
‫حا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫فوجدها خمس زلت قبيحات تزيد طرد الخير قب ً‬
‫)دع من الجدال ما‪:‬‬
‫يفتن القلب‬
‫وينبت الضغينة‬
‫ويجفى القلب‪.‬‬
‫ويرق الورع في المنطق‪.‬‬
‫والفعضضضل‪.(.‬‬
‫وهذا إثقال واضح لكفة الشمال من ميزان المتجادل ينبي عن خسارته‬
‫والعياذ بالله‪ ،‬خسارة يصعب معها الرجاء إذا اقترنت بلجاجة وإعجاب‪ ،‬إذ تتم‬
‫حينذاك‪ ،‬كما رآها التابعي بلل بن سعد فقال‪:‬‬
‫)إذا رأيت الرجل لجوجا مماريا معجبا برأيه فقد تمت خسارته(‪.‬‬
‫قول خبير ليس بكاذب ول مبالغ‪.‬‬
‫والمخرج من ذلك سهل بسيط ليس بالصعب عند الموفق‪ ،‬ل يستدعى‬
‫أكثر من إغلق وفتح‪.‬‬

‫‪ ()144‬صحيح البخاري ‪.1/20‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫دا‪ ،‬ثم في حركة سريعة‬ ‫يغلق ويقفل باب الجدل‪ ،‬ويرمي بالمفتاح بعي ً‬
‫يفتح باب العمل‪ ،‬ليجد نفسه في إطلله بديعة تأخذ بمجامع فؤاده على ألوان‬
‫متموجة تفيض من مشكاة‪:‬‬
‫النور الثاني عشر‪ ،‬وينبعث بشعاع‪:‬‬
‫المبالغة في الصدق يوم الفتنة‬
‫فإن ل طريق أقرب من الصدق‪.‬‬
‫وحين تاب الله على كعب بن مالك رضي الله عنه لما افتتن فتخلف‬
‫في الثلثة الذين خلفوا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫)يا رسول الله‪ :‬إن الله إنما نجاني بالصدق‪ ،‬إن من توبتي أن ل أحدث‬
‫إل صدقا ما بقيت()‪.(145‬‬
‫فغدا الصدق من يوم اختاره كعب سنة لتوبة المفتتنين‪ ،‬وكفاية لحتياط‬
‫الحذرين‪.‬‬
‫صدقا يتجاوز مقداره العرفي الذي تدين بفضيلته كل المم حين يتعامل‬
‫أفرادها في أسواقهم وزيجاتهم‪ ،‬ويتعداه‪ ،‬ليكون نوعا من الحساسية اليمانية‬
‫تستشعر الرقابة الربانية‪ ،‬حين ترسل الفتن المتربصة لغزونا من يوسوس في‬
‫صدورنا ويشجعنا على النتصار لنفوسنا عند الخلف بزيادة كلمة نتأول في‬
‫إضافتها أنها تفسر كلم المخالف‪ ،‬أو بحذف كلمة بتأويل مقارب‪ ،‬أو باختيار‬
‫لهجة لرواية الكلم تصرفه عن مقاصده الظاهرة وتحمله ما ل يحتمل من‬
‫المعاني المعيبة‪.‬‬
‫فإني انضاف إلى مثل هذه الكذبة في الزيادة‪ ،‬أو النقصان‪ ،‬أو لهجة‬
‫الرواية‪ :‬نشر لها في المجالس‪ ،‬وسفر رسل صاحبها بها في القطار‬
‫والمصار‪ :‬خيف على صاحبها أن يكون ذاك الرجل الذي رآه النبي ‪-‬صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ -‬في رؤياه المرعبة المخيفة لما أتاه آتيان فانطلقا به‪ ،‬فمر به‪:‬‬
‫)على رجل مستلق لقفاه‪ ،‬وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد‪ ،‬وإذا‬
‫هو يأتي أحد شقي وجهه‪ ،‬فيشرشر شدقه إلى قفاه‪ ،‬ومنخره إلى قفاه‪،‬‬
‫وعينه إلى قفاهن ثم يتحول إلى الجانب الخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب‬
‫الول‪ ،‬فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان‪ ،‬ثم يعود‬
‫عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الولى‪.‬‬
‫قال‪ :‬قلت سبحان الله! ما هذا(؟‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫)‪(146‬‬
‫‪.‬‬ ‫)إنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الفاق(‬
‫ورسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬ل يرى إل حقا‪.‬‬
‫فليحذر صاحب الهوى أن يكذب كذبة ينصر بها هواه إلى حين سريع‬
‫الزوال‪ ،‬فتبلغ كذبته الفاق‪ ،‬ويحملها البريد‪ ،‬وتنزل بها حروف المطابع‪ ،‬فتزل‬
‫بها أقدام‪ ،‬فيفعل الزبانية بشدقه ومنخره وعينه مثل ما فعلوا بهذا الذي رآه‬
‫النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪.-‬‬

‫‪ ()145‬صحيح البخاري ‪.6/8‬‬


‫‪ ()146‬صحيح البخاري ‪.9/56‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ولمثل هذا كان عقلء الناس دوما يرون للصدق مكانة أرفع من مكانته‬
‫التي يراها له العامة‪ ،‬مثل إياس بن معاوية بن قرة الذي هو من سادة الثقات‬
‫ودهاة العلماء‪ ،‬فإنه كان يقول‪:‬‬
‫)‪(147‬‬
‫‪.‬‬ ‫)امتحنت خصال الرجال‪ ،‬فوجدت أشرفها‪ :‬صدق اللسان(‬
‫وإن صدقا في مساومة على شراء طعام في سوق لهوى أهون من أن‬
‫يحفل به هذا النابغة هذا الحتفال‪ ،‬لكنه كان يريد معنى وراء ذلك‪ ،‬يعرفه‬
‫الرجال‪.‬‬
‫صدقا عرفه الحافظ المحدث إسحاق بن راهوية الحنظلي‪ ،‬فتناوله‪،‬‬
‫فأدى به إلى المامة وسيادة الفاق‪ ،‬فقال تلميذه المام الدرامي‪:‬‬
‫)ساد إسحاق أهل المشرق والمغرب بصدقه( )‪.(148‬‬
‫وثقات المحدثين الصادقين من أهل زمانه كثير عددهم ألوف بعد‬
‫ألوف‪ ،‬لكنها المبالغة في الصدق سودت إسحاق عليهم‪.‬‬
‫والقلب الحي يرى في توبة كعب وطريق إسحاق مواعظ‪ ،‬ودعوة‬
‫للقتداء‪.‬‬
‫وللمفتون ما يختار‪.‬‬
‫]‪ [15‬النجوى طريق البطالة‬
‫رائع هو فقه الفاروق حقا‪.‬‬
‫فالحكم العمرية‪ ،‬في إجمال قواعد اليمان وموازين السلم وأصول‬
‫الدعوة‪ ،‬هي أوضح وأحسن تفسير شامل للقرآن الكريم ولحديث رسول الله‬
‫‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬ويشعر الفاحص لقواله رضي الله عنه أنها نتاج تأمل‪،‬‬
‫صنف عمر خلله النصوص التفصيلية وجزئيات الشريعة والعقيدة إلى مجاميع‬
‫متقاربة في معانيها وعللها‪ ،‬وألحق كل حكم بنظيره وشبيه‪ ،‬ثم رأى من بعد‬
‫القاسم المشترك الذي ينظم كل مجموعة‪ ،‬فاستل من ذاك القاسم قاعدة أو‬
‫ميزاًنا أو أصل‪.‬‬
‫أنه نمط من الجتهاد الستنباطي الذي لم يفصح عن خطواته عمر‪ ،‬ولم‬
‫يسجل مراحله أحد‪ ،‬ولكن من يعاني التفقه يدرك أنه من المفترضات البديهية‬
‫التي كانت سابقة حتما لنطق الراشد الثاني رضي الله عنه بما نطق‪ ،‬فإن‬
‫الحكمة تنقدح في قلبه في ساعة تفكر‪ ،‬فتظل تتقلب وتجيش في صدره‬
‫مدة‪ ،‬حتى تصادف ذروة خشوع في إحدى صلواته‪ ،‬فيرجح عنده صوابها مع‬
‫ذاك التصاعد‪ ،‬فيدعها بعد انفلته من صلته موعظة سائرة على مدى الجيال‬
‫لولى العتبار‪.‬‬
‫كل فقهه وفعله كان كذلك رضي الله عنه‪ ،‬حتى إنه كان يخطط‬
‫لجيوش الفتوح وهو في صلته‪ ،‬كما أخبر عنه نفسه‪.‬‬
‫ولذلك كانت الحكمة العمرية مرقاة المتفقة‪ .‬ولذلك كان السابق‪.‬‬
‫ضا‪ ...‬كان المنتصر‪...‬‬
‫ولذلك أي ً‬
‫الفتن بقية جاهلية‬
‫ومقالته‪.‬‬

‫‪ ()147‬تهذيب التهذيب ‪.1/391‬‬


‫‪ ()148‬طبقات الشافعية ‪.2/86‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫)إنما تنقض عرى السلم عروة عروة‪ :‬إذا نشأ في السلم من لم‬
‫يعرف الجاهلية(‪.‬‬
‫مقالة جمعت كل ضروب فقهه ذاك‪ ،‬فهي قاعدة إيمانية أن شئت وهي‬
‫ميزان‪ ،‬كما أنها أصل من أصل الدعوة أصيل‪.‬‬
‫لبد من معرفة الجاهلية‪.‬‬
‫يسميها الجاهلية‪ ،‬متابعة للقرآن ولرسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪-‬‬
‫وهي الشر كذلك‪ ،‬والشرك‪ ،‬صغيًرا كان أم كبيًرا‪ ،‬وحكم الطاغوت‪ ،‬وهي‬
‫ضا‪.‬‬
‫المعاصي غير المكفرة صاحبها أي ً‬
‫كل ذلك يعنيه عمر‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬لممها وكبائرها‪ ،‬قول رسول الله‬ ‫ويشهد لنا في أنها المعاصي أي ً‬
‫‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬لبي ذر حين عير بلل بأمه السوداء‪:‬‬
‫)إنك امرؤ فيك جاهلية(‪.‬‬
‫فسماها جاهلية‪ ،‬لنها بقية باقية من خلق الجاهلية وإن لم تنقل أبا ذر‬
‫وراء حائط السلم‪.‬‬
‫قال البخاري‪:‬‬
‫)المعاصي من أمر الجاهلية‪ ،‬ول يكفر صاحبها بارتكابها إل بالشرك‪،‬‬
‫لقول النبي‪ :‬إنك امرؤ فيك جاهلية()‪.(149‬‬
‫قال ابن حجر‪:‬‬
‫)أي أن كل معصية تؤخذ نم ترك واجب أو فعل محرم فهي من أخلق‬
‫الجاهلية( )‪.(150‬‬
‫وهكذا توافق رأي عمر مع فعل حذيفة بن اليمان في سؤال الرسول‬
‫‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬عن الشر والفتن مما عرفناه عنه حين رؤيتنا الماضية‬
‫لدور الصخب في إجلء الخير‪ .‬والفتنة معصية‪ ،‬فهي جاهلية وإن لم تسحب‬
‫صفة الكفر على مقارفها‪ ،‬ولبد من معرفتنا بها‪ ،‬وتفقيه الدعاة بأوصافها‬
‫وعلجها‪ ،‬وإل نقض السلم عروة بعد عروة‪.‬‬
‫بل الحقيقة أن التفرق والخلف كان من أبرز ظواهر جاهلية العرب‪،‬‬
‫وأولى المعاصي بتطرق فقه الدعوة لها‪.‬‬
‫وذلك مسوغ جديد‪ ،‬عمري النسبة‪ ،‬يشجع بحوثنا على فضح أباطيل‬
‫الفتن والمفتتنين‪.‬‬
‫والفتن أنواع وضروب‪ ،‬منها التي في العقيدة‪ ،‬ومنها التي في التعامل‬
‫والسلوك والحلل والحرام‪ .‬ومنها الطفيفة‪ ،‬ومنها الغليظة‪ .‬ونحن نتعلم منها‬
‫هاهنا فتن التعامل الجماعي التي تطرأ على المجموعة المتعاهدة على‬
‫الدعوة إلى الله‪ ،‬الساعية لقامة حكم الله‪ ،‬أو الحاكمة به‪.‬‬
‫يجب أن نعرف جاهلية الخلف وخلع الطاعة ونكث العهد والتخذيل‪،‬‬
‫وإل نقضت وهدمت عري الدعوة عروة إثر عروة‪ ،‬وتقاعد الدعاة عن العمل‬
‫فوجا تلو فوج‪ ،‬وارتفعت معاني الخوة من ساحتهم‪.‬‬
‫قال ابن تيمية رحمه الله‪:‬‬

‫‪ ()149‬صحيح البخاري ‪.1/15‬‬


‫‪ ()150‬فتح الباري ‪.1/92‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫)وهو كما قال عمر‪ :‬فإن كمال السلم هو المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ ،‬وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله‪.‬‬
‫ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره فقد ل يكون عنده من العلم‬
‫بالمنكر وضرره ما عند من علمه‪ ،‬ول يكون عنده من الجهاد لهله ما عنده‬
‫الخبير بهم‪ ،‬ولهذا يوجد عند الخبير بالشر وأسبابه – إذا كان حسن القصد‬
‫عنده‪ -‬من الحتراز عند ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عنده غيره‪.‬‬
‫دا ممن بعدهم‪،‬‬ ‫ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم إيماًنا وجها ً‬
‫لكمال معرفتهم بالخير والشر‪ ،‬وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر‪ ،‬لما‬
‫علموه من حسن حال السلم واليمان والعمل الصالح‪ ،‬وقبح حال الكفر‬
‫والمعاصي()‪.(151‬‬
‫وعي يفضح المخادع‬
‫ضا قوله‪:‬‬
‫ومن حكمة عمر في هذا الباب أي ً‬
‫)لست بخب‪ ،‬ول يخدعني الخب(‪.‬‬
‫والخب‪ ،‬فتح الخاء وكسرها‪ ،‬هو‪ :‬المخادع الخبيث الذي يسعى بين‬
‫الناس بالفساد‪.‬‬
‫وهذه الدعوة مباركة‪ ،‬تربي أبناءها على أن ل يكونوا أخبابا‪ ،‬بل تؤلف‬
‫أرواحهم‪ ،‬وتريهم أنوار الفطنة‪ ،‬وتعلمهم النية الصالحة والقول الطيب‪،‬‬
‫وتحذرهم سهام الشيطان‪ ،‬والتأويل المستدرج‪ ،‬ثم توجه الرهط المخطئ‬
‫منهم نحو تربية تستدرك‪.‬‬
‫ولكنها دعوة مفتحة البواب‪ ،‬قد يختلس الخب فرصة‪ ،‬فيلج على حين‬
‫غفلة من الحارس‪ ،‬ويتخفى دهًرا‪.‬‬
‫ولذلك وجب على هذه الدعوة المباركة أن تربي أبناءها أيضا على‬
‫اكتشاف مخادعة الخب‪ ،‬كل الخب‪ ،‬ونصف لهم لحن قوله‪ ،‬وظلمات دروبه‪،‬‬
‫وخروق استدللته‪.‬‬
‫)فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير ل الشر‪ ،‬وكمال ذلك بأن‬
‫يعرف الخير والشر‪ ،‬فأما من ل يعرف الشر فذاك نقص فيه ل يمدح به( )‪.(152‬‬
‫قالها ابن تيمية ثانية‪:‬‬
‫ولقد كان الجدل‪ ،‬والكذبة التي تطوف الفاق‪ ،‬من آخر أساليب الخباب‬
‫التي فضحتها أنوارنا‪ ،‬وما زالت الفطنة‪ ،‬العمرية السمت‪ ،‬تتوهج‪ ،‬لتؤنس‬
‫مسيرتك بللة ألوان طيف‪.‬‬

‫النور الثالث عشر‪ ،‬من شمس‬


‫ترك النجوى‬
‫فإن مجالس المؤمنين لم تعرف إل زيادة اليمان لها هدفا‪ ،‬وكان ابن‬
‫رواحة يأخذ بيد أبي الدرداء‪ ،‬رضي الله عنهما‪ ،‬ويقول‪) :‬تعال نؤمن ساعة(‬

‫‪ ()151‬مجموع الفتاوى ‪.10/301‬‬


‫‪ ()152‬مجموع الفتاوى ‪.10/302‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫)‪ ،(153‬فيتذاكران أمر اليمان‪ ،‬ويتعرفان على مسالك التوبة‪ ،‬ويتآمران بصدقة‬
‫أو معروف أو إصلح بين الناس‪.‬‬
‫وكان عمر بن عبد العزيز يأمر أبا بكر بن عمرو بن حزم‪ ،‬رحمهما الله‪،‬‬
‫بالجلوس للتعليم‪ ،‬ويقول له‪:‬‬
‫)ولتجلسوا‪ ،‬حتى يعلم من ل يعلم‪ ،‬فإن العلم ل يهلك حتى يكون سًرا(‬
‫)‪.(154‬‬
‫وجعل أحمد بن أبي الحواري الدمشقي المجالسة دواء قسوة القلب‪،‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫)إذا رأيت من قلبك قسوة فجالس الذاكرين‪ ،‬وأصحب الزاهدين(‪.‬‬
‫فمجالس المؤمن عزيزة‪ ،‬ول ينبغي أن يجلس إل بنية أن يؤمن ساعة‬
‫ثم يقوم‪ ،‬متداول أية أو حديثا أو وصية حكيم من صالح المؤمنين‪ ،‬وليس من‬
‫حقه أن يميل بالجالسين معه إلى نقد اجتهادات قادته بما يهاب أن يذكره لهم‬
‫صريحا‪.‬‬
‫وكذلك غدوات المؤمنين وروحاتهم‪ ،‬فإنها ثمينة مثل مجالسهم‪ ،‬ومن لم‬
‫يجد عند الذين حوله فقها فإن عليه أن يسيح طلبا له‪ ،‬كما كان التابعي علقمة‬
‫بن قيس النخعي الكوفي قول لصحابه‪:‬‬
‫)امشوا بنا نزدد إيماًنا‪ ،‬يعني يتفقهون(‪.‬‬
‫أو يذهب إلى من يرجو أن يلين له قلبه إذا ألهاه الصفق بالسواق‬
‫وأحاديث الرواتب وفرق السعار‪ ،‬كما كان التابعين ميمون بن مهران يذهب‬
‫إلى سيد التابعين الحسن البصري ويطرق بابه ويقول له‪:‬‬
‫)يا أبا سعيد‪ :‬قد آنست من قلبي غلظة‪ :‬فاستلن لي منه(‪.‬‬
‫فإن لم يجد الصاحب الجليس الصالح‪ ،‬والمداوي الملين‪ ،‬فإن أمامه‬
‫خلوة ساعة تذيقة حقيقة اللذة‪ ،‬فإنه ) ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة‬
‫الله عز وجل( كما يقول التابعي مسلم بن يسار‪.‬‬
‫ثم أمامه المحراب‪ ،‬يذكره به التابعي بكر بن عبد الله المزني‬
‫ويتساءل‪:‬‬
‫)من مثلك يا ابن آدم؟‬
‫خلي بينك وبين المحراب تدخل منه إذا شئت على ربك‪ ،‬ليس بينك‬
‫وبينه حجاب ول ترجمان(‪.‬‬
‫الجتهاد ل ينمو في الجيوب‬
‫فأما منصف نفسه فيطلب ذلك‪ ،‬من مجلس أو رحلة أو خلوة لبث‬
‫بمحراب‪ ،‬يأنس بمخالطة من شاء من أفراد جماعة اليمان‪ ،‬أو يقتدي بما‬
‫يروي له من فعل المهتدين‪.‬‬
‫وأما المشرف على ضللة‪ ،‬فإنه يتوارى مع صحب له عن العيون‪،‬‬
‫ويكتم سره عن الجماعة‪ ،‬ويبثه لمن يهواه‪ ،‬فيؤز بعضهم الحمية النفسية في‬
‫البعض الخر‪ ،‬فيكون حنق‪ ،‬فتثبيط‪ ،‬فتسويغ ل يبرأ من تدليس‪ ،‬فإذا هو‬
‫افتتان‪.‬‬

‫‪ ()153‬كتاب الزهد لبن المبارك ‪.490/‬‬


‫‪ ()154‬صحيح البخاري ‪.1/35‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫تلك التي عرفها عمر بن عبد العزيز فقال‪:‬‬
‫)ما انتجي قوم في دينهم دون جماعتهم إل كانوا على تأسيس ضللة(‬
‫)‪.(155‬‬
‫وهذه هي بداية كل بدعة في تاريخ المسلمين‪ ،‬تبدأ بالنجوى‪ ،‬ثم يكون‬
‫الستدراج‪.‬‬
‫فالنجوى دون الجماعة في المفاهيم التي هيمن الدين‪ ،‬أو في خلع‬
‫ضا‪ ،‬والتي يسببها سمى الخوارج‬ ‫الطاعة الشرعية التي هي من الدين أي ً‬
‫الخالعون للطاعة‪ :‬مبتدعة‪ ،‬يقرن ذكرهم بالجهمية والمرجئة‪ ،‬كل ذلك ضللة‬
‫داخلة في قول عمر‪.‬‬
‫ول تغير النية الصالحة في طبيعة النجوى أو تسحب عليها ذيل الصلح‬
‫تبًعا‪ ،‬ول ادعاء الجتهاد وطلبه من خللها‪ ،‬فإن الجتهاد ل يترعرع سًرا‪،‬‬
‫لحتياجه دوما إلى التقويم‪ ،‬وإلى الشهادة له أو عليه من قبل الخرين‪ ،‬وليس‬
‫بتلك ذلك في أجواء التناجي المتوارى المستخفي الذي يشبه التهامس‪.‬‬
‫ولقد أظهرت لنا التجارب الكثيرة أن معظم التناجي يؤدي إلى الخروج‬
‫ونكث البيعة‪ ،‬ول تتجاوز أن يكون مرحلة أولية للماشي في درب الفتنة‪ ،‬دري‬
‫أو لم يدر‪ ،‬ول يتجاوز حجة المتناجي أن تكون هي نفسها حجة الخارج‪ ،‬كلهما‬
‫يدعي أنه يريد مصلحة السلم‪ ،‬وأنه يمارس ضربا من العبادة‪ ،‬والخطأ يلفهما‬
‫لفا‪.‬‬
‫دا وتقريرات‬ ‫كل الخوارج مخط في مقالته‪ ،‬وإن تعبد فيما قال واجته ً‬
‫سيد قطب رحمه الله لمجالت النجوى المذمومة في القرآن الكريم تلتقي‬
‫مع هذا الذي نقول‪ :‬ويذهب لبعد ممن يتوهم أن الله تعالى قد ذم النجوى في‬
‫حياة رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬فقط‪ .‬فهو يعقب على الية الكريمة‪.‬‬
‫صل ٍَح‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خير في ك َِثير من نجواهُم إل ّ م َ‬
‫ف أوْ إ ِ ْ‬
‫معُْرو ٍ‬ ‫صد َقَةٍ أوْ َ‬‫مَر ب ِ َ‬
‫نأ َ‬‫ٍ ّ ّ ْ َ ْ ِ َ ْ‬ ‫)ل َ َ ْ َ ِ‬
‫َ‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬
‫ما(‪.‬‬‫ظي ً‬‫جًرا عَ ِ‬ ‫ف ن ُؤِْتيهِ أ ْ‬ ‫ت اللهِ فَ َ‬
‫سوْ َ‬ ‫ضا ِ‬‫مْر َ‬
‫ك اب ْت َِغاَء َ‬ ‫فعَ ْ‬
‫من ي َ ْ‬‫س وَ َ‬‫ن الّنا ِ‬
‫ب َي ْ َ‬
‫فيقول‪:‬‬
‫دا‬
‫)لقد تكرر في القرآن النهي عن النجوى‪ ،‬وهي أن تجتمع طائفة بعي ً‬
‫عن الجماعة المسلمة وعن القيادة السملمة‪ ،‬لتبيت أمًرا‪ .‬وكان اتجاه التربية‬
‫السلمية واتجاه التنظيم السلمي كذلك أن يأتي كل إنسان بمشكلته أو‬
‫بموضوعه‪ ،‬فيعرضه على النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬مسارة إن كان أمًرا‬
‫شخصًيا ل يريد أن يشيع عنه في الناس‪ :‬أو مساءلة علنية إن كان من‬
‫الموضوعات ذات الصبغة العامة‪ ،‬التي ليست من خصوصيات هذا الشخص‪.‬‬
‫والحكمة في هذه الخطة‪ ،‬هو أل تتكون جيوب في الجماعة المسلمة‪،‬‬
‫وأل تنعزل مجموعات منها بتصوراتها ومشكلتها‪ ،‬أو بأفكارها واتجاهاتها‪ ،‬وأل‬
‫تبيت مجموعة من الجماعة المسلمة أمًرا بليل‪ ،‬وتواجه به الجماعة أمًرا‬
‫مقرًرا من قبل‪ ،‬وتستخفي به عن أعينها‪ ،‬وإن كانت ل تختفي به عن الله‪ ،‬وهو‬
‫معهم إذ بيبيتون ما ل يرضى من القول‪.‬‬
‫وهذا الموضع أحد المواضع التي ورد فيها هذا النهي عن التناجي‬
‫والتبييت بمعزل عن الجماعة المسلمة وقيادتها‪.‬‬

‫‪ ()155‬كتاب الزهد للمام أحمد‪.291/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ولقد كان المسجد هو ندوة الجماعة المسلمة‪ ،‬تتلقى فيه وتتجمع‬
‫حا‪ ،‬تعرض‬ ‫للصلة لشؤون الحياة‪ ،‬وكان المجتمع المسلم كله مجتمعا مفتو ً‬
‫مشكلته –التي ليست بأسرار للقيادة في المعارك وغيرها‪ ،‬والتي ليست‬
‫ما‪ .‬وكان‬‫بمسائل شخصية بحتة ل يحب أصحابها أن تلوكها اللسن – عرضا عا ً‬
‫هذا المجتمع المفتوح من ثم مجتمعا نظيفا طلق الهواء‪ ،‬ل يتجنبه ليبيت من‬
‫وراء ظهره إل الذين يتآمرون عليه‪ ،‬أو على مبدأ من مبادئه –من المنافقين‬
‫غالبا‪ -‬وكذلك اقترنت النجوى بالمنافقين في معظم المواضع‪.‬‬
‫وهذه حقيقة تنفعنا‪ .‬فالمجتمع المسلم يجب أن يكون بريئا من هذه‬
‫الظاهرة‪ ،‬وأن يرجع أفراده إليه وإلى قيادتهم العامة بما يخطر لهم من‬
‫الخواطر‪ ،‬أو بما يعرض لهم من خطط واتجاهات أو مشكلت()‪.(156‬‬
‫وهكذا يخرج الموفق من ضيق مجلس النجوى إلى رحاب التشاور‬
‫الواسعة‪ ،‬وبهجة الصلح بين الناس‪ ،‬ابتغاء مرضاة الله‪ ،‬والله نور السماوات‬
‫دا‪ ،‬يزيد قوة إبصاره‪ ،‬ويشجعه على سرعان‬ ‫والرض‪ ،‬فيجعل الله له نوًرا جدي ً‬
‫الفرار إلى الله‪ ،‬فيمر في محاذاة مصباحة‪ ،‬مصباح هذا النور الجديد‪ ،‬ويلتفت‬
‫إليه ليحصي فضل الله عليه‪ ،‬فإذا هو‪:‬‬
‫النور الرابع عشر‪ ،‬المتدلي من ثريا‪:‬‬
‫حمل القلب على استقباح الفتن‬
‫فإن المرء مطالب بأن ينكر بقلبه كل أنواع الفتن‪ ،‬وأن يستشعر عيبها‪،‬‬
‫ولو لم يدخل طرفا فيها‪ ،‬فإن الستحسان يوشك أن يغري صاحبه بالولوج‪.‬‬
‫لذلك ل يعد أحدنا بريئا من هذه الفتن تمام البراءة إل بمثل هذا‬
‫الستقباح‪.‬‬
‫ما أبي شريح القاضي أن يمزج نبله وفضله بشيء من آثار الفتن‪،‬‬ ‫وقدي ً‬
‫فلبث تسع سنين كاملت معتزل فتنة القتال أيام أرسل عبد الله بن الزبير‬
‫أخاه مصعبا ليقاتل عنه ويحكم العراق باسمه‪ ،‬كان شريح خللهن‪) :‬ل يخبر ول‬
‫يستخبر( مع أن ابن الزبير كان له من التأويل الصادق أكثر من غيره‪ ،‬فقيل‬
‫لشريح‪:‬‬
‫)قد سلمت!‬
‫)‪(157‬‬
‫‪.‬‬ ‫قال‪ :‬فكيف بالهوى(‬
‫وكان هواه مع ابن الزبير‪.‬‬
‫أي أنه كان يتهم نفسه بعدم البراءة وإن لم يشترك في قتال أو يقف‬
‫دا‪ ،‬لن قلبه كان يميل إلى ابن الزبير‪.‬‬ ‫خطيبا مؤي ً‬
‫فإذا كان شأن مجرد الميل القلبي كذلك‪ ،‬فمن باب أولى أن تكون‬
‫موالة أهل الفتنة‪ ،‬والتصريح بالرضا عن فعلهم‪ ،‬كالدخول في فتنتهم نفسها‪،‬‬
‫أو منزلة قريبة من الدخول‪ ،‬وإن أبقى الراضي لنفسه صورة الوفاء بالبيعة‪،‬‬
‫ولم ينسب نفسه إلى جمهور المفتتنين‪.‬‬

‫‪ ()156‬في ظلل القرآن ‪.5/226‬‬


‫‪ ()157‬طبقات ابن سعد ‪.6/141‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وخلل سرد المام أحمد لوصاف الزاهد وطبقات الزهاد وعظنا‬
‫موعظة صريحة‪ ،‬أحيا بها فقه الحسن البصري إمام التابعين فروي استفتاء‬
‫التابعي عبد الواحد بن زيد للحسن‪:‬‬
‫قال عبد الواحد‪:‬‬
‫)قلت للحسن‪ :‬يا أبا سعيد‪ :‬أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن‬
‫المهلب‪ ،‬إل أنه عاون بلسانه ورضي بقلب!!‬
‫قال‪ :‬يا ابن أخي ككم يد عقرت الناقة؟‬
‫قلت‪ :‬يد واحدة‪.‬‬
‫)‪(158‬‬
‫‪.‬‬ ‫قال‪ :‬أليس قد هلك القوم جميعا برضالهم وتماليهم(‬
‫وابن المهلب هذا هو ابن المهلب بن أبي صفرة البطل مبيد الخوارج‪،‬‬
‫أعجبته نفسه‪ ،‬وغره ما ورثه من جاه أبيه‪ ،‬فعشق الرئاسة‪ ،‬فأعلن النفصال‬
‫عن الدولة السلمية الفتية‪.‬‬
‫فالموالة كالدخول‪ ،‬ليس من فرق بينهما عند رأس فقهاء التابعين‬
‫بإحسان‪.‬‬
‫وهي كذلك عند الذين بعده‪ ،‬فجعل بعضهم استئناس المرء وصحبته‬
‫للمتخلقين بأخلق المفتتنين مسوغا لنا لتصنيفنا إياهم معهم‪ .‬فقال‪:‬‬
‫)دليل وحشتهم‪ :‬أنسهم بالمستوحشين‪.‬‬ ‫•‬
‫ودليل بطالتهم‪ :‬صحبتهم للبطالين‪.‬‬ ‫•‬
‫ودليل تخليطهم‪ :‬صحبتهم للمخلطين(‪.‬‬ ‫•‬
‫فالعمل السلمي رحب‪ ،‬كله أجر ومثوبة ونور‪ ،‬ولمثله يبتسم العاقل‬
‫مستبشًرا‪ ،‬فإن استوحش بعض من يدعيه‪ ،‬وعبس وبسر‪ ،‬ثم استأنس بوحشة‬
‫آخر‪ :‬فإنه شريكه دون ريب‪.‬‬
‫وهذه الفتن كلها بطالة وسلبيات‪ ،‬وقعود عن العمل وانزواء‪ ،‬وانحدار‬
‫تدريجي نحو الركود‪ ،‬ثم سبات وغطيط‪ ،‬وصاحب أصحابها منهم دون ريب‪.‬‬
‫وهي كلها استعارات‪ ،‬وترقيعات‪ ،‬ومزج للباطل بالحق‪ ،‬وتدخين‬
‫وتخليط‪ ،‬ومن رضي أن يقعد بباب دكان صاحبه الحداد‪ ،‬لتطربه النغام النشاز‬
‫دا‪.‬‬
‫التي تبعثها مطارق الحدادين‪ ،‬فل يعجبن إن ظنه الناس حدا ً‬
‫]‪ [16‬اللهب البارد‬
‫مهما عصفت الفتن وآذت‪ ،‬فإن إجالة سريًعا لبصارنا في محيط هذا‬
‫الجيل الموفق من الدعاة تترك بسرعة أثًرا من السكينة في قلوبنا تصغر‬
‫ما‪.‬‬
‫دا‪ ،‬حتى تخلو من الرهبة لهم تما ً‬ ‫أشباح المفتتنين فيها‪ ،‬بل تدعها بد ً‬
‫هذا ما كان مراًرا‪ ،‬كلما شيكت الدعوة بشوكة من صاحب هوى أو‬
‫عاشق رياسة‪ ،‬وهذا ما سيكون ويستمر‪ ،‬ما بقيت هذه المعادن البيضاء النقية‬
‫التي تشتد غيرتها على دعوتها‪ ،‬فتبادر إلى إنكار الفتنة على أهلها‪ ،‬وتتناوش‬
‫الستدراك من قريب‪ ،‬من حيث يؤشر لها المخضومون نقاط وجوده على‬
‫خارطة التجارب العملية لتاريخ العمل السلمي‪ ،‬القديم والحاضر‪.‬‬
‫فهذه الخارطة التي لخصت نتائج المسح الشامل لثار الخطط‬
‫المرحلية‪ ،‬وأوجزت الخبر اليقين المعلل لمصائر من التحق بالركب على مدار‬
‫‪ ()158‬كتاب الزهد للمام أحمد‪.289/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫السنين فثبت ونجح‪ ،‬أو غوى فانكبح‪ ،‬هي من أثمن ما يحوزه الداعية المتفقة‬
‫طالب الوعي‪ ،‬ومن أبرك العوامل التي تضاعف شدة يغرته‪ ،‬وتميزه عن‬
‫المسلم الفرد الذي يلتمس المصالح للسلم من خلل دائرته الضيقة وتجربته‬
‫المحدودة‪.‬‬
‫مجالس الساعة اليمانية‬
‫ولقد اقترنت إشارات الخطر الحمراء التي رسمتها التجربة على‬
‫الطريق النتجائي القائد إلى مفاوز البطالة بإشارات سلمة واضحات تبرز‬
‫أهمية المجلس والمعية والخطوات المشتركة إلى مناجم الخير‪.‬‬
‫علمات عتيدة وضعها الصحابة والتابعون على خارطة التجريب القيمة‪.‬‬
‫إجلس بنا نؤمن ساعة‪.‬‬ ‫•‬
‫تعال نؤمن ساعة‪.‬‬ ‫•‬
‫امشوا بنا نزدد إيماًنا‪.‬‬ ‫•‬
‫اجلسوا‪ ،‬حتى يلم من ل يعلم‪.‬‬ ‫•‬
‫آنست غلظة‪ ،‬فألن لي قلب‪.‬‬ ‫•‬
‫إلى مناجاة في المحراب‪.‬‬ ‫•‬
‫لفتات تطلب منك الدخول‪.‬‬
‫أو هي هتافات‪.‬‬
‫سمها كيفهما شئت‪ ،‬لكنها قاعدة في العمل التربوي غنية عن السم‪،‬‬
‫تفرض نفسها فرضا على أجيال السائرين في دروب تأليف الرواح‪ ،‬تذكرهم‬
‫بأن لزوم مجتمعنا الخاص‪ ،‬والعيش في أجواء الدعاة الجماعية يكفلن حلول‬
‫أكيدة للكثير من مشكلت العمل‪ ،‬ابتداء بالفتور الطارئ‪ ،‬وانتهاء بالفتن‪.‬‬
‫فالداعية سائح جوال‪ ،‬يشغف ارتياد الربوع الخالية حبا‪ ،‬لكنه يجب أن‬
‫يأوى إلى أجواء الخاء اليماني‪ ،‬وركنها الشديد‪ ،‬ليستروح قلبه‪ ،‬ويستشعر‬
‫السكينة في ظلل جماعية‪ ،‬كما تعود الطيار إلى وكناتها ومحط سربها مع‬
‫كل مغيب لتسكن إلى أشكالها‪.‬‬
‫لذلك يجب أن يسود الجماعة عرف بالغ الحساسية يستنكر التناجي‪،‬‬
‫ويتعاهد )مجالس الساعة اليمانية(‪ ،‬بالدامة والحياء‪ ،‬وتعميرها بالفوائد‬
‫عا من النس‬ ‫المناسبة لكل مستوى‪ ،‬بحيث يجد فيها القديم المتوغل نو ً‬
‫والسلوة يقارب ما يجده الناشيء المبتدئ‪.‬‬
‫لقد طاب منها الريح‬ ‫مجالسهم مثل الرياض أنيقة‬
‫واللون والطعم‬
‫وعلى مجالس الساعة اليمانية هذه تعول الخطة التربوية‪ ،‬وعلى‬
‫سمتها الجدي النظامي يجب أن نحافظ‪ ،‬وأن ل نسمع لذي الجتهاد الغريب أو‬
‫المخالف المنازع في الرئاسة باستغللها لمسارة ونجو وتثبيط‪.‬‬
‫هجر الكلم الرديء‬
‫وقد أرتنا اليام مجرد مثل هذا الكلم في ذي النجوى ل يقيد المخالف‬
‫عن السترسال في هواه ومحاولة الخلوة مع العاملين ليطلب نصرتهم له‪،‬‬
‫ولكن العنصر الفعال في إبطال النجوات وتضييق المجال عليها إنما هو‬
‫الداعية الثقة النبه‪ ،‬بأن يقوم بدور السكوت عن التكلم إلى غيره وعدم‬
‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬
‫إشاعة ما نوجي به‪ ،‬أل يعلق المعني المعيب في قلب ساذج‪ ،‬أو جديد لم يخبر‬
‫المور بعد‪...‬‬
‫وهي وصية سفيان الثوري في التحذير من رواية المعاني المبتدعة ولو‬
‫على سبيل الخبار إذا لم يعلمها أحد‪ ،‬إذ أرشد إلى وجوب كبتها وحصرها‬
‫فقال‪:‬‬
‫)من سمع بدعة فل يحكها لجلسائه‪ ،‬ل يلقيها في قلوبهم(‪.‬‬
‫والبدع بدع عما كما هي بدع اعتقاد‪ ،‬وكلم أهل الفتن يختلط بشيء‬
‫كثير من هذه البدع التي حذر منها الثوري‪ ،‬وأسلوبهم بحد ذاته بدعة غليظة‪.‬‬
‫فمن سمع أيام الفتن نوع تشكيك أو اتهام أو طعن يفوه به عاص‪،‬‬
‫وعلم أن غيره من الثقات البعيدين عن العصيان لم يسمعوا بهذا التشكيك‬
‫وأنهم في عافية منه‪ ،‬فليستره عنهم‪ ،‬فإنه ل يدري ما عسى أن يعلق بقلوب‬
‫بعضهم من هذا التشكيك بإغراء الشيطان‪ ،‬وليوصل الخبر إلى أميره فحسب‪،‬‬
‫أما إخوانه فيفتح لهم نافذة يستمتعون من خللها بالنظر إلى بزوغ فجر جديد‬
‫يبشر يقرب انتشار‪:‬‬
‫النور الخامس عشر‪ ،‬الذي يوقده‪:‬‬
‫علمك بأن الله ل يصلح عمل المفسدين‬
‫كما كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى أحد ولته وصية جامعة من‬
‫دون تطويل فقال‪:‬‬
‫)أما بعد‪ :‬فاعمل عمل رجل يعلم أن الله ل يصلح عمل المفسدين(‬
‫)‪.(159‬‬
‫وهي جملة واحدة موجزة جمعت الخير من أطرافه‪ ،‬ووضعتك أمام‬
‫حقيقة فاصلة‪.‬‬
‫فإذا كان أمر الله هو النافذ في هذه الحياة‪ ،‬وقد كتب الله على نفسه‬
‫أنه ل يصلح عمل المفسدين‪ ،‬ول يحب كل خوان أثيم‪ ،‬كان ذلك في الكتاب‬
‫مسطوًرا‪ ،‬فلم خدع النفس؟ ولم تمنيتها بانتصار مبني على أوليات ومقدمات‬
‫فاسدة بينة العوار‪ ،‬صاحبها أدرى الناس باعوجاجها؟‬
‫إن هذا الستشعار بحتمية قدر الله الذي وعد به‪ ،‬إنما هو نور ساطع‬
‫يحفف جرأة الجريء على مقارنة الفتتان إذا تذكر به حين يجالسه داعية فتنة‬
‫في ظلمة يسوغ له المشاركة فيما هو فيه‪ ،‬والمؤمن ل يزني ساعة يزني وهو‬
‫مؤمن‪ ،‬ول يسرق وهو مؤمن‪ ،‬وكذلك ينكث بيعة وهو مؤمن‪.‬‬
‫كما أنه قد يقف على باب الثم فيذكره مذكر بالله فيرجع‪ ،‬كما في‬
‫حديث البخاري عن المرأة التي أراد ابن عمها السوء معها فذكرته الله‪ ،‬فعف‬
‫بعدما أوشك وشارف‪ ،‬فوهبه الله بعد دهر استجابة منه لدعائه‪ ،‬ورفع الصخرة‬
‫التي سدت فتحة الكهف عليه‪.‬‬
‫وهكذا كهوف التخذيل والرجاف‪ ،‬قد يجد المرء نفسه حبيسا فيها على‬
‫غفلة من نفسه‪ ،‬فيدعو بدعاء عمار‪ :‬نعوذ بالله من الفتن‪ ،‬فتتدحرج صخرة‬
‫الوهام عن باب سجنه‪ ،‬ويتنفس الصعداء‪ ،‬ويعود إلى عرصات العمل‬
‫الفسيحة‪.‬‬

‫‪ ()159‬تاريخ الطبري ‪.6/567‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وهذا الباب من أبواب التقوى في الستسلم لقدر الله بلزوم أمر الله‬
‫ونهيه‪ ،‬ودللة ما يحبه الله وما يكرهه‪ ،‬جد مفيد في اتقاء الخلف خاصة‬
‫والعزوف عن التفكير بكيد وخديعة‪.‬‬
‫وضمانته العامة‪ :‬السراع إلى الصلح الذي أرشدك إلى سفيان بن‬
‫عيينة حين قال‪:‬‬
‫)‪(160‬‬
‫‪.‬‬ ‫)من أصلح ما بينه وبين الله‪ :‬أصلح الله ما بينه وبين الناس(‬
‫فصلح المرء مع الله‪ ،‬بحيث ل يكون مؤذنا بحرب منه‪ ،‬ول مكروها‬
‫عنده‪ :‬طريق لصلحه مع الناس وصلح الناس معه‪ ،‬في رحاب أخوية‪ ،‬بل‬
‫خلف‪ ،‬ول تطاول‪ ،‬ول تحديات‪.‬‬
‫كما أن صلحه هذا مع الله هو من باب ثان بداية توارد الخواطر‬
‫اليجابية على قلبه‪ ،‬وتزاحم الفكار الجدية فيه‪ ،‬التي تخرجه من سكون‬
‫الكسل‪ ،‬وإيثار الدعة‪ ،‬إلى طلب لذة التضحية وركوب المتاعب‪ ،‬فتتجدد له‬
‫حالة كان هارون الرشيد‪ ،‬الخليفة الحاج الغازي‪ ،‬على مثلها‪ ،‬فاستوقف جمالها‬
‫كلثوم بن عمرو العتابي‪ ،‬حفيد صاحب المعلقة سمية‪ ،‬فقال يمدحه‪:‬‬
‫مستنبط عزمات القلب من فكر‬
‫ما بينهن وبين الله‬
‫معمور‬
‫فعزمة القلب الخيرة بنت فكرة تستمد جرأتها من العمران الذي شيده‬
‫صاحبها بينه وبين الله‪.‬‬
‫عمران بمعاني التوحيد‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬والخبات إليه‪ ،‬والخوف منه‪،‬‬
‫ورجاء نيل رضوانه‪.‬‬
‫وعمران آخر لدور النصار الجدد‪ ،‬في صحراء جاهلية الكفر‪ ،‬أو صحراء‬
‫جاهلية المعاصي‪ ،‬بتربيته لهم‪ ،‬وإسكانه إياهم فيها ليوقدوا إذا طال على‬
‫القوافل مداها‪ ،‬فتستأنس بنارهم حينا‪ ،‬وتزول وحشتها‪ ،‬وتلبث سائرة في‬
‫صحبتها‪ ،‬حتى يبدو لها‪:‬‬
‫النور السادس عشر‪ ،‬الهادي إلى‪:‬‬
‫إدانة السوء الظاهر‬
‫فإن العمل الخاطئ ل يصح معه ادعاء الصلح‪ ،‬ول تسوغه النية‬
‫الحسنة‪ ،‬والضرر يزال ويتجنب ولو لم يقصد فاعله الساءة‪ ،‬وكل ناو فله ما‬
‫نوى‪.‬‬
‫فمن الدعاة أناس يريدون الخير للدعوة‪ ،‬لكنهم ورثوا سذاجة أصحاب‬
‫السفينة الذين قص علينا رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬خبرهم فقال‪،‬‬
‫كما في لفظ البخاري‪:‬‬
‫)مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة‪،‬‬
‫فصار بعضهم في أسفلها‪ ،‬وصار بعضهم في أعلها‪ ،‬فكان الذي بأسفلها‬
‫سا‪ ،‬فجعل ينقر أسفل‬ ‫يمرون بالماء على الذين في أعلها‪ ،‬فتأذوا به‪ ،‬فأخذ فأ ً‬

‫‪ ()160‬مجموع فتاوى ابن تيمية ‪.7/10‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫السفينة فأتوه فقالوا‪ :‬مالك؟ قال‪ :‬تأذيتم بي‪ ،‬ولبد من الماء!! فإن أخذوا‬
‫على يديه‪ :‬أنجوه ونجوا أنفسهم‪ ،‬وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم()‪.(161‬‬
‫وفي لفظ ابن المبارك أن النعمان بن بشير رضي الله عنه كان إذا أراد‬
‫سرد هذا الحديث يقول قبله‪:‬‬
‫)يا أيها الناس‪ :‬خذوا على أيدي سفهائكم(‪.‬‬
‫فإذا سرده عاد فقال‪:‬‬
‫)‪(162‬‬
‫‪.‬‬ ‫)خذوا على أيدي سفائهكم قبل أن تهلكوا(‬
‫ولقد صدق الصادق المصدوق ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬وصدق النعمان‪،‬‬
‫فكم من مخلص جاهل يسلك سبيل صاحب الفأس هذا في سفينة الدعوة؟‬
‫سا‪ ...‬وصاحبنا يحمل اللسان‪.‬‬ ‫ذاك حمل فأ ً‬
‫إنه يهدم ويشكك ويثبط ويفرق ويعصي‪ ،‬كل ذلك بدعاوى حسن النية‬
‫والنقد الذاتي‪.‬‬
‫إنه يجهل أن القانون على السفينة إنما هو قانون العاقبة دون غيرها‪،‬‬
‫فالحكم ل يكون على العمل بعد وقوعه‪ ،‬بل على الشرع فيه‪ ،‬بل توجيه النية‬
‫إليه‪ ،‬فل حرية هنا في عمل يفسد السفينة ا دامت ملججة في بحرها‪ ،‬سائرة‬
‫إلى غايتها‪.‬‬
‫إن كلمة )الخرق( ل تحمل في السفينة معناها الرضي‪ ،‬بل معناها‬
‫البحري‪ ،‬فهناك لفظة )أصغر خرق( ليس لها إل معنى )أوسع قبر(‪ ...‬في قاع‬
‫المحيط المظلم‪ ،‬لو ترك هذا الخرق الصغير وشأنه‪.‬‬
‫وكذا حسن النية‪ ،‬إنه ل يحمل عندنا في علقاتنا معناه الخروي الذي‬
‫يحاسب الله بموجبه عباده‪ ،‬فالفساد واحد حتى وإن كان بنية حسنة‪.‬‬
‫أفما رأيت حالة هذه الطائفة التي في )السفل( تعمل لرحمة من هم‬
‫في )العلى(؟‬
‫إنها قصة القواعد الساذجة مع القيادات العاملة‪:‬‬
‫لكنها باردة‪.‬‬ ‫عاطفة لتهبة‪..‬‬
‫ومشاعر صادقة‪ ..‬لكنها كاذبة‪.‬‬
‫ورحمة خالصة‪ ..‬لكنها مهلكة‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(163‬‬
‫إنهم المصلحون إصلحا مخروًقا‬
‫إمامة الدعوة كإمامة الصلة‬
‫إن تكوين جبهات المعارضة ل تعرفها أخلق السلم‪ ،‬ول يستنزل‬
‫الشيطان بهذا الذريعة إل صاحب الفقه الضعيف‪.‬‬
‫ونهج إشاعة النقد نهج باطل‪ ،‬ل أصل له في كتاب الله ول سنة رسوله‪،‬‬
‫ول قاله أحد من سلف المة ول أئمتها‪ ،‬ول سلكه داعية ذكر عنه الثبات على‬
‫العمل بعد إتيانه‪.‬‬
‫إنه طريق إلى الفرقة والتباغض‪.‬‬
‫وإن العمل السلمي قائم على معني عبادي نحتسب فيه الجر عند‬
‫الله كقيام المصلين مع إمامهم في الصلة يحتسبون فيه الجر ويؤدون به‬
‫‪ ()161‬صحيح البخاري ‪.3/225‬‬
‫‪ ()162‬كتاب الزهد لبن المبارك‪.475/‬‬
‫‪ ()163‬اقتباسات نم وحي القلم ‪.3/7‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫عبادة مفروضة‪ ،‬يحرصون على إجادة المام لمامته ويعينونه على ذلك‪ ،‬فإذا‬
‫أخطأ نبهوه برفق يصلح ما أخطأ فيه‪ ،‬ل تشهير معه‪.‬‬
‫وقيادة الدعوات ليست كراسي حكم يتنازع عليها كما تتنازع الحزاب‬
‫الرضية‪ ،‬ولكنها مسؤولية ضخمة‪ ،‬وإمامة في دين‪ ،‬كالمامة في الصلة‪.‬‬
‫وللشيطان مداخل كثيرة جد ً ودقيقة للغاية‪ ،‬قد يقع فيها الداعية‪،‬‬
‫فيختلط عليه التناصح الصافي مع التنابذ العدائي‪ ،‬والحرص على الدعوة مع‬
‫الحرص على أهواء النفس‪ ،‬إلى غير ذلك من الختلطات التي يعرفها من‬
‫أطال التأمل في دقائق النفس وخلجات الفئدة‪ ،‬والعاصم من كل ذلك‪:‬‬
‫اللتزام بقواعد العمل الجماعي‪ ،‬وأن يكون النصح للمنصوح في السر أحب‬
‫إليه في العلن‪ ،‬وأن تكون استقامة المسؤول أحب إليه من وقوعه في‬
‫الخطأ‪ ،‬وأن يود لو أن غير كفاه مؤونة النصح‪ ،‬فهذه ونحوها من علمات نجاة‬
‫الداعية من التورط في حبائل الشيطان‪.‬‬
‫معاني أدركها السلف‪ ،‬فإنه لما روي قول شداد بن أوس رضي الله‬
‫عنه‪) :‬يا بقايا العرب‪ :‬إن أخوف ما أخاف عليكم‪ :‬الرياء‪ ،‬والشهوة الخفية(‪.‬‬
‫)قيل لبي داود السجستاني‪ :‬ما الشهوة الخفية؟‪ :‬قال‪ :‬حب الرياسة(‪.‬‬
‫)فهي خفية تخفي عن الناس‪ ،‬وكثيًرا ما تخفى على صاحبها( )‪.(164‬‬
‫دا وتقربا إلى الله في ظنه‪ ،‬ول يدري أن‬ ‫فأحدهم ينازع ويخاصم تعب ً‬
‫حسن مقصده ل يغير من حقيقة التنازع شيئا‪.‬‬
‫سيماء السوء واضحة‬
‫فإذا كانت الجماعة مطالبة بإزالة الضرر الذي يقع من قبل المخلصين‬
‫أحياًنا على سذاجة‪ ،‬أو بشهوة خفية‪ ،‬فمن باب آكد أن تسارع إلى إزالة ضر‬
‫من تسوقهم الشهوة المفضوحة إلى اتباع غير سبيل المؤمنين‪.‬‬
‫ول تقل‪ :‬كيف نميز بين الطائفتين؟ فإن الفراسة اليمانية تتكفل بذلك‪،‬‬
‫كما تكفلت فراسة المحدثين بفضح الحديث الموضوع أحياًنا‪ ،‬فإنك تجد‬
‫عندهم مثل قول الحاكم النيسابوري في كثير بن عبد الله الناجي‪) :‬زعم أنه‬
‫يسمع من أنس‪ ،‬وروى عنه أحاديث يشهد القلب أنها موضوعة( )‪.(165‬‬
‫فالداعية ل يترك حذره إذا لم ير الدليل الواضح وضوح الشمس‪ ،‬بل‬
‫تكفيه شهادة قلبه للحتياط في كثير من المور إذا تجنب الهوى‪.‬‬
‫*فالقلب راء ما ل يرى البصر*‬
‫وهذا من المعاني التي تواطأ الناس على تأكيدها‪ ،‬فكان ابن تيمية‬
‫يقول‪) :‬أنه ما أسر أحد سريرة إل أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات‬
‫لسانه( )‪.(166‬‬
‫وفي الشعر القديم‪:‬‬
‫في وجهه شاهد من الخبر‬ ‫ل تسأل المرء عن خلئقه‬
‫وفيه‪:‬‬
‫*إن الصدور يؤدي غيبها النظر*‬

‫‪ ()164‬مجموع فتاوى ابن تيمية ‪.16/346‬‬


‫‪ ()165‬تهذيب التهذيب ‪.8/418‬‬
‫‪ ()166‬مجموع فتاوى ابن تيمية ‪.18/272‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وكان الشعر الحديث أجود في تطرقه لهذا المعنى‪ ،‬فقال عبد الوهاب‬
‫عزام‪:‬‬
‫إن يكن في الكلم صدق وكذب‬
‫ولدى القلب‬
‫سره المكنون‬
‫فعلي الصدق في العيون دليل‬
‫وعلى الوجه‬
‫)‪(167‬‬
‫شاهد ل يمين‬
‫أي نه شاهد ل يكذب‪.‬‬
‫هذا من مجرد النظر إلى الوجه‪ ،‬فإن انضاف إلى ذلك سماع كلمه‪:‬‬
‫كان الستدلل أقوى‪ ،‬كما قال الله تعالى‪:‬‬
‫)ولتعرفنهم في لحن القول(‬
‫ضا‪ ،‬فكم من سكوت يعرف‬ ‫بل الخبير يعرفهم في لحن السكوت أي ً‬
‫المقابل فيه انطواءه على الغضب‪ ،‬وتربص الفرصة للنتقام والكيد‪.‬‬
‫ما‪ ،‬وإن حلف‬‫فإذا انضاف إلى الكلم فعل‪ ،‬فإن ما في القلب يتضح تما ً‬
‫لك صاحبه ونفي‪.‬‬
‫ويخبرني عن غائب المرء فعله‬
‫كفي الفعل عما‬
‫غيب المرء مخبرا‬
‫وهبه دلس علينا وخدع‪ ،‬أفعلي الله تمر الخداعات؟‬
‫وكل والذي برأ نسمته‪.‬‬
‫كل مستخف بسر فمن الله بمرأى‬
‫من الشياء يخفي‬ ‫ل ترى شيئا على الله‬
‫فالله رقيب حسيب‪ ،‬يعلم خائنة العين‪ ،‬وما تخفي الصدور‪ ،‬والعاقل‬
‫من اتفاه‪ ،‬وترك شهواته وهواه‪.‬‬
‫نسميه تركا‪ ،‬وهو أفضل الجهاد‪ ،‬فإن رسول الله ‪-‬صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ -‬قال‪) :‬أفضل الجهاد‪ :‬أن يجاهد الرجل نفسه وهواه( )‪.(168‬‬
‫ول تستغربن ذلك‪ ،‬فإن قتال الكفر ل ينفر له عبد رياسة أو درهم‬
‫ودينار‪.‬‬

‫‪()167‬ديوان المثاني‪.30 /‬‬


‫‪ ()168‬صحيح الجامع الصغير لللباني ‪.1/361‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫]‪ [17‬مهاجرون يأبون التعرب‬
‫كان من خبر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه إزاء علم الشر ما‬
‫فا‪ ،‬وعلمنا مقدار حرصه على تمييز الفتن‪ ،‬ومقدار تطلعه لنيل أجر‬ ‫قصصناه آن ً‬
‫النذارة لقومه‪ ،‬والتيقظ لفضح اقترابها المستتر بأنواع التدليس‪ ،‬والمتخفي‬
‫بظلم الشبه‪.‬‬
‫والذي يبدو للمتأمل في تواريخ الفتن وتسلسلها أن )ظلم الشبهات‬
‫هذا يكاد أن يكون هو الظرف المثالي الذي تفضل اختياره لبدء تغريرها‬
‫بالمؤمنين‪ ،‬إذ ل يزال ظلم الحرام البين دامسا مخيفا يرهب أقل الناس إيماًنا‬
‫دا‪ ،‬وهو بالغبش أشبه منه بالحلكة‪،‬‬ ‫أن يلج فيه‪ ،‬ولكن ظلم الشبهة أقل أسودا ً‬
‫وربما تخللته ومضة‪ ،‬وخففت منه بقية خيط أبيض‪ ،‬فيتوهم المؤمن‪ ،‬فيلغ‪،‬‬
‫وفي ظنه ل خلبة ثم‪ ،‬حتى يستغلق الظلم من حوله فيؤرب ناجيا بمشاقه‬
‫وقلب راجف واجف‪ ،‬أو يرهب الوبة بعد إذ قطع الظلم عليه طريق رجوعه‬
‫واستوى ما هو قدامه وخلفه‪ ،‬ول يبدع أن يعتاد وحشة الظلم‪ ،‬ويألفها‪ ،‬ويترك‬
‫التفكير بعودة‪.‬‬
‫مثل صريع الغراء في ذلك مثل التاجر الماشي في سفر ومعه راس‬
‫ماله‪ ،‬فإن كان نبها‪ ،‬وقارب مصًرا آهل حين الغروب‪ :‬بات فيه واستأنف مع‬
‫وضح النهار‪ ،‬وإن لم يكن كذلك‪ ،‬وكان محروما حاسة الحتياط والحذر‪ ،‬فإن‬
‫الشفق يشدهه‪ ،‬ول يفطن لما بعده من عتمة‪ ،‬فيظل سائًرا‪ ،‬حتى يتوسط‬
‫القفر‪ ،‬ويصعب عليه التقدم أو الرجوع‪ ،‬فإذا كان معه لص في خطوه الول‬
‫يهيج غرامة بالشفق‪ ،‬ويأتيه بأبلغ أقوال الدباء في جماله‪ ،‬ويرغبه بنيله قبل‬
‫اعتداء الفق عليه‪ :‬فإن اللص ينفرد به بعد‪ ،‬ويسلبه ثروته‪.‬‬
‫سراج وقوده التوبة‬
‫ولذلك انتهت دراسة حذيفة رضي الله عنه لمثل هذه التغريرات إلى‬
‫الجزم بأن هناك نورا إيمانيا في قلب المؤمن ينير له طريقه في الظلمات‬
‫التي استدرج إليها‪ ،‬تفشل معه خطط اللصوص هؤلء‪ ،‬ويستطيع الرجوع على‬
‫ضوئه‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫جا يزهر()‪.(169‬‬‫)إن في قلب المؤمن سرا ً‬
‫فهو يزهر كما يقول‪ ،‬أي يتألق ويسطع سناه‪.‬‬
‫واليمان يزيد وينقص‪ ،‬فربما خفت السراج في سضضاعة جضضزر‪ ،‬فيسضضتدرج‬
‫المؤمن‪ ،‬لكنه سرعان ما يعود إلى الزهار مع المد اليمضضاني‪ ،‬طالمضضا أن أصضضل‬
‫اليمان أرجح فيه من أصول الشهوات‪ ،‬فتكون النجاة‪.‬‬
‫والعرف اليمان يحفظ لكل معصية توبة نسبية خاصة‪ ،‬ما زال‬
‫المؤمنون يستدركون بهن التفريط‪ ،‬ولكن أكثرهم ما زال يجهل التوبة من‬
‫طلب الرئاسة وأمثالها من مقدمات الفتن‪ ،‬ففطن ابن تيمية لهذه الغفلة عن‬
‫هذه التوبة‪ ،‬وطفق يذكرنا بأن‪:‬‬
‫)باب التوبة مفتوح‪ ،‬فإن الرجل قد يسأل المارة فيوكل إليها‪ ،‬ثم يندم‬
‫فيتوب من سؤاله‪ ،‬فيتوب الله عليه ويعينه‪:‬‬
‫إما على إقامة الواجب‪.‬‬
‫)‪(170‬‬
‫‪.‬‬ ‫وإما على الخلص منها(‬
‫وتوبة الله على طالب الرياسة بإعانته علضضى القيضضام بواجبهضضا أثمضضن مضضن‬
‫الخلص منها ول شك‪ ،‬لتضمنها معنى الستر وأمن النفضضضاح‪ ،‬وإتاحتهضضا للتضضائب‬
‫مجال الكتيال من أجر المامة الذي ل يكاد يعدله أجر‪.‬‬
‫فهذا صحاب السراج‪ ،‬إن لم ينر له نور عصمة‪ :‬أنار له نور توبة‪.‬‬
‫أما الذي اطفأت ريح الشهوات سراجه‪ ،‬ففي واد آخر‪ ،‬وشأن مختلف‪،‬‬
‫واضطرب متعب‪ ،‬حتى أن ابن تيمية انكسر قلبه عليه لما رآه في تقلبه‪:‬‬
‫)يجتذبه الشرف والرئاسة‪ ،‬فترضيه الكلمة‪ ،‬وتغضبه الكلمة‪ ،‬ويستعبده‬
‫من يثني عليه ولو بالباطل‪ ،‬ويعادي من يذمه ولو بالحق( )‪.(171‬‬
‫وهذه ترديات تثير الشفقة دون ريب‪ ،‬وتدعونا إلى تعميم الحتياط منها‪،‬‬
‫بزيادة إيقاد أنضضوار الفطنضضة فضضي قلضضوب المضضؤمنين‪ ،‬وتنضضاوش قبضضس ذكضضي يجضضد‬
‫الدعاة عليه هدى‪ ،‬ويسعى جماله بين أيديهم يدعوه الفقه باسم‪:‬‬
‫النور السابع عشر‪ ،‬ويزين‪:‬‬
‫اتقاء الغدر‬
‫وهو نور يوقده وضوح الشارة الشرعية والعرفية لقبح إثم الغدر بالبيعة‬
‫الرضائية‪.‬‬
‫فعن عبد الله بن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهما قال‪ :‬قال النضضبي‬
‫‪-‬صلي الله عليه وسلم‪:-‬‬
‫)‪(172‬‬
‫‪.‬‬ ‫)لكل غادر لواء ينصب يوم القيامة يعرف به(‬
‫)‪(173‬‬
‫‪ ،‬قاطعًضضا‬ ‫وقد فسر ابن عمر هذا الحديث بضضأنه الغضضدر ببيعضضة المضضراء‬
‫الطريق على من يريد أن يتأوله‪:‬‬
‫وكان يقال‪:‬‬
‫ثلث من كن فيه‪ :‬كن عليه‪:‬‬

‫مجموع فتاوى ابن تيمية ‪.10/578/216 ،20/45‬‬ ‫(‬ ‫‪)169‬‬


‫المصدر السابق‪.‬‬ ‫(‬ ‫‪)170‬‬
‫المصدر السابق‪.‬‬ ‫(‬ ‫‪)171‬‬
‫صحيح البخاري ‪.4/127‬‬ ‫(‬ ‫‪)172‬‬
‫صحيح البخاري ‪.9/72‬‬ ‫(‬ ‫‪)173‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫كم(‪.‬‬‫س ُ‬‫ف ِ‬ ‫م عََلى أ َن ْ ُ‬ ‫ما ب َغْي ُك ُ ْ‬‫س إ ِن ّ َ‬ ‫ُ‬ ‫البغي‪ :‬لقول الله تعالى‪َ) :‬يا أ َي َّها الّنا‬
‫َ‬
‫ه(‪.‬‬ ‫ئ إ ِل ّ ب ِأهْل ِ ِ‬ ‫سي ّ ُ‬‫مك ُْر ال ّ‬ ‫حيقُ ال ْ َ‬ ‫والمكر‪ :‬لقول الله تعالى‪) :‬ل َ ي َ ِ‬
‫ه(‪.‬‬‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ث عََلى ن َ ْ‬ ‫ما َينك ُ ُ‬ ‫ث فَإ ِن ّ َ‬ ‫من ن ّك َ َ‬ ‫والنكث‪ :‬لقوله عز وجل‪) :‬فَ َ‬
‫وهذه البيعة المعروفة الن في الدعوة‪ ،‬والتي توجب حقوقضضا لمضضن بويضضع‬
‫وبايع بالتبادل‪ ،‬وقفا لشروط تفصيلية‪ ،‬إنما هي البيعات التي يجضضب الوفضضاء بهضضا‬
‫عا‪ ،‬إذ المؤمنون عند شروطهم‪ ،‬وقد ألضضزم الضضدعاة أنفسضضهم بهضضا عضضن رضضضا‬ ‫شر ً‬
‫كامل واختيار‪ ،‬وقبلوا الحد من بعضضض حريتهضضم فضضي الجتهضضاد تمكينضضا لممارسضضة‬
‫عمل جماعي ل تتحقق آمال الدعاة فضضي اسضضتئناف الحيضضاة السضضلمية وتحقيضضق‬
‫مصالح المة إل بواسطته‪ ،‬ول يستمر إل بمثل هذا الحضضد مضضن حريضضة المشضضارك‬
‫فيه وتفويض قادته صلحية المر ومنحهم الطاعضضة‪ ،‬وكلم ابضضن تيميضضة فضضي أول‬
‫الجزء التاسع والعشرين من مجموع فتاويه عن القواعد الفقهية العامضضة الضضتي‬
‫تحكم شروط المسلمين في عقودهم وبيوعهم ليس فيه ما يمنضضع مضضن العمضضل‬
‫بهذه الشروط الرضائية التي يوجبها الداعيضة علىنفسضه بكامضضل اختيضاره طمعضضا‬
‫في أجر العمل الجماعي وثوابه‪ ،‬ورغبة فيا لوصول إلى استدراك سريع لحضضال‬
‫المة يضضبرد لضضذعات قلبضضه اليوميضضة الضضتي تسضضببها المآسضضي المتكضضررة‪ ،‬والفجضضائع‬
‫المؤلمة‪ ،‬ابتداء بضياع فلسضضطين‪ ،‬ومجضضازر زنجبضضار وقضضبرص وأرتريضضا والفلضضبين‪،‬‬
‫ومروًرا بصراع القوميات الدموي فضي البنغضضال وديضار الكضضراد‪ ،‬وانتهضضاء بخطضط‬
‫الماسونية والتنصير وتمكين المماليك‪.‬‬
‫والحقيقة أن ناكث البيعة يوقع نفسه فضضي جملضضة أمضضور رديئة حضضتى ولضضو‬
‫اعتزل ولم يؤذ جماعة العاملين‪:‬‬
‫• فهو واقع في إثم عضضدم الوفضضاء بالعهضضد‪ ،‬وعلضضى مقربضضة مضن‬
‫خصله من النفاق بغيضة‪ ،‬فإن المنافق إذا عاهد غدر‪ ،‬وأقل ما‬
‫يقال في هذا العهد الذي أعطاه أنه آكد من النذر الذي ينضضذره‬
‫على نفسه‪ ،‬والنذرواجب الوفاء‪ ،‬يشغل الذمة بمجرد النطق‪.‬‬
‫• وهو واقع أيضا في أثم النكوث على العقب‪ ،‬المذموم فضضي‬
‫القرآن‪ ،‬فليضضس هضضو مجضضرد وقضضوف سضضلبي ل يتقضضدم بوفضضاء ول‬
‫ضضضا يسضضتهلك مضضا أدخضضره‬ ‫يزداد من الخيرات‪ ،‬وإنما هو رجوع أي ً‬
‫من حسنات‪.‬‬
‫• كما أنه قضضد دخضضل فضي سضنة نافلضضة تطضضوع بهضا إن لضم نقضضل‬
‫بوجوب العمل الجماعي‪ ،‬والمتطوع بسنة عليه أن يتمهضضا كمضضا‬
‫يقول جمهور الفقهاء‪.‬‬
‫• ثم أن الناكث يقع رابعا في إثم انتصابه قدوة سضضيئة لغيضضره‬
‫جا بسابقته‪.‬‬ ‫يشجع من بعده على تقليده‪ ،‬وتسويغ النكث احتا ً‬
‫نطيع الله في العاصي‬
‫ومن هنا كانت عقوبة الناكث بليغة فضضي العضضرف العملضضي‪ ،‬ووجضضب علضضى‬
‫دا‪ ،‬بل يجردونه مما هو فيه من العمل حضضتى‬ ‫الدعاة أن ل يأتمنوا ناكثا نقض عه ً‬
‫يحدث لنفسه توبةتصدقها استقامة دهر بعد إعلنها‪.‬‬
‫لسنا نبتدع ذلك‪ ،‬وإنما هي قاعدة وضعها التضضابعي الكضضوفي سضضليمان بضضن‬
‫مهران العمش‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫)أعظم الخيانة‪ :‬أداء المانة إلى الخائنين(‪.‬‬
‫فالمشاركة في العمل شرف وأمانة ل تنبغي لغير ملتزم‪ ،‬فضل عضضن أن‬
‫يكون رأسا ووجها‪ ،‬ومنعه هاهنا باب آخر من أبواب التقضضوى دلنضضا عليضضه الزاهضضد‬
‫عمر بن ذر رحمه الله فقال‪:‬‬
‫)إنا ل نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه(‪.‬‬
‫فمن عصى الله فينا‪ ،‬ينقض عهده معنا‪ ،‬وإطلق لسانه فينا‪ ،‬نكافئه بضضأن‬
‫نطيع الله فيه ونصنفه في الخالفين‪.‬‬
‫أم الضضذين يصضدقون الوعضد‪ ،‬ويخطضضون خطضضو الصضعود‪ ،‬فيحتلضون القلضضب‬
‫احتلل‪.‬‬
‫وأؤثرهم بالود من بين‬ ‫أولئك إخواني الذين أحبهم‬
‫إخواني‬
‫حبيب إلى إخوانه غير‬ ‫وما منهم إل كريم مهذب‬
‫خكوان‬
‫ومكافأتهم أن نأخضضذ بأيضضديهم‪ ،‬لنمضضضى سضضوية ومعًضضا فضضي طريضضق النضضوار‬
‫اللحب‪ ،‬ونمر بهم على‪:‬‬
‫النور الثامن عشر‪ ،‬لينبهم إلى‪:‬‬
‫خطأ الحتجاج بزلت السلف‬
‫بل نهدرها هدًرا‪ ،‬فإن العصمة لم تكتب لهم وإن كانوا نجبضضاء‪ ،‬فضضإن ممضضا‬
‫أدخل الفساد على الخلق في مشاهدات ذي النون المصري الزاهد إنهم‪:‬‬
‫)‪(174‬‬
‫‪.‬‬ ‫)جعلوا قليل زلت السلف حجة أنفسهم‪ ،‬ودفنوا كثير مناقبهم(‬
‫وصدق والله‪ ،‬إذ رأينا ما رأى‪ ،‬كأن سضضمت النضضاكثين علضضى مضضدار التاريضضخ‬
‫واحد متشابه‪ ،‬وراقبنا فتنة جادل المفتتن فيها أميره‪ ،‬ورد عتبة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أنت لست أفضل من عثمان رضي الله عنه حتى تحرم الخضضروج عليضضك‪،‬‬
‫ول أنا وصحبي أفضل من فلن وفلن ممن خرج على عثمان حضضتى نتنضزه عضن‬
‫فعل فعلوه‪.‬‬
‫وهذا لعمرو الله هو الفقه العوج العرج‪ ،‬فإن تلك أمة قد خلت لها مضضا‬
‫كسبت‪ ،‬ولنا ما نكسب‪ ،‬ول نسأل عما كانوا يعملون‪ ،‬وهذا المجادل لم يفطضضن‬
‫إلى أن الخطأ ل يصلح أن يقتدى به‪ ،‬وأن الشر ل يقلد‪ ،‬وأن جمهور المهاجرين‬
‫والنصار لبثوا في ساعة العسرة على الطاعة والولء لعثمان‪ ،‬لكنه منعهم من‬
‫الدفاع عنه‪.‬‬
‫ولمثل هذا اشترطوا الضضورع للفقيضضه‪ ،‬كضضي ريضضه نضضور ورعضضه عضضوار الحجضضة‬
‫الكاذبة الساترة لخطلها‪ ،‬وشضضبهوا نمضضوذج الفقيضضه الفطضن بالتضضابعي محمضضد بضضن‬
‫سيرين‪ ،‬وذلك حين جزم مورق العجلي أنه لم ير‪:‬‬
‫)‪(175‬‬
‫‪.‬‬ ‫)رجل أفقه في ورعه‪ ،‬ول أورع في فقه‪ ،‬من محمد بن سيرين(‬
‫فالورع لبد له من فقه يعصم صاحبه من البتداع ومجانبضضة السضضنة‪ ،‬كمضضا‬
‫أن الفقه لبد له من ورع يبعد المتفقه عن الهوى في الجتهاد أو الوقضضوع فضضي‬
‫تغرير الزلة‪.‬‬

‫‪ ( )174‬الغنية لعبد القادر الكيلني ‪.2/184‬‬


‫‪ ( )175‬تهذيب التهذيب ‪.9/215‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫فأفعال الرجال معروفة‪ ،‬منها المنتصبة انتصاب المنار‪ ،‬تدعو المشمرين‬
‫لقتداء‪ ،‬فيعرفونها‪ ،‬ومنها المائلة العوجاء‪.‬‬
‫وذو الصدق ل يرتاب‪ ،‬والعدل قائم‬
‫على طرقات الحق‪ ،‬والشر أعوج‬
‫فأنظر‪ ،‬إن كان ثمة توسع في التأويل‪ ،‬وإكثار من الغرائب‪ ،‬فضضإن الفقضضه‬
‫حا‪ ،‬وإن كان هناك الذي تعلمه من صحيحيك‪ ،‬وفكرة تراها‬ ‫يوشك أن يولد كسي ً‬
‫ترتقي مدراجك‪ ،‬وتتفيا ظللك‪ ،‬فإنه فجر جديد يبشر ببزوغ‪:‬‬
‫النور التاسع عشر‪ :‬الحاث على‪:‬‬
‫العتبار باستكبار الشرع لتعرب المهاجر‬
‫فتكون لنا عبرة وموعظة بما أخرجه البخاري في صحيحه عضضن التضضابعي‬
‫يزيد بن أبي عبيد أن سلمة بن الكوع رضي الله عنه دخل مسجد الكوفة آتيضضا‬
‫من مسكنه في البادية‪ ،‬فقال له الحجاج بن يوسف الثقفي‪:‬‬
‫)يا أبن الكوع‪ :‬ارتددت على عقبيك؟ تعربت؟‬
‫قال‪ :‬ل‪ ،‬ولكن رسول الله ‪-‬صلي الله عليه وسلم‪ -‬أذن لضضي فضضي البضضدو(‬
‫)‪.(176‬‬
‫والحجاح يشير هنا إلى حكم شرعي صادق فيه‪ ،‬فإن رسول الله ‪-‬صضضلي‬
‫الله عليه وسلم‪ -‬نهى عن رجوع المهاجر إلى البادية والصحراء وعيشه عيشضضة‬
‫العراب‪ ،‬ولذلك لم ينكر عليه سلمة بن الكوع قضضوله هضضذا‪ ،‬وإنمضضا بيضضن لضضه أنضضه‬
‫استأذن رسول الله ‪-‬صلي الله عليه وسلم‪ -‬باستثنائه من ذلك والضضترخيص لضضه‪،‬‬
‫فأذن له‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر‪:‬‬
‫)إن رسول الله ‪-‬صلي الله عليه وسلم‪ -‬عد من جملضضة أصضضحاب الكبضضائر‬
‫من رجع بعد هجرته أعرابًيا(ز‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫)وقال ابن الثيضضر فضي النهايضضة‪ :‬كضضل مضن رجضضع بعضضد هجرتضضه أعرابي ًضضا إلضضى‬
‫موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد( )‪.(177‬‬
‫ضا ما أخرجه عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد‬ ‫ويشهد لهذا الحكم أي ً‬
‫عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف‪ ،‬وهو أحضضد فقهضضاء التضضابعين‪ ،‬أن علضضي‬
‫بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقول‪:‬‬
‫)‪(178‬‬
‫‪.‬‬ ‫)رجعة المهاجر على عقبيه من الكبائر(‬
‫ضا ما أخرجه البخاري في الدب المفرد بسند علضضى شضضرط‬ ‫ويشهد له أي ً‬
‫صحيحه سوى رجل ثقة اشترطوا لتصحيح حديثه وجود شضضاهد متضضابع لضضه‪ ،‬وقضضد‬
‫شهد له من ذكرنا‪ ،‬أن أبا هريرة رضي الله عنه عدد الكبائر فذكر منهن‪:‬‬
‫)العرابية بعد الهجرة( )‪.(179‬‬
‫وصرح الفقيه العلئي من الشافعية بأنها كبيرة)‪.(180‬‬

‫‪ ( )176‬صحيح البخاري ‪.9/66‬‬


‫‪ ( )177‬فتح طبعة بولق ‪.13/34‬‬
‫‪ ( )178‬كتاب الزهد لبن المبارك‪.251/‬‬
‫‪( )179‬‬
‫‪( )180‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وفي سنن سعيد بن منصور‪ ،‬بسند صحيح لكنه مرسل‪ ،‬أن النبي ‪-‬صضضلي‬
‫الله عليه وسلم‪ -‬نهى‪) :‬أن يتزوج العرابي المهضضاجرة يخرجهضضا إلضضى العضضراب(‬
‫)‪.(181‬‬
‫فهذه الروايات تتضافر على تصضضحيح حكضضم النهضضي عضضن تعضضرب المهضضاجر‬
‫وسكناه البادية‪ ،‬منعزل عن مجتمع الجهاد والعمل‪.‬‬
‫ول شضضك أن حكضضم الضضردة أو اعتبضضار التعضضرب كضضبيرة حكضضم خضضاص بجيضضل‬
‫المهاجرين ذاك‪ ،‬ولكن القلب يدرك أن النهي ما كان إل ليسضضتمر المهضضاجرون‪،‬‬
‫من قريش وغيرها‪ ،‬في العمل الجماعي والفتوح وتعليم التابعين وإدارة الدولة‬
‫المتوسعة‪.‬‬
‫ومن له تأمل في حال المة اليوم يرى تجمع الدعاة الحضضالي‪ ،‬وهجرتهضضم‬
‫من التسيب والتفرد والضضضياع فضضي خضضضم الحيضضاة الجاهليضضة الحاضضضرة إلضضى دار‬
‫الدعوة والعمل والنتظام‪ ،‬أشبه ما يكون بتلك الهجرة الولى‪.‬‬
‫فمن خرج عن الجماعة‪ ،‬ورضي بأن يكون سائبا‪ ،‬فقد أتى إلضضى ركضضن بل‬
‫قواعد‪ ،‬ف إن رسول الله ‪-‬صلي الله عليه وسلم‪ -‬يقول‪:‬‬
‫) مضضن أراد منكضضم بحبحضضة الجنضضة فليلضضزم الجماعضضة‪ ،‬فضضإن الشضضيطان مضضع‬
‫الواحد‪،‬وهو من الثنين أبعد( )‪.(182‬‬
‫وإذا كان رسول الله ‪-‬صلي الله عليه وسلم‪ -‬قد أذن لسلمة رضي اللضضه‬
‫عنه بالتعرب والرجوع إلضى البضداوة فمضن ذا الضذين يضأذن اليضوم لهضؤلء الضذين‬
‫يخلعون الطاعة وعافون الجماعة؟‬
‫ل أحد والله‪ ،‬ولعلها كبيرة كتلك الكبيرة‪.‬‬
‫فواقع السلم ل يأذن‪.‬‬
‫والفقه ل يأذن‪.‬‬
‫والقلب الحي ل يأذن‪.‬‬
‫والمروءة ل تأذن‪.‬‬
‫ولقد هاجرتم أيها الدعاة إلى مدينة الدعوة‪ ،‬فاحذروا أن يفسد مضضا أنتضضم‬
‫فيه غضب أو هو أو حب رياسة‪ ،‬أو طاعة زوجة‪ ،‬أو حرص على مال‪.‬‬
‫أل أنها هجرتكم فاحفظوها‪.‬‬
‫زادكم الله ثباًتا‪.‬‬
‫وإنما عهدنا بكم أنكم‪...‬‬
‫مهاجرون تأبون البداوة‪...‬‬
‫]‪ [18‬الصادق الكذوب‬
‫ما برحت اليام تؤكد أن ضخامة حجم معطيات التنظيضضم الحركضضي الضضتي‬
‫جنتها الدعوة السلمية الحديثة هي أكبر مما صضضورته تخمينضضات رعيضضل الضضدعاة‬
‫الول‪.‬‬
‫عرف ذاك الرعيل قابلية التنظيم الذي هضضم بصضضدد إنشضضائه علضضى تجميضضع‬
‫الجهود ونقل العمل من أطواره العفوية وارتباطه بردود الفعل السضضاذجة إلضضى‬
‫تخطيط يوضح تفاضل لحاجات ويكشف المصلحة الكامنة في تجاوز المفضول‬

‫‪( )181‬‬
‫‪( )182‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫منها في سبيل إسراع في الوصول إلى هدف أهم‪ .‬ولم يكن ما سببته المحضضن‬
‫المتلحقة من تأخر في الوصول إلى الغاية النهائية ليثلم صضضوًرا متعضضددة لكضضثر‬
‫من نجاح حققته الدعوة في الوصول إلى أهداف مرحلية بارزة‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن هذا النتقال إلى النتظام الحركي‪ ،‬شأنه شأن كضضل خيضضر‪،‬‬
‫قد جاء بفوائد أخرى ثمينة لعلها لم تخطر على بال بعض الرواد الذين بدأوه‪.‬‬
‫مصفاة الرجال‬
‫وأجلى اتضاح حاضر للفوائد التي لم تكن مرتقبة أول مرة‪ :‬يظهضضر فيمضضا‬
‫قام به العمضضل الحركضي مضن اسضضتخلص الصضضالحين فحسضضب مضن بيضن جمهضضرة‬
‫المتصدين للنشاطات السلمية‪.‬‬
‫المتصدون كثرة كثيرة‪ ،‬ولكن مراتب نياتهم وهممهضضم ووعيهضضم متعضضددة‪،‬‬
‫حتى إن بعضهم لينزل إلى مستوى هابط يولد الضضضرر‪ ،‬مضضن بيضضن مضضدخول فضضي‬
‫نيته له إلى المنفعة الشخصية قدم ممدودة‪ ،‬وبادر في همته يتصدر في وقضضت‬
‫احتداد فيغفو ويسوف‪ ،‬أو قليل ذكاء ل ينظر ما حوله ول له في معرفة الواقضضع‬
‫نصيب‪.‬‬
‫وحالة التسيب والتفرد واستقلل شخصيات هضضؤلء المتصضضدين ل يمكنهضضا‬
‫دا وسضضيلة للتمييضضز الضضضروري بيضضن هضضذه المسضضتويات المختلفضضة‪ ،‬إذ‬ ‫أن تقدم أب ض ً‬
‫التمييز ليس هو إل نتيجة لممارسضضة وزن الشضضخاص وأعمضضالهم بميضضزان معيضضن‬
‫ونمضضوذج محضضدد موصضضوف‪ ،‬وهضضذا التعييضضن والتحديضضد ل يتصضضور حصضضوله إل مضضن‬
‫جماعة تتواطأ عليه مواطأة اقتناعية من لدن بعض أفرادهضضا‪ ،‬تكتمضضل بمواطضضأة‬
‫أخرى تفويضية يتنازل فيها البعضض الخضر عضن اجتهضادهم المخضالف ويتعهضدون‬
‫بالعمل وفق اجتهاد الفئة الولى وإن قلت‪ ،‬حسبما يكضضون عليضضه النظضضام الضضذي‬
‫ارتضوه لتحديد العلقات بينهم وتمثل كل خطة جماعية في حقيقتها مجموعضضة‬
‫هذه المواطآت‪.‬‬
‫وبذلك تصبح هذه الموازين المتفق عليها‪ ،‬المسماة بالخطة‪ :‬أداة تمييضضز‬
‫بين المتصدين للعمل‪ .‬من وافقها وكضضانت لضضه القضضدرة علضضى تنفيضضذ جضضزء منهضضا‪:‬‬
‫حظي بوصف الصلح‪ .‬ومن خالفها‪ ،‬أو لم يستطع المشاركة فضضي تنفيضضذ شضضيء‬
‫منها‪ :‬نحي إلى جانب إن لم يستقم أمره بعد محاولة تربوية وتدريبية معه‪.‬‬
‫فلول النتظام الحركي لما كانت هذه الخطضضة‪ ،‬ولضضول الخطضضة لمضضا كضضانت‬
‫ما‪ ،‬وفي هذا ما يشضضير إلضضى أن‬ ‫تنقية المتصدين‪ ،‬ولظلت جمهرتهم متناقضة دو ً‬
‫ظاهرة الفتتان إنما هي ظاهرة طبيعية في الحركات‪ ،‬بل مضضا يشضضير إلضضى أنهضضا‬
‫ضرورة لزمة‪ ،‬لما فيها من تنقيضضة مزيضضج الرجضضال المتبضضاين النيضضات والقابليضضات‬
‫والجتهادات‪.‬‬
‫وكاد الشضضاعر القضضديم أن يقضضترب مضضن هضضذه الحقيقضضة لمضضا مضضدح صضضاحبه‬
‫فوصفه بأنه‪:‬‬
‫*محض إذا مزج الرجال‪ ،‬مهذب*‬
‫إذ ليس من الممكن اسضضتمرار التبضضاين إذا مضضزج الرجضضال‪ ،‬بضضل ل بضضد مضضن‬
‫تمحض المهذب الصالح مع أمثاله وظهورهم دون مضضا هنالضضك فضضي المزيضضج مضضن‬
‫كدر وشوائب وغثاء‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫أفرأيت في الفيزيضضاء كيضضف تعمضضل القضضوة المركزيضضة نضضد حركضضة الضضدوران‬
‫بمزيج ما على فصل مكوناته حسب كثافاتها؟ فكذلك قوة الخطة الصادرة من‬
‫مركضضز التجمضضع‪ ،‬تفضضضل مضضن خلل دوران دولب العمضضل ومضضن خلل التحضضرك‬
‫اليومي الهادف مزيج الرجال حسب كثافاتهم النوعية‪ ،‬فمنهم الثقيل الراسضضخ‪،‬‬
‫ومنهم الخفيف الطافي‪ ،‬فطرة الله تعالى التي خلق الناس عليهضضا‪ ،‬كضضان ذلضضك‬
‫قدًرا مقدوًرا‪.‬‬
‫ولكن القضدر يصضارع بالقضدر‪ ،‬والسضباب قريبضة ميسضورة‪ ،‬ولضذلك كضانت‬
‫التربية الرفيقة‪ ،‬والنذارة‪ ،‬من الواجبات المفروضة‪ ،‬ليهلك من هلك عضضن بينضضة‪،‬‬
‫ويحيي من حي عن بينة‪.‬‬
‫وأنوار الفطنة الماضية لم تأت إل في هذا المساق التربوي‪ ،‬الضضذي يمضضد‬
‫صاحب بذرة الحياة بحيوية نماء ورباء‪.‬‬
‫وفي نفس المساق يرتفع على سارية التربية التحذيرية‪:‬‬
‫النور العشرون‪ ،‬واصفا جمال‪:‬‬
‫تعليق الضحية على أمر القادة‬
‫فإن مبادرة الداعية إلى التضحية بروحضضه‪ ،‬بل اسضضتئذان الميضضر‪ ،‬مهضضدورة‬
‫ما إذا نتج عنها تضضوريط‬ ‫القيمة عند الفقهاء‪ ،‬مجردة من الفضائل‪ ،‬وربما كانت إث ً‬
‫الدعوة بما لم تحسب له حساًبا‪ ،‬وتكون عندئذ فتنة كبقية الفتن‪.‬‬
‫فقلة إدراك بعض متحمسة الدعاة لصول العمل‪ ،‬وجهلهم بالواقع الذي‬
‫يحط بهم‪ ،‬يؤدي بهم أحياًنا إلى فهضم التضأني والتربيضة المرحليضة أو الحضذر فضي‬
‫النتقاء على أنهما بطء قيادي وخضضوف وإحجضضام عضضن القضضدام‪ ،‬فيخرجضضون إلضضى‬
‫تهورات ومجازفات يؤكد النظر التحليلي فشلها ابتداء‪ ،‬وينفون معنضضى الفتتضضان‬
‫عنهم‪ ،‬لما هم فيه من تعريض أنفسهم إلى مخاطر قد تصل إلى بذل الروح‪.‬‬
‫وإنما هو ظن بعيد توهموه‪ ،‬ولو أرادوا مصلحة الدعوة خالصضضة مضضن دون‬
‫موافقضضةالخفي مضضن شضضهوات أنفسضضهم لعضضدوا لعملهضضم عضضدته الستشضضارية‪،‬‬
‫ولحرصوا على انتماءاته الخططية‪ ،‬ولكنهم قوم يستعجلون‪.‬‬
‫ولقد سئل الفقيه التابعي الجليل نافع المضضدني رحمضضه اللضضه‪ ،‬مضضولى عبضضد‬
‫الله بن عمر رضي الله عنهما ووارث علمه‪ ،‬عن تضحية ل يحركها أمر قائد ول‬
‫توجبها خطة‪ ،‬فقيل له‪:‬‬
‫)هل يحمل الرجل إذا كان في الكتبية بغير إذن إمامه؟‬
‫فقال‪ :‬ل يحمل على الكتبية إل بإذن إمامه( )‪.(183‬‬
‫وهذا جواب صريح‪ :‬أن المسضضلم المنتمضضي إلضضى كتبيضضة إسضضلمية ل يهجضضم‬
‫علىكتيبة العدو إل بإذن قائدها‪.‬‬
‫وظل هذا الفقه يحكم التضحيات‪ ،‬وينظضضم صضضرفها قرون ًضضا طويلضضة‪ ،‬حضضتى‬
‫أخذه ابن قدامة الحنبلي‪ ،‬أحد أعلم الفقه المقارن‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)ل يخرجون إل بضضإذن الميضضر‪ ،‬لن أمضضر الحضضرب موكضضل إليضضه‪ ،‬وهضضو أعلضضم‬
‫بكثرة العدو وقلتهم ومكامن العدو وكيدهم‪ ،‬فينبغي أن يرجضضع إلضضى رأيضضه‪ ،‬لنضضه‬
‫أحوط للمسلمين( )‪.(184‬‬

‫‪ ( )183‬مسند المام أحمد‪ ،‬حديث رقم ‪.4873‬‬


‫‪ ( )184‬المغني ‪.8/364‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫فإذا كان هذا هو الصل‪ ،‬فمن باب أولى أن يمتنضضع الضضذي هفضضا أول مضضرة‬
‫واستعجل وأخطأ فصدر له المر بالمتنضضاع‪ ،‬فضإنه يظضل فضي اسضضتثناء‪ ،‬حضتى أن‬
‫المر اللحق الذي يستنفر الجميع ل يشمله‪ ،‬إل أن يأذن لضضه القضضائد إذنضضا خاصضضا‬
‫يلغي منعه الول‪ ،‬فقد‪:‬‬
‫)سئل المام أحمد عن المام إذا غضب على الرجل فقال‪ :‬أخرج‪ ،‬عليك‬
‫أل تصحبني‪ ،‬فنادى بالنفير‪ ،‬هل يكون إذنا له؟‬
‫)‪(185‬‬
‫‪.‬‬ ‫قال‪ :‬ل‪ ،‬إنما قصد له وحده‪ ،‬فل يصحبه حتى يأذن له(‬
‫فل يباح للمطرود مضن صضف الجماعضة‪ ،‬ول لعمضوم الضدعاة‪ ،‬أن يتحركضوا‬
‫دا‪ ،‬لشمول الخطر الناجم عن أخطائهم المحتملة وتعديه إلى‬ ‫وفق اجتهادهم أب ً‬
‫كل المسلمين‪ ،‬وكم من مشكلت أتت من قبل صضضاحب هضضوى‪ ،‬غضضوى‪ ،‬فطضضرد‪،‬‬
‫فأراد التعويض من طريق يظنه قصيًرا‪ ،‬ففشل‪ ،‬فأتعب الناس من بعده‪.‬‬
‫إن البيعة توجب طاعة المير في كل خطوة‪.‬‬
‫)إل أن يتعذر استئذانه‪ ،‬لمفاجضأة عضدوهم لهضم‪ ،‬فل يجضب اسضتئذانه‪ ،‬لن‬
‫المصلحة تتعين في قتالهم‪ ،‬والخروج إليهم لتعين الفساد في تركهم‪.‬‬
‫ولضضذلك لمضضا أغضضار الكفضضار علضضى لقضضاح النضضبي ‪-‬صضضلي اللضضه عليضضه وسضضلم‪-‬‬
‫جا من المدينضضة تبعهضضم‪ ،‬فقضاتلهم مضن غيضر إذن‪،‬‬ ‫فصادفهم سلمة بن الكوع خار ً‬
‫فمدحه النبي ‪-‬صلي الله عليه وسلم‪ -‬وقال‪ :‬خير رجالتنضضا‪ :‬سضضلمة بضضن الكضضوع(‬
‫)‪.(186‬‬
‫فافهم أيها المتحمس‪ ،‬وانتظر‪ ،‬فإنمضضا لضضك مضن أجضضر الربضضاط مثضضل الضضذي‬
‫تظنه من أجر الزحف‪ ،‬وانظر كمينا نصبوه للسضضذج‪ ،‬يغريهضضم ويمنيهضضم برئاسضضة‬
‫زحف موهوم‪ ،‬وأعنهم علىرؤيته بقبس من‪:‬‬
‫النور الحادي والعشرين‬
‫الذي يكشف أن‪:‬‬
‫قيادة الباطل مثلبة‪ ،‬كما أن جندية الحق منقبة‬
‫فقيادة الباطل ليست بشيء‪ ،‬ول لها في العرف والسلمي قيمة‪ ،‬وإنما‬
‫هي مجردة مضضن الفضضضائل‪ ،‬حضضتى إن نفضضس صضضاحب المضضروءة لتعافهضضا فطضضرة‪،‬‬
‫وتعتبر إيرادها موضوع مساومة وثمن تأييد من أكبر الهانة‪.‬‬
‫وهذا النور أوقده قاضي البصرة المحدث الثقضضة عبيضضد اللضضه بضضن الحسضضن‬
‫العنبري المتوفى سنة ‪168‬هض‪ ،‬فكأنه قد دعى إلى خروج عضضن الطاعضضة بتمنيضضة‬
‫من خلبات الرئاسة‪ ،‬فأبى وقال‪:‬‬
‫)لن أكون ذنبا في الحق‪ :‬أحب إلضى مضن أن أكضضون رأسضا فضي الباطضل(‬
‫)‪.(187‬‬
‫وما زالت البيعة تميز بين الثنين هنا‪ ،‬تصف المطيع ومضضن بويضضع بضضالحق‪،‬‬
‫وتضع ناكثها في صف المبطلين‪.‬‬
‫وإنما ديضضدن المسضضلم‪ :‬الجضضر مضضن رب العضضالمين‪ ،‬والجضضر ل يأتيضضك إل أن‬
‫تتملق له بفرض ومندوب ومستحب ومكارم أخلق‪ ،‬وللوفاء نسب مع كل هذه‬

‫‪ ( )185‬المغني ‪.8/364‬‬
‫‪ ( )186‬المصدر السابق‪.‬‬
‫‪ ( )187‬تهذيب التهذيب ‪.7/7‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫الدرجات‪ ،‬ولمحاسنة مرايا تعكس إشعاعاتهن جميًعا‪ ،‬فتجتمع النعكاسات فضضي‬
‫بؤرة لتولد‪:‬‬
‫النور الثاني بعد العشرين‬
‫وعلى ضوئه نعرف أن‪:‬‬
‫أقوال الحق الصادقة ل تكفي لتزكية قائلها تزكية مطلقة‬
‫فقضضد يتكلضضم المبطضضل بكلم مضضن الحضضق يريضضد بضضه بضضاطل كمضضا قضضال أميضضر‬
‫المؤمنين عي رضي اللضضه عنضضه‪ ،‬وربمضضا يصضضدق الكضضاذب‪ ،‬ولكضضن المعضضول عليضضه‪:‬‬
‫سلوك القائل وتصرفه‪.‬‬
‫وكم من كلمة هي من الحق الذي ل شك فيضضه يضضوجب الضضورع السضضكوت‬
‫دا للذريعضضة‪ ،‬أو ترجي ًضضا لمصضضلحة‬‫عنها في وقت معين أو تجاه سضضامع معيضضن‪ ،‬س ض ً‬
‫أخرى تزاحمها‪ ،‬من تأليف قلوب‪ ،‬ومراعاة لمستوى الفهم‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫وفي قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان السضضارق تأكيضضد لهضضذا‬
‫المعنى الذي نقوله‪ ،‬من اعتبار سلوك القضضائل فضضي الحكضضم عليضضه‪ ،‬فقضضد أخضضرج‬
‫البخاري في مواضع من صضضحيحه بلفضضظ المتابعضضة غيضضر الموصضضولة عضضن شضضيخه‬
‫عثمان بن الهيثم بسند صحيح إلى أبي هريرة رضي الله عنضضه أن رسضضول اللضضه‬
‫‪-‬صلي الله عليه وسلم‪ -‬وكله بحفظ الطعضضام المجتمضضع مضضن زكضضاة الفطضضر فضضي‬
‫رمضان‪ ،‬فأتاه سارق فجعل يحثو من الطعام‪ ،‬فأمسك به أبو هريضضرة‪ ،‬فاسضضتدر‬
‫ضا‪ ،‬فلما جاءه في الليلة الثالثة قضضال‬ ‫عطفة‪ ،‬فأطلقه‪ ،‬ثم جاءه ثانية فأطلقه أي ً‬
‫أبو هريرة‪:‬‬
‫)لرفعنك إلى رسضضول اللضضه ‪-‬صضضلي اللضضه عليضضه وسضضلم‪ ،-‬وهضضذا آخضضر ثلث‬
‫مرات أنك تزعم ل تعود ثم تعود‪:‬‬
‫قال‪ :‬دعنى أعلمك كلمات بنفعك الله بها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أبو هريرة‪ :‬قلت‪ :‬ما هو؟‬
‫قال‪ :‬إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي‪ :‬الله ل إلضضه إل هضضو الحضضي‬
‫القيوم‪ ،‬حتى تختم الية‪ ،‬فإنضضك لضضن يضضزال عليضضك مضضن اللضضه حضضافظ‪ ،‬ول يقربنضضك‬
‫شيطان حتى تصبح‪.‬‬
‫قال أبو هريرة‪ :‬فخليت سبيله‪ ،‬فأصبحت‪ ،‬فقال لي رسضضول اللضضه ‪-‬صضضلي‬
‫الله عليه وسلم‪ :-‬ما فعل أسيرك البارحة؟‬
‫قلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬زعم أنه يعلمني كلمضضات ينفعنضضي اللضضه بهضضا فخليضضت‬
‫سبيله‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما هي؟‬
‫قلت‪ :‬قال لي‪ :‬إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حضضتى‬
‫تختم‪ :‬الله ل إله إل هو الحي القيوم‪ ،‬وقال لي‪ :‬لن يزال عليك من الله حضضافظ‬
‫ول يقربك شيطان حتى تصبح‪.‬‬
‫وكانوا أحرص شيء على الخير‪.‬‬
‫فقال النبي ‪-‬صلي الله عليه وسلم‪:-‬‬
‫أما أنه قد صدقك وهو كذوب‪ ،‬تعلم من تخضضاطب منضضذ ثلث ليضضال يضضا أبضضا‬
‫هريرة؟‬
‫قال‪ :‬ل‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫قال‪ :‬ذاك شيطان()‪.(188‬‬
‫قال ابن حجر‪:‬‬
‫)وقد وصله النسضضائي والسضضماعيلي وأبضضو نعيضضم مضضن طضضرق إلضى عثمضضان‬
‫المذكور()‪.(189‬‬
‫ففي هذه القصة مع طرافتها دليل واضح على أن صاحب الشر المبطل‬
‫قد يتكلم ببعض ما هو حق ويتستر به ليصل إلى مراده‪ ،‬فيجضضب علضضى الداعيضضة‬
‫المسلم المرتقي لمدارج الفضل أن ل ينخدع إذا أتته شياطين النس تريضضد أن‬
‫تسرق ما معه من عمل صالح وتحثو منه في جعبتهضضا الفارغضضة لقضضاء ثمضضن مضضن‬
‫الكلمات التي تدلل فيها تلك الشياطين علضضى أن لهضضا بعضضض الحضضق‪ ،‬بضضل يكضضون‬
‫متيقظا ناظًرا لما تخفيه من أحوالها الباطلة‪ ،‬وشاعًرا بما تبنيه على ذلك الحق‬
‫الجزئي من نتائج باطلة‪ ،‬فيمسك الداعية بها من معاصمها بقوة‪ ،‬ويسلمها إلى‬
‫ولي المر‪ ،‬ليمنع شرها عن قافلة الخير‪ ،‬فتستمر في السير على توهجات‪:‬‬
‫النور الثالث بعد العشرين‬
‫الذي ينبهنا إلى أن‪:‬‬
‫سوء الرؤساء دليل ضرر المجموعة‬
‫وهو نور قرشي أصيل‪ ،‬أوقده سعد بن أبي وقاص رضضي اللضضه عنضضه لمضا‬
‫كا الشتر وصحبه يحاصضضرون عثمضضان‬ ‫خرج يوما إلى طرقات المدينة‪ ،‬فرأى مال ً‬
‫بن عفان رضي الله عنه يريدون قتله‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)‪(190‬‬
‫‪.‬‬ ‫)والله‪ ،‬إن أمًرا هؤلء رؤساؤه لمر سوء(‬
‫وهذا ميزان مهم غالبا مضا ينسضاه الضذين يتعضاملون مضع الجماعضات‪ ،‬ولضو‬
‫فطن له المخلصون لما انخدع أحضضد منهضضم بفتنضضة مفتتضن يرفضع عقيرتضضه ببعضض‬
‫الحق الذي يريد من ورائه الباطل‪ ،‬فإن كل حزب أو جماعضضة أو كتلضضة سياسضضية‬
‫أو فكرية تصطبغ في كثير من سياساتها الجتهادية بآراء قادتها حتى ولضضو وجضضد‬
‫نظام معين ومفهوم مدون لتلك الجماعة‪ ،‬إذ ل يحصر الساليب جميعضضا نظضضام‪،‬‬
‫ول يحيط بالمعاني كلها تدوين‪ ،‬ول بد أن يبقى للجتهاد الدور الرئيس الول‪.‬‬
‫كما أن روح التقليد عند التبضاع‪ ،‬المؤديضة لسضتيعاب الملء الضذي يملضي‬
‫عليهم تضعهم في حالة انشداد للرؤساء‪ ،‬تتضاعف قوتهضضا طرديضضا مضضع قابليضضات‬
‫الرؤساء الفطرية‪ ،‬من ذكضاء وشضجاعة وقضوة صضبر علضى كضثرة التحضرك‪ ،‬ومضع‬
‫العوامل المساعدة لها‪ ،‬من تقدم في السن‪ ،‬أو قصة بطولة سضضابقة‪ ،‬أو نسضضب‬
‫عريق‪ ،‬أو بلغة لسان وقلم‪ ،‬إن لم يكن هناك شيء من التدليس وتسخير من‬
‫يبث المدح لهم‪ .‬ومن أجل هذا قال عمر بن الخطاب رضضضي اللضضه عنضضه مقضضالته‬
‫المشهورة )أخوف ما أخاف على أمتى من عالم باللسان جاهل بالقلب(‪.‬‬
‫لكل ذلك لم يكن الفصل بين شخصيات قضادة تجمضضع مضا وبيضضن تجمعهضضم‬
‫دا ودون لعلمضضه دسضضتوًرا‪ ،‬بضضل‬ ‫كله سضضهل ميسضوًرا وإن عضدد لضه فضي الفكضر بنضضو ً‬
‫الصواب الذي ينبغي علضضى المضضدعو لمناصضضرة جماعضضة مضضا أو دخولهضضا أن ينظضضر‬
‫الرؤساء‪ ،‬فإن وجد ثمة أسواء ومثالب ظاهرة أو يرويها الثقات عنهم‪:‬‬

‫‪ ( )188‬صحيح البخاري ‪ 3/126‬طبعة صبيح‪.‬‬


‫‪ ( )189‬فتح الباري ‪ 5/392‬طبعة البابي‪.‬‬
‫‪ ( )190‬طبقات ابن سعد ‪.3/72‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫توقف وتهيب وأخذ حذره‪ ،‬وأعرض عن كلم جميل يدور علضضى ألسضضنتهم‬
‫لعل الخدعضضة تقتضضضيه‪ ،‬كمضضا اقتضضضت خدعضضة الصضضياد أن يقلضضد أصضضوات الطيضضور‬
‫ويصفر بمثل صفيرها لتنزل وتحط على شباكه المنصوبة‪.‬‬
‫وقد يرد العكس على جماعة خير تنادت لصلح تحضضت قيضضادة ثقضات‪ ،‬مضع‬
‫أن انفرادها دون جماعة خير سبقتها يعضضد أمضًرا مفضضضول وليضضس فاضضضل إن لضضم‬
‫دا علضضى جماعضضة‬ ‫يكن لها مسوغ قوي يجيز تفردها‪ ،‬ولكن هذا العكس ل يرد أب ض ً‬
‫فتنة‪ ،‬تناجت ونكثت بيعة وانحازت إلى جانب وقدمت بعضضض أهضضل الفضضضل لهضضا‬
‫صضضدوًرا‪ ،‬إذ المقيضضاس يختلضضف هنضضا‪ ،‬ول تمحضضو فضضضائل متعضضددة هفضضوة النكضضث‬
‫الواحدة‪ ،‬وغاية أمر الصدور‪ :‬أن نحكم عليهم بضضأنهم بسضضطاء سضضذج وقعضضوا فيضضا‬
‫لخلبة فصاروا ل يصلحون كقدرات وإن لم يتعمدوا الساءة‪.‬‬
‫]‪ [19‬انهيار الضرار‬
‫دا مهديا داعيا إلى الله تعالى نظضضر يومضضا إلضضى أصضضحابه مضضن‬ ‫يروي أن عب ً‬
‫حوله‪ ،‬فأعجبه الذي هم فيه من جمال التعبد والخاء‪.‬‬
‫ثم نظر أخرى‪ ،‬متأمل تقلب القلب‪ ،‬فأطرق‪ ،‬وبشعور مزيج من السرور‬
‫والتخوف قال لهم‪:‬‬
‫)يا ملح الرض ل تفسدوا‪ ،‬فإن الشيء إذا فسد ل يصلحه إل‬
‫الملح(‪.‬‬
‫فكانت منه حكمضضة صضضادقة‪ ،‬تشضضهد حروفهضضا أنهضضا مضضن كلم أهضضل التربيضضة‬
‫وممارسيها‪.‬‬
‫وكأنه ما من مصلح مرب إل وصى بها أصحابه مراًرا وحين موته‪.‬‬
‫فجراثيم التسمم‪ ،‬وبكتيريا العفونة‪ ،‬ل تنمو فضضي بيئة ملضضة‪ .‬وكضضذلك أهضضل‬
‫الفساد‪ ،‬ل يستطيعون رفع رؤوسهم في بيئة يكون فيها الناهون عن المنكر‪.‬‬
‫إنه تصوير لواقع القلة المؤمنة مضضن دعضضاة السضضلم بيضضن الكضضثرة اللهيضضة‬
‫المسترسلة مع أمور دنياها‪.‬‬
‫بهم يصلح الله كل فساد اجتماعي‪ ،‬فيقومونه مضن بعضد العوجضاج‪ .‬وهضم‬
‫الذهيرة للمة يحفظون لها مصالحها كلما ضيعها شضضهواني ظلضضوم‪ ،‬فيرجعونهضضا‬
‫إلى مكانة العز التي تنبغي لها‪.‬‬
‫فإذا أعوج الدعاة أنفسهم‪ ،‬وضيعوا رابطة إخائهم‪ ،‬وألفوا بعض المنكضضر‪،‬‬
‫فنم للمة يصلحها؟ ومن للمجتمع يزكيه؟‬
‫لذلك بضضات النضضداء إلضضى التحضضابب وإيطضضاء الكنضضاف‪ ،‬ثضضم التواصضضي بإنكضضار‬
‫المنكر‪ ،‬ركنين مهمين في التربية الجماعيضضة السضضلمية‪ ،‬يكفلن تمكضضن الضضدعاة‬
‫من أداء دورهم الواجب في مصادمة الفساد‪.‬‬
‫فالخضضاء‪ :‬يحفضضظ المجموعضضة‪ ،‬ويمنضضع التسضضيب‪ ،‬ويكسضضب النكضضار فاعليضضة‬
‫تأثيرية‪.‬‬
‫والتواصي‪ :‬ينقل المجموعة إلى الشجاعة في المواجهة والصضضبر عليهضضا‪،‬‬
‫وبهذين الركنين التربويين تمكنت دعضضوة السضضلم الحضضديث مضضن إنتضضاج )جماعضضة‬
‫إنكار متآلفة( أحيت سمت إخاء إيماني انقطع لقرون طويلة‪ ،‬وطفقت تضضضرب‬
‫في النهي عن الفساد المثال‪ ،‬فشضدت قلضضب يوسضف القرضضاوي إليهضا‪ ،‬فضراح‬
‫يصف في سنة ‪1370‬هض حسن نماذجها‪:‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫أعطوا ضريبتهم للدين من دمهم‬
‫والناس تزعم نصر الدين مجاًنا‬
‫عاشوا على الحب أفواها وأفئدة‬
‫باتوا على البؤس والنعماء إخواًنا‬
‫الله يعرفهم أنصار دعوته‬
‫)‪(191‬‬
‫والناس تعرفهم للخير أعوانا‬
‫هكذا‪ ،‬ليس غير‪.‬‬
‫أعوان خير‪ ،‬يقدمون ضريبة نصر الدين‪ ،‬على درب من الحب‪.‬‬
‫فل عجب أن يكونوا الخط البارز في صورة السلم الحديثة‪.‬‬
‫ول عجب أن يحرص كل ذي حضضرص علضضى منضضع مضضن يريضضد لهضضم انفراط ًضضا‬
‫يحرمهم القدرة على ممارسة النكار‪ ،‬ويضع في دربهم أحجار العثرات‪ ،‬فضضذاك‬
‫سبب إيقادنا للنوار‪.‬‬
‫غيرة على بهاء المنظضضر ونقضضاء الصضضورة مضضن جضضانب‪ ،‬وكشضضفا للمتصضضدي‬
‫الجريح الضعيف المتكلف لحشر نفسه في فجوات صفوف الصورة من جانب‬
‫آخر‪.‬‬
‫فالعمش تكثر في عينيه أشعة أنوار الفطنة‪ ،‬فتبهره‪ ،‬فيضع كفضضه علضضى‬
‫وجهه‪ ،‬ويطلب التواري‪ ،‬والجهر يكون قريبا من النور وهو ل يبصره‪.‬‬
‫ولكن سليم العين يلتذ‪ ،‬وربما كان كمن ينظر من خلل عدسة تكبير‪.‬‬
‫بصر وزرقاء اليمامة‬ ‫أعمى وأعشى ثم ذو‬
‫سبحان من قسم الحظو ظ فل عتاب ول ملمة‬
‫قدر وحظ لم يقسما للعمش والجهضضر أن يتمتعضضا بمضضا سضضبق أن أوقضضده‬
‫فقه الدعوة من أنوار‪.‬‬
‫أما الموفق فأهل لن يزداد لذة‪ ،‬وأن نرتقى لجله ساربة أخرى‪ ،‬لنعلضضق‬
‫عليها مصباح‪:‬‬
‫النور الرابع بعد العشرين‪ ،‬فيتألق بوميض‪:‬‬
‫الحرص على نجاة النفس‬
‫فإن المارة أمر شديد‪ ،‬من لم يستطع الوفاء بلوازمها قد يتعضضرض يضضوم‬
‫الحساب لنقاش دقيق‪ ،‬وكل إنسان خبير نفسه‪ ،‬ويفترض فيه أن يقضدر تقضديًرا‬
‫حا قدرته الفطرية على قيادة قومه ومضضدى دخضضل الظضضروف المحيطضضة بضضه‬ ‫صحي ً‬
‫وظروفه العائلية والمعاشية والصحية في أدائه لدوره‪ ،‬فمن سضاق نفسضه إلضى‬
‫رئاسة وهو يعلم أن في الجماعة أفضل منه وأمهر‪ ،‬وأنه سيسبب ضياع فوائد‪،‬‬
‫ويعجز عن سد ثغرات محتملة‪ :‬فقد ظلم‪.‬‬
‫ولهذا خاطبك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‪ ،‬يسألك الرفق بنفسضضك مضضن‬
‫غد ل تدري عظيم غضب الله عليك فيه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)‪(192‬‬
‫‪.‬‬ ‫)نفس تنجيها‪ :‬خير من إمارة ل تحصيها(‬
‫إذ المارة تحتاج إلى إحصضاء مضن أطرافهضا‪ ،‬ورعايضة وحسضن أداء‪ ،‬وأنهضا‬
‫خزي وندامة يوم القيامة إل من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيهضضا‪ ،‬ول يصضضلح‬

‫‪ ( )191‬مجلة المباحث عدد ‪.30‬‬


‫‪ ( )192‬الفوائد لبن القيم‪.145/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫لها من كان على مثل ضعف أبي ذر رضي الله عنه ولو كان على مثل ما كان‬
‫عليه من صدق اللسان وجمال العبادة‪.‬‬
‫وهذا المقدار هو من العلم الذي لم نضضر لضضه فضضي طلب الرئاسضضة جضضاهل‪،‬‬
‫لكنهم يؤخذون ويفتق عليهم من بضضاب التقليضضد والمحاكضضاة‪ ،‬وقضضول‪ :‬ليضضس فلن‬
‫أفضل مني‪ :‬فإن أحضضدهم يضضرى التنضضافس فضضي الرئاسضضة يشضضغل اقرانضضه‪ ،‬ويظضضل‬
‫يرقب ما يشجر بينهم‪ ،‬حتى ينسى معضضاني علمضضه‪ ،‬ويتضضأثر بمنظضضر التنضضازع دون‬
‫قول فقه الدعوة‪.‬‬
‫وإنما كان خبير الفتن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يتخوف من مثضضل‬
‫هذا‪ ،‬ويعده باب ما بعده من الرتكاسات‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)إن أخوف ما أخاف على هذه المة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون(‪.‬‬
‫هضضذا مضضن مجضضرد الرؤيضضة والمراقبضضة‪ ،‬فكيضضف إن اجتمضضع معهضضا ترغيضضب وتشضضجيع‬
‫ووصف لذات وجدوها؟‬
‫ل شك أن مخالفة العلم ستكون أسرع‪ ،‬والستجابة أكثر احتمال‪.‬‬
‫ولذلك دعاك الزاهد يحيي بن معاذ إلى العتصام بميزان ثالث فضضي هضضذا‬
‫الموطن تميز به صدق الخطيب الذي يدعوك فجزم لك بأنه‪:‬‬
‫)ل ينصحك من خان نفسه(‪.‬‬
‫فالمنازع في الرئاسة‪ ،‬الملحضضاح فضضي نزاعضضه‪ ،‬قضضد ورط نفسضضه‪ ،‬وأضضضعف‬
‫احتمالت نجاتها‪ ،‬وتلك خيانته لها‪ ،‬فكيف يرتاد لك الخير من بعد؟‬
‫فانظر ناصحك‪ ،‬وسائل قلبك‪ :‬هل خان نفسه ثم أتضضاك‪ ،‬أم ل زال يكتضضال‬
‫الحسنات؟‬
‫حا لنفسه‪ :‬عرضت مفاد نصيحته على أنوار الفطنة لتؤيدها‬ ‫فإن كان ناص ً‬
‫أو تكشف سذاجتها‪ .‬وإن كانت الخرى‪ :‬أعرضت‪.‬‬
‫وإل‪ ،‬فإن الزيغضضة الولضضى منضضك تجلضضب ثانيضضة رغمضضا عنضضك‪ ،‬فإنهضضا العقوبضضة‬
‫الربانية‪:‬‬
‫َ‬
‫ه قُُلوب َهُ ْ‬
‫م(‪.‬‬ ‫غوا أَزاغَ الل ُ‬ ‫)فَل َ ّ‬
‫ما َزا ُ‬
‫وسعيد بن جبير إمام التابعين ينذرك‪:‬‬
‫)إن من ثواب الحسنة‪ :‬الحسنة بعدها‪ ،‬وأن من عقوبضضة السضضيئة‪ :‬السضضيئة‬
‫بعدها()‪.(193‬‬
‫فالزيغ ولود‪ ،‬كما أن الحسان ولود ودود‪.‬‬
‫لبد من ذلك‪ ،‬حتى قال فقيه المدينة عروة بن الزبير بن العوام‪.‬‬
‫)إذا رأيت الرجل يعمل السيئة فاعلم أن لهضضا عنضضده أخضضوات‪ .‬وإذا رأيتضضه‬
‫يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات( )‪.(194‬‬
‫فتتوالي عثرات المصغى لخائن نفسه‪ ،‬حتى لقضضد رأينضضا فضضي بعضضض البلد‬
‫رأي العين من طلب ذروة الرئاسضضة علضضى قضضوم دعضاة قضضد تراجضع إلضضى الخلضضف‬
‫بتدريج لما لم يحصل له مضضراده‪ ،‬فضضترك المضضر بضضالمعروف أول مضضرة‪ ،‬ثضضم تضضرك‬
‫المسجد‪ ،‬ثم ترك نفس الصلة واكتفى بالجمعة‪ ،‬ثم تضضرك الجمعضضة‪ ،‬ثضضم أفطضضر‬

‫‪ ( )193‬مجموع فتاوى ابن تيمية ‪.10/11‬‬


‫‪ ( )194‬تهذيب التهذيب ‪.7/183‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫رمضان‪ ،‬ثم أصبح يغيظ في نهار رمضان من يمر أمامه مضضن الصضضائمين ينفضضث‬
‫الدخان قرب وجوههم‪.‬‬
‫أفغير العقوبة أحاطت به؟‬
‫وهذا ما يدعوك إلضضى أن تفقضضه بضضدايات الفتضضن المقبلضضة مضضن النظضضر إلضضى‬
‫نهايات الفتن السابقة‪ ،‬فإنه قل من نجا من تراجع بعد الفتتان‪.‬‬
‫ولذلك فإننا ل نجد أجمل من حرص الداعية على نجاة نفسه‪ ،‬وإلحاحه‬
‫في طلب‪:‬‬
‫النور الخامس بعد العشري‪ ،‬المعين على‪:‬‬
‫تمييز الغايات الصدامية في مساجد الضرار‬
‫كمضضا ميزهضضا الضضذين سضضبقونا فضضي النتمضضاء إلضضى هضضذه الضضدعوة المباركضضة‬
‫وعاصروا ذروة نشاطها هقبل أن تمتحن ورأوا كيف يعمل أعداء السلم علضضى‬
‫دا‪ ،‬ويعيضضب عليهضضم‬‫تسقط أبار المخضضالفين‪ ،‬فيدسضضوا إليهضضم مضضن يضضؤزهم أًزا زائ ً‬
‫القعود عن النتقام‪ ،‬ويحملهم على تجميع كل حانق فضضي كيضضان منضضافس يرصضضد‬
‫نفسه للمناوشة وتثبيط الجدد‪ ،‬ثم يتم اختيار اسم كبير ضخم لكيانهم يحاولون‬
‫من ورائه تحويل النتباه إليه‪.‬‬
‫وإنما هي مساجد الضرار يعاد بناؤها‪ ،‬بهندسة جديدة ولضضون مبتكضضر‪ ،‬لهضضا‬
‫إلى مسجد الضرار الول نسب‪ ،‬ومع تاريخه ارتباط‪.‬‬
‫ويسألون‪ :‬كيف تكون لنا جرأة على هذا التهام ودعضضوة السضضلم ليسضضت‬
‫حكًرا على أحد‪ ،‬بل لكل مسلم أن يتجمع ويعمل كيف يشاء؟‬
‫ولسضضنا بحمضضد اللضضه للعمضضل حضضاكرين‪ ،‬ولكضضن يبطضضل عجضضب المتسضضائلين‬
‫فحصضضهم لطضضوار عمضضل مضضن ننسضضبهم إلضضى الضضضرار‪ ،‬إن كضضان تضضأملهم لواقضضع‬
‫المسلمين يحملهم على مصاولة حركات اللحاد وأحزاب العمالة وتبليغ معاني‬
‫السلم إلى السضضائلين اللهيضضن‪ ،‬أم هضضم قضضد عضضافوا أولئك وحضضاموا حضضول دعضضاة‬
‫السلم ومناصريهم يصادمونهم ويثبطون‪ ،‬ويجادلونهم فيلهون؟‬
‫إن جماعضضة تضضدعي السضضلم‪ ،‬ثضضم تضضترك المجتمضضع المضضاجن والمنكضضر‬
‫المستشري‪ ،‬والشضباب الضضائع‪ ،‬وتتجضه إلضى المصضلين والملتفيضن حضول دعضاة‬
‫السلم تزين لهم النتساب إليها‪ ،‬وتلح في تهوين أمر الدعاة الخرين‪ ،‬ورميهم‬
‫بالستبداد والفتقار إلى الوعي‪ ،‬لهي أحرى الجماعات باسم مسجد الضرار‪.‬‬
‫ومن ذا الذي في قلبه ذرة إيمان وألم على المصير الضضذي آل إليضضه أمضضر‬
‫المسلمين ثم ل يفضضرح ويهضضش ويبضضش لقضضوام يعضضالجون المضضرض ويسضضتدركون‬
‫النفراط‪ ،‬وإن خالفوه في السم والسلوب؟‬
‫ولكننا نعيب الصدام‪ ،‬وإلهاء العاملين‪ ،‬ونضضدعو الضضذي لضضم يعجبضضه أسضضلوبنا‬
‫واجتهادنا ويحاول العمل فضي جماعضة أخضرى إلضى أن ينظضر‪ :‬أهضي فضي تبشضضير‬
‫وإنذار بمعاني السلم في الوساط العامة وعلى اتصال بأفراد أهملهم الغيضضر‪،‬‬
‫أم تركضضت أولئك وأوسضضاطهم والتفتضضت نحضضو مسضضلمين يعملضضون فضضي مقاومضضة‬
‫الفساد‪ ،‬تماريهم‪ ،‬وتحصى لممهم وتلبسه لباس الكبائر؟‬
‫فإن كان ديدنها الصدام‪ :‬توقف وأحجم وربأ بنفسه عن أن يشضضارك فضضي‬
‫إشغال السائري‪ ،‬وإن وجد خيًرا‪ :‬نظر المضضر ثانيضضة علضى أضضواء أنضوار الفطنضة‬
‫الخرى‪ ،‬عسى أن يكون الخير مفضول أو محفوفا بخطر سوء الرؤساء‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫إننضا نقولهضا صضريحة‪ :‬إن مضن الهميضة بمكضان أن يعضرف كضل مضن يريضضد‬
‫المساهمة في النشاط السلمي أن المسجد الضرار النفاقي الول‪:‬‬
‫)ما يزال يتخذ في صور شتى تلئم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخضضذها‬
‫أعداء هذا الضضدين‪ .‬تتخضضذ فضضي صضضورة نشضضاط ظضضاهرة للسضضلم وباطنضضة لسضضحق‬
‫السلم‪ ،‬أو تشويهه وتمويهه وتمييعضضه! وتتخضضذ فضي صضورة أوضضضاع ترفضع لفتضضة‬
‫الدين عليها لتترس وراءها وهي ترمي هذا الدين! وتتخذ في صضورة تشضكيلت‬
‫وتنظيمات وكتب وبحضضوث تتحضضدث عضضن السضضلم لتخضضدر القلقيضضن الضضذين يضضرون‬
‫السلم يذبح ويمحق‪ ،‬فتخدرهم هذه التشكيلت وتلك الكتب إلضضى أن السضضلم‬
‫بخير ول خوف عليه ول قلق‪ .‬وتتخذ في صور شتى كثيرة()‪.(195‬‬
‫كذلك فإن من الخطورة بمكان أن يعطي المخلص أذنا صاغية منه لمن‬
‫كان في مسجد ضضرار ولضم تشضتهر لضه توبضة حضتى ولضو انفضرط عقضد أصضحابه‬
‫وانهدم بنيانه وظن المخلص أنه سيتعامل مضضع فضضرد ل يسضضتطيع الضضضرار‪ ،‬فضضإن‬
‫النفس تبقي موتورة خانقة غاضبة‪.‬‬
‫فيومها لما هدم الله الضضضرار الول بأيضضدي المضضؤمنين‪ :‬بقيضضت ريبتضضه فضضي‬
‫صدورهم‪ ،‬فقال الله تعالى بعد انهياره‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ه‬ ‫قطضعَ قُلضضوب ُهُ ْ‬
‫م َواللض ُ‬ ‫ّ‬
‫م إ ِل أن ت َ َ‬‫ة فِضضي قُلضضوب ِهِ ْ‬‫وا ِريب َ ً‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫ذي ب َن َ ْ‬ ‫)ل َ ي ََزا ُ‬
‫ل ب ُن َْيان ُهُ ُ‬
‫م(‪.‬‬‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬
‫م َ‬
‫عَِلي ٌ‬
‫وهي إشارة إلى طبيعة أصحاب كل ضرار‪ ،‬في كل زمضضان‪ ،‬بعضضدما يهضضدم‬
‫الله بنيانهم‪.‬‬
‫فلقد انهار الجرف المنهار‪) ،‬ولكن ركام البناء بقي في قلوب بناته‪ .‬بقي‬
‫فيها ريبة وشكا وقلقا وحيرة‪ .‬وسضضيبقى كضضذلك ل يضضدع تلضضك القلضضوب تطمئن أو‬
‫تثبت أو تستقر‪ .‬إل أن تقطع وتسقط هي الخرى من الصدور‪.‬‬
‫وأن صورة البناء المنهار لهي صورة الريبة والقلق وعدم الستقرار‪.‬‬
‫تلك صضضورة ماديضضة‪ ،‬وهضضذه صضضورة شضضعورية‪ ،‬وهمضضا تتقضضابلن فضضي الواقضع‬
‫البشري المتكر في كل زمان‪ .‬فما يزال صاحب الكيد الخادع مزعزع العقيدة‪،‬‬
‫حائر الوجدان‪ ،‬ل يطمئن ول يستقر‪ ،‬وهو من انكشضاف سضتره فضي قلضق دائم‪،‬‬
‫وريبة ل طمأنينة معها ول استقرار()‪.(196‬‬
‫ومثل هذا العنصر القلق ليس أهل أن نلتمس عنده النظر العضضادل حضضتى‬
‫نمنحه السمع المصغي‪ ،‬بل نتجاوزه‪ ،‬ونطلب الخير على شعاع‪.‬‬
‫النور السادس بعد العشرين اللمع بمعاني‪:‬‬
‫مضاعفة الحذر من فتن آخر الزمان‬
‫فنحن أقرب إلى الساعة مما كضان عليضضه المسضضلمون قبضضل أربعضضة عشضضر‬
‫مُر( وهذه علمات‬ ‫شقّ ال ْ َ‬
‫ق َ‬ ‫ة َوان َ‬‫ساعَ ُ‬ ‫قرنا حين نزل قول الله تعالى‪) :‬اقْت ََرب َ ِ‬
‫ت ال ّ‬
‫تترى‪ ،‬وليس بآخرها‪ ،‬تطال الحفاة العراة في البنيان‪ ،‬وتوسيد المضضر إلضضى غيضضر‬
‫أهله‪ ،‬ولفائف كأسمه البخت المائلة فوق رؤوس الكاسيات العاريات‪.‬‬
‫وفي الحديث الصحيح أنه‪:‬‬

‫‪ ( )195‬في ظلل القرآن ‪.11/37‬‬


‫‪ ( )196‬المرجع السابق‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫)ل تقوم الساعة حتى تخرج نار مضضن أرض الحجضضاز تضضضيء أعنضضاق البضضل‬
‫ببصرى( )‪.(197‬‬
‫وبصري قرب الجولن جنوب دمشق‪.‬‬
‫وقد تحدث مؤرخ المدينة السمهودي عن نار عظيمة التهبت مضضن بضضاطن‬
‫ما قرب حرة المدينضضة الشضضرقية سضضنة ‪654‬هضض حضضتى جمضضدت‬ ‫الرض وسالت أيا ً‬
‫حجارة سوداء‪ ،‬وكان نورها يشضضاهد مضضن أطضضراف الحجضضاز‪ ،‬وشضضهد رعضضاة البضضل‬
‫ببصري أن إبلهم حصل لها التفات غريب ل يدرونه)‪.(198‬‬
‫فإن لم تكن هذه النار هضضي المقصضضودة فضضي الحضضديث فضضإن نضضاًرا وشضضيكة‬
‫الخروج بالحجاز ستصاحب اكتشاف حقول النفط فيها بعد العزم على التنقيب‬
‫وازدياد احتمالت وجود النفط حاليا قد تكون هي النار التي سضضتمد لهضضا أعنضضاق‬
‫البل ببصرى‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬
‫وللمحدث الهندي صديق حسن خان كتاب )الذاعضضة لمضضا كضضان وسضضيكون‬
‫بيدي يدي الساعة(‪ ،‬جمع فيه علماتها‪ ،‬وقد أعيد طبعه‪.‬‬
‫وليس للمؤمن إل أن يصضضدق ويضضوقن بقضضرب السضضاعة‪ ،‬وإن كضضان ذلضضك ل‬
‫يغنيه عن الخذ بالسباب والعمل بظاهر الشرع‪ ،‬فإنه ل يدري ما بين العلمات‬
‫وبين قيام الساعة من زمن ومدة‪.‬‬
‫والمهم الذي يجب أن يفطن له الداعيضضة أثنضضاء انتبضضاهه لحصضضاء علمضضات‬
‫الساعة ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلة اليمان واضمحلله‬
‫فا إزاء كل سبب تواترت عند المضضؤمنين كضضثرة‬ ‫عند اقترابها‪ ،‬فيأخذ حذًرا مضاع ً‬
‫تأديته إلى ذاك الضمحلل‪.‬‬
‫ومراقبة تواريخ الفتن ومصائر المفتنين يرينا ترديضضا كضضثيًرا مضضا سضضار فيضضه‬
‫الخضضارج عضضن الجماعضضة‪ ،‬ووصضضل بضضه أخي ضًرا إلضضى تضضرك الصضضلة والتنصضضل مضضن‬
‫اللتزامات السلمية‪.‬‬
‫ولذلك وجب أن يجفل الداعية من اسم الفتنة‪ ،‬ويقشعر جلضده مضن كضل‬
‫نداء عصيان لوامر الجماعة وخطتها‪ ،‬أل يسير في طريق ضمور واليمان فضضي‬
‫ظرف مساعد من طبيعة آخر الزمان‪ ،‬حيث )تكثر الفتن( كما قال رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫كيف ل والنفاق في آخر الزمان يعم القطار حضضتى يغضضزو نفضضس المدينضضة‬
‫المنورة التي هي معقل اليمان وداره؟‬
‫ففي الحديث الصحيح‪:‬‬
‫)‪(199‬‬
‫‪.‬‬ ‫)إن اليمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها(‬
‫ولكن مع ذلك فإن أهلهضا ل يسضتطيعون فضي آخضر الزمضان الثبضات علضى‬
‫إيمانهم‪ ،‬فيتركونها استكباًرا ونفاًقا وهي على أحسن ما تكون من وفرة الثمار‬
‫والعمران‪ ،‬ويأبون أن يجاوروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن يوصفوا‬
‫بأنهم من سكنة المدينة‪ ،‬والعياذ بالله‪.‬‬
‫وقد ورد الخبر الصحيح بضضذلك فضضي قضضول رسضضول اللضضه صضضلى اللضضه عليضضه‬
‫وسلم‪:‬‬
‫‪ ( )197‬صحيح مسلم ‪.8/180‬‬
‫‪ ( )198‬رسائل في تاريخ المدينة‪ ،‬نشرها حمد الجاسر‪.‬‬
‫‪ ( )199‬صحيح البخاري ‪.3/26‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫)يتركون المدينة على خير ما كانت‪ ،‬ل يغشاها إل العواف‪ ،‬يريد‪ :‬عوافي‬
‫السباع والطير‪.‬‬
‫وآخر من يحشر‪ :‬راعيان من مزينضضة يريضضدان المدينضضة‪ ،‬ينعقضضان بغنمهمضضا‪،‬‬
‫شا‪ ،‬حتى إذا بلغا ثنية الوداع‪ :‬خروا على وجوههما( )‪.(200‬‬ ‫فيجدانها وح ً‬
‫)وروى مالك عن ابن حماس عن عمه عضضن أبضضي هريضضرة رفعضضه‪ :‬لتضضتركن‬
‫المدينة على أحسن ما كانت‪ ،‬حتى يدخل الضضذئب فيعضضوي علضضى بعضضض سضضواري‬
‫المسجد أو على المنبر‪ ،‬قالوا‪ :‬فلمضن تكضون ثمارهضا؟ قضال‪ :‬للعضوافي‪ :‬السضباع‬
‫والطير‪.‬‬
‫أخرجه معن بن عيسي في الموطأ عن مالك‪ ،‬ورواه جماعة من الثقات‬
‫خارج الموطأ)‪.((201‬‬
‫)وروى عمر بن شبة باسضضناد صضضحيح عضضن عضضوف بضضن مالضضك قضضال‪ :‬دخضضل‬
‫رسول الله المسجد‪ ،‬ثم نظر إلينا فقال‪ :‬أما والله ليدعنها أهلها مذللة أربعيضضن‬
‫ما للعوافي()‪.(202‬‬‫عا ً‬
‫وعمر هذا ثقة‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫)عمر بن شبة بن عبيدة‪ ..‬البصري‪ ،‬النجوى الخباري نزل بغداد‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم‪ :‬كتبت عنه مع أبي وهو صدوق صاحب عربية وأدب‪.‬‬
‫وقال الدارقطني‪ :‬ثقة‪.‬‬
‫)‪(203‬‬
‫‪.‬‬ ‫وذكره ابن حبان في الثقات وقال‪ :‬مستقيم الحديث(‬
‫أفرأيت؟‬
‫أهناك أشنع من هذه الفتنة وأكثرها منها هول؟‬
‫منبر رسضضول اللضضه صضضلى اللضضه عليضضه وسضضلم يضضأتي الضضذئب فيعضضوي عليضضه!‬
‫وسواري مسجد رسول الله صلى اللضضه عليضضه وسضضلم الضضتي صضضلى عنضضدها كبضضار‬
‫الصحابة وأفذاذ العيان يعوي عندها الذئب!‬
‫فإذا كانت مثل هذه الفتنة العارمة تحدث في موطن اليمضضان ول يسضضلم‬
‫منها مؤمنو المدينة‪ ،‬فكيف بمقدار الخطر الذي تفتحه علينا الفتضضن فضضي غيرهضضا‬
‫من البلد؟‬
‫دا عن البأس خوفا أن يكضضون‬ ‫إن الداعية يعتبر‪ ،‬ويدع الكثير مما يراه بعي ً‬
‫باًبا وذريعة توصله إلى ما به البأس‪.‬‬
‫ولفؤاد البصير رجفة مميزة عند ذكر هذه الخبار‪ ،‬تلجئه ولبد إلضضى حضضذر‬
‫مضاعف يحفظ به ثروة العمال الصالحة التي حازها من خلل نشضضاطه غاديضضا‬
‫حا في مصالح الدعوة‪ ،‬أل يبددها في صفقة غابنة‪ ،‬مع صرخة فاتنة‪.‬‬ ‫ورائ ً‬

‫]‪ [20‬دماء على المصحف‬


‫يرينا استقراء واقع العمل السلمي وتاريخه القريب‪ ،‬في كثير من‬
‫البلد‪ ،‬أن أي قوة من قوى الحركة السلمية وتجمعاتها‪ ،‬حين تنطلق انطلقا‬
‫مبدؤه النية الخالصة لنيل رضا الله سبحانه‪ ،‬فإن )شمولية السلم( تسهم‬
‫(‬ ‫‪)200‬‬
‫(‬ ‫‪)201‬‬
‫(‬ ‫‪)202‬‬
‫(‬ ‫‪)203‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫مفاهيم الحركة بسماتها‪ ،‬مقرونة باتجاه عملي لنتشال أكبر عدد ممكن من‬
‫الشباب من براثن الضياع‪ .‬وتظهر هذه الشمولية ورغبة النتشال واضحة في‬
‫مفاهيم الجماعة وشروطها‪ ،‬فترى جناسا بديعا بين أحكام السلم كلها بارزة‬
‫في تصرفات دعاتها وسلوكهم‪ ،‬ل تخطئ عين المعامل لهم رؤية ما فيه من‬
‫دا عن التكلف‬ ‫بيان وبلغة تطبيقية‪ ،‬كما ترى خطابها للناس بسيط بعي ً‬
‫والجتهاد الغريب يجعله مفهوما لدى الجميع‪ ،‬مع شرط متشدد في التجميع‬
‫والتأمير يمنع احتمال النحراف‪.‬‬
‫فالجماعة الصحيحة التجاه ل تعرف )القصورية(‪ ،‬ول يفضح مستوى‬
‫أعضائها التربوي قولها وادعاءها‪ ،‬بل هم يعظون ويبشرون بحكمة‪ ،‬ويجعلون‬
‫بينهم وبين البدعة ستًرا‪ ،‬ويربأون بأنفسهم عن تجزئ يحصر قضية السلم‬
‫في ثانويات يطغي الهتمام بها على أصول العقيدة وعلى ما تعم بإهماله‬
‫البلوي على المة من الحكام‪ ،‬مثلما يربأون بها عن الصطلح المبهم‪،‬‬
‫دا‪.‬‬
‫والجدل في الفروع‪ ،‬إذ ليس عمل الدعوة محاورات فلسفة أب ً‬
‫ولذلك كان لبد أن ترفع مثل هذه الجماعة أثناء مراحلها الولى من‬
‫خططها احتمال قبول من يخالف سمتها هذا بين صفوفها‪ ،‬وأن تلغي بتاًتا‬
‫رغبة التكاثر بالعضاء‪ ،‬إذ أن الهدف الذي من أجله وجدت الحركة السلمية‬
‫أرفع من مجرد التكاثر وأسمى‪ ،‬ول تحل أزمة المسلمين الحاضرة بكثرة‬
‫المتجادلين في الجزئيات‪ ،‬فإن الناس تلفهم ظلمات متراكبة‪ ،‬من البدع‪ ،‬أو‬
‫اليمان ببعض الكتاب والكفر ببعض‪ .‬كما أن دعاة السلم أنفسهم ربما لفتهم‬
‫ظلمات الرياء والهوى ومحبة الرياسة‪ ،‬والحاجة ماسة إلى إيقاد أنوار إيمانية‬
‫تجلي الظلم الذي سجى‪.‬‬
‫الظلم بأخفى من رياء ول شرك‬ ‫فليس دبيب الذر فوق الضفاة في‬
‫فهما يتسربان بأخفى من مشية النمل فوق صخرة ملساء في ليلة‬
‫ظلماء‪.‬‬
‫فأما الشرك الخفي فهو ما يقع فيه الناس اليوم من الحتكام إلى غير‬
‫دا وتكبًرا‪.‬‬
‫ما أنزل الله تعالى جحو ً‬
‫وأما الرياء فهو ما يقع بسببه الخلف بين دعاة السلم أحياًنا‪ ،‬فترتفع‬
‫معه الخوة ول ينتهي حتى يقوم شاعرهم يعاتب ويوبخ‪:‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫أبعد الصفاء ومحض الخاء‬
‫بقيم الجفاء بنا يخطب؟‬
‫وقد كان مشربنا صافيا‬
‫زماًنا‪ ،‬فهل كدر المشرب؟‬
‫وكل أحد يعلم أنه زلل لم يكدر‪ ،‬ولم تغيره الشوائب‪ ،‬فإسلمنا هو‬
‫إسلمنا‪.‬‬
‫ودعوتنا هي دعوتنا‪.‬‬
‫وأساليبنا تزيد تجارب اليام صفاء‪.‬‬
‫ولكن النفوس هي التي تتكدر‪ ،‬فيتغير المذاق‪ ،‬ويصبح الحلو مًرا‪.‬‬
‫والظلم يلف هذا الشارب المتكدر‪ ،‬مثلما يلف ذاك الكافر المتعثر‪ ،‬وإن‬
‫اختلف أسوداده‪.‬‬
‫فمن أحسن قول‪ ،‬وأوقد نوًرا‪ ،‬فهو للصواب قد فعل‪ ،‬ومن خالف وسار‬
‫عكس التجاه‪ :‬ناديناه أن‪:‬‬
‫*خل الطريق لمن يبني المنار به*‬
‫ل لننا نحتكره‪ ،‬أو نرى ضيقه‪ ،‬بل هو طريق فسيح عريض‪ ،‬ولم تجد‬
‫الثرة لها فيه ثغرة لتدلف منها فتسده‪ ،‬ول يقف التعنت خلف أبوابه ليمنع‬
‫ولوج مخطئ قد استبد به الحنين‪ ،‬وملك عليه التحذير من الصفقة الغابنة‬
‫جوانب قلبه‪ ،‬فأطلق منه لسان العتذار‪ ،‬وعزم على الوبة إلى مباهج الفطنة‪،‬‬
‫ولكن لن الشرع أعطانا حق إزالة أسباب الضرر التي توضع عبر طريقنا‪،‬‬
‫وإنما نحن بناة منارات هدى‪ ،‬ليس لذي معاكسة أن يزاحمنا في طريق مهنتنا‬
‫التي شغفناها حبا في هذه الحياة‪ ،‬وما من مخلص إل ومتاعب المة تخاطبه‬
‫أن يساعدنا ويشد أزرنا‪ ،‬أو يدعنا نوقد النوار‪ ،‬ونواصل رفع القواعد من‪:‬‬
‫المنار السابع بعد العشرين‪ ،‬الناشر لشعاع"‬
‫التعاظ بالتاريخ‬
‫فإن التاريخ يكشف لنا عن دور اليهضضود فضضي تجريضضح القيضضادات المسضضلمة‬
‫كلما رأوا نجاحها وفشل أساليبهم الخرى في محاربة السلم‪ ،‬بل أصبح النيضضل‬
‫من القادة‪ ،‬ومحاولضضة تحطيضضم مكضضانتهم المعنويضضة فضضي نفضضوس المسضضلمين‪ ،‬هضضو‬
‫السلوب المفضل عندهم‪.‬‬
‫إنه )التماسك حول العقيدة القومية والقيادة المينة هو الذي يتعب‬
‫اليهود وأعداء الجماعة المسلمة –في كل زمان‪ -‬وهو الذي يكلفهم الجهد‬
‫والمشقة‪ ،‬ومن ثم تتجه جهودهم أول لتحطيمه()‪.(204‬‬
‫وتوضح الفتنة التي حدثت زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه هذا‬
‫الدور والتخطيط اليهودي جليا‪ ،‬ودورانه حول محور واحد هو‪ :‬إفساد طاعة‬
‫الجنود لمرائهم‪.‬‬
‫فقد كانت لعثمان رضي الله عنه اجتهادات في أمور بسيطة استغلها‬
‫المغرضون في التشنيع عليه وإلباسها لبوس الحداث في الدين‪ ،‬مثل إتمامه‬
‫الصلة في منى أيام موسم الحج‪ ،‬وحرق المصاحف التي تخالف مصحفه‬
‫الذي دونه كبار قراء الصحابة بإشرافه‪ ،‬وإنهائه نفي الحكم بن أبي العاص‬

‫‪ ()204‬في ظلل القرآن ‪.4/222‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ورده إلى المدينة بعد أن أبعده النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬عنها‪ .‬وله خطبة‬
‫أثبتها ابن العربي في كتابه )العواصم من القواصم( بين فيها صواب اجتهاداته‬
‫هذه ‪.‬‬
‫ولكن اليهود رصدوا هذا الختلف البسيط في الصف المسلم‪ ،‬فدسوا‬
‫رجل منهم تظاهر بالسلم‪ ،‬اسمه عبد الله بن سبأ‪ ،‬ليطور الخلف إلى فتنة‬
‫عارمة‪.‬‬
‫يقول الطبري في تاريخ‪:‬‬
‫)كان عبد الله بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء‪ ،‬أمه سوداء‪ ،‬فأسلم زمان‬
‫عثمان‪ ،‬ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضللتهم‪ ،‬فبدأ بالحجاز‪ ،‬ثم‬
‫البصرة‪ ،‬ثم الكوفة‪ ،‬ثم الشام‪ ،‬فلم يقدر على ما يريد عنه أحد من أهل الشام‬
‫فأخرجوه حتى أتى مصر(‪.‬‬
‫لكنه كان يتسقط خلل رحلته هذه كل سارق وقاطع طريق ومفسد‬
‫نالته عقوبة من أحد الولة فتوترت نفسه‪ ،‬ويواعدهم أن يكونوا بالمدينة أيام‬
‫جا بمكة‪ ،‬لينقلبوا على عثمان والناس غافلون‪.‬‬ ‫يكون الناس حجا ً‬
‫ووضع لهم خطة أوجزها بقوله لهم‪:‬‬
‫)انهضوا في هذا المر‪ ،‬فحركوه‪ ،‬وابدأوا بالطعن على أمرائكم‪،‬‬
‫وأظهروا المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ :‬تستميلوا الناس‪ ،‬وأدعوهم إلى‬
‫هذا المر()‪.(205‬‬
‫هكذا‪ ،‬باسم المر بالمعروف يكون الهدم‪.‬‬
‫إنها الخطة الدائمة لكل ذي هوى‪.‬‬
‫وباسم مصلحة الدعوة تتطور الخلفات اليوم إلى فتن‪.‬‬
‫ثم كان من ابن سبأ أن‪:‬‬
‫)بث دعاته‪ ،‬وكاتب من كان استفسد في المصار وكاتبوه ودعوا في‬
‫السر إلى ما عليه رأيهم‪ ،‬وأظهروا المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪،‬‬
‫وجعلوا يكتبون إلى المصار بكتب يضعونها في عيوب ولتهم‪ ،‬ويكاتبهم‬
‫إخوانهم بمثل ذلك‪ ،‬ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون‪،‬‬
‫فيقرؤه أولئك في أمصارهم وهؤلء في أمصارهم‪ ،‬حتى تناولوا بذلك المدينة‪،‬‬
‫وأوسعوا الرض إذاعة‪ ،‬وهم يريدون غير ما يظهرون‪ ،‬ويسرون غير ما يبدون‪،‬‬
‫فيقول أهل كل مصر‪ :‬إنا لفي عافية مما ابتلي به هؤلء()‪.(206‬‬
‫وبهذا فسدت النفوس‪ ،‬وحان يوم انقلبهم‪ ،‬فإذا بهم حول دار عثمان‬
‫يحاصرونها‪ ،‬ثم دخلوا عليه وانفردوا به ليأتوا بالعجائب!!‬
‫)فضربه الغافقي بحديدة معه‪ ،‬وضربه المصحف برجله‪ ،‬فاستدار‬
‫المصحف واستقر بين يديه‪ ،‬وسألت عليه الدماء( )‪.(207‬‬
‫)فسال الدم على المصحف وهم في ذلك يهابون في قتله‪ ،‬وكان كبيًرا‪،‬‬
‫وغشى عليه‪ ،‬ودخل آخرون‪ ،‬فلما رأوه مغشيا عليه جروا برجله‪ ،‬فصاحت‬

‫‪ ()205‬تاريخ الطبري‪ ،‬الطبعة الولى‪ ،‬القسم ‪.6/2946/3018/3020‬‬


‫‪ ()206‬تاريخ الطبري‪ ،‬الطبعة الولي‪ ،‬القسم الول ‪.6/2943/3018/3020‬‬
‫‪ ()207‬تاريخ الطبري‪ ،‬الطبعة الولي‪ ،‬القسم الول ‪.6/2943/3018/3020‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫طا سيفه ليضعه في بطنه فوقته نائلة‪ ،‬فقطع‬ ‫نائلة وبناته‪ ،‬وجاء التجيبي مختر ً‬
‫)‪(208‬‬
‫‪.‬‬ ‫يدها‪ ،‬واتكأ بالسيف عليه في صدره‪ ،‬وقتل عثمان رضي الله عنه(‬
‫)وأما عمرو بن الحمق فوثب على صدره وبه رمق‪ ،‬فطعنه تسع‬
‫طعنات قال‪ :‬فأما ثلث منها فإني طعنتهن إياه لله تعالى‪ :‬وأما ست فلما كان‬
‫في صدري عليه‪.‬‬
‫وأرادوا قطع رأسه‪ ،‬فوقعت نائلة عليه وأم البنين‪ ،‬فصاحتا وضربتا‬
‫الوجوه‪ ،‬فقال ابن عديس‪ :‬اتركوه‪ ،‬وأقبل عمير بن ضابئ فوثب عليه‪ ،‬فكسر‬
‫ضلًعا من أضلعه()‪.(209‬‬
‫فبربك‪ :‬أهذا خلف بين مسلمين أم مجزرة شيوعية كمجزرة الموصل؟‬
‫ما‪.‬‬
‫هكذا أعداء هذا السلم دو ً‬
‫يريدون قطع رأس الجماعة‪ ،‬وكسر أضلع تنظيماتها‪ ،‬والمبرر‪) :‬لله(‬
‫كما قال ابن الحمق!!‬
‫وبصيحة )لله( هذه ضاع ألوف من شباب الدعوة بالمس القريب‪،‬‬
‫وثبطت جموع‪ ،‬وكشفت أسرار‪ ،‬وملئت سجون‪.‬‬
‫ولو صدقوا لقالوا مثل ما قال ابن الحمق مستدركا‪) :‬ست لما في‬
‫الصدر(!!‬
‫وأراد أهل عثمان دفنه‪.‬‬
‫)فلما سمعوا بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة‪ ،‬وخرج به ناس‬
‫طا بالمدينة يقال له‪ :‬حش كوكب‪ ،‬كانت‬ ‫يسير من أهله وهم يديرون به حائ ً‬
‫اليهود تدفن فيه موتاهم‪ ،‬فلما خرج به على الناس رجموا سريره‪ ،‬وهموا‬
‫بطرحه(‪.‬‬
‫ذلك أنهم منعوا دفعنه بالبقيع وقالوا‪:‬‬
‫)‪(210‬‬
‫‪.‬‬ ‫دا(‬
‫)والله ل يدفن في مقابر المسلمين أب ً‬
‫وقتل مع عثمان عبدان دافعا عنه‪) ،‬فجر بأرجلهما‪ ،‬فرمي بهما على‬
‫البلدط‪ ،‬فأكلتهما الكلب()‪.(211‬‬
‫فانظر كيف تطور العتراض على الجتهادات إلى قتل‪ ،‬وكسر ضلوع‪،‬‬
‫وتمثيل وطعنات ودفن في مقابر اليهود‪ ،‬وتقديم جثث أعزها الله وكرمها‬
‫ما للكلب!!‬‫طعا ً‬
‫فهل يأمن المخلصون إذا لم يسلكوا سبيل العتراض الصحيح اليوم‬
‫ومالوا إلى تشهير وافتتان أن تنتهي اعتراضاتهم إلى أضرار كبيرة؟‬
‫ل والله‪ ،‬فإن من شأن الفتن دوما أنها تتطور وتفلت السيطرة عليها‪،‬‬
‫والفطن من وعظه التاريخ‪ ،‬وسارع إلى تناوش قبس من‪:‬‬
‫النور الثامن بعد العشرين‪ ،‬المتوقد بجمال‪:‬‬
‫العراض عن الجاهلين‬
‫فإن الخارجين يديمون الحتكاك بأفراد الجماعة كي يبقوا مادة‬
‫لتماسكهم‪ ،‬ولبد من تفويت مقصدهم بالسكوت وعدم اللتفات إلى‬
‫‪ ()208‬تاريخ الطبري‪ ،‬الطبعة الولي‪ ،‬القسم الول ‪.6/2943/3018/3020‬‬
‫‪ ()209‬الكامل لبن الثير ‪.3/179‬‬
‫‪()210‬‬
‫‪()211‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫تحرشهم‪ ،‬مع نظرة رأفة ورحمة لهم تقود لسان أحدنا إلى أن يقول‪ :‬اللهم‬
‫اغفر لقومي فإنهم ل يعلمون‪.‬‬
‫فمن أخلفه ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬أنه كان ل يغضب لنفسه قط‪،‬‬
‫وهذا يوجب على الداعية إن سمع كلمة تعريض به أن ل ينفعل‪ ،‬إن المكر‬
‫السيء ل يحيق إل بأهله‪ ،‬وقد قال الله تعالى عن نفسه )وهو يتولى‬
‫الصالحين(‪ ،‬والعراض عن الجاهلين معنى من معاني الصلح قطًعا‪.‬‬
‫وليعلم الداعية أن مدافعة الخصوم ل تكون أشد من مدافعة العداء‬
‫ما وإنما‬ ‫في ساحات القتال‪ ،‬والمدافعة في ساحة القتال ل تكون باللتحام دائ ً‬
‫ضا‪ ،‬ولما نادى أبو سفيان المسلمين في معركة‬ ‫هناك الختفاء والسكوت أي ً‬
‫أحد بأعلى صوته‪ :‬هل فيكم محمد؟ هل فيكم أبو بكر؟ هل فيكم عمر؟ لم‬
‫يجبه أحد‪ ،‬مع أن الجواب كان أبعث للغيظ في قلب أبي سفيان من‬
‫السكوت‪ ،‬ولكن الموقف كان يستلزم السكوت‪.‬‬
‫فإذا حصل مثل هذا في سوح القتال فحصوله في الحياة اليومية أولى‪.‬‬
‫إننا أصحاب دعوة أيها الخوة‪ ،‬ول يجوز أن ننزل عن مستوى دعوتنا‬
‫الرفيع إلى حضيض التراشق بردئ الكلم‪ ،‬ول يعذرنا الله إذا تركنا هذا‬
‫المستوى العالي الذي أكرمنا الله به بحجة أن غيرنا جرنا إليه‪ ،‬إذ المؤمن ل‬
‫يترك درجة من درجات إيمانه باستغواء من شيطان أو بجهالة من جاهل‪ ،‬بل‬
‫من الواجب أن نقول‪ :‬الله اغفر لنا وله‪ ،‬واهدنا وإياه‪ ،‬ول تجعل غضبنا‬
‫لنفسنا‪ ،‬ول في عملنا شيئا من أهوائنا‪.‬‬
‫فإذا قلنا ذلك فإن سكينة غامرة ستتنزل على قلوبنا تزيد متعتنا‬
‫بأضواء‪:‬‬
‫النور التاسع بعد العشرين‪ ،‬حين يكشف لنا سبيل‪:‬‬
‫كتبت الشاعة‬
‫بعدما عاب الله إذاعتها في قوله‪:‬‬
‫َ‬ ‫ن أ َوِ ال ْ َ‬ ‫ذا جاَءهُ َ‬
‫ل‬‫سو ِ‬ ‫دوهُ إ َِلى الّر ُ‬
‫عوا ب ِهِ وَل َوْ َر ّ‬ ‫ذا ُ‬‫فأ َ‬ ‫خوْ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ال ْ‬ ‫م َ‬‫مٌر ّ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫)إ ِ َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ضل اللهِ عَلي ْك ْ‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م وَلوْل ف ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫ه ِ‬ ‫ست َن ْب ِطون َ ُ‬‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ِ‬ ‫م ُ‬
‫م لعَل ِ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫مرِ ِ‬‫وَإ َِلى أوِلي ال ْ‬
‫ن إ ِل ّ قَِليل ً(‪.‬‬ ‫طا َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ه ل َت ّب َعْت ُ ُ‬
‫م ال ّ‬ ‫مت ُ ُ‬
‫ح َ‬
‫وََر ْ‬
‫)والصورة التي يرسمها هذا النص‪ ،‬هي صورة جماعة في المعسكر‬
‫السلمي‪ ،‬لم تألف نفوسهم النظام‪ ،‬ولم يدركوا قيمة الشاعة في خلخلة‬
‫المعسكر‪ ،‬وفي النتائج التي تترتب عليها‪ ،‬وقد تكون قاصمة‪ ،‬لنهم لم يرتفعوا‬
‫إلى مستوى الحداث‪ ،‬ولم يدركوا جدية الموقف‪ ،‬وأن كلمة عابرة وفلتة‬
‫لسان‪ ،‬قد تجر من العواقب على الشخص ذاته‪ ،‬وعلى جماعته كلها ما ل‬
‫يخطر له ببال‪ ،‬وما ل يتدارك بعد وقوعه بحال؟ أو ربما لنهم ل يشعرون‬
‫بالولء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر‪.‬‬
‫وهكذا ل يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا‬
‫وهناك‪ ،‬وإذاعتها‪ ،‬حين يتلقاها لسان عن لسان‪ ،‬سواء كانت إشاعة أمن أو‬
‫إشاعة خوف‪ ،‬فكلتاهما قد يكون لشاعتها خطورة مدمرة‪ ،‬فإن إشاعة أمر‬
‫المن مثل في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو‪ ...‬إشاعة أمر‬
‫المن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعا من التراخي مهما تكن الوامر‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫باليقظة‪ ،‬لن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد‬
‫الوامر‪ ،‬وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية‪.‬‬
‫كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته‪ ،‬ثابت القدام‬
‫بسبب هذه الطمأنينة‪ ،‬قد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتبا ً‬
‫كا‪،‬‬
‫وحركات ل ضرورة لها لتقاء مظان الخوف‪ ،‬وقد تكون كذلك القضية‪.‬‬
‫وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه‪ ،‬أو لم‬
‫يكتمل ولؤه لقيادته‪ ،‬أو هما مًعا‪ ،‬ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في‬
‫المجتمع المسلم حينذاك‪ ،‬باحتوائه طوائف مختلفة المستويات في اليمان‪،‬‬
‫ومختلفة المستويات في الدراك‪ ،‬ومختلفة المستويات في الولء‪ ،‬وهذه‬
‫الخلخة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني‪.‬‬
‫والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ه‬
‫ست َن ْب ِطون َ ُ‬
‫ن يَ ْ‬
‫ذي َ‬
‫ه ال ِ‬ ‫م ل َعَل ِ َ‬
‫م ُ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ل وَإ َِلى أوِلي ال ْ‬
‫مرِ ِ‬ ‫دوهُ إ َِلى الّر ُ‬
‫سو ِ‬ ‫)وَل َوْ َر ّ‬
‫م(‪.‬‬
‫من ْهُ ْ‬
‫ِ‬
‫فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم‪ ،‬الذي يقوده أمير مؤمن –‬
‫بشرط اليمان ذاك وحده‪ -‬حين يبلغ إلى أذنيه خبر‪ ،‬أن يسارع فيخبر به نبيه‬
‫أو أميره‪ ،‬ل أن ينقله ويذيعه بين زملئه‪ ،‬أو بين من ل شانه لهم به‪ ،‬لن قيادته‬
‫المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة‪ ،‬كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة‬
‫الخبر –حتى بعد ثبوته‪ -‬أو عدم إذاعته( )‪.(212‬‬
‫فمن أرته هذه النوار طريقة فهو الموفق‪ ،‬وإل أوقدنا له‪:‬‬
‫النور الثلثين كمحاولة أخيرة‪:‬‬
‫وهو نور تحذيري أحمر اللون ينذر بالخطر البالغ‪ ،‬ويشير إلى‬
‫وجوب‪:‬‬
‫خوف تنكر الرض والمؤمنين للخوالف‬
‫فكل امرئ لقى الذي كان قدما‪ ،‬وكل امرئ يجزى بما كان ساعيا‪،‬‬
‫وجل حصاد المرء من حيث يزرع‪.‬‬
‫فمن خالف الجماعة فإنه لن يجد إل وحشة‪ ،‬حتى قال كعب التائب‬
‫رضي الله عنه‪) :‬تنكرت لي الرض فما هي بالتي أعرف(‪.‬‬
‫)فتتنكر له نفسه حتى ما كأنه هو‪ ،‬ول كأن أهله وأصحابه ومن يشفق‬
‫عليه بالذين يعرفهم‪ ،‬وهذا سر من الله ل يخفى إل على من هو ميت القلب(‬
‫)‪.(213‬‬
‫)والخوف والهم‪ :‬مع الريبة‪ ،‬والمن والسرور‪ :‬مع البراءة من الذنب‪.‬‬
‫فما في الرض أشجع من بري ول في الرض أخوف من مريب وهذا‬
‫القدر قد ينتفع به المؤمن البصير إذا ابتلي به ثم راجع()‪.(214‬‬
‫وإنه لمما يحرص عليه المؤمن العاقل أن يكثر من يحبه من المؤمنين‪،‬‬
‫ويديم محبتهم له حتى ساعة موتة‪ ،‬ليصلوا على جنازته فيقولوا‪ :‬اللهم اغفر‬
‫لحينا وميتنا‪ ،‬اللهم اغفر لنا وله‪.‬‬

‫‪ ()212‬في ظلل القرآن ‪.5/171‬‬


‫‪ ()213‬زاد المعاد ‪.3/20‬‬
‫‪ ()214‬المصدر السابق‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وهذا كما حرص عليه كعب بن مالك التائب رضي الله عنه‪ ،‬فإنه وصف‬
‫نفسيته أيام المقاطعة فقال‪:‬‬
‫)ما من شيء أهم إلي من أن أموت فل يصلي علي النبي ‪-‬صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ ، -‬أو يموت رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬فأكون من الناس‬
‫بتلك المنزلة‪ ،‬فل يكلمني أحد منهم‪ ،‬ول يصلي علي( )‪.(215‬‬
‫فالذي لم تعجبه قواعدنا وموازيننا وأنوارنا السابقة‪ ،‬ويتأول لخلفه مع‬
‫ذلك بعض التأويل‪ ،‬مدعو إلى أن يرهب مقاطعتنا له‪ ،‬أل يموت من غير‬
‫مستغفر له من الدعاة‪.‬‬
‫ذلك أن الفقهاء أجازوا لنا ترك السلم على مقارف الذنب‪ ،‬وترك رد‬
‫السلم عليه‪ ،‬تأديبا له‪ ،‬وخلع البيعة‪ ،‬ونكث العهد‪ ،‬من أكبر الذنوب‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬يجب أن نوقع هذه العقوبة بحذر بالغ‪ ،‬وبأمر المير ل بمبادرة من‬
‫التباع‪ ،‬ولكن الفقه أجازها استثناء من المر بإفشاء السلم‪ ،‬لتعلقها بمعنى‬
‫الردع والتأديب‪.‬‬
‫قال أبو داود‪:‬‬
‫)إذا كانت الهجرة لله فليس من هذا شيء‪ ،‬وإن عمر بن عبد العزيز‬
‫غطى وجهه عن رجل(‪.‬‬
‫)‪(216‬‬
‫‪.‬‬ ‫قال‪) :‬وابن عمر هجر ابنا له إلى أن مات(‬
‫وقد خصص البخاري أكثر من باب في صحيحه لبيان جواز ذلك فقال‪:‬‬
‫)باب‪ :‬هل للمام أن يمنع المجرمين وأهل المعصية من الكلم معه‬
‫والزيادة ونحوه؟()‪.(217‬‬
‫ثم أورد حديث الثلثة الذين خلفوا كجواب على سؤاله‪ ،‬تدليل على‬
‫الجواز‪:‬‬
‫ضا‪:‬‬
‫وقال أي ً‬
‫)‪(218‬‬
‫‪.‬‬ ‫)باب ما يجوز من الهجران لمن عصى(‬
‫ضا‪:‬‬
‫وأورد حديث الثلثة أي ً‬
‫وعلى ذلك مضى فعل العلماء‪ ،‬وعلى الخص هجرهم لمن يبتدع‪.‬‬
‫بل كانوا يهجرون أشقاءهم‪ ،‬كما حدث للمحدث الصدوق الثقة أحمد بن‬
‫حرب الموصلي‪ ،‬إذ‪:‬‬
‫)‪(219‬‬
‫‪.‬‬ ‫)هجرة أخوه على المسألة اللفظ(‬
‫أي لقوله‪ :‬لفظي بالقرآن مخلوق‪ ،‬مع أن قوله هذا تحتمله مذاهب أهل‬
‫السنة‪ ،‬ولكن جهره به في وقت شاعت فيه بدعة خلق القرآن أجفل أخاه‬
‫فانكر عليه‪ ،‬وهجره‪.‬‬
‫وكان إبراهيم بن المنذر الحزامي المدني من ثقات العلماء‪ ،‬ومن شيوخ‬
‫البخاري وغيره‪ ،‬ولكنه أثناء محنة خلق القرآن لن وخلط‪ ،‬فذمه أحمد‪ ،‬ولم‬
‫يرد عليه السلم)‪.(220‬‬
‫صحيح البخاري ‪.6/88‬‬ ‫‪()215‬‬
‫سنن أبي داود ‪.2/577‬‬ ‫‪()216‬‬
‫صحيح البخاري ‪.9/102‬‬ ‫‪()217‬‬
‫مجموع فتاوى ابن تيمية ‪.10/277‬‬ ‫‪()218‬‬
‫صحيح البخاري ‪.8/26‬‬ ‫‪()219‬‬
‫تهذيب التهذيب ‪.1/23/167‬‬ ‫‪()220‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ومن مثل هذا استل ابن تيمية مشروعية الجر للمخطئ وإن كان من‬
‫أهل الفضل في جوانب أخرى)‪.(221‬‬
‫وكل هذا مما فصله الحافظ ابن حجر بتفصيل جيد‪ ،‬فقال‪) :‬ذهب‬
‫الجمهور إلى أنه ل يسلم على الفاسق ول المبتدع(‪.‬‬
‫قال‪) :‬وقال المهلب –أحد شراح البخاري‪ :-‬ترك السلم على أهل‬
‫المعاصي سنة ماضية‪ ،‬وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع‪ ،‬وخالف‬
‫في ذلك جماعة(‪.‬‬
‫)وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطي خوارم المروءة‪،‬‬
‫ككثرة المزاج واللهو وفحش القول والجلوس في السواق لرؤية من يمر من‬
‫النساء‪ ،‬ونحن ذلك‪ .‬وحكى ابن رشد قال‪ :‬قال مالك‪ :‬ل يسلم على أهل‬
‫الهواء‪ ،‬قال ابن دقيقة العيد‪ :‬ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم‪ ،‬والتبري‬
‫منهم(‪.‬‬
‫ثم قال‪) :‬وقال النووي‪ :‬وأما المبتدع ومن اقترف ذنبا عظيما ولم يتب‬
‫منه فل يسلم عليهم ول يرد عليهم السلم‪ ،‬كما قال جماعة من أهل العلم‪،‬‬
‫واحتج البخاري لذلك بقصة كعب بن مالك(‪.‬‬
‫)‪(222‬‬
‫‪.‬‬ ‫قال )وهو مما يخص به عموم المر بإفشاء السلم عند الجمهور(‬
‫وليس ترك الجماعة والنزاع معها وعصيان أوامرها بأقل من هذه‬
‫الذنوب التي ذكرها جمهور الفقهاء‪ ،‬والتحلل من الوفاء ببيعة واجبة من أكبر‬
‫ما‪.‬‬
‫خوارم المروءة فوق كونه حرا ً‬
‫فانظر لنفسك أيها المخالف‪.‬‬
‫إن كنت تتأول لنفسك وتأبى التغافر واللتفات إلى عيب النفس‪ ،‬و‬
‫تلزم النجوى‪ ،‬والجل‪ ،‬ول تقيس حالك على التعرب بعد الهجرة‪ ،‬ول تريد‬
‫التعاظ بالتاريخ‪ ،‬ول تتقى طبائع آخر الزمان‪ ،‬فهل ترفق بحالك إزاء مؤمنين‬
‫سوف ل يسلمون عليك ول يستغفرون على جنازتك يوم موتك؟‬
‫فاحفظ مصلحتك‪ ،‬وتواضع‪ ،‬وامش مع القافلة‪ ،‬نحفظ لك حقك ما دمت‬
‫حيا‪ ،‬ونوصلك إلى قبرك باستغفار‪ ،‬ول ندع النائحة المستأجرة تنفرد بنعيك!‬
‫]‪ [21‬نهضة العاثر‬
‫دا كان كثير الوصية والنصح لصحابه‪ ،‬يروي لهم كل يوم‬ ‫بلغنا أن زاه ً‬
‫طرفا من تجاربه في الحياة وتأملته في طبائع النفوس‪ ،‬فلما أنهى حديثه قال‬
‫له مقدم أصحابه‪ :‬لو أوجزت أيها الشيخ معناك في جملة تكون لنا شعاًرا!‬
‫فقال الشيخ‪ :‬نعم‪ ،‬أفعل‪.‬‬
‫فقام‪ ،‬وكتب على الجدار الذي يجلسون عنده‪ ،‬بخط كبير‪:‬‬
‫)ل تمضوا في طريق اليأس‪ ،‬ففي الكون آمال‪ ،‬ول تتجهوا نحو‬
‫الظلمات‪ ،‬ففي الكون شموس(‪.‬‬
‫ثم انصرف‪.‬‬
‫فكانت الشعار‪.‬‬

‫‪ ()221‬مجموع فتاوى ابن تيمية ‪.10/277‬‬


‫‪()222‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫حكمة تضع نفسها أمامنا مع انتهاء استعراضنا للنوار الثلثين المختارة‪،‬‬
‫تشير إلى الكتشاف الذي ل بد أن يصل إليه كل مشتغل بتربية النفوس‬
‫ومعامل لها‪.‬‬
‫حقيقة يراها الجميع‪.‬‬
‫أن بعض النفوس تستلذ اليأس‪ ،‬وتعشق الظلم‪ ،‬لكن المل من حولها‬
‫واسع‪ ،‬والنور غامر‪.‬‬
‫ولذلك وجبت هذه الربتة الخفيفة على كتف المطرق المطأطئ‬
‫الملتف‪ ،‬تنبهه إلى سكينة قريبة منه لو تناوش‪ ،‬وهالة جميلة فوقه لو رفع‬
‫رأسه ونظر‪.‬‬
‫ضا‪،‬‬‫وهل أسطع من هالة شمس هذه الدعوة التي هو فيها‪ ،‬وأنصع بيا ً‬
‫وأشد للة؟‬
‫بداية شجاعة ملت الفراغ‪...‬‬
‫وجهاد يهود والنكليز‪...‬‬
‫وشباب حفظته من الضياع‪...‬‬
‫وفكر إتباعي لم تدنسه بدعة أو فلسفة‪....‬‬
‫ومحن تجددت فيها سنن الثبات‪...‬‬
‫دا‪ ،‬ولكن اشترط أن‬ ‫ونصر من بعد كل ذلك ينادي‪ ،‬ما كان يوما ما بعي ً‬
‫تمد له يد العاملين وتسعى إليه صفوف المنتظمين‪.‬‬
‫فمن لم ير هذه الشموس‪ :‬تركناه إلى ظلمة وإن كان عفيفا طاهر‬
‫الجوارح‪ ،‬حفظا لسمعة الصف المستقيم السائر‪ ،‬واتباعا لوصية ذلك الشيخ‬
‫الفاضل الذي حذر المام البنا‪ ،‬منذ أول أيام الدعوة‪ ،‬من )الصالح الذي ل‬
‫دا‪ ،‬وينتج في العمل‬ ‫يحترم النظام ول يقدر معنى الطاعة‪ ،‬فإن هذا ينفع منفر ً‬
‫وحده‪ ،‬ولكنه يفسد نفوس الجماعة‪ :‬يغريها بصلحه‪ ،‬ويفرقها بخلفه(‪.‬‬
‫قال )فإن استطعت أن تستفيد منه وهو بعيد عن الصفوف فافعل‪ ،‬وإل‬
‫دا خارج الصف ل يقولون‪ :‬خرج‬ ‫فسد الصف واضطرب‪ .‬والناس إذا رأوا واح ً‬
‫واحد‪ ،‬ولكن يقولون‪ :‬صف أعوج‪.‬‬
‫)‪(223‬‬
‫‪.‬‬ ‫فاحترس من هذا كل الحتراس(‬
‫فهذا إذا كان صالحا ل يحترم النظام‪ ،‬فكيف به إن كانت تسيره‬
‫الشهوات؟‬
‫عقل تصرعه الشهوة!‬
‫الخطب أعظم حين ذاك‪ ،‬حيث تتعطل القلوب عن وعيها‪ ،‬والعقول عن‬
‫موازينها‪.‬‬
‫ولخطار مثل هذه الحالة‪ :‬لفت الفقيه الوزير العباسي ابن هبيرة‬
‫)‪(224‬‬
‫‪.‬‬ ‫الدوري أنظارنا‪ ،‬فقال‪) :‬احذروا مصارع العقول‪ ،‬عند التهاب الشهوات(‬
‫وسماه‪ :‬مصرع العقل‪ ،‬للدللة على أن مراده يتجاوز مجرد مصرع‬
‫البدن بالزنا وأمثاله‪ ،‬وأنه يعني ما هنالك من حب رياسة‪ ،‬وهوى انتصار‬

‫‪ ()223‬مذكرات الدعوة والداعية‪.88/‬‬


‫‪ ()224‬ذيل طبقات الحنابلة ‪.1/275‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫للنفس‪ ،‬تفقد العقول معها فطرتها التي تسوقها إلى تحري المصالح ودرء‬
‫المفاسد‪.‬‬
‫وصريع الشهوة ل تنفع معه مجرد تلك الربتة التي ربتناها على كتفا‬
‫اليائس‪ ،‬وإنما يحتاج إلى هذا‪ ،‬في لوم يوقظه من سنة النوم‪.‬‬
‫فمن يلق خيًرا‪ :‬يحمد الناس أمره‬
‫ومن يغو‪ :‬ل يعدم على الغي لئما‬
‫أول قل‪ :‬يحتاج إلى النصيحة الصريحة‪ ،‬والتي لصراحتها يراها البعض‬
‫غليظة‪.‬‬
‫وليست هذه الصراحة عند ذي اللب واليمان مما ينكر علينا‪ ،‬وهي‬
‫عنده من العدوان عليه‪ ،‬بل هي من تمام الحب له والشفقة عليه‪ ،‬فإن‬
‫الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم‪ ،‬وربما يتغلب شيطان على داعية‬
‫في ظرف شبهة فيفقده اتزانه‪ ،‬فهو بحاجة من بعد إلى نصح وتذكير‬
‫بالموازين‪.‬‬
‫ومن هنا كان خير الدعاة‪ :‬أبذلهم للنصيحة‪ ،‬وأكثرهم إذاعة بها‪.‬‬
‫ويقارنه في درجته‪ :‬أحملهم لغلظة لنصيحة‪ ،‬وأعظمهم قبول لها‪.‬‬
‫رسالتان‬
‫ولقد كانت يوما ما قصة نصح‪ ،‬عبر رسالة‪ ،‬من صاحب خير من هؤلء‬
‫الدعاة‪ ،‬قابلتها قصة صحوة واعتذار‪ ،‬من جواد كانت له كبوة‪.‬‬
‫وفي القصص لولى القلوب الحية مواعظ وعبر‪ ،‬وربما تنبه مخطئ إذا‬
‫روبت له‪ ،‬فيكون له فيها بعض مزدجر‪.‬‬
‫وتبدأ القصة بهفوة من داعية‪ ،‬بعد دهر من الحب‪ ،‬يترك معها الجماعة‪،‬‬
‫ويخلع البيعة وينشر قيل وقال‪ ،‬فيعاقبه أميره‪ ،‬ويعاتبه‪ ،‬ويذكره بتفاهة الدنيا‪،‬‬
‫ويكتب إليه أن‪:‬‬
‫)بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫الحمد لله رب العالمين‪ ،‬والصلة والسلم على خاتم النبياء‬
‫والمرسلين‪:‬‬
‫أما بعد أيها الخ هدانا الله وإياك‪.‬‬
‫فإنه مما أدركنا من كلم السلف الول أن الله تعالى إذا أراد بعبد من‬
‫عباده خيًرا‪ :‬جعل فيه ثلث خصال‪:‬‬
‫الفقه في الدين‪.‬‬
‫والزهادة في الدنيا‪.‬‬
‫والبصر بعيوبه‪.‬‬
‫وأود أن نتصارح اليوم ونتكاشف‪ ،‬لعل الله يجعل لك بعد ذلك من أمرك‬
‫دا ويسًرا‪ ،‬فترجع إلى سربك‪ ،‬وتحفظ ذخيرة أسلفتها من ضياع يهددها‪.‬‬ ‫رش ً‬
‫أدعوك إلى أن ترجع بذاكرتك إن استطعت إلى أول هذا الخلف الذي‬
‫تدندن فيه‪ ،‬وأن تخبر قلبك بصدق عما سترى‪.‬‬
‫سترى أن بداية ما تلح فيه كانت كلمة همس‪ ،‬وضعها واضع في أذنك‪،‬‬
‫فغلي بها صدرك‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وما إخالك تستطيع نسبة شيء من الجتهاد في أمور الدعوة مما‬
‫تخالفنا فيه إلى نفسك قبل تلك الهمسة‪.‬‬
‫افترضي أن تسلب ذاتك استقللها بهذه البساطة‪ ،‬ثم يضيق صدرك إن‬
‫ذكرناك وعاتبناك؟‬
‫كل أيها الخ‪ ،‬كل‪.‬‬
‫فمن أجل واش كاشح بنميمة‬
‫مشي بيننا صدقته لم تكب‬
‫وقطعت حبل الوصل منا‪ ،‬ومن يطع‬
‫بذي وده قول المحرش‪ :‬يعتب‬
‫بل ل بد من هذا العتب‪ ،‬ول نسلمك لشيطانك بسرعة‪.‬‬
‫وأخبرني‪:‬‬
‫بأي سنان تطعن القوم بعدما‬
‫نزعت سنانا من قناتك ماضيا؟‬
‫فأنت قد نزعت رابطة العمل الجماعي من قناتك‪ ،‬وهضضي ليسضضت سضضنانا‬
‫ماضيا فحسب‪ ،‬بل كل سلحك الذي تصول به وتجول‪.‬‬
‫أفتخدع نفسك؟‬
‫وكيف ترى في عين صاحبك القذي‪.‬‬
‫ويخفي قذي عيني وهو عظيم؟‬
‫فتحاسبنا عن صغائر ل يخلو منها مجتهد‪ ،‬ولو شئنا أن نذكرك بنقص بعد‬
‫نقص بدر منك لسكتناك!‬
‫ولكنا لسنا بحاجة إلى أن نروي سوابق برودك‪.‬‬
‫وإنما نقول‪ :‬أني اعتراك لما خالفتنا هذا الدأب الواضح؟‬
‫ءا‬
‫هل تناهيت وكنت امر ً‬
‫يزجرك المرشد والناصح!‬
‫صا لعدد العاملين‪ ،‬وتوهية لركن‬‫أو ل ترى ما أنت فيه من الفتتان‪ :‬إنقا ً‬
‫كل داعية‪ ،‬وفتا في عضده‪ ،‬وإشماًتا لعدوه؟ فاتئد‪ ،‬وتدبر أمرك‪.‬‬
‫وإني ذكرك بالله تعالى‪ ،‬فارجع إليه‪ ،‬وخل الهوى‪.‬‬
‫وثق أن الدنيا بعد الدعوة ل تكاد تعدل جناح بعوضة عند اللبيب الذي‬
‫ذاق لذة التعب والبذل لها‪.‬‬
‫أفترى في دنياك النعيم‪ ،‬وتنسى أنه عديم!‬
‫أم تحسبها الغناء‪ ،‬وهي عن قريب إلى فناء‬
‫أم تظنها سلم الرتفاع‪ ،‬كأنك تجهل ما فيها من قصص التضاع!‬
‫أم فيها يوم يوثق له بغد!‬
‫ل والله‪.‬‬
‫وإنما نحن وإياك لكما قال الشاعر‪:‬‬
‫*كلنا عالم بالترهات*‬
‫فإنك تعلم رخص ثمن ما أنت مقدم عليه‪ ،‬وأنه ترهات‪ ،‬ولكن النتصار‬
‫للنفس يوهمك‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫والمر أهون مما تظن‪ ،‬ومن غشك فأقعدك في بيتك قد ظهر لك‬
‫حا‪ ،‬وكل أرضها مدارج‪ ،‬لمن أراد‬ ‫تدليسه‪ ،‬فتب‪ :‬تجد باب الدعوة مفتو ً‬
‫المعارج‪.‬‬
‫فاستعذ بالله أيها الخ من الفتن‪ ،‬واطلب نصيحة الخبراء‪ ،‬ونق نيتك مما‬
‫علق بها من شوائب‪ ،‬واتق الله عند غضبك‪ ،‬وابعد نفسك عن تأويل يستدرج‪.‬‬
‫ليسعك التغافر‪ ،‬وسارر في نصيحة القادة‪.‬‬
‫وأحرص على نجاة نفسك‪ ،‬والتفت إلى عيبك‪ ،‬وانظر صواب الدعاة إن‬
‫نبهك أحد إلى أخطائهم‪ ،‬وعلق تضحيتك على أمر قادتك‪.‬‬
‫وأمسك على الجدل‪ ،‬والنجوى‪ ،‬والغدر‪ ،‬وصن أذنك عن استماع الغمز‪.‬‬
‫واتعظ بالتاريخ‪ ،‬وباستكبار الشرع لتعرب المهاجر‪.‬‬
‫وبالغ في الصدق‪ ،‬ول تحتجن بزلت السلف‪ ،‬واعلم بأن الله ل يصلح‬
‫عمل المفسدين‪ ،‬وأن الجندية هي طريق القيادة‪.‬‬
‫واحذر طبائع آخر الزمان‪ ،‬وخف تنكر الرض والمؤمنين للخوالف‪.‬‬
‫وإل‪ ..‬هجرناك‪.‬‬
‫وأنت‪ ،‬أنت البادئ‪.‬‬
‫ول تجزعن من سنة أنت سرتها‬
‫فأول راض سنة من يسيرها‬
‫ً‬
‫ولعلك ستجرب العمل مع من سبقك بالخروج‪ ،‬فل تجد ثم إل غليظا‪ ،‬أو‬
‫عا‪.‬‬
‫متهوًرا‪ ،‬ومبتد ً‬
‫كلم خبير ناصح أمين أقول لك‪:‬‬
‫دا بنا عوضا‬
‫لست أرى واج ً‬
‫فاطلب وجرب واستقص واجتهد‬
‫ولقد كان يكفيك ما أنت فيه من سير في الطريق السهل المشرق‪،‬‬
‫ظا‪ ،‬وسقتها لشغب أنت في غنى‬ ‫لكنك حملت نفسك مركبا من العبء باه ً‬
‫دا‪.‬‬
‫عنه أب ً‬
‫وإنها كلمة نصح أخيرة أقولها لك‪:‬‬
‫السهل أهون مسلكا‬
‫فدع الطريق الوعرا‬
‫واحفظ لسانك تسترح‬
‫فلقد كفى ما قد جرى‬
‫ولقد نصحتك واجتهد‬
‫ت‪ ،‬وأنت بعد تخيًرا(‪.‬‬
‫فلما قرأ المخطئ رسالة أميره هذه‪ ،‬وتدبر ما فيها‪ :‬استيقظت فطرته‪،‬‬
‫ورجع إلى طرف لسانه طعم حليب طاهر رضعه‪ ،‬فأمسك بقلمه يكتب أن‪:‬‬
‫)بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫قا‪.‬‬
‫قد بلغتني الرسالة‪ ،‬فما وجدت فيها إل ح ً‬
‫ول أدري ما أقول أيها القائد المطاع‪ ،‬فإني قد أدركت هفوتي منذ أيام‬
‫ولكن الحياء منعني أن أتوجه إليكم باعتذار‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫دا أتلفت‪ ،‬فإذا مظاهر الجاهلية من‬ ‫ولقد أصبحت فجأة لجد نفسي وحي ً‬
‫عا‬
‫حولي ترهبني بعد إذ كنت عزيًزا بانتسابي إلى هذه الدعوة المباركة‪ ،‬شجا ً‬
‫مستصغًرا لكل جبار عنيد‪.‬‬
‫فإن إخوتي حولي‪ ،‬وإذ أنا شامخ‪ ،‬بصافية الفكار‪ ،‬والنفس في شمم‪:‬‬
‫أتاني الوشي بعد الوشي‪ ،‬فصدقتهم فكانت تلك العثرة مني‪.‬‬
‫تكنفني الوشاة فأزعجوني‬
‫فيا لله للواشي المطاع‬
‫فأصبحت الغداة ألوم نفسي‬
‫على شيء وليس بمستطاع‬
‫كمغبون يعض على يديه‬
‫تبين غبنه بعد البياع‬
‫وكيف أصف لك شعوري يومها وقد صرت كما صار كعب بن مالك‬
‫رضي الله عنه حين تخلف فقال‪:‬‬
‫)إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪-‬‬
‫فطفت فيهم‪ :‬أحزنني أني ل أرى إل رجل مغموصا عليه النفاق()‪.(225‬‬
‫فما من خارج عن الجماعة من قبل‪ ،‬كنت أعلم ضعفه يوم كانت قدمي‬
‫ثابتة‪ ،‬إل وأصبح يحتفل بي إذا رآني‪ ،‬ويهش بوجهي‪ ،‬ويبتسم ابتسامة تلذع‬
‫قلبي‪.‬‬
‫وإنه لدرس لي‪ ،‬كان‪ ،‬وعفا الله عما سلف‪ ،‬وأحمد الله تعالى على ما‬
‫هداني إليه أول‪ ،‬حين كنت ناشئا في هذه الدعوة‪ ،‬وأخيًرا حين زلت قدمي‬
‫بالمس فبصرني عيبي ويسر لي التوبة اليوم‪ ،‬ثم أحمده لما كان بين ذلك من‬
‫حفظ وتربية وتأديب‪.‬‬
‫أيها القائد المطاع‪:‬‬
‫دا أني الن قد‪:‬‬‫أملي أن تقبلوا عذري‪ ،‬مؤك ً‬
‫صحا قلبي‪ ،‬وعاد إلي عقلي‬
‫وأقصر باطلي‪ ،‬ونسيت جهلي‬
‫راجيا نسيان ما حدث‪ ،‬إذ لعلها كبوة جواد‪ ،‬والسلم عليكم ورحمة‬
‫الله(‪.‬‬
‫تل كقصة عتاب واعتذار‪.‬‬
‫وهل لهذا القائد غير أن يقبل عذر المعتذر بعد إذ بلغه قول النبي ‪-‬صلى‬
‫)‪(226‬‬
‫الله عليه وسلم‪ -‬أقيلوا ذوي الهيآت عثراتهم!‬
‫صلح ذوي الراحات‬
‫لكن الذي يرفض النصيحة‪ :‬يبقى صريع شهوته‪ ،‬فيفضحه عيبه‪ ،‬فتشير‬
‫إليه الصابع‪ ،‬فيفتش عن مثيل‪ ،‬فتتكون جمهرة ناشزة‪ ،‬تبدو من خارج كأنها‬
‫متآلفة‪ ،‬وعوامل التناقض تتصارع داخلها‪.‬‬
‫وهذا هو صلح الفتضاح الذي اكتشفه الفضيل بن عياض لما وصف‬
‫أنفاًرأ من الضداد تحالفوا فقال‪:‬‬

‫‪ ()225‬صحيح البخاري ‪.6/5‬‬


‫‪ ()226‬صحيح الجامع الصغير لللباني ‪.1/382‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫)افتضحوا فاصطلحوا(‬
‫فلكل منهم عيوب‪ ،‬فهم مصطلحون على ترك التناصح بينهم‪ ،‬متفقون‬
‫على تدليس عيوبهم وتغطيتها بلبوس الصفة الجماعية‪.‬‬
‫وهذه الظاهرة تكشف لمن يعرفها خلفيات كثير من الفتن التي الهت‬
‫الدعوة‪ ،‬وتبين أصولها انطلقها وتطورها‪.‬‬
‫وغالبا ما يكون فقدان القدرة على العمل التجميعي والتربوي هو العيب‬
‫المشترك المؤدي إلى ظاهرة صلح الفتضاح هذه‪ ،‬فإن الضعيف يهوي أن‬
‫ترتفع منزلته في الدعوة بتناسب طردي مع قدم انتسابه وارتفاع منزلته‬
‫الوظيفية أو الدراسية أو الجتماعية‪ ،‬وللدعوة أنظمة وأعراف وشروط تمنع‬
‫تولية من ل يبرع في أعمالها وتنفيذ خططها‪ ،‬أو من يتواري ويؤثر الراحة أيام‬
‫التضحية‪ ،‬فتصطدم رغبة الضعيف بالسباب التي تحول دون تحقيقها‪ ،‬فيكون‬
‫الفتتان عند ضعف التقوى‪.‬‬
‫وخطاب الشاعر القديم لبعض المفتتنين يبعثه استشعاره لهذه الحقيقة‬
‫لما يقول لهم‪:‬‬
‫فانتهوا إن للشدائد أهل‬
‫وذروا ما تزين الهواء‬
‫فهو يطلب منهم النتهاء عن الغين ويدعوهم إلى الفصاح عما ستروه‬
‫من دافع حب الراحة وتجنب المشقة‪.‬‬
‫وهو نفسه الدافع الذي حكام القرآن عن المخلفين في سورة التوبة إذ‬
‫هوا َأن‬ ‫ل اللهِ وَك َرِ ُ‬‫سو ِ‬ ‫ف َر ُ‬‫خل َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫قعَدِهِ ْ‬‫م ْ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫فو َ‬ ‫خل ّ ُ‬
‫م َ‬ ‫ح ال ْ ُ‬ ‫يقول الله تعالى‪) :‬فَرِ َ‬
‫م وَأ َن ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ل َناُر‬ ‫حّر قُ ْ‬ ‫فُروا ِفي ال ْ َ‬ ‫ل اللهِ وََقاُلوا ل َ َتن ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫سه ِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫وال ِهِ ْ‬‫م َ‬‫دوا ب ِأ ْ‬ ‫جاهِ ُ‬ ‫يّ َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫حّرا ل ّوْ َ‬ ‫مأ َ‬ ‫َ‬
‫قُهو َ‬ ‫ف َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫شد ّ َ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫َ‬
‫)إن هؤلء لهم نموذج لضعف الهمة‪ ،‬وطرواة الرادة وكثيرون هم الذين‬
‫يشفقون من المتابع‪ ،‬وينفرون من الجهد‪ ،‬ويؤثرون الراحة الرخيصة على‬
‫الكدح الكريم‪ ،‬ويفضلون السلم الذليلة على الخطر العزيز‪ .‬وهم يتساقطون‬
‫إعياء خلف الصفوف الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات‪ ،‬ولكن هذه‬
‫الصفوف تظل في طريقها المملوء بالعقبات‪ ،‬والشواك‪ ،‬لنها تدرك بفطرتها‬
‫أن كفاح العقبات والشواك فطرة في النسان‪ ،‬وأنه ألذ وأجمل من القعود‬
‫والتخلف والراحة البليدة التي ل تليق بالرجال()‪.(227‬‬
‫)هؤلء الذين آثروا الراحة على الجهد –في ساعة العسرة‪ -‬وتخلفوا عن‬
‫الركب في أول مرة‪ .‬هؤلء ل يصلحون لكفاح‪ ،‬ول يرجون لجهاد‪ ،‬ول يجوز أن‬
‫يؤخذوا بالسماحة والتغاضي‪ ،‬ول أن يتاح لهم شرف الجهاد الديني بعدما تخلوا‬
‫عنه راضين‪:‬‬
‫ّ‬ ‫خُروِج فَ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ست َأذ َُنو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫جع َ َ‬
‫جوا‬
‫خُر ُ‬ ‫قل لن ت َ ْ‬ ‫ك ل ِل ُ‬ ‫م َفا ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫فة ٍ ّ‬ ‫ه إ ِلى طائ ِ َ‬ ‫ك الل ُ‬ ‫)فَِإن ّر َ‬
‫َ‬ ‫م ِبال ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ع‬
‫م َ‬ ‫دوا َ‬ ‫مّرةٍ َفاقْعُ ُ‬ ‫ل َ‬‫قُعودِ أوّ َ‬ ‫ضيت ُ ْ‬
‫م َر ِ‬ ‫ي عَد ُّوا إ ِن ّك ُ ْ‬ ‫مع ِ َ‬ ‫قات ُِلوا َ‬ ‫دا وََلن ت ُ َ‬ ‫ي أب َ ً‬ ‫معِ َ‬ ‫َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫ِ ِ َ‬ ‫في‬ ‫ل‬ ‫خا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫)إن الدعوات في حاجة إلى طبائع صلبة مستقيمة ثابتة مصممة تصمد‬
‫في الكفاح الطويل الشاق‪ .‬والصف الذي يتخلله الضعاف المسترخون ل‬

‫‪ ()227‬في ظلل القرآن ‪.10/264‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫يصمد‪ ،‬لنهم يخذلونه في ساعة لشدة فيشيعون فيه الخذلن والضعف‬
‫دا عن الصف وقاية‬ ‫والضطراب‪ .‬فالذين يضعفون ويتخلفون يجب نبذهم بعي ً‬
‫له من التخلخل والهزيمة‪ .‬والتسامح مع الذين يتخلفون عن الصف في ساعة‬
‫الشدة‪ ،‬ثم يعودون إليه في ساعة الرخاء‪ :‬جناية على الصف كله‪ ،‬وعلى‬
‫الدعوة التي يكافح في سبيلها كفاحه المرير‪.‬‬
‫َ‬
‫ي عَد ُّوا(‪.‬‬ ‫قات ُِلوا َ‬
‫معِ َ‬ ‫دا وََلن ت ُ َ‬
‫ي أب َ ً‬
‫مع ِ َ‬
‫جوا َ‬ ‫خُر ُ‬‫)فقل‪ّ :‬لن ت َ ْ‬
‫لماذا؟‬
‫َ‬ ‫م ِبال ْ ُ‬
‫ة(‪.‬‬
‫مّر ٍ‬
‫ل َ‬ ‫قُعودِ أوّ َ‬ ‫ضيت ُ ْ‬‫م َر ِ‬ ‫)إ ِن ّك ُ ْ‬
‫ففقدتم حقكم في شرف الخروج‪ ،‬وشرف النتظام في الكتبية‪،‬‬
‫والجهاد عبء ل ينهض به إل من هم له أهل‪ ،‬فل سماحة في هذا ول مجاملة‪.‬‬
‫ن(‪.‬‬‫في َ‬‫خال ِ ِ‬ ‫معَ ال ْ َ‬ ‫دوا َ‬ ‫)َفاقْعُ ُ‬
‫المتجانسين معكم في التخلف والقعود‪.‬‬
‫هذا هو الطيرق الذي رسمه الله تعالى لنبيه الكريم‪ ،‬وإنه لطريق هذه‬
‫دا()‪.(228‬‬ ‫الدعوة ورجالها أب ً‬
‫فتاوى الفقهاء في تنقية الصفوف‬
‫وهو الطريق الذي فهمه أعيان فقهاء السلم منذ صدر السلم وعلى‬
‫تعاقب القرون فأرشدوا قادة المسلمين إلى تطهير الصف من المخذل‬
‫والمثبط والمرجف‪ ،‬والتشدد في انتقاء الجنود‪.‬‬
‫فمثال كلم السلف الول في ذلك‪ :‬استعراض المام الشافعي في‬
‫كتاب الم لحوادث تخلف المنافقين المتتالية عن المشاركة في الغزوات‬
‫النبوية الكريمة‪ ،‬وتنبيهه إلى أن من يشتهر في أجيال المسلمين بعد ذلك‬
‫بمثل ما وصف به أولئك المنافقون فإن أمره يقاس عليهم ويعاقب بمثل ما‬
‫عوقبوا به‪.‬‬
‫يقول الشافعي‪:‬‬
‫)غزا رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬فغزا معه من يعرف نفاقه‪،‬‬
‫فانخزل يوم أحد عنه بثلثمائة‪ ،‬ثم شهدوا معه يوم الخندق فتكلموا بما حكى‬
‫الله عز وجل من قولهم‪ :‬ما وعدنا الله ورسوله إل غرورا‪ ،‬ثم غزا النبي ‪-‬صلى‬
‫الله عليه وسلم‪ -‬بني المصطلق فشهدها معه عدد‪ ،‬فتكلموا بما حكى الله من‬
‫قولهم‪ :‬لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الذل‪.‬‬
‫وغير ذلك مما حكي الله عز وجل من نفاقهم‪ ،‬ثم غزا غزوة تبوك‬
‫فشهدها معه قوم منهم نفروا ليلة العقبة ليقتلوه‪ ،‬فوقاه الله عز وجل شرهم‬
‫وتخلف آخرون منهم فيمن بحضرته‪ ،‬ثم أنزل الله عز وجل في غزوة تبوك أو‬
‫منصرفه عنها –ولم يكن في تبوك قتال‪ -‬من أخبارهم فقال‪ :‬ولو أرادوا‬
‫الخروج لعدوا له عدة‪ ،‬ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع‬
‫القاعدين‪.‬‬
‫قال الشافعي‪ :‬فأظهر الله عز وجل لرسوله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪-‬‬
‫أسرارهم خبر السماعين لهم وابتغاءهم أن يفتنوا من معه بالكذب والرجاف‬
‫والتخذيل لهم‪ ،‬فأخبره أنه كره انبعاثهم فثبطهم‪ ،‬إذ كانوا على هذه النية‪،‬‬

‫‪ ()228‬في ظلل القرآن ‪.10/265‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وكان فيهم ما دل على أن الله عز وجل أمر أن يمنع من عرف بما عرفوا به‬
‫من أن يغزو مع المسلمين‪ ،‬لنه ضرر عليهم‪.‬‬
‫قال الشافعي‪:‬‬
‫فمن شهر بمثل ما وصف الله تعالى المنافقين‪ :‬لم يحل للمام أن‬
‫يدعه يغزو معه‪ ،‬لطلبه فتنتهم وتخذيله إياهم وأن يهم من يستمع له بالغفلة‬
‫والقرابة والصداقة‪ ،‬وأن هذا قد يكون أضر عليهم من كثير من عدوهم()‪.(229‬‬
‫واستمر الفقه على هذا حتى استلم رايته ابن قدامة المقدسي فقال‪:‬‬
‫)ول يستصحب المير معه مخذل‪ ،‬وهو الذي يثبط الناس عن الغزو‬
‫ويزهدهم في الخروج إليه والقتال والمشقة‪ ،‬مثل أن يقول‪ :‬الحر أو البرد‬
‫شديد‪ ،‬والمشقة شديدة ول تؤمن هزيمة هذا الجيش‪ ،‬وأشباه هذا‪.‬‬
‫ول مرجفا‪ ،‬وهو الذي يقول‪ :‬قد هلكت سرية المسلمين وما لهم مدد‪،‬‬
‫ول طاقة لهم بالكفار‪ ،‬والكفار لهم قوة ومدد وصبر ول يثبت لهم أحد‪ ،‬ونحو‬
‫هذا‪.‬‬
‫ول من يعين على المسلمين بالتجسس للكفار وإطلعهم على عورات‬
‫المسلمين ومكاتبتهم بأخبارهم ودللتهم على عوارتهم أو إيواء جواسيسهم‪.‬‬
‫كن‬ ‫ول من يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد‪ ،‬لقوله تعالى‪) :‬وَل َ ِ‬
‫ما‬ ‫كم ّ‬ ‫جوا ِفي ُ‬ ‫ن* ل َوْ َ‬
‫خَر ُ‬ ‫دي َ‬
‫ع ِ‬‫قا ِ‬ ‫م ع َ ال ْ َ‬
‫دوا َ‬ ‫ل اقْعُ ُ‬ ‫م وَِقي َ‬ ‫م فَث َب ّط َهُ ْ‬ ‫ك َرِهَ الل ُ‬
‫ه انب َِعاث َهُ ْ‬
‫ة(‪ .‬ولن هؤلء مضرة على‬ ‫فت ْن َ َ‬‫م ال ْ ِ‬ ‫خل َل َك ُ ْ‬
‫م ي َب ُْغون َك ُ ُ‬ ‫ضُعوا ِ‬ ‫خَبال ً ولوْ َ‬ ‫دوك ُ ْ‬
‫م إ ِل ّ َ‬ ‫َزا ُ‬
‫)‪(230‬‬
‫‪.‬‬ ‫المسلمين فيلزمه منعهم(‬
‫وهذا من الكلم الحق الذي ل يستغربه المعالج لسياسة الجماعات‪.‬‬
‫غرور الفقيه يمنع تأميره‬
‫وأما من يستغرب مثل هذا الكلم‪ ،‬ويستصعب قياس أحوال مفتتنة‬
‫اليوم على أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله ‪-‬صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ -‬فإننا على استعداد لكي نسير معه مرحلة فقهية أخرى ل خلف فيها‪.‬‬
‫فلو تجاوزنا وصية الذي حذر المام البنا من الرجل الصالح الذي ل‬
‫يحترم النظام‪ ،‬مما ذكرناه آنفا‪ ،‬ونصحه له بإبعاده عن الصف‪ ،‬فإننا نجد في‬
‫فقه عمر بن عبد العزيز رحمه الله ما يسوغ إبعاد الصادق صاحب الخير عن‬
‫دا للذريعة‪ ،‬وصيانة‬ ‫المسؤولية إذا كان فيه نوع من حب الظهور والخيلء‪ ،‬س ً‬
‫له من احتمالت الفتتان والجناية على نفسه وعلى الدعوة‪.‬‬
‫فقد روى أن الراشد الخامس لما ولي الخلفة أرسل إلى أبي عبيد‬
‫المذحجي‪ ،‬وكان فقيها ثقة في الحديث‪ ،‬من شيوخ الوزاعي ومالك‪ ،‬وممن‬
‫يستعين بهم الخليفة سليمان بن عبد الملك‪ ،‬فقال له عمر‪:‬‬
‫)هذه الطريق إلى فلسطين‪ ،‬وأنت من أهلها‪ ،‬فالحق بها‪.‬‬
‫فقيل له‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬لو رأيت أبا عبيد‪ ،‬وتشميره للخير!!‬
‫فقال‪ :‬ذاك أحق أن نفتنه‪ ،‬كانت فيه أبهة للعامة()‪.(231‬‬
‫فهي كلمة قالها عمر‪ ،‬وسوغها فعل عمر‪.‬‬

‫‪ ()229‬الم للشافعي ‪.4/89‬‬


‫‪ ()230‬المغني لبن قدامة ‪.8/315‬‬
‫‪ ()231‬تهذيب التهذيب ‪.112/158‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ولقادة الدعوة هذا اليوم أن يقولوا لكل داعية يتطلع للسمعة والجاه‬
‫والمكانة الجتماعية المرموقة مثل الذي قاله عمر لبي عبيد‪ ،‬ويفهموه أن‪:‬‬
‫قد أخطأت بداية الطريق إلى مرادك‪ ،‬فمررت بديار دعوة التواضع‬
‫والبذل واللتزام الخططي‪ ،‬وهذه الطريق إلى ديار أشكالك‪ ،‬فالحق بهم‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫]‪ [22‬أخيار ول فخر!‬
‫ومن العوائق‪ :‬الهزيمة النفسية أمام كثافة نقد المتهجمين‪ ،‬حتى إن‬
‫الداعية ليظن بنفسه السوء‪.‬‬
‫ذلك أننا مازلنا نسمع بين الفينة والفينة نقدا من الدعاة لنفسهم‪ ،‬يتخذ‬
‫أحياًنا عند بعض متحمسيهم شكل تقريع‪ ،‬يتهمون خلله أنفسهم بأنهم قصروا‬
‫عن الوصول إلى منازل السلف‪ ،‬وأن بينهم وبين الصفات التي يحكيها التاريخ‬
‫لنماذج اسلف الصالح الول من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين‪ ،‬والتابعين‬
‫دا‬
‫وتابعيهم بإحسان رحمهم الله‪ ،‬بونا شاسًعا‪ ،‬وأن الفاحص يتلفت فل يرى أح ً‬
‫سما وعل في أخلقه وعبادته وجهاده إلى درجة يماثل بها أولئك النبلء‬
‫النجباء‪.‬‬
‫دا آخر يتفرع منه‪ ،‬يضع الدعاة في موقف‬ ‫وقد يتخذ هذا التقريع بع ً‬
‫المتهم لمناهج التربية السلمية الحركية‪ ،‬ويحملها مسؤولية هذا القصور‪.‬‬
‫ولسنا نشك في أن هذه الظاهرة ظاهرة صحية في مجتمعات الدعاة‪،‬‬
‫وأن فحص النتائج ومعاودة الحساب فضيلة راجحة على السير الجزاف الذي‬
‫ل يعطف المرء فيه إلى مناقشة العمل‪.‬‬
‫ولكن جمال هذه الظاهرة ل يكتمل إل بمناقشة وتقويم من قبل‬
‫المجربين لما يطرح من تساؤلت وشكوك في هذا الباب‪ ،‬وهذا ما يحدونا إلى‬
‫أن نطلب من الدعاة مصاحبتنا خلل هذه الفقرات في عملية وزن للقضية‪،‬‬
‫نحاول أن نكون حكما فيها‪ ،‬يكشف حقيقة الرصيد الحاصل‪ ،‬وطبائع النقص‬
‫الواجب استدراكه‪.‬‬
‫والذي ندعو له ابتداء أن يرى الداعية الناقد لنفسه فروقا واضحة بين‬
‫جيلنا وأجيال السلف‪ ،‬وظروفا قد تغيرت‪ ،‬ول بد من أخذ ذلك بعين العتبار‬
‫حين البحث‪.‬‬
‫طمع محرك‪ ،‬ورحمة مغرية‬
‫فأول ما يبدو هنا من ذلك أن المربي بالمس غير المربي هذا اليوم‪،‬‬
‫فلقد كان النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬والخلفاء الراشدون المهديون‪ ،‬ومن‬
‫وازاهم من قدماء المهاجرين ونقباء النصار‪ ،‬هم المربون لذلك الجيل‬
‫السالف الذي فتح الله تعالى على يديه الفتوح العظيمة‪ .‬وتلك بركة أنيل لها‬
‫في خصوصية واضحة‪ ،‬من لدن متفضل لطيف منعم سبحانه ل ينبغي لحد‬
‫ممن بعد جيلهم أن يسمح لنفسه في أن يأمل عشرها فضل عن مثلها‪ .‬بل‬
‫لقد قال النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬لبعض الجيل الوسط من الصحابة‬
‫رضي الله عنهم أنهم لن يبلغوا نصيف مد أحد من رعيلهم الول‪ ،‬كما روى‬
‫مسلم في صحيحه‪ ،‬فكيف بمسلمة الفتح ومن تلهم؟‬
‫فكل متصد للتربية بعدهم ناقص –ولبد‪ -‬عنهم‪ ،‬وإنما فرضتنا الحاجة‬
‫التربوية فوضعتنا في مقام الستاذية بعضنا لبعض طمعا في أن ننال‬
‫بالتواصي الجماعي بالحق وبالصبر ما يكمن أن ينال من جميل الخصال‬
‫اليمانية‪ ،‬ومحاسن الصفات السلمية‪.‬‬
‫فنحن بهذا الطمع نتحرك‪ ،‬من دون تطلع لمنافسة السلف الصالح‪،‬‬
‫فإنهم قد استبدوا بالحظ الوفر من الفضل‪ ،‬وبالنصيب الوفى من المحاسن‪،‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ومتجرد عن الدب ذاك الخلف الذي يطيل عنقه تكلفا ليصل برأسه إلى‬
‫مستوى رفعتهم‪ ،‬ولول حديث )اعملوا فكل ميسر لما خلق له( لفترت الهمم‪،‬‬
‫وركت العزائم‪ ،‬ولكنها رحمة الله واسعة‪ ،‬تطمع الطامع وتغريه‪ ،‬فيتشبه‬
‫بالكرام عسى ولعل‪.‬‬
‫الهدم الصعب‬
‫ولو عكسنا رؤيتنا لجابهتنا حقيقة مقابلة لهذه‪ ،‬تفصح عن أن المتربي‬
‫هذا اليوم هو غير سلفه المتربي‪ ،‬وليس المربي فقط‪ ،‬فاليوم يشهد المجتمع‬
‫تصارعا بين مناهج تربوية مختلفة‪ ،‬يقف المنهج التربوي السلمي في خضم‬
‫تصارعها‪ ،‬ونجد الفرد الشاب الذي نحاول تربيته مختلط الفكر‪ ،‬موزع القلب‪،‬‬
‫مضطرب النفس‪ ،‬من جراء ما خضع لهذا الحشد الشديد المتناقض من مواد‬
‫التربية التي تصبها عليه مناهج المدارس والجامعات‪ ،‬وبرامج الذاعة‬
‫والتلفزيون‪ ،‬ولغو الصحف والمجلت‪ ،‬ولكلها تأثيرات تصادم كلم المربي‬
‫المسلم‪ ،‬وتؤثر سلًبا على تلميذه‪.‬‬
‫أما جيل السلف فكان جيل بسيطا فطريا‪ ،‬وكان العرب بخاصة في‬
‫عزلة عن المم‪ ،‬وما ثم إل شركهم بالله تعالى شركا بدائيا غير معقد‪ ،‬يعبدون‬
‫خلله الصنام لتقربهم إلى الله زلفى‪ ،‬وهم أهل صدق في المقال‪ ،‬وعفاف‬
‫في الجوارح‪ ،‬قد غمرتهم خلوتهم الصحراوية بسكينة افتقدتها المم‪ ،‬ولم تكن‬
‫لهم فلسفية جاهلية تناقض السلم الجديد‪ ،‬ول يعرفون الجدل في ذلك‪ ،‬بل‬
‫فيهم بقية من الحنفية البراهيمية‪ ،‬حتى لقد كان زيد بن عمرو بن نفيل رحمه‬
‫الله يجهر بالتوحيد عند الكعبة‪ ،‬ويدعو العرب إلى ملة إبراهيم‪ ،‬قبل أربع‬
‫سنوات فقط من نزول القرآن‪ ،‬فكان صنيعه وصنيع أمثاله من آخر الحنفيين‬
‫صا بين يدي دعوة النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬بمثابة التمهيد‬ ‫المهديين‪ ،‬إرها ً‬
‫وإثارة تطلع العرب إلى الدين القديم الجديد‪.‬‬
‫ومن هاهنا‪ ،‬فإن جهود النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬وجهود أصحابه‬
‫رضي الله عنهم‪ ،‬في التربية من بعده‪ ،‬قد أثمرت كلها ولم يتبدد شيء من‬
‫جهدهم سدى‪ ،‬لجودة معدن المتلقي المتربي‪ ،‬وخلو فكره عما يناقض ما‬
‫يقال‪.‬‬
‫دا كبيًرا لصلح ما أفسدته التربيات المختلفة في‬ ‫بينما نبذل اليوم جه ً‬
‫نفوس تلميذنا‪ ،‬ونسلك معهم طريقا طويل ليصالهم إلى منزلة الحياد‪ ،‬إن‬
‫صح هذا التعبير‪ ،‬لنبدأ من بعد ذلك بإعطائهم مفردات السلم‪ ،‬وهي عملية‬
‫شاقة‪ ،‬عملية استلل بقايا الجاهلية من نفوس المتربين التلمذة‪ ،‬فبعضهم‬
‫يحن حنينا إلى شيء من طباعه الماضية وقد كنت تظن أنه قد استكمل‬
‫اليمان أو قارب‪ ،‬وكم من حيصة يحيصها المتربي قبل النهاية تعلم المربي‬
‫ضرورة إطالة النفس في هدم تأثيرات ورذائل التربيات المعاكسة في نفس‬
‫التلميذ الثاني اللحق له قبل بناء قواعد السلم فيه‪.‬‬
‫ول شك أن عملية الهدم والبناء عملية مزدوجة تتم في آن واحد‪ ،‬ول‬
‫نريد أن يعترض معترض على ألفاظنا هذه‪ ،‬ولكنها ألفاظ ل بد منها لتوضيح‬
‫المعنى‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ومما يمكن أن نحتج به ونتخذه دليل في هذا الصدد‪ ،‬أن الفرس وأمم‬
‫الهند‪ ،‬كانت لهم فلسفات جاهلية وكتب مدونة‪ ،‬سببت اختلط إسلم كثير‬
‫منهم بالبدع حين أسلموا‪ ،‬وعاند كثير منهم‪ ،‬ولم تظهر فيهم نماذج عالية في‬
‫حياز صفات السلم بمثل كثافة ظهورها في العرب أول ما افتتحت الفتوح‪،‬‬
‫مع أن المربي واحد‪ ،‬وإنما شاعر فيهم الخير من بعد دهر طويل نسوا فيه‬
‫جاهليتهم تلك‪ ،‬واندثرت معالم فلسفاتهم‪.‬‬
‫وتكررت هذه الظاهرة مرة أخرى في عصر السلم الوسط حين‬
‫دخلت شعوب جديدة في السلم كانت متأثرة بفلسفات الغريق والرومان‪،‬‬
‫فلم يكثر فيهم النبلء إل من بعد دهر‪.‬‬
‫كذلك نجد صدى هذه الظاهرة جليا لما شاعت في زمن المأمون‬
‫ترجمات كتب أرسطو وأفلطون‪ ،‬فضعفت الهمم‪ ،‬وندرت نماذج الخير‪ ،‬حتى‬
‫أن المتفحص للتاريخ ليجد صدوًرا غريبا عن كتب سقراط ل يفهمه لول وهلة‪،‬‬
‫ولكن عجبه يزول حين يعلم أن سقراط كان أقرب إلى التوحيد من أولئك‪،‬‬
‫فركنوه جانًبا‪ ،‬ولول وقفة إمام السنة أحمد بن حنبل لضعفت دولة السلم‪،‬‬
‫لكن الله رفأ به الفتق وسد الخرق‪.‬‬
‫ومرادنا من كل هذا‪ :‬التنبيه على أن بعض جهودنا التربوية اليوم تهدر‬
‫بل سبب منا‪ ،‬ول سبب من المتربي‪ ،‬ولكنها جناية الجاهليات المعاكسة على‬
‫الجيل الحاضر‪.‬‬
‫الخيرية المتناقصة‬
‫ومع ذلك فإن احتمال ظهور نماذج تقابل نماذج السلف ممكن‪ ،‬لكنهم‬
‫لن يكونوا إل قلئل‪ ،‬ويجب أن نوقن أن الله تعالى شاء ذلك‪ ،‬وأراده وكتب‬
‫عا بجمال السلم عما كان عليه السلف‪ ،‬فإن‬ ‫علينا أن نكون أقل استمتا ً‬
‫الحديث الصحيح ينطق بأن خير القرون قرنه ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬ثم‬
‫الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪.‬‬
‫ولو جمعنا هذا الحديث إلى حديث شرار الناس من تقوم عليهم‬
‫ضا‪ ،‬لتبين لنا أن خيرية‬
‫الساعة وهم أحياء " المروي ي دواوين الصحيح أي ً‬
‫الجيال في تناقص وتقلص مستمر‪ ،‬وأن القدر قد جعل المنافسة من الخر‬
‫للول مستحيلة‪ ،‬لكنها المقاربة والتسديد‪ ،‬من غير أن يدب إلى نفوسنا يأس‬
‫في حيازة بعضنا لما حازته أجيال السلف من المكارم‪ ،‬فإن عصابة من أمة‬
‫محمد ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬ل تزال ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة‪،‬‬
‫كما نطق الحديث الصحيح‪ ،‬ول ندري أينا الموفق لن يكون يها‪ ،‬وعلينا أن‬
‫نصارع القدر بالقدر‪ ،‬كما أرشدنا إلى ذلك عبد القادر الكيلني رحمه الله حين‬
‫ذكر أنه قد فتحت له روزنة‪ ،‬أي فتحة مثل الشباك‪ ،‬فرأى سفينته تجري في‬
‫بحر القدر تلطمها أمواجه‪ ،‬فهو يصارع القدر بالقدر‪ ،‬ومما قدره الله لنا أننا‬
‫في الجيل المتأخر المفضول‪ ،‬فنصارعه بقدر الخير المتمثل بالعمل على‬
‫النتساب لهذه العصابة‪ ،‬ونعمل لما يتيسر لنا‪ ،‬مدافعة وتحويل لقدر الشر‬
‫المتمثل بتناقض الخيرية‪.‬‬
‫جمال الفضائل سبب تخليدها‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ول يغيبن عن الذهان أن الكتب التي عرفتنا بأحوال السلف قد أرخت‬
‫الفضائل بأكثر مما أرخت نقص الناقصين‪ ،‬وما من شك ي أن أساتذة التربية‬
‫يميلون إلى تاريخ هذا النقص‪ ،‬ليبتعد عنها الموفقون‪ ،‬ميلهم إلى تاريخ‬
‫الفضائل‪ ،‬ليقتدي بها المشمرون‪ ،‬ولكن في النفس النسانية ميل إلى حب‬
‫الجمال فطرًيا‪ ،‬مقتبس من حبه سبحانه وتعالى للجمال‪ ،‬إذ هو جميل يحب‬
‫الجمال‪ ،‬كما في الحديث الصحيح عند مسلم‪ ،‬كمثل ما اقتبس الله للنسان‬
‫والحيوان شعبة من فيض رحمته الواسعة هو عز وجل‪ ،‬فكانت كتب التاريخ‪،‬‬
‫لذلك أكثر إظهاًرا للفضائل‪ ،‬لجمالها‪ ،‬من إظهار العور والنقص والحيصات‪،‬‬
‫فنحن نرى الصورة الفاضلة لمجموع أجيال السلف‪ ،‬وغابت عنا هفواتهم‬
‫دا لباب التناحر والفتن والطعن‬
‫بتأويل من تأول تغيبها‪ ،‬جمًعا للقلوب‪ ،‬وس ً‬
‫فيهم‪ ،‬وهكذا أصبحنا نظن أن السلف أصحاب كمال مضاعف عما هو عليه‬
‫أمرهم حقيقة‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وليس هذا من الطعن بالسلف بحال من الحضوال‪ ،‬فضإن قضضد قضدمنا مضن‬
‫الكلم ما ينفي هضضذا الضضوهم‪ ،‬ونعلضضم أن اللضضه سضضبحانه وتعضضالى يضضزن المسضضلمين‬
‫مل ُضضوا‬ ‫ل عَنه َ‬ ‫بميزان سورة الحقاف‪ ،‬في قوله )ُأول َئ ِ َ‬
‫مضا عَ ِ‬‫ن َ‬‫سض َ‬‫ح َ‬‫مأ ْ‬ ‫قب ّ ُ ْ ُ ْ‬ ‫ن ن َت َ َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫َ‬
‫ن(‪،‬‬ ‫دو َ‬ ‫عض ُ‬ ‫ذي َ‬
‫كضاُنوا ُيو َ‬ ‫ق ال ّض ِ‬
‫صضد ْ ِ‬‫جن ّضةِ وَعْضد َ ال ّ‬ ‫ب ال ْ َ‬
‫حا ِ‬
‫ص َ‬ ‫سي َّئات ِهِ ْ‬
‫م ِفي أ ْ‬ ‫عن َ‬‫جاوَُز َ‬
‫وَن َت َ َ‬
‫مضضا‪ ،‬وأن مضضن رجحضضت‬ ‫دا وتنبيها وتأديضضا وتعلي ً‬ ‫ونعلم أن الله قد ذكر ذلك لنا إرشا ً‬
‫حسنات هو الراجح‪ ،‬وقط عظم خيرهم‪ ،‬وفي التأول لهفواتهم مندوحة‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬إنه ليس من الطعن‪ ،‬ولكنها دعوة إلى الواقعيضضة فضضي فهضضم تاريخنضضا‬
‫لبد منها لتوضيح الجواب للذين يلومون أنفسهم‪ ،‬ودليلنا‪ :‬ما ذكروه من أشضضياء‬
‫على سبيل المضدح عضن آحضاد منهضم دون سضضائرهم‪ ،‬مضن شضضدة التعبضد‪ ،‬وصضلح‬
‫الباطن‪ ،‬والشجاعة الفائقة‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فلضضو لضضم يكضضن المجمضضوع قاصضًرا بعضضض‬
‫القصور على المستوى المثالي الضضذي وضضضعناه فيضضه‪ ،‬لمضضا تميضضز هضضؤلء بالفعضضل‬
‫المذكور عنهم‪.‬‬
‫وهذه الطبيعة في المؤرخين مستمرة تقتضيها صنعة التربية‪ ،‬حضضتى إننضضا‬
‫لو قرآنا بعض الصحف السلمية ترثي بعض خيار أموات المسلمين اليوم‪ ،‬من‬
‫الدعاة والعلماء والمجاهدين والمنفقين‪ ،‬لرأينا أوصافا تصورهم كأنهم السلف‪،‬‬
‫بينما نحن نعرف بحكم معايشتنا لهؤلء المرثيين هفوات وكبوات أغفل ذكرهضضا‬
‫من كتب رثاءهم‪ ،‬ل من باب التدليس والتمويه والتزلف‪ ،‬بل مضضن بضضاب تربضضوي‬
‫بحت’ غايته إثارة الهمة في الحياء للقتداء بمحاسن فعالهم‪.‬‬
‫فقس ما كان يجري بين السلف من ذلك على ما يجري بيننا من هذا‪.‬‬
‫التراجع يضعف الهمم‬
‫يضاف إلى هذا أننا الن في فضضترة اجتماعيضضة وسياسضضية ميزتهضضا الضضتراجع‬
‫والتدهور إذا قسناها وفق موازين التمدن‪ ،‬وقد شاهد ابن خلدون في مقدمته‪،‬‬
‫وغيره من علماء الجتماع‪ ،‬أن أعمار الدول كأعمار بني آدم‪ ،‬وأنهضضا تبضضدأ بقضضوة‬
‫وفتوة‪ ،‬ثم يستوى أمرها على نسق هادئ‪ ،‬ثم يميل إلى التأخر التدريجي حضضتى‬
‫تنقضي تلك الدولضضة‪ ،‬فتتأسضضس علضى أنقاضضضها دولضضة جديضضدة تأخضضذ المضضر بقضضوة‬
‫وتستأنف النتصار‪.‬‬
‫والسلم قد مثلته خلل تاريخه دول متعاقبة انطبق عليها هذا الميضضزان‪،‬‬
‫وكل منها قضضد أجضضاد وأفضاد‪ ،‬وحمضي السضضلم‪ ،‬وفتضح الفتضوح‪ ،‬فتضأججت حماسضضة‬
‫المسلمين أبناء تلك الدول في فورات متعاقبة حفظضضت للسضلم حيضضويته‪ ،‬كمضا‬
‫أنه ليس من هذه الدول دولة إل وتورطت في هفوة أو تقصير يقابل إحسانها‪.‬‬
‫وجيل المسلمين الحاضر يعيش فترة تراجع شديد بانقضاء عمر الدولضضة‬
‫العثمانية‪ ،‬تولد عنه فراغ‪ ،‬بانتظار قيام دولة جديدة تمثل السلم‪ ،‬لبد أنها آتية‬
‫إن شاء الله‪ .‬وفي مثل هذا الفراغ تضمحل الحماسة‪ ،‬فتبقضضى حماسضضة الفضضراد‬
‫معتمدة على ذاتيتهم المحضة ووعظ الواعظين‪ ،‬تظاهرهضضا أو تعينهضضا الحماسضضة‬
‫العامة السائدة في كل دولضضة فتيضة‪ ،‬الناتجضة عضن انتصضضاراتها المبهجضضة لنفضوس‬
‫أبنائها‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وهذا ما يعطي من باب آخضضر شضضبه عضضذر تعتضضذر بضضه لجيلنضضا الحاضضضر فضضي‬
‫تخلفه عن بلوغ الدرجات العاليضضة وقصضضوره عضضن منضضازل السضضلف‪ ،‬ولقضضد مضضرت‬
‫فترات في التاريخ السلمي شبيهة بهذه‪ ،‬هي فترات نهايات الدول السلمية‪،‬‬
‫دا آخضضر بمجيضضئ دولضضة أخضضرى‬ ‫فكان الجهل يشيع‪ ،‬وتضضبرد الهمضضم‪ ،‬ثضضم تبضضدأ صضضعو ً‬
‫يحكمها مسلم موفق عالي الهمة‪.‬‬
‫وفي الحاديث التي صححها الشيخ اللباني حفظه الله ما ينبي عن قيام‬
‫خلفة راشدة في آخر الزمان‪ ،‬كأننا في انتظارها الن‪ ،‬تجدد حيوية المسضضلمين‬
‫و ترفع مستوى جيلهم‪.‬‬
‫اعتداد بل غرور‬
‫إن هذه الحقائق توجب سلوكين‪.‬‬
‫السلوك الول يخصنا نحن أبناء الحركة السضضلمية‪ ،‬خلصضضته‪ :‬ل نسضضرف‬
‫في اتهام أنفسنا بأنواع الضعف‪ ،‬وأن نوقن أننا على خيضضر وفيضضر كضضثير إن شضضاء‬
‫الله‪ ،‬وبفضل منه ومنة‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬ما هو بالخير الكامل‪ ،‬ولسنا كمثل السلف‪ ،‬لكننا أهل عضزة إيمانيضة‬
‫ترجع بنا بعد كل هفوة إلضضى إصضضلح الخطضضأ‪ ،‬وعلينضضا أن نعتقضضد أن سضضبيل إنمضضاء‬
‫فضلنا وتكميله ليس هو سضضبيل التقريضع الشضضديد للنفضضس‪ ،‬القاتضضل لهضا‪ ،‬بضضل هضضو‬
‫سبيل التوبة الشرعية مرة بعد مرة‪ ،‬فضضي أول مسضضارنا‪ ،‬وفضضي أواسضضطه‪ ،‬وفضضي‬
‫أواخره‪ ،‬فبالتوبة‪ ،‬وبالتناصح‪ ،‬وبالتواصي بضالحق والصضبر‪ :‬نسضد ثغضرات جضدارنا‬
‫ونكمل بناءنا‪.‬‬
‫وليس ذلك بغرور‪ ،‬أعاذنا الله منه‪ ،‬ول هو إدلل بهذا القليل مضضن العمضضل‬
‫الذي نؤديه للسلم‪ ،‬لكنه المنهج التربوي الذي ينبغي لنضضا ويجضضب علينضضا‪ ،‬حضضذًرا‬
‫من أن نقع في ما وقع فيه بعضضض علمضضاء العصضضر الوسضضط مضضن السضضلف‪ ،‬حيضضن‬
‫أكثروا التخويف‪ ،‬وتوسعوا في ذكر الوساوس ومحبطضضات العمضضال‪ ،‬حضضتى لضضف‬
‫الناس اليأس شديد‪ ،‬ولم يفتحوا لهم بابا من الرجاء يقابله‪.‬‬
‫مجازات المواعظ ل تفهم بجمود‬
‫ويصدر بعض الدعاة في تضعيف أنفسهم ومن حضضولهم عضضن فهضضم جامضضد‬
‫حرفي لكلم الحماسة الذي نعظهم به‪ ،‬ويغفلون عن طبيعة المربين في إيراد‬
‫المجازات والقصص التي يريدون منها تنويع التذكير والتفنن فيه‪ ،‬ليكون أدعى‬
‫لدخول القلوب‪ ،‬من دون أن تكون نضضبيتهم طلضضب التطضضبيق الحرفضضي مضضن قبضضل‬
‫التلميذ لما يريدون‪.‬‬
‫فلقد وصفوا رسول الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬بأنه لم يضع لبنة علضضى‬
‫لبنة‪ ،‬وما أرادوا حرفية ذلك‪ ،‬فإنا نعلم أنه قضضد كضضانت لكضضل زوجضضة مضضن زوجضضاته‬
‫حجرة‪ ،‬ولم يكن يعيش في خيمة أ‪ ,‬في العراء‪ ،‬لكنهم أرادوا عدم تطاوله في‬
‫البنيان‪ ،‬وتواضعه فيه‪ ،‬وعضضدم توسضضيعه مسضاحة بنضائه‪ ،‬ثضضم يضضأتي متحمضضس مضضن‬
‫الدعاة اليوم يصفق بيديه ويسترجع‪ ،‬حين يرى أخا له يبني له داًرا تستره فضضي‬
‫مثل هذه المعيشة المعقدة الحاضرة‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وروينا خبر فلن من السلف‪ ،‬لم يكن يميضضز الضضدرهم مضضن الضضدينار‪ ،‬وإنمضضا‬
‫أرادوا عزوف قلبه عن الدنيا‪ ،‬وشدة انغماسه في العلضم والعبضادة‪ ،‬ثضم يجلضس‬
‫خا لهم يمارس التجارة‪ ،‬لم تصرفه صضضفقاته عضضن واجبضضاته‬ ‫دعاة اليوم‪ ،‬يعيبون أ ً‬
‫في الدعوة‪ ،‬ولو تأملوا لوجضضدوا أن عضضدم معرفضضة الضضدينا مضضن الضضدرهم بضضالمس‬
‫يقابلها جهل أكثر الدعاة‪ ،‬اليوم جهل مطبقضضا بمضضا هنالضضك مضضن مضضضاربات سضضوق‬
‫السهم وتركهم ذلك في سبيل الله‪ ،‬مرابطة مع خطضضط الضضدعوة‪ ،‬إل مضضن نفضضر‬
‫ضا‪ -‬ليضارب‪ ،‬يبتغي تحويل المال إلى اليدي المتوضئة‪.‬‬ ‫منهم –لله أي ً‬
‫وكذلك ما تداولناه من قبل من خبر ذلك التابعي الذي بني لضضه ولفرسضضه‬
‫حصنا بالكوفة‪ ،‬كأنه يبدي استعداده للجهاد‪ ،‬فيأتي أحد اليوم يقلده في ذلك‪.‬‬
‫والناظر بعين العقل‪ ،‬المتأني‪ ،‬يعضضرف أن مقصضضد ذاك التضضابعي منصضضرف‬
‫إلى تربية الناس بمنظر عملي على معاني المرابطة للجهاد‪ ،‬وإل فإنه لو كضضان‬
‫يريد حرفية فعلته لبني له حصنا في جبهات القتال‪ ،‬وقد تجضضاوزت الفتضضوح فضضي‬
‫عهده بخاري وبلخ‪.‬‬
‫ومثله‪ :‬ذاك الذي لما حدثت الفتنة وضضع الطيضن علضى بضابه وجعضل بيتضه‬
‫مقفل‪ ،‬إل فتحة صغيرة يتنفس منها ويتناول الطعام‪ ،‬فهو إنما أراد بفعلته هضضذه‬
‫أن يذكر الناس بمنظر عملي معنى اعتزال الفتنة كلما مضضروا بضضه وسضضألوا عضضن‬
‫سر هذا الباب المطين‪ ،‬وإل فالذي يريد أن يعتزلها يسعه أن يعزم عزمة ويدع‬
‫أبوابه مفتحة‪.‬‬
‫فعلى إخواننا أن يثقضضوا بأنفسضضهمن ويعرفضضوا أن اللضضه تعضضالى قضضد تفضضضل‬
‫عليهم وأسبغ عليهم نغمة من اليمان والعلم والعمل يجب إظهار شضضكرهم لضضه‬
‫عليها‪ ،‬وما ثم إل دعاء له سبحانه بأن يتم لهم نورهم‪.‬‬
‫وصحيح أن أحضضدنا يجضضب أن تكضضون نفسضضه حساسضضة لدنضضى تقصضضير‪ ،‬وأن‬
‫نقول مراًرا –اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه‪ ،‬ونستغفرك لمضضا‬
‫ل نعلمه‪ -‬وأن نقول‪-‬نبوء بنعمتك علينا ونبوء بذنوبنا‪ ،‬فضضاغفر لنضضا‪ ،‬فضضإنه ل يغفضضر‬
‫الذنوب إل أنت‪ ،-‬لكن هذه الحساسية ل تقتضي مقت النفس واتهامها التهضضام‬
‫المسرف الذي يقتل فيها تطلعها إلى القتداء بالسلف المهديين‪ ،‬فإن ذلك من‬
‫العوائق‪.‬‬
‫ليست الصغائر مثل الكبائر‬
‫إن الكثير من حساب نفوسنا‪ ،‬ووزننا للخريضضن مضضن المبتضضدئين العضضاملين‬
‫مًعا‪ ،‬نجنح فيهما أحياًنا إلى التشدد الزائد عن حد الشرع‪.‬‬
‫ففي الشرع حرام محض بالغ الحرمة‪ ،‬وفيضضه مكروهضضات وصضغئر ولمضضم‪،‬‬
‫ويمكن تمييز كل فعل ودرجاته مضضن الثضضم فضي ذلضضك مضضن النضضص عليضضه‪ ،‬أو مضضن‬
‫النظر إلى القرائن والظروف‪ ،‬ولكن البعض يسضضتعظم كضضل السضضتعظام أشضضياء‬
‫من الصغائر يقترفها إخوانه لم تأت اليضضات وكلمضضات النضضبي ‪-‬صضضلى اللضضه عليضضه‬
‫وسلم‪ -‬مستعظمة لهضضا بمثضضل ذلضضك بمقضضدار مضضا أتضضت تحضضث علضضى التوبضضة منهضضا‪،‬‬
‫واتباعها بحسنات تمحوها‪ ،‬من صضضدقة وصضضلة‪ ،‬والنظضضر إلضضى رحمضضة رب رحيضضم‬
‫يقبل أوبة المتورط فيها‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫دا فيهمضضا كضضل‬‫وانظضضر الزنضضا المحضضض والكضضذب مثل‪ ،‬تجضضد الشضضرع متشضضد ً‬
‫دا من يضضبرأ فضضي حيضضاته منهمضضا بالجنضضة‪،‬‬‫دأ لهما في جملة الكبائر‪ ،‬واع ً‬ ‫التشديد‪ ،‬ا ً‬
‫وذلك قول النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬فيما رواه البخضاري‪) :‬مضن تكفضل لضي‬
‫بما بين فخذيه ولحييه‪ :‬تكفلت له بالجنة(‪ .‬أي تكفل بسضضلمة فرجضضه مضضن الزنضضا‬
‫الحقيقي الذي يكون في التقاء الفرجين‪ ،‬وبسلمة لسانه من الكذب‪.‬‬
‫ومفاد ذلك أن النظضضر الحضضرام ومضضا وازاه‪ ،‬واللغضضو والتنضضابز وأمثالهضضا مضضن‬
‫الصغائر‪ ،‬إذا خالطت تلك العفة‪ ،‬فإن الجنة تبقضضى غيضضر بعيضضدة عضضن العفيضضف‪ ،‬ل‬
‫يلزمه لتمام قربهاغير حسنات يسيرات يكون فيهن تكفير صغائره‪.‬‬
‫ويتأكد ذلك إذا علمنا أن اللضضه تعضضالى قضضد كتضضب عضضدم الكمضضال علضضى كضضل‬
‫ما عليهضضم‪ ،‬يضضدرك كضضل‬ ‫البشر في هذا الباب المتعلق بالزنا والكذب‪ ،‬قدًرا محتو ً‬
‫مضضا عضضف فرجضضه‪ ،‬فضضإن‬ ‫إنسان من مقدماتهما والصغائر المشتقة منهما شيئا مه ً‬
‫الحديث المروي في صحيح البخضضاري يضضذكر صضضراحة أن‪) :‬كضضل ابضضن آدم مضضدرك‬
‫حظه من الزنا ل محالة‪ ،‬فزنا العينين النظرن وزنا اللسان المنطضق( فل يوجضد‬
‫البرئ براءة تامة‪ ،‬بل هو مقارف لبعض فروع الزنا والكذب التي يصدق عليهضضا‬
‫اسضضمهما مجضضاًزا‪ ،‬ل محالضضة ول مفضضر لضضه مضضن ذلضضك‪ ،‬وأن تضضرك تلكمضضا الكضضبيرتين‬
‫الحقيقتين‪ ،‬وذلك يوجب علينا أن ل نذهب في التشدد في توثيق مقترف هضضذه‬
‫الصغائر إلى حد التزمت وتضعيفه تضعيفا مطلقا‪ ،‬بل نلتزم حضضد الشضضرع الضضذي‬
‫ميزها عن الكبائر‪.‬‬
‫هكذا وقس على الزنا والكذب بقية الكبائر وفروعها من الصغائر‪.‬‬
‫ورب ظان يظن أن في مثل هذا الكلم من التساهل والتجريء للداعية‬
‫على اقتحام اللمم والكثار منه ما يولد مفاسضضد كضضثيرة ويهضضون أمضضر المعاصضضي‬
‫عليهم فيستجيزونها‪ ،‬وذلك وهم‪ ،‬فإن الكلم التربوي ل يفهم بتجضضزئ‪ ،‬ونحضضن ل‬
‫حا‪،‬‬‫ندعو إلى ترك هذا التزمت ساكتين عن حقائق الشرع الخرى‪ ،‬بل تلح إلحا ً‬
‫جا‪ ،‬بتزيين الفضائل اليمانية والدعوة إلى التمسك بها والتنضضافس فضضي‬ ‫ونلهج له ً‬
‫الكثار منها‪ ،‬وغض البصر وترك اللغو من هذه الفضائل التي تميز الدعاة إلضضى‬
‫درجات وطبقات‪ ،‬ما بين متعفف عنهضضا شضضامخ بعفتضضه‪ ،‬فضضي رنضضو إلضضى حوريضضات‬
‫الجنة‪ ،‬كأنه يراهن في دنياه رأي عين‪ ،‬فهو في الطبقضضات العاليضضة‪ ،‬وآخضضر فضضاتر‬
‫الهمة في مقاومة الغراء‪ ،‬فهو في انشغال قلب ينزل به إلى الدرجات الضضدنيا‪.‬‬
‫ظا بليغا‪ ،‬ونذكره بضأن النظضضر ومضا مضضاثله مضن‬ ‫كما نعظ المتساهل مع نفسه وع ً‬
‫الزنا المجازي قد يجره بالتتابع‪ ،‬وباستدراج من الشضضيطان‪ ،‬فضضي لحظضضة شضضهوة‬
‫وغفلة‪ ،‬إلى الزنا الحقيقي الذي يحرمه كفالة النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬له‬
‫بالجنة‪ ،‬كما نذكره بأن الذي يتصدى لمرتبة دعوة الناس وتعليمهم غير العامي‬
‫من المسلمين‪ ،‬فإن الداعية تعظضضم منضضه الصضضغيرة‪ ،‬ويكضضون بهضضا فضضي صضضد عضضن‬
‫سبيل الله‪ ،‬إذا اقتدى بفهواته المقلدون‪ ،‬وفي صدود بغفلته عن ذكضضر وتسضضبيح‬
‫كان منبغًيا له وتساعده الخطة الجماعية عليه وقت مضضا ألهتضضه الصضضغائر‪ ،‬وهضضذا‬
‫الصدد والصدود شعبة تقرب من الكبائر بالنسبة إليه‪ ،‬ويظل إثمها على الفضضرد‬
‫المتسبب أو العامي دون إثمها عليه بكثير‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وفي قصة جريج العابد‪ ،‬الواردة في صحيح البخضضاري‪ ،‬مغضضزى جضضد كضضبير‪.‬‬
‫ذلك أنه عصى أمه فلم يجبها‪ ،‬انشغا بصل نافلضضة‪ ،‬فضضدعت عليضضه بالشضضر‪ ،‬وكضضان‬
‫منتهي دعائها أن يري وجه المومسات‪ ،‬فكانت قصضضته مضضع البغضضي المتهمضضة لضضه‬
‫وهو من الزنا بريء‪ ،‬فالداعية المتوغل في طريق الضضدعوة‪ ،‬المتجضضاوز لمرحلضضة‬
‫البتداء‪ ،‬مثله مثل جريج في عبضضادته‪ ،‬يكضضون مضضن أقصضضى العقوبضضة لضضه أن يضضرى‬
‫امرأة زانية فضل عن أن يزني بها‪ ،‬فتدبر وتأمل!!‬
‫ضا التفريق بيضضن المقضضل والمكضضثر مضضن‬ ‫وكذلك يرد هنا في هذا السياق أي ً‬
‫هذه الصغائر‪ ،‬والمصضضر والمسضضتغفر‪ ،‬مضضن بضضاب مضضا ذكضضره الفقهضضاء مضضن أنضضه )ل‬
‫صغيرة مع الصرار‪ ،‬ول كبيرة مع الستغفار(‪.‬‬
‫ضا فإن النظر إلى المرأة المصلية الملتزمة المحجبة‪ ،‬وهو الذي كان‬ ‫وأي ً‬
‫أكضضثر مضضا يعنيضضه الفقهضضاء‪ ،‬غيضضر النظضضر الضضذي تضضتيحه ظضضروف الحيضضاة اليضضوم إلضى‬
‫المتبرجات بسبب سيرهن في الشوارع العامة أو أثناء مخالطتهن في الجامعة‬
‫وأماكن العمل‪ ،‬مما تكون فيه النظرة الولى جالبة لثانية دون فضول‪.‬‬
‫وهذا الذكر لهذه الحقيقة الشرعية في أمر الزنا‪ ،‬والدعوة إلضضى التشضضدد‬
‫إزاء مرتكب الكبيرة فيه‪ ،‬والتسضاهل إزاء مرتكضضب فروعضضه مضن الصضغائر‪ ،‬إنمضا‬
‫شأنها شأن حقائق شرعية كضضان ذكرهضضا مفسضضدة علضضى بعضضض المسضضلمين‪ ،‬لمضضا‬
‫فهموها فهما ابتداعيا مصحوبا بجهل‪ ،‬ولكن وقوع المفسدة لن يغير من نسضضبة‬
‫رجحان ذكر هذه الحقائق ونشر علمها بين المسلمين‪.‬‬
‫فمن ذلك حديث أبي ذر رضي الله عنه‪ ،‬في دخول قضضائل ل إلضضه إل اللضضه‬
‫الجنة‪ ،‬وكيف أحب أن يبشر بذلك الناس‪ ،‬ولكن النبي ‪-‬صلى الله عليه وسضضلم‪-‬‬
‫منعه خوفا أن يتكلوا ويدعوا العمال‪ ،‬فإن أبا ذر أخبر بهذا الحديث عند مضضوته‬
‫دا فضي العقيضدة‬ ‫خشية منه أن يقع في إثما كتم العلم‪ ،‬وصار حقيقة شرعية وبن ً‬
‫يهدى أصحاب القلوب الحية ذات النمط الوسط إلى العدل فضي الحكضضم علضضى‬
‫الناس والتهيضب مضن تكفيرهضم بمجضرد ولضوغهم فضي المعاصضي‪ ،‬مضع أن بعضض‬
‫المبتدعة قد استنبط منه التعويل على كلمة الشهادة وعاف العمل‪.‬‬
‫وكذلك حديث ذاك الذي ل يزيد على الفروض ول ينقص‪ ،‬الذي أفلضضح إن‬
‫صدق‪ ،‬قد اغتر أنضضاس بظضضاهرة فاعتضضادوا تضضرك النوافضضل‪ ،‬ولكضن ذلضضك لضضم يمنضع‬
‫البخاري من ذكره كحقيقة شرعية مقرونة بألوف من الحاديث الصحيحة معه‬
‫في الترغيب بالخير الزائد على مقدار الفرض‪ ،‬كما لم يمنضع غيضره مضن فقهضضاء‬
‫المة من النص على فسوق من يهجر السنن المؤكدة هجًرا طويل‪.‬‬
‫وقس على هذه المثال‪ ،‬وتأمل ما سبق ذكره من عوامل الفتراق بيضضن‬
‫جيلنا الحاضضضر وأجيضضال السضضلف‪ ،‬لينفتضضح لضضك بضضاب مفيضضد مضضن القتنضضاع بأهميضضة‬
‫الوقوف عند حدود الشرع في التمييز بيضن درجضات المعاصضي‪ ،‬وتصضنيفها إلضى‬
‫كبائر ولمم‪ ،‬تخرج منه إلى واقعية تجبرك على مصاحبة الذين قصرت هممهضضم‬
‫عضضن التملضضص مضضن الصضضغائر‪ ،‬والرفضضق بهضضم‪ ،‬دونمضضا إخلل بكلم تربضضوي واجضضب‬
‫تنصحهم فيه‪ ،‬غير متزمت‪ ،‬ول لهم بظالم‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫إن أخذ مجتمع الدعاة بالشدة في ذلك‪ ،‬وإشاعة عرف بضضالغ الحساسضضية‬
‫إزاء الصغائر‪ ،‬ربما يؤدي إلى نفضضع عظيضضم فضضي جضضودة معضضادنهم‪ ،‬ويوصضضلنا إلضضى‬
‫نتيجة تربوية جيدة‪ ،‬ولكنه بالمقابل يؤدي إلى جفلة الجدد وزهضضد الشضضباب فضضي‬
‫النتماء‪ ،‬لقصور هممهم عن متابعة التعفف الكامل‪ ،‬وهي مفسدة تعارض تلضك‬
‫المصلحة التربوية‪ ،‬لبد من مراعاتها‪.‬‬
‫ومن المهم أن تفهم أن الذي نقوله ما هضضو بتسضضويغ للتهضضاون‪ ،‬وإنمضضا هضضو‬
‫دعوة إلضى الوقضوف مضع النمضط الوسضط الممضدوح شضرعا الضذي ل يجنضح إلضى‬
‫تفريط‪ ،‬ول يرهقه الفراط‪.‬‬
‫وممضضا يقضضارب هضضذه المسضضائل‪ ،‬ونسضضتعمل لضضه نفضضس التسضضيوغات‪ :‬أمضضر‬
‫دأ له قبل مخالطته لدعاة السلم‪ ،‬ثضضم ينتمضضي‬ ‫التدخين‪ ،‬فقد يكون الشاب معتا ً‬
‫لهم ول يستطيع الفكاك من أسره‪ ،‬فنتجاوز عنه‪ ،‬والصوب في أمر التدخين –‬
‫والله أعلضضم‪ -‬أن ل نجضضزم بحرمتضضه‪ ،‬ولكضضن نقضضول بكراتضضه الشضضديدة‪ ،‬وأن عضضرف‬
‫الدعاة ل يستسيغه‪ ،‬وجعلوا تركه شر ً‬
‫طا للعاملين‪.‬‬
‫ومثل ذلك ما اختلضضف فيضضه الفقهضاء التقيضضاء‪ ،‬إذا ملنضضا لضضرأي المتشضضددين‬
‫منهم فيما اختلفوا فيه‪ ،‬كالتأمين‪ ،‬والضضبيع والشضضراء بالقسضضاط بثمضضن زائد علضضى‬
‫ثمن التعجيل‪ ،‬فإن لرأي المجضضوزين وجهضضا يجعضضل مخضضالفهم أميضضل إلضضى القضضول‬
‫بكراهة ذلك من جزمة بالحرمضضة الشضضديدة‪ ،‬وعليضضه أن ل يسضضارع إلضضى تضضضعيف‬
‫العامضضل بإفتضضاء مخضضالفيه‪ ،‬بضضل يقتصضضر علضضى وعظضضه بالحتيضضاط والبتعضضاد عضضن‬
‫الشبهات‪ ،‬إل القتراض بالربضضا والسضضتفادة نضضم قضضروض البنضضوك العقاريضضة‪ ،‬فضضإن‬
‫الذين ذكروا جواز ذلك قد صادموا النصوص الصريحة‪ ،‬وليس لقولهم وجه‪ ،‬ول‬
‫لهم من التقوى نصيب واضح يتقوى به خلفهم‪.‬‬
‫ويداني هذا المور ما يفتي به الداعية الحضضائز لبعضضض الفقضضه نفسضضه فضضي‬
‫أبواب الضرورات‪ ،‬فربما أحاطته ظروف صعبة يجرؤ معها على فعل شضضيء ل‬
‫يجرو المفتى على الترخيص له به‪ ،‬فيعتمد هو على فقه‪ .‬وما من شك فضضي أن‬
‫هضضذا المضضر دقيضضق للغايضضة‪ ،‬ويحتضضاج لحتيضضاط مضضضاعف ولكضضن حضضد التمييضضز بيضضن‬
‫المسموح لهم بذلك والممنوعين هو مقدار الفقضه الضذي يملكضونه فمضن آنسضنا‬
‫دا‪ ،‬ودلت سابقات على حصول نصيب لضضه مضن الفقضضه‪ ،‬فإنضضا ل نسضضتكبر‬ ‫منه رش ً‬
‫منه اجتهاده ونطيل له اللسان‪ ،‬بل نعظه بالتقوى والخذ بالعزيمة فحسب‪.‬‬
‫أنصوفنا معاشر النقاد‬
‫وأمضا السضلوك الثضاني فإنمضا يتمثضل فضي واجضب منتقضدينا نحونضا‪ ،‬فنحضن‬
‫نطالبهم بمثل هذه النظرة التي تتقبل أحسن ما عملنا‪ ،‬وتتجاوز عن نقصنا‪ ،‬ثم‬
‫أ‪ ،‬يدعو الله لنا في أن نكون من أصحاب الجنة‪.‬‬
‫ولقد أسرف بعضهم في البتعاد عن هذه النظرة‪ ،‬فأحصى ما يظنه مضضن‬
‫أخطائنا‪ ،‬مما صدر عن آحاد من دعاة حركتنا‪ ،‬حاولوا الجتهاد‪ ،‬فبعضضض أصضضاب‪،‬‬
‫وبعض أخطأ‪.‬‬
‫ولو أردنا الستقصاء في الرد علضضى الشضضبهات الضضتي يوردهضضا المحصضضون‪،‬‬
‫لوقعنا في المتاهة النفسية التي تراد لنا‪ ،‬ويكون ثمة انشغال عن وجوه النفضضع‬
‫التي نحن ماضون فيجلبها وتحصيلها كل يوم‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ولسنا نضيق صدًرا بنقد يوجه لنا ول ندعي أن الله سبحانه قد حكضضر لنضضا‬
‫الصواب‪ ،‬لكننا ننكر الخلفية المتوترة لمثل هذا النقد‪ ،‬الشبيهة بالفتنة‪.‬‬
‫والساس في ردنا لكل ملحظة وجهت وتوجه لما‪ :‬أن الناقدين يغفلون‬
‫دا عما صاحبها مضضن الصضضابة‪،‬‬ ‫مناقبنا‪ ،‬وجمالنا‪ ،‬وحسننا‪ ،‬ويجردون الخطاء تجري ً‬
‫وقارنها من البذل‪.‬‬
‫إن للدعوة من خلل انتشارها في القطار العربية مناقب كضضثيرة‪ ،‬أقلهضضا‬
‫حفضضظ الشضضباب مضضن النجضضراف فضضي المفاسضضد وإمضضدادهم بالسضضكينة اليمانيضضة‪،‬‬
‫والطمأنينة القلبية في عصر الضطراب‪ ،‬ولو لم يكن للدعوة إل هضضذه المنقبضضة‬
‫لكفاها ذلك فخًرا‪ ،‬كيف وأن مناقبها قد سارت كل مسار‪ ،‬فمضضن صضضحف تضضدافع‬
‫عن قضايا المة‪ ،‬وترد على الملحدين‪ ،‬وكتب منهجية تعين الشباب علضضى فهضضم‬
‫السلم‪ ،‬وقتال اليهود والمستعمرين في فلسطين والقناة‪ ،‬وسعي فضضي إعانضضة‬
‫الناس علضضى نيضضل العلج الطضضبي وضضضرورات الحيضضاة عضضبر عمضضل إغضضاثي واسضضع‪،‬‬
‫وتوعية سياسية للمضضة تقابضضل خطضضط الماسضضونية والصضضليبية‪ ،‬وأمضضر بضضالمعروف‬
‫ونهي عن منكر الطغاة الظالمين‪ ،‬وإشاعة للقضضرآن‪ ،‬وتحفيظضضه‪ ،‬وتعليضضم آدابضضه‪،‬‬
‫وإنشاء للمكتبات والمساجد‪ ،‬حتى أن الدعاة قد تجاوزوا في ذلك بذل أموالهم‬
‫وأوقاتهم إلضضى بضضذل أرواحهضضم ودمضائهم‪ ،‬فنقضضش الرصضضاص صضضدورهم‪ ،‬والتفضضت‬
‫الحبال على أعنضضاقهم ولفظضضت أنفاسضضهم كريمضضة تحضضت السضضياط‪ ،‬وفضضي غضضرف‬
‫التعذيب‪.‬‬
‫هذه فعالنا‪ ،‬وهذا تاريخنا‪ ،‬وحاضرنا من بعضد مضرئي مشضاهد فلضم‪ ،‬يكضون‬
‫تجاوز هذه الصور الفاضلة‪ ،‬والمفاخر المشضضرفة لكضضل مسضضلم صضضادق اليمضضان‪،‬‬
‫ويسعي الناقدون إلى حصر المسألة في جملة أخطضضاء رصضضدوها‪ ،‬علضضى فضضرض‬
‫أنها أخطاء فعل وأن الدعاة ليس لهم فياه تأويل؟‬
‫والصل في ذلك نقاء القيادات‪ ،‬وأهليتها للتصدي لمثضضل مضضا تصضضدت لضضه‪،‬‬
‫وإنا ل نعلم بحمد الله فينا إل كل قائد نجيب نبيل رفيع‪.‬‬
‫باب مفتوح لكل طارق‬
‫أما التباع فل ننكر أن فيهم من قد يخطئ في كلمه أو تصضضرفه‪ ،‬ولكضضن‬
‫دا حين تقدير ما يصدر عن التباع‪ ،‬ذلك أن‬ ‫لبد من النتباه إلى مسألة مهمة ج ً‬
‫الدعوة ليست مجمعا للكاملين‪ ،‬وإنما هي مجتمع تربوي يسعى إلى تربية كضضل‬
‫دا عن الكبائر‪ ،‬شريفا في الناس‪ ،‬وإذا قيل‪ :‬إن فلنا قضضد‬ ‫وافد إليه إذا كان مبتع ً‬
‫صار من جملة شباب الدعوة فليس معنى ذلك أنه قد استكمل اليمضضان وحضضاز‬
‫العلم من أقطاره‪ ،‬ولكننا حين نصفه بذلك فإننا نعني أنه قد رضضضي بضضأن يربيضضه‬
‫الدعاة‪ ،‬وأنه قد بدأ السير وفق المنهج الصح‪.‬‬
‫وعلى هذا فإن التباع‪ ،‬وحتى القادة‪ ،‬متفاوتون في كمية حيضضازة خصضضال‬
‫اليمان وعلوم الشرع التي تجعل أعمالهم صضضائبة‪ ،‬فمنهضضم المبتضضدئ الضضذي قضضد‬
‫يخطئ‪ ،‬ومنهم المتوسط في ذلك‪ ،‬ومنهم الذي كثف خيره‪ ،‬وعبق عطره‪.‬‬
‫وليست دللة القدم أكيضضدة فضضي ذلضضك‪ ،‬وإنمضضا هضضي طاقضضات مختلفضضة مضضن‬
‫التحمل والصبر والذكاء والشجاعة‪ ،‬ولربما تجد القضضديم فضضي منضضازل المبتضضدئين‬
‫مراوحا إذا لم يكن له مقدار وافر من هذه الخصال البتدائية‪ ،‬فقد يخطئ فضضي‬
‫تعامله‪ ،‬أو في كتاباته وأقواله‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫وأمضضر التجميضضع وقبضضول التبضضاع فضضي الصضضف يعتمضضد إلضضى حضضد كضضبير علضضى‬
‫الفراسة عنضضد المربيضضن والقضادة‪ ،‬والفراسضة مضن شضأنها أن تصضضيب أو تخطضضئ‪،‬‬
‫والقاعدة التي نتبعها‪ :‬أن نفتح بابنا لكل طارق أميضضن مهمضضا قضضل خيضضره‪ ،‬طالمضضا‬
‫جاءنا طامعا في أن يقف في صف صلتنا خلف إمامنا‪.‬‬
‫نحاسب بالحسني ول نفضح‬
‫والحقيقة أن أكثر أخطاء العضاء محاسضبون عليهضا‪ ،‬وتشضهد علضى ذلضك‬
‫قصص فيها مفخرة للقيادات في حرصها على الحسبة ونقضضاء الصضضف‪ ،‬وتقضضويم‬
‫العوجاج‪ ،‬ولكنها ل تذيع ذلك أو تنشضضره‪ ،‬لن فضضي المقصضضرين الضضذين حوسضضبوا‬
‫شعبا وأنواعا من الخير ل يراد لها أن تضمحل أ‪ ,‬تموت بالتشهير‪ ،‬ولضضو أذاعضضت‬
‫القيادات محاضر محاوراتها لمثال هؤلء المقصرين‪ ،‬معاتبة ومرشضضدة ومنبهضضة‬
‫لهم‪ ،‬لوقعت في الخطأ الذي نعيبه هنا‪ ،‬ولكنه الستر على أهضل الخيضر يسضتغله‬
‫الناقدون بل علم‪ ،‬فيقدمون على الجرح والقدح بجرأة‪ ،‬في موطن تهيبت فهي‬
‫القيادات واستحسنت الهدوء في معالج المر الذي هيج الناقدين‪.‬‬
‫ل نرضى ببدعة‬
‫وفضضي الواقضضع أن أكضضثر النتقضضادات الضضتي تضضوجه يمكضضن ردهضضا بسضضهولة‪،‬‬
‫ونستطيع أن نقنع المنتقد بوجهة نظرنا إذا كان سليم الطوية‪ ،‬صادًرا عن حضضب‬
‫في الصلح ما استطاع‪.‬‬
‫وخذ مثل في ذلك ما يشاع عن الجماعة من أنها ل تحارب البدع‪ ،‬مع أن‬
‫كل ناظر إلى سيرة المام حسن البنا رحمه الله يدرك صفاء عقيضضدته‪ ،‬وبضضدعه‬
‫عن البدع‪ ،‬ومحاربته لها‪ ،‬وكفاه بالصول العشرين وثيقة يضعها بيضضن يضضدي ربضضه‬
‫تعالى يحاجج بها ويدلل على قيامه بواجبه السني التبضضاعي إزاء البتضضداع‪ ،‬ومضضا‬
‫زالت جماهير المنتسبين إلى دعوته تتدارس هذه الصول وتشرحها‪ ،‬وتنشضضرها‬
‫بين الناس‪.‬‬
‫السياسة كلها ترجيح بين المصالح‬
‫ويتداول حديث عن أخطاء سياسية ترتكبها القيادات‪ ،‬ومضضا هضضي بأخطضضاء‬
‫في حقيقتها لمضضن أمعضضن النظضضر‪ ،‬لكنضضه تفضضضيل بيضضن المصضضالح‪ ،‬واتبضضاع لقاعضضدة‬
‫الفقهاء في الحرص على أكبر المعروفين عند تعارضها‪ ،‬ولو بتفضضويت أدناهمضضا‪،‬‬
‫واحتمال أيسر العارضتين لبعاد أعظمهما وأكبرهما‪.‬‬
‫ولقد أطال المام ابن تيمية رحمه الله النفس فضضي بيضضان هضضذه القاعضضدة‬
‫وتصويبها والمر بالعمل بها‪ ،‬حتى أنه أفتى في هذا الباب بإفتاءات يظنهضضا مضضن‬
‫ل يخبر السياسة غريبة معيبة‪.‬‬
‫وأغلب هذه المواقف المنتقدة على الحركة مخرجة على هضضذه القاعضضدة‬
‫في الموازنة بين مراتب المعروف والمنكر ودرجات المصالح والمفاسضضد‪ ،‬فمضضا‬
‫من تعاون مع حزب معيب‪ ،‬أو تصريح بثناء على فعلة حسنة من حاكم لم يتضضم‬
‫إسلمه‪ ،‬أو ما شابه ذلك‪ ،‬إل وللقيادات فيها تأويل مستخرج وفق هذا الفتاء‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫ول ندعي أن كل هذه التصضضرفات المعتمضضدة علضضى هضضذه القاعضضدة كضضانت‬
‫ما في نتائجها‪ ،‬فإن ذلك ليس ركنا في توثيق المسلم‪ ،‬إنما هو يجتهضضد‬ ‫صوابا دو ً‬
‫في باب السياسة كما في غيرها‪ ،‬فيصيب ويخطئ تبعا لمدى فراسته‪ ،‬وطويل‬
‫تجربته‪ ،‬إنما الركضضن المهضضم هضضو أن هضضذا التأويضضل والجتهضضاد يسضضتند إلضضى أقضضوال‬
‫معتمدة في مذاهب أعيان الفقهاء القدماء‪.‬‬
‫ومع ذلك فل يمكن للقيادات على طول الخط أن تكشف حوارهضضا حيضضن‬
‫تقرير مثل هذه الخطوات القائمة على الموازنة بين المصالح والمفاسد‪ ،‬ذلضضك‬
‫لنها قد تعتمد عل أسرار ل يسضضوغ كشضضفها‪ ،‬أو تسضضويغات مضضضمرة ل تريضضد أن‬
‫يتسرب علمها إلى أعداء السلم‪ ،‬فيحورون خطتهم العدائية تبًعا لذلك‪.‬‬
‫وقد جري العرف عندنا على الستقلل في العمل‪ ،‬والضضدعوة إلضضى زوال‬
‫الحضضزاب‪ ،‬ومقارعضضة الظضضالمين‪ ،‬ومضضضت هضضذه المعضضاني أصضضول فضضي التخطيضضط‬
‫السياسي‪ ،‬وأفصح عنها كلها المضضام البنضضا رحمضضه اللضضه فضضي رسضضائله‪ ،‬ول تكضضون‬
‫موازناتنا بين درجات المصالح إل على ضوء هذه القواعد‪.‬‬
‫فأنصف أيها الناقد‪ ،‬ذلك خير‪ ،‬وكفاك هضضذا أيهضضا الداعيضضة‪ ،‬ل تطلضضب الضضرد‬
‫حرفا بحرف‪ ،‬فإنها متاهة والله متاهة الردود‪ ...‬وعوائق‪.‬‬
‫إن هذه النتقادات الجزافية هضضي مضضن جهضضل الناقضضدين‪ ،‬وقلضضة إنصضضافهم‪،‬‬
‫ولول أن البعض نم علماء المة قد ابتلي بمثضضل هضضذا الذى المعنضضوي علضضى مضضر‬
‫العصور لظننا أنه عقوبة ربانية تحيط بنا‪ ،‬ولكن يبدو أن مثل هذه التشويشضضات‬
‫والفتن سنة من سنن العمل السلمي‪ ،‬والعاصم منهضضا أن نضضدعو بضضدعاء النضضبي‬
‫‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬فنقول‪ ) :‬اللهم إنضا نعضضوذ بضك مضن أن نجهضل أو يجهضضل‬
‫علينا(‪.‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬


‫كلمة أخيرة‬
‫وبعد أيها الداعية‪:‬‬
‫فإنا قد أطلنا الكلم لك عن الفتن وأسبابها واتقائها‪ ،‬بعدما رأينضضا مضضا لهضضا‬
‫من ضرر على الدعوة السلمية يعرقل تقدمها‪.‬‬
‫دا عضضن الضوضضضاء‪ ،‬فتتأمضضل هضضذه‬ ‫والمنتظر نمك أن تخلو إلى نفسك‪ ،‬بعي ً‬
‫الجمهضضرة النافعضضة المفيضضدة مضضن اليضضات والحضضاديث‪ ،‬وأقضضوال العلمضضاء وأبيضضات‬
‫الشعراء‪ ،‬وتعيد قراءتها مرة بعد مرة‪ ،‬وتطابق بينها وبين ما ترى من معاصضضي‬
‫المفتونين‪ ،‬لينفتح لك باب عظيم من فقه السلوك‪.‬‬
‫دا‪ ،‬ودعوة الله‬ ‫وإنما هي العرقلة فحسب‪ ،‬ول تبلغ الفتن أبعد من ذلك أب ً‬
‫محفوظة سائرة إن شاء الله‪.‬‬
‫فليس لمر حاول الله جمعه‬
‫مشت‪ ،‬ول ما فرق الله جامع‬
‫ويأبى الله إل أن يتم نوره‪ ،‬وأن يرينا نم قصص المفتتنين مصداق ذلك‪.‬‬
‫فمن أطرف ما يروى في ذلك أن أحد المحررين في المجلة السبوعية‬
‫للجماعة شذ‪ ،‬فنفته الدعوة‪ ،‬فأصدر مجلة أخرى‪ ،‬تحديا وضراًرا‪.‬‬
‫قال المام البنا‪:‬‬
‫)فدعاها هو "الخلود"‪ ،‬وقضى الله عليها بالفناء‪ ،‬فلم يصدر منها إل عضضدد‬
‫أو عددان‪ ،‬وانتهى أمرها‪ ،‬وكذلك الباطل ل بقضضاء لضضه‪ ،‬والبغضضي مصضضرعه وخيضضم(‬
‫)‪.(232‬‬
‫ودعضضوة السضضلم اليضضوم تقضضف شضضامخة عاليضضة منتصضضرة فضضي جولتهضضا مضضع‬
‫الطغاة‪.‬‬
‫والدعاة في كل بلد السلم كثير عددهم‪ ،‬نقية عقيدتهم وليضضس النقضضص‬
‫الحاضر نقص عدد ول نقص إيمان‪ ،‬ول ذلك هو ما يحول دون الوصول‪.‬‬
‫لكنه‪:‬‬
‫ويعالج ببث الوعي‬ ‫العمل الساذج‪...‬‬
‫وطول المل‪ ...‬ويقصر بذكر الموت‬
‫ويبدد بأنوار الفطنة‬ ‫وظلم العوائق‪..‬‬
‫وتتبلور هذه النوار جميعا وتتركز‪ ،‬لتكشف عن أصل رئيس مضضن أصضضول‬
‫دعوتنا‪ ،‬يعلن أن‪:‬‬
‫)القائد جزء من الدعوة‪ ،‬ول دعة بغير قيادة‪ ،‬على قضضدر الثقضضة المتبادلضضة‬
‫بين القائد والجنود تكون قوة نظضضام الجماعضضة وإحكضضام خططهضضا ونجاحهضضا فضضي‬
‫الوصول إلى غايتها‪ ،‬وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب‪.‬‬
‫)‪.(233‬‬
‫"فأولى لهم طاعة وقول معروف"‬
‫"فإذا عزم المر فلو صدقوا لله لكان خيًرا لهم"‪....‬‬

‫‪ ()232‬مذكرات الدعوة والداعية‪.134/‬‬


‫‪ ()233‬رسالة التعاليم‪ /‬المجموعة‪.19/‬‬

‫أثير الرواق ‪ www.alrewak.net‬نسهم في نشر الوعي المنهجي لمة الخير والسلم‬

You might also like