You are on page 1of 226

‫رواية لجئة للكاتبة الفلسطينية سحر الرملوي‬

‫رواية جديرة بالقراءة ‪ ،‬مقسمة الى ‪ ١٨‬قسم لسباب تتعلق‬


‫بالنترنت مع ان الرواية تتالف من اربعة فصول ‪.‬‬

‫رواية للكاتبة سحر الرملوي‬


‫رواية لجئة ـ حلقة ‪ ١‬من ‪١٨‬‬
‫لــديــنا بيت واسع ‪ ،‬كبــيـر‪ ،‬نصفه حجرات و نصفه مكشوف ‪ ،‬وفي وسطه‬
‫بالضبط بئر قديمة بجوارها نخلة سامقة ‪ ،‬طويلة جدا ‪ ،‬أطول من كل النخيل‬
‫الذي تعرفين ‪ ،‬كانت النخلة تمد جذورها في أعمق أعماق البئر و كنا نرى تلك‬
‫الجذور الغريبة الطويلة حين ندلي رؤوسنا داخل البئر ‪ ،‬كانت مياهه بعيدة و‬
‫لذلك فقد احتالت النخلة لتصل إليها بالجـــذور ‪ ،‬كـــانت أمي تــصيح فينا‬
‫دائما لنبتــعد عن الــبئر ‪ ،‬و كانت دائما تردد لبي ‪ ،‬يرحمه الله ‪" :‬يوما ما‬
‫سيسقط أحد أطفــالنا في هذا البئر ‪ ،‬أشعر بهذا "••‬

‫رواية ـ للكاتبة سحر الرملوي‬


‫رواية لجئة ـ حلقة ‪ ٢‬من ‪١٨‬‬
‫من هذه الفتاة ‪ ،‬و كيف لم يلحظها منذ سكن الشارع رغم أنها جارته ‪ ،‬من‬
‫أين واتتها القوة لتقول رأيها بصراحة في الوقت الذي استغرق المر من‬
‫زوجته عمرا و ثلثة اطفال كي تنطقها •• ماذا تعرف هذه الصغيرة الجريئة‬
‫عنه ‪ ،‬ماذا كانت تخبرها مريم و كيف كانت تنظر إليه ‪ ،‬هل تحتقره في قرارة‬
‫نفسها •• اسئلة كثيرة حرمت عليه النوم ذلك اليوم ‪ ،‬و قرر أن يعرفها أكثر ‪،‬‬
‫قال أنها بكل تأكيد مثل كل النساء و لكن تنقصها الخبرة‬

‫رواية للكاتبة سحر الرملوي‬


‫رواية لجئة ـ حلقة ‪ ٣‬من ‪١٨‬‬
‫أنت ل تفهم يا أستاذ سعيد ‪ ،‬أنا ل أسافر من أجل مصاريف قد أستطيع‬
‫تدبيرها إذا بقيت ‪ ،‬إنني أذهب و أنا أعلم تمام العلم أن أمامي دربا طويل‬
‫طويل ‪ ،‬دربا تأخرت عن المشي فيه بسبب نوازع العاطفة و رغبتي في عدم‬
‫ترك أولدي ‪ ،‬و أسلكه اليوم بسبب نوازع العاطفة أيضا و بسبب العقل‬

‫رواية للكاتبة الفلسطينية الصاعدة سحر الرملوي‬


‫رواية لجئة ـ حلقة ‪ ٤‬من ‪١٨‬‬
‫أزف موعد الرحيل و هذه الليلة كانت آخر ليلة ‪ ،‬هكذا سماها الب و هو‬
‫يبتسم مشجعا لهل بيته بينما يضع آخر حمولة مما حمله اليوم إليهم من‬
‫السوق ‪ ،‬كل أنواع الطعمة التي تكفي البيت شهرا ‪ ،‬أحضر الدقيق و الرز و‬
‫السكر و الزيت و السمن و حتى علب الكبريت و علب البسكويت التي تحبها‬
‫سمر و الصابون الذي يحتاجه البيت و لحم كثير و خبز أيضا كل شيء أحضره‬
‫الب و حمله معه قاسم قال ‪:‬‬
‫رواية للكاتبة الفلسطينية الصاعدة سحر الرملوي‬
‫رواية لجئة حلقة ‪ ٥‬من ‪١٨‬‬
‫رواية تستحق القراءة‬

‫غير معقول يا سوسن ‪ ،‬كيف تجرؤين على الزج بي في موضوع كهذا ‪ ،‬هل‬
‫تريدين القول أن سيد وافق على التحاقك بالجامعة فقط لتكوني عينا علي ؟!‬

‫تلعثمت سوسن أمام غضبة ريم غير المتوقعة و قالت في محاولة لتلطيف‬
‫الجو ‪:‬‬

‫رواية للكاتبة الفلسطينية الصاعدة سحر الرملوي‬


‫رواية لجئة ـ حلقة ‪ ٦‬من ‪١٨‬‬
‫‪ -‬و لكن هذا لم يكن رأيك فما الذي غيرك ؟‬
‫فقدت ريم الحساس بكل هذه الوجوه من حولها ‪ ،‬إل وجها واحدا كان يرسم‬
‫نفسه و بقوة فوق الحدث ‪ ،‬تراه مهيمنا على كل المشاعر و على كل‬
‫الموقف ‪ ،‬وجه فرض نفسه بقوة الحب و قوة الصبر و قوة التضحية ‪ ،‬إنه‬
‫وجه أبيها ‪ ،‬كانت تراه في هذه اللحظة قويا حتى أن انفاسه غطت على‬
‫الهدير الصاخب حولها ‪ ،‬شعرت أن جسدها فقط هو الذي يعيش الحدث ‪،‬‬
‫تشعر بنفسها تلف لتبتسم و ترد التبريكات بأحسن منها و تأمن على الدعوات‬
‫و تدعو بالعقبى لخيها و هي في كل هذا مسيرة ل تعيش اللحظة معهم ‪،‬‬
‫إحساس طغى عليها كثيرا و لول مرة تشعر به بهذه القوة كانت تريد أباها ‪،‬‬
‫تريده الن ‪ ،‬تريد أن تخبره أن يده هي التي كتبت هذه اللحظات و صبره هو‬
‫الذي أوصلها إليها و تضحيته هي التي قدمتها لها ‪ ،‬كانت تريد أن تجثو أمامه‬
‫تقبل يمينه و تغسلهما بدموع الفرحة و تؤكد له بل تقسم بأنها ستحافظ على‬
‫الهدية الغالية الثمينة‬

‫رواية للكاتبة الفلسطينية الصاعدة سحر الرملوي‬


‫رواية لجئة ـ الحلقة ‪ ٧‬من ‪١٨‬‬
‫ليلة البارحة ‪ ،‬لم أستطع النوم‬
‫سألت نفسها مرارا إن كان تعلقها بكلماته ‪ ،‬وثقتها بأن في يده دائما حلول‬
‫مشكلتها هو الحب الذي يتحدث عنه الناس ‪ ،‬و تنتظره سوسن و يتأوه من‬
‫أجله المغنون و المغنيات •• لكنهم يتحدثون عن لهفة النتظار في غياب‬
‫الحبيب و هي ل تشعر بهذه اللهفة ‪ ،‬يتحدثون عن الحلم التي يسكنها الحبيب‬
‫و هي لم تحلم به ليلة رغم وجوده المكثف في حياتها ‪ ،‬يتحدثون عن جمال‬
‫الكون حين يكون الحبيب مع حبيبه و هي لم تشعر للحظة أن مشكلتها‬
‫اختفت‬

‫رواية لجئة ـ الحلقة ‪ ٨‬من ‪١٨‬‬


‫ل أدري ماذا أقول لك أيها الغالي ‪ ،‬ســوى أنني عندما حـــسبت ســنين‬
‫العمر التي مضت و حذفتها من لحظة الفرحة الكبرى بثبوت ريم في الجامعة‬
‫وجدت أن تلك اللحــظة فاضت و زادت حتى غطت على كل سنين الشقاء‬
‫•• أتحسبني نسيت يا أبا العيال ؟ أتحسبني نسيت ليالي سهادك و أيام‬
‫جهادك ‪ ،‬أتحسبني لم أكن أسمع الزفرات الحرى تخرج من قلبك فتحرق‬
‫قلبي ‪ ،‬أم تحسبني لم أكن أسمع في الليالي الطويلة التي تقاسمنا الفراش‬
‫فيها وجيب قلبك و هو ينادي الفرج و يسأل الله سؤال المضطرين ‪ ،‬لقد‬
‫سمعت وشاهدت و عشت و أحسست و اليوم معك أحصد و إليك أهدي و بك‬
‫تستمر المسيرة ••‬

‫رواية تستحق القراءة‬


‫رواية لجئة ـ حلقة ‪ ٩‬من ‪١٨‬‬
‫ريم ‪ ،‬أعرف ما تفكرين به ‪ ،‬أعرف أنك غاضبة ‪ ،‬و أنك ترفضين صحبتنا ‪ ،‬و‬
‫لن نضغط عليك كثيرا ‪ ،‬إل أنني سأخبرك أمرا قد يعنيك أن تعرفيه •• أنا‬
‫أشعر بك تماما •• و في ذلك اليوم عندما أخبرتك أنني أحبك لم يكن حديثي‬
‫من قبيل اللهو ‪ ،‬و لكنه كان حديث نفس ‪ ،‬بالفعل أشعر أنني مرتبط بك‬
‫بشكل أو بآخر ‪ ،‬أشعر أنك قطعة مني ••‬

‫رواية لجئة ـ الحلقة ‪ ١٠‬من ‪١٨‬‬


‫لما أسقط في يد الم ‪ ،‬و احتارت في أمر ابنتها و الوسيلة التي يمكنها أن‬
‫تقنعها بها لم تجد إل حل واحدا دفعها إليه حرصها عليها و على مستقبلها ‪ ،‬إذ‬
‫أرسلت خلسة في طلب الستاذ سعيد و قد تذكرت عندما اخبرتها أبنتها أنها‬
‫بالفعل تعتبره شيئا عظيما في حياتها ‪ ،‬شخصا يمكنها الركون إليه و الثقة فيه‬
‫‪ ،‬بعـــد أبيها الذي تفـصـــلها عنه مسافات و زمن طويل ••‬

‫رواية تستحق القراءة‬


‫رواية لجئة ـ حلقة ‪ ١١‬من ‪١٨‬‬
‫جلست بجواره و قالت بحرارة ‪:‬‬
‫أنت ؟ أنت الكائن الوحيد الذي لن يكون حنيني إليه شوقا عابرا ‪ ،‬الوحيد‬
‫الذي لن يغادر ذاكرتي ما حييت ‪ ،‬أل يكفيك أنني سأتذكرك و أذكرك في كل‬
‫لحظة من لحظات حياتي ‪ ،‬إذا فرحت ‪ ،‬و إذا حزنت ‪ ،‬إذا ضاقت علي الدنيا و‬
‫إذا ابتسمت لي ‪،‬إذا تطلعت إلى القمر ‪ ،‬أو استيقظت في الصباح ‪ ،‬أو نمت‬
‫عند المساء ‪ ،‬إنك غال جدا يا أستا••‬

‫رواية لجئة ـ الحلقة ‪ ١٢‬من ‪١٨‬‬


‫ابتعدت ريم عن التلفاز متنهدة و اتجهت للمطبخ ‪ ،‬كانت بقايا طعام العشاء‬
‫في المجلى داخل الواني ‪ ،‬راعها منظر المجلى و هو مزدحم بالواني ‪،‬‬
‫فشمرت أكمامها و شرعت في تنظيف الواني ‪ ،‬عندما دق جرس الباب‬
‫دقات متتابعة تنبىء عن مقدم المهنئين ‪ ،‬أسرعت فغسلت يدها و توجهت‬
‫لحجرتها بعد أن أغلقت في طريقها التلفاز و جهاز الفيديو و هي تقول ‪:‬‬
‫أكمله بعد أن ينصرفوا ‪ ،‬و أذهب لستقبالهم ‪ ،‬علي أن أهتم بزينتي ••‬
‫رواية لجئة ـ الحلقة ‪ ١٣‬من ‪١٨‬‬
‫أحيانا ‪ ،‬يصعب علينا العتراف بهمومنا حتى لقرب الناس لنا ‪ ،‬لكننا دوما‬
‫بحاجة لمن يسمعنا و يفهمنا و يخفف عنا ‪ ،‬حتى لو كان الكلم لمجرد التخفف‬
‫من همومنا •• أنت فنانة و راحة البال رأس مالك ‪ ،‬فإذا تركت همومك تأكلك‬
‫ضعت ‪ ،‬لذا آمل أن تتحدثي معي ‪ ،‬كصديقة و ليس كصاحبة مال ••• و ريم‬
‫لم تكن بحاجة لهذه المقدمة ‪ ،‬كانت تريد حقا شخصا غريبا يفهمها ‪ ،‬يبدي‬
‫تعاطفا ‪ ،‬أو يقدم حل •• كانت تريد الكلم لكنها لم تكن تعرف لمن تبوح ‪،‬‬
‫كانت تخشى على أبويها‬

‫رواية لجئة حلقة ‪ ١٤‬من ‪١٨‬‬


‫تلفتوا ينظرون حولهم ‪ ،‬غير مصدقين لما يسمعون ‪ ،‬العبارات واضحة ‪ ،‬لكن‬
‫لبد أن هنالك خطأ ما ‪ ،‬لبد أن هذا الحديث لشخاص هلميين حولهم ‪ ،‬ليس‬
‫لهم •• تمسكت سمر بأمها فصاحت الخيرة ‪:‬‬
‫لكنهم أبنائي •• قال المسؤول و هو يمط شفتيه ‪:‬‬
‫هذا هو النظام ••‬

‫رواية لجئة حلقة ‪ ١٥‬من ‪١٨‬‬


‫انتهى قاسم من تجهيز أوراقه كلها ‪ ،‬أصبح جاهزا تماما للسفر ‪ ،‬جمع المال‬
‫اللزم و اشترى الملبس المناسبة لشاب ل يعرف هناك مصيره ‪ ،‬و كان في‬
‫الفترة الخيرة يكثر من قراءة الكتب باللغة النجليزية عن الحياة في أمريكا‬
‫حصل عليها من السفارة ‪ ،‬و يتابع الفلم الغربية ‪ ،‬و ل يرى إل و جهاز تسجيل‬
‫صغير به شريط أجنبي حول أذنيه ‪ ،‬شعرت أسرته أنه سافر قبل أن يسافر ‪،‬‬
‫فلم يعد يهتم كثيرا بما يجري حوله في المنزل ‪ ،‬و عندما طلبت منه الم‬
‫مرافقتها إلى ادارة الوافدين لتحضر شهادة تعفي سمر من مصاريف الدراسة‬
‫باعتبار وفاة أبيها الفلسطيني‬

‫رواية لجئة حلقة ‪ ١٦‬من ‪١٨‬‬


‫توسلت إليهم أن يسرعوا •• محمد ولدي الوحيد •• لم أنجب غيره بعد‬
‫انتظار سبعة عشر عاما •• لكنه مات •• مات •• بسرعة جمع المشرف‬
‫أعضــــاء فريقه و أعــــطى توجـــيهات بالعودة السريعة إلى القاهرة و‬
‫إحضار عدة أطباء بعد شرح العراض ليتسنى لهم إحضار كل أنواع الدوية‬
‫التي يمكن أن تفيد ‪ ،‬شدد عليهم ضرورة العودة السريعة و أن يكون الطباء‬
‫من معارفهم ليتجاوزوا الروتين ما أمكن ‪ ،‬قال لريم و هو يدفعها‬

‫رواية لجئة حلقة ‪ ١٧‬من ‪١٨‬‬


‫لم تفهم ريم ما الذي يقوله الرجال فقط كانوا يتحدثون معا فتضيع عباراتهم‬
‫مع صخبهم ‪ ،‬على أن قلبها استشعر خطرا ‪ ،‬نهضت بسرعة و اتجهت إلى‬
‫الباب ‪ ،‬كان المشرف على الرحلة مضطربا ‪ ،‬حذرها من التقدم نحو الباب و‬
‫قال بارتباك شديد ‪:‬‬
‫رواية لجئة حلقة ‪ ١٨‬والخيرة‬
‫حتى ل ينسى •• لبد أن نقرع الجراس دوما •• نصرخ بصوت عال أننا هنا‬
‫•• نعلنها للدنيا أننا نرفض نسيانه •• إذا أدار وجهه عنا ‪ ،‬أدرنا أنفسنا إليه ‪ ،‬و‬
‫إذا تشاغل بأمر خرجنا له منه ‪ ،‬إذا قرأ كتابا كنا بعضا من سطوره ‪ ،‬وإذا‬
‫تنفس هواء كنا بعضا من بعض ذراته ••‬
‫ة عارٍ في جبين‬
‫خ اللجئين الفلسطينيين وصم َ‬ ‫بين يدي الرواية سيظ ّ‬
‫ل تاري ُ‬
‫ضر •••!!‬
‫دعي التح ّ‬‫عالـم ي ّ‬

‫إهداء إلى أحمد …‪ .‬كلما أوغلت طيورك في سماء الغربة و دارت بك أيام…‪.‬‬
‫مة أم ٌ‬
‫ل ننتظره‬ ‫فأدارتك سيبقى ــ يا أخي الحبيب ــ ثـ ّ‬
‫السم ‪:‬ريم جهاد القاسم‬

‫المهنة ‪ :‬طالبة‬

‫محل الميلد ‪ :‬القاهرة‬

‫تاريخ الميلد ‪1966:‬م‬

‫لون العينين ‪ :‬كما في الصورة‬

‫وثيقة سفر للجئين الفلسطينيين ••دفتر أزرق بحجم جوازات السفر العادية‬
‫••‬

‫كان هذا الكتيب أول علقة رسمية حقيقية لها بالدنيا ••‬

‫عندما أعطاه إياها أبوها قال ‪:‬‬

‫حافظي عليه فبدونه أنت لشيء •• استلمته و كأنها تستلم قطعة منها ‪،‬‬
‫بين دفتيه يكمن وجودها و ل معنى لكل حياتها ما لم يكن معها •• فتحت‬
‫صفحاته بيد مهزوزة ‪ ،‬كان ثمة ختم مطبوع باللون الزرق مسجل فيه أيضا‬
‫حدودها ‪ " :‬لجميع البلدان العربية ما عدا سوريا و اليمن " ••‬

‫رفعت عينيها تتساءل عن السبب؟ أجاب أبوها بل مبالة ‪:‬‬

‫عادي •• حملته برفق و سارت به نحو غرفتها و في صندوق مقتنياتها‬


‫الثمينة وضعته ‪ ،‬بجوار شهادة ميلدها التي ليست كأي شهادة فعنوانها "‬
‫مسجل رسمي " و شهادات دراستها حتى الثانوية العامة قبل أيام أكملت ريم‬
‫ثمانية عشر عاما ً ‪ ،‬واليوم أصبحت بُهوية منفصلة تخصها وحدها بعد أن قبعت‬
‫هوية أبيها سنين عمرها الماضية كلها منذ ولدت و حتى الن ••‬ ‫راضية في ُ‬

‫ت و مرات ‪،‬‬ ‫عادت تفتح صندوقها الثمين مجددا ً ‪ ،‬و تخرج الوثيقة تتأملها مرا ٍ‬
‫وثيقة سفر للجئين الفلسطينيين ‪ ،‬ما معنى هذه الكلمة ؟ ما المقصود‬
‫بوضعها على غلف الوثيقة؟ أليست مثل أية وثيقة ؟ أليست جواز سفـــر‬
‫مثل الجــواز الذي يمتلــكه أبوها و تمتلكه أمها •• لكن ل •• لقد تذكرت ‪،‬‬
‫إنه فقط يشبه وثيقة أبيها لكنه ل يشبه وثيقة أمها فوثيقة أمها خضراء و‬
‫مكتوب عليها جواز سفر للمصريين ••‬

‫ما الفرق ؟ كانت أمها تطهو في مطـــبخ بيتهم الصغير ‪ ،‬كـــانت قد نــادتها‬
‫حتى الن ثـــلث مرات و عندما رأتها على باب المطبخ بادرتها ‪:‬‬
‫صح النوم ‪ ،‬ألم تسمعي النداء منذ المرة الولى ؟‬
‫أمي ما الفرق بين الجواز و الوثيقة ؟ فوجئت الم بالسؤال ‪ ،‬كان ذلك‬
‫واضحا من اتساع حدقة عينيها و توقف يديها عن تقليب الطعام ‪ ،‬على أن‬
‫هذه الدهشة لم تدم سوى ثانية واحدة لنها عــادت إلى التقليب و تنهدت و‬
‫هي تنظر في محتويات القدر قائلة ‪:‬‬

‫الجواز لمن لهم وطن ‪ ،‬أما الوثيقة فهي للجئين •• هذه المرة كان دورها‬
‫في الدهشة و سألتها ‪:‬‬
‫هل يعني هذا أنني صرت لجئة ؟ ابتسمت أمها رغما عنها و قالت ‪:‬‬

‫رسمية يا ريم ‪ ،‬رسميا فأنت لجئة منذ ولدت و لكنها اليوم رسمي •• و‬
‫كأنها كانت نائمة فاستيقظت ‪ ،‬أو صماء و فجأة سمعت ‪ ،‬أو عمياء وبدون‬
‫ض الوقت ‪ ،‬ثم حطت‬ ‫مقدمات أبصرت ‪ ،‬حامت حول رأسها كلمة لجئة بع َ‬
‫خ عملق بأظافر وحشية و أخذت تشد شعرها من منابته ••‬ ‫كُر ّ‬

‫نظرت إليها الم و قالت ‪:‬‬

‫اللجوء ‪ -‬يا حبيبتي ‪ -‬مصطلح يعني أن هذا النسان بل وطن ••‬


‫لكنني فلسطينية ووطني فلسطين ••!!‬
‫الوطن يا ابنتي ليس مجرد كلمة نسجلها في بطاقاتنا ‪ ،‬إنه أرض و انتماء ‪،‬‬
‫دار و كرم ‪ ،‬مدرسة و جيران ‪ ،‬أقارب و معارف ‪ ،‬خدمات صحة و تعليم ‪،‬‬
‫وظيفة ثابتة و معاش عند التقاعد ‪ ،‬الوطن رئيس يتكلم باسمك و سفارة‬
‫ترعى مصالحك و رجل أمن يسهر على حمايتك ‪ ،‬فهل لديك أيٌ من هذه‬
‫الشياء ؟‬

‫ل •• لم يكن لها يوما أيّ من هذه الشياء ‪ ،‬تعلمت ‪ ،‬هذا صحيح ‪ ،‬ولكن‬
‫في مدرسة خاصة ‪ ،‬كان أبوها يقتطع من لحمه كي يسدد أقساطها ‪ ،‬و عندما‬
‫كانت تمرض كان الدعاء و السبرين دواءها ‪ ،‬لنهم يعدون المرض رفاهية ل‬
‫يستطيعها إل القادرون ‪ ،‬ل يملك أبوها بيتا فهو "وافد "و ليس من حقه تملك ‪،‬‬
‫وأنى له هذا ؟!‬

‫لكنها كانت تعتقد أنهم ل يملكون بيتا لنهم ل يملكون نقودا ً و ليس لنهم ل‬
‫يملكون وطنا •• توجهت إلى أبيها ‪ ،‬كان يعالج كرسيا ً قديما ً يقلبه و يفحص‬
‫مكان الخلل به ‪ ،‬سألته ‪:‬‬
‫أبي ••أل نملك في فلسطين بيتا ؟ طالعها بدهشة ‪ ،‬ثم عاد إلى كرسيه‬
‫ة‬
‫المكسور يقلبه ‪ ،‬ظلت واقفة تراقب سؤالها وهو يفترش سماء الغرفة سحاب ً‬
‫ة‬
‫ة ‪ ،‬و خيم الصمت ‪ ،‬حتى ظنت أن أباها كف عن التنفس ‪ ،‬بقيت لحظ ً‬ ‫داكن ً‬
‫تراقبه ‪ ،‬كانت عيونه في منأى عن عيونها لكن قلبها استشعر شيئا فيهما ‪،‬‬
‫ركعت بجوار الكرسي المكسور ‪ ،‬وطالعت وجه أبيها باهتمام ‪ ،‬كانت عيونه‬
‫ك ‪ ،‬أبوها ل يمكن أن يبكي ‪ ،‬إنه رجل قوي ‪ ،‬و الدموع‬
‫تلمع ‪ ،‬لكنه لم يب ِ‬
‫للنساء فقط ‪ ،‬سألته ‪:‬‬

‫أين كنت تعيش هناك يا أبي ؟ رفع رأسه و تللت ابتسامة حنين على‬
‫شفتيه تحت شاربه الكث و قال ‪:‬‬
‫في غزة •• كنت أعيش في غزة ‪ ،‬قرب الشاطئ ••‬
‫في بيت ؟ ضحك ضحكة صغيرة ‪ ،‬لم تخرج طربا و لكنها كــانت مقدمة‬
‫لسيل من الكلمات ••‬

‫بيــت ؟ و أي بــيت يا ريم ‪ ،‬و أي بيــت •• كان لــديــنا بيت واسع ‪،‬‬
‫كبــيـر‪ ،‬نصفه حجرات و نصفه مكشوف ‪ ،‬وفي وسطه بالضبط بئر قديمة‬
‫بجوارها نخلة سامقة ‪ ،‬طويلة جدا ‪ ،‬أطول من كل النخيل الذي تعرفين ‪،‬‬
‫كانت النخلة تمد جذورها في أعمق أعماق البئر و كنا نرى تلك الجذور الغريبة‬
‫الطويلة حين ندلي رؤوسنا داخل البئر ‪ ،‬كانت مياهه بعيدة و لذلك فقد‬
‫احتالت النخلة لتصل إليها بالجـــذور ‪ ،‬كـــانت أمي تــصيح فينا دائما لنبتــعد‬
‫عن الــبئر ‪ ،‬و كانت دائما تردد لبي ‪ ،‬يرحمه الله ‪" :‬يوما ما سيسقط أحد‬
‫أطفــالنا في هذا البئر ‪ ،‬أشعر بهذا "••‬

‫و عاد أبوها يضحك ضحكته القصيرة و أكمل ‪:‬‬

‫كانت متعتي و إخوتي أن ننزل على هذه الجذور داخل البئر حتى يصبح‬
‫طوق البئر في ضوء الشمس كقرص من ضياء أمام عيوننا ‪ ،‬كنت أحب هذا‬
‫على القل ‪ ،‬لكن أمي كانت تكرهه ‪ ،‬كانت تتفقدنا كلما انتهت من أحد‬
‫أعمالها و هي كثيرة ‪ ،‬فإذا وجدت أحدنا في البئر كانت تصيح و تولول حتى‬
‫يخرج فإذا خرج أوســعته ضربا ً و بكت بدل ً عنه ‪ ،‬رحمة الله عليها ••‬

‫لكنها لم تمت‬
‫الرحمة للحياء قبل الموات يا ابنتي •• عاد الب إلى كرسيه أمسك‬
‫قدومه و أعمل به الدق ‪ ،‬وقفت برهة مترددة لكن السؤال عاد فغلبها‬
‫فنطقت ‪:‬‬
‫أبي ‪ ،‬و هل كان لكم كرم ؟ نظر إليها مجددا و المسمار السود بين شفتيه‬
‫يمنعه عن الكلم ‪ ،‬أو أن هذا ما أراده ‪ ،‬هز رأسه بالنفي و عاد يدقدق ••‬
‫لكن لنا أقارب و أعمام ‪ ،‬معارف و أصدقاء ‪ ،‬إذن نحن لنا وطن ‪ ،‬لنا وطن‬
‫يا أبي أليس كذلك ؟ لماذا إذن كتبوا على جواز سفرنا اللجئين ؟ ترك أبوها‬
‫قدومه يسقط منه أرضا و أزاح الكرسي عنه و قال ‪:‬‬
‫تعالي •• اصطحبها إلى غرفته ‪ ،‬كانت مظلمة ‪ ،‬لكنه فتح النور و هو‬
‫يقول ‪:‬‬
‫سأريك الوطن الن •• فتح خزانة ملبسه و أخرج صندوقا من خشب اللوز‬
‫القديم و قال ‪:‬‬
‫هنا في هذا الصندوق احتفظت طوال سنين غربتي بما تبقى لي من وطني‬
‫‪ ،‬انظري ••‬

‫أخرج ألبوما مهترئا •• أخذ يقلب صفحاته أمامها ‪ ،‬صور تتابعت بالبيض و‬
‫السود ‪ ،‬رديئة الضاءة ‪ ،‬لم تعن لها شيئا ‪ ،‬فهي ل تعرف أصحابها ‪ ،‬أشار ‪:‬‬

‫هذه أمي ‪ ،‬و هذا أبي ‪ ،‬يرحمه الله ‪ ،‬و هؤلء إخوتي ‪ ،‬الكبير عمك عامر ‪،‬‬
‫لقد توفي قبل عشرة أعوام و له أولد ل أعرف عددهم ‪ ،‬لكنهم كثر ‪ ،‬و هذا‬
‫عمك عمر ‪ ،‬كان أكبر مني بأربعة أعوام ‪ ،‬منذ سنين لم تصلني أخباره ‪ ،‬و هذا‬
‫أنا ‪ ،‬انظري كنت أطولهم ‪ ،‬لكنني كنت شديد الخجل ‪ ،‬لذا ترين وجهي يختبئ‬
‫خلف الوجوه ‪ ،‬و هذا أخي بدر ‪ ،‬إنه اصغر مني بعام واحد فقط ‪ ،‬و هذا‬
‫محمد ‪ ،‬أصغرنا و أكثرنا شقاوة ••‬

‫تنهد و هو يتذكر ‪:‬‬

‫سقط مرة في البئر‪ ،‬و ظل يصارع الموت قرابة الخمس ساعات فيما‬
‫أعيتنا الحيل لخراجه و انتظرنا أبي حتى عاد من الكرم مساءا ‪ ،‬كان أبي قويا‬
‫‪ ،‬صاح فينا لما وجدنا نبكي ‪ ،‬قال ‪ " :‬يا عيب الشوم عليكم ‪ ،‬رجال و‬
‫تبكون ؟"‬

‫ربط حبل ً في وسطه و نزل في البئر و هو يصيح بمحمد ‪ ":‬ها هل مت يا‬


‫معني صوتك يا ولد "‬
‫محمد ؟ ‪ ،‬أس ِ‬

‫و عندما خرج محمد من البئر كان مبلًل و يرتجف لكنه كان مبتسما ً ‪ ،‬قال ‪":‬‬
‫أقــسم بالله إني لم أخــف و لم أبــك ‪ ،‬أنا رجل ‪ ،‬أليــس كذلك يا أبي ؟ "‬

‫ظلت تراقب وجه أبيها ‪ ،‬وهو يحكي ‪ ،‬أشفقت عليه ‪ ،‬بدا مستمتعا ً جدا ً بما‬
‫يقول ‪ ،‬وكانت عيونه تلمع وعلى طرفي شفتيه استقر زبد أبيض ‪ ،‬كان صوته‬
‫متهدجا ً ‪ ،‬حالما ً ‪ ،‬كأنه يسمع أصواتهم و هو يحكي ••‬

‫أخرج لها من صندوقه جرسا ً صغيرا ً ‪ ،‬أعطاها إياه و قال ‪:‬‬


‫بهذا الجرس كانت تذكرنا أمنا إذا نسينا ‪ ،‬كان علينا ‪ ،‬كلما سمعناه و نحن‬
‫معنا حولها ‪ ،‬تسألنا عما أنجزنا ‪ ،‬و عما ينبغي أن‬‫صغار‪ ،‬أن نركض إليها تج ِ‬
‫نفعل ‪ ،‬أحيانا كانت تقص علينا قصة ‪ ،‬أو تدعونا إلى طعام ‪ ،‬ثم تعود لعمالها‬
‫ت فجأة فيما كانت أصابعه الطويلة تعبث في صفحات اللبوم‬ ‫•• صم َ‬
‫المهترئ ‪ ،‬تعبث لكأنما تخفي ارتجافة تراها و تحس بها لكنها ل تفهم لماذا ••‬
‫*** و ريم ليست صغيرة و هي تعرف جيدا أن فلسطين اكتسبت لقب‬
‫دة ‪ ،‬و تعرف نتفا من تاريخها المظلم ‪ ،‬درستها و لم‬ ‫المحتلة منذ أعوام ع ّ‬
‫تعشها ‪ ،‬درستها مثل أية طالبة مصرية زاملتها يوما مقعد الدراسة ‪ ،‬كانت‬
‫تعرف دوما أنها مميزة ‪ ،‬إن النظرات تتجه إليها بالضرورة عندما يأتي المعلم‬
‫على ذكر فلسطين ‪ ،‬و عندما تعلق الفتيات على حدث ما سمعنه في نشرة‬
‫الخبار ليلة البارحة ‪ ،‬كانت ترى في عيونهن السئلة التي ينتظرن إجابتها منها‬
‫‪ ،‬لكنها لم تكن تجيب ‪ ،‬فهي ل تعرف ‪ ،‬حتى أبوها كف عن الحديث عن بلده‬
‫منذ وقت طويل و لزم صمتا ً قهريا ً يمارسه معهم في المنزل ل يقطعه إل‬
‫الحديث العابر ‪ ،‬فهو عامل بناء يشقيه العمل طوال النهار فيعود آخر الليل‬
‫متلهفا ً على لقمة يقيم بها أوده ‪ ،‬ورشفة شاي تزن رأسه و ) راديو ( قديم‬
‫يبث أخبارا ً من كل المحطات ‪.‬‬

‫*** دوامة كبيرة عاش فيها جهاد القاسم منذ أن جاء إلى مصر ‪ ،‬شابا ًً في‬
‫العشرين من عمره ‪ ،‬و كانت غزة آنذاك تتبع مصر إداريا ‪ ،‬و يحكمها حاكم‬
‫ل أمن مصريون ‪ ،‬كان عليه ‪ -‬مثل إخوته ‪-‬‬ ‫مصري و يجوس شوارعها ليل ً رجا ُ‬
‫أن يسعى في الرض وراء الرزق العصي ‪ ،‬في حياة شديدة القساوة عليهم ‪،‬‬
‫و كان يتعين على الرجال و الشباب أن يتعرضوا كل يوم للموت في سبيل‬
‫بضاعة مضحكة يأتون بها من فم السبع ‪ ،‬من الراضي التي احتلتها إسرائيل‬
‫عام ‪1948‬م ‪ ،‬البعض كان يجز حشيشا ً من تلك الراضي في عتمة الليل ليبيع‬
‫الجوال منه بخمسة قروش مصرية ‪ ،‬والبعض كان يقوم بقطع أنابيب الري‬
‫المعدنية التي زرعها العدو بطول الساحل ضمن نظام ري حديث ليبيع‬
‫القطعة التي اقتطعها بعشرة قروش أو يزيد ‪ ،‬وأيضا في عتمة الليل ‪ .‬مازال‬
‫ت الشخاص الذين سقطوا أمام عيونه برصاص العدو‬ ‫م َ‬ ‫جهاد يذكر جيدا ً َ‬
‫س ْ‬
‫عندما كانت مصابيحهم القوية تكشفهم ‪ ،‬كان من المضحك المبكي أن هؤلء‬
‫يموتون بمنتهى البساطة ‪ ،‬يموتون و كأنهم كلب ضالة ‪ ،‬راحت تفتش في‬
‫أكوام القمامة عن قطعة عظم جرداء ‪.‬‬

‫جاء جهاد بعد أن حزم أبوه أمره و قرر الرحيل إلى حيث مظان الرزق‬
‫الوسع في الراضي الردنية المجاورة ‪ ،‬كان يجلس مع أبيه و صحبه و هم‬
‫يتحدثون حول خطة السفر الغريبة ‪ ،‬كان عليهم ‪ -‬وفق خطتهم ‪ -‬أن يقطعوا‬
‫الطريق عبر صحراء النقب ليصلوا إلى ميــناء العقبـــة حيث تتفتـــح الطرق‬
‫و تنقســـم أربعة اتجــاهات مـــا بين مصـر و الردن و السعودية و الرض‬
‫المحتلة من إسرائيل ‪ ،‬وكان عليهم ــ و هذا أخطر ما في الموضوع ‪ -‬أن‬
‫يقدموا قربانا ً منهم للطريق لكي يفتح عليهم ما استغلق منه ‪ ،‬فالجميع عندما‬
‫يصل هناك لم يكن ليعرف أي الطرق أكثرها أمنا ً ‪ ،‬و كان على أحدهم لعب‬
‫لعبة الموت مع مربع المتاهة ‪ ،‬وكان القتراع ‪ ،‬ووقع الختيار على أبيه ‪،‬‬
‫ليكون هو الفداء يسير فإذا ما قتلوه كانت أرضا ً إسرائيلية ‪ ،‬ووجب على‬
‫الباقيين اختيار طريق أخرى ••‬
‫شيء يشبه أن تطلق الرصاص على رأسك مخيرا ً من مسدس ليس فيه‬
‫سوى رصاصة واحدة ل تعرف مكانها‪ ،‬فإما أن تكون الرصاصة في فوهته‬
‫تحمل موتك وإما أن تنجو إذا لم تكن الولى •• لم يتحدث جهاد كثيرا ً معهم‬
‫وهم يضعون خطتهم ‪ ،‬وعندما وصلت الخطة إلى هذا الحد استشعر غصة ألم‬
‫ونظر إلى أبيه يستجديه الرفض ‪ ،‬إل أن الب أشعل لفافته اليدوية و رشف‬
‫من كأس الشاي البارد أمامه و تطلع مليا ً في وجوه صحبه و ابنه و نفث‬
‫الدخان أمامه و هو يقول ‪:‬‬

‫على خيرة الله •• موافق‬

‫و عندما انفض الجمع بقي جالسا ً مع أبيه يتطلع إليه ‪ ،‬كانت هناك العشرات‬
‫من علمات الستفهام ترتسم على وجهه ‪ ،‬و كان الليل المخيم على حوش‬
‫منزلهم يخفيها رسما ً و إن رسخها شعورا ً ‪ ،‬و رغم الظلم الدامس الذي ما‬
‫كان لبيه أن يراه فيه إل أنه استحى من دمعة ترقرقت في عينيه و لم تسقط‬
‫‪ ،‬و بصعوبة فتح فمه ليطلق لســيل السئلة العنان ‪ ،‬ولكن كلمة واحدة‬
‫خرجت من فمه ‪ ،‬هادئة رغم الهدير داخله ‪ ،‬منخفضة رغم الصياح المختبئ‬
‫في حلقه ‪:‬‬

‫لماذا ؟ حدق والده فيه طويل ً و تنهد و قال ‪:‬‬

‫منذ عشرين عاما ً كانت أحوالنا صعبة ‪ ،‬ولكن بالقدر الذي نحسن العمل‬
‫معه ‪ ،‬كنا أصحاب وطن ‪ ،‬أحرارا ً في حركتنا نمارس الصيد من بحر غزة أو‬
‫التجارة من ميناء حيفا ‪ ،‬كنا سباعا ً ل يقهر شبابنا و فتوتنا خوف أو يكسرها‬
‫ت الشوكة السرائيلية سيفا في خاصرة الوطن‬ ‫احتلل ‪ ،‬و لكن منذ أن انغرس ِ‬
‫و أصبح ما نملكه سجنا ً كبيرا ً ‪ ،‬أصبح لزاما ً علينا أن نسعى ‪ ،‬وعرفنا معنى‬
‫اللقمة المغمسة بالدم و العار ‪ ،‬و لكن ••‬

‫و نفض الب دخان اللفافة الذي سقط على ثوبه و قال ‪:‬‬
‫حتى هذه اللقمة يا جهاد أصبحت عزيزة ‪ ،‬حتى القروش الخمس التي‬
‫نحارب شبح الموت من أجلها أصبحت غالية ‪ ،‬أغلى من أرواح رجالنا و شبابنا‬
‫•• اعتصر يديه حتى كاد أن يخلعهما و أكمل بحرارة كتم معها جهاد أنفاسه ‪:‬‬

‫أمس •• عندما كنت أتسلل في جنح الظلم نحو المستعمرة اليهودية‬


‫القريبة لجتث العشب أو أقطع ماسورة معدن و بعد أن غافلت المن‬
‫المصري و أصبحت في مرمى الصهاينة أحمل جوالي ممتلئا فوجئت بشبح‬
‫جندي يحمل بندقية و يصوبها نحوي ‪ ،‬لزمت مكاني و نطقت بالشهادتين ‪،‬‬
‫قلت هي النهاية ‪ ،‬و لم أكن أفكر إل في القروش الخمسة التي ستضيع ‪ ،‬لنه‬
‫ل أحد منكم يحمل هذا الجوال ‪ ،‬أتدري لقد مكثت على حالي هذا دقيقة‬
‫مضت كأنها دهر ‪ ،‬فرفعت رأسي إلى الجندي و صرخت فيه ‪ ،‬هيا اقتلني ‪،‬‬
‫لماذا ل تطلق النار ‪ ،‬كنت أريد أن أرتاح من معاناة طالت و اختصرها الزمن‬
‫في هذه الدقيقة الكبيسة ‪ ،‬و لكن الجندي لم يتحرك و امتلت غضبا ً ‪ ،‬حتى‬
‫الموت أصبح عزيزا في هذه اللحظة القاصمة ‪ ،‬أحكمت قبضتي على منجلي‬
‫و قست المسافة بيني و بينه و قدرت سرعتي المطلوبة ووثبت وثبة واحدة‬
‫نحوه لغرس منجلي في قلبه •• أتدري •• لقد اكتشفت أنني غرست‬
‫منجلي في شجرة مالت غصونها و تشابكت حتى أخذت في الظلم شكل‬
‫الموت المصوب من بندقية عدو ••‬

‫و استشعر جهاد في صوت أبيه يأسا ً اعتصر قلبه ‪ ،‬وعندما ه ّ‬


‫م بالحديث أكمل‬
‫الب بهدوء من وصل إلى الحقيقة ‪:‬‬

‫من أجل هذا يا جهاد ‪ ،‬من أجل أل نموت بذل الخوف ‪ ،‬كان اختيار الموت‬
‫على مفترق الطرق أمرا ً فارقا ً يعني بالنسبة لبيك الحياة ••‬

‫و لم ينس جهاد أبدا ً هذه الكلمات ‪ ،‬كانت هذه الليلة هي آخر مرة يشاهد فيها‬
‫أباه ‪ ،‬فقد اختفى مع بقية الرجال منذ الصباح الباكر بدون وداع ‪ ،‬رغم أن‬
‫موعد تنفيذ خطتهم كان في المساء •• اختفوا و لم يكن لدى الم وقت‬
‫للنواح ‪ ،‬كان الوقت عامل ً مهما ً في أن يكون للناس رمق أو أن يلفظوه ••‬

‫لذا جمعتهم الم رجال ً خمسة في ريعان الصبا و أبواب الشباب و قالت دون‬
‫أن تحدد ‪:‬‬
‫و أنتم ماذا تنتظرون ؟ الموت القادم خلف كل شجرة ‪ ،‬أو الهلك جوعا ً‬
‫وعارا ً ؟ أنتم رجال فليسعَ كل منكم في طريق ‪ ،‬ل أريد أن أراكم إل و قد‬
‫وجد كل منكم طريقا ً ‪ ،‬هيا تحركوا •• و أيضا أيضا كانت هذه هي المرة‬
‫الخيرة التي يرى فيها أمه ••‬

‫قرر كل من عامر و عمر الذهاب في إثر أبيهم ‪ ،‬ولكن عبر الضفة الغربية‬
‫التابعة إداريا ً إلى الردن ‪ ،‬و قرر بدر البقاء إلى جوارها و السترسال في جمع‬
‫الرزق من فم السبع فيما قرر محمد الستمرار في طريق اختطه لنفسه منذ‬
‫طفولته المبكرة في النضمام لجماعات الثورة و حركات المقاومة ‪ ،‬و قرر‬
‫هو الرحيل إلى مـــصر ‪ ،‬و هـــكذا تفرق الجمع و انفض السامر و ضاعت‬
‫الصلت إل من حنين قديم يربط الخوة المتفرقون قد يعتريهم في لحظة‬
‫واحدة فيتطلعون بعيون ملؤها الرجاء إلى سماء مازالت تظللهم جميعا ً و إن‬
‫اختلفت أماكنهم و تباعدت ‪ ،‬فيرسلون إلى بعضهم البعض عبرها تنهدة شوق‬
‫حارة تخرج من قلوب شتتها احتلل ••‬

‫*** اجتمعت السرة على مائدة الغذاء الرضية و أخذ كل منهم يتناول وجبته‬
‫بصمت مترقب كأنما ً حط على رؤوسهم الطير ‪ ،‬و فجأة قطعت الم الصمت‬
‫و وجهت كلمها إلى سمر الخت الصغرى ‪:‬‬
‫ألن تتعلمي أبدا الكل بطريقة صحيحة •• انتبه الجميع و كأنما اكتشفوا‬
‫فجأة أن ليس لهذا الصمت من معنى فقالت ريم ‪:‬‬
‫أمي •• المزيد من السلطة لو سمحت •• مدت الم طبق السلطة إلى‬
‫ابنتها و أشارت بطرف عينيها إلى أبيها ‪ ،‬و فهمت ريم ‪ ،‬أخذت الطبق و قالت‬
‫لبيها ‪:‬‬
‫المزيد يا أبي ؟ رفع رأسه نحوها و ابتسم قائل ً ‪:‬‬
‫ل ‪ ،‬لقد شبعت •• فقالت الم ‪:‬‬
‫و لكنك لم تكمل طبقك على القل •• سحب علبة الدخان و أخرج‬
‫سيجارة و هو يقول ‪:‬‬
‫ليست بي شهية للطعام •• نهض فنهض الجميع ‪ ،‬ساعدت ريم أمها في‬
‫جمع البقايا فقال الب ‪:‬‬
‫أين قاسم ؟‬
‫في رحلته المدرسية إلى الفيوم ‪ ،‬لقد أخبرك بهذا البارحة ••‬
‫نعم •• وضعت ريم ما بيدها في المطبخ و انفلتت إلى أبيها ‪ ،‬كان يجلس‬
‫بجوار المذياع يقلب المحطات ‪ ،‬بادرته ‪:‬‬
‫أبي هل أنت غاضب ؟ أجاب باسما ً ‪:‬‬
‫ل ••‬
‫ً‬
‫إذن لماذا لم تأكل ؟ همس الب باسما ‪:‬‬
‫هل أخبرك بسر ؟ أومأت برأسها إيجابا ً و اقتربت من أبيها فهمس ‪:‬‬
‫لقد اشتقت فجأة لطعام أمي ‪ ،‬و تعرفين أن أمك حاولت مرارا ً صنع مثله ‪،‬‬
‫ت إن أعلنت رغبتي هذه أن تتحمس فتصنعها ثانية و هذا‬ ‫لكنها لم تنجح و خشي ُ‬
‫كثير !! أليس كذلك ؟ ضحكت ريم و همست موافقة ‪:‬‬
‫بل هو كثير جدا ً يا أبي •• معك حق •• و عندما دخلت الم تحمل الشاي‬
‫ة تراقبهما ثم قالت ‪:‬‬‫وقفت بره ً‬
‫لبد أن حديثكما السري هذا عن طبخي أليس كذلك ؟ ضحك الب و قال ‪:‬‬

‫ل يا أم قاسم ••لم يكن عنك أبدا أليس كذلك يا ريم ؟ شعرت ريم أنها‬
‫تريد احتضان أبيها ‪ ،‬تريد أن تواسي هذا القلب الوحيد الذي يخفق بين جنبيه ‪،‬‬
‫تريد أن تدق الرض فتخرج منها وطنا ً قديما ً ما زال يعيش في ذاكرته‬
‫العجوز ‪ ،‬لكنها عوضـــا ً عن ذلك توجـــهت إلى حــــجرتها ‪ ،‬أغـــلقت بابها‬
‫بهدوء و أخرجت صندوقها و فتحته ‪ ،‬دقت بالجرس الصغير قليل ً ‪ ،‬ثم وضعته‬
‫ثانية بعناية و تطلعت بغيظ إلى وثيقة سفرها ‪ ،‬دقت عليها ‪ ،‬عضت على‬
‫شفتيها ‪ ،‬همست ‪:‬‬

‫لماذا ؟‬

‫توجهت إلى حيث ركنها الثير ‪ ،‬لوحة رسم مغطاة بعناية رغم أن ل شيء‬
‫عليها ‪ ،‬كانت اللوان مرتبة على حامل اللوحة ‪ ،‬كشفت غطاءها و تركت‬
‫لمساحة اللون البيض احتلل عينيها و همست ‪:‬‬
‫مضى وقت طويل ••‬

‫أمسكت بقلمها الفحمي و خطت بضعة خطوط ••‬

‫في المساء كانت الورقة البيضاء تحمل رسما ً مبدئيا ً لبئر قديمة تغرس فيها‬
‫شجرة نخيل عجوز جذورها حتى العماق فيما طفل صغير يراقب قرص‬
‫الشمس الغارب من خصاص نافذة خشبية في طرف اللوحة •• نظرت ريم‬
‫إلى ما رسمت و بدت راضية عنها و عادت فغطت اللوحة بعناية و خرجت‬
‫لتفتح الباب الذي كان يدق بإلحاح ••‬

‫كانت الم تطالع التلفاز و الب كعادته غارق في النوم بجوار المذياع و سمُر‬
‫الصغيرة ذات الخمسة أعوام تلعب أمام التلفاز فتثير أمها و يضيع المسلسل‬
‫•• في طريقها إلى الباب أجابت ريم على سؤال لم يسأله أحد ‪:‬‬

‫كنت أرسم همست الم ‪:‬‬


‫ه أبيه ‪ ،‬صاحت ريم بمجرد‬ ‫ن الخامسة عشرة شبي َ‬ ‫أعرف كان قاسم اب ُ‬
‫رؤيته ‪:‬‬
‫قاسم ‪ ،‬عدت مبكرا ً تركت الم مسلسلها المفضل و توجهت نحو ابنها ‪،‬‬
‫احتضنته و هي تقول ‪:‬‬
‫أي مبكر يا ريم ‪ ،‬إنها العاشرة ‪ ،‬أهل حبيبي رمقته ريم و لحظت إرهاقه و‬
‫م ْ‬
‫كر‬ ‫هو ينفلت من حضن أمه و أشارت بطرف عينيها نحو أبيها النائم هامسة ب َ‬
‫‪:‬‬
‫سأوقظه !! •• أشاحت أمها بيدها و قالت ‪:‬‬
‫حتى الحب تريدوننا أن نخفيه أيها الفلسطينيون الغلظ !! سألته ريم ‪:‬‬

‫هل هناك ما ُيحكى ؟‬


‫أومأ برأسه موافقا ً و همس ‪:‬‬

‫الكثير ••‬

‫قالت بلهفة و هي تشده من يده ‪:‬‬


‫إذن تعال استوقفتهم الم بحزم و قالت ‪:‬‬
‫لبد أن قاسما جائع ‪ ،‬أليس كذلك يا حبيبي ؟ نظرت ريم إلى قاسم‬
‫مبتسمة و رددت ‪:‬‬
‫هل حقا ً أنت جائع يا حبيَبها ؟ قال قاسم متذمرا ً ‪:‬‬
‫ت في الحافلة آخر شطيرة صنعْتها أمي •• ثم نظر‬ ‫ل •• لست جائعا ً أكل ُ‬
‫إلى أمه و قال بامتنان ‪:‬‬
‫أشكرك يا أمي ‪ ،‬لكنني حقا لست جائعا ً •• عبر تهاويم النوم جاءهم صوت‬
‫الب الغافي ‪:‬‬
‫ت يا قاسم ؟‬‫جئ َ‬
‫نعم يا أبي ‪ ،‬أنا هنا لح طيف ابتسامة أمن على وجه الب و استرسل في‬
‫نومه‬
‫يا أبا قاسم قم إلى فراشك ‪ ،‬تعدت الساعة العاشرة و أنت تستيقظ باكرا ً‬
‫س إغلق المذياع و في‬‫•• همهم الب ببضع كلمات ثم قام متكاسل ً و لم ين َ‬
‫طريقه رّبت على كتف قاسم و قال ‪:‬‬
‫غدا ً ستحكي لي كل شيء •• راقبه الجميع و هو يمضي متثاقل ً إلى غرفته‬
‫و تحدث قلب ريم إليها بشيء ما ‪ ،‬استشعرت خوفا ً غريبا ً لزمها لحظة واحدة‬
‫ثم انتهى كل شيء ‪ ،‬قالت لمها ‪:‬‬
‫هل آخذ قسوم الن ام تريدينه بعد يا أمي ؟ لم تتكلم ‪ ،‬ولكنها ذهبت في‬
‫إثر الب المتعب ‪ ،‬وهي تغمغم بتحية المساء و توصي ريم بأختها سمر التي‬
‫كانت تعالج نعاسا ً و تقاومه إل أنها استسلمت له أخيرا ً و غفت على البساط‬
‫حيث تلعب ‪ ،‬حملتها ريم و تبعها أخاها إلى غرفتها ‪ ،‬وعندما وضعتها في‬
‫الفراش التفتت إلى قاسم و قالت ‪:‬‬
‫ك كل شيء ••‬ ‫و الن اح ِ‬

‫***‬

‫كان قاسم في حياة ريم صديقا ً أكثر منه أخا ً ‪ ،‬وكانت تتقبل راضية تدليل أمه‬
‫له على أنه أمر مسلم به ‪ ،‬باعتباره الذكر الوحيد ‪ ،‬ولنه جاء بعدها بثلثة‬
‫أعوام فقد اعتبرته في مثل عمرها ‪ ،‬خاصة لتمتعه برجاحة العقل و التزان‬
‫اللذين لطالما اشتكت زميلتها من عدم وجودهما عند إخوتهم الذكور ‪ ،‬لذا لم‬
‫يكن مستغربا ً أن تكون جل أسرارهم عند بعضهما البعض ‪ ،‬و رغم أن قاسما ً‬
‫لم تكن له أسرار بالمعنى الذي يعطي للكلمة هذا العمق إل أنه كان يحتاج‬
‫إلى من تسمعه في هذا السن الذي يبدأ فيه اليافع بقرض الشعار و السباحة‬
‫في دنيا الخيال و كتابة المذكرات الخاصة التي يضمنها أحلم الشباب اللهبة ‪،‬‬
‫و كان قاسم يعكس كل أحلمه المبكرة على سوسن صديقة ريم ‪ ،‬رغم أنها‬
‫تكبره بثلثة أعوام ‪ ،‬إل أنها كانت تستمع إلى حكاياته عندما تزورهم باهتمام و‬
‫تعلق على أشعاره و تبتسم له كلما بدأ الكلم ليسترسل دون أن تشعره‬
‫بتفاهة ما يقول ‪ ،‬أو بأنه يضيع عليها وقتا ً ثمينا ً ينبغي أن تقضيه مع صديقتها ‪،‬‬
‫و في هذه الرحلة الخيرة كان جل ما يشغل بال ريم هو النطباع الذي تركه‬
‫سيد أخو سوسن لدى قاسم أخيها ••‬

‫و سيد هذا هو الخ الكبر لسوسن و هو معلم اللغة النجليزية لخيها قاسم ‪،‬‬
‫ولقد أبدى مرارا ً إعجابه بها لخته التي كانت تنقل حديثه إلى ريم فتلقى منها‬
‫صدودا ً مفتعل ً ‪ ،‬وكأنها ل تريد أن تسمع ‪ ،‬و مع ذلك فلقد تركت لصديقتها‬
‫المجال لتسمعها عبارات من نحو ‪:‬‬

‫سيد شديد العجاب بك ‪ ،‬وصف أول لقاء له بك في منزلنا بأنه لقاء‬


‫العمر ‪ ،‬قال إنه لم يكن يعتـــقد أن هنـــاك من هي في مثل سنــنا و لكـــنها‬
‫تحمل كل هـــذا النــضج و الوعي و الثقافة و الهم الرقة و العذوبة و الجمال‬
‫‪ ،‬قال إنك أسريته من أول لقاء •• و ترد ريم بعصبية مفتعلة ‪:‬‬

‫سوسن ل تقولي هذا الكلم ‪ ،‬أنا ل أسمح به ‪ ،‬ليس لدي وقت لضيعه على‬
‫قصص الكلم الفارغ التي تشغل معظم بنات اليوم ••‬

‫و لكن في أعماق ذاتها كانت مستمــتعة ‪ ،‬سعيدة ‪ ،‬و رسمت قلبا ً كبيرا ً يضم‬
‫وجهين لرجل و امرأة مظللين بل ملمح ‪ ،‬كانت اللوحة كلها سوداء ما عدا‬
‫القلب الذي شغل ركنها اليسر كله بلون أبيض ناصع يحتوي هذين الوجهين ‪،‬‬
‫و لم تستطع أن تجيب عن أسئلة سوسن التي لحقتها عندما رأت لوحتها ‪:‬‬

‫لماذا السواد في كل اللوحة ؟ أين الزهار الجميلة و ضوء القمر و الشجرة‬


‫م كل هذه القتامة و الغموض في‬ ‫التي يقبع عليها هذا القلب محفورا ً ‪ ،‬ل ِ َ‬
‫الملمح ؟‬

‫لم ترد ريم ‪ ،‬كل ما قالته أن ما رسمته كان التعبير الوحيد الذي شعرت به‬
‫عندما أرادت أن ترسم بعد حديثهما عن أخيها ‪ ،‬و حاولت تغيير الموضوع ••‬
‫و جاءت رحلة أخيها قاسم إلى الفيوم حيث سيرافق بشكل ودي أستاذه سيدا ً‬
‫‪ ،‬ويجالسه طوال الوقت ‪ ،‬وكان قاسم يعرف ما دار بين الصديقتين عن‬
‫سيد ‪ ،‬و كان له رأي سابق فيه يصفه بالجمود وعدم المرونة والوجه الخالي‬
‫من التعبير ‪ ،‬و لكن بعد أن طلبت إليه أخته محاولة استكناه هذه الشخصية و‬
‫الوصول إلى وصف تقريبي لها أثناء الرحلة على اعتبار أن المرء يتحلل من‬
‫جموده عندما يكون في قلب الطبيعة و في جو الرحلت ‪ ،‬ركز كل جهده على‬
‫دة ‪:‬‬
‫مراقبة و مجالسة الستاذ أثناء الرحلة و خرج بانطباعات ع ّ‬

‫ي هذه المرة ‪ ،‬إل أنه يظل كما أخبرتك‬


‫الستاذ سيد و إن حاول التودد إل ّ‬
‫من قبل ‪ ،‬وجه بل ملمح ‪ ،‬جامد ‪ ،‬حتى ضحكته ل تخرج صافية ل تخرج من‬
‫القلب يا ريم ••‬

‫ت به أنا أيضا ً عندما رأيته صدفة في منزل سوسن ••‬


‫هذا ما شعر ُ‬
‫هزت رأسها و ابتسمت ‪:‬‬
‫ل بأس يا فتى ‪ ،‬هذا الرجل ل يعني لي شيئا ً •• و بالمناسبة فسأريك شيئا ً‬
‫•• تحركت و اتجهت نحو الخزانة أخرجت وثيقتها للمرة العشرين هذا اليوم‬
‫ألقتها إلى أخيها بغير اعتناء ‪:‬‬
‫انظر ••‬
‫الوثيقة ؟ متى جاءت ؟‬
‫أحضرها أبي اليوم ••‬
‫مبارك ‪ ،‬صرت مستقلة الن ••‬
‫هل لحظت عنوان الوثيقة ؟‬
‫و ثيقة سفر للجئين الفلسطينيين ‪ ،‬ما به ؟‬
‫قاسم •• نحن لجئون ‪ ،‬هل تعرف معنى هذه الكلمة ؟‬
‫و من ل يعرف ؟ أطرقت ريم قليل ً و نبض قلبها بشدة ‪ ،‬وعندما رفعت‬
‫وجهها كانت عيناها تلمع ‪:‬‬
‫أراني أبي جزءا ً مما تحفظه ذاكرته للوطن ‪ ،‬أخذني إلى غرفة نومه ‪،‬‬
‫أعطاني جرسا ً صغيرا ً كان لمه ‪ ،‬و أراني ألبوما ً قديما ً ما زال يحمل صور‬
‫عائلتنا هناك •• هل رأيته ؟ نهض قاسم واقفا ً و همس ‪:‬‬

‫نعم ‪ ،‬أراني إياه ‪ ،‬بعد أن تشاجرت مع عادل في المدرسة الشهر‬


‫الماضي ‪ ،‬كان يعيرني بوطني ‪ ،‬قال إنني بل وطن و ينبغي أن أشعر بالمتنان‬
‫لهم ‪ ،‬لنهم آوونا ورحمونا من التشرد ‪ ،‬صاح بي يا لجئ •• يومها جئت إلى‬
‫المنزل باكيا ً ‪ ،‬كان أبي نائما ً بجوار المذياع ‪ ،‬لكنه بطريقة ما لمح دموعي ‪ ،‬و‬
‫من الكلمات الولى فهم كل شيء و صحبني إلى غرفته ‪ ،‬أراني كل شيء و‬
‫قال لي إنه ما زال يحلم باليوم الذي يرى فيه أهله مجددا ً •• زفرت ريم و‬
‫تنهدت ـ من يصدق عشرون عاما ً منذ غادر أبي أرضه ‪ ،‬عشرون عاما ً لم ير‬
‫خللها أحدا من إخوته أو أمه ••‬
‫حتى خبر وفاة جدي ‪ ،‬يرحمه الله ‪ ،‬عرفه صدفة ••‬
‫هل تعتقد أن شيئا ً ما يمنع أبي من الذهاب إلى هناك ؟ همس قاسم ‪،‬‬
‫وملمحه تحمل صورة غامضة لم تستوعبها ريم كثيرا ً قال ‪:‬‬
‫الخوف •• ران صمت طويل على الغرفة بعد هذه الكلمة لم يقطعه إل‬
‫صوت أنفاسهما و تقلب الصغيرة في فراشها ‪ ،‬عبر ضوء القمر خصاص‬
‫النافذة فتبينته ريم و عندما همت أن تنهض إليه ودعها أخوها ‪:‬‬
‫أنا ذاهب للنوم •• لدي مدرسة غدا ••‬

‫أومأت برأسها ‪ ،‬و عندما أغلق الباب خلفه نهضت ففتحت النافذة تطلعت إلى‬
‫القمر ‪ ،‬كان مكتمل ً ‪ ،‬شيئا ً ما يخيفها عند اكتمال القمر بدرا ً ‪ ،‬تشعر أن‬
‫اكتماله إيذانا ببدء النهاية ‪ ،‬و رغم ذلك ل تملك في كل شهر إل أن تقف‬
‫تراقبه و هو يفترش السماء و يقرأ عليها الرسالة ‪ ،‬همست و هي تتمطى ‪:‬‬
‫يوما ما سأعود إلى الوطن ••‬

‫و عندما همت بإغلق النافذة رأته ••‬


‫سعيد محام ٍ غير نابه ‪ ،‬شاب في الخامسة و العشرين من عمره يقطن‬
‫المنزل المجاور لهم ‪ ،‬متزوج و عنده ثلثة أطفال ‪ ،‬اشتهر عنه أنه شاب لهٍ ‪،‬‬
‫ل يعترف بالمسؤولية ‪ ،‬يؤدي عمله في مكتب المحاماة الصغير الذي يملكه‬
‫بشيء من اللمبالة ‪ ،‬عانت زوجته طويل ً من عيونه الزائغة وراء كل حسناء ‪،‬‬
‫ل يبالي أبدا ً بالعتراف أمام المل بأنه ل يحترم النساء ‪ ،‬و أن المرأة تكوين‬
‫جسدي مثير خلق للمتعة و ليس للوفاء و ليس للحب ‪ ،‬إنه أساسا ً ل يعترف‬
‫بشيء اسمه الحب ‪ ،‬و لديه القدرة دائما ً على تسفيه كل شعور بالحب قد‬
‫يخطئ صاحبه و يصفه له ••‬

‫هاه •• إذن تحب ؟ يا أخي خذها إلى مكان بعيد و تمتع بها ‪ ،‬ثم عد إلى‬
‫منزلك و أغلقه عليك و نم •• قبل شهر خرجت زوجته من حياته و أخذت‬
‫أطفالها الثلث ‪ ،‬قـــالت له إنها تخشى عليهم و على نفسها من وجودها‬
‫معه ‪ ،‬قالت إنها حاولت المستحيل ليصبح إنسانا ً مسئول ً ‪ ،‬لكنها فشلت ‪،‬‬
‫اعترفت له أنها استسلمت و أنه إنسان غير قابل للتغيير و تركته ‪ ،‬بدوره لم‬
‫يتمسك بها ‪ ،‬كان يعرف أنها لن تستمر معه طويل ً ‪ ،‬يعرف أن استمرارهما‬
‫معا هو من قبيل نفخ الرماد لنعاش نار غافية ‪ ،‬كانت و ظلت و ستظل طوال‬
‫الوقت غافية ‪ ،‬أعتقد أنه أصبح أكثر حرية عندما تركته ‪ ،‬و لكنه فوجئ كثيرا ً‬
‫بالتغيير عندما وجد نفسه أكثر التزاما ً و هو وحيد على عكس ما كانت حياته و‬
‫هي معه ‪ ،‬وجد نفسه زاهدا ً فجأة في النساء و عندما كان أصحابه يسألونه‬
‫عن السبب كان يلوي رأسه قرفا ً و يقول ‪:‬‬

‫ل راحة في دنياك إن اقتحمتها امرأة •• ذات صباح ‪ ،‬كان عائدا ً من‬


‫العمل ‪ ،‬لم يعرج على أي مكان اتجه فورا ً إلى منزله ‪ ،‬كان يشعر برغبة قوية‬
‫في ترتيبه و تنظيمه بعد أن تركه طيلة السابيع الماضية في حالة إهمال‬
‫جسيم ‪ ،‬بجوار مدخل العمارة كانت ريم واقفة ‪ ،‬تعمدت التلكؤ حتى يراها و‬
‫عندما اقترب منها ‪ ،‬لم يلحظها ‪ ،‬إل أنها نادته ‪:‬‬
‫أستاذ سعيد •• رفع رأسه باتجاهها ‪ ،‬ارتسمت على وجهه علمة استفهام‬
‫كبيرة ‪ ،‬و بدا أنه ل يعرفها قال ‪ - :‬ناديتني ؟ أومأت برأسها و قالت ‪:‬‬
‫نعم •• في الواقع رأيتك و أنت قادم من بعيد و انتظرتك •• ابتسم‬
‫ابتسامة ذات مغزى و قال و هو يقيس بنظراته تفاصيلها ‪:‬‬
‫خيرا إن شاء الله ؟ ضغطت ريم بأصابعها على شيء تحمله و مدت يدها‬
‫به قائلة ‪:‬‬
‫هذا للسيدة مريم ••‬
‫ما هذا ؟ أعادت اللفافة إلى حضنها و قالت ‪:‬‬
‫إنه ثوب كنت قد اقترضته منها قبل فتــرة و جئت اليوم لعيده إليها لكنها‬
‫غير موجودة ••‬
‫آه حقا ً ‪ ،‬هي غير موجودة ‪ ،‬و لن تكون موجودة أبدا ‪ ،‬احتفظي بالثوب‬
‫ً‬
‫لنفسك فهي لن تعود •• همست كأنها تقرر حقيقة كانت تعرفها ‪:‬‬
‫انفصلتما ‪ ،‬أليس كذلك ؟ قال باقتضاب ‪:‬‬
‫نعم •• نظرت إليه بتحفز و ل تدري من أين واتتها القوة لكنها قالت ‪:‬‬
‫هذا أفضل لها ‪ ،‬فمثلك ل يصلح زوجا ً •• انفلتت إلى منزلها ‪ ،‬و لم تلتفت‬
‫وراءها ‪ ،‬و عندما وصلت إلى البيت حكت لمها ما حدث ‪ ،‬تحدثا قليل ً و علقا ً‬
‫على النفصال المتوقع ‪ ،‬ثم نسيا المر ‪ ،‬و لم تدرك أنها تركت أثرا ً عميقا ً منذ‬
‫ذلك الوقت لم تستطع اليام أن تمحوه لدى سعيد ••‬

‫*** عندما همت ريم بإغلق نافذتها لمحت سعيدا ً جالسا ً في شرفة منزله‬
‫يحتسي كوبا ً من الشــاي و ينظــر باتجاههــا مبتسمــا ً ‪ ،‬لم تعط للمر أية‬
‫أهــمية إل أنها تذكــرت زوجــته و شعرت بغصة غضب تجاه هذا المخلوق ‪،‬‬
‫حنقت عليه جالسا ً يسامر القمر فيما أسرته بعيدة ‪ ،‬أغلقت النافذة بقوة كأنها‬
‫تصفعه و هدهدت سمر قليل ً حتى نامت مجددا ً بعد أن أيقظها صوت النافذة‬
‫الغاضب ‪ ،‬و نامت ••‬

‫حلمت في هذه الليلة حلما ً غريبا ً ‪ ،‬رأت نفسها فيما يرى النائم كأنها تسير في‬
‫صحراء مترامية الطراف ‪ ،‬لشـــيء أمامها ســـوى هذه الصحراء ‪ ،‬كــانت‬
‫تشعر بالعطش الشديد و في كل مرة تتراءى لها بحيرة تركض نحوها فتجدها‬
‫سرابا ً و يزداد العطش ‪ ،‬رأت بحيرة ‪ ،‬ثم بحيرة ‪ ،‬ثم جبل ً عاليا ً تسلقته حتى‬
‫القمة و اعتلت سحابة بيضاء و كانت ما تزال عطشى و فجأة أمطرت‬
‫السحابة مطرا ً ‪ ،‬و أخذت منها الحيرة كل مأخذ ‪ ،‬لنها لم تستطع أن تشرب‬
‫من ماء المطر المنهمر تحتها رغم عطشها الشديد و استيقظت و هي تحاول‬
‫التقاط بعض القطرات بكفها و لكنها لم تستطع •• *** كانت قد أنهت للتو‬
‫مساعدة أمها في أعمالها المنزلية ‪ ،‬و كانت أمها تستحثها السراع في تجهيز‬
‫الطعام و فرشه قبل وصول أبيها المتوقع بعد لحظات ‪ ،‬و عندما انتهتا من‬
‫وضع كل شيء في مكانه جلستا صامتتين تنظران الباب تارة ‪ ،‬ولساعة‬
‫الحائط تارة أخرى ‪ ،‬قالت الم و قد شعرت أنه لبد من الكلم ‪:‬‬

‫أبوك متعب نظرت إليها ريم ‪ ،‬صمتت قليل ً ‪ ،‬كانت تبحث عن الكلمات‬
‫المناسبة ‪ ،‬كانت تريد أن تخبرها أنها تعرف ‪ ،‬شعرت بهذا منذ فترة ‪ ،‬منذ أن‬
‫أصبحت خطواته واهنة و دموعه التي ل تسقط قريبة ‪ ،‬في الحقيقة هي‬
‫تعرف أنه ما فتح لها كنزه المخبوء منذ سنين إل لينقل لها عبر ذكرياته وصية‬
‫ما حفرت في قلبها إل أنها لم تستبن كلماتها ‪ ،‬أوجعها قلبها و أحست بالغصة‬
‫منذ أن أعطاها وثيقتها ثم الجرس و لكنها كانت تريد أن تحتفظ بكل‬
‫مشاعرها داخلها فهي ل تريد أن تخرج كلماتها فتقرر واقع لذا اكتفت بأن‬
‫تقول ‪:‬‬
‫العمل مرهق لمن في سنه يا أمي ‪ ،‬اطمئني و دعينا نعمل على راحته أو‬
‫نطلب إليه أن يتوقف قليل عن العمل بضعة أيام فقط ••‬
‫أي سن يا ريم ؟ إن والدك ما زال في الخامسة و الربعين من عمره لم‬
‫يتمهم ‪ ،‬لكنه يبدو و كأنه تجاوز الستين ‪ ،‬بل السبعين •• انني شديدة القلق‬
‫عليه •• أدارت ريم وجهها عن والدتها ل تريدها أن ترى دمعة ترقرقت لمعة‬
‫في عينيها تعتمد الحقيقة التي ذكرتها أمها ‪ ،‬صاح شيء بداخلها ‪:‬‬
‫إنه الحنين يا أمي •• الحنين إلى منزل قديم و بئر معــطلة و أم ربطــت‬
‫حجرا على قلبها و دفعت أولدها يوما إلى الغربة لكي يعيشوا •• إنه الحنين‬
‫أيتها الم الحبيبة ‪ ،‬الحنين إلى صخب أخوة جمعتهم يوما أرض كانت لهم ‪،‬‬
‫وطن كان فرشهم و غطاؤهم زادهم و زوادهم •• إنه الحنين يا أمي و ليس‬
‫تعب السنين كما أقول و ترفضين ‪ ،‬إنه فقط الحنين •• عندما فتح جهاد‬
‫الباب ‪ ،‬لمح في نظرات زوجته كل ما توقع و أكثر ‪ ،‬قــلق و حيرة ‪ ،‬خوف و‬
‫ضيق ‪ ،‬تنهد ‪:‬‬
‫السلم عليكم •• توجه إلى غرفته تتبعه عيونهما ‪ ":‬إيه يا أم قاســم ••‬
‫إيه أيــتها الغــالية ‪ ،‬رفيقة الدرب و الكفاح ‪ ،‬هل تشعرين بحالي ‪ ،‬هل أخبرك‬
‫صمتي أنني أعاني ‪ ،‬هل سمعت هدير أمواج غزة في زفيري و شهيقي ‪ ،‬لبد‬
‫لكل طير أن يعود ‪ ،‬و لقد طالت غربتي ‪ ،‬فهل سأعود يوما ‪ ،‬أم أنه كان فراقا‬
‫للبد ‪ ،‬شيئا يشبه الموت ‪ ،‬لكنه موت مؤجل ‪ ،‬إيه يا أم العيال إنني محطم‬
‫حتى النخاع ‪ ،‬وحيد رغم العمل و البيت و الولد ‪ ،‬شيئا عزيزا قطعوه من‬
‫لحمي يحن إلي الن ••" التفت إلى الباب كانت تمل تجويفه الخالي ‪ ،‬تنظر‬
‫إليه بقلق همست ‪:‬‬
‫هل أساعدك ؟ هز رأسه مبتسما و قال ‪:‬‬
‫مازلت شابا يا أم العيال ‪ ،‬من في سني لم يتزوجوا ‪ ،‬أنت التي شيبتني‬
‫بالعيال مبكرا قبل الوان ‪ ،‬صدقيني سأتزوج عليك يوما شابة صغيرة تعيد إلي‬
‫الشباب !! أشاحت أم العيال بيديها و قالت باسمة ‪:‬‬
‫و هل كنت ستجد من تتحملك مثلي أيها الفلسطيني التائه ‪ ،‬أم نسيت ؟‬
‫هل أذكرك بيوم جئت لبي ترجوه أن يقبلك زوجا لي و تعده بأن تصونني في‬
‫العيون و في حبة القلب ••‬
‫أنا ؟ !! أنا الذي ذهبت أم أنت من طاردتني حتى قبلت الزواج منك •• هيا‬
‫ل تغالطي التاريخ يا أم قاسم •• كانت ممازحة يبعد بها كلهما شبح النهاية‬
‫عن سمائه ‪ ،‬و كان يحلو لهما دائما تبادل اتهامات السبب في هذا الزواج ‪،‬‬
‫لكن الممازحة اليوم كانت هما ثقيل على القلبين لذا صمتا فجأة كما تكلما‬
‫فجأة و نظرت إليه مليا فاطرق برأسه و قال ‪:‬‬
‫نعم •• ساعديني يا أم العيال ••‬

‫*** كانت سميحة والدة ريم الن هي ذاتــها تلك الشــابة المصــرية التي‬
‫تلبس الملءة السوداء و تغطي شعرها بمنديل مزركش الطراف و تحمل‬
‫الغذاء كل يوم إلى أبيها ملحظ العمال ‪ ،‬فيلتفت لمقدمها كل عامل بناء و كل‬
‫مهندس يصادف وجوده في موقع العمل ‪ ،‬عندما رآها جهاد لول مرة كان قد‬
‫مضى على وجوده في مصر ثلثة شهور ‪ ،‬عمل خللها في عدة أعمال صغيرة‬
‫و سافر إلى مدن عدة قبل أن يستقر به المقام في القاهرة حيث تلقفه عم‬
‫صابر والد سميحة و تعهده بالرعاية عندما علم أنه غريب من فلسطين ‪ ،‬كان‬
‫يسأله عن الحوال هناك و كان كغيره من المصريين آنذاك يعتبر أن فلسطين‬
‫هي القضية التي خانها مليكهم يوما حين كانت في مرمى اليد ‪ ،‬أسلحة‬
‫فاسدة و قصة قديمة تحولت مع مرور الوقت إلى عقدة ذنب خفيه في‬
‫الضمائر ليس لها سببا مباشرا ‪ ،‬لذا فقد رأى فيه العم صابر ممثل جيدا لبلده‬
‫يمكنه من خلله أن يقدم شيئا لتــلك البلد البعيـــدة التي تــضم قدس‬
‫جريح ‪ ،‬و لم يكن هذا الحال مستغربا لدى الجميع ‪ ،‬لذا فقد كان لدى جهاد‬
‫فرصة جيدة ليقف على أقدامه بمنأى عن أية مكائد قد يدبرها زملء المهنة‬
‫لبعضهم الــبعض ‪ ،‬كان هو اســتثناء ‪ ،‬و كان سعيدا بهذا الستثناء ‪ ،‬و عندما‬
‫رأى سميحة قرر أن يختبر هذا الستثناء عــمليا و أضمر في نفسه أنها‬
‫ستكون زوجته ‪ ،‬لم يكن يعنيه تلهف الرجال عليها و حديث بعضهم علنا عن‬
‫رغبتهم في الزواج منها كان في قرارة ذاته يشعر أنها له ‪ ،‬شعر بذلك من‬
‫عينيها عندما التقت بعيـــنيه في لحظة واحـــدة ‪ ،‬وقعا خللها بالحــرف‬
‫الولى علقة لن تنــقطع ‪ ،‬و كان كلما سمع أن أحدهم تقدم لها ينتظر بقية‬
‫الحكاية التي يعرفها••" و رفضت هي " لكنه لم يتكلم و لم يشر حتى بأنه‬
‫يريدها ‪ ،‬كان يعرف أنه لبد أن يكون مستعدا للزواج قبل أن يقدم على هذه‬
‫الخطوة ‪ ،‬و بالفعل ‪ ،‬بعد عام كامل تقدم إلى العم صابر و قال بمنتهى الثبات‬
‫‪:‬‬

‫عم صابر •• أحبك كثيرا و أريد أن ارتبط بك ارتباط دم و نسب فهل تقبل‬
‫أن تزوجني ابنتك ؟‬

‫تطلع اليه العم صابر مليا و سأل ضميره إن كان اشفاقه و محبته لهذا الفتى‬
‫يبرران أن يعطيه ابنته لتشاطره غربة ل يعلم حدودها إل الـــله أم ل ‪ ،‬لكنه‬
‫حسم الموقــف في دقيقة و قال ‪:‬‬
‫إن وافقت هي فأنا موافق ‪ ،‬و لن أجد لها أفضل منك ••‬

‫هذا الرد كان جهاد قد سمعه قبل أن ينطق به الب ‪ ،‬كان قد أحسه و قلما‬
‫أخطأ إحساسه ‪ ،‬سميحة له الن و ليحمل الغد ما يشاء من مفاجآت فإنه‬
‫سيصنع أسرة من جديد بعد أن تشتت أسرته الصلية اختياريا ‪ ،‬و ربما صنع‬
‫وطنا ••‬

‫و في أقل من شهرين كان المنزل الجــديد قد ُأجر و الفرش بالتقسيط قد‬


‫اشــترى و فرش و الزفاف تم كأحسن ما يمكن لشاب فلسطيني غريب و‬
‫شابة مصرية كانت محط أنظار الجميع ‪ ،‬و جاءت ريم بعد تسعة أشهر‬
‫بالضبط و تنهد جهاد ساعة أن سمع خبر الولدة الولى و قال ‪:‬‬
‫الحمد لله الن أصبحت لي أسرة ‪ ،‬الن عاد لي بعض من بعض الوطن ••‬
‫*** تأخر الغذاء هذا اليوم عن موعده كثيرا و اضطرت ريم لتسخينه مجددا‬
‫مرتين على القل قبل أن يقبل الب و الم و حتى قاسم كان قد عاد من‬
‫مدرسته و علقت سمر ‪:‬‬
‫هذه هي المرة الولى التي نأكل فيها معا •• ربت قاسم على ظهر‬
‫الصغيرة و قال ‪:‬‬
‫غريب أنكم انتظرتموني اليوم ‪ ،‬هل من جديد ؟ قالت ريم بمكر و هي‬
‫تبتسم ‪:‬‬
‫هذا السؤال يجيب عنه أبي ‪ ،‬أو أمي ‪ ،‬فهما السبب و قال جهاد ‪:‬‬
‫السبب خير إن شاء الله ‪ ،‬خير للجميع و خصوصا لك يا ريم •• تركت ريم‬
‫ملعقتها تتوجه إلى فمها دون وعي منها فأسقطت الحساء على ثوبها و هي‬
‫تسأل بلهفة ‪:‬‬
‫خيرا إن شاء الله ؟ ضحك الب و أشار لثوب ريم المتسخ و قال ‪:‬‬
‫خير حتى انسكاب الحساء خير •• و تمتمت الم ‪:‬‬
‫طبعا خير ما دامت هي ل تغسل الثياب فما الذي يهمها •• أشاح الب بيده‬
‫و قال ‪:‬‬
‫يا أم ريم دعيها ‪ ،‬اليوم تحديدا لها أن تفعل ما تريد •• تعمق السؤال في‬
‫عيون ريم و تطلعت إلى أبيها تحاول أن تقرأ ما يخفيه و سألت نفسها ‪:‬‬
‫هل هو عريس ؟ قال الب ‪:‬‬
‫ما اخرني عن الحضور اليوم إل مقابلة غير متوقعة مع جارنا الستاذ سعيد‬
‫•• استغرقت الم وقتا لتتذكر من سعيد فيما عرفته ريم فورا و لم تخف‬
‫تعجبها الذي لم يطل فقد قال الب ‪:‬‬

‫قرب منزلنا وجدته واقفا و كأنه كان بانتظاري ‪ ،‬سلم علي بحرارة رغم أننا‬
‫بالكاد نعرف بعضنا ‪ ،‬فهو لم يسكن في الجوار إل منذ سنة تقريبا و الحياة‬
‫تلهي •• شيء ما في نفس ريم كان يستحث الب على سرعة إتمام‬
‫الحديث الهام و البعد عن التفاصيل الصغيرة التي ل معنى لها ‪ ،‬لكنها لم تبده‬
‫و رفعت ملعــقتها إلى فمهــا مجددا و هي تسأل بل مبالة مصطنعة ‪:‬‬
‫ماذا كان يريد ؟ و سبقت الم بالكلم قائلة ‪:‬‬
‫إياك أن تقول أنه يريد الزواج منها ‪ ،‬هذا الشاب اللهي •• هز الب رأسه‬
‫مبتسما و قال ‪:‬‬
‫ل يا أم قاسم ‪ ،‬لم يكن هذا محور حديثنا ‪ ،‬اتركيني لكمل ‪ ،‬لقد رحب بي‬
‫بحرارة متعجبا من عدم معرفتنا ببعضنا البعض طيلة هذه السنة و ذكر شيئا‬
‫كثيرا عن إعجابه بي و بكفاحي في الحياة ‪ ،‬كنا نسير معا و وجدت نفسي‬
‫فجأة أمام باب بيته ل بيتي فدعاني للدخول و شدد في دعوته فلم أملك إل‬
‫الستجابة •• ـ آه هذا اللهي ماذا يريد منك ‪ ،‬هل يريد جرك الى طريقه ‪ ،‬ل‬
‫تنس ذكرت قبل قليل انك صغير و تريد الزواج من اخرى •• هذه المرة‬
‫تكلمت ريم ووجهت حديثها لمها ‪:‬‬
‫أمي بالله عليك دعينا نعرف ماذا يريد هذا السعيد من أبي و ما علقتي‬
‫بالموضوع ‪ ،‬ماذا هناك يا أبي ؟ ترك الب ملعقته و نهض قائل ‪:‬‬
‫الحمد لله ‪ ،‬الشاي يا ريم و تعالي سأحكي لك كل شيء •• مرت الدقائق‬
‫التالية بصعوبة على ريم التي كانت تصنع كل شيء بآلية و كأنها مسيرة من‬
‫أجل النتهاء بسرعة ‪ ،‬رفعت الطعام ‪ ،‬غسلت الواني ‪ ،‬أعدت الشاي و عندما‬
‫جاءت به إلى حيث يجلس الجميع ‪ ،‬كانت قد خطرت في بالها الفكرة ‪ ،‬قالت‬
‫و هي تضع الصينية ‪:‬‬
‫أبي هل للمر علقة بإكمال دراستي ؟ ابتسم الب و هو يأخذ كوب الشاي‬
‫و هز رأسه قائل ‪:‬‬
‫هذا صحيح يا ريم ‪ ،‬لقد سألني الستاذ سعيد عنكم جميعا و عرف أنك منذ‬
‫عام تجلسين في البيت لننا ل نستطيع تأمين مقعد لك في الجامعة ‪ ،‬و‬
‫بالصدفة هو يعرف مسئول كبيرا يعمل في الجامعة مدرسا ••‬

‫تقصد أستاذ يا أبي ••‬

‫نعم يا قاسم هذا ما قاله ‪ ،‬أستاذ في الجامعة ‪ ،‬و قال أنه سيسأله عن‬
‫إمكانية التحاق ريم بالجامعة خاصة بعد أن عرف أنها كانت من المتفوقين‬
‫دراسيا و أن مجموعها كان كبيرا جدا في الثانوية العامة و أخيرا فقد أخبرته‬
‫عن أنك تتقنين الرسم و تتمنين اللتحاق بقسم الرسم في الجامعة ••‬
‫الفنون التشكيلية يا أبي ••‬
‫نعم بالضبط الفنون التشكيلية ‪ ،‬و لكـــن يا ريم هـــــل من الفنـــون‬
‫التشكيلية الرقص أو الغناء أو أي شيء من هذه الفضائح ؟ هزت رأسها‬
‫بسرعة مؤكدة ‪:‬‬
‫ل •• ل و الله يا أبي ‪ ،‬أنها كلية تدرس فقط فنون الرسم و النحت و ل‬
‫علقة لها بفن السينما و المسرح و الغناء •• كانت الم تستمع و لم تشارك‬
‫في الحديث ‪ ،‬لذا عندما نظر إليها الب سائل إياها عن رأيها تنهدت و قالت ‪:‬‬
‫إنه حلم حياتي كما تعلم ‪ ،‬أن يتعلم أولدنا أحسن تعليم ‪ ،‬و لكن يا أبا قاسم‬
‫لقد نسيت شيئا هاما جدا •• نظرت ريم الى أمها و كأنها ترجوها أل تفسد‬
‫الخبر الجميل ‪ ،‬فنظرت إليها الم و قالت بحنان بالغ ‪:‬‬

‫المصاريف •• مصاريف الدراسة الجامعية فوق قدرتنا يا أبا العيال ‪ ،‬كيف‬


‫لم تفكر في هذا ؟ ران صمت طويل على الجميع ‪ ،‬كان الب خلله ينفث‬
‫دخان سيجارته ‪ ،‬و يرشف من كوب الشاي و يفكر ‪ ،‬فيما تطلعت ريم الى‬
‫أبيها برجاء ‪ ،‬ثم باشفاق ‪ ،‬و في الدقيقة التالية كانت قد مسحت فكرة دخول‬
‫الجامعة من خيالها و همست الم ‪:‬‬
‫ل يقدر على القدرة إل الله •• نهضت ريم و حملت الكواب الفــارغة و‬
‫هي مطــرقة و اتجــهت الى المطبخ ‪ ،‬تنحنح قاسم و قال ‪:‬‬
‫أبي ‪ ،‬لو أذنت لي •• التعليم الجامعي هو حلم ريم و هي بالفعل إنسانة‬
‫موهوبة و ربما في المستقبل يكون لها شأن كبير ‪ ،‬فلماذا نجعل من‬
‫المصاريف عائقا و هو أمر قد يرهقنا إل أنه غير مستحيل ‪ ،‬و أنا قد كبرت و‬
‫أستطيع مساعدتك فترة بعد العصر إلى العشاء ‪ ،‬ألم تكن تعمل و أنت في‬
‫سني بل أصغر ؟ شهقت الم و قالت ‪:‬‬
‫و الدراسة ؟ رد عليها قاسم قائل ‪:‬‬
‫لن تتأثر كثيرا ‪ ،‬أستطيع تنظيم وقتي •• هز الب رأسه و قال ‪:‬‬
‫لمن ل وطن له و ل أملك تعينه ليس بعد الله ال العلم يا قاسم ‪ ،‬و لن‬
‫أسمح لشيء أن يؤخرك عن دراستك ‪ ،‬و إل يا بني أكون قد أضعت عمري‬
‫هباء ‪ ،‬فلن أترك لكم عندما أموت مال ‪ ،‬لكنني أكون على القل مطمئنا أنكم‬
‫على الطريق الصحيح •• هزت الم رأسها موافقة و تمتمت ‪:‬‬
‫أطال الله عمرك يا أبا العيال ‪ ،‬و ل حرمنا الله منك ‪ ،‬تعيش إن شاء الله‬
‫حتى ترى أولدك و هم متزوجون و تلعب أحفادك و تراهم بدورهم كبارا‬
‫متزوجين و •• قاطعها الب قائل ‪:‬‬
‫كفى •• كفى لقد أوصلتني إلى المائة أو يزيد بدعائك هذا •• ما يهمني أن‬
‫يطيل الله في عمري حتى أكمل رسالتي و بعد ذلك ل يهم •• هيا ‪ ،‬اذهب يا‬
‫قاسم لتستريح و من ثم تذاكر دروسك ‪ ،‬أريدك دائما الول •• تابعه بعينيه و‬
‫هو يمضي إلى غرفته و قال ‪:‬‬
‫حماه الله •• رجل صغير •• كانت ريم تستمع إلى الحديث بجوار المطبخ‬
‫يراودها المل تارة و يموت أخرى و عند هذا الحد منه اتجهت إلى غرفتها و‬
‫هي تبتسم ممتنة لخيها ‪ ،‬و تذكرت حلم الليلة الماضية ‪ ،‬الظمـــأ و السراب‬
‫و الســحابــة التي ل تســتطيـــع أن تشرب منــهــا رغـــم أنها تعتــليها و‬
‫تساءلت ‪:‬‬
‫ترى هل هذا هو تفسير الحلم ‪ ،‬أم أن ما يخبأه لها القدر من العطش أكثر‬
‫بكثير مما ترى أو تتوقع ؟‬

‫منذ أن ألقت ريم كلمتها الغاضبة إلى سعيد و شيء ما انبش مخالبه في‬
‫صدره ‪ ،‬زحف جيش مجهول الهوية و استوطن مكانا ظل خاليا في جوفه ‪:‬‬

‫قالتها و مضت ‪ ،‬و كأنها طيف أو حلم •• من هذه الفتاة ‪ ،‬و كيف لم‬
‫يلحظها منذ سكن الشارع رغم أنها جارته ‪ ،‬من أين واتتها القوة لتقول رأيها‬
‫بصراحة في الوقت الذي استغرق المر من زوجته عمرا و ثلثة اطفال كي‬
‫تنطقها •• ماذا تعرف هذه الصغيرة الجريئة عنه ‪ ،‬ماذا كانت تخبرها مريم و‬
‫كيف كانت تنظر إليه ‪ ،‬هل تحتقره في قرارة نفسها •• اسئلة كثيرة حرمت‬
‫عليه النوم ذلك اليوم ‪ ،‬و قرر أن يعرفها أكثر ‪ ،‬قال أنها بكل تأكيد مثل كل‬
‫النساء و لكن تنقصها الخبرة و وعد نفسه أن تستقي هذه المخلوقة خبرتها‬
‫على يده ‪ ،‬اسعده كثيرا أن اكتشف أن نافذة في منزلهم تطل على شرفته‬
‫المهجورة ‪ ،‬قام ففتح الشرفة و رتبها و أزال منها غبارا كثيرا ‪ ،‬ثم وضع فيها‬
‫كرسيا و طاولة و قرر أن تكون جلسته الدائمة في هذا المكان في حالة‬
‫كانت الغرفة لها ‪ ،‬و ابتسم و هو يقول لنفسه ‪:‬‬

‫اللعبة القديمة ‪ ،‬ابن الجيران و ابنة الجيران ‪ ،‬كبرت قليل عليها و ربما‬
‫جاءت متأخرة لكنها جاءت على أية حال ‪ ،‬و لن تضيع الفرصة ••‬

‫كان هذا ما يقوله بصخب لسانه ‪ ،‬أما ما استقر في نفسه فكان مختلفا بعض‬
‫الشيء ‪ ،‬كان هناك ما يربطه بهذه المخلوقة ‪ ،‬ليس جمالها فلقد عرف من‬
‫هن أجمل منها عشرات المرات ‪ ،‬و ل لسانها الطويل الذي فاجأه برأي من‬
‫غريبة ذات ظهر أحد اليام ‪ ،‬أنه شيء ما في عينيها ‪ ،‬نظرات بريئة ‪ ،‬مفعمة‬
‫بالتحدي و بالحزن ‪ ،‬بل و بالضحك أيضا ••‬
‫كل هذا كان في نظراتها ؟!! يا لك من مغفل كبير •• هي فريسة و أنت‬
‫الصياد و أنت صياد ماهر •• هذا كل ما في المر ••‬

‫و عندما جلس ذلك المساء في شرفته للمرة الولى يحتسي الشاي ‪ ،‬كانت‬
‫نظراته مصوبة على النافذة ‪ ،‬و أمنية تجوس في خاطره أن تكون الغرفة‬
‫لهـــا ‪ ،‬كانت الغـــرفة مظــلمة ‪ ،‬و كان القمر بدرا ‪ ،‬لول مرة يلحظ القمر ‪،‬‬
‫عادة في مثل هذا الوقت ل يكون في مكان مفتوح يطل عليه القمر ‪ ،‬إنه‬
‫يكون في مكان مغلق ‪ ،‬مغلق حتى الختناق يمارس لعبته الدائمة في خداع‬
‫الفرائس الخبيثة ‪ ،‬الفرائس التي تريد الخداع و تطلبه ‪ ،‬هذه هي المرة الولى‬
‫التي يطالع فيها القمر وجها لوجه ‪ ،‬ترى هل اكتمل متعمدا اليوم ‪ ،‬أم أن‬
‫القمر يسير في دورته العتيادية غير آبه بمريديه زادوا واحدا أو نقصوا عشرة‬
‫‪ ،‬المهم أنه ما زال متربعا في السماء يلعب دور قديم متجدد ‪ ،‬لم يمله منذ‬
‫بدء الخليقة ‪:‬‬

‫‪ -‬سبحان الله ‪ ،‬كيف لم ألحظك أيها القمر من قبل ؟ لماذا تحمل ملمحك‬
‫وجه إنسان غاضب ‪ ،‬هل أنت غاضب مني أنا تحديدا أم من كل البشر ••هل‬
‫تعرفها أيها القمر •• ما اسمها •• هل هي صديقتك ‪ ،‬أم أنها بدورها ل تعرفك‬
‫•• ؟‬

‫لحظ الضوء ينبعث من خصاص النافذة ‪ ،‬أمعن النظر عله يرى خيالها لكن‬
‫النافذة كانت ساترا قويا دون عيونه ‪ ،‬عاد يرشف من كوبه و يطيل النظر إلى‬
‫النافذة يستجديها أمل ‪ ،‬أو خيال •• ثم توجه إلى القمر و همس ‪:‬‬
‫إذا كانت صديقتك فأرسل في طلبها ‪ ،‬أرني مقدار حظوتك عندها أن‬
‫استطعت ••!! و كأنما استجاب القمر للتحدي فأرسل شعاعا منه إلى‬
‫النافذة المغلقة و انتظر ‪ ،‬بعد قليل فتحت ريم النافذة ‪ ،‬أطلت منها فورا إلى‬
‫القمر ‪ ،‬نفخ سعيد الهواء و نظر للقمر مبتسما و قال ‪:‬‬
‫إيه أيها القمر لقد نجحت ••!! راقبها و هي تطالع القمر ‪ ،‬لحظ على البعد‬
‫تقطيبة حزن و هي تمعن النظر إليه ‪ ،‬شعر بها و إن لم يستبنها ••و ظل‬
‫مركزا نظره عليها علها تراه ‪ ،‬و بالفعل نظرت ريم باتجاهه ‪ ،‬و لكنه هذه‬
‫المرة سمع زمجرة غضب حملها النسيم إليــه رغم أن المسافة ليســت‬
‫قصيرة و أصابه الذهول حين ردت على ابتسامته الساحرة باغلق النافذة‬
‫بقوة و كأنها تصفعه ••‬
‫للمرة الثانية تتعمد هذه المخلوقة الصغيرة تقليم أظافرك و إدارة رأسك‬
‫•• ل يا سعيد يجب أن يكون هناك حل •• و بسرعة •• بعد تفكير عميق‬
‫قرر أن يعرف عنها كل شيء ‪ ،‬راقب المنزل ‪ ،‬عرف أباها و أخاها و حتى‬
‫أختها الصغيرة تمرح مع الصغار أمام الباب و عندما عرف ميعاد عودة الب‬
‫اليومي من العمل كان بانتتظاره عازما على معرفة كل شيء ‪ ،‬و قد كان له‬
‫ما أراد ‪ ،‬عندما ألح على أبيها بدخول منزله تعمد أل يرى الغرفة التي تطل‬
‫بشرفتها على نافذة ابنته ‪ ،‬و جاذبه أطراف الحديث و عرف ما أراد ‪ ،‬و‬
‫لدهشته وجد نفسه مدفوعا للكذب ‪ ،‬قال أنه يعرف أستاذا في الجامعة و‬
‫يستطيع إلحاق ريم فيها •• كان اسمها يعجبه ‪ ،‬استزاده و كان الب‬
‫مستـــعدا للمزيـــد ‪ ،‬بدا متلــهفــا على تعليــم أولده ‪ ،‬تمسك بالمل و‬
‫عــرض عليه حــالتها و موهبتها و أخبره كثيرا عن لوحاتها الجميلة ‪ ،‬و تطور‬
‫الكذب و قال سعيد ‪:‬‬
‫ل تخف يا عم جهاد سوف تلتحق ريم بكلية الفنون الجميلة ‪ ،‬هذا وعد ••‬
‫عندما غادره الب ‪ ،‬طالع وجهه في المرآه ‪ ،‬صاح ‪:‬‬
‫كاذب •• *** فتحت ريم نافذتها و استقبلت بعض النسمات الصيفية مع‬
‫الشمس و هي تلملم شعاعاتها لترحل ‪ ،‬كان لون الشفق يريح أعصابها ‪ ،‬و‬
‫تحبه كثيرا رغم أنه يعني الوداع ‪ ،‬وصفته ذات مرة لصديقتها سوسن قائلة ‪:‬‬
‫عندما يصبغ الشفق الفق بالحمرة يغلبني يقين بأنني أمام عيون بكت حتى‬
‫الحمرار على الفراق •• و يومها علقت سوسن قائلة ‪:‬‬
‫دائما الفراق يا ريم ‪ ،‬لماذا يغلب عليك الشعور بالفراق رغم استقرارك و‬
‫تمتعك بعائلة يحسدك عليها الجميع في التفاهم و الترابط ؟ همست ريم قائلة‬
‫و هي مطرقة ‪:‬‬
‫لن الفراق يكون أقسى عندما نحب من نفارق و ما نفارق •• و تنهدت و‬
‫أكمل شيء داخلها ••‬
‫الوطن •• النتماء •• هل تشعرين ؟ ل •• ل يمكن لمن يعيش في وطنه‬
‫أن يعرف يقينا معنى و قيمة أنه ينتمي له ‪ ،‬كيف يمكن لمن يصحو مطمئنا أن‬
‫يشعر بالخوف من مستقبل غامض ككهف أسود فاغر فاه على المجهول ‪ ،‬ل‬
‫•• لن تستطيعي يا سوسن أن تعرفي و لن يستطيع أحد أن يعرف ‪ ،‬حتى‬
‫أهلونا هناك لن يعرفوا ‪ ،‬سنظل دائما في نظر الكل أولئك الذين هربوا من‬
‫المواجهة مع الموت ليعيشوا ‪ ،‬سنظل دائما في عيون الخرين النقطة في‬
‫آخر سطر عذاب يعيشه الخرون •• لن يشعر بالمعذبين في بوتقة اللجوء إل‬
‫من عاشه ‪ ،‬فهل عشته يا سوسن ‪ ،‬حتى أنت يا سعيد هل عشت اللجوء‬
‫يوما ؟ ‪ ،‬لو أنك عشته ما وجدت فراق زوجتك و أولدك هينا ‪ ،‬ما وجدت‬
‫النفصام سهل ‪ ،‬لكنك في بلدك ‪ ،‬الكل أهلك ‪ ،‬الجميع ناسك ‪ ،‬فلم تخاف من‬
‫فراق إرادي ؟ ما زلت رغم الفراق تملك أن تجلس باستكانة على كرسيك‬
‫الهزاز في شرفة منزلك تغازل القمر و تبتسم ‪ ،‬أي اطمئنان يعيشه من له‬
‫وطن •• تطلعت في وقفتها طويل إلى شرفته الخالية و تساءلت ‪:‬‬
‫هل حقا بمقدورك المساعدة أيها الرجل اللهي ‪ ،‬هل حقا يمكنك أن تقدم‬
‫عونا ؟ و لم ل•• أنت في وطنك و بامكانك أن تفعل ‪ ،‬كما أنك جريء ‪،‬‬
‫جريء جدا ‪ ،‬لقد استطعت في مقابلة واحدة مع أبي أن تعرف كل شيء ••‬
‫و لكن عرضك مرفوض •• لن نستطيع أن نقبله ‪ ،‬فهناك دائما المال ‪ ،‬الحاجز‬
‫الذي ل يقهر ‪ ،‬اللجوء الخر ‪ ،‬المنيات الصعبة ‪ ،‬الحلم المستحيلة و •• نعم‬
‫و العطش ‪ ،‬الظمأ الشديد رغم سحابة الماء ‪ ،‬سأظل دوما ظمأى هذا‬
‫قدري ‪ ،‬و لن تستطيع تغييره •• أغلقت نافذتها و توجهت إلى حامل لوحاتها‬
‫رفعت الغطاء فبدا شكل البئر و الشجرة تدب أغصانها فيه موحشا ‪ ،‬مرعبا ‪،‬‬
‫مخيفا ‪ ،‬حتى الصبي الذي يتطلع إليه كان غريبا ‪ ،‬عضت على شفتها السفلى‬
‫و همست ‪:‬‬
‫كيف رسمت هذا المنظر الفظيع ؟ كان كل شيء أمامها في هذا اليوم‬
‫يفقد قيمته ‪ ،‬شعرت للحظة أنها عاجزة ‪ ،‬أنها مبتورة الساقين و اليدين ‪ ،‬أنها‬
‫تريد أن تصرخ لول لسانها المقطوع ‪ ،‬وضعت لوحا أبيض فوق لوحة البئر و‬
‫خطت بالفحم خطوطا سوداء كئيبة لوجه يطحنه الظمأ •• دخل أبوها الى‬
‫الحجرة دون أن يدق الباب ‪ ،‬نظرت إليه بعيون مغرورقة و لم تتكلم ‪ ،‬اقترب‬
‫و نظر في لوحتها و هز رأسه رافضا لما فيها •• قال‪:‬‬
‫أنت غاضبة يا ريم •• هل خيبت أملك يا ابنتي ؟ نظرت اليه ريم و حاولت‬
‫الكلم إل أن غصة منعتها و شرقت بدموعها ‪ ،‬فاقترب منها أبوها جدا و أخذ‬
‫رأسها بين يديه ووسده كتفه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫ل تبكي يا صغيرتي •• عندما تكون المشكلة نقودا ‪ ،‬فل مشكلة ‪ ،‬مازال‬
‫أبوك قويا ‪ ،‬قادرا على العمل و العطاء ‪ ،‬و إذا صدق الستاذ سعيد في وعده‬
‫فإنني سوف ألحقك بالجامعة •• رفعت ريم وجهها و مسحت دموعها بباطن‬
‫كفها و ضحكت و هي تقول بحروف متعثرة ‪:‬‬
‫ل يا أغلى أب ‪ ،‬ل أريد الجامعة ‪ ،‬و ل أريدك أن ترهق نفسك أكثر من أجلي‬
‫•• صدقني لن أكون سعيدة و أنا أحقق أحلمي على أنقاض صحتك ‪ ،‬يكفيك‬
‫ما عانيت حتى وصلنا إلى ما نحن فيه ‪ ،‬ل أريد المزيد •• أمسك وجهها بين‬
‫يديه و قال لدموعها النازفة ‪:‬‬
‫أقسم بالله العظيم أن أمسح هذه الدموع و لو كلفني هذا عمري •• أنتم‬
‫كنزي أيتها الفتاة الرهيفة و أنتم وطني الذي تركته مخيرا قبل عشرين عاما و‬
‫لن أسمح لهذا الوطن الصغير أن يضيع مني بدوره ••‬
‫و لكن يا أبي ؟ وضع الب أصبعه على فمها ليمنعها من إكمال أعتراضها و‬
‫أمسك لوح الرسم الحزين ‪ ،‬رفعه و وضعه جانبا و عندما نظر إلى لوحة البئر‬
‫تحته ‪ ،‬وقف واجما و ريم تراقبه •• مرر أصابعه على حافة البئر ببطء و‬
‫لمس غصون النخلة السامقة •• قال ‪:‬‬
‫هل يمكن أن أحتفظ بهذه اللوحة ؟ قالت ريم ‪:‬‬
‫لكنها لم تكتمل يا أبي ‪ ،‬كما أنها بشعة جدا ••‬
‫لكنني أريدها •• همست ريم ‪:‬‬
‫كنت أريد تقديمها لك عندما أكملها ‪ ،‬لكنني فجأة زهدت فيها و شعرت‬
‫أنني ل أريد إكمالها •• ابتسم الب و هو يرفعها و قال ‪:‬‬
‫لو اكتملت لخالفت الحقيقة ‪ ،‬إن نقصانها هو كمالها أيتها الفنانة الصغيرة‬
‫•• راقبت ريم والدها و هو يغادر الغرفة حامل اللوحة بين يديه ‪ ،‬همست ‪:‬‬
‫صدقت •• *** في طريقها إلى منزل سوسن كان لبد لريم أن تقطع‬
‫المسافة بين بيتها و بيت سعيد أول قبل أن تنعطف يمينا لتسير باتجاه بيت‬
‫سوسن الذي ل يبعد كثيرا عن منزلها ‪ ،‬عشر دقائق سيرا على القدام ‪ ،‬و‬
‫عندما اجتازت واجهة بيت سعيد و بدأت طريقها إلى سوسن وجدته فجأة‬
‫أمامها •• كان سيد أخو سوسن ‪ ،‬اعتراها ارتباك و لم تدر إذا كان من اللياقة‬
‫أن تحيه أو من الدب أن تتركه دون كلم ‪ ،‬لكنه كان أسرع في أخذ المبادرة‬
‫إذ حياها قائل ‪:‬‬
‫آنسة ريم ‪ ،‬كيف حالك ؟ همست ‪:‬‬
‫الحمد لله‬
‫متجهة إلى بيتنا ؟ أومأت برأسها أن نعم ••‬
‫هذا جيد ‪ ،‬ساذهب في مشوار صغير و عندما أعود آمل أن أجدك هناك‬
‫فلدي ما أقوله لك •• أسرعت في مشيتها بدون رد و عندما اقتربت من‬
‫منزل سوسن وقفت برهة مترددة هل تطرق الباب أم تنسحب قبل مجيء‬
‫الستاذ سيد ثقـــيل الدم •• و أخــيرا حزمت أمــــرها و أقفلت عائدة ‪ ،‬لكنها‬
‫و للمرة الثانية في أقل من عشر دقائق تجد من يستوقفها و هذه المرة كان‬
‫سعيد الذي بادرها ‪:‬‬
‫آنسة ريم •• نظرت إليه مندهشة ‪ ،‬ثم تذكرت أن أباها أعطاه اسمها‬
‫قالت ‪:‬‬
‫نعم‬
‫رأيتك تسيرين حتى نهاية الشارع ثم تعودين ‪ ،‬هل هي رياضة ؟ تطلعت‬
‫إليه بحنق و همت أن تجيب ‪ ،‬إل أنها آثرت عدم الكلم ‪ ،‬هزت رأسها و سارت‬
‫في طريقها ‪ ،‬ظل واقفا في مكانه يراقبها تسير و قال و هي تكاد تختفي في‬
‫انعطافة منزلها ‪:‬‬
‫يا لك من طفلة •• عندما وصلت ريم إلى منزلها أجابت أمها قبل أن‬
‫تسأل ‪:‬‬
‫سوسن ليست هناك •• نظرت إليها الم و قالت ‪:‬‬
‫و هل في عدم وجودها ما يستدعي هذا الغضب في عيونك ؟ ما بك ؟‬
‫نظرت ريم إليها و قررت أن تقول ‪:‬‬
‫في طريق الذهاب وجدت فجأة أمامي سيد ‪ ،‬قال أنه يريد محادثتي و ل‬
‫أعرف ما الذي يريده •• و قبل أن تعلق الم أكملت و كأنها ترمي حمل أثقلها‬
‫‪:‬‬
‫و في طريق العودة وجدت أيضا فجأة أمامي الستاذ سعيد ‪ ،‬جارنا اللهي ‪،‬‬
‫أعتقد أنه خفيف الدم و سألني إن كنت أجوب الشارع على سبيل الرياضة‬
‫•• و للمرة الثانية همت الم أن تعلق إل أن ريم عاجلتها و هي تلقي بنفسها‬
‫غضبا على أريكة الصالة ‪:‬‬
‫ثم وصفني بصوت عال بأنني طفلة ‪ ،‬أعتقد أن كل من في الشارع سمعه‬
‫•• تطلعت الم إلى ريم ‪ ،‬مقطبة ‪ ،‬إل أنها فجأة وجدت نفسها تبتسم و قالت‬
‫و هي تمعن النظر فيها ‪:‬‬
‫كبرت و الله يا ريم •• نظرت إليها ريم و قالت بغيظ ‪:‬‬
‫هذا ما ل يعرفه الستاذ سعيد •• ضحكت الم و قالت ‪:‬‬
‫بل ربما كان هذا هو الشيء الوحيد الذي يعرفه الستاذ سعيد يا ريم‬
‫توجهت ريم بنظراتها المتسائلة لمها التي أكملت ‪:‬‬
‫مثل هذا الرجل يعرف تماما متى تكون الثمرة ناضجة ‪ ،‬و يعرف إن كانت‬
‫حلوة أم مرة و يعرف أخيرا متى و كيف يجب أن تؤكل ••‬
‫ماذا تقصدين ؟ تنهدت الم و قالت ‪:‬‬
‫أقصد حماك الله من هذا الستاذ و أشباهه ووقاك شر أولد الحرام ‪ ،‬لقد‬
‫بدأ سعيد يلعب لعبته و اختارك أنت هذه المرة فكوني حذرة ••‬
‫لكنه تحدث مع أبي و كان الحديث عابرا ‪ ،‬و عرض المساعدة ••‬
‫هذه البداية يا بنت أبيك ‪ ،‬احذري و اخبريني دوما بكل شيء و الله يرعاك‬
‫••‬
‫هل أقول لبي ؟‬
‫ل يفهم الرجال هذه المور و ل يستطيعون استيعابها و خاصة عندما يظل‬
‫الب على اعتقاده أن ريم ابنة الثمانية عشر عاما ما زالت في مثل عمر‬
‫سمر •• أبوك لن يصدق ‪ ،‬لكنه سيقلق و لأريده أن يقلق ‪ ،‬يكفيه قلق‬
‫••فهمت يا حبيبتي ؟ هزت ريم رأسها ‪:‬‬
‫فهمت •• *** كانت سوسن في حجرتها عندما طرق عليها أخوها الباب و‬
‫دخل ‪ ،‬تلفت حوله و سألها مباشرة عن ريم ‪:‬‬
‫غادرت مبكرا ‪ ،‬أنا لم اتأخر •• رفعت رأسها عن كتابها و سألته بدورها ‪:‬‬
‫عمن تتحدث ؟‬
‫ريم ضحكت سوسن و أغلقت الكتاب و قالت ‪:‬‬
‫هيه •• بدأنا نتخيل ‪ ،‬هو العشق إذن يا أخي الكبير العاقل ••‬
‫أي تخيل يا سوسن ‪ ،‬لقــد قابلت ريم في طريقها إلى هنا و طلبت منها‬
‫انتظاري ‪ ،‬فلم رحلت باكرا ؟‬
‫ريم لم تأت أصــل ‪ ،‬رغم أنهــا كانت قد وعدتني بزيارة الـيوم ‪ ،‬آه إذن هي‬
‫لم تأت بسببك ••‬
‫بسببي أنا ؟‬
‫نعم •• ريم خجول للغاية و مجرد مخاطبتك لها في الشارع أثار حفيظتها ‪،‬‬
‫و ل استغرب تصرفها •• ابتسم سيد بارتياح و قال ‪:‬‬
‫هذا هو النمط الذي أريد •• ريم فتاة خام و هي ما يتمناه كل شاب ••‬
‫قالت سوسن ‪:‬‬
‫و لكن ماذا عنها هي يا سيد ‪ ،‬إن ريم ل تحب الحديث حولك ‪ ،‬و كم حاولت‬
‫أن أنقل لها انطباعاتك و مشاعرك فكانت دائما تصدني و ترفض مجرد الكلم‬
‫••‬
‫خجل العذارى ••‬
‫ليس مع صديقتها ‪ ،‬إنني أعرف عنها كل شيء و ل مكان للمواربة بيننا ‪،‬‬
‫علقتنا منذ الطفولة كما تعلم و ريم حازمة في مثل هذه المور ‪ ،‬كل ما‬
‫يعنيها الرسم و ل شيء غير الرسم ••‬
‫عادة غبية ينبغي أن تتركها عندما نتزوج •• نظرت إليه سوسن ممتعضة ‪،‬‬
‫غادر الغرفة و قالت هي ‪:‬‬
‫هذا إذا تزوجتها ••‬
‫كان سيد نموذجا لشباب فقد رغبته في الجديد ‪ ،‬كان قديم المشاعر و‬
‫التفكير و الخلق ‪ ،‬يزن الناس بمقدار ما لديهم من هذا القديم ‪ ،‬يعتبر كل‬
‫جـــديد انحلل و تفـــسخ عن القــيم و الخلق ‪ ،‬و في سبيل تكريس هذه‬
‫الحقائق جار على البتسام حتى نسيه و تعلم أن البنت وسيلة إنجاب و تكوين‬
‫أسرة ‪ ،‬ينبغي أل يكون لها في الحياة رأي أو موقف ‪ ،‬و كان يعتقد أن تعليم‬
‫الفتاة ينبغي أن يتوقف عند الثانوية العامة ‪ ،‬لذا فقد فرض على أخته حياة‬
‫البيت بعدها مباشرة ‪ ،‬و لما كان هو ولي امرها بعد وفاة والدها فقد رضخت‬
‫لمره و لم تكمل تعليمها ‪ ،‬شجع سيد منذ البداية العلقة بين أخته و بين ريم ‪،‬‬
‫في الوقت الذي وقف فيه بالمرصاد لية علقة أخرى مع صديقات أخريات ‪،‬‬
‫كان يعرف العم جهاد و يقدره كثيرا و يرى فيه النموذج الحقيقي للرجل ‪،‬‬
‫يكدح من أجل أسرته و زوجته في المنزل تسهر على رعايته و إنجاب‬
‫الطفال له ‪ ،‬و بلغ تقديره له كل مبلغ عندما وجده أجلس ريم بعد الثانوية‬
‫العامة كما فعل هو مع اخته و بهذا اتفقت الميول و صار زواجه من ريم‬
‫مسألة وقت ‪ ،‬ل يقف أمامها رفض ريم أو ممانعة والدها ‪:‬‬

‫و كيف يرفض و أنا معلم محترم ‪ ،‬لي راتب و بيت و شخصية قيادية‬
‫يلمسها الجميع •• وأد في نفسه ميل إلى الشعر لمسه لديه معلم اللغة‬
‫العربية عندما كان طالبا ‪ ،‬أعتبر أن الشعر مضيعة للوقت و سبب في مياعة‬
‫الشباب و تأخر رجولتهم لذا فقد كان حازما مع نفسه ‪ ،‬مزق كل أشعار‬
‫المراهقة و ترك لليام قيادته وفق التقسيم التقليدي ‪ ،‬دراسة فعمل فزواج‬
‫•• لكنه بعد أن رأى ريم و قد صارت عروسا جميلة عاوده حنين قديم للشعر‬
‫‪ ،‬و عندما أسهده التفكير فيها ذات ليلة ‪ ،‬ضبط نفسه متلبسا بالشعر ‪ ،‬و‬
‫كانت الساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل و قصيدة متينة مستقرة بين يديه‬
‫تطلب إليه أن يهديها لصاحبتها •• لكنه عاد فهزأ من نفسه و طوى القصيدة‬
‫و ألقــاها بل اهتــمام في درج مكتبه ••‬

‫*** خلل سني عمله في مصر ‪ ،‬و بعد زواجه من سميحة عمل جهاد في‬
‫مجال البناء و شيئا فشيئا تعلم أن يقتحم مجالت أخرى تتعلق به ‪ ،‬فأصبح‬
‫بامكانه أن يقوم بالطلء و برع أيضا في أمور السباكة و الكهرباء و حتى‬
‫النجارة إذا لزم المر ‪ ،‬و اكتسب ثقة كل من عمل معهم لذا لم تتوقف‬
‫أعماله يوما و كان يعتبر أن هذا رزق تعليم و رعاية الولد ‪ ،‬فلم يكن يبخل‬
‫عليهم بكل قرش يجنيه من كده ‪ ،‬و كان لتدبير سميجة زوجته أبلغ الثر في‬
‫سير الحياة وفق ما تمنــوا و رغبوا ‪ ،‬فعلى قـــدر أحلمــهم الصــغيرة كانت‬
‫أيضا أهدافهم و سيرتهم في الحياة ‪ ،‬و لكن بعد أن لح أمل الجامعة مجددا‬
‫في أفق حياتهم أصبح هذا المر هو الشغل الشاغل لدى العم جهاد ‪ ،‬كان لبد‬
‫من وسيلة يحقق بها حلم ابنته و من بعدها ابنه ثم ابنته الخرى ‪ ،‬و بهذه‬
‫الطريقة ل يمكن ••!! كان يتأمل لوحة البئر التي أخذها من ريم و آلف‬
‫الفكار تتصارع في رأسه ‪ ،‬تصب كلها في السؤال اليتيم ‪:‬‬
‫من أين ؟ كانت أم ريم تنظر إليه منذ فترة بدون أن يشعر ‪ ،‬كانت تعرف‬
‫تماما ما يدور في خلده ‪ ،‬كانت مدركة أن الفكرة لم تغادر رأسه منذ زرعها‬
‫سعيد فيه و هي تعرف جهاد عشرة العمر جيدا •• أخيرا تنهدت لتنبهه و‬
‫قالت ‪:‬‬
‫وحد الله يا رجل •• تطلع إليها و تنهد بدوره و قال ‪:‬‬
‫ل إله إل الله سيدنا محمد رسول الله‬
‫عليه أفضل الصلة و أتم التسليم •• ما بك يا أبا العيال ؟‬
‫ريم يجب أن تدخل الجامعة •• و قبل أن تتكلم حذرها ‪:‬‬
‫و ل تقولي من أين ‪ ،‬الرزاق موجود ••‬
‫و نعم بالله ‪ ،‬و لكن حقا ‪ ،‬حقا من أين ؟‬
‫أفكر في أمر و ل أدري إذا كان ممكنا أو ل ••‬
‫ل تقلها ••‬
‫يجب يا أم العيال ‪ ،‬آن الوان لتنفيذها ‪ ،‬أجلناها كثيرا و لكن آن الوان‬
‫تريد أن تسافر و تتركنا ؟‬
‫قاسم صار رجل يعتمد عليه ‪ ،‬و الغربة لن تطول •• صمتا كلهما بعد هذه‬
‫العبارة ‪ ،‬كان كلهما يفكر في نفس المر ‪ ":‬الغربة لن تطول عبارة حدثته بها‬
‫نفسه قبل عشرين عاما حين غادر غزة و ها هي طالت و طالت حتى صارت‬
‫عمرا ‪ ،‬فلماذا لن تطول بدورها غربة الكفاح من أجل تعليم الولد؟ " همست‬
‫‪:‬‬
‫ل أحتمل الفراق •• قال ‪:‬‬
‫سنين قليلة ‪ ،‬اجمع فيها بعض النقود و اعود و ربما تمكنا حتى من بناء بيت‬
‫خاص لنا بدل عن هذا المنزل ذي الجرة القديمة و الذي يراودني صاحبه عنه‬
‫منذ فترة •• أنت تعلمين كل شيء يا سميحة ‪ ،‬فلماذا تمانعين ؟‬

‫ل •• ل يا أبا قاسم • ل •• لقد كبرنا على غربة تفرقنا ‪ ،‬لن أطيق الفراق‬
‫بعد أن صرت أنت كل حياتي ‪ ،‬لن أطيق أن أعيش مع البناء ‪ ،‬أقاسي‬
‫المرين بدونك ‪ ،‬و أنت هناك في بلد الله خلق الله تكافح و تعود آخر النهار‬
‫فل تجد من تمسح عرقك و تشد أزرك ‪ ،‬هذا فوق احتمالي يا جهاد فوق‬
‫احتمالي ••‬
‫لكن الولد بحاجة للمزيد ••‬
‫بل يممكننا الستغناء عن هذا المزيد ‪ ،‬يمكنــنا أن نرضى بما قسمه الله لنا‬
‫و نكمل حياتنا ••‬
‫نحو أي اتجاه يا أم العيال ؟ تمضي حياتنا نحو أي اتجاه ؟ نعلمهم حتى‬
‫الثانوية ثم نتركهم يصارعون فقرا و قلة وظائف و لجوء ‪ ،‬ما الذي فعلته إذن‬
‫•• ما هي الثمرة التي رويتها بسنين غربتي و لجوئي •• ماذا سيقول أولدي‬
‫بعد موتي ‪ ،‬هل سيترحمون علي ‪ ،‬ام سيقولون سامحه الله تركنا ريش في‬
‫مهب الريح •• نحن فلسطنيون يا أم قاسم ‪ ،‬هل تدركين معنى هذه الجنسية‬
‫علينا ‪ ،‬فلسطيني ل أرض تقبله و ل مكان يرحب به ‪ ،‬يعيش حياته مشتتا بين‬
‫أمل كاذب و سياسة فاضحة و كفاح مسلح استمر سنينا و حصد أذكى الرواح‬
‫و لم يسفر عن شيء •• هل تفهمين قصدي ؟‬
‫و من غيري يمكنها ذلك يا أبا العيال ‪ ،‬من غيري بوسعها أن تعصر سنين‬
‫العمر الماضية و تقدمها دماًء في عروق الصغار ‪ ،‬من غيري يا أبا قاسم ‪ ،‬و‬
‫لكن ‪ ،‬الفراق ؟‬
‫حتى حين ••‬
‫و الولد ؟‬
‫سيفهمون و سيعينونك ••‬
‫و الوحدة ؟‬
‫سأرسل لك كل يوم خطاب ••‬
‫و السفر؟‬
‫سيكون في أسرع وقت •• إن شاء الله *** كان سعيد يداري نفسه بعدما‬
‫لمح العم جهاد في الطريق ‪ ،‬خشى أن يسأله عن المل الكاذب الذي زرعه‬
‫برعونة في حياته و كان أخشى ما يخشاه أن يعيد العم جهاد عليه الحوار‬
‫الذي دار بينهما البارحة ‪ ،‬عندما كان عائدا من عمله فإذا بالعم جهاد ينتظره و‬
‫يلح عليه أن يدخل بيته ليتحدثا ‪ ،‬كانت المرة الولى التي يدخل فيها هذا البيت‬
‫‪ ،‬تمنى رؤية ريم و لكن الب فتح له غرفة الصالون و استأذنه دقيقة عاد‬
‫بعدها يحمل صينية الشاي ‪ ،‬قدم له كوبه و هو يقول ‪:‬‬
‫أستاذ سعيد •• تفضل •• أرجو أل أكون قد فوت عليك عمل ما في هذه‬
‫الظهيرة ••‬
‫ل ل أبدا يا عم جهاد ••‬
‫اسمع يا بني منذ أن تفضلت و قلت أنه بامكانك الحاق ريم بالجامعة و أنا‬
‫أفكر مع أم العيال في الطريقة التي نجمع بها المال من أجل هذا الهدف‬
‫الذي نحلم به •• وضع سعيد كوب الشاي و هم بالكلم ‪ ،‬لكن العم جهاد كان‬
‫متحمسا لكمال ما يريد قوله فأكمل ‪:‬‬
‫و بعد تفكير قررت أن السفر هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنني من خللها‬
‫تحقيق هذا الحلم لولدي تباعا‬
‫و لكن يا عم جهاد ••‬
‫و لكن يا بني أنا أريد أن أعرف الن ماذا تم بهذا الخصوص ‪ ،‬فلدي فرصة‬
‫للسفر الى السعودية بعد شهرين من الن صديقي الحاج محمود وفرها لي‬
‫مشكورا ‪ ،‬سأعمل هناك في البناء أيضا براتب كبير ‪ ،‬حوالي ألف جنيه ‪ ،‬هكذا‬
‫قال لي الحج محمود ‪ ،‬و أنا أريد منك تأكيدا ••‬
‫نعم يا عم جهاد و لكن ••‬
‫يا بني الجامعة حلم ريم الدائم ‪ ،‬و أنا ل أريد أن أثقل علــيك ‪ ،‬فقط أجبني‬
‫هل هو ممكن ام ل ؟ ترك سعيدا كوبه و نهض قائل ‪:‬‬
‫في أقـــرب فرصـــة سأخبرك بكــل شيء ‪ ،‬لقد ســرت بعــض الخطوات‬
‫في هذا الموضوع و عندما أنتهي سوف أخبرك بكل شيء‬
‫بارك الله فيك يا بني ‪ ،‬بارك الله فيك ‪ ،‬اجلس نتغدى سويا •• لكن سعيد‬
‫لم يجلس ‪ ،‬لقد خرج مسرعا و كأنه كان في الجحيم ‪ ،‬لمح ريم و هو يغلق‬
‫الباب خلفه ‪ ،‬لمح عيونها ‪ ،‬تلك العيــون التي حيـــرته كثيرا منــذ اللحظة‬
‫الولى ‪ ،‬رأى فيها أمل و رجاء و اعتماد •• خرج مســـرعا ل يلـــوي على‬
‫شيء فتح باب منزله و نظر لمــرآة الباب و صاح بغضب ‪:‬‬
‫كاذب ‪ ،‬كاذب •• *** نزل خبر سفر الب المزمع على رأس ريم‬
‫كالصاعقة ‪ ،‬رفضته منذ اللحظة الولى ‪ ،‬توسلت إليه أل يفعل ‪ ،‬قالت أنها‬
‫راضية تماما بتعليمها إلى هذا الحد ‪ ،‬دللت على أن المر عادي بصديقتها‬
‫سوسن ‪ ،‬لكن الب اكتفى بقوله ‪:‬‬
‫سوسن مصرية و أنت فلسطينية •• توسلت إلى أمها أن تثنيه عن قراره ‪،‬‬
‫تحدثت الليالي الطوال إلى أخيها عن غول الغربة الذي سيقتحم حياتهم اذا‬
‫سافر الب في غربته الثانية ‪ ،‬بـــكت ‪ ،‬تــوسلت ‪ ،‬ألحت ‪ ،‬صــلت و دعت‬
‫الله كثيرا و لكن أباها لم يستجب ‪ ،‬لقد قرر و انتهى ••‬

‫و عندما دخل سعيد بيتهم تلك الظهيرة مع أبيها شعرت أنها تريد أن تقتله ‪،‬‬
‫وقفت على باب غرفة الصالون تستمع إلى الحديث ‪ ،‬بدا و كأنه حديث من‬
‫طرف واحد ‪ ،‬أبوها فقط يتحدث و سعيد يقول "و لكن " حنقت عليه أشد‬
‫الحنق ‪ ،‬إنه هو السبب ‪ ،‬ليته يستطيع أن يثنيه عن قراره ‪ ،‬ليته يكمل " و لكن‬
‫" بحديث طويل يقنعه فيه أن غربته عن أولده ثمنا كبيرا جدا على تعليم‬
‫الولد ‪ ،‬تمنت أن يقول له أنه كان يكذب و أن الجامعة كذبة كبيرة اتخذت‬
‫شكل البومة و لعبت لعبتها البدية في تفريق الشمل و بعثرة السرة ‪ ،‬لكنه‬
‫لم يقل ‪ ،‬و حين خرج ‪ ،‬ل تدري لماذا نطقت عيونها بالتوسل بدل عن الغضب‬
‫الذي كان يغلي داخلها ‪ ،‬و تساءلت ‪:‬‬

‫هل فهم •• هل سيحاول •• لبد أن يفهم ‪ ،‬لبد أن يحاول و هي ستقنعه‬


‫بذلك •• حزمت أمرها و انتظرته في اليوم التالي بجوار منزله ‪ ،‬في نفس‬
‫المكان حيث رآها للمرة الولى ‪ ،‬عندما أقبل عليها بدا للوهلة الولى غير‬
‫مصدق ‪ ،‬ثم تحولت ملمحه إلى البتسام تعبيرا عن سروره ‪ ،‬لكنه ما أن‬
‫اصبح في مواجهتها بوجهها الحانق حتى انقلبت ملمحه رأسا على عقب ‪،‬‬
‫وقف واجما و لم يعرف ماذا يقول و بادرته هي ‪:‬‬
‫أستاذ سعيد ‪ ،‬أريد أن أتحدث معك كلمتين لو سمحت •• ابتسم مجددا و‬
‫لكن بحذر و دعاها للكلم قالت ‪:‬‬
‫ينبغي أول أن أشكرك على عرضك الكريم على أبي بإلحاقي بالجامعة ‪،‬‬
‫لكنني أريد منك أمرا لو سمحت •• بلع غصة قريبة و ظن أنها ستطلب منه‬
‫مثلما طلب أبوها السراع في المجيء بالرد لذا هم بالكلم ‪:‬‬
‫لقد قلت لبيك •• قاطعته ‪:‬‬
‫دع عنك أبي الن ‪ ،‬أنا صاحبة القضية ‪ ،‬و أنا من تعنيها بالمقام الول ‪ ،‬و‬
‫بقدر اشتياقي و رغبتي الحقيقية في اللتحاق بالجامعة ‪ ،‬و بقدر أمنيات أبي و‬
‫رغبته العارمة في تعليمنا حتى آخر التعليم العالي ‪ ،‬أطلب منك أن تعدل عن‬
‫خدمتك و أن تخبر أبي انك كنت تكذب عليه و ل تستطيع خدمتنا بهذا‬
‫الخصوص •• بلع ريقه و نظر إليها و الدهشة تكسو كل ملمحه ‪ ،‬ماذا تطلب‬
‫هذه الشابة ؟•• ترجم دهشته في كلمة استنكار بدت حقيقية جدا ‪:‬‬
‫أنا كاذب ؟ تلعثمت ريم لكنها سرعان ما استعادت قوتها و قالت ‪:‬‬
‫آسفة •• لم أقصد ما قلت حرفيا و إنما اردت إبلغك أنك بهذا الحلم الذي‬
‫دخلت به حياتنا أعملت معولك في هدمها •• أشاحت بوجهها تخفي دمعة ‪،‬‬
‫ثم نظرت إليه و ملمحها تحمل رجاء و استعطاف و قالت ‪:‬‬
‫أبي سيسافر و يتركنا من أجل هذا الهدف•• شيء يشبه الزلزال تحرك‬
‫داخله ‪ ،‬شيء ما هزه حتى العماق ‪ ،‬تمنى لو يأخذ هذه المخلوقة في حضنه‬
‫و يعتصرها بين يديه ‪ ،‬تجاوبا مع نظرة الستعطاف ‪ ،‬تمنى لو أمكنه حتى أن‬
‫يمد يده فيمسح دمعتها الخجول ‪ ،‬صمت قليل ثم قال ‪:‬‬
‫لكنه هدف نبيل و يستحق الكفاح •• صاحت ‪:‬‬
‫أنت ل تفهم ‪ ،‬ل يمكن أن تفهم معنى غربة أبي الثانية •• أنت لن تفهم ‪،‬‬
‫لن تفهم •• لم تستطع أن تكمل ‪ ،‬بدأت دموعها تغلبها ‪ ،‬و لمح هو اللؤلؤ‬
‫يتساقط بسرعة غريبة من عيونها ‪ ،‬كانت عيناها مفتوحة و دموعها بل صوت‬
‫لكن النشيج كان في قلبه ‪ ،‬و السى ملك عليه نفسه همس ‪:‬‬
‫اهدئي أرجوك ••‬
‫ستخبر أبي أنك لم تسطع عمل شيء و أنني ل يمكنني الدراسة في‬
‫الجامعة ؟‬
‫سأفعل ••‬
‫وعد ؟‬
‫اعتبريه كذلك ••‬
‫أشكرك •• و مثلما حدث في اللقاء الول في نفس المكان انسلت من‬
‫أمامه كالطيف و غابت في انعطافة منزلهم و هي تحدث نفسها ‪:‬‬
‫ربما ينجح هو فيما فشلنا فيه ••‬

‫*** ذلك المساء كان مميزا جدا فقد جاء سعيد إلى منزل العم جهاد بنفسه و‬
‫بدون دعوة ‪ ،‬طرق الباب و عندما فتح له قاسم سلم عليه كرجل راشد و‬
‫سأله عن أبيه ‪ ،‬فأدخله قاسم الصالون و نادى أباه و أخبره عن الزائر الغريب‬
‫فنهض الب مبتسما و طلب من أم العيال أن تعد الشاي بسرعة ‪ ،‬كان سعيد‬
‫يرتدي ملبس أنيقة صيفية ‪ ،‬حليق الذقن تنبعث منه رائحة ذكية ‪ ،‬و كان‬
‫مبتسما ‪ ،‬سلم على العم جهاد بحرارة و جلس و بادر فورا بالكلم ‪:‬‬

‫عم جهاد ‪ ،‬لقد تحدثت اليوم مع النسة ريم بشأن تعليمها و سفرك ••‬
‫عقدت الدهشة لسان الب و هم بالحديث فعاجله سعيد ‪:‬‬
‫ل أحب أن ألف و أدور كثيرا ‪ ،‬لقد وجدت النسة ريم بانتظاري أمام البيت‬
‫في الشارع ‪ ،‬رجتني أن أثنيك عن عزمك على السفر و أعلنت أنها ل تريد‬
‫إتمام تعليمها ‪ ،‬طلبت مني أن أخبرك أنني كاذب و أنني ل يمكنني إلحاقها‬
‫بالجامعة لكي تتنازل عن فكرة السفر ‪ ،‬لذا آمل منك أن تتكرم بدعوة النسة‬
‫ريم لنناقش الموضوع معا و بمنتهى الصراحة لنخلص إلى رأي يرضي جميع‬
‫الطراف و يريحني من عقدة ذنب أبت كريمتكم إل أن تحملها لي ‪ ،‬فهل هذا‬
‫ممكن ؟ كان الب ما زال غير مصدق لما يسمع ‪ ،‬غير موقن أساسا أنه سمع‬
‫هذه العبارات ‪ ،‬ابنته ريم تقابل هذا الرجل و تتحدث معه ‪ ،‬ماذا حدث ••؟!‬
‫أسرع الب فنادى زوجته و ابنته ‪ ،‬كان يبدو عليه الغضب ‪ ،‬جاءت الم و البنة‬
‫و في أثرهم قاسم و حتى سمر الصغرى جاءت ‪ ،‬قالت الم بلهفة ‪:‬‬
‫ماذا حدث يا أبا قاسم ؟ قال الب و هو ينظر إلى ريم بغضب ‪:‬‬
‫ابنتك قابلت الستاذ و طلبت إليه أن يثنيني عن السفر •• أليس كذلك يا‬
‫ابنة عمري ‪ ،‬أليس كذلك ؟ نهض الستاذ سعيد بسرعة و توجه إلى الب و هو‬
‫يقول ‪:‬‬
‫اهدأ يا عم جهاد ‪ ،‬اهدأ و أخبرني ما الذي يضايقك •• إذا كان ما يضايقك‬
‫هو مقابلة النسة ريم لي فقد تمت في الشارع و على مرأى كل من فيه و‬
‫أنت تسعى للحاقها بالجامعة و هناك سوف تكلم الكثير من الرجال سواء‬
‫أكانوا أساتذة أو زملء ‪ ،‬ما الفرق ؟ أما إذا كان ما اغضبك هو أنها سألتني‬
‫منعك من السفر فهذا لنها خائفة من فراقك لهم و ل تريد هذه الغربة ••‬
‫جلست سميحة بجوار زوجها و ربتت عليه و هي تقول ‪:‬‬
‫نعم يا أبا قاسم ‪ ،‬و لقد حكت لي ريم كل شيء و لم أجد غضاضة فيما‬
‫فعلت ‪ ،‬ابنتنا مرباة و مؤدبة و نحن نثق بها أليس كذلك يا أبا ريم ؟ تطلع الب‬
‫نحو ريم و غمامة غضب صغيرة جرداء تلوح في عيونه ‪ ،‬في الحقيقة كان‬
‫عتابا أكثر منه غضبا ‪ ،‬تقدمت ريم بهدوء و نظرت إلى الرض و هي تقول ‪:‬‬
‫أنا حقا آسفة يا أبي ‪ ،‬كنت أريد منعك من السفر بأية طريقة ••‬
‫و لماذا لم تكلميني أنا ؟ لماذا لم تخبريني أنا ؟ ألست أباك و موطن‬
‫أسرارك ‪ ،‬مصب أمنياتك و محقق أحلمك ؟ ألست هو يا ريم ‪ ،‬ما الذي تغير‬
‫يا ابنة جهاد ‪ ،‬ما الذي تغير ؟ جثت ريم على ركبتيها أمام أبيها و أمسكت يديه‬
‫و مالت فقبلتهما و قالت ‪:‬‬
‫و ستظل دوما واحتي و الوطن أيها الب الحبيب ‪ ،‬ستظل دائما مرفئي و‬
‫بيتي و بئري الذي منه أرتوي •• إنما هي محاولة رجوت لها النجاح •• رفع‬
‫الب رأسها و تطلع اليها و قال وهو يكز على أسنانه ‪:‬‬
‫لماذا ؟ لماذا ‪ ،‬آلف غيري يسافرون ‪ ،‬و ربما كانت أهدافهم أقل قيمة من‬
‫هدفي ‪ ،‬إنهم يبحثون عن بيت أوسع و أرض أكبر و تجارة ل تبور ‪ ،‬بينما أبحث‬
‫عن وسيلة أؤمن لكم بها العلم ‪ ،‬سلحكم الوحيد في مواجهة الزمن من‬
‫بعدي ‪ ،‬أنا ل أريد لنفسي شيئا ‪ ،‬ل أحلم بأكثر مما أنا فيه ‪ ،‬لكنني أريد الدنيا‬
‫لكم ‪ ،‬الحياة الكريمة •• رفعها من على الرض و أجلسها بجواره و أكمل‬
‫فيما الجميع يشاهد صامتا ‪:‬‬
‫أنتم كنزي يا ابنتي و سفري ليس تضحية ‪ ،‬إنه رسالة تكتمل و أيام تمر‬
‫بسرعة إن شاء الله و أحلم تتحقق •• شدت ريم على يد أبيها و قالت و هي‬
‫تغالب دموعها ‪:‬‬
‫لكنني ل أريد لغربتك أن تصبح أكبر و ل أريد لعذابك أن يطول ‪ ،‬ل أريد‬
‫لمنا و لنا الوحدة بدونك ‪ ،‬ل أريد ‪ ،‬بل ل أحتمل أن أصحو ‪ ،‬و أنت غير موجود‬
‫بيننا ‪ ،‬أن أحتاجك فل أجدك ‪ ،‬أن أمد إليك يدي فل تحتـــويها و تحــتــويني ‪ ،‬يا‬
‫أبي إذا سافرت يضيع المان ‪ ،‬و إذا تركتنا حتى و إن تحققت الحلم ستكون‬
‫مجروحة ‪ ،‬مصبوغة بعرق الغربة و ليالي التعب و الفراق ‪ ،‬كيف نهنأ بها و هي‬
‫من بعض دمك ‪ ،‬كيف ؟ تنحنح سعيد و قد غلبه التأثر فلمعت عيناه لكنه قال ‪:‬‬
‫ل أملك أمام هذا الموقف إل أن ألغي فكرة التعليم ‪ ،‬أنا أقول لبيك يا ريم‬
‫كما طلبت أنني كاذب ‪ ،‬ليس لدي أية وسيلة أساعدكم بها •• نهض الب‬
‫مسرعا ‪ ،‬أمسك يده بحرارة قال‪:‬‬
‫ل •• ل يا أستاذ سعيد ‪ ،‬ل تتخذ هذا الموقف ‪ ،‬ل تبال بما سمعت ‪ ،‬إنهم‬
‫صغار و أنا ذاهب و هم قادمون ‪ ،‬و عندما يكبرون على دنيا ليس فيها أبوهم و‬
‫ليس لهم فيها ميراث يستندون عليه ‪ ،‬لن يكونوا سعداء بهذا المــــوقف ‪ ،‬و‬
‫لن أكــــون راضيا عن كفاح عمري •• ل يا أستاذ سعيد ‪ ،‬أمض في اجراءتك‬
‫و سأمضي في اجراءاتي علنا في النهاية نصل الى نقطة تتلقى فيها الهداف‬
‫و أنطلق منها إلى تحقيقها •• و نظر إليه متوسل ‪ ،‬همس و هو ما زال يضغط‬
‫على يده ‪:‬‬
‫أرجوك •• ران صمت طويل على الجميع ‪ ،‬نظر سعيد إلى ريم مطول ‪،‬‬
‫كانت تنظر في الرض تحرك قدمها فوق أشكال البساط الهندسية ‪ ،‬يدها‬
‫منعقدة خلف ظهرها و في ملمحها تجمع ألم الدنيا ‪ ،‬منظر أعاد إليه الرغبة‬
‫ذاتها في أن يعتصرها و يهدهد قلبها و يطمئنها على غد تخافه و مجهول تشعر‬
‫أنه يتربص بها •• ل يدري لماذا شعر أن إحساسا بالمسئولية يترسخ في ذاته‬
‫تجاه هذه السرة ‪ ،‬لم تعد ريم فريسة يريد اقتناصها و لكن ضعيفة يريد‬
‫حمايتها ‪ ،‬حزينة يريد إسعادها ‪ ،‬وحيدة يريد أن يمل عليها أيامها ‪ ،‬نظر إليها‬
‫طويل يطبع ملمحها في وجدانه ‪ ،‬يكرس مشاعره نحوها ‪ ،‬يجمعها من شتاتها‬
‫البعيد ليصبها في مجرى أيامها و عندما طال الصمت تنهد و قال ‪:‬‬
‫و الن ماذا قررتم ؟‬

‫رفعت ريم وجهها إلى أبيها و رفع الب وجهه إليها ‪ ،‬كانت الرغبات المتعارضة‬
‫لول مرة تتضافر تشكل لحمة ‪ ،‬وشيجة ‪ ،‬تؤصلها أكثر ‪ ،‬تغرسها في أرض ل‬
‫يراها إل هما و ل يحسها إل أب قرر التضحية حتى آخر نفس و ابنة ترفض هذا‬
‫العذاب •• و صمتا كلهما فتكلمت الم ‪:‬‬
‫على بركة الله يا أستاذ سعيد ‪ ،‬جهاد زوجي و أعرفه إذا قرر أمرا •• مخ‬
‫فلسطيني عنيد •• و ليكن دعاؤنا أن يقصر الله ليالي غربتنا و يحقق أهدافنا‬
‫بها •• نهض الب مبتسما و أمسك يدي زوجته و قال ‪:‬‬
‫بارك الله فيك يا أم العيال ‪ ،‬و صبرك على المـــخ الفلسطيني العنيد ‪ ،‬يا‬
‫رفيقة الكفاح و العمر الذي مضى و العمر القادم ‪ ،‬إنني أعتمد عليك بعد الله‬
‫كثيرا •• انسحب الجميع من الغرفة بهدوء و ظل الب جالسا على طرف‬
‫الريكة و سعيد واقفا ينظر إليه و سمعه يقول ‪ - :‬كم أخاف عليكم يا أحبائي‬
‫•• ما أقسى أيامي بدونكم ••‬

‫مال عليه الستاذ سعيد و ربت على كتفه و قال بصدق ‪:‬‬

‫هم أهلي منذ الن يا عم جهاد و لن يصيبهم مكروه طالما في صدري نفس‬
‫يتردد ‪ ،‬فل تقلق ••‬
‫*** كان الشغل الشاغل لسعيد بعد هذه المسية الغريبة ‪ ،‬أن يحقق ما وعد‬
‫به الب ‪ ،‬و في سبيل ذلك ذهب إلى وزارة التعليم و سأل عن الطريقة التي‬
‫يمكن لفلسطينية إكمال تعليمـــها العـــالي و دهش عنـــدما عـــرف أن‬
‫للفلسطنيــين نسبـــة ‪ %5‬في مقاعد الدراسة و ازدادت فرحته بهذا النبأ‬
‫عندما وجد أحد معارفه القدامى في الوزارة ‪ ،‬يرشده على طريقة التقديم و‬
‫يعده أن يكون مع الورق حين يذهب إلى مكتب التنسيق بعد ثلثة شهور ••‬
‫كانت المور تجري على خير ما يرام ‪ ،‬بل على أكثر مما توقع ‪ ،‬تحمل سخرية‬
‫صديقه و هو يراه مهتما بهذه الفتاة و لم يصدق أن هذا الهتمام ل يعدو كونه‬
‫عمل إنسانيا في المقام الول قال له ‪:‬‬
‫أنا أعرف ذوقك تماما و أعرف أيضا أن الفلسطنيات جميلت ‪ ،‬فإذا كانت‬
‫هذه الفتاة على درجة الجمال التي أتوقعها فإنني لن أخذلك أبدا ‪ ،‬ناهيك عن‬
‫أن معظم الفلسطنيين ل يتقدمون لكمال دراستهم لقلة المعلومات عندهم و‬
‫لقلة ذات اليد في أحيان كثيرة و لذا فإن مقاعد الدراسة في نسبتهم المقررة‬
‫سنويا يبقى أكثر من ربعها فارغا •• فاطمئن ‪ ،‬حبيبة القلب ستجد مقعدا ••‬
‫همس سعيد مستبشرا ‪:‬‬
‫إن شاء الله •• و عندما سار في اتجاه منزلهم ليخبرهم بالبشرى ‪ ،‬كان‬
‫يحدث نفسه بأن صديقه هذا ل يفهم و لن يفهم ‪ ،‬ثم فجأة سأل نفسه ‪ :‬و ما‬
‫الذي تفهمه أنت ‪ ،‬ما الذي يدفعك إلى كل هذا ‪ ،‬لماذا تفرغت للسؤال ‪ ،‬هل‬
‫هو الخجل من أن أبدو كاذبا أمامهم ‪ ،‬و ماذا يعنيني في هـــذا ‪ ،‬يا جاري أنت‬
‫في حالك و أنا في حالي •• أم هي عيونها الحزينة ؟ إذن هي الشفقة أيها‬
‫الرجل ؟ •• ل ليست الشفقة ‪ ،‬ليس في حياتهم ما يدعو للشفقة ‪ ،‬لم يمدوا‬
‫يدهم ليستجدوا إحسانا ‪ ،‬أنت من عرضت و أنت من فكرت ‪ ،‬و بناء على‬
‫عرضك و قرارك سيسافر الب ‪ ،‬هل هو الحساس بالذنب ‪ ،‬ل •• فكما قال‬
‫الب كثيرون يسافرون ‪ ،‬و ربما كان سفره فاتحة خير عليه و عليهم ‪ ،‬إذن ما‬
‫هو ‪ ،‬ما الذي يدفعك إلى كل هذا العناء ••؟ عندما اقترب من الشارع تمنى‬
‫أن يراها ‪ ،‬ثم أنب نفسه بسرعة ‪:‬‬
‫و لماذا هي بالذات •• بعد دقائق سوف ترى الب و تخبره أنك لم تكن‬
‫كاذبا و تبشره بأن ريم ستلتحق بالجامعة إن شاء الله ‪ ،‬و لكن •• ليتها تفتح‬
‫على القل الباب !! لم يتحقق له ما تمنى و عوضا عن ذلك فتح الب الباب ‪،‬‬
‫بدا و كأن ليلة سهد طويلة عاشها البارحة ‪ ،‬كان ذابل ‪ ،‬داكن البشرة ‪،‬‬
‫مشوش الرأس و في فمه سيجارة كأنه يمضغها ‪ ،‬ابتسم فور رؤيته للستاذ‬
‫سعيد و نزع السيجارة و فتح باب الصالون و أدخله مصحوبا بعبارات الترحيب‬
‫المعتادة و عندما أطفأ سيجارته في المطفأة ‪ ،‬كان سعيد يبادره بقلق ‪:‬‬

‫ما بك يا عم جهاد ؟ هز رأسه نافيا أن يكون هناك شيء و لم يقو على‬


‫الكلم ••شعر سعيد بقلق مفاجيء ‪ ،‬انتظر قليل قبل أن يعاود السؤال ‪ ،‬و‬
‫لدهشته فوجيء بالب يبكي •• نعم هكذا فجأة انخرط الرجل العجوز في‬
‫بكاء غريب ‪ ،‬كانت كل أعضاؤه تتحرك حركة قوية ‪ ،‬ترتفع اكتافه و يغوص‬
‫رأسه بين ذراعيه و و يعلو ظهره و ينخفض •• كان الرجل يحاول إسكات‬
‫نفسه ‪ ،‬يكتم أنفاسه ‪ ،‬يقاوم نهنهاته ‪ ،‬و سعيد واقف ل يدري ماذا يقول ••‬
‫وحد الله يا عم جهاد ‪ ،‬وحد الله يا رجل •• أين زوجتك ‪ ،‬أين ريم ؟ نريد‬
‫كوب ماء •• قال الب و هو يهز رأسه ‪:‬‬
‫ل أحد هنا ذهب الجميع إلى السوق ••‬
‫سأحضرها بنفسي إذن •• هم الب أن يمنعه إل أنه كان أضعف من ذلك‬
‫فربت سعيد على يده و خرج من الغرفة •• لول مرة يرى منزل ريم من‬
‫الداخل ‪ ،‬خمن موقع المطبخ و توجه إليه مباشرة ‪ ،‬جلب ماًء من البراد و‬
‫لفت نظره و هو في طريقه للخروج باب الغرفة التي تطل على شرفته ••‬
‫لبد أنها غرفة ريم ••‬

‫شيئا ما أقوى منه دفعه إلى دخول الغرفة بخطوات حذرة كأنه يدخل صومعة‬
‫راهب •• أول ما لفت نظره كان فراشها •• كان مرتبا و عاديا ‪ ،‬إل أن شيئا‬
‫فيه أعجبه ‪ ،‬شيء ل يراه البشر ‪ ،‬مد يده تحسسه •• ثم لفتت انتباهه اللوحة‬
‫المعلقة على الحائط فوق السرير ‪ ،‬كانت لمنظر طبيعي وقت الغروب ‪ ،‬و‬
‫رغم أن اللوحة كانت ترسم بدقة هذا المنظر إل أن شيئا مخيفا كان فيها ••‬
‫إحساس بالرهبة يشعر به من ينظر إليها ل يدري مبعثه ••‬
‫هذا رسمها •• التفت بسرعة إلى الب الذي كانت يده تسكن كتفه و‬
‫نظرة لوم صغيرة تقبع في عيونه المغسولة بالدموع للتو •• ارتبك سعيد أيما‬
‫ارتباك و اهتز كوب الماء في يده فسقطت منه بضع قطرات على الرض ‪،‬‬
‫مسحها بحذائه و لم يدر ما يقول فآثر الصمت‬
‫هنا كل مملكة ريم ‪ ،‬إنها ترسم أحيانا من الصباح إلى المساء ‪ ،‬انظر هذا‬
‫حامل الرسم الذي ترسم عليه •• توجه الب إلى الحامل بخطوات واهنة و‬
‫رفع الغطاء بأصابع مرتجفة و قال‪:‬‬
‫تأمل معي •• وقف سعيد يطالع الرسم أمامه ‪ ،‬كانت خطوط مبدئية‬
‫بالفحم لفتاة منهكة تعتلي جبل عال و عند السفح بحيرة صغيرة نبت الصبار‬
‫على جانبيها و عند القمة سحابة مثقلة •• أشار الب على البحيرة و قال ‪:‬‬
‫هذه ليست بحيرة ‪ ،‬إنها سراب •• هز سعيد رأسه و قال ‪:‬‬
‫لحظت الصبار •• جلس الب على حافة السرير و قال كأنه يكمل حديثا ‪:‬‬

‫هذه اللوحة ترسم حلما شاهدته ريم قبل فترة •• لم انتبه إنه يصلح لوحة‬
‫•• مد سعيد كوب الماء إلى الب مبتسما فأخذه منه و تبلغ ببعضه و ظل‬
‫الكوب في يده ‪ ،‬قال سعيد ‪:‬‬
‫لماذ كنت حزينا يا عم جهاد ؟ أطرق العم جهاد قليل و تطلع حوله ثم نهض‬
‫و قال لسعيد ‪:‬‬

‫تعال •• سأعد شايا ••‬

‫توجه كلهما إلى المطبخ ‪ ،‬كان العم جهاد يعرف مكان كل شيء بالضبط ‪ ،‬و‬
‫عندما فتح خزانة المطبخ ليخرج منها الكواب تنهد و قال ‪:‬‬
‫أنا صنعتها •• هذه الخزانة ‪ ،‬و طقم الصالون و سرير ريم و سرير قاسم و‬
‫حتى طاولة التلفاز ‪ ،‬تلك في واجهة الصالة •• أومأ سعيد برأسه و قال ‪:‬‬
‫فنان و الله يا عم جهاد ‪ ،‬إنها قطع جميلة و متينة •• ليس مــستغربا أن‬
‫تكون ريم فنانة و هي ابنتك •• ربت الب على كتف سعيد ممتنا للمجاملة و‬
‫صب الشاي و تقدمه في الخروج و التجاه إلى غرفة الصالون ‪ ،‬و عندما وضع‬
‫الشاي على الطاولة و تناول كل منهما كوبه قال العم جهاد ‪:‬‬
‫خيرا يا بني ؟ ابتسم سعيد مرة اخرى و قال ‪:‬‬
‫بل هو كل خير إن شاء الله ‪ ،‬وجدت من يساعدني في تقديم أوراق ريم‬
‫للعام الدراسي الجديد ‪ ،‬و لقد وعدني خيرا و عنـدما يحين موعـــد التقديم‬
‫ســأكون معها و إن هي إل أيام و تظهر النتيجة و إذا ريم طالبة جامعية كما‬
‫تمنيت •• ابتسم الب ممتنا و قال ‪:‬‬
‫على بركة الله •• أتعبناك معنا يا أستاذ سعيد و شغلناك بهمومنا •• هز‬
‫سعيد رأسه رافضا الكلمة و قال بصدق ‪:‬‬
‫ل تقلها يا عم جهاد ‪ ،‬أنت مثل أبي و أولدك إخوتي ••‬
‫بارك الله فيك يا بني ‪ ،‬و أعطاك على قدر نيتك ••‬
‫عم جهاد •• إذا سمحت لي ما الذي أحزنك حد البكاء ‪ ،‬لقد أفجعتني ••‬
‫ابتسم الب ابتسامة صغيرة حزينة و قال ‪:‬‬
‫لو شاهدوني لماتوا رعبا ‪ ،‬كانت الفرصة الوحيدة لي للتنفيس عن‬
‫مشاعري ‪ ،‬خروجهم للسوق أتاح لي أن افعل ما كنت أقاومه و بشدة ••‬
‫و لكن لماذا الحزن يا عم جهاد ‪ ،‬إذا كنت ل ترغب في السفر ابق و‬
‫مصاريف الدراسة يدبرها الله ••‬
‫أنت ل تفهم يا أستاذ سعيد ‪ ،‬أنا ل أسافر من أجل مصاريف قد أستطيع‬
‫تدبيرها إذا بقيت ‪ ،‬إنني أذهب و أنا أعلم تمام العلم أن أمامي دربا طويل‬
‫طويل ‪ ،‬دربا تأخرت عن المشي فيه بسبب نوازع العاطفة و رغبتي في عدم‬
‫ترك أولدي ‪ ،‬و أسلكه اليوم بسبب نوازع العاطفة أيضا و بسبب العقل ••‬
‫قدر محتوم ظللت أخافه و أهرب منه و أتحاشاه قدر المكان لكــــن آن‬
‫الوان أن أرضـــــخ له و أن أترك سيـــفه يجتز أمني و استـقراري و راحتي‬
‫•• قاسم في الصف الول ثانوي ‪ ،‬هل تعرف ما يعنيه هذا ؟‬
‫بقي له عامان و يدخل الجامعة ••‬
‫بالضبط ‪ ،‬لن تكون ريم قد أكملت دراستها ‪ ،‬و ستتضاعف المسئولية •• و‬
‫سمر هذه الصغيرة بعد عام بدورها ستدخل المدرسة ‪ ،‬مدرسة خاصة‬
‫مصاريفها فوق القدرة و الحتمال ‪ ،‬لكنني لن أحرمها حقها في العلم ‪ ،‬أولدي‬
‫يا أستاذ سعيد هم الشيء الحقيقي الوحيد الذي منحه الله لي •• الشيء‬
‫الذي ل ينازعني على ملكيـته مخلوق ‪ ،‬الوطن الذي ل ينتمي إل لي و ل أنتمي‬
‫إل له ‪ ،‬و من حقهم أن أبذل من أجلهم كل غال و نفيس ••‬

‫لكنك بذلت بالفعل ••‬


‫مازالوا بحاجة لبذل المزيد •• نهض العم جهاد واقفا و ‪ ،‬استشرف من‬
‫باب الصالون منزله ‪ ،‬كان يمسك بيده حاجز الباب كأن الحاجز يسنده ‪ ،‬تكلم‬
‫إلى ل أحد قال بصوت واهن ••‪:‬‬
‫في هذا البيت عشت عشرين عاما ‪ ،‬دخلته بالضبط يوم تزوجت سميحة‬
‫عام ‪ ، 66‬كان إيجاره تلك اليام ‪ 561‬قرش صاغا •• ارتفع مرتين فقط خلل‬
‫هذه السنين و توقف منذ أكثر من عشر سنوات على ثلثة جنيهات و نصف‬
‫•• تعمدت أن يكون زواجي في اليوم الول من العام الجديد لكي اؤرخ به‬
‫لنفسي ‪ ،‬لقــــول أنني أعلنــت دولتي في هـــذا العام و أرسيت رايتي في‬
‫هذا اليوم •• ضحكت سميحة كثيرا وقت أن أخبرتها بهذا الكلم ‪ ،‬كانت‬
‫عروسا جميلة ‪ ،‬جميلة جدا ‪ ،‬كانت فوق أحلمي لول كرم عم صابر يرحمه‬
‫الله معي آنذاك ‪ ،‬و كرمها هي •• لقد تزوجت غريبا ‪ ،‬أرضه منهوبة و ل‬
‫يعرف متى سيكون له وطن •• تزوجت إنسانا مثقل بهموم الفراق ‪ ،‬يقيده‬
‫شوق ل منتهي إلى أم و أب و إخوة تفرقوا ذات يوم ‪ ،‬أتصدق يا أستاذ سعيد‬
‫•• و إلتفت إليه كان سعيد يطالعه بحنان و إصغاء كامل ‪ ،‬أكمل ‪:‬‬
‫أنا ل أزوج ابنتي لشخص مثلي لو كنت في ظروفهم •• هذا صحيح ••‬
‫لكنهم فعلوها ‪ ،‬فلماذا إذن ضحكت سميحة يوم أخبرتها أنني صار لي وطن‬
‫بزواجنا ••؟ ضحك ضحكة صغيرة و فرك يديه و أكمل ‪:‬‬
‫السفر أمر أريده و يحتمه الواقع و مصلحة البناء ‪ ،‬و لكنه قاس ‪ ،‬مر ‪،‬‬
‫يعني فراقا جديدا في حياة إنسان الفراق نصيبه منذ خلقه الله ••أتدري يا‬
‫أستاذ سعيد ••؟ تطلع إلى وجهه مليا ‪ ،‬لكنه لم يكن يرى ملمح ‪ ،‬لم تسجل‬
‫ذاكرته في تلك اللحظة إل شكل هلميا كان يعيش داخله منذ سنين ‪ ،‬قال‬
‫بصوت واهن ‪:‬‬
‫اليوم فقط شعرت أن أبي مات •• أحن إليه كثيرا •• أشعر أنني كنت‬
‫عاقا عندما تركته يموت في أرض غريبة و لست معه ‪ ،‬علمت بخبر وفاته بعد‬
‫سنة كاملة من موته ‪ ،‬مثلي مثل الغريب •• عندما أعلنتها حدادا في المنزل ‪،‬‬
‫لم يفهم الصغار لماذا عليهم ان يطفئوا التلفاز و الراديو و لماذا تلبس أمهم‬
‫السواد ‪ ،‬عندما حدثتهم عن أبي ظنوا الحديث عن جدهم صابر يرحمه الله و‬
‫قالوا أنه مات منذ زمن بعيد فلماذا الحزن الن •• لم أكمل أيام الحداد‬
‫الثلث •• قطعتها لنني وجدت نفسي سخيفا ‪ ،‬لن يشعر هؤلء و هم قطعة‬
‫مني بمقدار حزني فكيف سيشعر به أي معز جاء من قبيل المجاملة و شرب‬
‫القهوة السوداء على روح رجل ل يعرفه •• تعاظم يومها شوقي إليه و لكنه‬
‫كان شوقا يشبه أياما كثيرة سبقته و سيشبه أياما كثيرة مقبلة •• و قلت أبي‬
‫لم يمت ‪ ،‬و ليكن الخبر كاذبا •• يوما ما تنتهي سنين غربتي و ارتهاني بعيدا‬
‫عن وطني و سأعود لجد أبي في ساحة دارنا يدخن سيجارته و أمي تصيح‬
‫علينا •• ابتعدوا عن البئر ‪ ،‬يوما ما سيموت أحد أولدنا في هذا البئر ••‬
‫أشعر بذلك •• كانت دائما تقول هذه العبارة ••‬

‫أحس أنني سأعود لجد كل هذا أمامي مجددا ‪ ،‬الجمــــيع ينـــتظرني ‪ ،‬إخوتي‬
‫و أنا و أمي و أبي يرحمه الله •• حلمت كثيرا بعودتي تلك ‪ ،‬و كنت قد قررتها‬
‫مرارا خلل العامين الولين على قدومي هنا ‪ ،‬لكنني كنت اخشى غضبة أمي‬
‫حينما تراني و تعرف انني بعد لم أجد طريقي •• حين جمعتنا بعد سفر أبي‬
‫قالت تفرقوا و ابحثوا عن طريقكم و ل تعودوا إل و كل واحد منكم قد وجد‬
‫طريقه •• خفت أن أعود فتسألني ‪":‬هل وجدت الطريق يا جهاد ؟" فأقول‬
‫لها‪" :‬بعد يا أمي" فتقول ‪":‬و لماذا عدت ؟" فأقول ‪":‬الشوق و الحنين"‬
‫فتقول ‪":‬يا عيب الشوم على الرجال ••" و لم اعد و في ‪ 76‬انتهى آخر أمل‬
‫لي بالعودة ‪ ،‬أصـــبح بحر غزة رهين الحـــتلل بدوره ‪ ،‬و اصبح أختيار العودة‬
‫الذي كنت اراود نفسي عنه و أمنيها به أمرا من الماضي •• هل تصدق هذا يا‬
‫أستاذ •• بيتي و بلدي و أمي و إخوتي على بعد قليل مني و لم أرهم منذ‬
‫عشرين عاما •• عشرين عاما يا أستاذ •• أليس كثيرا هذا الزمن ؟ بل هو‬
‫أكثر من كثير ‪ ،‬أكثر من كثير و الله العظيم ••‬

‫هذه المرة كان البكاء من نصيب سعيد ‪ ،‬كانت دموعه الصامتة تسقط رغما‬
‫عنه ‪ ،‬كان أمامه رجل يتعذب بنبل منقطع النظير ‪ ،‬يعذبه شـــوق وواجب و‬
‫حنين قاهر ‪ ،‬مسؤولية و ذكريات و حياة تريد دوما المزيد ••‬

‫عندما ران الصمت على الغرفة ‪ ،‬لم يجرؤ سعيد على اختراقه ‪ ،‬كان يعلم أن‬
‫جو الغرفة مثقل بكلم أهم بكثير من أية كلمة يمكن أن تقال ‪ ،‬كان يشعر أن‬
‫كلمة واحدة تخرج منه كفيلة بأن تسمه بالسخف طوال العمر ‪ ،‬صمت ‪،‬‬
‫راقب العم جهاد و هو يضع وجهه بين راحتيه ‪ ،‬سمع تنهداته الحرى ‪ ،‬لحظ‬
‫الرتعاشة التي كانت تسري في يديه و يقاومها الرجل فل يستطيع و تغلبه ‪،‬‬
‫فيمعن في دفن وجهه فيهما حتى ل يلمس هو الغريب ضعفا في هذا القوي‬
‫القادم من خلف حدود سيناء ••‬

‫نهض سعيد بعد قليل و سار باتجاه الباب بخطوات متثاقلة ‪ ،‬لم يتطلع خلفه ‪،‬‬
‫كان يريد أن يتنفس هواًء نقيا و كان حسابا عسيرا ينتظره خارج حدود هذا‬
‫البيت ‪ ،‬حسابا لبد أن يقابله بعد أن قابل هذا المطعون في قلبه منذ سنين و‬
‫رغم ذلك لديه القوة على إعطاء أولده بقية من نزف روحه لكي يعيشوا ‪،‬‬
‫عندما فتح الباب و خرج و أغلقه خلفه ‪ ،‬أخذ نفسا عميقا و توجه بخطوات‬
‫سريعة إلى منزله ‪ ،‬فتح الباب ‪ ،‬وقف أمام المرآة لم ينتظر حتى أن يغلق‬
‫بابه صاح لصورته المتأنقة ‪:‬‬
‫تافه ••‬
‫بدا و كأن مشوار السوق لن ينتهي بالنسبة لريم و إخوتها ‪ ،‬فيما حرصت الم‬
‫على دخول كل محل تجد فيه شيئا قد يحتاجه زوجها في غربته •• الثواب‬
‫الفضفاضة الفاتحة اللوان من أجل أخذ راحته بعد عودته للمنزل ‪ ،‬افرولت‬
‫العمل ‪ ،‬المناشف ‪ ،‬الملبس الداخلية ‪ ،‬العطارة ‪ :‬بهارات ‪ ،‬و زعتر و ملح و‬
‫الشيح لزوم البرد و الصابون المصنع من زيت الزيتون فهو ل يحب الشامبو ‪،‬‬
‫و ليفة حمام جديدة و فرشاة أسنان و معجون و فرشاة شعر ‪ ،‬و زيت شعر ‪،‬‬
‫و كانت الم تتلفت على كل محل و تسأل الولد ‪:‬‬

‫هل نسيت شيء؟ فيهزون رؤوسهم فل تقتنع و لبد أن تتذكر شيئا جديدا‬
‫كلما نظرت في واجهات المحلت •• و أخيرا تذكرت الحقيبة التي ستحمل‬
‫كل الشياء ‪ ،‬و عندما استقرت في يد ريم فيما استقرت بقية الغراض‬
‫موزعة بين قاسم و بينها ‪ ،‬شعرت و هي تنظر للحقيبة الكبيرة بغصة فظلت‬
‫تتمتم داخل نفسها بأدعية كثيرة تسأل الله فيها تقصير أيام الغربة و سرعة‬
‫تحقيق الهدف و تستعيذ من أولد الحرام و أفكار سوداء ألحت عليها ••‬
‫ماذا لو مات الرجل في غربته •• ماذا لو تيتم أولدها و هم ما زالوا في‬
‫أمس الحاجة إلى أبيهم يزود عنهم مصائب الحياة ‪ ،‬من سيزوج ريم و من‬
‫سيختار لقاسم كليته و يخطط معه مستقبله ‪ ،‬من سيدلل سمر و يضعها في‬
‫حجره كل مساء و يطعمها بيده و يدافع عنها ضد احتجاجات إخوتها •• من ‪،‬‬
‫و آه من هــــذه المن •• من ســـيشاركها ليلها الطــــويل و فراشها الكبير ‪،‬‬
‫و همومها الصغيرة ‪ ،‬لم تعرف لنفسها منذ مات أبوها أحدا سوى زوجها ••‬
‫لم تعرف حقا معنى الفراق الذي عانى منه زوجها طوبل و تقلب من أجله‬
‫على فراش الشوك سنين عمره كلها ‪ ،‬فهل آن الوان أن تطعمه ‪ ،‬هل‬
‫ستعيش ما بقي لها من أيام تعاني شوقا و حنينا ‪ ،‬لقد كان رجل فلم يكن‬
‫يبكي ‪ ،‬أما هي فهل تملك إل الدموع ‪ ،‬هل ستصبح الدموع سلوتها حتى يعود‬
‫زوجها •• و ما بال الخريات ‪ ،‬نصف نساء الشارع أزواجهن يعملون خارج‬
‫مصر ‪ ،‬لماذا يخيفها عمل الرجل في الخارج و هو المر الذي اعتاد عليه‬
‫الجميع ‪ ،‬هزت رأسها و كأنها كانت تكمل حديثا مع أولدها سمعوها تقول ‪:‬‬
‫و ماذا لو سافر •• إنه ذاهب إلى أطهر أرض •• بلد المصطفى عليه‬
‫السلم •• سيعمل سنة أو سنتين ثم يعود ‪ ،‬و ننسى الغربة ‪ ،‬و يتعلم الولد و‬
‫تصبح الحياة أفضل و ربما صار لنا بيتا نملكه •• أليس كذلك يا أولد ••؟ لم‬
‫يرد احد ‪ ،‬و هي لم تنتظر حتى أن تسمع همهماتهم ‪ ،‬أرخت طرحتها السوداء‬
‫الشفافة على وجهها و كأنها تدرء بها رياحا وقضمت طرفها باسنانها و‬
‫سمحت لدموعها أن تسقط بهدوء •‬

‫***‬

‫أزف موعد الرحيل و هذه الليلة كانت آخر ليلة ‪ ،‬هكذا سماها الب و هو‬
‫يبتسم مشجعا لهل بيته بينما يضع آخر حمولة مما حمله اليوم إليهم من‬
‫السوق ‪ ،‬كل أنواع الطعمة التي تكفي البيت شهرا ‪ ،‬أحضر الدقيق و الرز و‬
‫السكر و الزيت و السمن و حتى علب الكبريت و علب البسكويت التي تحبها‬
‫سمر و الصابون الذي يحتاجه البيت و لحم كثير و خبز أيضا كل شيء أحضره‬
‫الب و حمله معه قاسم قال ‪:‬‬
‫إيه يا أولد ‪ ،‬هذه هي آخر ليلة أبيتها معكم •• هل تحتاجون لشيء بعد ••‬
‫كانت الم و البنة تحملن المواد بين الصالة و المطبخ و الم تقول ‪:‬‬
‫لما كل هذه الغراض ‪ ،‬هل ستنتهي الدنيا فلن نجد قوت يومنا ‪ ،‬أم هل‬
‫سيتوقف العالم عن توفير الحاجيات ‪ ،‬ما كل هذا يا أبا قاسم ؟ و يتمتم الب‬
‫من بين غمامات رهبته المخفية ‪:‬‬
‫ستحتاجون هذه الغراض ‪ ،‬لست أعرف متى سأتمكن من إرسال النقود‬
‫إليكم ‪ ،‬ل أحد يعرف ظروف الغربة الجديدة •• بعد ساعة كان الجميع حول‬
‫سفرة العشاء ‪ ،‬و بدا أن الكل يزدرد طعامه إزدرادا فل يستسيغه و ل يحس‬
‫له طعما ‪ ،‬و خيم الصمت ‪ ،‬و بعد العشاء و فيما أكواب الشاي تدار على‬
‫الجميع قال الب ‪:‬‬
‫ريم و قاسم ‪ ،‬أريد منكما عهودا و مواثيق ‪ ،‬و أريد صـــدقا و مســــئولية ‪،‬‬
‫و أريد صبرا و طريقا مستقيما ل يصيبه العوج لي سبب كان ‪ ،‬فهل أجد ما‬
‫أريد لديكم ؟ أخفت ريم وجهها خلف جرم أمها و لم تنطق ‪ ،‬في الواقع كانت‬
‫جدا مقلة في الكلم في اليام الخيرة فيما تحدث قاسم كرجل قال ‪:‬‬
‫لك ما تريد و أكثر يا أبي •• أنت تسافر و قد تركت رجل هنا بين أهلك ‪ ،‬ل‬
‫تخف ‪ ،‬نحن نقدر تماما غربتك من أجلنا و لن تسمع عنـــا أو ترى إل كل ما‬
‫يريحك و يطــــمئن بــالك و يشعرك إنك لم تكن مخطئا حين اعتمدت علينا‬
‫في إدارة شؤون حياتنا بدونك و إلى وقت قصير فقط إن شاء الله ••‬
‫بارك الله فيك يا بني ‪ ،‬و أنت يا ريم ما هو ردك ••؟ حاول أن يرى وجهها ‪،‬‬
‫لول مرة منذ أسبوع على القل يبحث عن وجهها ‪ ،‬كانت تتعمد أل يراها ‪ ،‬و‬
‫كان يتعمد أل يراها ‪ ،‬كان يشعر أن حبل موصول من حديث ل ينقطع موجود‬
‫بين قلبيهما و أن الحديث مهما بدا مهما ل يعني شيئا ‪ ،‬كان واثقا أشد الثقة‬
‫فيها و يعلم كم تتعذب و يعلم أنها تحمل ضميرها الغض مسؤولية غربته‬
‫القادمة ‪ ،‬لذا آثر و آثرت الصمت ‪ ،‬لكنه الليلة كان مصرا على قطع هذا‬
‫الصمت ‪ ،‬على اخراج الكلم من قلب قلبها و من قلب قلبه رفقا بها و بنفسه‬
‫‪ ،‬لذا أصر على مواجهتها ‪ ،‬أصر على أن تقابل عيونه عيونها و أن يتحدثا‬
‫الحديث الذي منعاه منذ قرار السفر ‪ ،‬ظل مـــركزا نظره باتجــــاههـا و‬
‫ظلت لفترة قليلة مختفية وراء أمها ‪ ،‬إل أنها لمست نظراته عليها و شعرت‬
‫بها حريقا في جسدها و نداًء ملء وجدانها و لبد أن تلبيه ‪ ،‬أخرجت نفـــسها‬
‫من حيز الخفاء المتعمد و تطلعت إلى أبيها ‪ ،‬كانت عيونها مغسولة و حزينة و‬
‫مليئة بالكلم ‪ ،‬ظلت صامتة ‪ ،‬حاولت أن تشد الكلم من أعماقها لكن‬
‫الحروف كانت عصية ‪ ،‬غريبة ل تحمل معنى ‪ ،‬حركت فكيها و بدا أن همهمة‬
‫خرجت منها و لكن صوتا لم يسمعه أحد منها •• تقلصت ملمحها و حرقها‬
‫أنفها فكزت على شفتيها و انــدفــــع قلبها في دقــات ســـريعة متـهورة و‬
‫عنيفة و لم تشعر بنفسها إل و عبراتها تطارد بعضها بعضا في سباق محموم ‪،‬‬
‫التفتت إليها الم ‪ ،‬نظرت إلى الب ‪ ،‬دعته أن يفعل شيئا بعيونها و استـــجاب‬
‫الب ‪ ،‬تنــحت الم و جلس الب بجوارها ‪ ،‬مد يده إلى خدودها ‪ ،‬مسح سيل‬
‫الدموع و أسكن رأسها كتفه ‪ ،‬ربت عليها و قالت هي بصوت عال ‪ ،‬عال أكثر‬
‫مما توقعت ‪:‬‬
‫ل تسافر يا أبي ‪ ،‬أتوسل إليك •• و انخرطت في بكاء عنيف عنيف ‪ ،‬بكاء‬
‫ظل حبيس صدرها الشفاف طيلة أسبوع ‪ ،‬شعرت أن أوردتها منتفخة حد‬
‫النفجار و رأسها ثقيل ل تكاد تطيقه و عيونها سكنتها النار حتى أصبحت‬
‫عروقها الحمراء تحمل لسعات من لهب كلما اغمضتهما تزيح دمعا •• كان‬
‫قلب المسكينة ينفطر ‪ ،‬كانت تشعر أنها تقتلع من جذورها ‪ ،‬أنها تطيح في‬
‫فضاء ليس تحته أرض و ل فوقه سماء ‪ ،‬و الجميع تفهم ‪ ،‬الجميع صمت‬
‫احتراما لنحيبها العالي ‪ ،‬حتى أبوها الذي كان يشعر بها فوق كتفيه كزلزال‬
‫يتحرك و أمطار تتساقط ‪ ،‬كان صامتا ‪ ،‬لم يربت عليها لئل يجرح حزنها ••‬
‫صمت الجميع حتى انتهت من بكائها و ابتعدت عن كتف أبيها و قالت بهدوء‬
‫يحمل بقايا نشيج ••‪:‬‬
‫آسفة •• قال الب و هو يغالب ضعفه و يحاول أن يتناسى تماما ما حدث‬
‫و يجرهم جميعا إلى جو آخر ‪:‬‬
‫سوف تكون جدة مرفأي الول هناك ‪ ،‬و منها سوف يتم توزيعنا إن شاء‬
‫الله على أعمال البناء ‪ ،‬و أسأل الله أن يكون نصيبي في أعمال توسعة‬
‫الحرم الشريف بمكة ‪ ،‬ادعو لي أن يحقق الله طلبي •• صمت و هو يستمع‬
‫إلى دعائهم له و نظر إلى ريم و هي تلتقط أنفاسها بصعوبة و تقول ‪:‬‬
‫إن شاء الله ستذهب هناك يا أبي •• ابتسم الب و ربت كتفها و قال ‪:‬‬
‫فرصة لداء فريضة الحج أيضا عسى ربي يتقبلها و يعينني على أدائها و أداء‬
‫أعمالي ‪ ،‬فإذا كان العام التالي حججت عن أبي يرحمه الله •• شهقت ريم و‬
‫قالت ‪:‬‬
‫العام التالي يا أبي ؟ ابتسم بهدوء و هو يقول ‪:‬‬
‫لست ذاهبا في نزهة يا حبة القلب •• العمل عمل و ل أدري متى ينتهي أو‬
‫كيف سيسير فل تفزعي ‪ ،‬بامكاني الحضور في الجازات ‪ ،‬عادي جدا مثل كل‬
‫رجال شارعنا المسافرين ‪ ،‬و عندما أعود في الجازات سوف أكون محمل‬
‫بالهدايا التي تريدون و الذهب لمكم هذه المسكينة التي لم ترتد إل هذه‬
‫السورة منذ تزوجنا •• ابتسمت سميحة بوهن و تمتمت بدعاء ‪ ،‬لم تكن تريد‬
‫خلق حوار أو المشاركة فيه ‪ ،‬فالليلة ملك الولد و أبيهم ‪ ،‬أما هي فيكفيها‬
‫ساعة خلوة مع زوجها تبثه خللها لواعج قلبها ‪ ،‬بدون أن يسمع أولدها ما‬
‫تقول و ل يشعر بحزنها هذا الـكــــم من الملتاعين ‪ ،‬هدهدت سمر و هي‬
‫تغالب النوم على حجرها ‪ ،‬و عندما مد الب يده ليحملها أعانته فلما استقرت‬
‫في حضنه مال عليها و قبلها و أكمل ‪:‬‬
‫و لسمر أيضا بعض الذهب ‪ ،‬و لك بالطبع يا ريم ‪ ،‬أما أنت يا قاسم فعندما‬
‫أعود سيكون نصيبك سيارة ‪ ،‬سوف تكون كبرت يا ولد ‪ ،‬كبرت و طولت أكثر‬
‫و صـــار لبد للــطبيب او المهندس قاسم من سيارة يذهب بها إلى كليته و‬
‫يعود ‪ ،‬أليس كذلك ؟ التفت الولد حول أبيهم ‪ ،‬يوزع عليهم لمساته و‬
‫مداعباته ووعوده الجميلة لهم ‪ ،‬تشرق دموعهم لحظة و تصدح ضحكاتهم‬
‫لحــــظة و بين هــــذه و تلــك يربت الب الحاني الظـــهور و يقرص الخدود‬
‫و يشير بدعابة إلى هذا و إلى هذه و يمسح دمعة هنا و يأمن على دعوة‬
‫هناك ‪ ،‬يضحك و يضحك ‪ ،‬و اللم في قلبه يعتصره و يود لو يفتح قلبه فيودع‬
‫هؤلء فيه و يصحبهم معه أينما حل ‪ ،‬أو راح •• *** عندما جلس الب آخر‬
‫الليل على طرف فراشه ‪ ،‬كانت قدماه ترتجفان و يداه ترتعشان ‪ ،‬ارتجافة‬
‫قلق و ارتعاشة خوف ‪ ،‬كان يحاول اسكـــاتهم عن الحركة فتظاهر بانه يدفء‬
‫يديه و أخذ يفركهما ‪ ،‬كانت سميحة تراقبه بصمت و عند لحظـــة فاصلة‬
‫وضعت يدها على يده و احتوتهما و قالت بحزم ‪:‬‬
‫كفى لقد أدميتهما •• استكانت كفوفه بين راحتيها و هدأ قليل ‪ ،‬ابتسم و‬
‫قال ‪:‬‬
‫يجب المحافظة عليهما ‪ ،‬سأحتاجهما كثيرا هناك ‪ ،‬أليس كذلك ؟ أومأت‬
‫برأسها مبتسمة و ظلت تدلكهما برفق و قالت ‪:‬‬
‫كان لحديثك مع الولد الليلة وقع السحر في نفوسهم ‪ ،‬حتى ريم التي لم‬
‫تكف عن البكاء منذ اتخذت قرارك ‪ ،‬كانت تضحك و تحدثت آخر الليل‬
‫بانطلق كعادتها •• سحب الب يديه من يديها بهدوء و ربت على كفيها و‬
‫نهض ففتح شباك الغرفة ‪ ،‬تطلع منه ‪ ،‬كان كل شيء هادئا في الخارج ‪ ،‬و‬
‫كان الصمت يلف المكان متضافرا مع الليل ‪ ،‬على أن النجوم كانت تلمع على‬
‫البعد كأنها توجه تحية ‪ ،‬أخذ جهاد نفسا عميقا و قال دون ان يستدير ‪:‬‬
‫هل نسيت شيئا يا سميحة ؟ لم يعد هناك وقت ‪ ،‬و أعتقد أنني نسيت‬
‫إحضار بعض الغراض •• نهضت سميحة فوقفت بجواره بعد أن أفسح لها‬
‫مكانا ‪ ،‬أطلت على السماء و لم تتكلم ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫منذ زمن بعيد لم نقف هنا لنراقب السماء ‪ ،‬تبدو مألوفة رغم أننا هجرناها‬
‫زمنا طويل ••حتى هذه النجوم التي تلمع ‪ ،‬أشعر أنها تعبر عن فرحتها بعودتنا‬
‫إليها ‪ ،‬أليس كذلك ؟ تنهدت سميحة و قالت بصوت هاديء ‪:‬‬
‫منذ ولدت ريم لم تجمعنا هذه النافذة ‪ ،‬بعد زواجنا بعشرة شهور فقط ‪،‬‬
‫انشغلنا بعدها بالتفاصيل الصغيرة للحياة حتى ابتلعتنا الدوامة و أصبح الوقوف‬
‫هنا بعضا من بعض الترف الذي ل تحتمله حياتنا •• زحف بأصابعه حتى لمس‬
‫أصابعها قبض عليهم و قبضت عليه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫عانيت كثيرا يا سميحة ‪ ،‬لم تكــــن حيــاتنا نزهة كما تمنيت ‪ ،‬كانت كمـــا‬
‫تـــوقع أبوك و اكثر ‪ ،‬رحلة سفر متعبة ‪ ،‬مع رجل غريب •• التفتت إليه‬
‫سميحة بسرعة ‪ ،‬وضعت يدها على فمه قبل أن يسترسل ‪ ،‬قالت ‪:‬‬
‫ل تقلها يا أبا العيال ‪ ،‬حياتنا كانت شاقة لكنها لم تكن مستحيلة ‪ ،‬لم تكن‬
‫سيئة ‪ ،‬الحب و التفاهم و الثقة التي جمعتنا جعلت من حياتنا جنة رغم الفقر‬
‫و سعادة رغم تبعات الحياة ‪ ،‬ل أعتقد أنني نادمة على يوم واحد قضيته في‬
‫كنفك و لو عاد بي الزمن فلن أقبل بغير ما كنت فيه معك •• أمسك كفها و‬
‫قبلها بهدوء و عادا مجددا ً يراقبان السماء معا •• كانت سميحة تريده أن‬
‫يتكلم ‪ ،‬تريد أن تختزن في ذاكرتها الكثير الكثير من حديثه لتسترجعها فيما‬
‫هو قادم من أيامها ‪ ،‬لكنها أيضا كانت تريده هكذا صامتا يحتضن كفها بكفه و‬
‫قلبها بقلبه •• كانت أيضا تريد أن تقول الكثير ‪ ،‬كانت تريد أن توصه على‬
‫نفسه ‪ ،‬تخبره أنها قلقه على صحته ‪ ،‬تسأله أن يبعث لها كثيرا ‪ ،‬لكنها لم تقل‬
‫‪ ،‬اكتفت بالضغط على كفه •• و كان يريد أن يقول الكثير ‪ ،‬و يسمع منها‬
‫الكثير ‪ ،‬كان يعرف أنه رجل ل يجيد التعبير و ل يعرف كيف ينمق كلمه بحيث‬
‫يخلق عبارات ملتهبة تعبر عما يجيش بداخله من مشاعر ‪ ،‬كانت مشاكلهم‬
‫في بداية الزواج تصب كلها في عجزه عن الكلم و حاجتها له ‪ ،‬كان يقول لها‬
‫الرجــال أفعــــال ل أقوال ‪ ،‬و مــــع مـــرور الزمن اعتادت على صمته و‬
‫فعله و أحبت هذا و أصبحت عبارات الحب النادرة شهـــادات مطرزة يمنحــها‬
‫لها فل تنســــاها و يقولها أحيانا عفو الخاطر فتطير بها فرحا فيهز رأسه عجبا‬
‫و يقول ‪:‬‬
‫أنتن ناقصات عقل و دين •• شد على يدها و قال ‪:‬‬
‫سميحة •• التفتت اليه ‪ ،‬قال لعيونها الجميلة ‪:‬‬
‫أقسم بالله العظيم أني أحبك •• أحبك جدا •• اجتاحها الخجل و و كأنها‬
‫عروس تسمع عبارة حب من زوجها ليلة الزفاف ‪ ،‬نكست عيونها و إن‬
‫ضغطت على كفه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫ل أحد يعرف الحياة من الموت ‪ ،‬و أريدك أن تسامحيني على أية غلطة‬
‫أكون قد أخطأتها في حقك يوما متعمدا أو غير متعمد ‪ ،‬فهل تسامحيني ؟‬
‫فتحت عيونها دهشة قالت بصوت كاد أن يصبح عاليا في هدأة الليل ‪:‬‬
‫جهاد •• لماذا تقول هذا الكلم ‪ ،‬إنه كلم مودع ••• أسامحك ؟ ‪ ،‬علم‬
‫أسامحك و قد كنت لي و ستظل نعم الزوج و الب و الحبيب ‪ ،‬أرجوك يا جهاد‬
‫ل داعي لهذا الكلم الن إنك توجع قلبي •• شدها من يدها برفق و هو يبتسم‬
‫و قال ‪:‬‬
‫سلمة قلبك يا غالية •• اسمعي يا سميحة سأعطيك شيئا فاحفظيه حتى‬
‫يحين موعده ••‬
‫أي شيء ؟ فتح الدولب و أخرج حقيبة قديمة مغلقة طالما رافقتهم و كان‬
‫يضع فيها أوراقا كثيرة هامة ‪ ،‬شهادات ميلد و تطعيم و قصاصات صحف‬
‫قديمة و وثائق سفر و غير ذلك ‪ ،‬فتحها بهدوء و من تحت قاعدتها الجلدية‬
‫أخرج ملفا أصفر قديما و قال لزوجته ‪:‬‬
‫في هذا الملف سوف يجد أبناؤنا دوما الجابة عن أسئلة ما زالت لم‬
‫تؤرقهم و لم تعن لهم شيئا ‪ ،‬لكنني أكيد أنهم سوف يطرحونها في يوم من‬
‫اليام ‪ ،‬فيه شجرة العائلة في فلسطين ‪ ،‬كل ما حوته ذاكرتي عن أهلي و‬
‫أقربائي و أصدقائي هناك ‪ ،‬عناوينهم كما كانت حين غادرت فلسطين و‬
‫عناوينهم التي وصلتني في سنين غربتي ‪ ،‬كنت أخاف إذا أنا نسيت هذه‬
‫السماء و العناوين أن أفقد وطني إلى البد لذا احتفظت بكل ما وقعت عليه‬
‫من عناوين في كل بقاع الرض ‪ ،‬هنا أسماء أشخاص يسكنون كل قارات‬
‫العالم ‪ ،‬سيجد أولدي حين يسألون أن اقرباءهم كثر و منتشرون و لدينا‬
‫أغنياء أيضا في العائلة ‪ ،‬و هذه يا سميحة •• أتعرفين ما هذه ••؟ أخرج من‬
‫الملف ورقة صفراء كانت تقبع خلف كل الوراق كانت يده تهتز و هو يمسك‬
‫بها ‪ ،‬تطلعت فيها سميحة فلم تستطع فهم ما فيها فهزت رأسها فقال ‪:‬‬
‫هذه ورقة رسمية من حكومة عموم فلسطين مثبوت فيها أن البيت الذي‬
‫كنت أسكنه في غزة هو ملكنا ‪ ،‬ملك أبي يرحمه الله ‪ ،‬هذه الحجة حصلت‬
‫عليها ليلة مغادرة أبي لنا متوجها إلى الردن ‪ ،‬في تلك الليلة أعطاها لي أبي‬
‫و طلب مني المحافظة عليها فهي الثبات الوحيد لحقي و إخوتي في البيت ‪،‬‬
‫كنت أنا الوحيد معه تلك الليلة ‪ ،‬و عندما تفرقنا أنا و إخوتي ظلت معي و لم‬
‫أنتبه إلى أنني أخذتها إل عندما وصلت إلى مصر منتصف عام ‪ ، 46‬ل أدري ما‬
‫قيمتها الن و لكنها هامة جدا ‪ ،‬لذا حافظي عليها و أعطيها إلى قاسم عندما‬
‫يكبر ليحافظ عليها بدوره •• همست سميحة بجزع ‪:‬‬
‫و لماذا ل تبقها في حقيبتك و تعطها لولدنا عندما يكبر بنفسك يا أبا‬
‫العيال ؟ أعاد وضع الملف في الحقيبة بحرص و أغلقها و أعادها إلى مكانها و‬
‫هو يقول ‪:‬‬
‫من ذا الذي يعرف الحياة من الموت يا أم العيال •• أمسكته من كتفيه‬
‫هزته صاحت ‪:‬‬
‫إنك تميتني رعبا يا جهاد ‪ ،‬أل تدرك معى ما تقول في ليلة كهذه ‪ ،‬سوف‬
‫تغيب الوجوه بعد ساعات و لن يبقى لي إل خوفي و جزعي من مستقبل ل‬
‫أعرف عنه شيئا ‪ ،‬أل تفهم ••؟ نهض و أخذ بيدها مهدئا و قال‪:‬‬
‫أفهم تماما ما تشعرين به ‪ ،‬إنه نفس شعوري قبل عشرين عاما عندما‬
‫أعطاني أبي هذه الحجة ‪ ،‬شعرت بالفقد و شعرت باليتم و شعرت أنني أريد‬
‫أن أفتح عيوني و قلبي لضع الرجل فل أسمح لغربة أن تفرقنا و ل لسفر أن‬
‫يشتتنـــا ‪ ،‬لكنه سافر ‪ ،‬و أنا ســــأسافر ‪ ،‬و في الغربة مات ‪ ،‬و انا ••‬
‫ل •• لم يكن من معنى لي شيء في هذه اللحظة ‪ ،‬اللحظة التي يجب أن‬
‫يواجه المرء فيها مصيره و يتحسب لي ظرف طاريء و يقدم بنفسه تأبين‬
‫ذاته على مرأى و مسمع ممن يحب ‪ ،‬كان هذا قدر جهاد و سلمه في تلك‬
‫الليلة طوعا إلى سميحة •• حياة لبد أن تمضي ‪ ،‬و فراق لبد أن يكون ‪ ،‬و ل‬
‫يملك النسان مهما كان قويا أن يقف في وجه مصير محتوم ‪ ،‬هكذا شعر‬
‫جهاد ‪ ،‬و شعرت سميحة و هناك على بعد خطوات منهما كانت أيضا ريم ‪،‬‬
‫تشعر بكل شيء و تعرف أن عهودا أخذها أبوهم منهم كانت بمثابة وثيقة‬
‫سفر للجئين منحتها لهم سلطة ل ينتمون إليها ليحققوا بها قدرا ل يريدونه‬
‫لنفسهم •• و عندما نامت عيون كل من في البيت ‪ ،‬كان هناك عددا من‬
‫القلوب الواجفة ‪ ،‬تردد أدعية كثيرة تختلط مع بعضها صاعدة إلى رب قدير‬
‫عله يحفظ هذه السرة من ضياع يدق الباب و غربة ترعى في الخضر و‬
‫اليابس بل تفريق •‬
‫لم يعد مجيء سعيد إلى منزل ريم أمرا غريبا بعد أن تولى أمور المنزل في‬
‫اليوم الول لغياب الب منذ أن اصطحب العائلة الى الميناء البحري في‬
‫السويس ليستقل الب باخرته من هناك في رحلة طويلة استـغرقت ثلث‬
‫ســـاعات ذهابا و مثلهم في الياب ‪ ،‬و خلل الذهاب لم يلتفت مرة واحدة‬
‫إلى ريم رغم أنها كانت حاضرة تماما في نفسه خلل الذهاب ‪ ،‬إل أنه اكتفى‬
‫بمجالسة العم جهاد و الستماع منه طوال الرحلة إلى حكايات كثيرة و‬
‫ذكريات متناثرة و دعوات صادقة كان يطلقها بين الوقت و الخر لتصيب كل‬
‫فرد في عائلته ‪ ،‬و هناك في السويس اندمج تماما مع الب في نقل الحقيبة و‬
‫إنهاء اجراءات السفر و عندما لوح الب للجميع من فوق الباخرة سمح لنفسه‬
‫أن ينظر إلى ريم مليا ‪ ،‬راقب بكثير من الشغف يدها الموصولة بقلبها و‬
‫بدموع عينيها و هم يتناغمون في ملحمة وداع كبيرة لم ير مثلها في حياته ‪ ،‬و‬
‫في طريق العودة جلس بجوار قاسم و تبادل حديثا مقتضبا ثم خيم الصمت‬
‫على الجميع ‪ ،‬كان كل فرد في العائلة يفكر تفكيرا خاصا به ‪ ،‬بل هو شديد‬
‫الخصوصية يصعب قطعه و لو بحديث عابر ‪ ،‬لذا ظلت السيارة تنهب الرض و‬
‫الفكار تنساب سريعة في أدمغة عائلة سافر عائلها للتو ••‬

‫عندما وصلوا إلى باب البيت ودعهم سعيد و تعمد أن يسلم عليهم من أجل‬
‫اللحظة التي يصل فيها إلى يد ريم ‪ ،‬لكنها كانت أسرع فسبقت الجميع إلى‬
‫المنزل تاركة يده تئن من الشتياق ‪ ،‬و في تلك الليلة بدا المنزل موحشا ‪،‬‬
‫منزل جهاد و منزل سعيد ‪ ،‬كانت الوحشة تسكن كل البيتين ‪ ،‬لم يستطع‬
‫أفراد العائلة أن يتبادلوا الحديث ‪ ،‬و كان أكثر المشاهد إيلما لهم جميعا‬
‫مشهد الراديو صامتا وحيدا في ركن الب الثير و تنهد الجميع و ذهب كل إلى‬
‫مكانه ‪ ،‬أما سعيد فقد هرع إلى شرفته و ظل ما تبقى من الليل يطالع نافذة‬
‫ريم المغلقة و آلف الفكار تتصارع داخل رأسه ‪ ،‬شعر بنقمة آنية عليها‬
‫سرعان ما انحسرت عن فيض من الشفقة جعل قلبه يدق بشدة يستدعي‬
‫صباحا لم يعد ببعيد ‪ ،‬و في الصباح مر من جانب بابهم في طريقه إلى العمل‬
‫و تلكأ قليل عله يرى أحدا ‪ ،‬لكن أحدا لم يخرج في ذلك الوقت و عند عودته‬
‫توجه مباشرة إلى بيتهم ‪ ،‬طرق الباب بثقة و عندما فتح له قاسم سأله عن‬
‫والدته حتى إذا جاءت شدد عليها كثيرا أن تلجأ إليه عند حاجتها لي أمر مهما‬
‫كان و في أي وقت ‪ ،‬لم ير ريم ‪ ،‬لكنه خمن أنها ترسم الن ‪ ،‬خرج مطمئنا و‬
‫اتجه إلى منزله ‪ ،‬طالع وجهه في مرآة الباب و تنهد ارتياحا ••‬

‫كانت الليلة الولى لسميحة بعد سفر زوجها من أطول الليالي التي مرت بها‬
‫في حياتها ‪ ،‬فهي الن الم و الب ‪ ،‬تضاعف الحمل و أصبح هؤلء العيال أمانة‬
‫ثمينة في عنقها وضعها جهاد مرتاحا إلى أنها قادرة عليها ‪ ،‬لكنها تشعر في‬
‫نفسها ضعفا و تخشى هذا الحمل ‪ ،‬أخرجت الملف الصفر القديم من الحقيبة‬
‫تأملت أوراقه طويل و تساءلت إن كان أحد من أولدها سيستفيد من هذه‬
‫الوراق يوما ؟ عادت فوضعته في الحقيبة ‪ ،‬تلفتت حولها ‪ ،‬كل شيء كما هو‬
‫إل أن مــوضع جهــــاد فــارغ ‪ ،‬تحسست موضــعه ‪ ،‬ألقــت برأسها على‬
‫وسادته و تنهدت ‪ ،‬همست ‪:‬‬
‫متى سيعود ؟!!‬

‫و هناك كانت ريم في غرفتها تطالع الفراغ في كل شيء ‪ ،‬تحس خوفا كبيرا‬
‫اجتاحها لحظة أن لوح لهم أبوها مودعا ‪ ،‬سكنها خوف كبير ووقع زلزال ضخم‬
‫في قلبها لم يشعر به سواها ‪ ،‬مازالت بقاياه عالقة في نفسها حتى هذه‬
‫اللحظة ‪ ،‬و تساءلت مما الخوف ‪ ،‬و لماذا هذا الشعور العميق بالفقد ؟ لم‬
‫تجد الجابة ‪ ،‬لقد ســـار كل شيء طبيـــعيا ‪ ،‬كما هو مقـــررا ‪ ،‬و رغم حزنها‬
‫على الفراق إل أنه كان حتميا بالفعل ‪ ،‬ليس من أجلها وحدها و إنما أيضا من‬
‫أجل أبيها الذي لبد أن يجد لكفاح العمر ثمرة آخر المطاف ‪ ،‬إذن لماذا دبيب‬
‫الخوف الذي يسكن أحشاءها ‪ ،‬مم تخاف ؟ هذا ما لم تستطع أن تجيب عنه‬
‫••‬

‫أما سمر فقد نامت هادئة بعد أن قررت أمها أن ترافقها في غرفتها منذ‬
‫الغد ‪ ،‬نظرت إليها و تساءلت إن كانت بدورها تشعر بهذا الخوف ‪ ،‬قالت‬
‫بصوت لم يسمعه سواها ‪:‬‬
‫لماذ ا أنا خائفة ‪ ،‬ما كل هذا اللم الذي يعتصر قلبي حقا ••‬

‫وضعت يدها على قلبها ‪ ،‬كان هادئا ‪ ،‬لكنه فعل كان خائفا ••‬

‫أما قاسم فقد أغلق على نفسه حجرته و ظل يكرر مرارا لنفسه ‪ ،‬إنه الرجل‬
‫الن و إنه سوف يتحمل المسؤولية كاملة و سيثبت لبيه أنه ترك وراءه من‬
‫يعوض غيابه ‪ ،‬تصفح في مخيلته وجوه أفراد أسرته ‪ ،‬أخذته الشفقة و هو‬
‫يتذكر وجه أمه حين كانت تشتري أغراض السفر و اعتصر قلبه تذكره لصورة‬
‫ريم أثناء الوداع ‪ ،‬و حتى سمر الصغيرة شعر فجأة أنه مهتم كثيرا لمرها‬
‫ووعد نفسه أن يصرف مصروفه اليومي عليها كل يوم حتى ل تشعر بغربة‬
‫أبيها الحبيب ‪ ،‬لكن عقله اليافع استحضر و بقوة صورة سوسن ‪ ،‬كان يريد أن‬
‫يقول كل ما قاله لنفسه أمامها فهي الوحيدة التي ستفهمه و سأل نفسه ‪:‬‬

‫متى ستأتي سوسن لزيارة ريم ؟ ***‬


‫ستدخلين الجامعة يا ريم ؟‬

‫هتفت سوسن و هي تطالع أوراق كثيرة مبعثرة على سرير ريم ‪ ،‬كانت ريم‬
‫تضع الشاي أمامها و ابتسمت بوهن و أجابت ‪:‬‬
‫نعم يا سوسن ‪ ،‬هذا هو السبب في تغرب أبي ‪ ،‬سأدخل الجامعة ••‬
‫و لكنك فلسطينية و ما أعرفه أن التعليم الجامعي بالنسبة لكم هو ••‬
‫قاطعتها ريم مبتسمة و قالت ‪:‬‬

‫مثلما كنا نظن جميعا ‪ ،‬إل أننا لم نكن نعرف أن للفلسطنيين نسبة في‬
‫مقاعد الدراسة بالجامعة المصرية ••‬
‫و كيف عرفتم بهذا ‪ ،‬هل سأل أبوك قبل سفره و عرف ؟‬

‫توجهت ريم إلى نافذة غرفتها و فتحتها و نظرت باتجاه منزل سعيد و قالت ‪:‬‬

‫ل •• الستاذ سعيد هو من عرف و أبلغنا ••‬

‫بدا أن سوسن ل تعرف السم ‪ ،‬نهضت ووقفت بجوار ريم و تطلعت حيث‬
‫تتطلع هي ثم قالت كمن أدرك فجأة أمرا غريبا ‪:‬‬
‫سعيد ؟ ! الشاب اللهي ؟!‬

‫أومأت ريم برأسها و همست ‪:‬‬

‫نعم سعيد الشاب اللهي ••‬

‫حكت لصديقتها كل شيء ‪ ،‬قصت عليها كل ما حدث ‪ ،‬و كانت نبرة صوتها‬
‫تحمل حيادا غامضا كلما ذكرت اسم سعيد مقرونا بالستاذ ‪ ،‬و كانت تجاري‬
‫صديقتها في كل التعليقات المشتركة عن هذا الرجل ‪ ،‬و التي ليست في‬
‫صالحه أبدا ‪ ،‬و أخيرا تنهدت سوسن و قالت ‪:‬‬

‫يالحظك !! لو أن سيدا فقط يوافق على التحاقي بالجامعة لمكننا أن‬


‫نتزامل في الجامعة كما تزاملنا في الدراسة دائما ••‬

‫أثار اسم سيد حفيظة ريم فلم تملك إلأن تظهر امتعاضا لحظته سوسن‬
‫بسهولة فقالت لها ‪:‬‬
‫ما رأيك يا ريم لو طلبت أنت منه هذا ‪ ،‬اعتقد أنه لن يرفض لك طلبا ‪ ،‬بل‬
‫أنا متأكدة أنه لن يرفض إذا طلبت أنت ذلك ؟‬
‫هل جننت ؟!! قالت ريم بسرعة و أضافت ‪:‬‬

‫أنا أتحدث مع سيد و أطلب منه إلتحاقك بالجامعة ؟ لبد أنك جننت ‪ ،‬أنت‬
‫فعل جننت •• لكن سوسن راقتها الفكرة التي خرجت في لحظة عفو‬
‫الخاطر و استقرت بسرعة كاليقين ‪ ،‬ل مجال للشك في موافقة سيد شرط‬
‫أن تطلب من ريم ذلك ‪ ،‬لكن ريم أصرت على الرفض المقترن بالدهشة من‬
‫هذه الفكرة المجنونة و في النهاية صاحت سوسن ‪:‬‬
‫من لي بمثل الستاذ سعيد يحل لي عقدتي كما حل لك عقدتك يا صديقتي‬
‫العزيزة •• وجمت ريم قليل و كأن اقتران اسم سعيد بها أصابها بالرتباك ‪،‬‬
‫هزت رأسها و شرعت تحاول افهام صديقتها ‪:‬‬

‫يا سوسن الستاذ سعيد ••‬

‫قاطعتها سوسن و قالت ‪:‬‬


‫اسمعي يا ريم ‪ ،‬ما أطلبه منك ل يعدو حوارا عاديا مع سيد يتحول تدريجيا‬
‫إلى محاولة اقناعه بالتحاقي بالجامعة ‪ ،‬إذا نجحت هذه المحاولة كسبنا‬
‫المرافقة و الدراسة سويا و إذا فشلت لم نخسر شيئا ‪ ،‬و كما ترين‬
‫المريستحق المحاولة فماذا قلت ؟ سكتت ريم فنهضت سوسن تقبلها امتنانا‬
‫معتبرة سكوتها رضا و اقتناع ‪ ،‬و قالت و هي تحمل حقيبتها استعدادا للمغادرة‬
‫‪:‬‬

‫لقد تحدثت مع قاسم قبل مجيئك ‪ ،‬هذا الولد يحمل قلبا كبيرا و يريد أن‬
‫يتحمل المسئولية ‪ ،‬ساعديه يا ريم‬

‫أومأت ريم موافقة ‪ ،‬و لم تنهض لتوديع صديقتها فيـــما كــانت سوســن‬
‫تلقي آخر كلماتها و هي تحي أمها بصوت مرتفع لتسمعه ريم ‪:‬‬

‫سأنتظر ريم غدا في منزلنا يا خالتي ‪ ،‬أرجوك ذكريها ••‬

‫بعد انصراف سوسن دخلت الم إلى حجرة ابــنتها ‪ ،‬رأتـــها واجمة ‪ ،‬اقــتربت‬
‫ببـــطء منها و ركزت نظرها عليها ‪ ،‬رفعت ريم عينيها باتجاه أمها ‪ ،‬كانت‬
‫الحيرة تملؤهما ‪ ،‬جلست الم على طرف الفراش و قالت برفق ‪:‬‬

‫اتفقنا أل نخبيء شيئا عن بعضنا البعض يا ريم ‪ ،‬اليس كذلك يا حبيبتي ؟‬


‫تنهدت ريم و همست ‪:‬‬

‫ليس هناك ما يستحق أن نخبئه يا أمي ‪ ،‬لقد طلبت مني سوسن محاولة‬
‫أقناع اخيها سيد بدخولها الجامعة ‪ ،‬و اعتبرت صمتي موافقة على هذه‬
‫المحاولة •• نظرت لمها و هي تقسم ‪:‬‬
‫و لكني أقسم لك يا أمي أنني لم اشأ القيام بهذه المحاولة ‪ ،‬حتى أنني‬
‫أرفض القيام بها ‪ ،‬لن مجرد محادثة هذا السيد تزعجني و تضايقني كثيرا ‪ ،‬و‬
‫أنا ل استطيع عمل مثل هذا الحوار معه ‪ ،‬لكنني ل أعرف ماذا أفعل و سوسن‬
‫تعتمد علي ••‬

‫ابتسمت الم و ربتت على كتف ابنتها و قالت ‪:‬‬

‫غدا يكون لكل حادث حديث ‪ ،‬هيا لملمي أوراقك و اجمعيها في ملف ‪،‬‬
‫سيمر الستاذ سعيد غدا لخذها و يجب أن تكون كاملة ‪ ،‬وفقك الله يا ابنتي و‬
‫يسر لك المور و أبعد عنك أولد الحرام •• راقبت ريم أمها و هي تغادر‬
‫الغرفة و نبت الخوف مجددا في قلبها ‪ ،‬خوف يشبه ذلك الذي اقتحم قلبها‬
‫يوم سافر أبوها ‪ ،‬كانت في دعوة أمها الخيرة رنة حادة كأنها أصبع تشير به‬
‫على أناس كثيرين دخلوا حياتها ‪ ،‬أو مازالوا سيدخلونها •‬

‫اضمرت سميحة في نفسها أمرا بعد حديثها مع ابنتها ‪ ،‬كانت و مازالت تشعر‬
‫أن سوسن رفيقة ريم منذ الطفولة ليست بيضاء من الداخل كما ابنتها ‪،‬‬
‫كانت تشعر أن سوسن تنظر إلى ريم بمنظار خاص ‪ ،‬منظار يرى ما ل تراه‬
‫ريم في نفسها ‪ ،‬و يتــسع ليشمل ريم و أهلها و علقتهم ببعضهم البعض و‬
‫موهبة ريم و تلك الجاذبية الخفية التي وضعها الله فيها و كانت كثيرا ما تقرأ‬
‫المعوذتين كلما أقبلت سوسن أو توجهت ريم لزيارتها ‪ ،‬لكنها لم تكن تستطيع‬
‫منع ابنتها عن تلك الفتاة اليتيمة لمجرد شعور ل تؤكده وقائع ‪ ،‬و لمست في‬
‫رغبة سوسن اللتحاق بالجامعة غيرة خفية تأكل قلب الفتاة إزاء دخول رفيقة‬
‫طفولتها الجامعة رغم كل المحاذير و العقبات في الوقت الذي ل يقف أمام‬
‫تحقيق هذه المنية لها سوى موافقة أخيها ‪ ،‬لذا وقفت سميحة أمام باب بيتها‬
‫في موعد عودة سيد من عمله و تعمدت أن يراها و لم تمنعها التقطيبة التي‬
‫يحسن سيد رسمها على وجهه دائما من اعتراض طريقه و مبادرته بالحديث ‪:‬‬

‫السلم عليكم يا أستاذ سيد ••‬

‫توقف سيد ‪ ،‬و نظر في اتجاه الصوت و تملكته دهشة كبيرة ‪ ،‬فهذه من‬
‫المرات القليلة النادرة التي يتحدث فيها مع أم ريم ‪ ،‬لكنه أسرع نحوها و‬
‫حاول رسم ابتسامة هي بكل تأكيد ضد طبيعته ‪ ،‬حتى ان سميحة قالت في‬
‫نفسها ‪:‬‬

‫صدقت ريم ‪ ،‬إنه لثقيل الظل •• لكنها ابتسمت و هي تراه مقبل نحوها و‬
‫انتظرت حتى تكلم ‪:‬‬
‫و عليك السلم يا أم قاسم ‪ ،‬كيف حالك ‪ ،‬هل وصلتكم رسالة من العم‬
‫جهاد ؟ أجابت أم ريم بعد تنهد قائلة ‪:‬‬
‫مازال لم يصلنا منه شيء ‪ ،‬و هذا التأخير متوقع في البداية فهو لم يستقر‬
‫و لم يتحدد له مكان العمل و اعتقد أنه بمجرد أن يتحدد له مكانه سيرسل‬
‫إلينا رسالة ••‬
‫ال تحتاجون شيئا يا خالتي ‪ ،‬إنني في مقام قاسم و مستعد لي طلب ‪ ،‬هذا‬
‫ما يفرضه الواجب •• هزت أم ريم رأسها شاكرة و قالت ‪:‬‬

‫أشكرك يا بني ‪ ،‬ل شيء أكثر من سلمتك و رجاء صغير •• تساءل سيد‬
‫عن طلبها فقالت ‪:‬‬
‫الهاتف ‪ ،‬هاتفكم ‪ ،‬أريد أن أعطي رقمه لجهاد و أبلغه أن يهاتفنا فيه مرة‬
‫كل شهر يحدد وقتها فنجيء عندكم و ننتظر المكالمة ‪ ،‬فهل هذا ممكن ؟‬

‫ابتسم سيد مجددا و قال بسرعة ‪:‬‬

‫بالطبع ‪ ،‬بل هو ممكن جدا ‪ ،‬فقط أبلغيني بالوقت الذي ستحددونه لكي‬
‫أخرج لك الهاتف من غرفتي خلله ‪ ،‬إذ كما تعرفين هو دائما في غرفتي‬
‫المغلقة و لو أنا خارج المنزل لن تتمكنوا من استعماله ‪ ،‬تحت أمرك ••‬

‫ابتسمت أم ريم ممتنة و قالت و كأنها تلقي الحديث عابرا ‪:‬‬


‫الحمد لله ‪ ،‬بـــارك الله فيك يا بــني ‪ ،‬أنت تعــرف أن ريم ستــذهب‬
‫للجامعة هذا العام ‪ ،‬و هذه المكالمات ضرورية ليعرف جهاد أخبارها و نعرف‬
‫اخباره •• عقدت الدهشة لســـان ســــيد فوقف واجـــما يطالـــع وجه أم‬
‫ريم غـــير مصــدق ما يسمع و بصعوبة قال ‪:‬‬
‫ريم ستذهب الى الجامعة ؟ أومأت أم ريم و هي ُتكبر في سرها و قالت ‪:‬‬

‫نعم ‪ ،‬لهذا السبب سافر جهاد ‪ ،‬يريد أن يتعلم الولد و يحملوا سلحهم‬
‫بأيديهم ‪ ،‬الزمن غير مضمون يا بني كما تعلم •• قال سيد و الغضب يكاد‬
‫ينطق على لسانه بعد أن صرخ في عيونه ‪:‬‬
‫و لكن ريم بنت و يكفيها ما وصلت إليه من تعليم ‪ ،‬إنها في النهاية ستتزوج‬
‫مثل كل البنات و سيكون على زوجها إعالتها •• قالت الم بحزم ‪:‬‬
‫لن تتزوج ريم قبل أن تحصل على شهادتها ‪ ،‬و التعليم يا بني ل حد له و هو‬
‫في يد البنت سلح اذ من يضمن كيف سيكون زوجها ‪ ،‬أو يضمن حتى حياة‬
‫من يعولها •• هز سيد رأسه غير مقتنع و هم بالسير مجددا غير أن أم ريم‬
‫قالت بسرعة ‪:‬‬
‫ليت سوسن تلتحق بالجامعة فتكون معها دائما يروحان معا و يجيئان معا و‬
‫نطمئن على أنهما في رعاية بعضهما البعض ••‬

‫نظر إليها سيد بجمود لم تستبن منه موقفه ‪ ،‬ثم همس و هو يغادر المكان ‪:‬‬

‫السلم عليكم •• تنهدت أم ريم و هي تدخل بيتها و ترد سلمه ثم قالت ‪:‬‬
‫الله ييسر ما فيه الخير للجميع •• كانت ريم على الباب تنتظر أمها و‬
‫بمجرد دخولها ابتسمت و رفعت يدها بعلمة النصر لمها التي ابتسمت بدورها‬
‫و توجهت للمطبخ •• *** طوال الطريق إلى منزله كان عقل سيد يغلي‬
‫كالمرجل ‪ ":‬ريم ستدخل الجامعة ‪ ،‬البنت إذا دخلت الجامعة فسدت أخلقها و‬
‫ضاعت نصف أنوثتها ‪ ،‬ماذا جرى للعم جهاد كيف وافق على هذا المر ‪ ،‬ريم‬
‫في الجامعة ؟ ! و الزواج ؟ هل حقا ريم لن تتزوج إل بعد النتهاء من دراستها‬
‫‪ ،‬يا لضيعة أحلمك يا سيد ‪ ،‬غدا سيكون لريم زملء في الجامعة و قد تحب‬
‫أحدهم ‪ ،‬و تضيع ريم إلى البد ‪ ،‬لماذا هذا القرار الغريب ‪ ،‬كيف لم يخبروه ‪ ،‬و‬
‫سوسن كيف أخفت عنه هذا المر حتى عرفه صدفه من أمها ؟"‬

‫فتح الباب و نظر إلى سوسن الجالسة تطـــالع التلـــفاز و هي تتناول شيئا‬
‫من المسليات و صاح ‪:‬‬

‫لماذا لم تخبريني أن ريم ستذهب الى الجامعة ؟ انتفضت سوسن لبرهة‬


‫ثم تماسكت و قالت بل مبالة ‪:‬‬
‫و ماذا يعنيك في التحاقها بالجامعة من عدمه ‪ ،‬أنت لست ولي أمرها ••‬
‫و لكن •• و لكن •• أسقط في يده لم يدر ماذا يقول ‪ ،‬ل يمكن أن يفتح‬
‫الموضوع مباشرة مع سوسن ‪ ،‬سيفقد قدرا كبيرا من هيبته أمامها إذا أعلمها‬
‫برغبته في الزواج من ريم الن ‪ ،‬لبد أن يناقش المر بهدوء مع نفسه أول‬
‫••صاح طالبا للطعام ‪ ،‬ثم توجه إلى غرفته لتبديل ملبسه ‪ ،‬كانت سوسن قد‬
‫عقدت العزم على الستفادة من الموقف تماما ‪ ،‬هي ل تعرف ماذا حدث و ل‬
‫كيف عرف أخوها ‪ ،‬لكن الفرصة مواتية الن ‪ ،‬لذا سارعت بإعداد الطعام و‬
‫جلست على المائدة بانتظار عودة سيد ‪ ،‬الذي جاء متجهما كعادته ‪ ،‬إل أن‬
‫نظرة عجز كانت تطل من عيونه ‪ ،‬لمستها سوسن و عرفت أنه الوتر الذي‬
‫ينبغي ان تعزف عليه ما استطاعت لذا لم تضيع الفرصة و قالت ‪:‬‬

‫ذهاب ريم إلى الجامعة كان خبرا مفاجئا لي أيضا •• لم يرد سيد ‪ ،‬نظر‬
‫إليها و طلب منها الملح ‪ ،‬ناولته إياه و قالت ‪:‬‬
‫ريم فلسطينية كما تعلم ‪ ،‬و دخولها الجامعة أمر شديد التعقيد ‪ ،‬ليس فقط‬
‫من حيث قبولها هناك ‪ ،‬فهذا امر وارد خصوصا إذا كانت هناك واسطة قوية‬
‫تدعمه •• انتظرت فترة ليرد بعد أن تعمدت الضغط على كلماتها الخيرة و‬
‫هي تنطقها •• رفع رأسه من طبقه و نظر اليها فأكملت بسرعة ‪:‬‬
‫و لكن أيضا من حيث المصاريف ‪ ،‬فهم يدفعون مصاريف باهظة و بالجنية‬
‫السترليني أيضا و هذا امر يجعل المرء يكبر العم جهاد على تضحيته و غربته‬
‫من أجل إتمام تعليم أولده مهما كانت العقبات •• تنهد سيد و قال و هو‬
‫يزدرد طعامه بل شهية ‪:‬‬
‫أخبرتني أمها عن هذا اليوم ‪ ،‬و لكن كيف تسنى لريم دخول الجامعة رغم‬
‫مرور عام على تخرجها من الثانوية •• قالت سوسن و هي متحمسة ليصال‬
‫أكبر قدر من المعلومات الخاصة جدا إليه عله يفيدها في قضيتها ‪:‬‬
‫الستاذ سعيد •• الستاذ سعيد ‪ ،‬ذاك الذي يقطن أول الشارع خلف منزل‬
‫ريم •• نظرت إليه تنتظر وقع السم عليه و لم يطل انتظاره فقد لوح‬
‫بالملعقة و قال و هو يغص بالطعام ‪:‬‬
‫ذلك الشاب اللهي ؟ ناولته الماء بسرعة و هي تقول ‪:‬‬
‫بالضبط ‪ ،‬هو بعينه ‪ ،‬استوقف والدها ذات يوم و عرف منه كل ظروفهم و‬
‫عرض المساعدة ‪ ،‬بل أنه حتى أوصلهم يوم سفر الب بنفسه إلى السويس‬
‫•• و كما غص سيد بالطعام عاد فغص بالماء ‪ ،‬و نهض واقفا و صاح ‪:‬‬
‫و كيف سمح له العم جهاد بهذا التدخل و اعطاه كل هذه الصلحية ؟‬
‫نهضت سوسن سريعا و قالت و هي تعطيه المنشفة ‪:‬‬
‫العم جهاد رجل خالص النية ‪ ،‬يشقى كثيرا في عمله ‪ ،‬ل يعرف عن هذا‬
‫السعيد ما نعرفه ‪ ،‬أقصد تعرفه انت ‪ ،‬لذا فقد وثق به جدا ‪ ،‬حتى أنه الن‬
‫يزورهم بانتظام و يتفقد أحوالهم بعد سفره ••‬

‫غير معقول ‪ ،‬غير معقول •• جلست سوسن إلى طاولة الطعام مجددا و‬
‫قالت و هي تأكل ‪:‬‬
‫إنه حتى سيرافق ريم إلى مكتب التنسيق ليساعدها في تسجيل رغبتها‬
‫مطلع الشهر القادم •• جلس سيد على كرسي الصالة منــدهشا ممـــــا‬
‫يســــمع و لم يحر جــوابا فقالت ســــوسن أو بالحرى عاجلته ‪:‬‬
‫الستاذ سعيد طلق زوجته منذ فترة و لبد انه يبحث عن عروس •• نظر‬
‫إليها سيد و صاح ‪:‬‬
‫يريد الزواج من ريم ؟ بسرعة أجابت ‪:‬‬
‫هو لم يصرح بهذا ‪ ،‬لكن كل الظواهر تدل عليه ‪ ،‬و لما ل و هو الن‬
‫يخدمهم ما استطاع إلى ذلك سبيل ‪ ،‬و غدا تصبح ريم في الجامعة طوال‬
‫النهار و ل مانع من أن يحاول توطيد علقته بها و زيارتها هناك من آن لخر‬
‫•• أنت تعرف ألعيب الشباب و خاصة من هم على شاكلة سعيد هذا ••‬
‫قال سيد بصوت منخفض ‪:‬‬
‫و ريم •• هل تشجعه ؟‬

‫أجابت بسرعة و هي تحمل الطباق ‪:‬‬


‫ل •• اطلقا •• ريم لم تفطن إلى محاولته ‪ ،‬لكنها وحدها سوف تصبح‬
‫لقمة سائغة له بعد قليل •• أنت تعرف ريم قليلة الحيلة و وجود الشخص‬
‫الخر أمامها دائما من شأنه أن يؤثر عليها •• ليتني استطيع مرافقتها حتى‬
‫أمنعه عنها •• قال سيد بتهكم مرير ‪:‬‬
‫و كيف تستطيعين منعه ‪ ،‬هل ستمنعينه إذا حاول محادثتها ؟ وضعت‬
‫الطباق على الطاولة مجددا و قالت بسرعة ‪:‬‬
‫ل •• و لكن مجرد وجود شخص بجانبها ‪ ،‬صديقة قوية مثل ‪ ،‬سيجعله يفكر‬
‫ألف مرة قبل القتراب منها ‪ ،‬فإذا اقترب لن تعدو كلماته السؤال عن أحوالها‬
‫‪ ،‬ثم لن يستطيع أن يزيد •• نظر إليها سيد بريب ‪ ،‬فنهضت سريعا و حملت‬
‫الطباق و ذهبت للمطبخ و هي تقول ‪:‬‬
‫ريم ابنة حلل ‪ ،‬جميلة و رقيقة و مهذبة جدا ‪ ،‬و هي بهذه الصفات مطمع‬
‫لكل شاب •• ألقى بنظراته أرضا و بدا و كأنه يوافقها تماما و استغرق في‬
‫تحليل ما سمع فأطلت عليه و سألته بدلل المنتصر ‪:‬‬
‫تشرب شاي ؟!!‬

‫لم تصدق ريم ما سمعته من صديقتها سوسن حين ذهبت لزيارتها عصر هذا‬
‫اليوم ‪ ،‬كانت سوسن تشرح لها بإسهاب طويل كيف انتهى الحوار بينها و بين‬
‫أخيها سيد بموافقته على ذهابها إلى الجامعة بل أنه حتى قرر أن يقدم لها‬
‫بنفسه في نفس الكلية التي ستذهب إليها ريم ‪ ،‬كانت تشرح بانطلق كبير و‬
‫سعادة فوق الوصف و لم يكن سيد هناك ليسمعها و هي تقول لصديقتها ‪:‬‬
‫أخيرا يا ريم ‪ ،‬أخيرا أيتها العزيزة سوف أذهب إلى الجــــامعة مثـــلك‬
‫تماما ‪ ،‬الفضل لك يا عزيزتي ‪ ،‬الفضل لك ••‬

‫قاطعتها ريم و كأنها تصيح‪:‬‬

‫‪ -‬غير معقول يا سوسن ‪ ،‬كيف تجرؤين على الزج بي في موضوع كهذا ‪ ،‬هل‬
‫تريدين القول أن سيد وافق على التحاقك بالجامعة فقط لتكوني عينا علي ؟!‬

‫تلعثمت سوسن أمام غضبة ريم غير المتوقعة و قالت في محاولة لتلطيف‬
‫الجو ‪:‬‬
‫و لكن يا ريم إذا كان هذا في حد ذاته سببا لدخولي الجامعة فلماذا ل‬
‫ندعيه لن نخسر شيئا يا صديقتي •• إنها مجرد حيلة ‪ ،‬حيلة فقط لدخل‬
‫الجامعة •• كورت ريم قبضتها ثم أرختها نحو الرض بسرعة و قالت بألم ‪:‬‬
‫و لكن لماذا أنا ؟ ابتسمت سوسن و نهضت فربتت على كتف ريم و قالت‬
‫ببساطة ‪:‬‬
‫لن سيد يحبك •• التفتت ريم و نظرت إليها بملء عيونها و صاحت‬
‫بتصميم ‪:‬‬
‫أما أنا فل •• ضحكت سوسن بهدوء المنتصرين و قالت ‪:‬‬
‫ما يعنيني أن يظل هو يحبك لظل أحقق ما أريد بهذا الحب •• نهضت ريم‬
‫و قالت و هي تمسك بحقيبتها إيذانا بالمغادرة ‪:‬‬
‫لكنك استخدمت أسلوبا رخيصا ‪ ،‬مجرد ادعائك له بأن ثمة شيئا بيني و بين‬
‫الستاذ سعيد كان خطأ كبيرا ل أحب أن أغفره لك •• سارعت سوسن و‬
‫حاولت أن تثنيها عن المضي نحو الباب قائلة بطريقة ذات مغزى ‪:‬‬
‫و هل حقا كان ادعاء ؟‬

‫نظرت إليها ريم حانقة و توجهت بسرعة نحو الباب فتحته و خرجت و لم‬
‫تلتفت لنداء صديقتها ‪ ،‬بمجرد خروجها استنشقت هواًء كثيرا و سارت بسرعة‬
‫باتجاه بيتها ‪ ،‬كانت عبارة سوسن تغلي في رأسها ‪ ،‬هل حقا كان ادعاء منها ‪،‬‬
‫أم أنها لمست شيئا حقيقيا نبت في قلب سعيد هذا تجاهك ‪ ،‬ما الذي يدفع‬
‫سعيد إلى ما يقوم به ‪ ،‬هل هي النسانية ‪ ،‬رعاية الجار و السؤال عنه ‪ ،‬هل‬
‫هي الشفقة ‪ ،‬أم هي أمر آخر بعيد عن كل هذا ‪ ،‬هل هو حقا يحبها ‪ ،‬نظراته‬
‫الولهى تقول هذا ‪ ،‬شغفه بلقائها يقول هذا ‪ ،‬سعيه الدائم لرضائها ينبيء‬
‫صراحة عن هذا ‪ ،‬ما هو الحب •• ما هو هذا الشعور ‪ ،‬كيف يمكن وصفه ‪،‬‬
‫وهل ‪ ،‬هل تشعر هي به ‪ ،‬لماذا ترق نظراتها حين تطالعه فتعطيه استعطافا‬
‫بدل من الغضب ‪ ،‬و رجاء بدل من الصد ‪ ،‬لماذا تحب أن تسمعه يتكلم و‬
‫تراقب تفاحة آدم في عنـــقه و هي تجـــري صعودا و هبوطا أثناء حديثه ‪،‬‬
‫لماذا تشعر أنه يسير دوما في التجاه الصحيح و يفكر و يقرر كرجل ناضج‬
‫ليس لقراره من رفض ‪ ،‬أو ممانعة ‪ ،‬عندما ذهبت إليه ترجوه أن يثني والدها ‪،‬‬
‫لماذا اختارته هو بالذات و لماذا لم تغضب عليه أو حتى تكرهه عندما جاء إلى‬
‫أبيها واشيا و أخبره أنها قابلته و حدثته ‪ ،‬لمــاذا لم يغضبها هـــذا التصرف ‪،‬‬
‫بل لمـــاذا أعجــبها و جعل منزلته أعظم لديها ‪ ،‬و لماذا وثق به أبوها و جعل‬
‫منه و هو الشاب اللهي المعروف بنزواته أمينا على عائلتهم بعد سفره ••ما‬
‫الحكاية ‪ ،‬هل هو الحب •• وهل ما قالته سوسن لخيها محض ادعاء ؟‬

‫وصلت إلى منزلها و لم تكن و هي تسير ترى الطريق ‪ ،‬كل ما كانت تشعر به‬
‫وقتئذ أنها تريد الوصول إلى البيت بأسرع وقت لترسم ‪ ،‬شيئا ما يغلي و يهدر‬
‫داخلها و تريد أن تخرجه على اللوحة البيضاء في انتظارها و لبد أن تفعل ‪،،،‬‬

‫كانت خطواتها صارمة أكثر من المعتاد كأنها غاضبة ‪ ،‬هذا ما قاله سعيد في‬
‫نفسه و هو يراها تتجه إلى البيت ‪ ،‬أصبح يعرف بماذا تشعر حتى من خطواتها‬
‫فلماذا تبدو هذه المخلوقة الضعيفة القوية جدا غاضبة •• ظلت عيونه تراقبها‬
‫من الشرفة حتى استدارت باتجاه بابهم و اختفت عن عيونه ‪ ،‬لكنها لم تختف‬
‫من أمامه ‪ ،‬ظلت بكامل هيئتها تشاغل خياله و سؤال كبير يضايقه بإلحاحه ‪:‬‬
‫مم هي غاضبة ••‬

‫أسرع فغير ملبسه و ارتدى ملبس الخروج ‪ ،‬كان مدفوعا بشيء أقوى منه و‬
‫هو يتصرف ‪ ،‬كان يتحرك بآليه غريبة ‪ ،‬يلبس الملبس و الجوارب و الحذاء ‪،‬‬
‫يمشط شعره يضــع عطــرا و يستعد للخروج ‪ ،‬طالع وجهه في مرآة الباب و‬
‫فجأة توقف ‪ ،‬نظر إلى نفسه مليا و تنهد ثم قال لصورته ‪:‬‬

‫غبي •• عاد بخطوات متثاقلة و بآلية بطيئة يبدل ملبسه و جواربه و‬


‫حذاءه و يتسلل بهدوء إلى الشرفة يراقب النافذة المغلقة و يتساءل سؤال‬
‫كالهدير ‪:‬‬

‫لماذا هي غاضبة ؟ عندما دخلت ريم إلى المنزل كانت أمها في الصالة‬
‫ترتب الثياب المغسولة و تطويها نظرت إلى وجهها و عرفت أن ثمة شيء ‪ ،‬و‬
‫عندما حادثت ابنتها و استمعت اليها و هي تحكي التفاصيل بكثير من الحزن و‬
‫الصدمة حوقلت و بسملت و قالت لبنتها ‪:‬‬
‫اللهم اكفينا شر أولد الحرام ••‬

‫و عندما دخلت ريم إلى حجرتها لتبدل ملبسها قالت الم و هي تتنهد ‪:‬‬

‫شيء ما في هذه السوسن ل يريحني •• لكن ريم كانت تشعر بشيء‬


‫مختلف •• سارعت إلى نافذتها المغلقة و فتحتها و نظرت مباشرة إلى‬
‫الشرفة أمامها ‪ ،‬كان سعيد واقفا و عوضا عن إغلق نافذتها بسرعة وجدت‬
‫نفسها تبتسم ابتسامة كبيرة مضيئة مليئة بأشياء كثيرة انسكبت كلها رغما‬
‫عنها فوق هذا الرجل في شرفته يطالعها بشغف ‪ ،‬و عندما استدارت كان هما‬
‫كبيرا قد أزيح عن كاهلها و شعرت بنفسها خفيفة الحركة فاتجهت بسرعة‬
‫نحو لوحتها و شرعت في الرســم و هي تدندن أغنية و ابتسامة جميلة لم‬
‫تفارق وجهها ••‬

‫صبيحة اليوم التالي كانت ريم مستعدة تماما ‪ ،‬مرتدية ملبس الخروج النيقة‬
‫البسيطة ‪ ،‬أفطرت و هي تبادل أختها المداعبات و تمل البيت ضجيجا ‪ ،‬و ترد‬
‫على أسئلة أمها العادية بمرح و حماس و تطلب إليها أل تكف عن الدعاء لها‬
‫و انتقلت إلى المنزل عدوى مرح ريم فبدا كل شيء جميل و مرحا ‪ ،‬و في‬
‫تمام الثامنة و النصف دق الباب و سارعت ريم لفتحه ‪ ،‬كان سعيد واقفا على‬
‫الباب قلقا ينظر في الساعة و يزفر أنفاسا سريعة و عندما فتحت له ريم‬
‫تطلع في وجهها و في ثوان أصابته عدواها فوجد نفسه يهدأ ويبتسم رغما عنه‬
‫و قال ‪:‬‬
‫اعتقدت أنني تأخرت •• هزت ريم رأسها و ابتسامتها لم تفارقها و قالت ‪:‬‬

‫أبدا ‪ ،‬بالعكس توقعت أن تتأخر أكثر فلبد أنك ذهبت لعملك لتأخذ اليوم‬
‫إجازة أليس كذلك ؟‬

‫هز رأسه نفيا و قال و هو يبتسم ‪:‬‬

‫ل •• لقد تأخرت في النوم •• حدث سعيد سرق النوم مني •• فقالت‬


‫الم ‪:‬‬

‫صباح الخير يا أستاذ سعيد ‪ ،‬أرجو أل يزعجك مشوار اليوم •• تبادل سعيد‬
‫و ريم النظر و كأنهما اتفقا خلل هذه النظرة على استنكار قول الم و لكنهما‬
‫لم يعلقا ‪ ،‬و قالت ريم ‪:‬‬

‫أنا مستعدة •• فقال سعيد ‪:‬‬

‫و أنا مستعد ••‬

‫إل أن الم استوقفت ريم و قالت ‪:‬‬

‫بدون أوراق ؟‬

‫انتبهت ريم إلى أنها لم تحضر الملف و ل حقيبة يدها ‪ ،‬لم تستأذن سعيد فقط‬
‫نظرت اليه و ركضت باتجاه غرفتها ‪ ،‬و عندما حملت الملف و الحقيبة و‬
‫أقفلت عائدة وجدت أمها في تجويف باب غرفتها تنظر اليها ‪ ،‬تبــادلتا النظر و‬
‫فهــــمت كل واحــدة مــــنهن الخــــرى و احتضنت ريم أمها و ضغطت على‬
‫جسدها و هي تقول ‪:‬‬
‫اطمئني يا أمي ••‬

‫افلتتها و عدت و هي تقول ‪:‬‬

‫ل تنسينا من الدعاء ••‬

‫قالت الم ‪:‬‬

‫اللهم وفقها و أبعد عنها أولد الحرام و أهدها طريقك المستقيم ••‬

‫كان سعيد بانتظارها في الخارج و عندما أهلت تطلع إليها مبتسما و راقبها و‬
‫هي تحازيه و سارا معا ‪ ،‬كان لبد لمن ينظر إليهما من بعيد أن يلحظ اتساق‬
‫خطوهما ‪ ،‬و كان لبد أن يلحظ أيضا أن هذين الكائنين يرتبطان بشيء بل‬
‫اسم ‪ ،‬و كان لبد أيضا أن يلحظ انهما صامتان •• و اخيرا فلبد أن الناظر‬
‫إليهما عن بعد كان لبد أن يكون سيد ‪ ،‬الذي اعتذر عن العمل و صحب اخته‬
‫و سار بها في نفس الوقت مع ريم و سعيد ‪ ،‬و لذا فلم تكن صدفة أبدا أن‬
‫سمعت ريم صوت سوسن بعد قليل ينــاديها و عندما التفـــتت رأتهـــا و‬
‫أخاها و في لحظات أصبح الموكب الذي كان صغيرا متفائل ‪ ،‬كبيرا واجما و‬
‫همست سوسن لريم ‪:‬‬

‫آمل أل تكوني غاضبة مني ••‬

‫ضغطت ريم على ملفها و همست ‪:‬‬

‫ل ••‬

‫و انتهى الحديث‬

‫ظل الجمع يسير سويا ‪ ،‬سعيد و سيد و كلماتهم المقتـــضبة التي تخبيء‬
‫أكـــثر مما تظهر و ريم و سوسن اللتان اكتفتا بالصمت الطويل ‪ ،‬استقل‬
‫الجميع الحافلة و أصر سعيدا أن يدفع للجميع ‪ ،‬و جلست البنتان ووقف‬
‫الشابان و كل واحدا في هذا الفريق كان يردد كلما ل يتماشى مع الخر و‬
‫يشكل في مجموعه أغنية نشاز من يسمعها ينفر منها إل أنها كانت لحسن‬
‫الحظ حبيسة الشفاه ••‬

‫كانت الم تستمع إلى تفاصيل اليوم من ريم و هي مصغية أشـــد الصغاء و‬
‫بين كل عبارة و أخرى كانت تردد دعاًء ‪ ،‬حكت لها ريم عن الزحام في مكتب‬
‫التنسيق و عن أوراقها التي اختلفت عن بقية أوراق البنات و الشباب الذين‬
‫جاءوا للتسجيل و تحديد الرغبات ‪ ،‬قالت لها أن أوراقها كانت فيها فقط‬
‫خمس رغبات في حين كانت رغبات الشباب المصري تفوق الثلثين و علقت‬
‫الم ‪:‬‬

‫في النهاية هو مكان واحد لكل واحد ••‬

‫ابتسمت ريم و استطردت ‪:‬‬

‫كتبت في الرغبات الثلث الول كلية الفنون الجميلة و في الثنتين الباقيتين‬


‫كليتي التربية و التجارة ‪ ،‬الستاذ سعيد نصحني بهذا •• ضحكت الم و أكملت‬
‫‪:‬‬

‫و هكذا انتهت حيرتك سريعا فيما جلس الباقون يكتبون أكثر من ثلثين‬
‫رغبة و هم في غاية الحيرة ‪ ،‬أليس حالك أفضل ؟ تنهدت ريم و قالت ‪:‬‬

‫بلى و لله الحمد ‪ ،‬أرجو من الله أن يوفقني و أن يقبلوا بي و أل يضيع سفر‬


‫أبي بدون مقابل •• أمنت الم على دعائها و زادت عليه و عندما همت ريم‬
‫بالذهاب إلى غرفتها سألتها الم عن رفقتها و كيف كانت فعادت أدراجها و‬
‫جلست على الرض أمام أمها و قالت ‪:‬‬
‫سار كل شيء على ما يرام ‪ ،‬رغم محاولت سيد أن يتدخل فيما أكتب و‬
‫رغم أنه أصر أن تكتــب أخته مثلما كتبت في رغباتها الخمس الول ‪ ،‬ثم أن‬
‫سعيدا كان صامتا طوال الوقت •• و قالت الم ‪:‬‬

‫لم يتكلم ابدا ••؟‬

‫نهضت ريم و هي تهز رأسها و توجهت إلى غرفتها و همست لنفسها ‪:‬‬

‫لم يقل إل عبارة واحدة و هو يودعني رغـــم العـــيون حولنا " هذا أجـــمل‬
‫أيـــام عمــري و ابتسامتك لن أنساها "••‬

‫تطلعت إلى وجهها في المرآة ‪ ،‬كانت حمرة جميلة تعلو خدودها ‪ ،‬و كان‬
‫شعرها قد تشعث قليل إل أنها بدت جميلة ‪ ،‬حتى أنها لحظت أن عيونها‬
‫تبتسم •• رفعت رأســــها للسمـــاء و قالت ‪:‬‬

‫يا رب •• توجهت الى خزانة الملبس ‪ ،‬أخذت من رفها العلوي حزمة‬


‫الورق و الظروف و جلست على السرير ووضعت الوسادة على حجرها و‬
‫شرعت في الكتابة‬

‫" ابي الحبيب •• كيف حالك يا أعظم أب ‪ ،‬هل تشعر بي يا أبي على البعد ‪،‬‬
‫أنا و الله أشعر بك ‪ ،‬أحس بك في كل لحظة ‪ ،‬ل تفارقني نظراتك و ل تغيب‬
‫عني كلماتك و ل أنسى و لن أنسى تضحياتك من أجلنا ‪ ،‬اليوم يا أبي سطرت‬
‫أول سطر في كتابي الذي أردتني أن أكتبه ‪ ،‬خطوت أول خطوة في الطريق‬
‫الذي مهدته لي بصبرك و شقائك و غربتك ‪ ،‬اليوم يا أبي ذهبت إلى مكتب‬
‫التنسيق ‪ ،‬كان معي كل من سوسن و أخيها و الستاذ سعيد ‪ ،‬سجلت رغباتي‬
‫و كأنني أسجل رغباتك ‪ ،‬كنت أريدك معي يا أبي ‪ ،‬لقد طمأنني الستاذ سعيد‬
‫بأن النتيجة ستكون بعد أسبوعين في صالحي إن شاء الله ‪ ،‬لقد اخذ وعدا‬
‫بهذا أمامي من الموظف معرفته في المكتب ••‬

‫أبي إنني سعيدة ‪ ،‬سعيدة جدا و ل يضايقني إل أنك بعيد ل تستطيع أن‬
‫تلـــمس سعادتي و ل أستطيع أن أهديها لك و لو حتى بنظرة امتنان ‪ ،‬لكنك‬
‫لبد تشعر بها ‪ ،‬فقلبك الرقيق معنا و حبك في قلوبنا و لن ننساك أبدا وفقك‬
‫الله و سدد خطاك ‪ ،‬اطمئن نحن جميعا بخير و أمي دائما تذكرك و تدعو لك‬
‫و سمر تسأل عنك و قاسم أدى امتحاناته كأحسن ما يكون •• دمت لي يا‬
‫أغلى أب‬

‫ابنتك المحبة •• ريم ••"‬


‫عندما أغلقت ريم رسالتها تذكرت أن ل عنوان لديها يمكنها أن ترسلها عليه ‪،‬‬
‫فذهبت إلى أمها تسألها فقالت الم ‪:‬‬

‫أتوقع قريبا إن شاء الله رسالة منه و لعلها تكون في الطريق الن يا ريم ‪،‬‬
‫من يدري ؟ احتفظي برسالتك و سنرسلها حالما تصل رسالة منه ‪ ،‬اللهم‬
‫طمأننا عليه يا واسع الرحمات •• عندما التف الجميع على سفرة الغذاء ‪،‬‬
‫كان الحديث كثير كثير ‪ ،‬قاسم يحكي و ريم تحكي و سمر تعلق تعليقات‬
‫ظريفة و أمهم تحثهم على الكل و تدعو لهم و لوالدهم ••‬

‫كان يوما مميزا جدا لديهم و لدى سعيد و لدى سوسن ‪ ،‬و الوحيد الذي كان‬
‫يشعر ضيقا كبيرا كان سيد ‪ ،‬لقد شعر فجأة أنه كان مسيرا في أمر ادخال‬
‫أخته الجامعة ‪ ،‬و أنه اندفع لول مرة في طريق لم يكن له فيه خيار ‪ ،‬و سأل‬
‫نفسه إن كان تعلقه بريم سيدفعه إلى المزيد من التنازلت ‪ ،‬و سأل نفسه‬
‫إن كان حقا يريدها خاصة بعد أن تصبح جامعية ‪ ،‬هل ستناسبه ‪ ،‬و أفكاره عن‬
‫الزواج أين ذهــــبت ‪ ،‬كان رأســـه يكاد ينفجر ‪ ،‬كل المور فجــأة و بسرعة‬
‫انقلبت رأسا على عقب ‪ ،‬تغير اليوم ما لم يكن متوقعا له التغيير يوما فهل‬
‫سيستطيع مواكبة هذا التغيير و تقبله ؟ كان يريد أن يحادثها على انفراد و باية‬
‫طريقة و مهما كانت العواقب لذا اندفع إلى غرفة سوسن و صاح مناديا‬
‫إياها ‪ ،‬فلما لبته و جاءت سريعا قرأت في عيونه حيرته و سمعت في تنفسه‬
‫غضبته و توقـــعت شـــرا فلم تتــكلم و انتظرته أن يبادر فقال ‪:‬‬
‫أريد أن اعرف شيئا هاما الن ••‬

‫نظرت إليه متسائلة فأكمل ‪:‬‬

‫ريم •• هل تريدني أم ل ؟ تطلعت إليه سوسن لكنها هذه المرة حاولت‬


‫إجهاض ابتسامة تريد أن تفضح نفسها و قالت ببراءة ‪:‬‬
‫ريم ؟ ماذا تعني ؟ السؤال الصحيح هو أنت تريدها أم ل ؟ نظر إليها أخوها‬
‫و لسان حاله يقول "أل تعرفين ؟ " لكنه لم يتكلم فأكملت ‪:‬‬
‫كيف تريد لريم أن تحدد موقفها منك و أنت لم تحدد موقفك أو على القل‬
‫تعلنه حتى الن ؟ جلس سيد على الكرسي و همس ‪:‬‬
‫أنا أريدها •• ضحكت سوسن و قالت ‪:‬‬
‫اذن لبد أن تعرف هي هذا‬
‫و كيف ؟ صمتت قليل ‪ ،‬كانت تفكر و تحاول وزن المور في رأسها ‪ ،‬لو أنها‬
‫دفعت أخاها الى حديث صريح في هذا الوقت بالذات لصبح ذهابها إلى‬
‫الجامعة رهن بموقف ريم ‪ ،‬ذلك الموقف الذي تعرفه تماما ‪ ،‬فكرت أنها يجب‬
‫أل تخاطر باقتراح يضيع عليها فرصتها لذا قالت ‪:‬‬
‫أعتقد يا أخي أن هذا المر يمكن أن يتم بعدة خطوات ‪ ،‬أولها أن أحاول أنا‬
‫مــكـاشفتها ‪ ،‬و أعتقد أنها ستمانع ‪ ،‬طبعا خجل البنات سيمنعها من القبول‬
‫السريع ‪ ،‬عندها تبدأ أنت الخطوة الثانية ‪ ،‬و هذه لن تكون قبل دخولنا ‪ ،‬أقصد‬
‫دخولها الجامعة ‪ ،‬إذ هناك ‪ ،‬و هناك فقط بإمكانك أن تكلمها كما تشاء و‬
‫الحجة دائما موجـــودة و هي أنك جــئت لتصحبني ‪ ،‬أو للسؤال عني و ما إلى‬
‫ذلك •• قال سيد بكثير من الفضول ‪:‬‬
‫أتعتقدين أن هذه هي الطريقة المثلى ؟ أجابت بسرعة ‪:‬‬
‫و لكن ليس قبل التحاقنا بالجامعة ‪ ،‬فقبلها لن تستطيع أبدا •• صدقني ••‬
‫تنهد سيد و فجأة قال ‪:‬‬
‫و لماذا ل أختصر المسافة و أخطبها فورا •• استشعرت سوسن الخطر‬
‫مجددا فصاحت ‪:‬‬

‫ل يمكن ••‬

‫ثم بهدوء قالت ‪:‬‬

‫ل يمكن لن أباها مسافر و لن أمها أكدت لك أن ريم لن تتزوج قبل إنهاء‬


‫دراستها ‪ ،‬أليس كذلك ؟ هز سيد رأسه موافقا و ابتسمت سوسن و عادت‬
‫تقول بدلل المنتصرين ‪:‬‬
‫تشرب شاي ؟ *** حملت اليام القليلة الباقية على إعلن نتائج التنسيق‬
‫أكثر من أمر هام لريم فقد وصلت من أبيها الرسالة الولى و كانت سطورها‬
‫تشي بسعادة الب الكبيرة بتوجيهه للعمل في توسعة المسجد الحرام بمكة‬
‫المكرمة و ترك في الرسالة عنوانا يستطيعون مراسلته عليه ‪ ،‬و انتهت‬
‫امتحانات قاسم على خير و أرسلت ريم لبيها خطابها الول و بدت المور‬
‫أكثر مرونة و أكثر تحمل ‪ ،‬و لم تعد هناك أشياء تنغص على ريم استبشارها و‬
‫انتظارها للنتيجة المرتقبة ‪ ،‬و كان سعيد يداوم على زيارتهم و تفقد أحوالهم‬
‫فيــجلس معه قـــاسم و تجلس الم و أحيانا تجلس ريم بعد أن تعد أكواب‬
‫الشاي للجميع ‪ ،‬و بدا أن روحا عائلية تلفهم في كل جلسة فيتحدث الجميع‬
‫في أموره براحة و بدون خجل حتى أن الم فتحت مع سعيد موضوع زوجته و‬
‫تحدثت معه مطول فيه ‪:‬‬
‫مريم ابنة حلل يا أستاذ سعيد فلماذا العناد ••؟‬

‫ابتسم سعيد و قال و هو يرشف كوبه و كأنه كان متوقعا لهذا السؤال منذ‬
‫زمن ‪:‬‬
‫هي بالفعل ابنة حلل ‪ ،‬لكنها ل تناسبني ‪ ،‬لم نستطع مواصلة الحياة معا و‬
‫كان لبد من الفراق‬
‫و الولد يا ولدي ؟‬

‫الولد من مصلحتهم أن يكون أبواهم منفصلين بدل من حياة لجدوى من‬


‫ورائها ‪ ،‬حياة يشكل العراك قسماتها و أنت تعرفين يا خالتي أن العراك ل‬
‫يهيء جوا صحيحا لتنشئة الصغار •• كانت ريم تستمع إلى الحديث و أكثر من‬
‫سؤال يراودها ‪ ،‬لكنها لم تشأ أن تتدخل فهذا الحديث لم يغير كثيرا من‬
‫حكمها الول عليه ‪ ،‬إن العيب فيه بكل تأكيد و إن الظلم كان من طرفه ‪ ،‬و‬
‫عندما وجه إليها سعيد سؤاله لم تكن منتبهة تماما لما يقول فأعاده ثانية ‪:‬‬
‫آنسة ريم ‪ ،‬ما رأيك بالموضوع ••‬

‫نظرت إليه مليا و نقلت نظراتها الى أمها ‪ ،‬ثم أرخت عيونها و قالت بغموض ‪:‬‬

‫كل امرىء أدرى بما يحتاج •• ابتسم سعيد مطمئنا إلى إجابتها و استأذن‬
‫بالنصراف ••‬
‫و برز في حياتهما موعد متجدد بين سعيد و ريم ‪ ،‬موعد لم يتفقا عليه أبدا و‬
‫لم يحددا وقته أبدا ‪ ،‬إل أنه أصبح عادة هامة في حياة كل منهما ‪ ،‬لبد أن‬
‫يحدث عندما يأتي المساء ‪ ،‬لبد أن يجلس سعيد في شرفته يرشف شايه و‬
‫يتطلع إلى النافذة الثيرة و بعد قليل ‪ ،‬دائما بعد قليل تفتح ريم نافذتها و‬
‫تتطلع اليه و تبتسم و يبتسم ثم تغلق نافذتها ‪ ،‬كان هذا المر يتكرر كل ليلة‬
‫منذ الليلة التي انقلب فيها حال ريم من الغضب إلى السلم عندما حدث لول‬
‫مرة أن ابتسمت له ‪ ،‬أصبحت هذه البتسامات القليلة النادرة رسالة شفهية‬
‫يرسلها كل منهما إلى الخر في المساء دون أن يحددا ما بعدها و دون أن‬
‫يرسما طريقا قد تقود اليه ‪ ،‬و كم تعجب سعيد في نفسه من نفسه ‪ ،‬تعجب‬
‫من أنه أبدا لم يفكر في خطوة مقبلة ‪ ،‬في طريقة تجعل من البتسامة كلمة‬
‫و موعدا و لقاًء ‪ ،‬لم يفكر في هذا المر أبدا و لم يخطر بباله أن ابتسامات‬
‫المساء المتبادلة ‪ ،‬بداية لشيء أكبر ‪ ،‬كان كل اهتمامه منصب على أن تدوم‬
‫هذه العادة و آل تنقطع ‪ ،‬و كان دائما لديه يقين بمجرد جلوسه في الشرفة أن‬
‫القليل سيمضي سريعا لتخرج ريم •• كان يترجم ابتسامتها حلما طويل يقتات‬
‫منه حتى آخر الليل عندما ينهض لينام ‪ ،‬كانت البتسامة الصغيـــرة تعني‬
‫كــلما كثــيرا يتبادلــه و إياها في مخيلته فيرضيه و لكنه ل يشبع منه ‪ ،‬لذا‬
‫أصبـــح شـــديد التعلـــق بالشــرفة و أصبح قليل الخروج و السهر ليل خارج‬
‫المنزل و حتى عندما زاره أحد الصدقاء ذات ليلة ليسأله عن حاله و سبب‬
‫ابتعاده ‪ ،‬تعمد أل يفتح الشرفة في وجوده حتى ل يخدش عالما له وحده و‬
‫حاول جاهدا أن يقنعه أنه ل يريد العودة لسالف عهده فهذا أمر تزهده نفسه‬
‫و تحتقره جوارحه و ل يدري حتى كيف أنه كان يمارسه ••‬

‫آه •• يا إلهي إلى هذا الحد ؟‬


‫و أكثر •• إلى هذا الحد و أكثر ياصديقي ‪ ،‬إنني أتساءل كيف كانت تلك‬
‫حياتي ‪ ،‬كيف كنت أراهن على إضاعة عمري في لهو ماجن ل يليق ‪ ،‬أشعر‬
‫بالصغار الشديد كلما فكرت أنني كنت بهذا الحال ‪ ،‬إنها أتفه المور التي‬
‫تحكمت في لفترة من عمري و قبعت كشيء بالغ الهمية لتسمني إلى البد‬
‫بالتفاهة و الوضاعة ••‬

‫و لكن هذا لم يكن رأيك فما الذي غيرك ؟‬


‫عندما يعود المرء إلى فطرته النظيفة ل يسمى هذا تغيرا بل إن ما كنت‬
‫فيه هو التغيير الذي لحق بي لفترة ثم عادت المور لصحيح وضعها •• عندما‬
‫رحل الصديق يائسا ‪ ،‬سارع سعيد بالوقوف في الشرفة ‪ ،‬كان يدعو الله من‬
‫داخله أل تكون ريم قد فتحت نافذتها و أغلقتها أثناء غيابه ‪ ،‬و سأل نفسه إن‬
‫كان حقا مقتنعا بما قاله لصديقه ‪ ،‬و فوجيء بأن صوتا قويا داخله يزجره عن‬
‫مجرد سؤال نفسه كهذا السؤال فهو الن في مكان ل يليق أن يفكر و هو فيه‬
‫بكل أدران الماضي و ينبغي فقط أن يكون تفكيره في مستقبل ينتظره بعد‬
‫دقيقة واحدة مستقبل ينحصر في ابتسامة تأتي عبر الليل بينهما ‪ ،‬تحملها‬
‫شعاعات خافته ترسلها أضواء البيوت و الشوارع النائمة ‪ ،‬و ظل يتطلع عبر‬
‫الشرفة فترة لبد أنها طالت كثيرا لن اغفاءة أخذته و حملته الى أجواء الحلم‬
‫الوردي حيث مكان ل أرض فيه و ل جدران و ل نوافذ ‪ ،‬ل شيء إل هو و هي‬
‫فقط معا ‪ ،‬يده في يدها •• و الدنيا تتحول حولهما إلى عالم أسطوري من‬
‫الجمال وفجأة سطع نور قوي من بين كفوفهما المتماسكة ‪ ،‬نور قوي جدا ‪،‬‬
‫قوي إلى درجة الحريق ‪ ،‬انتبه عليه فإذا الشمس تفترش رأسه و إذا هو‬
‫صباح جديد يدعوه أن يفيق •• *** و حملت اليام القادمة البشرى إلى ريم ‪،‬‬
‫ريح طيبة عبقت أركان بيتهم و ملت جوانحها طربا ‪ ،‬ففقدت كل إحساس لها‬
‫بكل الوجوه من حولها ‪ ،‬بوجه سعيد الباسم يحمل البشرى و وجه أمها الباكي‬
‫تقبلها فتختلط الدموع بالدعوات بالتبريك ‪ ،‬ووجه قاسم تغلفه الفرحة و يقسم‬
‫أن يمضيها ليلة راقصة لجل عيون أخته و وجه سمر التي راحت تتراقص و‬
‫تردد بصوت عالي‪:‬‬

‫أختي ريم ستدخل الجامعة ‪ ،‬أختي ريم ستدخل الجامعة‬

‫فقدت ريم الحساس بكل هذه الوجوه من حولها ‪ ،‬إل وجها واحدا كان يرسم‬
‫نفسه و بقوة فوق الحدث ‪ ،‬تراه مهيمنا على كل المشاعر و على كل‬
‫الموقف ‪ ،‬وجه فرض نفسه بقوة الحب و قوة الصبر و قوة التضحية ‪ ،‬إنه‬
‫وجه أبيها ‪ ،‬كانت تراه في هذه اللحظة قويا حتى أن انفاسه غطت على‬
‫الهدير الصاخب حولها ‪ ،‬شعرت أن جسدها فقط هو الذي يعيش الحدث ‪،‬‬
‫تشعر بنفسها تلف لتبتسم و ترد التبريكات بأحسن منها و تأمن على الدعوات‬
‫و تدعو بالعقبى لخيها و هي في كل هذا مسيرة ل تعيش اللحظة معهم ‪،‬‬
‫إحساس طغى عليها كثيرا و لول مرة تشعر به بهذه القوة كانت تريد أباها ‪،‬‬
‫تريده الن ‪ ،‬تريد أن تخبره أن يده هي التي كتبت هذه اللحظات و صبره هو‬
‫الذي أوصلها إليها و تضحيته هي التي قدمتها لها ‪ ،‬كانت تريد أن تجثو أمامه‬
‫تقبل يمينه و تغسلهما بدموع الفرحة و تؤكد له بل تقسم بأنها ستحافظ على‬
‫الهدية الغالية الثمينة ستحافظ عليها كما أراد و ستصبح كما تمنى •• ووجه‬
‫واحد من الوجوه حولها شعر بها و بقوة ‪ ،‬وجه واحد لمس غيابها عنهم رغم‬
‫تجاوبها السطحي معهم ‪ ،‬قلب واحد كانت نبضاته معلقة بنبضات القلب الذي‬
‫تخبئه جوانحها ‪ ،‬يدق نفس الدقة و ينبض ذات النبضات ‪ ،‬كان سعيد ‪ ،‬ذلك‬
‫الذي ارتبطت أقداره بها منذ اللحظة الولى و تقمصته أحاسيسها منذ رفعت‬
‫إليه عينا بالرجاء ذات يوم ‪ ،‬كان يعرف تماما ما تفكر به و ما تشعر به ‪ ،‬كان‬
‫يفهم اختلط اللهفة بالفرحة في قلبها و كان يشفق عليها من احاسيس‬
‫اللحظة و للمرة اللف شعر أنه يريد أن يضمها إليه ‪ ،‬شعر أن أقصى ما‬
‫تحتاجه هذه المخلوقة شفافة القلب أن تتوسد كتف شخص محب ‪ ،‬كان‬
‫يعرف أن احتياجها لهذه الكتف الذي يحمل ‪ ،‬أكثر من احتياجها لكل هذا‬
‫الصخب ‪ ،‬لكل هذه الكلمات •• كان يشعر بها ‪ ،‬يحترق بها ‪ ،‬يتنفسها ‪،‬‬
‫يترسمها ‪ ،‬يترجم أنفاسها حريقا في قلبه ‪ ،‬كان يتمنى لو أن حلمه الوردي‬
‫ذلك المساء أصبح أمرا واقعا ‪ ،‬كان يتمنى لو تختفي الجدران و النوافذ و‬
‫الرض و البشر و تصبح هي معه ‪ ،‬وحدهما و بين كفيهما المتلصقين يسطع‬
‫النور ••‬
‫كف الصخب فجأة و هدأت الصوات و قالت الم من بين دموعها ‪:‬‬
‫لن أنسى لك أبدا موقفك يا أستاذ سعيد ‪ ،‬يا حامل البشرى •• تمتم ‪:‬‬

‫هي تستحق •• استدرك فقال ‪:‬‬


‫لكنني لم أفعل شيئا هي كتبت و هم وافقوا و ريم الن طالبة مسجلة‬
‫بالسنة الولى في كلية الفنون الجميلة ‪ ،‬هذا كل شيء ••‬

‫هزت ريم رأسها و نظرت إليه ممتنة و قالت ‪:‬‬

‫لو لم تفعل شيئا إل أن أتيت بهذا الخبر لكفى يا أستاذ سعيد ‪ ،‬لقد أسعدت‬
‫قلوب كثيرة به •• و أشارت لكل من حولها ‪ ،‬فقال مبتسما ‪:‬‬
‫و قلبك أيضا ؟‬

‫ابتسمت و قالت ‪:‬‬


‫القلب الذي حقا يحتاج للفرح الن هو قلب أبي •• بحماس قال ‪:‬‬

‫و ماذا تنتظرين ‪ ،‬هيا اكتبي الخطاب و سأرسله بنفسي اليوم و في البريد‬


‫المستعجل أو إن شئت في برقية •• كان يريد أن يكمل "أو إن شئت أطير‬
‫به بنفسي ‪ ،‬المهم أن تسعدي و تظل ابتسامتك ملء العين و الفؤاد "‬

‫لكنه لم يقل •• و هي رغم غرابة الكلمات غير المنطوقة سمعتها ‪ ،‬سمعتها‬


‫في ارتعاشة أهدابه و ابتعاد نظرته إلى عمق سحيق في عيونه السوداء ‪،‬‬
‫سمعتها في إحساسه بها الذي ترجمه بهذا الطلب ••سمعتها فأرخت عيونها‬
‫أرضا ‪ ،‬و انتظرت أن تعرف من الطارق عندما ذهب أخوها ليفتح الباب ‪ ،‬كان‬
‫الباب يــدق دقـــة فرح عالية ‪ ،‬دقــة سعيدة و دخلت سوسن ‪ ،‬لم تنتبه إلى‬
‫احد ركضت فورا باتجاه ريم احتضنتها و صاحت ‪:‬‬

‫نحن في الجامعة الن ‪ ،‬نحن في الجامعة الن ••‬

‫كان سيد واقفا ما زال على الباب ‪ ،‬صــحب أخــته إلى مكتب التنســـيق ‪،‬‬
‫سير إليها انتهى بنجاح‬
‫عرف النتــيجة و عرف أن قسما كبيرا من الخطة التي ُ‬
‫‪ ،‬و عندما طلبت إليه سوسن المرور على ريم لتهنئتها ‪ ،‬وافق فورا فهذا ما‬
‫يريد ‪ ،‬و عندما فتح قـــاسم البـــاب و اندفعت سوسن الى ريم ‪ ،‬اقتحمت‬
‫عيونه هيئة سعيد ‪ ،‬تسمر في مكانه ‪ ،‬و تبادل معه نظرات عداء مستتر و‬
‫عندما دعته الم للدخول اعتذر بحزم و قال ‪:‬‬
‫كنا نريد أن نكون أول المهنئين و لكن يبدو أن الستاذ سعيد سبقنا ••‬
‫ابتسم سعيد و شعر أنه يريد أن يجرحه فقال ‪:‬‬

‫أنا دائما الول يا عزيزي •• صاح سيد فافزع سمر ‪:‬‬


‫هيا يا سوسن •• نظرت سوسن إلى ريم نظرة رجاء فهمتها على الفور‬
‫فقالت لسيد بصوت منخفض ‪:‬‬
‫أستاذ سيد ‪ ،‬آمل أن تترك لي سوسن لبعض الوقت ‪ ،‬لنفرح سويا بقبولنا‬
‫في الجامعة ‪ ،‬إذا لم يكن يضايقك المر ••‬

‫نظر إليها غاضبا ‪ ،‬لكن نظرتها الهادئة و صوتها الذي يوجــه إليــه الكــلم‬
‫للمـــرة الولى و أشياء أخرى كثيرة كانت وراء اختفاء الغضب و عودة‬
‫الوداعة و الجابة المطلوبة ‪:‬‬

‫حسنا ‪ ،‬إذا كانت هذه رغبتك ••‬

‫نظر إلى سعيد ‪ ،‬فقال الخير على الفور ‪:‬‬

‫أستئذن أنا ‪ ،‬مبروك مرة أخرى يا آنسة ريم ‪ ،‬مبروك آنسة سوسن •• إلى‬
‫اللقاء خرج من الباب بعد أن أفسح له سيد مجال و قال قبل أن يلحق به ‪:‬‬
‫متى تعودين يا سوسن ؟‬

‫نظرت إليه سوسن نظرة ذات معنى و كأنها تذكره بأمر و قالت ‪:‬‬
‫فور انتهاء مهمتي مع ريم •• أومأ برأسه راضيا و قال ‪:‬‬

‫مبروك آنسة ريم ‪ ،‬سعدت كثيرا لتزاملك مع سوسن في الجامعة ‪ ،‬كما‬


‫تزاملتما دوما في المدرسة •• ردت ريم عليه بصوت هاديء و انصرف ‪،‬‬
‫نظرت فورا إلى سوسن و قالت مغتاظة ‪:‬‬
‫أية مهمة يا سوسن التي ستنهيها معي ؟ ضحكت سوسن ‪ ،‬ضحكت كثيرا و‬
‫بشدة حتى دمعت عيناها و قالت ‪:‬‬
‫دعينا من المهمة و أخبريني كيف سنحتفل بفرحتنا هذه ؟‬
‫*** كان اليوم الول لدخول ريم الجامعة يوما أسطوريا بالنسبة لهــا ‪ ،‬لم‬
‫تنــــم تـــلك اللــيلة ‪ ،‬و احتفظت مثل الطفال بثوبها و مستلزماته التي‬
‫ستمضي بها إلى هناك على حافة السرير ‪ ،‬كانت غرفتها لها وحدها منذ فترة‬
‫طويلة ‪ ،‬اعتادت على مخاطبة كل الشياء و لم تكن تجد غضاضة في محادثة‬
‫ركنها الثير فيها ‪ ،‬كانت تحادث لوحاتها و كأنها تحادث أفرادا يتكلمون و‬
‫يسمعون ‪ ،‬و في تلك الليلة كتبت على إحدى اللوحات البيضاء كلمة الجامعة‬
‫•• و ظلت طوال الليل تطالعها و تحادثها ‪ ،‬و تضيف إليها رتوشا ترى أنها‬
‫مناسبة لمجرى الحديث ‪ ،‬و عند الفجر كانت اللوحة قد أصبحت شيئا سرياليا‬
‫ل يفــهم خطـــوطهــا و ألوانها إل ريم ‪ ،‬التي كانت تعرف تماما العبارة التي‬
‫قالها لها كل خط و كل لون ‪ ،‬كل انحناءة و كل مساحة بيضاء ‪ ،‬كان أملها‬
‫كبيرا جدا ‪ ،‬و أحلمها كبيرة ‪ ،‬أكبر من أن ترصده مساحة ‪ ،‬ظلت ابتسامتها‬
‫منطبعة على وجهها ‪ ،‬تتسع إذا غرد المل فيها و تنكمش إذا عل صراخ‬
‫الضمير و الغربة التي اختارها الب ثمنا لتحقيق هذا الحلم ••‬
‫عندما فتحت نافذتها كان الوقت قد تأخر كثـــيرا ‪ ،‬أكثر ممـــا اعتــادت و‬
‫اعتـــاد سعــيد ‪ ،‬و توقعت حين نظرت للساعة أل تراه ‪ ،‬كانت شرفته‬
‫مغلقة ‪ ،‬لكن النور خلفها كان مضاًء ‪ ،‬ابتسمت للضياء القادم من خصاص باب‬
‫الشرفة و كأنها تراه ‪ ،‬و عادت تنظر إلى السماء حين اقتحمها ضوء القمر‬
‫عضت على شفتها السفلى و همست ‪:‬‬
‫كيف لم أنتبه ؟‬

‫كان القمر بدرا ‪ ،‬و هي دعوة للخوف تعيش تفاصيلها ريم كل شهر ‪ ،‬شعرت‬
‫بانقباضة صغيرة ••‬
‫أخشاك و أحبك •• أية معادلة ؟ ظلت ترنو إليه فترة •• وتذكرت أنها‬
‫قرأت ذات يوم أن الذئاب تجتمع في ضوء القمر المكتمل لتنوح حتى الفجر ‪،‬‬
‫كأن حنينا غامضا يدفعها لن تبكي كلما كان القمر بدرا ‪ ،‬حنين أو ذكرى شيء‬
‫ما حدث في اكتماله لها •• أشاحت بوجهها و همست ‪:‬‬

‫و ما علقتي أنا •• لماذا أرى الخوف وجها مرسوما على القــمر ‪،‬‬
‫لمــــاذا يـــدق قلبي بشدة و أتوقع حدوث شيء رهيب حين رؤيته ‪ ،‬هل هي‬
‫العلقة القديمة بين القمر و الناس ‪ ،‬العلقة التي تجعلهم حين يغدو بدرا‬
‫أناسا آخرين •• ؟‬

‫أفاقها من شرودها صوت باب يفتح ‪ ،‬انخلع قلبها ‪ ،‬فقد تضاعف الصوت ألف‬
‫مرة في هذا السكون ‪ ،‬خرج سعيد إلى الشرفة ‪ ،‬نظر باتجاهها فورا ‪ ،‬كان‬
‫مشعث الشعر كمن أمضى يوما عصيبا ‪ ،‬بدت ملمحه عبر أضواء الشارع‬
‫كأنها لتمثال من غضب ‪ ،‬لحظت ذلك من طريقته في المساك بسور‬
‫الشرفة ‪ ،‬كان كمن يهم بالقفز من فوقه ‪ ،‬لم يبتسم وجهها رغم العادة ‪ ،‬فقد‬
‫كانت مناجاتها للقمر قد أحدثت في قلبها الثر الذي تخال أن القمر يريده ‪،‬‬
‫كانت واجمة و قلبها ينبض بشدة لم يتخلص بعد من اضطرابها حين فتحت‬
‫الشرفة ‪ ،‬ظل ينظر إليها و تنظر إليه ‪ ،‬كان الحديث السري الذي تنطقه نيابة‬
‫عنهم كل الشياء يدور الن ‪ ،‬كانت النسمات تخاطب الشعة الساقطة من‬
‫أعمدة الشوارع ‪ ،‬و كانت الجدران تخاطب التراب الذي تنغرس فيه جذورها ‪،‬‬
‫و كانت النافذة تخاطب الشرفة ‪ ،‬و الجميع كان يتساءل عن سر الصمت‬
‫الغاضب بين اثنين ل تربطهما سوى ابتسامة ••‬

‫ظل الفضاء بينهما مترقبا في انتظار أن يحمل البشرى للخرين ‪ ،‬أن يقول‬
‫للجميع اصمتوا فقد بدأ حديث البتسام ‪ ،‬لكن الفضاء بينهما مل من النتظار‬
‫فانسحب تاركا هواًء ثقيل قبع على كل الشياء فاخرسها ••‬

‫كان سعيد ينظر إلى ريم بغضب منبعه هو و سببه هو و ليس هي ‪ ،‬لقد ظل‬
‫طوال اليوم يفكر في هذه النثى التي قلبت موازين حياته رأسا على عقب‬
‫بدون وجه حق ‪ ،‬و بدون مقابل ‪ ،‬كان يمر بشيء مما مر به كثيرون عندما‬
‫أفاقوا من دوامــــة وضعوا فيـــها أنفسهم و رفعوا وجوههم للحظة و تساءلوا‬
‫ماذا هناك ؟‬

‫لماذا أظل أسيرا لهذه الفتاة ‪ ،‬ما الذي جرى لي فقيدني بقيد في آخره حرف‬
‫من اسمها •• لماذا أسير و كأنني مسير نحو قدر ل يحمل ملمحي ‪ ،‬ل يشكل‬
‫طبيعتي ‪ ،‬ل يتجاوب مع كينونتي ؟‬

‫كان قد أمضى ليله يفكر في هذا المر ‪ ،‬يستجمع فلوله المنهزمة دوما أمامها‬
‫ليعلن لها تمردا مع خيوط الصباح الولى ‪ ،‬و عندما خرج أول الليل ليبدأ‬
‫مناورات العصيان معها خذلته ‪ ،‬و لم تخرج فأورت نار الغيظ داخــله ‪ ،‬كان‬
‫يلمــــح الضوء من خصــــاص نافـــذتها و يعرف أنها مستيقظة وحدها في‬
‫غرفتها لكنها ل تبالي بهذا المخلوق الذي عاد يطلب حليب الرضاع بعد الفطام‬
‫بسنين ••‬

‫أبله أنت ••‬

‫و كانت هي ل تعرف السر في ثورته ‪ ،‬ل تعرف سببا لغضبته ‪ ،‬احتارت في‬
‫تفسير ملمحه الشعثاء الغاضبة ‪ ،‬بحثت في نفسها عن سبب لهذا الغليان‬
‫الذي ينطق به الصمت و الهواء الثقيل بينهما فلم تجد و في غمرة بحثها‬
‫تذكرت أنها ابتسمت قبل قليل لضوء ينبعث من خصاص شرفته ‪ ،‬و لم تبتسم‬
‫له ‪ ،‬و شيء داخلها أكد لها أن هذا هو السبب ‪ ،‬ابتسمت للخاطر ‪ ،‬و طالعته‬
‫بعيون عاتبة مبتسمة ‪ ،‬تفرس ملمحها و كان قد كاد يهجر تلك الملمح مختارا‬
‫و بملء إرادته ‪ ،‬كان يراود نفــــسه النســحاب إلى الداخـــل و صفع الباب‬
‫في وجهها ‪ ،‬لكنه لمح تلك البتسامة العاتبة ‪ ،‬ابتسامة لملمت ما على شفاه‬
‫الشياء حولهم و قدمته حديثا طويل لقلبه المتعب ‪،‬ابتسامة أعطت أمرا‬
‫صارما لفلوله المتحفزة للتمرد بأن تمضي بل عودة ‪ ،‬أن تركض للخلف ألف‬
‫ألف خطوة ‪ ،‬تفـــرس مليـــا و كأنما خيط سحري يربط بين الشفتين ‪ ،‬و‬
‫كأنما قدر أبدي يضع ما على هذه على تلك ‪ ،‬وجد نفسه رغما عنه يبتسم ••‬
‫هكذا ببساطة يبتسم ‪ ،‬و كأن الليل الطويل كان ليل غيره ‪ ،‬و كأن التمرد كان‬
‫نداًء تائها استقر في أذنه لساعات و غادرها في ثوان ••‬

‫هكذا ببساطة ابتسمت ريم فابتسم سعيد ••‬

‫*** عندما دخلت الم ليقاظ ريم ‪ ،‬وجدتها مرتدية حلتها الجديدة ‪ ،‬ثوب‬
‫برتقالي اللون بحزام أبيض و حذاء أبيض و عقدة شعر برتقالية و أخيرا حقيبة‬
‫يد بيضاء ‪ ،‬كانت تبدو في كامل استعدادها ‪ ،‬مشرقة الوجه كأنها نامت الليل‬
‫بطوله ‪ ،‬مبتسمة كأن ابتسامتها علقت منذ البارحة فلم تستطع أن تسحبها و‬
‫أخيرا و كأنها تكمل حديثا ‪ ،‬ركـــضت نحــــو أمها و قبلتها و صاحت ‪:‬‬
‫بالطبع أنا مستعدة جدا ••‬
‫تأملتها الم بفخر و إعزاز و قالت ‪:‬‬

‫كم أنت جميلة يا ابنتي ‪ ،‬يرعاك الله‬


‫هل الثوب مناسب ؟‬
‫يكاد يكون قد صنع خصيصا لهذا القالب أيتها الغالية ••‬
‫أمي هل أبدو حقا جامعية ؟‬
‫إن لم تكن الجامعة قد قامت من أجل ريم ‪ ،‬فلمن إذن قامت ••؟ !!‬
‫ضحكت ريم و عادت تقبل أمها و خرجتا معا نحو الصالة ‪ ،‬كانت الم قد‬
‫صنعت الشطائر المحشوة لبنتها مثل أيام المدرسة تماما ‪ ،‬أو على القل‬
‫كان هذا ما علقت به ريم عندما رأتها ••و قالت ‪:‬‬

‫لقد كبرت يا أمي على أخذ الفطور معي ‪ ،‬أنا فتاة جامعية ••‬

‫أصرت الم و وضعت الشطائر في حقيبتها و هي تقول ‪:‬‬

‫ل ترفضي طعام أمك ففيه البركة كلها ‪ ،‬ها هل تعرفين طريقك ؟ أجابت‬
‫ريم بامتعاض مفتعل ‪:‬‬

‫سيد وعد سوسن باصطحابنا في اليوم الول ليدلنا على الطريقة ووسائل‬
‫المواصلت المطلوبة و أنا بانتظارهما ••‬

‫لم تكد تنهي عبارتها حتى دق الباب دقات مرحة فأكملت ريم ‪:‬‬

‫و ها هي سوسن قد جاءت •• ركضت ففتحت الباب و عندما طالعتها‬


‫سوسن صاحت ‪:‬‬
‫آه يا إلهي ما كل هذه الناقة ‪ ،‬إنك حقا تبدين جامعية •• قالت الم و هي‬
‫تكبر و تحوقل في سرها ‪:‬‬
‫أنت أيضا يا سوسن تبدين في غاية الناقة يا ابنتي ••‬

‫همست سوسن ‪:‬‬

‫لقد أجبرني سيد على ارتداء هذا الثوب ‪ ،‬و هو ليس ما أعددته لليوم‬
‫الول ‪ ،‬لكن ل بأس غدا عندما نذهب بمفردنا سنرى من ستكون الكثر أناقة‬
‫•• ضحكت ريم و قالت هامسة أيضا ‪:‬‬
‫سأخبر سيد ••!!‬

‫سارت الفتاتان خلف سيد و عيون الم ترافقهما حتى اختفتا عن الشارع و‬
‫دعاء طويل لم ينقطع كان في الثر •• تعمد سيد أن يسير ببطـء حتى تحاذيه‬
‫الفتاتان ‪ ،‬و تعمدت ريم أن تبطيء حذر هذه المحاذاة ‪ ،‬إل أن سوسن شدتها‬
‫هامسة ‪:‬‬
‫أسرعي •• ل تعاندي يا ريم ‪ ،‬ل نحتاج غضبه الن ••‬

‫استسلمت ريم لصديقتها فلم يكن أمامها إل الرضى بهذا الدليل على القل‬
‫في اليوم الول ‪ ،‬و كان سيد قد بدأ في ارتداء حلة الستاذ فكانت كل خطوة‬
‫بكلمة ‪ ،‬و انصب كلمه على شرح الطريقة ووسائل المواصلت و أهمية‬
‫النتباه إلى أنفسهن أثناء عبور الشارع و في المواصلت و خاصة من‬
‫مضايقات الذين ل هم لهم إل مضايقة بنات الناس ‪ ،‬و كان يوجه حديثه لخته‬
‫و يميل نحو ريم و يقول ‪:‬‬

‫و الكلم لك أيضا يا آنسة ريم ••‬

‫فكانت ريم توميء برأسها و ل تتكلم و هي تدعو الله أن ينتهي هذا الطريق‬
‫•• و على باب الجامعة نظر سيد في ساعة يده و قال ‪:‬‬

‫يجب أن أترككما الن ‪ ،‬سأعود عند الثانية و النصف ‪ ،‬انتظراني حتى لو لم‬
‫يكن لديكما ما تفعلنه ‪ ،‬فطريق العودة يختلف و المضايقات تكون فيه أشد‬
‫•• قالت سوسن بسرعة و هي تحاول مداراة صديقتها حتى ل يلمح سيد‬
‫ضيقها ‪:‬‬
‫نعم •• نعم يا أخي بالطبع سننتظرك هنا تحديدا ••‬

‫ابتسم سيد و مضى في طريقه ‪ ،‬التفتت سوسن إلى ريم و صاحت ‪:‬‬

‫إنه الخلص •• كانت ريم تطالع ساعة الجامعة الكبيرة ‪ ،‬و تحتوي بعيونها‬
‫موقع الحلم الكبير ‪ ،‬كان هناك آلف من الطلب و الطالبات مختلفي الصور و‬
‫الهيئات و العمار ‪ ،‬يشتركون فقط فيما يحتضنونه بين أيديهم من حقائب‬
‫دراسة مختلفة الشكال•• تطلعت سوسن حيث تتطلع و قالت و هي تضع‬
‫يدها على عيونها ‪:‬‬
‫ياه ه •• من أين نبدأ ؟‬
‫قالت ريم ‪:‬‬
‫نسأل عن موقع كليتنا ثم نذهب إليها و هناك نعرف ماالذي اعدوه لنا ••‬
‫المنطق يقول هذا •• و شدتها من يدها لتدخل من البوابة الكبيرة ‪ ،‬بوابة‬
‫الحلم كما أسمتها ريم •• ***‬
‫و تطلع إلي مدير شؤون الطلب بنصف عين و قال بصوت أجش ‪":‬‬
‫فلسطينية •• هاه •• عليك أول دفع رسوم التسجيل قبل أن يتم اختبارك في‬
‫القسم الذي تختارين ••"‬
‫و هل سألت عن مقدار هذه المصاريف ؟ جلست ريم على الريكة حانقة و‬
‫هي تحكي لمها أحداث يومها الول بالجامعة و قالت و هي تزفر ‪:‬‬

‫جميع الطلب المصريين رسومهم ستة جنيهات و نصف ‪ ،‬أما أنا فرسوم‬
‫تسجيلي ستمائة جنية استرليني •• شهقت الم و بعدها ران الصمت •• كان‬
‫قاسم يستمع للحديث صامتا ‪ ،‬كانت حالة ريم يرثى لها ‪ ،‬و حتى سمر‬
‫احترمت صمت الجميع فصمتت و هي ل تدري •• نظرت الم إلى يدها و‬
‫قالت ‪:‬‬
‫كم يساوي هذا المبلع بالجنية المصري يا ريم ؟‬

‫تطلعت ريم إليها و قالت لمها و هي تعرف فيما تفكر ‪:‬‬

‫لن ينفع يا أمي ‪ ،‬لن ينفع ‪ ،‬بيع ذهبك و ذهبي و حتى قرط سمر لن يفي‬
‫بالغرض ‪ ،‬مبلغ التسجيل ستمائة و المبلغ السنوي ستمائة ‪ ،‬أي ألف و مائتي‬
‫جنيه استرليني علينا دفعها هذا العام ‪ ،‬هل تتصورين مجرد تصور أننا سنتمكن‬
‫من هذا ؟‬

‫ظل السؤال معلقا بل إجابة ‪ ،‬و من منهم يستطيع الجابة عن سؤال يختصر‬
‫كفاح عمرهم بعبارة واحدة ‪:‬‬
‫ل نملك •• و من أين لنا هذا ؟ حتى المنزل عندما أدارت الم وجهها في‬
‫اثاثه بدا في هذه اللحظة متواضعا شديد التواضع ‪ ،‬ل يملك أن يخرج قطعة‬
‫واحدة فيه تستحق ثمنا قد يساعد ••‬

‫تنهدت ••تنهد الجميع ‪ ،‬كانت التنهدات حريقا في أعماقهم حمل هواء الغرفة‬
‫ما ل يطيق فاستسلم راكدا و كأنه يتضافر مع الخبر المزعج ليعلن عجزا ‪ ،‬و‬
‫ليعلن احتضار الحلم •• نهضت ريم متثاقلة و قد بدا أن ملبسها تهدلت عليها‬
‫و كأنها لم تكن في الصباح قد صنعت خصيصا لهذا القالب •• توجهت إلى‬
‫غرفتها بخطوات مهزومة كان لها وقع الخناجر في قلب سميحة ‪ ،‬و قبل أن‬
‫تصل ريم إلى غرفتها صاحت الم ‪:‬‬

‫قد يكون هناك حل ••‬

‫التفتت إليها ريم و قالت بلهفة ‪:‬‬

‫كيف ؟ قالت بتصميم ‪:‬‬


‫انتظري هنا توجهت فورا إلى غرفتها ‪ ،‬إلى الحقيبة القديمة ‪ ،‬إلى الكلمات‬
‫الخيرة في الليلة الخيرة ‪ ،‬استخرجت الملف القديم ‪ ،‬سحبت منه الوريقات‬
‫الولى و عادت لولدها قالت بحماس ‪:‬‬
‫في هذه الوراق عناوين أهاليكم و أقربائكم ‪ ،‬قال لي جهاد قبل سفره إننا‬
‫سنفاجيء بأن في العائلة أثرياء بل شديدي الثراء ‪ ،‬فلماذا ل نراسلهم ؟‬

‫نظرت ريم إلى قاسم و نظر قاسم إليها ‪ ،‬كانت أفكارهم منصبة على أمر‬
‫آخر ‪ ،‬أمر غير ما حرك الم ‪ ،‬ترجمته ريم حين بادرت بالكلم ‪:‬‬

‫أقرباء و أهل لنا نحن ؟ هزت الم رأسها إيجابا فقال قاسم ‪:‬‬
‫ولهم عناوين يمكننا مراسلتهم عليها ؟ و عادت الم تهز رأسها إيجابا‬
‫أسرعت ريم فأخذت الوراق من أمها •• أمسكتها بلهفة خاصة ‪ ،‬لهفة عل لها‬
‫وجيب قلبها •• في هذه الوريقات يكمن أصل وجودها ‪ ،‬في هذه الوريقات‬
‫أناس تنتمي إليهم بالعصب ‪ ،‬بالدم ‪ ،‬أقرباء ‪ ،‬أهل •• لطالما تمنت أن يكون‬
‫لها من عصبها أهل ‪ ،‬من لحمها و دمـــها أعمام و أبناء عمومة ‪ ،‬كانت تشعر‬
‫و هي محدودة في إطار الم و الب و البيت الصغير ‪ ،‬أنها كائن غريب جاء‬
‫من كوكب آخر و استوطن هذه الرض ‪ ،‬ل أحد يشبهه و ل يشبه هو أحد ‪،‬‬
‫أخيرا ها هم الهل ‪ ،‬في هذه الوراق يختبيء السر الكبير ‪ ،‬خلفها العالم الذي‬
‫تريد أن تعيش فيه و بين سطورها الدنيا التي لم تحياها •• بأصابع مرتجفة‬
‫فتحت الغلف القديم ‪ ،‬كانت الوراق صفراء و بدا خط أبيها واضحا قويا مرتبا‬
‫يكاد ينطق على الورق ••أسماء كثيرة تنتهي أسماؤهم باسم عائلتها تنتهي‬
‫بالقاسم •• رفعت عيــون مغــرورقة إلى أمها و قالت بابتسامة تفيض شوقا‬
‫‪:‬‬

‫جميعهم ينتهون بالقاسم يا أمي‬

‫أومأت الم برأسها إيجابا و تفاعلت عيونها مع نظرات ابنتها فنطقت بالحنان ‪،‬‬
‫و نطقت أيضا بالشفقة •• أسرع قاسم و اتخذ لنفسه مكانا بجوار ريم و‬
‫تراقصت السماء المتتابعة أمام عيونه كلها تحمل لقب عائلته ‪ ،‬اللقب الذي‬
‫حمله منذ مولده و شاركته أخواته و لم يشاركه أحدا فيه ‪ ،‬أشار بأصابعه‬
‫النحيلة على السماء و قال بصوت فرح ‪:‬‬

‫لبد أن هذا عمي عمر ‪ ،‬و هؤلء أسماء أبناء عمي عامر يرحمه الله ‪ ،‬أما‬
‫هذا فهو اسم عمي محمد ••‬

‫و أكملت ريم و قالت ‪:‬‬

‫و هذا عمي بدر وبقية السماء لبد أنها لقرباء لنا من أبينا ‪ ،‬فمثل هذا‬
‫السم هو لبن عم أبي فيما اعتقد ••‬

‫رد قاسم قائل ‪:‬‬

‫ل بل هو لبن خال أبي ••‬

‫قالت ريم ‪:‬‬


‫دعنا نرتبها منذ البداية ••‬

‫و انطلقت و أخوها في عالم خيالي كانت تراقبه الم و هو يسيطر عليهما ‪،‬‬
‫كانت ترى لهفتهما ‪ ،‬إقبالهما على السماء كأنما تجسدت فجأة لحم و دم‬
‫أمامهما ‪ ،‬حتى سمر كانت تعتقد لفرط لهفة أخويها أنهم يطالعون صورا‬
‫ملونة ‪ ،‬أو هدايا أسطورية ‪ ،‬فصارت تقفز عليهم و تعتلي ظهورهـــم في‬
‫محـــاولة لستكــــناه الســـر الذي جــعــــل رؤسهما تتقارب و أصواتهما‬
‫تعلو و حماسهما يزيد ••‬

‫ظل الخوان على هذه الحال قرابة الساعة يرتبون درجات القرابة و يحاولون‬
‫قدر المكان الستعانة بذاكرة الم عن أهل زوجها و كانت إذا عرفت قالت و‬
‫إذا لم تعرف تردد ‪:‬‬

‫الله أعلم‬

‫و لقد رددت الم هذه الكلمة عشر مرات على القل فقد كانت صلتها بأهل‬
‫زوجها شبه مقطوعة إل من رسائل و أشخاص قليلون زاروهـــــم خلل سني‬
‫عشـــرتهم و قالوا شيئا أو بعض شيء عن أحوال أهليهم‬

‫تطلعت ريم إلى أمها و هي تبعد سمر عن كتفها قائلة ‪:‬‬

‫أتصدقين يا أمي بعض هذه العناوين تشير إلى الـــبرازيل ‪ ،‬و بعضـــها إلى‬
‫استراليــا و بعضها في الردن و في ليبيا و بعضها في الكويت و المارات ••‬
‫تنهدت الم و قالت ‪:‬‬

‫و الن أصبح لديكم عنوانا جديدا في السعودية يا أبناء فلسطين •• أغلقت‬


‫ريم الوراق و تنهدت و قالت باسمة ‪:‬‬

‫سوف أراسلهم جميعا و أرسل صورنا إليهم و عنواننا و أطلب إليهم‬


‫إرســـال صـــورهم و كل شيء عن حياتهم لنا لنعرف عنهم المزيد ••‬

‫و قال قاسم ‪:‬‬


‫لماذا تأخرتم حتى أعطيتمونا هذه العناوين يا أمي ؟‬

‫هزت الم رأسها و قالت ‪:‬‬

‫الحياة تلهي يا أولد جهـــاد ‪ ،‬أل تعـــتقدون أنهم بـــدورهم كان لبد أن‬
‫يبـــحثوا عنـــكم و يعرفوكم ؟ قالت ريم بتسامح ‪:‬‬

‫لبد لحدنا أن يبادر على أية حال يا أم قاسم •• قالت الم ‪:‬‬
‫نعم ‪ ،‬و ل تنسوا في خطاباتكم أن تذكروا الوضع الخير ‪ ،‬مبلغ صغير من‬
‫المال يرسله أحدهم إلى أهله ليساعد ابنتهم على التعليم لن يؤثر عليهم و‬
‫سيساعدنا كثيرا •• قال قاسم بغضب ‪:‬‬
‫أتريدين منا أن نشحذ يا أمي ؟ قالت الم بسرعة ‪:‬‬
‫ل يا بني •• ل سمح الله •• ل تطلبوا المبلغ إل على سبيل السلفة طويلة‬
‫الجل ‪ ،‬اطلبوه بنفس عزيزة ‪ ،‬و قولوا أنه هام للتعليم •• أما شحاذة فل ••‬
‫نهض قاسم غاضبا و لم يقتنع و قال ‪:‬‬
‫أنا لن أكتب شيئا •• فقالت الم لريم ‪:‬‬

‫و أنت يا ريم •• ما رأيك ؟ ربتت ريم على الوراق و حالة من السعادة‬


‫الغامضة لم تفارقها رغم غضب أخيها و قالت ‪:‬‬
‫أنا سأكتب إليهم يا أمي سأكتب لهم كل شيء عنا ‪ ،‬كل شيء حتى ما‬
‫حدث اليوم ‪ ،‬ليس لكي أطلب نقودا و لكن لكي يعرفونا أكثر و نعرفهم أكثر ‪،‬‬
‫و ربما بادر أحدهم دون التصريح بالطلب بالتطوع و بذل المعونة •• السلفة‬
‫التي نريد •• ربتت الم على كتف ريم و قالت لها باسمة ‪:‬‬
‫وفقك الله يا ابنتي •• *** عندما اختلت ريم بنفسها في غرفتها ‪ ،‬و معها‬
‫الوراق الثيرة •• عادت تتصفحها و تعد السماء المكتوبة فوجدتهم ثلثة و‬
‫ثلثين اسما و عناوينهم واضحة تماما في كل بقاع الرض ‪ ،‬حدثتهم قائلة ‪:‬‬
‫تراكم أيضا تحملون وثائق سفر للجئين ؟ و هل سوى اللجوء يمكن أن‬
‫تكونوه ؟ أنتم مثلنا مهما علت الفروق بيننا ‪ ،‬لن يحمل لكم المال الوطن‬
‫الذي تركتم و لن يقدم لكم الرض التي إليها تنتمون •• ترى هل تشعرون‬
‫بما أشعر به ‪ ،‬هل تعرفون معنى عدم النتماء لرض ‪ ،‬النتماء البتر إلى‬
‫خريطة قديمة تتوسطها عين دامعة ‪ ،‬النتماء العزل إلى أخبار ل تستغرق‬
‫سوى دقائق في نشرات الخبار عن أرض يموت أبناؤها و تولول عليهم‬
‫النساء •• هل أنتم مثلي تشعرون رغم السرة بالتمزق و الشتات •• و لما‬
‫ل و أنتم تحتفلون بأعياد رسمية لشعوب أخرى ‪ ،‬و يغني أبناؤكم نشيد العلم‬
‫في الصباح لراية اخرى ‪ ،‬و تخفون جنسياتكم عندما ترون في عيون من‬
‫حولكم بوادر نفور ‪ ،‬و ربما مثلنا تتكلمون لهجة أخرى ••ماذا بقي من‬
‫فلسطين فيكم ‪ ،‬و ماذا بقي من فلسطين فينا •• شتات و لجوء •• هل هو‬
‫قدر أبدي ؟‬

‫تنهدت و شرعت في الكتابة لعمها عمر ‪ ،‬هو الكبر و لبـــد أنه مشتـــاق‬
‫لخيه و لسرته و يريد أن يعرف عنهم كل شيء و ربما استطاع هو أن يقدم‬
‫إليها المعرفة التي تنشدها حول الباقيين ‪ ،‬لما ل و هو كبير السرة بعد وفاة‬
‫أبيه و الخ الكبر ‪ ،‬كما أنه يعيش في الردن و ما زالت ذكرياته طازجة عن‬
‫الوطن الذي تريد أن تعرفه عن قرب ••كتبت تقول ‪:‬‬

‫عمي الحبيب ‪ ،‬سوف تفاجأ كثيرا حين تقرأ هذا الخطاب ‪ ،‬فلن يكون أبدا مثل‬
‫أي خطاب قرأته في حياتك ‪ ،‬إنه خطاب من لحم و دم تكون و نما و شب‬
‫دون أن تعرف عنه شيئا ‪ ،‬خطاب من كائن ينتمي إليك انتماًء كبيرا ‪ ،‬لكنك ل‬
‫تعرفه ‪ ،‬أنا ريم ‪ ،‬أبنة اخيك جهاد ‪ ،‬هل تذكره ‪ ،‬ذلك الشاب الذي افترق عنكم‬
‫منذ أكثر من عشرين عاما ‪ ،‬حمل في قلبه الكبير الوطن غصة و الهل شوق‬
‫ل ينتهي و سافر ‪ ،‬هل ما زلت تتذكر هذا الخ البعيد ‪ ،‬هو مازال يذكرك ‪،‬‬
‫طحنته الحياة و عصرته و لم تعطه من كل شيء إل القليل ‪ ،‬و مازال يحمل‬
‫روح المقاتل ‪ ،‬و مازال يناضل و يصارع غربة لم تتركه يوما و إن تضاعفت‬
‫عليه •• غربة مازلنا نلمسها في ارتجافة شفتيه عندما يتذكركم ‪ ،‬في‬
‫ارتعاشة أهدابه تخفي دموعا لتسقط حين يقتله الحنين اليكم •• إنني ابنته يا‬
‫عمي ••‬

‫عمي •• وما أجمل هذا النداء و ما أقساه حين أوجهه إلى طيف ‪ ،‬اسم و‬
‫عنوان ‪ ،‬ثم ل شيء •• لذا أرسل إليك هذا الخطاب ‪ ،‬من أنت يا عمي ‪ ،‬ما‬
‫شكلك ‪ ،‬من هم أولدك و كم عددهم ‪ ،‬هل ترى جدتي ‪ ،‬كيف حالها ‪ ،‬ما‬
‫شكلها ‪ ،‬كم بلغ الن عمرها ؟‬

‫و أما عنا فإننا ••‬

‫و مضت ريم تقص موجز أحوالهم ‪ ،‬كل شيء عنهم و كل شيء عن حلمها‬
‫الذي سيضيع •• و عندما انتهى الخطاب ‪ ،‬و أغلقته •• نظرت إليه •• و‬
‫تركته على السرير و نهضت ‪ ،‬كان في قلبها شرخ تعاظم مع كل سطر كانت‬
‫تكتبه ‪ ،‬غلبها الحساس المريع بالخوف فتعالت دقات قلبها ‪ ،‬اعتصرت الوجاع‬
‫روحها فترجمت الدموع نص العذاب ‪ ،‬و خرجت متوالية سريعة غاضبة محتجة‬
‫‪ ،‬كانت ريم تجوب الغرفة ‪ ،‬كالسجين الذي ل يعرف متى يخرج ‪ ،‬حكم معلق‬
‫عليها باللجوء منذ سنين و ل تعرف متى ينتهي ‪ ،‬كانت تــريد توجـــيه الـــلوم‬
‫و صب الغضبة على أي شيء ‪ ،‬أي شيء يكون السبب فيما تشعر به ‪ ،‬أي‬
‫شيء يمكنها أن تمزقه إربا لتنتقم ‪ ،‬لتريح روحها المعذبة ‪ ،‬أي شيء ••‬

‫جرس الباب الذي كان يدق متواصل نبهها من حالتها ‪ ،‬و قبل أن تتمكن من‬
‫مسح دموعها و تهدئة نفسها وصلتها أصوات تبينت فيها صوت أمها و صوت‬
‫قاسم و صوت سعيد •• حاولت ما وسعها أن تكفكف الدموع و تزيل آثار‬
‫الحزن و تعيد إلى وجهها البتسامة التي كانت قبل أن تدخل غرفتها و تكتب‬
‫خطابها ‪ ،‬خرجت من غرفتها و توجهت فورا إلى المطبخ ‪ ،‬شربت ماءا باردا ‪،‬‬
‫و توجهت إلى الصالون حيث جلس سعيد مع أمها و أخيها ‪ ،‬كانت تبدو على‬
‫ملمحهم جميعا أن الخبر قد انتهى لدى سعيد ‪ ،‬نظر إليها بمجرد دخولها‬
‫الحجرة ‪ ،‬و كان أول من لمح بعين خياله أنهار الدموع التي انسكبت قبل‬
‫قليل ‪ ،‬قرأها من عينيها ‪ ،‬عرف وجع قلبها و تمنى لو يحتضنها مواسيا ‪ ،‬قال ‪:‬‬

‫أقترح أن تذهبي غدا إلى الجامعة لتألفي الجو ريثما نتدبر المر ••‬

‫هزت رأسها رفضا و لم تسعفها الكلمات و ظلت صامتة ••‬

‫عاد يقول برفق ‪:‬‬

‫لكن لبد أن تذهبي ‪ ،‬ل تفوتي الفرصة ‪ ،‬و المشكلة سنجد لها الحل ••‬
‫نظرت إليه و بدون أن تهز رأسها نقلت إليه الرسالة ‪ ،‬نقلت إليه السؤال ‪،‬‬
‫نقلت إليه الوجيعة •• أطرق ببصره أرضا و قال ‪:‬‬
‫كنت أعرف أن هناك مصاريفا ‪ ،‬لكنني لم أسأل عن مقدارها ‪ ،‬أنا المذنب‬
‫•• قالت الم ‪:‬‬

‫ل ذنب لك يا أستاذ سعيد ‪ ،‬إنها إرادة الله و قال قاسم حانقا ‪:‬‬

‫و لماذا نفقد الحلم في كل مرة نشعر أننا أمسكنا به ‪ ،‬لماذا نعيش الخوف‬
‫كلما أحسسنا أننا في طريقنا للمان ‪ ،‬لماذا يسرقون الفرحة كلما ارتسمت‬
‫ابتسامة على وجوهنا ‪ ،‬لماذا نحن بالذات •• رفعت إليه ريم عيونها و قد‬
‫عادت رغما عنها تمتليء بالدموع و قالت بصوت خرج مهزوما محشرجا ‪:‬‬

‫لننا لجئين يا أخي •• ران صمت على الجالسين قطعته ريم و قد بدأت‬
‫دموعها تزحف سراعا مجددا قائلة ‪:‬‬
‫لننا لجئين يا قاسم فليس من حقنا أن نتعلم ‪ ،‬ليس من حقنا أن نحلم ‪،‬‬
‫ليس من حقنا أن ننتمي ‪ ،‬ليس من حقنا أن نعيش ••‬

‫هزت رأسها ألما و قامت فأمسكت بكتف أخيها و صاحت ‪:‬‬

‫ل تضعف هكذا ‪ ،‬ل تجعل اليأس يجز أملك و ثقتك بالله ‪ ،‬لبد لهذا الحال‬
‫أن يتغير ‪ ،‬أنا واثقة إنه سيتغير •• و بهدوء قالت ‪:‬‬
‫سيتغير يا أخي سيتغير ••‬

‫جلس قاسم مهزوما على الريكة بجوار سعيد و قال ‪:‬‬

‫طيلة الوقت كنت أفكر إن كان حقا سيتغير ‪ ،‬إن كانت المعجزة يمكن أن‬
‫تتحقق ‪ ،‬و عدت فسألت نفسي ‪ ،‬لماذا أذاكر ‪ ،‬لماذا أنجح في كل عام ‪ ،‬لماذا‬
‫يحرص أبي على رؤية الدرجات النهائية في شهادتي ‪ ،‬بماذا سيفيد كل هذا إذا‬
‫كنا في النهاية نسير نحو قدر محتوم ‪ ،‬نحو ظلم مفروض ‪ ،‬نحو واقع ل يقبل‬
‫التغيير ••‬

‫نظر إلى سعيد و كانت عيونه مليئة بالدموع و قال ‪:‬‬


‫نحن فلسطنيون يا أستاذ سعيد ‪ ،‬و هذا واقع لن يتغير ‪ ،‬و لن يكون يوما‬
‫في مصلحتنا ‪ ،‬سيظل طوال الوقت العقبة الكؤد في طريقنا ‪ ،‬لن يغيره أن‬
‫اقسم لهم أننا لم نر بلدنا ‪ ،‬لم نتكلم لغتها يوما ‪ ،‬لم نمش على أرضها أو‬
‫نستحم في بحرها •• و قالت ريم و كأنها تكمل حديث أخيها و لكن بهدوء ‪:‬‬
‫و لن يغيره أننا نعيش الشوق دوما ‪ ،‬و يغلبنا الحنين قهرا ‪ ،‬و تعصرنا الغربة‬
‫عصرا ‪ ،‬لن يغير هذا الواقع أن يرى الخرون جرحا بطول العمر فينا انطبع‬
‫في ملمحنا و وسم قلوبنا •• و قال سعيد منبها ‪:‬‬

‫و لن يغير هذا الواقع احتجاج ‪ ،‬أو صراخ ‪ ،‬لن تغيره دموع أو صياح ‪ ،‬تغييره‬
‫فيكم ‪ ،‬بكم ‪ ،‬منكم و إليكم ‪ ،‬كفى يأسا يا ريم ‪ ،‬وأنت يا قاسم ‪ ،‬لم كل هذا‬
‫القنوط ‪ ،‬لم تنهدم عمارة الكون ‪ ،‬و لبد من مخرج ‪ ،‬و كما عرفت ما كنتم‬
‫تجهلونه عن تعليم الفلسطنيين سأعرف مال تعرفونه عن الحلول التي اتبعها‬
‫غيركم فلبد أنكم لستم الوحيدين في مصر الذين تواجهون هذا المر ‪ ،‬و ربما‬
‫نجد حل ••‬
‫كانت لهذه الكلمات وقع السحر في نفوس الجالسين •• ابتسمت الم و‬
‫قالت ‪:‬‬

‫ربنا يخليك يا أستاذ سعيد يا رب و نظرت ريم إلى قاسم ‪ ،‬و نظر هو إليها ‪،‬‬
‫مسحت دموعها ‪ ،‬فمسح دموعه و ابتسم كلهما و نظرت ريم إلى سعيد ‪،‬‬
‫نظرة المتنان التي يعشقها ‪ ،‬نظرة المتنان التي ل تملك أن تهديه سواها‬
‫فقام نشيطا ‪ ،‬سعيدا و قال بحماس ‪:‬‬
‫من الغد سأسأل و أعرف وأوافيكم بالخبار كلها ••‬

‫أومأت ريم برأسها موافقة ‪ ،‬و نهضت الم قائلة ‪:‬‬

‫ل يمكن أن تخرج قبل أن تشرب شايا ‪ ،‬انتظر سأصنعه لك ••‬

‫و نهضت ريم و قالت ‪:‬‬


‫انتظري يا أمي أنا سأصنعه •• و قال سعيد ‪:‬‬

‫ل •• شكرا ‪ ،‬ل أريد شايا ‪ ،‬أريد لوسمحت •• ابتسامة •• و ابتسمت ريم‬


‫••‬
‫أصبح سعيد في حياة ريم هو الحل لكل مشكلة ‪ ،‬و هو البطل الذي ل تقف‬
‫في طريق تصميمه عقبة ‪ ،‬كانت تشعر تدريجيا أنها تسلم إليه طوعا قيادة‬
‫دفة حياتها ‪ ،‬في الواقع كانت تريد أن تسلم هذه القيادة إلى أحد ما ‪ ،‬كان‬
‫أبوها دائما هو هذا الحد و لكن بسفره و ذلك الفراغ الذي تركه كان لبد لمن‬
‫يملؤه أو حتى يمل جزء منه ‪ ،‬و كان سعيد هو المستعد دوما لملء هذا الفراغ‬
‫‪ ،‬باتت تشعر أنها قادرة على منحه الثقة مطـــلقة ‪ ،‬تشـــعر أن عــهدا و‬
‫رباطا بينهما مختوم منذ الزل ليكــون هذا الشخص تحـــديدا هو منقــذها و‬
‫حامــيها ‪ ،‬و ماذا بعد ؟‬

‫سألت نفسها مرارا إن كان تعلقها بكلماته ‪ ،‬وثقتها بأن في يده دائما حلول‬
‫مشكلتها هو الحب الذي يتحدث عنه الناس ‪ ،‬و تنتظره سوسن و يتأوه من‬
‫أجله المغنون و المغنيات •• لكنهم يتحدثون عن لهفة النتظار في غياب‬
‫الحبيب و هي ل تشعر بهذه اللهفة ‪ ،‬يتحدثون عن الحلم التي يسكنها الحبيب‬
‫و هي لم تحلم به ليلة رغم وجوده المكثف في حياتها ‪ ،‬يتحدثون عن جمال‬
‫الكون حين يكون الحبيب مع حبيبه و هي لم تشعر للحظة أن مشكلتها‬
‫اختفت و أن بيتها تحول إلى بستان حين رؤيته •• كل ما كانت موقنة به تمام‬
‫اليقين ‪ ،‬أنها إذا احتاجته وجدته ‪ ،‬و إنها إذا ألمت بها مشكلة كان هو الوحيد‬
‫الذي يخطر ببالها عندها ‪ ،‬و أنها أصبحت في داخله التزاما حتى هو ل يستطيع‬
‫ــ إن أراد ــ أن يخلعه عن نفسه ‪ ،‬لسبب تجهله و تعتقد أن حتى سعيد نفسه‬
‫يجهله ‪ ،‬كانت تشعر بهذا و ل شيء غير هذا ••‬

‫ووجد سعيد الحل كما وعد ‪ ،‬حمله ابتسامة في عيونه و هو يطالع وجه ريم‬
‫التي فتحت له الباب بنفسها هذه المرة ‪ ،‬قرأت في عيونه أن الفرج قريب و‬
‫عندما تحدث كان الفرج ليس ببعيد و إن لم يكن بكل القرب الذي توقعته ‪:‬‬

‫هما في الواقع حلن ‪ ،‬أولهما إدارة الوافدين ‪ ،‬و عن طريقها يمكن حذف‬
‫أو تخفيف المصاريف خاصة و الم مصرية ‪ ،‬و الحل الثاني مكتب المنظمة و‬
‫عن طريقه يمكن تقديم طلب ليدفعوا هم المصاريف نيابة عنكم ••‬
‫تساءلت الم ‪:‬‬
‫وما مكتب المنظمة ؟‬
‫فقال الستاذ سعيد ‪:‬‬
‫مكتب منظمة التحرير الفلسطينية ‪ ،‬إنه بمثابة القائم بأعمال الجالية‬
‫الفلسطينية هنا و بسؤالي _ _ عرفت أن كثيرا جدا من الطلب الفلسطنيين‬
‫تعلموا عن طريقه ••‬
‫قالت ريم ‪:‬‬
‫لكنها كما تقول طلبات و قد تأخذ وقتا طويل لحين البت فيها ••‬
‫قال سعيد ‪:‬‬
‫لقد فكرت في هذا المر و لدي حل له ‪ ،‬زيــارة إلى عميـــد الكلية‬
‫نشـــرح فيها الظروف و الملبسات و نتعهد بدفع المصاريف على أن يتم‬
‫اختبارك و تلتحقي بالقسم الذي تريدين و تواظبي على الحضور و ل تدخلي‬
‫المتحان إل بعد دفع المصاريف •• نظرت إليه ريم ممتنة و قالت ‪:‬‬
‫لقد فكرت في كل شيء ••‬

‫نكس رأسه و قال بهدوء ••‬


‫ليلة البارحة ‪ ،‬لم أستطع النوم ‪ ،‬اعتدت على أمر لم يحدث فجافاني النوم‬
‫و استحوذ علي التفكير ••‬
‫فقالت الم باسمة ‪:‬‬
‫إذن الفضل في هذا التفكير الشامل هو المر الذي لم يحدث ؟ تطلع سعيد‬
‫إلى ريم و سألتها عيونه ‪ ":‬لماذا لم يحدث ؟" و أجابت عيونها ‪ ":‬كنت متعبة و‬
‫حزينة " فقالت عيونه ‪ ":‬ألست واحتك حين يقسو عليك الوجود ؟"‬

‫أشاحت بوجهها و لم تعط له الفرصة ليقرأ رد عيونها ••‬

‫قالت ‪:‬‬

‫و لكن أستاذ سعيد ‪ ،‬أليس من المحتمل أن يرفض عميد الكلية هذا الطلب‬
‫؟ أجاب ‪:‬‬
‫لن نخسر شيئا ‪ ،‬لقد كان ما أمامنا هو البقاء في المنزل و انتظار حل غيبي‬
‫‪ ،‬و الن أمامنا فرصة قد تنجح ‪ ،‬و محاولت أخري قد تقدم حل جذريا فلم‬
‫القلق ؟ قالت الم ‪:‬‬
‫لبأس ‪ ،‬غدا إن شاء الله نتحرك ‪ ،‬تذهبين يا ريم إلى الكلية و تحــاولين‬
‫مـــقابلة العميد و شرح ظروفك له ‪ ،‬و أذهب أنا إلى إدارة الوافدين باعتباري‬
‫الم المصرية التي تريد تعليم أبنائها ‪ ،‬و أما مكتب المنظمة فليكن خطوة‬
‫مشتركة بيننا بعد غد إن شاء الله •• قال سعيد ‪:‬‬

‫سوف أصحبك يا خالتي إلى إدارة الوافدين ‪ ،‬أعتقد أن ريم بامكانها أن‬
‫تعبر أفضل عن نفسها بنفسها أمام العميد •• قالت الم ‪:‬‬

‫ل يا بني يكفيك الجازات التي أخذتها من عملك حتى الن بسببنا ‪ ،‬وفقك‬
‫الله و جزاك عنا خير الجزاء ‪ ،‬صف لي فقط المكان و سأذهب اليه بمفردي‬
‫••‬
‫أول يا خالتي لم آخذ أية اجازة من عملي ‪ ،‬مكتب المحاماة لي و أنا حر‬
‫في الذهاب أو ل ‪ ،‬و ثانيا ‪ ،‬ليس بيننا هذا القدر من التكليف حتى تشكريني‬
‫على أداء واجبي ‪ ،‬أم أنك مازلت تعتبرينني غريب ؟‬
‫ل يا بني ‪ ،‬بل إنك أفضل من كثير من القرباء ‪ ،‬و لكن •• و حسمها سعيد‬
‫كعادته ‪ ،‬كلمته كانت الخيرة ‪ ،‬ووافقت الم و هي تدعو له ‪ ،‬فيما قالت ريم‬
‫لنفسها ‪:‬‬
‫هذا هو سعيد الذي أعرفه ••‬
‫و كان اليوم التالي يوما حافل لريم لم يخطر ببالها أبدا أن تمر فيه بكل ما‬
‫مرت و ل أنها ستتعلم منه أهم درس لحياتها العملية ‪ ،‬فقد توجهت صبيحته‬
‫لمقابلة العميد و انتظرت ساعة حتى سمح لها السكرتير بالــدخول و هنـــاك‬
‫وقفت أمامـــه حائــرة من أين تبــدأ ؟ و تبخرت كل الكلمات التي ظلت‬
‫طوال الليل ترددها و تحفظها و تختار أكثرها وقعا على النفوس ‪ ،‬استمهلها‬
‫العميد لحظة لتستجمع قواها و عندما تحدثت فوجئت بحديث ل يشبه ما سبق‬
‫و أن أعدته ‪ ،‬حديثا كان مباشرا و صريحا و مختصرا و بل مقدمات ‪ ،‬شعرت‬
‫أن وقته و هيبته ل تسمح لها بالسرد الطويل لذا فقد قالت ‪:‬‬

‫سيدي العميد ‪ ،‬أنا طالبة فلسطينية ‪ ،‬أريد أن أتعلم لكنني ل أملك في‬
‫الوقت الراهن مصاريف التعليم التي تطلبونها ••‬

‫تطلع إليها العميد مليا ثم قال برفق ‪:‬‬


‫نحن ل نطلب شيئا يا ابنتي ‪ ،‬إنها القوانين و النظمة ‪ ،‬و ل أملك حتى أنا‬
‫العميد الغاءها أو التعدي عليها •• فقالت بهدوء حذر ‪ ،‬خوفا من أن تسبقها‬
‫دموعها كالعادة ‪:‬‬
‫ل أريد الغاءها ‪ ،‬أريد فقط تأجيلها ••‬

‫تطلع إليها بوجه ل يحمل تعبيرا و هز رأسه و كانت دموعها التي تحذرها قد‬
‫خانتها فسقطت بمجرد أن نطق العميد بالرفض ‪:‬‬
‫ل استطيع •• شعرت بالنكسار ••و كانت هذه هي المرة الولى التي‬
‫تشعر بالنكسار فيها ‪ ،‬شعور عميق يشبه أن تميد الرض و تنطبق الجدران و‬
‫تتعمق المهانة و الشعور بالخذلن ‪ ،‬شعرت أنها قالت كل ما استعدت به و لم‬
‫يستجب لها ‪ ،‬شعرت أنها أهرقت ماء وجهها و لم يلتفت إليها أحد ‪ ،‬كانت‬
‫المرة الولى التي تطلب شيئا و هي تشعر أن ما تطلبه إن تمت تلبيته‬
‫سيكون من قبيل الحسان •• انكسارها في تلك اللحظة كان يعني تضاؤلها‬
‫أمام نفسها حتى الختفاء ‪ ،‬عندما لمح العميد دموعها ‪ ،‬التفت إلى اوراق‬
‫أمامه و قال لها ‪:‬‬

‫المقابلة انتهت ••‬

‫خرجت من عنده بأقدام ل تعرف كيف حملتها ‪ ،‬و برأس يهدر الخوف و الذل‬
‫فيها و بعيون تدور و تمطر بغير أنقطاع ‪ ،‬خرجت بقلب مكسور •• مكسور ‪،‬‬
‫كانت تستــند على الجــدران و تتعثر في خطوها ‪ ،‬لمحها السكرتير و قد كان‬
‫يعرف طلبها فعرف ما أجيبت به •• ظلت عيونه ترقبها و هي تسير ببطء‬
‫كان يتوقع وقوعها في أية لحظة لذا استمهل الدكتور طارق الذي دخل في‬
‫هذه اللحظة لمقابلة العميد و أشار إليها لينبهه أن شيئا ما سيحدث الن ‪ ،‬و‬
‫حدث بالفعل ما توقعه ‪ ،‬للحظة شعرت ريم أن ظلم أسود يزحف بسرعة‬
‫في رأسها ‪ ،‬و شعرت أن نافورة دم تدق جمجمتها تريد أن تكسرها ‪ ،‬و‬
‫شعرت بالرض تميد بها فسقطت مغشيا عليها •• عندما أفاقت ريم وجدت‬
‫نفسها على سرير صغير ‪ ،‬في حجرة ضيقة بها طاولة وحيدة عليها بعض‬
‫المعدات الطبية ‪ ،‬كانت الغرفة خالية ‪ ،‬حاولت استجماع قوتها للنهوض لكنها‬
‫لم تستطع و اكتشفت أن محلول معلق لتغذيتها ‪ ،‬تساءلت عن مكانها و‬
‫تذكرت ما حدث لها ‪ ،‬تذكرت فأسقطت نفسها على الوسادة مجددا و‬
‫شرعت في بكاء صامت ••‬

‫لم يطل المر فقد دخل الطبيب و معه الدكتور طارق و بادرها ‪:‬‬

‫ها هي طالبتنا قد أفاقت •• نظرت إليه و لم تستطع الرد بسبب العبرات‬


‫التي سكنت حلقها المتعب ‪ ،‬و تحدث الدكتور طارق فقال‪:‬‬

‫أنت هنا في عيادة الجامعة ‪ ،‬نقلناك قبل قليل ‪ ،‬يبدو أنك متعبة •• لماذا‬
‫جئت اليوم إذا كنت بهذا التعب ؟‬

‫مرة أخرى لم تستطع الرد ‪ ،‬فجلس الطبيب بجوارها و أمسك رسغها و عد‬
‫نبضاتها ‪ ،‬ثم أقفل علبة المحلول المعلق و انتزع الحقنة المغروسة في‬
‫أوردتها و قال‪:‬‬
‫اطمئني ‪ ،‬إنك الن أحسن حال ‪ ،‬امسحي دموعك و اشربي هذا العصير و‬
‫ستكوني بخير •• بعدها ناولها كأس عصير بارد ‪ ،‬مدت يدا مهزوزة و استلمته‬
‫و شـــــكرته بعيونها ‪ ،‬و بعد الجرعة الولى وضعت الكأس و قالت بصوت‬
‫ضعيف ‪:‬‬
‫الحمد لله ‪ ،‬أنا الن احسن حال ‪ ،‬أشكرك •• أشار الطبيب على الدكتور‬
‫طارق و قال ‪:‬‬

‫الدكتور طارق ‪ ،‬أستاذ في الجامعة ‪ ،‬هو من حملك إلى هنا ••‬

‫نظرت إليه امتنانا فقال مبتسما ‪:‬‬

‫أنت خفيفة على أية حال ••‬

‫ابتسمت عيونها المبللة فقال الستاذ ‪:‬‬


‫أنت طالبة مستجدة أليس كذلك ؟ تنهدت و قالت ‪:‬‬
‫كنت •• و سألها فاجابت و عندما عرف الموضوع ابتسم و قال ‪:‬‬
‫سوف أساعدك يا ريم ‪ ،‬سأذهب الى العميد و أشرح له الموقف و اعتقد‬
‫أنني سأتمكن من اقناعه •• انتظري هنا ••‬

‫انصرف قبل أن تتمكن ريم من استيقافه أو منعه ‪ ،‬هي ل تريد المزيد من‬
‫الذل ‪ ،‬يكفيها ما حدث •• لكنه ذهب ‪ ،‬و حاولت النهوض ‪ ،‬فقال الطبيب ‪:‬‬
‫على أقل من مهلك ‪ ،‬الدكتور طارق إذا قال فعل ‪ ،‬و هو صديق الطلب ‪،‬‬
‫يعتبرونه واحدا منهم ‪ ،‬كما ترين هو صغير السن ‪ ،‬لكنه نابغة و لــه حــس‬
‫فني راق اكــثر مما تتوقعين •• و لعل هذا سر إحساسه بالناس أيضا ••‬
‫أومأت برأسها تفهما و أكملت نهوضها و قبل أن تنتهي من تسوية هندامها‬
‫سمعت ضجة خلف باب العيادة و فتح الباب فدخل ثلثة من الشباب يحملون‬
‫شابا مصابا ينزف الدم من رأسه ‪ ،‬أسرعت ريم مبتعدة عن الفراش ‪،‬‬
‫فارقدوه عليه و تحدثوا معا ليشرحوا ما حدث ‪ ،‬فلم تفهم منهم شيئا و‬
‫الطبيب بدوره لم يلتفت لما يقولون و اندمج سريعا في عمله يعاين الجرح و‬
‫هو يردد ‪:‬‬
‫إلى متى ستظل أرعن يا أحمد ‪ ،‬متى تتخلص من رعونتك و طيشك ‪،‬‬
‫ناوليني القطن يا ريم •• لم تتوقف ريم أمام الطلب الغريب و ل لهجة المر‬
‫التي تحدث بها الطبيب و أسرعت فورا لتلبية طلبه فتراجع الشباب للخلف‬
‫فقال الطبيب ‪:‬‬

‫اخرجوا جميعا ‪ ،‬سيكون بخير مجرد جرح بسيط ‪ ،‬هاتي ماًء يا ريم •• خرج‬
‫الشباب و أحضرت ريم الماء ‪ ،‬أعطته للطبيب الذي بدأ يغسل الجرح و الدم‬
‫عن وجه أحمد بسرعة و دراية ‪ ،‬ثم طلب من ريم عدة طلبات حتى انتهى و‬
‫قد غطى الجرح و عــقمه و كان أحمد في كل هذا صامتا مستسلما ليد‬
‫الطبيب و لتقريعه له ‪ ،‬ل يفعل إل أن يتألم للحظة ثم يعود للصمت ‪ ،‬و عندما‬
‫انتهى الطبيب نظر أحمد إلى ريم و همس للطبيب مبتسما ‪:‬‬

‫من هي ؟ نظر الطبيب إلى ريم و فجأة اكتشــف أنه استــعان بها في‬
‫عمله دون أن ينتبه ‪ ،‬فابتسم و قال‪:‬‬
‫ريم •• أنا آسف ‪ ،‬هل أزعجك العمل معي في علج هذا الرعن ؟‬

‫هزت ريم رأسها و ابتسمت و هي تقول ‪:‬‬


‫ل ياسيدي الطبيب ‪ ،‬بالعكس لقد أسعدني أني استطعت المساعدة‬

‫قال الطبيب و هو ينهض لتحيتها ‪:‬‬


‫هذا أحمد ‪ ،‬سيد الطيش في هذه الكلية ‪ ،‬ل أدري كيف قبلوه فيها و هو ل‬
‫يملك أي حس فني ‪ ،‬مهارته كلها في أن يضرب الناس و يضربوه •• قال‬
‫أحمد ‪:‬‬
‫كفى يا دكتور سامي ‪ ،‬لقد اوسعتني تعنيفا منذ دخلت كما أنك قدمت‬
‫تعريفا مغلوطا للنسة و لم تقدمها لي ‪ ،‬فهل فعلت ؟ فقال الدكتور ‪:‬‬

‫قدمي نفسك له يا ريم ‪ ،‬فلن يهدأ حتى يعرف ••‬

‫و تقدمت ريم باسمة منه و قالت له اسمها ‪ ،‬وشرحت أيضا ما حدث معها‬
‫اليوم و ظروفها ‪ ،‬كانت تتحدث معه بطلقة عجبت لها ‪ ،‬حتــى أنها أخـــبرته‬
‫بمــشاعرها أثناء لقاء العميد و بعدها و هو المر الذي لم تخبر به طارقا رغم‬
‫تحمسه لها ‪ ،‬استجابت لردوده المرحة فابتسمت و شعرت أن الموقف لم‬
‫يكن يستحق كل هذا العناء و عندما ضحك أحمد و هو يتحسس جرحه و قال ‪:‬‬
‫سوف تعتادين على مواقف الطلب و الصد و الرفض أو القبول ‪ ،‬إنها‬
‫الحياة العملية التي تدخلينها للمرة الولى فحاولي أن تكوني أقوى •• عندما‬
‫قال هذه العبارة تلشت تماما مشاعر الهزيمة داخلها ‪ ،‬و شعرت بالتفاؤل و‬
‫قررت انها لبد أن تقاتل لتحصل على ما تريد و عليها أل تستسلم لكل شعور‬
‫بالحزن قد تجده في نفسها ‪ ،‬قالت لحمد هذه الكلمات فبادرها مبتسما و هو‬
‫يحاول النهوض ‪:‬‬
‫أحسنت •• أوقفه الطبيب و قال ‪:‬‬

‫ليس قبل أن تكمل محلول ريم ‪ ،‬سأبدل الحقنة و أغذيك بما تبقى فلقد‬
‫نزفت الكثير •• تطلع أحمد للطبيب و هو ينفذ ما قـــال و نظــر للمحلول‬
‫الــذي يقــــطر ببطء في أوردته و قال باسما ‪:‬‬

‫عشرة !! طرق الباب و دخل الدكتور طارق‬ ‫الن بيننا محلول يا ريم ‪ ،‬صرنا ِ‬
‫الغرفة مبتسما و عندما رأى احمد قال ‪:‬‬
‫آه •• هذا أنت ‪ ،‬كم طالبا ضربت اليوم ؟ قال أحمد ‪:‬‬
‫مظلوم و الله يا دكتور طارق ‪ ،‬لقد اصطدم رأسي بحاجز الشرفة و شج‬
‫كما ترى دون قصد ‪ ،‬و في الحقيقة فإنني كنت متجها لضرب سمير لول هذا‬
‫الحادث الصغير •• التفت الدكتور إلى ريم و قال لها ‪:‬‬
‫أبشري يا ريم ‪ ،‬لقد تحدثت مع العميد و أقنعته فطلب أن تقدمي لرئيس‬
‫شئون الطلب طلبا تتعهدين فيه بعدم دخول المتحانات النصف سنوية ‪ ،‬أو‬
‫النهائية ‪ ،‬إل بعد دفع المصاريف ‪ ،‬و سيعتمد الطلب بمجرد إحالته إليه ••‬

‫حقا ؟‬

‫زغردت الفرحة في عيون ريم ‪ ،‬و شعرت بسعادة فائقة ‪ ،‬و كأن اليام‬
‫ستصالحها ‪ ،‬شعرت بألفة قوية مع هذا المكان و هؤلء الشخاص الذين‬
‫أحاطوها بالهتمام و فرجوا كربتها ••لم تستطع الكلم ‪ ،‬اكتفت بنظرات‬
‫المتنان ووصلت نظراتها للجميع فبادلوها ألفة و مودة و ابتسام •• أخفى‬
‫الدكتور طارق خلف أبتسامته أمتعاضا يشعر به منذ أن بدأ الحديث مع العميد‬
‫•• فوجيء تماما بما لدى العميد من نظرة متعنتة غير قابلة للمرونة ‪ ،‬حاول‬
‫أقناعه بأن الطالبة مقبولة و يمكن التصرف في موضوع المصاريف بالتأجيل ‪،‬‬
‫فقال العميد ‪:‬‬

‫و لماذا تدرس إن كانت ل تملك ؟ نحن لسنا ملجأ ً للمحتاجين ••‬


‫لكنها ل تطلب صدقة •• تطلب تعليما ••‬
‫ليس من حقها •• أنها فلسطينية •• أولى بمقعدها طالب مصري •• صاح‬
‫الدكتور طارق غير مصدق ما يسمع ‪:‬‬
‫ما هذا المنطق ؟ لو تحدث به شاب ل يعرف التاريخ لعذرناه ‪ ،‬و لكنك أنت‬
‫سيادة العميد ‪ ،‬هذا أمر ل يصدق •• فقال العميد على الفور ‪:‬‬
‫هذا لني أعرف التاريخ •• فقال الدكتور طارق بلهجة قوية ‪:‬‬
‫و التاريخ لن يغفر لك أنك حرمت طالبة عربيـــة من التعلـــيم لمجــرد‬
‫أنها فلسطينية •• و يوما ما ستكبر ريم و يصبح لها صوت لي سبب و عندما‬
‫يسألونها عن نقطة السواد في حياتها فستذكرك أنت ••‬

‫لم تعد ريم إلى منزلها إل بعد أن قدمت الطلب إلى مــدير شئــون الطلب‬
‫بعد أن كتبته و نسقته بمساعدة الدكتور طارق و الطالب أحمد ‪ ،‬و عندما‬
‫استلمه الموظف و كاد يرفضه هاتفه الدكتور و أبلغه أمرا فقبل الطلب على‬
‫الفور وأعطى موعدا لريم بعد ثلثة أيام لمعرفة الرد •• و في المنزل كانت‬
‫الم تتحدث لريم عن دمــاثة أخـــلق سعيد و وقـــوفه الـــكبير بــجانبها و‬
‫مساعدته الكبيرة لها في تذليــل كافة الــعقبات أمام تقديم الطلب إلى‬
‫الدارة و كانت تقول ‪:‬‬

‫تعرفين الروتين الحكومي ‪ ،‬و الشروط التي يجب أن تستوفى و صـورة‬


‫جــواز الــسفر و عقد الزواج ‪ ،‬و غيرها من أمور ل أحد يعلم غير الله ماذا‬
‫كنت سأعمل إزاءها لو لم يكن سعيد معي ‪ ،‬ناهيك عن أني وجدت من‬
‫تخبرني أن الطلب لن يقبل لن الزوج يعمل بالخارج •• حتى أنني صحت‬
‫فيها ان تكف و ••‬

‫لحظت الم أن ريم كانت تستمع بنصف تركيز فقالت لها ‪:‬‬
‫ما بك يا ريم ؟ هل مازلت تفكرين فيما حدث مع العميد اليوم ؟ هزت ريم‬
‫رأسها و ابتسمت لمها لطمأنتها و قالت ‪:‬‬
‫بل أفكر في أمر آخر يا أمي ‪ ،‬تعبير جميل قاله أحمد ففتح لي عالم جديد ‪،‬‬
‫و قدم لي رؤية جديدة للحياة ••‬
‫أي تعبير هذا ؟ قالت ريم و هي تحاول أن تستخدم نفس عبارة أحمد ما‬
‫استطاعت ‪:‬‬
‫لقد قال لي ‪ ":‬سوف تعتادين على مواقف الطلب و الصد و الرفض أو‬
‫القبول ‪ ،‬إنها الحياة العملية التي تدخلينها للمرة الولى فحاولي أن تكوني‬
‫أقوى" هل تعرفين يا أمي كم أنني كنت غائبة عن هذه الحقيقة ؟ هزت الم‬
‫رأسها و قالت ‪:‬‬

‫أمر طبيعي إن الوضع الن اختلف ‪ ،‬و إن المور ل تؤخذ بكل هذه‬
‫الحساسية ‪ ،‬و صدق أحمد فيما قاله من أن الحياة العملية ستعرفك و تريك‬
‫ما لم تكوني تعرفي ‪ ،‬و عندما تدخلين الحياة العملية الكبرى بالعمل و الزواج‬
‫ستنفتح أمامك عوالم أخرى ما زالت مغلقة ••‬
‫شعرت يا أمي كما لو كنت صغيرة و كبرت فجأة ‪ ،‬أحسست بأنني أتلمس‬
‫عالما جديدا بروح قديمة ل تحتمله و لبد من خلع هذا المعطف المستكين و‬
‫ارتداء المعطف الواقي ‪ ،‬معطف نسيجه من اللمبالة ‪ ،‬و الصبر و اللحاح و‬
‫التملق و القــوة ‪ ،‬و ل أدري بالضبط يا أمي إن كان المعطف الجديد‬
‫سيناسبني أم أنني سأبدو فيه غير ما أنا ؟‬
‫قالت الم ‪:‬‬

‫الناس تبدل معاطفها تبعا للظروف ‪ ،‬و لكن الناس ل تبدل نفسها لي‬
‫سبب ‪ ،‬و إذا كان تبديل المعطف ضرورة للتعامل مع الحياة الجديدة ‪،‬‬
‫فاحرصي كل الحرص على آل يطال التبديل و التغيير روحك أيضا •• تطلعت‬
‫ريم إلى أمها •• حكمة عظيمة قالتها ‪ ،‬و تعبير جميل استخدمته ‪ ،‬لكنه درس‬
‫ثقيل تعلمته ‪ ،‬حملها تبعات كبيرة و ألبسها ثوبا كانت غير مستعدة لرتدائه ••‬

‫صبيحة اليوم التالي ذهبت ريم بصحبة أمها و سعيد إلى مكتب المنظمة ‪ ،‬و‬
‫مضى وقت طويل فيه استغرق كل تفكير ريم و انتباهها ‪ ،‬فلم تلحظ سعيد و‬
‫هــو يحوطها بــنظراته و اهتمامه في كل خطوة ‪ ،‬و بدت الجراءات طويلة و‬
‫ساعات النتظار مملة ‪ ،‬و في النهاية عندما تم تسجيل الطلب ‪ ،‬كانت الساعة‬
‫قد شارفت على الثانية بعد الظهر ‪ ،‬عندها فطنت ريم إلى أن سعيد لم يذهب‬
‫إلى عمله ‪ ،‬و أنه بقي معهما كل هذه الوقت ‪ ،‬نظرت إليه بعد أن عرفت‬
‫الساعة و قالت ‪:‬‬
‫أستاذ سعيد ‪ ،‬لقد ظلـمناك معنا اليــوم ‪ ،‬أنت لم تذهــب إلى عملك ‪ ،‬لبد‬
‫أن أمورا كثيرة تعطلت بسببي ابتسم سعيد و قال ‪:‬‬
‫ل داعي لتحميل نفسك ذنبي أنا سعيد لنني معكما •• ابتسمت و قالت ‪:‬‬

‫ل أنت سعيد لن أباك سماك هذا السم ••!! فوجئت ريم بتعليقها كما‬
‫فوجيء سعيد ‪ ،‬و ربما أكثر منه ‪ ،‬فها هي المرة الولى التي تخرج فيها عن‬
‫نطاق الحديث الجاد معه ‪ ،‬و تدخل إلى منطقة لم تكن تتوقع يوما أن تدخلها‬
‫معه ‪ ،‬هكذا بمنتهى البساطة وجدت نفســها مشبعة بــروح المرح رغم‬
‫اليــوم الحار و الجراءات الطويلة ‪ ،‬و ربما لم تلحظ الم فقد كانت عبارة‬
‫قصيرة ‪ ،‬إل أن وقعها في نفس سعيد كان عظيما ‪ ،‬كان يعني له بدء إنهيار‬
‫جبل الجليد الذي يتعامل من خلله معها ‪ ،‬فرغم البتسام الليلي المتبادل إل‬
‫أنه لم يسمع منها يوما عبـــارة تنبيء عن الحميمية ‪ ،‬أو تخبره أنه صار قريبا‬
‫منها ‪ ،‬لذا تسمرت عيونه عليها ‪ ،‬تنازعه آلف الرغبات في أن يضمها شكرا‬
‫على هذه العبارة المرحة على قصرها ‪ ،‬و بدورها سكتت ريم ‪ ،‬و لكن ما كان‬
‫يعتمل داخلها مختلف تماما عما كان يظنه سعيد ‪ ،‬لقد شعرت في هذه‬
‫اللحظة بانهيار حائط الحذر بينها و بين الناس جميعا و ليس مع سعيد فقط ‪،‬‬
‫شعرت أنها تحررت من لجام حديدي كانت تلجم به نفسها ‪ ،‬و شعرت أخيرا‬
‫بالمتنان لحمد ‪ ،‬ذلك الشاب الذي رأته لمرة واحدة فأستطاع أن يغير فيها‬
‫الكثير لذا ابتسمت ‪ ،‬ابتسم الجميع و لكن افكارا مختلفة كانت تسبح في‬
‫أدمغتهم ‪ ،‬و ربما في قلوبهم ••‬

‫كان يتعين على ريم أن تستيقظ مبكرا صبيــحـــة يوم ذهـــابها للجــامعة‬
‫لتعرف النتيجة ‪ ،‬و لكن الم فوجئت كثيرا عندما دخلت غرفتها في الثامنة و‬
‫النصف لتجدها غارقة في النوم ‪ ،‬كانت تبدو هادئة و بدت لمها في تلك‬
‫اللحظة راضيــة ‪ ،‬هكذا استشعــر قلب الم و قلما يخطيء ‪ ،‬شعرت أن‬
‫تجعيدات خفية على وجه ريم قد اختفت ‪ ،‬و أن راحة ما تلفها في هذه‬
‫اللحظة ‪ ،‬ابتسمت ‪ ،‬على أنها ما لبثت أن سارعت بايقاظها ‪ ،‬هزتها برفق ‪،‬‬
‫ففتحت ريم عيونها بهدوء و همست و هي تبتسم ‪:‬‬

‫صباح الخير يا أمي •• ابتسمت الم بدورها و قالت لها ‪:‬‬

‫صباح الخير يا حبة العين ‪ ،‬متأخرة اليوم ‪ ،‬هل نسيت الجامعة و ميعاد مدير‬
‫شؤون الطلب فيها ••؟ ابتسمت ريم و تمطت بكسل و قالت و هي تنهض‬
‫نصف نهوض ‪:‬‬

‫ل •• لم انس ‪ ،‬لكنني لست مرتبطة بموعد دقيــــق معه ‪ ،‬لذا فل مانع‬


‫من الذهـــاب الن أو بعد ساعة ‪ ،‬أو حتى بعد صلة الظهر ••‬

‫نظرت إليها الم مندهشة و قالت ‪:‬‬

‫ليس من عادتك مقابلة المور بهذه البساطة ‪ ،‬أين هي العجلة ؟‬


‫العجلة من الشيطان يا أمي ••‬
‫و اللهفة ؟‬
‫لن آخذ إل نصيبي ••‬
‫و رهبة الوقوف أمام المدير و سماع صوته الجش ؟‬
‫لن يقبض روحي على أية حال ••‬
‫ماذا حدث ؟ أخذت منشفتها و توجهت للحمام و هي تقول لمها بصوت‬
‫عال مرح ‪:‬‬
‫ل شيء •• لقد بدلت معطفي •• سارت المور على هذا النحو من البطء‬
‫و المرح و اللمبالة حتى شارفت الساعة على العاشرة و مازالت ريم لم‬
‫ترتد ملبسها ‪ ،‬نظرت إليها الم غاضبة و قالت ‪:‬‬
‫ريم •• ليس من معنى لما تفعلينه سوى أنك تخليت عن الحلم الذي‬
‫تغرب والدك من أجل تحقيقه •• انتبهت ريم و نظرت بدهشة لمها و دق‬
‫قلبها بشدة ‪ ،‬همست ‪:‬‬
‫أبي ؟ هزت الم رأسها ‪ ،‬ثم نظرت إلى ساعة الحائط فشاركتها ريم‬
‫النظرة و قامت من فورها ‪ ،‬ارتدت ملبسها و تأهبت للخروج و عندما خرجت‬
‫إلى أمها في الصالة قالت و هي منكسة رأسها ‪:‬‬
‫أمي •• أنا لم أنس أبي ‪ ،‬و ل نسيت تضحيته هذه ‪ ،‬و هو عهد قطعته على‬
‫نفسي و لن أنكص فيه إن شاء الله ‪ ،‬اطمئني •• تقدمت منها الم و‬
‫احتضنتها بتفهم و قالت ‪:‬‬
‫ل يطمئن إلى الغد إل من يخدع نفسه ‪ ،‬ل يطمئن إليه إل الكسالى الذين‬
‫ل موقع لهم تحت الشمس ‪ ،‬أما أولئــك الذين لديهم هـــدف فيجــب أن‬
‫يحاربوا الدنيا للوصول إليه ‪ ،‬و عندما تعتريهم لحظات فتور ‪ ،‬يجب أل تطول‬
‫فالدنيا لن تنتظر ••‬
‫هزت ريم رأسها إيجابا و غادرت المنزل •• كانت عبارات أمها قوية بالقدر‬
‫الذي يحتاج إلى التفكير العميق ‪ ،‬كانت متناقضة في مجملها مع نصيحة أحمد‬
‫لها و عندما أمعنت النظر في الموقفين و التجاهين ووجدت أنها تركن اليهما‬
‫معا و تكاد تكون مقتنعة بهما معا قررت أن تتخذ طريقا وسطــا يجــمعهما و‬
‫يمزج بينهما في طريق الوصول إلى الهدف ‪ ،‬و عندما وصلت الى هذا القرار‬
‫بعد طول تفكير كانت أيضا قد وصلت إلى الجامعة ‪ ،‬و في طريق صعودها‬
‫للدرجات الطويلة التي تفصلها عن طابق المكتب الذي تريد وجدت من‬
‫يستوقفها ‪ ،‬كان أحمد واقفا مع مجموعة من الشباب بنات و أولد ‪ ،‬و كان‬
‫يبدو عليهم جميعا اللفة و المرح بادرها احمد بصوت عال ‪:‬‬

‫ريم ‪ ،‬هذه أنت ؟‬


‫تطلعت رليه و ابتسمت و سارعت بالرد ‪:‬‬
‫نعم •• هذه أنا ••‬
‫تعالي سأعرفك على شلة الشغب الجامعي ••‬
‫صعدت الدرجات الباقية بسرعة فأصبحت في مواجهتهم جميعا ثــلثة‬
‫شباب و شــابتين و الجميع كان يبتسم مرحبا بها ‪ ،‬عرفها أحمد على أسمائهم‬
‫‪ ،‬فرسخت فورا في ذاكرتهــا و اكتفى بأن يقول عنها ‪:‬‬
‫أما هي فريم التي حدثتكم عنها •• قالت سمر و كانت أقربهن إليها ‪:‬‬
‫أهل ريم ‪ ،‬ننتظر انضمامك إلينا في أسرع وقت •• و قالت هدى ‪:‬‬
‫عن نفسي سوف أساعدك بما فاتك من محاضرات ‪ ،‬فأنا أحسنهم خطا ••‬
‫و قال سمير ‪:‬‬
‫مرحبا يا ريم ‪ ،‬الجامعة نورت •• و قال فؤاد ‪:‬‬
‫ل تبدين كفلسطينية ‪ ،‬إنك تشبهيننا ••!! هزت رأسها عجبا و تحفزت للرد‬
‫فقال أحمد ‪:‬‬

‫ل عليك ‪ ،‬لقد قطعت ذيلها و اقتلعت عينها الثالثة !! فقال محسن ‪:‬‬
‫قصد فؤاد أن يؤكد أنك صرت منا بالفعل و بين أهلك ‪ ،‬لكنه ل يحسن‬
‫التعبير •• ابتسمت ريم للجميع ‪ ،‬و كانت ابتسامة فرحة ‪ ،‬ابتسامة أمل‬
‫جديد ‪ ،‬و غد أفضل •• عادت تتصفح وجوههم و تستشعر ابتساماتهم المرحبة‬
‫في قلبها ‪ ،‬فقال أحمد ‪:‬‬
‫هل قابلت الستاذ شاكر ؟‬

‫هزت رأسها نفيا فقال ‪:‬‬


‫إذن تعالي •• سارأفقك •• و عند الستاذ شاكر مدير شؤون الطلب‬
‫سارت المور على النحو المتوقع ‪ ،‬فلقد ‪ ،‬استمهلها لوقت ينهي فيه ما أمامه‬
‫و يبحث عن طلبها ليعطها الرد و تعمد النشغال فترة أطول مما يجب و في‬
‫النهاية مد يده بالورقة و قال من تحت نظارته ‪:‬‬
‫لقد وقع عليها العميد بالقبول على أل تدخلي المتحانات إل بعد دفع‬
‫المصاريف •• مدت يدها لتأخذ الورقة فانتشلها أحمد بسرعة و قال‪:‬‬
‫هذا هو المطلوب يا حضرة المدير •• هيا يا ريم المناسبة تستحق احتفال‬
‫صغيرا •• خرجا من الغرفة ‪ ،‬و لم تدر ريم ماسر هذا الهتمام من أحمد‬
‫بالموضوع و كأنه موضوعه ‪ ،‬راقبته و هو يمسك بالورقة يديرها بين يديه و‬
‫يسير شبه راقص إلى حيث تقف شلة الشغب الجامعي و يقول لهم و هو يهز‬
‫الورقة أمام عيونهم ‪:‬‬
‫الموافقة الكريمة صارت معنا ‪ ،‬ريم صارت معنا قولوا مرحبا لريم •• و‬
‫تعالت أصواتهم بالتبريك و التهنئة و نزل الجميع الدرجات قفزا و ساروا‬
‫باتفاق غير معلن نحو استراحة الجامعة ‪ ،‬و كانت هي المرة الولى التي‬
‫تدخلها ريم ‪ ،‬و اتخذوا مقاعدهم حول طاولة مستديرة و صفق أحمد قائل‬
‫للنادل ‪:‬‬
‫أفضل مشروب لديك يا ولد •• فقال النادل مبتسما ‪:‬‬
‫وجه جديد •• فقال أحمد ‪:‬‬

‫بل زميلة دراسة مستجدة ‪ ،‬والدها في السعودية ‪ ،‬اخــدمها جيدا و لن‬


‫تنساك بالبقشيش ••‬
‫من عيوني ••‬

‫في أجواء المرح استطاع الزملء الجدــد أن يدخــلوا عــلى ريم الفرحة و‬
‫الشعــور بالمان ‪ ،‬و ناقشوا معها الخطوة الجديدة التي ينبغي أن تقوم بها ‪،‬‬
‫و حذروها أن من سيختبرها هو الدكتور محمد ‪ ،‬رجل شديد ‪ ،‬ينبغي الحتياط‬
‫لمقابلته و حدثوها عن ماهية هذه المقابلة الشخصية و كونها ستحدد مستواها‬
‫و ما إذا كانت تستطيع اللتحاق بقسم الفنون التشكيلية أم ل و علق أحمد ‪:‬‬

‫و لكنني متفائل على أية حال ‪ ،‬فبوسع ريم أن تقنع الدكتور محمد بموهبتها‬
‫بكل سهولة •• فقالت هدى بسرعة ‪:‬‬
‫و كأنك تعرف شيئا عن موهبة ريم ؟ فرد أحمد على الفور قائل ‪:‬‬
‫ل •• و لكنني أعرف ريم ••‬

‫فيما بعد ‪ ،‬عندما دخلت ريم إلى مكتب الدكتور محمد لمقابلته ‪ ،‬كانت تعرف‬
‫أن اثنتي عشرة عينا تتطلع إلى الباب الذي دخلت منه للتو في انتظار النتيجة‬
‫التي ستخرج بها ‪ ،‬فقد استقبلتها شلة الشغب الجامعي و اصطحبتها مع‬
‫لوحاتها التي اختارتها من مجموع ما رسمت إلى مكتب الدكتور محمد و‬
‫تركوها تدخل بعد أن حصنوها بكل النصائح اللزمة ‪ ،‬و قال أحمد في النهاية ‪:‬‬

‫و على أية حال فل داعي للخوف فهو لن يقبض روحك •• وقفت أمام‬
‫الدكتور بهدوء فأشـــار لها بالجـــلوس و شـــرع في طرح أســئلة عادية‬
‫عليها ‪ ،‬و فوجئت أن معظم السئلة كانت تنصب على القضية الفلسطينية و‬
‫تفاصيلها و موقفها الشخصي منها و غير ذلك ‪ ،‬فكانت تجيب قدر استطاعتها ‪،‬‬
‫و إن بدا أنها في عزلة تامة عما يحدث هناك ‪ ،‬و بعد قليل اكتشفت هي أنها ل‬
‫تعرف عن قضية بلدها سوى ما يعرفه كل طفل في العالم و شعرت‬
‫بالضحالة فصمتت فجأة ‪ ،‬ثم رفعت عيونا لمعة إلى الدكتور و قالت ‪:‬‬
‫آسفة يا دكتور محمد ‪ ،‬إذا كانت معلوماتي عن بلدي هي مفتاح نجاحي‬
‫في هذا الختبار ‪ ،‬فلبد أنني سأفشل فشل ذريعا فيه ••‬

‫نكست رأسها خجل ‪ ،‬فابتسم الدكتور محمد و قال ‪:‬‬


‫أول هذا ليس اختبار ‪ ،‬انه مجرد مقابلة شخصية ‪ ،‬و ثانيا انا ل اسألك عن‬
‫بلدك لعرف ما اعرفه و يعرفه الجميع و قد تجهلين انت بعضا منه بحكم‬
‫نشأتك بعيدا عنها ‪ ،‬و إنما أريد أن أعرف ما ل أعرفه عنها و تعرفينه أنت ‪،‬‬
‫أريد أن أعرفها من خــلل إحساسك بها و ليس من خلل التقارير الخبارية‬
‫عنها ‪ ،‬فهل هذا ممكن ‪ ،‬أم أنه صعب بدوره ؟ رفعت إليه وجهها ‪ ،‬كانت تبدو‬
‫في هذه اللحظة جميلة ‪ ،‬بعيون لمعة و عقل يستشرف شيئا مميزا و عندما‬
‫تحدثت اكتملت الصورة كما رآها الدكتور محمد بحس الفنان فيه ‪ ،‬فقد خرج‬
‫حديثها مغلفا في ضبابات شوق بعيد ‪ ،‬و كأنه يخرج من أعماق ملتهبة تتدفق‬
‫فيها ينابيع الدهشة و الحلم و الرغبة في المزيد ‪ ،‬كان عنقها يبدو طويل و‬
‫رأســها مرفوع و ذقنها الدقيق مضموم على طابع الحسن الصغير ‪ ،‬قالت ‪:‬‬

‫فلسطين كما أعرفها و أحبها ‪ ،‬هي أرضي التي انتمي إليها ‪ ،‬الرض التي‬
‫تناديني بشوق و يستجيب إلى ندائها حنيني ‪ ،‬فلسطين هي الدمعة في عين‬
‫أبي الذي يقتله الشوق إليها ‪ ،‬و هي الرتجافة في شفاهه حين يتحدث عنها ‪،‬‬
‫فلسطين هي الورق المخبوء منذ سنين يحمل عناوين غربة بعيدة و شتات‬
‫كبير ‪ ،‬هي الوثيقة حين يسمونها بعبارة اللجئين ‪ ،‬فلسطين هي النبض الدائم‬
‫في العروق ‪ ،‬و هي الشيء الوحيد الذي يسري مع الدم فيها ••‬

‫و تهدج صوت ريم و ترقرقت الدمعات و قالت و هي تنظر للدكتور محمد ‪:‬‬
‫فلسطين يا دكتور هي ذلك البئر المعطل في ساحة منزل مهجور ‪ ،‬هي‬
‫بحر غزة و ناسها •• هي الرمز الجميل الذي يحميني من ضياع الذات حين‬
‫أكون مخيرة بين أن أكون أو ل أكون •••• فلسطين هي الغائب الذي أبحث‬
‫عنه و أحتاجه •• و قال الدكتور ‪:‬‬
‫هذا كل شيء انصرفي الن‬
‫همست ريم بقلق و هي تشير لما في يدها ‪:‬‬
‫و اللوحات ؟ فقال الدكتور بغموض ‪:‬‬
‫اللوحة التي رأيت تشغلني الن أكثر •• هيا انصرفي ••‬

‫و خرجت ريم فقام الدكتور من فوره ‪ ،‬أمسك لوحة بيضاء صغيرة و بدأ يخط‬
‫فيها بسرعة وجه فتاة شامخة الرأس لها طابع حسن مضموم على تصميم و‬
‫في نظراتها حنين ••• و صارت ريم طالبة منتظمة في قسم الفنون‬
‫التشكيلية بكلية الفنون الجميلة ••‬

‫ابنة عمي ريم ••‬


‫لم أصدق نفسي و انا أقرأ سطور رسالتك الغريبة العجيبة القادمة من‬
‫المجهول ‪ ،‬لم أصدق أن لي ابنة عم لديها كل هذا الحس المرهف و الرغبة‬
‫في التواصل و السعي إليه •• كنت أعرف بالطبع ان لي عما اسمه جهاد‬
‫يعيش في مصر لكنني مثلك كنت أسمع السماء و ل أرى الوجوه أو أحس بها‬
‫‪ ،‬وصل خطابك في وقت شديد الحرج فأبي الذي أضنته الغربة يحتضر و نحن‬
‫حوله ل نملك له شيئا ينقذه ‪ ،‬يبدو يا أبنة عمي أن الغربة قادرة دوما على‬
‫امتصاصنا حتى آخر قطرة و التضامن مع أعدائنا على تهمشينا و ضياعنا ••‬
‫قرأت الخطاب عوضا عنه ‪ ،‬و شعرت أنه موجه لي أنا و ليس لبي ‪ ،‬عرفت‬
‫من خلله روحا أخرى ضالة تبحث عن وطن •• و فرحت لننا في عمر واحد‬
‫تقريبا ‪ ،‬قد أكون أكبر منك بشهور فقط ‪ ،‬لكن الهم واحد يا ابنة العم ‪ ،‬الهم‬
‫واحد و الهدف واحد ‪ ،‬أراه أنا في العودة الحقيقية للوطن و ترينه أنت في‬
‫تعليم أعلى تحصلين عليه •• أراه أنا في كفاح مسلح ينبغي أن يبقى و ترينه‬
‫أنت في صراع مع الحياة ينبغي أن يستمر ••لكن لكلنا نفس الهدف في‬
‫النهاية •• لقد وقف أبي في طريقي دوما كان يخشى علي مصير مثل مصير‬
‫عمي محمد ‪ ،‬و لعلك ل تعرفيه ‪ ،‬فلقد أمضى عمي الباسل في كفاح الصهاينة‬
‫زهرة شبابه ‪ ،‬لم يتزوج و دخل السجن السرائيلي مرات عديدة و لم‬
‫يستسلم و لم ينحرف عن هدفه يوما و في النهاية استشهد في السجن ••‬
‫هذا آخر ما سمعناه عنه منذ ثلثة شهور فقط و لعل عمي جهاد ل يعرف و‬
‫أنتم بالطبع ل تعرفون ••‬

‫أما عن عمي بدر فقد بقي بجوار جدتي يعيش و يتزوج الواحدة تلو الخرى و‬
‫يصارع الحياة المفروضة يعمل يوما و يجلس عشرة و في كل هذا هو‬
‫الشاطر الذي ل يشق له غبار في النصب و السترزاق و التحايل على‬
‫المعايش بشتى الطرق ‪ ،‬لديه الن سبعة أولد ذكور و خمسة من الناث و‬
‫يصر على إكمال أولده عشرة و معه الن ثلث زوجات ‪ ،‬أما نحن فإننا خمسة‬
‫من الخوة أنا أكبرهم و بعدي أربع بنات جميعهن يتعلمن هنا في الردن و‬
‫معنا الجنسية الردنية أيضا ••أما أولد عمي عامر يرحمه الله فهم تسعة و‬
‫لكنهم متفرقون في بقاع شتى من العالم و ل تعيش هنا منهم إل هديل و هي‬
‫بالمناسبة فتاة وطنية و تحب قرض الشعر الحماسي و تحلم بيوم تستطيع‬
‫العودة فيه إلى فلسطين ••‬

‫ابنة عمي البعيدة •• أحب ان تظلي على اتصال بنا و سأترك لك في نهاية‬
‫الرسالة عنوان شخص مهم ينبغي أن تراسليه فهو على نفس دربنا يسير لم‬
‫تقتلع منه الغربة الحساس العميق بالوطن ‪ ،‬إنه من أبناء عمومة أبائنا و‬
‫يعمل في ليبيا و اسمه سهيل ‪ ،‬و أنتوي إن شاء الله إرسال رسالتك له ضمن‬
‫رسالة لي أحدثه فيها عنك و عن هدفك في المعرفة ••‬

‫صدقيني يا ابنة عمي إنها فقط البداية •• لكنها ــ مهما بحثت ــ هي البداية‬
‫الوحيدة الصحيحة‬
‫ابن عمك‬

‫تامر عمر القاسم‬

‫طوت ريم الرسالة بعناية و كانت تقرأها قبل قليل للمرة العاشرة على القل‬
‫•• تنازعتها مشاعر متناقضة و عجيبة ‪ ،‬أخذت تتضح و تتبلور مع كل إعادة‬
‫قراءة و استقرت في النهاية على الشعور الجارف بالرغبة في معرفة النهاية‬
‫•• أشعــلت فيها الكلمات الحماس و شعرت بعظمة أولئك المغروسين في‬
‫أرضهم ‪ ،‬شعرت بالفخر أنها تنتمي لعم بطل استشهد و هو بطل ‪ ،‬و حتى‬
‫عمها بدر لم تشعر بالنفور منه بل استماحت له ألف عذر ‪ ،‬و استوقفها طويل‬
‫ذلك التأطير الذي وضعها فيه ابن عمها من ناحية نظرتها لقضية بلدها ‪ ،‬و‬
‫شعرت أن رسالة ما أصبحت مطالبة بحملها ‪ ،‬و لن يعفيها من حملها أن‬
‫تكون لجئة بل على النقيض ربما كان اللجوء هو السبب الول لحتمية أن‬
‫تحمل المانة ‪ ،‬دعاها إلى هذا حديثها مع الدكتور محمد و رسالة ابن عمها ‪ ،‬و‬
‫قبل هذا حقيقة انتماؤها إلى الوطن السليب ‪ ،‬و حاولت تقييم وضعها منذ‬
‫البداية و استغرقها التفكير في هذا الوضع الســـلبي الذي عاشتــه مخيرة ‪ ،‬و‬
‫شــعرت أنها لبد أن تغــير من وضــعها ما أمــكنها ذلك و تعمق التفكير‬
‫ليصل بها في النهاية إلى سؤال واحد ‪ ":‬ماذا بوسعي أن افعـل لبلدي ؟ " و‬
‫لم تجد الجابة ال من تهويمة واحدة سيطرت عليها مفادها ‪ ":‬لبد أن أجدها‬
‫أول ••" نهضت بعدها لتستقبل سوسن التي جاءت بكل صخبها كالعادة‬
‫بادرتها ‪:‬‬

‫ريم ‪ ،‬افتقدتك كثيرا ‪ ،‬كيف حالك ؟‬

‫أجابتها الم و هي تنظر إليها بلوم‪:‬‬


‫لو كانت ريم حقا عزيزة عليك ما اختفيت طيلة هذه المدة ‪ ،‬منذ أول يوم‬
‫في الجامعة ••‬
‫قالت سوسن بأسف ‪:‬‬
‫معك حق يا خالتي ‪ ،‬و لكنك ل تعلمي مقدار تأثري بما حدث يومها لريم ‪،‬‬
‫لقد كان الرجل فظا معها و لم أجد في نفسي القدرة على مواجهتها بعدها‬
‫خشية إثارة حفيظتها ••‬
‫فقالت ريم بتسامح ‪:‬‬
‫ل عليك يا سوسن ‪ ،‬إرادة الله فوق كل إرادة و الحمد لله على كل حال‬
‫••‬
‫فقالت سوسن و هي تتخذ لها مجلسا في صالة المنزل فيما ذهبت الم‬
‫لعداد الشاي ‪:‬‬
‫و الحل يا ريم ؟‬

‫قالت ريم و هي تبتسم ‪:‬‬


‫الحل هو أن تنهضي من فورك فتحضري لي محاضرات السبوعين‬
‫الماضيين و تشرحي لي بكثير من الستفاضة كيف هي الدراسة و‬
‫المحاضرات ‪ ،‬حتى يتسنى لي متابعة الموقف كامل غدا إن شاء الله عندما‬
‫نذهب سويا للجامعة ••‬

‫صاحت سوسن غير مصدقة ‪:‬‬


‫ماذا تقولين ؟ هل استطعتم تدبير المال ؟ هزت ريم رأسها نفيا و قالت ‪:‬‬

‫بل وفقنا الله و استطعنا تدبير كرسي لي في قسم الفنون التشكيلية معك‬
‫يا سوسن •• قفزت سوسن فرحا و صفقت بيديها طربا و قالت و هي تقبل‬
‫صديقتها ‪:‬‬
‫معا إلى البد يا ريم ‪ ،‬معا إلى البد ••‬
‫كتبت ريم الى والدها التطورات الخيرة حكت له عن جو الجـــامعة و‬
‫الزميلت و الزملء و الساتذة ‪ ،‬و بالطبع عن شرط بقائها في الجامعة ‪ ،‬و‬
‫أرسل الب بدوره رسالة جميلة تحدث فيها مع أسرته عن سعادته بكل ما‬
‫عرف و عزمه على وصل الليل بالنهار من أجل تدبير المبلغ الذي يحتاجونه ‪،‬‬
‫مشيرا في معرض حديثه عن رغبته في أن تلحق به السرة في السعودية‬
‫بعد انتهاء دراسة ريم ‪ ،‬موصيا إياها في الوقت ذاته بتقوى الله و اللتفات‬
‫الدائم إلى دروسها لكي تثلج صدره بالتفوق الذي لن يرضى عنه بديل ‪ ،‬و رد‬
‫ت عليه ريم بأنها ستحرص دوما أن تكون عند حسن ظنه بها ‪ ،‬و عندما أرادت‬
‫أن تكتب له عن أحوال أعمامها توقف القلم في يدها ‪ ،‬برهة تردد و قلق عليه‬
‫‪ ،‬ثم تغلبت على ترددها و كتبت ‪ ،‬حكت كل شيء و قالت لبيها ‪:‬‬

‫لن أعزيك في فقد عمي محمد ‪ ،‬فهو لم يمت إنه عند الله من الحياء إن‬
‫شاء الله ‪ ،‬لكنني سأرسل لك مع هذا الخطاب كل مشاعري و أحاسيسي‬
‫التي شربت مشاعرك و أحاسيسك علها تقف بجوارك و تقدم وعدها لك‬
‫خالصا بأننا سنعود ‪ ،‬و إن الشمل سيجتمع مرة أخرى مهما طال الزمن و‬
‫حرمتنا الغربة من بعض الغوالي ••‬

‫و كتبت سميحة إلى زوجها رسالة أرفقتها برسالة ريم قالت فيها ‪ ":‬أخيرا يا‬
‫أبا العيال تحقق الحلم ‪ ،‬أخيرا أثمر طـــريق الشوك عن فـجر جــديد ‪ ،‬ثــمرة‬
‫العــمر كله بدأت تيــنع و تزهر و تسفر عن أمل يا جهاد ••‬

‫ل أدري ماذا أقول لك أيها الغالي ‪ ،‬ســوى أنني عندما حـــسبت ســنين‬
‫العمر التي مضت و حذفتها من لحظة الفرحة الكبرى بثبوت ريم في الجامعة‬
‫وجدت أن تلك اللحــظة فاضت و زادت حتى غطت على كل سنين الشقاء‬
‫•• أتحسبني نسيت يا أبا العيال ؟ أتحسبني نسيت ليالي سهادك و أيام‬
‫جهادك ‪ ،‬أتحسبني لم أكن أسمع الزفرات الحرى تخرج من قلبك فتحرق‬
‫قلبي ‪ ،‬أم تحسبني لم أكن أسمع في الليالي الطويلة التي تقاسمنا الفراش‬
‫فيها وجيب قلبك و هو ينادي الفرج و يسأل الله سؤال المضطرين ‪ ،‬لقد‬
‫سمعت وشاهدت و عشت و أحسست و اليوم معك أحصد و إليك أهدي و بك‬
‫تستمر المسيرة ••‬

‫أبو العيال من أجل خاطر سميحة اهتم بنفسك و عد إلينا سريعا فالليالي‬
‫بطيئة بدونك و الصبر طعمه مر ‪ ،‬أولدنا في العيون و في حبة القلب ‪ ،‬و ريم‬
‫كما علمت أما قاسم فهو في الصف الثاني ثانوي يمضي قدما بدوره نحو‬
‫الهدف ماشاء الله شبيه أبيه ‪ ،‬يحمل عني كل الهموم و يقف بجانبنا في كل‬
‫المور و أصبح يلطف ســمر فترة أطول كل يوم و يحضر لها الحلوى و‬
‫اللعب ‪ ،‬و قد اختار القسم العلمي كما تمنيت ‪ ،‬أسأل الله أن يقدرك على‬
‫مصاريف تعليمهم أنه على كل شيء قدير ••‬
‫وضعت ريم الخطابين في مظروف واحد و مضت لتلقي الخطاب في صندوق‬
‫البريد المجاور •• و في طريق العودة لمحت سعيد يسير باتجاهها و كان في‬
‫شكله شيء غريب‬

‫بعد اليوم الذي مازحت فيه ريم سعيد ‪ ،‬لم يرها أبدا ‪ ،‬حتى ابتسامة المساء‬
‫التي عودته عليها اختفت بدورها ‪ ،‬لم تعد تخرج إلى نافذتها و أصبحت نظراته‬
‫المعلقة كل ليلة على نافذتها تتمنى رؤية الضوء المنبعث من الخصاص على‬
‫القل ‪ ،‬و كان يحلو له أن يتخيل ما تصنع الن قبل أن تطفىء النور و تنام ‪،‬‬
‫كان يتخيلها تارة ترسم و تارة تبدل ملبسها ‪ ،‬و كان خياله في كل مرة يجرفه‬
‫إلى يوم المنظمة ‪ ،‬هكذا أطلق عليه ‪ ،‬و كان كلما تذكر عبارتها يضحك و‬
‫تعتريه رعشة لذيذة تلف أوصاله و يتذكر كيف لمس دون أن تدري أطراف‬
‫شعرها بينما كانت تقف تمل بيانات الستمارة الخاصة بهم ‪ ،‬كانت منهمكة‬
‫جدا في الكتابة ‪ ،‬و الجو خانق إل من مروحة عابثة كانت تتجول فوق الوجوه‬
‫دون أن تخلف بردا ‪ ،‬و كان شعرها الكستنائي الطويل يتطاير كلما وصل هواء‬
‫المروحة إليه ثم يعود ليستكين إذا غادرته ‪ ،‬و ظل هو فترة يراقب هذا‬
‫المنظر في حين كانت الم مع ابنتها تحددان اجاباتهما و تضعان وصف‬
‫أوضاعهم في الوراق أمامهم ‪ ،‬اقترب خطوة فلم يفطنوا كثيرا إلى تغير‬
‫مكانه ‪ ،‬و أصبح شعر ريم المتناثر قيد أنملة منه ‪ ،‬كان جميل جدا ‪ ،‬مثيرا جدا ‪،‬‬
‫أو هكذا رآه ‪ ،‬نازعته نفسه إلى لمس الخصلت المتناثرة ‪ ،‬شعر كأن كل من‬
‫في البهو وقتها يعرف ما يدور برأسه ‪ ،‬اعتراه خجل غريب لم يشعر به من‬
‫قبل ‪ ،‬إل أن فضوله و رغبته في لمس هذه الزوائد الكستنائية الطائرة غلبه ‪،‬‬
‫مد يده قليل فلحظ ارتعاشتها ‪ ،‬تطلع حوله و أخرج منديله و طفق يمسح به‬
‫عرقه الذي خرج غزيرا ‪ ،‬عاود المحاولة مرة اخرى ‪ ،‬و اقترب كثيرا هذه‬
‫المرة بأصابعة حتى أن الشعر المتطاير في هذه اللحظة دغدغ أصابعه ‪،‬‬
‫تراجع بسرعة خوف أن تضبطه ريم بالجرم المشهود ‪ ،‬و عاد فابتسم عندما‬
‫وجدها تسأل أمها امرا فتجيب الم و تعودان للكتابة بانهماك ‪ ،‬مد يده بجرأة‬
‫أكبر هذه المرة و لمس الزوائد بهدوء و بخفة ‪ ،‬فشعر بأنه ملك الدنيا ‪،‬‬
‫استقرت أصابعه لحظة على أطراف شعرها قبل أن تعاود المروحة ممارسة‬
‫لعبتها المفضلة في بعثرة شعرها •• تراجع خطوة فعاد إلى مكانه ‪ ،‬لكنه كان‬
‫يضع يده في جيبه كشيء غالي يريد أن يحتفظ به ما استطاع ‪ ،‬كان يتحسس‬
‫أصبعه بأصبعه في جيبه و إحساس بالنشوة لم يفارقه ل في تلك اللحظة و ل‬
‫في أية لحظة أخرى مرت به بعد ذلك اليوم ‪ ،‬و رغم أن ريم هجرت النافذة‬
‫إل أنه لم يعتريه غضب ‪ ،‬لم يكن يريد أكثر مما أخذ زادا لليام المقبلة ‪ ،‬كان‬
‫وقوفه في شرفته يطالع النافذة يمده بالكثير من الفكار و الخيلة التي تجعل‬
‫البتسامة ل تفارق وجهه و كأنه يراها أو أنه يرى ابتسامتها •• ذلك المـــساء‬
‫فرك يــده و هو يتذكر ملمــس شعرها على أصابعه و يطالع نافذتها المغلقة ‪،‬‬
‫و فجأة هاجمه شوق ل منتهي لرؤية ريم ‪ ،‬تذكر فجأة أنه لم يرها منذ‬
‫أسبوعين و تعجب كثيرا لن هذه اليــام مــرت دون أن يراها و دون أن‬
‫يشعر بمرورها و تساءل بصوت سمعه ‪:‬‬
‫إلى هذا الحد غيبتني هذه المخلوقة الثيرة عن نفسي ؟ وقع السؤال في‬
‫أذنه كان غريبا ‪ ،‬كان مستفزا ‪ ،‬فتح بعده الباب لعشرات السئلة و كان أهمها‬
‫على الطلق هو ‪:‬‬

‫و لماذا ل أبادر إليها ‪ ،‬ما المانع ؟ وجده سؤال بديهيا و غريبا في آن واحد ‪،‬‬
‫ما الذي دفعه إلى الحجام عن التعبير عن مشاعره طيلة هذا الوقت ‪ ،‬لماذا‬
‫اعتبر أن التعبير خطأ لن تغفره ريم ‪ ،‬من أين جاءه هذا اليقين ؟ أسئلة كثيرة‬
‫قلبت ابتسامته تجهما و تطلع للنافذة و صاح فجأة ‪:‬‬
‫لماذا ل تخرجين ؟ و عندما أيقن أنها لن تخرج كان قد قرر أمرا و أصر‬
‫عليه ‪ ،‬سيراها غدا و يحادثها ما استطاع و يخبرها أيضا بما يشعر به عل في‬
‫هذه المصارحة ما يخفف وطأة التغرب عن الذات الذي بات يشعر به مؤخرا‬
‫••‬

‫كان سعيد يقترب من ريم و على وجهه مسحة تجهم ‪ ،‬أو شيء من هذا‬
‫القبيل ‪ ،‬كان يبدو أنه لم يحلق ذقنه منذ أيام ‪ ،‬و كانت الهالت السوداء تحيط‬
‫بعينيه فتكسبهما عمقا غريبا ‪ ،‬عندما اقترب منها بادرته على الفور ‪:‬‬
‫أستاذ سعيد ما بك تبدو مريضا ؟ تسمر في مكانه ‪ ،‬حاول الكلم ‪ ،‬لم‬
‫يستطع ‪ ،‬فتح فمه و عاد فأغلقه ‪ ،‬ماذا لو فقدتها إلى البد ‪ ،‬ماذا لو غضبت و‬
‫ملت الدنيا ضجيجا حوله ‪ ،‬ماذا لو اعتبرت أن حديثه أثر من ماضيه اللعين‬
‫الذي تعرف عنـه الشيء الكثيــر ‪ ،‬سامحك الله يا مريم ماذا أخبرت ريم عني‬
‫؟‬

‫عادت ريم تسأله فقال بعد تردد ‪:‬‬


‫أنا بخير ‪ ،‬ما أخبارك أنت ؟ فقالت مبتسمة براحة ‪:‬‬
‫الحمد لله ‪ ،‬لقد نجحت فكرتك نجاحا منقطع النظير و ها أنا الن أداوم في‬
‫الجامعة كأي طالبة منتظمة ‪ ،‬و أصبحت لي شلتي أيضا ‪ ،‬أتعـرف لقد ضموني‬
‫إلى شلة الشغب الجامعي •• كانت تبتسم ابتسامتها الثيرة و كان يطالع‬
‫هذه البتسامة بعيون سكنها جنون الرغبة في الحتواء ‪ ،‬الرغبة في امتلك‬
‫هذا الكائن ‪ ،‬كان يريد أن يطلب إليها أن تصمت ‪ ،‬إل من ابتسامتها و تمضي‬
‫معه إلى حيث ل أرض و ل جدران و ل نوافذ ‪ ،‬لكنها لم تشعر بكل ما فيه ‪ ،‬و‬
‫انهت حديثها سريعا و هي تمضي قائلة ‪:‬‬

‫لبد أن أمضي الن ‪ ،‬ليتك تأتي الجامعة لعرفك على زملئي الجدد •• و‬
‫مضت •• راقبها و هي تبتعد ‪ ،‬وقف طويل بعد اختفائها ‪ ،‬كانت شعراتها‬
‫مازالت تدغدغ أصابعه و ابتسامتها مازالت تدغدغ قلبه ‪ ،‬كانت صورتها مازالت‬
‫ماثلة رغم اختفائها عن عيونه ‪ ،‬نبرة صوتها ‪ ،‬حماسها و عيونها اللمعة •• و‬
‫انتبه •• لقد دعته ليزورها في الجامعة ‪ ،‬و لكن متى و كيف و أين سيراها ‪،‬‬
‫لقد تركته دون إجابة و مضت ‪ ،‬مد يده ليستوقف طيفها فيسألها ‪ ،‬لكنها لم‬
‫تكن هناك ‪ ،‬طوى يده في جيبه و مضى بدوره ••‬
‫اعتادت ريم على الذهاب للجامعة صباحا برفقة سوسن ‪ ،‬كانتا ل تتوقفان عن‬
‫الكلم حتى تصلن إليها و عندها تنفــصلن فتذهب سوسن إلى شــلتها التي‬
‫عرفتها أثناء غياب ريم و تنضم ريم إلى شلة الشغب الجامعي و يمضي‬
‫الجميع إلى المحاضرات ‪ ،‬كان أحمد يتعمد دوما أن يجلس بجوارريم ‪ ،‬ووجد‬
‫نفسه يبادر دائما ليجيب عن أسئلتها و يلحظ كل صغيرة و كبيرة تقوم بها ‪،‬‬
‫حتى عندما برزت ريم كطالبة فنانة و لحظ الجميع اهتمام معظم الساتذة‬
‫بها كان أحمد أول من لحظ اهتماما غير طبيعي نحوها من الدكتور محمد‬
‫المتجهم دوما ‪ ،‬إنها الوحيدة التي يوجه لها السئلة الخاصة على المل ‪ ،‬و ل‬
‫يتردد أبدا في توجيه عبارات مدح خفيفة إليها رغم أنها كانت نادرة ‪ ،‬ذات يوم‬
‫انتبهت ريم لحمد و هو يتأملها و عندما قالت ‪:‬‬
‫لماذا تنظر إلي هكذا ؟ هل سكبت العصير على ثيابي؟‬

‫ابتسم بمرح و قال ببساطة و كانا وحدهما تقريبا ‪:‬‬


‫ل ألومهم •• فقالت متعجبة ‪:‬‬
‫من هم يا أحمد ؟ فقال بلمبالة ‪:‬‬
‫الساتذة ‪ ،‬و الزملء و كل إنسان يعرفك •• فقالت بهدوء ‪:‬‬
‫علم ل تلومهم إذن ؟ فقال ‪:‬‬
‫ل ألومهم على شغفهم الشديد بك •• فقالت على الفور و بحدة انتبه لها‬
‫من حولها في الستراحة ‪:‬‬
‫ماذا تقول ؟ التفت حوله و قال بسرعة ‪:‬‬
‫ريم ‪ ،‬إنك ترفعين صوتك •• هزت كتفيها و قالت ‪:‬‬
‫و لم ل •• أنت تتحدث بما ل يقال ••‬
‫تنهد بسرعة ثم مد يده عبر الطاولة فلمس أناملها و قال بسرعة ‪:‬‬
‫ريم أنا أحبك ••‬
‫سحبت يدها فورا و لملمت أغراضها و قالت ‪:‬‬
‫يبدو أنك مريض اليوم ‪ ،‬سأتركك لتراجع نفسك •• سارت بسرعة دون أن‬
‫تلتفت إليه فهز كتفيه و قال و هو يستريح في مقعده ‪:‬‬
‫أنا فعل أحبها ••‬
‫قابلت هدى و سمر و هما قادمتان و عندما رأينها تغادر بادرت سمر‬
‫بالسؤال ‪:‬‬
‫إلى أين ؟‬
‫سأتمشى قليل حتى موعد المحاضرة القادمة ••‬
‫إذن خذيني معك ‪ ،‬أما أنت ياهـــدى فيبدو أن أحــمد بمفرده ‪ ،‬هل تحبين‬
‫مرافقتنا أم الجلوس معه ؟ فقالت هدى على الفور ‪:‬‬
‫بل سأجلس مع أحمد أمسكت سمر بذراع ريم و خرجتا و هي تقول ‪:‬‬
‫كنت أعرف أنها ستفضل ذلك •• فقالت ريم باهتمام ‪:‬‬
‫و لم ؟‬
‫فقالت بسرعة و كأنها كانت تنتظر السؤال ‪:‬‬
‫لنها متعلقة به ‪ ،‬إنه ابن الجــيران الذي كـــبرا معا و بينهــما ذـكريـات‬
‫كثيرة مشتركة و دائما يقصانها علينا و يتندران بها ••‬
‫و أحمد هل يحبها ؟‬
‫ل أدري ‪ ،‬إنه يتشاجر كثيرا من أجلها ‪ ،‬و يحرص كثيرا على أل تتصرف أي‬
‫تصرف بعيدا عنه و يصر دائما علي معرفة مكانها إذا غابت ‪ ،‬لكن يحبها ؟ ••‬
‫لست أدري •• *** لم يشغل ريم كثيرا ما قاله أحمد خاصة لنها كانت في‬
‫هذا اليوم على موعد مع مواجهة كبرى في حياتها و موقف لم تنساه أبدا فيما‬
‫بعد فقد كانت في طريقها إلى المحاضرة مع سمر عندما استوقفها سعيد ••‬
‫اتســعت عيناها دهــشة لمرآه و خــاصة أن مــلمح الغضب و النفعال كانت‬
‫تكسو وجهه ‪ ،‬نظر إليها و قال متهكما ‪:‬‬
‫أخيرا ؟ همست ‪:‬‬
‫أستاذ سعيد ما بك ؟ فقال بسرعة و بصوت عال ‪:‬‬
‫ليس بي شيء ‪ ،‬أنا بخير •• أم تحسبينني مجنونا ل ينام الليل من أجلك ؟‬
‫صاحت ‪:‬‬
‫استاذ سعيد ‪ ،‬ماذا تقول ؟ شدها من يدها فآلمها و قال بصوت عال ‪:‬‬
‫أبحث عنك منذ أسبوع على القل ‪ ،‬في كل يوم آتي إلى الكلية و أبحث‬
‫عنك في أرجائها و ل أجد لك أثرا ‪ ،‬أين كنت ؟ انتزعت نفسها منه بقوة و‬
‫قالت لسمر بحزم ‪:‬‬
‫سمر اذهبي أنت أنا سأتحدث قليل مع الستاذ سعيد ثم آتي إلى المحاضرة‬
‫•• وجدت سمر تنظر إليها دهشة مما يجري فقالت بسرعة ‪:‬‬
‫الستاذ سعيد جارنا و صديق العائلة •• هزت سمر رأسها و همست و هي‬
‫تبتسم ‪:‬‬
‫جاركم ؟ •• حسنا سأذهب لنادي الجميع ‪ ،‬ل تنسي نحن بانتظارك‬
‫حسنا •• مضت سمر فنظرت ريم إلى سعيد بغضب و قالت ‪:‬‬
‫هل يمكنني أن أعرف سر هذا التصرف الغريب منك ؟ نكس سعيد رأسه و‬
‫قال بصوت هاديء ‪:‬‬
‫آسف لقد جن جنوني عندما بحثت عنك طيلة السبوع الماضي و لم‬
‫أجدك ‪ ،‬ل تنسي أنت طلبت إلي الحضور ••‬
‫أنا ؟ هز رأسه فتنهدت و قالت ‪:‬‬
‫ل بأس ‪ ،‬و ها قد وجدتني ماذا تريد ؟‬
‫أريد أن أحادثك •• زفرت و قالت ‪:‬‬
‫كما سمعت لدي محاضرة •• صاح مجددا ‪:‬‬
‫اتركيها ‪ ،‬لن تطير الدنيا إذا لم تحضريها •• نظرت إليه و العجب و الغضب‬
‫يملؤها ‪:‬‬
‫أستاذ سعيد ••!!‬
‫تعالي •• مرة اخرى أمسكها من ذراعها فيما يشبه الجذب و سار بها‬
‫مبتعدا إلى حيث الساحة المشجرة و أجلسها على الريكة الخشبية المظللة و‬
‫جلس بجوارها •• ظل صامتا لبعض الوقت فيما بقيت هي تنظر إليه محتارة‬
‫فيما يجري غير مصدقة له و عندما همت بالكلم قال بهدوء دون أن ينظر‬
‫إليها ‪:‬‬
‫ريم •• منذ متى أعرفك ؟ تطلع اليها •• هزت كتفيها و لم تجب فقال ‪:‬‬
‫منذ ستة أشهر و ثلثةأيام بالضبط •• هل تعرفين معنى هذا ؟ و للمرة‬
‫الثانية هزت ريم رأسها نفيا ‪ ،‬لم تكن تريد الجابة ‪ ،‬لم تكن تريد ترسيخ إجابة‬
‫تقرؤها في عيونه وفي تصرفاته معها منذ جاء •• قال و قد أطرق أرضا ‪:‬‬

‫إنه يعني أنني منذ ستة شهور أتقلب في نار من نوع خاص ‪ ،‬نار لم أكن‬
‫أعتقد يوما انني سأعيش فيها •• ربما يدهشك هذا ‪ ،‬لكنني منذ اليوم الول‬
‫الذي اصطدمت فيه بوجهك الغاضب و كلماتك الجريئة عن كوني ل أصلح‬
‫زوجا ‪ ،‬منذ ذلك اليوم و أنت ترافقيني في صحوي و منامي ‪ ،‬تبا ••• كم يبدو‬
‫كلمي هذا مستهلكا ‪ ،‬كم يبدو غريبا تافها •• لكنها الحقيقة ‪ ،‬هكذا فجأة و‬
‫بدون استئذان أو ترتيب مسبق اقتحمت حياتي ‪ ،‬احتللت قلبي و عقلي ‪ ،‬و‬
‫صرت المرة الناهية فيه •• نوع غريب من الحب ‪ ،‬يملك علي حواسي ‪،‬‬
‫يفقدني السيطرة على ذاتي ‪ ،‬حب يشبه أن ترشف الكأس حتى الثمالة ‪ ،‬أن‬
‫تشرب الضوء حتى الحتراق ‪ ،‬أن تعيش حتى الموت ‪ ،‬و مع ذلك ل أجد فيه‬
‫غضاضة ‪ ،‬ل أرى فيه عجبا ‪ ،‬ل أحس فيه مستحيل •• هل تفهمين ؟ نظر إليها‬
‫و كانت تنظر إليه •• لم يكن ما قاله مجهول لديها •• كانت تعرفه و تستطيع‬
‫إن أرادت أن تصفه بأفضل مما وصف ‪ ،‬إنه حقا كما قال حب تسليم الرادة‬
‫طوعا لمن تحب •• هذا ما شعرت به و ما عرفته منذ أن عرفت سعيد ‪ ،‬في‬
‫رصدها الدائم لخدماته و تحركاته و تفانيه في العمل من أجلــها بالفكر و‬
‫الحـــركة و السؤال و التنفــيذ ‪ ،‬لقد عرفت كل هذا و أكثر و توقعت كل هذا‬
‫و أكثر •• لكن تظل المفاجأة قائمة فقد كانت مواجهة مبكرة جاءت أسرع‬
‫مما توقعت ••‬

‫هزت رأسها تفهما ‪ ،‬فأخرج زفرة ارتياح و عاد بظـــهره إلى الخـــلف و‬
‫تطـلع إلى السماء و قال و هو يأخذ نفسا عميقا ‪:‬‬

‫ياه ه ه ه •••• !!! ظلت صامتة لبعض الوقت تتنازعها رغبة قوية في‬
‫قول كل ما تريد قوله ‪ ،‬في وصف ما تشعر به ‪ ،‬تريد أن يعرف ما تعرفه‬
‫لترتاح ‪ ،‬لكنها لم تجرؤ على الكلم و سمعته يهمس ‪:‬‬
‫هذا ما كنت أريد •• هذا ما كنت أريد حقا ••‬

‫عندما صارحت ريم أمها بكل ما حدث معها هذا اليوم ‪ ،‬كانت تهدف إلى‬
‫أمرين أولهما أن تتخفف من كل ما سمعت ‪ ،‬اعتراف أحـــمد اللمبالي‬
‫بالحـــب كأنه يتحدث عــن الطقــس و اعتراف سعيد الممزق بالحب ‪ ،‬و‬
‫المر الثاني هو أن تفضي لها بمشاعر لم تستطع أن توصلها لكليهما و خاصة‬
‫سعيد •• سمعت الم كل ما قالته ريم ‪ ،‬كان عقلها يعمل بسرعة ‪،‬‬
‫استشعرت قلــقا مفـاجئا على ابنتها البكر هاهي تدخـــل معترك حيــاة‬
‫جديدة لم تألـــفها و يتحدث معها الرجال عن الحب و كأن الجامعة مكان‬
‫لتلقي العلم و الحب سألتها بحذر ‪:‬‬
‫هل كان لبد أن يحدث ما حدث يا ريم في النصف الول لدراستك في‬
‫الجامعة ‪ ،‬إنك لم تكملي شهرين بعد فيها ‪ ،‬أين تذهبين ؟ ••• جامعة أم‬
‫منتزه عام ؟ ابتسمت ريم لمها مطمئنة و قالت بهدوء ‪:‬‬
‫هذه المور تحدث دائما و بالنظر إلى علقة سعيد بنا منذ ستة أشهر فهو‬
‫أمر متوقع نسبيا ‪ ،‬أما أحمد فربما لنه شاب طائش ل يحسن التعبير إل‬
‫بالمباشرة ‪ ،‬أو لن المباشرة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يعبر لي بها‬
‫عن مشاعرألفة سرعان ما أحسها تجاهي فسرها بالحب و هي أبعد ما تكون‬
‫عنه ‪ ،‬كما أنني ل يعنيني أحمد هذا في شيء‬
‫و يعنيك سعيد ؟‬

‫خفق قلب ريم اضطرابا بعد سؤال أمها المباغت ‪ ،‬على أنها ابتسمت مجددا و‬
‫قالت بهدوء‪:‬‬
‫سعيد يا أمي حالة خاصة ‪ ،‬حالة ل أستطيع وصفها ‪ ،‬منذ عرفته و أنا متأكدة‬
‫أن هناك رباطا جمعنا ‪ ،‬غير أنه ليس رباط الحب ‪ ،‬أو ربما هو الحب من جانبه‬
‫‪ ،‬أما من جانبي فهو شيء مختلف ‪ ،‬مختلف لكنه عظيم ‪ ،‬إنه الحساس به‬
‫كرجل الحل الخير ‪ ،‬الحساس به كأنسان المهمات الصعبة ‪ ،‬الرجل الذي‬
‫يملك مفتاحا لكل أزمة و يملك القيادة بكل اقتدار ‪ ،‬إنه بالنسبة لي نموذج‬
‫لشيء لبد أن أتعلق به ‪ ،‬مثلما يتعلق الغريق بلوح طافي على وجه الماء ‪،‬‬
‫هل تعتقدين أن هذا الغريق سيحب هذا اللوح رغم أنه المنقذ ؟ سيرتبط به‬
‫ارتباطا آخر ارتباط استمرارية الحياة ‪ ،‬أو فلنقل ارتباط حتمي من أجل أن‬
‫تستمر الحياة •• هل تعتقدين أن جدارا يحمي الرأس من العاصفة و المطار‬
‫يمكن أن يعيش قصة حب مع من احتمى به ؟‬

‫سعيد ليس لوحا من خشب أو جدارا من حجر ‪ ،‬إنه إنسان ‪ ،‬لحم و دم و‬


‫هو يحبك فكيف تصفينه هذه الوصاف ‪ ،‬أصابك الغرور يا ابنة جهاد ؟‬

‫ردت ريم بسرعة ‪:‬‬


‫ل يا أمي ‪ ،‬أنا لم أصف سعيد بهذه الوصاف للتقليل من شأنه ‪ ،‬و إنما‬
‫أردت أن أقرب لك الصورة التي أراه عليها ‪ ،‬خانني التعبير ‪ ،‬إلأنني بالفعل‬
‫أعتبره شيئا عظيما في حياتي ‪ ،‬عظيم و أبعد من مجرد رجل و امرأة و قصة‬
‫حب ‪ ،‬ل أريد أن تختفي هذه المعاني و المشاعر لتحل محلها مشاعر أخرى و‬
‫معان أخرى تبعدني عنه و تبعده عني ••‬
‫ل أفهم سوى أن هذا الرجل يحبك و ما أعرفه أن الحب بداية ارتباط و ما‬
‫أنا متأكدة منه أنه ارتباط مرفوض كليا و جزئيا ‪ ،‬ليس مني فقط و إنما من‬
‫أبيك و من كل ذي عقل ‪ ،‬لذا لبد أن يبتعد عنا ••‬
‫و لكن أمي ؟‬
‫هيا يا ابنتي ‪ ،‬بدلي ملبسك و صلي العصر و انتبهي لدراستك و ما حدث‬
‫اليوم ينبغي أل يتكرر و عليك بإيقاف هذا الطالب المستهتر عند حده و‬
‫بمنتهى الحزم ‪ ،‬فهو مازال طفل و المشوار أمامه طويل •• *** انتهزت الم‬
‫فـــرصة غياب ريم عـــند ســوسن و أرسلت في طلـــب سعيد مع ابنها‬
‫قاسم ‪ ،‬و عندما أجابها و حضر سريعا طلبت إلى قاسم أن يتركها معه‬
‫وحدهما لنها تريده في أمر هام ‪ ،‬خرج قاسم و بقي سعيد يتطلع إلى الم‬
‫باهتمام و يتساءل عن سر هذه الدعوة الغريبة و لم تتأخر عليه الم و بدأت‬
‫حديثها فورا قائلة ‪:‬‬
‫أستاذ سعيد ‪ ،‬لقد دخلت حياتنا منذ فترة قصيرة ‪ ،‬لكنك أثبت لنا خللها‬
‫أنك نعم الخ و الصديق و كنت في أحيان كثيرة أفضل من أقرب القرباء ••‬

‫ابتسم سعيد مضطربا و تمتم ‪:‬‬


‫ماذا حدث ؟ أكملت الم ‪:‬‬
‫اخبرتني ريم بما دار بينكما مؤخرا في الجامعة •• نهض سعيد منزعجا و‬
‫صاح ‪:‬‬
‫أخبرتك ؟ فردت الم بهدوء‪:‬‬
‫نعم يا أستاذ سعيد ريم ل تخفي عني شيئا •• اجلس لو تكرمت •• جلس‬
‫سعيد مضطربا و سمع الم تقول ‪:‬‬
‫لقد شعرت بأحاسيسك و هي تنمو باتجاه ريم ‪ ،‬و هو أمر متوقع نظرا‬
‫لقربك الشديد منها في أشد الوقات التي مرت بنا صــعوبة ‪ ،‬اقترابك مــن‬
‫حاجــاتنا جعلــك فــردا منا و هذا هو ما دفعك لعتقاد أن ما تشعر به حبا ‪،‬‬
‫أليس كذلك ؟ أجاب سعيد بسرعة ‪:‬‬
‫ل •• ليس مجرد اقترابي منكم ‪ ،‬إنني أحبها و أشعر أن حبي لها كان معي‬
‫منذ اليوم الول لوجودي في الحياة ‪ ،‬هكذا أشعر بها ‪ ،‬إن ريم تملك علي كل‬
‫مشاعري و حواسي ‪ ،‬إنني أحبها يا خالتي ‪ ،‬أحبها حقا •• قالت الم بحدة ‪:‬‬
‫لكن ريم صغيرة ••• يا أستاذ سعيد فقال بسرعة ‪:‬‬
‫أنا لم أغوها ‪ ،‬أنا ل أريد بها شرا ‪ ،‬أنا ل أريد أن تتحول عما هي فيه ‪ ،‬أنا‬
‫أحبها كما هي ‪ ،‬ول أطمع في أكثر من أن تعرف هذا ‪ ،‬تعرفه فقط ‪ ،‬و لن‬
‫أطلب أن تحبني هي بدورها •• صدقيني •• لن صوت الم قليل و قالت‬
‫بهدوء ‪:‬‬
‫و لكن ياأستاذ سعيد ‪ ،‬ل يوجد حب بل هدف ‪ ،‬ل يوجد حب لمجرد الحب ‪،‬‬
‫الفطرة السليمة تأبى هذا •• فقال سعيد ‪:‬‬
‫إذا كان ما تعنيه هو خطبة ريم ‪ ،‬فهذا أمر أتمناه و أرغب فيه جدا و ليتكم‬
‫توافقون •• تلعثمت الم و جلست و هي تقول ‪:‬‬
‫أستاذ سعيد ‪ ،‬يجب أن أكون صريحة معك ‪ ،‬لدي ألف سبب يدعوني إلى‬
‫الوقوف في وجه تطور هذا الشعور عندك ‪ ،‬ليس آخرها أنك رب أسرة و‬
‫لديك ثلثة أطفال يحتاجونك و إن انفصلت عن أمهم ‪ ،‬و ليس بسبب ما‬
‫سمعته عنك و ما عرفناه عن ماضيك الذي هو كفيل بإخافة كل فتاة ترتبط‬
‫بها ‪ ،‬إذ سيظل مصير الولى بأطفالها الثلث ماثل أمام العيون و قد ينغص‬
‫على زوجتك الجديدة حياتها •• و لكن ريم فلسطينية و هي ابنتنا الولى ‪،‬‬
‫ثمرة كفاحنا و جني العمر كله ‪ ،‬وضعنا فيها أحلمنا ‪ ،‬و من خللها نريد تحقيق‬
‫هذه الحلم ‪ ،‬نريد أن نحقق ما لم نستطع تحقيقه لنفسنا ‪ ،‬نريد أن نراها في‬
‫أفضل المراكز العلمية و العملية ‪ ،‬وحين تتزوج نحلم أن يكون زوجها خالصا‬
‫لها ليس لديه أسرة كبيرة العدد من لحمه و دمه بانتظار اقتسامه معها ••‬
‫اعذرني يا بني ‪ ،‬لكنها الحقيقة •• أنت ل تصلح لريم ‪ ،‬و ريم ل تصلح لك ••‬
‫همس سعيد متألما ‪:‬‬
‫و لكنني أحبها •• فقالت الم برفق ‪:‬‬
‫و المحب الحقيقي يبحث دوما عن سعادة من يحبها و يعتــبر أن سعادتها‬
‫سعادة له حتى لو لم تكن معه ‪ ،‬فهل حبك من هذا النوع ؟ فقال سعيد بعد‬
‫أن رفع عيونا لمعة مغسولة إلى الم ‪:‬‬
‫بل هو أكثر بكثير مما تتخيلينه •• ابتسمت الم أبتسامة رضا و قالت بحزم‬
‫‪:‬‬
‫إذن اقطع علقتك بها ‪ ،‬و ل تحــاول رؤيتها مجددا حتى ل تلهها عن حلمها و‬
‫حلمنا الكبير •• بضعف قال ‪:‬‬
‫و لكن •• بقوة قالت و هي تتطلع اليه ‪:‬‬
‫أريد وعدا بذلك الن •• ظلت ترنو إليه فترة و هو يصارع نفسه ‪ ،‬يصارع‬
‫رغبة عارمة في أن يقف أمام هذا القرار الظالم و يمنعه بكل ما أوتي من‬
‫قوة ‪ ،‬رغبة في أن يصيح طالبا منها أن تكف عن تعذيبه و مطالبــته بما ل‬
‫يطيق ‪ ،‬لكنه عوضـــا عن ذلــك وقف متخاذل و لم ينظر إلى الم و مضى‬
‫قدما نحو باب الخروج فنادته الم ‪:‬‬
‫أستاذ سعيد •• التفت إليها و همس بصوت سمعته ‪:‬‬
‫أعدك •• أغلق الباب خلفه فتنهدت الم ارتياحا و حمدت الله •• *** لم‬
‫يعد أحمد إلى الكلم عن الحب لريم أو لغيرها ‪ ،‬إل أنه بات يتعامل مع ريم‬
‫كأنها تخصه وحده و لحظ الجميع ما اعترى أحمد من فتور تجاه هدى و ما جد‬
‫عليه من أمور تخص ريم ‪ ،‬و ريم لحظت بدورها ‪ ،‬لكنها كانت تتعمد تجاهل‬
‫المر برمته ‪ ،‬و تعتبر أن ما تفوه به ذات يوم إنما كان من قبيل المزح الذي‬
‫تجيده هذه الشلة عموما ‪ ،‬و في هذه الثناء توطدت أكثر علقتها بالدكتور‬
‫محمد الذي طلب إليها أن توافيه في مكتبه ليكمل لوحة رسمها لوجهها ‪ ،‬و‬
‫كم فوجئت عندما رأت تلك اللوحة الصغيرة و عليها وجها يشبه وجهها و لكن‬
‫تلك الملمح كانت تحمل تحديا ل تدري من أين جاء به الدكتور محمد ‪ ،‬و‬
‫عندما سألت الدكتور ماذا تفعل ليستطيع هو أن يكمل رسمه قال لها ببساطة‬
‫‪:‬‬
‫ل شيء تحدثي فقط •• و سألته عما تتحدث بشأنه ‪ ،‬فلم يعين أمرا قال‬
‫لها ‪:‬‬
‫قولي كل ما ترغبين في قوله •• يهمني جدا أن تتحدثي و لعل في هذا‬
‫الطلب تحديدا يكمن سر اقتراب ريم من الدكتور محمد اقترابا كبيرا فقد كان‬
‫هو الوحيد الذي عرف عنها كل شيء بمنتهى الدقة و التفصيل ‪ ،‬كانت‬
‫تستغرقها الحكايات حتى التصريح بكل شيء ‪ ،‬و عندما اكتملت اللوحة ملونة‬
‫و جميلة كانت تنطق بالجمال و التحدي العزل و الكرامة ‪ ،‬مزيج غريب ل‬
‫يملك من يرى اللوحة إل أن يرى كل هذا فيها و عندما رأتها في شكلها‬
‫النهائي صاحت ‪:‬‬
‫ما أجملها •• إنك فنان بحق يا دكتور •• ليتني أستطيع أن احتفظ بها ••‬
‫قال الدكتور محمد و هو يعيدها إلى مكانها بحرص ‪:‬‬
‫ل يمكن •• سوف تكون ضمن لوحات المعرض السنوي الذي تقيمه الكلية‬
‫آخر العام ‪ ،‬يمكنك فقط أخذ صورة عنا عندما ننتهي من صنع الملصقات‬
‫الخاصة بالمعرض •• قالت ريم بتردد ‪:‬‬
‫و هل لها اسم ؟ أجاب الدكتور بغموض و هو يعطيها ظهره إيذانا بانتهاء‬
‫المقابلة ‪:‬‬
‫لجئة •• خرجت من الغرفة تتعثر في كلمة الدكتور ‪ ،‬لجئة ‪ ،‬هل‬
‫استسلمت طيلة المدة السابقة ليرسمها فنان كل هدفه ترسيخ ضياعها ‪ ،‬هل‬
‫قصد الدكتور بهذه اللوحة أن يطلعها على حقيقة ذاتها ‪ ،‬أن يفضح تلك‬
‫الذات ‪ ،‬أن يكرس اللجوء و النكسار مجددا فيها •• كانت شلة الشغب‬
‫الجامعي بانتظارها ‪ ،‬و في عيونهم نظرات غير مرحة اطلقا ‪ ،‬قالت هدى فور‬
‫وصولها ‪:‬‬
‫غريبة لم تطل جلستك لدى الدكتور محمد اليوم •• نظرت إليها و لما‬
‫أوشكت على الرد قال فؤاد ‪:‬‬
‫من عادته أن يمل سريعا •• نظرت اليه بدهشة ممزوجة بالغضب و قبل‬
‫أن ترد كانت لكمة من أحمد على وجهه هي الرد الذي وصله بالفعل ‪ ،‬تعالت‬
‫صيحات الستنكار من الباقيين و صاحت ريم ‪:‬‬
‫لماذا ضربته ؟ فقال أحمد و هو يشدها من يدها ‪:‬‬
‫فؤاد لم يكن مخطئا ‪ ،‬أنت من أعطيته الفرصة ليقول و أعطيتي الفرصة‬
‫لعشرات غيره ليقولوا •• نزعت يدها بعنف من يده و صاحت ‪:‬‬
‫يقولون ؟ يا لكم من تافهين ‪ ،‬هل تعتقدون أن كل علقة إنسانية يمكن أن‬
‫تنشأ بين اثنين هي بالضرورة علقة حب ؟ رد أحمد بغضب ‪:‬‬
‫إذا كانت بين طالبة جميلة و أستاذ يمر بمراهقة متأخرة ‪ ،‬نعم ل اسم آخر‬
‫لها •• قالت ريم محاولة التوضيح ‪:‬‬
‫لكنكم تعرفون أنه يرسم وجهي •• قال فؤاد و هو يفرك فكه ‪:‬‬
‫أنت هنا طالبة و لست موديل للرسامين ‪ ،‬و هذه سابقة هي الولى من‬
‫نوعها هنا حسب علمي ‪ ،‬فهل أعطاك أجرا على الرسم ؟ في هذه المرة‬
‫اتقى فؤاد لكمة أخرى كادت تصيبه من أحمد و ركض مبتعدا و هو يقول ‪:‬‬
‫إذا كنت بهذا الحرص عليها فنبئها بما يقال عنها ‪ ،‬هذه الوافدة الثرية‬
‫المدللة •• تطلع أحمد إلى ريم فوجد سحابة دمع تترقرق داخل عيونها أطرق‬
‫قليل و قال ‪:‬‬
‫ريم ‪ ،‬لوضعك بيننا خصوصية معينة ينبغي أن تنتبهي لها ‪ ،‬فلقد صحب‬
‫دخولك الجامعة ضجة لفتت النظار ‪ ،‬و كان لظهورك متأخرة في المحاضرات‬
‫أثر في لفت إنتباه كل دكتور أو أستاذ يدخل إلينا وإن وجها جديدا عانى من‬
‫أزمة مع العميد ‪ ،‬و كانت السئلة الموجهه إليك في كل مرة تدير رؤوس‬
‫الطلبة إليك ‪ ،‬فإذا أضفت على كل هذا جاذبية خاصة تتمتعين بها ونظرة‬
‫خاصة ينظر بها المجتمع إلى الوافدات من فلسطين تحديدا و إلى الذين‬
‫يعمل أهلوهم في الخارج ‪ ،‬رأيت مدى خصوصية وضعك و عرفت أنك تحت‬
‫المجهر دائما ‪ ،‬ناهيك عن أن الدكتور محمد له وضع خاص فهو رجل عرف‬
‫بالتجهم الدائم و القسوة في تعامله مع الجميع فلماذا يعاملك بهذه‬
‫الطريقة ؟ نظرت ريم إليه و سيل الدموع يتراكض على خدها و نظرت‬
‫للباقين أيضا فرأت مصداق حديث أحمد ‪ ،‬فأدارت ظهرها لهم و ابتعدت ••‬
‫عبارة واحدة كانت تــتردد في ذهــنها و تسقط أرضا مع دموعها ‪ ،‬عبــارة‬
‫بللت سكيــنتها و هدمت بكل قوة صرح أمانها ‪ ":‬لو كان لي وطن •• لو كان‬
‫لي وطن ••" *** فلسطين أرض باعها أبناؤها •• عبارة وقفت طويل أمام‬
‫فلسطيني اللجوء ‪ ،‬يسمعونها من كل شخص يريد أن يقدم تبريرا لقسوته‬
‫معهم ‪ ،‬تبريرا لضميره قبل أن تكون تبريرا للفلسطيني ‪ ،‬عبارة سمعتها ريم‬
‫كثيرا و حارت في أمر الجابة عليها ‪ ،‬كانت ترفض التهمة لكنها ل تملك‬
‫براهين تثبت بها أنهم كاذبون ••و استطاع العلم أن يرسخ هذه الصورة أكثر‬
‫عندما كان يحدث ما يعكر العلقات بين الفلسطنيين و المصريين على‬
‫المستوى الرسمي ‪ ،‬إذ كانت الصحف تنبري لتحويل الفلسطنيين إلى شعب‬
‫من الخائنين باعوا أرضهم أو هجروها طوعا فاحتلها الصهاينة ••و أصبحت‬
‫الصورة الموجودة بقوة في أذهان الجيال الجديدة من العرب عن فلسطيني‬
‫اللجوء هي أنهم أشخاص مترفون متخمون ‪ ،‬أموالهم بالمليين و بأسهم بينهم‬
‫شديد •• و كان على ريم و من على شاكلتها مجابهة كل هذا بدون سلح ‪،‬‬
‫حتى المعرفة كان نبعها نفس المورد الذي يغترف منه الخرون ‪ ،‬إعلمهم ‪ ،‬و‬
‫درجة الرضا أو الغضب منهم ‪ ،‬لذا لم تكن تستطيع الرد ‪ ،‬و جاء عمل أبيها‬
‫في السعودية لكي يلصق بها نفس الصفات ‪ ،‬و أصبحت في قرارة نفوس‬
‫معظم زملء الجامعة فلسطينية من أولئك الثريات اللواتي فقدن مع غياب‬
‫الب أي رادع لهن عن فعل الخطأ ‪ ،‬أو أن هذا على القل ما تبينته ريم من‬
‫حديث زملئها إليها و من صيحة فؤاد عن الوافدة المدللة الثرية ••‬
‫استطاعت في هدأة الليل أن ترى الصورة كاملة ‪ ،‬الصورة التي يراها فيها‬
‫معظم الناس ‪ ،‬تألمت كثيرا ‪ ،‬شعرت أن بونا شاسعا يفصلها عن مجتمع‬
‫تعيش فيه ‪ ،‬تريد أن تنخرط فيه و تنتمي إليه فيرفضها و يضعها داخل بوتقة‬
‫خيالية يغذيها بالكاذيب ‪ ،‬إن حكما مسبقا ينفذ عليها لم يتنازل أحدهم يوما‬
‫ليقدم لها حيثياته ‪ ،‬و تذكرت حين بكى قاسم من عبارات قالها زميله عن‬
‫أنهم آووه و حموه من الضياع •• وتذكرت ابن عمــها تامر ‪ ،‬أمسكت أوراقها‬
‫و قلمها و بدأت في الكتابة اليه فورا ‪ :‬ابن عمي العزيز ‪ /‬تامر فرق كبير بين‬
‫إحساسي عندما كتبت لكم الرسالة الولى و بين إحساسي الن و أنا أكتب‬
‫الثانية ‪ ،‬رغم أن ما يفصل بينهما ل يتعدى الشهور القليلة ‪ ،‬صدقني يا ابن‬
‫عمي لو كنت أعرف ما عرفت خلل هذه الشهور ما أمسكت قلمي لكتب‬
‫إليكم في محاولة بلهاء لحياء إنتماء أسري فقد مع مرور الزمن قيمته و‬
‫معناه ‪ ،‬إذ ما معنى أن نتواصل كتابة ‪ ،‬ما معنى أن أحدثك بآلمي و تحدثني‬
‫بآلمك دون أن يستطيع أحدنا أن يحطم آلم الخر •• صدقني يا ابن عمي‬
‫إنني أرى في كل ما نفعله هراء و مضيعة للوقت و الجهد ‪ ،‬لن تغير كثيرا من‬
‫واقع يسيطر علينا و يطحننا و يشكلنا عجينة طرية ‪ ،‬واقع يعطينا أسماء غير‬
‫أسمائنا ‪ ،‬و ملمح ل تشبهنا و صفات ل علقة لنا بها •• أتصدق يا ابن عمي‬
‫أنني في نظر زملء الجامعة مدللة ثرية وافدة ‪ ،‬باع أهلها أرضهم و أكل‬
‫شعبها بعضهم •• أنني أتألم •• ممزقة ‪ ،‬ساخطة •• رافضة •• أريد أن‬
‫أحطم شيئا ما أريد أن أقتلع مذياعا يديننا و صحيفة تثبت علينا حكم الخيانة ‪،‬‬
‫و رجل شارع يقول عنا زورا و بهتانا ‪ ،‬لكنني ل أستطيع ‪ ،‬ليس لدي الحجة ‪،‬‬
‫تعلمت في مدارسهم و تربيت على وسائل إعلمهم ‪ ،‬و لول أنني فلسطينية‬
‫•• صدقني يا ابن عمي •• لصدقتهم •• هذه رسالة ثانية و أخيرة ‪ ،‬ل أريد‬
‫أن أعرف عنكم المزيد و ل أريد أن أعيشكم كائنات ضبــابية بل ملمــح ‪ ،‬و ل‬
‫أريــد أن أتعــذب بكم أنتــم أيضا يكفيني عذاباتي •• حيرتي •• و قسوة‬
‫الناس علينا ريم‬
‫و حملت الرياح الرد إليها سريعا ‪ ،‬رسالة من تامر و أخرى من سهيل ‪ ،‬فتحت‬
‫أول رسالة تامر ‪:‬‬

‫ابنة العم الرقيقة ‪ /‬ريم‬

‫عندما يتهمك الغرباء تهمة ل تستطيعين إسقاطها ‪ ،‬يكفي أحيانا أن تهزي‬


‫رأسك لتقولي بلمبالة لنهم غرباء ‪ ،‬يقولون ‪ ،‬و لنهم غرباء لن يفهموا ما‬
‫نحن فيه ••‬

‫بوسعك دائما أن تجدي ردا ينزل بردا و سلما على غضبك و سخطك و يحوله‬
‫رضا و ل مبالة ‪ ،‬و لكن إذا كانت التهمة من القرباء ‪ ،‬من الغوالي ‪ ،‬ممن‬
‫يهمك أمرهم و تتمنين لو همهم أمرك ‪ ،‬عندها تكون الطامة الكبرى ••‬

‫ابنة عمي إننا في غربتنا و لجوئنا بين نارين أستغرب كثيرا تأخرك في‬
‫الحساس بهما ‪ ،‬نار الغرباء من الجيل الجديد الذين ل يعرفون عنا إل ما تبثه‬
‫وسائلهم العلمية و هذه النار لمستها بنفسك •• و نار القرباء الذين يحولون‬
‫حياة البؤس التي يعيشونها في ظل احتلل ل يرحم و فاقة تغل العناق و‬
‫يوميات رعب متواصلة ‪ ،‬يحولون هذه الحياة إلى سياط نقمة على من أفلت‬
‫منها ‪ ،‬سياط نقمة و غضب على أولئك المترفين الذين ينامون آخر الليل‬
‫باطمئنان و يعيشون في تبات و نبات في انتظار هادم اللذات الطيب الذي‬
‫يأتي إليهم في وجبــة دسمــة ‪ ،‬أو نومة هنيـــئة ‪ ،‬أو رحلة متعة •• و هــذه‬
‫نار لم تلمسيها و لمستها أنا ‪ ،‬بين هذه و تلك يعيش فلسطيني اللجوء ‪ ،‬و‬
‫ليت المــر يقتصــر على الكلم و الضغط النفسي إذن لهانت و استطعنا‬
‫تحمله ‪ ،‬و لكنه يتحول إلى فعل يتمثل في تعليم عسير و شفاء عزيز ‪،‬‬
‫ووظيفة مستحيلة ‪ ،‬صراع يشبه ما تعيشينه يعيش فيه كل فلسطيني عادي ‪،‬‬
‫قد يخرج منا غول ل ينتمي إلى قيمة مثلما هو الحال مع كل الشعوب لكن‬
‫غولنا يصبح صفة عامة تطالنا جميعا و كأننا أصبحنا كلنا غيلن •• أسماء بارزة‬
‫قد تتحول إلى شياطين و يطالنا في ضعفنا و استكانتنا شرهم فنصبح في‬
‫العيون و قرارة النفوس شياطين بدورنا •• الفلسطيني في نظر العالم‬
‫شخص واحد ‪ ،‬و الشخص الواحد إما أن يكون طيبا أو يكون شريرا و قد‬
‫اختاروا لنا الصفة الخيرة ووسمونا بها •• اغضبي يا ابنة عمي ‪ ،‬اضربي‬
‫رأسك في الجدران ‪ ،‬اقتلعي مذياعكم و مزقي صحيفتكم ‪ ،‬لكنك في النهاية‬
‫ستجلسين في ركن قصي تجترين عذاباتك و لن يرحمك أحد ‪ ،‬أبي مات قبل‬
‫أسبوع •• مات و شفاهه متشققة تنطق بأسماء الغوالي فنسمع مع أسمائهم‬
‫صوت تكسرات ذاته ‪ ،‬أصبح الشوق لديه ماردا ‪ ،‬أصبحت اللهفة عنده مرض ‪،‬‬
‫فمات ‪ ،‬كم فلسطيني مات في اللجوء أنت روحه حنينا فلم يتلق أناته قلب‬
‫واحد تسكنه الرحمة ‪ ،‬كم لجيء حفظ وطنه ألبوما مهترئا و كيس رمل و‬
‫ذكريات طالتها العفونة و لم ينس رغم التهامات و النيران ••‬
‫ابنة عمي •• لن أتوقف عن الكتابة إليك و بدورك لن تتوقفي ‪ ،‬اغضــبي و‬
‫ثوري و ابكي و لكن ل تتوقفي عن الحب ‪ ،‬عن النتماء ‪ ،‬عن الهل ‪ ،‬ل‬
‫تصومي عن الحياة لن الخرين انتزعوا شربة الماء التي تحتاجينها لجوف‬
‫ملتهب قبل أن تبلغ فاك ‪ ،‬ل تصومي عن الحياة لن الذي وهبها هو وحده‬
‫القادر على استردادها ••‬

‫ابن عمك تامر عمر القاسم‬

‫و بكت ريم ‪ ،‬بكت كما لم تبك في حياتها كلها •• بكت بنشيج مرتفع كان‬
‫داخلها يعوي ‪ ،‬كانت ذاتها مرهقة متعبة ‪ ،‬كانت الشباح تسكنها و الرياح تصفر‬
‫في رأسها ‪ ،‬كان كل شيء أسود ‪ ،‬و غلبها الخوف المريع ثانية ‪ ،‬غلبها الخوف‬
‫فاجتاحت دقات قلبها المرتفعة المتسارعة كل المان الذي كانت تظنه ‪ ،‬كل‬
‫اللمبالة التي تعلمتها فوقتها لبعض الوقت من الشعور بالخوف •• عندما‬
‫جاءت الم على صوت البكاء و جاء قاسم و جاءت سمر ‪ ،‬وجدوا الخطاب‬
‫ملقى على السرير مبلل بالدموع ‪ ،‬ثقيل بما يحمل ‪ ،‬أسود من نبأ الموت‬
‫الذي فيه ‪ ،‬فهمت الم و فهم قاسم و جلس على طرف الفراش و قال ‪:‬‬

‫أخوة أبي يتساقطون تباعا •• لم يبق إل أبي و عمي بدر ••‬

‫صاحت الم ‪:‬‬


‫أبعد الله الشر عن أبيكم •• نظرت إليها ريم و قالت وسط دموعها ‪:‬‬
‫و هل بقي شر بعد يا أمي •• و هل بقي شر بعد ؟‬
‫***‬

‫حاولت ريم في اليام القليلة الباقية على امتحان نصف العام أن تبتعد ما‬
‫أمكنها عن الجميع في الجامعة ‪ ،‬فكانت ترفض بهدوء شديد و بإصرار أي‬
‫دعوة لتذهب للستراحة مع زملئها ‪ ،‬و كانت تعتذر للدكتور محمد بأنها‬
‫مشغولة بالمتحان إذا ما سألها عن أحوالها أو حاول فتح حديث معها ‪ ،‬و‬
‫ظلت ترتدي اللون السود طيلة الوقت و تتخذ لنفسها مكانا منفردا على‬
‫الريكة في حديقة الجامعة بين المحاضرات و تغرس وجهها في كتاب أو‬
‫تنهمك في رسم لوحة ل تنتهي ‪ ،‬لتمنع أي متطفل من اقتحام خلوتها ‪ ،‬و‬
‫تشاور الصدقاء في طريقة تخرج بها ريم عن صمتها الختياري و توجهوا إليها‬
‫ذات يوم و بادرتها سمر ‪:‬‬
‫ريم ‪ ،‬نحن ل نستحق منك هذا العقاب الصارم ••‬

‫رفعت ريم إليها عينيها و لم تجب و عادت للرسم فقال أحمد ‪:‬‬
‫فؤاد أخطأ و سيعتذر لك و قال فؤاد بسرعة ‪:‬‬
‫نعم أنا آسف •• و قالت هدى ‪:‬‬
‫ريم نحن نحدثك ••‬
‫لم ترد و اكتفت بحركات عصبية على اللوحة كانت تشويها أكثر منها رسما ‪،‬‬
‫نظر الصدقاء لبعضهم و قال أحمد ‪:‬‬
‫اسبقوني على الستراحة ‪ ،‬سأخبر ريم أمرا ثم ألحق بكم •• عندما‬
‫انصرف الجميع و بقي أحمد قال و هو يجلس بجوارها يطالع اللوحة ‪:‬‬
‫ريم ‪ ،‬أعرف ما تفكرين به ‪ ،‬أعرف أنك غاضبة ‪ ،‬و أنك ترفضين صحبتنا ‪،‬‬
‫و لن نضغط عليك كثيرا ‪ ،‬إل أنني سأخبرك أمرا قد يعنيك أن تعرفيه •• أنا‬
‫أشعر بك تماما •• و في ذلك اليوم عندما أخبرتك أنني أحبك لم يكن حديثي‬
‫من قبيل اللهو ‪ ،‬و لكنه كان حديث نفس ‪ ،‬بالفعل أشعر أنني مرتبط بك‬
‫بشكل أو بآخر ‪ ،‬أشعر أنك قطعة مني ••‬
‫نظرت اليه ريم و قالت مقاطعة بغضب ‪:‬‬

‫أنا لست قطعة من أحد ‪ ،‬و ل أريد أن أسمع هذه العبارات مجددا ‪ ،‬لم آت‬
‫إلى هنا من أجل الحب و لعب العيال ‪ ،‬لقد جئت لكي أتعلم و أحقق أحلمي و‬
‫انتمائي الشخصي الذي أريده ‪ ،‬و ل أريد المـزيد عنك أو عن غيـــرك ‪ ،‬و‬
‫ليتكم تبتــــعدون عني فــأنا لست منـــكم و سأظل وافدة غريبة عنكم إلى‬
‫البد و يحسن أن تتركوني لحالي •• فوجيء أحمد بنبرتها ‪ ،‬و عل سريعا‬
‫الغضب محياه و قال و هو ينهض ‪:‬‬
‫يبدو أنني أخطأت عندما بقيت •• انصرف بخطوات سريعة ‪ ،‬لكنه لم‬
‫يذهب إلى الستراحة بل اتجه لمبنى الكلية •• رأته ريم عندما تابعته بعيونها ‪،‬‬
‫تابعت الرسم و في داخلها بركان •• استغرقتها الفكار فلم تتبين الظل الذي‬
‫أشرف عليها من الخلف ‪ ،‬و لم تنتبه إل على صوت الدكتور طارق و هو يقول‬
‫‪:‬‬

‫تحت أية مدرسة فنية يندرج هذا الرسم يا ريم ؟ التفتت إليه •• و عادت‬
‫للوحتها فيما اتخذ لنفسه مكانا بجوارها ‪ ،‬لمحت أحمد يقف بعيدا يراقبهما‬
‫فعرفت أن الدكتور طارق صديق الطلبة هو رسول أحمد و توقعت ما‬
‫سيجيء فقالت بهدوء ‪:‬‬
‫دكتور طارق ‪ ،‬لقد كان لك الفضل بعد الله في التحاقي بالجامعة ‪ ،‬و لهذا‬
‫فلن أجحدك فضلك و سأستمع لما تريد قوله ••‬

‫فقال الدكتور ‪:‬‬

‫ل شيء يا ريم ‪ ،‬ل أريد أن أقول شيئا معينا ‪ ،‬أريد فقط أن أعرف اسم ما‬
‫أنت فيه تنهدت ريم و قالت ‪:‬‬
‫سمه اليأس إن شئت •• ابتسم الدكتور و قال ‪:‬‬
‫حسنا و هو اسم مناسب لهذه اللوحة السريالية التي ترسمينها الن •• هل‬
‫قررت تجربة نفسك في هذه المدرسة ‪ ،‬أعرف أنك تنتمين إلى الواقعية ••‬
‫ضربت ريم اللوحة عدة ضربات قوية بالفرشـــاة و التفتت إلى الدكتـــور‬
‫طـــارق و قالت و دموعها تغسل عيونها ‪:‬‬
‫أنا مهزومة يا دكتور ‪ ،‬مهزومة ‪ ،‬هل تعرف معنى الهزيمة ؟ ‪ ،‬معنى أن‬
‫ينهار الكون من حولك ‪ ،‬معنى أن تنهار القيم التي ركنت إليها طويل و شكلت‬
‫نفسك و كيانك ‪ ،‬قيمة أن تصادق و أن تعطي بإخلص و أن تثبت للجميع أنك‬
‫قادر على الحب و العطاء و قادر على الندماج و التحول مع المجـــموع إلى‬
‫شيء واحد ••هل جــربت يوما أن يضيع كل هذا فجأة و تجد نفسك شيئا‬
‫منبوذا ‪ ،‬هل جربت أن يحكم عليك الخرون من منظارهم الشخصي دون‬
‫اللتفات إلى صفاتك الشخصية ‪ ،‬هل تعلم مقدار النكسار الذي يمكن أن‬
‫يعشش داخلي عندما أفاجأ أنني موضع شــك و غير جـــديرة بالــثقة و ليس‬
‫من حقي أن أكون كالخرين و أختار لحياتي ما أريــده وفق ما تربيــت عليه ‪،‬‬
‫إنني في نظـــر الجمـــيع جنسية متهمة و ليس مجرد بنت عادية ‪ ،‬فؤاد قال‬
‫لي أنني في نظرهم الوافدة الثرية المدللة و أحمد قال لي أن لي وضعا‬
‫خاصا يجب أن أراعيه ‪ ،‬و ابن عمي سألني كيف لم أشعر بفكي النار من‬
‫الغرباء و القرباء حتى ذاك اليوم ‪ ،‬و عمي الثالث مات و أبي في غربته‬
‫يقاسي المرين و يكافح شوقا و حنينا مضاعفا من أجل تعليمنا و في الوقت‬
‫نفسه يصر الجميــع على أن كل هـــــذا ل يكفي ‪ ،‬كل هذا ل يسمــــح لي‬
‫بأن أكون كالجمـــيع و أعيش مثلهم •• أنا لم أقترف ذنبا في حق أحد ‪ ،‬لم‬
‫أتعد على خصوصية أحد ‪ ،‬لم أمارس معهم لعبة التجريح منذ عرفتهم ‪،‬‬
‫اتخذتهم أصدقاء و اعتقدت أنني صديقتهم ‪ ،‬أنني مخطئة ‪ ،‬منذ البداية مخطئة‬
‫‪ ،‬لم أكن منهم يوما و لن يكونوا مني ‪ ،‬لي وضع خاص يجب أن أراعيه في‬
‫الجامعة مثلما عشت عمري كله أراعيه في المدرسة ‪ ،‬مثلما هجرت طفولتي‬
‫مجبرة ذات يوم عندما كــــان أولياء المور يحتـــــجون على جــــائزة تفــوق‬
‫تمنح لوافدة و أولدهم ل •• مثلما قبلت أن أعيش في الظل حتى ل ألفت‬
‫النظار ‪ ،‬مثلما عودت نفسي دوما على قياس خطواتي قبل القدام عليها ‪،‬‬
‫عــــودت نفسي دوما على حسابـــات المكسب و الخسارة في مرحلة ل‬
‫يعرف فيها الصغار ما معنى المكسب و الخسارة ••‬

‫ببساطة يا دكتور خسرت ••‬

‫أمسك الدكتور طارق الفرشاة المجنونة في يدها و أوقفها عن اللوحة و قال‬


‫و هو يرفع اللوحة الغريبة ‪:‬‬

‫اسمعي يا ريم •• إذا سلمنا بأن كل إنسان يولد في هذا الكون عليه أن‬
‫يتعرف على ذاته و صفاته و إمكانياته و يتكيف مع ما منحه الله أو أخذ منه ‪،‬‬
‫لكي يجد له مكانا تحت الشمس ‪ ،‬لعرفنا سر عظمة طه حسين الكفيف ‪ ،‬و‬
‫أبطال السباحة المعوقين ‪ ،‬و لعرفنا أيضا السر في موت آلف البشر دون أن‬
‫يعرفهم أحد •• السر يكمن دائما في ذواتنا ‪ ،‬في قدرتنا على تلمس هذه‬
‫الذوات بكل نقاط ضعفها و قــوتها و محـــاولة تدعـيــم نقاط القوة و‬
‫تهميش نقاط الضعف •• لو استسلم كل ذي عاهة لعاهته لصبح البشر كومة‬
‫من ذوي العاهات المحبطين و لرجع الكون إلى الوراء و لم يتقدم خطوة إلى‬
‫المام •• قيسي نفسك جيدا ‪ ،‬فإذا رأيت أن جنسيتك هي عاهتك في زمن‬
‫يرفض العروبة و يمج شعارات الوحدة و يبسط يده مسالما للعدو ‪ ،‬فعيشي‬
‫ريم الفتاة التي منحها الله موهبة الرسم و القدرة على التقاط أدق الخلجات‬
‫و تصوير المشاعر و الحلم ‪ ،‬انجحي في هذا و اثبتي وجودك فيه و ل تتركي‬
‫المجال للحباط أن يسكنك لن نتيجته دائما ستكون هذا التشويه الذي‬
‫رسمت •• نتيجته تهميشك أنت و فشلك أنت •• قالت ريم بحزن و ضعف‬
‫شديدين ‪:‬‬

‫لكن يا دكتور طارق ‪ ،‬جنسيتي هي كياني و انتمائي ‪ ،‬و إذا رآها البعض‬
‫عاهة فأنا أراها فخرا و عزة ‪ ،‬و إذا حاول البعض أن يجعل منها نقطة ضعف‬
‫فهي في نظري سر قوتي •• كيف أتعامل معها كعاهة إذا كان إحساسي بها‬
‫يختلف عن إحساس الخرين ‪ ،‬كيف أستطيع التوفيـــق بين ذاتي و ذواتهم و‬
‫نــحن نــرى الشيء ذاته بنظــرة مختلـــفة و برؤية مغايرة •• كيف يا دكتور‬
‫كيف ؟‬

‫نهض الدكتور طارق و قال لريم مبتسما ‪:‬‬

‫حددي المعادلة بنفسك ‪ ،‬أنت المعنية بها ‪ ،‬و أنت التي يجب أن تبحثي عن‬
‫حل لها •• ليس بالعزلة و اجترار الحزن و لكن بالوقوف أمام المجـــتمع ‪،‬‬
‫إما أن يستسلموا لرؤيتك لذاتك و يعترفوا بك ككل و إما أن تستسلمي‬
‫لرؤيتهم و تعيشي كما يريدون •• مضى الدكتور طــارق ‪ ،‬ترك ريم غـــارقة‬
‫في التفكير •• حـــائرة ‪ ،‬تطالع لوحــتها البشعة و تبحث عن الحل •• و‬
‫عندما خفق قلبها خفقه الشديد ثانية قررت التوجه إلى عيادة الجامعة ‪ ،‬و‬
‫بالفعل وصلت الى هناك فوجدت الطبيب منهمكا في تضميد جرح لحــد‬
‫الطلب و ما إن رآها حتى صاح ‪:‬‬
‫آه •• ريم أخيرا جئت للسلم على الطبيب العجوز ••‬
‫كيف حالك يا دكتور سامي ؟ لقد جئت إليك كمريضة مرة أخرى‬
‫خيرا إن شاء الله ؟ أطرقت ريم قليل فأنهى الطبيب عمله مع الطالب و‬
‫أعطاه دواًء و أوصاه بأشياء ‪ ،‬فلما انصرف قال ‪:‬‬
‫خيرا يا ريم‬
‫أشعر بالخوف ••‬
‫ماذا ؟! جلست ريم و قالت ‪:‬‬
‫يوم سفر أبي انقبض قلبي فجأة و داهمني شعور عظيم بالخوف ‪ ،‬ظل‬
‫هذا الشعور معي قرابة الساعة ‪ ،‬يصحبه دقات سريعة في قلبي و أشعـــر‬
‫بالعـــرق يخـــرج غـــزيرا مني ‪ ،‬و تراودني مشاعر رهبة ‪ ،‬ل أدري لي سبب‬
‫••رغم أنه لشيء حولي يخيف ‪ ،‬و هذه الحالة ظلت تتكرر عندي في فترات‬
‫متقطعة أشعر خللها أن قلبي يكاد يقف من الخوف ‪ ،‬هكذا دون أسباب‬
‫ملموسة ‪ ،‬و في اليام الخيرة أصبح هذا الشعور يلزمني ليل عندما أدخل‬
‫لنام و صباحا عندما أستيقظ ‪ ،‬كأنني أتوقع شرا دائما •• و اليوم جاءني هذا‬
‫الشعور قبل قليل •• قلت أستشيرك علك تجد السبب ••خاصة و إنني بت‬
‫أفيق مذعورة بمجرد أن يوقظني أحدهم •• كأنه يحمل لي الموت ••‬
‫ابتسم الطبيب و قال ‪:‬‬
‫ل يوجد في العيادة كما ترين أدوات و أجهزة تساعدني في تشخيص هذه‬
‫الحالة ‪ ،‬لبد من عمل رسم قلب أول للتأكد من أن القلب بخير ‪ ،‬لكنني‬
‫يمكنني أن أساعدك بطريقة اخرى •• تطلعت ريم إليه متسائلة فأكمل ‪:‬‬
‫أشك في أن مشاعرك هذه هي من قبيل الضيق النفسي ‪ ،‬نحن نتضايق‬
‫أحيانا فنعبر عن ضيقنا بأساليب مختلفة ‪ ،‬البعض قد يصيح و يصرخ و البعض‬
‫قد يبكي و البعض قد يشعر بالم عضوية في بطنه أو يديه و البعض تتزايد‬
‫دقات قلبه و يستشعر خوفا مجهول السباب مثلما يحدث معك ‪ ،‬فما الذي‬
‫يضايق طالبتنا الصغيرة ؟ ابتسمت ريم رغما عنها و قالت ‪:‬‬
‫المضايقات كثيرة في هذه الحياة يادكتور‬

‫فقال الطبيب و هو يجلس قربها ‪:‬‬


‫نعم ‪ ،‬هذا صحيح ‪ ،‬و لكنك مازلت صغيرة على الشعور بالضيق حد‬
‫المرض ‪ ،‬و لبد أن تكوني أقوى حتى ل يتغلب عليك إحساسك و يصبح‬
‫مرضي فعل •• تنهدت ريم و قالت ‪:‬‬

‫و ما المطلوب الن ‪ ،‬هل تحولني إلى مستشفى الجامعة لجري رسم‬


‫القلب الذي تريد ؟ أطرق الطبيب و قال ‪:‬‬
‫في الواقع يا ريم ‪ ،‬هذا أمر صعب قليل ‪ ،‬فبالنظر إلى كونك لست مصرية‬
‫يصعب أداء هذه المهمة لك ••‬

‫ارتجفت شــفتا ريم غضــبا و لمح الطبيب بداية شروع في البكاء على‬
‫ملمحها فأسرع يقول ‪:‬‬
‫سأرسلك إلى عيادة طبيب خاصة ‪ ،‬هو صديقي و لن يطلب منك شيئا إذا‬
‫أعطيته هذه الورقة •• أخرج الطبيب قلمه و هم في الكتابة فاستوقفته ريم‬
‫و نهضت قائلة ‪:‬‬
‫ل تكتب شيئا يا دكتور ‪ ،‬لن أذهب لي طبيب ‪ ،‬إنه أمر عارض بسيط و ل‬
‫يستحق القلق •• أشكرك على أية حال •• خرجت ريم بسرعة و لم تلتفت‬
‫إلى الطبيب الذي كان يناديها •• خرجت و هي تشعر أنها مضطهدة و وحيدة‬
‫في هذه الحياة •• لم تلتفت إلى أي مخلوق و عندما صارت بقرب باب‬
‫الكلية وجدت سوسن مع أصدقائها و بادرتها بسرعة ‪:‬‬
‫ما بك يا ريم ؟‬

‫فقالت ريم ‪:‬‬


‫ل شيء ‪ ،‬سأذهب الى البيت‬
‫و المراجعة بعد قليل ؟‬
‫لن أنتظر ل تدري ريم بأي اقدام سارت و ل بأي طريقة وصلت إلى بيتها و‬
‫عندما رأتها الم افزعها ما على وجه ابنتها من حزن و غضب و ما في عيونها‬
‫من دموع فحاولت دفعها إلى الكلم و رفضت ريم أن تعبر بأية كلمة ‪ ،‬طلبت‬
‫فقط أن تتركها لترتاح ••ألقت برأسها على الوسادة و شرعت في البكاء‬
‫الهاديء الذي يرسم إحباطا و نامت ••‬

‫***‬

‫عندما دخل سيد غرفة أخته وجدها منكبة على كتبها فقال ‪:‬‬
‫هل يمكن أن نتحدث قليل ؟ عرفت سوسن ما يريد محادثتها فيه فقالت ‪:‬‬
‫هل يمكن تأجيل الحديث إلى ما بعد المتحانات ؟ فقال سيد ‪:‬‬
‫لن أعطلك هو سؤال واحد‬
‫ما هو ؟‬
‫لماذا عادت ريم مبكرا اليوم إلى منزلها ‪ ،‬لقد رأيتها تعود بمفردها و كنت‬
‫أعرف أن محاضراتكم تنتهي في السادسة ‪ ،‬كما أن وجهها كان حزينا و لم‬
‫تنتبه لي شيء حولها فماذا حدث ؟ تنهدت سوسن و قالت ‪:‬‬
‫في الحقيقة يا أخي ل أعرف ‪ ،‬كل ما أعرفه أن ريم في الفترة الخيرة‬
‫زخذت تسلك معنا سلوكا غريبا ‪ ،‬ترفض محادثتنا أو الجلوس معنا و تتخذ‬
‫لنفـسها مكانا منفــردا و ترسم أو تقرأ بدون هوادة ‪ ،‬ربما كان المتحان‬
‫القادم هو السبب ••• هز سيد رأسه و قال ‪:‬‬
‫ل •• هناك شيء ما يضايقها كثيرا •• هزت سوسن كتفيها و قالت ‪:‬‬
‫بعد المتحانات سوف أزورها لعرف •• أما الن فل وقت لدينا لنضيعه ••‬
‫أومأ سيد موافقا و خرج ••‬

‫***‬

‫ابنة العم ‪ /‬ريم‬

‫عرفتك عن طريق تامر ‪ ،‬أرسل لي رسالتك الولى إلى عم عمر يرحمه الله‬
‫و طلب إلي أن أراسلك ••في البداية رفضت الفكرة ‪ ،‬فأنا ل أعرفك ‪ ،‬و ل‬
‫أعرف إذا كان الحديث معك مجدي أو ل •• و لكن بعد أن كتب إلي تامر‬
‫ثانية و اخبرني عن إحباطك في الخطاب الثاني قررت أن ارسل إليك هذه‬
‫الرسالة ‪ ،‬قررت أن أعـــرفك أكثر •• لقد بدأت تشعرين و تعرفين و هذا هو‬
‫الطريق الصحيح للوصول للهدف ‪ ،‬للوصول إلى الوطن •• ربما حالت‬
‫الظروف و الحدود دون زيارته ‪ ،‬لكن الزيارة ليست هي موضوعنا و إنما‬
‫المعرفة الحقيقية هي موضوعنا ‪ ،‬أنا مهندس كهربائي ‪ ،‬أعمل في الصحراء‬
‫الليـــبية ‪ ،‬في مشــروع كبير ‪ ،‬و رغم أن الحياة هنا ربما كانت أسهل من‬
‫الحياة في أي قطر عربي آخر إل أننا نعاني مثلما تعانون ‪ ،‬و أكثر ما يشغلني‬
‫هو ضرورة المشاركة في الكفـــاح المسلح في فلسطين ‪ ،‬و لقد حاولت‬
‫مرارا أن أتسلل إلى بلدي لكنني كنت اكتشف و أعذب بسبب هذه‬
‫المحاولت و للسف من عرب مثلنا •• أسمعي يا ريم سأحاول أن آتي إلى‬
‫مصر قريبا لرؤيتك ‪ ،‬و سأشرح لك عندها أشياء كثيرة ربما يهمك أن تعرفيها‬
‫و حتى ذلك الوقت استمري في طريق التعليم و حاربي من أجل النجاح فيه‬
‫إلى النهاية ••‬

‫سهيل سعيد القاسم طوت ريم الرسالة و تنهــدت ‪ ،‬ها هو قريب آخـــر‬
‫مازال يحلم بالوطن •• ابتسمت ساخرة و نهضت جالسة لتستقبل أمها التي‬
‫دخلت بحذر فلما وجدتها مستيقظة و الخطاب في يدها قالت ‪:‬‬

‫من تامر ؟‬
‫ل ‪ ،‬لقد وصل في نفس اليوم الذي وصل فيه خطاب تامر لكنني لم اقرأه‬
‫إل اليوم •• إنه من سهيل ‪ ،‬أحد أبناء عمومتنا ‪ ،‬ل أعرف تحديدا درجة القرابة‬
‫‪ ،‬لكنه يعمل في ليبيا ••‬
‫كيف حالك الن ؟ تنهدت و قالت ‪:‬‬
‫الحمد لله ‪ ،‬بخير ‪ ،‬لقد كنت متعبة قليل و كنت بحاجة للنوم ••‬
‫ألن تحكي لي أسباب تعبك ؟‬
‫صدقيني يا أمي ل شيء ‪ ،‬يبدو أنني أتعامل بحساسية مع المور أكثر مما‬
‫ينبغي ‪ ،‬هذا كل ما هنالك •• نهضت الم و هي تقول ‪:‬‬
‫على راحتك ‪ ،‬هل أعد لك طعام الغذاء ؟‬
‫ل أشكرك ‪ ،‬لست جائعة ‪ ،‬صحيح يا أمي ما أخبار الستاذ سعيد ‪ ،‬لم أعد‬
‫أراه أبدا •• قالت الم و هي تغادر الغرفة ‪:‬‬
‫لشيء•• إنه فقط ولد عاقل •• نهضت ريم ففتحت نافذتها و تطلعت إلى‬
‫شرفته ‪ ،‬كانت مغلقة مهجورة ‪ ،‬كأنها لم تكن يوما المكان المفضل لسعيد ‪،‬‬
‫منذ أيام و هي تراها مغلقة دوما •• تنهدت و اتجهت للوح الرسم و تطلعت‬
‫مليا إلى حدوده و قالت ‪:‬‬
‫منذ زمن لم أرسم •• كأنني انقطعت فجأة عن كل ما أحب •• أمسكت‬
‫قلمها الفحمي و شرعت في رسم بعض الخطوط ••‬

‫***‬

‫بدأت المتحانات ‪ ،‬امتلت ساحة الكلية بالخيام الضخمة و اصطفت فيها‬


‫المقاعد و تحددت اللجان ‪ ،‬و أقبل الطلب و الطالبات من كل مكان يبحثون‬
‫عن أماكن جلوسهم وفق الرقام التي يحملونها •• و توجهت ريم إلى مكانها‬
‫بعـــد أن ردت باقتـــضاب على كل من حياها ‪ ،‬و عندما دقت الساعة التاسعة‬
‫كانت الوراق قد وزعت و احتل المراقبون أماكنهم و بدأ الطلب في تصفح‬
‫السئلة ‪ ،‬و قبل أن تبدأ ريم في قراءة ورقتها عملت بما أوصتها به الم‬
‫فقرأت سورة يس و دعاء سيدنا موسى عليع السلم " رب اشرح لي صدري‬
‫و يسر لي أمري و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي " و ما إن قلبت‬
‫ورقتها و شرعت في قراءتها حتى لحظ الطلبة جميعهم ثلثة من موظفي‬
‫شئون الطلب و على رأسهم الستاذ شاكر يتقدمون نحو لجنتهم و يتصفحون‬
‫الوجوه ثم صاح الستاذ شاكر بمجرد رؤيتها ‪:‬‬
‫ها هي •• توجه الثلثة إليها و قال المدير ‪:‬‬
‫ريم •• ليس من حقك تأدية هذا المتحان •• كانت ريم تطالعهم منذ‬
‫دخلوا الخيمة الكبيرة و استشعرت الخوف المجهول يزحف قويا على قلبها و‬
‫هي تراهم يتخطون كل اللجان و يتجهون إلى لجنتها ‪ ،‬ثم رأتهم و في‬
‫وجوههم الحزم و الشر يتجهون ناحيتها تحديدا ‪ ،‬ارتجف القلم في يدها و‬
‫تعالت دقات قلبها و تطلعت إلى الستاذ شاكر و تمتمت ‪:‬‬
‫لماذا ؟ مدت الموظفة يدها و سحبت الورقة بعنف و قالت ‪:‬‬

‫لنك لم تدفعي المصاريف •• شعرت أن الرض تميد بها •• وهذه الوجوه‬


‫الثلثة التي تحيط بها تحمل الوعيد إليها ‪ ،‬في نظراتهم قسوة غير مسبوقـــة‬
‫و في كلماتهـــم تجريـــح ل يحتمل و في تصرفاتهم عنـــف و تحفز •• ترك‬
‫الزملء أوراقهم و تابعوا بكثير من الشفقة هذا الموقف ‪ ،‬و لم يتدخل أحد ‪ ،‬و‬
‫قال شاكر ‪:‬‬
‫هل تحسبين أنك تستطيعين خداعنا ؟ لقد كتبت إقرارا على نفسك بعدم‬
‫دخول المتحان إل بعد دفع كامل المصاريف ‪ ،‬فأين هي ••؟ و قالت‬
‫الموظفة ‪:‬‬

‫هؤلء هم الفلسطنيون ‪ ،‬الخداع في دمهم ••• نظراتها توسلت إليهم أن‬


‫يرحموها ‪ ،‬روحها ل تطيق ما يحدث ‪ ،‬الخوف تحول إلى مارد ضخم ‪ ،‬و‬
‫الغضب إعصار يجتاح روحها و الموقف برمته كان أسوأ ما توقعته في حياتها‬
‫•• دفعتها الموظفة بخشونة و قالت ‪:‬‬
‫انهضي ‪ ،‬هذا المكان أولى به مصري •• و قال شاكر ‪:‬‬
‫إذا لم تكونوا قدر التعليم فلم تتعلمون ؟‬

‫التفتت الموظفة إلى الطلب و قالت ‪:‬‬

‫انتبهوا إلى أوراقكم و سنخرج فورا •• جــذبت ريم من ذراعــــها و‬


‫أنهـــضتها قسرا ‪ ،‬فنـــهضت مــعها مستسلمة و الخزي يطوقها و المرارة‬
‫تعتصرها ‪ ،‬و لم تفلتها الموظفة إل على باب الخيمة و هي تقول ‪:‬‬

‫إذهبي فأحضري المصاريف و إل قمنا بشطب اسمك من الكلية تماما ••‬


‫الكلية ليست مكانا للجئين •• و انهارت ريم ‪ ،‬سقطت على الرض أمام‬
‫الخيمة و هي تنوح بصوت عالي •• لم يكن المتحان هو السبب الوحيد‬
‫لنواحها •• كان الخزي و القسوة و الظلم ‪ ،‬كان الشعور بالضطهاد و التمزق‬
‫‪ ،‬كان الضعف و المذلة •• كان القهر و الحرمان ‪ ،‬ناحت ريم و هي تشعر‬
‫بشيء أسود يلف روحها و يطمس بصيرتها •• أحست أن كل العيون التي‬
‫تراقبها عيون متواطئة شاركت في الجريمة ضدها أرادت أن تتنفس فلم‬
‫تستطع ‪ ،‬أطبق كائن هلمي على صدرها فبلغ الفزع منها كل مبلغ و سقطت‬
‫مغشيا عليها •• و عندما أفاقت كانت في العيادة ‪ ،‬كــان في الغرفــــة عدد‬
‫من الشخـــاص تعـــرف بعضهم و آخرين ل تعرفهم ‪ ،‬شعرت أنها منهكة‬
‫للغاية ‪ ،‬لم يكن بوسعها أن تحرك أطرافها و خطر لها أنها شلت ‪ ،‬غير أن‬
‫لمسة الطبيب ليدها أعادت إليها الحساس بها فحركت أصابع قدمها و كانت‬
‫بل حذاء فاستجابت لها ‪ ،‬تنفست بعمق و أغلقت عيونها فسقطت دمعة من‬
‫بقايا الموقف كانت لزالت عالقة ‪ ،‬جاءها صوت الطبيب و كأنه يأتي من عمق‬
‫سحيق كان يقول كلما مشجعا و يوجه بعضه لها و بعضه لمن حولها ‪ ،‬الذين‬
‫ارتفع لغطهم مستنكرين ما جرى معها •• كانت تريد أن تعرف الوقت و هل‬
‫انتهى وقت المتحان أم مازال لم ينته •• رفعت رأسها فأحسته ثقيل ووجدت‬
‫الطبيب يعيدها إلى الوسادة بسرعة قال‪:‬‬

‫اهدئي يا ريم •• ابقي كما أنت •• فتحت عيونها فغزا شعره البيض مجال‬
‫رؤيتها ‪ ،‬كان يغرس حقنة في وريدها ‪ ،‬شعرت بشكة البرة فتأوهت ‪ ،‬ثم‬
‫استكانت مستسلمة لما يحدث ‪ ،‬اقترب من فراشها وجه ل تعرفه ‪ ،‬كان شابا‬
‫أشقر الشعر وسيم الملمح ‪ ،‬له شارب كث يشبه شارب أبيها ‪ ،‬مد يده‬
‫ووضعها على يدها المستكينة للحقنة و همس بصوت عميق ‪:‬‬
‫سلمتك •• هزت رأسها ‪ ،‬فأكمل و هو يبتسم مشجعا ‪:‬‬
‫لقد تركنا اللجان تضامنا معك ‪ ،‬و هناك من يحدث العميد باسمنا في شأنك‬
‫و عما قليل يصلون •• قرأ في عينيها السؤال فأجاب فورا ‪:‬‬
‫نحن الطلبة الفلسطنيين في الجامعة ‪ ،‬جئنا من مــختلف الكليات عندما‬
‫وصلنا الخبر ‪ ،‬و الزميل بسام يتحدث الن مع العميد و اعتقد أنه سيعود إلينا‬
‫بعد قليل و معه نتيجة المحادثة •• ربت على يدها و قال ‪:‬‬
‫آمل أن تكون كما نتمنى •• هزت ريم رأسها و قالت بضعف شديد ‪:‬‬
‫ل فائدة ‪ ،‬ل فائدة •• ربت بقوة على يدها يهدئها و قال بثقة ‪:‬‬
‫ليأس مع الحيــاة يا ريم ‪ ،‬كلنا مررنا بما تمرين به ‪ ،‬و إن هي إل لحظات و‬
‫يسوى الموضوع •• جاء بسام ‪ ،‬كان شابا طويل نحيفا أسمر البشرة في‬
‫ملمحه قوة و في صوته حزم قال بمجرد دخوله ‪:‬‬
‫سوي المر يا أصدقاء •• كيف حالها ؟‬

‫أفسح له الشاب مكانا فوقف بجوار فراشها و قال ‪:‬‬


‫إنك ضعيفة كأنك لست فلسطينية ‪ ،‬هل أثر عليك أخوالك يا بنت ؟‬
‫ابتسمت رغما عنها فأكمل ‪:‬‬
‫أنا بسام •• رئيس رابطة الطلبة الفلسطنيين في الجامعة ‪ ،‬طالب في‬
‫السنة النهائية كلية التجارة ‪ ،‬لقد تركت المتحان من أجلك •• الجميع ترك‬
‫المتحان من أجلك ‪ ،‬ذهبت للعميد و تفاهمت معه ‪ ،‬ل بأس ستدخلي المتحان‬
‫بقية اليام و سيخفون النتيجة حتى تدفعي •• مال عليها و قال باسما ‪:‬‬
‫لكننا سنستطيع على أية حال معرفة النتيجة فل تبتئسي •• تنهدت و‬
‫همست ‪:‬‬
‫ل فرق •• فقال ‪:‬‬
‫ل يا ريم ‪ ،‬هناك فرق ‪ ،‬أنت ستصنعينه ‪ ،‬حاولي أن تعطي أفضل ما لديك‬
‫في اليام المتبقية ‪ ،‬نحن ل نقبل بأقل من المتياز ••أليس كذلك يا خالد ؟‬
‫تقدم خالد و كان هو الشاب الشقر فقال برفق ‪:‬‬
‫ريم قادرة إن شاء الله على إثبات ذلك ‪ ،‬أساتذتك يثنون عليك ‪ ،‬في‬
‫الحقيقة الجميع مستاء من أجلك ••‬

‫قال بسام ‪:‬‬


‫حسنا نتركك الن و نراك يوم الثلثاء القادم ‪ ،‬أليس امتحاناتك سبت و‬
‫ثلثاء ؟ هزت رأسها إيجابا فقال ‪:‬‬
‫حسنا يا أصدقاء هيا بنا •• ريم هذه المادة التي ضاعت عليك لن تعفيك‬
‫من مسئولية المتياز في باقي المواد •• اعتبريه أمرا وجب عليك تنفيذه‬
‫••مفهوم ؟ هزت رأسها مبتسمة رغم أنه لم يكن يبتسم ‪ ،‬و عندما خرجوا‬
‫قال بسام لخالد ‪:‬‬
‫كنت على إستعــداد لتحـــويلها لقضية سيــاسية كبـــرى ‪ ،‬لول تــدخل‬
‫الدكتــور طـــارق و تحذيره الصـــريح للعمــيد من تدخل الصحافة •• يبدو‬
‫أن العميد يكترث كثيرا للصحافة ••‬

‫قال الطبيب لريم و هو يبتسم بحنان ‪:‬‬


‫أجـــمل شيء أن يشعر النـــسان أنه ليس وحيـــدا في هذا العالم ‪ ،‬و إذا‬
‫كــنت قد قابلت و تعرضت لبعض السخفاء فإن لــديك عدد ا ل يستهان به‬
‫من الخيار الذين يتألمون من أجلك •• همست ريم بوهن ‪:‬‬
‫آخر ما كنت أحلم به يا دكتور سامي أن أكون محل شفقة من أحد ‪ ،‬أنا ل‬
‫أشحذ ‪ ،‬و لست طالبة صدقة ‪ ،‬أنا عربية لم مصرية و أعيش في مصر و فيها‬
‫ولدت و كنت أعتقد أن هذا كافي ‪ ،‬لكنه غير كاف بالمرة •• دخل أحمد‬
‫الغرفة ‪ ،‬كان يمسك بقلمه و مسطرته ‪ ،‬وقف قلقا على الباب فدعاه الطبيب‬
‫للدخول و قال ‪:‬‬
‫تعال يا أحمد ‪ ،‬ريم بخير الن •• نظر إليها بكثير من الشفقة و قال بغضب‬
‫‪:‬‬
‫وددت لو قتلته •• هزت ريم رأسها و ابتسمت بمرارة و هي تقول ‪:‬‬
‫ل داعي لن تشعر بالغضب ‪ ،‬هو موظف و ينفذ قانون و ل لوم عليه ‪،‬‬
‫اللوم على الظروف و هذه ليست بيدي و ل أملك تغيرها •• اقترب أحمد من‬
‫فراشها و قال برفق ‪:‬‬
‫هذا الموقف جعلني أفهم الكثير ‪ ،‬عرفت من خلله ما لم أكن أعرف ‪ ،‬و‬
‫فهمت أحاسيسك أكثر و عرفت لماذا اتخذت ذلك الموقف منا ‪ ،‬عندك حق‬
‫•• إنني شديد الخجل أن يكون فينا مثل الستاذ شاكر ‪ ،‬و لكن صدقيني ليس‬
‫الجميع هو الستاذ شاكر •• أومأت ريم برأسها موافقة ‪ ،‬و أغمضت عيونها‬
‫إيذانا بعدم رغبتها في مواصلة الحوار •• فأنصرف أحمد ••‬
‫عندما عادت ريم إلى المنزل كان بانتظارها خبر آخر و موقف آخر تحكيه الم‬
‫بصوت متهدج و عيون دامعة و قلب جريح كانت تقول ‪:‬‬
‫نظر لي و في عيونه نظرة احتقار غريبة و قال ما الذي جعلك تتزوجين من‬
‫فلسطيني ؟ ألقى أوراقي في وجهي و صاح ‪ ،‬تريدين تخفيضا في المصاريف‬
‫و زوجك يعمل بالسعودية ‪ ،‬لماذا هل هي دولة أبيه ‪ ،‬إذا أردت أن تعلمي‬
‫أولدك فليكن من جيب أبيهم ‪ ،‬الدولة ليست مكانا للجئين ••‬

‫و أجهشت الم بالبكاء و هي تقول ‪:‬‬


‫حسبي الله و نعم الوكيل ‪ ،‬حسبي الله و نعم الوكيل •• أدارت ريم وجهها‬
‫كيل ترى أمها همها و أكملت الم ‪:‬‬
‫قلت له يا بني ل يصح أن تقول هذا الكلم ‪ ،‬لو كان معنا ما تقدمنا إليكم و‬
‫ل عرضنا أنفسنا لعباراتكم الجارحة ‪ ،‬لكنه لم يبال بما أقول ‪ ،‬كان نافوخي‬
‫يضج من حرارة الشمس و طول النتظار ‪ ،‬و كانت أعصابي محترقة ‪ ،‬قلت‬
‫له إن لدينا ولدا يدرس في مدرسة خاصة و يكلفنا نصف راتب الزوج في‬
‫غربته شهريا ‪ ،‬قلت له إننا نعيش في بيت مفتوح يصرف على طعام و كساء‬
‫و دواء و مراجع و كتب دراسية و ملزم ومواصلت •• صحت فيه بأنني‬
‫مصرية و من حقي أن يتعلم أولدي في بلدي و أن يحصلوا على تخفيض‬
‫مناسب في مصاريف الدراسة و العلج لكنه أشاح بيده و قال بل مبالة ‪ ،‬إذا‬
‫كنت مطلقة أو أرملة ينظر في طلبك ‪ ،‬أما و أنت زوجة لفلسطيني ) خليه‬
‫ينفعك ( •• واصلت الم البكاء فانكبت ريم على أمها تحتضنها و تقبل و‬
‫جنتيها و يديها و تقول ‪:‬‬
‫ل تبك يا أمي •• أرجوك ل تبك •• أرجوك سامحيني أنا من عـــرضتكم‬
‫لكـــل هذا الـــذل و العناء ‪ ،‬أنا من دفعت بكــم إلى طــــريق المعاناة‬
‫بحـــلمي الخرق •• أنا من كــتبت عليكم و على نفسي هذا الخزي ••‬
‫لكنني لم أكن أعرف ‪ ،‬لم أكن ‪ ،‬أعرف ‪ ،‬أقسم لك ‪ ،‬أقسم لك •• ارتاعت‬
‫الم الباكية لهذه الحالة الغريبة من العذاب التي تمر بها ريم ‪ ،‬فأسرعت‬
‫تكفكف دموعها و تنتبه إلى ابنتها تسألها عما جرى •• أخذت ريم تقص ما‬
‫حدث تفصيليا و ما شعرت به و أخيرا قالت ما قررته و هي تشهق بالعذاب ‪:‬‬
‫لذا لن أذهب إلى الجامعة ثانية ‪ ،‬و لنطوي هذا الحلم السخيف و نطوي‬
‫معه عذاباتنا •• صاحت الم ‪:‬‬
‫ل •• ل تتفوهي بهذه العبارات مجددا •• إن شاء الله ستكملين دراستك و‬
‫لو كان الثمن حياتنا •• إنه حقك و حق أخواتك ‪ ،‬إنه الشيء الوحيد الذي‬
‫ستواجهون به دنيا ترفضكم •• لقد فهمت إصرار أبيكــم وأصــر بدوري حتى‬
‫لو أدى المر إلى أن أنفصل صوريا عن أبيكم •• فصاحت ريم ‪:‬‬
‫ل •• ل تقولي هذه الكلمة ‪ ،‬ل تضعي هذا الفرض و لو مجازا في حياتنا ‪،‬‬
‫لن أسمح أبدا بأن يكون ثمن تعليمي هو شرخ في صلب علقتك بأبي ‪ ،‬ل‬
‫يمكن أن يكون هذا هو الثمن ‪ ،‬ل يمكن •• ل يا أمي ل تقوليها مجددا ‪ ،‬ل ••‬
‫أرجوك يا أمي •• ل •• فقالت الم و هي تبتسم لبنتها وسط دموعها ‪:‬‬
‫أنتم يا ابنتي أغلى الغوالي ‪ ،‬و إن كان هذا هو الثمن الذي ينبغي دفعه فل‬
‫بأس •• إنه انفصال صوري ‪ ،‬ورقة طلق أحصل عليها و أقدمها مع الوراق‬
‫إلى إدارة الوافدين تتيح لك التعليم دون مشاكل •• نعود بعدها فنتزوج مجددا‬
‫•• ضحكت ريم بسخرية مريرة و قالت ‪:‬‬
‫حتى متى يا أمي ‪ ،‬حتى متى ؟ أمامي أربعة أعوام ‪ ،‬قبل أن أنهيهها‬
‫سيكون أخي قد دخل بدوره الجامعة •• و بعده سمر ‪ ،‬هل ستظلن‬
‫منفصلن إلى أبد العمر من أجل تحقيق هذا الحلم •• هل ستقبلين أن تصلك‬
‫ورقة طلق من أبي بعد هذا العمر •• في فترة أنتما أحوج ما تكونان‬
‫لبعضكما البعض تنفصلن ••هل هذا ما تقدمانه من أجلنا •• هل هذا ما‬
‫سيسعدنا و يحقق أهدافنا •• إنني أموت يا أمي لو حدث هذا ‪ ،‬أموت لو‬
‫أوصلتكما يوما للطلق كي أعيش ‪ ،‬تعسا لها من حياة لو كان الثمن سعادتكما‬
‫يا أمي •• ل ل تقوليها أرجوك •• انفلتت ريم إلى غرفتها و جففت الم‬
‫دموعها و قالت تحدث نفسها مستنكرة ‪:‬‬
‫طلق ؟ أعوذ بالله !! *** مضى اليوم التالي ثقيل على الم إذ أمضته في‬
‫اقناع ريم بالستذكار استعدادا لمتحان يوم الثلثاء القادم ‪ ،‬ريم كانت مصرة‬
‫على الرفض ‪ ،‬تتمثل أمامها صورة عذابات البارحة فيزيد إصرارها ‪ ،‬و تلح الم‬
‫فل يزيدها الحاحها إل إصرارا على الرفض ‪ ،‬كانت حجتها أن ترك الدراسة في‬
‫أولها أفضل من تركها بعد مــرور سنة و نجاح و تعلق بها •• قالت لمها و‬
‫هي تقبل يدها ‪:‬‬
‫يا حبيبتي •• دعيــنا نناقــــش المر بالعقل •• لو ذهــــبت إلى هـــذا‬
‫المتحان و أكمــلته و نجحت و انتقلت للفصل الدراسي الثاني و امتحنت و‬
‫نجحت •• هل تعتقدين أنه سيكون من السهل علي ترك الكلية ‪ ،‬هل تدركين‬
‫مقدار تعاستي حينذاك •• ثم تتنهد و تقول ‪:‬‬
‫يا أمي لقد أوصاني الدكتور طارق بأن أقيس قدراتي و ما أملك و ما يمكن‬
‫أن آخذ و ما يجب أن أترك بشكل واقعي •• قال لي تعاملي مع جنسيتك‬
‫كأنها عاهة و رفضت الفكرة ‪ ،‬لكن يبدو أنه على حق •• يا أمي ببساطة لن‬
‫أذهب إلى الكلية يوم الثلثاء ‪ ،‬فل مكان لي فيها •• و لما أسقط في يد الم ‪،‬‬
‫و احتارت في أمر ابنتها و الوسيلة التي يمكنها أن تقنعها بها لم تجد إل حل‬
‫واحدا دفعها إليه حرصها عليها و على مستقبلها ‪ ،‬إذ أرسلت خلسة في طلب‬
‫الستاذ سعيد و قد تذكرت عندما اخبرتها أبنتها أنها بالفعل تعتبره شيئا عظيما‬
‫في حياتها ‪ ،‬شخصا يمكنها الركون إليه و الثقة فيه ‪ ،‬بعـــد أبيها الذي‬
‫تفـصـــلها عنه مسافات و زمن طويل •• و جاء سعيد على عجل و قد‬
‫أدهشته الدعوة بعد فترة الغياب التي حرص فيها على تنفيذ وعده تماما ‪،‬‬
‫حتى أنه كان يحرص على سلوك طريق آخر إذا لمح في أول طريقه طيف‬
‫ريم •• و تعمد هجران شرفته ‪ ،‬رغم ما كانت تحققه له من راحة نفسية ‪ ،‬و‬
‫حتى منزله لم يعد يأتي إليه إل في آخر الليل بعد أن يمضي يومه لدى‬
‫الصدقاء ‪ ،‬أدهشته الدعوة غير المتوقعة ‪ ،‬و أقلقه أنها من الم و تساءل ‪:‬‬
‫ترى ماذا تريد ؟ في المنزل و تحديدا في غرفة الصالون رحبت الم‬
‫بالستاذ سعيد و شرحت له الموقف كامل ‪ ،‬في البداية كان غير مستوعب‬
‫لدوره في الموضوع ‪ ،‬أو أنه كان غير مصدق لحقيقة أن تلجأ الم إليه دون‬
‫سواه و تختاره لهذه المهمة بالذات ‪ ،‬مهمة إقناع ريم ‪ ،‬شك أنه يحلم ‪ ،‬سألها‬
‫غير مصدق ‪:‬‬
‫هل حقا أنا الشخص الوحيد الذي بإمكانه إقناع ريم ؟ أومأت الم برأسها و‬
‫قالت بسرعة ‪:‬‬
‫أنا بالطبع أقدر لك موقفك و استجابتك الشريفة لما طلبته منك ‪ ،‬و الطلب‬
‫مازال قائما ‪ ،‬فيما يتعلق بقصص الحب التي ل تحتملها حياتنا ‪ ،‬أما فيما يتعلق‬
‫بالمستقبل فإن أي تصرف يمكن أن يخدم ريم أفعله دون تردد •• و في‬
‫نظري أنت الشخص الوحيد القادر على إقناعها فهي تثق بك ثقة كبيرة و‬
‫تحترم رأيك و أنا أعرف أن مصلحتها تهمك بالدرجة الولى أليس كذلك ؟‬
‫ارتسمت السعادة على وجه سعيد ‪ ،‬للمرة الولى منذ بدأ في تنفيذ طلب الم‬
‫الحازم يدخل السرور إلى قلبه ‪ ،‬للمرة الولى يشعر أنه عاد للحياة و بوسعه‬
‫التنفس حتى لو كانت عودته رهن بمهمة محددة ينجزها ثم يعود لليام‬
‫الموحشة •• يكفي أنها مهمة متعلقة بريم ‪ ،‬هذا أقصى ما يتمنى •• استأذنته‬
‫الم و ذهبت لمناداة ريم التي لم تصدق أن سعيدا زارهم مجددا ‪ ،‬ركضت‬
‫لترحب به و قالت بمجرد رؤيته ‪:‬‬
‫أستاذ سعيد •• مرحبا •• أين كنت ؟ أخذته نشوة الترحيب فوقف صامتا‬
‫يراقب فرحتها برؤيته و يرصد فرحته برؤيتها ‪ ،‬غاص قلبه لمرآها ‪ ،‬كان يبدو‬
‫عليها الرهاق و التعب ‪ ،‬لمح كما كان دائما يلمح أدق تفاصيل وجهها ‪ ،‬هالته‬
‫الهالت السوداء حول عيونها الجميلة ‪ ،‬هاله تدلي كتفيها و كأنها كبرت مائة‬
‫عام ‪ ،‬أشار إليها و قال بوجد حاول أن يزنه ما استطاع ‪:‬‬
‫ريم •• ما بك ؟ انسحبت ابتسامة الترحيب سريعا من فوق وجهها و‬
‫أطرقت قائلة ‪:‬‬
‫انكسرت يا أستاذ سعيد •• دق قلبه بعنف و هو يتابعها تجلس ‪ ،‬أوشك أن‬
‫يفقد وقاره المصطنع و ينكب عليها ‪ ،‬يحتضنها و يهدهد قلبها صاحت روحه ‪":‬‬
‫فداك نفسي يا حبيبة " •• لكنه عوضا عن ذلك جلس أمامها و قال و هو‬
‫يشير لمها ‪:‬‬
‫أخبرتني خالتي بما حدث •• أنا آسف •• آسف حقا لكل لحظة عذاب‬
‫عشتها بسبب ذلك الموقف •• رفعت إليه ريم عيونها و كانت تلمع بدموع‬
‫تتجمع و قالت ‪:‬‬
‫ل يا أستاذ سعيد ‪ ،‬ليس عذابي للموقف في حد ذاته ‪ ،‬رغم أنه كان‬
‫فظيعا ‪ ،‬و إنما عذابي لنني أعطيت لحلمي مداه و صالحت دنيا ترفض‬
‫مهادنتي ‪ ،‬و اعتقدت للحظة أن الحلم أوشك على التحقق ‪ ،‬عذابي لب‬
‫يعيش غربة مضاعفة بل نتيجة و يقاسي المرين بل هدف •• قالت الم و هي‬
‫تشير بطرف عينها لسعيد ‪:‬‬
‫شاي أم قهوة يا أستاذ سعيد •• تطلع إليها سعيد واجما ‪ ،‬لم يرد فقالت ‪:‬‬
‫سأذهب لصنع الشاي •• خرجت الم فقال سعيد ‪:‬‬
‫ريم •• نظرت إليه فقرأت بقية العبارة ‪ ،‬أرخت عيونها فترجمها نصا حرفيا‬
‫همس ‪:‬‬
‫كم أفتقدتك يا غالية •• و ارتفع صوت الصمت بينهما ‪ ،‬لم تجرؤ ريم على‬
‫النظر إليه ‪ ،‬و لم يقدر هو على إزاحة عيونه عنها ‪ ،‬تمنى لو يلمس شعرها و‬
‫عادت إليه الذكرى فلمعت عينيه بالبتسام ‪ ،‬و عاد ينادي و لكن بصوت حاول‬
‫أن يكون حياديا و قال ‪:‬‬
‫ريم •• رغم كل شيء لبد أن تتغلبي على انكسارك و تكملي امتحاناتك‬
‫وفق الجدول المحدد •• نظرت إليه و ابتسمت و قالت ‪:‬‬
‫هل طلبت أمي منك اقناعي ؟ فقال بل تردد ‪:‬‬
‫و سأنجح في هذا المر إن شاء الله •• فقالت ريم و هي تستعد لثبات‬
‫صحة وجهة نظرها ‪:‬‬
‫يا أستاذ سعيد •• ما معنى أن •• قاطعها و قال ‪:‬‬
‫ريم أسمعيني ‪ ،‬أعرف كل ما تريدين قوله ‪ ،‬و أعرف ما تشعرين به ‪ ،‬و‬
‫أعرف أنك أكثرنا اهتماما بمستقبلك ‪ ،‬و أكثرنا احباطا لقرارك •• كل هذا‬
‫أعرفه و أكثر و لكن دعينا نفكر أيضا بالعقل ‪ ،‬إنه مجرد عام واحد مصاريفه‬
‫مضاعفة و في العوام الباقية ستدفعون النصف ‪ ،‬إذن فالعقبة الوحيدة هي‬
‫في هذا العام ‪ ،‬فإذا تغلبنا عليها •• قاطعته ريم و هي تقول ‪:‬‬
‫كيف ؟ ‪ ،‬كيف نتغلب عليها يا أستاذ سعيد ‪ ،‬عندما سافر أبي اعتقدنا أن‬
‫اللف جنية الذي سيحصل عليها شهريا تكفي لتغطـــية مصـــاريف الدراسة ‪،‬‬
‫و لكن مع مرور الشهور و مع التقتير الشديد في النفقات و مع اللتزامات‬
‫الكثيرة التي يفرضها منزل مفتوح هنا و منزل مفتوح هناك ‪ ،‬مع مصاريف‬
‫الملزم الجامعية و الكتب و زيادة أقساط مدرسة قاسم ‪ ،‬و متطلبات‬
‫الدراسة لي و له ‪ ،‬و الطعام و الكساء و الدواء و اليجار ‪ ،‬اكتشفنا أن أبي‬
‫كان قاسيا على نفسه عندما سافر و تركنا بنفس الحال التي كانت عندما كان‬
‫معنا •• و للسف فإن هذه القسوة غير المتعمدة طالتنا أيضا فنحن في نظر‬
‫النــاس و الدولة و إدارة الوافدين أبناء رجل يعمل في السعودية •• هل‬
‫أخبرتك أمي عما قالوه لها هناك ‪ ،‬هل أخبرتك عما عانته •• هل شعرت بما‬
‫عانته هي و ما عانيته أنا ‪ ،‬هل تعتقد أنني غبية لكي أترك الباب مفتوحا لكـــل‬
‫من يريد إذللنـــا باسم التـــعليم و الـــعلم •• ل يا أستاذ سعيد وفر نصائحك‬
‫‪ ،‬فلن أستجيب لها •• لنني لن أسمح لمخلوق أن يجرب فينا عقده من جديد‬
‫‪ ،‬أو يمارس علينا إذلل من جديد •• تنهد سعيد و قد شعر أنها معركة بالفعل‬
‫و ليست سهلة كما تصور فقال ‪:‬‬
‫و المنظمة بماذا أجابت ؟ فقالت ريم و هي تضحك بمرارة ‪:‬‬
‫قالوا انتظروا الدور ‪ ،‬فالذين يرغبون في إتمام دراستهم كثر ‪ ،‬و المنظمة‬
‫تعتمد على المعونات الخارجية التي قد تأتي و قد تتأخر وفقا لمزاج المانحين‬
‫و تقديرهم لحتياجاتنا •• أي ذل بعد ‪ ،‬أي ذل !! تطلع إليها سعيد ‪ ،‬همست‬
‫جوانحه ‪ ":‬أية معاناة تحملينها شفافة القلب و المشاعر ‪ ،‬لو كان بيدي‬
‫لخبــأتك في أعماق قلبي و جعــلت بينك و بين متاعبك ألف سور •• و لكن‬
‫كيف ؟•• دخلت الم بالشاي و تطلعت إلى وجه سعيد فعرفت أنه أخفق‬
‫فتنهدت ووضعت الشاي على الطاولة و قالت ‪:‬‬
‫إذن ل فائدة •• جلست ريم بجوارها و قبلت يدها و قالت ‪:‬‬
‫أمي الحبيبة ‪ ،‬لو فكرت قليل لوجدت أن ما قررته هو الصواب •• أرجوك‬
‫يا أمي تقبلي ما أقول و ل تدعيني أشعر بالتعاسة مضاعفة •• نهض سعيد‬
‫فجأة و عيونه تلتمع كمن وجد الحل و ارتاح اليه و قال بحرارة لريم ‪:‬‬
‫ريم •• لن تخسري شيئا ‪ ،‬أكملي امتحـــاناتك ‪ ،‬فإذا فـــرجها الله ‪ ،‬أكملت‬
‫معززة مكرمة و إل فإنني سأكو‪،‬ن أول المباركين لقرارك المؤيدين له ••‬
‫هزت ريم رأسها رفضا فقال سعيد ‪:‬‬
‫أرجوك ‪ ،‬بين غمضة عين و انتباهتها يغير الله من حال إلى حال ••‬
‫فقالت ‪:‬‬
‫و لكن يا أستاذ سعيد من أين ؟ نهضت الم و قد لمست ضعفا في صوت‬
‫ريم ينبيء عن اقتناع وشيك و قالت ‪:‬‬
‫ل يجمل بنا أن نغفل رحمة الله ‪ ،‬تخيلي كم سيكون مؤسفا أن نجد الحل‬
‫في وقت أضعت فيه أمتحاناتك و مجهود فصل دراسي كامل •• التفتت الم‬
‫إلي سعيد و قالت ‪:‬‬
‫تصور يا أستاذ سعيد أنها اثبتت تفوقا و بروزا في كليتها على كافة أقرانها ‪،‬‬
‫تصور أنها تريد أن يضيع كل هذا بسبب العناد •• فقالت ريم ‪:‬‬
‫ليس عنادا يا أمي و لكن •• فقال سعيد ‪:‬‬
‫و لكن يا ريم كانت إرادة الله أن تلتحقي بالجامعة •• و أكملت الم ‪:‬‬
‫فإنه لن يخذلك و إن شاء الله ستكملين تعليمك •• و قال سعيد مكمل و‬
‫في عيونه نظرة وعد جميلة ‪:‬‬
‫معززة مكرمة ‪ ،‬معـززة مكرمة يا ريم ل يجــرؤ أحد على إذللك ثانية‬
‫أوحتى مس طرفك •• نظرت ريم إلى سعيد ‪ ،‬ثم إلى أمها التي أومأت لها و‬
‫عيونها متللئة بالدموع ‪ ،‬فقال سعيد بحزم كلمته الخيرة ‪:‬‬
‫اذهبي و استعدي لمتحان يوم الثلثاء و سأصحبك للجامعة بنفسي يومها‬
‫•• تطلعت إليه الم لتذكره بوعده القديم فأكمل بسرعة ‪:‬‬
‫ذلك اليوم فقط ‪ ،‬لنني لن أستطيع ترك عملي بعد ذلك •• و نظر إلى‬
‫الم نظرة رجاء فابتسمت و قالت ‪:‬‬
‫حسنا •• حتى أطمئن إلى أن ريم دخلت المتحان و أدته على أكمل وجه‬
‫•• و عادت الفرحة تزغرد في عيون سعيد و امتـــلت عيونه بنظرة امتــنان‬
‫للم و قال لريم و هو يهم بالنصراف ‪:‬‬
‫إلى الملتقى صباح الثلثاء •• أومأت ريم برأسها موافقة وأشارت له‬
‫مودعة و هو ينصرف ‪ ،‬فقالت الم ‪:‬‬
‫ابن حلل الستاذ سعيد ‪ ،‬اللهم أبقه لولده ••• نظرت إليها ريم بفهم و‬
‫ابتسمت و عانقتها •• *** قبل أن تشرق الشمس صباح يوم الثلثاء كان‬
‫سعيد مستعدا للخروج ‪ ،‬لول أن الوقت مبكر ‪ ،‬أعد لنفسه كوبا من الشاي و‬
‫جلس في الشرفة يشربه و هو يطالع النافذة الثيرة ‪ ،‬لقد مرت عليه‬
‫الساعات الماضية كالحلم ‪ ،‬استحضر خللها صورة ريم و بقوة إلى ذاكرته ‪،‬‬
‫وحادثها كثيرا ‪ ،‬ضحك لتعليقات توقعها ‪ ،‬و وجم لحاسيس مرت بها ‪ ،‬و ابتسم‬
‫لحركات قامت بها في خياله •• و فكر كثيرا ‪ ،‬فكر حتى أعجزه الفكر في‬
‫حل لمشكلتها و في كل مرة كان يترسخ لديه الحل الذي لمع فجأة في رأسه‬
‫و هو هناك •• و عندما دقت الساعة الثامنة فتحت ريم نافذتها و تطلعت‬
‫تلقائيا إلى شرفته و كأنهما على ميعاد ‪ ،‬ابتسمت له فضحكت الدنيا لناظريه و‬
‫نهض نشيطا و خرج متوجها إلى بيتها و هو يصفر مرحا •• كانت ريم جميلة‬
‫هذا الصباح عاد لوجهها تورده و لقامتها استقامتها و لنظرتها التفاؤل ••‬
‫ابتسم لصباحها و ابتسمت لصباحه •• أخذت معها الشطائر و الدعوات‬
‫الحارة و أخذ معه نظرات تحذير خفية من أم تتنفس القلق ‪ ،‬و ترك لها‬
‫نظرات وعد خفية لطمأنتها •• و بين هذه النظرات المتبادلة و الدعوات‬
‫الحارة قرر هذا الصباح التضامن معهم فأرخى نسائمه اللطيفة تصافح الوجوه‬
‫‪ ،‬و عبق الطريق بعبير زهر الليمون الجميل و سار كالظل خلفهما و سمع‬
‫صمتهما المتفائل حتى وصل إلى الجامعة •• و هناك كان بسام و خالد على‬
‫باب الكلية في انتـــظار ريم ‪ ،‬و بمجرد أن لمحاها حتى أقبل و قال بسام ‪:‬‬
‫خشيت أل تأتي •• و قال خالد ‪:‬‬
‫لم يعد ثمة وقت ‪ ،‬الحمد لله أنك جئت •• هيا يا بسام ميعاد المتحانات‬
‫•• قالت ريم ممتنة ‪:‬‬
‫أشكركما كثيرا •• كرم منكما أن تحضرا إلى هنا لستقبالي و تشجيعي ••‬
‫عرفتهما بسعيد و عرفت سعيد بهما و تصافح الجميع و انطلق الشابان‬
‫فالتفتت ريم إلى سعيد و قالت ‪:‬‬
‫يجب أن أذهب إلى لجنتي الن ‪ ،‬أشكرك كثيرا و أعتقد أنه ل حاجة بك لن‬
‫تنتظرني ‪ ،‬اذهب إلى عملك فالمتحان مدته ثلثة ساعات •• هز سعيد رأسه‬
‫و ابتسم و هو يقول ‪ ،‬في الواقع كان يقرر ‪:‬‬
‫سأنتظرك •• هزت كتفيها امتنانا و انطلقت إلى لجنتها تطالعها عيون‬
‫سعيد المحبة و في قلبه نشيد حب ل ينتهي •• *** مضت أيام المتحانات‬
‫الباقية بطيئة على ريم ‪ ،‬كانت خللها محط انتباه الجميع بين رافض لما حدث‬
‫معها و مؤيد له ‪ ،‬كانت ريم تستمع إلى هؤلء و تلمس تعاطفهم و تستمع إلى‬
‫هؤلء و تناقش تأيدهم لموقف الموظف ‪ ،‬و في كل هذا تشعر أنها أصبحت‬
‫أكثر قوة على مواجهة من يستضعفها و من يحاول أن يقلل من شأنها ‪،‬‬
‫تناقشهم بقوة من يدافع عن حقه في الحياة ‪ ،‬يساندها كل من خالد و بسام و‬
‫أحمد ‪ ،‬و كان الدكتور طارق يسأل عنها دائما و الطبيب سامي يزور اللجان‬
‫في أيام المتحانات و محطته الخيرة دائما طاولتها •• و الدكتور محمد‬
‫اكتفى في يوم مادته بالمرور على لجنتهم و سأل الجميع بشكل عام عن سير‬
‫المتحان و قال لهم و هو ينظر إلى ريم ‪:‬‬
‫آمل أن توفقوا في الجابات من كل قلبي •• و اعتبرها الطلب موجهة‬
‫إلى ريم فقط ‪ ،‬أما سعيد فقد اختفى و غاب منذ اليوم الذي صحب ريم فيه‬
‫إلى كليتها ‪ ،‬و سارت المور وفق ما هي عليه •• و انتهت أيام المتحانات ••‬
‫و استكان الطلب في كلياتهم بانتظار النتيجة ‪ ،‬و غلب القلق ريم فكانت تدور‬
‫غرف المنزل كالتائهه ‪ ،‬تنسى كثيرا من المور و تشرد سريعا ‪ ،‬كان قلقها‬
‫على النتيجة التي لن تعرفها كبيرا ‪ ،‬و كذلك كانت الم خاصة و أن بادرة أمل‬
‫لحل هذه المشكلة لم تظهر حتى كان يوم النتيجة ‪ ،‬التقى الطلب في‬
‫الجامعة و أحجمت ريم عن الذهاب إلى الكلية ‪ ،‬جلست يعتصرها القلق ‪ ،‬و‬
‫عندما عادت سوسن بنتيجتها و كـــانت ناجــــحة هنـــأتها ريم و تقبلت‬
‫تمتمات العتذار و الرتباك منها بصدر رحب إذ أن عدم معرفتها للنتيجة كان‬
‫أمرا متوقعا و قالت الم عند الثامنة مساء ‪:‬‬
‫ريم يا ابنتي ‪ ،‬دعينا نعتبر أنك ناجحة ‪ ،‬و عليك مادة واحدة تلك التي لم تؤد‬
‫امتحانها ‪ ،‬و ليفعل الله ما يشاء •• تنهدت ريم و قامت متكاسلة تجر قدميها‬
‫جرا و اتجهت إلى المطبخ لصنع الشاي و في وقوفها في انتظار أن يغلي‬
‫الماء استرجعت كل ما مر بها هذا الفصل الدراسي من أحداث و شعرت أن‬
‫قواها تخور و أن قدمها ل تستطيع حملها و همست ‪:‬‬
‫ربما كانت هذه هي النهاية •• و حدثت نفسها و هي تسكب الشاي‬
‫بحركات آلية ‪ ":‬قلت لهم ل داعي لكمال المسيرة ‪ ،‬ل داعي للعناد و لكنهم‬
‫أصروا و ها هي النتيجة •• كأنني لم أفعل شيئا ‪ ،‬كأنني كنت أصارع طواحين‬
‫الهواء •• أنني متعبة •• متعبة جدا •• دار المطبخ بها ‪ ،‬و صعب عليها أن‬
‫تحدد مواقع الشياء أو ملمحها •• بدا لها للحظة أنها تحلم و تذكرت أنها لم‬
‫تأكل شيئا يذكر منذ يومين على القل ابتسمت بمرارة فتداعت البتسامات و‬
‫كبــــرت ضحكــــا بائسا يائسا و حــــاولت حمل الصـــينية ففقدت توازنها و‬
‫أحدثت ضجة كبرى و هي تسقط منها و جاءت الم تركض و خلفها قاسم‬
‫يستطلعون ما حدث فلمحوا بسرعة ريم و هي منكبة على الرض وعلى‬
‫شفاهها ضحكات بائسة و في عيونها دموع يائسة ••قالت عندما رأت أمها و‬
‫هي تشير للشاي المنسكب أرضا ‪:‬‬
‫ل أدري •• سقط لوحده •• ركضت نحوها الم لترفعها بسرعة و لحظ‬
‫قاسم الدماء في كفها فصاح ‪:‬‬
‫لقد جرحت •• تأملت ريم جرج يدها و هو ينزف و قالت ‪:‬‬
‫ليت كل الجروح كهذا يا قاسم •• أعانتها الم مع قاسم و ذهبوا بها إلى‬
‫حجرتها و خرج قاسم بسرعة ليبحث عن أدوات يطهر بها الجرح و يربطه‬
‫عندما دق الباب ••فاحتار للحظة أيفتح الباب أم يمضي في بحثه ‪ ،‬لكن إلحاح‬
‫الطارق دفعه إلى فتح الباب ليجد سعيد واقف تلوح على محياه علمات‬
‫الفرحة و همس و كأنه كان يركض ‪:‬‬
‫مبروك ‪ ،‬نجاح ريم •• صاح قاسم كأنه لم يسمع ‪:‬‬
‫ريم مجروحة •• عن إذنك •• لبرهة لم يستوعب سعيد ما سمع ‪ ،‬ثم فجأة‬
‫غاص قلبه في قدمه ‪ ،‬استشعر قلقا مفاجئا ‪ ،‬دار بعيونه في أرجاء الصالة و‬
‫لما وجدها فارغة خطا بسرعة إلى حيث غرفتها التي لم ينس موقعها منذ‬
‫دخلها ذلك اليوم •• فوجئت الم كما فوجئت ريم بالستاذ سعيد على باب‬
‫الغرفة يتطلع بقلق إلى ريم التي قالت بضعف و دهشة ‪:‬‬
‫أستاذ سعيد ؟ حاولت أن تدس نفسها بسرعة في الفراش فخطا سعيد‬
‫إليها سريعا و أمسك يدها و صاح بجزع ‪:‬‬
‫إنك تنزفين •• قالت الم ‪:‬‬
‫أستاذ سعيد •• يمكنك أن تنتظر في الصالون ‪ ،‬ها هو قاسم أحضر‬
‫الدوات و سأعالجها فورا •• التفت سعيد بسرعة إلى قاسم الذي وقف‬
‫مذهول من جرأة سعيد هذا في اقتحام غرفة نوم أخته و فوجيء به و هو‬
‫يخطف الشياء من يده و يقول ‪ ،‬أو يقرر بحزم ‪:‬‬
‫أنا ساضمد يدها •• لي خبرة في هذه المور منذ أيام الجيش •• و أمسك‬
‫يد ريم التي كانت مختبئة مع كل جسدها تحت الغطاء فتشبثت لثانية‬
‫بغطائها ‪ ،‬ثم استسلمت بضعف ليده و هي تمسك يدها برفق و أغلقت عيونها‬
‫و هي تشعر كأنها في حلم ‪ ،‬قام الستاذ سعيد بعمله بسرعة ‪ ،‬حتى هو كان‬
‫كأنه يحلم ‪ ،‬لم يتكلم هو و لم يتكلم أحد داخل الغرفة و عندما انتهى من‬
‫تضميد الجرح سأل ريم و هو يعيد يدها إلى ما تحت الغطاء‪:‬‬
‫هل تؤلمك •• هزت رأسها نفيا و هي تبتسم برفق •• و قالت الم ‪:‬‬
‫نشكرك يا أستاذ سعيد ‪ ،‬لقد أزعجناك و أتعبناك •• نظر إلى الم و لم‬
‫يجب ‪ ،‬كان طيلة الوقت يجلس على الرض بجوار فراش ريم •• تمنى لو‬
‫يقف الزمن على هذه الحالة ‪ ،‬كانت ريم في حالة ضعف شديد ‪ ،‬شيء لم‬
‫يخف على عيونه ‪ ،‬قال لها بحنان شديد ‪:‬‬
‫تبدين متعبة جدا يا ريم ‪ ،‬هل أكلت اليوم ؟ تنهدت الم و قالت ‪:‬‬
‫ريم لم تأكل شيئا منذ يومين •• نظر إليها لئما و قال و قد تذكر ما جاء‬
‫من أجله ‪:‬‬
‫هل هذا معقول ‪ ،‬هل يليق بالناجحات أن يكن بهذا الضعف ••؟ أدارت ريم‬
‫رأسها و قالت بضعف ‪:‬‬
‫قلت لكم ل داعي لذهابي للجامعة مجددا ‪ ،‬قلت لكم أنني سأتعذب أكثر‬
‫كلما ارتبطت بها أكثر ‪ ،‬لكنكم أبيتم إل أن أكمل •• حتى نتيجتي ل أستطيع‬
‫معرفتها •• البواب كلها أغلقت ‪ ،‬لم تتول المنظمة الدفع و ل إدارة الوافدين‬
‫خفضت و ل أبي استطاع أن يرسل لنا المبلغ و ل قريب لي يمكنه ذلك ••‬
‫لماذا أرغمتموني ••؟ تطلعت إلى سعيد و إلى أمها و أكملت بدموعها و‬
‫ضعفها ‪:‬‬
‫إنني مذبوحة •• صرخ قلب سعيد للحظة ‪ ":‬فداك روحي يا حبيبة " و قال‬
‫و هو يبتسم بهدوء‬
‫لكنك ناجحة يا ريم •• و إن شاء الله ستكملين دراستك و لو كان الثمن‬
‫حياتي •• تطلعت إليه ريم •• ابتسمت بهدوء و قالت الم ‪:‬‬
‫نشكرك على مشاعرك يا بني •• و أنت يا ريم ‪ ،‬نسيت أهم البواب و أنت‬
‫تتحدثين عن البواب المغلقة ‪ ،‬نسيت باب الله المفتوح دائما لمن سأله ••‬
‫ادعي الله و هو سيجيبك •• تنهدت ريم و قالت بقلب مرتجف ‪:‬‬
‫يا رب •• نهض سعيد واقفا و فرد ذراعيه بحركة مسرحية و قال بصوت‬
‫عميق ‪:‬‬
‫لقد استجاب الله دعاءك يا ريم •• راقبته الم و ابنتها و هو يتقدم بهدوء‬
‫مخرجا عدة أوراق من جيبه و قال و هو يقدمها إلى ريم ‪:‬‬
‫هنا ورقة بتقديراتك في كل المواد ‪ ،‬كلها امتياز عدا مادتين جيد جدا ‪ ،‬و‬
‫المادة التي حملتها للدور الثاني ‪ ،‬و هذه ورقة تفيد بأن المصاريف دفعت‬
‫كاملة ‪ ،‬و هذه ورقة قيد تثبت رسميا أنك مقيدة بالسنة الولى بكلية الفنون‬
‫الجميلة ••و لو كانت معي صورة لك لحضرت لك بطاقة الجامعة أيضا ••‬
‫فما رأيك ؟ كانت ريم تستلم منه الوراق غير مصدقة ‪ ،‬و كلما تصفحت ورقة‬
‫أعطتها تلقائيا لمها ‪ ،‬تتصفحها و تعطها بدورها لقاسم •• تطلع الجميع إلى‬
‫سعيد و في عيونهم تتزاحم السئلة مع الكبار مع المحبة مع المتنان ‪،‬و‬
‫توالت دموع ريم تترجم امتنانها و قالت بصوت مخنوق ‪:‬‬
‫هذا كثير ‪ ،‬كثير •• و سجدت الم لله أرضا و هي تتمتم بالحمد و الشكر‬
‫لله فيما نظر قاسم إلى سعيد و قال بصدق شديد ‪:‬‬
‫رجل •• و الله رجل •• عانقه و ترقرقت عيناه ••ثم توجه إلى ريم مسح‬
‫دموعها وقال و هو يمسك يدها بقوة ‪:‬‬
‫الحمد لله •• الحمد لله •• مبروك يا ريم •• مبروك يا أختي •• رفعت‬
‫الم رأسها و قالت بدموعها الفرحة لسعيد ‪:‬‬
‫و لكن من أين يا بني ؟ ابتسم سعيد و هو يشعر أنه عملق ‪ ،‬يشعر بأنه‬
‫حصل على مقابل ما فعل كامل بكل هذه المشاعر التي تفيض حوله و له‬
‫••قال ‪:‬‬
‫قطعة أرض منسية ورثتها عن والدي يرحمه الله لم يكن لها أية اهمية قبل‬
‫أن تصبح فجأة هي الحل و المفتاح السحري لمشكلة ريم •• عادت ريم تهز‬
‫رأسها غير مصدقة و تهمس ‪:‬‬
‫هذا كثير •• هذا كثير •• تطلع إليها و في عيونه حب العالم كله و قال ‪:‬‬
‫لو كان المقابل سعادتك فإن أكثر الكثير قليل يا ريم •• التفت إلى الم‬
‫بسرعة قبل أن يجـــاري أمنيته و ينكـــب على الفتــــاة مقبل ••قــال بمرح‬
‫و بصوت عال ‪:‬‬
‫أعتقد أن المناسبة تستحق احتفال ‪ ،‬كما أنني جائع جدا ‪ ،‬لم أتذوق الطعام‬
‫طيلة هذا اليوم فهل لديكم طعام أم أذهب للشراء ؟ دقت الم صدرها و‬
‫قالت بسرعة ‪ :‬يا إلهي •• تشتري و لدينا أشهى طعام لفضل البناء؟ ••‬
‫دقائق و أعده لكم •• حاولت ريم النهوض قائلة ‪:‬‬
‫بل سأعده بنفسي يا أمي •• أوشك أن يندفع إليها ليعيدها للفراش ••‬
‫لكنه لم يفعل و اكتفى بمراقبتها و هي تسير بنشاط رغم ضعفها و تقول ‪:‬‬
‫ل أحد غير الستاذ سعيد يستحق الحتفال •• طوقه قاسم بيده و توجها‬
‫نحو الصالة معا ••و في انتظار إعداد الطعام تحدثا معا عن مستقبل قاسم و‬
‫فرحة ريم و أخبار الوالد و لم يطل المر كثيرا إذ كان الطعام جاهزا بعد‬
‫دقائق و اجتمعت السرة و معها سعيد يأكلون و يتحدثون و كان سعيد في كل‬
‫هذا فارس الجلسة و محط إعجاب و تقدير الجميع ‪ ،‬كان يشعر بسعادة فائقة‬
‫و همست روحه ‪:‬‬
‫ريم تستحق •• *** و كما أن المصائب ل تأتي فرادى فإن الفراح أيضا‬
‫تأتي مجتمعة إذ بعد يومين أرسل الب خطابا كتبه على عجل يشرح فيه أنه‬
‫موفق في عمله و أنه حصل على مكافأة من شأنها أن تغطي مصاريف ريم‬
‫مع ما استطاع ادخاره خلل الشهور الماضية ‪ ،‬و أرفق برسالته شيكا بالمبلغ‬
‫باسم ريم منوها أنها لديها وثيقة رسمية تمكنها من إثبات شخصيتها و صرف‬
‫الشيك و تمنى لريم النجاح و لولده التوفيق ‪ ،‬و كانت ريم قد كتبت إليه و‬
‫إلى تامر و إلى سهيل بأخبار نجاحها ‪ ،‬و اتفقت ريم مع أمها أن تذهب مع‬
‫سعيد إلى البنك لصرف الشيك تحديدا لكي ترد له الدين بدون إحراج‬
‫ووافقتها أمها و أرسلت في طلب سعيد و طلبت منه مرافقة ريم إلى البنك‬
‫فوافق بكل سرور ‪ ،‬و هناك و بعد أن صرفت ريم المبلغ مدت يدها به إليه و‬
‫قالت بامتنان كبير ‪:‬‬
‫لو كان معي ما أعطيه لك و يستطيع حقيقة أن يعبر عن شكري لعطيت ‪،‬‬
‫لكن ل أملك غير أن أرد الدين ‪ ،‬تفضل •• بهت سعيد و صاح محتجا ‪:‬‬
‫ل يمكن ‪ ،‬لم أدفعه لسترده يا ريم ‪ ،‬دفعته لكي تسعدي •• قالت ريم‬
‫مؤكدة ‪:‬‬
‫و لقد أسعدتني فعل •• دائما كنت قادرا على إسعادي ‪ ،‬خذ المبلغ فهو‬
‫حقك ‪ ،‬لكنني لن أرد لك ما سببه موقفك لي و لسرتي من سعادة فقد‬
‫أصبحت في ذاكرتي وسما لن يمحوه الدهر ‪ ،‬و لن أرد لك معه تقديري الكبير‬
‫و شعوري بعظمتك و بأنك النسان الوحيد في هذه الدنيا الذي يملك و يريد‬
‫سعادتي ‪ ،‬أرجــــوك خذه ‪ ،‬فهو ل شيء قيـــاسا على ما فعلت و ليتك‬
‫تستطيع به استرداد أرضك التي بعتها من أجلي •• سأكون سعيدة لو عادت‬
‫إليك •• أرجوك •• مستسلما كعادته معها مد يده ‪ ،‬أخذ المبلغ ‪ ،‬لم يكن حقا‬
‫يريده ‪ ،‬لكنه كان أسير رغبتها في هذه اللحظة ‪ ،‬لم يكن يريد أن تكثر من‬
‫رجائه •• أخذ المبلغ و تعمد لمس كفـــها و هو يأخذه و همس لها ‪:‬‬
‫أحبك •• أرخت عيونها أرضا و سارت بسرعة فسار حتى حاذاها و سارا‬
‫معا صامتين •• إل أن الدنيا حولهم كانت ترقص فرحا على إيقاع دقات قلب‬
‫سعيد و ارتجافة قلب ريم •• *** و جاء الفصل الدراسي الثاني ‪ ،‬و انتظمت‬
‫ريم في دراستها واثقة في نفسها ‪ ،‬متذكرة ما وعدت به أباها ‪ ،‬ماضية في‬
‫شؤون حياتها ‪ ،‬و توطدت علقتها أكثر ببسام و خالد اللذين ما انفكا يتابعانها ‪،‬‬
‫و ابتعدت ما وسعها عن شلة الشــغب الجامـــعي ‪ ،‬ظـــلت تراسل أباها و‬
‫تامر و سهيل و تقص عليهم جميعا أخبارها باستفاضة و تتلقى أخبارهم عبر‬
‫الرسائل ‪ ،‬و في الوقت نفسه حدث ما لم تتوقعه السرة عندما ضاعت إقامة‬
‫الب في مصر بسبب عدم نزوله في الوقت المناسب ‪ ،‬و أصبح نزوله إليها‬
‫من قبيل المستحيل ‪ ،‬و تلقت السرة هذا النبأ بمزيد من الصبر و التحدي و‬
‫الصرار على مواجهة كل ما يعترضهم ‪ ،‬و تقرر أن تسافر السرة إلى‬
‫السعودية عوضا عن مجيء الب عندما تتيسر الحوال •• و مضى التعليم‬
‫بريم ناجحة متفــــوقة سنة بعد سنة ‪ ،‬و التحق قـــاسم بكلـــية الهندسة ‪ ،‬و‬
‫تضاعفت المصاريف على الب إل أنه كان واعيا لما يتحقق مدركا لهمية‬
‫مواصلة المشوار ‪ ،‬تسانده في ذلك زوجة اعتادت على النضال منذ رزقها الله‬
‫زوجا فلسطينيا ‪ ،‬كما أن مكتب المنظمة قام مرة او اثنتين بدفع المصاريف‬
‫عن ريم و أخيها ‪ ،‬كما تولى أحد المراء السعوديين دفع المصاريف للطلب‬
‫الفلسطنيين في أحدى السنوات ‪ ،‬فجاءت مكرمته هذه في وقتها لتنقذ الكثير‬
‫من الطلب المهددين بتوقف دراستهم لعدم دفعهم المصاريف ‪ ،‬و دخلت‬
‫سمر المدرسة ‪ ،‬و أصبح ظهور سعيد في حياتهم متقطعا يأتي ليحل أزمة أو‬
‫يقدم تهنئة ‪ ،‬أو يسأل عن الحوال ‪ ،‬و في كل ذلك ملتزم تماما بما طلبته الم‬
‫منه ‪ ،‬حريصا على إحاطة ريم برعايته و حمايته و لو من بعيد •• و كانت‬
‫السرة تســـافر إلى السعودية كل عـــــامين في إجازة آخر العام ‪ ،‬يرى‬
‫الب أولده و يرى الولد أباهــــم ثم يعودون إلى حيــــاتهم و دراستــهم‬
‫على أمل الجتمــاع مجددا بعد عامين •• من ناحية أخرى فقد تزوج سيــــد‬
‫عندما تأكـــــد تماما أن ريم ل تــــريده ‪ ،‬و لن تتـــزوجه ‪ ،‬و استمرت‬
‫سوسن في الجامعة مع ريم ‪ ،‬إل أن صداقتهما أصبحت أضعف مما كانت‬
‫سابقا ‪ ،‬و كانتا تنتقلن معا من سنة إلى أخرى ‪ ،‬تحافظ كلتاهمـــا على‬
‫مســـتواها ‪ ،‬ريم متفوقة و سوسن تتراوح بين الجيد و الجيد جدا •• و في‬
‫غضون ذلك لم تنس ريم هدفها ‪ ،‬لم تنس أنها مطالبة بالبحث عن وطنها و‬
‫أنها يجب أن تجده ‪ ،‬و كانت سنين الدراسة قد فرضت عليها تصورا ثابتا عن‬
‫الخطوة الولى باتجاه هذا الوطن و هي أن تدرس و تتعلم لكي تمتلك طريقة‬
‫تعبر بها عن الوطن و تعبر بها إليه ‪ ،‬خاصة بعد أن سافرت في رحلة إلى‬
‫العريش و رفح نظمتها الكلية لمدة ثلثة أيام ‪ ،‬رأت فيها ريم للمرة الولى‬
‫في حياتها أرض الوطن عبر السلك الشائكة في الحدود بين البلدين ‪ ،‬عندما‬
‫اقترب الباص من المكان رفرف قلبها في صدرها ‪ ،‬و قفزت منه و هو يستعد‬
‫للوقوف ‪ ،‬ركضت نحو السلك الشائك و أعطت لنظرها مداه علها تخترق به‬
‫المسافات لتصل إلى بيت في غزة وصفه إليها أبوها ذات يوم ‪ ،‬لكنها عوضا‬
‫عن ذلك لمست بنفسها ما تمنحه هذه الحدود الشائكة من عذابات لناس‬
‫يعيشون على الحدود ‪ ،‬رأتهم بأم عينيها ‪ ،‬كانوا جماعات كبيرة يتمسكون‬
‫بالسلك حتى تقطعت أيديهم و سال الدم منها و هم ل يشعرون ينادون أحبة‬
‫على الطرف الثاني و على بعد كبير وبدورهم يرد الحبة النداء و يلوحون‬
‫بأيديهم إليهم فيما يرفرف العلم السرائيلي على أبراج صفراء يسكن كل‬
‫واحدة منها جندي معه بندقية مصوبة نحو المشاعر الملتاعة تحت ناظريه ••‬
‫لم يكن لريم أحد هناك تلوح له بيدها لكنها قبضت السلك مدفوعة برغبة‬
‫سكنتها العمر كله ‪ ،‬تحملت أشواكه أو لم تشعر بها و نادت باعلى صوتها ‪:‬‬
‫يا وطني •• لم يجبها أحد و ضاعت حروفها عبر المسافة الشاسعة فعادت‬
‫تنادي و هي تحكم قبضتها على السلك و انهمرت دموعها عندما غص حلقها‬
‫بأسماء لهلها ل تعرفها ‪ ،‬بحثت بسرعة في عقلها عن اسم تناديه لكن‬
‫الذاكرة صارت فجأة بيضاء فعادت تقول بصوت جريح ‪:‬‬
‫يا وطني •• شدها أحد الزملء و همس في أذنها ‪:‬‬
‫ريم اهدئي ‪ ،‬هذا المكان ممنوع دخوله على غير المصريين ‪ ،‬ل تفضحينا‬
‫أرجوك •• نظرت إليه و دموعها تنهمر و قالت ‪:‬‬
‫إنه وطني دفعها أمامه و هو يقول ‪:‬‬
‫آمل أن تتمكني من زيارته يوما ظلت ذكرى هذه اللحظة تعيش في‬
‫وجـــدان ريم لم تمحـــها كل الحــــداث الــتي مرت بها ‪ ،‬و كانت كلما‬
‫تذكرت هذه اللحظة دق قلبها بوجيب يشبه إحســــاسها آنذاك و تجمعت في‬
‫عيونها سحابة حزن ل تمطر ‪ ،‬و تنهدت بحرقة ******‬
‫القسم الثالث‪:‬‬

‫عندما غادرت العبارة ميناء السويس متجهة إلى ميناء جدة تحمل ريم و‬
‫أسرتها ‪ ،‬تركت ريم قطعة من قلبها هناك ‪ ،‬كانت الباخرة تبتعد بهم ببطء‬
‫مخلفة خيطا أبيضا طويل ينتهي على المرفأ حيث وقف سعيد يلوح لهم بيده ‪،‬‬
‫ظلت يده مرتفعة تعلو على كل اليادي المـــلوحة ‪ ،‬ظـــلت ريم تلمحـــها‬
‫حتى عنـــدما اختفى المــرفأ و اختفى الناس ‪ ،‬و تنهدت تاركة لدموع الوداع‬
‫العنان ‪ ،‬و عل داخلها صوت يسأل بلوعة ‪:‬‬

‫" ترى هل سأعود ؟" و لم تسمع إجابة ‪ ،‬لم يكن هناك ثمة من يجيب ‪،‬‬
‫فالوداع في حياتها دوما كان صنو الفراق الطويل •• عندما بدأت السرة في‬
‫حزم حقائبها بعد انتهاء المتحانات النهائية لريم ‪ ،‬كان هناك اتفاق ضمني‬
‫بينهم على أنهم لن ينتظروا الشهادة ‪ ،‬و ستبقى هناك رهن ظروف قد تفرج‬
‫عنها أو ظروف تبقيها في طي النسيان •• كان سعيد معهم في خطوات‬
‫السفر كدأبه دائما عندما يحتاجونه ‪ ،‬كان ينهي الجراءات بروح ثقيلة و عيون‬
‫مغلقة ‪ ،‬كان إذا جاء بعد إنهاء إحداها يستقبل أسئلتهم بأوراق يمد يده بها‬
‫تنبيء عن نجاح المهمة و ل يتكلم ‪ ،‬و يظل يعاود السؤال الوحيد مرة بعد مرة‬
‫‪ " :‬هل سأراكم مجددا ؟" و تجيب الم مرة بعد مرة ‪ " :‬اللقيا نصيب "‬
‫فيطرق برأسه و تسمع ريم تكسرات روحه ‪ ،‬و تلمح بعيون قلبها رفض ذرات‬
‫كيانه لهذا الرحيل النهائي و تقرأ في عيونه الرجاء الصامت فل تجيب و إنما‬
‫تبتسم مشجعة ‪ ،‬و في ليلة السفراجتمعا سويا في صالون المنزل‬
‫وحـــدهما ‪ ،‬كـــان ثمـــة ما يشغل الم و يشغل قاسم قبل السفر ‪ ،‬تطلعت‬
‫إلى الحقــائب المكدسة عند باب البيت و تنهدت تقول ‪:‬‬
‫من يصدق ‪ ،‬ها نحن نغادر أخيرا بعد سنين الملحمة •• رنا إليها بعيون‬
‫أضناها السهر و قال بصوت كسير ‪:‬‬
‫هل أنت سعيدة يا ريم ؟ تطلعت إليه و قالت بحنان ‪:‬‬
‫أستاذ سعيد •• رغم كل ما عانيته هنا حتى انتهى تعليمي فإنني أشعر‬
‫إجمال أنني كنت في بلدي و بين أهلي ‪ ،‬لن يغير هذه الحقيقة بعض‬
‫الصعوبات التي واجهناها ‪ ،‬و لن يمحو تعلقي بها محن قاسية مررنا بها ‪ ،‬كيف‬
‫أنسى مسقط رأسي ‪ ،‬أو أتــنكر لبـــلد نشـــأت فيه و كبرت و تعلمت الكلم‬
‫وتلقيت فيه العلم ‪ ،‬صدقني يا أستاذ سعيد ‪ ،‬أنا أحب مصر حبا عظيما ‪ ،‬و في‬
‫قلبي مكان لكل شخص عرفته يوما أحبني أو أبغضني •• و ضحكت بعصبية و‬
‫هي تفرك يدها و تكمل ‪:‬‬
‫حتى الستاذ شاكر مدير شؤون الطلب بالجامعة ‪ ،‬ل أحمل له ضغينة •• و‬
‫أعرف أنني سأحن إلى أيامه ‪ ،‬إلى زملئي في الجامعة ‪ ،‬صديقاتي ‪ ،‬بيتنا ‪،‬‬
‫شارعنا ‪ ،‬و حتى القمر الذي أعرف أنه الوحيد الذي سيرافقني إلى هناك ••‬
‫تطلع إليها و همست روحه قبل أن يهمس بألم ‪:‬‬
‫و أنا ؟ جلست بجواره و قالت بحرارة ‪:‬‬
‫أنت ؟ أنت الكائن الوحيد الذي لن يكون حنيني إليه شوقا عابرا ‪ ،‬الوحيد‬
‫الذي لن يغادر ذاكرتي ما حييت ‪ ،‬أل يكفيك أنني سأتذكرك و أذكرك في كل‬
‫لحظة من لحظات حياتي ‪ ،‬إذا فرحت ‪ ،‬و إذا حزنت ‪ ،‬إذا ضاقت علي الدنيا و‬
‫إذا ابتسمت لي ‪،‬إذا تطلعت إلى القمر ‪ ،‬أو استيقظت في الصباح ‪ ،‬أو نمت‬
‫عند المساء ‪ ،‬إنك غال جدا يا أستا•• قاطعها ‪ ،‬وضع راحته على فمها بسرعة‬
‫و همس برجاء‪:‬‬
‫سعيد •• قولي سعيد فقط •• ال أستحق هذا في اليوم الخير معا ‪،‬‬
‫أرجوك •• انفلتت منه بسرعة و نهضت و قالت بارتباك ‪:‬‬
‫ما سيعذبني هناك هو إحساسي بأنني لم أستطع موافاتك حقك يا •• أســـ‬
‫•• أقصد يا •• ابتلعت ريقها و نظرت إليه ثم قالت بسرعة ‪:‬‬
‫يا سعيد علت وجنتيها حمرة خجل و شعرت بحرارة الكلمة فاغمضت‬
‫عينيها ‪ ،‬و عندما فتحتهما كان سعيــــد واقفا أمـــامها ‪ ،‬في عيــــونه حــب‬
‫الدنيا ‪ ،‬مد يـــده فأمسك يدها فلم تفلـــتهما و استمعت إليه و هو يقول ‪:‬‬
‫أعرف أنني أحببتك دوما و إنك لم تبادليني حبا بحب ‪ ،‬لكنني أريدك أن‬
‫تعرفي إنك الكنز الوحيد الذي وهبه الله لي في وقت كنت بأشد الحاجة فيه‬
‫إلى هدية تنير طريقي ‪ ،‬صدقيني يا حبيبتي •• لم أعرف طريقي أبدا إل بعد‬
‫أن أحببتك ‪ ،‬و لم أعرف لهذه الحياة معنى إل عندما وجدتك تتربعين على‬
‫عرش قلبي ملكة متوجة بل شريك ••و لن امتلك ناصية السعادة المطلقة إل‬
‫حين يجمعنا الله سويا زوجين في هذه الدنيا •• ربما ليس الن •• ربما ليس‬
‫غدا ‪ ،‬لكنني أسأل الله أنني عندما يحين قضائي أن يكون بين يديك ••‬
‫وتكونين آخر من أرى يا ريم يا حبيبتي •• كانت يده تضغط على يدها فتؤلمها‬
‫‪ ،‬لكن لم يكن لديها القدر الكافي من الشجاعة لتسحب يدها •• كانت‬
‫تسمعه و تؤنب نفسها و قلبها الذي لم يشارك هذا المحب حبه ‪ ،‬كانت تعرف‬
‫أنه صادق ‪ ،‬صادق حتى النهاية ‪ ،‬و لم تعرف بماذا تكافيء صدقه ‪ ،‬و ل كيف‬
‫توفيه شكره ‪ ،‬إل أنها أضمرت في نفسها أمرا تنفذه قبل رحيلها بدقائق ‪ ،‬و‬
‫هكذا عندما سلموا جميعا السلم الخير و توجهوا الى الباخرة تمهلت قليل و‬
‫تركت لوحة مغلفة بجواره كان الجميع يعتقد أنها ستحملها في الباخرة معها و‬
‫عندما نبهها قاسم إلى أنها نسيتها ‪ ،‬لكزته و قالت ‪:‬‬
‫لم أنسها •• إنها هدية لسعيد •• كانت لوحة "لجئة " الصلية التي رسمها‬
‫لها يوما الدكتور محمد و أعطاها هدية لها بعد انتهاء المتحانات في اليوم‬
‫الخير بعد أن ظلت طيلة العوام الربعة تزين جدران المعرض الدائم و بعد‬
‫أن حازت على إعجاب كل النقاد ‪ ،‬و كتبوا عنها في الصحف ‪ ،‬و رغم أن‬
‫الدكتور محمد أعطاها لها و أوصاها أن تحافظ عليها بعد أن ظلت ترجوه أن‬
‫يعطيها إياها منذ رسمها ‪ ،‬فقد وجدت أنها عند سعيد ستكون بأمان أكثر ‪،‬‬
‫ووجدت نفسها مرتاحة إلى هذا القرار و كتبت عليها من الخلف " إلى سعيد‬
‫•• الواحة المنة لللجئة ريم و عندما اختفت الباخرة من أمام سعيد •• أنزل‬
‫ذراعه المودعة ‪ ،‬و استدار ليغادر بنفس كسيرة ‪ ،‬ملتاعة ‪ ،‬اصطدمت قدمه‬
‫باللوحة المغلفة •• رفعها و استدار بسرعة كأنه سيتمكن من مناداة ريم‬
‫ليعطيها ما نسيت ‪ ، ،‬لكن الباخرة كانت قد ابتعدت بريم ‪ ،‬حمل اللوحة‬
‫كشيء غال ‪ ،‬أحتضنها و غادر الميناء •• *** سطح الباخرة كان المكان‬
‫المفضل لريم دائما في سفراتها إلى السعودية عندما كانت تذهب لزيارة أبيها‬
‫‪ ،‬و في هذه الرحلة كان بينها و بين السطح موعد دائم ل تقطعه إل سويعات‬
‫النوم القليلة في الكابينة المخصصة لهم ‪ ،‬و في الفجر كان ركاب السفينة قد‬
‫ألفوا منظر ريم و هي منكبة على لوحة ترسم فيها الشروق كما تراه من‬
‫هناك ‪ ،‬كانت خطوط ريم قد اكتسبت قوة و مهارة بعد سنوات الدراسة ‪ ،‬و‬
‫كان اتجاهها نحو الواقعية رغم ما واجه من انتقاد يعطي للوحاتها قيمة كبرى ‪،‬‬
‫و قد استطاعت خلل سني دراستها أن تحصل على العديد من الجوائز في‬
‫المعارض المشتركة و كان حلمها أن تصنع معرضا خاصا بها في يوم من‬
‫اليام و قد شجعها على ذلك الدكتور محمد الذي كان يشيد دوما بموهبتها و‬
‫أخبرها قبيل سفرها عن استعداده لتبني معرض شخصي لها إن هي أرادت ‪،‬‬
‫إل أن السفر أجهض هذا الحلم مؤقتا •• و أصبح لريم مع مرور الزمن‬
‫طقوسها الخاصة و عاداتها التي ل تفارقها عند الرسم ‪ ،‬فهي ل تستطيع أن‬
‫ترسم إل لو كانت إحدى الفرشات بين شفتيها في وضع مستعرض ‪ ،‬كما أنها‬
‫أصبحت تلقائيا ترتدي اللون الزرق إذا قامت لترسم ‪ ،‬و سميت مجازا لهذا‬
‫السبب بين زملء الجامعة " ذات الرداء الزرق " و كانت تختبر مزيج اللوان‬
‫على ظهر كفها قبل أن تضعه في لوحة اللوان •• لذا فقد كان منظرها مثير‬
‫للتأمل و هي ترسم لوحة الشروق عند الفجر على سطح الباخرة ‪ ،‬أما‬
‫المتــــأمـــل فقد كان رجــــل خمسينيا يرتدي بـــذلة الرياضة و يمارس‬
‫بعض السويدي على السطح ‪ ،‬استوقفه منظر ريم ‪ ،‬فاقـــترب كثيرا و لم‬
‫تشعر به تأمل المنظر و شدته براعتها و دقتها في تصويره و عندما بدأت في‬
‫مزج لون الشروق على كفها ثم استقرت على اللون النهائي و بدأت في‬
‫وضعه على اللوحة قال بسرعة ‪:‬‬
‫لو أنه أغمق لكان أفضل •• ارتاعت ريم فنظرت بسرعة لمحدثها و‬
‫أوقعت الفرشاة من بين شفتيها و قالت بسرعة ‪:‬‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم •• ضحك الرجل و هو يضرب صدره يستنشق‬
‫الهواء كأنه يشــربه و يقفز قفزات متتابعة قال ‪:‬‬
‫آسف •• هل أفزعتك ؟ كزت ريم على شفتيها مغتاظة و قالت ‪:‬‬
‫أل ترى ذلك ؟ فقال باسما ‪:‬‬
‫آسف مرة أخرى ‪ ،‬أنا عبد الرحمن ‪ ،‬رجل أعمال سعودي ‪ ،‬و اعتبر نفسي‬
‫من متذوقي الفن التشكيلي ‪ ،‬لذا أقترح أن تزيدي درجة هذا المزيج اللوني‬
‫ليتناسب مع وقت اللوحة ••ل تنسي ‪ ،‬مازال الليل يجمع فلوله •• تأملت‬
‫ريم لوحتها و دققت النظر في اللون الذي اختارته لسمائها فوجدت أنه على‬
‫حق أومأت برأسها و قالت ‪:‬‬
‫معك حق •• لبد أن يكون أكثر دكنة •• شرعت فورا في إضافة قطرة‬
‫من اللون السود على المزيج فأصبح أكثر دكنة و عندما خطت بفرشاتها على‬
‫اللوحة بدا اللون مناسبا •• توقف عبد الرحمن عن رياضته و أخذ يتأمل‬
‫اللوحة و قد شارفت على النتهاء صامتا ‪ ،‬كانت ريم قد أعادت الفرشاة‬
‫الخرى إلى فمها و بدأت تركز مجددا فيما تعمل حتى أنها نسيت أمر الرجل‬
‫الواقف بهدوء خلفها وبعد قليل ‪ ،‬رفعت الفرشاة من فمها و تنهدت بارتياح‬
‫قائلة ‪:‬‬
‫الحمد لله ‪ ،‬انتهيت •• ألتفتت فلم تجده ‪ ،‬شكت للحظة أن تكون واهمة ‪،‬‬
‫أسرعت فرفعت أدواتها و نزلت بسرعة إلى الكابينة •• *** كان العشاء هو‬
‫الوقت المفـــضل لدى ريم ‪ ،‬إذ أنهــــم كانوا يتوجهــــون إلى مطــعم‬
‫الباخرة و ينعمون بطلب المأكولت البحرية التي يجيد المطعم صنعها‬
‫فيأكلونها على أنغام موسيقى هادئة يوفرها المطعم لمرتاديه ‪ ،‬و لن ريم‬
‫فنانة أساسا فقد كان هذا الجو يمنح خيالها بعدا آخر ‪ ،‬و لم تكن أمها أو أحد‬
‫إخوتها ليقطع عليها إغراقها في الخيال و الصمت الذي تمارسه اختيارا بمجرد‬
‫استرخائها على مقعدها •• و كانت ريم قد ارتدت ثوبا بسيطا أنيقا و رفعت‬
‫شعرها فبدت أكثر وقارا و أكبر سنا •• عندما انتهت السرة من تناول وجبتها‬
‫فوجئوا بأن حسابهم مدفوع ‪ ،‬و عندما استفسروا عمن دفعه أشار النادل إلى‬
‫عبد الرحمن الذي كان طوال الوقت في الطاولة التالية لهم ‪ ،‬رفضت ريم‬
‫هذه المكرمة و أعطت للنادل نقوده و طلبت إليه أن يرد النقود إليه ‪ ،‬نهض‬
‫عبد الرحمن و توجه إليهم و حياهم بهدوء ‪ ،‬فقالت ريم شبه غاضبة ‪:‬‬
‫نرجو أل تكرر ما فعلته ثانية يا أستاذ عبد الرحمن •• فسحب كرسيا و‬
‫جلس دون دعوة منهم قائل ‪:‬‬
‫لم الغضب يا آنسة ‪ ،‬إنني رجل أعمال ‪ ،‬و ل أبعثر نقودي دون هدف أبدا‬
‫•• بدا على الم عدم الفهم و نظرت إلى ريم و قبل أن تسألها أجابت ريم‬
‫بسرعة ‪:‬‬
‫أمي إنه الستاذ عبد الرحمن ‪ ،‬رجل أعمال سعودي ‪ ،‬تعرفت إليه عند‬
‫الفجر اليوم بينما كنت أرسم لوحة الشروق •• هذه أمي ‪ ،‬و هذا أخي‬
‫قاسم ‪ ،‬و هذه أختي سمر •• ابتسم الستاذ عبد الرحمن للجميع و قدم تحيته‬
‫الخاصة لكل منهم ثم قال ‪:‬‬
‫آنسة ريم ‪ ،‬لقد أعجبتني لوحتك و أنا على استعداد لشرائها منك ••‬
‫فوجئت ريم بطلبه •• فنظرت إلى أمها و قالت ‪:‬‬
‫في الحقيقة •• في الحقيقة •• ل أعرف •• لم يسبق لي بيع إحدى‬
‫لوحاتي ‪ ،‬و هو أمر جديد كليا •• ضحك رجل العمال و قال للم ‪:‬‬
‫أحضرينا يا ماما •• فقالت الم بعد تردد ‪:‬‬
‫المر يعود لك يا ريم ‪ ،‬هي لوحتك على أية حال •• لمس رجل العمال‬
‫ترددهـــــا في اتخاذ القرار فأخــــرج بطاقة تحمل اسمه و أرقام هواتفه و‬
‫دعاها إلى التصال به عندما تستقر على رأي ‪ ،‬أخذت ريم البطاقة و راقبته و‬
‫هو يبتعد و نظرت إلى امها و إخوتها و فجأة ملت وجهها ابتسامة كبيرة و‬
‫همست ‪:‬‬
‫إنها الحياة العملية قد بدأت •• *** وصلت الباخرة إلى ميناء جدة و بعد‬
‫عدة ساعات من النزال و إنهاء الجراءات غادرت السرة الميناء في سيارة‬
‫الب ذات الموديل القديم ‪ ،‬كان الجميع سعيدا و تناثرت عبارات الشواق و‬
‫التحيات و الحكايات السريعة عن الحوال و أخبار المعارف و الصدقاء ••‬
‫كانت ريم تشعر باسترخاء كبير و سعادة فائقة لعرض رجل العمال ‪ ،‬فهي قد‬
‫جاءت لتبدأ حياة جديدة ‪ ،‬و البداية حتى الن مطمئنة و تبشر بخير وفير •• و‬
‫عندما تحلق الجميع حول مائدة العشاء كان الحديث كله لريم التي لم تأكل‬
‫قدر ما تكلمت ‪ ،‬و حكت لبيــها ماحــدث معهم في الباخرة و ما تشعر به‬
‫إزاء ذلك ‪ ،‬و سألته عن رأيه فقال ‪:‬‬
‫يجدر بك أن تتأني قبل اتخاذ أي قرار •• عليك أول بالتعرف على الوضاع‬
‫هنا و نمط المعيشة فليست السعودية كمصر ‪ ،‬هناك فروق جوهرية‬
‫ستلمسيها بنفسك و آمل أن تجدي نفسك هنا •• و كانت ريم تعرف من‬
‫خلل زياراتها السابقة إلى المملكة العربية السعودية الخصوصية التي تتمتع‬
‫بها البلد و تختلف عن أي بلد آخر •• و تدرك تماما ذلك البون الشاسع بين‬
‫حياتها في مصر و حيـــاتها في السعودية ‪ ،‬لذا تفهمت رأي أبيها جيدا و قدرت‬
‫له ما قاله و تساءلت عن البداية و كيف ستكون ••• كانت ريم تمضي جل‬
‫يومها في الرسم ‪ ،‬و كانت الحياة معها تسير على وتيرة واحدة ‪ ،‬تستيقظ في‬
‫الصباح فتتبادل مع أمها الحاديث و العمال المنزلية حتى يأتي الب من عمله‬
‫فيتحلق الجميع حول الغــــداء و يتبادلـون الحـــديث و من ثم يأخذ الجميع‬
‫قيلولتهم و عند الخامسة يتجه الب إلى عملــــه ثانية و تبدأ الم في متابعة‬
‫البرامـــج التــــلفازية و تستغرق ريم في الرسم حتى يعود الب •• و كان‬
‫يمكن أن تظل حياتهم على هذا النسق لول التغير المفاجيء الذي حدث معهم‬
‫عندما قرر كفيل الب أنه بحاجة لخدماته في الرياض العاصمة ‪ ،‬و لم يكن‬
‫بوسع الب أن يرفض هذا القرار فهو في البداية و النهاية يسعى وراء‬
‫عيشـــه و عيش أسرته وفــــق المتــــاح ‪ ،‬و هكذا لملمت السرة حاجياتها و‬
‫انطلقوا إلى الرياض بعد أن سافر قاسم إلى مصر لتمام تعليمه في كلية‬
‫الهندسة مصحوبا بالنصائح و الدعوات •• يرافقه قلق الب و الم على غربته‬
‫وحيدا •• *** في الرياض استطاع الب أن يجـــد سكنا عائليا رخيصا في‬
‫منطقة يتجمع فيها الجانب و من النادر أن تعيش فيها أسرة سعودية ‪ ،‬كانت‬
‫عمارة سكنية قديمة يعيش فيها أخلط مختلفة و جنسيات عديدة من سوريا‬
‫و السودان و مصر و اليمن ‪ ،‬استقرت السرة في شقتها و بدأت في التعرف‬
‫على جيرانها فاختلفت قليل يوميات ريم إذ بدأت في الختلط بجيرانها و‬
‫التعرف من خللهم أكثر على مجتمع الرياض و فــــرص العمل و الحياة فيه ‪،‬‬
‫و كانت موهبة ريم أمر رئيسي في اتســـــاع رقعة معارفها هناك ‪ ،‬إذ تبــادل‬
‫الصـــــدقاء و المعارف أنباء هذه الفنانة فكانت تتعرف كل يوم على وجه‬
‫نسائي جديد و كانت تستقبل طلباتهن بترحيب كبير خاصة عندما يتعلق المر‬
‫برسم وجه طفل لهذه ‪ ،‬أو طفلة لتلك ‪ ،‬و لم تكن تتقاضى أي أجر على‬
‫عملها إذ كانت تعتبره من قبيل تمرين اليد حتى ل تصدأ مع مرور الزمن •• و‬
‫في غضون ذلك استطاعت ريم أن تتعرف أكثر على الجو العام للمدينة من‬
‫خلل الصحف و المجلت المحلية التي كانت حريصة على تصفحها و قراءتها‬
‫عندما يأتي بها الب مساًء •• في ذلك الوقت تحــــديدا بدأت انتفاضة أطفال‬
‫الحجارة في فلــــسطين و كـــانت الصحف و المجلت و نشرات الخبار‬
‫مليئة دوما بأخبارهم و صورهم ‪ ،‬و كانت ريم مع أبيها أكثر المهتمين بالحديث‬
‫حول هذا الموضوع صباحا و مساًء و كم تمنت ريم لو استطاعت المشاركة‬
‫في دعم النتفاضة المباركة بأي عمل وواتتها الفرصة عندما شاهدت عبر‬
‫مجلة الخدمات المرئية في التلفاز السعودي دعوة من جمعية الثقافة و‬
‫الفنون لجميع الفنانين العرب للشتراك في معرض عن أطفال الحجارة ‪،‬‬
‫شعرت للحظة أن هذه الدعوة موجهة لها شخصيا ‪ ،‬فوظفت طاقاتها الفنية‬
‫لهذا العمل ‪ ،‬و شرعت فورا في الرسم •• و عندما انتهت كان ما رسمته‬
‫جميل بحق فقد رسمت صورة طفل يقتلع جبل ليقذف به عدوا يرتجف •• و‬
‫اتصلت ريم على الجمعية و أخبــرتهم بأن لديها مشاركة ‪ ،‬طلبوا إليها إرسالها‬
‫مع أبيها و انتظار ردهم •• و لم يتأخر الرد و ذات صباح حمل إليها رنين‬
‫الهاتف البشرى بقبول لوحتها ضمن أعمال الجمعية المتميزة ‪ ،‬و علمت فيما‬
‫بعد أن هذا المعرض سيشارك في أكثر من دولة على مستوى العالم دعما‬
‫للنتفاضة الفلسطينية •• في المساء عندما جمعتهم الجلسة بعد العشاء‬
‫تنهدت ريم و قالت دون أن تخص أحدا بكلمها ‪:‬‬
‫و بعد ؟ عم الصمت الجلسة فلم يكن أيا منهم يملك الرد ‪ ،‬إل أن الم‬
‫قالت بعد فترة ‪:‬‬
‫لما ل تقدمين أوراقك للعمل في أي مدرسة كمعلمة رسم ؟ لم تجد‬
‫الفكرة قبول لدى ريم إل أنها قالت ‪:‬‬
‫و لم ل •• و لكن هل نسيت شهادتي يا أمي ؟ إنني لم أحصل عليها بعد‬
‫•• تنهدت الم وعادت للصمت فقال الب ‪:‬‬
‫يؤسفني يا ابنتي أنني لن أتمكن من تسديد مصاريفك للحصول على‬
‫الشهادة فالمبلغ الذي يحتاجه قاسم كل عام ضعف المبلغ الذي تحتاجينه و‬
‫ليس بمقدوري الحصول على مال يكفي الجميع ليس قبل عامين عندما ننتهي‬
‫من تعليم قاسم •• ابتسمت ريم و قالت لبيها ‪:‬‬
‫يكفيك ما عانيت يا حاج ‪ ،‬كان علي أنا أن أدبر المبلغ ‪ ،‬لكن كما ترى ل‬
‫يوجد عمل لمن تحمل مؤهلي •• فقالت الم على الفور ‪:‬‬
‫ألم تعرض عليك جارتنا السودانية أمل عمل قبل يومين •• أجابت ريم‬
‫مستنكرة و قالت ‪:‬‬
‫يا أمي العمل في سوق نسائي كبائعة طوال اليوم ليس بالعمل الذي‬
‫يناسبني ‪ ،‬ل تنسي أنني ل أتقن فنون البيع ‪ ،‬بالضافة إلى أن أجرة هذا العمل‬
‫ضئيلة جدا قياسا على تعبه ‪ ،‬إنني بعد يوم عمل في السوق لن أتمكن من‬
‫الرسم ساعة واحدة •• هزت الم رأسها و همست ‪:‬‬
‫أمر الله •• فقال الب ‪:‬‬
‫أتركي ريم في حالها يا سميحة ‪ ،‬لم نعلمها لتصبح بائعة •• فقالت الم و‬
‫هي تتأهب للدفاع عن وجهة نظرها ‪:‬‬
‫اسمع يا جهاد و أنت يا ريم ‪ ،‬ل يقدر على القدرة إل الله ‪ ،‬و هذا هو المتاح‬
‫حتى تستطيعي تحرير شهادتك من الجامعة بمصر ‪ ،‬صحيح هو قليل لكنه‬
‫عندما يدخر سوف يكون المبلغ المطلوب ‪ ،‬هذا من ناحية ‪ ،‬و من ناحية أخرى‬
‫العمل في السوق سوف يجعلك تعرفين أناسا جددا و مستويات مختلفة وقد‬
‫تجدين فرصتك يوما ‪ ،‬ل شيء بعيد على الله ‪ ،‬بدل من هذه الدائرة المفرغة‬
‫التي ندور فيها و ل نعرف طريقا للخروج منها •• بدا القتناع على وجه ريم ‪،‬‬
‫و نفث الب دخانه و قال ‪:‬‬
‫يبدو كلما منطقيا •• لكنه شديد القسوة •• تنهدت ريم و قالت ‪:‬‬
‫ل نملك إل المضي فيه ‪ ،‬غدا أكلم أمل إن شاء الله •• *** التحقت ريم‬
‫بالعمل مطلع السبوع التالي مباشرة ‪ ،‬و كانت قد قابلت صاحبة السوق‬
‫النسائي مقابلة شخصية و قبلتها المرأة بعد أن عرفت ظروفها و تقرر لها أن‬
‫تعمل كبائعة في محل للدوات المنزلية براتب شهري قدره ‪ 058‬ريال سعوديا‬
‫•• و في اليوم الول لعملها عرف الجميع موهبتها عندما أعادت ترتيب‬
‫الدوات المتناثرة بذوق عالي و استخدمت ابتسامتها الساحرة في استقطاب‬
‫عميل ت للمحل و انشغلت بعملها الجديد حتى إنها كانت ل ترى إل منكبة‬
‫على لوحات ورقية تكتب عليها ما يتميز به محل الدوات المنزلية من‬
‫تخفيضات و فرص ذهبية للمشتريات •• و ذلك المساء عندما عادت ريم من‬
‫عملها كان يبدو عليها الملل و الرغبة في البكاء فسارعت الم إلى إعطائها‬
‫رسالة وردت من ليبيا باسمها و أحضرها الب معه ظهرا ‪ ،‬أمسكت‬
‫المظروف و قالت بل مبالة ‪:‬‬
‫إنه من سهيل •• كانت كلمات الرسالة قليلة و مقتضبة و فيها خبر واحد‬
‫هام هو أن سهيل سيأتي إلى السعودية بعد شهرين للعمل في الرياض بعد‬
‫أن توفرت له فرصة عمل كان ينتظرها •• أبلغت ريم أمها بما في الرسالة‬
‫فقالت الم ‪:‬‬
‫أعرف ما بك ‪ ،‬فلن أسألك •• قالت ريم ‪:‬‬
‫يكاد الملل يقتلني ‪ ،‬نفس العمل بنفس الطريقة كل يوم ‪ ،‬حتى العبارات‬
‫التي أتبادلها مع زبائني هي نفسها ‪ ،‬البضائع متشابهة و الوجوه متشابهة ‪ ،‬و‬
‫أصابعي أصابها الصدأ ‪ ،‬هل تعرفين يا أمي منذ متى لم أرسم ؟ قالت الم و‬
‫هي تنصرف ‪:‬‬
‫سأعد لك العشاء ‪ ،‬لبد أنك جائعة •• تنهدت ريم و استلقت على فراشها‬
‫و همست ‪:‬‬
‫كم أتوق الى التغيير •• *** لم تكن الم بحاجة إلى أن تسمع من ريم‬
‫أحوالها ‪ ،‬فهي على اطلع دائم على يومياتها ‪ ،‬تعرفها منها و تكاد تحفظها ‪ ،‬و‬
‫هي تعلم أن ابنتها هجرت الرسم لن عملها يتطلب منها الوقوف على قدميها‬
‫الساعات الطوال و إرهاقها خلله كان يدفعها إلى الفراش دفعا بمجرد عودتها‬
‫‪ ،‬تعلم أن ريم لم تعد تواجه لوحتها إل لتخط عبارات دعائية مزخرفة الركان‬
‫و الحواشي منذ ما يقرب من ثلثة شهور ‪ ،‬و تعلم أن ريم غير راضية عن‬
‫عملها هذا ‪ ،‬إل أنها عاهدت نفسها على أل تتـــحدث مع ريم في هــــذا‬
‫الموضوع لئل تثبط همتها و تدفعها لجترار ضيقها فيتضخم حد المأساة ‪ ،‬كانت‬
‫الم ترى أن هذا الوضع بداية انفراج رغم ما يكتنفه من ضيق ‪ ،‬فهي منذ ثلثة‬
‫شهور تجمع راتب ريم و تضعه في علبة داخل خزانة ملبسها و ل تمد يدها‬
‫إلى قرش فيه رغم احتياجهم أحيانا إلى بعضه ‪ ،‬و رغم إصرار ريم على أن‬
‫يساهم راتبها في مصاريف البيت ‪ ،‬لكن الم كانت ترفض و تجبر نفسها و‬
‫ابنتها على عدم صرف أي قرش منه ‪ ،‬و أصـــبحت ريم تتجــــاهل كونها في‬
‫سوق و تتعرض لمغريات شراء عالية كل يوم فهي تعمل مؤقتا من أجل‬
‫هدف واحد و ل بد من تحقيقه مهما كلفها المر من صبر •• هذا من ناحية‬
‫ريم ‪ ،‬أما سمر و التي كانت قد بلغت العاشرة من عمرها فقد تمكنت الم‬
‫من الحاقها بمدرسة إبتدائية في حيهم لستكمال دراستها التي بدأتها في‬
‫مصر ‪ ،‬و كان قاسم قد أرسل إليهم بانتهاء الفصل الدراسي الول للسنة‬
‫الثالثة بكلية الهندسة ‪ ،‬و لما كانت السرة ل تستطيع تحمل نفقات سفره‬
‫فقد تقرر أن يظل في مصر فترة الجازة ‪ ،‬إل أن هذا المر وقف أمامه عائق‬
‫القامة فلقاسم إقامة في مصر و إقامــــة في السعودية و إذا مرت ستة‬
‫شهور على أي القامتين دون أن يدخل صاحبها البلد سقطت و تعذر عليه‬
‫العودة مجددا ‪ ،‬لذا فقط اضطرت السرة إلى ضغط نفقاتها و استعمال بعض‬
‫من مدخرات ريم لكي يتمكن قاسم من الحضور بواسطة الحافلة إلى‬
‫الرياض ‪ ،‬و بدا أن السرة قد نظمت أمورها و استجابت لظروفها متقبلة كل‬
‫ما يجري عليها في سبيل أن يحمل كل فرد فيها سلحا ضد مستقبل مجهول‬
‫•• *** عندما جاء قاسم في زيارته القصيرة استقبلته ريم استقبال خاصا ‪،‬‬
‫فربما كان مجيئه يحمل تغيرا تتوق إليه و لو في شكل خبر مفاجيء ‪ ،‬أو قصة‬
‫طريفة ‪ ،‬أو حتى خبر محزن ‪ ،‬المهم أن تتحرك مشاعرها سلبا او إيجابا ‪،‬‬
‫لتشعر أنها مازالت تعيش •• كان قاسم متفهما تماما لما تشعر به أخته ‪،‬‬
‫فهو يعــرف أن روحها الوثابة ترفض الرتابة ‪ ،‬و تتحرى مواطن التحدي‬
‫لتقتحمها ‪ ،‬و الحياة في المملكة العربية السعودية تتسم بالوداعة و التكرار‬
‫خاصة لمن في مثل ظروفها تحمل روح فنانة و تعمل في غير مجالها ‪ ،‬لذا‬
‫عندما انتهى بهما المطاف آخر اليوم وحدهما قالت له ريم بلهفة ‪:‬‬
‫حدثني عن أهل مصر ‪ ،‬حدثني عن زملء الجامعة و عن سعيد و عن‬
‫سوسن و حتى عن سيد ‪ ،‬حدثني عن الشوارع و المحلت و المواصلت و‬
‫السماء و الرض و الحواري و بيتنا ‪ ،‬حدثني عن غرفتي و عن مطبخنا و عن‬
‫منظر القمر من نافذتي •• حدثني يا قاسم عن كل شيء مهما بدا تافها في‬
‫نظرك فإنه يعنيني ‪ ،‬يهمني •• قل يا أخي ‪ ،‬قل •• ابتسم قاسم متفهما و‬
‫كان شاربه الكث الذي يشبه شارب أبيه قد فرض على شخصيته وقارا كبيرا‬
‫و قال ‪:‬‬
‫اسمعي يا ريم ‪ ،‬أنا أعرف علة شوقك إلى الخبار التافهة ‪ ،‬إنه الملل ‪ ،‬أنت‬
‫لم تستطيعي بعد أن تتكيفي مع الوضع هنا ‪ ،‬لم تستطيعي أن تخلقي منه‬
‫واقعا تتعايشين معه ‪ ،‬التقصير منك يا ريم ‪ ،‬أعذريني ‪ ،‬لكنك أختي و أنا‬
‫منزعج من الحالة التي وصلت إليها •• و تهز ريم رأسها و تقول بألم ‪:‬‬
‫أنا أعرف أنك صادق فيما تقول لكنني ل أملك تغير واقعي ‪ ،‬كل ما حلمت‬
‫به أنهار فجأة ‪ ،‬أنا في النهاية بائعة في محل للدوات المنزلية ‪ ،‬أسعى من‬
‫أجل تحرير شهادة لعمل بها معلمة رسم ‪ ،‬ل هذا و ل ذاك هو ما أتمنى ‪،‬‬
‫أصابعي علها الصدأ لم أرسم شيئا منذ ثلثة شهور أو يزيد ‪ ،‬ماذا أفعل يا‬
‫أخي ‪ ،‬ماذا أفعل ؟ نهض قاسم من مكانه و تصفح بسرعة حامل الرسم ‪،‬‬
‫وجد عدة ورقات بيضاء فوق لوحة الشروق التي رسمتها على ظهر الباخرة ‪،‬‬
‫أزاح الورقات البيضاء و قال لريم ‪:‬‬
‫لقد دفنتي ريم خلل هذه الشهور مثلما دفنت الشروق خلف هذه الوراق ‪،‬‬
‫أين ريم التي كان الوطن عندها سؤال بل إجابة ‪ ،‬يعذبها البحث عنه ‪ ،‬و يقويها‬
‫البحث عنه ‪ ،‬أين الوطن الن في مساحة تفكيرك و اهتمامك يا ريم ؟ ••‬
‫نكست ريم رأسها أرضا و لم تجب ‪ ،‬صدق أخيها في كل ما قال و لكن ماذا‬
‫تفعل ‪ ،‬هذا السؤال بدا عميقا في عيونها و هي ترفعها متسائلة إلى قاسم‬
‫••عاد قاسم فجلس بجوارها ‪ ،‬أمسك يدها و قال ‪:‬‬
‫ريم ‪ ،‬كوني عملية أكثر ‪ ،‬أنت تريدين ريم الفنانة ‪ ،‬و ترفضين ريم البائعة ‪،‬‬
‫أو معلمة الرسم ‪ ،‬إذن اسعي في طريق ذلك ‪ ،‬وفق إمكانياتك المتاحة ‪ ،‬أنت‬
‫في سوق نسائي ‪ ،‬مجال الديكور المنزلي و لوحات الحائط فيه سيكون‬
‫أفضل من السواق المفتوحة ‪ ،‬لن الفن يتطلب عيونا متأملة و فنانا يقدر ما‬
‫يقوم به ‪ ،‬ابدئي بركـــن في المحــــل الذي تعمــلين به و عندما يتيسر لك‬
‫دخل مناسب حاولي استئجار محل خاص بك ‪ ،‬حاولي أن تقدمي خدمة‬
‫متميزة ‪ ،‬ل تقصري نشاطك على رسم اللوحات فقط ‪ ،‬ادرسي السوق و‬
‫احتياجات الناس و ابدئي فورا •• هل تفهمين ؟ أومأت ريم برأسها تفهما و‬
‫لكنها قالت ‪:‬‬
‫و لكن متى يا أخي ‪ ،‬إنني أعمل يومـــيا في المحل مــنذ الرابعة و النصف‬
‫حتى التاسعة و النصف أعود منهكة أريد فقط أن أنام ‪ ،‬و في الصباح ل يشجع‬
‫الجو على العمل ‪ ،‬فالحرارة مرتفعة و المنزل مطروق و الجارات يزرننا و‬
‫أعمال المنزل العادية تستغرقنا ‪ ،‬إذن متى يمكنني عمل أي شيء خلق و‬
‫كيف ؟ فقال قاسم بعد فترة صمت ‪:‬‬
‫لو أنك أردت لستطعت ‪ ،‬كان بمقدورك دوما أن تفعلي ‪ ،‬إنها مشكلتك و‬
‫أنت من يجب أن يحلها •• خططي لهدف ‪ ،‬هذا هو الهم ‪ ،‬أن يكون لديك‬
‫هدف ‪ ،‬يمكنك أن تجعليه على مراحل كل مرحلة هدف لكي تصلي إلى‬
‫الهدف الكبر في النهاية ‪ ،‬المهم لوني حياتك ياذات الرداء الزرق •• تركها‬
‫قاسم في حيرة و مضى ليستريح ‪ ،‬كانت قد سهرت كثيرا الليلة بسبب عودة‬
‫قاسم ‪ ،‬و كان عليها أن تكون نائمة قبل ساعات من الن ‪ ،‬لكنها عوضا عن‬
‫النوم ‪ ،‬اتجهت إلى حامل الرسم ‪ ،‬تطلعت إليه مليا ‪ ،‬داعبت بأصابعها أركانه و‬
‫زواياه ‪ ،‬غطته بكفها و دارت بها على كل الحامل ‪ ،‬كانت تشعر بحنين إليه ‪،‬‬
‫مدت يدها و أمسكت فرشاتها ‪ ،‬علب اللوان ‪ ،‬اللوحات البيضاء ‪ ،‬احتضنتهم‬
‫ما وسعــها و قالت بصــوت دافيء ‪ ،‬كأنها تشده من الماضي ‪:‬‬
‫كم أشتقت إليكم يا أعزائي •• عندما استيقظ الب لصلة الفجر ربط بين‬
‫الضوء في غرفة ريم و عودة قاســم ‪ ،‬هز رأسه و همس ‪:‬‬
‫لبد أنها الحكايات سرقتهما •• لكنه عندما دخل الغرفة لم يجد قاسم ‪،‬‬
‫وجد ريم أمام حامل الرسم ‪ ،‬كانت نائمة ‪ ،‬الفرشاة مازالت بين شفتيها ‪ ،‬و‬
‫الفرشاة التي ترسم بها على الرض بجوار ذراعها المدلة •• توجه إليها‬
‫بهدوء ليقاظها ‪ ،‬لكن اللوحة التي كانت تعمل فيها شدته ‪ ،‬تأملها كانت عبارة‬
‫عن منظر ضبابي لعيون تتطلع بشغف نحو العلى من خلل سحابات بيضاء‬
‫كثيفة تغطي تلل بعيدة ‪ ،‬للحظة داخل الب إحساس بأنه يعرف لمن هــذه‬
‫العيون ‪ ،‬همس بإعجاب ‪:‬‬
‫الله •• الله •• انتبهت ريم من غفوتها فزعة ‪ ،‬وعندما رأت أباها همست ‪:‬‬

‫أبي ••؟ قال الب و هو مازال يطالع اللوحة ‪:‬‬


‫مرحى يا ريم ‪ ،‬لقد عدت من غربتك مجددا •• أفاقت تماما و استوعبت‬
‫المعنى وراء العبارة ‪ ،‬ابتسمت بهدوء و قالت ‪:‬‬
‫إن هي إل محاولة ••‬
‫ناجحة ‪ ،‬ناجحة تماما يا ريم •• نهضت ريم و هي تقول ‪:‬‬
‫الفضل بعد الله لقاسم ‪ ،‬كم كنت بحاجة لمن يذكرني بأنني مازلت على‬
‫قيد الحياة •• قال الب و ابتسامته تنسحب و إحساس بالذنب يلفه ‪:‬‬
‫غلطتنا يا ريم ‪ ،‬نحن من شجعنا اغترابك عن نفسك •• بسرعة و حنان‬
‫ردت ريم ‪:‬‬
‫ل تقلها يا أبت ‪ ،‬بالعكس لقد استفدت كثيرا من الفترة السابقة ‪ ،‬ل يمكن‬
‫أن أظل بعيدة عن الواقع ‪ ،‬و أعيش في جزيرة أحاسيسي فقط ‪ ،‬كان لبد‬
‫من معاشرة الواقع ‪ ،‬من معرفة العالم من حولي ‪ ،‬الخطأ الوحيد هو أنني‬
‫عرفت و لم أتعلم ‪ ،‬قاسم أرشدني و أعتقد أنني الن اكثر قدرة على تحويل‬
‫واقعي إلى الوجهة الصحيحة التي تتيح لي الستفادة منه في ضوء إمكانياتي‬
‫•• تطلع إليها الب بفخر و قال باشفاق ‪:‬‬
‫كبرت يا ريم •• ابتسمت و قالت ‪:‬‬
‫لم أعد ريم الصغيرة يا أبي •• لبد من التغيير على أية حال •• *** في‬
‫اليوم التالي بدأت ريم مباشرة في تنفيذ ما اتفقت عليه مع أخيها ‪ ،‬إذ شرعت‬
‫في اعادة ترتيب المحل و فرغت ركنا خاصا للوحات التي ترسمها ووضعت‬
‫حامل رسم خاص في زاوية منه ‪ ،‬و لم يمض يومان حتى كان هذا الركن‬
‫الخاص من أجـــمل الركان في المحل و أكثرها اجتذابا لزائرات السوق ‪،‬‬
‫ووجدت ريم لنفسها متعة أخرى عندما بدأت بعض السيدات في سؤالها عن‬
‫المعنى الخر للوحات ‪ ،‬و كانت تشرح بحماس و تقدم خلل شرحها معلومات‬
‫إضافية عن قيمة العمل الصلي ‪ ،‬و أشياء كثيرة كانت دهشتها عظيمة عندما‬
‫ضبـــطت نفسها تقولها ‪ ،‬إذ أن إقبـــال السيدات عـــلى الشراء بعـــد‬
‫الحديث معــــها و اتفاقهن على لوحات أخرى لم يكن له من معنى آخر غير‬
‫أنها نجحت •• استرعى الزحام غير التقليدي على محل ريم انتباه زميلتها‬
‫بالسوق من مختلف البائعات ‪ ،‬و عندما استطلعن المر و عرفن الخبر وجدت‬
‫صاحبة السواق من تترك عملها و تذهب إليها خصيصا لتخبرها أن ريم تعمل‬
‫لحسابها الخــاص في المحـــل الذي تقف فيه ‪ ،‬و يبدو ان طريقة توصيل هذه‬
‫المعلومة كانت قوية بالقدر الذي دفع صاحبة السواق إلى استدعاء ريم على‬
‫عجل و مبادرتها فور دخولها ‪:‬‬
‫ريم هل أفتتحت لنفسك ركنا خاصا بك في محلي ؟ فوجئت ريم بالمباشرة‬
‫في السؤال فــلم تعلق مـــباشرة ‪ ،‬فأعـــادت المرأة الســــؤال علــــيها و‬
‫أمهلتها حتى استجمعت شجاعتها و ردت عليها قائلة ‪:‬‬
‫إذا كان ما تقصدينه هو ركن الفن التشكيلي فهذا صحيح •• قالت صاحبة‬
‫السواق بحدة ‪:‬‬
‫هل تعرفين معنى أن تفتتحي لنفسك ركنا خاصا بك دون علمي ؟ فقالت‬
‫ريم بدهشة ‪:‬‬
‫ركنا خاصا بي ؟ فقالت المرأة ‪:‬‬
‫بالطبع ‪ ،‬هو ركن تجاري يعود بالنفع عليك وحدك ‪ ،‬هكذا و بدون استئذان‬
‫حتى •• أين تعتقدين نفسك ؟ في سوقك ‪ ،‬أم أنك صدقت أن المحل لك ؟‬
‫قالت ريم و قد أربكتها لهجة التأنيب الحادة ‪:‬‬
‫يا سيدة أم سعد ‪ ،‬أنا لم أعتقد في أية لحظة ما تقولينه ‪ ،‬و ل يعدو المر‬
‫تنفيذ فكرة تعود بالنفع على المحل و تستقطب له زبائن أكثر ‪ ،‬و هذا ما‬
‫حدث بالفعل •• هزت أم سعد رأسها رافضة تفهم ما حدث و قالت ‪:‬‬
‫ريم أنت لم تكوني أمينة على المحل الذي وضعتك فيه ‪ ،‬لذا أطلب إليك‬
‫بهدوء أن تغادري المحل و ل تعودي إليه ثانية •• كانت الدموع تتدافع من‬
‫عين ريم و هي تشعر بمذلة و إحباط كبيرين ‪ ،‬و تذكرت مثل هذا الشعور و‬
‫كم مر بها في مناسبات سابقة ‪ ،‬غادرت منزل أم سعد و هي مقتنعة أن ل‬
‫حظ لها أبدا في هذه الحياة •• توجهت إلى السوق ‪ ،‬لملمت أغراضها و‬
‫أغلقت دكانها و سارت بهدوء بين عيون الزميلت اللواتي تعاطف بعضهن‬
‫معها و تحدثن معها مواسيات مستفسرات مستنكرات و تحدثت إحدي‬
‫البائعات قائلة ‪:‬‬
‫كان من واجبك استشارتها قبل القدام على هذه الخطوة يا ريم •• أنت‬
‫مخطئة طبعا •• من أقصى السوق جاءتها عميلة تركض ‪ ،‬قالت بسرعة و‬
‫هي تلتقط أنفاسها ‪:‬‬
‫لم أصدق ما حدث ‪ ،‬هل حقا أنت راحلة ؟ ابتسمت ريم و أومأت إيجابا‬
‫فقالت المرأة ‪:‬‬
‫هل يمكن أن آخذ رقم هاتفك ‪ ،‬سأحتاج موهبتك قريبا •• أعطتها ريم‬
‫الرقم و غادرت السوق و لم تعد إليه ثانية •• *** كان قاسم أكثر أفراد‬
‫اسرتها تألمــا مما حدث معها و اعتبر نفسه سببا مباشرا فيما حدث و قال‬
‫لها ‪:‬‬
‫كان يجب ان نتدارس المشروع من كافة جوانبه ‪ ،‬لقد أغفلنا أهم‬
‫الجوانب ‪ ،‬صاحبة السوق من حقها أن تعرف ‪ ،‬و لن يكون ظلما لو أخذت‬
‫نسبة من المبيعات أيضا ‪ ،‬فالمحل محلها •• قالت ريم و هي تغص بدموعها ‪:‬‬

‫لم تترك لي فرصة لشرح لها حسن نيتي ‪ ،‬لم تدع لي مجال للتفاهم‬
‫معها ‪ ،‬كانت قاسية جدا ‪ ،‬للحظة اتخذت ملمحها ملمح كل من ظلمني يوما‬
‫•• أنا فاشلة ‪ ،‬ل حظ لي في هذه الحياة •• قالت الم و هي تراقب ريم‬
‫مغتاظة ‪:‬‬
‫إنها وشاية يا ريم ‪ ،‬لبد في المر وشاية •• رفعت ريم رأسها و قالت‬
‫مستنكرة ‪:‬‬
‫وشاية ؟ و لماذا أتعرض لوشاية من أحد ‪ ،‬إن علقتي بالبائعات جيدة و ل‬
‫أعتقد أن لحداهن مصلحة في طردي •• تنهدت الم و قالت بحزم ‪:‬‬
‫ستظلين طوال عمرك بلهاء •• تنظرين للناس بعين طبعك ‪ ،‬تعتقدين أنهن‬
‫كلهن طيبات و محبات •• ألم تسمعي يوما عن الغيرة ‪ ،‬الحقد ‪ ،‬التنافس غير‬
‫الشريف ‪ ،‬هذا بالتأكيد ما تعرضت له يا ابنتي ‪ ،‬و عليك أن تعرفي من هي‬
‫التي وشت بك عند أم سعد •• فقال قاسم بسرعة ‪:‬‬
‫يا أمي و ما الفائدة ؟ لماذا نحمل ريم فوق طاقتها و نفتح لها نوافذ على‬
‫عيوب البشر ‪ ،‬دعيها في اعتقادها و دائما لن يصيبها إل ما كتب الله لها •• و‬
‫قالت ريم ‪:‬‬
‫هل تظني يا أمي أنني حقا بلهاء ‪ ،‬إنني احاول أن أراجع مواقفهن معي فل‬
‫أجد فيهن من أستطيع اتهامها ‪ ،‬لقد كنت دوما صديقة للجميع ‪ ،‬و لم يحدث‬
‫أن طلبت مني إحداهن خدمة ولم أؤدها لها ‪ ،‬لقد ساعدت معظمهن على‬
‫إعادة ترتيب محلتهن ‪ ،‬ووقفت بدل عن من تخرج مبكرا لظرف طاريء‬
‫منهن ‪ ،‬و كنت أوجه زبائني إلى محلتهن عندما أعرف رغبة إحداهن في شراء‬
‫شيء لديهن ‪ ،‬حتى المشاكل التي قد تحدث بين البائعات كنت أساهم دوما‬
‫في حلها و ترضية الطراف ‪ ،‬فلماذا أقابل بالشر و قد بدأتهم بالخير ؟ قالت‬
‫الم و هي تنظر بشفقة لبنتها ‪:‬‬
‫من أجل كل هذا يا ابنتي •• من أجل الخير الذي يمل قلبك ‪ ،‬لبد أن منهن‬
‫من حسدتك على خيرك و عطائك ‪ ،‬لبد أن هناك من تمنت موقعك في‬
‫السوق و تمنت لو أن خير قلبك و عطاءك يكون لديها ‪ ،‬هذا ل شك فيه •• و‬
‫عندما ظهرت موهبتك سافرة أمام العيون اشتعل الحسد في القلوب‬
‫المريضة و كانت هذه النتيجة •• فقالت ريم ‪:‬‬
‫و لكن يا أمي هذا يعني أن الشر انتصر •• فقال قاسم على الفور ‪:‬‬
‫إلى حين يا ريم ‪ ،‬الشر قد يكسب جولة ‪ ،‬و لكن الخير له النصر الخير ••‬
‫همست ريم ‪:‬‬
‫أتعتقد هذا حقا ؟ هز رأسه إيجابا و قالت الم ‪:‬‬
‫بل هو أكيد •• *** لم تمض على هذه المحادثة أيام قليلة حتي جاء الفرج‬
‫بشكل لم تتوقعه ريم أبدا عبر مكالمة هاتفية من صاحبة أسواق نسائية أخرى‬
‫في منطقة أكثر رقيا عرفت بنفسها قائلة ‪:‬‬
‫أنا أم عبد الله ‪ ،‬سمعت عنك كثيرا من بعض عميلتي ‪ ،‬و رأيت أيضا عملك‬
‫الفني لدى إحداهن ‪ ،‬و لذا فإنني أطلب إليك ــ خلفا للعادة ــ أن تأتي إلى‬
‫السوق غدا لنتحدث بشأن مشروع أفكر به ‪ ،‬إذا كان يناسبك •• قالت ريم‬
‫بحماس ‪:‬‬
‫بالطبع ‪ ،‬سآتي ‪ ،‬غدا ‪ ،‬غدا أكون لديك إن شاء الله •• عندما وضعت ريم‬
‫السماعة كان لديها يقين بأن الله معها ‪ ،‬و عندما شرحت لمها ماحدث دعت‬
‫لها بالتوفيق و قال قاسم ‪:‬‬
‫آمل أن أطمئن عليك قبل سفري ‪ ،‬سيكون من دواعي سروري أن أحمل‬
‫عنك أخبارا طيبة لمن ينتظرون أخبارك •• سألته ريم باسمة ‪:‬‬
‫و من الذين ينتظرون أخباري يا قاسم ؟‬
‫كثيرون يا ريم ‪ ،‬كما تتلهفين على الخبار يتلهفون •• قالت ريم بحذر ‪:‬‬
‫الستاذ سعيد ؟ ضحك قاسم و قال ‪:‬‬
‫سعيد ‪ ،‬ياله من رجل !! ‪ ،‬أتعرفين لقد أقمت عنده فترة أسبوعين على‬
‫القل ‪ ،‬أصرعلى أن أعيش معه ليتمكن من خدمتي و عندما أثبتت اليام أنه ل‬
‫يتقن الطهي آثرت العودة إلى منزلنا و خرجت و لن أعود •• قالت ريم‬
‫مندهشة ‪:‬‬
‫عشت مع سعيد ؟ لم تخبرنا من قبل بهذا المر ••‬
‫ل جديد فيه ‪ ،‬سعيد يعيش بمفرده و أعيـــش بمفردي ‪ ،‬و ل فــــرق في‬
‫أن أســــكن عــنده أو يسكن عندي ‪ ،‬الحياة اختلفت كثيرا يا ريم ‪ ،‬البيت‬
‫بدونكم مقفرا ‪ ،‬أحيانا أجد نفسي متجها تلقائيا لديه أمارس معه لعبة العائلة‬
‫المفضلة في تفريغ الهموم ‪ ،‬و أحيانا أخرى أجده يأتي إلي ‪ ،‬عزاب يا أختي‬
‫ماذا تتوقعين ؟ قالت ريم بإعزاز ‪:‬‬
‫هذا المخلوق •• كم أتعبناه معنا و لزلنا ‪ ،‬إنه إنسان نادر ••‬
‫هو يراك نادرة أيضا ••‬
‫أنا ؟‬
‫نعم ‪ ،‬يضع لوحة لجئة فوق فراشه و كلما وقعت عيناه عليها بادر بارسال‬
‫التحية ‪ ،‬بالمناسبة لقد تلقى عرضا مغريا لبيع اللوحة قبل مقدمي بيوم ‪ ،‬زاره‬
‫شخص غريب قال إنه صاحب صالة فنون تشكلية و يريد شراء هذه اللوحة‬
‫منه •• بلهفة قالت ريم ‪:‬‬
‫و هل وافق؟ فقال قاسم بلمبالة ‪:‬‬
‫اقترحت عليه أن يوافق فالرجل يعرض ثروة ‪ ،‬و لكنه فيما يبدو لم يوافق‬
‫•• ل أدري ‪ ،‬انشغلت بأمور السفر و لم أعرف التفاصيل •• همست ريم ‪:‬‬
‫لن يبيع اللوحة ‪ ،‬لو فعل لن يكون سعيد الذي عرفت •• *** كان عرض‬
‫أم عبد الله مفاجأة لريم بكل المقاييس ‪ ،‬لقد عرضت عليها محل مستقل في‬
‫سوقها ‪ ،‬يؤثث كامل للفن التشكيلي ‪ ،‬يبدأ بلوحات لها و تدريجيا يضم لوحات‬
‫أخرى لفنانين أخر ‪ ،‬تنفذ فيه أعمال تشكلية وفق رغبة العميلت ‪ ،‬و يلحق به‬
‫فرع خاص للطارات و تغليف الهدايا ‪ ،‬و طلبت منها أن تعرض عليها أي فكرة‬
‫جديدة قد تخدم المحل ‪ ،‬او خدمة في هذا الطار تحتاجها العميلت ‪ ،‬و ذلك‬
‫مقابل المناصفة في الرباح ‪ ،‬عرض خيالي لم تكن ريم تتوقعه ‪ ،‬فهي ل تملك‬
‫إل موهبتها ‪ ،‬فيـــما ستقوم السيدة بتأثيث المحل و تجهيزه و توفير كافة‬
‫الخامات المطلوبة ‪ ،‬وفي النهاية الرباح مناصفة ‪ ،‬أي عرض ؟ كانت ريم‬
‫تقص الخبر على أسرتها و دهشة كبيرة تغلف صوتها ‪ ،‬و إحساس فرح كبير‬
‫يطغى على قلبها ‪ ،‬قالت الم و هي تحمد الله ‪:‬‬
‫الله مع المنكسرين جابر •• و قال قاسم ‪:‬‬
‫مبروك يا أختي ‪ ،‬ارفعي رؤوسنا و قدمي أحسن ما عندك •• و قال الب ‪:‬‬

‫ل تنسي يا ابنتي ‪ ،‬العمل لن يكون فنا خالصا ‪ ،‬إنه ادارة و تسويق و تعامل‬
‫مع أناس فيهم الجيد و فيهم الرديء ‪ ،‬ضعي الله نصب عينيك و توكلي عليه ‪،‬‬
‫و إن شاء الله ستنجحين •• و قالت الم ‪:‬‬
‫ل تعطي ثقتك لحد •• إعملي بما يرضي الله و لكن ل تمنحي كل ما‬
‫تملكين دفعة واحدة ‪ ،‬اعرفي المجتمع الجديد و تعاملي معه بحذر •• هزت‬
‫ريم رأسها و قالت بثقة ‪:‬‬
‫اطمئنوا ‪ ،‬الله معي ‪ ،‬لن يخذلني ما حييت •• *** سافر قاسم ‪ ،‬وعادت‬
‫السرة إلى سابق عهدها و يومـــياتها ‪ ،‬و استغــرقت ريم في إعـــداد و‬
‫تجهيز المحل الخاص بها ‪ ،‬كان الحــلم يتجسد يوما بعــــد يوم و المحل يأخذ‬
‫طــــابعا مختلفا و شكل مبهرا ‪ ،‬وظفت أم عبد الله كل فنون الديكور في‬
‫عمل موقع للفن التشكيلي من أبدع ما يكون ‪ ،‬أطلقت على المحل " جاليري‬
‫الرياض " و بعـــد شهـــر كان المحـــل قد اكتسى حلته و تهيأ حتى بالكياس‬
‫و الكروت التي تحمل اسمه ‪ ،‬و لم تبخل أم عبد الله عليه بالعلن في‬
‫الصحف و عندما رأت في عيون ريم أسئلة و دهشة ضحكت قائلة ‪:‬‬
‫الغالي ثمنه فيه يا ريم ‪ ،‬العمل ينبغي أن يصرف عليه جيدا حتى يأتي بعائد‬
‫جيد ‪ ،‬غدا تعرفين قيمة ما نفعل و ما نصرف •• قالت ريم ‪:‬‬
‫لكنك أنفقت الكثير وفي هذه الحالة يكون مناصفة الرباح بيننا غير عادل ‪،‬‬
‫ينبغي إعادة النظر في هذا التفاق •• ضحكت أم عبد الله كثيرا و ربتت على‬
‫كتف ريم و قالت ‪:‬‬
‫يبدو أنك ساذجة أكثر مما تصورت ‪ ،‬ما تقولينه ينبغي أل يقال ‪ ،‬أنت‬
‫ستساهمي بمجهود كبير و على اكتافك سينهض و يستمر هذا المحل ‪ ،‬كل ما‬
‫ترينه غلف أنيق لن يكون له قيمة ما لم يكون المضمون راق ‪ ،‬هل فهمت ؟‬
‫هزت ريم رأسها و قالت ‪:‬‬
‫ل أعرف كيف أشكرك يا أم عبد الله ‪ ،‬أسأل الله أن يوفقنا و ينجح‬
‫المشروع و أستطيع حقا أن أكون عند حسن ظنك بي و بموهبتي •• قالت أم‬
‫عبد الله مؤكدة ‪:‬‬
‫انا اكيدة إن شاء الله أنك ستكونين على قدر المسئولية ‪ ،‬هذا أحساسي و‬
‫طالما كان إحساسي صادقا و لم يخذلني أبدا •• *** عادت ريم في هذا‬
‫اليوم كأسعد ما يكون ‪ ،‬ممتلئة حماسا و رغبة في إعطاء مجهودها مداه ‪،‬‬
‫كانت بالفعل قد شرعت في الرسم المخصص للمحل داخل المنزل و كانت‬
‫تريد أن تصل سريعا فقط لتكمل ما بدأت ‪ ،‬و عندما دخلت المنزل ‪ ،‬استرعت‬
‫انتباهها الصوات القادمة من الصالون ‪ ،‬ثم نادتها الم لتدخل و كانت مازالت‬
‫بعباءتها ‪ ،‬دخلت تلبية لطلب الم فوجدت الب جالسا في واجهة الغرفة‬
‫وعلى يمينه ‪ ،‬جلس شاب شديد الوسامة ‪ ،‬كانت نظراته مطرقة ‪ ،‬و في يده‬
‫كوب شاي لم ينتهي ‪ ،‬وقفت ريم على الباب فقال الب ‪:‬‬
‫أدخلي يا ريم ‪ ،‬تعرفي على ابن عمي سهيل اتسعت ابتسامة ريم و دخلت‬
‫على الفور مرحبة و قالت و هي تمد يدها إليه ‪:‬‬
‫أهل بك يا سهيل ‪ ،‬حمدا لله على سلمتك •• نهض سهيل و قال بارتباك‬
‫قليل ‪:‬‬
‫أهل بك يا ابنة العم •• قال الب ‪:‬‬
‫أتصدقين يا ريم أن سهيل في الرياض منذ شهرين و لم يأتي ال اليوم ؟‬
‫فقالت ريم فورا ‪:‬‬
‫صحيح ‪ ،‬لقد تذكرت أخبرتني في خطابك أنك قادم ‪ ،‬فعل أنت هنا منذ وقت‬
‫طويل ‪ ،‬لماذا لم تأت قبل اليوم؟ جلس سهيل و عادت نظراته إلى الرض و‬
‫قال ‪:‬‬
‫لم أشأ أن أزوركم قبل أن تستقر أوضاعي هنا ‪ ،‬كان لبد من تأمين السكن‬
‫و استلم العمل والتعرف على المكان و غير ذلك من أمور •• قالت ريم ‪:‬‬
‫فهمت •• ستحتاج بعض الوقت للتكيف مع المحيط و الحياة هنا ‪ ،‬و خاصة‬
‫حرارة الجو •• رفع سهيل عيونه إليها و ركزهما عليها و قال ‪:‬‬
‫انسيت ‪ ،‬أنني كنت أعمل في الصحراء الليبية ‪ ،‬و الجو الحار من خواص‬
‫منطقة العمل هناك •• خفضت ريم نظراتها بسرعة و قالت ‪:‬‬
‫نعم •• معك حق •• أستأذنت لتبديل ملبسها و عندما عادت ‪ ،‬تشعب‬
‫الحديث و كانت الموضوعات كثيرة ‪ ،‬تحدث سهيل عن نفسه و تحدثت ريم‬
‫عن مشروعها ‪ ،‬و عندما دقت الساعة منتصف الليل قرر سهيل أن يمضي ••‬
‫عادت ريم لغرفتها ‪ ،‬و استخرجت من خزانة ملبسها رزمة رسائل كان سهيل‬
‫قد كتبها إليها طيلة السنوات الماضية ‪ ،‬أعادت قراءتها ‪ ،‬كانت تريد أن تعرف‬
‫المزيد عنه ‪ ،‬و كانت كأنها تقرأ الرسائل للمرة الولى ‪ ،‬كان فيها شيء جديد‬
‫لم يسبق لها أن رأته من قبل ‪ ،‬فجأة شعرت أن الكلمات أكتست لحماو دما‬
‫و أن وجه سهيل الجميل يطغى على السطور بل على كل جو الغرفة •• ***‬
‫عاش سهيل يتيما ‪ ،‬تربى في أحد المخيمات على الحدود ‪ ،‬كانت ظروفه دائما‬
‫سيئة ‪ ،‬تعلم في مدارس النروا و كان دوما طفل ذكيا موهوبا أثبت تفوقه‬
‫رغم ظروفه و رغم اضطراره إلى العمل منذ نعومة أظفاره و افتقاره إلى‬
‫الحنان فكل امريء في المخيم له بحاله و لم يكن وجود طفل يتيم بينهم‬
‫بالمر الذي يدعو إلى المعاملة الخاصة ‪ ،‬لن حاله مثل حال الكثيرين ‪ ،‬تربى‬
‫و كبر دون أن يعتني أحد بعينه بهذه التربية و كان في داخله غضب يكبر كلما‬
‫كبر و تعلم و فهم ‪ ،‬غضب على حياته و جوعه و حرمانه ‪ ،‬غضب على‬
‫الشخاص الذين يأتون مرة كل شهر ليصبوا في أوعيته القديمة دقيقا و سكرا‬
‫و زيتا ‪ ،‬كان لديه غضب على كبار كانوا يسرقون طعامه ليطعموا أولدهم و‬
‫يتركونه في البرد يرتجف ليغطوا بغطاء الصدقات الخاص به أطفالهم ‪ ،‬كان‬
‫في قلبه غضب على الطفال الذين لديهم أم أو أب ‪ ،‬أولئك الذين كانوا‬
‫يصيحون فيه كلما اقترب منهم و يهددونه بهذا الب أو تلك الم ‪ ،‬كان غاضبا‬
‫دوما ‪ ،‬ل تزور البسمة شفتيه إل إذا استطاع أن يقتص من أي شخص‬
‫بطريقته الخاصة ‪ ،‬قد يسرق ‪ ،‬قد يضرب ‪ ،‬قد يجري سريعا بعد أن يضايق‬
‫أحدهم فل يلحق به ‪ ،‬الشيء الوحيد الذي لم يمارسه أبدا في حياته هو‬
‫الكذب ‪ ،‬لم يكن يكذب أبدا كان يعتبر الكذب نقيصة تقلل من أهميته و تأخذ‬
‫من رجولته ‪ ،‬لذا جر عليه صدقه صنوفا من العذابات على يدي سكان المخيم‬
‫‪ ،‬أو معلميه ‪ ،‬و عندما كبر انخرط كغيره من الفتيان في صفوف المقاومة ‪،‬‬
‫لم يكن يعنيه اللواء الذي يقاتل تحت شعاره ‪ ،‬كل ما كان يهمه أن يمسك في‬
‫يده بنـــدقية قديمة ‪ ،‬أو رشاشا صغـــيرا ‪ ،‬أو حتى قنبــلة يدوية و ينفذ عملية‬
‫صغيرة تطلب منه ‪ ،‬و سقط إحدى المرات في يد السرائليين ‪ ،‬و كان من‬
‫الممكن أن يظل سجينا بقية حياته لول خروجه ضمن إفراجات تحدث من‬
‫وقت إلى آخر لسباب سياسية لم تكن تعنيه ‪ ،‬كل ما كان يعيشه آنذاك أنه‬
‫دخل السجن و أنه خرج منه ‪ ،‬و أنه صار بطل و ل يستطيع أن يقهره أي‬
‫مخلوق ‪ ،‬و عندما انتهى من الثانوية العامة تحدث مع المستر "جو " الذي جاء‬
‫ليتفقد المخـــيم ذات يـــوم و طلب منه أن يكـــمل تعليمه و وعده هذا‬
‫"الجو " بأن يدرس وضعه و ييسر له هذا المر ‪ ،‬و بالفعل حالفه الحظ ووجد‬
‫له مقعدا دراسيا في جامعة بير زيت ‪،‬ربما كانت الدعاية للمساعي الغربية‬
‫النبيلة هي التي وفرته له ــ فقد تم تصويره و هو يدخل الجامعة و كتبوا على‬
‫لسانه بعض عبارات الشكر في كتيب أنيق يوزع على الجهات المانحة‬
‫للمعونات ــ ‪ ،‬لكنه لم يكن معنيا إل بما يستطيع الوصول إليه من مكاسب أيا‬
‫كانت الجهة التي ستمنحه هذه المكاسب ‪ ،‬و في الجامعة أيضا كان متفوقا ‪،‬‬
‫عنيفا ‪ ،‬سليط اللسان ‪ ،‬ساعدته وسامته و طلقة لسانه على تقبل الخرين له‬
‫‪ ،‬كما أنه كان وطنيا ل يجرؤ أحدهم على اتهامه بعكس ذلك ‪ ،‬فقد كان ينظم‬
‫المظاهرات و يقوم من وقت لخر بالعمليات الصغيرة التي اعتاد القيام بها‬
‫منذ صغره ‪ ،‬و عندما تخرج استطاع أن يحصل على عقد عمل في صحراء‬
‫ليبيا •• و لم تكن حياته خالية من وجود الجنس الناعم فيها ‪ ،‬فهو قد تربى‬
‫في مخيم و يعرف من أين تؤكل الكتف كما يقولون ‪ ،‬لذا اتسم بالجرأة في‬
‫تعامله مع البنات ‪ ،‬و كان من السهل عليه تكوين العلقات ‪ ،‬إل أن علقاته لم‬
‫تصل يوما إلى أبعد من اللقاءات و الكلم المعسول و الحلم الوردية ‪ ،‬ثم‬
‫يتركها ليبحث عن غيرها ‪ ،‬و كان شباب الجامعة يغبطونه على قدرته في‬
‫اجتذاب القلوب إليه فكان يبتسم إبتسامته الغامضة الساحرة و يقول ‪":‬إنه‬
‫سر اللعبة ••!!" عندما أتاحت له الظروف أن يعمل في الرياض ‪ ،‬كانت ريم‬
‫هي شغله الشاغل ‪ ،‬ربط مصيرها بمصيره منذ تعرف إليها عبر السطور و‬
‫المسافات ‪ ،‬كانت شيئا شفافا لم يقابل مثله في حياته‪ ،‬و عندما تعرف إليها‬
‫في أول زيارة لبيتها ترسخ لديه اليقين بأنها ستكون بطلة قصة جدـــيدة في‬
‫حياته ‪ ،‬و أعجبه جــدا طريقـــة تفكيرها و أسلوب حديثها و تفاؤلها الدائم‬
‫رغم ما مرت به من محن ‪ ،‬و عندما تحدثوا أمامه عن ثقتها فيمن حولها‬
‫عرف أنه قابل فتاة طيبة ‪:‬‬
‫كما أنها جميلة •• *** خلل عام كانت ريم قد ثبتت نفسها في عملها و‬
‫صنعت لنفسها اسما في عالم الفن التشكيلي و استطاعت ان تحظى بثقة‬
‫كل من تعامل معها فازدهرت أعمـــال المحل كثيرا ‪ ،‬و ظلت هي محل‬
‫اهتمام و عطــف صاحبة الســــوق ‪ ،‬التي قدرت فيها مهارتها وأمـــانتها و‬
‫حسن سلوكها ‪ ،‬و استطاعت ريم أيضا خلل هذا العام أن تستخرج شهادتها‬
‫الجامعية بناء على الحاح والدتها و ليس لنها تريدها ‪ ،‬شقت ريم طريقها‬
‫بدون الشهادة و لذا فل أهمية لهذه الورقة التي أخذت من عمرها سنين ‪ ،‬و‬
‫خالفتها أم عبد الله الرأي قالت لها إن وجود هذه الشهادة ووضعها في‬
‫المحـــل في إطار أنيق من شأنه أن يدعـــم المحـــل أكثر ‪ ،‬و ذلك عندما‬
‫تطلع العميلت على الشهادة و تعرفن أن من يتعاملن معها صقلت موهبتها‬
‫بالدراسة ‪ ،‬قالت لها و هي تؤكد ‪:‬‬
‫صدقيني ‪ ،‬الناس يهمها الشهادات •• و بالفعل أطرت ريم الشهادة‬
‫ووضعتها على جدار المحل ‪ ،‬و صدق توقع أم عبد الله فقد تناقلت العميلت‬
‫الخبر و ازدادت ثقتهن بها و بذوقها و أصبح من العادي جدا أن تسألها العميلة‬
‫عن رأيها في التصميم الداخلي لمنزلها ‪ ،‬و فشلت في أقناعهن بأنها ليست‬
‫مهندسة ديكور ‪ ،‬إذ كان ذوقها يبرهن دائما على تفهمها الكبير للجمال و‬
‫معرفتها لبسط الطرق التي تؤدي إليه •• و استرخت ريم ‪ ،‬شعرت أنها‬
‫ارتاحت ‪ ،‬لم يعد هناك ما يؤرقها ‪ ،‬فالتفتت إلى قلبها لتكتشف فجأة أنها لم‬
‫تحب حتى هذا الوقت ‪ ،‬استعرضت السماء التي مرت بها في حياتها فوجدت‬
‫أن اسما منها ل يعني لقلبها شيئا ‪ ،‬حتى جاءت على ذكر سهيل ‪ ،‬ابتسمت و‬
‫أرخت عضلتها تماما و استلقت على الفراش ‪ ،‬و أخذت تسترجع تفاصيل‬
‫علقته بهم منذ عام ‪ ،‬لقد لحظت ــ و تعتقد ان الجميع لحظ معها ــ اهتمام‬
‫سهيل بها ‪ ،‬نظراته ‪ ،‬كلماته ‪ ،‬تلميحاته ‪ ،‬لكنها لم تعطه الفرصة أبدا أن‬
‫يحدثها بشكل خاص في أي موضوع ‪ ،‬كان يزورهم مرة كل أسبوع ‪ ،‬يسهر‬
‫حتى وقت متأخر يتعشى معهم ‪ ،‬و يحرص في كل زيارة على هدية بسيطة‬
‫لريم أو لمها أو لختها و عندما عاد قاسم في الجازة أحضرله سهيل هدية ‪،‬‬
‫تندرت السرة على هداياه فأصابه الخجل و تطلــــع إلى ريم لتنــقذه فقالت‬
‫و هي تبتسم له ‪:‬‬
‫يا سهيل نحن نعتز بك لنك من العائلة و ليس بسبب هداياك •• و قالت‬
‫الم ‪:‬‬
‫وفر قرشك يا بني القرش البيض ينفع في اليوم السود •• و تقلبت ريم‬
‫على فراشها بمرح و تذكرت عندما همت ذات يوم برفع الطباق بعد العشاء‬
‫من أمامه فهمس في أذنها بسرعة ‪ ":‬أريد أن أتحدث معك " رفعت الطباق‬
‫و نظرت إليه بركن عينها و تصرفت كأنها لم تسمعه ‪ ،‬و راقبت تحرقه لردة‬
‫فعلها و هي تمعن في لمبالتها و تخاله شك في أنها سمعته !! و نهضت من‬
‫فراشها و توجهت للمرآة فوقفت أمامها تطالع نفسها و تتذكر التعليقات‬
‫المتباعدة التي كان سهيل يضمنها أحيانا كلمه و يتعمد أن تظهر و كأنها غير‬
‫متعمدة ‪ ،‬لقد أشار يوما إلى دقة اصابعها و جمال منظرها في معرض حديثه‬
‫عن تأثير الحياة الخشنة على أيدي النساء في فلسطين ‪ ،‬و أشار يوما إلى‬
‫روعة قوامها عندما ألحت عليها الم في تناول المزيد من الحلوى بعد يوم‬
‫عمل شاق و رفضت من أجل المحافظة على الرشاقة ‪ ،‬و عندما أراد أن‬
‫يتحدث عن عيونها أدار بنفسه دفة الحديث ليتجه نحو ما يريد ‪ ،‬فأسهب في‬
‫شرح لغة العيون و تراوحها بين القوة و الضعف ‪ ،‬و لحظت ريم اندفاع الم‬
‫للتدليل بعيون ريم على ما يقول قائلة ‪:‬‬
‫صدقت ‪ ،‬مثل ريم استطيع بسهولة أن أعرف مشاعرها و ما تريد قوله‬
‫بمجرد النظر في عيونها ‪ ،‬إن لغة عينيها قوية جدا •• صاحت ريم في‬
‫نفسها ‪ ":‬احذري يا أمي ستقعين في الشراك !!" لكن الم كانت قد وقعت‬
‫بالفعل إذ رد سهيل سريعا على عبارتها قائل ‪:‬‬
‫قوية و جميلة أيضا ••!! و توجهت ريم إلى حامل لوحاتها و خطت بعض‬
‫خطوط تشكل قلوب و أسهم و الحروف النجليزية الولى من اسمها و اسمه‬
‫ثم ضحكت ضحـــكة حــــبور صـــافية و صفقت بيدها و خرجت من غرفتها‬
‫إلى أمها ‪ ،‬كانتا وحديهما قالت ‪:‬‬
‫أمي •• ما رأيك بسهيل ؟ فوجئت الم بالسؤال و قالت بسرعة ‪:‬‬
‫و ما لنا به ؟ فقالت ريم بمرح ‪:‬‬
‫ل شيء •• لكن بعد عام من تعرفنا عليه ‪ ،‬يجب أن يكون لدى كل منا‬
‫انطباعا ما عنه •• فقالت الم مبتسمة ‪:‬‬
‫ماهو انطباعك أنت يا ابنة جهاد ؟ فقالت ريم ‪:‬‬
‫ل أدري ‪ ،‬لكنني أحب مجيئه إلينا ‪ ،‬و أحب أن أجلس إليه و أتحدث معه ‪،‬‬
‫أحب مراقبة محاولته لبلغي دوما برسالة ما •• أشعر أنه قدم روحا جديدة‬
‫لحياتي •• و أحب ذلك •• تركت الم ما في يدها و عل ملمحها القلق و‬
‫قالت بجدية ‪:‬‬
‫تحبين ؟ أل تعتقدين معي أن سهيل غير مناسب ؟ قالت ريم بمكر ‪:‬‬
‫غير مناسب لي شيء يا أمي ؟ فقالت الم بجدية كبيرة ‪:‬‬
‫غير مناسب للزواج يا ابنة جهاد •• فقالت ريم باهتمام ‪:‬‬
‫صحيح أنه لم يطلــبني ‪ ،‬و ل تحــدث معي بهـــذا الخصوص و لكــــن بوجه‬
‫عــام ما المانع يا أمي ؟ تنهدت الم و جلست و هي تقول ‪:‬‬
‫المانع يا حبيبتي هو في القهر الذي لقيت أنت و إخوتك بسبب الجنسية ‪،‬‬
‫تريدين الزواج من فلسطيني لكي تكرري المأساة مع أبنائك أيضا ؟ وجمت‬
‫ريم ‪ ،‬انسحب بقوة كل المرح داخلها ‪ ،‬لوهلة شعرت بغصة كبيرة تتجمع في‬
‫حلقها ‪ ،‬غصة بحجم المعاناة القديمة ‪ ،‬تذكرت بسرعة و غامت عينيها‬
‫بضبابات الذكرى ‪ ،‬هزت رأسها و قالت بهدوء ‪:‬‬

‫إذا تعاملنا بهذا المنطق لن يتذكر فلسطين بعد عقد من الزمن أحد من‬
‫خارجها ‪ ،‬سينتهي من يحبها و تضيع من القلوب •• أشاحت الم بيديها و‬
‫قالت ‪:‬‬
‫لن تتأثر فلسطين بواحدة ‪ ،‬و أن تضيع البلد من قلبك خيرا من أن يضيع‬
‫منك أبنائك ‪ ،‬الحالة تزداد سوءا و العاقل من يضع الغد نصب عينيه ••‬
‫لم تكمل ريم النقاش مع أمها ‪ ،‬انسحبت فورا متجهة إلى غرفتها ‪ ،‬لقد‬
‫صدمها المنطق الذي تتحدث به أمها ‪ ،‬لم تنتبه أبدا إلى أن مساويء اللجوء‬
‫سوف تنسحب يوما حتى على المشاعر ‪ ،‬قانون الحرمان يسري عليها بدورها‬
‫‪ ،‬كورت قبضـــتها و دقــــت بها الجدار و قالت بغيظ مكتوم ‪:‬‬

‫أن يقفوا أمام تعليمنا ‪ ،‬ممكن ‪ ،‬أن يقفوا أمام عملنا ‪ ،‬ممكن ‪ ،‬أن يصادروا‬
‫حرية أن نتحرك و نتنقل ‪ ،‬ممكن ‪ ،‬لكن أن يحكموا سيطرتهم حتى على‬
‫مشاعرنا و قلوبنا فهذا ما لن أسمح به أبدا •• تركت الجدار ‪ ،‬توجهت للنافذة‬
‫‪ ،‬فتحتها ‪ ،‬لم يسبق أن أطلت منها ‪ ،‬لكنها تطلعت للسماء و قالت ‪:‬‬
‫لن أسمح باعتقال وجداني ‪ ،‬ووضع الحظر على أحاسيسي ‪ ،‬و مصادرة‬
‫رغباتي ‪ ،‬لن أعطيهم الفرصة لهذا •• و تطلعت إلى لوحتها و قالت‬
‫بتصميم ‪ ":‬و إذا أردتني يا سهيل فإنني أيضا أريدك " •• *** و كأنها كانت‬
‫على موعد مع سهيل ‪ ،‬أو كأنها رتبت لما سيحدث في أول زيارة قادمة ‪،‬‬
‫فاجأهم سهيل فجأة بطلب الزواج من ريم ‪ ،‬وجمت الم ‪ ،‬و نفـــث الب‬
‫دخـــان سجــــائره ‪ ،‬و تركوا الصمت يصول بينهم ثم بعد هنيهة عاد سهيل‬
‫يقول بهدوء‪:‬‬
‫أكرر يا عمي ‪ ،‬أنا أطلب منك يد ابنتك ريم ••ماذا قلت ؟ قال الب بعد‬
‫قليل بصوت بل تعبير ‪:‬‬
‫فاجأني طلبك يا ولدي •• و صمت الب •• كانت العبارة ناقصة ‪ ،‬انتظر‬
‫سهيل أن يكملها لكنه التزم الصمت ‪ ،‬بعد قليل شعر سهيل أن وجوده بل‬
‫معنى ‪ ،‬كان ينتظر ريم ‪ ،‬و لكن بطلبه هذا اختصر مدة بقائه لهذا اليوم هنا ‪ ،‬و‬
‫كان لبد أن ينصرف ‪ ،‬و عندما أستأذن بالنصراف لم يجد من يستمهله ‪ ،‬و‬
‫خرج من الباب الخارجي يهدر الغضب في رأسه بسبب الوجوم الذي قوبل به‬
‫طلبه ‪ ،‬أعماه الغضب فقرر أمرا •• كانت الساعة تقترب من التاسعة ‪ ،‬بقيت‬
‫ساعة تقريبا على عودة ريم •• بدل من نزول السلم إلى الشارع ‪ ،‬صعد‬
‫السلم إلى السطح ‪ ،‬تجول فيه بل حذاء ‪ ،‬و أطل من خلله على الشارع تحت‬
‫البيت ‪ ،‬أنعشه الهواء الليلي فاستنشقه بقوة ‪ ،‬أخذ يراقب الطريق بانتظار‬
‫عودتها ‪ ،‬دار في رأسه حوارا سيجريه معها ‪ ،‬ثم عدله و عاد فعدله ‪ ،‬و عندما‬
‫أستقر على العبارات النهائية لمحها تدخـــل من بوابة العمارة ‪ ،‬أســــرع‬
‫بخفـــة يقف على رأس السلم و عندما ظهرت أخيرا ناداها بصوت خافت‬
‫راعها ‪:‬‬
‫ريم •• ريم ألتفتت للصوت ‪ ،‬و عندما وجدته تنفست الصعداء و قالت‬
‫بصوت عادي ‪:‬‬
‫سهيل ؟ أخفتني ‪ ،‬ماذا تصنع هنا ‪ ،‬لماذا تركت البيت ؟ وضع اصبعه على‬
‫فمه و عاد يقول بصوت خافت ‪:‬‬
‫أخفضي صوتك ‪ ،‬لقـــد كنت في البيــت و خرجت قبل دقائق ‪ ،‬أريد أن‬
‫أحدثك على إنفراد •• أندهشت ريم لطلبه •• و أدارته في رأسها ‪ ،‬أدركت‬
‫أن الموضوع متعلق بها ‪ ،‬عرفت ماهيته المتوقعة ‪ ،‬و بقي السؤال ‪ ":‬هل‬
‫تستجيب ‪ ،‬أم ترفض الدعوة الغريبة ؟" لم يستغرق التفكير لحظات ‪ ،‬و رغم‬
‫أن شيئا داخلها كان يرفض هذا السلوك إل أنها وضعت المفتاح في حقيبتها و‬
‫أخذت نفسا عميقا تشد به من أزر نفسها و توجهت إليه ‪ ،‬لفه إطمئنان و‬
‫ثقة ‪ ،‬صعد أمامها فتبعته ‪ ،‬تزايدت نبضات قلبها مع كل درجة و غلبها إحساس‬
‫بالمغامرة تعمق بمجرد أن لفح الهواء البارد وجهها الملتهب حماسا ‪ ،‬عندما‬
‫وصل إلى السطح ألتفت إليها و ظل لحظة صامتا يراقبها ‪ ،‬ثم أفتـــر ثــغره‬
‫عن ابتسامة ساحرة و قال بصوت هاديء ‪:‬‬
‫هل سبق أن أخبرك أحدهم أنك جميلة جدا •• نكست رأسها خجل فقال ‪:‬‬
‫ريم ‪ ،‬أنا أحبك •• رفعت رأسها بسرعة و نظرت إليه بدهشة و تراقصت‬
‫الضواء البعيدة في عيونها فأمسك بكتفيها و قال بحرارة ‪:‬‬
‫ريم •• أنا أحبك •• أبتعدت عنه بسرعة و همست مستنكرة ‪:‬‬
‫سهيل !! ماذا تقول ؟ التقط أنفاسه بعمق بعد أن أدرك أنه خرج عما رتب‬
‫قبل قليل ‪ ،‬و قال و هو يستند إلى الجدار ‪:‬‬
‫ريم لقد طلبتك قبل قليل من والدك للزواج •• انتظر أن يرى رد فعلها ‪،‬‬
‫لحظ رغم صمتها لمعة قبول ظهرت في عيونها فأكمل مرتاحا ‪:‬‬
‫في الحقيقة ‪ ،‬لم أجد لديهم قبول مباشرا كما توقعت ‪ ،‬ووالدك قــال أنه‬
‫فوجيء بالطلب و لم يحدد لي وقتا ليرد علي ‪ ،‬و الن ما يهمني هو أن أعرف‬
‫رأيك ‪ ،‬أريد أن أسمعه قبل أن أنصرف لنني سأنتظر أسبوعا قبل موعد‬
‫الزيارة القادمة لعرف النتيجة •• دار عقل ريم بسرعة ‪ ،‬عرفت ما دار في‬
‫عقل أبيها و أمها حيال طلبه ‪ ،‬توقعت كل ما ستواجه عندما تعود ‪ ،‬نظرت إلى‬
‫وجه سهيل ‪ ،‬كان ينتظر ردها •• كان لــديها إجابة سبق و أن قررتها ‪ ،‬و‬
‫لكنها تذكرت أن سهيل فلسطيني و لن يغفر لها ردا مباشرا ‪ ،‬و قررت أنه لبد‬
‫من اللعبة القديمة بين حواء و آدم ‪ ،‬فارخت عينيها و همست ‪:‬‬
‫ل فائدة يا سهيل ‪ ،‬انتظر الرد السبوع المقبل ‪ ،‬لبد من الحديث مع ولي‬
‫أمري •• تجعدت الثنيات فوق أنفه و قال و هو يكبت غضبا ‪:‬‬
‫مبدئيا يا ريم ‪ ،‬هل أنت موافقة ؟ ابتسمت إليه و اتجهت نحو السلم و هي‬
‫تقول ‪:‬‬
‫السبوع المقبل يا سهيل •• أخذت الدرجات قفزا و فتحت الباب بسرعة و‬
‫دخلت ‪ ،‬أكتنفها دفء البيت ‪ ،‬و كان أبوها و أمها مازال يناقشان المر في‬
‫الصالون ‪ ،‬دخلت إليهما ‪ ،‬ألقت التحية ‪ ،‬و اتخذت لنفسها مكانا على مقعد بين‬
‫أبيها و أمها ‪ ،‬قالت الم ‪:‬‬
‫خرج سهيل باكرا اليوم •• هزت رأسها إيجابا فقال الب ‪:‬‬
‫طلبك للزواج •• قضمت شفتها العليا بأسنانها و انتظرت تعليقاتهم ‪،‬‬
‫فقالت الم ‪:‬‬
‫ما رأيك يا ريم ؟ حررت شفتها و قالت باقتضاب ‪:‬‬
‫أسمع رأيكما أول •• فقالت الم على عجل ‪:‬‬
‫تعرفين رأيي يا ريم •• و قال الب و هو يتنهد ‪:‬‬
‫سهيل مهندس شاب ‪ ،‬لم يسبق له الزواج و هو من أقربائي و أعتقد أنه‬
‫من حيث المبدأ ل غبار عليه ‪ ،‬اللهم •• تطلعت ريم باهتمام لبيها و لما طال‬
‫صمته استحثته قائلة ‪:‬‬
‫أبي ••"اللهم " ماذا ؟ فقال الب ‪:‬‬
‫اسمعي يا ريم ‪ ،‬لقد تربى سهيل في المخيم •• لم تفهم ريم مقصد أبيها‬
‫فرسمت السؤال في عيونها و انتظرت الجابة ‪ ،‬فقال الب بعد لحظة تفكير ‪:‬‬

‫أبناء المخيمات لهم طبيعة مختلفة ‪ ،‬النشأة في جو غير نظيف ‪ ،‬و وسط‬
‫يوميات رعب و صراع من أجل الطعام و الحياة ‪ ،‬تجعل نظرتهم للحياة‬
‫مختلفة عن الخرين الذين تعرفينهم •• ل أعرف ماذا أقول ‪ ،‬و لكن أبناء‬
‫المخيمات ل تستطيع من تربت مثلك احتمالهم •• أخذت ريم نفسا عميقا و‬
‫قالت بتصميم ‪:‬‬
‫و نحن بدورنا أبناء لجوء •• جميع الفلسطنيين كانت نشأتهم غريبة ‪ ،‬ل‬
‫علقة لنظريات التربية الحديثة بهم ‪ ،‬و مع ذلك يحسب له كما يحسب لي أنه‬
‫استطاع رغم ظروف المخيم النجاح و التفوق و الستمرار و العمل ••‬
‫يحسب له أنه اعتمد منذ نعومة أظفاره على نفسه و بنى حياته بساعده ‪ ،‬و‬
‫أثبت في كل الظروف أنه رجل ‪ ،‬أنه بطل ‪ ،‬أنه رمز جميل للوطن •• قالت‬
‫الم مغتاظة ‪:‬‬
‫الوطن ‪ ،‬الوطن ‪ ،‬كل ما تتحدثين عنه هو الوطن ‪ ،‬أنا لست ضد أن تحبي‬
‫بلدك ‪ ،‬و لست ضد انتمائك إليها فقد كنت أساعد أبيك في ترسيخ محبتها في‬
‫نفوسكم منذ الصغر ‪ ،‬لكنني ضد أن تقدمي روحك قربانا لهذا الوطن ‪ ،‬و ليت‬
‫ما ستفعلينه سيكون له قيمة للوطن ‪ ،‬لن يجلي زواجك من فلسطيني يهوديا‬
‫واحد اعن بلدك ‪ ،‬و لن يدفع هذا الزواج العالم لكي ينصفوكم ‪ ،‬ستتزوجي و‬
‫تنجبي و يعيش أبناؤك الضياع المركب •• قالت ريم ‪:‬‬
‫و لكن يا أمي ‪ ،‬زواجي من سهيل ‪ ،‬من فلسطيني يعني أنني ســأظل‬
‫أنتمي لهذا الوطن و ينتمي إليه أبنائي بدورهم ‪ ،‬و هذا ما بوسعي أن أقدمه ‪،‬‬
‫ل أملك إل هذا ‪ ،‬و ل أريد البخل بما أملك لمجرد أنني تعذبت بجنسيتي في‬
‫الغربة ‪ ،‬ربما كان المستقبل أفضل ‪ ،‬ربما استطاع أولدي أن يعيشوا حياة‬
‫كريمة ‪ ،‬و يدخلوا بلدهم و يبنوا فيها •• غلب الصمت المكان ‪ ،‬و نفس الب‬
‫دخانه و قد اعتزم أمرا في الليل و عندما نامت سميحة غادر جهاد غرفته‬
‫بهدوء و توجه إلى غرفة ابنته ‪ ،‬طرق الباب و حمد الله أنها مازالت مستيقظة‬
‫‪ ،‬دخل و سألها عن سبب سهرها فأخبرته أنه التفكير فقال لها و نفسه تنازعه‬
‫‪:‬‬
‫ما سأقوله لك يا ريم هو خلصة هذا الموضوع ‪ ،‬اسمعيني و ل تردي ‪،‬‬
‫اسمعي و فكري ‪ ،‬خذي وقتك في التفكير ‪ ،‬يوم ‪ ،‬أسبوع ‪ ،‬عشرة ‪ ،‬فكري‬
‫بمنتهى العقل •• و تنهد و هو يتخذ لنفسه مكانا بجوارها على السرير و دون‬
‫أن ينظر لها استطرد ‪:‬‬
‫لم أستطع قول كل ما أريده بحضور أمك ‪ ،‬كان صعبا علي العتراف بأي‬
‫شيء يمسنا كفلسطنيين أمام أمك ‪ ،‬رغم أنها عشرة عمري و رفيقة‬
‫كفاحي ‪ ،‬لكن هناك أمور يصعب على المرء أحيانا أن يعترف بها حتى لقرب‬
‫الناس إليه •• وجمت ريم و خفق قلبها بشدة و غالبت غصة ألم و هي تقول‬
‫لبيها ‪:‬‬
‫ماذا هناك يا أبي ؟ فقال الب و هو يعاني صراعا بين أن يقول ‪ ،‬أو‬
‫يصمت ‪ ،‬لكنه في النهاية قال ‪:‬‬
‫ريم ‪ ،‬الشعب الفلسطيني شعب عانى المرين ‪ ،‬ذاق المر و العذاب صنوفا‬
‫‪ ،‬مورس ضده الذلل ‪ ،‬و صدم مرات كثيرة في الشعوب العربية ‪ ،‬عانينا‬
‫طوال وجودنا في أرضنا من ذل احتلل كان يتحول إلى مارد يوما بعد يوم‬
‫فيطبق على أرواحنا و يسد منافذ الهواء عن صدورنا ‪ ،‬عانينا حتى النخاع من‬
‫رعب سكن أخيلتنا منذ استخدم السرائليون اسلوب المذابح الجماعية لترويع‬
‫الحياء بأشلء الموات الممزقة ‪ ،‬تركت أهلي منذ أكثر من خمس و عشرين‬
‫عاما بوجدان مذعور محطم ‪ ،‬و نفس ذليلة ‪ ،‬ربما ساعدتني الغربة قليل على‬
‫نسيان مرارة سطوة الحتلل الملموسة ‪ ،‬لكنها أبدا لم تمحو مرارة سطوته‬
‫في ذاكرتي ووجداني و سمعي و عقلي و تفكيري ‪ ،‬أنت و إخوتك ولدتم في‬
‫الخارج فلم يداخلكم من الحتلل أثر مادي ‪ ،‬و لكنكم بدوركم عــــانيتم و‬
‫مازلتم ستعــــانون لنكم بل وطـــن ‪ ،‬و سيظل تاريخ اللجئين الفلسطنيين‬
‫عارا في جبين المة العربية حتى يقضي الله أمرا كان مفعول ‪ ،‬أما أولئك‬
‫الذين بقــــوا في فـــلسطين فقد شربوا الــــذل و الرعب مع المـــاء و‬
‫تنفسوه مع الهواء ‪ ،‬أصبح مرأى الشلء الممزقة عادة يومية ‪ ،‬و أصبح اليتم‬
‫تعويذة يعلقونها على صدور المواليد ليظل ملمسها يحرق أرواحهم و يطالبهم‬
‫دوما بثأر ل ينتهي ‪ ،‬و أصبحت الطفولة هناك مرحلة عمرية يضطر أبناء‬
‫فلسطين أن يمروا بها رغما عنهم ‪ ،‬لكنهم ل يشعرون بها و ل تعني أبدا لهم‬
‫لعبة ‪ ،‬أو دلل ‪ ،‬أو هدهدة أو مدارة أو مجاراة •• كان الكلم مؤلما ‪ ،‬لكنه لم‬
‫يكن ليدعو الب إلى هذه السرية التي أحاطه بها منذ البداية مما دفع ريم أن‬
‫تقاطعه قائلة ‪:‬‬
‫أبي و ما علقة كل ماذكرت بموضوع سهيل ؟ أنا ل أفهم استدار الب إلى‬
‫ريم حتى أصبح في مواجهتها و قال بقوة ‪:‬‬
‫سهيل من أبناء الوطن الذين لم يعرفوا غير اليتم و الذل و الجوع ‪ ،‬لم‬
‫يعرفوا غير قسوة الحتلل و الناس ‪ ،‬سهيل لم يعش طفولة ‪ ،‬و لم يعرف‬
‫حنان ‪ ،‬لذا فهو من داخله ‪ ،‬من أعماقه غير قادر على منحك ما تريدين ‪ ،‬لن‬
‫يتفهم حاجتك للحب و الحنان ‪ ،‬سيكون حسك المرهف دوما مدعاة‬
‫لسخريته ‪ ،‬حساسيتك تجاه الكلمات القاسية لن تعني له إل تربية مدللة و‬
‫فتاة بل هموم ‪ ،‬و أنا أخاف عليك ‪ ،‬أنت جني عمري يا ريم ‪ ،‬و أنا أخاف عليك‬
‫يا ابنتي •• عل الوجيب في صدر ريم ‪ ،‬تسارعت دقات قلبها و استشعرت‬
‫الخطر همست ‪:‬‬
‫إلى هذا الحد ؟ ربت الب عليها مطمئنا و قال ‪:‬‬
‫أنا هنا لحميك حتى من نفسك ‪ ،‬فكري يا ريم جيدا ‪ ،‬فكري في كل ما قلته‬
‫لك ‪ ،‬و ما تقررينه سأوافق عليه ‪ ،‬شرط أن تستوعبي أن القرار قرارك و أنا‬
‫أو أمك لم يكن لنا يد فيما تتجهين إليه •• نهض الب متثاقل و اتجه إلى الباب‬
‫‪ ،‬أغلق المصباح و قال ‪:‬‬
‫نامي يا ريم ‪ ،‬لقد تأخر الوقت كثيرا •• و لم تتمكن ريم من النوم •• لقد‬
‫كان يوما طويل ‪ ،‬أحداثه كثيرة و الراء المتناقضة فيه كفيلة بتشويش أكبر‬
‫عقل ‪ ،‬و لذا فلم يكن مستغربا أبدا أن يطلع الصباح على ريم و هي تتقلب‬
‫في فراشها و تقلب المر من كافة وجوهه و تناقش جميع المواقف و الراء‬
‫التي سمعتها قبل أن تخرج بقرار •• *** مشاعل زميلة لريم تساعدها في‬
‫أعمال المحل ‪ ،‬جاءت بعد أن استقرت أحواله و ازدهرت أعماله ‪ ،‬و كان لبد‬
‫من مساعدة لريم ‪ ،‬و كانت مشاعل ‪ ،‬شابة سعودية حنطية ‪ ،‬حادة الملمح ‪،‬‬
‫تتميز بخفة دم و طيبة قلب و دماثة خلق ‪ ،‬ربطت بينها و بين ريم علقة قوية‬
‫منذ اللحظة الولى التي دخلت فيها المحل ‪ ،‬مشاعل كانت متزوجة و لديها‬
‫ولد و بنت صغار كانت تأتي بهما إلى السوق معها فتضعهم في مكان‬
‫مخصص للطفال و تأتي إلى الجاليري مباشرة و هي تلهث و تقول بمجرد أن‬
‫ترى ريم ‪:‬‬
‫السلم عليكم •• آسفة تأخرت لن •• و تكمل ريم عنها قائلة ‪:‬‬
‫لن عائض كان يبكي و عائضة كانت جائعة ‪ ،‬مفهوم يا مشاعل ‪ ،‬هيا ادخلي‬
‫بسرعة فلدينا عمل كثير •• و في أوقات الفراغ عندما يخلو المحل إل من‬
‫عميلة تتأمل اللوحات بتأني من ل تنتوي الشراء كانت ريم و مشاعل تجلسان‬
‫للتقاط النفاس و التحدث عن أحوالهما ‪ ،‬كانت مشاعل حامل و كانت دائما‬
‫ما تدعو لريم بالزواج و تقول ‪:‬‬
‫رغم أن الرجال لخير فيهم ‪ ،‬إل أنك يجب أن تتزوجي ‪ ،‬هذا الهم يا ريم‬
‫•• و كانت ريم عندما يأتي ذكر الزواج تقول و هي ساهمة ‪:‬‬
‫و هل هناك بنت ل ترغب في الزواج يا مشاعل ‪ ،‬و لكن ليس أي رجل ‪ ،‬و‬
‫ل أي زواج •• و تضحك مشاعل و تقول ‪:‬‬
‫ل يقع إل من يعتقد نفسه ماهرا •• أفضت ريم إلى مشاعل بكل شيء عن‬
‫حياتها ‪ ،‬و حدثتها بإسهاب عن السماء التي مرت بها و الشخصيات التي‬
‫تأثرت بها وكانت مشاعل متأثرة جدا بقصة سعيد تحديدا و دائما ما كانت‬
‫تتهم ريم بقسوة القلب لنها لم تعطي لهذا المحب فرصة فكانت ريم ترد‬
‫عليها قائلة ‪:‬‬
‫القلب و ما يهوى يا أم عائض •• و في مساء ذلك اليوم عندما جلست ريم‬
‫بعد النتهاء من التفاق مع إحدى العميلت صعبة الرضاء جاءتها مشاعل و‬
‫سحبت لنفسها كرسيا بجوارها و استرخت عليه و أغمضت عينيها و مباشرة‬
‫سألت ‪:‬‬
‫ما بك ؟ تطلعت إليها ريم بدهشة و شكت لوهلة أن السؤال لم يصدر عن‬
‫مشاعل ‪ ،‬فقد كانت في حالة استرخاء كامل و عيونها مغلقة ‪ ،‬و ليس في‬
‫هيئتها ما يوحي بأنها تتأهب لدارة حديث ‪ ،‬لم ترد فعادت مشاعل تسأل‬
‫فقالت ريم باستنكار ‪:‬‬
‫هل تسأليني أنا ؟ فقالت مشاعل و هي بنفس حالتها و بمنتهى الهدوء ‪:‬‬
‫أجيبي يا ريم ‪ ،‬و كفاك تضيعا للوقت •• ابتسمت ريم و قالت ‪:‬‬
‫خلتك نائمة •• فقالت مشاعل ‪:‬‬
‫عيوني مغمضة صحيح لكنها رأت حالك ‪ ،‬أنت لست على ما يرام ‪ ،‬ما بك ؟‬
‫تنهدت ريم و استرخت على مقعدها بدورها و قالت ‪:‬‬
‫جاءني خاطب قالت مشاعل و كأنها تقرأ من كتاب ‪:‬‬
‫سهيل أليس كذلك ؟ هزت ريم رأسها إيجابا ‪ ،‬فشعرت بردها مشاعل و‬
‫أكملت ‪:‬‬
‫و هل وافقت ؟ اعتدلت ريم على كرسيها و التفتت تماما إلى مشاعل و‬
‫قالت بيقظة تامة ‪:‬‬
‫أبي و أمي يرفضونه و لكل منهما سبب يختلف عن الخر ••‬
‫و أنت ؟‬
‫أنا ؟ أعتدلت مشاعل في جلستها و نظرت مباشرة في عيون ريم و‬
‫قالت ‪:‬‬
‫موافقة ‪ ،‬أليس كذلك ؟ أخذت ريم نفسا عميقا و قالت و كأنها تعترف ‪:‬‬
‫لقد صعدنا السطح أمس سويا و قال لي إنه يحبني ••‬
‫بدون علم أهلك ؟ هزت ريم رأسها خجل فقالت مشاعل و هي تبتسم‬
‫بمكر ‪:‬‬
‫ياله من جريء •• فقالت ريم بسرعة ‪:‬‬
‫لم أشعر أن في المر خطأ ‪ ،‬فأنا ظللت طيلة سنوات الجامعة أقابل شبان‬
‫و أتحدث معهم و قد تجمعني الصدفة بأحدهم على انفراد ‪ ،‬في الحقيقة لم‬
‫أجد ضيرا في سماع ما يريد قوله ‪ ،‬تعرفين ‪ ،‬أبي و أمي ل يتركوننا وحدنا‬
‫دقيقة واحدة •• أطرقت قليل و قالت ‪:‬‬
‫كنت أعرف أن لديه ما يقوله ‪ ،‬كنت أدرك أنه لبد أن يعلن لي حبه ‪ ،‬و‬
‫كنت أتساءل عن الكيفية ‪ ،‬و جاءت بهذه الطريقة •• رفعت رأسها و‬
‫ابتسمت و قالت ‪:‬‬
‫شعرت أنني أقوم بمغامرة ‪ ،‬ظل قلبي يدق ‪ ،‬و كنت أصعد خلفه و كأنه‬
‫يخطو بقدمه على قلبي فيعصره في كل خطوه •• سألت نفسي ماذا لو‬
‫خرج أبي الن ‪ ،‬أو أمي أو أي شخص من الجيران ‪ ،‬و عندما اصبحنا على‬
‫السطح بادرني بالعتراف ‪ ،‬قال لي " ريم أنا أحبك " قالها مرتين يا مشاعل‬
‫و أمسكني من كتفي •• كم كانت يده قـــوية و هو يهــزني ليؤكد حبه ••‬
‫كانت مشاعل تنظر إلى ريم و هي تحكي ‪ ،‬و تطالع نظرة الفرح في عينيها ‪،‬‬
‫منظر جدير بالتأمل حقا ‪ ،‬لقد بدت ريم في جلستها المتأهبة و في حماسها‬
‫الطفولي و هي تقص الموقف و في نغمات صوتها المتراوحة بين القوة و‬
‫الضعف و في ضمة يدها الحميمة ما جعل مشاعل تتفهم تماما رغبة ريم ‪،‬‬
‫فقالت لها ‪:‬‬
‫أنت تريدين هذا الرجل يا ريم ‪ ،‬هذا أمر واضح ••‬
‫إنه بطل يا مشاعل ••• بطل أسطوري ‪ ،‬يشبه أبطال الملحم ‪ ،‬جميل‬
‫المحيا قوي البنيان ‪ ،‬صلب الرادة ‪ ،‬يعرف تماما ما يريد •• و هو يحبني ‪،‬‬
‫يحبني يا مشاعل هل تفهمين ؟ هزت مشاعل رأسها تفهما و قالت ‪:‬‬
‫و لكن أبويك ؟ تنهدت ريم و قالت بهدوء ‪:‬‬
‫لقد ترك لي أبي حرية الختيار ‪ ،‬قال أنه أخبرني بكل الحقيقة و ترك لي‬
‫الخيار •• فقالت مشاعل بسرعة ‪:‬‬
‫القضية محلولة إذن ‪ ،‬اقبلي الرجل ‪ ،‬و تحملي مسئولية قرارك ••‬
‫هذا ما أتمنى ‪ ،‬لكنني أعلم يقينا أنه لن يرضي أبي و لن يســعد أمي ‪ ،‬ل‬
‫تنسي أنا أول فرحتهما •• عادت مشاعل تسترخي في جلستها و تغمض‬
‫عينيها و تقول همسا ‪:‬‬
‫أفهمك تماما •• *** خلل اليومين التاليين غلب الوجوم على جو المنزل ‪،‬‬
‫كان تبادل الحاديث بينهم مقتصرا على الكلمات التقليدية عن الحوال و‬
‫العمل و الطقس و سهرة التلفاز لهذه الليلة ‪ ،‬إل أن الحديث كان دوما يفتقد‬
‫إلى شيء هام ‪ ،‬إلى الحرارة و الروح ‪ ،‬و كان تعمد الجميع عدم الخوض في‬
‫موضوع سهيل يضفي المزيد من البرود على العبارات المتبادلة ‪ ،‬كان كل من‬
‫الب و الم يعلــــمان ما تعـــانيه ريم ‪ ،‬و الصـــراع الــذي وجـــدت نفسها‬
‫فيه بين رغبتهما و رغبتها ‪ ،‬و أثناء غياب ريم قال جهاد لزوجته ‪:‬‬
‫هل وصلت ريم لقرار ؟ فقالت الم ‪:‬‬
‫كان ينبغي أل تفكر عندما يتعلق المر بقبولنا أو رفضنا ‪ ،‬ريم أبدا لم تكن‬
‫عاقة ••‬
‫ل تقسي عليها يا أم قاسم ‪ ،‬ريم تفكر كما فكرت سميحة قبل خمس و‬
‫عشرين عاما ‪ ،‬يوم تقدمت إليك شابا فقيرا وحيدا غريبا ‪ ،‬ل يوجد منطق واحد‬
‫لقبولي و مع ذلك قبلت ‪ ،‬ريم تفكر بإحساس النثى فبل أن تفكر بمنطق‬
‫البنة ‪ ،‬و هذا حقها ••‬
‫لكنها لو تزوجته تكون كمن يلقي بنفسه في التهلكة ••‬
‫ليس إلى هذا الحد يا أم ريم ‪ ،‬سهيل شاب ناجح في عمله ‪ ،‬ليس عجوزا و‬
‫ليس عاطل ‪ ،‬لم نر منه ما يسوء أبدا ‪ ،‬أنت قلقه لنه فلسطيني ‪ ،‬و أنا قلق‬
‫لنه ابن مخيم •• لكن ل أنا و ل أنت يمكننا أن نضع فيه هو شخصيا عيبا‬
‫يمكننا أن نحاجج به ريم •• تنهدت الم و همست ‪:‬‬
‫و مع ذلك آمل أل تقبله •• ***‬
‫غدا يأتي سهيل ‪ ،‬فبماذا نرد عليه يا ريم ؟ كانت ريم تهم بوضع اللقمة في‬
‫فمها عندما باغتها الب بهذا الســــؤال ‪ ،‬أزدردت اللــــقمة و قالت بارتباك ‪:‬‬
‫ما تريده يا أبي •• ابتسم الب تفهما و قال بهدوء ‪:‬‬
‫أنت من ستتزوج و ليس أنا ••‬
‫سهيل يا أبي ‪ ،‬شاب عصامي بنى نفسه بنفسه ‪ ،‬و تجربته في الحياة‬
‫واسعة ‪ ،‬كما أنه قريبنا ‪ ،‬ولكن لو كان موضع شك فإنك بالطبع أخبر مني بهذا‬
‫المر •• كانت الم تستمع صامتة للحوار ‪ ،‬و عند هذا الحد وضعت ملعقتها و‬
‫قالت موجهة حديثها لريم ‪:‬‬
‫يبدو أنك تريدينه يا ابنتي •• تطلعت إليها ريم برجاء و قرأت الم في‬
‫عيونها استعطافا خفيا بأل تقف أمام رغبتها ‪ ،‬نكست رأسها و أدارت ملعقتها‬
‫في الطبق ‪ ،‬و عندما رفعت رأسها نحو زوجها ‪ ،‬كان بدوره ينظر إليها ‪ ،‬كانت‬
‫الكلمة القادمة هي القرار النهائي و كان إعــلنها يعني التزاما و قابل الب‬
‫وجوم الم بابتسامة هادئة أخذت تتسع تدريجيا تقدم دعوة للم لكي تبتسم‬
‫بدورها ‪ ،‬فاضطرت الم تلبية الدعوة و افتــر ثغرها عن ابتســــامة ‪ ،‬كانت‬
‫ريم تراقبهمــا و تنتظر القرار بقلب متلهف و عندما تطلع إليها أبيها كانت‬
‫ابتسامته كبيرة و قال بمرح ‪:‬‬
‫على بركة الله يا ابنتي •• زغردت الفرحة في عيني ريم ‪ ،‬و قامت من‬
‫فورها فقبلت يد أبيها و رأسه ‪ ،‬و ألقت نفسها في حضن الم المفتوح و تلقت‬
‫تهنئتها و دعواتها ‪ ،‬و تلقت تهنئة سمر و ركضت إلى غرفتها و عندما صاح‬
‫الب ‪:‬‬
‫و الطعام ؟ قالت ‪:‬‬
‫شبعت •• تطلع جهاد إلى زوجته ‪ ،‬كانت الدموع تتجمع في عيونها ‪ ،‬قال‬
‫لها و هو يبتسم ‪:‬‬
‫ادعي لها بالخير يا أم قاسم ‪ ،‬ريم طيبة و لن يكون نصيبها إل طيبا مثلها ‪،‬‬
‫و لعل سهيل هو خيرها الذي ل نعلم مداه •• *** مساء اليوم التالي ‪ ،‬جاء‬
‫سهيل مبكرا أكــــثر من المعتاد ‪ ،‬لم يكن الب قد عـــاد من عمله ‪ ،‬و كذلك‬
‫ريم ‪ ،‬كانت سميحة وحدها مع ســــمر ‪ ،‬فتحت له الــــباب و رحـــبت به‬
‫بتــــحفظ و أخبرته أن زوجها ليــس بالبيت ‪ ،‬فدخل سهيل و توجه نحو‬
‫الصالون مباشرة و هو يقول ‪:‬‬
‫هو عمي ‪ ،‬و أنت زوجة عمي ‪ ،‬و لدي كل العذر في التبكير بالحضور اليوم‬
‫•• دخلت الم خلفه فبادرها بسرعة ‪:‬‬
‫لقد مر علي السبوع الفائت طويل ممل ‪ ،‬مرهقا ‪ ،‬تعرفين يا خالتي ‪ ،‬أنا‬
‫أنتظر الرد •• جلست الم و أجلست سمر على ذراع كرسيها و تطلعت إلى‬
‫سهيل و سألته فجأة ‪:‬‬
‫لماذا تريد الزواج من ريم يا سهيل ؟ فوجيء سهيل بالسؤال ‪ ،‬و لكنه‬
‫تماسك بسرعة و قال مبتسما ‪:‬‬
‫و لماذا يريد الناس الزواج يا خالة ؟ ضبطت الم أعصابها و قالت ‪:‬‬
‫أسألك عن سبب رغبتك في الرتباط بابنتي و ليس عن السباب وراء زواج‬
‫العالمين •• فقال سهيل و قد استشف من لهجتها أنه في اختبار عسير عليه‬
‫أن ينجح فيه ‪:‬‬
‫ريم فتاة ممتازة ‪ ،‬و أي شخص يسعده كثيرا أن يرتبط بها •• فقالت الم‬
‫بسرعة ‪:‬‬
‫و لماذا لم تتزوج حتى الن يا سهيل رغم أنك لست صغيرا ‪ ،‬أعتقد أنك‬
‫تخطيت الثلثين ‪ ،‬أليس كذلك ؟ فقال سهيل ‪:‬‬
‫كثير من الشباب وصلوا لهذا الســن و لم يتزوجـــــوا بعد ‪ ،‬تعرفـــــين‬
‫ظروف الحــــياة ‪ ،‬و تعرفين النصيب •• و ركز عيونه عليها و أكمل ‪:‬‬
‫أنا أؤمن جدا بالنصيب يا خالتي ‪ ،‬أل تؤمنين به بدورك ؟ نهضت الم و‬
‫قالت ‪:‬‬
‫ماذا تشرب ؟ فقال سهيل و هو يبتلع ريقه ‪:‬‬
‫كل ما تعدينه جميل يا خالتي •• صحبت الم سمر و توجهت للمطبخ‬
‫فصفر سهيل بشفتيه و همس ‪:‬‬
‫بداية غير مشجعة •• *** عندما عاد الب ووجد سهيل في المنزل ‪ ،‬ابتلع‬
‫احتجاجا صغيرا و رحب به بحرارة و سأله إن كـان قد شــرب شيء ‪ ،‬و‬
‫عندما سأله سهيل عن رأيه في طلبه الزواج من ريم أجابه الب ‪:‬‬
‫ريم هي ابنة عمري يا سهيل ‪ ،‬و لن أجد لها خيرا منك ‪ ،‬أنت شاب إبن‬
‫حلل و أدعو الله أن يوفقكما •• نظر الب إلى الم يدعوها بعيونه أن تبادر‬
‫بالتهنئة ‪ ،‬فقالت و عيونها مترقرقة ‪:‬‬
‫مبارك عليك يا سهيل ‪ ،‬ريم فتاة ممتازة ‪ ،‬احفظها في عيونك •• نهض‬
‫سهيل فعانق عمه و قبل رأس زوجة عمه و قال و هو يجلس و السعادة‬
‫تنطق في عيونه ‪:‬‬
‫سوف لن تندموا على هذا القرار ‪ ،‬ريم في عيوني •• و عندما عادت ريم‬
‫وجدت أن اتفاقا قد تم بين الب و سهيل على ميعاد الخطوبة و مقدار المهر‬
‫و وجدت في عيون سهيل شوقا كثيرا و حديثا ‪ ،‬فانسلت بهدوء إلى حجرتها و‬
‫لم تخرج إل عندما خرج سهيل من المنزل ‪ ،‬جاءها أبيها و قبلها مهنئا و قال‬
‫لها ‪:‬‬
‫الن كلمي مختلف ‪ ،‬الزواج يا ابنتي شراكة عمر ‪ ،‬و عندما ترضى المرأة‬
‫برجل زوجا فلبد أن تحفظه في عيونها و تتحمل تقلبات مزاجه ‪ ،‬و تخفي‬
‫عيوبه ما وسعها ‪ ،‬لقد كان سهيل سعيدا سعادة حقيقية ل أنكرها ‪ ،‬و أسأل‬
‫الله أن يوفقكما •• و قالت الم و هي تحتضنها ‪:‬‬
‫سهيل سيأخذ جوهرتي الثمينة ‪ ،‬تأكدي أنك ستظلين الجوهرة الثمينة دائما‬
‫و لن يغير الزواج هذا المر ‪ ،‬ل تقبلي بأقل منه يا ابنة بطني •• و لم تنم ريم‬
‫تلك الليلة ‪ ،‬و عند منتصف الليل استقبلت لول مرة هاتف من سهيل هتف‬
‫بحماس عندما سمع صوتها ‪:‬‬
‫مبارك يا ريم •• فقالت بخجل ‪:‬‬
‫مبارك عليك يا سهيل صمتا كلهما و قطع سهيل الصمت و تنهد قائل ‪:‬‬
‫أخيرا •• *** خلل ستة شهور قادمة بدأت ريم الستعداد للزواج مع‬
‫سهيل فبعد شهر تقريبا من قراءة الفاتحة تم عقد القران في المحكمة و‬
‫أصبح من حق ريم الخروج مع سهيل لختـــيار منزلهم و منذ اللحظات الولى‬
‫تقرر للمنزل أن يكون في حدود متوسطة قدر الستطاعة و لم تهتم ريم ‪،‬‬
‫فهي قادرة على تحويل منزلها أيا كان مستواه إلى قطعة من الجنة ‪ ،‬و أصبح‬
‫من المعتاد أن تتغيب عن العمل يومين أو ثلثة أسبوعيا من أجـــل إعـــداد‬
‫المنزل و فرشه ‪ ،‬و في غضون ذلك لحظت ريم أن سهيل كان غاية في‬
‫التهذيب معها ‪ ،‬لم يفكر يوما أن يستغل وحدتهما خاصة في الشقة لكي‬
‫يتصرف تصرفا متوقعا من زوج ‪ ،‬و علي النقيض من ذلك ‪ ،‬كان سهيل في‬
‫الشقة منشغل دائما بأدق التفاصيل ‪ ،‬يرتب بأقصى قوة ما استطاع ‪ ،‬و‬
‫تشارك مع ريم في شراء كل قطعة أثاث ‪ ،‬و كانت الم تستقبل ريم كل يوم‬
‫بسؤال واحد عن سلوك سهيل معها فتجيبها دوما بأنه مثال الخلق •• و‬
‫انتهت الشهور الست و في اليوم المحدد للزواج أعد الب مع قاسم ابنه و‬
‫بمساعدة رجال من الجيران سطح المنزل ليكون مقر احتفال النساء فيما‬
‫تبرع أحدهم بإعداد سطح عمارته المقابلة للرجال ‪ ،‬و ذهبت ريم مع أختها‬
‫سمر إلى حيث تتزين و تتأهب لليلة العمر ‪ ،‬و بقيت الم في المنزل تشرف‬
‫على استقبال الحلويات و المأكولت و الضيفات المبكرات ‪ ،‬عند التاسعة‬
‫مساء كان كل شيء جاهزا لستقبال العروس ‪ ،‬السطح مليء بالنساء‬
‫المهنئات و أطفالهن ‪ ،‬و الصبايا يتناوبن الرقص على إيقاع الموسيقى مختلفة‬
‫النغمات ‪ ،‬و عنــد العاشــــرة أقبلت العــــروس فتعالت الزغاريد و بسملت‬
‫الم و حوقلت و استعاذت بالله من عيون الجميع ‪ ،‬فقد كانت ريم جميلة جدا‬
‫هذه الليلة ‪ ،‬اتخذت مكانها في صدر الجلسة و لم تفارق البتسامة وجهها ‪ ،‬و‬
‫عند الحادية عشر جاء العريس بصحبة الب من السطح المقابل و جلس‬
‫بجوارها و ألبسها الشبكة و بقي قليل حتى انتهى قاسم من التقاط الصور ثم‬
‫مضى إلى الرجال و دعي الجميع لتناول طعام العشاء •• عند الواحدة ليل‬
‫جاء العريس مجددا و لكن هذه المرة ليصحب عروسه •• و انطلق‬
‫العروسان وسط الزغاريد و الموسيقى الصادحة ‪ ،‬نزل السللم و ركبا‬
‫السيارة المزينة التي انطلقت بهم إلى جولة في المدينة ‪ ،‬تم تصويرها‬
‫بالفيديو من قبل بعض أصدقاء سهيل ‪ ،‬و في حدود الثالثة فجرا اتجهت‬
‫السيارة بالعروسين إلى منزلهما الجديد و لم يتركهما الناس إل بعد أن اضطر‬
‫سهيل لغلق الباب في وجوههم و هو يصيح باسما ‪:‬‬
‫أتركوا العروسين يا متاعيس •• !! و على باب المنزل حمل سهيل‬
‫عروسه ‪ ،‬و سار بها حتى منتصف صالة المنزل ثم أنزلها برفق و قال و هو‬
‫يقبل جبينها ‪:‬‬
‫مبارك عليك يا عروسي الجميلة •• ابتسمت له ريم و قلبها يخفق بشدة و‬
‫همست بارتباك ‪:‬‬
‫مبارك عليك يا زوجي العزيز •• تلفت سهيل حوله و حل ربطة عنقه و‬
‫قال ‪:‬‬
‫هل نقوم بجولة في المنزل لنرى كيف رتبته أمك و أختك الترتيب الخير ؟‬
‫هزت ريم رأسها موافقة ‪ ،‬فمد لها يده و سارا معا إلى الصالون أول •• وقف‬
‫سهيل على بابه و هو مبتسم ‪ ،‬على أن ابتسامته انسحبت بسرعة و صاح ‪:‬‬
‫ما هذا ؟ اضطربت ريم و قالت بسرعة ‪:‬‬
‫ماذا هناك ؟ فقال ‪:‬‬
‫أنظري ‪ ،‬لقد غيروا مكان المقاعد ‪ ،‬لم أضعها هكذا عندما رتبتها بنفسي‬
‫•• ابتسمت ريم و قالت ‪:‬‬
‫لقد أعادت أمي تنسيقها وفق ما وصفت لها ما أتمناه •• تركها في مكانها‬
‫و قام بجولة سريعة على غرف البيت و أخذ يتمتم بنفس العبارات كلما دخل‬
‫غرفة و في النهاية وقف وسط الصالة و صاح بغضب ‪:‬‬
‫لقد قاموا بتغير كل شيء ‪ ،‬لم يتركوا غرفة دون عبث ••أنا ل أحب هذا‬
‫•• قالت ريم واجمة ‪:‬‬
‫سهيل ‪ ،‬لقد بذلوا جهدا كبيرا ‪ ،‬و عندما عادت أمي أمس كانت في أشد‬
‫حالت الجهاد ‪ ،‬حتى أنني شعرت بوخز الضمير ‪ ،‬ل تنس ‪ ،‬أمي إمرأة كبيرة‬
‫•• فقال سهيل بإصرار ‪:‬‬
‫طلبنا منهم التنظيف ‪ ،‬ل التنظيم ‪ ،‬تدخلهم هذا يضايقني •• كتمت ريم‬
‫غيظا يثور داخلها و قالت بصوت حاولت أن يخرج هادئا ‪:‬‬
‫غدا نعيد تنظيم البيت كما تحب •• و لم تكمل حديثها و فوجئت به يصيح‬
‫بسرعة ‪:‬‬
‫ل •• بل الن •• قالت ريم و قلبها يدق بشدة ‪:‬‬
‫الن ؟ فقال و هو ينزع الجاكت و يشمر أكمام قميصه البيض ‪:‬‬
‫نعم الن ‪ ،‬مساعدة قليلة و يعود كل شيء إلى ما كان عليه •• هيا معي يا‬
‫حبيبتي ••‬
‫لكنني متعبة يا سهيل ‪ ،‬و جائعة ‪ ،‬الطعام الذي أعدته أمي سيبرد ‪ ،‬هل أكلنا‬
‫و بدلنا ثيابنا أول ثم قمنا بما تريد ؟ هز سهيل رأسه رافضا عرضها و قال ‪:‬‬
‫كلي أنت ‪ ،‬سأقوم بالعمل وحدي ‪ ،‬أم تريدين أن يأتي الناس للتهنئة غدا‬
‫فيروا البيت بهذا العبث ؟ قالت ريم بصوت متعب مقهور ‪:‬‬
‫نحن الن غدا فعل يا سهيل •• لم يسمعها سهيل ‪ ،‬توجه بسرعة إلى‬
‫الصالون و أخذ يحرك المقاعد و يـــبدل أمــــاكنـــــها و عندما احتاج‬
‫لمساعدة ناداها ‪ ،‬فجاءت إليه تجر ثوبها البيض الجميل ‪ ،‬و بدون كلم‬
‫ساعدته •• عند السابعة صباحا ‪ ،‬كان المنزل قد عاد إلى سابق عهده و‬
‫اتخذت قطع الثاث شكلها الذي يريده سهيل ‪ ،‬جلسا منهكين على مقاعد‬
‫الصالون كانت بعض التكسرات و البقع الخفيفة قد انتشرت على ثوب‬
‫الزفاف البيض ‪ ،‬و كان شعر ريم مشعثا بعد أن اضطرت لخلع الطرحة عنوة‬
‫أثناء العمل •• تطلع سهيل حوله و قال بصوت فخور متعب ‪:‬‬
‫هكذا ينبغي أن يكون بيت سهيل •• أنتبه أخيرا إلى ثوبها فقال لئما ‪:‬‬
‫أنظري ‪ ،‬لقد فسد ثوب الزفاف ‪ ،‬كان ينبغي أن تبدليه قبل مساعدتي ••‬
‫لم ترد ريم ‪ ،‬كان النعاس و التعب قد غلبها فنهضت متكاسلة و قالت ‪:‬‬
‫سأذهب للنوم •• فقال بسرعة ‪:‬‬
‫و الطعام ؟ فقالت و هي تشيح بيدها ‪:‬‬
‫ل حاجة لي به ‪ ،‬كل أنت •• اتجهت نحو غرفة النوم و أنفها يحكها تقاوم‬
‫عبرة على ضياع ليلة العمر التي حلمت بها ‪ ،‬و تذكرت و هي تلقي بجسدها‬
‫المنهك على السرير ما قالته لها مشاعل عن طقوس ليلة العمر ‪ ،‬و ما قالته‬
‫أخريات كن أكثر جرأة من الجيران •• همست لنفسها و هي تدخل فورا في‬
‫ضبابات النوم ‪:‬‬
‫مبارك عليك يا عروسة !! *** في حدود الخامسة عصرا أفاقت ريم‬
‫مــــذعورة على يد تهزها ‪ ،‬فتحـــت عيــــونها بسرعة و حاولت تذكر ما‬
‫حدث ‪ ،‬و عندما لمست يدها ثوبها و سمعت حفيفه تذكرت على الفور ‪،‬‬
‫نظرت إلى سهيل الذي يوقظها ‪ ،‬كان مرتديا بيجامة النوم الحمراء التي‬
‫أشتروها سويا قبل الزفاف بيومين ‪ ،‬كان مشمرا عن ساقيه ‪ ،‬ابتسم لها‬
‫عندما فتحت عيونها و قال ‪:‬‬
‫يبدو أنك تعشقين النوم ‪ ،‬لقد نمت قرابة عشر ساعات حتى الن ‪ ،‬لم أشأ‬
‫إزعاجك ‪ ،‬لكنني آمل أل تكرريها ثانية ‪ ،‬ل أحب أن تنامي قبلي بعد اليوم ••‬
‫استوت جالسة على فراشها و همست ‪:‬‬
‫ألم تنم ؟ فقال و هو يضحك ‪:‬‬
‫لقد نمت بعد أن أكلت بساعة تقريبا ‪ ،‬و استيقظت منذ ساعة تقريبا ‪ ،‬ل‬
‫أحب النوم أكثر من سبع ساعات يوميا ‪ ،‬ستعتادي على ذلك بدورك ••‬
‫تمطت في فراشها و قالت و هي تبتسم بمكر ‪:‬‬
‫لقد كانت ليلة أمس مرهقة جدا يا سهيل ‪ ،‬ل يكفي لتعويضها نوم يوم‬
‫بأكمله و ليس عشر ساعات ••‬
‫حسنا ‪ ،‬قومي بدلي ثيابك ‪ ،‬و حاولي إخفاء هذا الثوب فلقد أصــبح بحاجة‬
‫إلى تنظيف و كي ‪ ،‬ارتدي شيئا أنيقا سيأتي المهنئون بعد قليل •• نهضت من‬
‫فراشها بتثاقل كبير و قالت و هي تتثاءب ‪:‬‬
‫أشعر بجوع عظيم •• فقال و هو يغادر الغرفة ‪:‬‬
‫الصول تقتضي أن يحضر أهلك طعام للعروسين معهم عندما يأتون مهنئين‬
‫‪ ،‬آمل أل ينسوا ذلك •• بدلت ريم ثيابها ‪ ،‬و ارتدت ثوبا مغربيا مطرزا و‬
‫مشطت شعرها و أعادت ترتيب زينتها ‪ ،‬فبدا وجهها مشرقا ‪ ،‬و خرجت‬
‫مبتسمة تبحث عن سهيل ‪ ،‬وجدته في الصالة يطالع التلفاز فقالت على الفور‬
‫‪:‬‬
‫ماذا تشاهد ؟ فقال و هو يركز انتباهه على الشاشة ‪:‬‬
‫أنه فيلم مصري قديم ‪ ،‬شاهدته أكثر من مائة مرة ‪ ،‬أحب مشاهدته كثيرا‬
‫••‬

‫وقفت أمام الشاشة و قالت بدلل ‪:‬‬


‫الن تخبرني عن رأيك في ثوبي و زينتي أول ؟ فقال و هو يثني رقبته‬
‫ليشاهد الفيلم من الزاوية ••‪:‬‬
‫لقد اشتريناه سويا ‪ ،‬و هو جميل بل شك ‪ ،‬ابتعدي فالفقرة القادمة هي‬
‫أجمل الفقرات •• ابتعدت ريم عن التلفاز متنهدة و اتجهت للمطبخ ‪ ،‬كانت‬
‫بقايا طعام العشاء في المجلى داخل الواني ‪ ،‬راعها منظر المجلى و هو‬
‫مزدحم بالواني ‪ ،‬فشمرت أكمامها و شرعت في تنظيف الواني ‪ ،‬عندما دق‬
‫جرس الباب دقات متتابعة تنبىء عن مقدم المهنئين ‪ ،‬أسرعت فغسلت يدها‬
‫و توجهت لحجرتها بعد أن أغلقت في طريقها التلفاز و جهاز الفيديو و هي‬
‫تقول ‪:‬‬
‫أكمله بعد أن ينصرفوا ‪ ،‬و أذهب لستقبالهم ‪ ،‬علي أن أهتم بزينتي ••‬
‫نهض على مضض و هو يتمتم ‪:‬‬
‫ل أحب أسلوب الوامر •• فتح الباب و رحب بأسرة ريم ترحيبا لئقا ‪ ،‬كان‬
‫الب و قاسم يحملن أكياسا ‪ ،‬و تحمل الم طعاما و تحمل سمر كيسا آخر ‪،‬‬
‫انطلقت زغرودة الم بمجرد دخولها و هتف الب مهنئا و وضع الجميع ما‬
‫يحمله و ركضت سمر بإتجاه غرفة النوم ‪ ،‬فاستوقفها سهيل بحزم صائحا ‪:‬‬
‫إلى أين تذهبين ؟ فوقفت مرتبكة و هي تشير على غرفة ريم فقال سهيل‬
‫بسرعة بصوت حاول أن يكسبه بعض الليونة ‪:‬‬
‫ستأتي بعد قليل •• نادت الم سمر و أاجلستها بجوارها و هي تؤنبها على‬
‫سلوكها ‪ ،‬و خرجت ريم بسرعة مبتسمة و أقبلت تقبل الجميع و تتقبل تهنئتهم‬
‫و لم ينس الب أن يمنحها مبلغا من المال في يدها و هو يقبلها ‪ ،‬و جلست‬
‫ريم بجوار زوجها ‪ ،‬فتمتمت الم بدعوات لحمايتها و قال قاسم و هو يبتسم ‪:‬‬
‫ما شاء الله يا ريم ‪ ،‬لقد تضاعف جمالك ‪ ،‬يبدو أنني سأفكر جديا في‬
‫الزواج فقال الب ‪:‬‬
‫أمنية حياتي أن أراكم جميعا في بيوتكم و أحمل أطفالكم •• و غمزت الم‬
‫لريم ثم قالت ‪:‬‬
‫لم أصلي المغرب ‪ ،‬هل جئت لتعرفيني مكان القبلة يا ريم •• نهضت ريم‬
‫و قد فهمت مرمى أمها ‪ ،‬و لم تدر وجهها إلى زوجها رغم يقينها أنه كان ينظر‬
‫إليها و في عيونه رسالة ما •• و في غرفة النوم ‪ ،‬قبلت الم ابنتها مجددا و‬
‫سألتها عن أحوالها فقالت ريم ‪:‬‬
‫أنا بخير يا أمي ‪ ،‬وسهيل رجل ل غبار عليه •• تنهدت الم و عادت فقبلتها‬
‫و هي تعيد التبريك ‪ ،‬و لما شرعت في الصلة توجهت ريم إلى المطبخ لتعد‬
‫شيئا للضيوف العزاء •• انتهت الزيارة بسرعة عندما حسم الب الموقف و‬
‫قال للجميع ‪:‬‬
‫هيا بنا ‪ ،‬لنترك العروسين ‪ ،‬الحمد لله اطمئننا عليهما •• خرج الجميع و‬
‫بقيت ريم تنظر إلى الباب المغلق بعدهم ‪ ،‬ثم تطلعت إلى سهيل فوجدته‬
‫يطالعها و في عيونه أسئلة فقالت ‪:‬‬
‫هل نأكل الن ••؟ توجهت إلى المطبخ و حلت الكياس و استخرجت من‬
‫طيبات الطعام و الفاكهة و المكسرات الشيء الكثير ‪ ،‬أعدت مائدة أنيقة ‪ ،‬و‬
‫نادت سهيل ليأكل ‪ ،‬فجاء و جلس بعد أن قبل خدها و أثنى على حسن‬
‫تنظيمها للمائدة ثم قال ‪:‬‬
‫ريم ‪ ،‬ل أحب أن يدخل أحد غرفة نومنا ‪ ،‬و ل أحب أن تتحدثي سرا مع أمك‬
‫في أي شأن يخصنا •• تنهدت ريم و كأنها كانت تتوقع ما سيقول فقالت‬
‫بهدوء دون أن تنظر إليه ‪:‬‬
‫هي أمي ‪ ،‬و من حقها أن تطمئن علي •• تطلع إليها فقالت و هي تبتسم‬
‫بعد أن قرأت شك في عيونه ‪:‬‬
‫اطمئن ‪ ،‬لقد اطمأنت تماما •• تناول طعامهما بدون كلمة واحدة زيادة ‪ ،‬و‬
‫بعد النتهاء منه ‪ ،‬نهضت ريم فغسلت الطباق و وضعت البواقي في الثلجة و‬
‫وضعت إبريق الشاي على النار ‪ ،‬و لما لم تسمع صوت التلفاز يفتح مجددا‬
‫خرجت لترى أين سهيل ‪ ،‬فوجدته في غرفة النوم يطالع بكثير من الهتمام‬
‫ثوب الزفاف البيض المعلق في خزانة الملبس فقالت ‪:‬‬
‫ماذا تفعل ؟ فقال و هو مستغرق في التفكير ‪:‬‬
‫لقد كلفنا هذا الثوب غاليا ‪ ،‬و ينبغي أل نتركه على هذه الحالة من الهمال‬
‫الجسيم •• فقالت بتهكم ‪:‬‬
‫هل تريد تنظيفه الن ؟ لم يرد ‪ ،‬لكنه أنزله و حمله عائدا به إلى الصالة و‬
‫قال ‪:‬‬
‫احضري منشفة و ماء دافيء ضعي فيه قليل من صابون غســل الملبس ‪،‬‬
‫سيعود جديدا بعد قليل •• قالت ريم و هي تأخذ نفسا عميقا غاضبا ‪:‬‬
‫حاضر •• حاضر يا زوجي العزيز •• طيلة المساء انشغل سهيل في‬
‫تنظيف الثوب ‪ ،‬و كان يبدو مستمتعا جدا بما يعمل ‪ ،‬يؤديه بهدوء و ببطء‬
‫شديد و يتغزل في كل قطعة تعود لتلمع من جديد بعد تنظبفها ‪ ،‬جلست ريم‬
‫تراقبه بعض الوقت ‪ ،‬كان عقلها يعمل بسرعة ‪ ،‬كان يهدر غضبا ‪ ،‬لم يعد المر‬
‫مجرد تعديل لشياء ل تعجبه ‪ ،‬و إنما أصبح تهربا •• عندما وصلت لهذه‬
‫الحقيقة ‪ ،‬كان قد انتهى من تنظيف الثوب و كيه و كانت الساعة تدق الثانية‬
‫عشرة تماما ‪ ،‬بدلت ريم ثيابها عدة مرات ‪ ،‬و كانت ترتدي في كل مرة ثوب‬
‫نوم بلون جديد عله ينتبه لها ‪ ،‬لكنه عوضا عن ذلك اتجه إلى الفيديو و سألها‬
‫عن العشاء ‪ ،‬نهضت فأعدته له و وضعته أمامه و سألته إن كان يريد شيئا‬
‫فقال مستنكرا ‪:‬‬
‫هل ستنامي الن ؟ فنظرت إليه و على لسانها أجوبة كثيرة مختلفة عما‬
‫نطقت بالفعل ‪:‬‬
‫نعم •• فقال و هو يقضم لقمة ‪:‬‬
‫اجلسي يا ريم ‪ ،‬تعشي معي ‪ ،‬و شاهدي الفيلم القادم ‪ ،‬إنه مسل جدا ‪،‬‬
‫علم الستعجال ‪ ،‬لدينا إجازة طويلة فقالت ريم بهدوء غاضب ‪:‬‬
‫لكنني متعبة و أريد النوم فقال بحزم ‪:‬‬
‫بل اجلسي ‪ ،‬سبق و أن أخبــــرتك أنني ل أحـــب أن تسبقيني إلى النوم‬
‫أبدا ‪ ،‬أجــلسي و سننام سويا بعد الفيلم •• جلست ريم على مضض ‪ ،‬و بدأ‬
‫الفيلم ‪ ،‬فلم تشاهد منه شيئا ‪ ،‬كانت تطالع سهيل و هو يشاهده بحرص شديد‬
‫كأنه يراه للمرة الولى و يضحك على المشاهد السخيفة و يدق يدا بيد و هو‬
‫يشير إلى الشاشة صائحا ‪:‬‬
‫أنظري •• أنظري •• بعد أن انتهى الفيلم ‪ ،‬و شرب سهيل الشاي الذي‬
‫كان حريصا على تناوله بعد الطعام مباشرة ‪ ،‬نهضت ريم قائلة ‪:‬‬
‫يمكننا النوم الن فيما أعتقد •• نظر إليها سهيل مبتسما و قال و هو ينهض‬
‫‪:‬‬
‫بالطبع يا حبيبتي •• إذا كان هذا ما تريدينه •• نهض فسبقته إلى غرفة‬
‫النوم ‪ ،‬اتخذت مكانها و استلقت على الفراش ‪ ،‬بعد قلـــيل جـــاء و استلقى‬
‫بدوره بجوارها ‪ ،‬ظل صامتين •• و عندما لم يبـــدي حـــراكا ‪ ،‬اســــترخت‬
‫تمــامــا و أغمضت عينيها فهمس ‪:‬‬
‫هل نمت يا ريم ؟ تمتمت باليجاب فأدار ظهره و اتخذ وضعا جنينيا و تنهد‬
‫•• رفعت رأسها و طالعت ظهره •• تنهدت و ألقت برأسها على الوسادة‬
‫فهمس ‪:‬‬
‫لطالما حلمت بأن يكون لي بيت لوحدي •• لم ترد و حبست أنفاسها‬
‫فأكمل ‪:‬‬
‫بيت كبير فيه أثاث يخصني وحدي ‪ ،‬و فيه زوجة جميلة تنتظرني ‪ ،‬فيه‬
‫أطفال لي ••• أطفال بل يتم ‪ ،‬و ل فقر و ل عوز •• أطفال منعمين‬
‫يشربون الحليب المحلى و يأكلون التفاح الحمر و يلعبون بألعاب تخصهم‬
‫ألعاب ألكترونية و عرائس و دببة و مكعبات •• ضحك بهدوء و لم يغير وضعه‬
‫و أكمل ‪:‬‬
‫عندما كنت صغيرا كنت أعوض حرماني من كل هذا بالحلم ‪ ،‬كانت أحلما‬
‫جميلة يسعدني الستغراق فيها ‪ ،‬لكن البرد و الجوع و النهار المذعور كانوا‬
‫ينتشلوني منها بسرعة •• كانت ريم تستمع لهمسه بإصغاء تام ‪ ،‬استدارت‬
‫بهدوء ‪ ،‬و طوقته بذراعها فتناول كفها بين كفه و أكمل دون أن يدير وجهه‬
‫إليها ‪:‬‬
‫كنت أعيش الخوف في كل لحظة ‪ ،‬تجسد لي دوما كمارد عملق صوته‬
‫قصف الرصاص المتقطع و خطواته نداءات ملتاعة لم فقدت ابنها للتو ‪،‬‬
‫أتعلمين ؟ و استدار ليواجهها و أكمل و هو يكز أسنانه و قال ‪:‬‬
‫كنت أحسد ذلك البن الفقيد على بكاء أمه عليه •• و كنت أتساءل هل إذا‬
‫مت سأجد من يبكيني •• و كانت الجابة في عيون كل اللهين بهمومهم عني‬
‫‪ ،‬كنت أعرف أنني لو مت فلن أكون إل رقما عشريا تافها في قوافل الموات‬
‫•• لذا •• لذا قررت أل أموت •• نعم قررت أل أموت يا ريم ‪ ،‬لن أموت إل‬
‫إذا أصبح لدي من يبكيني و يترحم علي و يزور قبري •• أحكمت ريم احتواءه‬
‫و همست بحنان ‪:‬‬

‫هل يفكر في الموت من يبدأ حياته للتو يا سهيل ؟ ربت عليها و استرخى‬
‫في نومه ‪ ،‬و لم تمض لحظة حتى سمعت ريم صوت أنفاسه المنتظمة يتردد‬
‫في أذنها ‪ ،‬ينسل إلى تجويفها الخالي ليعلن إنتهاء يوم آخر في حياتها الجديدة‬
‫•• ولم تنم ريم هذه الليلة ‪ ،‬أدارت كلم سهيل في ذهنها و مررته على قلبها‬
‫فاستشعرت مأساة يمر بها هذا الشاب تحول بينه و بين المضي قدما في‬
‫اتمام الزواج على الوجه المفروض ‪ ،‬قررت أن تكف عن التفكير في هذا‬
‫المر حتى يأتي لوحده ‪ ،‬قالت و هي تحكم الدثار حوله ‪:‬‬
‫قريبا جدا ستتيقن أيها الغالي من أنك وجدت أخيرا من يهمه أمرك كثيرا‬
‫••‬
‫بعد أسبوعين من الزفاف قررت ريم قطع إجازتها و العودة إلى العمل ‪ ،‬لم‬
‫يعترض سهيل بل على العكس كان يرى أنه لبد بالفعل من العودة للعمل‬
‫لكليهما و علق قائل ‪:‬‬

‫المكوث في المنزل أمر ممل للغاية ‪ ،‬ل أدري كيف يحتمل الناس شهور‬
‫الجازة •• و استقبلت مشاعل عودة ريم السريعة بكثير من الدهشة و لم‬
‫تتقبل أي عذر قدمته لها ريم ‪ ،‬و عندما شارف اليوم على النتهاء و‬
‫استطاعت الثنتان الجلوس بهدوء كان من الطبيعي أن تبادر مشاعل بسؤالها‬
‫المتوقع ‪:‬‬
‫ماذا حدث يا ريم ؟ لكن ريم التي كانت تحفظ نصيحة أبيها كحرز غير قابل‬
‫للهدار قالت بمرح مصطنع ‪:‬‬
‫ل شيء يا أم الفكار •• فقالت مشاعل بهدوء الواثق ‪:‬‬
‫بل هناك شيء ‪ ،‬و شيء كبير أيضا ‪ ،‬و سؤالي هل يتعلق المر بسهيل ؟‬
‫هزت ريم رأسها و لم تقوى على الستمرار في الدعاء فصمتت تمنع رغبة‬
‫قوية في الكلم ‪ ،‬رغبة وصلت معها حد الحرقة •• كزت مشاعل على شفتيها‬
‫و تفكرت قليل ثم قالت برزانة غريبة عليها ‪:‬‬
‫اسمعي يا ريم ‪ ،‬قبل أن نتزوج نكون قد رسمنا في أخيلتنا صورة حالمة ‪،‬‬
‫شديدة النعومة عن حياتنا مع الزوج ‪ ،‬و لكن عندما نتزوج فعل نجد أن الصورة‬
‫اختــلفت قليل أو كثيرا عما رسمنا ‪ ،‬و العقدة دائما فينا ‪ ،‬نحن القادرات على‬
‫حلها أو زيادة تعقيدها ‪ ،‬فإذا كنت قد جابهتي أمرا لم تتوقعيه ‪ ،‬ابحثي في‬
‫نفسك أول عن طريقة التكيف معه ‪ ،‬ل توجد عقدة بدون حل •• فقالت ريم‬
‫و كأنها تنفي تهمة ‪:‬‬
‫سهيل انسان يا مشاعل •• ابتسمت مشاعل و قالت على الفور ‪:‬‬
‫لم أقل عكس هذا يا ريم •• أدركت ريم أنها تسرعت بهذه العبارة فقالت‬
‫باقتضاب ‪:‬‬
‫لست أعاني من أي مشكلة •• تنهدت مشاعل و قالت ‪:‬‬
‫إذا كان المر يتعلق بسهيل فأعتقد أنك يجب أن تشركي أمك في‬
‫الموضوع فهي سيدة حكيمة و سيفيدك رأيها •• بسرعة قالت ريم ‪:‬‬
‫ل •• ل يمكن •• ل أستطيع •• نهضت مشاعل و تناولت عباءتها و قالت ‪:‬‬

‫أذن ‪ ،‬أنا رهن خدمتك ‪ ،‬و أعتقد أن مجرد الحديث عن المشكلة كفيل‬
‫بايجاد حل لها •• ألن تستعدي ‪ ،‬أزف ميعاد النصراف •• هزت ريم رأسها‬
‫موافقة و نهضت متكاسلة ارتدت عباءتها و أحكمت وضع غطاء رأسها بآلية‬
‫فيما مشاعل تراقبها و شيء داخلها يقسم أن ريم لديها مشكلة •• *** ذاك‬
‫المساء قررت ريم أن تفتح نقاشا صريحا مع زوجها ‪ ،‬قررت أل تقف مكتوفة‬
‫اليدين أمام مشكلة تفرض نفسها على تفاصيل عـــلقتها معه ‪ ،‬قــــدمت له‬
‫كـــوب الشاي مبتسمة و قالت مداعبة ‪:‬‬
‫تفضل يا وطني •• تطلع إليها سهيل و ابتسم بدوره و قال ‪:‬‬
‫وطني ؟ هل هذا أسم تدليل ؟ هزت ريم رأسها و قالت بمرح ‪:‬‬

‫بل هو واقع الحال يا سهيل •• أنا لم أر وطني و لم أعش فيه ‪ ،‬و زواجي‬
‫منك كان نهاية رحلة بحث مضنية عن هذا الوطن •• في البداية بحثت عنه‬
‫في دراستي و كتبي و شهادة كبيرة أحصل عليها •• لكنني وجدت بعد رحلة‬
‫دراسة مضنية أن الوطن ل يختبيء في الكتب ‪ ،‬و شهادتي معلقة على حائط‬
‫الجاليري بل قيمة ‪ ،‬حتى سطورها المتتابعة التي تحمل اسمي و مؤهلي و‬
‫تقديري ل تعنيني و كأنها لشخص آخر ‪ ،‬ثم اعتقدت أنني سأجد الوطن في‬
‫العمل و النتماء له ‪ ،‬فأخذت أرسم و أعمل و استغرقني العمل حتى نسيت‬
‫الهدف و أفقت فجأة على أن ريم التي تعمل هناك ليست سوى عاملة ‪ ،‬أيا‬
‫كان طبيعة عملها ‪ ،‬و ليس لجنسيتها علقة بعملها و ل مكانها و مكانتها ‪ ،‬و‬
‫تيقنت أن ريم هذه لو كانت مصرية ‪ ،‬أو سعودية ‪ ،‬أو سودانية •• أي جنسية‬
‫فلن يتغير الوضع •• و عندما ظهرت أنت في حياتي تمحور حولك انتمائي‬
‫فصرت الن أنت الوطن ‪ ،‬هذه حقــيقة فل تضحك يا سهيل ••‬

‫كان سهيل يضحك على هذه العبارة الخيرة حتى أن كوب الشاي اهتز في‬
‫يده فأسقط قطرات على ملبسه ‪ ،‬لم يشعر بحرارتها و قال ‪:‬‬

‫الوطن يا ريم ليس دراسة و ل عمل و ل زوج ‪ ،‬الوطن أرض و حدود ‪ ،‬فهل‬
‫ترين أنني أرضك ‪ ،‬حدودك ‪ ،‬هل أصلح لهذا الدور ؟ فقالت ريم حانقة ‪:‬‬
‫بل يجب أن تكون في هذا الدور معي ‪ ،‬ل تسخر مني يا سهيل ‪ ،‬أنني‬
‫صادقة جدا فيما أقول ‪ ،‬يعوزني دوما النتماء إلى شيء ما ‪ ،‬يعوزني‬
‫الطمئنان و الركون و إغماض عيني بل خوف ‪ ،‬يعوزني الوثوق و الحماية ‪ ،‬و‬
‫المان ‪ ،‬هذه معاني يوفرها الوطن ‪ ،‬و أنا بل وطن ‪ ،‬و بزواجنا صرت أنت‬
‫المان و الحماية ‪ ،‬إليك أنتمي و معك أغمض عيني و آخذ من الدنيا مواثيق‬
‫المان •• أنت الوطن يا سهيل ‪ ،‬هل تفهم هذا ؟ سحب سهيل بقايا ضحكة‬
‫التهكم من عينيه ‪ ،‬وحلت في لحظات معاني اللم فيهما ‪ ،‬قال بصوت ل‬
‫يشبهه ‪:‬‬
‫إنسان بل هوية ‪ ،‬ساقط قيد ‪ ،‬من فئة البدون ‪ ،‬ل يستحق أن يعيش ‪،‬‬
‫إنسان يستجدي علمه ‪ ،‬يستجدي عمله ‪ ،‬يستجدي وجوده ‪ ،‬أكرم له أل يعيش‬
‫•• هل تفهمين يا ريم ‪ ،‬أكرم له أل يعيش •• لم تفهم ريم ‪ ،‬ظلم لف عقلها‬
‫في لحظات فاستحالت معه كلمات سهيل طلسم ‪ ،‬أمل كان هنالك يرعى‬
‫في نفسها مطمئنا انكمش فجأة و تجمد على ابتسامة جهل بلهاء طافت على‬
‫شفتيها ثوان ثم انطفأت و صاح داخلها اللم سؤال لم تستطع أن تكتمه ‪:‬‬
‫لماذا تزوجتني يا سهيل ‪ ،‬أنت انسان يقتات الضياع ‪ ،‬فلماذا ربطت في‬
‫عنقك إنسانا يعيش على المل ‪ ،‬لماذا تزوجتني يا سهيل ‪ ،‬إذا كنــت ترى‬
‫الحياة ظـــلما ‪ ،‬و النـــاس شـــرا و السرة وهما ••؟‬
‫أمسكها بسرعة من كتفيها و صاح بعنف ‪:‬‬
‫لنني أردت الخروج من كل هذا ‪ ،‬لنني أردت أن أحطم شرنقة تعاسة‬
‫تعشعش في كياني منذ طفولتي ‪ ،‬تسرق مني متع الحياة ‪ ،‬فرحة النجاح ‪،‬‬
‫ابتسامة التفاؤل •• لنني رأيتك إنسانا يحاول أن يطفو برأسه من مستنقع‬
‫الضياع و يتنفس المل ‪ ،‬رأيتك منذ حدثني عنك تامر في خطابه فتاة ترفض‬
‫الرضوخ لواقع الغربة البدي و تمد يدها نحو الضوء رغم عجزها و قلة حيلتها‬
‫•• فعلت بخطابات التواصل مع الغائبين مالم نستطع أن نفعله و الغربة‬
‫تمتص دماءنا و الصبر يلعق جروحنا و المرارة تغلف أيامنا •• صاحت ريم و‬
‫هي تحاول التفلت من يده ‪:‬‬

‫إنك تؤلمني يا سهيل •• أفلتها و أكمل و زبد أبيض يحيط شفتيه و تهدج‬
‫خفيف يغلف صوته ‪:‬‬
‫كنت ساخطا ‪ ،‬ل تفارق عبارات اللعن لساني ‪ ،‬أمارس عملي كما كان‬
‫العبيد يمارسون أعمالهم تحت نير التعذيب و فرقعة السوط ‪ ،‬الفرق الوحيد‬
‫أن المعذب كان من هنا •• دق صدره بقوة ••‬
‫من داخلي ‪ ،‬كنت أستيقظ في الصباح و أذهب إلى العمل و أظل أعمل‬
‫الساعات الطوال ‪ ،‬ل أبالي بشمس يسقط تحتها المترفون ‪ ،‬كنت أحاول حين‬
‫أواصل ضرب المطارق أن أطمس على صوت اتهامات الخرين للفلسطنيين‬
‫و حطهم من قدرهم ‪ ،‬كنت أحاول أن أدفع بقسوتي على ذاتي اتهاما لم‬
‫يواجهني به أحد ‪ ،‬لكنني كنت أراه في العيون ‪ ،‬أقرأه في الصحف ‪ ،‬ألمسه‬
‫في المعاملة •• تعرفين كيف ينظر العالم إلينا ‪ ،‬تعرفين أو ل تعرفين أن‬
‫السارق في أي مكان فلسطيني ‪ ،‬و الرهابي فلسطيني ‪ ،‬حين نمر على‬
‫الحدود يفتشون تحت الجلد منا ‪ ،‬يسألون أطراف شعورنا و زوائد أظافرنا‬
‫عن شر لبد أننا نحمله ••‬

‫كنت أراهم يا ريم ‪ ،‬يمرون جماعات ببساطة أمام مفتشي الحدود و عندما‬
‫يأتي الدور على فلسطيني يستنفرون عروقهم ‪ ،‬و يلمــــسون أسلحـــتهم و‬
‫يقـــدمون الهـــانات على مرأى و مسمع كل من له وطن •• و الجميع ينظر‬
‫‪ ،‬بين شفقة ل نحتاجها ‪ ،‬أو لسان حال يصرخ في العيون إننا نستحق •• أنت‬
‫جربت بعضا من بعض عذاب اللجئين ‪ ،‬و مع ذلك مازال لديك أمل ‪ ،‬مازلت‬
‫ترين الحياة إبتسامة واسعة يمكن أن نزين بها شفـاهنا ‪ ،‬و قهقهة تخرج من‬
‫أعماق أعماق روحنا •• ل تسألي يا ريم •• ل تسألي لماذا تزوجتك •• ل‬
‫ُيسأل المجروح لماذا يبحث عن الضماد ‪ ،‬ل ُيسأل المبطون لماذا يبحث عن‬
‫الدواء ••‬

‫تريدين مني أن أكون الوطن •• وطنك يا ريم بحاجة إلى وطن •• و لم‬
‫تجرب ريم أن تفتح معه نقاشا بعدها •• *** قالت الم و هي تحتضن ابنتها‬
‫بشوق ‪:‬‬
‫أهل بحبة القلب •• غريب أين سهيل ؟ لقد عودنا أل يفارقك في أي زيارة‬
‫كأنه يخشى أن نعبئك ضده إن نحن جالسناك وحدنا •• ظلت ريم صامتة‬
‫تستمع إلى تعليق الم و ل ترد و انتبهت سميحة إلى وجوم ابنتها فسألتها‬
‫بقلق عن حالها ‪ ،‬ترقرقت الدموع في عيون ريم و هزت رأسها و حاولت‬
‫البتسام و قالت ‪:‬‬
‫أنا بخير يا أمي •• لقد اشتقت إليكم كثيرا هذا كل ما في المر ••‬

‫استشعر قلب الم بأسا ‪ ،‬قالت و هي تجلس ريم و تجلس أمامها ‪:‬‬
‫أحلفك بالله أن تقولي ‪ ،‬ما بك يا حبة القلب و نور العين •• حنان أمها هو‬
‫ما كان حقا ينقصها •• كلمات الدلل القديمة ‪ ،‬و الهتمام الذي فقدته مذ‬
‫تزوجت حرك مكامن الخوف القديمة داخلها ‪ ،‬أصبحت عيونها مستعدة تماما‬
‫لترجمة عذابها ‪ ،‬خرجت دمعة يتيمة تستطلع تبعتها دمعات صامتة ‪ ،‬و عندما‬
‫احتضنت الم عذابها انفجر القلب المغلق على همومه في نشيج مرتفع هز‬
‫الم و بلل كتفها •• تركت ريم تبكي ‪ ،‬تركتها تقول في هذه الدموع كل شيء‬
‫دون أن تنبس بحرف واحد ‪ ،‬و عنــدما انــتهت ريم و صامت شهقاتها‬
‫المتوالية عن الدموع تقبلت شاكـــــرة كأس العصـــير المثـــلج من ســمر و‬
‫احتسته بهدوء و ابتسمت و قالت ‪:‬‬
‫أنا بخير يا أمي ••‬

‫و عندما انصرفت ريم دون أن تفصح ‪ ،‬أخذت معها اطمئنان الم و راحة بالها‬
‫•• و تركتها في قلق ل يعلم إل الله مداه ‪ ،‬قلق لم تستطع الم إخفاؤه و‬
‫بادرت به الب حال عودته قالت و حسرتها تسبقها ‪:‬‬

‫ريم تعيسة يا جهاد •• نفس الب دخانه بهدوء و قال كمن كان يعرف ‪:‬‬
‫البداية دائما صعبة •• هزت أم ريم رأسها و قالت ‪:‬‬
‫ريم مجروحة ‪ ،‬مصدومة •• إنطفأ البريق في عيونها ‪ ،‬و أصابها هزال‬
‫غريب •• لبد أن نفعل شيئا •• قال الب ‪:‬‬
‫هل حدثتك بشيء ؟ هزت رأسها نفيا فقال‪:‬‬
‫إذن دعيها حتى تقول •• ريم ل تريد منا التدخل ••‬
‫لكنها تتعذب‬
‫إذا استجارت بنا أجرناها‬
‫ريم عنيدة‬
‫هي أدرى بشؤونها •• ريم لم تعد صغيرة ••‬
‫لهفي عليك يا ابنتي •• لهفي عليك ••‬

‫***‬

‫في شئون الزواج و العشرة بين الزوجين دائما مشاعل خبيرة ‪ ،‬و عندما‬
‫جاءت أم عبد الله في زيارة للجاليري و علقت على هزال ريم و لما يمض‬
‫على زواجها شهرين علقت مشاعل ‪:‬‬
‫ريم أصبحت كتومة للغاية ‪ ،‬أعتقد أن للمر علقة بما بينها و بين زوجها ••‬
‫صحبتها أم عبد الله إلى مطعم السوق ‪ ،‬و عندما جلستا قالت لها بحنان ‪:‬‬

‫ريم •• أحيانا ‪ ،‬يصعب علينا العتراف بهمومنا حتى لقرب الناس لنا ‪،‬‬
‫لكننا دوما بحاجة لمن يسمعنا و يفهمنا و يخفف عنا ‪ ،‬حتى لو كان الكلم‬
‫لمجرد التخفف من همومنا •• أنت فنانة و راحة البال رأس مالك ‪ ،‬فإذا‬
‫تركت همومك تأكلك ضعت ‪ ،‬لذا آمل أن تتحدثي معي ‪ ،‬كصديقة و ليس‬
‫كصاحبة مال ••• و ريم لم تكن بحاجة لهذه المقدمة ‪ ،‬كانت تريد حقا‬
‫شخصا غريبا يفهمها ‪ ،‬يبدي تعاطفا ‪ ،‬أو يقدم حل •• كانت تريد الكلم لكنها‬
‫لم تكن تعرف لمن تبوح ‪ ،‬كانت تخشى على أبويها من هم لن يفارقهم ‪،‬‬
‫ناقشت مع نفسها مرارا أن تفضي إليهم بهمها لكنها كانت دوما تتراجع ‪ ،‬ل‬
‫تريد أن تشعل حزنهما عليها ‪ ،‬و ل تريد أن تسمع كلمة عن اختيارها ول تريد‬
‫أن تفسد علقة بينهم و بين زوجها •• محاذير كثيرة كانت تمنعها ‪ ،‬و ل معنى‬
‫لكل هذه المحاذير مع أم عبد الله ‪ ،‬لذا حكت ‪ ،‬قالت كل شيء بصراحة‬
‫ووضوح ‪ ،‬تحدثت كأنها تحدث نفسها ‪ ،‬استفاضت في الشرح لمرأة صامتة‬
‫كانت تتلقى قصتها كأنها تشاهد فيلم خيالي ل يمكن تصديق أحداثه و عندما‬
‫انتهت ريم من كل شيء قالت أم عبد الله على الفور ‪:‬‬
‫شهران يا ريم ؟ شهران بل زواج •• ل يوجد ما يبرر صمتك فقالت ريم‬
‫على الفور ‪:‬‬
‫ل أستطيع أن أبوح بهذا السر لمخلوق ‪ ،‬إنني أكتفي بالدعاء لله في كل‬
‫صلة أن يفرج هذا الكرب و يرفع عن صدر زوجي مارد الغضب على الحياة ‪،‬‬
‫أنا متأكدة أنه يعاني •• فقالت أم عبد الله بحزم موقفة استطراد ريم ‪:‬‬
‫أيا كان يا ريم ‪ ،‬البداية أن تواجهي المر‪ ،‬و أن تعترفي بها مشكلة ‪ ،‬ل يقوم‬
‫زواج بين أثنين على تبادل تحيات الصباح و المساء ‪ ،‬يجب مواجهة سهيل‬
‫بمشكلته ‪ ،‬يجب أن يعرف أنك ترفضي ما أنتم عليه ‪ ،‬لن حياتكم غير سوية ‪،‬‬
‫عليك أول بالمحاولة معه ‪ ،‬فإن لم تجدي محاولتك نفعا فعليك بوالدك ‪ ،‬أو‬
‫والدتك ‪ ،‬يجب أن يعرض سهيل نفسه على طبيب •• صاحت ريم ‪:‬‬
‫أحاول معه ؟ ل يمكن •• فقالت أم عبد الله بجدية ‪:‬‬
‫ل خجل مما أحله الله يا ريم ‪ ،‬ربما كان زوجك متهيبا و بحاجة لن تكسري‬
‫معه حاجز الهيبة ‪ ،‬ربما كان بحاجة فقط إلى بداية مشجعة ‪ ،‬خجل الزوجات‬
‫أحيانا يوحي بالبرود ‪ ،‬و بعض الرجال يستجيبون لهذا البرود ببرود مماثل ‪،‬‬
‫ربما كان زوجك منهم •• حاولي قبل أن تفتحي معه الموضــوع مباشرة ‪،‬‬
‫فإذا لـــم يستجب فعليك بأمك و أبيك ‪ ،‬لبد من تدخلهما ••‬
‫ل •• ل أريد أن يتدخل في هــذا المر ‪ ،‬إنني أفضل الموت قبل أن أفتح‬
‫فمي بهذا المر لي منهما ••‬
‫حسنا إبدئي أول ‪ ،‬و ربما لن تحتاجي لي تدخل بعدها ••‬
‫هل تعتقدين بضرورة هذا ؟‬
‫بل أنا متأكدة من ضرورته يا ريم •• *** ظلت ريم بعد حديثها مع أم عبد‬
‫الله أسبوعا تقوي نفسها ‪ ،‬فيغلبها الحياء و ترضخ آخر المر لحيائها فل تفعل‬
‫ما أوصتها به السيدة ‪ ،‬و صادف أن عادت ريم من عملها بعد هذا السبوع‬
‫مجهدة ‪ ،‬و كان سهيل متأخرا في العودة للمنزل ‪ ،‬و لم تتمكن ريم من‬
‫مقاومة رغبتها في النوم رغم يقينها بأن نومها سيضايق زوجها الذي رفض‬
‫دائما أن تنام قبله ‪ ،‬لكنها لم تستطع الصبر ‪ ،‬فألقت بنفسها على الفراش و‬
‫استغرقت في نوم عميق على أمل أن تستيقظ قبل عودته ‪ ،‬لكنها لم‬
‫تستيقظ بعد ساعات إل على يد سهيل و هو يوقظها قائل ‪:‬‬
‫ألم أخبرك أنني ل أحب نومك بدوني •• فتحت عيونها بصعوبة ‪ ،‬فلم تقوى‬
‫على مواجهة الضوء المشتعل في الغرفة فأغلقتهما بسرعة و قالت بين‬
‫تهويمات النوم ‪:‬‬
‫دعني يا سهيل ‪ ،‬ل أستطيع مغالبة نعاسي ‪ ،‬أرجوك أطفيء الضوء ‪ ،‬إنه‬
‫يضايقني •• لكن سهيل لم يدعها و عاد يهزها ‪:‬‬
‫إنهضي ‪ ،‬أين عشائي ‪ ،‬إنهضي يا ريم ‪ ،‬لم أتزوج لسهر وحيدا •• فجأة‬
‫انتبهت كل ذرة في كيانها ‪ ،‬طار النعاس بسرعة لم تتوقعها ‪ ،‬و وجدت نفسها‬
‫مدفوعة لتنفيذ أمر ‪ ،‬ترددت قليل و قالت بلهجة ل تخلو من تحذير مبطن ‪:‬‬
‫أتركني يا سهيل أكمل نومي •• لكنه و قد أيقن من صوتها يقظتها التامة‬
‫عاد يلح من جديد ‪:‬‬
‫هيا يا ريم ‪ ،‬إنهضي ‪ ،‬ل داعي لمضايقتي •• نفضت الغطاء عنها و قالت‬
‫بمكر ‪:‬‬
‫أنت الذي تصر •• لم يفهم سهيل ماذا تعني ‪ ،‬و راقبها و هي تنهض من‬
‫الفراش بسرعة و تتجه إلى باب الغرفة فتغلقه بالمفتاح عليهما ‪ ،‬و تضع‬
‫المفتاح في صدرها و تتجه نحو الضوءالحمر في أحد أركان الغرفة فتضيئه ‪،‬‬
‫ثم تتجه بسرعة إلى الضوء الكبير فتغلقه •• كان قلبها يخفق خفقات من‬
‫يقبل على مغامرة ‪ ،‬و كان قلبه قد بدأ يدق مستشعرا خطرا •• فلما انتهت ‪،‬‬
‫اقتربت منه بخطوات جريئة أدهشتها قبل أن تدهشه و قالت له بصوت ناعم ‪:‬‬

‫هيا يا زوجي الحبيب •• نهض مرتبكا من على الفراش و صاح بصوت خرج‬
‫ضعيفا مستنكرا ‪:‬‬
‫ماذا تريدين ؟ فقالت و هي تقترب منه ‪:‬‬
‫أريد زوجي ‪ ،‬حبيبي ‪ ،‬أريد أن أتمم زواج تأخر لكثر من شهرين بدون سبب‬
‫•• ركض من أمامها بسرعة متجا إلى زاوية في الغرفة ‪ ،‬فتعثر في طاولة‬
‫صغيرة عليها تحفة صغيرة فأسقطها و لم يبال حتى لذ بالزاوية ‪ ،‬راقبته ريم ‪،‬‬
‫فاتسعت ابتسامتها عن ضحكة ظفر و قالت و هي تتجه إليه ‪:‬‬
‫أين تذهب أيها الحبيب ‪ ،‬الغرفة صغيرة و الباب مقفل ‪ ،‬ل مفر •• كانت‬
‫تشعر كأنها طفلة تنادي طفل مذعورا ليلعب معها ‪ ،‬لم تكن تدرك حتى هذه‬
‫اللحظة إن مارد رعب حقيقي سيطر في هذه اللحظة على سهيل فعجزت‬
‫ساقاه عن حمله فسقط قائما و همس بحلق جاف تماما ‪:‬‬
‫أرجوك افتحي النور ‪ ،‬افتحي النور أرجوك •• ارادت ريم أن تكمل لعبتها‬
‫إل أن منظره في هذا الوضع و نبرة الرجاء البائسة في صوته نبهتها إلى أن‬
‫في المر خطأ كبيرا •• لم تتكلم فاعتقد سهيل أنها مصرة على موقفها ‪،‬‬
‫كانت قواه في هذه اللحظة قد خارت تماما ووجدت ريم نفسها فجأة أمام‬
‫رجل يبكي •• نعم لقد انهار سهيل تماما و بكى و هو يتوسل لها ان تفتح‬
‫النور و الباب •• للحظات لم يستوعب عقلها الموقف ‪ ،‬اعتقدت أنها تحلم ‪،‬‬
‫أو أن سهيل يمزح ‪ ،‬لكن شهقات الفزع و نبرة الرجاء و الدموع التي كانت‬
‫تلمع في الضوء الحمر على خدوده أقسمت لها أن الموقف حقيقي و ل زيف‬
‫فيه ‪ ،‬تكسرت روحها ‪ ،‬نبض قلبها بشدة عكس نبضات المغامرة قبل قليل ‪،‬‬
‫شعرت أن الرض تميد بها ‪ ،‬وجدت نفسها تتجه بسرعة إلى الباب لتفتحه و‬
‫تضيء المصباح الكبير مجددا و اتجهت نحو سهيل الذي كان جسده ينتفض‬
‫انتفاضا عظيما في هذه اللحظة و كأنها تخاطب طفل مفزوعا قالت ‪:‬‬
‫أهدأ يا سهيل ‪ ،‬أهدأ يا حبيبي ‪ ،‬لقد فتحت الباب ‪ ،‬أشعلت الضوء ‪ ،‬أهدأ يا‬
‫سهيل أرجوك •• كان سهيل قد رفع يده كمن يتقي شرا عندما رأى ريم تتجه‬
‫نحوه و لكن بعد أن أخذت تهدئه و تطمئنه ‪ ،‬أرخى يده و أسقط نفسه على‬
‫صدرها وارتفع بكاؤه ‪ ،‬بكاء من أنتهت أزمته و جاءه الفرج ‪ ،‬كان يتمتم و هو‬
‫يبكي ‪:‬‬
‫سامحيني يا ريم ‪ ،‬ل أستطيع ‪ ،‬ل أستطيع •• و كانت ريم تربت عليه بهدوء‬
‫فيما انسابت دموعها تبلل شعره و قد شعرت في هذه اللحظة بأنها فقدت‬
‫إلى البد حلما بأن يكون لها وطن •• *** بعد هذه الحادثة تغير سهيل كثيرا ‪،‬‬
‫لم يعد يتحدث معها ملطفا ‪ ،‬أو يطلب ما يريد بتهذيب ‪ ،‬لحظت ريم أن‬
‫أسلوبه معها تحول إلى الوامر الصارمة التي ل تقبل النقاش ‪ ،‬و كانت من‬
‫داخلها تتفهم موقفه فتتعمد تهدئته بالطاعة التامة ‪ ،‬و بدون نقاش ‪ ،‬حتى لما‬
‫طلـــــب منها أن تكــــف عن الحديث عن اهــــلهــــا بصيغة أمــي ‪ ،‬أو أبي‬
‫أو أختي ‪ ،‬أو أخي و تستبدل هذه العبارات بكلمة "الجماعة" ‪ ،‬فتقول أريد أن‬
‫أزور "الجماعة "‪ ،‬أو جاءنا اليوم أحد أفراد "الجماعة " ‪ ،‬لم تطل اعتراضها و‬
‫قبلت على الفور مستميحة له العذر فيما يطلب ‪ ،‬كانت تعرف أنها تتعامل مع‬
‫رجل ضعيف ‪ ،‬مهزوم ‪ ،‬و ما يفعله ليست إل مظاهر لتقوية الشخصية و‬
‫إكسابها خشونة و رجولة •• لكن المر تطور بعد ذلك تطورا خطيرا عندما‬
‫جمعتهما طاولة الغذاء ذات يوم و كان الصمت ثالثهما كالعادة لكنه قطعه بعد‬
‫قليل قائل بصرامة اعتادت عليها ‪:‬‬
‫أريدك أن تعدي صنفين من الخضار كل يوم و ليس صنفا واحدا •• فقالت‬
‫بهدوء و هي تغتصب ابتسامة ‪:‬‬
‫لكنك ترفض أن تأكل نفس الطعام في يومين ‪ ،‬و عندما أعد صنفين سوف‬
‫يتبقى الكثير و حرام أن ألقي به •• لم تكد ريم تنتهي من عبارتها حتى خرج‬
‫الوحش من أعماق سهيل عبر عيونه فقام ثائرا و بعثر الطباق و سكب‬
‫محتوياتها و هو يصيح ‪:‬‬
‫ل تريدين أبدا أن تسمعي الكلم ‪ ،‬دائما أنت العاقلة الرزينة المدبرة ‪ ،‬أما‬
‫أنا فل شيء ‪ ،‬حتى كلمة في هذا البيت ل أستطيع أن أقولها •• سئمت لعبة‬
‫تبادل الدوار أنا الرجل هنا •• ل أنت •• كان قلب ريم يخفق بشدة ‪ ،‬كان‬
‫صمتها عجزا و ليس اختياريا ‪ ،‬فقد كانت يغص جوفها بألف العبــــارات التي‬
‫يمـــكن أن تفند بها كلمـــه ‪ ،‬لكنها لم تــــرد ‪ ،‬تركته يرغي و يزبد و يصيح ‪،‬‬
‫راقبته و هو يركض نحو المطبخ و يقتلع أنبوب الغاز بعصبية ‪ ،‬ظنت أنه‬
‫سيضربها به ‪ ،‬تسمرت في مكانها ‪ ،‬وجدته يندفع إلى غرفتهما ‪ ،‬ثم يخرج بعد‬
‫قليل مرتديا ملبس الخروج ‪ ،‬صفق الباب خلفه ‪ ،‬بقيت دقائق ل تستطيع أن‬
‫تستوعب ما حدث ‪ ،‬لم تصدق أصل أنه حدث و فجأة و بهدوء شديد أخذت‬
‫دموعها تنساب •• و أكتشفت بعد دقائق أن زوجها أخذ معه مفتاح البيت‬
‫الخاص بها ‪ ،‬و أنه نزع خرطوم الغاز ليمنعها من أستخدام الموقد ‪ ،‬دهشت‬
‫من هذا التفكير الغريب و لم تجد له ما يبرره ‪ ،‬لكن عندما انتهى اليوم و لم‬
‫يعد ‪ ،‬اكتشفت أنها سجينة ‪ ،‬نعم هكذا بمنتهى البساطة سجينة ‪ ،‬بل مفتاح و‬
‫بدون وسيلة لعداد طعام •• و في اليوم التالي عند الرابعة و النصف عصرا‬
‫سمعت طرق السائق على الباب فلم تجرؤ على الرد عليه ‪ ،‬استبعدت فكرة‬
‫أن تخبره أنها سجينة ‪ ،‬لم ترد و يئس السائق فمضى و انتهى اليوم الثاني‬
‫أيضا و لم يعد سهيل •• و أنتهى اليوم الثالث و لم يعد •• كانت ريم قد‬
‫وصلت خلل هذه اليام إلى مرحلة من الجنون ‪ ،‬فل عقلها يقبل تصديق ما‬
‫هي فيه ‪ ،‬و ل جوعها الذي يقرصها بشدة يرحمها ‪ ،‬و ل جرأة لديها لتستعين‬
‫بأي شخص خارج المنزل لينقذها •• كانت تفكر في عاقبة أن تعلن لي‬
‫غريب عن حقيقة وضعها ‪ ،‬صارت تدور في شقتها تحدث قطع الثاث ‪ ،‬و‬
‫تطالع وجهها الشاحب في المرآة و تبكي •• ثم ضبطت نفسها تضحك ••‬
‫تصفق كفا بكف ‪ ،‬تهمس ‪:‬‬
‫أنا ريم •• هذه حقيقة ‪ ،‬و هذا بيتي ‪ ،‬لي زوج ‪ ،‬و لي أهل ‪ ،‬أين هم ‪ ،‬لماذا‬
‫ل يأتون ؟ لكن ل شيء في هذا البيت كان بوسعه أن يرد •• صبيحة اليوم‬
‫الرابع سمعت الباب يفتح •• لم تنهض من فراشها •• أدركت أن سهيل قد‬
‫جاء ‪ ،‬لم تجد في نفسها القوة لكي تهاجـــمه ‪ ،‬أو حتى تعـــلن له أحــتجاجها‬
‫•• دخل الغرفة ‪ ،‬و لم يتكلم ‪ ،‬ألقى أمامها كيسا صغيرا فيه شطائر ساخنة‬
‫•• مدت يدها بهدوء ‪ ،‬تناولت الكيس ‪ ،‬فتحته ‪ ،‬بدأت تأكل ثم لملمت بقاياها‬
‫في ذات الكيس وضعته أرضا و سقطت في سبات عميق •• عند المساء‬
‫فتحت عيونها على صوت التلفاز عاليا في صالة المنزل •• نهضت من‬
‫فراشها ‪ ،‬و توجهت إلى الصالة ‪ ،‬كان جالسا و بقايا شطائر و أرز على ورقة‬
‫جريدة أمامه •• كان يحتسي علبة عصير و يطالع التلفاز باهتمام ‪ ،‬نظر‬
‫إليها ‪ ،‬ثم عاد لتلفازه و قال‪:‬‬
‫أخيرا استيقظت •• ذهبت إلى المطبخ ‪ ،‬شربت ماءا ‪ ،‬ثم عادت فوقفت‬
‫بهدوء أمام التلفاز ‪ ،‬أغلقته و ألتفتت إليه و قالت بلهجة خالية من أي تعبير ‪:‬‬
‫سهيل •• طلقني •• قال و هو يعب عصيره عبا ‪:‬‬
‫افتحي التلفاز و ابتعدي عن طريقه •• تنهدت و عادت تطلب الطلق‬
‫مجددا ‪ ،‬و للمرة الثانية عــــاد يأمرها بأن تفتــــح التلفــــاز و تتركه و شأنه‬
‫•• صاحت بأعلى صوتها و قد فاض منها الكيل ‪:‬‬
‫قلت لك طلقني •• الن يا سهيل •• الن •• ضحك بتهكم و قال ببساطة‬
‫و هو يلقي بعلبة العصير ‪:‬‬
‫ريم •• أنت طالق •• تنفست ريم الصعداء رغم أنها شعرت بأن مطرقة‬
‫ضخمة نزلت على رأسها للتو ••اتجهت إلى غرفتها أغلقت الباب بعنف‬
‫وراءها و بدأت في لملمة ملبسها في حقيبة •• فتح الباب بقوة و صاح و‬
‫الشرر يتطاير من عيونه ‪:‬‬
‫كم مرة قلت لك أل تعامليني باحتقار •• لم يدع لها الفرصة لترد ‪ ،‬هجم‬
‫عليها و أوسعها ضربا •• ظل يكيل لها اللكمات و الرفسات و الصفعات‬
‫مصحوبة بأقوى العبارات البذيئة ‪ ،‬حتى سقطت مغشيا عليها ‪ ،‬بل صوت ‪ ،‬بل‬
‫كرامة ‪ ،‬بل أمل •• *** عندما أفاقت ريم بدا و كأنها تسحب نفسها من‬
‫أعماق سحيقة ‪ ،‬تلفتت حولها ‪ ،‬كانت على سريرها ‪ ،‬و الغرفة مظلمة و ل‬
‫صوت هنالك •• صاحت بفزع ‪:‬‬
‫حبس آخر •• حاولت النهوض فلم تقوى •• عادت فكررت المحاولة ثانية‬
‫لكن أضلعها كانت ضعيفة جدا فلم تحتملها ‪ ،‬شعرت أن أجزاء في جسدها‬
‫تحطمت تماما ‪ ،‬كان اللم يخرج منها دون أن يحدد منبعا ‪ ،‬تشعر بالوجع لكنها‬
‫ل تعرف تحديدا ماذا يؤلمها ‪ ،‬عادت فاستلقت مجددا و نامت أو أغشي عليها‬
‫•• شيئا منهما لكنه كان يشبه الموت •• *** منزل متهدم ‪ ،‬مكشوف من‬
‫وجوهه الربعة ‪ ،‬تنهال عليه من كل مكان القذائف و ريم تركض فيه‬
‫مذعورة ‪ ،‬خائفة •• تلوذ بالركان فل تحميها ‪ ،‬تعود فتركض تلوذ بالعمدة‬
‫فتتحطم قربها و تسمع لها دويا يصم الذان ‪ ،‬فتعود لتركض من جديد •• و‬
‫فجأة يظهر سعيد ‪ ،‬يمسكها من يدها ‪ ،‬يجري بها بسرعة و يقول بحزم ‪":‬‬
‫أركضي •• أهربي يا ريم •• هيا " تشعر بيده تطوق يدها فيزول الخوف ‪،‬‬
‫تترك له القياد ‪ ،‬مسلوبة الرادة يركض بها ‪ ،‬و في مستنقع كبير نتن الرائحة‬
‫بشع الصورة يسبح بها حتى يخرجا معا إلى أرض خضراء شاسعة البعاد ‪،‬‬
‫جميلة الرائحة ‪ ،‬هادئة ل أثر فيها لكل الرعب السابق •• تتنفس الصعداء و‬
‫تنظر ممتنة إلى سعيد فل تجده ‪ ،‬رغم أن ملمس يده مازال في يدها ‪ ،‬فجأة‬
‫تمطر الدنيا ‪ ،‬مطرا هتانا ‪ ،‬خفيفا يسقط على يدها و تسقط بضعة قطرات‬
‫منه على خدودها •• مازال ملمس يده في يدها و ابتسامة خفيفة تطوف‬
‫على وجهها إبتسامة راحة لم تشعر بها من قبل •• قطرة مطر كبيرة على‬
‫خدها تفيقها •• رعب كبير يجتاحها ‪ ،‬ضوء ساطع يسلط أشعته في عيونها و‬
‫سهيل جالس بقربها يمسك يدها و دموعه تتساقط على وجهها ‪ ،‬تصيح فزعا ‪،‬‬
‫تفلت يدها و تحاول البتعاد •• يهدئها •• يعيد تثبيتها في مكانها يهمس من‬
‫بين دموعه ‪:‬‬
‫أخيرا عدت للحياة •• تستكين لصوته المتضرع •• ترتاح في نومها ‪،‬‬
‫وتهمس بحلق جاف ‪:‬‬
‫كم الساعة الن ؟ يربت على يدها يهمس بحنان بالغ ‪:‬‬
‫حمدا لله على سلمتك •• يغرقها طوفان الحنان فتنبت في أحاسيسها‬
‫الدموع و تتساقط صامتة ‪ ،‬يضمها إليه و هو يهمس بلهفة ‪:‬‬
‫سامحيني يا حبيبتي ‪ ،‬سامحيني أرجوك •• و تنظر ريم إليه ‪ ،‬لوم الدنيا في‬
‫عينيها ‪ ،‬تهز رأسها فيتصاعد اللم تهمس كأنها تصيح ‪:‬‬
‫لماذا ؟ يضيع بقية السؤال في غصة اللم المجنون ‪ ،‬تصمت ‪ ،‬ترتشف‬
‫دموعها ‪ ،‬يده التي تمسح الدموع بحنان فائق تشعر بها كالشوك ‪ ،‬ل تقوى‬
‫على رفض وخزاته •• تدير وجهها عنه ‪ ،‬أصبح فجأة في ناظريها كالشيطان ‪،‬‬
‫ملمحه الجميلة قناع يخفي الوحش الذي رأته قبل قليل ‪ ،‬وداعته و دموع‬
‫ندمه كلليب ضخمة ينزع بها جلدها ‪ ،‬أمانها ‪ ،‬وهمها القديم •• يهمس لها و‬
‫هو يمسد شعرها ‪:‬‬
‫ريم حبيبتي ‪ ،‬اجيبيني ‪ ،‬أنظري إلي ‪ ،‬ل ترفضيني ‪ ،‬أرجوك •• تحاول أن‬
‫تبتعد عن لمساته ‪ ،‬بها نار تحرقها ‪ ،‬لزجة كأنما أخرجها من المستنقع قبل‬
‫قليل ‪ ،‬تذكرت الحلم ‪ ،‬فاستكانت روحها ‪ ،‬على أنها مالبثت أن ادركت أنه‬
‫مجـــرد حلــــم ‪ ،‬همست و هي تهز رأسها لتبعد الدموع عن وجهها ‪:‬‬
‫رأيتك مستنقع وحل يا سهيل •• مجرد مستنقع وحل •• قال لها و نشيجه‬
‫يرتفع ‪:‬‬
‫ل يا ريم ‪ ،‬ل ‪ ،‬ل تتخلي عني ‪ ،‬أنت الوحيدة التي أعرفها في هذا العـــالم ‪،‬‬
‫أنت عنواني و شهادة مــيلدي ‪ ،‬أنت بيتي •• أنت وطني يا ريم ‪ ،‬أتذكرين ••‬
‫كنت بدوري وطنك منذ أيام •• أدارت وجهها و علت أنفاسها و صاحت ‪:‬‬
‫مزيف •• وطن مزيف يا سهيل ‪ ،‬مستنقع وحل كنت أظنه جنتي فصار‬
‫سجني ‪ ،‬عبوديتي ‪ ،‬ناري •• أنت نار يا أيها المسكين ‪ ،‬نار ل تمنح من‬
‫يعاشرها إل الحريق •• انتفض واقفا ‪ ،‬مسح دموعه كأنه ينزعها نزعا ‪ ،‬تطلع‬
‫إليها بكراهية شديدة و همس ‪:‬‬
‫ل تستحقين العطف •• غادر الغرفة و صفق الباب وراءه ‪ ،‬تحاملت على‬
‫نفسها ‪ ،‬نهضت من الفراش ‪ ،‬سارت بخطوات متعثرة حتى وصلت إلى الباب‬
‫المصفوق ‪ ،‬بصعوبة استطاعت فتحه ‪ ،‬لم تجد سهيل في الصالة ‪ ،‬توجهت إلى‬
‫المطبخ ‪ ،‬كانت تريد أن تشرب ‪ ،‬وجدته هناك ‪ ،‬كان يبحث عن ملعقة في‬
‫جارور المطبخ ليذيب بها سكرا في كأس ليمون صنعه لنفسه ‪ ،‬عندما رآها‬
‫على باب المطبخ ‪ ،‬نظر إليها بغضب و صاح ‪:‬‬
‫ماذا تريدين ؟ نسيت ماذا تريد ‪ ،‬كل ما تذكرته أنها تريد الفكاك من هذا‬
‫المخلوق الكريه ‪ ،‬همست و هي تضم ثوبها ‪:‬‬
‫أريد أبي ‪ ،‬و أمي •• خذني إليهم أرجوك •• كان يقلب ليمونه بهدوء‬
‫يخفي عاصفة داخله ‪ ،‬تملكه يقين بأن ريم تريد إذلله ‪ ،‬تريد أن تفضحه و‬
‫تخبر العالمين بعجزه ‪ ،‬همس و هو يقلب كأسه كأنه ينحته ‪:‬‬
‫أغربي عن وجهي •• زادها موقفه إصرارا فقالت بتصميم ‪:‬‬
‫سهيل ‪ ،‬لقد ألقيت علي يمين الطلق ‪ ،‬من فضلك أذهب بي لهلي ‪ ،‬أو‬
‫اذهب فاستدعهم •• قال و هو يقبض الكأس بيده بقوة ‪:‬‬
‫قلت أغربي عن وجهي الن •• ضعف ريم وقتها و قلة حيلتها كانا الدافعين‬
‫إلى مزيد من العنـاد ‪ ،‬تشبثت ببـاب المطبخ و صاحت ‪:‬‬
‫أذهب بي إلى أبي •• أسمعت ؟ في أقل من لحظة كان كوب الليمون‬
‫يغسلها ‪ ،‬استشعرت طعمه في قطرات لمست شفاهها المتشققة ‪ ،‬اتسعت‬
‫عيناها رعبا ‪ ،‬ثم غضبا ‪ ،‬ل تدري كيف اندفعت باتجاهه ‪ ،‬تريد النقضاض عليه‬
‫كانت تصيح و هي ل تعي ما تقول لكنه سمعها جيدا ‪:‬‬
‫حرام عليك ‪ ،‬حرام عليك •• دفعها عنه بقوة فاصطدمت بطاولة المطبخ ‪،‬‬
‫سقطت أرضا و هي تستند عليها ‪ ،‬لمست أصابعها المرتجفة السكين ‪ ،‬قبضت‬
‫عليه بقوة رفعته باتجاهه ‪ ،‬عجزت عن الكلم فتركت السكين يلوح أمام‬
‫عيونه بما تريد أن تقول ‪ ،‬تطاير الشرر من عيونه و صاح بأعلي صوت‬
‫يمكنه ‪:‬‬
‫تريدين قتلي يا مجرمة •• تريدين قتلي ؟ نبهها صراخه فتركت السكين‬
‫يسقط أرضا بجانب قدمه نظر إليه ‪ ،‬ثم إليها فقالت و هي تكاد تغيب عن‬
‫الوعي ‪:‬‬
‫أقتلني يا سهيل •• هيا أقتلني ••أرجوك •• ما أرخص الحياة ‪ ،‬ما أرخص‬
‫الحياة •• كانت تغيب تدريجيا عن وعيها و سمعها يلتقط طرقات متلهفة على‬
‫باب البيت •• *** عندما أفاقت ريم كانت على فراش قديم كان لها ذات‬
‫يوم •• عرفت ملمح الغرفة القديمة على الفور ‪ ،‬أنتبهت ذرات كيانها على‬
‫أشباح واقفة بل حراك أمامها تبينت فيها سمت أمها و أبيها و أختها •• و ما‬
‫لبثت أصواتهم أن أنسابت رقراقة في أذنها فصبت على جزعها ماءا باردا‬
‫فصاحت و هي تمد يدها نحوهم بلهفة ‪:‬‬
‫أمي •• أبي •• سمر •• اندفع ثلثتهم نحوها ‪ ،‬أحاطوها ‪ ،‬غمرتها قبلتهم ‪،‬‬
‫و غمرتهم بقبلتها ‪ ،‬كانت دموعها تنزف و هي تردد ‪:‬‬
‫الحمد لله ‪ ،‬الحمد لله •• كانت تلمسهم ‪ ،‬تلمس ثنايا أجسادهم ‪،‬‬
‫وجوههم ‪ ،‬شفاههم ‪ ،‬دموعهم ‪ ،‬تشم رائحتهم ‪ ،‬كانت تتأكد في كل هذا أنها ل‬
‫تحلم ‪ ،‬تعاود احتضانهم ‪ ،‬تبكي ‪ ،‬تصيح ‪:‬‬
‫أهلي •• أهلي •• تضحك تصيح ‪:‬‬
‫أنتم معي •• أنتم معي •• و تعاود تشكك في أنها الحقيقة ‪ ،‬فتسأل بلهفة‬
‫و خوف ‪:‬‬
‫أنا ل أحلم ؟ تحاول النهوض ‪ ،‬فتعيدها أمها برفق و هي تقول بدموعها ‪:‬‬
‫حسبي الله و نعم الوكيل ‪ ،‬حسبي الله و نعم الوكيل •• اهدئي يا حبة‬
‫القلب •• نحن معك يا حبيبتي •• تقاومها ‪ ،‬تخشى إن هي استسلمت للنوم‬
‫أن تستيقظ لتجده معها ‪ ،‬تقول و هي تقبض عليها بقوة ‪:‬‬
‫أمي •• أنا ل أحلم •• أنتم معي ؟ يجلس أبوها بجوارها ‪ ،‬يربت خدودها‬
‫•• تلمع دموعه ‪ ،‬لول مرة تراه يبكي •• يميل عليها ‪ ،‬شاربه الكث الحبيب‬
‫يقتحم مجال رؤيتها بقوة يقول و هو يهدئها ‪:‬‬
‫أقسم لنتقمن منه يا غالية •• سأنتقم منه •• تسمع نهنهات سمر فتمد‬
‫يدها تناديها ‪ ،‬تقترب منها سمر تقبل اليد الممتدة نحوها تسألها و عيونها تلتمع‬
‫بالبكاء ‪:‬‬
‫أنت بخير يا أختي •• هه أنت بخير •• تتنهد ريم فتزيح عن صدرها خوفا‬
‫قبع عليه أياما طوال و تهمس للحبة حولها ‪:‬‬
‫اطمئنوا •• الحمد لله •• أنا بخير •• ترفع الم كفها للسماء ‪ ،‬تحمد الله ‪،‬‬
‫تقبل يدها ظهرا ببطن ‪ ،‬تقول و هي تحتضن رأس الحبيبة ‪:‬‬
‫الحمد لله يا ريم ‪ ،‬الحمد لله يا ابنتي •• *** لم تكن اليام التالية سهلة ‪،‬‬
‫كانت ريم تلقى من أهلها كل الرعاية التي أفتقدتها منذ زمن ‪ ،‬و زارتها أم‬
‫عبد الله و مشاعل التي أصبح لديها مولود ثالث أطلقت عليها أسم ريم‬
‫فادخلت البهجة على قلب ريم الكبيرة و شعرت أن الدنيا لزالت بخير ‪ ،‬إل أن‬
‫الحديث عن سهيل و عن الجراءات التي يجب أن تتخذ ضده كان هو الهم‬
‫الكبير الذي بات يؤرق العائلة و خصوصا ريم التي كانت تتمنى لو أن حياتها‬
‫معه منذ البداية صفحة كتاب يمكن أن تمزق و تنتهي ‪ ،‬لم تكن تريد ذيول‬
‫طويلة للموضوع ‪ ،‬فكانت ترفض كل اقتراح يقترحه الب عليها ‪:‬‬
‫محكمة ؟‬
‫ل ••‬
‫جلسة رجال و حق عرب ؟‬
‫ل ••‬
‫أمزقه أربا و أحطم البيت فوق رأسه ؟ و تصيح ريم بحزم ‪:‬‬
‫ل ••ل أريد غير ورقة تؤكد حريتي •• و كان لها ماأرادت ‪ ،‬ورقة سجلها‬
‫سهيل في المحكمة و أعطاها للب بعد أن أخذ كل شيء مقابل هذه الورقة ‪،‬‬
‫و يوم التقى الب به في رواق المحكمــة قال له و هو يتسلم ورقة ابنته ‪:‬‬
‫لول أننا في بلد نظامي ‪ ،‬لعرفت كيف أنتقم لبنتي منك ‪ ،‬لكن العمر‬
‫الطويل يبلغ المل و يوما ما سأمسك بك لقطع من لحمك الحي قطعة‬
‫قطعة حتى أشفي غليلي •• أمسكت ريم ورقتها الغالية ووضعتها بعناية في‬
‫صندوق مقتنياتها الثمينة •• كانت في نظرها في تلك اللحظة أهم ورقة‬
‫رسمية تحصل عليها •• في المساء أعلن التلفاز السعودي غزو العراق‬
‫للكويت ‪ ،‬و كانت صدمة كبرى ألهت السرة عن مأساة ريم لبعض الوقت ‪،‬‬
‫تغير مجرى الحديث في هذا البيت و في كل بيت نحو هذا الموضوع ‪ ،‬و‬
‫أنصبت التحاليل من كل جانب و عندما أعلن ياسر عرفات تأييده للجانب‬
‫العراقي اسودت الدنيا في عين اللجئة ‪ ،‬فها هو موقف سياسي جديد يحكم‬
‫على مليين الفلسطنيين الذين ل ذنب لهم بالطرد من رحمة الدنيا ‪ ،‬ضاقت‬
‫عليــها الرض بمـــا رحبت و تمتمت بغيظ شديد ‪:‬‬
‫لماذا ؟ لماذا ؟ قالت مشاعل و هي ترضع ريم الصغيرة قرب انتهاء يوم‬
‫العمل ‪:‬‬
‫ل أفهم هذا الموقف أبدا ‪ ،‬ما السر فيه ؟ لن ينسى الكويتيون ما عاشوا‬
‫هذا الموقف للفلسطنيين أبدا ‪ ،‬لماذا اتخذتم هذا الموقف يا ريم ؟ قالت ريم‬
‫بضيق شديد ‪:‬‬
‫أرجوك يا مشاعل ل تتحدثي و كأنني أنا من اتخذه ••‬
‫لكنه سيؤثر عليكم كثيرا ‪ ،‬هذا مؤكد ••‬
‫أعلم هذا ‪ ،‬و ل أملك حيلة •• *** كغيرها من أفراد الشعب السعودي‬
‫قررت أم عبد الله مد يد العون للكويتين الذين لجأوا إلى السعودية فأسكنتهم‬
‫الدولة في عدة أماكن و أمدتهم دوما بالغذاء و الكســـاء و الدواء و متطلبات‬
‫الحياة ‪ ،‬لذا قررت اصطحاب ريم و مشاعل معها في زيارة لهم للوقوف على‬
‫أحوالهم و تقديم يد العون لهم ‪ ،‬و هناك وقفت ريم على الحال ‪ ،‬و تحدثت مع‬
‫عضوات لجنة مناصرة الكويت و اقتــرحت عمل معرض دائـــم في الســكن‬
‫للتعبير عن الموقف الكويتي و مساندته •• و على الفور بدأت ريم في رسم‬
‫لوحات تعبيرية كانت تسهر عليها طوال الليل و في الصباح تذهب بها إلى‬
‫مقر اللجنة لقرارها •• أنهمكت في هذا العمل و عندما شارف المعرض‬
‫على النتهاء و قد شاركت فيه كل فنانة سعودية أو كويتية ‪ ،‬تقدمت منها‬
‫إحدى العضوات الكويتيات و قالت لها و هي تثني على جهودها ‪:‬‬
‫نحن نحبكم كثيرا أيها المصريون •• ابتلعت ريم غصة و أوشكت أن تخبرها‬
‫أنها فلسطينية ‪ ،‬و لكن شيئا ما أخرسها على الفور ‪ ،‬و انتبهت إلى أنها كانت‬
‫تتحدث معهم دائما باللهجة المصرية •• كان رفض السيدات الكويتيات‬
‫للجنس الفلسطيني واضح جدا في كل أحاديثهن ‪ ،‬و كانت ريم تستمع إليهن و‬
‫عندما تهم بالتعبير عن وجهة نظرها فتقول ‪:‬‬
‫ليس كل الفلسطنيين سواء •• كانت تجد ألف صوت يخرسها و هن ينددن‬
‫بموقفهن من الغزو العراقي و تقول إحداهن ‪:‬‬
‫عاشوا معنا و أكلوا من خيرنا و أصبح لدينا منهم من هو أغني من أبناء‬
‫البلد ثم انتقموا منا و انقلبوا علينا بمجرد أن واتتهم الفرصة ‪ ،‬إنهم غدارون‬
‫•• و إذا حدث أن بثت وكالت النباء خبرا عما يلقاه أبناء الكويت الذين بقوا‬
‫في الكويت على أيدي العراقيين علقت السيدات بأن الواشي فلسطيني بل‬
‫أدنى شك •• كانت ريم في صراع كبير مع نفسها ‪ ،‬تريد أن تقف أمام كل‬
‫هؤلء و تخبرهم أنها فلسطينية و تعتز بجنسيتها كما كانت تفعل أيام الجامعة‬
‫عندما كانت تهاجم في جنسيتها بسبب موقف سياسي ‪ ،‬إل ان الظرف كان‬
‫دائما غير مواتيا و الحداث كانت متسارعة تفيض بالخبار السيئة ‪ ،‬تشعل‬
‫قلوب الناس على مدن تــدمر و أبرياء يموتون و أبار بترول تحترق و حياة‬
‫فطرية يعتدى عليها في الخليج •• *** تطلعت ريم عبر مرآة حجرتها إلى‬
‫شعرة بيضاء تسللت في غفلة منها إلى شعرها •• لحظت الم أنها وقفت‬
‫تتأملها طويل فقالت باسمة ‪:‬‬
‫مازلت ريم الجميلة •• ابتسمت ريم رغما عنها و قالت و هي تغادر موقعها‬
‫و تجلس قبالة أمها ‪:‬‬
‫ل يا أمي •• لم أعــد ريم الجميـــلة ‪ ،‬لم أعد ريم الصــغيرة •• عمري‬
‫ينسل من بين أصابعي و الزمن يبدو كأنه ل يتحرك •• فقالت الم بقلق ‪:‬‬
‫لماذا تتحدثين هكذا كمن فاتها قطار العمر ؟ فقالت ريم مبتسمة ‪:‬‬
‫تجربتي في الحيـــاة يا أمي أضــــافت إلى عمري سنين ‪ ،‬ســــرقت مني‬
‫الفــرحة بالحياة و القبال عليها ••‬
‫ل يا ابنتي ‪ ،‬ل تقولي هذا الكلم ‪ ،‬مازلت صغيرة ‪ ،‬لم تصلي إلى الثلثين‬
‫بعد •• تنهدت ريم و قالت و هي تضغط حروفها ‪:‬‬
‫ياه ه ه كأنني بك في المس القريب تقولين نفس العبارة و لكن باختلف‬
‫الرقم ‪ ،‬كنت لم أصل إلى العشرين •• ما أسرع اليام يا أمي ••‬
‫إذا حملتها فوق ظهرك سوف تقعين في منتصف الطريق ‪ ،‬أما لو سابقتها‬
‫فستصلين حتما قبلها ••‬
‫سابقتها إلى أي شيء يا أمي ؟ ما هو الهدف من حياتي •• لماذا أعيش ‪،‬‬
‫إذا كان كل أمل يصبح ألم ‪ ،‬و كل هدف أصل إليه أجده سراب ••‬
‫ضعي لنفسك هدفا جديدا ‪ ،‬ل تيأسي ‪ ،‬الحياة لم تتوقف بسبب فشل تجربة‬
‫••‬
‫الفشل فظيع يا أمي‬
‫كان فشله هو و ليس فشلك أنت •• تنهدت ريم و قامت مبتسمة و‬
‫قالت ‪:‬‬
‫هو فشل على أية حال •• *** عاد قاسم •• حمل شهادته الكبيرة و عاد‬
‫•• لم يكد يستقر حتى فتح نقاشا حازما مع أبيه ‪:‬‬
‫أبي •• لبد أن نعود •• هز الب يدا ترتجف و قال بهدوء ‪:‬‬
‫إلى أين ؟ فقال قاسم على الفور ‪:‬‬
‫إلى مصر ‪ ،‬إلى بيتنا هناك ‪ ،‬لن تعيش في غربة طيلة حياتك •• ضحك‬
‫الب و هو يشيح بيده و قال ‪:‬‬
‫بيتنا في مصر ؟ هل نسيت يا بني أن ل بيت لنا هناك ‪ ،‬هل نسيت أنه‬
‫موطن غربة بدوره •• غربة لي و لكم ‪ ،‬هنا يشبه هناك ‪ ،‬ما الفرق ؟‬
‫إذن عد إلى فلسطين •• رفع الب رأسه ‪ ،‬نازعه حنين اغتصب ابتسامة و‬
‫قال ‪:‬‬
‫يا ليت ••‬
‫ما المانع ؟ أشعل سيجارته بأصابع مرتجفة و قال بشيء من المرارة ‪:‬‬
‫منذ أن ختمت جبيني بختم الغـــربة ‪ ،‬لم أر بلـــدي •• أحوالــها تغيرت ‪،‬‬
‫الصغار كبروا و البيوت امتلت بأناس ل أعرفهم ‪ ،‬و الجميع يعرف أنني هنا و‬
‫يتوقع مني عندما أعود أن أكون بحجم حياتي المتوقعة هنا •• هل تعرف كم‬
‫يمكن أن يكلفني تفكيري في العودة •• هذا بفــرض أنني أستــــطيع أصــل‬
‫العودة متجاوزا كل المحاذير و الحدود و علمة ممنوع الدخول ؟‬
‫و لم ل ؟‬
‫يا بني الطريق إلى غزة يمر بمصر و أنا فلسطيني ‪ ،‬ل يمكن أن أمنح هذه‬
‫التأشيرة ••‬
‫نحاول •• غمزت له ريم بطرف عينيها ‪ ،‬و عندما انفردت به في حجرتها‬
‫قالت له ‪:‬‬
‫أبي ل يمكن أن يستجيب لطلبك يا قاسم ••‬
‫و لم ل ؟‬
‫لنه أصبح غريبا •• الغربة أعطته جنسيته التي أصبح الن ينتمي إليها •• ل‬
‫تحاول أن تسلبه هذه الجنسية و تذكره أن له وطن •• صاح قاسم ‪:‬‬
‫و لكن هذه سلبية •• فقالت ريم بسرعة ‪:‬‬
‫قاسم •• أنت تتحدث عن أبي ••‬
‫ل يا ريم ‪ ،‬حديثي ليس فقط عن أبي ‪ ،‬إنني أتحدث عنك و عني ‪ ،‬عن‬
‫أمي ‪ ،‬عن أبي•• أتحدث ‪ ،‬عن مأساة استطالت حتى جاءت على الخضر و‬
‫اليابس في حياتنا ‪ ،‬أبي عاش غريبا ‪ ،‬لجئا ‪ ،‬يقدم حنينه قربانا إلى وحش ل‬
‫يشبع اسمه الغربة ‪ ،‬و أنت وقعت ضحية رغبتك في وطن ‪ ،‬تعثرت المرة تلو‬
‫المرة ‪ ،‬و أمي عاشت اختياريا غربة عن وطنها ‪ ،‬و أنا فقدت حبي الوحيد‬
‫بسبب جنسيتي ••‬
‫حبك الوحيد ؟ *** عاش قاسم قصة حب ناعمة مع زميلته مهيتاب ‪ ،‬إبنة‬
‫أستاذه في الجامعة ‪ ،‬سعت هي للتعرف عليه عندما تحدث والدها عنه بتقدير‬
‫كبير ‪ ،‬و عندما تعرفا نبتت بينهما رويدا مشاعر ألفة ما لبثت أن تحولت إلى‬
‫حب جارف من ناحية قاسم ‪ ،‬قابله دوما مودة عاقلة من "ماهي " كما كان‬
‫يناديها •• كان وراء زميلته عقل أكبر يرشدها دوما إلى ما فيه سعادتها ‪،‬‬
‫أبوها كان بالمرصاد لهذا الحب ‪ ،‬لن الولد ــ رغم كل مميزاته و تفوقه و‬
‫أخلقه ــ فلسطينيا •• قال قاسم لريم و هو يفرك يده بغيظ ‪:‬‬
‫لم أكن أتخيل يوما أن جنسيتي ستحول دون أن أعيش و أن أحب ‪ ،‬قابلت‬
‫كل عثرة في حياتي بروح راضية ‪ ،‬فقد كنت أعرف أنها ستمضي إلى حال‬
‫سبيلها •• لكن أن تصادفني هذه العقبة •• أن يرفضني الدكتور عامر لمجرد‬
‫أنني فلسطيني ‪ ،‬كانت هذه هي الطامة الكبرى ‪ ،‬المشكلة التي لن أجد لها‬
‫حل ‪ ،‬لو أنه أحتج بفقري ‪ ،‬لحاججته بالمستقبل و العمل القادم و المال الذي‬
‫نصنعه و ل يصنعنا ‪ ،‬أو أنه رفضني لخلقي ‪ ،‬لوعدته بإصلح ما ل يعجبه ‪ ،‬أو‬
‫أنه رفضني لعلة قابلة للتغير •• ؟ لكنه يا ريم رفضني لجنسيتي قال لي ‪ ":‬ل‬
‫يرضيك أن تعيش إبنتي تفاصيل لجوئك و تعاني معك من رفض العالم " ••‬
‫إذن لماذا نعيش ؟ ‪ ،‬ما الهدف من حياتنا ‪ ،‬إذا صودرت مشاعرنا كيف نعاود‬
‫مهادنتها ‪ ،‬و نعقد معها صلحا ‪ ،‬إذا جرحنا في كبريائنا ‪ ،‬كيف نضمده و نغسل‬
‫عنه آثار السكين •• أي مصير اختاره لنا أبي عندما اختار أن يغادر بلده‬
‫ليبحث عن نفسه ‪ ،‬أي مصير رمانا إليه عندما أقتلعنا من جذورنا و رفضت أي‬
‫أرض أخرى أن نغرس فيها ذواتنا ؟ ما الذي جناه أبي من غربته و ضياعه و‬
‫ضياعنا ؟ هل لديك إجابة يا ريم ؟ هل لديك تفسير ؟ جلست ريم على طرف‬
‫فراشها •• كان اللم يمزقها ‪ ،‬فجأة وضعها قاسم أمام حصاد العمر •• فجأة‬
‫اكتشفت أن الحصاد كان هباء ‪ ،‬لم يكن أبدا بقدر المعاناة ‪ ،‬لم يكن أبدا‬
‫يستحق عناء الحياة التي عاشوها •• تلفتت حولها •• ماذا بعد سنين‬
‫الدراسة و العمل و الغربة و العذاب •• ما هي النتيجة ؟ شهادة لها و شهادة‬
‫لقاسم ‪ ،‬من ذا يعبأ ؟ كم عدد حاملي الشهادات في كل وطن ‪ ،‬كم عدد من‬
‫يقتاتون قمامة الطرقات في اوطانهم رغم الشهادات و التعليم ؟ ماذا قدم‬
‫لهم جهاد أبيهم ‪ ،‬لماذا هم هنا ؟ و لماذا يكونون هناك ‪ ،‬و لماذا هم دومــا‬
‫على الهامش ‪ ،‬يأكلون فتات الموائد و يبــلعون الذل مع الماء ••‬
‫معك حق يا قاسم • معك حق ‪ ،‬لم نجني من كفاح العمر إل السراب ••‬
‫*** تلك الليلة لم ينم جهاد ‪ ،‬ظل يتقلب على جمر التفكير ‪ ،‬حديث قاسم‬
‫إليه ‪ ،‬ثم إلى ريم ‪ ،‬نبهه إلى غفوة عاشها طويل ‪ ،‬تلقى فيها ضرب المطارق ‪،‬‬
‫و لم يدفع عن نفسه تهمة أنه يريد أن يعيش •• نهض من فراشه فنبه زوجته‬
‫•• دق كفا بكف و قال‪:‬‬
‫متى تحتوينا الدنيا فيمن احتوت ؟ نهضت سميحة فزعة ‪ ،‬قالت و قلبها‬
‫يخفق بشدة ‪:‬‬
‫ما بك أبا العيال ؟ نظر إليها و قال و هو يتنهد حسرة ‪:‬‬
‫أبنائي تعساء يا أم قاسم ••لم أستطع تأمين القدر الضئيل من السعادة‬
‫لهم ‪ ،‬فشلت في منحهم صك أمان يعيشون به في هذا العالم •• لم تفهم‬
‫سميحة ما الذي يقصده زوجها على أنها استشعرت هما كبيرا يعربد في قلبه‬
‫•• صمتت ‪ ،‬فأكمل ‪:‬‬
‫لم أنجح في منح ريم رجل يصونها ‪ ،‬و لم أنجح في إعطاء قاسم انتماًء يعتز‬
‫به ‪ ،‬لم أنجح في حمايتك من سنين غربة طويلة ‪ ،‬سمحت لنفسي أن أجور‬
‫عليكم جميعا ‪ ،‬سمحت لنفسي أن أصادر أحلمكم في حياة سوية ‪ ،‬كان‬
‫أشرف لي ألف مرة لو بقيت في بلدي ‪ ،‬أعاني ما يعانون ‪ ،‬أشرب ماءهم‬
‫الملوث بالرصاص ‪ ،‬و آكل لقمتهم المغمسة بذل النهار •• كان أشرف لي‬
‫ألف مرة أن ألحق بمحمد في طابور الشهداء بدل من أن أضاعف مآساتي‬
‫ثلثة مرات في ثلثة أبناء ‪ ،‬ل يعرفون لماذا يدير العالم ظهره عنهم ‪،‬‬
‫يلطفونه فيصفعهم ‪ ،‬يهادنونه ‪ ،‬فيضربهم ‪ ،‬يقدمون له الود فيرفضهم ••‬
‫صاحت سميحة لتسكته ‪:‬‬
‫ويحي يا أبا العيال ‪ ،‬ويحي ‪ ،‬ل يمكن أن تكون نظرتك أنت بالذات لحياتك‬
‫بهذه القسوة ‪ ،‬أنت جهاد •• جهاد الذي جاهد منذ نعومة أظفاره تصاريف‬
‫أقدار ل ترحم •• أنت جهاد الذي رفض أن يترك أولده نهبا لمستقبل مجهول‬
‫دون أن يحصنهم بالعلم ‪ ،‬أنت جهاد الذي منح أولده معنى الحب و معنى‬
‫العطاء و ضرب أروع المثل في التضحية و الفداء ‪ ،‬جهادك للجهل ليس فشل‬
‫يا أبا قاسم ‪ ،‬جهاد ظروف ل ترحم ل يقل أبدا عن جهاد محمد و من معه ‪،‬‬
‫لقد جاهدت غربة كان يمكن أن تسلم أبناءنا للضياع ‪ ،‬منحت لصابع ريم‬
‫الضياء لتظل ترسم و تقتات برسمها ‪ ،‬تعيش فل يكسرها رجـــل بل رجولة ‪،‬‬
‫منحت لقاسم شهادة عز يصبو إلى مثلــــها الكثيرون ‪ ،‬و غدا تراه رب‬
‫أســــرة قـــادر على تحــمل مسؤولية أولده و منحهم السعادة و المان ••‬
‫منحت و لزلت لسمر كل الحب و الرعاية و التعليم •• منحتني و لزلت‬
‫الرجل الذي ل أرضى عنه بديل لو بادلتني الدنيا به كل الرجال ‪ ،‬رجل يعرف‬
‫معنى العشرة ‪ ،‬معنى المسؤولية •• كنت وطني ‪ ،‬بلسم جرحي ‪ ،‬أبو‬
‫أولدي ‪ ،‬زوجي ‪ ،‬أبي ‪ ،‬أخي ‪ ،‬حبيبي •• ل يا جهاد ‪ ،‬ل تستهن بسنين جهادك ‪،‬‬
‫ل تذروها رمادا في الهواء ‪ ،‬فلقد فعلت و تفعل ‪ ،‬قدمت و تقدم كل ما وسعك‬
‫‪ ،‬لن ينسى لك أبناؤك عطاءك و لن يجحفك الله فضلك •• لم يرد جهاد ‪،‬‬
‫كان بحاجة إلى كلماتها ‪ ،‬كان بحاجة إلى أن يسمع شيئا ينصفه ‪ ،‬في داخله‬
‫توسل وجدانه أن تقول المزيد ‪ ،‬و على لسانه خرجت عبارة تستجدي التأكيد‬
‫قال بضعف كبير ‪:‬‬
‫هل صحيح ما تقولين يا أم العيال ؟ هزت الم رأسها تأكيدا ‪ ،‬و ضمت كفه‬
‫إلى كفها و همست بحب ‪:‬‬
‫أقسم لك أنه صحيح •• *** و جمعتهم الم •• جمعت أولدها الثلثة في‬
‫غياب الب •• كانت حازمة للغاية قالت موجهة حديثها للجميع ‪:‬‬
‫أشعر أن شرارة نار صغيرة ترعى الن في صدوركم •• شرارة نار لن‬
‫تلبث أن تصبح جحيما •• ماذا حدث يا أولد جهاد ؟ نظرت ريم إلى قاسم‬
‫فبادلها النظر و قالت سمر ‪:‬‬
‫ل أفهم يا أمي •• فقال قاسم بهدوء ‪:‬‬
‫شرارة النار لن تحرق إل الستسلم و السلبية يا أمي •• قالت الم و هي‬
‫تنظر إليه بقوة ‪:‬‬
‫إذا بقيت شرارة يا ابن بطني ‪ ،‬أما اذا تحولت إلى جحيم فإنها ستحرقنا‬
‫جميعا و أولكم أبيكم •• قالت ريم بسرعة ‪:‬‬
‫أبعد الله الشر عنه يا أمي •• ماذا حدث ؟ فقالت الم و هي مازالت تنظر‬
‫إلى قاسم ‪:‬‬
‫ليلة البارحة لم ينم أبوكم •• كانت روحه تحترق من أجلكم •• تملكته‬
‫فكرة غريبة •• تحدث و كأنه أضاع عمره بل ثمن •• لماذا قسوتم على‬
‫أبيكم ‪ ،‬لماذا يا قاسم ؟ أخذ قاسم نفسا عميقا و قال و هو متأكد أن ما‬
‫سيقوله لن يكون هينا ‪:‬‬
‫أمي •• عندما غادر أبي فلسطين قبل أكثر من سبعة و عشرين عاما كان‬
‫شابا ‪ ،‬واحدا ‪ ،‬عانى من قسوة ظروف ل ترحم و جاء إلى مصر بحثا عن‬
‫الفضل •• و عندما تزوجك لم يفكر للحظة واحدة في مستقبل لن يكون فيه‬
‫وحيدا •• كل ما فكر فيه وقتها أن يصنع لنفسه وطنا بدل عن وطنه الذي‬
‫انتزع نفسه منه انتزاعا ‪ ،‬نسي في خضم فرحته بوطنه الجديد و مسؤوليات‬
‫السرة ‪ ،‬أن الوطن الذي صنع وطن غير معترف به ‪ ،‬ل يكفل لمن ينتمون له‬
‫أبسط الحقوق ‪ ،‬و ل يمنح من يلجأ إليه المان ‪ ،‬وطن يعوزه مباركة العالم ‪،‬‬
‫نسي و هو يحملنا صغارا واحدا بعد واحد أن وطنه بل حدود ‪ ،‬و أن صغاره‬
‫ينبغي أن يظلوا صغارا ل تعدوا حاجتهم طعاما و شرابا ‪ ،‬لعبة و تدليل ••‬
‫تركنا نكبر رغم أن الرض تحتنا ليست لنا ‪ ،‬تركنا نحلم رغم علمه بأن أحلمنا‬
‫على بساطتها غير قابلة للتحقيق •• و عندما اصطدمت أحلمه فينا بعقبة‬
‫المال ‪ ،‬أبدي بسرعة استعداده المطلق للتغرب عنا من أجل تأمينه لنا ‪ ،‬حتى‬
‫يظل حلمنا يكبر و تظل أحلمنا تتسع و نفاجأ و نحن نوشك على قطف الثمار‬
‫أننا ل نملك الحق فيها ‪ ،‬ليس لدينا مسوغات الحياة اللئقة •• مجرد كائنات‬
‫تؤدي وظيفة واحدة ‪ ،‬هي تحقيق حلم أسطوري للجيء قديم بأن يصنع‬
‫لنفسه وطن •• غير أننا يا أمي أصبحنا بدورنا لجئين ‪ ،‬نبحث بجنون عن‬
‫وطن نريح عليه أقدامنا المتعبة و نثبت فيه جذورنا التي تتمايل في الهواء ••‬
‫ريم بحثت عن وطن فاصطدمت بالعجز و القسوة ‪ ،‬و أنا بحثت عن وطن‬
‫فأغلقوا الباب دوني •• و هو مصير ينتظر سمر أيضا •• ل تلومينا يا أمي إذا‬
‫طفح الكيل منا ووجدنا أنفسنا أمام أنفسنا ‪ ،‬فصارحناها ‪ ،‬كاشفناها بحثنا في‬
‫ذواتنا عن أصل الخطأ ‪ ،‬و قررنا معالجته •• تنهدت الم و نظرت إلى ريم ‪،‬‬
‫أدركت ريم أن عليها أن تتكلم بدورها ‪ ،‬عليها في هذه اللحظة أن تقرر إذا‬
‫كانت توافق قاسم فيما يقول أو أنها ضده ‪ ،‬كان لبد أن تتكلم فتكلمت قالت‬
‫بحروف تتعثر في الحياء و الرتباك ‪:‬‬
‫أمي •• أنا أحب أبي •• أحبه حبا جما ‪ ،‬و اراه أعظم رجال الدنيا ‪ ،‬و أنظر‬
‫إلى عطائه لنا طيلة سنين غربته نظرة إكبار و تقدير ‪ ،‬لكنني عندما أناقش‬
‫حياتنا مع نفسي ‪ ،‬أو مع قاسم ‪ ،‬أو حتى على المل معكم جميعا ‪ ،‬أحاول و‬
‫يحاول أخي أن نضع النقاط على الحروف ‪ ،‬أن نحدد لخطواتنا موقعا قبل‬
‫الشروع فيها •• سنة الحياة يا أمي أن يكبر الصغار و أن تنفصل أحلمهم عن‬
‫أحلمكم •• و أن تختلف رؤيتهم للحياة عن رؤيتكم •• لقد ظللنا حتى‬
‫التخرج و رغم المعاناة التي شربتموها معنا نحقق أحلمكم •• كنا نعتقد أنها‬
‫بدورها أحلمنا ‪ ،‬لكننا اكتشفنا ‪ ،‬و سأتحدث عن نفسي على القل ••‬
‫اكتشفت أن ما فعله أبي معي كان هدفه هو •• لبد للمرء أن يضع لنفسه‬
‫هدفا حتى يعيش من أجله ‪ ،‬و أبي الذي فقد وطنه ‪ ،‬و يعرف أن حلمه في‬
‫أرض ‪ ،‬أو منزل ‪ ،‬أو شيء يملكه سيكون من قبيل حرث البحر ‪ ،‬ارتاح كثيرا‬
‫إلى أن يجعلنا هدفه •• ارتاح كثيرا إلى فكرة أنه يكافح من أجل أن يصل‬
‫أبناؤه إلى أعلى الدرجات العلمية •• هذا الهدف يا أمي له ميزة عظيمة لبي‬
‫فهو هدف متواصل سيظل يكافح من أجل تحقيقه حتى تتخرج سمر بدورها‬
‫•• و هو هدف في حد ذاته عظيم و نبيل و قد أداه والدي حتى الن كأفضل‬
‫ما يكون •• لكنه نسي في خضم هذا أننا كائنات حية و بدورنا تتشكل أهدافنا‬
‫و تتوجه نظراتنا و تتغير اتجاهاتنا •• لسنا مجرد عرائس تتحرك وفق رغبة‬
‫محركها •• نحـــن أهــــداف متحركة تنــمو و تكبر و تتسع نظرتها في الحياة‬
‫لتشمل كل شيء •• إننا نريد أن نضع حدا لهذه الحياة •• نضع حدا لطريق‬
‫سرنا فيه منذ البداية لتحقيق رغبة لبينا ‪ ،‬نريد طريقا آخر لنفسنا ‪ ،‬يدفعنا له‬
‫هدف نسعى بدورنا لتحقيقه ‪ ،‬ل نريد أن نظل طوال حياتنا رهن طريق واحد‬
‫يقودنا في النهاية إلى ل شيء •• تنهدت الم ثم قالت لهما دون أن تخص‬
‫واحدا منهما بسؤالها ‪:‬‬
‫و ما هي أهدافكم يا أولد جهاد ؟ للمرة الثانية يتبادل قاسم و ريم النظرات‬
‫فتقول ريم بهدوء ‪:‬‬
‫مازلت لم أحددها بعد •• و يقول قاسم ‪:‬‬
‫عما قريب ستعرفانها •• *** كانت حرب الخليج قد انتهت و عاد‬
‫الكويتيون إلى بلدهم و في حفل أقامته السفارة الكويتية دعيت ريم لحضوره‬
‫تم تكريم كل من شارك في مساندة الشعب الكويتي ‪ ،‬و نالت ريم شهادة‬
‫تكريم جميلة و دعوة كريمة بزيارة الكويت من عضوات اللجنة الذين كانوا‬
‫يكنون لريم"المصرية" كل التقدير •• و استيقظ العالم ذات صباح قريب‬
‫على مؤتمر السلم في مدريد •• وبعد ذلك تابع جهاد مع أسرته على‬
‫الشاشة المصافحة التاريخية بين رموز بلده و أعدائه في حديقة البيت البيض‬
‫•• ساد الوجوم الوجوه •• نظر جهاد في عيون أولده •• ضعف غريب كان‬
‫يسكن عيونه ‪ ،‬شعر أنه ل يستطيع التقاط أنفاسه •• جر قدميه جرا أمام‬
‫عيون الجميع و اتجه إلى فراشه •• احاطه الجميع بقلقهم ‪ ،‬بحبهم ‪ ،‬تطلع‬
‫إليهم ‪ ،‬كان يراهم من بين ضبابات غربته •• تجمعت في عيونه دموع ساخنة‬
‫•• استجاب ليد سميحة و هي تمسك يده فضغط عليها بقوة ضعفه و قال و‬
‫هو يطالع لوحة البئر غير المكتملة التي رسمتها ريم ذات يوم بعيد ‪:‬‬
‫إنها نهاية الرحلة يا سميحة •• لم تستطع سميحة أن تتكلم هزت رأسها‬
‫رافضة و دموعها تتزاحم على وجنتيها •• ركعت ريم بجواره ‪ ،‬مسدت رأسه‬
‫بحنان قالت و هي تحاول أن تبدو قوية ‪:‬‬
‫أبي ‪ ،‬أنت أقوى من كل شيء ‪ ،‬ل تعطي الفرصة للهزيمة كي تأكلك ••‬
‫انهض يا أبي •• عد إلينا ‪ ،‬نحتاجك •• اقسم إليك أننا نحتاجك •• مد جهاد‬
‫يده باتجاه قاسم ‪ ،‬فلبى سريعا النداء فيها و أمسكها بكل الحب ‪ ،‬طبع قبلة‬
‫حارة عليها فقال الب ‪:‬‬
‫لم يكن هباءا حصاد العمر •• زرعت فيكم الغد الذي لم أره ‪ ،‬و غدا عندما‬
‫تواجه دنيا يحكمها قانون البقاء ‪ ،‬سوف تجد أنني كنت على حق عندما‬
‫رسمت لكم حدود الوطن في شهادة تحملها ‪ ،‬و أخلق تربيت عليها و احترام‬
‫لئق تعيش فيه ‪ ،‬جد طريقك فلقد أعطيتك المفتاح و لكن انتبه لنفسك ••‬
‫هؤلء هم المانة التي أتركها في عنقك يا قاسم •• سمر لبد أن تكمل‬
‫تعليمها ‪ ،‬و ريم لبد أن تتزوج رجل حقيقيا •• وصن أمك في عيونك ••‬
‫حافظ على نفسك •• كن كما عهدتك دوما رجل يا بني •• انفجرت ريم في‬
‫البكاء و جاوبتها سمر فقال الب و هو ينظر للجميع ‪:‬‬
‫سامحوني ‪ ،‬و اطلبوا لي الرحمة ‪ ،‬و إذا شعرتم يوما أنني حرمتكم من‬
‫شيء فل تجعلوه في عنقي و أسألوا لي المغفرة •• بعدها لم يكن الب‬
‫يتكلم إل بهمهمات قليلة تتبين فيها السرة أسماء قديمة ظلت محفورة في‬
‫ذاكرته •• استمر يومين ينازع الشوق و الحنين ‪ ،‬ل يفارقه أبناؤه و زوجته‬
‫حتى وهبه الله النطق بالشهادة و مات •• مات جهاد •• *** ذات يوم حمل‬
‫لي البريد نعي عمي ‪ ،‬و اليوم يحمل لك البريد نعي عمك •• كأن البريد بيننا‬
‫نذير موت ل ينتهي ‪ ،‬و كأنما القدار أبت إل أن يكون رباط الدم بيننا دائما‬
‫مسفوحا •• تامر •• يسكنني الخوف منذ سنين يا ابن عمي ‪ ،‬أشعر به نبضا‬
‫صارخا يدق كطبول حرب ل تريد أن تضع أوزارها •• أشباح الغربة تطاردني‬
‫كأنها ل تعرف في الدنيا غيري ‪ ،‬كأنها مكلفة بمراقبتي ‪ ،‬تلف أنشوطتها حول‬
‫عنقي و تسحبني ‪ ،‬إلى نفس المصير تسحبني ‪ ،‬إلى فراش بارد في غربة‬
‫قاسية ‪ ،‬يوما ما سألفظ أنفاسي المحترقة حنينا في ذات الغربة التي لفظ‬
‫فيها أبوينا انفاسهما ‪ ،‬في دنيا دأبها العناد ‪ ،‬و دقات ساعاتها الفراق •• في‬
‫نار تتأجج من أعصابنا ‪ ،‬و تستعر بلحم اجســادنا •• هباء ‪ ،‬كل ما عشناه حتى‬
‫الن هباء •• كل ما لقيناه كان بل ثمن ‪ ،‬زفرات الحنين ‪ ،‬و أنات الحرمان ‪ ،‬و‬
‫قسوة الظروف و البشر ‪ ،‬كلها بل ثمن ‪ ،‬ضاعت يا تامر ‪ ،‬ضاعت يوم ارتضينا‬
‫معاهدة سلم ترخي على عذاباتنا الستارة المزركشة ‪ ،‬و تخفــي أناتنا خـــلف‬
‫الموســيقى الصاخبة •• تحضرنا و نزعنا مسوح الجلف يوم قطفنا زهرا‬
‫نبت على قبور أحبابنا لنهديه طوعا لعدائنا •• و ماذا بعد يا تامر ؟ ماذا بعد‬
‫•• الجرافة العملقة تسير في الطرقات تحمل جثثنا اكواما نتنة لتلقي بها‬
‫في التون ‪ ،‬تسعره حتى يضيء شعلة سلم مزعومة •• ل تقل لي يا ابن‬
‫عمي أن ثمة أمل ‪ ،‬ل تكتب أشعارا عن الوطن و تحفرها فوق أضلع قفصك‬
‫الصدري ‪ ،‬و تنقشها وشما على قلبك المتعب ‪ ،‬لقد مات جهاد ••لقد مات‬
‫أبي •• *** كان الكفيل رحيما ‪ ،‬أمهلهم شهرا حتى ينتهوا من كل ما يربطهم‬
‫بالبلد و يستعدوا للرحيل ‪ ،‬كان الجميع على كفالة رجل مات قهرا ‪ ،‬و كان‬
‫موته إيذانا بالنهاية •• لملموا أغراضهم ‪ ،‬و تنهدت الم تحمد الله أن لها وطنا‬
‫يمكن أن يعيش فيه أبناؤها • ليلة الرحيل بدت ريم ساهمة في ثوبها السود ‪،‬‬
‫همست و هي تنظر للحقائب المكومة ‪:‬‬
‫هل سنترك أبي هنا للبد ؟ تطلعت إليها الم واجمة •• لم ترد فأكملت‬
‫ريم و دموعها تغلبها ‪:‬‬
‫ألن نستطيع بعد اليوم زيارته ‪ ،‬حتى قبر يضمه لن يكون بمقدورنا قراءة‬
‫الفاتحة عنده •• سنتركه هنا ‪ ،‬جدث مجهول ‪ ،‬لرجل مجهول ‪ ،‬عاش و مات‬
‫مجهول •• قالت الم و شفتاها ترتجفان ‪:‬‬
‫أطلبي له الرحمة أنى كنت يا ريم •• إسألي الله له المغفرة و الجنة في‬
‫أي مكان •• الله موجود في كل مكان •• تمتمت ريم ‪:‬‬
‫لو كان له وطن •• لو كان لنا وطن •• لو كان من حقه أن يحتل في بلده‬
‫مترا في متر لما عاش غريبا ‪ ،‬و مات غريبا •• آه ه آه ه ‪ ،‬كم أنا مقهورة و‬
‫حزينة •• كم نحن بل ثمن يا أمي •• بل ثمن ••أحزاننا قوقعة اتخذت شكل‬
‫أجسادنا و أصبحت من تكويننا ‪ ،‬يعتقد من يراها أننا خلقنا بها ••لكننا لم‬
‫نخلق بها •• ولدنا بقشرة رقيقة من الحزن مع اليام صارت غلفا ‪ ،‬قوقعة‬
‫•• لم يدرك الناس أننا ل نحبها •• نريد الخلص منها ‪ ،‬ظنوا طرقنا المستمر‬
‫عليها حفلت رضى و رقصات حبور ‪ ،‬لم يفهموا يوما أنها صرخات احتجاج و‬
‫محاولت تمرد عليها •• مسحت دموعها و أردفت بهدوء ‪:‬‬
‫محاولت لم يكتب لها النجاح أبدا •• وسنظل نحمل قوقعة الحزن فوق‬
‫أرواحنا حتى نموت •• صاح قاسم بقوة ‪ - :‬لبد من حل •• لبد من تغيير ‪،‬‬
‫لبد لليلنا الطويل أن ينتهي •• لن نظل نتوارث الحزن جيل بعد جيل ‪،‬‬
‫نتوارث الهم و اللجوء أبا عن جد ‪ ،‬لبد من بعض السكر في اباريق العلقم‬
‫التي نزدردها لكي نعيش •• أمسك يد ريم و قال و هو يضغط عليها بقوة ‪:‬‬
‫لبد أن فرجا سيأتي يا أختي •• سيأتي يوم نخرج فيه من دائرة التهام ‪ ،‬و‬
‫يرى العالم أننا أوفينا العقوبة و أمضينا الحكم ‪ ،‬وكان سلوكنا حسنا•• سيأتي‬
‫يوم لن يبحث فيه أولدنا عن أرض ينامون فيها ملء عيونهم ‪ ،‬لن يبحثوا فيه‬
‫عن حنان زائف يحتضن همومهم ‪ ،‬لن يبحثوا فيه عن عيون تتفهم قضيتهم ••‬
‫سيأتي هذا اليوم •• أنا أكيد •• هزت ريم رأسها و ابتسمت متهكمة و قالت‬
‫و هي تسحب يدها ‪:‬‬
‫مهزوم أنت يا أخي •• و المهزوم دوما يبحث عن خلص •• يحلم بخلص‬
‫•• لكنه لن يأتي هذا الخلص •• فقال قاسم بتصميم ‪:‬‬
‫بل سيأتي ‪ ،‬إن لم يتغير العالم فلنسعى نحن لتغير الظروف ‪ ،‬إن لم يأتنا‬
‫الفرج فلنرسم نحن ملمحه ‪ ،‬نصممه يا فنانة •• دعينا نضع خطوط غدنا‬
‫الذي نريد ‪ ،‬دعينا نفجر قوقعتنا و نزحف بعيدا عنها بإيدينا ••‬
‫لن نستطيع ••‬
‫إن شاء الله سنستطيع •• علت أبتسامة هزيلة شفاهها و صرخت روحها ‪:‬‬
‫كم أنك واهم أيها المهزوم ‪ ،‬كم أنك واهم ••‬
‫القسم الرابع‪:‬‬

‫أصبحوا على متن باخرة العودة •• باخرة عملقة تحمل آلف البشر ‪ ،‬ضاعت‬
‫ملمحهم وسط الملمح •• كان الهم في قلوبهم يزيل عن وجودهم صفة‬
‫الوجود •• تطلعت ريم إلى ميناء جدة و هو يبتعد و تنهدت ••كان لها في هذا‬
‫المكان يوما حكاية ‪ ،‬و تذكرت مشهد الوداع و كم كــان صعبا مع مشـــاعل و‬
‫كل زميــلت الســوق و حتى أم عبدالله قالوا لها و هي ترفع شهادتها من‬
‫فوق حائط الجاليري ‪:‬‬

‫تذكرينا يا ريم •• ابتسمت و هي تقول ‪:‬‬


‫في صندوق ذكرياتي متسع للجميع •• قالت مشاعل و هي تحمل ريم‬
‫الصغيرة ‪:‬‬
‫لن أنساك أبدا يا ريم •• ستظل ريم ابنتي تذكرني بك •• احتضنتها ريم و‬
‫هي تقول ‪:‬‬
‫أقسم بالله أني أحببتك صادقة يا مشاعل •• و إنك كنت دوما نعم‬
‫الصديقة ‪ ،‬نعم النسان ••‬

‫أكتبي لي ••‬

‫سأكتب •• أعدك ••‬

‫تنحت بها أم عبد الله ركنا ‪ ،‬منحتها ظرفا منتفخ و قالت و هي تحتضنها ‪:‬‬

‫تذكري يا ابنتي أن الحياة ليست كلها شرا •• و دعيني أسمع عنك ما يسر‬
‫••‬

‫أومأت إيجابا و احتضنتها محبة و داخلها صوت يقول ‪:‬‬


‫ليت كل الناس مثلكم •• صفارة الباخرة أفاقتها من شرودها •• كان‬
‫قاسم بجوارها همس و هو يتطلع للماء ‪:‬‬
‫سنبدأ من جديد يا ريم •• ابتسمت ريم و علقت ‪:‬‬
‫كل يوم بداية جديدة ‪ ،‬متي نتابع يا أخي البدايات ؟ ركز قاسم وجهه في‬
‫الماء و قال بصوت حالم ‪:‬‬
‫يذكرني لونه بعيون ماهي ‪ ،‬كانت زرقاء كلون البحر و السماء ••‬
‫أحببتها ؟‬

‫كما لم أحب من قبل يا ريم •• أحببت فيها أمانا لن يكون لي في يوم من‬
‫اليام ‪ ،‬استقرارا و أسرة عادية ليس بوسعي أن أحلم بمثلها •• أمل أزرقا‬
‫جميل منحه لي الله سنوات قليلة •• ما أجمل الحياة حين نحب ••‬
‫أسأل الله أن يجمعك و إياها زوجين كما تتمنى تنهد قاسم و أدار ظهره‬
‫للبحر و قال ‪:‬‬
‫لن أخدع نفسي يا ريم •• عودتي الســريعة ل تعني أن مشكلتي حلت ‪،‬‬
‫مازلت فلسطينيا يا أختي •• لكنني أفكر بأمر آخر ••‬
‫ما هو ؟ قال قاسم بتصميم من قرر ‪:‬‬
‫أن أبحث لنفسي عن جنسية رقمية ‪ ،‬جنسية يعترف بها العالم كله ‪،‬‬
‫جنسية ل يستطيع كائنا من كان أن يرفضها أو يضطهدها •• سيكون هدفي‬
‫المال يا ريم ‪ ،‬المال هو حل اللغز ‪ ،‬عندما أصبح ثريا ‪ ،‬شديد الثراء لن‬
‫يسألني الدكتور عامر عن جنسيتي ‪ ،‬و لن يضيع أبنائي في متاهات اللجوء ‪،‬‬
‫سأتمكن من شراء جنسية عالمية أمنحها لبنائي يحترمهم العالم بها و‬
‫يفتحون لهم من أجلها البواب المغلقة •• هذه هي جنسيتي الجديدة التي‬
‫سأسعى لها ما حييت •• كانت ريم تسمع أخاها و دهشة كبرى تعقد لسانها‬
‫همست بعد أن انتهى ‪:‬‬
‫هذا جنون •• هل تعني أنك تريد طوعا هجر جنسيتك ‪ ،‬الثر الوحيد الذي‬
‫تحمله لنتماءك و أصلك ؟ أجاب بصوت حاسم ‪:‬‬
‫نعم •• هذا هو غدي الذي أريده •• و لن يمنعني من تنفيذه أي شيء ••‬
‫هذا هو الهدف الجديد يا ريم ••أنت أيضا ابحثي عن هدف يخصك ‪ ،‬هدف‬
‫تجدين فيه نفسك ‪ ،‬ابحثي خارج إطار الوطن المفقود عن شيء آخر ‪ ،‬معنى‬
‫آخر للحياة •• صدقيني هذا هو الحل •• شيء كبير داخل ريم كان يرفض‬
‫الكلم ‪ ،‬يرفض الحروف ‪ ،‬يرفض اللهجة ‪ ،‬و عالم كبير حولها كان يؤيده ‪،‬‬
‫يتبناه ‪ ،‬يقول نعم هذا هو الحل •• تركته وحيدا يدير ظهره للزرق و يحلم‬
‫بجنسية جديدة و عادت للكابينة •‬

‫***‬

‫عندما وصلت الباخرة ميناء السويس تمتمت ريم ‪:‬‬


‫لقد عدنا •• لكن الواقع أنهم لم يعودوا •• الواقع قال كلمة نزلت عليهم‬
‫كالصاعقة ‪:‬‬
‫الم فقط تدخل أما أنتم فعودوا من حيث أتيتم •• ل إقامة لكم هنا ••‬

‫تلفتوا ينظرون حولهم ‪ ،‬غير مصدقين لما يسمعون ‪ ،‬العبارات واضحة ‪ ،‬لكن‬
‫لبد أن هنالك خطأ ما ‪ ،‬لبد أن هذا الحديث لشخاص هلميين حولهم ‪ ،‬ليس‬
‫لهم •• تمسكت سمر بأمها فصاحت الخيرة ‪:‬‬
‫لكنهم أبنائي •• قال المسؤول و هو يمط شفتيه ‪:‬‬
‫هذا هو النظام •• عادوا يتلفتون حولهم ‪ ،‬ينتظرون نجدة من السماء تذيب‬
‫جبل الجليد القابع أمامهم ‪ ،‬ل يمكن تصديق ما يقوله •• جلست ريم على‬
‫الحقائب المكومة و همست بألم ‪:‬‬
‫إنها حقيقة •• احتج قاسم بأعلى صوت يملكه ‪ ،‬لوح بيده في وجه‬
‫الموظف ‪ ،‬أوشك أن يمد يده ليضربه •• كل هذا لم يجدي نفعا •• بالعكس‬
‫زاد من إصرار الموظف على تنفيذ النظام •• و قال له و هو ينهي الحديث ‪:‬‬
‫لو دخل الجميع فلن تدخل أنت •• و قررت الم أن تعود معهم •• قال‬
‫قاسم و مرارة تقطر منه مع العرق و الغضب ‪:‬‬
‫إبقي أنت يا أمي •• لماذا اللجوء إذا كان لك وطن •• فقالت الم بحزم‬
‫لبنها ‪:‬‬
‫هيا يا قاسم تعاون معنا في نقل الحقائب •• لن أترككم و لو كان آخر يوم‬
‫في عمري •• و عادت السرة بحرا ‪ ،‬غادرت الباخرة ميناء السويس تحمل‬
‫ملمح ليست كالملمح ‪ ،‬نفوسا مقهورة ‪ ،‬ثلة من اللجئين •• كانوا أربعة و‬
‫خامسهم صمتهم ‪ ،‬كانوا أربعة و خامسهم قهرهم •• هذه المرة تكوموا في‬
‫كابينة إحسان واحدة ضيقة •• لم يغادروها كانوا ينظرون لبعضهم البعض و‬
‫تقول عيونهم كل شيء لكن شفاههم صامتة ‪ ،‬كانوا يتساءلون عن العمل ‪،‬‬
‫عن الحل ‪ ،‬و لم تكن لديهم إجابة آثروا الصمت ‪ ،‬فكانت الكابينة قبرا جماعيا‬
‫يضم أجسادا تتنفس فقط لن الله كتب عليها أن تتنفس •• و في ميناء‬
‫جدة ‪ ،‬اندهش المسئول و قال لقاسم و هو يهز رأسه أسفا ‪:‬‬
‫آسف حقا يا بني •• أنا فعل منزعج لما أصابكم ‪ ،‬و لكن ليس لدي حل ‪،‬‬
‫لقد سلمتم إقاماتكم هنا و ليس لكم إقامات لدينا •• قال قاسم و جسده‬
‫يفور ‪:‬‬
‫ماذا تقصد ؟ فقال الموظف و هو يمط شفتيه ‪:‬‬
‫عليكم العودة إلى مصر و محاولة الدخول ‪ ،‬أمكم مصرية و من حقكم‬
‫الدخول •• عاد قاسم إلى أسرته ‪ ،‬قال و هو يفرك يديه ‪:‬‬
‫سنعود إلى مصر •• رفعوا وجوههم نحوه فهز رأسه و قال بصوت بل‬
‫معنى ‪:‬‬
‫هذا هو النظام •• و عادت السرة مجددا •• كومة من النفاس الملتهبة‬
‫في كابينة ضيقة •• ظلوا صامتين لبعض الوقت ‪ ،‬ثم فجأة و بدون مقدمات‬
‫نظروا إلى بعضهم البعض و ضحكوا ‪ ،‬ظلوا يضحكون قرابة الخمس دقائق‬
‫متواصلة ‪ ،‬دمعت عيونهم و ظلوا يضحكون ‪ ،‬سقطت دموعهم أرضا فشربتها‬
‫أرض السفينة بسرعة و ظلوا يضحكون ‪ ،‬و عندما أصاب التعب حلوقهم‬
‫توقفوا فجأة كما بدأوا فجأة ‪ ،‬و قال قاسم ‪:‬‬
‫يبدو أننا سنعيش في البحر ‪ ،‬ما رأيك يا ريم أليس من الواجب أن نعمل‬
‫حتى نجد قوت يومنا •• فقالت ريم و قد عادت مجددا إلى الضحك المرير ‪:‬‬
‫نعم •• أنا سأخرج لعرض على الركاب رسم وجوههم المرفهه و تخليدها‬
‫في صورة و أنت جرب أن تعمل في مطعم الباخرة ‪ ،‬أما أنت يا سمر فبيعي‬
‫اليانصيب ‪ ،‬و نأتي آخر اليوم لنضع الغلة في حجر أمنا العزيزة ‪ ،‬ما رأيك لو‬
‫أطلقنا على أنفسنا أسماء جديدة •• فقال قاسم ‪:‬‬
‫نعم ‪ ،‬أنا شفتورة ‪ ،‬و أنت فتكات ‪ ،‬أما سمر فلتكن فلة •• و أنت يا أمي‬
‫المعلمة سمسمة ‪ ،‬سنكون فريقا رائعا •• تطلعت الم إلى أولدها و قالت‬
‫بهدوء حزين ‪:‬‬
‫هل انتهيتم من مسرحيتكم العابثة ؟ فقالت ريم و هي تنهض ‪:‬‬
‫ليست مسرحية عابثة يا أم قاسم •• إنها الحقيقة سنصل فيعيدونا ‪ ،‬و‬
‫نصل هنا فيعيدونا مجددا ‪ ،‬لن تتغير النظمة في يومين ‪ ،‬لبد أن نعيش ‪ ،‬و‬
‫العمل هو الحل الوحيد •• الستسلم للمر الواقع ‪ ،‬نحن ساقطي وجود ‪،‬‬
‫لكننا لسوء الحظ نحتاج من أجل استمرارالحياة إلى الطعام •• فإلى الجهاد‬
‫يا أبناء جهاد •• تنهدت و بصوت كسير أكملت ‪:‬‬
‫لن نمد أيدينا إلى مدخراتنا القليلة فسنحتاجها ذات يوم عندما ترسو‬
‫سفينتنا التائهة على أرض تقبلنا •• بكت الم و قالت و هي تداري دموعها ‪:‬‬
‫رحمة الله عليك يا جهاد •• فقال قاسم و هو ينهض بدوره ‪:‬‬
‫ارتاح كثيرا يرحمه الله •• خرج الثنان من الكابينة ‪ ،‬تاركين سمر لئذة في‬
‫حضن أمها ‪ ،‬خائفة •• بدأ الخوف معها مبكرا •• اتفق الثنان على التوجه‬
‫فورا إلى القبطان ‪ ،‬كان لبد من الحديث معه ‪ ،‬وجد القبطان شابين جميلي‬
‫الطلعة يسكن الحزن عيونهما يقفان بين يديه يقصان قصتهما و يطلبان عمل‬
‫••حار في إجابتهما ‪ ،‬حك ذقنه المميزة و قال و هو يدخن غليونه ‪:‬‬
‫أغرب طلب تلقيته في حياتي ‪ ،‬رغم أن قصتكم ليست غريبة ‪ ،‬فلقد حدثت‬
‫معي بالذات على هذه الباخرة العام الماضي •• قالت ريم و هي تحاول‬
‫اصطناع ابتسامة ‪:‬‬
‫و لصالح من كانت نتيجة المباراة حضرة القبطان ؟ قال القبطان و هو‬
‫يبتسم لبتسامتها الجميلة ‪:‬‬
‫لصالح السعودية ‪ ،‬لقــد رق لحالهم مسؤول هناك و رفــع بشــأنهم‬
‫مــعروضا لمارة مكة و جاء الرد سريعا بإسكانهم في إسكان خيري لحين‬
‫إيجــاد شخص يقبل نقل كفالتهم عليه و يعيشون هناك ••‬
‫و كم رحلة قطعتها هذه السرة قبل أن تقف مأساتها عند هذا الحد من‬
‫الضياع ؟ كان هذا السؤال لقاسم ‪ ،‬نظر إليه القبطان و ضيق عينيه و قال ‪:‬‬
‫شهر كامل من السفر على الباخرة ‪ ،‬ذهاب و عودة ‪ ،‬حوالي ست رحلت ‪،‬‬
‫لكنهم كانوا لم فلسطينية ‪ ،‬و كان أبوهم خارجا على القانون و نفذ حكم‬
‫بالسجن ثم أخذ أمرا بالبعاد ‪ ،‬لذا فإنكم في وضع أفضل بكثير •• قالت ريم‬
‫و مازالت ابتسامتها لم تفارقها و كأنها تسمع حكايات مسلية ‪:‬‬
‫إذن دعنا نتوقع أسبوعا آخر فقط ‪ ،‬لم يكن والدنا يرحمه الله سجينا ‪ ،‬و ل‬
‫أمنا فلسطينية ‪ ،‬نحن أهون بكثير •• ضربت ريم كفها بكف أخيها و قال‬
‫قاسم ‪:‬‬
‫ما قولك سيدي القبطان ‪ ،‬هل ستجد لنا عمل ؟ فقال القبطان و هو ينظر‬
‫إلى ريم ‪:‬‬
‫نعم •• لطالما حلمت بصورة كبيرة لي و أنا خلف الدفة ‪ ،‬هل تستطيعين‬
‫رسمها لي ؟ فقالت ريم بمرح و هي تحييه تحية البحارة ‪:‬‬
‫بكل سرور يا سيدي ‪ ،‬و لكن ما المقابل ؟ فقال القبطان بسرعة ‪:‬‬
‫كم تريدين ؟ فقالت بحزم ‪:‬‬
‫كابينة خمس نجوم لسرتي •• صفر القبطان و صاح ‪:‬‬
‫خمس نجوم •• حقا فلسطينية •• نظرت ريم إلى قاسم و تبادل بالنظر‬
‫رسالة تقول سطورها ‪ ":‬حتى أنت يا قبطان ؟" *** بدأت ريم فورا في تنفيذ‬
‫التفاق ‪ ،‬و انتقــلت السرة إلى كابينة أوسع و أجمل و أنظف ‪ ،‬و خصصت‬
‫ريم ساعتين صباحا و مثلهم مساءا لرسمه ‪ ،‬كان قاسم خلل هذا الوقت‬
‫يجلس معهما يتحدث مع القبطان في سائر أمور حيـــاتهم ‪ ،‬و تبــادل‬
‫الحكـــايات عن أحـــوالهم ‪ ،‬و كانت ريم ل تتكلم ‪ ،‬ترتدي معطفها الزرق و‬
‫تقبض على فرشاة بأسنانها ‪ ،‬فيما ترسم بالخرى و تمزج اللوان على ظهر‬
‫كفها •• قال القبطان لقاسم ‪:‬‬
‫إذا كنت تبحث عن الثراء فعليك بالهجرة إلى أمريكا ••‬
‫أمريكا ؟ سقطت الفرشاة من فم ريم و قالت مع أخيها في نفس الوقت‬
‫هذه الكلمة ‪ ،‬فأخرج القبطان حشو غليونه و أخذ في تنظيفه و هو يكمل ‪:‬‬
‫نعم ‪ ،‬أمريكا ‪ ،‬هناك يمكن ان تجد فرصتك مثل آلف الشباب ‪ ،‬كما أنك‬
‫تستطيع الحصول على الجنسية بشروط بسيطة ‪ ،‬أعرف أناسا استطاعوا أن‬
‫يصلوا إلى القمة في سنوات قليلة ‪ ،‬المهم أن يكون لديك هدف و أن تكون‬
‫جادا في تحقيقه •• قالت ريم ‪:‬‬
‫و لكن الكثير ممن سافروا إلى هناك سقطوا و لم يعودوا أبدا •• فقال‬
‫القبطان و هو يعاود وضع نفسه في وضع الرسم ‪:‬‬
‫الذين يسقطون هم ممن يذهبوا ليسقطوا ‪ ،‬ل يأخذون المر جديا ‪ ،‬و ل‬
‫يبحثون عن الفرص ‪ ،‬و ل يستطيعون اقتناص الفرصة إذا سنحت •• و أعتقد‬
‫أن قاسما ليس منهم •• قال قاسم و قد أخذه الحلم ‪:‬‬
‫نعم ‪ ،‬معك حق •• هذا هو الحل •• فقالت ريم في محاولة يائسة لثنائه‬
‫عن هذا التفكير ‪:‬‬
‫و كيف تستطيع الذهاب إلى هناك ‪ ،‬إننا رغم ولدتنا بمصر لم نتمكن من‬
‫دخولها فكيف بأمريكا ؟ قال القبطان دون أن يغير وضعه ‪:‬‬
‫أستطيع تدبير المر ‪ ،‬لي معارف في السفارة المريكية بمصر و يمكنني‬
‫التوسط لك لخذ التأشيرة •• صاح قاسم فرحا ‪:‬‬
‫حقا ؟ فقالت ريم و هي تلملم أغراضها ‪:‬‬
‫هيا يا قاسم ‪ ،‬لقد تعبت •• فقال القبطان ‪:‬‬
‫و اللوحة ؟ فقالت بغيظ ‪:‬‬
‫نكملها مساًء •• خرجت بسرعة و هي تشد قاسم من يده فقال القبطان ‪:‬‬

‫ل أفهم ماالذي أغضبها •• على سطح الباخرة كان لريم حديث طويل مع‬
‫قاسم ذكرته بوصية الب له في نزعه الخير فقال و هو يتطلع إلى الفق ‪:‬‬
‫من قال إني سأتخلى عنكم ؟ بضعة شهورهناك ‪ ،‬أرسل بعدها في طلبكم ‪،‬‬
‫أعرف خللها كيف ستسير حياتي هناك ‪ ،‬و أؤمن لكم السكن و أرسل في‬
‫طلبكم •• ل تقلقي يا ريم ‪ ،‬ربما كان في هذا خلصنا •• فقالت ريم‬
‫بغضب ‪:‬‬
‫خلصك لوحدك يا قاسم ‪ ،‬لن تقبل أمي أن تعيش غربة جديدة و تموت‬
‫فيها ‪ ،‬و ليس من العدل أن تجبرها على هذا ‪ ،‬كما أنني عن نفسي أرفض‬
‫تماما أن أبحث عن نفسي في أرض ساهم حكامها في ضياع أرضي و تشريد‬
‫شعبي •• أشاح قاسم بيده و قال ‪:‬‬
‫مازلت صغيرة العقل ‪ ،‬وجدانك مغلق على خرافة الوطن ‪ ،‬أين الوطن يا‬
‫ذات المثل في هذا البحر الشاسع الذي نعيش فيه منذ أسبوعين ‪ ،‬لماذا لم‬
‫يهب أحد رجاله لنقاذ أسرة ترفض كل أرض استقبالهم •• ل أرض مات فيها‬
‫أبوهم ‪ ،‬ول أرض تنتمي إليها أمهم •• هل تعتقدين أننا تكيفنا مع وضعنا هذا ‪،‬‬
‫هل تعتقدين أن حركتنا و كلمنا و ضحكنا و عبثنا و هزليتنا و عملك ‪ ،‬أشياء‬
‫تعطي لتغربنا لونا جديدا ؟!! هو لون واحد يا فنانة ‪ ،‬هو الضياع السود ‪ ،‬و‬
‫الشتات السود ‪ ،‬لن يتغيرهذا اللون إل إذا سعينا لتغييره ‪ ،‬لون أسود كئيب‬
‫قاتم بل معنى •• لماذا تخيفك فكرة سفري إلى أرض جديدة ‪ ،‬لماذا تقفين‬
‫في وجه أمل جديد ••؟ قالت ريم و هي تكز على أسنانها ‪:‬‬
‫أقف في وجه لجوء جديد و غربة جديدة •• أقف في وجه فرقة قادمة ‪ ،‬و‬
‫أنفاس عزيزة أخرى تلفظ على فراش بارد في غربة قاسية ••‬
‫في النهاية سنلفظها على فراش غريب بارد ‪ ،‬فلماذا ل يكون فراشا‬
‫أمريكيا فاخرا ؟ نظرت إليه ريم بسخط و تركته و غادرت إلى أمها فقال و‬
‫هو يعطي ظهره للبحر ‪:‬‬
‫الفراش العربي أشواكه كثيرة •• لست مجرما إن بحثت لنفسي عن‬
‫فراش أكثر راحة لموت عليه •• *** انتهت لوحة القبطان فكانت بديعة كما‬
‫تمناها ‪ ،‬قال لريم و هو يتأمل اللوحة ‪:‬‬
‫أنت فنانة حقيقية ‪ ،‬أصابعك من ذهب ‪ ،‬لماذا ل تستثمرين هذه الموهبة و‬
‫تقدمي هذه الخدمة لمحبيها ‪ ،‬هناك الكثير من البشر يحبون تخليد أنفسهم‬
‫في لوحات خاصة •• قالت ريم و هي تجمع أغراضها بعصبية ‪:‬‬
‫تريدني أن أصبح أداة في يد المتخمين المرفهين ‪ ،‬أرسم خدودهم المنتفخة‬
‫و كروشهم المدلة من أجل حفنة مال ؟ فقال القبطان و هو يضحك ‪:‬‬
‫أنت غاضبة مني يا ريم أليس كذلك ؟ فقالت و هي تنظر إليه و كأنها‬
‫ستأكله ‪:‬‬
‫لماذا أدخلت في رأس قاسم فكرة الهجرة إلى أمريكا ؟ نفث القبطان‬
‫دخان غليونه و قال و هو يبتسم بهدوء ‪:‬‬
‫أنا لم أدخل لرأسه شيئا ‪ ،‬ل تنسي ‪ ،‬لقد كان قراره أن يسير في هذا‬
‫الطريق ‪ ،‬اقتصر دوري على ارشاده ‪ ،‬لم أفرض عليه رأيا ‪ ،‬كنت مرشدا فقط‬
‫••‬
‫لكنه مقتنع تماما بهذه الفكرة ••‬
‫يا ريم •• من حق قاسم أن يجرب حياة عملية جديدة ‪ ،‬من حقه أن يسعى‬
‫لتحقيق أهدافه ‪ ،‬من حقه إذا أغلقت أرض بابها في وجهه أن يطرق بابا آخر‬
‫في أرض أخرى ‪ ،‬كوني واقعية ‪ ،‬إنه شاب ‪ ،‬لم يمارس حياته العملية بعد ‪،‬‬
‫أمامه مستقبل مجهول في مصر أو في السعودية أيا كانت البلد التي‬
‫ستقبلكم أخيرا ‪ ،‬سيزاحم في تخصصه آلف مثله من أبناء الوطن بالفعل ‪،‬‬
‫سيجد عقبات ل حصر لها ‪ ،‬هذا إن وفق في عمل أصل ‪ ،‬و لكن المر‬
‫سيختلف كثيرا لو أنه سافر إلى بلد مفتوح ‪ ،‬ينادي بالحرية و يعمل بها ‪ ،‬يتيح‬
‫لمن يذهبون إليه فرصة أن يجدو أنفسهم بغض النظر عن جنسياتهم ‪ ،‬يتيح‬
‫لكل فرد أن يكون كما يحب ‪ ،‬صعلوكا ‪ ،‬أو أميرا ‪ ،‬كل شخص يحدد موقعه‬
‫هناك وفق إمكانياته ‪ ،‬دعيه يجرب ‪ ،‬قد ينجح ‪ ،‬و حاولي بدورك أن تجربي ‪،‬‬
‫قد تنجحين ‪ ،‬الحياة ليست قصرا على مكان بعينه ‪ ،‬إنها أرض الله مفتوحة‬
‫لكل الناس •• قالت ريم و هي تهم بالمغادرة ‪:‬‬
‫لن أستغرب كثيرا إذا اكتشفت صدفة أن أصولك يهودية •• فقال القبطان‬
‫و هو ينفض غليونه ‪:‬‬
‫لن تستطيعي أن تنجحي إل إذا تخلصت من عنصريتك الصغيرة •• ألتفتت‬
‫ريم إلى باب حجرته و قالت ‪:‬‬
‫لن أتغير •• لن أتغير •• *** وصلت الباخرة إلى ميناء السويس ‪ ،‬و كان‬
‫يمكن للسرة أن تعود ثانية إلى ميناء جدة لول وجود الصحافة ‪ ،‬إذ اتفق أن‬
‫كان على الباخرة صحفي مصري عائد إلى مصر ‪ ،‬سمع القصة و فهمها تماما‬
‫و قام بتصوير أبطالها و أوصى الم أن تعمل جاهدة على عدم مغادرة ميناء‬
‫السويس قبل يومين على القل يكون خللها قد استطاع نشر القصة في‬
‫جريدة الخبار و تحريك المسؤولين لحلها ‪ ،‬و اتفقت الم مع أبنائها على تنفيذ‬
‫هذا المر بأية طريقة ‪ ،‬و كم كانت الطريقة التي وجدوا أنفسهم يتبعونها‬
‫قاسية و مهينة ‪ ،‬إذ أصرت الم على عدم المغادرة مجددا و أصر معها البناء‬
‫و لم تفلح محاولت المسؤولين في إجبارهم على ركوب الباخرة العائدة إلى‬
‫جدة ‪ ،‬و وجد المسؤول المني نفسه مضطرا إلى وضع السرة رهن الحتجاز‬
‫حتى يبت في أمرهم و يتم تسفيرهم على الباخرة المغادرة بعد يومين •• و‬
‫عندما وصلت السرة إلى هذه النتيجة قالت ريم لمها ‪:‬‬
‫و ماذا إن لم يفي الصحفي بوعده لنا ؟ فقالت الم و هي تتوسد ذراعها‬
‫لتنام أرضا ‪:‬‬
‫لن نخسر شيئا •• و تنهدت ريم و هي تؤمن على كلم أمها و قالت ‪:‬‬
‫صحيح ‪ ،‬ماذا سنخسر ؟ *** و انقلبت الدنيا صبيحة اليوم التالي ‪ ،‬نشرت‬
‫الخبار القصة مصورة ‪ ،‬و كانت عبارات البناء التي أحسن الصحفي‬
‫المتعاطف صياغتها لها مفعول السحر ‪ ،‬إذ بدا للقاريء عمق مأساة هذه‬
‫السرة التي يرفض احتواء أفرادها أي وطن رغم كون الم مصرية ‪ ،‬و‬
‫تعاطف العلم مع القضية فاستيقظت السرة صباح اليوم التالي على بعثة‬
‫التلفزيون المصري التي جاءت لتصوير الســـرة و عمل لقـــاءات حية مــعها‬
‫‪ ،‬و عبرت الم خلل هذا اللقاء عن مأساتها أروع تعبير و اختتمت حديثها قائلة‬
‫‪:‬‬
‫إذا كانت بــــلدي ترتضي لي أن أعيش اللـــجوء بسبــب أنظمة جائرة‬
‫تـــريد فصــلي عن أولدي فإنني لن أنفصل عنهم و لو قتلوني ‪ ،‬و لن أكف‬
‫أيضا عن حب بلدي •• و جاء القرار سريعا من أكبر مسؤول بالسماح‬
‫للسرة أن تدخل مصر و تعود لبـــيتها ‪ ،‬مع تجديد إقامات البناء لثلثة سنوات‬
‫قادمة • • و قبل أن تسير بهم السيارة المحملة بحقائبهم مغادرة الميناء ‪،‬‬
‫كانت سيارة أخرى قد وقفت أمام سيارتهم و نزل منها رجل يغمره ضـــوء‬
‫الشمــــس فتتلل ابتســــامته و تنزل على قلب ريم المتـــعب بردا و سلما‬
‫••و تصيح كل ذرة في كيانها فرحا لرؤيته و تتحرك شفاهها بصوت منخفض‬
‫لكنه اخترق كل المسافات ليستكين هادئا قويا مرتاحا في قلبه ‪:‬‬
‫سعيد ••؟ *** عندما استقرت السرة في البيت برفقة سعيد ‪ ،‬كان‬
‫الحديث مازال متواصل حول الحداث الخيرة التي مرت بالسرة ‪ ،‬حالة من‬
‫الصخب لم يحاول أيا منهم تنظيمها ‪ ،‬كان الكل يتحدث ‪ ،‬و الكل يحكي ‪ ،‬كان‬
‫سعيد يتلقى الخبر نفسه عدة مرات و بعدة طرق فيتفاعل معه في كل مرة‬
‫كأنه يسمعه للمرة الولى ‪ ،‬كان أفراد السرة يشعرون أخيرا أنهم وجدوا من‬
‫يسمعهم ‪ ،‬من يلقون إليه همهم ‪ ،‬من يستطيعون أمامه أن ينزعوا القنعة عن‬
‫مشاعرهم و تعليقاتهم و أن يقولوا كل شيء بكل الصراحة ‪ ،‬و كما انعقد‬
‫الصخب سحابات في سماء الغرفة قبل قليل ‪ ،‬فجأة انقشعت السحابات عن‬
‫صمت تام ‪ ،‬فجأة أدرك كل فرد أنه لم يقل ما ينبغي قوله في مناسبة مثل‬
‫هذه المناسبة •• لم يتبادلوا خلل ساعات العـــــودة و حتى استقــــروا‬
‫جلوسا في بيتهم أي حديث منطقي يحمل ســـلمات أو تعازي أو سؤال عن‬
‫الحوال •• كانوا يتمون حديثا لم ينقطع ‪ ،‬لذا لم ينتبهوا إلى قفزهم فوق‬
‫متطلبات اللحظة ‪ ،‬تنحنح سعيد و قد شعر أنه يجب أن يبادر فقال بحزن‬
‫صادق ‪:‬‬
‫عظم الله أجركم في وفاة عمي جهاد يرحمه الله •• تمتموا يردون عليه‬
‫بعبارات مناسبة و أطرقت ريم و قالت بهدوء ‪:‬‬
‫تركناه هناك •• تطلع إليها ‪ ،‬اعتصره حزن قاتم ‪ ،‬تغيرت ريم كثيرا ‪ ،‬بدت‬
‫أكثر هزال •• عروق خضراء ارتسمت بارزة على ظهر كفها ‪ ،‬شعرها‬
‫المشعث قليل من السفر لم يعد يحمل البهجة القديمة التي جعلت من لمسه‬
‫ذات يوم غاية المنى لسعيد •• نازعته نفسه أن ينهض ‪ ،‬ليجلو بيده عن‬
‫وجهها عناء الشهور الماضية بكل ذكرياتها ‪ ،‬ليمسح بيده عنها مسحة الحزن‬
‫الغريبة التي بدت أكثر قتامة •• ليضمها إليه و يحتوي قلبها المتعب •• قال‬
‫قاسم و هو ينهض ‪:‬‬
‫أنا سأدخل للستحمام و من ثم النوم •• لم ننم نوما حقيقيا منذ أسبوعين‬
‫••و النوم في الحجز أمس كان قاسيا جدا •• تابعه سعيد بعينه و هو ينصرف‬
‫‪ ،‬رغم أن كلماته كانت تحمل دعوة خفية لينصرف بدوره ‪ ،‬إل أنه تعمد أل‬
‫يفهمها •• بقي جالسا •• نظر لريم مجددا ‪ ،‬قال بإشفاق كبير ‪:‬‬
‫تبدين متعبة •• هزت رأسها و هي تبتسم ابتسامة طفيفة و قالت ‪:‬‬
‫جميعنا متعبون •• قالت الم و هي تتنهد ‪:‬‬
‫ريم حساسة أكثر مما ينبغي ‪ ،‬و الظروف التي مررنا بها كانت فوق‬
‫احتمالنا •• تطلعت ريم إليه و قالت تسأله ‪:‬‬
‫هل تغيرت عليك كثيرا يا سعيد ؟ هز رأسه بهدوء و قال ‪:‬‬
‫ل •• أنت ريم التي عرفتها دوما مهما مر عليها من أحداث •• ابتسمت‬
‫ريم ابتسامة باهتة و تطلعت حولها و قالت ‪:‬‬
‫كأنني أحلم ‪ ،‬كأن الفترة السابقة لم تكن ••• أخيرا مجددا ‪ ،‬ها أنا هنا ‪ ،‬و‬
‫أنت هنا ‪ ،‬و ها هو منزلنا الصغير •• كأن شيئا لم يتغير •• لكن •• أطرقت‬
‫ريم و امتلت عيونها بالدموع ‪ ،‬فركت يدها و همست بصوت متهدج ‪:‬‬
‫لكن أبي لن يعود ‪ ،‬و الحلم الجميلة ‪ ،‬لم يعد لها وجود ‪ ،‬و المشاكل‬
‫التافهة صارت من المنيات •• صمت البيت ‪ ،‬و لعبت بأفراده تصاريف‬
‫لترحم ‪ ،‬داخلي فارغ تماما ••• فارغ حد العدم •• هل تفهمني ؟ رفعت إليه‬
‫عيونا دامعة متسائلة ‪ ،‬فلبتها على الفور عيون و جوارح متلهفة قال بكل ذرة‬
‫من مشاعره ‪:‬‬
‫أفهمك يا ريم •• تنهدت ‪ ،‬مسحت دموعها ‪ ،‬رسمت ابتسامتها الباهتة و‬
‫قالت ‪:‬‬
‫على القل ‪ ،‬أنا هنا الن •• قال سعيد ‪:‬‬
‫وكنت هنا دائما •• قالت الم بسرعة ‪:‬‬
‫لبد أن قاسما أنهى حمامه الن ‪ ،‬الدور عليك يا ريم •• لم يتعمد عدم‬
‫الفهم مجدد ا‪ ،‬نهض متثاقل و قال و هو يتجه للخروج ‪:‬‬
‫سآتيكم بطعام ليل •• آمل أن تكونوا قد أرتحتم •• لم يعطهم فرصة‬
‫للعتراض ••خرج ثقيل ‪ ،‬ثقيل •• منظر ريم المتعب أوصله إلى مرحلة من‬
‫فقد التوازن ‪ ،‬لم يكن يتخيل أنه سيراها يوما بهذا الشكل •• تبدو مهزومة ‪،‬‬
‫مصدومة ‪ ،‬منهارة ••كور قبضته في الهواء ‪ ،‬قال و هو يكز أسنانه ‪:‬‬
‫أقسم أن أعيد إليك الفرحة المسروقة يا ريم و لو كلفنني المر حياتي ••‬
‫أقسم •• *** في المساء ‪ ،‬اجتمعت السرة حول مائدة حافلة جلبها معه‬
‫سعيد و هو قادم •• كانت الساعات القليلة الماضية التي أمضوها في النوم‬
‫قد تركت أثرا حسنا عليهم •• بدت وجوههم مرتاحة و عيونهم لمعة •• حتى‬
‫ملبس البيت التي ارتدوها جميعهم كانت تضفي عليهم ألفة و هدوءا جميل‬
‫•• أكلوا كثيرا •• كانوا جائعين ••و كانوا ممتنين •• تطلع سعيد إلى ريم‬
‫يبحث عن ريم القديمة و أسعده كثيرا أنها تطل بخجل من العيون الحزينة ‪،‬‬
‫أسعده أن الملمح التي أحبها مازالت موجودة ‪ ،‬ذابلة قليل لكنها موجودة ‪ ،‬مد‬
‫لها يده بقطعة لحم تناولتها منه و هي تقول ‪:‬‬
‫لقد أكلت لوحدي حتى الن نصف الطعام •• قال مبتسما ‪:‬‬
‫بالهناء و الشفاء •• يجب أن تأكلي كثيرا حتى تعودي إلينا سريعا •• قالت‬
‫و هي تنهض ‪:‬‬
‫لن يعيد الطعام ما تبدد يا سعيد •• اتجهت للمطبخ لعداد الشاي و قامت‬
‫الم و سمر برفع المائدة فيما اتجه قاسم مع سعيد للصالون قال قاسم و هو‬
‫يجفف يده ‪:‬‬
‫هل أخبرتك ؟ سأسافر إلى أمريكا في القريب العاجل •• دهش سعيد‬
‫لهذا الخبر فأكمل قاسم ‪:‬‬
‫قبطان السفينة الخيرة التي كنا عليها وعد بمساعدتي في الحصول على‬
‫التأشيرة ••معي كارت توصية منه للسفير المريكي هنا •• قرأ السؤال في‬
‫عيونه فأجابه قبل أن يسأل ‪:‬‬
‫ريم غير موافقة •• لم أفاتح أمي بعد •• أريدك أن تساعدني في اقناعهم‬
‫••إنهما تثقان بك كثيرا •• قال سعيد مستنكرا ‪:‬‬
‫إنهم في أمس الحاجة إليك الن أكثر من أي وقت مضى يا قاسم ‪ ،‬ما هذا‬
‫التفكير ؟ صفر قاسم و هو يجلس و قال بسرعة ‪:‬‬
‫أرجوك •• ل أريد جبهة ثالثة أحارب فيها ‪ ،‬يكفيني ريم و أمي •• فقال‬
‫سعيد بقوة ‪:‬‬
‫قاسم •• لست صغيرا كي تحتاج إلى من يذكرك بواجبك ‪ ،‬ما تقوله جنون‬
‫•• ابتسم قاسم و قال ساخرا ‪:‬‬
‫جنون ؟ !! الجنون يا صديقي أن أبقى هنا أصارع طواحين الهواء بل فائدة‬
‫•• لن يفيدهم وجودي ‪ ،‬ستقتلهم انكساراتي المتعاقبة ‪ ،‬لن أجد عمل بسهولة‬
‫و لن أستطيع لو وجدته أن أتحول إلى ثور في ساقية ‪ ،‬يلف و يدور بل هدف ‪،‬‬
‫بل مستقبل •• لن أكرر جهاد ‪ ،‬لن أعيــــش على الهامــــش حتى أموت ••‬
‫إما أن أجـــد لنفسي مكانا تحت الشمس ‪ ،‬أو أموت و انتهي ‪ ،‬هذا خير لي و‬
‫لهم •• صاح سعيد بحزم ‪:‬‬
‫ل تكن أنانيا فقال قاسم بتصميم ‪:‬‬
‫ولن أكون أبلها •• دخلت ريم بصينية الشاي وزعت الكواب قالت و هي‬
‫تنظر لقاسم ‪:‬‬
‫أخبرته يا قاسم ؟ هز رأسه إيجابا ‪ ،‬فقالت لسعيد ‪:‬‬
‫ما رأيك فيما سمعت ؟ فقال سعيد بهدوء ‪:‬‬
‫كنت أناقشه للتو •• قاسم عاقل و سيـ ••• لم يتركه قاسم يكمل حديثه‬
‫قال بتصميم ‪:‬‬
‫ل مجال للنقاش ‪ ،‬لقد قررت و انتهى المر •• دخلت الم و قاسم ينهي‬
‫عبارته فقالت ‪:‬‬
‫ما هو المر الذي انتهى يا قاسم ؟ فقال قاسم بعد تردد ‪:‬‬
‫أمي لقد قررت السفر إلى أمريكا ‪ ،‬سأعمل هناك •• تطلعت ريم إليه‬
‫بغضب و قالت لمها بسرعة ‪:‬‬
‫مازال يفكر يا أمي ‪ ،‬و نحاول أن نقنعه بعدم السفر •• فقالت الم بهدوء ‪:‬‬

‫و لكن يبدو أنه قد قرر فقال قاسم ‪:‬‬


‫يا أمي أفهميني أنا •• فقالت الم مقاطعة ‪:‬‬
‫أنا موافقة •• جابهت كل العيون المندهشة أمامها ‪ ،‬جلست و هي‬
‫تتنـــاول كـــأس الشــــاي و قالت بعد أن رشفت منه رشفة ‪:‬‬
‫أعرف السباب التي حملتك على هذا القرار يا قاسم ‪ ،‬أعرف أن الدنيا‬
‫على وسعها ضاقت عليك ‪ ،‬و كنت أتوقع منك هذا القرار منذ ذلك اليوم في‬
‫الرياض عندما قلت أنك ستختار لنفسك هدفا مختلفا ‪ ،‬و لن تسير وفق سير‬
‫أبيك يرحمه الله •• كنت أعرف أن هذا القرار قادم ‪ ،‬و لقد وطنت نفسي‬
‫على قبوله ‪ ،‬لم تعد صغيرا يا بني ‪ ،‬افعل ما تريد •• جلست ريم القرفصاء‬
‫أمامها و قالت و هي تمسك يدها ‪:‬‬
‫و لكن قاسم يا أمي رجلنا الوحيـــد الن ‪ ،‬كيف تسمــــحين له بالتـــخلي‬
‫عن مسئوليته و توافقين على سفره و قد وضعنا أبينا يرحمه الله أمانة في‬
‫عنقه •• سارع قاسم يقول ‪:‬‬
‫و لن أتخلى عن مسئوليتي هذه يا ريم ‪ ،‬بضعة شهور أتلمس فيها طريقي ‪،‬‬
‫ثم أرسل لكم لتلحقوا بي •• قالت الم بسرعة ‪:‬‬
‫ل •• أما هذه فل يا ابن جهاد ‪ ،‬لن نلحق بك و نعيش غربة جديدة و لو‬
‫أصبحت سيد العالم هناك ‪ ،‬سأظل في بلدي ‪ ،‬أربي سمر و أشرف على‬
‫مستقبلها ‪ ،‬و لن أرتاح حتى أسلمها شهادتها ‪ ،‬لتصبح بدورها مستقلة ‪ ،‬تحمل‬
‫سلحا ‪ ،‬عندها أكون قد أديت ما علي ‪ ،‬أما أنت فتعال لزيارتنا كلما أشتقت‬
‫إلينا ‪ ،‬ستجد بيت أبيك مفتوحا لك ‪ ،‬و قلوبنا جميعا متلهفة عليك •• نهضت‬
‫ريم ‪ ،‬صامتة ‪ ،‬حزينة ‪ ،‬تطلعت إلى قاسم تستجدي تراجعا ترجوه ‪ ،‬فأشاح‬
‫بوجهه ‪ ،‬كان يعـــرف أنه قد يضعـــــف في أية لحظة ‪ ،‬و كـــان يحتاج للقوة‬
‫•• التفتت ريم إلى أمها و قالت بصوت مخنوق ‪:‬‬
‫و أنا ؟ تطلعت إليها الم فأكملت ‪:‬‬
‫هدفك الن هو سمر ‪ ،‬و هدفه هو المال و أنا ؟ أين أنا من حساباتكم ‪،‬‬
‫لماذا أسقطتموني منها ؟ فقالت الم و هي تغالب دموعها ‪:‬‬
‫بدورك فتشي لنفسك عن هدف •• هذا ما طلبتموه ذات يوم مني •• تنهد‬
‫سعيد و نهض و هو يقول ‪:‬‬
‫أعتقد رغم قسوة هذه القرارات أن هذا هو الوضع الطبيعي ‪ ،‬كثيرون من‬
‫الشباب يسافرون ‪ ،‬يتكسبون في الغربة عيشهم ‪ ،‬أما أنت يا ريم ‪ ،‬فإنك لم‬
‫تسقطي من الحساب ‪ ،‬كنت أول من حمل شهادة ‪ ،‬أول من قبض ثمن غربة‬
‫أبيه ‪ ،‬لديك موهبتك ‪ ،‬و أبواب كثيرة تستطيعين طرقها ‪ ،‬هذا اليوم الول لك‬
‫هنا ‪ ،‬و ل تعرفين ماذا يحمل الغد •• فقالت ريم و هي تشعر بضياع أعاد لها‬
‫خفقات الخوف العالية ‪:‬‬
‫أعود مجددا أنتظر غدا مجـهــــول ‪ ،‬أعــــود مــجددا لتـــرك نفسي‬
‫رهيــنة رياح تحملني و رياح تحطني ؟ فقال سعيد و المل داخله يتراوح بين‬
‫قوة و ضعف ‪:‬‬
‫إن شئت كنت أنا حــــارس بوابة غدك المجهول ‪ ،‬إن وافقـــت قاسمتـــك‬
‫رحلة المستقبل ‪ ،‬و حملت عنك أعباؤه •• نظر إلى الم و قال بقوة ‪:‬‬
‫طلبت منك ريم في الماضي فرفضت ‪ ،‬و طلبت مني عهدا بالبتعاد عن‬
‫طريقها •• و اليوم أعود فأطلبها منك مجددا و كلي أمل ‪ ،‬بل رجاء أن تقبلي‬
‫•• قالت الم و هي تنهض مبتسمة ‪:‬‬
‫أنا موافقة يا سعيد •• تطلعت إليهم ريم ‪ ،‬كان في عيونها استنكار عالي‬
‫الصوت •• هزت رأسها و ركضت إلى غرفتها ‪ ،‬سحبت الم ابتسامتها و‬
‫أكملت ‪:‬‬
‫إن وافقت هي •• *** خلل اليومين التاليين كان لدى السرة الكثير‬
‫لتفعله ‪ ،‬كانت معهم بعض المدخرات من باقي حساب و مكافأة والــــدهم‬
‫المتوفى و بعض المال مما اكتسبته ريم خــــلل فترة عملها و كان لبد أن‬
‫يفكروا جديا في طريقة لستثمار المال حتى ل ينضب قبل أن يجد البناء عمل‬
‫‪ ،‬و اقترح قاسم وضعه في البنك و الصرف من فوائده الشهرية ‪ ،‬إل أن هذا‬
‫القتراح لم يلق قبول بسبب ضآلة المبلغ الذي لن يحقق فائدة معقولة يمكن‬
‫أن تصرف على متطلبات عائلة يزمع أحد أفرادها السفر قريبا بكل ما يحتاجه‬
‫هذا السفر من مصاريف ‪ ،‬و بعد تفكير لم تجد السرة بدا من ضرورة أن‬
‫يعمل قاسم خلل الفترة القادمة لتأمين متطلبات سفره و تعمل ريم لتأمين‬
‫متطلبات الحياة مع الصرف من المال المتوفر بحرص حتى تؤمن عائدا جديدا‬
‫يدخل للسرة ‪ ،‬و قال قاسم ‪:‬‬
‫شهور قليلة فقط نضغط على أنفسنا حتى أضع قدمي على أول الطريق‬
‫•• و نظر إلى ريم و أكمل ‪:‬‬
‫هذه الشهور قائمة في كل الحوال ‪ ،‬إذا بقيت ‪ ،‬أو سافرت •• فقالت ريم‬
‫و هي تشغل نفسها بشيء أمامها حتى ل تنظر إليه ‪:‬‬
‫لم نعتمد عليك يوما لننتظر عطاءك القادم بعد شهور •• فقال قاسم‬
‫بعصبية ‪:‬‬
‫الصغير يكبر يا ريم •• فقالت و هي تنظر إليه بغضب ‪:‬‬
‫مهما كبر الصغير ‪ ،‬فإنه ل يكبر على أهله يا قاسم •• فقالت الم بسرعة ‪:‬‬

‫كلكما كبير يا أبناء جهاد •• قال قاسم و هو يجلس بجوارها و يمسك يدها‬
‫بحرارة ‪:‬‬
‫أمي ‪ ،‬أنا لســــت عـــــاقا ‪ ،‬لســـت مجرما ‪ ،‬ل يمـــــكن أن أنجــــح في‬
‫غربتي إذا تـــركتكم و في نفوسكم سخط علي •• ربتت الم عليه و قالت ‪:‬‬
‫ل يا قاسم ‪ ،‬مهما غضبنا فلن يكــــون الغضب سخـــــطا ‪ ،‬و لن يكون‬
‫جمـــــرا يحــرقك في غربتك ‪ ،‬تأكد أننا سندعو لك دومــــا بالتوفيق •• حتى‬
‫ريم ستــــدعو لك •• إنها تحبك يا ولد •• ابتسمت ريم و قالت و هي تتقدم‬
‫نحوه فتقبل رأسه ‪:‬‬
‫بالطبع أحبك يا ولد •• دقات مرحة على الباب دق لها قلب ريم ‪ ،‬ذهب‬
‫قاسم ليفتح الباب ‪ ،‬كان سعيد قال و هو يلوح بمجلة في يده ‪:‬‬
‫وجدتها •• تطلع الجميع إليه فقال على الفور ‪:‬‬
‫هذه مجلة صباح الخير ‪ ،‬فيها خبر يهم ريم كثيرا •• تلقفت ريم منه المجلة‬
‫على عجل فلم تنتبه إلى أنها لمست يده فأشعلت في أحاسيسه الرجفة ‪،‬‬
‫كانت المجلة مفتوحة على الصفحة المعنية ‪ ،‬طالعتها ريم بسرعة و توقفت‬
‫لدى إعلن صغير تطلب فيه المجلة رسامين مهرة •• قرأت العلن بصوت‬
‫عال فرح و عندما انتهت نظرت إليه بامتنان و قالت بأمل ‪:‬‬
‫ليتهم يقبلوني قال سعيد بصوت هاديء حاول أن يخفي فيه الرتجافة ‪:‬‬
‫سيقبلوك إن شاء الله ‪ ،‬أنا متأكد •• تمتمت الم بالدعاء و صاحت ريم ‪:‬‬
‫سأذهب الن •• فقال سعيد على الفور ‪:‬‬
‫و أنا جاهز لصطحابك •• هم قاسم أن يتكلم فلكزته الم فسكت ‪ ،‬وقالت‬
‫‪:‬‬
‫و لكن هل ستجدان أحدا هناك ؟ فقالت ريم و هي تقبل أمها بسعادة ‪:‬‬
‫لبد من وجود أحدهم •• الصحافة ليست دكانا يغلق في الثانية و النصف‬
‫أبوابه •• نظرت إلى سعيد و قالت ‪:‬‬
‫سأستعد فورا •• ركضت باتجاه غرفتها فقال سعيد للم ‪:‬‬
‫هل نقول مبروك ؟ فقالت الم و هي تغمز بعيونها ‪:‬‬
‫أنت و شطارتك •• *** في الطريق إلى المجلة قال سعيد و هو يرنو‬
‫بعيونه إلي ريم ‪:‬‬
‫أنت جميلة يا ريم •• أبتسمت و قالت ‪:‬‬
‫إنها عيونك التي تراني جميلة دوما يا سعيد •• قال لها و هو يخفض‬
‫صوته ‪:‬‬
‫ريم •• أنا أحبك جدا •• فقالت و هي تضحك ‪:‬‬
‫لم تتغير يا سعيد •• صمت و لم يرد فقالت ‪:‬‬
‫ريم التي أمامك الن غير ريم التي أحببتها ‪ ،‬لقد تغيرت كثيرا ‪ ،‬أكثر مما‬
‫تتصور ‪ ،‬لم تعد الحياة بالنسبة لي صفحة وردية ننقش عليها قلوبا و حروفا‬
‫مرتجفة ‪ ،‬لم تعد وردة حمراء نضعها في كتاب و نكتب تحتها التاريخ ‪ ،‬صارت‬
‫هما نتنفسه ‪ ،‬و ضبابا يخفي الملمح و النفوس •• صدقني يا سعيد أنا أتمنى‬
‫لك من كل قلبي من تستحق حقا قلبك الكبير ••‬
‫أريدك أنت ••‬
‫صدقني لن أنفعك •• أنا منتهية •• لن أتمكن من إسعادك •• فقال و هو‬
‫يقبض كفها في كفه ‪:‬‬
‫سعادتي هي أن أسعدك •• و ل أريد منك المقابل •• خلصت كفها و قالت‬
‫‪:‬‬
‫للحديث بقية •• وصلنا المجلة •• و في المجلة كانت مقبولة قبل أن تثبت‬
‫جدارتها سألها المسئول ‪:‬‬
‫أنت ريم الفلسطينية التي عاشت تجربة الرحلت المكوكية في الباخرة ؟‬
‫ابتسمت بمرارة و قالت ‪:‬‬
‫هي أنا‬
‫عرض التلفاز اللوحة التي رسمتها للقبطان ‪ ،‬كانت رائعة ••‬
‫كنت أسلي نفسي‬
‫أعتبري نفسك منا منذ الن •• *** استطاع قاسم أن يعمل في مجال‬
‫عمل والده وديا ‪ ،‬و ذلك بعد أن استعان بصديق والده الذي تعاطف معه و‬
‫قدمه لحد المقاولين مشفوعا بتوصية اعتمدت على حسن سيرة المتوفى‬
‫طيلة عمله معهم ‪ ،‬و قام المقاول بإعطائه عمل مميزا راعى فيه شهادته‬
‫العلمية ‪ ،‬فكان يشرف علي سير العمل في البناء فيما يشبه مساعد مهندس‬
‫تنفيذي ‪ ،‬و لم يكن لدى قاسم الذي حدد لنفسه هدفا و مبلغا محددا يريده‬
‫مانعا من أن يعمل في أية مهنة في سبيل الحصول على مبتغاه ‪ ،‬خاصة بعد‬
‫أن وجد تجاوبا من السفارة المريكية التي تابعت موضوعه حين كان على‬
‫متن الباخرة ‪ ،‬علق قاسم و هو يحكي لسرته ضاحكا ‪:‬‬
‫رب ضارة نافعة •• كانت ريم ساهمة فلم تتبين حديثه ‪ ،‬و لما سألها عما‬
‫بها تنهدت فعلق ‪:‬‬
‫هل المر متعلق بسعيد ؟ هزت ريم رأسها و قالت ‪:‬‬
‫يبدو أنك ل تقرأ •• فقال قاسم على الفور ‪:‬‬
‫لست مغيبا على أية حال ‪ ،‬ماذا هناك ؟ قالت ريم ‪:‬‬
‫منذ عدة أيام و ل حديث للصحافة إل عن المبعدين على الحدود الليبية ــ‬
‫المصرية •• قال قاسم ‪:‬‬
‫آه •• نعم ‪ ،‬قرأت شيئا عن هذا الموضوع •• قالت ريم بغيظ ‪:‬‬
‫نحن أول من يدفع ثمن القرارات السياسية ‪ ،‬القذافي قال لهم عودوا إلى‬
‫بلدكم •• لقد صار لكم وطن •• هكذا قال زعماء العالم و على هذا وقع‬
‫كبيركم •• فقال قاسم ‪:‬‬
‫معه حق •• ل أستطيع لومه ‪ ،‬إن كنـــا قدمنا كـــــل هذه التنازلت من‬
‫أجل وطن فلـــماذا ل يحتويهم هذا الوطن ؟ أشاحت ريم بوجهها ‪ ،‬منذ قرر‬
‫قاسم الهجرة و هو يحاول تدريجيا التخلص من أية عواطف يمكن أن تعرقل‬
‫قراره ‪ ،‬ينزع وجدانه نزعا من قلب عائلته ‪ ،‬و بيته ‪ ،‬وبلده •• يهمش عامدا‬
‫متعمدا ذاته ‪ ،‬كأنما كل ما يجري حوله ل يعنيه ‪ ،‬حتى قبول ريم في المجلة ‪،‬‬
‫رغم سرعته ‪ ،‬و مجيئه في وقت حاسم ‪ ،‬لم يعني لديه أكثر من نجاح خطوة‬
‫أخرى باتجاه هجرته ••‬
‫قالت ريم لمها و هي تطوي معها الملبس ‪:‬‬
‫أمي أل تلحظين تغير أحوال قاسم ؟ فقالت الم و هي تتشاغل بما في‬
‫يدها ‪:‬‬
‫الصغير يكبر يا ريم ••‬

‫فقالت ريم و هي مصرة على مواصلة النقاش ‪:‬‬


‫قاسم يبدو لي غير مهتم ‪ ،‬بات معنيا بنفسه أكثر من أي وقت مضى ‪ ،‬حتى‬
‫أنني أحيانا أشعر أنه يرانا عبئا يتمنى لو يلقه عن ظهره و يفر بأسرع وقت‬
‫ممـكن ‪ ،‬هل هذه حقيقة ‪ ،‬أم أنني أتوهم ؟ فقالت الم و هي تضع بعضا من‬
‫الثياب في خزانتها ‪:‬‬
‫قاسم مجروح يا ريم ‪ ،‬عنـــدما يحب الشـــاب و يصدم في حبه ‪ ،‬تتحول‬
‫هذه الصدمة إلى ضربة ‪ ،‬تدفعه إلى التغيير ‪ ،‬و التغيير عند الرجال عادة أكثر‬
‫حزما ‪ ،‬و عندما يقررونه فإنهم ينفذون ما يقررون ‪ ،‬و قد كانت الحداث‬
‫سريعة و متلحقة يمسك بعضها بزمام بعض ‪ ،‬تخرجه و ر فض حبه ‪ ،‬و وفاة‬
‫والده ‪ ،‬و سفر مشين •• فجأة وسط كل هذه الضبابات ينبت لديه حل‬
‫سيخلصه من كل شيء ‪ ،‬من بلد تعيش فيها محبوبته ‪ ،‬و من أسرة مات‬
‫عائلها ‪ ،‬و من قلة عمل ‪ ،‬قلة كرامة ‪ ،‬قلة إهتمام •• من السذاجة العتقاد‬
‫بأنه سيترك هذا الحل لية اعتبارات •• و إن كان قاسم يحاول ظاهريا‬
‫التملص من مشاعره نحونا فإنني متأكدة من أنه داخليا يعاني كثيرا •• ثم‬
‫ابتسمت و قالت ‪:‬‬
‫كما عانى سعيد و يعاني منذ أحبك ‪ ،‬ماذا قررت بشأنه ؟ فقالت ريم ‪:‬‬
‫أمي ‪ ،‬ذكر سعيد يوم طلبني شيئا عن ابتعاده عن طريقي تلبية لرجاءك ‪،‬‬
‫متى حدث هذا و لماذا ؟ فقالت الم و مازالت تبتسم ‪:‬‬
‫منذ بداياتك الولى في الجامعة على ما أذكر ‪ ،‬كان والدك يرحمه الله‬
‫مسافرا و فاتحني سعيد بشأن الرتباط بك ‪ ،‬و رفضت و طلبت منه أن يبتعد‬
‫عن طريقك و يتركك تعيشين حياتك كما ينبغي •• فقالت ريم ‪:‬‬
‫و لكنك اليوم موافقة على ارتباطي به فأجابت الم ‪:‬‬
‫المور تغيرت يا ريم ‪ ،‬و •• قاطعتها ريم و قالت و هي تبتسم بمرارة ‪:‬‬
‫أصبحت مطلقة ‪ ،‬يتيمة ‪ ،‬وحيدة ‪ ،‬و لم أعد صغيرة فقد شارفت على‬
‫الثلثين ‪ ،‬سعيد بالنسبة لمن في ظروفي لقطة ‪ ،‬أليس كذلك يا أمي ؟ قالت‬
‫الم بهدوء ‪:‬‬
‫أريد أن أطمئن عليك ‪ ،‬لن يهدأ لي بال قبل أن أطمئن عليك يا ريم ••‬
‫قالت ريم و في نبرتها حنان و تصميم ‪:‬‬
‫اطمئني يا أمي ‪ ،‬رغم كل الظروف التي ماعادت في صالحي ‪ ،‬فإنني بخير‬
‫‪ ،‬و لدي في دنياي ما يحملني ‪ ،‬و يبعد شبح الضياع عني •• فقالت الم‬
‫بأمل ‪:‬‬
‫ستتزوجين من سعيد ؟ هزت ريم رأسها و قالت ‪:‬‬
‫سعيد يستحق من هي أفضل مني ‪ ،‬أما أنا •• فل ••‬
‫في المجلة كانت هناك مفـــاجأة سارة لريم ‪ ،‬لقد كون رئيس التحرير فريقا‬
‫لزيارة الحدود و اللتقاء مع المبعدين عليها ‪ ،‬و اختيرت ريم ضمن هذا الفريق‬
‫‪ ،‬لتتمكن من رسم الموضوع بشكل أفضل ‪ ،‬شعرت و هي تتلقى التكليف‬
‫بسعادة فائقة ‪ ،‬انتفضت كل ذرة في كيانها لهذا القرار ‪ ،‬إنه القرار الذي‬
‫كانت تحتاجه بالفعل ‪ ،‬لول مرة تتفاعل مباشرة مع الحدث الفلسطيني ‪،‬‬
‫لول مرة لن تقرؤه مثل مليين البشر ‪ ،‬ستقرؤه في الوجوه ‪ ،‬في الخيام ‪،‬‬
‫في صيحات الصغار ‪ ،‬ستقرؤه في قرص الشمس المسلط عليهم ‪ ،‬و في‬
‫الرمال الصفراء المتطايرة حولهم ‪ ،‬هذا حقا ما تحتاج •• عندما جاء إليها‬
‫سعيد ليصحبها إلى المنزل ‪ ،‬قدمت إليه علمات السعادة على وجهها خبرا‬
‫كاذبا عن موافقتها على عرضه ‪ ،‬فقال و هو يسير نشيطا بجوارها ‪:‬‬
‫اللهم اجعله خيرا قالت و هي تستشعر ابتسامتها في قلبها ‪:‬‬
‫سأسافر إلى الحدود •• نظر إليها ‪ ،‬كأنه لم يفهم ‪ ،‬انسحبت ابتسامته ‪،‬‬
‫قال ‪:‬‬
‫تسافرين إلى الحدود ؟ فقالت و هي تؤكد ‪:‬‬
‫نعم ‪ ،‬كلفت ضمن الفريق العلمي المسافر إلى هناك ‪ ،‬سأرى معاناة‬
‫جديدة للجئين ‪ ،‬أعيش معهم ساعات ‪ ،‬أسجل خللها هذه المعاناة ‪ ،‬أدعو الله‬
‫لي بالتوفيق •• قال سعيد بسرعة ‪:‬‬
‫سآتي معك •• قالت ريم مندهشة ‪:‬‬
‫تأتي معي ؟ إنها ليست رحلة إستجمام يا سعيد ‪ ،‬رحلة عمل ‪ ،‬و أعتقد أننا‬
‫سنطالب عند الحــدود بأوراق رسميــة تثبت جهات عملنا للسماح لنا‬
‫بالدخول ‪ ،‬فكيف ستدخل أنت ؟ فقال و هو يكز على أسنانه مصمما ‪:‬‬
‫سآتي معك يا ريم و لو اقتضى المر التسلل عبر الحدود •• نظرت إليه‬
‫ريم و هزت رأسها مبتسمة و قالت ‪:‬‬
‫مجنون ••!!‬

‫***‬

‫انتهى قاسم من تجهيز أوراقه كلها ‪ ،‬أصبح جاهزا تماما للسفر ‪ ،‬جمع المال‬
‫اللزم و اشترى الملبس المناسبة لشاب ل يعرف هناك مصيره ‪ ،‬و كان في‬
‫الفترة الخيرة يكثر من قراءة الكتب باللغة النجليزية عن الحياة في أمريكا‬
‫حصل عليها من السفارة ‪ ،‬و يتابع الفلم الغربية ‪ ،‬و ل يرى إل و جهاز تسجيل‬
‫صغير به شريط أجنبي حول أذنيه ‪ ،‬شعرت أسرته أنه سافر قبل أن يسافر ‪،‬‬
‫فلم يعد يهتم كثيرا بما يجري حوله في المنزل ‪ ،‬و عندما طلبت منه الم‬
‫مرافقتها إلى ادارة الوافدين لتحضر شهادة تعفي سمر من مصاريف الدراسة‬
‫باعتبار وفاة أبيها الفلسطيني قال و هو يعود إلى مسجله ‪:‬‬
‫اذهبي مع سعيد •• لم تعلق الم فقالت ريم ‪:‬‬
‫متى تسافر يا قاسم ؟ رفع السماعات و قال بحماس كبير ‪:‬‬
‫السبوع القادم •• فقالت و هي تتنهد ‪:‬‬
‫قل إن شاء الله •• أغلق التسجيل و قد أستشعر خجل داخلي فهمس ‪:‬‬
‫إن شاء الله •• *** في المساء عندما جاء سعيد لتفقد أحوال الســرة‬
‫كعادته تعمدت الم الخروج لعداد الشاي و هي موقنة أن حديثا هاما لبد أن‬
‫تنتهي منه ريم مع سعيد ‪ ،‬بادرته ريم ‪:‬‬
‫كنت سمعت أن عرضا مغريا لشراء لوحة لجئة قد جاءك فهل بعت ؟‬
‫أطرق سعيد ‪ ،‬داخله غضب من هذا السؤال شعر أنه يريد أن يصرخ ‪ ،‬أن‬
‫ينهض ليهز فيها العماق ‪ ،‬ليحرك بحرها الراكد ‪ ،‬ليقتلع بردوها ‪ ،‬تجاهلها ‪،‬‬
‫هدوءها قال و هو يكز على شفته السفلى ‪:‬‬
‫ستة أعوام يا ريم ‪ ،‬ستة أعوام و مازلت تسألين ببرود قاتل ‪ ،‬ألم تعرفي‬
‫بعد ‪ ،‬هل فشلت إلى هذا الحد في إيصال مشاعري إليك ؟ فركت ريم يدها و‬
‫تنهدت و هي تقول ‪:‬‬
‫لم تصدقني يا سعيد عندما أخبرتك أنني تغيرت •• أعتبرتها من قبيل‬
‫الحجج الواهية ‪ ،‬لكنني فعل تغيرت •• تجربتي مع سهيل لم تكن سهلة ‪،‬‬
‫كانت خليطا مريعا من الحاسيس •• منذ طلقي لم أتحدث مع مخلــــوق‬
‫بهذا الشأن ‪ ،‬لكنني أجد نفسي مــدفوعة للحديث إليك •• لنك أنت ‪ ،‬و أنت‬
‫تحديدا من أنقذني منه •• أجابت على سؤال عينيه بابتسامة حزينة و قالت‬
‫كأنها تحدث نفسها ‪:‬‬
‫في ذلك اليوم حلمت بك ‪ ،‬كنت تصيح بي أهــــربي يا ريم ‪ ،‬هيا أهربي ••‬
‫لم يكــن حلما يا سعيد كان رسالة خلص ‪ ،‬كان عملية إنقاذ أنت قائدها ••‬
‫رغم دموع سهيل النادمة يومها كان صوتك أقوى ‪ ،‬كنت أسمعه يطغى على‬
‫كل واقعي ‪ ،‬يبـــسط نفسه على إرادتي ‪ ،‬و في ذلك اليوم تحديدا ‪ ،‬وصلت‬
‫مع سهيل إلى مرحلة انكسار لن تتخيلها مهما حاولت ‪ ،‬قدمت له بيدي‬
‫السكين ليقتلني •• كنت جادة جدا فيما أفعل ‪ ،‬في لحظة هانت الدنيا ‪ ،‬هانت‬
‫الحياة ‪ ،‬فرغت تماما ‪ ،‬صارت عدم ‪ ،‬في لحظة رفض كل سنتيمتر في‬
‫جسدي البقاء في الدنيا •• كانت كرامتي مذبوحة ‪ ،‬كنت ضعيفة ‪ ،‬كنت‬
‫منكسرة ‪ ،‬كنت وحيدة •• شعرت أنني مت فعل و لم يبق سوى خروج‬
‫الــــروح ‪ ،‬فجأة شعـــرت أنني ضئيلة ‪ ،‬ضـئيلة جدا ‪ ،‬و ل أستحق الحياة ‪،‬‬
‫القيت إليه بالسكين و رجوته أن يقتلني •• لحظة إنكسار مــــريعة ‪ ،‬يصعب‬
‫وصفـــــها ‪ ،‬لـــكنها وسمتني إلى البد •• أحرقت بيادري ‪ ،‬و حجمت‬
‫مشاعري ‪ ،‬جعلت قلبي مجــــرد مضخة دم يؤدي وظيـــــفة ثانوية تمنحني‬
‫حياة ل أريدها •• منذ ذلك اليــوم و أنا أسخر حتى الـــــذوبان من أي عبارة‬
‫حب ‪ ،‬من أية أغنية حب ‪ ،‬من أي قصة حب •• يقين داخلي جعل من هذه‬
‫الكلمة شيئا مقرفا يشبه مضغة من لحمي يلوكها سهيل ثم يقذفها أرضا و‬
‫يدوسها بقدمه •• الحياة كلها كانت تؤكد هذا اليقين يوما بعد يوم ‪ ،‬كل‬
‫موقف مررنا به ‪ ،‬كل يوم عشنا فيه المرارة و الذل ••كل التفاصيل ‪ ،‬و كل‬
‫العذابات ‪ ،‬كانوا يمنحونني مباركتهم على يقيني •• أنت الشيء الوحيد‬
‫الغريب في منظومة الكون حولي ‪ ،‬أنت الوحيد الذي مازال يؤمن بأن مضخة‬
‫الدم في جوفه قادرة على ضخ الحب ‪ ،‬و لسوء حظك فإنني أنا بالذات‬
‫المعنية بهذا الحب •• صدقني يا سعيد أنا ل أستحقه •• ل أفهمه ‪ ،‬ل أشعر‬
‫به •• ل أريده •• كانت عينا سعيد قد امتلئت حتى فاضت بدموع صامتة ‪،‬‬
‫قال و هو يضرب كفا مكورا في كف ‪:‬‬
‫المجرم •• فقالت و هي تجلس بجواره ‪:‬‬
‫ستــــندهش إذا عرفت أنني رغم كــــل شيء سامحــــته ‪ ،‬لم أعــد أشعر‬
‫بكراهية تجاهه ‪ ،‬ل كراهية ‪ ،‬و ل حب •• ربما لن قلبي لم يعـــد يحمل‬
‫مشاعر •• لم يعــــد قـــادرا على حب ‪ ،‬أو على كراهية •• أمسك سعيد‬
‫يدها ‪ ،‬كانت يده باردة ‪ ،‬مبتلة عرقا ‪ ،‬قال و هو يضغط عليها ‪:‬‬
‫أنت خائفة يا حبيبتي •• مذعورة •• قلبك صنع غلفا من قسوة ليحمي به‬
‫نفسه ‪ ،‬لكنني متأكد أن خلف هذا الغلف القاسي قلبا حساسا مازال قادرا‬
‫على الحب و العطاء ‪ ،‬قادرا على مهادنة الدنيا ‪ ،‬على الغفران ‪ ،‬أنت عظيمة‬
‫يا ريم •• لم يكن ما حدث معك في تلك الليلة انكسارا كما تقولين ‪ ،‬كان‬
‫انتصار ‪ ،‬انتصرت بنفسك على منطق الغاب الذي فرض نفسه علىكما آنذاك‬
‫•• رفض النسان داخلك لغة الحيوانات و قررت النسحاب •• أنسحابك كان‬
‫انتصارا لنسانيتك يا حبيبتي •• لبد أن تفهمي هذا •• لبد أن تؤمني بأنك‬
‫كنت القوى ‪ ،‬رغم ضعفك ‪ ،‬و هول الموقف لكنك كنت القوى •• ل تجعلي‬
‫من هذه الحادثة وهما تعيشين فيه •• ل تجلدي ذاتك ‪ ،‬فقد كنت القوى ••‬
‫القوى يا حبيبتي •• كانت دموع ريم تسقط حثيثا •• كانت تشعر بعظمة هذا‬
‫القلب المحب أمامها ‪ ،‬كانت تتمنى لو تستطيع مجاراته ‪ ،‬كانت تتمني لو‬
‫يستــــطيع قلبها المتعب أن يتخــــلص من رفـضه و عناده فيمنح هذا‬
‫النسان المحب حقا عليه ‪ ،‬و يكتب معه معاهدة وفاق •• كاد لسانها أن‬
‫يتمرد عليها فيعلن الموافقة صريحة قوية ‪ ،‬لكن قبلة ساخنة طبعها سعيد‬
‫على جبينها أودع فيها كل تعاطفه و حبه في لحظة لم تنتبه لها ريم أفاقتها ••‬
‫نزعت يدها بسرعة ‪ ،‬مسحت دموعها ‪ ،‬كان جبينها ملتهب ‪ ،‬شعرت أن قبلته‬
‫أحرقتها ‪ ،‬و أدركت أنها أبدا لن تستطيع منحه ما يريد •• هزت رأسها و قالت‬
‫بسرعة و هي تغادر الغرفة ‪:‬‬
‫ل فائدة يا سعيد •• ل فائدة ••لن أستطيع •• لن أستطيع أطرق سعيد ‪،‬‬
‫لمح دمعته و هي تسقط أرضا مس شفتيه بأصابعه و قال بصوت أودع فيه‬
‫كل أحاسيسه ‪:‬‬
‫أحبك يا ريم •• أحبك أيتها المعذبة الصغيرة •• *** سافر قاسم ••‬
‫ذهبت معه كل العائلة تودعه ‪ ،‬كان يقبض طيلة الطريق على أوراقه ‪ ،‬يحتضن‬
‫حقيبته الصغيرة ‪ ،‬يلوذ ببرودتهم من مشاعر قوية كانت تراوده عن التراجع ‪،‬‬
‫كان يتشبث بهما كأنه يتشبث بالحياة ‪ ،‬كان يجلس بجوار أمه ‪ ،‬كانت‬
‫تحتضنه ‪ ،‬قلبها كان يقول كل شيء لكن شفتيها كانت صامتة ‪ ،‬دقات قلبها‬
‫التي كانت قوية في أذنيه كانت تقرأ عليه تفاصيل الرسالة ‪ ،‬كان يسمعها‬
‫تردد آيات القرآن لتحفظه ‪ ،‬و تتلو عليه أدعية كثيرة ‪ ،‬و تخلط حديثها الصامت‬
‫برجاء ل حروف له ليبقى معها ‪ ،‬كانت سطور رسالتها تتلحق فتختلط حروفها‬
‫و تتشتت افكارها ‪ ،‬كان يشعر بيدها تمسد رأسه تارة ‪ ،‬و تحتوي كتفيه تارة‬
‫أخرى ‪ ،‬كان يشعر بأنفاسها الملتهبة تهب عليه فتحرق بشرته ‪ ،‬لم يجرؤ على‬
‫رفع نظره إليها ‪ ،‬كان يدرك كم هو ضعيف إزاء عيونها الدامعة ‪ ،‬قالت ريم‬
‫لتقطع الصمت ‪:‬‬
‫أين ستقيم يا قاسم ؟ قال و هو يحاول اكساب صوته قوة ليبث المن في‬
‫قلب أمه ‪:‬‬
‫زودتني السفارة بأسماء و عناوين بعض الفنادق الصغيرة ذات السعار‬
‫المعتدلة ‪ ،‬كما أنهم زودوني بجهات مختلفة يمكن أن أطلب فيها عمل ‪ ،‬أعتقد‬
‫أن المر سيكون بسيطا •• قالت ريم بصوت حاولت بدورها إكسابه القوة‬
‫اللزمة ‪:‬‬
‫أعرف أنك ل تحب كتابة الرسائل ‪ ،‬لكن يجب أن تراسلنا ‪ ،‬تعرف كم‬
‫سنتلهف على أخبارك •• قال و هو يتحدث بقلب واجف ‪:‬‬
‫سأكتب إليكم كل يوم ‪ ،‬لن تشعروا أبدا بغربتي عنكم ‪ ،‬صدقيني •• نظر‬
‫لمه و قد أوشكت السيارة على وصول المطار ‪ ،‬قال بحنان و رجاء ‪:‬‬
‫صدقيني يا أمي ‪ ،‬صدقيني سأكتب لك كل يوم ‪ ،‬صدقيني سأكون بخير ••‬
‫أحكمت الم لف ذراعها حوله ‪ ،‬ربتت عليه و لم تتكلم ‪ ،‬كانت تدرك أن أية‬
‫كلمة تقولها لن يكون لها إل معنى واحد ا‪ ،‬أن تنفجر في بكاء لن يحتمله قلب‬
‫الحبيب المسافر •• وصلوا المطار •• كانت الصالة باردة ‪ ،‬استشعروا‬
‫برودتها في أعماقهم ‪ ،‬أجلسهم قاسم في أحد الركان و ذهب لنهاء إجراءاته‬
‫••احتضنت ريم أمها و قالت ‪:‬‬
‫سيعود يا أمي ‪ ،‬سيعود يا صابرة •• فجأة بكت الم ‪ ،‬لم تقو على تحمل‬
‫المزيد ‪ ،‬كانت ستنفجر ‪ ،‬داخلها كان يهدر ‪ ،‬كانت تريد أن تعبر عن حزنها ‪،‬‬
‫قالت و هي تدفع ريم برفق ‪:‬‬
‫أنظري هل يرانا ؟ تطلعت ريم إليه ‪ ،‬كان بعيدا منشغل ‪ ،‬قالت ‪:‬‬
‫ل يا أم قاسم ‪ ،‬ل يرانا •• قالت الم و هي تلتقط دموعها في منديلها ‪ ،‬و‬
‫تحاول إيقافها بل جدوى ‪:‬‬
‫ينبغي أل يراني أبكي ‪ ،‬سيعذبه هذا كثيرا •• يجب أن أسكت ‪ ،‬يجب أن‬
‫أسكت •• كانت تردد الكلمة الخيرة و هي تبكي ‪ ،‬تكتم شهقاتها ‪ ،‬تجبر‬
‫نفسها على السكوت فل تطاوعها عيونها ‪ ،‬و عندما بدا قاسم قادما‬
‫باتجاههم ‪ ،‬مسحت دموعها بسرعة ‪ ،‬ابتلعت غصتها ‪ ،‬و حاولت رسم‬
‫ابتسامة ‪ ،‬كان قاسم بدوره يبتسم قال و هو يطالع عيونها الحمراء ‪:‬‬
‫انتهت الجراءات ‪ ،‬علي الدخول لصالة التفتيش ‪ ،‬جئت لوداعكم •• رفعت‬
‫الم رأسها نحوه ‪ ،‬لم تجد في نفسها القوة على القيام ‪ ،‬مدت يدها تجاهه‬
‫فمال عليها احتضنته ‪ ،‬ثم تشبثت به ‪ ،‬فاضطر إلى الركوع أمامها ‪ ،‬كان يحس‬
‫قوة ذراعيها حوله ‪ ،‬كانت تريد زرعه في قلبها ‪ ،‬كانت تتمنى لو أن حضنها‬
‫يرغمه على الدخول مجددا إلى أحشائها التي حملته يوما ‪ ،‬كانت تربت ربتات‬
‫قوية على ظهره ‪ ،‬كانت تقول ‪:‬‬
‫سأفتقدك يا حبيبي ‪ ،‬سأفتقدك يا قاسم ‪ ،‬سأفتقدك يا غالي •• بكى قاسم‬
‫‪ ،‬لم يستطع مقاومة دموعه ‪ ،‬قال و هو يحكم ذراعيه حولها و يحاول التلطف‬
‫بها حتى ل يؤذيها ‪:‬‬
‫لن أجعلك تشعرين بغربتي ‪ ،‬ساراسلك دوما ‪ ،‬سوف تنزعجين من رسائلي‬
‫المتواصلة إليك ‪ ،‬لقد قدمت على هاتف ‪ ،‬لعله يأتي خلل فترة قصيرة‬
‫فأكلمك كل يوم •• أخذ يقبل يديها قبلت كثيرة و يقول ‪:‬‬
‫ل تنسيني بدعائك يا أمي ‪ ،‬ل تغضبي علي يا أمي ‪ ،‬أنا أحبك يا أمي ‪،‬‬
‫أحبك ‪ ،‬أقسم بالله أنك أغلى عندي من نفسي •• و أمه في كل هذا ترد‬
‫مؤكدة أنها لن تنساه ‪ ،‬ستدعو له دوما ‪ ،‬راضية عنه حتى تموت ‪ ،‬صوت ميعاد‬
‫الرحلة قطع حديث العاطفة بينهما ‪ ،‬فنهض ‪ ،‬سلم على ريم قال لها و هو‬
‫يقبلها ‪:‬‬
‫ستدركين يا ريم أنني كنت محقا عندما تصلك أخباري ‪ ،‬ل تحملي علي في‬
‫قلبك الشفاف غضبا ‪ ،‬فأنا لست أنانيا ‪ ،‬أو عاقا ‪ ،‬و إنما أبحث عن غدي ‪ ،‬فل‬
‫تلوميني يا أختي •• ربتت ريم على يده و قالت و هي تبتسم و تشرق‬
‫بدموعها ‪:‬‬
‫لست غاضبة ‪ ،‬و أسأل الله أن يوفقك فيما أنت ذاهب إليه في غير معصية‬
‫أو ذنب •• قبل سمر و احتضنها ‪ ،‬وعدها بالكثير من الهدايا فقالت الم ‪:‬‬
‫ضع الله نصب عينيك ياقاسم ‪ ،‬إياك و ترك الصلة ‪ ،‬إياك و الستجابة‬
‫لشياطين النس حولك ‪ ،‬بلد غريب و طباع غريبة ل تجعل قلبي يأكلني عليك‬
‫•• عاد يقبلها و هو يطمئنها على ما أوصت ‪ ،‬نداء آخر جعله ينزع نفسه منهن‬
‫نزعا ‪ ،‬تركهن و سار بظهره و هو يشير إليهن ‪ ،‬كن يسرن أمامه ‪ ،‬يلوحن له ‪،‬‬
‫يمسحن دموعهن ‪ ،‬فجأة ظهر سعيد ‪ ،‬كان يركض ‪ ،‬اتجه بسرعة نحوه ‪ ،‬قبله‬
‫و احتضنه قال ‪ - :‬كيف تصورت أنك ستسافر دون أن أودعك يا قاسم ••؟‬
‫قال قاسم و هو يضرب كتفه ‪:‬‬
‫كنت أعلم أنك الكبر و العظم يا سعيد ‪ ،‬دوما كنت الكبر و العظم ‪ ،‬إنهم‬
‫يحتاجونك ‪ ،‬ل تجعل موقف ريم يمنعك عنهم ‪ ،‬إنها أكثر الناس حاجة إليك‬
‫رغم عنادها •• تطلع إليهم سعيد و قال مبتسما ‪:‬‬
‫و هل تعتقد أني سأتركهم ؟ النداء الخير ‪ ،‬و اختفى قاسم •• قال سعيد و‬
‫هو ينضم إليهن ‪:‬‬
‫هيا بنا •• ل فائدة من النتظار •• و استجاب الجميع ‪ ،‬دوما كان له عليهم‬
‫كلمة مسموعة ‪ ،‬منحوها له منذ أوصاه الب بهم عندما سافر قبل سنوات‬
‫كثيرة •• تطلعت ريم إليه و استجابت باسمة للسير خلفه باتجاه سيارته‬
‫خارج المطار •• *** بدورها بعد أيام قليلة سافرت ريم ••كانت متحمسة‬
‫جدا لهذه الرحلة ‪ ،‬جهزت أدواتها بعناية ‪ ،‬و قالت و هي تجهز حقيبتها الصغيرة‬
‫‪:‬‬
‫ل أعرف كم يوما سنبقى هناك ‪ ،‬ربما يومين أو ثلثة ‪ ،‬ل أعرف ‪ ،‬يفضل أن‬
‫آخذ معي بعض الغراض البسيطة •• قالت لها الم و هي تبتسم بهدوء ‪:‬‬
‫تشتعلين حماسا يا ريم فقالت و هي تهز رأسها ‪:‬‬
‫بالطبع يا أمي ‪ ،‬إنني أخيرا سألمس عن قرب معاناة شعبي الحقيقية ‪ ،‬هذا‬
‫سيمنح رؤيتي بعدا أكبر ‪ ،‬و يعطي أدواتي الفنية زخما أكبر ‪ ،‬ليتهم ينظمون‬
‫رحلة إلى فلسطين نفسها لراها و أعرفها أكثر •• ثم انسحبت ابتسامتها‬
‫الهادئة عن وجوم قائلة ‪:‬‬
‫رغم أن لشيء لي هناك •• فقالت الم و هي تبتسم ‪:‬‬
‫لماذا ؟ لك بيت هناك ‪ ،‬بيت أبيك في غزة فقالت ريم و هي تبتسم‬
‫بمرارة ‪:‬‬
‫أخبرني تامر أن اليهود استولوا عليه ‪ ،‬و بعد وفاة جدتي يرحمها الله ‪ ،‬غادر‬
‫عمي بدر إلى القطاع حيث تعيش زوجته الخيرة •• قال إنه عجز عن اثبات‬
‫حقه في البيت رغم أنه عاش فيه عمره كله •• أية مهزلة ؟ قالت الم و هي‬
‫تدق جبينها بيدها ‪:‬‬
‫تذكرت •• لقد تذكرت يا ريم •• فقالت ريم بدهشة ‪:‬‬
‫ماذا تذكرت يا أمي ؟ قالت الم و هي تتجه إلى غرفتها بسرعة ‪:‬‬
‫اتبعيني •• تبعتها ريم و راقبتها و هي تفتح خزانتها ‪ ،‬و تخرج حقيبة قديمة‬
‫كانت قد فتحتها يوما لتخرج منها قائمة بأسماء و عناوين القرباء ‪ ،‬اشتعل‬
‫فضول ريم لما يمكن أن يخرج هذه المرة من الحقيبة القديمة ‪ ،‬جلست الم‬
‫على السرير ‪ ،‬فتحت الحقيبة ‪ ،‬فتخيلت ريم لفرط فضولها أن نورا سيسطع‬
‫بعد قليل من الوراق القديمة أمامها •• قصاصات جرائد تحمل أخبارا و‬
‫صورا عن فلسطين و المقاومة الداخلية ‪ ،‬و هزيمة ‪ 76‬و غير ذلك من أحداث‬
‫‪ ،‬أمسكت ريم الحقيبة ‪ ،‬وضعتها على حجرها فتحت الصحف برفق و تصفحتها‬
‫بحرص ‪ ،‬وجدت في إحداها صورة على ركن منها دائرة بالقلم الحمر ‪ ،‬تحت‬
‫الصورة كتبت عبــارة " قطاع غزه يلتهب " قالت الم بحماس و هي تخرج‬
‫الملف الصفر القديم ‪:‬‬
‫انظري ‪ ،‬هذه حجة البيت •• هذه حجة البيت قالت ريم و هي تلقف منها‬
‫الملف ‪:‬‬
‫أي بيت ؟ قالت الم ‪:‬‬
‫أخبرني أبوك يرحمه الله ‪ ،‬أنه اصطحب معه حين غادر غزة هذه الحجة‬
‫سهوا بعد أن أعطاها له والده ليلة سفره و أوصاه بالمحافظة عليها ‪ ،‬قال إنه‬
‫كان عليه تركها للباقين منهم هناك ‪ ،‬لكنه نسي ‪ ،‬هذه الدائرة فوق الصورة‬
‫هي للبيت ‪ ،‬كان مصورا صحفيا قد التقطها لقطاع غزة عام ‪ ، 76‬قال لي‬
‫والدك و هو يحتفظ بالقصاصة ‪ ،‬إن هذا هو بيتهم •• أخرجت ريم حجة البيت‬
‫بأصابع مرتجفة و قرأت فيها عبارات قديمة لكنها واضحة عن ملكية البيت‬
‫لسرة القاسم ‪ ،‬الحجة تعين تماما موقع البيت و مساحته ‪ ،‬شعرت ريم أنها‬
‫تمسك كنزا ‪ ،‬دق قلبها بشدة و هي تعيد الوثيقة إلى مكانها و تعاود النظر في‬
‫الصورة غير الواضحة للبيت القديم ‪ ،‬كانت النخلة الطويلة التي تحدث عنها‬
‫أبوها تبدو في الصورة كمئذنة عملقة نبت في أعلها سعف •• قالت ريم و‬
‫هي تحتضن الوراق ‪:‬‬
‫رحمة الله عليك يا أبي •• التفتت إلى أمها و قالت بحماس باك ‪:‬‬
‫إن هذه الوثيقة كنز يا أمي ‪ ،‬كنز •• فقالت الم و هي تتنهد ‪:‬‬
‫أوصاني أبوكم أن أعطيها لكم حين يموت ‪ ،‬كان هذا قبيل سفره ‪ ،‬لم‬
‫أتذكر إل اليوم •• لكن ماالجدوى منها ؟ قالت ريم و هي تحتضن الوراق ‪:‬‬
‫يكفي أنها من رائحة أبي ‪ ،‬يكفي أنها قطعة من روحه •• هل يمكن أن‬
‫أحتفظ بها ؟ فقالت الم و هي تنهض متثاقلة ‪:‬‬
‫خذيها إن كان فيها بعض العزاء لك •• وضعت ريم الوراق بحرص في‬
‫الحقيبة و أغلقتها برفق ثم اتجهت بها إلى غرفتها وضعتها في خزانتها الخاصة‬
‫و أغلقت عليها ثم عادت تلملم أغراضها بذهن شارد •• *** طيلة الرحلة إلى‬
‫الحدود بواسطة الحافلة كانت ريم ساهمة ‪ ،‬حاول بعض الزملء الحديث معها‬
‫فكانت تبتسم مجاملة ثم تعود لشرودها ‪ ،‬تفهموا سبب الشرود ‪ ،‬فلم يلحوا‬
‫عليها ‪ ،‬كانت لحظات قاسية تلك التي تنتظرها ‪ ،‬تذكرت يوم وقفت على‬
‫الحدود في رفح أمام السلك الشائكة ‪ ،‬تنهدت ‪ ،‬لقد كان يوما عصيبا ••‬
‫انتبهت على صوت نفير سيارة صغيرة تسير بمحاذاتهم ‪ ،‬نظرت من الشباك ‪،‬‬
‫كان سعيد •• هزت رأسها و ابتسمت ‪ ،‬أشارت له فعاود تحيتها بالنفير ‪،‬‬
‫سألوها عنه فأجابت باسمة ‪:‬‬
‫ولي أمري •• أوقفوا الحافلة و تفاهموا معه على عدم منطقية الوصول‬
‫للحدود بهذه السيارة الصغيرة ‪ ،‬اتفقوا معــه على أن يضــــع سيــــارته في‬
‫أقـــرب استراحة و يركــب معهم إكراما لريم •• و عرضوا عليها إن أرادت‬
‫مرافقته حتي يركب معهم •• نظر إليها راجيا أن توافق ‪ ،‬هزت رأسها ‪ ،‬و‬
‫غادرت الحافلة ‪ ،‬تركت أغراضها فيها و ركبت بجواره •• حرك سيارته راقصا‬
‫بها في الطريق فقال نفرا في الحافلة ‪ ":‬هذا رجل محب " تنهدت ريم و هي‬
‫تستقر بجوار سعيد و قالت ‪:‬‬
‫مجنون !! قال و هو يطلق ضحكة حبور صافية ‪:‬‬
‫أحبك ••!! تحدثا كثيرا ‪ ،‬طرقا كل المواضيع ‪ ،‬إل موضوع القلب ‪ ،‬حذرته‬
‫ريم منذ البداية أل يتحدث عنه أعطى وعده و وفى به ــ في العبارات على‬
‫القل !! ــ و بسرعة طوت الرض نفسها عن الستراحة ‪ ،‬ركن سيارته و ركبا‬
‫الحافلة معا ‪ ،‬انعكس مرحه على جميع من فيها ‪ ،‬ربطتهم بسرعة مودة‬
‫الطريق ‪ ،‬مودة قادرة على كسر كل الحواجز حتي بين الغراب ‪ ،‬كان يترك‬
‫كرسيه بجوار ريم أحيانا استجابة لنداء يأتيه من آخر الحافلة فيذهب إليهم‬
‫يجلس بينهم ‪ ،‬يترك للسانه الحرية في التعبير عن حبه لريم ‪ ،‬يستمتع بما‬
‫يقول ‪ ،‬ل يضع لنفسه حدودا ‪ ،‬كان حديثه حلوا ‪ ،‬كانوا يستمعون إليه ‪،‬‬
‫يطرقون هدوءا حتى يسمعون صوته المنخفض ‪ ،‬ريم كانت تنظر إليه أحيانا ‪،‬‬
‫و تبتسم عندما ترى انسجامه مع المجموعة ‪ ،‬تهز رأسها و تعود لكتاب في‬
‫يدها تقطع به المسافة ‪ ،‬يعود إليها يجلس بجوارها يهمس ‪:‬‬
‫" وحشتيني " تبتسم و ترفع إصبعها محذرة ‪ ،‬فيضع يده بسرعة على‬
‫شفتيه و يقول ‪:‬‬
‫آسف !! قالت ريم لمها و هي تطوي معها الملبس ‪:‬‬
‫أمي أل تلحظين تغير أحوال قاسم ؟ فقالت الم و هي تتشاغل بما في‬
‫يدها ‪:‬‬
‫الصغير يكبر يا ريم •• فقالت ريم و هي مصرة على مواصلة النقاش ‪:‬‬
‫قاسم يبدو لي غير مهتم ‪ ،‬بات معنيا بنفسه أكثر من أي وقت مضى ‪ ،‬حتى‬
‫أنني أحيانا أشعر أنه يرانا عبئا يتمنى لو يلقه عن ظهره و يفر بأسرع وقت‬
‫ممـكن ‪ ،‬هل هذه حقيقة ‪ ،‬أم أنني أتوهم ؟ فقالت الم و هي تضع بعضا من‬
‫الثياب في خزانتها ‪:‬‬
‫قاسم مجروح يا ريم ‪ ،‬عنـــدما يحب الشـــاب و يصدم في حبه ‪ ،‬تتحول‬
‫هذه الصدمة إلى ضربة ‪ ،‬تدفعه إلى التغيير ‪ ،‬و التغيير عند الرجال عادة أكثر‬
‫حزما ‪ ،‬و عندما يقررونه فإنهم ينفذون ما يقررون ‪ ،‬و قد كانت الحداث‬
‫سريعة و متلحقة يمسك بعضها بزمام بعض ‪ ،‬تخرجه و ر فض حبه ‪ ،‬و وفاة‬
‫والده ‪ ،‬و سفر مشين •• فجأة وسط كل هذه الضبابات ينبت لديه حل‬
‫سيخلصه من كل شيء ‪ ،‬من بلد تعيش فيها محبوبته ‪ ،‬و من أسرة مات‬
‫عائلها ‪ ،‬و من قلة عمل ‪ ،‬قلة كرامة ‪ ،‬قلة إهتمام •• من السذاجة العتقاد‬
‫بأنه سيترك هذا الحل لية اعتبارات •• و إن كان قاسم يحاول ظاهريا‬
‫التملص من مشاعره نحونا فإنني متأكدة من أنه داخليا يعاني كثيرا •• ثم‬
‫ابتسمت و قالت ‪:‬‬
‫كما عانى سعيد و يعاني منذ أحبك ‪ ،‬ماذا قررت بشأنه ؟ فقالت ريم ‪:‬‬
‫أمي ‪ ،‬ذكر سعيد يوم طلبني شيئا عن ابتعاده عن طريقي تلبية لرجاءك ‪،‬‬
‫متى حدث هذا و لماذا ؟ فقالت الم و مازالت تبتسم ‪:‬‬
‫منذ بداياتك الولى في الجامعة على ما أذكر ‪ ،‬كان والدك يرحمه الله‬
‫مسافرا و فاتحني سعيد بشأن الرتباط بك ‪ ،‬و رفضت و طلبت منه أن يبتعد‬
‫عن طريقك و يتركك تعيشين حياتك كما ينبغي •• فقالت ريم ‪:‬‬
‫و لكنك اليوم موافقة على ارتباطي به فأجابت الم ‪:‬‬
‫المور تغيرت يا ريم ‪ ،‬و •• قاطعتها ريم و قالت و هي تبتسم بمرارة ‪:‬‬
‫أصبحت مطلقة ‪ ،‬يتيمة ‪ ،‬وحيدة ‪ ،‬و لم أعد صغيرة فقد شارفت على‬
‫الثلثين ‪ ،‬سعيد بالنسبة لمن في ظروفي لقطة ‪ ،‬أليس كذلك يا أمي ؟ قالت‬
‫الم بهدوء ‪:‬‬
‫أريد أن أطمئن عليك ‪ ،‬لن يهدأ لي بال قبل أن أطمئن عليك يا ريم ••‬
‫قالت ريم و في نبرتها حنان و تصميم ‪:‬‬
‫اطمئني يا أمي ‪ ،‬رغم كل الظروف التي ماعادت في صالحي ‪ ،‬فإنني بخير‬
‫‪ ،‬و لدي في دنياي ما يحملني ‪ ،‬و يبعد شبح الضياع عني •• فقالت الم‬
‫بأمل ‪:‬‬
‫ستتزوجين من سعيد ؟ هزت ريم رأسها و قالت ‪:‬‬
‫سعيد يستحق من هي أفضل مني ‪ ،‬أما أنا •• فل •• *** في المجلة‬
‫كانت هناك مفـــاجأة سارة لريم ‪ ،‬لقد كون رئيس التحرير فريقا لزيارة‬
‫الحدود و اللتقاء مع المبعدين عليها ‪ ،‬و اختيرت ريم ضمن هذا الفريق ‪،‬‬
‫لتتمكن من رسم الموضوع بشكل أفضل ‪ ،‬شعرت و هي تتلقى التكليف‬
‫بسعادة فائقة ‪ ،‬انتفضت كل ذرة في كيانها لهذا القرار ‪ ،‬إنه القرار الذي‬
‫كانت تحتاجه بالفعل ‪ ،‬لول مرة تتفاعل مباشرة مع الحدث الفلسطيني ‪،‬‬
‫لول مرة لن تقرؤه مثل مليين البشر ‪ ،‬ستقرؤه في الوجوه ‪ ،‬في الخيام ‪،‬‬
‫في صيحات الصغار ‪ ،‬ستقرؤه في قرص الشمس المسلط عليهم ‪ ،‬و في‬
‫الرمال الصفراء المتطايرة حولهم ‪ ،‬هذا حقا ما تحتاج •• عندما جاء إليها‬
‫سعيد ليصحبها إلى المنزل ‪ ،‬قدمت إليه علمات السعادة على وجهها خبرا‬
‫كاذبا عن موافقتها على عرضه ‪ ،‬فقال و هو يسير نشيطا بجوارها ‪:‬‬
‫اللهم اجعله خيرا قالت و هي تستشعر ابتسامتها في قلبها ‪:‬‬
‫سأسافر إلى الحدود •• نظر إليها ‪ ،‬كأنه لم يفهم ‪ ،‬انسحبت ابتسامته ‪،‬‬
‫قال ‪:‬‬
‫تسافرين إلى الحدود ؟ فقالت و هي تؤكد ‪:‬‬
‫نعم ‪ ،‬كلفت ضمن الفريق العلمي المسافر إلى هناك ‪ ،‬سأرى معاناة‬
‫جديدة للجئين ‪ ،‬أعيش معهم ساعات ‪ ،‬أسجل خللها هذه المعاناة ‪ ،‬أدعو الله‬
‫لي بالتوفيق •• قال سعيد بسرعة ‪:‬‬
‫سآتي معك •• قالت ريم مندهشة ‪:‬‬
‫تأتي معي ؟ إنها ليست رحلة إستجمام يا سعيد ‪ ،‬رحلة عمل ‪ ،‬و أعتقد أننا‬
‫سنطالب عند الحــدود بأوراق رسميــة تثبت جهات عملنا للسماح لنا‬
‫بالدخول ‪ ،‬فكيف ستدخل أنت ؟ فقال و هو يكز على أسنانه مصمما ‪:‬‬
‫سآتي معك يا ريم و لو اقتضى المر التسلل عبر الحدود •• نظرت إليه‬
‫ريم و هزت رأسها مبتسمة و قالت ‪:‬‬
‫مجنون ••!! *** انتهى قاسم من تجهيز أوراقه كلها ‪ ،‬أصبح جاهزا تماما‬
‫للسفر ‪ ،‬جمع المال اللزم و اشترى الملبس المناسبة لشاب ل يعرف هناك‬
‫مصيره ‪ ،‬و كان في الفترة الخيرة يكثر من قراءة الكتب باللغة النجليزية‬
‫عن الحياة في أمريكا حصل عليها من السفارة ‪ ،‬و يتابع الفلم الغربية ‪ ،‬و ل‬
‫يرى إل و جهاز تسجيل صغير به شريط أجنبي حول أذنيه ‪ ،‬شعرت أسرته أنه‬
‫سافر قبل أن يسافر ‪ ،‬فلم يعد يهتم كثيرا بما يجري حوله في المنزل ‪ ،‬و‬
‫عندما طلبت منه الم مرافقتها إلى ادارة الوافدين لتحضر شهادة تعفي سمر‬
‫من مصاريف الدراسة باعتبار وفاة أبيها الفلسطيني قال و هو يعود إلى‬
‫مسجله ‪:‬‬
‫اذهبي مع سعيد •• لم تعلق الم فقالت ريم ‪:‬‬
‫متى تسافر يا قاسم ؟ رفع السماعات و قال بحماس كبير ‪:‬‬
‫السبوع القادم •• فقالت و هي تتنهد ‪:‬‬
‫قل إن شاء الله •• أغلق التسجيل و قد أستشعر خجل داخلي فهمس ‪:‬‬
‫إن شاء الله ••‬
‫في المساء عندما جاء سعيد لتفقد أحوال الســرة كعادته تعمدت الم‬
‫الخروج لعداد الشاي و هي موقنة أن حديثا هاما لبد أن تنتهي منه ريم مع‬
‫سعيد ‪ ،‬بادرته ريم ‪:‬‬

‫كنت سمعت أن عرضا مغريا لشراء لوحة لجئة قد جاءك فهل بعت ؟‬
‫أطرق سعيد ‪ ،‬داخله غضب من هذا السؤال شعر أنه يريد أن يصرخ ‪ ،‬أن‬
‫ينهض ليهز فيها العماق ‪ ،‬ليحرك بحرها الراكد ‪ ،‬ليقتلع بردوها ‪ ،‬تجاهلها ‪،‬‬
‫هدوءها قال و هو يكز على شفته السفلى ‪:‬‬
‫ستة أعوام يا ريم ‪ ،‬ستة أعوام و مازلت تسألين ببرود قاتل ‪ ،‬ألم تعرفي‬
‫بعد ‪ ،‬هل فشلت إلى هذا الحد في إيصال مشاعري إليك ؟ فركت ريم يدها و‬
‫تنهدت و هي تقول ‪:‬‬
‫لم تصدقني يا سعيد عندما أخبرتك أنني تغيرت •• أعتبرتها من قبيل‬
‫الحجج الواهية ‪ ،‬لكنني فعل تغيرت •• تجربتي مع سهيل لم تكن سهلة ‪،‬‬
‫كانت خليطا مريعا من الحاسيس •• منذ طلقي لم أتحدث مع مخلــــوق‬
‫بهذا الشأن ‪ ،‬لكنني أجد نفسي مــدفوعة للحديث إليك •• لنك أنت ‪ ،‬و أنت‬
‫تحديدا من أنقذني منه ••‬

‫أجابت على سؤال عينيه بابتسامة حزينة و قالت كأنها تحدث نفسها ‪:‬‬
‫في ذلك اليوم حلمت بك ‪ ،‬كنت تصيح بي أهــــربي يا ريم ‪ ،‬هيا أهربي ••‬
‫لم يكــن حلما يا سعيد كان رسالة خلص ‪ ،‬كان عملية إنقاذ أنت قائدها ••‬
‫رغم دموع سهيل النادمة يومها كان صوتك أقوى ‪ ،‬كنت أسمعه يطغى على‬
‫كل واقعي ‪ ،‬يبـــسط نفسه على إرادتي ‪ ،‬و في ذلك اليوم تحديدا ‪ ،‬وصلت‬
‫مع سهيل إلى مرحلة انكسار لن تتخيلها مهما حاولت ‪ ،‬قدمت له بيدي‬
‫السكين ليقتلني •• كنت جادة جدا فيما أفعل ‪ ،‬في لحظة هانت الدنيا ‪ ،‬هانت‬
‫الحياة ‪ ،‬فرغت تماما ‪ ،‬صارت عدم ‪ ،‬في لحظة رفض كل سنتيمتر في‬
‫جسدي البقاء في الدنيا •• كانت كرامتي مذبوحة ‪ ،‬كنت ضعيفة ‪ ،‬كنت‬
‫منكسرة ‪ ،‬كنت وحيدة •• شعرت أنني مت فعل و لم يبق سوى خروج‬
‫الــــروح ‪ ،‬فجأة شعـــرت أنني ضئيلة ‪ ،‬ضـئيلة جدا ‪ ،‬و ل أستحق الحياة ‪،‬‬
‫القيت إليه بالسكين و رجوته أن يقتلني ••‬

‫لحظة إنكسار مــــريعة ‪ ،‬يصعب وصفـــــها ‪ ،‬لـــكنها وسمتني إلى البد ••‬
‫أحرقت بيادري ‪ ،‬و حجمت مشاعري ‪ ،‬جعلت قلبي مجــــرد مضخة دم يؤدي‬
‫وظيـــــفة ثانوية تمنحني حياة ل أريدها •• منذ ذلك اليــوم و أنا أسخر حتى‬
‫الـــــذوبان من أي عبارة حب ‪ ،‬من أية أغنية حب ‪ ،‬من أي قصة حب ••‬
‫يقين داخلي جعل من هذه الكلمة شيئا مقرفا يشبه مضغة من لحمي يلوكها‬
‫سهيل ثم يقذفها أرضا و يدوسها بقدمه ••‬

‫الحياة كلها كانت تؤكد هذا اليقين يوما بعد يوم ‪ ،‬كل موقف مررنا به ‪ ،‬كل‬
‫يوم عشنا فيه المرارة و الذل ••كل التفاصيل ‪ ،‬و كل العذابات ‪ ،‬كانوا‬
‫يمنحونني مباركتهم على يقيني •• أنت الشيء الوحيد الغريب في منظومة‬
‫الكون حولي ‪ ،‬أنت الوحيد الذي مازال يؤمن بأن مضخة الدم في جوفه قادرة‬
‫على ضخ الحب ‪ ،‬و لسوء حظك فإنني أنا بالذات المعنية بهذا الحب ••‬
‫صدقني يا سعيد أنا ل أستحقه •• ل أفهمه ‪ ،‬ل أشعر به •• ل أريده ••‬

‫كانت عينا سعيد قد امتلئت حتى فاضت بدموع صامتة ‪ ،‬قال و هو يضرب كفا‬
‫مكورا في كف ‪:‬‬

‫المجرم ••‬

‫فقالت و هي تجلس بجواره ‪:‬‬

‫ستــــندهش إذا عرفت أنني رغم كــــل شيء سامحــــته ‪ ،‬لم أعــد أشعر‬
‫بكراهية تجاهه ‪ ،‬ل كراهية ‪ ،‬و ل حب •• ربما لن قلبي لم يعـــد يحمل‬
‫مشاعر •• لم يعــــد قـــادرا على حب ‪ ،‬أو على كراهية ••‬

‫أمسك سعيد يدها ‪ ،‬كانت يده باردة ‪ ،‬مبتلة عرقا ‪ ،‬قال و هو يضغط عليها ‪:‬‬

‫أنت خائفة يا حبيبتي •• مذعورة •• قلبك صنع غلفا من قسوة ليحمي به‬
‫نفسه ‪ ،‬لكنني متأكد أن خلف هذا الغلف القاسي قلبا حساسا مازال قادرا‬
‫على الحب و العطاء ‪ ،‬قادرا على مهادنة الدنيا ‪ ،‬على الغفران ‪ ،‬أنت عظيمة‬
‫يا ريم •• لم يكن ما حدث معك في تلك الليلة انكسارا كما تقولين ‪ ،‬كان‬
‫انتصار ‪ ،‬انتصرت بنفسك على منطق الغاب الذي فرض نفسه علىكما آنذاك‬
‫•• رفض النسان داخلك لغة الحيوانات و قررت النسحاب •• أنسحابك كان‬
‫انتصارا لنسانيتك يا حبيبتي •• لبد أن تفهمي هذا •• لبد أن تؤمني بأنك‬
‫كنت القوى ‪ ،‬رغم ضعفك ‪ ،‬و هول الموقف لكنك كنت القوى •• ل تجعلي‬
‫من هذه الحادثة وهما تعيشين فيه •• ل تجلدي ذاتك ‪ ،‬فقد كنت القوى ••‬
‫القوى يا حبيبتي ••‬

‫كانت دموع ريم تسقط حثيثا •• كانت تشعر بعظمة هذا القلب المحب‬
‫أمامها ‪ ،‬كانت تتمنى لو تستطيع مجاراته ‪ ،‬كانت تتمني لو يستــــطيع قلبها‬
‫المتعب أن يتخــــلص من رفـضه و عناده فيمنح هذا النسان المحب حقا‬
‫عليه ‪ ،‬و يكتب معه معاهدة وفاق •• كاد لسانها أن يتمرد عليها فيعلن‬
‫الموافقة صريحة قوية ‪ ،‬لكن قبلة ساخنة طبعها سعيد على جبينها أودع فيها‬
‫كل تعاطفه و حبه في لحظة لم تنتبه لها ريم أفاقتها •• نزعت يدها بسرعة ‪،‬‬
‫مسحت دموعها ‪ ،‬كان جبينها ملتهب ‪ ،‬شعرت أن قبلته أحرقتها ‪ ،‬و أدركت‬
‫أنها أبدا لن تستطيع منحه ما يريد •• هزت رأسها و قالت بسرعة و هي‬
‫تغادر الغرفة ‪:‬‬
‫ل فائدة يا سعيد •• ل فائدة ••لن أستطيع •• لن أستطيع أطرق سعيد ‪،‬‬
‫لمح دمعته و هي تسقط أرضا مس شفتيه بأصابعه و قال بصوت أودع فيه‬
‫كل أحاسيسه ‪:‬‬

‫أحبك يا ريم •• أحبك أيتها المعذبة الصغيرة ••‬

‫***‬

‫سافر قاسم •• ذهبت معه كل العائلة تودعه ‪ ،‬كان يقبض طيلة الطريق على‬
‫أوراقه ‪ ،‬يحتضن حقيبته الصغيرة ‪ ،‬يلوذ ببرودتهم من مشاعر قوية كانت‬
‫تراوده عن التراجع ‪ ،‬كان يتشبث بهما كأنه يتشبث بالحياة ‪ ،‬كان يجلس بجوار‬
‫أمه ‪ ،‬كانت تحتضنه ‪ ،‬قلبها كان يقول كل شيء لكن شفتيها كانت صامتة ‪،‬‬
‫دقات قلبها التي كانت قوية في أذنيه كانت تقرأ عليه تفاصيل الرسالة ‪ ،‬كان‬
‫يسمعها تردد آيات القرآن لتحفظه ‪ ،‬و تتلو عليه أدعية كثيرة ‪ ،‬و تخلط حديثها‬
‫الصامت برجاء ل حروف له ليبقى معها ‪ ،‬كانت سطور رسالتها تتلحق‬
‫فتختلط حروفها و تتشتت افكارها ‪ ،‬كان يشعر بيدها تمسد رأسه تارة ‪ ،‬و‬
‫تحتوي كتفيه تارة أخرى ‪ ،‬كان يشعر بأنفاسها الملتهبة تهب عليه فتحرق‬
‫بشرته ‪ ،‬لم يجرؤ على رفع نظره إليها ‪ ،‬كان يدرك كم هو ضعيف إزاء عيونها‬
‫الدامعة ‪ ،‬قالت ريم لتقطع الصمت ‪:‬‬

‫أين ستقيم يا قاسم ؟ قال و هو يحاول اكساب صوته قوة ليبث المن في‬
‫قلب أمه ‪:‬‬
‫زودتني السفارة بأسماء و عناوين بعض الفنادق الصغيرة ذات السعار‬
‫المعتدلة ‪ ،‬كما أنهم زودوني بجهات مختلفة يمكن أن أطلب فيها عمل ‪ ،‬أعتقد‬
‫أن المر سيكون بسيطا •• قالت ريم بصوت حاولت بدورها إكسابه القوة‬
‫اللزمة ‪:‬‬
‫أعرف أنك ل تحب كتابة الرسائل ‪ ،‬لكن يجب أن تراسلنا ‪ ،‬تعرف كم‬
‫سنتلهف على أخبارك ••‬

‫قال و هو يتحدث بقلب واجف ‪:‬‬


‫سأكتب إليكم كل يوم ‪ ،‬لن تشعروا أبدا بغربتي عنكم ‪ ،‬صدقيني •• نظر‬
‫لمه و قد أوشكت السيارة على وصول المطار ‪ ،‬قال بحنان و رجاء ‪:‬‬
‫صدقيني يا أمي ‪ ،‬صدقيني سأكتب لك كل يوم ‪ ،‬صدقيني سأكون بخير ••‬
‫أحكمت الم لف ذراعها حوله ‪ ،‬ربتت عليه و لم تتكلم ‪ ،‬كانت تدرك أن أية‬
‫كلمة تقولها لن يكون لها إل معنى واحد ا‪ ،‬أن تنفجر في بكاء لن يحتمله قلب‬
‫الحبيب المسافر •• وصلوا المطار •• كانت الصالة باردة ‪ ،‬استشعروا‬
‫برودتها في أعماقهم ‪ ،‬أجلسهم قاسم في أحد الركان و ذهب لنهاء إجراءاته‬
‫••احتضنت ريم أمها و قالت ‪:‬‬
‫سيعود يا أمي ‪ ،‬سيعود يا صابرة ••‬
‫فجأة بكت الم ‪ ،‬لم تقو على تحمل المزيد ‪ ،‬كانت ستنفجر ‪ ،‬داخلها كان يهدر‬
‫‪ ،‬كانت تريد أن تعبر عن حزنها ‪ ،‬قالت و هي تدفع ريم برفق ‪:‬‬
‫أنظري هل يرانا ؟ تطلعت ريم إليه ‪ ،‬كان بعيدا منشغل ‪ ،‬قالت ‪:‬‬
‫ل يا أم قاسم ‪ ،‬ل يرانا •• قالت الم و هي تلتقط دموعها في منديلها ‪ ،‬و‬
‫تحاول إيقافها بل جدوى ‪:‬‬
‫ينبغي أل يراني أبكي ‪ ،‬سيعذبه هذا كثيرا •• يجب أن أسكت ‪ ،‬يجب أن‬
‫أسكت •• كانت تردد الكلمة الخيرة و هي تبكي ‪ ،‬تكتم شهقاتها ‪ ،‬تجبر‬
‫نفسها على السكوت فل تطاوعها عيونها ‪ ،‬و عندما بدا قاسم قادما‬
‫باتجاههم ‪ ،‬مسحت دموعها بسرعة ‪ ،‬ابتلعت غصتها ‪ ،‬و حاولت رسم‬
‫ابتسامة ‪ ،‬كان قاسم بدوره يبتسم قال و هو يطالع عيونها الحمراء ‪:‬‬
‫انتهت الجراءات ‪ ،‬علي الدخول لصالة التفتيش ‪ ،‬جئت لوداعكم ••‬

‫رفعت الم رأسها نحوه ‪ ،‬لم تجد في نفسها القوة على القيام ‪ ،‬مدت يدها‬
‫تجاهه فمال عليها احتضنته ‪ ،‬ثم تشبثت به ‪ ،‬فاضطر إلى الركوع أمامها ‪ ،‬كان‬
‫يحس قوة ذراعيها حوله ‪ ،‬كانت تريد زرعه في قلبها ‪ ،‬كانت تتمنى لو أن‬
‫حضنها يرغمه على الدخول مجددا إلى أحشائها التي حملته يوما ‪ ،‬كانت تربت‬
‫ربتات قوية على ظهره ‪ ،‬كانت تقول ‪:‬‬

‫سأفتقدك يا حبيبي ‪ ،‬سأفتقدك يا قاسم ‪ ،‬سأفتقدك يا غالي •• بكى قاسم‬


‫‪ ،‬لم يستطع مقاومة دموعه ‪ ،‬قال و هو يحكم ذراعيه حولها و يحاول التلطف‬
‫بها حتى ل يؤذيها ‪:‬‬

‫لن أجعلك تشعرين بغربتي ‪ ،‬ساراسلك دوما ‪ ،‬سوف تنزعجين من رسائلي‬


‫المتواصلة إليك ‪ ،‬لقد قدمت على هاتف ‪ ،‬لعله يأتي خلل فترة قصيرة‬
‫فأكلمك كل يوم ••‬

‫أخذ يقبل يديها قبلت كثيرة و يقول ‪:‬‬


‫ل تنسيني بدعائك يا أمي ‪ ،‬ل تغضبي علي يا أمي ‪ ،‬أنا أحبك يا أمي ‪،‬‬
‫أحبك ‪ ،‬أقسم بالله أنك أغلى عندي من نفسي •• و أمه في كل هذا ترد‬
‫مؤكدة أنها لن تنساه ‪ ،‬ستدعو له دوما ‪ ،‬راضية عنه حتى تموت ‪ ،‬صوت ميعاد‬
‫الرحلة قطع حديث العاطفة بينهما ‪ ،‬فنهض ‪ ،‬سلم على ريم قال لها و هو‬
‫يقبلها ‪:‬‬
‫ستدركين يا ريم أنني كنت محقا عندما تصلك أخباري ‪ ،‬ل تحملي علي في‬
‫قلبك الشفاف غضبا ‪ ،‬فأنا لست أنانيا ‪ ،‬أو عاقا ‪ ،‬و إنما أبحث عن غدي ‪ ،‬فل‬
‫تلوميني يا أختي •• ربتت ريم على يده و قالت و هي تبتسم و تشرق‬
‫بدموعها ‪:‬‬
‫لست غاضبة ‪ ،‬و أسأل الله أن يوفقك فيما أنت ذاهب إليه في غير معصية‬
‫أو ذنب ••‬
‫قبل سمر و احتضنها ‪ ،‬وعدها بالكثير من الهدايا فقالت الم ‪:‬‬
‫ضع الله نصب عينيك ياقاسم ‪ ،‬إياك و ترك الصلة ‪ ،‬إياك و الستجابة‬
‫لشياطين النس حولك ‪ ،‬بلد غريب و طباع غريبة ل تجعل قلبي يأكلني عليك‬
‫••‬

‫عاد يقبلها و هو يطمئنها على ما أوصت ‪ ،‬نداء آخر جعله ينزع نفسه منهن‬
‫نزعا ‪ ،‬تركهن و سار بظهره و هو يشير إليهن ‪ ،‬كن يسرن أمامه ‪ ،‬يلوحن له ‪،‬‬
‫يمسحن دموعهن ‪ ،‬فجأة ظهر سعيد ‪ ،‬كان يركض ‪ ،‬اتجه بسرعة نحوه ‪ ،‬قبله‬
‫و احتضنه قال ‪ - :‬كيف تصورت أنك ستسافر دون أن أودعك يا قاسم ••؟‬
‫قال قاسم و هو يضرب كتفه ‪:‬‬

‫كنت أعلم أنك الكبر و العظم يا سعيد ‪ ،‬دوما كنت الكبر و العظم ‪ ،‬إنهم‬
‫يحتاجونك ‪ ،‬ل تجعل موقف ريم يمنعك عنهم ‪ ،‬إنها أكثر الناس حاجة إليك‬
‫رغم عنادها ••‬

‫تطلع إليهم سعيد و قال مبتسما ‪:‬‬

‫و هل تعتقد أني سأتركهم ؟‬

‫النداء الخير ‪ ،‬و اختفى قاسم •• قال سعيد و هو ينضم إليهن ‪:‬‬
‫هيا بنا •• ل فائدة من النتظار ••‬

‫و استجاب الجميع ‪ ،‬دوما كان له عليهم كلمة مسموعة ‪ ،‬منحوها له منذ‬


‫أوصاه الب بهم عندما سافر قبل سنوات كثيرة •• تطلعت ريم إليه و‬
‫استجابت باسمة للسير خلفه باتجاه سيارته خارج المطار •• *** بدورها بعد‬
‫أيام قليلة سافرت ريم ••كانت متحمسة جدا لهذه الرحلة ‪ ،‬جهزت أدواتها‬
‫بعناية ‪ ،‬و قالت و هي تجهز حقيبتها الصغيرة ‪:‬‬
‫ل أعرف كم يوما سنبقى هناك ‪ ،‬ربما يومين أو ثلثة ‪ ،‬ل أعرف ‪ ،‬يفضل أن‬
‫آخذ معي بعض الغراض البسيطة •• قالت لها الم و هي تبتسم بهدوء ‪:‬‬

‫تشتعلين حماسا يا ريم‬

‫فقالت و هي تهز رأسها ‪:‬‬

‫بالطبع يا أمي ‪ ،‬إنني أخيرا سألمس عن قرب معاناة شعبي الحقيقية ‪ ،‬هذا‬
‫سيمنح رؤيتي بعدا أكبر ‪ ،‬و يعطي أدواتي الفنية زخما أكبر ‪ ،‬ليتهم ينظمون‬
‫رحلة إلى فلسطين نفسها لراها و أعرفها أكثر •• ثم انسحبت ابتسامتها‬
‫الهادئة عن وجوم قائلة ‪:‬‬
‫رغم أن لشيء لي هناك •• فقالت الم و هي تبتسم ‪:‬‬
‫لماذا ؟ لك بيت هناك ‪ ،‬بيت أبيك في غزة فقالت ريم و هي تبتسم‬
‫بمرارة ‪:‬‬
‫أخبرني تامر أن اليهود استولوا عليه ‪ ،‬و بعد وفاة جدتي يرحمها الله ‪ ،‬غادر‬
‫عمي بدر إلى القطاع حيث تعيش زوجته الخيرة •• قال إنه عجز عن اثبات‬
‫حقه في البيت رغم أنه عاش فيه عمره كله •• أية مهزلة ؟‬

‫قالت الم و هي تدق جبينها بيدها ‪:‬‬


‫تذكرت •• لقد تذكرت يا ريم •• فقالت ريم بدهشة ‪:‬‬

‫ماذا تذكرت يا أمي ؟ قالت الم و هي تتجه إلى غرفتها بسرعة ‪:‬‬
‫اتبعيني •• تبعتها ريم و راقبتها و هي تفتح خزانتها ‪ ،‬و تخرج حقيبة قديمة‬
‫كانت قد فتحتها يوما لتخرج منها قائمة بأسماء و عناوين القرباء ‪ ،‬اشتعل‬
‫فضول ريم لما يمكن أن يخرج هذه المرة من الحقيبة القديمة ‪ ،‬جلست الم‬
‫على السرير ‪ ،‬فتحت الحقيبة ‪ ،‬فتخيلت ريم لفرط فضولها أن نورا سيسطع‬
‫بعد قليل من الوراق القديمة أمامها •• قصاصات جرائد تحمل أخبارا و‬
‫صورا عن فلسطين و المقاومة الداخلية ‪ ،‬و هزيمة ‪ 76‬و غير ذلك من أحداث‬
‫‪ ،‬أمسكت ريم الحقيبة ‪ ،‬وضعتها على حجرها فتحت الصحف برفق و تصفحتها‬
‫بحرص ‪ ،‬وجدت في إحداها صورة على ركن منها دائرة بالقلم الحمر ‪ ،‬تحت‬
‫الصورة كتبت عبــارة " قطاع غزه يلتهب " قالت الم بحماس و هي تخرج‬
‫الملف الصفر القديم ‪:‬‬
‫انظري ‪ ،‬هذه حجة البيت •• هذه حجة البيت قالت ريم و هي تلقف منها‬
‫الملف ‪:‬‬
‫أي بيت ؟‬

‫قالت الم ‪:‬‬


‫أخبرني أبوك يرحمه الله ‪ ،‬أنه اصطحب معه حين غادر غزة هذه الحجة‬
‫سهوا بعد أن أعطاها له والده ليلة سفره و أوصاه بالمحافظة عليها ‪ ،‬قال إنه‬
‫كان عليه تركها للباقين منهم هناك ‪ ،‬لكنه نسي ‪ ،‬هذه الدائرة فوق الصورة‬
‫هي للبيت ‪ ،‬كان مصورا صحفيا قد التقطها لقطاع غزة عام ‪ ، 76‬قال لي‬
‫والدك و هو يحتفظ بالقصاصة ‪ ،‬إن هذا هو بيتهم •• أخرجت ريم حجة البيت‬
‫بأصابع مرتجفة و قرأت فيها عبارات قديمة لكنها واضحة عن ملكية البيت‬
‫لسرة القاسم ‪ ،‬الحجة تعين تماما موقع البيت و مساحته ‪ ،‬شعرت ريم أنها‬
‫تمسك كنزا ‪ ،‬دق قلبها بشدة و هي تعيد الوثيقة إلى مكانها و تعاود النظر في‬
‫الصورة غير الواضحة للبيت القديم ‪ ،‬كانت النخلة الطويلة التي تحدث عنها‬
‫أبوها تبدو في الصورة كمئذنة عملقة نبت في أعلها سعف •• قالت ريم و‬
‫هي تحتضن الوراق ‪:‬‬

‫رحمة الله عليك يا أبي ••‬

‫التفتت إلى أمها و قالت بحماس باك ‪:‬‬


‫إن هذه الوثيقة كنز يا أمي ‪ ،‬كنز •• فقالت الم و هي تتنهد ‪:‬‬
‫أوصاني أبوكم أن أعطيها لكم حين يموت ‪ ،‬كان هذا قبيل سفره ‪ ،‬لم‬
‫أتذكر إل اليوم •• لكن ماالجدوى منها ؟ قالت ريم و هي تحتضن الوراق ‪:‬‬
‫يكفي أنها من رائحة أبي ‪ ،‬يكفي أنها قطعة من روحه •• هل يمكن أن‬
‫أحتفظ بها ؟ فقالت الم و هي تنهض متثاقلة ‪:‬‬
‫خذيها إن كان فيها بعض العزاء لك •• وضعت ريم الوراق بحرص في‬
‫الحقيبة و أغلقتها برفق ثم اتجهت بها إلى غرفتها وضعتها في خزانتها الخاصة‬
‫و أغلقت عليها ثم عادت تلملم أغراضها بذهن شارد ••‬

‫***‬

‫طيلة الرحلة إلى الحدود بواسطة الحافلة كانت ريم ساهمة ‪ ،‬حاول بعض‬
‫الزملء الحديث معها فكانت تبتسم مجاملة ثم تعود لشرودها ‪ ،‬تفهموا سبب‬
‫الشرود ‪ ،‬فلم يلحوا عليها ‪ ،‬كانت لحظات قاسية تلك التي تنتظرها ‪ ،‬تذكرت‬
‫يوم وقفت على الحدود في رفح أمام السلك الشائكة ‪ ،‬تنهدت ‪ ،‬لقد كان‬
‫يوما عصيبا •• انتبهت على صوت نفير سيارة صغيرة تسير بمحاذاتهم ‪،‬‬
‫نظرت من الشباك ‪ ،‬كان سعيد •• هزت رأسها و ابتسمت ‪ ،‬أشارت له فعاود‬
‫تحيتها بالنفير ‪ ،‬سألوها عنه فأجابت باسمة ‪:‬‬

‫ولي أمري ••‬

‫أوقفوا الحافلة و تفاهموا معه على عدم منطقية الوصول للحدود بهذه‬
‫السيارة الصغيرة ‪ ،‬اتفقوا معــه على أن يضــــع سيــــارته في أقـــرب‬
‫استراحة و يركــب معهم إكراما لريم •• و عرضوا عليها إن أرادت مرافقته‬
‫حتي يركب معهم •• نظر إليها راجيا أن توافق ‪ ،‬هزت رأسها ‪ ،‬و غادرت‬
‫الحافلة ‪ ،‬تركت أغراضها فيها و ركبت بجواره •• حرك سيارته راقصا بها في‬
‫الطريق فقال نفرا في الحافلة ‪ ":‬هذا رجل محب " تنهدت ريم و هي تستقر‬
‫بجوار سعيد و قالت ‪:‬‬
‫مجنون !!‬

‫قال و هو يطلق ضحكة حبور صافية ‪:‬‬

‫أحبك ••!!‬

‫تحدثا كثيرا ‪ ،‬طرقا كل المواضيع ‪ ،‬إل موضوع القلب ‪ ،‬حذرته ريم منذ البداية‬
‫أل يتحدث عنه أعطى وعده و وفى به ــ في العبارات على القل !! ــ و‬
‫بسرعة طوت الرض نفسها عن الستراحة ‪ ،‬ركن سيارته و ركبا الحافلة‬
‫معا ‪ ،‬انعكس مرحه على جميع من فيها ‪ ،‬ربطتهم بسرعة مودة الطريق ‪،‬‬
‫مودة قادرة على كسر كل الحواجز حتي بين الغراب ‪ ،‬كان يترك كرسيه‬
‫بجوار ريم أحيانا استجابة لنداء يأتيه من آخر الحافلة فيذهب إليهم يجلس‬
‫بينهم ‪ ،‬يترك للسانه الحرية في التعبير عن حبه لريم ‪ ،‬يستمتع بما يقول ‪ ،‬ل‬
‫يضع لنفسه حدودا ‪ ،‬كان حديثه حلوا ‪ ،‬كانوا يستمعون إليه ‪ ،‬يطرقون هدوءا‬
‫حتى يسمعون صوته المنخفض ‪ ،‬ريم كانت تنظر إليه أحيانا ‪ ،‬و تبتسم عندما‬
‫ترى انسجامه مع المجموعة ‪ ،‬تهز رأسها و تعود لكتاب في يدها تقطع به‬
‫المسافة ‪ ،‬يعود إليها يجلس بجوارها يهمس ‪:‬‬
‫" وحشتيني " تبتسم و ترفع إصبعها محذرة ‪ ،‬فيضع يده بسرعة على‬
‫شفتيه و يقول ‪:‬‬
‫آسف !! *** عندما وصلوا إلى الحدود ‪ ،‬كانت خيام اللجئين تبدو على‬
‫البعد كشريط أسود كبير ‪ ،‬خفق قلب ريم بشدة بينما تحركت بهم الحافلة‬
‫بإتجاه ذلك الشريط ‪ ،‬لم تنتبه ريم إلى إجراءات دخول قد يكون رفقاء‬
‫الحافلة قد أنهوها ‪ ،‬كانت عيونها معلقة بهذا الشريط الذي بدأ يتلون و تظهر‬
‫ملمحه كلما اقتربت الحافلة منه أكثر ‪ ،‬فجــــأة بــــرز بعض الرجـــال و‬
‫كانوا يركضون بإتجاههم ‪ ،‬وقفوا أمام الحافلة على بعد حوالي مائة متر من‬
‫المخيم ‪ ،‬اضطر السائق إلى كبح الحافلة بسرعة فأحدثت إطاراتها زوبعة من‬
‫الرمال ‪ ،‬أختفت الرؤية تقريبا خللها ‪ ،‬و لما انقشعت الرمال الطائرة ‪ ،‬كان‬
‫عدد من الرجال يحاولون فتح الباب ‪ ،‬فيما صرخ أحدهم موجها حديثه للطالين‬
‫من النوافذ ‪:‬‬
‫هل أحضرتم الدواء ‪ ،‬هل معكم أطباء ؟‬

‫لم تفهم ريم ما الذي يقوله الرجال فقط كانوا يتحدثون معا فتضيع عباراتهم‬
‫مع صخبهم ‪ ،‬على أن قلبها استشعر خطرا ‪ ،‬نهضت بسرعة و اتجهت إلى‬
‫الباب ‪ ،‬كان المشرف على الرحلة مضطربا ‪ ،‬حذرها من التقدم نحو الباب و‬
‫قال بارتباك شديد ‪:‬‬

‫يبدو أننـا أغفلــنا الجانب المني •• هؤلء الرجال بهم مس من الجنون و‬


‫قد يعتدون علينا ••‬

‫نظرت ريم من النافذة مجددا فلحظـــت أن أعدادهم تضاعفت ‪ ،‬لم يكن‬


‫يبدو عليهم جنونا و لكنه كان الغضب ‪ ،‬لحظت إعياًء واضحا على الملمح‬
‫فرق قلبها ‪ ،‬قالت للمشرف أنها تريد النزول الن فقال لها بعصبية شديدة أنه‬
‫ل يستطيع ‪ ،‬لنه لن يتحمل مسئولية هلكها على أيدي هؤلء المجانين ••‬
‫نظرت من النافذة و راعها أن بعض الرجال صاروا يخمشون الباب بأظافرهم‬
‫‪ ،‬و سقط أحدهم أمام الباب و هو يصيح بصوت واهن ‪:‬‬
‫افتحوا •• افتحوا •• صرخت ريم في المشرف و قالت له ‪:‬‬
‫افتح الباب الن •• كان المصـــورون قد بدأوا في إلتقاط الصور من نافذة‬
‫الباص ‪ ،‬و اندفع سعيد إلى ريم قائل ‪:‬‬
‫ريم إهدئي •• لبد من تبين الوضع أول قبل المخاطرة بفتح الباب •• لكن‬
‫ريم التي كانت ترى في اندفاع الرجال حول الباص مأزقا و استجداء ‪ ،‬لم‬
‫تستطع التحمل ‪ ،‬انقضت على السائق و صارت تدق ظهره و هي تصيح ‪:‬‬

‫افتح الباب ‪ ،‬افتح الباب •• تحملها السائق و هو ينظر للمشرف في انتظار‬


‫أوامره فتركته ريم و نظرت للمشرف برجاء و قالت و عيونها مغرورقة‬
‫بالدموع ‪:‬‬
‫أتوسل إليك أن تفتح الباب ‪ ،‬سأنزل وحدي ‪ ،‬أنزلوني ثم أغلقوه فورا ‪ ،‬إن‬
‫شئت كتبت لك إقرارا ‪ ،‬هؤلء يشهدون علي •• صاحت و هي تواجه الجميع ‪:‬‬

‫أل فاشهــدوا أنني أتحمل مسئولية نفسي ‪ ،‬و أن المشرف براء مما قد‬
‫يحدث لي إذا نزلت •• عادت تنظر للمشرف و تتوسل برجاء ‪:‬‬
‫أرجوك ‪ ،‬افتح الباب •• أسقط في يده فأعطى للسائق إشارة و طلب من‬
‫ريم الوقوف أمام الباب مباشرة ‪ ،‬امتثلت ريم بسرعة ‪ ،‬فتخطى سعيد‬
‫الجساد المكومة حوله و حاذى ريم و هو يقول ‪:‬‬
‫سأنزل معك ••‬

‫كان يضع يده على كتفها ‪ ،‬فأمسكت بها ريم امتنانا ‪ ،‬و تأهبت للقفز من‬
‫الباص بمجرد فتح الباب ‪ ،‬و كان لها ما أرادت •• في لحظــة كانت هي و‬
‫سعيد أمام الرجال الذين هجموا عليهم و تبينت ريم سؤالهم المتكرر ‪:‬‬

‫هل معكم طبيب ؟ هل أنتما طبيبين ؟ هل أحضرتم الدواء ؟ وقفت ريم‬


‫واجمة و هي ترى تكالبهم عليهما ‪ ،‬تراجعت خطوة حتى لمس ظهرها جسم‬
‫الحافلة ‪ ،‬ووقف سعيد أمامها يحميها ‪ ،‬صاح بصوت جهوري ‪:‬‬
‫اهدأوا من فضلكم ‪ ،‬أرجوكم اهدأوا •• نريد فقط أن نعرف ماذا هناك ؟‬
‫صاح أحد الرجال و كان مثل الجميع يحمل وجها مغبرا ‪ ،‬مرهقا ‪ ،‬ل تخطيء‬
‫العين العياء فيه ‪ ،‬قائل ‪:‬‬
‫مازلتم تريدون أن تعرفوا ؟! إذن ل فائدة •• أسقط ذراعيه و قال للرجال‬
‫معه ‪:‬‬
‫ل فائدة يا جماعة •• يبدو أنهم صحافة •• تعالت صيحات الستنكار ‪ ،‬و‬
‫سمعت ريم بكل وضوح عبارات سخط و لعن و بدأ الرجال ينصرفون و هم‬
‫يشيحون بأيديهم ‪:‬‬
‫هيا انصرفوا ل نريد صحافة •• من إحدى الخيام جاءت إمرأة متشحة‬
‫بالسواد تركض و هي تصيح و تلطم وجهها ‪:‬‬

‫أبو محمد •• أبو محمد •• مات الولد ‪ ،‬مات الولد •• ركض أحد الرجال‬
‫بقوة في اتجاهها و لحق به الباقون ‪ ،‬نظرت ريم إلى سعيد و نظر إليها و في‬
‫ثوان كان اتفاقا مشتركا بأن يتبعوهم قد انعقد بينهما ‪ ،‬هرولت ريم و لم‬
‫تلتفت وراءها رغم أنها سمعت صرير باب الحافلة و هو يفتح و باقي أعضاء‬
‫الفريق يتبعوهم ‪ ،‬كانت ريم و سعيد أول الواصلين ‪ ،‬و في إحدى الخيام ‪ ،‬كان‬
‫هناك شاب عشريني مسجى عاري الصدر تنتشر في جسده بقع حمراء كثيفة‬
‫‪ ،‬و أمامه السيدة التي جاءت بالخبر ‪ ،‬كانت تولول فيما جلس أبيه على حافة‬
‫فراشه الرضي ممسكا بيده يقبلها و هو يصيح بلوعة ‪:‬‬
‫ل يا محمد ‪ ،‬ل تمت يا ولدي •• سيأتي الدواء يا وحيدي •• أخذت دموع‬
‫ريم تسقط بل هوادة و هي تتابع مع عشرات غيرها الموقف ‪ ،‬و كان أعضاء‬
‫الفريق قد أصبحوا جميعهم خلفها •• التفتت إلى المشرف و قالت و دموعها‬
‫تأكل الحروف ‪:‬‬
‫مات •• مات ••‬

‫أحاطها سعيد بذراعه ‪ ،‬فالتفت الب إليهم و صاح ‪:‬‬


‫ماذا تريدون •• هيا صوروا ابني ‪ ،‬و بثوا صورته عبر شاشات التلفاز ••‬
‫قولوا لهم عن الشهامة العربية ‪ ،‬و الرجولة العربية ‪ ،‬و الموقف العربي النبيل‬
‫•• هيا صوروه ‪ ،‬أليس هذا ما جئتم من أجله ‪ ،‬هيا صوروا و اركضوا إلى‬
‫سيارتكم و عودوا بالغنيمة ••‬

‫و لم يقو الرجل على إكمال الكلم فبدأ يضرب الرض بيده و يقبض على‬
‫التراب و يضعه فوق رأسه و يبكي •• تقدم مشرف الفريق خطوات و هو‬
‫يعبر الزحام و اتجه نحو الرجل المكلوم و قال بصوت حازم ‪:‬‬
‫هل هذا المرض منتشر هنا ؟ تعالى صخب الموجودين و كانوا يؤكـــدون‬
‫أن العدوى تنتــشر بين الجميع بسرعة كبيرة ‪ ،‬و أن هذا الشهيد هو الخامس‬
‫في غضون أسبوع •• صرخت ريم من هول ما تسمع و قال رجل من‬
‫الواقفين ‪:‬‬
‫جاءتنا بعثة صحافة قبل يومين و طلبنا منهم النجدة ‪ ،‬نريد أطباء و أدوية ‪،‬‬
‫وعدونا خيرا و لم يعودوا •• و قال الب المكلوم ‪:‬‬
‫توسلت إليهم أن يسرعوا •• محمد ولدي الوحيد •• لم أنجب غيره بعد‬
‫انتظار سبعة عشر عاما •• لكنه مات •• مات •• بسرعة جمع المشرف‬
‫أعضــــاء فريقه و أعــــطى توجـــيهات بالعودة السريعة إلى القاهرة و‬
‫إحضار عدة أطباء بعد شرح العراض ليتسنى لهم إحضار كل أنواع الدوية‬
‫التي يمكن أن تفيد ‪ ،‬شدد عليهم ضرورة العودة السريعة و أن يكون الطباء‬
‫من معارفهم ليتجاوزوا الروتين ما أمكن ‪ ،‬قال لريم و هو يدفعها برفق ‪:‬‬

‫اذهبي معهم ‪ ،‬سأبقى هنا في انتظاركم •• قالت ريم بحزم و عناد ‪:‬‬
‫لن أذهب ‪ ،‬فليذهب من يريد لكنني سأبقى •• نظر المشرف إلى سعيد‬
‫يدعوه للتدخل فقال سعيد برفق ‪:‬‬
‫ريم اذهبي و سأبقى مع المشرف ‪ ،‬قد تستطيعين مال يستطيعونه ••‬
‫رفعت ريم عينا دامعة إليه و قالت بصوت مخنوق ‪:‬‬
‫لن أذهب ••‬
‫عندما وصلوا إلى الحدود ‪ ،‬كانت خيام اللجئين تبدو على البعد كشريط أسود‬
‫كبير ‪ ،‬خفق قلب ريم بشدة بينما تحركت بهم الحافلة بإتجاه ذلك الشريط ‪،‬‬
‫لم تنتبه ريم إلى إجراءات دخول قد يكون رفقاء الحافلة قد أنهوها ‪ ،‬كانت‬
‫عيونها معلقة بهذا الشريط الذي بدأ يتلون و تظهر ملمحه كلما اقتربت‬
‫الحافلة منه أكثر ‪ ،‬فجــــأة بــــرز بعض الرجـــال و كانوا يركضون بإتجاههم ‪،‬‬
‫وقفوا أمام الحافلة على بعد حوالي مائة متر من المخيم ‪ ،‬اضطر السائق إلى‬
‫كبح الحافلة بسرعة فأحدثت إطاراتها زوبعة من الرمال ‪ ،‬أختفت الرؤية‬
‫تقريبا خللها ‪ ،‬و لما انقشعت الرمال الطائرة ‪ ،‬كان عدد من الرجال يحاولون‬
‫فتح الباب ‪ ،‬فيما صرخ أحدهم موجها حديثه للطالين من النوافذ ‪:‬‬

‫هل أحضرتم الدواء ‪ ،‬هل معكم أطباء ؟‬

‫لم تفهم ريم ما الذي يقوله الرجال فقط كانوا يتحدثون معا فتضيع عباراتهم‬
‫مع صخبهم ‪ ،‬على أن قلبها استشعر خطرا ‪ ،‬نهضت بسرعة و اتجهت إلى‬
‫الباب ‪ ،‬كان المشرف على الرحلة مضطربا ‪ ،‬حذرها من التقدم نحو الباب و‬
‫قال بارتباك شديد ‪:‬‬

‫يبدو أننـا أغفلــنا الجانب المني •• هؤلء الرجال بهم مس من الجنون و‬


‫قد يعتدون علينا ••‬

‫نظرت ريم من النافذة مجددا فلحظـــت أن أعدادهم تضاعفت ‪ ،‬لم يكن‬


‫يبدو عليهم جنونا و لكنه كان الغضب ‪ ،‬لحظت إعياًء واضحا على الملمح‬
‫فرق قلبها ‪ ،‬قالت للمشرف أنها تريد النزول الن فقال لها بعصبية شديدة أنه‬
‫ل يستطيع ‪ ،‬لنه لن يتحمل مسئولية هلكها على أيدي هؤلء المجانين ••‬

‫نظرت من النافذة و راعها أن بعض الرجال صاروا يخمشون الباب بأظافرهم‬


‫‪ ،‬و سقط أحدهم أمام الباب و هو يصيح بصوت واهن ‪:‬‬
‫افتحوا •• افتحوا ••‬

‫صرخت ريم في المشرف و قالت له ‪:‬‬

‫افتح الباب الن •• كان المصـــورون قد بدأوا في إلتقاط الصور من نافذة‬


‫الباص ‪ ،‬و اندفع سعيد إلى ريم قائل ‪:‬‬
‫ريم إهدئي •• لبد من تبين الوضع أول قبل المخاطرة بفتح الباب •• لكن‬
‫ريم التي كانت ترى في اندفاع الرجال حول الباص مأزقا و استجداء ‪ ،‬لم‬
‫تستطع التحمل ‪ ،‬انقضت على السائق و صارت تدق ظهره و هي تصيح ‪:‬‬

‫افتح الباب ‪ ،‬افتح الباب •• تحملها السائق و هو ينظر للمشرف في انتظار‬


‫أوامره فتركته ريم و نظرت للمشرف برجاء و قالت و عيونها مغرورقة‬
‫بالدموع ‪:‬‬
‫أتوسل إليك أن تفتح الباب ‪ ،‬سأنزل وحدي ‪ ،‬أنزلوني ثم أغلقوه فورا ‪ ،‬إن‬
‫شئت كتبت لك إقرارا ‪ ،‬هؤلء يشهدون علي •• صاحت و هي تواجه الجميع ‪:‬‬

‫أل فاشهــدوا أنني أتحمل مسئولية نفسي ‪ ،‬و أن المشرف براء مما قد‬
‫يحدث لي إذا نزلت ••‬

‫عادت تنظر للمشرف و تتوسل برجاء ‪:‬‬

‫أرجوك ‪ ،‬افتح الباب •• أسقط في يده فأعطى للسائق إشارة و طلب من‬
‫ريم الوقوف أمام الباب مباشرة ‪ ،‬امتثلت ريم بسرعة ‪ ،‬فتخطى سعيد‬
‫الجساد المكومة حوله و حاذى ريم و هو يقول ‪:‬‬
‫سأنزل معك ••‬

‫كان يضع يده على كتفها ‪ ،‬فأمسكت بها ريم امتنانا ‪ ،‬و تأهبت للقفز من‬
‫الباص بمجرد فتح الباب ‪ ،‬و كان لها ما أرادت •• في لحظــة كانت هي و‬
‫سعيد أمام الرجال الذين هجموا عليهم و تبينت ريم سؤالهم المتكرر ‪:‬‬

‫هل معكم طبيب ؟ هل أنتما طبيبين ؟ هل أحضرتم الدواء ؟ وقفت ريم‬


‫واجمة و هي ترى تكالبهم عليهما ‪ ،‬تراجعت خطوة حتى لمس ظهرها جسم‬
‫الحافلة ‪ ،‬ووقف سعيد أمامها يحميها ‪ ،‬صاح بصوت جهوري ‪:‬‬
‫اهدأوا من فضلكم ‪ ،‬أرجوكم اهدأوا •• نريد فقط أن نعرف ماذا هناك ؟‬
‫صاح أحد الرجال و كان مثل الجميع يحمل وجها مغبرا ‪ ،‬مرهقا ‪ ،‬ل تخطيء‬
‫العين العياء فيه ‪ ،‬قائل ‪:‬‬
‫مازلتم تريدون أن تعرفوا ؟! إذن ل فائدة •• أسقط ذراعيه و قال للرجال‬
‫معه ‪:‬‬
‫ل فائدة يا جماعة •• يبدو أنهم صحافة •• تعالت صيحات الستنكار ‪ ،‬و‬
‫سمعت ريم بكل وضوح عبارات سخط و لعن و بدأ الرجال ينصرفون و هم‬
‫يشيحون بأيديهم ‪:‬‬
‫هيا انصرفوا ل نريد صحافة •• من إحدى الخيام جاءت إمرأة متشحة‬
‫بالسواد تركض و هي تصيح و تلطم وجهها ‪:‬‬

‫أبو محمد •• أبو محمد •• مات الولد ‪ ،‬مات الولد •• ركض أحد الرجال‬
‫بقوة في اتجاهها و لحق به الباقون ‪ ،‬نظرت ريم إلى سعيد و نظر إليها و في‬
‫ثوان كان اتفاقا مشتركا بأن يتبعوهم قد انعقد بينهما ‪ ،‬هرولت ريم و لم‬
‫تلتفت وراءها رغم أنها سمعت صرير باب الحافلة و هو يفتح و باقي أعضاء‬
‫الفريق يتبعوهم ‪ ،‬كانت ريم و سعيد أول الواصلين ‪ ،‬و في إحدى الخيام ‪ ،‬كان‬
‫هناك شاب عشريني مسجى عاري الصدر تنتشر في جسده بقع حمراء كثيفة‬
‫‪ ،‬و أمامه السيدة التي جاءت بالخبر ‪ ،‬كانت تولول فيما جلس أبيه على حافة‬
‫فراشه الرضي ممسكا بيده يقبلها و هو يصيح بلوعة ‪:‬‬
‫ل يا محمد ‪ ،‬ل تمت يا ولدي •• سيأتي الدواء يا وحيدي •• أخذت دموع‬
‫ريم تسقط بل هوادة و هي تتابع مع عشرات غيرها الموقف ‪ ،‬و كان أعضاء‬
‫الفريق قد أصبحوا جميعهم خلفها •• التفتت إلى المشرف و قالت و دموعها‬
‫تأكل الحروف ‪:‬‬
‫مات •• مات ••‬

‫أحاطها سعيد بذراعه ‪ ،‬فالتفت الب إليهم و صاح ‪:‬‬


‫ماذا تريدون •• هيا صوروا ابني ‪ ،‬و بثوا صورته عبر شاشات التلفاز ••‬
‫قولوا لهم عن الشهامة العربية ‪ ،‬و الرجولة العربية ‪ ،‬و الموقف العربي النبيل‬
‫•• هيا صوروه ‪ ،‬أليس هذا ما جئتم من أجله ‪ ،‬هيا صوروا و اركضوا إلى‬
‫سيارتكم و عودوا بالغنيمة •• و لم يقو الرجل على إكمال الكلم فبدأ يضرب‬
‫الرض بيده و يقبض على التراب و يضعه فوق رأسه و يبكي •• تقدم‬
‫مشرف الفريق خطوات و هو يعبر الزحام و اتجه نحو الرجل المكلوم و قال‬
‫بصوت حازم ‪:‬‬

‫هل هذا المرض منتشر هنا ؟‬

‫تعالى صخب الموجودين و كانوا يؤكـــدون أن العدوى تنتــشر بين الجميع‬


‫بسرعة كبيرة ‪ ،‬و أن هذا الشهيد هو الخامس في غضون أسبوع ••‬

‫صرخت ريم من هول ما تسمع و قال رجل من الواقفين ‪:‬‬


‫جاءتنا بعثة صحافة قبل يومين و طلبنا منهم النجدة ‪ ،‬نريد أطباء و أدوية ‪،‬‬
‫وعدونا خيرا و لم يعودوا •• و قال الب المكلوم ‪:‬‬
‫توسلت إليهم أن يسرعوا •• محمد ولدي الوحيد •• لم أنجب غيره بعد‬
‫انتظار سبعة عشر عاما •• لكنه مات •• مات •• بسرعة جمع المشرف‬
‫أعضــــاء فريقه و أعــــطى توجـــيهات بالعودة السريعة إلى القاهرة و‬
‫إحضار عدة أطباء بعد شرح العراض ليتسنى لهم إحضار كل أنواع الدوية‬
‫التي يمكن أن تفيد ‪ ،‬شدد عليهم ضرورة العودة السريعة و أن يكون الطباء‬
‫من معارفهم ليتجاوزوا الروتين ما أمكن ‪ ،‬قال لريم و هو يدفعها برفق ‪:‬‬

‫اذهبي معهم ‪ ،‬سأبقى هنا في انتظاركم •• قالت ريم بحزم و عناد ‪:‬‬
‫لن أذهب ‪ ،‬فليذهب من يريد لكنني سأبقى •• نظر المشرف إلى سعيد‬
‫يدعوه للتدخل فقال سعيد برفق ‪:‬‬
‫ريم اذهبي و سأبقى مع المشرف ‪ ،‬قد تستطيعين مال يستطيعونه ••‬
‫رفعت ريم عينا دامعة إليه و قالت بصوت مخنوق ‪:‬‬
‫لن أذهب •• حسم المشرف الموقف فدعا بقية أعضاء الفريق للذهاب‬
‫على أن يبقى معه مصوران و ريم و سعيد‪ ،‬تحرك العضاء الباقون بسرعة و‬
‫اتجهــــوا للباص فيما ركض أحد الرجال خلفهم و هو يصيح ‪:‬‬
‫ل تنسوا بعض المطهرات •• العدوى ستقتلنا جميعا • في دقائق كانت‬
‫الحافلة تغادر تاركة خلفها زوبعة رملية و أربعة من رفاق الرحلة ‪ ،‬تدق‬
‫قلوبهم بعنف و تمل حلوقهم المرارة ••‬

‫التفتت ريم إلى المشرف ممتنة فربت كتفها و قال ‪:‬‬


‫علينا بالحذر ‪ ،‬ل تقتربوا من أي مصاب ‪ ،‬و اكتفوا بالنتشار بين المبعدين‬
‫لمعرفة التفاصيل •• جاء أحد الرجال و قال وهو يبصق ترابا ‪:‬‬
‫هل سيعودون ؟ فقال المشرف و هو يبتسم ‪:‬‬
‫بأسرع مما تتوقع •• فقال الرجل ‪:‬‬
‫ما أسمك ؟ فقال المشرف بهدوء و هو يطالع الخيمة المنكوبة للتو ‪:‬‬
‫أبو محمد •• *** راقبت ريم بعض الرجال و هم يحفرون قبرا للشهيد‬
‫الشاب ‪ ،‬اعتصر قلبها مشهد الب الحزين ‪ ،‬كان سكان المخيم قد اختاروا‬
‫بقعة تبعد عنهم بحوالي مائة متر لدفن الموات فيها •• لحظت ريم شواهد‬
‫قبور بدائية متناثرة هـــنا و هنــاك ‪ ،‬كـــان عــددهم بين سبعة و عشرة قبور‬
‫•• وقفت تطالع المنظر و الرياح الحارة تصفع وجهها و تجفف دموعها بمجرد‬
‫أن تلمس بشرتها •• جاء سعيد إليها ‪ ،‬وقف بجوارها و عقد يديه خلف ظهره‬
‫‪ ،‬ركل بقدمه حجرا صغيرا فسمعت ريم صوته و هو يحتك بالرمال الجافة ••‬
‫تطلعت إلى سعيد ‪ ،‬فتطلع إليها وقال غاضبا و هو يعيد النظر في الرض ‪:‬‬
‫عار علينا و أي عار ••‬

‫لم تتكلم •• كزت على شفتيها كأنها تمضغهما •• تركته و سارت عائدة‬
‫للمخيم •• كان أربعة من الرجال يحملون الجثة ملفوفة في ملءة ملونة و‬
‫يسيرون بها نحو المقبرة •• تنـــهدت و هي ترى الم تخرج مولولة خلف‬
‫الرجال فيما انتظم على بعد خطوات سكان المخيم في جنازة صامتة بدأت‬
‫بطيئة ثم أسرعوا الخطو •• وضعوا الجثة أرضا و قام أحد الرجال الملتحين‬
‫بتأدية صلة الميت عليه ‪ ،‬ثم عادوا فحملوه و ساروا به إلى مقره الخير ••‬
‫لم تستطع ريم مرافقتهم ‪ ،‬فبادرت إلى الم و أخذتها في حضنها و هي‬
‫تواسيها و تحاول العودة بها و المرأة تقاوم رغبة ريم ‪ ،‬و تصر على حضور‬
‫دفن الوحيد ••‬

‫تركتها ريم ‪ ،‬و سقطت على الرض تقبض الرمال الحارة و هي تقول بغيظ و‬
‫غضب ‪:‬‬

‫لماذا ؟ لماذا ؟‬

‫جاءها أحد المصورين و قال و هو يحاول رفعها ‪:‬‬


‫إنهضي يا ريم •• أمامنا عمل كثير •• إنهم يحتاجون قوتنا ليعوضوا بها‬
‫ضعفهم •• ل يجدر بك الضعف في ظرف كهذا •• تطلعت إليه ريم ‪ ،‬ثم‬
‫نظرت أرضا و انخرطت في بكاء مرير •• *** في المساء ••كان سكان‬
‫المخيم و معهم الضيوف الرجال يصطفون جلوسا على الرض ‪ ،‬و كان القمر‬
‫بدرا ‪ ،‬توسطهم أحد الرجال و شرع في قراءة متأنية للقرآن •• كان مأتما‬
‫في العراء ‪ ،‬لم يشاهدوا مثله من قبل •• بدا والد المتوفى أكثر هدوءا ‪،‬‬
‫أحاط به الرجال يربتون يده و يسمعونه عبارات العزاء •• و كانت ريم مع‬
‫النسوة في إحدى الخيام ‪ ،‬و انتشر الطفال يتصايحون خلف الخيام ••‬
‫جلست ريم بجوار الم التي جفت دموعها و احتضنت بعض ملبس الفقيد و‬
‫أخذت تتمايل مع صوت القرآن القادم من الخارج •• كان الجو صحوا •• و‬
‫نسمة باردة تلفح الوجوه ‪ ،‬حاولت ريم أن تحرك لسانها بكلم فلم تستطع ‪،‬‬
‫تطلعت حولها تستنجد بالنسوة فقالت إحداهن ‪:‬‬

‫الموت أصبح عادة يومية هنا ••‬

‫و قالت أخرى ‪:‬‬

‫منذ يومين مات هيثم و أمه في لحظة واحدة •• كان قد أصيب بالمرض‬
‫اللعين و أصرت أمه على احتضانه طيلة الوقت ‪ ،‬هي أرملة منذ سنين و جميع‬
‫أولدها في الخارج ‪ ،‬كان هيثم آخر العنقود عمره ثلثة عشر عاما •• أكاد‬
‫أجزم أنهما ماتا معا •• وجدناهما جثة واحدة صباح أول أمس •• قالت ريم و‬
‫هي تبتلع رهبة غصت بها ‪:‬‬
‫كيف تعيشون هنا ؟ فقالت إمرأة ‪:‬‬
‫الله ل ينسى عباده •• تأتينا من وقت لخر إمدادات غذائية من مصر أو‬
‫من ليبيا ‪ ،‬كما أن بعض منظمات دولية تزورنا أيضا •• و قالت أخرى ‪:‬‬
‫حتى أن بعض الشخاص يأتون بسيارات محملة ببضائع تجارية و يبيعونا‬
‫إياها ‪ ،‬يعرف الملعين أن معنا نقودا ل فائدة منها ‪ ،‬يبيعون بأثمان مرتفعة‬
‫جدا •• فقالت سيدة و هي تضغط صدرها ‪:‬‬
‫ل أسمـــح لنفسي بتبديد ما أملك ‪ ،‬أعرف أن هذا المر سينتهي يوما ••‬
‫قد أحتاج للنقود •• فقالت سيدة و هي تشيح بيدها ‪:‬‬
‫قد تموتين قبل أن ينتهي المر •• و يأكلك الدود و يأكل نقودك •• لم‬
‫تكترث للخوف الذي تراقص في عين المرأة ‪ ،‬و قالت و هي تنظر للقنديل‬
‫المعلق على سارية الخيمة ‪:‬‬
‫في فلسطين عندما خرجنا من قريتنا بعد مذبحة دير ياسين المشئومة ‪،‬‬
‫عشنا في مخيم على الحدود مع الردن ‪ ،‬قالوا لنا لن يستغرق المر أياما ‪،‬‬
‫فلما تطاولت اليام شهورا قالوا الفرج قبل سنة •• و سنة جرت سنة •• و‬
‫لم نغادر المخيم حتى كبرت و تزوجت و جاء بي زوجي إلى ليبيا •• أول‬
‫منزل حقيقي عشت فيه كان في ليبيا ••كانت له جدران ل تخترقها العيون ‪،‬‬
‫و حماما منفصل ل يجرح عورتي فيه متلصص في الظلمات •• تنهدت و قالت‬
‫‪:‬‬

‫لكن بقاء الحال من المحال ••‬

‫كانت هناك شابة تضع نظارات طبية على عيونها و تجلس في آخر الخيمة‬
‫صامتة ‪ ،‬لفتت نظر ريم فنهضت باتجاهها ‪ ،‬راقبتها الفتاة و هي تتجه نحوها ‪ ،‬و‬
‫عندما اتخذت ريم لنفسها مكانا بجوارها ‪ ،‬ضمت ساقيها أكثر لتفسح لريم‬
‫مكانا و خلعت نظارتها و طفقت تمسحها بطرف ثوبها ‪ ،‬عادت فلبستها و‬
‫قالت لريم ‪:‬‬
‫ما اسم جريدتكم ؟ فقالت ريم و هي تبتسم بود ‪:‬‬
‫إنها مجلة •• مجلة صباح الخير •• فابتسمت الفتاة و قالت ‪:‬‬
‫أعرفها ‪ ،‬كنت أقرأ بعض أعدادها التي تصل إلى ليبيا •• ما اسمك أنت ؟‬
‫فقالت ريم و هي تسند ظهرها برفق على قماش الخيمة ‪:‬‬
‫ريم •• ريم جهاد القاسم •• قالت الفتاة بدهشة ‪:‬‬
‫اسمك ليس مصريا‬

‫فقالت ريم على الفور ‪:‬‬

‫أنا فلسطينية •• من غزة •• أقصد أبي من غزة ‪ ،‬أنا لم أر فلسطين أبدا‬


‫••‬

‫تنهدت الفتاة و قالت ‪:‬‬

‫لجئة إذن ؟‬

‫أومأت ريم برأسها إيجابا ‪ ،‬فتنهدت الفتاة و ألقت برأسها للخلف و قالت ‪:‬‬

‫كلنا في الهم سواء •• و سألتها ريم عن اسمها فقالت ‪:‬‬


‫أنا وردة صبحي •• طالبة في السنة الثالثة بكلية الداب •• تنهدت و‬
‫أردفت‬
‫كنت طالبة ••‬
‫عند الفجر ‪ ،‬سمع سكان المخيم صوت الحافلة قادما من بعيد ‪ ،‬ركض بعض‬
‫الرجال لملقاته فقال المشرف أبو محمد بحزم ‪:‬‬
‫أتركوا لهم الفرصة لينزلوا بالقرب منا •• معهم معدات لبد من الحذر في‬
‫إنزالها ••‬

‫استجاب الرجال ‪ ،‬فوقفت الحافلة بالقرب من إحدى الخيام و نزل منــــها‬


‫أعضـــاء الفريق و معهم خمسة أطباء شباب ‪ ،‬أخرجوا من بطن الحافلة‬
‫صناديق كثيرة و أنزلوها في إحدى الخيام التي أخليت على الفور بتوجيهات‬
‫من الطباء الذين أرادوا مكانا خاصا ليكون بمثابة عيادة يتم فيها فحص كل‬
‫سكان المخيم و إعطائهم اللقاحات المناسبة خاصة لمن لم تصبه العدوى‬
‫منهم ‪ ،‬قال أحد العضاء للمشرف ‪:‬‬

‫ستلحق بنا بعض الحافلت حالما ينتهون من جمع التبرعات ‪ ،‬لقد هاتف‬
‫رئيس التحرير نقابة الطباء و نقابة المحامين و حتى نقابة الفنانين ‪ ،‬و أبدي‬
‫الجميع استعدادهم للمساعدة بما يستطيعون •• ل تنس نحن في أول اليوم ‪،‬‬
‫كنا نريد العودة سريعا إليكم ••‬

‫ربت عليه المشرف و قال فخورا ‪:‬‬

‫بارك الله فيكم ••‬

‫***‬

‫كانت ريم قد نامت تعبا في إحدى زوايا الخيمة ‪ ،‬شعرت بيد رفيقة تهزها ‪،‬‬
‫فتحت عيونها بسرعة ‪ ،‬بفزع ‪ ،‬فقالت وردة مبتسمة ‪:‬‬

‫آسفة لزعاجك ‪ ،‬يبدو أن النوم غلبك إرهاقا ‪ ،‬شخص من أفراد فريقكم‬


‫يريدك خارج الخيمة ••‬

‫نهضت ريم بسرعة فقالت لها وردة ‪:‬‬


‫منذ ثلثة ساعات و الطباء يفحصون سكان المخيم ‪ ،‬أخلوا ثلثة خيام‬
‫للمصابين و أعطوا معظمنا اللقاحات ‪ ،‬لقد أعطوني حقنة قبل قليل ••‬
‫ابتسمت ريم و هي تحمد الله ‪ ،‬خرجت فوجدت سعيدا واقفا على باب الخيمة‬
‫ينتظرها بقلق ‪ ،‬بمجرد رؤيتها هتف حامدا لله بادرها ‪:‬‬
‫ريم أين كنت ؟‬

‫قالت بهدوء ‪:‬‬


‫بالداخل ‪ ،‬غلبني النوم فنمت في مكاني ‪ ،‬هل حدث شيء ؟ فقال و هو‬
‫يهز رأسه و يبتسم ‪:‬‬
‫صباح الخير يا حبيبتي •• منذ البارحة ظهرا لم أرك ‪ ،‬أكلني قلبي عليك ••‬
‫كنت في حالة سيئة عند المقبرة •• ابتسمت ريم و قالت ‪:‬‬

‫أنا بخير يا سعيد اطمئن •• سمعت أن المدادات وصلت ‪ ،‬هل نذهب‬


‫لنلقي نظرة •• ابتسم سعيد و مد لها يده فأمسكت بها و سارا باتجاه الخيمة‬
‫العيادة ‪ ،‬تطلع الطباء المكممين إليهما و قال احدهم بحزم ‪:‬‬
‫نأمل أن تغادرا حتى ل تتعرضا للعدوى •• أفلتت ريم يدها و قالت للطبيب‬
‫‪:‬‬
‫أنا أريد مساعدتكم ‪ ،‬أستطيع أن أوفر عونا لبأس به •• كنت أساعد‬
‫طبيب الجامعة في عمله •• و قال سعيد ‪:‬‬
‫و أنا لي خبرة في أعمال السعاف منذ أيام الجيش ‪ ،‬أستطيع أن أكون‬
‫ممرضا ممتازا ••‬

‫فقال الطبيب بسرعة ‪:‬‬


‫ألبسوا الكمامات و ضعوا القفازات و تناولوا اللقاح •• لبد أن تتحصنا‬
‫بدوركما •• تساعد الثنان في فعل ما أمر به الطبيب ‪ ،‬و كان سعيد سعيدا‬
‫لن أول حقنة يعطيها في عمله الجديد ستكون لريم ‪ ،‬أغمضت عيونها و هي‬
‫تسلمه ذراعها و قالت ‪:‬‬
‫كن رفيقا بي ••‬

‫فقال و هو يبتسم ‪:‬‬

‫ليت هذا السائل سائل محبة بعد أن أحقنك به تصيحين فورا " تزوجني يا‬
‫سعيد " ابتسمت ريم و هي تكز على شفتها السفلى حذر اللم ‪:‬‬
‫أحقني يا سعيد بسرعة ••• نريد أن نعمل يا رجل •• عند العصر أقبلت‬
‫الحافلة الثانية و معـــــها شـــاحنة عملقة تحمــل الكثير من المعونات ‪ ،‬و‬
‫كانت فرحة سكان المخيم المبعدين كبيرة عندما جاءت من ليبيا أيضا عربتا‬
‫إسعاف كبيرتين ‪ ،‬و شاحنة تحمل مساعدات ••‬

‫نصبت العديد من الخيام الجديدة ‪ ،‬و قال المسؤول الليبي لكبير سكان‬
‫المخيمات كأنه يبلغ رسالة ‪:‬‬

‫إبعادكم ليس قسوة و إنما استجابة لمعطيات واقع جديد صنعه زعيمكم ‪ ،‬و‬
‫في النهاية نحن أخوة ‪ ،‬سننقل المصابين منكم للعلج في المستشفيات ‪ ،‬و‬
‫هناك فرصة للطلب أن يعودوا لداء المتحانات إن ارادوا •• فقط لداء‬
‫المتحانات •• لقاء غريب على الحدود اجتمع فيه المصري و الفلسطيني و‬
‫الليبي في ظرف غريب نشأ عن واقع غريب •• لكنه كان لقاءا جميل رغم‬
‫كل شيء ••‬
‫صبيحة اليوم التالي كان أعضاء الفريق يجمعون أغراضهم ‪ ،‬و يودعون سكان‬
‫المخيم في طريقهم للعودة ‪ ،‬قالت وردة و هي تقبل ريم ‪:‬‬
‫أسعدتني رؤيتك كثيرا ‪ ،‬و ذكرني خطيبك بخطيبي في ليبيا •• أتمنى لكما‬
‫السعادة ••‬

‫نظرت ريم إلى سعيد فهز كتفيه و قال باسما ‪:‬‬


‫لديها نظر ••!! توجهت للحافلة ‪ ،‬و تعمدت عدم الركوب حتى انتهى‬
‫أعضاءالفريق من صعوده ‪ ،‬و قال لها المشرف ‪:‬‬
‫هيا يا ريم ‪ ،‬أم مازلت تريدين البقاء ؟ تطلعت للمخـيم ‪ ،‬و لسكانه الذين‬
‫وقفوا يلوحون لهم ‪ ،‬ثم نظرت للمشرف و قالت بامتنان ‪:‬‬
‫أنت عظيم يا أستاذي ‪ ،‬عظيم •• ابتسم الرجل و قال و هو يصعد و يغلق‬
‫الباب خلفه ‪:‬‬
‫لن يعفيك هذا من العقاب حالما نصل المجلة •• غادرت الحافلة المكان ‪،‬‬
‫و التفتت ريم إلى السكان المبعدين و قالت و هي تتنهد ‪:‬‬
‫ترى متى يعودون ••؟‬

‫فقال سعيد و هو يطالع تفاصيلهم المبتعدة ‪:‬‬


‫إلى فلسطين أم إلى ليبيا ؟‬

‫تنهدت ريم و لم ترد ••‬

‫لم تكن ثمة إجابة ••‬

‫***‬

‫كان الموضوع الذي عاد به الفريق قويا بالصور و الرسوم و التحليلت و‬


‫اللقاءات •• أعطت ريم المجلة لمها و قالت و هي تشير إلى فتاة سمراء‬
‫نحيلة خلف الوجوه ‪:‬‬
‫هذه وردة التي حدثتك عنها •• قالت الم و هي تتأمل الصور ‪:‬‬
‫آمل أل تذبلها الحداث •• فقالت ريم ‪:‬‬
‫تركناهم بخير •• فقالت الم ‪:‬‬
‫إلى حين يا ريم •• هذا الوضع لو استمر سيقتل كل سكان المخيم ‪ ،‬إنهم‬
‫في صحراء ‪ ،‬يعتمدون على ذاكرة العالم ‪ ،‬ماذا لو نسيهم الناس ‪ ،‬عندما‬
‫تخف الضواء عنهم ‪ ،‬و تزهد الصحافة في أخبارهم ‪ ،‬ماذا لو توقف العالم عن‬
‫اللتفات إلى مصابهم •• العالم دأبه النسيان و ذاكرة هذا العصر ضعيفة جدا‬
‫•• وضعت ريم يدها على قلبها تهدىء نبض خوف قوي اجتاحه و قالت ‪:‬‬
‫أسأل الله أل ينسوهم •• فقالت الم و هي تتنهد ‪:‬‬
‫أسأل الله أن تنتهي مصيبتهم •• قالت ريم و هي ترى انزعاج أمها الكبير ‪:‬‬

‫ألم تصل برقية من قاسم ؟ فقالت الم ‪:‬‬


‫وعد أن يكتب كل يوم رسالة ‪ ،‬بحساب اليام ينبغي أن تكون الولى في‬
‫غضون يومين بين أيدينا ‪ ،‬أسأل الله له السلمة •• و قالت ريم ‪:‬‬
‫أسأل الله أل ينسى •• قالت الم و هي تدفع شكا يراودها فيخيفها ‪:‬‬
‫لن ينسانا قاسم يا ريم •• ولدي الحبيب لن ينسى أسرته أبدا ••• فقالت‬
‫ريم و عيونها تلتمع ‪:‬‬
‫ينبغي أل ينسى يا أمي •• و إن نسي نذكره •• فقالت الم بدهشة ‪:‬‬
‫نذكره ؟ فقالت ريم ‪:‬‬

‫حتى ل ينسى •• لبد أن نقرع الجراس دوما •• نصرخ بصوت عال أننا‬
‫هنا •• نعلنها للدنيا أننا نرفض نسيانه •• إذا أدار وجهه عنا ‪ ،‬أدرنا أنفسنا إليه‬
‫‪ ،‬و إذا تشاغل بأمر خرجنا له منه ‪ ،‬إذا قرأ كتابا كنا بعضا من سطوره ‪ ،‬وإذا‬
‫تنفس هواء كنا بعضا من بعض ذراته ••‬

‫أمسكت بأمها ‪ ،‬قبلتها بحماس كبيرو قالت ‪:‬‬


‫لبد يا أمي •• لبد من عمل كل شيء لكي ل ينسى قالت الم متسائلة‬
‫بدهشة ‪:‬‬
‫قاسم ؟ فقالت ريم بقوة و هي تحكم قبضة في الهواء و توجهها للمام ‪:‬‬
‫العالم •• العالم كله يا أمي •• ***‬
‫هذا جنون •• كانت تعرف أن فكرتها لن تكون محل ترحيب بمجرد طرحها‬
‫‪ ،‬كانت تعرف أن هناك معارضة كبيرة تنتظرها ‪ ،‬لكنها كانت مصرة على‬
‫تنفيذها ‪ ،‬كانت الفكرة قد أصبحت هاجسا ل يفارقها ‪ ،‬تنام و تصحو عليه ‪:‬‬

‫لبد من محاربة النسيان يا سعيد ••‬


‫أي نسيان يا ريم ؟ ‪ ،‬ماذا تقولين ؟ فيما تفكرين ؟ قالت و هي تجلس‬
‫بجواره و توجه حديثها له و لمها التي قامت باستدعاء سعيد على عجل بعد‬
‫أن طرحت ريم عليها فكرة مجنونة و أصرت عليها ‪:‬‬
‫النسيان هو آفة العالم •• خمسون عاما و نحن نعيش نكبة كبرى ‪ ،‬نكبة‬
‫تجتاحنا ‪ ،‬تأتي على الخضر و اليابس فينا ‪ ،‬غرب و عرب •• الجميع ينسى‬
‫•• يتناسى ‪ ،‬المهم أننا نعود للوراء ‪ ،‬كلما أوغلنا في النسيان كلما اتسعت‬
‫الفجوة بين الواقع المرفوض وبين ما ينبغي أن يكون نتفاوض الن من أجل‬
‫بضعة أمتار و كأننا نشحذ ‪ ،‬و كأن فلسطين كانت حقا لهم و نحن نغتصبه‬
‫منهم ‪ ،‬لبد من تذكير العالم بأن فلسطين لنا ‪ ،‬لبد من حدث يحرك الراكد‬
‫من تاريخنا •• لبد من حدث يذكر العرب بعروبتهم ‪ ،‬إنتفاضة جديدة ‪،‬‬
‫بأسلوب جديد •• بأسلوب يتماشى و النظام العالمي الجديد •• لبد من هذا‬
‫•• قال سعيد و هو يكتم غيظا ‪:‬‬

‫و لكن هذا جنون !!‬

‫فقالت بسرعة ‪:‬‬


‫وما الذي يجري حولنا وله علقة بالعقل ؟ كنا معا و رأيت بنفسك أناسا‬
‫يموتون لنهم لم يتمكنوا من رفض قرار عربي قوض أمنهم •• في‬
‫فلســطين سلـــبوا البيــوت من أهلها و عاش أصحاب البيوت في مخيمات‬
‫حقيرة يرنون بعيون ملؤها الحسرة إلى بيوتهم ‪ ،‬أصبح يعيش فيها العداء‬
‫على مرأى و مسمع من العالم ‪ ،‬في كل يوم تهدم إسرائيل بيوتا في‬
‫فلسطين و تسطو على ممتلكاتها و تعطي لنفسها مساحات أوسع من‬
‫شرعية دولية عمياء دأبها النسيان ‪ ،‬ما الذي جعل السرائيلين يحصلون دوما‬
‫على ما يريدون ؟ ذلك أنهم يقرعون في كل يوم أجراس الذكرى ‪ ،‬رويدا‬
‫رويدا حلت إسرائيل محل العرب ‪ ،‬تراجعوا ببطء عن أملكهم و احتلتها‬
‫إسرائيل و نسي العالم أنها كانت يوما لنا حتى إذا تنازلت إسرائيل تكرما عن‬
‫أمتار قليلة رفعوا لها قبعاتهم و حيوها على تضحيتها ••‬

‫اسمع يا سعيد •• اسمعي يا أمي •• أنا فلسطينية ‪ ،‬لن ينسيني اللجوء‬


‫انتمائي ‪ ،‬لن يعطيني جنسية البدون لعيش على الهامش ‪ ،‬لن يكون هدفي‬
‫لقمة اليوم أمضغها فتمضغني ‪ ،‬حتى إذا حانت منيتي ‪ ،‬اندثرت أكثر مع أبنائي‬
‫أمنيتي •• إذا لم أعد لبلدي لن يعرفهــا أبنائي •• ستـــــغلق فلسطــــين‬
‫على من فيها ‪ ،‬و تموت بمـــوتهم قهرا ‪ ،‬أو ذل ‪ ،‬أو برصاص غادر يستبيح‬
‫دماءهم •• لبد من أن أقرع ناقوس الذكرى ‪ ،‬كما كانت جدتي تعمل مع‬
‫أولدها •• عل العالم يسمع ‪ ،‬و يلبي •• فقال سعيد مشفقا ‪:‬د‬

‫لكنك وحيدة ••‬


‫إذن لبد من قرع مليين الجراس •• لبد أن يحمل كل مغترب ناقوسه‬
‫ليدقه •• لنشعلها حربا سلمية تنبه العالم و توقظه من سباته و تجعله يركن‬
‫للعدل •• لنضع النقاط علي الحروف و نقدم الدليل لمن نسي أننا لم ننس‬
‫كيف ؟ قالت ريم و هي تبتسم بهدوء رغم أن قلبها ينبض بقوة ‪:‬‬
‫سأقاضي إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية •• همست الم و هي‬
‫تجلس بإعياء ‪:‬‬
‫مجنونة ••!! نظر سعيد إلى الم ‪ ،‬ثم نظر إلى ريم و قال جادا هذه‬
‫المرة ‪:‬‬
‫فيما تفكرين ؟ فقالت ريم و قد لمست في نبرته استعدادا للتفهم ‪:‬‬
‫أملك وثيقة رسمية تثبت ملكية عائلتنا للمنزل الذي استولى عليه اليهود‬
‫•• سأقدمها مع مذكرة أطالب فيها باسترداد بيتنا ••‬

‫ابتسم سعيد و هو يقول ‪:‬‬


‫لو سلمت جدل بمعقولية ما تقولين ‪ ،‬فإن محكمـــة العدل الدوليــة ل‬
‫تملك الحكم بين فرد و دولة •• اختصاصها فض المنازعات بين الدول و ليس‬
‫بين فرد و دولة •• فقالت ريم مبتسمة بثقة ‪:‬‬
‫أنا فلسطينية •• بلدي مغتصبة ‪ ،‬نفاوض من أجل عدة أمتار •• هناك‬
‫اعتراف عالمي ضمني بأن للفلسطنيين حقا في تلك الرض •• سأبدأ بنفسي‬
‫•• و عندما يرفضون طلبي ستتولى الصحافة شرح القصة و سأدعو إلى أن‬
‫يقدم كل فلسطيني ما لديه من وثائق تثبت ملكيته للرض ‪ ،‬أو للبيت ••‬
‫سنكون في نهاية المطاف دولة •• دولة تطالب دولة •• نحن في الخارج ل‬
‫نقل عن مليونين ‪ ،‬لو استجاب لي مليون فسنصنع دولة •• دولة تقاضي دولة‬
‫•• قالت الم بجزع ‪ :‬د‬
‫تحلمين ••‬

‫عندما همت ريم أن ترد قال سعيد ‪:‬‬


‫كل العمال العظيمة تبدأ بحلم •• أنا معك يا ريم •• فقالت ريم و قلبها‬
‫يدق حماسا و طربا ‪:‬‬
‫لكنك مصري •• فقال بثقة ‪:‬‬
‫أنا عربي •• محام عربي •• سأتخذ كافة الجراءات التي من شأنها أن‬
‫تذلل أية عقبات أمامنا •• سأسافر معك إلى هولندا ••• و هناك في لهاي‬
‫سوف تشهد أروقة المحكمة الدولية أغرب قضية من نوعها بين لجئة و دولة‬
‫قامت على أنقاض بلدها ••‬
‫أنت رائع يا سعيد ••‬
‫أنت رائعة يا ريم •• عندما كانت ريم تصعد درجات سلم الطائرة بصحبة‬
‫سعيد ‪ ،‬كانت تعرف أن قلبا واجفا يتمتم في هذه اللحظة لها بالدعاء ••‬
‫أخرجت جرسا صغيرا من حقيبة يدها أرسلت به صوتا عبر الهواء عله يصل‬
‫إلى أمها فيطمئنها أن ريم اللجئة عرفت آخـــر المر هدفها •• و سعت‬
‫لتحقيقه •• لم يشغلها إن كانت ستنجح ‪ ،‬أم أن فشل ذريعا ينتظرها •• كانت‬
‫تعرف أن القرار ليس سهل لكنها كانت مصممة على المحاولة ••‬

‫"هل يمكن لدقات الجرس الصغير أن تخترق عشرات السنين من اللجوء و‬


‫النسيان •• وتصل إلى كل شهيد على أرضه ‪ ،‬و إلى كل من مات في غربته‬
‫على فراش بارد ؟هل يوقظ رنينه الموات و يهب النار الغافية صحوة و‬
‫اشتعال ينذر بالحريق ؟ " هذا ما كان يشغل سعيد ‪ ،‬لكنه كان متفائل ••‬
‫أحكم قبضته على كف ريم و دخل الطائرة معا ••‬

‫انتهت بحمد الله الجمعة ‪25/2/1419/‬هـ الموافق‪19/9/1998/‬م‬

You might also like