You are on page 1of 91

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪475 :‬‬

‫الخطبة الشامية‬
‫تأليف‬
‫بديع الزمان سعيد النورسى‬
‫ترجمة وتحقيق‬
‫إحسان قاسم الصالحى‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪477 :‬‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫بين يدي هذه الرسالة‬
‫من واله‪،‬‬
‫الحمد لله والصلة والسلم على رسول الله و َ‬
‫وبعد؛‬
‫فقد ألقى الستاذ بديع الزمان سعيد النورسي‪ ،‬وهو في‬
‫شرخ الشباب هذه الخطبة باللغة العربية في الجامع‬
‫الموي بدمشق‪ ،‬برجاٍء من علماء الشام وإلحاحهم‪،‬‬
‫وحضرها جمهور غفير من الناس يربون على عشرة آلف‬
‫شخص‪ ،‬فاستمعوا اليها بلهفة وشوق‪ ،‬حتى ان الخطبة لما‬
‫ُُ‬
‫ت نسخها في غضون ايام قليلة‬ ‫طبعت لول مرة نفد ْ‬
‫فُاعيد طبعها خلل اسبوع واحد‪.‬‬
‫كان ذلك في شتاء سنة ‪1911‬م‪ ،‬اي قبل اندلع الحرب‬
‫العالمية الولى‪ .‬ثم توالت ايام الحرب الدامية‪ ،‬وانتهت‬
‫بُأفول نجم الدولة العثمانية‪ ،‬وبدأت بعدها أيام محن توالت‬
‫على الستاذ النورسي بسلسلة اعتقالته ونفيه ومحاكماته‬
‫التي دامت حتى سنة ‪1950‬م‪.‬‬
‫ن له مراجعة هذه‬
‫فطوال هذه السنين العجاف لم يتس ّ‬
‫الخطبة‪ ،‬بل حتى أنه لم يرها‪ ،‬الى أن أرسل اليه في سنة‬
‫ة‬
‫‪1951‬م أحد أصدقائه من مدينة "وان" نسخة مطبوع ً‬
‫منها‪.‬‬
‫كان الستاذ النورسي عند ذاك في منفاه في "اميرداغ"‬
‫فأعاد النظر في خطبته التي القاها قبل اربعين سنة‪ ،‬وبدأ‬
‫بترجمتها الى التركية‪ ،‬أو بالحرى بتنقيحها وصياغتها‬
‫م اليها فقرات مهمة وهوامش قّيمة ‪ 1‬وحذف‬ ‫مجددًا‪ ،‬إذ ض ّ‬
‫منها ما يحدد شموليتها‪ ،‬وأحال بعض مسائلها الى اجزاء‬
‫رسائل النور‪ ،‬ثم دّرسها لقسم ٍ من طلبه‪.‬‬

‫_____________________‬
‫ذيلت هوامش المؤلف بـ " المؤلف"‪ ،‬وحصرت العبارات‬‫‪ُ 1‬‬
‫العربية التي وردت في النص التركي بين قوسين مركنين‬
‫][‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪478 :‬‬


‫قام المل عبد المجيد "شقيق الستاذ النورسي" بترجمة‬
‫هذا النص التركي الى العربية ‪ -‬بتوصية من المؤلف نفسه‬
‫ت بالستنساخ اليدوي في اوساط‬‫‪ -‬حسب اسلوبه وُنشر ْ‬
‫ضيقة‪ ،‬اذ كانت الطباعة محظورة بالحروف العربية آنذاك‪.‬‬
‫وفي بداية الستينات تناول الدكتور محمد سعيد رمضان‬
‫البوطي ترجمة المل عبد المجيد هذه‪ ،‬وصاغها باسلوبه‬
‫ت منها طبعات كثيرة في حينه ‪.1‬‬
‫العذب‪ .‬وُنشر ْ‬
‫ولكن لما كانت الترجمة العربية هي في الصل غير كاملة‬
‫وغير مستوعبة للموضوع‪،‬فقد جاءت تلك الصياغة الجميلة‬
‫‪ -‬مع السف ‪ -‬ينقصها الكثير من الفقرات المهمة‬
‫والمسائل الجليلة التي تمس الحداث‪،‬فضل ً عن ان‬
‫الصياغة اقتصرت على الخطبة وحدها دون ذيولها‬
‫ولواحقها‪.‬‬
‫ثم تناول الستاذ عاصم الحسيني النص التركي بالترجمة‬
‫الى العربية‪ ،‬فأجاد اسلوبا ً وأداًء للمعنى‪ ،‬وقام طلب النور‬
‫بطبعها في المطبعة البولسية ببيروت سنة ‪1974‬م‪.‬‬
‫قابلت ترجمة الخ عاصم بالنص التركي فتوصلت الى‬
‫التي‪:‬‬
‫‪ -1‬انها ترجمة قيمة ل ترقى اليها ترجمة اخرى‪ ،‬سواًء في‬
‫الداء أو السبك الرصين للجمل‪ ،‬وهي تكاد تكون مطابقة‬
‫لمتن الخطبة بالنص التركي‪ ،‬إل ّ في بعض الجمل أو أجزاءٍ‬
‫من فقرات‪.‬‬
‫‪ - 2‬بيد أن الخ الكريم لم تتح له الفرصة ‪ -‬كما يبدو ‪-‬‬
‫لكمال ترجمته‪ ،‬فلم يترجم ذيول الخطبة كاملة‪ ،‬اذ‬
‫المقالت التي كتبها الستاذ النورسي في الصحف المحلية‬
‫في عهد التحاديين وألحقها بالنص التركي‪ ،‬ذات اهمية في‬
‫إعطاء الصورة الكاملة والواضحة للحوال السياسية‬
‫والجتماعية وكذا التيارات الفكرية التي كان يموج بها‬
‫ذ‪.‬‬
‫المجتمع وقتئ ٍ‬
‫ي القيام بترجمة النص‬‫‪ - 3‬ولجل هذا كله‪ ،‬رأيت لزاما ً عل ّ‬
‫التركي للخطبة مجددًا‪ ،‬مع ذيولها ولواحقها كاملة‪ ،‬ليلمس‬
‫القارئ الكريم بنفسه أبعاد المسائل التي يطرقها الستاذ‬
‫طلع عليها من جميع جوانبها‪.‬‬ ‫النورسي وي ّ‬

‫ولقد انتهجت اثناء الترجمة والمقابلة على النص التركي‬


‫والعربي‪ ،‬الخطوات التية‪:‬‬
‫_________________‬
‫‪ 1‬طبعت الطبعة الولى منها في مطبعة بركات بدمشق‪.‬‬
‫المترجم‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪479 :‬‬


‫‪ - 1‬اعتبار النص التركي الذي صاغه الستاذ النورسي‬
‫بنفسه هو الساس‪ ،‬مع ذيوله ولواحقه‪ .‬وهو النص نفسه‬
‫الـذي وضـعـه الستـاذ ضمـن مبـاحث كتاب )‪Tarihçe-i‬‬
‫‪ (Hayat‬أي "السيرة الذاتية" الذي قام بتأليفه طلبه‬
‫المقّربون وأقّره بنفسه و ُ‬
‫طبع في حياته‪ .‬والنسخة التي‬
‫ت عليها من الخطبة هي من منشورات "دار‬ ‫اعتمد ُ‬
‫سوزلر" في استانبول سنة ‪1979‬م‪.‬‬
‫‪ - 2‬مقابلة كل فقرة في النص التركي بالنسخة العربية‬
‫لنص الخطبة المطبوعة في استانبول ‪ -‬لول مرة ‪ -‬سنة‬
‫‪1922‬م في مطبعة الوقاف السلمية‪ .‬علما ً أن هذا‬
‫النص الول العربي لم تبق له إل ّ اهميته التاريخية حيث‬
‫نّقحه المؤلف بنفسه كما ذكرنا‪.‬‬
‫‪ - 3‬الكتفاء بترجمة الخ عاصم الموافقة للنص التركي مع‬
‫إجراء ما يلزم من تغييرات في الفقرات والجمل ليقّربها‬
‫اكثر الى معنى النص التركي وليفي بمراد المؤلف‪ .‬مع‬
‫إكمال الجمل أو الفقرات الناقصة فيها‪.‬‬
‫‪ - 4‬ترجمة الذيول بكاملها والمقالت الملحقة بها‪.‬‬
‫‪ - 5‬وضع هوامش ضرورية للقارئ الكريم ليضاح ما‬
‫يستغلق عليه من مصطلحات سياسية وتاريخية كانت‬
‫معروفة ومتداولة في حينها‪.‬‬
‫‪ - 6‬استخراج اليات الكريمة من القرآن الكريم ووضع‬
‫اسم السورة ورقم الية‪.‬‬
‫‪ - 7‬تخريج الحاديث الشريفة اعتمادا ً على الكتب‬
‫الموثوقة‪.‬‬
‫والله نسأل أن يوفقنا لحسن القصد‪ ،‬وصحة الفهم‪،‬‬
‫وصواب القول وسداد العمل وص ّ‬
‫ل اللهم على سيدنا‬
‫محمد وعلى آله وصحبه اجمعين‪.‬‬

‫احسان قاسم الصالحي‬


‫المحرم الحرام ‪1409‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪481 :‬‬


‫دمة‬
‫مق ّ‬
‫الخطبة الشامية للمؤلف‬

‫باسمه سبحانه‬
‫ئ إل ّ يسبح بحمده(‬
‫)وإن من ش ٍ‬

‫السلم عليكم ورحمة الله وبركاته ابدا ً دائمًا‪.‬‬


‫اخواني العزاء الوفياء!‬
‫ت درسا ً في الجامع الموي‬ ‫ُ‬
‫هذه الرسالة العربية قد ألقي ْ‬
‫بدمشق منذ اربعين عامًا‪ ،‬وذلك بناءً على اصرار العلماء‬
‫هناك‪ ،‬واستمع اليها ما يقرب من عشرة آلف شخص‪،‬‬
‫بينهم ما ليقل عن مائة من كبار علماء الشام‪.‬‬
‫سها "سعيد القديم"‬
‫ان الحقائق الواردة فيها‪ ،‬قد أح ّ‬
‫باحساس مسبق‪ .‬فزّفها بشائر عظيمة بيقين جازم‪ ،‬ظنا ً‬
‫منه أن تلك الحقائق وشيكة التحقق‪ ،‬بيد أن الحربين‬
‫الُعظميين‪ ،‬والستبداد المطلق الذي استمر ربع قرن من‬
‫ديا الى تأخر تحقق تلك الحقائق أربعين أو‬‫الزمان ‪ ،1‬قد أ ّ‬
‫خمسين عامًا‪.‬‬
‫والن وقد بدأت تباشير تحقق ما أخبر عنه تلوح في افق‬
‫العالم السلمي‪ .‬بمعنى ان هذا الدرس المهم ليس مجرد‬
‫خطبة قديمة‪ ،‬قد عفا عليها الزمن‪ ،‬بل هو درس اجتماعي‬
‫اسلمي‪ ،‬يحتفظ بكامل جدته وطراوته وحقيقته طوال‬
‫هذه الفترة‪ ،‬وكل الذي حدث هو أن عام ‪1327‬هـ قد‬
‫اصبح عام ‪1371‬هـ وان الجامع الموي قد حل محّله جامع‬
‫العالم السلمي الذي يضم ثلث مائة وسبعين مليون‬
‫نسمة ‪.2‬‬
‫ان درسا ً كهذا جدير الن بالترجمة على ما اعتقد‪.‬‬
‫سعيد النورسي‬
‫_____________________‬
‫‪ 1‬أى منذ انتهاء الخلفة العثمانية سنة ‪ 1923‬م الى سنة‬
‫‪ 1950‬م ‪ -‬المترجم‬
‫‪ 2‬تعداد المسلمين آنذاك‪ .‬المترجم‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪482 :‬‬
‫نهج رسائل النور‬
‫في التبليغ‬

‫م عن سؤال في غاية الهمية‪ ،‬اذ‬


‫ب مه ٌ‬
‫جل هنا جوا ٌ‬ ‫"يس ّ‬
‫س مسّبق‪ ،‬في درسه ذاك‬ ‫يذكر"سعيد القديم" باحسا ٍ‬
‫الذي القاه قبل اربعين سنة دروس رسائل النور الخارقة‬
‫وتأثيراتها‪ ،‬وكأنه يراها"‪.‬‬
‫لقد سألني الكثيرون وسألوا بعض اخواني النوريين‪،‬‬
‫ومازالوا يسألون‪ :‬لماذا ل ُتهزم "رسائل النور" أمام هذا‬
‫متعّنتين وارباب‬ ‫الحشد الغفير من المعارضين والفلسفة ال ُ‬
‫الضلل؟ فعلى الرغم من اقامتهم سدا ً منيعا ً ‪ -‬الى حدٍ ما‬
‫‪ -‬ليحول دون انتشار مليين الكتب اليمانية والسلمية‬
‫القيمة‪ ..‬وعلى الرغم من حرمانهم الكثير من الناس‪ ،‬ول‬
‫سُبل‬
‫سيما الشباب البرياء من حقائق اليمان بتسهيل ُ‬
‫ذات الحياة الدنيا‪ ..‬وعلى الرغم‬ ‫السفاهة لهم واغرائهم بمل ّ‬
‫من محاولتهم كسر شوكة رسائل النور بشتى وسائل‬
‫الغدر واساليب الهجوم العنيفواختلق الكاذيب واشاعة‬
‫الدعايات الزائفة وتخويف الناس منها وحملهم على‬
‫التخلي عنها‪ ..‬وعلى الرغم من ذلك فقد انتشرت رسائل‬
‫النور‪ .‬فما الحكمة من انتشارها انتشارا ً لم يسبق له‬
‫مثيل‪ ،‬حتى بلغ ما نسخ من معظمها باليد فقط ستمائة‬
‫الف نسخة‪ ،‬وهي تحظى بانتشار واسع ويتلقاها الناس‬
‫بشوق بالغ في الخفاء‪ ،‬وتستقرئ نفسها في داخل البلد‬
‫وخارجها بكمال المسّرة والمحبة؟‪.‬‬
‫فجوابا ً عن أسئلة كثيرة ترد ُ بهذا المعنى نقول‪:‬‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪483 :‬‬
‫الجواب‪:‬‬
‫ان رسائل النور التي هي تفسير حقيقي للقرآن الكريم‪،‬‬
‫ببيان اعجاز معانيه الجليلة‪ ،‬تبين ان في الضللة جحيما ً‬
‫معنويا ً في هذه الدنيا‪ ،‬كما تثبت ان في اليمان نعيما ً‬
‫معنويا ً في الدنيا ايضًا‪ .‬وهي تبرهن أن في المعاصي‬
‫والفساد والمتع المحّرمة آلما ً معنوية مبّرحة‪ ،‬كما أن في‬
‫الحسنات والخصال الحميدة والعمل بالحقائق الشرعية‬
‫لذائذ معنوية أشبه ما تكون بملذات الجنة‪.‬‬
‫من كان له مسكة من عقل من‬ ‫فهي بهذا السلوب تنقذ َ‬
‫أهل السفاهة وارباب الضلل من التمادي في غّيهم‪ ،‬ذلك‬
‫لن في عصرنا هذا حالتين رهيبتين‪:‬‬

‫اولها‪:‬‬
‫ان نوازع النسان واحاسيسه المادية ل ترى العقبى‬
‫ضل درهما ً من لذ ّةٍ عاجلة على قنطار من لذات آجلة‪،‬‬ ‫فتف ّ‬
‫هذه الحاسيس قد طغت ‪ -‬في هذا العصر ‪ -‬على عقل‬
‫النسان وسيطرت على فكره؛ لذا فالسبيل الوحيد لنقاذ‬
‫السفيه من سفهه‪ ،‬هو الكشف عن ألمه في لذته نفسها‪،‬‬
‫ومساعدته على التغلب على احاسيسه تلك؛ اذ المرء في‬
‫زماننا هذا‪ ،‬مع علمه بلذائذ الخرة ونعيمها الثمين‬
‫متعا ً دنيوية تافهة اشبه ما تكون‬
‫ضل عليها ُ‬
‫كاللماس يف ّ‬
‫بقطع زجاجية قابلة للكسر! كما تشير اليها الية الكريمة‬
‫)الذين يستحبون الحياة الدنيا على الخرة( )ابراهيم‪.(3 :‬‬
‫وبناء على هذا ولشدة حّبه للدنيا تراه ينساق وراء ارباب‬
‫الضللة ويتبعهم بعد أن كان من أهل اليمان‪.‬‬
‫والسبيل الوحيد لنقاذه من خطر النسياق هذا‪ ،‬هو اظهار‬
‫آلم جهنم وعذابها في الدنيا ايضًا‪.‬‬
‫وهذا هو النهج الذي تسير عليه رسائل النور‪.‬‬
‫ان ما في عصرنا الحاضر من تعّنت اللحاد‪ ،‬وصدود‬
‫الضللت الناجمة من طغيان العلوم الحديثة وغرورها‬
‫والعراض الناشئ من اعتياد السفه والغي‪ ،‬قد جعلت‬
‫من يّتعظ واحدا ً من مجموع عشرة اشخاص‪ ،‬أو‬ ‫ة َ‬
‫نسب َ‬
‫ربما واحدا ً من عشرين شخصًا‪ ،‬بعد‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪484 :‬‬


‫أن ُيعّرف له الخالق جل جلله ويثبت له وجود جهنم‬
‫وف من عذابها ليتجنب الشرور والسيئات‪ ،‬ثم تراه‬ ‫ويخ ّ‬
‫يقول‪" :‬ان الله غفور رحيم‪ ..‬ان جهنم بعيدة جدًا!‪ ".‬ثم قد‬
‫حه أمام‬ ‫يستمر في لهوه وعبثه‪ ،‬فينهزم قلُبه وتنهار رو ُ‬
‫طغيان شهواته‪.‬‬
‫وهكذا فان "رسائل النور" تبين العواقب الوخيمة الليمة‬
‫التي تترتب على الكفر والضلل في هذه الدنيا‪ ،‬في‬
‫معظم الموازنات التي تعقدها‪ ،‬فتنّفر أشد الناس اتباعا ً‬
‫لهواهم واكثرهم تعّنتا ً وعنادًا‪ ،‬من الخوض في متعهم‬
‫المحرمة وسفاهتهم المشؤومة‪ ،‬وتدفع بالعقلء منهم الى‬
‫ق باب التوبة والستغفار‪.‬‬ ‫َ‬
‫طر ِ‬
‫وعلى سبيل المثال‪ :‬الموازنات المبسطة التي تتضمنها‬
‫الكلمات‪ :‬السادسة‪ ،‬والسابعة‪ ،‬والثامنة من "الكلمات‬
‫ولة التي يتضمنها الموقف‬ ‫الصغيرة"‪ ،‬والموازنة المط ّ‬
‫الثالث من الكلمة الثانية والثلثين‪ .‬هذه الموازنات تحمل‬
‫اشد الناس سفاهة وضللة على الرهبة والرعب‪ ،‬وعلى‬
‫قبول ارشادها والتعاظ بها‪.‬‬
‫ومث ً‬
‫ل‪ :‬نشير هنا بأختصار الى ما رآه ‪ -‬أي سعيد القديم ‪-‬‬
‫ل خيالي من خلل التدبر في آية‬‫من حقائق في اثناء تجوا ٍ‬
‫"النور"‪ .‬وتفصيله في "القسم الخامس من المكتوب‬
‫التاسع والعشرين من مجموعة المكتوبات" فمن شاء‬
‫فليراجعه‪ .‬والخلصة هي‪:‬‬
‫في اثناء سياحتي الخيالية تلك‪ ،‬رأيت عالم الحيوان‪ ،‬ذلك‬
‫وت‪ .‬وعندما تأملته من‬ ‫العالم المحتاج الى الرزق والتق ّ‬
‫وجهة نظر الفلسفة المادية‪ ،‬أظهر لي ‪ -‬ذلك العاَلم من‬
‫الحياء ‪ -‬عالما ً رهيبا ً مؤلمًا؛ بما فيه من ضعف وعجز فضل ً‬
‫عن مسيس احتياجه وشدة جوعه!‬
‫ت‬‫ولما كنت انظر اليه بعين اهل الضلل والغفلة اطلق ُ‬
‫ة ملؤها اللم والحزن‪ ،‬واذا بي أرى ذلك العالم‬
‫صرخ ً‬
‫بمنظار اليمان وحكمة القرآن‪ ،‬فاذا باسم "الرحمن"‬
‫س ساطعة‪ ،‬فأنار ذلك‬
‫يشرق من برج "الّرزاق" كشم ٍ‬
‫م الجائع البائس من الحياء واسبغ عليه نور رحمته‪.‬‬ ‫العال َ‬
‫ثم رأيت عاَلما ً آخر في عالم الحيوان هذا‪ ،‬ذلك هو عاَلم‬
‫عوزًا‪ ،‬وقد‬
‫الفراخ الصغار التي تنتفض ضعفا ً وعجزا ً و َ‬
‫تغشاه ظلم محزن أليم‪ ،‬يدعو كل انسان الى الشفاق‬
‫ت قائ ً‬
‫ل‪:‬‬ ‫عليه‪ .‬ولما كنت انظر بعين اهل الضللة‪ ،‬صح ُ‬
‫واحسرتاه! واذا‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪485 :‬‬
‫ت من خللها‪ :‬طلوع اسم‬ ‫ظارة‪ ،‬شاهد ُ‬‫باليمان يمنحني ن ّ‬
‫"الرحيم" من برج الشفقة‪ ،‬ينشر اضواءه الزاهية الجميلة‪،‬‬
‫ول ذلك العالم المحزن الى عالم بهيج‪ ،‬وقََلب‬‫حتى ح ّ‬
‫عبرات الشكوى واللم والحزن المنهمرة من عيني الى‬
‫دموع الفرح والشكر والمتنان‪.‬‬
‫ت‬‫ثم تراءى لي عالم النسان كشاشة سينمائية‪ ،‬فانعم ُ‬
‫النظر فيه بمنظار أهل الضللة‪ ،‬واذا به‪ :‬عالم مظلم‬
‫ت صرخة ألم ٍ من‬ ‫مرعب‪ ..‬لم اتمالك معه نفسي فاطلق ُ‬
‫ل‪ :‬وا أسفاه! ذلك لن آمال الناس‬ ‫أعماق قلبي قائ ً‬
‫وأمانيهم الممتدة الى البد‪ ،‬وتصوراتهم وافكارهم‬
‫المحيطة بالكون‪ ،‬وتطلعاتهم الجادة واستعداداتهم‬
‫الفطرية التواقة الى الخلود والجنة والسعادة البدية‪،‬‬
‫وقواهم الطليقة غير المحددة فطريًا‪ ،‬واحتياجاتهم‬
‫المتوجهة الى غايات ومقاصد ل منتهى لها‪ ،‬وتعرضهم ‪ -‬مع‬
‫ضعفهم وعجزهم ‪ -‬لهجمات ما ليحصى من المصائب‬
‫والعداء‪ ..‬مع كل هذا‪ ،‬لهم عمٌر جد ّ قصير‪ ،‬ويحيون حياةً‬
‫ملؤها الصخب والقلق‪ ،‬يذوقون مرارة الموت كل يوم بل‬
‫كل ساعة‪ ،‬يقاسون ضنك المعيشة في حياتهم ويتجرعون‬
‫آلم الفراق والزوال التي هي اوجع للقلب واثقل على‬
‫الوجدان‪ ،‬فضل ً عن انهم ينظرون الى القبر والمقبرة نظر‬
‫مون في‬ ‫أهل الغفلة وكأنه باب الى ظلم سرمدي‪ُ ،‬ير َ‬
‫غياهبه فردا ً فردا ً وطائفة إثر طائفة!‬
‫وهكذا‪ ..‬ففي الوقت الذي رأيت عالم النسان هذا غارقا ً‬
‫في مثل هذه الظلمات واذ انا على وشك الصراخ من‬
‫أعماق قلبي وروحي وعقلي‪ ،‬بل بجميع مشاعري بل‬
‫بجميع ذرات وجودي‪ ،‬اذا بالنور المنبعث من القرآن‬
‫واليمان الراسخ الناشئ منه‪ ،‬يح ّ‬
‫طم ذلك المنظار‬
‫ل‪ ،‬ويهب لعقلي بصرا ً نافذا ً أرى به السماء اللهية‬
‫المض ّ‬
‫الحسنى وقد اشرقت كالشمس الساطعة من بروجها؛‬
‫فاسم الله "العادل" رأيته بازغا ً من برج "الحكيم" واسم‬
‫"الرحمن" من برج "الكريم" واسم "الرحيم" من برج‬
‫"الغفور" ‪ -‬أي بمعناه ‪ -‬واسم "الباعث" من برج "الوارث"‬
‫واسم "المحيي" من برج "المحسن" واسم "الرب" من‬
‫برج "المالك" فأضاءت هذه السماء بنورها الباهر عوالم‬
‫ولتها الى عوالم‬‫كثيرة داخل عالم النسان المظلم‪ ،‬وح ّ‬
‫ت تلك الحالت الجهّنمية بما‬
‫مشرقة بهيجة‪ ،‬كما بدد ْ‬
‫ت من نوافذ الى عالم الخرة‪ ،‬حتى نثرت النوار الى‬ ‫فتح ْ‬
‫ت‪" :‬الحمد‬‫جميع جوانب ذلك العالم البائس للنسان‪ .‬فقل ُ‬
‫لله"‪"..‬الشكر لله‪ "..‬بعدد ذرات العالم‪ ،‬ورأيت بعين‬
‫ت علم اليقين‪:‬‬‫اليقين وعلم ُ‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪486 :‬‬


‫"ان في اليمان حّقا ً جنة معنوية‪ ،‬وان في الضلل جحيما ً‬
‫معنويا ً ايضا ً في هذه الدنيا ذاتها"‪.‬‬
‫م كرة الرض‪ ،‬فعكست‬ ‫ثم ظهر في تلك الجولة عال ُ‬
‫القوانين العلمية المظلمة بالفلسفة غير المنقادة للدين‪،‬‬
‫الى خيالي عالما ً في منتهى الغرابة والدهشة‪ .‬اذ تأملت‬
‫هذه الرض التي تزيد سرعة حركتها على سرعة طلقة‬
‫المدفع بسبعين مرة وتقطع مسافة خمسة وعشرين الف‬
‫سنة في سنة واحدة‪ ،‬وهي مع شيخوختها وهرمها معرضة‬
‫طم في كل لحظة‪ ،‬وتحمل في باطنها‬ ‫للتشتت والتح ّ‬
‫زلزل مخيفة‪ ،‬وعلى ظهرها هذا النسان البائس الذي‬
‫ت على‬ ‫تجوب به اجواء الفضاء غير المحدود‪ ..‬فاشفق ُ‬
‫وضع هذا النسان وسط هذا الظلم الدامس الموحش‬
‫ت‬
‫ت واظلم ِ‬ ‫المخيم عليه‪ ،‬ودار رأسي من هول ما رأي ُ‬
‫ت نظارة الفلسفة ارضا ً وحطمتها‬ ‫الدنيا امام عيني‪ ،‬فطرح ُ‬
‫كليا‪ .‬ونظرت الى المر ببصيرة وضاءة بحكمة القرآن‪،‬‬
‫واذا باسماء خالق الرض والسموات‪ :‬القدير‪ ،‬العليم‪،‬‬
‫ب السموات والرض ومسخر الشمس‬ ‫الرب‪ ،‬الله‪ ،‬ر ّ‬
‫والقمر‪ ،‬قد اشرقت من بروج الرحمة والعظمة والربوبية‬
‫شروق الشمس‪ .‬فغمرت ذلك العالم الحالك الموحش‬
‫ي المؤمنتين‬‫المذهل بنور زاهٍ باهر جعلني أبصر بعين ّ‬
‫هاتين‪ :‬ان الكرة الرضية في غاية النتظام والتسخير‬
‫والتكامل للنسان‪ ،‬وهي في امان وسلم‪ ،‬فيها رزق كل‬
‫ب عليها‪ ،‬كأنها سفينة سياحية مهيأة للتنّزه والراحة‬‫من يد ّ‬
‫َ‬
‫والستجمام والتجارة‪ .‬تتجول بما عليها من مخلوقات‪،‬‬
‫حول الشمس في مملكة ربانية واسعة‪ ،‬وهي مشحونة‬
‫بالرزق كأنها قطار أو سفينة أو طائرة مشحونة في الربيع‬
‫والصيف والخريف‪.‬فقلت وقتئذٍٍ "الحمد لله على نعمة‬
‫اليمان" بعدد ما في الرض من ذرات‪.‬‬
‫وفي ضوء هذا المثال تستطيع أن تقيس كثيرا ً من‬
‫الموازنات الخرى التي تتضمنها "رسائل النور" والتي‬
‫تثبت‪ :‬ان ارباب السفاهة والضلل يذوقون في الدنيا‬
‫نفسها عذابا ً جهنميا ً معنويًا‪ ،‬كما ان اهل الصلح واليمان‬
‫يعيشون في جنة معنوية في هذه الدنيا‪ .‬وبامكانهم أن‬
‫يتذوقوا طعوم لذائذ تلك الجنة المعنوية بحواسهم‬
‫ولطائفهم السلمية والنسانية وبتجليات اليمان وجلواته‪.‬‬
‫بل يمكنهم الستفادة من تلك اللذات حسب تفاوت‬
‫درجاتهم اليمانية‪.‬‬
‫بيد أن طبيعة هذا العصر العاصف الذي تسود فيه التيارات‬
‫طلة للمشاعر‪ ،‬والصارفة لنظار البشرية الى الفاق‬ ‫المع ّ‬
‫ة من النوع‬
‫ت صعق ً‬
‫الخاوية والغرق فيها‪ ،‬قد اوجد ْ‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪487 :‬‬
‫طل الحساس‪ ،‬لذا فان ارباب الضلل ليشعرون‬ ‫الذي يع ّ‬
‫بعذابهم المعنوي مؤقتًا‪ ،‬وان أهل الهداية بدورهم قد‬
‫داهمتهم الغفلة فليستطيعون ان يقـدروا لـ ّ‬
‫ذة اليمان‬
‫الحقيقية حق قـدرهـا‪.‬‬

‫الحالة الرهيبة الثانية لعصرنا الحالي‪:‬‬


‫ان انواع الضللة الناشئة من اللحاد والعلوم الطبيعية‪،‬‬
‫والتمرد المتولد من الكفر العنادي في الماضي‪ ،‬ليعتبران‬
‫من الضآلة بحيث ل ُيذ َ‬
‫كران اذا ما قيسا بما عليه الوضع‬
‫في وقتنا الراهن‪ ،‬لذا فقد كانت ادّلة علماء السلم‬
‫ودراساتهم كافية لسد ّ حاجات عصرهم‪ ،‬اذ كان كفر‬
‫عصرهم مبني ّا ً على الشك‪ ،‬فكانوا يزيلونه بسرعة؛ حيث‬
‫كان اليمان بالله يسود اوساط الناس‪ ،‬وكان من اليسير‬
‫ارشاد الكثيرين الى طريق الهداية والصراط السوي‪،‬‬
‫وانقاذهم من السفاهة والضلل‪ ،‬وذلك بالتذكير بالله‬
‫سبحانه والتخويف من عذابه فكان الكثيرون يتخّلون عن‬
‫غيهم‪.‬‬
‫أما اليوم فقد تغير الحال‪ ،‬اذ بينما كان يوجد ‪ -‬في‬
‫الماضي ‪ -‬ملحد واحد في بلد‪ ،‬يمكن العثور الن على مائة‬
‫كافر في قصبة واحدة‪ .‬وقد زاد عدد الذين يضلون بسبب‬
‫افتتانهم بالعلوم والفنون الحديثة ويقفون بعناد وتمّرد في‬
‫وجه حقائق اليمان اضعاف اضعاف الماضي بمائة مرة‪.‬‬
‫ولما كان هؤلء المعاندون يعارضون الحقائق اليمانية‬
‫بغرور فرعوني وبتضليلت رهيبة‪ ،‬فل مناص من أن‬
‫طم‬‫يجاَبهوا بحقائق قدسية في قوة القنبلة الذرية‪ ،‬لتح ّ‬
‫سهم في هذه الدنيا وتقف زحفهم‬ ‫مبادَءهم واس َ‬
‫وتجاوزهم‪ ،‬بل تحمل قسما ً منهم على التسليم واليمان‪.‬‬
‫فنحن نحمد الله اجزل الحمد ونشكره شكرا ً لمنتهى له‬
‫على أن "رسائل النور" قد اصبحت ترياقا ً شافيا ً لجروح‬
‫عصرنا الدامية ومعجزة معنوية من معجزات القرآن‬
‫الحكيم‪ ،‬ولمعة من لمعاته‪ ،‬فلقد استطاعت بموازناتها‬
‫العديدة ان تحارب اشد المعاندين المتعنتين بسيف القرآن‬
‫اللماسي‪ ،‬وتنصب الحجج وتقيم الدّلة على الوحدانية‬
‫اللهية وحقائق اليمان بعدد ذرات الكون‪.‬‬
‫ولعل هذا السّر هو الذي جعلها ل ُتغَلب ولتنهزم منذ‬
‫خمسة وعشرين عامًا‪ ،‬في وجه اشد الحملت شراسة‪،‬‬
‫بل كانت هي الغالبة على الدوام‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪488 :‬‬


‫نعم! ان موازنات الكفر واليمان‪ ،‬ومقايسات الهداية‬
‫والضلل التي تشتمل عليها "رسائل النور"‪ ،‬تثبت‬
‫بالمشاهدة هذه الحقيقة المذكورة‪ .‬فالذي يطالع براهين‬
‫ولمعات "الكلمة الثانية والعشرين" ‪ -‬بمقاميها ‪ -‬مثل ً أو‬
‫يجيل النظر في الموقف الول من "الكلمة الثانية‬
‫والثلثين"‪ .‬أو يقرأ نوافذ"المكتوب الثالث والثلثين"‪ ،‬أو‬
‫يتصّفح الحجج الحدى عشرة من مجموعة "عصا موسى"‬
‫واذا ما قاس سائر الموازنات والمقايسات الخرى على‬
‫ما ذكرناه يدرك جيدًا‪ :‬ان حقائق القرآن المتجلية في‬
‫"رسائل النور" هي التي تستطيع قطع دابر اللحاد وعناد‬
‫أهل الضلل المتمرد في زماننا هذا واستئصال شأفتهما‪.‬‬
‫وكما قد تجمعت الشذرات التي تميط اللثام عن وجه‬
‫ميات حقائق خلق العالم وأهم دقائق اسرار الدين في‬
‫مع ّ‬
‫مجموعة "الطلسم" فاملي بالله عظيم أن تجمع كذلك‬
‫تلك الجزاء المتناثرة ‪ -‬التي تثبت بالدلة والبراهين ‪ -‬ان‬
‫أهل الضللة يعيشون في جهنم في هذه الدنيا وان أهل‬
‫الهداية يذوقون لذائذ الجنة في هذه الدنيا ايضًا‪ ..‬وان‬
‫اليمان بذرة معنوية من بذور الجنة‪ ،‬والكفر نواة من نوى‬
‫زّقوم جهنم‪ .‬وآمل ان تجتمع تلك الجزاء من "رسائل‬
‫النور" في مجموعة موجزة وتنشر بعون الله وتوفيقه‪.‬‬

‫سعيد النورسي‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪489 :‬‬

‫الخطبة الشامية‬

‫تأليف‬
‫بديع الزمان سعيد النورسى‬
‫ترجمة وتحقيق‬
‫إحسان قاسم الصالحى‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪491 :‬‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬

‫نقدم اول ً ما يقدمه كل ذي روح بلسان حال حياته من‬


‫ل منهم من الحمد‬ ‫هدايا معنوية الى خالقه‪ ،‬وما يقدمه ك ٌ‬
‫والشكر بلسان حاله الى ذلك الواجب الوجود الذي قال‪:‬‬
‫)ل تقنطوا من رحمة الله( )الزمر‪ (53 :‬ونصلي ونسّلم‬
‫صلةً وسلما ً لمنتهى لهما على نبّينا محمد المصطفى‬
‫م‬
‫ت لتمم مكار َ‬‫عليه الصلة والسلم‪ ،‬الذي قال‪):‬انما بعث ُ‬
‫الخلق( ‪ 1‬أي‪ :‬انما بعثني الله الى الناس لتتميم الخصال‬
‫الحميدة وانقاذ البشرية من الطباع الذميمة‪.‬‬
‫أما بعد!‬
‫فيا اخواني العرب الذين يستمعون الى هذا الدرس في‬
‫هذا الجامع الموي‪ .‬انني ما صعدت هذا المنبر والى هذا‬
‫المقام الذي هو فوق حدي‪ ،‬لرشدكم فهذا امٌر فوق‬
‫طوقي‪ .‬اذ ربما فيكم ما يقارب المئة من العلماء‬
‫الفاضل‪ .‬فمثلي معكم كمثل صبي يذهب الى المدرسة‬
‫صباحا ً ثم يعود في المساء ليعرض ما تعّلمه على ابيه‪،‬‬
‫طف في تصويبه وارشاده‪.‬‬ ‫ابتغاء تصحيح اخطائه والتل ّ‬

‫فشأننا معكم شأن الصبيان مع الكبار‪ ،‬فنحن تلمذة‬


‫بالنسبة اليكم وأنتم اساتذة لنا ولسائر أمة السلم‪ .‬وها‬
‫أنذا اعرض بعض ما تعلمته على اساتذتي‪:‬‬
‫لقد تعلمت الدروس في مدرسة الحياة الجتماعية‬
‫ت في هذا الزمان والمكان أن هناك ستة‬‫البشرية وعلم ُ‬
‫امراض‪ ،‬جعلتنا نقـف على اعتاب القرون الوسطى في‬
‫الوقت الذي طار فيه الجانب ‪ -‬وخاصة الوربيين ‪ -‬نحو‬
‫المستقبل‪.‬‬
‫_____________________‬
‫‪ 1‬راوه مالك في الموطأ بلغا ً عن النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ .‬وقال ابن عبد البر متصل من وجوه صحاح عن‬
‫ابي هريرة وغيره‪ .‬منها ما رواه احمد والخرائطي في اول‬
‫المكارم بسند صحيح عن ابي هريرة مرفوعا ً بلفظ انما‬
‫بعثت لتمم صالح الخلق‪) ...‬باختصار عن كشف الخفاء‬
‫للعجلوني ‪(1/211‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪492 :‬‬


‫وتلك المراض هي‪:‬‬
‫او ً‬
‫ل‪ :‬حياة اليأس الذي يجد فينا اسبابه وبعثه‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬موت الصدق في حياتنا الجتماعية والسياسية‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬ح ّ‬
‫ب العداوة‪.‬‬
‫رابعًا‪ :‬الجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين‬
‫بعضهم ببعض‪.‬‬
‫خامسًا‪ :‬سريان الستبداد‪ ،‬سريان المراض المعدية‬
‫المتنوعة‪.‬‬
‫سادسًا‪ :‬حصر الهمة في المنفعة الشخصية‪.‬‬
‫ولمعالجة هذه المراض الستة الفّتاكة‪ ،‬أبّين ما اقتبسته‬
‫من فيض صيدلية القرآن الحكيم ‪ -‬الذي هو بمثابة كلية‬
‫الطب في حياتنا الجتماعية ‪ -‬أبّينها بست كلمات‪ ،‬اذ ل‬
‫اعرف اسلوبا ً للمعالجة سواها‪.‬‬
‫الكلمة الولى‬
‫"المــل"‬
‫اي‪ :‬شدة العتماد على الرحمة اللهية والثقة بها‪.‬‬
‫نعم! انه بناء على ما تعلمته من دروس الحياة‪ ،‬يسّرني ان‬
‫ف بزوغ‬‫ف اليكم البشرى يامعشر المسلمين‪ ،‬بأنه قد أ َزِ َ‬ ‫أز ّ‬
‫أمارات الفجر الصادق ودنا شروق شمس سعادة عالم‬
‫السلم الدنيوية وبخاصة سعادة العثمانيين‪ ،‬ولسيما‬
‫سعادة العرب الذين يتوّقف تقدم العالم السلمي ورقّيه‬
‫على تيقظهم وانتباههم‪ ،‬فانني اعلن بقوة وجزم‪ ،‬بحيث‬
‫ُاسمع الدنيا كلها وأن ُ‬
‫ف اليأس والقنوط راغم ‪:1‬‬
‫ان المستقبل سيكون للسلم‪ ،‬وللسلم وحده‪ .‬وان‬
‫الحكم لن يكون إل ّ لحقائق القرآن واليمان‪ .‬لذا فعلينا‬
‫سمه الله لنا؛ إذ لنا مستقبل‬
‫الرضى بالقدر اللهي وبما ق ّ‬
‫ض مشوش مختلط‪.‬‬ ‫زاهر‪ ،‬وللجانب ما ٍ‬
‫فهذه دعواي‪ ،‬لي عليها براهين عدة‪ ،‬سأذكر واحدا ً ونصفا ً‬
‫فقط منها‪ ،‬بعد ان أمّهد لها ببعض المقدمات‪.‬‬
‫_____________________‬
‫‪ 1‬لقد اخبر«سعيد القديم» باحساس مسبق منذخمسة‬
‫واربعين عاما ً بأن العالم السلمي ‪ -‬وفي مقدمته الدول‬
‫العربية ‪ -‬سينجو من سيطرة الجانب وتحكمهم‪،‬‬
‫وسيشكلون دول ً اسلمية سنة‪ 1371،‬ولم يفكر آنذاك في‬
‫الحربين العالميتين ول في الستبداد المطلق الذي دام ما‬
‫شر بما كان سنة ‪ 1371‬وكأنه‬ ‫يقارب اربعين عامًا‪ ،‬فب ّ‬
‫‪ 1327‬دون أن يأخذ سبب التأخير بنظر العتبار‪ .‬المؤلف‪.‬‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪493 :‬‬
‫أما المقدمات فهي‪:‬‬
‫ان حقائق السلم تمتاز باستعدادها‪ ،‬استعدادا ً كامل ً لدفع‬
‫اهلها الى مراقي التقدم المادي والمعنوي معًا‪.‬‬
‫أما أنه مستعد للرقي المعنوي‪:‬‬
‫فاعلموا! ان التاريخ الذي يسجل الوقائع الحقيقية‪ ،‬اصدق‬
‫شاهد على حقيقة الحداث؛ فها هو التاريخ يرينا أن القائد‬
‫الياباني الذي هزم الروس يدلي بالشهادة التية في صدد‬
‫عظمة السلم وحقانيته‪" :‬انه بنسبة قوة الحقائق‬
‫السلمية وبنسبة التزام المسلمين تلك الحقائق‪ ،‬يزدادون‬
‫رقيا ً وتقدمًا‪ ،‬هكذا يرينا التاريخ‪ .‬ويرينا إيضا ً انه بقدر‬
‫ضعف تمسكهم بتلك الحقائق يصابون بالتوحش والتخلف‬
‫والضمحلل والوقوع في ألوان من الهرج والمرج‬
‫والضطرابات‪ .‬وُيغَلبون على أمرهم"‪ .‬أما سائر الديان‬
‫الخرى فالمر فيها على عكس السلم‪ ،‬أي‪ :‬بقدر ضعف‬
‫سك اتباعها وضعف تعصبهم وصلبتهم في دينهم‬ ‫تم ّ‬
‫يزدادون رقيا ً وتقدمًا‪ ،‬وعلى قدر تعصبهم وتمسكهم‬
‫بدينهم يتعّرضون للنحطاط والضطرابات‪.‬‬
‫ن الى الن‪.‬‬
‫هذا هو حكم التاريخ‪ ..‬وهكذا مّر الزما ُ‬
‫وما ارانا التاريخ قط منذ خير القرون والعصر السعيد الى‬
‫جحا ً عليه ‪ -‬بالمحاكمة‬
‫الن أن مسلما ً قد ترك دينه مر ّ‬
‫العقلية والدليل اليقيني ‪ -‬دينا ً آخر‪ ،‬على حين ان كثيرا ً من‬
‫اتباع الديان الخرى ‪ -‬حتى المتعصبين منهم‪ ،‬كالروس‬
‫جحوا بالمحاكمة والدليل العقلي‬ ‫القدامى والنكليز ‪ -‬قد ر ّ‬
‫دين السلم على أديانهم فدخلوا في السلم‪ .‬ولعبرة هنا‬
‫بتقليد العوام الذي ليستند الى دليل‪ ،‬كما لعبرة بالمروق‬
‫عن الدين والخروج على حقائقه‪ ،‬فهذه مسألة اخرى‪.‬‬
‫علما ً أن التاريخ يفيدنا بأن عدد من يدينون بالسلم ‪-‬‬
‫بالمحاكمة العقلية ‪ -‬جماعات وافواجا ً يزداد يوما ً بعد يوم‬
‫‪.1‬‬
‫_____________________‬
‫‪ 1‬والدليل على هذه الدعوى هو‪ ،‬انه مع قيام حربين‬
‫س نجد أنه‬
‫عالميتين رهيبتين‪ ،‬وظهور استبداد مطلق قا ٍ‬
‫بعد خمس واربعين سنة‪:‬‬
‫‪ - 1‬قبول بعض الدول الصغيرة كالسويد والنرويج وفنلندا‬
‫تدريس القرآن في مدارسها‪ ،‬وقبولها له ليكون سدا ً منيعا ً‬
‫امام الشيوعية واللحاد‪.‬‬
‫‪ - 2‬قيام عدد من الخطباء النكليز المشهورين باقناع‬
‫النكليز وحملهم على قبول القرآن‪.‬‬
‫‪ - 3‬موالة اكبر دول المعمورة في الوقت الحاضر‪ -‬وهي‬
‫امريكا ‪ -‬لحقائق الدين بكل قواها‪ ،‬واعترافها بأن آسيا‬
‫وافريقيا ستجدان السعادة والمن والسلم في ظل‬
‫السلم‪ .‬فضل ً عن تعاطفها مع دول اسلمية حديثة الولدة‬
‫ومحاولتها التفاق معها‪ ..‬كل ذلك يثبت صدق هذه الدعوى‬
‫التي قيلت قبل خمس واربعين سنة‪ ،‬وشاهد قوي‬
‫عليها‪.‬المؤلف‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪494 :‬‬


‫ولو اننا أظهرنا بأفعالنا وسلوكنا مكارم اخلق السلم‬
‫وكمال حقائق اليمان‪ ،‬لدخل اتباع الديان الخرى في‬
‫السلم جماعات وأفواجًا‪ .‬بل لربما رضخت دول العالم‬
‫وقاراته للسلم‪.‬‬
‫ان البشرية التي اخذت تصحو وتتيّقظ بنتائج العلوم‬
‫والفنون الحديثة‪ ،‬ادركت كنه النسانية وماهيتها‪ ،‬وتيّقنت‬
‫انه ل يمكنها ان تعيش همل ً بغير دين‪ ،‬بل حتى اشد الناس‬
‫إلحادا ً وتنكرا ً للدين مضطر الى أن يلجأ الى الدين في‬
‫آخر المطاف؛ لن‪:‬‬
‫"نقطة استناد" البشر عند مهاجمة المصائب والعداء من‬
‫الخارج والداخل‪ ،‬مع عجزه وقّلة حيلته‪ ،‬وكذا "نقطة‬
‫استمداده" لماله غير المحدودة الممتدة الى البد مع‬
‫فقره وفاقته‪ ،‬ليس ال ّ "معرفة الصانع" واليمان به‬
‫والتصديق بالخرة‪ ،‬فل سبيل للبشرية المتيّقظة الى‬
‫الخلص من غفوتها سوى القرار بكل ذلك‪.‬‬
‫دفة القلب جوهر الدين الحق‪ ،‬فسوف‬‫ص َ‬
‫ومالم يوجد في َ‬
‫تقوم قيامات مادية ومعنوية على رأس البشر‪ ،‬وسيكون‬
‫اشقى الحيوانات وأذّلها‪.‬‬

‫خلصة الكلم‪:‬‬
‫لقد تيّقظ النسان في عصرنا هذا‪ ،‬بفضل العلوم والفنون‬
‫ذر الحروب والحداث المذهلة‪ ،‬وشعر بقيمة جوهر‬ ‫ون ُ ُ‬
‫النسانية واستعدادها الجامع‪ ،‬وادرك ان النسان‬
‫باستعداده الجتماعي العجيب لم ُيخلق لقضاء هذه الحياة‬
‫المتقّلبة القصيرة‪ ،‬بل ُ‬
‫خلق للبد والخلود‪ ،‬بدليل آماله‬
‫الممتدة الى البد‪ .‬وان كل انسان بدأ يشعر ‪ -‬حسب‬
‫استعداده ‪ -‬أن هذه الدنيا الفانية الضيقة لتسع لتلك‬
‫وة الخيال‬
‫المال والرغبات غير المحدودة‪ ،‬حتى اذا قيل لق ّ‬
‫التي تخدم النسانية‪:‬‬
‫مري مليون سنة مع سلطنة الدنيا‪ ،‬نظير قبولك‬ ‫"لك ان تع ّ‬
‫موتا ً ابديا ً لحياة بعده اطلقًا‪ ".‬فلبد ان خيال ذلك النسان‬
‫مدا ً وحزنا ً ‪ -‬بدل ً‬
‫المتيّقظ الذي لم يفقد انسانيته سيتأوه ك َ َ‬
‫من أن يفرح ويستبشر ‪ -‬لفقده السعادة البدية‪.‬‬
‫وهذا هو السر في ظهور ميل شديد الى التحري عن‬
‫الدين الحق في اعماق كل انسان‪ ،‬فهو يبحث قبل كل‬
‫شئ عن حقيقة الدين الحق لتنقذه من الموت البدي‪.‬‬
‫ووضع العالم الحاضر خير شاهد على هذه الحقيقة‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪495 :‬‬


‫لقد بدأت قارات العالم ودوله بعد مرور خمسة واربعين‬
‫عاما ً وبظهور اللحاد تدرك ادراك كل فرد هذه الحاجة‬
‫البشرية الشديدة‪.‬‬
‫ثم ان اوائل اكثر اليات القرآنية وخواتمها‪ ،‬تحيل النسان‬
‫الى العقل قائلة‪ :‬راجع عقلك وفكرك ايها النسان‬
‫وشاورهما‪ ،‬حتى يتبين لك صدق هذه الحقيقة‪ .‬فانظروا‬
‫مثل ً الى قوله تعالى )فاعلموا‪ ..‬فاعلم‪ ..‬أفل يعقلون‪..‬‬
‫أفلم ينظروا‪ ..‬أفل يتذكرون‪ ..‬أفل يتدبرون‪ ..‬فاعتبروا يا‬
‫اولى البصار‪ (..‬وامثالها من اليات التي تخاطب العقل‬
‫م تتركون العلم وتختارون طريق‬ ‫البشري‪ .‬فهي تسأل‪ :‬ل ِ َ‬
‫ون عن رؤية الحق؟ ما‬ ‫م ْ‬
‫صبون عيوَنكم وتتعا َ‬ ‫م تع ُ‬
‫الجهل؟ ل ِ َ‬
‫الذي حملكم على الجنون وانتم عقلء؟ أي شئ منعكم‬
‫من التفكر والتدّبر في احداث الحياة‪ ،‬فل تعتبرون‬
‫ولتهتدون الى الطريق المستقيم؟ لماذا ل تتأملون ول‬
‫كمون عقولكم لئل تضلوا؟‪.‬‬ ‫تح ّ‬
‫ثم تقول ايها الناس انتبهوا واعتبروا! انقذوا انفسكم من‬
‫بليا معنوية تنزل بكم باتعاظكم من القرون الخوالي‪.‬‬
‫يا اخواني الذين يضمهم هذا الجامع الموي‪ ،‬ويااخواني في‬
‫جامع العالم السلمي! اعتبروا انتم ايضًا! وقّيموا المور‬
‫في ضوء الحداث الجسام التي مرت خلل السنوات‬
‫دون‬
‫الخمس والربعين الماضية‪ .‬كونوا راشدين يامن يع ّ‬
‫انفسهم من أولي الفكر والعلم‪.‬‬
‫نحصلمما سبق‪:‬‬
‫نحن معاشر المسلمين خدام القرآن نّتبع البرهان ونقبل‬
‫بعقلنا وفكرنا وقلبنا حقائقَ اليمان‪ ،‬لسنا كمن ترك التقلد‬
‫بالبرهان تقليدا ً للرهبان كما هو دأب اتباع سائر الديان!‬
‫م فيه ال ّ للعقل‬
‫وعلى هذا فان المستقبل الذي لحك َ‬
‫مه‬
‫والعلم‪ ،‬سوف يسوده حكم القرآن الذي تستند أحكا ُ‬
‫الى العقل والمنطق والبرهان‪.‬‬
‫وها قد اخذت الحجب التي كانت تكسف شمس السلم‬
‫تنزاح وتنقشع‪ ،‬وأخذت تلك الموانع بالنكماش‬
‫والنسحاب‪ .‬ولقد بدأت تباشير ذلك الفجر منذ خمس‬
‫واربعين سنة‪ ،‬وها قد بزغ فجرها الصادق سنة إحدى‬
‫وسبعين وثلثمائة والف‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪496 :‬‬


‫أو هو على وشك البزوغ‪ ،‬وحتى ان كان هذا الفجر فجرا ً‬
‫كاذبا ً فسيطلع الفجر الصادق بعد ثلثين أو أربعين عاما ً ان‬
‫شاء الله‪.‬‬
‫نعم فلقد حالت ثمانية موانع دون استيلء حقائق السلم‬
‫على الزمان الماضي استيلًء تاما ً وهي‪:‬‬
‫المانع الول والثاني والثالث‪:‬‬
‫جهل الجانب‬
‫وتأخرهم عن عصرهم )أي ُبعدهم عن الحضارة(‬
‫وتعصبهم لدينهم‬
‫فهذه الموانع الثلثة بدأت تزول بفضل التقدم العلمي‬
‫ومحاسن المدنية‪.‬‬
‫المانع الرابع والخامس‪:‬‬
‫كم القسيسين وسيطرة الزعماء الروحانيين على افكار‬‫تح ّ‬
‫الناس واذهانهم‪.‬‬
‫وتقليد الجانب لولئك القسيسين تقليدا ً أعمى‪.‬‬
‫فهذان المانعان ايضا ً يأخذان بالزوال بعد انتشار حرية‬
‫الفكر وميل النوع البشري الى البحث عن الحقائق‪.‬‬
‫المانع السادس والسابع‪:‬‬
‫تفشي روح الستبداد فينا‪.‬‬
‫وانتشار الخلق الذميمة النابعة من مجافاة الشريعة‬
‫ومخالفتها‪.‬‬
‫فان زوال قوة إستبداد الفرد الن يشير الى زوال استبداد‬
‫الجماعة والمنظمات الرهيبة بعد ثلثين أو اربعين سنة‪ .‬ثم‬
‫ان فوران الحمية السلمية والوقوف على النتائج الوخيمة‬
‫للخلق الذميمة كفيلن برفع هذين المانعين بل هما على‬
‫وشك ان ُيرفعا‪ ،‬وسيزولن زوال ً تاما ً إن شاء الله‪.‬‬
‫المانع الثامن‪:‬‬
‫توهم وجود نوع من التناقض بين مسائل من العلم‬
‫الحديث والمعنى الظاهري لحقائق السلم؛ هذا التوهم‬
‫سّبب الى حدٍ ما وقف استيلء الحقائق السلمية في‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪497 :‬‬


‫الماضي‪ .‬فمث ً‬
‫ل‪ :‬ان "الثور والحوت" اللذين هما عبارة عن‬
‫مَلكين روحانيين مأمورين بالشراف على الرض بأمر‬ ‫َ‬
‫سمان‪،‬‬‫ض انهما حيوانان حقيقيان مج ّ‬
‫الله‪ .‬تخّيلهما البع ُ‬
‫أي‪ :‬ثور ضخم وحوت جسيم‪ ،‬فوقف اه ُ‬
‫ل العلوم الحديثة‬
‫موقف المعارض للسلم لعـدم اطـلعهم على حقيقـة‬
‫التشبيه والمجاز‪.‬‬
‫وهناك مئات من المثلة كهذا‪ ،‬إذ بعد الطلع على الحقيقة‬
‫ل يجد أعتى الفلسفة مفرا ً من الستسلم والنصياع‪.‬‬
‫حتى ان رسالة "المعجزات القرآنية" قد اشارت الى كل‬
‫ض لها أهل العلم الحديث‪،‬‬ ‫آية من اليات التي تعّر َ‬
‫ل منها لمعة رائعة من لمعات اعجاز‬ ‫واظهرت ان في ك ٍ‬
‫مل‬‫ج َ‬ ‫القرآن‪ ،‬وبّينت ما ظّنه اه ُ‬
‫ل العلم مداَر نقدٍ في ُ‬
‫القرآن وكلماته‪ :‬أن في كل منها من الحقائق السامية‬
‫الرفيعة ما ل تطاوله يد العلم‪ ،‬وألجأ الفلسفة العنيدين‬
‫الى الستسلم والرضوخ‪ .‬وهذه الرسائل في متناول‬
‫الجميع‪ ،‬وفي امكان كل واحد الطلع عليها بسهولة‪،‬‬
‫وعليه ان يطلع عليها‪ ،‬ليرى كيف انهار هذا المانع فع ً‬
‫ل‪،‬‬
‫ة‪.‬‬
‫بعدما قيل منذ خمس واربعين سن ً‬
‫نعم‪ ،‬ان هناك مؤلفات قيمة لعلماء السلم في هذا‬
‫المجال‪ ،‬وكل المارات تدل على ان هذا المانع الثامن‬
‫سيضمحل تمامًا‪.‬‬
‫واذا لم يحدث ذلك الن‪ ،‬فانه بعد ثلثين أو اربعين عاما ً‬
‫سوف يتجّهز العلم‪ ،‬والمعرفة الحقيقية‪ ،‬ومحاسن المدنية‪،‬‬
‫بوسائل واعتدة كاملة فتتغلب ‪ -‬هذه القوى الثلث ‪ -‬على‬
‫الموانع الثمانية المذكورة وتقضي عليها‪ .‬وذلك ببعثها روح‬
‫التحري عن الحقائق‪ ،‬والنصاف والمحبة النسانية‬
‫وارسالها الى جبهات محاربة تلك العـداء الثمانـية‪.‬‬
‫ل‪ ،‬وسوف تقضي عليها قضاًء تاما ً بعد‬
‫وقد بدأت تهزمها فع ً‬
‫نصف قرن ان شاء الله‪.‬‬
‫نعم‪" ،‬الفضل ما شهدت به العداء"‪.‬‬
‫واليكم مثالين فقط من بين مئات المثلة‪:‬‬
‫المثال الول‪ :‬ان مستر كارليل احد مشاهير فلسفة‬
‫القرن التاسع عشر واشهر فيلسوف من القارة المريكية‬
‫يلفت انظار الفلسفة وعلماء النصرانـيـة بقـولـه‪:‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪498 :‬‬


‫"لقد جاء السلم على تلك الملل الكاذبة والنحل الباطلة‬
‫فابتلعها وحق له ان يبتلعها‪ ،‬لنه حقيقة خارجة من قلب‬
‫الطبيعة‪ ،‬وما كاد يظهر السلم حتى احترقت فيه وثنيات‬
‫العرب وجدليات النصرانية وكل ما لم يكن بحق فانها‬
‫‪1‬‬
‫حطب ميت أكلته نار السلم فذهب‪ ،‬والنار لم تذهب"‪.‬‬
‫ويزيد مستر كارليل فيقول بحق الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم‪:‬‬
‫"هو الرجل العظيم الذي عّلمه الله العلم والحكمة فوجب‬
‫‪2‬‬
‫علينا ان نصغي اليه قبل كل شئ"‪.‬‬
‫ويقول ايضًا‪:‬‬
‫"ان كنت في ريب من حقائق السلم فالولى بك أن‬
‫ترتاب في البديهيات والضروريات القطعية‪ ،‬لن السلم‬
‫من أبده الحقائق واشدها ضرورة"‪.‬‬
‫جل هذا الفيلسوف الشهير هذه الحقائق‬
‫وهكذا فقد س ّ‬
‫حول السلم في اماكن متفرقة من مؤلفه‪.‬‬
‫المثال الثاني‪ :‬هو المير بسمارك ‪ 3‬الذي يعتبر من أشهر‬
‫رجال الفكر في تاريخ اوروبا الحديث‪ .‬يقول هذا‬
‫الفيلسوف‪:‬‬
‫"لقد درست الكتب السماوية بإمعان‪ ،‬فلم اجد فيها‬
‫الحكمة الحقيقية التي تكفل سعادة البشرية‪ ،‬وذلك‬
‫للتحريف الذي حصل فيها‪ .‬ولكني وجدت قرآن محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم يعلو على سائر الكتب‪ .‬وقد وجدت‬
‫في كل كلمة منه حكمة‪ .‬وليس هناك كتاب يحقق سعادة‬
‫ب كهذا من كلم‬ ‫البشرية مثله‪ .‬ول يمكن أن يكون كتا ٌ‬
‫دعون ان هذه القوال اقوال محمدصلى‬ ‫البشر‪ .‬فالذين ي ّ‬
‫الله عليه وسلم يكابرون الحق وينكرون الضرورات‬
‫العلمية‪ ،‬أي أن كون القرآن كلم الله امٌر بديهي"‪.‬‬
‫وهكذا تنتج حقول الذكاء في امريكا واوروبا محاصيل‬
‫رائعة من امثال مستر كارليل وبسمارك من جهابذة‬
‫المحققين‪.‬‬
‫وفي ضوء هذه الحقيقة اقول وبكل اطمئنان واقتناع‪:‬‬
‫_____________________‬
‫‪ 1‬من ترجمة الستاذ محمد السباعي لكتاب "البطال"‪.‬‬
‫المترجم‬
‫‪ 2‬من ترجمة الستاذ محمد السباعي لكتاب "البطال"‪.‬‬
‫المترجم‬
‫‪ 3‬من مشاهير السياسيين اللمان )‪ (1898 - 1815‬وأحد‬
‫الذين حققوا الوحدة اللمانية‪ .‬وجعلوها في مقدمة الدول‬
‫في القرن التاسع عشر‪ .‬المترجم‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪499 :‬‬


‫حَبالى بالسلم‪ ،‬وستلدان يوما ً ما دولة‬
‫ان اوروبا وامريكا َ‬
‫حِبلت الدولة العثمانية باوروبا وولدت دولة‬
‫اسلمية‪ ،‬كما َ‬
‫اوروبية‪.‬‬
‫ايها الخوة في الجامع الموي‪ ،‬ويا اخواني في الجامع‬
‫السلمي بعد نصف قرن! أفل تنتج المقدمات التي أسلفنا‬
‫ذكرها حتى الن‪:‬‬
‫أن السلم وحده سيكون حاكما ً على قارات المستقبل‬
‫حكما ً حقيقيا ً ومعنويا ً وان الذي سيقود البشرية الى‬
‫السعادتين الدنيوية والخروية ليس ال ّ السلم والنصرانية‬
‫الحّقة المنقلبة الى السلم والمتفقة معه والتابعة للقرآن‬
‫بعد تحررها من التحريفات والخرافات!‬
‫الجهة الثانية‪ :‬ان السلم مستعد للرقي المادي‪:‬‬
‫ان السباب القوية التي تدفع السلم الى الرقي تبين أن‬
‫السلم سيسود المستقبل ماديا ً ايضًا‪.‬‬
‫فكما اثبتنا في الجهة الولى استعداد السلم معنويا ً‬
‫للرقي ُتظهر هذه الجهة اظهارا ً واضحا ً استعداد السلم‬
‫للرقي المادي وسيادته في المستقبل‪ .‬لن في قلب‬
‫الشخصية المعنوية للعالم السلمي قد اجتمعت وامتزجت‬
‫خمس قوىً ل ُتقهر‪ ،‬وهي في منتهى الرسوخ والمتانة ‪:1‬‬
‫القوة الولى‪:‬‬
‫"الحقيقة السلمية" التي هي استاذ جميع الكمالت‬
‫والمثل‪ ،‬الجاعلة من ثلثمائة وخمسين مليون مسلم‬
‫س واحدة والمجّهزة بالمدنية الحقيقية والعلوم‬
‫كنف ٍ‬
‫الصحيحة‪ ،‬ولها من القوة ما ل يمكن ان تهزمها قوة مهما‬
‫كانت‪.‬‬
‫_____________________‬
‫‪ 1‬نعم نفهم من استاذية القرآن واشارات درسه‪ :‬ان‬
‫القرآن بذكره معجزات النبياء‪ ،‬انما يدل البشرية على ان‬
‫نظائر تلك المعجزات سوف تتحقق في المستقبل‬
‫بالترقي‪ ،‬ويحث النسان على ذلك وكأنه يقول له‪ :‬هيا‬
‫اعمل وإسعَ لتنجز امثال هذه المعجزات‪ ،‬فاقطع مثل ً‬
‫مسافة شهرين في يوم واحد كما قطعها سليمان عليه‬
‫السلم‪ ،‬واعمل على مداواة اشد المراض المستعصية‬
‫كما داواها عيسى عليه السلم‪ ،‬واستخرج الماء الباعث‬
‫على الحياة من الصخر وانقذ البشرية من العطش كما‬
‫فعله موسى عليه السلم بعصاه‪ .‬وابحث عن المواد التي‬
‫تقيك شر الحرق بالنار‪ ،‬وألبسها كما لبسها ابراهيم عليه‬
‫السلم‪ .‬والتقط أبعد الصوات واسمعها وشاهد الصور من‬
‫اقصى المشرق والمغرب كما فعل ذلك بعض النبياء‪.‬‬
‫وأِلن الحديد كالعجين كما فعله داود عليه السلم‪ ،‬واجعل‬
‫الحديد كالشمع في يدك ليكون مدارا ً لجميع الصناعات‬
‫البشرية‪ ،‬كما تستفيدون فوائد جمة من الساعة والسفينة‬
‫اللتين هما من معجزات سيدنا يوسف وسيدنا نوح عليهما‬
‫السلم‪ .‬فاعملوا على محاكاتهما وتقليدهما‪ .‬وهكذا قياسا ً‬
‫على هذا نجد أن القرآن الكريم يسوق البشرية الى‬
‫الرقي المادي والمعنوي‪ ،‬ويلقي علينا الدروس ويثبت انه‬
‫أستاذ الجميع‪ .‬المؤلف‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪500 :‬‬


‫القوة الثانية‪:‬‬
‫"الحاجة الملحة" التي هي الستاذ الحقيقي للمدنية‬
‫والصناعات والمجّهزة بالوسائل والمبادئ الكاملة‪ ..‬وكذا‬
‫"الفقر" الذي قصم ظهرنا‪ .‬فالحاجة والفقر قوتان‬
‫لتسكتان ول ُتقهران‪.‬‬
‫القوة الثالثة‪:‬‬
‫"الحرية الشرعية" التي ترشد البشرية الى سبل التسابق‬
‫والمنافسة الحّقة نحو المعالي والمقاصد السامية‪ ،‬والتي‬
‫تمزق انواع الستبداد وتشتتها‪ ،‬والتي تهّيج المشاعر‬
‫الرفيعة لدى النسان‪ ،‬تلك المشاعر المجّهزة بانماط من‬
‫الحاسيس كالمنافسة والغبطة والتيقظ التام والميل الى‬
‫التجدد والنزوع الى التحضر‪ .‬فهذه القوة الثالثة‪" :‬الحرية‬
‫الشرعية" تعني التحلي باسمى ما يليق بالنسانية من‬
‫درجات الكمال والتشوق والتطلع اليها‪.‬‬
‫القوة الرابعة‪:‬‬
‫"الشهامة اليمانية" المجّهزة بالشفقة والرأفة‪ .‬أي‪ :‬ان‬
‫ل لنفسه امام الظالمين‪ ،‬ول يلحقه‬‫ليرضى الذ ّ‬
‫دين‬‫بالمظلومين‪ .‬وبعبارة اخرى‪ :‬عدم مداهنة المستب ّ‬
‫وعدم التحكم بالمساكين أو التكّبر عليهم‪ ،‬وهذا أساس‬
‫مهم من اسس الحرية الشرعية‪.‬‬
‫القوة الخامسة‪:‬‬
‫"العزة السلمية" التي تعلن اعلء كلمة الله‪ .‬وفي زماننا‬
‫هذا يتوقف اعلء كلمة الله على التقدم المادي والدخول‬
‫في مضمار المدنية الحقيقية‪ .‬ولريب ان شخصية العالم‬
‫السلمي المعنوية سوف تدرك وتحقق في المستقبل‬
‫تحقيقا ً تاما ً ما يتطلـبه اليـمان من الحفـاظ على عزة‬
‫السلم‪..‬‬
‫وكما ان رقي السلم وتقدمه في الماضي كان بالقضاء‬
‫على تعصب العدو وتمزيق عناده ودفع اعتداءاته‪ ..‬وقد تم‬
‫ذلك بقوة السلح والسيف‪ .‬فسوف ُتغلب العداء وُيشتت‬
‫شملهم بالسيوف المعنوية ‪ -‬بدل ً من المادية ‪ -‬للمدنية‬
‫الحقيقية والرقي المادي والحق والحقيقة‪.‬‬
‫اعلموا أيها الخوان!‬
‫ان قصدنا من المدنية هو محاسنها وجوانبها النافعة‬
‫للبشرية‪ ،‬وليس ذنوبها‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪501 :‬‬


‫وسيئاتها‪ ،‬كما ظن الحمقى من الناس أن تلك السيئات‬
‫محاسن فقّلدوها وخّربوا الديار‪ ،‬فقدموا الدين رشوة‬
‫للحصول على الدنيا فما حصلوا عليها ول حصلوا على‬
‫شئ‪.‬‬
‫انه بطغيان ذنوب المدنية على محاسنها‪ ،‬ورجحان كفة‬
‫سيئاتها على حسناتها‪ ،‬تلقت البشرية صفعتين قويتين‬
‫بحربين عالميتين‪ ،‬فأتتا على تلك المدنية الثمة‪ ،‬وقاءت‬
‫دماًء لطخت وجه الرض برمتها‪ .‬وسوف تتغلب باذن الله‬
‫محاسن المدنية بفضل قوة السلم التي ستسود في‬
‫المستقبل‪ ،‬وتطّهر وجه الرض من الدناس وتحقق ايضا ً‬
‫سلما ً عاما ً للبشرية قاطبة‪.‬‬
‫نعم لما كانت مدنية اوروبا لم تتأسس على الفضيلة‬
‫والهدى بل على الهوس والهوى‪ ،‬وعلى الحسد والتحكم‪،‬‬
‫تغلبت سيئات هـذه المدنـيـة على حسناتها الى الن‪.‬‬
‫واصبحت كشجرة منخورة بديدان المنظمات الثورية‬
‫الرهابية ‪ ،‬وهذا دليل قوي ومؤشر على قرب انهيارها‬
‫وسبب مهم لحاجة العالم الى مدنية آسيا "السلمية"‬
‫التي ستكون لها الغلبة عن قريب‪.‬‬
‫فاذا كان امام اهل اليمان والسلم امثال هذه السباب‬
‫القوية والوسائل القويمة للرقي المادي والمعنوي‪،‬‬
‫وطريقٌ سويٌ ممهد كسكة الحديد للوصول الى السعادة‬
‫في المستقبل‪ ،‬فكيف تيأسون‪ ،‬وتثبطون روح العالم‬
‫السلمي المعنوية وتظنون ظن السوء وفي يأس وقنوط‪:‬‬
‫ق وتقدم للجانب وللجميع بينما اصبحت‬ ‫أن الدنيا دار تر ٍ‬
‫ن وتأخـر للمسلمـين المساكـين وحدهم‪ .‬انكم بهـذا‬ ‫دار تد ٍ‬
‫ترتكبون خطأ شنيعـًا‪.‬‬
‫اذ ما دام الميل نحو الكمال قانونا ً فطريا ً في الكون وقد‬
‫ُادرج في فطرة البشرية‪ ،‬فان الحق والحقيقة سيظهران‬
‫في المستقبل على يد العالم السلمي ان شاء الله‬
‫سعادة ً دنيوية ايضا ً كّفارة لما اقترفته البشرية من آثام‪،‬‬
‫مالم تقم قيامة مفاجئة بما ارتكبت من مفاسد ومظالم‪.‬‬
‫فانظروا الى الزمن‪ ،‬انه ليسير على خط مستقيم حتى‬
‫يتباعد المبدأ والمنتهى‪ ،‬بل يدور ضمن دائرة كدوران كرتنا‬
‫الرضية‪ .‬فتارة يرينا الصيف والربيع في حال الترقي‪،‬‬
‫وتارة يرينا الشتاء والخريف في حال التدني‪ .‬وكما ان‬
‫الشتاء يعقبه الربيع والليل‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪502 :‬‬


‫يخلفه النهار‪ ،‬فسيكون للبشرية ربيع ونهار ان شاء الله‪،‬‬
‫ولكم ان تنتظروا من الرحمة اللهية شروق شمس حقيقة‬
‫السلم‪ ،‬فتروا المدنية الحقيقية في ظل سلم عام‬
‫شامل‪.‬‬
‫لقد قلنا في بداية هذا الدرس اننا سنقيم برهانا ً ونصف‬
‫برهان على دعوانا‪ .‬وقد انتهى الن البرهان مجم ً‬
‫ل‪.‬‬
‫وجاء دور نصف البرهان وهو التي‪:‬‬
‫لقد ثبت بالبحث والتحري الدقيق والستقراء والتجارب‬
‫العديدة للعلوم أن‪:‬‬
‫الخير والحسن والجمال والتقان والكمال هو السائد‬
‫المطلق في نظام الكون وهو المقصود لذاته‪ ،‬أي هو‬
‫المقاصد الحقيقية للصانع الجليل‪ .‬بدليل ان كل علم ٍ من‬
‫العلوم المتعّلقة بالكون يطلعنا بقواعده الكلية على ان‬
‫في كل نوع وفي كل طائفة انتظاما ً وابداعا ً بحيث ليمكن‬
‫للعقل أن يتصور أبدع واكم َ‬
‫ل منه‪.‬‬
‫ل‪ :‬علم التشريح الذي يخص الطب‪ ،‬علم المنظومة‬ ‫فمث ً‬
‫الشمسية الذي يخص الفلك وبقية العلوم التي تخص‬
‫النباتات والحيوانات‪ ،‬كل منها تفيدنا بقواعدها الكلية‬
‫وبحوثها المتعددة النظام المتقن للصانع الجليل في ذلك‬
‫النوع وقدرته المبدعة وحكمته التامة فتبّين جميعها حقيقة‬
‫خلَقه( )السجدة‪(7 :‬‬‫ئ َ‬
‫لش ٍ‬ ‫سن ك ّ‬
‫الية الكريمة )الذي اح َ‬
‫كما ان الستقراء التام والتجارب الشاملة يثبت أن‪:‬‬
‫الشر والقبح والباطل والسيئات جزئي وت ََبعي وثانوي في‬
‫خلقة الكون‪.‬‬
‫فالقبح مثل ً في الكون والمخلوقات ليس هدفا ً لذاته وانما‬
‫ة واحدة للجمال الى‬ ‫هو وحدة قياسية‪ ،‬لتنقلب حقيق ٌ‬
‫حقائق كثيرة‪ .‬والشر كذلك‪ ،‬بل حتى الشيطان نفسه انما‬
‫خلق وسّلط على البشرية ليكون وسيلة لترقيات البشر‬
‫غير المحدودة نحو الكمال التي ل ُيـنال إل ّ بالتسـابق‬
‫والمجـاهـدة‪.‬‬
‫خلقت في الكون‬ ‫وامثال هذه الشرور والقبائح الجزئية ُ‬
‫لتكون وسيلة لظهار انواع الخير والجمال الكليين‪ .‬وهكذا‬
‫يثبت بالستقراء التام أن المقصد الحقيقي في الكون‬
‫والغاية الساسية في الخلق انما هو‪ :‬الخير والحسن‬
‫وث وجه الرض بكفره‬ ‫والكمال‪ ،‬لذا فالنسان الذي ل ّ‬
‫الظالم وعصيانه الله ليمكن ان يفلت من العقاب‪،‬‬
‫ويذهب الى العدم من دون ان يحق عليه المقصود‬
‫الحقيقي في الكون‪ .‬بل سيدخل سجن جهنم!‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪503 :‬‬


‫كما ثبت بالستقراء التام وتحريات العلوم وابحاثها ان‬
‫النسان هو اكرم المخلوقات واشرفها‪ .‬لنه يستطيع أن‬
‫يكشف بعقله عن مراتب السباب الظاهرية في خلق‬
‫الكائنات ونتائجها‪ ،‬ويعرف العلقات بين العلل والسباب‬
‫المتسلسلة‪ ،‬ويستطيع ان يقّلد بمهارته الجزئية الصنائع‬
‫اللهية واليجاد الرباني المنتظم الحكيم‪ ،‬ويستطيع أن‬
‫يدرك بعلمه الجزئي وبمهارته الجزئية اتقان الفعال‬
‫اللهية‪ ،‬وذلك بجعل ما لديه من جزء اختياري ميزانا ً جزئيا ً‬
‫ومقياسا ً مصّغرا ً لدرك تلك الفعال اللهية الكلية‬
‫والصفات الجليلة المطلقة‪.‬‬
‫كل ذلك يثبت ان النسان اشرف مخلوق واكرمه‪.‬‬
‫دمها السلم للبشرية‬ ‫وثبت ايضا ً بشهادة الحقائق التي ق ّ‬
‫والتي تخص البشر والكائنات‪ :‬ان المسلمين هم افضل‬
‫البشر واشرفهم وهم اهل الحق والحقيقة‪ ،‬كما ثبت‬
‫بشهادة التاريخ والوقائع والستقراء التام‪ :‬ان اشرف اهل‬
‫الحق المشّرفين من بين البشر المكّرمين وأفضَلهم هو‬
‫ف من‬‫محمد صلى الله عليه وسلم الذي يشهد له أل ٌ‬
‫معجزاته وسمو اخلقه ومكارمه وحقائق السلم والقرآن‪.‬‬
‫ولما كان نصف البرهان هذا قد بين هذه الحقائق الثلث‬
‫أفيمكن أن يقدح نوعُ البشر بشقاوته شهادةَ هذه العلوم‬
‫جميعها‪ ،‬وينقض هذا الستقراء التام‪ ،‬ويتمّرد في وجه‬
‫المشيئة اللهية والحكمة الزلية؛ فيستمر في قساوته‬
‫الظالمة وكفره المتمرد ودماره الرهيب ؟ أفيمكن ان‬
‫تستمر هذه الحالة في عداء السلم هكذا؟‬
‫انني اقسم بما آتاني الله من قوة بل لو كان لي ماليعد‬
‫وليحصى من اللسنة لقسمت بها جميعًا‪ ،‬بالذي خلق‬
‫العالم بهذا النظام الكمل‪ ،‬وخلق الكون في منتهى‬
‫الحكمة والنتظام من الذرات الى السيارات السابحات‬
‫في اجواز الفضاء‪ ،‬ومن جناح البعوضة الى قناديل النجوم‬
‫المتللئة في السموات‪ ،‬ذلكم الحكيم ذو الجلل والصانع‬
‫ذو الجمال‪ ،‬أقسم به سبحانه بألسنة ل تحد انه ل يمكن‬
‫ان يخرج البشر على سنة الله الجارية في الكون ويخالف‬
‫بقية اخوانه من طوائف المخلوقات بشروره الكلية‬
‫ويقضي بغلبة الشر على الخير فيهضم تلك المظالم‬
‫الزقومية على مدى ألوف السنين! فهذا ل يمكن قطعًا!‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪504 :‬‬


‫ل هو أن النسان‬ ‫نعم‪ ،‬انه ل يمكن ذلك إل ّ بافترا ٍ‬
‫ض محا ِ‬
‫ليس خليفة الله في الرض‪ ،‬الحامل للمانة الكبرى والخ‬
‫الكبر الكرم لسائر انواع المخلوقات‪ ،‬انما هو ادنى‬
‫مخلوق واردأه وارذله واضّره وأحقره‪ ،‬دخل الكون‬
‫متلصصا ً ليفسده! فهذا الفرض المحال باطل من اساسه‬
‫ل يمكن قبوله باية جهة كانت‪.‬‬
‫فلجل هذه الحقيقة يمكن أن نستنتج من نصف برهاننا‬
‫هذا‪:‬‬
‫كما أن وجود الجنة والنار ضروري في الخرة فان الغلبة‬
‫المطلقة ستكون للخير وللدين الحق في المستقبل‪ ،‬حتى‬
‫يكون الخير والفضيلة غالبين في البشرية كما هو المر‬
‫في سائر النواع الخرى‪ ،‬وحتى يتساوى النسان مع سائر‬
‫اخوانه من الكائنات‪ ،‬وحتى يحق ان يقال‪ :‬انه قد تحقق‬
‫وتقرر سّر الحكمة الزلية في النوع البشري أيضًا‪.‬‬
‫وحاصل الكلم‪:‬‬
‫ما دام البشر ‪ -‬طبقا ً للحقائق المذكورة القاطعة ‪ -‬افضل‬
‫نتيجة منَتخبة من الكائنات‪ ،‬وأنه أكرم مخلوق لدى الخالق‬
‫الكريم‪ ،‬وان الحياة الباقية تقتضي وجود الجنة وجهنم‬
‫بالبداهة‪ ،‬فتستلزم المظالم التي ارتكبتها البشرية حتى‬
‫الن وجود جهنم‪ ،‬كما تستلزم ما في استعداداته الكمالية‬
‫المغروزة في فطرته وحقائقه اليمانية التي تهم الكائنات‬
‫بأسرها وجود الجنة بالبداهة‪ ،‬فلبد‪ ،‬ولمحالة ان البشر لن‬
‫يهضموا ولن يغفروا الجرائم التي ارتكبت خلل الحربين‬
‫العظيمتين والتي جرت الويلت والمصائب على العالم‬
‫باجمعه واستقاءت زقوم شرورها التي استعصت على‬
‫طخت وجه الرض‪ ،‬وتركت البشرية تعاني‬ ‫الهضم فل ّ‬
‫البؤس والشقاء وهدمت صرح المدنية الذي بنته البشرية‬
‫طوال الف عام‪ .‬فما لم تقم قيامة مفاجئة على البشرية‬
‫فاننا نرجو من رحمة الرحمن الرحيم‪ ،‬ان تكون الحقائق‬
‫القرآنية وسيلة لنقاذ البشرية من السقوط الى أسفل‬
‫سافلين‪ ،‬وتطّهر وجه الرض من الدناس والدران وتقيم‬
‫سلما ً عاما ً شام ً‬
‫ل‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪505 :‬‬


‫الكلمة الثانية‬
‫"اليأس داء قاتل"‬
‫ي تجاربي في الحياة وتمخض فكري عنه‬ ‫ان مما املت عل ّ‬
‫ب في صميم قلب العالم‬ ‫هو‪ :‬ان اليأس داء قاتل‪ ،‬وقد د ّ‬
‫السلمي‪ .‬فهذا اليأس هو الذي اوقعنا صرعى ‪ -‬كالموات‬
‫‪ -‬حتى تمكنت دولة غربية ليبلغ تعدادها مليوني نسمة من‬
‫التحكم في دولة شرقية مسلمة ذات العشرين مليون‬
‫نسمة فتستعمرها وتسخرها في خدمتها‪ ..‬وهذا اليأس هو‬
‫الذي قتل فينا الخصال الحميدة وصرف انظارنا عن النفع‬
‫العام وحصرها في المنافع الشخصية‪ ..‬وهذا اليأس هو‬
‫الذي أمات فينا الروح المعنوية التي بها استطاع‬
‫المسلمون ان يبسطوا سلطانهم على مشارق الرض‬
‫ومغاربها بقوة ضئيلة‪ ،‬ولكن ما ان ماتت تلك القوة‬
‫المعنوية الخارقة باليأس حتى تم ّ‬
‫كن الجانب الظلمة ‪-‬‬
‫منذ اربعة قرون ‪ -‬ان يتحكموا في ثلثمائة مليون مسلم‬
‫ويكبلوهم بالغلل‪.‬‬
‫بل قد اصبح الواحد بسبب هذا اليأس يتخذ من فتور‬
‫الخرين وعدم مبالتهم ذريعة للتملص من المسؤولية‪،‬‬
‫ويخلد الى الكسل قائ ً‬
‫ل‪" :‬مالي وللناس‪ ،‬فكل الناس‬
‫خائرون مثلي" فيتخلى عن الشهامة اليمانية ويترك‬
‫العمل الجاد للسلم‪.‬‬
‫فما دام هذا الداء قد فتك فينا الى هذا الحد‪ ،‬ويقتلنا على‬
‫ص من قاتلنا‪،‬‬
‫مرآى منا‪ ،‬فنحن عازمون على ان نقت ّ‬
‫فنضرب رأس ذلك اليأس بسيف الية الكريمة‪) :‬ل‬
‫تقنطوامن رحمة الله( )الزمر‪ .(53 :‬ونقصـم ظهره‬
‫بحقيقـة الحديث الشريف‪) :‬ما ل يدرك كله ل يترك جّله(‪.‬‬
‫ان اليأس داء عضال للمم والشعوب‪ ،‬أشبه ما يكون‬
‫بالسرطان… وهو المانع عن بلوغ الكمالت‪ ،‬والمخالف‬
‫لروح الحديث القدسي الشريف‪) :‬انا عند ظن عبدي‬
‫بـي(‪ ..‬وهـو شـأن الجـبنـاء والسـفـلـة والعـاجزين‬
‫وذريعتهم‪ ،‬وليس هو من شأن الشهامة السلمية قط‪..‬‬
‫وليس هو من شأن العرب الممتازين بسجايا حميدة هي‬
‫مفخرة البشرية‪ .‬فلقد تعّلم العالم السلمي من ثبات‬
‫العرب وصمودهم الدروس‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪506 :‬‬


‫والعبر‪ .‬وأملنا بالله عظيم أن يتخلى العرب عن اليأس‬
‫دوا يد َ العون والوفاق الصادق الى الترك الذين هم‬
‫وَيم ّ‬
‫جيش السلم الباسل فيرفعوا معا ً راية القرآن عالية‬
‫خّفاقة في ارجاء العالم‪،‬ان شاء الله‪.‬‬

‫الكلمة الثالثة‬
‫"الصدق اساس السلم"‬
‫لقد علمتني زبدة تتّبعاتي وتحقيقاتي في الحياة بتمخض‬
‫الحياة الجتماعية أن‪:‬‬
‫"الصدق" هو أس اساس السلم‪ ،‬وواسطة الِعقد في‬
‫سجاياه الرفيعة ومزاج مشاعره العلوية‪ .‬فعلينا اذا ً أن‬
‫نحيي الصدق الذي هو حجر الزاوية في حياتنا الجتماعية‬
‫في نفوسنا ونداوي به امراضنا المعنوية‪.‬‬
‫اجل! ان الصدق هو عقدة الحياة في حياة السلم‬
‫الجتماعية‪ .‬أما الرياء فهو نوع من الكذب الفعلي‪ ،‬وأما‬
‫المداهنة والتصنع فهو كذب دنئ مرذول‪ .‬أما النفاق فهو‬
‫كذب ضار جدًا‪ .‬والكذب نفسه انما هو افتراء على قدرة‬
‫الصانع الجليل‪.‬‬
‫ان الكفر بجميع انواعه كذب‪ .‬واليمان انما هو صدق‬
‫وحقيقة‪ .‬وعلى هذا فالبون شاسع بين الصدق والكذب ُبعد َ‬
‫ما بين المشرق والمغرب‪ .‬وينبغي ان ل يختلط الصدق‬
‫والكذب اختلط النور والنار‪ ،‬ولكن السياسة الغادرة‬
‫والدعاية الظالمة قد خلطتا احدهما بالخر‪ .‬فاختلطت‬
‫كمالت البشرية ومثلها بسفسافها ونقائصها ‪.1‬‬
‫____________________‬
‫‪ 1‬اخواني! ُيفهم من هذا الدرس الذي ألقاه «سعيد‬
‫القديم» قبل خمس واربعين سنة‪ :‬ان سعيدا ً ذاك كان‬
‫وثيق الصلة بالسياسة وبشؤون السلم الجتماعية‪ .‬ولكن‬
‫حذار أن يذهب بكم الظن الى انه قد نهج اتخاذ الدين اداة‬
‫للسياسة ووسيلة لها‪ .‬كل! بل كان يعمل بكل ما لديه من‬
‫قوة على جعل السياسة اداةً للدين‪ ،‬وكان يقول‪«:‬اني‬
‫افضل حقيقة واحدة من حقائق الدين على ألف قضية‬
‫سياسية من سياسات الدنيا»‪.‬‬
‫س آنذاك ‪ -‬قبل ما يقارب الخمسين عاما ً ‪ -‬ان‬‫نعم‪ ،‬لقد اح ّ‬
‫بعض الزنادقة المنافقين يحاولون جعل الدين آلة‬
‫للسياسة‪ ،‬فعمل هو أيضا ً ‪ -‬بكل قوة ‪ -‬في مواجهة نواياهم‬
‫ومحاولتهم الفكرية تلك على جعل السياسة وسيلة من‬
‫وسائل تحقيق حقائق السلم وخادمة لها‪.‬‬
‫بيد انه رأى بعد ذلك بعشرين سنة ان بعض الساسة‬
‫المتدينين يبذلون الجهد لجعل الدين أداة للسياسة‬
‫السلمية‪ ،‬تجاه جعل اولئك الزنادقة المنافقين‬
‫ه للسياسة بحجة التغّرب‪ .‬أل إن‬ ‫المتسترين‪ ،‬الدين آل ً‬
‫شمس السلم لن تكون تابعة لضواء الرض ول أداة لها‪.‬‬
‫وان محاولة جعلها آلة لها تعني الحط من كرامة السلم ‪،‬‬
‫وهي جناية كبرى بحقه حتى ان«سعيدا ً القديم» قد رأى‬
‫من ذلك النمط من التحيز الى السياسة‪ :‬ان عالما ً صالحا ً‬
‫قد اثنى بحرارة على منافق يحمل فكرا ً يوافق فكره‬
‫السياسي وانتقد عالما ً صالحا ً آخر يحمل افكارا ً تخالف‬
‫مه بالفسق‪ .‬فقال له« سعيد‬ ‫ص َ‬
‫افكاره السياسية‪ ،‬حتى وَ َ‬
‫القديم»‪ :‬لو ان شيطانا ً أّيد فكرك السياسي لمطر َ‬
‫ت‬
‫عليه الرحمات‪ ،‬اما اذا خالف أحد ٌ فكرك السياسي للعنته‬
‫مَلكا ً !»‪ .‬لجل هذا قال «سعيد القديم» منذ‬ ‫حتى لو كان َ‬
‫خمس وثلثين سنة «اعوذ بالله من الشيطان والسياسة»‬
‫وترك السياسة ‪ .‬المؤلف‪.‬‬
‫و لما كان سعيد الجديد قد ترك السياسة كليا ً ول ينظر‬
‫اليها قطعًا‪ ،‬فقد ُترجمت هذه الخطبة الشامية لسعيد‬
‫القديم التي تمس السياسة‪.‬‬
‫ثم انه لم يثبت انه استغل الدين كاداة للسياسة طوال‬
‫حياته التي استغرقت اكثر من ربع قرن‪ ،‬وفي مؤلفاته‬
‫ورسائله التي تربو على مئة وثلثين رسالة والتي دققت‬
‫بأمعان من قبل خبراء مئات المحاكم بل حتى في احلك‬
‫الظروف التي تلجئه الى السياسة لشدة مضايقات‬
‫الظلمة المرتدين والمنافقين‪ ،‬بل حتى عندما ُاصدر أمر‬
‫اعدامه سرًا‪ ،‬لم يجد أحد ٌ منهم اية أمارة كانت عليه حول‬
‫إستغلله الدين لجل السياسة‪.‬‬
‫فنحن طلب النور نرقب حياته عن كثب ونعرفها بدقائقها‬
‫ل نملك انفسنا من الحيرة والعجاب ازاء هذه الحالة‪،‬‬
‫دها دليل ً على الخلص الحقيقي ضمن دائرة رسائل‬ ‫ونع ّ‬
‫النور‪ - .‬طلب النور‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪507 :‬‬


‫ان الصدق والكذب بعيدان احدهما عن الخر ُبعد الكفر‬
‫عن اليمان‪ .‬فان عروج محمد صلى الله عليه وسلم في‬
‫خير القرون الى اعلى عليين بوساطة الصدق وما فتحه‬
‫من كنوز حقائق اليمان واسرار الكون‪ ..‬جعل الصدق‬
‫ج بضاعة واثمن متاع في سوق الحياة الجتماعية‪.‬‬ ‫أروَ َ‬
‫دى مسيلمة الكذاب وامثاله الى اسفل سافلين‬ ‫بينما تر ّ‬
‫بالكذب؛ اذ لما حدث ذلك النقلب العظيم في المجتمع‬
‫ب هو مفتاح الكفر والخرافات‪ ،‬وأفسد ُ‬‫تبين ان الكذ َ‬
‫بضاعة واقذرها‪ .‬فالبضاعة التي تثير التقزز والشمئزاز‬
‫لدى جميع الناس الى هذا الحد ل يمكن ان تمتد اليها يد ُ‬
‫أولئك الذين كانوا في الصف الول من ذلك النقلب‬
‫العظيم‪ ،‬اولئك الصحابة الكرام الذين ُفطروا على تناول‬
‫اجود المتاع واثمنه وافخره‪ ،‬وحاشاهم ان يلوثوا ايديهم‬
‫المباركة بالكذب ويمدوها عمدا ً الى الكذب ويتشّبهوا‬
‫بمسيلمة الكذاب‪ .‬بل كانوا بميولهم الفطرية السليمة‬
‫وبكل ما اوتوا من قوة في طليعة المبتاعين للصدق الذي‬
‫هو أروج مال واقوم متاع بل هو مفتاح جميع الحقائق‬
‫ومرقاة عروج محمد صلى الله عليه وسلم الى اعلى‬
‫عليين‪ .‬ولن الصحابة الكرام قد لزموا الصدق ولم يحيدوا‬
‫عنه ما امكنهم ذلك فقد تقرر لدى علماء الحديث والفقه‬
‫"ان الصحابة عدول‪ ،‬رواياتهم ل تحتاج الى تزكية‪ ،‬كل ما‬
‫رووه من الحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫صحيح"‪ .‬فهذه الحقيقة المذكورة حجة قاطعة على إتفاق‬
‫هؤلء العلماء‪.‬‬
‫وهكذا فان النقلب العظيم الذي حدث في خير القرون‬
‫دى الى أن يكون البون شاسعا ً بين الصدق والكذب كما‬ ‫ا ّ‬
‫هو بين الكفر واليمان‪ .‬ال ّ أنه بمرور الزمن قد تقاربت‬
‫المسافة بين الصدق والكذب‪ ،‬بل اعطت الدعايات‬
‫السياسية احيانا ً رواجا ً اكثر للكذب‪ .‬فبرز الكذب والفساد‬
‫في الميدان واصبح لهما المجال الى حدٍ ما‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪508 :‬‬


‫وبناًء على هذه الحقيقة فان احدا ً من الناس ليمكن ان‬
‫يبلغ مرتبة الصحابة الكرام‪.‬‬
‫نكتفي هنا بهذا القدر ونحيل القارئ الكريم الى رسالة‬
‫الصحابة التي هي ذيل الكلمة السابعة والعشرين رسالة‬
‫"الجتهاد"‪.‬‬
‫ايها الخوة في هذا الجامع الموي ويا اخوتي الربعمائة‬
‫مليونا ً من المؤمنين بعد اربعين عاما ً في جامع السلم‬
‫الكبير‪.‬‬
‫ل نجاة ال ّ بالصدق‪ ،‬فالصدق هو العروة الوثقى‪ ،‬أما‬
‫خه الزمان‪ ،‬ولقد أفتى به بعض‬ ‫الكذب للمصلحة فقد َنس َ‬
‫العلماء "مؤقتًا" للضرورة والمصلحة‪ ،‬ال ّ أن في هذا‬
‫الزمان ل يعمل بتلك الفتوى‪ .‬إذ ُاسئ استعماله الى حد‬
‫لم يعد فيه نفعٌ واحد ال ّ بين مئةٍ من المفاسد‪ .‬ولهذا ل‬
‫ُتبنى الحكام على المصلحة‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬ان سبب قصر الصلة في السفر هو المشقة‪،‬‬
‫ولكن ل تكون المشقة علة القصر‪ .‬اذ ليس لها حد ّ معين‪،‬‬
‫فقد ُيساء استعمالها‪ ،‬لذا لتكون العلة ال ّ السفر‪ .‬فكذلك‬
‫المصلحة ل يمكن ان تكون عّلة للكذب لنه ليس للكذب‬
‫حد ّ معين‪ ،‬وهو مستنقع ملئم لسوء الستعمال‪ ،‬فل يناط‬
‫به الحكم‪ .‬وعلى هذا فالطريق اثنان لثالث له‪" :‬اما‬
‫الصدق واما السكوت" وليس الصدق او الكذب او‬
‫السكوت قطعًا‪.‬‬
‫ثم ان انعدام المن والستقرار في الوقت الحاضر‬
‫بالكذب الرهيب الذي تقترفه البشرية وبتزييفها‬
‫وافتراءاتها‪ ،‬ما هو إل ّ نتيجة كذبها وسوء استعمالها‬
‫للمصلحة‪ ،‬فل مناص للبشرية إل ّ سد ّ ذلك الطريق الثالث‪،‬‬
‫وإل ّ فان ما حدث خلل نصف هذا القرن من حروب‬
‫عالمية وانقلبات رهيبة ودمار فظيع قد يؤدي الى أن تقوم‬
‫قيامة على البشرية‪.‬‬
‫أجل! عليك ان تصدق في كل ما تتكلمه ولكن ليس صوابا ً‬
‫دى الصدق احيانا ً الى ضرر‬
‫ان تقول كل صدق‪ ،‬فاذا ما ا ّ‬
‫فينبغي السكوت‪ .‬اما الكذب فليسمح له قطعًا‪.‬‬
‫عليك ان تقول الحق في كل ما تقول ولكن ل يحق لك أن‬
‫تقول كل حق‪ ،‬لنه ان لم يكن الحق خالصا ً فقد يؤثر‬
‫تأثيرا ً سيئًا‪ ،‬فتضع الحق في غير محله‪.‬‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪509 :‬‬
‫الكلمة الرابعة‬
‫"المـحـبــة"‬
‫ان مما تعلمته من الحياة الجتماعية البشرية طوال‬
‫حياتي‪ ،‬وما أمَلته عل ّ‬
‫ي التتبعات والتحقيقات هو‪:‬‬
‫ان اجدر شئ بالمحبة هو المحبة نفسها‪ .‬واجدر صفة‬
‫بالخصومة هي الخصومة نفسها‪ .‬أي ان صفة المحبة التي‬
‫هي ضمان الحياة الجتماعية البشرية والتي تدفع الى‬
‫تحقق السعادة هي أليق للمحبة‪ ،‬وان صفة العدواة‬
‫والبغضاء التي هي عامل تدمير الحياة الجتماعية وهدمها‬
‫هي اقبح صفة واضرها واجدر أن ُتتجنب وُتنَفر منها‪ .‬ولما‬
‫كنا قد اوضحنا هذه الحقيقة في المكتوب الثاني‬
‫والعشرين )رسالة الخوة( نشير اليها هنا اشارة مقتضبة‪:‬‬
‫لقد انتهى عهد العداوة والخصام‪ .‬ولقد اظهرت الحربان‬
‫العالميتان مدى ما في روح العداوة من ظلم فظيع ودمار‬
‫مريع‪ .‬وتبين ان ل فائدة منها البتة‪ .‬وعليه فل ينبغي ان‬
‫تجلب سيئات اعدائنا ‪ -‬بشرط عدم التجاوز‪ -‬عداوتنا‪،‬‬
‫فحسبهم العذاب اللهي ونار جهّنم‪.‬‬
‫ان غرور النسان وحّبه لنفسه قد يقودانه احيانا ً الى عداء‬
‫اخوانه المؤمنين ظلما ً ومن دون شعور منه فيظن المرء‬
‫نفسه محقًا‪ .‬مع ان مثل هذه العداوة تعد ّ استخفافا ً‬
‫بالوشائج والسباب التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض ‪-‬‬
‫كاليمان والسلم والنسانية ‪ -‬وحطا ً من شأنها‪ .‬وهي‬
‫جح اسبابا ً تافهة للعداوة‬
‫اشبه ما يكون بحماقة من ير ّ‬
‫كالحصيات على اسباب بجسامة الجبال الراسيات للود ّ‬
‫والمحبة‪.‬‬
‫فما دامت المحبة مضادة للعداوة ومنافية لها فل تجتمعان‬
‫قطعا ً كما ل تجتمع الظلمة والنور‪ ،‬فالذي تتغلب اسباُبه‬
‫على الخر هو الذي يجد موضعه في القلب بحقيقته‪ .‬اما‬
‫ضده فل يكون بحقيقته‪.‬‬
‫فمث ً‬
‫ل‪ :‬اذا وجدت المحبة بحقيقتها في القلب فان العداوة‬
‫تنقلب حينئذ الى الرأفة والشفقة‪ .‬فهذا هو الوضع تجاه‬
‫اهل اليمان‪ .‬اما اذا وجدت العداوة بحقيقتها في‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪510 :‬‬


‫القلب‪ ،‬فان المحبة تنقلب عندها الى المداراة والمماشاة‬
‫والصداقة الظاهرية‪ .‬فهذا انما يكون مع ارباب الضلل غير‬
‫المتجاوزين‪.‬‬
‫أجل! ان اسباب المحبة هي اليمان والسلم والنسانية‬
‫وامثالها من السلسل النورانية المتينة والحصون المعنوية‬
‫المنيعة‪ .‬أما اسباب العداوة والبغضاء تجاه المؤمن فانما‬
‫هي امور خاصة تافهة تفاهة الحصيات‪ .‬لذا فان اضمار‬
‫العداء لمسلم اضمارا ً حقيقيًا‪ ،‬انما هو خطأ جسيم لنه‬
‫استخفاف باسباب المحبة التي هي اشبه بالجبال‪.‬‬
‫نحصل مما سبق‪:‬‬
‫ان الود والمحبة والخوة هي من طباع السلم وروابطه‪.‬‬
‫والذي يحمل في قلبه العداء فهو أشبه ما يكون بطفل‬
‫فاسد المزاج يروم البكاء بادنى مبرر للبكاء‪ ،‬وقد يكون ما‬
‫هو اصغر من جناح ذبابة كافيا ً لدفعه الى البكاء‪ .‬أو هو‬
‫أشبه ما يكون برجل متشائم ل يحسن الظن بشئ ما دام‬
‫ت للمرء بسيئة‬ ‫سوء الظن ممكنًا‪ .‬فيحجب عشر حسنا ٍ‬
‫ف كليا ً للخلق السلمي‬
‫واحدة‪ .‬ومن المعلوم ان هذا منا ٍ‬
‫القاضي بالنصاف وحسن الظن‪.‬‬

‫الكلمة الخامسة‬
‫"تضاعف السيئات والحسنات"‬
‫ان الدرس الذي تعلمته من الشورى الشرعية هو‪ :‬أن‬
‫سيئة امرئ واحدٍ في هذا الزمان‪ ،‬ل تبقى على حالها‬
‫سيئة واحدة‪ ،‬وانما قد تكبر وتسري حتى تصبح مائة سيئة‪.‬‬
‫كما ان حسنة واحدة ايضا ً ل تبقى على حالها حسنة‬
‫واحدة بل قد تتضاعف الى اللف‪ .‬وحكمة هذا وسره هو‪:‬‬
‫ان الحرية الشرعية والشورى المشروعة قد أظهرتا‬
‫سيادة امتنا الحقيقية‪ .‬اذ إن حجر الساس في بناء امتنا‬
‫وقوام روحها انما هو السلم‪ ،‬وان الخلفة العثمانية‬
‫والجيش التركي من حيث كونهما حاملين لراية تلك المة‬
‫دفة والقلعة للمة‪ ،‬وان العرب‬ ‫ص َ‬‫السلمية فهما بمثابة ال َ‬
‫والترك هما الخوان الحقيقّيان وسيظلن حارسين امينين‬
‫دفة المتينة‪.‬‬
‫ص َ‬‫لتلك القلعة المنيعة‪ ،‬وال َ‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪511 :‬‬


‫وهكذا فبفضل هذه الرابطة المقدسة التي تشد المة‬
‫ة كعشيرة‬ ‫السلمية بعضها ببعض يصبح المسلمون كاف ً‬
‫واحدة‪ .‬فترتبط طوائف السلم برباط الخوة السلمية‬
‫كما يرتبط افراد العشيرة الواحدة ويمد بعضهم بعضا ً‬
‫معنوي ًّا‪ ،‬واذا اقتضى المر فماديًا‪ ،‬وكأن الطوائف السلمية‬
‫تنتظم جميعها كحلقات سلسلة نورانية‪ .‬فكما اذا ارتكب‬
‫فرد في عشيرة ما جريمة فان عشيرته بأسرها تكون‬
‫مسؤولة ومّتهمة في نظر العشيرة الخرى وكأن كل فرد‬
‫من تلك العشيرة هو الذي قد ارتكب الجريمة‪ ،‬فتلك‬
‫الجريمة قد اصبحت بمثابة اللوف منها‪ ،‬كذلك اذا قام احد‬
‫افراد تلك العشيرة بحسنةٍ واحدة افتخر بها سائر أفراد‬
‫العشيرة وكأن كل فرد منها هو الذي كسب تلك الحسنة‪.‬‬
‫فلجل هذه الحقيقة فان في زماننا هذا ولسيما بعد‬
‫اربعين او خمسين سنة ليس المسئ هو وحده المسؤول‬
‫عن سيئته‪ ،‬بل تتضرر المة السلمية بمليينها بتلك‬
‫السيئة‪ .‬وستظهر امثلة هذه الحقيقة بكثرة بعد اربعين او‬
‫خمسين سنة‪.‬‬
‫يا اخواني المستمعين الى اقوالي في هذا الجامع الموي‪.‬‬
‫ويا ايها الخوان المسلمون في جامع العالم السلمي بعد‬
‫اربعين او خمسين عامًا!‬
‫ن احدكم بالقول‪" :‬اننا لنضّر احدا ً ولكننا لنستطيع‬
‫ليعتذر ّ‬
‫ان ننفع احدا ً أيضًا‪ .‬فنحن معذورون اذن"‪ .‬فعذركم هذا‬
‫مرفوض‪ ،‬اذ ان تكاسلكم وعدم مبالتكم وتقاعسكم عن‬
‫العمل لتحقيق التحاد السلمي والوحدة الحقيقية للمة‬
‫السلمية‪ ،‬انما هو ضرر بالغ وظلم فاضح‪.‬‬
‫وهكذا فكما ان سيئة واحدة تتضاعف الى اللوف فان‬
‫حسنة واحدة في زماننا هذا ‪ -‬واعني بالحسنة هنا ما‬
‫يتعلق بقدسية السلم ‪ -‬لتقتصر فائدتها على فاعلها‬
‫وحده بل يمكن ان تتعداه ليعم نفعها ‪ -‬معنويا ً ‪ -‬مليين‬
‫المسلمين ويشد ّ من حياتهم المادية والمعنوية‪.‬‬
‫وعليه فان هذا الزمان ليس زمان النطراح على فراش‬
‫الكسل والخلود الى الراحة وعدم المبالة بالمسلمين‬
‫بترديد‪":‬انا مالي"‪.‬‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪512 :‬‬
‫يا اخوتي في هذا الجامع ويا اخواني في مسجد العالم‬
‫السلمي الكبير بعد اربعين او خمسين عامًا!‬
‫ل يذهب بكم الظن انني صعدت هذا المنبر لرشدكم‬
‫وانصحكم‪ .‬بل ما صعدته إل ّ لذكر حقنا عليكم واطالبكم‬
‫به‪ ،‬اذ إن مصالح الطوائف الصغيرة وسعادتها الدنيوية‬
‫والخروية ترتبط بامثالكم من الطوائف الكبيرة العظيمة‪،‬‬
‫والحكام والساتذة من العرب والترك‪ .‬فان تكاسلكم‬
‫وتخاذلكم يضران باخوانكم من الطوائف الصغيرة من‬
‫امثالنا ايما ضرر‪ .‬وانني اوجه كلمي هذا بوجه خاص اليكم‬
‫يامعشر العرب العظماء الماجد‪ ،‬ويا من أخذتم من‬
‫التيقظ حظا ً او ستتيقظون تيقظا ً تاما ً في المستقبل؛‬
‫لنكم اساتذتنا واساتذة جميع الطوائف السلمية وائمتها‪،‬‬
‫فانتم مجاهدو السلم الوائل‪ ،‬ثم جاءت المة التركية‬
‫العظيمة لتمد ّ وظيفتكم المقدسة تلك اّيما امداد‪ .‬لذا فان‬
‫ذنبكم عظيم بالتكاسل والتقاعس‪ ،‬كما ان حسناتكم جليلة‬
‫وسامية أيضًا‪ .‬ول سيما نحن على أمل عظيم برحمة الله‬
‫انه بعد مرور اربعين أو خمسين عاما ً تتحدون فيما بينكم ‪-‬‬
‫كما اتحدت الجماهير المريكية ‪ -‬وتتبوأون مكانتكم‬
‫السامية وتوّفقون باذن الله الى انقاذ السيادة السلمية‬
‫المأسورة وتقيمونها كالسابق في نصف الكرة الرضية بل‬
‫في معظمها‪ .‬فان لم تقم القيامة فجأة فسيرى الجيل‬
‫المقبل هذا المل‪.‬‬
‫فيا اخوتي الكرام!‬
‫ارجو ان ل يذهب بكم الظن بأنني بكلمي هذا استنهض‬
‫هممكم للشتغال بالسياسة ‪ -‬حاش لله ‪ -‬فان حقيقة‬
‫السلم اسمى من كل سياسة بل جميع اصناف السياسة‬
‫واشكالها يمكن ان تسير في ركاب السلم وتخدمه‬
‫وتعمل له‪ ،‬وليس لية سياسة كانت ان تستغل السلم‬
‫لتحقيق اغراضها‪.‬‬
‫فانا بفهمي القاصر أتصور المجتمع السلمي ككل ‪ -‬في‬
‫زماننا هذا ‪ -‬اشبه ما يكون بمصنع ذي تروس وآلت‬
‫عديدة‪ .‬فاذا ما تعطل ترس من ذلك المصنع أو تجاوز‬
‫على رفيقه الترس الخر فسيختل حتما ً نظام المصنع‬
‫الميكانيكي‪ .‬لذا فقد آن أوان التحاد السلمي وهو على‬
‫وشك التحقق‪ .‬فينبغي ان تصرفوا النظر عن تقصيراتكم‬
‫الشخصية‪ ،‬وليتجاوز ك ٌ‬
‫ل عن الخر‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪513 :‬‬


‫وهنا انّبه ببالغ السى والسف الى أن قسما ً من الجانب‬
‫س دارهم‬
‫كما سلبوا اموالنا الثمينة واوطاننا‪ ،‬بثمن بخ ٍ‬
‫معدودة مزّورة‪ ،‬كذلك فقد سلبوا منا قسما ً من اخلقنا‬
‫الرفيعة وسجايانا الحميدة والتي بها يترابط مجتمعنا‪،‬‬
‫وجعلوا تلك الخصال الحميدة محورا ً لرقيهم وتقدمهم‪،‬‬
‫ودفعوا الينا نظير ذلك رذائل طباعهم وسفاهة اخلقهم‪.‬‬

‫ل‪ :‬ان السجية المّلية التي اخذوها منا هي قول واحدٍ‬


‫فمث ً‬
‫منهم‪:‬‬
‫ت انا فلتحيا امتي‪ ،‬فان لي فيها حياة باقية" هذه‬
‫"إن م ّ‬
‫السجية أقوى اساس وأمتنه لرقيهم وتقدمهم‪ ،‬قد‬
‫سرقوها منا؛ إذ هذه الكلمة انما تنبع من الدين الحق ومن‬
‫حقائق اليمان‪ ،‬فهي لنا وللمؤمنين جميعًا‪ ،‬بينما دخلت‬
‫فينا اخلق رذيلة وسجايا فاسدة‪ ،‬فترى ذلك الناني الذي‬
‫ت ظمآنا ً فل نزل القطر" و"ان لم اَر‬‫فينا يقول‪" :‬اذا م ّ‬
‫السعادة فعلى الدنيا العفاء!" فهذه الكلمة الحمقاء انما‬
‫تنبع من عدم وجود الدين ومن عدم معرفة الخرة‪ ،‬فهي‬
‫ممنا‪ .‬ثم ان تلك السجية الغالية عندما‬
‫دخيلة علينا تس ّ‬
‫سرت الى الجانب اكسبت كل فرد منهم قـيمة عظيمـة‬
‫مته‪ ،‬فمن‬ ‫حتى كأنه أمـة وحـده؛ لن قيمـة الشخص به ّ‬
‫كانت همته امته فهـو بحد ذاته امة صغيرة قائمة‪.‬‬
‫وبسبب عدم تيقظ أناس منا‪ ،‬وبحكم اخذنا الخلق‬
‫من يقول‪ " :‬نفسي‬ ‫الفاسدة من الجانب فان هناك َ‬
‫نفسي" مع ما في امتنا السلمية من سمو وقدسية‪.‬‬
‫فألف رجل مثل هذا الشخص الذي ل يفكر ال ّ بمصلحته‬
‫الشخصية ول يبالي بمصلحة المة‪ ،‬انما ينزل بمنزلة‬
‫شخص واحد‪.‬‬
‫سه فليس من النسان لنه مدني‬ ‫من كانت همُته نف َ‬
‫] َ‬
‫بالطبع[ فهو مضطر لن يراعي ابناء جنسه‪ ،‬فان حياته‬
‫الشخصية يمكن ان تستمر بحياته الجتماعية‪ .‬فمث ً‬
‫ل‪:‬‬
‫كر كم يحتاج الى اليدي‬‫ان الذي يأكل رغيفا ً عليه ان يف ّ‬
‫التي تحضر له ذلك الرغيف‪ .‬فهو يقّبل تلك اليدي معنى‪.‬‬
‫وكذا الثوب الذي يلبسه‪ ،‬كم من اليدي واللت والجهزة‬
‫تضافرت لتهيئته وتجهيزه‪ .‬وقيسوا على منوال هذين‬
‫المثالين لتعلموا ان النسان مفطور على الرتباط بابناء‬
‫جنسه من الناس لعدم تمكنه من العيش بمفرده وهو‬
‫مضطر الى ان يعطي لهم ثمنا ً معنويا ً لدفع احتياجاته‪ ،‬لذا‬
‫فهو مدني فطرة‪ .‬فالذي يحصر نظره في منافعه‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪514 :‬‬
‫الشخصية وحدها انما ينسلخ من النسانية ويصبح حيوانا ً‬
‫مفترسًا‪ ،‬اللهم إل ّ من لحيلة له‪ ،‬وله معذرة حقيقية‪.‬‬

‫الكلمة السادسة‬
‫"الشــورى"‬
‫ان مفتاح سعادة المسلمين في حياتهم الجتماعية انما هو‬
‫"الشورى" فالية الكريمـة تأمرنا باتخاذ الشورى في جميع‬
‫امورنا‪،‬اذ يقول سبحانه‪) :‬وأمُرهـم شورى بينهم(‬
‫)الشورى‪.(38 :‬‬
‫اجل فكما أن تلحق الفكار بين ابناء الجنس البشري انما‬
‫هو شورى على مر العصور بوساطة التاريخ‪ ،‬حتى غدا‬
‫مدار رقي البشرية واساس علومها‪ ،‬فان سبب تخلف‬
‫القارة الكبرى التي هي آسيا عن ركب الحضارة انما هو‬
‫لعدم قيامها بتلك الشورى الحقيقية‪.‬‬
‫ان مفتاح قارة آسيا وكشاف مستقبلها انما هو الشورى‪،‬‬
‫أي‪ :‬كما ان الفراد يتشاورون فيما بينهم‪ ،‬كذلك ينبغي ان‬
‫تسلك الطوائف والقاليم المسلك نفسه فتتشاور فيما‬
‫بينها‪ .‬ان فك انواع القيود التي كّبلت ثلثمائة بل اربعمائة‬
‫مليون مسلم‪ ،‬ورفع انواع الستبداد عنهم انما يكون‬
‫بالشورى والحرية الشرعية النابعة من الشهامة السلمية‬
‫والشفقة اليمانية‪ ،‬تلك الحرية الشرعية التي تتزين‬
‫بالداب الشرعية وتنبذ سيئات المدنية الغربية‪.‬‬
‫ان الحرية الشرعية النابعة من اليمان انما تأمر‬
‫باساسين‪:‬‬
‫م" ولي ََتذّلل‪ ..‬من كان عبدا ً لله ل‬
‫‪] -1‬ان ل ي ُذ َّلل"المسل ُ‬
‫يكون عبدا ً للعباد[‪.‬‬
‫كم بعضا ً اربابا ً من دون الله[‪ .‬اذ من ل‬
‫‪] -2‬ان ليجعل بعض ُ‬
‫يعرف الله حق معرفته يتوهم نوعا ً من الربوبية لكل شئ‪،‬‬
‫في كل حسب نسبته فيسّلطه على نفسه‪.‬‬
‫ل من‬
‫]نعم ان الحرية الشرعية عطية الرحمن[ وتج ٍ‬
‫صة من خصائص‬‫تجليات الخالق الرحمن الرحيم‪ ،‬وهي خا ّ‬
‫اليمان‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪515 :‬‬


‫و‬
‫س‪ ،‬فلتدم المحبة ولتْق َ‬
‫ق‪ ،‬ول عاش اليأ ُ‬
‫فليحيا الصد ُ‬
‫الشورى‪ ،‬والملم على من اتبع الهوى والسلم على من‬
‫اتبع الهدى‪..‬آمين‪.‬‬
‫واذا قيل‪:‬‬
‫م تهتم بالشورى الى هذا الحد‪ ،‬وكيف يمكن أن تتقدم‬
‫لِ َ‬
‫البشرية عامة وآسيا والسلم بوجه خاص بتلك الشورى؟‬
‫الجواب‪:‬‬
‫فكما اوضحت لمعة "الخلص" وهي اللمعة الحادية‬
‫والعشرون‪ :‬ان الشورى الحق توّلد الخلص والتساند‪ ،‬اذ‬
‫إن ثلث ألفات هكذا )‪ (111‬تصبح مائة واحدى عشرة‪،‬‬
‫فانه بالخلص والتساند الحقيقي يستطيع ثلثة اشخاص‬
‫ان يفيدوا امتهم فائدة مائة شخص‪ .‬ويخبرنا التاريخ‬
‫بحوادث كثيرة أن عشرة رجال يمكنهم أن يقوموا بما‬
‫يقوم به ألف شخص بالخلص والتساند الحقيقي‬
‫والشورى فيما بينهم‪.‬‬
‫فما دامت احتياجات البشر لحد لها واعداؤه دون حصر‪،‬‬
‫وقوته ورأس ماله جزئيان محدودان جدًا‪ .‬ولسيما بعد‬
‫شي اللحاد‪ ..‬فلبد‬‫ازدياد المخّربين والمتوحشين نتيجة تف ّ‬
‫أن يكون أمام اولئك العداء غير المحدودين والحاجات‬
‫التي ل تحصر نقطة استناد تنبع من اليمان‪ ،‬فكما تستند‬
‫حياته الشخصية الى تلك النقطة فان حياته الجتماعية‬
‫ايضا ً انما تستطيع ان تدوم وتقاوم بالشورى الشرعية‬
‫النابعة من حقائق اليمان‪ ،‬فتقف اولئك العداء الشرسين‬
‫دهم وتلبي تلك الحتياجات‪.‬‬‫عند ح ّ‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪516 :‬‬


‫الذيل الول‬
‫تشخيص العّلة‬

‫ة معنوية لتثلم نابعة من اليمان‪،‬‬


‫هذا الذيل يبين بطول ً‬
‫ضمن تمثيل لطيف جدا ً نذكر خلصته لمناسبة ما ذكرناه‬
‫من مسائل‪.‬‬
‫لقد رافقت ايضا ً السلطان رشاد ‪ 1‬في سياحته الى "روم‬
‫ايلي" ممثل ً عن الوليات الشرقية‪ ،‬وذلك في بداية عهد‬
‫الحرية ‪.2‬‬
‫كان في قطارنا معلمان اثنان‪ ،‬قد تلقيا العلوم في‬
‫المدارس الحديثة‪ ،‬فجرت بيننا مباحثة‪ ،‬اذ سألنني‪:‬‬
‫‪ -‬اّيما اقوى وأولى باللتزام‪ :‬الحمية الدينية أم الملية؟‬
‫قلت لهم ‪ -‬وقتئذٍ ‪:-‬‬
‫‪ -‬نحن معاشر المسلمين‪ ،‬الدين والملية عندنا متحدان‬
‫بالذات‪ ،‬والختلف إعتباري‪ ،‬أي ظاهري‪ ،‬عرضي‪ ،‬بل‬
‫الدين هو حياة الملية وروحها‪ .‬فاذا ماُنظر اليهما بأنهما‬
‫مختلفان ومتباينان‪ ،‬فان الحمية الدينية تشمل العوام‬
‫والخواص بينما الحمية الملية تنحصر في واحد بالمئة من‬
‫الناس‪ ،‬ممن يضحي بمنفعته الشخصية لجل المة‪.‬‬
‫وعليه فلبد أن تكون الحمية الدينية اساسا ً في الحقوق‬
‫العامة‪ ،‬وتكون الملية خادمة منقادة لها وساندة حصينة‬
‫لها‪.‬‬
‫فنحن الشرقيين لنشبه الغربيين‪ ،‬اذ المهيمن على قلوبنا‬
‫ن بعث النبياء في الشرق يشير به‬ ‫الشعور الديني؛ فإ ّ‬
‫القدُر اللهي الى أن الشعور الديني وحده هو الذي‬
‫_____________________‬
‫‪ 1‬هو السلطان محمد الخامس الملقب بالسلطان رشاد‬
‫توّلى السلطنة بعد عزل اخيه السلطان عبد الحميد الثاني‬
‫سنة ‪1909‬م‪ .‬المترجم‪.‬‬
‫‪ 2‬الصطلح الذي اطلقه التحاديون على عهدهم‪ .‬المترجم‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪517 :‬‬


‫يستنهض الشرق ويسوقه الى التقدم والرقي‪ ،‬والعصر‬
‫السعيد ‪ -‬وهو خير القرون والذي يليه ‪ -‬خير برهان على‬
‫هذا‪.‬‬
‫فيا زملئي في هذه المدرسة السيارة‪ ،‬أعني القطار‪ ،‬ويا‬
‫من تسألون عن التفاضل بين الحمية الدينية والملية‪،‬‬
‫وياايها الدارسون في المدارس الحديثة‪ .‬اني اقول لكم‬
‫جميعًا‪:‬‬
‫ان الحمية الدينية والملية السلمية قد امتزجتا في الترك‬
‫والعرب مزجا ً ل يمكن فصلهما‪ ،‬وان الحمية السلمية هي‬
‫أقوى وأمتن حبل نوارني نازل من العرش العظم‪ ،‬فهي‬
‫العروة الوثقى ل انفصام لها‪ ،‬وهي القلعة الحصينة التي ل‬
‫تهدم‪.‬‬
‫قال ذلك المعلمان‪:‬‬
‫ما دليلك؟ يلزم لمثل هذه الدعوى الكبيرة حجة عظيمة‬
‫ودليل قوي‪ .‬فما الدليل؟‪.‬‬
‫وفي هذه الثناء خرج قطارنا من النفق‪ ،‬فأخرجنا رؤوسنا‬
‫من النوافذ نتطلع الى الخارج‪ ،‬رأينا صبيا ً ليتجاوز‬
‫السادسة من العمر واقفا ً بجانب سكة الحديد‪.‬‬
‫ي‪:‬‬
‫قلت لصاحب ّ‬
‫‪ -‬ان هذا الصبي يجيبنا عن سؤالنا بلسان حاله‪ ،‬فليكن‬
‫استاذنا بدل ً مني في مدرستنا السيارة هذه‪.‬‬
‫اذ لسان حاله يقول هذه الحقيقة‪:‬‬
‫انظروا الى دابة الرض هذه‪ ،‬والى ضجيجها وصيحتها‪،‬‬
‫وانطلقها من النفق‪ ،‬وتأملوا في ذلك الطفل الوديع‬
‫الواقف على مقربة منها‪ ،‬فعلى الرغم من تهديد هذه‬
‫الدابة وهجومها وانقضاضها على كل من يقترب منها حتى‬
‫كأنها تقول‪ :‬يا ويل من يصادفني ويقف امامي ‪ ..‬على‬
‫الرغم من هذا فان ذلك الصبي البرئ واقف ليحرك‬
‫ساكنا ً بالقرب منها‪ ،‬وهو في كمال الطمئنان والحرية‪،‬‬
‫وليكترث لتهديدها‪ ،‬مبديا ً بطول ً‬
‫ة فائقة وجرأة خارقة‪،‬‬
‫وكأنه يستخف بهجومها‪ ،‬فهو يقول بلسان ثباته وبطولته‬
‫في سن الصبا هذا‪:‬‬
‫‪ -‬أيها القطار انك ل تخيفني بصوتك الصاخب الذي يشق‬
‫عنان السماء‪ ..‬أيها القطار انك أسير نظام‪ ،‬فخطامك في‬
‫دك ول يمكنك ان‬
‫يد قائدك‪ ،‬ل طاقة لك أن تتجاوز ح ّ‬
‫ض في سيرك‬‫ي‪ ،‬فهيا انطلق في طريقك وام ِ‬ ‫تتح ّ‬
‫كم ف ّ‬
‫بإذن قائدك‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪518 :‬‬


‫ي في القطار‪ ،‬ويا اخوتي الباحثين في العلوم‬‫فيا صاحب ّ‬
‫بعد خمسين عامًا!‬
‫افرضوا خيال ً ان رستم الفارسي وهرقل اليوناني‪ ،‬واقفان‬
‫موقف الصبي هذا‪ ،‬واذ هما ل علم لهما بالقطار‪ ،‬فل‬
‫يعتقدان بانه يسير وفق نظام معين‪ ،‬فاذا ماخرج عليهما‬
‫من النفق المظلم وفي رأسه النار ذات الوقود وفي‬
‫انفاسه هدير السماء‪ ،‬وفي عيونه بروق المصابيح‪ ،‬وهو‬
‫ض عليهما‪ ..‬تصوروا هذه‬ ‫يهدد ويزمجر وكأنه يريد أن ينق ّ‬
‫دروا مدى الخوف والهلع الذي يعتريهما‪ ،‬وكيف‬ ‫الحالة ثم ق ّ‬
‫انهما يفّران من القطار مع ما يملكانه من جرأة وشجاعة‬
‫وروا كيف ان حريتهما وجسارتهما تضمحلن‬ ‫نادرة‪ .‬وتص ّ‬
‫امام تهديد دابة الرض هذه حتى ل يجدان بدا ً منها إل ّ‬
‫الفرار‪ ..‬كل ذلك لنهما ل يعتقدان بوجود قائد يقود ذلك‬
‫القطار‪ ،‬ول يؤمنان بوجود نظام يسير على وفقه‪ ،‬بل‬
‫ليظنان أنها داّبة مطيعة منقادة ليس إ ّ‬
‫ل‪ ،‬وانما يتخيلنها‬
‫أسدا ً هصورا ً ووحشا ً كاسرا ً جسيما ً تنتظم وراءه ُاسود‬
‫كثيرة ووحوش عديدة‪.‬‬
‫يا اخوتي! ويا زملئي الذين يسمعون هذا الكلم بعد‬
‫خمسين عامًا!‬
‫ان الذي منح هذا الصبي تلك الجسارة والحرية اكثر من‬
‫ذينك البطلين ووهب له اطمئنانا ً وسكينة يفوقهما بكثير‬
‫هو‪ :‬ان في قلب ذلك الصبي نواة حقيقة‪ ،‬وهي‪ :‬ايمانه‬
‫واطمئنانه بأن ذلك القطار يسير وفق نظام‪ ،‬واعتقاده بأن‬
‫زمامه بيد قائد يقوده بأمره ولجله‪.‬‬
‫وأما الذي أرهب ذينك البطلين المشهورين وأسر‬
‫وجدانهما‪ ،‬فهو عدم معرفتهما بقائد ذلك القطار وعدم‬
‫اعتقادهما بنظامه‪ ،‬أي جهلهما بالعقيدة وخلوهما منها‪.‬‬
‫فمثل هذه البطولة النابعة من ايمان ذلك الصبي الوديع‬
‫سخت طوال ألف سنة في قلوب عشائر من‬ ‫قد تر ّ‬
‫طوائف السلم )وهم الترك ومن تشّبهوا بهم( عقيدةً‬
‫وايمانًا‪ ،‬فوهبهم ذلك اليمان بطولة فائقة استطاعوا بها‬
‫ان يغزوا دول ً تفوقهم مئة ضعف وان يثبتوا امامها‪،‬‬
‫فنشروا كمالت السلم في ارجاء العالم‪ ..‬في آسيا‬
‫وأفريقيا ونصف اوروبا‪ ،‬واستقبلوا الموت بسرور بالغ‬
‫قائلين‪ :‬إن قُِتلت فأنا شهيد وان قََتلت عدوا ً فانا مجاهد‪.‬‬
‫بل ثبتوا ‪ -‬باليمان ‪ -‬امام كل ما اتخذ موقف عداٍء تجاه‬
‫استعدادات النسان وقواه ابتداًء من الميكروبات الى‬
‫المذنبات التي في السماء‪ ،‬وكأن كل ً منها قطار رهيب‪،‬‬
‫فلم يكترثوا بتهديداتها‪.‬‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪519 :‬‬
‫وانما حازت جميع قبائل السلم وفي مقدمتها طوائف‬
‫الترك والعرب نوعا ً من السعادة الدنيوية بتسليمهم المر‬
‫الى الله والرضى بقضائه وقدره ورؤية الحكمة وتلقي‬
‫دروس العبرة من الحوادث بدل ً من الرهبة والهلع منها‪.‬‬
‫فاظهار هؤلء المسلمين‪ ،‬بطولة معنوية فوق المعتاد ‪-‬‬
‫كما يظهره ذلك الصبي ‪ -‬يدّلنا‪ :‬ان امة السلم مثلما تفوز‬
‫في الخرة فلهم في الدنيا ايضا ً السيادة مستقب ً‬
‫ل‪.‬‬
‫ان الذي اّدى الى ان يدخل في روع ذينك البطلين الخوف‬
‫والفرار والقلق انما هو حرمانهما من اليمان والعقيدة‬
‫وجهلهما وضللهما‪ .‬فلقد اثبتت "رسائل النور" بمئات‬
‫الحجج القاطعة تلك الحقيقة التي ذكرت بضعة امثلة منها‬
‫في مقدمة هذه الرسالة ايضًا‪ ،‬تلك هي‪:‬‬
‫ان الكفر والضلل يريان الكون لهلهما أّنه ملئ بآلف‬
‫العداء المخيفين‪ ،‬بل هو سلسلة من طوائف تعادي‬
‫النسان‪ ،‬ابتداًء من المنظومة الشمسية وانتهاء الى‬
‫ميكروبات التدرن الرئوي‪ ،‬كلها تعادي هذا النسان‬
‫المسكين بايدي القوى العمياء والمصادفة العشواء‬
‫والطبيعة الصماء‪ .‬حتى تجعله في رعب دائم وألم مقيم‬
‫وهلع ملزم واضطراب مستمر مع ما يحمل هذا النسان‬
‫من ماهية جامعة واستعداد كلي وحاجات ل نهاية لها‬
‫ورغبات ل منتهى لها‪ .‬بل يجعله الكفر والضلل في حالة‬
‫من عذاب جهنم في الدنيا وكأنه يتجرع الزقوم ول يكاد‬
‫يسيغه‪ .‬فل تجديه آلف الفنون والعلوم ‪ -‬الخارجة عن‬
‫الدين واليمان ‪ -‬ول التقدم البشري ‪ -‬مثلما لم تجدِ بطولة‬
‫ذينك البطلين المشهورين ‪ -‬بل تجري في دمه السفاهة‬
‫طل حواسه فل يشعر باللم مؤقتًا‪.‬‬
‫واللهو لتع ّ‬

‫فكما ان المقايسة بين اليمان والكفر ُتفضي في الخرة‬


‫الى الجنة والنار‪ ،‬فان اليمان في الدنيا ايضا ً يحقق نوعا ً‬
‫من الجنة المعنوية ويجعل المرء يرى الموت نوعا ً من‬
‫التسريح من الوظيفة‪ ،‬بينما الكفر يجعله في الدنيا ايضا ً‬
‫في جحيم معنوي سالبا ً منه السعادة إذ يريه الموت‬
‫اعداما ً ابديًا‪ .‬كما اثبتنا ذلك في "رسائل النور" اثباتا ً بدرجة‬
‫الشهود والقطعية التامة‪ .‬فنحيل القارئ الكريم الى تلك‬
‫الرسائل‪.‬‬
‫فإن شئتم أيها الخوان ان تروا حقيقة هذا المثال‪ ،‬فارفعوا‬
‫رؤوسكم وانظروا الى هذا الكون! كم ترون لله في‬
‫الفضاء من كرات النجوم واجرام العوالم وسلسل‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪520 :‬‬


‫الحادثات والوقائع المتسلسلة أمثال القطار والمنطاد‬
‫والسيارات اللهية فكأنها سفائن برية وفلك بحرية‬
‫وطائرات هوائية خلقتها يد القدرة اللهية بنظام وحكمة‪.‬‬
‫فكما ان للقدرة اللهية في عالم الشهادة وفي عالمنا‬
‫المادي امثال هذه‪ ،‬فان لها في عالم الرواح والمعنويات‬
‫من يملك عق ً‬
‫ل‪ ،‬بل‬ ‫دق بها ك ُ‬
‫ل َ‬ ‫نظائر متسلسلة أعجب‪ ،‬يص ّ‬
‫من يملك بصيرة‪.‬‬ ‫يرى اغلَبها ك ّ‬
‫ل َ‬
‫فهذه المور المتسلسلة المترابطة في الكون سواٌء منها‬
‫حرموا من‬ ‫المادية أو المعنوية تهاجم أهل الضلل الذين ُ‬
‫اليمان وتهددهم وترهبهم وتح ّ‬
‫طم قواهم المعنوية‪ ،‬بينما‬
‫لتخيف اهل اليمان ول تهددهم بشئ بل تبعث فيهم‬
‫السرور والسعادة والنس والمل والقوة‪ ،‬وذلك لنهم‬
‫يرون الوجود بنور اليمان‪ ،‬وتلك الحوادث المتسلسلة‪،‬‬
‫وتلك القاطرات المادية والمعنوية والعوالم السيارة‪ ،‬انما‬
‫تساق الى وظيفة معينة محددة من قبل صانع حكيم‬
‫لتؤديها ضمن نظام وحكمة من دون اختلط ول تجاوز‬
‫قط‪.‬‬
‫ن‪ :‬أن كل شئ ينال قبسا ً من تجليات‬
‫فُيري اليمان المؤم َ‬
‫جمال الله واتقان صنعته سبحانه‪ ،‬ويمنحه قوة معنوية‬
‫عظيمة بما يفتح له من نماذج للسعادة البدية‪.‬‬
‫وهكذا فان ما يعانيه اهل الضلل من اللم الرهيبة‬
‫الناشئة من فقدان اليمان‪ ،‬وما يلزمهم من خوف ورعب‬
‫شديدين‪ ،‬تقف ازاءه جميع انواع الرقي البشري عاجزة‬
‫لتمنح له سلوانا ً ول عزاًء‪ ،‬بل ل يمكنها ان تضمن له قوة‬
‫معنوية‪ ،‬فتتحطم الجرأة والقدام‪ ..‬إل ّ ما تخدعه الغفلة‬
‫من إسدال ستار النسيان عليها‪.‬‬
‫أما أهل اليمان فل ترهبهم تلك الحادثات ول تأخذ من‬
‫معنوياتهم؛ وذلك بفضل اليمان ‪ -‬بمثل ذلك الصبي ‪ -‬بل‬
‫تزيد معنوياتهم صلبة‪ ،‬اذ ينظرون اليها‪ -‬أي الى الحوادث ‪-‬‬
‫من خلل حقيقة ايمانهم فيشاهدون ارادة الصانع الحكيم‬
‫وادارته وتدبيره اياها ضمن حكمته الواسعة‪ .‬فيتحررون‬
‫من المخاوف والوهام‪ ،‬اذ يعلمون أنه‪ :‬لول امُر الصانع‬
‫الحكيم وإذنه لما استطاعت هذه العوالم السيارة الحركة‬
‫قط‪ .‬فينالون بهذا اطمئنانا ً يسعدهم في الدنيا كذلك‪ ،‬كل‬
‫حسب درجته‪.‬‬
‫ومن لم يكن في قلبه ووجدانه بذرة هذه الحقيقة النابعة‬
‫من اليمان والدين الحق‪ ،‬ولم يستند الى ركيزة‪ ،‬فمثله‬
‫كمثل ذينك البطلين المشهورين‪ ،‬اذ تنهار قواه المعنوية‬
‫بمثل تحطم جسارتهما وبطولتهما‪ .‬ويكون أسير حادثات‬
‫سخ وجدانـه ويصبح كالمتسول الذليـل بإزاء‬ ‫الكائنات فيتف ّ‬
‫كل حادثة‪.‬‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪521 :‬‬
‫نكتفي بهذا القدر لبيان هذه الحقيقة الواسعة حيث بيّنت‬
‫ن في‬ ‫"رسائل النور" بحججها الدامغة ان هذا السر كام ٌ‬
‫اليمان بينما الضللة تحمل شقاًء وتعاسة في الدنيا ايضًا‪.‬‬
‫س في هذا العصر بحاجته الماسة الى‬ ‫ان النسان الذي أح ّ‬
‫قوة معنوية وصلبة وثبات والى عزاء وسلوان‪ ،‬قد ترك‬
‫حقائق اليمان التي هي اعظم ركيزة استناد له والتي‬
‫تضمن له القوة المعنوية والسلوان والسعادة‪ ،‬واستهواه‬
‫التغرب فاستند الى الضللة والسفه‪ ،‬فبدل ً من أن يستفيد‬
‫من الملية السلمية اخذ يحطم القوة المعنوية تحطيما ً‬
‫ل‪ ،‬فازال عنه السلوان واوهن صلبته بانسياقه وراء‬ ‫كام ً‬
‫الضلل والسفه والسياسة الكاذبة‪ .‬أل ترى أن هذا بعد ٌ‬
‫شاسع عن مصالح النسان ومنافعه؟ أل ان النسانية‬
‫ستدرك يوما ً ‪ -‬إن بقي لها من العمر بقية ‪ -‬حقيقة‬
‫القرآن‪ ،‬وستعتصم به‪ ،‬وفي مقدمتها المسلمون‪.‬‬
‫***‬

‫لقد سأل قسم من النواب المتدينين سعيدا ً القديم اوائل‬


‫عهد الحرية‪:‬‬
‫‪ -‬انك تجعل السياسة تابعة للدين في كل شئ‪ ،‬بل تجعلها‬
‫وسيلة منقادة للشريعة‪ ،‬ول تقبل الحرية ال ّ على اساس‬
‫الوجه المشروع‪ ،‬بمعنى انك ل تعترف بالحرية‬
‫والمشروطية بدون الشريعة‪ ،‬ولجل هذا جعلوك في‬
‫صفوف المطالبين بتطبيق الشريعة في حادثة )‪(31‬‬
‫مارت‪.‬‬
‫فأجابهم سعيد القديم بالتي‪:‬‬
‫أجل! انه ل سعادة لمة السلم إل ّ بتحقيق حقائق‬
‫السلم‪ ،‬وإل ّ فل‪ ،‬ول يمكن ان تذوق المة السعادة في‬
‫الدنيا او تعيش حياة اجتماعية فاضلة إل ّ بتطبيق الشريعة‬
‫السلمية‪ ،‬وإل ّ فل عدالة قطعًا‪ ،‬ول أمان مطلقًا‪ .‬اذ تتغلب‬
‫عندئذ ٍ الخلق الفاسدة والصفات الذميمة‪ ،‬ويبقى المر‬
‫معلقا ً بيد الكذابين والمرائين‪.‬‬
‫سأعرض لكم ما يثبت هذه الحقيقة في حكاية اوردها‬
‫نموذجا ً مصغرا ً من بين آلف الحجج‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪522 :‬‬


‫سافر شخص الى قوم من البدو في صحراء‪ .‬فنزل ضيفا ً‬
‫عند رجل فاضل‪ ..‬لحظ انهم ل يهتمون بحرز اموالهم‪.‬‬
‫وقد ألقى صاحب المنزل نقوده في زوايا البيت مكشوفة‬
‫دون تحّفظ‪ .‬قال الضيف لصاحب المنزل‪:‬‬
‫‪ -‬ال تخافون من السرقة؟ تلقون اموالكم هكذا في الزوايا‬
‫دون تحرز؟‬
‫اجابه‪:‬‬
‫‪ -‬ل تقع السرقة فينا!‬
‫‪ -‬اننا نضع نقودنا في صناديق حديد مقفلة‪ ،‬ومع ذلك كثيرا ً‬
‫ما تقع فينا السرقة‪.‬‬
‫‪ -‬اننا نقطع يد السارق كما أمر به الله تعالى وعلى وفق‬
‫ما تتطلبه عدالة الشريعة‪.‬‬
‫‪ -‬فاذا ً كثيرون منكم قد حرموا من احدى ايديهم!‬
‫‪ -‬ما رأيت ال ّ قطع يد واحدة‪ ،‬وقد بلغت الخمسين من‬
‫العمر‪.‬‬
‫‪ -‬ان في بلدنا يسجن يوميا ً مايقارب الخمسين من الناس‬
‫بسبب السرقة‪ ،‬ومع ذلك ل يردعهم ذلك إل ّ بواحد من‬
‫ألف مما تردعه عدالتكم!‬
‫‪ -‬لقد اهملتم حقيقة عظيمة وغفلتم عن سّر عجيب‬
‫عريق‪ ،‬لذا تحرمون من حقيقة العدالة؛ اذ بدل ً من‬
‫المصلحة النسانية تتدخل فيكم الغراض الشخصية‬
‫والمحسوبيات والتحيز وما الى ذلك من المور التي تغّير‬
‫طبيعة الحكام وتحّرفها‪.‬‬
‫وحكمة تلك الحقيقة هي‪:‬‬
‫ان السارق فينا في اللحظة التي يمد يده للسرقة يتذكر‬
‫اجراء الحد ّ الشرعي عليه‪ ،‬ويخطر بباله انه أمر الهي نازل‬
‫من العرش العظم‪ ،‬فكأنه يسمع بخاصية اليمان بأذن‬
‫ة بالكلم الزلي الذي يقول‪) :‬والسارق‬ ‫قلبه ويشعر حقيق ً‬
‫والسارقة فاقطعوا ايديهما( )المائدة‪ (38 :‬فيهيج عنده ما‬
‫يحمله من ايمان وعقيدة‪ ،‬وتثار مشاعره النبيلة‪ ،‬فتحصل‬
‫له حالة روحية اشبه ما يكون بهجوم ُيشن من اطراف‬
‫الوجدان واعماقه على ميل السرقة‪ ،‬فيتشتت ذلك الميل‬
‫الناشئ من النفس المارة بالسوء والهوى‪ ،‬وينسحب‬
‫وينكمش‪ ،‬وهكذا بتوالي التذكير هذا يزول ذلك الميل الى‬
‫السرقة‪ ،‬اذ الذي يهاجم ذلك الميل ليس الوهم والفكر‬
‫وحدهما وانما قوى معنوية من عقل وقلب ووجدان‪ ،‬كلها‬
‫تهاجم دفعة واحدة ذلك الميل والهوى فبتذكر الحد‬
‫الشرعي يقف تجاه ذلك الميل زجٌر سماوي ورادع‬
‫وجداني فيسكتانه‪.‬‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪523 :‬‬
‫اجل! ان اليمان يقيم دائما ً في القلب والعقل حارسا ً‬
‫معنويا ً امينًا‪ ،‬لذا كلما صدرت ميول فاسدة عن تطلعات‬
‫النفس والنوازع والحاسيس المادية قال لها ذلك الحارس‬
‫الرادع‪ :‬محظور‪ ..‬ممنوع‪ ..‬فيطردها ويهزمها‪.‬‬
‫ان افعال النسان انما تصدر عن تمايلت القلب‬
‫والمشاعر وهي تنبعث من شدة تحسس الروح وحاجتها‪،‬‬
‫والروح انما تهتز بنور اليمان‪ ،‬فان كان خيرا ً يفعله‬
‫النسان‪ ،‬وإل ّ يحاول النسحاب ‪ ،‬وعندئذٍ ل تغلبه النوازع‬
‫والحاسيس المادية التي ل ترى العقبى!‬

‫الحاصل‪:‬‬
‫ان "الحد" أو "العقاب" عندما يقام امتثال ً للمر اللهي‬
‫والعدل الرباني فان الروح والعقل والوجدان واللطائف‬
‫المندرجة في ماهية النسان تتأثر به وترتبط به‪ ،‬فلجل‬
‫هذا المعنى افادتنا اقامة حد واحد طوال خمسين سنة‬
‫اكثر من سجنكم في كل يوم! ذلك لن عقوباتكم التي‬
‫تجرونها باسم العدالة ليبلغ تأثيرها إل ّ في وهمكم‬
‫رد الى خياله‬ ‫وخيالكم‪ ،‬اذ عندما يقوم احدكم بالسرقة ي َ ِ‬
‫العقاب الذي ما وضع إل ّ لجل مصلحة المة والبلد ويقول‬
‫ي نظرة‬ ‫ان الناس لو عرفوا باني سارق فسينظرون ال ّ‬
‫جني الحكومة‬ ‫دي ربما تز ّ‬‫ازدراء وعتاب‪ ،‬واذا تبين المر ض ّ‬
‫في السجن‪ ..‬وعند ذلك لتتأثُر ال ّ قوته الواهمة تأثرا ً‬
‫جزئيًا‪ ،‬بينما يتغلب عليه الميل الشديد الى السرقة والنابع‬
‫من النفس المارة والحاسيس المادية ‪ -‬لسيما ان كان‬
‫محتاجا ً ‪ -‬فل ينفعه عقابكم لنقاذه من ذلك العمل السئ‪.‬‬
‫ثم لنه ليس امتثال ً للمر اللهي فليس هو بعدالة‪ ،‬بل‬
‫جه الى‬ ‫صلة بل وضوء وبل تو ّ‬ ‫باطل وفاسد بطلن ال ّ‬
‫القبلة‪ ،‬أي أن العدالة الحقة والعقاب الرادع انما يكون اذا‬
‫ُاجريت امتثال ً للمر اللهي وإل ّ فان تأثير العقاب يكون‬
‫ضيئل ً جدًا‪.‬‬
‫فاذا قست على هذه المسألة الجزئية في السرقة سائر‬
‫الحكام اللهية تدرك أن‪ :‬السـعادة البشرية في الدنيـا‬
‫مرتهـنـة باجراء العدالة‪ ،‬ول تنفذ العـدالـة ال ّ كما بّينها‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬
‫)انتهت خلصة الحكاية(‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪524 :‬‬


‫ولقد ُاخطر على القلب أنه‪:‬‬
‫اذا لم يفق النسان من غفلته بسرعة‪ ،‬ولم يسترشد‬
‫بعقله‪ ،‬ويفتح ابواب المحاكم لتنفيذ عدالة الله ضمن‬
‫حقائق السلم‪ ،‬فستنفلق على رأسه قيامات مادية‬
‫ومعنوية ويسّلم السلح الى الفوضويين والرهابيين و َ‬
‫من‬
‫هم امثال يأجوج ومأجوج!‬
‫وهكذا فلقد حكى "سعيد القديم" هذه الحكاية لقسم من‬
‫النواب المتدينين‪ ،‬وأدرجت قبل خمسة واربعين عاما ً في‬
‫ذيل الخطبة الشامية العربية التي طبعت طبعتين في‬
‫أسبوع واحد‪.‬‬
‫والن فهذه الحكاية والتمثيل الول‪ ،‬انما هما درسان‬
‫يستفيد منهما النواب المتدينون الفاضل في الوقت‬
‫الحاضر أكثر من سابقيهم‪ ،‬فنبّينهما لهم درسا ً من دروس‬
‫العبرة ‪.1‬‬
‫سعيد النورسي‬
‫_____________________‬
‫‪ 1‬لقد رجونا من استاذنا ان يدّرسنا في غضون يومين‬
‫الخطبة الشامية المطبوعة بالعربية‪ ،‬لعدم اتقاننا العربية‪،‬‬
‫فتفضل علينا بشرحها‪ ،‬ونحن بدورنا دّونا ما قرره علينا‪،‬‬
‫وكان الستاذ يكرر بعض الجمل ويعيدها كي يرسخها في‬
‫اذهاننا‪ ،‬ولما كنا قد وجدنا المثال والحكاية الخيرة‬
‫واضحة‪ ،‬فقد ابرزناها مقدما ً الى الطلب الجامعيين‬
‫والنواب المتدينين‪ ،‬ذلك لن الستاذ عندما استهل الدرس‬
‫قال‪:‬‬
‫«انني اضعكم امامي بدل ً من المعلمين في ذلك القطار‪،‬‬
‫واضع النواب المتدينين حقا ً بدل ً من النواب المتدينين‬
‫الذين سألوني عن الشريعة قبل خمسة واربعين عامًا‪،‬‬
‫هكذا أتصور المر واتكلم في ضوئه‪.‬‬
‫ن اول ً لهل‬
‫فنحن نبين ما في هذه الرسالة من معا ٍ‬
‫المعرفة والتربية والنواب المتدينين‪ ،‬واذا شاؤوا نبين لهم‬
‫الدروس التي اخذناها من الستاذ لدى شرحه الخطبة لنا‪.‬‬
‫واذا ارتأوا نطبعها وننشرها‪.‬‬
‫كنا نود ّ ان نأخذ درسا ً حول السياسة السلمية الدائرة في‬
‫العالم السلمي‪ ،‬ولكن لن الستاذ قد ترك السياسة منذ‬
‫خمس وثلثين سنة‪ ،‬فان هذه الخطبة ‪ -‬التي تمس‬
‫السياسة ‪ -‬انما هي درس من دروس «سعيد القديم»‪.‬‬

‫طلب النور‬
‫طاهرى‪ ،‬زبير‪ ،‬بايرام‪ ،‬جيلن‪،‬‬
‫صونغور‪ ،‬عبدالله‪ ،‬ضياء‪ ،‬صادق‪،‬‬
‫صالح‪ ،‬حسني‪ ،‬حمزة‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪525 :‬‬


‫ذيل الذيل‬
‫لتحيا الشريعة الغراء‬
‫‪26‬شباط ‪ 1324‬رومي‬
‫الجريدة الدينية‪73 /‬‬
‫‪ 7‬مارت ‪1909‬م‬
‫أيها النواب!‬
‫سأقول جملة واحدة موجزة مع أنها طويلة‪ .‬فارجو ان‬
‫تلحظوها باهتمام بالغ‪ ،‬اذ في اطنابها ايجاز وهي‪:‬‬
‫ان المشروطية والقانون الساس هما العدالة والشورى‬
‫وحصر القوة في القانون‪ ،‬مع هذا العنوان أقول‪:‬‬
‫ان السلم وشريعته الغراء هو‪:‬‬
‫المالك الحقيقي وصاحب العنوان المعظم‪ ..‬والمؤثر الحق‬
‫والمتضمن للعدالة المحضة‪ ..‬ويحقق نقطة استنادنا‪..‬‬
‫ويرسي المشروطية على اساس متين‪ ..‬وينقذ ذوي‬
‫الوهام والشكوك من ورطة الحيرة‪ ..‬ويتكفل بمستقبلنا‬
‫وآخرتنا‪ ..‬وينقذكم من التصرف في حقوق الله بدون اذن‬
‫منه‪ ،‬تلك الحقوق التي تضمن مصالح الناس كافة‪..‬‬
‫ويحافظ على حياة امتنا‪ ..‬ويظهر ثباتنا وكمالنا ويحقق‬
‫وجودنا امام الجانب‪ ..‬وسحر العقول والذهان‪ ..‬وينقذكم‬
‫من تبعات الدنيا والخرة‪ ..‬ويؤسس التحاد العام الشامل‬
‫نهاية المطاف‪ ..‬ويولد الفكار العامة )الرأي العام( التي‬
‫هي روح ذلك التحاد‪ ..‬ويحول دون دخول مفاسد المدنية‬
‫الى حدود حريتنا ومدنيتنا‪ ..‬وينجينا من ذل التسول من‬
‫أوروبا‪ ..‬ويطوي لنا المسافة الشاسعة التي تخلفنا فيها‬
‫عن الرقي في زمان قصير بناًء على سّر العجاز‪ ..‬ويرفع‬
‫من شأننا في زمن قصير بتوحيد العرب والطوران وايران‬
‫والساميين‪ ..‬ويظهر الشخصية المعنوية للدولة بمظهر‬
‫السلم‪..‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪526 :‬‬


‫ويخلصكم من حنث اليمان بالمحافظة على المادة‬
‫الحادية عشرة من القانون الساس‪ ..‬ويبطل الظنون‬
‫الفاسدة التي تحملها اوروبا سابقًا‪ ..‬ويحملهم على‬
‫التصديق بان النبي محمدا ً صلى الله عليه وسلم خاتم‬
‫النبياء‪ ،‬وان الشريعة خالدة‪ ..‬ويقيم سدا ً أمام اللحاد‬
‫مر المدنية‪ ..‬ويزيل بصفحته النورانية ظلمة تباين‬‫الذي يد ّ‬
‫الفكار وتشتت الراء ‪ ..‬ويجعل جميع العلماء والوعاظ‬
‫متحدين في سبيل سعادة المة وتنقية اجراءات الدولة‬
‫وخداما ً للمشروطية المشروعة‪ ..‬ويؤلف قلوب غير‬
‫المسلمين ويربطهم به أكثر‪ ،‬فعدالته المحضة رحيمة‪..‬‬
‫ويجعل اجبن شخص واكثرهم ضعة اشجع وارفع انسان‬
‫ويعاملهم هكذا‪ ..‬وينفخ فيهم الشعور بالرقي والتضحية‬
‫ويحسسهم بحب الوطن‪ ..‬ويخلصنا من السفاهة التي‬
‫تهدم المدنية ومن الحاجيات غير الضرورية‪ ..‬ويبعث فينا‬
‫النشاط في العمل للدنيا مع تذكر الخرة والمحافظة‬
‫عليها‪ ..‬ويعلمنا الخلق المحمودة التي هي حياة المدنية‬
‫ويفهمنا قواعد المشاعر النبيلة‪ ..‬ويبرئ ساحتكم ايها‬
‫المبعوثون من مطالبة حقوق خمسين ألف شخص‪..‬‬
‫ويظهركم مثال ً مصغرا ً مشروعا ً لجماع المة‪ ..‬ويجعل‬
‫اعمالكم كأنها عبادة حسب نياتكم الخالصة‪ ..‬وينجيكم من‬
‫الجناية التي ترتكب بحق الحياة المعنوية لثلثمائة مليون‬
‫من المسلمين‪..‬‬
‫فاذا ما اظهرتم السلم وشريعته الغراء واتخذتموها‬
‫اساسا ً لحكامكم‪ ،‬وطبقتم دساتيرها‪ ،‬فمع اغتنام فوائد‬
‫الى هذا الحد هل تفقدون من شئ؟ والسلم‪.‬‬
‫فلتحيا الشريعة الغراء‪.‬‬
‫سعيد النورسي‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪527 :‬‬


‫حـقيـقـة‬
‫‪ 26‬شباط ‪1324‬م‬
‫الجريدة الدينية‪70/‬‬
‫‪ 7‬مارت ‪1909‬م‬
‫نحن منذ الزل داخلون في الجمعية المحمدية‪ ،‬فالتوحيد‬
‫هو جهة الوحدة والتحاد فيما بيننا‪ ،‬وقَ َ‬
‫سمنا وعهدنا هو‬
‫اليمان‪.‬‬
‫فما دمنا موحدين متحدين‪ ،‬فكل مؤمن مكلف باعلء كلمة‬
‫الله واعظم وسيلة لعلء كلمة الله في زماننا هذا هو‬
‫الرقي المادي‪.‬‬
‫اذ الجانب يسحقوننا تحت تحكمهم المعنوي بسلح العلوم‬
‫والصنائع ونحن سنجاهد بسلح العلم والتقنية الجه َ‬
‫ل‬
‫والفقَر والخلف الذي هو ألد أعداء اعلء كلمة الله‪.‬‬
‫اما الجهاد الخارجي فنحيله الى السيوف اللماسية‬
‫للبراهين القاطعة للشريعة الغراء‪ .‬لن الغلبة على‬
‫المدنيين انما هي بالقناع وليس بالكراه كما هو شأن‬
‫الجهلء الذين ل يفقهون شيئًا‪.‬‬
‫نحن فدائيو المحبة لمكان بيننا للخصومة‪.‬‬
‫فالجمهورية ‪ 1‬عبارة عن العدالة والشورى وحصر القوة‬
‫في القانون‪ ،‬أليس من الجناية على السلم أن تستجدى‬
‫الحكام من اوروبا ولنا شريعة غراء تأسست قبل ثلثة‬
‫عشر قرنًا؟ ان هذا الستجداء شبيه بالتوجه الى غير‬
‫القبلة في الصلة‪.‬‬
‫ان القوة لبد ان تكون في القانون وإل ّ فسيتفشى‬
‫الستبداد في الكثيرين‪.‬‬
‫ولبد أن يكون المهيمن والمر الوجداني قوله تعالى‪) :‬ان‬
‫الله لقوي عزيز( )الحج‪ .(74 :‬وهذا يكون بالمعرفة التامة‬
‫والمدنية الكاملة أو بتعبير آخر بالسلم‪ .‬وإل ّ سيكون‬
‫الستبداد هو المستولي دائمًا‪.‬‬
‫_____________________‬
‫‪ 1‬وضعت هذه الكلمة حديثا ً بدل ً من المشروطية الموجودة‬
‫سابقًا‪ ...‬المؤلف‪.‬‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪528 :‬‬
‫ان التفاق في الهدى وليس في الهوى والهوس‪.‬‬
‫نعم ان الله خلق الناس أحرارا ً وهم عبيد لله فقد تحرر‬
‫كل شئ فنحن بامتثالنا الشريعة احرار وبتمسكنا‬
‫بالمشروطية أحرار ايضا ً ولن نتنازل عن المسائل‬
‫الشرعية ولن نعطيها أتاوة‪ .‬ان قصور فردٍ عن شئ ل‬
‫يكون عذرا ً لقصور آخر‪.‬‬
‫اعلموا ان اليأس مانع كل كمال‪.‬‬
‫ان هدية الستبداد وتذكاره هو‪" :‬ما لي أنا‪..‬فليف ّ‬
‫كر غيري"‪.‬‬
‫احيل الربط بين هذه الجمل الى فكر المطالع الكريم‬
‫لعدم اتقاني اللغة التركية!!‬

‫سعيد النورسي‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪529 :‬‬


‫صدى الحقيقة‬

‫‪ 27‬مارت ‪1909‬م‬
‫ان السبيل المحمدي مستغن عن كل ما يومئ الى‬
‫الحيلة والشك لنه منّزه عن الخداع والشبهة‪.‬‬
‫ثم ان حقيقة واسعة عظيمة محيطة الى هذا الحد ‪ -‬ول‬
‫سيما تجاه اهل هذا الزمان ‪ -‬ل يمكن ان تخفى مطلقًا‪.‬‬
‫وهل يخفى البحر العظيم في كأس؟!‬
‫اقول مكررا ً أن التوحيد اللهي هو جهة الوحدة في التحاد‬
‫ة اتحاد السلم )الوحدة‬
‫المحمدي الذي هو حقيق ُ‬
‫السلمية(‪.‬‬
‫اما يمينه وبيعته فهو اليمان‪.‬‬
‫ومقّراته واماكن تجمعاته‪ :‬المساجد والمدارس الدينية‬
‫والزوايا‪.‬‬
‫ومنتسبوه‪ :‬جميع المؤمنين‪.‬‬
‫ونظامه الداخلي‪ :‬السنن الحمدية‪ .‬والقوانين الشرعية‬
‫بأوامرها ونواهيها‪ .‬فهذا التحاد ليس نابعا ً من العادة وانما‬
‫هو عبادة‪.‬‬
‫فالخفاء والخوف من الرياء‪ .‬والفرائض لرياء فيها‪.‬‬
‫وأوجب الفرائض في هذا الوقت هو اتحاد السلم )الوحدة‬
‫السلمية(‪.‬‬
‫وهدف التحاد وقصده تحريك الرابطة النورانية التي تربط‬
‫المعابد السلمية التي هي منتشرة ومتشعبة‪ .‬وايقاظ‬
‫المرتبطين بها بهذا التحريك‪ ،‬ودفعهم الى طريق الرقي‬
‫بأمر وجداني‪.‬‬
‫مشرب هذا التحاد هو‪ :‬المحبة‪ .‬وعدوه‪ :‬الجهل والضرورة‬
‫والنفاق‪.‬‬
‫وليطمئن غير المسلمين بأن اتحادنا هو الهجوم على هذه‬
‫الصفات الثلث ليس إ ّ‬
‫ل‪ .‬وبالنسبة اليهم فسبيلنا القناع‪.‬‬
‫لننا نعتقدهم مدنيين‪ .‬واننا مكلفون بأن نظهر‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪530 :‬‬


‫السلم بمظهر الجمال والحسن المحبوب‪ .‬لننا نظن‬
‫فيهم النصاف‪ .‬ال فليعلم المهملون غير المكترثين أنهم ل‬
‫يحببون انفسهم بالنسلخ من الدين لي اجنبي كان‪ .‬وانما‬
‫ل‪ .‬ومن كان على غير‬ ‫يظهرون انهم على غير هدى ليس ا ّ‬
‫ب قطعًا‪ ،‬والذين انضموا‬‫ح ّ‬
‫هدى في طريق الفوضوية ل ي ُ َ‬
‫الى هذا التحاد بعد التدقيق العلمي والبحث والتحري ل‬
‫يتركونه تقليدا ً لولئك حتمًا‪.‬‬
‫نحن نعرض افكار اتحاد السلم الذي هو التحاد المحمدي‬
‫ومسلكه وحقيقته للناس اجمعين‪ .‬ونحن مستعدون‬
‫لسماع أي اعتراض كان‪.‬‬
‫جمله شيران جهان بستهء اين سلسله اند‬
‫روبه أزحيله جه سان ب ُ‬
‫كسلد اين سلسله را‬
‫أي‪:‬‬
‫ة‬
‫هل يقطع الثعلب المحتال سلسل ً‬
‫ت بها أسد الدنيا بأسرهم‬
‫قيد ْ‬
‫سعيد النورسي‬
‫***‬
‫"فقرة تركُتها من "فهرس المقاصد" المنشور"‬
‫ان نهر العلوم الحديثة والثقافة الجديدة الجاري والتي‬
‫إلينا من الخارج كما هو الظاهر‪ ،‬ينبغي أن يكون أحد‬
‫مجاريه قسما ً من اهل الشريعة كي يتصفى من شوائب‬
‫الحيل ورواسب الغش والخداع‪ .‬لن الفكار التي نمت في‬
‫مستنقع العطالة‪ ،‬وتنفست سموم الستبداد‪ ،‬وانسحقت‬
‫تحت وطأة الظلم‪ُ ،‬يحدث فيها هذا الماء السن العفن‬
‫خلف المقصود‪.‬‬
‫فلبد اذن من تصفيته بمصفاة الشريعة‪ .‬وهذا المر تقع‬
‫مسؤوليته على عاتق اهل المدرسة الشرعية‪.‬‬
‫والسلم على من اتبع الهدى‬
‫سعيد النورسي‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪531 :‬‬


‫لتحيا الشريعة الحمدية‬
‫"على صاحبها الصلة والسلم"‬
‫‪ 5‬مارت ‪ 1325‬رومي‬
‫الجريدة الدينية‪77 /‬‬
‫‪18‬مارت ‪1909‬م‬
‫ان الشريعة الغراء باقية الى البد؛ لنها آتية من الكلم‬
‫الزلي وان النجاة والخلص من تحكم النفس المارة‬
‫بالسوء بنا هي بالعتماد على السلم والستناد اليه‬
‫والتمسك بحبل الله المتين‪.‬‬
‫وان جني فوائد الحرية الحقة والستفادة منها استفادة‬
‫كاملة منوط بالستمداد من اليمان؛ ذلك لن من اراد‬
‫ل نفسه‬‫العبودية الخالصة لرب العالمين ل ينبغي له ان يذ ّ‬
‫ملكه‬ ‫فيكون عبدا ً للعبيد‪.‬وحيث أن كل انسان راٍع في ُ‬
‫وعاَلمه فهو مكّلف بالجهاد الكبر في عالمه الصغر‬
‫ومأمور بالتخلق باخـلق النـبي صلى الله عليه وسلم‬
‫واحياء سنته الشريفة‪.‬‬
‫يا اولياء المور! ان اردتم التوفيق فاطلبوه في موافقة‬
‫اعمالكم للسنن اللهية في الكون ‪ -‬أي قوانين الله ‪ -‬وال ّ‬
‫فلن تحصدوا إل ّ الخذلن والخفاق‪ .‬لن ظهور النبياء عامة‬
‫في الممالك السلمية والعثمانية انما هو رمز واشارة من‬
‫القدر اللهي‪ :‬أن الذي يدفع ابناء هذه الممالك الى التقدم‬
‫انما هو الدين‪ .‬وان أزاهير مزرعة آسيا وافريقيا وبساتين‬
‫نصف اوربا ستتفتح وتزدهر بنور السلم‪.‬‬
‫اعلموا ان الدين ليضحى به لجل الحصول على الدنيا‪.‬‬
‫فقد كانت تعطى فيما مضى مسائل الشريعة أتاوة‬
‫للحفاظ على الستبداد البائد ‪ .1‬اروني ماذا حصدنا من‬
‫ترك مسائل الدين والتضحية بها غير الضرر والخيبة‪.‬‬
‫_____________________‬
‫‪ 1‬المقصود عهد السلطان عبد الحميد الثاني‪ ،‬والستاذ‬
‫النورسي مع أنه كان يشّنع بالستبداد إل ّ أنه يحسن الظن‬
‫بالسلطان نفسه‪ ،‬فهو اذ يفضح مساوئ الستبداد الذي‬
‫كان يمارس باسم السلطان يبرئ ساحة السلطان فيقول‬
‫عنه‪ :‬السلطان المظلوم‪ ..‬انه ولي من اولياء الله‬
‫الصالحين‪ .‬المترجم‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪532 :‬‬
‫ان اصابة المة في قلبها انما هو من ضعف الدين ولن‬
‫تنعم بالصحة إل ّ بتقوية الدين‪.‬‬
‫ان مشربنا‪ :‬محبة المحبة‪ ،‬ومخاصمة الخصومة‪ ،‬أي امداد‬
‫جنود المحبة بين المسلمين‪ ،‬وتشتيت عساكر الخصومة‬
‫فيما بينهم‪.‬‬
‫أما مسلكنا‪ :‬فهو التخلق بالخلق المحمدية صلى الله‬
‫عليه وسلم واحياء السنة النبوية‪.‬‬
‫ومرشدنا في الحياة‪ :‬الشريعة الغراء‬
‫وسيفنا‪ :‬البراهين القاطعة‪.‬‬
‫وهدفنا‪ :‬اعلء كلمة الله‪..‬‬
‫ى ‪ -‬لجماعتنا ‪ ،1‬وصورة‬‫ان كل مؤمن هو منتسب ‪ -‬معن ً‬
‫هذا النتساب هو العزم القاطع على احياء السنة النبوية‬
‫في عالمه الخاص‪ ،‬فنحن ندعو باسم الشريعة اولئك‬
‫المرشدين وهم العلماء والمشايخ من طلب العلوم الى‬
‫التحاد قبل اي احد سواهم‪.‬‬
‫سعيد النورسي‬

‫تنبيه خاص‬
‫مون قد أوقعوا المة‬‫ان الصحفيين الذين هم خطباء عا ّ‬
‫في مستنقع فاسد بقياسين فاسدين‪:‬‬
‫الول‪ :‬يقيسون الوليات الخرى على استانبول علما ً ان‬
‫الطفال الذين ل يستطيعون قراءة اللفباء اذا لّقنوا‬
‫الفلسفة فانه يكون تلقينا ً سطحيًا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬يقيسون استانبول على اوروبا علما ً ان الرجل اذا‬
‫ما لبس ثوب امرأة يكون محل هزء وسخرية ويتسفل‪.‬‬
‫سعيد النورسي‬
‫____________________‬
‫‪ 1‬هذه المقالة والتي تعقبها تعد ّ دعوة واضحة الى التحاد‬
‫السلمي والرجوع الى الشريعة والتمسك باهداب الدين‬
‫ونبذ الخلفات مهما كانت صورها‪ ،‬وهي في الوقت نفسه‬
‫تمهيد للذهان لقبول "التحاد المحمدي"بمفهومه العام‬
‫الشامل لجميع المسلمين‪ ،‬والذي ُاعلن عنه رسميا ً في ‪/5‬‬
‫نيسان ‪ 1909/‬ضمن احتفال مهيب في جامع يلصوفيا‪.‬‬
‫المترجم‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪533 :‬‬


‫رد الوهام‬

‫‪ 18‬مارت ‪ 1325‬رومي‬
‫‪ 31‬مارت ‪ 1909‬ميلدي‬
‫سأرد هنا الوهام الفاسدة التسعة التي اسندت الى‬
‫جماعة التحاد المحمدي‪:‬‬
‫الوهم الول‪:‬‬
‫ان طرح المسألة الدينية في الوساط ل يلئم مثل هذا‬
‫الظرف الدقيق‪.‬‬
‫الجواب‪ :‬نحن نحب الدين ونحب الدنيا أيضا ً لجل‬
‫الدين‪..‬و] ل خير في الدنيا بل دين[‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬ما دامت الحاكمية للشعب في المشروطية فلبد أن‬
‫يثبت الشعب وجوده‪ .‬وشعبنا مسلم ومسلم فقط‪.‬‬
‫فليست هناك رابطة حقيقية وقوية غير السلم بين‬
‫العرب والترك والكرد والروناؤوط والجركس واللز‪.‬‬
‫إن اهمال ً طفيفا ً في الدين اّدى الى ارساء قواعد طوائف‬
‫الملوك وظهور الجاهليات الميتة قبل ثلثة عشر قرنا ً‬
‫وبالتالي الى ظهور الـفتن والقـلقـل‪ .‬وقد ظهرت فعل ً‬
‫وشاهـدناها‪.‬‬
‫الوهم الثاني‪:‬‬
‫ان تخصيص هذا العنوان ‪ -‬أي التحاد المحمدي ‪ -‬يجعل‬
‫غير المنتسبين اليه في شك من أمرهم‪.‬‬
‫الجواب‪:‬‬
‫وقد قلت سابقًا‪ :‬فإما لم ُيقرأ أو ُفهم خطًأ؛ لذا أضطر الى‬
‫التكرار وهو‪ :‬عندما نقول "التحاد المحمدي" الذي هو‬
‫اتحاد السلم‪ ،‬فالمراد هو التحاد الموجود الثابت بين‬
‫جميع المؤمنين بالقوة أو بالفعل‪ .‬وليس المراد جماعة في‬
‫استانبول أو في الناضول اذ‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪534 :‬‬
‫إن قطرة من ماٍء تحمل صفة الماء‪ ،‬فل احد خارج هذا‬
‫التحاد‪ ،‬ول يخصص هذا العنوان بأحد‪ .‬وتعريفه الحقيقي‬
‫هو‪:‬‬
‫ان اساس هذا التحاد يمتد من الشرق الى الغرب ومن‬
‫حرمان الشريفان‪..‬‬ ‫الجنوب الى الشمال‪ ..‬ومركزه‪ :‬ال َ‬
‫سمه‪ :‬اليمان‪..‬‬ ‫وجهة وحدته‪ :‬التوحيد اللهي‪ ..‬عهده وقَ َ‬
‫نظامه الداخلي‪ :‬السنة النبوية الشريفة‪ ..‬قوانينه‪ :‬الوامر‬
‫والنواهي الشرعية‪..‬مقر اجتماعاته‪ :‬جميع المدارس‬
‫والمساجد والزوايا‪ ..‬ناشُر افكار تلك الجماعة نشرا ً خالدا ً‬
‫الى البد‪ :‬جميع الكتب السلمية وفي المقدمة القرآن‬
‫الكريم وتفاسيره )ورسائل النور احد تلك التفاسير في‬
‫زماننا هذا( وجميع الصحف الدينية والجرائد النزيهة التي‬
‫تهدف الى اعلء كلمة الله‪ ..‬ومنتسبوه‪ :‬جميع المؤمنين‪..‬‬
‫رئيسه‪ :‬فخر العالمين صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫والن لنقف عند الصدد وهو‪ :‬تيقظ المؤمنين واقبالهم نحو‬
‫السلم ولينكر ما للرأي العام من تأثير‪ ..‬وهدف التحاد‬
‫وقصده‪ :‬اعلء كلمة الله‪ ..‬ومسلكه‪ :‬الجهاد الكبر للنفس‬
‫وارشاد الخرين‪ ..‬وهمة هذه الهيئة المباركة مصروفة‬
‫بنسبة تسع وتسعين بالمئة الى غير السياسة من تهذيب‬
‫الخلق واستقامة السلوك وما شابهها من الفضائل‬
‫والمقاصد المشروعة اذ ان الجمعيات المتوجهة الى مثل‬
‫هذه المقاصد نادرة‪ ،‬علما ً أن اهميتها جليلة‪ .‬وهناك واحد‬
‫بالمئة من المقاصد يتعلق بالسياسة وهو ارشاد‬
‫السياسيين‪ ..‬سيوفهم‪ :‬البراهين القاطعة‪ ..‬مشربهم‪:‬‬
‫المحبة وانماء المحبة المندمجة في بـذرة الخوة‬
‫الموجودة بين المـؤمنـين لتصبح شجرة طوبى مباركة‪.‬‬
‫الوهم الخامس ‪:1‬‬
‫ربما ينفر الجانب من هذا التحاد؟‬
‫الجواب‪:‬‬

‫من يجد في نفسه هذا الحتمال جاهل ل محالة اذ يرد ّ‬


‫ان َ‬
‫هذا الحتمال ما يلقى من خطب ومحاضرات حول‬
‫السلم وعظمته ‪ 2‬في مراكزهم وعواصمهم‪.‬‬
‫_____________________‬
‫‪ 1‬لعل سبب انتقاله الى الوهم الخامس هو ان الوهمين‬
‫الثالث والرابع مندمجان ضمن الوهم الثاني والله اعلم‪.‬‬
‫المترجم‪.‬‬
‫‪ 2‬يشير الى خطب مستر كارليل وبسمارك وامثالهما‪.‬‬
‫المترجم‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪535 :‬‬


‫ثم ان اعداءنا ليسوا الجانب‪ .‬وانما الذي اردانا الى هذا‬
‫الوضع وحال بيننا وبين اعلء كلمة الله هو مخالفتنا‬
‫للشريعة الغراء نتيجة "جهلنا" بها‪ ،‬و"الضرورة" التي‬
‫اثمرت سوء الخلق وسوء المعاملت و"الختلف" الذي‬
‫انتج الغراض الشخصية والنفاق فاتحادنا هجوم على هذه‬
‫الثلثة من العداء الظلمة‪.‬‬
‫أما جهل الجانب بالسلم في القرون الوسطى‪ ،‬فالسلم‬
‫مع اضطراره الى معاداة الجهل والهمجية ال ّ أنه قد حافظ‬
‫على العدالة والستقامة معهم فلم ي َُر في التاريخ‬
‫السلمي امثال محاكم التفتيش‪ .‬ولما قوي ساعد‬
‫المدنيين في زمن التحضر هذا فقد زال عنهم ذلك‬
‫التعصب الذميم‪.‬‬
‫ان الظهور على المدنيين من منظور الدين انما هو‬
‫بالقناع وليس بالكراه‪ .‬وباظهار السلم محبوبا ً وساميا ً‬
‫لديهم وذلك بالمتثال الجميل لوامره واظهار الخلق‬
‫الفاضلة‪.‬‬
‫اما الكراه والعداء‪ ،‬فهما تجاه وحشية الهمجيين‪.‬‬
‫الوهم السادس‪:‬‬
‫ان البعض يقول‪ :‬ان اتخاذ اتحاد السلم اتباع السنة‬
‫النبوية هدفا ً له يحدد من الحرية وينافي الخذ بمتطلبات‬
‫المدنية‪.‬‬
‫الجواب‪:‬‬
‫المؤمن حّر في ذاته‪ .‬فالذي هو عبد لله رب العالمين ل‬
‫ينبغي له ان يتذلل للناس‪ ،‬بمعنى‪ :‬كلما رسخ اليمان‬
‫قويت الحرية‪.‬‬
‫أما الحرية المطلقة فما هي ال ّ الوحشية المطلقة بل‬
‫بهيمية‪ ،‬وتحديد الحرية ضروري من وجهة نظر النسانية‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬ان قسما ً من السفهاء والمهملين يريدون أن يظلوا‬
‫اذلء أسارى النفس المارة بالسوء فل يروق لهم العيش‬
‫الحر‪.‬‬
‫الحاصل‪:‬‬
‫ان الحرية الخارجة عن دائرة الشرع‪ ،‬انما هي أستبداد أو‬
‫أسٌر بيد النفس المارة بالسوء‪ ،‬أو بهيمية أو وحشية‪.‬‬
‫فليعلم جيدا ً هؤلء الزنادقة والمهملون للدين انهم‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪536 :‬‬
‫ليستطيعون ان يحببوا انفسهم لي اجنبي كان يملك‬
‫وجدانًا‪ ،‬باللحاد والسفاهة‪ ،‬بل ل يمكنهم ان يتشبهوا بهم‪.‬‬
‫لن السفيه والذي ل يسير على هدى ل يكون محبوبًا‪،‬‬
‫فالثياب الـلئقـة بإمـراة اذا ما لبسها الرجل يكون موضع‬
‫هـزء وسخرية‪.‬‬
‫الوهم السابع‪:‬‬
‫ان جمعية أتحاد السلم انما هي لشق الصف بين سائر‬
‫الجمعيات السلمية وتوّلد الحسد والنفرة بينها‪.‬‬
‫الجواب‪:‬‬
‫ل‪ :‬ان المور الخروية ل حسد فيها ول تنافر وتزاحم‬‫او ً‬
‫فايما جمعية حسدت وزاحمت التحاد فكأنما تنافق في‬
‫العبادة وترائي فيها‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬اننا نتحد مع الجماعات المتش ّ‬
‫كلة بدافع محبة الدين‬
‫وخدمته وذلك على وفق شرطين اثنين‪:‬‬
‫الشرط الول‪ :‬المحافظة على النظام العام للبلد‬
‫والحرية الشرعية‪.‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬انتهاج نهج المحبة‪ ،‬وعدم محاولة اظهار‬
‫مزايا لها بانتقاص الجمعيات الخرى‪ ،‬بل الولى مراجعة‬
‫مفتي المة وجماعة العلماء فيما اذا ظهر خطأ‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬ان الجماعة التي تهدف الى اعلء كلمة الله لن‬
‫تكون وسيلة لي غرض مهما كان‪ ،‬واذا تشبثت بالغراض‬
‫فل يحالفها التوفيق قطعا ً لنه نفاق‪ ،‬فشأن الحق عا ٍ‬
‫ل‬
‫وسام ل يضحى به من اجل أي شئ كان‪ .‬كيف تكون‬
‫ب؟ ان الذي‬‫نجوم الثريا مكانس‪ ،‬أو كيف تؤكل كعناقيد عن ٍ‬
‫ل على‬ ‫يريد ان يطفئ شمس الحقيقـة بـالنفـخ انمـا يد ّ‬
‫بلهتـه وجنونـه‪.‬‬
‫أيتها الصحف الدينية!‬
‫ان قصدنا وهدفنا هو اتحاد الجماعات الدينية في الهدف‪.‬‬
‫اذ كما ل يمكن التحاد في المسالك والمشارب فل يجوز‬
‫ايضًا‪ ،‬لن التقليد يشق طريقه ويؤدي الى القول‪" :‬مالي‬
‫ي فليفكر غيري"‪.‬‬‫وما عل ّ‬
‫الوهم الثامن‪:‬‬
‫ى وصورة ‪ -‬اكثرهم من‬‫ان المنتسبين الى التحاد ‪ -‬معن ً‬
‫العوام وقسم منهم غير معروفين وهذا مدعاة الى حدوث‬
‫فتن واختلفات‪.‬‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪537 :‬‬


‫الجواب‪:‬‬
‫إنما ذلك لعدم السماح في هذا التحاد بالتمايز بين الناس‬
‫سواء أكانوا من الخاصة أم من العامة‪ ،‬ثم لن المرء في‬
‫التحاد يدعو الى اعلء كلمة الله فكل ما يقوم به يثاب‬
‫عليه ثواب عبادة‪ ..‬ففي جامع العبادة يتساوى الملك‬
‫والمتسول فل امتياز‪ ،‬بل المساواة الحقة دستور قائم‪.‬‬
‫م عند الله هو التقى‪ ،‬والتقى هو المتواضع‪،‬‬ ‫لن الكر َ‬
‫فبناًء على هذا يتشرف الشخص بانتسابه الى هذه‬
‫الجماعة الخالصة لخدمة الدين والدعوة الى الخرة‪ ،‬وال ّ‬
‫فل يزيد التحاد شرفًا‪ ،‬اذ القطرة ل تزيد البحر شيئًا‪ ..‬ثم‬
‫ان النسان كما ل يخرج عن اليمان بارتكاب كبيرة‪ ،‬فان‬
‫باب التوبة ايضا ً مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها‪.‬‬
‫والبحر ل يتنجس بغرفة ماء‪ ،‬بل يطّهر اليد فالمنتسب الى‬
‫هذا المثال المصغر للتحاد السلمي يشترط عليه اتباع‬
‫السنة النبوية واحياؤها وامتثال أوامرها واجتناب نواهيها‬
‫وعدم الخلل بأمن البلد ونظامها فالمجهول الذي انتسب‬
‫الى هذا التحاد ل يلوث قصدا ً هذه الحقيقة ما استطاع‬
‫اليه سبيل ً وحتى لو كان المرء نفسه مذنبا ً فأيمانه نزيه‬
‫دس‪ .‬والرابطة انما هي باليمان ليس ا ّ‬
‫ل‪.‬‬ ‫مق ّ‬
‫فتشويه هذا العنوان المقدس بحجج واهية امثال هذه انما‬
‫ينجم عن الجهل بعظمة السلم فضل ً عن اظهار هذا‬
‫المتحجج نفسه أنه احمق الناس‪.‬‬
‫نحن نرد ّ بكل ما اوتينا من قوة تشويه سمعة اتحادنا الذي‬
‫يمثل )اتحاد المسلمين(أو التعريض به مما هو دأب‬
‫الجمعيات الدنيوية الخرى ونحن على أتم استعداد للجابة‬
‫عن أي استفسار واعتراض كان‪.‬‬
‫ان الجماعة التي انضم اليها انما هي هذا التحاد السلمي‬
‫صلنا القول فيه‪ .‬وال ّ فليست هي تلك التي يتخيلها‬
‫الذي ف ّ‬
‫المعترضون بخيالهم الباطل‪.‬‬
‫ان افراد هذه الهيئة الدينية هم معًا‪ ،‬سواًء أكانوا في‬
‫الشرق أو الغرب أو الجنوب أو الشمال‪.‬‬
‫سؤال‪ :‬انت تذّيل مقالتك وتمضيها باسم بديع الزمان‬
‫وهذا يومئ الى المدح؟‬
‫الجواب‪ :‬كل‪ ،‬ليس للمدح! وانما اريد أن ُابين ‪ -‬بهذا‬
‫المضاء ‪ -‬تقصيري‪ .‬وتعليلي هو‪ :‬ان البديع يعني "الغريب"‬
‫فاخلقي غريبة كمظهري‪ ،‬واسلوب بياني غريب‬
‫كملبسي‪ ،‬كلها مخالفة للخرين‪.‬‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪538 :‬‬
‫فانا أرجو بلسان حال هذا العنوان عدم جعل المحاكمات‬
‫العقلية والساليب المتداولة والرائجة مقياسا ً لمحاكماتي‬
‫العقلية ومحكا ً لساليب بياني‪.‬‬
‫ت‬
‫ثم ان قصدي من البديع هو "العجيب" فلقد اصبح ُ‬
‫مصداقا ً لما قيل‪:‬‬
‫ب في عُُيون‬
‫عجي ٌ‬ ‫عجيب َةٍ َ‬
‫كأني َ‬ ‫صد ُ ك ُ ّ‬
‫ل َ‬ ‫ى ل َعَ ْ‬
‫مري قَ ْ‬ ‫]ال ّ‬
‫جائب[‬ ‫العَ َ‬
‫ومثاله الواضح هو‪:‬‬
‫لقد جئت الى استانبول منذ سنة ورأيت حوادث وانقلبات‬
‫تحدث في مئة سنة‪.‬‬
‫والسلم على من اتبع الهدى‪.‬‬
‫نقول بلسان جميع المؤمنين وبعددهم‪ :‬فلتحيا الشريعة‬
‫الحمدية‬
‫بديع الزمان‬
‫سعيد النورسي‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫أخي رئيس التحرير!‬
‫على الدباء ان يتأدبوا‪ ،‬ويتحلوا بالداب السلمية‪ ،‬فلينظم‬
‫م المطبوعات‪ ،‬فلقد‬
‫ما في وجدانهم من شعور ديني نظا َ‬
‫اظهر هذا النقلب السلمي‪:‬‬
‫ان المهيمن في الوجدان انما هو الحمية السلمية‪ .‬ولقد‬
‫عرف ان التحاد السلمي شامل لهل اليمان والجيش‬
‫كافة‪ .‬فل أحد خارج عنه‪.‬‬

‫سعيد النورسي‬
‫***‬
‫_____________________‬
‫‪ 1‬المقصود رئيس جريدة «فولقان» ‪ -‬اي البركان ‪ -‬السيد‬
‫درويش وحدتي اصله من قبرص كان ينشر مقالت عنيفة‬
‫ضد التحاد والترقي مثيرا ً العواطف‪ ،‬فكان الستاذ‬
‫النورسي يتردد اليه في ادارة الجريدة وينبهه على تهوره‪،‬‬
‫إل ّ أنه لم ينتفع بنصائحه فساقته عواطفه وتهوره الى‬
‫العدام‪ .‬المترجم‬

‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪539 :‬‬


‫القطعة الخيرة‬

‫من ذيل الذيل‬

‫هذه القطعة عبارة عن درسين القيا على الفواج الثمانية‬


‫من الذين قاموا بالعصيان في حادثة ‪ 31‬مارت المشهورة‬
‫وعلى اثرهما اقتنعوا بالعودة الى الولء‪ .‬فهانت المصيبة‬
‫من المئة الى الواحد‪.‬‬
‫ُنشر هذان الدرسان في الجرائد الدينية سنة ‪ 1325‬رومي‬
‫‪1909 -‬م‪.‬‬

‫الى جنودنا الشاوس‬

‫‪ 4‬نيسان ‪ 1325‬رومي‬
‫الجريدة الدينية عدد‪107/‬‬
‫‪17‬نيسان ‪1909‬م‬
‫حدون البطال!‬
‫ايها الجنود المو ّ‬
‫ايها البطال الذين انقذوا هذه المة المظلومة والسلم‬
‫المقدس من الوقوع في ورطتين عظيمتين!‬
‫ان عّزكم وبهاءكم في النتظام والنضباط‪ .‬وقد‬
‫اظهرتموهما في احلك الظروف واحرجها واشدها‬
‫اضطرابًا‪ .‬فحياتكم وقوتكم انما هي في الطاعة‪ .‬اظهروا‬
‫هذه الفضيلة المقدسة لصغر امرائكم‪ .‬فان شـرف‬
‫ثـلثين مليونا ً من العثمانيين وثلثمائة مليونـا ً من‬
‫المسلمين اصبح منوطا ً بطـاعتكم انتـم‪.‬‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪540 :‬‬
‫ان راية السلم والتوحيد اللهي في يد شجاعتكم‬
‫وبطولتكم‪ .‬وان قوة أيديكم المباركة انما هي في الطاعة‪.‬‬
‫فضباطكم هم كابائكم المشفقين وقد ثبت بالقرآن‬
‫والحديث والحكمة والتجربة‪ :‬ان طاعة المر في الحق‬
‫فرض‪ .‬فكما تعلمون‪ ،‬ان ثلثـين مليونـا ً لم يتمكنوا ان‬
‫يقوموا بمثل هذين النـقـلبين خلل مائـة سنـة‪.‬‬
‫ولقد جعلت قوتكم التي تنبعث من طاعتكم المة‬
‫السلمية في شكران وتقدير وان ادامة هذا الشرف‬
‫والحفاظ عليه انما هو في طاعتكم لضباطكم‪.‬‬
‫وانا اعلم أنكم لم تتدخلوا في الضطرابات لئل تجعلوا‬
‫ضباطكم مسؤولين وهم كابائكم الرحماء بكم‪.‬‬
‫أما الن فلقد انتهى المر‪ .‬فارتموا في احضان شفقة‬
‫ضباطكم ورحمتهم‪ .‬ان الشريعة الغراء تأمرنا هكذا‪ .‬إذ‬
‫الضباط هم اولو المر‪ .‬فمن جهة مصلحة الوطن والمة ‪-‬‬
‫ول سيما في النظام العسكري ‪ -‬اطاعة اولي المر فرض‪،‬‬
‫والحفاظ على الشريعة المحمدية انما هو بالطاعة‪.‬‬
‫سعيد النورسي‬

‫***‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪541 :‬‬
‫خطاب الى الجنود‬
‫‪ 7‬نيسان ‪ 1325‬رومي‬
‫الجريدة الدينية عدد‪10 /‬‬
‫‪ 30‬نيسان ‪1909‬م‬
‫يا عساكر الموحدين! اني ابلغكم أوامر سيد العالمين‬
‫صلى الله عليه وسلم‪:‬‬
‫ان طاعة اولي المر ضمن الدائرة المشروعة فرض‪.‬‬
‫فاولياء اموركم واساتذتكم ضباطكم‪.‬‬
‫ان الثكنات العسكرية اشبه ما تكون بمعمل عظيم منتظم‬
‫اذا اختل دولب من العمل يؤثر في خراب المعمل‬
‫بأكمله‪.‬‬
‫ان مصنعكم العسكري القوي المنظم نقطة استناد‬
‫واعتماد ثلثين مليونا ً من العثمانيين وثلثمائة مليونا ً من‬
‫المسلمين ونقطة استمدادهم‪.‬‬
‫ان قتلكم لستبدادين عظيمين دون اراقة دم كان امرا ً‬
‫خارقًا‪ .‬ولنكم قد اظهرتم معجزتين للشريعة الغراء‪ .‬فقد‬
‫اظهرتم لضعفاء العقيدة قوة الحمية السلمية وقدسية‬
‫الشريعة في برهانين اثنين‪.‬‬
‫ف من الشهداء في سبيل هذين‬ ‫ولو كنا نضحي بالو ٍ‬
‫ي بجزء من الف‬ ‫ضح َ‬
‫النقلبين لكنا نعدها ضئيلة‪ ،‬ولكن لو ُ‬
‫جزء من طاعتكم فهو غال جدًا‪ .‬لن تناقص طاعتكم يولد‬
‫الموت‪ ،‬كتناقص الحرارة الغريزية والعقدة الحياتية‪.‬‬
‫ان تاريخ العالم يشهد أن تدخل الجنود في السياسة قد‬
‫اّدى الى اضرار جسيمة للدولة وللمة معًا‪.‬‬
‫صيقل السلم‪/‬الخطبة الشامية ‪ -‬ص‪542 :‬‬
‫فلبد أن حميتكم السلمية ستصرفكم عن مثل هذه‬
‫الضرار التي تصيب حياة السلم التي تكفلتم بحفظها‪.‬‬
‫ان الذين يفكرون في السياسة هم بمثابة قوتكم المفكرة‬
‫من اولياء المور والضباط‪ .‬ان ما تظنونه احيانا ً من ضرر‬
‫يصبح خيرًا‪ ،‬لنه يدفع ضررا ً أكبر في السياسة‪ .‬فضباطكم‬
‫حسب تجاربهم يرون هذا المر ويأمرونكم به‪ .‬فعليكم‬
‫الطاعة دون تردد‪ ،‬اذ ل يجوز التردد والتلكؤ‪.‬‬
‫ان الفعال غير المشروعة الخاصة ل تنافي المهارة‬
‫والحذاقة في الصنعة ول تجعل الصنعة غير مرغوب فيها‪.‬‬
‫فالطبيب الحاذق مثل ً أو المهندس الماهر اذا ما تصرف‬
‫تصرفا ً غير مشروع فل يؤدي ذلك الى ترك الستفادة مما‬
‫لديه من طب أو هندسة‪ ،‬كذلك فن الحرب‪ ،‬فضباطكم‬
‫المجربون والماهرون المنورون فكرا ً بالحمية السلمية‪،‬‬
‫ض منهم بأمر غير مشروع ليجوز ان يؤدي ذلك‬ ‫اذا قام بع ٌ‬
‫الى عدم طاعتهم وعصيانهم لن فن الحرب مهارة مهمة‪.‬‬
‫ان الشريعة الغراء التي هي قوام حياتكم قد ابتلعت‬
‫الجمعيات التي تشتت الفكار وتفّرق الناس‪ .‬فهي كاليد‬
‫البيضاء لسيدنا موسى عليه السلم ارغمت السحرة على‬
‫السجود‪.‬‬
‫ان اعمالكم كانت علجا ً لهذه الحركات النقلبية‪ .‬فاذا ما‬
‫دت بالحياة السلمية الى‬‫زادت قليل ً انقلبت سما ً قاتل ً وأ ّ‬
‫امراض جسام‪ .‬ثم ان ما فينا من استبداد قد زال بهمتكم‪،‬‬
‫ولكن نحن ل زلنا تحت الستبداد المعنوي لروربا في‬
‫مضمار الرقي‪.‬‬
‫فلبد من اللتزام باقصى درجات الحذر والسكينة والهدوء‪.‬‬
‫فلتحيا الشريعة الغراء‪ ،‬فليعش الجنود‪.‬‬

‫سعيد النورسي‬
‫***‬

You might also like