Are you sure?
This action might not be possible to undo. Are you sure you want to continue?
الخطبة الشامية
تأليف
بديع الزمان سعيد النورسى
ترجمة وتحقيق
إحسان قاسم الصالحى
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص477 :
بسم الله الرحمن الرحيم
بين يدي هذه الرسالة
من واله،
الحمد لله والصلة والسلم على رسول الله و َ
وبعد؛
فقد ألقى الستاذ بديع الزمان سعيد النورسي ،وهو في
شرخ الشباب هذه الخطبة باللغة العربية في الجامع
الموي بدمشق ،برجاٍء من علماء الشام وإلحاحهم،
وحضرها جمهور غفير من الناس يربون على عشرة آلف
شخص ،فاستمعوا اليها بلهفة وشوق ،حتى ان الخطبة لما
ُُ
ت نسخها في غضون ايام قليلة
طبعت لول مرة نفد ْ
فُاعيد طبعها خلل اسبوع واحد.
كان ذلك في شتاء سنة 1911م ،اي قبل اندلع الحرب
العالمية الولى .ثم توالت ايام الحرب الدامية ،وانتهت
بُأفول نجم الدولة العثمانية ،وبدأت بعدها أيام محن توالت
على الستاذ النورسي بسلسلة اعتقالته ونفيه ومحاكماته
التي دامت حتى سنة 1950م.
ن له مراجعة هذه
فطوال هذه السنين العجاف لم يتس ّ
الخطبة ،بل حتى أنه لم يرها ،الى أن أرسل اليه في سنة
ة
1951م أحد أصدقائه من مدينة "وان" نسخة مطبوع ً
منها.
كان الستاذ النورسي عند ذاك في منفاه في "اميرداغ"
فأعاد النظر في خطبته التي القاها قبل اربعين سنة ،وبدأ
بترجمتها الى التركية ،أو بالحرى بتنقيحها وصياغتها
م اليها فقرات مهمة وهوامش قّيمة 1وحذف
مجددًا ،إذ ض ّ
منها ما يحدد شموليتها ،وأحال بعض مسائلها الى اجزاء
رسائل النور ،ثم دّرسها لقسم ٍ من طلبه.
_____________________
ُ 1
ذيلت هوامش المؤلف بـ " المؤلف" ،وحصرت العبارات
العربية التي وردت في النص التركي بين قوسين مركنين
][
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص478 :
قام المل عبد المجيد "شقيق الستاذ النورسي" بترجمة
هذا النص التركي الى العربية -بتوصية من المؤلف نفسه
ت بالستنساخ اليدوي في اوساط
حسب اسلوبه وُنشر ْضيقة ،اذ كانت الطباعة محظورة بالحروف العربية آنذاك.
وفي بداية الستينات تناول الدكتور محمد سعيد رمضان
البوطي ترجمة المل عبد المجيد هذه ،وصاغها باسلوبه
ت منها طبعات كثيرة في حينه .1
العذب .وُنشر ْ
ولكن لما كانت الترجمة العربية هي في الصل غير كاملة
وغير مستوعبة للموضوع،فقد جاءت تلك الصياغة الجميلة
مع السف -ينقصها الكثير من الفقرات المهمةوالمسائل الجليلة التي تمس الحداث،فضل ً عن ان
الصياغة اقتصرت على الخطبة وحدها دون ذيولها
ولواحقها.
ثم تناول الستاذ عاصم الحسيني النص التركي بالترجمة
الى العربية ،فأجاد اسلوبا ً وأداًء للمعنى ،وقام طلب النور
بطبعها في المطبعة البولسية ببيروت سنة 1974م.
قابلت ترجمة الخ عاصم بالنص التركي فتوصلت الى
التي:
-1انها ترجمة قيمة ل ترقى اليها ترجمة اخرى ،سواًء في
الداء أو السبك الرصين للجمل ،وهي تكاد تكون مطابقة
لمتن الخطبة بالنص التركي ،إل ّ في بعض الجمل أو أجزاءٍ
من فقرات.
- 2بيد أن الخ الكريم لم تتح له الفرصة -كما يبدو -
لكمال ترجمته ،فلم يترجم ذيول الخطبة كاملة ،اذ
المقالت التي كتبها الستاذ النورسي في الصحف المحلية
في عهد التحاديين وألحقها بالنص التركي ،ذات اهمية في
إعطاء الصورة الكاملة والواضحة للحوال السياسية
والجتماعية وكذا التيارات الفكرية التي كان يموج بها
ذ.
المجتمع وقتئ ٍ
ي القيام بترجمة النص
- 3ولجل هذا كله ،رأيت لزاما ً عل ّ
التركي للخطبة مجددًا ،مع ذيولها ولواحقها كاملة ،ليلمس
القارئ الكريم بنفسه أبعاد المسائل التي يطرقها الستاذ
النورسي وي ّ
طلع عليها من جميع جوانبها.
ولقد انتهجت اثناء الترجمة والمقابلة على النص التركي
والعربي ،الخطوات التية:
_________________
1طبعت الطبعة الولى منها في مطبعة بركات بدمشق.
المترجم
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص479 :
- 1اعتبار النص التركي الذي صاغه الستاذ النورسي
بنفسه هو الساس ،مع ذيوله ولواحقه .وهو النص نفسه
الـذي وضـعـه الستـاذ ضمـن مبـاحث كتاب )Tarihçe-i
(Hayatأي "السيرة الذاتية" الذي قام بتأليفه طلبه
المقّربون وأقّره بنفسه و ُ
طبع في حياته .والنسخة التي
ت عليها من الخطبة هي من منشورات "دار
اعتمد ُ
سوزلر" في استانبول سنة 1979م.
- 2مقابلة كل فقرة في النص التركي بالنسخة العربية
لنص الخطبة المطبوعة في استانبول -لول مرة -سنة
1922م في مطبعة الوقاف السلمية .علما ً أن هذا
النص الول العربي لم تبق له إل ّ اهميته التاريخية حيث
نّقحه المؤلف بنفسه كما ذكرنا.
- 3الكتفاء بترجمة الخ عاصم الموافقة للنص التركي مع
إجراء ما يلزم من تغييرات في الفقرات والجمل ليقّربها
اكثر الى معنى النص التركي وليفي بمراد المؤلف .مع
إكمال الجمل أو الفقرات الناقصة فيها.
- 4ترجمة الذيول بكاملها والمقالت الملحقة بها.
- 5وضع هوامش ضرورية للقارئ الكريم ليضاح ما
يستغلق عليه من مصطلحات سياسية وتاريخية كانت
معروفة ومتداولة في حينها.
- 6استخراج اليات الكريمة من القرآن الكريم ووضع
اسم السورة ورقم الية.
- 7تخريج الحاديث الشريفة اعتمادا ً على الكتب
الموثوقة.
والله نسأل أن يوفقنا لحسن القصد ،وصحة الفهم،
وصواب القول وسداد العمل وص ّ
ل اللهم على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.
احسان قاسم الصالحي
المحرم الحرام 1409
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص481 :
دمة
مق ّ
الخطبة الشامية للمؤلف
باسمه سبحانه
ئ إل ّ يسبح بحمده(
)وإن من ش ٍ
السلم عليكم ورحمة الله وبركاته ابدا ً دائمًا.
اخواني العزاء الوفياء!
ُ
ت درسا ً في الجامع الموي
هذه الرسالة العربية قد ألقي ْ
بدمشق منذ اربعين عامًا ،وذلك بناءً على اصرار العلماء
هناك ،واستمع اليها ما يقرب من عشرة آلف شخص،
بينهم ما ليقل عن مائة من كبار علماء الشام.
سها "سعيد القديم"
ان الحقائق الواردة فيها ،قد أح ّ
باحساس مسبق .فزّفها بشائر عظيمة بيقين جازم ،ظنا ً
منه أن تلك الحقائق وشيكة التحقق ،بيد أن الحربين
الُعظميين ،والستبداد المطلق الذي استمر ربع قرن من
ديا الى تأخر تحقق تلك الحقائق أربعين أو
الزمان ،1قد أ ّ
خمسين عامًا.
والن وقد بدأت تباشير تحقق ما أخبر عنه تلوح في افق
العالم السلمي .بمعنى ان هذا الدرس المهم ليس مجرد
خطبة قديمة ،قد عفا عليها الزمن ،بل هو درس اجتماعي
اسلمي ،يحتفظ بكامل جدته وطراوته وحقيقته طوال
هذه الفترة ،وكل الذي حدث هو أن عام 1327هـ قد
اصبح عام 1371هـ وان الجامع الموي قد حل محّله جامع
العالم السلمي الذي يضم ثلث مائة وسبعين مليون
نسمة .2
ان درسا ً كهذا جدير الن بالترجمة على ما اعتقد.
سعيد النورسي
_____________________
1أى منذ انتهاء الخلفة العثمانية سنة 1923م الى سنة
1950م -المترجم
2تعداد المسلمين آنذاك .المترجم
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص482 :
نهج رسائل النور
في التبليغ
م عن سؤال في غاية الهمية ،اذ
جل هنا جوا ٌ
"يس ّ
ب مه ٌ
س مسّبق ،في درسه ذاك
يذكر"سعيد القديم" باحسا ٍ
الذي القاه قبل اربعين سنة دروس رسائل النور الخارقة
وتأثيراتها ،وكأنه يراها".
لقد سألني الكثيرون وسألوا بعض اخواني النوريين،
ومازالوا يسألون :لماذا ل ُتهزم "رسائل النور" أمام هذا
متعّنتين وارباب
الحشد الغفير من المعارضين والفلسفة ال ُ
الضلل؟ فعلى الرغم من اقامتهم سدا ً منيعا ً -الى حدٍ ما
ليحول دون انتشار مليين الكتب اليمانية والسلميةالقيمة ..وعلى الرغم من حرمانهم الكثير من الناس ،ول
سُبل
سيما الشباب البرياء من حقائق اليمان بتسهيل ُ
السفاهة لهم واغرائهم بمل ّ
ذات الحياة الدنيا ..وعلى الرغم
من محاولتهم كسر شوكة رسائل النور بشتى وسائل
الغدر واساليب الهجوم العنيفواختلق الكاذيب واشاعة
الدعايات الزائفة وتخويف الناس منها وحملهم على
التخلي عنها ..وعلى الرغم من ذلك فقد انتشرت رسائل
النور .فما الحكمة من انتشارها انتشارا ً لم يسبق له
مثيل ،حتى بلغ ما نسخ من معظمها باليد فقط ستمائة
الف نسخة ،وهي تحظى بانتشار واسع ويتلقاها الناس
بشوق بالغ في الخفاء ،وتستقرئ نفسها في داخل البلد
وخارجها بكمال المسّرة والمحبة؟.
فجوابا ً عن أسئلة كثيرة ترد ُ بهذا المعنى نقول:
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص483 :
الجواب:
ان رسائل النور التي هي تفسير حقيقي للقرآن الكريم،
ببيان اعجاز معانيه الجليلة ،تبين ان في الضللة جحيما ً
معنويا ً في هذه الدنيا ،كما تثبت ان في اليمان نعيما ً
معنويا ً في الدنيا ايضًا .وهي تبرهن أن في المعاصي
والفساد والمتع المحّرمة آلما ً معنوية مبّرحة ،كما أن في
الحسنات والخصال الحميدة والعمل بالحقائق الشرعية
لذائذ معنوية أشبه ما تكون بملذات الجنة.
من كان له مسكة من عقل من
فهي بهذا السلوب تنقذ َ
أهل السفاهة وارباب الضلل من التمادي في غّيهم ،ذلك
لن في عصرنا هذا حالتين رهيبتين:
اولها:
ان نوازع النسان واحاسيسه المادية ل ترى العقبى
ضل درهما ً من لذ ّةٍ عاجلة على قنطار من لذات آجلة،
فتف ّ
هذه الحاسيس قد طغت -في هذا العصر -على عقل
النسان وسيطرت على فكره؛ لذا فالسبيل الوحيد لنقاذ
السفيه من سفهه ،هو الكشف عن ألمه في لذته نفسها،
ومساعدته على التغلب على احاسيسه تلك؛ اذ المرء في
زماننا هذا ،مع علمه بلذائذ الخرة ونعيمها الثمين
متعا ً دنيوية تافهة اشبه ما تكون
كاللماس يف ّ
ضل عليها ُ
بقطع زجاجية قابلة للكسر! كما تشير اليها الية الكريمة
)الذين يستحبون الحياة الدنيا على الخرة( )ابراهيم.(3 :
وبناء على هذا ولشدة حّبه للدنيا تراه ينساق وراء ارباب
الضللة ويتبعهم بعد أن كان من أهل اليمان.
والسبيل الوحيد لنقاذه من خطر النسياق هذا ،هو اظهار
آلم جهنم وعذابها في الدنيا ايضًا.
وهذا هو النهج الذي تسير عليه رسائل النور.
ان ما في عصرنا الحاضر من تعّنت اللحاد ،وصدود
الضللت الناجمة من طغيان العلوم الحديثة وغرورها
والعراض الناشئ من اعتياد السفه والغي ،قد جعلت
من يّتعظ واحدا ً من مجموع عشرة اشخاص ،أو
نسب َ
ة َ
ربما واحدا ً من عشرين شخصًا ،بعد
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص484 :
أن ُيعّرف له الخالق جل جلله ويثبت له وجود جهنم
وف من عذابها ليتجنب الشرور والسيئات ،ثم تراه
ويخ ّ
يقول" :ان الله غفور رحيم ..ان جهنم بعيدة جدًا! ".ثم قد
حه أمام
يستمر في لهوه وعبثه ،فينهزم قلُبه وتنهار رو ُ
طغيان شهواته.
وهكذا فان "رسائل النور" تبين العواقب الوخيمة الليمة
التي تترتب على الكفر والضلل في هذه الدنيا ،في
معظم الموازنات التي تعقدها ،فتنّفر أشد الناس اتباعا ً
لهواهم واكثرهم تعّنتا ً وعنادًا ،من الخوض في متعهم
المحرمة وسفاهتهم المشؤومة ،وتدفع بالعقلء منهم الى
َ
ق باب التوبة والستغفار.
طر ِ
وعلى سبيل المثال :الموازنات المبسطة التي تتضمنها
الكلمات :السادسة ،والسابعة ،والثامنة من "الكلمات
ولة التي يتضمنها الموقف
الصغيرة" ،والموازنة المط ّ
الثالث من الكلمة الثانية والثلثين .هذه الموازنات تحمل
اشد الناس سفاهة وضللة على الرهبة والرعب ،وعلى
قبول ارشادها والتعاظ بها.
ومث ً
ل :نشير هنا بأختصار الى ما رآه -أي سعيد القديم -
ل خيالي من خلل التدبر في آية
من حقائق في اثناء تجوا ٍ
"النور" .وتفصيله في "القسم الخامس من المكتوب
التاسع والعشرين من مجموعة المكتوبات" فمن شاء
فليراجعه .والخلصة هي:
في اثناء سياحتي الخيالية تلك ،رأيت عالم الحيوان ،ذلك
وت .وعندما تأملته من
العالم المحتاج الى الرزق والتق ّ
وجهة نظر الفلسفة المادية ،أظهر لي -ذلك العاَلم من
الحياء -عالما ً رهيبا ً مؤلمًا؛ بما فيه من ضعف وعجز فضل ً
عن مسيس احتياجه وشدة جوعه!
ت
ولما كنت انظر اليه بعين اهل الضلل والغفلة اطلق ُ
ة ملؤها اللم والحزن ،واذا بي أرى ذلك العالم
صرخ ً
بمنظار اليمان وحكمة القرآن ،فاذا باسم "الرحمن"
س ساطعة ،فأنار ذلك
يشرق من برج "الّرزاق" كشم ٍ
م الجائع البائس من الحياء واسبغ عليه نور رحمته.
العال َ
ثم رأيت عاَلما ً آخر في عالم الحيوان هذا ،ذلك هو عاَلم
عوزًا ،وقد
الفراخ الصغار التي تنتفض ضعفا ً وعجزا ً و َ
تغشاه ظلم محزن أليم ،يدعو كل انسان الى الشفاق
ت قائ ً
ل:
عليه .ولما كنت انظر بعين اهل الضللة ،صح ُ
واحسرتاه! واذا
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص485 :
باليمان يمنحني ن ّ
ت من خللها :طلوع اسم
ظارة ،شاهد ُ
"الرحيم" من برج الشفقة ،ينشر اضواءه الزاهية الجميلة،
ول ذلك العالم المحزن الى عالم بهيج ،وقََلب
حتى ح ّ
عبرات الشكوى واللم والحزن المنهمرة من عيني الى
دموع الفرح والشكر والمتنان.
ت
ثم تراءى لي عالم النسان كشاشة سينمائية ،فانعم ُ
النظر فيه بمنظار أهل الضللة ،واذا به :عالم مظلم
ت صرخة ألم ٍ من
مرعب ..لم اتمالك معه نفسي فاطلق ُ
أعماق قلبي قائ ً
ل :وا أسفاه! ذلك لن آمال الناس
وأمانيهم الممتدة الى البد ،وتصوراتهم وافكارهم
المحيطة بالكون ،وتطلعاتهم الجادة واستعداداتهم
الفطرية التواقة الى الخلود والجنة والسعادة البدية،
وقواهم الطليقة غير المحددة فطريًا ،واحتياجاتهم
المتوجهة الى غايات ومقاصد ل منتهى لها ،وتعرضهم -مع
ضعفهم وعجزهم -لهجمات ما ليحصى من المصائب
والعداء ..مع كل هذا ،لهم عمٌر جد ّ قصير ،ويحيون حياةً
ملؤها الصخب والقلق ،يذوقون مرارة الموت كل يوم بل
كل ساعة ،يقاسون ضنك المعيشة في حياتهم ويتجرعون
آلم الفراق والزوال التي هي اوجع للقلب واثقل على
الوجدان ،فضل ً عن انهم ينظرون الى القبر والمقبرة نظر
مون في
أهل الغفلة وكأنه باب الى ظلم سرمديُ ،ير َ
غياهبه فردا ً فردا ً وطائفة إثر طائفة!
وهكذا ..ففي الوقت الذي رأيت عالم النسان هذا غارقا ً
في مثل هذه الظلمات واذ انا على وشك الصراخ من
أعماق قلبي وروحي وعقلي ،بل بجميع مشاعري بل
بجميع ذرات وجودي ،اذا بالنور المنبعث من القرآن
واليمان الراسخ الناشئ منه ،يح ّ
طم ذلك المنظار
المض ّ
ل ،ويهب لعقلي بصرا ً نافذا ً أرى به السماء اللهية
الحسنى وقد اشرقت كالشمس الساطعة من بروجها؛
فاسم الله "العادل" رأيته بازغا ً من برج "الحكيم" واسم
"الرحمن" من برج "الكريم" واسم "الرحيم" من برج
"الغفور" -أي بمعناه -واسم "الباعث" من برج "الوارث"
واسم "المحيي" من برج "المحسن" واسم "الرب" من
برج "المالك" فأضاءت هذه السماء بنورها الباهر عوالم
ولتها الى عوالم
كثيرة داخل عالم النسان المظلم ،وح ّ
ت تلك الحالت الجهّنمية بما
مشرقة بهيجة ،كما بدد ْ
ت من نوافذ الى عالم الخرة ،حتى نثرت النوار الى
فتح ْ
ت" :الحمد
جميع جوانب ذلك العالم البائس للنسان .فقل ُ
لله""..الشكر لله "..بعدد ذرات العالم ،ورأيت بعين
ت علم اليقين:
اليقين وعلم ُ
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص486 :
"ان في اليمان حّقا ً جنة معنوية ،وان في الضلل جحيما ً
معنويا ً ايضا ً في هذه الدنيا ذاتها".
م كرة الرض ،فعكست
ثم ظهر في تلك الجولة عال ُ
القوانين العلمية المظلمة بالفلسفة غير المنقادة للدين،
الى خيالي عالما ً في منتهى الغرابة والدهشة .اذ تأملت
هذه الرض التي تزيد سرعة حركتها على سرعة طلقة
المدفع بسبعين مرة وتقطع مسافة خمسة وعشرين الف
سنة في سنة واحدة ،وهي مع شيخوختها وهرمها معرضة
للتشتت والتح ّ
طم في كل لحظة ،وتحمل في باطنها
زلزل مخيفة ،وعلى ظهرها هذا النسان البائس الذي
ت على
تجوب به اجواء الفضاء غير المحدود ..فاشفق ُ
وضع هذا النسان وسط هذا الظلم الدامس الموحش
ت
ت واظلم ِ
المخيم عليه ،ودار رأسي من هول ما رأي ُ
ت نظارة الفلسفة ارضا ً وحطمتها
الدنيا امام عيني ،فطرح ُ
كليا .ونظرت الى المر ببصيرة وضاءة بحكمة القرآن،
واذا باسماء خالق الرض والسموات :القدير ،العليم،
ب السموات والرض ومسخر الشمس
الرب ،الله ،ر ّ
والقمر ،قد اشرقت من بروج الرحمة والعظمة والربوبية
شروق الشمس .فغمرت ذلك العالم الحالك الموحش
ي المؤمنتين
المذهل بنور زاهٍ باهر جعلني أبصر بعين ّ
هاتين :ان الكرة الرضية في غاية النتظام والتسخير
والتكامل للنسان ،وهي في امان وسلم ،فيها رزق كل
ب عليها ،كأنها سفينة سياحية مهيأة للتنّزه والراحة
من يد ّ
َ
والستجمام والتجارة .تتجول بما عليها من مخلوقات،
حول الشمس في مملكة ربانية واسعة ،وهي مشحونة
بالرزق كأنها قطار أو سفينة أو طائرة مشحونة في الربيع
والصيف والخريف.فقلت وقتئذٍٍ "الحمد لله على نعمة
اليمان" بعدد ما في الرض من ذرات.
وفي ضوء هذا المثال تستطيع أن تقيس كثيرا ً من
الموازنات الخرى التي تتضمنها "رسائل النور" والتي
تثبت :ان ارباب السفاهة والضلل يذوقون في الدنيا
نفسها عذابا ً جهنميا ً معنويًا ،كما ان اهل الصلح واليمان
يعيشون في جنة معنوية في هذه الدنيا .وبامكانهم أن
يتذوقوا طعوم لذائذ تلك الجنة المعنوية بحواسهم
ولطائفهم السلمية والنسانية وبتجليات اليمان وجلواته.
بل يمكنهم الستفادة من تلك اللذات حسب تفاوت
درجاتهم اليمانية.
بيد أن طبيعة هذا العصر العاصف الذي تسود فيه التيارات
المع ّ
طلة للمشاعر ،والصارفة لنظار البشرية الى الفاق
ة من النوع
ت صعق ً
الخاوية والغرق فيها ،قد اوجد ْ
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص487 :
الذي يع ّ
طل الحساس ،لذا فان ارباب الضلل ليشعرون
بعذابهم المعنوي مؤقتًا ،وان أهل الهداية بدورهم قد
داهمتهم الغفلة فليستطيعون ان يقـدروا لـ ّ
ذة اليمان
الحقيقية حق قـدرهـا.
الحالة الرهيبة الثانية لعصرنا الحالي:
ان انواع الضللة الناشئة من اللحاد والعلوم الطبيعية،
والتمرد المتولد من الكفر العنادي في الماضي ،ليعتبران
من الضآلة بحيث ل ُيذ َ
كران اذا ما قيسا بما عليه الوضع
في وقتنا الراهن ،لذا فقد كانت ادّلة علماء السلم
ودراساتهم كافية لسد ّ حاجات عصرهم ،اذ كان كفر
عصرهم مبني ّا ً على الشك ،فكانوا يزيلونه بسرعة؛ حيث
كان اليمان بالله يسود اوساط الناس ،وكان من اليسير
ارشاد الكثيرين الى طريق الهداية والصراط السوي،
وانقاذهم من السفاهة والضلل ،وذلك بالتذكير بالله
سبحانه والتخويف من عذابه فكان الكثيرون يتخّلون عن
غيهم.
أما اليوم فقد تغير الحال ،اذ بينما كان يوجد -في
الماضي -ملحد واحد في بلد ،يمكن العثور الن على مائة
كافر في قصبة واحدة .وقد زاد عدد الذين يضلون بسبب
افتتانهم بالعلوم والفنون الحديثة ويقفون بعناد وتمّرد في
وجه حقائق اليمان اضعاف اضعاف الماضي بمائة مرة.
ولما كان هؤلء المعاندون يعارضون الحقائق اليمانية
بغرور فرعوني وبتضليلت رهيبة ،فل مناص من أن
يجاَبهوا بحقائق قدسية في قوة القنبلة الذرية ،لتح ّ
طم
سهم في هذه الدنيا وتقف زحفهم
مبادَءهم واس َ
وتجاوزهم ،بل تحمل قسما ً منهم على التسليم واليمان.
فنحن نحمد الله اجزل الحمد ونشكره شكرا ً لمنتهى له
على أن "رسائل النور" قد اصبحت ترياقا ً شافيا ً لجروح
عصرنا الدامية ومعجزة معنوية من معجزات القرآن
الحكيم ،ولمعة من لمعاته ،فلقد استطاعت بموازناتها
العديدة ان تحارب اشد المعاندين المتعنتين بسيف القرآن
اللماسي ،وتنصب الحجج وتقيم الدّلة على الوحدانية
اللهية وحقائق اليمان بعدد ذرات الكون.
ولعل هذا السّر هو الذي جعلها ل ُتغَلب ولتنهزم منذ
خمسة وعشرين عامًا ،في وجه اشد الحملت شراسة،
بل كانت هي الغالبة على الدوام.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص488 :
نعم! ان موازنات الكفر واليمان ،ومقايسات الهداية
والضلل التي تشتمل عليها "رسائل النور" ،تثبت
بالمشاهدة هذه الحقيقة المذكورة .فالذي يطالع براهين
ولمعات "الكلمة الثانية والعشرين" -بمقاميها -مثل ً أو
يجيل النظر في الموقف الول من "الكلمة الثانية
والثلثين" .أو يقرأ نوافذ"المكتوب الثالث والثلثين" ،أو
يتصّفح الحجج الحدى عشرة من مجموعة "عصا موسى"
واذا ما قاس سائر الموازنات والمقايسات الخرى على
ما ذكرناه يدرك جيدًا :ان حقائق القرآن المتجلية في
"رسائل النور" هي التي تستطيع قطع دابر اللحاد وعناد
أهل الضلل المتمرد في زماننا هذا واستئصال شأفتهما.
وكما قد تجمعت الشذرات التي تميط اللثام عن وجه
ميات حقائق خلق العالم وأهم دقائق اسرار الدين في
مع ّ
مجموعة "الطلسم" فاملي بالله عظيم أن تجمع كذلك
تلك الجزاء المتناثرة -التي تثبت بالدلة والبراهين -ان
أهل الضللة يعيشون في جهنم في هذه الدنيا وان أهل
الهداية يذوقون لذائذ الجنة في هذه الدنيا ايضًا ..وان
اليمان بذرة معنوية من بذور الجنة ،والكفر نواة من نوى
زّقوم جهنم .وآمل ان تجتمع تلك الجزاء من "رسائل
النور" في مجموعة موجزة وتنشر بعون الله وتوفيقه.
سعيد النورسي
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص489 :
الخطبة الشامية
تأليف
بديع الزمان سعيد النورسى
ترجمة وتحقيق
إحسان قاسم الصالحى
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص491 :
بسم الله الرحمن الرحيم
نقدم اول ً ما يقدمه كل ذي روح بلسان حال حياته من
هدايا معنوية الى خالقه ،وما يقدمه ك ٌ
ل منهم من الحمد
والشكر بلسان حاله الى ذلك الواجب الوجود الذي قال:
)ل تقنطوا من رحمة الله( )الزمر (53 :ونصلي ونسّلم
صلةً وسلما ً لمنتهى لهما على نبّينا محمد المصطفى
م
ت لتمم مكار َ
عليه الصلة والسلم ،الذي قال):انما بعث ُ
الخلق( 1أي :انما بعثني الله الى الناس لتتميم الخصال
الحميدة وانقاذ البشرية من الطباع الذميمة.
أما بعد!
فيا اخواني العرب الذين يستمعون الى هذا الدرس في
هذا الجامع الموي .انني ما صعدت هذا المنبر والى هذا
المقام الذي هو فوق حدي ،لرشدكم فهذا امٌر فوق
طوقي .اذ ربما فيكم ما يقارب المئة من العلماء
الفاضل .فمثلي معكم كمثل صبي يذهب الى المدرسة
صباحا ً ثم يعود في المساء ليعرض ما تعّلمه على ابيه،
ابتغاء تصحيح اخطائه والتل ّ
طف في تصويبه وارشاده.
فشأننا معكم شأن الصبيان مع الكبار ،فنحن تلمذة
بالنسبة اليكم وأنتم اساتذة لنا ولسائر أمة السلم .وها
أنذا اعرض بعض ما تعلمته على اساتذتي:
لقد تعلمت الدروس في مدرسة الحياة الجتماعية
ت في هذا الزمان والمكان أن هناك ستة
البشرية وعلم ُ
امراض ،جعلتنا نقـف على اعتاب القرون الوسطى في
الوقت الذي طار فيه الجانب -وخاصة الوربيين -نحو
المستقبل.
_____________________
1راوه مالك في الموطأ بلغا ً عن النبي صلى الله عليه
وسلم .وقال ابن عبد البر متصل من وجوه صحاح عن
ابي هريرة وغيره .منها ما رواه احمد والخرائطي في اول
المكارم بسند صحيح عن ابي هريرة مرفوعا ً بلفظ انما
بعثت لتمم صالح الخلق) ...باختصار عن كشف الخفاء
للعجلوني (1/211
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص492 :
وتلك المراض هي:
او ً
ل :حياة اليأس الذي يجد فينا اسبابه وبعثه.
ثانيًا :موت الصدق في حياتنا الجتماعية والسياسية.
ب العداوة.
ثالثًا :ح ّ
رابعًا :الجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين
بعضهم ببعض.
خامسًا :سريان الستبداد ،سريان المراض المعدية
المتنوعة.
سادسًا :حصر الهمة في المنفعة الشخصية.
ولمعالجة هذه المراض الستة الفّتاكة ،أبّين ما اقتبسته
من فيض صيدلية القرآن الحكيم -الذي هو بمثابة كلية
الطب في حياتنا الجتماعية -أبّينها بست كلمات ،اذ ل
اعرف اسلوبا ً للمعالجة سواها.
الكلمة الولى
"المــل"
اي :شدة العتماد على الرحمة اللهية والثقة بها.
نعم! انه بناء على ما تعلمته من دروس الحياة ،يسّرني ان
ف بزوغ
ف اليكم البشرى يامعشر المسلمين ،بأنه قد أ َزِ َ
أز ّ
أمارات الفجر الصادق ودنا شروق شمس سعادة عالم
السلم الدنيوية وبخاصة سعادة العثمانيين ،ولسيما
سعادة العرب الذين يتوّقف تقدم العالم السلمي ورقّيه
على تيقظهم وانتباههم ،فانني اعلن بقوة وجزم ،بحيث
ف اليأس والقنوط راغم :1
ُاسمع الدنيا كلها وأن ُ
ان المستقبل سيكون للسلم ،وللسلم وحده .وان
الحكم لن يكون إل ّ لحقائق القرآن واليمان .لذا فعلينا
سمه الله لنا؛ إذ لنا مستقبل
الرضى بالقدر اللهي وبما ق ّ
ض مشوش مختلط.
زاهر ،وللجانب ما ٍ
فهذه دعواي ،لي عليها براهين عدة ،سأذكر واحدا ً ونصفا ً
فقط منها ،بعد ان أمّهد لها ببعض المقدمات.
_____________________
1لقد اخبر«سعيد القديم» باحساس مسبق منذخمسة
واربعين عاما ً بأن العالم السلمي -وفي مقدمته الدول
العربية -سينجو من سيطرة الجانب وتحكمهم،
وسيشكلون دول ً اسلمية سنة 1371،ولم يفكر آنذاك في
الحربين العالميتين ول في الستبداد المطلق الذي دام ما
يقارب اربعين عامًا ،فب ّ
شر بما كان سنة 1371وكأنه
1327دون أن يأخذ سبب التأخير بنظر العتبار .المؤلف.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص493 :
أما المقدمات فهي:
ان حقائق السلم تمتاز باستعدادها ،استعدادا ً كامل ً لدفع
اهلها الى مراقي التقدم المادي والمعنوي معًا.
أما أنه مستعد للرقي المعنوي:
فاعلموا! ان التاريخ الذي يسجل الوقائع الحقيقية ،اصدق
شاهد على حقيقة الحداث؛ فها هو التاريخ يرينا أن القائد
الياباني الذي هزم الروس يدلي بالشهادة التية في صدد
عظمة السلم وحقانيته" :انه بنسبة قوة الحقائق
السلمية وبنسبة التزام المسلمين تلك الحقائق ،يزدادون
رقيا ً وتقدمًا ،هكذا يرينا التاريخ .ويرينا إيضا ً انه بقدر
ضعف تمسكهم بتلك الحقائق يصابون بالتوحش والتخلف
والضمحلل والوقوع في ألوان من الهرج والمرج
والضطرابات .وُيغَلبون على أمرهم" .أما سائر الديان
الخرى فالمر فيها على عكس السلم ،أي :بقدر ضعف
سك اتباعها وضعف تعصبهم وصلبتهم في دينهم
تم ّ
يزدادون رقيا ً وتقدمًا ،وعلى قدر تعصبهم وتمسكهم
بدينهم يتعّرضون للنحطاط والضطرابات.
ن الى الن.
هذا هو حكم التاريخ ..وهكذا مّر الزما ُ
وما ارانا التاريخ قط منذ خير القرون والعصر السعيد الى
جحا ً عليه -بالمحاكمة
الن أن مسلما ً قد ترك دينه مر ّ
العقلية والدليل اليقيني -دينا ً آخر ،على حين ان كثيرا ً من
اتباع الديان الخرى -حتى المتعصبين منهم ،كالروس
جحوا بالمحاكمة والدليل العقلي
القدامى والنكليز -قد ر ّ
دين السلم على أديانهم فدخلوا في السلم .ولعبرة هنا
بتقليد العوام الذي ليستند الى دليل ،كما لعبرة بالمروق
عن الدين والخروج على حقائقه ،فهذه مسألة اخرى.
علما ً أن التاريخ يفيدنا بأن عدد من يدينون بالسلم -
بالمحاكمة العقلية -جماعات وافواجا ً يزداد يوما ً بعد يوم
.1
_____________________
1والدليل على هذه الدعوى هو ،انه مع قيام حربين
س نجد أنه
عالميتين رهيبتين ،وظهور استبداد مطلق قا ٍ
بعد خمس واربعين سنة:
- 1قبول بعض الدول الصغيرة كالسويد والنرويج وفنلندا
تدريس القرآن في مدارسها ،وقبولها له ليكون سدا ً منيعا ً
امام الشيوعية واللحاد.
- 2قيام عدد من الخطباء النكليز المشهورين باقناع
النكليز وحملهم على قبول القرآن.
- 3موالة اكبر دول المعمورة في الوقت الحاضر -وهي
امريكا -لحقائق الدين بكل قواها ،واعترافها بأن آسيا
وافريقيا ستجدان السعادة والمن والسلم في ظل
السلم .فضل ً عن تعاطفها مع دول اسلمية حديثة الولدة
ومحاولتها التفاق معها ..كل ذلك يثبت صدق هذه الدعوى
التي قيلت قبل خمس واربعين سنة ،وشاهد قوي
عليها.المؤلف.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص494 :
ولو اننا أظهرنا بأفعالنا وسلوكنا مكارم اخلق السلم
وكمال حقائق اليمان ،لدخل اتباع الديان الخرى في
السلم جماعات وأفواجًا .بل لربما رضخت دول العالم
وقاراته للسلم.
ان البشرية التي اخذت تصحو وتتيّقظ بنتائج العلوم
والفنون الحديثة ،ادركت كنه النسانية وماهيتها ،وتيّقنت
انه ل يمكنها ان تعيش همل ً بغير دين ،بل حتى اشد الناس
إلحادا ً وتنكرا ً للدين مضطر الى أن يلجأ الى الدين في
آخر المطاف؛ لن:
"نقطة استناد" البشر عند مهاجمة المصائب والعداء من
الخارج والداخل ،مع عجزه وقّلة حيلته ،وكذا "نقطة
استمداده" لماله غير المحدودة الممتدة الى البد مع
فقره وفاقته ،ليس ال ّ "معرفة الصانع" واليمان به
والتصديق بالخرة ،فل سبيل للبشرية المتيّقظة الى
الخلص من غفوتها سوى القرار بكل ذلك.
دفة القلب جوهر الدين الحق ،فسوف
ص َ
ومالم يوجد في َ
تقوم قيامات مادية ومعنوية على رأس البشر ،وسيكون
اشقى الحيوانات وأذّلها.
خلصة الكلم:
لقد تيّقظ النسان في عصرنا هذا ،بفضل العلوم والفنون
ون ُ ُ
ذر الحروب والحداث المذهلة ،وشعر بقيمة جوهر
النسانية واستعدادها الجامع ،وادرك ان النسان
باستعداده الجتماعي العجيب لم ُيخلق لقضاء هذه الحياة
خلق للبد والخلود ،بدليل آماله
المتقّلبة القصيرة ،بل ُ
الممتدة الى البد .وان كل انسان بدأ يشعر -حسب
استعداده -أن هذه الدنيا الفانية الضيقة لتسع لتلك
وة الخيال
المال والرغبات غير المحدودة ،حتى اذا قيل لق ّ
التي تخدم النسانية:
مري مليون سنة مع سلطنة الدنيا ،نظير قبولك
"لك ان تع ّ
موتا ً ابديا ً لحياة بعده اطلقًا ".فلبد ان خيال ذلك النسان
مدا ً وحزنا ً -بدل ً
المتيّقظ الذي لم يفقد انسانيته سيتأوه ك َ َ
من أن يفرح ويستبشر -لفقده السعادة البدية.
وهذا هو السر في ظهور ميل شديد الى التحري عن
الدين الحق في اعماق كل انسان ،فهو يبحث قبل كل
شئ عن حقيقة الدين الحق لتنقذه من الموت البدي.
ووضع العالم الحاضر خير شاهد على هذه الحقيقة.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص495 :
لقد بدأت قارات العالم ودوله بعد مرور خمسة واربعين
عاما ً وبظهور اللحاد تدرك ادراك كل فرد هذه الحاجة
البشرية الشديدة.
ثم ان اوائل اكثر اليات القرآنية وخواتمها ،تحيل النسان
الى العقل قائلة :راجع عقلك وفكرك ايها النسان
وشاورهما ،حتى يتبين لك صدق هذه الحقيقة .فانظروا
مثل ً الى قوله تعالى )فاعلموا ..فاعلم ..أفل يعقلون..
أفلم ينظروا ..أفل يتذكرون ..أفل يتدبرون ..فاعتبروا يا
اولى البصار (..وامثالها من اليات التي تخاطب العقل
م تتركون العلم وتختارون طريق
البشري .فهي تسأل :ل ِ َ
ون عن رؤية الحق؟ ما
صبون عيوَنكم وتتعا َ
الجهل؟ ل ِ َ
م تع ُ
م ْ
الذي حملكم على الجنون وانتم عقلء؟ أي شئ منعكم
من التفكر والتدّبر في احداث الحياة ،فل تعتبرون
ولتهتدون الى الطريق المستقيم؟ لماذا ل تتأملون ول
تح ّ
كمون عقولكم لئل تضلوا؟.
ثم تقول ايها الناس انتبهوا واعتبروا! انقذوا انفسكم من
بليا معنوية تنزل بكم باتعاظكم من القرون الخوالي.
يا اخواني الذين يضمهم هذا الجامع الموي ،ويااخواني في
جامع العالم السلمي! اعتبروا انتم ايضًا! وقّيموا المور
في ضوء الحداث الجسام التي مرت خلل السنوات
دون
الخمس والربعين الماضية .كونوا راشدين يامن يع ّ
انفسهم من أولي الفكر والعلم.
نحصلمما سبق:
نحن معاشر المسلمين خدام القرآن نّتبع البرهان ونقبل
بعقلنا وفكرنا وقلبنا حقائقَ اليمان ،لسنا كمن ترك التقلد
بالبرهان تقليدا ً للرهبان كما هو دأب اتباع سائر الديان!
م فيه ال ّ للعقل
وعلى هذا فان المستقبل الذي لحك َ
مه
والعلم ،سوف يسوده حكم القرآن الذي تستند أحكا ُ
الى العقل والمنطق والبرهان.
وها قد اخذت الحجب التي كانت تكسف شمس السلم
تنزاح وتنقشع ،وأخذت تلك الموانع بالنكماش
والنسحاب .ولقد بدأت تباشير ذلك الفجر منذ خمس
واربعين سنة ،وها قد بزغ فجرها الصادق سنة إحدى
وسبعين وثلثمائة والف
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص496 :
أو هو على وشك البزوغ ،وحتى ان كان هذا الفجر فجرا ً
كاذبا ً فسيطلع الفجر الصادق بعد ثلثين أو أربعين عاما ً ان
شاء الله.
نعم فلقد حالت ثمانية موانع دون استيلء حقائق السلم
على الزمان الماضي استيلًء تاما ً وهي:
المانع الول والثاني والثالث:
جهل الجانب
وتأخرهم عن عصرهم )أي ُبعدهم عن الحضارة(
وتعصبهم لدينهم
فهذه الموانع الثلثة بدأت تزول بفضل التقدم العلمي
ومحاسن المدنية.
المانع الرابع والخامس:
تح ّ
كم القسيسين وسيطرة الزعماء الروحانيين على افكار
الناس واذهانهم.
وتقليد الجانب لولئك القسيسين تقليدا ً أعمى.
فهذان المانعان ايضا ً يأخذان بالزوال بعد انتشار حرية
الفكر وميل النوع البشري الى البحث عن الحقائق.
المانع السادس والسابع:
تفشي روح الستبداد فينا.
وانتشار الخلق الذميمة النابعة من مجافاة الشريعة
ومخالفتها.
فان زوال قوة إستبداد الفرد الن يشير الى زوال استبداد
الجماعة والمنظمات الرهيبة بعد ثلثين أو اربعين سنة .ثم
ان فوران الحمية السلمية والوقوف على النتائج الوخيمة
للخلق الذميمة كفيلن برفع هذين المانعين بل هما على
وشك ان ُيرفعا ،وسيزولن زوال ً تاما ً إن شاء الله.
المانع الثامن:
توهم وجود نوع من التناقض بين مسائل من العلم
الحديث والمعنى الظاهري لحقائق السلم؛ هذا التوهم
سّبب الى حدٍ ما وقف استيلء الحقائق السلمية في
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص497 :
الماضي .فمث ً
ل :ان "الثور والحوت" اللذين هما عبارة عن
مَلكين روحانيين مأمورين بالشراف على الرض بأمر
َ
سمان،
ض انهما حيوانان حقيقيان مج ّ
الله .تخّيلهما البع ُ
أي :ثور ضخم وحوت جسيم ،فوقف اه ُ
ل العلوم الحديثة
موقف المعارض للسلم لعـدم اطـلعهم على حقيقـة
التشبيه والمجاز.
وهناك مئات من المثلة كهذا ،إذ بعد الطلع على الحقيقة
ل يجد أعتى الفلسفة مفرا ً من الستسلم والنصياع.
حتى ان رسالة "المعجزات القرآنية" قد اشارت الى كل
ض لها أهل العلم الحديث،
آية من اليات التي تعّر َ
ل منها لمعة رائعة من لمعات اعجاز
واظهرت ان في ك ٍ
القرآن ،وبّينت ما ظّنه اه ُ
مل
ل العلم مداَر نقدٍ في ُ
ج َ
القرآن وكلماته :أن في كل منها من الحقائق السامية
الرفيعة ما ل تطاوله يد العلم ،وألجأ الفلسفة العنيدين
الى الستسلم والرضوخ .وهذه الرسائل في متناول
الجميع ،وفي امكان كل واحد الطلع عليها بسهولة،
وعليه ان يطلع عليها ،ليرى كيف انهار هذا المانع فع ً
ل،
ة.
بعدما قيل منذ خمس واربعين سن ً
نعم ،ان هناك مؤلفات قيمة لعلماء السلم في هذا
المجال ،وكل المارات تدل على ان هذا المانع الثامن
سيضمحل تمامًا.
واذا لم يحدث ذلك الن ،فانه بعد ثلثين أو اربعين عاما ً
سوف يتجّهز العلم ،والمعرفة الحقيقية ،ومحاسن المدنية،
بوسائل واعتدة كاملة فتتغلب -هذه القوى الثلث -على
الموانع الثمانية المذكورة وتقضي عليها .وذلك ببعثها روح
التحري عن الحقائق ،والنصاف والمحبة النسانية
وارسالها الى جبهات محاربة تلك العـداء الثمانـية.
وقد بدأت تهزمها فع ً
ل ،وسوف تقضي عليها قضاًء تاما ً بعد
نصف قرن ان شاء الله.
نعم" ،الفضل ما شهدت به العداء".
واليكم مثالين فقط من بين مئات المثلة:
المثال الول :ان مستر كارليل احد مشاهير فلسفة
القرن التاسع عشر واشهر فيلسوف من القارة المريكية
يلفت انظار الفلسفة وعلماء النصرانـيـة بقـولـه:
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص498 :
"لقد جاء السلم على تلك الملل الكاذبة والنحل الباطلة
فابتلعها وحق له ان يبتلعها ،لنه حقيقة خارجة من قلب
الطبيعة ،وما كاد يظهر السلم حتى احترقت فيه وثنيات
العرب وجدليات النصرانية وكل ما لم يكن بحق فانها
1
حطب ميت أكلته نار السلم فذهب ،والنار لم تذهب".
ويزيد مستر كارليل فيقول بحق الرسول صلى الله عليه
وسلم:
"هو الرجل العظيم الذي عّلمه الله العلم والحكمة فوجب
2
علينا ان نصغي اليه قبل كل شئ".
ويقول ايضًا:
"ان كنت في ريب من حقائق السلم فالولى بك أن
ترتاب في البديهيات والضروريات القطعية ،لن السلم
من أبده الحقائق واشدها ضرورة".
جل هذا الفيلسوف الشهير هذه الحقائق
وهكذا فقد س ّ
حول السلم في اماكن متفرقة من مؤلفه.
المثال الثاني :هو المير بسمارك 3الذي يعتبر من أشهر
رجال الفكر في تاريخ اوروبا الحديث .يقول هذا
الفيلسوف:
"لقد درست الكتب السماوية بإمعان ،فلم اجد فيها
الحكمة الحقيقية التي تكفل سعادة البشرية ،وذلك
للتحريف الذي حصل فيها .ولكني وجدت قرآن محمد
صلى الله عليه وسلم يعلو على سائر الكتب .وقد وجدت
في كل كلمة منه حكمة .وليس هناك كتاب يحقق سعادة
ب كهذا من كلم
البشرية مثله .ول يمكن أن يكون كتا ٌ
دعون ان هذه القوال اقوال محمدصلى
البشر .فالذين ي ّ
الله عليه وسلم يكابرون الحق وينكرون الضرورات
العلمية ،أي أن كون القرآن كلم الله امٌر بديهي".
وهكذا تنتج حقول الذكاء في امريكا واوروبا محاصيل
رائعة من امثال مستر كارليل وبسمارك من جهابذة
المحققين.
وفي ضوء هذه الحقيقة اقول وبكل اطمئنان واقتناع:
_____________________
1من ترجمة الستاذ محمد السباعي لكتاب "البطال".
المترجم
2من ترجمة الستاذ محمد السباعي لكتاب "البطال".
المترجم
3من مشاهير السياسيين اللمان ) (1898 - 1815وأحد
الذين حققوا الوحدة اللمانية .وجعلوها في مقدمة الدول
في القرن التاسع عشر .المترجم
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص499 :
حَبالى بالسلم ،وستلدان يوما ً ما دولة
ان اوروبا وامريكا َ
حِبلت الدولة العثمانية باوروبا وولدت دولة
اسلمية ،كما َ
اوروبية.
ايها الخوة في الجامع الموي ،ويا اخواني في الجامع
السلمي بعد نصف قرن! أفل تنتج المقدمات التي أسلفنا
ذكرها حتى الن:
أن السلم وحده سيكون حاكما ً على قارات المستقبل
حكما ً حقيقيا ً ومعنويا ً وان الذي سيقود البشرية الى
السعادتين الدنيوية والخروية ليس ال ّ السلم والنصرانية
الحّقة المنقلبة الى السلم والمتفقة معه والتابعة للقرآن
بعد تحررها من التحريفات والخرافات!
الجهة الثانية :ان السلم مستعد للرقي المادي:
ان السباب القوية التي تدفع السلم الى الرقي تبين أن
السلم سيسود المستقبل ماديا ً ايضًا.
فكما اثبتنا في الجهة الولى استعداد السلم معنويا ً
للرقي ُتظهر هذه الجهة اظهارا ً واضحا ً استعداد السلم
للرقي المادي وسيادته في المستقبل .لن في قلب
الشخصية المعنوية للعالم السلمي قد اجتمعت وامتزجت
خمس قوىً ل ُتقهر ،وهي في منتهى الرسوخ والمتانة :1
القوة الولى:
"الحقيقة السلمية" التي هي استاذ جميع الكمالت
والمثل ،الجاعلة من ثلثمائة وخمسين مليون مسلم
س واحدة والمجّهزة بالمدنية الحقيقية والعلوم
كنف ٍ
الصحيحة ،ولها من القوة ما ل يمكن ان تهزمها قوة مهما
كانت.
_____________________
1نعم نفهم من استاذية القرآن واشارات درسه :ان
القرآن بذكره معجزات النبياء ،انما يدل البشرية على ان
نظائر تلك المعجزات سوف تتحقق في المستقبل
بالترقي ،ويحث النسان على ذلك وكأنه يقول له :هيا
اعمل وإسعَ لتنجز امثال هذه المعجزات ،فاقطع مثل ً
مسافة شهرين في يوم واحد كما قطعها سليمان عليه
السلم ،واعمل على مداواة اشد المراض المستعصية
كما داواها عيسى عليه السلم ،واستخرج الماء الباعث
على الحياة من الصخر وانقذ البشرية من العطش كما
فعله موسى عليه السلم بعصاه .وابحث عن المواد التي
تقيك شر الحرق بالنار ،وألبسها كما لبسها ابراهيم عليه
السلم .والتقط أبعد الصوات واسمعها وشاهد الصور من
اقصى المشرق والمغرب كما فعل ذلك بعض النبياء.
وأِلن الحديد كالعجين كما فعله داود عليه السلم ،واجعل
الحديد كالشمع في يدك ليكون مدارا ً لجميع الصناعات
البشرية ،كما تستفيدون فوائد جمة من الساعة والسفينة
اللتين هما من معجزات سيدنا يوسف وسيدنا نوح عليهما
السلم .فاعملوا على محاكاتهما وتقليدهما .وهكذا قياسا ً
على هذا نجد أن القرآن الكريم يسوق البشرية الى
الرقي المادي والمعنوي ،ويلقي علينا الدروس ويثبت انه
أستاذ الجميع .المؤلف.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص500 :
القوة الثانية:
"الحاجة الملحة" التي هي الستاذ الحقيقي للمدنية
والصناعات والمجّهزة بالوسائل والمبادئ الكاملة ..وكذا
"الفقر" الذي قصم ظهرنا .فالحاجة والفقر قوتان
لتسكتان ول ُتقهران.
القوة الثالثة:
"الحرية الشرعية" التي ترشد البشرية الى سبل التسابق
والمنافسة الحّقة نحو المعالي والمقاصد السامية ،والتي
تمزق انواع الستبداد وتشتتها ،والتي تهّيج المشاعر
الرفيعة لدى النسان ،تلك المشاعر المجّهزة بانماط من
الحاسيس كالمنافسة والغبطة والتيقظ التام والميل الى
التجدد والنزوع الى التحضر .فهذه القوة الثالثة" :الحرية
الشرعية" تعني التحلي باسمى ما يليق بالنسانية من
درجات الكمال والتشوق والتطلع اليها.
القوة الرابعة:
"الشهامة اليمانية" المجّهزة بالشفقة والرأفة .أي :ان
ليرضى الذ ّ
ل لنفسه امام الظالمين ،ول يلحقه
دين
بالمظلومين .وبعبارة اخرى :عدم مداهنة المستب ّ
وعدم التحكم بالمساكين أو التكّبر عليهم ،وهذا أساس
مهم من اسس الحرية الشرعية.
القوة الخامسة:
"العزة السلمية" التي تعلن اعلء كلمة الله .وفي زماننا
هذا يتوقف اعلء كلمة الله على التقدم المادي والدخول
في مضمار المدنية الحقيقية .ولريب ان شخصية العالم
السلمي المعنوية سوف تدرك وتحقق في المستقبل
تحقيقا ً تاما ً ما يتطلـبه اليـمان من الحفـاظ على عزة
السلم..
وكما ان رقي السلم وتقدمه في الماضي كان بالقضاء
على تعصب العدو وتمزيق عناده ودفع اعتداءاته ..وقد تم
ذلك بقوة السلح والسيف .فسوف ُتغلب العداء وُيشتت
شملهم بالسيوف المعنوية -بدل ً من المادية -للمدنية
الحقيقية والرقي المادي والحق والحقيقة.
اعلموا أيها الخوان!
ان قصدنا من المدنية هو محاسنها وجوانبها النافعة
للبشرية ،وليس ذنوبها
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص501 :
وسيئاتها ،كما ظن الحمقى من الناس أن تلك السيئات
محاسن فقّلدوها وخّربوا الديار ،فقدموا الدين رشوة
للحصول على الدنيا فما حصلوا عليها ول حصلوا على
شئ.
انه بطغيان ذنوب المدنية على محاسنها ،ورجحان كفة
سيئاتها على حسناتها ،تلقت البشرية صفعتين قويتين
بحربين عالميتين ،فأتتا على تلك المدنية الثمة ،وقاءت
دماًء لطخت وجه الرض برمتها .وسوف تتغلب باذن الله
محاسن المدنية بفضل قوة السلم التي ستسود في
المستقبل ،وتطّهر وجه الرض من الدناس وتحقق ايضا ً
سلما ً عاما ً للبشرية قاطبة.
نعم لما كانت مدنية اوروبا لم تتأسس على الفضيلة
والهدى بل على الهوس والهوى ،وعلى الحسد والتحكم،
تغلبت سيئات هـذه المدنـيـة على حسناتها الى الن.
واصبحت كشجرة منخورة بديدان المنظمات الثورية
الرهابية ،وهذا دليل قوي ومؤشر على قرب انهيارها
وسبب مهم لحاجة العالم الى مدنية آسيا "السلمية"
التي ستكون لها الغلبة عن قريب.
فاذا كان امام اهل اليمان والسلم امثال هذه السباب
القوية والوسائل القويمة للرقي المادي والمعنوي،
وطريقٌ سويٌ ممهد كسكة الحديد للوصول الى السعادة
في المستقبل ،فكيف تيأسون ،وتثبطون روح العالم
السلمي المعنوية وتظنون ظن السوء وفي يأس وقنوط:
ق وتقدم للجانب وللجميع بينما اصبحت
أن الدنيا دار تر ٍ
ن وتأخـر للمسلمـين المساكـين وحدهم .انكم بهـذا
دار تد ٍ
ترتكبون خطأ شنيعـًا.
اذ ما دام الميل نحو الكمال قانونا ً فطريا ً في الكون وقد
ُادرج في فطرة البشرية ،فان الحق والحقيقة سيظهران
في المستقبل على يد العالم السلمي ان شاء الله
سعادة ً دنيوية ايضا ً كّفارة لما اقترفته البشرية من آثام،
مالم تقم قيامة مفاجئة بما ارتكبت من مفاسد ومظالم.
فانظروا الى الزمن ،انه ليسير على خط مستقيم حتى
يتباعد المبدأ والمنتهى ،بل يدور ضمن دائرة كدوران كرتنا
الرضية .فتارة يرينا الصيف والربيع في حال الترقي،
وتارة يرينا الشتاء والخريف في حال التدني .وكما ان
الشتاء يعقبه الربيع والليل
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص502 :
يخلفه النهار ،فسيكون للبشرية ربيع ونهار ان شاء الله،
ولكم ان تنتظروا من الرحمة اللهية شروق شمس حقيقة
السلم ،فتروا المدنية الحقيقية في ظل سلم عام
شامل.
لقد قلنا في بداية هذا الدرس اننا سنقيم برهانا ً ونصف
برهان على دعوانا .وقد انتهى الن البرهان مجم ً
ل.
وجاء دور نصف البرهان وهو التي:
لقد ثبت بالبحث والتحري الدقيق والستقراء والتجارب
العديدة للعلوم أن:
الخير والحسن والجمال والتقان والكمال هو السائد
المطلق في نظام الكون وهو المقصود لذاته ،أي هو
المقاصد الحقيقية للصانع الجليل .بدليل ان كل علم ٍ من
العلوم المتعّلقة بالكون يطلعنا بقواعده الكلية على ان
في كل نوع وفي كل طائفة انتظاما ً وابداعا ً بحيث ليمكن
للعقل أن يتصور أبدع واكم َ
ل منه.
فمث ً
ل :علم التشريح الذي يخص الطب ،علم المنظومة
الشمسية الذي يخص الفلك وبقية العلوم التي تخص
النباتات والحيوانات ،كل منها تفيدنا بقواعدها الكلية
وبحوثها المتعددة النظام المتقن للصانع الجليل في ذلك
النوع وقدرته المبدعة وحكمته التامة فتبّين جميعها حقيقة
سن ك ّ
خلَقه( )السجدة(7 :
ئ َ
الية الكريمة )الذي اح َ
لش ٍ
كما ان الستقراء التام والتجارب الشاملة يثبت أن:
الشر والقبح والباطل والسيئات جزئي وت ََبعي وثانوي في
خلقة الكون.
فالقبح مثل ً في الكون والمخلوقات ليس هدفا ً لذاته وانما
ة واحدة للجمال الى
هو وحدة قياسية ،لتنقلب حقيق ٌ
حقائق كثيرة .والشر كذلك ،بل حتى الشيطان نفسه انما
خلق وسّلط على البشرية ليكون وسيلة لترقيات البشر
غير المحدودة نحو الكمال التي ل ُيـنال إل ّ بالتسـابق
والمجـاهـدة.
خلقت في الكون
وامثال هذه الشرور والقبائح الجزئية ُ
لتكون وسيلة لظهار انواع الخير والجمال الكليين .وهكذا
يثبت بالستقراء التام أن المقصد الحقيقي في الكون
والغاية الساسية في الخلق انما هو :الخير والحسن
وث وجه الرض بكفره
والكمال ،لذا فالنسان الذي ل ّ
الظالم وعصيانه الله ليمكن ان يفلت من العقاب،
ويذهب الى العدم من دون ان يحق عليه المقصود
الحقيقي في الكون .بل سيدخل سجن جهنم!
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص503 :
كما ثبت بالستقراء التام وتحريات العلوم وابحاثها ان
النسان هو اكرم المخلوقات واشرفها .لنه يستطيع أن
يكشف بعقله عن مراتب السباب الظاهرية في خلق
الكائنات ونتائجها ،ويعرف العلقات بين العلل والسباب
المتسلسلة ،ويستطيع ان يقّلد بمهارته الجزئية الصنائع
اللهية واليجاد الرباني المنتظم الحكيم ،ويستطيع أن
يدرك بعلمه الجزئي وبمهارته الجزئية اتقان الفعال
اللهية ،وذلك بجعل ما لديه من جزء اختياري ميزانا ً جزئيا ً
ومقياسا ً مصّغرا ً لدرك تلك الفعال اللهية الكلية
والصفات الجليلة المطلقة.
كل ذلك يثبت ان النسان اشرف مخلوق واكرمه.
دمها السلم للبشرية
وثبت ايضا ً بشهادة الحقائق التي ق ّ
والتي تخص البشر والكائنات :ان المسلمين هم افضل
البشر واشرفهم وهم اهل الحق والحقيقة ،كما ثبت
بشهادة التاريخ والوقائع والستقراء التام :ان اشرف اهل
الحق المشّرفين من بين البشر المكّرمين وأفضَلهم هو
ف من
محمد صلى الله عليه وسلم الذي يشهد له أل ٌ
معجزاته وسمو اخلقه ومكارمه وحقائق السلم والقرآن.
ولما كان نصف البرهان هذا قد بين هذه الحقائق الثلث
أفيمكن أن يقدح نوعُ البشر بشقاوته شهادةَ هذه العلوم
جميعها ،وينقض هذا الستقراء التام ،ويتمّرد في وجه
المشيئة اللهية والحكمة الزلية؛ فيستمر في قساوته
الظالمة وكفره المتمرد ودماره الرهيب ؟ أفيمكن ان
تستمر هذه الحالة في عداء السلم هكذا؟
انني اقسم بما آتاني الله من قوة بل لو كان لي ماليعد
وليحصى من اللسنة لقسمت بها جميعًا ،بالذي خلق
العالم بهذا النظام الكمل ،وخلق الكون في منتهى
الحكمة والنتظام من الذرات الى السيارات السابحات
في اجواز الفضاء ،ومن جناح البعوضة الى قناديل النجوم
المتللئة في السموات ،ذلكم الحكيم ذو الجلل والصانع
ذو الجمال ،أقسم به سبحانه بألسنة ل تحد انه ل يمكن
ان يخرج البشر على سنة الله الجارية في الكون ويخالف
بقية اخوانه من طوائف المخلوقات بشروره الكلية
ويقضي بغلبة الشر على الخير فيهضم تلك المظالم
الزقومية على مدى ألوف السنين! فهذا ل يمكن قطعًا!
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص504 :
ل هو أن النسان
ض محا ِ
نعم ،انه ل يمكن ذلك إل ّ بافترا ٍ
ليس خليفة الله في الرض ،الحامل للمانة الكبرى والخ
الكبر الكرم لسائر انواع المخلوقات ،انما هو ادنى
مخلوق واردأه وارذله واضّره وأحقره ،دخل الكون
متلصصا ً ليفسده! فهذا الفرض المحال باطل من اساسه
ل يمكن قبوله باية جهة كانت.
فلجل هذه الحقيقة يمكن أن نستنتج من نصف برهاننا
هذا:
كما أن وجود الجنة والنار ضروري في الخرة فان الغلبة
المطلقة ستكون للخير وللدين الحق في المستقبل ،حتى
يكون الخير والفضيلة غالبين في البشرية كما هو المر
في سائر النواع الخرى ،وحتى يتساوى النسان مع سائر
اخوانه من الكائنات ،وحتى يحق ان يقال :انه قد تحقق
وتقرر سّر الحكمة الزلية في النوع البشري أيضًا.
وحاصل الكلم:
ما دام البشر -طبقا ً للحقائق المذكورة القاطعة -افضل
نتيجة منَتخبة من الكائنات ،وأنه أكرم مخلوق لدى الخالق
الكريم ،وان الحياة الباقية تقتضي وجود الجنة وجهنم
بالبداهة ،فتستلزم المظالم التي ارتكبتها البشرية حتى
الن وجود جهنم ،كما تستلزم ما في استعداداته الكمالية
المغروزة في فطرته وحقائقه اليمانية التي تهم الكائنات
بأسرها وجود الجنة بالبداهة ،فلبد ،ولمحالة ان البشر لن
يهضموا ولن يغفروا الجرائم التي ارتكبت خلل الحربين
العظيمتين والتي جرت الويلت والمصائب على العالم
باجمعه واستقاءت زقوم شرورها التي استعصت على
الهضم فل ّ
طخت وجه الرض ،وتركت البشرية تعاني
البؤس والشقاء وهدمت صرح المدنية الذي بنته البشرية
طوال الف عام .فما لم تقم قيامة مفاجئة على البشرية
فاننا نرجو من رحمة الرحمن الرحيم ،ان تكون الحقائق
القرآنية وسيلة لنقاذ البشرية من السقوط الى أسفل
سافلين ،وتطّهر وجه الرض من الدناس والدران وتقيم
سلما ً عاما ً شام ً
ل.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص505 :
الكلمة الثانية
"اليأس داء قاتل"
ي تجاربي في الحياة وتمخض فكري عنه
ان مما املت عل ّ
ب في صميم قلب العالم
هو :ان اليأس داء قاتل ،وقد د ّ
السلمي .فهذا اليأس هو الذي اوقعنا صرعى -كالموات
حتى تمكنت دولة غربية ليبلغ تعدادها مليوني نسمة منالتحكم في دولة شرقية مسلمة ذات العشرين مليون
نسمة فتستعمرها وتسخرها في خدمتها ..وهذا اليأس هو
الذي قتل فينا الخصال الحميدة وصرف انظارنا عن النفع
العام وحصرها في المنافع الشخصية ..وهذا اليأس هو
الذي أمات فينا الروح المعنوية التي بها استطاع
المسلمون ان يبسطوا سلطانهم على مشارق الرض
ومغاربها بقوة ضئيلة ،ولكن ما ان ماتت تلك القوة
المعنوية الخارقة باليأس حتى تم ّ
كن الجانب الظلمة -
منذ اربعة قرون -ان يتحكموا في ثلثمائة مليون مسلم
ويكبلوهم بالغلل.
بل قد اصبح الواحد بسبب هذا اليأس يتخذ من فتور
الخرين وعدم مبالتهم ذريعة للتملص من المسؤولية،
ويخلد الى الكسل قائ ً
ل" :مالي وللناس ،فكل الناس
خائرون مثلي" فيتخلى عن الشهامة اليمانية ويترك
العمل الجاد للسلم.
فما دام هذا الداء قد فتك فينا الى هذا الحد ،ويقتلنا على
ص من قاتلنا،
مرآى منا ،فنحن عازمون على ان نقت ّ
فنضرب رأس ذلك اليأس بسيف الية الكريمة) :ل
تقنطوامن رحمة الله( )الزمر .(53 :ونقصـم ظهره
بحقيقـة الحديث الشريف) :ما ل يدرك كله ل يترك جّله(.
ان اليأس داء عضال للمم والشعوب ،أشبه ما يكون
بالسرطان… وهو المانع عن بلوغ الكمالت ،والمخالف
لروح الحديث القدسي الشريف) :انا عند ظن عبدي
بـي( ..وهـو شـأن الجـبنـاء والسـفـلـة والعـاجزين
وذريعتهم ،وليس هو من شأن الشهامة السلمية قط..
وليس هو من شأن العرب الممتازين بسجايا حميدة هي
مفخرة البشرية .فلقد تعّلم العالم السلمي من ثبات
العرب وصمودهم الدروس
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص506 :
والعبر .وأملنا بالله عظيم أن يتخلى العرب عن اليأس
دوا يد َ العون والوفاق الصادق الى الترك الذين هم
وَيم ّ
جيش السلم الباسل فيرفعوا معا ً راية القرآن عالية
خّفاقة في ارجاء العالم،ان شاء الله.
الكلمة الثالثة
"الصدق اساس السلم"
لقد علمتني زبدة تتّبعاتي وتحقيقاتي في الحياة بتمخض
الحياة الجتماعية أن:
"الصدق" هو أس اساس السلم ،وواسطة الِعقد في
سجاياه الرفيعة ومزاج مشاعره العلوية .فعلينا اذا ً أن
نحيي الصدق الذي هو حجر الزاوية في حياتنا الجتماعية
في نفوسنا ونداوي به امراضنا المعنوية.
اجل! ان الصدق هو عقدة الحياة في حياة السلم
الجتماعية .أما الرياء فهو نوع من الكذب الفعلي ،وأما
المداهنة والتصنع فهو كذب دنئ مرذول .أما النفاق فهو
كذب ضار جدًا .والكذب نفسه انما هو افتراء على قدرة
الصانع الجليل.
ان الكفر بجميع انواعه كذب .واليمان انما هو صدق
وحقيقة .وعلى هذا فالبون شاسع بين الصدق والكذب ُبعد َ
ما بين المشرق والمغرب .وينبغي ان ل يختلط الصدق
والكذب اختلط النور والنار ،ولكن السياسة الغادرة
والدعاية الظالمة قد خلطتا احدهما بالخر .فاختلطت
كمالت البشرية ومثلها بسفسافها ونقائصها .1
____________________
1اخواني! ُيفهم من هذا الدرس الذي ألقاه «سعيد
القديم» قبل خمس واربعين سنة :ان سعيدا ً ذاك كان
وثيق الصلة بالسياسة وبشؤون السلم الجتماعية .ولكن
حذار أن يذهب بكم الظن الى انه قد نهج اتخاذ الدين اداة
للسياسة ووسيلة لها .كل! بل كان يعمل بكل ما لديه من
قوة على جعل السياسة اداةً للدين ،وكان يقول«:اني
افضل حقيقة واحدة من حقائق الدين على ألف قضية
سياسية من سياسات الدنيا».
س آنذاك -قبل ما يقارب الخمسين عاما ً -ان
نعم ،لقد اح ّ
بعض الزنادقة المنافقين يحاولون جعل الدين آلة
للسياسة ،فعمل هو أيضا ً -بكل قوة -في مواجهة نواياهم
ومحاولتهم الفكرية تلك على جعل السياسة وسيلة من
وسائل تحقيق حقائق السلم وخادمة لها.
بيد انه رأى بعد ذلك بعشرين سنة ان بعض الساسة
المتدينين يبذلون الجهد لجعل الدين أداة للسياسة
السلمية ،تجاه جعل اولئك الزنادقة المنافقين
ه للسياسة بحجة التغّرب .أل إن
المتسترين ،الدين آل ً
شمس السلم لن تكون تابعة لضواء الرض ول أداة لها.
وان محاولة جعلها آلة لها تعني الحط من كرامة السلم ،
وهي جناية كبرى بحقه حتى ان«سعيدا ً القديم» قد رأى
من ذلك النمط من التحيز الى السياسة :ان عالما ً صالحا ً
قد اثنى بحرارة على منافق يحمل فكرا ً يوافق فكره
السياسي وانتقد عالما ً صالحا ً آخر يحمل افكارا ً تخالف
مه بالفسق .فقال له« سعيد
ص َ
افكاره السياسية ،حتى وَ َ
ت
القديم» :لو ان شيطانا ً أّيد فكرك السياسي لمطر َ
عليه الرحمات ،اما اذا خالف أحد ٌ فكرك السياسي للعنته
مَلكا ً !» .لجل هذا قال «سعيد القديم» منذ
حتى لو كان َ
خمس وثلثين سنة «اعوذ بالله من الشيطان والسياسة»
وترك السياسة .المؤلف.
و لما كان سعيد الجديد قد ترك السياسة كليا ً ول ينظر
اليها قطعًا ،فقد ُترجمت هذه الخطبة الشامية لسعيد
القديم التي تمس السياسة.
ثم انه لم يثبت انه استغل الدين كاداة للسياسة طوال
حياته التي استغرقت اكثر من ربع قرن ،وفي مؤلفاته
ورسائله التي تربو على مئة وثلثين رسالة والتي دققت
بأمعان من قبل خبراء مئات المحاكم بل حتى في احلك
الظروف التي تلجئه الى السياسة لشدة مضايقات
الظلمة المرتدين والمنافقين ،بل حتى عندما ُاصدر أمر
اعدامه سرًا ،لم يجد أحد ٌ منهم اية أمارة كانت عليه حول
إستغلله الدين لجل السياسة.
فنحن طلب النور نرقب حياته عن كثب ونعرفها بدقائقها
ل نملك انفسنا من الحيرة والعجاب ازاء هذه الحالة،
دها دليل ً على الخلص الحقيقي ضمن دائرة رسائل
ونع ّ
النور - .طلب النور.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص507 :
ان الصدق والكذب بعيدان احدهما عن الخر ُبعد الكفر
عن اليمان .فان عروج محمد صلى الله عليه وسلم في
خير القرون الى اعلى عليين بوساطة الصدق وما فتحه
من كنوز حقائق اليمان واسرار الكون ..جعل الصدق
ج بضاعة واثمن متاع في سوق الحياة الجتماعية.
أروَ َ
دى مسيلمة الكذاب وامثاله الى اسفل سافلين
بينما تر ّ
بالكذب؛ اذ لما حدث ذلك النقلب العظيم في المجتمع
ب هو مفتاح الكفر والخرافات ،وأفسد ُ
تبين ان الكذ َ
بضاعة واقذرها .فالبضاعة التي تثير التقزز والشمئزاز
لدى جميع الناس الى هذا الحد ل يمكن ان تمتد اليها يد ُ
أولئك الذين كانوا في الصف الول من ذلك النقلب
العظيم ،اولئك الصحابة الكرام الذين ُفطروا على تناول
اجود المتاع واثمنه وافخره ،وحاشاهم ان يلوثوا ايديهم
المباركة بالكذب ويمدوها عمدا ً الى الكذب ويتشّبهوا
بمسيلمة الكذاب .بل كانوا بميولهم الفطرية السليمة
وبكل ما اوتوا من قوة في طليعة المبتاعين للصدق الذي
هو أروج مال واقوم متاع بل هو مفتاح جميع الحقائق
ومرقاة عروج محمد صلى الله عليه وسلم الى اعلى
عليين .ولن الصحابة الكرام قد لزموا الصدق ولم يحيدوا
عنه ما امكنهم ذلك فقد تقرر لدى علماء الحديث والفقه
"ان الصحابة عدول ،رواياتهم ل تحتاج الى تزكية ،كل ما
رووه من الحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
صحيح" .فهذه الحقيقة المذكورة حجة قاطعة على إتفاق
هؤلء العلماء.
وهكذا فان النقلب العظيم الذي حدث في خير القرون
دى الى أن يكون البون شاسعا ً بين الصدق والكذب كما
ا ّ
هو بين الكفر واليمان .ال ّ أنه بمرور الزمن قد تقاربت
المسافة بين الصدق والكذب ،بل اعطت الدعايات
السياسية احيانا ً رواجا ً اكثر للكذب .فبرز الكذب والفساد
في الميدان واصبح لهما المجال الى حدٍ ما.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص508 :
وبناًء على هذه الحقيقة فان احدا ً من الناس ليمكن ان
يبلغ مرتبة الصحابة الكرام.
نكتفي هنا بهذا القدر ونحيل القارئ الكريم الى رسالة
الصحابة التي هي ذيل الكلمة السابعة والعشرين رسالة
"الجتهاد".
ايها الخوة في هذا الجامع الموي ويا اخوتي الربعمائة
مليونا ً من المؤمنين بعد اربعين عاما ً في جامع السلم
الكبير.
ل نجاة ال ّ بالصدق ،فالصدق هو العروة الوثقى ،أما
خه الزمان ،ولقد أفتى به بعض
الكذب للمصلحة فقد َنس َ
العلماء "مؤقتًا" للضرورة والمصلحة ،ال ّ أن في هذا
الزمان ل يعمل بتلك الفتوى .إذ ُاسئ استعماله الى حد
لم يعد فيه نفعٌ واحد ال ّ بين مئةٍ من المفاسد .ولهذا ل
ُتبنى الحكام على المصلحة.
مثال ذلك :ان سبب قصر الصلة في السفر هو المشقة،
ولكن ل تكون المشقة علة القصر .اذ ليس لها حد ّ معين،
فقد ُيساء استعمالها ،لذا لتكون العلة ال ّ السفر .فكذلك
المصلحة ل يمكن ان تكون عّلة للكذب لنه ليس للكذب
حد ّ معين ،وهو مستنقع ملئم لسوء الستعمال ،فل يناط
به الحكم .وعلى هذا فالطريق اثنان لثالث له" :اما
الصدق واما السكوت" وليس الصدق او الكذب او
السكوت قطعًا.
ثم ان انعدام المن والستقرار في الوقت الحاضر
بالكذب الرهيب الذي تقترفه البشرية وبتزييفها
وافتراءاتها ،ما هو إل ّ نتيجة كذبها وسوء استعمالها
للمصلحة ،فل مناص للبشرية إل ّ سد ّ ذلك الطريق الثالث،
وإل ّ فان ما حدث خلل نصف هذا القرن من حروب
عالمية وانقلبات رهيبة ودمار فظيع قد يؤدي الى أن تقوم
قيامة على البشرية.
أجل! عليك ان تصدق في كل ما تتكلمه ولكن ليس صوابا ً
دى الصدق احيانا ً الى ضرر
ان تقول كل صدق ،فاذا ما ا ّ
فينبغي السكوت .اما الكذب فليسمح له قطعًا.
عليك ان تقول الحق في كل ما تقول ولكن ل يحق لك أن
تقول كل حق ،لنه ان لم يكن الحق خالصا ً فقد يؤثر
تأثيرا ً سيئًا ،فتضع الحق في غير محله.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص509 :
الكلمة الرابعة
"المـحـبــة"
ان مما تعلمته من الحياة الجتماعية البشرية طوال
ي التتبعات والتحقيقات هو:
حياتي ،وما أمَلته عل ّ
ان اجدر شئ بالمحبة هو المحبة نفسها .واجدر صفة
بالخصومة هي الخصومة نفسها .أي ان صفة المحبة التي
هي ضمان الحياة الجتماعية البشرية والتي تدفع الى
تحقق السعادة هي أليق للمحبة ،وان صفة العدواة
والبغضاء التي هي عامل تدمير الحياة الجتماعية وهدمها
هي اقبح صفة واضرها واجدر أن ُتتجنب وُتنَفر منها .ولما
كنا قد اوضحنا هذه الحقيقة في المكتوب الثاني
والعشرين )رسالة الخوة( نشير اليها هنا اشارة مقتضبة:
لقد انتهى عهد العداوة والخصام .ولقد اظهرت الحربان
العالميتان مدى ما في روح العداوة من ظلم فظيع ودمار
مريع .وتبين ان ل فائدة منها البتة .وعليه فل ينبغي ان
تجلب سيئات اعدائنا -بشرط عدم التجاوز -عداوتنا،
فحسبهم العذاب اللهي ونار جهّنم.
ان غرور النسان وحّبه لنفسه قد يقودانه احيانا ً الى عداء
اخوانه المؤمنين ظلما ً ومن دون شعور منه فيظن المرء
نفسه محقًا .مع ان مثل هذه العداوة تعد ّ استخفافا ً
بالوشائج والسباب التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض -
كاليمان والسلم والنسانية -وحطا ً من شأنها .وهي
جح اسبابا ً تافهة للعداوة
اشبه ما يكون بحماقة من ير ّ
كالحصيات على اسباب بجسامة الجبال الراسيات للود ّ
والمحبة.
فما دامت المحبة مضادة للعداوة ومنافية لها فل تجتمعان
قطعا ً كما ل تجتمع الظلمة والنور ،فالذي تتغلب اسباُبه
على الخر هو الذي يجد موضعه في القلب بحقيقته .اما
ضده فل يكون بحقيقته.
فمث ً
ل :اذا وجدت المحبة بحقيقتها في القلب فان العداوة
تنقلب حينئذ الى الرأفة والشفقة .فهذا هو الوضع تجاه
اهل اليمان .اما اذا وجدت العداوة بحقيقتها في
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص510 :
القلب ،فان المحبة تنقلب عندها الى المداراة والمماشاة
والصداقة الظاهرية .فهذا انما يكون مع ارباب الضلل غير
المتجاوزين.
أجل! ان اسباب المحبة هي اليمان والسلم والنسانية
وامثالها من السلسل النورانية المتينة والحصون المعنوية
المنيعة .أما اسباب العداوة والبغضاء تجاه المؤمن فانما
هي امور خاصة تافهة تفاهة الحصيات .لذا فان اضمار
العداء لمسلم اضمارا ً حقيقيًا ،انما هو خطأ جسيم لنه
استخفاف باسباب المحبة التي هي اشبه بالجبال.
نحصل مما سبق:
ان الود والمحبة والخوة هي من طباع السلم وروابطه.
والذي يحمل في قلبه العداء فهو أشبه ما يكون بطفل
فاسد المزاج يروم البكاء بادنى مبرر للبكاء ،وقد يكون ما
هو اصغر من جناح ذبابة كافيا ً لدفعه الى البكاء .أو هو
أشبه ما يكون برجل متشائم ل يحسن الظن بشئ ما دام
ت للمرء بسيئة
سوء الظن ممكنًا .فيحجب عشر حسنا ٍ
ف كليا ً للخلق السلمي
واحدة .ومن المعلوم ان هذا منا ٍ
القاضي بالنصاف وحسن الظن.
الكلمة الخامسة
"تضاعف السيئات والحسنات"
ان الدرس الذي تعلمته من الشورى الشرعية هو :أن
سيئة امرئ واحدٍ في هذا الزمان ،ل تبقى على حالها
سيئة واحدة ،وانما قد تكبر وتسري حتى تصبح مائة سيئة.
كما ان حسنة واحدة ايضا ً ل تبقى على حالها حسنة
واحدة بل قد تتضاعف الى اللف .وحكمة هذا وسره هو:
ان الحرية الشرعية والشورى المشروعة قد أظهرتا
سيادة امتنا الحقيقية .اذ إن حجر الساس في بناء امتنا
وقوام روحها انما هو السلم ،وان الخلفة العثمانية
والجيش التركي من حيث كونهما حاملين لراية تلك المة
دفة والقلعة للمة ،وان العرب
ص َ
السلمية فهما بمثابة ال َ
والترك هما الخوان الحقيقّيان وسيظلن حارسين امينين
دفة المتينة.
ص َ
لتلك القلعة المنيعة ،وال َ
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص511 :
وهكذا فبفضل هذه الرابطة المقدسة التي تشد المة
ة كعشيرة
السلمية بعضها ببعض يصبح المسلمون كاف ً
واحدة .فترتبط طوائف السلم برباط الخوة السلمية
كما يرتبط افراد العشيرة الواحدة ويمد بعضهم بعضا ً
معنوي ًّا ،واذا اقتضى المر فماديًا ،وكأن الطوائف السلمية
تنتظم جميعها كحلقات سلسلة نورانية .فكما اذا ارتكب
فرد في عشيرة ما جريمة فان عشيرته بأسرها تكون
مسؤولة ومّتهمة في نظر العشيرة الخرى وكأن كل فرد
من تلك العشيرة هو الذي قد ارتكب الجريمة ،فتلك
الجريمة قد اصبحت بمثابة اللوف منها ،كذلك اذا قام احد
افراد تلك العشيرة بحسنةٍ واحدة افتخر بها سائر أفراد
العشيرة وكأن كل فرد منها هو الذي كسب تلك الحسنة.
فلجل هذه الحقيقة فان في زماننا هذا ولسيما بعد
اربعين او خمسين سنة ليس المسئ هو وحده المسؤول
عن سيئته ،بل تتضرر المة السلمية بمليينها بتلك
السيئة .وستظهر امثلة هذه الحقيقة بكثرة بعد اربعين او
خمسين سنة.
يا اخواني المستمعين الى اقوالي في هذا الجامع الموي.
ويا ايها الخوان المسلمون في جامع العالم السلمي بعد
اربعين او خمسين عامًا!
ن احدكم بالقول" :اننا لنضّر احدا ً ولكننا لنستطيع
ليعتذر ّ
ان ننفع احدا ً أيضًا .فنحن معذورون اذن" .فعذركم هذا
مرفوض ،اذ ان تكاسلكم وعدم مبالتكم وتقاعسكم عن
العمل لتحقيق التحاد السلمي والوحدة الحقيقية للمة
السلمية ،انما هو ضرر بالغ وظلم فاضح.
وهكذا فكما ان سيئة واحدة تتضاعف الى اللوف فان
حسنة واحدة في زماننا هذا -واعني بالحسنة هنا ما
يتعلق بقدسية السلم -لتقتصر فائدتها على فاعلها
وحده بل يمكن ان تتعداه ليعم نفعها -معنويا ً -مليين
المسلمين ويشد ّ من حياتهم المادية والمعنوية.
وعليه فان هذا الزمان ليس زمان النطراح على فراش
الكسل والخلود الى الراحة وعدم المبالة بالمسلمين
بترديد":انا مالي".
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص512 :
يا اخوتي في هذا الجامع ويا اخواني في مسجد العالم
السلمي الكبير بعد اربعين او خمسين عامًا!
ل يذهب بكم الظن انني صعدت هذا المنبر لرشدكم
وانصحكم .بل ما صعدته إل ّ لذكر حقنا عليكم واطالبكم
به ،اذ إن مصالح الطوائف الصغيرة وسعادتها الدنيوية
والخروية ترتبط بامثالكم من الطوائف الكبيرة العظيمة،
والحكام والساتذة من العرب والترك .فان تكاسلكم
وتخاذلكم يضران باخوانكم من الطوائف الصغيرة من
امثالنا ايما ضرر .وانني اوجه كلمي هذا بوجه خاص اليكم
يامعشر العرب العظماء الماجد ،ويا من أخذتم من
التيقظ حظا ً او ستتيقظون تيقظا ً تاما ً في المستقبل؛
لنكم اساتذتنا واساتذة جميع الطوائف السلمية وائمتها،
فانتم مجاهدو السلم الوائل ،ثم جاءت المة التركية
العظيمة لتمد ّ وظيفتكم المقدسة تلك اّيما امداد .لذا فان
ذنبكم عظيم بالتكاسل والتقاعس ،كما ان حسناتكم جليلة
وسامية أيضًا .ول سيما نحن على أمل عظيم برحمة الله
انه بعد مرور اربعين أو خمسين عاما ً تتحدون فيما بينكم -
كما اتحدت الجماهير المريكية -وتتبوأون مكانتكم
السامية وتوّفقون باذن الله الى انقاذ السيادة السلمية
المأسورة وتقيمونها كالسابق في نصف الكرة الرضية بل
في معظمها .فان لم تقم القيامة فجأة فسيرى الجيل
المقبل هذا المل.
فيا اخوتي الكرام!
ارجو ان ل يذهب بكم الظن بأنني بكلمي هذا استنهض
هممكم للشتغال بالسياسة -حاش لله -فان حقيقة
السلم اسمى من كل سياسة بل جميع اصناف السياسة
واشكالها يمكن ان تسير في ركاب السلم وتخدمه
وتعمل له ،وليس لية سياسة كانت ان تستغل السلم
لتحقيق اغراضها.
فانا بفهمي القاصر أتصور المجتمع السلمي ككل -في
زماننا هذا -اشبه ما يكون بمصنع ذي تروس وآلت
عديدة .فاذا ما تعطل ترس من ذلك المصنع أو تجاوز
على رفيقه الترس الخر فسيختل حتما ً نظام المصنع
الميكانيكي .لذا فقد آن أوان التحاد السلمي وهو على
وشك التحقق .فينبغي ان تصرفوا النظر عن تقصيراتكم
الشخصية ،وليتجاوز ك ٌ
ل عن الخر.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص513 :
وهنا انّبه ببالغ السى والسف الى أن قسما ً من الجانب
س دارهم
كما سلبوا اموالنا الثمينة واوطاننا ،بثمن بخ ٍ
معدودة مزّورة ،كذلك فقد سلبوا منا قسما ً من اخلقنا
الرفيعة وسجايانا الحميدة والتي بها يترابط مجتمعنا،
وجعلوا تلك الخصال الحميدة محورا ً لرقيهم وتقدمهم،
ودفعوا الينا نظير ذلك رذائل طباعهم وسفاهة اخلقهم.
فمث ً
ل :ان السجية المّلية التي اخذوها منا هي قول واحدٍ
منهم:
ت انا فلتحيا امتي ،فان لي فيها حياة باقية" هذه
"إن م ّ
السجية أقوى اساس وأمتنه لرقيهم وتقدمهم ،قد
سرقوها منا؛ إذ هذه الكلمة انما تنبع من الدين الحق ومن
حقائق اليمان ،فهي لنا وللمؤمنين جميعًا ،بينما دخلت
فينا اخلق رذيلة وسجايا فاسدة ،فترى ذلك الناني الذي
ت ظمآنا ً فل نزل القطر" و"ان لم اَر
فينا يقول" :اذا م ّ
السعادة فعلى الدنيا العفاء!" فهذه الكلمة الحمقاء انما
تنبع من عدم وجود الدين ومن عدم معرفة الخرة ،فهي
ممنا .ثم ان تلك السجية الغالية عندما
دخيلة علينا تس ّ
سرت الى الجانب اكسبت كل فرد منهم قـيمة عظيمـة
مته ،فمن
حتى كأنه أمـة وحـده؛ لن قيمـة الشخص به ّ
كانت همته امته فهـو بحد ذاته امة صغيرة قائمة.
وبسبب عدم تيقظ أناس منا ،وبحكم اخذنا الخلق
من يقول " :نفسي
الفاسدة من الجانب فان هناك َ
نفسي" مع ما في امتنا السلمية من سمو وقدسية.
فألف رجل مثل هذا الشخص الذي ل يفكر ال ّ بمصلحته
الشخصية ول يبالي بمصلحة المة ،انما ينزل بمنزلة
شخص واحد.
سه فليس من النسان لنه مدني
من كانت همُته نف َ
] َ
بالطبع[ فهو مضطر لن يراعي ابناء جنسه ،فان حياته
الشخصية يمكن ان تستمر بحياته الجتماعية .فمث ً
ل:
ان الذي يأكل رغيفا ً عليه ان يف ّ
كر كم يحتاج الى اليدي
التي تحضر له ذلك الرغيف .فهو يقّبل تلك اليدي معنى.
وكذا الثوب الذي يلبسه ،كم من اليدي واللت والجهزة
تضافرت لتهيئته وتجهيزه .وقيسوا على منوال هذين
المثالين لتعلموا ان النسان مفطور على الرتباط بابناء
جنسه من الناس لعدم تمكنه من العيش بمفرده وهو
مضطر الى ان يعطي لهم ثمنا ً معنويا ً لدفع احتياجاته ،لذا
فهو مدني فطرة .فالذي يحصر نظره في منافعه
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص514 :
الشخصية وحدها انما ينسلخ من النسانية ويصبح حيوانا ً
مفترسًا ،اللهم إل ّ من لحيلة له ،وله معذرة حقيقية.
الكلمة السادسة
"الشــورى"
ان مفتاح سعادة المسلمين في حياتهم الجتماعية انما هو
"الشورى" فالية الكريمـة تأمرنا باتخاذ الشورى في جميع
امورنا،اذ يقول سبحانه) :وأمُرهـم شورى بينهم(
)الشورى.(38 :
اجل فكما أن تلحق الفكار بين ابناء الجنس البشري انما
هو شورى على مر العصور بوساطة التاريخ ،حتى غدا
مدار رقي البشرية واساس علومها ،فان سبب تخلف
القارة الكبرى التي هي آسيا عن ركب الحضارة انما هو
لعدم قيامها بتلك الشورى الحقيقية.
ان مفتاح قارة آسيا وكشاف مستقبلها انما هو الشورى،
أي :كما ان الفراد يتشاورون فيما بينهم ،كذلك ينبغي ان
تسلك الطوائف والقاليم المسلك نفسه فتتشاور فيما
بينها .ان فك انواع القيود التي كّبلت ثلثمائة بل اربعمائة
مليون مسلم ،ورفع انواع الستبداد عنهم انما يكون
بالشورى والحرية الشرعية النابعة من الشهامة السلمية
والشفقة اليمانية ،تلك الحرية الشرعية التي تتزين
بالداب الشرعية وتنبذ سيئات المدنية الغربية.
ان الحرية الشرعية النابعة من اليمان انما تأمر
باساسين:
م" ولي ََتذّلل ..من كان عبدا ً لله ل
] -1ان ل ي ُذ َّلل"المسل ُ
يكون عبدا ً للعباد[.
] -2ان ليجعل بعض ُ
كم بعضا ً اربابا ً من دون الله[ .اذ من ل
يعرف الله حق معرفته يتوهم نوعا ً من الربوبية لكل شئ،
في كل حسب نسبته فيسّلطه على نفسه.
ل من
]نعم ان الحرية الشرعية عطية الرحمن[ وتج ٍ
صة من خصائص
تجليات الخالق الرحمن الرحيم ،وهي خا ّ
اليمان.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص515 :
و
فليحيا الصد ُ
ق ،ول عاش اليأ ُ
س ،فلتدم المحبة ولتْق َ
الشورى ،والملم على من اتبع الهوى والسلم على من
اتبع الهدى..آمين.
واذا قيل:
م تهتم بالشورى الى هذا الحد ،وكيف يمكن أن تتقدم
لِ َ
البشرية عامة وآسيا والسلم بوجه خاص بتلك الشورى؟
الجواب:
فكما اوضحت لمعة "الخلص" وهي اللمعة الحادية
والعشرون :ان الشورى الحق توّلد الخلص والتساند ،اذ
إن ثلث ألفات هكذا ) (111تصبح مائة واحدى عشرة،
فانه بالخلص والتساند الحقيقي يستطيع ثلثة اشخاص
ان يفيدوا امتهم فائدة مائة شخص .ويخبرنا التاريخ
بحوادث كثيرة أن عشرة رجال يمكنهم أن يقوموا بما
يقوم به ألف شخص بالخلص والتساند الحقيقي
والشورى فيما بينهم.
فما دامت احتياجات البشر لحد لها واعداؤه دون حصر،
وقوته ورأس ماله جزئيان محدودان جدًا .ولسيما بعد
ازدياد المخّربين والمتوحشين نتيجة تف ّ
شي اللحاد ..فلبد
أن يكون أمام اولئك العداء غير المحدودين والحاجات
التي ل تحصر نقطة استناد تنبع من اليمان ،فكما تستند
حياته الشخصية الى تلك النقطة فان حياته الجتماعية
ايضا ً انما تستطيع ان تدوم وتقاوم بالشورى الشرعية
النابعة من حقائق اليمان ،فتقف اولئك العداء الشرسين
دهم وتلبي تلك الحتياجات.
عند ح ّ
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص516 :
الذيل الول
تشخيص العّلة
ة معنوية لتثلم نابعة من اليمان،
هذا الذيل يبين بطول ً
ضمن تمثيل لطيف جدا ً نذكر خلصته لمناسبة ما ذكرناه
من مسائل.
لقد رافقت ايضا ً السلطان رشاد 1في سياحته الى "روم
ايلي" ممثل ً عن الوليات الشرقية ،وذلك في بداية عهد
الحرية .2
كان في قطارنا معلمان اثنان ،قد تلقيا العلوم في
المدارس الحديثة ،فجرت بيننا مباحثة ،اذ سألنني:
اّيما اقوى وأولى باللتزام :الحمية الدينية أم الملية؟قلت لهم -وقتئذٍ :-
نحن معاشر المسلمين ،الدين والملية عندنا متحدانبالذات ،والختلف إعتباري ،أي ظاهري ،عرضي ،بل
الدين هو حياة الملية وروحها .فاذا ماُنظر اليهما بأنهما
مختلفان ومتباينان ،فان الحمية الدينية تشمل العوام
والخواص بينما الحمية الملية تنحصر في واحد بالمئة من
الناس ،ممن يضحي بمنفعته الشخصية لجل المة.
وعليه فلبد أن تكون الحمية الدينية اساسا ً في الحقوق
العامة ،وتكون الملية خادمة منقادة لها وساندة حصينة
لها.
فنحن الشرقيين لنشبه الغربيين ،اذ المهيمن على قلوبنا
ن بعث النبياء في الشرق يشير به
الشعور الديني؛ فإ ّ
القدُر اللهي الى أن الشعور الديني وحده هو الذي
_____________________
1هو السلطان محمد الخامس الملقب بالسلطان رشاد
توّلى السلطنة بعد عزل اخيه السلطان عبد الحميد الثاني
سنة 1909م .المترجم.
2الصطلح الذي اطلقه التحاديون على عهدهم .المترجم
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص517 :
يستنهض الشرق ويسوقه الى التقدم والرقي ،والعصر
السعيد -وهو خير القرون والذي يليه -خير برهان على
هذا.
فيا زملئي في هذه المدرسة السيارة ،أعني القطار ،ويا
من تسألون عن التفاضل بين الحمية الدينية والملية،
وياايها الدارسون في المدارس الحديثة .اني اقول لكم
جميعًا:
ان الحمية الدينية والملية السلمية قد امتزجتا في الترك
والعرب مزجا ً ل يمكن فصلهما ،وان الحمية السلمية هي
أقوى وأمتن حبل نوارني نازل من العرش العظم ،فهي
العروة الوثقى ل انفصام لها ،وهي القلعة الحصينة التي ل
تهدم.
قال ذلك المعلمان:
ما دليلك؟ يلزم لمثل هذه الدعوى الكبيرة حجة عظيمة
ودليل قوي .فما الدليل؟.
وفي هذه الثناء خرج قطارنا من النفق ،فأخرجنا رؤوسنا
من النوافذ نتطلع الى الخارج ،رأينا صبيا ً ليتجاوز
السادسة من العمر واقفا ً بجانب سكة الحديد.
ي:
قلت لصاحب ّ
ان هذا الصبي يجيبنا عن سؤالنا بلسان حاله ،فليكناستاذنا بدل ً مني في مدرستنا السيارة هذه.
اذ لسان حاله يقول هذه الحقيقة:
انظروا الى دابة الرض هذه ،والى ضجيجها وصيحتها،
وانطلقها من النفق ،وتأملوا في ذلك الطفل الوديع
الواقف على مقربة منها ،فعلى الرغم من تهديد هذه
الدابة وهجومها وانقضاضها على كل من يقترب منها حتى
كأنها تقول :يا ويل من يصادفني ويقف امامي ..على
الرغم من هذا فان ذلك الصبي البرئ واقف ليحرك
ساكنا ً بالقرب منها ،وهو في كمال الطمئنان والحرية،
ة فائقة وجرأة خارقة،
وليكترث لتهديدها ،مبديا ً بطول ً
وكأنه يستخف بهجومها ،فهو يقول بلسان ثباته وبطولته
في سن الصبا هذا:
أيها القطار انك ل تخيفني بصوتك الصاخب الذي يشقعنان السماء ..أيها القطار انك أسير نظام ،فخطامك في
دك ول يمكنك ان
يد قائدك ،ل طاقة لك أن تتجاوز ح ّ
تتح ّ
ض في سيرك
كم ف ّ
ي ،فهيا انطلق في طريقك وام ِ
بإذن قائدك.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص518 :
ي في القطار ،ويا اخوتي الباحثين في العلوم
فيا صاحب ّ
بعد خمسين عامًا!
افرضوا خيال ً ان رستم الفارسي وهرقل اليوناني ،واقفان
موقف الصبي هذا ،واذ هما ل علم لهما بالقطار ،فل
يعتقدان بانه يسير وفق نظام معين ،فاذا ماخرج عليهما
من النفق المظلم وفي رأسه النار ذات الوقود وفي
انفاسه هدير السماء ،وفي عيونه بروق المصابيح ،وهو
ض عليهما ..تصوروا هذه
يهدد ويزمجر وكأنه يريد أن ينق ّ
دروا مدى الخوف والهلع الذي يعتريهما ،وكيف
الحالة ثم ق ّ
انهما يفّران من القطار مع ما يملكانه من جرأة وشجاعة
وروا كيف ان حريتهما وجسارتهما تضمحلن
نادرة .وتص ّ
امام تهديد دابة الرض هذه حتى ل يجدان بدا ً منها إل ّ
الفرار ..كل ذلك لنهما ل يعتقدان بوجود قائد يقود ذلك
القطار ،ول يؤمنان بوجود نظام يسير على وفقه ،بل
ليظنان أنها داّبة مطيعة منقادة ليس إ ّ
ل ،وانما يتخيلنها
أسدا ً هصورا ً ووحشا ً كاسرا ً جسيما ً تنتظم وراءه ُاسود
كثيرة ووحوش عديدة.
يا اخوتي! ويا زملئي الذين يسمعون هذا الكلم بعد
خمسين عامًا!
ان الذي منح هذا الصبي تلك الجسارة والحرية اكثر من
ذينك البطلين ووهب له اطمئنانا ً وسكينة يفوقهما بكثير
هو :ان في قلب ذلك الصبي نواة حقيقة ،وهي :ايمانه
واطمئنانه بأن ذلك القطار يسير وفق نظام ،واعتقاده بأن
زمامه بيد قائد يقوده بأمره ولجله.
وأما الذي أرهب ذينك البطلين المشهورين وأسر
وجدانهما ،فهو عدم معرفتهما بقائد ذلك القطار وعدم
اعتقادهما بنظامه ،أي جهلهما بالعقيدة وخلوهما منها.
فمثل هذه البطولة النابعة من ايمان ذلك الصبي الوديع
سخت طوال ألف سنة في قلوب عشائر من
قد تر ّ
طوائف السلم )وهم الترك ومن تشّبهوا بهم( عقيدةً
وايمانًا ،فوهبهم ذلك اليمان بطولة فائقة استطاعوا بها
ان يغزوا دول ً تفوقهم مئة ضعف وان يثبتوا امامها،
فنشروا كمالت السلم في ارجاء العالم ..في آسيا
وأفريقيا ونصف اوروبا ،واستقبلوا الموت بسرور بالغ
قائلين :إن قُِتلت فأنا شهيد وان قََتلت عدوا ً فانا مجاهد.
بل ثبتوا -باليمان -امام كل ما اتخذ موقف عداٍء تجاه
استعدادات النسان وقواه ابتداًء من الميكروبات الى
المذنبات التي في السماء ،وكأن كل ً منها قطار رهيب،
فلم يكترثوا بتهديداتها.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص519 :
وانما حازت جميع قبائل السلم وفي مقدمتها طوائف
الترك والعرب نوعا ً من السعادة الدنيوية بتسليمهم المر
الى الله والرضى بقضائه وقدره ورؤية الحكمة وتلقي
دروس العبرة من الحوادث بدل ً من الرهبة والهلع منها.
فاظهار هؤلء المسلمين ،بطولة معنوية فوق المعتاد -
كما يظهره ذلك الصبي -يدّلنا :ان امة السلم مثلما تفوز
في الخرة فلهم في الدنيا ايضا ً السيادة مستقب ً
ل.
ان الذي اّدى الى ان يدخل في روع ذينك البطلين الخوف
والفرار والقلق انما هو حرمانهما من اليمان والعقيدة
وجهلهما وضللهما .فلقد اثبتت "رسائل النور" بمئات
الحجج القاطعة تلك الحقيقة التي ذكرت بضعة امثلة منها
في مقدمة هذه الرسالة ايضًا ،تلك هي:
ان الكفر والضلل يريان الكون لهلهما أّنه ملئ بآلف
العداء المخيفين ،بل هو سلسلة من طوائف تعادي
النسان ،ابتداًء من المنظومة الشمسية وانتهاء الى
ميكروبات التدرن الرئوي ،كلها تعادي هذا النسان
المسكين بايدي القوى العمياء والمصادفة العشواء
والطبيعة الصماء .حتى تجعله في رعب دائم وألم مقيم
وهلع ملزم واضطراب مستمر مع ما يحمل هذا النسان
من ماهية جامعة واستعداد كلي وحاجات ل نهاية لها
ورغبات ل منتهى لها .بل يجعله الكفر والضلل في حالة
من عذاب جهنم في الدنيا وكأنه يتجرع الزقوم ول يكاد
يسيغه .فل تجديه آلف الفنون والعلوم -الخارجة عن
الدين واليمان -ول التقدم البشري -مثلما لم تجدِ بطولة
ذينك البطلين المشهورين -بل تجري في دمه السفاهة
واللهو لتع ّ
طل حواسه فل يشعر باللم مؤقتًا.
فكما ان المقايسة بين اليمان والكفر ُتفضي في الخرة
الى الجنة والنار ،فان اليمان في الدنيا ايضا ً يحقق نوعا ً
من الجنة المعنوية ويجعل المرء يرى الموت نوعا ً من
التسريح من الوظيفة ،بينما الكفر يجعله في الدنيا ايضا ً
في جحيم معنوي سالبا ً منه السعادة إذ يريه الموت
اعداما ً ابديًا .كما اثبتنا ذلك في "رسائل النور" اثباتا ً بدرجة
الشهود والقطعية التامة .فنحيل القارئ الكريم الى تلك
الرسائل.
فإن شئتم أيها الخوان ان تروا حقيقة هذا المثال ،فارفعوا
رؤوسكم وانظروا الى هذا الكون! كم ترون لله في
الفضاء من كرات النجوم واجرام العوالم وسلسل
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص520 :
الحادثات والوقائع المتسلسلة أمثال القطار والمنطاد
والسيارات اللهية فكأنها سفائن برية وفلك بحرية
وطائرات هوائية خلقتها يد القدرة اللهية بنظام وحكمة.
فكما ان للقدرة اللهية في عالم الشهادة وفي عالمنا
المادي امثال هذه ،فان لها في عالم الرواح والمعنويات
من يملك عق ً
دق بها ك ُ
ل ،بل
نظائر متسلسلة أعجب ،يص ّ
ل َ
يرى اغلَبها ك ّ
من يملك بصيرة.
ل َ
فهذه المور المتسلسلة المترابطة في الكون سواٌء منها
حرموا من
المادية أو المعنوية تهاجم أهل الضلل الذين ُ
اليمان وتهددهم وترهبهم وتح ّ
طم قواهم المعنوية ،بينما
لتخيف اهل اليمان ول تهددهم بشئ بل تبعث فيهم
السرور والسعادة والنس والمل والقوة ،وذلك لنهم
يرون الوجود بنور اليمان ،وتلك الحوادث المتسلسلة،
وتلك القاطرات المادية والمعنوية والعوالم السيارة ،انما
تساق الى وظيفة معينة محددة من قبل صانع حكيم
لتؤديها ضمن نظام وحكمة من دون اختلط ول تجاوز
قط.
ن :أن كل شئ ينال قبسا ً من تجليات
فُيري اليمان المؤم َ
جمال الله واتقان صنعته سبحانه ،ويمنحه قوة معنوية
عظيمة بما يفتح له من نماذج للسعادة البدية.
وهكذا فان ما يعانيه اهل الضلل من اللم الرهيبة
الناشئة من فقدان اليمان ،وما يلزمهم من خوف ورعب
شديدين ،تقف ازاءه جميع انواع الرقي البشري عاجزة
لتمنح له سلوانا ً ول عزاًء ،بل ل يمكنها ان تضمن له قوة
معنوية ،فتتحطم الجرأة والقدام ..إل ّ ما تخدعه الغفلة
من إسدال ستار النسيان عليها.
أما أهل اليمان فل ترهبهم تلك الحادثات ول تأخذ من
معنوياتهم؛ وذلك بفضل اليمان -بمثل ذلك الصبي -بل
تزيد معنوياتهم صلبة ،اذ ينظرون اليها -أي الى الحوادث -
من خلل حقيقة ايمانهم فيشاهدون ارادة الصانع الحكيم
وادارته وتدبيره اياها ضمن حكمته الواسعة .فيتحررون
من المخاوف والوهام ،اذ يعلمون أنه :لول امُر الصانع
الحكيم وإذنه لما استطاعت هذه العوالم السيارة الحركة
قط .فينالون بهذا اطمئنانا ً يسعدهم في الدنيا كذلك ،كل
حسب درجته.
ومن لم يكن في قلبه ووجدانه بذرة هذه الحقيقة النابعة
من اليمان والدين الحق ،ولم يستند الى ركيزة ،فمثله
كمثل ذينك البطلين المشهورين ،اذ تنهار قواه المعنوية
بمثل تحطم جسارتهما وبطولتهما .ويكون أسير حادثات
سخ وجدانـه ويصبح كالمتسول الذليـل بإزاء
الكائنات فيتف ّ
كل حادثة.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص521 :
نكتفي بهذا القدر لبيان هذه الحقيقة الواسعة حيث بيّنت
ن في
"رسائل النور" بحججها الدامغة ان هذا السر كام ٌ
اليمان بينما الضللة تحمل شقاًء وتعاسة في الدنيا ايضًا.
س في هذا العصر بحاجته الماسة الى
ان النسان الذي أح ّ
قوة معنوية وصلبة وثبات والى عزاء وسلوان ،قد ترك
حقائق اليمان التي هي اعظم ركيزة استناد له والتي
تضمن له القوة المعنوية والسلوان والسعادة ،واستهواه
التغرب فاستند الى الضللة والسفه ،فبدل ً من أن يستفيد
من الملية السلمية اخذ يحطم القوة المعنوية تحطيما ً
كام ً
ل ،فازال عنه السلوان واوهن صلبته بانسياقه وراء
الضلل والسفه والسياسة الكاذبة .أل ترى أن هذا بعد ٌ
شاسع عن مصالح النسان ومنافعه؟ أل ان النسانية
ستدرك يوما ً -إن بقي لها من العمر بقية -حقيقة
القرآن ،وستعتصم به ،وفي مقدمتها المسلمون.
***
لقد سأل قسم من النواب المتدينين سعيدا ً القديم اوائل
عهد الحرية:
انك تجعل السياسة تابعة للدين في كل شئ ،بل تجعلهاوسيلة منقادة للشريعة ،ول تقبل الحرية ال ّ على اساس
الوجه المشروع ،بمعنى انك ل تعترف بالحرية
والمشروطية بدون الشريعة ،ولجل هذا جعلوك في
صفوف المطالبين بتطبيق الشريعة في حادثة )(31
مارت.
فأجابهم سعيد القديم بالتي:
أجل! انه ل سعادة لمة السلم إل ّ بتحقيق حقائق
السلم ،وإل ّ فل ،ول يمكن ان تذوق المة السعادة في
الدنيا او تعيش حياة اجتماعية فاضلة إل ّ بتطبيق الشريعة
السلمية ،وإل ّ فل عدالة قطعًا ،ول أمان مطلقًا .اذ تتغلب
عندئذ ٍ الخلق الفاسدة والصفات الذميمة ،ويبقى المر
معلقا ً بيد الكذابين والمرائين.
سأعرض لكم ما يثبت هذه الحقيقة في حكاية اوردها
نموذجا ً مصغرا ً من بين آلف الحجج.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص522 :
سافر شخص الى قوم من البدو في صحراء .فنزل ضيفا ً
عند رجل فاضل ..لحظ انهم ل يهتمون بحرز اموالهم.
وقد ألقى صاحب المنزل نقوده في زوايا البيت مكشوفة
دون تحّفظ .قال الضيف لصاحب المنزل:
ال تخافون من السرقة؟ تلقون اموالكم هكذا في الزوايادون تحرز؟
اجابه:
ل تقع السرقة فينا! اننا نضع نقودنا في صناديق حديد مقفلة ،ومع ذلك كثيرا ًما تقع فينا السرقة.
اننا نقطع يد السارق كما أمر به الله تعالى وعلى وفقما تتطلبه عدالة الشريعة.
-فاذا ً كثيرون منكم قد حرموا من احدى ايديهم!
ما رأيت ال ّ قطع يد واحدة ،وقد بلغت الخمسين منالعمر.
ان في بلدنا يسجن يوميا ً مايقارب الخمسين من الناسبسبب السرقة ،ومع ذلك ل يردعهم ذلك إل ّ بواحد من
ألف مما تردعه عدالتكم!
لقد اهملتم حقيقة عظيمة وغفلتم عن سّر عجيبعريق ،لذا تحرمون من حقيقة العدالة؛ اذ بدل ً من
المصلحة النسانية تتدخل فيكم الغراض الشخصية
والمحسوبيات والتحيز وما الى ذلك من المور التي تغّير
طبيعة الحكام وتحّرفها.
وحكمة تلك الحقيقة هي:
ان السارق فينا في اللحظة التي يمد يده للسرقة يتذكر
اجراء الحد ّ الشرعي عليه ،ويخطر بباله انه أمر الهي نازل
من العرش العظم ،فكأنه يسمع بخاصية اليمان بأذن
ة بالكلم الزلي الذي يقول) :والسارق
قلبه ويشعر حقيق ً
والسارقة فاقطعوا ايديهما( )المائدة (38 :فيهيج عنده ما
يحمله من ايمان وعقيدة ،وتثار مشاعره النبيلة ،فتحصل
له حالة روحية اشبه ما يكون بهجوم ُيشن من اطراف
الوجدان واعماقه على ميل السرقة ،فيتشتت ذلك الميل
الناشئ من النفس المارة بالسوء والهوى ،وينسحب
وينكمش ،وهكذا بتوالي التذكير هذا يزول ذلك الميل الى
السرقة ،اذ الذي يهاجم ذلك الميل ليس الوهم والفكر
وحدهما وانما قوى معنوية من عقل وقلب ووجدان ،كلها
تهاجم دفعة واحدة ذلك الميل والهوى فبتذكر الحد
الشرعي يقف تجاه ذلك الميل زجٌر سماوي ورادع
وجداني فيسكتانه.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص523 :
اجل! ان اليمان يقيم دائما ً في القلب والعقل حارسا ً
معنويا ً امينًا ،لذا كلما صدرت ميول فاسدة عن تطلعات
النفس والنوازع والحاسيس المادية قال لها ذلك الحارس
الرادع :محظور ..ممنوع ..فيطردها ويهزمها.
ان افعال النسان انما تصدر عن تمايلت القلب
والمشاعر وهي تنبعث من شدة تحسس الروح وحاجتها،
والروح انما تهتز بنور اليمان ،فان كان خيرا ً يفعله
النسان ،وإل ّ يحاول النسحاب ،وعندئذٍ ل تغلبه النوازع
والحاسيس المادية التي ل ترى العقبى!
الحاصل:
ان "الحد" أو "العقاب" عندما يقام امتثال ً للمر اللهي
والعدل الرباني فان الروح والعقل والوجدان واللطائف
المندرجة في ماهية النسان تتأثر به وترتبط به ،فلجل
هذا المعنى افادتنا اقامة حد واحد طوال خمسين سنة
اكثر من سجنكم في كل يوم! ذلك لن عقوباتكم التي
تجرونها باسم العدالة ليبلغ تأثيرها إل ّ في وهمكم
رد الى خياله
وخيالكم ،اذ عندما يقوم احدكم بالسرقة ي َ ِ
العقاب الذي ما وضع إل ّ لجل مصلحة المة والبلد ويقول
ي نظرة
ان الناس لو عرفوا باني سارق فسينظرون ال ّ
جني الحكومة
دي ربما تز ّ
ازدراء وعتاب ،واذا تبين المر ض ّ
في السجن ..وعند ذلك لتتأثُر ال ّ قوته الواهمة تأثرا ً
جزئيًا ،بينما يتغلب عليه الميل الشديد الى السرقة والنابع
من النفس المارة والحاسيس المادية -لسيما ان كان
محتاجا ً -فل ينفعه عقابكم لنقاذه من ذلك العمل السئ.
ثم لنه ليس امتثال ً للمر اللهي فليس هو بعدالة ،بل
جه الى
صلة بل وضوء وبل تو ّ
باطل وفاسد بطلن ال ّ
القبلة ،أي أن العدالة الحقة والعقاب الرادع انما يكون اذا
ُاجريت امتثال ً للمر اللهي وإل ّ فان تأثير العقاب يكون
ضيئل ً جدًا.
فاذا قست على هذه المسألة الجزئية في السرقة سائر
الحكام اللهية تدرك أن :السـعادة البشرية في الدنيـا
مرتهـنـة باجراء العدالة ،ول تنفذ العـدالـة ال ّ كما بّينها
القرآن الكريم.
)انتهت خلصة الحكاية(.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص524 :
ولقد ُاخطر على القلب أنه:
اذا لم يفق النسان من غفلته بسرعة ،ولم يسترشد
بعقله ،ويفتح ابواب المحاكم لتنفيذ عدالة الله ضمن
حقائق السلم ،فستنفلق على رأسه قيامات مادية
من
ومعنوية ويسّلم السلح الى الفوضويين والرهابيين و َ
هم امثال يأجوج ومأجوج!
وهكذا فلقد حكى "سعيد القديم" هذه الحكاية لقسم من
النواب المتدينين ،وأدرجت قبل خمسة واربعين عاما ً في
ذيل الخطبة الشامية العربية التي طبعت طبعتين في
أسبوع واحد.
والن فهذه الحكاية والتمثيل الول ،انما هما درسان
يستفيد منهما النواب المتدينون الفاضل في الوقت
الحاضر أكثر من سابقيهم ،فنبّينهما لهم درسا ً من دروس
العبرة .1
سعيد النورسي
_____________________
1لقد رجونا من استاذنا ان يدّرسنا في غضون يومين
الخطبة الشامية المطبوعة بالعربية ،لعدم اتقاننا العربية،
فتفضل علينا بشرحها ،ونحن بدورنا دّونا ما قرره علينا،
وكان الستاذ يكرر بعض الجمل ويعيدها كي يرسخها في
اذهاننا ،ولما كنا قد وجدنا المثال والحكاية الخيرة
واضحة ،فقد ابرزناها مقدما ً الى الطلب الجامعيين
والنواب المتدينين ،ذلك لن الستاذ عندما استهل الدرس
قال:
«انني اضعكم امامي بدل ً من المعلمين في ذلك القطار،
واضع النواب المتدينين حقا ً بدل ً من النواب المتدينين
الذين سألوني عن الشريعة قبل خمسة واربعين عامًا،
هكذا أتصور المر واتكلم في ضوئه.
ن اول ً لهل
فنحن نبين ما في هذه الرسالة من معا ٍ
المعرفة والتربية والنواب المتدينين ،واذا شاؤوا نبين لهم
الدروس التي اخذناها من الستاذ لدى شرحه الخطبة لنا.
واذا ارتأوا نطبعها وننشرها.
كنا نود ّ ان نأخذ درسا ً حول السياسة السلمية الدائرة في
العالم السلمي ،ولكن لن الستاذ قد ترك السياسة منذ
خمس وثلثين سنة ،فان هذه الخطبة -التي تمس
السياسة -انما هي درس من دروس «سعيد القديم».
طلب النور
طاهرى ،زبير ،بايرام ،جيلن،
صونغور ،عبدالله ،ضياء ،صادق،
صالح ،حسني ،حمزة.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص525 :
ذيل الذيل
لتحيا الشريعة الغراء
26شباط 1324رومي
الجريدة الدينية73 /
7مارت 1909م
أيها النواب!
سأقول جملة واحدة موجزة مع أنها طويلة .فارجو ان
تلحظوها باهتمام بالغ ،اذ في اطنابها ايجاز وهي:
ان المشروطية والقانون الساس هما العدالة والشورى
وحصر القوة في القانون ،مع هذا العنوان أقول:
ان السلم وشريعته الغراء هو:
المالك الحقيقي وصاحب العنوان المعظم ..والمؤثر الحق
والمتضمن للعدالة المحضة ..ويحقق نقطة استنادنا..
ويرسي المشروطية على اساس متين ..وينقذ ذوي
الوهام والشكوك من ورطة الحيرة ..ويتكفل بمستقبلنا
وآخرتنا ..وينقذكم من التصرف في حقوق الله بدون اذن
منه ،تلك الحقوق التي تضمن مصالح الناس كافة..
ويحافظ على حياة امتنا ..ويظهر ثباتنا وكمالنا ويحقق
وجودنا امام الجانب ..وسحر العقول والذهان ..وينقذكم
من تبعات الدنيا والخرة ..ويؤسس التحاد العام الشامل
نهاية المطاف ..ويولد الفكار العامة )الرأي العام( التي
هي روح ذلك التحاد ..ويحول دون دخول مفاسد المدنية
الى حدود حريتنا ومدنيتنا ..وينجينا من ذل التسول من
أوروبا ..ويطوي لنا المسافة الشاسعة التي تخلفنا فيها
عن الرقي في زمان قصير بناًء على سّر العجاز ..ويرفع
من شأننا في زمن قصير بتوحيد العرب والطوران وايران
والساميين ..ويظهر الشخصية المعنوية للدولة بمظهر
السلم..
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص526 :
ويخلصكم من حنث اليمان بالمحافظة على المادة
الحادية عشرة من القانون الساس ..ويبطل الظنون
الفاسدة التي تحملها اوروبا سابقًا ..ويحملهم على
التصديق بان النبي محمدا ً صلى الله عليه وسلم خاتم
النبياء ،وان الشريعة خالدة ..ويقيم سدا ً أمام اللحاد
مر المدنية ..ويزيل بصفحته النورانية ظلمة تباين
الذي يد ّ
الفكار وتشتت الراء ..ويجعل جميع العلماء والوعاظ
متحدين في سبيل سعادة المة وتنقية اجراءات الدولة
وخداما ً للمشروطية المشروعة ..ويؤلف قلوب غير
المسلمين ويربطهم به أكثر ،فعدالته المحضة رحيمة..
ويجعل اجبن شخص واكثرهم ضعة اشجع وارفع انسان
ويعاملهم هكذا ..وينفخ فيهم الشعور بالرقي والتضحية
ويحسسهم بحب الوطن ..ويخلصنا من السفاهة التي
تهدم المدنية ومن الحاجيات غير الضرورية ..ويبعث فينا
النشاط في العمل للدنيا مع تذكر الخرة والمحافظة
عليها ..ويعلمنا الخلق المحمودة التي هي حياة المدنية
ويفهمنا قواعد المشاعر النبيلة ..ويبرئ ساحتكم ايها
المبعوثون من مطالبة حقوق خمسين ألف شخص..
ويظهركم مثال ً مصغرا ً مشروعا ً لجماع المة ..ويجعل
اعمالكم كأنها عبادة حسب نياتكم الخالصة ..وينجيكم من
الجناية التي ترتكب بحق الحياة المعنوية لثلثمائة مليون
من المسلمين..
فاذا ما اظهرتم السلم وشريعته الغراء واتخذتموها
اساسا ً لحكامكم ،وطبقتم دساتيرها ،فمع اغتنام فوائد
الى هذا الحد هل تفقدون من شئ؟ والسلم.
فلتحيا الشريعة الغراء.
سعيد النورسي
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص527 :
حـقيـقـة
26شباط 1324م
الجريدة الدينية70/
7مارت 1909م
نحن منذ الزل داخلون في الجمعية المحمدية ،فالتوحيد
سمنا وعهدنا هو
هو جهة الوحدة والتحاد فيما بيننا ،وقَ َ
اليمان.
فما دمنا موحدين متحدين ،فكل مؤمن مكلف باعلء كلمة
الله واعظم وسيلة لعلء كلمة الله في زماننا هذا هو
الرقي المادي.
اذ الجانب يسحقوننا تحت تحكمهم المعنوي بسلح العلوم
والصنائع ونحن سنجاهد بسلح العلم والتقنية الجه َ
ل
والفقَر والخلف الذي هو ألد أعداء اعلء كلمة الله.
اما الجهاد الخارجي فنحيله الى السيوف اللماسية
للبراهين القاطعة للشريعة الغراء .لن الغلبة على
المدنيين انما هي بالقناع وليس بالكراه كما هو شأن
الجهلء الذين ل يفقهون شيئًا.
نحن فدائيو المحبة لمكان بيننا للخصومة.
فالجمهورية 1عبارة عن العدالة والشورى وحصر القوة
في القانون ،أليس من الجناية على السلم أن تستجدى
الحكام من اوروبا ولنا شريعة غراء تأسست قبل ثلثة
عشر قرنًا؟ ان هذا الستجداء شبيه بالتوجه الى غير
القبلة في الصلة.
ان القوة لبد ان تكون في القانون وإل ّ فسيتفشى
الستبداد في الكثيرين.
ولبد أن يكون المهيمن والمر الوجداني قوله تعالى) :ان
الله لقوي عزيز( )الحج .(74 :وهذا يكون بالمعرفة التامة
والمدنية الكاملة أو بتعبير آخر بالسلم .وإل ّ سيكون
الستبداد هو المستولي دائمًا.
_____________________
1وضعت هذه الكلمة حديثا ً بدل ً من المشروطية الموجودة
سابقًا ...المؤلف.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص528 :
ان التفاق في الهدى وليس في الهوى والهوس.
نعم ان الله خلق الناس أحرارا ً وهم عبيد لله فقد تحرر
كل شئ فنحن بامتثالنا الشريعة احرار وبتمسكنا
بالمشروطية أحرار ايضا ً ولن نتنازل عن المسائل
الشرعية ولن نعطيها أتاوة .ان قصور فردٍ عن شئ ل
يكون عذرا ً لقصور آخر.
اعلموا ان اليأس مانع كل كمال.
ان هدية الستبداد وتذكاره هو" :ما لي أنا..فليف ّ
كر غيري".
احيل الربط بين هذه الجمل الى فكر المطالع الكريم
لعدم اتقاني اللغة التركية!!
سعيد النورسي
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص529 :
صدى الحقيقة
27مارت 1909م
ان السبيل المحمدي مستغن عن كل ما يومئ الى
الحيلة والشك لنه منّزه عن الخداع والشبهة.
ثم ان حقيقة واسعة عظيمة محيطة الى هذا الحد -ول
سيما تجاه اهل هذا الزمان -ل يمكن ان تخفى مطلقًا.
وهل يخفى البحر العظيم في كأس؟!
اقول مكررا ً أن التوحيد اللهي هو جهة الوحدة في التحاد
ة اتحاد السلم )الوحدة
المحمدي الذي هو حقيق ُ
السلمية(.
اما يمينه وبيعته فهو اليمان.
ومقّراته واماكن تجمعاته :المساجد والمدارس الدينية
والزوايا.
ومنتسبوه :جميع المؤمنين.
ونظامه الداخلي :السنن الحمدية .والقوانين الشرعية
بأوامرها ونواهيها .فهذا التحاد ليس نابعا ً من العادة وانما
هو عبادة.
فالخفاء والخوف من الرياء .والفرائض لرياء فيها.
وأوجب الفرائض في هذا الوقت هو اتحاد السلم )الوحدة
السلمية(.
وهدف التحاد وقصده تحريك الرابطة النورانية التي تربط
المعابد السلمية التي هي منتشرة ومتشعبة .وايقاظ
المرتبطين بها بهذا التحريك ،ودفعهم الى طريق الرقي
بأمر وجداني.
مشرب هذا التحاد هو :المحبة .وعدوه :الجهل والضرورة
والنفاق.
وليطمئن غير المسلمين بأن اتحادنا هو الهجوم على هذه
الصفات الثلث ليس إ ّ
ل .وبالنسبة اليهم فسبيلنا القناع.
لننا نعتقدهم مدنيين .واننا مكلفون بأن نظهر
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص530 :
السلم بمظهر الجمال والحسن المحبوب .لننا نظن
فيهم النصاف .ال فليعلم المهملون غير المكترثين أنهم ل
يحببون انفسهم بالنسلخ من الدين لي اجنبي كان .وانما
يظهرون انهم على غير هدى ليس ا ّ
ل .ومن كان على غير
ب قطعًا ،والذين انضموا
ح ّ
هدى في طريق الفوضوية ل ي ُ َ
الى هذا التحاد بعد التدقيق العلمي والبحث والتحري ل
يتركونه تقليدا ً لولئك حتمًا.
نحن نعرض افكار اتحاد السلم الذي هو التحاد المحمدي
ومسلكه وحقيقته للناس اجمعين .ونحن مستعدون
لسماع أي اعتراض كان.
جمله شيران جهان بستهء اين سلسله اند
روبه أزحيله جه سان ب ُ
كسلد اين سلسله را
أي:
ة
هل يقطع الثعلب المحتال سلسل ً
ت بها أسد الدنيا بأسرهم
قيد ْ
سعيد النورسي
***
"فقرة تركُتها من "فهرس المقاصد" المنشور"
ان نهر العلوم الحديثة والثقافة الجديدة الجاري والتي
إلينا من الخارج كما هو الظاهر ،ينبغي أن يكون أحد
مجاريه قسما ً من اهل الشريعة كي يتصفى من شوائب
الحيل ورواسب الغش والخداع .لن الفكار التي نمت في
مستنقع العطالة ،وتنفست سموم الستبداد ،وانسحقت
تحت وطأة الظلمُ ،يحدث فيها هذا الماء السن العفن
خلف المقصود.
فلبد اذن من تصفيته بمصفاة الشريعة .وهذا المر تقع
مسؤوليته على عاتق اهل المدرسة الشرعية.
والسلم على من اتبع الهدى
سعيد النورسي
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص531 :
لتحيا الشريعة الحمدية
"على صاحبها الصلة والسلم"
5مارت 1325رومي
الجريدة الدينية77 /
18مارت 1909م
ان الشريعة الغراء باقية الى البد؛ لنها آتية من الكلم
الزلي وان النجاة والخلص من تحكم النفس المارة
بالسوء بنا هي بالعتماد على السلم والستناد اليه
والتمسك بحبل الله المتين.
وان جني فوائد الحرية الحقة والستفادة منها استفادة
كاملة منوط بالستمداد من اليمان؛ ذلك لن من اراد
العبودية الخالصة لرب العالمين ل ينبغي له ان يذ ّ
ل نفسه
ملكه
فيكون عبدا ً للعبيد.وحيث أن كل انسان راٍع في ُ
وعاَلمه فهو مكّلف بالجهاد الكبر في عالمه الصغر
ومأمور بالتخلق باخـلق النـبي صلى الله عليه وسلم
واحياء سنته الشريفة.
يا اولياء المور! ان اردتم التوفيق فاطلبوه في موافقة
اعمالكم للسنن اللهية في الكون -أي قوانين الله -وال ّ
فلن تحصدوا إل ّ الخذلن والخفاق .لن ظهور النبياء عامة
في الممالك السلمية والعثمانية انما هو رمز واشارة من
القدر اللهي :أن الذي يدفع ابناء هذه الممالك الى التقدم
انما هو الدين .وان أزاهير مزرعة آسيا وافريقيا وبساتين
نصف اوربا ستتفتح وتزدهر بنور السلم.
اعلموا ان الدين ليضحى به لجل الحصول على الدنيا.
فقد كانت تعطى فيما مضى مسائل الشريعة أتاوة
للحفاظ على الستبداد البائد .1اروني ماذا حصدنا من
ترك مسائل الدين والتضحية بها غير الضرر والخيبة.
_____________________
1المقصود عهد السلطان عبد الحميد الثاني ،والستاذ
النورسي مع أنه كان يشّنع بالستبداد إل ّ أنه يحسن الظن
بالسلطان نفسه ،فهو اذ يفضح مساوئ الستبداد الذي
كان يمارس باسم السلطان يبرئ ساحة السلطان فيقول
عنه :السلطان المظلوم ..انه ولي من اولياء الله
الصالحين .المترجم
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص532 :
ان اصابة المة في قلبها انما هو من ضعف الدين ولن
تنعم بالصحة إل ّ بتقوية الدين.
ان مشربنا :محبة المحبة ،ومخاصمة الخصومة ،أي امداد
جنود المحبة بين المسلمين ،وتشتيت عساكر الخصومة
فيما بينهم.
أما مسلكنا :فهو التخلق بالخلق المحمدية صلى الله
عليه وسلم واحياء السنة النبوية.
ومرشدنا في الحياة :الشريعة الغراء
وسيفنا :البراهين القاطعة.
وهدفنا :اعلء كلمة الله..
ى -لجماعتنا ،1وصورة
ان كل مؤمن هو منتسب -معن ً
هذا النتساب هو العزم القاطع على احياء السنة النبوية
في عالمه الخاص ،فنحن ندعو باسم الشريعة اولئك
المرشدين وهم العلماء والمشايخ من طلب العلوم الى
التحاد قبل اي احد سواهم.
سعيد النورسي
تنبيه خاص
مون قد أوقعوا المة
ان الصحفيين الذين هم خطباء عا ّ
في مستنقع فاسد بقياسين فاسدين:
الول :يقيسون الوليات الخرى على استانبول علما ً ان
الطفال الذين ل يستطيعون قراءة اللفباء اذا لّقنوا
الفلسفة فانه يكون تلقينا ً سطحيًا.
الثاني :يقيسون استانبول على اوروبا علما ً ان الرجل اذا
ما لبس ثوب امرأة يكون محل هزء وسخرية ويتسفل.
سعيد النورسي
____________________
1هذه المقالة والتي تعقبها تعد ّ دعوة واضحة الى التحاد
السلمي والرجوع الى الشريعة والتمسك باهداب الدين
ونبذ الخلفات مهما كانت صورها ،وهي في الوقت نفسه
تمهيد للذهان لقبول "التحاد المحمدي"بمفهومه العام
الشامل لجميع المسلمين ،والذي ُاعلن عنه رسميا ً في /5
نيسان 1909/ضمن احتفال مهيب في جامع يلصوفيا.
المترجم.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص533 :
رد الوهام
18مارت 1325رومي
31مارت 1909ميلدي
سأرد هنا الوهام الفاسدة التسعة التي اسندت الى
جماعة التحاد المحمدي:
الوهم الول:
ان طرح المسألة الدينية في الوساط ل يلئم مثل هذا
الظرف الدقيق.
الجواب :نحن نحب الدين ونحب الدنيا أيضا ً لجل
الدين..و] ل خير في الدنيا بل دين[.
ثانيًا :ما دامت الحاكمية للشعب في المشروطية فلبد أن
يثبت الشعب وجوده .وشعبنا مسلم ومسلم فقط.
فليست هناك رابطة حقيقية وقوية غير السلم بين
العرب والترك والكرد والروناؤوط والجركس واللز.
إن اهمال ً طفيفا ً في الدين اّدى الى ارساء قواعد طوائف
الملوك وظهور الجاهليات الميتة قبل ثلثة عشر قرنا ً
وبالتالي الى ظهور الـفتن والقـلقـل .وقد ظهرت فعل ً
وشاهـدناها.
الوهم الثاني:
ان تخصيص هذا العنوان -أي التحاد المحمدي -يجعل
غير المنتسبين اليه في شك من أمرهم.
الجواب:
وقد قلت سابقًا :فإما لم ُيقرأ أو ُفهم خطًأ؛ لذا أضطر الى
التكرار وهو :عندما نقول "التحاد المحمدي" الذي هو
اتحاد السلم ،فالمراد هو التحاد الموجود الثابت بين
جميع المؤمنين بالقوة أو بالفعل .وليس المراد جماعة في
استانبول أو في الناضول اذ
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص534 :
إن قطرة من ماٍء تحمل صفة الماء ،فل احد خارج هذا
التحاد ،ول يخصص هذا العنوان بأحد .وتعريفه الحقيقي
هو:
ان اساس هذا التحاد يمتد من الشرق الى الغرب ومن
حرمان الشريفان..
الجنوب الى الشمال ..ومركزه :ال َ
سمه :اليمان..
وجهة وحدته :التوحيد اللهي ..عهده وقَ َ
نظامه الداخلي :السنة النبوية الشريفة ..قوانينه :الوامر
والنواهي الشرعية..مقر اجتماعاته :جميع المدارس
والمساجد والزوايا ..ناشُر افكار تلك الجماعة نشرا ً خالدا ً
الى البد :جميع الكتب السلمية وفي المقدمة القرآن
الكريم وتفاسيره )ورسائل النور احد تلك التفاسير في
زماننا هذا( وجميع الصحف الدينية والجرائد النزيهة التي
تهدف الى اعلء كلمة الله ..ومنتسبوه :جميع المؤمنين..
رئيسه :فخر العالمين صلى الله عليه وسلم.
والن لنقف عند الصدد وهو :تيقظ المؤمنين واقبالهم نحو
السلم ولينكر ما للرأي العام من تأثير ..وهدف التحاد
وقصده :اعلء كلمة الله ..ومسلكه :الجهاد الكبر للنفس
وارشاد الخرين ..وهمة هذه الهيئة المباركة مصروفة
بنسبة تسع وتسعين بالمئة الى غير السياسة من تهذيب
الخلق واستقامة السلوك وما شابهها من الفضائل
والمقاصد المشروعة اذ ان الجمعيات المتوجهة الى مثل
هذه المقاصد نادرة ،علما ً أن اهميتها جليلة .وهناك واحد
بالمئة من المقاصد يتعلق بالسياسة وهو ارشاد
السياسيين ..سيوفهم :البراهين القاطعة ..مشربهم:
المحبة وانماء المحبة المندمجة في بـذرة الخوة
الموجودة بين المـؤمنـين لتصبح شجرة طوبى مباركة.
الوهم الخامس :1
ربما ينفر الجانب من هذا التحاد؟
الجواب:
من يجد في نفسه هذا الحتمال جاهل ل محالة اذ يرد ّ
ان َ
هذا الحتمال ما يلقى من خطب ومحاضرات حول
السلم وعظمته 2في مراكزهم وعواصمهم.
_____________________
1لعل سبب انتقاله الى الوهم الخامس هو ان الوهمين
الثالث والرابع مندمجان ضمن الوهم الثاني والله اعلم.
المترجم.
2يشير الى خطب مستر كارليل وبسمارك وامثالهما.
المترجم.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص535 :
ثم ان اعداءنا ليسوا الجانب .وانما الذي اردانا الى هذا
الوضع وحال بيننا وبين اعلء كلمة الله هو مخالفتنا
للشريعة الغراء نتيجة "جهلنا" بها ،و"الضرورة" التي
اثمرت سوء الخلق وسوء المعاملت و"الختلف" الذي
انتج الغراض الشخصية والنفاق فاتحادنا هجوم على هذه
الثلثة من العداء الظلمة.
أما جهل الجانب بالسلم في القرون الوسطى ،فالسلم
مع اضطراره الى معاداة الجهل والهمجية ال ّ أنه قد حافظ
على العدالة والستقامة معهم فلم ي َُر في التاريخ
السلمي امثال محاكم التفتيش .ولما قوي ساعد
المدنيين في زمن التحضر هذا فقد زال عنهم ذلك
التعصب الذميم.
ان الظهور على المدنيين من منظور الدين انما هو
بالقناع وليس بالكراه .وباظهار السلم محبوبا ً وساميا ً
لديهم وذلك بالمتثال الجميل لوامره واظهار الخلق
الفاضلة.
اما الكراه والعداء ،فهما تجاه وحشية الهمجيين.
الوهم السادس:
ان البعض يقول :ان اتخاذ اتحاد السلم اتباع السنة
النبوية هدفا ً له يحدد من الحرية وينافي الخذ بمتطلبات
المدنية.
الجواب:
المؤمن حّر في ذاته .فالذي هو عبد لله رب العالمين ل
ينبغي له ان يتذلل للناس ،بمعنى :كلما رسخ اليمان
قويت الحرية.
أما الحرية المطلقة فما هي ال ّ الوحشية المطلقة بل
بهيمية ،وتحديد الحرية ضروري من وجهة نظر النسانية.
ثالثًا :ان قسما ً من السفهاء والمهملين يريدون أن يظلوا
اذلء أسارى النفس المارة بالسوء فل يروق لهم العيش
الحر.
الحاصل:
ان الحرية الخارجة عن دائرة الشرع ،انما هي أستبداد أو
أسٌر بيد النفس المارة بالسوء ،أو بهيمية أو وحشية.
فليعلم جيدا ً هؤلء الزنادقة والمهملون للدين انهم
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص536 :
ليستطيعون ان يحببوا انفسهم لي اجنبي كان يملك
وجدانًا ،باللحاد والسفاهة ،بل ل يمكنهم ان يتشبهوا بهم.
لن السفيه والذي ل يسير على هدى ل يكون محبوبًا،
فالثياب الـلئقـة بإمـراة اذا ما لبسها الرجل يكون موضع
هـزء وسخرية.
الوهم السابع:
ان جمعية أتحاد السلم انما هي لشق الصف بين سائر
الجمعيات السلمية وتوّلد الحسد والنفرة بينها.
الجواب:
او ً
ل :ان المور الخروية ل حسد فيها ول تنافر وتزاحم
فايما جمعية حسدت وزاحمت التحاد فكأنما تنافق في
العبادة وترائي فيها.
ثانيًا :اننا نتحد مع الجماعات المتش ّ
كلة بدافع محبة الدين
وخدمته وذلك على وفق شرطين اثنين:
الشرط الول :المحافظة على النظام العام للبلد
والحرية الشرعية.
الشرط الثاني :انتهاج نهج المحبة ،وعدم محاولة اظهار
مزايا لها بانتقاص الجمعيات الخرى ،بل الولى مراجعة
مفتي المة وجماعة العلماء فيما اذا ظهر خطأ.
ثالثًا :ان الجماعة التي تهدف الى اعلء كلمة الله لن
تكون وسيلة لي غرض مهما كان ،واذا تشبثت بالغراض
ل
فل يحالفها التوفيق قطعا ً لنه نفاق ،فشأن الحق عا ٍ
وسام ل يضحى به من اجل أي شئ كان .كيف تكون
ب؟ ان الذي
نجوم الثريا مكانس ،أو كيف تؤكل كعناقيد عن ٍ
يريد ان يطفئ شمس الحقيقـة بـالنفـخ انمـا يد ّ
ل على
بلهتـه وجنونـه.
أيتها الصحف الدينية!
ان قصدنا وهدفنا هو اتحاد الجماعات الدينية في الهدف.
اذ كما ل يمكن التحاد في المسالك والمشارب فل يجوز
ايضًا ،لن التقليد يشق طريقه ويؤدي الى القول" :مالي
ي فليفكر غيري".
وما عل ّ
الوهم الثامن:
ى وصورة -اكثرهم من
ان المنتسبين الى التحاد -معن ً
العوام وقسم منهم غير معروفين وهذا مدعاة الى حدوث
فتن واختلفات.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص537 :
الجواب:
إنما ذلك لعدم السماح في هذا التحاد بالتمايز بين الناس
سواء أكانوا من الخاصة أم من العامة ،ثم لن المرء في
التحاد يدعو الى اعلء كلمة الله فكل ما يقوم به يثاب
عليه ثواب عبادة ..ففي جامع العبادة يتساوى الملك
والمتسول فل امتياز ،بل المساواة الحقة دستور قائم.
م عند الله هو التقى ،والتقى هو المتواضع،
لن الكر َ
فبناًء على هذا يتشرف الشخص بانتسابه الى هذه
الجماعة الخالصة لخدمة الدين والدعوة الى الخرة ،وال ّ
فل يزيد التحاد شرفًا ،اذ القطرة ل تزيد البحر شيئًا ..ثم
ان النسان كما ل يخرج عن اليمان بارتكاب كبيرة ،فان
باب التوبة ايضا ً مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها.
والبحر ل يتنجس بغرفة ماء ،بل يطّهر اليد فالمنتسب الى
هذا المثال المصغر للتحاد السلمي يشترط عليه اتباع
السنة النبوية واحياؤها وامتثال أوامرها واجتناب نواهيها
وعدم الخلل بأمن البلد ونظامها فالمجهول الذي انتسب
الى هذا التحاد ل يلوث قصدا ً هذه الحقيقة ما استطاع
اليه سبيل ً وحتى لو كان المرء نفسه مذنبا ً فأيمانه نزيه
دس .والرابطة انما هي باليمان ليس ا ّ
ل.
مق ّ
فتشويه هذا العنوان المقدس بحجج واهية امثال هذه انما
ينجم عن الجهل بعظمة السلم فضل ً عن اظهار هذا
المتحجج نفسه أنه احمق الناس.
نحن نرد ّ بكل ما اوتينا من قوة تشويه سمعة اتحادنا الذي
يمثل )اتحاد المسلمين(أو التعريض به مما هو دأب
الجمعيات الدنيوية الخرى ونحن على أتم استعداد للجابة
عن أي استفسار واعتراض كان.
ان الجماعة التي انضم اليها انما هي هذا التحاد السلمي
صلنا القول فيه .وال ّ فليست هي تلك التي يتخيلها
الذي ف ّ
المعترضون بخيالهم الباطل.
ان افراد هذه الهيئة الدينية هم معًا ،سواًء أكانوا في
الشرق أو الغرب أو الجنوب أو الشمال.
سؤال :انت تذّيل مقالتك وتمضيها باسم بديع الزمان
وهذا يومئ الى المدح؟
الجواب :كل ،ليس للمدح! وانما اريد أن ُابين -بهذا
المضاء -تقصيري .وتعليلي هو :ان البديع يعني "الغريب"
فاخلقي غريبة كمظهري ،واسلوب بياني غريب
كملبسي ،كلها مخالفة للخرين.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص538 :
فانا أرجو بلسان حال هذا العنوان عدم جعل المحاكمات
العقلية والساليب المتداولة والرائجة مقياسا ً لمحاكماتي
العقلية ومحكا ً لساليب بياني.
ت
ثم ان قصدي من البديع هو "العجيب" فلقد اصبح ُ
مصداقا ً لما قيل:
عجيب َةٍ َ
صد ُ ك ُ ّ
ب في عُُيون
كأني َ
ل َ
عجي ٌ
ى ل َعَ ْ
مري قَ ْ
]ال ّ
جائب[
العَ َ
ومثاله الواضح هو:
لقد جئت الى استانبول منذ سنة ورأيت حوادث وانقلبات
تحدث في مئة سنة.
والسلم على من اتبع الهدى.
نقول بلسان جميع المؤمنين وبعددهم :فلتحيا الشريعة
الحمدية
بديع الزمان
سعيد النورسي
***
أخي رئيس التحرير!
1
على الدباء ان يتأدبوا ،ويتحلوا بالداب السلمية ،فلينظم
م المطبوعات ،فلقد
ما في وجدانهم من شعور ديني نظا َ
اظهر هذا النقلب السلمي:
ان المهيمن في الوجدان انما هو الحمية السلمية .ولقد
عرف ان التحاد السلمي شامل لهل اليمان والجيش
كافة .فل أحد خارج عنه.
سعيد النورسي
***
_____________________
1المقصود رئيس جريدة «فولقان» -اي البركان -السيد
درويش وحدتي اصله من قبرص كان ينشر مقالت عنيفة
ضد التحاد والترقي مثيرا ً العواطف ،فكان الستاذ
النورسي يتردد اليه في ادارة الجريدة وينبهه على تهوره،
إل ّ أنه لم ينتفع بنصائحه فساقته عواطفه وتهوره الى
العدام .المترجم
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص539 :
القطعة الخيرة
من ذيل الذيل
هذه القطعة عبارة عن درسين القيا على الفواج الثمانية
من الذين قاموا بالعصيان في حادثة 31مارت المشهورة
وعلى اثرهما اقتنعوا بالعودة الى الولء .فهانت المصيبة
من المئة الى الواحد.
ُنشر هذان الدرسان في الجرائد الدينية سنة 1325رومي
1909 -م.
الى جنودنا الشاوس
4نيسان 1325رومي
الجريدة الدينية عدد107/
17نيسان 1909م
حدون البطال!
ايها الجنود المو ّ
ايها البطال الذين انقذوا هذه المة المظلومة والسلم
المقدس من الوقوع في ورطتين عظيمتين!
ان عّزكم وبهاءكم في النتظام والنضباط .وقد
اظهرتموهما في احلك الظروف واحرجها واشدها
اضطرابًا .فحياتكم وقوتكم انما هي في الطاعة .اظهروا
هذه الفضيلة المقدسة لصغر امرائكم .فان شـرف
ثـلثين مليونا ً من العثمانيين وثلثمائة مليونـا ً من
المسلمين اصبح منوطا ً بطـاعتكم انتـم.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص540 :
ان راية السلم والتوحيد اللهي في يد شجاعتكم
وبطولتكم .وان قوة أيديكم المباركة انما هي في الطاعة.
فضباطكم هم كابائكم المشفقين وقد ثبت بالقرآن
والحديث والحكمة والتجربة :ان طاعة المر في الحق
فرض .فكما تعلمون ،ان ثلثـين مليونـا ً لم يتمكنوا ان
يقوموا بمثل هذين النـقـلبين خلل مائـة سنـة.
ولقد جعلت قوتكم التي تنبعث من طاعتكم المة
السلمية في شكران وتقدير وان ادامة هذا الشرف
والحفاظ عليه انما هو في طاعتكم لضباطكم.
وانا اعلم أنكم لم تتدخلوا في الضطرابات لئل تجعلوا
ضباطكم مسؤولين وهم كابائكم الرحماء بكم.
أما الن فلقد انتهى المر .فارتموا في احضان شفقة
ضباطكم ورحمتهم .ان الشريعة الغراء تأمرنا هكذا .إذ
الضباط هم اولو المر .فمن جهة مصلحة الوطن والمة -
ول سيما في النظام العسكري -اطاعة اولي المر فرض،
والحفاظ على الشريعة المحمدية انما هو بالطاعة.
سعيد النورسي
***
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص541 :
خطاب الى الجنود
7نيسان 1325رومي
الجريدة الدينية عدد10 /
30نيسان 1909م
يا عساكر الموحدين! اني ابلغكم أوامر سيد العالمين
صلى الله عليه وسلم:
ان طاعة اولي المر ضمن الدائرة المشروعة فرض.
فاولياء اموركم واساتذتكم ضباطكم.
ان الثكنات العسكرية اشبه ما تكون بمعمل عظيم منتظم
اذا اختل دولب من العمل يؤثر في خراب المعمل
بأكمله.
ان مصنعكم العسكري القوي المنظم نقطة استناد
واعتماد ثلثين مليونا ً من العثمانيين وثلثمائة مليونا ً من
المسلمين ونقطة استمدادهم.
ان قتلكم لستبدادين عظيمين دون اراقة دم كان امرا ً
خارقًا .ولنكم قد اظهرتم معجزتين للشريعة الغراء .فقد
اظهرتم لضعفاء العقيدة قوة الحمية السلمية وقدسية
الشريعة في برهانين اثنين.
ف من الشهداء في سبيل هذين
ولو كنا نضحي بالو ٍ
ي بجزء من الف
النقلبين لكنا نعدها ضئيلة ،ولكن لو ُ
ضح َ
جزء من طاعتكم فهو غال جدًا .لن تناقص طاعتكم يولد
الموت ،كتناقص الحرارة الغريزية والعقدة الحياتية.
ان تاريخ العالم يشهد أن تدخل الجنود في السياسة قد
اّدى الى اضرار جسيمة للدولة وللمة معًا.
صيقل السلم/الخطبة الشامية -ص542 :
فلبد أن حميتكم السلمية ستصرفكم عن مثل هذه
الضرار التي تصيب حياة السلم التي تكفلتم بحفظها.
ان الذين يفكرون في السياسة هم بمثابة قوتكم المفكرة
من اولياء المور والضباط .ان ما تظنونه احيانا ً من ضرر
يصبح خيرًا ،لنه يدفع ضررا ً أكبر في السياسة .فضباطكم
حسب تجاربهم يرون هذا المر ويأمرونكم به .فعليكم
الطاعة دون تردد ،اذ ل يجوز التردد والتلكؤ.
ان الفعال غير المشروعة الخاصة ل تنافي المهارة
والحذاقة في الصنعة ول تجعل الصنعة غير مرغوب فيها.
فالطبيب الحاذق مثل ً أو المهندس الماهر اذا ما تصرف
تصرفا ً غير مشروع فل يؤدي ذلك الى ترك الستفادة مما
لديه من طب أو هندسة ،كذلك فن الحرب ،فضباطكم
المجربون والماهرون المنورون فكرا ً بالحمية السلمية،
ض منهم بأمر غير مشروع ليجوز ان يؤدي ذلك
اذا قام بع ٌ
الى عدم طاعتهم وعصيانهم لن فن الحرب مهارة مهمة.
ان الشريعة الغراء التي هي قوام حياتكم قد ابتلعت
الجمعيات التي تشتت الفكار وتفّرق الناس .فهي كاليد
البيضاء لسيدنا موسى عليه السلم ارغمت السحرة على
السجود.
ان اعمالكم كانت علجا ً لهذه الحركات النقلبية .فاذا ما
دت بالحياة السلمية الى
زادت قليل ً انقلبت سما ً قاتل ً وأ ّ
امراض جسام .ثم ان ما فينا من استبداد قد زال بهمتكم،
ولكن نحن ل زلنا تحت الستبداد المعنوي لروربا في
مضمار الرقي.
فلبد من اللتزام باقصى درجات الحذر والسكينة والهدوء.
فلتحيا الشريعة الغراء ،فليعش الجنود.
سعيد النورسي
***
This action might not be possible to undo. Are you sure you want to continue?