Professional Documents
Culture Documents
الشباب
أسباب وحلول
تأليف القاضي الشيخ
محمد أحمد كنعان
شبكة مجاهد مسلم السلمية الدعوية
www.islammi.jeeran.com
www.geocities.com/moujahedmouslem
الحد 2شباط 2003
نشره موقع صيد الفوائد
/http://www.saaid.net
دار البشائر السلمية
بيروت لبنان
بسم ال الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد ل نحمده ونستعين به ،ونستغفره ونتوب اليه من جميع ذنوبنا ،ونعوذ به تعالى من
شرور أنفسنا ،ومن سيئات أعمالنا ،من يهده ال فل مضل له ،ومن يضلل فل هادي له.
وأشهد أن ل اله إل ال وحده ل شريك له ،شهادة تنجينا من عذاب أليم } يوم ل ينفع مال ول
بنون إل من أتى ال بقلب سليم{.
وأشهد أن محمد عبده ورسوله ،ورحمته الى العالمين ،جاء بالهدى ودين الحق ،بشيرا ونذيرا
بين يدي الساعة ،فبّلغ الرسالة وأّدى المانة ،ونصح لمته في حاضرها ومستقبلها ،وجاهد في ال
ل وغوى. حق جهاده ،فمن أطاع ال ورسوله فقد اهتدى ،ومن يعص ال ورسوله فقد ض ّ
أما بعد:
ففي قول ال عز وجل }:يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة
عليها ملئكة غلظ شداد ل يعصون ال ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون{ ،بيان واضح لمسؤولية
النسان عن نفسه أول ،ثم عن أهله وأقاربه ،وهي مسؤولية ل تتعلق بأمور الدنيا ومعايشها ،بل
تتعلق بأمور الدين ،وعاقبة النسان في الخرة ،حيث تجد كل نفس عملها ،من خير أو شر،
وتلقى جزاؤها الوفى ،إما في جنة عالية ..وإما في نار حامية..
إن ال تعالى يأمر المؤمنين بان يقوا أنفسهم وأهليهم عذاب النار ،ومعلوم :أن وسيلة الوقاية من
النار ،ليست بتجهيز الملبس والقنعة الواقية من حّرها ولهبها ..ول بإعداد وسائل إطفاء
صل هذه "الوقاية" بأمرين هما " :صلح العقيدة" ،بان تكون عقيدة صحيحة، الحرائق ..بل تح ّ
بمطابقتها لما جاء به رسولنا المين محمد صلى ال عليه وسلم ،و" صلح العمل" ،بان تكون
العمال صالحة ،بموافقتها لشريعته الغّراء ،ومن دون ذلك ،فلن يكون للنسان منجاة من العذاب،
ص به ربنا عز وجل بعض عباده ولن يكون له ملجأ أو مفّر من العقاب يوم القيامة ،إل ما يخت ّ
المؤمنين العصاة ،من العفو والغفران.
والمستفاد من معنى هذه الية :إن النسان ل يجوز له أن يتلهى بأي شيء من أمور " الدنيا"،
عما فيه مصلحته ومصلحة أهله في "الدين" ،فيهمل واجباته ،ويتخلى عن مسؤولياته ،وأنه ل
يجوز له أن يلهو عن طاعة ال ،برغبات نفسه وشهواتها ،أو :يلهو بأمواله وأولده عن ذكر ال
سبحانه وعبادته ،باعتبارهم زينة الحياة الدنيا كما قال تعالى }:المال والبنون زينة الحياة الدنيا{،
لن ال تعالى نهى عن ذلك وحّذر منه في قوله سبحانه }:يا أيها الذين آمنوا ل تلهكم أموالكم ول
أولدكم عن ذكر ال ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون{.
إن نطاق "الوقاية" التي أمرنا ال تعالى بها ،ل ينحصر في مجال مصلحة النفس والهل ،بل
يتعدى هذا النطاق ،ليشمل المجتمع كله ،عمل بالقاعدة الشرعية الواردة في الحديث الشريف ":
كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
فالمجتمع مترابط بشبكة متكاملة من المسؤولية بدءا من مسؤولية النسان عن نفسه ،وانتهاء
بمسؤولية الراعي عن الرعية ،تكفل له في حال وفاء المسؤولية حقها ،أن يكون مجتمعا سعيدا...
صالحا...
كما أن "الوقاية" المطلوبة للنفس وللغير ،ل تختص بمرحلة معينة من مراحل حياة النسان،
دون سواها من المراحل ،بل هي واجبة في جميع مراحل الحياة البشرية ،ولجميع طبقات
المجتمع ،من "الطفولة" ..حتى ":الموت"..
وقد اهتّم فقهاؤنا رحمهم ال تعالى في مؤلفاتهم ،ببيان واجبات "المسؤول" في كل مرحلة من
ضحوا الحكام المتعلقة بواجب البوين نحو ولدهما ،من حين ولدته ،حتى هذه المراحل ،فو ّ
صلوا أيضا واجبات المعلمين والمرشدين ،في تعليم النشء
يموتا عنه ،أو يموت هو عنهما ،وف ّ
وتربية الشباب ،وبينوا كذلك واجبات المجتمع ،في التكافل والتضامن ،لحمياة المسنين ،والعجزة،
والمعّوقين ،الذين ل معيل لهم ،وحّددوا أيضا واجبات الحاكمين جميعا ،ـ أي ":المسؤولين" أيا
كانت وظائفهم ـ تجاه الشعب كله :أطفال وشبابا ..كهول وشيوخا ..رجال ونساء..
ومما ل شك فيه :أن "مرحلة الشباب" من حياة النسان ،هي المرحلة الخطر والدق،
باعتبارها بداية التكليف الشرعي ،ونشوة العمر وجّدته ،ولهذا اهتم المصلحون بالشباب ،لرعاية
شؤونهم ،وتوجيه سلوكهم ،وتقويم إنحرافهم ،ووقاية أخلقهم ،ليغيشوا حياة سعيدة مستقّرة،
ويكونوا سعداء صالحين.
ول شك أيضا في :أن الشباب في عصرنا ،مهملون مضّيعون ..مغشوشون مضللون ..تتخطفهم
جه يوجههم نحو هدف شريف ..ول قائد لهم العقائد الفاشلة ..وتتجاذبهم التيارات الفاسدة ..ل مو ّ
يقودهم صوب غاية حميدة ..ول حاكم يعطيهم جهده واهتمامه ،وعطفه وحنانه ..فلذلك :هم في
ضياع ..وفراغ ..وصراع ..ل تمتّد لنجدتهم يد ..ول يوضع لمأساتهم حد ..ول تعالج أزماتهم
بالجّد.
تجاه هذا الواقع السيئ لشبابنا ..رأيت من واجبي نحوهم ،وهم أبنائي وإخوتي ،أن أساعدهم
بالنصيحة والرأي ،وأعاونهم بالمشورة والتوجيه ،فأبّين لهم أخطر ما يعانون من أزمات
ومتاعب ،وأعّرفهم على أسبابها ..ومصادرها ..والمسؤول عنها ..وطرق حلها ،والخروج منها،
والتغلب عليها..
هذا :مع العلم بأن الشباب ليسوا وحدهم الذين يعانون من " الزمات" ،بل إن أزماتهم جزء
وبعض من أزمات المجتمع كله ،والزمات في مجتمعنا كثيرة ..ويا للسف ..والعلج قليل..
وربما قد يسأل سائل :لماذا ركزتم على "الشباب" من بين طبقات المجتمع؟؟ ..ولماذا ل يصب
الهتمام على مرحلة "الطفولة والصبا" ،باعتبارها المرحلة التأسيسية الخطيرة في حياة
النسان؟..
وعن هذا السؤال نجيب :بأننا ل ننكر أهمية مرحلة "الطفولة" في حياة النسان ،فهي ول شك
المرحلة الهم ،باعتبارها مرحلة الغرس والزرع والتلقين ،و "الطفل" يكون فيها كالعجينة اللينة
جان ..يشكلها فتتشكل ،ويعركها فتنعرك ..بل معاندة ول معارضة ..فهو يصّدق كل ما في يد الع ّ
يسمع ..ويلّقن العقائد والفكار والعادات ..فيقبل ..إنه يثق بوالديه ثقة مطلقة ..إذ هو يراهما
الصدق كله ..والشجاعة والشهامة والمانة ..فل يخطر على باله أنهما قد يلقنانه الضلل ،أو
شانه ..فلذلك هو يأخذ عنهما ويقلدهما من دون يعلمانه الفسوق والعصيان ..أو يكذبان عليه ويغ ّ
تردد ،وبل تحّفظ ..فلو أنهما عّوداه عبادة الخنزير ..لعبده ..ول عجب في ذلك ..فقد جاء في
الحديث الشريف ،فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ متعددة ،عن أبي هريرة ،رضي ال
عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ":من يولد يولد على الفطرة ،فأبواه يهّودانه ..أو
صرانه ..كما تنتجون البهيمة ،هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟"، ين ّ
والجدعاء هي مقطوعة الذن.
فالطفل حين يبلغ سن التكليف ،يأخذ ..ويتلقى ..ويقلد ..ويصٌدق أي شيء ..ولو من الخرافات
والساطير ..فهو إن نشأ مؤمنا ،فإيمانه بإيمان أبويه ،أو أحدهما ،المعزز لفطرته السليمة ،وإن
نشأ كافرا ،فكفره من كفر أبويه اللذين علماه الكفر ،وربّياه عليه ،ولكنه ل يبني شيئا من ذلك على
قناعة شخصية ،ول على برهان أو دليل مستقل ،وهو في هذه المرحلة ،غير مطالب بذلك ،حتى
يصبح مكلفا.
والطفل بسسب واقعه هذا ،ليس مسؤول عن أعماله وتصرفاته ،ول هو مؤاخذ بها ،حتى يبلغ
سن التكليف ،فعندها يصبح مؤاخذا ،يثاب ويعاقب ،فقد روي المام أحمد وأبو داود وغيرهما،
عن عدد من الصحابة ،رضوان ال عليهمن عن النبي صلى ال عليه وسلم :أن القلم قد رفع عن
ثلثة هم :المجنون حتى يبرأ ،والنائم حتى يستيقط ،والصبي حتى يحتلم.
ن النحراف الذي يتعّوده في إن عدم المؤاخذة الشرعية على الطفل في هذه المرحلة ،ل يعني أ ّ
العقيدة والسلوك ل يضّره ،ول يؤّثر عليه في المراحل التالية من حياته ..بل إن تلك النحرافات،
ستنتقل مع الطفل الى مرحلة الشباب ،التي هي أولى مراحل التكليف الشرعي ،فيصير فيها مكلفا
مسؤول عن أعماله وأقواله ،ومؤاخذا بها ،فيثاب على الطاعة ،ويحمل وزر المعصية ..وعندها
سيعاني الشاب من نتائج أخطاء البوين والموجهين ،الذين أشرفوا عليه في مرحلة "الطفولة"،
وسيكون نجاحه أو فشله مرتبطا برغبته وقدرته على ترك ذلك السوء الذي وّرثوه إّياه..
ومع ذلك :فنحن لم نرّكز في كتابنا هذا على مرحلة "الطفولة" ،لنه ل سلطة لنا على فكر الطفل
ي أمره ..يفعل به ما يشاء ..فهو ل يحسن القراءة والفهم.. بحال ،فهو واقع بالكلية تحت إشراف ول ّ
لنكتب له ونحّرك مداركه ..فل 1لك رصدنا له الطريق في المرحلة التالية من حياته" ..مرحلة
الشباب" ..حيث يكون قادرا على الفهم ..متهيئا ومستعدا لمناقشة المور ..فكتبنا للشاب هذا
الكتاب ،لنساعده على التخلص من شوائب الطفولة ..وعلى الخروج من " أزمات الشباب"..
آملين في أن يكون هذا الكتاب بإذن ال عز وجل ،مرشدا للشباب في حياتهم ،ودليل لهم الى الحق
والصواب ،وأن يكونوا من أولئك الشباب الناشئين في عبادة ال تعالى وعلى طاعته ،الذين يظلهم
ال في ظله يوم القيامة ،يوم ل ظل إل ظله ..الحديث.
إسم الكتاب
أزمات؟
مشاكل؟
مشكلت؟
استقر الرأي أخيرا ،على تسمية هذا الكتاب بـ "أزمات الشباب" ،بعد أن تردد في الخاطر
تسميته بـ " مشاكل الشباب" ،وذلك لن البعض يعتبر كلمة ":مشاكل" خطأ لغويا ،صوابها "
مشكلت" ،ولكي أحسم هذا المر عدت الى قواميس اللغة فوجدت التالي:
]" المشكل" هو :الداخل في أشكاله ،أي :أمثاله وأشباهه ،جمعه ":مشكلت" ،وكل مختلط "
مشكل" و "الشكلة" :الحمرة تختلط بالبياض ،وهذا شيء أشكل ،ومنه قيل للمر المشتبه :مشكل،
ي المر :إذا اختلط[ )انتهى من القواميس(.
وأشكل عل ّ
أما كلمة " مشاكل" ،فلم ترد في أي من القواميس المهات التي رجعت إليها ،ولم يذكرها إل
صاحب "تاج العروس" حيث قال ]:وهو يفك المشاكل ،أي :المور الملتبسة[ ولم يذكر غير ذلك.
وهذا المعنى اللغوي ،هو الذي استعمله علماء "أصول الفقه" ،في باب":المشكل" ،حيث عّرفوه
بأنه "الداخل في أشكاله" أي :الذي أشكل على السامع طريق الوصول الى معناه ،لدقة المعنى في
نفسه ل بعارض ،فل يعرف إل بدليل يتمّيز به ،وأطلقوا "المشكلة" على الكلمة التي أشكل المعنى
المراد بها ،ومثلوا على ذلك بكلمة " :أّنى" في قوله تعالى }:فأتوا حرثكم أّنى شئتم{ ،فكلمة:
"أّنى" مشكلة ،تجيء تارة بمعنى ":من أين" ،وتارة بمعنى ":كيف" ،فاشتبه ههنا المعنى المراد،
ل اللواطة منفإن كان بمعنى " :أين" ،يكون المعنى ":من أي مكان شئتم" قبل أو :دبرا ،فتح ّ
إمرأته على هذا المعنى ،وإن كان بمعنى" :كيف" ،يكون المعنى ":بأي كيفية شئتم" قائما أو قاعدا
ل على تعميم الحوال دون المحال ،فإذا تأملنا في لفظ "الحرث" من قوله تعالى أو مضطجعا ،فيد ّ
}:فأتوا حرثكم{ ،علمنا أن كلمة ":أّنى" هنا بمعنى ":كيف" ،لن الدبر ليس موضع الحرث ،بل
هو موضع الفرث ،فتكون اللواطة من امرأته حراما ،لكن حرمتها ظنّية فل يكفر مستحلها ) .عن
كتب الصول بتصرف(.
فيتضح مما تقّدم :أن كل من " :المشكل" ،و"المشكلة" و"المشاكل" و"المشكلت" ،هي
ل على المختلط الملتبس من الشياء ،ول تدل على ما نعنيه في هذا الكتاب، مفردات وجموع ،تد ّ
ن استعمالنا ـ كغيرنا ـ هذه الكلمات بالمعنى وهو النحرافات والمخالفات التي يرتكبها النسان ،وإ ّ
سع في تحميل اللغة معاني ل تحتملها في الصل ،ول أرى لهذا المذكور ،هو من باب التو ّ
التحميل مبّررا ،فلذلك عدلت عن تسمية الكتاب بأي إسم مشتق من "شكل" ،وآثرت أن أسمّيه بـ "
أزمات الشباب" ،وذلك لن من معاني "الزمة" في اللغة " :الشّدة" ،يقال :تأزم القوم :إذا
أصابتهم أزمة ،وتألموا لزمة الزمان ،ومعنى "الزمة" الذي هو " :الشّدة" عام يدخل فيه:
المصائب ،والمعاصي ،والضللت ..إلخ ،لن من ارتكب معصية ،أو حّلت به بلّية أو مصيبة،
فقد وقع من " شدة" ،و" الشدائد" كثيرة ..وال المستعان.
مراحل حياة النسان
لقد شاء ال تبارك وتعالى أن يجعل في الرض خليفة ،فخلق "آدم" عليه السلم من تراب ،ثم
خلق منه زوجه " حواء" عليها السلم ،ومنهما بدأ التناسل البشري ،كما قال عز وجل }:يا أيها
ث منهما رجال كثيرا ونساء،الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وب ّ
واتقوا ال الذي تساءلون به والرحام إن ال كان عليكم رقيبا{.
وقد بّين ال تبارك وتعالى في كتابه العزيز :أنه خلق النسان على أطوار ومراحل ،متتابعة
متلحقة متكاملة ،كما قال عز وجل مخاطبا الكافرين خطاب توبيخ }:ما لكم ل ترجون ل وقارا*
وقد خلقكم أطوارا{ ،والمراد بالطوار :مراحل خلق النسان في رحم أمه ،ومراحل نشأته
وحياته ،وكذلك مراحل خلق أبي البشرية "آدم" عليه السلم.
فال عز وجل خلق "آدم" :من "تراب" ،ثم من "طين" ،ثم من "حمإ مسنون" أي :طين لزج
خار ،ثممتغّير الرائحة ،ثم من طين يابس ،هو "الصلصال" ،يسمع منه صوت إذا نقر عليه كالف ّ
نفخ فيه الروح ،فصار إنسانا حّيا ،عاقلن ناطقا ،مستوي القامة ،جميل الهيئة ،كامل الخلقة ،ثم
عّلمه ال تعالى السماء كلها .وبعد ذلك خلق تعالى من "آدم" زوجه "حواء" ،ليسكن إليها،
وليكون منهما تناسل البشرية بطريق الزواج.
فبدأ التناسل البشري ،مع أول ولد من أولد "آدم" ،عن طريق الحمل والولدة ،في أطوار
ل على عظمة ال تعالى ،الذي خلق النسان وسائر الكوان ،كما قال عز وجل: ومراحل ،تد ّ
} ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم* الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق النسان من
طين* ثم جعل نسله من سللة من ماء مهين{.
***
ذكر ال عز وجل هذه المرحلة بالجمال والتفصيل ،في كتابه العزيز ،فقال تعالى }:هو أعلم
صل ال عز وجل مراحل نمو بكم إذ أنشاكم من الرض وإذ أنتم أجّنة في بطون أمهاتكم{ ،ثم ف ّ
"الجنين" في بطن أمه ،مرحلة مرحلة ،وطورا طورا ،وذلك في عدد كبير من اليات القرآنية،
منها قوله تعالى في سورة "المؤمنون" }:ولقد خلقنا النسان من سللة من طين* ثم جعلناه نطفة
في قرار مكين* ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام
لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك ال أحسن الخالقين{.
وكذلك السّنة النبوية الشريفة ،فقد جاء فيها ،عن رسولنا المين محمد صلى ال عليه وسلم
أحاديث كثيرة ،في أطوار نمو الجنين البشري ،ومتى ينفخ فيه الروح ،ومن أجمعها :ما رواه
الشيخان ،عن عبدال بن مسعود ،رضي ال عنه قال :حّدثنا رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو
الصادق المصدوق ":إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ،ثم يكون علقة مثل
ذلك ،ثم يكون مضغة مثل ذلك ،ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ،ويؤمر بأربع كلمات :بكتب:
ي أو سعيد "..الحديث.رزقه ،وأجله ،وعمله ،وشق ّ
مرحلة " الصبا" هي فترة "الطفولة" ،فالمولود يسمى "طفل" ،و"صبيا" أو "صبية" ،منذ
الولدة حتى البلوغ ،لقوله تعالى }:وإذا بلغ الطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من
قبلهم{.
وهذه المرحلة ل تكليف فيها على النسان ،لما جاء في الحديث الشريف ،الذي رواه أحمد وأبو
داود وغيرهما من طرق ،عن عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وعائشة ،رضي ال عنهم،
مرفوعا الى النبي صلى ال عليه وسلم ":رفع القلم عن ثلثة :عن المجنون المغلوب على عقله
حتى يبرأ ،وعن النائم حتى يستيقظ ،وعن الصبي حتى يحتلم" ،أي :ل يعاقب الصبي على
ارتكابه محرما ،ول تدّون عليه سيئة ،حتى يبلغ فيصير مكلفا.
ومما ل شك فيه :أن هذه المرحلة هي مرحلة التأسيس ،والتأثير والغرس ،في شخصية الولد،
في جميع المجالت ،والسلم قد أمر أولي المر عن الصغار ،بإحسان توجيههم وتربيتهم
وتعليمهم ،فقام المسلمون بالمهمة خير قيام ،حتى صار "المسلم" مثل يحتذى به في الخلق
والمعاملة ،واعتنوا بالعلم وبتلقين الصغار العلوم على أنواعها ،في سن مبّكرة ،حيث درج
الكثيرون على تحفيظ الولد القرآن الكريم من سن الخامسة ،فل يصل الولد الى العاشرة من
عمره ،حتى يكون قد حفظ القرآن عن ظهر قلب ،وقد كان هذا سابقا ،ول يزال حتى الن في بلد
المسلمين ،وإن كان على نطاق غير واسع ،فنبع في المسلمين جهابذة العلماء ،في مختلف الفنون.
***
جاء ذكر هذه المرحلة في مواضع من القرآن العظيم ،منها قوله عز وجل في سورة
ب أوزعني أن "الحقاف" ،عن النسان الباّر بوالديه }:حتى إذا بلغ أشّده وبلغ أربعين سنة قال ر ّ
ي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي من ذرّيتي إني ي وعلى والد ّأشكر نعمتك التي أنعمت عل ّ
تبت إليك وإني من المسلمين{ ،وقوله تعالى }:ول تقربوا مال اليتيم إل بالتي هي أحسن حتى يبلغ
أشّده{.
و" الشد" في اللغة" :القوة ،ومبلغ الرجل الحنكة والمعرفة" ،وقال الزهري " :الشد" في
كتاب ال على ثلثة معان يقرب إختلفها:
فأّما قوله تعالى في قصة "يوسف" عليه السلم }:ولما بلغ أشّده آتيناه حكما -1
وعلما{ ،فمعناه :الدراك والبلوغ ،وحينئذ راودته امرأة العزيز عن نفسه ،وكذلك قوله
تعالى }:ول تقربوا مال اليتيم إل بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشّده{.
وأما قوله تعالى في قصة موسى عليه السلم }:ولما بلغ أشّده واستوى آتيناه -2
حكما وعلما{ ،فإنه قرن بلوغ " الشد" بالستواء ،وهو :أن يجتمع أمره وقّوته ،ويكتهل
وينتهي شبابه.
وأما قوله تعالى في سورة " الحقاف" }:حتى إذا بلغ أشّده وبلغ أربعين سنة{، -3
فهو أقصى نهاية بلوغ الشد وعند تمامها بعث ال تعالى محمدا صلى ال عليه وسلم نبيا،
وقد اجتمعت حنكته وتمام عقله )انتهى قول الزهري(.
أما مبدأ هذه المرحلة ونهايتها ،ففي ذلك أقوال ،أهّمها :أن " الشد" يبدأ ببلوغ النسان رشيدا،
ن الرشد بثماني
و"الرشد" هو :أن يبلغ عاقل مأمونا على نفسه ،حسن التصّرف ،وحّدد بعضهم س ّ
صحاح" " :الشد" ما بين ثمانيعشرة سنة ،وبعضهم بسبعة عشر سنة ،وقال الجوهري في "ال ّ
عشرة الى ثلثين سنة.
وخلصة القول الذي يهمنا هنا :أن مرحلة "الشد" هي :مرحلة النضج والعقل وحسن
التصّرف ،وهي "مرحلة الشباب" التي هي موضوع هذا الكتاب.
***
"الشيخوخة" هي المرحلة الخيرة من مراحل حياة النسان ،وقد إختلف العلماء في تحديد
ن الخمسين ،وبعضهم قال غير ذلك ،ولكن :ل خلف على أنها أولها ،فاعتبرها بعضهم من س ّ
آخر المراحل ،وأن أحوال النسان فيها متفاوتة ،فآخرها عجز ،وهرم ،وضعف ،وخرف ،كما
وصفها ال عز وجل بقوله }:ونقّر في الرحام ما نشاء الى أجل مسّمى ثم نخرجكم طفل ،ثم
لتبلغوا أشّدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرّد الى أرذل العمر لكيل يعلم من بعد علم شيئا{.
***
"الموت" هو نهاية كل نفس ،كما قال عز وجل} ،كل نفس ذائقة الموت{ ،وقال كعب بن زهير
في قصيدته "بانت سعاد":
يوما على آلة حدباء منقول كل ابن أنثى وإن طالت سلمته
ونحن لم نختم مراحل حياة النسان بذكر هذه النهاية ،إل لنذّكر أنفسنا والمسلمين جميعا بهذه
ن ما بعدها خطير وخطير ،فهناك :إما جّنة النهاية ،وبوجوب الستعداد لها ،والعمل لما بعدها ،فإ ّ
أبدا ..وإما نار أبدا ..هناك :ل تزر وازرة وزر أخرى ،ول تحاسب نفس إل عنها } ،ول يسأل
حميم حميما{ } ،يوم يفّر المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكل امرئ منهم يومئذ
شأن يغنيه{.
من هو النسان؟
من هو النسان؟
النسان مخلوق مميز ،أكرمه ال تعالى بالعقل ،وشّرفه بأصله "آدم " عليه السلم ،الذي
خر له الشياء ،ليعيش على خلقه من سللة من طين ..ثم خلق ذريته من ماء مهين ،وس ّ
خر
خر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وس ّ الرض ويستعمرها ،كما قال عز وجل }:وس ّ
خر لكم الليل والنهار* وآتاكم من كل
خر لكم الشمس والقمر دائبين وس ّ
لكم الليل والنهار* وس ّ
ما سألتموه وإن تعّدوا نعمة ال ل تحصوها إن النسان لظلوم كّفار{ .فكان من بني آدم:
مؤمن وكافر .وصالح وفاجر ..وظالم وعادل ..وشينال كل إنسان جزاء ما كسبت يداه :إن
خيرا فخير ،وإن شّرا فشر.
إن قصدنا من هذا السؤال":من هو النسان؟" ليس الكلم في خصائص النسان ،ومراحل
تكوينه ،بل مرادنا أن نتوقف عند التعريف المنطقي لـ "النسان" ،لنه تعريف يشرح
الشخصية النسانية ويفرز خصائصها ،ويحّدد حقيقة كل جانب من جوانبها ،فيسهل بالتالي
معرفة مستويات الناس المختلفة المتفاوتة ،ويسهل أيضا معرفة أسباب فلح المفلحين،
وخسران الخاسرين ،وهذا هو هدفنا من هذا الكتاب.
فأزمات الشباب ليست سوى نتيجة لفشل ،أو :تقصير ،أو :تغرير يقع فيه الشباب ،أو بعبارة
أخرى :فإن الزمات نتيجة سوء تصّرف يصدر عن النسان ،بحقّ نفسه ،أو بحق الخرين..
لقد عرف علماء المنطق "النسان" بأنه ":حيوان ناطق" ،وذلك للدللة على "المفرد" من
الناس ،وتمييزه عن غيره من الحيوان ،المشارك له في جزء من التعريف ،كما سنرى لحقا
وإليك بيان ذلك.
"الحيوان" :صيغة ،مثل" :الغليان" ،و"الميدان" ،وهي تعني الحركة الحّية كقوله تعالى في
وصف الخرة }:وإن الدار الخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون{ ،أي :لهي الحياة الكاملة
ي ،إل إذا دّبت فيه "الروح" ،فالروح
السالمة من المنّغصات ،ول تكون الحيوانية في الكائن الح ّ
ي ،ومن هنا ندرك :أن الذين يصّنفون "الروح" جزء ل غنى عنه في هذا الجانب ،من كل كائن ح ّ
في الجانب الخر للنسان ،فيقولون" :النسان :مادة وروح" ،ويعنون بالمادة :الجسد ،وبالروح:
العقل والفكر ،وما يتعلق بهما ،هم مخطئون في هذا التصنيف ،لن المادة ل تعتبر شيئا مهما من
دون "الروح" ،فأجرام جسد النسان وغير من الحياء ،وخلياه كلها ،ل تشّكل من دون الروح
جانبا يذكر ،لذلك ل يصح التصنيف المتبع للجسم البشري والشخص النساني ،بأنه ":مادة
وروح" ،بل الصحيح أن يقال ":إنه حيوان وعقل" كما سنبّين لحقا في كلمنا عن "المادة
والروح" في البند الخامس.
إن جانب "الحيوانية" في النسان ،يشمل جميع الشهوات والميولت والرغبات ،التي خلقها ال
تعالى فيه ،ومن أهمها وأخطرها :شهوتا "البطن" و "الفرج" ،وما يتعلق بهما ،فشهوة"البطن"
تتعلق بالمأكل والمشرب ،وبالسعي الى كسب ما يمّكن النسان منهما من وسائل وأسباب ،وشهوة
"الفرج" تتعلق بالزواج ،وما يترّتب عليه من إنجاب الذرّية ،والنسان مأمور بسلوك السبل
المشروعة ،وهو يسعى للحصول على هذه الشهوات ،ول يجوز له أن يسلك المسالك المحرمة
لتحقيق رغبة من رغائبه ،وإن فعل فهو آثم ،تماما مثلما يؤجر ويثاب على سلوك السبل الشرعية،
وقد أشار النبي صلى ال عليه وسلم الى هذا المعنى فيما روه البخاري عن سهل بن سعد
الساعدي ،رضي ال عنه ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ":من يضمن لي ما بين
لحييه ،وما بين رجليه ،أضمن له الجنة" أي :اللسان والفرج .وليس هذا غريبا ،فإن المتأمل
يدرك :أن مآل كل سعي النسان ،ينتهي إلى إشباع شهوتي بطنه وفرجه.
ي من لحم ودم وعصب إذن :فجانب "الحيوانية" في النسان هو عبارة عما يلي :جسد ح ّ
وعظم ،يحتاج الى :المأكل ،والمشرب ،والمنكح ،والملبس ،والمسكن ..إلخ .وشهواته هذه تجوع
بعد شبع ،وتشبع بعد جوع ،وهكذا دواليك ،وهو يطلب هذه المطالب الفطرية ،ويسعى ويتعب من
ي آخر،
اجل الحصول عليها إشباعا لرغائبه وشهواته ،فهو والحالة هذه ،يتفق مع أي كائن ح ّ
شبه في التكوين ،فالنسان من هذا الجانب" :حيوان" ،و"الحصان" كذلك "حيوان". يشاركه ال ّ
ولو أن النسان كان بل عقل ،لكان بهيمة بهماء ،وداّبة عجماء ،وهذا الجانب هو نقطة الضعف
في النسان كما وصفه ال عز وجل بقوله }:وخلق النسان ضعيفا{ ،فهو ضعيف في قوته
الجسدية ،وضعيف في مواجهة الصعوبات والمغريات ،وعلى الخص :إغراء المال،...
والجاه ،...والمرأة ،...فالنسان في مواجهة هذه الغراءات أضعف ما يكون ،لنها شهوات
ب الشهوات من النساء حلوة ،مزّينة ،مغرية فاتنة ،كما وصفها ال تعالى بقوله }:زّين للناس ح ّ
والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسّومة والنعام والحرث{.
لذلك كان على المسلم أن يستعين بال تعالى في مواجهة كل المغريات ،وأن يكون حذرا في
ل قدمه على الصراط ،ويقع في
تعامله وتعاطيه وتصّرفاته مع الناس ،لئل يغريه الشيطان ،فتز ّ
الزلل؛ ولكي يتمّكن النسان من الحتفاظ بتوازنه ،فقد أكرمه ال عز وجل بالجانب الخر ،وهو:
جانب "العقل" الذي اختصه به من بين سائر "الحيوان"..
***
لقد عّبر علماء المنطق عن هذا الجانب بوصف":ناطق" ،فقالوا ":النسان حيوان ناطق" ،لن
"النطق" خصوصية إنسانية من بين سائر "الحيوان" ،وهي خصوصية ظاهرة محسوسة ..ول
تصدر إل عن كائن عاقل ،فكان تعريف النسان بها ،أدق من تعريفه بالعقل ،لخفاء أمره لول
النطق ،فالنسان لو لم يكن ناطقا ،لما أمكن إثبات كونه عاقل ،ولو فعل ما فعل من دقائق
العمال ،وغرائب الصناعة والحركات والصوات ،فإن لكل الحيوانات الخرى أعمال غريبة،
يبلغ بعضها حّد العجز عن إدراك أسراره ،كالنحل والنمل ،في إتقان بيوتها ،وجني رزقها ،مما
ن النسان أدهش العقول ،وخّير اللباب ،وهي بل شك حيوانات ل عقل عندها ول نطق ،فلو أ ّ
كان مثلها ل يتكلم ،لما أمكن معرفة أنه عاقل ،لنعدام النطق المعّبر عنه كما ذكرنا ،وأما ما جاء
في القرآن الكريم ،من نسبة القول الى "النملة" ،وتعليم "سليمان" عليه السلم منطق الطير ،في
قوله تعالى }:فلما أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ل يطمّنكم سليمان
سم من قولها ،{..وقوله تعالى عن سليمان عليه السلم }:وقال يا وجنوده وهم ل يشعرون* فتب ّ
أيها الناس علمنا منطق الطير{ ،فل يعني":النطق" بعقل ،المماثل لنطق النسان ،بل هو قول
ألهمه ال تعالى للحيوان ،هو عبارة عن أصوات معّينة علمه ال إياها ،تصدر عنه بالغريزة ل
بالعقل ،لذلك ل يخطئ الحيوان في أصواته أبدا ..بل هي أصوات يصدرها على نسق معّين،
يدركها أبناء جنسه من الحيوان بغرائزهم ،أما النسان فليس أمره كذلك ،بل إنه يفّكر قبل أن
ينطق ،ويتكلم بالصدق وبالكذب ،وبالخطأ وبالصواب ،وبالحق والباطل ،ويتصّرف بلسانه ولغته
كما يشاء ..لنه عاقل ..والدليل على كونه عاقل :أنه " ناطق".
***
إن تقسيم شخصية النسان على نحو ما تقّدم ،ل يعدو أن يكون تقسيما نظرّيا ،أما من حيث
الواقع ،فالنسان ل يكون إنسانا إل بجانبيه :الحيواني ـ الجسدي ـ والعقلي ،مع التأكيد على تقّدم
الجانب العقلي في النسان على الجانب الحيواني ،في الفضل والمرتبة ،وعلى أن "العقل" هو
الذي يعطي " النسان" المعنى الصحيح لنسانيته.
والسلم بتكاليفه وأحكامه ،خاطب " النسان" ..كل النسان ..من دون فصل أو تقسيم ..معتبرا
ي متحّرك كسائر إياه شيئا واحدا ،فلم يخاطب فيه جانبا دون الخر ولم يعامله على أنه جسم ح ّ
جه إليه الخطاب بالتكليف ،باعتباره إنسان
الحيوان ..ول على أنه لطيف مجرد كالملئكة ..بل و ّ
متكامل ،وخاطبه بالترغيب والترهيب ،اختبارا لحّواسه ومواهبه وعقله ،وأخبره بأنه إن أحسن
سه ،وأ ّ
ن ل حوا ّ
فلنفسه ،وإن أساء فعليها ،وبأن المؤمن سيدخل الجّنة بجسده وعقله وروحه ،وك ّ
الكافر سيدخل النار كذلك.
ب على وجه الرض ،لنهم كفروا ،وجّردوا أنفسهم وقد وّبخ ال تعالى الكافرين ،بأنهم شّر من د ّ
ب عند ال الذين كفروا فهم ل يؤمنون{.
ن شّر الدوا ّ
من نعمة النتفاع بالعقل ،فقال عز وجل }:إ ّ
سهم التي هي كما بّين سبحانه وتعالى :أن سبب وقوع أهل النار في الضلل ،هو تعطيلهم لحوا ّ
روافد العقل ،حتى صاروا وكأنهم ل أسماع لهم ،ول أبصار ول قلوب ،بل صاروا أجسادا حّية
متحّركة ،كالنعام ،فاستمع أيها المؤمن الى ما قاله ال تعالى في هذا المعنى ،وتأّمل واعتبر..
ن والنس لهموقل :الحمد ل على نعمة اليمان ..قال تعالى }:ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الج ّ
قلوب ل يفقهون بها ولهم أعين ل يبصرون بها ولهم آذان ل يسمعون بها أولئك كالنعام بل هم
ل وعل }:أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم ل أولئك هم الغافلون{ ،وقال ج ّأض ّ
ل سبيل{ ،ويقول سبحانه مخاطبا رسوله المين محمدا صلى ال عليه وسلم، كالنعام بل هم أض ّ
مبّينا حال الكافرين الغافلين ،الذين يستمعون إليه ،ول يسمعون ،وينظرون إليه ول يبصرون:
} ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصّم ولو كانوا ل يعقلون* ومنهم من ينظر إليك أفأنت
ن الناس أنفسهم يظلمون{. تهدي العمي ولو كانوا ل يبصرون* إن ال ل يظلم الناس شيئا ولك ّ
***
الغرائز والشهوات -4
شاع على ألسنة كثير من المتعلمين ،وفي كتاباتهم ،إطلق "الغريزة" على "الشهوة" في
النسان ،وهذا خطأ فادح ،بل إن من هؤلء من أطلق على " الفطرة السليمة" المعروفة بـ
"التدّين" وصف " الغريزة" ،فسّموها ":غريزة التدّين" ،ووجه الخطأ في ذلك ،واضح في
المعنى اللغوي لكل واحدة من هاتين الكلمتين؛ فمن العودة الى قواميس اللغة العربية يتبّين ما يلي:
]" الغريزة" :الطبيعة ،وجمعها " :غرائز" ،و"الشهوة" هي :إشتياق النفس إلى الشيء ،وجمعها
"الشهوات" ،وهي السم من فعل ":شهي الشيء ،واشتهاه" ،إذا أحّبه ورغب فيه[.
ب له ،ورغبة فيه ،وذلك ل فواضح من تعريف "الشهوة" هذا ،أنها اشتياق الى الشيء ،وح ّ
يكون إل من عاقل ،أي :إنسان ،بخلف "الغريزة" ،فهي طبيعة في البهائم ،أي :جبلة جبلوا
جهها.
عليها ،ل عقل يحّركها ،ول إدراك يو ّ
فالبهائم ل تشتهي ..وليس فيها "شهوة" ..لنعدام العقل ،فهي ل تستعرض اللذائذ والطايب كما
ست بوجود مأكلها يفعل النسان ،فتثور لديها الرغبة فيها والميل إليها ،بل هي ل تتحّرك إل إذا أح ّ
ض وتقبل ،من دون ترّو ول تمّهل ،وعلى سبيل المثال ،فإن أو مشربها أ ,نزوها ،فعند ذلك تنق ّ
الفحل من البهائم ،ينزو على النثى نزوا بل روّية ،فيقال ":نزا الفحل" ،ول يقال ذلك في النسان
إذا جامع زوجته ،لن "المجامعة" بين البشر ،هي غير "الضراب" بين البهائم.
وبالعودة الى آيات القرآن العظيم ،نجد إستعمال "الشهوة" ،وسائر إشتقاقات هذه الكلمة ،في
الكلم عن النسان فقط ،ولم يرد ذكر "الغريزة" ول مرة واحدة في القرآن الكريم ،لنه خطاب
للبشر ،بل جاء تشبيه الكافرين بالدواب والنعام ،كما ذكرنا في العنوان السابق.
أما النسان فقد خلق ال تعالى فيه "الشهوة" ،وخلق له "الشهوات" ،قال تعالى }:زّين للناس
ب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسّومة والنعام
ح ّ
والحرث{ ،فهذه كلها "شهوات" ،وقال تعالى عن قول لوط عليه السلم لقومه }:إنكم لتأتون
الرجال شهوة من دون النساء{ ،فسّمى تلك الفاحشة ":شهوة" ولم يقل":غريزة" .وحّذر ال تعالى
الذين يّتبعون "الشهوات" من سوء العاقبة ،فقال تعالى }:فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلة
واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غّيا{.
وكذلك في الخرة حيث ينال المؤمنون في الجنة ما يشتهون ،كما قال تعالى }:وفيها تشتهيه
النفس وتلّذ العين{.
خص القول :أن "الشهوة" ،من خصائص النسان ،وهي قد تكون مباحة ،وقد تكون محّرمة ومل ّ
يأثم بها فاعلها ،ومن "الشهوات" ما يؤجر عليها المرء ،كشهوة الجماع بالزواج ،،وتحّري
الكسب الحلل ،وقد جاء ذلك في الحديث الشريف ،فيما رواه المام مسلم من حديث أبي ذر
الغفاري ،رضي ال عنه ،وفيه قوله صلى ال عليه وسلم ":وفي بضع أحدكم صدقة" أي :في
جماعه زوجته ،قالوا :يا رسول ال ،أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال ":أرأيتم لو
وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلل ،كان له أجر".
أما "الغريزة" فهي من البهائم خاصة ،فل تطلق "الغريزة" على شيء من خصائص النسان،
ب البقاء" ،ول "غريزة التدّين" ،بل هما فطرتان ،فطر ال عليهما النسان، فل يقال ":غريزة ح ّ
ب الحياة بالفطرة العاقلة التي فطره ال عليها ،ل بالغريزة العجماء العمياء البهماء،
فهو يح ّ
شآه على خلف الفطرة ،قال ال والنسان مّيال بفطرته الى اليمان ،إل إذا انحرف به والداه فن ّ
تعالى }:فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة ال التي فطر الناس عليها ل تبديل لخلق ال ذلك الدين القّيم
ن أكثر الناس ل يعلمون{ ،ومعنى قوله تعالى }:ل تبديل لخلق ال{ أي :ل تبدلوا خلق ال ولك ّ
تعالى ،ول تغّيروا في المولود فطرته التي فطره ال عليها ،لن كثيرا من الوالدين ،يغّيران هذه
صه فيالفطرة ،ويبّدلنها ،بعقائد الكفر والضللن كما جاء في الحديث الشريف الذي تقّدم ن ّ
المقدمة.
***
درج الكثيرون على تعريف "النسان" بأنه" :مادة وروح" ،من دون تحديد لمرادهم بكل منهما،
حتى شاع هذا التقسيم ،وصار متداول مألوفا ،ولقد كنت ممن يذكر ذلك بالتقليد للخرين ،ولكن:
عندما فّكرت في " النسان" ،وما أودعه ال فيه من آيات ،أدركت كم نحن بحاجة الى إعادة
نظر ،في كثير من المصطلحات والكلمات لتي نستعملها،ومنها كلمتا":المادة والروح".
إن لكل من ":المادة" و"الروح" ،إستعمالت ومعاني متعددة ،فللمادة في المفهوم "الماركسي"
الشيوعي مفهوم خاص ملخصه ] :أن النسان والكون" ،مادة" تتطور بنفسها ذاتيا ،من دون
ن تطّور المادة هذا ،هو الذي انبثق عنه وجود الكائنات.[..
خالق ،وأ ّ
فالمادة في المفهوم الماركسي ،ليست جانبا من شخصية النسان ،بل هي أساس وجوده ،ول
يخفى :أن "الشيوعية" تنكر وجود ال الخالق عز وجل ،لنها عقيدة إلحاد وكفر.
وهناك مذهب أو مفهوم آخر للمادة ،فحواه :أن "المادة" في النسان عبارة عن "الجسد" ،يقابله
جانب "الروح" ،فهؤلء يرون :أن جسد النسان هو "المادة".
وهناك من يرى "المادة" معّبرة عن الجانب الدنيوي في النسان ،أي" :الجسد" وشهواته
سموا النسان
ي فيه ،فق ّ
ورغائبه ،ويرى بالمقابل :أن "الروح" تعّبر عن الجانب المعنوي العقل ّ
على هذا الساس ،فقالوا " :النسان مادة وروح".
وأيضا ل ينبغي أن نغفل التعريف "الكنسي" لللنسان ،فإن له تأثيرا كبيرا على المفاهيم التي
ي" يتكّون من ثلثة عناصر هي ":الروح والنفس أشرنا إليها ،فالنسان في المفهوم "الكنس ّ
والجسد" ،ومستند النصارى في هذا التعريف لللنسان هو قول "بولس" بهذا المعنى الوارد في
رسالته الولى الى "أهل تسالونيقي" ،فـ "الجسد" عنده ،هو :الجزء المادي في تكوين النسان،
و"النفس" هي :عنصر الحياة الحيوانية ،وفيها يشترك النسان مع الحيوان وعليها يتوقف الفهم
والحركة والحساس ،و"الروح" هي :العقل.
و"النصارى" أيضا يطلقون "الروح" على "ال" ،تعالى عن ذلك علّوا كبيرا ،فيقولون ":ال
ي" ،ومفهومهم للروح بهذا المعنى ،هو الذي ينتسب كهنتهم إليه ،فيسّمون
ي سرمد ّ
روح أبد ّ
ي عندهم هو :كل "كاهن" أعطي صفة كهنوتية، أنفسهم":رؤساء روحّيين" ،فالرئيس الروح ّ
وبالمقابل ،فهم يطلقون على غيرهم وصف":العلمانيين" ،أي :غير "الروحّيين اللهوتيين".
سموا شخصية "النسان" إلى"
بعد هذا الستعراض لمفهوم "المادة والروح" ،نرى أن الذين ق ّ
"مادة" و"روح" مخطئون ،وذلك لسباب التالية:
أول :عدم وضوح المراد حصرا بكل من" :المادة" و"الروح" ،ومعلوم أن التسمية بشيء ل
ح ،إل إذا كانت وافية بالتعريف ،مفيدة للمعنى المقصود ،فالذين أطلقوا هذين اللفظين على
تص ّ
النسان ،لم يحّددوا المراد بكل منهما ،فل يزول الشكال.
ي من دون روح ،هو ثانيا :إن "المادة" في النسان ل تنفصل عن "الروح" ،لن الجسد البشر ّ
ي عن سائر الجمادات ،إنما هو "الحياة" المستقّرة
جماد كالحجر ،ومعلوم أن ما يمّيز الجسم البشر ّ
فيه ،أي" :الجانب الحيواني" الذي ذكرناه سابقا.
ثالثا :إن الذين أطلقوا "الروح" على "العقل" مخطئون ،لن "الروح" غير "العقل" ،فهما
مخلوقان متغايران ،والعقل ل يعمل إل بالروح ،فالروح هي المحّرك لكل من "الجسد والعقل"،
فكيف تكون "الروح" في جانب ،وما تعمل هي فيه في جانب آخر؟...
فظهر واضحا :أن تقسيم " النسان" الى "مادة وروح" ،تقسيم غير صحيح ،ول ينطبق على
الواقع ،وأن التفصيل الصحيح لشخصية النسان هو أنه" :حيوان ناطق" ،أي :عاقل ،كما بّيناه
سابقا ،وإذا أردنا أن نجاري ما شاع في تعريف النسان فنقول :النسان مادة وعقل".
***
كما أن في النسان جانبين هما" :جانب الحيوانية" وما فيه من حّواس وأعضاء ،و"جانب
العقل" وما ينتج عنه من فهم وعلم ومعرفة ،فإن الموجودات كلها تنقسم أيضا الى قسمين هما:
"عالم الغيب" ،وهو :ما ل يدرك بالحّواس ،ويعرف هذا القسم بـ "عالم ما وراء -1
المادة".
و"عالم الشهادة" أي :عالم المحسوسات الذي تدرك بالحّواس ،ول يلزم لدراكها -2
"عقل".
ولكي يتمّكن النسان من التعّرف على هذين العالمين ،والتصديق بهما ،فقد خلقه ال تعالى
جامعا للحّواس وللعقل معا ،ليدرك بحّواسه المحسوسات ،ويصّدق بعقله بالغيب ويؤمن به.
وقد أشار القرآن العظيم الى هذه المعادلة بوضوح ،في قوله عز وجل }:ذلك عالم الغيب
والشهادة العزيز الرحيم* الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق النسان من طين* ثم سّواه ونفخ
فيه من روحه وجعل لكم السمع والبصار والفئدة قليل ما تشكرون{.
فبعد أن ذكر ال تعالى علمه المطلق الشامل بالغيب والشهادة ،بّين خلق النسان من أّول أمر
تكوينه ،حتى نفخ الروح فيه ،وهذا هو "جانب الحيوانية" في النسان ،ثم عّقب بالشارة الى
الجانب الخر ،فذكر أهم الحّواس المساعدة للعقل وهما :السمع والبصر ،لن العقل يفّكر بما
يسمع وبما يرى ،فيقّدر ويحكم ،وهو "الفؤاد" أي" :القلب" هو مقّر الوعي ،ومستقّر اليمان أو
الكفر..
إن العقل " جهاز" ..يعمل في المحسوسات عن طريق الحّواس ،التي تزّوده بالمعلومات اللزمة
للحكم ،ووجوده في إدراك المحسوسات عينها ،ليس لزما ،فإن غير العقلء من البشر ،وكذلك
البهائم ،تتعّرف على المحسوسات ،فتأكل ما ينفعها ،وتترك ما يضّرها ،وتبتعد عما يؤذيها ،من
دون حاجة الى عقل تمّيز به تلك الشياء.
نعم :إن "لعقل" يعمل في المحسوسات ،أي :في المادة باعتبارها من آيات ال تعالى،
لستخلص البراهين القاطعة على وجود الخالق ووحدانيته ،والتصديق بما جاء على ألسنة
الرسل عليهم الصلة والسلم من الوحي ،ومعلوم أن النسان مكّلف ومأمور بأعمال فكره في
الموجودات ،لمعرفة الموجد الخالق عز وجل معرفة صحيحة ،واليات في كتاب ال تعالى في
ن في خلق السموات والرض واختلف الليل والنهار هذا المعنى كثيرة جدا ،كقوله عز وجل }:إ ّ
ل وعل }:وهو الذي مّد الرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن ليات لولي اللباب{ ،وقوله ج ّ
كل الثمرات جعل فيها زوجين إثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك ليات لقوم يتفّكرون* وفي
الرض قطع متجاورات وجّنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء
ضل بعضها على بعض في الكل إن في ذلك ليات لقوم يعقلون{. واحد ،ونف ّ
أما "عالم الغيب" فل عمل للحّواس منه على الطلق ،لن الحّواس غير صالحة لدراك
المحسوس ،ومن طلب معرفة شيء من الغيب بحّواسه ،فهو جاهل مغّفل ،مثله كمثل من يحاول
إمساك الهواء أو النور بيده ،والمؤسف حقا وجود هذه النوعية في المجتمع ،فأحدهم ل يؤمن بال
تعالى لنه لم يره ..وآخر ينكر الخرة لنه لم ير أحدا رجع بعد موته فأخبر بها ..وهكذا..
ولو سألهم سائل :أين عقولكم يا هؤلء؟؟ ..لسكتوا ..وبهتوا ..ولكّننا نحن نعرف :أين هي
عقولهم؟ ..إنها في شهوات بطونهم وفروجهم ،..فأحدهم قّزم عقله ومسخه ،وجعله في بطنه
وفرجه ..فلذلك هو ل يعقل ..ول يفقه ..ول يعلم ..ول يتذّكر ..ول يتفّكر ..بل كل هّمه" :بطنه"..
أكل وشرابا ..و"فرجه" فحشاء وبغاء ..فهل مثل هذا ..أهل لن يعرف ال؟..
ن الغيب كله محجوب عن حّواس الخلق ،ول يعلم أحد من الخلق شيئا من "الغيب" ،إل بإعلم إّ
ال عز وجل وإخباره ،وهذا العلم ل يكون إل للرسل عليهم الصلة والسلم ،كما قال تعالى:
} عالم الغبل فل يظهر على غيبه أحد* إل من ارتضى من رسول{ .ودور "العقل" في هذا
المجال هو :التفكير ..ثم :الحكم الصحيح ..أي :اليمان والتصديق ،مثل :إيماننا بال تعالى،
وملئكته وكتبه ،ورسله ،واليوم الخر ،بكل ما فيه من :بعث ..وحشر ..وحساب ...وجّنة ..ونار..
وغير ذلك ،والقدر خيره وشّره ،فقد آمّنا بذلك وأمثاله ،بعقولنا التي وهبنا ال إياها ،تصديقا للخبر
الصادق الذي جاءنا ،على لسان رسولنا المين محمد صلى ال عليه وسلم.
***
إن "التفكير" ..هو العمل البديهي للعقل ،إذ ل فائدة من وجود عقل من غير تفكير ،لن العقل
طل ،وجوده كعدمه. المشلول ،ليس بعقل ،بل هو جهاز مع ّ
فإذا فّكر "العاقل" في أمر ما..فسينتج عن تفكيره هذا " :تقدير ،"..وهذا التقدير :قد يكون
صوابا ،وقد يكون خطأ ،فيترّتب على ذلك":حكم "..على ذلك المر ،قد يكون صوابا ،وقد يكون
خطأ ،تبعا للتقدير ،وهذه العملية الفكرية هي التي سمّيناها":عمل العقل"..
وهذا التسلسل في عملية التفكير ،ليس من عندنا ،بل هو ما وجدناه صريحا في كتاب ال عز
وجل ،فخذ هذا العرض القرآني الرائع ،لعمل العقل الذي أشرنا إليه وقل :سبحان ال العظيم:
ن ال تعالى لم
سئل أحد من العتاة الكفرة من العرب في "مكة" ،عن القرآن الكريم" فأجاب ..ولك ّ
يذكر جوابه فحسب ،بل بّين لنا بالتسلسل ،كيف فّكر ذلك الرجل؟ ..وكيف قّدر؟ وكيف حكم؟..
فاستمع الى قول ال الحكيم في سورة المّدّثر".
}فقتل كيف قّدر* ثم قتل فقّدر{ ،هذا توبيخ له على سوء التفكير ،وفساد التقدير. -2
}ثم نظر* ثم عبس وبسر* ثم أدبر واستكبر{ ،وهذا بيان حال المتكّبر ،إذا جوبه -3
بالحق ..فإنه يرفضه ويعرض عنه.
قم بعد هذا ،حكم ذلك الكافر على القرآن فقال }:إن هذا إل سحر يؤثر* إن هذا -4
إل قول البشر{.
وّممن فعل مثل ذلك التفكير الفاسد":النمرود" ،صاحب العقلية "النمرودية" ،التي صارت مثل
لكل متجّبر معاند ،حتى درج على ألسنة العواّم قولهم لمن هذه صفاته ":ل تتنمرد "..وبل
"نمردة"..
ج إبراهيم عليه الصلة والسلم لقد أخبرنا ال تعالى ،كيف واجه "النمرود" الحق والحقيقة ،وحا ّ
ج إبراهيم في رّبه أن أتاه الملك ،إذا قال
في ال تعالى ،كما قال سبحانه :ألم ترى الى الذي حا ّ
إبراهيم :رّبي الذي يحيي ويميت ،قال :أنا أحيي وأميت ،قال إبراهيم :فإن ال يأتي بالشمس من
المشرق فأت بها من المغرب ،فبهت الذي كفر ،وال ل يهدي القوم الظالمين{.
وبالمقابل :فهناك كثير من الناس ،أحسنوا التفكير والتقدير ،فأصابوا ..وقد أخبر ال تعالى عن
ل زمان ومكان،مشاهيرهم في المم السابقة ،ليكونوا أسوة حسنة للعقلء من الناس ،في ك ّ
وينكتفي هنا بذكر مثلين من هؤلء الصالحين ،الذين فّكروا وتفّكروا ،وقّدروا ،وحكموا ،فأحسنوا
التفكر والتقدير والحكم ،هما:
جاءت قصة هذا الرجل في سورة "يس" ،في خبر "القرية" التي جاءها المرسلون ،فّكذب أهلها
المرسلين ،وهّددوهم بالرجم والتعذيب ،فعلم ذلك الرجل المؤمن بالمر ،فأسرع من أقصى
المدينة ،ناصحا ومذّكرا ،فقتلوه ،فاستمع وتدّبر ما قاله هذا الرجل العاقل المفكر ،يقول تعالى:
} وجاء من أقصى المديمة رجل يسعى قال :يا قوم اتبعوا المرسلين* اتبعوا من ل يسألكم عليه
أجرا وهم مهتدون* ومالي ل أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون* أأتخذ من دونه آلهة؟! إن يردن
الرحمن بضّر ل تغن عّني شفاعتهم شيئا ول ينقذون* إني إذا لفي ضلل مبين* إني آمنت بربكم
فاسمعون{ ،فقالت له الملئكة }:ادخل الجنة ،قال :يا ليت قوم يعلمون* بما غفر لي ربي وجعلني
من المكرمين{.
-8العقل والهوى
"العقل والهوى" قّوتان تتصارعان في النسان ،الولى منهما وهي" :العقل" بما يمثل من وعي
ب الشهوات" ،بما يمثل من عجلة وتهّور واغترار ،ومن
وفهم ،والثانية وهي ":الهوى" ،أي ":ح ّ
ن هواه عقل ،فيض ّ
ل المهم جدا للنسان أن يفّرق بين ":فكر العقل" ،و"هوى النفس" ،لئل يظ ّ
ويهلك.
وما أكثر الذين يتبعون أهواءهم وهم يحسبون أنها عقولهم ،وهؤلء هم جميع المفتونين
والزنادقة ،الذين انجرفوا مع الهوى ،فرّوجوا الفتن والضللت بين المسلمين ،وهم يحسبون أنهم
ل سعيهم
يعملون عمل حسنا ،كما قال عز وجل }:قل هل ننبئكم بالخسرين أعمال؟* الذين ض ّ
في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا* أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت
أعمالهم فل نقيم لهم يوم القيامة وزنا{.
ل ممن اتبع
لذلك حّذرنا ال تعالى من اتباع الهوى ،مبّينا أنه ضلل ،فقال عز وجل }:ومن أض ّ
هواه بغير هدى من ال؟{ ،وقال سبحانه }:ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والرض
ن{.
ومن فيه ّ
فإذا سّولت لك نفسك أمرا ،فانتبه ،وإذا ثار في نفسك رأي ،فاحذر ،واعلم :أن "الهوى" كثيرا ما
يخالف الشرع ،وأّنك ل تكون مؤمنا حقا ،إل إذا كان هواك تبعا لما جاء به الرسول المين محمد
صلى ال عليه وسلم ،دون سواه من البشر.
واعلم :أن "العقل" السليم ،ل يتعارض مع الشرع أبدا ،فإن خطر على بالك ،أن شيئا من الشرع
لم يقبله عقلك ،فاعلم أن ذاك الشرع فيك ،ليس عقلك ،بل هو هواك ،فاحذر الضلل باتباعه،
والزم جانب الشرع ،فثّمة النجاة..
ومهما كان الحال ،فإن "العقل" و"الهوى" يجب أن يكونا طوعا لحكم الشرع ،ول يجوز
إخضاع الحكام الشرعية لموازين العقول ،ومقاييس الهواء ،بل على المسلم أن يسمع حكم ال
ك ول تردد ،كما قال ال تعالى }:فل ورّبك ل يؤمنون حتى يحّكموكتعالى ويطيع ،من دون ش ّ
فيما شجر بينهم ثم ل يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسّلموا تسليما{ ،وال المستعان ،وهو
الموفق والهادي.
***
"التكليف" وطوارئه
-1تقديم.
-2من هو "المكلف"
أول :شروط التكليف باليمان.
ثانيا :شروط التكليف بالعبادات.
-3طوارئ التكليف:
القسم الول :الطواءئ السماوية:
ق ،والمرض ،والموت[.
]الجنون ،والعته ،والنسيان ،النوم ،والر ّ
القسم الثاني :الطوارئ المكتسبة:
سكر[.
]الجهل،الكراه ،والهزل ،والخطأ ،وال ّ
تقديم -1
أشرنا سابقا ،الى أن بداية "مرحلة الشباب" ،هي بداية "مرحلة التكليف" ،إذا توّفرت شروطه،
حيث يصير النسان من أهل الخطاب بالمر والنهي ،ومسؤول عن أعماله ،خيرها وشّرها ،في
الدنيا والخرة ..فيثاب ويعاقب ،ويسأل ويحاسب.
سع في بحث موضوع "التكليف" هذا ،فنبّين من هو المكلف شرعا؛ وقد وجدنا من المفيد :أن نتو ّ
وما هي أهّم المور المعترضة على " أهلية النسان" ،التي تؤدي إلى أسقاط التكليف عنه.
إن كلمنا في هذا الشأن ،سيكون طبقا لما ذكره علماء " أصول الفقه" ،ليس " الطباء" ،لننا ل
نبحث في هذا الكتاب عن أمراض الجسد ،ول عن تعريفاتها الطبية ،ول عن الدوية والعقاقير
التي تعالج بها ،بل إننا نبحث في الناحية التكليفية للنسان ،وشروطها ،ومسؤوليات المكلف ،وما
له وما عليه ،ونبحث أيضا في المعترضات التي يسقط بسببها التكليف عن النسان ،إما كليا ،وإما
جزئيا.
إننا لم نتطّرق في مواضيع هذا الكتاب كلها ،إلى الناحية الطبية أو النفسية المعروفة ،التي تكلم
فيها علماء الطب والتشريح والتفس ،ونحن فعلنا ذلك قصدا ،لن هذه الناحية ليست مقصودة هنا.
لقد ذكرنا مراحل حياة النسان ،من أولها الى آخرها ،طبقا لما جاء في النصوص الشريفة ،من
الكتاب والسنة ،وهذا ما سنفعله هنا في كلمنا عن" :التكليف" ..و"المكلف"..و"طوارئ
التكليف" ،إذ ل يهمنا أن نعرف ـ مثل ـ :ما هو "الجنون" في عرف أطباء المراض العقلية
والعصبية ،ول أنواع الجنون ،ومراتبه ،وعوراضه ..فهذا كله ل يغنينا في كتابنا هذا ،لن هذه
المواضيع ،تندرج في إطار الكتابة العلمية الطبية المحضة ،وذلك ل ينفع سوى الطباء،
والدارسين للطب ،وزد على ذلك :أنه ليس من اختصاصنا أصل.
إن ما يعنينا هو :أثر تلك الطوارئ على أهلية "المكلف" من الناحية الشرعية البحتة ،لن
ل به "أزمة" ..وهو الذي يسأل عن
المكلف هو المعّرض لن تصدر عنه " أزمة" ..أو أن تح ّ
حلول "الزمات" ..ويسأل عما يصدر عنه من أسبابها.
إن ما ذكرناه عن مراحل حياة النسان ،وما سنذكره من أمور الهلية والتكليف ،في هذا
الفصل ،ليس مفيدا فحسب ،بل هو مهّم جدا في موضوع الكتاب ،لما أشرنا إليه آنفا ،وللسباب
التالية:
أول :لننا نبحث في هذا الكتاب في" :أزمات الشباب" ،ومعلوم أن " الزمة" ل تكون ول تنشأ
ب غير المكلف ل أزمة منه بل هو خال
إل إذا كان صاحبها مكلفا ،فل أزمة إل من مكّلف ،والشا ّ
ل مسؤولية ،فكان مهّما أن نبحث في " الهلية" وشروطها ومسقطاتها.تماما عن ك ّ
سع نظرة الشباب إلى أنفسهم ،وإلى شخصيتهم ،وقواهم وطاقاتهم كافة ،وأن ثانيا :أردنا أن نو ّ
ن ال تعالى بها عليهم ،ليعرفوا قدرها
نلفت نظرهم ،ونثير انتباههم الى تلك الّنعم الكبرى ،التي م ّ
ومكانتها وقيمتها ،فيشكروا ال عز وجل عليها ،وليعرف النسان أنه لم يخلق عبثا ،ول ليعيش
حياته عابثا ،بل هو إنسان مكّلف مسؤول.
سهم ،وعدمث الشباب على صون عقولهم ،وأسماعهم ،وأبصارهم ،وسائر حوا ّ ثالثا :أردنا أن نح ّ
الضرار بها أو إتلفها ،بأي نوع من أنواع الذى والتلف ،كالخمور ..والمخدرات ..لنها نعم
كبرى ل تقّدر بثمن ،ول يعادلها شيء من أمور الدنيا.
رابعا :أردنا أيضا أن يتذّكر الناس دقة التشريع السلمي ،وشموله ،وسمّوه ،وروعته ،ليزداد
ل المم والشعوب ،وليدرك زيف كل القوانين الموضوعة.. المؤمن إيمانا ،وليباهي بدينه ك ّ
والنظمة المزخرفة المصنوعة ..التي سرعان ما يتخاطاها الزمن ..ويصيبها الوهن ..وتسّبب
الفتن ..وتغرق الناس في البليا والمحن..
لقد كّلف ال عز وجل النسان بتكاليف شرعية ،هي عبارة عن ":أوامر ونواهي" ،أعلها "
اليمان" ،وجعل هذه التكاليف ،ضمن قدرة العبد واستطاعته ،فلذلك رفع ال تعالى عن المة
الحرج فقال تعالى }:ما جعل عليكم في الدين من حرج{ ،و"الحرج" :في اللغة هو "المكان
ق عليكم ،ويخرج عن طاقتكم ،كما قال عز وجل:الضّيق ،كثير الشجر" ،أي :لم يكلفكم بما يش ّ
} ل يكلف ال نفسا إل وسعها{.
ومع وجود اليسر في التشريع والتكاليف ،فإن الشرع الحنيف ،قد تضّمن رخصا واستثناءات في
حالت معّينة ،راعى فيها قدرة المكلف إذا طرأ عليه عذر ،كمرض أو سفر ،فقد أباح للمسافر
خص للمريض بعدم الصيام فيه .وذلك لكيل يكون للمكلف حجة أو الفطار في رمضان ،ور ّ
ذريعة ،يحاول أن يبّرر بها تقصيره في واجباته ،ومخالفته لحكام الشرع الشريف.
ن "التكليف" في السلم على مرتبتين ،تتقدم إحداهما الخرى ،والولى شرطا من شروط إّ
المرتبة الثانية وهما :التكليف باليمان أول ،ثم تكليف المسلم بالتكاليف الشرعية الخرى ،ولكل
من هاتين المرتبتين شروط ،وإليك بيانها:
نعني بـ " اليمان" :اليمان الصحيح الحق ،الذي أمر ال تعالى به عباده على ألسنة رسه ،وذلك
بأن يؤمن النسان المكلف :بال ،وملئكته ،وكتبه ،ورسله ،واليوم الخر ،والقدر خيره وشّره،
ل عوالم الغيب ،التي أخبر ال تعالى عنها ،على لسان رسوله محمد صلى ال عليه وسلم ..إلى وبك ّ
غير ذلك من المور التي بّيّناها في كتابنا ":سبيل النهضة".
والمكلف شرع باليمان ،هو :من توفرت فيه الشروط الربعة التالية ،فإن لم يؤمن كان كافرا:
ي :نزول"البالغ هو :النسان الذي تجاوز مرحلة "الصبا" ،ومن علمات البلوغ عند الصب ّ
المني منه باحتلم أو غيره ،أو إحباله زوجته ،وعند الصبّية :أن ترى دم الحيض ،أو أن تحبل،
ي من هذه العلمات ،فقد بلغ صاحبها ،وصار في سن التكليف ،وهذا ل خلف فيه بين فإذا ظهر أ ّ
سن التي يعتبر النسان عند بلوغها بالغا حكما إذا لم تظهر فيه أمارةالفقهاءن ولكنهم اختلفوا في ال ّ
ن البلوغ هي :تمام الخامسةنسّ من أمارات البلوغ التي ذكرناها ،فذهب جمهور الفقهاء الى أ ّ
عشرة من العمر.
ل شك في أن "العقل" من الّنعم الكبرى ،التي أنعم ال تعالى بها على النسان ،فلذلك اعتبره
الشرع الشريف " مناط التكليف" ،فلم يكلف إل عاقل ،والعاقل المكلف باليمان هو :النسان،
السالم من الجنون المطبق ،أي :الدائم الذي ل أفاقة منه أبدا.
ن ،ولم يكن مؤمنا ،فقدأما إذا عقل المجنون ،أو بلغ مستجمعا شروط التكليف الخرى ،ثم ج ّ
ن من جديد فمات ،فإنه يدخل وجب عليه اليمان في فترة عقله ،فإن لم يؤمن في تلك الفترة ،ثم ج ّ
ن ومات مجنونا ،فإنه يدخل النار أيضا، النار باعتباره كافرا ،ومثله في الحكم :الكافر العاقل إذا ج ّ
ن ،فلذلك هو فيلنه لم يؤمن حين عقله ،ولن جنونه هذا بمثابة موته ،أي :كأنه مات ساعة ج ّ
النار.
س:
الشرط الثالث ـ سلمة الحوا ّ
س الخمس التي هي" :السمع ،والبصر ،واللمس ،والشّم ،والذوق" وليس س :الحوا ّ
المراد بالحوا ّ
ي ":السمع
س ،بل المطلوب سلمة إحدى حاست ّ المطلوب شرعا للتكليف ،سلمة كل هذه الحوا ّ
س ،لقصور فائدتها وأهميتها في النسان.والبصر" فقط ،ول عبرة ببقّية الحوا ّ
فإذا كان النسان سليم السمع ،أي :سميعا ،أو سليم البصر ،أي :بصيرا ،فقد توّفر في شرط من
س الخرى، شروط التكليف باليمان ،وذلك لن تأثر العقل بالسمع والبصر ،أشّد من تأثره بالحوا ّ
طى النطاق القريب من النسان ،الى مجال أوسع ،فالبصر ن كل من هاتين الحاستين ،يتخ ّإذا أ ّ
يمتد ..والسمع يلتقط ويسترق ..من دون ملمسة ،وها نحن نرى ونسمع عبر الثير ،من أجهزة
العلم المرئية والمسموعة ،ما يحدث في أقصى الرض ،وهذا ل يمكن تحصيله بغير السمع
ستين في مواضع في كتابه س ،وقد أشار ال تعالى الى أهمية هاتين الحا ّ
والبصر من الحوا ّ
صهما بالذكر من بن سائر الحواس ،كقوله سبحانه }:ول تقف ما العزيز ،حيث قرن بينهما ،وخ ّ
ن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤول{ ،ولهذا كانت سلمة إحدى ليس لك به علم إ ّ
هاتين الحاستين ،كافية لتزويد العقل بما يكفيه من الدلئل ،لمعرفة ال تعالى ،واليمان به عز
وجل.
إن شر "بلوغ دعوة السلم" النسان ،ليكون مكلفا باليمان ،هو قول عاّمة العلماء ،وقد خالف
فيه من ل يعتّد بخلفه ،فمن لم يسمع بالسلم مطلقا ،ولم يصله خبر رسالة محمد صلى ال عليه
وسلم ،لم يكن مكلفا ،لن ال تعالى ل يكلف نفسا إل وسعها ،وأمره الى ال ،ولهذا كان واجبا على
المسلمين أن يقوموا بتبليغ العالم كله رسالة السلم ،ول يجوز لنا أن نقاتل قوما لم تبلغهم دعوة
ي وجه من الوجوه. السلم بأ ّ
ل إنسان اجتمعت فيه هذه الشروط الربعة ،فإن آمن فقد اهتدى وفاز، فالمكلف باليمان هو :ك ّ
وإن لم يؤمن فقد خاب وخسر خسرانا مبينا ،و" اليمان" هو بحد ذاته الشرط الول لتكليف
المسلم بالتكاليف الشرعية العملية كلها ،كما سنبّين ،وهي المسألة التالية.
***
" العبادات" هي :الفرائض والواجبات الشرعية؛ التي أمر ال تعالى بها المؤمن ،و" الشروط
التكليف" بها تسّمى عند الفقهاء ":شروط الوجوب" ،أي :الشروط التي يجب على المكلف فعل
المر بتوفرها فيه .ففي " الصل" :يشترط لوجوبها على النسان ،أن يكون :مسلما ،بالغا ،عاقل،
وأن تكون المرأة خالية عن حيض أو نفاس ،فهي غير مكلفة بالصلة أثناء ذلك ،فل قضاء عليها
بعد حيضها.
فتجب الصلة وجوبا عينيا ،على من توفرت فيه هذه الشروط ،فيثاب على فعلها ،ويعاقب على
تركها ،وعلى ترك غيرها من الفرائض أيضا.
أما الكافر ،فل يطالب بالصلة ،ول بغيرها من الفرائض في الدنيا ،ولكنه سيعاقب على ترك
الفرائض وفعل المحرمات ،زيادة على العذاب جزاء كفره.
وتجب " الزكاة" على :المسلم ،الحّر ،مالك النصاب الشرعي بشروطه ،فل زكاة على "العبد"
لنعدام الملكية ،ول يطالب بها الكافر في الدنيا ،كما أشرنا ،بل تؤخذ منه " الجزية" إن كان من
أهلها ،على نحو ما بّينه الفقهاء.
ولم يشترط فريق من الفقهاء ،البلوغ ول العقل لوجوب " الزكاة" ،فقالوا بوجوب "الزكاة" في
ي والمجنون ،يخرجها عنه ولّيه.مال الصب ّ
ويجب "الصيام" في شهر رمضان على :المسلم ،البالغ ،العاقل ،الحر ،المستطيع ،على تفصيل
في معنى الستطاعة ،مذكور في مواضعه ،ليس هنا مجال بحثه.
إن " التكليف" ليس شرطا للقيام بالواجبات فحسب ،بل هو أيضا شرط لقامة الحدودن ومعاقبة
الجناة في حال وقوع عدوان على الدين ،أو النفس ،أو المال ،أو العرض ،أو العقل ،فيشترط ـ
ي قبل
مثلـ لمعاقبة الجاني :أن يكون "مكلفا" ،فل يعاقب المجنون ،ول النائم ،وكذلك الصب ّ
البلوغ.
ي دون البلوغ ،بالصلة والصيام وغيرهما ،فليس لنها واجبة عليه ،بل ليتعلم أما أمر الصب ّ
ن الوجوب ،فيألف العبادة ويحبها ،فل يتركها بعد البلوغ ،وكذلك نهي
أداءها ،ويمارسها قبل س ّ
الصبي عن فعل المحّرمات.
وعلى كل حال :فإن أمر الصغير بالواجبات ،ونهيه وزجره عن المحّرمات ،واجب على ول ّ
ي
أمره ،بل هو من أهم واجبات البوين تجاه أولدهما ،وهو عماد التربية الصالحة.
إن أهلية النسان قد تتعّرض لمور طارئة ،يفقد بسببها أهليته ،ل يبقى مكلفا ،وهذه الطوارئ
تنقسم إلى قسمين هما :الطوارئ السماوية ،والطوارئ المكتسبة ،وإليك بيان ذلك:
يراد بالطوارئ السماوية ،المور المعترضة على الهلية ،التي تصيب النسان المكلف ،فيفقد
ي اختيار أو كسب ،وأهّم هذه المور ما يلي:
بها أهليته ،من دون أن يكون له فيها أ ّ
الجنون: -1
عّرف علماء الصول " الجنون" بأنه " :آفة باعثة للنسان على أفعال تخالف مقتضى العقل،
من غير ضعف في أعضاء المجنون".
وفي مطلق الحوال :فإن "الجنون" مناقض للتكليف ،فل مسؤولية على المجنون مطلقا ،ل في
الدنيا ول في الخرة ،كما ذكرنا في شروط التكليف باليمان.
العته: -2
" العته" بفتح العين والتاء هو :آفة توجب خلل في العقل ،فيصير صاحبه مختلطا ،يشبه بعض
كلمه كلم العقلء ،وبعضه كلم المجانين ،وكذلك جميع أفعاله ،تكون على هذا النحو من
الختلط ،وسبب هذا الختلط :نقصان عقله.
و " المعتوه" ل تجب عليه العبادات ،ول تثبت في حقه العقوبات ،أما سائر تصرفاته ،ففي
أحكامها تفصيل ليس هنا موضع بسطه.
النسيان: -3
" النسيان" معروف ،وقيل في تعريفه :إنه " أمر يعرض للعقل ،فيصرفه عن تذكر مطلوب،
أو :عن فعل أمر لزم" ،وهو مغافر في حقوق ال تعالى ،فل يترتب على نسيان واجب من
الواجبات الشرعية إثم ،كمن نسي صلة ثم ذكرها ،فإن عليه أن يصليها حين يذكرها ،ول إثم
عليه في هذا النسيان ،لقوله صلى ال عليه وسلم ،في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم ،واللفظ
ل إذا ذكرها ،ل كفارة لها
للبخاري ،عن أنس بن مالك ،رضي ال عنه ":من نسي صلة ،فليص ّ
إل ذلك" ،وعن إبراهيم النخعي قال ":من ترك صلةواحدة عشرين سنة ،لم يعد إل تلك الصلة
الواحدة" ،أي :لم يجب عليه سوى قضائها كما هي ،صلة واحدة ولو تركها من دون قضاء،
عشرين سنة.
أما في حقوق العباد ،فل يكون النسيان عذرا فيها ،فمن أتلف مال إنسان ناسيا ،ضمن له قيمته،
ولكن ل إثم عليه ،لما جاء في الحديث عن النبي صلى ال عليه وسلم ،فيما رواه الطبراني عن
ثوبان مولى رسول ال صلى ال عليه وسلم ":رفع عن أمتي :الخطأ ،والنسيان ،وما استكرهوا
عليه" ،أي :رفع عنهم الثم ،إن فعلوا محرما خطأ ،أو :بالكراه ،وسيأتي تفصيل حكم "
الكراه" لحقا ،في "الطوارئ المكتسبة".
النوم: -4
"النوم" راحة للبدن ،لقوله تعالى }:وجعلنا نومكم سباتا{ ،وهو من آيات ال تعالى ،الذي خلق
"النوم" وهو شبيه بالموت ،ويسّمى" :الموتة الصغرى" ،ليكون راحة لبدن النسان من عناء
السعي والعمل ،قال تعالى }:ومن آياته منامكم بالليل{.
وقد عّرف علماء الصول " النوم" بأنه ":عجز عن إستعمال القدرة لفترة عارضة" ،فالنسان
سه ليدرك المحسوسات ،ول يقدر أيضا على إستعمال نور العقل النائم ،ل يقدر على إستعمال حوا ّ
ليدرك المعقولت ،ول يقدر على أفعاله الختيارية ،كالقيام والقعود ،والركوع والسجود.
ويترتب على "النوم" :تأخير الخطاب بأداء التكاليف ،لوجود العجز ،و"النوم" ينافي الختيار
أصل ،فل عبرة بما يلفظه النائم من عبارات :الطلق ،والسلم ،والّرّدة ،فمن طّلق زوجته وهو
نائم ،فل يقع طلقه ،وإن أسلم كافر وهو نائم ،فل يعتبر إسلمه ،وإن ارتّد مسلم وهو نائم ،فل
صه في "مرحلة الطفولة" :أن القلم رفع
تعتبر رّدته ،وقد جاء في الحديث الشريف الذي ذكرنا ن ّ
عن النائم حتى يستيقظ.
ويشبه "النوم" في كثير من أحكامه ":الغماء" الذي هو :مرض يضعف القوى ،ول يزيل
العقل ،وهو أشد على القوى من النوم ،لن النائم إذا نّبه تنّبه ،وليس كذلك المغمى عليه.
الّرق: -5
صل
"الّرق" مشروع في السلم ،ول يكون إل من سبايا القتال ضّد الكفار ،على نحو ما هو مف ّ
في كتب الفقه ،وقد شرع "الّرق" جزاء للكافر على كفره ،لن الكفار لما استنكفوا واستكبروا أن
يكونوا عبيدا ل ،فجازاهم ال تعالى بأن جعلهم عبيدا لعبيده.
و"الٌرق" :عجز حكمي ،غير حقيقي ،أي :إن الرقيق عاجز بحكم الشرع عن التصرفات ،فهو
جة السلم ،ول تجب عليه صلة الجمعة ،وله أحكام أخرى مملوك ول يملك ،ول تصح منه ح ّ
صلة في كتب الفقه.
مف ّ
ونؤكد هنا :أنه ل عبرة مطلقا بزعم من يزعم ،أن " الّرق" في السلم ،غير مشروع دائما،
وأصحاب هذا الزعم ،جاهلون بنصوص اليات القرآنية ،وبالحاديث النبوية ،وبأقوال الئمة
الفقهاء ،الذين أجمعوا على أن "الّرق" مشروع ول يزال ،وسيظل مشروعا الى قيام الساعة ،وإن
لم توجد الدولة التي تجري أحكامه.
أما الزعم بأن " الرق" ينافي كرامة النسان وحرّية النسان ،فهو زعم مردود من وجهين:
أحدهما :أن الكافر ل كرامة له أصل ،إذ كيف يكون كريما من أهانه ال تعالى القائل }:ومن
يهن ال فما له من مكرم{ ،والنسان ل يكون كريما عزيزا إل باليمان ،وبغير ذلك فل كرامة
ول عزة.
وثانيهما :أن الذين يّدعون الغيرة على "حرية النسان" ،و"حقوق النسان" ،من المم الكافرة،
وعلى الخص الدول الغربية كافة ،هم كاذبون في دعواهم ،لن تاريخهم حافل بالمخازي
والضطهاد ضد " النسان" وكرامة النسان ،والعالم لم ينس بعد :كيف كان يذهب تجار الرقيق،
من بلد أمريكا وأوروبا الى القارة الفريقية ،ويخطفون النساء والولد ،ليبيعوهم عبيدا في
بلدهم ،وهم أحرار أولد أحرار ،وفيهم مسلمون نصارى.
المرض: -6
"المرض" هو " :حالة تعرض للبدن ،يزول بها اعتدال الطبيعة" ،وهو سبب من أسباب العجز،
فلذلك شرعت العبادات عليه بقدر مكنته ،فيصلي المريض قاعدا أو مستلقيا ،كما يستطيع ،ويسقط
عنه وجوب الصيام والحج ،إن كان مرضه يعجزه عنهما ،وهناك أحكام كثيرة تتعلق بهذا
الموضوع ،مبسوطة في كتب الفقه.
الموت: -7
"الموت" شيء مخلوق ،مناقض للحياة ،قال تعالى }:تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء
قدير* الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عمل وهو العزيز الغفور{.
و"الموت" هادم لساس التكليف ،فينتهي به التكليف كله ،ول تكليف بعده مطلقا ،بل هناك:
صر أن يعود الى الدنيا ،ليعمل صالحا كما قال
حساب وجزاء ..فلذلك يطلب النسان الفاشل المق ّ
ب أرجعون* لعلي أعمل صالحا فيما تركت كل عز وجل }:حتى إذا جاء أحدهم الموت قال :ر ّ
إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ الى يوم يبعثون{.
***
"الطوارئ المكتسبة" هي :التي تكون بإختيار العبد وكسبه ،وأهّمها ما يلي:
الجهل: -1
"الجهل" كما عّرفه البعض هو ":إعتقاد الشيء على خلف ما هو عليه" وهو ضّد "العلم"،
وإنما عّد "الجهل" من العوارض المكتسبة ،لنه لما كان النسان قادرا على إزالته بتحصيل
العلم ،جعل كأنه اكتسبه.
ول شك في أن "الجهل" آفة خطيرة ،ل يجني "الجاهل" منها سوى :البلء والتخلف ،وعمى
القلب.
وإن أسوأ أنواع الجهل وأضّرها هو " :جهل الكافر" بال تعالى وصفاته وكماله ،ووجوب
ل ،فجهل الكافر باطل ،ول عذر له في كفره ،لنه مكابرة وجحود ،بعد وضوح اليمان به عّز وج ّ
الدلئل على وحدانية ال تعالى ،ورسالة الرسل ،ولهذا سيعاقب في الخرة بالعذاب الشديد الدائم
أبدا ،جزاء كفره وعناده ،إذا مات على ذلك.
و"الجهل" في أمور الدين ،ليس عذرا للمسلم ،مما هو معلوم من الدين بالضرورة ،كأركان
ل محّرما لعينه ،كالزنا
السلم ،والجهاد ..فمن جحد أمرا من هذه المور ،أو استباح واستح ّ
وشرب الخمر ،فهو كافر ،لن طلب العلم فريضة على كل مسلم.
ول عذر في "الجهل" إل :لنسان أسلم حديثا ،حتى يمضي عليه وقت يمكنه فيه أن يتعلم أمور
الدين ،ولنسان نشأ في بادية بعيدا عن الناس ،فأمره كذلك ،وما سوى ذلك فل عذر بالجهل.
الكراه: -2
"الكراه" هو ":حمل النسان على ما يكرهه ،ول ايريد ذلك النسان مباشرته ،لول إكراهه
عليه" ،وقد اتعبر "الكراه" من العوارض المكتسبة ،لنه واقع بالختيار ،من الغير على الغير،
ولن " المكره" هو أيضا ،مخّير من "المكره" بين أمرين ،وبإمكانه أن يفعل أحدهما.
ول شك أن للكراه تأثيرا على أهلية النسان "المكره" وقد استوفى العلماء بحث في هذا
سموا الحكام المتعلقة بإجابة طلب "المكره" ،أي :تنفيذ ما طلبه ،إلى ثلثة أقسام
الموضوع ،فق ّ
هي:
هناك حالت يجب على المكره ،أن يفعل ما طلبه منه مكرهه ولو كان محرما ،كأن يكرهه
على أكل لحم الميتة أو شرب الخمر ،وإل فيؤذيه بما ل يطيق ،ففي هذه الحالة يحب على المكره
أن يلجأ الى الجابة ،فيأكل الميتة ويشرب الخمر ،ولو صبر حتى مات عوقب عليه ،لنه كان
قادرا على إنقاذ نفسه ،فلم يفعل ،بل ألقى بها في الهلك ،وإن أكل أو شرب فهو مثاب.
وهناك حالت أخرى ل يجوز إجابة طلب المكره ،كأن يكون الكراه على قتل النفس
المعصومة ،أو :على الزنا ،فل يجوز للمكره أن يقتل أو يزني ،لن فعل هذين المرين حرام،
وفيه عدوان على الغير ،بل عليه أن يصبر حتى يموت فيكون شهيدا ،ولن قتل المسلم ،ل يح ّ
ل
ل ليلضرورة ما ،كما أنه ل فضل لنفسه على نفس غيره ،وكذلك "الزنا" ،فهو محّرم ل يح ّ
ضرورة ،فإن زنى ولو مكرها فهو آثم ،وعليه حّد الزنا ،إذا توّفرت شروطه الشرعية.
وذلك كالكراه على الكفر ،بأي سبب كان ،من أسباب الكفر ،شرط أن يكون الكراه ملجئا الى
إجابته ،فالمكره ،هنا مخّير ،فإن شاء صبر وثبت ،فإن قتل فهو شهيد ،وإن شاء أجرى الكفر على
لسانه ،وقلبه مطمئن باليمان ،إنقاذا لحياته ،ول مؤاخذة عليه ،لقوله عز وجل }:من كفر بال بعد
إيمانه إل من أكره وقلبه مطمئن باليمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من ال ولهم
عذاب عظيم{.
الهزل -3
"الهزل" ضد " الجّد" ،وهو :ما يكون لعبا محضا من القول ،وللعلماء في بيان أحكام "الهزل"
تفصيل واسع بديع ،ليس هنا موضع بسطه ولكن :يكفي أن نشير إلى أن "الهزل" يؤثر على
ح مع "الهزل" ،ومن أشهر هذه بعض التصرفات فيبطلها ،ول يؤثر على البعض الخر ،فتص ّ
المور :ما ورد في الحديث الشريف ،الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ،عن أبي هريرة
ن جّد :الّنكاح،
ن جد ،وهزله ّ
رضي ال عنه ،عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال ":ثلث جّده ّ
والطلق ،والّرجعة" أي :مراجعة الزوجة بعد طلق رجعي ،فهذه التصّرفات صحيحة ومعتبرة،
ولو كانت بالهزل فعل.
و"الهزل" في الّرّدة" كفر ،أي :إذا تلفظ بألفاظ الكفر هزل ،يصير كافرا ،وهذا أمر خطير يقع
فيه كثير من الناس وهم جاهلون ،وإليك بيانه:
إن "الهزل" في التلفظ بألفاظ الكفر ،أو بفعل ما هو كفر ،كسجود لصنم ،يعتبر رّدة وكفرا ،ولو
كان ل يعتقد بما يقول ،لن كفره ،ليس يلفظ هزل به من غير إعتقاد ،ولكنه كفر بعين الهزل"،
لكونه استخفافا بالدين ،وهو كفر ،لقوله تعالى }:قل أبال وآياته ورسوله كنتم تستهزئون* ل
تعتذروا اليوم قد كفرتم بعد إيمانكم{ ،ولن الهازل جاّد في نفس "الهزل" ،مختار راض ،فيكون
هزله بذاته كفرا ،سواء عليه أعتقد ما هزل به أم لم يعتقده.
ومن هذا القبيل :ما يعرف اليوم بـ "التمثيل" في المسرحّيات والفلم ـ المسّماة ـ دينية حيث
يتقّمص الممثل شخصية أبي جهل وأبي لهب ،ويطلق لسانه بالكفر ..والعياذ بال تعالى ..زاعمين
أن هذا "تمثيل" ..وأيضا :هم يمثلون الفجور ..وشرب الخمور ..ويمارسون الدعارة أمام الناس..
كل ذلك بزعم ":التمثيل" ..وبإسم السلم..
وهنا نسأل :هل "التمثيل" عذر شرعي ،يبيح النطق بالكفر ،وسب الرسول صلى ال عليه
وسلم ،والرقص العاري ..ومعانقة النساء ..وغير ذلك من المنكرات التي يرتكبونها؟؟..
لقد سبق في " الكراه" بيان :أنه ل يجوز إجراء لفظ الكفر إل للمكره ،شرط أن يكون قلبه
مطمئن باليمان ..،وما سوى ذلك فل ..ونعوذ بال من "الجهل" ..و" آباء الجهل" ..في كل زمان
ومكان..
الخطأ: -4
"الخطأ" لغة :ضد "الصواب" ،وفي إصطلح العلماء ":وقوع الشيء على خلف ما أريد"،
وهو عذر صالح لسقوط حق ال تعالى ،إذا حصل عن اجتهاد ،فإن أخطأ "المجتهد" في الفتوى
بعد إستفراغ جهده ،ل يكون إثما ،بل يستحق أجرا واحدا ،لما جاء في الحديث الشريف ،الذي
رواه البخاري ومسلم وغيرهما ،عن عمرو بن العاص ،رضي ال عنه :أنه سمع رسول ال صلى
ال عليه وسلم يقول ":إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ،وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله
أجر" ،والمراد به :العالم المستجمع شروط الجتهاد ،ل الذي يحكم عن جهل ،أو يخالف الحق
الذي يعرفه.
ويصير " الخطأ" شبهة في العقوبة ،فل يأثم المخطئ ،ول يؤخذ بحّد أو قصاص ،كمن قتل
إنسانا خطأ ،لقوله تعالى}:وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إل خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير
صّدقوا{ ،وسبق في الكلم على "النسيان" ذكر الحديث رقبة مؤمنة ودّية مسلمة إلى أهله إل أن ي ّ
الشريف ":رفع عن أمتي الخطأ ،والنسيان ،وما استكرهوا عليه" ،أي :رفع عنهم إثم المحّرم إذا
فعلوه خطأ ،أو نسيانا ،أو إكراها ،على نحو ما بّيناه في موضعه.
ن " الخطأ" ل يكون عذرا في حقوق العباد ،فإذا أتلف أحد مال آخر خطأ ،وجب عليه ولك ّ
الضمان ،ووجبت الدية في القتل الخطأ كما ذكرنا.
السكر: -5
***
الشباب
ذكرنا في "مراحل حياة النسان" ،أن مرحلة "الشباب" هي "مرحلة الشّد" ،والتي تبدأ من سن
البلوغ ،على نحو ما بّيناه آنفا.
ونحن في كتابنا هذا ،ل نريد أن نبحث في "مرحلة الشّد" كلها ،بل سنركز الهتمام على القسم
الول منها الذي يبدأ من سن " الخامسة عشرة" ،حيث يكون الشاب والشابة في سن المراهقة،
التي هي أخطر فترة في حياة النسان ،وذلك لن "الشاب" في هذه الفترة يكون إندفاعه قويا،
ويتـأثر سريعا بما يقرأ أو يسمع أو يشاهد ،ولهذا كانت أزمات "الشباب" في هذه الفترة أكثر
وأخطر.
ن التكليف ،متتبعين أحواله،إننا نريد أن نرافق "الشاب" ـ ذكرا كان أو أنثى ـ منذ بداية بلوغه س ّ
مراقبين نمّوه وتطوره ،الجسدي والفكري والسلوكي ،لنرشده وننصحه ،لئل يقع فريسة في أيدي
الفاسدين ،ولكي ينمو بفكره وجسده معا ،نموا سليما صحيحا ،يكون به إنسانا مثاليا ،وفردا من
أفراد المجتمع.
إن "الشباب" هم :أساس المجتمع البشري ،فإن صلحوا صلح المجتمعن وإن فسدوا كان المجتمع
فاسدا ،و"الشباب" غرس نما ..وأزهر ..وبدت تباشير ثماره ..وهم سيكونون القادة ..والحاكمون..
والضباط ..وكبار الموظفين ..والتجار ،ورجال العمال ..والساتذة والعلماء ..إلخ .فهل أحسن
توجيههم؟؟..
إن "الشباب" درر المجتمع ،وجواهره الثمينة ،وهم أكثر فئات المجتمع حبا للتضحية ولو
ل جيوش العالم من "الشباب" ،وقامت "الثورات" بهم وعلى سواعدهم. بالنفس ..ولذلك كانت ك ّ
وهم أكثر أتباع المرسلين عليهم الصلة والسلم ،كما قال الحافظ إبن كثير في تفسير آيات "
أصحاب الكهف"} :فذكر تعالى أنهم }فتية{ وهم ":الشباب" ،وهم أقبل للحق ،وأهدى للسبيل من
الشيوخ ،الذين عتو في دين الباطل ،ولهذا كان أكثر المستجيبين ل ولرسوله شبابا ،وأما المشايخ
من قريش ،فعاّمتهم بقوا على دينهم ،ولم يسلم منهم إل القليل ،وهكذا أخبر تعالى عن " أصحاب
الكهف" :أنهم كانوا فتية شبابا[ ،فقال تعالى }:إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى{.
و"الشباب" هم :ناقلوا التراث والمجاد ،من الباء الى الحفاد ،وهم ذخر المجتمع وكنزه ،فإذا
أفلست المة من شبابها ،فقدت وجودها وانهار كيانها ،لذلك كان سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم
يولي "الشباب" عنايته واهتمامه ،فكان حريصا على استقرار نفوسهم بالزواج ،لئل يقعوا في
الفواحش ،فيفسدوا ويضيعوا وتتخطفهم المغريات والشهوات ،روى المام مسلم ،من حديث
عبدال بن مسعود ،رضي ال عنه قال :قال لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ":يا معشر
ض للبصر وأحصن للفرج ،ومن لم يستطع الشباب ،من استطاع منكم الباءة فليتزّوج ،فإنه أغ ّ
فعليه بالصوم ،فإنه له وجاء" ،و"الباءة" :هي القدرة على تكاليف الزواج من مهر ونفقة،
و"الوجاء" يعني به هنا :أن الصوم يكسر حّدة الشهوة.
شر النبي الكريم صلى ال عليه وسلم "الشاب" الذي ينشأ في طاعة ال تعالى ،بانه سيكون
وقد ب ّ
يوم القيامة آمنا في ظل عرشه الظليل ،فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ،رضي ال عنه،
عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ":سبعة يظلهم ال في ظله يوم ل ظل إل ظله :إمام عادل،
وشاب نشأ في عبادة ال عز وجل ،ورجل قلبه معلق بالمساجد ،ورجلن تحاّبا في ال اجتمعا
عليه وتفّرقا عليه ،ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقل :إني اخاف ال ،ورجل تصّدق
بصدقة فأخفاها حتى ل تعلم شماله ما تنفق يمينه ،ورجل ذكر ال خاليا ففاضت عيناه".
ول شك في أن " الشباب" هم المعنّيون أكثر من غيرهم ،بعدد من هؤلء الصناف ،وفي هذا
اهتمام كبير بالشباب ،وحرص شديد على دينهم وأخلقهم ،ودنياهم وآخراهم..
ب الفتى ":أسامة بن زيد" ،رضي ال عنهما، وما تولية رسول ال صلى ال عليه وسلم ،للشا ّ
قيادة جيش فيه كبار الصحابة ،إل دليل على رغبته صلى ال عليه وسلم في إعطاء "الشباب"
حقهم ،وعدم إهمال كفاءاتهم ،وكان "أسامة" ،رضي ال عنه حينها ،في العشرين من عمره ،ولم
يأبه النبي صلى ال عليه وسلم باعتراض المنافقين ،على توليته قيادة الجيش لصغر سنه ،بل أّكد
انه أهل للقيادة وكفء لها.
وفي أيام حصار " الحزاب" للمدينة ،في السنة الرابعة للهجرة ،خرج عمرو بن عبد وّد،
المعروف ببأسه وقوته ،ودعا المسلمين الى المبارزة ،فلم ينبر له أحد ،ولم يأذن الرسول صلى ال
عليه وسلم ،إل للشاب الفتى ":علي بن أبي طالب" ،رضي ال عنه ،بمبارزته ،فبارزه وقتله.
وما كتابنا هذا سوى قبسات من هدي الرسول المصطفى صلى ال عليه وسلم ،نحاول بها أن
نرشد شبابنا ،وندّلهم على المنهج السليم ،ونحذرهم من النحراف ،والوقوع في حبائل الشياطين.
***
أزمات الشباب
تقديم. -1
الزمات :عامة -2
وخاصة.
تقديم -1
تعتبر "أزمات الشباب" ـ ذكورا وإناثا ـ جزءا من أزمات المجتمع بجميع فئاته ،ولكنها الخطر
والضّر من بين الزمات كلها ،لما للشباب من دور كبير في نهضة المة ،كما ذكرنا في الفصل
السابق.
ولقد سبق أن بّينا معنى " :الزمة" ،ولماذا اخترنا تسمية الكتاب بـ " أزمات الشباب" ،وملخصه
أن " الزمة" هي :الشدة..ومعنى "الشدة" واسع ،يشمل كل ما يضايق النسان ،أو يضّره أو
يؤذيه ،سواء أكان بفعله وكسبه هو ،أم بفعل سواه وجنايته عليه.
***
صة
" الزمات" :عاّمة ،وخا ّ -2
يمكن فرز " الزمات" وقسمتها الى قسمين هما " :الزمات العامة" ،و" الزمات الخاصة"،
والفارق ما بين النوعين هو ":التسبب أو الكسب" ،فما كان منها بكسب النسان على نفسه فهي":
أزمة خاصة" ،كترك الصلة ،وشرب الخمور ،فتارك الصلة وشارب الخمر ،هو الذي كسبت
يداه هذا المنكر ،وجنى به على نفسه ،وسّبب لها الثم واستحقاق العقاب.
أما وقوع " الشباب" في " الضياع "..وتوجيههم التوجيه السيئ الفاسد ،فذاك ليس من كسبهم
في الصل ،بل هو من كسب سواهم من المسؤولين والمتسلطين على المة ،وما الناس عامة
و"الشباب" خاصة ،سوى ضحية من ضحايا تلك التصرفات السيئة ،لولئك المتسلطين ..والجميع
متضررون من هذه المصائب ـ كما هو مشاهد ـ فهي وأمثالها " أزمات عامة" ،كما سنبين لحقا.
ن أحد :أننا ننسب هذه "الزمات" إلى جميع الشباب ،وأننا نراهم جميعا متورطين ول يفهم ّ
ن بالمسلمين عاّمة ،وبالخص " فيها ..فهذا ليس مطابقا لمرادنا ول للواقع ..فنحن نحسن الظ ّ
الشباب" الذين نحبهم ،ونحرص عليهم ،ونريد لهم كل خير ..فهم إخواننا ..وأبناؤنا ..وحملة فكرنا
ل بالمجتمع كالمرض الفتاك ..نحاول مع المصلحين.. وأمجادنا وتراثنا ..ولكنها "أزمات" ..تح ّ
مكافحتها وتحذير شبابنا منها ،ليعوا الخطر ويجتنبوه ..ويصّدوه ويرّدوه ..ويزيلوا أسبابه
ومسّببيه..
***
الزمات العامة:
الزمات العامة
بناء على المعنى الذي أشرنا إليه آنفا ،في تحديد المراد بالزمات العامة ،فإن هذا النوع من "
الزمات" ينتج عن سوء تصّرف "الحاكمين" ،أو إهمالهم لواجباتهم نحو الرعية ،وأهم تلك
الزمات وأشّدها ضررا وسوءا في نظرنا هي التالية:
نعني بهذا العنوان :أنه ..ل هدف للشباب ..ول رسالة ..ول مسؤولية ..فإذا سئل أي شاب اليوم":
ما هو هدفك في الحياة؟! "..فبماذا سيجيب؟ ..كلنا يعرف جوابه ..المألوف ..المعروف ،إنه
سيقول :هدفي :إكمال الدراسة الجامعية ..ثم ..وظيفة ...ثم زواج ..ثم عيشة هنّية رغيدة ..وسيارة
مرتبة ..إلخ.
أصحيح :أن هذا هو هدف " الشاب" المسلم؟؟ .أهذا هو الهدف السامي الذي لجله خلق..
ولتحقيقه يسعى ويتعب..؟؟! ..إذن :فما هو الفارق ما بينه وبين الملحد ..والمشرك..
والفاجر..؟؟!!!
ليس صحيحا كما يظنه الكثيرون من الشباب ":هدف" ..فهم فهموا المور كما صّوروها لهم..
فهكذا علموهم في المدارس ..والمعاهد ..وهكذا لقنوهم عبر وسائل العلم ..فغرسوا في عقولهم:
أن هدفهم الخير ..والعلى ..والسمى ..هو :شهادة عالية ..أو :عليا ..ثم وظيفة ..محترمة..
براتب كبير ..إلخ.
إن "الوالد" منذ يدخل المدرسة في مرحلة الحضانة ..حتى يتخّرج من الجامعة ـ هذا إن أتيح له
ذلك ـ ماذا يقال له؟؟ وفي أي شيء يطلب منه أن يفّكر؟:..
يقال له :اهتّم بنفسك ومستقبلك ..ول تهتم بسواك ..فل فائدة لك في ذلك ..أّمن لنفسك :الشهادة..
والوظيفة ..والراتب العالي ..والعروس ..والسيارة ..وعش حياتك ..ودع سواك..
يقال له :ماذا يعنيك أنت غير نفسك؟ ..أّما مصالح المة ..ودين المة ..وكرامة المة ..فليس
ذلك شغلك..
يقال له :ذهبت أيام الفتوحات ..وحمل السلم الى العالمين ..فلست مسؤول عن إيمان غيرك..
أو عدم إيمانه ..فاترك هذا المر للمشايخ ..وعلماء الدين..
يقال له :لست مسؤول إل بالدفاع عن وطنك ..وطنك هذا الصغير ..المسمى بـ "دولة ..كذا،"..
فأنت ل تنتسب إلى غيره ،فأنت :مصري ..نيجيري ..باكستاني ..تركي ..أرأيت؟؟ ..فدافع عن
"النظام" ..ل عن سواه..
حدهم " الدين" ..وهم ل يزالون مسلمين ..وعدد يقال له :المسلمون في العالم ":أمة واحدة" ..و ّ
دولهم تجاوزت الخمسين ..وكل "دولة "..تهتم برعاياها ..فل تهتم أنت بغير أبناء وطنك الذي
تجّذرت جذوره في أسفل الرضين ..وشمخت الى العالي ،من دون أن يقولوا له :من الذي رسم
حدود تلك الدول؟ ..ولماذا رسموها؟ ..وما حكم السلم فيها؟..
يقال له :إن "اليهود" ،قد احتلوا بلد "فلسطين" ..ونحن مع "أهل فلسطين" ..إن صالحوا اليهود
صالحنا معهم؛ وإن رفضوا الصلح وأرادوا الحرب ..فلن نحارب معهم ..فاترك "فلسطين"
لهلها ..وحافظ على بلدك..
يقال له :إن أجمل بلد الدنيا :بلدك ..وإن أقدس بلد الرض :أرض بلدك ..وإن أعدل
"الحاكمين" وأعظمعهم :هم حاكومك ..فحافظ على "وطنك "..المحّدد ..دون سواه ..وأعلن
ولءك المطلق لحاكمك ..دون سواه ..وإن شكوت من :الظلم ..والحرمان ..والكبت ..والرهاب..
إلخ .فاعلم أيها المواطن :أن هذه المور التي تشكو منها ،ما هي إل إبر الّنحل ..التي ل بد منها
لمن يجني العسل..و" ضرب الحبيب زبيب" ..كما قال المثل..
يقال له :أنت عندما ستدخل "الخدمة العسكرية" ،أو تنتسبق الى "لجيش" ،فأنت تقوم بواجب
"وطني" ..وواجب "قومي" ..إذ أنت أول :تحمي "النظام "..الذي ل مثيل له في الدنيت ..وثانيا..
وأخيرا ..أنت تخدم نفسك بخدمة "النظام .."..فاشكر ربك على هذه النعمة..
هذا بعض ما يحشون به أفكار "الشباب" في عصرنا ..فأين هو" :الهدف"..؟؟ .وأين هي رسالة
المسلم ومهمته؟؟ ..وأين هو دور المة السلمية ،التي جعلها ال عز وجل شاهدة على المم
كافة ،بقوله تعالى }:وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم
شهيدا{ ،وقوله سبحانه }:وجاهدوا في ال حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من
حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سّماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا
شهداء على الناس{ ،ومفهوم "الشهادة" هنا :هو الشراف والتوجيه والرشاد.
أين هو هدف ":الجهاد في سبيل ال "..لنشر السلم وحمل هداه الى كل أنحاء العالم؟؟ ..وهل
يرّبى "الشباب" في زماننا ،كما رّبى رسول ال صلى ال عليه وسلم أصحابه؟؟..
ي الشاب ":قثم بن العباس بن عبدالمطلب" ،في مدينة "سمرقند" إحدى مدن لقد كات التابع ّ
جمهورية " أوزبكستان" ،الواقعة حاليا تحت السلطة الشيوعية الروسية ،وقبره فيها معروف ،فما
الذي أخرجه من "المدينة المنورة" في بلد الحجاز ..ليموت في تلك البلد البعيدة..؟؟ ..إنه:
"الهدف .. "..إنه :نشر السلم ..إنه :الفتح ..فهو " شاب" لم يفهم الحياة تحصيل شهوات وتحقيق
رغبات ..ولم يفهم " السلم" إل :رسالة ..وهدى..
هكذا فهم المسلمون السلم ..وعلى هذا رّبوا شبابهم ..فتتالت أجيال من " الشباب" ،كانوا حملة
رسالة ،وأصحاب " هدف" ..ففتحوا البلد شرقا وغربا ،وأناروا الكون بنور السلم..
لقد كانت أمتنا قوية كريمة ،عندما كان لها " هدف" ..ولشبابها "غاية" ..أما الن فأوهموها بأن:
ل هدف لنا ..وضّيعوا شبابنا ..وأطفأوا فيهم شعلة الحماس ..فصاروا على غير هدى يسيرون ..
وإلى غير هدف يسعون ..بل وعكس " الهدف" المنشود يعملون..
وبإختصار نقول :شبابنا فارغ الفكر ..بل رسالة ول هدف ..إل ما شغلوه به ،ومن اهتمامه
بنفسه ،وبترتيب أمور معيشته ،حتى انطبق عليهم قول الشاعر:
دع المكارم ل ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
"العلم نور" ،و"النور" هدى وبصيرة ووعي ،و"الجهل" :ظلمات ،وثّمة فرق كبير بين
المرين ،فهما ل يستويان مطلقا ..قال ال عز وجل }:قل هل يستوي الذين يعلمون والذين ل
يعلمون{ ،وقال تعالى }:وما يستوي العمى والبصير* ول الظلمات ول النور* ول الظل ول
الحرور* وما يستوي الحياء ول الموات{.
وإن مستوى الوعي عند النسان ،يتحّدد بمستواه العلمي ،فكلما ازداد علما ازداد وعيا وفقها
ومعرفة ،لذلك أرشد ال تعالى رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم ،إلى طلب الزيادة في العلم فقال
ث لها على تحصيل العلم ،والستزادة ب زدني علما{ ،وهذا إرشاد للمة كلها ،وح ّ له }:وقل ر ّ
منه دائما.
و"الشباب" هم طلبة العلم في الغالب ،فهم تلميذ المعاهد والجامعات ،وهم المتخرجون وحملة
الشهادات ،وهم حاملوا أمانة العلم ،ومسؤولية تعليم الجيال ،فبمقدار علمهم يعّلمون ،وعلى حسب
ي لدى "الشباب" عاليا ،كانت
مستواهم ومعرفتهم يدّرسون ويرّبون ،فكلما كان المستوى العلم ّ
قدرتهم على العطاء أقوى وأكبر.
لقد جزمنا من خلل عنوان هذا البند ،بأن المستوى العلمي قد تدّنى وهبط ،وهذا ما قد يستغربه
الكثيرون ،وربما اعتبروه غير صحيح ..مستندين في ذلك الى :وجود هذه العداد الكبيرة من
المدارس والمعاهد والجامعات ،على اختلف اختصاصاتها العلمية ،وإلى :الفواج التي ل تكاد
تحصى من الطلبة في بلد المسلمين..
إن رّدنا على هؤلء ،ل ينطبق من معارضة في " أرقام عددية" للمعاهد والجامعات ،أو :للطلبة
والمتخرجين ،فنحن ل نناقش في "الكم والعدد" ،ول ننكر وفرة دور التعليم ،وكثرة المتعلمين،
ولكننا بنينا حكمنا بتدّني المستوى العلمي في عصرنا ،على ما يسّمى بـ "النوعية ،"..أي :على
مستوى البرامج المقررة ،والنتجية العلمية التي يحصل عليها الطالب في آخر المطاف ،ونطرح
بالتالي هذا السؤال :هل الشاب المتخرج بشهادة علمية ما ،هو فعل بالمستوى العلمي الصحيح
صل ذلك الطالب علما يوازي مستوى الشهادة الورقية التي منحت
لتلك الشهادة؟؟ ..أي :هل ح ّ
له؟؟..
صلها "الشباب" ،هي بمستوى الشهادات التي تمنح لهم ،ول نرىإننا ل ترى أن العلوم التي يح ّ
أن " الشاب" المتخرج قد استوعب العلم الذي تخصص فيه ،إل ما ندر ..والنادر ل حكم له..
وهذه كارثة حّلت بالشباب ،ل يد لهم فيها ،ومكيدة دّبرت بحقهم ،وهم ل يعلمون.
نقول هذا ،ل لنلقي اللوم والمسؤولية على " الشباب" ،وإنما لنبين :أن " الشباب" هم الضحية،
وأن الذين مسخوا ..البرامج ..والمقررات ..والمواد ..وساعات التدريس ..وسنوات التعليم ..لم
يريدوا بالمة من خلل شبابها إل السوء والذى.
فتحت شعار "التطوير" أو" :التحديث ،"..مسخت المقررات ،وطار العلم ..وحدث التجهيل
ظم ..ضمن خطة خبيثة محكمة ،أعّدها أعداؤنا ونّفذوها بدقة ..فصارت الدراسات عبارة عن المن ّ
"أخذ فكرة "..عن العلوم ،ل أكثر ول أقل ،أي :مجرد تعّرف على العلوم المقررة ،حتى العلوم
الشرعية ،لم تنج من أيدي العابثين ،والقصد من ذلك كله :تخريج أفواج غير عالمة ..ل بعلوم
الدين ..ول بعلوم الدنيا ..ومعلوم كم الخطر كبير من مثل هؤلء ،على المة وأجيالها ،وقد حذرنا
النبي الكريم صلى ال عليه وسلم من مثل هؤلء ،فيما رواه البخاري ومسلم ،عن عبدال بن
عمرو بن العاص ،رضي ال عنهما قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ":إن ال ل
يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ،ولكن يقبض العلماء ،حتى إذا لم يبق عالما ،اتخذ الناس
رؤساء جهال ،فسئلوا فأفتوا بغير علم ،فضّلوا وأضّلوا".
إننا نفتقد في " شبابنا" العلماء بحق في جميع العلوم ،فأين علماء الدين؟؟ ..وأين الدباء
والشعراء؟؟ ..وأين الباحثون والمخترعون؟؟ ..بل :وأين الضباط والعسكريون الفذاذ؟؟.
إننا نعجب كل العجب من واقعنا العلمي المتخلف ..وواقع الغرب العلمي المتقدم .ونحن
المؤسسون للعلوم ..الرّواد في جميع المجالت والختصاصات...
إننا نرى في بلد العرب خاصة والمسلمين عامة ،أن في طريق العلوم عوائق ..وحواجز ..بينما
سبيل العلم في الغرب مفتوح على سعته ..ونرى "المتحانات" أشبه باللغاز ..لتعجيز الطالب.
وتفشيله وإدخال اليأس من نفسه في قلبه.
وهنا نسأل :هل هكذا تعلم سلفنا وعلموا؟؟ ..هل كانوا يعطون " الجازة "..لي " طالب" ،كتب
على أوراق "الجابة" كلما وافق السؤال ،ولو من دون علم؟؟ ..هل كانوا يلقنون الطلبة من كل
علم مسائل منثورة ،ومعلومات عامة متفرقة ..هل كانوا يمتحنون الطلبة بـ "المقروء "..من
"المقرر "..فقط ،وهو القليل من الكثير؟؟ ..الجواب عن كل ذلك هو :ل ..لم يكن أمرهم كذلك ،بل
كان "العلم" يطلب من المهد الى اللحد ..وشعارهم :أعط العلم كلك ليعطيك بعضه .ومن طلب
العلى سهر الليالي ..وكان الهدف الوحيد عندهم :طلب العلم لوجه ال تعتالى ،وابتغاء رضوانه،
فكان في علمهم كل البركة والخير ،فنفعهم ال تعالى بعلمهم ،ونفع لهم المة ،وكانوا خير أمناء
على حمل العلوم ..إلى الجيال.
لذلك ندعو الى تعديل جذري لساسات التعليم ،واعتماد مناهج ومقررات وافية ،وإلى إعطاء
الطلبة الوقت الكافي لدراستها وإتقانها ،وإلى فتح أبواب العلوم على مصارعها أمام الطلبة،
ومنحهم كل الرعاية والهتمام ،ليتخّرجوا "علماء" بكل معنى الكلمة.
ل شك في أن " الشباب" ،وفي أول مواجهة لهم مع الواقع ،يشعرون بوطأة " ال.مة"..
ويعرفون ما هي؟؟ ..وما تحدثه في نفس النسان من حسرة وتعاسة ،وتزداد حسرة النسان
وتعاسته ،إذا واجه "الزمات" وحده ،من دون أبوين يساعدانه .أو مسؤول يمّد اليه يد العون...
و"الشباب" في عصرنا يعانون من كل أنواع الزمات ،ومن جملتها " الزمات الجتماعية"
التي ذكرنا أهمها وأخطرها ،وهي" :العمل ،والسكن ،والزواج" ،فمما ل شك فيه :أن الشاب في
غالب الحال ،ل يعرف ماذا يعمل ..وإن كان له اختصاص ..فل يجد عمل ..إل بعد جهد
ووساطات ،أما " الجر" ..أي الراتب والمعاش ..فهو أيضا هّم آخر ،وأزمة أخرى ،فغالبا ما
يكون الجر أو :الراتب دون حّد الكفاية ،بحيث ل يشعر هذا العامل أو الموظف ،بالكفاية
ل أسير الحاجة ،ليظل أسير صاحب العمل ،أو :أسير الوظيفة ،فهو والسعادة في حياته أبدا ،بل يظ ّ
يختار أهون الشّرين وأخف الضررين ،لنه إذا ترك العمل أو إستقال من تلك الوظيفة ،فلن يجد
عمل آخر ،وإن وجد بعده عناء ..فلن يكون أجره وراتبه أعلى وأكبر..
أما "أزمة السكن" ..فأمرها عجيب ..وكأن الدنيا ضاقت بأهلها وعلى أهلها ..ففي كل أنحاء
العالم يوجد " أزمة سكن ،"..مع وفرة الموال والرض في كثير من البلد ..حتى بات الحصول
على "مأوى "..ولو غرفة واحدة ..هدفا كبيرا ..وإن توفر للنسان هذا الهدف ..فهو محظوظ ..
أما " أزمة الزاج" ،فهي مرتبطة بالزمتين السابقتين ،إذ ل زواج من دون عمل أو مسكن،
ولكي ندرك خطر هذه الزمة ،فإن علينا أن نتذكر :كم الشاب وهو في مقتبل العمر يتمناه..
ويطلبه ويسعى إليه ..فهو حاجة شخصية دافعة ..ورغبة شديدة جعلها ال تعالى في النسان..
لبقاء النوع البشري ،واستمرار التناسل النساني ،حتى يرث ال الرض ومن عليها.
وهنا ل بد من التساؤل :ما هو سبب هذه الزمات؟؟ ..وما هو الحل والمخرج منها؟؟ وجوابنا
عن ذلك بإختصار هو :أن الزمات ل تكون إل بسبب وجود خلل ،ومعلوم أن النظكة المعمول
بها في أكثر بلد المسلمين في عصرنا ،هي أنظمة وقوانين مستوردة من الخارج ،فاشلة خاسرة،
ل خير فيها للبشرية ول فائدة ،بل هي سبب كل الزمات والمصائب التي تحل بالناس.
أما الحل :فهو بطرح جميع هذه المخلفات المستوردة من النظمة جانبا ،ثم :بتطبيق احكام
س الناس بالسعادة ،ويتوفر لهم المن،السلم كلها ،في جميع مجالت الحياة ،فعند ذلك يح ّ
والطمئنان ،والسلم.
ويكفي هنا أن نشير الى بعض ما يحظى به الناس من حكم السلم ،وذلك بما كتبه الخليفة
العادل عمر بن عبدالعزيز ،رحمه ال تعالى إلى ولته ،قائل لهم:
ينشأ الولد في أسرة ،وفي مجتمع ،وهو حين ولد ،كان على الفطرة السليمة ،صفحة بيضاء نقية،
كله براءة وطهارة ،في أقواله وتصرفاته كافة ،حتى يتدخل في فكره وعقيدته وسلوكه متدخل ،من
أب ،أو أم ،أو :ولي لمره ،أو معلم ،أو حاكم ،أو صديق ،فتزول تلك البراءة ،في أكثر الحوال،
ل في الشباب عقيدة البوين ،ويتأثر بأخلق أستاذه ،وتوجيه حاكميه المبثوثبواسطة وسائل
وتح ّ
العلم.
إن "الشباب" في زماننا ،واقعون تحت تأثير توجيه متعارض ،متضارب ،متناقض ،ينتهي بهم
الى الضياع والفراغ ،فهم يقرأون في الكتب والمنشورات ،ويسمعون ويشاهدون بأجهزة العلم،
المرئية والمسموعة ،جميع المتعارضات من الفكار ،فيطرح عليهم :عقائد اليمان ،وأقاويل
ت ول فصل ،وتلقى عليهم المعلومات مجترأة مبتورة ،أو مشوهةاللحاد والزندقة ،من دون ب ّ
مغشوشة.
إنهم يسمعون عن "العدل" وعنه يقرأون ..لكنهم في الواقع ل يرونه ،بل يرون :أن الحق دائما
مع القوي ..مع زمرة الحاكمين ..وأعوان الحاكمين ..أما الضعيف ..والفقير ..ومن ل سند له ..فل
شيء له..
إنهم يقرأون ويسمعون عن " الداب" العامة والخاصة ،وعن " الخلق" ..ولكنهم يفاجأون بما
ينسف أسس الخلق والداب ،من مجلت وكتب "شهوانية" ـ جنسية ـ ،وأفلم عربية..
نعم":عربية" ..مخزية كلها دعارة ..وسفالة ورذالة ..وحقارة ..ناهيك عن المسارح المليئة
بالتهريج ..والمسخرة ..وهزء الناس بعضهم ببعض ..كل ذلك بإسم ":الفن" ..وبئس "الفن"..
فكيف سيستقيم شبابنا وشاباتنا في هذا الجو الموبوء؟؟! ..وكيف ستصلح أخلقهم ...وهم في هذا
الواقع يعيشون؟؟!..
إنهم يسمعون عن "الحرية" ..حرية الوطن ..وحرية المواطن ..ولكنهم ل يرون من ذلك شيئا
على أرض الواقع ،ل يعانون من التسلط ،والكبت ،والحرمان ،ويرون "الوطن" أسير قوى
الشرق أو الغرب..
إن " الشباب" ل يجدون من يوجههم نحو الفضائل ،ول من يأخذ بأيديهم الى هدف سام ،وغاية
شريفة ،ول من يرشدهم الى سبيل الرشاد والخير ،بل هم مبتلون بالتوجيه السيء ،ومزاعم
التربية والتعليم ..فهم كالضحية بين يدي الجزار..
إن " الشباب" غرس بستان أهمله أهله ،وتركوه عرضة للطفيليات ،من الحشرات والنباتات،
فصارت كل غرسة منه ،نهبا للطوارئ والعاديات ،ولو أن أصحابه خدموه وحموه ،واعتنوا به،
لصار "جنة" ..يجنون منها أشهى الثمرات وأطيب الفواكه ..فأين المربون؟؟..
***
الزمات الخاصة
الزمات الخاصة
أسلفنا في بداية هذا الفصل :أن " الزمة الخاصة" هي :التي يطلبها النسان بإرادته هو وكسبه
لها ،فهو الذي يجنيها ويكسبها ،مثل ":ترك الصلة"..و" تعاطي المخدرات" ..أما " الزمات
العامة" فهي التي ل يطلبها المجتمع ،ول يسعى إليها ،بل تلقى عليه ويلزم بها ،كما ذكرنا آنفا.
إن " الشباب" أكثر طبقات المجتمع تعّرضا للزمات ،بسبب توفر أسبابها فيهم ،ففي "الشباب":
كمال الصحة ،وحّدة النشاط وهم أقل شغل من غيرهم ،وهذه المور هي مجلبة المفاسد
والمتاعب ،كما قال القائل:
إن الشباب والفراغ ،والجده مفسدة للمرء ،أي مفسده
فإذا كان النسلن :شابا ،فارغا ل هّم عنده ،ول هّم له ،نشيطا قوي الجسم ،فقد استجمع أسباب
الوقوع في المفسدة ،إل ما رحم ربي عز وجل.
لذلك جاء السلم بأحكام تمل وقت النسان ،وتصرفه عن التفكير في الفساد ،وتحميه من
إغراءات الهوى ووساوس الشيطان ،كالصلة ..وطلب العلم ..ودوام ذكر ال تعالى ..وصيام
التطوع ..إلخ.
واعتبر ذلك حصنا ودرعا ،يحمي النسان المسلم من المفاسد كافة ،كما قال عز وجل في
"الصلة" } :إن الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر{ ..وقال سبحانه }:أل بذكر ال تطمئن
القلوب{.
ولكي يظل " الشاب" في مأمن من الخطار ،فعليه :أن يبقى حذرا متنبها ،واعيا فطنا ،وأن يمل
فراغ وقته بالعمل الصالح ،وأن يجتنب كل المثيرت والمهيجات ،من مجلت وصور وأفلم
ض البصر ويحفظ الفرج.
وأغاني وأن يغ ّ
ومما يستحسن للشاب أن يفعله بالضافة الى ما تقدم:
إن هذه المور عبارة عن دروع وإحتياطات ،تجعل الشباب ـ إذا هم طبقوها ـ في مأمن من
أخطار الزمات ،وأضرارها وعواقبها ،ومن دونها ل يبقى للشباب حماية ول وقاية ،فتحل بهم
الزمات ،ويقعون في المعاصي والسيئات.
بعد هذا نعود الى بيان " الزمات الخاصة" ،والتي نرى :أنها تنحصر في قسمين إثنين هما:
ترك الواجبات والطاعات ،وفعل الفواحش والخبائث ،فنقول:
فالصلة ،عماد الدين ،تركها " أزمة" من دون سك ..بل ومن أكبر الزمات التي تحل بالمسلم،
لن من عرف مكانة الصلة في السلم ،وفضلها وعظيم ثوابها ،وأنها أول ما يحاسب عليه
العبد يوم القيامة من عمله ،وأنها حق ال تعالى على عبده الذي خلقه ..وسّواه ..ورزقه ..وأنعم
عليه لما ل يحصى من النعم ..وأنها مناعة للمسلم ضد الفساد ،لنها تنهى المصلي عن الفحشاء
والمنكر ،فإنه يدرك قيمة هذه العبادة ،وأهميتها في حياته وآخرته ،فل يتركها من بلوغه س ّ
ن
التكليف ،حتى ياتيه الموت ،عمل بقوله تعالى }:واعبد ربك حتى يأتيك اليقين{.
وبالمقابل :تظهر الزمة الشديدة التي يقع فيها المسلم ،إن هو ترك "الصلة" عامدا ،حيث
يعّرض نفسه لغضب خالقه عز وجل ،ولعقابه وعذابه ،وسوء مصيره ،وفي الوقت عينه ،يجّرد
نفسه من هذه الوقاية العظيمة ،التي كانت تقيه الكثير من الفواحش والمنكرات ،ويبقى عرضة
للوقوع في كثير من الضللت.
و"الزكاة" ،التي هي "قنطرة السلم" ،ودرع المجتمع المالي ،أليس تركها أزمة؟؟ ..بل كارثة..
إن من أحاط علما بمكانة "الزكاة" في السلم ،ودورها في إسعاد المجتمع ومساعدته ،يعرف
قيمة هذا اركن العظيم من أركان السلم ،ويعرف أيضا :أن منعها عن مستحقيها وأصحابها ،هو
عدوان على حقوق الفقراء ،وسائر المستحقين للزكاة ،وبخل بحق ال تعالى وعباده ،وأكل لذلك
الحق بالباطل.
وعندما نتذكر :أن خليفة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،أبا بكر الصديق ،رضي ال عنه،
عندما أصّر على مقاتلة الذين ارتدوا عن السلم ،عقيب وفاة رسول ال صلى ال عليه وسلم،
ن من فّرق بين
أصّر على مقاتلة الذين تركوا الصلة ومنعوا الزكاة ،وأعلن ذلك قائل" :وال لقاتل ّ
الصلة والزكاة ،"..ندرك كم كان رضوان ال عليه فقيها ،وكم كان علما خبيرا.
صّديق رضي ال عنه ،يعلم :أن مجتمع السلم ل يقوم سليما ،إل بالصلة والزكاة، لقد كان ال ّ
وسائر أركان السلم ،فلذلك أصّر على قتال الجميع من دون هوادة ،حتى أعاد الناس الى جاّدة
الصواب والحق ،التي تركهم عليها سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم.
أما "الصوم" ،في شهر رمضان المبارك ،ولمن شاء في غيره ،فعبادة وطاعة ،وقربة الى ال
ل عدمتعالى ل يعلم ثوابها إل هو عز وجل ،أفليس ترك الصيام في رمضان أزمة؟؟ ..وأل يد ّ
الصيام من دون عذر مشروع ،على ضعف نفس المفطر ،وعلى حّبه لبطنه وشهوته؟؟!..
ل الفطار في رمضان ،على حيوانية بهيمية ،تهبط بالنسان المفطر هذا ،إلى دركأل يد ّ
الحيوان العجم غير المكلف؟؟!..
إن إنسانا ل يصبر على تأخير وجبة طعام ،من وقت الظهر حتى الغروب ،ليس بإنسان ..لن
مزية النسان الولى :أنه يتحكم هو بشهواته ،ل أن تحكمه شهواته ..وأن يكون عقله سّيد هواه ،ل
أن يكون هواه أسير عقله ..وأن يؤثر الطاعة على المعصية ،ورضاء ال تعالى على سخطه.
و"الحج" ذاك الركن الجامع العظيم ،الذي جعله ال تعالى للمسلمين نعمة ورحمة ،والذي هو
الركن الوحيد من أركان السلم الذي يجتمع فيه المسلمون من كل بقاع الرض ،رغم ما فعله
العداء بهم من تفريق ..وتمزيق ..وتفتيت .فترك "الحج"" :أزمة" ..و" أزمة" شديدة ..وخسارة
كبيرة. .
ول نستطيع أن ننسى "الجهاد" ..عنفوان المة السلمية ..وسبيل عزتها وكرامتها ..وباب
المجاهدين الى "الجنة"..
إن " الجهاد" وسيلة من وسائل نشر السلم ،وهداية العالم بنوره وهداه ،عندما ل يكون أمامنا
سبيل سواه ،فإذا لم يكن تعطيل "الجهاد" أزمة ..فمتى تكون "الزمة"؟ ..وكيف؟؟ ..وبأي
شيء؟..
وإن قال قائل :كيف تقول هذا ..والشباب في كل بلد السلم ،مجندون للخدمة العسكرية في كل
بلد؟؟ .فإننا نقول لهذا السائل :هل ترى أنت أن هذه الجيوش المجّندة ،في بلد السلم ،هي للجهاد
في سبيل ال؟؟! ..فإن كنت أنت ترى ذلك ،فواأسفا عليك وعلى أمثالك..
إن ما ذكرناه في هذا القسم من " الزمات الخاصة" ،هو الهم والدهى والمّر ..وقد وقع
الكثير من "الشباب" في " أزمة ترك الواجبات" ..فتركوا الصلة ..ومنع القادرون منهم الزكاة،
وأفطروا في شهر رمضان ،وتخّلف المستطيع منهم عن الحج ..أما الجهاد ..فل تسل عنه ..بل
ابحث عنه..
والمخرج لشبابنا من هذه الزمات الخطيرة ،ل يكون إل بتوعيتهم ،وحملهم على عبادة ربهم
وخالقهم عز وجل ،وإذكاء شعلة النور واليمان في قلوبهم ..ونسأل ال تعالى أن يهدينا ويهديهم.
القسم الثاني :إرتكاب الفواحش وتعاطي الخبائث
لقد جمعنا في هذا العنوان بين" :الفواحش" و"الخبائث" ،وذلك لننا سنذكر في هذا القسم من "
الزمات الخاصة" ،عددا من "الفواحش" الكبائر ،وبعضا من "الخبائث" ،التي ل تصل في خبثها
ل هذه المور " أزمات" ،يتعاطاها كثير من الناس، الى حد "الفاحشة" الكبيرة ،مع أننا نرى ك ّ
والشباب منهم على الخصوص ،فلذلك رّتبنا العنوان على هذا النحو ،لنتمّكن من تحذير "الشباب"
من تلك "الخبائث" ،التي يحاول البعض التهوين من خطرها ،والتقليل من آثار أضرارها
وسوئها ،ومن أهم " أزمات الشباب" في هذا المجال ما يلي:
الزنا: -1
"الزنا" :فاحشة ،وكبيرة من كبائر الذنوب ،بل خلف بين جميع الشرائع السماوية ،فلم تبحه
شريعة رسول ،ول حتى نظرية حكيم أو فيلسوف ،إل " الباحيون" ،وهؤلء قوم ساقطون من
عداد البشر ،داخلون في تجمع البهائم ..فل عبرة بهم ،ول قيمة لرائهم ..إل عند أشكالهم
وأمثالهم..
ومبدأ طريق "الزنا" ،يتسلسل من :النظرة المحّرمة ..كما قال الشاعر:
نظرة ..فابتسامة ..فسلم ..فكلم ..فموعد ..فلقاء
إن ما يدفع "الشاب" الى سلوك هذا الطريق ،بدءا من النظرة ..وهلّم جرا ..هو :تهييجه باتجاه
المرأة ،بالمهّيجات والمثيرات ،من كتب ..وصور ..وأفلم ..وتوجيه سيئ ..كما ذكرنا في قسم "
الزمات العامة".
فبسبب ذلك ،ومع عدم وجود الوازع الديني ،والّرادع الخلقي السليم ،يميل " الشاب" مع هواه..
ول يحسب حسابا للعواقب ول للعقاب ،فيغلبه شيطانه ..ويغريه ..فيقع في الفاحشة..
إن وقوع "الشاب" في "الزنا" أزمة خطيرة العواقب ،ل يقلل من ضررها وخطرها إل جاهل
قصير النظر ،أعمى البصيرة ،غافل القلب ،أما النسان الواعي البصير المستبصر ،فإنه ينظر
الى هذه تافاحشة نظرة عداوة وكره لها ..واشمئزاز منها ..ونفور عنها ..لنه وإن كان ظاهرها
س في الدسم ،وخزي وعار ،وحسرة وندامة ،ودناءة متعة ..وقضاء شهوة ..فإن واقعها :سّم د ّ
وحقارة ،يترفع عنها المؤمن ،وينأى بنفسه أن تتدّنس بها ..وصدق رسول ال تعالى القائل }:ول
تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيل{.
ومع ذلك ،يحاول أهل الهوى ،ودعاة الباحيةن من الغربيين والمستغربين ،أن يوهموا الناس،
بأن العلقة غير المشروعة ،بين الرجل والمرأة ،هي علقة طبيعية ،ل تستأهل هذا النكار ،بل
يرون أن تترك هذه العلقة عل راحتها ،ينشئها الرجل والمرأة متى شاءا ،وأين أرادا ..فالمر
يعنيهما وحدهما ،ول يحق لحد غيرهما ،أن يتدخل في شؤونهما الخاصة..
جع أصحاب ومن أجل تحقيق هدفهم هذا ،المؤدي في النتيجة إلى إباحية كاملة في المجتمع ،يش ّ
هذا التجاه ،على كل ما يثير الشهوة ،لدى الرجل والمرأة ،فيشجعون الرجل على إبراز ما يثير
شهوة المرأة ،وعلى إستدراج المرأة بوسائل الغراء كافة ،ليقاعها في شركه ..وبالمقابل:
يشجعون المرأة على إبراز مفاتنها ..وإظهار أنوثتها ..واستدراج الرجل نحوها..
ولم يتوقف المر بهؤلء عند هذا الحد ،بل تجاوزه الى مستوى غريب ..عجيب ..هو :التعري
الكامل المختلط ،في النوادي ،والمسابح ،وأماكن اللهو ..وهم يقصدون بذلك كله ،حمل الناس
جميعا ،رجال ونساء ،على تقليدهم ..وبالتالي على التجرد من إنسانيتهم ..وبشريتهم ..وتحويل
حياتهم من حياة بشرية ..إلى عيشة بهيمية..
لقد ذكرنا هذا التجاه الشرير ،لنه أوسع باب للفتنة ،يفتح على البشر ،وعلى الشباب خاصة،
وكم يعاني كثير من المسلمين ..ومن غير المسلمين أيضا ،في بلد الغرب ،من تلك الباحية التي
ل تطاق ول تحتمل ..إل من استعصم ..واستعاذ بال تعالى ولجأ إليه ..فبه سبحانه المستعان...
إن وقوع الكثير من "الشباب" في أزمة "الزنا" ،ما هو إل أثر من آثار هذه الموجة الباحية،
التي ظهرت في :أزياء النساء العاريات ..والختلط ..والخلط ..ورفع التكّلف بين الرجل
والمرأة ،وفي :المجلت الخلعية ،المنخلعة من كل خلق فاضل ،وفي الفلم الفاسدة المفسدة..
وفي مقدمتها :ما يسّمى بـ " الفلم العربية" ..التي دّنست شرف "العرب"..ونخوة "العرب"..
وشهامة العرب"..
فالعرب لم يكونوا هكذا :يمارسون الدعارة على رؤوس الشهاد ،وأمام أعين المشاهدين..
ويحثون الناس على تقليدهم ..ليتحّرروا من "التقاليد" ..بل إن العرب حتى قبل السلم ،كانوا
مشهورين بالحرص على العراض ،والشرف ،وكانوا أهل مروءة ونخوة..
إن تخصيصنا "الشباب" بالقول هنا ،ل يعني أن غيرهم من فئات المجتمع ل يزني ،وأن "لزنا"
محصور فيهم ،فليس هذا هو قصدنا ،ولكننا ونحن نبحث في " أزمات الشباب" ،ل بّد من ذكر ما
يعانونه من تلك الزمات ،على وجه الخصوص ،مع تسليمنا بأن في الشباب كثرة ساحقة ،قد
حفظها ال وأكرمها ،فلم تتلّوث بفاحشة "الزنا" ،ولم تقض وطرها بغير "الزواج" الذي شرعه
ال عز وجل.
الخمور: -2
إن "الخمور" ليست من الخبائث ولفواحش فحسب ،بل هي ":أم الخبائث" ،وهي محّرمة
ن من ل يرى الخمر حراما ،أو يحاول تفسير
تحريما قطعيا ل خلف فيه على الطلق ،بل إ ّ
اليات على هواه لباحتها ،فهو كافر..
والمسلمون هم وحدهم الذين يقاطعون الخمور مقاطعة تامة شاملة ،لن ال عز وجل قد حّرم
"الخمر" بعينها ،وحّرم على المسلمين كل ما يتصل بها ،من شرب ،وإنتاج ،وبيع ،وشراء،
وحمل ،ونقل ،وغير ذلك .وذلك عمل بأمر" :الجتناب" ،الوارد في قول ال سبحانه وتعالى:
} إنما الخمر والميسر والنصاب والزلم رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون{،
صل هذا المعنى الرسول الكريم ،سيدنا محمد و"الجتناب" معناه :البتعاد عن الشيء ،وفد ف ّ
صلى ال عليه وسلم ،فيما رواه عنه المام أحمد بإسناد صحيح ،وأبو داود والترمذي وابن ماجه،
وابن حّبان وغيرهم ،عن عدد من الصحابة ":لعن ال الخمر ،وشاربها ،وساقيها ،ومبتاعها،
وبائعها ،وعاصرها ،ومعتصرها ،وحاملها ،والمحمولة إليه ،وآكل ثمنها".
ومما هو معلوم شرعا :أن لشرب الخمر حّدا من الحدود ،يعاقب به "الشارب" ،وهو :جلده
ثمانين جلدة ،وهذا "الحد" ،قد طّبق زمن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،واقيم على شارب
طله الحاكمون..
الخمر من بعده أيضا ،ول يزال الحكم قائما ،وإن ع ّ
أما في المجتمعات الخرى ،فإن الخمور تعتبر جزءا من حياتهم الجتماعية ،ومن أهم
ضيافاتهم ،وتوضع دائما في مقدمة ما يوضع على موائدهم ،وهم يشربونها بشراهة ونهم..
ويسقونها نساءهم وأطفالهم ..ويزداد اهتمامهم بالخمور ،في السهرات والحفلت ،لنهم إباحيّون..
ماجنون ،يحبون":المرأة ..والكأس"..
ومن المؤسف والمؤلم ،كل السف وكل اللم ،أن تنتشر "الخمور" في كثير من بلد المسلمين،
بموافقة السلطات الحاكمة وتشجيعها ،بحجة تشجيع "السياحة" ..واسترضاء " الجانب" ..فأّدى
انتشارها في بلدنا إلى وقوع الكثيرين في الدمان على شربها ،ومنهم نسبة عالية من الشباب
المراهقين ،الذين استهوتهم العلنات ..وجذبتهم الغراءات.
إن "المسؤولين "..الذين يتوخون من نشر الخمور في المجتمع ،استدرار أموال " الجانب"..
السّكيرين ..بحجة دعم "اقتصاد البلد "..ليسوا بالمسؤولين المدركين معنى المسؤولية ،ول أراهم
إل أفاعي ،سلطهم أعداؤنا علينا ،لتدميرنا من الداخل بشّتى الوسائل ،ولتخريب أخلق شبابنا،
وإفسادهم وإغراقهم في الشهوات ،لئل يفكروا بالمثل العليا ..ول بالقيم السلمية السامية..
إن "الشباب" ضحية مؤامؤة كبيرة ،متعددة الوجوه والشكال والساليب ،تنّفذها فئة متسلطة
على مقدرات المة ..ومن أخطر وسائل هذه المؤامرة":الخمور"..
أيها الشاب:
إذا أراد أعداؤكم أن يسكروكم ..بالخمور ..فأسكروهم أنتم بالصمود والوعي ،وقولوا لهم :خاب
فألكم ..فنحن لن نسعى بأنفسنا إلى دمار أنفسنا ..ورّددوا قول ابن الوردي رحمه ال تعالى:
كيف يسعى في جنون من عقل واترك الخمر إن كنت فتى
وتذكروا أيها الشباب :أن أسلفنا من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ورضي عنهم ،ما
صاروا بشرا حقا ..ول شعروا بإنسانيتهم ..ولم يفتحوا الفتوح ..إل بعد أن خرجوا من سكرات..
الخمور ..والجهل ..والعصبية ..فل تعودوا أنتم الى تلك السكرات ..فتعودوا الى " الجاهلية"..
}واعتصموا بال هو مولكم فنعم المولى ونعم النصير{.
المخدرات: -3
إن الحكم الشرعي في "المخدرات" معروف ،أل إنه :التحريم المطلق لي نوع منها ،ول عبرة
بمحاولة البعض ،التقليل من ضرر "المخدرات" ،والتخفيف من حرمتها ،ول قيمة لزعمهم
بكراهتها ..والغرب :أن ثمة من يقول بإباحتها..
إن النصوص الشرعية ،والقواعد العامة في السلم ،متضافرة على وجوب صيانة :النفس،
والعقل ،والمال ،والدين ،والعرض ،ول شك في أن تعاطي المخدرات ،عدوان عليها جميعا..
إن وباء تعاطي "المخدرات" ،قد تفشى كما ذكرنا في أكثر طبقات المجتمع ،وعلى الخصوص:
في "الشباب" ،فإن هذه العادة السيئة منتشرة في المدارس والجامعات ،وعلى نطاق واسع ،ينذر
بخطر كبير على الجيال ،ومستقبل هذه الجيال..
إن أزمة "المخدرات" لدى الشباب ،قد نتجت عن الفراغ الفكري الذي يعانون منه ،كما أشرنا
آنفا ،فالشباب الذين ل هدف لهم ،ول رسالة ..ول قضية تشغل بالهم .وتمل فراغهم ..سيبحثون
في الغالب على وسائل غير مشروعة ،تتلءم مع الهوى ،وتتوافق مع ميولهم وشهواتهم ،ول
نستطيع أن نتجاهل وجود أولئك المترّبصين بنا ..المترصّدين لشبابنا ..فهم جاهزون لطرح
البدائل ..ولن تكون بدائل خير ونفع ،ل للشباب ..ول للمة ..فهم لن يطرحوا لنا الحلول المثلى..
ولن يدّلونا على سبيل الهدى والرشاد ..ولكنهم سيلقون بكل ثقلهم علينا ..لغراقنا في الضساع..
وللمعان في إفساد شبابنا ..وتدمير شخصيتهم ونفوسهم..
أليس كارثة كبيرة :أن نرى شبابنا في مقتبل العمر ،طلبة جامعيين ..كالزهرات يتعاطون
المخدرات؟؟!..
أليست مصيبة كبرى :أن نرى مراكز الجمارك ،والمن ،في جميع الدول ،مشغولة كل الشغل،
في التفتيش عن "المخدرات" ..أكثر من أي شيء آخر ..في حقائب المسافرين ..وأمتعتهم..
وسياراتهم ..وفي المعدة ..والمعاء ..بل ويفتشون عنها في أدبار الرجال ..وفروج النساء..؟؟!!..
ألهذا الحد وهذا المستوى ،يبلغ بنا المر ،بحثا عن هذا "الغول "..الذي أرعب العالم؟؟! ..بينما
خطره يزداد ..وضرره يستطير ويستثري..
التدخين: -4
ل أريد هنا أن أناقش أقوال العلماء فيس "التدخين" ،ولكنني سأكتفي بطرح سؤال واحد على
خصوا به ..هو :هل تعتبرون أيها الفاضل ،نبتة "التبغ والتنباك"
أولئك الذين أباحوه ..ور ّ
هذه ،من "الطيبات"؟؟..
ل أظن أن عاقل يعتبر "التدخين" من "الطيبات" ،بل :هو من "الخبائث" ،وطالما أنها من
"الخبائث" ،فل يهمني كثيرا الخوض في المسألة أكثر من ذلك..
وإن قال قائل :لماذا حكمت على "التدخين" بأنه" :خبائث"؟ وما هو الدليل؟ ..قلنا :إن "التدخين"
بإتفاق علماء الطب ،سبب لخطر المراض ،ومنها":السرطان" ..وبعض أمراض الجهاز
الهضمي والقلب.
إن علماء الطب ،وهم أصحاب الختصاص ،والمعتبر قولهم في هذا المجال ،متفقون على أنه ل
خير في التدخين مطلقا ،وأنه ل ينجو مدخن من مرض ..بسببه ..فهل بعد هذا يبقى قول لقائل ،أو
زعم لزاعم بخلف ذلك؟؟..
ثم :أليس "التدخين" من أسباب نتن الفم ،كالثوم ..والبصل..؟؟ ..والمدخن يؤذي الذين ل يدخنون
برائحة فمه المنتنة ..ونحن نعلم من عملنا في "المحاكم الشرعية" ،أن هناك حالت طلق سببها:
نتن رائحة الفم لدى أحد الزوجين ،من جّراء التدخين..
نعود بعد هذا إلى "الشاب" ،ضحية " الزمات" الولى ،فنقول :لقد تفشت عادة "التدخين" في
"الشباب" ،على نطاق واسع ،وفي سن مبكرة جدا ،وهذه أزمة خطيرة ،وقع فيها "الشباب"،
ي ،ومل رئتيه
واستدرجوا إليها ..وبعد فوات الوان ..حيث يكون "الشاب" قد أفسد جهازه التنفس ّ
بالوساخ والرواسب..
وأهم السباب التي تدفع الشاب الى التدخين :إغراء الصحاب والصدقاء ..الذين يدخنون ..إذ
يعرضون عليه "السيجارة" ..ويطلبون منه :أن ينّفخها ..في الهواء ..فل يلبث أن يعتاد عليها ،ثم
يدمن على تدخينها ..ويساعد على ذلك " العلنات" ،التي تبثها وتنشرها وسائل "العلم" عن
سلوى.. ن وال ّ
"التدخين" ،حيث يصّورون "التدخين" :متعة ..ونكهة ..وكأنه :شهد العسل ..أو :الم ّ
ومن المضحك المبكي :أن الدول التي تسمي نفسها "متحضرة" ..تكتب على علب التدخين
عبارة ":التدخين مضّر بصحتك ،ننصحك بعدم التدخين" ،وأن بعض أجهزة العلم ،تعرض
"الدعاية "..للتدخين ،ثم بعد ذلك ،تظهر على الشاشة عبارة ":وزارة الصحة العامة تحذرك من
التدخين "..أو :ما أشبه ذلك..
فطالما أن التدخين مضّر بالصحة ،بل خلف ،فمن واجب الدول على القل :أن ل ترّوج أجهزة
العلم فيها ،أمر بيعه وتعاطيه ،وأن ل تغش الناس ،وتغّرر بالشباب بهذه الساليب المغرية،
وهم في مقتبل العمر وريعان الشباب.
الملهي: -5
نقصد بالملهي :جميع وسائل اللهو ،من سينما ،ومسرح ،وأغاني ،وموسيقى ،ورقص ..إلخ،
ول نريد تفصيل الحكام الشرعية ،المتعلقة بكل منها ،لن هذا الباب ليس لهذا الكتاب ،وإنما
أردنا من إثارة هذا الباب ،أن ننّبه إلى الضرار الكبيرة التي أصيب بها الناس ،وعلى الخص
"الشباب" ،من جّراء هذه الملهي.
وهنا ينبغي أن نذّكر بأن السلم دين جّد ،وانضباط وعمل ،وأن معيشة اللهين العابثين ليست
من أهلق المسلمين ،لن المسلم يعرف قيمة الحياة ،وقيمة عمره الذي كتبه ال له ،فل يضّيعه
سدى ،ول يفنيه في اللهو والفجور..
لقد عّم في عصرنا بلء "الملهي" فانتشرت "المسارح" و"السنمات" ،تعرض على
المشاهدين ما يسمى بـ "التمثيليات" ،و"لمسرحيات" الفكاهية ..والمسلّية..
هكذا يقولون في هذه "الملهي" ..وهكذا يزعمون ..وال يعلم إنهم لكاذبون..
إننا نسأل هؤلء الذين يرّوجون هذه المفاسد :ما انتفعت المة من ملهيكم هذه؟؟ ..هل عّززتم
بها الخلق والشيم؟؟ ..هل رفعتم مستوى الشعب الثقافي؟؟ ..هل غرستم بها في نفوس الشباب
فضيلة ..ولو واحدة؟؟ ..ماذا فعلتم أيها الفنانون ..الفتانون ..المفتونون؟؟..
إنكم وال لم تقدموا برقصكم ،وأغانيكم ،وأفلمكم ،وموسيقاكم ،للمة إل البلء والذى ،وإننا
نتحداكم أن تأتوا بأغنية واحدة لكم ،ليس فيها تهييج للشهوات ..أو إفساد للشباب والبنات..
هل خدمتم المة بتعشيق البنات بالسمر ..والشباب بالسمراء..؟؟ هل خدمتم المة بعري
الراقصة ،واهتزازاتها ،المثيرة للشهوات..؟؟ ..أبهذا خدمتم الشعب؟؟ ..أم بأفلمكم الخليعة
البائخة ..التي ل تصّور عالم البشر ..بل عالم البهائم..؟؟..
هل مات فيكم الحساس ،فلم تشفقوا على "الشباب" المتفجر نشاطا وقوة ،وعلى "الشابات"
ن ،فقدمتم لهم جميعا كل المشاهد ،المثيرة لكوامن
المعتصمات بالحياء الضاغط على عواطفه ّ
الشهوة عندهم؟؟..
إنكم يا أهل "الفن" تزعمون أنكم تعالجون قضايا "الحب" ،ومتى كان علج "الحب" بين
الرجل والمرأة يتم على نحو ما تفعلون؟؟ ..هل من الضروري :أن نعلم الرجل كيف يعشق زوجة
أخيه..؟؟! .وأن نعلم المرأة كيف تعشق شقيق زوجها؟؟ ..وأن نعّلم الشاب والشابة كيف يتبادلن
عبارات العجاب؟؟ وأنتم تعلمون :أن الناس يعيشون معا ،أهل وأقارب ،فكأنكم تقولون للناس:
هكذا افعلوا ..وتزرعون في أفكارهم بذور الشك وسوء النية.
هل من الضروري ،هذا الذي أفسدتم به أخلق شبابنا وبناتنا؟؟ ..ومع ذلك تزعمون بكل وقاحة
أنكم "فنانون" ..وما أنتم وال إل" :فتانون" .."..مفتونون .. "..مأجورون..
لقد انساق السواد العظم من"الشباب" ،مع هذه الموجة العاتية من "الملهي" ،فصار " الغناء"
لهم عادة ،يسمعون المطربين والمطربات ،ليل ونهارا ،فطمس على قلوبهم ،فنسوا ذكر ال عز
وجل ،وانصرفوا الى أبواب "المسارح والسينمات" ،عوض " المساجد" ..ومجالس العلم والدين..
وصار مثلهم العلى الذي به يعجبون ،وله يقلدون" :مطرب" مشهور" ..أو "مطربة" محبوبة..
فانخلعت قلوبهم للهو والغناء ،وانشغلت بالموسيقى ..والرقص ..إلخ...
ل هذا النتشارن لول وجود الدعم نحن نعلم :أن هذه الموجة من المفاسد الفنية هذهن لم تنتشر ك ّ
والتأييد ،من الدول والمؤسسات الرسمية ،التي وضعت تحت تصّرف هؤلء المفتونين ،جميع
وسائل العلم ،ومنحتهم الوسمة والمنح المالية الكبيرة ،وبّرزتهم في المجتمع ،حتى صار
"المطرب" أو" :المطربة" ،و "الفنان" و"الفنانة" ،هو المثل العلى الذي يتطلع إليه النشء،
وصاروا بدل أن يتمنوا أن يكونوا :علماء ..باحثين ..مخترعين ..إذا بهم يتمنون أن يكونوا..
فنانين..
ولقائل يقول :هل معنى قولك هذا أنك ضّد الترفيه عن النفس ،وضّد "الفن"؟؟ نقول :ليس هذا
الذي نكشف الستر عنه من المخازي ترفيها عن النفس ،ول هو بالفن ..بل هو حرق للنفس..
وإفساد لها ..وبعيد كل البعد عن معنى " :الفن"..
إن "السعادة" ليست بلحس المبرد ..ول بحكة الجربان ..ول بتعليم الناس أسباب الفساد ،ووسائل
ن "السعادة" الحقيقية ،هي سعادة القلب واطمئنانه ..واستقرار النفس
الغراء والفتنة ..ولك ّ
وراحتها ..وأن ينام النسان مطمئنا ..ويستيقظ مطمئنا ..فهل هذا الفن المزعوم ،يحقق للنسان
هذا الطمئنان؟؟..
***
ملحق
هناك فئات أخرى في المجتمع لها أزماتها ،وهي أزمات قاسية شديدة ،أردنا أن نشير إليها
بإيحاز ،ومع أن كتابنا هذا ليس مخصصا للبحث في أزمات غير الشبابن وذلك لن أزمات
المجتمع مترابطة ،يجمعها كلها كونها "مصائب" ،أصابت الناس ،فأضّرتهم وأذلتهم ،كما أن
أسبابها متشابهة ،وكثيرا ما تكون واحدة ،وبالتالي فإن علجها وسبل الخروج منها واحدة أيضا..
ب مسلما صالحا،الطفل أمانة في عنق الوالدين ،يجب عليهما أن يحسنا تريته ،وتعليمه ،حتى يش ّ
ولكن الكثيرين من الباء والمهات ،يهملون أطفالهم ،ويفشلون في حمل مسؤوليتهم ،وهذه نماذج
من هؤلء الناس:
سّكير أو المقامر الذي أدمن على لعب القمار ،أو المراهنة على سباق أ( الب ال ّ
الخيل ،ل يهتم بأولده ،بل يحرمهم الطعام ،والدواء ،والكساء ،والتعليم ،ليقامر
ن منهم من يبيع أثاث بيته ويحرم منه أولده ،لشباع رغبته ويعاقر الخمر ،بل إ ّ
الفاسدة هذه.
ب( هناك آباء قساة القلوب ،ل يرحمون أولدهم ،ول يشفقون عليهم ،فيضربونهم
ضربا مبّرحا ،لتفه السباب ،بحجة :أنهم يرّبونهم..
ي أمرهم ،فالب البخيل،ج( أطفال الناس البخلء ،هم ضحية بخل خانق ،من ول ّ
يحرم أطفاله من أدنى مستويات العيش ،فهم ل يشعرون لبخله ،بسعادة ..ول هناءة..
وهم يشتهون القمة ..وحّبة الفاكهة ..والثوب ..ولحذاء..
نقول هذا في الطفال الذين لهم آباء ..فماذا عسى نقول في أولئك الطفال "اليتام" ..أو أولئك
الطفال "اللقطاء"؟؟.
ي والمنفق ،ل يجدونإن " اليتام" الفقراء ،يعانون أكثر من أزمة ،فهم بعد فقد الب ،وهو الول ّ
ن ول أذى ،فل دولة تهتم بيتيم ،ول سلطة تسأل عنه ،بل في المجتمع الكفالة الصحيحة ،بل م ّ
ترك المسؤولون المسؤواية ..فضاع بسبب ذلك أصحاب الحقوق ..ومنهم "اليتام"..
ول تكفي مؤسسات "الرعاية الجتماعية" أو" :دور اليتام" ،لسّد حاجة أيتام المجتمع ،وكفايتهم
ورعايتهم ،فإن تلك المؤسسات ل تقوم فعل بكفاية اليتيم الكفاية الكاملة ،من تعليم لئق ..حتى
أعلى مستويات التعليم ..مثلما يتعلم سائر الولد ،مع العلم بأن في " اليتام" نوابغ ..ولكنهم
مهملون ..لنهم :أيتام..
أما الطفال "اللقطاء" ،وهم الذين يلقون في الشوارع وعلى المزابل ..ول يعرف أهلهم ..فإن
حالهم أسوأ وأضيع ..فهؤلء إذا توفرت لهم مؤسسة تؤويهم ،فإنهم ل يحظون بتابعية الدلوة ـ أي:
الجنسية ـ ول يمنحون بطاقة الدولة ليعتبروا من رعاياها ..فيكبرون وهم معزولون في المجتمع..
يعاملون معاملة غير لئقة ..ويشعرون في أنفسهم بالحسرة والغربة ..مع أنهم لم يكتسبوا إثما
بوجودهم في الدنيا ..وإنما الثم على من ألقاهم على أرصفة الشوارع..
نعني بالشيوخ هنا :الناس الذين أدركهم الهرم والعجز والمرض ،فقعد بهم ذلك عن القيام
بحاجاتهم ،ونشير أيضا إلى أن إكرام ذي الشيبة المسلم ،هو :من إجلل ال عز وجل ،كما جاء
في حديث أبي داود عن أبي موسى الشعري ،رضي ال عنه ،عن النبي صلى ال عليه وسلم.
صص حالة "الكبر" فقال سبحانه وتعالى}:وقد أمر ال تعالى بالحسان إلى الوالدين مطلقا ..وخ ّ
ف ول تنهرهما وقل لهما قول كريما* ن عندك الكبر أحدهما أو كلهما فل تقل لهما أ ّإّما يبلغ ّ
ب ارحمهما كما رّبياني صغيرا{.ل من الرحمة وقل ر ّواخفض لهما جناح الذ ّ
فكان بديهيا بسبب هذه المواقف ،والمعتقدات الفاسدة ،أن تنشأ لدى المرأة أزمات كثيرة ،وأن
تعاني المرأة بسبب ذلك متاعب كبيرة.
والغريب في أمر " المراة" :أن أشّد ما تعانيه وأسوأه ،قد أتاها من قبل أولئك الزاعمين أنهم
يدافعون عن حقوقها ويطالبون بتحريرها ،وحرّيتها ..وأمير هذا الركب :هم الغربيون
والمستغربون ..فهؤلء زعموا أن المرأة في السلم " مسجونة" ..غير حّرة ..فرفعوا شعار
تحريرها ..فأخرجوها من بيتها ،ليبتزوا أنوثتها في :الشركات ..وعرض الزياء ..والنوادي
الليلية ..وجعلوها مشاعا للجميع..
إن أسوأ النساء حظا ،وأتعسهن معيشة ،هي المرأة الغربية ..والمرأة المسلمة التي غّربوها..
وضحكوا عليها ..وخدعوها ..فأنزلوها الى العمل والوظيفة ..لتكون هي" ..العمل" ..وهي..
"الوظيفة" ..فحرموها بذلك من شرف المرأة :الم ..والزوجة الكريمة ..والسيدة الفاضلة..
جهة ..التي قال فيها الشاعر:
المربية ..المو ّ
أعددت شعبا طّيب العراق الّم مدرسة إذا أعددتها
لقد زّوروا الواقع عندما اتهموا السلم بأنه يسجن المرأة ،وهم يعلمون أن السلم هو الدين
الوحيد في العالم ،الذي منح المرأة مكانتها ،وأعاد إليها اعتبارها.
لقد تجاهل أولئك المزّورون :أن المرحلة التي ظهروا هم فيها ،لم يكن السلم مطبقا في
مجالت الحياة ،فإذا كانت المرأة قد عانت شيئا من سوء المعاملة ،فإن مرّد ذلك الى سوء تصّرف
الناس وجهلهم ،ل إلى أحكام السلم ..البعيدة عن التطبيق ..والمبعدة عن الحياة..
فبدل من المتاجرة بالمرأة ،كان عليهم أن يصلحوا الواقع ..وأن يطالبوا بتطبيق أحكام السلم
كلها ..ليصلح المجتمع برجاله ونسائه ..ل ان يتهموا السلم بما ل يد له فيه ،ويلقوا عليه
مسؤولية عمل جناة ..فسقة ..ظلمة ..جاهلين..
نعني بالمعوقين :أصحاب العاهات الجسدية ،كالعمى ،والشلل ،فإن هؤلء على اختلف
عاهاتهم ،هم من أبناء هذا المجتمع ،وجزء منه ،وبإمكانهم أن يعطوا وينتجوا إذا توّفر لهم من
يساعدهم على ذلك ،فكلنا يعلم :أن عددا وفيرا من كبار العلماء والحفاظ ،هم من العمي أو:
المصابين بعاهة جسدية أخرى ،ولم يمنعهم ذلك من تحصيل العلوم ،والوصول الى مراتب
العلماء الكبار.
إن المجتمع المعاصر ل يهتم بهؤلء ،ول يلقي لهم بال ..اللهم إل القلة منهم ،الذين توفرت لهم
مؤسسة إنسانية حضنتهم واهتمت بهم..
إننا ل ننكر وجود هذه المؤسسات ،هنا وهنالك ،بل نحن نقّدر جهودها الطيبة ..ولكننا نريد أن
تقوم السلطة الحاكمة بواجبها نحو كل أولئك ..بحيث ل يبقى في المجتمع يتيم ..ول عاجز ..ول
معّوق ..إل وهو مرتاح ..مكفول ..مخدوم ..فل يشكو ..ول يئن..
***
من هو المسؤول؟
عندما تحل بالناس أزمة ،أو :تنزل بهم نازلة ،يتساءلون :من هو المسؤول؟ ..وكذلك عندما
يرتكب أحد جريمة ،أو :يجني ذنبا ،أو :يسيء معاملة غيره..
إن السؤال عن "المسؤول" ،أمر بديهي لدى الناس ،لنهم يريدون أن يعرفوا :من هو المسّبب
لما يحصل من أضرار ،ومن هو الملكف برعاية مصالح الناس ،أو :تربية الولد ..إلخ .وهذا حق
من حقوقهم..
ونحن قد ذكرنا في هذا الكتاب "أزمات الشباب" ،العاّمة منها والخاصة ،وأشرنا إلى مصادرها
وأسبابها ،وألحقنا ذلك بموجز عن أزمات :الطفال ،والشيوخ ،والمرأة ،والمعّوقين ..فكان مهّما
أن نطرح السؤال عينه ،لنعرف :من هو المسؤول؟..
يختلف الناس في تعيين "المسؤول" ،الذي يحّملونه مسؤولية أمر جرى ،ول نريد تفصيل هذا
الختلف ،ولكننا سندخل في تحديد المسؤولية ،على نحو ما فهمناه من النصوص الشرعية
المباركة ،بدءا من مسؤولية "الحاكم" ..وذلك انطلقا من معنى الحديث الشريف ،الذي رواه
البخاري ومسلم ،عن عبدال بن عمر بن الخطاب ،رضي ال عنهما ،قال :سمعت رسول ال
صلى ال عليه وسلم يقول ":كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ،المام راع ومسؤول عن
رعيته ،والرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته ،والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة
عن رعيتها ،والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته ،فكلكم راع ومسؤول عن رعيته".
صر في
تختلف نظرة الناس الى "الحاكم" ،وبناء عليها تختلف أحكامهم على "الحاكم" :أهو مق ّ
حمل المسؤولية ،أم ل؟؟ ..فأكثر الناس ينظر الى "الحاكم" على أنه :صاحب سلطة ..تقّدم له
مظاهر التكريم والتبجيل ..يعطى الولء المطلق ..يتصّرف بأموال الدولة بل حساب ..ل يحق
ي المر ،المر الناهي ..مطلقلحد أن يسأله عن أعماله ،ول أن يناقشه في أقواله ..لنه ول ّ
الصلحية ..إلخ.
ثم بنى هؤلء ،على نظرتهم هذه :أن "الحاكم" هذا ،يقوم بواجباته ،طالما هو يستقبل الوفود
ويوّدع الزّوار ..ويراقب من أعلى ..ما يجري تحت ..وبالتالي فهو غير مسؤول عن " أزمات
الشباب" ول عن أزمات غيرهم من فئات الشعب ،بل الحق على "الشباب" ،والمسؤولية على
"الشعب"..
أما نحن فنقول :إن نظرة هؤلء الناس الى "الحاكم" ،وسلطته ..وصلحياته ..وأعماله ..مخطئة
جدا ..بل "الحاكم" هو المسؤول الول عن "الرعية" ،كل الرعية ..ولعل الناس قد نسوا مسؤولية
"الحاكم" الواسعة هذه لنهم لم يعودوا يرون حاكما يحمل الطحين على ظهره للرملة ،كما فعل
عمر بن الخطاب رضي ال عنه ،فظنوا هذا النوع من التصرف ،قد فعله أمير المؤمنين عمر،
على سبيل التواضع فقط ..وأنه في الواقع غير مكلف بذلك ول هو مسؤول عنه ،وبالتالي فليس
من مهمات "الحاكمين" :أن يخدموا الشعب على هذا النحو ..بل ظّنوا :أن من واجبات "الشعب"،
أن يحملوا هم "الطحين" الى قصور "الحاكمين"..
إن هذا الظن في غير محله ،فسيدنا عمر بن الخطاب رضي ال عنه ،لم يحمل الطحين على
ظهره ،إل لنه يعلم :أن ذلك من مسؤولياته هو ..فلذلك عندما عرض عليه مرافقه ،أن يحمل عنه
الطحين ،قال له ":أفأنت تحمل عني وزري يوم القيامة؟؟"..
ل ما
إننا نقول هذا ونحن نعلم :أنه لن ينبري حاكم ..فيحمل طحينا ..ول سكرا ..الى شعبه ..بل ك ّ
يرجوه الناس هو :أن يتركهم حاكموهم يعيشون..
نحن نقول هذا ،لننطلق منه الى بيان مسؤولية "الحاكم" الكاملة ،عن جميع " الزمات" التي
تصيب الناس ..وإل ..فلماذا هو مسؤول؟؟..
ل الناس عليها ،ويدفعهمإن من واجبات "الحاكم" :أن يبحث هو عن سبيل الخير والرشاد ،ويد ّ
الى سلوكها ..وأن يرصد أبواب الفساد ومنافذه ،فيقفلها ..ويمنع أحدا أن يفتحها..
جه "الشباب" الى هدف رفيع ،وأن يقود الشعب برسالة إيلمية إن من واجبات "الحاكم" :أن يو ّ
واضحة ،وأن ل يدع الناس ضحية الفراغ ..والضياع..
ي،
إن من واجبات "الحاكم" :أن يفتح للشباب أبواب العلوم كافة ،ويرفع مستواهم العلم ّ
ويشجعهم على التحصيل ..والتأليف ..والختراع..
إن من واجبات "الحاكم" :أن يساعد الناس على معيشتهم ،بأن يسّهل لهم سبل العمل ،بالتجارة
صن "الشباب" من المفاسد..
والزراعة والصناعة ..وأن يح ّ
خر إعلمه كله ..لتوجيه "الشباب" والناس عامة التوجيه إن من واجبات "الحاكم" :أن يس ّ
السليم ،وأن يغرس فيهم الخلق الفاضلة الحسنة ،ويربّيهم التربية الصالحة.
إن من واجبات "الحاكم" :أن يكون هو إمام المسلمين في صلتهم ،وأول المواظبين على
الفرائض ..وأحرص الناس على طاعة ال عز وجل ..كما كان خلفاؤنا الصالحون..
إن من واجبات "الحاكم" :أن ل يكون في الناس مظلوم ..أو مضطهد ..أو :مقهور ..أو يتيم
مشّرد ..أو :عاجز ..أو :هرم ..لمعيل له..
"الوالدان" مسؤولن من دون شك عن أولدهما ،وعلى الخص الب ،الذي تقع على عاتقه
مسؤولية إعالة أسرته ،والنفاق عليها ،الى حد كفايتها جميع جاحاتها.
وليس هذا هو غرضنا في موضوعنا هنا ،بل إن غرضنا هو :بيان مسؤولية كل من البوين
عن الولد ،من حيث :التربية ،والتوجيه ،والرشاد ،والتعليم ،وذلك عمل بما أمرنا ال تعالى به،
ورسوله صلى ال عليه وسلم.
إن ال عز وجل أمر المسلمين بأن يجّنبوا أنفسهم وأهليهم النار ،فقال تعالى }:يا أيها الذين آمنوا
قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملئكة غلظ شداد ل يعصون ال ما
أمرهم ويفعلون ما يؤمرون{.
والنبي صلى ال عليه وسلم ،أمر البوين :بتربية الولد على اليمان والعمل الصالح،
وبتعليمهم "الصلة" وهم أبناء سبع سنين ،وبضربهم عليها ضربا غير مبّرح وهم ابناء عشر،
وبتعويدهم على ترك المحّرمات ،وفعل الطاعات والداب.
ولذلك :فإنه ل يجوز للبوين أيضا أن يهمل هذه المسؤولية ،ولو كان أولدهما في مدرسة
تعلمهم أمور الدين ،بل عليهما أن يثبتا من معرفة أولدهما أمور بأمور دينهم ،ل أن يتركا المر
على عواهنه..
ول يجوز للبوين أيضا :أن يتركا تتبع أحوال أولدهما ،بل عليهما أن يسأل عمن يعاشرون من
الّرفقة والصحاب ،وإلى أين يذهبون ..وأن يحذراهم دائما من معشر السوء ..وأن يراقبا ما
يقرأون من كتب ومجلت ..وما يشاهدونه ويسمعونه من أفلم وتسجيلت ..وخصوصا في هذا
اليام ،التي كثرت فيها أفلم الخلعة والدعارة ـ الجنس ـ بواسطة ما يعرف بـ "الفيديو"..
إن البوين مؤتمنان على أمانة غالية ،هي :ولدهما ..فلذة كبدهما ..فليحسنا إليه ..وليقّدما إليه
النصيحة والرشاد ..وليبذل جهدهما من أجل تنشئته تنشئة صالحة ،لتقّر به عيونهما ..وإن هما
جانبهما النجاح ..فلم يصلح حال ولدهما بعد بذل الجهد ..فقد وضعا عنهما المسؤولية ..وبرئا الى
ي العظيم.
ال عز وجل من سوء عمله ..ول حول ول قوة إل بال العل ّ
ب المدرسة ،إذ من دونهما ل فائدة للمدارسنعني بالمدرسة والجامعة :المعلم والستاذ ..فهما ل ّ
ول للجامعات ،و"المعلم" هو الحامل لمانة "العلم" ،الناقل لهذه المانة إلى الجيال.
إن مهمة "المعلم" ليست محصورة في تلقين "العلم" كما يلقن "الببغاء" ،ليردده الطالب
ل الطالبة على نور
ويحفظه ،بل :إن العلم نوران وهو هدى وضياء ،وواجب " الستاذ" إن يد ّ
العلم وهداه ..وأن يرشدهم الى فضائله ومنافعه :الدنيوية والخروية ..وأن يطبعهم بطابع
شخصيته المسلمة الصحيحة ،فيكون لهم القدوة الحسنة ،والمثل الفضل ،في علمه ..وعمله..
وأخلقه..
وكلمنا عن "العلم" ل ينحصر في :المعلم الرجل ،بل يتناول المعلمة المرأة أيضا ،التي صار
لها في مجال التعليم أثر كبير ،فهي مدعّوة الى إحسان تعليم الطالبات ،لينشأن متعلمات مؤمنات
صالحات ..وهي مأمورة بأن تكون قدوة للطالبات في حشمتها ..وأخلقها ..ووقارها ..وتدّينها ..ل
أن تكون مفسدة للبنات ..بتهتكها واستخفافها بالخلق والداب..
إن هدفنا من كل هذا الكلم :أن ل تكون المدرسة مركز" :محو أمية" ،يعّلم الطلبة القراءة
والكتابة ..فحسب ..ومع السف :فإن كثيرا من المعاهد هي من هذا النوع ..إذ ل شيء فيها يطّبق
مبادئ "التربية" ،بل هناك "تعليم" فقط ..أي" :محو أمّية" ..أما "التربية" فل وجود لها في تلك
المعاهد ..فينشأ الطالب فيها متعلما ..مثقفا ..يحمل أعلى الشهادات ..ولكنه :من دون تربية ..فهو
ل ..مائع ..ل مبالي بأمور الدين ..ل يعرف معنى" :الحياء" ول "ألعيب".. منح ّ
ومن المؤسف أيضا :أن كثيرا ممن يقومون بالتعليم ،ليسوا أهل للتربية ..لنهم أنفسهم بحاجة
الى "تربية" ..وعندما يكون "المعلم" بحاجة الى "تربية" ،فكيف نتوقع من إنتاجه جيل ذا تربية
سليمة؟؟ ..وهنا يجضرني بيت من الشعر قاله أحد العلماء ،في بعض علماء عصره ،الذين
صروا في حمل المسؤولية:
ق ّ
من يصلح الملح إذا الملح فسد؟ يا معشر العلماء يا ملح البلد
آثرنا أن يكون عنوان هذا البند ":تأثير الصديق" ،لن "الصديق" ل يتميز عن صديقه بشيء،
فهما يتبادلن التأثير ،فأيهما كان أقوى شخصية أثر في صاحبه ،وقاده الى حيث يريد..
ومرادنا بالصديق :هو الرفيق والصاحب ،الذي يعاشره النسان ،ويسهر معه ..ويرافقه ..ولهذا
الصاحب تأثير كبير على صاحبه ،فلذا قيل ":قل لي من تعاشر ..أقل لك :من أنت."..
وقد حذر النبي صلى ال عليه وسلم من مصاحبة الشرار ،وبين أضرار ذلك ،فروى أبو داود
والترمذي ،عن أبي سعيد الخدري ،رضي ال عنه ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ":ل
ي" ،وروى أبو والترمذي ،عن أبي هريرة ،رضي ال تصاحب إل مؤمنا ،ول يأكل طعامك إل تق ّ
عنه :أن النبي صلى ال عليه وسلم قال ":الرجل على دين خليله ،فلينظر أحدكم من يخالل"،
و"الخليل" :هو الصديق القريب المحبوب ،وفي هؤلء يقول ال عز وجل }:الخلء يومئذ
بعضهم لبعض عدو إل المتقين{ ،أي :الصحاب في الدنيا ،المتفقون فيهاعلى معصية ال تعالى،
يكونون يوم القيامة أعداء ،يتبادلون اللوم والتعنيف ،أما المتقون من الصدقاء ،الذين تلقوا في
الدنيا على محبة ال تعالى وطاعته ،فليسوا في الخرة كذلك ،بل يزداد ودهم ،وتقوى صداقتهم،
ويشكرون ال عز وجل على رحمته ورضوانه.
فعلى كل شاب أو شابة ،أن يحسن اختيار صديقه ورفيقه ،فإن نفع الصديق كبير ،كما أن ضرره
خطير ..فمن صادق الصالحين اكتسب منهم وأخذ عنهم ..ومن عاشر الفاسقين المائعين ..أصيب
بمرضهم ..والصابة إذا وقعت ،فهي خطيرة جدا ..وقلما شفي شاب طول عمره ..من عادة
سيئة ..علمه إّياها ..صديق..
نعني بالمجتمع :عموم الناس ،أي :ما يعرف اليوم بالرأي العام ،فالناس بمشاعرهم العامة،
بإمكانهم أن يساعدوا على إصلح الفاسد ،وتقويم المعّوج ،وإذا سلطوا ألسنتهم على إنسان قضوا
عليه.
ومن واجبات المجتمع :أن يكون يقظا حذرا ،لئل تتسرب إليه الخلق السيئة ،والمفاسد
والمنكرات ،وأن يحارب كل انحراف عن جاّدة الصواب والحق ،وأن يحمي نشأة شبابه من
المؤذيات ،فيكون دائنافي موقف الحذر ..المدافع ..الحريص..
ومن ناحية أخرى :فإن على المجتمع أن يساعد المنحرفين على الستقامة ،إذا هم سلكوا سبيلها،
وعلى التوبة إذا هم أعلنوها ،وأن يغفر لهم ،وينسى سوء أعمالهم ،كما قال تعالى }:قل للذين
آمنوا يغفروا للذين ل يرجون أيام ال ليجزي قوما بما كانوا يكسبون{ ،وهذه مسألة مهّمة جدا،
فإن الناس ـ مع السف ـ ل ينسون ذنوب سواهم ،ول يعرضون عنها ،ولو تاب المذنب وأصلح
عمله ..وهذا الموقف ،يدفع بالكثيرين من هؤلء التائبين :إما الى اليأس ..والنزواء ..وإما الى
العودة الى حياة الجرام والرذيلة...
ل بحسب طاقته واستطاعته ،لنهم كالجسد إن المسلمين مسؤولون جميعا ،بعضهم عن بعض ،ك ّ
ب لخيه ما يحّبه
الواحد ،إذا اشتكى منه عضو اشتكى كله ،والمؤمن ل يكمل إيمانه إل إذا أح ّ
ب الذات ،وعلى لنفسه ،وكره لخيه ما يكرهه لنفسه ،وما سوى ذلك فهي :النانية ..والثرة ..وح ّ
حساب الخرين ..وليس ذلك من أخلق المؤمنين.
ل؟
ما هو الح ّ
ونحن ذكرنا في الفصل السابق :من هو المسؤول ..على نحو ما جعل المسؤولية على عاتق
الجميع ..فل أحد غير مسؤول ..بدءا من "الحاكم" ..وانتهاء بالمواطن الفرد ..فكلنا مسؤول..
وسوف نسأل عن هذه المسؤولية..
ل لهذه الزمات ..والمخرج من هذه الورطات ..فإنه بإيجاز" :السلم" ..أجل :إنه أما الح ّ
السلم ..بتشريعاته واحكامه ،وآدابه وأخلقه ..وتكاليفه ،وأوامره ،ونواهيه..
خاتمة
تّم بعونه تعالى تبييض هذا الكتاب:
"أزمات الشباب"
في شهر محّرم عام 1411ه
الموافق لشهر آب عام 1990م
في مدينة "بيروت"
والحمد ل رب العالمين
هذا الكتاب
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ال عنه:
ن ،فسيح الصدر ،بّين اللسان.
سّب ال ّ
"يا قبيضة بن جابر إني أراك شا ّ
ب ،يكون فيه تسعة أخلق حسنة ،وخلق سيء ،فيفسد الخلق السيء الخلق الحسنة. ن الشا ّ
وإ ّ
فإياك وعثرات الشباب".
رواه البيهقي والحاكم.