Professional Documents
Culture Documents
غير معقول يا سوسن ،كيف تجرؤين على الزج بي في موضوع كهذا ،هل
تريدين القول أن سيد وافق على التحاقك بالجامعة فقط لتكوني عينا علي ؟!
تلعثمت سوسن أمام غضبة ريم غير المتوقعة و قالت في محاولة لتلطيف
الجو :
إهداء إلى أحمد … .كلما أوغلت طيورك في سماء الغربة و دارت بك أيام….
مة أم ٌ
ل ننتظره فأدارتك سيبقى ــ يا أخي الحبيب ــ ثـ ّ
السم :ريم جهاد القاسم
المهنة :طالبة
وثيقة سفر للجئين الفلسطينيين ••دفتر أزرق بحجم جوازات السفر العادية
••
كان هذا الكتيب أول علقة رسمية حقيقية لها بالدنيا ••
حافظي عليه فبدونه أنت لشيء •• استلمته و كأنها تستلم قطعة منها ،
بين دفتيه يكمن وجودها و ل معنى لكل حياتها ما لم يكن معها •• فتحت
صفحاته بيد مهزوزة ،كان ثمة ختم مطبوع باللون الزرق مسجل فيه أيضا
حدودها " :لجميع البلدان العربية ما عدا سوريا و اليمن " ••
ت و مرات ، عادت تفتح صندوقها الثمين مجددا ً ،و تخرج الوثيقة تتأملها مرا ٍ
وثيقة سفر للجئين الفلسطينيين ،ما معنى هذه الكلمة ؟ ما المقصود
بوضعها على غلف الوثيقة؟ أليست مثل أية وثيقة ؟ أليست جواز سفـــر
مثل الجــواز الذي يمتلــكه أبوها و تمتلكه أمها •• لكن ل •• لقد تذكرت ،
إنه فقط يشبه وثيقة أبيها لكنه ل يشبه وثيقة أمها فوثيقة أمها خضراء و
مكتوب عليها جواز سفر للمصريين ••
ما الفرق ؟ كانت أمها تطهو في مطـــبخ بيتهم الصغير ،كـــانت قد نــادتها
حتى الن ثـــلث مرات و عندما رأتها على باب المطبخ بادرتها :
صح النوم ،ألم تسمعي النداء منذ المرة الولى ؟
أمي ما الفرق بين الجواز و الوثيقة ؟ فوجئت الم بالسؤال ،كان ذلك
واضحا من اتساع حدقة عينيها و توقف يديها عن تقليب الطعام ،على أن
هذه الدهشة لم تدم سوى ثانية واحدة لنها عــادت إلى التقليب و تنهدت و
هي تنظر في محتويات القدر قائلة :
الجواز لمن لهم وطن ،أما الوثيقة فهي للجئين •• هذه المرة كان دورها
في الدهشة و سألتها :
هل يعني هذا أنني صرت لجئة ؟ ابتسمت أمها رغما عنها و قالت :
رسمية يا ريم ،رسميا فأنت لجئة منذ ولدت و لكنها اليوم رسمي •• و
كأنها كانت نائمة فاستيقظت ،أو صماء و فجأة سمعت ،أو عمياء وبدون
ض الوقت ،ثم حطت مقدمات أبصرت ،حامت حول رأسها كلمة لجئة بع َ
خ عملق بأظافر وحشية و أخذت تشد شعرها من منابته •• كُر ّ
ل •• لم يكن لها يوما أيّ من هذه الشياء ،تعلمت ،هذا صحيح ،ولكن
في مدرسة خاصة ،كان أبوها يقتطع من لحمه كي يسدد أقساطها ،و عندما
كانت تمرض كان الدعاء و السبرين دواءها ،لنهم يعدون المرض رفاهية ل
يستطيعها إل القادرون ،ل يملك أبوها بيتا فهو "وافد "و ليس من حقه تملك ،
وأنى له هذا ؟!
لكنها كانت تعتقد أنهم ل يملكون بيتا لنهم ل يملكون نقودا ً و ليس لنهم ل
يملكون وطنا •• توجهت إلى أبيها ،كان يعالج كرسيا ً قديما ً يقلبه و يفحص
مكان الخلل به ،سألته :
أبي ••أل نملك في فلسطين بيتا ؟ طالعها بدهشة ،ثم عاد إلى كرسيه
ة
المكسور يقلبه ،ظلت واقفة تراقب سؤالها وهو يفترش سماء الغرفة سحاب ً
ة
ة ،و خيم الصمت ،حتى ظنت أن أباها كف عن التنفس ،بقيت لحظ ً داكن ً
تراقبه ،كانت عيونه في منأى عن عيونها لكن قلبها استشعر شيئا فيهما ،
ركعت بجوار الكرسي المكسور ،وطالعت وجه أبيها باهتمام ،كانت عيونه
ك ،أبوها ل يمكن أن يبكي ،إنه رجل قوي ،و الدموع
تلمع ،لكنه لم يب ِ
للنساء فقط ،سألته :
أين كنت تعيش هناك يا أبي ؟ رفع رأسه و تللت ابتسامة حنين على
شفتيه تحت شاربه الكث و قال :
في غزة •• كنت أعيش في غزة ،قرب الشاطئ ••
في بيت ؟ ضحك ضحكة صغيرة ،لم تخرج طربا و لكنها كــانت مقدمة
لسيل من الكلمات ••
بيــت ؟ و أي بــيت يا ريم ،و أي بيــت •• كان لــديــنا بيت واسع ،
كبــيـر ،نصفه حجرات و نصفه مكشوف ،وفي وسطه بالضبط بئر قديمة
بجوارها نخلة سامقة ،طويلة جدا ،أطول من كل النخيل الذي تعرفين ،
كانت النخلة تمد جذورها في أعمق أعماق البئر و كنا نرى تلك الجذور الغريبة
الطويلة حين ندلي رؤوسنا داخل البئر ،كانت مياهه بعيدة و لذلك فقد
احتالت النخلة لتصل إليها بالجـــذور ،كـــانت أمي تــصيح فينا دائما لنبتــعد
عن الــبئر ،و كانت دائما تردد لبي ،يرحمه الله " :يوما ما سيسقط أحد
أطفــالنا في هذا البئر ،أشعر بهذا "••
كانت متعتي و إخوتي أن ننزل على هذه الجذور داخل البئر حتى يصبح
طوق البئر في ضوء الشمس كقرص من ضياء أمام عيوننا ،كنت أحب هذا
على القل ،لكن أمي كانت تكرهه ،كانت تتفقدنا كلما انتهت من أحد
أعمالها و هي كثيرة ،فإذا وجدت أحدنا في البئر كانت تصيح و تولول حتى
يخرج فإذا خرج أوســعته ضربا ً و بكت بدل ً عنه ،رحمة الله عليها ••
لكنها لم تمت
الرحمة للحياء قبل الموات يا ابنتي •• عاد الب إلى كرسيه أمسك
قدومه و أعمل به الدق ،وقفت برهة مترددة لكن السؤال عاد فغلبها
فنطقت :
أبي ،و هل كان لكم كرم ؟ نظر إليها مجددا و المسمار السود بين شفتيه
يمنعه عن الكلم ،أو أن هذا ما أراده ،هز رأسه بالنفي و عاد يدقدق ••
لكن لنا أقارب و أعمام ،معارف و أصدقاء ،إذن نحن لنا وطن ،لنا وطن
يا أبي أليس كذلك ؟ لماذا إذن كتبوا على جواز سفرنا اللجئين ؟ ترك أبوها
قدومه يسقط منه أرضا و أزاح الكرسي عنه و قال :
تعالي •• اصطحبها إلى غرفته ،كانت مظلمة ،لكنه فتح النور و هو
يقول :
سأريك الوطن الن •• فتح خزانة ملبسه و أخرج صندوقا من خشب اللوز
القديم و قال :
هنا في هذا الصندوق احتفظت طوال سنين غربتي بما تبقى لي من وطني
،انظري ••
أخرج ألبوما مهترئا •• أخذ يقلب صفحاته أمامها ،صور تتابعت بالبيض و
السود ،رديئة الضاءة ،لم تعن لها شيئا ،فهي ل تعرف أصحابها ،أشار :
هذه أمي ،و هذا أبي ،يرحمه الله ،و هؤلء إخوتي ،الكبير عمك عامر ،
لقد توفي قبل عشرة أعوام و له أولد ل أعرف عددهم ،لكنهم كثر ،و هذا
عمك عمر ،كان أكبر مني بأربعة أعوام ،منذ سنين لم تصلني أخباره ،و هذا
أنا ،انظري كنت أطولهم ،لكنني كنت شديد الخجل ،لذا ترين وجهي يختبئ
خلف الوجوه ،و هذا أخي بدر ،إنه اصغر مني بعام واحد فقط ،و هذا
محمد ،أصغرنا و أكثرنا شقاوة ••
سقط مرة في البئر ،و ظل يصارع الموت قرابة الخمس ساعات فيما
أعيتنا الحيل لخراجه و انتظرنا أبي حتى عاد من الكرم مساءا ،كان أبي قويا
،صاح فينا لما وجدنا نبكي ،قال " :يا عيب الشوم عليكم ،رجال و
تبكون ؟"
و عندما خرج محمد من البئر كان مبلًل و يرتجف لكنه كان مبتسما ً ،قال ":
أقــسم بالله إني لم أخــف و لم أبــك ،أنا رجل ،أليــس كذلك يا أبي ؟ "
ظلت تراقب وجه أبيها ،وهو يحكي ،أشفقت عليه ،بدا مستمتعا ً جدا ً بما
يقول ،وكانت عيونه تلمع وعلى طرفي شفتيه استقر زبد أبيض ،كان صوته
متهدجا ً ،حالما ً ،كأنه يسمع أصواتهم و هو يحكي ••
*** دوامة كبيرة عاش فيها جهاد القاسم منذ أن جاء إلى مصر ،شابا ًً في
العشرين من عمره ،و كانت غزة آنذاك تتبع مصر إداريا ،و يحكمها حاكم
ل أمن مصريون ،كان عليه -مثل إخوته - مصري و يجوس شوارعها ليل ً رجا ُ
أن يسعى في الرض وراء الرزق العصي ،في حياة شديدة القساوة عليهم ،
و كان يتعين على الرجال و الشباب أن يتعرضوا كل يوم للموت في سبيل
بضاعة مضحكة يأتون بها من فم السبع ،من الراضي التي احتلتها إسرائيل
عام 1948م ،البعض كان يجز حشيشا ً من تلك الراضي في عتمة الليل ليبيع
الجوال منه بخمسة قروش مصرية ،والبعض كان يقوم بقطع أنابيب الري
المعدنية التي زرعها العدو بطول الساحل ضمن نظام ري حديث ليبيع
القطعة التي اقتطعها بعشرة قروش أو يزيد ،وأيضا في عتمة الليل .مازال
ت الشخاص الذين سقطوا أمام عيونه برصاص العدو م َ جهاد يذكر جيدا ً َ
س ْ
عندما كانت مصابيحهم القوية تكشفهم ،كان من المضحك المبكي أن هؤلء
يموتون بمنتهى البساطة ،يموتون و كأنهم كلب ضالة ،راحت تفتش في
أكوام القمامة عن قطعة عظم جرداء .
جاء جهاد بعد أن حزم أبوه أمره و قرر الرحيل إلى حيث مظان الرزق
الوسع في الراضي الردنية المجاورة ،كان يجلس مع أبيه و صحبه و هم
يتحدثون حول خطة السفر الغريبة ،كان عليهم -وفق خطتهم -أن يقطعوا
الطريق عبر صحراء النقب ليصلوا إلى ميــناء العقبـــة حيث تتفتـــح الطرق
و تنقســـم أربعة اتجــاهات مـــا بين مصـر و الردن و السعودية و الرض
المحتلة من إسرائيل ،وكان عليهم ــ و هذا أخطر ما في الموضوع -أن
يقدموا قربانا ً منهم للطريق لكي يفتح عليهم ما استغلق منه ،فالجميع عندما
يصل هناك لم يكن ليعرف أي الطرق أكثرها أمنا ً ،و كان على أحدهم لعب
لعبة الموت مع مربع المتاهة ،وكان القتراع ،ووقع الختيار على أبيه ،
ليكون هو الفداء يسير فإذا ما قتلوه كانت أرضا ً إسرائيلية ،ووجب على
الباقيين اختيار طريق أخرى ••
شيء يشبه أن تطلق الرصاص على رأسك مخيرا ً من مسدس ليس فيه
سوى رصاصة واحدة ل تعرف مكانها ،فإما أن تكون الرصاصة في فوهته
تحمل موتك وإما أن تنجو إذا لم تكن الولى •• لم يتحدث جهاد كثيرا ً معهم
وهم يضعون خطتهم ،وعندما وصلت الخطة إلى هذا الحد استشعر غصة ألم
ونظر إلى أبيه يستجديه الرفض ،إل أن الب أشعل لفافته اليدوية و رشف
من كأس الشاي البارد أمامه و تطلع مليا ً في وجوه صحبه و ابنه و نفث
الدخان أمامه و هو يقول :
و عندما انفض الجمع بقي جالسا ً مع أبيه يتطلع إليه ،كانت هناك العشرات
من علمات الستفهام ترتسم على وجهه ،و كان الليل المخيم على حوش
منزلهم يخفيها رسما ً و إن رسخها شعورا ً ،و رغم الظلم الدامس الذي ما
كان لبيه أن يراه فيه إل أنه استحى من دمعة ترقرقت في عينيه و لم تسقط
،و بصعوبة فتح فمه ليطلق لســيل السئلة العنان ،ولكن كلمة واحدة
خرجت من فمه ،هادئة رغم الهدير داخله ،منخفضة رغم الصياح المختبئ
في حلقه :
منذ عشرين عاما ً كانت أحوالنا صعبة ،ولكن بالقدر الذي نحسن العمل
معه ،كنا أصحاب وطن ،أحرارا ً في حركتنا نمارس الصيد من بحر غزة أو
التجارة من ميناء حيفا ،كنا سباعا ً ل يقهر شبابنا و فتوتنا خوف أو يكسرها
ت الشوكة السرائيلية سيفا في خاصرة الوطن احتلل ،و لكن منذ أن انغرس ِ
و أصبح ما نملكه سجنا ً كبيرا ً ،أصبح لزاما ً علينا أن نسعى ،وعرفنا معنى
اللقمة المغمسة بالدم و العار ،و لكن ••
و نفض الب دخان اللفافة الذي سقط على ثوبه و قال :
حتى هذه اللقمة يا جهاد أصبحت عزيزة ،حتى القروش الخمس التي
نحارب شبح الموت من أجلها أصبحت غالية ،أغلى من أرواح رجالنا و شبابنا
•• اعتصر يديه حتى كاد أن يخلعهما و أكمل بحرارة كتم معها جهاد أنفاسه :
من أجل هذا يا جهاد ،من أجل أل نموت بذل الخوف ،كان اختيار الموت
على مفترق الطرق أمرا ً فارقا ً يعني بالنسبة لبيك الحياة ••
و لم ينس جهاد أبدا ً هذه الكلمات ،كانت هذه الليلة هي آخر مرة يشاهد فيها
أباه ،فقد اختفى مع بقية الرجال منذ الصباح الباكر بدون وداع ،رغم أن
موعد تنفيذ خطتهم كان في المساء •• اختفوا و لم يكن لدى الم وقت
للنواح ،كان الوقت عامل ً مهما ً في أن يكون للناس رمق أو أن يلفظوه ••
لذا جمعتهم الم رجال ً خمسة في ريعان الصبا و أبواب الشباب و قالت دون
أن تحدد :
و أنتم ماذا تنتظرون ؟ الموت القادم خلف كل شجرة ،أو الهلك جوعا ً
وعارا ً ؟ أنتم رجال فليسعَ كل منكم في طريق ،ل أريد أن أراكم إل و قد
وجد كل منكم طريقا ً ،هيا تحركوا •• و أيضا أيضا كانت هذه هي المرة
الخيرة التي يرى فيها أمه ••
قرر كل من عامر و عمر الذهاب في إثر أبيهم ،ولكن عبر الضفة الغربية
التابعة إداريا ً إلى الردن ،و قرر بدر البقاء إلى جوارها و السترسال في جمع
الرزق من فم السبع فيما قرر محمد الستمرار في طريق اختطه لنفسه منذ
طفولته المبكرة في النضمام لجماعات الثورة و حركات المقاومة ،و قرر
هو الرحيل إلى مـــصر ،و هـــكذا تفرق الجمع و انفض السامر و ضاعت
الصلت إل من حنين قديم يربط الخوة المتفرقون قد يعتريهم في لحظة
واحدة فيتطلعون بعيون ملؤها الرجاء إلى سماء مازالت تظللهم جميعا ً و إن
اختلفت أماكنهم و تباعدت ،فيرسلون إلى بعضهم البعض عبرها تنهدة شوق
حارة تخرج من قلوب شتتها احتلل ••
*** اجتمعت السرة على مائدة الغذاء الرضية و أخذ كل منهم يتناول وجبته
بصمت مترقب كأنما ً حط على رؤوسهم الطير ،و فجأة قطعت الم الصمت
و وجهت كلمها إلى سمر الخت الصغرى :
ألن تتعلمي أبدا الكل بطريقة صحيحة •• انتبه الجميع و كأنما اكتشفوا
فجأة أن ليس لهذا الصمت من معنى فقالت ريم :
أمي •• المزيد من السلطة لو سمحت •• مدت الم طبق السلطة إلى
ابنتها و أشارت بطرف عينيها إلى أبيها ،و فهمت ريم ،أخذت الطبق و قالت
لبيها :
المزيد يا أبي ؟ رفع رأسه نحوها و ابتسم قائل ً :
ل ،لقد شبعت •• فقالت الم :
و لكنك لم تكمل طبقك على القل •• سحب علبة الدخان و أخرج
سيجارة و هو يقول :
ليست بي شهية للطعام •• نهض فنهض الجميع ،ساعدت ريم أمها في
جمع البقايا فقال الب :
أين قاسم ؟
في رحلته المدرسية إلى الفيوم ،لقد أخبرك بهذا البارحة ••
نعم •• وضعت ريم ما بيدها في المطبخ و انفلتت إلى أبيها ،كان يجلس
بجوار المذياع يقلب المحطات ،بادرته :
أبي هل أنت غاضب ؟ أجاب باسما ً :
ل ••
ً
إذن لماذا لم تأكل ؟ همس الب باسما :
هل أخبرك بسر ؟ أومأت برأسها إيجابا ً و اقتربت من أبيها فهمس :
لقد اشتقت فجأة لطعام أمي ،و تعرفين أن أمك حاولت مرارا ً صنع مثله ،
ت إن أعلنت رغبتي هذه أن تتحمس فتصنعها ثانية و هذا لكنها لم تنجح و خشي ُ
كثير !! أليس كذلك ؟ ضحكت ريم و همست موافقة :
بل هو كثير جدا ً يا أبي •• معك حق •• و عندما دخلت الم تحمل الشاي
ة تراقبهما ثم قالت :وقفت بره ً
لبد أن حديثكما السري هذا عن طبخي أليس كذلك ؟ ضحك الب و قال :
ل يا أم قاسم ••لم يكن عنك أبدا أليس كذلك يا ريم ؟ شعرت ريم أنها
تريد احتضان أبيها ،تريد أن تواسي هذا القلب الوحيد الذي يخفق بين جنبيه ،
تريد أن تدق الرض فتخرج منها وطنا ً قديما ً ما زال يعيش في ذاكرته
العجوز ،لكنها عوضـــا ً عن ذلك توجـــهت إلى حــــجرتها ،أغـــلقت بابها
بهدوء و أخرجت صندوقها و فتحته ،دقت بالجرس الصغير قليل ً ،ثم وضعته
ثانية بعناية و تطلعت بغيظ إلى وثيقة سفرها ،دقت عليها ،عضت على
شفتيها ،همست :
لماذا ؟
توجهت إلى حيث ركنها الثير ،لوحة رسم مغطاة بعناية رغم أن ل شيء
عليها ،كانت اللوان مرتبة على حامل اللوحة ،كشفت غطاءها و تركت
لمساحة اللون البيض احتلل عينيها و همست :
مضى وقت طويل ••
في المساء كانت الورقة البيضاء تحمل رسما ً مبدئيا ً لبئر قديمة تغرس فيها
شجرة نخيل عجوز جذورها حتى العماق فيما طفل صغير يراقب قرص
الشمس الغارب من خصاص نافذة خشبية في طرف اللوحة •• نظرت ريم
إلى ما رسمت و بدت راضية عنها و عادت فغطت اللوحة بعناية و خرجت
لتفتح الباب الذي كان يدق بإلحاح ••
كانت الم تطالع التلفاز و الب كعادته غارق في النوم بجوار المذياع و سمُر
الصغيرة ذات الخمسة أعوام تلعب أمام التلفاز فتثير أمها و يضيع المسلسل
•• في طريقها إلى الباب أجابت ريم على سؤال لم يسأله أحد :
الكثير ••
***
كان قاسم في حياة ريم صديقا ً أكثر منه أخا ً ،وكانت تتقبل راضية تدليل أمه
له على أنه أمر مسلم به ،باعتباره الذكر الوحيد ،ولنه جاء بعدها بثلثة
أعوام فقد اعتبرته في مثل عمرها ،خاصة لتمتعه برجاحة العقل و التزان
اللذين لطالما اشتكت زميلتها من عدم وجودهما عند إخوتهم الذكور ،لذا لم
يكن مستغربا ً أن تكون جل أسرارهم عند بعضهما البعض ،و رغم أن قاسما ً
لم تكن له أسرار بالمعنى الذي يعطي للكلمة هذا العمق إل أنه كان يحتاج
إلى من تسمعه في هذا السن الذي يبدأ فيه اليافع بقرض الشعار و السباحة
في دنيا الخيال و كتابة المذكرات الخاصة التي يضمنها أحلم الشباب اللهبة ،
و كان قاسم يعكس كل أحلمه المبكرة على سوسن صديقة ريم ،رغم أنها
تكبره بثلثة أعوام ،إل أنها كانت تستمع إلى حكاياته عندما تزورهم باهتمام و
تعلق على أشعاره و تبتسم له كلما بدأ الكلم ليسترسل دون أن تشعره
بتفاهة ما يقول ،أو بأنه يضيع عليها وقتا ً ثمينا ً ينبغي أن تقضيه مع صديقتها ،
و في هذه الرحلة الخيرة كان جل ما يشغل بال ريم هو النطباع الذي تركه
سيد أخو سوسن لدى قاسم أخيها ••
و سيد هذا هو الخ الكبر لسوسن و هو معلم اللغة النجليزية لخيها قاسم ،
ولقد أبدى مرارا ً إعجابه بها لخته التي كانت تنقل حديثه إلى ريم فتلقى منها
صدودا ً مفتعل ً ،وكأنها ل تريد أن تسمع ،و مع ذلك فلقد تركت لصديقتها
المجال لتسمعها عبارات من نحو :
سوسن ل تقولي هذا الكلم ،أنا ل أسمح به ،ليس لدي وقت لضيعه على
قصص الكلم الفارغ التي تشغل معظم بنات اليوم ••
و لكن في أعماق ذاتها كانت مستمــتعة ،سعيدة ،و رسمت قلبا ً كبيرا ً يضم
وجهين لرجل و امرأة مظللين بل ملمح ،كانت اللوحة كلها سوداء ما عدا
القلب الذي شغل ركنها اليسر كله بلون أبيض ناصع يحتوي هذين الوجهين ،
و لم تستطع أن تجيب عن أسئلة سوسن التي لحقتها عندما رأت لوحتها :
لم ترد ريم ،كل ما قالته أن ما رسمته كان التعبير الوحيد الذي شعرت به
عندما أرادت أن ترسم بعد حديثهما عن أخيها ،و حاولت تغيير الموضوع ••
و جاءت رحلة أخيها قاسم إلى الفيوم حيث سيرافق بشكل ودي أستاذه سيدا ً
،ويجالسه طوال الوقت ،وكان قاسم يعرف ما دار بين الصديقتين عن
سيد ،و كان له رأي سابق فيه يصفه بالجمود وعدم المرونة والوجه الخالي
من التعبير ،و لكن بعد أن طلبت إليه أخته محاولة استكناه هذه الشخصية و
الوصول إلى وصف تقريبي لها أثناء الرحلة على اعتبار أن المرء يتحلل من
جموده عندما يكون في قلب الطبيعة و في جو الرحلت ،ركز كل جهده على
دة :
مراقبة و مجالسة الستاذ أثناء الرحلة و خرج بانطباعات ع ّ
أومأت برأسها ،و عندما أغلق الباب خلفه نهضت ففتحت النافذة تطلعت إلى
القمر ،كان مكتمل ً ،شيئا ً ما يخيفها عند اكتمال القمر بدرا ً ،تشعر أن
اكتماله إيذانا ببدء النهاية ،و رغم ذلك ل تملك في كل شهر إل أن تقف
تراقبه و هو يفترش السماء و يقرأ عليها الرسالة ،همست و هي تتمطى :
يوما ما سأعود إلى الوطن ••
هاه •• إذن تحب ؟ يا أخي خذها إلى مكان بعيد و تمتع بها ،ثم عد إلى
منزلك و أغلقه عليك و نم •• قبل شهر خرجت زوجته من حياته و أخذت
أطفالها الثلث ،قـــالت له إنها تخشى عليهم و على نفسها من وجودها
معه ،قالت إنها حاولت المستحيل ليصبح إنسانا ً مسئول ً ،لكنها فشلت ،
اعترفت له أنها استسلمت و أنه إنسان غير قابل للتغيير و تركته ،بدوره لم
يتمسك بها ،كان يعرف أنها لن تستمر معه طويل ً ،يعرف أن استمرارهما
معا هو من قبيل نفخ الرماد لنعاش نار غافية ،كانت و ظلت و ستظل طوال
الوقت غافية ،أعتقد أنه أصبح أكثر حرية عندما تركته ،و لكنه فوجئ كثيرا ً
بالتغيير عندما وجد نفسه أكثر التزاما ً و هو وحيد على عكس ما كانت حياته و
هي معه ،وجد نفسه زاهدا ً فجأة في النساء و عندما كان أصحابه يسألونه
عن السبب كان يلوي رأسه قرفا ً و يقول :
*** عندما همت ريم بإغلق نافذتها لمحت سعيدا ً جالسا ً في شرفة منزله
يحتسي كوبا ً من الشــاي و ينظــر باتجاههــا مبتسمــا ً ،لم تعط للمر أية
أهــمية إل أنها تذكــرت زوجــته و شعرت بغصة غضب تجاه هذا المخلوق ،
حنقت عليه جالسا ً يسامر القمر فيما أسرته بعيدة ،أغلقت النافذة بقوة كأنها
تصفعه و هدهدت سمر قليل ً حتى نامت مجددا ً بعد أن أيقظها صوت النافذة
الغاضب ،و نامت ••
حلمت في هذه الليلة حلما ً غريبا ً ،رأت نفسها فيما يرى النائم كأنها تسير في
صحراء مترامية الطراف ،لشـــيء أمامها ســـوى هذه الصحراء ،كــانت
تشعر بالعطش الشديد و في كل مرة تتراءى لها بحيرة تركض نحوها فتجدها
سرابا ً و يزداد العطش ،رأت بحيرة ،ثم بحيرة ،ثم جبل ً عاليا ً تسلقته حتى
القمة و اعتلت سحابة بيضاء و كانت ما تزال عطشى و فجأة أمطرت
السحابة مطرا ً ،و أخذت منها الحيرة كل مأخذ ،لنها لم تستطع أن تشرب
من ماء المطر المنهمر تحتها رغم عطشها الشديد و استيقظت و هي تحاول
التقاط بعض القطرات بكفها و لكنها لم تستطع •• *** كانت قد أنهت للتو
مساعدة أمها في أعمالها المنزلية ،و كانت أمها تستحثها السراع في تجهيز
الطعام و فرشه قبل وصول أبيها المتوقع بعد لحظات ،و عندما انتهتا من
وضع كل شيء في مكانه جلستا صامتتين تنظران الباب تارة ،ولساعة
الحائط تارة أخرى ،قالت الم و قد شعرت أنه لبد من الكلم :
أبوك متعب نظرت إليها ريم ،صمتت قليل ً ،كانت تبحث عن الكلمات
المناسبة ،كانت تريد أن تخبرها أنها تعرف ،شعرت بهذا منذ فترة ،منذ أن
أصبحت خطواته واهنة و دموعه التي ل تسقط قريبة ،في الحقيقة هي
تعرف أنه ما فتح لها كنزه المخبوء منذ سنين إل لينقل لها عبر ذكرياته وصية
ما حفرت في قلبها إل أنها لم تستبن كلماتها ،أوجعها قلبها و أحست بالغصة
منذ أن أعطاها وثيقتها ثم الجرس و لكنها كانت تريد أن تحتفظ بكل
مشاعرها داخلها فهي ل تريد أن تخرج كلماتها فتقرر واقع لذا اكتفت بأن
تقول :
العمل مرهق لمن في سنه يا أمي ،اطمئني و دعينا نعمل على راحته أو
نطلب إليه أن يتوقف قليل عن العمل بضعة أيام فقط ••
أي سن يا ريم ؟ إن والدك ما زال في الخامسة و الربعين من عمره لم
يتمهم ،لكنه يبدو و كأنه تجاوز الستين ،بل السبعين •• انني شديدة القلق
عليه •• أدارت ريم وجهها عن والدتها ل تريدها أن ترى دمعة ترقرقت لمعة
في عينيها تعتمد الحقيقة التي ذكرتها أمها ،صاح شيء بداخلها :
إنه الحنين يا أمي •• الحنين إلى منزل قديم و بئر معــطلة و أم ربطــت
حجرا على قلبها و دفعت أولدها يوما إلى الغربة لكي يعيشوا •• إنه الحنين
أيتها الم الحبيبة ،الحنين إلى صخب أخوة جمعتهم يوما أرض كانت لهم ،
وطن كان فرشهم و غطاؤهم زادهم و زوادهم •• إنه الحنين يا أمي و ليس
تعب السنين كما أقول و ترفضين ،إنه فقط الحنين •• عندما فتح جهاد
الباب ،لمح في نظرات زوجته كل ما توقع و أكثر ،قــلق و حيرة ،خوف و
ضيق ،تنهد :
السلم عليكم •• توجه إلى غرفته تتبعه عيونهما ":إيه يا أم قاســم ••
إيه أيــتها الغــالية ،رفيقة الدرب و الكفاح ،هل تشعرين بحالي ،هل أخبرك
صمتي أنني أعاني ،هل سمعت هدير أمواج غزة في زفيري و شهيقي ،لبد
لكل طير أن يعود ،و لقد طالت غربتي ،فهل سأعود يوما ،أم أنه كان فراقا
للبد ،شيئا يشبه الموت ،لكنه موت مؤجل ،إيه يا أم العيال إنني محطم
حتى النخاع ،وحيد رغم العمل و البيت و الولد ،شيئا عزيزا قطعوه من
لحمي يحن إلي الن ••" التفت إلى الباب كانت تمل تجويفه الخالي ،تنظر
إليه بقلق همست :
هل أساعدك ؟ هز رأسه مبتسما و قال :
مازلت شابا يا أم العيال ،من في سني لم يتزوجوا ،أنت التي شيبتني
بالعيال مبكرا قبل الوان ،صدقيني سأتزوج عليك يوما شابة صغيرة تعيد إلي
الشباب !! أشاحت أم العيال بيديها و قالت باسمة :
و هل كنت ستجد من تتحملك مثلي أيها الفلسطيني التائه ،أم نسيت ؟
هل أذكرك بيوم جئت لبي ترجوه أن يقبلك زوجا لي و تعده بأن تصونني في
العيون و في حبة القلب ••
أنا ؟ !! أنا الذي ذهبت أم أنت من طاردتني حتى قبلت الزواج منك •• هيا
ل تغالطي التاريخ يا أم قاسم •• كانت ممازحة يبعد بها كلهما شبح النهاية
عن سمائه ،و كان يحلو لهما دائما تبادل اتهامات السبب في هذا الزواج ،
لكن الممازحة اليوم كانت هما ثقيل على القلبين لذا صمتا فجأة كما تكلما
فجأة و نظرت إليه مليا فاطرق برأسه و قال :
نعم •• ساعديني يا أم العيال ••
*** كانت سميحة والدة ريم الن هي ذاتــها تلك الشــابة المصــرية التي
تلبس الملءة السوداء و تغطي شعرها بمنديل مزركش الطراف و تحمل
الغذاء كل يوم إلى أبيها ملحظ العمال ،فيلتفت لمقدمها كل عامل بناء و كل
مهندس يصادف وجوده في موقع العمل ،عندما رآها جهاد لول مرة كان قد
مضى على وجوده في مصر ثلثة شهور ،عمل خللها في عدة أعمال صغيرة
و سافر إلى مدن عدة قبل أن يستقر به المقام في القاهرة حيث تلقفه عم
صابر والد سميحة و تعهده بالرعاية عندما علم أنه غريب من فلسطين ،كان
يسأله عن الحوال هناك و كان كغيره من المصريين آنذاك يعتبر أن فلسطين
هي القضية التي خانها مليكهم يوما حين كانت في مرمى اليد ،أسلحة
فاسدة و قصة قديمة تحولت مع مرور الوقت إلى عقدة ذنب خفيه في
الضمائر ليس لها سببا مباشرا ،لذا فقد رأى فيه العم صابر ممثل جيدا لبلده
يمكنه من خلله أن يقدم شيئا لتــلك البلد البعيـــدة التي تــضم قدس
جريح ،و لم يكن هذا الحال مستغربا لدى الجميع ،لذا فقد كان لدى جهاد
فرصة جيدة ليقف على أقدامه بمنأى عن أية مكائد قد يدبرها زملء المهنة
لبعضهم الــبعض ،كان هو اســتثناء ،و كان سعيدا بهذا الستثناء ،و عندما
رأى سميحة قرر أن يختبر هذا الستثناء عــمليا و أضمر في نفسه أنها
ستكون زوجته ،لم يكن يعنيه تلهف الرجال عليها و حديث بعضهم علنا عن
رغبتهم في الزواج منها كان في قرارة ذاته يشعر أنها له ،شعر بذلك من
عينيها عندما التقت بعيـــنيه في لحظة واحـــدة ،وقعا خللها بالحــرف
الولى علقة لن تنــقطع ،و كان كلما سمع أن أحدهم تقدم لها ينتظر بقية
الحكاية التي يعرفها••" و رفضت هي " لكنه لم يتكلم و لم يشر حتى بأنه
يريدها ،كان يعرف أنه لبد أن يكون مستعدا للزواج قبل أن يقدم على هذه
الخطوة ،و بالفعل ،بعد عام كامل تقدم إلى العم صابر و قال بمنتهى الثبات
:
عم صابر •• أحبك كثيرا و أريد أن ارتبط بك ارتباط دم و نسب فهل تقبل
أن تزوجني ابنتك ؟
تطلع اليه العم صابر مليا و سأل ضميره إن كان اشفاقه و محبته لهذا الفتى
يبرران أن يعطيه ابنته لتشاطره غربة ل يعلم حدودها إل الـــله أم ل ،لكنه
حسم الموقــف في دقيقة و قال :
إن وافقت هي فأنا موافق ،و لن أجد لها أفضل منك ••
هذا الرد كان جهاد قد سمعه قبل أن ينطق به الب ،كان قد أحسه و قلما
أخطأ إحساسه ،سميحة له الن و ليحمل الغد ما يشاء من مفاجآت فإنه
سيصنع أسرة من جديد بعد أن تشتت أسرته الصلية اختياريا ،و ربما صنع
وطنا ••
قرب منزلنا وجدته واقفا و كأنه كان بانتظاري ،سلم علي بحرارة رغم أننا
بالكاد نعرف بعضنا ،فهو لم يسكن في الجوار إل منذ سنة تقريبا و الحياة
تلهي •• شيء ما في نفس ريم كان يستحث الب على سرعة إتمام
الحديث الهام و البعد عن التفاصيل الصغيرة التي ل معنى لها ،لكنها لم تبده
و رفعت ملعــقتها إلى فمهــا مجددا و هي تسأل بل مبالة مصطنعة :
ماذا كان يريد ؟ و سبقت الم بالكلم قائلة :
إياك أن تقول أنه يريد الزواج منها ،هذا الشاب اللهي •• هز الب رأسه
مبتسما و قال :
ل يا أم قاسم ،لم يكن هذا محور حديثنا ،اتركيني لكمل ،لقد رحب بي
بحرارة متعجبا من عدم معرفتنا ببعضنا البعض طيلة هذه السنة و ذكر شيئا
كثيرا عن إعجابه بي و بكفاحي في الحياة ،كنا نسير معا و وجدت نفسي
فجأة أمام باب بيته ل بيتي فدعاني للدخول و شدد في دعوته فلم أملك إل
الستجابة •• ـ آه هذا اللهي ماذا يريد منك ،هل يريد جرك الى طريقه ،ل
تنس ذكرت قبل قليل انك صغير و تريد الزواج من اخرى •• هذه المرة
تكلمت ريم ووجهت حديثها لمها :
أمي بالله عليك دعينا نعرف ماذا يريد هذا السعيد من أبي و ما علقتي
بالموضوع ،ماذا هناك يا أبي ؟ ترك الب ملعقته و نهض قائل :
الحمد لله ،الشاي يا ريم و تعالي سأحكي لك كل شيء •• مرت الدقائق
التالية بصعوبة على ريم التي كانت تصنع كل شيء بآلية و كأنها مسيرة من
أجل النتهاء بسرعة ،رفعت الطعام ،غسلت الواني ،أعدت الشاي و عندما
جاءت به إلى حيث يجلس الجميع ،كانت قد خطرت في بالها الفكرة ،قالت
و هي تضع الصينية :
أبي هل للمر علقة بإكمال دراستي ؟ ابتسم الب و هو يأخذ كوب الشاي
و هز رأسه قائل :
هذا صحيح يا ريم ،لقد سألني الستاذ سعيد عنكم جميعا و عرف أنك منذ
عام تجلسين في البيت لننا ل نستطيع تأمين مقعد لك في الجامعة ،و
بالصدفة هو يعرف مسئول كبيرا يعمل في الجامعة مدرسا ••
نعم يا قاسم هذا ما قاله ،أستاذ في الجامعة ،و قال أنه سيسأله عن
إمكانية التحاق ريم بالجامعة خاصة بعد أن عرف أنها كانت من المتفوقين
دراسيا و أن مجموعها كان كبيرا جدا في الثانوية العامة و أخيرا فقد أخبرته
عن أنك تتقنين الرسم و تتمنين اللتحاق بقسم الرسم في الجامعة ••
الفنون التشكيلية يا أبي ••
نعم بالضبط الفنون التشكيلية ،و لكـــن يا ريم هـــــل من الفنـــون
التشكيلية الرقص أو الغناء أو أي شيء من هذه الفضائح ؟ هزت رأسها
بسرعة مؤكدة :
ل •• ل و الله يا أبي ،أنها كلية تدرس فقط فنون الرسم و النحت و ل
علقة لها بفن السينما و المسرح و الغناء •• كانت الم تستمع و لم تشارك
في الحديث ،لذا عندما نظر إليها الب سائل إياها عن رأيها تنهدت و قالت :
إنه حلم حياتي كما تعلم ،أن يتعلم أولدنا أحسن تعليم ،و لكن يا أبا قاسم
لقد نسيت شيئا هاما جدا •• نظرت ريم الى أمها و كأنها ترجوها أل تفسد
الخبر الجميل ،فنظرت إليها الم و قالت بحنان بالغ :
منذ أن ألقت ريم كلمتها الغاضبة إلى سعيد و شيء ما انبش مخالبه في
صدره ،زحف جيش مجهول الهوية و استوطن مكانا ظل خاليا في جوفه :
قالتها و مضت ،و كأنها طيف أو حلم •• من هذه الفتاة ،و كيف لم
يلحظها منذ سكن الشارع رغم أنها جارته ،من أين واتتها القوة لتقول رأيها
بصراحة في الوقت الذي استغرق المر من زوجته عمرا و ثلثة اطفال كي
تنطقها •• ماذا تعرف هذه الصغيرة الجريئة عنه ،ماذا كانت تخبرها مريم و
كيف كانت تنظر إليه ،هل تحتقره في قرارة نفسها •• اسئلة كثيرة حرمت
عليه النوم ذلك اليوم ،و قرر أن يعرفها أكثر ،قال أنها بكل تأكيد مثل كل
النساء و لكن تنقصها الخبرة و وعد نفسه أن تستقي هذه المخلوقة خبرتها
على يده ،اسعده كثيرا أن اكتشف أن نافذة في منزلهم تطل على شرفته
المهجورة ،قام ففتح الشرفة و رتبها و أزال منها غبارا كثيرا ،ثم وضع فيها
كرسيا و طاولة و قرر أن تكون جلسته الدائمة في هذا المكان في حالة
كانت الغرفة لها ،و ابتسم و هو يقول لنفسه :
اللعبة القديمة ،ابن الجيران و ابنة الجيران ،كبرت قليل عليها و ربما
جاءت متأخرة لكنها جاءت على أية حال ،و لن تضيع الفرصة ••
كان هذا ما يقوله بصخب لسانه ،أما ما استقر في نفسه فكان مختلفا بعض
الشيء ،كان هناك ما يربطه بهذه المخلوقة ،ليس جمالها فلقد عرف من
هن أجمل منها عشرات المرات ،و ل لسانها الطويل الذي فاجأه برأي من
غريبة ذات ظهر أحد اليام ،أنه شيء ما في عينيها ،نظرات بريئة ،مفعمة
بالتحدي و بالحزن ،بل و بالضحك أيضا ••
كل هذا كان في نظراتها ؟!! يا لك من مغفل كبير •• هي فريسة و أنت
الصياد و أنت صياد ماهر •• هذا كل ما في المر ••
و عندما جلس ذلك المساء في شرفته للمرة الولى يحتسي الشاي ،كانت
نظراته مصوبة على النافذة ،و أمنية تجوس في خاطره أن تكون الغرفة
لهـــا ،كانت الغـــرفة مظــلمة ،و كان القمر بدرا ،لول مرة يلحظ القمر ،
عادة في مثل هذا الوقت ل يكون في مكان مفتوح يطل عليه القمر ،إنه
يكون في مكان مغلق ،مغلق حتى الختناق يمارس لعبته الدائمة في خداع
الفرائس الخبيثة ،الفرائس التي تريد الخداع و تطلبه ،هذه هي المرة الولى
التي يطالع فيها القمر وجها لوجه ،ترى هل اكتمل متعمدا اليوم ،أم أن
القمر يسير في دورته العتيادية غير آبه بمريديه زادوا واحدا أو نقصوا عشرة
،المهم أنه ما زال متربعا في السماء يلعب دور قديم متجدد ،لم يمله منذ
بدء الخليقة :
-سبحان الله ،كيف لم ألحظك أيها القمر من قبل ؟ لماذا تحمل ملمحك
وجه إنسان غاضب ،هل أنت غاضب مني أنا تحديدا أم من كل البشر ••هل
تعرفها أيها القمر •• ما اسمها •• هل هي صديقتك ،أم أنها بدورها ل تعرفك
•• ؟
لحظ الضوء ينبعث من خصاص النافذة ،أمعن النظر عله يرى خيالها لكن
النافذة كانت ساترا قويا دون عيونه ،عاد يرشف من كوبه و يطيل النظر إلى
النافذة يستجديها أمل ،أو خيال •• ثم توجه إلى القمر و همس :
إذا كانت صديقتك فأرسل في طلبها ،أرني مقدار حظوتك عندها أن
استطعت ••!! و كأنما استجاب القمر للتحدي فأرسل شعاعا منه إلى
النافذة المغلقة و انتظر ،بعد قليل فتحت ريم النافذة ،أطلت منها فورا إلى
القمر ،نفخ سعيد الهواء و نظر للقمر مبتسما و قال :
إيه أيها القمر لقد نجحت ••!! راقبها و هي تطالع القمر ،لحظ على البعد
تقطيبة حزن و هي تمعن النظر إليه ،شعر بها و إن لم يستبنها ••و ظل
مركزا نظره عليها علها تراه ،و بالفعل نظرت ريم باتجاهه ،و لكنه هذه
المرة سمع زمجرة غضب حملها النسيم إليــه رغم أن المسافة ليســت
قصيرة و أصابه الذهول حين ردت على ابتسامته الساحرة باغلق النافذة
بقوة و كأنها تصفعه ••
للمرة الثانية تتعمد هذه المخلوقة الصغيرة تقليم أظافرك و إدارة رأسك
•• ل يا سعيد يجب أن يكون هناك حل •• و بسرعة •• بعد تفكير عميق
قرر أن يعرف عنها كل شيء ،راقب المنزل ،عرف أباها و أخاها و حتى
أختها الصغيرة تمرح مع الصغار أمام الباب و عندما عرف ميعاد عودة الب
اليومي من العمل كان بانتتظاره عازما على معرفة كل شيء ،و قد كان له
ما أراد ،عندما ألح على أبيها بدخول منزله تعمد أل يرى الغرفة التي تطل
بشرفتها على نافذة ابنته ،و جاذبه أطراف الحديث و عرف ما أراد ،و
لدهشته وجد نفسه مدفوعا للكذب ،قال أنه يعرف أستاذا في الجامعة و
يستطيع إلحاق ريم فيها •• كان اسمها يعجبه ،استزاده و كان الب
مستـــعدا للمزيـــد ،بدا متلــهفــا على تعليــم أولده ،تمسك بالمل و
عــرض عليه حــالتها و موهبتها و أخبره كثيرا عن لوحاتها الجميلة ،و تطور
الكذب و قال سعيد :
ل تخف يا عم جهاد سوف تلتحق ريم بكلية الفنون الجميلة ،هذا وعد ••
عندما غادره الب ،طالع وجهه في المرآه ،صاح :
كاذب •• *** فتحت ريم نافذتها و استقبلت بعض النسمات الصيفية مع
الشمس و هي تلملم شعاعاتها لترحل ،كان لون الشفق يريح أعصابها ،و
تحبه كثيرا رغم أنه يعني الوداع ،وصفته ذات مرة لصديقتها سوسن قائلة :
عندما يصبغ الشفق الفق بالحمرة يغلبني يقين بأنني أمام عيون بكت حتى
الحمرار على الفراق •• و يومها علقت سوسن قائلة :
دائما الفراق يا ريم ،لماذا يغلب عليك الشعور بالفراق رغم استقرارك و
تمتعك بعائلة يحسدك عليها الجميع في التفاهم و الترابط ؟ همست ريم قائلة
و هي مطرقة :
لن الفراق يكون أقسى عندما نحب من نفارق و ما نفارق •• و تنهدت و
أكمل شيء داخلها ••
الوطن •• النتماء •• هل تشعرين ؟ ل •• ل يمكن لمن يعيش في وطنه
أن يعرف يقينا معنى و قيمة أنه ينتمي له ،كيف يمكن لمن يصحو مطمئنا أن
يشعر بالخوف من مستقبل غامض ككهف أسود فاغر فاه على المجهول ،ل
•• لن تستطيعي يا سوسن أن تعرفي و لن يستطيع أحد أن يعرف ،حتى
أهلونا هناك لن يعرفوا ،سنظل دائما في نظر الكل أولئك الذين هربوا من
المواجهة مع الموت ليعيشوا ،سنظل دائما في عيون الخرين النقطة في
آخر سطر عذاب يعيشه الخرون •• لن يشعر بالمعذبين في بوتقة اللجوء إل
من عاشه ،فهل عشته يا سوسن ،حتى أنت يا سعيد هل عشت اللجوء
يوما ؟ ،لو أنك عشته ما وجدت فراق زوجتك و أولدك هينا ،ما وجدت
النفصام سهل ،لكنك في بلدك ،الكل أهلك ،الجميع ناسك ،فلم تخاف من
فراق إرادي ؟ ما زلت رغم الفراق تملك أن تجلس باستكانة على كرسيك
الهزاز في شرفة منزلك تغازل القمر و تبتسم ،أي اطمئنان يعيشه من له
وطن •• تطلعت في وقفتها طويل إلى شرفته الخالية و تساءلت :
هل حقا بمقدورك المساعدة أيها الرجل اللهي ،هل حقا يمكنك أن تقدم
عونا ؟ و لم ل•• أنت في وطنك و بامكانك أن تفعل ،كما أنك جريء ،
جريء جدا ،لقد استطعت في مقابلة واحدة مع أبي أن تعرف كل شيء ••
و لكن عرضك مرفوض •• لن نستطيع أن نقبله ،فهناك دائما المال ،الحاجز
الذي ل يقهر ،اللجوء الخر ،المنيات الصعبة ،الحلم المستحيلة و •• نعم
و العطش ،الظمأ الشديد رغم سحابة الماء ،سأظل دوما ظمأى هذا
قدري ،و لن تستطيع تغييره •• أغلقت نافذتها و توجهت إلى حامل لوحاتها
رفعت الغطاء فبدا شكل البئر و الشجرة تدب أغصانها فيه موحشا ،مرعبا ،
مخيفا ،حتى الصبي الذي يتطلع إليه كان غريبا ،عضت على شفتها السفلى
و همست :
كيف رسمت هذا المنظر الفظيع ؟ كان كل شيء أمامها في هذا اليوم
يفقد قيمته ،شعرت للحظة أنها عاجزة ،أنها مبتورة الساقين و اليدين ،أنها
تريد أن تصرخ لول لسانها المقطوع ،وضعت لوحا أبيض فوق لوحة البئر و
خطت بالفحم خطوطا سوداء كئيبة لوجه يطحنه الظمأ •• دخل أبوها الى
الحجرة دون أن يدق الباب ،نظرت إليه بعيون مغرورقة و لم تتكلم ،اقترب
و نظر في لوحتها و هز رأسه رافضا لما فيها •• قال:
أنت غاضبة يا ريم •• هل خيبت أملك يا ابنتي ؟ نظرت اليه ريم و حاولت
الكلم إل أن غصة منعتها و شرقت بدموعها ،فاقترب منها أبوها جدا و أخذ
رأسها بين يديه ووسده كتفه ،قال :
ل تبكي يا صغيرتي •• عندما تكون المشكلة نقودا ،فل مشكلة ،مازال
أبوك قويا ،قادرا على العمل و العطاء ،و إذا صدق الستاذ سعيد في وعده
فإنني سوف ألحقك بالجامعة •• رفعت ريم وجهها و مسحت دموعها بباطن
كفها و ضحكت و هي تقول بحروف متعثرة :
ل يا أغلى أب ،ل أريد الجامعة ،و ل أريدك أن ترهق نفسك أكثر من أجلي
•• صدقني لن أكون سعيدة و أنا أحقق أحلمي على أنقاض صحتك ،يكفيك
ما عانيت حتى وصلنا إلى ما نحن فيه ،ل أريد المزيد •• أمسك وجهها بين
يديه و قال لدموعها النازفة :
أقسم بالله العظيم أن أمسح هذه الدموع و لو كلفني هذا عمري •• أنتم
كنزي أيتها الفتاة الرهيفة و أنتم وطني الذي تركته مخيرا قبل عشرين عاما و
لن أسمح لهذا الوطن الصغير أن يضيع مني بدوره ••
و لكن يا أبي ؟ وضع الب أصبعه على فمها ليمنعها من إكمال أعتراضها و
أمسك لوح الرسم الحزين ،رفعه و وضعه جانبا و عندما نظر إلى لوحة البئر
تحته ،وقف واجما و ريم تراقبه •• مرر أصابعه على حافة البئر ببطء و
لمس غصون النخلة السامقة •• قال :
هل يمكن أن أحتفظ بهذه اللوحة ؟ قالت ريم :
لكنها لم تكتمل يا أبي ،كما أنها بشعة جدا ••
لكنني أريدها •• همست ريم :
كنت أريد تقديمها لك عندما أكملها ،لكنني فجأة زهدت فيها و شعرت
أنني ل أريد إكمالها •• ابتسم الب و هو يرفعها و قال :
لو اكتملت لخالفت الحقيقة ،إن نقصانها هو كمالها أيتها الفنانة الصغيرة
•• راقبت ريم والدها و هو يغادر الغرفة حامل اللوحة بين يديه ،همست :
صدقت •• *** في طريقها إلى منزل سوسن كان لبد لريم أن تقطع
المسافة بين بيتها و بيت سعيد أول قبل أن تنعطف يمينا لتسير باتجاه بيت
سوسن الذي ل يبعد كثيرا عن منزلها ،عشر دقائق سيرا على القدام ،و
عندما اجتازت واجهة بيت سعيد و بدأت طريقها إلى سوسن وجدته فجأة
أمامها •• كان سيد أخو سوسن ،اعتراها ارتباك و لم تدر إذا كان من اللياقة
أن تحيه أو من الدب أن تتركه دون كلم ،لكنه كان أسرع في أخذ المبادرة
إذ حياها قائل :
آنسة ريم ،كيف حالك ؟ همست :
الحمد لله
متجهة إلى بيتنا ؟ أومأت برأسها أن نعم ••
هذا جيد ،ساذهب في مشوار صغير و عندما أعود آمل أن أجدك هناك
فلدي ما أقوله لك •• أسرعت في مشيتها بدون رد و عندما اقتربت من
منزل سوسن وقفت برهة مترددة هل تطرق الباب أم تنسحب قبل مجيء
الستاذ سيد ثقـــيل الدم •• و أخــيرا حزمت أمــــرها و أقفلت عائدة ،لكنها
و للمرة الثانية في أقل من عشر دقائق تجد من يستوقفها و هذه المرة كان
سعيد الذي بادرها :
آنسة ريم •• نظرت إليه مندهشة ،ثم تذكرت أن أباها أعطاه اسمها
قالت :
نعم
رأيتك تسيرين حتى نهاية الشارع ثم تعودين ،هل هي رياضة ؟ تطلعت
إليه بحنق و همت أن تجيب ،إل أنها آثرت عدم الكلم ،هزت رأسها و سارت
في طريقها ،ظل واقفا في مكانه يراقبها تسير و قال و هي تكاد تختفي في
انعطافة منزلها :
يا لك من طفلة •• عندما وصلت ريم إلى منزلها أجابت أمها قبل أن
تسأل :
سوسن ليست هناك •• نظرت إليها الم و قالت :
و هل في عدم وجودها ما يستدعي هذا الغضب في عيونك ؟ ما بك ؟
نظرت ريم إليها و قررت أن تقول :
في طريق الذهاب وجدت فجأة أمامي سيد ،قال أنه يريد محادثتي و ل
أعرف ما الذي يريده •• و قبل أن تعلق الم أكملت و كأنها ترمي حمل أثقلها
:
و في طريق العودة وجدت أيضا فجأة أمامي الستاذ سعيد ،جارنا اللهي ،
أعتقد أنه خفيف الدم و سألني إن كنت أجوب الشارع على سبيل الرياضة
•• و للمرة الثانية همت الم أن تعلق إل أن ريم عاجلتها و هي تلقي بنفسها
غضبا على أريكة الصالة :
ثم وصفني بصوت عال بأنني طفلة ،أعتقد أن كل من في الشارع سمعه
•• تطلعت الم إلى ريم ،مقطبة ،إل أنها فجأة وجدت نفسها تبتسم و قالت
و هي تمعن النظر فيها :
كبرت و الله يا ريم •• نظرت إليها ريم و قالت بغيظ :
هذا ما ل يعرفه الستاذ سعيد •• ضحكت الم و قالت :
بل ربما كان هذا هو الشيء الوحيد الذي يعرفه الستاذ سعيد يا ريم
توجهت ريم بنظراتها المتسائلة لمها التي أكملت :
مثل هذا الرجل يعرف تماما متى تكون الثمرة ناضجة ،و يعرف إن كانت
حلوة أم مرة و يعرف أخيرا متى و كيف يجب أن تؤكل ••
ماذا تقصدين ؟ تنهدت الم و قالت :
أقصد حماك الله من هذا الستاذ و أشباهه ووقاك شر أولد الحرام ،لقد
بدأ سعيد يلعب لعبته و اختارك أنت هذه المرة فكوني حذرة ••
لكنه تحدث مع أبي و كان الحديث عابرا ،و عرض المساعدة ••
هذه البداية يا بنت أبيك ،احذري و اخبريني دوما بكل شيء و الله يرعاك
••
هل أقول لبي ؟
ل يفهم الرجال هذه المور و ل يستطيعون استيعابها و خاصة عندما يظل
الب على اعتقاده أن ريم ابنة الثمانية عشر عاما ما زالت في مثل عمر
سمر •• أبوك لن يصدق ،لكنه سيقلق و لأريده أن يقلق ،يكفيه قلق
••فهمت يا حبيبتي ؟ هزت ريم رأسها :
فهمت •• *** كانت سوسن في حجرتها عندما طرق عليها أخوها الباب و
دخل ،تلفت حوله و سألها مباشرة عن ريم :
غادرت مبكرا ،أنا لم اتأخر •• رفعت رأسها عن كتابها و سألته بدورها :
عمن تتحدث ؟
ريم ضحكت سوسن و أغلقت الكتاب و قالت :
هيه •• بدأنا نتخيل ،هو العشق إذن يا أخي الكبير العاقل ••
أي تخيل يا سوسن ،لقــد قابلت ريم في طريقها إلى هنا و طلبت منها
انتظاري ،فلم رحلت باكرا ؟
ريم لم تأت أصــل ،رغم أنهــا كانت قد وعدتني بزيارة الـيوم ،آه إذن هي
لم تأت بسببك ••
بسببي أنا ؟
نعم •• ريم خجول للغاية و مجرد مخاطبتك لها في الشارع أثار حفيظتها ،
و ل استغرب تصرفها •• ابتسم سيد بارتياح و قال :
هذا هو النمط الذي أريد •• ريم فتاة خام و هي ما يتمناه كل شاب ••
قالت سوسن :
و لكن ماذا عنها هي يا سيد ،إن ريم ل تحب الحديث حولك ،و كم حاولت
أن أنقل لها انطباعاتك و مشاعرك فكانت دائما تصدني و ترفض مجرد الكلم
••
خجل العذارى ••
ليس مع صديقتها ،إنني أعرف عنها كل شيء و ل مكان للمواربة بيننا ،
علقتنا منذ الطفولة كما تعلم و ريم حازمة في مثل هذه المور ،كل ما
يعنيها الرسم و ل شيء غير الرسم ••
عادة غبية ينبغي أن تتركها عندما نتزوج •• نظرت إليه سوسن ممتعضة ،
غادر الغرفة و قالت هي :
هذا إذا تزوجتها ••
كان سيد نموذجا لشباب فقد رغبته في الجديد ،كان قديم المشاعر و
التفكير و الخلق ،يزن الناس بمقدار ما لديهم من هذا القديم ،يعتبر كل
جـــديد انحلل و تفـــسخ عن القــيم و الخلق ،و في سبيل تكريس هذه
الحقائق جار على البتسام حتى نسيه و تعلم أن البنت وسيلة إنجاب و تكوين
أسرة ،ينبغي أل يكون لها في الحياة رأي أو موقف ،و كان يعتقد أن تعليم
الفتاة ينبغي أن يتوقف عند الثانوية العامة ،لذا فقد فرض على أخته حياة
البيت بعدها مباشرة ،و لما كان هو ولي امرها بعد وفاة والدها فقد رضخت
لمره و لم تكمل تعليمها ،شجع سيد منذ البداية العلقة بين أخته و بين ريم ،
في الوقت الذي وقف فيه بالمرصاد لية علقة أخرى مع صديقات أخريات ،
كان يعرف العم جهاد و يقدره كثيرا و يرى فيه النموذج الحقيقي للرجل ،
يكدح من أجل أسرته و زوجته في المنزل تسهر على رعايته و إنجاب
الطفال له ،و بلغ تقديره له كل مبلغ عندما وجده أجلس ريم بعد الثانوية
العامة كما فعل هو مع اخته و بهذا اتفقت الميول و صار زواجه من ريم
مسألة وقت ،ل يقف أمامها رفض ريم أو ممانعة والدها :
و كيف يرفض و أنا معلم محترم ،لي راتب و بيت و شخصية قيادية
يلمسها الجميع •• وأد في نفسه ميل إلى الشعر لمسه لديه معلم اللغة
العربية عندما كان طالبا ،أعتبر أن الشعر مضيعة للوقت و سبب في مياعة
الشباب و تأخر رجولتهم لذا فقد كان حازما مع نفسه ،مزق كل أشعار
المراهقة و ترك لليام قيادته وفق التقسيم التقليدي ،دراسة فعمل فزواج
•• لكنه بعد أن رأى ريم و قد صارت عروسا جميلة عاوده حنين قديم للشعر
،و عندما أسهده التفكير فيها ذات ليلة ،ضبط نفسه متلبسا بالشعر ،و
كانت الساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل و قصيدة متينة مستقرة بين يديه
تطلب إليه أن يهديها لصاحبتها •• لكنه عاد فهزأ من نفسه و طوى القصيدة
و ألقــاها بل اهتــمام في درج مكتبه ••
*** خلل سني عمله في مصر ،و بعد زواجه من سميحة عمل جهاد في
مجال البناء و شيئا فشيئا تعلم أن يقتحم مجالت أخرى تتعلق به ،فأصبح
بامكانه أن يقوم بالطلء و برع أيضا في أمور السباكة و الكهرباء و حتى
النجارة إذا لزم المر ،و اكتسب ثقة كل من عمل معهم لذا لم تتوقف
أعماله يوما و كان يعتبر أن هذا رزق تعليم و رعاية الولد ،فلم يكن يبخل
عليهم بكل قرش يجنيه من كده ،و كان لتدبير سميجة زوجته أبلغ الثر في
سير الحياة وفق ما تمنــوا و رغبوا ،فعلى قـــدر أحلمــهم الصــغيرة كانت
أيضا أهدافهم و سيرتهم في الحياة ،و لكن بعد أن لح أمل الجامعة مجددا
في أفق حياتهم أصبح هذا المر هو الشغل الشاغل لدى العم جهاد ،كان لبد
من وسيلة يحقق بها حلم ابنته و من بعدها ابنه ثم ابنته الخرى ،و بهذه
الطريقة ل يمكن ••!! كان يتأمل لوحة البئر التي أخذها من ريم و آلف
الفكار تتصارع في رأسه ،تصب كلها في السؤال اليتيم :
من أين ؟ كانت أم ريم تنظر إليه منذ فترة بدون أن يشعر ،كانت تعرف
تماما ما يدور في خلده ،كانت مدركة أن الفكرة لم تغادر رأسه منذ زرعها
سعيد فيه و هي تعرف جهاد عشرة العمر جيدا •• أخيرا تنهدت لتنبهه و
قالت :
وحد الله يا رجل •• تطلع إليها و تنهد بدوره و قال :
ل إله إل الله سيدنا محمد رسول الله
عليه أفضل الصلة و أتم التسليم •• ما بك يا أبا العيال ؟
ريم يجب أن تدخل الجامعة •• و قبل أن تتكلم حذرها :
و ل تقولي من أين ،الرزاق موجود ••
و نعم بالله ،و لكن حقا ،حقا من أين ؟
أفكر في أمر و ل أدري إذا كان ممكنا أو ل ••
ل تقلها ••
يجب يا أم العيال ،آن الوان لتنفيذها ،أجلناها كثيرا و لكن آن الوان
تريد أن تسافر و تتركنا ؟
قاسم صار رجل يعتمد عليه ،و الغربة لن تطول •• صمتا كلهما بعد هذه
العبارة ،كان كلهما يفكر في نفس المر ":الغربة لن تطول عبارة حدثته بها
نفسه قبل عشرين عاما حين غادر غزة و ها هي طالت و طالت حتى صارت
عمرا ،فلماذا لن تطول بدورها غربة الكفاح من أجل تعليم الولد؟ " همست
:
ل أحتمل الفراق •• قال :
سنين قليلة ،اجمع فيها بعض النقود و اعود و ربما تمكنا حتى من بناء بيت
خاص لنا بدل عن هذا المنزل ذي الجرة القديمة و الذي يراودني صاحبه عنه
منذ فترة •• أنت تعلمين كل شيء يا سميحة ،فلماذا تمانعين ؟
ل •• ل يا أبا قاسم • ل •• لقد كبرنا على غربة تفرقنا ،لن أطيق الفراق
بعد أن صرت أنت كل حياتي ،لن أطيق أن أعيش مع البناء ،أقاسي
المرين بدونك ،و أنت هناك في بلد الله خلق الله تكافح و تعود آخر النهار
فل تجد من تمسح عرقك و تشد أزرك ،هذا فوق احتمالي يا جهاد فوق
احتمالي ••
لكن الولد بحاجة للمزيد ••
بل يممكننا الستغناء عن هذا المزيد ،يمكنــنا أن نرضى بما قسمه الله لنا
و نكمل حياتنا ••
نحو أي اتجاه يا أم العيال ؟ تمضي حياتنا نحو أي اتجاه ؟ نعلمهم حتى
الثانوية ثم نتركهم يصارعون فقرا و قلة وظائف و لجوء ،ما الذي فعلته إذن
•• ما هي الثمرة التي رويتها بسنين غربتي و لجوئي •• ماذا سيقول أولدي
بعد موتي ،هل سيترحمون علي ،ام سيقولون سامحه الله تركنا ريش في
مهب الريح •• نحن فلسطنيون يا أم قاسم ،هل تدركين معنى هذه الجنسية
علينا ،فلسطيني ل أرض تقبله و ل مكان يرحب به ،يعيش حياته مشتتا بين
أمل كاذب و سياسة فاضحة و كفاح مسلح استمر سنينا و حصد أذكى الرواح
و لم يسفر عن شيء •• هل تفهمين قصدي ؟
و من غيري يمكنها ذلك يا أبا العيال ،من غيري بوسعها أن تعصر سنين
العمر الماضية و تقدمها دماًء في عروق الصغار ،من غيري يا أبا قاسم ،و
لكن ،الفراق ؟
حتى حين ••
و الولد ؟
سيفهمون و سيعينونك ••
و الوحدة ؟
سأرسل لك كل يوم خطاب ••
و السفر؟
سيكون في أسرع وقت •• إن شاء الله *** كان سعيد يداري نفسه بعدما
لمح العم جهاد في الطريق ،خشى أن يسأله عن المل الكاذب الذي زرعه
برعونة في حياته و كان أخشى ما يخشاه أن يعيد العم جهاد عليه الحوار
الذي دار بينهما البارحة ،عندما كان عائدا من عمله فإذا بالعم جهاد ينتظره و
يلح عليه أن يدخل بيته ليتحدثا ،كانت المرة الولى التي يدخل فيها هذا البيت
،تمنى رؤية ريم و لكن الب فتح له غرفة الصالون و استأذنه دقيقة عاد
بعدها يحمل صينية الشاي ،قدم له كوبه و هو يقول :
أستاذ سعيد •• تفضل •• أرجو أل أكون قد فوت عليك عمل ما في هذه
الظهيرة ••
ل ل أبدا يا عم جهاد ••
اسمع يا بني منذ أن تفضلت و قلت أنه بامكانك الحاق ريم بالجامعة و أنا
أفكر مع أم العيال في الطريقة التي نجمع بها المال من أجل هذا الهدف
الذي نحلم به •• وضع سعيد كوب الشاي و هم بالكلم ،لكن العم جهاد كان
متحمسا لكمال ما يريد قوله فأكمل :
و بعد تفكير قررت أن السفر هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنني من خللها
تحقيق هذا الحلم لولدي تباعا
و لكن يا عم جهاد ••
و لكن يا بني أنا أريد أن أعرف الن ماذا تم بهذا الخصوص ،فلدي فرصة
للسفر الى السعودية بعد شهرين من الن صديقي الحاج محمود وفرها لي
مشكورا ،سأعمل هناك في البناء أيضا براتب كبير ،حوالي ألف جنيه ،هكذا
قال لي الحج محمود ،و أنا أريد منك تأكيدا ••
نعم يا عم جهاد و لكن ••
يا بني الجامعة حلم ريم الدائم ،و أنا ل أريد أن أثقل علــيك ،فقط أجبني
هل هو ممكن ام ل ؟ ترك سعيدا كوبه و نهض قائل :
في أقـــرب فرصـــة سأخبرك بكــل شيء ،لقد ســرت بعــض الخطوات
في هذا الموضوع و عندما أنتهي سوف أخبرك بكل شيء
بارك الله فيك يا بني ،بارك الله فيك ،اجلس نتغدى سويا •• لكن سعيد
لم يجلس ،لقد خرج مسرعا و كأنه كان في الجحيم ،لمح ريم و هو يغلق
الباب خلفه ،لمح عيونها ،تلك العيــون التي حيـــرته كثيرا منــذ اللحظة
الولى ،رأى فيها أمل و رجاء و اعتماد •• خرج مســـرعا ل يلـــوي على
شيء فتح باب منزله و نظر لمــرآة الباب و صاح بغضب :
كاذب ،كاذب •• *** نزل خبر سفر الب المزمع على رأس ريم
كالصاعقة ،رفضته منذ اللحظة الولى ،توسلت إليه أل يفعل ،قالت أنها
راضية تماما بتعليمها إلى هذا الحد ،دللت على أن المر عادي بصديقتها
سوسن ،لكن الب اكتفى بقوله :
سوسن مصرية و أنت فلسطينية •• توسلت إلى أمها أن تثنيه عن قراره ،
تحدثت الليالي الطوال إلى أخيها عن غول الغربة الذي سيقتحم حياتهم اذا
سافر الب في غربته الثانية ،بـــكت ،تــوسلت ،ألحت ،صــلت و دعت
الله كثيرا و لكن أباها لم يستجب ،لقد قرر و انتهى ••
و عندما دخل سعيد بيتهم تلك الظهيرة مع أبيها شعرت أنها تريد أن تقتله ،
وقفت على باب غرفة الصالون تستمع إلى الحديث ،بدا و كأنه حديث من
طرف واحد ،أبوها فقط يتحدث و سعيد يقول "و لكن " حنقت عليه أشد
الحنق ،إنه هو السبب ،ليته يستطيع أن يثنيه عن قراره ،ليته يكمل " و لكن
" بحديث طويل يقنعه فيه أن غربته عن أولده ثمنا كبيرا جدا على تعليم
الولد ،تمنت أن يقول له أنه كان يكذب و أن الجامعة كذبة كبيرة اتخذت
شكل البومة و لعبت لعبتها البدية في تفريق الشمل و بعثرة السرة ،لكنه
لم يقل ،و حين خرج ،ل تدري لماذا نطقت عيونها بالتوسل بدل عن الغضب
الذي كان يغلي داخلها ،و تساءلت :
*** ذلك المساء كان مميزا جدا فقد جاء سعيد إلى منزل العم جهاد بنفسه و
بدون دعوة ،طرق الباب و عندما فتح له قاسم سلم عليه كرجل راشد و
سأله عن أبيه ،فأدخله قاسم الصالون و نادى أباه و أخبره عن الزائر الغريب
فنهض الب مبتسما و طلب من أم العيال أن تعد الشاي بسرعة ،كان سعيد
يرتدي ملبس أنيقة صيفية ،حليق الذقن تنبعث منه رائحة ذكية ،و كان
مبتسما ،سلم على العم جهاد بحرارة و جلس و بادر فورا بالكلم :
عم جهاد ،لقد تحدثت اليوم مع النسة ريم بشأن تعليمها و سفرك ••
عقدت الدهشة لسان الب و هم بالحديث فعاجله سعيد :
ل أحب أن ألف و أدور كثيرا ،لقد وجدت النسة ريم بانتظاري أمام البيت
في الشارع ،رجتني أن أثنيك عن عزمك على السفر و أعلنت أنها ل تريد
إتمام تعليمها ،طلبت مني أن أخبرك أنني كاذب و أنني ل يمكنني إلحاقها
بالجامعة لكي تتنازل عن فكرة السفر ،لذا آمل منك أن تتكرم بدعوة النسة
ريم لنناقش الموضوع معا و بمنتهى الصراحة لنخلص إلى رأي يرضي جميع
الطراف و يريحني من عقدة ذنب أبت كريمتكم إل أن تحملها لي ،فهل هذا
ممكن ؟ كان الب ما زال غير مصدق لما يسمع ،غير موقن أساسا أنه سمع
هذه العبارات ،ابنته ريم تقابل هذا الرجل و تتحدث معه ،ماذا حدث ••؟!
أسرع الب فنادى زوجته و ابنته ،كان يبدو عليه الغضب ،جاءت الم و البنة
و في أثرهم قاسم و حتى سمر الصغرى جاءت ،قالت الم بلهفة :
ماذا حدث يا أبا قاسم ؟ قال الب و هو ينظر إلى ريم بغضب :
ابنتك قابلت الستاذ و طلبت إليه أن يثنيني عن السفر •• أليس كذلك يا
ابنة عمري ،أليس كذلك ؟ نهض الستاذ سعيد بسرعة و توجه إلى الب و هو
يقول :
اهدأ يا عم جهاد ،اهدأ و أخبرني ما الذي يضايقك •• إذا كان ما يضايقك
هو مقابلة النسة ريم لي فقد تمت في الشارع و على مرأى كل من فيه و
أنت تسعى للحاقها بالجامعة و هناك سوف تكلم الكثير من الرجال سواء
أكانوا أساتذة أو زملء ،ما الفرق ؟ أما إذا كان ما اغضبك هو أنها سألتني
منعك من السفر فهذا لنها خائفة من فراقك لهم و ل تريد هذه الغربة ••
جلست سميحة بجوار زوجها و ربتت عليه و هي تقول :
نعم يا أبا قاسم ،و لقد حكت لي ريم كل شيء و لم أجد غضاضة فيما
فعلت ،ابنتنا مرباة و مؤدبة و نحن نثق بها أليس كذلك يا أبا ريم ؟ تطلع الب
نحو ريم و غمامة غضب صغيرة جرداء تلوح في عيونه ،في الحقيقة كان
عتابا أكثر منه غضبا ،تقدمت ريم بهدوء و نظرت إلى الرض و هي تقول :
أنا حقا آسفة يا أبي ،كنت أريد منعك من السفر بأية طريقة ••
و لماذا لم تكلميني أنا ؟ لماذا لم تخبريني أنا ؟ ألست أباك و موطن
أسرارك ،مصب أمنياتك و محقق أحلمك ؟ ألست هو يا ريم ،ما الذي تغير
يا ابنة جهاد ،ما الذي تغير ؟ جثت ريم على ركبتيها أمام أبيها و أمسكت يديه
و مالت فقبلتهما و قالت :
و ستظل دوما واحتي و الوطن أيها الب الحبيب ،ستظل دائما مرفئي و
بيتي و بئري الذي منه أرتوي •• إنما هي محاولة رجوت لها النجاح •• رفع
الب رأسها و تطلع اليها و قال وهو يكز على أسنانه :
لماذا ؟ لماذا ،آلف غيري يسافرون ،و ربما كانت أهدافهم أقل قيمة من
هدفي ،إنهم يبحثون عن بيت أوسع و أرض أكبر و تجارة ل تبور ،بينما أبحث
عن وسيلة أؤمن لكم بها العلم ،سلحكم الوحيد في مواجهة الزمن من
بعدي ،أنا ل أريد لنفسي شيئا ،ل أحلم بأكثر مما أنا فيه ،لكنني أريد الدنيا
لكم ،الحياة الكريمة •• رفعها من على الرض و أجلسها بجواره و أكمل
فيما الجميع يشاهد صامتا :
أنتم كنزي يا ابنتي و سفري ليس تضحية ،إنه رسالة تكتمل و أيام تمر
بسرعة إن شاء الله و أحلم تتحقق •• شدت ريم على يد أبيها و قالت و هي
تغالب دموعها :
لكنني ل أريد لغربتك أن تصبح أكبر و ل أريد لعذابك أن يطول ،ل أريد
لمنا و لنا الوحدة بدونك ،ل أريد ،بل ل أحتمل أن أصحو ،و أنت غير موجود
بيننا ،أن أحتاجك فل أجدك ،أن أمد إليك يدي فل تحتـــويها و تحــتــويني ،يا
أبي إذا سافرت يضيع المان ،و إذا تركتنا حتى و إن تحققت الحلم ستكون
مجروحة ،مصبوغة بعرق الغربة و ليالي التعب و الفراق ،كيف نهنأ بها و هي
من بعض دمك ،كيف ؟ تنحنح سعيد و قد غلبه التأثر فلمعت عيناه لكنه قال :
ل أملك أمام هذا الموقف إل أن ألغي فكرة التعليم ،أنا أقول لبيك يا ريم
كما طلبت أنني كاذب ،ليس لدي أية وسيلة أساعدكم بها •• نهض الب
مسرعا ،أمسك يده بحرارة قال:
ل •• ل يا أستاذ سعيد ،ل تتخذ هذا الموقف ،ل تبال بما سمعت ،إنهم
صغار و أنا ذاهب و هم قادمون ،و عندما يكبرون على دنيا ليس فيها أبوهم و
ليس لهم فيها ميراث يستندون عليه ،لن يكونوا سعداء بهذا المــــوقف ،و
لن أكــــون راضيا عن كفاح عمري •• ل يا أستاذ سعيد ،أمض في اجراءتك
و سأمضي في اجراءاتي علنا في النهاية نصل الى نقطة تتلقى فيها الهداف
و أنطلق منها إلى تحقيقها •• و نظر إليه متوسل ،همس و هو ما زال يضغط
على يده :
أرجوك •• ران صمت طويل على الجميع ،نظر سعيد إلى ريم مطول ،
كانت تنظر في الرض تحرك قدمها فوق أشكال البساط الهندسية ،يدها
منعقدة خلف ظهرها و في ملمحها تجمع ألم الدنيا ،منظر أعاد إليه الرغبة
ذاتها في أن يعتصرها و يهدهد قلبها و يطمئنها على غد تخافه و مجهول تشعر
أنه يتربص بها •• ل يدري لماذا شعر أن إحساسا بالمسئولية يترسخ في ذاته
تجاه هذه السرة ،لم تعد ريم فريسة يريد اقتناصها و لكن ضعيفة يريد
حمايتها ،حزينة يريد إسعادها ،وحيدة يريد أن يمل عليها أيامها ،نظر إليها
طويل يطبع ملمحها في وجدانه ،يكرس مشاعره نحوها ،يجمعها من شتاتها
البعيد ليصبها في مجرى أيامها و عندما طال الصمت تنهد و قال :
و الن ماذا قررتم ؟
رفعت ريم وجهها إلى أبيها و رفع الب وجهه إليها ،كانت الرغبات المتعارضة
لول مرة تتضافر تشكل لحمة ،وشيجة ،تؤصلها أكثر ،تغرسها في أرض ل
يراها إل هما و ل يحسها إل أب قرر التضحية حتى آخر نفس و ابنة ترفض هذا
العذاب •• و صمتا كلهما فتكلمت الم :
على بركة الله يا أستاذ سعيد ،جهاد زوجي و أعرفه إذا قرر أمرا •• مخ
فلسطيني عنيد •• و ليكن دعاؤنا أن يقصر الله ليالي غربتنا و يحقق أهدافنا
بها •• نهض الب مبتسما و أمسك يدي زوجته و قال :
بارك الله فيك يا أم العيال ،و صبرك على المـــخ الفلسطيني العنيد ،يا
رفيقة الكفاح و العمر الذي مضى و العمر القادم ،إنني أعتمد عليك بعد الله
كثيرا •• انسحب الجميع من الغرفة بهدوء و ظل الب جالسا على طرف
الريكة و سعيد واقفا ينظر إليه و سمعه يقول - :كم أخاف عليكم يا أحبائي
•• ما أقسى أيامي بدونكم ••
مال عليه الستاذ سعيد و ربت على كتفه و قال بصدق :
هم أهلي منذ الن يا عم جهاد و لن يصيبهم مكروه طالما في صدري نفس
يتردد ،فل تقلق ••
*** كان الشغل الشاغل لسعيد بعد هذه المسية الغريبة ،أن يحقق ما وعد
به الب ،و في سبيل ذلك ذهب إلى وزارة التعليم و سأل عن الطريقة التي
يمكن لفلسطينية إكمال تعليمـــها العـــالي و دهش عنـــدما عـــرف أن
للفلسطنيــين نسبـــة %5في مقاعد الدراسة و ازدادت فرحته بهذا النبأ
عندما وجد أحد معارفه القدامى في الوزارة ،يرشده على طريقة التقديم و
يعده أن يكون مع الورق حين يذهب إلى مكتب التنسيق بعد ثلثة شهور ••
كانت المور تجري على خير ما يرام ،بل على أكثر مما توقع ،تحمل سخرية
صديقه و هو يراه مهتما بهذه الفتاة و لم يصدق أن هذا الهتمام ل يعدو كونه
عمل إنسانيا في المقام الول قال له :
أنا أعرف ذوقك تماما و أعرف أيضا أن الفلسطنيات جميلت ،فإذا كانت
هذه الفتاة على درجة الجمال التي أتوقعها فإنني لن أخذلك أبدا ،ناهيك عن
أن معظم الفلسطنيين ل يتقدمون لكمال دراستهم لقلة المعلومات عندهم و
لقلة ذات اليد في أحيان كثيرة و لذا فإن مقاعد الدراسة في نسبتهم المقررة
سنويا يبقى أكثر من ربعها فارغا •• فاطمئن ،حبيبة القلب ستجد مقعدا ••
همس سعيد مستبشرا :
إن شاء الله •• و عندما سار في اتجاه منزلهم ليخبرهم بالبشرى ،كان
يحدث نفسه بأن صديقه هذا ل يفهم و لن يفهم ،ثم فجأة سأل نفسه :و ما
الذي تفهمه أنت ،ما الذي يدفعك إلى كل هذا ،لماذا تفرغت للسؤال ،هل
هو الخجل من أن أبدو كاذبا أمامهم ،و ماذا يعنيني في هـــذا ،يا جاري أنت
في حالك و أنا في حالي •• أم هي عيونها الحزينة ؟ إذن هي الشفقة أيها
الرجل ؟ •• ل ليست الشفقة ،ليس في حياتهم ما يدعو للشفقة ،لم يمدوا
يدهم ليستجدوا إحسانا ،أنت من عرضت و أنت من فكرت ،و بناء على
عرضك و قرارك سيسافر الب ،هل هو الحساس بالذنب ،ل •• فكما قال
الب كثيرون يسافرون ،و ربما كان سفره فاتحة خير عليه و عليهم ،إذن ما
هو ،ما الذي يدفعك إلى كل هذا العناء ••؟ عندما اقترب من الشارع تمنى
أن يراها ،ثم أنب نفسه بسرعة :
و لماذا هي بالذات •• بعد دقائق سوف ترى الب و تخبره أنك لم تكن
كاذبا و تبشره بأن ريم ستلتحق بالجامعة إن شاء الله ،و لكن •• ليتها تفتح
على القل الباب !! لم يتحقق له ما تمنى و عوضا عن ذلك فتح الب الباب ،
بدا و كأن ليلة سهد طويلة عاشها البارحة ،كان ذابل ،داكن البشرة ،
مشوش الرأس و في فمه سيجارة كأنه يمضغها ،ابتسم فور رؤيته للستاذ
سعيد و نزع السيجارة و فتح باب الصالون و أدخله مصحوبا بعبارات الترحيب
المعتادة و عندما أطفأ سيجارته في المطفأة ،كان سعيد يبادره بقلق :
شيئا ما أقوى منه دفعه إلى دخول الغرفة بخطوات حذرة كأنه يدخل صومعة
راهب •• أول ما لفت نظره كان فراشها •• كان مرتبا و عاديا ،إل أن شيئا
فيه أعجبه ،شيء ل يراه البشر ،مد يده تحسسه •• ثم لفتت انتباهه اللوحة
المعلقة على الحائط فوق السرير ،كانت لمنظر طبيعي وقت الغروب ،و
رغم أن اللوحة كانت ترسم بدقة هذا المنظر إل أن شيئا مخيفا كان فيها ••
إحساس بالرهبة يشعر به من ينظر إليها ل يدري مبعثه ••
هذا رسمها •• التفت بسرعة إلى الب الذي كانت يده تسكن كتفه و
نظرة لوم صغيرة تقبع في عيونه المغسولة بالدموع للتو •• ارتبك سعيد أيما
ارتباك و اهتز كوب الماء في يده فسقطت منه بضع قطرات على الرض ،
مسحها بحذائه و لم يدر ما يقول فآثر الصمت
هنا كل مملكة ريم ،إنها ترسم أحيانا من الصباح إلى المساء ،انظر هذا
حامل الرسم الذي ترسم عليه •• توجه الب إلى الحامل بخطوات واهنة و
رفع الغطاء بأصابع مرتجفة و قال:
تأمل معي •• وقف سعيد يطالع الرسم أمامه ،كانت خطوط مبدئية
بالفحم لفتاة منهكة تعتلي جبل عال و عند السفح بحيرة صغيرة نبت الصبار
على جانبيها و عند القمة سحابة مثقلة •• أشار الب على البحيرة و قال :
هذه ليست بحيرة ،إنها سراب •• هز سعيد رأسه و قال :
لحظت الصبار •• جلس الب على حافة السرير و قال كأنه يكمل حديثا :
هذه اللوحة ترسم حلما شاهدته ريم قبل فترة •• لم انتبه إنه يصلح لوحة
•• مد سعيد كوب الماء إلى الب مبتسما فأخذه منه و تبلغ ببعضه و ظل
الكوب في يده ،قال سعيد :
لماذ كنت حزينا يا عم جهاد ؟ أطرق العم جهاد قليل و تطلع حوله ثم نهض
و قال لسعيد :
توجه كلهما إلى المطبخ ،كان العم جهاد يعرف مكان كل شيء بالضبط ،و
عندما فتح خزانة المطبخ ليخرج منها الكواب تنهد و قال :
أنا صنعتها •• هذه الخزانة ،و طقم الصالون و سرير ريم و سرير قاسم و
حتى طاولة التلفاز ،تلك في واجهة الصالة •• أومأ سعيد برأسه و قال :
فنان و الله يا عم جهاد ،إنها قطع جميلة و متينة •• ليس مــستغربا أن
تكون ريم فنانة و هي ابنتك •• ربت الب على كتف سعيد ممتنا للمجاملة و
صب الشاي و تقدمه في الخروج و التجاه إلى غرفة الصالون ،و عندما وضع
الشاي على الطاولة و تناول كل منهما كوبه قال العم جهاد :
خيرا يا بني ؟ ابتسم سعيد مرة اخرى و قال :
بل هو كل خير إن شاء الله ،وجدت من يساعدني في تقديم أوراق ريم
للعام الدراسي الجديد ،و لقد وعدني خيرا و عنـدما يحين موعـــد التقديم
ســأكون معها و إن هي إل أيام و تظهر النتيجة و إذا ريم طالبة جامعية كما
تمنيت •• ابتسم الب ممتنا و قال :
على بركة الله •• أتعبناك معنا يا أستاذ سعيد و شغلناك بهمومنا •• هز
سعيد رأسه رافضا الكلمة و قال بصدق :
ل تقلها يا عم جهاد ،أنت مثل أبي و أولدك إخوتي ••
بارك الله فيك يا بني ،و أعطاك على قدر نيتك ••
عم جهاد •• إذا سمحت لي ما الذي أحزنك حد البكاء ،لقد أفجعتني ••
ابتسم الب ابتسامة صغيرة حزينة و قال :
لو شاهدوني لماتوا رعبا ،كانت الفرصة الوحيدة لي للتنفيس عن
مشاعري ،خروجهم للسوق أتاح لي أن افعل ما كنت أقاومه و بشدة ••
و لكن لماذا الحزن يا عم جهاد ،إذا كنت ل ترغب في السفر ابق و
مصاريف الدراسة يدبرها الله ••
أنت ل تفهم يا أستاذ سعيد ،أنا ل أسافر من أجل مصاريف قد أستطيع
تدبيرها إذا بقيت ،إنني أذهب و أنا أعلم تمام العلم أن أمامي دربا طويل
طويل ،دربا تأخرت عن المشي فيه بسبب نوازع العاطفة و رغبتي في عدم
ترك أولدي ،و أسلكه اليوم بسبب نوازع العاطفة أيضا و بسبب العقل ••
قدر محتوم ظللت أخافه و أهرب منه و أتحاشاه قدر المكان لكــــن آن
الوان أن أرضـــــخ له و أن أترك سيـــفه يجتز أمني و استـقراري و راحتي
•• قاسم في الصف الول ثانوي ،هل تعرف ما يعنيه هذا ؟
بقي له عامان و يدخل الجامعة ••
بالضبط ،لن تكون ريم قد أكملت دراستها ،و ستتضاعف المسئولية •• و
سمر هذه الصغيرة بعد عام بدورها ستدخل المدرسة ،مدرسة خاصة
مصاريفها فوق القدرة و الحتمال ،لكنني لن أحرمها حقها في العلم ،أولدي
يا أستاذ سعيد هم الشيء الحقيقي الوحيد الذي منحه الله لي •• الشيء
الذي ل ينازعني على ملكيـته مخلوق ،الوطن الذي ل ينتمي إل لي و ل أنتمي
إل له ،و من حقهم أن أبذل من أجلهم كل غال و نفيس ••
أحس أنني سأعود لجد كل هذا أمامي مجددا ،الجمــــيع ينـــتظرني ،إخوتي
و أنا و أمي و أبي يرحمه الله •• حلمت كثيرا بعودتي تلك ،و كنت قد قررتها
مرارا خلل العامين الولين على قدومي هنا ،لكنني كنت اخشى غضبة أمي
حينما تراني و تعرف انني بعد لم أجد طريقي •• حين جمعتنا بعد سفر أبي
قالت تفرقوا و ابحثوا عن طريقكم و ل تعودوا إل و كل واحد منكم قد وجد
طريقه •• خفت أن أعود فتسألني ":هل وجدت الطريق يا جهاد ؟" فأقول
لها" :بعد يا أمي" فتقول ":و لماذا عدت ؟" فأقول ":الشوق و الحنين"
فتقول ":يا عيب الشوم على الرجال ••" و لم اعد و في 76انتهى آخر أمل
لي بالعودة ،أصـــبح بحر غزة رهين الحـــتلل بدوره ،و اصبح أختيار العودة
الذي كنت اراود نفسي عنه و أمنيها به أمرا من الماضي •• هل تصدق هذا يا
أستاذ •• بيتي و بلدي و أمي و إخوتي على بعد قليل مني و لم أرهم منذ
عشرين عاما •• عشرين عاما يا أستاذ •• أليس كثيرا هذا الزمن ؟ بل هو
أكثر من كثير ،أكثر من كثير و الله العظيم ••
هذه المرة كان البكاء من نصيب سعيد ،كانت دموعه الصامتة تسقط رغما
عنه ،كان أمامه رجل يتعذب بنبل منقطع النظير ،يعذبه شـــوق وواجب و
حنين قاهر ،مسؤولية و ذكريات و حياة تريد دوما المزيد ••
عندما ران الصمت على الغرفة ،لم يجرؤ سعيد على اختراقه ،كان يعلم أن
جو الغرفة مثقل بكلم أهم بكثير من أية كلمة يمكن أن تقال ،كان يشعر أن
كلمة واحدة تخرج منه كفيلة بأن تسمه بالسخف طوال العمر ،صمت ،
راقب العم جهاد و هو يضع وجهه بين راحتيه ،سمع تنهداته الحرى ،لحظ
الرتعاشة التي كانت تسري في يديه و يقاومها الرجل فل يستطيع و تغلبه ،
فيمعن في دفن وجهه فيهما حتى ل يلمس هو الغريب ضعفا في هذا القوي
القادم من خلف حدود سيناء ••
نهض سعيد بعد قليل و سار باتجاه الباب بخطوات متثاقلة ،لم يتطلع خلفه ،
كان يريد أن يتنفس هواًء نقيا و كان حسابا عسيرا ينتظره خارج حدود هذا
البيت ،حسابا لبد أن يقابله بعد أن قابل هذا المطعون في قلبه منذ سنين و
رغم ذلك لديه القوة على إعطاء أولده بقية من نزف روحه لكي يعيشوا ،
عندما فتح الباب و خرج و أغلقه خلفه ،أخذ نفسا عميقا و توجه بخطوات
سريعة إلى منزله ،فتح الباب ،وقف أمام المرآة لم ينتظر حتى أن يغلق
بابه صاح لصورته المتأنقة :
تافه ••
بدا و كأن مشوار السوق لن ينتهي بالنسبة لريم و إخوتها ،فيما حرصت الم
على دخول كل محل تجد فيه شيئا قد يحتاجه زوجها في غربته •• الثواب
الفضفاضة الفاتحة اللوان من أجل أخذ راحته بعد عودته للمنزل ،افرولت
العمل ،المناشف ،الملبس الداخلية ،العطارة :بهارات ،و زعتر و ملح و
الشيح لزوم البرد و الصابون المصنع من زيت الزيتون فهو ل يحب الشامبو ،
و ليفة حمام جديدة و فرشاة أسنان و معجون و فرشاة شعر ،و زيت شعر ،
و كانت الم تتلفت على كل محل و تسأل الولد :
هل نسيت شيء؟ فيهزون رؤوسهم فل تقتنع و لبد أن تتذكر شيئا جديدا
كلما نظرت في واجهات المحلت •• و أخيرا تذكرت الحقيبة التي ستحمل
كل الشياء ،و عندما استقرت في يد ريم فيما استقرت بقية الغراض
موزعة بين قاسم و بينها ،شعرت و هي تنظر للحقيبة الكبيرة بغصة فظلت
تتمتم داخل نفسها بأدعية كثيرة تسأل الله فيها تقصير أيام الغربة و سرعة
تحقيق الهدف و تستعيذ من أولد الحرام و أفكار سوداء ألحت عليها ••
ماذا لو مات الرجل في غربته •• ماذا لو تيتم أولدها و هم ما زالوا في
أمس الحاجة إلى أبيهم يزود عنهم مصائب الحياة ،من سيزوج ريم و من
سيختار لقاسم كليته و يخطط معه مستقبله ،من سيدلل سمر و يضعها في
حجره كل مساء و يطعمها بيده و يدافع عنها ضد احتجاجات إخوتها •• من ،
و آه من هــــذه المن •• من ســـيشاركها ليلها الطــــويل و فراشها الكبير ،
و همومها الصغيرة ،لم تعرف لنفسها منذ مات أبوها أحدا سوى زوجها ••
لم تعرف حقا معنى الفراق الذي عانى منه زوجها طوبل و تقلب من أجله
على فراش الشوك سنين عمره كلها ،فهل آن الوان أن تطعمه ،هل
ستعيش ما بقي لها من أيام تعاني شوقا و حنينا ،لقد كان رجل فلم يكن
يبكي ،أما هي فهل تملك إل الدموع ،هل ستصبح الدموع سلوتها حتى يعود
زوجها •• و ما بال الخريات ،نصف نساء الشارع أزواجهن يعملون خارج
مصر ،لماذا يخيفها عمل الرجل في الخارج و هو المر الذي اعتاد عليه
الجميع ،هزت رأسها و كأنها كانت تكمل حديثا مع أولدها سمعوها تقول :
و ماذا لو سافر •• إنه ذاهب إلى أطهر أرض •• بلد المصطفى عليه
السلم •• سيعمل سنة أو سنتين ثم يعود ،و ننسى الغربة ،و يتعلم الولد و
تصبح الحياة أفضل و ربما صار لنا بيتا نملكه •• أليس كذلك يا أولد ••؟ لم
يرد احد ،و هي لم تنتظر حتى أن تسمع همهماتهم ،أرخت طرحتها السوداء
الشفافة على وجهها و كأنها تدرء بها رياحا وقضمت طرفها باسنانها و
سمحت لدموعها أن تسقط بهدوء •
***
أزف موعد الرحيل و هذه الليلة كانت آخر ليلة ،هكذا سماها الب و هو
يبتسم مشجعا لهل بيته بينما يضع آخر حمولة مما حمله اليوم إليهم من
السوق ،كل أنواع الطعمة التي تكفي البيت شهرا ،أحضر الدقيق و الرز و
السكر و الزيت و السمن و حتى علب الكبريت و علب البسكويت التي تحبها
سمر و الصابون الذي يحتاجه البيت و لحم كثير و خبز أيضا كل شيء أحضره
الب و حمله معه قاسم قال :
إيه يا أولد ،هذه هي آخر ليلة أبيتها معكم •• هل تحتاجون لشيء بعد ••
كانت الم و البنة تحملن المواد بين الصالة و المطبخ و الم تقول :
لما كل هذه الغراض ،هل ستنتهي الدنيا فلن نجد قوت يومنا ،أم هل
سيتوقف العالم عن توفير الحاجيات ،ما كل هذا يا أبا قاسم ؟ و يتمتم الب
من بين غمامات رهبته المخفية :
ستحتاجون هذه الغراض ،لست أعرف متى سأتمكن من إرسال النقود
إليكم ،ل أحد يعرف ظروف الغربة الجديدة •• بعد ساعة كان الجميع حول
سفرة العشاء ،و بدا أن الكل يزدرد طعامه إزدرادا فل يستسيغه و ل يحس
له طعما ،و خيم الصمت ،و بعد العشاء و فيما أكواب الشاي تدار على
الجميع قال الب :
ريم و قاسم ،أريد منكما عهودا و مواثيق ،و أريد صـــدقا و مســــئولية ،
و أريد صبرا و طريقا مستقيما ل يصيبه العوج لي سبب كان ،فهل أجد ما
أريد لديكم ؟ أخفت ريم وجهها خلف جرم أمها و لم تنطق ،في الواقع كانت
جدا مقلة في الكلم في اليام الخيرة فيما تحدث قاسم كرجل قال :
لك ما تريد و أكثر يا أبي •• أنت تسافر و قد تركت رجل هنا بين أهلك ،ل
تخف ،نحن نقدر تماما غربتك من أجلنا و لن تسمع عنـــا أو ترى إل كل ما
يريحك و يطــــمئن بــالك و يشعرك إنك لم تكن مخطئا حين اعتمدت علينا
في إدارة شؤون حياتنا بدونك و إلى وقت قصير فقط إن شاء الله ••
بارك الله فيك يا بني ،و أنت يا ريم ما هو ردك ••؟ حاول أن يرى وجهها ،
لول مرة منذ أسبوع على القل يبحث عن وجهها ،كانت تتعمد أل يراها ،و
كان يتعمد أل يراها ،كان يشعر أن حبل موصول من حديث ل ينقطع موجود
بين قلبيهما و أن الحديث مهما بدا مهما ل يعني شيئا ،كان واثقا أشد الثقة
فيها و يعلم كم تتعذب و يعلم أنها تحمل ضميرها الغض مسؤولية غربته
القادمة ،لذا آثر و آثرت الصمت ،لكنه الليلة كان مصرا على قطع هذا
الصمت ،على اخراج الكلم من قلب قلبها و من قلب قلبه رفقا بها و بنفسه
،لذا أصر على مواجهتها ،أصر على أن تقابل عيونه عيونها و أن يتحدثا
الحديث الذي منعاه منذ قرار السفر ،ظل مـــركزا نظره باتجــــاههـا و
ظلت لفترة قليلة مختفية وراء أمها ،إل أنها لمست نظراته عليها و شعرت
بها حريقا في جسدها و نداًء ملء وجدانها و لبد أن تلبيه ،أخرجت نفـــسها
من حيز الخفاء المتعمد و تطلعت إلى أبيها ،كانت عيونها مغسولة و حزينة و
مليئة بالكلم ،ظلت صامتة ،حاولت أن تشد الكلم من أعماقها لكن
الحروف كانت عصية ،غريبة ل تحمل معنى ،حركت فكيها و بدا أن همهمة
خرجت منها و لكن صوتا لم يسمعه أحد منها •• تقلصت ملمحها و حرقها
أنفها فكزت على شفتيها و انــدفــــع قلبها في دقــات ســـريعة متـهورة و
عنيفة و لم تشعر بنفسها إل و عبراتها تطارد بعضها بعضا في سباق محموم ،
التفتت إليها الم ،نظرت إلى الب ،دعته أن يفعل شيئا بعيونها و استـــجاب
الب ،تنــحت الم و جلس الب بجوارها ،مد يده إلى خدودها ،مسح سيل
الدموع و أسكن رأسها كتفه ،ربت عليها و قالت هي بصوت عال ،عال أكثر
مما توقعت :
ل تسافر يا أبي ،أتوسل إليك •• و انخرطت في بكاء عنيف عنيف ،بكاء
ظل حبيس صدرها الشفاف طيلة أسبوع ،شعرت أن أوردتها منتفخة حد
النفجار و رأسها ثقيل ل تكاد تطيقه و عيونها سكنتها النار حتى أصبحت
عروقها الحمراء تحمل لسعات من لهب كلما اغمضتهما تزيح دمعا •• كان
قلب المسكينة ينفطر ،كانت تشعر أنها تقتلع من جذورها ،أنها تطيح في
فضاء ليس تحته أرض و ل فوقه سماء ،و الجميع تفهم ،الجميع صمت
احتراما لنحيبها العالي ،حتى أبوها الذي كان يشعر بها فوق كتفيه كزلزال
يتحرك و أمطار تتساقط ،كان صامتا ،لم يربت عليها لئل يجرح حزنها ••
صمت الجميع حتى انتهت من بكائها و ابتعدت عن كتف أبيها و قالت بهدوء
يحمل بقايا نشيج ••:
آسفة •• قال الب و هو يغالب ضعفه و يحاول أن يتناسى تماما ما حدث
و يجرهم جميعا إلى جو آخر :
سوف تكون جدة مرفأي الول هناك ،و منها سوف يتم توزيعنا إن شاء
الله على أعمال البناء ،و أسأل الله أن يكون نصيبي في أعمال توسعة
الحرم الشريف بمكة ،ادعو لي أن يحقق الله طلبي •• صمت و هو يستمع
إلى دعائهم له و نظر إلى ريم و هي تلتقط أنفاسها بصعوبة و تقول :
إن شاء الله ستذهب هناك يا أبي •• ابتسم الب و ربت كتفها و قال :
فرصة لداء فريضة الحج أيضا عسى ربي يتقبلها و يعينني على أدائها و أداء
أعمالي ،فإذا كان العام التالي حججت عن أبي يرحمه الله •• شهقت ريم و
قالت :
العام التالي يا أبي ؟ ابتسم بهدوء و هو يقول :
لست ذاهبا في نزهة يا حبة القلب •• العمل عمل و ل أدري متى ينتهي أو
كيف سيسير فل تفزعي ،بامكاني الحضور في الجازات ،عادي جدا مثل كل
رجال شارعنا المسافرين ،و عندما أعود في الجازات سوف أكون محمل
بالهدايا التي تريدون و الذهب لمكم هذه المسكينة التي لم ترتد إل هذه
السورة منذ تزوجنا •• ابتسمت سميحة بوهن و تمتمت بدعاء ،لم تكن تريد
خلق حوار أو المشاركة فيه ،فالليلة ملك الولد و أبيهم ،أما هي فيكفيها
ساعة خلوة مع زوجها تبثه خللها لواعج قلبها ،بدون أن يسمع أولدها ما
تقول و ل يشعر بحزنها هذا الـكــــم من الملتاعين ،هدهدت سمر و هي
تغالب النوم على حجرها ،و عندما مد الب يده ليحملها أعانته فلما استقرت
في حضنه مال عليها و قبلها و أكمل :
و لسمر أيضا بعض الذهب ،و لك بالطبع يا ريم ،أما أنت يا قاسم فعندما
أعود سيكون نصيبك سيارة ،سوف تكون كبرت يا ولد ،كبرت و طولت أكثر
و صـــار لبد للــطبيب او المهندس قاسم من سيارة يذهب بها إلى كليته و
يعود ،أليس كذلك ؟ التفت الولد حول أبيهم ،يوزع عليهم لمساته و
مداعباته ووعوده الجميلة لهم ،تشرق دموعهم لحظة و تصدح ضحكاتهم
لحــــظة و بين هــــذه و تلــك يربت الب الحاني الظـــهور و يقرص الخدود
و يشير بدعابة إلى هذا و إلى هذه و يمسح دمعة هنا و يأمن على دعوة
هناك ،يضحك و يضحك ،و اللم في قلبه يعتصره و يود لو يفتح قلبه فيودع
هؤلء فيه و يصحبهم معه أينما حل ،أو راح •• *** عندما جلس الب آخر
الليل على طرف فراشه ،كانت قدماه ترتجفان و يداه ترتعشان ،ارتجافة
قلق و ارتعاشة خوف ،كان يحاول اسكـــاتهم عن الحركة فتظاهر بانه يدفء
يديه و أخذ يفركهما ،كانت سميحة تراقبه بصمت و عند لحظـــة فاصلة
وضعت يدها على يده و احتوتهما و قالت بحزم :
كفى لقد أدميتهما •• استكانت كفوفه بين راحتيها و هدأ قليل ،ابتسم و
قال :
يجب المحافظة عليهما ،سأحتاجهما كثيرا هناك ،أليس كذلك ؟ أومأت
برأسها مبتسمة و ظلت تدلكهما برفق و قالت :
كان لحديثك مع الولد الليلة وقع السحر في نفوسهم ،حتى ريم التي لم
تكف عن البكاء منذ اتخذت قرارك ،كانت تضحك و تحدثت آخر الليل
بانطلق كعادتها •• سحب الب يديه من يديها بهدوء و ربت على كفيها و
نهض ففتح شباك الغرفة ،تطلع منه ،كان كل شيء هادئا في الخارج ،و
كان الصمت يلف المكان متضافرا مع الليل ،على أن النجوم كانت تلمع على
البعد كأنها توجه تحية ،أخذ جهاد نفسا عميقا و قال دون ان يستدير :
هل نسيت شيئا يا سميحة ؟ لم يعد هناك وقت ،و أعتقد أنني نسيت
إحضار بعض الغراض •• نهضت سميحة فوقفت بجواره بعد أن أفسح لها
مكانا ،أطلت على السماء و لم تتكلم ،قال :
منذ زمن بعيد لم نقف هنا لنراقب السماء ،تبدو مألوفة رغم أننا هجرناها
زمنا طويل ••حتى هذه النجوم التي تلمع ،أشعر أنها تعبر عن فرحتها بعودتنا
إليها ،أليس كذلك ؟ تنهدت سميحة و قالت بصوت هاديء :
منذ ولدت ريم لم تجمعنا هذه النافذة ،بعد زواجنا بعشرة شهور فقط ،
انشغلنا بعدها بالتفاصيل الصغيرة للحياة حتى ابتلعتنا الدوامة و أصبح الوقوف
هنا بعضا من بعض الترف الذي ل تحتمله حياتنا •• زحف بأصابعه حتى لمس
أصابعها قبض عليهم و قبضت عليه ،قال :
عانيت كثيرا يا سميحة ،لم تكــــن حيــاتنا نزهة كما تمنيت ،كانت كمـــا
تـــوقع أبوك و اكثر ،رحلة سفر متعبة ،مع رجل غريب •• التفتت إليه
سميحة بسرعة ،وضعت يدها على فمه قبل أن يسترسل ،قالت :
ل تقلها يا أبا العيال ،حياتنا كانت شاقة لكنها لم تكن مستحيلة ،لم تكن
سيئة ،الحب و التفاهم و الثقة التي جمعتنا جعلت من حياتنا جنة رغم الفقر
و سعادة رغم تبعات الحياة ،ل أعتقد أنني نادمة على يوم واحد قضيته في
كنفك و لو عاد بي الزمن فلن أقبل بغير ما كنت فيه معك •• أمسك كفها و
قبلها بهدوء و عادا مجددا ً يراقبان السماء معا •• كانت سميحة تريده أن
يتكلم ،تريد أن تختزن في ذاكرتها الكثير الكثير من حديثه لتسترجعها فيما
هو قادم من أيامها ،لكنها أيضا كانت تريده هكذا صامتا يحتضن كفها بكفه و
قلبها بقلبه •• كانت أيضا تريد أن تقول الكثير ،كانت تريد أن توصه على
نفسه ،تخبره أنها قلقه على صحته ،تسأله أن يبعث لها كثيرا ،لكنها لم تقل
،اكتفت بالضغط على كفه •• و كان يريد أن يقول الكثير ،و يسمع منها
الكثير ،كان يعرف أنه رجل ل يجيد التعبير و ل يعرف كيف ينمق كلمه بحيث
يخلق عبارات ملتهبة تعبر عما يجيش بداخله من مشاعر ،كانت مشاكلهم
في بداية الزواج تصب كلها في عجزه عن الكلم و حاجتها له ،كان يقول لها
الرجــال أفعــــال ل أقوال ،و مــــع مـــرور الزمن اعتادت على صمته و
فعله و أحبت هذا و أصبحت عبارات الحب النادرة شهـــادات مطرزة يمنحــها
لها فل تنســــاها و يقولها أحيانا عفو الخاطر فتطير بها فرحا فيهز رأسه عجبا
و يقول :
أنتن ناقصات عقل و دين •• شد على يدها و قال :
سميحة •• التفتت اليه ،قال لعيونها الجميلة :
أقسم بالله العظيم أني أحبك •• أحبك جدا •• اجتاحها الخجل و و كأنها
عروس تسمع عبارة حب من زوجها ليلة الزفاف ،نكست عيونها و إن
ضغطت على كفه ،قال :
ل أحد يعرف الحياة من الموت ،و أريدك أن تسامحيني على أية غلطة
أكون قد أخطأتها في حقك يوما متعمدا أو غير متعمد ،فهل تسامحيني ؟
فتحت عيونها دهشة قالت بصوت كاد أن يصبح عاليا في هدأة الليل :
جهاد •• لماذا تقول هذا الكلم ،إنه كلم مودع ••• أسامحك ؟ ،علم
أسامحك و قد كنت لي و ستظل نعم الزوج و الب و الحبيب ،أرجوك يا جهاد
ل داعي لهذا الكلم الن إنك توجع قلبي •• شدها من يدها برفق و هو يبتسم
و قال :
سلمة قلبك يا غالية •• اسمعي يا سميحة سأعطيك شيئا فاحفظيه حتى
يحين موعده ••
أي شيء ؟ فتح الدولب و أخرج حقيبة قديمة مغلقة طالما رافقتهم و كان
يضع فيها أوراقا كثيرة هامة ،شهادات ميلد و تطعيم و قصاصات صحف
قديمة و وثائق سفر و غير ذلك ،فتحها بهدوء و من تحت قاعدتها الجلدية
أخرج ملفا أصفر قديما و قال لزوجته :
في هذا الملف سوف يجد أبناؤنا دوما الجابة عن أسئلة ما زالت لم
تؤرقهم و لم تعن لهم شيئا ،لكنني أكيد أنهم سوف يطرحونها في يوم من
اليام ،فيه شجرة العائلة في فلسطين ،كل ما حوته ذاكرتي عن أهلي و
أقربائي و أصدقائي هناك ،عناوينهم كما كانت حين غادرت فلسطين و
عناوينهم التي وصلتني في سنين غربتي ،كنت أخاف إذا أنا نسيت هذه
السماء و العناوين أن أفقد وطني إلى البد لذا احتفظت بكل ما وقعت عليه
من عناوين في كل بقاع الرض ،هنا أسماء أشخاص يسكنون كل قارات
العالم ،سيجد أولدي حين يسألون أن اقرباءهم كثر و منتشرون و لدينا
أغنياء أيضا في العائلة ،و هذه يا سميحة •• أتعرفين ما هذه ••؟ أخرج من
الملف ورقة صفراء كانت تقبع خلف كل الوراق كانت يده تهتز و هو يمسك
بها ،تطلعت فيها سميحة فلم تستطع فهم ما فيها فهزت رأسها فقال :
هذه ورقة رسمية من حكومة عموم فلسطين مثبوت فيها أن البيت الذي
كنت أسكنه في غزة هو ملكنا ،ملك أبي يرحمه الله ،هذه الحجة حصلت
عليها ليلة مغادرة أبي لنا متوجها إلى الردن ،في تلك الليلة أعطاها لي أبي
و طلب مني المحافظة عليها فهي الثبات الوحيد لحقي و إخوتي في البيت ،
كنت أنا الوحيد معه تلك الليلة ،و عندما تفرقنا أنا و إخوتي ظلت معي و لم
أنتبه إلى أنني أخذتها إل عندما وصلت إلى مصر منتصف عام ، 46ل أدري ما
قيمتها الن و لكنها هامة جدا ،لذا حافظي عليها و أعطيها إلى قاسم عندما
يكبر ليحافظ عليها بدوره •• همست سميحة بجزع :
و لماذا ل تبقها في حقيبتك و تعطها لولدنا عندما يكبر بنفسك يا أبا
العيال ؟ أعاد وضع الملف في الحقيبة بحرص و أغلقها و أعادها إلى مكانها و
هو يقول :
من ذا الذي يعرف الحياة من الموت يا أم العيال •• أمسكته من كتفيه
هزته صاحت :
إنك تميتني رعبا يا جهاد ،أل تدرك معى ما تقول في ليلة كهذه ،سوف
تغيب الوجوه بعد ساعات و لن يبقى لي إل خوفي و جزعي من مستقبل ل
أعرف عنه شيئا ،أل تفهم ••؟ نهض و أخذ بيدها مهدئا و قال:
أفهم تماما ما تشعرين به ،إنه نفس شعوري قبل عشرين عاما عندما
أعطاني أبي هذه الحجة ،شعرت بالفقد و شعرت باليتم و شعرت أنني أريد
أن أفتح عيوني و قلبي لضع الرجل فل أسمح لغربة أن تفرقنا و ل لسفر أن
يشتتنـــا ،لكنه سافر ،و أنا ســــأسافر ،و في الغربة مات ،و انا ••
ل •• لم يكن من معنى لي شيء في هذه اللحظة ،اللحظة التي يجب أن
يواجه المرء فيها مصيره و يتحسب لي ظرف طاريء و يقدم بنفسه تأبين
ذاته على مرأى و مسمع ممن يحب ،كان هذا قدر جهاد و سلمه في تلك
الليلة طوعا إلى سميحة •• حياة لبد أن تمضي ،و فراق لبد أن يكون ،و ل
يملك النسان مهما كان قويا أن يقف في وجه مصير محتوم ،هكذا شعر
جهاد ،و شعرت سميحة و هناك على بعد خطوات منهما كانت أيضا ريم ،
تشعر بكل شيء و تعرف أن عهودا أخذها أبوهم منهم كانت بمثابة وثيقة
سفر للجئين منحتها لهم سلطة ل ينتمون إليها ليحققوا بها قدرا ل يريدونه
لنفسهم •• و عندما نامت عيون كل من في البيت ،كان هناك عددا من
القلوب الواجفة ،تردد أدعية كثيرة تختلط مع بعضها صاعدة إلى رب قدير
عله يحفظ هذه السرة من ضياع يدق الباب و غربة ترعى في الخضر و
اليابس بل تفريق •
لم يعد مجيء سعيد إلى منزل ريم أمرا غريبا بعد أن تولى أمور المنزل في
اليوم الول لغياب الب منذ أن اصطحب العائلة الى الميناء البحري في
السويس ليستقل الب باخرته من هناك في رحلة طويلة استـغرقت ثلث
ســـاعات ذهابا و مثلهم في الياب ،و خلل الذهاب لم يلتفت مرة واحدة
إلى ريم رغم أنها كانت حاضرة تماما في نفسه خلل الذهاب ،إل أنه اكتفى
بمجالسة العم جهاد و الستماع منه طوال الرحلة إلى حكايات كثيرة و
ذكريات متناثرة و دعوات صادقة كان يطلقها بين الوقت و الخر لتصيب كل
فرد في عائلته ،و هناك في السويس اندمج تماما مع الب في نقل الحقيبة و
إنهاء اجراءات السفر و عندما لوح الب للجميع من فوق الباخرة سمح لنفسه
أن ينظر إلى ريم مليا ،راقب بكثير من الشغف يدها الموصولة بقلبها و
بدموع عينيها و هم يتناغمون في ملحمة وداع كبيرة لم ير مثلها في حياته ،و
في طريق العودة جلس بجوار قاسم و تبادل حديثا مقتضبا ثم خيم الصمت
على الجميع ،كان كل فرد في العائلة يفكر تفكيرا خاصا به ،بل هو شديد
الخصوصية يصعب قطعه و لو بحديث عابر ،لذا ظلت السيارة تنهب الرض و
الفكار تنساب سريعة في أدمغة عائلة سافر عائلها للتو ••
عندما وصلوا إلى باب البيت ودعهم سعيد و تعمد أن يسلم عليهم من أجل
اللحظة التي يصل فيها إلى يد ريم ،لكنها كانت أسرع فسبقت الجميع إلى
المنزل تاركة يده تئن من الشتياق ،و في تلك الليلة بدا المنزل موحشا ،
منزل جهاد و منزل سعيد ،كانت الوحشة تسكن كل البيتين ،لم يستطع
أفراد العائلة أن يتبادلوا الحديث ،و كان أكثر المشاهد إيلما لهم جميعا
مشهد الراديو صامتا وحيدا في ركن الب الثير و تنهد الجميع و ذهب كل إلى
مكانه ،أما سعيد فقد هرع إلى شرفته و ظل ما تبقى من الليل يطالع نافذة
ريم المغلقة و آلف الفكار تتصارع داخل رأسه ،شعر بنقمة آنية عليها
سرعان ما انحسرت عن فيض من الشفقة جعل قلبه يدق بشدة يستدعي
صباحا لم يعد ببعيد ،و في الصباح مر من جانب بابهم في طريقه إلى العمل
و تلكأ قليل عله يرى أحدا ،لكن أحدا لم يخرج في ذلك الوقت و عند عودته
توجه مباشرة إلى بيتهم ،طرق الباب بثقة و عندما فتح له قاسم سأله عن
والدته حتى إذا جاءت شدد عليها كثيرا أن تلجأ إليه عند حاجتها لي أمر مهما
كان و في أي وقت ،لم ير ريم ،لكنه خمن أنها ترسم الن ،خرج مطمئنا و
اتجه إلى منزله ،طالع وجهه في مرآة الباب و تنهد ارتياحا ••
كانت الليلة الولى لسميحة بعد سفر زوجها من أطول الليالي التي مرت بها
في حياتها ،فهي الن الم و الب ،تضاعف الحمل و أصبح هؤلء العيال أمانة
ثمينة في عنقها وضعها جهاد مرتاحا إلى أنها قادرة عليها ،لكنها تشعر في
نفسها ضعفا و تخشى هذا الحمل ،أخرجت الملف الصفر القديم من الحقيبة
تأملت أوراقه طويل و تساءلت إن كان أحد من أولدها سيستفيد من هذه
الوراق يوما ؟ عادت فوضعته في الحقيبة ،تلفتت حولها ،كل شيء كما هو
إل أن مــوضع جهــــاد فــارغ ،تحسست موضــعه ،ألقــت برأسها على
وسادته و تنهدت ،همست :
متى سيعود ؟!!
و هناك كانت ريم في غرفتها تطالع الفراغ في كل شيء ،تحس خوفا كبيرا
اجتاحها لحظة أن لوح لهم أبوها مودعا ،سكنها خوف كبير ووقع زلزال ضخم
في قلبها لم يشعر به سواها ،مازالت بقاياه عالقة في نفسها حتى هذه
اللحظة ،و تساءلت مما الخوف ،و لماذا هذا الشعور العميق بالفقد ؟ لم
تجد الجابة ،لقد ســـار كل شيء طبيـــعيا ،كما هو مقـــررا ،و رغم حزنها
على الفراق إل أنه كان حتميا بالفعل ،ليس من أجلها وحدها و إنما أيضا من
أجل أبيها الذي لبد أن يجد لكفاح العمر ثمرة آخر المطاف ،إذن لماذا دبيب
الخوف الذي يسكن أحشاءها ،مم تخاف ؟ هذا ما لم تستطع أن تجيب عنه
••
أما سمر فقد نامت هادئة بعد أن قررت أمها أن ترافقها في غرفتها منذ
الغد ،نظرت إليها و تساءلت إن كانت بدورها تشعر بهذا الخوف ،قالت
بصوت لم يسمعه سواها :
لماذ ا أنا خائفة ،ما كل هذا اللم الذي يعتصر قلبي حقا ••
وضعت يدها على قلبها ،كان هادئا ،لكنه فعل كان خائفا ••
أما قاسم فقد أغلق على نفسه حجرته و ظل يكرر مرارا لنفسه ،إنه الرجل
الن و إنه سوف يتحمل المسؤولية كاملة و سيثبت لبيه أنه ترك وراءه من
يعوض غيابه ،تصفح في مخيلته وجوه أفراد أسرته ،أخذته الشفقة و هو
يتذكر وجه أمه حين كانت تشتري أغراض السفر و اعتصر قلبه تذكره لصورة
ريم أثناء الوداع ،و حتى سمر الصغيرة شعر فجأة أنه مهتم كثيرا لمرها
ووعد نفسه أن يصرف مصروفه اليومي عليها كل يوم حتى ل تشعر بغربة
أبيها الحبيب ،لكن عقله اليافع استحضر و بقوة صورة سوسن ،كان يريد أن
يقول كل ما قاله لنفسه أمامها فهي الوحيدة التي ستفهمه و سأل نفسه :
هتفت سوسن و هي تطالع أوراق كثيرة مبعثرة على سرير ريم ،كانت ريم
تضع الشاي أمامها و ابتسمت بوهن و أجابت :
نعم يا سوسن ،هذا هو السبب في تغرب أبي ،سأدخل الجامعة ••
و لكنك فلسطينية و ما أعرفه أن التعليم الجامعي بالنسبة لكم هو ••
قاطعتها ريم مبتسمة و قالت :
مثلما كنا نظن جميعا ،إل أننا لم نكن نعرف أن للفلسطنيين نسبة في
مقاعد الدراسة بالجامعة المصرية ••
و كيف عرفتم بهذا ،هل سأل أبوك قبل سفره و عرف ؟
توجهت ريم إلى نافذة غرفتها و فتحتها و نظرت باتجاه منزل سعيد و قالت :
بدا أن سوسن ل تعرف السم ،نهضت ووقفت بجوار ريم و تطلعت حيث
تتطلع هي ثم قالت كمن أدرك فجأة أمرا غريبا :
سعيد ؟ ! الشاب اللهي ؟!
حكت لصديقتها كل شيء ،قصت عليها كل ما حدث ،و كانت نبرة صوتها
تحمل حيادا غامضا كلما ذكرت اسم سعيد مقرونا بالستاذ ،و كانت تجاري
صديقتها في كل التعليقات المشتركة عن هذا الرجل ،و التي ليست في
صالحه أبدا ،و أخيرا تنهدت سوسن و قالت :
أثار اسم سيد حفيظة ريم فلم تملك إلأن تظهر امتعاضا لحظته سوسن
بسهولة فقالت لها :
ما رأيك يا ريم لو طلبت أنت منه هذا ،اعتقد أنه لن يرفض لك طلبا ،بل
أنا متأكدة أنه لن يرفض إذا طلبت أنت ذلك ؟
هل جننت ؟!! قالت ريم بسرعة و أضافت :
أنا أتحدث مع سيد و أطلب منه إلتحاقك بالجامعة ؟ لبد أنك جننت ،أنت
فعل جننت •• لكن سوسن راقتها الفكرة التي خرجت في لحظة عفو
الخاطر و استقرت بسرعة كاليقين ،ل مجال للشك في موافقة سيد شرط
أن تطلب من ريم ذلك ،لكن ريم أصرت على الرفض المقترن بالدهشة من
هذه الفكرة المجنونة و في النهاية صاحت سوسن :
من لي بمثل الستاذ سعيد يحل لي عقدتي كما حل لك عقدتك يا صديقتي
العزيزة •• وجمت ريم قليل و كأن اقتران اسم سعيد بها أصابها بالرتباك ،
هزت رأسها و شرعت تحاول افهام صديقتها :
لقد تحدثت مع قاسم قبل مجيئك ،هذا الولد يحمل قلبا كبيرا و يريد أن
يتحمل المسئولية ،ساعديه يا ريم
أومأت ريم موافقة ،و لم تنهض لتوديع صديقتها فيـــما كــانت سوســن
تلقي آخر كلماتها و هي تحي أمها بصوت مرتفع لتسمعه ريم :
بعد انصراف سوسن دخلت الم إلى حجرة ابــنتها ،رأتـــها واجمة ،اقــتربت
ببـــطء منها و ركزت نظرها عليها ،رفعت ريم عينيها باتجاه أمها ،كانت
الحيرة تملؤهما ،جلست الم على طرف الفراش و قالت برفق :
ليس هناك ما يستحق أن نخبئه يا أمي ،لقد طلبت مني سوسن محاولة
أقناع اخيها سيد بدخولها الجامعة ،و اعتبرت صمتي موافقة على هذه
المحاولة •• نظرت لمها و هي تقسم :
و لكني أقسم لك يا أمي أنني لم اشأ القيام بهذه المحاولة ،حتى أنني
أرفض القيام بها ،لن مجرد محادثة هذا السيد تزعجني و تضايقني كثيرا ،و
أنا ل استطيع عمل مثل هذا الحوار معه ،لكنني ل أعرف ماذا أفعل و سوسن
تعتمد علي ••
غدا يكون لكل حادث حديث ،هيا لملمي أوراقك و اجمعيها في ملف ،
سيمر الستاذ سعيد غدا لخذها و يجب أن تكون كاملة ،وفقك الله يا ابنتي و
يسر لك المور و أبعد عنك أولد الحرام •• راقبت ريم أمها و هي تغادر
الغرفة و نبت الخوف مجددا في قلبها ،خوف يشبه ذلك الذي اقتحم قلبها
يوم سافر أبوها ،كانت في دعوة أمها الخيرة رنة حادة كأنها أصبع تشير به
على أناس كثيرين دخلوا حياتها ،أو مازالوا سيدخلونها •
اضمرت سميحة في نفسها أمرا بعد حديثها مع ابنتها ،كانت و مازالت تشعر
أن سوسن رفيقة ريم منذ الطفولة ليست بيضاء من الداخل كما ابنتها ،
كانت تشعر أن سوسن تنظر إلى ريم بمنظار خاص ،منظار يرى ما ل تراه
ريم في نفسها ،و يتــسع ليشمل ريم و أهلها و علقتهم ببعضهم البعض و
موهبة ريم و تلك الجاذبية الخفية التي وضعها الله فيها و كانت كثيرا ما تقرأ
المعوذتين كلما أقبلت سوسن أو توجهت ريم لزيارتها ،لكنها لم تكن تستطيع
منع ابنتها عن تلك الفتاة اليتيمة لمجرد شعور ل تؤكده وقائع ،و لمست في
رغبة سوسن اللتحاق بالجامعة غيرة خفية تأكل قلب الفتاة إزاء دخول رفيقة
طفولتها الجامعة رغم كل المحاذير و العقبات في الوقت الذي ل يقف أمام
تحقيق هذه المنية لها سوى موافقة أخيها ،لذا وقفت سميحة أمام باب بيتها
في موعد عودة سيد من عمله و تعمدت أن يراها و لم تمنعها التقطيبة التي
يحسن سيد رسمها على وجهه دائما من اعتراض طريقه و مبادرته بالحديث :
توقف سيد ،و نظر في اتجاه الصوت و تملكته دهشة كبيرة ،فهذه من
المرات القليلة النادرة التي يتحدث فيها مع أم ريم ،لكنه أسرع نحوها و
حاول رسم ابتسامة هي بكل تأكيد ضد طبيعته ،حتى ان سميحة قالت في
نفسها :
صدقت ريم ،إنه لثقيل الظل •• لكنها ابتسمت و هي تراه مقبل نحوها و
انتظرت حتى تكلم :
و عليك السلم يا أم قاسم ،كيف حالك ،هل وصلتكم رسالة من العم
جهاد ؟ أجابت أم ريم بعد تنهد قائلة :
مازال لم يصلنا منه شيء ،و هذا التأخير متوقع في البداية فهو لم يستقر
و لم يتحدد له مكان العمل و اعتقد أنه بمجرد أن يتحدد له مكانه سيرسل
إلينا رسالة ••
ال تحتاجون شيئا يا خالتي ،إنني في مقام قاسم و مستعد لي طلب ،هذا
ما يفرضه الواجب •• هزت أم ريم رأسها شاكرة و قالت :
أشكرك يا بني ،ل شيء أكثر من سلمتك و رجاء صغير •• تساءل سيد
عن طلبها فقالت :
الهاتف ،هاتفكم ،أريد أن أعطي رقمه لجهاد و أبلغه أن يهاتفنا فيه مرة
كل شهر يحدد وقتها فنجيء عندكم و ننتظر المكالمة ،فهل هذا ممكن ؟
بالطبع ،بل هو ممكن جدا ،فقط أبلغيني بالوقت الذي ستحددونه لكي
أخرج لك الهاتف من غرفتي خلله ،إذ كما تعرفين هو دائما في غرفتي
المغلقة و لو أنا خارج المنزل لن تتمكنوا من استعماله ،تحت أمرك ••
نعم ،لهذا السبب سافر جهاد ،يريد أن يتعلم الولد و يحملوا سلحهم
بأيديهم ،الزمن غير مضمون يا بني كما تعلم •• قال سيد و الغضب يكاد
ينطق على لسانه بعد أن صرخ في عيونه :
و لكن ريم بنت و يكفيها ما وصلت إليه من تعليم ،إنها في النهاية ستتزوج
مثل كل البنات و سيكون على زوجها إعالتها •• قالت الم بحزم :
لن تتزوج ريم قبل أن تحصل على شهادتها ،و التعليم يا بني ل حد له و هو
في يد البنت سلح اذ من يضمن كيف سيكون زوجها ،أو يضمن حتى حياة
من يعولها •• هز سيد رأسه غير مقتنع و هم بالسير مجددا غير أن أم ريم
قالت بسرعة :
ليت سوسن تلتحق بالجامعة فتكون معها دائما يروحان معا و يجيئان معا و
نطمئن على أنهما في رعاية بعضهما البعض ••
نظر إليها سيد بجمود لم تستبن منه موقفه ،ثم همس و هو يغادر المكان :
السلم عليكم •• تنهدت أم ريم و هي تدخل بيتها و ترد سلمه ثم قالت :
الله ييسر ما فيه الخير للجميع •• كانت ريم على الباب تنتظر أمها و
بمجرد دخولها ابتسمت و رفعت يدها بعلمة النصر لمها التي ابتسمت بدورها
و توجهت للمطبخ •• *** طوال الطريق إلى منزله كان عقل سيد يغلي
كالمرجل ":ريم ستدخل الجامعة ،البنت إذا دخلت الجامعة فسدت أخلقها و
ضاعت نصف أنوثتها ،ماذا جرى للعم جهاد كيف وافق على هذا المر ،ريم
في الجامعة ؟ ! و الزواج ؟ هل حقا ريم لن تتزوج إل بعد النتهاء من دراستها
،يا لضيعة أحلمك يا سيد ،غدا سيكون لريم زملء في الجامعة و قد تحب
أحدهم ،و تضيع ريم إلى البد ،لماذا هذا القرار الغريب ،كيف لم يخبروه ،و
سوسن كيف أخفت عنه هذا المر حتى عرفه صدفه من أمها ؟"
فتح الباب و نظر إلى سوسن الجالسة تطـــالع التلـــفاز و هي تتناول شيئا
من المسليات و صاح :
ذهاب ريم إلى الجامعة كان خبرا مفاجئا لي أيضا •• لم يرد سيد ،نظر
إليها و طلب منها الملح ،ناولته إياه و قالت :
ريم فلسطينية كما تعلم ،و دخولها الجامعة أمر شديد التعقيد ،ليس فقط
من حيث قبولها هناك ،فهذا امر وارد خصوصا إذا كانت هناك واسطة قوية
تدعمه •• انتظرت فترة ليرد بعد أن تعمدت الضغط على كلماتها الخيرة و
هي تنطقها •• رفع رأسه من طبقه و نظر اليها فأكملت بسرعة :
و لكن أيضا من حيث المصاريف ،فهم يدفعون مصاريف باهظة و بالجنية
السترليني أيضا و هذا امر يجعل المرء يكبر العم جهاد على تضحيته و غربته
من أجل إتمام تعليم أولده مهما كانت العقبات •• تنهد سيد و قال و هو
يزدرد طعامه بل شهية :
أخبرتني أمها عن هذا اليوم ،و لكن كيف تسنى لريم دخول الجامعة رغم
مرور عام على تخرجها من الثانوية •• قالت سوسن و هي متحمسة ليصال
أكبر قدر من المعلومات الخاصة جدا إليه عله يفيدها في قضيتها :
الستاذ سعيد •• الستاذ سعيد ،ذاك الذي يقطن أول الشارع خلف منزل
ريم •• نظرت إليه تنتظر وقع السم عليه و لم يطل انتظاره فقد لوح
بالملعقة و قال و هو يغص بالطعام :
ذلك الشاب اللهي ؟ ناولته الماء بسرعة و هي تقول :
بالضبط ،هو بعينه ،استوقف والدها ذات يوم و عرف منه كل ظروفهم و
عرض المساعدة ،بل أنه حتى أوصلهم يوم سفر الب بنفسه إلى السويس
•• و كما غص سيد بالطعام عاد فغص بالماء ،و نهض واقفا و صاح :
و كيف سمح له العم جهاد بهذا التدخل و اعطاه كل هذه الصلحية ؟
نهضت سوسن سريعا و قالت و هي تعطيه المنشفة :
العم جهاد رجل خالص النية ،يشقى كثيرا في عمله ،ل يعرف عن هذا
السعيد ما نعرفه ،أقصد تعرفه انت ،لذا فقد وثق به جدا ،حتى أنه الن
يزورهم بانتظام و يتفقد أحوالهم بعد سفره ••
غير معقول ،غير معقول •• جلست سوسن إلى طاولة الطعام مجددا و
قالت و هي تأكل :
إنه حتى سيرافق ريم إلى مكتب التنسيق ليساعدها في تسجيل رغبتها
مطلع الشهر القادم •• جلس سيد على كرسي الصالة منــدهشا ممـــــا
يســــمع و لم يحر جــوابا فقالت ســــوسن أو بالحرى عاجلته :
الستاذ سعيد طلق زوجته منذ فترة و لبد انه يبحث عن عروس •• نظر
إليها سيد و صاح :
يريد الزواج من ريم ؟ بسرعة أجابت :
هو لم يصرح بهذا ،لكن كل الظواهر تدل عليه ،و لما ل و هو الن
يخدمهم ما استطاع إلى ذلك سبيل ،و غدا تصبح ريم في الجامعة طوال
النهار و ل مانع من أن يحاول توطيد علقته بها و زيارتها هناك من آن لخر
•• أنت تعرف ألعيب الشباب و خاصة من هم على شاكلة سعيد هذا ••
قال سيد بصوت منخفض :
و ريم •• هل تشجعه ؟
لم تصدق ريم ما سمعته من صديقتها سوسن حين ذهبت لزيارتها عصر هذا
اليوم ،كانت سوسن تشرح لها بإسهاب طويل كيف انتهى الحوار بينها و بين
أخيها سيد بموافقته على ذهابها إلى الجامعة بل أنه حتى قرر أن يقدم لها
بنفسه في نفس الكلية التي ستذهب إليها ريم ،كانت تشرح بانطلق كبير و
سعادة فوق الوصف و لم يكن سيد هناك ليسمعها و هي تقول لصديقتها :
أخيرا يا ريم ،أخيرا أيتها العزيزة سوف أذهب إلى الجــــامعة مثـــلك
تماما ،الفضل لك يا عزيزتي ،الفضل لك ••
-غير معقول يا سوسن ،كيف تجرؤين على الزج بي في موضوع كهذا ،هل
تريدين القول أن سيد وافق على التحاقك بالجامعة فقط لتكوني عينا علي ؟!
تلعثمت سوسن أمام غضبة ريم غير المتوقعة و قالت في محاولة لتلطيف
الجو :
و لكن يا ريم إذا كان هذا في حد ذاته سببا لدخولي الجامعة فلماذا ل
ندعيه لن نخسر شيئا يا صديقتي •• إنها مجرد حيلة ،حيلة فقط لدخل
الجامعة •• كورت ريم قبضتها ثم أرختها نحو الرض بسرعة و قالت بألم :
و لكن لماذا أنا ؟ ابتسمت سوسن و نهضت فربتت على كتف ريم و قالت
ببساطة :
لن سيد يحبك •• التفتت ريم و نظرت إليها بملء عيونها و صاحت
بتصميم :
أما أنا فل •• ضحكت سوسن بهدوء المنتصرين و قالت :
ما يعنيني أن يظل هو يحبك لظل أحقق ما أريد بهذا الحب •• نهضت ريم
و قالت و هي تمسك بحقيبتها إيذانا بالمغادرة :
لكنك استخدمت أسلوبا رخيصا ،مجرد ادعائك له بأن ثمة شيئا بيني و بين
الستاذ سعيد كان خطأ كبيرا ل أحب أن أغفره لك •• سارعت سوسن و
حاولت أن تثنيها عن المضي نحو الباب قائلة بطريقة ذات مغزى :
و هل حقا كان ادعاء ؟
نظرت إليها ريم حانقة و توجهت بسرعة نحو الباب فتحته و خرجت و لم
تلتفت لنداء صديقتها ،بمجرد خروجها استنشقت هواًء كثيرا و سارت بسرعة
باتجاه بيتها ،كانت عبارة سوسن تغلي في رأسها ،هل حقا كان ادعاء منها ،
أم أنها لمست شيئا حقيقيا نبت في قلب سعيد هذا تجاهك ،ما الذي يدفع
سعيد إلى ما يقوم به ،هل هي النسانية ،رعاية الجار و السؤال عنه ،هل
هي الشفقة ،أم هي أمر آخر بعيد عن كل هذا ،هل هو حقا يحبها ،نظراته
الولهى تقول هذا ،شغفه بلقائها يقول هذا ،سعيه الدائم لرضائها ينبيء
صراحة عن هذا ،ما هو الحب •• ما هو هذا الشعور ،كيف يمكن وصفه ،
وهل ،هل تشعر هي به ،لماذا ترق نظراتها حين تطالعه فتعطيه استعطافا
بدل من الغضب ،و رجاء بدل من الصد ،لماذا تحب أن تسمعه يتكلم و
تراقب تفاحة آدم في عنـــقه و هي تجـــري صعودا و هبوطا أثناء حديثه ،
لماذا تشعر أنه يسير دوما في التجاه الصحيح و يفكر و يقرر كرجل ناضج
ليس لقراره من رفض ،أو ممانعة ،عندما ذهبت إليه ترجوه أن يثني والدها ،
لماذا اختارته هو بالذات و لماذا لم تغضب عليه أو حتى تكرهه عندما جاء إلى
أبيها واشيا و أخبره أنها قابلته و حدثته ،لمــاذا لم يغضبها هـــذا التصرف ،
بل لمـــاذا أعجــبها و جعل منزلته أعظم لديها ،و لماذا وثق به أبوها و جعل
منه و هو الشاب اللهي المعروف بنزواته أمينا على عائلتهم بعد سفره ••ما
الحكاية ،هل هو الحب •• وهل ما قالته سوسن لخيها محض ادعاء ؟
وصلت إلى منزلها و لم تكن و هي تسير ترى الطريق ،كل ما كانت تشعر به
وقتئذ أنها تريد الوصول إلى البيت بأسرع وقت لترسم ،شيئا ما يغلي و يهدر
داخلها و تريد أن تخرجه على اللوحة البيضاء في انتظارها و لبد أن تفعل ،،،
كانت خطواتها صارمة أكثر من المعتاد كأنها غاضبة ،هذا ما قاله سعيد في
نفسه و هو يراها تتجه إلى البيت ،أصبح يعرف بماذا تشعر حتى من خطواتها
فلماذا تبدو هذه المخلوقة الضعيفة القوية جدا غاضبة •• ظلت عيونه تراقبها
من الشرفة حتى استدارت باتجاه بابهم و اختفت عن عيونه ،لكنها لم تختف
من أمامه ،ظلت بكامل هيئتها تشاغل خياله و سؤال كبير يضايقه بإلحاحه :
مم هي غاضبة ••
أسرع فغير ملبسه و ارتدى ملبس الخروج ،كان مدفوعا بشيء أقوى منه و
هو يتصرف ،كان يتحرك بآليه غريبة ،يلبس الملبس و الجوارب و الحذاء ،
يمشط شعره يضــع عطــرا و يستعد للخروج ،طالع وجهه في مرآة الباب و
فجأة توقف ،نظر إلى نفسه مليا و تنهد ثم قال لصورته :
لماذا هي غاضبة ؟ عندما دخلت ريم إلى المنزل كانت أمها في الصالة
ترتب الثياب المغسولة و تطويها نظرت إلى وجهها و عرفت أن ثمة شيء ،و
عندما حادثت ابنتها و استمعت اليها و هي تحكي التفاصيل بكثير من الحزن و
الصدمة حوقلت و بسملت و قالت لبنتها :
اللهم اكفينا شر أولد الحرام ••
و عندما دخلت ريم إلى حجرتها لتبدل ملبسها قالت الم و هي تتنهد :
صبيحة اليوم التالي كانت ريم مستعدة تماما ،مرتدية ملبس الخروج النيقة
البسيطة ،أفطرت و هي تبادل أختها المداعبات و تمل البيت ضجيجا ،و ترد
على أسئلة أمها العادية بمرح و حماس و تطلب إليها أل تكف عن الدعاء لها
و انتقلت إلى المنزل عدوى مرح ريم فبدا كل شيء جميل و مرحا ،و في
تمام الثامنة و النصف دق الباب و سارعت ريم لفتحه ،كان سعيد واقفا على
الباب قلقا ينظر في الساعة و يزفر أنفاسا سريعة و عندما فتحت له ريم
تطلع في وجهها و في ثوان أصابته عدواها فوجد نفسه يهدأ ويبتسم رغما عنه
و قال :
اعتقدت أنني تأخرت •• هزت ريم رأسها و ابتسامتها لم تفارقها و قالت :
أبدا ،بالعكس توقعت أن تتأخر أكثر فلبد أنك ذهبت لعملك لتأخذ اليوم
إجازة أليس كذلك ؟
صباح الخير يا أستاذ سعيد ،أرجو أل يزعجك مشوار اليوم •• تبادل سعيد
و ريم النظر و كأنهما اتفقا خلل هذه النظرة على استنكار قول الم و لكنهما
لم يعلقا ،و قالت ريم :
بدون أوراق ؟
انتبهت ريم إلى أنها لم تحضر الملف و ل حقيبة يدها ،لم تستأذن سعيد فقط
نظرت اليه و ركضت باتجاه غرفتها ،و عندما حملت الملف و الحقيبة و
أقفلت عائدة وجدت أمها في تجويف باب غرفتها تنظر اليها ،تبــادلتا النظر و
فهــــمت كل واحــدة مــــنهن الخــــرى و احتضنت ريم أمها و ضغطت على
جسدها و هي تقول :
اطمئني يا أمي ••
اللهم وفقها و أبعد عنها أولد الحرام و أهدها طريقك المستقيم ••
كان سعيد بانتظارها في الخارج و عندما أهلت تطلع إليها مبتسما و راقبها و
هي تحازيه و سارا معا ،كان لبد لمن ينظر إليهما من بعيد أن يلحظ اتساق
خطوهما ،و كان لبد أن يلحظ أيضا أن هذين الكائنين يرتبطان بشيء بل
اسم ،و كان لبد أيضا أن يلحظ انهما صامتان •• و اخيرا فلبد أن الناظر
إليهما عن بعد كان لبد أن يكون سيد ،الذي اعتذر عن العمل و صحب اخته
و سار بها في نفس الوقت مع ريم و سعيد ،و لذا فلم تكن صدفة أبدا أن
سمعت ريم صوت سوسن بعد قليل ينــاديها و عندما التفـــتت رأتهـــا و
أخاها و في لحظات أصبح الموكب الذي كان صغيرا متفائل ،كبيرا واجما و
همست سوسن لريم :
ل ••
و انتهى الحديث
ظل الجمع يسير سويا ،سعيد و سيد و كلماتهم المقتـــضبة التي تخبيء
أكـــثر مما تظهر و ريم و سوسن اللتان اكتفتا بالصمت الطويل ،استقل
الجميع الحافلة و أصر سعيدا أن يدفع للجميع ،و جلست البنتان ووقف
الشابان و كل واحدا في هذا الفريق كان يردد كلما ل يتماشى مع الخر و
يشكل في مجموعه أغنية نشاز من يسمعها ينفر منها إل أنها كانت لحسن
الحظ حبيسة الشفاه ••
كانت الم تستمع إلى تفاصيل اليوم من ريم و هي مصغية أشـــد الصغاء و
بين كل عبارة و أخرى كانت تردد دعاًء ،حكت لها ريم عن الزحام في مكتب
التنسيق و عن أوراقها التي اختلفت عن بقية أوراق البنات و الشباب الذين
جاءوا للتسجيل و تحديد الرغبات ،قالت لها أن أوراقها كانت فيها فقط
خمس رغبات في حين كانت رغبات الشباب المصري تفوق الثلثين و علقت
الم :
و هكذا انتهت حيرتك سريعا فيما جلس الباقون يكتبون أكثر من ثلثين
رغبة و هم في غاية الحيرة ،أليس حالك أفضل ؟ تنهدت ريم و قالت :
نهضت ريم و هي تهز رأسها و توجهت إلى غرفتها و همست لنفسها :
لم يقل إل عبارة واحدة و هو يودعني رغـــم العـــيون حولنا " هذا أجـــمل
أيـــام عمــري و ابتسامتك لن أنساها "••
تطلعت إلى وجهها في المرآة ،كانت حمرة جميلة تعلو خدودها ،و كان
شعرها قد تشعث قليل إل أنها بدت جميلة ،حتى أنها لحظت أن عيونها
تبتسم •• رفعت رأســــها للسمـــاء و قالت :
" ابي الحبيب •• كيف حالك يا أعظم أب ،هل تشعر بي يا أبي على البعد ،
أنا و الله أشعر بك ،أحس بك في كل لحظة ،ل تفارقني نظراتك و ل تغيب
عني كلماتك و ل أنسى و لن أنسى تضحياتك من أجلنا ،اليوم يا أبي سطرت
أول سطر في كتابي الذي أردتني أن أكتبه ،خطوت أول خطوة في الطريق
الذي مهدته لي بصبرك و شقائك و غربتك ،اليوم يا أبي ذهبت إلى مكتب
التنسيق ،كان معي كل من سوسن و أخيها و الستاذ سعيد ،سجلت رغباتي
و كأنني أسجل رغباتك ،كنت أريدك معي يا أبي ،لقد طمأنني الستاذ سعيد
بأن النتيجة ستكون بعد أسبوعين في صالحي إن شاء الله ،لقد اخذ وعدا
بهذا أمامي من الموظف معرفته في المكتب ••
أبي إنني سعيدة ،سعيدة جدا و ل يضايقني إل أنك بعيد ل تستطيع أن
تلـــمس سعادتي و ل أستطيع أن أهديها لك و لو حتى بنظرة امتنان ،لكنك
لبد تشعر بها ،فقلبك الرقيق معنا و حبك في قلوبنا و لن ننساك أبدا وفقك
الله و سدد خطاك ،اطمئن نحن جميعا بخير و أمي دائما تذكرك و تدعو لك
و سمر تسأل عنك و قاسم أدى امتحاناته كأحسن ما يكون •• دمت لي يا
أغلى أب
أتوقع قريبا إن شاء الله رسالة منه و لعلها تكون في الطريق الن يا ريم ،
من يدري ؟ احتفظي برسالتك و سنرسلها حالما تصل رسالة منه ،اللهم
طمأننا عليه يا واسع الرحمات •• عندما التف الجميع على سفرة الغذاء ،
كان الحديث كثير كثير ،قاسم يحكي و ريم تحكي و سمر تعلق تعليقات
ظريفة و أمهم تحثهم على الكل و تدعو لهم و لوالدهم ••
كان يوما مميزا جدا لديهم و لدى سعيد و لدى سوسن ،و الوحيد الذي كان
يشعر ضيقا كبيرا كان سيد ،لقد شعر فجأة أنه كان مسيرا في أمر ادخال
أخته الجامعة ،و أنه اندفع لول مرة في طريق لم يكن له فيه خيار ،و سأل
نفسه إن كان تعلقه بريم سيدفعه إلى المزيد من التنازلت ،و سأل نفسه
إن كان حقا يريدها خاصة بعد أن تصبح جامعية ،هل ستناسبه ،و أفكاره عن
الزواج أين ذهــــبت ،كان رأســـه يكاد ينفجر ،كل المور فجــأة و بسرعة
انقلبت رأسا على عقب ،تغير اليوم ما لم يكن متوقعا له التغيير يوما فهل
سيستطيع مواكبة هذا التغيير و تقبله ؟ كان يريد أن يحادثها على انفراد و باية
طريقة و مهما كانت العواقب لذا اندفع إلى غرفة سوسن و صاح مناديا
إياها ،فلما لبته و جاءت سريعا قرأت في عيونه حيرته و سمعت في تنفسه
غضبته و توقـــعت شـــرا فلم تتــكلم و انتظرته أن يبادر فقال :
أريد أن اعرف شيئا هاما الن ••
ل يمكن ••
ابتسم سعيد و قال و هو يرشف كوبه و كأنه كان متوقعا لهذا السؤال منذ
زمن :
هي بالفعل ابنة حلل ،لكنها ل تناسبني ،لم نستطع مواصلة الحياة معا و
كان لبد من الفراق
و الولد يا ولدي ؟
نظرت إليه مليا و نقلت نظراتها الى أمها ،ثم أرخت عيونها و قالت بغموض :
كل امرىء أدرى بما يحتاج •• ابتسم سعيد مطمئنا إلى إجابتها و استأذن
بالنصراف ••
و برز في حياتهما موعد متجدد بين سعيد و ريم ،موعد لم يتفقا عليه أبدا و
لم يحددا وقته أبدا ،إل أنه أصبح عادة هامة في حياة كل منهما ،لبد أن
يحدث عندما يأتي المساء ،لبد أن يجلس سعيد في شرفته يرشف شايه و
يتطلع إلى النافذة الثيرة و بعد قليل ،دائما بعد قليل تفتح ريم نافذتها و
تتطلع اليه و تبتسم و يبتسم ثم تغلق نافذتها ،كان هذا المر يتكرر كل ليلة
منذ الليلة التي انقلب فيها حال ريم من الغضب إلى السلم عندما حدث لول
مرة أن ابتسمت له ،أصبحت هذه البتسامات القليلة النادرة رسالة شفهية
يرسلها كل منهما إلى الخر في المساء دون أن يحددا ما بعدها و دون أن
يرسما طريقا قد تقود اليه ،و كم تعجب سعيد في نفسه من نفسه ،تعجب
من أنه أبدا لم يفكر في خطوة مقبلة ،في طريقة تجعل من البتسامة كلمة
و موعدا و لقاًء ،لم يفكر في هذا المر أبدا و لم يخطر بباله أن ابتسامات
المساء المتبادلة ،بداية لشيء أكبر ،كان كل اهتمامه منصب على أن تدوم
هذه العادة و آل تنقطع ،و كان دائما لديه يقين بمجرد جلوسه في الشرفة أن
القليل سيمضي سريعا لتخرج ريم •• كان يترجم ابتسامتها حلما طويل يقتات
منه حتى آخر الليل عندما ينهض لينام ،كانت البتسامة الصغيـــرة تعني
كــلما كثــيرا يتبادلــه و إياها في مخيلته فيرضيه و لكنه ل يشبع منه ،لذا
أصبـــح شـــديد التعلـــق بالشــرفة و أصبح قليل الخروج و السهر ليل خارج
المنزل و حتى عندما زاره أحد الصدقاء ذات ليلة ليسأله عن حاله و سبب
ابتعاده ،تعمد أل يفتح الشرفة في وجوده حتى ل يخدش عالما له وحده و
حاول جاهدا أن يقنعه أنه ل يريد العودة لسالف عهده فهذا أمر تزهده نفسه
و تحتقره جوارحه و ل يدري حتى كيف أنه كان يمارسه ••
فقدت ريم الحساس بكل هذه الوجوه من حولها ،إل وجها واحدا كان يرسم
نفسه و بقوة فوق الحدث ،تراه مهيمنا على كل المشاعر و على كل
الموقف ،وجه فرض نفسه بقوة الحب و قوة الصبر و قوة التضحية ،إنه
وجه أبيها ،كانت تراه في هذه اللحظة قويا حتى أن انفاسه غطت على
الهدير الصاخب حولها ،شعرت أن جسدها فقط هو الذي يعيش الحدث ،
تشعر بنفسها تلف لتبتسم و ترد التبريكات بأحسن منها و تأمن على الدعوات
و تدعو بالعقبى لخيها و هي في كل هذا مسيرة ل تعيش اللحظة معهم ،
إحساس طغى عليها كثيرا و لول مرة تشعر به بهذه القوة كانت تريد أباها ،
تريده الن ،تريد أن تخبره أن يده هي التي كتبت هذه اللحظات و صبره هو
الذي أوصلها إليها و تضحيته هي التي قدمتها لها ،كانت تريد أن تجثو أمامه
تقبل يمينه و تغسلهما بدموع الفرحة و تؤكد له بل تقسم بأنها ستحافظ على
الهدية الغالية الثمينة ستحافظ عليها كما أراد و ستصبح كما تمنى •• ووجه
واحد من الوجوه حولها شعر بها و بقوة ،وجه واحد لمس غيابها عنهم رغم
تجاوبها السطحي معهم ،قلب واحد كانت نبضاته معلقة بنبضات القلب الذي
تخبئه جوانحها ،يدق نفس الدقة و ينبض ذات النبضات ،كان سعيد ،ذلك
الذي ارتبطت أقداره بها منذ اللحظة الولى و تقمصته أحاسيسها منذ رفعت
إليه عينا بالرجاء ذات يوم ،كان يعرف تماما ما تفكر به و ما تشعر به ،كان
يفهم اختلط اللهفة بالفرحة في قلبها و كان يشفق عليها من احاسيس
اللحظة و للمرة اللف شعر أنه يريد أن يضمها إليه ،شعر أن أقصى ما
تحتاجه هذه المخلوقة شفافة القلب أن تتوسد كتف شخص محب ،كان
يعرف أن احتياجها لهذه الكتف الذي يحمل ،أكثر من احتياجها لكل هذا
الصخب ،لكل هذه الكلمات •• كان يشعر بها ،يحترق بها ،يتنفسها ،
يترسمها ،يترجم أنفاسها حريقا في قلبه ،كان يتمنى لو أن حلمه الوردي
ذلك المساء أصبح أمرا واقعا ،كان يتمنى لو تختفي الجدران و النوافذ و
الرض و البشر و تصبح هي معه ،وحدهما و بين كفيهما المتلصقين يسطع
النور ••
كف الصخب فجأة و هدأت الصوات و قالت الم من بين دموعها :
لن أنسى لك أبدا موقفك يا أستاذ سعيد ،يا حامل البشرى •• تمتم :
لو لم تفعل شيئا إل أن أتيت بهذا الخبر لكفى يا أستاذ سعيد ،لقد أسعدت
قلوب كثيرة به •• و أشارت لكل من حولها ،فقال مبتسما :
و قلبك أيضا ؟
كان سيد واقفا ما زال على الباب ،صــحب أخــته إلى مكتب التنســـيق ،
سير إليها انتهى بنجاح
عرف النتــيجة و عرف أن قسما كبيرا من الخطة التي ُ
،و عندما طلبت إليه سوسن المرور على ريم لتهنئتها ،وافق فورا فهذا ما
يريد ،و عندما فتح قـــاسم البـــاب و اندفعت سوسن الى ريم ،اقتحمت
عيونه هيئة سعيد ،تسمر في مكانه ،و تبادل معه نظرات عداء مستتر و
عندما دعته الم للدخول اعتذر بحزم و قال :
كنا نريد أن نكون أول المهنئين و لكن يبدو أن الستاذ سعيد سبقنا ••
ابتسم سعيد و شعر أنه يريد أن يجرحه فقال :
نظر إليها غاضبا ،لكن نظرتها الهادئة و صوتها الذي يوجــه إليــه الكــلم
للمـــرة الولى و أشياء أخرى كثيرة كانت وراء اختفاء الغضب و عودة
الوداعة و الجابة المطلوبة :
أستئذن أنا ،مبروك مرة أخرى يا آنسة ريم ،مبروك آنسة سوسن •• إلى
اللقاء خرج من الباب بعد أن أفسح له سيد مجال و قال قبل أن يلحق به :
متى تعودين يا سوسن ؟
نظرت إليه سوسن نظرة ذات معنى و كأنها تذكره بأمر و قالت :
فور انتهاء مهمتي مع ريم •• أومأ برأسه راضيا و قال :
كان القمر بدرا ،و هي دعوة للخوف تعيش تفاصيلها ريم كل شهر ،شعرت
بانقباضة صغيرة ••
أخشاك و أحبك •• أية معادلة ؟ ظلت ترنو إليه فترة •• وتذكرت أنها
قرأت ذات يوم أن الذئاب تجتمع في ضوء القمر المكتمل لتنوح حتى الفجر ،
كأن حنينا غامضا يدفعها لن تبكي كلما كان القمر بدرا ،حنين أو ذكرى شيء
ما حدث في اكتماله لها •• أشاحت بوجهها و همست :
و ما علقتي أنا •• لماذا أرى الخوف وجها مرسوما على القــمر ،
لمــــاذا يـــدق قلبي بشدة و أتوقع حدوث شيء رهيب حين رؤيته ،هل هي
العلقة القديمة بين القمر و الناس ،العلقة التي تجعلهم حين يغدو بدرا
أناسا آخرين •• ؟
أفاقها من شرودها صوت باب يفتح ،انخلع قلبها ،فقد تضاعف الصوت ألف
مرة في هذا السكون ،خرج سعيد إلى الشرفة ،نظر باتجاهها فورا ،كان
مشعث الشعر كمن أمضى يوما عصيبا ،بدت ملمحه عبر أضواء الشارع
كأنها لتمثال من غضب ،لحظت ذلك من طريقته في المساك بسور
الشرفة ،كان كمن يهم بالقفز من فوقه ،لم يبتسم وجهها رغم العادة ،فقد
كانت مناجاتها للقمر قد أحدثت في قلبها الثر الذي تخال أن القمر يريده ،
كانت واجمة و قلبها ينبض بشدة لم يتخلص بعد من اضطرابها حين فتحت
الشرفة ،ظل ينظر إليها و تنظر إليه ،كان الحديث السري الذي تنطقه نيابة
عنهم كل الشياء يدور الن ،كانت النسمات تخاطب الشعة الساقطة من
أعمدة الشوارع ،و كانت الجدران تخاطب التراب الذي تنغرس فيه جذورها ،
و كانت النافذة تخاطب الشرفة ،و الجميع كان يتساءل عن سر الصمت
الغاضب بين اثنين ل تربطهما سوى ابتسامة ••
ظل الفضاء بينهما مترقبا في انتظار أن يحمل البشرى للخرين ،أن يقول
للجميع اصمتوا فقد بدأ حديث البتسام ،لكن الفضاء بينهما مل من النتظار
فانسحب تاركا هواًء ثقيل قبع على كل الشياء فاخرسها ••
كان سعيد ينظر إلى ريم بغضب منبعه هو و سببه هو و ليس هي ،لقد ظل
طوال اليوم يفكر في هذه النثى التي قلبت موازين حياته رأسا على عقب
بدون وجه حق ،و بدون مقابل ،كان يمر بشيء مما مر به كثيرون عندما
أفاقوا من دوامــــة وضعوا فيـــها أنفسهم و رفعوا وجوههم للحظة و تساءلوا
ماذا هناك ؟
لماذا أظل أسيرا لهذه الفتاة ،ما الذي جرى لي فقيدني بقيد في آخره حرف
من اسمها •• لماذا أسير و كأنني مسير نحو قدر ل يحمل ملمحي ،ل يشكل
طبيعتي ،ل يتجاوب مع كينونتي ؟
كان قد أمضى ليله يفكر في هذا المر ،يستجمع فلوله المنهزمة دوما أمامها
ليعلن لها تمردا مع خيوط الصباح الولى ،و عندما خرج أول الليل ليبدأ
مناورات العصيان معها خذلته ،و لم تخرج فأورت نار الغيظ داخــله ،كان
يلمــــح الضوء من خصــــاص نافـــذتها و يعرف أنها مستيقظة وحدها في
غرفتها لكنها ل تبالي بهذا المخلوق الذي عاد يطلب حليب الرضاع بعد الفطام
بسنين ••
و كانت هي ل تعرف السر في ثورته ،ل تعرف سببا لغضبته ،احتارت في
تفسير ملمحه الشعثاء الغاضبة ،بحثت في نفسها عن سبب لهذا الغليان
الذي ينطق به الصمت و الهواء الثقيل بينهما فلم تجد و في غمرة بحثها
تذكرت أنها ابتسمت قبل قليل لضوء ينبعث من خصاص شرفته ،و لم تبتسم
له ،و شيء داخلها أكد لها أن هذا هو السبب ،ابتسمت للخاطر ،و طالعته
بعيون عاتبة مبتسمة ،تفرس ملمحها و كان قد كاد يهجر تلك الملمح مختارا
و بملء إرادته ،كان يراود نفــــسه النســحاب إلى الداخـــل و صفع الباب
في وجهها ،لكنه لمح تلك البتسامة العاتبة ،ابتسامة لملمت ما على شفاه
الشياء حولهم و قدمته حديثا طويل لقلبه المتعب ،ابتسامة أعطت أمرا
صارما لفلوله المتحفزة للتمرد بأن تمضي بل عودة ،أن تركض للخلف ألف
ألف خطوة ،تفـــرس مليـــا و كأنما خيط سحري يربط بين الشفتين ،و
كأنما قدر أبدي يضع ما على هذه على تلك ،وجد نفسه رغما عنه يبتسم ••
هكذا ببساطة يبتسم ،و كأن الليل الطويل كان ليل غيره ،و كأن التمرد كان
نداًء تائها استقر في أذنه لساعات و غادرها في ثوان ••
*** عندما دخلت الم ليقاظ ريم ،وجدتها مرتدية حلتها الجديدة ،ثوب
برتقالي اللون بحزام أبيض و حذاء أبيض و عقدة شعر برتقالية و أخيرا حقيبة
يد بيضاء ،كانت تبدو في كامل استعدادها ،مشرقة الوجه كأنها نامت الليل
بطوله ،مبتسمة كأن ابتسامتها علقت منذ البارحة فلم تستطع أن تسحبها و
أخيرا و كأنها تكمل حديثا ،ركـــضت نحــــو أمها و قبلتها و صاحت :
بالطبع أنا مستعدة جدا ••
تأملتها الم بفخر و إعزاز و قالت :
لقد كبرت يا أمي على أخذ الفطور معي ،أنا فتاة جامعية ••
ل ترفضي طعام أمك ففيه البركة كلها ،ها هل تعرفين طريقك ؟ أجابت
ريم بامتعاض مفتعل :
سيد وعد سوسن باصطحابنا في اليوم الول ليدلنا على الطريقة ووسائل
المواصلت المطلوبة و أنا بانتظارهما ••
لم تكد تنهي عبارتها حتى دق الباب دقات مرحة فأكملت ريم :
لقد أجبرني سيد على ارتداء هذا الثوب ،و هو ليس ما أعددته لليوم
الول ،لكن ل بأس غدا عندما نذهب بمفردنا سنرى من ستكون الكثر أناقة
•• ضحكت ريم و قالت هامسة أيضا :
سأخبر سيد ••!!
سارت الفتاتان خلف سيد و عيون الم ترافقهما حتى اختفتا عن الشارع و
دعاء طويل لم ينقطع كان في الثر •• تعمد سيد أن يسير ببطـء حتى تحاذيه
الفتاتان ،و تعمدت ريم أن تبطيء حذر هذه المحاذاة ،إل أن سوسن شدتها
هامسة :
أسرعي •• ل تعاندي يا ريم ،ل نحتاج غضبه الن ••
استسلمت ريم لصديقتها فلم يكن أمامها إل الرضى بهذا الدليل على القل
في اليوم الول ،و كان سيد قد بدأ في ارتداء حلة الستاذ فكانت كل خطوة
بكلمة ،و انصب كلمه على شرح الطريقة ووسائل المواصلت و أهمية
النتباه إلى أنفسهن أثناء عبور الشارع و في المواصلت و خاصة من
مضايقات الذين ل هم لهم إل مضايقة بنات الناس ،و كان يوجه حديثه لخته
و يميل نحو ريم و يقول :
فكانت ريم توميء برأسها و ل تتكلم و هي تدعو الله أن ينتهي هذا الطريق
•• و على باب الجامعة نظر سيد في ساعة يده و قال :
يجب أن أترككما الن ،سأعود عند الثانية و النصف ،انتظراني حتى لو لم
يكن لديكما ما تفعلنه ،فطريق العودة يختلف و المضايقات تكون فيه أشد
•• قالت سوسن بسرعة و هي تحاول مداراة صديقتها حتى ل يلمح سيد
ضيقها :
نعم •• نعم يا أخي بالطبع سننتظرك هنا تحديدا ••
ابتسم سيد و مضى في طريقه ،التفتت سوسن إلى ريم و صاحت :
إنه الخلص •• كانت ريم تطالع ساعة الجامعة الكبيرة ،و تحتوي بعيونها
موقع الحلم الكبير ،كان هناك آلف من الطلب و الطالبات مختلفي الصور و
الهيئات و العمار ،يشتركون فقط فيما يحتضنونه بين أيديهم من حقائب
دراسة مختلفة الشكال•• تطلعت سوسن حيث تتطلع و قالت و هي تضع
يدها على عيونها :
ياه ه •• من أين نبدأ ؟
قالت ريم :
نسأل عن موقع كليتنا ثم نذهب إليها و هناك نعرف ماالذي اعدوه لنا ••
المنطق يقول هذا •• و شدتها من يدها لتدخل من البوابة الكبيرة ،بوابة
الحلم كما أسمتها ريم •• ***
و تطلع إلي مدير شؤون الطلب بنصف عين و قال بصوت أجش ":
فلسطينية •• هاه •• عليك أول دفع رسوم التسجيل قبل أن يتم اختبارك في
القسم الذي تختارين ••"
و هل سألت عن مقدار هذه المصاريف ؟ جلست ريم على الريكة حانقة و
هي تحكي لمها أحداث يومها الول بالجامعة و قالت و هي تزفر :
جميع الطلب المصريين رسومهم ستة جنيهات و نصف ،أما أنا فرسوم
تسجيلي ستمائة جنية استرليني •• شهقت الم و بعدها ران الصمت •• كان
قاسم يستمع للحديث صامتا ،كانت حالة ريم يرثى لها ،و حتى سمر
احترمت صمت الجميع فصمتت و هي ل تدري •• نظرت الم إلى يدها و
قالت :
كم يساوي هذا المبلع بالجنية المصري يا ريم ؟
لن ينفع يا أمي ،لن ينفع ،بيع ذهبك و ذهبي و حتى قرط سمر لن يفي
بالغرض ،مبلغ التسجيل ستمائة و المبلغ السنوي ستمائة ،أي ألف و مائتي
جنيه استرليني علينا دفعها هذا العام ،هل تتصورين مجرد تصور أننا سنتمكن
من هذا ؟
ظل السؤال معلقا بل إجابة ،و من منهم يستطيع الجابة عن سؤال يختصر
كفاح عمرهم بعبارة واحدة :
ل نملك •• و من أين لنا هذا ؟ حتى المنزل عندما أدارت الم وجهها في
اثاثه بدا في هذه اللحظة متواضعا شديد التواضع ،ل يملك أن يخرج قطعة
واحدة فيه تستحق ثمنا قد يساعد ••
تنهدت ••تنهد الجميع ،كانت التنهدات حريقا في أعماقهم حمل هواء الغرفة
ما ل يطيق فاستسلم راكدا و كأنه يتضافر مع الخبر المزعج ليعلن عجزا ،و
ليعلن احتضار الحلم •• نهضت ريم متثاقلة و قد بدا أن ملبسها تهدلت عليها
و كأنها لم تكن في الصباح قد صنعت خصيصا لهذا القالب •• توجهت إلى
غرفتها بخطوات مهزومة كان لها وقع الخناجر في قلب سميحة ،و قبل أن
تصل ريم إلى غرفتها صاحت الم :
نظرت ريم إلى قاسم و نظر قاسم إليها ،كانت أفكارهم منصبة على أمر
آخر ،أمر غير ما حرك الم ،ترجمته ريم حين بادرت بالكلم :
أقرباء و أهل لنا نحن ؟ هزت الم رأسها إيجابا فقال قاسم :
ولهم عناوين يمكننا مراسلتهم عليها ؟ و عادت الم تهز رأسها إيجابا
أسرعت ريم فأخذت الوراق من أمها •• أمسكتها بلهفة خاصة ،لهفة عل لها
وجيب قلبها •• في هذه الوريقات يكمن أصل وجودها ،في هذه الوريقات
أناس تنتمي إليهم بالعصب ،بالدم ،أقرباء ،أهل •• لطالما تمنت أن يكون
لها من عصبها أهل ،من لحمها و دمـــها أعمام و أبناء عمومة ،كانت تشعر
و هي محدودة في إطار الم و الب و البيت الصغير ،أنها كائن غريب جاء
من كوكب آخر و استوطن هذه الرض ،ل أحد يشبهه و ل يشبه هو أحد ،
أخيرا ها هم الهل ،في هذه الوراق يختبيء السر الكبير ،خلفها العالم الذي
تريد أن تعيش فيه و بين سطورها الدنيا التي لم تحياها •• بأصابع مرتجفة
فتحت الغلف القديم ،كانت الوراق صفراء و بدا خط أبيها واضحا قويا مرتبا
يكاد ينطق على الورق ••أسماء كثيرة تنتهي أسماؤهم باسم عائلتها تنتهي
بالقاسم •• رفعت عيــون مغــرورقة إلى أمها و قالت بابتسامة تفيض شوقا
:
أومأت الم برأسها إيجابا و تفاعلت عيونها مع نظرات ابنتها فنطقت بالحنان ،
و نطقت أيضا بالشفقة •• أسرع قاسم و اتخذ لنفسه مكانا بجوار ريم و
تراقصت السماء المتتابعة أمام عيونه كلها تحمل لقب عائلته ،اللقب الذي
حمله منذ مولده و شاركته أخواته و لم يشاركه أحدا فيه ،أشار بأصابعه
النحيلة على السماء و قال بصوت فرح :
لبد أن هذا عمي عمر ،و هؤلء أسماء أبناء عمي عامر يرحمه الله ،أما
هذا فهو اسم عمي محمد ••
و هذا عمي بدر وبقية السماء لبد أنها لقرباء لنا من أبينا ،فمثل هذا
السم هو لبن عم أبي فيما اعتقد ••
و انطلقت و أخوها في عالم خيالي كانت تراقبه الم و هو يسيطر عليهما ،
كانت ترى لهفتهما ،إقبالهما على السماء كأنما تجسدت فجأة لحم و دم
أمامهما ،حتى سمر كانت تعتقد لفرط لهفة أخويها أنهم يطالعون صورا
ملونة ،أو هدايا أسطورية ،فصارت تقفز عليهم و تعتلي ظهورهـــم في
محـــاولة لستكــــناه الســـر الذي جــعــــل رؤسهما تتقارب و أصواتهما
تعلو و حماسهما يزيد ••
ظل الخوان على هذه الحال قرابة الساعة يرتبون درجات القرابة و يحاولون
قدر المكان الستعانة بذاكرة الم عن أهل زوجها و كانت إذا عرفت قالت و
إذا لم تعرف تردد :
الله أعلم
و لقد رددت الم هذه الكلمة عشر مرات على القل فقد كانت صلتها بأهل
زوجها شبه مقطوعة إل من رسائل و أشخاص قليلون زاروهـــــم خلل سني
عشـــرتهم و قالوا شيئا أو بعض شيء عن أحوال أهليهم
أتصدقين يا أمي بعض هذه العناوين تشير إلى الـــبرازيل ،و بعضـــها إلى
استراليــا و بعضها في الردن و في ليبيا و بعضها في الكويت و المارات ••
تنهدت الم و قالت :
الحياة تلهي يا أولد جهـــاد ،أل تعـــتقدون أنهم بـــدورهم كان لبد أن
يبـــحثوا عنـــكم و يعرفوكم ؟ قالت ريم بتسامح :
لبد لحدنا أن يبادر على أية حال يا أم قاسم •• قالت الم :
نعم ،و ل تنسوا في خطاباتكم أن تذكروا الوضع الخير ،مبلغ صغير من
المال يرسله أحدهم إلى أهله ليساعد ابنتهم على التعليم لن يؤثر عليهم و
سيساعدنا كثيرا •• قال قاسم بغضب :
أتريدين منا أن نشحذ يا أمي ؟ قالت الم بسرعة :
ل يا بني •• ل سمح الله •• ل تطلبوا المبلغ إل على سبيل السلفة طويلة
الجل ،اطلبوه بنفس عزيزة ،و قولوا أنه هام للتعليم •• أما شحاذة فل ••
نهض قاسم غاضبا و لم يقتنع و قال :
أنا لن أكتب شيئا •• فقالت الم لريم :
تنهدت و شرعت في الكتابة لعمها عمر ،هو الكبر و لبـــد أنه مشتـــاق
لخيه و لسرته و يريد أن يعرف عنهم كل شيء و ربما استطاع هو أن يقدم
إليها المعرفة التي تنشدها حول الباقيين ،لما ل و هو كبير السرة بعد وفاة
أبيه و الخ الكبر ،كما أنه يعيش في الردن و ما زالت ذكرياته طازجة عن
الوطن الذي تريد أن تعرفه عن قرب ••كتبت تقول :
عمي الحبيب ،سوف تفاجأ كثيرا حين تقرأ هذا الخطاب ،فلن يكون أبدا مثل
أي خطاب قرأته في حياتك ،إنه خطاب من لحم و دم تكون و نما و شب
دون أن تعرف عنه شيئا ،خطاب من كائن ينتمي إليك انتماًء كبيرا ،لكنك ل
تعرفه ،أنا ريم ،أبنة اخيك جهاد ،هل تذكره ،ذلك الشاب الذي افترق عنكم
منذ أكثر من عشرين عاما ،حمل في قلبه الكبير الوطن غصة و الهل شوق
ل ينتهي و سافر ،هل ما زلت تتذكر هذا الخ البعيد ،هو مازال يذكرك ،
طحنته الحياة و عصرته و لم تعطه من كل شيء إل القليل ،و مازال يحمل
روح المقاتل ،و مازال يناضل و يصارع غربة لم تتركه يوما و إن تضاعفت
عليه •• غربة مازلنا نلمسها في ارتجافة شفتيه عندما يتذكركم ،في
ارتعاشة أهدابه تخفي دموعا لتسقط حين يقتله الحنين اليكم •• إنني ابنته يا
عمي ••
عمي •• وما أجمل هذا النداء و ما أقساه حين أوجهه إلى طيف ،اسم و
عنوان ،ثم ل شيء •• لذا أرسل إليك هذا الخطاب ،من أنت يا عمي ،ما
شكلك ،من هم أولدك و كم عددهم ،هل ترى جدتي ،كيف حالها ،ما
شكلها ،كم بلغ الن عمرها ؟
و مضت ريم تقص موجز أحوالهم ،كل شيء عنهم و كل شيء عن حلمها
الذي سيضيع •• و عندما انتهى الخطاب ،و أغلقته •• نظرت إليه •• و
تركته على السرير و نهضت ،كان في قلبها شرخ تعاظم مع كل سطر كانت
تكتبه ،غلبها الحساس المريع بالخوف فتعالت دقات قلبها ،اعتصرت الوجاع
روحها فترجمت الدموع نص العذاب ،و خرجت متوالية سريعة غاضبة محتجة
،كانت ريم تجوب الغرفة ،كالسجين الذي ل يعرف متى يخرج ،حكم معلق
عليها باللجوء منذ سنين و ل تعرف متى ينتهي ،كانت تــريد توجـــيه الـــلوم
و صب الغضبة على أي شيء ،أي شيء يكون السبب فيما تشعر به ،أي
شيء يمكنها أن تمزقه إربا لتنتقم ،لتريح روحها المعذبة ،أي شيء ••
جرس الباب الذي كان يدق متواصل نبهها من حالتها ،و قبل أن تتمكن من
مسح دموعها و تهدئة نفسها وصلتها أصوات تبينت فيها صوت أمها و صوت
قاسم و صوت سعيد •• حاولت ما وسعها أن تكفكف الدموع و تزيل آثار
الحزن و تعيد إلى وجهها البتسامة التي كانت قبل أن تدخل غرفتها و تكتب
خطابها ،خرجت من غرفتها و توجهت فورا إلى المطبخ ،شربت ماءا باردا ،
و توجهت إلى الصالون حيث جلس سعيد مع أمها و أخيها ،كانت تبدو على
ملمحهم جميعا أن الخبر قد انتهى لدى سعيد ،نظر إليها بمجرد دخولها
الحجرة ،و كان أول من لمح بعين خياله أنهار الدموع التي انسكبت قبل
قليل ،قرأها من عينيها ،عرف وجع قلبها و تمنى لو يحتضنها مواسيا ،قال :
أقترح أن تذهبي غدا إلى الجامعة لتألفي الجو ريثما نتدبر المر ••
لكن لبد أن تذهبي ،ل تفوتي الفرصة ،و المشكلة سنجد لها الحل ••
نظرت إليه و بدون أن تهز رأسها نقلت إليه الرسالة ،نقلت إليه السؤال ،
نقلت إليه الوجيعة •• أطرق ببصره أرضا و قال :
كنت أعرف أن هناك مصاريفا ،لكنني لم أسأل عن مقدارها ،أنا المذنب
•• قالت الم :
ل ذنب لك يا أستاذ سعيد ،إنها إرادة الله و قال قاسم حانقا :
و لماذا نفقد الحلم في كل مرة نشعر أننا أمسكنا به ،لماذا نعيش الخوف
كلما أحسسنا أننا في طريقنا للمان ،لماذا يسرقون الفرحة كلما ارتسمت
ابتسامة على وجوهنا ،لماذا نحن بالذات •• رفعت إليه ريم عيونها و قد
عادت رغما عنها تمتليء بالدموع و قالت بصوت خرج مهزوما محشرجا :
لننا لجئين يا أخي •• ران صمت على الجالسين قطعته ريم و قد بدأت
دموعها تزحف سراعا مجددا قائلة :
لننا لجئين يا قاسم فليس من حقنا أن نتعلم ،ليس من حقنا أن نحلم ،
ليس من حقنا أن ننتمي ،ليس من حقنا أن نعيش ••
ل تضعف هكذا ،ل تجعل اليأس يجز أملك و ثقتك بالله ،لبد لهذا الحال
أن يتغير ،أنا واثقة إنه سيتغير •• و بهدوء قالت :
سيتغير يا أخي سيتغير ••
طيلة الوقت كنت أفكر إن كان حقا سيتغير ،إن كانت المعجزة يمكن أن
تتحقق ،و عدت فسألت نفسي ،لماذا أذاكر ،لماذا أنجح في كل عام ،لماذا
يحرص أبي على رؤية الدرجات النهائية في شهادتي ،بماذا سيفيد كل هذا إذا
كنا في النهاية نسير نحو قدر محتوم ،نحو ظلم مفروض ،نحو واقع ل يقبل
التغيير ••
و لن يغير هذا الواقع احتجاج ،أو صراخ ،لن تغيره دموع أو صياح ،تغييره
فيكم ،بكم ،منكم و إليكم ،كفى يأسا يا ريم ،وأنت يا قاسم ،لم كل هذا
القنوط ،لم تنهدم عمارة الكون ،و لبد من مخرج ،و كما عرفت ما كنتم
تجهلونه عن تعليم الفلسطنيين سأعرف مال تعرفونه عن الحلول التي اتبعها
غيركم فلبد أنكم لستم الوحيدين في مصر الذين تواجهون هذا المر ،و ربما
نجد حل ••
كانت لهذه الكلمات وقع السحر في نفوس الجالسين •• ابتسمت الم و
قالت :
ربنا يخليك يا أستاذ سعيد يا رب و نظرت ريم إلى قاسم ،و نظر هو إليها ،
مسحت دموعها ،فمسح دموعه و ابتسم كلهما و نظرت ريم إلى سعيد ،
نظرة المتنان التي يعشقها ،نظرة المتنان التي ل تملك أن تهديه سواها
فقام نشيطا ،سعيدا و قال بحماس :
من الغد سأسأل و أعرف وأوافيكم بالخبار كلها ••
سألت نفسها مرارا إن كان تعلقها بكلماته ،وثقتها بأن في يده دائما حلول
مشكلتها هو الحب الذي يتحدث عنه الناس ،و تنتظره سوسن و يتأوه من
أجله المغنون و المغنيات •• لكنهم يتحدثون عن لهفة النتظار في غياب
الحبيب و هي ل تشعر بهذه اللهفة ،يتحدثون عن الحلم التي يسكنها الحبيب
و هي لم تحلم به ليلة رغم وجوده المكثف في حياتها ،يتحدثون عن جمال
الكون حين يكون الحبيب مع حبيبه و هي لم تشعر للحظة أن مشكلتها
اختفت و أن بيتها تحول إلى بستان حين رؤيته •• كل ما كانت موقنة به تمام
اليقين ،أنها إذا احتاجته وجدته ،و إنها إذا ألمت بها مشكلة كان هو الوحيد
الذي يخطر ببالها عندها ،و أنها أصبحت في داخله التزاما حتى هو ل يستطيع
ــ إن أراد ــ أن يخلعه عن نفسه ،لسبب تجهله و تعتقد أن حتى سعيد نفسه
يجهله ،كانت تشعر بهذا و ل شيء غير هذا ••
ووجد سعيد الحل كما وعد ،حمله ابتسامة في عيونه و هو يطالع وجه ريم
التي فتحت له الباب بنفسها هذه المرة ،قرأت في عيونه أن الفرج قريب و
عندما تحدث كان الفرج ليس ببعيد و إن لم يكن بكل القرب الذي توقعته :
هما في الواقع حلن ،أولهما إدارة الوافدين ،و عن طريقها يمكن حذف
أو تخفيف المصاريف خاصة و الم مصرية ،و الحل الثاني مكتب المنظمة و
عن طريقه يمكن تقديم طلب ليدفعوا هم المصاريف نيابة عنكم ••
تساءلت الم :
وما مكتب المنظمة ؟
فقال الستاذ سعيد :
مكتب منظمة التحرير الفلسطينية ،إنه بمثابة القائم بأعمال الجالية
الفلسطينية هنا و بسؤالي _ _ عرفت أن كثيرا جدا من الطلب الفلسطنيين
تعلموا عن طريقه ••
قالت ريم :
لكنها كما تقول طلبات و قد تأخذ وقتا طويل لحين البت فيها ••
قال سعيد :
لقد فكرت في هذا المر و لدي حل له ،زيــارة إلى عميـــد الكلية
نشـــرح فيها الظروف و الملبسات و نتعهد بدفع المصاريف على أن يتم
اختبارك و تلتحقي بالقسم الذي تريدين و تواظبي على الحضور و ل تدخلي
المتحان إل بعد دفع المصاريف •• نظرت إليه ريم ممتنة و قالت :
لقد فكرت في كل شيء ••
قالت :
و لكن أستاذ سعيد ،أليس من المحتمل أن يرفض عميد الكلية هذا الطلب
؟ أجاب :
لن نخسر شيئا ،لقد كان ما أمامنا هو البقاء في المنزل و انتظار حل غيبي
،و الن أمامنا فرصة قد تنجح ،و محاولت أخري قد تقدم حل جذريا فلم
القلق ؟ قالت الم :
لبأس ،غدا إن شاء الله نتحرك ،تذهبين يا ريم إلى الكلية و تحــاولين
مـــقابلة العميد و شرح ظروفك له ،و أذهب أنا إلى إدارة الوافدين باعتباري
الم المصرية التي تريد تعليم أبنائها ،و أما مكتب المنظمة فليكن خطوة
مشتركة بيننا بعد غد إن شاء الله •• قال سعيد :
سوف أصحبك يا خالتي إلى إدارة الوافدين ،أعتقد أن ريم بامكانها أن
تعبر أفضل عن نفسها بنفسها أمام العميد •• قالت الم :
ل يا بني يكفيك الجازات التي أخذتها من عملك حتى الن بسببنا ،وفقك
الله و جزاك عنا خير الجزاء ،صف لي فقط المكان و سأذهب اليه بمفردي
••
أول يا خالتي لم آخذ أية اجازة من عملي ،مكتب المحاماة لي و أنا حر
في الذهاب أو ل ،و ثانيا ،ليس بيننا هذا القدر من التكليف حتى تشكريني
على أداء واجبي ،أم أنك مازلت تعتبرينني غريب ؟
ل يا بني ،بل إنك أفضل من كثير من القرباء ،و لكن •• و حسمها سعيد
كعادته ،كلمته كانت الخيرة ،ووافقت الم و هي تدعو له ،فيما قالت ريم
لنفسها :
هذا هو سعيد الذي أعرفه ••
و كان اليوم التالي يوما حافل لريم لم يخطر ببالها أبدا أن تمر فيه بكل ما
مرت و ل أنها ستتعلم منه أهم درس لحياتها العملية ،فقد توجهت صبيحته
لمقابلة العميد و انتظرت ساعة حتى سمح لها السكرتير بالــدخول و هنـــاك
وقفت أمامـــه حائــرة من أين تبــدأ ؟ و تبخرت كل الكلمات التي ظلت
طوال الليل ترددها و تحفظها و تختار أكثرها وقعا على النفوس ،استمهلها
العميد لحظة لتستجمع قواها و عندما تحدثت فوجئت بحديث ل يشبه ما سبق
و أن أعدته ،حديثا كان مباشرا و صريحا و مختصرا و بل مقدمات ،شعرت
أن وقته و هيبته ل تسمح لها بالسرد الطويل لذا فقد قالت :
سيدي العميد ،أنا طالبة فلسطينية ،أريد أن أتعلم لكنني ل أملك في
الوقت الراهن مصاريف التعليم التي تطلبونها ••
تطلع إليها بوجه ل يحمل تعبيرا و هز رأسه و كانت دموعها التي تحذرها قد
خانتها فسقطت بمجرد أن نطق العميد بالرفض :
ل استطيع •• شعرت بالنكسار ••و كانت هذه هي المرة الولى التي
تشعر بالنكسار فيها ،شعور عميق يشبه أن تميد الرض و تنطبق الجدران و
تتعمق المهانة و الشعور بالخذلن ،شعرت أنها قالت كل ما استعدت به و لم
يستجب لها ،شعرت أنها أهرقت ماء وجهها و لم يلتفت إليها أحد ،كانت
المرة الولى التي تطلب شيئا و هي تشعر أن ما تطلبه إن تمت تلبيته
سيكون من قبيل الحسان •• انكسارها في تلك اللحظة كان يعني تضاؤلها
أمام نفسها حتى الختفاء ،عندما لمح العميد دموعها ،التفت إلى اوراق
أمامه و قال لها :
خرجت من عنده بأقدام ل تعرف كيف حملتها ،و برأس يهدر الخوف و الذل
فيها و بعيون تدور و تمطر بغير أنقطاع ،خرجت بقلب مكسور •• مكسور ،
كانت تستــند على الجــدران و تتعثر في خطوها ،لمحها السكرتير و قد كان
يعرف طلبها فعرف ما أجيبت به •• ظلت عيونه ترقبها و هي تسير ببطء
كان يتوقع وقوعها في أية لحظة لذا استمهل الدكتور طارق الذي دخل في
هذه اللحظة لمقابلة العميد و أشار إليها لينبهه أن شيئا ما سيحدث الن ،و
حدث بالفعل ما توقعه ،للحظة شعرت ريم أن ظلم أسود يزحف بسرعة
في رأسها ،و شعرت أن نافورة دم تدق جمجمتها تريد أن تكسرها ،و
شعرت بالرض تميد بها فسقطت مغشيا عليها •• عندما أفاقت ريم وجدت
نفسها على سرير صغير ،في حجرة ضيقة بها طاولة وحيدة عليها بعض
المعدات الطبية ،كانت الغرفة خالية ،حاولت استجماع قوتها للنهوض لكنها
لم تستطع و اكتشفت أن محلول معلق لتغذيتها ،تساءلت عن مكانها و
تذكرت ما حدث لها ،تذكرت فأسقطت نفسها على الوسادة مجددا و
شرعت في بكاء صامت ••
لم يطل المر فقد دخل الطبيب و معه الدكتور طارق و بادرها :
أنت هنا في عيادة الجامعة ،نقلناك قبل قليل ،يبدو أنك متعبة •• لماذا
جئت اليوم إذا كنت بهذا التعب ؟
مرة أخرى لم تستطع الرد ،فجلس الطبيب بجوارها و أمسك رسغها و عد
نبضاتها ،ثم أقفل علبة المحلول المعلق و انتزع الحقنة المغروسة في
أوردتها و قال:
اطمئني ،إنك الن أحسن حال ،امسحي دموعك و اشربي هذا العصير و
ستكوني بخير •• بعدها ناولها كأس عصير بارد ،مدت يدا مهزوزة و استلمته
و شـــــكرته بعيونها ،و بعد الجرعة الولى وضعت الكأس و قالت بصوت
ضعيف :
الحمد لله ،أنا الن احسن حال ،أشكرك •• أشار الطبيب على الدكتور
طارق و قال :
انصرف قبل أن تتمكن ريم من استيقافه أو منعه ،هي ل تريد المزيد من
الذل ،يكفيها ما حدث •• لكنه ذهب ،و حاولت النهوض ،فقال الطبيب :
على أقل من مهلك ،الدكتور طارق إذا قال فعل ،و هو صديق الطلب ،
يعتبرونه واحدا منهم ،كما ترين هو صغير السن ،لكنه نابغة و لــه حــس
فني راق اكــثر مما تتوقعين •• و لعل هذا سر إحساسه بالناس أيضا ••
أومأت برأسها تفهما و أكملت نهوضها و قبل أن تنتهي من تسوية هندامها
سمعت ضجة خلف باب العيادة و فتح الباب فدخل ثلثة من الشباب يحملون
شابا مصابا ينزف الدم من رأسه ،أسرعت ريم مبتعدة عن الفراش ،
فارقدوه عليه و تحدثوا معا ليشرحوا ما حدث ،فلم تفهم منهم شيئا و
الطبيب بدوره لم يلتفت لما يقولون و اندمج سريعا في عمله يعاين الجرح و
هو يردد :
إلى متى ستظل أرعن يا أحمد ،متى تتخلص من رعونتك و طيشك ،
ناوليني القطن يا ريم •• لم تتوقف ريم أمام الطلب الغريب و ل لهجة المر
التي تحدث بها الطبيب و أسرعت فورا لتلبية طلبه فتراجع الشباب للخلف
فقال الطبيب :
اخرجوا جميعا ،سيكون بخير مجرد جرح بسيط ،هاتي ماًء يا ريم •• خرج
الشباب و أحضرت ريم الماء ،أعطته للطبيب الذي بدأ يغسل الجرح و الدم
عن وجه أحمد بسرعة و دراية ،ثم طلب من ريم عدة طلبات حتى انتهى و
قد غطى الجرح و عــقمه و كان أحمد في كل هذا صامتا مستسلما ليد
الطبيب و لتقريعه له ،ل يفعل إل أن يتألم للحظة ثم يعود للصمت ،و عندما
انتهى الطبيب نظر أحمد إلى ريم و همس للطبيب مبتسما :
من هي ؟ نظر الطبيب إلى ريم و فجأة اكتشــف أنه استــعان بها في
عمله دون أن ينتبه ،فابتسم و قال:
ريم •• أنا آسف ،هل أزعجك العمل معي في علج هذا الرعن ؟
و تقدمت ريم باسمة منه و قالت له اسمها ،وشرحت أيضا ما حدث معها
اليوم و ظروفها ،كانت تتحدث معه بطلقة عجبت لها ،حتــى أنها أخـــبرته
بمــشاعرها أثناء لقاء العميد و بعدها و هو المر الذي لم تخبر به طارقا رغم
تحمسه لها ،استجابت لردوده المرحة فابتسمت و شعرت أن الموقف لم
يكن يستحق كل هذا العناء و عندما ضحك أحمد و هو يتحسس جرحه و قال :
سوف تعتادين على مواقف الطلب و الصد و الرفض أو القبول ،إنها
الحياة العملية التي تدخلينها للمرة الولى فحاولي أن تكوني أقوى •• عندما
قال هذه العبارة تلشت تماما مشاعر الهزيمة داخلها ،و شعرت بالتفاؤل و
قررت انها لبد أن تقاتل لتحصل على ما تريد و عليها أل تستسلم لكل شعور
بالحزن قد تجده في نفسها ،قالت لحمد هذه الكلمات فبادرها مبتسما و هو
يحاول النهوض :
أحسنت •• أوقفه الطبيب و قال :
ليس قبل أن تكمل محلول ريم ،سأبدل الحقنة و أغذيك بما تبقى فلقد
نزفت الكثير •• تطلع أحمد للطبيب و هو ينفذ ما قـــال و نظــر للمحلول
الــذي يقــــطر ببطء في أوردته و قال باسما :
عشرة !! طرق الباب و دخل الدكتور طارق الن بيننا محلول يا ريم ،صرنا ِ
الغرفة مبتسما و عندما رأى احمد قال :
آه •• هذا أنت ،كم طالبا ضربت اليوم ؟ قال أحمد :
مظلوم و الله يا دكتور طارق ،لقد اصطدم رأسي بحاجز الشرفة و شج
كما ترى دون قصد ،و في الحقيقة فإنني كنت متجها لضرب سمير لول هذا
الحادث الصغير •• التفت الدكتور إلى ريم و قال لها :
أبشري يا ريم ،لقد تحدثت مع العميد و أقنعته فطلب أن تقدمي لرئيس
شئون الطلب طلبا تتعهدين فيه بعدم دخول المتحانات النصف سنوية ،أو
النهائية ،إل بعد دفع المصاريف ،و سيعتمد الطلب بمجرد إحالته إليه ••
حقا ؟
زغردت الفرحة في عيون ريم ،و شعرت بسعادة فائقة ،و كأن اليام
ستصالحها ،شعرت بألفة قوية مع هذا المكان و هؤلء الشخاص الذين
أحاطوها بالهتمام و فرجوا كربتها ••لم تستطع الكلم ،اكتفت بنظرات
المتنان ووصلت نظراتها للجميع فبادلوها ألفة و مودة و ابتسام •• أخفى
الدكتور طارق خلف أبتسامته أمتعاضا يشعر به منذ أن بدأ الحديث مع العميد
•• فوجيء تماما بما لدى العميد من نظرة متعنتة غير قابلة للمرونة ،حاول
أقناعه بأن الطالبة مقبولة و يمكن التصرف في موضوع المصاريف بالتأجيل ،
فقال العميد :
لم تعد ريم إلى منزلها إل بعد أن قدمت الطلب إلى مــدير شئــون الطلب
بعد أن كتبته و نسقته بمساعدة الدكتور طارق و الطالب أحمد ،و عندما
استلمه الموظف و كاد يرفضه هاتفه الدكتور و أبلغه أمرا فقبل الطلب على
الفور وأعطى موعدا لريم بعد ثلثة أيام لمعرفة الرد •• و في المنزل كانت
الم تتحدث لريم عن دمــاثة أخـــلق سعيد و وقـــوفه الـــكبير بــجانبها و
مساعدته الكبيرة لها في تذليــل كافة الــعقبات أمام تقديم الطلب إلى
الدارة و كانت تقول :
لحظت الم أن ريم كانت تستمع بنصف تركيز فقالت لها :
ما بك يا ريم ؟ هل مازلت تفكرين فيما حدث مع العميد اليوم ؟ هزت ريم
رأسها و ابتسمت لمها لطمأنتها و قالت :
بل أفكر في أمر آخر يا أمي ،تعبير جميل قاله أحمد ففتح لي عالم جديد ،
و قدم لي رؤية جديدة للحياة ••
أي تعبير هذا ؟ قالت ريم و هي تحاول أن تستخدم نفس عبارة أحمد ما
استطاعت :
لقد قال لي ":سوف تعتادين على مواقف الطلب و الصد و الرفض أو
القبول ،إنها الحياة العملية التي تدخلينها للمرة الولى فحاولي أن تكوني
أقوى" هل تعرفين يا أمي كم أنني كنت غائبة عن هذه الحقيقة ؟ هزت الم
رأسها و قالت :
أمر طبيعي إن الوضع الن اختلف ،و إن المور ل تؤخذ بكل هذه
الحساسية ،و صدق أحمد فيما قاله من أن الحياة العملية ستعرفك و تريك
ما لم تكوني تعرفي ،و عندما تدخلين الحياة العملية الكبرى بالعمل و الزواج
ستنفتح أمامك عوالم أخرى ما زالت مغلقة ••
شعرت يا أمي كما لو كنت صغيرة و كبرت فجأة ،أحسست بأنني أتلمس
عالما جديدا بروح قديمة ل تحتمله و لبد من خلع هذا المعطف المستكين و
ارتداء المعطف الواقي ،معطف نسيجه من اللمبالة ،و الصبر و اللحاح و
التملق و القــوة ،و ل أدري بالضبط يا أمي إن كان المعطف الجديد
سيناسبني أم أنني سأبدو فيه غير ما أنا ؟
قالت الم :
الناس تبدل معاطفها تبعا للظروف ،و لكن الناس ل تبدل نفسها لي
سبب ،و إذا كان تبديل المعطف ضرورة للتعامل مع الحياة الجديدة ،
فاحرصي كل الحرص على آل يطال التبديل و التغيير روحك أيضا •• تطلعت
ريم إلى أمها •• حكمة عظيمة قالتها ،و تعبير جميل استخدمته ،لكنه درس
ثقيل تعلمته ،حملها تبعات كبيرة و ألبسها ثوبا كانت غير مستعدة لرتدائه ••
صبيحة اليوم التالي ذهبت ريم بصحبة أمها و سعيد إلى مكتب المنظمة ،و
مضى وقت طويل فيه استغرق كل تفكير ريم و انتباهها ،فلم تلحظ سعيد و
هــو يحوطها بــنظراته و اهتمامه في كل خطوة ،و بدت الجراءات طويلة و
ساعات النتظار مملة ،و في النهاية عندما تم تسجيل الطلب ،كانت الساعة
قد شارفت على الثانية بعد الظهر ،عندها فطنت ريم إلى أن سعيد لم يذهب
إلى عمله ،و أنه بقي معهما كل هذه الوقت ،نظرت إليه بعد أن عرفت
الساعة و قالت :
أستاذ سعيد ،لقد ظلـمناك معنا اليــوم ،أنت لم تذهــب إلى عملك ،لبد
أن أمورا كثيرة تعطلت بسببي ابتسم سعيد و قال :
ل داعي لتحميل نفسك ذنبي أنا سعيد لنني معكما •• ابتسمت و قالت :
ل أنت سعيد لن أباك سماك هذا السم ••!! فوجئت ريم بتعليقها كما
فوجيء سعيد ،و ربما أكثر منه ،فها هي المرة الولى التي تخرج فيها عن
نطاق الحديث الجاد معه ،و تدخل إلى منطقة لم تكن تتوقع يوما أن تدخلها
معه ،هكذا بمنتهى البساطة وجدت نفســها مشبعة بــروح المرح رغم
اليــوم الحار و الجراءات الطويلة ،و ربما لم تلحظ الم فقد كانت عبارة
قصيرة ،إل أن وقعها في نفس سعيد كان عظيما ،كان يعني له بدء إنهيار
جبل الجليد الذي يتعامل من خلله معها ،فرغم البتسام الليلي المتبادل إل
أنه لم يسمع منها يوما عبـــارة تنبيء عن الحميمية ،أو تخبره أنه صار قريبا
منها ،لذا تسمرت عيونه عليها ،تنازعه آلف الرغبات في أن يضمها شكرا
على هذه العبارة المرحة على قصرها ،و بدورها سكتت ريم ،و لكن ما كان
يعتمل داخلها مختلف تماما عما كان يظنه سعيد ،لقد شعرت في هذه
اللحظة بانهيار حائط الحذر بينها و بين الناس جميعا و ليس مع سعيد فقط ،
شعرت أنها تحررت من لجام حديدي كانت تلجم به نفسها ،و شعرت أخيرا
بالمتنان لحمد ،ذلك الشاب الذي رأته لمرة واحدة فأستطاع أن يغير فيها
الكثير لذا ابتسمت ،ابتسم الجميع و لكن افكارا مختلفة كانت تسبح في
أدمغتهم ،و ربما في قلوبهم ••
كان يتعين على ريم أن تستيقظ مبكرا صبيــحـــة يوم ذهـــابها للجــامعة
لتعرف النتيجة ،و لكن الم فوجئت كثيرا عندما دخلت غرفتها في الثامنة و
النصف لتجدها غارقة في النوم ،كانت تبدو هادئة و بدت لمها في تلك
اللحظة راضيــة ،هكذا استشعــر قلب الم و قلما يخطيء ،شعرت أن
تجعيدات خفية على وجه ريم قد اختفت ،و أن راحة ما تلفها في هذه
اللحظة ،ابتسمت ،على أنها ما لبثت أن سارعت بايقاظها ،هزتها برفق ،
ففتحت ريم عيونها بهدوء و همست و هي تبتسم :
صباح الخير يا حبة العين ،متأخرة اليوم ،هل نسيت الجامعة و ميعاد مدير
شؤون الطلب فيها ••؟ ابتسمت ريم و تمطت بكسل و قالت و هي تنهض
نصف نهوض :
ل عليك ،لقد قطعت ذيلها و اقتلعت عينها الثالثة !! فقال محسن :
قصد فؤاد أن يؤكد أنك صرت منا بالفعل و بين أهلك ،لكنه ل يحسن
التعبير •• ابتسمت ريم للجميع ،و كانت ابتسامة فرحة ،ابتسامة أمل
جديد ،و غد أفضل •• عادت تتصفح وجوههم و تستشعر ابتساماتهم المرحبة
في قلبها ،فقال أحمد :
هل قابلت الستاذ شاكر ؟
في أجواء المرح استطاع الزملء الجدــد أن يدخــلوا عــلى ريم الفرحة و
الشعــور بالمان ،و ناقشوا معها الخطوة الجديدة التي ينبغي أن تقوم بها ،
و حذروها أن من سيختبرها هو الدكتور محمد ،رجل شديد ،ينبغي الحتياط
لمقابلته و حدثوها عن ماهية هذه المقابلة الشخصية و كونها ستحدد مستواها
و ما إذا كانت تستطيع اللتحاق بقسم الفنون التشكيلية أم ل و علق أحمد :
و لكنني متفائل على أية حال ،فبوسع ريم أن تقنع الدكتور محمد بموهبتها
بكل سهولة •• فقالت هدى بسرعة :
و كأنك تعرف شيئا عن موهبة ريم ؟ فرد أحمد على الفور قائل :
ل •• و لكنني أعرف ريم ••
فيما بعد ،عندما دخلت ريم إلى مكتب الدكتور محمد لمقابلته ،كانت تعرف
أن اثنتي عشرة عينا تتطلع إلى الباب الذي دخلت منه للتو في انتظار النتيجة
التي ستخرج بها ،فقد استقبلتها شلة الشغب الجامعي و اصطحبتها مع
لوحاتها التي اختارتها من مجموع ما رسمت إلى مكتب الدكتور محمد و
تركوها تدخل بعد أن حصنوها بكل النصائح اللزمة ،و قال أحمد في النهاية :
و على أية حال فل داعي للخوف فهو لن يقبض روحك •• وقفت أمام
الدكتور بهدوء فأشـــار لها بالجـــلوس و شـــرع في طرح أســئلة عادية
عليها ،و فوجئت أن معظم السئلة كانت تنصب على القضية الفلسطينية و
تفاصيلها و موقفها الشخصي منها و غير ذلك ،فكانت تجيب قدر استطاعتها ،
و إن بدا أنها في عزلة تامة عما يحدث هناك ،و بعد قليل اكتشفت هي أنها ل
تعرف عن قضية بلدها سوى ما يعرفه كل طفل في العالم و شعرت
بالضحالة فصمتت فجأة ،ثم رفعت عيونا لمعة إلى الدكتور و قالت :
آسفة يا دكتور محمد ،إذا كانت معلوماتي عن بلدي هي مفتاح نجاحي
في هذا الختبار ،فلبد أنني سأفشل فشل ذريعا فيه ••
فلسطين كما أعرفها و أحبها ،هي أرضي التي انتمي إليها ،الرض التي
تناديني بشوق و يستجيب إلى ندائها حنيني ،فلسطين هي الدمعة في عين
أبي الذي يقتله الشوق إليها ،و هي الرتجافة في شفاهه حين يتحدث عنها ،
فلسطين هي الورق المخبوء منذ سنين يحمل عناوين غربة بعيدة و شتات
كبير ،هي الوثيقة حين يسمونها بعبارة اللجئين ،فلسطين هي النبض الدائم
في العروق ،و هي الشيء الوحيد الذي يسري مع الدم فيها ••
و تهدج صوت ريم و ترقرقت الدمعات و قالت و هي تنظر للدكتور محمد :
فلسطين يا دكتور هي ذلك البئر المعطل في ساحة منزل مهجور ،هي
بحر غزة و ناسها •• هي الرمز الجميل الذي يحميني من ضياع الذات حين
أكون مخيرة بين أن أكون أو ل أكون •••• فلسطين هي الغائب الذي أبحث
عنه و أحتاجه •• و قال الدكتور :
هذا كل شيء انصرفي الن
همست ريم بقلق و هي تشير لما في يدها :
و اللوحات ؟ فقال الدكتور بغموض :
اللوحة التي رأيت تشغلني الن أكثر •• هيا انصرفي ••
و خرجت ريم فقام الدكتور من فوره ،أمسك لوحة بيضاء صغيرة و بدأ يخط
فيها بسرعة وجه فتاة شامخة الرأس لها طابع حسن مضموم على تصميم و
في نظراتها حنين ••• و صارت ريم طالبة منتظمة في قسم الفنون
التشكيلية بكلية الفنون الجميلة ••
أما عن عمي بدر فقد بقي بجوار جدتي يعيش و يتزوج الواحدة تلو الخرى و
يصارع الحياة المفروضة يعمل يوما و يجلس عشرة و في كل هذا هو
الشاطر الذي ل يشق له غبار في النصب و السترزاق و التحايل على
المعايش بشتى الطرق ،لديه الن سبعة أولد ذكور و خمسة من الناث و
يصر على إكمال أولده عشرة و معه الن ثلث زوجات ،أما نحن فإننا خمسة
من الخوة أنا أكبرهم و بعدي أربع بنات جميعهن يتعلمن هنا في الردن و
معنا الجنسية الردنية أيضا ••أما أولد عمي عامر يرحمه الله فهم تسعة و
لكنهم متفرقون في بقاع شتى من العالم و ل تعيش هنا منهم إل هديل و هي
بالمناسبة فتاة وطنية و تحب قرض الشعر الحماسي و تحلم بيوم تستطيع
العودة فيه إلى فلسطين ••
ابنة عمي البعيدة •• أحب ان تظلي على اتصال بنا و سأترك لك في نهاية
الرسالة عنوان شخص مهم ينبغي أن تراسليه فهو على نفس دربنا يسير لم
تقتلع منه الغربة الحساس العميق بالوطن ،إنه من أبناء عمومة أبائنا و
يعمل في ليبيا و اسمه سهيل ،و أنتوي إن شاء الله إرسال رسالتك له ضمن
رسالة لي أحدثه فيها عنك و عن هدفك في المعرفة ••
صدقيني يا ابنة عمي إنها فقط البداية •• لكنها ــ مهما بحثت ــ هي البداية
الوحيدة الصحيحة
ابن عمك
طوت ريم الرسالة بعناية و كانت تقرأها قبل قليل للمرة العاشرة على القل
•• تنازعتها مشاعر متناقضة و عجيبة ،أخذت تتضح و تتبلور مع كل إعادة
قراءة و استقرت في النهاية على الشعور الجارف بالرغبة في معرفة النهاية
•• أشعــلت فيها الكلمات الحماس و شعرت بعظمة أولئك المغروسين في
أرضهم ،شعرت بالفخر أنها تنتمي لعم بطل استشهد و هو بطل ،و حتى
عمها بدر لم تشعر بالنفور منه بل استماحت له ألف عذر ،و استوقفها طويل
ذلك التأطير الذي وضعها فيه ابن عمها من ناحية نظرتها لقضية بلدها ،و
شعرت أن رسالة ما أصبحت مطالبة بحملها ،و لن يعفيها من حملها أن
تكون لجئة بل على النقيض ربما كان اللجوء هو السبب الول لحتمية أن
تحمل المانة ،دعاها إلى هذا حديثها مع الدكتور محمد و رسالة ابن عمها ،و
قبل هذا حقيقة انتماؤها إلى الوطن السليب ،و حاولت تقييم وضعها منذ
البداية و استغرقها التفكير في هذا الوضع الســـلبي الذي عاشتــه مخيرة ،و
شــعرت أنها لبد أن تغــير من وضــعها ما أمــكنها ذلك و تعمق التفكير
ليصل بها في النهاية إلى سؤال واحد ":ماذا بوسعي أن افعـل لبلدي ؟ " و
لم تجد الجابة ال من تهويمة واحدة سيطرت عليها مفادها ":لبد أن أجدها
أول ••" نهضت بعدها لتستقبل سوسن التي جاءت بكل صخبها كالعادة
بادرتها :
بل وفقنا الله و استطعنا تدبير كرسي لي في قسم الفنون التشكيلية معك
يا سوسن •• قفزت سوسن فرحا و صفقت بيديها طربا و قالت و هي تقبل
صديقتها :
معا إلى البد يا ريم ،معا إلى البد ••
كتبت ريم الى والدها التطورات الخيرة حكت له عن جو الجـــامعة و
الزميلت و الزملء و الساتذة ،و بالطبع عن شرط بقائها في الجامعة ،و
أرسل الب بدوره رسالة جميلة تحدث فيها مع أسرته عن سعادته بكل ما
عرف و عزمه على وصل الليل بالنهار من أجل تدبير المبلغ الذي يحتاجونه ،
مشيرا في معرض حديثه عن رغبته في أن تلحق به السرة في السعودية
بعد انتهاء دراسة ريم ،موصيا إياها في الوقت ذاته بتقوى الله و اللتفات
الدائم إلى دروسها لكي تثلج صدره بالتفوق الذي لن يرضى عنه بديل ،و رد
ت عليه ريم بأنها ستحرص دوما أن تكون عند حسن ظنه بها ،و عندما أرادت
أن تكتب له عن أحوال أعمامها توقف القلم في يدها ،برهة تردد و قلق عليه
،ثم تغلبت على ترددها و كتبت ،حكت كل شيء و قالت لبيها :
لن أعزيك في فقد عمي محمد ،فهو لم يمت إنه عند الله من الحياء إن
شاء الله ،لكنني سأرسل لك مع هذا الخطاب كل مشاعري و أحاسيسي
التي شربت مشاعرك و أحاسيسك علها تقف بجوارك و تقدم وعدها لك
خالصا بأننا سنعود ،و إن الشمل سيجتمع مرة أخرى مهما طال الزمن و
حرمتنا الغربة من بعض الغوالي ••
و كتبت سميحة إلى زوجها رسالة أرفقتها برسالة ريم قالت فيها ":أخيرا يا
أبا العيال تحقق الحلم ،أخيرا أثمر طـــريق الشوك عن فـجر جــديد ،ثــمرة
العــمر كله بدأت تيــنع و تزهر و تسفر عن أمل يا جهاد ••
ل أدري ماذا أقول لك أيها الغالي ،ســوى أنني عندما حـــسبت ســنين
العمر التي مضت و حذفتها من لحظة الفرحة الكبرى بثبوت ريم في الجامعة
وجدت أن تلك اللحــظة فاضت و زادت حتى غطت على كل سنين الشقاء
•• أتحسبني نسيت يا أبا العيال ؟ أتحسبني نسيت ليالي سهادك و أيام
جهادك ،أتحسبني لم أكن أسمع الزفرات الحرى تخرج من قلبك فتحرق
قلبي ،أم تحسبني لم أكن أسمع في الليالي الطويلة التي تقاسمنا الفراش
فيها وجيب قلبك و هو ينادي الفرج و يسأل الله سؤال المضطرين ،لقد
سمعت وشاهدت و عشت و أحسست و اليوم معك أحصد و إليك أهدي و بك
تستمر المسيرة ••
أبو العيال من أجل خاطر سميحة اهتم بنفسك و عد إلينا سريعا فالليالي
بطيئة بدونك و الصبر طعمه مر ،أولدنا في العيون و في حبة القلب ،و ريم
كما علمت أما قاسم فهو في الصف الثاني ثانوي يمضي قدما بدوره نحو
الهدف ماشاء الله شبيه أبيه ،يحمل عني كل الهموم و يقف بجانبنا في كل
المور و أصبح يلطف ســمر فترة أطول كل يوم و يحضر لها الحلوى و
اللعب ،و قد اختار القسم العلمي كما تمنيت ،أسأل الله أن يقدرك على
مصاريف تعليمهم أنه على كل شيء قدير ••
وضعت ريم الخطابين في مظروف واحد و مضت لتلقي الخطاب في صندوق
البريد المجاور •• و في طريق العودة لمحت سعيد يسير باتجاهها و كان في
شكله شيء غريب
بعد اليوم الذي مازحت فيه ريم سعيد ،لم يرها أبدا ،حتى ابتسامة المساء
التي عودته عليها اختفت بدورها ،لم تعد تخرج إلى نافذتها و أصبحت نظراته
المعلقة كل ليلة على نافذتها تتمنى رؤية الضوء المنبعث من الخصاص على
القل ،و كان يحلو له أن يتخيل ما تصنع الن قبل أن تطفىء النور و تنام ،
كان يتخيلها تارة ترسم و تارة تبدل ملبسها ،و كان خياله في كل مرة يجرفه
إلى يوم المنظمة ،هكذا أطلق عليه ،و كان كلما تذكر عبارتها يضحك و
تعتريه رعشة لذيذة تلف أوصاله و يتذكر كيف لمس دون أن تدري أطراف
شعرها بينما كانت تقف تمل بيانات الستمارة الخاصة بهم ،كانت منهمكة
جدا في الكتابة ،و الجو خانق إل من مروحة عابثة كانت تتجول فوق الوجوه
دون أن تخلف بردا ،و كان شعرها الكستنائي الطويل يتطاير كلما وصل هواء
المروحة إليه ثم يعود ليستكين إذا غادرته ،و ظل هو فترة يراقب هذا
المنظر في حين كانت الم مع ابنتها تحددان اجاباتهما و تضعان وصف
أوضاعهم في الوراق أمامهم ،اقترب خطوة فلم يفطنوا كثيرا إلى تغير
مكانه ،و أصبح شعر ريم المتناثر قيد أنملة منه ،كان جميل جدا ،مثيرا جدا ،
أو هكذا رآه ،نازعته نفسه إلى لمس الخصلت المتناثرة ،شعر كأن كل من
في البهو وقتها يعرف ما يدور برأسه ،اعتراه خجل غريب لم يشعر به من
قبل ،إل أن فضوله و رغبته في لمس هذه الزوائد الكستنائية الطائرة غلبه ،
مد يده قليل فلحظ ارتعاشتها ،تطلع حوله و أخرج منديله و طفق يمسح به
عرقه الذي خرج غزيرا ،عاود المحاولة مرة اخرى ،و اقترب كثيرا هذه
المرة بأصابعة حتى أن الشعر المتطاير في هذه اللحظة دغدغ أصابعه ،
تراجع بسرعة خوف أن تضبطه ريم بالجرم المشهود ،و عاد فابتسم عندما
وجدها تسأل أمها امرا فتجيب الم و تعودان للكتابة بانهماك ،مد يده بجرأة
أكبر هذه المرة و لمس الزوائد بهدوء و بخفة ،فشعر بأنه ملك الدنيا ،
استقرت أصابعه لحظة على أطراف شعرها قبل أن تعاود المروحة ممارسة
لعبتها المفضلة في بعثرة شعرها •• تراجع خطوة فعاد إلى مكانه ،لكنه كان
يضع يده في جيبه كشيء غالي يريد أن يحتفظ به ما استطاع ،كان يتحسس
أصبعه بأصبعه في جيبه و إحساس بالنشوة لم يفارقه ل في تلك اللحظة و ل
في أية لحظة أخرى مرت به بعد ذلك اليوم ،و رغم أن ريم هجرت النافذة
إل أنه لم يعتريه غضب ،لم يكن يريد أكثر مما أخذ زادا لليام المقبلة ،كان
وقوفه في شرفته يطالع النافذة يمده بالكثير من الفكار و الخيلة التي تجعل
البتسامة ل تفارق وجهه و كأنه يراها أو أنه يرى ابتسامتها •• ذلك المـــساء
فرك يــده و هو يتذكر ملمــس شعرها على أصابعه و يطالع نافذتها المغلقة ،
و فجأة هاجمه شوق ل منتهي لرؤية ريم ،تذكر فجأة أنه لم يرها منذ
أسبوعين و تعجب كثيرا لن هذه اليــام مــرت دون أن يراها و دون أن
يشعر بمرورها و تساءل بصوت سمعه :
إلى هذا الحد غيبتني هذه المخلوقة الثيرة عن نفسي ؟ وقع السؤال في
أذنه كان غريبا ،كان مستفزا ،فتح بعده الباب لعشرات السئلة و كان أهمها
على الطلق هو :
و لماذا ل أبادر إليها ،ما المانع ؟ وجده سؤال بديهيا و غريبا في آن واحد ،
ما الذي دفعه إلى الحجام عن التعبير عن مشاعره طيلة هذا الوقت ،لماذا
اعتبر أن التعبير خطأ لن تغفره ريم ،من أين جاءه هذا اليقين ؟ أسئلة كثيرة
قلبت ابتسامته تجهما و تطلع للنافذة و صاح فجأة :
لماذا ل تخرجين ؟ و عندما أيقن أنها لن تخرج كان قد قرر أمرا و أصر
عليه ،سيراها غدا و يحادثها ما استطاع و يخبرها أيضا بما يشعر به عل في
هذه المصارحة ما يخفف وطأة التغرب عن الذات الذي بات يشعر به مؤخرا
••
كان سعيد يقترب من ريم و على وجهه مسحة تجهم ،أو شيء من هذا
القبيل ،كان يبدو أنه لم يحلق ذقنه منذ أيام ،و كانت الهالت السوداء تحيط
بعينيه فتكسبهما عمقا غريبا ،عندما اقترب منها بادرته على الفور :
أستاذ سعيد ما بك تبدو مريضا ؟ تسمر في مكانه ،حاول الكلم ،لم
يستطع ،فتح فمه و عاد فأغلقه ،ماذا لو فقدتها إلى البد ،ماذا لو غضبت و
ملت الدنيا ضجيجا حوله ،ماذا لو اعتبرت أن حديثه أثر من ماضيه اللعين
الذي تعرف عنـه الشيء الكثيــر ،سامحك الله يا مريم ماذا أخبرت ريم عني
؟
لبد أن أمضي الن ،ليتك تأتي الجامعة لعرفك على زملئي الجدد •• و
مضت •• راقبها و هي تبتعد ،وقف طويل بعد اختفائها ،كانت شعراتها
مازالت تدغدغ أصابعه و ابتسامتها مازالت تدغدغ قلبه ،كانت صورتها مازالت
ماثلة رغم اختفائها عن عيونه ،نبرة صوتها ،حماسها و عيونها اللمعة •• و
انتبه •• لقد دعته ليزورها في الجامعة ،و لكن متى و كيف و أين سيراها ،
لقد تركته دون إجابة و مضت ،مد يده ليستوقف طيفها فيسألها ،لكنها لم
تكن هناك ،طوى يده في جيبه و مضى بدوره ••
اعتادت ريم على الذهاب للجامعة صباحا برفقة سوسن ،كانتا ل تتوقفان عن
الكلم حتى تصلن إليها و عندها تنفــصلن فتذهب سوسن إلى شــلتها التي
عرفتها أثناء غياب ريم و تنضم ريم إلى شلة الشغب الجامعي و يمضي
الجميع إلى المحاضرات ،كان أحمد يتعمد دوما أن يجلس بجوارريم ،ووجد
نفسه يبادر دائما ليجيب عن أسئلتها و يلحظ كل صغيرة و كبيرة تقوم بها ،
حتى عندما برزت ريم كطالبة فنانة و لحظ الجميع اهتمام معظم الساتذة
بها كان أحمد أول من لحظ اهتماما غير طبيعي نحوها من الدكتور محمد
المتجهم دوما ،إنها الوحيدة التي يوجه لها السئلة الخاصة على المل ،و ل
يتردد أبدا في توجيه عبارات مدح خفيفة إليها رغم أنها كانت نادرة ،ذات يوم
انتبهت ريم لحمد و هو يتأملها و عندما قالت :
لماذا تنظر إلي هكذا ؟ هل سكبت العصير على ثيابي؟
إنه يعني أنني منذ ستة شهور أتقلب في نار من نوع خاص ،نار لم أكن
أعتقد يوما انني سأعيش فيها •• ربما يدهشك هذا ،لكنني منذ اليوم الول
الذي اصطدمت فيه بوجهك الغاضب و كلماتك الجريئة عن كوني ل أصلح
زوجا ،منذ ذلك اليوم و أنت ترافقيني في صحوي و منامي ،تبا ••• كم يبدو
كلمي هذا مستهلكا ،كم يبدو غريبا تافها •• لكنها الحقيقة ،هكذا فجأة و
بدون استئذان أو ترتيب مسبق اقتحمت حياتي ،احتللت قلبي و عقلي ،و
صرت المرة الناهية فيه •• نوع غريب من الحب ،يملك علي حواسي ،
يفقدني السيطرة على ذاتي ،حب يشبه أن ترشف الكأس حتى الثمالة ،أن
تشرب الضوء حتى الحتراق ،أن تعيش حتى الموت ،و مع ذلك ل أجد فيه
غضاضة ،ل أرى فيه عجبا ،ل أحس فيه مستحيل •• هل تفهمين ؟ نظر إليها
و كانت تنظر إليه •• لم يكن ما قاله مجهول لديها •• كانت تعرفه و تستطيع
إن أرادت أن تصفه بأفضل مما وصف ،إنه حقا كما قال حب تسليم الرادة
طوعا لمن تحب •• هذا ما شعرت به و ما عرفته منذ أن عرفت سعيد ،في
رصدها الدائم لخدماته و تحركاته و تفانيه في العمل من أجلــها بالفكر و
الحـــركة و السؤال و التنفــيذ ،لقد عرفت كل هذا و أكثر و توقعت كل هذا
و أكثر •• لكن تظل المفاجأة قائمة فقد كانت مواجهة مبكرة جاءت أسرع
مما توقعت ••
هزت رأسها تفهما ،فأخرج زفرة ارتياح و عاد بظـــهره إلى الخـــلف و
تطـلع إلى السماء و قال و هو يأخذ نفسا عميقا :
ياه ه ه ه •••• !!! ظلت صامتة لبعض الوقت تتنازعها رغبة قوية في
قول كل ما تريد قوله ،في وصف ما تشعر به ،تريد أن يعرف ما تعرفه
لترتاح ،لكنها لم تجرؤ على الكلم و سمعته يهمس :
هذا ما كنت أريد •• هذا ما كنت أريد حقا ••
عندما صارحت ريم أمها بكل ما حدث معها هذا اليوم ،كانت تهدف إلى
أمرين أولهما أن تتخفف من كل ما سمعت ،اعتراف أحـــمد اللمبالي
بالحـــب كأنه يتحدث عــن الطقــس و اعتراف سعيد الممزق بالحب ،و
المر الثاني هو أن تفضي لها بمشاعر لم تستطع أن توصلها لكليهما و خاصة
سعيد •• سمعت الم كل ما قالته ريم ،كان عقلها يعمل بسرعة ،
استشعرت قلــقا مفـاجئا على ابنتها البكر هاهي تدخـــل معترك حيــاة
جديدة لم تألـــفها و يتحدث معها الرجال عن الحب و كأن الجامعة مكان
لتلقي العلم و الحب سألتها بحذر :
هل كان لبد أن يحدث ما حدث يا ريم في النصف الول لدراستك في
الجامعة ،إنك لم تكملي شهرين بعد فيها ،أين تذهبين ؟ ••• جامعة أم
منتزه عام ؟ ابتسمت ريم لمها مطمئنة و قالت بهدوء :
هذه المور تحدث دائما و بالنظر إلى علقة سعيد بنا منذ ستة أشهر فهو
أمر متوقع نسبيا ،أما أحمد فربما لنه شاب طائش ل يحسن التعبير إل
بالمباشرة ،أو لن المباشرة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يعبر لي بها
عن مشاعرألفة سرعان ما أحسها تجاهي فسرها بالحب و هي أبعد ما تكون
عنه ،كما أنني ل يعنيني أحمد هذا في شيء
و يعنيك سعيد ؟
خفق قلب ريم اضطرابا بعد سؤال أمها المباغت ،على أنها ابتسمت مجددا و
قالت بهدوء:
سعيد يا أمي حالة خاصة ،حالة ل أستطيع وصفها ،منذ عرفته و أنا متأكدة
أن هناك رباطا جمعنا ،غير أنه ليس رباط الحب ،أو ربما هو الحب من جانبه
،أما من جانبي فهو شيء مختلف ،مختلف لكنه عظيم ،إنه الحساس به
كرجل الحل الخير ،الحساس به كأنسان المهمات الصعبة ،الرجل الذي
يملك مفتاحا لكل أزمة و يملك القيادة بكل اقتدار ،إنه بالنسبة لي نموذج
لشيء لبد أن أتعلق به ،مثلما يتعلق الغريق بلوح طافي على وجه الماء ،
هل تعتقدين أن هذا الغريق سيحب هذا اللوح رغم أنه المنقذ ؟ سيرتبط به
ارتباطا آخر ارتباط استمرارية الحياة ،أو فلنقل ارتباط حتمي من أجل أن
تستمر الحياة •• هل تعتقدين أن جدارا يحمي الرأس من العاصفة و المطار
يمكن أن يعيش قصة حب مع من احتمى به ؟
بوسعك دائما أن تجدي ردا ينزل بردا و سلما على غضبك و سخطك و يحوله
رضا و ل مبالة ،و لكن إذا كانت التهمة من القرباء ،من الغوالي ،ممن
يهمك أمرهم و تتمنين لو همهم أمرك ،عندها تكون الطامة الكبرى ••
ابنة عمي إننا في غربتنا و لجوئنا بين نارين أستغرب كثيرا تأخرك في
الحساس بهما ،نار الغرباء من الجيل الجديد الذين ل يعرفون عنا إل ما تبثه
وسائلهم العلمية و هذه النار لمستها بنفسك •• و نار القرباء الذين يحولون
حياة البؤس التي يعيشونها في ظل احتلل ل يرحم و فاقة تغل العناق و
يوميات رعب متواصلة ،يحولون هذه الحياة إلى سياط نقمة على من أفلت
منها ،سياط نقمة و غضب على أولئك المترفين الذين ينامون آخر الليل
باطمئنان و يعيشون في تبات و نبات في انتظار هادم اللذات الطيب الذي
يأتي إليهم في وجبــة دسمــة ،أو نومة هنيـــئة ،أو رحلة متعة •• و هــذه
نار لم تلمسيها و لمستها أنا ،بين هذه و تلك يعيش فلسطيني اللجوء ،و
ليت المــر يقتصــر على الكلم و الضغط النفسي إذن لهانت و استطعنا
تحمله ،و لكنه يتحول إلى فعل يتمثل في تعليم عسير و شفاء عزيز ،
ووظيفة مستحيلة ،صراع يشبه ما تعيشينه يعيش فيه كل فلسطيني عادي ،
قد يخرج منا غول ل ينتمي إلى قيمة مثلما هو الحال مع كل الشعوب لكن
غولنا يصبح صفة عامة تطالنا جميعا و كأننا أصبحنا كلنا غيلن •• أسماء بارزة
قد تتحول إلى شياطين و يطالنا في ضعفنا و استكانتنا شرهم فنصبح في
العيون و قرارة النفوس شياطين بدورنا •• الفلسطيني في نظر العالم
شخص واحد ،و الشخص الواحد إما أن يكون طيبا أو يكون شريرا و قد
اختاروا لنا الصفة الخيرة ووسمونا بها •• اغضبي يا ابنة عمي ،اضربي
رأسك في الجدران ،اقتلعي مذياعكم و مزقي صحيفتكم ،لكنك في النهاية
ستجلسين في ركن قصي تجترين عذاباتك و لن يرحمك أحد ،أبي مات قبل
أسبوع •• مات و شفاهه متشققة تنطق بأسماء الغوالي فنسمع مع أسمائهم
صوت تكسرات ذاته ،أصبح الشوق لديه ماردا ،أصبحت اللهفة عنده مرض ،
فمات ،كم فلسطيني مات في اللجوء أنت روحه حنينا فلم يتلق أناته قلب
واحد تسكنه الرحمة ،كم لجيء حفظ وطنه ألبوما مهترئا و كيس رمل و
ذكريات طالتها العفونة و لم ينس رغم التهامات و النيران ••
ابنة عمي •• لن أتوقف عن الكتابة إليك و بدورك لن تتوقفي ،اغضــبي و
ثوري و ابكي و لكن ل تتوقفي عن الحب ،عن النتماء ،عن الهل ،ل
تصومي عن الحياة لن الخرين انتزعوا شربة الماء التي تحتاجينها لجوف
ملتهب قبل أن تبلغ فاك ،ل تصومي عن الحياة لن الذي وهبها هو وحده
القادر على استردادها ••
و بكت ريم ،بكت كما لم تبك في حياتها كلها •• بكت بنشيج مرتفع كان
داخلها يعوي ،كانت ذاتها مرهقة متعبة ،كانت الشباح تسكنها و الرياح تصفر
في رأسها ،كان كل شيء أسود ،و غلبها الخوف المريع ثانية ،غلبها الخوف
فاجتاحت دقات قلبها المرتفعة المتسارعة كل المان الذي كانت تظنه ،كل
اللمبالة التي تعلمتها فوقتها لبعض الوقت من الشعور بالخوف •• عندما
جاءت الم على صوت البكاء و جاء قاسم و جاءت سمر ،وجدوا الخطاب
ملقى على السرير مبلل بالدموع ،ثقيل بما يحمل ،أسود من نبأ الموت
الذي فيه ،فهمت الم و فهم قاسم و جلس على طرف الفراش و قال :
حاولت ريم في اليام القليلة الباقية على امتحان نصف العام أن تبتعد ما
أمكنها عن الجميع في الجامعة ،فكانت ترفض بهدوء شديد و بإصرار أي
دعوة لتذهب للستراحة مع زملئها ،و كانت تعتذر للدكتور محمد بأنها
مشغولة بالمتحان إذا ما سألها عن أحوالها أو حاول فتح حديث معها ،و
ظلت ترتدي اللون السود طيلة الوقت و تتخذ لنفسها مكانا منفردا على
الريكة في حديقة الجامعة بين المحاضرات و تغرس وجهها في كتاب أو
تنهمك في رسم لوحة ل تنتهي ،لتمنع أي متطفل من اقتحام خلوتها ،و
تشاور الصدقاء في طريقة تخرج بها ريم عن صمتها الختياري و توجهوا إليها
ذات يوم و بادرتها سمر :
ريم ،نحن ل نستحق منك هذا العقاب الصارم ••
رفعت ريم إليها عينيها و لم تجب و عادت للرسم فقال أحمد :
فؤاد أخطأ و سيعتذر لك و قال فؤاد بسرعة :
نعم أنا آسف •• و قالت هدى :
ريم نحن نحدثك ••
لم ترد و اكتفت بحركات عصبية على اللوحة كانت تشويها أكثر منها رسما ،
نظر الصدقاء لبعضهم و قال أحمد :
اسبقوني على الستراحة ،سأخبر ريم أمرا ثم ألحق بكم •• عندما
انصرف الجميع و بقي أحمد قال و هو يجلس بجوارها يطالع اللوحة :
ريم ،أعرف ما تفكرين به ،أعرف أنك غاضبة ،و أنك ترفضين صحبتنا ،
و لن نضغط عليك كثيرا ،إل أنني سأخبرك أمرا قد يعنيك أن تعرفيه •• أنا
أشعر بك تماما •• و في ذلك اليوم عندما أخبرتك أنني أحبك لم يكن حديثي
من قبيل اللهو ،و لكنه كان حديث نفس ،بالفعل أشعر أنني مرتبط بك
بشكل أو بآخر ،أشعر أنك قطعة مني ••
نظرت اليه ريم و قالت مقاطعة بغضب :
أنا لست قطعة من أحد ،و ل أريد أن أسمع هذه العبارات مجددا ،لم آت
إلى هنا من أجل الحب و لعب العيال ،لقد جئت لكي أتعلم و أحقق أحلمي و
انتمائي الشخصي الذي أريده ،و ل أريد المـزيد عنك أو عن غيـــرك ،و
ليتكم تبتــــعدون عني فــأنا لست منـــكم و سأظل وافدة غريبة عنكم إلى
البد و يحسن أن تتركوني لحالي •• فوجيء أحمد بنبرتها ،و عل سريعا
الغضب محياه و قال و هو ينهض :
يبدو أنني أخطأت عندما بقيت •• انصرف بخطوات سريعة ،لكنه لم
يذهب إلى الستراحة بل اتجه لمبنى الكلية •• رأته ريم عندما تابعته بعيونها ،
تابعت الرسم و في داخلها بركان •• استغرقتها الفكار فلم تتبين الظل الذي
أشرف عليها من الخلف ،و لم تنتبه إل على صوت الدكتور طارق و هو يقول
:
تحت أية مدرسة فنية يندرج هذا الرسم يا ريم ؟ التفتت إليه •• و عادت
للوحتها فيما اتخذ لنفسه مكانا بجوارها ،لمحت أحمد يقف بعيدا يراقبهما
فعرفت أن الدكتور طارق صديق الطلبة هو رسول أحمد و توقعت ما
سيجيء فقالت بهدوء :
دكتور طارق ،لقد كان لك الفضل بعد الله في التحاقي بالجامعة ،و لهذا
فلن أجحدك فضلك و سأستمع لما تريد قوله ••
ل شيء يا ريم ،ل أريد أن أقول شيئا معينا ،أريد فقط أن أعرف اسم ما
أنت فيه تنهدت ريم و قالت :
سمه اليأس إن شئت •• ابتسم الدكتور و قال :
حسنا و هو اسم مناسب لهذه اللوحة السريالية التي ترسمينها الن •• هل
قررت تجربة نفسك في هذه المدرسة ،أعرف أنك تنتمين إلى الواقعية ••
ضربت ريم اللوحة عدة ضربات قوية بالفرشـــاة و التفتت إلى الدكتـــور
طـــارق و قالت و دموعها تغسل عيونها :
أنا مهزومة يا دكتور ،مهزومة ،هل تعرف معنى الهزيمة ؟ ،معنى أن
ينهار الكون من حولك ،معنى أن تنهار القيم التي ركنت إليها طويل و شكلت
نفسك و كيانك ،قيمة أن تصادق و أن تعطي بإخلص و أن تثبت للجميع أنك
قادر على الحب و العطاء و قادر على الندماج و التحول مع المجـــموع إلى
شيء واحد ••هل جــربت يوما أن يضيع كل هذا فجأة و تجد نفسك شيئا
منبوذا ،هل جربت أن يحكم عليك الخرون من منظارهم الشخصي دون
اللتفات إلى صفاتك الشخصية ،هل تعلم مقدار النكسار الذي يمكن أن
يعشش داخلي عندما أفاجأ أنني موضع شــك و غير جـــديرة بالــثقة و ليس
من حقي أن أكون كالخرين و أختار لحياتي ما أريــده وفق ما تربيــت عليه ،
إنني في نظـــر الجمـــيع جنسية متهمة و ليس مجرد بنت عادية ،فؤاد قال
لي أنني في نظرهم الوافدة الثرية المدللة و أحمد قال لي أن لي وضعا
خاصا يجب أن أراعيه ،و ابن عمي سألني كيف لم أشعر بفكي النار من
الغرباء و القرباء حتى ذاك اليوم ،و عمي الثالث مات و أبي في غربته
يقاسي المرين و يكافح شوقا و حنينا مضاعفا من أجل تعليمنا و في الوقت
نفسه يصر الجميــع على أن كل هـــــذا ل يكفي ،كل هذا ل يسمــــح لي
بأن أكون كالجمـــيع و أعيش مثلهم •• أنا لم أقترف ذنبا في حق أحد ،لم
أتعد على خصوصية أحد ،لم أمارس معهم لعبة التجريح منذ عرفتهم ،
اتخذتهم أصدقاء و اعتقدت أنني صديقتهم ،أنني مخطئة ،منذ البداية مخطئة
،لم أكن منهم يوما و لن يكونوا مني ،لي وضع خاص يجب أن أراعيه في
الجامعة مثلما عشت عمري كله أراعيه في المدرسة ،مثلما هجرت طفولتي
مجبرة ذات يوم عندما كــــان أولياء المور يحتـــــجون على جــــائزة تفــوق
تمنح لوافدة و أولدهم ل •• مثلما قبلت أن أعيش في الظل حتى ل ألفت
النظار ،مثلما عودت نفسي دوما على قياس خطواتي قبل القدام عليها ،
عــــودت نفسي دوما على حسابـــات المكسب و الخسارة في مرحلة ل
يعرف فيها الصغار ما معنى المكسب و الخسارة ••
اسمعي يا ريم •• إذا سلمنا بأن كل إنسان يولد في هذا الكون عليه أن
يتعرف على ذاته و صفاته و إمكانياته و يتكيف مع ما منحه الله أو أخذ منه ،
لكي يجد له مكانا تحت الشمس ،لعرفنا سر عظمة طه حسين الكفيف ،و
أبطال السباحة المعوقين ،و لعرفنا أيضا السر في موت آلف البشر دون أن
يعرفهم أحد •• السر يكمن دائما في ذواتنا ،في قدرتنا على تلمس هذه
الذوات بكل نقاط ضعفها و قــوتها و محـــاولة تدعـيــم نقاط القوة و
تهميش نقاط الضعف •• لو استسلم كل ذي عاهة لعاهته لصبح البشر كومة
من ذوي العاهات المحبطين و لرجع الكون إلى الوراء و لم يتقدم خطوة إلى
المام •• قيسي نفسك جيدا ،فإذا رأيت أن جنسيتك هي عاهتك في زمن
يرفض العروبة و يمج شعارات الوحدة و يبسط يده مسالما للعدو ،فعيشي
ريم الفتاة التي منحها الله موهبة الرسم و القدرة على التقاط أدق الخلجات
و تصوير المشاعر و الحلم ،انجحي في هذا و اثبتي وجودك فيه و ل تتركي
المجال للحباط أن يسكنك لن نتيجته دائما ستكون هذا التشويه الذي
رسمت •• نتيجته تهميشك أنت و فشلك أنت •• قالت ريم بحزن و ضعف
شديدين :
لكن يا دكتور طارق ،جنسيتي هي كياني و انتمائي ،و إذا رآها البعض
عاهة فأنا أراها فخرا و عزة ،و إذا حاول البعض أن يجعل منها نقطة ضعف
فهي في نظري سر قوتي •• كيف أتعامل معها كعاهة إذا كان إحساسي بها
يختلف عن إحساس الخرين ،كيف أستطيع التوفيـــق بين ذاتي و ذواتهم و
نــحن نــرى الشيء ذاته بنظــرة مختلـــفة و برؤية مغايرة •• كيف يا دكتور
كيف ؟
حددي المعادلة بنفسك ،أنت المعنية بها ،و أنت التي يجب أن تبحثي عن
حل لها •• ليس بالعزلة و اجترار الحزن و لكن بالوقوف أمام المجـــتمع ،
إما أن يستسلموا لرؤيتك لذاتك و يعترفوا بك ككل و إما أن تستسلمي
لرؤيتهم و تعيشي كما يريدون •• مضى الدكتور طــارق ،ترك ريم غـــارقة
في التفكير •• حـــائرة ،تطالع لوحــتها البشعة و تبحث عن الحل •• و
عندما خفق قلبها خفقه الشديد ثانية قررت التوجه إلى عيادة الجامعة ،و
بالفعل وصلت الى هناك فوجدت الطبيب منهمكا في تضميد جرح لحــد
الطلب و ما إن رآها حتى صاح :
آه •• ريم أخيرا جئت للسلم على الطبيب العجوز ••
كيف حالك يا دكتور سامي ؟ لقد جئت إليك كمريضة مرة أخرى
خيرا إن شاء الله ؟ أطرقت ريم قليل فأنهى الطبيب عمله مع الطالب و
أعطاه دواًء و أوصاه بأشياء ،فلما انصرف قال :
خيرا يا ريم
أشعر بالخوف ••
ماذا ؟! جلست ريم و قالت :
يوم سفر أبي انقبض قلبي فجأة و داهمني شعور عظيم بالخوف ،ظل
هذا الشعور معي قرابة الساعة ،يصحبه دقات سريعة في قلبي و أشعـــر
بالعـــرق يخـــرج غـــزيرا مني ،و تراودني مشاعر رهبة ،ل أدري لي سبب
••رغم أنه لشيء حولي يخيف ،و هذه الحالة ظلت تتكرر عندي في فترات
متقطعة أشعر خللها أن قلبي يكاد يقف من الخوف ،هكذا دون أسباب
ملموسة ،و في اليام الخيرة أصبح هذا الشعور يلزمني ليل عندما أدخل
لنام و صباحا عندما أستيقظ ،كأنني أتوقع شرا دائما •• و اليوم جاءني هذا
الشعور قبل قليل •• قلت أستشيرك علك تجد السبب ••خاصة و إنني بت
أفيق مذعورة بمجرد أن يوقظني أحدهم •• كأنه يحمل لي الموت ••
ابتسم الطبيب و قال :
ل يوجد في العيادة كما ترين أدوات و أجهزة تساعدني في تشخيص هذه
الحالة ،لبد من عمل رسم قلب أول للتأكد من أن القلب بخير ،لكنني
يمكنني أن أساعدك بطريقة اخرى •• تطلعت ريم إليه متسائلة فأكمل :
أشك في أن مشاعرك هذه هي من قبيل الضيق النفسي ،نحن نتضايق
أحيانا فنعبر عن ضيقنا بأساليب مختلفة ،البعض قد يصيح و يصرخ و البعض
قد يبكي و البعض قد يشعر بالم عضوية في بطنه أو يديه و البعض تتزايد
دقات قلبه و يستشعر خوفا مجهول السباب مثلما يحدث معك ،فما الذي
يضايق طالبتنا الصغيرة ؟ ابتسمت ريم رغما عنها و قالت :
المضايقات كثيرة في هذه الحياة يادكتور
ارتجفت شــفتا ريم غضــبا و لمح الطبيب بداية شروع في البكاء على
ملمحها فأسرع يقول :
سأرسلك إلى عيادة طبيب خاصة ،هو صديقي و لن يطلب منك شيئا إذا
أعطيته هذه الورقة •• أخرج الطبيب قلمه و هم في الكتابة فاستوقفته ريم
و نهضت قائلة :
ل تكتب شيئا يا دكتور ،لن أذهب لي طبيب ،إنه أمر عارض بسيط و ل
يستحق القلق •• أشكرك على أية حال •• خرجت ريم بسرعة و لم تلتفت
إلى الطبيب الذي كان يناديها •• خرجت و هي تشعر أنها مضطهدة و وحيدة
في هذه الحياة •• لم تلتفت إلى أي مخلوق و عندما صارت بقرب باب
الكلية وجدت سوسن مع أصدقائها و بادرتها بسرعة :
ما بك يا ريم ؟
***
عندما دخل سيد غرفة أخته وجدها منكبة على كتبها فقال :
هل يمكن أن نتحدث قليل ؟ عرفت سوسن ما يريد محادثتها فيه فقالت :
هل يمكن تأجيل الحديث إلى ما بعد المتحانات ؟ فقال سيد :
لن أعطلك هو سؤال واحد
ما هو ؟
لماذا عادت ريم مبكرا اليوم إلى منزلها ،لقد رأيتها تعود بمفردها و كنت
أعرف أن محاضراتكم تنتهي في السادسة ،كما أن وجهها كان حزينا و لم
تنتبه لي شيء حولها فماذا حدث ؟ تنهدت سوسن و قالت :
في الحقيقة يا أخي ل أعرف ،كل ما أعرفه أن ريم في الفترة الخيرة
زخذت تسلك معنا سلوكا غريبا ،ترفض محادثتنا أو الجلوس معنا و تتخذ
لنفـسها مكانا منفــردا و ترسم أو تقرأ بدون هوادة ،ربما كان المتحان
القادم هو السبب ••• هز سيد رأسه و قال :
ل •• هناك شيء ما يضايقها كثيرا •• هزت سوسن كتفيها و قالت :
بعد المتحانات سوف أزورها لعرف •• أما الن فل وقت لدينا لنضيعه ••
أومأ سيد موافقا و خرج ••
***
عرفتك عن طريق تامر ،أرسل لي رسالتك الولى إلى عم عمر يرحمه الله
و طلب إلي أن أراسلك ••في البداية رفضت الفكرة ،فأنا ل أعرفك ،و ل
أعرف إذا كان الحديث معك مجدي أو ل •• و لكن بعد أن كتب إلي تامر
ثانية و اخبرني عن إحباطك في الخطاب الثاني قررت أن ارسل إليك هذه
الرسالة ،قررت أن أعـــرفك أكثر •• لقد بدأت تشعرين و تعرفين و هذا هو
الطريق الصحيح للوصول للهدف ،للوصول إلى الوطن •• ربما حالت
الظروف و الحدود دون زيارته ،لكن الزيارة ليست هي موضوعنا و إنما
المعرفة الحقيقية هي موضوعنا ،أنا مهندس كهربائي ،أعمل في الصحراء
الليـــبية ،في مشــروع كبير ،و رغم أن الحياة هنا ربما كانت أسهل من
الحياة في أي قطر عربي آخر إل أننا نعاني مثلما تعانون ،و أكثر ما يشغلني
هو ضرورة المشاركة في الكفـــاح المسلح في فلسطين ،و لقد حاولت
مرارا أن أتسلل إلى بلدي لكنني كنت اكتشف و أعذب بسبب هذه
المحاولت و للسف من عرب مثلنا •• أسمعي يا ريم سأحاول أن آتي إلى
مصر قريبا لرؤيتك ،و سأشرح لك عندها أشياء كثيرة ربما يهمك أن تعرفيها
و حتى ذلك الوقت استمري في طريق التعليم و حاربي من أجل النجاح فيه
إلى النهاية ••
سهيل سعيد القاسم طوت ريم الرسالة و تنهــدت ،ها هو قريب آخـــر
مازال يحلم بالوطن •• ابتسمت ساخرة و نهضت جالسة لتستقبل أمها التي
دخلت بحذر فلما وجدتها مستيقظة و الخطاب في يدها قالت :
من تامر ؟
ل ،لقد وصل في نفس اليوم الذي وصل فيه خطاب تامر لكنني لم اقرأه
إل اليوم •• إنه من سهيل ،أحد أبناء عمومتنا ،ل أعرف تحديدا درجة القرابة
،لكنه يعمل في ليبيا ••
كيف حالك الن ؟ تنهدت و قالت :
الحمد لله ،بخير ،لقد كنت متعبة قليل و كنت بحاجة للنوم ••
ألن تحكي لي أسباب تعبك ؟
صدقيني يا أمي ل شيء ،يبدو أنني أتعامل بحساسية مع المور أكثر مما
ينبغي ،هذا كل ما هنالك •• نهضت الم و هي تقول :
على راحتك ،هل أعد لك طعام الغذاء ؟
ل أشكرك ،لست جائعة ،صحيح يا أمي ما أخبار الستاذ سعيد ،لم أعد
أراه أبدا •• قالت الم و هي تغادر الغرفة :
لشيء•• إنه فقط ولد عاقل •• نهضت ريم ففتحت نافذتها و تطلعت إلى
شرفته ،كانت مغلقة مهجورة ،كأنها لم تكن يوما المكان المفضل لسعيد ،
منذ أيام و هي تراها مغلقة دوما •• تنهدت و اتجهت للوح الرسم و تطلعت
مليا إلى حدوده و قالت :
منذ زمن لم أرسم •• كأنني انقطعت فجأة عن كل ما أحب •• أمسكت
قلمها الفحمي و شرعت في رسم بعض الخطوط ••
***
اهدئي يا ريم •• ابقي كما أنت •• فتحت عيونها فغزا شعره البيض مجال
رؤيتها ،كان يغرس حقنة في وريدها ،شعرت بشكة البرة فتأوهت ،ثم
استكانت مستسلمة لما يحدث ،اقترب من فراشها وجه ل تعرفه ،كان شابا
أشقر الشعر وسيم الملمح ،له شارب كث يشبه شارب أبيها ،مد يده
ووضعها على يدها المستكينة للحقنة و همس بصوت عميق :
سلمتك •• هزت رأسها ،فأكمل و هو يبتسم مشجعا :
لقد تركنا اللجان تضامنا معك ،و هناك من يحدث العميد باسمنا في شأنك
و عما قليل يصلون •• قرأ في عينيها السؤال فأجاب فورا :
نحن الطلبة الفلسطنيين في الجامعة ،جئنا من مــختلف الكليات عندما
وصلنا الخبر ،و الزميل بسام يتحدث الن مع العميد و اعتقد أنه سيعود إلينا
بعد قليل و معه نتيجة المحادثة •• ربت على يدها و قال :
آمل أن تكون كما نتمنى •• هزت ريم رأسها و قالت بضعف شديد :
ل فائدة ،ل فائدة •• ربت بقوة على يدها يهدئها و قال بثقة :
ليأس مع الحيــاة يا ريم ،كلنا مررنا بما تمرين به ،و إن هي إل لحظات و
يسوى الموضوع •• جاء بسام ،كان شابا طويل نحيفا أسمر البشرة في
ملمحه قوة و في صوته حزم قال بمجرد دخوله :
سوي المر يا أصدقاء •• كيف حالها ؟
عندما غادرت العبارة ميناء السويس متجهة إلى ميناء جدة تحمل ريم و
أسرتها ،تركت ريم قطعة من قلبها هناك ،كانت الباخرة تبتعد بهم ببطء
مخلفة خيطا أبيضا طويل ينتهي على المرفأ حيث وقف سعيد يلوح لهم بيده ،
ظلت يده مرتفعة تعلو على كل اليادي المـــلوحة ،ظـــلت ريم تلمحـــها
حتى عنـــدما اختفى المــرفأ و اختفى الناس ،و تنهدت تاركة لدموع الوداع
العنان ،و عل داخلها صوت يسأل بلوعة :
" ترى هل سأعود ؟" و لم تسمع إجابة ،لم يكن هناك ثمة من يجيب ،
فالوداع في حياتها دوما كان صنو الفراق الطويل •• عندما بدأت السرة في
حزم حقائبها بعد انتهاء المتحانات النهائية لريم ،كان هناك اتفاق ضمني
بينهم على أنهم لن ينتظروا الشهادة ،و ستبقى هناك رهن ظروف قد تفرج
عنها أو ظروف تبقيها في طي النسيان •• كان سعيد معهم في خطوات
السفر كدأبه دائما عندما يحتاجونه ،كان ينهي الجراءات بروح ثقيلة و عيون
مغلقة ،كان إذا جاء بعد إنهاء إحداها يستقبل أسئلتهم بأوراق يمد يده بها
تنبيء عن نجاح المهمة و ل يتكلم ،و يظل يعاود السؤال الوحيد مرة بعد مرة
" :هل سأراكم مجددا ؟" و تجيب الم مرة بعد مرة " :اللقيا نصيب "
فيطرق برأسه و تسمع ريم تكسرات روحه ،و تلمح بعيون قلبها رفض ذرات
كيانه لهذا الرحيل النهائي و تقرأ في عيونه الرجاء الصامت فل تجيب و إنما
تبتسم مشجعة ،و في ليلة السفراجتمعا سويا في صالون المنزل
وحـــدهما ،كـــان ثمـــة ما يشغل الم و يشغل قاسم قبل السفر ،تطلعت
إلى الحقــائب المكدسة عند باب البيت و تنهدت تقول :
من يصدق ،ها نحن نغادر أخيرا بعد سنين الملحمة •• رنا إليها بعيون
أضناها السهر و قال بصوت كسير :
هل أنت سعيدة يا ريم ؟ تطلعت إليه و قالت بحنان :
أستاذ سعيد •• رغم كل ما عانيته هنا حتى انتهى تعليمي فإنني أشعر
إجمال أنني كنت في بلدي و بين أهلي ،لن يغير هذه الحقيقة بعض
الصعوبات التي واجهناها ،و لن يمحو تعلقي بها محن قاسية مررنا بها ،كيف
أنسى مسقط رأسي ،أو أتــنكر لبـــلد نشـــأت فيه و كبرت و تعلمت الكلم
وتلقيت فيه العلم ،صدقني يا أستاذ سعيد ،أنا أحب مصر حبا عظيما ،و في
قلبي مكان لكل شخص عرفته يوما أحبني أو أبغضني •• و ضحكت بعصبية و
هي تفرك يدها و تكمل :
حتى الستاذ شاكر مدير شؤون الطلب بالجامعة ،ل أحمل له ضغينة •• و
أعرف أنني سأحن إلى أيامه ،إلى زملئي في الجامعة ،صديقاتي ،بيتنا ،
شارعنا ،و حتى القمر الذي أعرف أنه الوحيد الذي سيرافقني إلى هناك ••
تطلع إليها و همست روحه قبل أن يهمس بألم :
و أنا ؟ جلست بجواره و قالت بحرارة :
أنت ؟ أنت الكائن الوحيد الذي لن يكون حنيني إليه شوقا عابرا ،الوحيد
الذي لن يغادر ذاكرتي ما حييت ،أل يكفيك أنني سأتذكرك و أذكرك في كل
لحظة من لحظات حياتي ،إذا فرحت ،و إذا حزنت ،إذا ضاقت علي الدنيا و
إذا ابتسمت لي ،إذا تطلعت إلى القمر ،أو استيقظت في الصباح ،أو نمت
عند المساء ،إنك غال جدا يا أستا•• قاطعها ،وضع راحته على فمها بسرعة
و همس برجاء:
سعيد •• قولي سعيد فقط •• ال أستحق هذا في اليوم الخير معا ،
أرجوك •• انفلتت منه بسرعة و نهضت و قالت بارتباك :
ما سيعذبني هناك هو إحساسي بأنني لم أستطع موافاتك حقك يا •• أســـ
•• أقصد يا •• ابتلعت ريقها و نظرت إليه ثم قالت بسرعة :
يا سعيد علت وجنتيها حمرة خجل و شعرت بحرارة الكلمة فاغمضت
عينيها ،و عندما فتحتهما كان سعيــــد واقفا أمـــامها ،في عيــــونه حــب
الدنيا ،مد يـــده فأمسك يدها فلم تفلـــتهما و استمعت إليه و هو يقول :
أعرف أنني أحببتك دوما و إنك لم تبادليني حبا بحب ،لكنني أريدك أن
تعرفي إنك الكنز الوحيد الذي وهبه الله لي في وقت كنت بأشد الحاجة فيه
إلى هدية تنير طريقي ،صدقيني يا حبيبتي •• لم أعرف طريقي أبدا إل بعد
أن أحببتك ،و لم أعرف لهذه الحياة معنى إل عندما وجدتك تتربعين على
عرش قلبي ملكة متوجة بل شريك ••و لن امتلك ناصية السعادة المطلقة إل
حين يجمعنا الله سويا زوجين في هذه الدنيا •• ربما ليس الن •• ربما ليس
غدا ،لكنني أسأل الله أنني عندما يحين قضائي أن يكون بين يديك ••
وتكونين آخر من أرى يا ريم يا حبيبتي •• كانت يده تضغط على يدها فتؤلمها
،لكن لم يكن لديها القدر الكافي من الشجاعة لتسحب يدها •• كانت
تسمعه و تؤنب نفسها و قلبها الذي لم يشارك هذا المحب حبه ،كانت تعرف
أنه صادق ،صادق حتى النهاية ،و لم تعرف بماذا تكافيء صدقه ،و ل كيف
توفيه شكره ،إل أنها أضمرت في نفسها أمرا تنفذه قبل رحيلها بدقائق ،و
هكذا عندما سلموا جميعا السلم الخير و توجهوا الى الباخرة تمهلت قليل و
تركت لوحة مغلفة بجواره كان الجميع يعتقد أنها ستحملها في الباخرة معها و
عندما نبهها قاسم إلى أنها نسيتها ،لكزته و قالت :
لم أنسها •• إنها هدية لسعيد •• كانت لوحة "لجئة " الصلية التي رسمها
لها يوما الدكتور محمد و أعطاها هدية لها بعد انتهاء المتحانات في اليوم
الخير بعد أن ظلت طيلة العوام الربعة تزين جدران المعرض الدائم و بعد
أن حازت على إعجاب كل النقاد ،و كتبوا عنها في الصحف ،و رغم أن
الدكتور محمد أعطاها لها و أوصاها أن تحافظ عليها بعد أن ظلت ترجوه أن
يعطيها إياها منذ رسمها ،فقد وجدت أنها عند سعيد ستكون بأمان أكثر ،
ووجدت نفسها مرتاحة إلى هذا القرار و كتبت عليها من الخلف " إلى سعيد
•• الواحة المنة لللجئة ريم و عندما اختفت الباخرة من أمام سعيد •• أنزل
ذراعه المودعة ،و استدار ليغادر بنفس كسيرة ،ملتاعة ،اصطدمت قدمه
باللوحة المغلفة •• رفعها و استدار بسرعة كأنه سيتمكن من مناداة ريم
ليعطيها ما نسيت ، ،لكن الباخرة كانت قد ابتعدت بريم ،حمل اللوحة
كشيء غال ،أحتضنها و غادر الميناء •• *** سطح الباخرة كان المكان
المفضل لريم دائما في سفراتها إلى السعودية عندما كانت تذهب لزيارة أبيها
،و في هذه الرحلة كان بينها و بين السطح موعد دائم ل تقطعه إل سويعات
النوم القليلة في الكابينة المخصصة لهم ،و في الفجر كان ركاب السفينة قد
ألفوا منظر ريم و هي منكبة على لوحة ترسم فيها الشروق كما تراه من
هناك ،كانت خطوط ريم قد اكتسبت قوة و مهارة بعد سنوات الدراسة ،و
كان اتجاهها نحو الواقعية رغم ما واجه من انتقاد يعطي للوحاتها قيمة كبرى ،
و قد استطاعت خلل سني دراستها أن تحصل على العديد من الجوائز في
المعارض المشتركة و كان حلمها أن تصنع معرضا خاصا بها في يوم من
اليام و قد شجعها على ذلك الدكتور محمد الذي كان يشيد دوما بموهبتها و
أخبرها قبيل سفرها عن استعداده لتبني معرض شخصي لها إن هي أرادت ،
إل أن السفر أجهض هذا الحلم مؤقتا •• و أصبح لريم مع مرور الزمن
طقوسها الخاصة و عاداتها التي ل تفارقها عند الرسم ،فهي ل تستطيع أن
ترسم إل لو كانت إحدى الفرشات بين شفتيها في وضع مستعرض ،كما أنها
أصبحت تلقائيا ترتدي اللون الزرق إذا قامت لترسم ،و سميت مجازا لهذا
السبب بين زملء الجامعة " ذات الرداء الزرق " و كانت تختبر مزيج اللوان
على ظهر كفها قبل أن تضعه في لوحة اللوان •• لذا فقد كان منظرها مثير
للتأمل و هي ترسم لوحة الشروق عند الفجر على سطح الباخرة ،أما
المتــــأمـــل فقد كان رجــــل خمسينيا يرتدي بـــذلة الرياضة و يمارس
بعض السويدي على السطح ،استوقفه منظر ريم ،فاقـــترب كثيرا و لم
تشعر به تأمل المنظر و شدته براعتها و دقتها في تصويره و عندما بدأت في
مزج لون الشروق على كفها ثم استقرت على اللون النهائي و بدأت في
وضعه على اللوحة قال بسرعة :
لو أنه أغمق لكان أفضل •• ارتاعت ريم فنظرت بسرعة لمحدثها و
أوقعت الفرشاة من بين شفتيها و قالت بسرعة :
بسم الله الرحمن الرحيم •• ضحك الرجل و هو يضرب صدره يستنشق
الهواء كأنه يشــربه و يقفز قفزات متتابعة قال :
آسف •• هل أفزعتك ؟ كزت ريم على شفتيها مغتاظة و قالت :
أل ترى ذلك ؟ فقال باسما :
آسف مرة أخرى ،أنا عبد الرحمن ،رجل أعمال سعودي ،و اعتبر نفسي
من متذوقي الفن التشكيلي ،لذا أقترح أن تزيدي درجة هذا المزيج اللوني
ليتناسب مع وقت اللوحة ••ل تنسي ،مازال الليل يجمع فلوله •• تأملت
ريم لوحتها و دققت النظر في اللون الذي اختارته لسمائها فوجدت أنه على
حق أومأت برأسها و قالت :
معك حق •• لبد أن يكون أكثر دكنة •• شرعت فورا في إضافة قطرة
من اللون السود على المزيج فأصبح أكثر دكنة و عندما خطت بفرشاتها على
اللوحة بدا اللون مناسبا •• توقف عبد الرحمن عن رياضته و أخذ يتأمل
اللوحة و قد شارفت على النتهاء صامتا ،كانت ريم قد أعادت الفرشاة
الخرى إلى فمها و بدأت تركز مجددا فيما تعمل حتى أنها نسيت أمر الرجل
الواقف بهدوء خلفها وبعد قليل ،رفعت الفرشاة من فمها و تنهدت بارتياح
قائلة :
الحمد لله ،انتهيت •• ألتفتت فلم تجده ،شكت للحظة أن تكون واهمة ،
أسرعت فرفعت أدواتها و نزلت بسرعة إلى الكابينة •• *** كان العشاء هو
الوقت المفـــضل لدى ريم ،إذ أنهــــم كانوا يتوجهــــون إلى مطــعم
الباخرة و ينعمون بطلب المأكولت البحرية التي يجيد المطعم صنعها
فيأكلونها على أنغام موسيقى هادئة يوفرها المطعم لمرتاديه ،و لن ريم
فنانة أساسا فقد كان هذا الجو يمنح خيالها بعدا آخر ،و لم تكن أمها أو أحد
إخوتها ليقطع عليها إغراقها في الخيال و الصمت الذي تمارسه اختيارا بمجرد
استرخائها على مقعدها •• و كانت ريم قد ارتدت ثوبا بسيطا أنيقا و رفعت
شعرها فبدت أكثر وقارا و أكبر سنا •• عندما انتهت السرة من تناول وجبتها
فوجئوا بأن حسابهم مدفوع ،و عندما استفسروا عمن دفعه أشار النادل إلى
عبد الرحمن الذي كان طوال الوقت في الطاولة التالية لهم ،رفضت ريم
هذه المكرمة و أعطت للنادل نقوده و طلبت إليه أن يرد النقود إليه ،نهض
عبد الرحمن و توجه إليهم و حياهم بهدوء ،فقالت ريم شبه غاضبة :
نرجو أل تكرر ما فعلته ثانية يا أستاذ عبد الرحمن •• فسحب كرسيا و
جلس دون دعوة منهم قائل :
لم الغضب يا آنسة ،إنني رجل أعمال ،و ل أبعثر نقودي دون هدف أبدا
•• بدا على الم عدم الفهم و نظرت إلى ريم و قبل أن تسألها أجابت ريم
بسرعة :
أمي إنه الستاذ عبد الرحمن ،رجل أعمال سعودي ،تعرفت إليه عند
الفجر اليوم بينما كنت أرسم لوحة الشروق •• هذه أمي ،و هذا أخي
قاسم ،و هذه أختي سمر •• ابتسم الستاذ عبد الرحمن للجميع و قدم تحيته
الخاصة لكل منهم ثم قال :
آنسة ريم ،لقد أعجبتني لوحتك و أنا على استعداد لشرائها منك ••
فوجئت ريم بطلبه •• فنظرت إلى أمها و قالت :
في الحقيقة •• في الحقيقة •• ل أعرف •• لم يسبق لي بيع إحدى
لوحاتي ،و هو أمر جديد كليا •• ضحك رجل العمال و قال للم :
أحضرينا يا ماما •• فقالت الم بعد تردد :
المر يعود لك يا ريم ،هي لوحتك على أية حال •• لمس رجل العمال
ترددهـــــا في اتخاذ القرار فأخــــرج بطاقة تحمل اسمه و أرقام هواتفه و
دعاها إلى التصال به عندما تستقر على رأي ،أخذت ريم البطاقة و راقبته و
هو يبتعد و نظرت إلى امها و إخوتها و فجأة ملت وجهها ابتسامة كبيرة و
همست :
إنها الحياة العملية قد بدأت •• *** وصلت الباخرة إلى ميناء جدة و بعد
عدة ساعات من النزال و إنهاء الجراءات غادرت السرة الميناء في سيارة
الب ذات الموديل القديم ،كان الجميع سعيدا و تناثرت عبارات الشواق و
التحيات و الحكايات السريعة عن الحوال و أخبار المعارف و الصدقاء ••
كانت ريم تشعر باسترخاء كبير و سعادة فائقة لعرض رجل العمال ،فهي قد
جاءت لتبدأ حياة جديدة ،و البداية حتى الن مطمئنة و تبشر بخير وفير •• و
عندما تحلق الجميع حول مائدة العشاء كان الحديث كله لريم التي لم تأكل
قدر ما تكلمت ،و حكت لبيــها ماحــدث معهم في الباخرة و ما تشعر به
إزاء ذلك ،و سألته عن رأيه فقال :
يجدر بك أن تتأني قبل اتخاذ أي قرار •• عليك أول بالتعرف على الوضاع
هنا و نمط المعيشة فليست السعودية كمصر ،هناك فروق جوهرية
ستلمسيها بنفسك و آمل أن تجدي نفسك هنا •• و كانت ريم تعرف من
خلل زياراتها السابقة إلى المملكة العربية السعودية الخصوصية التي تتمتع
بها البلد و تختلف عن أي بلد آخر •• و تدرك تماما ذلك البون الشاسع بين
حياتها في مصر و حيـــاتها في السعودية ،لذا تفهمت رأي أبيها جيدا و قدرت
له ما قاله و تساءلت عن البداية و كيف ستكون ••• كانت ريم تمضي جل
يومها في الرسم ،و كانت الحياة معها تسير على وتيرة واحدة ،تستيقظ في
الصباح فتتبادل مع أمها الحاديث و العمال المنزلية حتى يأتي الب من عمله
فيتحلق الجميع حول الغــــداء و يتبادلـون الحـــديث و من ثم يأخذ الجميع
قيلولتهم و عند الخامسة يتجه الب إلى عملــــه ثانية و تبدأ الم في متابعة
البرامـــج التــــلفازية و تستغرق ريم في الرسم حتى يعود الب •• و كان
يمكن أن تظل حياتهم على هذا النسق لول التغير المفاجيء الذي حدث معهم
عندما قرر كفيل الب أنه بحاجة لخدماته في الرياض العاصمة ،و لم يكن
بوسع الب أن يرفض هذا القرار فهو في البداية و النهاية يسعى وراء
عيشـــه و عيش أسرته وفــــق المتــــاح ،و هكذا لملمت السرة حاجياتها و
انطلقوا إلى الرياض بعد أن سافر قاسم إلى مصر لتمام تعليمه في كلية
الهندسة مصحوبا بالنصائح و الدعوات •• يرافقه قلق الب و الم على غربته
وحيدا •• *** في الرياض استطاع الب أن يجـــد سكنا عائليا رخيصا في
منطقة يتجمع فيها الجانب و من النادر أن تعيش فيها أسرة سعودية ،كانت
عمارة سكنية قديمة يعيش فيها أخلط مختلفة و جنسيات عديدة من سوريا
و السودان و مصر و اليمن ،استقرت السرة في شقتها و بدأت في التعرف
على جيرانها فاختلفت قليل يوميات ريم إذ بدأت في الختلط بجيرانها و
التعرف من خللهم أكثر على مجتمع الرياض و فــــرص العمل و الحياة فيه ،
و كانت موهبة ريم أمر رئيسي في اتســـــاع رقعة معارفها هناك ،إذ تبــادل
الصـــــدقاء و المعارف أنباء هذه الفنانة فكانت تتعرف كل يوم على وجه
نسائي جديد و كانت تستقبل طلباتهن بترحيب كبير خاصة عندما يتعلق المر
برسم وجه طفل لهذه ،أو طفلة لتلك ،و لم تكن تتقاضى أي أجر على
عملها إذ كانت تعتبره من قبيل تمرين اليد حتى ل تصدأ مع مرور الزمن •• و
في غضون ذلك استطاعت ريم أن تتعرف أكثر على الجو العام للمدينة من
خلل الصحف و المجلت المحلية التي كانت حريصة على تصفحها و قراءتها
عندما يأتي بها الب مساًء •• في ذلك الوقت تحــــديدا بدأت انتفاضة أطفال
الحجارة في فلــــسطين و كـــانت الصحف و المجلت و نشرات الخبار
مليئة دوما بأخبارهم و صورهم ،و كانت ريم مع أبيها أكثر المهتمين بالحديث
حول هذا الموضوع صباحا و مساًء و كم تمنت ريم لو استطاعت المشاركة
في دعم النتفاضة المباركة بأي عمل وواتتها الفرصة عندما شاهدت عبر
مجلة الخدمات المرئية في التلفاز السعودي دعوة من جمعية الثقافة و
الفنون لجميع الفنانين العرب للشتراك في معرض عن أطفال الحجارة ،
شعرت للحظة أن هذه الدعوة موجهة لها شخصيا ،فوظفت طاقاتها الفنية
لهذا العمل ،و شرعت فورا في الرسم •• و عندما انتهت كان ما رسمته
جميل بحق فقد رسمت صورة طفل يقتلع جبل ليقذف به عدوا يرتجف •• و
اتصلت ريم على الجمعية و أخبــرتهم بأن لديها مشاركة ،طلبوا إليها إرسالها
مع أبيها و انتظار ردهم •• و لم يتأخر الرد و ذات صباح حمل إليها رنين
الهاتف البشرى بقبول لوحتها ضمن أعمال الجمعية المتميزة ،و علمت فيما
بعد أن هذا المعرض سيشارك في أكثر من دولة على مستوى العالم دعما
للنتفاضة الفلسطينية •• في المساء عندما جمعتهم الجلسة بعد العشاء
تنهدت ريم و قالت دون أن تخص أحدا بكلمها :
و بعد ؟ عم الصمت الجلسة فلم يكن أيا منهم يملك الرد ،إل أن الم
قالت بعد فترة :
لما ل تقدمين أوراقك للعمل في أي مدرسة كمعلمة رسم ؟ لم تجد
الفكرة قبول لدى ريم إل أنها قالت :
و لم ل •• و لكن هل نسيت شهادتي يا أمي ؟ إنني لم أحصل عليها بعد
•• تنهدت الم وعادت للصمت فقال الب :
يؤسفني يا ابنتي أنني لن أتمكن من تسديد مصاريفك للحصول على
الشهادة فالمبلغ الذي يحتاجه قاسم كل عام ضعف المبلغ الذي تحتاجينه و
ليس بمقدوري الحصول على مال يكفي الجميع ليس قبل عامين عندما ننتهي
من تعليم قاسم •• ابتسمت ريم و قالت لبيها :
يكفيك ما عانيت يا حاج ،كان علي أنا أن أدبر المبلغ ،لكن كما ترى ل
يوجد عمل لمن تحمل مؤهلي •• فقالت الم على الفور :
ألم تعرض عليك جارتنا السودانية أمل عمل قبل يومين •• أجابت ريم
مستنكرة و قالت :
يا أمي العمل في سوق نسائي كبائعة طوال اليوم ليس بالعمل الذي
يناسبني ،ل تنسي أنني ل أتقن فنون البيع ،بالضافة إلى أن أجرة هذا العمل
ضئيلة جدا قياسا على تعبه ،إنني بعد يوم عمل في السوق لن أتمكن من
الرسم ساعة واحدة •• هزت الم رأسها و همست :
أمر الله •• فقال الب :
أتركي ريم في حالها يا سميحة ،لم نعلمها لتصبح بائعة •• فقالت الم و
هي تتأهب للدفاع عن وجهة نظرها :
اسمع يا جهاد و أنت يا ريم ،ل يقدر على القدرة إل الله ،و هذا هو المتاح
حتى تستطيعي تحرير شهادتك من الجامعة بمصر ،صحيح هو قليل لكنه
عندما يدخر سوف يكون المبلغ المطلوب ،هذا من ناحية ،و من ناحية أخرى
العمل في السوق سوف يجعلك تعرفين أناسا جددا و مستويات مختلفة وقد
تجدين فرصتك يوما ،ل شيء بعيد على الله ،بدل من هذه الدائرة المفرغة
التي ندور فيها و ل نعرف طريقا للخروج منها •• بدا القتناع على وجه ريم ،
و نفث الب دخانه و قال :
يبدو كلما منطقيا •• لكنه شديد القسوة •• تنهدت ريم و قالت :
ل نملك إل المضي فيه ،غدا أكلم أمل إن شاء الله •• *** التحقت ريم
بالعمل مطلع السبوع التالي مباشرة ،و كانت قد قابلت صاحبة السوق
النسائي مقابلة شخصية و قبلتها المرأة بعد أن عرفت ظروفها و تقرر لها أن
تعمل كبائعة في محل للدوات المنزلية براتب شهري قدره 058ريال سعوديا
•• و في اليوم الول لعملها عرف الجميع موهبتها عندما أعادت ترتيب
الدوات المتناثرة بذوق عالي و استخدمت ابتسامتها الساحرة في استقطاب
عميل ت للمحل و انشغلت بعملها الجديد حتى إنها كانت ل ترى إل منكبة
على لوحات ورقية تكتب عليها ما يتميز به محل الدوات المنزلية من
تخفيضات و فرص ذهبية للمشتريات •• و ذلك المساء عندما عادت ريم من
عملها كان يبدو عليها الملل و الرغبة في البكاء فسارعت الم إلى إعطائها
رسالة وردت من ليبيا باسمها و أحضرها الب معه ظهرا ،أمسكت
المظروف و قالت بل مبالة :
إنه من سهيل •• كانت كلمات الرسالة قليلة و مقتضبة و فيها خبر واحد
هام هو أن سهيل سيأتي إلى السعودية بعد شهرين للعمل في الرياض بعد
أن توفرت له فرصة عمل كان ينتظرها •• أبلغت ريم أمها بما في الرسالة
فقالت الم :
أعرف ما بك ،فلن أسألك •• قالت ريم :
يكاد الملل يقتلني ،نفس العمل بنفس الطريقة كل يوم ،حتى العبارات
التي أتبادلها مع زبائني هي نفسها ،البضائع متشابهة و الوجوه متشابهة ،و
أصابعي أصابها الصدأ ،هل تعرفين يا أمي منذ متى لم أرسم ؟ قالت الم و
هي تنصرف :
سأعد لك العشاء ،لبد أنك جائعة •• تنهدت ريم و استلقت على فراشها
و همست :
كم أتوق الى التغيير •• *** لم تكن الم بحاجة إلى أن تسمع من ريم
أحوالها ،فهي على اطلع دائم على يومياتها ،تعرفها منها و تكاد تحفظها ،و
هي تعلم أن ابنتها هجرت الرسم لن عملها يتطلب منها الوقوف على قدميها
الساعات الطوال و إرهاقها خلله كان يدفعها إلى الفراش دفعا بمجرد عودتها
،تعلم أن ريم لم تعد تواجه لوحتها إل لتخط عبارات دعائية مزخرفة الركان
و الحواشي منذ ما يقرب من ثلثة شهور ،و تعلم أن ريم غير راضية عن
عملها هذا ،إل أنها عاهدت نفسها على أل تتـــحدث مع ريم في هــــذا
الموضوع لئل تثبط همتها و تدفعها لجترار ضيقها فيتضخم حد المأساة ،كانت
الم ترى أن هذا الوضع بداية انفراج رغم ما يكتنفه من ضيق ،فهي منذ ثلثة
شهور تجمع راتب ريم و تضعه في علبة داخل خزانة ملبسها و ل تمد يدها
إلى قرش فيه رغم احتياجهم أحيانا إلى بعضه ،و رغم إصرار ريم على أن
يساهم راتبها في مصاريف البيت ،لكن الم كانت ترفض و تجبر نفسها و
ابنتها على عدم صرف أي قرش منه ،و أصـــبحت ريم تتجــــاهل كونها في
سوق و تتعرض لمغريات شراء عالية كل يوم فهي تعمل مؤقتا من أجل
هدف واحد و ل بد من تحقيقه مهما كلفها المر من صبر •• هذا من ناحية
ريم ،أما سمر و التي كانت قد بلغت العاشرة من عمرها فقد تمكنت الم
من الحاقها بمدرسة إبتدائية في حيهم لستكمال دراستها التي بدأتها في
مصر ،و كان قاسم قد أرسل إليهم بانتهاء الفصل الدراسي الول للسنة
الثالثة بكلية الهندسة ،و لما كانت السرة ل تستطيع تحمل نفقات سفره
فقد تقرر أن يظل في مصر فترة الجازة ،إل أن هذا المر وقف أمامه عائق
القامة فلقاسم إقامة في مصر و إقامــــة في السعودية و إذا مرت ستة
شهور على أي القامتين دون أن يدخل صاحبها البلد سقطت و تعذر عليه
العودة مجددا ،لذا فقط اضطرت السرة إلى ضغط نفقاتها و استعمال بعض
من مدخرات ريم لكي يتمكن قاسم من الحضور بواسطة الحافلة إلى
الرياض ،و بدا أن السرة قد نظمت أمورها و استجابت لظروفها متقبلة كل
ما يجري عليها في سبيل أن يحمل كل فرد فيها سلحا ضد مستقبل مجهول
•• *** عندما جاء قاسم في زيارته القصيرة استقبلته ريم استقبال خاصا ،
فربما كان مجيئه يحمل تغيرا تتوق إليه و لو في شكل خبر مفاجيء ،أو قصة
طريفة ،أو حتى خبر محزن ،المهم أن تتحرك مشاعرها سلبا او إيجابا ،
لتشعر أنها مازالت تعيش •• كان قاسم متفهما تماما لما تشعر به أخته ،
فهو يعــرف أن روحها الوثابة ترفض الرتابة ،و تتحرى مواطن التحدي
لتقتحمها ،و الحياة في المملكة العربية السعودية تتسم بالوداعة و التكرار
خاصة لمن في مثل ظروفها تحمل روح فنانة و تعمل في غير مجالها ،لذا
عندما انتهى بهما المطاف آخر اليوم وحدهما قالت له ريم بلهفة :
حدثني عن أهل مصر ،حدثني عن زملء الجامعة و عن سعيد و عن
سوسن و حتى عن سيد ،حدثني عن الشوارع و المحلت و المواصلت و
السماء و الرض و الحواري و بيتنا ،حدثني عن غرفتي و عن مطبخنا و عن
منظر القمر من نافذتي •• حدثني يا قاسم عن كل شيء مهما بدا تافها في
نظرك فإنه يعنيني ،يهمني •• قل يا أخي ،قل •• ابتسم قاسم متفهما و
كان شاربه الكث الذي يشبه شارب أبيه قد فرض على شخصيته وقارا كبيرا
و قال :
اسمعي يا ريم ،أنا أعرف علة شوقك إلى الخبار التافهة ،إنه الملل ،أنت
لم تستطيعي بعد أن تتكيفي مع الوضع هنا ،لم تستطيعي أن تخلقي منه
واقعا تتعايشين معه ،التقصير منك يا ريم ،أعذريني ،لكنك أختي و أنا
منزعج من الحالة التي وصلت إليها •• و تهز ريم رأسها و تقول بألم :
أنا أعرف أنك صادق فيما تقول لكنني ل أملك تغير واقعي ،كل ما حلمت
به أنهار فجأة ،أنا في النهاية بائعة في محل للدوات المنزلية ،أسعى من
أجل تحرير شهادة لعمل بها معلمة رسم ،ل هذا و ل ذاك هو ما أتمنى ،
أصابعي علها الصدأ لم أرسم شيئا منذ ثلثة شهور أو يزيد ،ماذا أفعل يا
أخي ،ماذا أفعل ؟ نهض قاسم من مكانه و تصفح بسرعة حامل الرسم ،
وجد عدة ورقات بيضاء فوق لوحة الشروق التي رسمتها على ظهر الباخرة ،
أزاح الورقات البيضاء و قال لريم :
لقد دفنتي ريم خلل هذه الشهور مثلما دفنت الشروق خلف هذه الوراق ،
أين ريم التي كان الوطن عندها سؤال بل إجابة ،يعذبها البحث عنه ،و يقويها
البحث عنه ،أين الوطن الن في مساحة تفكيرك و اهتمامك يا ريم ؟ ••
نكست ريم رأسها أرضا و لم تجب ،صدق أخيها في كل ما قال و لكن ماذا
تفعل ،هذا السؤال بدا عميقا في عيونها و هي ترفعها متسائلة إلى قاسم
••عاد قاسم فجلس بجوارها ،أمسك يدها و قال :
ريم ،كوني عملية أكثر ،أنت تريدين ريم الفنانة ،و ترفضين ريم البائعة ،
أو معلمة الرسم ،إذن اسعي في طريق ذلك ،وفق إمكانياتك المتاحة ،أنت
في سوق نسائي ،مجال الديكور المنزلي و لوحات الحائط فيه سيكون
أفضل من السواق المفتوحة ،لن الفن يتطلب عيونا متأملة و فنانا يقدر ما
يقوم به ،ابدئي بركـــن في المحــــل الذي تعمــلين به و عندما يتيسر لك
دخل مناسب حاولي استئجار محل خاص بك ،حاولي أن تقدمي خدمة
متميزة ،ل تقصري نشاطك على رسم اللوحات فقط ،ادرسي السوق و
احتياجات الناس و ابدئي فورا •• هل تفهمين ؟ أومأت ريم برأسها تفهما و
لكنها قالت :
و لكن متى يا أخي ،إنني أعمل يومـــيا في المحل مــنذ الرابعة و النصف
حتى التاسعة و النصف أعود منهكة أريد فقط أن أنام ،و في الصباح ل يشجع
الجو على العمل ،فالحرارة مرتفعة و المنزل مطروق و الجارات يزرننا و
أعمال المنزل العادية تستغرقنا ،إذن متى يمكنني عمل أي شيء خلق و
كيف ؟ فقال قاسم بعد فترة صمت :
لو أنك أردت لستطعت ،كان بمقدورك دوما أن تفعلي ،إنها مشكلتك و
أنت من يجب أن يحلها •• خططي لهدف ،هذا هو الهم ،أن يكون لديك
هدف ،يمكنك أن تجعليه على مراحل كل مرحلة هدف لكي تصلي إلى
الهدف الكبر في النهاية ،المهم لوني حياتك ياذات الرداء الزرق •• تركها
قاسم في حيرة و مضى ليستريح ،كانت قد سهرت كثيرا الليلة بسبب عودة
قاسم ،و كان عليها أن تكون نائمة قبل ساعات من الن ،لكنها عوضا عن
النوم ،اتجهت إلى حامل الرسم ،تطلعت إليه مليا ،داعبت بأصابعها أركانه و
زواياه ،غطته بكفها و دارت بها على كل الحامل ،كانت تشعر بحنين إليه ،
مدت يدها و أمسكت فرشاتها ،علب اللوان ،اللوحات البيضاء ،احتضنتهم
ما وسعــها و قالت بصــوت دافيء ،كأنها تشده من الماضي :
كم أشتقت إليكم يا أعزائي •• عندما استيقظ الب لصلة الفجر ربط بين
الضوء في غرفة ريم و عودة قاســم ،هز رأسه و همس :
لبد أنها الحكايات سرقتهما •• لكنه عندما دخل الغرفة لم يجد قاسم ،
وجد ريم أمام حامل الرسم ،كانت نائمة ،الفرشاة مازالت بين شفتيها ،و
الفرشاة التي ترسم بها على الرض بجوار ذراعها المدلة •• توجه إليها
بهدوء ليقاظها ،لكن اللوحة التي كانت تعمل فيها شدته ،تأملها كانت عبارة
عن منظر ضبابي لعيون تتطلع بشغف نحو العلى من خلل سحابات بيضاء
كثيفة تغطي تلل بعيدة ،للحظة داخل الب إحساس بأنه يعرف لمن هــذه
العيون ،همس بإعجاب :
الله •• الله •• انتبهت ريم من غفوتها فزعة ،وعندما رأت أباها همست :
لم تترك لي فرصة لشرح لها حسن نيتي ،لم تدع لي مجال للتفاهم
معها ،كانت قاسية جدا ،للحظة اتخذت ملمحها ملمح كل من ظلمني يوما
•• أنا فاشلة ،ل حظ لي في هذه الحياة •• قالت الم و هي تراقب ريم
مغتاظة :
إنها وشاية يا ريم ،لبد في المر وشاية •• رفعت ريم رأسها و قالت
مستنكرة :
وشاية ؟ و لماذا أتعرض لوشاية من أحد ،إن علقتي بالبائعات جيدة و ل
أعتقد أن لحداهن مصلحة في طردي •• تنهدت الم و قالت بحزم :
ستظلين طوال عمرك بلهاء •• تنظرين للناس بعين طبعك ،تعتقدين أنهن
كلهن طيبات و محبات •• ألم تسمعي يوما عن الغيرة ،الحقد ،التنافس غير
الشريف ،هذا بالتأكيد ما تعرضت له يا ابنتي ،و عليك أن تعرفي من هي
التي وشت بك عند أم سعد •• فقال قاسم بسرعة :
يا أمي و ما الفائدة ؟ لماذا نحمل ريم فوق طاقتها و نفتح لها نوافذ على
عيوب البشر ،دعيها في اعتقادها و دائما لن يصيبها إل ما كتب الله لها •• و
قالت ريم :
هل تظني يا أمي أنني حقا بلهاء ،إنني احاول أن أراجع مواقفهن معي فل
أجد فيهن من أستطيع اتهامها ،لقد كنت دوما صديقة للجميع ،و لم يحدث
أن طلبت مني إحداهن خدمة ولم أؤدها لها ،لقد ساعدت معظمهن على
إعادة ترتيب محلتهن ،ووقفت بدل عن من تخرج مبكرا لظرف طاريء
منهن ،و كنت أوجه زبائني إلى محلتهن عندما أعرف رغبة إحداهن في شراء
شيء لديهن ،حتى المشاكل التي قد تحدث بين البائعات كنت أساهم دوما
في حلها و ترضية الطراف ،فلماذا أقابل بالشر و قد بدأتهم بالخير ؟ قالت
الم و هي تنظر بشفقة لبنتها :
من أجل كل هذا يا ابنتي •• من أجل الخير الذي يمل قلبك ،لبد أن منهن
من حسدتك على خيرك و عطائك ،لبد أن هناك من تمنت موقعك في
السوق و تمنت لو أن خير قلبك و عطاءك يكون لديها ،هذا ل شك فيه •• و
عندما ظهرت موهبتك سافرة أمام العيون اشتعل الحسد في القلوب
المريضة و كانت هذه النتيجة •• فقالت ريم :
و لكن يا أمي هذا يعني أن الشر انتصر •• فقال قاسم على الفور :
إلى حين يا ريم ،الشر قد يكسب جولة ،و لكن الخير له النصر الخير ••
همست ريم :
أتعتقد هذا حقا ؟ هز رأسه إيجابا و قالت الم :
بل هو أكيد •• *** لم تمض على هذه المحادثة أيام قليلة حتي جاء الفرج
بشكل لم تتوقعه ريم أبدا عبر مكالمة هاتفية من صاحبة أسواق نسائية أخرى
في منطقة أكثر رقيا عرفت بنفسها قائلة :
أنا أم عبد الله ،سمعت عنك كثيرا من بعض عميلتي ،و رأيت أيضا عملك
الفني لدى إحداهن ،و لذا فإنني أطلب إليك ــ خلفا للعادة ــ أن تأتي إلى
السوق غدا لنتحدث بشأن مشروع أفكر به ،إذا كان يناسبك •• قالت ريم
بحماس :
بالطبع ،سآتي ،غدا ،غدا أكون لديك إن شاء الله •• عندما وضعت ريم
السماعة كان لديها يقين بأن الله معها ،و عندما شرحت لمها ماحدث دعت
لها بالتوفيق و قال قاسم :
آمل أن أطمئن عليك قبل سفري ،سيكون من دواعي سروري أن أحمل
عنك أخبارا طيبة لمن ينتظرون أخبارك •• سألته ريم باسمة :
و من الذين ينتظرون أخباري يا قاسم ؟
كثيرون يا ريم ،كما تتلهفين على الخبار يتلهفون •• قالت ريم بحذر :
الستاذ سعيد ؟ ضحك قاسم و قال :
سعيد ،ياله من رجل !! ،أتعرفين لقد أقمت عنده فترة أسبوعين على
القل ،أصرعلى أن أعيش معه ليتمكن من خدمتي و عندما أثبتت اليام أنه ل
يتقن الطهي آثرت العودة إلى منزلنا و خرجت و لن أعود •• قالت ريم
مندهشة :
عشت مع سعيد ؟ لم تخبرنا من قبل بهذا المر ••
ل جديد فيه ،سعيد يعيش بمفرده و أعيـــش بمفردي ،و ل فــــرق في
أن أســــكن عــنده أو يسكن عندي ،الحياة اختلفت كثيرا يا ريم ،البيت
بدونكم مقفرا ،أحيانا أجد نفسي متجها تلقائيا لديه أمارس معه لعبة العائلة
المفضلة في تفريغ الهموم ،و أحيانا أخرى أجده يأتي إلي ،عزاب يا أختي
ماذا تتوقعين ؟ قالت ريم بإعزاز :
هذا المخلوق •• كم أتعبناه معنا و لزلنا ،إنه إنسان نادر ••
هو يراك نادرة أيضا ••
أنا ؟
نعم ،يضع لوحة لجئة فوق فراشه و كلما وقعت عيناه عليها بادر بارسال
التحية ،بالمناسبة لقد تلقى عرضا مغريا لبيع اللوحة قبل مقدمي بيوم ،زاره
شخص غريب قال إنه صاحب صالة فنون تشكلية و يريد شراء هذه اللوحة
منه •• بلهفة قالت ريم :
و هل وافق؟ فقال قاسم بلمبالة :
اقترحت عليه أن يوافق فالرجل يعرض ثروة ،و لكنه فيما يبدو لم يوافق
•• ل أدري ،انشغلت بأمور السفر و لم أعرف التفاصيل •• همست ريم :
لن يبيع اللوحة ،لو فعل لن يكون سعيد الذي عرفت •• *** كان عرض
أم عبد الله مفاجأة لريم بكل المقاييس ،لقد عرضت عليها محل مستقل في
سوقها ،يؤثث كامل للفن التشكيلي ،يبدأ بلوحات لها و تدريجيا يضم لوحات
أخرى لفنانين أخر ،تنفذ فيه أعمال تشكلية وفق رغبة العميلت ،و يلحق به
فرع خاص للطارات و تغليف الهدايا ،و طلبت منها أن تعرض عليها أي فكرة
جديدة قد تخدم المحل ،او خدمة في هذا الطار تحتاجها العميلت ،و ذلك
مقابل المناصفة في الرباح ،عرض خيالي لم تكن ريم تتوقعه ،فهي ل تملك
إل موهبتها ،فيـــما ستقوم السيدة بتأثيث المحل و تجهيزه و توفير كافة
الخامات المطلوبة ،وفي النهاية الرباح مناصفة ،أي عرض ؟ كانت ريم
تقص الخبر على أسرتها و دهشة كبيرة تغلف صوتها ،و إحساس فرح كبير
يطغى على قلبها ،قالت الم و هي تحمد الله :
الله مع المنكسرين جابر •• و قال قاسم :
مبروك يا أختي ،ارفعي رؤوسنا و قدمي أحسن ما عندك •• و قال الب :
ل تنسي يا ابنتي ،العمل لن يكون فنا خالصا ،إنه ادارة و تسويق و تعامل
مع أناس فيهم الجيد و فيهم الرديء ،ضعي الله نصب عينيك و توكلي عليه ،
و إن شاء الله ستنجحين •• و قالت الم :
ل تعطي ثقتك لحد •• إعملي بما يرضي الله و لكن ل تمنحي كل ما
تملكين دفعة واحدة ،اعرفي المجتمع الجديد و تعاملي معه بحذر •• هزت
ريم رأسها و قالت بثقة :
اطمئنوا ،الله معي ،لن يخذلني ما حييت •• *** سافر قاسم ،وعادت
السرة إلى سابق عهدها و يومـــياتها ،و استغــرقت ريم في إعـــداد و
تجهيز المحل الخاص بها ،كان الحــلم يتجسد يوما بعــــد يوم و المحل يأخذ
طــــابعا مختلفا و شكل مبهرا ،وظفت أم عبد الله كل فنون الديكور في
عمل موقع للفن التشكيلي من أبدع ما يكون ،أطلقت على المحل " جاليري
الرياض " و بعـــد شهـــر كان المحـــل قد اكتسى حلته و تهيأ حتى بالكياس
و الكروت التي تحمل اسمه ،و لم تبخل أم عبد الله عليه بالعلن في
الصحف و عندما رأت في عيون ريم أسئلة و دهشة ضحكت قائلة :
الغالي ثمنه فيه يا ريم ،العمل ينبغي أن يصرف عليه جيدا حتى يأتي بعائد
جيد ،غدا تعرفين قيمة ما نفعل و ما نصرف •• قالت ريم :
لكنك أنفقت الكثير وفي هذه الحالة يكون مناصفة الرباح بيننا غير عادل ،
ينبغي إعادة النظر في هذا التفاق •• ضحكت أم عبد الله كثيرا و ربتت على
كتف ريم و قالت :
يبدو أنك ساذجة أكثر مما تصورت ،ما تقولينه ينبغي أل يقال ،أنت
ستساهمي بمجهود كبير و على اكتافك سينهض و يستمر هذا المحل ،كل ما
ترينه غلف أنيق لن يكون له قيمة ما لم يكون المضمون راق ،هل فهمت ؟
هزت ريم رأسها و قالت :
ل أعرف كيف أشكرك يا أم عبد الله ،أسأل الله أن يوفقنا و ينجح
المشروع و أستطيع حقا أن أكون عند حسن ظنك بي و بموهبتي •• قالت أم
عبد الله مؤكدة :
انا اكيدة إن شاء الله أنك ستكونين على قدر المسئولية ،هذا أحساسي و
طالما كان إحساسي صادقا و لم يخذلني أبدا •• *** عادت ريم في هذا
اليوم كأسعد ما يكون ،ممتلئة حماسا و رغبة في إعطاء مجهودها مداه ،
كانت بالفعل قد شرعت في الرسم المخصص للمحل داخل المنزل و كانت
تريد أن تصل سريعا فقط لتكمل ما بدأت ،و عندما دخلت المنزل ،استرعت
انتباهها الصوات القادمة من الصالون ،ثم نادتها الم لتدخل و كانت مازالت
بعباءتها ،دخلت تلبية لطلب الم فوجدت الب جالسا في واجهة الغرفة
وعلى يمينه ،جلس شاب شديد الوسامة ،كانت نظراته مطرقة ،و في يده
كوب شاي لم ينتهي ،وقفت ريم على الباب فقال الب :
أدخلي يا ريم ،تعرفي على ابن عمي سهيل اتسعت ابتسامة ريم و دخلت
على الفور مرحبة و قالت و هي تمد يدها إليه :
أهل بك يا سهيل ،حمدا لله على سلمتك •• نهض سهيل و قال بارتباك
قليل :
أهل بك يا ابنة العم •• قال الب :
أتصدقين يا ريم أن سهيل في الرياض منذ شهرين و لم يأتي ال اليوم ؟
فقالت ريم فورا :
صحيح ،لقد تذكرت أخبرتني في خطابك أنك قادم ،فعل أنت هنا منذ وقت
طويل ،لماذا لم تأت قبل اليوم؟ جلس سهيل و عادت نظراته إلى الرض و
قال :
لم أشأ أن أزوركم قبل أن تستقر أوضاعي هنا ،كان لبد من تأمين السكن
و استلم العمل والتعرف على المكان و غير ذلك من أمور •• قالت ريم :
فهمت •• ستحتاج بعض الوقت للتكيف مع المحيط و الحياة هنا ،و خاصة
حرارة الجو •• رفع سهيل عيونه إليها و ركزهما عليها و قال :
انسيت ،أنني كنت أعمل في الصحراء الليبية ،و الجو الحار من خواص
منطقة العمل هناك •• خفضت ريم نظراتها بسرعة و قالت :
نعم •• معك حق •• أستأذنت لتبديل ملبسها و عندما عادت ،تشعب
الحديث و كانت الموضوعات كثيرة ،تحدث سهيل عن نفسه و تحدثت ريم
عن مشروعها ،و عندما دقت الساعة منتصف الليل قرر سهيل أن يمضي ••
عادت ريم لغرفتها ،و استخرجت من خزانة ملبسها رزمة رسائل كان سهيل
قد كتبها إليها طيلة السنوات الماضية ،أعادت قراءتها ،كانت تريد أن تعرف
المزيد عنه ،و كانت كأنها تقرأ الرسائل للمرة الولى ،كان فيها شيء جديد
لم يسبق لها أن رأته من قبل ،فجأة شعرت أن الكلمات أكتست لحماو دما
و أن وجه سهيل الجميل يطغى على السطور بل على كل جو الغرفة •• ***
عاش سهيل يتيما ،تربى في أحد المخيمات على الحدود ،كانت ظروفه دائما
سيئة ،تعلم في مدارس النروا و كان دوما طفل ذكيا موهوبا أثبت تفوقه
رغم ظروفه و رغم اضطراره إلى العمل منذ نعومة أظفاره و افتقاره إلى
الحنان فكل امريء في المخيم له بحاله و لم يكن وجود طفل يتيم بينهم
بالمر الذي يدعو إلى المعاملة الخاصة ،لن حاله مثل حال الكثيرين ،تربى
و كبر دون أن يعتني أحد بعينه بهذه التربية و كان في داخله غضب يكبر كلما
كبر و تعلم و فهم ،غضب على حياته و جوعه و حرمانه ،غضب على
الشخاص الذين يأتون مرة كل شهر ليصبوا في أوعيته القديمة دقيقا و سكرا
و زيتا ،كان لديه غضب على كبار كانوا يسرقون طعامه ليطعموا أولدهم و
يتركونه في البرد يرتجف ليغطوا بغطاء الصدقات الخاص به أطفالهم ،كان
في قلبه غضب على الطفال الذين لديهم أم أو أب ،أولئك الذين كانوا
يصيحون فيه كلما اقترب منهم و يهددونه بهذا الب أو تلك الم ،كان غاضبا
دوما ،ل تزور البسمة شفتيه إل إذا استطاع أن يقتص من أي شخص
بطريقته الخاصة ،قد يسرق ،قد يضرب ،قد يجري سريعا بعد أن يضايق
أحدهم فل يلحق به ،الشيء الوحيد الذي لم يمارسه أبدا في حياته هو
الكذب ،لم يكن يكذب أبدا كان يعتبر الكذب نقيصة تقلل من أهميته و تأخذ
من رجولته ،لذا جر عليه صدقه صنوفا من العذابات على يدي سكان المخيم
،أو معلميه ،و عندما كبر انخرط كغيره من الفتيان في صفوف المقاومة ،
لم يكن يعنيه اللواء الذي يقاتل تحت شعاره ،كل ما كان يهمه أن يمسك في
يده بنـــدقية قديمة ،أو رشاشا صغـــيرا ،أو حتى قنبــلة يدوية و ينفذ عملية
صغيرة تطلب منه ،و سقط إحدى المرات في يد السرائليين ،و كان من
الممكن أن يظل سجينا بقية حياته لول خروجه ضمن إفراجات تحدث من
وقت إلى آخر لسباب سياسية لم تكن تعنيه ،كل ما كان يعيشه آنذاك أنه
دخل السجن و أنه خرج منه ،و أنه صار بطل و ل يستطيع أن يقهره أي
مخلوق ،و عندما انتهى من الثانوية العامة تحدث مع المستر "جو " الذي جاء
ليتفقد المخـــيم ذات يـــوم و طلب منه أن يكـــمل تعليمه و وعده هذا
"الجو " بأن يدرس وضعه و ييسر له هذا المر ،و بالفعل حالفه الحظ ووجد
له مقعدا دراسيا في جامعة بير زيت ،ربما كانت الدعاية للمساعي الغربية
النبيلة هي التي وفرته له ــ فقد تم تصويره و هو يدخل الجامعة و كتبوا على
لسانه بعض عبارات الشكر في كتيب أنيق يوزع على الجهات المانحة
للمعونات ــ ،لكنه لم يكن معنيا إل بما يستطيع الوصول إليه من مكاسب أيا
كانت الجهة التي ستمنحه هذه المكاسب ،و في الجامعة أيضا كان متفوقا ،
عنيفا ،سليط اللسان ،ساعدته وسامته و طلقة لسانه على تقبل الخرين له
،كما أنه كان وطنيا ل يجرؤ أحدهم على اتهامه بعكس ذلك ،فقد كان ينظم
المظاهرات و يقوم من وقت لخر بالعمليات الصغيرة التي اعتاد القيام بها
منذ صغره ،و عندما تخرج استطاع أن يحصل على عقد عمل في صحراء
ليبيا •• و لم تكن حياته خالية من وجود الجنس الناعم فيها ،فهو قد تربى
في مخيم و يعرف من أين تؤكل الكتف كما يقولون ،لذا اتسم بالجرأة في
تعامله مع البنات ،و كان من السهل عليه تكوين العلقات ،إل أن علقاته لم
تصل يوما إلى أبعد من اللقاءات و الكلم المعسول و الحلم الوردية ،ثم
يتركها ليبحث عن غيرها ،و كان شباب الجامعة يغبطونه على قدرته في
اجتذاب القلوب إليه فكان يبتسم إبتسامته الغامضة الساحرة و يقول ":إنه
سر اللعبة ••!!" عندما أتاحت له الظروف أن يعمل في الرياض ،كانت ريم
هي شغله الشاغل ،ربط مصيرها بمصيره منذ تعرف إليها عبر السطور و
المسافات ،كانت شيئا شفافا لم يقابل مثله في حياته ،و عندما تعرف إليها
في أول زيارة لبيتها ترسخ لديه اليقين بأنها ستكون بطلة قصة جدـــيدة في
حياته ،و أعجبه جــدا طريقـــة تفكيرها و أسلوب حديثها و تفاؤلها الدائم
رغم ما مرت به من محن ،و عندما تحدثوا أمامه عن ثقتها فيمن حولها
عرف أنه قابل فتاة طيبة :
كما أنها جميلة •• *** خلل عام كانت ريم قد ثبتت نفسها في عملها و
صنعت لنفسها اسما في عالم الفن التشكيلي و استطاعت ان تحظى بثقة
كل من تعامل معها فازدهرت أعمـــال المحل كثيرا ،و ظلت هي محل
اهتمام و عطــف صاحبة الســــوق ،التي قدرت فيها مهارتها وأمـــانتها و
حسن سلوكها ،و استطاعت ريم أيضا خلل هذا العام أن تستخرج شهادتها
الجامعية بناء على الحاح والدتها و ليس لنها تريدها ،شقت ريم طريقها
بدون الشهادة و لذا فل أهمية لهذه الورقة التي أخذت من عمرها سنين ،و
خالفتها أم عبد الله الرأي قالت لها إن وجود هذه الشهادة ووضعها في
المحـــل في إطار أنيق من شأنه أن يدعـــم المحـــل أكثر ،و ذلك عندما
تطلع العميلت على الشهادة و تعرفن أن من يتعاملن معها صقلت موهبتها
بالدراسة ،قالت لها و هي تؤكد :
صدقيني ،الناس يهمها الشهادات •• و بالفعل أطرت ريم الشهادة
ووضعتها على جدار المحل ،و صدق توقع أم عبد الله فقد تناقلت العميلت
الخبر و ازدادت ثقتهن بها و بذوقها و أصبح من العادي جدا أن تسألها العميلة
عن رأيها في التصميم الداخلي لمنزلها ،و فشلت في أقناعهن بأنها ليست
مهندسة ديكور ،إذ كان ذوقها يبرهن دائما على تفهمها الكبير للجمال و
معرفتها لبسط الطرق التي تؤدي إليه •• و استرخت ريم ،شعرت أنها
ارتاحت ،لم يعد هناك ما يؤرقها ،فالتفتت إلى قلبها لتكتشف فجأة أنها لم
تحب حتى هذا الوقت ،استعرضت السماء التي مرت بها في حياتها فوجدت
أن اسما منها ل يعني لقلبها شيئا ،حتى جاءت على ذكر سهيل ،ابتسمت و
أرخت عضلتها تماما و استلقت على الفراش ،و أخذت تسترجع تفاصيل
علقته بهم منذ عام ،لقد لحظت ــ و تعتقد ان الجميع لحظ معها ــ اهتمام
سهيل بها ،نظراته ،كلماته ،تلميحاته ،لكنها لم تعطه الفرصة أبدا أن
يحدثها بشكل خاص في أي موضوع ،كان يزورهم مرة كل أسبوع ،يسهر
حتى وقت متأخر يتعشى معهم ،و يحرص في كل زيارة على هدية بسيطة
لريم أو لمها أو لختها و عندما عاد قاسم في الجازة أحضرله سهيل هدية ،
تندرت السرة على هداياه فأصابه الخجل و تطلــــع إلى ريم لتنــقذه فقالت
و هي تبتسم له :
يا سهيل نحن نعتز بك لنك من العائلة و ليس بسبب هداياك •• و قالت
الم :
وفر قرشك يا بني القرش البيض ينفع في اليوم السود •• و تقلبت ريم
على فراشها بمرح و تذكرت عندما همت ذات يوم برفع الطباق بعد العشاء
من أمامه فهمس في أذنها بسرعة ":أريد أن أتحدث معك " رفعت الطباق
و نظرت إليه بركن عينها و تصرفت كأنها لم تسمعه ،و راقبت تحرقه لردة
فعلها و هي تمعن في لمبالتها و تخاله شك في أنها سمعته !! و نهضت من
فراشها و توجهت للمرآة فوقفت أمامها تطالع نفسها و تتذكر التعليقات
المتباعدة التي كان سهيل يضمنها أحيانا كلمه و يتعمد أن تظهر و كأنها غير
متعمدة ،لقد أشار يوما إلى دقة اصابعها و جمال منظرها في معرض حديثه
عن تأثير الحياة الخشنة على أيدي النساء في فلسطين ،و أشار يوما إلى
روعة قوامها عندما ألحت عليها الم في تناول المزيد من الحلوى بعد يوم
عمل شاق و رفضت من أجل المحافظة على الرشاقة ،و عندما أراد أن
يتحدث عن عيونها أدار بنفسه دفة الحديث ليتجه نحو ما يريد ،فأسهب في
شرح لغة العيون و تراوحها بين القوة و الضعف ،و لحظت ريم اندفاع الم
للتدليل بعيون ريم على ما يقول قائلة :
صدقت ،مثل ريم استطيع بسهولة أن أعرف مشاعرها و ما تريد قوله
بمجرد النظر في عيونها ،إن لغة عينيها قوية جدا •• صاحت ريم في
نفسها ":احذري يا أمي ستقعين في الشراك !!" لكن الم كانت قد وقعت
بالفعل إذ رد سهيل سريعا على عبارتها قائل :
قوية و جميلة أيضا ••!! و توجهت ريم إلى حامل لوحاتها و خطت بعض
خطوط تشكل قلوب و أسهم و الحروف النجليزية الولى من اسمها و اسمه
ثم ضحكت ضحـــكة حــــبور صـــافية و صفقت بيدها و خرجت من غرفتها
إلى أمها ،كانتا وحديهما قالت :
أمي •• ما رأيك بسهيل ؟ فوجئت الم بالسؤال و قالت بسرعة :
و ما لنا به ؟ فقالت ريم بمرح :
ل شيء •• لكن بعد عام من تعرفنا عليه ،يجب أن يكون لدى كل منا
انطباعا ما عنه •• فقالت الم مبتسمة :
ماهو انطباعك أنت يا ابنة جهاد ؟ فقالت ريم :
ل أدري ،لكنني أحب مجيئه إلينا ،و أحب أن أجلس إليه و أتحدث معه ،
أحب مراقبة محاولته لبلغي دوما برسالة ما •• أشعر أنه قدم روحا جديدة
لحياتي •• و أحب ذلك •• تركت الم ما في يدها و عل ملمحها القلق و
قالت بجدية :
تحبين ؟ أل تعتقدين معي أن سهيل غير مناسب ؟ قالت ريم بمكر :
غير مناسب لي شيء يا أمي ؟ فقالت الم بجدية كبيرة :
غير مناسب للزواج يا ابنة جهاد •• فقالت ريم باهتمام :
صحيح أنه لم يطلــبني ،و ل تحــدث معي بهـــذا الخصوص و لكــــن بوجه
عــام ما المانع يا أمي ؟ تنهدت الم و جلست و هي تقول :
المانع يا حبيبتي هو في القهر الذي لقيت أنت و إخوتك بسبب الجنسية ،
تريدين الزواج من فلسطيني لكي تكرري المأساة مع أبنائك أيضا ؟ وجمت
ريم ،انسحب بقوة كل المرح داخلها ،لوهلة شعرت بغصة كبيرة تتجمع في
حلقها ،غصة بحجم المعاناة القديمة ،تذكرت بسرعة و غامت عينيها
بضبابات الذكرى ،هزت رأسها و قالت بهدوء :
إذا تعاملنا بهذا المنطق لن يتذكر فلسطين بعد عقد من الزمن أحد من
خارجها ،سينتهي من يحبها و تضيع من القلوب •• أشاحت الم بيديها و
قالت :
لن تتأثر فلسطين بواحدة ،و أن تضيع البلد من قلبك خيرا من أن يضيع
منك أبنائك ،الحالة تزداد سوءا و العاقل من يضع الغد نصب عينيه ••
لم تكمل ريم النقاش مع أمها ،انسحبت فورا متجهة إلى غرفتها ،لقد
صدمها المنطق الذي تتحدث به أمها ،لم تنتبه أبدا إلى أن مساويء اللجوء
سوف تنسحب يوما حتى على المشاعر ،قانون الحرمان يسري عليها بدورها
،كورت قبضـــتها و دقــــت بها الجدار و قالت بغيظ مكتوم :
أن يقفوا أمام تعليمنا ،ممكن ،أن يقفوا أمام عملنا ،ممكن ،أن يصادروا
حرية أن نتحرك و نتنقل ،ممكن ،لكن أن يحكموا سيطرتهم حتى على
مشاعرنا و قلوبنا فهذا ما لن أسمح به أبدا •• تركت الجدار ،توجهت للنافذة
،فتحتها ،لم يسبق أن أطلت منها ،لكنها تطلعت للسماء و قالت :
لن أسمح باعتقال وجداني ،ووضع الحظر على أحاسيسي ،و مصادرة
رغباتي ،لن أعطيهم الفرصة لهذا •• و تطلعت إلى لوحتها و قالت
بتصميم ":و إذا أردتني يا سهيل فإنني أيضا أريدك " •• *** و كأنها كانت
على موعد مع سهيل ،أو كأنها رتبت لما سيحدث في أول زيارة قادمة ،
فاجأهم سهيل فجأة بطلب الزواج من ريم ،وجمت الم ،و نفـــث الب
دخـــان سجــــائره ،و تركوا الصمت يصول بينهم ثم بعد هنيهة عاد سهيل
يقول بهدوء:
أكرر يا عمي ،أنا أطلب منك يد ابنتك ريم ••ماذا قلت ؟ قال الب بعد
قليل بصوت بل تعبير :
فاجأني طلبك يا ولدي •• و صمت الب •• كانت العبارة ناقصة ،انتظر
سهيل أن يكملها لكنه التزم الصمت ،بعد قليل شعر سهيل أن وجوده بل
معنى ،كان ينتظر ريم ،و لكن بطلبه هذا اختصر مدة بقائه لهذا اليوم هنا ،و
كان لبد أن ينصرف ،و عندما أستأذن بالنصراف لم يجد من يستمهله ،و
خرج من الباب الخارجي يهدر الغضب في رأسه بسبب الوجوم الذي قوبل به
طلبه ،أعماه الغضب فقرر أمرا •• كانت الساعة تقترب من التاسعة ،بقيت
ساعة تقريبا على عودة ريم •• بدل من نزول السلم إلى الشارع ،صعد
السلم إلى السطح ،تجول فيه بل حذاء ،و أطل من خلله على الشارع تحت
البيت ،أنعشه الهواء الليلي فاستنشقه بقوة ،أخذ يراقب الطريق بانتظار
عودتها ،دار في رأسه حوارا سيجريه معها ،ثم عدله و عاد فعدله ،و عندما
أستقر على العبارات النهائية لمحها تدخـــل من بوابة العمارة ،أســــرع
بخفـــة يقف على رأس السلم و عندما ظهرت أخيرا ناداها بصوت خافت
راعها :
ريم •• ريم ألتفتت للصوت ،و عندما وجدته تنفست الصعداء و قالت
بصوت عادي :
سهيل ؟ أخفتني ،ماذا تصنع هنا ،لماذا تركت البيت ؟ وضع اصبعه على
فمه و عاد يقول بصوت خافت :
أخفضي صوتك ،لقـــد كنت في البيــت و خرجت قبل دقائق ،أريد أن
أحدثك على إنفراد •• أندهشت ريم لطلبه •• و أدارته في رأسها ،أدركت
أن الموضوع متعلق بها ،عرفت ماهيته المتوقعة ،و بقي السؤال ":هل
تستجيب ،أم ترفض الدعوة الغريبة ؟" لم يستغرق التفكير لحظات ،و رغم
أن شيئا داخلها كان يرفض هذا السلوك إل أنها وضعت المفتاح في حقيبتها و
أخذت نفسا عميقا تشد به من أزر نفسها و توجهت إليه ،لفه إطمئنان و
ثقة ،صعد أمامها فتبعته ،تزايدت نبضات قلبها مع كل درجة و غلبها إحساس
بالمغامرة تعمق بمجرد أن لفح الهواء البارد وجهها الملتهب حماسا ،عندما
وصل إلى السطح ألتفت إليها و ظل لحظة صامتا يراقبها ،ثم أفتـــر ثــغره
عن ابتسامة ساحرة و قال بصوت هاديء :
هل سبق أن أخبرك أحدهم أنك جميلة جدا •• نكست رأسها خجل فقال :
ريم ،أنا أحبك •• رفعت رأسها بسرعة و نظرت إليه بدهشة و تراقصت
الضواء البعيدة في عيونها فأمسك بكتفيها و قال بحرارة :
ريم •• أنا أحبك •• أبتعدت عنه بسرعة و همست مستنكرة :
سهيل !! ماذا تقول ؟ التقط أنفاسه بعمق بعد أن أدرك أنه خرج عما رتب
قبل قليل ،و قال و هو يستند إلى الجدار :
ريم لقد طلبتك قبل قليل من والدك للزواج •• انتظر أن يرى رد فعلها ،
لحظ رغم صمتها لمعة قبول ظهرت في عيونها فأكمل مرتاحا :
في الحقيقة ،لم أجد لديهم قبول مباشرا كما توقعت ،ووالدك قــال أنه
فوجيء بالطلب و لم يحدد لي وقتا ليرد علي ،و الن ما يهمني هو أن أعرف
رأيك ،أريد أن أسمعه قبل أن أنصرف لنني سأنتظر أسبوعا قبل موعد
الزيارة القادمة لعرف النتيجة •• دار عقل ريم بسرعة ،عرفت ما دار في
عقل أبيها و أمها حيال طلبه ،توقعت كل ما ستواجه عندما تعود ،نظرت إلى
وجه سهيل ،كان ينتظر ردها •• كان لــديها إجابة سبق و أن قررتها ،و
لكنها تذكرت أن سهيل فلسطيني و لن يغفر لها ردا مباشرا ،و قررت أنه لبد
من اللعبة القديمة بين حواء و آدم ،فارخت عينيها و همست :
ل فائدة يا سهيل ،انتظر الرد السبوع المقبل ،لبد من الحديث مع ولي
أمري •• تجعدت الثنيات فوق أنفه و قال و هو يكبت غضبا :
مبدئيا يا ريم ،هل أنت موافقة ؟ ابتسمت إليه و اتجهت نحو السلم و هي
تقول :
السبوع المقبل يا سهيل •• أخذت الدرجات قفزا و فتحت الباب بسرعة و
دخلت ،أكتنفها دفء البيت ،و كان أبوها و أمها مازال يناقشان المر في
الصالون ،دخلت إليهما ،ألقت التحية ،و اتخذت لنفسها مكانا على مقعد بين
أبيها و أمها ،قالت الم :
خرج سهيل باكرا اليوم •• هزت رأسها إيجابا فقال الب :
طلبك للزواج •• قضمت شفتها العليا بأسنانها و انتظرت تعليقاتهم ،
فقالت الم :
ما رأيك يا ريم ؟ حررت شفتها و قالت باقتضاب :
أسمع رأيكما أول •• فقالت الم على عجل :
تعرفين رأيي يا ريم •• و قال الب و هو يتنهد :
سهيل مهندس شاب ،لم يسبق له الزواج و هو من أقربائي و أعتقد أنه
من حيث المبدأ ل غبار عليه ،اللهم •• تطلعت ريم باهتمام لبيها و لما طال
صمته استحثته قائلة :
أبي ••"اللهم " ماذا ؟ فقال الب :
اسمعي يا ريم ،لقد تربى سهيل في المخيم •• لم تفهم ريم مقصد أبيها
فرسمت السؤال في عيونها و انتظرت الجابة ،فقال الب بعد لحظة تفكير :
أبناء المخيمات لهم طبيعة مختلفة ،النشأة في جو غير نظيف ،و وسط
يوميات رعب و صراع من أجل الطعام و الحياة ،تجعل نظرتهم للحياة
مختلفة عن الخرين الذين تعرفينهم •• ل أعرف ماذا أقول ،و لكن أبناء
المخيمات ل تستطيع من تربت مثلك احتمالهم •• أخذت ريم نفسا عميقا و
قالت بتصميم :
و نحن بدورنا أبناء لجوء •• جميع الفلسطنيين كانت نشأتهم غريبة ،ل
علقة لنظريات التربية الحديثة بهم ،و مع ذلك يحسب له كما يحسب لي أنه
استطاع رغم ظروف المخيم النجاح و التفوق و الستمرار و العمل ••
يحسب له أنه اعتمد منذ نعومة أظفاره على نفسه و بنى حياته بساعده ،و
أثبت في كل الظروف أنه رجل ،أنه بطل ،أنه رمز جميل للوطن •• قالت
الم مغتاظة :
الوطن ،الوطن ،كل ما تتحدثين عنه هو الوطن ،أنا لست ضد أن تحبي
بلدك ،و لست ضد انتمائك إليها فقد كنت أساعد أبيك في ترسيخ محبتها في
نفوسكم منذ الصغر ،لكنني ضد أن تقدمي روحك قربانا لهذا الوطن ،و ليت
ما ستفعلينه سيكون له قيمة للوطن ،لن يجلي زواجك من فلسطيني يهوديا
واحد اعن بلدك ،و لن يدفع هذا الزواج العالم لكي ينصفوكم ،ستتزوجي و
تنجبي و يعيش أبناؤك الضياع المركب •• قالت ريم :
و لكن يا أمي ،زواجي من سهيل ،من فلسطيني يعني أنني ســأظل
أنتمي لهذا الوطن و ينتمي إليه أبنائي بدورهم ،و هذا ما بوسعي أن أقدمه ،
ل أملك إل هذا ،و ل أريد البخل بما أملك لمجرد أنني تعذبت بجنسيتي في
الغربة ،ربما كان المستقبل أفضل ،ربما استطاع أولدي أن يعيشوا حياة
كريمة ،و يدخلوا بلدهم و يبنوا فيها •• غلب الصمت المكان ،و نفس الب
دخانه و قد اعتزم أمرا في الليل و عندما نامت سميحة غادر جهاد غرفته
بهدوء و توجه إلى غرفة ابنته ،طرق الباب و حمد الله أنها مازالت مستيقظة
،دخل و سألها عن سبب سهرها فأخبرته أنه التفكير فقال لها و نفسه تنازعه
:
ما سأقوله لك يا ريم هو خلصة هذا الموضوع ،اسمعيني و ل تردي ،
اسمعي و فكري ،خذي وقتك في التفكير ،يوم ،أسبوع ،عشرة ،فكري
بمنتهى العقل •• و تنهد و هو يتخذ لنفسه مكانا بجوارها على السرير و دون
أن ينظر لها استطرد :
لم أستطع قول كل ما أريده بحضور أمك ،كان صعبا علي العتراف بأي
شيء يمسنا كفلسطنيين أمام أمك ،رغم أنها عشرة عمري و رفيقة
كفاحي ،لكن هناك أمور يصعب على المرء أحيانا أن يعترف بها حتى لقرب
الناس إليه •• وجمت ريم و خفق قلبها بشدة و غالبت غصة ألم و هي تقول
لبيها :
ماذا هناك يا أبي ؟ فقال الب و هو يعاني صراعا بين أن يقول ،أو
يصمت ،لكنه في النهاية قال :
ريم ،الشعب الفلسطيني شعب عانى المرين ،ذاق المر و العذاب صنوفا
،مورس ضده الذلل ،و صدم مرات كثيرة في الشعوب العربية ،عانينا
طوال وجودنا في أرضنا من ذل احتلل كان يتحول إلى مارد يوما بعد يوم
فيطبق على أرواحنا و يسد منافذ الهواء عن صدورنا ،عانينا حتى النخاع من
رعب سكن أخيلتنا منذ استخدم السرائليون اسلوب المذابح الجماعية لترويع
الحياء بأشلء الموات الممزقة ،تركت أهلي منذ أكثر من خمس و عشرين
عاما بوجدان مذعور محطم ،و نفس ذليلة ،ربما ساعدتني الغربة قليل على
نسيان مرارة سطوة الحتلل الملموسة ،لكنها أبدا لم تمحو مرارة سطوته
في ذاكرتي ووجداني و سمعي و عقلي و تفكيري ،أنت و إخوتك ولدتم في
الخارج فلم يداخلكم من الحتلل أثر مادي ،و لكنكم بدوركم عــــانيتم و
مازلتم ستعــــانون لنكم بل وطـــن ،و سيظل تاريخ اللجئين الفلسطنيين
عارا في جبين المة العربية حتى يقضي الله أمرا كان مفعول ،أما أولئك
الذين بقــــوا في فـــلسطين فقد شربوا الــــذل و الرعب مع المـــاء و
تنفسوه مع الهواء ،أصبح مرأى الشلء الممزقة عادة يومية ،و أصبح اليتم
تعويذة يعلقونها على صدور المواليد ليظل ملمسها يحرق أرواحهم و يطالبهم
دوما بثأر ل ينتهي ،و أصبحت الطفولة هناك مرحلة عمرية يضطر أبناء
فلسطين أن يمروا بها رغما عنهم ،لكنهم ل يشعرون بها و ل تعني أبدا لهم
لعبة ،أو دلل ،أو هدهدة أو مدارة أو مجاراة •• كان الكلم مؤلما ،لكنه لم
يكن ليدعو الب إلى هذه السرية التي أحاطه بها منذ البداية مما دفع ريم أن
تقاطعه قائلة :
أبي و ما علقة كل ماذكرت بموضوع سهيل ؟ أنا ل أفهم استدار الب إلى
ريم حتى أصبح في مواجهتها و قال بقوة :
سهيل من أبناء الوطن الذين لم يعرفوا غير اليتم و الذل و الجوع ،لم
يعرفوا غير قسوة الحتلل و الناس ،سهيل لم يعش طفولة ،و لم يعرف
حنان ،لذا فهو من داخله ،من أعماقه غير قادر على منحك ما تريدين ،لن
يتفهم حاجتك للحب و الحنان ،سيكون حسك المرهف دوما مدعاة
لسخريته ،حساسيتك تجاه الكلمات القاسية لن تعني له إل تربية مدللة و
فتاة بل هموم ،و أنا أخاف عليك ،أنت جني عمري يا ريم ،و أنا أخاف عليك
يا ابنتي •• عل الوجيب في صدر ريم ،تسارعت دقات قلبها و استشعرت
الخطر همست :
إلى هذا الحد ؟ ربت الب عليها مطمئنا و قال :
أنا هنا لحميك حتى من نفسك ،فكري يا ريم جيدا ،فكري في كل ما قلته
لك ،و ما تقررينه سأوافق عليه ،شرط أن تستوعبي أن القرار قرارك و أنا
أو أمك لم يكن لنا يد فيما تتجهين إليه •• نهض الب متثاقل و اتجه إلى الباب
،أغلق المصباح و قال :
نامي يا ريم ،لقد تأخر الوقت كثيرا •• و لم تتمكن ريم من النوم •• لقد
كان يوما طويل ،أحداثه كثيرة و الراء المتناقضة فيه كفيلة بتشويش أكبر
عقل ،و لذا فلم يكن مستغربا أبدا أن يطلع الصباح على ريم و هي تتقلب
في فراشها و تقلب المر من كافة وجوهه و تناقش جميع المواقف و الراء
التي سمعتها قبل أن تخرج بقرار •• *** مشاعل زميلة لريم تساعدها في
أعمال المحل ،جاءت بعد أن استقرت أحواله و ازدهرت أعماله ،و كان لبد
من مساعدة لريم ،و كانت مشاعل ،شابة سعودية حنطية ،حادة الملمح ،
تتميز بخفة دم و طيبة قلب و دماثة خلق ،ربطت بينها و بين ريم علقة قوية
منذ اللحظة الولى التي دخلت فيها المحل ،مشاعل كانت متزوجة و لديها
ولد و بنت صغار كانت تأتي بهما إلى السوق معها فتضعهم في مكان
مخصص للطفال و تأتي إلى الجاليري مباشرة و هي تلهث و تقول بمجرد أن
ترى ريم :
السلم عليكم •• آسفة تأخرت لن •• و تكمل ريم عنها قائلة :
لن عائض كان يبكي و عائضة كانت جائعة ،مفهوم يا مشاعل ،هيا ادخلي
بسرعة فلدينا عمل كثير •• و في أوقات الفراغ عندما يخلو المحل إل من
عميلة تتأمل اللوحات بتأني من ل تنتوي الشراء كانت ريم و مشاعل تجلسان
للتقاط النفاس و التحدث عن أحوالهما ،كانت مشاعل حامل و كانت دائما
ما تدعو لريم بالزواج و تقول :
رغم أن الرجال لخير فيهم ،إل أنك يجب أن تتزوجي ،هذا الهم يا ريم
•• و كانت ريم عندما يأتي ذكر الزواج تقول و هي ساهمة :
و هل هناك بنت ل ترغب في الزواج يا مشاعل ،و لكن ليس أي رجل ،و
ل أي زواج •• و تضحك مشاعل و تقول :
ل يقع إل من يعتقد نفسه ماهرا •• أفضت ريم إلى مشاعل بكل شيء عن
حياتها ،و حدثتها بإسهاب عن السماء التي مرت بها و الشخصيات التي
تأثرت بها وكانت مشاعل متأثرة جدا بقصة سعيد تحديدا و دائما ما كانت
تتهم ريم بقسوة القلب لنها لم تعطي لهذا المحب فرصة فكانت ريم ترد
عليها قائلة :
القلب و ما يهوى يا أم عائض •• و في مساء ذلك اليوم عندما جلست ريم
بعد النتهاء من التفاق مع إحدى العميلت صعبة الرضاء جاءتها مشاعل و
سحبت لنفسها كرسيا بجوارها و استرخت عليه و أغمضت عينيها و مباشرة
سألت :
ما بك ؟ تطلعت إليها ريم بدهشة و شكت لوهلة أن السؤال لم يصدر عن
مشاعل ،فقد كانت في حالة استرخاء كامل و عيونها مغلقة ،و ليس في
هيئتها ما يوحي بأنها تتأهب لدارة حديث ،لم ترد فعادت مشاعل تسأل
فقالت ريم باستنكار :
هل تسأليني أنا ؟ فقالت مشاعل و هي بنفس حالتها و بمنتهى الهدوء :
أجيبي يا ريم ،و كفاك تضيعا للوقت •• ابتسمت ريم و قالت :
خلتك نائمة •• فقالت مشاعل :
عيوني مغمضة صحيح لكنها رأت حالك ،أنت لست على ما يرام ،ما بك ؟
تنهدت ريم و استرخت على مقعدها بدورها و قالت :
جاءني خاطب قالت مشاعل و كأنها تقرأ من كتاب :
سهيل أليس كذلك ؟ هزت ريم رأسها إيجابا ،فشعرت بردها مشاعل و
أكملت :
و هل وافقت ؟ اعتدلت ريم على كرسيها و التفتت تماما إلى مشاعل و
قالت بيقظة تامة :
أبي و أمي يرفضونه و لكل منهما سبب يختلف عن الخر ••
و أنت ؟
أنا ؟ أعتدلت مشاعل في جلستها و نظرت مباشرة في عيون ريم و
قالت :
موافقة ،أليس كذلك ؟ أخذت ريم نفسا عميقا و قالت و كأنها تعترف :
لقد صعدنا السطح أمس سويا و قال لي إنه يحبني ••
بدون علم أهلك ؟ هزت ريم رأسها خجل فقالت مشاعل و هي تبتسم
بمكر :
ياله من جريء •• فقالت ريم بسرعة :
لم أشعر أن في المر خطأ ،فأنا ظللت طيلة سنوات الجامعة أقابل شبان
و أتحدث معهم و قد تجمعني الصدفة بأحدهم على انفراد ،في الحقيقة لم
أجد ضيرا في سماع ما يريد قوله ،تعرفين ،أبي و أمي ل يتركوننا وحدنا
دقيقة واحدة •• أطرقت قليل و قالت :
كنت أعرف أن لديه ما يقوله ،كنت أدرك أنه لبد أن يعلن لي حبه ،و
كنت أتساءل عن الكيفية ،و جاءت بهذه الطريقة •• رفعت رأسها و
ابتسمت و قالت :
شعرت أنني أقوم بمغامرة ،ظل قلبي يدق ،و كنت أصعد خلفه و كأنه
يخطو بقدمه على قلبي فيعصره في كل خطوه •• سألت نفسي ماذا لو
خرج أبي الن ،أو أمي أو أي شخص من الجيران ،و عندما اصبحنا على
السطح بادرني بالعتراف ،قال لي " ريم أنا أحبك " قالها مرتين يا مشاعل
و أمسكني من كتفي •• كم كانت يده قـــوية و هو يهــزني ليؤكد حبه ••
كانت مشاعل تنظر إلى ريم و هي تحكي ،و تطالع نظرة الفرح في عينيها ،
منظر جدير بالتأمل حقا ،لقد بدت ريم في جلستها المتأهبة و في حماسها
الطفولي و هي تقص الموقف و في نغمات صوتها المتراوحة بين القوة و
الضعف و في ضمة يدها الحميمة ما جعل مشاعل تتفهم تماما رغبة ريم ،
فقالت لها :
أنت تريدين هذا الرجل يا ريم ،هذا أمر واضح ••
إنه بطل يا مشاعل ••• بطل أسطوري ،يشبه أبطال الملحم ،جميل
المحيا قوي البنيان ،صلب الرادة ،يعرف تماما ما يريد •• و هو يحبني ،
يحبني يا مشاعل هل تفهمين ؟ هزت مشاعل رأسها تفهما و قالت :
و لكن أبويك ؟ تنهدت ريم و قالت بهدوء :
لقد ترك لي أبي حرية الختيار ،قال أنه أخبرني بكل الحقيقة و ترك لي
الخيار •• فقالت مشاعل بسرعة :
القضية محلولة إذن ،اقبلي الرجل ،و تحملي مسئولية قرارك ••
هذا ما أتمنى ،لكنني أعلم يقينا أنه لن يرضي أبي و لن يســعد أمي ،ل
تنسي أنا أول فرحتهما •• عادت مشاعل تسترخي في جلستها و تغمض
عينيها و تقول همسا :
أفهمك تماما •• *** خلل اليومين التاليين غلب الوجوم على جو المنزل ،
كان تبادل الحاديث بينهم مقتصرا على الكلمات التقليدية عن الحوال و
العمل و الطقس و سهرة التلفاز لهذه الليلة ،إل أن الحديث كان دوما يفتقد
إلى شيء هام ،إلى الحرارة و الروح ،و كان تعمد الجميع عدم الخوض في
موضوع سهيل يضفي المزيد من البرود على العبارات المتبادلة ،كان كل من
الب و الم يعلــــمان ما تعـــانيه ريم ،و الصـــراع الــذي وجـــدت نفسها
فيه بين رغبتهما و رغبتها ،و أثناء غياب ريم قال جهاد لزوجته :
هل وصلت ريم لقرار ؟ فقالت الم :
كان ينبغي أل تفكر عندما يتعلق المر بقبولنا أو رفضنا ،ريم أبدا لم تكن
عاقة ••
ل تقسي عليها يا أم قاسم ،ريم تفكر كما فكرت سميحة قبل خمس و
عشرين عاما ،يوم تقدمت إليك شابا فقيرا وحيدا غريبا ،ل يوجد منطق واحد
لقبولي و مع ذلك قبلت ،ريم تفكر بإحساس النثى فبل أن تفكر بمنطق
البنة ،و هذا حقها ••
لكنها لو تزوجته تكون كمن يلقي بنفسه في التهلكة ••
ليس إلى هذا الحد يا أم ريم ،سهيل شاب ناجح في عمله ،ليس عجوزا و
ليس عاطل ،لم نر منه ما يسوء أبدا ،أنت قلقه لنه فلسطيني ،و أنا قلق
لنه ابن مخيم •• لكن ل أنا و ل أنت يمكننا أن نضع فيه هو شخصيا عيبا
يمكننا أن نحاجج به ريم •• تنهدت الم و همست :
و مع ذلك آمل أل تقبله •• ***
غدا يأتي سهيل ،فبماذا نرد عليه يا ريم ؟ كانت ريم تهم بوضع اللقمة في
فمها عندما باغتها الب بهذا الســــؤال ،أزدردت اللــــقمة و قالت بارتباك :
ما تريده يا أبي •• ابتسم الب تفهما و قال بهدوء :
أنت من ستتزوج و ليس أنا ••
سهيل يا أبي ،شاب عصامي بنى نفسه بنفسه ،و تجربته في الحياة
واسعة ،كما أنه قريبنا ،ولكن لو كان موضع شك فإنك بالطبع أخبر مني بهذا
المر •• كانت الم تستمع صامتة للحوار ،و عند هذا الحد وضعت ملعقتها و
قالت موجهة حديثها لريم :
يبدو أنك تريدينه يا ابنتي •• تطلعت إليها ريم برجاء و قرأت الم في
عيونها استعطافا خفيا بأل تقف أمام رغبتها ،نكست رأسها و أدارت ملعقتها
في الطبق ،و عندما رفعت رأسها نحو زوجها ،كان بدوره ينظر إليها ،كانت
الكلمة القادمة هي القرار النهائي و كان إعــلنها يعني التزاما و قابل الب
وجوم الم بابتسامة هادئة أخذت تتسع تدريجيا تقدم دعوة للم لكي تبتسم
بدورها ،فاضطرت الم تلبية الدعوة و افتــر ثغرها عن ابتســــامة ،كانت
ريم تراقبهمــا و تنتظر القرار بقلب متلهف و عندما تطلع إليها أبيها كانت
ابتسامته كبيرة و قال بمرح :
على بركة الله يا ابنتي •• زغردت الفرحة في عيني ريم ،و قامت من
فورها فقبلت يد أبيها و رأسه ،و ألقت نفسها في حضن الم المفتوح و تلقت
تهنئتها و دعواتها ،و تلقت تهنئة سمر و ركضت إلى غرفتها و عندما صاح
الب :
و الطعام ؟ قالت :
شبعت •• تطلع جهاد إلى زوجته ،كانت الدموع تتجمع في عيونها ،قال
لها و هو يبتسم :
ادعي لها بالخير يا أم قاسم ،ريم طيبة و لن يكون نصيبها إل طيبا مثلها ،
و لعل سهيل هو خيرها الذي ل نعلم مداه •• *** مساء اليوم التالي ،جاء
سهيل مبكرا أكــــثر من المعتاد ،لم يكن الب قد عـــاد من عمله ،و كذلك
ريم ،كانت سميحة وحدها مع ســــمر ،فتحت له الــــباب و رحـــبت به
بتــــحفظ و أخبرته أن زوجها ليــس بالبيت ،فدخل سهيل و توجه نحو
الصالون مباشرة و هو يقول :
هو عمي ،و أنت زوجة عمي ،و لدي كل العذر في التبكير بالحضور اليوم
•• دخلت الم خلفه فبادرها بسرعة :
لقد مر علي السبوع الفائت طويل ممل ،مرهقا ،تعرفين يا خالتي ،أنا
أنتظر الرد •• جلست الم و أجلست سمر على ذراع كرسيها و تطلعت إلى
سهيل و سألته فجأة :
لماذا تريد الزواج من ريم يا سهيل ؟ فوجيء سهيل بالسؤال ،و لكنه
تماسك بسرعة و قال مبتسما :
و لماذا يريد الناس الزواج يا خالة ؟ ضبطت الم أعصابها و قالت :
أسألك عن سبب رغبتك في الرتباط بابنتي و ليس عن السباب وراء زواج
العالمين •• فقال سهيل و قد استشف من لهجتها أنه في اختبار عسير عليه
أن ينجح فيه :
ريم فتاة ممتازة ،و أي شخص يسعده كثيرا أن يرتبط بها •• فقالت الم
بسرعة :
و لماذا لم تتزوج حتى الن يا سهيل رغم أنك لست صغيرا ،أعتقد أنك
تخطيت الثلثين ،أليس كذلك ؟ فقال سهيل :
كثير من الشباب وصلوا لهذا الســن و لم يتزوجـــــوا بعد ،تعرفـــــين
ظروف الحــــياة ،و تعرفين النصيب •• و ركز عيونه عليها و أكمل :
أنا أؤمن جدا بالنصيب يا خالتي ،أل تؤمنين به بدورك ؟ نهضت الم و
قالت :
ماذا تشرب ؟ فقال سهيل و هو يبتلع ريقه :
كل ما تعدينه جميل يا خالتي •• صحبت الم سمر و توجهت للمطبخ
فصفر سهيل بشفتيه و همس :
بداية غير مشجعة •• *** عندما عاد الب ووجد سهيل في المنزل ،ابتلع
احتجاجا صغيرا و رحب به بحرارة و سأله إن كـان قد شــرب شيء ،و
عندما سأله سهيل عن رأيه في طلبه الزواج من ريم أجابه الب :
ريم هي ابنة عمري يا سهيل ،و لن أجد لها خيرا منك ،أنت شاب إبن
حلل و أدعو الله أن يوفقكما •• نظر الب إلى الم يدعوها بعيونه أن تبادر
بالتهنئة ،فقالت و عيونها مترقرقة :
مبارك عليك يا سهيل ،ريم فتاة ممتازة ،احفظها في عيونك •• نهض
سهيل فعانق عمه و قبل رأس زوجة عمه و قال و هو يجلس و السعادة
تنطق في عيونه :
سوف لن تندموا على هذا القرار ،ريم في عيوني •• و عندما عادت ريم
وجدت أن اتفاقا قد تم بين الب و سهيل على ميعاد الخطوبة و مقدار المهر
و وجدت في عيون سهيل شوقا كثيرا و حديثا ،فانسلت بهدوء إلى حجرتها و
لم تخرج إل عندما خرج سهيل من المنزل ،جاءها أبيها و قبلها مهنئا و قال
لها :
الن كلمي مختلف ،الزواج يا ابنتي شراكة عمر ،و عندما ترضى المرأة
برجل زوجا فلبد أن تحفظه في عيونها و تتحمل تقلبات مزاجه ،و تخفي
عيوبه ما وسعها ،لقد كان سهيل سعيدا سعادة حقيقية ل أنكرها ،و أسأل
الله أن يوفقكما •• و قالت الم و هي تحتضنها :
سهيل سيأخذ جوهرتي الثمينة ،تأكدي أنك ستظلين الجوهرة الثمينة دائما
و لن يغير الزواج هذا المر ،ل تقبلي بأقل منه يا ابنة بطني •• و لم تنم ريم
تلك الليلة ،و عند منتصف الليل استقبلت لول مرة هاتف من سهيل هتف
بحماس عندما سمع صوتها :
مبارك يا ريم •• فقالت بخجل :
مبارك عليك يا سهيل صمتا كلهما و قطع سهيل الصمت و تنهد قائل :
أخيرا •• *** خلل ستة شهور قادمة بدأت ريم الستعداد للزواج مع
سهيل فبعد شهر تقريبا من قراءة الفاتحة تم عقد القران في المحكمة و
أصبح من حق ريم الخروج مع سهيل لختـــيار منزلهم و منذ اللحظات الولى
تقرر للمنزل أن يكون في حدود متوسطة قدر الستطاعة و لم تهتم ريم ،
فهي قادرة على تحويل منزلها أيا كان مستواه إلى قطعة من الجنة ،و أصبح
من المعتاد أن تتغيب عن العمل يومين أو ثلثة أسبوعيا من أجـــل إعـــداد
المنزل و فرشه ،و في غضون ذلك لحظت ريم أن سهيل كان غاية في
التهذيب معها ،لم يفكر يوما أن يستغل وحدتهما خاصة في الشقة لكي
يتصرف تصرفا متوقعا من زوج ،و علي النقيض من ذلك ،كان سهيل في
الشقة منشغل دائما بأدق التفاصيل ،يرتب بأقصى قوة ما استطاع ،و
تشارك مع ريم في شراء كل قطعة أثاث ،و كانت الم تستقبل ريم كل يوم
بسؤال واحد عن سلوك سهيل معها فتجيبها دوما بأنه مثال الخلق •• و
انتهت الشهور الست و في اليوم المحدد للزواج أعد الب مع قاسم ابنه و
بمساعدة رجال من الجيران سطح المنزل ليكون مقر احتفال النساء فيما
تبرع أحدهم بإعداد سطح عمارته المقابلة للرجال ،و ذهبت ريم مع أختها
سمر إلى حيث تتزين و تتأهب لليلة العمر ،و بقيت الم في المنزل تشرف
على استقبال الحلويات و المأكولت و الضيفات المبكرات ،عند التاسعة
مساء كان كل شيء جاهزا لستقبال العروس ،السطح مليء بالنساء
المهنئات و أطفالهن ،و الصبايا يتناوبن الرقص على إيقاع الموسيقى مختلفة
النغمات ،و عنــد العاشــــرة أقبلت العــــروس فتعالت الزغاريد و بسملت
الم و حوقلت و استعاذت بالله من عيون الجميع ،فقد كانت ريم جميلة جدا
هذه الليلة ،اتخذت مكانها في صدر الجلسة و لم تفارق البتسامة وجهها ،و
عند الحادية عشر جاء العريس بصحبة الب من السطح المقابل و جلس
بجوارها و ألبسها الشبكة و بقي قليل حتى انتهى قاسم من التقاط الصور ثم
مضى إلى الرجال و دعي الجميع لتناول طعام العشاء •• عند الواحدة ليل
جاء العريس مجددا و لكن هذه المرة ليصحب عروسه •• و انطلق
العروسان وسط الزغاريد و الموسيقى الصادحة ،نزل السللم و ركبا
السيارة المزينة التي انطلقت بهم إلى جولة في المدينة ،تم تصويرها
بالفيديو من قبل بعض أصدقاء سهيل ،و في حدود الثالثة فجرا اتجهت
السيارة بالعروسين إلى منزلهما الجديد و لم يتركهما الناس إل بعد أن اضطر
سهيل لغلق الباب في وجوههم و هو يصيح باسما :
أتركوا العروسين يا متاعيس •• !! و على باب المنزل حمل سهيل
عروسه ،و سار بها حتى منتصف صالة المنزل ثم أنزلها برفق و قال و هو
يقبل جبينها :
مبارك عليك يا عروسي الجميلة •• ابتسمت له ريم و قلبها يخفق بشدة و
همست بارتباك :
مبارك عليك يا زوجي العزيز •• تلفت سهيل حوله و حل ربطة عنقه و
قال :
هل نقوم بجولة في المنزل لنرى كيف رتبته أمك و أختك الترتيب الخير ؟
هزت ريم رأسها موافقة ،فمد لها يده و سارا معا إلى الصالون أول •• وقف
سهيل على بابه و هو مبتسم ،على أن ابتسامته انسحبت بسرعة و صاح :
ما هذا ؟ اضطربت ريم و قالت بسرعة :
ماذا هناك ؟ فقال :
أنظري ،لقد غيروا مكان المقاعد ،لم أضعها هكذا عندما رتبتها بنفسي
•• ابتسمت ريم و قالت :
لقد أعادت أمي تنسيقها وفق ما وصفت لها ما أتمناه •• تركها في مكانها
و قام بجولة سريعة على غرف البيت و أخذ يتمتم بنفس العبارات كلما دخل
غرفة و في النهاية وقف وسط الصالة و صاح بغضب :
لقد قاموا بتغير كل شيء ،لم يتركوا غرفة دون عبث ••أنا ل أحب هذا
•• قالت ريم واجمة :
سهيل ،لقد بذلوا جهدا كبيرا ،و عندما عادت أمي أمس كانت في أشد
حالت الجهاد ،حتى أنني شعرت بوخز الضمير ،ل تنس ،أمي إمرأة كبيرة
•• فقال سهيل بإصرار :
طلبنا منهم التنظيف ،ل التنظيم ،تدخلهم هذا يضايقني •• كتمت ريم
غيظا يثور داخلها و قالت بصوت حاولت أن يخرج هادئا :
غدا نعيد تنظيم البيت كما تحب •• و لم تكمل حديثها و فوجئت به يصيح
بسرعة :
ل •• بل الن •• قالت ريم و قلبها يدق بشدة :
الن ؟ فقال و هو ينزع الجاكت و يشمر أكمام قميصه البيض :
نعم الن ،مساعدة قليلة و يعود كل شيء إلى ما كان عليه •• هيا معي يا
حبيبتي ••
لكنني متعبة يا سهيل ،و جائعة ،الطعام الذي أعدته أمي سيبرد ،هل أكلنا
و بدلنا ثيابنا أول ثم قمنا بما تريد ؟ هز سهيل رأسه رافضا عرضها و قال :
كلي أنت ،سأقوم بالعمل وحدي ،أم تريدين أن يأتي الناس للتهنئة غدا
فيروا البيت بهذا العبث ؟ قالت ريم بصوت متعب مقهور :
نحن الن غدا فعل يا سهيل •• لم يسمعها سهيل ،توجه بسرعة إلى
الصالون و أخذ يحرك المقاعد و يـــبدل أمــــاكنـــــها و عندما احتاج
لمساعدة ناداها ،فجاءت إليه تجر ثوبها البيض الجميل ،و بدون كلم
ساعدته •• عند السابعة صباحا ،كان المنزل قد عاد إلى سابق عهده و
اتخذت قطع الثاث شكلها الذي يريده سهيل ،جلسا منهكين على مقاعد
الصالون كانت بعض التكسرات و البقع الخفيفة قد انتشرت على ثوب
الزفاف البيض ،و كان شعر ريم مشعثا بعد أن اضطرت لخلع الطرحة عنوة
أثناء العمل •• تطلع سهيل حوله و قال بصوت فخور متعب :
هكذا ينبغي أن يكون بيت سهيل •• أنتبه أخيرا إلى ثوبها فقال لئما :
أنظري ،لقد فسد ثوب الزفاف ،كان ينبغي أن تبدليه قبل مساعدتي ••
لم ترد ريم ،كان النعاس و التعب قد غلبها فنهضت متكاسلة و قالت :
سأذهب للنوم •• فقال بسرعة :
و الطعام ؟ فقالت و هي تشيح بيدها :
ل حاجة لي به ،كل أنت •• اتجهت نحو غرفة النوم و أنفها يحكها تقاوم
عبرة على ضياع ليلة العمر التي حلمت بها ،و تذكرت و هي تلقي بجسدها
المنهك على السرير ما قالته لها مشاعل عن طقوس ليلة العمر ،و ما قالته
أخريات كن أكثر جرأة من الجيران •• همست لنفسها و هي تدخل فورا في
ضبابات النوم :
مبارك عليك يا عروسة !! *** في حدود الخامسة عصرا أفاقت ريم
مــــذعورة على يد تهزها ،فتحـــت عيــــونها بسرعة و حاولت تذكر ما
حدث ،و عندما لمست يدها ثوبها و سمعت حفيفه تذكرت على الفور ،
نظرت إلى سهيل الذي يوقظها ،كان مرتديا بيجامة النوم الحمراء التي
أشتروها سويا قبل الزفاف بيومين ،كان مشمرا عن ساقيه ،ابتسم لها
عندما فتحت عيونها و قال :
يبدو أنك تعشقين النوم ،لقد نمت قرابة عشر ساعات حتى الن ،لم أشأ
إزعاجك ،لكنني آمل أل تكرريها ثانية ،ل أحب أن تنامي قبلي بعد اليوم ••
استوت جالسة على فراشها و همست :
ألم تنم ؟ فقال و هو يضحك :
لقد نمت بعد أن أكلت بساعة تقريبا ،و استيقظت منذ ساعة تقريبا ،ل
أحب النوم أكثر من سبع ساعات يوميا ،ستعتادي على ذلك بدورك ••
تمطت في فراشها و قالت و هي تبتسم بمكر :
لقد كانت ليلة أمس مرهقة جدا يا سهيل ،ل يكفي لتعويضها نوم يوم
بأكمله و ليس عشر ساعات ••
حسنا ،قومي بدلي ثيابك ،و حاولي إخفاء هذا الثوب فلقد أصــبح بحاجة
إلى تنظيف و كي ،ارتدي شيئا أنيقا سيأتي المهنئون بعد قليل •• نهضت من
فراشها بتثاقل كبير و قالت و هي تتثاءب :
أشعر بجوع عظيم •• فقال و هو يغادر الغرفة :
الصول تقتضي أن يحضر أهلك طعام للعروسين معهم عندما يأتون مهنئين
،آمل أل ينسوا ذلك •• بدلت ريم ثيابها ،و ارتدت ثوبا مغربيا مطرزا و
مشطت شعرها و أعادت ترتيب زينتها ،فبدا وجهها مشرقا ،و خرجت
مبتسمة تبحث عن سهيل ،وجدته في الصالة يطالع التلفاز فقالت على الفور
:
ماذا تشاهد ؟ فقال و هو يركز انتباهه على الشاشة :
أنه فيلم مصري قديم ،شاهدته أكثر من مائة مرة ،أحب مشاهدته كثيرا
••
هل يفكر في الموت من يبدأ حياته للتو يا سهيل ؟ ربت عليها و استرخى
في نومه ،و لم تمض لحظة حتى سمعت ريم صوت أنفاسه المنتظمة يتردد
في أذنها ،ينسل إلى تجويفها الخالي ليعلن إنتهاء يوم آخر في حياتها الجديدة
•• ولم تنم ريم هذه الليلة ،أدارت كلم سهيل في ذهنها و مررته على قلبها
فاستشعرت مأساة يمر بها هذا الشاب تحول بينه و بين المضي قدما في
اتمام الزواج على الوجه المفروض ،قررت أن تكف عن التفكير في هذا
المر حتى يأتي لوحده ،قالت و هي تحكم الدثار حوله :
قريبا جدا ستتيقن أيها الغالي من أنك وجدت أخيرا من يهمه أمرك كثيرا
••
بعد أسبوعين من الزفاف قررت ريم قطع إجازتها و العودة إلى العمل ،لم
يعترض سهيل بل على العكس كان يرى أنه لبد بالفعل من العودة للعمل
لكليهما و علق قائل :
المكوث في المنزل أمر ممل للغاية ،ل أدري كيف يحتمل الناس شهور
الجازة •• و استقبلت مشاعل عودة ريم السريعة بكثير من الدهشة و لم
تتقبل أي عذر قدمته لها ريم ،و عندما شارف اليوم على النتهاء و
استطاعت الثنتان الجلوس بهدوء كان من الطبيعي أن تبادر مشاعل بسؤالها
المتوقع :
ماذا حدث يا ريم ؟ لكن ريم التي كانت تحفظ نصيحة أبيها كحرز غير قابل
للهدار قالت بمرح مصطنع :
ل شيء يا أم الفكار •• فقالت مشاعل بهدوء الواثق :
بل هناك شيء ،و شيء كبير أيضا ،و سؤالي هل يتعلق المر بسهيل ؟
هزت ريم رأسها و لم تقوى على الستمرار في الدعاء فصمتت تمنع رغبة
قوية في الكلم ،رغبة وصلت معها حد الحرقة •• كزت مشاعل على شفتيها
و تفكرت قليل ثم قالت برزانة غريبة عليها :
اسمعي يا ريم ،قبل أن نتزوج نكون قد رسمنا في أخيلتنا صورة حالمة ،
شديدة النعومة عن حياتنا مع الزوج ،و لكن عندما نتزوج فعل نجد أن الصورة
اختــلفت قليل أو كثيرا عما رسمنا ،و العقدة دائما فينا ،نحن القادرات على
حلها أو زيادة تعقيدها ،فإذا كنت قد جابهتي أمرا لم تتوقعيه ،ابحثي في
نفسك أول عن طريقة التكيف معه ،ل توجد عقدة بدون حل •• فقالت ريم
و كأنها تنفي تهمة :
سهيل انسان يا مشاعل •• ابتسمت مشاعل و قالت على الفور :
لم أقل عكس هذا يا ريم •• أدركت ريم أنها تسرعت بهذه العبارة فقالت
باقتضاب :
لست أعاني من أي مشكلة •• تنهدت مشاعل و قالت :
إذا كان المر يتعلق بسهيل فأعتقد أنك يجب أن تشركي أمك في
الموضوع فهي سيدة حكيمة و سيفيدك رأيها •• بسرعة قالت ريم :
ل •• ل يمكن •• ل أستطيع •• نهضت مشاعل و تناولت عباءتها و قالت :
أذن ،أنا رهن خدمتك ،و أعتقد أن مجرد الحديث عن المشكلة كفيل
بايجاد حل لها •• ألن تستعدي ،أزف ميعاد النصراف •• هزت ريم رأسها
موافقة و نهضت متكاسلة ارتدت عباءتها و أحكمت وضع غطاء رأسها بآلية
فيما مشاعل تراقبها و شيء داخلها يقسم أن ريم لديها مشكلة •• *** ذاك
المساء قررت ريم أن تفتح نقاشا صريحا مع زوجها ،قررت أل تقف مكتوفة
اليدين أمام مشكلة تفرض نفسها على تفاصيل عـــلقتها معه ،قــــدمت له
كـــوب الشاي مبتسمة و قالت مداعبة :
تفضل يا وطني •• تطلع إليها سهيل و ابتسم بدوره و قال :
وطني ؟ هل هذا أسم تدليل ؟ هزت ريم رأسها و قالت بمرح :
بل هو واقع الحال يا سهيل •• أنا لم أر وطني و لم أعش فيه ،و زواجي
منك كان نهاية رحلة بحث مضنية عن هذا الوطن •• في البداية بحثت عنه
في دراستي و كتبي و شهادة كبيرة أحصل عليها •• لكنني وجدت بعد رحلة
دراسة مضنية أن الوطن ل يختبيء في الكتب ،و شهادتي معلقة على حائط
الجاليري بل قيمة ،حتى سطورها المتتابعة التي تحمل اسمي و مؤهلي و
تقديري ل تعنيني و كأنها لشخص آخر ،ثم اعتقدت أنني سأجد الوطن في
العمل و النتماء له ،فأخذت أرسم و أعمل و استغرقني العمل حتى نسيت
الهدف و أفقت فجأة على أن ريم التي تعمل هناك ليست سوى عاملة ،أيا
كان طبيعة عملها ،و ليس لجنسيتها علقة بعملها و ل مكانها و مكانتها ،و
تيقنت أن ريم هذه لو كانت مصرية ،أو سعودية ،أو سودانية •• أي جنسية
فلن يتغير الوضع •• و عندما ظهرت أنت في حياتي تمحور حولك انتمائي
فصرت الن أنت الوطن ،هذه حقــيقة فل تضحك يا سهيل ••
كان سهيل يضحك على هذه العبارة الخيرة حتى أن كوب الشاي اهتز في
يده فأسقط قطرات على ملبسه ،لم يشعر بحرارتها و قال :
الوطن يا ريم ليس دراسة و ل عمل و ل زوج ،الوطن أرض و حدود ،فهل
ترين أنني أرضك ،حدودك ،هل أصلح لهذا الدور ؟ فقالت ريم حانقة :
بل يجب أن تكون في هذا الدور معي ،ل تسخر مني يا سهيل ،أنني
صادقة جدا فيما أقول ،يعوزني دوما النتماء إلى شيء ما ،يعوزني
الطمئنان و الركون و إغماض عيني بل خوف ،يعوزني الوثوق و الحماية ،و
المان ،هذه معاني يوفرها الوطن ،و أنا بل وطن ،و بزواجنا صرت أنت
المان و الحماية ،إليك أنتمي و معك أغمض عيني و آخذ من الدنيا مواثيق
المان •• أنت الوطن يا سهيل ،هل تفهم هذا ؟ سحب سهيل بقايا ضحكة
التهكم من عينيه ،وحلت في لحظات معاني اللم فيهما ،قال بصوت ل
يشبهه :
إنسان بل هوية ،ساقط قيد ،من فئة البدون ،ل يستحق أن يعيش ،
إنسان يستجدي علمه ،يستجدي عمله ،يستجدي وجوده ،أكرم له أل يعيش
•• هل تفهمين يا ريم ،أكرم له أل يعيش •• لم تفهم ريم ،ظلم لف عقلها
في لحظات فاستحالت معه كلمات سهيل طلسم ،أمل كان هنالك يرعى
في نفسها مطمئنا انكمش فجأة و تجمد على ابتسامة جهل بلهاء طافت على
شفتيها ثوان ثم انطفأت و صاح داخلها اللم سؤال لم تستطع أن تكتمه :
لماذا تزوجتني يا سهيل ،أنت انسان يقتات الضياع ،فلماذا ربطت في
عنقك إنسانا يعيش على المل ،لماذا تزوجتني يا سهيل ،إذا كنــت ترى
الحياة ظـــلما ،و النـــاس شـــرا و السرة وهما ••؟
أمسكها بسرعة من كتفيها و صاح بعنف :
لنني أردت الخروج من كل هذا ،لنني أردت أن أحطم شرنقة تعاسة
تعشعش في كياني منذ طفولتي ،تسرق مني متع الحياة ،فرحة النجاح ،
ابتسامة التفاؤل •• لنني رأيتك إنسانا يحاول أن يطفو برأسه من مستنقع
الضياع و يتنفس المل ،رأيتك منذ حدثني عنك تامر في خطابه فتاة ترفض
الرضوخ لواقع الغربة البدي و تمد يدها نحو الضوء رغم عجزها و قلة حيلتها
•• فعلت بخطابات التواصل مع الغائبين مالم نستطع أن نفعله و الغربة
تمتص دماءنا و الصبر يلعق جروحنا و المرارة تغلف أيامنا •• صاحت ريم و
هي تحاول التفلت من يده :
إنك تؤلمني يا سهيل •• أفلتها و أكمل و زبد أبيض يحيط شفتيه و تهدج
خفيف يغلف صوته :
كنت ساخطا ،ل تفارق عبارات اللعن لساني ،أمارس عملي كما كان
العبيد يمارسون أعمالهم تحت نير التعذيب و فرقعة السوط ،الفرق الوحيد
أن المعذب كان من هنا •• دق صدره بقوة ••
من داخلي ،كنت أستيقظ في الصباح و أذهب إلى العمل و أظل أعمل
الساعات الطوال ،ل أبالي بشمس يسقط تحتها المترفون ،كنت أحاول حين
أواصل ضرب المطارق أن أطمس على صوت اتهامات الخرين للفلسطنيين
و حطهم من قدرهم ،كنت أحاول أن أدفع بقسوتي على ذاتي اتهاما لم
يواجهني به أحد ،لكنني كنت أراه في العيون ،أقرأه في الصحف ،ألمسه
في المعاملة •• تعرفين كيف ينظر العالم إلينا ،تعرفين أو ل تعرفين أن
السارق في أي مكان فلسطيني ،و الرهابي فلسطيني ،حين نمر على
الحدود يفتشون تحت الجلد منا ،يسألون أطراف شعورنا و زوائد أظافرنا
عن شر لبد أننا نحمله ••
كنت أراهم يا ريم ،يمرون جماعات ببساطة أمام مفتشي الحدود و عندما
يأتي الدور على فلسطيني يستنفرون عروقهم ،و يلمــــسون أسلحـــتهم و
يقـــدمون الهـــانات على مرأى و مسمع كل من له وطن •• و الجميع ينظر
،بين شفقة ل نحتاجها ،أو لسان حال يصرخ في العيون إننا نستحق •• أنت
جربت بعضا من بعض عذاب اللجئين ،و مع ذلك مازال لديك أمل ،مازلت
ترين الحياة إبتسامة واسعة يمكن أن نزين بها شفـاهنا ،و قهقهة تخرج من
أعماق أعماق روحنا •• ل تسألي يا ريم •• ل تسألي لماذا تزوجتك •• ل
ُيسأل المجروح لماذا يبحث عن الضماد ،ل ُيسأل المبطون لماذا يبحث عن
الدواء ••
تريدين مني أن أكون الوطن •• وطنك يا ريم بحاجة إلى وطن •• و لم
تجرب ريم أن تفتح معه نقاشا بعدها •• *** قالت الم و هي تحتضن ابنتها
بشوق :
أهل بحبة القلب •• غريب أين سهيل ؟ لقد عودنا أل يفارقك في أي زيارة
كأنه يخشى أن نعبئك ضده إن نحن جالسناك وحدنا •• ظلت ريم صامتة
تستمع إلى تعليق الم و ل ترد و انتبهت سميحة إلى وجوم ابنتها فسألتها
بقلق عن حالها ،ترقرقت الدموع في عيون ريم و هزت رأسها و حاولت
البتسام و قالت :
أنا بخير يا أمي •• لقد اشتقت إليكم كثيرا هذا كل ما في المر ••
استشعر قلب الم بأسا ،قالت و هي تجلس ريم و تجلس أمامها :
أحلفك بالله أن تقولي ،ما بك يا حبة القلب و نور العين •• حنان أمها هو
ما كان حقا ينقصها •• كلمات الدلل القديمة ،و الهتمام الذي فقدته مذ
تزوجت حرك مكامن الخوف القديمة داخلها ،أصبحت عيونها مستعدة تماما
لترجمة عذابها ،خرجت دمعة يتيمة تستطلع تبعتها دمعات صامتة ،و عندما
احتضنت الم عذابها انفجر القلب المغلق على همومه في نشيج مرتفع هز
الم و بلل كتفها •• تركت ريم تبكي ،تركتها تقول في هذه الدموع كل شيء
دون أن تنبس بحرف واحد ،و عنــدما انــتهت ريم و صامت شهقاتها
المتوالية عن الدموع تقبلت شاكـــــرة كأس العصـــير المثـــلج من ســمر و
احتسته بهدوء و ابتسمت و قالت :
أنا بخير يا أمي ••
و عندما انصرفت ريم دون أن تفصح ،أخذت معها اطمئنان الم و راحة بالها
•• و تركتها في قلق ل يعلم إل الله مداه ،قلق لم تستطع الم إخفاؤه و
بادرت به الب حال عودته قالت و حسرتها تسبقها :
ريم تعيسة يا جهاد •• نفس الب دخانه بهدوء و قال كمن كان يعرف :
البداية دائما صعبة •• هزت أم ريم رأسها و قالت :
ريم مجروحة ،مصدومة •• إنطفأ البريق في عيونها ،و أصابها هزال
غريب •• لبد أن نفعل شيئا •• قال الب :
هل حدثتك بشيء ؟ هزت رأسها نفيا فقال:
إذن دعيها حتى تقول •• ريم ل تريد منا التدخل ••
لكنها تتعذب
إذا استجارت بنا أجرناها
ريم عنيدة
هي أدرى بشؤونها •• ريم لم تعد صغيرة ••
لهفي عليك يا ابنتي •• لهفي عليك ••
***
في شئون الزواج و العشرة بين الزوجين دائما مشاعل خبيرة ،و عندما
جاءت أم عبد الله في زيارة للجاليري و علقت على هزال ريم و لما يمض
على زواجها شهرين علقت مشاعل :
ريم أصبحت كتومة للغاية ،أعتقد أن للمر علقة بما بينها و بين زوجها ••
صحبتها أم عبد الله إلى مطعم السوق ،و عندما جلستا قالت لها بحنان :
ريم •• أحيانا ،يصعب علينا العتراف بهمومنا حتى لقرب الناس لنا ،
لكننا دوما بحاجة لمن يسمعنا و يفهمنا و يخفف عنا ،حتى لو كان الكلم
لمجرد التخفف من همومنا •• أنت فنانة و راحة البال رأس مالك ،فإذا
تركت همومك تأكلك ضعت ،لذا آمل أن تتحدثي معي ،كصديقة و ليس
كصاحبة مال ••• و ريم لم تكن بحاجة لهذه المقدمة ،كانت تريد حقا
شخصا غريبا يفهمها ،يبدي تعاطفا ،أو يقدم حل •• كانت تريد الكلم لكنها
لم تكن تعرف لمن تبوح ،كانت تخشى على أبويها من هم لن يفارقهم ،
ناقشت مع نفسها مرارا أن تفضي إليهم بهمها لكنها كانت دوما تتراجع ،ل
تريد أن تشعل حزنهما عليها ،و ل تريد أن تسمع كلمة عن اختيارها ول تريد
أن تفسد علقة بينهم و بين زوجها •• محاذير كثيرة كانت تمنعها ،و ل معنى
لكل هذه المحاذير مع أم عبد الله ،لذا حكت ،قالت كل شيء بصراحة
ووضوح ،تحدثت كأنها تحدث نفسها ،استفاضت في الشرح لمرأة صامتة
كانت تتلقى قصتها كأنها تشاهد فيلم خيالي ل يمكن تصديق أحداثه و عندما
انتهت ريم من كل شيء قالت أم عبد الله على الفور :
شهران يا ريم ؟ شهران بل زواج •• ل يوجد ما يبرر صمتك فقالت ريم
على الفور :
ل أستطيع أن أبوح بهذا السر لمخلوق ،إنني أكتفي بالدعاء لله في كل
صلة أن يفرج هذا الكرب و يرفع عن صدر زوجي مارد الغضب على الحياة ،
أنا متأكدة أنه يعاني •• فقالت أم عبد الله بحزم موقفة استطراد ريم :
أيا كان يا ريم ،البداية أن تواجهي المر ،و أن تعترفي بها مشكلة ،ل يقوم
زواج بين أثنين على تبادل تحيات الصباح و المساء ،يجب مواجهة سهيل
بمشكلته ،يجب أن يعرف أنك ترفضي ما أنتم عليه ،لن حياتكم غير سوية ،
عليك أول بالمحاولة معه ،فإن لم تجدي محاولتك نفعا فعليك بوالدك ،أو
والدتك ،يجب أن يعرض سهيل نفسه على طبيب •• صاحت ريم :
أحاول معه ؟ ل يمكن •• فقالت أم عبد الله بجدية :
ل خجل مما أحله الله يا ريم ،ربما كان زوجك متهيبا و بحاجة لن تكسري
معه حاجز الهيبة ،ربما كان بحاجة فقط إلى بداية مشجعة ،خجل الزوجات
أحيانا يوحي بالبرود ،و بعض الرجال يستجيبون لهذا البرود ببرود مماثل ،
ربما كان زوجك منهم •• حاولي قبل أن تفتحي معه الموضــوع مباشرة ،
فإذا لـــم يستجب فعليك بأمك و أبيك ،لبد من تدخلهما ••
ل •• ل أريد أن يتدخل في هــذا المر ،إنني أفضل الموت قبل أن أفتح
فمي بهذا المر لي منهما ••
حسنا إبدئي أول ،و ربما لن تحتاجي لي تدخل بعدها ••
هل تعتقدين بضرورة هذا ؟
بل أنا متأكدة من ضرورته يا ريم •• *** ظلت ريم بعد حديثها مع أم عبد
الله أسبوعا تقوي نفسها ،فيغلبها الحياء و ترضخ آخر المر لحيائها فل تفعل
ما أوصتها به السيدة ،و صادف أن عادت ريم من عملها بعد هذا السبوع
مجهدة ،و كان سهيل متأخرا في العودة للمنزل ،و لم تتمكن ريم من
مقاومة رغبتها في النوم رغم يقينها بأن نومها سيضايق زوجها الذي رفض
دائما أن تنام قبله ،لكنها لم تستطع الصبر ،فألقت بنفسها على الفراش و
استغرقت في نوم عميق على أمل أن تستيقظ قبل عودته ،لكنها لم
تستيقظ بعد ساعات إل على يد سهيل و هو يوقظها قائل :
ألم أخبرك أنني ل أحب نومك بدوني •• فتحت عيونها بصعوبة ،فلم تقوى
على مواجهة الضوء المشتعل في الغرفة فأغلقتهما بسرعة و قالت بين
تهويمات النوم :
دعني يا سهيل ،ل أستطيع مغالبة نعاسي ،أرجوك أطفيء الضوء ،إنه
يضايقني •• لكن سهيل لم يدعها و عاد يهزها :
إنهضي ،أين عشائي ،إنهضي يا ريم ،لم أتزوج لسهر وحيدا •• فجأة
انتبهت كل ذرة في كيانها ،طار النعاس بسرعة لم تتوقعها ،و وجدت نفسها
مدفوعة لتنفيذ أمر ،ترددت قليل و قالت بلهجة ل تخلو من تحذير مبطن :
أتركني يا سهيل أكمل نومي •• لكنه و قد أيقن من صوتها يقظتها التامة
عاد يلح من جديد :
هيا يا ريم ،إنهضي ،ل داعي لمضايقتي •• نفضت الغطاء عنها و قالت
بمكر :
أنت الذي تصر •• لم يفهم سهيل ماذا تعني ،و راقبها و هي تنهض من
الفراش بسرعة و تتجه إلى باب الغرفة فتغلقه بالمفتاح عليهما ،و تضع
المفتاح في صدرها و تتجه نحو الضوءالحمر في أحد أركان الغرفة فتضيئه ،
ثم تتجه بسرعة إلى الضوء الكبير فتغلقه •• كان قلبها يخفق خفقات من
يقبل على مغامرة ،و كان قلبه قد بدأ يدق مستشعرا خطرا •• فلما انتهت ،
اقتربت منه بخطوات جريئة أدهشتها قبل أن تدهشه و قالت له بصوت ناعم :
هيا يا زوجي الحبيب •• نهض مرتبكا من على الفراش و صاح بصوت خرج
ضعيفا مستنكرا :
ماذا تريدين ؟ فقالت و هي تقترب منه :
أريد زوجي ،حبيبي ،أريد أن أتمم زواج تأخر لكثر من شهرين بدون سبب
•• ركض من أمامها بسرعة متجا إلى زاوية في الغرفة ،فتعثر في طاولة
صغيرة عليها تحفة صغيرة فأسقطها و لم يبال حتى لذ بالزاوية ،راقبته ريم ،
فاتسعت ابتسامتها عن ضحكة ظفر و قالت و هي تتجه إليه :
أين تذهب أيها الحبيب ،الغرفة صغيرة و الباب مقفل ،ل مفر •• كانت
تشعر كأنها طفلة تنادي طفل مذعورا ليلعب معها ،لم تكن تدرك حتى هذه
اللحظة إن مارد رعب حقيقي سيطر في هذه اللحظة على سهيل فعجزت
ساقاه عن حمله فسقط قائما و همس بحلق جاف تماما :
أرجوك افتحي النور ،افتحي النور أرجوك •• ارادت ريم أن تكمل لعبتها
إل أن منظره في هذا الوضع و نبرة الرجاء البائسة في صوته نبهتها إلى أن
في المر خطأ كبيرا •• لم تتكلم فاعتقد سهيل أنها مصرة على موقفها ،
كانت قواه في هذه اللحظة قد خارت تماما ووجدت ريم نفسها فجأة أمام
رجل يبكي •• نعم لقد انهار سهيل تماما و بكى و هو يتوسل لها ان تفتح
النور و الباب •• للحظات لم يستوعب عقلها الموقف ،اعتقدت أنها تحلم ،
أو أن سهيل يمزح ،لكن شهقات الفزع و نبرة الرجاء و الدموع التي كانت
تلمع في الضوء الحمر على خدوده أقسمت لها أن الموقف حقيقي و ل زيف
فيه ،تكسرت روحها ،نبض قلبها بشدة عكس نبضات المغامرة قبل قليل ،
شعرت أن الرض تميد بها ،وجدت نفسها تتجه بسرعة إلى الباب لتفتحه و
تضيء المصباح الكبير مجددا و اتجهت نحو سهيل الذي كان جسده ينتفض
انتفاضا عظيما في هذه اللحظة و كأنها تخاطب طفل مفزوعا قالت :
أهدأ يا سهيل ،أهدأ يا حبيبي ،لقد فتحت الباب ،أشعلت الضوء ،أهدأ يا
سهيل أرجوك •• كان سهيل قد رفع يده كمن يتقي شرا عندما رأى ريم تتجه
نحوه و لكن بعد أن أخذت تهدئه و تطمئنه ،أرخى يده و أسقط نفسه على
صدرها وارتفع بكاؤه ،بكاء من أنتهت أزمته و جاءه الفرج ،كان يتمتم و هو
يبكي :
سامحيني يا ريم ،ل أستطيع ،ل أستطيع •• و كانت ريم تربت عليه بهدوء
فيما انسابت دموعها تبلل شعره و قد شعرت في هذه اللحظة بأنها فقدت
إلى البد حلما بأن يكون لها وطن •• *** بعد هذه الحادثة تغير سهيل كثيرا ،
لم يعد يتحدث معها ملطفا ،أو يطلب ما يريد بتهذيب ،لحظت ريم أن
أسلوبه معها تحول إلى الوامر الصارمة التي ل تقبل النقاش ،و كانت من
داخلها تتفهم موقفه فتتعمد تهدئته بالطاعة التامة ،و بدون نقاش ،حتى لما
طلـــــب منها أن تكــــف عن الحديث عن اهــــلهــــا بصيغة أمــي ،أو أبي
أو أختي ،أو أخي و تستبدل هذه العبارات بكلمة "الجماعة" ،فتقول أريد أن
أزور "الجماعة " ،أو جاءنا اليوم أحد أفراد "الجماعة " ،لم تطل اعتراضها و
قبلت على الفور مستميحة له العذر فيما يطلب ،كانت تعرف أنها تتعامل مع
رجل ضعيف ،مهزوم ،و ما يفعله ليست إل مظاهر لتقوية الشخصية و
إكسابها خشونة و رجولة •• لكن المر تطور بعد ذلك تطورا خطيرا عندما
جمعتهما طاولة الغذاء ذات يوم و كان الصمت ثالثهما كالعادة لكنه قطعه بعد
قليل قائل بصرامة اعتادت عليها :
أريدك أن تعدي صنفين من الخضار كل يوم و ليس صنفا واحدا •• فقالت
بهدوء و هي تغتصب ابتسامة :
لكنك ترفض أن تأكل نفس الطعام في يومين ،و عندما أعد صنفين سوف
يتبقى الكثير و حرام أن ألقي به •• لم تكد ريم تنتهي من عبارتها حتى خرج
الوحش من أعماق سهيل عبر عيونه فقام ثائرا و بعثر الطباق و سكب
محتوياتها و هو يصيح :
ل تريدين أبدا أن تسمعي الكلم ،دائما أنت العاقلة الرزينة المدبرة ،أما
أنا فل شيء ،حتى كلمة في هذا البيت ل أستطيع أن أقولها •• سئمت لعبة
تبادل الدوار أنا الرجل هنا •• ل أنت •• كان قلب ريم يخفق بشدة ،كان
صمتها عجزا و ليس اختياريا ،فقد كانت يغص جوفها بألف العبــــارات التي
يمـــكن أن تفند بها كلمـــه ،لكنها لم تــــرد ،تركته يرغي و يزبد و يصيح ،
راقبته و هو يركض نحو المطبخ و يقتلع أنبوب الغاز بعصبية ،ظنت أنه
سيضربها به ،تسمرت في مكانها ،وجدته يندفع إلى غرفتهما ،ثم يخرج بعد
قليل مرتديا ملبس الخروج ،صفق الباب خلفه ،بقيت دقائق ل تستطيع أن
تستوعب ما حدث ،لم تصدق أصل أنه حدث و فجأة و بهدوء شديد أخذت
دموعها تنساب •• و أكتشفت بعد دقائق أن زوجها أخذ معه مفتاح البيت
الخاص بها ،و أنه نزع خرطوم الغاز ليمنعها من أستخدام الموقد ،دهشت
من هذا التفكير الغريب و لم تجد له ما يبرره ،لكن عندما انتهى اليوم و لم
يعد ،اكتشفت أنها سجينة ،نعم هكذا بمنتهى البساطة سجينة ،بل مفتاح و
بدون وسيلة لعداد طعام •• و في اليوم التالي عند الرابعة و النصف عصرا
سمعت طرق السائق على الباب فلم تجرؤ على الرد عليه ،استبعدت فكرة
أن تخبره أنها سجينة ،لم ترد و يئس السائق فمضى و انتهى اليوم الثاني
أيضا و لم يعد سهيل •• و أنتهى اليوم الثالث و لم يعد •• كانت ريم قد
وصلت خلل هذه اليام إلى مرحلة من الجنون ،فل عقلها يقبل تصديق ما
هي فيه ،و ل جوعها الذي يقرصها بشدة يرحمها ،و ل جرأة لديها لتستعين
بأي شخص خارج المنزل لينقذها •• كانت تفكر في عاقبة أن تعلن لي
غريب عن حقيقة وضعها ،صارت تدور في شقتها تحدث قطع الثاث ،و
تطالع وجهها الشاحب في المرآة و تبكي •• ثم ضبطت نفسها تضحك ••
تصفق كفا بكف ،تهمس :
أنا ريم •• هذه حقيقة ،و هذا بيتي ،لي زوج ،و لي أهل ،أين هم ،لماذا
ل يأتون ؟ لكن ل شيء في هذا البيت كان بوسعه أن يرد •• صبيحة اليوم
الرابع سمعت الباب يفتح •• لم تنهض من فراشها •• أدركت أن سهيل قد
جاء ،لم تجد في نفسها القوة لكي تهاجـــمه ،أو حتى تعـــلن له أحــتجاجها
•• دخل الغرفة ،و لم يتكلم ،ألقى أمامها كيسا صغيرا فيه شطائر ساخنة
•• مدت يدها بهدوء ،تناولت الكيس ،فتحته ،بدأت تأكل ثم لملمت بقاياها
في ذات الكيس وضعته أرضا و سقطت في سبات عميق •• عند المساء
فتحت عيونها على صوت التلفاز عاليا في صالة المنزل •• نهضت من
فراشها ،و توجهت إلى الصالة ،كان جالسا و بقايا شطائر و أرز على ورقة
جريدة أمامه •• كان يحتسي علبة عصير و يطالع التلفاز باهتمام ،نظر
إليها ،ثم عاد لتلفازه و قال:
أخيرا استيقظت •• ذهبت إلى المطبخ ،شربت ماءا ،ثم عادت فوقفت
بهدوء أمام التلفاز ،أغلقته و ألتفتت إليه و قالت بلهجة خالية من أي تعبير :
سهيل •• طلقني •• قال و هو يعب عصيره عبا :
افتحي التلفاز و ابتعدي عن طريقه •• تنهدت و عادت تطلب الطلق
مجددا ،و للمرة الثانية عــــاد يأمرها بأن تفتــــح التلفــــاز و تتركه و شأنه
•• صاحت بأعلى صوتها و قد فاض منها الكيل :
قلت لك طلقني •• الن يا سهيل •• الن •• ضحك بتهكم و قال ببساطة
و هو يلقي بعلبة العصير :
ريم •• أنت طالق •• تنفست ريم الصعداء رغم أنها شعرت بأن مطرقة
ضخمة نزلت على رأسها للتو ••اتجهت إلى غرفتها أغلقت الباب بعنف
وراءها و بدأت في لملمة ملبسها في حقيبة •• فتح الباب بقوة و صاح و
الشرر يتطاير من عيونه :
كم مرة قلت لك أل تعامليني باحتقار •• لم يدع لها الفرصة لترد ،هجم
عليها و أوسعها ضربا •• ظل يكيل لها اللكمات و الرفسات و الصفعات
مصحوبة بأقوى العبارات البذيئة ،حتى سقطت مغشيا عليها ،بل صوت ،بل
كرامة ،بل أمل •• *** عندما أفاقت ريم بدا و كأنها تسحب نفسها من
أعماق سحيقة ،تلفتت حولها ،كانت على سريرها ،و الغرفة مظلمة و ل
صوت هنالك •• صاحت بفزع :
حبس آخر •• حاولت النهوض فلم تقوى •• عادت فكررت المحاولة ثانية
لكن أضلعها كانت ضعيفة جدا فلم تحتملها ،شعرت أن أجزاء في جسدها
تحطمت تماما ،كان اللم يخرج منها دون أن يحدد منبعا ،تشعر بالوجع لكنها
ل تعرف تحديدا ماذا يؤلمها ،عادت فاستلقت مجددا و نامت أو أغشي عليها
•• شيئا منهما لكنه كان يشبه الموت •• *** منزل متهدم ،مكشوف من
وجوهه الربعة ،تنهال عليه من كل مكان القذائف و ريم تركض فيه
مذعورة ،خائفة •• تلوذ بالركان فل تحميها ،تعود فتركض تلوذ بالعمدة
فتتحطم قربها و تسمع لها دويا يصم الذان ،فتعود لتركض من جديد •• و
فجأة يظهر سعيد ،يمسكها من يدها ،يجري بها بسرعة و يقول بحزم ":
أركضي •• أهربي يا ريم •• هيا " تشعر بيده تطوق يدها فيزول الخوف ،
تترك له القياد ،مسلوبة الرادة يركض بها ،و في مستنقع كبير نتن الرائحة
بشع الصورة يسبح بها حتى يخرجا معا إلى أرض خضراء شاسعة البعاد ،
جميلة الرائحة ،هادئة ل أثر فيها لكل الرعب السابق •• تتنفس الصعداء و
تنظر ممتنة إلى سعيد فل تجده ،رغم أن ملمس يده مازال في يدها ،فجأة
تمطر الدنيا ،مطرا هتانا ،خفيفا يسقط على يدها و تسقط بضعة قطرات
منه على خدودها •• مازال ملمس يده في يدها و ابتسامة خفيفة تطوف
على وجهها إبتسامة راحة لم تشعر بها من قبل •• قطرة مطر كبيرة على
خدها تفيقها •• رعب كبير يجتاحها ،ضوء ساطع يسلط أشعته في عيونها و
سهيل جالس بقربها يمسك يدها و دموعه تتساقط على وجهها ،تصيح فزعا ،
تفلت يدها و تحاول البتعاد •• يهدئها •• يعيد تثبيتها في مكانها يهمس من
بين دموعه :
أخيرا عدت للحياة •• تستكين لصوته المتضرع •• ترتاح في نومها ،
وتهمس بحلق جاف :
كم الساعة الن ؟ يربت على يدها يهمس بحنان بالغ :
حمدا لله على سلمتك •• يغرقها طوفان الحنان فتنبت في أحاسيسها
الدموع و تتساقط صامتة ،يضمها إليه و هو يهمس بلهفة :
سامحيني يا حبيبتي ،سامحيني أرجوك •• و تنظر ريم إليه ،لوم الدنيا في
عينيها ،تهز رأسها فيتصاعد اللم تهمس كأنها تصيح :
لماذا ؟ يضيع بقية السؤال في غصة اللم المجنون ،تصمت ،ترتشف
دموعها ،يده التي تمسح الدموع بحنان فائق تشعر بها كالشوك ،ل تقوى
على رفض وخزاته •• تدير وجهها عنه ،أصبح فجأة في ناظريها كالشيطان ،
ملمحه الجميلة قناع يخفي الوحش الذي رأته قبل قليل ،وداعته و دموع
ندمه كلليب ضخمة ينزع بها جلدها ،أمانها ،وهمها القديم •• يهمس لها و
هو يمسد شعرها :
ريم حبيبتي ،اجيبيني ،أنظري إلي ،ل ترفضيني ،أرجوك •• تحاول أن
تبتعد عن لمساته ،بها نار تحرقها ،لزجة كأنما أخرجها من المستنقع قبل
قليل ،تذكرت الحلم ،فاستكانت روحها ،على أنها مالبثت أن ادركت أنه
مجـــرد حلــــم ،همست و هي تهز رأسها لتبعد الدموع عن وجهها :
رأيتك مستنقع وحل يا سهيل •• مجرد مستنقع وحل •• قال لها و نشيجه
يرتفع :
ل يا ريم ،ل ،ل تتخلي عني ،أنت الوحيدة التي أعرفها في هذا العـــالم ،
أنت عنواني و شهادة مــيلدي ،أنت بيتي •• أنت وطني يا ريم ،أتذكرين ••
كنت بدوري وطنك منذ أيام •• أدارت وجهها و علت أنفاسها و صاحت :
مزيف •• وطن مزيف يا سهيل ،مستنقع وحل كنت أظنه جنتي فصار
سجني ،عبوديتي ،ناري •• أنت نار يا أيها المسكين ،نار ل تمنح من
يعاشرها إل الحريق •• انتفض واقفا ،مسح دموعه كأنه ينزعها نزعا ،تطلع
إليها بكراهية شديدة و همس :
ل تستحقين العطف •• غادر الغرفة و صفق الباب وراءه ،تحاملت على
نفسها ،نهضت من الفراش ،سارت بخطوات متعثرة حتى وصلت إلى الباب
المصفوق ،بصعوبة استطاعت فتحه ،لم تجد سهيل في الصالة ،توجهت إلى
المطبخ ،كانت تريد أن تشرب ،وجدته هناك ،كان يبحث عن ملعقة في
جارور المطبخ ليذيب بها سكرا في كأس ليمون صنعه لنفسه ،عندما رآها
على باب المطبخ ،نظر إليها بغضب و صاح :
ماذا تريدين ؟ نسيت ماذا تريد ،كل ما تذكرته أنها تريد الفكاك من هذا
المخلوق الكريه ،همست و هي تضم ثوبها :
أريد أبي ،و أمي •• خذني إليهم أرجوك •• كان يقلب ليمونه بهدوء
يخفي عاصفة داخله ،تملكه يقين بأن ريم تريد إذلله ،تريد أن تفضحه و
تخبر العالمين بعجزه ،همس و هو يقلب كأسه كأنه ينحته :
أغربي عن وجهي •• زادها موقفه إصرارا فقالت بتصميم :
سهيل ،لقد ألقيت علي يمين الطلق ،من فضلك أذهب بي لهلي ،أو
اذهب فاستدعهم •• قال و هو يقبض الكأس بيده بقوة :
قلت أغربي عن وجهي الن •• ضعف ريم وقتها و قلة حيلتها كانا الدافعين
إلى مزيد من العنـاد ،تشبثت ببـاب المطبخ و صاحت :
أذهب بي إلى أبي •• أسمعت ؟ في أقل من لحظة كان كوب الليمون
يغسلها ،استشعرت طعمه في قطرات لمست شفاهها المتشققة ،اتسعت
عيناها رعبا ،ثم غضبا ،ل تدري كيف اندفعت باتجاهه ،تريد النقضاض عليه
كانت تصيح و هي ل تعي ما تقول لكنه سمعها جيدا :
حرام عليك ،حرام عليك •• دفعها عنه بقوة فاصطدمت بطاولة المطبخ ،
سقطت أرضا و هي تستند عليها ،لمست أصابعها المرتجفة السكين ،قبضت
عليه بقوة رفعته باتجاهه ،عجزت عن الكلم فتركت السكين يلوح أمام
عيونه بما تريد أن تقول ،تطاير الشرر من عيونه و صاح بأعلي صوت
يمكنه :
تريدين قتلي يا مجرمة •• تريدين قتلي ؟ نبهها صراخه فتركت السكين
يسقط أرضا بجانب قدمه نظر إليه ،ثم إليها فقالت و هي تكاد تغيب عن
الوعي :
أقتلني يا سهيل •• هيا أقتلني ••أرجوك •• ما أرخص الحياة ،ما أرخص
الحياة •• كانت تغيب تدريجيا عن وعيها و سمعها يلتقط طرقات متلهفة على
باب البيت •• *** عندما أفاقت ريم كانت على فراش قديم كان لها ذات
يوم •• عرفت ملمح الغرفة القديمة على الفور ،أنتبهت ذرات كيانها على
أشباح واقفة بل حراك أمامها تبينت فيها سمت أمها و أبيها و أختها •• و ما
لبثت أصواتهم أن أنسابت رقراقة في أذنها فصبت على جزعها ماءا باردا
فصاحت و هي تمد يدها نحوهم بلهفة :
أمي •• أبي •• سمر •• اندفع ثلثتهم نحوها ،أحاطوها ،غمرتها قبلتهم ،
و غمرتهم بقبلتها ،كانت دموعها تنزف و هي تردد :
الحمد لله ،الحمد لله •• كانت تلمسهم ،تلمس ثنايا أجسادهم ،
وجوههم ،شفاههم ،دموعهم ،تشم رائحتهم ،كانت تتأكد في كل هذا أنها ل
تحلم ،تعاود احتضانهم ،تبكي ،تصيح :
أهلي •• أهلي •• تضحك تصيح :
أنتم معي •• أنتم معي •• و تعاود تشكك في أنها الحقيقة ،فتسأل بلهفة
و خوف :
أنا ل أحلم ؟ تحاول النهوض ،فتعيدها أمها برفق و هي تقول بدموعها :
حسبي الله و نعم الوكيل ،حسبي الله و نعم الوكيل •• اهدئي يا حبة
القلب •• نحن معك يا حبيبتي •• تقاومها ،تخشى إن هي استسلمت للنوم
أن تستيقظ لتجده معها ،تقول و هي تقبض عليها بقوة :
أمي •• أنا ل أحلم •• أنتم معي ؟ يجلس أبوها بجوارها ،يربت خدودها
•• تلمع دموعه ،لول مرة تراه يبكي •• يميل عليها ،شاربه الكث الحبيب
يقتحم مجال رؤيتها بقوة يقول و هو يهدئها :
أقسم لنتقمن منه يا غالية •• سأنتقم منه •• تسمع نهنهات سمر فتمد
يدها تناديها ،تقترب منها سمر تقبل اليد الممتدة نحوها تسألها و عيونها تلتمع
بالبكاء :
أنت بخير يا أختي •• هه أنت بخير •• تتنهد ريم فتزيح عن صدرها خوفا
قبع عليه أياما طوال و تهمس للحبة حولها :
اطمئنوا •• الحمد لله •• أنا بخير •• ترفع الم كفها للسماء ،تحمد الله ،
تقبل يدها ظهرا ببطن ،تقول و هي تحتضن رأس الحبيبة :
الحمد لله يا ريم ،الحمد لله يا ابنتي •• *** لم تكن اليام التالية سهلة ،
كانت ريم تلقى من أهلها كل الرعاية التي أفتقدتها منذ زمن ،و زارتها أم
عبد الله و مشاعل التي أصبح لديها مولود ثالث أطلقت عليها أسم ريم
فادخلت البهجة على قلب ريم الكبيرة و شعرت أن الدنيا لزالت بخير ،إل أن
الحديث عن سهيل و عن الجراءات التي يجب أن تتخذ ضده كان هو الهم
الكبير الذي بات يؤرق العائلة و خصوصا ريم التي كانت تتمنى لو أن حياتها
معه منذ البداية صفحة كتاب يمكن أن تمزق و تنتهي ،لم تكن تريد ذيول
طويلة للموضوع ،فكانت ترفض كل اقتراح يقترحه الب عليها :
محكمة ؟
ل ••
جلسة رجال و حق عرب ؟
ل ••
أمزقه أربا و أحطم البيت فوق رأسه ؟ و تصيح ريم بحزم :
ل ••ل أريد غير ورقة تؤكد حريتي •• و كان لها ماأرادت ،ورقة سجلها
سهيل في المحكمة و أعطاها للب بعد أن أخذ كل شيء مقابل هذه الورقة ،
و يوم التقى الب به في رواق المحكمــة قال له و هو يتسلم ورقة ابنته :
لول أننا في بلد نظامي ،لعرفت كيف أنتقم لبنتي منك ،لكن العمر
الطويل يبلغ المل و يوما ما سأمسك بك لقطع من لحمك الحي قطعة
قطعة حتى أشفي غليلي •• أمسكت ريم ورقتها الغالية ووضعتها بعناية في
صندوق مقتنياتها الثمينة •• كانت في نظرها في تلك اللحظة أهم ورقة
رسمية تحصل عليها •• في المساء أعلن التلفاز السعودي غزو العراق
للكويت ،و كانت صدمة كبرى ألهت السرة عن مأساة ريم لبعض الوقت ،
تغير مجرى الحديث في هذا البيت و في كل بيت نحو هذا الموضوع ،و
أنصبت التحاليل من كل جانب و عندما أعلن ياسر عرفات تأييده للجانب
العراقي اسودت الدنيا في عين اللجئة ،فها هو موقف سياسي جديد يحكم
على مليين الفلسطنيين الذين ل ذنب لهم بالطرد من رحمة الدنيا ،ضاقت
عليــها الرض بمـــا رحبت و تمتمت بغيظ شديد :
لماذا ؟ لماذا ؟ قالت مشاعل و هي ترضع ريم الصغيرة قرب انتهاء يوم
العمل :
ل أفهم هذا الموقف أبدا ،ما السر فيه ؟ لن ينسى الكويتيون ما عاشوا
هذا الموقف للفلسطنيين أبدا ،لماذا اتخذتم هذا الموقف يا ريم ؟ قالت ريم
بضيق شديد :
أرجوك يا مشاعل ل تتحدثي و كأنني أنا من اتخذه ••
لكنه سيؤثر عليكم كثيرا ،هذا مؤكد ••
أعلم هذا ،و ل أملك حيلة •• *** كغيرها من أفراد الشعب السعودي
قررت أم عبد الله مد يد العون للكويتين الذين لجأوا إلى السعودية فأسكنتهم
الدولة في عدة أماكن و أمدتهم دوما بالغذاء و الكســـاء و الدواء و متطلبات
الحياة ،لذا قررت اصطحاب ريم و مشاعل معها في زيارة لهم للوقوف على
أحوالهم و تقديم يد العون لهم ،و هناك وقفت ريم على الحال ،و تحدثت مع
عضوات لجنة مناصرة الكويت و اقتــرحت عمل معرض دائـــم في الســكن
للتعبير عن الموقف الكويتي و مساندته •• و على الفور بدأت ريم في رسم
لوحات تعبيرية كانت تسهر عليها طوال الليل و في الصباح تذهب بها إلى
مقر اللجنة لقرارها •• أنهمكت في هذا العمل و عندما شارف المعرض
على النتهاء و قد شاركت فيه كل فنانة سعودية أو كويتية ،تقدمت منها
إحدى العضوات الكويتيات و قالت لها و هي تثني على جهودها :
نحن نحبكم كثيرا أيها المصريون •• ابتلعت ريم غصة و أوشكت أن تخبرها
أنها فلسطينية ،و لكن شيئا ما أخرسها على الفور ،و انتبهت إلى أنها كانت
تتحدث معهم دائما باللهجة المصرية •• كان رفض السيدات الكويتيات
للجنس الفلسطيني واضح جدا في كل أحاديثهن ،و كانت ريم تستمع إليهن و
عندما تهم بالتعبير عن وجهة نظرها فتقول :
ليس كل الفلسطنيين سواء •• كانت تجد ألف صوت يخرسها و هن ينددن
بموقفهن من الغزو العراقي و تقول إحداهن :
عاشوا معنا و أكلوا من خيرنا و أصبح لدينا منهم من هو أغني من أبناء
البلد ثم انتقموا منا و انقلبوا علينا بمجرد أن واتتهم الفرصة ،إنهم غدارون
•• و إذا حدث أن بثت وكالت النباء خبرا عما يلقاه أبناء الكويت الذين بقوا
في الكويت على أيدي العراقيين علقت السيدات بأن الواشي فلسطيني بل
أدنى شك •• كانت ريم في صراع كبير مع نفسها ،تريد أن تقف أمام كل
هؤلء و تخبرهم أنها فلسطينية و تعتز بجنسيتها كما كانت تفعل أيام الجامعة
عندما كانت تهاجم في جنسيتها بسبب موقف سياسي ،إل ان الظرف كان
دائما غير مواتيا و الحداث كانت متسارعة تفيض بالخبار السيئة ،تشعل
قلوب الناس على مدن تــدمر و أبرياء يموتون و أبار بترول تحترق و حياة
فطرية يعتدى عليها في الخليج •• *** تطلعت ريم عبر مرآة حجرتها إلى
شعرة بيضاء تسللت في غفلة منها إلى شعرها •• لحظت الم أنها وقفت
تتأملها طويل فقالت باسمة :
مازلت ريم الجميلة •• ابتسمت ريم رغما عنها و قالت و هي تغادر موقعها
و تجلس قبالة أمها :
ل يا أمي •• لم أعــد ريم الجميـــلة ،لم أعد ريم الصــغيرة •• عمري
ينسل من بين أصابعي و الزمن يبدو كأنه ل يتحرك •• فقالت الم بقلق :
لماذا تتحدثين هكذا كمن فاتها قطار العمر ؟ فقالت ريم مبتسمة :
تجربتي في الحيـــاة يا أمي أضــــافت إلى عمري سنين ،ســــرقت مني
الفــرحة بالحياة و القبال عليها ••
ل يا ابنتي ،ل تقولي هذا الكلم ،مازلت صغيرة ،لم تصلي إلى الثلثين
بعد •• تنهدت ريم و قالت و هي تضغط حروفها :
ياه ه ه كأنني بك في المس القريب تقولين نفس العبارة و لكن باختلف
الرقم ،كنت لم أصل إلى العشرين •• ما أسرع اليام يا أمي ••
إذا حملتها فوق ظهرك سوف تقعين في منتصف الطريق ،أما لو سابقتها
فستصلين حتما قبلها ••
سابقتها إلى أي شيء يا أمي ؟ ما هو الهدف من حياتي •• لماذا أعيش ،
إذا كان كل أمل يصبح ألم ،و كل هدف أصل إليه أجده سراب ••
ضعي لنفسك هدفا جديدا ،ل تيأسي ،الحياة لم تتوقف بسبب فشل تجربة
••
الفشل فظيع يا أمي
كان فشله هو و ليس فشلك أنت •• تنهدت ريم و قامت مبتسمة و
قالت :
هو فشل على أية حال •• *** عاد قاسم •• حمل شهادته الكبيرة و عاد
•• لم يكد يستقر حتى فتح نقاشا حازما مع أبيه :
أبي •• لبد أن نعود •• هز الب يدا ترتجف و قال بهدوء :
إلى أين ؟ فقال قاسم على الفور :
إلى مصر ،إلى بيتنا هناك ،لن تعيش في غربة طيلة حياتك •• ضحك
الب و هو يشيح بيده و قال :
بيتنا في مصر ؟ هل نسيت يا بني أن ل بيت لنا هناك ،هل نسيت أنه
موطن غربة بدوره •• غربة لي و لكم ،هنا يشبه هناك ،ما الفرق ؟
إذن عد إلى فلسطين •• رفع الب رأسه ،نازعه حنين اغتصب ابتسامة و
قال :
يا ليت ••
ما المانع ؟ أشعل سيجارته بأصابع مرتجفة و قال بشيء من المرارة :
منذ أن ختمت جبيني بختم الغـــربة ،لم أر بلـــدي •• أحوالــها تغيرت ،
الصغار كبروا و البيوت امتلت بأناس ل أعرفهم ،و الجميع يعرف أنني هنا و
يتوقع مني عندما أعود أن أكون بحجم حياتي المتوقعة هنا •• هل تعرف كم
يمكن أن يكلفني تفكيري في العودة •• هذا بفــرض أنني أستــــطيع أصــل
العودة متجاوزا كل المحاذير و الحدود و علمة ممنوع الدخول ؟
و لم ل ؟
يا بني الطريق إلى غزة يمر بمصر و أنا فلسطيني ،ل يمكن أن أمنح هذه
التأشيرة ••
نحاول •• غمزت له ريم بطرف عينيها ،و عندما انفردت به في حجرتها
قالت له :
أبي ل يمكن أن يستجيب لطلبك يا قاسم ••
و لم ل ؟
لنه أصبح غريبا •• الغربة أعطته جنسيته التي أصبح الن ينتمي إليها •• ل
تحاول أن تسلبه هذه الجنسية و تذكره أن له وطن •• صاح قاسم :
و لكن هذه سلبية •• فقالت ريم بسرعة :
قاسم •• أنت تتحدث عن أبي ••
ل يا ريم ،حديثي ليس فقط عن أبي ،إنني أتحدث عنك و عني ،عن
أمي ،عن أبي•• أتحدث ،عن مأساة استطالت حتى جاءت على الخضر و
اليابس في حياتنا ،أبي عاش غريبا ،لجئا ،يقدم حنينه قربانا إلى وحش ل
يشبع اسمه الغربة ،و أنت وقعت ضحية رغبتك في وطن ،تعثرت المرة تلو
المرة ،و أمي عاشت اختياريا غربة عن وطنها ،و أنا فقدت حبي الوحيد
بسبب جنسيتي ••
حبك الوحيد ؟ *** عاش قاسم قصة حب ناعمة مع زميلته مهيتاب ،إبنة
أستاذه في الجامعة ،سعت هي للتعرف عليه عندما تحدث والدها عنه بتقدير
كبير ،و عندما تعرفا نبتت بينهما رويدا مشاعر ألفة ما لبثت أن تحولت إلى
حب جارف من ناحية قاسم ،قابله دوما مودة عاقلة من "ماهي " كما كان
يناديها •• كان وراء زميلته عقل أكبر يرشدها دوما إلى ما فيه سعادتها ،
أبوها كان بالمرصاد لهذا الحب ،لن الولد ــ رغم كل مميزاته و تفوقه و
أخلقه ــ فلسطينيا •• قال قاسم لريم و هو يفرك يده بغيظ :
لم أكن أتخيل يوما أن جنسيتي ستحول دون أن أعيش و أن أحب ،قابلت
كل عثرة في حياتي بروح راضية ،فقد كنت أعرف أنها ستمضي إلى حال
سبيلها •• لكن أن تصادفني هذه العقبة •• أن يرفضني الدكتور عامر لمجرد
أنني فلسطيني ،كانت هذه هي الطامة الكبرى ،المشكلة التي لن أجد لها
حل ،لو أنه أحتج بفقري ،لحاججته بالمستقبل و العمل القادم و المال الذي
نصنعه و ل يصنعنا ،أو أنه رفضني لخلقي ،لوعدته بإصلح ما ل يعجبه ،أو
أنه رفضني لعلة قابلة للتغير •• ؟ لكنه يا ريم رفضني لجنسيتي قال لي ":ل
يرضيك أن تعيش إبنتي تفاصيل لجوئك و تعاني معك من رفض العالم " ••
إذن لماذا نعيش ؟ ،ما الهدف من حياتنا ،إذا صودرت مشاعرنا كيف نعاود
مهادنتها ،و نعقد معها صلحا ،إذا جرحنا في كبريائنا ،كيف نضمده و نغسل
عنه آثار السكين •• أي مصير اختاره لنا أبي عندما اختار أن يغادر بلده
ليبحث عن نفسه ،أي مصير رمانا إليه عندما أقتلعنا من جذورنا و رفضت أي
أرض أخرى أن نغرس فيها ذواتنا ؟ ما الذي جناه أبي من غربته و ضياعه و
ضياعنا ؟ هل لديك إجابة يا ريم ؟ هل لديك تفسير ؟ جلست ريم على طرف
فراشها •• كان اللم يمزقها ،فجأة وضعها قاسم أمام حصاد العمر •• فجأة
اكتشفت أن الحصاد كان هباء ،لم يكن أبدا بقدر المعاناة ،لم يكن أبدا
يستحق عناء الحياة التي عاشوها •• تلفتت حولها •• ماذا بعد سنين
الدراسة و العمل و الغربة و العذاب •• ما هي النتيجة ؟ شهادة لها و شهادة
لقاسم ،من ذا يعبأ ؟ كم عدد حاملي الشهادات في كل وطن ،كم عدد من
يقتاتون قمامة الطرقات في اوطانهم رغم الشهادات و التعليم ؟ ماذا قدم
لهم جهاد أبيهم ،لماذا هم هنا ؟ و لماذا يكونون هناك ،و لماذا هم دومــا
على الهامش ،يأكلون فتات الموائد و يبــلعون الذل مع الماء ••
معك حق يا قاسم • معك حق ،لم نجني من كفاح العمر إل السراب ••
*** تلك الليلة لم ينم جهاد ،ظل يتقلب على جمر التفكير ،حديث قاسم
إليه ،ثم إلى ريم ،نبهه إلى غفوة عاشها طويل ،تلقى فيها ضرب المطارق ،
و لم يدفع عن نفسه تهمة أنه يريد أن يعيش •• نهض من فراشه فنبه زوجته
•• دق كفا بكف و قال:
متى تحتوينا الدنيا فيمن احتوت ؟ نهضت سميحة فزعة ،قالت و قلبها
يخفق بشدة :
ما بك أبا العيال ؟ نظر إليها و قال و هو يتنهد حسرة :
أبنائي تعساء يا أم قاسم ••لم أستطع تأمين القدر الضئيل من السعادة
لهم ،فشلت في منحهم صك أمان يعيشون به في هذا العالم •• لم تفهم
سميحة ما الذي يقصده زوجها على أنها استشعرت هما كبيرا يعربد في قلبه
•• صمتت ،فأكمل :
لم أنجح في منح ريم رجل يصونها ،و لم أنجح في إعطاء قاسم انتماًء يعتز
به ،لم أنجح في حمايتك من سنين غربة طويلة ،سمحت لنفسي أن أجور
عليكم جميعا ،سمحت لنفسي أن أصادر أحلمكم في حياة سوية ،كان
أشرف لي ألف مرة لو بقيت في بلدي ،أعاني ما يعانون ،أشرب ماءهم
الملوث بالرصاص ،و آكل لقمتهم المغمسة بذل النهار •• كان أشرف لي
ألف مرة أن ألحق بمحمد في طابور الشهداء بدل من أن أضاعف مآساتي
ثلثة مرات في ثلثة أبناء ،ل يعرفون لماذا يدير العالم ظهره عنهم ،
يلطفونه فيصفعهم ،يهادنونه ،فيضربهم ،يقدمون له الود فيرفضهم ••
صاحت سميحة لتسكته :
ويحي يا أبا العيال ،ويحي ،ل يمكن أن تكون نظرتك أنت بالذات لحياتك
بهذه القسوة ،أنت جهاد •• جهاد الذي جاهد منذ نعومة أظفاره تصاريف
أقدار ل ترحم •• أنت جهاد الذي رفض أن يترك أولده نهبا لمستقبل مجهول
دون أن يحصنهم بالعلم ،أنت جهاد الذي منح أولده معنى الحب و معنى
العطاء و ضرب أروع المثل في التضحية و الفداء ،جهادك للجهل ليس فشل
يا أبا قاسم ،جهاد ظروف ل ترحم ل يقل أبدا عن جهاد محمد و من معه ،
لقد جاهدت غربة كان يمكن أن تسلم أبناءنا للضياع ،منحت لصابع ريم
الضياء لتظل ترسم و تقتات برسمها ،تعيش فل يكسرها رجـــل بل رجولة ،
منحت لقاسم شهادة عز يصبو إلى مثلــــها الكثيرون ،و غدا تراه رب
أســــرة قـــادر على تحــمل مسؤولية أولده و منحهم السعادة و المان ••
منحت و لزلت لسمر كل الحب و الرعاية و التعليم •• منحتني و لزلت
الرجل الذي ل أرضى عنه بديل لو بادلتني الدنيا به كل الرجال ،رجل يعرف
معنى العشرة ،معنى المسؤولية •• كنت وطني ،بلسم جرحي ،أبو
أولدي ،زوجي ،أبي ،أخي ،حبيبي •• ل يا جهاد ،ل تستهن بسنين جهادك ،
ل تذروها رمادا في الهواء ،فلقد فعلت و تفعل ،قدمت و تقدم كل ما وسعك
،لن ينسى لك أبناؤك عطاءك و لن يجحفك الله فضلك •• لم يرد جهاد ،
كان بحاجة إلى كلماتها ،كان بحاجة إلى أن يسمع شيئا ينصفه ،في داخله
توسل وجدانه أن تقول المزيد ،و على لسانه خرجت عبارة تستجدي التأكيد
قال بضعف كبير :
هل صحيح ما تقولين يا أم العيال ؟ هزت الم رأسها تأكيدا ،و ضمت كفه
إلى كفها و همست بحب :
أقسم لك أنه صحيح •• *** و جمعتهم الم •• جمعت أولدها الثلثة في
غياب الب •• كانت حازمة للغاية قالت موجهة حديثها للجميع :
أشعر أن شرارة نار صغيرة ترعى الن في صدوركم •• شرارة نار لن
تلبث أن تصبح جحيما •• ماذا حدث يا أولد جهاد ؟ نظرت ريم إلى قاسم
فبادلها النظر و قالت سمر :
ل أفهم يا أمي •• فقال قاسم بهدوء :
شرارة النار لن تحرق إل الستسلم و السلبية يا أمي •• قالت الم و هي
تنظر إليه بقوة :
إذا بقيت شرارة يا ابن بطني ،أما اذا تحولت إلى جحيم فإنها ستحرقنا
جميعا و أولكم أبيكم •• قالت ريم بسرعة :
أبعد الله الشر عنه يا أمي •• ماذا حدث ؟ فقالت الم و هي مازالت تنظر
إلى قاسم :
ليلة البارحة لم ينم أبوكم •• كانت روحه تحترق من أجلكم •• تملكته
فكرة غريبة •• تحدث و كأنه أضاع عمره بل ثمن •• لماذا قسوتم على
أبيكم ،لماذا يا قاسم ؟ أخذ قاسم نفسا عميقا و قال و هو متأكد أن ما
سيقوله لن يكون هينا :
أمي •• عندما غادر أبي فلسطين قبل أكثر من سبعة و عشرين عاما كان
شابا ،واحدا ،عانى من قسوة ظروف ل ترحم و جاء إلى مصر بحثا عن
الفضل •• و عندما تزوجك لم يفكر للحظة واحدة في مستقبل لن يكون فيه
وحيدا •• كل ما فكر فيه وقتها أن يصنع لنفسه وطنا بدل عن وطنه الذي
انتزع نفسه منه انتزاعا ،نسي في خضم فرحته بوطنه الجديد و مسؤوليات
السرة ،أن الوطن الذي صنع وطن غير معترف به ،ل يكفل لمن ينتمون له
أبسط الحقوق ،و ل يمنح من يلجأ إليه المان ،وطن يعوزه مباركة العالم ،
نسي و هو يحملنا صغارا واحدا بعد واحد أن وطنه بل حدود ،و أن صغاره
ينبغي أن يظلوا صغارا ل تعدوا حاجتهم طعاما و شرابا ،لعبة و تدليل ••
تركنا نكبر رغم أن الرض تحتنا ليست لنا ،تركنا نحلم رغم علمه بأن أحلمنا
على بساطتها غير قابلة للتحقيق •• و عندما اصطدمت أحلمه فينا بعقبة
المال ،أبدي بسرعة استعداده المطلق للتغرب عنا من أجل تأمينه لنا ،حتى
يظل حلمنا يكبر و تظل أحلمنا تتسع و نفاجأ و نحن نوشك على قطف الثمار
أننا ل نملك الحق فيها ،ليس لدينا مسوغات الحياة اللئقة •• مجرد كائنات
تؤدي وظيفة واحدة ،هي تحقيق حلم أسطوري للجيء قديم بأن يصنع
لنفسه وطن •• غير أننا يا أمي أصبحنا بدورنا لجئين ،نبحث بجنون عن
وطن نريح عليه أقدامنا المتعبة و نثبت فيه جذورنا التي تتمايل في الهواء ••
ريم بحثت عن وطن فاصطدمت بالعجز و القسوة ،و أنا بحثت عن وطن
فأغلقوا الباب دوني •• و هو مصير ينتظر سمر أيضا •• ل تلومينا يا أمي إذا
طفح الكيل منا ووجدنا أنفسنا أمام أنفسنا ،فصارحناها ،كاشفناها بحثنا في
ذواتنا عن أصل الخطأ ،و قررنا معالجته •• تنهدت الم و نظرت إلى ريم ،
أدركت ريم أن عليها أن تتكلم بدورها ،عليها في هذه اللحظة أن تقرر إذا
كانت توافق قاسم فيما يقول أو أنها ضده ،كان لبد أن تتكلم فتكلمت قالت
بحروف تتعثر في الحياء و الرتباك :
أمي •• أنا أحب أبي •• أحبه حبا جما ،و اراه أعظم رجال الدنيا ،و أنظر
إلى عطائه لنا طيلة سنين غربته نظرة إكبار و تقدير ،لكنني عندما أناقش
حياتنا مع نفسي ،أو مع قاسم ،أو حتى على المل معكم جميعا ،أحاول و
يحاول أخي أن نضع النقاط على الحروف ،أن نحدد لخطواتنا موقعا قبل
الشروع فيها •• سنة الحياة يا أمي أن يكبر الصغار و أن تنفصل أحلمهم عن
أحلمكم •• و أن تختلف رؤيتهم للحياة عن رؤيتكم •• لقد ظللنا حتى
التخرج و رغم المعاناة التي شربتموها معنا نحقق أحلمكم •• كنا نعتقد أنها
بدورها أحلمنا ،لكننا اكتشفنا ،و سأتحدث عن نفسي على القل ••
اكتشفت أن ما فعله أبي معي كان هدفه هو •• لبد للمرء أن يضع لنفسه
هدفا حتى يعيش من أجله ،و أبي الذي فقد وطنه ،و يعرف أن حلمه في
أرض ،أو منزل ،أو شيء يملكه سيكون من قبيل حرث البحر ،ارتاح كثيرا
إلى أن يجعلنا هدفه •• ارتاح كثيرا إلى فكرة أنه يكافح من أجل أن يصل
أبناؤه إلى أعلى الدرجات العلمية •• هذا الهدف يا أمي له ميزة عظيمة لبي
فهو هدف متواصل سيظل يكافح من أجل تحقيقه حتى تتخرج سمر بدورها
•• و هو هدف في حد ذاته عظيم و نبيل و قد أداه والدي حتى الن كأفضل
ما يكون •• لكنه نسي في خضم هذا أننا كائنات حية و بدورنا تتشكل أهدافنا
و تتوجه نظراتنا و تتغير اتجاهاتنا •• لسنا مجرد عرائس تتحرك وفق رغبة
محركها •• نحـــن أهــــداف متحركة تنــمو و تكبر و تتسع نظرتها في الحياة
لتشمل كل شيء •• إننا نريد أن نضع حدا لهذه الحياة •• نضع حدا لطريق
سرنا فيه منذ البداية لتحقيق رغبة لبينا ،نريد طريقا آخر لنفسنا ،يدفعنا له
هدف نسعى بدورنا لتحقيقه ،ل نريد أن نظل طوال حياتنا رهن طريق واحد
يقودنا في النهاية إلى ل شيء •• تنهدت الم ثم قالت لهما دون أن تخص
واحدا منهما بسؤالها :
و ما هي أهدافكم يا أولد جهاد ؟ للمرة الثانية يتبادل قاسم و ريم النظرات
فتقول ريم بهدوء :
مازلت لم أحددها بعد •• و يقول قاسم :
عما قريب ستعرفانها •• *** كانت حرب الخليج قد انتهت و عاد
الكويتيون إلى بلدهم و في حفل أقامته السفارة الكويتية دعيت ريم لحضوره
تم تكريم كل من شارك في مساندة الشعب الكويتي ،و نالت ريم شهادة
تكريم جميلة و دعوة كريمة بزيارة الكويت من عضوات اللجنة الذين كانوا
يكنون لريم"المصرية" كل التقدير •• و استيقظ العالم ذات صباح قريب
على مؤتمر السلم في مدريد •• وبعد ذلك تابع جهاد مع أسرته على
الشاشة المصافحة التاريخية بين رموز بلده و أعدائه في حديقة البيت البيض
•• ساد الوجوم الوجوه •• نظر جهاد في عيون أولده •• ضعف غريب كان
يسكن عيونه ،شعر أنه ل يستطيع التقاط أنفاسه •• جر قدميه جرا أمام
عيون الجميع و اتجه إلى فراشه •• احاطه الجميع بقلقهم ،بحبهم ،تطلع
إليهم ،كان يراهم من بين ضبابات غربته •• تجمعت في عيونه دموع ساخنة
•• استجاب ليد سميحة و هي تمسك يده فضغط عليها بقوة ضعفه و قال و
هو يطالع لوحة البئر غير المكتملة التي رسمتها ريم ذات يوم بعيد :
إنها نهاية الرحلة يا سميحة •• لم تستطع سميحة أن تتكلم هزت رأسها
رافضة و دموعها تتزاحم على وجنتيها •• ركعت ريم بجواره ،مسدت رأسه
بحنان قالت و هي تحاول أن تبدو قوية :
أبي ،أنت أقوى من كل شيء ،ل تعطي الفرصة للهزيمة كي تأكلك ••
انهض يا أبي •• عد إلينا ،نحتاجك •• اقسم إليك أننا نحتاجك •• مد جهاد
يده باتجاه قاسم ،فلبى سريعا النداء فيها و أمسكها بكل الحب ،طبع قبلة
حارة عليها فقال الب :
لم يكن هباءا حصاد العمر •• زرعت فيكم الغد الذي لم أره ،و غدا عندما
تواجه دنيا يحكمها قانون البقاء ،سوف تجد أنني كنت على حق عندما
رسمت لكم حدود الوطن في شهادة تحملها ،و أخلق تربيت عليها و احترام
لئق تعيش فيه ،جد طريقك فلقد أعطيتك المفتاح و لكن انتبه لنفسك ••
هؤلء هم المانة التي أتركها في عنقك يا قاسم •• سمر لبد أن تكمل
تعليمها ،و ريم لبد أن تتزوج رجل حقيقيا •• وصن أمك في عيونك ••
حافظ على نفسك •• كن كما عهدتك دوما رجل يا بني •• انفجرت ريم في
البكاء و جاوبتها سمر فقال الب و هو ينظر للجميع :
سامحوني ،و اطلبوا لي الرحمة ،و إذا شعرتم يوما أنني حرمتكم من
شيء فل تجعلوه في عنقي و أسألوا لي المغفرة •• بعدها لم يكن الب
يتكلم إل بهمهمات قليلة تتبين فيها السرة أسماء قديمة ظلت محفورة في
ذاكرته •• استمر يومين ينازع الشوق و الحنين ،ل يفارقه أبناؤه و زوجته
حتى وهبه الله النطق بالشهادة و مات •• مات جهاد •• *** ذات يوم حمل
لي البريد نعي عمي ،و اليوم يحمل لك البريد نعي عمك •• كأن البريد بيننا
نذير موت ل ينتهي ،و كأنما القدار أبت إل أن يكون رباط الدم بيننا دائما
مسفوحا •• تامر •• يسكنني الخوف منذ سنين يا ابن عمي ،أشعر به نبضا
صارخا يدق كطبول حرب ل تريد أن تضع أوزارها •• أشباح الغربة تطاردني
كأنها ل تعرف في الدنيا غيري ،كأنها مكلفة بمراقبتي ،تلف أنشوطتها حول
عنقي و تسحبني ،إلى نفس المصير تسحبني ،إلى فراش بارد في غربة
قاسية ،يوما ما سألفظ أنفاسي المحترقة حنينا في ذات الغربة التي لفظ
فيها أبوينا انفاسهما ،في دنيا دأبها العناد ،و دقات ساعاتها الفراق •• في
نار تتأجج من أعصابنا ،و تستعر بلحم اجســادنا •• هباء ،كل ما عشناه حتى
الن هباء •• كل ما لقيناه كان بل ثمن ،زفرات الحنين ،و أنات الحرمان ،و
قسوة الظروف و البشر ،كلها بل ثمن ،ضاعت يا تامر ،ضاعت يوم ارتضينا
معاهدة سلم ترخي على عذاباتنا الستارة المزركشة ،و تخفــي أناتنا خـــلف
الموســيقى الصاخبة •• تحضرنا و نزعنا مسوح الجلف يوم قطفنا زهرا
نبت على قبور أحبابنا لنهديه طوعا لعدائنا •• و ماذا بعد يا تامر ؟ ماذا بعد
•• الجرافة العملقة تسير في الطرقات تحمل جثثنا اكواما نتنة لتلقي بها
في التون ،تسعره حتى يضيء شعلة سلم مزعومة •• ل تقل لي يا ابن
عمي أن ثمة أمل ،ل تكتب أشعارا عن الوطن و تحفرها فوق أضلع قفصك
الصدري ،و تنقشها وشما على قلبك المتعب ،لقد مات جهاد ••لقد مات
أبي •• *** كان الكفيل رحيما ،أمهلهم شهرا حتى ينتهوا من كل ما يربطهم
بالبلد و يستعدوا للرحيل ،كان الجميع على كفالة رجل مات قهرا ،و كان
موته إيذانا بالنهاية •• لملموا أغراضهم ،و تنهدت الم تحمد الله أن لها وطنا
يمكن أن يعيش فيه أبناؤها • ليلة الرحيل بدت ريم ساهمة في ثوبها السود ،
همست و هي تنظر للحقائب المكومة :
هل سنترك أبي هنا للبد ؟ تطلعت إليها الم واجمة •• لم ترد فأكملت
ريم و دموعها تغلبها :
ألن نستطيع بعد اليوم زيارته ،حتى قبر يضمه لن يكون بمقدورنا قراءة
الفاتحة عنده •• سنتركه هنا ،جدث مجهول ،لرجل مجهول ،عاش و مات
مجهول •• قالت الم و شفتاها ترتجفان :
أطلبي له الرحمة أنى كنت يا ريم •• إسألي الله له المغفرة و الجنة في
أي مكان •• الله موجود في كل مكان •• تمتمت ريم :
لو كان له وطن •• لو كان لنا وطن •• لو كان من حقه أن يحتل في بلده
مترا في متر لما عاش غريبا ،و مات غريبا •• آه ه آه ه ،كم أنا مقهورة و
حزينة •• كم نحن بل ثمن يا أمي •• بل ثمن ••أحزاننا قوقعة اتخذت شكل
أجسادنا و أصبحت من تكويننا ،يعتقد من يراها أننا خلقنا بها ••لكننا لم
نخلق بها •• ولدنا بقشرة رقيقة من الحزن مع اليام صارت غلفا ،قوقعة
•• لم يدرك الناس أننا ل نحبها •• نريد الخلص منها ،ظنوا طرقنا المستمر
عليها حفلت رضى و رقصات حبور ،لم يفهموا يوما أنها صرخات احتجاج و
محاولت تمرد عليها •• مسحت دموعها و أردفت بهدوء :
محاولت لم يكتب لها النجاح أبدا •• وسنظل نحمل قوقعة الحزن فوق
أرواحنا حتى نموت •• صاح قاسم بقوة - :لبد من حل •• لبد من تغيير ،
لبد لليلنا الطويل أن ينتهي •• لن نظل نتوارث الحزن جيل بعد جيل ،
نتوارث الهم و اللجوء أبا عن جد ،لبد من بعض السكر في اباريق العلقم
التي نزدردها لكي نعيش •• أمسك يد ريم و قال و هو يضغط عليها بقوة :
لبد أن فرجا سيأتي يا أختي •• سيأتي يوم نخرج فيه من دائرة التهام ،و
يرى العالم أننا أوفينا العقوبة و أمضينا الحكم ،وكان سلوكنا حسنا•• سيأتي
يوم لن يبحث فيه أولدنا عن أرض ينامون فيها ملء عيونهم ،لن يبحثوا فيه
عن حنان زائف يحتضن همومهم ،لن يبحثوا فيه عن عيون تتفهم قضيتهم ••
سيأتي هذا اليوم •• أنا أكيد •• هزت ريم رأسها و ابتسمت متهكمة و قالت
و هي تسحب يدها :
مهزوم أنت يا أخي •• و المهزوم دوما يبحث عن خلص •• يحلم بخلص
•• لكنه لن يأتي هذا الخلص •• فقال قاسم بتصميم :
بل سيأتي ،إن لم يتغير العالم فلنسعى نحن لتغير الظروف ،إن لم يأتنا
الفرج فلنرسم نحن ملمحه ،نصممه يا فنانة •• دعينا نضع خطوط غدنا
الذي نريد ،دعينا نفجر قوقعتنا و نزحف بعيدا عنها بإيدينا ••
لن نستطيع ••
إن شاء الله سنستطيع •• علت أبتسامة هزيلة شفاهها و صرخت روحها :
كم أنك واهم أيها المهزوم ،كم أنك واهم ••
القسم الرابع:
أصبحوا على متن باخرة العودة •• باخرة عملقة تحمل آلف البشر ،ضاعت
ملمحهم وسط الملمح •• كان الهم في قلوبهم يزيل عن وجودهم صفة
الوجود •• تطلعت ريم إلى ميناء جدة و هو يبتعد و تنهدت ••كان لها في هذا
المكان يوما حكاية ،و تذكرت مشهد الوداع و كم كــان صعبا مع مشـــاعل و
كل زميــلت الســوق و حتى أم عبدالله قالوا لها و هي ترفع شهادتها من
فوق حائط الجاليري :
أكتبي لي ••
تنحت بها أم عبد الله ركنا ،منحتها ظرفا منتفخ و قالت و هي تحتضنها :
تذكري يا ابنتي أن الحياة ليست كلها شرا •• و دعيني أسمع عنك ما يسر
••
كما لم أحب من قبل يا ريم •• أحببت فيها أمانا لن يكون لي في يوم من
اليام ،استقرارا و أسرة عادية ليس بوسعي أن أحلم بمثلها •• أمل أزرقا
جميل منحه لي الله سنوات قليلة •• ما أجمل الحياة حين نحب ••
أسأل الله أن يجمعك و إياها زوجين كما تتمنى تنهد قاسم و أدار ظهره
للبحر و قال :
لن أخدع نفسي يا ريم •• عودتي الســريعة ل تعني أن مشكلتي حلت ،
مازلت فلسطينيا يا أختي •• لكنني أفكر بأمر آخر ••
ما هو ؟ قال قاسم بتصميم من قرر :
أن أبحث لنفسي عن جنسية رقمية ،جنسية يعترف بها العالم كله ،
جنسية ل يستطيع كائنا من كان أن يرفضها أو يضطهدها •• سيكون هدفي
المال يا ريم ،المال هو حل اللغز ،عندما أصبح ثريا ،شديد الثراء لن
يسألني الدكتور عامر عن جنسيتي ،و لن يضيع أبنائي في متاهات اللجوء ،
سأتمكن من شراء جنسية عالمية أمنحها لبنائي يحترمهم العالم بها و
يفتحون لهم من أجلها البواب المغلقة •• هذه هي جنسيتي الجديدة التي
سأسعى لها ما حييت •• كانت ريم تسمع أخاها و دهشة كبرى تعقد لسانها
همست بعد أن انتهى :
هذا جنون •• هل تعني أنك تريد طوعا هجر جنسيتك ،الثر الوحيد الذي
تحمله لنتماءك و أصلك ؟ أجاب بصوت حاسم :
نعم •• هذا هو غدي الذي أريده •• و لن يمنعني من تنفيذه أي شيء ••
هذا هو الهدف الجديد يا ريم ••أنت أيضا ابحثي عن هدف يخصك ،هدف
تجدين فيه نفسك ،ابحثي خارج إطار الوطن المفقود عن شيء آخر ،معنى
آخر للحياة •• صدقيني هذا هو الحل •• شيء كبير داخل ريم كان يرفض
الكلم ،يرفض الحروف ،يرفض اللهجة ،و عالم كبير حولها كان يؤيده ،
يتبناه ،يقول نعم هذا هو الحل •• تركته وحيدا يدير ظهره للزرق و يحلم
بجنسية جديدة و عادت للكابينة •
***
تلفتوا ينظرون حولهم ،غير مصدقين لما يسمعون ،العبارات واضحة ،لكن
لبد أن هنالك خطأ ما ،لبد أن هذا الحديث لشخاص هلميين حولهم ،ليس
لهم •• تمسكت سمر بأمها فصاحت الخيرة :
لكنهم أبنائي •• قال المسؤول و هو يمط شفتيه :
هذا هو النظام •• عادوا يتلفتون حولهم ،ينتظرون نجدة من السماء تذيب
جبل الجليد القابع أمامهم ،ل يمكن تصديق ما يقوله •• جلست ريم على
الحقائب المكومة و همست بألم :
إنها حقيقة •• احتج قاسم بأعلى صوت يملكه ،لوح بيده في وجه
الموظف ،أوشك أن يمد يده ليضربه •• كل هذا لم يجدي نفعا •• بالعكس
زاد من إصرار الموظف على تنفيذ النظام •• و قال له و هو ينهي الحديث :
لو دخل الجميع فلن تدخل أنت •• و قررت الم أن تعود معهم •• قال
قاسم و مرارة تقطر منه مع العرق و الغضب :
إبقي أنت يا أمي •• لماذا اللجوء إذا كان لك وطن •• فقالت الم بحزم
لبنها :
هيا يا قاسم تعاون معنا في نقل الحقائب •• لن أترككم و لو كان آخر يوم
في عمري •• و عادت السرة بحرا ،غادرت الباخرة ميناء السويس تحمل
ملمح ليست كالملمح ،نفوسا مقهورة ،ثلة من اللجئين •• كانوا أربعة و
خامسهم صمتهم ،كانوا أربعة و خامسهم قهرهم •• هذه المرة تكوموا في
كابينة إحسان واحدة ضيقة •• لم يغادروها كانوا ينظرون لبعضهم البعض و
تقول عيونهم كل شيء لكن شفاههم صامتة ،كانوا يتساءلون عن العمل ،
عن الحل ،و لم تكن لديهم إجابة آثروا الصمت ،فكانت الكابينة قبرا جماعيا
يضم أجسادا تتنفس فقط لن الله كتب عليها أن تتنفس •• و في ميناء
جدة ،اندهش المسئول و قال لقاسم و هو يهز رأسه أسفا :
آسف حقا يا بني •• أنا فعل منزعج لما أصابكم ،و لكن ليس لدي حل ،
لقد سلمتم إقاماتكم هنا و ليس لكم إقامات لدينا •• قال قاسم و جسده
يفور :
ماذا تقصد ؟ فقال الموظف و هو يمط شفتيه :
عليكم العودة إلى مصر و محاولة الدخول ،أمكم مصرية و من حقكم
الدخول •• عاد قاسم إلى أسرته ،قال و هو يفرك يديه :
سنعود إلى مصر •• رفعوا وجوههم نحوه فهز رأسه و قال بصوت بل
معنى :
هذا هو النظام •• و عادت السرة مجددا •• كومة من النفاس الملتهبة
في كابينة ضيقة •• ظلوا صامتين لبعض الوقت ،ثم فجأة و بدون مقدمات
نظروا إلى بعضهم البعض و ضحكوا ،ظلوا يضحكون قرابة الخمس دقائق
متواصلة ،دمعت عيونهم و ظلوا يضحكون ،سقطت دموعهم أرضا فشربتها
أرض السفينة بسرعة و ظلوا يضحكون ،و عندما أصاب التعب حلوقهم
توقفوا فجأة كما بدأوا فجأة ،و قال قاسم :
يبدو أننا سنعيش في البحر ،ما رأيك يا ريم أليس من الواجب أن نعمل
حتى نجد قوت يومنا •• فقالت ريم و قد عادت مجددا إلى الضحك المرير :
نعم •• أنا سأخرج لعرض على الركاب رسم وجوههم المرفهه و تخليدها
في صورة و أنت جرب أن تعمل في مطعم الباخرة ،أما أنت يا سمر فبيعي
اليانصيب ،و نأتي آخر اليوم لنضع الغلة في حجر أمنا العزيزة ،ما رأيك لو
أطلقنا على أنفسنا أسماء جديدة •• فقال قاسم :
نعم ،أنا شفتورة ،و أنت فتكات ،أما سمر فلتكن فلة •• و أنت يا أمي
المعلمة سمسمة ،سنكون فريقا رائعا •• تطلعت الم إلى أولدها و قالت
بهدوء حزين :
هل انتهيتم من مسرحيتكم العابثة ؟ فقالت ريم و هي تنهض :
ليست مسرحية عابثة يا أم قاسم •• إنها الحقيقة سنصل فيعيدونا ،و
نصل هنا فيعيدونا مجددا ،لن تتغير النظمة في يومين ،لبد أن نعيش ،و
العمل هو الحل الوحيد •• الستسلم للمر الواقع ،نحن ساقطي وجود ،
لكننا لسوء الحظ نحتاج من أجل استمرارالحياة إلى الطعام •• فإلى الجهاد
يا أبناء جهاد •• تنهدت و بصوت كسير أكملت :
لن نمد أيدينا إلى مدخراتنا القليلة فسنحتاجها ذات يوم عندما ترسو
سفينتنا التائهة على أرض تقبلنا •• بكت الم و قالت و هي تداري دموعها :
رحمة الله عليك يا جهاد •• فقال قاسم و هو ينهض بدوره :
ارتاح كثيرا يرحمه الله •• خرج الثنان من الكابينة ،تاركين سمر لئذة في
حضن أمها ،خائفة •• بدأ الخوف معها مبكرا •• اتفق الثنان على التوجه
فورا إلى القبطان ،كان لبد من الحديث معه ،وجد القبطان شابين جميلي
الطلعة يسكن الحزن عيونهما يقفان بين يديه يقصان قصتهما و يطلبان عمل
••حار في إجابتهما ،حك ذقنه المميزة و قال و هو يدخن غليونه :
أغرب طلب تلقيته في حياتي ،رغم أن قصتكم ليست غريبة ،فلقد حدثت
معي بالذات على هذه الباخرة العام الماضي •• قالت ريم و هي تحاول
اصطناع ابتسامة :
و لصالح من كانت نتيجة المباراة حضرة القبطان ؟ قال القبطان و هو
يبتسم لبتسامتها الجميلة :
لصالح السعودية ،لقــد رق لحالهم مسؤول هناك و رفــع بشــأنهم
مــعروضا لمارة مكة و جاء الرد سريعا بإسكانهم في إسكان خيري لحين
إيجــاد شخص يقبل نقل كفالتهم عليه و يعيشون هناك ••
و كم رحلة قطعتها هذه السرة قبل أن تقف مأساتها عند هذا الحد من
الضياع ؟ كان هذا السؤال لقاسم ،نظر إليه القبطان و ضيق عينيه و قال :
شهر كامل من السفر على الباخرة ،ذهاب و عودة ،حوالي ست رحلت ،
لكنهم كانوا لم فلسطينية ،و كان أبوهم خارجا على القانون و نفذ حكم
بالسجن ثم أخذ أمرا بالبعاد ،لذا فإنكم في وضع أفضل بكثير •• قالت ريم
و مازالت ابتسامتها لم تفارقها و كأنها تسمع حكايات مسلية :
إذن دعنا نتوقع أسبوعا آخر فقط ،لم يكن والدنا يرحمه الله سجينا ،و ل
أمنا فلسطينية ،نحن أهون بكثير •• ضربت ريم كفها بكف أخيها و قال
قاسم :
ما قولك سيدي القبطان ،هل ستجد لنا عمل ؟ فقال القبطان و هو ينظر
إلى ريم :
نعم •• لطالما حلمت بصورة كبيرة لي و أنا خلف الدفة ،هل تستطيعين
رسمها لي ؟ فقالت ريم بمرح و هي تحييه تحية البحارة :
بكل سرور يا سيدي ،و لكن ما المقابل ؟ فقال القبطان بسرعة :
كم تريدين ؟ فقالت بحزم :
كابينة خمس نجوم لسرتي •• صفر القبطان و صاح :
خمس نجوم •• حقا فلسطينية •• نظرت ريم إلى قاسم و تبادل بالنظر
رسالة تقول سطورها ":حتى أنت يا قبطان ؟" *** بدأت ريم فورا في تنفيذ
التفاق ،و انتقــلت السرة إلى كابينة أوسع و أجمل و أنظف ،و خصصت
ريم ساعتين صباحا و مثلهم مساءا لرسمه ،كان قاسم خلل هذا الوقت
يجلس معهما يتحدث مع القبطان في سائر أمور حيـــاتهم ،و تبــادل
الحكـــايات عن أحـــوالهم ،و كانت ريم ل تتكلم ،ترتدي معطفها الزرق و
تقبض على فرشاة بأسنانها ،فيما ترسم بالخرى و تمزج اللوان على ظهر
كفها •• قال القبطان لقاسم :
إذا كنت تبحث عن الثراء فعليك بالهجرة إلى أمريكا ••
أمريكا ؟ سقطت الفرشاة من فم ريم و قالت مع أخيها في نفس الوقت
هذه الكلمة ،فأخرج القبطان حشو غليونه و أخذ في تنظيفه و هو يكمل :
نعم ،أمريكا ،هناك يمكن ان تجد فرصتك مثل آلف الشباب ،كما أنك
تستطيع الحصول على الجنسية بشروط بسيطة ،أعرف أناسا استطاعوا أن
يصلوا إلى القمة في سنوات قليلة ،المهم أن يكون لديك هدف و أن تكون
جادا في تحقيقه •• قالت ريم :
و لكن الكثير ممن سافروا إلى هناك سقطوا و لم يعودوا أبدا •• فقال
القبطان و هو يعاود وضع نفسه في وضع الرسم :
الذين يسقطون هم ممن يذهبوا ليسقطوا ،ل يأخذون المر جديا ،و ل
يبحثون عن الفرص ،و ل يستطيعون اقتناص الفرصة إذا سنحت •• و أعتقد
أن قاسما ليس منهم •• قال قاسم و قد أخذه الحلم :
نعم ،معك حق •• هذا هو الحل •• فقالت ريم في محاولة يائسة لثنائه
عن هذا التفكير :
و كيف تستطيع الذهاب إلى هناك ،إننا رغم ولدتنا بمصر لم نتمكن من
دخولها فكيف بأمريكا ؟ قال القبطان دون أن يغير وضعه :
أستطيع تدبير المر ،لي معارف في السفارة المريكية بمصر و يمكنني
التوسط لك لخذ التأشيرة •• صاح قاسم فرحا :
حقا ؟ فقالت ريم و هي تلملم أغراضها :
هيا يا قاسم ،لقد تعبت •• فقال القبطان :
و اللوحة ؟ فقالت بغيظ :
نكملها مساًء •• خرجت بسرعة و هي تشد قاسم من يده فقال القبطان :
ل أفهم ماالذي أغضبها •• على سطح الباخرة كان لريم حديث طويل مع
قاسم ذكرته بوصية الب له في نزعه الخير فقال و هو يتطلع إلى الفق :
من قال إني سأتخلى عنكم ؟ بضعة شهورهناك ،أرسل بعدها في طلبكم ،
أعرف خللها كيف ستسير حياتي هناك ،و أؤمن لكم السكن و أرسل في
طلبكم •• ل تقلقي يا ريم ،ربما كان في هذا خلصنا •• فقالت ريم
بغضب :
خلصك لوحدك يا قاسم ،لن تقبل أمي أن تعيش غربة جديدة و تموت
فيها ،و ليس من العدل أن تجبرها على هذا ،كما أنني عن نفسي أرفض
تماما أن أبحث عن نفسي في أرض ساهم حكامها في ضياع أرضي و تشريد
شعبي •• أشاح قاسم بيده و قال :
مازلت صغيرة العقل ،وجدانك مغلق على خرافة الوطن ،أين الوطن يا
ذات المثل في هذا البحر الشاسع الذي نعيش فيه منذ أسبوعين ،لماذا لم
يهب أحد رجاله لنقاذ أسرة ترفض كل أرض استقبالهم •• ل أرض مات فيها
أبوهم ،ول أرض تنتمي إليها أمهم •• هل تعتقدين أننا تكيفنا مع وضعنا هذا ،
هل تعتقدين أن حركتنا و كلمنا و ضحكنا و عبثنا و هزليتنا و عملك ،أشياء
تعطي لتغربنا لونا جديدا ؟!! هو لون واحد يا فنانة ،هو الضياع السود ،و
الشتات السود ،لن يتغيرهذا اللون إل إذا سعينا لتغييره ،لون أسود كئيب
قاتم بل معنى •• لماذا تخيفك فكرة سفري إلى أرض جديدة ،لماذا تقفين
في وجه أمل جديد ••؟ قالت ريم و هي تكز على أسنانها :
أقف في وجه لجوء جديد و غربة جديدة •• أقف في وجه فرقة قادمة ،و
أنفاس عزيزة أخرى تلفظ على فراش بارد في غربة قاسية ••
في النهاية سنلفظها على فراش غريب بارد ،فلماذا ل يكون فراشا
أمريكيا فاخرا ؟ نظرت إليه ريم بسخط و تركته و غادرت إلى أمها فقال و
هو يعطي ظهره للبحر :
الفراش العربي أشواكه كثيرة •• لست مجرما إن بحثت لنفسي عن
فراش أكثر راحة لموت عليه •• *** انتهت لوحة القبطان فكانت بديعة كما
تمناها ،قال لريم و هو يتأمل اللوحة :
أنت فنانة حقيقية ،أصابعك من ذهب ،لماذا ل تستثمرين هذه الموهبة و
تقدمي هذه الخدمة لمحبيها ،هناك الكثير من البشر يحبون تخليد أنفسهم
في لوحات خاصة •• قالت ريم و هي تجمع أغراضها بعصبية :
تريدني أن أصبح أداة في يد المتخمين المرفهين ،أرسم خدودهم المنتفخة
و كروشهم المدلة من أجل حفنة مال ؟ فقال القبطان و هو يضحك :
أنت غاضبة مني يا ريم أليس كذلك ؟ فقالت و هي تنظر إليه و كأنها
ستأكله :
لماذا أدخلت في رأس قاسم فكرة الهجرة إلى أمريكا ؟ نفث القبطان
دخان غليونه و قال و هو يبتسم بهدوء :
أنا لم أدخل لرأسه شيئا ،ل تنسي ،لقد كان قراره أن يسير في هذا
الطريق ،اقتصر دوري على ارشاده ،لم أفرض عليه رأيا ،كنت مرشدا فقط
••
لكنه مقتنع تماما بهذه الفكرة ••
يا ريم •• من حق قاسم أن يجرب حياة عملية جديدة ،من حقه أن يسعى
لتحقيق أهدافه ،من حقه إذا أغلقت أرض بابها في وجهه أن يطرق بابا آخر
في أرض أخرى ،كوني واقعية ،إنه شاب ،لم يمارس حياته العملية بعد ،
أمامه مستقبل مجهول في مصر أو في السعودية أيا كانت البلد التي
ستقبلكم أخيرا ،سيزاحم في تخصصه آلف مثله من أبناء الوطن بالفعل ،
سيجد عقبات ل حصر لها ،هذا إن وفق في عمل أصل ،و لكن المر
سيختلف كثيرا لو أنه سافر إلى بلد مفتوح ،ينادي بالحرية و يعمل بها ،يتيح
لمن يذهبون إليه فرصة أن يجدو أنفسهم بغض النظر عن جنسياتهم ،يتيح
لكل فرد أن يكون كما يحب ،صعلوكا ،أو أميرا ،كل شخص يحدد موقعه
هناك وفق إمكانياته ،دعيه يجرب ،قد ينجح ،و حاولي بدورك أن تجربي ،
قد تنجحين ،الحياة ليست قصرا على مكان بعينه ،إنها أرض الله مفتوحة
لكل الناس •• قالت ريم و هي تهم بالمغادرة :
لن أستغرب كثيرا إذا اكتشفت صدفة أن أصولك يهودية •• فقال القبطان
و هو ينفض غليونه :
لن تستطيعي أن تنجحي إل إذا تخلصت من عنصريتك الصغيرة •• ألتفتت
ريم إلى باب حجرته و قالت :
لن أتغير •• لن أتغير •• *** وصلت الباخرة إلى ميناء السويس ،و كان
يمكن للسرة أن تعود ثانية إلى ميناء جدة لول وجود الصحافة ،إذ اتفق أن
كان على الباخرة صحفي مصري عائد إلى مصر ،سمع القصة و فهمها تماما
و قام بتصوير أبطالها و أوصى الم أن تعمل جاهدة على عدم مغادرة ميناء
السويس قبل يومين على القل يكون خللها قد استطاع نشر القصة في
جريدة الخبار و تحريك المسؤولين لحلها ،و اتفقت الم مع أبنائها على تنفيذ
هذا المر بأية طريقة ،و كم كانت الطريقة التي وجدوا أنفسهم يتبعونها
قاسية و مهينة ،إذ أصرت الم على عدم المغادرة مجددا و أصر معها البناء
و لم تفلح محاولت المسؤولين في إجبارهم على ركوب الباخرة العائدة إلى
جدة ،و وجد المسؤول المني نفسه مضطرا إلى وضع السرة رهن الحتجاز
حتى يبت في أمرهم و يتم تسفيرهم على الباخرة المغادرة بعد يومين •• و
عندما وصلت السرة إلى هذه النتيجة قالت ريم لمها :
و ماذا إن لم يفي الصحفي بوعده لنا ؟ فقالت الم و هي تتوسد ذراعها
لتنام أرضا :
لن نخسر شيئا •• و تنهدت ريم و هي تؤمن على كلم أمها و قالت :
صحيح ،ماذا سنخسر ؟ *** و انقلبت الدنيا صبيحة اليوم التالي ،نشرت
الخبار القصة مصورة ،و كانت عبارات البناء التي أحسن الصحفي
المتعاطف صياغتها لها مفعول السحر ،إذ بدا للقاريء عمق مأساة هذه
السرة التي يرفض احتواء أفرادها أي وطن رغم كون الم مصرية ،و
تعاطف العلم مع القضية فاستيقظت السرة صباح اليوم التالي على بعثة
التلفزيون المصري التي جاءت لتصوير الســـرة و عمل لقـــاءات حية مــعها
،و عبرت الم خلل هذا اللقاء عن مأساتها أروع تعبير و اختتمت حديثها قائلة
:
إذا كانت بــــلدي ترتضي لي أن أعيش اللـــجوء بسبــب أنظمة جائرة
تـــريد فصــلي عن أولدي فإنني لن أنفصل عنهم و لو قتلوني ،و لن أكف
أيضا عن حب بلدي •• و جاء القرار سريعا من أكبر مسؤول بالسماح
للسرة أن تدخل مصر و تعود لبـــيتها ،مع تجديد إقامات البناء لثلثة سنوات
قادمة • • و قبل أن تسير بهم السيارة المحملة بحقائبهم مغادرة الميناء ،
كانت سيارة أخرى قد وقفت أمام سيارتهم و نزل منها رجل يغمره ضـــوء
الشمــــس فتتلل ابتســــامته و تنزل على قلب ريم المتـــعب بردا و سلما
••و تصيح كل ذرة في كيانها فرحا لرؤيته و تتحرك شفاهها بصوت منخفض
لكنه اخترق كل المسافات ليستكين هادئا قويا مرتاحا في قلبه :
سعيد ••؟ *** عندما استقرت السرة في البيت برفقة سعيد ،كان
الحديث مازال متواصل حول الحداث الخيرة التي مرت بالسرة ،حالة من
الصخب لم يحاول أيا منهم تنظيمها ،كان الكل يتحدث ،و الكل يحكي ،كان
سعيد يتلقى الخبر نفسه عدة مرات و بعدة طرق فيتفاعل معه في كل مرة
كأنه يسمعه للمرة الولى ،كان أفراد السرة يشعرون أخيرا أنهم وجدوا من
يسمعهم ،من يلقون إليه همهم ،من يستطيعون أمامه أن ينزعوا القنعة عن
مشاعرهم و تعليقاتهم و أن يقولوا كل شيء بكل الصراحة ،و كما انعقد
الصخب سحابات في سماء الغرفة قبل قليل ،فجأة انقشعت السحابات عن
صمت تام ،فجأة أدرك كل فرد أنه لم يقل ما ينبغي قوله في مناسبة مثل
هذه المناسبة •• لم يتبادلوا خلل ساعات العـــــودة و حتى استقــــروا
جلوسا في بيتهم أي حديث منطقي يحمل ســـلمات أو تعازي أو سؤال عن
الحوال •• كانوا يتمون حديثا لم ينقطع ،لذا لم ينتبهوا إلى قفزهم فوق
متطلبات اللحظة ،تنحنح سعيد و قد شعر أنه يجب أن يبادر فقال بحزن
صادق :
عظم الله أجركم في وفاة عمي جهاد يرحمه الله •• تمتموا يردون عليه
بعبارات مناسبة و أطرقت ريم و قالت بهدوء :
تركناه هناك •• تطلع إليها ،اعتصره حزن قاتم ،تغيرت ريم كثيرا ،بدت
أكثر هزال •• عروق خضراء ارتسمت بارزة على ظهر كفها ،شعرها
المشعث قليل من السفر لم يعد يحمل البهجة القديمة التي جعلت من لمسه
ذات يوم غاية المنى لسعيد •• نازعته نفسه أن ينهض ،ليجلو بيده عن
وجهها عناء الشهور الماضية بكل ذكرياتها ،ليمسح بيده عنها مسحة الحزن
الغريبة التي بدت أكثر قتامة •• ليضمها إليه و يحتوي قلبها المتعب •• قال
قاسم و هو ينهض :
أنا سأدخل للستحمام و من ثم النوم •• لم ننم نوما حقيقيا منذ أسبوعين
••و النوم في الحجز أمس كان قاسيا جدا •• تابعه سعيد بعينه و هو ينصرف
،رغم أن كلماته كانت تحمل دعوة خفية لينصرف بدوره ،إل أنه تعمد أل
يفهمها •• بقي جالسا •• نظر لريم مجددا ،قال بإشفاق كبير :
تبدين متعبة •• هزت رأسها و هي تبتسم ابتسامة طفيفة و قالت :
جميعنا متعبون •• قالت الم و هي تتنهد :
ريم حساسة أكثر مما ينبغي ،و الظروف التي مررنا بها كانت فوق
احتمالنا •• تطلعت ريم إليه و قالت تسأله :
هل تغيرت عليك كثيرا يا سعيد ؟ هز رأسه بهدوء و قال :
ل •• أنت ريم التي عرفتها دوما مهما مر عليها من أحداث •• ابتسمت
ريم ابتسامة باهتة و تطلعت حولها و قالت :
كأنني أحلم ،كأن الفترة السابقة لم تكن ••• أخيرا مجددا ،ها أنا هنا ،و
أنت هنا ،و ها هو منزلنا الصغير •• كأن شيئا لم يتغير •• لكن •• أطرقت
ريم و امتلت عيونها بالدموع ،فركت يدها و همست بصوت متهدج :
لكن أبي لن يعود ،و الحلم الجميلة ،لم يعد لها وجود ،و المشاكل
التافهة صارت من المنيات •• صمت البيت ،و لعبت بأفراده تصاريف
لترحم ،داخلي فارغ تماما ••• فارغ حد العدم •• هل تفهمني ؟ رفعت إليه
عيونا دامعة متسائلة ،فلبتها على الفور عيون و جوارح متلهفة قال بكل ذرة
من مشاعره :
أفهمك يا ريم •• تنهدت ،مسحت دموعها ،رسمت ابتسامتها الباهتة و
قالت :
على القل ،أنا هنا الن •• قال سعيد :
وكنت هنا دائما •• قالت الم بسرعة :
لبد أن قاسما أنهى حمامه الن ،الدور عليك يا ريم •• لم يتعمد عدم
الفهم مجدد ا ،نهض متثاقل و قال و هو يتجه للخروج :
سآتيكم بطعام ليل •• آمل أن تكونوا قد أرتحتم •• لم يعطهم فرصة
للعتراض ••خرج ثقيل ،ثقيل •• منظر ريم المتعب أوصله إلى مرحلة من
فقد التوازن ،لم يكن يتخيل أنه سيراها يوما بهذا الشكل •• تبدو مهزومة ،
مصدومة ،منهارة ••كور قبضته في الهواء ،قال و هو يكز أسنانه :
أقسم أن أعيد إليك الفرحة المسروقة يا ريم و لو كلفنني المر حياتي ••
أقسم •• *** في المساء ،اجتمعت السرة حول مائدة حافلة جلبها معه
سعيد و هو قادم •• كانت الساعات القليلة الماضية التي أمضوها في النوم
قد تركت أثرا حسنا عليهم •• بدت وجوههم مرتاحة و عيونهم لمعة •• حتى
ملبس البيت التي ارتدوها جميعهم كانت تضفي عليهم ألفة و هدوءا جميل
•• أكلوا كثيرا •• كانوا جائعين ••و كانوا ممتنين •• تطلع سعيد إلى ريم
يبحث عن ريم القديمة و أسعده كثيرا أنها تطل بخجل من العيون الحزينة ،
أسعده أن الملمح التي أحبها مازالت موجودة ،ذابلة قليل لكنها موجودة ،مد
لها يده بقطعة لحم تناولتها منه و هي تقول :
لقد أكلت لوحدي حتى الن نصف الطعام •• قال مبتسما :
بالهناء و الشفاء •• يجب أن تأكلي كثيرا حتى تعودي إلينا سريعا •• قالت
و هي تنهض :
لن يعيد الطعام ما تبدد يا سعيد •• اتجهت للمطبخ لعداد الشاي و قامت
الم و سمر برفع المائدة فيما اتجه قاسم مع سعيد للصالون قال قاسم و هو
يجفف يده :
هل أخبرتك ؟ سأسافر إلى أمريكا في القريب العاجل •• دهش سعيد
لهذا الخبر فأكمل قاسم :
قبطان السفينة الخيرة التي كنا عليها وعد بمساعدتي في الحصول على
التأشيرة ••معي كارت توصية منه للسفير المريكي هنا •• قرأ السؤال في
عيونه فأجابه قبل أن يسأل :
ريم غير موافقة •• لم أفاتح أمي بعد •• أريدك أن تساعدني في اقناعهم
••إنهما تثقان بك كثيرا •• قال سعيد مستنكرا :
إنهم في أمس الحاجة إليك الن أكثر من أي وقت مضى يا قاسم ،ما هذا
التفكير ؟ صفر قاسم و هو يجلس و قال بسرعة :
أرجوك •• ل أريد جبهة ثالثة أحارب فيها ،يكفيني ريم و أمي •• فقال
سعيد بقوة :
قاسم •• لست صغيرا كي تحتاج إلى من يذكرك بواجبك ،ما تقوله جنون
•• ابتسم قاسم و قال ساخرا :
جنون ؟ !! الجنون يا صديقي أن أبقى هنا أصارع طواحين الهواء بل فائدة
•• لن يفيدهم وجودي ،ستقتلهم انكساراتي المتعاقبة ،لن أجد عمل بسهولة
و لن أستطيع لو وجدته أن أتحول إلى ثور في ساقية ،يلف و يدور بل هدف ،
بل مستقبل •• لن أكرر جهاد ،لن أعيــــش على الهامــــش حتى أموت ••
إما أن أجـــد لنفسي مكانا تحت الشمس ،أو أموت و انتهي ،هذا خير لي و
لهم •• صاح سعيد بحزم :
ل تكن أنانيا فقال قاسم بتصميم :
ولن أكون أبلها •• دخلت ريم بصينية الشاي وزعت الكواب قالت و هي
تنظر لقاسم :
أخبرته يا قاسم ؟ هز رأسه إيجابا ،فقالت لسعيد :
ما رأيك فيما سمعت ؟ فقال سعيد بهدوء :
كنت أناقشه للتو •• قاسم عاقل و سيـ ••• لم يتركه قاسم يكمل حديثه
قال بتصميم :
ل مجال للنقاش ،لقد قررت و انتهى المر •• دخلت الم و قاسم ينهي
عبارته فقالت :
ما هو المر الذي انتهى يا قاسم ؟ فقال قاسم بعد تردد :
أمي لقد قررت السفر إلى أمريكا ،سأعمل هناك •• تطلعت ريم إليه
بغضب و قالت لمها بسرعة :
مازال يفكر يا أمي ،و نحاول أن نقنعه بعدم السفر •• فقالت الم بهدوء :
كلكما كبير يا أبناء جهاد •• قال قاسم و هو يجلس بجوارها و يمسك يدها
بحرارة :
أمي ،أنا لســــت عـــــاقا ،لســـت مجرما ،ل يمـــــكن أن أنجــــح في
غربتي إذا تـــركتكم و في نفوسكم سخط علي •• ربتت الم عليه و قالت :
ل يا قاسم ،مهما غضبنا فلن يكــــون الغضب سخـــــطا ،و لن يكون
جمـــــرا يحــرقك في غربتك ،تأكد أننا سندعو لك دومــــا بالتوفيق •• حتى
ريم ستــــدعو لك •• إنها تحبك يا ولد •• ابتسمت ريم و قالت و هي تتقدم
نحوه فتقبل رأسه :
بالطبع أحبك يا ولد •• دقات مرحة على الباب دق لها قلب ريم ،ذهب
قاسم ليفتح الباب ،كان سعيد قال و هو يلوح بمجلة في يده :
وجدتها •• تطلع الجميع إليه فقال على الفور :
هذه مجلة صباح الخير ،فيها خبر يهم ريم كثيرا •• تلقفت ريم منه المجلة
على عجل فلم تنتبه إلى أنها لمست يده فأشعلت في أحاسيسه الرجفة ،
كانت المجلة مفتوحة على الصفحة المعنية ،طالعتها ريم بسرعة و توقفت
لدى إعلن صغير تطلب فيه المجلة رسامين مهرة •• قرأت العلن بصوت
عال فرح و عندما انتهت نظرت إليه بامتنان و قالت بأمل :
ليتهم يقبلوني قال سعيد بصوت هاديء حاول أن يخفي فيه الرتجافة :
سيقبلوك إن شاء الله ،أنا متأكد •• تمتمت الم بالدعاء و صاحت ريم :
سأذهب الن •• فقال سعيد على الفور :
و أنا جاهز لصطحابك •• هم قاسم أن يتكلم فلكزته الم فسكت ،وقالت
:
و لكن هل ستجدان أحدا هناك ؟ فقالت ريم و هي تقبل أمها بسعادة :
لبد من وجود أحدهم •• الصحافة ليست دكانا يغلق في الثانية و النصف
أبوابه •• نظرت إلى سعيد و قالت :
سأستعد فورا •• ركضت باتجاه غرفتها فقال سعيد للم :
هل نقول مبروك ؟ فقالت الم و هي تغمز بعيونها :
أنت و شطارتك •• *** في الطريق إلى المجلة قال سعيد و هو يرنو
بعيونه إلي ريم :
أنت جميلة يا ريم •• أبتسمت و قالت :
إنها عيونك التي تراني جميلة دوما يا سعيد •• قال لها و هو يخفض
صوته :
ريم •• أنا أحبك جدا •• فقالت و هي تضحك :
لم تتغير يا سعيد •• صمت و لم يرد فقالت :
ريم التي أمامك الن غير ريم التي أحببتها ،لقد تغيرت كثيرا ،أكثر مما
تتصور ،لم تعد الحياة بالنسبة لي صفحة وردية ننقش عليها قلوبا و حروفا
مرتجفة ،لم تعد وردة حمراء نضعها في كتاب و نكتب تحتها التاريخ ،صارت
هما نتنفسه ،و ضبابا يخفي الملمح و النفوس •• صدقني يا سعيد أنا أتمنى
لك من كل قلبي من تستحق حقا قلبك الكبير ••
أريدك أنت ••
صدقني لن أنفعك •• أنا منتهية •• لن أتمكن من إسعادك •• فقال و هو
يقبض كفها في كفه :
سعادتي هي أن أسعدك •• و ل أريد منك المقابل •• خلصت كفها و قالت
:
للحديث بقية •• وصلنا المجلة •• و في المجلة كانت مقبولة قبل أن تثبت
جدارتها سألها المسئول :
أنت ريم الفلسطينية التي عاشت تجربة الرحلت المكوكية في الباخرة ؟
ابتسمت بمرارة و قالت :
هي أنا
عرض التلفاز اللوحة التي رسمتها للقبطان ،كانت رائعة ••
كنت أسلي نفسي
أعتبري نفسك منا منذ الن •• *** استطاع قاسم أن يعمل في مجال
عمل والده وديا ،و ذلك بعد أن استعان بصديق والده الذي تعاطف معه و
قدمه لحد المقاولين مشفوعا بتوصية اعتمدت على حسن سيرة المتوفى
طيلة عمله معهم ،و قام المقاول بإعطائه عمل مميزا راعى فيه شهادته
العلمية ،فكان يشرف علي سير العمل في البناء فيما يشبه مساعد مهندس
تنفيذي ،و لم يكن لدى قاسم الذي حدد لنفسه هدفا و مبلغا محددا يريده
مانعا من أن يعمل في أية مهنة في سبيل الحصول على مبتغاه ،خاصة بعد
أن وجد تجاوبا من السفارة المريكية التي تابعت موضوعه حين كان على
متن الباخرة ،علق قاسم و هو يحكي لسرته ضاحكا :
رب ضارة نافعة •• كانت ريم ساهمة فلم تتبين حديثه ،و لما سألها عما
بها تنهدت فعلق :
هل المر متعلق بسعيد ؟ هزت ريم رأسها و قالت :
يبدو أنك ل تقرأ •• فقال قاسم على الفور :
لست مغيبا على أية حال ،ماذا هناك ؟ قالت ريم :
منذ عدة أيام و ل حديث للصحافة إل عن المبعدين على الحدود الليبية ــ
المصرية •• قال قاسم :
آه •• نعم ،قرأت شيئا عن هذا الموضوع •• قالت ريم بغيظ :
نحن أول من يدفع ثمن القرارات السياسية ،القذافي قال لهم عودوا إلى
بلدكم •• لقد صار لكم وطن •• هكذا قال زعماء العالم و على هذا وقع
كبيركم •• فقال قاسم :
معه حق •• ل أستطيع لومه ،إن كنـــا قدمنا كـــــل هذه التنازلت من
أجل وطن فلـــماذا ل يحتويهم هذا الوطن ؟ أشاحت ريم بوجهها ،منذ قرر
قاسم الهجرة و هو يحاول تدريجيا التخلص من أية عواطف يمكن أن تعرقل
قراره ،ينزع وجدانه نزعا من قلب عائلته ،و بيته ،وبلده •• يهمش عامدا
متعمدا ذاته ،كأنما كل ما يجري حوله ل يعنيه ،حتى قبول ريم في المجلة ،
رغم سرعته ،و مجيئه في وقت حاسم ،لم يعني لديه أكثر من نجاح خطوة
أخرى باتجاه هجرته ••
قالت ريم لمها و هي تطوي معها الملبس :
أمي أل تلحظين تغير أحوال قاسم ؟ فقالت الم و هي تتشاغل بما في
يدها :
الصغير يكبر يا ريم ••
***
انتهى قاسم من تجهيز أوراقه كلها ،أصبح جاهزا تماما للسفر ،جمع المال
اللزم و اشترى الملبس المناسبة لشاب ل يعرف هناك مصيره ،و كان في
الفترة الخيرة يكثر من قراءة الكتب باللغة النجليزية عن الحياة في أمريكا
حصل عليها من السفارة ،و يتابع الفلم الغربية ،و ل يرى إل و جهاز تسجيل
صغير به شريط أجنبي حول أذنيه ،شعرت أسرته أنه سافر قبل أن يسافر ،
فلم يعد يهتم كثيرا بما يجري حوله في المنزل ،و عندما طلبت منه الم
مرافقتها إلى ادارة الوافدين لتحضر شهادة تعفي سمر من مصاريف الدراسة
باعتبار وفاة أبيها الفلسطيني قال و هو يعود إلى مسجله :
اذهبي مع سعيد •• لم تعلق الم فقالت ريم :
متى تسافر يا قاسم ؟ رفع السماعات و قال بحماس كبير :
السبوع القادم •• فقالت و هي تتنهد :
قل إن شاء الله •• أغلق التسجيل و قد أستشعر خجل داخلي فهمس :
إن شاء الله •• *** في المساء عندما جاء سعيد لتفقد أحوال الســرة
كعادته تعمدت الم الخروج لعداد الشاي و هي موقنة أن حديثا هاما لبد أن
تنتهي منه ريم مع سعيد ،بادرته ريم :
كنت سمعت أن عرضا مغريا لشراء لوحة لجئة قد جاءك فهل بعت ؟
أطرق سعيد ،داخله غضب من هذا السؤال شعر أنه يريد أن يصرخ ،أن
ينهض ليهز فيها العماق ،ليحرك بحرها الراكد ،ليقتلع بردوها ،تجاهلها ،
هدوءها قال و هو يكز على شفته السفلى :
ستة أعوام يا ريم ،ستة أعوام و مازلت تسألين ببرود قاتل ،ألم تعرفي
بعد ،هل فشلت إلى هذا الحد في إيصال مشاعري إليك ؟ فركت ريم يدها و
تنهدت و هي تقول :
لم تصدقني يا سعيد عندما أخبرتك أنني تغيرت •• أعتبرتها من قبيل
الحجج الواهية ،لكنني فعل تغيرت •• تجربتي مع سهيل لم تكن سهلة ،
كانت خليطا مريعا من الحاسيس •• منذ طلقي لم أتحدث مع مخلــــوق
بهذا الشأن ،لكنني أجد نفسي مــدفوعة للحديث إليك •• لنك أنت ،و أنت
تحديدا من أنقذني منه •• أجابت على سؤال عينيه بابتسامة حزينة و قالت
كأنها تحدث نفسها :
في ذلك اليوم حلمت بك ،كنت تصيح بي أهــــربي يا ريم ،هيا أهربي ••
لم يكــن حلما يا سعيد كان رسالة خلص ،كان عملية إنقاذ أنت قائدها ••
رغم دموع سهيل النادمة يومها كان صوتك أقوى ،كنت أسمعه يطغى على
كل واقعي ،يبـــسط نفسه على إرادتي ،و في ذلك اليوم تحديدا ،وصلت
مع سهيل إلى مرحلة انكسار لن تتخيلها مهما حاولت ،قدمت له بيدي
السكين ليقتلني •• كنت جادة جدا فيما أفعل ،في لحظة هانت الدنيا ،هانت
الحياة ،فرغت تماما ،صارت عدم ،في لحظة رفض كل سنتيمتر في
جسدي البقاء في الدنيا •• كانت كرامتي مذبوحة ،كنت ضعيفة ،كنت
منكسرة ،كنت وحيدة •• شعرت أنني مت فعل و لم يبق سوى خروج
الــــروح ،فجأة شعـــرت أنني ضئيلة ،ضـئيلة جدا ،و ل أستحق الحياة ،
القيت إليه بالسكين و رجوته أن يقتلني •• لحظة إنكسار مــــريعة ،يصعب
وصفـــــها ،لـــكنها وسمتني إلى البد •• أحرقت بيادري ،و حجمت
مشاعري ،جعلت قلبي مجــــرد مضخة دم يؤدي وظيـــــفة ثانوية تمنحني
حياة ل أريدها •• منذ ذلك اليــوم و أنا أسخر حتى الـــــذوبان من أي عبارة
حب ،من أية أغنية حب ،من أي قصة حب •• يقين داخلي جعل من هذه
الكلمة شيئا مقرفا يشبه مضغة من لحمي يلوكها سهيل ثم يقذفها أرضا و
يدوسها بقدمه •• الحياة كلها كانت تؤكد هذا اليقين يوما بعد يوم ،كل
موقف مررنا به ،كل يوم عشنا فيه المرارة و الذل ••كل التفاصيل ،و كل
العذابات ،كانوا يمنحونني مباركتهم على يقيني •• أنت الشيء الوحيد
الغريب في منظومة الكون حولي ،أنت الوحيد الذي مازال يؤمن بأن مضخة
الدم في جوفه قادرة على ضخ الحب ،و لسوء حظك فإنني أنا بالذات
المعنية بهذا الحب •• صدقني يا سعيد أنا ل أستحقه •• ل أفهمه ،ل أشعر
به •• ل أريده •• كانت عينا سعيد قد امتلئت حتى فاضت بدموع صامتة ،
قال و هو يضرب كفا مكورا في كف :
المجرم •• فقالت و هي تجلس بجواره :
ستــــندهش إذا عرفت أنني رغم كــــل شيء سامحــــته ،لم أعــد أشعر
بكراهية تجاهه ،ل كراهية ،و ل حب •• ربما لن قلبي لم يعـــد يحمل
مشاعر •• لم يعــــد قـــادرا على حب ،أو على كراهية •• أمسك سعيد
يدها ،كانت يده باردة ،مبتلة عرقا ،قال و هو يضغط عليها :
أنت خائفة يا حبيبتي •• مذعورة •• قلبك صنع غلفا من قسوة ليحمي به
نفسه ،لكنني متأكد أن خلف هذا الغلف القاسي قلبا حساسا مازال قادرا
على الحب و العطاء ،قادرا على مهادنة الدنيا ،على الغفران ،أنت عظيمة
يا ريم •• لم يكن ما حدث معك في تلك الليلة انكسارا كما تقولين ،كان
انتصار ،انتصرت بنفسك على منطق الغاب الذي فرض نفسه علىكما آنذاك
•• رفض النسان داخلك لغة الحيوانات و قررت النسحاب •• أنسحابك كان
انتصارا لنسانيتك يا حبيبتي •• لبد أن تفهمي هذا •• لبد أن تؤمني بأنك
كنت القوى ،رغم ضعفك ،و هول الموقف لكنك كنت القوى •• ل تجعلي
من هذه الحادثة وهما تعيشين فيه •• ل تجلدي ذاتك ،فقد كنت القوى ••
القوى يا حبيبتي •• كانت دموع ريم تسقط حثيثا •• كانت تشعر بعظمة هذا
القلب المحب أمامها ،كانت تتمنى لو تستطيع مجاراته ،كانت تتمني لو
يستــــطيع قلبها المتعب أن يتخــــلص من رفـضه و عناده فيمنح هذا
النسان المحب حقا عليه ،و يكتب معه معاهدة وفاق •• كاد لسانها أن
يتمرد عليها فيعلن الموافقة صريحة قوية ،لكن قبلة ساخنة طبعها سعيد
على جبينها أودع فيها كل تعاطفه و حبه في لحظة لم تنتبه لها ريم أفاقتها ••
نزعت يدها بسرعة ،مسحت دموعها ،كان جبينها ملتهب ،شعرت أن قبلته
أحرقتها ،و أدركت أنها أبدا لن تستطيع منحه ما يريد •• هزت رأسها و قالت
بسرعة و هي تغادر الغرفة :
ل فائدة يا سعيد •• ل فائدة ••لن أستطيع •• لن أستطيع أطرق سعيد ،
لمح دمعته و هي تسقط أرضا مس شفتيه بأصابعه و قال بصوت أودع فيه
كل أحاسيسه :
أحبك يا ريم •• أحبك أيتها المعذبة الصغيرة •• *** سافر قاسم ••
ذهبت معه كل العائلة تودعه ،كان يقبض طيلة الطريق على أوراقه ،يحتضن
حقيبته الصغيرة ،يلوذ ببرودتهم من مشاعر قوية كانت تراوده عن التراجع ،
كان يتشبث بهما كأنه يتشبث بالحياة ،كان يجلس بجوار أمه ،كانت
تحتضنه ،قلبها كان يقول كل شيء لكن شفتيها كانت صامتة ،دقات قلبها
التي كانت قوية في أذنيه كانت تقرأ عليه تفاصيل الرسالة ،كان يسمعها
تردد آيات القرآن لتحفظه ،و تتلو عليه أدعية كثيرة ،و تخلط حديثها الصامت
برجاء ل حروف له ليبقى معها ،كانت سطور رسالتها تتلحق فتختلط حروفها
و تتشتت افكارها ،كان يشعر بيدها تمسد رأسه تارة ،و تحتوي كتفيه تارة
أخرى ،كان يشعر بأنفاسها الملتهبة تهب عليه فتحرق بشرته ،لم يجرؤ على
رفع نظره إليها ،كان يدرك كم هو ضعيف إزاء عيونها الدامعة ،قالت ريم
لتقطع الصمت :
أين ستقيم يا قاسم ؟ قال و هو يحاول اكساب صوته قوة ليبث المن في
قلب أمه :
زودتني السفارة بأسماء و عناوين بعض الفنادق الصغيرة ذات السعار
المعتدلة ،كما أنهم زودوني بجهات مختلفة يمكن أن أطلب فيها عمل ،أعتقد
أن المر سيكون بسيطا •• قالت ريم بصوت حاولت بدورها إكسابه القوة
اللزمة :
أعرف أنك ل تحب كتابة الرسائل ،لكن يجب أن تراسلنا ،تعرف كم
سنتلهف على أخبارك •• قال و هو يتحدث بقلب واجف :
سأكتب إليكم كل يوم ،لن تشعروا أبدا بغربتي عنكم ،صدقيني •• نظر
لمه و قد أوشكت السيارة على وصول المطار ،قال بحنان و رجاء :
صدقيني يا أمي ،صدقيني سأكتب لك كل يوم ،صدقيني سأكون بخير ••
أحكمت الم لف ذراعها حوله ،ربتت عليه و لم تتكلم ،كانت تدرك أن أية
كلمة تقولها لن يكون لها إل معنى واحد ا ،أن تنفجر في بكاء لن يحتمله قلب
الحبيب المسافر •• وصلوا المطار •• كانت الصالة باردة ،استشعروا
برودتها في أعماقهم ،أجلسهم قاسم في أحد الركان و ذهب لنهاء إجراءاته
••احتضنت ريم أمها و قالت :
سيعود يا أمي ،سيعود يا صابرة •• فجأة بكت الم ،لم تقو على تحمل
المزيد ،كانت ستنفجر ،داخلها كان يهدر ،كانت تريد أن تعبر عن حزنها ،
قالت و هي تدفع ريم برفق :
أنظري هل يرانا ؟ تطلعت ريم إليه ،كان بعيدا منشغل ،قالت :
ل يا أم قاسم ،ل يرانا •• قالت الم و هي تلتقط دموعها في منديلها ،و
تحاول إيقافها بل جدوى :
ينبغي أل يراني أبكي ،سيعذبه هذا كثيرا •• يجب أن أسكت ،يجب أن
أسكت •• كانت تردد الكلمة الخيرة و هي تبكي ،تكتم شهقاتها ،تجبر
نفسها على السكوت فل تطاوعها عيونها ،و عندما بدا قاسم قادما
باتجاههم ،مسحت دموعها بسرعة ،ابتلعت غصتها ،و حاولت رسم
ابتسامة ،كان قاسم بدوره يبتسم قال و هو يطالع عيونها الحمراء :
انتهت الجراءات ،علي الدخول لصالة التفتيش ،جئت لوداعكم •• رفعت
الم رأسها نحوه ،لم تجد في نفسها القوة على القيام ،مدت يدها تجاهه
فمال عليها احتضنته ،ثم تشبثت به ،فاضطر إلى الركوع أمامها ،كان يحس
قوة ذراعيها حوله ،كانت تريد زرعه في قلبها ،كانت تتمنى لو أن حضنها
يرغمه على الدخول مجددا إلى أحشائها التي حملته يوما ،كانت تربت ربتات
قوية على ظهره ،كانت تقول :
سأفتقدك يا حبيبي ،سأفتقدك يا قاسم ،سأفتقدك يا غالي •• بكى قاسم
،لم يستطع مقاومة دموعه ،قال و هو يحكم ذراعيه حولها و يحاول التلطف
بها حتى ل يؤذيها :
لن أجعلك تشعرين بغربتي ،ساراسلك دوما ،سوف تنزعجين من رسائلي
المتواصلة إليك ،لقد قدمت على هاتف ،لعله يأتي خلل فترة قصيرة
فأكلمك كل يوم •• أخذ يقبل يديها قبلت كثيرة و يقول :
ل تنسيني بدعائك يا أمي ،ل تغضبي علي يا أمي ،أنا أحبك يا أمي ،
أحبك ،أقسم بالله أنك أغلى عندي من نفسي •• و أمه في كل هذا ترد
مؤكدة أنها لن تنساه ،ستدعو له دوما ،راضية عنه حتى تموت ،صوت ميعاد
الرحلة قطع حديث العاطفة بينهما ،فنهض ،سلم على ريم قال لها و هو
يقبلها :
ستدركين يا ريم أنني كنت محقا عندما تصلك أخباري ،ل تحملي علي في
قلبك الشفاف غضبا ،فأنا لست أنانيا ،أو عاقا ،و إنما أبحث عن غدي ،فل
تلوميني يا أختي •• ربتت ريم على يده و قالت و هي تبتسم و تشرق
بدموعها :
لست غاضبة ،و أسأل الله أن يوفقك فيما أنت ذاهب إليه في غير معصية
أو ذنب •• قبل سمر و احتضنها ،وعدها بالكثير من الهدايا فقالت الم :
ضع الله نصب عينيك ياقاسم ،إياك و ترك الصلة ،إياك و الستجابة
لشياطين النس حولك ،بلد غريب و طباع غريبة ل تجعل قلبي يأكلني عليك
•• عاد يقبلها و هو يطمئنها على ما أوصت ،نداء آخر جعله ينزع نفسه منهن
نزعا ،تركهن و سار بظهره و هو يشير إليهن ،كن يسرن أمامه ،يلوحن له ،
يمسحن دموعهن ،فجأة ظهر سعيد ،كان يركض ،اتجه بسرعة نحوه ،قبله
و احتضنه قال - :كيف تصورت أنك ستسافر دون أن أودعك يا قاسم ••؟
قال قاسم و هو يضرب كتفه :
كنت أعلم أنك الكبر و العظم يا سعيد ،دوما كنت الكبر و العظم ،إنهم
يحتاجونك ،ل تجعل موقف ريم يمنعك عنهم ،إنها أكثر الناس حاجة إليك
رغم عنادها •• تطلع إليهم سعيد و قال مبتسما :
و هل تعتقد أني سأتركهم ؟ النداء الخير ،و اختفى قاسم •• قال سعيد و
هو ينضم إليهن :
هيا بنا •• ل فائدة من النتظار •• و استجاب الجميع ،دوما كان له عليهم
كلمة مسموعة ،منحوها له منذ أوصاه الب بهم عندما سافر قبل سنوات
كثيرة •• تطلعت ريم إليه و استجابت باسمة للسير خلفه باتجاه سيارته
خارج المطار •• *** بدورها بعد أيام قليلة سافرت ريم ••كانت متحمسة
جدا لهذه الرحلة ،جهزت أدواتها بعناية ،و قالت و هي تجهز حقيبتها الصغيرة
:
ل أعرف كم يوما سنبقى هناك ،ربما يومين أو ثلثة ،ل أعرف ،يفضل أن
آخذ معي بعض الغراض البسيطة •• قالت لها الم و هي تبتسم بهدوء :
تشتعلين حماسا يا ريم فقالت و هي تهز رأسها :
بالطبع يا أمي ،إنني أخيرا سألمس عن قرب معاناة شعبي الحقيقية ،هذا
سيمنح رؤيتي بعدا أكبر ،و يعطي أدواتي الفنية زخما أكبر ،ليتهم ينظمون
رحلة إلى فلسطين نفسها لراها و أعرفها أكثر •• ثم انسحبت ابتسامتها
الهادئة عن وجوم قائلة :
رغم أن لشيء لي هناك •• فقالت الم و هي تبتسم :
لماذا ؟ لك بيت هناك ،بيت أبيك في غزة فقالت ريم و هي تبتسم
بمرارة :
أخبرني تامر أن اليهود استولوا عليه ،و بعد وفاة جدتي يرحمها الله ،غادر
عمي بدر إلى القطاع حيث تعيش زوجته الخيرة •• قال إنه عجز عن اثبات
حقه في البيت رغم أنه عاش فيه عمره كله •• أية مهزلة ؟ قالت الم و هي
تدق جبينها بيدها :
تذكرت •• لقد تذكرت يا ريم •• فقالت ريم بدهشة :
ماذا تذكرت يا أمي ؟ قالت الم و هي تتجه إلى غرفتها بسرعة :
اتبعيني •• تبعتها ريم و راقبتها و هي تفتح خزانتها ،و تخرج حقيبة قديمة
كانت قد فتحتها يوما لتخرج منها قائمة بأسماء و عناوين القرباء ،اشتعل
فضول ريم لما يمكن أن يخرج هذه المرة من الحقيبة القديمة ،جلست الم
على السرير ،فتحت الحقيبة ،فتخيلت ريم لفرط فضولها أن نورا سيسطع
بعد قليل من الوراق القديمة أمامها •• قصاصات جرائد تحمل أخبارا و
صورا عن فلسطين و المقاومة الداخلية ،و هزيمة 76و غير ذلك من أحداث
،أمسكت ريم الحقيبة ،وضعتها على حجرها فتحت الصحف برفق و تصفحتها
بحرص ،وجدت في إحداها صورة على ركن منها دائرة بالقلم الحمر ،تحت
الصورة كتبت عبــارة " قطاع غزه يلتهب " قالت الم بحماس و هي تخرج
الملف الصفر القديم :
انظري ،هذه حجة البيت •• هذه حجة البيت قالت ريم و هي تلقف منها
الملف :
أي بيت ؟ قالت الم :
أخبرني أبوك يرحمه الله ،أنه اصطحب معه حين غادر غزة هذه الحجة
سهوا بعد أن أعطاها له والده ليلة سفره و أوصاه بالمحافظة عليها ،قال إنه
كان عليه تركها للباقين منهم هناك ،لكنه نسي ،هذه الدائرة فوق الصورة
هي للبيت ،كان مصورا صحفيا قد التقطها لقطاع غزة عام ، 76قال لي
والدك و هو يحتفظ بالقصاصة ،إن هذا هو بيتهم •• أخرجت ريم حجة البيت
بأصابع مرتجفة و قرأت فيها عبارات قديمة لكنها واضحة عن ملكية البيت
لسرة القاسم ،الحجة تعين تماما موقع البيت و مساحته ،شعرت ريم أنها
تمسك كنزا ،دق قلبها بشدة و هي تعيد الوثيقة إلى مكانها و تعاود النظر في
الصورة غير الواضحة للبيت القديم ،كانت النخلة الطويلة التي تحدث عنها
أبوها تبدو في الصورة كمئذنة عملقة نبت في أعلها سعف •• قالت ريم و
هي تحتضن الوراق :
رحمة الله عليك يا أبي •• التفتت إلى أمها و قالت بحماس باك :
إن هذه الوثيقة كنز يا أمي ،كنز •• فقالت الم و هي تتنهد :
أوصاني أبوكم أن أعطيها لكم حين يموت ،كان هذا قبيل سفره ،لم
أتذكر إل اليوم •• لكن ماالجدوى منها ؟ قالت ريم و هي تحتضن الوراق :
يكفي أنها من رائحة أبي ،يكفي أنها قطعة من روحه •• هل يمكن أن
أحتفظ بها ؟ فقالت الم و هي تنهض متثاقلة :
خذيها إن كان فيها بعض العزاء لك •• وضعت ريم الوراق بحرص في
الحقيبة و أغلقتها برفق ثم اتجهت بها إلى غرفتها وضعتها في خزانتها الخاصة
و أغلقت عليها ثم عادت تلملم أغراضها بذهن شارد •• *** طيلة الرحلة إلى
الحدود بواسطة الحافلة كانت ريم ساهمة ،حاول بعض الزملء الحديث معها
فكانت تبتسم مجاملة ثم تعود لشرودها ،تفهموا سبب الشرود ،فلم يلحوا
عليها ،كانت لحظات قاسية تلك التي تنتظرها ،تذكرت يوم وقفت على
الحدود في رفح أمام السلك الشائكة ،تنهدت ،لقد كان يوما عصيبا ••
انتبهت على صوت نفير سيارة صغيرة تسير بمحاذاتهم ،نظرت من الشباك ،
كان سعيد •• هزت رأسها و ابتسمت ،أشارت له فعاود تحيتها بالنفير ،
سألوها عنه فأجابت باسمة :
ولي أمري •• أوقفوا الحافلة و تفاهموا معه على عدم منطقية الوصول
للحدود بهذه السيارة الصغيرة ،اتفقوا معــه على أن يضــــع سيــــارته في
أقـــرب استراحة و يركــب معهم إكراما لريم •• و عرضوا عليها إن أرادت
مرافقته حتي يركب معهم •• نظر إليها راجيا أن توافق ،هزت رأسها ،و
غادرت الحافلة ،تركت أغراضها فيها و ركبت بجواره •• حرك سيارته راقصا
بها في الطريق فقال نفرا في الحافلة ":هذا رجل محب " تنهدت ريم و هي
تستقر بجوار سعيد و قالت :
مجنون !! قال و هو يطلق ضحكة حبور صافية :
أحبك ••!! تحدثا كثيرا ،طرقا كل المواضيع ،إل موضوع القلب ،حذرته
ريم منذ البداية أل يتحدث عنه أعطى وعده و وفى به ــ في العبارات على
القل !! ــ و بسرعة طوت الرض نفسها عن الستراحة ،ركن سيارته و ركبا
الحافلة معا ،انعكس مرحه على جميع من فيها ،ربطتهم بسرعة مودة
الطريق ،مودة قادرة على كسر كل الحواجز حتي بين الغراب ،كان يترك
كرسيه بجوار ريم أحيانا استجابة لنداء يأتيه من آخر الحافلة فيذهب إليهم
يجلس بينهم ،يترك للسانه الحرية في التعبير عن حبه لريم ،يستمتع بما
يقول ،ل يضع لنفسه حدودا ،كان حديثه حلوا ،كانوا يستمعون إليه ،
يطرقون هدوءا حتى يسمعون صوته المنخفض ،ريم كانت تنظر إليه أحيانا ،
و تبتسم عندما ترى انسجامه مع المجموعة ،تهز رأسها و تعود لكتاب في
يدها تقطع به المسافة ،يعود إليها يجلس بجوارها يهمس :
" وحشتيني " تبتسم و ترفع إصبعها محذرة ،فيضع يده بسرعة على
شفتيه و يقول :
آسف !! قالت ريم لمها و هي تطوي معها الملبس :
أمي أل تلحظين تغير أحوال قاسم ؟ فقالت الم و هي تتشاغل بما في
يدها :
الصغير يكبر يا ريم •• فقالت ريم و هي مصرة على مواصلة النقاش :
قاسم يبدو لي غير مهتم ،بات معنيا بنفسه أكثر من أي وقت مضى ،حتى
أنني أحيانا أشعر أنه يرانا عبئا يتمنى لو يلقه عن ظهره و يفر بأسرع وقت
ممـكن ،هل هذه حقيقة ،أم أنني أتوهم ؟ فقالت الم و هي تضع بعضا من
الثياب في خزانتها :
قاسم مجروح يا ريم ،عنـــدما يحب الشـــاب و يصدم في حبه ،تتحول
هذه الصدمة إلى ضربة ،تدفعه إلى التغيير ،و التغيير عند الرجال عادة أكثر
حزما ،و عندما يقررونه فإنهم ينفذون ما يقررون ،و قد كانت الحداث
سريعة و متلحقة يمسك بعضها بزمام بعض ،تخرجه و ر فض حبه ،و وفاة
والده ،و سفر مشين •• فجأة وسط كل هذه الضبابات ينبت لديه حل
سيخلصه من كل شيء ،من بلد تعيش فيها محبوبته ،و من أسرة مات
عائلها ،و من قلة عمل ،قلة كرامة ،قلة إهتمام •• من السذاجة العتقاد
بأنه سيترك هذا الحل لية اعتبارات •• و إن كان قاسم يحاول ظاهريا
التملص من مشاعره نحونا فإنني متأكدة من أنه داخليا يعاني كثيرا •• ثم
ابتسمت و قالت :
كما عانى سعيد و يعاني منذ أحبك ،ماذا قررت بشأنه ؟ فقالت ريم :
أمي ،ذكر سعيد يوم طلبني شيئا عن ابتعاده عن طريقي تلبية لرجاءك ،
متى حدث هذا و لماذا ؟ فقالت الم و مازالت تبتسم :
منذ بداياتك الولى في الجامعة على ما أذكر ،كان والدك يرحمه الله
مسافرا و فاتحني سعيد بشأن الرتباط بك ،و رفضت و طلبت منه أن يبتعد
عن طريقك و يتركك تعيشين حياتك كما ينبغي •• فقالت ريم :
و لكنك اليوم موافقة على ارتباطي به فأجابت الم :
المور تغيرت يا ريم ،و •• قاطعتها ريم و قالت و هي تبتسم بمرارة :
أصبحت مطلقة ،يتيمة ،وحيدة ،و لم أعد صغيرة فقد شارفت على
الثلثين ،سعيد بالنسبة لمن في ظروفي لقطة ،أليس كذلك يا أمي ؟ قالت
الم بهدوء :
أريد أن أطمئن عليك ،لن يهدأ لي بال قبل أن أطمئن عليك يا ريم ••
قالت ريم و في نبرتها حنان و تصميم :
اطمئني يا أمي ،رغم كل الظروف التي ماعادت في صالحي ،فإنني بخير
،و لدي في دنياي ما يحملني ،و يبعد شبح الضياع عني •• فقالت الم
بأمل :
ستتزوجين من سعيد ؟ هزت ريم رأسها و قالت :
سعيد يستحق من هي أفضل مني ،أما أنا •• فل •• *** في المجلة
كانت هناك مفـــاجأة سارة لريم ،لقد كون رئيس التحرير فريقا لزيارة
الحدود و اللتقاء مع المبعدين عليها ،و اختيرت ريم ضمن هذا الفريق ،
لتتمكن من رسم الموضوع بشكل أفضل ،شعرت و هي تتلقى التكليف
بسعادة فائقة ،انتفضت كل ذرة في كيانها لهذا القرار ،إنه القرار الذي
كانت تحتاجه بالفعل ،لول مرة تتفاعل مباشرة مع الحدث الفلسطيني ،
لول مرة لن تقرؤه مثل مليين البشر ،ستقرؤه في الوجوه ،في الخيام ،
في صيحات الصغار ،ستقرؤه في قرص الشمس المسلط عليهم ،و في
الرمال الصفراء المتطايرة حولهم ،هذا حقا ما تحتاج •• عندما جاء إليها
سعيد ليصحبها إلى المنزل ،قدمت إليه علمات السعادة على وجهها خبرا
كاذبا عن موافقتها على عرضه ،فقال و هو يسير نشيطا بجوارها :
اللهم اجعله خيرا قالت و هي تستشعر ابتسامتها في قلبها :
سأسافر إلى الحدود •• نظر إليها ،كأنه لم يفهم ،انسحبت ابتسامته ،
قال :
تسافرين إلى الحدود ؟ فقالت و هي تؤكد :
نعم ،كلفت ضمن الفريق العلمي المسافر إلى هناك ،سأرى معاناة
جديدة للجئين ،أعيش معهم ساعات ،أسجل خللها هذه المعاناة ،أدعو الله
لي بالتوفيق •• قال سعيد بسرعة :
سآتي معك •• قالت ريم مندهشة :
تأتي معي ؟ إنها ليست رحلة إستجمام يا سعيد ،رحلة عمل ،و أعتقد أننا
سنطالب عند الحــدود بأوراق رسميــة تثبت جهات عملنا للسماح لنا
بالدخول ،فكيف ستدخل أنت ؟ فقال و هو يكز على أسنانه مصمما :
سآتي معك يا ريم و لو اقتضى المر التسلل عبر الحدود •• نظرت إليه
ريم و هزت رأسها مبتسمة و قالت :
مجنون ••!! *** انتهى قاسم من تجهيز أوراقه كلها ،أصبح جاهزا تماما
للسفر ،جمع المال اللزم و اشترى الملبس المناسبة لشاب ل يعرف هناك
مصيره ،و كان في الفترة الخيرة يكثر من قراءة الكتب باللغة النجليزية
عن الحياة في أمريكا حصل عليها من السفارة ،و يتابع الفلم الغربية ،و ل
يرى إل و جهاز تسجيل صغير به شريط أجنبي حول أذنيه ،شعرت أسرته أنه
سافر قبل أن يسافر ،فلم يعد يهتم كثيرا بما يجري حوله في المنزل ،و
عندما طلبت منه الم مرافقتها إلى ادارة الوافدين لتحضر شهادة تعفي سمر
من مصاريف الدراسة باعتبار وفاة أبيها الفلسطيني قال و هو يعود إلى
مسجله :
اذهبي مع سعيد •• لم تعلق الم فقالت ريم :
متى تسافر يا قاسم ؟ رفع السماعات و قال بحماس كبير :
السبوع القادم •• فقالت و هي تتنهد :
قل إن شاء الله •• أغلق التسجيل و قد أستشعر خجل داخلي فهمس :
إن شاء الله ••
في المساء عندما جاء سعيد لتفقد أحوال الســرة كعادته تعمدت الم
الخروج لعداد الشاي و هي موقنة أن حديثا هاما لبد أن تنتهي منه ريم مع
سعيد ،بادرته ريم :
كنت سمعت أن عرضا مغريا لشراء لوحة لجئة قد جاءك فهل بعت ؟
أطرق سعيد ،داخله غضب من هذا السؤال شعر أنه يريد أن يصرخ ،أن
ينهض ليهز فيها العماق ،ليحرك بحرها الراكد ،ليقتلع بردوها ،تجاهلها ،
هدوءها قال و هو يكز على شفته السفلى :
ستة أعوام يا ريم ،ستة أعوام و مازلت تسألين ببرود قاتل ،ألم تعرفي
بعد ،هل فشلت إلى هذا الحد في إيصال مشاعري إليك ؟ فركت ريم يدها و
تنهدت و هي تقول :
لم تصدقني يا سعيد عندما أخبرتك أنني تغيرت •• أعتبرتها من قبيل
الحجج الواهية ،لكنني فعل تغيرت •• تجربتي مع سهيل لم تكن سهلة ،
كانت خليطا مريعا من الحاسيس •• منذ طلقي لم أتحدث مع مخلــــوق
بهذا الشأن ،لكنني أجد نفسي مــدفوعة للحديث إليك •• لنك أنت ،و أنت
تحديدا من أنقذني منه ••
أجابت على سؤال عينيه بابتسامة حزينة و قالت كأنها تحدث نفسها :
في ذلك اليوم حلمت بك ،كنت تصيح بي أهــــربي يا ريم ،هيا أهربي ••
لم يكــن حلما يا سعيد كان رسالة خلص ،كان عملية إنقاذ أنت قائدها ••
رغم دموع سهيل النادمة يومها كان صوتك أقوى ،كنت أسمعه يطغى على
كل واقعي ،يبـــسط نفسه على إرادتي ،و في ذلك اليوم تحديدا ،وصلت
مع سهيل إلى مرحلة انكسار لن تتخيلها مهما حاولت ،قدمت له بيدي
السكين ليقتلني •• كنت جادة جدا فيما أفعل ،في لحظة هانت الدنيا ،هانت
الحياة ،فرغت تماما ،صارت عدم ،في لحظة رفض كل سنتيمتر في
جسدي البقاء في الدنيا •• كانت كرامتي مذبوحة ،كنت ضعيفة ،كنت
منكسرة ،كنت وحيدة •• شعرت أنني مت فعل و لم يبق سوى خروج
الــــروح ،فجأة شعـــرت أنني ضئيلة ،ضـئيلة جدا ،و ل أستحق الحياة ،
القيت إليه بالسكين و رجوته أن يقتلني ••
لحظة إنكسار مــــريعة ،يصعب وصفـــــها ،لـــكنها وسمتني إلى البد ••
أحرقت بيادري ،و حجمت مشاعري ،جعلت قلبي مجــــرد مضخة دم يؤدي
وظيـــــفة ثانوية تمنحني حياة ل أريدها •• منذ ذلك اليــوم و أنا أسخر حتى
الـــــذوبان من أي عبارة حب ،من أية أغنية حب ،من أي قصة حب ••
يقين داخلي جعل من هذه الكلمة شيئا مقرفا يشبه مضغة من لحمي يلوكها
سهيل ثم يقذفها أرضا و يدوسها بقدمه ••
الحياة كلها كانت تؤكد هذا اليقين يوما بعد يوم ،كل موقف مررنا به ،كل
يوم عشنا فيه المرارة و الذل ••كل التفاصيل ،و كل العذابات ،كانوا
يمنحونني مباركتهم على يقيني •• أنت الشيء الوحيد الغريب في منظومة
الكون حولي ،أنت الوحيد الذي مازال يؤمن بأن مضخة الدم في جوفه قادرة
على ضخ الحب ،و لسوء حظك فإنني أنا بالذات المعنية بهذا الحب ••
صدقني يا سعيد أنا ل أستحقه •• ل أفهمه ،ل أشعر به •• ل أريده ••
كانت عينا سعيد قد امتلئت حتى فاضت بدموع صامتة ،قال و هو يضرب كفا
مكورا في كف :
المجرم ••
ستــــندهش إذا عرفت أنني رغم كــــل شيء سامحــــته ،لم أعــد أشعر
بكراهية تجاهه ،ل كراهية ،و ل حب •• ربما لن قلبي لم يعـــد يحمل
مشاعر •• لم يعــــد قـــادرا على حب ،أو على كراهية ••
أمسك سعيد يدها ،كانت يده باردة ،مبتلة عرقا ،قال و هو يضغط عليها :
أنت خائفة يا حبيبتي •• مذعورة •• قلبك صنع غلفا من قسوة ليحمي به
نفسه ،لكنني متأكد أن خلف هذا الغلف القاسي قلبا حساسا مازال قادرا
على الحب و العطاء ،قادرا على مهادنة الدنيا ،على الغفران ،أنت عظيمة
يا ريم •• لم يكن ما حدث معك في تلك الليلة انكسارا كما تقولين ،كان
انتصار ،انتصرت بنفسك على منطق الغاب الذي فرض نفسه علىكما آنذاك
•• رفض النسان داخلك لغة الحيوانات و قررت النسحاب •• أنسحابك كان
انتصارا لنسانيتك يا حبيبتي •• لبد أن تفهمي هذا •• لبد أن تؤمني بأنك
كنت القوى ،رغم ضعفك ،و هول الموقف لكنك كنت القوى •• ل تجعلي
من هذه الحادثة وهما تعيشين فيه •• ل تجلدي ذاتك ،فقد كنت القوى ••
القوى يا حبيبتي ••
كانت دموع ريم تسقط حثيثا •• كانت تشعر بعظمة هذا القلب المحب
أمامها ،كانت تتمنى لو تستطيع مجاراته ،كانت تتمني لو يستــــطيع قلبها
المتعب أن يتخــــلص من رفـضه و عناده فيمنح هذا النسان المحب حقا
عليه ،و يكتب معه معاهدة وفاق •• كاد لسانها أن يتمرد عليها فيعلن
الموافقة صريحة قوية ،لكن قبلة ساخنة طبعها سعيد على جبينها أودع فيها
كل تعاطفه و حبه في لحظة لم تنتبه لها ريم أفاقتها •• نزعت يدها بسرعة ،
مسحت دموعها ،كان جبينها ملتهب ،شعرت أن قبلته أحرقتها ،و أدركت
أنها أبدا لن تستطيع منحه ما يريد •• هزت رأسها و قالت بسرعة و هي
تغادر الغرفة :
ل فائدة يا سعيد •• ل فائدة ••لن أستطيع •• لن أستطيع أطرق سعيد ،
لمح دمعته و هي تسقط أرضا مس شفتيه بأصابعه و قال بصوت أودع فيه
كل أحاسيسه :
***
سافر قاسم •• ذهبت معه كل العائلة تودعه ،كان يقبض طيلة الطريق على
أوراقه ،يحتضن حقيبته الصغيرة ،يلوذ ببرودتهم من مشاعر قوية كانت
تراوده عن التراجع ،كان يتشبث بهما كأنه يتشبث بالحياة ،كان يجلس بجوار
أمه ،كانت تحتضنه ،قلبها كان يقول كل شيء لكن شفتيها كانت صامتة ،
دقات قلبها التي كانت قوية في أذنيه كانت تقرأ عليه تفاصيل الرسالة ،كان
يسمعها تردد آيات القرآن لتحفظه ،و تتلو عليه أدعية كثيرة ،و تخلط حديثها
الصامت برجاء ل حروف له ليبقى معها ،كانت سطور رسالتها تتلحق
فتختلط حروفها و تتشتت افكارها ،كان يشعر بيدها تمسد رأسه تارة ،و
تحتوي كتفيه تارة أخرى ،كان يشعر بأنفاسها الملتهبة تهب عليه فتحرق
بشرته ،لم يجرؤ على رفع نظره إليها ،كان يدرك كم هو ضعيف إزاء عيونها
الدامعة ،قالت ريم لتقطع الصمت :
أين ستقيم يا قاسم ؟ قال و هو يحاول اكساب صوته قوة ليبث المن في
قلب أمه :
زودتني السفارة بأسماء و عناوين بعض الفنادق الصغيرة ذات السعار
المعتدلة ،كما أنهم زودوني بجهات مختلفة يمكن أن أطلب فيها عمل ،أعتقد
أن المر سيكون بسيطا •• قالت ريم بصوت حاولت بدورها إكسابه القوة
اللزمة :
أعرف أنك ل تحب كتابة الرسائل ،لكن يجب أن تراسلنا ،تعرف كم
سنتلهف على أخبارك ••
رفعت الم رأسها نحوه ،لم تجد في نفسها القوة على القيام ،مدت يدها
تجاهه فمال عليها احتضنته ،ثم تشبثت به ،فاضطر إلى الركوع أمامها ،كان
يحس قوة ذراعيها حوله ،كانت تريد زرعه في قلبها ،كانت تتمنى لو أن
حضنها يرغمه على الدخول مجددا إلى أحشائها التي حملته يوما ،كانت تربت
ربتات قوية على ظهره ،كانت تقول :
عاد يقبلها و هو يطمئنها على ما أوصت ،نداء آخر جعله ينزع نفسه منهن
نزعا ،تركهن و سار بظهره و هو يشير إليهن ،كن يسرن أمامه ،يلوحن له ،
يمسحن دموعهن ،فجأة ظهر سعيد ،كان يركض ،اتجه بسرعة نحوه ،قبله
و احتضنه قال - :كيف تصورت أنك ستسافر دون أن أودعك يا قاسم ••؟
قال قاسم و هو يضرب كتفه :
كنت أعلم أنك الكبر و العظم يا سعيد ،دوما كنت الكبر و العظم ،إنهم
يحتاجونك ،ل تجعل موقف ريم يمنعك عنهم ،إنها أكثر الناس حاجة إليك
رغم عنادها ••
النداء الخير ،و اختفى قاسم •• قال سعيد و هو ينضم إليهن :
هيا بنا •• ل فائدة من النتظار ••
بالطبع يا أمي ،إنني أخيرا سألمس عن قرب معاناة شعبي الحقيقية ،هذا
سيمنح رؤيتي بعدا أكبر ،و يعطي أدواتي الفنية زخما أكبر ،ليتهم ينظمون
رحلة إلى فلسطين نفسها لراها و أعرفها أكثر •• ثم انسحبت ابتسامتها
الهادئة عن وجوم قائلة :
رغم أن لشيء لي هناك •• فقالت الم و هي تبتسم :
لماذا ؟ لك بيت هناك ،بيت أبيك في غزة فقالت ريم و هي تبتسم
بمرارة :
أخبرني تامر أن اليهود استولوا عليه ،و بعد وفاة جدتي يرحمها الله ،غادر
عمي بدر إلى القطاع حيث تعيش زوجته الخيرة •• قال إنه عجز عن اثبات
حقه في البيت رغم أنه عاش فيه عمره كله •• أية مهزلة ؟
ماذا تذكرت يا أمي ؟ قالت الم و هي تتجه إلى غرفتها بسرعة :
اتبعيني •• تبعتها ريم و راقبتها و هي تفتح خزانتها ،و تخرج حقيبة قديمة
كانت قد فتحتها يوما لتخرج منها قائمة بأسماء و عناوين القرباء ،اشتعل
فضول ريم لما يمكن أن يخرج هذه المرة من الحقيبة القديمة ،جلست الم
على السرير ،فتحت الحقيبة ،فتخيلت ريم لفرط فضولها أن نورا سيسطع
بعد قليل من الوراق القديمة أمامها •• قصاصات جرائد تحمل أخبارا و
صورا عن فلسطين و المقاومة الداخلية ،و هزيمة 76و غير ذلك من أحداث
،أمسكت ريم الحقيبة ،وضعتها على حجرها فتحت الصحف برفق و تصفحتها
بحرص ،وجدت في إحداها صورة على ركن منها دائرة بالقلم الحمر ،تحت
الصورة كتبت عبــارة " قطاع غزه يلتهب " قالت الم بحماس و هي تخرج
الملف الصفر القديم :
انظري ،هذه حجة البيت •• هذه حجة البيت قالت ريم و هي تلقف منها
الملف :
أي بيت ؟
***
طيلة الرحلة إلى الحدود بواسطة الحافلة كانت ريم ساهمة ،حاول بعض
الزملء الحديث معها فكانت تبتسم مجاملة ثم تعود لشرودها ،تفهموا سبب
الشرود ،فلم يلحوا عليها ،كانت لحظات قاسية تلك التي تنتظرها ،تذكرت
يوم وقفت على الحدود في رفح أمام السلك الشائكة ،تنهدت ،لقد كان
يوما عصيبا •• انتبهت على صوت نفير سيارة صغيرة تسير بمحاذاتهم ،
نظرت من الشباك ،كان سعيد •• هزت رأسها و ابتسمت ،أشارت له فعاود
تحيتها بالنفير ،سألوها عنه فأجابت باسمة :
أوقفوا الحافلة و تفاهموا معه على عدم منطقية الوصول للحدود بهذه
السيارة الصغيرة ،اتفقوا معــه على أن يضــــع سيــــارته في أقـــرب
استراحة و يركــب معهم إكراما لريم •• و عرضوا عليها إن أرادت مرافقته
حتي يركب معهم •• نظر إليها راجيا أن توافق ،هزت رأسها ،و غادرت
الحافلة ،تركت أغراضها فيها و ركبت بجواره •• حرك سيارته راقصا بها في
الطريق فقال نفرا في الحافلة ":هذا رجل محب " تنهدت ريم و هي تستقر
بجوار سعيد و قالت :
مجنون !!
أحبك ••!!
تحدثا كثيرا ،طرقا كل المواضيع ،إل موضوع القلب ،حذرته ريم منذ البداية
أل يتحدث عنه أعطى وعده و وفى به ــ في العبارات على القل !! ــ و
بسرعة طوت الرض نفسها عن الستراحة ،ركن سيارته و ركبا الحافلة
معا ،انعكس مرحه على جميع من فيها ،ربطتهم بسرعة مودة الطريق ،
مودة قادرة على كسر كل الحواجز حتي بين الغراب ،كان يترك كرسيه
بجوار ريم أحيانا استجابة لنداء يأتيه من آخر الحافلة فيذهب إليهم يجلس
بينهم ،يترك للسانه الحرية في التعبير عن حبه لريم ،يستمتع بما يقول ،ل
يضع لنفسه حدودا ،كان حديثه حلوا ،كانوا يستمعون إليه ،يطرقون هدوءا
حتى يسمعون صوته المنخفض ،ريم كانت تنظر إليه أحيانا ،و تبتسم عندما
ترى انسجامه مع المجموعة ،تهز رأسها و تعود لكتاب في يدها تقطع به
المسافة ،يعود إليها يجلس بجوارها يهمس :
" وحشتيني " تبتسم و ترفع إصبعها محذرة ،فيضع يده بسرعة على
شفتيه و يقول :
آسف !! *** عندما وصلوا إلى الحدود ،كانت خيام اللجئين تبدو على
البعد كشريط أسود كبير ،خفق قلب ريم بشدة بينما تحركت بهم الحافلة
بإتجاه ذلك الشريط ،لم تنتبه ريم إلى إجراءات دخول قد يكون رفقاء
الحافلة قد أنهوها ،كانت عيونها معلقة بهذا الشريط الذي بدأ يتلون و تظهر
ملمحه كلما اقتربت الحافلة منه أكثر ،فجــــأة بــــرز بعض الرجـــال و
كانوا يركضون بإتجاههم ،وقفوا أمام الحافلة على بعد حوالي مائة متر من
المخيم ،اضطر السائق إلى كبح الحافلة بسرعة فأحدثت إطاراتها زوبعة من
الرمال ،أختفت الرؤية تقريبا خللها ،و لما انقشعت الرمال الطائرة ،كان
عدد من الرجال يحاولون فتح الباب ،فيما صرخ أحدهم موجها حديثه للطالين
من النوافذ :
هل أحضرتم الدواء ،هل معكم أطباء ؟
لم تفهم ريم ما الذي يقوله الرجال فقط كانوا يتحدثون معا فتضيع عباراتهم
مع صخبهم ،على أن قلبها استشعر خطرا ،نهضت بسرعة و اتجهت إلى
الباب ،كان المشرف على الرحلة مضطربا ،حذرها من التقدم نحو الباب و
قال بارتباك شديد :
أل فاشهــدوا أنني أتحمل مسئولية نفسي ،و أن المشرف براء مما قد
يحدث لي إذا نزلت •• عادت تنظر للمشرف و تتوسل برجاء :
أرجوك ،افتح الباب •• أسقط في يده فأعطى للسائق إشارة و طلب من
ريم الوقوف أمام الباب مباشرة ،امتثلت ريم بسرعة ،فتخطى سعيد
الجساد المكومة حوله و حاذى ريم و هو يقول :
سأنزل معك ••
كان يضع يده على كتفها ،فأمسكت بها ريم امتنانا ،و تأهبت للقفز من
الباص بمجرد فتح الباب ،و كان لها ما أرادت •• في لحظــة كانت هي و
سعيد أمام الرجال الذين هجموا عليهم و تبينت ريم سؤالهم المتكرر :
أبو محمد •• أبو محمد •• مات الولد ،مات الولد •• ركض أحد الرجال
بقوة في اتجاهها و لحق به الباقون ،نظرت ريم إلى سعيد و نظر إليها و في
ثوان كان اتفاقا مشتركا بأن يتبعوهم قد انعقد بينهما ،هرولت ريم و لم
تلتفت وراءها رغم أنها سمعت صرير باب الحافلة و هو يفتح و باقي أعضاء
الفريق يتبعوهم ،كانت ريم و سعيد أول الواصلين ،و في إحدى الخيام ،كان
هناك شاب عشريني مسجى عاري الصدر تنتشر في جسده بقع حمراء كثيفة
،و أمامه السيدة التي جاءت بالخبر ،كانت تولول فيما جلس أبيه على حافة
فراشه الرضي ممسكا بيده يقبلها و هو يصيح بلوعة :
ل يا محمد ،ل تمت يا ولدي •• سيأتي الدواء يا وحيدي •• أخذت دموع
ريم تسقط بل هوادة و هي تتابع مع عشرات غيرها الموقف ،و كان أعضاء
الفريق قد أصبحوا جميعهم خلفها •• التفتت إلى المشرف و قالت و دموعها
تأكل الحروف :
مات •• مات ••
و لم يقو الرجل على إكمال الكلم فبدأ يضرب الرض بيده و يقبض على
التراب و يضعه فوق رأسه و يبكي •• تقدم مشرف الفريق خطوات و هو
يعبر الزحام و اتجه نحو الرجل المكلوم و قال بصوت حازم :
هل هذا المرض منتشر هنا ؟ تعالى صخب الموجودين و كانوا يؤكـــدون
أن العدوى تنتــشر بين الجميع بسرعة كبيرة ،و أن هذا الشهيد هو الخامس
في غضون أسبوع •• صرخت ريم من هول ما تسمع و قال رجل من
الواقفين :
جاءتنا بعثة صحافة قبل يومين و طلبنا منهم النجدة ،نريد أطباء و أدوية ،
وعدونا خيرا و لم يعودوا •• و قال الب المكلوم :
توسلت إليهم أن يسرعوا •• محمد ولدي الوحيد •• لم أنجب غيره بعد
انتظار سبعة عشر عاما •• لكنه مات •• مات •• بسرعة جمع المشرف
أعضــــاء فريقه و أعــــطى توجـــيهات بالعودة السريعة إلى القاهرة و
إحضار عدة أطباء بعد شرح العراض ليتسنى لهم إحضار كل أنواع الدوية
التي يمكن أن تفيد ،شدد عليهم ضرورة العودة السريعة و أن يكون الطباء
من معارفهم ليتجاوزوا الروتين ما أمكن ،قال لريم و هو يدفعها برفق :
اذهبي معهم ،سأبقى هنا في انتظاركم •• قالت ريم بحزم و عناد :
لن أذهب ،فليذهب من يريد لكنني سأبقى •• نظر المشرف إلى سعيد
يدعوه للتدخل فقال سعيد برفق :
ريم اذهبي و سأبقى مع المشرف ،قد تستطيعين مال يستطيعونه ••
رفعت ريم عينا دامعة إليه و قالت بصوت مخنوق :
لن أذهب ••
عندما وصلوا إلى الحدود ،كانت خيام اللجئين تبدو على البعد كشريط أسود
كبير ،خفق قلب ريم بشدة بينما تحركت بهم الحافلة بإتجاه ذلك الشريط ،
لم تنتبه ريم إلى إجراءات دخول قد يكون رفقاء الحافلة قد أنهوها ،كانت
عيونها معلقة بهذا الشريط الذي بدأ يتلون و تظهر ملمحه كلما اقتربت
الحافلة منه أكثر ،فجــــأة بــــرز بعض الرجـــال و كانوا يركضون بإتجاههم ،
وقفوا أمام الحافلة على بعد حوالي مائة متر من المخيم ،اضطر السائق إلى
كبح الحافلة بسرعة فأحدثت إطاراتها زوبعة من الرمال ،أختفت الرؤية
تقريبا خللها ،و لما انقشعت الرمال الطائرة ،كان عدد من الرجال يحاولون
فتح الباب ،فيما صرخ أحدهم موجها حديثه للطالين من النوافذ :
لم تفهم ريم ما الذي يقوله الرجال فقط كانوا يتحدثون معا فتضيع عباراتهم
مع صخبهم ،على أن قلبها استشعر خطرا ،نهضت بسرعة و اتجهت إلى
الباب ،كان المشرف على الرحلة مضطربا ،حذرها من التقدم نحو الباب و
قال بارتباك شديد :
أل فاشهــدوا أنني أتحمل مسئولية نفسي ،و أن المشرف براء مما قد
يحدث لي إذا نزلت ••
أرجوك ،افتح الباب •• أسقط في يده فأعطى للسائق إشارة و طلب من
ريم الوقوف أمام الباب مباشرة ،امتثلت ريم بسرعة ،فتخطى سعيد
الجساد المكومة حوله و حاذى ريم و هو يقول :
سأنزل معك ••
كان يضع يده على كتفها ،فأمسكت بها ريم امتنانا ،و تأهبت للقفز من
الباص بمجرد فتح الباب ،و كان لها ما أرادت •• في لحظــة كانت هي و
سعيد أمام الرجال الذين هجموا عليهم و تبينت ريم سؤالهم المتكرر :
أبو محمد •• أبو محمد •• مات الولد ،مات الولد •• ركض أحد الرجال
بقوة في اتجاهها و لحق به الباقون ،نظرت ريم إلى سعيد و نظر إليها و في
ثوان كان اتفاقا مشتركا بأن يتبعوهم قد انعقد بينهما ،هرولت ريم و لم
تلتفت وراءها رغم أنها سمعت صرير باب الحافلة و هو يفتح و باقي أعضاء
الفريق يتبعوهم ،كانت ريم و سعيد أول الواصلين ،و في إحدى الخيام ،كان
هناك شاب عشريني مسجى عاري الصدر تنتشر في جسده بقع حمراء كثيفة
،و أمامه السيدة التي جاءت بالخبر ،كانت تولول فيما جلس أبيه على حافة
فراشه الرضي ممسكا بيده يقبلها و هو يصيح بلوعة :
ل يا محمد ،ل تمت يا ولدي •• سيأتي الدواء يا وحيدي •• أخذت دموع
ريم تسقط بل هوادة و هي تتابع مع عشرات غيرها الموقف ،و كان أعضاء
الفريق قد أصبحوا جميعهم خلفها •• التفتت إلى المشرف و قالت و دموعها
تأكل الحروف :
مات •• مات ••
اذهبي معهم ،سأبقى هنا في انتظاركم •• قالت ريم بحزم و عناد :
لن أذهب ،فليذهب من يريد لكنني سأبقى •• نظر المشرف إلى سعيد
يدعوه للتدخل فقال سعيد برفق :
ريم اذهبي و سأبقى مع المشرف ،قد تستطيعين مال يستطيعونه ••
رفعت ريم عينا دامعة إليه و قالت بصوت مخنوق :
لن أذهب •• حسم المشرف الموقف فدعا بقية أعضاء الفريق للذهاب
على أن يبقى معه مصوران و ريم و سعيد ،تحرك العضاء الباقون بسرعة و
اتجهــــوا للباص فيما ركض أحد الرجال خلفهم و هو يصيح :
ل تنسوا بعض المطهرات •• العدوى ستقتلنا جميعا • في دقائق كانت
الحافلة تغادر تاركة خلفها زوبعة رملية و أربعة من رفاق الرحلة ،تدق
قلوبهم بعنف و تمل حلوقهم المرارة ••
لم تتكلم •• كزت على شفتيها كأنها تمضغهما •• تركته و سارت عائدة
للمخيم •• كان أربعة من الرجال يحملون الجثة ملفوفة في ملءة ملونة و
يسيرون بها نحو المقبرة •• تنـــهدت و هي ترى الم تخرج مولولة خلف
الرجال فيما انتظم على بعد خطوات سكان المخيم في جنازة صامتة بدأت
بطيئة ثم أسرعوا الخطو •• وضعوا الجثة أرضا و قام أحد الرجال الملتحين
بتأدية صلة الميت عليه ،ثم عادوا فحملوه و ساروا به إلى مقره الخير ••
لم تستطع ريم مرافقتهم ،فبادرت إلى الم و أخذتها في حضنها و هي
تواسيها و تحاول العودة بها و المرأة تقاوم رغبة ريم ،و تصر على حضور
دفن الوحيد ••
تركتها ريم ،و سقطت على الرض تقبض الرمال الحارة و هي تقول بغيظ و
غضب :
لماذا ؟ لماذا ؟
منذ يومين مات هيثم و أمه في لحظة واحدة •• كان قد أصيب بالمرض
اللعين و أصرت أمه على احتضانه طيلة الوقت ،هي أرملة منذ سنين و جميع
أولدها في الخارج ،كان هيثم آخر العنقود عمره ثلثة عشر عاما •• أكاد
أجزم أنهما ماتا معا •• وجدناهما جثة واحدة صباح أول أمس •• قالت ريم و
هي تبتلع رهبة غصت بها :
كيف تعيشون هنا ؟ فقالت إمرأة :
الله ل ينسى عباده •• تأتينا من وقت لخر إمدادات غذائية من مصر أو
من ليبيا ،كما أن بعض منظمات دولية تزورنا أيضا •• و قالت أخرى :
حتى أن بعض الشخاص يأتون بسيارات محملة ببضائع تجارية و يبيعونا
إياها ،يعرف الملعين أن معنا نقودا ل فائدة منها ،يبيعون بأثمان مرتفعة
جدا •• فقالت سيدة و هي تضغط صدرها :
ل أسمـــح لنفسي بتبديد ما أملك ،أعرف أن هذا المر سينتهي يوما ••
قد أحتاج للنقود •• فقالت سيدة و هي تشيح بيدها :
قد تموتين قبل أن ينتهي المر •• و يأكلك الدود و يأكل نقودك •• لم
تكترث للخوف الذي تراقص في عين المرأة ،و قالت و هي تنظر للقنديل
المعلق على سارية الخيمة :
في فلسطين عندما خرجنا من قريتنا بعد مذبحة دير ياسين المشئومة ،
عشنا في مخيم على الحدود مع الردن ،قالوا لنا لن يستغرق المر أياما ،
فلما تطاولت اليام شهورا قالوا الفرج قبل سنة •• و سنة جرت سنة •• و
لم نغادر المخيم حتى كبرت و تزوجت و جاء بي زوجي إلى ليبيا •• أول
منزل حقيقي عشت فيه كان في ليبيا ••كانت له جدران ل تخترقها العيون ،
و حماما منفصل ل يجرح عورتي فيه متلصص في الظلمات •• تنهدت و قالت
:
كانت هناك شابة تضع نظارات طبية على عيونها و تجلس في آخر الخيمة
صامتة ،لفتت نظر ريم فنهضت باتجاهها ،راقبتها الفتاة و هي تتجه نحوها ،و
عندما اتخذت ريم لنفسها مكانا بجوارها ،ضمت ساقيها أكثر لتفسح لريم
مكانا و خلعت نظارتها و طفقت تمسحها بطرف ثوبها ،عادت فلبستها و
قالت لريم :
ما اسم جريدتكم ؟ فقالت ريم و هي تبتسم بود :
إنها مجلة •• مجلة صباح الخير •• فابتسمت الفتاة و قالت :
أعرفها ،كنت أقرأ بعض أعدادها التي تصل إلى ليبيا •• ما اسمك أنت ؟
فقالت ريم و هي تسند ظهرها برفق على قماش الخيمة :
ريم •• ريم جهاد القاسم •• قالت الفتاة بدهشة :
اسمك ليس مصريا
لجئة إذن ؟
أومأت ريم برأسها إيجابا ،فتنهدت الفتاة و ألقت برأسها للخلف و قالت :
ستلحق بنا بعض الحافلت حالما ينتهون من جمع التبرعات ،لقد هاتف
رئيس التحرير نقابة الطباء و نقابة المحامين و حتى نقابة الفنانين ،و أبدي
الجميع استعدادهم للمساعدة بما يستطيعون •• ل تنس نحن في أول اليوم ،
كنا نريد العودة سريعا إليكم ••
***
كانت ريم قد نامت تعبا في إحدى زوايا الخيمة ،شعرت بيد رفيقة تهزها ،
فتحت عيونها بسرعة ،بفزع ،فقالت وردة مبتسمة :
ليت هذا السائل سائل محبة بعد أن أحقنك به تصيحين فورا " تزوجني يا
سعيد " ابتسمت ريم و هي تكز على شفتها السفلى حذر اللم :
أحقني يا سعيد بسرعة ••• نريد أن نعمل يا رجل •• عند العصر أقبلت
الحافلة الثانية و معـــــها شـــاحنة عملقة تحمــل الكثير من المعونات ،و
كانت فرحة سكان المخيم المبعدين كبيرة عندما جاءت من ليبيا أيضا عربتا
إسعاف كبيرتين ،و شاحنة تحمل مساعدات ••
نصبت العديد من الخيام الجديدة ،و قال المسؤول الليبي لكبير سكان
المخيمات كأنه يبلغ رسالة :
إبعادكم ليس قسوة و إنما استجابة لمعطيات واقع جديد صنعه زعيمكم ،و
في النهاية نحن أخوة ،سننقل المصابين منكم للعلج في المستشفيات ،و
هناك فرصة للطلب أن يعودوا لداء المتحانات إن ارادوا •• فقط لداء
المتحانات •• لقاء غريب على الحدود اجتمع فيه المصري و الفلسطيني و
الليبي في ظرف غريب نشأ عن واقع غريب •• لكنه كان لقاءا جميل رغم
كل شيء ••
صبيحة اليوم التالي كان أعضاء الفريق يجمعون أغراضهم ،و يودعون سكان
المخيم في طريقهم للعودة ،قالت وردة و هي تقبل ريم :
أسعدتني رؤيتك كثيرا ،و ذكرني خطيبك بخطيبي في ليبيا •• أتمنى لكما
السعادة ••
***
حتى ل ينسى •• لبد أن نقرع الجراس دوما •• نصرخ بصوت عال أننا
هنا •• نعلنها للدنيا أننا نرفض نسيانه •• إذا أدار وجهه عنا ،أدرنا أنفسنا إليه
،و إذا تشاغل بأمر خرجنا له منه ،إذا قرأ كتابا كنا بعضا من سطوره ،وإذا
تنفس هواء كنا بعضا من بعض ذراته ••