You are on page 1of 289

‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫الوسطية‬
‫في ضوء القرآن‬
‫الكريم‬
‫الشيخ ناصر بن سليمان العمر‬
‫‪www.almoslim.net‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪1‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫المقدمــة‬
‫ن الحمد لله‪ ،‬نحمممده‪ ،‬ونسممتعينه‪ ،‬ونسممتغفره‪ ،‬ونعمموذ بممالله مممن‬
‫إ ّ‬
‫مضم ّ‬
‫ل لمه‪ ،‬وممن‬ ‫شرور أنفسنا‪ ،‬وسّيئات أعمالنا‪ ،‬من يهمده اللمه فل ُ‬
‫ُيضلل فل هادِيَ لممه‪ ،‬وأشممهد أن ل إلممه إل اللممه وحممده ل شممريك لممه‪،‬‬
‫دا عبده ورسوله‪.‬‬ ‫وأشهد أن محم ً‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن إ ِّل وَأن ْت ُم ْ‬
‫م‬ ‫ممموت ُ ّ‬
‫حمقّ ت َُقممات ِهِ َول ت َ ُ‬ ‫من ُمموا ات ُّقمموا الل ّم َ‬
‫ه َ‬ ‫نآ َ‬ ‫)َيا أي ّهَمما ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن( )آل عمران‪.(102:‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬‫ُ‬
‫)يا أ َ‬
‫خل َم َ‬
‫ق‬ ‫ح مد َةٍ وَ َ‬ ‫س َوا ِ‬ ‫ٍ‬ ‫م‬ ‫ف‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫م‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫خل َ‬
‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫م ال ّ‬‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ّ‬ ‫ب‬‫ر‬ ‫َ‬ ‫قوا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫س‬
‫ُ‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ساَءُلو َ‬ ‫ذي ت َ َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫ساًء َوات ُّقوا الل ّ َ‬ ‫جال ً ك َِثيرا ً وَن ِ َ‬ ‫ما رِ َ‬ ‫من ْهُ َ‬ ‫ث ِ‬ ‫جَها وَب َ ّ‬ ‫من َْها َزوْ َ‬ ‫ِ‬
‫م َرِقيبًا( )النساء‪.(1:‬‬ ‫ن عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫حا َ‬‫ب ِهِ َواْل َْر َ‬
‫َ‬
‫م‬‫ح ل َك ُم ْ‬ ‫ديدا ً ي ُ ْ‬
‫ص مل ِ ْ‬ ‫سم ِ‬ ‫ه وَُقول ُمموا قَموْل ً َ‬ ‫من ُمموا ات ُّقمموا الل ّم َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫)َيا أي َّها ال ّ ِ‬
‫وزا ً‬ ‫َ‬
‫ه فََق مد ْ فَمماَز فَ م ْ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫ه وََر ُ‬ ‫ن ي ُط ِِع الل ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫م ذ ُُنوب َك ُ ْ‬ ‫م وَي َغِْفْر ل َك ُ ْ‬ ‫مال َك ُ ْ‬ ‫أعْ َ‬
‫ظيمًا( )الحزاب‪.(71 ،70:‬‬
‫عَ ِ‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫مة اليوم يرى ب َوًْنا شاسًعا‬ ‫ن المتأمل في الواقع الذي تعيشه ال ّ‬‫فإ ّ‬
‫في مشاربها وأهدافها‪ ،‬واختلًفا في منطلقاتها وغاياتها‪.‬‬
‫يــرى الفــراط والتفريــط‪ ،‬والغلممموّ والجفممماء‪ ،‬والسمممراف‬
‫د( )الحج‪ :‬من الية ‪.(45‬‬ ‫شي ٍ‬
‫م ِ‬ ‫معَط ّل َةٍ وَقَ ْ‬
‫صرٍ َ‬ ‫والتقتير‪) :‬وَب ِئ ْرٍ ُ‬
‫دعاة‬‫ممما‪ ،‬فممإذا انتقلنمما إلممى حممال الم ّ‬
‫مممة عمو ً‬
‫هذا على مسممتوى ال ّ‬
‫متهممم‪،‬‬‫ض مضمماجعهم هممذا الواقممع المممؤلم ل ّ‬ ‫والمصمملحين الممذي أق م ّ‬
‫فطفقوا يبحثون عن سبل العلج وطوق الّنجاة‪ ،‬لخراج البشرية من‬
‫ضللة إلممى الهممدى‪ ،‬نجممد انعكمماس واقممع‬
‫الظلمات إلى النور‪ ،‬ومن ال ّ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪2‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫رط‬ ‫المة على حالهم‪ ،‬فمنهم الم َ‬


‫شّرق‪ ،‬ومنهم المغ مّرب‪ ،‬تممرى المف م ِ‬
‫دعاة والمصمملحين مممن غل وأفممرط فممي‬ ‫والمفّرط‪ ،‬نرى بين هؤلء ال ّ‬
‫و‪ ،‬فنشممأت جماعممات تكفيممر وهجممرة‪ ،‬وعممادت سمموق الخمموارج‬
‫الغل م ّ‬
‫دين وأصول العقيممدة‪،‬‬
‫رائجة‪ ،‬وهناك من فّرط وجفا‪ ،‬وأضاع معالم ال ّ‬
‫صا على جمع الن ّمماس دون تربيتهممم‪ ،‬ففشمما الرجمماء‪ ،‬وانطمسممت‬‫حر ً‬
‫معالم الّتوحيد‪ ،‬وحقيقة العبادة‪.‬‬
‫حح ال ّ‬
‫طريممق‪،‬‬ ‫وبين هؤلء وأولئك وقفت فئة تقتفي الثر‪ ،‬وتص ّ‬
‫صممراط المسممتقيم‪ ،‬علممى منهممج أهممل السممنة‬ ‫وتممد ّ‬
‫ل النمماس إلممى ال ّ‬
‫دين غلوّ الغالين‪ ،‬وانتحممال‬
‫مة؛ ينفون عن هذا ال ّ‬‫والجماعة‪ ،‬وسلف ال ّ‬
‫المبطليممن‪ ،‬وتفريممط الكسممالى والمرجئيممن‪ ،‬ودعمماوى المنممافقين‬
‫والمرجفين‪ .‬ووسط هذا الواقع المؤلم‪ ،‬والضطراب المهلك‪ ،‬تشممتد ّ‬
‫صممراط المسممتقيم‪ ،‬والمنهممج العممدل‬ ‫مممة إلممى ال ّ‬
‫الحاجة إلى دللممة ال ّ‬
‫دعاة‬ ‫المبين‪ ،‬لنقاذها من كبوتها‪ ،‬وإيقاظهمما مممن رقممدتها‪ ،‬وتبصممير الم ّ‬
‫همم َ‬
‫ذا‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫ق‪ ،‬وال ّ‬
‫طريممق الممبّين الواضممح‪) :‬وَأ ّ‬ ‫والمصمملحين بالمنهممج الحمم ّ‬
‫ه(‬
‫س مِبيل ِ ِ‬
‫ن َ‬ ‫ل فَت ََفّرقَ ب ِك ُ ْ‬
‫م عَ ْ‬ ‫ست َِقيما ً َفات ّب ُِعوهُ َول ت َت ّب ُِعوا ال ّ‬
‫سب ُ َ‬ ‫م ْ‬
‫طي ُ‬
‫صَرا ِ‬
‫ِ‬
‫)النعام‪ :‬من الية ‪.(153‬‬
‫لقد وقفت طويل عند مسألة الغلوّ والجفاء‪ ،‬والفراط والّتفريممط‪،‬‬
‫س الحاجة إلى منهج الوسطّية منقم ً‬
‫ذا لهمما مممن‬ ‫مة بأم ّ‬
‫وأدركت أن ال ّ‬
‫هذا النحراف‪ ،‬الذي جّر عليها المصائب والمشكلت‪.‬‬
‫ن القرآن الكريم‪ ،‬قممد رسممم لنمما هممذا المنهممج فممي‬ ‫ووجدت أ ّ‬
‫خلًقمما وسمملو ً‬
‫كا‪ ،‬تص موًّرا‬ ‫ة‪ُ ،‬‬
‫عا‪ ،‬عقيدةً وعباد ً‬
‫شّتى جوانبه‪ ،‬أصول وفرو ً‬
‫وعمل‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪3‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ولقد جــاء منهــج الوســطّية مممن خلل القممرآن الكريممم فممي‬


‫صممل ومجمل‪ ،‬خممبًرا وإنشمماًء‪ ،‬أممًرا‬
‫حا وإيممماًء‪ ،‬مف ّ‬
‫دة‪ ،‬تصري ً‬
‫أساليب ع ّ‬
‫ونهًيا‪.‬‬
‫عا مّني بأهمّية هذا الموضوع‪ ،‬ومسيس الحاجة إليه‪،‬‬
‫واقتنا ً‬
‫فقد عزمت على الكتابة فيه‪ ،‬وهذا يقتضي أن أعيش مع كتاب اللممه‬
‫سرون حول‬ ‫مل لياته‪ ،‬متفك ًّرا في دللته‪ ،‬مستوعًبا لما كتبه المف ّ‬
‫متأ ّ‬
‫تقرير القرآن لمنهج الوسطّية‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪4‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫القضية التي يعالجها البحث‬


‫مفهوم الوسطّية وحقيقتها ض ّ‬
‫ل فيها كــثيرون‪ ،‬وبيــان‬
‫ذلك كما يلي‪:‬‬
‫هنـــاك مـــن فهـــم أن الوســـطّية تعنـــي الّتنـــازل‬ ‫‪-1‬‬
‫صممراط المسممتقيم‪ ،‬وسمار‬
‫ما قد التزم ال ّ‬
‫والّتساهل‪ ،‬فإذا رأوا مسل ً‬
‫دد على نفسك وعلممى الخريممن‬ ‫وة‪ ،‬قالوا له‪ :‬لماذا ُتش ّ‬
‫على هدي النب ّ‬
‫ودين الله وسط؟ ولذلك نجد فممي واقعنمما المعاصممر أن أكممثر الممذين‬
‫هم من المذين المتزموا‬ ‫)‪(1‬‬
‫مون بالّتطرف والغلوّ وأخيًرا بالصولّية‬
‫ُير َ‬
‫صحيح‪.‬‬‫بالمنهج على وجهه ال ّ‬
‫ومن أسباب ذلك الجهل بحقيقة الوسطّية‪.‬‬
‫مســين المنممدفعين‪،‬‬
‫‪ -2‬وفي المقابل نجد فئة مــن المتح ّ‬
‫ق‪ ،‬الممذين لممم يوافقمموا هممؤلء علممى‬
‫يصممفون أصممحاب المنهممج الح م ّ‬
‫أفكممارهم‪ ،‬ولممم يسممايروهم فممي حماسممهم وانممدفاعهم يصممفونهم‬
‫بالّتساهل والّتهاون‪ ،‬وعدم الغيرة‪ ،‬بل وأحياًنا بالّتنازل والممالة‪.‬‬
‫دعونها‪،‬‬
‫ضا ‪ -‬جهلهم بحقيقة الوسطّية‪ ،‬مع أنهممم ي م ّ‬
‫ومنشأ ذلك ‪ -‬أي ً‬
‫لكنهم ل يفهمونها على الوجه الصحيح‪.‬‬
‫‪ -3‬وهنــاك فئة ثالثــة ليسممت مممن هممؤلء ول أولئك‪ ،‬وهممم‬
‫حريصون على اللتزام بالمنهج الصحيح‪ ،‬ولكّنهم يقعون فممي أخطمماء‬
‫أثنمماء ممارسممتهم للممدعوة قممول أو فعل‪ ،‬وسممبب هممذا المممر عممدم‬
‫تصورهم لمنهج الوسطّية تصوًرا شامل‪ ،‬وقصرهم هذا المنهممج علممى‬
‫بعض آحاده‪.‬‬

‫دق ما يقولون جهل أو سذاجة‪ ،‬أما الذين يتجاهلون فل يعنيهم هذا البحث‪.‬‬
‫‪ - 1‬بعض من يطلق هذه الصفات‪ ،‬يطلقها لغراض ل تخفى‪ ،‬والمشكلة أن هناك من يص ّ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪5‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫‪ -4‬والنتيجة الــتي نتوصــل إليهــا مــن ذلــك كلــه أن هممذا‬


‫المنهج بحاجة إلى تفصيل وبيان‪ ،‬ل لخفائه في ذاته‪ ،‬بممل هممو أوضممح‬
‫من الشمس في رابعة النهار‪ ،‬ولكن خفاءه من المور النسبّية الممتي‬
‫تعود إلى ُبعد كثير من النمماس عممن منهممج القممرآن والسممنة‪ ،‬وضممعف‬
‫حصيلتهم العلمّية‪ ،‬وممارستهم التعبدّية والدعوّية‪.‬‬
‫ي بإيضمماح مفهمموم الوسممطّية‪،‬‬ ‫ن هممذا البحممث معن م ّ‬
‫والخلصــة أ ّ‬
‫دا‪،‬‬
‫وتحديد مدلولها في ضوء القرآن الكريم‪ ،‬تعريًفمما وتأصمميل‪ ،‬وتحديم ً‬
‫وتطبيًقا‪.‬‬
‫وهذا هو المعنــى ال ّ‬
‫شــامل الممذي نفهمممه مممن قمموله تعممالى‪:‬‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪ .(143‬فمن منطوق‬ ‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫مأ ّ‬‫)وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬
‫ت‪ ،‬ومممن مفهومهمما‬ ‫هممذه اليممة ان ْط َل َْقممت‪ ،‬وفممي ضمموئها سممر ُ‬
‫ت وكتب م ُ‬
‫ت‪.‬‬‫ت وبّين ُ‬
‫موافقة ومخالفة حّقق ُ‬
‫وكنت أضع القضّية التي جئت أعالجها نصممب عينممي فممي كممل ممما‬
‫ت‪.‬‬
‫ت ودّون ْ‬ ‫س ّ‬
‫طر ُ‬
‫مخطط البحث‬
‫بدأت البحث بتعريف الوسطّية‪ ،‬واشتمل هذا المبحث على ما‬
‫يأتي‪:‬‬
‫‪ -1‬الوسطّية في اللغة‪.‬‬
‫‪ -2‬استعمالت الكلمة في القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ -3‬أحاديث نبوية في )الوسط(‪.‬‬
‫‪ -4‬تحرير معنى الوسطّية‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪6‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ثممم انتقلممت إلممى مبحممث آخممر وهممو أسس فهــم الوســطّية‪،‬‬


‫واشتمل على ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬مقدمة لهذا المبحث‪.‬‬
‫‪ -2‬الغلو والفراط‪.‬‬
‫‪ -3‬الجفاء والتفريط‪.‬‬
‫صراط المستقيم‪.‬‬ ‫‪ -4‬ال ّ‬
‫ثم عقدت مبحًثا لبيان ملمح الوسطّية‪ ،‬وتض ّ‬
‫من الحممديث عممن‬
‫الملمح التالية‪ ،‬بعد مقدمة المبحث‪:‬‬
‫‪ -1‬الخيرية‪.‬‬
‫‪ -2‬الستقامة‪.‬‬
‫‪ -3‬اليسر ورفع الحرج‪.‬‬
‫‪ -4‬البينّية‪.‬‬
‫‪ -5‬العدل والحكمة‪.‬‬
‫وأخيًرا ذكرت دليل تطبيقّيا يجمع هذه الملمح‪.‬‬
‫وهذه المبــاحث الثلثــة‪ ،‬تعتممبر أركان ًمما أساس مّية‪ ،‬ومنطلقممات‬
‫منهجي ّممة لمعرفممة حقيقممة الوسممطّية فممي حممدودها الشممرعّية‪ ،‬بممل إن‬
‫مضمون تلك المباحث هو المعيار الذي نستطيع من خلله أن نعرف‬
‫طا أو تفري ً‬
‫طا؟‬ ‫من إفرا ً‬
‫هل هذا المر وسطًيا أو هو يتض ّ‬
‫ي فممي كممل قضممية‬ ‫وهي كذلك وسيلة للبحث عن المنهممج الوسمط ّ‬
‫تعممرض لنمما‪ ،‬فمممن خلل تلممك المبمماحث نخممرج المنهممج وننقحممه‪ ،‬ثممم‬
‫نحّققه‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪7‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫م مبمماحث‬‫وبعد تحرير تلك الصول والمنطلقممات‪ ،‬عقممدت أهم ّ‬


‫الكتاب‪ ،‬وهو بيان تقرير القرآن الكريم لمنهج الوسطّية‪ ،‬حيث بّينممت‬
‫عناية القرآن بهذا المنهممج‪ ،‬وذكممرت المثلممة التطبيقي ّممة الممتي توضممح‬
‫ذلك‪ ،‬وجاء هذا الباب مشتمل على المباحث التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬مقدمة توضيحّية‪.‬‬
‫‪ -2‬وقفة مع سورة الفاتحة‪.‬‬
‫‪ -3‬منهج الوسطّية في العتقاد‪.‬‬
‫‪ -4‬منهج الوسطّية في الّتشريع والّتكليف‪.‬‬
‫‪ -5‬منهج الوسطّية في العبادة‪.‬‬
‫‪ -6‬منهج الوسطّية في ال ّ‬
‫شهادة والحكم‪.‬‬
‫‪ -7‬منهج الوسطّية في المر بالمعروف‪ ،‬والّنهي عن المنكر‪.‬‬
‫‪ -8‬منهج الوسطّية في الجهاد في سبيل الله‪.‬‬
‫‪ -9‬منهج الوسطّية في المعاملة والخلق‪.‬‬
‫‪ -10‬منهج الوسطّية في كسب المال وإنفاقه‪.‬‬
‫‪ -11‬منهج الوسطّية في مطالب النفس وشهواتها‪.‬‬
‫وأخيًرا ذكرت بعض الشواهد المتفّرقة الممتي تؤكممد هممذا المنهممج‬
‫وتبّينه‪.‬‬
‫وختمت البحث بخاتمة مناسبة ربطت فيها بين الهدف والنتيجة‪.‬‬
‫وبعد‪:‬‬
‫ق‬
‫فقد بذلت جهدي في إخراج هذا الموضوع‪ ،‬فما كان فيه من ح ّ‬
‫مهِ إ ِّل ب ِ َ‬
‫ما َ‬
‫شاَء(‬ ‫عل ْ ِ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫يٍء ِ‬ ‫ن بِ َ‬
‫ش ْ‬ ‫حي ُ‬
‫طو َ‬ ‫وصواب فمن الله وحده )َول ي ُ ِ‬
‫ن ت َعْل َم ُ‬
‫م( )النسمماء‪ :‬مممن‬ ‫ما ل َم ْ‬
‫م ت َك ُم ْ‬ ‫)البقرة‪ :‬من الية ‪) .(255‬وَعَل ّ َ‬
‫م َ‬
‫ك َ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪8‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫الية ‪ .(113‬وما كان فيه من تقصير وخطأ فمن نفسي وال ّ‬


‫شمميطان‪،‬‬
‫وأستغفر الله‪.‬‬
‫فلله الحمد والشــكر والمن ّممة‪ ،‬والّثنمماء الحسممن‪ ،‬علممى فضممله‪،‬‬
‫وتيسيره‪ ،‬وإعانته‪ ،‬وتوفيقه‪ ،‬ثم أشكر كل من أسهم في إخراج هممذا‬
‫فلهم مني ال ّ‬
‫شكر‬ ‫)‪(1‬‬
‫ما مباشًرا أو غير مباشر‬
‫البحث سواء كان إسها ً‬
‫دعاء‪.‬‬
‫وجميل ال ّ‬
‫والحمد لله أول وآخًرا‪.‬‬
‫ب فيه وعل‬ ‫ج ّ‬
‫ل من ل عي َ‬ ‫إن تجد عيب ًــا فسـدّ الخلل‬

‫وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه‪.‬‬


‫الطائف‬
‫‪ 1413 /26/3‬هم‬

‫‪ - 1‬أشكر الجامعة بصفة خاصة حيث فّرغتني لمدة عام مما مكنني من إنجاز هذا البحث‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪9‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫تعريف الوسطّية‬
‫الوسطّية في اللغة‬
‫متقاربممة فممي‬
‫ن‪ ،‬ولكنهمما ُ‬‫دة معمما ٍ‬‫جاءت كلمة )وسط( في اللغة لع ّ‬
‫مل في حقيقتها ومآلها‪.‬‬
‫مدلولها عند التأ ّ‬
‫سين والط ّمماء‪ :‬بنمماء صممحيح‬‫قال ابن فارس‪) :‬وسط(‪ :‬الواو وال ّ‬
‫يد ّ‬
‫ل على العدل والّنصف‪.‬‬
‫سممطًا(‬ ‫ُ‬ ‫وأعدل الشيء‪ :‬أوسطه‪ ،‬ووسممطه‪ ،‬قممال اللممه ‪‬‬
‫ة وَ َ‬
‫مم ً‬
‫)أ ّ‬
‫)البقرة‪ :‬من الية ‪.(143‬‬
‫سط القمموم ‪-‬‬‫سه ‪ -‬بفتح السين ‪ -‬وو ْ‬ ‫س َ‬
‫ط رأ ِ‬ ‫ت وَ َ‬‫ويقولون‪ :‬ضرب ُ‬
‫طهم حسممًبا ‪ -‬إذا كممان فممي واسممطةِ قممومه‬ ‫سمم ُ‬
‫بسممكونها ‪ ،-‬وهممو أو َ‬
‫وأرفعهم محل )‪.(1‬‬
‫سممين وسممكونها‪،‬‬
‫ومن هذا الكلم يّتضح أن )وسط( تممأتي بفتممح ال ّ‬
‫وفتحها أكثر استعمال كما سيأتي‪.‬‬
‫ويمكن إجمال المعاني التي جاءت تد ّ‬
‫ل عليهما همذه الكلممة فيمما‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(2‬‬
‫يلي‬
‫سين تكون ظرًفا بمعنممى )بيممن(‪ ،‬قممال‬
‫سط( بسكون ال ّ‬
‫‪) -1‬و ْ‬
‫سين فهو ظممرف ل اسممم‪،‬‬
‫سط بسكون ال ّ‬‫ما الو ْ‬
‫في لسان العرب‪ :‬وأ ّ‬
‫سممط‬‫جاء على وزان نظيره في المعنى وهو )بين(‪ ،‬تقول‪ :‬جلست و ْ‬
‫القوم‪ ،‬أي‪ :‬بينهم‪ ،‬ومنه قول سوار بن المضرب‪:‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬معجم مقاييس اللغة مادة‪) :‬وسط( ‪.6/108‬‬

‫‪ - 2‬انظر تفصيل ذلك في المعاجم اللغوية‪ ،‬ووسطّية أهل السّنة بين الفرق لمحمد باكريم ‪ -‬مخطوط ‪ -‬والوسطّية في السلم لزيد الزيد‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪10‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫سـط الّناس‬
‫ول أمانـة و ْ‬ ‫ي أرى مـن ل‬
‫ي كأنـ ّ‬
‫إن ّ‬
‫)‪(3‬‬
‫عريانـا‬
‫ُ‬ ‫حيـاة‬

‫قممال د‪ .‬زيممد الزيممد‪ :‬وقممد أشممارت بعممض المعمماجم اللغويممة إلممى‬


‫سط بالسكون‪ ،‬فقممالوا‪ :‬إن‬
‫سط ‪ -‬بالتحريك ‪ -‬وو ْ‬
‫التفريق بين كلمة و َ‬
‫سكون‪ ،‬وممما ل يصمملح فيممه )بيممن(‬
‫كل موضع يصلح فيه )بين( فهو بال ّ‬
‫فهو بالفتح‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬كل منهما يقع موضع الخر‪ ،‬قممال ابممن الثيممر فممي غريممب‬
‫الحديث‪ :‬وهو الشبه )‪.(1‬‬
‫ما كنت أسمع شيوخنا يقولون في الفممرق‬ ‫وقال الزبيدي‪ :‬وقدي ً‬
‫ساكن متحّرك‪ ،‬والمتحّرك سمماكن‬
‫ما شامل لما ذكر‪ ،‬وهو ال ّ‬
‫بينهما كل ً‬
‫)‪.(2‬‬
‫ما لما بين طرفي الشيء وهو‬‫سط بالفتح ‪ -‬اس ً‬ ‫‪ -2‬وتأتي ‪ -‬و َ‬
‫ت وسممط الحبممل‪ ،‬وكسممرت وسممط القمموس‪،‬‬
‫منه‪ ،‬ومممن ذلممك‪ :‬قبضم ْ‬
‫دار‪ ،‬وهذه حقيقة معناها كما ذكر ابن بّري )‪.(3‬‬
‫وجلست وسط ال ّ‬
‫ضا ‪ -‬صفة‪ ،‬بمعنى خيار‪ ،‬وأفضل‪ ،‬وأجود‪،‬‬ ‫‪ -3‬وتأتي ‪ -‬بالفتح أي ً‬
‫فأوسط الشيء أفضله وخياره‪ :‬كوسط المرعمى خيمر ممن طرفيمه‪،‬‬
‫ومرعى وسط أي‪ :‬خيار‪.‬‬
‫وواسممطة القلدة‪ :‬الجمموهر الممذي وسممطها‪ ،‬وهممو أجودهمما‪ ،‬ورجممل‬
‫وسط ووسيط‪ :‬حسن )‪.(4‬‬
‫‪ - 3‬انظر لسان العرب مادة )وسط( )‪.(7/428‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬الوسطّية في السلم ص )‪ (17‬ومختار الصحاح مادة )وسط( )‪ ،(720‬وغريب الحديث لبن الثير )‪.(5/183‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تاج العروس مادة )وسط( )‪.(5/340‬‬

‫‪ - 3‬لسان العرب مادة )وسط( )‪.(7/427‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬لسان العرب مادة )وسط( )‪ ،(430 ،7/427‬والصحاح مادة )وسط( )‪ ،(3/1167‬ووسطّية أهل السنة ص ‪.2‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪11‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫‪ -4‬وتأتي وسط ‪ -‬بالفتح ‪ -‬بمعنممي عممدل‪ ،‬قممال ابممن فممارس‪:‬‬


‫وسممط‪ :‬بنمماء صممحيح يممد ّ‬
‫ل علممى العممدل‪ ،‬وأعممدل الشمميء أوسممطه‬
‫ووسطه‪.‬‬
‫وقال ابن منظور‪ :‬ووسط الشيء وأوسطه‪ :‬أعدله‪.‬‬
‫وقال الفيروزآبادي‪ :‬الوسط ‪ -‬محركة ‪ -‬من كل شيء‪ :‬أعدله‬
‫)‪.(1‬‬
‫ضــا ‪ -‬للشمميء بيممن الجيممد‬
‫‪ -5‬وتــأتي )وســط( بالفتــح ‪ -‬أي ً‬
‫والرديء‪.‬‬
‫قال الجوهري‪ :‬ويقال‪ :‬شيء وسط‪ :‬أي بين الجيد والرديء‪.‬‬
‫وقال صاحب المصباح المنير‪ُ :‬يقال شيء وسممط‪ ،‬أي بيممن الجيممد‬
‫والرديء )‪.(2‬‬
‫ن اللممه‬
‫ولكن من وسط أموالكم فممإ ّ‬ ‫‪‬‬ ‫ومنه ما ورد في الحديث‪:‬‬
‫لم يسألكم خيره‪ ،‬ولم يأمركم بشّره ‪.(3) ‬‬
‫‪ -6‬ويقال )وسط( لممما لممه طرفممان مممذمومان‪ ،‬يممراد بممه ممما كممان‬
‫م‪ ،‬وهو الغالب‪.‬‬‫ما من الذ ّ ّ‬
‫بينهما سال ً‬
‫)‪.(4‬‬ ‫قال الراغب‪ :‬وتارة ُيقال لما له طرفان مذمومان‬
‫سخاء وسط بين البخل والّتبذير‪ ،‬وال ّ‬
‫شجاعة وسممط‬ ‫ومثال ذلك‪ :‬ال ّ‬
‫ور )‪.(5‬‬
‫بين الجبن والته ّ‬

‫سّنة بين الفرق ص )‪.(2‬‬


‫‪ - 1‬انظر‪ :‬معجم مقاييس اللغة مادة )وسط( ولسان العرب مادة )وسط( والقاموس المحيط مادة )وسط( وسطّية أهل ال ُ‬
‫سّنة ص )‪.(2/3‬‬
‫‪ - 2‬انظر‪ :‬مادة )وسط( في الصحاح‪ ،‬والمصباح المنير ص )‪ ،(252‬ووسطّية أهل ال ُ‬
‫‪ - 3‬أخرجه أبو داود )‪ (104 ،2/103‬رقم )‪ ،(1582‬والطبراني في الصغير ص )‪ .(115‬والبيهقي في السنن )‪ .(4/95‬وصححه اللباني كما في صحيح الجامع رقم )‪.(3041‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬المفردات في غريب القرآن‪ ،‬مادة‪ :‬وسط ص )‪.(522‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬الوسطّية لفريد عبد القادر ص )‪.(9‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪12‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫قال محمممد بمماكريم )‪ (1‬وكيفممما تص مّرفت هممذه اللفظممة نجممدها ل‬


‫تخرج في معناهما عمن معماني العمدل والفضمل والخيريمة‪ ،‬والنصمف‬
‫والبينّيممة‪ ،‬والتوسممط بيممن الطرفيممن‪ ،‬فتقممول‪) :‬وسممو ً‬
‫طا(‪ :‬بمعنممى‬
‫سط المعتدل‪ ،‬ومنممه قممول العرابممي‪ :‬علمنممي دين ًمما وسممو ً‬
‫طا‪ ،‬ل‬ ‫المتو ّ‬
‫سط بيممن‬ ‫طا‪ ،‬فإن الوسط هاهنا المتو ّ‬ ‫طا سقو ً‬ ‫طا‪ ،‬ول ساق ً‬
‫ذاهًبا فرو ً‬
‫الغالي والجافي )‪.(2‬‬
‫و)وسي ً‬
‫طا( أي‪ :‬حسيًبا شريًفا‪ ،‬قال الجوهري‪ :‬وفلن وسمميط فممي‬
‫قومه‪ ،‬إذا كان أوسطهم نسًبا‪ ،‬وأرفعهم محل‪ ،‬قال العرجي‪:‬‬
‫ولم تك نسبتـي فـي آل‬ ‫كأّني لم أكن فيهم‬
‫)‪(3‬‬
‫عمـرو‬ ‫وسي ً‬
‫طا‬

‫سط بين المتخاصمين )‪.(4‬‬


‫و)الوسيط(‪ :‬المتو ّ‬
‫وهي الشفاعة‪.‬‬ ‫)‪(5‬‬
‫و)التوسط(‪ :‬بين الناس من الوساطة‬
‫و)التوسيط(‪ :‬أي تجعل الشيء في الوسط )‪.(6‬‬
‫ضا ‪ -‬قطع الشيء نصفين )‪.(7‬‬
‫و)التوسيط(‪ - :‬أي ً‬
‫سطها السماء )‪.(8‬‬
‫و)وسوط الشمس(‪ :‬تو ّ‬
‫و)واسطة القلدة(‪ :‬الجوهر الذي في وسممطها‪ ،‬وهممو أجودهمما‬
‫)‪.(9‬‬
‫سّنة ص )‪ ،(3‬وانظر‪ :‬لما سيأتي لسان العرب مادة )وسط( وتاج العروس مادة )وسط( والصحاح مادة )وسط(‪.‬‬
‫‪ - 1‬وسطّية أهل ال ُ‬
‫‪ - 2‬لسان العرب مادة )وسط( )‪.(7/429‬‬

‫‪ - 3‬الصحاح مادة )وسط( )‪.(3/1167‬‬

‫‪ - 4‬القاموس المحيط مادة )وسط( )‪.(2/406‬‬

‫‪ - 5‬الصحاح مادة )وسط( )‪.(3/1167‬‬

‫‪ - 6‬الصحاح مادة )وسط( )‪.(3/1167‬‬

‫‪ - 7‬الصحاح مادة )وسط( )‪.(3/1167‬‬

‫‪ - 8‬لسان العرب مادة )وسط( )‪.(7/429‬‬

‫‪ - 9‬الصحاح مادة )وسط( )‪.(3/1167‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪13‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقال فريد عبد القادر‪ :‬استقّر عند العممرب أنهممم إذا أطلقمموا‬
‫كلمممة )وسممط( أرادوا معمماني الخيممر‪ ،‬والعممدل‪ ،‬والنصممفة‪ ،‬والجممودة‪،‬‬
‫والّرفعة‪ ،‬والمكانة العلّية‪.‬‬
‫والعرب تصف فاضل الّنسب بمأنه وسمط فمي قمومه‪ ،‬وفلن ممن‬
‫واسطة قومه‪ ،‬أي‪ :‬مممن أعيممانهم‪ ،‬وهممو مممن أوسممط قممومه‪ ،‬أي مممن‬
‫خيارهم وأشرافهم )‪.(9‬‬
‫وأختم ما قيل في معنى الوسط بهذا الكلم للشيخ ابممن عاشممور‪،‬‬
‫ك جعل ْنمماك ُ ُ‬
‫ة‬
‫مم ً‬
‫مأ ّ‬‫ْ‬ ‫حيث قممال أثنمماء تفسمميره لقمموله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬وَك َمذ َل ِ َ َ َ َ‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(143‬‬ ‫وَ َ‬
‫والوسط‪ :‬اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيممط بممه‪ ،‬أو للشمميء‬
‫الواقع بين أشياء محيطة به‪ ،‬ليس هو إلممى بعضممها أقممرب منممه إلممى‬
‫بعض عرًفا‪ ،‬ولما كان الوصول إليه ل يقع إل ّ بعد اخممتراق ممما ُيحيممط‬
‫صيانة والع مّزة؛ طبعًمما‪ :‬كوسممط المموادي ل تصممل‬ ‫به‪ ،‬أخذ فيه معنى ال ّ‬
‫دواب إل بعممد أكممل ممما فممي الجمموانب‪ ،‬فيبقممى كممثير‬‫إليه الّرعمماة والم ّ‬
‫العشممب والكل‪ ،‬ووضممًعا‪ :‬كوسممط المملكممة يجعممل محمم ّ‬
‫ل قاعممدتها‪،‬‬
‫ووسط المدينة يجعل محل قصبتها؛ لن المكان الوسط ل يصل إليه‬
‫العدوّ بسهولة‪ ،‬وكواسطة العقد لنفس لؤلؤة فيه‪.‬‬
‫فمن أجل ذلك صار معنممى الّنفاسممة والع مّزة والخيممار مممن لمموازم‬
‫معنى الوسط عرًفا‪ ،‬فأطلقوه على الخيار النفيس كناية‪ ،‬قال زهير‪:‬‬
‫إذا نـزلت إحـدى الليالـــي‬ ‫م‬
‫هم وسط يرضــى النـــا ُ‬
‫بمعضـــــــــــــــــــــــــل‬ ‫بحكمهــــــــــــــــــــــــم‬

‫‪ - 9‬انظر‪ :‬الوسطّية ص )‪ ،(10‬وجمهرة اللغة لبن دريد )‪ ،(3/29‬والقاموس المحيط مادة )وسط( )‪ ،(2/391‬وتهذيب اللغة مادة )وسط( )‪.(12/26‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪14‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ويقال‪ :‬أوسط القبيلة‪ ،‬لصميمها‪.‬‬


‫صفة الواقعة عدل بين خلقين ذميمين‬ ‫ما إطلق الوسط على ال ّ‬ ‫وأ ّ‬
‫ور‪ ،‬والكممرم بيممن‬
‫شجاعة بين الجبممن والتهم ّ‬ ‫فيهما إفراط وتفريط‪ ،‬كال ّ‬
‫ح والسّرف‪ ،‬والعدالة بين الّرحمة والقساوة‪ ،‬فذلك روى حديث‪:‬‬ ‫ال ّ‬
‫ش ّ‬
‫‪ ‬خير المور أوسطها ‪ ‬وسنده ضعيف )‪.(1‬‬
‫عرفّيتين )‪.(2‬‬
‫وقد شاع هذان الطلقان حتى صارا حقيقتين ُ‬
‫ومن خلل ما سبق اّتضح لنا المعنى اللغوي لكلمممة )وسممط(‪،‬‬
‫ن متقاربة‪.‬‬
‫وما تصّرف منها‪ ،‬وأنها تئول إلى معا ٍ‬
‫استعمالت الكلمة في القرآن الكريم‬
‫دة مواضممع‪ ،‬وذلممك‬ ‫وردت كلمممة )وسممط( فممي القممرآن فممي عمم ّ‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬مممن اليممة‬‫ددة‪ ،‬حيث وردت بلفظ‪) :‬وَ َ‬ ‫بتصاريفها المتع ّ‬
‫َ‬ ‫سممم َ‬
‫ط(‬
‫سممم ِ‬
‫طى( )البقمممرة‪ :‬ممممن اليمممة ‪ (238‬و )أوْ َ‬ ‫‪ (143‬و )ال ْوُ ْ‬
‫)‪(4‬‬ ‫)‪(3‬‬

‫َ‬
‫م( )القلممم‪ :‬مممن اليممة ‪ (6)(28‬و‬‫س مط ُهُ ْ‬
‫)المائدة‪ :‬من الية ‪ (89‬و )أوْ َ‬
‫)‪(5‬‬

‫ن( )العاديات‪ :‬من الية ‪. (7)(5‬‬ ‫سط ْ َ‬ ‫)فَوَ َ‬


‫وسأذكر معنى كل كلمة حسب ورودها في القرآن الكريم‪ ،‬وكلم‬
‫دا لذلك ببعض ما ورد في السنة النبوّية‪.‬‬
‫المفسرين حولها‪ ،‬مستشه ً‬

‫‪ - 1‬قال العجلوني في كشف الخفاء )‪ :(2/391‬حديث‪" :‬خير المور أوسطها" وفي لفظ‪" :‬أوساطها"‪ .‬قال ابن الغرس‪ :‬ضعيف‪ .‬وقال في المقاصد‪ :‬رواه ابن السمعاني في‬

‫عا‪" :‬خير العمال أوسطها"‪ .‬وللعسكري عن الوزاعي أنه قال‪ :‬ما من أمر‬
‫عا‪ .‬وللديلمي بل سند عن ابن عباس مرفو ً‬
‫ذيل تاريخ بغداد‪ ،‬لكن بسند فيه مجهول عن علي مرفو ً‬
‫أمر الله به إل عارض الشيطان فيه بخصلتين ل يبالي أيهما أصاب‪ :‬الغلو أو التقصير‪ .‬ولبي يعلى بسند جيد عن وهب بن منبه‪ ،‬قال‪ :‬إن لكل شيء طرفين ووس ً‬
‫طا‪ ،‬فإذا أمسك‬

‫بأحد الطرفين مال الخر‪ ،‬وإذا أمسك بالوسط اعتدل الطرفان‪ ،‬فعليكم بالوساط من الشياء‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬التحرير والتنوير )‪.(2/17‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬التحرير والتنوير )‪.(2/17‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬التحرير والتنوير )‪.(2/17‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬التحرير والتنوير )‪.(2/17‬‬

‫‪ - 6‬انظر‪ :‬التحرير والتنوير )‪.(2/17‬‬

‫‪ - 7‬انظر‪ :‬التحرير والتنوير )‪.(2/17‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪15‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫أول‪ :‬كلمة "وس ً‬


‫طا"‪:‬‬
‫جعَل ْن َمماك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ك َ‬‫وردت في قوله ‪ -‬تعالى ‪ -‬في سممورة البقممرة‪) :‬وَك َمذ َل ِ َ‬
‫ُ‬
‫م‬‫ل عَل َي ْك ُم ْ‬‫سممو ُ‬‫ن الّر ُ‬ ‫س وَي َك ُممو َ‬ ‫َ‬
‫داَء عَلممى الن ّمما ِ‬
‫ش مه َ َ‬ ‫سممطا ً ل ِت َ ُ‬
‫كون ُمموا ُ‬ ‫ة وَ َ‬
‫مم ً‬
‫أ ّ‬
‫شِهيدًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(143‬‬ ‫َ‬
‫سممنة الّنبوي ّممة‪ ،‬كممما ذكممر لهمما‬ ‫وقد ورد تفسير هممذه الكلمممة فممي ال ّ‬
‫ن‪ ،‬وتفصيل ذلك كما يلي‪:‬‬
‫دة معا ٍ‬
‫المفسرون ع ّ‬
‫‪ -1‬روى البخاري عن أبي سعيد الخدري ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول‬
‫الله‪ُ   ،‬يدعى نوح يمموم القيامممة فيقممول‪ :‬لبيممك وسممعديك يمما رب‪،‬‬
‫كم؟ فيقولون‪:‬‬‫مته‪ :‬هل ب َل ّغَ ُ‬
‫فيقول‪ :‬هل بّلغت؟ فيقول‪ :‬نعم‪ ،‬فُيقال ل ّ‬
‫متممه‪،‬‬
‫ما أتانا من نممذير‪ ،‬فيقممول‪ :‬مممن يشممهد لممك؟ فيقممول‪ :‬محمممد وأ ّ‬
‫دا‪ .‬فممذلك قمموله ‪-‬‬‫فيشهدون أّنه قد بّلغ‪ ،‬ويكون الّرسول عليكم شهي ً‬
‫طا لتكونوا شهداء على الّناس‬ ‫ة وس ً‬
‫م ً‬
‫ل ذكره ‪) :-‬وكذلك جعلناكم أ ّ‬ ‫ج ّ‬
‫دا(‪ .‬والوسط‪ :‬العدل ‪.(1) ‬‬‫ويكون الّرسول عليكم شهي ً‬
‫وروى الطبري بإسممناده عممن النممبي‪  ،‬فممي قمموله‪) :‬وَك َمذ َل ِ َ‬
‫ك‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪ (143‬قال‪  :‬عدول ‪.(2) ‬‬ ‫جعل ْناك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫مأ ّ‬‫َ َ َ ْ‬
‫دا من الّروايات في هممذا المعنممى‪ .‬ثممم ذكممر‬ ‫وقد ساق الطبري عد ً‬
‫صحابة والّتابعين‪ ،‬كممأبي سممعيد‬
‫تفسير هذه الية منسوًبا إلى بعض ال ّ‬
‫سروها بم "عدول"‪.‬‬
‫ومجاهد وغيرهما‪ ،‬حيث ف ّ‬
‫وكذلك نقل تفسير ابن عباس لها "جعلكم أمة عدول"‪ .‬وقال ابن‬
‫وبين المم )‪.(3‬‬ ‫زيد‪ :‬هم وسط بين النبي‪ ،‬‬

‫‪ - 1‬أخرجه البخاري )‪ .(5/151‬قال الحافظ في الفتح )‪ :(8/22‬قوله‪" :‬والوسط‪ :‬العدل" هو مرفوع من نفس الخبر‪ ،‬وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما وهم فيه بعضهم‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪ .(2/7‬والحديث أخرجه الترمذي )‪ (5/190‬رقم )‪ (2961‬وأحمد )‪ (3/9‬وعندهما "عدل" بدل "عدول"‪.‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(2/7‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪16‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ما الوسط فإنه فممي كلم العممرب‪:‬‬


‫‪ -2‬قال المام الطبري‪ :‬وأ ّ‬
‫الخيممار‪ُ ،‬يقممال منممه‪ :‬فلن وسممط الحسممب فممي قممومه‪ ،‬أي متوسممط‬
‫الحسب‪ ،‬إذا أرادوا بذلك الّرفع في حسبه‪.‬‬
‫سمملمى فممي‬
‫وهو وسط في قومه وواسط‪ ،‬قال ابن زهير بن أبي ُ‬
‫الوسط‪:‬‬
‫إذا نـزلت إحـدى الليالـــي‬ ‫هم وســط يرضــى النــام‬
‫َ‬
‫بمعظـــــــــــــــــــــــــم ِ‬ ‫بحكمهــــــــــــــــــــــــم‬

‫قال‪ :‬وأنا أرى أن الوسممط فممي هممذا الموضممع هممو الوسممط الممذي‬
‫دار‪.‬‬
‫طرفين‪ ،‬مثل وسط ال ّ‬ ‫بمعنى الجزء‪ ،‬الذي هو بين ال ّ‬
‫سطهم‬
‫وأرى أن الله ‪ -‬تعالى ذكره ‪ -‬إّنما وصفهم بأّنهم وسط لتو ّ‬
‫هب‪،‬‬ ‫دين‪ ،‬فل هم أهل غلوّ فيه‪ ،‬غلوّ الّنصارى الذين غلموا بمالّتر ّ‬
‫في ال ّ‬
‫وقيل هم في عيسى ما قالوا فيه‪ ،‬ول هم أهل تقصممير فيممه‪ ،‬تقصممير‬
‫دلوا كتاب الله‪ ،‬وقتلمموا أبنمماءهم‪ ،‬وكممذبوا علممى رّبهممم‪،‬‬
‫اليهود الذين ب ّ‬
‫سط واعتدال فيه‪ ،‬فوصفهم الله بذلك‪ ،‬إذ‬
‫وكفروا به‪ ،‬ولكنهم أهل تو ّ‬
‫ب المور إلى الله أوسطها‪.‬‬
‫كان أح ّ‬
‫ما التأويل فإّنه جمماء بممأن الوسممط العممدل ‪ -‬كممما سممبق ‪ -‬وذلممك‬ ‫وأ ّ‬
‫ن الخيار من الناس عدولهم )‪.(1‬‬ ‫معنى الخيار‪ ،‬ل ّ‬
‫ك جعل ْنمماك ُ ُ‬
‫ة‬
‫مم ً‬
‫مأ ّ‬‫ْ‬ ‫‪ -3‬قال ابن كثير )‪ (2‬وقوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَك َمذ َل ِ َ َ َ َ‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪ .(143‬الوسط هنا‪ :‬الخيممار والجممود‪ ،‬كممما‬
‫وَ َ‬
‫ُيقال في قريش‪ :‬أوسط العرب نسًبا وداًرا‪ ،‬أي‪ :‬خيرها‪.‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(2/6‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬عمدة التفسير عن ابن كثير )‪ .(1/263‬تحقيق أحمد شاكر‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪17‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وس ً‬
‫طا في قومه‪ ،‬أي‪ :‬أشرفهم نسًبا‪.‬‬ ‫وكان رسول الله‪ ،‬‬
‫صلوات‪ ،‬وهممي العصممر‪،‬‬
‫ومنه الصلة الوسطى‪ ،‬التي هي أفضل ال ّ‬
‫صحاح وغيرها‪.‬‬
‫كما ثبت في ال ّ‬
‫وروى المام أحمد )‪ (1‬عن أبي سعيد‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اللممه‪،‬‬
‫‪ ‬يدعى نوح يوم القيامممة فُيقممال لمه‪ :‬همل بّلغممت؟ فيقممول‪ :‬نعمم‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫فيدعى قومه فُيقال لهم‪ :‬هل بّلغكم؟ فيقولون‪ :‬ممما أتانمما مممن نممذير‪،‬‬
‫متممه‪،‬‬
‫وما أتانا من أحد‪ ،‬فُيقال لنوح‪ :‬من يشهد لك؟ فيقول‪ :‬محمد وأ ّ‬
‫ة وسم ً‬
‫طا(‪ .‬قممال‪ :‬الوسممط‪:‬‬ ‫مم ً‬
‫قال‪ :‬فذلك قمموله‪) :‬وكممذلك جعلنمماكم أ ّ‬
‫العدل‪ ،‬فُتدعون فتشهدون له بالبلغ‪ ،‬ثم أشهد عليكم ‪ ‬رواه البخاري‬
‫والترمذي والنسائي وابن ماجة )‪.(2‬‬
‫‪ -4‬وقال ابن الجوزي في تفســيره لهــذه اليــة‪ :‬سممبب‬
‫نمزولها أن اليهود قالوا‪ :‬قبلتنا قبلة النبياء‪ ،‬ونحن عدل بيممن النمماس‪،‬‬
‫فنمزلت هذه الية‪.‬‬
‫والوسط‪ :‬العدل‪ ،‬قاله ابن عباس وأبو سعيد ومجاهد وقتادة‪.‬‬
‫وقال ابن قتيبة‪ :‬الوسط‪ :‬العدل والخيار‪ ،‬ومنه قمموله ‪ -‬تعممالى‬
‫‪َ) :-‬قا َ َ‬
‫م()القلم‪ :‬من الية ‪ .(28‬أي‪ :‬أعدلهم وخيرهم‪.‬‬ ‫سط ُهُ ْ‬
‫ل أو ْ َ‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫إذا نـــزلت إحــدى الليــالي‬ ‫هم وســط يرضــى النــام‬
‫بمعظـــــــــــــــــــــــــم‬ ‫بحكمهــــــــــــــــــــــــم‬

‫وأصل ذلك أن خير الشياء أوسطها‪ ،‬والغلوّ والتقصير مذمومان‪.‬‬


‫‪ - 1‬المسند )‪.(3/32‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬صحيح البخاري )‪ .(5/151‬سنن الترمذي )‪ (5/190‬رقم)‪ (2961‬سنن ابن ماجة )‪ (2/1432‬رقم )‪ ،(4284‬ولم أجده في الصغرى من سنن النسائي‪ ،‬فلعله في‬

‫الكبرى منه‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪18‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫دمشــقي‪ :‬فممي هممذا الكلم محممذوف‪،‬‬ ‫قــال أبــو ســليمان ال ّ‬


‫ومعناه جعلت قبلتكم وس ً‬
‫طا بين القبلتين‪ ،‬فإن اليهممود يصمملون نحممو‬
‫المغرب‪ ،‬والنصارى نحو المشرق‪ ،‬وأنتم بينهما )‪.(1‬‬
‫سطًا( )البقرة‪:‬‬ ‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬ ‫م ً‬‫مأ ّ‬‫‪ -5‬قال صاحب المنار‪) :‬وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬
‫ن‬
‫مم ْ‬
‫دي َ‬ ‫من الية ‪ .(143‬هو تصريح بممما فهممم مممن قمموله‪َ) :‬والل ّم ُ‬
‫ه ي َهْم ِ‬
‫يَ َ‬
‫شاُء( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(213‬أي علممى هممذا النحممو مممن الهدايممة‬
‫مة وس ً‬
‫طا‪.‬‬ ‫جعلناكم أ ّ‬
‫قممالوا‪ :‬إن الوسممط هممو العممدل والخيممار‪ ،‬وذلممك أن الزيممادة علممى‬
‫المطلوب في المر إفراط‪ ،‬والّنقص عنه تقصير وتفريط‪ ،‬وك م ّ‬
‫ل مممن‬
‫دة القويمممة‪ ،‬فهممو ش مّر ومممذموم‪،‬‬ ‫الفراط والّتفريط مي ْم ٌ‬
‫ل عممن الجمما ّ‬
‫سط بينهما )‪.(2‬‬ ‫فالخيار هو الوسط بين طرفي المر‪ ،‬أي المتو ّ‬
‫‪ -6‬وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي‪:‬‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬مممن اليممة ‪ (143‬أي‪ :‬عممدل‬ ‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫مأ ّ‬‫)وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬
‫خياًرا‪.‬‬
‫وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطممر‪ ،‬فجعممل اللممه هممذه‬
‫طا فمي النبيماء بيمن ممن غل‬ ‫دين‪ ،‬وسم ً‬ ‫المة وس ً‬
‫طا في كل أممور الم ّ‬
‫فيهم كالنصارى‪ ،‬وبين من جفاهم كاليهود‪ ،‬بأن آمنوا بهممم كممل علممى‬
‫الوجه اللئق بذلك‪.‬‬
‫ووس ً‬
‫طا في الشريعة‪ ،‬ل تشممديدات اليهممود وآصممارهم‪ ،‬ول تهمماون‬
‫النصارى‪.‬‬

‫فا للقبلة‪ ،‬والصحيح أنها وصف للمة كما ثبت في الصحيح‪ ،‬ثم إنه لم يكن‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬زاد المسير )‪ ،(1/154‬وكلم أبي سليمان الدمشقي فيه غرابة‪ ،‬فإنه جعل الوسطّية وص ً‬

‫هناك قبلتان قبل الكعبة‪ ،‬وإنما هي بيت المقدس فقط‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(2/4‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪19‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ح لهم صمملة‬ ‫وفي باب ال ّ‬


‫طهارة والمطاعم‪ ،‬ل كاليهود الذين ل تص ّ‬
‫إل ّ في ب َِيعهِ ْ‬
‫م وكنائسممهم‪ ،‬ول يطّهرهممم الممماء مممن الّنجاسممات‪ ،‬وقممد‬
‫حّرمت عليهم طّيبات عقوبة لهم‪.‬‬
‫سون شيًئا ول ُيحّرمون شيًئا‪ ،‬بل أباحوا‬
‫ول كالنصارى الذين ل ُينج ّ‬
‫ب ودرج‪.‬‬
‫ما د ّ‬
‫مهمما‪ ،‬وأبمماح لهممم‬
‫بل طهارتهم ‪ -‬أي هذه المة ‪ -‬أكمممل طهممارة وأت ّ‬
‫الطّيبات ممن المطماعم‪ ،‬والمشمارب‪ ،‬والملبمس‪ ،‬والمناكمح‪ ،‬وحمّرم‬
‫عليهم الخبائث من ذلك‪.‬‬
‫دين أكمله‪ ،‬ومن الخلق أجّلها‪ ،‬ومممن العمممال‬
‫مة من ال ّ‬
‫فلهذه ال ّ‬
‫أفضلها‪.‬‬
‫ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والحسان ما لم يهبه لمممة‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪ (143‬كمماملين‬ ‫ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫سواهم‪ ،‬فلذلك كانوا‪) :‬أ ّ‬
‫س( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪(143‬‬ ‫َ‬ ‫معتدلين‪ ،‬ليكونوا‪ُ ) :‬‬
‫داَء عَلممى الن ّمما ِ‬
‫شه َ َ‬
‫بسب عدالتهم وحكمهم بالقسط‪ ،‬يحكمون علممى الن ّمماس مممن سممائر‬
‫أهل الديان‪ ،‬ول يحكم عليهم غيرهم )‪.(1‬‬
‫‪ -7‬وقال سيد قطب في تفسيره لهذه الية‪:‬‬
‫مة الوسممط بكممل معمماني الوسممط‪ ،‬سممواء مممن الوسمماطة‬
‫وإنها لل ّ‬
‫بمعنى الحسن والفضل‪ ،‬أو من الوسط بمعنى العتدال والقصمد‪ ،‬أو‬
‫ي‪.‬‬‫من الوسط بمعناه الماديّ والحس ّ‬
‫ة وس ً‬
‫طا فممي الّتفكيممر‬ ‫م ً‬
‫ور والعتقاد‪ ،‬أ ّ‬ ‫طا في التص ّ‬ ‫ة وس ً‬ ‫م ً‬‫أ ّ‬
‫طا فممي الّتنظيممم والّتنسمميق‪ ،‬أمممة وس م ً‬
‫طا فممي‬ ‫ة وس م ً‬
‫مم ً‬
‫شممعور‪ ،‬أ ّ‬‫وال ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير كلم المنان )‪.(1/157‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪20‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ة وسم ً‬
‫طا فممي‬ ‫مم ً‬ ‫ة وسم ً‬
‫طا فممي الّزمممان‪ ،‬أ ّ‬ ‫مم ً‬
‫الرتباطات والعلقممات‪ ،‬أ ّ‬
‫المكان‪ ،‬ثم قال‪ :‬وما يعوق هذه المة اليوم عن أن تأخذ مكانها هممذا‬
‫الذي وهبه الله لها‪ ،‬إل أّنها تخّلت عن منهج اللممه الممذي اختمماره لهمما‪،‬‬
‫واّتخذت لها مناهج مختلفة‪ ،‬ليست هي التي اختارها الله لها )‪.(1‬‬
‫سرين في تفسير هذه الية‪ ،‬ومن خلل‬ ‫م أقوال المف ّ‬ ‫هذه أه ّ‬
‫ن سيأتي اعتبارها عند الحممديث عممن منهممج‬‫هذا التفسير اّتضحت معا ٍ‬
‫القرآن في تقرير الوسطّية في فصول لحقة‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(1/131‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪21‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ثانًيا‪ :‬كلمة "الوسطى"‬


‫وقد وردت هذه الكلمة في قمموله ‪ -‬تعممالى ‪ -‬فممي سممورة البقممرة‪:‬‬
‫ممموا ل ِل ّمهِ قَممان ِِتي َ‬
‫ن(‬ ‫سم َ‬
‫طى وَُقو ُ‬ ‫صمملةِ ال ْوُ ْ‬
‫ت َوال ّ‬ ‫ص مل َ َ‬
‫وا ِ‬ ‫ظوا عَل َممى ال ّ‬
‫حممافِ ُ‬
‫) َ‬
‫مما لمه‬
‫سممرين فممي هممذه اليمة م ّ‬
‫)البقرة‪ (238:‬وسممأذكر أقمموال المف ّ‬
‫علقة مباشرة في معنى "الوسممط" حيممث سيّتضممح سممبب تسممميتها‬
‫صمملوات‪ ،‬أو‬
‫صلوات‪ ،‬أو لّنها أفضل ال ّ‬ ‫سطة بين ال ّ‬
‫بذلك‪ ،‬هل لنها متو ّ‬
‫صلوات هي‪ ،‬وممما سمميرد حممول‬ ‫لكلْيهما مًعا؟ دون الوقوف عند أي ال ّ‬
‫هذه القضّية فهو لبيان المعنى فقط‪.‬‬
‫صمملة الوسممطى‪،‬‬ ‫‪ -1‬ذكر المام الطبري أقوال العلماء في ال ّ‬
‫صلة الوسطى هممي العصممر‪ ،‬ثممم‬ ‫وأطال في ذكر أدّلة من قال‪ :‬إ ّ‬
‫ن ال ّ‬
‫صلة الوسطى هي العصر‪:‬‬ ‫جح أن ال ّ‬‫قال بعد أن ر ّ‬
‫صمملوات المكتوبممات‬
‫سممطها ال ّ‬
‫وإنما قيل لهــا الوســطى‪ :‬لتو ّ‬
‫الخمس‪ ،‬وذلك أن قبلها صمملتين‪ ،‬وبعممدها صمملتين‪ ،‬وهممي بيممن ذلممك‬
‫ن‪.‬‬
‫وسطاه ّ‬
‫والوسطى‪ :‬الفعلى من قول القائل‪ :‬وسممطت القمموم أسممطهم‬
‫سطة ووسو ً‬
‫طا‪ ،‬إذا دخلت وسطهم‪ .‬ويقال لل ّ‬
‫ذكر فيه‪ :‬هو أوسممطنا‪،‬‬
‫وللنثى‪ :‬هي وسطاًنا )‪ .(1‬وعندما ذكر قول من قال‪ :‬إن )الوسطى(‬
‫هي صلة المغرب‪ ،‬وهي قممول‪ :‬قبيصممة بممن ذؤيممب‪ ،‬عّقممب الطممبري‬
‫على ذلك قائل‪:‬‬
‫سممط‪،‬‬
‫ووجه قبيصة بن ذؤيب قمموله‪) :‬الوسممطى( إلممى معنممى التو ّ‬
‫الذي يكون صفة للشيء يكون عدل بين المرين‪ ،‬كالّرجمل المعتممدل‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(2/568‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪22‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫طا طوله‪ ،‬ول قصيرة قامته‪ ،‬ولذلك قممال‪:‬‬‫القامة‪ ،‬الذي ل يكون مفر ً‬
‫أل ترى أّنها ليست بأقّلها ول أكثرها‪.‬‬
‫ومن أجل فهم كلم المام الطبري في تعقيبممه علممى ابممن ذؤيممب‬
‫أذكر كلم قبيصة بن ذؤيب‪ ،‬قال‪ :‬الصلة الوسطى‪ :‬صمملة المغممرب‪،‬‬
‫ن‬
‫سممفر‪ ،‬وأ ّ‬
‫أل ترى أنهمما ليسممت بأقلهمما ول أكثرهمما‪ ،‬ول ُتقصممر فممي ال ّ‬
‫جلها )‪.(1‬‬
‫خرها عن وقتها ولم ُيع ّ‬
‫لم يؤ ّ‬ ‫رسول الله‪ ،‬‬
‫صمملة‬
‫‪ -2‬وجه ابن الجوزي أقــوال العلمــاء فممي المممراد بال ّ‬
‫الوسطى قائل‪ :‬وفي المراد بالوسطى ثلثة أقوال‪:‬‬
‫صلوات محل‪.‬‬ ‫أحدها‪ :‬أّنها أوسط ال ّ‬
‫والثاني‪ :‬أوسطها مقداًرا‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أفضلها‪.‬‬
‫ووسط الشمميء خيممره وأعممدله‪ ،‬ومنممه قمموله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬وَك َمذ َل ِ َ‬
‫ك‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(143‬‬ ‫جعل ْناك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫مأ ّ‬‫َ َ َ ْ‬
‫دعي هذا كممل‬‫وسطى بمعنى الُفضلى‪ ،‬جاز أن ي ّ‬ ‫فإن قلنا‪ :‬إن ال ُ‬
‫ذي مذهب فيها‪ .‬وإن قلنا‪ :‬إّنها أوسممطها مقممداًرا‪ ،‬فهممي المغممرب‪،‬‬
‫لن أقل المفروضات ركعتان‪ ،‬وأكثرها أربًعا‪.‬‬
‫وإن قلنا‪ :‬إّنها أوسطها محل‪ ،‬فللقائلين‪ :‬إّنها العصر أن يقولمموا‪:‬‬
‫قبلها صلتان في النهار‪ ،‬وبعدها صلتان في الليل‪ ،‬فهي الوسطى‪.‬‬
‫ومن قال هي الفجر‪ ،‬قال عكرمة‪ :‬هي وسط بين الليممل والنهممار‪،‬‬
‫وكذلك قال ابن النباري‪ :‬هي وسط بين الليل والنهار‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(2/564‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪23‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقال ابن النباري‪ :‬ومن قال‪ :‬هي الظهممر‪ ،‬قممال‪ :‬هممي وسممط‬
‫النهار‪.‬‬
‫ج بأن أّول صلة فرضت ال ّ‬
‫ظهر‪،‬‬ ‫فأما من قال‪ :‬هي المغرب‪ ،‬فاحت ّ‬
‫سطى‪.‬‬ ‫فصارت المغرب وُ ْ‬
‫ومن قال‪ :‬هي العشاء‪ ،‬فإّنه قممال‪ :‬هممي بيممن صمملتين ل تقصممران‬
‫)‪.(1‬‬
‫ومن خلل ما سبق يّتضح ارتباط كل قول بمعنى )الوسممط( فممي‬
‫ضوء المعاني التي سبق بيانها‪.‬‬
‫ي في تفسيره‪:‬‬
‫‪ -3‬وقال القاسم ّ‬
‫صمملوات‪ ،‬بمعنممى‬
‫و"الصلة الوســطى" أي‪ :‬الوسممطى بيممن ال ّ‬
‫سطة‪ ،‬أو الفضلى منها‪ ،‬من قولهم للفضل‪ :‬الوسط‪.‬‬ ‫المتو ّ‬
‫سممطة بيممن صمملتين‪ ،‬وهممل‬‫ول يكون المر لصمملة متو ّ‬ ‫فعلى ال ّ‬
‫صمبح‪ ،‬أو الظهممر‪ ،‬أو العصممر‪ ،‬أو المغممرب‪ ،‬أو العشمماء‪ ،‬أقموال‬
‫هي‪ :‬ال ّ‬
‫صحابة والّتابعين‪.‬‬
‫مأثورة عن ال ّ‬
‫وعلى الثاني‪ :‬فهممي صمملة الفطممر أو الضممحى أو الجماعممة أو‬
‫طول والقصر‪ ،‬أقمموال ‪-‬‬‫صلة الخوف أو الجمعة أو المتوسطة بين ال ّ‬
‫ضا‪ -‬عن كثير من العلم‪.‬‬
‫أي ً‬
‫ثم قممال‪ :‬سممنح لممي وقمموي بعممد تمعّممن احتمممال قمموله ‪ -‬تعممالى ‪:-‬‬
‫حممافِ ُ‬
‫ظوا‬ ‫طى( )البقرة‪ :‬من اليممة ‪ (238‬بعممد قمموله‪َ ) :‬‬ ‫س َ‬‫صلةِ ال ْوُ ْ‬
‫)َوال ّ‬
‫ت( )البقمرة‪ :‬ممن اليمة ‪ (238‬لن يكمون إرشماًدا وأممًرا‬ ‫صل َ َ‬
‫وا ِ‬ ‫عََلى ال ّ‬
‫ممل‪ ،‬ول قصيًرا‬ ‫س ً‬
‫طا‪ ،‬ل طويل ُ‬ ‫بالمحافظة على أداء الصلة أداًء متو ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬زاد المسير )‪.(1/283‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪24‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫مخل‪ ،‬أي‪ :‬والصلة المتوسطة بين الطول والقصر‪ ،‬ويؤّيده الحاديث‬


‫ُ‬
‫المروّية عنه‪  ،‬في ذلك قول وفعل‪.‬‬
‫ثم مّر بي في القاموس حكاية هذا قممول‪ ،‬حيممث سمماق فممي مممادة‬
‫سممطة بيممن الط ّممول‬
‫)وسط( القوال في الية‪ ،‬ومنهمما قمموله‪ :‬أو المتو ّ‬
‫ده أبو حّيان في البحر‪.‬‬
‫والقصر‪ ،‬قال شارحه الّزبيدي‪ .‬وهذا القول ر ّ‬
‫ة‬
‫صممل ِ‬
‫ثم سنح لي احتمممال وجممه آخممر‪ ،‬وهممو أن يكممون قمموله‪َ) :‬وال ّ‬
‫صلة المممأمور‬ ‫طى( )البقرة‪ :‬من الية ‪ (238‬أريد به توصيف ال ّ‬ ‫س َ‬
‫ال ْوُ ْ‬
‫بالمحافظممة عليهمما بأّنهمما ُفضمملى‪ ،‬أي ذات فضممل عظيممم عنممد اللممه‪،‬‬
‫فالوسطى بمعنى الُفضلى من قولهم للفضل‪ :‬الوسط )‪.(1‬‬
‫‪ -4‬أما رشيد رضا فقال‪:‬‬
‫صمملة الوسممطى هممي إحممدى الخمممس‪ ،‬والوسممطى مممؤّنث‬ ‫وال ّ‬
‫سط بين شيئين أو أشياء لها طرفممان‬
‫الوسط‪ ،‬ويستعمل بمعنى التو ّ‬
‫متساويان‪ ،‬وبمعنى الفضل‪ ،‬وبكل من المعنيين قال قائلون‪ ،‬ولذلك‬
‫سطة )‪.(2‬‬‫صلوات أفضل‪ ،‬وأّيتها المتو ّ‬
‫اختلفوا في أيّ ال ّ‬
‫سرين حول هذه الية بما ذكممره ابممن عاشممور‬ ‫‪ -5‬وأختم كلم المف ّ‬
‫في تفسيره‪ ،‬حيث قال‪:‬‬
‫ما الذين تعّلقوا بالستدلل بوصف الوسطى فمنهم مممن حمماول‬
‫فأ ّ‬
‫جعل الوصف من الوسط بمعنى الخيار والفضل‪ ،‬فرجع إلى تتّبع ممما‬
‫صلوات على بعض‪ ،‬ومنهم من حمماول جعممل‬ ‫ورد في تفضيل بعض ال ّ‬
‫الوصف من الوسط‪ ،‬وهو الواقع بين جانبين متسمماويين مممن العممدد‪،‬‬
‫صلة التي هي بين صلتين من كل جانب )‪.(3‬‬ ‫فذهب يتطّلب ال ّ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(626 ،3/622‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(2/437‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬التحرير والتنوير )‪.(2/467‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪25‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫سممرين‬
‫وبهممذا التفسممير لمعنممى )الوسممطى( مممن خلل كلم المف ّ‬
‫دم نلحظ الرتباط بين هذه الكلمممة وموضمموع الوسممطّية الممذي‬
‫المتق ّ‬
‫سممط بيممن شمميئين أم‬
‫هو مدار هذا البحث‪ ،‬سواء أكممانت بمعنممى التو ّ‬
‫بمعنى الخيار الفضل‪ ،‬وسيأتي مزيد بيممان لهممذه القض مّية ‪ -‬إن شمماء‬
‫الله ‪ -‬بعد عرض جميع اليات‪.‬‬

‫ثالًثا‪ :‬كلمة )أوسط(‬


‫وقد وردت هذه الكلمة في آيتين‪:‬‬
‫ن‬
‫ممم ْ‬ ‫ن ِ‬‫كي َ‬‫سا ِ‬
‫م َ‬
‫شَرةِ َ‬ ‫ه إ ِط َْعا ُ‬
‫م عَ َ‬ ‫الولى في قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬فَك َّفاَرت ُ ُ‬
‫أ َوسط ما تط ْعِمو َ‬
‫م( )المائدة‪ :‬من الية ‪.(89‬‬ ‫ن أهِْليك ُ ْ‬‫ُ َ‬ ‫ْ َ ِ َ ُ‬
‫ل أ َوسط ُه َ‬
‫م‬‫م أَلمم ْ‬‫والثانية في سورة القلم في قوله ‪ -‬تعالى ‪َ) :-‬قا َ ْ َ ُ ْ‬
‫ن( )القلم‪.(28:‬‬ ‫حو َ‬‫سب ّ ُ‬ ‫م لَ ْ‬
‫ول ت ُ َ‬ ‫أ َقُ ْ‬
‫ل ل َك ُ ْ‬
‫سرون معنى كل كلمممة فممي موضممعها‪ ،‬فمنهممم مممن‬ ‫وقد ذكر المف ّ‬
‫دا‪ ،‬ومنهم من فّرق بين مدلوليهما‪ ،‬وإليك تفصمميل‬
‫جعل معناهما واح ً‬
‫ذلك‪:‬‬
‫الولى‪ :‬آية سورة المائدة‪:‬‬
‫ممما‬ ‫‪ -1‬قال الطبري‪ :‬يعني ‪ -‬تعالى ذكره ‪ -‬بقوله‪) :‬م َ‬
‫ط َ‬
‫س ِ‬
‫ن أو ْ َ‬
‫ِ ْ‬
‫تط ْعِمو َ‬
‫ن أهِْليك ُ ْ‬
‫م( )المائدة‪ :‬من الية ‪ (89‬أعدله‪.‬‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬
‫قال عطاء‪ :‬أوسطه‪ :‬أعدله‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬معناه‪ :‬من أوسط ما يطعم من أجناس الطعام‬
‫الذي يقتاته أهل بلد المكّفر أهليهم‪ ،‬ومن ذلك قول ابممن عمممر‪ :‬مممن‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪26‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫سمممن‪ ،‬والخممبز‬
‫أوسممط ممما يطعممم أهلممه الخممبز والّتمممر‪ ،‬والخممبز وال ّ‬
‫والزيت‪ ،‬ومن أفضل ما يطعمهم‪ :‬الخبز واللحم‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬من أوسط ما ُيطعممم المكّفممر أهلممه‪ ،‬قممال إن كممان‬
‫ممن يشبع أهله أشبع المساكين العشرة‪ ،‬وإن كان ممن ل يشممبعهم‬
‫لعجزه عن ذلك أطعم المساكين على قدر ما يفعل من ذلممك بممأهله‬
‫عسره وُيسره‪.‬‬
‫في ُ‬
‫ثم عّقب الطبري على ذلك بقوله‪:‬‬
‫وأولى القوال عنممدنا قممول مممن قممال‪ :‬مممن أوسممط ممما ُتطعمممون‬
‫أهليكم في القّلة والكثرة )‪.(1‬‬
‫‪ -2‬وقال ابن الجوزي‪:‬‬
‫في قوله‪) :‬من أ َوسط ما تط ْعِمو َ‬
‫ن أهِْليك ُم ْ‬
‫م( )المممائدة‪ :‬مممن اليممة‬ ‫ُ َ‬ ‫ِ ْ ْ َ ِ َ ُ‬
‫‪ (89‬قولن‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬من أوسطه في القدر‪ ،‬قاله عمر‪ ،‬وعلي‪ ،‬وابممن عبمماس‪،‬‬
‫ومجاهد‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬من أوسممط أجنمماس الطعممام‪ ،‬قمماله ابممن عمممر‪ ،‬والسممود‪،‬‬
‫دة‪ ،‬والحسن‪ ،‬وابن سيرين )‪.(2‬‬
‫وعَِبي َ‬
‫‪ -3‬وقال القرطبي‪:‬‬
‫دم في سورة البقرة أن الوسط بمعنى العلممى والخيممار‪ ،‬وهممو‬
‫تق ّ‬
‫هنا منمزلة بين المنمزلتين‪ ،‬ونصًفا بيممن طرفيممن‪ ،‬وعممن ابممن عبمماس‪،‬‬
‫قال‪ :‬كان الرجل يقوت أهله قوت ًمما فيممه سممعة‪ ،‬وكممان الّرجممل يقمموت‬
‫أهله قوتا فيه ش مدة‪ ،‬فنمممزلت‪) :‬م من أ َوس مط ممما تط ْعِمممو َ‬
‫ن أهِْليك ُم ْ‬
‫م(‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ْ ْ َ ِ َ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(22-7/16‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬زاد المسير )‪.(2/414‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪27‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫)المائدة‪ :‬من الية ‪ (89‬وهذا يد ّ‬


‫ل على أن الوسط ممما ذكرنمماه‪ ،‬وهممو‬
‫ما كان بين شيئين )‪.(1‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(6/276‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪28‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ي‪:‬‬‫‪ -4‬وقال الزمخشر ّ‬


‫)من أ َوسط ما تط ْعِمممو َ‬
‫ن أهِْليك ُم ْ‬
‫م( )المممائدة‪ :‬مممن اليممة ‪ (89‬مممن‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ْ ْ َ ِ َ ُ‬
‫ن منهم من ُيسرف في إطعام أهله‪ ،‬ومنهم من ُيقّتر )‪.(1‬‬
‫أقصده‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ -5‬وأختم هذه القوال في معنى )أوسط( فيما قاله سيد‬
‫قطب حيث قال‪:‬‬
‫سممط(‪ ،‬فكلهممما مممن‬
‫و)أوسط( تحتمل من )أحسن(‪ ،‬أو من )متو ّ‬
‫ن‬
‫معمماني اللفممظ‪ ،‬وإن كممان الجمممع بينهممما ل يخممرج عممن القصممد‪ ،‬ل ّ‬
‫المتوسط هو الحسن‪ ،‬فالوسط هو الحسن في ميزان السلم )‪.(2‬‬
‫الثانية‪ :‬آية سورة القلم‪:‬‬
‫‪ -1‬قال الطبري‪:‬‬
‫وقوله‪َ) :‬قا َ َ‬
‫سمط ُهُ ْ‬
‫م( )القلممم‪ :‬مممن اليممة ‪ .(28‬يعنممي أعممدلهم‪.‬‬ ‫ل أو ْ َ‬
‫وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل‪.‬‬
‫قال ابن عبمماس‪ :‬أوسممطهم‪ :‬أعممدلهم‪ ،‬وبمثممل ذلممك قممال مجاهممد‪،‬‬
‫حاك‪.‬‬
‫ض ّ‬
‫وسعيد‪ ،‬وال ّ‬
‫عا‪ ،‬وأحسنهم‬
‫وقال قتادة‪ :‬أي أعدلهم قول‪ ،‬وكان أسرع القوم فز ً‬
‫رجعة )‪.(3‬‬
‫‪ -2‬وقال القرطبي‪:‬‬
‫)قَمما َ َ‬
‫س مط ُهُ ْ‬
‫م( )القلممم‪ :‬مممن اليممة ‪ (28‬أي‪ :‬أمثلهممم وأعممدلهم‬ ‫ل أو ْ َ‬
‫وأعقلهم )‪.(4‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬الكشاف )‪.(1/640‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(2/971‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(29/34‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(18/244‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪29‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫‪ -3‬وقال ابن كثير‪:‬‬


‫)َقا َ َ‬
‫سط ُهُ ْ‬
‫م( )القلم‪ :‬من الية ‪ (28‬قال ابن عباس‪ ،‬ومجاهممد‪،‬‬ ‫ل أو ْ َ‬
‫وسعيد بن جممبير‪ ،‬وعكرمممة‪ ،‬ومحمممد بممن كعممب‪ ،‬والربيممع بممن أنممس‪،‬‬
‫ضحاك‪ ،‬وقتادة‪ :‬أي أعدلهم وخيرهم )‪.(1‬‬
‫وال ّ‬
‫‪ -4‬وقال ابن الجوزي‪:‬‬
‫)َقا َ َ‬
‫)‪.(2‬‬ ‫سط ُهُ ْ‬
‫م( )القلم‪ :‬من الية ‪ (28‬أي أعدلهم وأفضلهم‬ ‫ل أو ْ َ‬
‫ي‪:‬‬
‫‪ -5‬قال القاسم ّ‬
‫)‪.(3‬‬ ‫أي‪ :‬أعدلهم وخيرهم رأًيا‬
‫سممرت‬
‫ومما سبق يّتضح لنا أن كلمة )أوسط( فممي آيممة المممائدة ف ّ‬
‫دة معاني‪ ،‬منها‪ :‬الفضل‪ ،‬وبيممن القليممل والكممثير‪،‬‬
‫دة أوجه وبع ّ‬
‫على ع ّ‬
‫ممما آيممة القلممم فمماّتفق‬
‫سممعة‪ .‬أ ّ‬
‫دة وال ّ‬
‫وبيممن الجي ّممد والرديممء‪ ،‬أو الش م ّ‬
‫سرون )‪ (4‬على تفسيرها بمعنى الفضل والخيار وهو العدل‪.‬‬ ‫المف ّ‬

‫عا‪ :‬كلمة )فوسطن( ‪.‬‬


‫راب ً‬
‫معمًا( )العاديممات‪(5:‬‬
‫ج ْ‬ ‫س مط ْ َ‬
‫ن ب ِمهِ َ‬ ‫وردت في قمموله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬فَوَ َ‬
‫وذلك في سورة العاديات‪ ،‬الية الخامسة‪.‬‬
‫ن معناها من التوسط فممي المكممان‪ ،‬وهممذه‬
‫سرون أ ّ‬
‫وقد ذكر المف ّ‬
‫جملة من أقوالهم‪:‬‬
‫‪ -1‬قال الطبري‪:‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/406‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬زاد المسير )‪.(8/338‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(16/5900‬‬

‫‪ - 4‬هذا على حسب اطلعي وبحثي‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪30‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫يقول ‪ -‬تعممالى ذكممره ‪ :-‬فوسممطن بركبممانهن جمممع القمموم‪ ،‬يقممال‪:‬‬


‫سممطته‪،‬‬
‫سممطته ‪ -‬بالّتشممديد ‪ ،-‬وتو ّ‬
‫وسممطت القمموم ‪ -‬بممالتخفيف ‪ ،-‬وو ّ‬
‫بمعنى واحد )‪.(1‬‬
‫‪ -2‬وقال ابن الجوزي‪:‬‬
‫سطن جمًعا من العدّو‪.‬‬
‫سرون‪ :‬المعنى‪ :‬تو ّ‬
‫قال المف ّ‬
‫)‪.(2‬‬ ‫وقال ابن مسعود‪ :‬فوسطن به جمًعا‪ ،‬يعني مزدلفة‬
‫‪ -3‬وقال القرطبي‪:‬‬
‫معا ً‪) (‬العاديات‪ (5:‬مفعول بم "وسطن" أي‪ :‬فوسطن بركبانهن‬
‫ج ْ‬
‫) َ‬
‫العدّو‪.‬‬
‫طا وس َ‬
‫طة أي‪ :‬صرت وسطهم‪.‬‬ ‫س ً‬ ‫س ُ‬
‫طهم و ْ‬ ‫ُيقال‪ :‬وسطت القوم أ ِ‬
‫سطتهم‪ ،‬بمعنممى‬
‫يقال‪ :‬وسطت القوم ‪ -‬بالّتشديد والتخفيف ‪ -‬وتو ّ‬
‫واحد‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬معنى الّتشديد‪ :‬جعلها الجمممع قسمممين‪ ،‬والّتخفيممف‪ :‬صممرن‬
‫وسط الجمع )‪.(3‬‬
‫‪ -4‬وقال القاسمي‪:‬‬
‫مع مًا( )العاديممات‪ (5:‬أي‪ :‬فتوسممطن ودخلممن فممي‬
‫ج ْ‬ ‫سط ْ َ‬
‫ن ب ِمهِ َ‬ ‫)فَوَ َ‬
‫وسط جمع من العداء‪ ،‬ففّرقته وشّتته‪.‬‬
‫سمممطته ‪ -‬بالّتشمممديد‬
‫يقمممال‪ :‬وسمممطت القممموم ‪ -‬بمممالّتخفيف ‪ -‬وو ّ‬
‫سطته‪ ،‬بمعنى واحد )‪.(4‬‬
‫وتو ّ‬
‫‪ -5‬وقال سيد قطب‪:‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(30/276‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬زاد المسير )‪ ،(9/209‬وتفسير ابن مسعود فيه غرابة‪.‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(20/160‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(17/6238‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪31‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫سط صفوف العداء علمى غمّرة‪ ،‬فتوقمع بينهمم الفوضمى‬ ‫وهي تتو ّ‬
‫والضطراب )‪.(1‬‬
‫سط والوسط‪.‬‬
‫ومن خلل ما سبق يّتضح أن معناها التو ّ‬
‫أحاديث نبوية في )الوسط(‬
‫السنة شارحة للقرآن‪ ،‬ومبّينة له‪ ،‬وقد وردت بعض الحاديث التي‬
‫دللة على معاني )الوسط(‪.‬‬
‫فيها ال ّ‬
‫مق في فهم مدلول هممذا المصممطلح‪ ،‬فسممأذكر بعمض‬ ‫ولهمّية التع ّ‬
‫الحاديث التي ورد فيها ما يد ّ‬
‫ل على هذا المعنى‪ ،‬مع توضيح المممراد‬
‫حسب سياق الحديث‪ ،‬حيث قد يكون فيه دللة على الوسط ل على‬
‫الوسطّية‪.‬‬
‫يممدعى‬ ‫‪ -1‬عن أبي سعيد الخدريّ ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول الله‪  ،‬‬
‫ب‪ ،‬فيقول‪ :‬هل ّبلغممت؟‬ ‫نوح يوم القيامة‪ ،‬فيقول‪ :‬لبيك وسعديك يا ر ّ‬
‫مته‪ :‬هل بّلغكم؟ فيقولون‪ :‬ما أتانمما مممن نممذير!‬
‫فيقول‪ :‬نعم‪ ،‬فُيقال ل ّ‬
‫مته‪ ،‬فيشهدون أّنه قد بّلممغ‪،‬‬ ‫فيقول‪ :‬من يشهد لك؟ فيقول‪ :‬محمد وأ ّ‬
‫دا‪ ،‬فذلك قمموله ‪ -‬جممل ذكممره ‪) :-‬وكممذلك‬ ‫ويكون الرسول عليكم شهي ً‬
‫ل‬ ‫ة وس ً‬
‫طا لتكونمموا شممهداء علممى الن ّمماس ويكممون الّرسممو ُ‬ ‫م ً‬
‫جعلناكم أ ّ‬
‫والوسط‪ :‬العدل رواه البخاري )‪.(2‬‬ ‫‪‬‬ ‫دا(‪.‬‬
‫عليكم شهي ً‬
‫سممر هنمما بالعممدل‪،‬‬
‫والمراد بهذا الحديث واضح‪ ،‬وهو أن الوسممط ف ّ‬
‫مممة محمممد‪  ،‬شممهدوا بممما علممموا‪،‬‬‫ظلم‪ ،‬حيث إن أ ّ‬ ‫وهو المقابل لل ّ‬
‫مَنا( )يوسف‪ :‬من الية ‪ .(81‬وهممو الحممق‪ ،‬فلممم‬ ‫شهِد َْنا إ ِّل ب ِ َ‬
‫ما عَل ِ ْ‬ ‫ما َ‬
‫)و َ َ‬
‫وى مع نوح‪ ،‬عليممه السمملم ‪ -‬وحاشمماهم مممن ذلممك ‪-‬‬ ‫تكن شهادتهم له ً‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(6/3958‬‬

‫‪ - 2‬المسند )‪.(32 / 3‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪32‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ذلممك‪ ،‬وهممذا هممو‬ ‫ولم يشهدوا مع قوم نمموح بالباطممل‪ ،‬وأن ّممى لهممم‬
‫)‪(1‬‬

‫ظلم له طرفان والعدل وسممط بينهممما‪ ،‬فال ّ‬


‫شممهادة مممع‬ ‫ن ال ّ‬
‫العدل‪ ،‬ل ّ‬
‫شهادة بالحقّ دون الّنظر لصاحبه‬ ‫أحد الخصمين بدون حق ظلم‪ ،‬وال ّ‬
‫ُ‬
‫ة‬ ‫خل َْقَنما أ ّ‬
‫مم ٌ‬ ‫ن َ‬
‫مم ْ‬
‫م ّ‬
‫ممن قمال اللمه فيهمم‪) :‬وَ ِ‬‫مة محمممد‪  ،‬م ّ‬ ‫عدل‪ ،‬فأ ّ‬
‫ن( )العراف‪.(181:‬‬ ‫حقّ وَب ِهِ ي َعْدُِلو َ‬
‫ن ِبال ْ َ‬
‫دو َ‬
‫ي َهْ ُ‬
‫ت‬‫‪ -2‬روى الترمذي قال‪ :‬لما نمزل قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬الممم غُل َِبم ِ‬
‫َْ‬ ‫َ‬
‫ض مِع‬
‫ن فِممي ب ِ ْ‬ ‫س مي َغْل ُِبو َ‬
‫م َ‬ ‫ن ب َعْمدِ غَل َب ِهِ م ْ‬
‫مم ْ‬
‫م ِ‬ ‫ض وَهُ م ْ‬
‫م ِفي أد ْن َممى الْر ِ‬ ‫الّرو ُ‬
‫ن( )الروم‪ (4-1 :‬خرج أبو بكر الصديق يصيح في نممواحي مك ّممة‪:‬‬ ‫سِني َ‬
‫ِ‬
‫َْ‬ ‫َ‬
‫ن ِفي‬ ‫سي َغْل ُِبو َ‬‫م َ‬‫ن ب َعْدِ غَل َب ِهِ ْ‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫ض وَهُ ْ‬ ‫م ِفي أد َْنى الْر ِ‬ ‫ت الّرو ُ‬ ‫)الم غُل ِب َ ِ‬
‫ن( )الروم‪ (4-1 :‬قال ناس مممن قريممش لبممي بكممر‪ ،‬فممذلك‬ ‫سِني َ‬ ‫ضِع ِ‬ ‫بِ ْ‬
‫بيننا وبينك‪ ،‬زعم صاحبك أن الّروم ستغلب فارس في بضممع سممنين‪،‬‬
‫أفل نراهنك على ذلممك؟! قممال‪ :‬بلممى ‪ -‬وذلممك قبممل تحريممم الّرهممان ‪-‬‬
‫فارتهن أبو بكر والمشركون‪ ،‬وتواضعوا الّرهممان‪ ،‬وقممالوا لبممي بكممر‪:‬‬
‫م بيننمما وبينممك‬
‫كم تجعل البضع‪ :‬ثلث سممنين إلممى تسممع سممنين‪ ،‬فسم ّ‬
‫موا بينهم ست سنين )‪.(2‬‬ ‫وس ً‬
‫طا ننتهي إليه‪ ،‬فس ّ‬
‫ت هنا هممي الوسممط بيممن ثلث وتسممع‪ ،‬فقبلهمما ثلث وبعممدها‬
‫والس ّ‬
‫ثلث‪.‬‬
‫قال‪ :‬قال رسول‬ ‫‪‬‬
‫‪ -3‬عن عبد الله بن معاوية الغاضري‬
‫م ط َعْم َ‬
‫م اليمممان‪ :‬مممن عبممد اللممه‬ ‫الله‪   ،‬ثلث من فعله ّ‬
‫ن فقد ط َعِ َ‬
‫وحده‪ ،‬وعلم أّنه ل إله إل الله‪ ،‬وأعطى زكاة ماله طّيبممة بهمما نفسممه‪،‬‬
‫رافدة عليه كل عام‪ ،‬ولم يعط الهرمة‪ ،‬ول الدرنة‪ ،‬ول المريضممة‪ ،‬ول‬
‫‪ - 1‬أي لقوم نوح‪.‬‬

‫‪ - 2‬أخرجه الترمذي )‪ (322 ،5/321‬رقم )‪ ،(3195 ،3194‬قال فيهما الترمذي‪ :‬حسن صحيح غريب‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪33‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن اللممه لممم يسممألكم‬ ‫ال ّ‬


‫شرط اللئيمة‪ ،‬ولكن من وسممط أممموالكم‪ ،‬فممإ ّ‬
‫خيره‪ ،‬ولم يأمركم بشّره ‪.(1) ‬‬
‫والوسط هنا ما بين أجود الغنم وبين السيئ والمعيب‪ ،‬وهممو مثممل‬
‫قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬من أ َوسط ما تط ْعِمو َ‬
‫م( )المائدة‪ :‬من الية‬‫ن أهِْليك ُ ْ‬
‫ُ َ‬ ‫ِ ْ ْ َ ِ َ ُ‬
‫‪ .(89‬كما سبق‪.‬‬
‫عن جابر بن عبد اللــه ‪ ‬قممال‪  :‬كنمما عنممد النممبي‪ ،‬‬ ‫‪-4‬‬
‫طخ ّ‬
‫طيممن عممن يسمماره‪ ،‬ثممم‬ ‫طين عن يمينه‪ ،‬وخم ّ‬
‫طخ ّ‬ ‫طا‪ ،‬وخ ّ‬
‫طخ ّ‬
‫فخ ّ‬
‫ط الوسط‪ ،‬فقال‪" :‬هذه سبيل الله"‪ ،‬ثم تل هممذه‬ ‫وضع يده على الخ ّ‬
‫ما فاتبعوه ول تتبعوا السممبل فتفممرق‬
‫ن هذا صراطي مستقي ً‬
‫الية‪) :‬وأ ّ‬
‫بكم عن سبيله( ‪] ‬سورة النعام‪ ،‬الية‪.(2) .[153 :‬‬
‫سط بينهما‪.‬‬
‫والوسط هنا‪ :‬هو الشيء بين الشيئين‪ ،‬متو ّ‬
‫صراط في الحديث التي‪:‬‬ ‫ونجد بيان هذا ال ّ‬
‫عن الّنواس بن سمعان ‪ ‬قال‪ :‬قممال رسممول اللممه‪   ،‬ضممرب‬
‫ما‪ ،‬وعلممى ك ََنفممي ال ّ‬
‫صممراط سمموران فيهممما‬ ‫طا مسممتقي ً‬ ‫الله مثل صممرا ً‬
‫صممراط داٍع‬
‫مرخمماة‪ ،‬وعلممى ال ّ‬
‫أبواب مفّتحممة‪ ،‬وعلممى البممواب سممتور ُ‬
‫جمموا‪ ،‬وداع‬‫صراط جميًعا‪ ،‬ول تعو ّ‬
‫يدعو يقول‪ :‬يا أّيها الّناس اسلكوا ال ّ‬
‫صراط‪ ،‬فإذا أراد أحدكم فتممح شمميء مممن تلممك البممواب‬ ‫يدعو على ال ّ‬
‫قممال‪ :‬ويلممك ل تفتحممه فإن ّممك إن تفتحممه تلجممه‪ ،‬فالصممراط‪ :‬السمملم‪،‬‬
‫ستور حدود الله‪ ،‬والبواب المفّتحة محارم اللممه‪ ،‬والممداعي الممذي‬
‫وال ّ‬
‫‪ - 1‬أخرجه أبو داود )‪ (104 ،2/103‬رقم )‪ ،(1582‬والطبراني في الصغير ص )‪ ،(115‬والبيهقي في السنن )‪ ،(4/95‬وصححه اللباني كما في صحيح الجامع رقم )‪(3041‬‬

‫والسلسلة الصحيحة رقم )‪.(1046‬‬

‫‪ - 2‬أخرجه ابن ماجة )‪ (1/6‬رقم )‪ .(11‬قال البوصيري في الزوائد )‪ :(1/45‬هذا إسناد فيه مقال من أجل مجالد بن سعيد‪ .‬قلت‪ :‬مجالد بن سعيد هو ابن عمير الهمداني أبو‬

‫عمرو الكوفي‪ .‬قال الحافظ في التقريب ص )‪ :(520‬ليس بالقوي‪ ،‬وقد تغير في آخر عمره‪ .‬اهم‪ .‬ولكن يشهد لهذا الحديث ما رواه عبد الله بن مسعود‪ ،‬قال‪ :‬خط لنا رسول‬
‫ط خطو ً‬
‫طا عن يمينه وعن شماله‪ ،‬وقال‪" :‬هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"‪ .‬ثم قرأ‪) :‬وأن‬ ‫طا‪ ،‬ثم قال‪" :‬هذه سبيل الله"‪ .‬ثم خ ّ‬
‫الله‪ ،‬صلى الله عليه وسلم خ ّ‬

‫ما فاّتبعوه(‪] .‬سورة النعام‪ ،‬الية‪ .[163 :‬أخرجه أحمد )‪ .(397 /3‬والدارمي )‪ (79 ،1/78‬رقم )‪ .(202‬وحسنه اللباني كما في المشكاة رقم )‪ (166‬ونقل‬
‫هذا صراطي مستقي ً‬
‫عن الحاكم تصحيحه‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪34‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫داعي من فوقه واعظ اللممه يممذكر‬


‫صراط كتاب الله‪ ،‬وال ّ‬ ‫على رأس ال ّ‬
‫في قلب كل مسلم ‪.(1) ‬‬
‫دها الله للمجاهدين في‬
‫ن في الجّنة مائة درجة أع ّ‬
‫إ ّ‬ ‫‪ -5‬وقال ‪ ‬‬
‫سممماء والرض‪ ،‬فممإذا سممألتم‬
‫درجتين كما بين ال ّ‬
‫سبيل الله‪ ،‬ما بين ال ّ‬
‫الله فاسألوه الفردوس‪ ،‬فإّنه أوسط الجّنة‪ ،‬أو أعلى الجنة ‪.(2) ‬‬
‫قال الحافظ بن حجر‪ :‬قوله‪  :‬أوسط الجنة أو أعلى الجنممة‬
‫المراد بالوسط هنا‪ :‬العممدل والفضممل‪ ،‬كقمموله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬وَك َمذ َل ِ َ‬
‫ك‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(3)(143‬‬ ‫جعل ْناك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫مأ ّ‬‫َ َ َ ْ‬
‫طعام‪ ،‬فكلوا من حمماّفتيه‪ ،‬ول‬ ‫‪ -6‬وقال ‪  ‬البركة تنمزل وسط ال ّ‬
‫تأكلوا من وسطه ‪.(4) ‬‬
‫والوسط هنا‪ :‬نقطة اللتقاء بين أطراف متساوية‪ .‬أو هو أشبه‬
‫دائرة ومنتصفها‪.‬‬
‫ما يكون بمركز ال ّ‬
‫طخ ّ‬
‫طمما‬ ‫‪ -7‬وعن عبد الله بن مسعود ‪  ‬أن رسول الله‪  ،‬خ ّ‬
‫طا إلى جمانب الخم ّ‬
‫ط المذي‬ ‫ط المرّبع‪ ،‬وخطو ً‬
‫ط وسط الخ ّ‬
‫مرب ًّعا‪ ،‬وخ ّ‬
‫جا من الخ ّ‬
‫ط المرّبع‪ ،‬فقممال‪ :‬أتممدرون‬ ‫ط المرّبع‪ ،‬وخ ّ‬
‫طا خار ً‬ ‫وسط الخ ّ‬
‫ط الوسط‪،‬‬ ‫ما هذا؟ قالوا‪ :‬الله ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪ :‬هذا النسان الخ ّ‬
‫وهذه الخطوط إلى جانبه العراض تنهشه ‪.(5) ‬‬

‫‪ - 1‬أخرجه أحمد )‪ .(183 ،4/182‬والحاكم في المستدرك )‪ .(1/73‬وقال‪ :‬صحيح على شرط مسلم‪ ،‬ول أعرف له عّلة‪ ،‬ولم يخرجاه‪ .‬ووافقه الذهبي‪ .‬قال اللباني‪ :‬وهو كما‬

‫ضا ‪ (5/133) -‬رقم )‪ .(2859‬وقال‪ :‬هذا حديث غريب‪ .‬قال اللباني‪ :‬وكأنه عنى الطريق التي أخرجها منه‪،‬‬
‫قال‪ ،‬انظر‪ :‬المشكاة رقم )‪ .(191‬وروى هذا الحديث الترمذي ‪ -‬أي ً‬
‫وهي إحدى طريقي المسند‪.‬‬

‫‪ - 2‬أخرجه البخاري )‪ .(3/202‬والترمذي )‪ (4/582‬رقم )‪.(2530‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬فتح الباري )‪.(6/13‬‬

‫‪ - 4‬أخرجه الترمذي )‪ (4/229‬رقم )‪ .(1805‬وقال‪ :‬هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة )‪ (2/1090‬رقم )‪ .(3277‬وأحمد )‪ (364 ،343 ،1/270‬والدارمي )‪ (2/137‬رقم )‬

‫‪ (2046‬والحديث صححه اللباني في صحيح الجامع رقم )‪ (4502‬وتخريج المشكاة رقم )‪.(4211‬‬

‫‪ - 5‬أخرجه البخاري )‪ .(7/171‬وابن ماجة )‪ (2/1414‬رقم )‪ .(4231‬وأحمد )‪.(1/385‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪35‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫دة أطممراف والمسممافة بينممه وبيممن‬


‫والوسط هنا‪ :‬هو ما كان بين ع ّ‬
‫كل طرف متساوية‪.‬‬
‫دوا الخلممل ‪ .(1) ‬أي اجعلمموه‬
‫سممطوا المممام وسمم ّ‬
‫و ّ‬ ‫‪ -8‬وقممال ‪ ‬‬
‫ف‬
‫صم ّ‬
‫صف ‪ -‬في منتصفه ‪ -‬من أمامه‪ ،‬بحيث يكون طرفمما ال ّ‬ ‫وسط ال ّ‬
‫متساويين بالّنسبة لموقف المام‪.‬‬
‫لعن الله من جلس وسط الحلقممة ‪ .(2) ‬وهممو الممذي‬ ‫‪ -9‬وقال ‪ ‬‬
‫ما‪ ،‬وإّنما من‬
‫يجلس في وسط الحلقة‪ ،‬ولو لم يكن في منتصفها تما ً‬
‫دا عن أطرافها فهو في وسطها‪.‬‬‫جلس في داخلها بعي ً‬
‫ض الجن ّممة لمممن تممرك المممراء‬‫‪ -10‬وقال ‪  ‬أنا زعيم بيت في َرب َ َ‬
‫ط الجّنة لمممن تممرك الكممذب وإن كممان‬ ‫ت في وس ِ‬ ‫وإن كان محّقا‪ ،‬وبي ٍ‬
‫خل ُُقه ‪.(3) ‬‬
‫ن ُ‬‫س َ‬
‫ح ُ‬ ‫ت في أعلى الجنة لمن َ‬ ‫حا‪ ،‬وبي ٍ‬
‫ماز ً‬
‫والوسط هنا ما كان بين الّربض والعلى‪.‬‬
‫‪ -11‬وقال ‪  ‬لن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصمف نعلمي‬
‫ي من أن أمشي على قبر مسلم‪ ،‬وما ُأبممالي أوسممط‬ ‫ب إل ّ‬
‫برجلي أح ّ‬
‫سوق ‪.(4) ‬‬
‫القبر قضيت حاجتي أو وسط ال ّ‬
‫والمراد بالوسط ‪ -‬هنا ‪ -‬الوسط المكاني‪.‬‬
‫)‪.(5‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪ -12‬وقال ‪  ‬ليس للنساء وسط ال ّ‬
‫طريق‬

‫‪ - 1‬أخرجه أبو داود )‪ (1/182‬رقم )‪ .(681‬وضعفه اللباني كما في ضعيف الجامع رقم )‪ (6122‬وضعيف أبي داود رقم )‪.(105‬‬

‫‪ - 2‬أخرجه الترمذي )‪ (5/84‬رقم )‪ .(2753‬قال الترمذي‪ :‬حديث حسن صحيح‪ .‬وأبو داود )‪ (4/258‬رقم )‪ .(4826‬وأحمد )‪ .(401 ،398 ،5/384‬وصححه الحاكم )‪(4/281‬‬

‫ووافقه الذهبي‪.‬‬

‫‪ - 3‬أخرجه أبو داود )‪ (4/253‬رقم )‪ (4800‬وصححه اللباني كما في صحيح الجامع رقم )‪.(1464‬‬

‫‪ - 4‬أخرجه ابن ماجة )‪ (1/499‬رقم )‪ .(1567‬قال البوصيري في الزوائد )‪ :(1/512‬هذا إسناد صحيح محمد بن إسماعيل ‪ -‬شيخ ابن ماجة ‪ -‬وثقه أبو حاتم والنسائي وابن‬

‫حبان‪ ،‬وباقي رجال السناد على شرط الشيخين‪ .‬والحديث صححه اللباني كما في إرواء الغليل رقم )‪ (63‬وصحيح الجامع رقم )‪.(5038‬‬

‫ضا‪ -‬أبو يعلى في مسنده بلفظ‪" :‬ليس للنساء باحة‬


‫‪ - 5‬أخرجه ابن حبان في صحيحه )‪ -12/416‬الحسان( رقم )‪ .(5601‬وابن عدي في الكامل )‪ .(4/1321‬وأخرجه ‪ -‬أي ً‬
‫الطريق" كما في المطالب العالية )‪ .(2/440‬قال في النهاية )‪ :(1/60‬أي وسطه وباحة الدار‪ :‬وسطها‪ .‬اهم‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪36‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ومعنى الوسط كما في الحممديث الممذي سممبقه الوسممط المكمماني‪،‬‬


‫وهو ما كان بين الشيئين وهو منه‪ ،‬لن المشروع في حقّ المرأة أن‬
‫تكون بجانب ال ّ‬
‫طريق ل فممي وسممطه‪ ،‬لممما يحممدث مممن فتنممة بسممبب‬
‫بروزها وتعّرضها للّرجال‪.‬‬
‫هذه بعض الحاديث التي وردت وفيهمما لفممظ )الوسممط(‪ .‬ومعنمماه‪،‬‬
‫ومنها ما يد ّ‬
‫ل على معنى الوسطّية‪ ،‬ومنها ما ليس كذلك‪ ،‬إذ ل تلزم‬
‫بين )الوسط( و)الوسطّية(‪ ،‬فكل وسطّية فهي وسط‪ ،‬ول يلزم مممن‬
‫كل وسط أن يكون دليل علممى الوسممطّية‪ ،‬فقممد يكممون مممن الوسممط‬
‫المكاني أو الّزماني ونحوه‪ ،‬كما سيأتي بيانه ‪ -‬إن شاء الله ‪.-‬‬

‫تحرير معنى الوسطّية‬


‫ن‬
‫من خلل ما سبق اّتضح لنا أن كلمة )وسط(‪ ،‬تستعمل في معا ٍ‬
‫مها‪:‬‬
‫دة أه ّ‬
‫ع ّ‬
‫‪ -1‬بمعنى الخيار والفضل والعدل‪.‬‬
‫‪ -2‬قد ترد لما بين شيئين فاضلين‪.‬‬
‫‪ -3‬وتستعمل لما كان بين شّرين وهو خير‪.‬‬
‫‪ -4‬وتستعمل لما كان بين الجّيد والرديء‪ ،‬والخير وال ّ‬
‫شّر‪.‬‬
‫سا‪ ،‬كوسط ال ّ‬
‫طريممق‪،‬‬ ‫‪ -5‬وقد ُتطلق على ما كان بين شيئين ح ّ‬
‫ووسط العصا‪.‬‬
‫ن أخرى قريبة من هذه المعمماني سممبق ذكرهمما‪ ،‬ول‬‫وقد تأتي لمعا ٍ‬
‫أجد حاجة لعادتها‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪37‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫م ‪ -‬هنا ‪ -‬متى ُيطلق لفممظ )الوسممطّية(؟ بممل علممى ممماذا‬


‫والمه ّ‬
‫ُيطلق هذا المصطلح؟‬
‫مرادًفا للفظ الخيرّية‪ ،‬ولو لممم‬
‫فهناك من جعل مصطلح الوسطّية ُ‬
‫سا أو معنى ‪ -‬قال فريد عبد القادر‪:‬‬
‫يكن بين شيئين ‪ -‬ح ّ‬
‫صمما‬
‫ومن جملة ممما سممبق بيممانه نسممتطيع أن نسممتخلص تعريًفمما خا ّ‬
‫دا للوسطّية‪ ،‬فنقول‪ :‬بأن الوسطّية هي‪ :‬مؤهل المة السمملمية‬
‫محد ّ ً‬
‫مممن‪ :‬العدالممة‪ ،‬والخيري ّممة للقيممام بالشممهادة علممى العممالمين‪ ،‬وإقامممة‬
‫جة عليهم‪ .‬ثم قال‪:‬‬
‫الح ّ‬
‫أما ما شاع عند الناس وانتشممر مممن الوقمموف عنممد أصممل دللتهمما‬
‫سط بين طرفين‪ ،‬مهما كممان موضممع هممذا الوسممط ‪-‬‬ ‫اللغوية‪ ،‬أي التو ّ‬
‫ممما وانحرافًمما‪،‬‬
‫م اختيمماره ‪ -‬مممن صممراط اللممه المسممتقيم‪ ،‬التزا ً‬
‫الذي ت ّ‬
‫فليس بمفهوم صحيح وفق ما تبينه اليات والحاديث )‪.(1‬‬
‫كد هذا المعنى في موضع آخر‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫ويؤ ّ‬
‫طا في الصطلح أن يكون له طرفممان‪،‬‬ ‫ول يلزم لكل ما يعتبر وس ً‬
‫صممدق وسممط ول يقممابله إل‬ ‫فالعدل وسممط ول يقممابله إل ال ّ‬
‫ظلممم‪ ،‬وال ّ‬
‫الكذب )‪.(2‬‬
‫سممط بيممن الشمميئين دون‬
‫وهنمماك مممن جعممل )الوسممطّية( مممن التو ّ‬
‫النظر إلى معنى الخيرّية التي د ّ‬
‫ل عليها ال ّ‬
‫شرع‪ ،‬قممال السممتاذ فريممد‬
‫عبد القادر‪:‬‬
‫وقد شاع كذلك عنمد كمثير ممن النماس اسمتعمال همذا الصمطلح‬
‫ضمما يلبممس أي وضممع أو عممرف أو مسمملك‬
‫ي‪ ،‬اسممتعمال فضفا ً‬
‫الّربممان ّ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬الوسطّية في السلم ‪ -‬مخطوط ‪ -‬ص )‪.(29‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬الوسطّية في السلم ص )‪.(33‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪38‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫أرادوه‪ ،‬حممتى أصممبحت الوسممطّية فممي مفهممومهم تعنممي الّتسمماهل‬


‫والّتنازل‪ ..‬إلخ )‪.(1‬‬
‫وما ذكره الستاذ فريد في تعريفه للوسطّية‪ ،‬وكذلك ما نقله عن‬
‫غيره ففيه نظر‪ ،‬ويّتضح ذلك فيما سيأتي‪:‬‬
‫ملت ما ورد في القرآن والسّنة والمأثور مممن كلم العممرب‬ ‫وقد تأ ّ‬
‫صمملت إلممى أن هممذا‬
‫فيما أطلق وأريد بممه مصممطلح )الوسممطّية(‪ ،‬فتو ّ‬
‫ح إطلقه إل إذا توافرت فيه صفتان‪:‬‬
‫المصطلح ل يص ّ‬
‫‪ -1‬الخيرّية‪ ،‬أو ما يد ّ‬
‫ل عليها كالفضل والعدل أو العدل‪.‬‬
‫سّية أو معنوّية‪.‬‬
‫‪ -2‬البينّية‪ ،‬سواء أكانت ح ّ‬
‫فإذا جاء أحد الوصفين دون الخممر فل يكممون داخل فممي مصممطلح‬
‫الوسطّية‪.‬‬
‫ن كم ّ‬
‫ل أمممر يوصممف‬ ‫والقول بأن الوسطّية ملزمة للخيري ّممة ‪ -‬أي أ ّ‬
‫صممحيح‪ ،‬فكممل‬
‫بالخيري ّممة فهممو )وسممط( ‪ -‬فيممه نظممر‪ ،‬والعكممس هممو ال ّ‬
‫وسطّية تلزمها الخيرّية )‪ (2‬فل وسطّية بدون خيرّية‪ ،‬ول عكس‪.‬‬
‫فل بد ّ مع الخيرّية من البينّية حتى تكون وس ً‬
‫طا‪.‬‬
‫ضمما ‪ -‬فليممس كممل شمميء بيممن شمميئين أو أشممياء‬
‫وكذلك البينّية ‪ -‬أي ً‬
‫سط حس مّيا أو معنوي ّمما‪،‬‬ ‫ُيعتبر وسطّيا وإن كان وس ً‬
‫طا‪ .‬فقد يكون التو ّ‬
‫ول يلزم أن يوصف بالوسممطّية كوسممط الزمممان أو المكممان أو الهيئة‬
‫ونحو ذلك‪.‬‬
‫سمما أو‬
‫ولكن كل أمر يوصممف بالوسممطّية فل بممد أن يكممون بيني ّمما ح ّ‬
‫معنى‪.‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬الوسطّية في السلم ص )‪.(30‬‬

‫‪ - 2‬قال ابن عاشور بعد بيان معنى الوسط‪ :‬فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرًفا‪ ،‬فأطلقوه على الخيار النفيس‪ .‬انظر‪ :‬التحرير‬

‫والتنوير )‪ ،(2/17‬وقال رشيد رضا‪ :‬فالخيار هو الوسط بين طرفي المر‪ ،‬أي‪ :‬المتوسط بينهما‪ .‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(2/4‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪39‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن أيّ أممر اّتصمف بالخيرّيمة والبينّيمة جميًعما‬


‫ومن هنا نخلص إلى أ ّ‬
‫ح أن ُنطلق عليه وصف‪ :‬الوسطّية‪ ،‬وممما عممدا ذلممك فل‬ ‫فهو الذي يص ْ‬
‫)‪.(1‬‬
‫ضح ذلك‪:‬‬
‫وسأذكر بعض المثلة التي تو ّ‬
‫‪ -1‬جاء وصف هذه المة بالوسطّية في قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَ َ‬
‫كممذ َل ِ َ‬
‫ك‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬مممن اليممة ‪ (143‬وصممح عنممه‪  ،‬أن ّممه‬ ‫جعل ْناك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫مأ ّ‬‫َ َ َ ْ‬
‫عممدول ‪ .(3) ‬والمعنممى‬ ‫‪‬‬ ‫وفممي روايممة‪:‬‬ ‫)‪(2‬‬
‫سر الوسط هنا بالعممدل‬
‫ف ّ‬
‫واحد‪.‬‬
‫من معنممى الخيري ّممة‪ ،‬والعممدل‬
‫وإذا نظرنا إلى العممدل وجممدناه يتض م ّ‬
‫ظلم له طرفان‪ ،‬فإذا مال الحمماكم إلممى أحممد‬ ‫ظلم‪ ،‬وال ّ‬
‫كذلك ُيقابله ال ّ‬
‫الخصمين فقد ظلم‪ ،‬والعدل وسط بينهما‪ ،‬دون حيف إلى أي منهممما‬
‫)‪.(4‬‬
‫‪.‬‬
‫ولذلك فقول صاحب )الوسطّية في السلم(‬
‫)‪(5‬‬

‫"ول يلممزم لكممل ممما يعتممبر وس م ً‬


‫طا فممي الصممطلح أن يكممون لممه‬
‫طرفان‪ ،‬فالعدل وسط ول يقابله إل الظلم"‪ .‬قول غيممر مس مّلم فممي‬
‫ن الظلممم‬
‫ما المثممال‪ :‬فممإ ّ‬
‫ما الصل فقد بي ّن ُْته سابًقا‪ ،‬وأ ّ‬
‫أصله ومثاله‪ ،‬أ ّ‬
‫له طرفان كممل منهممما يصممدق عليمه وصممف الظلممم‪ ،‬والعممدل وسممط‬
‫ضح وسطّية السلم ووسطّية هممذه المممة ممما قماله شمميخ‬
‫بينهما‪ .‬ويو ّ‬
‫السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬حيممث قممال‪ :‬والفرقممة الناجيممة أهممل‬

‫‪ - 1‬سيأتي مزيد تفصيل لهذا عند الحديث عن ملمح الوسطّية‪ ،‬حيث سأذكر بعض الضوابط لطلق هذا المصطلح ‪ -‬إن شاء الله ‪.-‬‬

‫دم تخريجه ص )‪.(19‬‬


‫‪ - 2‬كما عند البخاري وقد تق ّ‬
‫‪ - 3‬كما في رواية الطبري‪ .‬انظر‪ :‬ص )‪.(20‬‬

‫ضا ‪ -‬قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬قال أوسطهم(‪] .‬سورة القلم‪ ،‬الية‪ .[28 :‬فإن جمهور المفسرين فسروها "بأعدلهم" كما سبق‪ ،‬والعدل وسط بين طرفي الظلم كما‬
‫‪ - 4‬ومثل ذلك ‪ -‬أي ً‬
‫قررت هنا‪ ،‬فاجتمعت الصفتان‪ :‬البينّية والخيرّية‪.‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬الوسطّية في السلم ص )‪.(33‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪40‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫لسمملم وسممط فممي‬ ‫ن مل ّممة ا ِ‬ ‫السّنة‪ ،‬وهممم وسممط فممي الّنحممل‪ ،‬كممما أ ّ‬
‫الملممل‪ ،‬فالمسمملمون وسممط فممي أنبيمماء اللممه‪ ،‬ورسمموله‪ ،‬وعبمماده‬
‫م‬ ‫خم ُ َ‬
‫حب َمماَرهُ ْ‬
‫ذوا أ ْ‬ ‫صالحين‪ ،‬لم يغلو فيهم كممما غلممت النصممارى فم م )ات ّ َ‬ ‫ال ّ‬
‫م مُروا إ ِّل‬ ‫ُ‬ ‫ورهْبانه َ‬
‫ممما أ ِ‬
‫م وَ َ‬‫مْري َم َ‬
‫ن َ‬‫ح اب ْم َ‬ ‫سممي َ‬‫م ِ‬ ‫ن الل ّمهِ َوال ْ َ‬
‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫مم ْ‬‫م أْرَباب ما ً ِ‬‫َُ َ َُ ْ‬
‫ن( )التوبممة‪(31:‬‬ ‫كو َ‬ ‫ش مرِ ُ‬
‫ممما ي ُ ْ‬
‫ه عَ ّ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫ه إ ِّل هُوَ ُ‬
‫حدا ً ل إ ِل َ َ‬‫دوا إ َِلها ً َوا ِ‬
‫ل ِي َعْب ُ ُ‬
‫ق‪،‬‬
‫ول جفوا عنهم كما جفت اليهود‪ ،‬فكممانوا يقتلممون النبيمماء بغيممر حم ّ‬
‫ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من النمماس‪ ،‬وكّلممما جمماءهم رسممول‬
‫بما ل تهوى أنفسهم ك ّ‬
‫ذبوا فريًقا وقتلوا فريًقا‪.‬‬
‫بل المؤمنون آمنوا برسل الله‪ ،‬وعّزروهم‪ ،‬ونصروهم‪ ،‬ووّقروهم‪،‬‬
‫وأحّبوهم‪ ،‬وأطاعوهم‪ ،‬ولم يعبدوهم‪ ،‬ولم يّتخذوهم أرباًبا‪ ،‬كما قممال ‪-‬‬
‫كان ل ِب َ َ‬
‫م َوالن ّب ُموّةَ ث ُم ّ‬
‫م‬ ‫حك ْم َ‬‫ب َوال ْ ُ‬ ‫ه ال ْك ِت َمما َ‬‫ه الل ّم ُ‬ ‫ن ي ُمؤْت ِي َ ُ‬‫شرٍ أ ْ‬ ‫ما َ َ َ‬ ‫تعالى ‪َ ) :-‬‬
‫ممما‬
‫ن بِ َ‬‫كون ُمموا َرب ّممان ِّيي َ‬ ‫ن ُ‬ ‫ن الل ّهِ وَل َك ِم ْ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫عَبادا ً ِلي ِ‬ ‫كوُنوا ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ل ِللّنا ِ‬‫ي َُقو َ‬
‫ذوا‬ ‫خم ُ‬‫ن ت َت ّ ِ‬ ‫ك ُنتمم تعل ّمممون ال ْكتمماب وبممما ك ُنتمم تدرسممون ول يمأ ْمرك ُ َ‬
‫مأ ْ‬ ‫َ َ َ ُ َ ْ‬ ‫ُْ ْ َ ُْ ُ‬ ‫َِ َ َِ َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ ْ َُ ُ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ة والنبيي َ‬
‫ن( )آل‬ ‫مو َ‬ ‫س مل ِ ُ‬‫م ْ‬‫م ُ‬ ‫م ب ِممال ْك ُْفرِ ب َعْ مد َ إ ِذ ْ أن ْت ُم ْ‬ ‫مُرك ُ ْ‬‫ن أْرَبابا ً أي َأ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ملئ ِك َ َ َ ّ ِ ّ َ‬
‫سطوا في المسيح‪ ،‬فلممم‬
‫عمران‪ (79،80:‬ومن ذلك أن المؤمنين تو ّ‬
‫يقولوا هو الله‪ ،‬ول ابن الله‪ ،‬ول ثالث ثلثة‪ ،‬كما تقول الّنصممارى‪ ،‬ول‬
‫ما‪ ،‬حتى جعلوه ولد بغّية‪ ،‬كما‬
‫كفروا به‪ ،‬وقالوا على مريم بهتاًنا عظي ً‬
‫زعمت اليهود‪.‬‬
‫بل قالوا‪ :‬هو عبد الله ورسوله‪ ،‬وكلمته ألقاها إلى مريممم العممذراء‬
‫البتول‪ ،‬وروح منه‪.‬‬
‫وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله‪ ،‬فلممم ُيحّرممموا علممى‬
‫الله أن ينسخ ما يشاء‪ ،‬ويمحو ما يشاء ويثبت‪ ،‬كما قالته اليهود‪ ،‬كما‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪41‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ممما وَّلهُ م ْ‬
‫م‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫سَفَهاُء ِ‬ ‫ل ال ّ‬‫سي َُقو ُ‬‫حكى الله عنهم ذلك بقوله‪َ ) :‬‬
‫كاُنوا عَل َي َْها( )البقرة‪ :‬من الية ‪ (142‬وبقمموله‪) :‬وَإ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫م ال ِّتي َ‬ ‫ن قِب ْل َت ِهِ ُ‬‫عَ ْ‬
‫ما‬‫ن بِ َ‬‫ل عَل َي َْنا وَي َك ُْفُرو َ‬‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ن بِ َ‬ ‫ه َقاُلوا ن ُؤْ ِ‬
‫م ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬
‫ل الل ّ ُ‬ ‫مُنوا ب ِ َ‬
‫مآ ِ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫ِقي َ‬
‫م( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(91‬‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫دقا ً ل ِ َ‬
‫ما َ‬ ‫ص ّ‬
‫م َ‬ ‫وََراَءهُ وَهُوَ ال ْ َ‬
‫حق ّ ُ‬
‫وزوا لكابر علمائهم وعّبادهم أن يغّيروا ديممن اللممه‪ ،‬فيممأمروا‬ ‫ول ج ّ‬
‫ما شاءوا‪ ،‬كما يفعله الّنصارى‪ ،‬كما ذكر الله ذلك‬ ‫بما شاءوا وينهوا ع ّ‬
‫ذوا أ َحبارهُم ورهْبانه َ‬
‫ن الل ّ ِ‬
‫ه( )التوبة‪:‬‬ ‫دو ِ‬
‫ن ُ‬ ‫م أْرَبابا ً ِ‬
‫م ْ‬ ‫ْ َ َ ْ َُ َ َُ ْ‬ ‫خ ُ‬
‫عنهم بقوله‪) :‬ات ّ َ‬
‫من الية ‪.(31‬‬
‫والمؤمنون قالوا‪ :‬لله الخلق والمممر‪ ،‬فكممما ل يخلممق غيممره ل‬
‫يأمر غيره‪ ،‬وقالوا‪ :‬سمعنا وأطعنا‪.‬‬
‫إلى أن قال ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬وهذا باب يطول وصفه‪.(1) ...‬‬
‫ة‬
‫مم ً‬ ‫ُ‬
‫ما سممبق يّتضممح معنممى الوسممطّية فممي قمموله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬أ ّ‬
‫وم ّ‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(143‬‬ ‫وَ َ‬
‫والقارئ لكلم شيخ السلم‪ ،‬يّتضح له الّتلزم بين الخيرّية والبينّية‬
‫في استخراج معنى الوسممطّية فممي ضمموء المنهممج الممذي سمملكه ابممن‬
‫تيميممة ‪ -‬رحمممه اللممه ‪ -‬للوصممول إلممى تحقيممق هممذه المسممألة‪ ،‬وبيممان‬
‫صفة الحميدة‪.‬‬‫مة بهذه ال ّ‬
‫اّتصاف هذه ال ّ‬
‫وقبل ذلك سلك الطبري هذا المنهج في تفسميره لقوله ‪ -‬تعممالى‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪ (143‬كما سبق‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫‪) :-‬أ ّ‬
‫قال‪ :‬قال رسممول اللممه‪،‬‬ ‫‪ -2‬عن عبد الله بن معاوية الغاضري ‪‬‬
‫م ط َعْ َ‬
‫م اليمان‪ :‬من عبد اللممه وحممده‪،‬‬ ‫‪  ‬ثلث من فعله ّ‬
‫ن فقد ط َعِ َ‬

‫‪ - 1‬من أراد مزيد بيان لما ذكره شيخ السلم فليرجع إلى كتابه العقيدة الواسطية‪ ،‬وتفسير القاسمي )‪ (2/287‬فقد ذكر كلمه كامل‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪42‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وعلم أّنه ل إله إل الله‪ ،‬وأعطى زكاة ماله طّيبمة بهما نفسمه‪ ،‬رافمدة‬
‫عليه كل عام‪ ،‬ولم يعط الهرمة ول الدرة ول المريضممة‪ ،‬ول ال ّ‬
‫شممرط‬
‫ن الله لم يسألكم خيممره‪ ،‬ولممم‬
‫اللئيمة‪ ،‬ولكن من وسط أموالكم‪ ،‬فإ ّ‬
‫يأمركم بشّره ‪ ‬رواه أبو داود‪.(1) .‬‬
‫ي‪ ،‬فالبينّيمة‬
‫وهنا نجد أن الوسطّية واضحة في هممذا الت ّمموجيه النبممو ّ‬
‫مممل مممن خلل‬
‫ما الخيرّية فهي ظاهرة لمن تأ ّ‬
‫صريحة في الحديث‪ ،‬أ ّ‬
‫ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬أمر الّرسول‪  ،‬بذلك دليل على هذه الخيري ّممة‪ ،‬فل يممأمر‪،‬‬
‫‪ ‬إل بخير‪) ،‬قُ ْ َ‬
‫ط( )العراف‪ :‬من الية ‪ .(29‬وهل‬ ‫س ِ‬‫مَر َرّبي ِبال ِْق ْ‬
‫لأ َ‬
‫أمُر الرسول‪  ،‬إل وحي ُيوحى‪.‬‬
‫‪ -2‬أّننا عندما ُنريد أن نستخرج معنى الخيرّية ل ننظر من طممرف‬
‫ن الخيري ّممة‬
‫واحد فقط‪ ،‬فإذا نظرنا إلى مصلحة الفقيممر فقممط قلنمما‪ :‬إ ّ‬
‫سليمة الفضل مما هو من أجود الغنام وأغلها‪.‬‬
‫سمينة ال ّ‬
‫في ال ّ‬
‫وإذا نظرنا إلى خيرّية الغني ‪ -‬في الدنيا ‪ -‬قلنمما إن السممهل عليممه‬
‫أن ُيخرج الضعيفة الهزيلة ونحوها‪.‬‬
‫ولكــن الخيرّيــة الكاملــة أن ننظــر إلممى مصمملحة الفقيممر‬
‫ومصمملحة الغنممي ‪ -‬صمماحب المممال ‪ -‬جميًعمما‪ ،‬دون ترجيممح لحممدى‬
‫المصلحتين على الخرى‪ ،‬وهذه هي الوسطّية‪ ،‬وذلك باسممتخراج ممما‬
‫بين أفضلها وأضعفها ‪ -‬وهي الوسط ‪ -‬وذلممك مثممل قمموله ‪ -‬تعممالى ‪:-‬‬
‫)من أ َوسط ما تط ْعِمو َ‬
‫م( )المائدة‪ :‬من الية ‪.(89‬‬‫ن أهِْليك ُ ْ‬
‫ُ َ‬ ‫ِ ْ ْ َ ِ َ ُ‬

‫‪ - 1‬أخرجه أبو داود )‪ (104 ،2/103‬رقم )‪ ،(1582‬والطبراني في الصغير ص )‪ .(115‬والبيهقي في السنن )‪ .(4/95‬وصححه اللباني كما في صحيح الجامع رقم )‪.(3041‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪43‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وهنا اّتضممح لنمما الّتلزم بيممن الخيري ّممة والبيني ّممة فممي تحقيممق معنممى‬
‫الوسطّية‪.‬‬
‫خطمب‬ ‫‪‬‬ ‫ن أبا بكر‬
‫ي في صحيحه أ ّ‬
‫‪ -3‬روى المام البخار ّ‬
‫ممما ذكرتممم فيكممم‬ ‫‪‬‬ ‫سقيفة‪ ،‬وكان مما قال ُيخاطب النصممار‪:‬‬
‫يوم ال ّ‬
‫ي مممن‬ ‫من خير فأنتم له أهممل‪ ،‬ولممن ُيعممرف هممذا المممر إل لهممذا الحم ّ‬
‫قريش‪ ،‬هم أوسط العرب نسًبا وداًرا ‪ ‬الحديث )‪.(1‬‬
‫والوسطّية المرادة هنا يظهممر فيهمما معنممى الخيريممة جلي ّمما ل ل َب ْم َ‬
‫س‬
‫فيه‪ ،‬فأين البينّية؟‬
‫صل الباحث إلى حقيقممة‬
‫ن في هذه الوسطّية يو ّ‬‫مل والّتمع ّ‬‫إن التأ ّ‬
‫هلتها لن تكون خير العرب‪،‬‬‫شا امتازت بصفات أ ّ‬‫ن قري ً‬
‫مة‪ ،‬وهي أ ّ‬ ‫مه ّ‬
‫صفات الحميممدة‪ ،‬هممي‬‫شجاعة والكرم وسائر ال ّ‬ ‫صفات من ال ّ‬‫وهذه ال ّ‬
‫صممفات‬
‫فممي حقيقتهمما صممفات وسممطّية بيني ّممة بيممن مجموعممة مممن ال ّ‬
‫صممفات‪ ،‬دون إفممراط أو‬ ‫دة‪ ،‬وهممم اّتصممفوا بأفضممل هممذه ال ّ‬
‫المتضمما ّ‬
‫تفريط‪ ،‬أو غلوّ أو جفاء‪ ،‬ولذلك فقد نالوا هذه المنمزلة الرفيعممة مممن‬
‫كون العرب ل تدين إل لهم‪ ،‬وما ذلك إل لثقتهم في عدلهم وتميّزهم‬
‫عن غيرهم‪ ،‬واجتماع العرب عليهممم دليممل علممى قبممولهم مممن قبممائل‬
‫وأطراف متنافرة في أخلقها‪ ،‬متباينة في طباعها‪ ،‬وذلممك لخصيصممة‬
‫الوسطّية فيهم‪ ،‬ويصدق فيهم قول زهير‪:‬‬
‫إذا نـزلت إحدى الليالي‬ ‫هم وسط يرضى النام‬
‫)‪(2‬‬
‫بمعظم‬ ‫بحكمهم‬

‫‪ - 1‬صحيح البخاري )‪ .(4/194‬وأحمد في المسند )‪.(56 ،1/55‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(2/6‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪44‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫والعدل هو سبب قبول حكمهم‪ ،‬والعدل فيه صفة البينّيممة‬


‫بين نوعي الظلم‪ ،‬ولذلك كان وسطًيا‪ ،‬فكذلك سائر صفاتهم‪.‬‬
‫هلتهممم لن‬
‫وبهذا يّتضح أن الخيرّية والبينّية ‪ -‬المعنوّية ‪-‬هي الممتي أ ّ‬
‫يكونوا وس ً‬
‫طا نسًبا وداًرا‪.‬‬
‫مل معي ما قاله رشيد رضا في تفسيره‪ :‬قالوا إن الوسط هو‬ ‫وتأ ّ‬
‫العدل والخيار‪ ،‬وذلك أن الّزيادة على المطلوب فممي المممر إفممراط‪،‬‬
‫والّنقص عنه تفريط وتقصير‪ ،‬فالخيار هو الوسط بين طرفممي المممر‬
‫سط بينهما)‪.(1‬‬
‫أي‪ :‬المتو ّ‬
‫ت‪،‬‬ ‫ت وقمّرر ُ‬
‫وأختم هذا المبحث بكلم جيد يّتفق مع ممما ذكممر ُ‬
‫ذ َك ََرهُ الدكتور‪ /‬زيد في كتابه‪) :‬الوسممطّية فممي السمملم(‪ .‬وكممان مممما‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(2‬‬
‫قال‬
‫الوسط من كل شمميء أعممدله‪ ،‬فالوسممط إذن ليممس مج مّرد كممونه‬
‫نقطة بين طرفين‪ ،‬أو وسممطّية جزئي ّممة‪ ،‬كممما يقممال فلن وسممط فممي‬
‫كرمه‪ ،‬أو وسط في دراسته‪ ،‬وُيراد أّنه وسممط بيمن الجيمد والّرديممء‪،‬‬
‫فهذا المفهوم وإن درج عند كثير من الناس‪ ،‬فهو فهم ناقص مجتزأ‪،‬‬
‫أّدى إلى إساءة فهم معنى الوسطّية المقصودة‪.‬‬
‫وعلى هممذا فالوسممط المممراد والمقصممود هنمما‪ ،‬هممو العممدل الخيممار‬
‫والفضل‪ ،‬إلى أن قال‪:‬‬
‫وبالتالي لممم يبممق معنممى الوسممطّية مجمّرد الّتجمماور بيممن الشمميئين‬
‫فقط‪ ،‬بممل أصممبح ذا مممدلول أعظممم‪ ،‬أل وهممو البحممث عممن الحقيقممة‪،‬‬
‫وتحصيلها والستفادة منها‪.‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(2/4‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬الوسطّية في السلم ص )‪ (18‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪45‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ثممم يقممول‪ :‬وهممو معنممى يّتسممع ليشمممل كممل خصمملة محمممودة لهمما‬
‫سممخاء وسممط بيممن البخممل والّتبممذير‪،‬‬
‫ن ال ّ‬
‫طرفممان مممذمومان‪ ،‬فممإ ّ‬
‫ور‪ ،‬والنسان مأمور أن يتجّنب كل‬ ‫وال ّ‬
‫شجاعة وسط بين الجبن والّته ّ‬
‫وصممف مممذموم‪ ،‬وكل الطرفيممن هنمما وصممف مممذموم‪ ،‬ويبقممى الخيممر‬
‫والفضل للوسط‪.‬‬
‫دلممة مممن‬
‫ومن خلل ما سبق من المثلة‪ ،‬وما ذكرته مممن ال ّ‬
‫سمملف‬
‫الكتاب والسّنة‪ ،‬والكلم المأثور من لسان العممرب وأقمموال ال ّ‬
‫اّتضح لنا ما بّينته من التلزم بين الخيرّية والبينّية ‪ -‬حسّية أو معنوي ّممة‬
‫‪ -‬في إطلق مصطلح )الوسطّية(‪.‬‬
‫ولهذا فعندما أستخدم هذا المصطلح في هذا البحث فإّنني أعنممي‬
‫به ما يصدق عليه هذا المدلول دون سواه‪.‬‬
‫وما عدا ذلك فل يدخل في هذا البحث‪ ،‬وإن كان داخل في معنممى‬
‫الوسط‪ ،‬كما سبق بيانه‪ ،‬فهو من الوسط ل الوسطّية‪.‬‬
‫وكذلك ما كان خيًرا أو فاضممل فل يلممزم أن يكممون )وسممطًيا( وإن‬
‫دا‪.‬‬
‫كان محمو ً‬
‫قال يوسف كمال‪ :‬فهنمماك فضممائل ليسممت وسممطّية كالصممدق‬
‫الذي يقابله الكذب‪.(1) .‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬مستقبل الحضارة ليوسف كمال ص )‪ ،(127‬وإن كان بعض العلماء يرى أن كل أمر أمر الله به فهو وسط بين خلقين ذميمين‪ ،‬والصدق قد أمر الله به‪ .‬انظر‪:‬‬

‫القواعد الحسان لتفسير القرآن للسعدي ص )‪.(90‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪46‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫أسس فهم الوسطّية‬


‫ن الوسطّية ل بد ّ لهمما مممن تمموافر أمريممن‪ ،‬وهممما‪:‬‬ ‫ن لنا أ ّ‬
‫بعد أن تبي ّ‬
‫دد معنممى‬ ‫ُ‬
‫سمما ل بمد ّ مممن بيانهمما‪ ،‬ليتحم ّ‬
‫س ً‬
‫ن هنمماك أ ُ‬‫الخيرّية والبينّية‪ ،‬فإ ّ‬
‫طي‬ ‫ش مْر َ‬
‫دقيق‪ .‬وتلممك السممس مط ّممردة مممع َ‬ ‫الوسطّية على الوجه ال ّ‬
‫الخيرّية والبينّية‪ ،‬وهذه السس هي‪:‬‬
‫‪ -1‬الغلوّ أو الفراط‪.‬‬
‫‪ -2‬الجفاء أو الّتفريط‪.‬‬
‫صراط المستقيم‪.‬‬
‫‪ -3‬ال ّ‬
‫صراط المستقيم ُيمّثل الخيري ّــة وُيحّقممق معناهمما‪ ،‬وهممو‬ ‫فال ّ‬
‫وسط بين الغلوّ والجفاء‪ ،‬أو الفراط والّتفريط‪ ،‬وهذا ُيحّقممق وصممف‬
‫البينّية وشرطها الذي ذكرت أّنه من لوازم الوسطّية‪.‬‬
‫وسأقف مبي ّن ًــا هــذه ا ُ‬
‫لســس مبتممدًئا بممالغلوّ والفممراط‪ ،‬ثممم‬
‫صممراط المسممتقيم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الجفمماء والّتفريممط‪ ،‬ثممم أبي ّممن معنممى وحقيقممة ال ّ‬
‫دها تتبّين الشياء‪.‬‬
‫وبض ّ‬
‫ن هذا البحث مستمد ّ من كتمماب اللممه ‪ -‬تعممالى ‪ -‬فسمُأر ّ‬
‫كز‬ ‫وحيث إ ّ‬
‫لسممس مممن خلل القممرآن الكريممم والسمّنة‬ ‫على تحديد معنى هممذه ا ُ‬

‫سرين وغيرهممم مممن العلممماء‪ ،‬ومممن اللممه‬


‫المبّينة لذلك‪ ،‬ثم كلم المف ّ‬
‫أستمد ّ العون والّتوفيق‪.‬‬
‫أول‪ :‬الغلو والفراط‬
‫د‪ ،‬فقممال ابممن‬
‫أما الغلوّ فقد عّرفممه أهممل اللغممة بممأّنه مجمماوزة الحم ّ‬
‫فارس‪:‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪47‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ل أصل صحيح يد ّ‬
‫ل علممى ارتفمماع‬ ‫و‪ :‬الغين واللم والحرف المعت ّ‬ ‫غل ّ‬
‫سممعر يغلممو غلء‪ ،‬وذلممك ارتفمماعه‪ ،‬وغل‬
‫ومجمماوزة قممدر‪ُ ،‬يقممال‪ :‬غل ال ّ‬
‫وا إذا رمممى بممه‬
‫ده‪ ،‬وغل بسهمه غل ّ‬
‫وا‪ ،‬إذا جاوز ح ّ‬
‫الّرجل في المر غل ّ‬
‫م أقصى غايته )‪.(1‬‬
‫سه ّ‬
‫وا‪ ،‬أي جاوز فيممه الح مد ّ‬
‫ي‪ :‬وغل في المر يغلو غل ّ‬
‫وقال الجوهر ّ‬
‫)‪.(2‬‬
‫وا‪:‬‬
‫دين والممر يغلمو غلم ّ‬‫وقال في لسان العرب‪ :‬وغل فممي الم ّ‬
‫م( )النسماء‪ :‬ممن اليمة‬‫كم ْ‬‫ده‪ ،‬وفي الّتنمزيل‪) :‬ل ت َغُْلوا ِفمي ِدين ِ ُ‬
‫جاوز ح ّ‬
‫‪.(171‬‬
‫وا وغلنية وغلنًيا إذا جاوزت‬
‫ت في المر غل ّ‬
‫وقال بعضهم‪ :‬غلوْ َ‬
‫فيه الحد ّ وأفر ّ‬
‫طت فيه‪.‬‬
‫دد فيمه‬
‫أي‪ :‬التشم ّ‬ ‫دين‬‫وفي الحديث‪  :‬إّيماكم والغلموّ فممي الم ّ‬
‫)‪(3‬‬
‫‪‬‬

‫دين مممتين فأوغممل فيممه‬


‫د‪ ،‬كالحديث الخر‪  :‬إن هذا ال ّ‬ ‫ومجاوزة الح ّ‬
‫سهم نفسه‪ :‬ارتفع في ذهابه وجاوز المدى‪ ،‬وكّلممه‬ ‫برفق ‪ . ‬وغل ال ّ‬
‫)‪(4‬‬

‫من الرتفاع والّتجاوز‪.‬‬


‫ويقال للشيء إذا ارتفع‪ :‬قد غل‪ ،‬وغل الّنبت‪ :‬ارتفع وعظم )‪.(5‬‬
‫هذا معنى الغلوّ فممي اللغممة‪ ،‬وقممد ورد فممي القممرآن الكريممم آيتممان‬
‫صممريح‪ ،‬قممال ‪ -‬تعممالى ‪ -‬فممي سممورة‬ ‫فيهما الّنهي عن الغلوّ بلفظممه ال ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬معجم مقاييس اللغة مادة )غلو( )‪.(4/387‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬الصحاح مادة )غل( )‪.(6/2448‬‬

‫ضا‪ -‬اللباني‬
‫‪ - 3‬أخرجه النسائي )‪ (5/268‬رقم )‪ .(3057‬وابن ماجة )‪ (2/1008‬رقم )‪ (3029‬وأحمد )‪ ،(347 ،1/215‬وصححه الحاكم )‪ ،(1/466‬ووافقه الذهبي‪ ،‬وصححه ‪ -‬أي ً‬
‫كما في السلسلة الصحيحة رقم )‪ ،(1283‬وصحيح الجامع رقم )‪.(2680‬‬

‫ضا للبزار والبيهقي‪ ،‬كما في صحيح الجامع رقم )‪ ،(2246‬ولفظ الحديث‪" :‬فأوغلوا"‪.‬‬
‫‪ - 4‬أخرجه أحمد )‪ (3/199‬وحسنه اللباني‪ ،‬وعزاه أي ً‬
‫‪ - 5‬انظر‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة‪" :‬غل"‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪48‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫م َول ت َُقول ُمموا عَل َممى الل ّمهِ إ ِّل‬‫ب ل ت َغُْلوا ِفي ِدين ِك ُم ْ‬ ‫النساء‪َ) :‬يا أ َهْ َ‬
‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ق( )النساء‪ :‬من الية ‪ (171‬قال الطبري‪:‬‬ ‫ال ْ َ‬
‫ح ّ‬
‫طوا فيه‪.‬‬ ‫يقول‪ :‬ل تجاوزوا الحقّ في دينكم فَت ُْفرِ ُ‬
‫ده‪ ،‬يقال منممه‬
‫ده الذي هو ح ّ‬
‫وأصل الغلوْ في كل شيء مجاوزة ح ّ‬
‫وا)‪.(1‬‬
‫دين‪ :‬قد غل فهو يغلو غل ّ‬
‫في ال ّ‬
‫وقال ابن الجوزي في تفسير هذه الية‪:‬‬
‫جماج‪:‬‬
‫د‪ ،‬ومنه‪ :‬غل السعر‪ ،‬وقمال الّز ّ‬
‫و‪ :‬الفراط ومجاوزة الح ّ‬‫والغل ّ‬
‫و‪ :‬مجاوزة القدر في ال ّ‬
‫ظلم‪.‬‬ ‫الغل ّ‬
‫وغلوّ الّنصارى في عيسى قول بعضهم‪ :‬هو الله‪ ،‬وقممول بعضممهم‪:‬‬
‫هو ابن الله‪ ،‬وقول بعضهم‪ :‬هو ثالث ثلثة‪.‬‬
‫وعلى قول الحسن‪ :‬غلوّ اليهود فيه قولهم‪ :‬إّنه لغير رشده‪ .‬وقال‬
‫دد فيه )‪.(2‬‬
‫بعض العلماء‪ :‬ل تغلو في دينكم بالّزيادة في الّتش ّ‬
‫وقال ابن كثير‪َ :‬ينهى ‪ -‬تعالى ‪-‬أهل الكتاب عممن الغل موّ والطممراء‪،‬‬
‫وهذا كثير في الّنصارى‪ ،‬فإّنهم تجاوزوا الحد ّ في عيسى حّتى رفعوه‬
‫وة إلى أن‬ ‫فوق المنمزلة التي أعطاها الله إّياها‪ ،‬فنقلوه من حّيز الّنب ّ‬
‫وا فممي أتبمماعه‬‫اّتخذوه إلًها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه‪ ،‬بل غل م ً‬
‫دعوا فيهم العصمة‪ ،‬واّتبعمموهم‬ ‫من زعم أّنه على دينه‪ ،‬فا ّ‬ ‫وأشياعه‪ ،‬م ّ‬
‫دا‪ ،‬أو‬ ‫في كل ما قالوه‪ ،‬سواء كممان حّقمما أو بمماطل‪ ،‬أو ضمملل أو رشمما ً‬
‫م‬ ‫خم ُ َ‬
‫م وَُرهْب َممان َهُ ْ‬
‫حَبماَرهُ ْ‬
‫ذوا أ ْ‬ ‫حا أو كذًبا‪ ،‬ولهممذا قممال ‪ -‬تعمالى ‪) :-‬ات ّ َ‬ ‫صحي ً‬
‫َ‬
‫ه( )التوبة‪ :‬من الية ‪.(3)(31‬‬ ‫ن الل ّ ِ‬
‫دو ِ‬‫ن ُ‬ ‫أْرَبابا ً ِ‬
‫م ْ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(6/34‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬زاد المسير )‪.(2/260‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/589‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪49‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ل َيا‬‫ما الية الثانية فجاءت في سورة المائدة‪ ،‬قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬قُ ْ‬ ‫أ ّ‬


‫َ‬ ‫أ َهْ َ‬
‫واَء قَموْم ٍ قَ مد ْ‬
‫حقّ َول ت َت ّب ِعُمموا أهْ م َ‬‫م غَي َْر ال ْ َ‬‫ب ل ت َغُْلوا ِفي ِدين ِك ُ ْ‬
‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ضّلوا من قَب ُ َ‬
‫ل( )المائدة‪(77:‬‬ ‫سِبي ِ‬
‫واِء ال ّ‬ ‫س َ‬
‫ن َ‬‫ضّلوا عَ ْ‬ ‫ضّلوا ك َِثيرا ً وَ َ‬
‫ل وَأ َ‬ ‫ِ ْ ْ‬ ‫َ‬
‫رطوا في القممول فيممما تممدينون بممه مممن‬ ‫قال الطبري‪ :‬يقول‪ :‬ل ت ُْف ِ‬
‫أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحقّ إلى الباطل‪ ،‬فتقولوا فيه‪ :‬هو اللممه‪،‬‬
‫أو هو ابنه‪ ،‬ولكن قولوا‪ :‬هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم‪ ،‬وروح‬
‫منه )‪.(1‬‬
‫وا فممي‬‫قال شيخ الســلم ابــن تيميــة‪ :‬والّنصممارى أكممثر غل م ّ‬
‫و‬
‫طوائف‪ ،‬وإّياهم نهى الله عن الغل ّ‬ ‫العتقادات والعمال من سائر ال ّ‬
‫في القرآن )‪.(2‬‬
‫م قَّفي ْن َمما‬ ‫غلوّ الّنصارى ما ذكره اللممه فممي سممورة الحديممد‪) :‬ث ُم ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫وم ْ‬
‫جعَل ْن َمما‬‫ل وَ َ‬‫جي م َ‬‫م َوآت َي َْناهُ اْل ِن ْ ِ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ ِ‬ ‫سل َِنا وَقَّفي َْنا ب ِِعي َ‬
‫م ب ُِر ُ‬‫عََلى آَثارِهِ ْ‬
‫ممما ك َت َب َْناهَمما‬‫ها َ‬‫عو َ‬ ‫ة اب ْت َمد َ ُ‬ ‫ة وََرهَْبان ِي ّم ً‬ ‫م ً‬
‫ح َ‬ ‫ن ات ّب َُعوهُ َرأ ْفَ ً‬
‫ة وََر ْ‬ ‫ب ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ِفي قُُلو ِ‬
‫عاي َت ِهَمما( )الحديممد‪ :‬مممن‬ ‫حق ّ ر ِ َ‬ ‫ها َ‬ ‫ما َرعَوْ َ‬ ‫ن الل ّهِ فَ َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م إ ِّل اب ْت َِغاَء رِ ْ‬
‫ض َ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫الية ‪.(27‬‬
‫قال ابن كثير في آية المائدة‪:‬‬
‫ق( )المممائدة‪ :‬مممن‬ ‫م غَي َْر ال ْ َ‬
‫حم ّ‬ ‫ب ل ت َغُْلوا ِفي ِدين ِك ُ ْ‬ ‫ل َيا أ َهْ َ‬
‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫)قُ ْ‬
‫ق‪ ،‬ول تطروا من أمرتم‬ ‫الية ‪ . (77‬أي ل تجاوزوا الحد ّ في اّتباع الح ّ‬
‫وة إلممى مقممام‬
‫بتعظيمممه فتبممالغوا فيممه حممتى تخرجمموه مممن حي ّممز النبم ّ‬
‫ي من النبياء فجعلتموه إلًها‬ ‫اللهّية‪ ،‬كما صنعتم في المسيح‪ ،‬وهو نب ّ‬
‫من دون الله )‪.(3‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(6/316‬‬

‫‪ - 2‬اقتضاء الصراط المستقيم )‪.(1/289‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(2/82‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪50‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫و‪ ،‬وذِك ْمُر بعضممها‬


‫وقد وردت بعض الحاديث الممتي تنهممى عممن الغلم ّ‬
‫يساعد على َفهم معناه وح ّ‬
‫ده‪:‬‬
‫‪ -1‬عن ابن عباس ‪ -‬رضي الله عنهما ‪ -‬قال‪ :‬قممال رسممول‬
‫م القط لي الحصى ‪ ،‬فلقطت له حصيات‬
‫هل ّ‬ ‫‪‬‬ ‫غداة جمع‪:‬‬ ‫الله‪ ،‬‬
‫نعم بأمثمال همؤلء‬ ‫ما وضعّهن في يده قال‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫من حصى الحذف‪ ،‬فل ّ‬
‫دين‬
‫دين فإّنما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في ال ّ‬
‫وإّياكم والغلوّ في ال ّ‬
‫)‪.(1‬‬
‫م فممي جميممع أنممواع‬
‫قال شيخ السلم ابن تيمّية‪ :‬وهممذا عمما ّ‬
‫الغلموّ فممي العتقممادات والعمممال‪ ،‬وسممبب هممذا اللفممظ العممام رمممي‬
‫الجمار‪ ،‬وهو داخل فيه‪ ،‬مثل الّرمي بالحجارة الكبار بنمماء علممى أّنهمما‬
‫صغار‪ ،‬ثم عّلله بما يقتضي مجانيممة هممديهم‪ ،‬أي هممدي مممن‬ ‫أبلغ من ال ّ‬
‫ن المشممارك لهممم فممي‬
‫دا عن الوقوع فيما هلكوا به‪ ،‬وأ ّ‬
‫كان قبلنا إبعا ً‬
‫بعض هديهم ُيخاف عليه من الهلك )‪.(2‬‬
‫هلممك‬ ‫عن ابن مســعود ‪ ‬قممال‪ :‬قممال رسممول اللممه‪  ،‬‬ ‫‪-2‬‬
‫المتن ّ‬
‫طعون ‪ ‬قالها ثلًثا )‪.(3‬‬
‫مقممون المغممالون‬
‫طعممون‪ :‬أي المتع ّ‬‫ي‪ :‬هلممك المتن ّ‬
‫قــال الّنــوو ُ‬
‫المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم )‪.(4‬‬
‫‪‬‬ ‫كان يقول‪:‬‬ ‫ن رسول الله‪ ،‬‬
‫‪ -3‬وعن أنس بن مالك ‪ ‬أ ّ‬
‫ددوا علممى‬
‫ما شم ّ‬
‫ن قو ً‬
‫دد الله عليكم‪ ،‬فإ ّ‬
‫ددوا على أنفسكم فُيش ّ‬
‫ل تش ّ‬

‫ضا‪ -‬اللباني‬
‫‪ - 1‬أخرجه النسائي )‪ (5/268‬رقم )‪ .(3057‬وابن ماجة )‪ (2/1008‬رقم )‪ (3029‬وأحمد )‪ ،(347 ،1/215‬وصححه الحاكم )‪ ،(1/466‬ووافقه الذهبي‪ ،‬وصححه ‪ -‬أي ً‬
‫كما في السلسلة الصحيحة رقم )‪ ،(1283‬وصحيح الجامع رقم )‪.(2680‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تيسير العزيز الحميد ص )‪ (275‬والغلو في الدين لعبد الرحمن بن معل اللويحق ص )‪.(68‬‬

‫‪ - 3‬أخرجه مسلم )‪ (4/2055‬رقم )‪ .(2670‬وأبو داود )‪ (4/201‬رقم )‪ .(4608‬وأحمد )‪.(1/386‬‬

‫‪ - 4‬شرح مسلم للنووي )‪.(16/220‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪51‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ديار‬‫صمموامع وال م ّ‬
‫دد اللممه عليهممم‪ ،‬فتلممك بقايمماهم فممي ال ّ‬ ‫أنفسهم فشم ّ‬
‫م( )الحديد‪ :‬من الية ‪.(27‬‬ ‫ها عَل َي ْهِ ْ‬
‫ما ك َت َب َْنا َ‬
‫ها َ‬
‫عو َ‬
‫ة اب ْت َد َ ُ‬
‫)وََرهَْبان ِي ّ ً‬
‫دين‬‫ن هذا ال ّ‬ ‫‪ -4‬وعن أبي هريرة ‪ ‬عن النبي‪  ،‬قال‪  :‬إ ّ‬
‫ددوا‪ ،‬وقمماربوا وأبشممروا‪،‬‬
‫دين أحممد إل غلبممه‪ ،‬فسم ّ‬
‫ُيسر‪ ،‬ولن ُيشمماد ّ الم ّ‬
‫‪‬‬ ‫دلجة ‪ .(1) ‬وفممي لفممظ‪:‬‬
‫واستعينوا بالغدوة والّروحة‪ ،‬وشيء من ال ّ‬
‫القصد القصد تبلغوا ‪.(2) ‬‬
‫ديني ّممة‪،‬‬
‫مق أحممد فممي العمممال ال ّ‬‫جر‪ :‬والمعنى‪ :‬ل يتع ّ‬
‫ح َ‬
‫قال ابن َ‬
‫ويترك الّرفق إل عجز وانقطع فُيغلب )‪.(3‬‬
‫قال عبد الرحمــن بــن معل‪ :‬وحممتى ل يقممع ذلممك جمماء ختممام‬
‫الحديث آمًرا بالّتسديد والمقاربة‪ ،‬قال ابن رجب‪ :‬والّتسممديد العمممل‬
‫صر فيما أمممر بممه‪،‬‬
‫سط في العبادة‪ ،‬فل يق ّ‬
‫سداد‪ ،‬وهو القصد والّتو ّ‬
‫بال ّ‬
‫مل منها ما ل ُيطيقه)‪.(4‬‬
‫ول يتح ّ‬
‫‪ -5‬وروى المام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بممن شممبل أن‬
‫اقرأوا القرآن ول تممأكلوا بممه‪ ،‬ول تسممتكثروا‬ ‫‪‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫رسول الله‪ ،‬‬
‫به‪ ،‬ول تجفوا عنه‪ ،‬ول تغلو فيه ‪.(5) ‬‬
‫يحمل هممذا العلممم مممن كممل خلممف‬ ‫‪‬‬ ‫أنه قال‪:‬‬ ‫‪ -6‬وروي عنه‪ ،‬‬
‫عممدوله‪ ،‬ينفممون عنممه تحريممف الغممالين‪ ،‬وانتحممال المبطليممن‪ ،‬وتأويممل‬
‫الجاهلين ‪.(6) ‬‬
‫‪ - 1‬أخرجه البخاري )‪ .(1/15‬والنسائي )‪ (8/122‬رقم )‪.(5034‬‬

‫‪ - 2‬أخرجه البخاري )‪ ،(182 ،7/181‬وأحمد )‪.(2/514‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬فتح الباري )‪.(1/94‬‬

‫دلجة لبن رجب ص )‪.(51‬‬


‫‪ - 4‬انظر‪ :‬الغلو في الدين ص )‪ .(69‬والمحجة في سير ال ّ‬
‫‪ - 5‬أخرجه أحمد في المسند )‪ .(444 ،3/428‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد )‪ :(171 ،7/170‬رواه أحمد والبزار بنحوه‪ ،‬ورجال أحمد ثقات‪ .‬وصححه اللباني كما في صحيح‬

‫الجامع رقم )‪.(1168‬‬

‫‪ - 6‬أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن بسنده عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري‪ ،‬عن رسول الله‪ ،‬صلى الله عليه وسلم‪ ..،‬به‪ .‬قال اللباني في تعليقه على أحاديث‬
‫المشكاة رقم )‪ :(248‬ثم إن الحديث مرسل؛ لن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري هذا تابعي مق ّ‬
‫ل‪ ،‬كما قال الذهبي‪ ،‬وراويه عنه‪ :‬معاذ بن رفاعة ليس بعمدة‪ .‬لكن الحديث قد‬

‫روي موصول من طريق جماعة من الصحابة‪ ،‬وصحح بعض طرقه الحافظ العلئي‪ -‬في "بغية الملتمس"‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪52‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ل هممذه الحمماديث تممد ّ‬


‫ل علممى أن الغلمموّ خممروج عممن المنهممح‬ ‫وك م ّ‬
‫د‪ ،‬وفعل ما لممم يشممرعه اللممه ول رسمموله‪  ،‬ولسممت‬ ‫ومجاوزة للح ّ‬
‫مه دون تصممريح بممه‪،‬‬ ‫بصدد ذكر الحاديث التي تنهممى عممن الغلموّ وتممذ ّ‬
‫صة الذين جاءوا وسممألوا عممن عمممل‬ ‫دا‪ ،‬ومن أشهرها ق ّ‬ ‫فهي كثيرة ج ّ‬
‫الرسول‪  ،‬في السّر‪ ،‬فكأّنهم تقاّلوا‪ ،‬فكان مممن مقممولتهم ممما هممو‬
‫هذا المر )‪.(1‬‬ ‫معروف‪ ،‬وكيف واجه رسول الله‪ ،‬‬
‫حا‬
‫بل لم أرد حصر جميع الحاديث التي ورد فيها لفظ الغلوّ مصر ً‬
‫ت هذه الحاديث للدللة على ممما نحممن بصممدده‪ ،‬وهممو‬
‫به‪ ،‬وإّنما اختر ُ‬
‫م علقته بالوسطّية‪.‬‬
‫تحديد معنى الغلوّ ومفهومه وحكمه‪ ،‬ومن ث ّ‬
‫وأختم تعريف الغلوّ بهذين الّتعريفين‪:‬‬
‫و‪ :‬مجاوزة الحد ّ بممأن ي ُممزاد‬
‫قال شيخ السلم ابن تيمية‪ :‬الغل ّ‬
‫مه على ما يستحقّ ونحو ذلك )‪.(2‬‬ ‫في الشيء‪ ،‬في حمده أو ذ ّ‬
‫و‪ :‬المبالغممة فممي الشمميء‬
‫وقال ابن حجر في تعريفــه للغلـ ّ‬
‫والّتشديد فيه بتجاوز الحد ّ )‪.(3‬‬
‫وضابط الغلوّ بّينة الشيخ سليمان بممن عبممد الوهمماب‪ ،‬حيممث قممال‪:‬‬
‫طغيان الذي نهى الله عنه فممي‬ ‫دى ما أمر الله به‪ ،‬وهو ال ّ‬‫وضابطه تع ّ‬
‫ضِبي( )طمه‪ :‬من الية ‪.(4)(81‬‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م غَ َ‬ ‫قوله‪َ) :‬ول ت َط ْغَ ْ‬
‫وا ِفيهِ فَي َ ِ‬
‫ح ّ‬
‫ما سبق من الّتعريممف اّللغمموي للغلموّ وممما ورد فيممه مممن آيممات‬ ‫وم ّ‬
‫وأحاديث‪ ،‬وكذلك تعريف العلممماء يّتضممح لنمما أن الغلموّ هممو‪ :‬مجمماوزة‬

‫‪ - 1‬وهو حديث أنس المشهور في قصة الثلثة‪ ،‬وسيأتي بعد قليل‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬اقتضاء الصراط المستقيم )‪.(1/289‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬فتح الباري )‪.(13/278‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تيسير العزيز الحميد ص )‪ (256‬والغلو في الدين ص )‪.(82‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪53‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫الحد ّ في المر المشروع‪ ،‬وذلك بالّزيادة فيه أو المبالغممة إلممى الح مد ّ‬


‫الذي ُيخرجه عن الوصف الذي أراده وقصده ال ّ‬
‫شارع‪.‬‬

‫و‪ ،‬وكش مًفا لحممدوده ومعممالمه‪ ،‬أذكممر هممذه‬


‫حا لحقيقممة الغل م ّ‬
‫وإيضمما ً‬
‫الحقائق‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(1‬‬
‫أول‪ :‬أن منشأ الغلو بحسب متعلقه ينقسم إلى ما يلي‬
‫قــا بفقــه الّنصــوص‪ ،‬كتفسمميرها‬ ‫و متعل ً‬‫‪ -1‬أن يكــون الغلـ ّ‬
‫مممة لل ّ‬
‫شممريعة ومقاصممدها‬ ‫سمممة العا ّ‬
‫تفسيًرا متشمد ًّدا يتعممارض مممع ال ّ‬
‫دد على نفسه وعلى الخرين‪.‬‬ ‫الساسّية فيش ّ‬
‫و متعل ّ ً‬
‫قا بالحكام‪ ،‬ومن صور ذلك‪:‬‬ ‫‪ -2‬أن يكون الغل ّ‬
‫عبادة وترهًّبمما‪،‬‬ ‫)أ( إلزام الّنفس أو الخرين بما لم يوجبه الله ‪‬‬
‫ن تجاوز الطاقة في أمممر مشممروع‬
‫ذاتّية حيث إ ّ‬ ‫ومعيار ذلك ال ّ‬
‫طاقة ال ّ‬
‫وا‪.‬‬
‫يعتبر غل ّ‬
‫دخممل‬ ‫‪‬‬ ‫قممال‪:‬‬ ‫‪‬‬ ‫ومن الدّلة على ذلك‪ ،‬ما رواه أنس بن مالممك‬
‫النبي‪  ،‬المسجد فإذا حبل ممممدود بيممن سمماريتين فقممال‪ :‬ممما هممذا‬
‫الحبل؟ فقالوا‪ :‬هذا حبل لزينب‪ ،‬فإذا فترت تعّلقت به‪ ،‬فقال النممبي‪،‬‬
‫حّلوه ليص ّ‬
‫ل أحدكم نشاطه‪ ،‬فإذا فتر فليرقد ‪.(2) ‬‬ ‫‪‬‬
‫ث علممى‬
‫قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث‪ :‬وفيه الحمم ّ‬
‫مق فيها‪.(3).‬‬‫القتصاد في العبادة‪ ،‬والّنهي عن التع ّ‬
‫)ب( تحريم الطّيبات التي أباحها الله علممى وجممه التعب ّممد‪ ،‬أو تممرك‬
‫صة الّنفممر الّثلثممة‪ ،‬حيممث روى‬ ‫ضرورات أو بعضها‪ ،‬ومن أدّلة ذلك ق ّ‬ ‫ال ّ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬كتاب الغلو في الدين فقد ذكر هذه القسام ص )‪.)83‬‬

‫‪ - 2‬أخرجه البخاري )‪ (2/48‬ومسلم )‪ (1/542‬رقم )‪.(784‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬فتح الباري )‪.(3/37‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪54‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫أنس بن مالك ‪ ‬قال‪  :‬جاء ثلثة رهط إلممى بيمموت أزواج النممبي‪،‬‬
‫‪ ‬يسألون عن عبادته‪ ،‬فلممما أخممبروا كممأّنهم تقاّلوهمما‪ ،‬فقممالوا‪ :‬أيممن‬
‫خر‪،‬‬‫دم مممن ذنبممه وممما تممأ ّ‬ ‫نحن من النبي‪  ،‬فقد غفر الله له ما تقم ّ‬
‫دهر‬ ‫ُ‬
‫دا‪ ،‬وقال آخر‪ :‬أنا أصمموم ال م ّ‬ ‫ما أنا فأصلي الليل أب ً‬
‫فقال أحدهم‪ :‬أ ّ‬
‫دا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ول أفطر‪ ،‬وقال آخر‪ :‬أنا أعتزل النساء فل أتزّوج أب ً‬
‫فجاء رسول اللممه‪  ،‬فقممال‪" :‬إن ّممي لخشمماكم للممه وأتقمماكم لممه‪،‬‬
‫ب عممن‬ ‫لكّني أصوم وأفطر‪ ،‬وأصّلي وأرقد‪ ،‬وأتزّوج النساء‪ ،‬فمن َرِغم َ‬
‫ي"‬
‫سّنتي فليس من ّ‬ ‫)‪.(1‬‬ ‫‪‬‬

‫وكممذلك لممو اضممطّر إنسممان إلممى محمّرم‪ ،‬كأكممل الميتممة أو حيمموان‬


‫دد‪ ،‬وبيان‬
‫ن ذلك من الّتش ّ‬ ‫ؤدي به إلى الهلكة‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ك ذلك ي ّ‬‫محّرم‪ ،‬وت َْر ُ‬
‫شمميء فممي حالممة اليسممر‪ ،‬وهممو ‪-‬‬ ‫ذلك‪ :‬أن الله هو الذي حمّرم هممذا ال ّ‬
‫ما‬
‫سبحانه ‪ -‬الذي أباح أكله في حالة الضطرار‪ ،‬قال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬إ ِن ّ َ‬
‫ن‬
‫مم ِ‬ ‫ما أ ُهِ ّ‬
‫ل ب ِهِ ل ِغَي ْمرِ الل ّمهِ فَ َ‬ ‫زيرِ وَ َ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫خن ْ ِ‬ ‫ح َ‬‫م وَل َ ْ‬‫ة َوالد ّ َ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫مي ْت َ َ‬ ‫م عَل َي ْك ُ ُ‬
‫حّر َ‬‫َ‬
‫م( )البقممرة‪:‬‬ ‫حيم ٌ‬ ‫ه غَُفمموٌر َر ِ‬ ‫ن الل ّم َ‬
‫م عَل َي ْهِ إ ِ ّ‬‫عادٍ َفل إ ِث ْ َ‬‫ضط ُّر غَي َْر َباٍغ َول َ‬ ‫ا ْ‬
‫‪.(173‬‬
‫‪ -3‬أن يكون الغلوّ متعل ًّقا بالحكم على الخرين‪ ،‬حيممث يقممف مممن‬
‫م‪،‬‬ ‫بعض الّناس موقف المادح الغالي‪ ،‬ويقف من آخرين موقف المم ّ‬
‫ذا ّ‬
‫عا‪ ،‬كالفسممق أو المممروق مممن‬
‫الجافي ويصممفهم بممما ل يلزمهممم شممر ً‬
‫دين ونحو ذلك‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫وفي كل الحالين يممترّتب علممى ذلممك أعمممال هممي مممن الغل موّ فممي‬
‫ب والبغض‪ ،‬والولء والهجر‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬ ‫سلب أو اليجاب‪ ،‬كالح ّ‬ ‫ال ّ‬

‫‪ - 1‬أخرجه البخاري )‪ .(6/116‬ومسلم )‪ (2/1020‬رقم )‪.(1401‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪55‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ثانًيا‪ :‬أن الغلو فـي حقيقتــه حركــة فـي اتجـاه القاعــة‬


‫ال ّ‬
‫شرعّية والوامر اللهي ّــة‪ ،‬ولكنهمما حركممة تتجمماوز فممي مممداها‬
‫دين‪ ،‬وليممس‬ ‫دها ال ّ‬
‫شارع‪ ،‬فهو مبالغة في اللممتزام بال م ّ‬ ‫الحدود التي ح ّ‬
‫جا عنه في الصل‪ ،‬بل هو نابع من الّرغبة في اللتزام به )‪.(1‬‬
‫خرو ً‬
‫)‪(2‬‬ ‫ثالًثا‪ :‬أن الغلو ليس هو الفعل فقط بل قد يكون تر ً‬
‫كمما‬
‫فترك الحلل كالنوم والكل ونحوه نوع من أنواع الغلو‪ ،‬إذا كان هممذا‬
‫الت ّممرك علممى سممبيل العبممادة والتق مّرب إلممى اللممه كممما يفعممل بعممض‬
‫صوفّية والّنباتّيين )‪.(3‬‬
‫ال ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫عا‪ :‬الغلو على نوعين‪ :‬اعتقاديّ وعمل ّ‬
‫راب ً‬
‫والعتقاديّ على قسمين‪:‬‬
‫اعتقادي كّلي‪ ،‬واعتقادي )فقط(‪.‬‬
‫والمراد بالغلوّ الكّلي العتقادي ما كان متعل ًّقا بكل ّي َممات ال ّ‬
‫شممريعة‪،‬‬
‫مهات مسائلها‪.‬‬ ‫وأ ّ‬
‫ما العتقادي ‪ -‬فقممط ‪ -‬فهممو ممما كممان متعل ًّقمما ببمماب العقممائد دون‬‫أ ّ‬
‫دعاء العصمة لهم‪ ،‬أو الغل موّ فممي الممبراءة‬
‫مة وا ّ‬
‫غيرها‪ ،‬كالغلوّ في الئ ّ‬
‫من المجتمع العاصي‪ ،‬أو تكفير أفراده واعتزالهم‪.‬‬
‫ويدخل في الغلوّ الكّلي العتقادي الغلموّ فممي فممروع كممثيرة إذ أن‬
‫و‬ ‫المعارضة الحاصلة به لل ّ‬
‫شرع مماثلة لتلك المعارضة الحاصلة بالغل ّ‬
‫في أمر كل ّ ّ‬
‫ي )‪.(4‬‬

‫‪ - 1‬الغلو في الدين ص )‪.(84‬‬

‫‪ - 2‬مع أن الترك قد يكون فعل‪.‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬الغلو في الدين ص )‪.(84‬‬

‫‪ - 4‬ينظر اقتضاء الصراط المستقيم )‪ (1/289‬والغلو في الدين ص )‪.(70‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪56‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وا فممي جزئي ّممة مممن‬


‫ي‪ ،‬فهو ما كان غل ّ‬
‫و الجزئي العمل ّ‬
‫ما الغل ّ‬
‫أ ّ‬
‫شريعة ومتعل ًّقا بباب العملّيات دون العتقاد‪ ،‬فهو محصور‬ ‫جزئّيات ال ّ‬
‫في جانب الفعل سواًء أكان قول باّللسان أو عمل بالجوارح )‪.(1‬‬
‫و‬
‫ي العتقمماديّ أشمد ّ خطمًرا‪ ،‬وأعظممم ضممرًرا مممن الغلم ّ‬ ‫والغلوّ ال ّ‬
‫كل ّ‬
‫شممقاق‬‫دي إلممى ال ّ‬
‫ي العتقمماديّ هممو المممؤ ّ‬
‫ن الغلموّ الكل م ّ‬
‫ي‪ ،‬إذ أ ّ‬‫العملم ّ‬
‫صممراط‬
‫والنشقاق‪ ،‬وهو المظهر للفرق والجماعات الخارجممة عممن ال ّ‬
‫المستقيم‪ ،‬وذلك كغلوّ الّرافضة والخوارج )‪.(2‬‬
‫سا‪ :‬أنه ليس من الغلو طلب الكمــل فــي العبــادة؛‬ ‫خام ً‬
‫دي إلى المش مّقة ونحوهمما‪ ،‬إذ ليممس‬‫بل الغلوّ تجاوز الكمل إلى ما يؤ ّ‬
‫دة‬
‫الكمل في كمّية العبادة‪ ،‬بل يممدخل فممي تحديممد الكمممل أمممور عم ّ‬
‫تتعّلق بالعمل‪ ،‬وبمن قام بالعمل‪ ،‬وكذلك من له صلة بهذا العمل‪.‬‬
‫دق عليممه‪،‬‬
‫دق‪ ،‬والمتصمم ّ‬
‫صممدقة ‪ -‬مثل ‪ُ :-‬يراعممى فيهمما‪ :‬المتصمم ّ‬
‫فال ّ‬
‫ي‪.‬‬‫مى كمال كلّيا بالّنظر للكمال الجزئ ّ‬‫دق به‪ ،‬ول ُيس ّ‬‫والمال المتص ّ‬
‫قال ابن المنّير‪ :‬وليس المراد منع طلب الكمل في العبادة‪ ،‬فإّنه‬
‫دي إلممى الملل أو‬
‫مممن المممور المحمممودة‪ ،‬بممل منممع الفممراط المممؤ ّ‬
‫وع المفضي إلى ترك الفضل )‪.(3‬‬
‫المبالغة في التط ّ‬
‫ن هذا المممرء‬
‫سا‪ :‬أن الحكم على العمل بأنه غلو‪ ،‬أو أ ّ‬ ‫ساد ً‬
‫من الُغلة‪ ،‬باب خطير‪ ،‬ل يقدر عليه إل العلماء الذين ُيدركون حممدود‬
‫ن الحكمم علمى‬
‫همذا العممل‪ ،‬ويعلممون أبمواب العقيمدة وفروعهما‪ ،‬ل ّ‬
‫عا ويوصف صمماحبه‬
‫وره‪ ،‬فقد يكون المر مشرو ً‬
‫الشيء فرع عن تص ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬الغلو في الدين ص )‪.(77‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬الغلو في الدين ص )‪.(70‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬فتح الباري )‪ (1/94‬والغلو في الدين ص )‪.(85‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪57‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫سممكين‬
‫و‪ ،‬وها نحن نرى اليوم أن الملتزمين بشممرع اللممه‪ ،‬المتم ّ‬ ‫بالغل ّ‬
‫مت ونحوها‪.‬‬ ‫بالكتاب والسّنة ُيوصفون بالغلوّ والّتطّرف والّتز ّ‬
‫ن المقيمماس فممي الحكممم علممى العمممال والفممراد‬
‫ولممذلك فممإ ّ‬
‫والجماعات هممو الكتمماب والسمّنة‪ ،‬وليسممت الهممواء والعممراف‪ ،‬وممما‬
‫م وأفراد وجماعات‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تواضع عليه الّناس‪ ،‬وقد ض ّ‬
‫ل في هذا الباب أم ٌ‬
‫عا‪ ،‬وممما يتعل ّممق بممه مممن‬
‫و( لغممة وشممر ً‬
‫ن لنا معنى )الغل ّ‬
‫وبعد أن تبي ّ‬
‫ن وأقسام‪ ،‬أبّين معنى )الفممراط( بإيجمماز‪ ،‬حيممث ستّتضممح صمملته‬ ‫معا ٍ‬
‫و‪:‬‬
‫بالغل ّ‬

‫الفراط‬
‫د‪.‬‬
‫دم ومجاوزة الح ّ‬
‫لغة هو‪ :‬التق ّ‬
‫قال ابن فــارس‪ُ :‬يقممال‪ :‬أفممرط‪ :‬إذا تجمماوز الح مد ّ فممي المممر‪،‬‬
‫يقولون‪ :‬إّياك والفرط‪ ،‬أي ل تجاوز القدر‪ ،‬وهذا هو القياس‪ ،‬لن ّممه إذا‬
‫جاوز القدر فقد أزال الشيء عن وجهته )‪.(1‬‬
‫وقال الجوهري‪ :‬وأفرط في المر‪ :‬أي‪ :‬جاوز فيه الحد ّ )‪.(2‬‬
‫وفي لسان العرب‪ :‬وأمر فُُرط‪ ،‬أي‪ :‬مجاوز فيه الح ّ‬
‫د‪.‬‬
‫دم‪ ،‬ومنه قممول أم سمملمة‬ ‫والُفرطة ‪ -‬بالضم ‪ :-‬اسم للخروج والتق ّ‬
‫لعائشة‪ :‬إن رسممول اللممه‪  ،‬نهمماك عممن الُفْرط َممة فممي البلد‪ ،‬وفممي‬
‫دم ومجمماوزة‬
‫سبق والتق ّ‬
‫دين‪ ،‬يعني ال ّ‬ ‫رواية‪ :‬نهاك عن الُفْر َ‬
‫طة في ال ّ‬
‫د‪.‬‬
‫الح ّ‬
‫دم‪.‬‬
‫دم‪ ،‬وأفرط في المر‪ :‬أسرف وتق ّ‬
‫والفراط‪ :‬العجال والتق ّ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬معجم مقاييس اللغة مادة )فرط( )‪.(4/490‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬الصحاح مادة )فرط( )‪.(3/1148‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪58‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وكل شيء جاوز قدره فهو مفرط)‪.(1‬‬


‫ن ي َط ْغَممى( )طمممه‪:‬‬ ‫َ َ‬ ‫خا ُ َ‬
‫ط عَل َي ْن َمما أوْ أ ْ‬
‫ن ي َْفمُر َ‬
‫فأ ْ‬ ‫قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬إ ِن َّنا ن َ َ‬
‫من الية ‪.(45‬‬
‫دي‪،‬‬
‫قال الطبري‪ :‬وأما الفراط فهو السراف والشطاط والتع ّ‬
‫دى‪.‬‬
‫يقال منه‪ ،‬أفرطت في قولك‪ ،‬إذا أسرف فيه وتع ّ‬
‫ما الّتفريط فهو الّتواني‪ُ ،‬يقال منه‪ :‬فّرطت في هذا المر حممتى‬ ‫وأ ّ‬
‫فات‪ ،‬إذا توانى فيه‪.‬‬
‫ط عَل َي َْنا( )طمه‪ :‬من الية ‪ (45‬قممال‪:‬‬
‫ن ي َْفُر َ‬ ‫خا ُ َ‬
‫فأ ْ‬ ‫قال ابن زيد‪) :‬ن َ َ‬
‫جل )‪.(2‬‬ ‫نخاف أن يعجل علينا إذ نبّلغه كلمك أو أمرك‪ ،‬يفرط ويع ّ‬
‫ط عَل َي ْن َمما( )طمممه‪ :‬مممن اليممة ‪(45‬‬
‫ن ي َْفمُر َ‬ ‫خا ُ َ‬
‫فأ ْ‬ ‫وقال الفّراء‪) :‬إ ِن َّنا ن َ َ‬
‫جل إلى عقوبتنا)‪.(3‬‬
‫قال‪ :‬يع ّ‬
‫دم عممن‬
‫د‪ ،‬والتقم ّ‬
‫ما سبق أن معنى الفراط‪ :‬تجمماوز الحم ّ‬
‫ونخلص م ّ‬
‫القدر المطلوب‪ ،‬وهو عكس الّتفريط ‪ -‬كما سيأتي‪.-‬‬
‫ن كل‬
‫ومن خلل مما سمبق يّتضمح ممن تعريفمي الغلموّ والفمراط أ ّ‬
‫سر الغلوّ بالفراط كما سبق‪.‬‬ ‫د‪ ،‬وقد ف ّ‬
‫منهما يصدق عليه‪ :‬تجاوز الح ّ‬
‫وإن كان كل واحد منهما يحمل معنى أبلغ من الث ّمماني فممي بعممض‬
‫ما يستعمل فيه‪.‬‬
‫دد علممى نفسممه بتحريممم بعممض الطّيبممات‪ ،‬أو بحرمممان‬
‫فالممذي ُيشم ّ‬
‫نفسه منها وصف الغلوّ ألصق به مممن الفممراط‪ ،‬والممذي ُيعمماقب مممن‬
‫دى بهمما حممدود مثممل تلممك العقوبممة فوصممف‬
‫اعتدى عليممه عقوبممة يتعم ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬لسان العرب مادة )فرط(‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(16/170‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬لسان العرب مادة )فرط(‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪59‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫و‪ ،‬فنقممول‪ :‬عمماقبه وأفممرط فممي عقمموبته‪.‬‬


‫الفراط ألصق به من الغل م ّ‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫والذي يعنينا في هذا المبحث أن كل مممن الغلموّ والفممراط خممروج‬
‫و( أو )الفممراط(‬
‫عممن "الوسممطّية" فكممل أمممر اسممتحقّ وصممف )الغل م ّ‬
‫فليس من الوسطّية في شيء‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬التفريط والجفاء‬
‫دل عليممه كممل منهممما‪،‬‬‫بعد أن عّرفنا معنى الغلوّ والفراط‪ ،‬وممما ي م ّ‬
‫نقف الن مع ما يقابلهممما‪ ،‬وهممو‪ :‬الّتفريممط والجفمماء‪ .‬والّتفريممط فممي‬
‫اللغة هو الّتضييع كما في لسان العرب‪.‬‬
‫م مُرهُ فُُرط مًا( )الكهممف‪ :‬مممن اليممة ‪ .(28‬أي‬ ‫كا َ‬
‫نأ ْ‬‫جاج‪) :‬وَ َ َ‬
‫وقال الّز ّ‬
‫كان أمره الّتفريط وهو تقديم العجز‪.‬‬
‫ي ‪ ‬ل يرى الجاهل إل مْفرِط ًمما أو مفّرط ًمما‪ ،‬وهممو‬
‫وفي حديث عل ّ‬
‫صر فيه‪.‬‬
‫بالتخفيف‪ :‬المسرف في العمل‪ ،‬وبالّتشديد المق ّ‬
‫أّنه نممام عممن العشمماء حممتى تفّرطممت ‪ ‬أي‪ :‬فممات‬ ‫‪‬‬ ‫ومنه الحديث‪:‬‬
‫وقتها قبل أدائها‪.‬‬
‫صر فيه وض مّيعه حممتى فممات‪،‬‬ ‫وفّرط في المر ُيفّرط فر ً‬
‫طا‪ ،‬أي‪ :‬ق ّ‬
‫وكذلك الّتفريط )‪.(1‬‬
‫أممما إن ّممه ليممس فممي النمموم تفريممط ‪.(2) ‬‬ ‫ومنه قول الرسول‪  ،‬‬
‫وإذن فالّتفريط هو الّتقصير والّتضييع والّترك‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر لكل ما سبق‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة )فرط(‪.‬‬

‫‪ - 2‬جاءت هذه العبارة في حديث أبي قتادة الطويل‪ .‬أخرجه مسلم )‪ (1/473‬رقم )‪ .(681‬وأخرجه مختصًرا‪ :‬أبو داود )‪ (1/121‬رقم )‪ .(441‬والترمذي )‪ (1/334‬رقم )‪.(177‬‬

‫والنسائي )‪ (1/294‬رقم )‪ .(614‬وغيرهم‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪60‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫قال ابن فارس‪ :‬وكذلك الّتفريط‪ ،‬وهو الّتقصير‪ ،‬لّنه إذا قصممر‬
‫فيه فقد قعد به عن رتبته التي هي له)‪.(3‬‬
‫صر فيه‪ ،‬وضّيعه‪،‬‬ ‫وقال الجوهري‪ :‬فّرط في المر فر ً‬
‫طا‪ :‬أي ق ّ‬
‫حتى فات‪ ،‬وكذلك الّتفريط )‪.(2‬‬
‫دة مواضع‪.‬‬ ‫وقد وردت مادة )فرط( في القرآن في ع ّ‬
‫م‬
‫جمماَءت ْهُ ُ‬
‫ذا َ‬ ‫ن ك َذ ُّبوا ب ِل َِقاِء الل ّهِ َ‬
‫حّتى إ ِ َ‬ ‫سَر ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫خ ِ‬‫قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬قَد ْ َ‬
‫ما فَّرط َْنا ِفيَها( )النعام‪ :‬من الية‬ ‫سَرت ََنا عََلى َ‬‫ح ْ‬‫ة َقاُلوا َيا َ‬
‫ة ب َغْت َ ً‬
‫ساعَ ُ‬
‫ال ّ‬
‫‪.(31‬‬
‫قال الطبري‪ :‬يقول‪ :‬يا ندامتنا على ما ضّيعنا فيها‪.‬‬
‫سمَرت ََنا( )النعممام‪ :‬مممن اليممة ‪ (31‬فنممدامتنا‬
‫ح ْ‬
‫سدي‪ :‬أما )َيا َ‬
‫قال ال ّ‬
‫على ما فّرطنا فيها‪ ،‬فضّيعنا من عمل الجنة)‪.(3‬‬
‫دم‪،‬‬
‫وقــال القرطــبي‪ :‬وفّرطنمما معنمماه ضممّيعنا‪ ،‬وأصممله التقمم ّ‬
‫دمنا العجز‪.‬‬‫فقولهم‪) :‬فَّرط َْنا( )النعام‪ :‬من الية ‪ (31‬أي‪ :‬ق ّ‬
‫سابق لنا إلى طاعة الله‬ ‫وقيل‪" :‬فّرطنا" أي‪ :‬جعلنا غير الفارط ال ّ‬
‫وتخّلفنا )‪.(4‬‬
‫ما فَّرط َْنا ِفمي ال ْك ِت َمما ِ‬
‫ب‬ ‫ضا‪َ ):-‬‬
‫وقال ‪ -‬تعالى ‪ -‬في سورة النعام ‪ -‬أي ً‬
‫يٍء( )النعام‪ :‬من الية ‪.(38‬‬ ‫ن َ‬
‫ش ْ‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬
‫)‪.(5‬‬ ‫ي‪ :‬معناه‪ :‬ما ضّيعنا إثبات شيء منه‬
‫قال الطبر ّ‬
‫وقال ابن عّباس‪ :‬ما تركنا شيًئا إل وقد كتبناه في أ ّ‬
‫م الكتاب )‪.(6‬‬

‫‪ - 3‬معجم مقاييس اللغة مادة )فرط( )‪.(4/490‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬الصحاح مادة )فرط( )‪.(3/1148‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(7/178‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(6/413‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(7/188‬‬

‫‪ - 6‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(7/188‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪61‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫يٍء( )النعمام‪ :‬مممن‬ ‫شم ْ‬ ‫ن َ‬ ‫مم ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫ما فَّرط َْنا ِفي ال ْك ِت َمما ِ‬‫وقال ابن زيد‪َ ) :‬‬
‫الية ‪ (38‬قال‪ :‬لم نغفل‪ ،‬ما من شيء إل وهو في الكتاب )‪.(1‬‬
‫َ‬
‫مل‬ ‫سل َُنا وَهُ ْ‬ ‫ت ت َوَفّت ْ ُ‬
‫ه ُر ُ‬ ‫مو ْ ُ‬‫م ال ْ َ‬
‫حد َك ُ ُ‬ ‫جاَء أ َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬
‫ذا َ‬ ‫وقال ‪ -‬تعالى ‪َ ) :-‬‬
‫ن( )النعمام‪ :‬من الية ‪.(61‬‬ ‫ي َُفّر ُ‬
‫طو َ‬
‫ن معنى الّتفريط‪ :‬الّتضممييع فيممما مضممى‬
‫قال الطبري‪ :‬قد بي ّّنا أ ّ‬
‫قبل‪ ،‬وكذلك تأّوله المتأّولون في هذا الموضع‪.‬‬
‫قال ابن عّباس‪" :‬ل ُيفّرطون"‪ .‬ل يضّيعون‪.‬‬
‫ي‪" :‬ل يفّرطون"‪ .‬ل يضّيعون )‪.(2‬‬ ‫سد ّ‬
‫وكذلك قال ال ّ‬
‫ف(‬
‫سم َ‬ ‫ممما فَّرط ْت ُم ْ‬
‫م فِممي ُيو ُ‬ ‫ن قَب ْم ُ‬
‫ل َ‬ ‫مم ْ‬
‫وفي سورة يوســف‪) :‬وَ ِ‬
‫)يوسف‪ :‬من الية ‪.(80‬‬
‫قال الطبري‪ :‬ومن قبل فعلتكم هممذه تفريطكممم فممي يوسممف‪،‬‬
‫يقول‪ :‬أولم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف )‪.(3‬‬
‫ف( )يوسممف‪ :‬مممن اليممة ‪(80‬‬
‫سم َ‬ ‫ي‪) :‬فَّرط ْت ُم ْ‬
‫م فِممي ُيو ُ‬ ‫قال القاسممم ّ‬
‫صرتم في شأنه )‪.(4‬‬ ‫ق ّ‬
‫ن‬ ‫ن ل ِل ّمهِ َ‬
‫ممما ي َك َْرهُممو َ‬ ‫جعَل ُممو َ‬‫وقال ‪ -‬تعالى ‪ -‬فممي سممورة النحممل‪) :‬وَي َ ْ‬
‫َ‬ ‫ف أ َل ْسنتهم ال ْك َذب أ َن ل َهم ال ْحسنى ل جر َ‬
‫م‬
‫م الّناَر وَأن ُّهمم ْ‬‫ن ل َهُ ُ‬‫مأ ّ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫ِ َ ّ ُ ُ‬ ‫ِ َُُ ُ‬ ‫ص ُ‬‫وَت َ ِ‬
‫ن( )النحل‪.(62:‬‬ ‫طو َ‬‫مْفَر ُ‬‫ُ‬
‫ن( )النحل‪ :‬من الية ‪(62‬‬ ‫مْفَر ُ‬ ‫َ‬
‫طو َ‬ ‫م ُ‬‫قال سعيد بن جبير‪) :‬وَأن ّهُ ْ‬
‫منسّيون مضّيعون‪.‬‬
‫حاك‪ :‬متروكون في الّنار‪.‬‬
‫ض ّ‬
‫وقال ال ّ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(7/188‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(7/218‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(13/35‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(13/35‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪62‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقال قتادة‪ :‬مضاعون‪.‬‬


‫دمون إليها‪ ،‬وذهبمموا فممي‬
‫وقال آخرون‪ :‬إّنهم معجلون إلى الّنار مق ّ‬
‫دموه‬
‫ذلك إلمى قمول العمرب‪ :‬أفرطنما فلًنما فمي طلمب المماء إذا قم ّ‬
‫جممح الطممبري أن معنممى‬ ‫دلء والرشية‪ .‬وقيل غيممر ذلممك‪ .‬ور ّ‬ ‫لصلح ال ّ‬
‫ن( )النحممل‪ :‬مممن اليممة ‪ (62‬مخّلفممون مممتروكون فممي الن ّممار‪،‬‬ ‫مْفَر ُ‬
‫طو َ‬ ‫) ُ‬
‫منسّيون فيها )‪.(1‬‬
‫وقال ‪ -‬تعالى ‪ -‬في سورة الكهف‪) :‬ول تطع م َ‬
‫ن‬ ‫ن أغَْفل َْنا قَل ْب َم ُ‬
‫ه ع َم ْ‬ ‫َ ُ ِ ْ َ ْ‬
‫مُرهُ فُُرطًا( )الكهف‪ :‬من الية ‪.(28‬‬ ‫كا َ‬
‫نأ ْ‬‫واهُ وَ َ َ‬
‫ذِك ْرَِنا َوات ّب َعَ هَ َ‬
‫مُرهُ فُُرطًا( )الكهمف‪ :‬مممن اليمة ‪(28‬‬ ‫كا َ‬
‫نأ ْ‬‫روى عن مجاهد‪) :‬وَ َ َ‬
‫ضائًعا‪.‬‬
‫عا‪.‬‬
‫وروي عنه‪ :‬ضيا ً‬
‫صواب‪ ،‬قممول مممن قممال‪:‬‬ ‫قال الطبري‪ :‬وأولى القوال في ذلك بال ّ‬
‫كا‪ ،‬من قولهم‪ :‬أفرط فلن في هذا المر إفراط ًمما‪،‬‬ ‫عا وهل ً‬‫معناه‪ :‬ضيا ً‬
‫ممُرهُ فُُرط مًا(‬ ‫إذ أسرف فيممه وتجمماوز قممدره‪ ،‬وكممذلك قمموله‪) :‬وك َمما َ‬
‫نأ ْ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫)الكهف‪ :‬من الية ‪ (28‬معناه‪ :‬وكان أمر هذا الذي أغفلنمما قلبممه عممن‬
‫ذكرنا في الّرياء والكبر‪ ،‬واحتقار أهل اليمان‪ ،‬سرًفا قد تجاوز ح ّ‬
‫ده‪،‬‬
‫فضّيع بذلك الحقّ وهلك )‪.(2‬‬
‫وقال ابن الجوزي‪ :‬في الية أربعة أقوال‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أّنه أفرط في قوله‪ ،‬روي عن ابن عباس‪.‬‬
‫عا‪ ،‬قاله مجاهد‪ ،‬وقال أبو عبيدة‪ ،‬سرًفا وتضّييًعا‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬ضيا ً‬
‫ما‪ ،‬حكاه ابن قتيبة عن أبي عبيدة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ند ً‬
‫‪ - 1‬انظر لما سبق‪ :‬تفسير الطبري )‪.(14/177‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(15/236‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪63‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫جمماج‬
‫الرابع‪ :‬كان أمره الّتفريط‪ ،‬والّتفريط‪ :‬تقديم العجز‪ ،‬قاله الّز ّ‬
‫)‪.(1‬‬
‫َ‬
‫ممما فَّرط ْم ُ‬
‫ت‬ ‫سَرَتى عَل َممى َ‬
‫ح ْ‬
‫س َيا َ‬‫ل ن َْف ٌ‬‫ن ت َُقو َ‬‫وفي سورة الزمر‪) :‬أ ْ‬
‫ن( )الزمر‪.(56:‬‬ ‫ري َ‬
‫خ ِ‬
‫سا ِ‬‫ن ال ّ‬‫م َ‬ ‫ت لَ ِ‬ ‫ب الل ّهِ وَإ ِ ْ‬
‫ن ك ُن ْ ُ‬ ‫جن ْ ِ‬
‫ِفي َ‬
‫قال الطبري‪ :‬يقول‪ :‬على ما ضّيعت من العمل بما أمرني الله‬
‫صرت في الدنيا في طاعة الله‪.‬‬ ‫به‪ ،‬وق ّ‬
‫دي )‪.(2‬‬ ‫س ّ‬ ‫وروي مثل ذلك عن مجاهد وال ّ‬
‫ممما فَّرط ْم ُ‬
‫ت( )الزمممر‪ :‬مممن‬ ‫سَرَتى عََلى َ‬ ‫ح ْ‬ ‫وقال القاسمي‪َ) :‬يا َ‬
‫ه( )الزمر‪ :‬من الية ‪ (56‬أي في‬ ‫ب الل ّ ِ‬
‫جن ْ ِ‬
‫صرت‪ِ) .‬في َ‬‫الية ‪ (56‬أي ق ّ‬
‫جانب أمره ونهيه )‪.(3‬‬
‫ل علممى الّتفريممط‪ ،‬كممما بّينممت‬‫هذه هي اليات التي ورد فيها ما يد ّ‬
‫ل علمى الّتضممييع والّتقصمير‪،‬‬ ‫سمرين‪ ،‬وكّلهمما تمد ّ‬
‫من خلل أقموال المف ّ‬
‫والّترك والّتهاون‪ ،‬مع اختلف يسير بين مدلول هذه المعاني‪.‬‬
‫وكّلها في مقابل الفراط والغل ّ‬
‫و‪ ،‬كما سبق بيانهما‪.‬‬

‫أما الجفاء‬
‫ل يممد ّ‬
‫ل علممى‬ ‫فقال ابن فارس‪ :‬الجيم والفمماء والحممرف المعتم ّ‬
‫أصل واحد‪ :‬نبو الشيء عن الشيء‪ ،‬من ذلك‪ :‬جفوت الرجل اجفوه‪،‬‬
‫سممرج عممن ظهممر الفممرس‪،‬‬
‫وهو ظاهر الجفوة‪ ،‬أي‪ :‬الجفمماء‪ ،‬وجفمما ال ّ‬
‫وأجفيته أنا‪.‬‬
‫وكذلك كل شيء إذا لم يلزم شيًئا ُيقال جفا عنه يجفو‪.‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬زاد المسير )‪.(5/133‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(24/19‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(14/5146‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪64‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫سمميل‪ ،‬ومنممه اشممتقاق‬


‫والجفاء‪ :‬خلف الب ّممر‪ ،‬والجفمماء‪ :‬ممما نفمماه ال ّ‬
‫الجفاء )‪.(1‬‬
‫وقال ابن منظور)‪ (2‬جفا الشيء يجفو جفاًء وتجافى‪ :‬لم يلممزم‬
‫جنب يجفو عن الفراش‪ ،‬وفي‬ ‫سرج يجفو عن ال ّ‬
‫ظهر‪ ،‬وكال ّ‬ ‫مكانه‪ ،‬كال ّ‬
‫جِع( )السممجدة‪ :‬مممن اليممة ‪(16‬‬
‫ضا ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫جاَفى ُ‬
‫جُنوب ُهُ ْ‬ ‫الّتنمزيل‪) :‬ت َت َ َ‬
‫سجود ‪‬‬
‫وفي الحديث‪  :‬أنه كان يجافي عضديه عن جنبيه في ال ّ‬
‫)‪(3‬‬

‫أي يباعدهما‪.‬‬
‫إذا سجدت فتجاف ‪ ‬وهو من الجفاء‪ :‬البعممد عممن‬ ‫‪‬‬ ‫وفي الحديث‪:‬‬
‫اقمرءوا القمرآن ول تجفموا عنمه ‪ .(4) ‬أي‬ ‫‪‬‬ ‫الشيء‪ ،‬ومنمه الحمديث‪:‬‬
‫تعاهدوه ول تبتعدوا عن تلوته‪.‬‬
‫قال أبو عبيد في معنى الجفـاء فــي الحــديث‪ :‬والجممافي‬
‫عنه الّتارك له‪ ،‬وللعمل به‪.‬‬
‫الحياء من اليمممان‬ ‫وفي الحديث عن أبي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال‪  ،‬‬
‫واليمان في الجنة‪ ،‬والبذاء من الجفاء‪ ،‬والجفاء في الّنار ‪.(5) ‬‬
‫دال المهملممة‪ ،‬خممرج‬
‫ن بدا جفمما ‪ .(6) ‬بال م ّ‬
‫م ْ‬
‫وفي الحديث الخر‪ّ  :‬‬
‫إلى البادية‪ ،‬أي‪ :‬من سكن البادية غلظ طبعه‪ ،‬لقّلة مخالطة الّناس‪.‬‬
‫والجفاء غلظ ال ّ‬
‫طبع‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬مقاييس اللغة مادة )جفو( )‪.(1/465‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬لسان العرب مادة )جفا(‪.‬‬

‫‪ - 3‬أخرجه مسلم )‪ (1/357‬رقم )‪ (497‬من حديث ميمونة ‪ -‬رضي الله عنها ‪ .-‬وأخرجه أبو داود )‪ (1/194‬رقم )‪ .(730‬والنسائي )‪ (2/211‬رقم )‪ (1101‬من حديث أبي حميد‬

‫الساعدي‪ .‬وأخرجه أحمد )‪ (3/295‬من حديث جابر‪ .‬وصححه اللباني كما في صحيح الجامع رقم )‪.(4738‬‬

‫‪ - 4‬أخرجه أحمد في المسند )‪ .(444 ،3/428‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد )‪ :(171 ،7/170‬رواه أحمد والبزار بنحوه‪ ،‬ورجال أحمد ثقات‪ .‬وصححه اللباني كما في صحيح‬

‫الجامع رقم )‪.(1168‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬غريب الحديث )‪ (1/483‬ووسطية أهل السنة ص )‪ (14‬وهذا الحديث أخرجه الترمذي )‪ (4/321‬رقم )‪ .(2009‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪ .‬وابن ماجة )‪(2/1400‬‬

‫رقم )‪ .(4184‬وأحمد )‪ .(2/501‬وصححه اللباني كما في صحيح الجامع رقم )‪.(3200‬‬

‫‪ - 6‬أخرجه أحمد )‪ .(440 ،2/371‬وصححه اللباني كما في السلسلة الصحيحة رقم )‪.(1272‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪65‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ليس بالجافي المهين‪ ،‬أي ليس بالغليظ الخلقمة‪،‬‬ ‫وفي صفته‪ ،‬‬
‫ول ال ّ‬
‫طبع )‪.(1‬‬
‫َ‬
‫جَفاًء( )الرعد‪ :‬من الية ‪.(17‬‬
‫ب ُ‬‫ما الّزب َد ُ فَي َذ ْهَ ُ‬
‫وقال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬فَأ ّ‬
‫دثت عن أبي عبيدة معمممر بممن‬ ‫ما الجفاء‪ ،‬فإني ح ّ‬ ‫قال الطبري‪ :‬وأ ّ‬
‫المثّنى‪ ،‬قال‪ :‬قال أبو عمممرو بممن العلء‪ُ :‬يقممال‪ :‬قممد أجفممأت القممدور‪،‬‬
‫ب زبدها‪ ،‬أو سكنت فل يبقى منه شيء‪.‬‬
‫وذلك إذا غلت فانص ّ‬
‫وقد زعم بعض أهل العربي ّممة مممن أهممل البصممرة أن معنممى قمموله‪:‬‬
‫جَفاًء( )الرعد‪ :‬من الية ‪ (17‬تنشفه الرض‪ ،‬وقممال‪ :‬يقممال‪:‬‬ ‫)فَي َذ ْهَ ُ‬
‫ب ُ‬
‫جفا الوادي وأجفى‪ :‬في معنى نشف )‪.(2‬‬
‫جِع( )السممجدة‪ :‬مممن‬ ‫ضمما ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫جاَفى ُ‬
‫جُنوب ُهُ ْ‬ ‫وقال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬ت َت َ َ‬
‫حى جنوب هؤلء الذين يؤمنون بآيات‬ ‫الية ‪ .(16‬قال الطبري‪ :‬تتن ّ‬
‫طجعون‬ ‫ضم َ‬
‫الله‪ ،‬الذين وصفت صفتهم‪ ،‬وترتفع عن مضاجعهم التي ي َ ْ‬
‫لمنامهم‪ ،‬ول ينامون‪.‬‬
‫وتتجافى‪ :‬تتفاعل من الجفاء‪ ،‬والجفاء‪ :‬النبو‪.‬‬
‫جنمموبهم عممن المضمماجع‬
‫وإّنممما وصممفهم ‪ -‬تعممالى ذكممره ‪ -‬بتجممافي ُ‬
‫صلة‪.‬‬‫لتركهم الضطجاع للنوم شغل بال ّ‬
‫ن جنمموبهم تنبممو عممن‬
‫ثممم قممال‪ :‬إن اللممه وصممف هممؤلء القمموم بممأ ّ‬
‫مضاجعهم‪ ،‬شغل منهم بدعاء رّبهم وعبادته‪ ،‬خوًفا وطمًعا‪ ،‬وذلك نب م ّ‬
‫و‬
‫جنوبهم عن المضاجع ليل‪ ..‬إلخ )‪.(3‬‬
‫ومما سبق يّتضح أن الجفاء هو النبوء والّترك والبعممد‪ ،‬وهممو غالب ًمما‬
‫ما يحدث خلف الصل والعادة‪.‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬لسان العرب مادة )جفا(‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(13/137‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(102-21/99‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪66‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ي عنممه‪ ،‬كالجفمماء بممما‬


‫وأكثر ما يرد الجفاء لما هممو محظممور ومنه م ّ‬
‫شممدة والغلظممة‪ ،‬ونحممو‬ ‫يقابل الصلة والّبر‪ ،‬والجفاء الممذي هممو مممن ال ّ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وسأذكر بعض المثلة التي يّتضح فيها معنى الّتفريط والجفاء‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫‪ -1‬تأخير الصلة عن وقتها تفريممط‪ ،‬ولممذلك ورد فممي الحممديث‪:‬‬
‫ما إّنه ليس في النمموم تفريممط‪ ،‬إّنممما الّتفريممط علممى مممن لممم يصم ّ‬
‫ل‬ ‫أ ّ‬
‫صلة الخر ‪.(1) ‬‬ ‫صلة حتى يجيء وقت ال ّ‬ ‫ال ّ‬
‫‪ -2‬رؤية المنكرات وعدم إنكارها مع القدرة تفريط‪.‬‬
‫‪ -3‬إهمال تربية الولد‪ ،‬تفريط‪.‬‬
‫‪ -4‬ترك الخذ بالسباب‪ ،‬تفريط‪.‬‬
‫‪ -5‬تأخير عمل اليوم إلى الغد ‪ -‬دون سبب ‪ -‬تفريط‪.‬‬
‫‪ -6‬الغلظة في المعاملة‪ ،‬جفاء‪.‬‬
‫‪ -7‬عقوق الوالدين‪ ،‬جفاء‪.‬‬
‫‪ -8‬قطع الرحام وعدم صلتهم‪ ،‬جفاء وتفريط‪.‬‬
‫‪ -9‬عدم القيام بحقوق العلماء وضعف الصلة بهم‪ ،‬جفاء وتفريط‪.‬‬
‫‪ -10‬السمملبّية مممع واقممع المسمملمين وشممئونهم وشممجونهم‪ ،‬جفمماء‬
‫وتفريط‪.‬‬
‫صمما‪.‬‬
‫ما وخصو ً‬
‫وبهذا يتبّين معنى الّتفريط والجفاء‪ ،‬وأن بينهما عمو ً‬
‫وهما ُيقابلن معنى الغلوّ والفراط‪.‬‬

‫‪ - 1‬جاءت هذه العبارة في حديث أبي قتادة الطويل‪ .‬أخرجه مسلم )‪ (1/473‬رقم )‪ .(681‬وأخرجه مختصًرا‪ :‬أبو داود )‪ (1/121‬رقم )‪ .(441‬والترمذي )‪ (1/334‬رقم )‪.(177‬‬

‫والنسائي )‪ (1/294‬رقم )‪ .(614‬وغيرهم‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪67‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫مل في استعمال العرب لهما يلحظ أن الجفاء يسممتعمل‬ ‫وعند الّتأ ّ‬


‫ممما‬
‫‪ -‬غالًبا ‪ -‬فيما فيه قصد المر من الت ّممرك والبعممد وسمموء الخلممق‪ .‬أ ّ‬
‫الّتفريط فمنشؤه ‪ -‬غالًبا ‪ -‬الّتساهل والّتهاون‪.‬‬
‫والخلصة‪:‬‬
‫ن كل أمرٍ اّتصف بالّتفريط أو بالجفمماء‪ ،‬فممإّنه ُيخممالف الوسممطّية‪،‬‬
‫أ ّ‬
‫وبمقدار اّتصافه بأيّ من هذين الوصفين يكون بعممده عممن الوسممطّية‬
‫وتجافيه عنها‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬الصراط المستقيم‬
‫بعد أن عرفنا مممدلول الغلموّ والجفمماء والفممراط والّتفريممط‪ ،‬نممأتي‬
‫صراط المستقيم‪.‬‬ ‫للحديث عن ال ّ‬
‫صممراط المسممتقيم(‪ ،‬وتحديممد مممدلوله‪ ،‬ل‬
‫إّننا بدون فهم معنممى )ال ّ‬
‫صحيح‪.‬‬‫نستطيع فهم )الوسطّية( على معناها ال ّ‬
‫صراط المستقيم(‪ ،‬في القرآن الكريم عشممرات‬ ‫وقد ورد لفظ )ال ّ‬
‫ست َِقيمًا( )النساء‪ :‬ممن اليمة‬ ‫صَراطا ً ُ‬
‫م ْ‬ ‫ضا – بلفظ ) ِ‬
‫المّرات‪ ،‬وجاء ‪ -‬أي ً‬
‫طي‬ ‫ص مَرا ِ‬ ‫م( )العراف‪ :‬من اليممة ‪ (16‬و ) ِ‬ ‫ست َِقي َ‬ ‫ك ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫صَراط َ َ‬ ‫‪ (68‬و ) ِ‬
‫ست َِقيمًا( )النعام‪ :‬من الية ‪ (153‬ونحو ذلك‪.‬‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫صممَرا َ‬
‫ط‬ ‫هممدَِنا ال ّ‬
‫ففممي سممورة الفاتحممة نجممد قمموله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬ا ْ‬
‫ط ال ّمذي َ‬ ‫صمَرا َ‬
‫ت‬ ‫مم َ‬‫ن أن ْعَ ْ‬‫ِ َ‬ ‫سممره بممأنه‪ِ ) :‬‬ ‫م( )الفاتحممة‪ (6:‬ثممم يف ّ‬ ‫سمت َِقي َ‬‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ن( )الفاتحة‪.(7:‬‬ ‫ضاّلي َ‬ ‫ب عَل َي ْهِ ْ‬
‫م َول ال ّ‬ ‫ضو ِ‬ ‫مغ ْ ُ‬‫م غَي ْرِ ال ْ َ‬
‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫ط‬‫ص مَرا ٍ‬ ‫شمماُء إ ِل َممى ِ‬
‫ن يَ َ‬
‫مم ْ‬‫دي َ‬
‫وفي البقرة جاء قوله ‪ -‬تعممالى‪) :-‬ي َهْ م ِ‬
‫م( )البقرة‪ :‬من اليممة ‪ .(142‬وجمماء بعممد هممذه اليممة مباشممرة‪:‬‬ ‫ست َِقي ٍ‬
‫م ْ‬‫ُ‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪ .(143‬وسيأتي بيان‬ ‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫مأ ّ‬‫)وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪68‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫العلقة بين هاتين اليممتين‪ .‬وعيسممى‪ ،‬عليممه السمملم‪ ،‬فممي سممورة آل‬
‫ص مَرا ٌ‬
‫ط‬ ‫دوهُ هَ م َ‬
‫ذا ِ‬ ‫ن الل ّم َ‬
‫ه َرب ّممي وََرب ّك ُم ْ‬
‫م َفاعْب ُم ُ‬ ‫عمران يقول لقممومه‪) :‬إ ِ ّ‬
‫م( )آل عمران‪.(51:‬‬‫ست َِقي ٌ‬
‫م ْ‬
‫ُ‬
‫سممور الممتي ورد فيهمما الحممديث‬ ‫ونجد أن سورة النعام من أكممثر ال ّ‬
‫ه عَل َممى‬ ‫شأ الل ّه يضلل ْه ومن ي َ ْ‬
‫جعَل ْم ُ‬
‫شأ ي َ ْ‬ ‫ُ ُ ْ ِ ُ َ َ ْ َ‬ ‫ن يَ َ ِ‬
‫م ْ‬
‫صراط المستقيم‪َ ) :‬‬‫عن ال ّ‬
‫م إ ِل َممى‬‫م وَهَ مد َي َْناهُ ْ‬‫جت َب َي َْناهُ ْ‬
‫م( )النعام‪ :‬من الية ‪َ) (39‬وا ْ‬ ‫ست َِقي ٍ‬
‫م ْ‬‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫ط َرّبمم َ‬ ‫صممَرا ُ‬ ‫ذا ِ‬ ‫همم َ‬‫م( )النعممام‪ :‬مممن اليممة ‪) (87‬وَ َ‬ ‫سممت َِقي ٍ‬
‫م ْ‬‫ط ُ‬‫صممَرا ٍ‬ ‫ِ‬
‫س مت َِقيما ً‬ ‫َ‬
‫م ْ‬
‫طي ُ‬ ‫صمَرا ِ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ن هَ م َ‬ ‫ست َِقيمًا( )النعممام‪ :‬مممن اليممة ‪) (126‬وَأ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫ط‬‫صممَرا ٍ‬ ‫داِني َرّبي إ َِلى ِ‬ ‫ه( )النعام‪ :‬من الية ‪) (153‬قُ ْ‬
‫ل إ ِن ِّني هَ َ‬ ‫َفات ّب ُِعو ُ‬
‫ماه صراط‬ ‫م( )النعام‪ :‬من الية ‪ (161‬وفي سورة إبراهيم س ّ‬ ‫ست َِقي ٍ‬‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫م‬ ‫ت إ ِل َممى الن ّممورِ ب ِمإ ِذ ْ ِ‬
‫ن َرب ّهِ م ْ‬ ‫ما ِ‬‫ن الظ ّل ُ َ‬ ‫م َ‬‫س ِ‬‫ج الّنا َ‬ ‫خرِ َ‬ ‫العزيز الحميد‪) .‬ل ِت ُ ْ‬
‫د( )إبراهيم‪ :‬من الية ‪ (1‬وفي طممه‪ ،‬وصممفه‬ ‫مي ِ‬‫ح ِ‬‫زيزِ ال ْ َ‬ ‫ط ال ْعَ ِ‬ ‫إ َِلى ِ‬
‫صَرا ِ‬
‫ن‬ ‫بالسوي‪ ،‬فقال‪) :‬فَس متعل َمون م م َ‬
‫مم ِ‬‫س موِيّ وَ َ‬ ‫ط ال ّ‬ ‫ص مَرا ِ‬
‫ب ال ّ‬ ‫حا ُ‬‫صم َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ َْ ُ َ َ ْ‬ ‫ّ ّ‬
‫ج أضممافه للحميممد فقممال‪:‬‬ ‫دى( )طمممه‪ :‬مممن اليممة ‪ (135‬وفممي الحم ّ‬ ‫اهْت َ َ‬
‫د( )الحممج‪:‬‬ ‫ميم ِ‬ ‫ح ِ‬‫ط ال ْ َ‬
‫صمَرا ِ‬ ‫دوا إ ِل َممى ِ‬ ‫ن ال َْقوْ ِ‬
‫ل وَهُم ُ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫دوا إ َِلى الط ّي ّ ِ‬ ‫)وَهُ ُ‬
‫نل‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّم ِ‬
‫‪ (24‬وفممي المؤمنممون عّرفممه دون وصممف أو إضممافة‪) :‬وَإ ِ ّ‬
‫ن( )المؤمنممون‪ (74:‬وفممي مريممم‬ ‫ط ل ََناك ُِبو َ‬
‫صَرا ِ‬
‫ن ال ّ‬ ‫خَرةِ عَ ِ‬ ‫ن ِباْل ِ‬ ‫ي ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬
‫سموِي ًّا(‬‫صمَراطا ً َ‬ ‫ك ِ‬ ‫يقول إبراهيم‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬لبيممه‪) :‬فَممات ّب ِعِْني أ َهْمدِ َ‬
‫ن هَ م َ‬
‫ذا‬ ‫َ‬
‫)مريم‪ :‬مممن اليممة ‪ (43‬ويقممول اللممه فممي سممورة النعممام‪) :‬وَأ ّ‬
‫ه(‬‫س مِبيل ِ ِ‬‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫ل فَت ََفّرقَ ب ِك ُ ْ‬
‫سب ُ َ‬‫ست َِقيما ً َفات ّب ُِعوهُ َول ت َت ّب ُِعوا ال ّ‬
‫م ْ‬ ‫طي ُ‬ ‫صَرا ِ‬‫ِ‬
‫)النعام‪ :‬من الية ‪.(153‬‬
‫صراط" فما معناه؟‪:‬‬
‫هذه بعض اليات التي وردت في "ال ّ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪69‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫م(‬
‫سمت َِقي َ‬ ‫ط ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫صمَرا َ‬
‫همدَِنا ال ّ‬
‫قال الطمبري‪ :‬فمي قموله ‪ -‬تعمالى‪) :-‬ا ْ‬
‫)الفاتحة‪.(6:‬‬
‫صراط المستقيم‬ ‫ن ال ّ‬
‫مة من أهل الّتأويل جميًعا على أ ّ‬‫أجمعت ال ّ‬
‫هو ال ّ‬
‫طريق الواضح الممذي ل اعوجمماج فيممه‪ ،‬وكممذلك فممي لغممة جميممع‬
‫العرب‪ ،‬من ذلك قول جرير الخطفي‪:‬‬
‫ج الموارد مستقيم‬
‫إذا اعو ّ‬ ‫أمير المؤمنين على‬
‫)‪(1‬‬
‫صراط‬

‫صممراط‬
‫)اهممدنا ال ّ‬ ‫وقممال ابممن عبمماس‪ :‬قممال جبريممل لمحمممد‪  ،‬‬
‫المستقيم(‪ :‬يقول‪ :‬ألهمنا ال ّ‬
‫طريممق الهممادي‪ ،‬وهممو ديممن اللممه الممذي ل‬
‫ج له ‪.(2) ‬‬
‫عَوِ َ‬
‫قال الطبري‪ :‬وإّنما وصفه الله بالسممتقامة‪ ،‬لن ّممه صممواب ل خطممأ‬
‫فيه )‪.(3‬‬
‫سممبيل‪ ،‬وسممالك غيممر المنهممج القممويم‬
‫وقال‪ :‬كل حائد عن قصممد ال ّ‬
‫ل عند العرب‪ ،‬لضلله وجه ال ّ‬
‫طريق)‪.(4‬‬ ‫فضا ّ‬
‫سلف والخلف‬
‫سرين من ال ّ‬
‫وقال ابن كثير‪ :‬واختلفت عبارات المف ّ‬
‫صراط‪ ،‬وإن كان يرجع حاصلها إلى شمميء واحممد‪ ،‬وهممو‬‫في تفسير ال ّ‬
‫المتابعة لله ورسوله)‪.(5‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(1/73‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(1/74‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(1/75‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(1/84‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/27‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪70‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫سرين الذين أشار إليهم ابممن كممثير‬


‫ض الن بعض أقوال المف ّ‬ ‫وأعرِ ُ‬
‫‪ -‬رحمه الله ‪.(6) -‬‬
‫أّنه‬ ‫ي بن أبي طالب ‪ ‬عن النبي‪ ،‬‬
‫فقد روى الطبري عن عل ّ‬
‫صراط المستقيم ‪.(2)‬‬
‫قال‪  :‬وذكر القرآن فقال‪ :‬هو ال ّ‬
‫وقال أبو العالية‪ :‬هو رسول الله‪  ،‬وصاحباه من بعده أبمو بكمر‬
‫وعمر‪ ،‬قال الحسن‪ :‬صدق أبو العالية ونصح‪.‬‬
‫وقال القاسمي في تفسير لهذه الية في سممورة الفاتحممة‪ :‬أشممار‬
‫م نأثره عنه هنا لما فيه من‬ ‫شيخ السلم ابن تيمية في مبحث له مه ّ‬
‫الفمموائد الجليلممة‪ ،‬قممال ‪ -‬رحمممه اللممه تعممالى ‪ :-‬ينبغممي أن ُيعلممم أن‬
‫سرين وغيرهم على وجهين‪:‬‬
‫الختلف الواقع من المف ّ‬
‫أحدهما ليس فيه تضاد ّ وتناقض‪ ،‬بل يمكممن أن يكممون كممل منهممما‬
‫صفات أو العبارات‪.‬‬
‫وع‪ ،‬أو اختلف في ال ّ‬
‫حّقا‪ ،‬وإّنما هو اختلف تن ّ‬
‫سمملف مممن الصممحابة‬
‫سممري ال ّ‬
‫مممة الختلف الثممابت عممن مف ّ‬
‫وعا ّ‬
‫والّتابعين هو من هذا الباب‪.‬‬
‫ما مثممل قمموله‪:‬‬ ‫فالله ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬إذا ذكر فممي القممرآن اس م ً‬
‫سممرين يعب ّممر‬
‫م( )الفاتحة‪ (6:‬فكل مممن المف ّ‬ ‫ست َِقي َ‬ ‫ط ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫صَرا َ‬
‫)اهْدَِنا ال ّ‬
‫ل بها على بعض صفاته‪ ،‬وكل ذلممك‬ ‫صراط المستقيم بعبارة تد ّ‬
‫عن ال ّ‬
‫ق‪ ،‬بمنمزلة ما ُيسمي الله ورسوله‪ ،‬وكتابه بأسماء‪ ،‬كل اسم منهمما‬‫ح ّ‬
‫يد ّ‬
‫ل على صفة من صفاته‪.‬‬

‫‪ - 6‬انظر هذه القوال في‪ :‬تفسير الطبري )‪ .(75 ،1/74‬وزاد المسير )‪.(1/15‬‬

‫ضا ‪ -‬الدارمي )‪ (2/527‬رقم‬


‫‪ - 2‬أخرجه الترمذي )‪ (159 ،5/158‬رقم )‪ (2906‬وقال‪ :‬هذا حديث ل نعرفه إل من هذا الوجه‪ ،‬وإسناده مجهول‪ ،‬وفي الحارث مقال‪ .‬وأخرجه ‪ -‬أي ً‬
‫)‪ .(3332‬وأخرجه أحمد مختصًرا )‪ .(1/91‬قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن ص )‪ :(12 ،11‬وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلم أمير المؤمنين علي ‪ -‬رضي الله‬

‫عنه ‪ -‬وقد وهم بعضهم في رفعه‪ ،‬وهو كلم حسن صحيح‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪71‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫صراط المستقيم‪ :‬كتاب الله أو اّتبمماع كتمماب‬


‫فيقول بعضهم‪ :‬ال ّ‬
‫الله‪.‬‬
‫صراط المستقيم‪ :‬هو السلم أو دين السلم‪.‬‬‫ويقول الخر‪ :‬ال ّ‬
‫صراط المستقيم‪ :‬هو السّنة والجماعة‪.‬‬‫ويقول الخر‪ :‬ال ّ‬
‫صممراط المسممتقيم‪ :‬هممو العبودي ّممة‪ ،‬أو طريممق‬
‫ويقول الخــر‪ :‬ال ّ‬
‫ب‪ ،‬وامتثممال المممأمور‪ ،‬واجتنمماب المحظممور‪ ،‬أو‬ ‫الخوف والرضى والح ّ‬
‫متابعة الكتاب والسّنة‪ ،‬أو العمل بطاعة الله‪ ،‬أو نحممو هممذه السممماء‬
‫والعبارات‪.‬‬
‫ددت‬
‫وعت صممفاته وتع م ّ‬
‫مى هممو واحممد‪ ،‬وإن تن م ّ‬
‫ن المس م ّ‬‫ومعلمموم أ ّ‬
‫أسماؤه وعباراته )‪.(1‬‬
‫صممراط المسممتقيم أن تفعممل‬
‫ن ال ّ‬
‫ثم قال في موضع آخر‪ :‬فممإ ّ‬
‫في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل‪ ،‬ول تفعل‬
‫ما ُنهيت عنه‪ ،‬وهذا يحتاج في وقت إلى أن تعلم ما أمر به في ذلممك‬
‫المموقت‪ ،‬وممما ُنهممي عنممه‪ ،‬وإلممى أن يحصممل لممك إرادة جازمممة لفعممل‬
‫سممر‬
‫المأمور‪ ،‬وكراهة لممترك المحظممور‪ ،‬والصممراط المسممتقيم قممد ف ّ‬
‫ق‪ ،‬فهممو موصمموف‬ ‫بالقرآن‪ ،‬والسلم‪ ،‬وطريق العبودّية‪ ،‬وكل هذا ح م ّ‬
‫بهذا وبغيره )‪.(2‬‬
‫صممراط المسممتقيم‪ :‬أصممله ال ّ‬
‫طريممق الواضممح‬ ‫قال القاسمي‪ :‬ال ّ‬
‫الذي ل اعوجاج فيه ول انحراف‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(1/20‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪ ،(1/22‬حيث نقل هذا الكلم عن شيخ السلم‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪72‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وُيسممتعار لكممل قممول أو عمممل يبلممغ بممه صمماحبه الغايممة الحميممدة‪،‬‬


‫س‪ ،‬كالحقّ للعقل‪ ،‬في أّنه‪ :‬إذا سير بهما أبلغا‬ ‫طريق الواضح للح ّ‬ ‫فال ّ‬
‫سالك الّنهاية الحسنى )‪.(1‬‬
‫ال ّ‬
‫صممراط فممي هممذه اليممة )آيممة الفاتحممة(‬
‫قال ابــن عاشــور‪ :‬وال ّ‬
‫مستعار لمعنى الحقّ الذي يبلغ به مممدركه إلممى الفمموز برضمماء اللممه؛‬
‫ن ذلك الفوز هو الذي جاء السلم بطلبه‪.‬‬
‫ل ّ‬
‫ومته فاستقام‪.‬‬
‫والمستقيم‪ :‬اسم فاعل من استقام‪ ،‬مطاوع ق ّ‬
‫والمسممتقيم‪ :‬الممذي ل اعوجمماج فيممه ول تعاريممج‪ ،‬وأحسممن الطممرق‬
‫دة‪ ،‬لّنه باستقامته يكون أقممرب إلممى‬ ‫ما‪ ،‬وهو الجا ّ‬
‫الذي يكون مستقي ً‬
‫المكممان المقصممود مممن غيممره‪ ،‬فل يضم ّ‬
‫ل فيممه سممالكه‪ ،‬ول يممترّدد ول‬
‫يتحّير‪.‬‬
‫والمستقيم هنا مستعار للحق البّين الذي ل ُتخالطه شبهة باطممل‪،‬‬
‫طريق الممذي ل تتخّللمه بنيممات‪ .‬ثممم قمال‪ :‬والظهمر عنمدي أ ّ‬
‫ن‬ ‫فهو كال ّ‬
‫صراط المستقيم‪ :‬المعممارف الصممالحات كّلهمما مممن اعتقمماد‬
‫المراد بال ّ‬
‫وعمل )‪.(2‬‬
‫صممراط المسممتقيم‪ ،‬كممما‬
‫سرين في معنى ال ّ‬
‫هذه بعض أقوال المف ّ‬
‫ورد في سورة الفاتحة‪.‬‬
‫صراط المستقيم سممبق ذكممر‬‫وحيث وردت آيات كثيرة ذكر فيها ال ّ‬
‫ن معناها من هذا المعنى الذي سبق تقريره‪ ،‬ولبيممان ذلمك‬‫بعضها‪ ،‬فإ ّ‬
‫أذكر تفسير بعض هذه اليات بإيجاز‪:‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(1/19‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير التحرير والتنوير )‪.(1/1/190‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪73‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫م(‬
‫س مت َِقي ٍ‬
‫م ْ‬
‫ط ُ‬ ‫م إ ِل َممى ِ‬
‫ص مَرا ٍ‬ ‫م وَهَ مد َي َْناهُ ْ‬
‫جت َب َي ْن َمماهُ ْ‬
‫قممال ‪ -‬تعممالى ‪َ) :-‬وا ْ‬
‫ددناهم فأرشممدناهم إلممى‬ ‫)النعام‪ :‬من الية ‪ (87‬قال مجاهد‪ :‬وسم ّ‬
‫ج فيممه‪ ،‬وهممو السمملم‬ ‫ع مو َ َ‬
‫ج‪ ،‬وذلك دين الله الممذي ل ِ‬ ‫طريق غير معو ّ‬
‫الذي ارتضاه رّبنا لنبيائه‪ ،‬وأمر به عباده)‪.(1‬‬
‫ست َِقيمًا( )النعممام‪ :‬مممن‬‫م ْ‬‫ك ُ‬ ‫صَرا ُ‬
‫ط َرب ّ َ‬ ‫وفي قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَهَ َ‬
‫ذا ِ‬
‫الية ‪ (126‬قال الطبري‪ :‬هو صراط ربك ‪ -‬يقممول‪ :‬طريممق رب ّممك‪،‬‬
‫ما ل اعوجاج فيه )‪.(2‬‬ ‫ودينه الذي ارتضاه لنفسه ديًنا‪ ،‬وجعله مستقي ً‬
‫َ‬
‫س مت َِقيما ً فَممات ّب ُِعو ُ‬
‫ه(‬ ‫م ْ‬
‫طي ُ‬‫ص مَرا ِ‬ ‫ن هَ م َ‬
‫ذا ِ‬ ‫وفممي قمموله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬وَأ ّ‬
‫)النعام‪ :‬من الية ‪ (153‬قال الطبري‪ :‬هو صراطه‪ ،‬يعني طريقه‬
‫ست َِقيمًا( )النعام‪ :‬من الية ‪ (153‬يعني‬
‫م ْ‬
‫ودينه الذي ارتضاه لعباده‪ُ ) ،‬‬
‫ما ل اعوجاج به عن الحق )‪.(3‬‬ ‫قوي ً‬
‫م(‬
‫سمت َِقي ٍ‬
‫م ْ‬
‫ط ُ‬ ‫داِني َرّبي إ َِلى ِ‬
‫صَرا ٍ‬ ‫وفي قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬قُ ْ‬
‫ل إ ِن ِّني هَ َ‬
‫)النعام‪ :‬من اليممة ‪ (161‬قال الطــبري‪ :‬يقممول‪ :‬قممل لهممم‪ :‬إّننممي‬
‫طريق القممويم‪ ،‬هممو ديممن اللممه الممذي ابتعثممه بممه‪،‬‬ ‫أرشدني ربي إلى ال ّ‬
‫وذلك الحنيفّية المسلمة‪ ،‬فوّفقني له )‪.(4‬‬
‫صمَراط َ َ‬
‫ك‬ ‫م ِ‬‫ن ل َُهم ْ‬ ‫ما أ َ ْ‬
‫غموَي ْت َِني َل َقُْعمد َ ّ‬ ‫ل فَب ِ َ‬
‫وفي سورة العراف‪َ) :‬قا َ‬
‫ن لبني آدم‬ ‫م( )العراف‪ (16:‬قال الطبري‪ :‬يقول‪ :‬لجلس ّ‬ ‫ست َِقي َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ق‪،‬‬
‫صراطك المستقيم‪ ،‬يعني طريقك القممويم‪ ،‬وذلممك ديممن اللممه الح م ّ‬
‫وهو السلم وشرائعه‪.‬‬
‫ونقل نحو ذلك عن مجاهد )‪.(5‬‬
‫‪ - 1‬تفسير الطبري )‪.(7/262‬‬

‫‪ - 2‬تفسير الطبري )‪.(8/32‬‬

‫‪ - 3‬تفسير الطبري )‪.(8/87‬‬

‫‪ - 4‬تفسير الطبري )‪.(8/111‬‬

‫‪ - 5‬تفسير الطبري )‪.(8/134‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪74‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ص مَراطا ً‬ ‫وفي قوله ‪ -‬تعالى ‪ -‬في سورة مريممم‪) :‬فَممات ّب ِعِْني أ َهْ مدِ َ‬
‫ك ِ‬
‫صممرك هممدي‬ ‫سوِي ًّا( )مريم‪ :‬من الية ‪ (43‬قال الطبري‪ :‬يقممول‪ :‬أب ّ‬ ‫َ‬
‫ال ّ‬
‫طريق المستوي الذي ل تض ّ‬
‫ل فيه إن لزمته‪ ،‬وهو دين الله الذي ل‬
‫اعوجاج فيه)‪.(6‬‬
‫ط‬
‫ص مَرا ِ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ن ِباْل ِ‬
‫خَرةِ عَ ِ‬ ‫ن ل ي ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫وفي قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَإ ِ ّ‬
‫طريممق‪،‬‬ ‫جممة ال ّ‬‫ن( )المؤمنون‪ (74:‬قال الطبري‪ :‬يقول عممن مح ّ‬ ‫ل ََناك ُِبو َ‬
‫سبيل‪ ،‬وذلك دين الله الذي ارتضاه لعباده العادلون)‪.(7‬‬
‫وقصد ال ّ‬
‫دا‪،‬‬
‫صراط في جميع هذه اليات معًنى واح ً‬
‫وبهذا يّتضح أن معنى ال ّ‬
‫سياق‪.‬‬
‫وإن اختلفت العبارة وال ّ‬

‫‪ - 6‬تفسير الطبري )‪.(16/90‬‬

‫‪ - 7‬تفسير الطبري )‪.(18/44‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪75‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫الصلة بين الوسطية والصراط المستقيم‬


‫ل على الوسطّية‬‫صراط المستقيم يد ّ‬‫دم يّتضح أن معنى ال ّ‬‫مما تق ّ‬
‫صمة أن‬
‫ي الذي سبق تقريمره‪ ،‬وبخا ّ‬
‫شرعي الصطلح ّ‬ ‫في مفهومها ال ّ‬
‫ما لمفهمموم الوسممطّية وإطلقهمما قممد تحّقممق فممي معنممى‬ ‫ما جعلته لز ً‬
‫صراط المستقيم‪ ،‬فالخيرّية والبينّية ظاهرتان في هذا المر‪.‬‬ ‫ال ّ‬
‫م(‬‫سمت َِقي َ‬‫م ْ‬‫ط ال ْ ُ‬
‫صمَرا َ‬ ‫ممما قممال‪) :‬اهْمدَِنا ال ّ‬ ‫فنجد في سورة الفاتحممة ل ّ‬
‫ط ال ّمذي َ‬
‫م( )الفاتحممة‪:‬‬ ‫ت عَل َي ْهِ م ْ‬‫مم َ‬‫ن أن ْعَ ْ‬‫ِ َ‬ ‫صَرا َ‬ ‫)الفاتحة‪ (6:‬عّرفه فقال‪ِ ) :‬‬
‫ضمماّلي َ‬
‫ن(‬ ‫م َول ال ّ‬ ‫ب عَل َي ْهِ م ْ‬
‫ضممو ِ‬ ‫دده فقممال‪) :‬غَي ْمرِ ال ْ َ‬
‫مغ ْ ُ‬ ‫من الية ‪ (7‬ثم ح ّ‬
‫صراط المستقيم طريق الخيار‪ ،‬وهم‬ ‫)الفاتحة‪ :‬من الية ‪ (7‬فجعل ال ّ‬
‫صالحين‪.‬‬ ‫ديقين وال ّ‬
‫شهداء وال ّ‬ ‫ص ّ‬
‫الذين أنعم الله عليهم من النبّيين وال ّ‬
‫ضالين‪.‬‬
‫وهو بين طريقي المغضوب عليهم وال ّ‬
‫شمماءُ‬‫ن يَ َ‬
‫مم ْ‬
‫دي َ‬
‫وكذلك في سورة البقرة قال اللمه ‪ -‬تعمالى ‪) :-‬ي َْهم ِ‬
‫م()البقرة‪ :‬من الية ‪ (142‬فقال بعممدها مباشممرة‪:‬‬ ‫ست َِقي ٍ‬
‫م ْ‬
‫ط ُ‬ ‫إ َِلى ِ‬
‫صَرا ٍ‬
‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫دث‬ ‫سطًا( )البقرة‪ :‬مممن اليممة ‪ (143‬وقممد تح م ّ‬ ‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫مأ ّ‬ ‫)وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬
‫سرون عن الكاف في هذه الية‪ ،‬وذكر غيممر واحممد أن )الكمماف(‬ ‫المف ّ‬
‫صراط المستقيم )‪.(1‬‬ ‫مة وس ً‬
‫طا وهدايتهم لل ّ‬ ‫للّربط بين جعلهم أ ّ‬
‫حا فممي ذكممر بعممض الحمماديث الممتي وردت فممي‬
‫ونمزيد المر وضو ً‬
‫ذلك‪:‬‬
‫طخ ّ‬
‫طا‬ ‫فخ ّ‬ ‫فعن جابر بن عبد الله ‪ ‬قال‪  :‬كّنا عند النبي‪ ،‬‬
‫طين عن يساره‪ ،‬ثم وضع يده علممى‬ ‫طخ ّ‬ ‫ط خطين عن يمينه‪ ،‬وخ ّ‬‫وخ ّ‬
‫ط الوسط‪ ،‬فقال‪ :‬هذا سبيل الله‪ ،‬ثممم تل هممذه اليممة‪) :‬وأن هممذا‬‫الخ ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير التحرير والتنوير )‪ ،(2/1/15‬وتفسير الطبري )‪.(2/6‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪76‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫سب ُ َ‬
‫ل فتفّرق بكم عن سممبيله(‬ ‫ما فاّتبعوه ول تّتبعوا ال ّ‬
‫صراطي مستقي ً‬
‫‪.(1) ‬‬
‫وذكر القرطبي في تفسيره‪ ،‬قال‪ :‬ذكر الطبري فممي آداب‬
‫الّنفوس حدثنا محمد بن عبد العلى الصممنعاني‪ ،‬قممال‪ :‬حممدثنا محمممد‬
‫صراط‬ ‫بن ثور‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن أبان‪ ،‬أن رجل قال لبن مسعود‪ :‬ما ال ّ‬
‫المستقيم؟ قال‪ :‬تركنا محمممد‪  ،‬فممي أدنمماه‪ ،‬وطرفممه فممي الجنممة‪،‬‬
‫م رجال يدعون من مّر بهممم‪،‬‬ ‫وعن يمينه جواد‪ ،‬وعن يساره جواد‪ ،‬وث ّ‬
‫فمن أخممذ فممي تلمك الجممواد انتهممت بممه إلممى الن ّممار‪ ،‬ومممن أخممذ علممى‬
‫ن هَ م َ‬
‫ذا‬ ‫َ‬
‫صممراط انتهممى بممه إلممى الجن ّممة‪ ،‬ثممم قممرأ ابممن مسممعود‪) :‬وَأ ّ‬
‫ال ّ‬
‫ست َِقيمًا( )النعام‪ :‬من الية ‪.(2)(153‬‬ ‫م ْ‬‫طي ُ‬
‫صَرا ِ‬‫ِ‬
‫مل فيما سبق يّتضح لنا ما يلي‪:‬‬ ‫وبالتأ ّ‬
‫مممة الوسممطّية وذروة‬
‫صــراط المســتقيم‪ :‬يمثممل ق ّ‬
‫ن ال ّ‬‫‪ -1‬أ ّ‬
‫جة قاطعة في ذلك‪.‬‬
‫سنامها وأعلى درجاتها‪ ،‬وآيتا الفاتحة والبقرة ح ّ‬
‫‪ -2‬أن الوسطّية تعني الخيرّية‪ ،‬سواء أكانت خير الخيرين أو‬
‫خيًرا بين شّرين أو خيًرا بيممن أمريممن متفمماوتين‪ ،‬وقممد سممبق تفصمميل‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ن المقياس لتحديد الخيرّية هو الشرع‪ ،‬وليممس همموى‬
‫‪ -3‬أ ّ‬
‫ن مفهوم الوسطّية عنممد كممثير‬
‫الّناس أو ما تعارفوا عليه أو ألفوه‪ ،‬فإ ّ‬
‫من الناس تعنممي الّتنممازل أو الّتسمماهل بممل والمداهنممة أحيان ًمما‪ ،‬حيممث‬

‫‪ - 1‬أخرجه ابن ماجة )‪ (1/6‬رقم )‪ .(11‬قال البوصيري في الزوائد )‪ :(1/45‬هذا إسناد فيه مقال من أجل مجالد بن سعيد‪ .‬قلت‪ :‬مجالد بن سعيد هو ابن عمير الهمداني أبو‬

‫عمرو الكوفي‪ .‬قال الحافظ في التقريب ص )‪ :(520‬ليس بالقوي‪ ،‬وقد تغير في آخر عمره‪ .‬اهم‪ .‬ولكن يشهد لهذا الحديث ما رواه عبد الله بن مسعود‪ ،‬قال‪ :‬خط لنا رسول‬
‫ط خطو ً‬
‫طا عن يمينه وعن شماله‪ ،‬وقال‪" :‬هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"‪ .‬ثم قرأ‪) :‬وأن‬ ‫طا‪ ،‬ثم قال‪" :‬هذه سبيل الله"‪ .‬ثم خ ّ‬
‫الله‪ ،‬صلى الله عليه وسلم خ ّ‬

‫ما فاّتبعوه(‪] .‬سورة النعام‪ ،‬الية‪ .[163 :‬أخرجه أحمد )‪ .(397 /3‬والدارمي )‪ (79 ،1/78‬رقم )‪ .(202‬وحسنه اللباني كما في المشكاة رقم )‪ (166‬ونقل‬
‫هذا صراطي مستقي ً‬
‫عن الحاكم تصحيحه‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪ ،(7/138‬والوسطية في السلم لفريد عبد القادر ص )‪.(23‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪77‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫يختارون المر بين الخير والشّر وهو إلى الشمّر أقمرب فممي حقيقتممه‬
‫ومآله‪ ،‬وهم يحسبون أّنهم يحسنون صنًعا‪.‬‬
‫تجب مراعاتها‬ ‫)‪(1‬‬
‫ن هناك عوامل كثيرة‪ ،‬وأصول معتبرة‬
‫‪ -4‬أ ّ‬
‫عند تحديد مفهوم الوسطّية وتطبيقها على أمر من المور‪ ،‬حيث إن‬
‫دي إلممى خلف ذلممك ومجانيممة‬
‫قصممر النظممر علممى أمممر دون آخممر يممؤ ّ‬
‫صواب‪.‬‬ ‫لل ّ‬
‫‪ -5‬وخلصة المر‪ :‬أّنه يجب عند النظر في أيّ أمر من المممور‬
‫لتحديممد علقتممه بالوسممطية ومممدى قربممه أو بعممده منهمما دقّممة الّنظممر‬
‫والعتبار في حقيقة هذا المر دون القتصار على ظاهره فقممط‪ ،‬ثممم‬
‫دة ‪ -‬كممما‬
‫إلى أي هذه السس هو أقرب‪ ،‬مراعًيا فممي ذلممك أمممور ع م ّ‬
‫شمرعية‬ ‫سابقة ‪ -‬وكّلهما تنطلمق ممن القواعمد ال ّ‬ ‫أشرت في الفقرة ال ّ‬
‫ضمموابط المنهجي ّممة‪ ،‬فممإذا اّتضممح قربممه فممي حقيقتممه ومممآله إلممى‬
‫وال ّ‬
‫ممما‬
‫صراط المستقيم فهو داخل في الوسطّية التي نتحممدث عنهمما‪ ،‬أ ّ‬ ‫ال ّ‬
‫إذا كان إلى الغلوّ أو الجفمماء أو الفممراط أو الّتفريممط أقممرب حقيقممة‬
‫ومآل فليس من الوسطّية في شيء‪ ،‬وإن حسبه الّناس كذلك‪ ،‬وقممد‬
‫زّلت في هذه المسألة عقول وأقدام‪.‬‬

‫‪ - 1‬يختلف ذلك باختلف الحوال والقضايا‪ ،‬ولكل حالة ما يناسبها ضمن الضوابط الشرعية‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪78‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ملمح الوسطّية‬
‫ف بها‪ ،‬وُتمّيزها عن غيرها‪ ،‬بمجممموع‬
‫للوسطّية ملمح وسمات تح ّ‬
‫تلك الملمح ل بآحادها‪.‬‬
‫سمممات والملمممح‪ ،‬باسممتقراء‬‫م تلممك ال ّ‬
‫صلت إلى تحديد أهم ّ‬
‫وقد تو ّ‬
‫مة بيممن المممم‪ ،‬وكممذلك‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وما ورد في وسطّية هذه ال ّ‬
‫ما كتبه بعض الذين بحثوا في الوسطّية‪.‬‬
‫مة أساسّية في مثل هممذا البحممث‪،‬‬‫ن تحديد هذه الملمح مه ّ‬ ‫إ ّ‬
‫شهوات‪.‬‬ ‫حتى ل تكون الوسطّية مجال لصحاب الهواء وأرباب ال ّ‬
‫ن الوسطّية مرتبة عزيزة المنال‪ ،‬غالية الّثمن‪ ،‬كيف ل وهي‬
‫ذلك أ ّ‬
‫مة‪ ،‬ومحور تمّيزها بين المم؟! جعلها الله خاص مّية مممن‬ ‫سمة هذه ال ّ‬
‫شمماءُ َوالل ّم ُ‬
‫ه‬ ‫ن يَ َ‬ ‫ل الل ّهِ ي ُؤِْتيهِ َ‬
‫مم ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫ما منه وفضل )ذ َل ِ َ‬
‫ك فَ ْ‬ ‫خصائصها‪ ،‬تكّر ً‬
‫م( )الحديد‪ :‬من الية ‪.(21‬‬ ‫ل ال ْعَ ِ‬
‫ظي ِ‬ ‫ض ِ‬‫ذو ال َْف ْ‬
‫ُ‬
‫م سمات الوسطّية ما يلي‪:‬‬ ‫ن أه ّ‬‫إ ّ‬
‫)أ( الخيرّية‪.‬‬
‫)ب( الستقامة‪.‬‬
‫)جم( اليسر ورفع الحرج‪.‬‬
‫)د( البينّية‪.‬‬
‫)هم( العدل والحكمة‪.‬‬
‫سمات يندرج تحتها عدد من آحادها‪.‬‬
‫وكل سمة من هذه ال ّ‬
‫وسأعرض لكل سمة بما ُيناسب المقممام‪ ،‬ويفممي بممالغرض‪ ،‬واللممه‬
‫الموّفق والمعين‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪79‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن هذه الملمح بمجموعها تصمملح ضمماب ً‬


‫طا لتحديممد‬ ‫وأحسب أ ّ‬
‫سؤال الذي ل ب مد ّ أن يممرد فممي‬
‫الوسطّية ومعرفتها‪ ،‬بما يجيب عن ال ّ‬
‫أذهان الكثيرين‪:‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪80‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫أين ضابط الوسطّية؟ وكيف نميّزها عن غيرها؟‬


‫أول‪ :‬الخيرّية‬
‫ك جعل ْنمماك ُ ُ‬
‫ة‬
‫مم ً‬
‫مأ ّ‬‫ْ‬ ‫قال اللممه ‪ -‬تعممالى ‪ -‬فممي سممورة البقممرة‪) :‬وَك َمذ َل ِ َ َ َ َ‬
‫س( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪ (143‬وقممال‬ ‫َ‬ ‫سطا ً ل ِت َ ُ‬
‫كوُنوا ُ‬
‫داَء عَلى الّنا ِ‬ ‫شه َ َ‬ ‫وَ َ‬
‫س( )آل عمممران‪:‬‬ ‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬ ‫مة ٍ أ ُ ْ‬
‫خرِ َ‬
‫ُ‬
‫خي َْر أ ّ‬ ‫في سورة آل عمران‪) :‬ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م َ‬
‫من الية ‪ (110‬وقد ذكرت أن ممن معماني الوسمطّية الخيرّيمة‪ ،‬قمال‬
‫ابن كثير ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬والوسممط هنمما‪ :‬الخيممار والجممود‪ ،‬كممما يقممال‬
‫لقريش أوسط العرب نسًبا وداًرا‪ ،‬أي خيرها )‪.(1‬‬
‫س(‬
‫ت ِللن ّمما ِ‬
‫جم ْ‬ ‫م مة ٍ أ ُ ْ‬
‫خرِ َ‬
‫ُ‬
‫خي ْمَر أ ّ‬ ‫وفي تفسيره لقوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م َ‬
‫)آل عمممران‪ :‬مممن اليممة ‪ (110‬قممال‪ :‬يعنممي خيممر الّنمماس للّنمماس‪،‬‬
‫والمعنى‪ :‬أّنهم خير المم وأنفع الّناس للّناس‪ ،‬إلى أن قال‪ :‬كما في‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬من اليممة ‪(143‬‬ ‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫مأ ّ‬‫الية الخرى‪) :‬وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬
‫أي خياًرا )‪.(2‬‬
‫ممة الوسممط(‪ :‬فمإن‬‫مممة )أ ّ‬‫وقال الطبري‪ :‬مقّرًرا خيرّية هممذه ال ّ‬
‫ُ‬
‫ة( )آل عمممران‪ :‬مممن‬‫مم ٍ‬
‫خي ْمَر أ ّ‬ ‫سأل سائل فقال‪ :‬وكيف قيممل‪) :‬ك ُن ْت ُم ْ‬
‫م َ‬
‫مة خير المم‬ ‫الية ‪(110‬؟ وقد زعمت أن تأويل هذه الية أن هذه ال ّ‬
‫ما‬
‫مة لقوم كانوا خياًرا فتغّيروا ع ّ‬
‫التي مضت‪ ،‬وإّنما يقال‪ :‬كنتم خير أ ّ‬
‫كانوا عليه؟!‬
‫قيل‪ :‬إن معنى ذلك بخلف ما ذهبت إليه‪ ،‬وإّنما معنمماه أنتممم خيممر‬
‫َ‬
‫ل( )النفال‪ :‬مممن اليممة ‪ (26‬وقممد‬ ‫م قَِلي ٌ‬ ‫مة‪ ،‬كما قيل‪َ) :‬واذ ْك ُُروا إ ِذ ْ أن ْت ُ ْ‬
‫أ ّ‬
‫م( )العراف‪ :‬من‬ ‫م قَِليل ً فَك َث َّرك ُ ْ‬
‫قال في موضع آخر‪َ) :‬واذ ْك ُُروا إ ِذ ْ ك ُن ْت ُ ْ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/190‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/391‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪81‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن‬
‫الية ‪ (86‬فإدخال كان فمي مثمل همذا وإسمقاطها بمعنمى واحمد‪ ،‬ل ّ‬
‫الكلم معروف معناه‪.‬‬
‫ضا ‪ -‬في ذلك قائل‪) :‬ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م( )العراف‪ :‬من اليممة ‪(86‬‬ ‫ولو قال ‪ -‬أي ً‬
‫مة‪ ،‬كممان‬‫مة‪ ،‬أو وجدتم خير أ ّ‬ ‫بمعنى الّتمام‪ ،‬كان تأويله‪ :‬خلقتم خير أ ّ‬
‫حا)‪.(1‬‬
‫معنى صحي ً‬
‫سطًا(‬ ‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬‫م ً‬
‫مأ ّ‬‫وفي تفسيره لقوله ‪ -‬تعالى‪) :‬وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬
‫ما الّتأويممل فممإّنه جمماء بممأن الوسممط‬
‫)البقرة‪ :‬من الية ‪ (143‬قال‪ :‬وأ ّ‬
‫ن الخيار من الّناس عدولهم )‪.(2‬‬ ‫العدل‪ ،‬وذلك معنى الخيار‪ ،‬ل ّ‬
‫ما فسر به معنممى الوسممطّية الممتي‬ ‫ما سبق يّتضح أن الخيرّية م ّ‬
‫وم ّ‬
‫مممة‪ ،‬فممما هممي هممذه الخيري ّممة الممتي‬
‫ذكرها الله من خصممائص هممذه ال ّ‬
‫مة؟‬
‫نعرف بها وسطّية هذه ال ّ‬
‫قال الطبري في تفسير آية الخيرّية‪:‬‬
‫مة ُأخرجت للّناس‪ ،‬إذ كنتممم‬ ‫وقال آخرون‪ :‬معنى ذلك‪ :‬كنتم خير أ ّ‬
‫شروط التي وصممفهم ‪ -‬جم ّ‬
‫ل ثنمماؤه ‪ -‬بهمما‪ ،‬فكممان تأويممل ذلممك‬ ‫بهذه ال ّ‬
‫مممة تممأمرون بممالمعروف‪ ،‬وتنهممون عممن المنكممر‪،‬‬
‫عندهم‪ :‬كنتممم خيممر أ ّ‬
‫وُتؤمنون بالله‪ ،‬أخرجوا للّناس في زمانكم )‪.(3‬‬
‫قال رشيد رضا‪:‬‬
‫مممة ُأخرجممت للن ّمماس‪،‬‬
‫مة ما فممتئت خيممر أ ّ‬
‫ن هذه ال ّ‬
‫والحق أقول‪ :‬إ ّ‬
‫حّتى تركت المر بالمعروف‪ ،‬والّنهي عن المنكر‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(4/45‬‬

‫‪ - 2‬انظر تفسير الطبري )‪.(2/7‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(4/44‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪82‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫مممة هنمما بممالمر‬‫ثم قال‪ :‬وقد بي ّممن الفخممر الممرازي كممون وصممف ال ّ‬
‫بممالمعروف‪ ،‬والّنهممي عممن المنكممر‪ ،‬واليمممان عل ّممة لكونهمما خيممر أ ّ‬
‫مممة‬
‫ُأخرجت للّناس‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ن هممذا الكلم مسممتأنف والمقصممود منممه بيممان عل ّممة تلممك‬ ‫واعلممم أ ّ‬
‫الخيرّية‪ ،‬كما تقول‪ :‬زيد كريم‪ ،‬يطعم الّناس ويكسمموهم‪ ،‬ويقمموم بممما‬
‫يصلحهم‪.‬‬
‫وتحقيق الكلم أّنه ثبت في أصول الفقه أن ذكممر الحكممم مقرون ًمما‬
‫ل علممى كممون ذلممك الحكممم معّلل بممذلك‬
‫بالوصممف المناسممب لممه يممد ّ‬
‫الوصف‪.‬‬
‫ممة‪ ،‬ثمم ذكمر‬
‫فهنا حكم ‪ -‬تعالى ‪ -‬بثبوت وصمف الخيرّيمة لهمذه ال ّ‬
‫عقيبه هذا الحكم وهذه ال ّ‬
‫طاعات‪ ،‬أعنممي المممر بممالمعروف‪ ،‬والّنهممي‬
‫عن المنكر‪ ،‬واليمان‪ ،‬فوجب كون تلك الخيرّية معّللة بهذه العبادات‬
‫)‪.(1‬‬
‫وقال القاسمي‪:‬‬
‫ثم بّين وجه الخيري ّممة بممما لممم يحصممل مجممموعه لغيرهممم‪ ،‬بقمموله‪:‬‬
‫)تأ ْ‬
‫ه( )آل عمران‪:‬‬ ‫ن ِبالل ّ ِ‬‫مُنو َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫من ْك َرِ وَت ُؤْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫ْ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫رو‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ن ِبال ْ‬
‫َ‬ ‫رو‬
‫ُ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ضملوا علممى غيرهممم ممممن قممال ‪-‬‬ ‫من اليمة ‪ (110‬فبهممذه الصممفات ف ّ‬
‫ممما ك َمماُنوا‬ ‫من ْك َمرٍ فَعَل ُمموهُ ل َب ِئ ْ َ‬
‫س َ‬ ‫ن ُ‬ ‫ن عَم ْ‬ ‫تعالى ‪ -‬فيهم‪) :‬ك َمماُنوا ل ي َت َن َمماهَوْ َ‬
‫ض وَن َك ُْفممُر ب ِب َْعمم ٍ‬
‫ض(‬ ‫ن ب ِب َْعمم ٍ‬ ‫ن( )المممائدة‪) (79:‬وَي َُقوُلممو َ‬
‫ن ُنممؤْ ِ‬
‫م ُ‬ ‫ي َْفعَُلممو َ‬
‫)النساء‪ :‬من الية ‪.(150‬‬
‫سعود‪:‬‬
‫قال أبو ال ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(4/60‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪83‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ه( )آل عمممران‪ :‬مممن اليممة ‪ (110‬أي إيمان ًمما متعل ًّقمما‬
‫ن ِبالل ّ ِ‬ ‫)وَت ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬
‫بك ّ‬
‫ل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجممزاء‪ ،‬وإّنممما‬
‫لم ُيصّرح به تفصيل لظهور أّنه الذي يؤمن بممه المؤمنممون‪ ،‬ولليممذان‬
‫بأّنه هو اليمان بالله ‪ -‬تعالى ‪ -‬حقيقة)‪.(1‬‬
‫مة منها‪:‬‬
‫ل على خيرّية هذه ال ّ‬‫وقد وردت بعض الحاديث التي تد ّ‬
‫‪ -1‬روى الترمذي فممي تفسمميره لهممذه اليممة أن رسممول اللممه‪ ،‬‬
‫مة أنتم خيرها وأكرمها على الله ‪.(2)‬‬ ‫قال‪  :‬إّنكم تّتمون سبعين أ ّ‬
‫‪ -2‬وقال ‪ُ  ‬أعطيت ممما لممم ُيعممط أحممد مممن النبيمماء‪ ،‬فقلنمما‪ :‬يمما‬
‫رسول الله ما هو؟ فقال‪ :‬نصمُر بممالّرعب‪ ،‬وُأعطيممت مفاتيممح الرض‪،‬‬
‫مممتي خيممر المممم‬ ‫د‪ ،‬وجعل الّتراب لي طهوًرا‪ ،‬وجعلت أ ّ‬ ‫ميت أحم َ‬ ‫وس ّ‬
‫‪.(3)‬‬
‫مممة‪ ،‬الممتي‬‫فهذه الحاديث مع آية آل عمران تممبّين خيري ّممة هممذه ال ّ‬
‫سممرون بيممن معنيممي الخيري ّممة‬ ‫مة وس ً‬
‫طا‪ ،‬وقممد جمممع المف ّ‬ ‫جعلها الله أ ّ‬
‫والوسطّية‪ ،‬حتى جاء أحدهما تفسيًرا للخر‪ ،‬كما مّر معنا‪.‬‬
‫مّية بيان معنى الخيرّية‪ ،‬فسممأذكر أبممرز أوجممه هممذه الخيري ّممة‪،‬‬
‫وله ّ‬
‫ليّتضح لنا معنى الوسطّية‪.‬‬
‫)‪(4‬‬
‫مة‬
‫أبرز أوجه خيرية هذه ال ّ‬
‫قال الستاذ سيد قطب‪:‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(4/936‬‬

‫‪ - 2‬أخرجه الترمذي )‪ (5/211‬رقم )‪ .(3001‬وابن ماجة )‪ (2/1433‬رقم )‪ (4288‬وأحمد )‪ .(5/5‬والدارمي )‪ (2/404‬رقم )‪ .(2760‬قال الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن‪ .‬ووافقه‬

‫اللباني كما في المشكاة رقم )‪.(6285‬‬

‫‪ - 3‬أخرجه أحمد )‪ .(158 ،1/98‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد )‪ :(266 ،1/265‬وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل‪ ،‬وهو سيئ الحفظ‪ .‬قال الترمذي‪ :‬صدوق‪ ،‬وقد تكّلم فيه‬

‫بعض أهل العلم من قبل حفظه‪ ،‬وسمعت محمد بن إسماعيل ‪ -‬يعني البخاري ‪ -‬يقول‪ :‬كان أحمد بن حنبل‪ ،‬وإسحاق بن إبراهيم‪ ،‬والحميد يحتجون بحديث ابن عقيل‪ .‬قلت‪:‬‬

‫فالحديث حسن‪ .‬والله أعلم‪ .‬اهم‪.‬‬

‫صل في ذلك‪.‬‬
‫سّنة ص )‪ .(224‬فقد ف ّ‬
‫‪ - 4‬انظر‪ :‬وسطّية أهل ال ُ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪84‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫مة أخرجت للّناس‪ ،‬ل عن مجاملة‪ ،‬ول عن محاباة‪ ،‬ول‬ ‫فهي خير أ ّ‬
‫وا كممبيًرا ‪ -‬وليممس‬
‫عن مصادفة أو جزاف‪ - ،‬تعالى الله عممن ذلممك علم ّ‬
‫ن‬
‫حمم ُ‬
‫توزيع الختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون‪) :‬ن َ ْ‬
‫أ َب ْن َمماُء الل ّمهِ وَأ َ ِ‬
‫حب ّمماؤُ ُ‬
‫ه( )المممائدة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(18‬كل إّنممما هممو العمممل‬
‫اليجممابي لحفممظ الحيمماة البشممرّية مممن المنكممر‪ ،‬وإقامتهمما علممى‬
‫دد المعروف والمنكر)‪.(1‬‬
‫المعروف‪ ،‬مع اليمان الذي ُيح ّ‬
‫ن هذه الخيرّية لها أسباب‪ ،‬ولهما حقيقممة‪ ،‬حقيقممة ل بمد ّ أن توجمد‬
‫إ ّ‬
‫ور ذهنممي‪،‬‬
‫فممي الواقممع‪ ،‬وأن تممرى فممي الحيمماة‪ ،‬وليسممت مج مّرد تص م ّ‬
‫وفلسفة غائبة‪.‬‬
‫مممة‪ ،‬فقممد ترتفمع لتبلمغ‬
‫ن هذه الخيرّية مسألة نسممبّية بالنسمبة لل ّ‬
‫إ ّ‬
‫ضلة‪ ،‬وقممد‬‫صحابة والقرون المف ّ‬ ‫ذروة‪ ،‬كما كانت الحال في جيل ال ّ‬ ‫ال ّ‬
‫تنحسر في مجموعات وأفراد‪ ،‬كما هي في القرون المتأخرة‪ ،‬وذلك‬
‫تبًعا لوجود مقومات الخيرّية وصيانتها‪.‬‬
‫ت‬
‫جم ْ‬
‫خرِ َ‬‫م مة ٍ أ ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫خي ْمَر أ ّ‬
‫م َ‬ ‫‪ -1‬اليمان بالله‪ :‬قال ‪ -‬سممبحانه ‪) :-‬ك ُن ْت ُم ْ‬
‫ْ‬
‫ه( )آل‬‫ن ب ِممالل ّ ِ‬ ‫من ْك َمرِ وَت ُؤْ ِ‬
‫من ُممو َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫ن عَم ِ‬
‫ف وَت َن ْهَوْ َ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬ ‫مُرو َ‬
‫س ت َأ ُ‬
‫ِللّنا ِ‬
‫عمران‪ :‬من الية ‪ .(110‬فقرن اللممه ‪ -‬ج م ّ‬
‫ل وعل ‪ -‬بيممن خيري ّممة هممذه‬
‫مة واليمان به ‪ -‬تعالى ‪ ،-‬بممل جعممل اليمممان هممو سممبب الخيري ّممة‪،‬‬
‫ال ّ‬
‫والمر بالمعروف‪ ،‬والّنهي عن المنكر فممرع عممن اليمممان‪ ،‬وأثممر مممن‬
‫آثاره‪.‬‬
‫ور خيرّيممة دون إيمممان بممالله ‪ -‬تعممالى ‪-‬؟‬
‫وهــل يمكــن أن نتصمم ّ‬
‫ن‬
‫واليمان بالله ‪ -‬تعالى ‪ -‬يشمل جميع أبممواب اليمممان والسمملم‪ ،‬ل ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(4/447‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪85‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫العلماء ذكروا أن السمملم واليمممان إذا اجتمعمما افترقمما‪ ،‬وإذا افترقمما‬


‫اجتمعا‪ ،‬وهنا جاء ذكر اليمان وحده‪ ،‬فهو يشمل اليمان والسلم‪.‬‬
‫وعند الّتأمل في معنى اليمان كما ورد في حممديث جبريممل‬
‫أن تممؤمن بممالله وملئكتممه وكتبممه ورسممله واليمموم‬ ‫‪‬‬ ‫المشهور‪ ،‬قال‪:‬‬
‫شمول والتكامل‪ ،‬كممما‬ ‫الخر‪ ،‬وتؤمن بالقدر خيره وشّره ‪ .(1) ‬نجد ال ّ‬
‫ن كُ ّ‬
‫ل‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن َرب ّهِ َوال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ ِل َي ْهِ ِ‬ ‫سو ُ‬
‫ل بِ َ‬ ‫ن الّر ُ‬
‫م َ‬
‫قال ‪ -‬سبحانه‪) :-‬آ َ‬
‫ه(‬ ‫آمن بممالل ّه وملئ ِك َت ِمه وك ُتبمه ورسمل ِه ل نَفمرقُ بيم َ‬
‫س مل ِ ِ‬‫ن ُر ُ‬‫مم ْ‬ ‫حمدٍ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ِ َ ُِ ِ َُ ُ ِ‬ ‫ِ َ َ‬ ‫َ َ ِ‬
‫)البقرة‪ :‬من الية ‪.(285‬‬
‫فاليمــان بــالله يشمممل المممور العقدّيممة والعملّيممة‪ ،‬الظمماهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬ما يتعّلق منها بعالم الغيب وال ّ‬
‫شممهادة‪ ،‬ممما كممان منهمما فممي‬
‫دنيا أو الخرة‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫ممما قممد يتصمموّره كممثير مممن‬
‫واليمان بالله أعمق دللممة وأثمًرا م ّ‬
‫سره بعض المتكّلميممن‪ ،‬م ّ‬
‫ممما‬ ‫الّناس‪ ،‬فليس هو مجّرد الّتصديق كما ف ّ‬
‫أودي بكثير من الّناس إلى اعتنمماق مبممدأ الرجمماء‪ ،‬وهممم ل يعلمممون‪،‬‬
‫سمملوك والّتفسممير فّرغمموا اليمممان مممن معنمماه الحقيقممي‬
‫وهم بهذا ال ّ‬
‫صحيح‪.‬‬‫ومدلوله ال ّ‬
‫وإّنما هو علم واعتقاد وعمل‪ ،‬والسلم من لوازم اليمممان‪،‬‬
‫فمقتضى اليمان بالله وكتبه ورسله‪ ،‬يستلزم العمل بما أمر به الله‬
‫ولهذا فممإن شممرط اليمممان فممي‬ ‫في كتابه‪ ،‬وعلى لسان رسوله‪ ،‬‬
‫ما يشمله من أركان اليمان والسلم‪.‬‬
‫تحقيق الخيرّية جاء مغنًيا ع ّ‬

‫‪ - 1‬أخرجه مسلم )‪ (39 ،1/38‬رقم )‪ .(9 ،8‬وأبو داود )‪ (4/224‬رقم )‪ .(4695‬والترمذي )‪ (9 ،5/8‬رقم )‪ (2601‬وغيرهم‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪86‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ولذلك فإّننا قبل أن نحكم بخيرّية جماعة أو فممرد أو عمممل‪ ،‬ل ب مد ّ‬


‫شامل المتكامممل‪،‬‬ ‫من الّتحّقق في توافر شرط اليمان فيه بمعناه ال ّ‬
‫خي ْممرا ً ل َهُم ْ‬
‫م ()آل‬ ‫ن َ‬‫ب ل َك َمما َ‬ ‫ن أ َهْم ُ‬
‫ل ال ْك ِت َمما ِ‬ ‫فقد قال ‪ -‬سبحانه‪) :-‬وَل َوْ آ َ‬
‫مم َ‬
‫دعون اليممان‪ ،‬ولكمن العمبرة‬
‫عمران‪ :‬ممن اليمة ‪ .(110‬ممع أّنهمم يم ّ‬
‫دعاوى‪.‬‬
‫بالحقائق ل بال ّ‬
‫ه( )آل عمران‪ :‬مممن‬‫ن ِبالل ّ ِ‬ ‫مل في قوله‪ -‬تعالى‪) :-‬وَت ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫وعند الّتأ ّ‬
‫الية ‪ (110‬أجد أن فيه معنى الخير والنشاء‪ ،‬فهو خبر عممن حقيقممة‬
‫مة‪ ،‬حيث تمّيزت عممن غيرهمما فممي شمممول هممذا‬ ‫واقعة بإيمان هذه ال ّ‬
‫اليمان واستمراره‪ ،‬ويكفي دليل عن شمول إيمانها شممهادتها لبعممض‬
‫رسل الله يوم القيامة بأنهم قد بّلغمموا رسممالة رّبهممم إلممى أقمموامهم‪.‬‬
‫هلها لهذه الخيرّية‪.‬‬
‫فهذا اليمان الموجود والمتحّقق أ ّ‬
‫ثم فيه معنى النشاء والطلممب‪ ،‬حيممث جعممل مممن لمموازم الخيري ّممة‬
‫ممة‬
‫وجود همذا اليممان‪ ،‬فكمما أن هممذا اليمممان موجممود فمي هممذه ال ّ‬
‫ن على من أراد من أفراد هذه‬ ‫ضلة‪ ،‬فإ ّ‬‫صة القرون المف ّ‬
‫بجملتها وبخا ّ‬
‫مممة أن يكممون مممن خيارهمما أن ُيحّقممق معنممى اليمممان فممي نفسمه‪،‬‬
‫ال ّ‬
‫بمعناه ال ّ‬
‫شامل المتكامل‪.‬‬
‫فإذا تحّقق اليمممان تحّققممت الخيري ّممة‪ ،‬وإذا تحّققممت الخيري ّممة فممي‬
‫صممورتها ال ّ‬
‫شممرعية وجممدنا الوسممطّية فممي أسمممى معانيهمما‪ ،‬مقرونممة‬
‫بأقوى أركانها ومبانيها‪.‬‬
‫‪ -2‬المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عــن المنكــر‪ :‬مممن خصممائص‬
‫مة العملّية قيامهمما بممالمر بممالمعروف‪ ،‬والّنهممي عممن المنكممر‪،‬‬
‫هذه ال ّ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪87‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ْ‬
‫ن‬
‫مُرو َ‬
‫س ت َمأ ُ‬
‫ت ِللن ّمما ِ‬
‫جم ْ‬ ‫م مة ٍ أ ُ ْ‬
‫خرِ َ‬
‫ُ‬
‫خي ْمَر أ ّ‬ ‫وهممذه شممهادة اللممه لهمما‪) :‬ك ُن ْت ُم ْ‬
‫م َ‬
‫ر( )آل عمران‪ :‬من الية ‪.(110‬‬ ‫من ْك َ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫ن عَ ِ‬
‫ف وَت َن ْهَوْ َ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬
‫والمر بالمعروف والّنهي عن المنكر أوجبه الله علممى مممن قبلنمما‪،‬‬
‫ل عََلمى‬‫سمرائي َ‬
‫ن ب َِنمي إ ِ ْ‬ ‫ن ك ََفمُروا ِ‬
‫مم ْ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ولكنهم فّرطوا وضّيعوا )ل ُعِ َ‬
‫ن ك َمماُنوا ل‬
‫دو َ‬ ‫وا وَ َ‬
‫كاُنوا ي َعْت َ ُ‬ ‫ص ْ‬‫ما عَ َ‬ ‫م ذ َل ِ َ‬
‫ك بِ َ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ ِ‬‫عي َ‬ ‫داوُد َ وَ ِ‬
‫ن َ‬ ‫سا ِ‬
‫لِ َ‬
‫ن( )المائدة‪.(79 ،78:‬‬ ‫كاُنوا ي َْفعَُلو َ‬
‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫من ْك َرٍ فَعَُلوهُ ل َب ِئ ْ َ‬‫ن ُ‬‫ن عَ ْ‬ ‫ي َت ََناهَوْ َ‬
‫مة لقيامها بالمر بالمعروف والّنهي عن‬
‫ونجد مصداق خيرّية هذه ال ّ‬
‫ث رسول الله‪  ،‬إلى يومنا الحاضر وهذا الّركن‬ ‫المنكر‪ ،‬أّنه منذ ب ُعِ َ‬
‫العظيم لم ينقطع ولم يترك كما فعل بنو إسرائيل‪.‬‬
‫قد نجد ضعًفا في زمان من الزمنة أو مكان من المكنممة‪ ،‬ولكن ّممه‬
‫مة آمًرا أو ناهي ًمما ولممو كممانوا قل ّممة‬
‫ل يصبح حالة مستقّرة‪ ،‬ول تعدم ال ّ‬
‫مممتي‬
‫ل تممزال طائفممة مممن أ ّ‬ ‫قليلة‪ ،‬وهذا مصداق قول الرسممول‪  ،‬‬
‫ظاهرين على الحقّ ل يضّرهم من خذلهم حّتى يأتي أمممر اللممه وهممم‬
‫كذلك ‪ .(1) ‬الحديث‪.‬‬
‫ساعة‪ ،‬وهي طائفممة‬
‫فالطائفة المنصورة موجودة إلى قيام ال ّ‬
‫ظاهرة آمرة بالمعروف‪ ،‬ناهية عن المنكر‪.‬‬
‫وكما ذكممرت فممي موضمموع اليمممان‪ ،‬فممإن ذكممر المممر بممالمعروف‬
‫والّنهي عن المنكر في هذه الية خبًرا وإنشاًء‪ ،‬فهو خبر عممن حقيقممة‬
‫ن المممر بممالمعروف‪ ،‬والّنهممي عممن المنكممر‬
‫واقعة ومستمّرة‪ ،‬حيممث إ ّ‬
‫مة إلى قيام الساعة‪ ،‬وهو كممذلك )إنشمماء( فمممن‬ ‫مستمّر في هذه ال ّ‬
‫أراد الخيرّية فل بد ّ أن يقوم بهممذا الّركممن العظيممم‪ ،‬حممتى تتحّقممق لممه‬

‫‪ - 1‬أخرجه مسلم )‪ (3/1523‬رقم )‪ .(1920‬وأبو داود )‪ (4/98‬رقم )‪ .(4252‬وابن ماجة )‪ (2/1304‬رقم )‪ .(3952‬وأحمد )‪.(5/278‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪88‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫مة‪ ،‬ففيه معنى المممر ‪-‬‬


‫الخيرّية التي جعلها الله من خصائص هذه ال ّ‬
‫ضا‪.-‬‬
‫أي ً‬
‫وقد يسأل سائل‪ :‬أليس المر بالمعروف‪ ،‬والّنهي عن المنكممر‬
‫عا عن اليمان‪ ،‬فلماذا أفرده دون سائر أبواب اليمان العملّية؟‬
‫فر ً‬
‫خص الجواب على هذا السؤال بما يلي‪:‬‬
‫وأل ّ‬
‫‪ -1‬أهمّية المر بالمعروف‪ ،‬والّنهي عــن المنكــر‪ ،‬وأثممره‬
‫المباشر في تحقيق الخيرّية دون سواه‪.‬‬
‫‪ -2‬أن المــر بــالمعروف‪ ،‬والّنهــي عــن المنكــر‪ ،‬سممياج‬
‫اليمان‪ ،‬وركن أساس لبقائه وحمايته‪.‬‬
‫ممما المممر‬
‫صــة غيــر متعدّيــة‪ ،‬أ ّ‬
‫‪ -3‬أن أغلــب العمــال خا ّ‬
‫ن نفعه ل يقتصر علممى فمماعله بممل‬ ‫بالمعروف‪ ،‬والّنهي عن المنكر‪ ،‬فإ ّ‬
‫ي‬
‫داه إلى المأمور والمنهي‪ ،‬وكذلك إلى المر المأمور به والمنهمم ّ‬
‫يتع ّ‬
‫عنه‪ ،‬فمثل المر بالصلة‪ ،‬ل يقتصر نفع هذا المر علممى جهممة واحممدة‬
‫دة أطراف‪:‬‬
‫بل يشمل ع ّ‬
‫)أ( المر‪ :‬حيث قام بما أوجبه الله عليه‪ ،‬وهذه عبممادة لممه نفعهمما‬
‫وأجرها‪.‬‬
‫)ب( المأمور‪ :‬حيث ينتفع بهذا المر إن استجاب له‪ ،‬وقد يكممون‬
‫هذا المر سبًبا لهدايته‪.‬‬
‫)جم( المأمور به‪ :‬فممإن المممر بالصمملة سممبيل للمحافظممة عليهمما‬
‫واستمرارها‪ ،‬وهذا فيه من الّنفع العظيم ما ل يخفى‪.‬‬
‫‪ -4‬أن المر بــالمعروف‪ ،‬والّنهــي عــن المنكــر لممه صممفة‬
‫شمول‪ ،‬فليس متعل ًّقا بعمل معّين‪ ،‬بل يشمممل كممل معممروف وكممل‬
‫ال ّ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪89‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫منكر‪ ،‬بينما سائر العمال نجدها أعمال مخصوصممة معينممة‪ ،‬فالصمميام‬


‫يتعّلق بعمل مخصوص‪ ،‬والّزكاة والحج وغيرهما كذلك‪ .‬ولممذلك فهممو‬
‫يشترك مع اليمان في صممفة ال ّ‬
‫شمممول‪ ،‬حيممث إن المممر بممالمعروف‬
‫يشمل جميع أبواب اليمان والسلم‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫قال في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري‪:‬‬ ‫والرسول‪ ،‬‬
‫من رأى منكم منكًرا فليغّيره بيده‪ ،‬فإن لممم يسممتطع فبلسممانه‪ ،‬فممإن‬
‫من َك ّمًرا‬
‫لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اليمممان ‪ . ‬فجمماء المنكممر ُ‬
‫)‪(1‬‬

‫هنا دللة على عمومه‪ ،‬أي‪ :‬أيّ منكر يراه المسلم‪ ،‬فهو يشمممل كممل‬
‫منكر‪ ،‬كما أن المر يشمل كل معروف‪ ،‬فيدخل في ذلممك جميممع ممما‬
‫شرعه الله‪ ،‬فيؤمر به وينهى عن مخالفته )‪.(2‬‬
‫ما سبق يتبّين لنا أن المر بالمعروف‪ ،‬والّنهي عن المنكر‪ ،‬من‬ ‫وم ّ‬
‫مة‪ ،‬والمر بالمعروف‪ ،‬والّنهي عممن المنكممر‪،‬‬
‫أبرز أوجه خيرّية هذه ال ّ‬
‫ددة‪ ،‬وليس محصوًرا بحالة أو صفة واحدة كممالكلم مثل‪،‬‬ ‫له صور متع ّ‬
‫بل قد يكون باليد أو اللسان أو العمل ‪ -‬كالقممدوة مثل ‪ -‬فمممن صمّلى‬
‫أمام الناس لم يقوموا إلى الصلة فهو داخل في المممر بممالمعروف‪،‬‬
‫وإن لممم يتكل ّممم‪ ،‬وكممذلك مممن تص م ّ‬
‫دق لُيقتممدى بممه‪ ،‬فهممو مممن المممر‬
‫بالمعروف‪ ،‬ومن خرج من مجلس فيه منكر فإّنه من تغييممر المنكممر‪،‬‬
‫َ‬ ‫ولو لم يتكّلم‪) .‬وإ َ َ‬
‫م‬ ‫ن ِفي آَيات ِن َمما فَ مأعْرِ ْ‬
‫ض عَن ْهُ م ْ‬ ‫ضو َ‬
‫خو ُ‬
‫ن يَ ُ‬‫ذي َ‬‫ت ال ّ ِ‬‫ذا َرأي ْ َ‬‫َِ‬
‫ه( )النعممام‪ :‬مممن اليممة ‪ (68‬وأضممعف‬ ‫ث غَي ْمرِ ِ‬ ‫دي ٍ‬ ‫حم ِ‬‫ضوا فِممي َ‬
‫خو ُ‬
‫حّتى ي َ ُ‬
‫َ‬
‫أبواب تغيير المنكر أن يكون في القلب كما ورد في الحديث‪.‬‬
‫وأخيًرا‪:‬‬
‫‪ - 1‬أخرجه مسلم )‪ (1/69‬رقم )‪ .(49‬وأبو داود )‪ (1/297‬رقم )‪ .(1140‬والنسائي )‪ (8/111‬رقم )‪ (5008‬وغيرهم‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(4/63‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪90‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫فإّنه إذا تحّقممق اليمممان بمعنمماه ال ّ‬


‫شممامل المتكامممل‪ ،‬وجمماء المممر‬
‫بممالمعروف‪ ،‬والنهممي عممن المنكممر‪ ،‬يحمموطه ويحرسممه‪ ،‬فإّننمما سممنرى‬
‫الخيرّية التي أخبرنا الله بها ماثلة أمام أعيننا‪ ،‬ل يزيغ عنها إل هالك‪.‬‬
‫مة‪ ،‬وما عداهما من أوجه فأرى أنها‬
‫هذه أبرز أوجه خيرّية هذه ال ّ‬
‫داخلة فيما ذكرت دللة أو ضمًنا‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬الستقامة‬
‫الوسطّية اسممتقامة‪ ،‬ولممو لممم تكممن علممى نهممج السممتقامة لكممانت‬
‫ممما إفممراط أو تفريممط‪ ،‬وذلممك ضممد الوسممطّية‬‫انحرافًمما‪ ،‬والنحممراف إ ّ‬
‫ومباين لها‪ ،‬كما سبق بيان ذلك‪.‬‬
‫وهناك شعور لدى بعض الّناس أن الوسطّية تعني التنممازل ‪ -‬ولممو‬
‫قليل‪ -‬عن حقيقة المر والّنهممي‪ ،‬ولقممد عب ّممر أحممد البمماحثين عممن هممذا‬
‫شعور الذي يختلج في صدور بعض الّناس‪ ،‬حيث طممرح سممؤال وّرد‬ ‫ال ّ‬
‫مممة‪ ،‬بحيممث ل‬
‫ما قاله‪ :‬هممل المقصممود بالوسممطّية مرونممة ال ّ‬
‫عليه‪ ،‬وم ّ‬
‫تصطدم بالفكار والمبادئ الخرى عند اللتقاء بها‪ ،‬بل قابلّيتها للخذ‬
‫ممما عنممدها‪ ،‬مممن أجممل تنممازل الط ّممرف‬
‫والعطاء والّتنازل عممن جممزء م ّ‬
‫الخر‪ ،‬واللتقاء عند نقطة وسط ُترضي جميع الطراف؟‬
‫ثم رد ّ على هذا المسلك وبّين مخالفته لحقيقة الوسطّية )‪.(1‬‬
‫ن من ملمح الوسطّية‪ ،‬بممل وضمموابطها السممتقامة‪،‬‬
‫ومن هنا فإ ّ‬
‫ولممذلك فمممن اّدعممى الوسممطّية مممع خروجممه عممن السممتقامة‪ ،‬فهممذه‬
‫ليست الوسطّية ال ّ‬
‫شرعية في شيء‪ ،‬بممل هممي وسممطّية نسممبّية غيممر‬
‫دث عنها‪.‬‬
‫التي نتح ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬الوسطّية في السلم لفريد عبد القادر ص )‪.(14‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪91‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫دث عن ملمح الوسممطّية ‪ -‬أن‬


‫ن من المناسب ‪ -‬ونحن نتح ّ‬
‫ولذا فإ ّ‬
‫ُأبّين معنى الستقامة وحدودها ليتضح المراد‪:‬‬
‫ث عليها‪ ،‬فالله ‪ -‬جمم ّ‬
‫ل‬ ‫فقد وردت آيات كثيرة تأمر بالستقامة وتح ّ‬
‫مع َ م َ‬
‫ك َول‬ ‫وعل ‪ -‬يقول لرسوله‪َ)  ،‬فاستقم ك َ ُ‬
‫ب َ‬
‫ن ت َمما َ‬
‫مم ْ‬
‫ت وَ َ‬
‫مْر َ‬
‫ما أ ِ‬
‫ْ َِ ْ َ‬
‫ك فَمماد ْعُ‬ ‫وا( )هود‪ :‬من الية ‪ .(1121‬وفي سورة الشورى‪) :‬فَل ِذ َل ِ َ‬ ‫ت َط ْغَ ْ‬
‫م( )الشورى‪ :‬من الية ‪.(15‬‬ ‫َ‬ ‫واستقم ك َ ُ‬
‫واَءهُ ْ‬ ‫ت َول ت َت ّب ِعْ أهْ َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ما أ ِ‬ ‫َ ْ َِ ْ َ‬
‫ل‬ ‫موا ت َت َن َمّز ُ‬ ‫س مت ََقا ُ‬
‫ما ْ‬ ‫ن قَمماُلوا َرب ّن َمما الل ّم ُ‬
‫ه ث ُم ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫وقال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫ة أ َّل ت َ َ‬
‫م‬‫جن ّمةِ ال ّت ِممي ك ُن ْت ُم ْ‬ ‫شمُروا ِبال ْ َ‬ ‫حَزن ُمموا وَأب ْ ِ‬ ‫خمماُفوا َول ت َ ْ‬ ‫ملئ ِك َم ُ‬ ‫م ال ْ َ‬‫عَل َي ْهِم ُ‬
‫موا عَل َممى‬ ‫َ‬
‫سمت ََقا ُ‬ ‫ن( )فصلت‪ .(30:‬وفممي سممورة الجممن‪) :‬وَأل ّموِ ا ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ُتوعَ ُ‬
‫دقًا( )الجمممن‪ .(16:‬وفممي سممورة فصمملت‪:‬‬ ‫َ‬
‫ماًء غَم َ‬ ‫م َ‬ ‫سَقي َْناهُ ْ‬ ‫ريَقةِ َل ْ‬ ‫الط ّ ِ‬
‫َ‬
‫ه( )فصلت‪ :‬من الية‬ ‫ست َغِْفُرو ُ‬ ‫موا إ ِل َي ْهِ َوا ْ‬ ‫ست َِقي ُ‬ ‫حد ٌ َفا ْ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫م إ ِل َ ٌ‬‫ما إ ِل َهُك ُ ْ‬ ‫)أن ّ َ‬
‫مة ومكانتها‪.‬‬ ‫ن منمزلة الستقا ّ‬ ‫‪ .(6‬فهذه اليات وغيرها تبي ّ‬
‫صممراط المسممتقيم اسممتقامة علممى ديممن اللممه‬
‫ن لممزوم ال ّ‬
‫وحيممث إ ّ‬
‫وشرعه‪ ،‬وهذا عين الوسطّية وجوهرهمما‪ ،‬فسممأقف مممع )السممتقامة(‬
‫وقفة مناسبة‪ ،‬تعريًفا وبياًنا‪.‬‬
‫تعريف الستقامة‪:‬‬
‫قال الراغب‪ :‬استقامة النسممان لزومممه للمنهممج المسممتقيم نحممو‪:‬‬
‫موا( )فصمملت‪ :‬مممن اليممة ‪.(1)(30‬‬‫س مت ََقا ُ‬
‫ما ْ‬ ‫ن َقاُلوا َرب َّنا الل ّ ُ‬
‫ه ثُ ّ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫)إ ِ ّ‬
‫وقال ابن القّيم‪ :‬الستقامة ضد ال ّ‬
‫طغيان‪ ،‬وهممو مجمماوزة الحممدود‬
‫في كل شيء)‪.(2‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬المفردات للراغب مادة )قوم(‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬مدارج السالكين )‪.(2/104‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪92‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقال القرطبي‪ :‬الستقامة‪ :‬الستمرار فممي جهممة واحممدة مممن‬


‫غير أخذ في جهة اليمين وال ّ‬
‫شمال )‪.(1‬‬
‫السممتقامة‪ :‬أن تسممتقيم علممى‬ ‫وقال ابن القيم‪ :‬قال عمر ‪‬‬
‫ن الّثعالب)‪.(2‬‬ ‫المر والّنهي‪ ،‬ول ت َُروغُ َروَ َ‬
‫غا َ‬
‫سممداد‪،‬‬
‫ضا ‪ :-‬فممأمر بالسممتقامة وهممي ال ّ‬‫وقال ابن القيم ‪ -‬أي ً‬
‫والصابة في الن ّّيات والقوال والعمال‪.‬‬
‫دين‪ ،‬وهممي‬
‫ثم قال‪ :‬فالستقامة‪ :‬كلمة جامعممة‪ ،‬آخممذة بمجممامع ال م ّ‬
‫صدق‪ ،‬والوفاء بالعهد)‪.(3‬‬
‫القيام بين يدي الله على حقيقة ال ّ‬
‫ضا‪.‬‬
‫سر بعضها بع ً‬‫وهذه المعاني متقاربة‪ ،‬ويف ّ‬
‫أحاديث في الستقامة‪:‬‬
‫قلممت يمما‬ ‫‪‬‬ ‫قممال‪:‬‬ ‫في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد اللممه ‪‬‬
‫دا غيممرك؟‬
‫رسول الله! قل لي فممي السمملم قممول ل أسممأل عنممه أحم ً‬
‫)‪.(4‬‬ ‫‪‬‬ ‫قال‪" :‬قل آمنت بالله‪ ،‬ثم استقم"‬
‫اسمتقيموا ولمن تحصموا‪،‬‬ ‫‪‬‬ ‫قمال‪:‬‬ ‫وعن ثوبان ‪ ‬عن النمبي‪ ،‬‬
‫صمملة‪ ،‬ولممن يحممافظ علممى الوضمموء إل‬
‫واعلممموا أن خيممر أعمممالكم ال ّ‬
‫مؤمن ‪.(5) ‬‬
‫قممال‪ :‬قممال رسممول اللممه‪،‬‬ ‫وفي صحيح مسلم عن أبي هريممرة ‪‬‬
‫‪‬س ّ‬
‫ددوا وقاربوا‪ ،‬واعلموا أّنه لن ينجو أحد منكممم بعملممه‪ ،‬قممالوا‪:‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(9/107‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬مدارج السالكين )‪ ،(2/104‬وتفسير الطبري )‪.(24/115‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬مدارج السالكين )‪.(2/105‬‬

‫‪ - 4‬أخرجه مسلم )‪ (1/65‬رقم )‪ .(38‬وأحمد )‪.(3/413‬‬

‫‪ - 5‬أخرجه ابن ماجة )‪ (102 ،1/101‬رقم )‪ .(277‬ومالك في الموطأ )‪ (1/34‬رقم )‪ .(36‬وأحمد )‪ .(282 ،280 ،5/277‬قال البوصيري في زوائد ابن ماجة )‪ :(1/122‬هذا‬

‫الحديث رجاله ثقات أثبات إل أنه منقطع بين سالم وثوبان فإنه لم يسمع منه بل خوف‪ .‬لكن له طريق أخرى متصلة أخرجها أبو داود الطيالسي في مسنده‪ ،‬وأبو يعلى‬

‫الموصلي‪ ،‬والدارمي‪ ،‬وابن حبان في صحيحه من طريق حسان بن عطية أن أبا كبشة حدثه أنه سمع ثوبان‪ .‬اهم‪ .‬وصححه اللباني كما في الرواء رقم )‪.(412‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪93‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫مدني الله برحمة منممه‬


‫ول أنت يا رسول الله؟ قال‪ :‬ول أنا‪ ،‬إل أن يتغ ّ‬
‫وفضل ‪.(1) ‬‬
‫وفي مسند المام أحمد عن أنس بممن مالممك ‪ ‬عممن النممبي‪ ،‬‬
‫ل يستقيم إيمان عبد حتى يسممتقيم قلبممه‪ ،‬ول يسممتقيم قلبممه‬ ‫‪‬‬ ‫قال‪:‬‬
‫حّتى يستقيم لسانه ‪.(2) ‬‬
‫إذا‬ ‫‪‬‬‫عما وموقوًفما‪:‬‬ ‫وفمي روايمة الترممذي عمن أبمي سمعيد مرفو ً‬
‫ن العضاء كّلهمما تكّفممر اللسممان‪ ،‬فتقممول‪ :‬ات ّممق اللممه‬
‫أصبح ابن آدم فإ ّ‬
‫فينا‪ ،‬فإّنما نحن بك‪ ،‬فإن استقمت استقمنا‪ ،‬وإن اعوججت اعوججنمما‬
‫)‪.(3‬‬ ‫‪‬‬

‫قممرأ‪:‬‬ ‫وروى الترمذي عن أنس بن مالك ‪  ‬أن رسول الله‪ ،‬‬


‫موا( قال‪" :‬قممد قالهمما الن ّمماس‪ ،‬ثممم‬‫ست ََقا ُ‬
‫ما ْ‬ ‫ن َقاُلوا َرب َّنا الل ّ ُ‬
‫ه ثُ ّ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫)إ ِ ّ‬
‫من استقام" ‪.(4) ‬‬ ‫كفر أكثرهم‪ ،‬فمن مات عليها فهو م ّ‬
‫أقوال العلماء في الستقامة‪:‬‬
‫عن السممتقامة فقممال‪ :‬أل تشممرك بممالله شمميًئا‪.‬‬ ‫سئل الصديق ‪‬‬
‫ُ‬
‫قال ابن القيم‪ :‬يريد الستقامة على محض الّتوحيد )‪.(5‬‬
‫ل‬‫موا ت َت َن َّز ُ‬
‫ست ََقا ُ‬‫ما ْ‬ ‫ه ثُ ّ‬‫ن َقاُلوا َرب َّنا الل ّ ُ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫وفي قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫ة أ َّل ت َ َ‬
‫جن ّمةِ ال ّت ِممي ك ُن ْت ُم ْ‬
‫م‬ ‫شمُروا ِبال ْ َ‬ ‫حَزن ُمموا وَأب ْ ِ‬‫خمماُفوا َول ت َ ْ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫ملئ ِك َم ُ‬ ‫عَل َي ْهِم ُ‬
‫)‪(6‬‬
‫سلف الستقامة فقالوا‪:‬‬ ‫سر ال ّ‬ ‫ن( )فصلت‪ .(30:‬ف ّ‬ ‫دو َ‬‫ُتوعَ ُ‬

‫‪ - 1‬أخرجه البخاري )‪ .(7/182‬ومسلم )‪ (4/2170‬رقم )‪.(1816‬‬

‫‪ - 2‬أخرجه أحمد )‪ .(3/198‬قال الهيثمي في المجمع )‪ :(1/58‬وفي إسناده علي بن مسعدة‪ ،‬وّثقه جماعة‪ ،‬وضعفه آخرون‪ .‬اهم‪ .‬قال الحافظ في التقريب ص )‪ :(405‬صدوق‬

‫له أوهام‪.‬‬

‫ضا‪ -‬وحسنه اللباني كما في صحيح الجامع رقم )‪.(351‬‬


‫‪ - 3‬أخرجه الترمذي )‪ (4/523‬رقم )‪ .(2407‬وأحمد )‪ ،(3/96‬وعزاه السيوطي في الجامع لبن خزيمة والبيهقي ‪ -‬أي ً‬
‫‪ - 4‬أخرجه الترمذي )‪ (5/351‬رقم )‪ .(3250‬قال الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن غريب‪ .‬وضّعفه اللباني كما في ضعيف الجامع رقم )‪.(4079‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬مدارج السالكين )‪.(2/104‬‬

‫‪ - 6‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪ ،(24/114‬ومدارج السالكين )‪.(2/104‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪94‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫اسممتقاموا للممه بطمماعته‪ ،‬ولممم يروغمموا روغممان‬ ‫قــال عمــر ‪‬‬


‫الّثعالب‪.‬‬
‫استقاموا‪ :‬أخلصوا العمل لله‪.‬‬‫وقال عثمان بن عفان ‪‬‬
‫وقال علي بن أبي طالب ‪ ‬استقاموا‪ :‬أ ّ‬
‫دوا الفرائض‪.‬‬
‫سرها ابن عباس ‪.‬‬
‫وبمثل ذلك ف ّ‬
‫وقــال شــيخ الســلم ابــن تيميــة‪ :‬اسممتقاموا علممى محّبتممه‬
‫وعبودّيته‪ ،‬فلم يلتفتوا عنه ُيمنة ول ُيسرة‪.‬‬
‫ومن أقوال العلماء في الستقامة‪:‬‬
‫قــال ابــن القيــم‪ :‬السممتقامة تتعّلممق بممالقوال‪ ،‬والفعممال‪،‬‬
‫والحوال‪ ،‬والن ّّيات‪ ،‬فالستقامة فيها‪ :‬وقوعها لله‪ ،‬وبالله‪ ،‬وعلى أمممر‬
‫الله‪.‬‬
‫وقــال شــيخ الســلم ابــن تيميــة‪ :‬أعظممم الكرامممة لممزوم‬
‫الستقامة)‪.(1‬‬
‫وأختممم الكلم عممن السممتقامة بممما قمماله ابممن القي ّممم فممي مممدارج‬
‫مة بالوسممطّية‪ ،‬وأن ّممه ل‬
‫ممما يّتضممح معممه علقممة السممتقا َ‬
‫سممالكين م ّ‬
‫ال ّ‬
‫استقامة بل وسطّية‪ ،‬ول وسطّية دون استقامة‪.‬‬
‫وهممي ‪ -‬أي السممتقامة ‪ -‬علممى ثلث درجممات‪ :‬الدرجممة‬ ‫)‪(2‬‬
‫قممال‬
‫الولى‪ :‬الستقامة على الجتهاد في القتصاد‪ ،‬ل عادًيا رسممم العلممم‪،‬‬
‫ول متجاوًزا حد ّ الخلص‪ ،‬ول مخالًفا نهج السّنة‪.‬‬
‫من‬ ‫حا قول الهروي‪ :‬هممذه درجممة تتضمم ّ‬ ‫قال ابن القيم شار ً‬
‫دا‪ ،‬وهممو‬
‫دا فيه‪ ،‬وهممو بممذل المجهممود‪ ،‬واقتصمما ً‬
‫سّنة أمور‪ :‬عمل واجتها ً‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬مدارج السالكين )‪.(2/105‬‬

‫‪ - 2‬أي أبو إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪95‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫السلوك بين طرفي الفراط ‪ -‬وهو الجور على الّنفممس ‪ -‬والّتفريممط‬


‫بالضاعة‪.‬‬
‫ووقوًفا مع ما يرسمه العلم‪ ،‬ل وقوفًمما مممع داعممي الحممال‪ ،‬وإفممراد‬
‫المعبود بالرادة‪ ،‬وهو الخلص‪.‬‬
‫ووقوع العمال علممى المممر‪ ،‬وهممو متابعممة السممنة‪ .‬فبهممذه المممور‬
‫درجة استقامتهم‪ ،‬وبالخروج عممن واحممد منهمما‬ ‫م لهل هذه ال ّ‬
‫السّتة تت ّ‬
‫جا جزئّيا‪.‬‬
‫ما خرو ً‬
‫جا كلّيا‪ ،‬وإ ّ‬
‫ما خرو ً‬
‫يخرجون عن الستقامة‪ ،‬إ ّ‬
‫سلف يذكرون هذين الصلين كثيًرا‪ ،‬وهما‪:‬‬ ‫وال ّ‬
‫م‬ ‫ن ال ّ‬
‫شمميطان يشم ّ‬ ‫القتصاد في العمال‪ ،‬والعتصممام بالسمّنة‪ ،‬فممإ ّ‬
‫ضا عن كمال‬
‫قلب العبد ويختبره‪ ،‬فإن رأى فيه داعية للبدعة‪ ،‬وإعرا ً‬
‫صمما علممى‬
‫النقياد للسّنة‪ ،‬أخرجه عن العتصام بها‪ ،‬وإن رأى فيممه حر ً‬
‫دة طلب لها‪ :‬لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها‪ ،‬فأمره‬ ‫السّنة‪ ،‬وش ّ‬
‫بالجتهاد‪ ،‬والجور على الّنفس‪ ،‬ومجاوزة حد ّ القتصاد فيها‪ ،‬قائل له‪:‬‬
‫إن هذا خير وطاعة‪ ،‬والّزيادة والجتهاد فيها أكمل‪ ،‬فل تفتر مع أهممل‬
‫الفتور‪ ،‬ول تنم مع أهل الّنوم‪ ،‬فل يزال يحّثه ويحّرضه‪ ،‬حّتى يخرجممه‬
‫دها‪ ،‬كممما أن الّول خممارج عممن هممذا‬
‫عن القتصاد فيها‪ ،‬فيخرج عن ح ّ‬
‫د‪ ،‬فكذا هذا الخر خارج عن الحد ّ الخر )‪.(1‬‬
‫الح ّ‬
‫وهممذا حممال الخمموارج الممذين يحقممر أهممل السممتقامة صمملتهم مممع‬
‫صلتهم‪ ،‬وصيامهم مع صيامهم‪ ،‬وقراءتهم مع قراءتهم‪ ،‬وكل المرين‬
‫خممروج عممن السممّنة إلممى البدعممة‪ ،‬لكممن هممذا إلممى بدعممة الّتفريممط‬
‫والضاعة‪ ،‬والخر إلى بدعة المجاوزة والسراف‪.‬‬

‫‪ - 1‬تأمل هذا الكلم تجد علقته بالوسطّية وثيقة‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪96‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ســلف‪ :‬ممما أمممر اللممه بممأمر إل ولل ّ‬


‫شمميطان فيممه‬ ‫وقال بعض ال ّ‬
‫ما إلى مجاوزة‪ ،‬وهي الفراط‪ ،‬ول يبالي‬‫نمزغتان‪ :‬إما إلى تفريط‪ ،‬وإ ّ‬
‫بأّيهما ظفر‪ ،‬زيادة أو نقصان )‪.(1‬‬
‫وهذا الكلم عن الستقامة هو عين الوسطّية وجوهرها‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬اليسر ورفع الحرج‬
‫ن من أّول ما يتبادر إلى أذهاننا عندما ننطممق كلمممة )الوسممطّية(‬
‫إ ّ‬
‫ن مممن‬
‫هو معنى اليسر والّتيسير‪ ،‬ورفع الحرج‪ ،‬وهذا الفهم صحيح فإ ّ‬
‫أبرز سمات الوسطّية‪ :‬الّتيسير ورفع الحرج‪.‬‬
‫دين هو دين )الوسط(‪ ،‬فل غلوّ ول‬
‫ن هذا ال ّ‬
‫وقد تقّرر فيما مضى أ ّ‬
‫جفاء‪ ،‬ول إفراط ول تفريط‪.‬‬
‫واليسر ورفع الحرج مرتبممة عاليممة بيممن الفممراط وبيممن التفريممط‪،‬‬
‫طع وبين الهمال والتضييع‪.‬‬ ‫دد والتن ّ‬
‫وبين التش ّ‬
‫قال الدكتور‪ /‬صالح بن حميد‪:‬‬
‫سهولة راجع إلى العتدال والوسط‪ ،‬فل‬
‫سماحة وال ّ‬ ‫رفع الحرج وال ّ‬
‫طع والّتشديد حرج من جانب عسر التكليف‪،‬‬‫إفراط ول تفريط‪ ،‬فالتن ّ‬
‫دي إليممه مممن تعطيممل المصممالح‬ ‫والفراط)‪ (2‬والّتقصير حممرج فيممما يممؤ ّ‬
‫ك جعل ْنمماك ُ ُ‬
‫ة‬
‫مم ً‬
‫مأ ّ‬‫ْ‬ ‫شرع‪ .‬قال ‪ -‬تعالى‪) :-‬وَك َمذ َل ِ َ َ َ َ‬ ‫وعدم تحقيق مقاصد ال ّ‬
‫سممط هممو منبممع الكمممالت‪،‬‬ ‫سممطًا( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(143‬فالتو ّ‬
‫وَ َ‬
‫سماحة ورفممع الحممرج علممى الحقيقممة هممو فممي سمملوك‬
‫والّتخفيف وال ّ‬
‫طريق الوسط والعدل)‪.(3‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬مدارج السالكين )‪.(2/107‬‬

‫‪ - 2‬الصحيح والتفريط‪ ،‬ولعله خطأ مطبعي‪.‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬رفع الحرج في الشريعة السلمية ص )‪.(13‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪97‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ولهمّية بيان عناية السلم بهذا الجانب وتأكيممده عليممه‪ ،‬فسممأذكر‬


‫سمملف مممن‬
‫بعممض ممما ورد فممي ذلممك مممن الكتمماب والسممنة‪ ،‬وأئمممة ال ّ‬
‫سممرين حممول آيممات‬
‫صممحابة وغيرهممم‪ ،‬مممع ذكممر أقمموال بعممض المف ّ‬
‫ال ّ‬
‫الّتيسير ورفع الحرج‪.‬‬
‫مع التنبيه إلى أّنني لن أستقصي ما ورد في ذلممك لصممعوبته أّول‪،‬‬
‫ولعدم الحاجة إلى ذلك ثانًيا‪ ،‬حيث يغني القليممل عممن الكممثير‪) .‬وعممن‬
‫البحر اجتزاء بالوشل(‪.‬‬
‫وقبل أن أدخل في ذكر الدّلة مممن الكتمماب والسمّنة أذكممر تعريًفمما‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(1‬‬
‫موجًزا للتيسير ورفع الحرج فأقول‪:‬‬
‫أول‪ :‬تعريف اليسر والوسع‪:‬‬
‫قال البقاعي في تفسيره ‪ -‬نقل عن الحرالــي‪ :-‬اليسممر‬
‫عمل ل ُيجهد الّنفس ول ُيثقل الجسم )‪.(2‬‬
‫ونقل هذا القول القاسمي في تفسيره )‪.(3‬‬
‫وقال الرازي‪ :‬في معنى الوسع‪ :‬إّنه ما يقدر النسان عليممه‬
‫ما أقصممى‬
‫دة‪ ،‬وأ ّ‬
‫ش ّ‬‫ضيق وال ّ‬
‫سهولة‪ ،‬ل في حال ال ّ‬
‫سعة وال ّ‬‫في حال ال ّ‬
‫ن أن الوسمع بمذل‬ ‫دا ل وسًعا‪ ،‬قال‪ :‬وغلط من ظ ّ‬ ‫مى جه ً‬‫طاقة فيس ّ‬‫ال ّ‬
‫المجهود)‪.(4‬‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(5‬‬
‫وقال ابن منظور في تعريف اليسر‪:‬‬
‫اليسر‪ :‬الّلين والنقياد‪.‬‬
‫سعة والغنى‪.‬‬
‫والميسرة‪ :‬ال ّ‬
‫‪ - 1‬انظر لكل ما سيأتي كتاب‪ :‬رفع الحرج في الشريعة السلمية للدكتور صالح بن حميد ص )‪ (46‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير البقاعي )‪.(3/62‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(3/427‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير الرازي )‪.(14/79‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬لسان العرب مادة )يسر(‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪98‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وتيسير الشيء واستيسر‪ :‬تسّهل‪.‬‬


‫واليسر‪ :‬ضد ّ العسر‪.‬‬
‫ويقول الدكتور‪ /‬صالح بن حميد بعد أن ذكر بعــض هــذه‬
‫القوال‪:‬‬
‫يظهر من ذلك أن اليسر والوسع‪ :‬ما ُيقدم عليه النسان من غير‬
‫أن يلحقه مشّقة زائدة‪ ،‬ومن غير أن يحتاج لبممذل كم ّ‬
‫ل ممما لممديه مممن‬
‫ن ما ذكممره ابممن حممزم فممي‬
‫طاقة ومجهود‪ ،‬وعّقب قائل‪ :‬ومن هذا فإ ّ‬
‫ممما ممما‬
‫ن‪) :‬العسممر والحممرج ممما ل يسممتطاع‪ ،‬أ ّ‬
‫أصممول الحكممام مممن أ ّ‬
‫ن‬
‫استطيع فهو يسر(‪ .‬ليس بدقيق‪ ،‬ول سّيما في إطلق الشرع‪ ،‬إذ أ ّ‬
‫هناك أموًرا يسممتطيع المكل ّممف عملهمما‪ ،‬مممع لحمموق مشمّقة أو عسممر‪،‬‬
‫فجاء الّتخفيف فيها إلى ما هو أيسر‪ ،‬ولو بممذل غايممة جهممده وطمماقته‬
‫لقممام بهمما‪ ،‬ومنممه يتممبين أن عممدم السممتطاعة ليسممت معيممار العسممر‬
‫ال ّ‬
‫شرعي)‪.(1‬‬
‫وأختم أقوال العلماء في تعريــف اليســر والوســع بمــا‬
‫قاله الزمخشري‪" :‬إن الوسممع هممو ممما يسممع النسممان ول يضمميق‬
‫عليه‪ ،‬ول يحرج فيه‪ ،‬فالله ل يكّلف الّنفس إل ما يّتسع فيممه طوقهمما‪،‬‬
‫ويتّيسر عليه دون مدى غاية ال ّ‬
‫طاقة والمجهود‪ ،‬فقد كان فممي طاقممة‬
‫النسان أن يصّلي أكثر من الخمس‪ ،‬ويصوم أكثر مممن شممهر‪ ،‬ويح م ّ‬
‫ج‬
‫جة" )‪.(2‬‬
‫أكثر من ح ّ‬
‫ن تعريفممه‬ ‫هذا ما يتعّلق بتعريف اليسر والوسع‪ ،‬أ ّ‬
‫ما رفع الحرج فإ ّ‬
‫يستلزم تعريف الحرج أول‪ :‬قال في لسان العرب‪:‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬رفع الحرج في الشريعة السلمية ص )‪.(46‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬الكشاف )‪.(1/408‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪99‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫الحرج‪ :‬الثم‪.‬‬
‫وقال أحمد بن يحيى‪ :‬والّتحريج‪ :‬الّتضييق‪.‬‬
‫وقال ابن الثير‪ :‬الحرج في الصل‪ :‬الضيق‪.‬‬
‫جماج فمي موضمع آخمر‪.‬‬
‫ضميق‪ ،‬ونسمبه للّز ّ‬
‫وقيل‪ :‬الحرج‪ :‬أضميق ال ّ‬
‫وحّرج فلن على فلن‪ :‬إذا ضّيق عليه)‪.(1‬‬
‫دى إلممى‬
‫ما في الصطلح‪) :‬كل ما أ ّ‬ ‫هذا تعريف الحرج في اللغة‪ ،‬أ ّ‬
‫مشّقة زائدة في البدن أو الّنفس أو المال حال أو مآل()‪.(2‬‬
‫ن‬
‫دي ِ‬
‫م فِممي ال م ّ‬‫ل عَل َي ْك ُم ْ‬
‫جع َ م َ‬
‫ما َ‬
‫قال ابن عباس في قوله‪ -‬تعالى‪) :-‬وَ َ‬
‫ج( )الحج‪ :‬من الية ‪ .(78‬توسعة السلم‪ ،‬ما جعممل اللممه مممن‬ ‫حَر ٍ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬
‫الّتوبة والكّفارات)‪.(3‬‬
‫دين واسممًعا ولممم‬
‫ضحاك في تفسير الية‪ :‬جعممل المم ّ‬
‫وقال ال ّ‬
‫يجعله ضي ًّقا)‪.(4‬‬
‫دين عليكم ولكن جعله واسممًعا‬
‫وقال مقاتل بن حيان‪ :‬لم يضيق ال ّ‬
‫لمن دخله‪ ،‬وذلك أّنه ليس مما فرض عليهم فيه إل وقد ساق إليهممم‬
‫عند الضطرار فيه رخصة)‪.(5‬‬
‫وبعد هذا الّتعريف للحرج يكون رفع الحرج هو‪:‬‬
‫ضحة في الّتعريف‪ .‬ويتوجه‬
‫دي إلى هذه المشاقّ المو ّ‬
‫)إزالة ما يؤ ّ‬
‫الّرفع والزالة إلى حقوق الله ‪ -‬سبحانه وتعممالى ‪ -‬لّنهمما مبني ّممة علممى‬
‫ممما بارتفمماع‬‫ما بارتفاع الثم عنممد الفعممل‪ ،‬وإ ّ‬
‫المسامحة‪ ،‬ويكون ذلك إ ّ‬
‫ضمميق الممتي‬ ‫ال ّ‬
‫طلب للفعممل‪ ،‬وحينممما يرتفممع كممل ذلممك ترتفممع حالمة ال ّ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬لسان العرب مادة )حرج(‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬رفع الحرج في الشريعة السلمية ص )‪.(47‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(17/206‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(17/207‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬الدر المنثور )‪.(4/372‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪100‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫يعانيها المكّلف حينما يستشممعر أن ّممه يقممدم علممى ممما ل ُيرضممي اللممه‪،‬‬
‫ي‪.‬‬
‫ي والخوف من العقاب الخرو ّ‬ ‫وهذا هو الحرج النفس ّ‬
‫ي حينما يكون الّتكليف شاّقا فيأتي العفممو‬
‫كما يرتفع الحرج الحس ّ‬
‫ف عممن الفعممل الموقممع فممي‬‫ممما بممالك ّ‬
‫من اللممه ‪ -‬سممبحانه وتعممالى ‪ -‬إ ّ‬
‫ما بإباحة الفعل عند الحاجة إليه()‪.(1‬‬ ‫الحرج‪ ،‬وإ ّ‬
‫ففي قوله‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬حينما سئل عن الّترتيب بين أعمال يوم‬
‫الّنحر من الّرمي والحلق وال ّ‬
‫طواف والّنحر‪  :‬افعممل ول حممرج ‪.(2) ‬‬
‫مممن لممم يرت ّممب‬ ‫إباحة لترك الّترتيب بين هذه ال ّ‬
‫شعائر‪ ،‬ورفع للثممم ع ّ‬
‫كممترتيب رسممول اللممه‪  ،‬فممي نسممكه حينممما قممال‪  :‬خممذوا عن ّممي‬
‫مناسككم ‪.(3) ‬‬
‫دلممة‬
‫وبعد أن تبّين لنا معنى الّتيسير والوسع ورفع الحرج أذكممر ال ّ‬
‫سلف في ذلك‪:‬‬
‫على ذلك من الكتاب والسّنة‪ ،‬وأقوال ال ّ‬

‫‪ - 1‬رفع الحرج في الشريعة السلمية ص)‪.(48‬‬

‫‪ - 2‬أخرجه البخاري )‪ .(188 ،2/187‬ومسلم )‪ (949 ،2/948‬رقم )‪ .(1306‬وأبو داود )‪ (2/211‬رقم )‪ .(2014‬والنسائي )‪ (5/272‬رقم )‪ .(3067‬وابن ماجة )‪،2/1013‬‬

‫‪ (1014‬رقم )‪.(3052 ،3051 ،3050‬‬

‫‪ - 3‬أخرجه مسلم )‪ (2/943‬رقم )‪ .(1297‬وأبو داود )‪ (2/201‬رقم )‪ .(1970‬وأحمد )‪ .(378 ،367 ،337 ،332 ،318 ،3/301‬والنسائي )‪ (5/270‬رقم )‪ (3062‬وغيرهم‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪101‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫الدلة من القرآن الكريم‪:‬‬


‫ن الله قممد‬
‫دين دين يسر‪ ،‬وأ ّ‬‫ن هذا ال ّ‬
‫دا ُتبّين أ ّ‬
‫وردت آيات كثيرة ج ّ‬
‫ممة فيمما يشمقّ عليهما‪ ،‬حيمث لمم يكّلفهما إل‬ ‫رفع الحرج عن همذه ال ّ‬
‫وسعها‪.‬‬
‫وسأذكر أدّلة الّتيسير‪ ،‬ثم أدّلة رفع الحرج‪ ،‬ثم أدّلة عدم الّتكليممف‬
‫طاقة‪.‬‬‫بغير الوسع وال ّ‬

‫م ال ْي ُ ْ‬
‫س مَر‬ ‫‪ -1‬أدلة التيسير والتخفيف قال الله ‪ -‬تعالى‪) :-‬ب ِك ُم ُ‬
‫سَر( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(185‬‬ ‫م ال ْعُ ْ‬
‫ريد ُ ب ِك ُ ُ‬
‫َول ي ُ ِ‬
‫وقال ‪ -‬سممبحانه ‪) :-‬يريمد الل ّم َ‬
‫ن‬ ‫خل ِمقَ اْل ِن ْ َ‬
‫سمما ُ‬ ‫ف عَن ْك ُم ْ‬
‫م وَ ُ‬ ‫خّفم َ‬
‫ن يُ َ‬
‫هأ ْ‬‫ُ‬ ‫ُ ِ ُ‬
‫ضِعيفًا( )النساء‪.(28:‬‬
‫َ‬
‫سَرى( )العلى‪.(8:‬‬ ‫ك ل ِل ْي ُ ْ‬
‫سُر َ‬‫وقال ‪) ‬وَن ُي َ ّ‬
‫ر‬ ‫ممعَ ال ْعُ ْ‬
‫سم ِ‬ ‫ن َ‬ ‫سممرا ً إ ِ ّ‬‫سرِ ي ُ ْ‬‫معَ ال ْعُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫وقال في سورة النشراح‪) :‬فَإ ِ ّ‬
‫سرًا( )الشرح‪.(6 ،5:‬‬ ‫يُ ْ‬
‫سممرًا(‬ ‫ل ل َمه مم َ‬
‫ممرِهِ ي ُ ْ‬‫نأ ْ‬ ‫ُ ِ ْ‬ ‫جع َ م ْ‬
‫ه يَ ْ‬ ‫ق الل ّ َ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬
‫م ْ‬‫طلق‪) :‬وَ َ‬ ‫وفي سورة ال ّ‬
‫)الطلق‪ :‬من الية ‪.(4‬‬
‫سممرًا( )الطلق‪:‬‬ ‫سرٍ ي ُ ْ‬‫ه ب َعْد َ عُ ْ‬‫ل الل ّ ُ‬ ‫جع َ ُ‬ ‫سي َ ْ‬
‫ل من قائل ‪َ ) :-‬‬ ‫وقال ‪ -‬ج ّ‬
‫من الية ‪.(7‬‬
‫مة‪.‬‬
‫هذه بعض اليات التي تفيد الّتيسير على هذه ال ّ‬
‫قال القاسمي في تفسير أية البقممرة‪ :‬قممال الشممعبي‪ :‬إذا اختلممف‬
‫عليك أمران‪ ،‬فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق لهذه الية)‪.(1‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(3/427‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪102‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫سرون في تفسيرهم لهذه اليات أن الله أراد لهذه‬


‫وقد ذكر المف ّ‬
‫مة اليسر ولم يرد لها العسر)‪.(1‬‬ ‫ال ّ‬
‫دللة على‬ ‫‪ -2‬أدلة رفع الحرج من أقوى الدّلة وأصرحها في ال ّ‬
‫ج(‬
‫حمَر ٍ‬
‫ن َ‬
‫مم ْ‬‫ن ِ‬‫دي ِ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م فِممي الم ّ‬ ‫جع َ َ‬
‫ما َ‬‫رفع الحرج قوله ‪ -‬تعالى‪) :-‬وَ َ‬
‫)الحج‪ :‬من الية ‪.(78‬‬
‫دين واسًعا ولم يجعلممه‬
‫قال الطبري في تفسير هذه الية‪ :‬جعل ال ّ‬
‫ضي ًّقا)‪.(2‬‬
‫وقال ابن كثير‪ :‬أي‪ :‬ما كّلفكم ما ل تطيقون وما ألزمكممم بشمميء‬
‫جا)‪.(3‬‬ ‫جا ومخر ً‬ ‫يشقّ عليكم إل جعل الله لكم فر ً‬
‫ري مد ُ‬ ‫ج وَل َك ِ ْ‬
‫ن يُ ِ‬ ‫حَر ٍ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫م ِ‬‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬
‫جع َ َ‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬
‫ه ل ِي َ ْ‬ ‫ما ي ُ ِ‬‫وقال‪ -‬سبحانه‪َ ) :-‬‬
‫ن( )المممائدة‪ :‬مممن اليممة‬ ‫شمك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬‫م ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫ه عَل َي ْك ُ ْ‬‫مت َ ُ‬
‫م ن ِعْ َ‬ ‫ل ِي ُط َهَّرك ُ ْ‬
‫م وَل ِي ُت ِ ّ‬
‫‪.(6‬‬
‫ضممى َول‬ ‫ضمعََفاِء َول عَل َممى ال ْ َ‬
‫مْر َ‬ ‫س عَل َممى ال ّ‬‫وفي سورة التوبة‪) :‬ل َي ْم َ‬
‫ه(‬ ‫حوا ل ِل ّمهِ وََر ُ‬
‫سممول ِ ِ‬ ‫صم ُ‬ ‫ج إِ َ‬
‫ذا ن َ َ‬ ‫ح مَر ٌ‬
‫ن َ‬
‫ممما ي ُن ِْفُقممو َ‬
‫ن َ‬
‫دو َ‬
‫جم ُ‬
‫ن ل يَ ِ‬ ‫عََلى ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬
‫)التوبة‪ :‬من الية ‪.(91‬‬
‫ممما‬
‫ج ِفي َ‬
‫ح مَر ٍ‬‫ن َ‬‫مم ْ‬ ‫ن عَل َممى الن ّب ِم ّ‬
‫ي ِ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫وقال في سورة الحمزاب‪َ ) :‬‬
‫ه( )الحزاب‪ :‬من الية ‪.(38‬‬ ‫ه لَ ُ‬
‫ض الل ّ ُ‬‫فََر َ‬
‫ج َول عَل َممى‬ ‫َ‬
‫حمَر ٌ‬‫ممى َ‬ ‫س عَل َممى اْلعْ َ‬ ‫وفي سورتي الفتح والنممور‪) :‬ل َْيم َ‬
‫َْ‬
‫ج( )النور‪ :‬من الية ‪.(61‬‬ ‫حَر ٌ‬‫ض َ‬‫ري ِ‬ ‫ج َول عََلى ال ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫حَر ٌ‬ ‫ج َ‬ ‫العَْر ِ‬
‫مممة‪،‬‬‫وفي هذه اليات دللة ظاهرة على رفع الحرج علممى هممذه ال ّ‬
‫جا‪ ،‬وبعض هذه اليات وإن كممانت‬
‫ن الله لم يجعل في الّتشريع حر ً‬
‫وأ ّ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪ (2/156‬وتفسير ابن كثير )‪ (1/217‬وغيرهما‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(17/207‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(3/236‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪103‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن الّتخفيمف‬‫مما‪ ،‬فكمأ ّ‬
‫صة في أحكام معّينة‪ ،‬ولكّننا نجمد الّتعليمل عا ّ‬
‫خا ّ‬
‫ورفع الحرج في هذه الحكام والفروض بإعممادة الشمميء إلممى أصممله‬
‫دي إلى الحرج لسممبب‬
‫مة‪ ،‬فكل شيء يؤ ّ‬‫وهو رفع الحرج عن هذه ال ّ‬
‫عا إلى الصل والقاعدة‪.‬‬
‫م فهو معفوّ عنه‪ ،‬رجو ً‬
‫ص أو عا ّ‬
‫خا ّ‬
‫‪ -3‬أدلة عدم التكليف بما يضــاد الوســع والطاقــة قممال‪-‬‬
‫ه ن َْفسا ً إ ِّل وُ ْ‬
‫سعََها( )البقرة‪:‬‬ ‫ف الل ّ ُ‬
‫سبحانه‪ -‬في سورة البقرة‪) :‬ل ي ُك َل ّ ُ‬
‫ة ل ََنا ب ِ ِ‬
‫ه(‬ ‫ما ل َ‬
‫طاقَ َ‬ ‫مل َْنا َ‬
‫ح ّ‬
‫من الية ‪ .(286‬وفي الية نفسها‪َ) :‬رب َّنا َول ت ُ َ‬
‫)البقرة‪ :‬من الية ‪.(286‬‬
‫)‪(1‬‬
‫‪‬‬ ‫قممد فعلممت‬ ‫‪‬‬ ‫وقال الله‪ -‬تعممالى‪ -‬كممما فممي الحممديث الصممحيح‪:‬‬
‫ْ‬
‫ل عَل َي َْنا‬
‫م ْ‬
‫ح ِ‬ ‫سيَنا أ َوْ أ َ ْ‬
‫خط َأَنا َرب َّنا َول ت َ ْ‬ ‫خذ َْنا إ ِ ْ‬
‫ن نَ ِ‬ ‫ؤا ِ‬ ‫وكذلك قوله‪َ) :‬رب َّنا ل ت ُ َ‬
‫ن قَب ْل َِنا( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(286‬‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬‫ه عََلى ال ّ ِ‬ ‫مل ْت َ ُ‬
‫ح َ‬ ‫صرا ً ك َ َ‬
‫ما َ‬ ‫إِ ْ‬
‫قال الشيخ الدكتور‪ /‬صالح بــن حميــد‪) :‬والوسممع ممما يسممع‬
‫النسان فل يعجز عنه ول يضيق عليه ول يحرج فيه‪ ،‬فقوله‪ -‬تعالى‪:-‬‬
‫ه ن َْفسما ً إ ِّل وُ ْ‬
‫سمعََها( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪ (286‬أي‪ :‬ل‬ ‫ف الل ّم ُ‬
‫)ل ي ُك َل ّم ُ‬
‫يحملها إل ما تسعه وتطيقه ول تعجز عنه أو يحرجها دون مدى غايممة‬
‫طاقة‪ ،‬فل يكّلفها بما يتوقّممف حصمموله علممى تمممام صممرف القممدرة‪،‬‬
‫ال ّ‬
‫ن عامة أحكام السلم تقع في هذه الحدود‪ ،‬ففي طاقممة النسممان‬
‫فإ ّ‬
‫ن‬
‫وقدرته التيان بأكثر من خمس صلوات وصيام أكثر من شهر‪ ،‬ولك ّ‬
‫الله جّلت قدرته ووسعت رحمته أراد بهذه ال ّ‬
‫مة اليسر ولم يرد بهمما‬
‫العسر()‪.(2‬‬

‫‪ - 1‬أخرجه مسلم )‪ (1/116‬رقم )‪.(126‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬رفع الحرج في الشريعة السلمية ص )‪ ،(69‬وتفسير القرطبي )‪.(3/426‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪104‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫طاقــة‬ ‫ن التكليــف بحــدود الوســع وال ّ‬ ‫ومن الدّلة على أ ّ‬


‫ف ن َْفس ما ً إ ِّل‬
‫ت ل ن ُك َل ّ ُ‬ ‫حا ِ‬
‫صال ِ َ‬‫مُلوا ال ّ‬‫مُنوا وَعَ ِ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫قوله‪ -‬تعالى‪َ) :-‬وال ّ ِ‬
‫وسعها ُأول َئ ِ َ َ‬
‫ن( )لعراف‪.(42:‬‬ ‫دو َ‬‫خال ِ ُ‬
‫م ِفيَها َ‬
‫جن ّةِ هُ ْ‬‫ب ال ْ َ‬ ‫حا ُ‬
‫ص َ‬
‫كأ ْ‬ ‫ُ ْ َ َ‬
‫ف ن َْفس ما ً إ ِّل‬‫ويقممول‪ -‬سممبحانه‪ -‬فممي سممورة المؤمنممون‪َ) :‬ول ن ُك َل ّم ُ‬
‫سعََها( )المؤمنون‪ :‬من الية ‪.(62‬‬
‫وُ ْ‬
‫ي‪ :‬فسنة الله جارية على أّنه ل يكلف الّنفوس إل‬
‫قال القاسم ّ‬
‫وسعها )‪.(1‬‬
‫بل جاء تقرير هذه القاعدة عند ذكر بعض الحكام الجزئّية فقال‪-‬‬
‫ف ل ت ُك َّلم ُ‬
‫ف‬ ‫ن ِبمال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬ ‫سموَت ُهُ ّ‬ ‫موُْلودِ ل َ ُ‬
‫ه رِْزقُهُ ّ‬
‫ن وَك ِ ْ‬ ‫سبحانه‪) :-‬وَعََلى ال ْ َ‬
‫سعََها( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(233‬‬ ‫س إ ِّل وُ ْ‬
‫ن َْف ٌ‬
‫ن قُمدَِر‬‫مم ْ‬‫سمعَت ِهِ وَ َ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫سعَةٍ ِ‬ ‫وكذلك في سورة الطلق‪) :‬ل ِي ُن ِْفقْ ُذو َ‬
‫ه ن َْفسما ً إ ِّل َ‬
‫ممما آَتاهَمما(‬ ‫ف الل ّم ُ‬‫ه ل ي ُك َل ّم ُ‬
‫ما آت َمماهُ الل ّم ُ‬ ‫ه فَل ْي ُن ِْفقْ ِ‬
‫م ّ‬ ‫عَل َي ْهِ رِْزقُ ُ‬
‫)الطلق‪ :‬من الية ‪.(7‬‬
‫ل ال ْي َِتيم ِ إ ِّل ِبممال ِّتي‬
‫ما َ‬‫ضا‪ -‬في سورة النعام‪َ) :‬ول ت َْقَرُبوا َ‬ ‫وكذلك‪ -‬أي ً‬
‫ط ل ن ُك َل ّ ُ‬
‫ف‬ ‫س ِ‬ ‫ن ِبال ِْق ْ‬ ‫ل َوال ْ ِ‬
‫ميَزا َ‬ ‫شد ّهُ وَأ َوُْفوا ال ْك َي ْ َ‬
‫حّتى ي َب ْل ُغَ أ َ ُ‬
‫ن َ‬‫س ُ‬
‫ح َ‬
‫َ‬
‫يأ ْ‬‫هِ َ‬
‫سعََها( )النعام‪ :‬من الية ‪.(152‬‬ ‫ن َْفسا ً إ ِّل وُ ْ‬
‫ن الّتكليممف بحسممب الوسممع‬
‫هذه هي اليممات الممتي وردت مبّينممة أ ّ‬
‫شرعية إذا كانت مطلوبة في حممدود‬ ‫ن الحكام ال ّ‬ ‫طاقة‪ ،‬ول ش ّ‬
‫كأ ّ‬ ‫وال ّ‬
‫دللممة‬ ‫الوسممع والسممتطاعة دون بلمموغ غايممة ال ّ‬
‫طاقممة‪ ،‬ففممي ذلممك ال ّ‬
‫دين‪،‬‬ ‫الظ ّمماهرة علممى أن الحممرج مرفمموع‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن اليسممر سمممة هممذا ال م ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(12/4405‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪105‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫سمممحة‬
‫صّية من خصائصه‪ ،‬فهي الحنيفي ّممة ال ّ‬ ‫والّتوسعة على العباد خا ّ‬
‫ت فيها ول مشّقة)‪.(1‬‬
‫والوسطّية التي ل عَن َ َ‬

‫الدلة من السنة النبوية‪:‬‬


‫سممو ٌ‬
‫ل‬ ‫م َر ُ‬ ‫جمماَءك ُ ْ‬ ‫جاء في سورة براءة وصممف الرسممول‪)  ،‬ل ََقمد ْ َ‬
‫م َ‬
‫ف‬‫ؤو ٌ‬‫ن َر ُ‬‫مِني َ‬ ‫م ب ِممال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫ص عَل َي ْك ُم ْ‬
‫ريم ٌ‬
‫ح ِ‬
‫م َ‬ ‫زيٌز عَل َي ْهِ َ‬
‫ممما عَن ِت ّم ْ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫م عَ ِ‬ ‫ن أن ُْف ِ‬
‫ِ ْ‬
‫تممبين‬ ‫َرِحيٌم( )التوبة‪ .(128:‬وكذلك فقممد جمماءت الحمماديث عنممه‪ ،‬‬
‫و‪ ،‬بل ترك‪،‬‬‫مق والغل ّ‬
‫دد والّتع ّ‬
‫دين‪ ،‬وتحمل الّنهي عن الّتش ّ‬
‫يسر هذا ال ّ‬
‫مته وخشية من أن يشقّ عليها‪ ،‬وهذا‬ ‫‪ ‬كثيًرا من العمال رحمة بأ ّ‬
‫دين وسماحته )‪.(2‬‬
‫يخالف يسر ال ّ‬
‫وسأذكر بعض الحاديث التي تؤك ّممد حقيقممة يسممر السمملم وبعممده‬
‫ما يخرج عن منهج الوسطّية‪.‬‬ ‫ع ّ‬
‫متممه لهممذه‬
‫فممي تمموجيه أ ّ‬ ‫‪‬‬ ‫وعت أسمماليب رسممول اللممه‪،‬‬
‫وقممد تنم ّ‬
‫الحقائق وتأصيلها‪.‬‬
‫دين ديممن‬
‫ن هممذا ال م ّ‬
‫حا فممي بيممان أ ّ‬
‫فنجد في الحاديث ما جاء صري ً‬
‫ث بذلك‪.‬‬
‫ب ُعِ َ‬ ‫سماحة‪ ،‬وأّنه‪ ،‬‬
‫اليسر وال ّ‬
‫‪‬‬ ‫قممال‪:‬‬ ‫ن رسول اللممه‪ ،‬‬
‫فقد روت عائشة‪ -‬رضي الله عنها‪ -‬أ ّ‬
‫سًرا ‪.(3) ‬‬ ‫ن الله لم يبعثني معن ًّتا ول متعن ًّتا‪ ،‬ولكن بعثني معل ّ ً‬
‫ما مي ّ‬ ‫إ ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬رفع الحرج ص )‪.(73‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬رفع الحرج ص )‪ ،(75‬والشارة للغلو والمشقة‪.‬‬

‫‪ - 3‬أخرجه مسلم )‪ (2/1105‬رقم )‪.(1478‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪106‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ممما بعثهممما إلممى‬


‫وقال لمعمماذ بممن جبممل وأبممي موسممى الشممعري ل ّ‬
‫سرا وب َ ّ‬
‫شرا ول ت ُن َّفرا ‪.(1) ‬‬ ‫سرا ول ُتع ّ‬
‫اليمن‪  :‬ي َ ّ‬
‫دين يسممر ولممن يشمماد ّ‬ ‫وقال‪  ،‬مب َي ًّنا حقيقة هذا الدين‪  :‬إ ّ‬
‫ن ال م ّ‬
‫ددوا وقاربوا وأبشروا ‪.(2) ‬‬
‫دين أحد إل غلبه‪ ،‬فس ّ‬
‫ال ّ‬
‫أنه قال لما قيل له‪ :‬يمما رسممول اللممه!‬ ‫وروى ابن عباس عنه‪  ،‬‬
‫)‪.(3‬‬ ‫‪‬‬ ‫سمحة"‬
‫ب إلى الله؟ قال‪" :‬الحنيفّية ال ّ‬
‫أي الديان أح ّ‬
‫سمحة ‪.(4) ‬‬
‫ُبعثت بالحنيفّية ال ّ‬ ‫‪‬‬ ‫وجاء في روايات أخرى‪:‬‬
‫سمحة ‪.(5) ‬‬
‫دين إلى الله الحنيفّية ال ّ‬
‫ب ال ّ‬
‫ن أح ّ‬
‫إ ّ‬ ‫‪‬‬ ‫وفي رواية‪:‬‬
‫وعن عروة الفقيمي‪ -‬رضي الله عنه‪ -‬قال‪  :‬كن ّمما ننتظممر النممبي‪،‬‬
‫مما قضمى‬ ‫‪ ‬فخرج يقطممر رأسمه مممن وضمموء أو غسمل فصمّلى‪ ،‬فل ّ‬
‫صلة جعل الّناس يسألونه‪ :‬يا رسمول اللمه! أعلينما ممن حمرج فمي‬ ‫ال ّ‬
‫كذا‪ ،‬فقال رسول الله‪"  ،‬ل أّيها الّناس‪ :‬إ ّ‬
‫ن دين اللمه‪ -‬عمّز وجم ّ‬
‫ل‪-‬‬
‫ن دين الله‪ -‬عّز وجمم ّ‬
‫ل‪-‬‬ ‫ن دين الله‪ -‬عّز وج ّ‬
‫ل‪ -‬في يسر‪ ،‬إ ّ‬ ‫في يسر‪ ،‬إ ّ‬
‫بيممن أمريممن إل اختممار‬ ‫)‪ .(6‬وممما خيممر رسممول اللممه‪ ،‬‬ ‫‪‬‬ ‫في يسر"‬
‫ما )‪.(7‬‬
‫أيسرهما ما لم يكن إث ً‬
‫ن خيمر دينكمم أيسمره‪،‬‬
‫إ ّ‬ ‫‪‬‬ ‫وفي مسند المام أحمد‪ ،‬قال‪ :‬قال‪،‬‬
‫ن خير دينكم أيسره ‪.(8) ‬‬
‫إ ّ‬

‫‪ - 1‬أخرجه البخاري )‪ .(5/108‬ومسلم )‪ (3/1359‬رقم )‪.(1733‬‬

‫‪ - 2‬أخرجه البخاري )‪.)1/15‬‬

‫قا )‪ (1/15‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد )‪ :(1/65‬رواه أحمد والطبراني في الكبير والوسط والبزار‪ ،‬وفيه ابن إسحاق وهو مدلس‪،‬‬
‫‪ - 3‬أخرجه أحمد )‪ .(1/236‬والبخاري معل ً‬

‫ولم يصّرح بالسماع‪ .‬اهم‪ .‬وحسن الحافظ إسناده في الفتح )‪.(1/117‬‬

‫‪ - 4‬أخرجه أحمد )‪ .(5/266‬قال الهيثمي في المجمع‪ :(5/282) :‬رواه أحمد والطبراني‪ ،‬وفيه علي بن يزيد اللهاني وهو ضعيف‪.‬‬

‫‪ - 5‬قال الهيثمي في المجمع )‪ .(1/65‬رواه الطبراني في الوسط‪ ،‬وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري منكر الحديث‪.‬‬

‫‪ - 6‬أخرجه أحمد )‪ .(5/69‬قال الهيثمي في المجمع )‪(1/67‬؛‪ :‬رواه أحمد والطبراني في الكبير وأبو يعلى وفيه عاصم بن هلل‪ ،‬وثقه أبو حاتم وأبو داود‪ ،‬وضعفه النسائي‬

‫وغيره‪ .‬قال الحافظ في التقريب ص )‪ :(286‬فيه لين‪.‬‬

‫‪ - 7‬أخرجه أحمد )‪ .(5/32) ،(4/338‬قال الهيثمي في المجمع )‪ :(1/66‬رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح‪.‬‬

‫‪ - 8‬قال الهيثمي في المجمع )‪ :(4/18‬رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪107‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن الله تعممالى رضممي‬


‫إ ّ‬ ‫‪‬‬ ‫في حديث محجن بن الدرع‪:‬‬ ‫وقال‪ ،‬‬
‫مة اليسير وكره لها العسير ‪.(1) ‬‬
‫لهذه ال ّ‬
‫دين وسماحته‪.‬‬
‫وهذه الحاديث صريحة في بيان يسر هذا ال ّ‬
‫في هممذا الجممانب ممما ورد فممي الّنهممي عممن‬ ‫ونجد من أساليبه‪ ،‬‬
‫الغلوّ والتن ّ‬
‫طع‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫فعن ابن عّباس‪ -‬رضي الله عنهما‪ -‬قال‪ :‬قممال رسممول اللممه‪،‬‬
‫دين‬
‫دين فإّنما أهلك من كان قبلكم الغلوّ فممي ال م ّ‬
‫إّياكم والغلوّ في ال ّ‬
‫)‪.(2‬‬
‫وعن ابن مسعود‪ -‬رضي الله عنه‪ -‬قممال‪ :‬قممال رسممول اللممه‪  ،‬‬
‫هلك المتن ّ‬
‫طعون ‪ ‬قالها ثلًثا )‪.(3‬‬
‫ل‬ ‫‪‬‬ ‫كممان يقممول‪:‬‬ ‫‪ ‬أن رسممول اللممه‪ ،‬‬ ‫وعن أنس بممن مالممك‬
‫ددوا علممى‬ ‫ممما شم ّ‬
‫ن قو ً‬‫دد الله عليكممم‪ ،‬فممإ ّ‬ ‫تُ ّ‬
‫شددوا على أنفسكم فيش ّ‬
‫ديارات‬‫صمموامع وال م ّ‬‫دد الله عليهم‪ ،‬فتلك بقايمماهم فممي ال ّ‬
‫أنفسهم فش ّ‬
‫رهبانّية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ‪.(4) ‬‬
‫متممه‪:‬‬
‫ترك العمل مخافة المشمّقة علممى أ ّ‬ ‫ضا‪ -‬‬
‫ومن أساليبه‪ -‬أي ً‬
‫ذات ليلممة فممي‬ ‫صممة صمملة الّتراويممح‪  ،‬حيممث صمملى‪ ،‬‬
‫ومن ذلممك ق ّ‬
‫رمضان فصمّلى بصمملته نمماس‪ ،‬ثممم صمّلى القابلممة فكممثر الن ّمماس‪ ،‬ثممم‬
‫اجتمعوا في الليلة الّثالثة أو الّرابعة فلممم يخممرج إليهممم‪ ،‬فلممما أصممبح‬

‫‪ - 1‬قال الهيثمي في المجمع )‪ :(4/18‬رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح‪.‬‬

‫ضا‪ -‬اللباني‬
‫‪ - 2‬أخرجه النسائي )‪ (5/268‬رقم )‪ .(3057‬وابن ماجة )‪ (2/1008‬رقم )‪ (3029‬وأحمد )‪ ،(347 ،1/215‬وصححه الحاكم )‪ ،(1/466‬ووافقه الذهبي‪ ،‬وصححه ‪ -‬أي ً‬
‫كما في السلسلة الصحيحة رقم )‪ ،(1283‬وصحيح الجامع رقم )‪.(2680‬‬

‫‪ - 3‬أخرجه مسلم )‪ (4/2055‬رقم )‪ .(2670‬وأبو داود )‪ (4/201‬رقم )‪ .(4608‬وأحمد )‪.(1/386‬‬

‫‪ - 4‬أخرجه أبو داود )‪ (277 ،4/276‬رقم )‪ ،(4904‬وأخرجه أبو يعلى‪ ،‬كما في المطالب العالية )‪ (1/117‬رقم )‪ (422‬وفي إسناد هذا الحديث‪ :‬سعيد بن عبد الرحمن بن أبي‬

‫ضا ‪ -‬في التهذيب )‪ :(4/57‬ذكره ابن حبان في الثقات‪ ،‬وروى له أبو داود حديًثا واح ً‬
‫دا‪..‬‬ ‫العمياء؛ مختلف في توثيقه‪ .‬قال الحافظ في التقريب ص )‪ (238‬مقبول‪ .‬وقال ‪ -‬أي ً‬
‫وذكر هذا الحديث‪ .‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد )‪ :(6/259‬رجاله رجال الصحيح‪ ،‬غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة!! وضعف هذا الحديث العلمة اللباني‬

‫كما في ضعيف الجامع رقم )‪ ،(6232‬والقرب حسن هذا السناد‪ .‬والله ‪ -‬تعالى ‪ -‬أعلم‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪108‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ي‬
‫قال‪" :‬قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكممم إل أن م ّ‬
‫خشيت أن ُتفرض عليكم" ‪ ‬وفي الّرواية الخرى‪  :‬فتعجزوا عنها‬
‫)‪.(1‬‬ ‫‪‬‬

‫ق‬
‫لمول أن أشم ّ‬ ‫‪‬‬ ‫قمال‪:‬‬ ‫وعن أبي هريرة ‪ ‬أن رسول اللمه‪ ،‬‬
‫سواك عند كل صلة ‪.(2) ‬‬
‫متي لمرتهم بال ّ‬‫على أ ّ‬
‫متممه‪:‬‬
‫بل إّنه يعمل العمل فيندم على ذلك مخافة المشمّقة علممى أ ّ‬
‫فقد روت عائشة ‪ -‬رضي الله عنها‪  -‬أن رسول الله‪  ،‬خرج من‬
‫عندها وهو مسرور ثم رجممع إليهمما وهممو كئيممب‪ ،‬فقممال‪" :‬إن ّممي دخلممت‬
‫الكعبة‪ ،‬ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها‪ ،‬إن ّممي أخمماف‬
‫متي"‬ ‫)‪.(3‬‬
‫أن أكون قد شققت على أ ّ‬
‫‪‬‬

‫ووصممل مممن رحمتممه‪  ،‬وتيسمميره علممى أ ّ‬


‫متممه وكرهممه للمش مّقة‬
‫عليهم ما يفيده هذا الحديث الذي رواه أبو قتممادة‪ ،‬حيممث قممال‪  ،‬‬
‫صممبي‬
‫ول فيها فأسمممع بكمماء ال ّ‬
‫صلة وأنا أريد أن أط ّ‬‫إّني لقوم إلى ال ّ‬
‫مه ‪.(4) ‬‬
‫وز كراهية أن أشقّ على أ ّ‬
‫فأتج ّ‬
‫ومن أساليبه في ذلك نهيه‪  ،‬لصحابه عممن أعمممال تممؤدي إلممى‬
‫المشّقة والعسر‪:‬‬
‫‪ ‬فقد جاء رجل إلممى رسممول اللممه‪  ،‬فقممال‪ :‬إن ّممي لتممأخّر عممن‬
‫صبح من أجل فلن مما يطيل بنا ‪ ‬قال أبو مسعود النصمماري‬ ‫صلة ال ّ‬
‫راوي الحديث‪ :‬فما رأيت النبي‪  ،‬غضب فممي موعظممة ق م ّ‬
‫ط أش مد ّ‬

‫‪ - 1‬أخرجه البخاري )‪ .(1/222‬ومسلم واللفظ له )‪ (1/524‬رقم )‪.(761‬‬

‫‪ - 2‬أخرجه البخاري )‪ .(1/214‬ومسلم )‪ (1/220‬رقم )‪.(252‬‬

‫‪ - 3‬أخرجه أبو داود )‪ (2/215‬رقم )‪ .(2029‬وابن ماجة )‪ (1019 ،2/1018‬رقم )‪ .(3064‬وضّعفه اللباني كما في ضعيف الجامع رقم )‪.(2085‬‬

‫‪ - 4‬أخرجه البخاري )‪ .(1/173‬وأبو داود )‪ (1/209‬رقم )‪.(789‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪109‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫م‬
‫أّيها الناس إن منكم منّفريممن‪ ،‬فممأّيكم أ ّ‬ ‫ما غضب يومئذ‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪‬‬ ‫م ّ‬
‫)‪.(1‬‬ ‫‪‬‬ ‫ن من ورائه الكبير‪ ،‬والضعيف‪ ،‬وذا الحاجة‬
‫الّناس فليوجز‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪ ‬ودخل مّرة المسجد فإذا حبل ممدود بين سمماريتين فقممال‪ :‬ممما‬
‫هذا الحبل؟ فقالوا‪ :‬حبل لزينب‪ ،‬فإذا فترت تعّلقممت بممه‪ ،‬فقممال‪ ،‬‬
‫حّلوه‪ ،‬ليص ّ‬
‫ل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد ‪.(2) ‬‬
‫أن النممبي‪،‬‬‫صحيحين وغيرهما عن أنس بن مالممك ‪ ‬‬ ‫وجاء في ال ّ‬
‫‪ ‬رأى شي ً‬
‫خا يهادي بين ابنيه‪ ،‬فقال‪ :‬مما بمال همذا؟ قمالوا‪ :‬نمذر أن‬
‫ن الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني‪ ،‬وأمره أن يركب‬
‫يمشي‪ ،‬قال‪ :‬إ ّ‬
‫)‪.(3‬‬
‫ومثل ذلك ‪ ‬قصة الثلثممة الممذين سممألوا عممن عبممادة الرسممول‪ ،‬‬
‫فلما علموا ذلك كأّنهم تقاّلوهم‍ا! فقممال أحممدهم‪ :‬أ ّ‬
‫ممما أنمما فأصمموم ول‬
‫ج‬
‫دا‪ ،‬وقممال الخممر‪ :‬ل أتممزو ّ‬
‫صلي الليل أب ً‬‫ما أنا فأ ّ‬
‫أفطر‪ ،‬وقال الخر‪ :‬أ ّ‬
‫ما والله إني أخشاكم‬ ‫النساء‪ ،‬فقال ‪ ‬أأنتم الذين قلتم كذا وكذا‪ ،‬أ َ‬
‫ي أصوم وأفطر‪ ،‬وأصّلي وأرقد‪ ،‬وأتزوج الّنسمماء‪،‬‬ ‫لله وأتقاكم له‪ ،‬لكن ّ‬
‫فمن رغب عن سّنتي فليس مّني ‪.(4) ‬‬
‫وأختم هذه الحاديث بهذا الحديث الذي رواه الممدارقطني بسممنده‬
‫خممرج‬ ‫‪‬‬ ‫عن نافع عن عبد الله بن عمممر‪ -‬رضممي اللممه عنهممما‪ -‬قممال‪:‬‬
‫رسول الله‪  ،‬في بعض أسفاره فسار ليل فمّر على رجل جالس‬
‫عند مقراة له‪ -‬وهي الحوض الذي يجتمع فيه الماء‪ -‬فقال لممه عمممر‪:‬‬
‫سباع الليلة في مقراتك؟‬ ‫يا صاحب المقراة‪ :‬ول َغَ ْ‬
‫ت ال ّ‬
‫‪ - 1‬أخرجه البخاري )‪ .(173 ،1/172‬ومسلم )‪ (1/340‬رقم )‪.(467 ،466‬‬

‫‪ - 2‬أخرجه البخاري )‪ .(2/48‬ومسلم )‪ (1/542‬رقم )‪.(784‬‬

‫‪ - 3‬أخرجه البخاري )‪ .(7/234‬ومسلم )‪ (1264 ،3/1263‬رقم )‪.(1643 ،1642‬‬

‫‪ - 4‬أخرجه البخاري )‪ .(6/116‬ومسلم بمعناه )‪ (2/1020‬رقم )‪.(1401‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪110‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫"يا صاحب المقراة ل تخبره‪ ،‬هذا متكّلف‪ ،‬لها‬ ‫فقال له النبي‪ ،‬‬
‫)‪.(5‬‬ ‫‪‬‬ ‫ما حملت في بطونها‪ ،‬ولنا ما بقي شراب طهور"‬
‫دين‬
‫ومممما سممبق مممن هممذه الحمماديث يتممبّين لنمما سممماحة هممذا ال م ّ‬
‫دي إلى المشّقة والعسر‪.‬‬
‫دد وما يؤ ّ‬
‫ويسره‪ ،‬وبعده عن الغلوّ والّتش ّ‬

‫‪ - 5‬سنن الدارقطني )‪.(1/26‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪111‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫)‪(1‬‬
‫أقوال السلف‬
‫ما ذكرته من الدّلة من الكتاب والسّنة يغني ع ّ‬
‫ممما سممواه‪ ،‬بممل إن‬
‫جة في ذلك‪.‬‬ ‫حا ح ّ‬ ‫آية واحدة أو حديًثا واح ً‬
‫دا صحي ً‬
‫دين وسممماحته ووسممطّيته‬
‫ن قضممّية يسممر هممذا المم ّ‬
‫ولكممن لبيممن أ ّ‬
‫جا عملّيا‪ ،‬استجابة لله ورسوله‪ ،‬فسممأذكر بعممض ممما ورد‬
‫أصبحت منه ً‬
‫سلف في هذا الباب‪ ،‬مع الختصار دون إخلل أو إقلل‪.‬‬‫عن ال ّ‬
‫يقول عبد الله بن مسعود ‪ ‬مبي ًّنا منهج ال ّ‬
‫صحابة في ذلك‪:‬‬
‫ي ل ت ُممؤمن‬‫ن الحم ّ‬
‫ن بمن قممد مممات‪ ،‬فممإ ّ‬
‫"من كان منكم مستّنا فليست ّ‬
‫مة‪ ،‬أبّرها‬‫عليه الفتنة‪ ،‬أولئك أصحاب محمد‪  ،‬كانوا أفضل هذه ال ّ‬
‫قلوًبا‪ ،‬وأعمقها علًما‪ ،‬وأقّلها تكل ًّفا‪ ،‬اختممارهم اللممه لصممحبة نممبيه‪ ،‬‬
‫ولقامة دينه‪ ،‬فاعرفوا لهم فضلهم‪ ،‬واّتبعوهم على أثرهم وسيرتهم‪،‬‬
‫فإّنهم كانوا على الهدي المستقيم" )‪.(2‬‬
‫مممق‪ ،‬وعليكممم بممالعتيق‬ ‫ضا‪ -‬إّياكم والّتن ّ‬
‫طع‪ ،‬إي ّمماكم والّتع ّ‬ ‫وقال‪ -‬أي ً‬
‫)‪.(3‬‬
‫فسمممعته يقممول‪:‬‬ ‫وقال أنس بن مالك ‪ ‬كن ّمما عنممد عمممر ‪‬‬
‫"نهينا عن الّتكّلف" )‪.(4‬‬
‫صمميغة وإن كممان لهمما‬
‫قال الدكتور‪ /‬صالح بن حميــد‪ :‬هممذه ال ّ‬
‫ل على البعد عن الّتكّلف هممو منهممج عمممر‬‫حكم المرفوع‪ ،‬غير أّنها تد ّ‬
‫صحابة )‪.(5‬‬
‫وغيره من ال ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬رفع الحرج )‪ (87‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪ - 2‬إغاثة اللهفان )‪ (1/159‬ورفع الحرج ص )‪.(87‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬إغاثة اللهفان )‪ (1/159‬ورفع الحرج ص )‪.(88‬‬

‫‪ - 4‬انظر إغاثة اللهفان )‪ (1/159‬ورفع الحرج ص )‪.(88‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬رفع الحرج ص )‪.(88‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪112‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقد مّر عمر‪ -‬رضي الله عنه‪ -‬في طريق فسقط عليه شيء من‬
‫ميزاب‪ ،‬فقال رجل مع عمر‪ :‬يمما صمماحب الميممزاب‪ ،‬ممماؤك طمماهر أو‬
‫نجس؟ فقال عمر‪ :‬يا صاحب الميزاب‪ :‬ل تخبرنا‪ ،‬ومضى )‪.(1‬‬
‫وروي أن عبد الله بن عمر‪ -‬رضي الله عنهما‪ -‬سممئل عممن الجبممن‬
‫الممذي تصممنعه المجموس؟ فقمال‪ :‬ممما وجممدته فممي سموق المسملمين‬
‫اشتريته ولم أسأل عنه )‪.(2‬‬
‫ن أيسممرهما‬ ‫وقال المام الشعبي‪ :‬إذا اختلف عليك أمران فممإ ّ‬
‫ري مد ُ‬ ‫م ال ْي ُ ْ‬
‫س مَر َول ي ُ ِ‬ ‫ري مد ُ الل ّم ُ‬
‫ه ب ِك ُم ُ‬ ‫أقربهما إلى الحقّ لقوله‪ -‬تعالى‪) :-‬ي ُ ِ‬
‫سَر( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(185‬‬‫م ال ْعُ ْ‬
‫ب ِك ُ ُ‬
‫وقال معمر وسفيان الثوري‪ :‬إنما العلم أن تسمع بالّرخصة‬
‫ما الّتشديد فيحسنه كل أحد)‪.(3‬‬
‫من ثقة‪ .‬فأ ّ‬
‫ن أن أحبهممما‬
‫وقال إبراهيم النخعي‪ :‬إذا تخالجك أمممران فظ م ّ‬
‫إلى الله أيسرهما )‪.(4‬‬
‫وروي عن مجاهد وقتادة وعمر بن عبــد العزيــز‪ :‬أفضممل‬
‫م ال ْي ُ ْ‬
‫سمَر( )البقممرة‪:‬‬ ‫ريمد ُ الل ّم ُ‬
‫ه ب ِك ُم ُ‬ ‫المرين أيسرهما لقوله‪ -‬تعالى‪) :-‬ي ُ ِ‬
‫من الية ‪.(5)(185‬‬
‫دا‪ ،‬وما مضى فيه الكفاية‪ -‬إن شاء الله‪.-‬‬
‫والثار في هذا كثيرة ج ّ‬

‫وبعد‪:‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬إغاثة اللهفان )‪ (1/154‬ورفع الحرج ص )‪.(89‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬جامع العلوم والحكم ص )‪ (269‬ورفع الحرج ص )‪.(91‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬جامع بيان العلم وفضله ص )‪ ،(285‬ورفع الحرج ص )‪.(92‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬رفع الحرج ص )‪ ،(92‬والثار لبي يوسف ص )‪.(196‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬المغني )‪ ،(3/150‬ورفع الحرج ص )‪.(92‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪113‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫مممة‬
‫مل لهذه الثار من الكتاب والسّنة وأقوال سمملف ال ّ‬ ‫ن المتأ ّ‬
‫فإ ّ‬
‫يلحظ أن هذا المعنى غائب عن واقممع وفهممم كممثير مممن المسمملمين‪،‬‬
‫وقليل منهم من يدرك هذه الحقيقة ويتعامل معها‪ ،‬حيممث إن ّممه يوجممد‬
‫صحيحة‪ ،‬ولكن عند‬ ‫هناك من لو سئل عن هذا المر لجاب الجابة ال ّ‬
‫مل في واقعه وتعممامله والممتزامه ومنهجممه ل نجممد إل الفممراط أو‬
‫التأ ّ‬
‫الّتفريط‪.‬‬
‫والعجب أن بعض هؤلء كأّنه أغير على دين الله مممن رسممول‬
‫ل عَل َي ْك ُم ْ‬
‫م فِممي‬ ‫جع َ َ‬
‫ما َ‬ ‫الله‪  ،‬بل من الله‪ -‬ج ّ‬
‫ل وعل‪ -‬الذي يقول‪) :‬وَ َ‬
‫سَر‬‫م ال ْي ُ ْ‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬
‫ه ب ِك ُ ُ‬ ‫حَرٍج( )الحج‪ :‬من الية ‪ .(78‬ويقول‪) :‬ي ُ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬‫دي ِ‬
‫ال ّ‬
‫ن‬ ‫ول يريد بك ُم ال ْعسر( )البقرة‪ :‬من الية ‪ .(185‬ويقول‪) :‬يريد الل ّ َ‬
‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ِ ُ‬ ‫َ ُ ِ ُ ِ ُ ُ ْ َ‬
‫ضمِعيفًا( )النسمماء‪ .(28:‬وهممذا ل يعنممي‪-‬‬ ‫ن َ‬ ‫خل ِقَ اْل ِن ْ َ‬
‫سمما ُ‬ ‫ف عَن ْك ُ ْ‬
‫م وَ ُ‬ ‫خّف َ‬‫يُ َ‬
‫دين يسر‪ ،‬وهو ما‬
‫جة أن هذا ال ّ‬
‫ضا‪ -‬الّتفريط والّتساهل والّتهاون بح ّ‬
‫أي ً‬
‫ن تحديمد مفهموم‬ ‫صرين والعصماة أفعمالهم‪ ،‬فمإ ّ‬ ‫يبّرر به كثير من المق ّ‬
‫اليسر والّتوسعة إلممى ال ّ‬
‫شممارع ل إلممى أهممواء الن ّمماس ورغبمماتهم وممما‬
‫ألفوه ودرجمموا عليممه‪ ،‬فل إفممراط ول تفريممط‪ ،‬ول غلموّ ول جفمماء )كل‬
‫م إن قض مّية الّتيسممير والّتوسممعة قض مّية‬
‫طرفي قصد المور ذميم(‪ .‬ث ّ‬
‫صور بعممض‬ ‫منهج متكامل وليست تتعّلق بجزئّية أو جزئّيات كما قد يت ّ‬
‫الّناس‪.‬‬
‫ن هممذا المممر ينممدرج فممي‬ ‫وبهذا الّتعريف وال ّ‬
‫شــمول نممدرك أ ّ‬
‫مة‪ ،‬وخاصممّية مممن‬ ‫منهج الوسطّية التي هي سمة من سمات هذه ال ّ‬
‫خصائصها‪ ،‬فلممن نسممتطيع أن نممدرك حقيقممة الوسممطّية إل إذا فهمنمما‬
‫سمة اليسممر والّتوسممعة ورفممع الحممرج‪ ،‬وإل تصممبح الوسممطّية معنممى‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪114‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫مفر ً‬
‫غا من حقيقته‪ ،‬وقول نظرّيا ل وجود له في الواقع‪ ،‬وبذلك يفقممد‬
‫دين خاصّية لها أثرها في حياة الّناس ومآلهم‪.‬‬
‫هذا ال ّ‬
‫عا البينّية‬
‫راب ً‬
‫ن البينّية من لوازم وصفات الوسممطّية‪،‬‬
‫ذكرت في مبحث سابق أ ّ‬
‫حا وبياًنا‪ ،‬فأقول‪:‬‬
‫وحيث ذكرت ذلك مختصًرا فإّني أزيده هنا وضو ً‬
‫ن إطلق لفممظ البيني ّممة يممد ّ‬
‫ل علممى وقمموع شمميء بيممن شمميئين أو‬ ‫إ ّ‬
‫سا أو معنى‪.‬‬
‫أشياء‪ ،‬وقد يكون ذلك ح ّ‬
‫ن )الوسممطّية( ل بمد ّ أن تّتصممف بالبيني ّممة‪ ،‬فإّننمما ل‬‫وعندما نقممول‪ :‬إ ّ‬
‫ن‬
‫ن المر أعمق ممن ذلمك‪ ،‬حيمث إ ّ‬ ‫نعني مجّرد البينّية ال ّ‬
‫ظرفّية‪ ،‬بل إ ّ‬
‫هذه الكلمة تعطمي مممدلول عملي ّمما علممى أن همذا المممر فيمه اعتمدال‬
‫وتوازن وُبعد عن الغلوّ والّتطرف أو الفراط والّتفريط‪.‬‬
‫وبهذا تكون البينّية صفة مدح‪ ،‬ل مجّرد ظرف عابر‪.‬‬
‫ومن هذا الّتفسممير جمماءت علقممة البيني ّممة بالوسممطّية‪ ،‬وقممد رأيممت‬
‫جمهوًرا من العلماء ربطمموا بيممن الوسممطّية والبيني ّممة‪ ،‬ول غرابممة فممي‬
‫ن لهذا أصل في اللغة والشتقاق‪ ،‬كما سبق بيان ذلك‪ ،‬وهممو‬ ‫ذلك‪ ،‬فإ ّ‬
‫المتبادر إلى الذهان عند إطلق هذه الكلمة‪.‬‬
‫فسأذكر بعض أقوال العلممماء‪ ،‬ومممن قممال‬ ‫)‪(1‬‬
‫ولهمّية هذه القضّية‬
‫بذلك منهم في القديم والحديث‪:‬‬
‫ن‬
‫‪ -1‬المــام الطــبري‪ :‬حيممث قممال فممي تفسمميره‪ :‬وأنمما أرى أ ّ‬
‫الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنممى الجممزء‪ ،‬الممذي هممو‬
‫دار‪.‬‬
‫بين طرفين‪ ،‬مثل وسط ال ّ‬
‫‪ - 1‬وذلك أن أحد الباحثين أّلف رسالة علمية وبناها على عدم التلزم بين الوسطّية والبينّية‪ ،‬واعتبر أن ذلك خطأ ممن قال به‪ ،‬وهو الستاذ فريد عبد القادر في رسالته‪:‬‬

‫الوسطّية في السلم‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪115‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫سممطهم‬
‫وأرى أن الله‪ -‬تعالى ذكره‪ -‬إّنما وصفهم بأّنهم وسممط لتو ّ‬
‫هب‪،‬‬
‫دين‪ ،‬فل هم أهل غلوّ فيه‪ ،‬غلوّ الّنصارى الذين غلممو بممالّتر ّ‬
‫في ال ّ‬
‫وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه‪.‬‬
‫دلوا كتمماب اللممه‪،‬‬
‫ول هم أهل تقصير فيممه تقصممير اليهممود الممذين بم ّ‬
‫سممط‬
‫وقتلوا أنبيائهم‪ ،‬وكذبوا على رّبهم‪ ،‬وكفروا به‪ ،‬ولكنهممم أهممل تو ّ‬
‫ب المممور إلممى اللممه‬
‫واعتدال فيه‪ ،‬فوصفهم اللممه بممذلك‪ ،‬إذ كممان أحم ّ‬
‫أوسطها)‪.(1‬‬
‫ت كلمه سابًقا‪ ،‬وُأعيممد‬
‫‪ -2‬شيخ السلم ابن تيمية‪ ،‬وقد ذكر ُ‬
‫بعضه هنا‪ ،‬حيث قال في العقيدة الواسطّية‪:‬‬
‫ن الفرقة الناجيممة أهممل السمّنة والجماعممة يؤمنممون بممذلك‪ ،‬كممما‬
‫فإ ّ‬
‫يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ول تعطيل‪ ،‬ومممن‬
‫مممة‬
‫ن ال ّ‬
‫مة‪ ،‬كممما أ ّ‬
‫غير تكييف ول تمثيل‪ ،‬بل هم الوسط في فرق ال ّ‬
‫هي الوسط في المم‪.‬‬
‫فهمم وسمط فمي بماب صمفات اللمه‪ -‬تعمالى‪ -‬بيمن أهمل الّتعطيمل‬
‫الجهمّية‪ ،‬وأهل الّتمثيل المشّبهة‪.‬‬
‫وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرّية والقدرّية وغيرهم‪.‬‬
‫وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدّية من القدرّية وغيرهم‪.‬‬
‫دين بيممن الحروري ّممة والمعتزلممة وبيممن‬
‫وفي باب أسماء اليمان وال ّ‬
‫المرجئة والجهمّية‪.‬‬
‫وفي أصحاب رسول الله بين الرافضة والخوارج )‪.(2‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(2/6‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬شرح العقيدة الواسطّية ص )‪.(124‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪116‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن الوسط هو العدل والخيممار‪،‬‬


‫‪ -3‬رشيد رضا حيث قال‪ :‬قالوا‪ :‬إ ّ‬
‫ن الّزيادة على المطلمموب فممي المممر إفممراط‪ ،‬والّنقممص عنممه‬
‫وذلك أ ّ‬
‫دة‬
‫تفريممط وتقصممير‪ ،‬وكممل مممن الفممراط والّتفريممط مي ْممل عممن الجمما ّ‬
‫القويمة‪ ،‬فهو شّر ومذموم‪ ،‬فالخيار هو الوسمط بيمن طرفمي الممر‪،‬‬
‫أي المتوسط بينهما‪.‬‬
‫ن الوسط‬
‫ضا‪ -‬أ ّ‬
‫ثم ذكر قول لستاذه محمد عبده حيث إّنه يرى‪ -‬أي ً‬
‫سط بين أمرين مع كونه خياًرا )‪.(1‬‬
‫هو المتو ّ‬
‫‪ -4‬يوسف القرضاوي فقمد قممال‪ :‬ونعنممي بهمما‪ -‬أي الوسمطّية‪-‬‬
‫سممط أو الّتعممادل بيممن طرفيممن متقممابلين أو متضمماّدين‪ ،‬بحيممث ل‬
‫التو ّ‬
‫ينفرد أحدهما بالّتأثير‪ ،‬ويطرد الطرف المقابل‪ ،‬وبحيث ل يأخممذ أحممد‬
‫الطرفين أكثر من حّقه‪ ،‬ويطغى على مقابله‪ ،‬ويحيف عليه‪ ،‬ثم ذكممر‬
‫بعض المثلة في ذلك )‪.(2‬‬
‫‪ -5‬محمد قطب حيث بين في كتابه "منهج الّتربيممة السمملمّية"‬
‫ن الوسطّية هي الّتوازن‪ ،‬والّتوازن هو العدل‪ ،‬حيث قال في قمموله‪-‬‬ ‫أ ّ‬
‫سممطًا( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪.(143‬‬ ‫ك جعل ْنمماك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫مم ً‬
‫مأ ّ‬‫ْ‬ ‫تعالى‪) :-‬وَك َمذ َل ِ َ َ َ َ‬
‫وس ً‬
‫طا في كل شيء‪ ،‬متوازنين‪ ،‬في كل ما تقومون به من نشاط‪.‬‬
‫ن الوسطّية تعني الّتوفيق بيممن أشممياء كممثيرة‪ ،‬كممالّتوفيق‬
‫ثم بين أ ّ‬
‫بين مطالب الفممرد الواحممد‪ ،‬وبيممن مطممالب الجممموع‪ ،‬والّتوفيممق بيممن‬
‫العمل للعاجلة والجلة‪ ...‬وهكذا)‪.(3‬‬
‫ســعدي‪ ،‬وانظممر ممما قمماله فممي‬
‫‪ -6‬عبد الرحمن بن ناصر ال ّ‬
‫رسالة القواعد الحسان لتفسممير القممرآن‪ ،‬القاعمدة )‪ :(24‬وبالجملمة‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(2/4‬‬

‫مة للسلم ص )‪ ،(127‬والوسطّية في السلم لفريد عبد القادر ص )ج(‪.‬‬


‫‪ - 2‬انظر‪ :‬الخصائص العأ ّ‬
‫‪ - 3‬انظر‪ :‬منهج التربية السلمية )‪.(1/28‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪117‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫سممط فممي كممل شمميء بيممن خلقيممن‬ ‫فإن الله العليم الحكيم أمممر بالتو ّ‬
‫سممطًا(‬ ‫ك جعل ْنمماك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫مم ً‬
‫مأ ّ‬‫ْ‬ ‫ذميميممن‪ ،‬تفريممط وإفممراط‪ ،‬وقممال‪) :‬وَك َمذ َل ِ َ َ َ َ‬
‫)البقرة‪ :‬من الية ‪.(1)(143‬‬
‫‪ -7‬عمر سليمان الشقر‪ ،‬فقممد اعتممبر الوسممطّية هممي المممر‬
‫الوسط بين أمرين متطّرفين‪ ،‬حيث قال‪ :‬مممن المعضمملت الممتي لممم‬
‫ينجح المشّرعون من البشر في حّلها الّتطّرف في الّتشريع‪ ،‬فبعممض‬
‫القوانين تجنح إلمى أقصممى اليسمار‪ ،‬وبعمض آخمر يجنممح إلممى أقصممى‬
‫سط والعتدال‪.‬‬ ‫اليمين‪ ،‬وقّلما يوّفق واضعو القوانين إلى التو ّ‬
‫شريعة السلمية وجدتها‬ ‫وقال في موضع آخر‪ :‬وإذا نظرت إلى ال ّ‬
‫وس ً‬
‫طا في كل أحكامها‪ ،‬فأحكامها بين الغالي والجافي)‪.(2‬‬
‫‪ -8‬عمر بهــاء الــدين الميــري‪ ،‬فقممد تنمماول الوسممطّية مممن‬
‫مممة‬
‫سط بين شيئين‪ ،‬حتى إّنه اعتبر من وسطّية هممذه ال ّ‬
‫منطلق التو ّ‬
‫ممما قممال‪ :‬وقممد كممان مممن‬
‫سط الجغرافي في المكان والمناخ‪ .‬وم ّ‬ ‫التو ّ‬
‫مة أن جعل وسممطّيتها فممي كممل‬ ‫تدبير الله الحكيم العليم في هذه ال ّ‬
‫مجال‪:‬‬
‫فهي موطن الّرسالة الولممى‪ ،‬وفممي سمماحتها الحضممارّية المش مّعة‬
‫المترامية الطراف‪ -‬من بعد‪ -‬في مناخ محتمل‪ ،‬وجوّ مسعف‪ ،‬ل في‬
‫مممدة قطبي ّممة‪،‬‬
‫مناطق بركاني ّممة زلزالي ّممة‪ ،‬ول لظيممة اسممتوائّية‪ ،‬ول متج ّ‬
‫حيث تقعد قساوة الطبيعة بالنسان عن الحركة والّنشاط والعمممار‬
‫الحضاري‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬القواعد الحسان ص )‪.(90‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬خصائص الشريعة السلمية ص )‪ ،(87 ،86‬والوسطّية في السلم لفريد عبد القادر )و(‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪118‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫م‪ ،‬حيممث كممانت مهممابط‬


‫وهي وسط في موقعهمما الجغرافممي المه م ّ‬
‫مة السلمّية الولى‪.‬‬ ‫الوحي‪ ،‬أرض السلم‪ ،‬ومهد ال ّ‬
‫فهي الوسمط بيمن ال ّ‬
‫شممال والجنموب‪ ،‬والشمرق والغمرب‪ ،‬وهمي‬
‫مركز الوصل بين إفريقيا وآسمميا‪ ،‬وطممرف ممتمد ّ مممن أوروبمما‪ ،‬وهممي‬
‫الّرباط البريّ بين ال ّ‬
‫طرق المائّية )‪.(1‬‬
‫ما الوسطّية فممي السمملم فهممي‬ ‫‪ -9‬يوسف كمال‪ ،‬حيث قال‪ :‬أ ّ‬
‫حممدود لمنهممج الحركممة فممي طريممق مسممتقيم إلممى هممدف‪ ،‬بعيممد عممن‬
‫ضلل‪.‬‬
‫دي لل ّ‬
‫انحرافات في سبل شّتى تؤ ّ‬
‫سممط‬
‫قال عنه فريد عبد القادر‪ :‬إل أّنه قد لزم عرضه فكممرة الّتو ّ‬
‫بين أمرين )‪.(2‬‬
‫ومن خلل ما سبق يّتضح لنا أن صممفة البيني ّممة أمممر أساسممي فممي‬
‫ن هؤلء العلماء والك ُّتاب اعتبروا هذا المر قضّية‬ ‫تحديد الوسطّية‪ ،‬وأ ّ‬
‫مسّلمة في تحديدهم‪ ،‬وتعريفهم للوسطّية‪.‬‬
‫وقد ذكرت الدّلة من القرآن والسّنة على أ ّ‬
‫ن البينّية صفة لزمممة‬
‫للوسطّية‪ ،‬وذلك في مبحث )تحرير معنى الوسطّية(‪.‬‬
‫دللة‬ ‫وهذه البينّية ليست مجّرد ال ّ‬
‫ظرفّية‪ ،‬وإّنما هي التي تعطي ال ّ‬
‫م الخيري ّممة‪ ،‬فهممذه هممي‬
‫مة والعممدل‪ ،‬ومممن ثم ّ‬
‫علممى الت ّمموازن والسممتقا ّ‬
‫الوسطّية الحّقة‪ .‬وبهذا يّتضح لنا الخطأ الذي وقع فيه السممتاذ فريممد‬
‫م‬
‫ن الوسطّية ل تستلزم البينّية‪ ،‬ومن ث م ّ‬
‫عبد القادر عندما ذهب إلى أ ّ‬
‫قام بتخطئة من ذهب إلممى ذلممك كشمميخ السمملم ابممن تيميممة وغيممره‬
‫من ذكرت سابًقا‪ ،‬حيث قال‪:‬‬
‫م ّ‬
‫مته في ضوء الفقه الحضاري ص )‪ ،(58‬والوسطّية في السلم ص )و( لفريد عبد القادر‪.‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬وسطية السلم وأ ّ‬
‫‪ - 2‬انظر‪ :‬مستقبل الحضارة ليوسف كمال ص )‪ ،(127‬والوسطّية في السلم ص )ز(‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪119‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫سمابقة حمول موضموع الوسمطّية علمى‬


‫دراسمات ال ّ‬ ‫لقمد ر ّ‬
‫كمزت ال ّ‬
‫سط بين أمرين‪) .‬ثم قال(‪:‬‬
‫مفهوم الّتو ّ‬
‫سممط بيممن أمريممن مسمميطرة علممى الذهممان‬
‫فكممانت فكممرة الّتو ّ‬
‫والعقول أثناء البحث لظهار وسطّية السلم‪ ،‬مع الّتعممبير عممن هممذه‬
‫دراسممات‬
‫الوسطّية بالخيرّية‪)،‬ثم حكم عليهمما قممائل(‪ :‬فكممانت هممذه ال ّ‬
‫تخلط أثناء البحث بين ملبسات صحيحة‪ ،‬ونتائج غير صحيحة‪.‬‬
‫ثم ذكر أمثلة تد ّ‬
‫ل على عدم فهمه لممما ذهممب إليممه أولئك العلم‪،‬‬
‫م قام بالحكم الجائر إّياه )‪.(1‬‬
‫ومن ث ّ‬

‫‪ - 1‬انظر رسالته‪ :‬وسطّية السلم ص )ب(‪ ،‬ومن هنا فإني أنصح طلب العلم بعدم التعجل بتخطئة العلماء والمفكرين‪ ،‬وهذا ل يعني عصمتهم‪ ،‬ولكن كما قال الشاعر‪ :‬وكم‬

‫حا وآفته من الفهم السقيم‪.‬‬


‫من عاتب قول صحي ً‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪120‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫العدل والحكمة‬
‫سممر‬
‫حيث ف ّ‬ ‫أّما العدل فقد صّح فيه الحديث عن رسول الله‪ ،‬‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪ (143‬بقمموله‪ :‬عممدول‪:‬‬ ‫ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫قوله‪ -‬تعالى‪) :-‬أ ّ‬
‫وذلك في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬حيمث‬
‫والوسط والعدل ‪.(1) ‬‬ ‫قال‪  ،‬‬
‫مة وس ً‬
‫طا ‪ ‬عدول )‪.(2‬‬ ‫وفي رواية الطبري‪ :‬قال‪  :‬أ ّ‬
‫م ل بد من العدل في اختيممار‬ ‫ن الوسطّية بينّية‪ ،‬ومن ث ّ‬
‫وقد بّينت أ ّ‬
‫دة أمور‪.‬‬
‫هذا المر الذي بين أمرين أو ع ّ‬
‫ن أحمد الشممياء‬
‫قال القرطبي‪ :‬والوسط‪ :‬العدل‪ ،‬وأصل هذا أ ّ‬
‫أوسطها‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬قال علماؤنا‪ :‬أنبأنا ربنمما‪ -‬تبممارك وتعممالى‪ -‬فممي كتممابه بممما‬
‫أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة‪ ،‬وتولية خطير الشهادة على‬
‫جميع خلقه‪ ،‬فجعلنا أول مكاًنا‪ ،‬وإن كّنا آخًرا زمان ًمما‪ ،‬كممما قممال‪ ،‬عليممه‬
‫السلم‪  :‬نحن الخرون الولون ‪ .(3) ‬وهذا دليل على أن ّممه ل يشممهد‬
‫إل العدول‪ ،‬ول ينفذ قول الغير على الغير إل أن يكون عدل )‪.(4‬‬
‫ما‬
‫ن العدل من ملمح الوسطّية قول الطبري‪ :‬وأ ّ‬ ‫ل على أ ّ‬‫ما يد ّ‬‫وم ّ‬
‫ن الخيممار‬
‫ن الوسط العدل‪ ،‬وذلك معنى الخيار‪ ،‬ل ّ‬
‫الّتأويل فإّنه جاء بأ ّ‬
‫من الّناس عدولهم )‪.(5‬‬
‫ثم ساق الدّلة من السّنة وأقوال ال ّ‬
‫سلف في ذلك‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪ .(2/7‬والحديث أخرجه الترمذي )‪ (5/190‬رقم )‪ (2961‬وأحمد )‪ (3/9‬وعندهما "عدل" بدل "عدول"‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(2/6‬‬

‫‪ - 3‬أخرجه البخاري )‪ .(1/211‬ومسلم )‪ (2/585‬رقم )‪.(855‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(2/155‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(2/7‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪121‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن في لفممظ الوسممط إشممعاًرا‬‫وقال رشيد رضا‪ :‬قال الستاذ‪ :‬إ ّ‬


‫ن المسمملمين خيممار وعممدول‬
‫بالسببّية‪ ،‬فكأّنه دليل على نفسه‪ ،‬أي‪ :‬أ ّ‬
‫لّنهم وسط )‪.(1‬‬
‫وإذا كان الوسط شيء بين شيئين‪ ،‬فإّنه يلممزم لن يكممون وس م ً‬
‫طا‬
‫شرعًيا أن يكون عدل‪ ،‬لّنه إذا لم يكن كذلك مال وانحرف إلى أحممد‬
‫ممما إلممى الّتفريممط‪ ،‬وهممذا خممروج عممن‬
‫ما إلى الفممراط‪ ،‬وإ ّ‬ ‫ال ّ‬
‫طرفين‪ ،‬إ ّ‬
‫م خممروج عممن الوسممط‪ ،‬ولممذلك جمماءت صممفة‬‫حقيقة العدل‪ ،‬ومممن ثم ّ‬
‫سمط همو‬
‫ن التو ّ‬
‫حا ممن ملممح الوسمطّية‪ ،‬وبيمان همذا‪ :‬أ ّ‬ ‫الحكمة ملم ً‬
‫سط يكون بمراعاة جميع الطممراف‪،‬‬
‫سط معنوي‪ ،‬وتحديد هذا التو ّ‬
‫تو ّ‬
‫تحقيًقمما للمصممالح‪ ،‬ودرًءا للمفاسممد‪ ،‬وهممذه هممي الحكمممة ال ّ‬
‫شممرعّية‪.‬‬
‫ن الوسطّية أمممر نسممبي‪ ،‬يخضممع تحديممده لعوامممل‬
‫وبعبارة أخرى‪ :‬فإ ّ‬
‫دة لبد ّ من مراعاتها‪ ،‬ول يتحّقق ذلك إل بإتقان الحكمة‪.‬‬
‫ع ّ‬
‫ضوء على هذه الحقيقة أذكر بعض ما‬
‫ومن أجل إلقاء مزيد من ال ّ‬
‫سرين‪ ،‬وتعريفات العلماء)‪.(2‬‬
‫ورد في الحكمة من أقوال المف ّ‬
‫قال عبد الرحمن بن سعدي‪:‬‬
‫صممائبة‪ ،‬والعقممول‬
‫الحكمممة‪ :‬هممي العلمموم الّنافعممة‪ ،‬والمعممارف ال ّ‬
‫صواب في القمموال والفعممال‪،‬‬ ‫ددة‪ ،‬واللباب الرزينة‪ ،‬وإصابة ال ّ‬ ‫المس ّ‬
‫ثم قال‪ :‬وجميع المور ل تصلح إل بالحكمة التي هممي وضممع الشممياء‬
‫مواضممعها‪ ،‬وتنمممزيل المممور منازلهمما‪ ،‬والقممدام فممي مح م ّ‬
‫ل القممدام‪،‬‬
‫والحجام في موضع الحجام‪..(3) .‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(2/4‬‬

‫‪ - 2‬انظر المزيد من التفصيل لتعريف الحكمة‪ :‬رسالة المؤلف )الحكمة(‪.‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن سعدي )‪.(1/332‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪122‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقال سيد قطب‪ :‬الحكمة‪ :‬القصممد والعتممدال‪ ،‬وإدراك العلممل‬


‫صممائب مممن‬
‫صممالح ال ّ‬
‫والغايات‪ ،‬والبصمميرة المسممتنيرة الممتي تهممديه لل ّ‬
‫الحركات والعمال )‪. (1‬‬
‫دللمة علممى صملة الحكمممة‬
‫وكلم ابمن سمعدي وسمّيد فمي غايمة ال ّ‬
‫بالوسطّية‪.‬‬
‫قال ابن القّيم‪ :‬وأحسممن ممما قيممل فممي الحكمممة قممول مجاهممد‬
‫ومالك‪ :‬إّنها معرفة الحقّ والعمل به‪ ،‬والصابة في القول والعمل‪.‬‬
‫وهممذا ل يكممون إل بفهممم القممرآن‪ ،‬والفقممه فممي شممرائع السمملم‪،‬‬
‫وحقائق اليمان )‪.(2‬‬
‫وقال في موضع آخر‪ :‬هي‪ :‬فعل ما ينبغي‪ ،‬على الوجه الممذي‬
‫ينبغي‪ ،‬في الوقت الذي ينبغي )‪.(3‬‬
‫وقوله‪) :‬على الوجه الذي ينبغي( من أقوى دللت الوسطّية‪.‬‬
‫وقال في موضع آخر‪ :‬الحكمة‪ :‬أن تعطي كل شيء حّقه‪ ،‬ول‬
‫خره عنه )‪.(4‬‬
‫ده‪ ،‬ول تعجله عن وقته‪ ،‬ول تؤ ّ‬
‫ديه ح ّ‬
‫تع ّ‬
‫ما سبق‪ :‬أن الحكمة لبمد ّ مممن اعتبارهمما عنممد تحديممد‬ ‫ونخلص م ّ‬
‫معنممى الوسممطّية‪ ،‬بممل إن اللممتزام بالوسممطّية وعممدم الجنمموح إلممى‬
‫الفراط أو الّتفريط هو عين الحكمة وجوهرها‪.‬‬
‫ممما عمماجل أو‬
‫ن الخروج عن الوسطّية لممه آثمماره السمملبّية‪ ،‬إ ّ‬ ‫وذلك أ ّ‬
‫آجل‪ ،‬وهذا ُيخالف الحكمة وُينافيها‪.‬‬
‫ضح ذلك‪:‬‬
‫ومن المثلة التي تو ّ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(1/312‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬التفسير القيم ص )‪.(226‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬مدارج السالكين )‪.(2/479‬‬

‫‪ - 4‬انظر مدارج السالكين )‪.(2/478‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪123‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫صلة لسبع سنين‪ ،‬وضربه عليها ضرًبا غير مبّرح بعممد‬ ‫أمر البن بال ّ‬
‫سممط فممي هممذه القضممية ظمماهًرا بيممن‬
‫بلوغ العاشممرة‪ ،‬فإّننمما نجممد التو ّ‬
‫الفراط وبين الّتفريط‪ ،‬وهذه هي الحكمة‪ ،‬حيث فمّرق بيممن مممن لممم‬
‫سابعة‪ ،‬وبين من بلغها‪ ،‬وكذلك من بلغ العاشرة يختلف أمره‪،‬‬ ‫يبلغ ال ّ‬
‫ما سبق‪ ....‬وهكممذا‪ ،‬فقممد نم مّزل المممور‬ ‫ثم من أدرك الحلم يختلف ع ّ‬
‫منازلها‪ ،‬ووضع الشياء مواضعها‪.‬‬
‫خي ْممرا ً ك َِثيممرًا(‬ ‫ُ‬ ‫ت ال ْ ِ‬
‫ة فََقمد ْ أوت ِم َ‬
‫ي َ‬ ‫حك ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ن ي ُؤْ َ‬‫م ْ‬
‫وصدق الله العظيم‪) :‬وَ َ‬
‫)البقرة‪ :‬من الية ‪.(269‬‬
‫دليل تطبيقي لهذه الملمح‬
‫بعد أن بّينت ملمح الوسطّية سأذكر دليل عملّيا تممبرز فيممه جميممع‬
‫هذه الملمح‪ ،‬حيث يمث ّممل أعلممى درجممات الوسممطّية‪ :‬عممن أنممس بممن‬
‫مالممك ‪ ‬قممال‪  :‬جمماء ثلثممة رهممط إلممى بيمموت أزواج النممبي‪ ،‬‬
‫يسألونه عن عبادته‪ ،‬فلما أخبروا كمأّنهم تقاّلوهما‪ ،‬فقمالوا‪ :‬أيمن نحمن‬
‫دم مممن‬
‫من النبي‪ ،‬صلى الله عليه وسلم؟ فقد غفمر اللمه لمه مما تقم ّ‬
‫خر‪.‬‬
‫ذنبه وما تأ ّ‬
‫ما أنا فأصمّلي الليممل أبم ً‬
‫دا‪ ،‬وقممال آخممر‪ :‬أنمما أصمموم‬ ‫فقال أحدهم‪ :‬أ ّ‬
‫دا‪.‬‬
‫دهر ول أفطر‪ ،‬وقال آخر‪ :‬أنا أعتزل الّنساء فل أتزّوج أب ً‬ ‫ال ّ‬
‫فجمماء رسممول اللممه‪ ،‬صمملى اللممه ‪ ‬فقممال‪ :‬إن ّممي لخشمماكم للممه‪،‬‬
‫وأتقاكم له‪ ،‬لكّني أصمموم وأفطممر‪ ،‬وأصمّلي وأرقممد‪ ،‬وأتممزّوج النسمماء‪،‬‬
‫سّنتي فليس مّني ‪.(1) ‬‬
‫فمن رغي عن ُ‬

‫‪ - 1‬أخرجه البخاري )‪ .(6/116‬ومسلم بمعناه )‪ (2/1020‬رقم )‪.(1401‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪124‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وسأذكر ملمح الوسطّية واحممدة واحممدة‪ ،‬ممع بيمان موضممعها ممن‬


‫الحديث‪:‬‬
‫أول‪ :‬الخيرّية‪:‬‬
‫وهذا يّتضح من قوله‪   ،‬إن ّممي لخشمماكم للممه‪ ،‬وأتقمماكم لممه ‪ ‬ث م ّ‬
‫م‬
‫ن أّنه يأخذ بالوسممطّية‪ :‬فيصمموم ويفطممر‪ ،‬ويصمّلي وينممام‪ ،‬ويممتزّوج‬ ‫يبي ّ‬
‫الّنساء‪ ،‬فلول أن هذا العمل ل يعارض الخشية والّتقمموى‪ ،‬بممل يط ّممرد‬
‫معهما لم يذكرها في هممذا المقممام‪ ،‬واسممتخدم هممذا أفعممل التفضمميل‬
‫"أخشاكم ‪ -‬أتقاكم" وهي أعلى درجات الخيرّية‪.‬‬
‫فاّتضح أن هذه الوسطّية التي يرشممدنا إليهمما رسممول اللممه‪ ،‬صمملى‬
‫الله عليه وسلم‪ ،‬تمّثل الخشممية والّتقمموى‪ ،‬وهممذه هممي الخيري ّممة فممي‬
‫أفضل صورها‪.‬‬
‫فمممن‬ ‫ثانًيا‪ :‬الستقامة‪ :‬وتممبرز هممذه الحقيقممة فممي قمموله‪  ،‬‬
‫‪‬‬ ‫رغب عن سّنتي فليس مّني‬
‫إذن فالستقامة هي بممأن يصمموم ويفطممر‪ ،‬وينممام ويرقممد‪ ،‬ويممتزّوج‬
‫الّنساء‪ ،‬والخروج عنها انحراف عممن السممتقامة‪ ،‬فهممذا العمممل الممذي‬
‫يمّثل الوسطّية‪ ،‬ل نقول إّنه ل ُيعارض الستقامة؛ بل هممو السممتقامة‬
‫مممن س مّنته‪ ،‬وهممل السممتقامة إل‬ ‫بعينهمما‪ ،‬حيممث جعلممه الرسممول‪ ،‬‬
‫اللتزام بسّنته والخذ بها‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬اليسر ورفع الحرج‪ :‬وهذا أمر جل ّممي وبي ّممن‪ ،‬فنحممن بيممن‬
‫عملين وردا في هذا الحديث‪:‬‬
‫تبّتل وامتناع عن الّنسمماء والمّزواج مممع ممما فممي ذلممك مممن مشمّقة‬
‫وحرج‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪125‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫دة‬
‫ويقابله تزّوج الّنساء مع ما في ذلك من قضمماء المموطر‪ ،‬والمممو ّ‬
‫والّرحمة‪ ،‬وإنجاب الولد‪.‬‬
‫مع ما فيه مممن مشممّقة‬ ‫الول يمثل النحراف عن سنة النبي‪ ،‬‬
‫وعسر‪ ،‬والثماني يمّثمل الوسمطّية ممع مما فيمه ممن تخفيمف وتيسمير‬
‫ورحمة‪ ،‬ودفع للحرج‪.‬‬
‫صيام‪ ،‬والقيام‪.‬‬
‫وقل مثل ذلك في ال ّ‬
‫إذن فالوسممطّية فممي اليسممر ورفممع الحممرج‪ ،‬وليممس فممي الّتكل ّممف‬
‫والمشّقة والعََنت‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪126‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫عا‪ :‬البينّية‪:‬‬
‫راب ً‬
‫والمثلة تبرهن على ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬امتناع عن الّزواج مطل ً‬
‫قا ‪ -‬إفراط‪.‬‬
‫ويقابله الّتفريط وهو اّتباع ال ّ‬
‫شهوات دون وازع أو قيد‪.‬‬
‫ضوابط ال ّ‬
‫شممرعّية‪،‬‬ ‫وبينهما‪ :‬قضاء ال ّ‬
‫شهوة والوطر‪ ،‬ولكن ضمن ال ّ‬
‫ويتمّثل في الّزواج وهذا هو الوسط‪ ،‬وهو المشروع‪.‬‬
‫‪ -2‬صيام دائم ‪ -‬إفراط‪.‬‬
‫ما ‪ -‬تفريط‪.‬‬ ‫الفطار دائ ً‬
‫الصمميام أحياًنمما ‪ -‬والفطممر أحياًنمما ‪ -‬وسممط بيممن المريممن ‪ -‬وهممو‬
‫المشروع في ضوابطه الشرعّية‪.‬‬
‫قا ‪ -‬إفراط‪.‬‬ ‫‪ -3‬القيام مطل ً‬
‫النوم مطل ً‬
‫قا ‪ -‬تفريط‪.‬‬
‫طاقممة ودون تكل ّممف ‪ -‬وسممط‪ ،‬وهممذا هممو‬
‫القيممام والنمموم حسممب ال ّ‬
‫المشروع‪.‬‬
‫سا‪ :‬العــدل والحكمــة‪ :‬وتممبرز صممفة العممدل بممالّنظر إلممى‬
‫خام ً‬
‫ل منها نصمميًبا‪ ،‬فعممدل‬‫مطالب الّنفس وواجبات العبادة‪ ،‬فقد جعل لك ّ‬
‫ب وحقّ الّنفس‪ ،‬ولممم يكممن فممي ذلممك حيممف أو شممطط‪،‬‬
‫بين حقّ الّر ّ‬
‫وحاشاه من ذلك‪.‬‬
‫ملهمما‪،‬‬
‫ما الحكمة‪ :‬فممإّنه بممالّنظر إلممى قممدرة الّنفممس ومممدى تح ّ‬
‫أ ّ‬
‫وغفلة هؤلء القوم عن قدرتهم في فورة الحماس والنمدفاع‪ ،‬فجماء‬
‫طممبيعي‪،‬‬ ‫الرسول‪  ،‬يضع المور مواضعها‪ ،‬ويجعلها في مسارها ال ّ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪127‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ولممو الممتزم هممؤلء‬ ‫)‪(1‬‬


‫ب العمل إلى الله ما داوم عليه صمماحبه‬
‫ن أح ّ‬
‫فإ ّ‬
‫ن هممذا الفعممل نفسممه‬
‫مإ ّ‬
‫الّرجممال بممما قممالوا لتعبمموا عمماجل أو آجل‪ .‬ثم ّ‬
‫مخالفممة لصممريح الحكمممة وحقيقتهمما‪ ،‬وذلممك أن الحكمممة هممي وضممع‬
‫الشيء في موضعه‪ ،‬والصابة في القول والعمل‪ ،‬وهذا هو عيممن ممما‬
‫جه إليه‪. ،‬‬
‫و ّ‬
‫ي لملمــح الوســطّية فممي‬ ‫ومن خلل هذا الّتطبيق العمل ّ‬
‫ما يسمماعد علممى فهممم الوسممطّية‪،‬‬
‫ضوء هذا الحديث‪ ،‬يّتضح المراد‪ ،‬م ّ‬
‫واستنباطها في المباحث التالية إن شاء الله‪.‬‬

‫‪ - 1‬أخرجه البخاري )‪ .(1/16‬ومسلم )‪ (1/542‬رقم )‪.(785‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪128‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫القرآن يقرر منهج الوسطّية‬


‫ة للّناس ونوًرا‪ُ ،‬يخرج به اللممه مممن شمماء‬
‫نمزل القرآن الكريم هداي ً‬
‫مممن ال ّ‬
‫ظلمممات إلممى النممور‪ ،‬ولممزوم منهممج الوسممطّية عيممن الهدايممة‪،‬‬
‫ة ترسممم منهممج‬
‫وحقيقتهمما‪ ،‬ولممذلك فقممد جمماءت اليممات مستفيضمم ً‬
‫الوسطّية وتد ّ‬
‫ل عليه‪.‬‬
‫والوسطّية ليست محصورةً في جزئية من الجزئيات‪ ،‬بل ول فممي‬
‫ل‪ ،‬ل ينفصممل بعضممه‬‫ل شممام ٌ‬
‫ركن من الركان! وإنما هي منهج متكام ٌ‬
‫مة الوسط‪:‬‬ ‫مة هي أ ّ‬‫ط‪ ،‬ولذلك فهذه ال ّ‬‫عن بعض‪ ،‬فالسلم كّله وس ٌ‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(143‬‬ ‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫مأ ّ‬‫)وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬
‫والذين يغفلممون عممن هممذه الحقيقممة يغفلممون عممن جمموهر القممرآن‬
‫ومقاصده‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق جاء القرآن الكريم مقّرًرا لمنهج الوسطّية في‬
‫أبواب العبادات‪ ،‬والعتقمماد‪ ،‬والحكممم والتحمماكم‪ ،‬وفممي بمماب الجهمماد‪،‬‬
‫والمممر بممالمعروف‪ ،‬والنهممي عممن المنكممر‪ ،‬وغيرهمما مممن البممواب‬
‫والمجالت‪.‬‬
‫والنماظر فمي كتماب اللمه ل يتلمو بضمع آيمات إل ويجمد فيهما ذلمك‬
‫صراحة أو إيماًء‪.‬‬
‫ولذلك فإن الذين حصروا الحديث عن الوسطّية في اليات الممتي‬
‫جاء فيها لفظ )الوسط( أو ما اشتق منه‪ ،‬قصروا الكممل علممى بعممض‬
‫أجزائه‪ ،‬وإل فإن بعض اليات التي لم يرد فيها لفظ الوسممط جمماءت‬
‫أقوى دللة على الوسطّية من آيات ورد فيها هذا اللفظ‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪129‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ملين‬‫وبياًنا لهذه الحقيقة وتجلية لها‪ ،‬سنعيش مع كتمماب اللممه متممأ ّ‬


‫بعض ما ورد فيه‪ ،‬تقريًرا لهذا المنهج وتأصيل له‪.‬‬
‫وتسهيل للوصول إلى الهدف‪ ،‬سأذكر كل باب وبعض ما ورد فيممه‬
‫ن الممراد ممن إيرادهما‪،‬‬ ‫من آيات‪ ،‬معل ًّقا علمى بعمض اليمات بمما ُيمبي ّ‬
‫ودللتها على المنهج الذي نحن بصدده‪.‬‬
‫متين‪:‬‬
‫وأنبه إلى نقطتين مه ّ‬
‫الولى‪ :‬أن اليات الممتي سممأذكرها ليسممت علممى سممبيل الحصممر‬
‫والستقصاء‪ ،‬وإنما اكتفيت من اليات بما كان أكثر دللة من سممواه‪،‬‬
‫لن المراد‪ ،‬هو بيان تقرير القرآن لمنهج الوسمطّية‪ ،‬ل الحممديث عممن‬
‫كل آية وردت ُتقّرر منهج الوسطّية‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن البواب التي سأذكرها هي أبرز البواب الممتي تصمملح‬
‫منطلًقا للحديث عن هذا المنهج‪ ،‬وبخاصممة أن انحممراف النمماس فيهمما‬
‫عن منهج الوسطّية أكثر من غيرها‪ ،‬ول يعني ذلك أن ماعداها ليممس‬
‫ما‪.‬‬
‫مه ّ‬
‫وهذه البواب هي‪:‬‬
‫‪ -1‬العتقاد‪.‬‬
‫‪ -2‬التشريع والتكليف‪.‬‬
‫‪ -3‬العبادة‪.‬‬
‫‪ -4‬الشهادة والحكم‪.‬‬
‫‪ -5‬المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫‪ -6‬الجهاد في سبيل الله‪.‬‬
‫‪ -7‬المعاملة والخلق‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪130‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫‪ -8‬كسب المال وإنفاقه‪.‬‬


‫‪ -9‬مطالب النفس وشهواتها‪.‬‬
‫وقد أجد آية من اليممات تصمملح دليل فممي أكممثر مممن بمماب‪ ،‬ولكن ّممي‬
‫سألحقها بأقرب هذه البواب إليها‪ ،‬مراعاة للختصار ودفًعا للّتكرار‪.‬‬
‫دا من اليات الدالة على الوسطّية غير داخلممة‬
‫وحيث إن هناك عد ً‬
‫تحت أي باب من هذه البممواب‪ ،‬فسممأجعلها تحممت عنمموان‪) :‬شممواهد‬
‫ملة لها‪.‬‬
‫ما لهذه البواب ومك ّ‬
‫أخرى(‪ ،‬تكون ختا ً‬
‫وسأفتتح الحديث عن تقرير القرآن لمنهممج الوسممطّية بوقفممة مممع‬
‫سورة الفاتحة‪ ،‬في ضوء ما ورد فيها عن هذا المنهج‪.‬‬
‫سداد‪.‬‬
‫ومن الله استمد ّ العون وأسأله الّتوفيق وال ّ‬
‫وقفة مع سورة الفاتحة‬
‫أجد خير بداية لبيان المنهج القرآني في تقرير الوسطّية أن أقف‬
‫م الكتاب‪ ،‬حيث إنها من أولهما إلممى آخرهما تقمّرر هممذه الحقيقمة‬
‫مع أ ّ‬
‫وتؤكدها‪.‬‬
‫ولكن أبممرز آيممة فيهمما ناطقممة بممذلك هممي قمموله ‪ -‬تعممالى – )اهْمدَِنا‬
‫م( )الفاتحة‪ .(6:‬وما بعدها‪.‬‬ ‫ست َِقي َ‬ ‫ط ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫صَرا َ‬
‫ال ّ‬
‫وهذه الية صريحة في تحديد المنهممج الوسممط‪ ،‬ذلممك أن ّممه بي ّممن أن‬
‫هذا الصّراط هو صراط الذين أنعم الله عليهم‪.‬‬
‫ن‬
‫مممة مممن أهممل التأويممل جميعًمما علممى أ ّ‬
‫قال الطممبري‪ :‬أجمعممت ال ّ‬
‫ح الذي ل اعوجاج فيه‪ ،‬وكذلك‬ ‫طريقُ الواض ُ‬ ‫صراط المستقيم هو ال ّ‬‫ال ّ‬
‫ذلك في لغة جميع العرب‪ ،‬فمن ذلك قول جرير الخطفي‪:‬‬
‫إذا اعوج الموارد مستقيم‬ ‫أميـــر المـــؤمنين علـــى‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪131‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ط‬
‫صــــــــــــــــــــــــــرا ٍ‬

‫قال ابن عباس‪:‬‬


‫م( )الفاتحممة‪ (6:‬يقممول‪ :‬ألهمنمما ال ّ‬
‫طريممق‬ ‫س مت َِقي َ‬ ‫ط ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫صَرا َ‬
‫)اهْدَِنا ال ّ‬
‫ج له)‪.(1‬‬
‫الهادي‪ ،‬وهو دين الله الذي ل عَوَ َ‬
‫سبيل وسالك غيممر المنهممج القممويم‬ ‫ثم قال‪ :‬وك ّ‬
‫ل حائد عن قصد ال ّ‬
‫ل عند العرب‪ ،‬لضلله وجه ال ّ‬
‫طريق )‪.(2‬‬ ‫فضا ّ‬
‫صراط المستقيم هو منهممج الوسممط‪ ،‬حيممث‬ ‫وقد بّين الله لنا أن ال ّ‬
‫ن(‬‫ضاّلي َ‬ ‫ب عَل َي ْهِ ْ‬
‫م َول ال ّ‬ ‫ضو ِ‬ ‫قال واصًفا الصراط المستقيم‪) :‬غَي ْرِ ال ْ َ‬
‫مغ ْ ُ‬
‫)الفاتحة‪ :‬من الية ‪ (7‬ومنهج المغضوب عليهم يمثل التفريط‪ ،‬بينممما‬
‫و‬
‫ضممالين الفممراط‪ ،‬فهممما منهجممان دائران بيممن الغلمم ّ‬
‫يمثممل منهممج ال ّ‬
‫والجفاء‪.‬‬
‫قال ابن كثير‪ :‬غير صراط المغضوب عليهم‪ ،‬وهم الممذين فسممدت‬
‫ضالين‪ ،‬وهم الممذين‬
‫إرادتهم‪ ،‬فعلموا الحقّ وعدلوا عنه‪ ،‬ول صراط ال ّ‬
‫ضللة‪ ،‬ل يهتدون إلى الحق )‪.(3‬‬
‫فقدوا العلم‪ ،‬فهم هائمون في ال ّ‬
‫وبهذا يّتضح لنا أن هناك ثلثة سبل‪ :‬سبيل الذين أنعم الله عليهم‪،‬‬
‫وسبيل المغضوب عليهم‪ ،‬وسبيل الضالين‪.‬‬
‫ونحن مأمورون باللتزام بسبيل الذين أنعم الله عليهمم‪ ،‬لّنمه همو‬
‫صراط المستقيم‪ ،‬وهمو المنهمج الوسمط بيمن طريقيمن منحرفيمن‪،‬‬ ‫ال ّ‬
‫وهممما طريقمما اليهممود والنصممارى‪ ،‬وكممل طريممق منحممرف عممن منهممج‬
‫ظ‪ .‬من أحد هذين السبيلين‪.‬‬ ‫صراط المستقيم فله ح ّ‬ ‫ال ّ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(1/73،74‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(1/84‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/29‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪132‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫مة تعني الوسطّية كما توضممحها آيممة الفاتحممة‪ ،‬وكممما‬


‫ولن الستقا َ‬
‫ددة تممدعو إلممى‬
‫حّررت ذلك فممي مبحممث سممابق‪ ،‬جمماءت اليممات متعم ّ‬
‫متقاربة‪ ،‬وهي تممدور بيممن الخممبر‬
‫ددة وألفاظ ُ‬
‫الستقامة بأساليب متع ّ‬
‫والنشاء‪ .‬ومن هذا المنطلق‪ ،‬وبعد أن تقّرر أن طريق الستقامة هو‬
‫مة الوسط‪ ،‬فإن كل آية وردت في الستقامة فهي آية في‬ ‫طريق ال ّ‬
‫دعوة إليها‪.‬‬
‫تحقيق الوسطّية وال ّ‬
‫ضما منهما دللمة علمى‬
‫دا أذكمر بع ً‬
‫واليات في هذا البماب كمثيرة جم ّ‬
‫المراد‪ ،‬وبياًنا لهذا المنهج‪.‬‬
‫قال ‪ -‬سبحانه ‪َ) :-‬فاستقم ك َ ُ‬
‫وا(‬‫ك َول ت َط َْغمم ْ‬ ‫مع َ َ‬
‫ب َ‬
‫ن َتا َ‬
‫م ْ‬
‫ت وَ َ‬
‫مْر َ‬ ‫ما أ ِ‬ ‫ْ َِ ْ َ‬
‫ت َول‬ ‫ك َفادعُ واستقم ك َ ُ‬ ‫)هود‪ :‬من الية ‪ .(1121‬وقال‪) :‬فَل ِذ َل ِ َ‬
‫مممْر َ‬ ‫ما أ ِ‬
‫ْ َ ْ َِ ْ َ‬
‫م( )الشورى‪ :‬من الية ‪.(15‬‬ ‫َ‬
‫واَءهُ ْ‬
‫ت َت ّب ِعْ أهْ َ‬
‫وأجد في همماتين اليممتين ممما يسممتحقّ الّتنممبيه عليممه‪ ،‬ونحممن بصممدد‬
‫وا(‬ ‫الحديث عن الوسطّية‪ ،‬وذلك أّنه قال في الية الولممى‪َ) :‬ول ت َط ْغَم ْ‬
‫مة‪ ،‬والطغيممان هممو‬
‫)هممود‪ :‬مممن اليممة ‪ (1121‬بعممد أن أمممر بالسممتقا ّ‬
‫مجاوزة الحد ّ )‪ .(1‬وهو خروج عن منهج الوسطّية إلى النحراف عن‬
‫السبيل‪.‬‬
‫م( )الشممورى‪ :‬مممن اليممة‬ ‫َ‬
‫واَءهُ ْ‬
‫وفي الية الثانية‪ :‬قال‪َ) :‬ول ت َت ّب ِعْ أهْ م َ‬
‫مة‪ ،‬وانحممراف عممن منهممج‬ ‫‪ (15‬واتبمماع الهمموى خممروج عممن السممتقا َ‬
‫الوسط‪.‬‬
‫ن‬
‫مم ْ‬
‫دي َ‬
‫وتتواصل اليات في هذا الشأن‪ ،‬ففي سورة البقرة‪) :‬ي َهْ م ِ‬
‫م( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(142‬وفممي آل‬
‫س مت َِقي ٍ‬
‫م ْ‬
‫ط ُ‬ ‫شمماُء إ ِل َممى ِ‬
‫ص مَرا ٍ‬ ‫يَ َ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(9/107‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪133‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫م( )آل‬ ‫سمت َِقي ٍ‬


‫م ْ‬‫ط ُ‬‫صمَرا ٍ‬ ‫م ب ِممالل ّهِ فََق مد ْ هُ مدِيَ إ ِل َممى ِ‬
‫ص ْ‬
‫ن ي َعْت َ ِ‬
‫م ْ‬
‫عمران‪) :‬وَ َ‬
‫س مت َِقيما ً‬ ‫ن هَ َ‬ ‫َ‬
‫م ْ‬‫طي ُ‬ ‫ص مَرا ِ‬
‫ذا ِ‬ ‫عمران‪ :‬من الية ‪ .(101‬وفي النعام‪) :‬وَأ ّ‬
‫داِني َرّبي إ َِلممى‬ ‫ل إ ِن ِّني هَ َ‬‫ه( )النعام‪ :‬من الية ‪ .(153‬وفيها‪) :‬قُ ْ‬ ‫َفات ّب ُِعو ُ‬
‫حِنيفمًا( )النعممام‪ :‬مممن اليممة‬ ‫م َ‬ ‫هيم َ‬ ‫ة إ ِب َْرا ِ‬ ‫مل ّم َ‬ ‫ست َِقيم ٍ ِدينا ً قَِيمما ً ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ط ُ‬‫صَرا ٍ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫‪ .(161‬وفي النحل‪) :‬وضرب الل ّه مث َل ً رجل َي َ‬
‫م ل ي َْق مدُِر‬‫ما أب ْك َم ُ‬
‫ح مد ُهُ َ‬‫نأ َ‬ ‫َ ُ ْ ِ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫وي‬ ‫سمت َ ِ‬
‫ل يَ ْ‬‫خي ْرٍ هَ ْ‬
‫ت بِ َ‬ ‫ه ل ي َأ ِ‬ ‫جه ْ ُ‬‫ما ي ُوَ ّ‬ ‫ولهُ أي ْن َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل عََلى َ‬ ‫يٍء وَهُوَ ك َ ّ‬ ‫ش ْ‬‫عََلى َ‬
‫م( )النحل‪ .(76:‬وفممي‬ ‫قي‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ط‬ ‫را‬ ‫ص‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ع‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫هو ومن يأ ْ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ َ َ ْ َ ُ‬
‫ُ‬
‫م(‬
‫سممت َِقي ٍ‬‫م ْ‬ ‫ط ُ‬‫صَرا ٍ‬ ‫ك عََلى ِ‬ ‫ك إ ِن ّ َ‬ ‫ي إ ِل َي ْ َ‬‫ح َ‬ ‫ذي ُأو ِ‬ ‫ك ِبال ّ ِ‬‫س ْ‬
‫م ِ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫الزخرف‪َ) :‬فا ْ‬
‫)الزخرف‪.(43:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫مم ْ‬
‫دى أ ّ‬ ‫مك ِب ّما ً عَل َممى وَ ْ‬
‫جهِ مهِ أهْ م َ‬ ‫شي ُ‬‫م ِ‬
‫ن يَ ْ‬‫م ْ‬‫وفي سورة الملك‪) :‬أفَ َ‬
‫م( )الملك‪.(22:‬‬ ‫ست َِقي ٍ‬
‫م ْ‬‫ط ُ‬ ‫سوِي ّا ً عََلى ِ‬
‫صَرا ٍ‬ ‫شي َ‬
‫م ِ‬
‫يَ ْ‬
‫إلى غير ذلك من اليات‪ ،‬حيث إن كل واحدة منهمما دال ّممة علممى أ ّ‬
‫ن‬
‫صراط المستقيم هو ال ّ‬
‫طريق الذي أمرنا باّتباعه واجتناب ما عداه‪،‬‬ ‫ال ّ‬
‫ضمملل‬
‫لّنه هو طريق الحقّ والعممدل والوسممط‪ ،‬وممما عممداه طريممق ال ّ‬
‫شمميطان ُيعلممن‬ ‫صراط المستقيم‪ ،‬وهاهو ال ّ‬ ‫والغواية والنحراف عن ال ّ‬
‫غموَي ْت َِني‬‫مما أ َ ْ‬‫هذه الحقيقة قائل كما ذكر الله في سورة العراف‪) :‬فَب ِ َ‬
‫م( )العراف‪ :‬مممن اليممة ‪ ،(16‬وصممدق‬ ‫ست َِقي َ‬‫م ْ‬‫ك ال ْ ُ‬
‫صَراط َ َ‬
‫م ِ‬ ‫َل َقْعُد َ ّ‬
‫ن ل َهُ ْ‬
‫ه عَل َممى‬ ‫شأ الل ّه يضلل ْه وم من ي َ ْ‬
‫جعَل ْم ُ‬‫ش مأ ي َ ْ‬ ‫ُ ُ ْ ِ ُ َ َ ْ َ‬ ‫ن يَ َ ِ‬ ‫م ْ‬‫الله العظيم‪ .‬إذ يقول‪َ ) :‬‬
‫م( )النعام‪ :‬من الية ‪.(39‬‬ ‫ست َِقي ٍ‬‫م ْ‬‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫ِ‬
‫وكما بدأنا في آيات الدعوة للستقامة نختم بها‪ ،‬قال ‪ -‬سبحانه ‪:-‬‬
‫م‬
‫هم ْ‬ ‫ف عَل َي ْهِم ْ‬
‫م َول ُ‬ ‫موا َفل َ‬
‫خموْ ٌ‬ ‫سمت ََقا ُ‬
‫ما ْ‬ ‫ن قَمماُلوا َرب َّنما الّلم ُ‬
‫ه ث ُم ّ‬ ‫ن اّلم ِ‬
‫ذي َ‬ ‫)إ ِ ّ‬
‫ن( )الحقاف‪.(13:‬‬ ‫حَزُنو َ‬‫يَ ْ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪134‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫ممماءً‬
‫م َ‬‫س مَقي َْناهُ ْ‬‫ريَقةِ َل ْ‬ ‫موا عََلى الط ّ ِ‬ ‫وفي سورة الجن‪) :‬وَأل ّوِ ا ْ‬
‫ست ََقا ُ‬
‫ن َ‬
‫شاَء‬ ‫م ْ‬ ‫ن لِ َ‬ ‫مي َ‬‫ن هُوَ إ ِّل ذِك ٌْر ل ِل َْعال َ ِ‬
‫دقًا( )الجمن‪ .(16:‬وفي الّتكوير‪) :‬إ ِ ْ‬ ‫غَ َ‬
‫م( )التكوير‪.(28 ،27:‬‬ ‫منك ُ َ‬
‫ست َِقي َ‬
‫ن يَ ْ‬
‫مأ ْ‬‫ِ ْ ْ‬
‫ن القرآن كله دعوة للستقامة والسير علممى‬ ‫ص في أ ّ‬ ‫وهذه الية ن ّ‬
‫و( )التكوير‪ :‬من الية ‪ (27‬يعني‬ ‫ن هُ َ‬ ‫ي‪) :‬إ ِ ْ‬‫ق‪ ،‬قال القرطب ّ‬ ‫المنهج الح ّ‬
‫ي‪ :‬موعظممة‬ ‫ن( )التكمموير‪ :‬مممن اليممة ‪ (27‬أ ْ‬ ‫مي َ‬‫القممرآن )إ ِّل ذِك ْمٌر ل ِل ْعَممال َ ِ‬
‫م( )التكمموير‪ (28:‬أي يتبممع الحممق‬ ‫شاَء منك ُم َ‬ ‫ن َ‬
‫س مت َِقي َ‬
‫ن يَ ْ‬
‫مأ ْ‬ ‫ِ ْ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫وزجر‪) .‬ل ِ َ‬
‫وُيقيم عليه )‪.(1‬‬
‫ومممما سممبق يّتضممح لنمما أن سممورة الفاتحممة وضممَعت القاعممدة‬
‫مت المنهج وحددت معالمه‪ ،‬ثم جمماءت اليممات بعممد‬ ‫والمنطلق‪ ،‬ورس َ‬
‫ذلك مقّررة لذلك‪ ،‬وداعية إليه‪.‬‬
‫أول‪ :‬العتقاد‬
‫لقممد جمماء تقريممر القممرآن لمنهممج الوسممطّية فممي العقيممدة شممامل‬
‫ي‬
‫ن العقيممدة هممي السمماس‪ ،‬وعليهمما البنمماء‪ ،‬فممأ ّ‬
‫ومتكممامل‪ ،‬وذلممك أ ّ‬
‫انحراف فيها يسري على ما سواها ويؤثر فيه‪.‬‬
‫والعقيدة من أوسع البواب وأكملها‪ ،‬حيث تشممتمل علممى اليمممان‬
‫بالله وملئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم الخر‪ ،‬وبالقدر خيره‪ ،‬وشّره‪.‬‬
‫دة موضمموعات‬‫وكممل قسممم مممن هممذه القسممام يشممتمل علممى عم ّ‬
‫وأجزاء‪.‬‬
‫وسأسلك في بيان تقريممر القممرآن للوسممطّية ‪ -‬فممي بعممض أبممواب‬
‫اليممممان ‪ -‬المنهمممج الجممممالي )‪ .(2‬دون المممدخول فمممي التفاصممميل‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(19/343‬‬

‫‪ - 2‬سأقتصر على ركني اليمان بالله ورسله‪ ،‬لنهما إذا تحققا على الوجه الصحيح‪ ،‬فتحقق غيرهما من لوازم ذلك‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪135‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫والجزئيات‪ ،‬لن ذلك ُيؤدي بنا إلى الّتفريع والدخول فممي الجزئيممات‪،‬‬
‫مما ل يستلزمه مثل هذا البحث‪ ،‬ول تدعو الحاجة إليه هنا‪.‬‬
‫مختممارة‬
‫وما سيرد في ثنايا ذلك مممن جزئيممات فليسممت إل أمثلممة ُ‬
‫للوصول إلى تحقيق المعنى المراد وتقريره‪.‬‬
‫إن أعظممم أصممول اليمممان وأعلهمما مرتبممة هممو اليمممان بممالله‪،‬‬
‫وتوحيده‪ ،‬توحيده في ربوبيته‪ ،‬وألوهيته‪ ،‬وأسمائه‪ ،‬وصفاته‪.‬‬
‫ولقممد ضمّلت طمموائف كممثيرة فممي هممذا البمماب‪ ،‬فهممم بيممن إفممراط‬
‫وتفريط‪ ،‬وغلو وجفاء‪.‬‬
‫فنجد من الناس ‪ -‬كاليهود ‪ -‬من وصف الله ‪ -‬جل وعل ‪ -‬بصممفات‬
‫ص بها بعض المخلوقين‪ ،‬وشبهوا الخالق بالمخلوق‪،‬‬‫الّنقص التي يخت ّ‬
‫فقالوا‪ :‬إّنه بخيل! وإّنه فقير! وإّنه لما خلق السماوات والرض تعب‬
‫فاستراح يوم السبت! إلى غير ذلك من صفات النقص التي ل تليممق‬
‫به ‪ -‬سبحانه ‪.!‍! -‬‬
‫وجاء آخممرون ‪ -‬كالنصممارى ‪ -‬فوصممفوا المخلمموق بصممفات الخممالق‬
‫خّتص بها‪ ،‬فشّبهوا المخلوق بالخالق‪ ،‬حيث قالوا‪ :‬إن اللممه هممو‬
‫التي ي ْ‬
‫المسيح ابن مريم‪ .‬وقالوا‪ :‬المسمميح ابممن اللممه‪ .‬وقممالوا‪ :‬إن المسمميح‬
‫يخلق‪ ،‬ويرزق‪ ،‬ويغفر‪ ،‬ويرحم‪ ،‬ونحو ذلك )‪.(1‬‬
‫ل وعل ‪ ،-‬وآخممرون ادعمموا‬‫بممل هنمماك مممن أنكممر وجممود اللممه ‪ -‬ج م ّ‬
‫م اْل َعْل َممى( )النازعمممات‪ :‬مممن اليممة ‪.(24‬‬ ‫َ‬
‫اللوهية كفرعون‪) .‬أن َمما َرب ّك ُم ُ‬
‫ن إ ِل َهٍ غَي ْ ِ‬
‫ري( )القصص‪ :‬من الية ‪.(38‬‬ ‫م ْ‬ ‫ت ل َك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫م ُ‬
‫ما عَل ِ ْ‬
‫وقال‪َ ) :‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬وسطّية أهل السنة ص )‪.(257‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪136‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وجاء القرآن بالمنهج الوسط‪ ،‬وأنكر علممى كممل فريممق مممن هممؤلء‬
‫وغيرهم ما ارتكبوه في جنب الله ‪ -‬تعالى الله عما يقول الظممالمون‬
‫وا كبيًرا ‪.-‬‬
‫عل ّ‬
‫حا‪ ،‬فأقول‪:‬‬
‫وأزيد المور وضو ً‬
‫ر! وهممذه‬
‫جمماء اليهممود فوصممفوا اللممه ‪ -‬جممل وعل ‪ -‬بالبخممل والفق م ‍‬
‫؟! وهممذا القممول‬
‫الصفات ل تليممق بالبشممر‪ ،‬فكيممف بحممق اللممه تعممالى ‍‬
‫والعتقاد انحراف في العقيدة وضلل مبين‪.‬‬
‫ن الل ّم َ‬
‫ه‬ ‫ن قَمماُلوا إ ِ ّ‬
‫ذي َ‬ ‫ل ال ّم ِ‬ ‫ه قَوْ َ‬‫معَ الل ّ ُ‬ ‫فرد ّ الله عليهم بقوله‪) :‬ل ََقد ْ َ‬
‫س ِ‬
‫فَقير ونح َ‬
‫ل‬‫حمقّ وَن َُقممو ُ‬ ‫م اْل َن ْب َِياَء ب ِغَي ْمرِ َ‬
‫ما َقاُلوا وَقَت ْل َهُ ُ‬
‫ب َ‬ ‫سن َك ْت ُ ُ‬‫ن أغْن َِياُء َ‬‫ِ ٌ ََ ْ ُ‬
‫ق( )آل عمران‪.(181:‬‬ ‫ري ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬
‫ح ِ‬ ‫ذا َ‬‫ذوُقوا عَ َ‬
‫ُ‬
‫صممديق‬ ‫طبريّ بسنده عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬دخل أبو بكر ال ّ‬ ‫روى ال ّ‬
‫‪ ‬بيت المدارس‪ ،‬فوجد مممن يهممود نا ً‬
‫سمما كممثيًرا‪ ،‬قممد اجتمعمموا إلممى‬
‫حب ْممر‬
‫رجل منهم يقال له فنحاص‪ ،‬كان من علمائهم وأحبارهم‪ ،‬ومعه َ‬
‫لفنحاص‪ :‬ويحممك يمما فنحمماص‪ ،‬اتممق‬ ‫ُيقال له أشيع‪ ،‬فقال أبو بكر ‪‬‬
‫دا رسممول اللممه‪ ،‬قممد جمماءكم‬
‫الله وأسلم‪ ،‬فوالله إنك لتعلممم إن محمم ً‬
‫بالحق من عند الله‪ ،‬تجدونه مكتوب ًمما عنممدكم فممي التمموراة والنجيممل‪،‬‬
‫قال فنحاص‪ :‬والله يا أبا بكر ما بنمما إلممى اللممه مممن فقممر‪ ،‬وإنممه إلينمما‬
‫لفقير‪ ،‬وما نتضّرع إليه كما تضّرع إلينا‪ ،‬وإّنا عنه لغنياء‪ ،‬ولو كان عّنا‬
‫غنًيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم‪ ،‬ينهاكم عن الّربا ويعطيناه‪،‬‬
‫ولو كان غنّيا عّنا ما أعطانمما الّربمما‪ ،‬فغضممب أبممو بكممر‪ ،‬فضممرب وجممه‬
‫فنحاص ضربة شديدة‪ ،‬وقال‪ :‬والذي نفسي بيممده‪ ،‬لممول العهممد الممذي‬
‫بيننا وبينك لضربت عنقك يمما عممدو اللممه‪ ،‬فاكممذبونا ممما اسممتطعتم إن‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪137‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫كنتم صادقين‪ ،‬فذهب فنحاص إلى رسول اللممه ‪‬‬


‫فقممال يمما محمممد‬
‫انظر ما صنع بي صاحبك‪ ،‬فقال رسول الله ‪ ‬لبي بكر‪ :‬ما حملك‬
‫ن عممدوّ اللممه قممال قممول‬
‫على ممما صممنعت؟ فقممال‪ :‬يمما رسممول اللممه‪ ،‬إ ّ‬
‫ما‪ ،‬زعم أن الله فقير‪ ،‬وأنهم عنه أغنياء‪ ،‬فلما قال ذلك غضممبت‬ ‫عظي ً‬
‫لله مما قال‪ ،‬فضربت وجهه‪ ،‬فجحد ذلمك فنحماص‪ ،‬وقمال‪ :‬مما قلمت‬
‫دا عليممه‬ ‫ذلك‪ ،‬فأنمممزل اللممه ‪ -‬تبممارك وتعممالى ‪ -‬فيممما قممال فنحمماص ر ّ‬
‫ه فَِقي مٌر‬ ‫ن الل ّم َ‬
‫ن قَمماُلوا إ ِ ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّم ِ‬‫ه قَوْ َ‬‫معَ الل ّ ُ‬
‫س ِ‬ ‫وتصديًقا لبي بكر‪) :‬ل ََقد ْ َ‬
‫ن أ َغْن َِياُء( )آل عمران‪ :‬من الية ‪ (181‬الية‪.‬‬ ‫ح ُ‬‫وَن َ ْ‬
‫دا من الروايممات ُتؤك ّممد سممبب هممذا الن ّممزول )‪.(1‬‬ ‫طبريّ عد ً‬ ‫وأورد ال ّ‬
‫ت‬‫وكذلك لما قال اليهود يد الله مغلولة‪ ،‬نمزل قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وََقال َ ِ‬
‫ممما قَمماُلوا ب َم ْ‬ ‫َ‬
‫داهُ‬
‫ل ي َم َ‬ ‫م وَل ُعِن ُمموا ب ِ َ‬‫ديهِ ْ‬
‫ت أي ْم ِ‬‫ة غُل ّم ْ‬‫مغُْلول َم ٌ‬ ‫ال ْي َهُممود ُ ي َمد ُ الل ّمهِ َ‬
‫شاُء( )المممائدة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(64‬ورد ّ عليهممم‬ ‫ف يَ َ‬ ‫سوط ََتا ِ‬
‫ن ي ُن ِْفقُ ك َي ْ َ‬ ‫مب ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ن اللممه خلممق السممماوات والرض فممي سممتة أيممام‪ ،‬ثممم‬ ‫في قممولهم‪ :‬إ ّ‬
‫َ‬
‫ت َواْلْر َ‬
‫ض‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫خل َْقن َمما ال ّ‬
‫سم َ‬ ‫استراح في اليوم السابع‪ ،‬فقممال‪) :‬وَل ََق مد ْ َ‬
‫َ‬
‫ق‪.(2)(38:‬‬ ‫ب( ) ّ‬ ‫ن ل ُُغو ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫سَنا ِ‬
‫م ّ‬
‫ما َ‬
‫ست ّةِ أّيام ٍ وَ َ‬
‫ما ِفي ِ‬ ‫ما ب َي ْن َهُ َ‬
‫وَ َ‬
‫ن هذه اليات وأمثالها جاءت لترد ّ على هؤلء وأمثالهم‪،‬‬ ‫والشاهد أ ّ‬
‫وفي الوقت الذي جاءت لترد ّ على هذا النحراف فإنها ُتقّرر المنهممج‬
‫الحق‪ ،‬وما يجب على المؤمن أن يعتقده في جنب الله ‪ -‬تعالى ‪.-‬‬
‫دعاها لنفسه في قصممة‬
‫وكذلك نجد الرد ّ على من أنكر اللوهية وا ّ‬
‫إبراهيم مممع نمممروذ حيممث ذكرهمما اللممه فممي سممورة البقممرة‪ ،‬فقممال ‪-‬‬
‫مل ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ه ال ْ ُ‬
‫ن آَتاهُ الل ّ ُ‬
‫م ِفي َرب ّهِ أ ْ‬
‫هي َ‬
‫ج إ ِب َْرا ِ‬
‫حا ّ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫سبحانه ‪) :-‬أل َ ْ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(4/194‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/229‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪138‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ت قَمما َ‬ ‫ُ‬ ‫ل إبراهيم ربي ال ّذي يحيي ويميت قَمما َ َ ُ‬


‫ل‬ ‫ميم ُ‬ ‫حي ِممي وَأ ِ‬ ‫ل أن َمما أ ْ‬ ‫َُ ِ ُ‬ ‫إ ِذ ْ َقا َ ِ ْ َ ِ ُ َ ّ َ ِ ُ ْ ِ‬
‫ْ‬ ‫ه ي َأ ِْتي ِبال ّ‬
‫ب‬‫مْغممرِ ِ‬‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬‫ت ب َِها ِ‬ ‫ق فَأ ِ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬‫س ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫م فَإ ِ ّ‬ ‫هي ُ‬‫إ ِب َْرا ِ‬
‫ن( )البقرة‪.(258:‬‬ ‫مي َ‬ ‫م ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫دي ال َْقوْ َ‬ ‫ذي ك ََفَر َوالل ّ ُ‬
‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫ت ال ّ ِ‬‫فَب ُهِ َ‬
‫ه(‬‫م فِممي َرب ّم ِ‬‫هي م َ‬ ‫ج إ ِب َْرا ِ‬ ‫حمما ّ‬
‫قممال ابممن كممثير فممي قمموله ‪ -‬تعممالى ‪َ ) :-‬‬
‫)البقرة‪ :‬من الية ‪ (258‬أي‪ :‬وجود ربه‪ ،‬وذلك أّنه أنكر أن يكون لممه‬
‫ن إ ِل َم ٍ‬
‫ه‬ ‫مم ْ‬
‫م ِ‬‫ت ل َك ُم ْ‬‫مم ُ‬ ‫ممما عَل ِ ْ‬‫إله غيره‪ ،‬كما قال بعممده فرعممون لملئه‪َ ) :‬‬
‫ري( )القصص‪ :‬من الية ‪.(1)(38‬‬ ‫غَي ْ ِ‬
‫أما النصمارى فقممد شمبهوا المخلمموق بالخمالق وأضممفوا عليمه مممن‬
‫فقممالوا عممن المخلمموق‬ ‫صفات والخصائص ما ل يليممق إل بممالله ‪‬‬
‫ال ّ‬
‫كقولهم في عيسى‪ :‬إنه يخلق ويرزق‪ ،‬ويغفر ويرحممم‪ ،‬ويتمموب علممى‬
‫الخلق‪ ،‬ويثيب وُيعاقب‪ ،‬إلى غير ذلك من خصائص الربوبية‪ ،‬وصفات‬
‫وهممم بهممذا القممول قممد‬ ‫)‪(2‬‬
‫اللوهية التي ل تكون إل للممه ‪ -‬سممبحانه ‪-‬‬
‫ن‬‫جعلمموا المسمميح‪ ،‬عليممه السمملم‪ ،‬إلهًمما‪ ،‬فجمماء القممرآن الكريممم ليممبي ّ‬
‫انحرافهم وخروجهممم عممن الصممراط المسممتقيم‪ ،‬فقممال ‪ -‬سممبحانه ‪:-‬‬
‫ك‬ ‫مل ِم ُ‬‫ن يَ ْ‬‫مم ْ‬ ‫ل فَ َ‬ ‫م قُ ْ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ح اب ْ ُ‬‫سي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ه هُوَ ال ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن َقاُلوا إ ِ ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫)ل ََقد ْ ك ََفَر ال ّ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫شيئا ً إ َ‬
‫ن ِفمي‬ ‫مم ْ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫مم ُ‬ ‫م وَأ ّ‬ ‫مْرَيم َ‬ ‫ن َ‬ ‫ح اْبم َ‬ ‫سمي َ‬ ‫م ِ‬‫ك ال ْ َ‬‫ن ي ُهْل ِ َ‬ ‫ن أَراد َ أ ْ‬ ‫ن الل ّهِ َ ْ ِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫َْ‬ ‫َْ‬
‫ممما‬‫خل ُمقُ َ‬ ‫ممما ي َ ْ‬ ‫ممما ب َي ْن َهُ َ‬‫ض وَ َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫سم َ‬‫ك ال ّ‬ ‫مل ْم ُ‬ ‫ميعا ً وَل ِل ّمهِ ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫ض َ‬ ‫الْر ِ‬
‫ديٌر( )المممائدة‪ .(17:‬وقممال‪) :‬ل ََقمد ْ ك ََفمَر‬ ‫يٍء قَم ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬ ‫يَ َ‬
‫ن لَ ْ‬
‫م ي َن ْت َُهوا‬ ‫حد ٌ وَإ ِ ْ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫ن إ ِل َهٍ إ ِّل إ ِل َ ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫ث َثلث َةٍ وَ َ‬ ‫ه َثال ِ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن َقاُلوا إ ِ ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫م( )المائدة‪.(73:‬‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ن ك ََفُروا ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫س ّ‬ ‫م ّ‬ ‫ن ل َي َ َ‬‫ما ي َُقوُلو َ‬ ‫عَ ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/313‬‬

‫سنة ص )‪.(273‬‬
‫‪ - 2‬انظر‪ :‬وسطّية أهل ال ُ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪139‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وتنّقصوه من‬ ‫ومن ضلل النصارى وانحرافهم أنهم سّبوا الله ‪‬‬
‫الوجه الذي أرادوا به تعظيمممه‪ ،‬حيممث قممالوا‪ :‬إن المسمميح ابممن اللممه‪.‬‬
‫ن الل ّ ِ‬
‫ه( )التوبة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(30‬وقممد رد ّ‬ ‫ح اب ْ ُ‬
‫سي ُ‬ ‫صاَرى ال ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫)وََقال َ ِ‬
‫ت الن ّ َ‬
‫الله عليهم وعلى أمثالهم مثل هذا القول وبين أّنه انحراف وضمملل‪،‬‬
‫ه(‬
‫حان َ ُ‬ ‫ه وََلمدا ً ُ‬
‫سمب ْ َ‬ ‫خمذ َ الّلم ُ‬
‫ها نفسمه‪) :‬وََقماُلوا ات ّ َ‬
‫فقال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬منممز ً‬
‫م‬ ‫ن وََلدا ً ل ََقد ْ ِ‬
‫جئ ْت ُ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬ ‫خذ َ الّر ْ‬‫)البقرة‪ :‬من الية ‪ .(116‬وقال‪) :‬وََقاُلوا ات ّ َ‬
‫َ‬
‫ل‬ ‫جب َمما ُ‬ ‫خ مّر ال ْ ِ‬ ‫ض وَت َ ِ‬ ‫ش مقّ اْلْر ُ‬ ‫ه وَت َن ْ َ‬
‫من ْ ُ‬
‫ن ِ‬ ‫ت ي َت ََفط ّْر َ‬
‫ماَوا ُ‬ ‫س َ‬ ‫كاد ُ ال ّ‬ ‫شْيئا ً إ ِد ّا ً ت َ َ‬‫َ‬
‫هَدا ً أ َن دعَوا ِللرحمن وَلدا ً وما ينبِغي ِللرحم َ‬
‫ل‬ ‫ن ك ُم ّ‬ ‫خذ َ وَل َممدا ً إ ِ ْ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ّ ْ َ ِ‬ ‫َ َ ََْ‬ ‫ّ ْ َ ِ َ‬ ‫ّ ْ َ ْ‬
‫ن عَب ْممدًا( )مريممم‪.(93-88:‬‬ ‫ض إ ِّل آِتي الّر ْ‬ ‫َْ‬
‫م ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ن ِفي ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ه وَل َد ٌ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫ت َواْل َْرض أ َّنى ي َ ُ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ديعُ ال ّ‬ ‫وقال في سورة النعام‪) :‬ب َ ِ‬
‫ِ‬
‫م( )النعممام‪:‬‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬‫يٍء وَهُوَ ب ِك ُ ّ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫خل َقَ ك ُ ّ‬‫ة وَ َ‬
‫حب َ ٌ‬‫صا ِ‬
‫ه َ‬ ‫ن لَ ُ‬‫م ت َك ُ ْ‬ ‫وَل َ ْ‬
‫‪.(101‬‬
‫وهناك مممن أرادوا تنمممزيه اللممه ‪ -‬جممل وعل ‪ -‬فنفمموا عنممه أسممماءه‬
‫وصفات الكمال الممتي وصممف بهمما نفسممه‪ ،‬ووصممفه بهمما رسمموله‪ ،‬‬
‫فجاءت اليات الكثيرة التي تثبممت للممه صممفات الكمممال وأسممماء ذي‬
‫م( )الفاتحممة‪:‬‬
‫حي ِ‬‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬‫ح َ‬‫ن الّر ْ‬ ‫مي َ‬‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ‬ ‫الجلل‪ ،‬ومنها‪) :‬ال ْ َ‬
‫ح ْ‬
‫يٍء( )العممراف‪ :‬مممن اليممة‬ ‫شم ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ت كُ ّ‬ ‫سع َ ْ‬ ‫مِتي وَ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫‪ ،2‬م ‪ .(3‬وقوله‪) :‬وََر ْ‬
‫م‬
‫سممل ُ‬
‫س ال ّ‬
‫دو ُ‬‫ك ال ُْق م ّ‬ ‫ه إ ِّل هُموَ ال ْ َ‬
‫مل ِم ُ‬ ‫ذي ل إ ِل َم َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫‪ .(156‬وقال‪) :‬هُوَ الل ّ ُ‬
‫جب ّمماُر ال ْ ُ‬
‫مت َك َب ّمُر( )الحشممر‪ :‬مممن اليممة ‪.(23‬‬ ‫زيُز ال ْ َ‬ ‫ن ال ْعَ ِ‬‫م ُ‬ ‫مهَي ْ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫م ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬
‫م( )الفتح‪ :‬من الية ‪ .(6‬إلى غير ذلك مممن‬ ‫م وَل َعَن َهُ ْ‬‫ه عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ب الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬‫)وَغَ ِ‬
‫اليات‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪140‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وخلصة القول‪:‬‬
‫إن القممرآن جمماء لي ُممبّين انحممراف أولئك المنحرفيممن‪ ،‬ويممرد عليهممم‬
‫ق‪ ،‬وُيبّين ما يجب أن يعتقممده‬ ‫ضللهم‪ ،‬وانحرافهم‪ ،‬وُيقّرر المنهج الح ّ‬
‫ممما‬ ‫سممو ُ‬
‫ل بِ َ‬ ‫ن الّر ُ‬
‫مم َ‬
‫المسلم في الله‪ ،‬من اليمان بممه ‪ -‬جممل وعل ‪) .-‬آ َ‬
‫ه( )البقمرة‪ :‬مممن اليمة‬ ‫ن ِبمالل ّ ِ‬
‫مم َ‬
‫لآ َ‬ ‫ن ُ‬
‫كم ّ‬ ‫ن َرّبمهِ َوال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬
‫من ُممو َ‬ ‫م ْ‬ ‫أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ ِل َي ْهِ ِ‬
‫ن‬‫ممم ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ه( )البقرة‪ :‬من الية ‪) .(136‬قُ ْ‬
‫ل هُوَ الّر ْ‬ ‫مّنا ِبالل ّ ِ‬
‫‪ُ) .(285‬قوُلوا آ َ‬
‫َ‬
‫من ُمموا ب ِممالل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫من ُمموا آ ِ‬
‫نآ َ‬ ‫ه( )الملممك‪ :‬مممن اليممة ‪) .(29‬ي َمما أي ّهَمما ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬ ‫مّنا ب ِ ِ‬‫آ َ‬
‫ك‬ ‫سل ِهِ ُأول َئ ِ َ‬
‫مُنوا ِبالل ّهِ وَُر ُ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه( )النساء‪ :‬من الية ‪َ) .(136‬وال ّ ِ‬ ‫سول ِ ِ‬ ‫وََر ُ‬
‫ن( )الحديد‪ :‬من الية ‪.(19‬‬ ‫ديُقو َ‬‫ص ّ‬‫م ال ّ‬ ‫هُ ُ‬
‫وكذلك يجب أن يثبت لله ما يثبته لنفسه أو أثبته له رسمموله‪ ،‬‬
‫وينفي عنه ما نفاه عنه نفسه أو نفاه عنه رسوله‪. ،‬‬
‫عوهُ ب َِها وَذ َُروا اّلمم ِ‬ ‫ماُء ال ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫سَنى َفاد ْ ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫س َ‬‫قال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬وَل ِل ّهِ اْل ْ‬
‫َ‬
‫ن( )العممراف‪.(180:‬‬ ‫مل ُممو َ‬ ‫ممما ك َمماُنوا ي َعْ َ‬‫ن َ‬‫جَزوْ َ‬
‫سي ُ ْ‬ ‫مائ ِهِ َ‬
‫س َ‬
‫ن ِفي أ ْ‬
‫دو َ‬ ‫ي ُل ْ ِ‬
‫ح ُ‬
‫عممن منهممج الوسممطّية الممذي‬
‫فاللحاد في أسماء الله وصفاته خممروج‬
‫عوا الرحم َ‬
‫عوا الل ّ َ‬
‫عوا‬ ‫ن أي ّا ً َ‬
‫ممما ت َمد ْ ُ‬ ‫ه أو ِ‬
‫ّ ْ َ َ‬‫َ‬‫اد ْ ُ‬ ‫رسمه القرآن وأثبته‪) .‬قُ ِ‬
‫ل اد ْ ُ‬
‫ماُء ال ْ ُ‬ ‫َ‬
‫سَنى( )السممراء‪ :‬ممن اليممة ‪ .(110‬والممذين يصمفون‬ ‫ح ْ‬ ‫ه اْل ْ‬
‫س َ‬ ‫فَل َ ُ‬
‫الله بغير ما وصف به نفسه في كتممابه أو علممى لسممان رسمموله‪ ،‬‬
‫ن‬
‫صممراط المسممتقيم‪) .‬إ ِ ّ‬
‫ُيلحدون في آيات الله‪ ،‬وهذا انحراف عممن ال ّ‬
‫ن عَل َي َْنا ()فصلت‪ :‬من الية ‪.(40‬‬
‫خَفوْ َ‬
‫ن ِفي آَيات َِنا ل ي َ ْ‬
‫دو َ‬ ‫ن ي ُل ْ ِ‬
‫ح ُ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫والله ‪ -‬جل وعل ‪ -‬لممه صممفات الكمممال وأسممماء الجلل‪ :‬ل ُيشممبه‬
‫و‬
‫يءٌ وَهُم َ‬
‫شم ْ‬ ‫دا من خلقه‪ ،‬ول ْيشبهه أحد من خلقه‪) .‬ل َي ْم َ‬
‫س كَ ِ‬
‫مث ْل ِمهِ َ‬ ‫أح ً‬
‫ميعُ ال ْب َ ِ‬
‫صيُر( )الشورى‪ :‬من الية ‪.(11‬‬ ‫س ِ‬
‫ال ّ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪141‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫دا‪ ،‬جاءت مثبتممة ونافيممة‪ ،‬ومنمممزهة‬


‫واليات في كتاب الله كثيرة ج ّ‬
‫الله عما يصفه به الواصممفون‪ - ،‬تعممالى اللممه عممما يقممول الجاحممدون‬
‫ه( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة‬
‫حان َ ُ‬ ‫ه وَل َممدا ً ُ‬
‫سمب ْ َ‬ ‫خمذ َ الل ّم ُ‬
‫وا كبيًرا – )وَقَمماُلوا ات ّ َ‬
‫عل ّ‬
‫ن( )النعام‪ :‬مممن اليممة ‪) .(100‬ل‬ ‫صُفو َ‬
‫ما ي َ ِ‬‫ه وَت ََعاَلى عَ ّ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬
‫‪ُ ) .(116‬‬
‫جعَل ُممو َ‬
‫ن‬ ‫ن( )التوبة‪ :‬من اليممة ‪) .(31‬وَي َ ْ‬‫كو َ‬‫شرِ ُ‬ ‫ما ي ُ ْ‬
‫ه عَ ّ‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫ه إ ِّل هُوَ ُ‬
‫إ ِل َ َ‬
‫ه وَت َعَمماَلى عَ ّ‬
‫ممما‬ ‫حان َ ُ‬‫س مب ْ َ‬
‫ه( )النحل‪ :‬مممن اليممة ‪ُ ) .(57‬‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ت ُ‬ ‫ل ِل ّهِ ال ْب ََنا ِ‬
‫ه‬
‫مين ِم ِ‬ ‫مط ْوِي ّمما ٌ‬
‫ت ب ِي َ ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ماَوا ُ‬ ‫ن عُل ُوّا ً ك َِبيممرًا( )السممراء‪َ) .(43:‬وال ّ‬
‫سم َ‬ ‫ي َُقوُلو َ‬
‫ن( )الزممر‪ :‬من الية ‪ .(67‬وصممدق اللممه‬ ‫كو َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ه وَت ََعاَلى عَ ّ‬
‫ما ي ُ ْ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ُ‬
‫ل هُو الل ّ َ‬
‫ن َلمم ُ‬
‫ه‬ ‫كمم ْ‬ ‫م ُيول َد ْ وَل َ ْ‬
‫م يَ ُ‬ ‫م ي َل ِد ْ وَل َ ْ‬
‫مد ُ ل َ ْ‬
‫ص َ‬ ‫حد ٌ الل ّ ُ‬
‫ه ال ّ‬ ‫هأ َ‬ ‫ُ‬ ‫العظيم‪) .‬قُ ْ َ‬
‫َ‬
‫د( )الخلص‪.(4-1:‬‬ ‫ك ُُفوا ً أ َ‬
‫ح ٌ‬
‫ومما سبق يتضح لنا صفاء عقيدة التوحيد وسلمتها من تأويل‬
‫المممؤولين وجحممد الجاحممدين‪ ،‬وتشممبيه المش مّبهين‪ ،‬وأن الجميممع قممد‬
‫صراط المستقيم‪ ،‬نفي ًمما أو إثبات ًمما‪ ،‬إفراط ًمما أو تفريط ًمما‪،‬‬
‫انحرفوا عن ال ّ‬
‫ولذلك جاءت اليات تلو اليات‪ ،‬إثبات ًمما ونفي ًمما‪ ،‬وإنكمماًرا ورّدا وتنمممزيًها‪،‬‬
‫لتقّرر المنهج الحق بين الغلوّ والجفاء‪ ،‬والنفي والثبات‪ ،‬مما يليق به‬
‫دست أسماؤه‪ ،‬وعل وعّز شأنه وسلطانه‪.‬‬
‫‪ -‬سبحانه ‪ -‬وتق ّ‬
‫ونجد من أصول العتقاد اليمان برسل الله‪ ،‬عليهممم وعلممى نبينمما‬
‫أفضل الصلة والسلم‪ ،‬وذلك يقتضي إنمزالهم منازلهم التي أنمزلهم‬
‫الله إّياها‪.‬‬
‫وعنممد دراسممة أحمموال المممم فممي هممذه القضممية نجممد الضممطراب‬
‫والتناقض والغلوّ والجفاء‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪142‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وكما ذكرنا اليهود والنصارى مثليممن للنحممراف فممي بمماب اليمممان‬


‫ضا ‪ -‬للنحراف في بمماب اليمممان‬
‫بالله‪ ،‬فسأذكرهما هنا نموذجين ‪ -‬أي ً‬
‫بالرسل‪ ،‬وذلك لن القرآن‪ ،‬ذكرهما في مواضع عدة‪ ،‬ولنهما أشممهر‬
‫مة محمد‪. ،‬‬ ‫ُ‬
‫أمتين قبل أ ّ‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(1‬‬
‫ولنأخذ موقف اليهود من أنبياء الله ورسله‬
‫‪ -1‬أّنهم فّرقوا بيــن اللــه ورســله‪ ،‬وآمنمموا ببعممض الرسممل‬
‫وكفروا ببعض‪ ،‬بمجمّرد الّتشمّهي والعممادة‪ ،‬ل عممن دليممل قممادهم إلممى‬
‫قممال ‪-‬‬ ‫)‪(2‬‬
‫ذلك‪ ،‬فإنه ل سبيل إلى ذلك‪ ،‬بل بمجّرد الهمموى والعصممبية‬
‫تعالى ‪( :-‬إن ال ّذين يك ُْفرون بالل ّه ورس مل ِه ويري مدو َ‬
‫ن ي َُفّرقُمموا ب َي ْم َ‬
‫ن‬ ‫نأ ْ‬‫ِ َ َ ُ َ ِ ِ َُ ُ ِ َُ ِ ُ َ‬ ‫ِ ّ‬
‫خمم ُ‬
‫ذوا‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬ ‫الل ّه ورسل ِه ويُقوُلون نؤْمن ببعض ونك ُْفر ببعض ويريدو َ‬
‫نأ ْ‬‫َ ُ ِ ُ َِْ ٍ ََ ُ َِْ ٍ َُ ِ ُ َ‬ ‫ِ َُ ُ ِ ََ‬
‫سِبي ً‬
‫ل( )النسمماء‪ (150:‬وهممذا المممر وإن كممان يشممترك فيممه‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬
‫ك َ‬ ‫ب َي ْ َ‬
‫اليهود والنصارى‪ ،‬ولكنه في اليهود أكثر‪.‬‬
‫‪ -2‬أنهم خذلوا أنبياءهم‪ ،‬ونقضوا العهود التي أخذوها عليهم‪ ،‬قممال‬
‫ي‬‫م اث ْن َم ْ‬‫من ْهُم ُ‬‫ل وَب َعَث ْن َمما ِ‬
‫سممرائي َ‬ ‫ميَثاقَ ب َن ِممي إ ِ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬ ‫‪ -‬سبحانه ‪) :-‬وَل ََقد ْ أ َ َ‬
‫كمم ل َئ ِ َ‬
‫كماةَ‬‫م الّز َ‬ ‫صملةَ َوآت َي ُْتم ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫مُتم ُ‬ ‫ن أقَ ْ‬ ‫ْ‬ ‫مع َ ُ ْ‬ ‫ه إ ِّنمي َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫شَر ن َِقيبا ً وََقا َ‬ ‫عَ َ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫سممنا ً َل ُك َّف مَر ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ه قَْرضما ً َ‬ ‫م الل ّم َ‬ ‫ضمت ُ ُ‬‫م وَأقَْر ْ‬ ‫ممموهُ ْ‬ ‫سمِلي وَعَّزْرت ُ ُ‬ ‫م ب ُِر ُ‬‫من ْت ُ ْ‬‫َوآ َ‬
‫حت ِهَمما اْل َن ْهَمماُر( )المممائدة‪:‬‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬
‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬‫م َ‬ ‫خل َن ّك ُ ْ‬‫م وََل ُد ْ ِ‬‫سي َّئات ِك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫عَن ْك ُ ْ‬
‫من الية ‪.(12‬‬
‫دا)‪ (3‬ولكممن‬ ‫وآيات أخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل كثيرة ج م ً‬
‫جعَل ْن َمما قُل ُمموب َهُ ْ‬
‫م‬ ‫م وَ َ‬‫م ل َعَن ّمماهُ ْ‬
‫ميث َمماقَهُ ْ‬
‫م ِ‬‫ض مه ِ ْ‬ ‫ماذا كانت النتيجة‪) :‬فَب ِ َ‬
‫ممما ن َْق ِ‬
‫ممما ذ ُك ّمُروا ب ِمهِ َول‬ ‫م ّ‬‫حظ ّما ً ِ‬ ‫سمموا َ‬ ‫ضعِهِ وَن َ ُ‬ ‫وا ِ‬‫م َ‬
‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫ن ال ْك َل ِ َ‬
‫حّرُفو َ‬
‫ة يُ َ‬ ‫َقا ِ‬
‫سي َ ً‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬في ذلك رسالة وسطّية أهل السنة ص )‪ (286‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(2/396‬‬

‫صا بذلك‪.‬‬
‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفصيل ذلك في كتاب العهد والميثاق في القرآن للمؤلف حيث تجد فصل خا ّ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪143‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫م( )المائدة‪ :‬من الية ‪ .(13‬ونقممض العهممد‬


‫من ْهُ ْ‬ ‫ل ت َط ّل ِعُ عََلى َ‬
‫خائ ِن َةٍ ِ‬ ‫ت ََزا ُ‬
‫والغدر ُينبئ عن مكانة النبياء في نفوسهم وعقيدتهم فيهم‪.‬‬
‫صوا بعض النبياء والرسممل‪ ،‬عليهممم الصمملة والسمملم‪،‬‬‫‪ -3‬أنهم تنّق ُ‬
‫ورممموهم بارتكمماب كبممائر الممذنوب‪ ،‬ورممموهم بالنقممائص والعيمموب‪،‬‬
‫والتوراة ‪ -‬المحرفة ‪ -‬مليئة بهذا اللون‪ ،‬وفيها من الخممزي والعممار ممما‬
‫يَندى له الجبين‪.‬‬
‫فنسبوا لهارون‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬أّنه صنع لهم العجممل الممذي عبممدوه‬
‫من دون الله‪ ،‬ورموا نبي الله سليمان‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬بأنه في أواخر‬
‫أّيامه مال إلى ممالة نسائه على عبادة الوثان‪ ،‬وبني لهممن المعابممد‬
‫صا في إيمانه بربه ‪.‬‬
‫والوثان‪ ،‬وأّنه لم يكن مخل ً‬
‫حا‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬بأّنه كان يشرب الخمر‪ ،‬واتهممموا داود‬ ‫واتهموا نو ً‬
‫ولو ً‬
‫طا‪ ،‬عليهما السلم‪ ،‬بالزنا‪ ،‬إلممى غيممر ذلممك مممن النقممائص والتهممم‬
‫التي يقشعّر لها قلب كل مؤمن )‪.(1‬‬
‫ول ُيسممتغرب ذلممك علممى أولئك الممذين رممموا رسممولهم ونممبيهم‬
‫موسى‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬بالنقائص والعيوب‪ .‬فقممال ‪ -‬سممبحانه ‪ -‬مخممبًرا‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫سممى فَب َمّرأهُ الل ّم ُ‬
‫ه‬ ‫ن آذ َْوا ُ‬
‫مو َ‬ ‫كال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫كوُنوا َ‬
‫مُنوا ل ت َ ُ‬
‫نآ َ‬ ‫عنهم‪َ) ،‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫جيهًا( )الحزاب‪.(69:‬‬ ‫عن ْد َ الل ّهِ وَ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َقاُلوا وَ َ‬ ‫م ّ‬
‫ِ‬
‫‪ -4‬قتلهم النبياء والّرسل‪ ،‬وقد ذكر الله ذلك في القرآن في أكثر‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫س مت َك ْب َْرت ُ ْ‬
‫ما ْ‬ ‫س مك ُ ُ‬
‫وى أن ُْف ُ‬ ‫ما ل ت َهْ م َ‬ ‫ل بِ َ‬ ‫سو ٌ‬ ‫م َر ُ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫من موضع‪) :‬أفَك ُل ّ َ‬
‫ن( )البقرة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(87‬وقممال‪) :‬ل ََقمد ْ‬ ‫ريقا ً ت َْقت ُُلو َ‬ ‫م وَفَ ِ‬ ‫ريقا ً ك َذ ّب ْت ُ ْ‬
‫فََف ِ‬
‫خذ ْنا ميَثاقَ بِني إسرائي َ َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫سممو ٌ‬ ‫م َر ُ‬ ‫جمماَءهُ ْ‬ ‫سمل ً ك ُل ّ َ‬
‫ممما َ‬ ‫م ُر ُ‬ ‫سل َْنا إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫ل وَأْر َ‬ ‫ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫أ َ َ ِ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفصيل ذلك وأدلته في وسطّية أهل السنة ص )‪.(289‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪144‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫َ‬
‫ن( )المممائدة‪.(70:‬‬ ‫ريق ما ً ي َْقت ُل ُممو َ‬
‫ريق ما ً ك َمذ ُّبوا وَفَ ِ‬
‫م فَ ِ‬
‫س مه ُ ْ‬
‫وى أن ُْف ُ‬ ‫ما ل ت َهْ َ‬
‫بِ َ‬
‫وقال‪) :‬ذ َل َ َ‬
‫ر‬
‫ن ب ِغَْيم ِ‬ ‫ت الّلمهِ وَي َْقت ُُلمو َ‬
‫ن الن ّب ِّييم َ‬ ‫ن بآَيما ِ‬‫كاُنوا ي َك ُْفمُرو َ‬‫م َ‬ ‫ك ب ِأن ّهُ ْ‬‫ِ‬
‫ق( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(61‬‬ ‫ال ْ َ‬
‫ح ّ‬
‫ومن أشهر من قتل اليهود من النبياء زكريا وابنه يحيممى‪ ،‬عليهممما‬
‫السلم)‪.(1‬‬
‫هممذه عقيممدة اليهممود فممي أنبيمماء اللممه ورسممله‪ ،‬والممذي ينظممر إلممى‬
‫مممواقفهم مممع موسممى‪ ،‬عليممه السمملم‪ ،‬وهممو نممبيهم ومنقممذهم مممن‬
‫ذون َِني‬ ‫مهِ َيا قَوْم ِ ل ِ َ‬
‫م ُتممؤْ ُ‬ ‫سى ل َِقوْ ِ‬
‫مو َ‬
‫ل ُ‬ ‫فرعون‪ ،‬يجد العجب)‪) .(2‬وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫وقَد تعل َمو َ‬
‫م( )الصف‪ :‬من الية ‪ .(5‬فكل مممن‬ ‫ل الل ّهِ إ ِل َي ْك ُ ْ‬
‫سو ُ‬
‫ن أّني َر ُ‬
‫َ ْ َْ ُ َ‬
‫وقف من النبياء والرسل موقف تفريممط وجفمماء فممي اليهممود أسمموة‬
‫وقدوة‪.‬‬
‫مــا النصــارى فــإن عقيــدتهم فــي النبيــاء والرســل‬
‫أ ّ‬
‫تتلخص في موقفين )‪: (3‬‬
‫الول‪ :‬التفريط والجفاء مع أنبياء الله ورسله ‪ -‬عدا عيسممى‪،‬‬
‫عليه السلم‪ ،‬فلم يؤمنوا ببعضهم‪ ،‬وكفروا بمحمد‪ -  ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫)إن ال ّذين يك ُْفرون بالل ّه ورسل ِه ويريدو َ‬
‫ه‬
‫سل ِ ِ‬‫ن الل ّهِ وَُر ُ‬ ‫ن ي َُفّرُقوا ب َي ْ َ‬‫نأ ْ‬‫ِ َ َ ُ َ ِ ِ َُ ُ ِ َُ ِ ُ َ‬ ‫ِ ّ‬
‫ك‬ ‫ن ذ َل ِم َ‬ ‫خم ُ‬ ‫ويُقوُلون نؤْمن ببعض ونك ُْفر ببع مض ويري مدو َ‬
‫ذوا ب َي ْم َ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬
‫نأ ْ‬‫ٍ َُ ِ ُ َ‬ ‫َ ُ ِ ُ َِْ ٍ ََ ُ َِْ‬ ‫ََ‬
‫ن‬
‫م ُ‬ ‫ن ن ُؤْ ِ‬‫ل( )النساء‪ .(150:‬قال ابن جرير ‪ -‬رحمه الله – )وَي َُقوُلو َ‬ ‫سِبي ً‬‫َ‬
‫ض( )النساء‪ :‬من الية ‪ (150‬يعنممي أنهممم يقولممون‪:‬‬ ‫ض وَن َك ُْفُر ب ِب َعْ ٍ‬
‫ب ِب َعْ ٍ‬
‫نصدق بهذا ونكذب بهممذا‪ ،‬كممما فعلممت اليهممود فممي تكممذيبهم عيسممى‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري ‪ 6/284‬ووسطّية أهل السنة ص )‪.(296‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفصيل ذلك في ظلل القرآن تفسير سورة الصف‪ ،‬وكتاب العهد والميثاق في القرآن للمؤلف في فصل نقض بني إسرائيل للعهد‪.‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬وسطّية أهل السنة ص )‪.(301‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪145‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫)‪(1‬‬
‫وتصديقهم بموسى وسممائر النبيمماء قبلهممم بزعمهممم‪،‬‬ ‫ومحمد‪ ،‬‬
‫وتصممديقهم بعيسممى‬ ‫وكما فعلت النصارى من تكممذيبهم محم مًدا‪ ،‬‬
‫وسائر النبياء قبله بزعمهم)‪.(2‬‬
‫ن‬‫سممى اب ْم ُ‬ ‫عي َ‬ ‫ل ِ‬ ‫وقال ‪ -‬تعالى ‪ -‬مبيًنا كفرهم بمحمممد‪)  ،‬وَإ ِذ ْ قَمما َ‬
‫ن‬ ‫م َ‬
‫ن ي َد َيّ ِ‬
‫ما ب َي ْ َ‬‫دقا ً ل ِ َ‬‫ص ّ‬
‫م َ‬ ‫م ُ‬‫ل الل ّهِ إ ِل َي ْك ُ ْ‬
‫سو ُ‬ ‫سرائي َ‬
‫ل إ ِّني َر ُ‬ ‫م َيا ب َِني إ ِ ْ‬‫مْري َ َ‬
‫َ‬
‫شرا ً برسول يأ ِْتي من بع مدي اس مم َ‬
‫م‬
‫جمماءَهُ ْ‬
‫ممما َ‬ ‫م مد ُ فَل َ ّ‬‫ح َ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ْ ُ ُ‬ ‫ِ ْ َْ ِ‬ ‫َِ ُ ٍ َ‬ ‫مب َ ّ‬
‫الت ّوَْراةِ وَ ُ‬
‫ن( )الصف‪.(6:‬‬
‫مِبي ٌ‬
‫حٌر ُ‬
‫س ْ‬ ‫ت َقاُلوا هَ َ‬
‫ذا ِ‬ ‫ِبال ْب َي َّنا ِ‬
‫الثاني‪ :‬الغلو والفراط‪ ،‬ويتمثل ذلك في غلوهم في عيسى‪،‬‬
‫عليممه السمملم‪ ،‬حيممث رفعمموه فمموق المكانممة الممتي جعلممه اللممه فيهمما‪،‬‬
‫وأنمزلوه فوق المنمزلة التي أنمزله الله إياها ‪ -‬زعموا ‪.-‬‬
‫دا لله‪ ،‬ورسول نبًيا‪ ،‬وإنما جعلوه هو الله‪ ،‬أو ابن‬
‫فلم يؤمنوا به عب ً‬
‫وأضافوا إليممه مممن‬ ‫الله‪ ،‬أو ثالث ثلثة !! بل عبدوه من دون الله ‪‬‬
‫)‪.(3‬‬ ‫الفعال والعمال ما ل يصح إضافته ونسبته إل إلى الله ‪‬‬
‫ن‬
‫ح اب ْم ُ‬ ‫سممي ُ‬‫م ِ‬ ‫ه ه ُ مو َ ا ل ْ َ‬ ‫ن الل ّم َ‬‫ن قَمماُلوا إ ِ ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬ل ََقد ْ ك ََفَر ال ّم ِ‬
‫ث‬‫ه َثمال ِ ُ‬‫ن الّلم َ‬ ‫ن َقماُلوا إ ِ ّ‬ ‫م( )المائدة‪ :‬من الية ‪) .(72‬ل ََقد ْ ك ََفَر ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫مْري َ َ‬‫َ‬
‫ه(‬‫ن الل ّم ِ‬ ‫ح اب ْم ُ‬‫سممي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫صاَرى ال ْ َ‬ ‫ت الن ّ َ‬ ‫ة( )المائدة‪ :‬من الية ‪) .(73‬وََقال َ ِ‬ ‫َثلث َ ٍ‬
‫)التوبة‪ :‬من الية ‪.(30‬‬
‫ل تطروني كما أطرت النصممارى ابممن مريممم فإنممما أنمما‬ ‫وقال ‪ ‬‬
‫عبده فقولوا‪ :‬عبد الله ورسوله ‪.(4) ‬‬

‫‪ - 1‬تحفظ الطبري ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في مكانه‪ ،‬لنهم في الحقيقة لم يؤمنوا بهم جميًعا‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(9/351‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬وسطّية أهل السنة ص ‪.301‬‬

‫‪ - 4‬أخرجه البخاري )‪ (4/142‬وأحمد )‪.(55 ،47 ،24 ،1/23‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪146‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وهذان الموقفان ‪ -‬أي موقف اليهممود وموقممف النصممارى ‪ -‬يمثلن‬


‫مواقف الناس في النبياء والرسممل فممي جممانب الفممراط والتفريممط‬
‫ما الموقف الحق وهو الذي قرّره القرآن وبينه‪،‬‬ ‫والغلو والجفاء ‪ .‬أ ّ‬
‫)‪(1‬‬

‫فإنه بين هذين الموقفين‪ ،‬فهو وسط بين الغلممو والجفمماء‪ ،‬والفممراط‬
‫والتفريط‪ ،‬ويمكن تلخيصه فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬ردّ الله علــى أولئك الـذين انحرفـت عقيــدتهم فـي‬
‫رسل الله وأنبيـائه‪ ،‬ورّدهممم عممن النحممراف إلممى المنهممج الحممق‬
‫تقريًرا لهذا المنهج الذي أمر الله باتباعه واللممتزام بممه‪ ،‬وهممو العممدل‬
‫والصممواب فيممما يجممب أن يعتقممده المسمملم ويعامممل بممه أنبيمماء اللممه‬
‫ورسله‪.‬‬
‫فقد رد ّ الله على الذين فّرقوا بين الله ورسممله‪ ،‬وآمنمموا ببعضممهم‬
‫ن خطممأ اعتقممادهم وضمملل طريقهممم‪ ،‬فقممال ‪-‬‬ ‫وكفممروا ببعممض‪ ،‬وبي م ّ‬
‫مِهين مًا(‬‫ذابا ً ُ‬ ‫عمم َ‬
‫ن َ‬
‫ري َ‬ ‫حّقا ً وَأ َعْت َد َْنا ل ِل ْ َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫كافُِرو َ‬ ‫سبحانه ‪ُ) :-‬أول َئ ِ َ‬
‫ك هُ ُ‬
‫)النساء‪.(151:‬‬
‫م‬
‫همم ُ‬‫ك ُ‬ ‫قال القرطبي ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬قمموله ‪ -‬تعممالى ‪ُ) :-‬أول َئ ِ َ‬
‫حّقًا( )النساء‪ :‬مممن اليممة ‪ (151‬تأكيممد يزيممل التممو ّ‬
‫هم فممي‬ ‫ن َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫كافُِرو َ‬
‫إيمانهم حين وصفهم بأنهم يقولون نؤمن ببعض‪ ،‬وأن ذلك ل ينفعهم‬
‫وكفممروا‬ ‫إذا كفروا برسوله‪ ،‬وإذا كفروا برسوله فقممد كفممروا بممه ‪‬‬
‫مبشرٍ بذلك الرسول‪ ،‬فلذلك صاروا الكافرين حًقا )‪.(2‬‬
‫بكل رسول ُ‬

‫‪ - 1‬قد تكون هناك مواقف لبعض اليهود تتشابه مع موقف النصارى‪ ،‬كقول بعضهم "عزيز ابن الله" وكذلك قد تكون هناك مواقف لبعض النصارى تشابه موقف اليهود‪ ،‬كخذلن‬

‫بعضهم لعيسى وعدم نصرته‪ ،‬والعبرة بالموقف ل بالشخاص سواء أكانوا من اليهود أم النصارى أم المشركين أم غيرهم‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(6/5‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪147‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ما الذين نقضوا العهود والمواثيق التي أخذها الله عليهممم‬ ‫أ ّ‬


‫باليمممان بالرسممل ونصممرتهم‪ ،‬فقممد قممال ‪ -‬سممبحانه ‪ -‬مبيًنمما عاقبممة‬
‫ة‬ ‫م َقا ِ‬
‫س مي َ ً‬ ‫جعَل ْن َمما قُل ُمموب َهُ ْ‬
‫م وَ َ‬‫م ل َعَن ّمماهُ ْ‬
‫ميث َمماقَهُ ْ‬
‫م ِ‬
‫ض مه ِ ْ‬
‫ممما ن َْق ِ‬ ‫جريرتهممم‪) :‬فَب ِ َ‬
‫ممما ذ ُك ّمُروا ب ِمهِ َول ت َمَزا ُ‬
‫ل‬ ‫حظ ّما ً ِ‬
‫م ّ‬ ‫سمموا َ‬ ‫ضمعِهِ وَن َ ُ‬‫وا ِ‬ ‫م َ‬‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫ن ال ْك َل ِ َ‬
‫حّرُفو َ‬
‫يُ َ‬
‫م( )المائدة‪ :‬من اليممة ‪ .(13‬وقممال فممي موضممع‬ ‫من ْهُ ْ‬‫خائ ِن َةٍ ِ‬ ‫ت َط ّل ِعُ عََلى َ‬
‫ن عَهْمد َ الّلمهِ‬‫ضممو َ‬ ‫ن ي َن ُْق ُ‬ ‫آخر مبيًنا عاقبة نقض العهد والميثمماق‪َ) :‬وال ّم ِ‬
‫ذي َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن فِممي‬ ‫دو َ‬ ‫سم ُ‬ ‫صم َ‬
‫ل وَي ُْف ِ‬ ‫ن ُيو َ‬ ‫مَر الل ّ ُ‬
‫ه ب ِمهِ أ ْ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ميَثاقِهِ وَي َْقط َُعو َ‬ ‫ن ب َعْدِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫داِر( )الرعد‪.(25:‬‬ ‫سوُء ال ّ‬ ‫م ُ‬ ‫ة وَل َهُ ْ‬‫م الل ّعْن َ ُ‬ ‫ض ُأول َئ ِ َ‬
‫ك ل َهُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ‬
‫اْل َ‬

‫والذين كفروا بالنبياء‪ ،‬وفّرقوا بينهم قد نقضوا عهممد اللممه وخممانوا‬


‫مواثيقه‪ ،‬وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ص َ‬
‫ل( )الرعد‪ :‬مممن‬ ‫ن ُيو َ‬ ‫مَر الل ّ ُ‬
‫ه ب ِهِ أ ْ‬ ‫ما أ َ‬ ‫قال القرطبي‪) :‬وَي َْقط َُعو َ‬
‫ن َ‬
‫الية ‪ (25‬أي‪ :‬من الرحام‪ ،‬واليمان بجميع النبياء)‪.(1‬‬
‫ما الذين آذوا النبياء‪ ،‬وتنّقصوهم‪ ،‬واتهموهم بأبشممع التهممم‪ ،‬فقممد‬ ‫أ ّ‬
‫ما مباشًرا أو غير مباشر‪ ،‬فالذين اتهموا هارون بأنه‬ ‫جاء الرد ّ عليهم إ ّ‬
‫أمرهم بالشرك وصنع لهم العجل‪ ،‬قممال اللممه مممبرءا هممارون‪) :‬وَل ََقمد ْ‬
‫ن‬
‫مم ُ‬
‫ح َ‬ ‫ن َرب ّك ُم ُ‬
‫م الّر ْ‬ ‫ممما فُت ِن ْت ُم ْ‬
‫م ب ِمهِ وَإ ِ ّ‬ ‫ل َيا قَوْم ِ إ ِن ّ َ‬
‫ن قَب ْ ُ‬‫م ْ‬‫ن ِ‬
‫هاُرو ُ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬
‫م َ‬ ‫َقا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ري( )طمه‪.(90:‬‬ ‫م ِ‬ ‫َفات ّب ُِعوِني وَأ ِ‬
‫طيُعوا أ ْ‬
‫ص‪ :‬من الية ‪.(30‬‬ ‫وقال عن سليمان )ن ِعم ال ْعبد إن َ‬
‫ب( ) ّ‬ ‫ه أّوا ٌ‬ ‫ْ َ َ ْ ُ ِّ ُ‬
‫أما نوح ولوط وداود‪ ،‬عليهم السلم‪ ،‬فقممد قممال اللممه عنهممم وعممن‬
‫غيرهم من النبياء والرسممل الممذين ذكرهممم ‪ -‬سممبحانه ‪ -‬فممي سممورة‬
‫ن ي َك ُْفممْر ب َِهمما‬ ‫ب َوال ْ ُ‬
‫حك ْ َ‬
‫م َوالن ّب ُوّةَ فَإ ِ ْ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬
‫ن آت َي َْناهُ ُ‬
‫ذي َ‬ ‫النعام‪ُ) :‬أول َئ ِ َ‬
‫ك ال ّ ِ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(9/314‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪148‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن( )النعممام‪ .(89:‬وقممال‬ ‫ري َ‬ ‫وما ً ل َي ْ ُ‬


‫سوا ب ِهَمما ب ِك َممافِ ِ‬ ‫ؤلِء فََقد ْ وَك ّل َْنا ب َِها قَ ْ‬
‫هَ ُ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫بعد ذلك مزك ًّيا لهم وآمًرا رسوله‪  ،‬أن يقتدى بهم‪ُ) :‬أول َئ ِ َ‬
‫ك اّلمم ِ‬
‫ه( )النعام‪ :‬من اليممة ‪ .(90‬وقممال عممن نمموح‪:‬‬ ‫م اقْت َدِ ْ‬‫داهُ ُ‬‫ه فَب ِهُ َ‬‫دى الل ّ ُ‬ ‫هَ َ‬
‫كورًا( )السممراء‪ .(3:‬وقممال‬‫شم ُ‬‫ن عَْبدا ً َ‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫ح إ ِن ّ ُ‬ ‫معَ ُنو ٍ‬ ‫مل َْنا َ‬
‫ح َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ة َ‬‫)ذ ُّري ّ َ‬
‫ذا اْل َيد إن َ‬
‫ص‪ :‬من الية ‪.(17‬‬ ‫ب( ) ّ‬ ‫ه أّوا ٌ‬
‫ْ ِ ِّ ُ‬ ‫داوُد َ َ‬ ‫عن داود‪َ) :‬واذ ْك ُْر عَب ْد ََنا َ‬
‫أممما الممذين قتلمموا النبيمماء والرسممل فممماذا كممانت عمماقبتهم جممزاء‬
‫انحرافهممم عممن الطريممق السمموي؟ تجيممب هممذه اليممات علممى هممذا‬
‫ن الّلم ِ‬
‫ه‬ ‫مم َ‬
‫ب ِ‬ ‫ضم ٍ‬ ‫ة وََبماُءوا ب ِغَ َ‬ ‫سمك َن َ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ة َوال ْ َ‬
‫م الذ ّل ّ ُ‬
‫ت عَل َي ْهِ ُ‬ ‫ضرِب َ ْ‬
‫السؤال‪) :‬وَ ُ‬
‫ذ َل َ َ‬
‫ك‬‫حقّ ذ َِلمم َ‬‫ن ب ِغَي ْرِ ال ْ َ‬ ‫ت الل ّهِ وَي َْقت ُُلو َ‬
‫ن الن ّب ِّيي َ‬ ‫ن بآَيا ِ‬ ‫كاُنوا ي َك ُْفُرو َ‬ ‫م َ‬‫ك ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫ِ‬
‫ن( )البقرة‪ :‬من الية ‪ .(61‬وقال ‪ -‬سممبحانه ‪:-‬‬ ‫دو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْت َ ُ‬‫وا وَ َ‬‫ص ْ‬
‫ما عَ َ‬ ‫بِ َ‬
‫حمقّ وَي َْقت ُُلمو َ‬
‫ن‬ ‫ن ب ِغَْيمرِ َ‬ ‫ن الن ّب ِّييم َ‬ ‫ت الّلمهِ وَي َْقت ُُلمو َ‬‫ن بآَيا ِ‬ ‫ن ي َك ُْفُرو َ‬ ‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬
‫)إ ِ ّ‬
‫م( )آل‬ ‫م‬ ‫لي‬ ‫ذاب أ َ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ّ‬
‫ش‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫س‬ ‫ما‬ ‫م‬ ‫ن‬‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ط‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫ق‬ ‫ن ِبال ْ‬ ‫رو‬ ‫م‬ ‫ال ّمذين ي مأ ْ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ َ َ‬
‫عمران‪.(21:‬‬
‫وكذلك نجممد رد ّ اللممه علممى النصممارى وغل ّمموهم فممي عيسممى عليممه‬
‫السلم‪ ،‬حيث حكم عليهمم بمالكفر واللعمن‪ ،‬قمال ‪ -‬سمبحانه ‪) :-‬ل ََقمد ْ‬
‫م( )المائدة‪ :‬من اليتين‬ ‫مْري َ َ‬
‫ن َ‬
‫ح اب ْ ُ‬
‫سي ُ‬ ‫ه هُوَ ال ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ن َقاُلوا إ ِ ّ‬ ‫ك ََفَر ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن إ ِل َهٍ‬
‫م ْ‬‫ما ِ‬ ‫ث َثلث َةٍ وَ َ‬ ‫ه َثال ِ ُ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫ن َقاُلوا إ ِ ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫‪ .(17،72‬وقال‪) :‬ل ََقد ْ ك ََفَر ال ّ ِ‬
‫م‬
‫من ْهُم ْ‬‫ن ك ََفمُروا ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّم ِ‬ ‫سم ّ‬ ‫م ّ‬‫ن ل َي َ َ‬
‫ما ي َُقوُلو َ‬ ‫م ي َن ْت َُهوا عَ ّ‬‫ن لَ ْ‬ ‫حد ٌ وَإ ِ ْ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫إ ِّل إ ِل َ ٌ‬
‫م( )المائدة‪.(73:‬‬ ‫َ‬ ‫عَ َ‬
‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬
‫صمماَرى‬ ‫ت الن ّ َ‬ ‫ن الل ّهِ وَقَممال َ ِ‬ ‫ت ال ْي َُهود ُ عَُزي ٌْر اب ْ ُ‬ ‫وقال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬وََقال َ ِ‬
‫َ‬
‫ن ك ََفمُروا‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّم ِ‬‫ن ق َ مو ْ َ‬
‫ضاهُِئو َ‬ ‫م يُ َ‬ ‫م ب ِأفْ َ‬
‫واهِهِ ْ‬ ‫ك قَوْل ُهُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ ذ َل ِ َ‬ ‫ح اب ْ ُ‬ ‫سي ُ‬‫م ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن( )التوبة‪.(30:‬‬ ‫كو َ‬ ‫ه أ َّنى ي ُؤْفَ ُ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ل َقات َل َهُ ُ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪149‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫‪ -2‬إن الحكم على النحراف وبيانه وسيلة مباشرة للوصول‬


‫إلى الطريق الصحيح‪ ،‬والمنهممج المسممتقيم‪ ،‬فبعممد بيممان خطممأ هممؤلء‬
‫الذين انحرفت عقيدتهم وضلوا في رسل الله نأتي إلى بيان المنهممج‬
‫الحق في أنبياء الله ورسله‪ ،‬كما قممرره القممرآن الكريممم‪ ،‬ودعمما إليممه‬
‫في أكثر من موضع‪.‬‬
‫ممما أ ُن ْمزِ َ‬
‫ل إ ِل َممى‬ ‫ل إ ِل َي ْن َمما وَ َ‬‫ممما أ ُن ْمزِ َ‬‫مّنا ب ِممالل ّهِ وَ َ‬
‫قال ‪ -‬تعالى ‪ُ) :-‬قوُلوا آ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫سممى‬ ‫مو َ‬ ‫ي ُ‬ ‫ممما أوت ِم َ‬ ‫ط وَ َ‬ ‫ب َواْل ْ‬
‫س مَبا ِ‬ ‫حاقَ وَي َعُْقو َ‬ ‫س َ‬ ‫عي َ‬
‫ل وَإ ِ ْ‬ ‫ما ِ‬
‫س َ‬
‫م وَإ ِ ْ‬
‫هي َ‬‫إ ِب َْرا ِ‬
‫عيسى وما ُأوت ِي النبيون من ربهم ل نَفرقُ بي َ‬
‫ن ل َم ُ‬
‫ه‬ ‫ح ُ‬‫م وَن َ ْ‬‫من ْهُ ْ‬ ‫حدٍ ِ‬‫نأ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ُ ّ‬ ‫َ ِّّ َ ِ ْ َ ِّ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫وَ ِ َ‬
‫ن( )البقرة‪.(136:‬‬ ‫مو َ‬‫سل ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫دقوا بأنبيممائه‬
‫قال قتادة‪ :‬أمممر اللممه المممؤمنين أن يؤمنمموا ويصمم ّ‬
‫ورسله كلهم‪ ،‬ول يفرقوا بين أحد منهم)‪.(1‬‬
‫ن‬
‫من ُممو َ‬ ‫ن َرب ّمهِ َوال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫مم ْ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ ِل َي ْهِ ِ‬ ‫سو ُ‬
‫ل بِ َ‬ ‫ن الّر ُ‬
‫م َ‬
‫وقال سبحانه‪) :‬آ َ‬
‫ل آمن بالل ّه وملئ ِك َت ِه وك ُتبه ورسل ِه ل نَفرقُ بي م َ‬
‫ه(‬
‫س مل ِ ِ‬
‫ن ُر ُ‬ ‫مم ْ‬ ‫ح مدٍ ِ‬‫نأ َ‬‫َْ َ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ِ َ ُِ ِ َُ ُ ِ‬ ‫كُ ّ َ َ ِ ِ َ َ‬
‫)البقرة‪ :‬من الية ‪.(285‬‬
‫مل ْن َمما‬
‫ح َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ة َ‬ ‫وبين الله عبودية النبياء والرسل فقال سبحانه‪) :‬ذ ُّري ّ َ‬
‫عَباد َن َمما‬ ‫كورًا( )السمراء‪ .(3:‬وقمال‪َ) :‬واذ ْك ُمْر ِ‬ ‫شم ُ‬ ‫ن عَب ْممدا ً َ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ح إ ِن ّ ُ‬ ‫معَ ُنو ٍ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ص‪.(45:‬‬ ‫صاِر( ) ّ‬ ‫ب أوِلي اْل َي ْ ِ‬
‫دي َواْلب ْ َ‬ ‫حاقَ وَي َعُْقو َ‬ ‫س َ‬
‫م وَإ ِ ْ‬ ‫هي َ‬ ‫إ ِب َْرا ِ‬
‫ف‬ ‫س مت َن ْك ِ َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ن الله المنهج الحق فيممه فقممال‪) :‬ل َم ْ‬ ‫ما عيسى فقد بي ّ‬ ‫أ ّ‬
‫ال ْمسي َ‬
‫ممما‬ ‫ه( )النسمماء‪ :‬مممن اليممة ‪ .(172‬وقممال‪َ ) :‬‬ ‫ن عَْبدا ً ل ِل ّم ِ‬ ‫كو َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫حأ ْ‬ ‫َ ِ ُ‬
‫خل َت من قَبل ِه الرس ُ ُ‬
‫ة‬
‫ديَق ٌ‬ ‫صم ّ‬ ‫ه ِ‬ ‫م ُ‬‫ل وَأ ّ‬ ‫ل قَد ْ َ ْ ِ ْ ْ ِ ّ ُ‬ ‫سو ٌ‬ ‫م إ ِّل َر ُ‬ ‫مْري َ َ‬‫ن َ‬ ‫ح اب ْ ُ‬ ‫سي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ح‬‫سمي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫مما ال ْ َ‬ ‫م( )الممائدة‪ :‬ممن اليمة ‪ (75‬وقمال‪) :‬إ ِن ّ َ‬ ‫ن الط َّعا َ‬ ‫كل ِ‬ ‫كاَنا ي َأ ْ ُ‬ ‫َ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(1/568‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪150‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ل الل ّه وك َل ِمت َ‬
‫ه(‬‫من ْم ُ‬
‫ح ِ‬‫م وَُرو ٌ‬ ‫مْري َم َ‬‫ه أل َْقاهَمما إ ِل َممى َ‬
‫ِ َ َ ُ ُ‬ ‫سو ُ‬ ‫م َر ُ‬ ‫مْري َ َ‬
‫ن َ‬ ‫سى اب ْ ُ‬ ‫عي َ‬‫ِ‬
‫خل ََقم ُ‬
‫ه‬ ‫م َ‬‫ل آد َ َ‬ ‫عن ْد َ الل ّمهِ ك َ َ‬
‫مث َم ِ‬ ‫سى ِ‬ ‫عي َ‬ ‫ل ِ‬‫مث َ َ‬
‫ن َ‬‫)النساء‪ :‬من الية ‪) (171‬إ ِ ّ‬
‫ن( )آل عمران‪.(59:‬‬ ‫كو ُ‬‫ن فَي َ ُ‬ ‫ل لَ ُ‬
‫ه كُ ْ‬ ‫م َقا َ‬ ‫ب ثُ ّ‬ ‫ن ت َُرا ٍ‬‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ما محمد ‪ ‬فقال فيه ‪ -‬سبحانه‪:-‬‬ ‫أ ّ‬
‫َ‬
‫جدِ‬‫س ِ‬
‫م ْ‬ ‫حَرام ِ إ َِلى ال ْ َ‬ ‫جدِ ال ْ َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫سَرى ب ِعَب ْدِهِ ل َي ْل ً ِ‬
‫م َ‬ ‫ذي أ ْ‬‫ن ال ّ ِ‬‫حا َ‬ ‫سب ْ َ‬‫) ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حى(‬ ‫ما أوْ َ‬ ‫حى إ َِلى عَب ْدِهِ َ‬ ‫صى( )السراء‪ :‬من الية ‪ .(1‬وقال‪) :‬فَأوْ َ‬ ‫اْلقْ َ‬
‫ن الّلم ِ‬
‫ه‬ ‫خمَزائ ِ ُ‬
‫دي َ‬ ‫عْنم ِ‬‫م ِ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬‫ل ل أ َُقو ُ‬ ‫)النجم‪ .(10:‬وقال له الله ‪) ‬قُ ْ‬
‫كإ َ‬ ‫ب َول أ َُقو ُ‬ ‫َ‬
‫ي(‬ ‫حى إ ِل َم ّ‬ ‫ممما ي ُممو َ‬‫ن أت ّب ِمعُ إ ِّل َ‬ ‫مل َم ٌ ِ ْ‬ ‫م إ ِّني َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫م ال ْغَي ْ َ‬‫َول أعْل َ ُ‬
‫)النعام‪ :‬من الية ‪.(50‬‬
‫ه‬
‫سممول ِ ِ‬‫من ُمموا ب ِممالل ّهِ وََر ُ‬ ‫وقممال مبين ًمما حممق رسمموله علممى أمتممه‪) :‬ل ِت ُؤْ ِ‬
‫من ُمموا ب ِمهِ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ه( )الفتح‪ :‬مممن اليممة ‪ .(9‬وقممال‪َ) :‬فال ّم ِ‬ ‫وَت ُعَّزُروهُ وَت ُوَقُّرو ُ‬
‫ن(‬‫حو َ‬ ‫مْفل ِ ُ‬‫م ال ْ ُ‬
‫ك هُ ُ‬ ‫ه ُأول َئ ِ َ‬ ‫مع َ ُ‬ ‫ذي أ ُن ْزِ َ‬
‫ل َ‬ ‫صُروهُ َوات ّب َُعوا الّنوَر ال ّ ِ‬ ‫وَعَّزُروهُ وَن َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل(‬ ‫سممو َ‬‫طيعُمموا الّر ُ‬ ‫ه وَأ ِ‬ ‫طيُعوا الل ّ َ‬‫)العراف‪ :‬من الية ‪ .(157‬وقال‪) :‬وَأ ِ‬
‫ن الله بشممرية النبيمماء والرسممل‪ ،‬فقممال‪:‬‬ ‫)المائدة‪ :‬من الية ‪ .(92‬وبي ّ‬
‫ت‬‫م( )الكهممف‪ :‬مممن اليممة ‪ .(110‬وقممال‪) :‬قَممال َ ْ‬ ‫مث ْل ُك ُ ْ‬‫شٌر ِ‬‫ما أ ََنا ب َ َ‬ ‫)قُ ْ‬
‫ل إ ِن ّ َ‬
‫شمماءُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫مم ْ‬‫ن عَل َممى َ‬ ‫م ّ‬‫ه يَ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫م وَل َك ِ ّ‬
‫مث ْل ُك ُ ْ‬ ‫ن إ ِّل ب َ َ‬
‫شٌر ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫سل ُهُ ْ‬
‫م إِ ْ‬ ‫م ُر ُ‬ ‫ل َهُ ْ‬
‫ن َرب ّممي هَ م ْ‬
‫ل‬ ‫حا َ‬‫س مب ْ َ‬
‫ل ُ‬ ‫ه( )إبراهيم‪ :‬من الية ‪ .(11‬وقممال‪) :‬قُ م ْ‬ ‫عَبادِ ِ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ل( )السراء‪ :‬ممن اليمة ‪ .(93‬وممما يرسمم منهمج‬ ‫سو ً‬ ‫شرا ً َر ُ‬‫ت إ ِّل ب َ َ‬ ‫ك ُن ْ ُ‬
‫َ‬
‫ك‬ ‫ن قَب ِْلمم َ‬ ‫سل ً ِ‬
‫م ْ‬ ‫سل َْنا ُر ُ‬ ‫التوسط في النبياء قوله ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬وَل ََقد ْ أْر َ‬
‫ة( )الرعد‪ :‬من الية ‪ .(38‬وقال منكممًرا علممى‬ ‫م أ َْزَواجا ً وَذ ُّري ّ ً‬‫جعَل َْنا ل َهُ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ل‬‫ل ي َأ ْك ُم ُ‬
‫سممو ِ‬ ‫ذا الّر ُ‬ ‫ل هَ م َ‬ ‫ممما ِ‬ ‫المشركين قولهم في محمد‪)  ،‬وََقاُلوا َ‬
‫َ‬
‫ممما‬
‫ق( )الفرقان‪ :‬من اليممة ‪ .(7‬فقممال‪) :‬وَ َ‬
‫وا ِ‬ ‫شي ِفي اْل ْ‬
‫س َ‬ ‫م ِ‬ ‫الط َّعا َ‬
‫م وَي َ ْ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪151‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن فِممي‬ ‫م ُ‬
‫شممو َ‬ ‫ن الط ّعَمما َ‬
‫م وَي َ ْ‬ ‫م ل َي َأك ُُلو َ‬
‫ن إ ِّل إ ِن ّهُ ْ‬
‫سِلي َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مْر َ‬ ‫م َ‬ ‫سل َْنا قَب ْل َ َ‬
‫ك ِ‬ ‫أْر َ‬
‫َ‬
‫ق( )الفرقان‪ :‬من الية ‪.(20‬‬ ‫وا ِ‬‫س َ‬ ‫اْل ْ‬
‫و‬
‫ومما سبق من اليات اتضمح لنما منممزلة النبيماء والرسمل‪ ،‬وعلم ّ‬
‫مقامهم‪ ،‬والمنهج الحق فيهم‪ ،‬فل يجوز الغلو فيهم مع الغالين قممال‪،‬‬
‫ل تطروني كممما أطممرت النصممارى ابممن مريممم فإنممما أنمما عبممده‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫يا أيها الناس قولمموا‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫فقولوا‪ :‬عبد الله ورسوله ‪ .(1) ‬وقال‪- ،‬‬
‫بقولكم ول يستجرينكم الشيطان‪ ،‬أنا محمد بمن عبمد اللمه‪ ،‬ورسمول‬
‫)‪.(2‬‬ ‫ب أن ترفعوني فوق ما رفعني الله ‪ ‬‬
‫الله‪ ،‬والله ما أح ّ‬
‫وكممذلك ل يجمموز الحمم ّ‬
‫ط مممن قممدرهم أو انتقاصممهم‪ ،‬بممل يجممب‬
‫احترامهم واليمان بهم وعدم التفريق بينهم‪ ،‬وكذلك يجب تمموقيرهم‬
‫وحفظ جنابهم‪ ،‬فهم صفوة الخلق وأرفعهم مكانممة ومنمممزلة‪ُ) .‬أول َئ ِ َ‬
‫ك‬
‫م اقْت َدِ ْ‬
‫ه( )النعام‪ :‬من الية ‪.(90‬‬ ‫داهُ ُ‬ ‫دى الل ّ ُ‬
‫ه فَب ِهُ َ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫إن ما ذكرته من تقرير السلم لمنهج الوسطّية في باب اليمممان‬
‫بالله ورسله دليل عملي على ما عداه من أبواب العتقاد‪ ،‬كاليمممان‬
‫بالملئكة والكتب واليوم الخر وبالقدر خيره وشّره‪.‬‬
‫وكما ذكرت سابًقا فليس المراد هو استقصاء ممما ورد فممي ذلممك‪،‬‬
‫وإنما المراد إرساء قواعد الوسمطّية وبيممان أّنهمما منهممج إلهممي‪ ،‬فمممن‬
‫انحرف عنها فقد ض ّ‬
‫ل سواء السبيل‪.‬‬
‫بل‬ ‫ل َيا أ َهْ َ‬
‫ل ال ْك َِتمما ِ‬ ‫ولذلك جاء قوله تعالى في سورة المائدة‪) :‬قُ ْ‬
‫َ‬
‫ن قَب ْم ُ‬
‫ل‬ ‫مم ْ‬ ‫ض مّلوا ِ‬ ‫واَء قَوْم ٍ قَ مد ْ َ‬
‫حقّ َول ت َت ّب ُِعوا أهْ َ‬‫م غَي َْر ال ْ َ‬‫ت َغُْلوا ِفي ِدين ِك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ل( )المائدة‪.(77:‬‬ ‫سِبي ِ‬
‫واِء ال ّ‬ ‫س َ‬ ‫ضّلوا عَ ْ‬
‫ن َ‬ ‫ضّلوا ك َِثيرا ً وَ َ‬
‫وَأ َ‬
‫‪ - 1‬أخرجه البخاري )‪ (4/142‬وأحمد )‪.(55 ،47 ،24 ،1/23‬‬

‫‪ - 2‬أخرجه أحمد )‪ (3/241‬واللفظ له‪ ،‬وأبو داود )‪ (4/254‬رقم )‪ (4806‬وصححه اللباني كما في صحيح الجامع رقم )‪.(4418‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪152‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ب ل ت َغْل ُمموا فِممي‬ ‫بل قال قبل ذلك في سورة النساء‪َ) :‬يا أ َهْ َ‬
‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ق( )النسمماء‪ :‬مممن اليممة ‪.(171‬‬ ‫م َول ت َُقول ُمموا عَل َممى الل ّمهِ إ ِّل ال ْ َ‬
‫حم ّ‬ ‫ِدين ِك ُم ْ‬
‫وهاتان اليتان جاءتا في سياق تقرير مسألة مممن مسممائل العتقمماد‪،‬‬
‫وهي قضية اعتقاد النصارى في عيسى ابن مريم‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬كما‬
‫سبق بيانها‪.‬‬
‫وفي إطار تقرير منهج الوسطّية في العقيدة يأتي قمموله ‪ -‬تعممالى‬
‫ه( )البقممرة‪ :‬مممن‬
‫سم ُ‬
‫ه ن َْف َ‬
‫سمِف َ‬
‫ن َ‬ ‫م إ ِّل َ‬
‫مم ْ‬ ‫مل ّةِ إ ِب َْرا ِ‬
‫هي َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن ي َْرغَ ُ‬
‫ب عَ ْ‬ ‫م ْ‬
‫– )و َ َ‬
‫الية ‪ .(130‬ومّلة إبراهيم‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬هي الملة الحنيفّية السمحة‬
‫ل إفراط فيها ول تفريط‪.‬‬
‫قال ابن كثير فمي تفسميره لهمذه اليمة‪ :‬فممن تمرك طريقمه همذا‬
‫ومسلكه وملته واتبع طرق الضممللة والغممي فممأيّ سممفه أعظممم مممن‬
‫هذا؟! قال أبو العالية وقتادة‪ :‬نمزلت هذه اليممة فممي اليهممود‪ ،‬أحممدثوا‬
‫طريًقا ليست مممن عنممد اللممه‪ ،‬وخممالفوا ملممة إبراهيممم فيممما أحممدثوه‪،‬‬
‫م ي َُهودِي ّا ً َول‬
‫هي ُ‬
‫ن إ ِب َْرا ِ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫ويشهد لصحة هذا القول قوله ‪ -‬تعالى ‪َ ( :-‬‬
‫ن( )آل‬ ‫كي َ‬‫شمرِ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫مم َ‬‫ن ِ‬‫كما َ‬‫مما َ‬‫سمِلما ً وَ َ‬‫م ْ‬ ‫حِنيفما ً ُ‬
‫ن َ‬ ‫ن َ‬
‫كما َ‬ ‫صمَران ِي ّا ً وَل َ ِ‬
‫كم ْ‬ ‫نَ ْ‬
‫عمران‪.(1)(67:‬‬
‫حِنيفمًا( )يممونس‪ :‬مممن‬ ‫جه َ م َ‬ ‫وفي سورة يونس )وأ َ َ‬
‫ن َ‬‫دي ِ‬‫ك ِللم ّ‬ ‫م وَ ْ‬‫ن أقِ ْ‬ ‫َ ْ‬
‫حِنيف مًا(‬‫الية ‪ .(105‬قال ابن كممثير‪ :‬أي أخلممص العبممادة للممه وحممده‪َ ) ،‬‬
‫)يونس‪ :‬من الية ‪ (105‬أي منحرًفا عممن الشممرك‪ ،‬ولهممذا قممال‪َ) :‬ول‬
‫ن( )يونس‪ :‬من الية ‪.(2)(105‬‬
‫كي َ‬
‫شرِ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫تَ ُ‬
‫كون َ ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/185‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(434/ 2‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪153‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ك المدين ال َْقيمم ول َكم َ‬


‫ن(‬ ‫س ل ي َعْل َ ُ‬
‫مممو َ‬ ‫ن أك ْث َمَر الن ّمما ِ‬
‫ّ ُ َ ِ ّ‬ ‫ّ ُ‬ ‫وفي يوسف‪) :‬ذ َل ِ َ‬
‫)يوسف‪ :‬من الية ‪ .(40‬قال ابن كثير فممي تفسمميرها‪ :‬أي هممذا الممذي‬
‫أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلص العمل له هو الممدين المسممتقيم‬
‫الذي أمر الله به)‪.(3‬‬
‫وخلصة القول‪:‬‬
‫ن اليات جاءت متوالية متتالية‪ ،‬تقّرر حقيقة الوسطّية فممي بمماب‬‫إ ّ‬
‫طراًدا مع منهج القرآن في تقريره ذلك في جميع البواب‬ ‫العتقاد‪ ،‬ا ّ‬
‫‪ -‬كما سيأتي ‪.-‬‬
‫ولول خوف الطالممة لممذكرت أمثلممة ُتؤك ّممد هممذه الحقيقممة وتبينهمما‪،‬‬
‫ولكن ل أظن أّنها بعد ذلك تحتاج إلى بيان أو تأكيد‪.‬‬
‫وأشير إلى أنني اقتصرت على بممابي اليمممان بممالله ورسممله‪ ،‬دون‬
‫سواهما من أبواب اليمان‪ ،‬لنه إذا تحّقق اليمان بالله ورسله علممى‬
‫الوجه الصممحيح فممإن ذلممك يسممتلزم تحقممق بقيممة الركممان ل محالممة‪،‬‬
‫والحمد لله رب العالمين‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬التشريع والتكليف‬
‫ن ملمح الوسطّية اليسممر‪ ،‬ورفممع الحممرج‪ ،‬وهممذا‬
‫سبق أن ذكرت أ ّ‬
‫ل‬‫جع َ م َ‬
‫ممما َ‬ ‫أمر قّرره القرآن في أكثر من موضع‪ ،‬كقوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَ َ‬
‫ريد ُ الل ّم ُ‬
‫ه‬ ‫حَرٍج( )الحج‪ :‬من الية ‪ .(78‬وقوله‪) :‬ي ُ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫دي ِ‬‫م ِفي ال ّ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫سَر( )البقرة‪ :‬من الية ‪ .(185‬وقوله‪) :‬ل‬ ‫م ال ْعُ ْ‬‫ريد ُ ب ِك ُ ُ‬
‫سَر َول ي ُ ِ‬‫م ال ْي ُ ْ‬ ‫ب ِك ُ ُ‬
‫سمعََها( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪ (286‬وممما ذكرتممه‬ ‫ه ن َْفسما ً إ ِّل وُ ْ‬ ‫ف الل ّ ُ‬ ‫ي ُك َل ّ ُ‬
‫هناك مّتصل بما سأذكره هنا في تقرير هذه القضية‪.‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(2/479‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪154‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وسأجعل الحديث عن تقرير القرآن لمنهج الوسطّية في التشريع‬


‫والتكاليف في فقرات متتالية‪ ،‬ليسهل تحرير القضية واستيعابها‪.‬‬
‫مة في الكتاب العزيممز بممأن وضممع عنهمما‬
‫ن الله على هذه ال ّ‬
‫‪ -1‬امت ّ‬
‫مممل مممن‬ ‫ح ّ‬
‫الصر والغلل التي كانت على من قبلها‪ ،‬ولم يحملها ما َ‬
‫دين‪.‬‬ ‫قبلها‪ ،‬فكان ذلك مظهًرا من مظاهر وسطّية هذا ال ّ‬
‫يقول ‪ -‬تعالى ‪ -‬في وصف نبيه محمد‪  ،‬في كلمه ‪ ‬مع قوم‬
‫ت‬‫ل ال ّت ِممي ك َممان َ ْ‬‫غل َ‬ ‫م َواْل َ ْ‬
‫ص مَرهُ ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ض معُ عَن ْهُ م ْ‬‫موسى‪ ،‬عليه السمملم‪) :‬وَي َ َ‬
‫م( )العراف‪ :‬من الية ‪ .(157‬كما أن مممن جملممة دعمماء رسممول‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫ه عَل َممى‬ ‫مل ْت َم ُ‬
‫ح َ‬ ‫صممرا ً ك َ َ‬
‫ممما َ‬ ‫ل عَل َي ْن َمما إ ِ ْ‬‫م ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫الله‪  ،‬والمؤمنين‪َ) :‬رب َّنا َول ت َ ْ‬
‫ن قَب ْل َِنا()البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(286‬وقممد جمماء فممي الحممديث‪:‬‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫"قال الله‪ :‬قد فعلت"‪ .‬وفي رواية‪" :‬قال‪ :‬نعم" )‪.(1‬‬
‫مله أشد ّ المشّقة‪.‬‬
‫والصر هو العهد الثقيل الذي في تح ّ‬
‫شدائد التي كانت في عبادتهم‪.‬‬ ‫والغلل هي ال ّ‬
‫ل عَل َي َْنما‬
‫مم ْ‬
‫ح ِ‬
‫روى الطبري عن الربيمع قموله ‪ -‬تعمالى ‪َ) :-‬رب َّنما َول ت َ ْ‬
‫ن قَب ْل ِن َمما( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪(286‬‬ ‫مم ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ه عَل َممى ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬ ‫مل ْت َ ُ‬
‫ح َ‬ ‫صرا ً ك َ َ‬
‫ما َ‬ ‫إِ ْ‬
‫ددته على من قبلنا من أهل الكتاب‪.‬‬
‫يقول‪ :‬الّتشديد الذي ش ّ‬
‫وقال مالك‪ :‬الصر‪ :‬المر الغليظ)‪.(2‬‬
‫دة العمل)‪.(3‬‬
‫وقال سعيد‪ :‬الصر‪ :‬ش ّ‬
‫دا ودينممه مممن أهممل الكتمماب‪ ،‬وضممع‬
‫وقال مجاهد‪ :‬من اتبع محمم ً‬
‫عنهم ما كان عليهم من الّتشديد في دينهم )‪.(4‬‬
‫‪ - 1‬أخرجه مسلم )‪ (1/116‬رقم )‪.(126‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(3/158‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(9/85‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(9/85‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪155‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫قال الطبري‪ :‬وأولى القوال في ذلممك بالصممواب أن يقممال‪ :‬إن‬


‫مممي العهممد الممذي‬
‫الصر‪ :‬هو العهد‪ ،‬وأن معنى الكلم‪ :‬ويضع النبي ال ّ‬
‫كان الله أخذ على بني إسرائيل من إقامة التوراة‪ ،‬والعمل بما فيهمما‬
‫من العمال ال ّ‬
‫شممديدة‪ ،‬كقطممع الجلممد مممن البممول‪ ،‬وتحريممم الغنممائم‪،‬‬
‫ونحو ذلك من العمال التي كانت مفروضممة عليهممم‪ ،‬فنسممخها حكممم‬
‫القرآن )‪.(1‬‬
‫وفي آيتي البقرة والعراف إشارة إلى أنه‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬قد جمماء‬
‫سماحة والوسطّية‪.‬‬‫بالتيسير وال ّ‬
‫قال الجشمي‪ :‬دّلت آيممة ‪ -‬اليممة العممراف ‪ -‬علممى أن شممريعته‬
‫أسهل ال ّ‬
‫شرائع‪ ،‬وأنه وضع عن أمته كل ثقل كان في المم الماضية‬
‫)‪.(2‬‬
‫وجاء في فوائد أبي عمرو بممن منممدة بسممند صممحيح عممن أبممي بممن‬
‫دين عنممد اللممه الحنيفي ّممة‬
‫"إن الم ّ‬ ‫كعممب ‪ ‬قممال‪ :‬أقرأنممي النممبي‪ ،‬‬
‫سمحة ل اليهوديمة ول النصمرانية"‪ .‬قمال العلئي‪ :‬وهمذا إنمما نسمخ‬
‫ال ّ‬
‫لفظه وبقي معناه )‪.(3‬‬
‫ولبيان وسطّية السلم في الّتكاليف في ضوء ما شرعه الله في‬
‫أذكر نماذج من الحكام التي جاءت‬ ‫كتابه‪ ،‬وعلى لسان رسوله‪ ،‬‬
‫في التوراة التي بين أيديهم‪ ،‬يتبّين منها الغلل والصار الممتي كممانت‬
‫عليهم )‪.(4‬‬
‫جاء في سفر الخروج في الصحاح الحادي والعشرين‪:‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(9/85‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(7/2882‬‬

‫‪ - 3‬انظر قواعد العلئي لوحة )‪ ،(27‬نقل عن رفع الحرج في الشريعة ص )‪.(158‬‬

‫‪ - 4‬انظر لما سيأتي‪ :‬رفع الحرج في الشريعة ص )‪.(158‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪156‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫"من شتم أباه وأمه ُيقتل قتل‪ .‬إذا نطح ثور رجل أو امممرأة وكممان‬
‫حا من قبل‪ ،‬وقد أشممهد علممى صمماحبه ولممم يضممبطه فقتممل‬
‫الثور نطا ً‬
‫رجل أو امرأة فالثور يرجم وصاحبه يقتل"‪.‬‬
‫وفي الصحاح الخامس والثلثين وفي السفر نفسه‪" :‬ول تأخممذوا‬
‫فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل"‪.‬‬
‫س‬
‫وفي الصحاح الحادي عشر من سممفر اللوييممن‪" :‬كممل مممن مم ّ‬
‫سا إلى المساء‪ ،‬وكل ما تضممطجع عليممه فممي طمثهمما‬
‫ضا يكون نج ً‬
‫حائ ً‬
‫س‬
‫سمما‪ ،‬وكممل مممن مم ّ‬
‫سا‪ ،‬وكممل ممما تجلممس عليممه يكممون نج ً‬
‫يكون نج ً‬
‫سا إلى المساء"‪.‬‬ ‫فراشها يغسل ثيابه‪ ،‬ويستحم بماء‪ ،‬ويكون نج ً‬
‫وفي الصحاح الثاني والعشرين من سفر التثنية‪" :‬ل تحرث علممى‬
‫ثور وحمار مًعا‪ ،‬ول تلبس ثوًبا مختل ً‬
‫طا صوًفا وكتاًنا مًعا"‪.‬‬
‫قال الدكتور صالح بن حميد بعد أن ساق هممذه النممماذج‪ :‬وأصممدق‬
‫من ذلك وأبلغ قول الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬في الكتاب الذي ل يممأتيه‬
‫ن‬‫مم َ‬ ‫الباطل من بين يديه ول خلفه‪ ،‬تنمزيل من حكيم حميد‪) :‬فَب ِظ ُل ْم ٍ ِ‬
‫ل الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬
‫صد ّهِ ْ‬ ‫ت ل َهُ ْ‬
‫م وَب ِ َ‬ ‫ت أُ ِ‬
‫حل ّ ْ‬ ‫م ط َي َّبا ٍ‬
‫مَنا عَل َي ْهِ ْ‬
‫حّر ْ‬
‫دوا َ‬
‫ها ُ‬
‫ن َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ك َِثيممرًا( )النسمماء‪ (160:‬وقمموله ‪ -‬سممبحانه ‪ -‬فممي بيممان أنممواع مممن‬
‫ل ِذي‬ ‫كمم ّ‬‫مَنمما ُ‬ ‫حّر ْ‬‫دوا َ‬ ‫ها ُ‬
‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫المحرمات عليهم بسبب بغيهم‪) :‬وَعََلى ال ّ ِ‬
‫ت‬‫مل َم ْ‬ ‫ح َ‬‫ممما َ‬ ‫ما إ ِّل َ‬ ‫مه ُ َ‬ ‫حو َ‬ ‫شم ُ‬‫م ُ‬ ‫من َمما عَل َي ْهِ م ْ‬
‫حّر ْ‬ ‫ن ال ْب ََق مرِ َوال ْغَن َمم ِ َ‬
‫مم َ‬‫ظ ُُف مرٍ وَ ِ‬
‫ط ب ِعَظ ْمم ٍ ذ َل ِم َ‬ ‫خت َل َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م وَإ ِن ّمما‬ ‫م ب ِب َغْي ِهِم ْ‬‫جَزي ْن َمماهُ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ما ا ْ‬
‫واَيا أوْ َ‬ ‫ح َ‬‫ما أوِ ال ْ َ‬ ‫ظ ُُهوُرهُ َ‬
‫ن( )النعام‪.(146:‬‬ ‫صادُِقو َ‬ ‫لَ َ‬
‫مممة‬
‫ن به علممى هممذه ال ّ‬ ‫وكل ذلك ساقه الله في كتابه لبيان ما امت ّ‬
‫ل ل َهُ م ُ‬
‫م‬ ‫من التخفيف‪ ،‬والتيسير والتسهيل‪ ،‬ونعت نبيه‪  ،‬بأّنه‪) :‬وَي ُ ِ‬
‫ح ّ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪157‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ل ال ّت ِممي‬ ‫م َواْل َ ْ‬
‫غل َ‬ ‫ص مَرهُ ْ‬
‫م إِ ْ‬
‫ضعُ عَن ْهُ م ْ‬
‫ث وَي َ َ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫خَبائ ِ َ‬ ‫م عَل َي ْهِ ُ‬
‫حّر ُ‬
‫ت وَي ُ َ‬ ‫الط ّي َّبا ِ‬
‫م( )العراف‪ :‬من الية ‪.(157‬‬ ‫ت عَل َي ْهِ ْ‬ ‫َ‬
‫كان َ ْ‬
‫وقد ذكر علماؤنا ‪ -‬رحمهم الله ‪ -‬شيًئا مممن الصممار والغلل الممتي‬
‫كانت على من قبلنا‪ ،‬منها‪ :‬قطع موضع النجاسة من الثمموب أو منممه‪،‬‬
‫ومممن البممدن‪ ،‬وإحممراق الغنممائم‪ ،‬وتحريممم السممبت‪ ،‬وقطممع العضمماء‬
‫ديممة‪،‬‬
‫الخاطئة‪ ،‬وتعّين القصاص في العمد والخطأ مممن غيممر شممرع ال ّ‬
‫وأمروا بقتممل أنفسممهم علمممة علممى التوبممة‪ ،‬وطلممب منهممم أداء ربممع‬
‫المال في الزكاة‪ ،‬وعدم جواز الصلة إل في البيعة‪ ،‬وحرمة الجممماع‬
‫في أّيام الصوم بعد العتمة والّنوم‪ ،‬وحرمة الطعام بعد النوم‪ ،‬وعدم‬
‫الّتطهير بالتيمم‪ ،‬وكتابة ذنب اّلليل بال ّ‬
‫صبح على الباب‪.(1) .‬‬
‫ومما سبق يّتضح دللة آيتي البقرة والعراف علممى تقريممر منهممج‬
‫الوسطّية في الّتشريع والّتكليف‪.‬‬
‫سمما فمموق طاقتهمما‪،‬‬ ‫‪ -2‬وردت آيات كثيرة ُتبّين أن الله ل ُيكل ّممف نف ً‬
‫ف الل ّم ُ‬
‫ه‬ ‫سا إل وسعها وقممدرتها‪ ،‬قممال ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬ل ي ُك َل ّم ُ‬ ‫ول ُيكّلف نف ً‬
‫ه ن َْفسا ً إ ِّل َ‬
‫ما‬ ‫ف الل ّ ُ‬
‫سعََها( )البقرة‪ :‬من الية ‪) .(286‬ل ي ُك َل ّ ُ‬ ‫ن َْفسا ً إ ِّل وُ ْ‬
‫س معََها(‬ ‫س إ ِّل وُ ْ‬‫ف ن َْف م ٌ‬ ‫آَتاهَمما( )الطلق‪ :‬مممن اليممة ‪ .(7‬وقممال‪) :‬ل ت ُك َل ّم ُ‬
‫)البقممرة‪ :‬ممن اليمة ‪ (233‬وقمال ‪ -‬جممل فمي عله ‪) :-‬وَأ َوُْفموا ال ْك َي ْم َ‬
‫ل‬
‫سمعََها( )النعممام‪ :‬ممن اليمة‬ ‫ف ن َْفسما ً إ ِّل وُ ْ‬
‫ط ل ن ُك َّلم ُ‬‫سم ِ‬ ‫ن ِبال ِْق ْ‬ ‫َوال ْ ِ‬
‫ميمَزا َ‬
‫ف ن َْفس ما ً إ ِّل‬
‫ت ل ن ُك َل ّم ُ‬
‫حا ِ‬ ‫مل ُمموا ال ّ‬
‫صممال ِ َ‬ ‫من ُمموا وَعَ ِ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫‪ (152‬وقال‪َ) :‬وال ّم ِ‬
‫ف ن َْفس ما ً إ ِّل‬
‫سعََها( )العراف‪ :‬من الية ‪ (42‬وقال تعممالى‪َ) :‬ول ن ُك َل ّم ُ‬ ‫وُ ْ‬
‫ق( )المؤمنون‪ :‬من الية ‪.(62‬‬ ‫ب ي َن ْط ِقُ ِبال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫سعََها وَل َد َي َْنا ك َِتا ٌ‬‫وُ ْ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬لكل ما سبق كتاب رفع الحرج في الشريعة ص )‪ (158‬وما بعده‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪158‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ه ن َْفسما ً إ ِّل‬
‫ف الل ّم ُ‬
‫وعلممى الرغممم مممن أن قمموله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬ل ي ُك َل ّم ُ‬
‫سعََها( )البقرة‪ :‬من الية ‪ (286‬ظاهر الدللة على عدم الّتكليف إل‬ ‫وُ ْ‬
‫فممي حممدود القممدرة والميسممرة‪ ،‬إل أن اللممه ‪ -‬سممبحانه وتعممالى ‪ -‬قممد‬
‫أعقب هذه الجملة بدعاء على لسان عباده المؤمنين‪ ،‬ي ُممبّين فيممه أن‬
‫ط الصممار‬‫ن عليهم من عدم المؤاخذة بالخطأ والّنسمميان‪ ،‬وح م ّ‬‫ما امت ّ‬
‫والغلل‪ ،‬وعدم الّتكليف بممما ل ُيطمماق‪ ،‬وقممد انتظممم ذلمك فممي ثلثممة‬
‫أمور‪:‬‬
‫خط َأ ْن َمما(‬
‫سمميَنا أ َوْ أ َ ْ‬ ‫خ مذ َْنا إ ِ ْ‬
‫ن نَ ِ‬ ‫الول‪ :‬قمموله ‪ -‬تعممالى ‪َ) :-‬رب ّن َمما ل ت ُ َ‬
‫ؤا ِ‬
‫)البقرة‪ :‬من الية ‪.(286‬‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ه عََلى اّلمم ِ‬ ‫مل ْت َ ُ‬‫ح َ‬
‫ما َ‬‫صرا ً ك َ َ‬ ‫ل عَل َي َْنا إ ِ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ح ِ‬
‫الثاني‪ :‬قوله‪َ) :‬رب َّنا َول ت َ ْ‬
‫ن قَب ْل َِنا( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(286‬‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬
‫ة ل َن َمما ب ِم ِ‬
‫ه(‬ ‫ممما ل َ‬
‫طاقَم َ‬ ‫مل ْن َمما َ‬
‫ح ّ‬
‫الثالث‪ :‬قمموله ‪ -‬تعممالى ‪َ) :-‬رب ّن َمما َول ت ُ َ‬
‫قا على هذه الية‪:‬‬ ‫)البقرة‪ :‬من الية ‪ .(286‬قال البقاعي تعلي ً‬
‫وقد عرف الله عباده المؤمنين مواقممع نعمممه مممن دعمماء رّتبممه علممى‬
‫ممما بممأنه لممم يؤاخممذهم بممما‬
‫الخف فالخف على سممبيل التعلممي‪ ،‬إعل ً‬
‫اجترحوه نسياًنا‪ ،‬ول بما قارفوه خطأ‪ ،‬ول حمل عليهم ثقل‪ ،‬بل جعل‬
‫ملهم فوق طاقتهم‪ ،‬مع أّنه لممه جميممع‬
‫شريعتهم خفيفة سمحة‪ ،‬ول ح ّ‬
‫ذلك‪ ،‬وأّنه عفا عنهم في سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم‪.(1).‬‬
‫قال الدكتور‪ /‬صالح بن حميد معل ًّقا على آيات عدم الّتكليف‬
‫شممرعية إذ كمانت مطلوبممة فممي‬ ‫ن الحكممام ال ّ‬ ‫بما ل ُيطمماق‪ :‬ولشم ّ‬
‫كأ ّ‬
‫دللممة‬ ‫حدود الوسع والستطاعة دون بلوغ غاية ال ّ‬
‫طاقة‪ ،‬ففي ذلممك ال ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪ ،(3/733‬وانظر‪ :‬لما سبق كتاب رفع الحرج في الشريعة ص )‪.(71‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪159‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن الشريعة مبنية علمى التيسمير‪،‬‬ ‫ال ّ‬


‫ظاهرة على أن الحرج مرفوع‪ ،‬وأ ّ‬
‫وعدم التعسير‪ ،‬فهي حنيفّية سهلة سمممحة )وسممطّية(‪ ،‬فللممه الحمممد‬
‫والمّنة)‪.(1‬‬
‫ل ثنمماؤه ‪) :-‬ل ي ُك َل ّم ُ‬
‫ف‬ ‫وقال المام الطبري‪ :‬يعنممي بممذلك ‪ -‬ج م ّ‬
‫دها إل بممما‬ ‫ه ن َْفسما ً إ ِّل وُ ْ‬
‫سمعََها( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪ (286‬فيتعبم ّ‬ ‫الل ّم ُ‬
‫يسعها‪ ،‬فل يضّيق عليها‪ ،‬ول يجهدها)‪.(2‬‬
‫دللممة علممى أن هنمماك تكليًفمما‬
‫ففي كلم الطبري ‪ -‬رحمه اللممه ‪ -‬ال ّ‬
‫وأمًرا بالتعبد‪ ،‬ولكنه في حممدود الوسممع والطاقممة‪ ،‬ل تضممييق فيممه ول‬
‫إجهاد‪ ،‬وهذه حقيقة الوسطّية‪.‬‬
‫وقال رشيد رضا في تفسير قوله ‪ -‬تعــالى ‪) :-‬ل ي ُك َّلمم ُ‬
‫ف‬
‫ه ن َْفسا ً إ ِّل وُ ْ‬
‫سعََها( )البقرة‪ :‬من الية ‪ (286‬ول ُيحاسبها إل علممى‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ما كّلفها‪ ،‬والّتكليف هو اللزام بما فيه كلفة‪ ،‬والوسع ما تسعه قدرة‬
‫النسان من غير حرج ول عسر‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬همو ممما يسممهل عليمه‬
‫من المور المقدور عليها‪ ،‬وهو ما دون مدى طاقته‪.‬‬
‫دين أل ُيكل ّممف‬
‫ن شأنه ‪ -‬تعالى ‪ -‬وسممنته فممي شممرع ال م ّ‬
‫والمعنى‪ :‬أ ّ‬
‫عباده ما ل يطيقون )‪.(3‬‬

‫ن هممذه اليممات ُتق مّرر منهممج الوسممطّية فممي‬


‫وخلصة القـول‪ :‬إ ّ‬
‫التكليف‪ ،‬فهناك أوامممر ونممواهي‪ ،‬ولكنهمما فممي حممدود الوسممع‪ ،‬وعممدم‬
‫المشّقة‪ ،‬وليس فيها تضييق وعسر وإحراج‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬رفع الحرج في الشريعة ص )‪.(73‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(3/154‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(3/145‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪160‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫‪ -3‬ومممما يؤك ّممد ويقمّرر منهممج الوسممطّية فممي التشممريع والّتكليممف‬


‫ري مد ُ الل ّم ُ‬
‫ه‬ ‫ممما ي ُ ِ‬
‫اليات التي وردت برفممع الحممرج‪ ،‬كقمموله ‪ -‬تعممالى ‪َ ) :-‬‬
‫م‬‫جت ََبمماك ُ ْ‬
‫ج( )المائدة‪ :‬من الية ‪ .(6‬وقوله‪) :‬هُوَ ا ْ‬ ‫حَر ٍ‬
‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جع َ َ‬
‫ل ِي َ ْ‬
‫ج( )الحج‪ :‬من اليممة ‪ .(78‬وقمموله‪:‬‬ ‫حَر ٍ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫دي ِ‬
‫م ِفي ال ّ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جع َ َ‬‫ما َ‬ ‫وَ َ‬
‫ه( )الحممزاب‪ :‬ممن‬ ‫ه َلم ُ‬
‫ض الّلم ُ‬
‫مما َفمَر َ‬‫ج ِفي َ‬ ‫حَر ٍ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ي ِ‬‫ن عََلى الن ّب ِ ّ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫) َ‬
‫الية ‪.(38‬‬
‫ومثل ذلك اليات التي جاءت تنفي الحرج عن فئة معينة‪ ،‬كقمموله‬
‫َ‬
‫ج َول‬
‫حمَر ٌ‬ ‫س عَل َممى اْلعْ َ‬
‫مممى َ‬ ‫‪ -‬تعالى ‪ -‬في سورتي النور والفتح‪) :‬ل َي ْ َ‬
‫)‪(1‬‬

‫َْ‬
‫ج( )الفتممح‪ :‬مممن اليممة ‪.(17‬‬ ‫حمَر ٌ‬ ‫ض َ‬‫ريم ِ‬ ‫ج َول عََلى ال ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫حَر ٌ‬
‫ج َ‬ ‫َ‬
‫عَلى العَْر ِ‬
‫وبعد أن بّين ‪ -‬سبحانه ‪ -‬جواز الزواج من زوجة البن المتبنممي حيممث‬
‫زوج رسول الله ‪ ‬من زينب بعد طلق زيد لها‪ ،‬قممال ‪ -‬سممبحانه ‪:-‬‬
‫وا‬ ‫ذا قَ َ‬
‫ضم ْ‬ ‫م إِ َ‬ ‫ج أ َد ْ ِ‬
‫عي َممائ ِهِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫وا‬
‫َ‬ ‫ز‬
‫ْ‬
‫كون عََلى ال ْم مؤْمِنين ح مرج فممي أ َ‬
‫ُ ِ َ َ َ ٌ ِ‬ ‫ي ل يَ ُ َ‬
‫)ل ِك َ ْ‬
‫طرًا( )الحزاب‪ :‬من الية ‪.(37‬‬ ‫ن وَ َ‬‫من ْهُ ّ‬
‫ِ‬
‫سممماحة‬
‫قال الدكتور‪ /‬صالح بن حميــد‪ :‬إن رفممع الحممرج‪ ،‬وال ّ‬
‫والسممهولة راجممع إلممى الوسممط والعتممدال‪ ،‬فل إفممراط ول تفريممط‪،‬‬
‫)‪(2‬‬
‫فالتنطع والّتشديد حممرج فممي جممانب عسممر التكمماليف‪ ،‬والفممراط‬
‫والتقصير حرج فيما يؤدي إليه مممن تعطممل المصممالح وعممدم تحقيممق‬
‫مقاصد الشرع‪.‬‬
‫سطًا( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة‬ ‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫مأ ّ‬‫قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬
‫سممماحة ورفممع‬‫‪ .(143‬فالتوسط هممو منبممع الكمممالت‪ ،‬والّتخفيممف وال ّ‬
‫الحرج على الحقيقة هو في سلوك طريق الوسط والعدل‪.(3).‬‬
‫‪ - 1‬الية‪.(61) :‬‬

‫‪ - 2‬الصحيح‪ :‬والتفريط‪ ،‬ولعله خطأ مطبعي‪.‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬رفع الحرج في الشريعة ص )‪.(13‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪161‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ســرون فــي آيــتي المــائدة والحــج‪ :‬إن اللممه ‪-‬‬


‫قــال المف ّ‬
‫سبحانه وتعالى ‪ -‬ما كّلف عباده ما ل يطيقون‪ ،‬وممما ألزمهممم بشمميء‬
‫جا‪.‬‬
‫جا ومخر ً‬
‫يشقّ عليهم إل جعل الله لهم فر ً‬
‫مممة‬
‫شدائد والعزائم في المم‪ ،‬فأعطى الله هممذه ال ّ‬ ‫ولقد كانت ال ّ‬
‫دا قبلها‪ ،‬رحمة من الله وفضل‪.‬‬ ‫من المسامحة واللين ما لم يعط أح ً‬
‫يقول ابن العربي‪ :‬ولو ذهبت إلى تعديد نعم الله في رفع الحممرج‬
‫لطال المرام )‪.(1‬‬
‫ممما إل‬
‫قال الطوفي الحنبلي‪ :‬إن الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬لم يشرع حك ً‬
‫وأوسع الطريق إليه ويسره‪ ،‬حتى لم يبق دونه حرج ول عسر‪.‬‬
‫وقال‪ :‬ويحتج بهذه اليممة ونحوهمما مممن رأى أنممه إذا تعممارض فممي‬
‫مسممألة حكمممان اجتهاديممان خفيممف وثقيممل يرجممح الخفيممف دفًعمما‬
‫للحرج)‪.(2‬‬
‫ويقّرر ذلك الكيا الطبري حيث يقول‪ :‬ويحتج به فممي نفممي الحممرج‬
‫سمممحة‪ .‬وقممد عل ّممق علممى ذلممك‬
‫ضيق المنافي ظاهره للحنيفي ّممة ال ّ‬
‫وال ّ‬
‫القرطبي بقوله‪ :‬وهذا بّين)‪.(3‬‬
‫وقال رشيد رضا في تفسير آية المائدة‪:‬‬
‫ولما بّين فرض الوضوء وفرض الغسممل‪ ،‬وممما يحم ّ‬
‫ل محلهممما عنممد‬
‫تعم ّ‬
‫ذرهما أو تعسمّرهما‪ ،‬تممذكيًرا بهممما ومحافظممة علممى معنممى التعب ّممد‬
‫فيهما ‪ -‬وهو التيمم ‪ -‬بّين حكمة شرعهما لنا مبتدًئا ببيان قاعدة مممن‬
‫جع َ م َ‬
‫ل‬ ‫ريمد ُ الل ّم ُ‬
‫ه ل ِي َ ْ‬ ‫ممما ي ُ ِ‬ ‫أعظم قواعد هذه ال ّ‬
‫شريعة السمحة‪ .‬فقممال‪َ ) :‬‬
‫ج( )المائدة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(6‬أي‪ :‬ممما ُيريممد اللممه ليجعممل‬ ‫حَر ٍ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م ِ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬أحكام القرآن لبن العربي )‪ (3/1293‬ورفع الحرج في الشريعة ص )‪.(60‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬الشارات اللهية ص )‪ (132‬مخطوط‪ ،‬ورفع الحرج ص )‪.(61‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪ (3/432‬ورفع الحرج ص )‪.(61‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪162‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫جمما‬
‫ضمما ‪ -‬حر ً‬
‫عليكم فيما شرعه لكم في هذه الية ‪ -‬ول في غيرها أي ً‬
‫ما‪ .‬أي‪ :‬أدنى ضيق وأقل م ّ‬
‫شقة‪ ،‬لنه ‪ -‬تعممالى ‪ -‬غن ّممي عنكممم‪ ،‬رءوف‬
‫رحيم بكم‪ ،‬فهو ل يشرع إل ما فيه الخير والنفع لكم)‪.(1‬‬
‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م ِفممي‬ ‫جع َ َ‬
‫ما َ‬
‫وقال ابن كثير في قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَ َ‬
‫حَرٍج( )الحج‪ :‬من الية ‪ .(78‬أي ما كّلفكم ما ل تطيقممون‪،‬‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬
‫ن ِ‬
‫دي ِ‬
‫ال ّ‬
‫جمما‪،‬‬
‫جمما ومخر ً‬
‫وما ألزمكم بشيء يشقّ عليكم إل جعل اللممه لكممم فر ً‬
‫ولهذا قال‪ ،‬عليممه السمملم‪  :‬بعثممت بالحنيفي ّممة السمممحة ‪ .(2) ‬وقممال‬
‫ب ّ‬
‫شر ول ُتنّفممرا‬ ‫‪‬‬ ‫لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن‪:‬‬
‫سرا ‪ .(3) ‬والحاديث فممي هممذا كممثيرة‪ ،‬ولهممذا قممال ابممن‬ ‫سرا ول ُتع ّ‬
‫وي ّ‬
‫حَرٍج( )الحج‪ :‬مممن‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬‫دي ِ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م ِفي ال ّ‬ ‫جع َ َ‬
‫ما َ‬
‫عباس في قوله‪) :‬وَ َ‬
‫الية ‪ (78‬يعني من ضيق )‪.(4‬‬
‫وقد اتضح لنا مما سبق أن آيات رفع الحرج دليل واضممح وبرهممان‬
‫قاطع على وسطّية هذا الدين في تشريعه وتكاليفه‪.‬‬
‫‪ -4‬ونواصل ذكممر الدلممة مممن القممرآن الكريممم فممي بمماب الّتشممريع‬
‫دين‪ ،‬وسّر من‬ ‫والّتكليف التي تقّرر منهج الوسطّية‪ ،‬وأنه سمة هذا ال ّ‬
‫أسرار عظمته‪ ،‬وهذه اليات هي آيات الّتخفيف والّتيسير‪.‬‬
‫م ال ْعُ ْ‬
‫س مَر(‬ ‫ري مد ُ ب ِك ُم ُ‬ ‫م ال ْي ُ ْ‬
‫س مَر َول ي ُ ِ‬ ‫ري مد ُ الل ّم ُ‬
‫ه ب ِك ُم ُ‬ ‫قال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬ي ُ ِ‬
‫سممُر َ‬
‫ك‬ ‫ل فممي عله ‪) :-‬وَن ُي َ ّ‬ ‫)البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(185‬وقممال ‪ -‬جمم ّ‬
‫ر‬
‫سم ِ‬‫ممعَ ال ْعُ ْ‬ ‫ن َ‬‫سممرا ً إ ِ ّ‬ ‫معَ ال ْعُ ْ‬
‫سمرِ ي ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ل ِل ْي ُ ْ‬
‫سَرى( )العلى‪ .(8:‬وقال‪) :‬فَإ ِ ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(6/258‬‬

‫‪ - 2‬تقدم تخريجه ص )‪.(110‬‬

‫‪ - 3‬تقدم تخريجه ص )‪.(109‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(3/236‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪163‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫يسرًا( )الشمممرح‪ .(5،6:‬وقممال‪) :‬يريمد الل ّم َ‬


‫ق‬
‫خل ِم َ‬ ‫ف عَن ْك ُم ْ‬
‫م وَ ُ‬ ‫خّفم َ‬
‫ن يُ َ‬
‫هأ ْ‬‫ُ‬ ‫ُ ِ ُ‬ ‫ُ ْ‬
‫ضِعيفًا( )النساء‪.(28:‬‬
‫ن َ‬ ‫اْل ِن ْ َ‬
‫سا ُ‬
‫مة اليسر والّتخفيف‪ ،‬ونفي‬
‫فهذه اليات تبّين أن الله أراد بهذه ال ّ‬
‫إرادة العسر والمشّقة‪.‬‬
‫وهذه اليات وإن كان بعضها ورد في سياق قضية خاصممة‪ ،‬كاليممة‬
‫الولممى وردت فممي شممأن الّرخصممة فممي الصمميام إل أن المممراد منهمما‬
‫سممرين‪ ،‬ومثممل ذلممك آيممة‬
‫العموم‪ ،‬كما صرح بذلك غير واحد من المف ّ‬
‫النساء‪ ،‬فقد وردت في سياق ما أبيح من نكاح الماء عند العجز عن‬
‫سرين أن المممراد عممموم‬
‫الحرائر‪ .‬إل أن الذي صرح به كثير من المف ّ‬
‫الّتخفيف في ال ّ‬
‫شريعة‪ ،‬وإرادة التيسير ورفع المشّقة)‪.(1‬‬
‫ضممحاك‪ :‬اليسممر الفطممر فممي‬
‫قال القرطــبي‪ :‬قممال مجاهممد وال ّ‬
‫صوم في السفر‪ .‬قال القرطبي‪ :‬والوجه‪ :‬عممموم‬ ‫سفر‪ .‬والعسر‪ :‬ال ّ‬
‫ال ّ‬
‫م‬ ‫ل عَل َي ْ ُ‬
‫كمم ْ‬ ‫جَعمم َ‬
‫ما َ‬
‫اللفظ في جميع أمور الدين‪ ،‬كما قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَ َ‬
‫ج( )الحج‪ :‬من الية ‪.(2)(78‬‬ ‫حَر ٍ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬‫دي ِ‬
‫ِفي ال ّ‬
‫ري مد ُ‬ ‫م ال ْي ُ ْ‬
‫س مَر َول ي ُ ِ‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬
‫ه ب ِك ُم ُ‬ ‫وقال رشيد رضا في الية‪) :‬ي ُ ِ‬
‫سَر( )البقرة‪ :‬من الية ‪ .(185‬وهذا تعليل لما قبله‪ ،‬أي‪ :‬يريد‬ ‫م ال ْعُ ْ‬
‫ب ِك ُ ُ‬
‫فيما شرعه من هذه الرخصة في الصيام‪ ،‬وسممائر ممما يشممرعه لكممم‬
‫ما ل عسر فيه)‪.(3‬‬
‫من أحكام‪ ،‬أن يكون دينكم يسًرا تا ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬رفع الحرج في الشريعة ص )‪.(68‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(2/301‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(2/164‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪164‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقال ابن كثير في قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬يري مد الل ّم َ‬


‫ف عَن ْك ُم ْ‬
‫م‬ ‫خّف م َ‬
‫ن يُ َ‬
‫هأ ْ‬‫ُ‬ ‫ُ ِ ُ‬
‫ض مِعيفًا( )النسمماء‪ .(28:‬أي‪ :‬فممي شممرائعه‪ ،‬وأوامممره‪،‬‬ ‫ن َ‬ ‫خل ِقَ اْل ِن ْ َ‬
‫سا ُ‬ ‫وَ ُ‬
‫ونواهيه‪ ،‬وما يقدره لكم )‪.(4‬‬
‫مة‪ ،‬وفي كممل شمميء فيممه يسممر )‪.(2‬‬‫وقال مجاهد‪ :‬أي في نكاح ال ّ‬
‫ومن هنمما نخلممص إلممى أن آيممات التيسممير والّتخفيممف جمماءت لرسمماء‬
‫دين‪ ،‬وذلك أن الوسطّية ركن مممن أركممان ديمومممة هممذا‬
‫قواعد هذا ال ّ‬
‫دين وعالميته‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫‪ -5‬وأختم هذا الباب بذكر بعض الدّلة العلمية التي تؤك ّممد‬
‫وسطّيه هذا الدين في باب الّتشريع والتكليف‪:‬‬
‫سمِع‬ ‫مو ِ‬ ‫ن عََلمى ال ْ ُ‬ ‫مت ُّعوهُ ّ‬ ‫)أ( قال ‪ -‬تعالى ‪ -‬في شأن المطلقات‪) :‬وَ َ‬
‫ن(‬ ‫س مِني َ‬
‫ح ِ‬ ‫حّق ما ً عَل َممى ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ف َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫مَتاع ما ً ب ِممال ْ َ‬ ‫قَد َُرهُ وَعََلى ال ْ ُ‬
‫مْقت ِرِ قَد َُرهُ َ‬
‫حّقما ً‬‫ف َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫مت َمماعٌ ب ِممال ْ َ‬
‫ت َ‬ ‫مط َل َّقا ِ‬
‫)البقرة‪ :‬من الية ‪ .(236‬وقال‪) :‬وَل ِل ْ ُ‬
‫ن( )البقرة‪ .(241:‬والقضية تدور على عدة محاور؛ فإممما‬ ‫عََلى ال ْ ُ‬
‫مت ِّقي َ‬
‫أل يكون هناك أي تمتيع للمطلقة‪ ،‬وهذا له آثمماره السمملبية‪ ،‬وبخاصممة‬
‫على المطّلقة التي ستستقبل حياة جديدة‪ ،‬تحتاج إلى تخفيممف وقممع‬
‫ما أن يكون هناك تمتيع مغّلظ‪ ،‬وهذا‬
‫سّيا ومعنوّيا‪ .‬وإ ّ‬ ‫ال ّ‬
‫طلق وأثره ح ّ‬
‫فيه إثقال على الزوج المطلق‪.‬‬
‫وإما أن تكون هناك متعة ُيراعى فيهمما ظممروف الممزوج وإمكانمماته‪،‬‬
‫مع عدم إهمال حقّ المطلقة في المتعة‪.‬‬
‫عا من لممدن‬
‫وهذا هو المر الوسط الذي أقّره القرآن‪ ،‬وأصبح شر ً‬
‫حكيم عليم‪.‬‬
‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪ (1/479‬وتفسير القاسمي )‪.(5/1201‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(5/30‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪165‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫َ‬
‫ن‬‫م وَل َك ِم ْ‬ ‫ه ب ِممالل ّغْوِ فِممي أي ْ َ‬
‫مممان ِك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫خذ ُك ُ ُ‬ ‫ؤا ِ‬‫)ب( قال ‪ -‬تعالى ‪َ) :-‬ل ي ُ َ‬
‫م( )البقرة‪ .(225:‬وفممي‬ ‫حِلي ٌ‬ ‫ه غَُفوٌر َ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫ت قُُلوب ُك ُ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬
‫سب َ ْ‬ ‫م بِ َ‬ ‫خذ ُك ُ ْ‬
‫ؤا ِ‬‫يُ َ‬
‫َ‬
‫خ مذ ُك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ؤا ِ‬‫ن يُ َ‬‫م وَل َك ِم ْ‬ ‫ه ِبالل ّغْوِ ِفي أي ْ َ‬
‫مان ِك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫خذ ُك ُ ُ‬ ‫سورة المائدة‪) :‬ل ي ُ َ‬
‫ؤا ِ‬
‫َ‬
‫ن( )المائدة‪ :‬من الية ‪.(89‬‬ ‫ما َ‬ ‫م اْلي ْ َ‬‫ما عَّقد ْت ُ ُ‬‫بِ َ‬
‫وموضــوع الحنــث فــي اليميــن‪ ،‬إممما أن يكممون فيممه كفممارة‬
‫بإطلق‪ ،‬أو ل يكون فيه كفارة بإطلق‪ ،‬أو التفصيل‪.‬‬
‫والمر الول‪ :‬فيه من المشّقة والعسر ما ل يخفى‪.‬‬
‫دي إلممى السممتهانة بمماليمين‪ ،‬وهممو قممادح مممن‬
‫والمر الثاني‪ُ :‬يؤ ّ‬
‫قوادح اليمان‪.‬‬
‫ما التفصيل‪ :‬وهو التفريق بين لغو اليميممن الممذي يصممعب التحممرز‬ ‫أ ّ‬
‫ما ما عممداه ففيممه الكفممارة ال ّ‬
‫شممرعية صمميانة‬ ‫منها‪ ،‬فهذا معفو عنه‪ ،‬أ ّ‬
‫لليمين والقسم‪ ،‬فهذا هو المر الوسط‪ ،‬فل إفراط فيه ول تفريط‪.‬‬
‫ممما‬
‫م بِ َ‬‫خمذ ُك ُ ْ‬
‫ؤا ِ‬ ‫ن يُ َ‬‫)جم( قال ‪ -‬تعالى ‪ -‬في بيان كفارة اليمين‪) :‬وَل َك ِم ْ‬
‫شمرة مسمماكين مم َ‬ ‫َ‬
‫ممما‬‫ط َ‬‫سم ِ‬ ‫ن أو ْ َ‬ ‫م عَ َ َ ِ َ َ ِ َ ِ ْ‬ ‫ه إ ِط ْعَمما ُ‬ ‫ن فَك َّفمماَرت ُ ُ‬ ‫م اْلي ْ َ‬
‫ممما َ‬ ‫عَّقمد ْت ُ ُ‬
‫تط ْعِمون أ َهِْليك ُم أ َو كسوته َ‬
‫م‬
‫صمَيا ُ‬ ‫جمد ْ فَ ِ‬ ‫م يَ ِ‬ ‫ن ل َم ْ‬ ‫ريمُر َرقَب َمةٍ فَ َ‬
‫مم ْ‬ ‫ح ِ‬
‫م أو ْ ت َ ْ‬ ‫ْ ْ ِ ْ َُُ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬
‫ذا حل َْفتم واحَف ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َثلث َةِ أ َّيام ٍ ذ َل ِ َ‬
‫م( )المائدة‪:‬‬ ‫مان َك ُ ْ‬
‫ظوا أي ْ َ‬ ‫م إِ َ َ ُ ْ َ ْ‬ ‫مان ِك ُ ْ‬ ‫ك ك َّفاَرةُ أي ْ َ‬
‫من الية ‪.(89‬‬
‫والوسطّية في هذه الية من ثلثة وجوه‪:‬‬
‫ن إطعام المساكين ُيراعممى فممي نوعيممة الطعممام أو الكسمموة‬
‫‪ -1‬أ ّ‬
‫الوسط في ذلك‪ ،‬وجعل المقياس الذي ُيرجع إليممه فممي اختيممار هممذا‬
‫الوسط إطعام الرجل لهله أو كسمموتهم‪ ،‬فينظممر فممي ذلممك ويخممرج‬
‫الوسط منه‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪166‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ضا ‪.-‬‬
‫وفي هذا تتحقق الوسطّية من وجهين ‪ -‬أي ً‬
‫الول‪ :‬مراعاة الوسط في حق كل إنسان‪ ،‬فلم يؤخذ من أعلى‬
‫ضا ‪.-‬‬
‫ماله أو أدناه‪ ،‬بل الوسط منه‪ ،‬مراعاة للفقير ‪ -‬أي ً‬
‫الثاني‪ :‬مراعاة الفرق بين حال الغني والفقير والمتوسط‪ ،‬وهذا‬
‫فيه من معنى الوسطّية ما فيه‪ ،‬فلم يأت الحكم بالتسوية بينهم‪.‬‬
‫ممما الطعممام‪ ،‬أو‬
‫‪ -2‬أّنه جعل الكفارة تدور على أحد ثلثممة أمممور‪ :‬إ ّ‬
‫الكسوة‪ ،‬أو العتاق‪ ،‬والحالف مخي ّممر بينهمما دون إلممزام بواحممد منهمما‪،‬‬
‫وهذا فيه من التوسعة والتيسير ما ل يخفى‪.‬‬
‫‪ -3‬إذا لم يجد الحالف أو لم يستطع على أي نوع من هذه الثلثممة‬
‫انتقل إلى الصيام‪ ،‬وهذه رحمة من الله وتوسعة على عباده‪.‬‬
‫وبهذا اجتمعت أطراف الوسطّية في هممذه القضممية‪ ،‬وهممي قضممية‬
‫جزئية يسيرة‪ ،‬فل شك أن ممما كممان أعلممى منهمما وأش مد ّ كلفممة تكممون‬
‫مراعاة الوسطّية فيه من باب أولى‪ ،‬لن الله غني عًنا وعن أعمالنا‪،‬‬
‫ولكن الّتشريع ميدان للمتحان والبتلء‪ ،‬والله بنا رءوف رحيم‪.‬‬
‫)د( كذلك نلحظ الوسطّية فممي هممذا التشممريع‪ ،‬قممال ‪ -‬سممبحانه ‪:-‬‬
‫ل ل َك ُمم الط ّيبممات وط َعممام ال ّمذي ُ‬ ‫م أُ ِ‬
‫ل ل َك ُم ْ‬
‫م‬ ‫حم ّ‬ ‫ن أوت ُمموا ال ْك ِت َمما َ‬
‫ب ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫َّ ُ َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫حم ّ‬ ‫)ال ْي َوْ َ‬
‫ن‬‫مم َ‬ ‫ت ِ‬‫صمَنا ُ‬ ‫ح َ‬‫م ْ‬‫ت َوال ْ ُ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫من َمما ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مم َ‬ ‫ت ِ‬‫صمَنا ُ‬‫ح َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َوال ْ ُ‬ ‫ل ل َهُم ْ‬
‫حم ّ‬ ‫م ِ‬‫مك ُ ْ‬ ‫وَط ََعا ُ‬
‫ذا آتيتموهُ ُ‬ ‫ال ّذي ُ‬
‫ن غَي ْمَر‬‫ص مِني َ‬‫ح ِ‬‫م ْ‬‫ن ُ‬ ‫جمموَرهُ ّ‬ ‫نأ ُ‬ ‫ّ‬ ‫م إِ َ َ ْ ُ ُ‬‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬
‫ن( )المممائدة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(5‬والوسممطّية‬ ‫دا ٍ‬ ‫خم َ‬ ‫ذي أ َ ْ‬ ‫خم ِ‬‫مت ّ ِ‬
‫ن َول ُ‬ ‫حي َ‬ ‫سافِ ِ‬ ‫م َ‬
‫ُ‬
‫تبرز في موضوع الطعام‪ ،‬وموضوع النكاح من أهل الكتمماب‪ ،‬مممما ل‬
‫يحتاج إلى شرح أو تفصيل‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪167‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫طلق‬‫)هممم( وكممذلك نممرى إقممرار منهممج الوسممطّية فممي موضمموع ال ّ‬


‫حا دون قيممد أو شممرط أو‬‫متا ً‬
‫طلق‪ ،‬ولم يجعله ُ‬ ‫مه فلم يحرم ال ّ‬ ‫وأحكا ُ‬
‫وصف‪.‬‬
‫ن فيها المرأة من طلقة واحممدة‬ ‫بل إّنه فّرق بين الحالت التي تبي ُ‬
‫أو من ثلث طلقات‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫طلق وأحكامه من أقوى الدلممة علممى هممذا‬ ‫ول شك أن موضوع ال ّ‬
‫المنهج الذي روعيممت فيممه أحمموال وأوضمماع تتعل ّممق بالرجممل والمممرأة‬
‫والسرة‪.‬‬
‫واليات الممتي وردت فممي سممورتي البقممرة وال ّ‬
‫طلق هممي البرهممان‬
‫على ذلك‪.‬‬
‫هذه بعض الدّلة العمليممة علممى الوسممطّية الممتي رسمممها القممرآن‪،‬‬
‫وأكدها في أكثر من موضع في باب التشريع والّتكاليف‪.‬‬
‫ومن خلل ما سبق‪ ،‬اتضحت المنطلقات الساسية التي ت ُممبّين‬
‫شرعي في الّتشريع والّتكليف‪ ،‬حيث ذكرت أن اللممه وضممع‬ ‫المنهج ال ّ‬
‫عّنا الصر والغلل المتي كمانت علمى ممن قبلنما‪ ،‬وأن اللمه ل ُيكّلمف‬
‫سا فوق طاقتها‪ ،‬بل ل يكّلف نف ً‬
‫سا إل وسممعها‪ ،‬وممما آتاهمما‪ ،‬وآيممات‬ ‫نف ً‬
‫رفع الحرج دللة قوّية على متانة هذا المنهج في وسممطّية الّتشممريع‪،‬‬
‫يؤكد ذلك ويقّرره ما صاحب ذلك من يسر ورفع للعسممر والمشممقة‪.‬‬
‫ن‬
‫كممل ذلمك أوصملنا للحقيقممة المتي اسمتهدفناها‪ ،‬وبممدأنا بهما‪ ،‬وهممي أ ّ‬
‫القرآن الكريم عنى عناية تامة في رسم منهج الوسطّية وتثبيته‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪168‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫)‪(1‬‬
‫العبادة‬
‫عن أنس بن مالك ‪ ‬قال‪  :‬جاء ثلثة رهممط إلممى بيمموت أزواج‬
‫النبي‪  ،‬يسألون عن عبادته‪ ،‬فلما ُأخبروا كأنهم تقاّلوهمما‪ ،‬فقممالوا‪:‬‬
‫أين نحن من النبي‪ ،‬صلى الله عليه وسلم؟ قد ُ‬
‫غفر له ما تقدم مممن‬
‫خر‪.‬‬
‫ذنبه وما تأ ّ‬
‫دا‪.‬‬
‫ما أنا فأصلي الليل أب ً‬
‫فقال أحدهم‪ :‬أ ّ‬
‫وقال الخر‪ :‬أنا أصوم الدهر ول أفطر‪.‬‬
‫دا‪.‬‬
‫وقال آخر‪ :‬أما أنا فل أتزوج النساء أب ً‬
‫فقال‪ :‬إني لخشاكم لله وأتقاكم له‪ ،‬لكنممي‬ ‫فجاء رسول الله‪ ،‬‬
‫أصوم وأفطر‪ ،‬وأصلي وأرقد‪ ،‬وأتزوج النساء‪ ،‬فمن رغب عن سممنتي‬
‫فليس مني ‪.(2) ‬‬
‫المسممجد‪ ،‬فممإذا‬ ‫وعن أنس بن مالك ‪ ‬قال‪  :‬دخل النممبي‪ ،‬‬
‫حبل ممدود بين ساريتين فقال‪ :‬ما هممذا الحبممل؟ فقممالوا‪ :‬هممذا حبممل‬
‫لزينب‪ ،‬فإذا فترت تعّلقت به‪ ،‬فقال النبي‪  ،‬حّلوه‪ ،‬ليصل أحممدكم‬
‫نشاطه‪ ،‬فإذا فتر فليرقد ‪.(3) ‬‬
‫دخممل وعنممدها‬ ‫وعن عائشة ‪ -‬رضي الله عنهمما ‪  -‬أن النممبي‪ ،‬‬
‫امرأة قال‪ :‬من همذه؟ قمالت‪ :‬فلنمة‪ ،‬تمذكر ممن صملتها‪ ،‬قمال‪ :‬ممه‪،‬‬
‫عليكم بما تطيقون‪ ،‬فوالله ل يمل الله حتى تم ّ‬
‫لوا ‪‬‬

‫دين إليه ما داوم عليه صاحبه )‪.(4‬‬


‫ب ال ّ‬
‫وكان أح ّ‬

‫‪ - 1‬الحديث عن العبادة سيشمل معناها الخاص والعام‪.‬‬

‫‪ - 2‬تقدم تخريجه ص )‪.(59‬‬

‫‪ - 3‬أخرجه البخاري )‪ ،(48/ 2‬ومسلم )‪ (1/542‬رقم )‪.(784‬‬

‫‪ - 4‬أخرجه البخاري )‪ ،(2/48‬ومسلم )‪ (1/542‬رقم )‪.(785‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪169‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫هذه الحاديث صريحة في رسم منهج الوسممطّية فممي العبممادة‬


‫فالحديث الول في غاية البيان والوضمموح‪ ،‬والحممديث الثمماني ‪ -‬قصممة‬
‫ث علمى القتصماد فمي العبمادة‪،‬‬
‫زينب ‪ -‬قال فيه ابن حجر‪ :‬فيمه الحم ّ‬
‫ضما ‪:-‬‬
‫والثمالث قمال فيمه ابمن حجمر ‪ -‬أي ً‬ ‫مق فيها‬
‫)‪(1‬‬
‫والنهي عن التع ّ‬
‫"عليكم بممما تطيقممون"‪ :‬أي اشممتغلوا مممن العمممال بممما تسممتطيعون‬
‫المداومة عليه‪ ،‬فمنطوقه يقتضي المر بالقتصار على ما ُيطاق من‬
‫العبادة‪ ،‬ومفهومه يقتضي النهي عن تكّلف ما ل ُيطاق )‪.(2‬‬
‫دا ‪ -‬جمماءت علممى نسممق‬
‫وهذه الحاديث ‪ -‬وأمثالها ‪ -‬وهي كثيرة ج ّ‬
‫ما جاء فممي القممرآن فممي تحديممده مسممار العبممادة فممي ضمموء المنهممج‬
‫الوسط‪ ،‬وتشنيعه على أولئك الممذين خرجمموا بالعبممادة عممن مسممارها‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫دده القممرآن الكريممم‪،‬‬ ‫ج في بيان ذلك الطممار الممذي ح م ّ‬
‫وقبل أن أل ّ‬
‫ن من المناسب ذكر المناهممج السممائدة فيممما يتعل ّممق بالعبممادة‬ ‫وأرى أ ّ‬
‫طا وإفرا ً‬
‫طا‪ ،‬فأقول‪:‬‬ ‫تفري ً‬
‫المنهج الول‪ :‬ويمثله اليهود في تفريطهم وجفائهم‪ ،‬فلو نظرنا‬
‫إلى التوراة ‪ -‬بعد تحريفها ‪ -‬لوجممدنا أن تقممديس المممادة غلممب علممى‬
‫بنودها‪ ،‬فل تقرأ في أسفار التوراة ذكًرا للخممرة‪ ،‬حممتى ممما ورد فيهمما‬
‫شمخص إل‬ ‫من وعد ووعيد فإنما هو متعّلق بالدنيا فقط‪ ،‬فل يعممل ال ّ‬
‫لتحقيق كسب عاجل‪ ،‬أو خوًفا من عقوبة عاجلة‪.‬‬

‫‪ - 1‬فتح الباري )‪.(3/37‬‬

‫‪ - 2‬فتح الباري )‪ (1/102‬وانظر‪ :‬الغلو في الدين ص )‪.(78‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪170‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫َ‬
‫بل بالغوا وطبقوا ماديتهم حتى في معرفة الله‪ ،‬فقالوا‪) :‬أرَِنا الل ّ َ‬
‫ه‬
‫حت ّممى ن َمَرى‬ ‫ن ل َم َ‬
‫ك َ‬ ‫م َ‬ ‫ة( )النساء‪ :‬من الية ‪ .(153‬وقالوا‪) :‬ل َم ْ‬
‫ن ن ُمؤْ ِ‬ ‫جهَْر ً‬ ‫َ‬
‫ة( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(55‬‬
‫جهَْر ً‬
‫ه َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ووفًقا لهممذا التصممور المممادي الممدنيوي أغممرق هممؤلء فممي تقممديس‬
‫المحسوسممات‪ ،‬واتخممذوها طريًقمما للرقممي‪ ،‬وأصممبحت القيممم الماديممة‬
‫محور الحيمماة‪ ،‬وتحممول النسممان فممي نظممر هممؤلء إلممى آلممة تتحمّرك‪،‬‬
‫ومعدة تهضم‪ ،‬وكائن يلهو‪.‬‬
‫وقد وصفهم القرآن الكريــم‪ ،‬وبيممن مممدى تعّلقهممم بالحيمماة‬
‫س عَل َممى‬ ‫وحرصهم عليها‪ ،‬فقممال ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬ول َتجمدنه َ‬
‫ص الن ّمما ِ‬
‫حمَر َ‬
‫مأ ْ‬ ‫َ َ ِ َُّ ْ‬
‫ة( )البقرة‪ :‬من الية ‪ .(96‬أي حياة‪ ،‬حتى لو كممانت حيمماة البهممائم‬ ‫حَيا ٍ‬
‫َ‬
‫من ّوْهُ أ ََبدًا( )البقرة‪ :‬من‬ ‫ونحوها‪ .‬وذلك لنهم يخشون الموت‪) :‬وَل َ ْ‬
‫ن ي َت َ َ‬
‫الية ‪ .(95‬لنهممم ربطمموا غممايتهم بالممدنيا‪ ،‬فعملهممم للممدنيا‪ ،‬وعبممادتهم‬
‫لمآرب دنيوية‪ :‬فإذا انتهت الدنيا فقد فاتهم كل شيء‪.‬‬
‫فهم بهذا أغرقوا في الشهوات‪ ،‬وعبدوا أنفسهم للماديممات‪ ،‬فهممم‬
‫حي َمما‬
‫ت وَن َ ْ‬
‫مممو ُ‬ ‫ي إ ِّل َ‬
‫حَيات َُنا المد ّن َْيا ن َ ُ‬ ‫ما هِ َ‬
‫كمشركي قريش الذين قالوا‪َ ) :‬‬
‫ما ي ُهْل ِك َُنا إ ِّل الد ّهُْر( )الجاثمية‪ :‬من الية ‪.(1)(24‬‬
‫وَ َ‬
‫وهذا المنهج يمثل التفريط في أسوأ صوره وحالته‪ ،‬ولذلك أمرنا‬
‫الله أن نستعيذ منممه فممي كممل صمملة‪ ،‬ونسممأله أن يجّنبنمما إّيماه‪) .‬غَي ْم ِ‬
‫ر‬
‫م( )الفاتحة‪ :‬من الية ‪.(7‬‬‫ب عَل َي ْهِ ْ‬
‫ضو ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫مغ ْ ُ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬لما سبق الوسطّية في السلم د‪ /‬زيد الزيد ص )‪.(39‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪171‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫أما المنهج الثاني وهو المنهج القائم على الروحانيممات‪ ،‬وذلممك‬


‫بإعلئها وتمجيدها‪ ،‬وأغرقوا في مفهوم العبادة والرهبنة‪ ،‬ويمثل هممذا‬
‫المنهج النصارى‪ ،‬وهو منهج الفراط والغلو‪.‬‬
‫وابتممدع النصممارى رهبانيممة قاسممية علممى النفممس‪ ،‬تح مّرم الممزواج‪،‬‬
‫وتكبت الغرائز‪ ،‬وترفض كل أشكال الزينة‪ ،‬وطيبممات الممرزق‪ ،‬وتممرى‬
‫سا من عمل الشيطان‪ ،‬وبالغوا في العبادة‪ ،‬وأخرجوهمما عممن‬
‫ذلك رج ً‬
‫كيفيتها‪ ،‬وعن المراد منها‪ ،‬وأصبحت رهبانية غاليممة مشمموهة‪ ،‬معذبممة‬
‫ة‬‫للجسمماد‪ ،‬ابتممدعوها مممن أنفسممهم‪ ،‬بل حجممة أو برهممان‪) .‬وََرهَْبان ِّيمم ً‬
‫ق‬
‫حم ّ‬ ‫ممما َرعَوْهَمما َ‬ ‫ن الل ّمهِ فَ َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م إ ِّل اب ْت ِغَمماَء رِ ْ‬
‫ضم َ‬ ‫ها عَل َي ْهِ ْ‬
‫ما ك َت َب َْنا َ‬‫ها َ‬
‫عو َ‬‫اب ْت َد َ ُ‬
‫ل‬ ‫عاي َت َِها( )الحديد‪ :‬من الية ‪ .(27‬ولذلك كانت حممالهم ومممآلهم‪) :‬هَ م ْ‬ ‫رِ َ‬
‫ص مَلى ن َممارا ً‬ ‫ة تَ ْ‬
‫ص مب َ ٌ‬
‫ة َنا ِ‬‫مل َم ٌ‬
‫عا ِ‬
‫ة َ‬‫شع َ ٌ‬
‫خا ِ‬
‫مئ ِذٍ َ‬ ‫جوهٌ ي َوْ َ‬ ‫شي َةِ وُ ُ‬‫ث ال َْغا ِ‬ ‫دي ُ‬
‫ح ِ‬‫ك َ‬ ‫أ ََتا َ‬
‫ة( )الغاشية‪.(1)(4-1:‬‬
‫مي َ ً‬
‫حا ِ‬
‫َ‬
‫وهذا المنهج يمثل الفراط والغلو‪ ،‬وهو الموجه الثماني ممن وجموه‬
‫صراط المستقيم‪ ،‬ولذلك ُأمرنا بممأن نسممأل اللممه أن‬ ‫النحراف عن ال ّ‬
‫ضاّلي َ‬
‫ن( )الفاتحة‪ :‬من الية ‪.(7‬‬ ‫يجّنبنا إياه؛ )َول ال ّ‬
‫وأمام هذا الغلو المادي الذي يمّثل التفريط فممي العبممادة‪ ،‬والغلممو‬
‫الروحاني الذي يمثل الفراط فيها والتفريممط فممي حممق البممدن‪ ،‬جمماء‬
‫سممبل‪ ،‬وأعممدل‬ ‫السمملم لُيصممحح المسممألة‪ ،‬ويهممدي النمماس لقمموم ال ّ‬
‫طرق‪ ،‬طريق الوسط بين عبادة المادة ونسيان حق ال مّروح‪ ،‬وبيممن‬ ‫ال ّ‬
‫إرهاق الروح ونسيان حق البدن‪ ،‬ليعطممي كممل ذي ح مقّ حّقممه‪ ،‬وفًقمما‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬الوسطّية في السلم د‪ /‬زيد الزيد ص )‪.(41‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪172‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫صمميب َ َ‬
‫ك‬ ‫س نَ ِ‬ ‫داَر اْل ِ‬
‫خَرةَ َول ت َن ْ َ‬ ‫ك الل ّ ُ‬
‫ه ال ّ‬ ‫ما آَتا َ‬
‫لقوله ‪ -‬تعالى ‪َ) :-‬واب ْت َِغ ِفي َ‬
‫ن الد ّن َْيا( )القصص‪ :‬من الية ‪.(77‬‬ ‫م َ‬
‫ِ‬
‫ونجد أن القرآن الكريم قممد قمّرر هممذا المنهممج فممي آيممات كممثيرة‪،‬‬
‫تنتظم فيما يلي‪:‬‬
‫أول‪ :‬اليات التي تبّين انحراف أولئك الذين صرفوا العبممادة عممن‬
‫ْ‬ ‫وجهها الصحيح‪ ،‬وذلك مثل قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬قُ ْ َ‬
‫مُروّني‬ ‫ل أفَغَي َْر الل ّهِ ت َمأ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ممم ْ‬‫ت ت َعْب ُد ُ ِ‬ ‫ما َ‬
‫كان َ ْ‬ ‫ها َ‬ ‫صد ّ َ‬‫ن( )الزمر‪ .(64:‬وقوله‪) :‬وَ َ‬ ‫جاهُِلو َ‬ ‫أعْب ُد ُ أي َّها ال ْ َ‬
‫ل‬ ‫ن( )النممل‪ .(43:‬وقموله‪ُ) :‬قم ْ‬ ‫ري َ‬ ‫كمافِ ِ‬ ‫ن َقموْم ٍ َ‬ ‫مم ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫ن الل ّهِ إ ِن َّها َ‬
‫كمان َ ْ‬ ‫دو ِ‬ ‫ُ‬
‫ضّرا ً َول ن َْفع مًا( )المممائدة‪ :‬مممن‬ ‫َ‬
‫م َ‬ ‫ك ل َك ُ ْ‬ ‫مل ِ ُ‬ ‫ما ل ي َ ْ‬‫ن الل ّهِ َ‬ ‫دو ِ‬‫ن ُ‬‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫أت َعْب ُ ُ‬
‫م إ ِّل‬ ‫َ‬
‫ممما ن َعْب ُمد ُهُ ْ‬
‫دون ِمهِ أوْل ِي َمماَء َ‬ ‫ن ُ‬ ‫مم ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خم ُ‬ ‫ن ات ّ َ‬ ‫الية ‪ .(76‬وقوله‪َ) :‬وال ّم ِ‬
‫ذي َ‬
‫م ِفي مهِ‬ ‫ممما هُ م ْ‬ ‫م فِممي َ‬ ‫حك ُم ُ‬
‫م ب َي ْن َهُ م ْ‬ ‫ه يَ ْ‬‫ن الل ّم َ‬ ‫ل ِي َُقّرُبون َمما إ ِل َممى الل ّمهِ ُزل َْفممى إ ِ ّ‬
‫ن‬‫مم ْ‬ ‫س َ‬‫ن الن ّمما ِ‬ ‫مم َ‬ ‫ن( )الزمر‪ :‬من الية ‪ .(3‬ومثل ذلك قوله‪) :‬وَ ِ‬ ‫خت َل ُِفو َ‬
‫يَ ْ‬
‫ة‬
‫ه فِت ْن َم ٌ‬ ‫خيمر اط ْممأ َن بمه وإ َ‬ ‫يعبد الل ّه عََلى حرف فَإ َ‬
‫صمماب َت ْ ُ‬
‫نأ َ‬ ‫َ ّ ِ ِ َِ ْ‬ ‫ه َ ْ ٌ‬ ‫صمماب َ ُ‬
‫نأ َ‬ ‫َ ْ ٍ ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫َُْ ُ‬
‫ن(‬ ‫مِبي م ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫س مَرا ُ‬‫خ ْ‬ ‫ك ه ُ مو َ ا ل ْ ُ‬
‫خَرةَ ذ َل ِم َ‬‫سَر الد ّن َْيا َواْل ِ‬
‫خ ِ‬ ‫ب عََلى وَ ْ‬
‫جهِهِ َ‬ ‫ان َْقل َ َ‬
‫)الحج‪.(11:‬‬
‫فهذه اليات وأمثالها ترسممم منهممج الوسممطّية فممي العبممادة ببيممان‬
‫انحراف طريق هؤلء الذين قلبوا العبادة على وجهها الصحيح‪.‬‬
‫ن ي َعُْبمد ُ الّلم َ‬
‫ه‬ ‫مم ْ‬
‫س َ‬
‫ن الّنما ِ‬
‫مم َ‬
‫قال ابن كثير في قموله ‪ -‬تعمالى ‪) :-‬وَ ِ‬
‫ف( )الحج‪ :‬مممن اليممة ‪ (11‬قممال مجاهممد وقتممادة وغيرهممما‪:‬‬ ‫عََلى َ‬
‫حْر ٍ‬
‫)على حرف( على شك‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪173‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقال غيرهم‪ :‬على طرف‪ ،‬ومنممه حممرف الحبممل‪ ،‬أي‪ :‬طرفممه‪ ،‬أي‪:‬‬
‫دخممل فممي الممدين علممى طممرف‪ ،‬فممإن وجممد ممما يحبممه اسممتقر وإل‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(1‬‬
‫انشمر‬
‫ص فممي دللممة اليممة‬
‫وانظر إلى قول القرطبي‪ ،‬حيممث إن قمموله نم ّ‬
‫على المراد‪ .‬قال‪) :‬على حممرف(‪ .‬علممى شم ّ‬
‫ك‪ ،‬قمماله مجاهممد وغيممره‪.‬‬
‫وحقيقته أنه على ضممعف فممي عبممادته‪ ،‬كضممعف القممائم علممى حممرف‬
‫مضطرب فيه‪ ،‬وحرف كل شيء‪ :‬طرفه وشفيره وحده‪ ،‬ومنه حرف‬
‫دد‪.‬‬
‫الحبل‪ ،‬وهو أعله المح ّ‬
‫وقيل‪) :‬على حرف(‪ ،‬أي علممى وجممه واحممد‪ ،‬وهممو أن يعبممده علممى‬
‫سممراء‬
‫سممراء دون الض مّراء‪ ،‬ولممو عبممدوا اللممه علممى الشممكر فممي ال ّ‬
‫ال ّ‬
‫والصبر على الضّراء لما عبدوا الله على حرف‪.‬‬
‫وقيل‪) :‬على حرف(‪ .‬على شرط)‪.(2‬‬
‫م إ ِّل ل ِي َُقّرُبوَنما إ َِلمى‬
‫مما ن َعُْبمد ُهُ ْ‬
‫وقال ابن كثير في قوله ‪ -‬تعالى ‪َ ) :-‬‬
‫الل ّهِ ُزل َْفى( )الزممر‪ :‬مممن اليمة ‪ .(3‬أي ليشممفعوا لنما ويقّربونما عنمده‬
‫جوا في جاهليتهم‪ :‬لبيك‬‫منمزلة‪ ،‬ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا ح ّ‬
‫كا هو لك‪ ،‬تملكه وما ملك‪ ،‬وهذه الشممبهة هممي‬‫ل شريك لك‪ ،‬إل شري ً‬
‫دهر وحديثه‪ ،‬وجاءتهم الرسل‪،‬‬
‫التي اعتمدها المشركون في قديم ال ّ‬
‫دهمما والنهمي عنهمما‪ ،‬والممدعوة‬
‫صلوات الله وسلمه عليهم أجمعين‪ ،‬بر ّ‬
‫إلى إفراد العبادة لله وحمده ل شمريك لمه‪ ،‬وأن همذا شميء اخمترعه‬
‫المشركون من عند أنفسهم لم يممأذن اللممه فيممه‪ ،‬ول رضممي بممه‪ ،‬بممل‬
‫أبغضه ونهى عنه)‪.(3‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(3/209‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(12/17‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/45‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪174‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ثانًيا‪ :‬اليات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحممده‪ ،‬وتصممف عبممادته‬
‫بالستقامة‪ ،‬وبأن عبادته هي الكلمة السممواء‪ ،‬وغيممر ذلممك مممما يممدل‬
‫ضلل‪:‬‬ ‫على أن عبادته هي الطريق الوسط السالم من النحراف وال ّ‬
‫واٍء ب َي ْن َن َمما‬
‫سم َ‬ ‫وا إ ِل َممى ك َل ِ َ‬
‫م مة ٍ َ‬ ‫ب ت َعَممال َ ْ‬ ‫ل ي َمما أ َهْ م َ‬
‫ل ال ْك ِت َمما ِ‬ ‫قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬قُ ْ‬
‫ش مْيئًا( )آل عمممران‪ :‬مممن اليممة‬ ‫وبينك ُ َ‬
‫ك ب ِمهِ َ‬ ‫شرِ َ‬ ‫ه َول ن ُ ْ‬ ‫م أّل ن َعْب ُد َ إ ِّل الل ّ َ‬
‫َََْ ْ‬
‫دوهُ هَ م َ‬
‫ذا‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َرّبي وََرب ّك ُ ْ‬
‫م َفاعْب ُ ُ‬ ‫‪ .(64‬وقال في أكثر من موضع)‪) (1‬إ ِ ّ‬
‫م( )آل عمران‪.(51:‬‬ ‫ست َِقي ٌ‬
‫م ْ‬ ‫صَرا ٌ‬
‫ط ُ‬ ‫ِ‬
‫ن( )الحجر‪ (99:‬واليممات الممتي‬ ‫حّتى ي َأ ْت ِي َ َ‬
‫ك ال ْي َِقي ُ‬ ‫وقال‪َ) :‬واعْب ُد ْ َرب ّ َ‬
‫ك َ‬
‫دا‪ ،‬فممما مممن نممبي إل قممال‬ ‫جاءت تممأمر بعبممادة اللمه وحممده كممثيرة جم ّ‬
‫لقومه‪" :‬يا قوم اعبدوا الله"‪ .‬قال الطبري في قوله تعممالى‪) :‬ت َعَممال َ ْ‬
‫وا‬
‫واٍء( )آل عمران‪ :‬من الية ‪ .(64‬يعني بذلك ‪ -‬ج ّ‬
‫ل ثنمماؤه‬ ‫س َ‬ ‫إ َِلى ك َل ِ َ‬
‫مةٍ َ‬
‫‪ -‬قل يا محمد لهل الكتمماب‪ ،‬وهممم أهممل التمموراة والنجيممل ‪ -‬تعممالوا‪:‬‬
‫موا إلى كلمة سواء‪ ،‬يعني إلى كلمة عدل بيننا وبينكم‪.‬‬
‫هل ّ‬
‫حد الله فل نعبد غيره‪ ،‬ونبرأ من كممل‬
‫والكلمة العدل‪ :‬هي أن نو ّ‬
‫معبود سواه‪ ،‬فل نشرك به شيًئا)‪.(2‬‬
‫م( )آل عمممران‪:‬‬ ‫واٍء ب َي ْن ََنا وَب َي ْن َك ُ ْ‬
‫س َ‬
‫وقال ابن كثير في الية نفسها‪َ ) :‬‬
‫من الية ‪ (64‬أي‪ :‬عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها‪ ،‬ثم فسممرها‬
‫ش مْيئًا( )آل عمممران‪ :‬مممن اليممة‬ ‫َ‬
‫شرِ َ‬
‫ك ب ِهِ َ‬ ‫بقوله‪) :‬أّل ن َعْب ُد َ إ ِّل الل ّ َ‬
‫ه َول ن ُ ْ‬
‫ما ول طاغوت ًمما ول نمماًرا ول شمميء‪ ،‬بممل‬
‫‪ .(64‬ل وثًنا ول صليًبا ول صممن ً‬
‫نفرد العبادة لله وحده ل شريك له‪ ،‬هذه دعوة جميع الرسل‪) ،‬وَل ََقد ْ‬
‫‪ - 1‬ففي سورة مريم‪ ،‬الية‪) (36) :‬وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم(‪ .‬وفي سورة الزخرف‪ ،‬الية‪) (64) :‬إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط‬

‫مستقيم(‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(3/301‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪175‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫جت َن ُِبوا ال ّ‬ ‫َ‬ ‫بعث ْنا في ك ُ ّ ُ‬


‫ت( )النحممل‪:‬‬ ‫طا ُ‬
‫غو َ‬ ‫دوا الل ّ َ‬
‫ه َوا ْ‬ ‫سول ً أ ِ‬
‫ن اعْب ُ ُ‬ ‫مةٍ َر ُ‬
‫لأ ّ‬ ‫ََ َ ِ‬
‫من الية ‪.(1)(36‬‬
‫وقال رشيد رضا‪ :‬قممال السممتاذ المممام فممي قمموله ‪ -‬تعممالى ‪:-‬‬
‫واٍء( )آل عمران‪ :‬من الية ‪ (64‬لما نكلوا دعاهم‬ ‫س َ‬ ‫وا إ َِلى ك َل ِ َ‬
‫مةٍ َ‬ ‫)ت ََعال َ ْ‬
‫إلى أمممر آخممر‪ ،‬هممو أصممل الممدين وروحممه الممذي اتفقممت عليممه دعمموة‬
‫النبياء‪ ،‬وهو سممواء بيممن الفريقيممن‪ ،‬أي عممدل ووسممط ل يرجممح فيممه‬
‫َ‬
‫ه( )آل عمممران‪:‬‬‫سره بقوله‪) :‬أّل ن َعْب ُمد َ إ ِّل الل ّم َ‬
‫طرف على آخر‪ ،‬وقد ف ّ‬
‫من الية ‪ (64‬الية)‪.(2‬‬
‫ص في الوسطّية في العبادة‪ ،‬وهممي‬ ‫وبهذا يتضح لنا أن هذه الية ن ّ‬
‫عبادة الله وحده‪.‬‬
‫صمَرا ٌ‬
‫ط‬ ‫دوهُ هَم َ‬
‫ذا ِ‬ ‫ن الل ّم َ‬
‫ه َرب ّممي وََرب ّك ُم ْ‬
‫م َفاعْب ُم ُ‬ ‫ما قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬إ ِ ّ‬
‫أ ّ‬
‫م( )آل عمران‪ .(51:‬فقد قــال الطــبري فــي معناهــا‪:‬‬ ‫ست َِقي ٌ‬
‫م ْ‬
‫ُ‬
‫ذلك هو الطريق القويم‪ ،‬والهدي المتين الذي ل اعوجاج فيه )‪.(3‬‬
‫م َفاعْب ُم ُ‬
‫دوهُ هَ م َ‬
‫ذا‬ ‫كمم ْ‬ ‫ن الل ّم َ‬
‫ه َرب ّممي وََرب ّ ُ‬ ‫وقال في آية مريــم‪) :‬وَإ ِ ّ‬
‫م( )مريممم‪ .(36:‬يقممول‪ :‬هممذا الممذي أوصمميتكم بممه‪،‬‬
‫سممت َِقي ٌ‬
‫م ْ‬ ‫صممَرا ٌ‬
‫ط ُ‬ ‫ِ‬
‫وأخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم‪ ،‬الذي من سمملكه‬
‫نجا‪ ،‬ومن ركبه اهتدى‪ ،‬لنه دين الله الذي أمر به أنبياءه )‪.(4‬‬
‫وقال القاسمي‪:‬‬
‫م( )مريم‪ :‬من الية ‪ (36‬أي‪ :‬قممويم‪،‬‬
‫ست َِقي ٌ‬
‫م ْ‬ ‫صَرا ٌ‬
‫ط ُ‬ ‫ذا ِ‬ ‫)َفاعْب ُ ُ‬
‫دوهُ هَ َ‬
‫من اتبعه رشد وهدى‪ ،‬ومن خالفه ض ّ‬
‫ل وغوى )‪.(5‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/371‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(3/325‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(3/283‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(16/85‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(11/4137‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪176‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقممد سمبق أن بّينمت أن الوسمطّية تعنممي السممتقامة وأن قمموله ‪-‬‬


‫م( )الفاتحممة‪ .(6:‬ممن أقموى الدلمة‬ ‫ست َِقي َ‬ ‫ط ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫صَرا َ‬
‫تعالى ‪) :-‬اهْدَِنا ال ّ‬
‫على منهج الوسطّية‪ ،‬كما يقّرره القرآن الكريم‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬اليات المتي جماءت فمي بعمض أنمواع العبمادة فممي معناهمما‬
‫الخاص كالصلة والدعاء وغيرهما‪ ،‬حيث نجد فيها أمًرا بالتزام منهممج‬
‫الوسممط‪ ،‬ونهي ًمما عممن الضمماعة أو الرهبنممة‪ ،‬وهممو ممما يمثممل الفممراط‬
‫والتفريط‪.‬‬
‫وسأذكر بعض اليات التي وردت في ذلك‪ ،‬مقتصًرا على ما ُيممبّين‬
‫المراد‪ ،‬مع بيان دللة الية على الوسطّية‪.‬‬
‫م الله الفراط في العبادة والغلو فيها‪ ،‬حيمث قمال فمي حمق‬ ‫‪ -1‬ذ ّ‬
‫م إ ِّل‬
‫ما ك َت َب َْناهَمما عَل َي ْهِ م ْ‬
‫ها َ‬ ‫عو َ‬ ‫ة اب ْت َد َ ُ‬‫بني إسرائيل من النصارى‪) :‬وََرهَْبان ِي ّ ً‬
‫م‬
‫من ْهُم ْ‬
‫من ُمموا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫عاي َت َِها َفآت َي ْن َمما ال ّم ِ‬ ‫حق ّ ر ِ َ‬ ‫ها َ‬ ‫ن الل ّهِ فَ َ‬
‫ما َرعَوْ َ‬ ‫وا ِ‬
‫ض َ‬ ‫اب ْت َِغاَء رِ ْ‬
‫َ‬
‫ن( )الحديد‪ :‬من الية ‪.(27‬‬ ‫سُقو َ‬ ‫م َفا ِ‬ ‫م وَك َِثيٌر ِ‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫جَرهُ ْ‬‫أ ْ‬
‫قال القاسمممي‪ :‬الرهبانيممة هممي المبالغممة فممي العبممادة‪ ،‬والرياضممة‬
‫والنقطاع عن الناس‪ ،‬وإيثار العزلة والتبتل )‪.(1‬‬
‫مممة‬
‫وقــال ابــن كــثير‪" :‬ورهبانيممة ابتممدعوها" أي ابتممدعتها أ ّ‬
‫م( )الحديد‪ :‬من الية ‪ (27‬أي‪ :‬ما شرعناها‬ ‫ها عَل َي ْهِ ْ‬
‫ما ك َت َب َْنا َ‬
‫النصارى‪َ ) .‬‬
‫عاي َت َِها(‬
‫حق ّ ر ِ َ‬
‫ها َ‬ ‫لهم‪ ،‬وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم‪) ،‬فَ َ‬
‫ما َرعَوْ َ‬
‫)الحديد‪ :‬من الية ‪ (27‬أي‪ :‬فما قاموا بما التزموه حق القيام‪ ،‬وهممذا‬
‫م لهم من وجهين‪:‬‬
‫ذ ّ‬
‫أحدهما‪ :‬البتداع في دين الله ما لم يأمر به الله‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(16/5698‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪177‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫الثاني‪ :‬في عممدم قيممامهم بممما الممتزموه‪ ،‬مممما زعممموا أنمه قربمة‬
‫)‪.(1‬‬ ‫يقّربهم إلى الله ‪‬‬
‫و‬
‫وهذه الّرهبانية التي ابتدعها النصارى لم يشرعها الله‪ ،‬وهي غلمم ّ‬
‫في العبادة‪ ،‬ولذلك كانت النتيجة عدم قدرتهم على المحافظة عليها‬
‫لمشّقتها وصعوبتها‪.‬‬
‫ما ك َت َب َْناهَمما عَل َي ْهِ م ْ‬
‫م( )الحديممد‪ :‬مممن اليممة‬ ‫وقول الله ‪ -‬جل وعل ‪َ ) :-‬‬
‫‪ (27‬دليل على أن الله ل يشرع ول يكّلف بما فيه غلوّ ومشّقة‪ ،‬كما‬
‫سبق بيانه‪.‬‬
‫ولقد اعترف عدد من متأخري النصارى بخطأ هذا الغلوّ والرهبنممة‬
‫التي ابتدعها أسلفهم‪ ،‬وأنها ليست من دين الله‪ ،‬ونحن لسنا بحاجمة‬
‫إلى ذلك لن الله قد بين هذا المر في كتابه‪ ،‬ولكممن هممذا العممتراف‬
‫له دللته التي ل تخفى‪ .‬وقد ذكر القاسمي بعممض هممذه العترافممات‬
‫تفصيل‪ ،‬أذكر نتًفا منها)‪.(2‬‬
‫ن الرهبنممة قممد‬
‫قممال صماحب ريحانمة النفمموس ‪ -‬وهممو نصمراني‪ :-‬إ ّ‬
‫هم بممأن النفمراد عممن معاشممرة النماس‪ ،‬واسممتعمال‬
‫نشأت مممن التممو ّ‬
‫التقشفات والتأملت الدينية‪ ،‬هي ذات شأن عظيممم‪ ،‬ولكممن ل يوجممد‬
‫سند لهذا الوهم فممي الكتممب المقدسممة‪ ،‬لن مثممال المسمميح‪ ،‬ومثممال‬
‫رسله يضادانه باستقامة‪ .‬ثم قممال‪ :‬ونحممن نقممول بكممل جممرأة‪ :‬إنممه ل‬
‫يوجد في جميع الكتاب المقدس مثممال للرهبنممة‪ ،‬ول يوجممد أمممر مممن‬
‫أوامره يلزم بها‪ ،‬بل العكس‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/315‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(16/5698‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪178‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وفممي كتمماب الممبراهين النجيليممة ضممد الباطيممل البابويممة‪ :‬إن ذم‬


‫الزيجة خطأ‪ ،‬لنها عمل الفضل‪ ،‬لن الرسول أخبر بأن الزواج خيممر‬
‫من التوّقد بنار ال ّ‬
‫شهوة‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية تغصب النسان علممى‬
‫استيفاء حقها‪ ،‬ومن العدل أن نستوفيه ‪ -‬إلى أن قال ‪ :-‬ولذلك نرى‬
‫كثيًرا من القساوسة والسمماقفة والشمامسممة‪ ،‬ل بممل مممن البممابوات‬
‫المممدعين بالعصممة‪ ،‬قممد تكردسموا فممي هموة الزنما‪ ،‬لعمدم تحصممنهم‬
‫بالزواج الشرعي‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬فالطريقة الرهبانية هي اختراع شيطاني قبيح‪ ،‬لممم يكممن‬
‫له رسم في الكتب المقدسة‪ ،‬ول في أجيال الكنيسة الولى‪.‬‬
‫وختم كلمه ‪ -‬الطويل ‪ -‬بقمموله‪ :‬ول تتسممع الصممحف لشممرح جميممع‬
‫الضرار التي وقعت على العالم بسبب الرهبنات‪.‬‬
‫قال القاسمي معقًبا على ذلك‪ :‬وهو حجة عليهم منهم )‪.(1‬‬
‫هذه نتيجة الرهبنة والفراط والغلوّ الذي ذمه الله‪ ،‬فقال‪َ) :‬يا أ َهْ َ‬
‫ل‬
‫م( )النسمماء‪ :‬مممن اليممة ‪ .(171‬وقممال‪:‬‬ ‫ب ل ت َغُْلمموا ِفممي ِدين ِ ُ‬
‫كمم ْ‬ ‫ال ْك َِتمما ِ‬
‫م( )الحديد‪ :‬من الية ‪.(27‬‬‫ها عَل َي ْهِ ْ‬‫ما ك َت َب َْنا َ‬
‫ها َ‬
‫عو َ‬
‫ة اب ْت َد َ ُ‬
‫)وََرهَْبان ِي ّ ً‬
‫‪ -2‬وكممما ذم اللممه الغلمموّ والرهبنممة فقممد ذم التفريممط والتضممييع‬
‫عوا‬
‫ضمما ُ‬ ‫خل ْم ٌ َ‬ ‫خل َم َ‬‫والهمممال‪ ،‬فقممال ‪ -‬سممبحانه ‪) :-‬فَ َ‬
‫فأ َ‬ ‫م َ‬
‫ن ب َعْ مدِهِ ْ‬
‫مم ْ‬
‫ف ِ‬
‫ن غَي ًّا( )مريممم‪ .(59:‬قممال ابممن‬ ‫ف ي َل َْقوْ َ‬ ‫ت فَ َ‬
‫سو ْ َ‬ ‫وا ِ‬ ‫صلةَ َوات ّب َُعوا ال ّ‬
‫شه َ َ‬ ‫ال ّ‬
‫كثير مبيًنا دللة هذه الية على الخروج عن منهج الوسطّية‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(16/5700‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪179‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫لممما ذكممر اللممه ‪ -‬تعممالى ‪ -‬حممزب السممعداء‪ ،‬وهممم النبيمماء‪ ،‬عليهممم‬


‫دين‬‫السلم‪ ،‬ومن اتبعهم من القممائمين بحممدود اللممه‪ ،‬وأوامممره‪ ،‬المممؤ ّ‬
‫خْلمم ٌ‬
‫ف(‬ ‫م َ‬
‫ن ب َعْدِهِ ْ‬‫م ْ‬
‫ف ِ‬‫خل َ َ‬
‫فرائض الله‪ ،‬التاركين لزواجره‪ ،‬وذكر أنه )فَ َ‬
‫ة( )مريممم‪ :‬مممن‬ ‫صل َ‬ ‫َ‬
‫عوا ال ّ‬ ‫ضا ُ‬
‫)مريم‪ :‬من الية ‪ (59‬أي قرون أخر‪) .‬أ َ‬
‫الية ‪ (59‬وإذا أضاعوها فهم لما سممواها مممن الواجبممات أضمميع‪ ،‬لنهمما‬
‫عماد الدين وقوامه‪ ،‬وخير أعمال العباد‪ ،‬وأقبلوا على شهوات الممدنيا‬
‫سمميلَقون غي ّمما‪،‬‬
‫وملذها‪ ،‬ورضوا بالحياة الدنيا واطمممأنوا بهمما‪ ،‬فهممؤلء َ‬
‫أي‪ :‬خسارة يوم القيامة)‪.(1‬‬
‫وقال الشنقيطي في تفسير الية‪ :‬فخلف مممن بعممد أولئك‬
‫النبيين خلف‪ ،‬أي‪ :‬أولد سوء‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬إن هممذا الخلممف السمميئ الممذي خلممف مممن بعممد أولئك‬
‫النبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة أنهم أضاعوا الصلة‪ ،‬واتبعوا‬
‫الشهوات‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬فإذا عرفممت كلم العلممماء فممي اليممة الكريمممة‪ ،‬وأن اللممه‬
‫ي الذي هممو الشممّر‬‫عد فيها من أضاع الصلة‪ ،‬واتبع الشهوات‪ ،‬بالغ ّ‬ ‫تو ّ‬
‫العظيم‪ ،‬والعممذاب الليممم‪ ،‬فمماعلم أنممه أشممار إلممى هممذا المعنممى فممي‬
‫م الممذين يضمميعون الصمملة ول يحممافظون‬‫مواضع أخر‪ ،‬كقمموله فممي ذ ّ‬
‫ن( )الماعون‪(4:‬‬‫صّلي َ‬
‫م َ‬ ‫ل ل ِل ْ ُ‬
‫عليها وتهديدهم‪( :‬فَوَي ْ ٌ‬
‫ن( )الماعون‪(5:‬‬
‫هو َ‬
‫سا ُ‬
‫م َ‬
‫صلت ِهِ ْ‬
‫ن َ‬
‫م عَ ْ‬
‫ن هُ ْ‬ ‫(ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(3/137‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪180‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن( )الماعون‪ .(6:‬وأشار في مواضع كممثيرة إلممى‬ ‫ؤو َ‬ ‫م ي َُرا ُ‬


‫ن هُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫(ال ّ ِ‬
‫شممهوات‪ ،‬وتهديممدهم‪ ،‬كقمموله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬ذ َْرهُم ْ‬
‫م‬ ‫ذم الذين يّتبعممون ال ّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن( )الحجر‪.(3:‬‬ ‫ف ي َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ل فَ َ‬
‫سو ْ َ‬ ‫م اْل َ‬
‫م ُ‬ ‫مت ُّعوا وَي ُل ْهِهِ ُ‬
‫ي َأك ُُلوا وَي َت َ َ‬
‫ويفهم من مفهوم مخالفممة اليممة الكريمممة أن الخلممف الطيممبين ل‬
‫يضمميعون الصمملة‪ ،‬ول يّتبعممون ال ّ‬
‫شممهوات‪ ،‬وقممد أشممار إلممى هممذا فممي‬
‫مواضممع كممثيرة مممن كتممابه‪ ،‬كممما فممي سممورة المممؤمنين فممي وصممف‬
‫س‬ ‫َ‬
‫م َرب ّهِ وَن ََهى الن ّْف َ‬
‫مَقا َ‬
‫ف َ‬
‫خا َ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ما َ‬
‫المؤمنين‪ ،‬وكقوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَأ ّ‬
‫مأ َْوى( )النازعمات‪.(41 ،40:‬‬ ‫ي ال ْ َ‬
‫ة هِ َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫ن ال ْهَ َ‬
‫وى فَإ ِ ّ‬ ‫عَ ِ‬
‫و‬
‫‪ -3‬وبعممد أن ذكممرت اليممات الممتي تممدل علممى النهممي عممن الغل م ّ‬
‫والفراط أو التفريط والتضييع أذكر بعض اليات الممتي تممأمر بممالتزام‬
‫الوسط بين الفراط والتفريط‪.‬‬
‫ن ذ َل ِم َ‬
‫ك‬ ‫ت ب ِهَمما َواب ْت َمِغ ب َي ْم َ‬
‫خافِ ْ‬ ‫صلت ِ َ‬
‫ك َول ت ُ َ‬ ‫جهَْر ب ِ َ‬
‫قال ‪ -‬تعالى ‪َ) :-‬ول ت َ ْ‬
‫ل( )السراء‪ :‬من الية ‪.(110‬‬ ‫سِبي ً‬
‫َ‬

‫قال ابن كثير‪:‬‬


‫حدثنا هشيم‪ ،‬حدثنا أبو بشر عممن سممعيد بممن‬ ‫)‪(1‬‬
‫قال المام أحمد‬
‫متمموار‬ ‫جبير عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬نمزلت هذه الية ورسول الله‪ ،‬‬
‫ت ب َِها( )السممراء‪ :‬مممن اليممة ‪(110‬‬
‫خافِ ْ‬ ‫صلت ِ َ‬
‫ك َول ت ُ َ‬ ‫جهَْر ب ِ َ‬
‫بمكة‪َ) :‬ول ت َ ْ‬
‫قال‪ :‬كان إذا صلى بأصحابه رفممع صمموته بممالقرآن‪ ،‬فلممما سمممع ذلممك‬
‫المشركون سّبوا القرآن وسّبوا من أنمزله‪ ،‬ومن جاء به‪ ،‬قال‪ :‬فقال‬

‫‪ - 1‬المسند )‪.(215 ،1/23‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪181‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫"ول تجهممر بصمملتك"‪ .‬أي بقراءتممك فيسمممع‬ ‫الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬لنبيه‪ ،‬‬
‫ت ب ِهَمما( )السممراء‪ :‬مممن اليممة‬
‫خممافِ ْ‬
‫المشركون فيسبوا القممرآن‪َ) ،‬ول ت ُ َ‬
‫‪ (110‬عن أصحابك فل تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنممك‪َ) .‬واب ْت َمِغ‬
‫سِبي ً‬
‫ل( )السراء‪ :‬من اليممة ‪ (110‬أخرجمماه فممي الصممحيحين‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬
‫ك َ‬ ‫ب َي ْ َ‬
‫)‪ (1‬من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به )‪.(2‬‬
‫وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابممن عبمماس‪ :‬نمممزلت فممي‬
‫الدعاء )‪.(3‬‬
‫قال القرطبي‪:‬‬
‫صمملت ِ َ‬
‫ك َول‬ ‫روى مسمملم عممن عائشممة فممي قمموله ‪َ) ‬ول ت َ ْ‬
‫جهَ مْر ب ِ َ‬
‫ت ب َِها( )السراء‪ :‬من الية ‪ (110‬قالت‪ :‬أنمزل هذا فممي الممدعاء‬ ‫خافِ ْ‬
‫تُ َ‬
‫)‪ .(4‬والشاهد أن هذه الية تأمر بالتوسط بيممن أمريممن منهممي عنهممما‪،‬‬
‫س مِبي ً‬
‫ل(‬ ‫ك َ‬ ‫ن ذ َل ِم َ‬
‫وهما الجهر الشديد أو المخافتة والسممرار )َواب ْت َمِغ ب َي ْم َ‬
‫)السراء‪ :‬من الية ‪.(110‬‬
‫ن‬
‫دو َ‬‫ة وَ ُ‬ ‫ض مّرعا ً وَ ِ‬
‫خيَف م ً‬ ‫ك تَ َ‬ ‫سم َ‬ ‫وقال ‪ -‬تعالى ‪َ) :-‬واذ ْك ُمْر َرب ّم َ‬
‫ك فِممي ن َْف ِ‬
‫ن ال َْقوْ ِ‬
‫ل ()لعراف‪ :‬من الية ‪.(205‬‬ ‫م َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫جهْرِ ِ‬
‫قال القرطبي‪) :‬ودون الجهر( أي دون الرفع فممي القممول‪ ،‬أي‪:‬‬
‫سِبي ً‬
‫ل( )السممراء‪ :‬مممن اليممة‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬
‫ك َ‬ ‫أسمع نفسك‪ ،‬كما قال‪َ) :‬واب ْت َِغ ب َي ْ َ‬
‫‪ .(110‬أي بين الجهر والمخافتة )‪.(5‬‬

‫وقال ابن كثير‪:‬‬


‫‪ - 1‬صحيح البخاري )‪ .(5/229‬ومسلم )‪ (1/329‬رقم )‪.(446‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(3/68‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(3/69‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪ .(10/344‬وانظر‪ :‬صحيح مسلم )‪ (1/329‬رقم )‪.(447‬‬

‫‪ - 5‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(7/355‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪182‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ة( )العمراف‪ :‬ممن اليمة ‪ (205‬أي اذكمر ربمك فمي‬ ‫ضّرعا ً وَ ِ‬


‫خيَفم ً‬ ‫)ت َ َ‬
‫ن‬
‫مم َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫جهْ مرِ ِ‬ ‫دو َ‬
‫نفسك رغبة ورهبة‪ ،‬وبالقول ل جهًرا‪ ،‬ولهذا قال‪) :‬وَ ُ‬
‫ل( )العراف‪ :‬من الية ‪ .(205‬وهكذا يستحب أن يكممون الممذكر‪،‬‬ ‫ال َْقوْ ِ‬
‫ل يكون نداء وجهًرا بليًغا )‪.(1‬‬
‫سمت َط َعْت ُ ْ‬
‫م( )التغممابن‪ :‬مممن اليممة‬ ‫ممما ا ْ‬ ‫وقال ‪ -‬تعالى – )َفات ُّقوا الل ّم َ‬
‫ه َ‬
‫‪.(16‬‬
‫قال ابن كثير‪:‬‬
‫أي جهدكم وطاقتكم‪.‬‬
‫وروى ابن أبي حاتم عممن سممعيد بممن جممبير فممي قمموله ‪ -‬تعممالى ‪:-‬‬
‫َ‬
‫ن( )آل عمران‪ :‬من‬ ‫مو َ‬
‫سل ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ن إ ِّل وَأن ْت ُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫موت ُ ّ‬
‫حقّ ت َُقات ِهِ َول ت َ ُ‬ ‫)ات ُّقوا الل ّ َ‬
‫ه َ‬
‫الية ‪ .(102‬وقال‪ :‬لما نمزلت هممذه اليممة اشممتد علممى القمموم العمممل‬
‫فقاموا حتى ورمت عراقيبهم‪ ،‬وتقّرحت جباههم فأنمزل الله ‪ -‬تعالى‬
‫سمت َط َعْت ُ ْ‬
‫م(‬ ‫ممما ا ْ‬ ‫‪ -‬هذه الية‪ ،‬تخفيًفمما علممى المسمملمين‪) :‬فَممات ُّقوا الل ّم َ‬
‫ه َ‬
‫)التغابن‪ :‬من الية ‪ .(16‬فنسخت الية الولى)‪.(2‬‬
‫ودللة الوسطّية على هذا القول واضحة جلية‪.‬‬
‫وأخيًرا‪ :‬نقف أمام قوله ‪ -‬تعالى ‪ -‬في سورة المزمممل‪) :‬ي َمما أ َي ّهَمما‬
‫َ‬ ‫ل إّل قَِليل ً ن ِصَف َ‬
‫ل‬ ‫ه قَِليل ً أوْ زِد ْ عَل َي ْهِ وََرت ّ ِ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ص ِ‬ ‫ه أوِ ان ُْق ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ل قُم ِ الل ّي ْ َ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫مّز ّ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ك‬ ‫ن َرب ّم َ‬ ‫ل( )المزمل‪ .(4-1:‬ثم قال فممي آخممر السممورة‪) :‬إ ِ ّ‬ ‫ن ت َْرِتي ً‬ ‫ال ُْقْرآ َ‬
‫ك تُقو َ‬ ‫يع ل َ َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ن اّلمم ِ‬ ‫م َ‬‫ة ِ‬ ‫ه وَ َ‬
‫طائ َِف ٌ‬ ‫ه وَث ُل ُث َ ُ‬ ‫صَف ُ‬ ‫ي الل ّي ْ ِ‬
‫ل وَن ِ ْ‬ ‫ن ث ُل ُث َ ِ‬
‫م ْ‬
‫م أد َْنى ِ‬ ‫م أن ّ َ َ ُ‬ ‫َْ ُ‬
‫ل والنهممار عَل ِم َ‬
‫م‬‫ب عَل َي ْك ُم ْ‬ ‫صمموهُ فَت َمما َ‬‫ح ُ‬ ‫ن تُ ْ‬ ‫ن ل َم ْ‬‫مأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ه ي َُقمد ُّر الل ّي ْم َ َ ّ َ َ‬ ‫ك َوالل ّ ُ‬ ‫مع َ َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫ن( )المزمل‪ :‬من الية ‪.(20‬‬ ‫ن ال ُْقْرآ ِ‬‫م َ‬‫سَر ِ‬ ‫ما ت َي َ ّ‬‫َفاقَْرأوا َ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(2/281‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/376‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪183‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ُ‬
‫ن‬
‫مم َ‬
‫سمَر ِ‬ ‫قال ابن كثير فممي تفسمميره لهممذه اليممة‪) :‬فَمماقَْرأوا َ‬
‫ممما ت َي َ ّ‬
‫ن( )المزمل‪ :‬مممن اليممة ‪ .(20‬أي مممن غيممر تحديممد بمموقت‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫ال ُْقْرآ ِ‬
‫ولكن قوموا من الليل ما تيسر‪ ،‬وعبر عن الصلة بالقراءة‪ ،‬كما قال‬
‫صلت ِ َ‬
‫ك( )السراء‪ :‬من اليممة ‪.(110‬‬ ‫جهَْر ب ِ َ‬
‫في سورة )سبحان(‪َ) :‬ول ت َ ْ‬
‫أي بقراءتك)‪.(1‬‬

‫وقال القرطبي‪:‬‬
‫ب عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(187‬قيممل‪ :‬أي فتمماب‬ ‫قوله‪) :‬فََتا َ‬
‫عليكم من فرض القيام إذ عجزتم‪ ،‬وأصل التوبة الرجوع‪ ،‬فممالمعنى‪:‬‬
‫رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف‪ ،‬ومن عسر إلى يسر)‪.(2‬‬
‫وبعد‪:‬‬
‫ن‬
‫فقد اتضح لنا مممن خلل ممما سممبق فممي هممذا البمماب مممن آيممات أ ّ‬
‫الوسطّية أصل فممي بمماب العبممادة فممي معناهمما الخمماص والعممام‪ ،‬وأن‬
‫الغلوّ والجفاء‪ ،‬والفراط والتفريط منفيان عنها كما نفيا عن غيرها‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/438‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(19/53‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪184‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫الشهادة والحكم‬
‫ك جعل ْنماك ُ ُ‬
‫ة‬
‫مم ً‬
‫مأ ّ‬‫ْ‬ ‫سبق معنما فمي تفسمير قموله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬وَك َمذ َل ِ َ َ َ َ‬
‫سممرها بقمموله‪:‬‬ ‫سطًا( )البقرة‪ :‬من اليممة ‪ .(143‬أن الرسممول‪  ،‬ف ّ‬ ‫وَ َ‬
‫سرها‪  ،‬بالشممهادة‪ ،‬حيممث ذكممر شممهادة هممذه‬ ‫"عدول" ‪ .‬وكذلك ف ّ‬
‫)‪(1‬‬

‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫سممطا ً‬
‫ة وَ َ‬‫مم ً‬
‫مأ ّ‬‫مة لنوح‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬ثم قرأ‪)  ،‬وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬ ‫ال ّ‬
‫س( )البقرة‪ :‬من الية ‪ .(143‬الية )‪.(2‬‬ ‫َ‬ ‫كوُنوا ُ‬‫ل ِت َ ُ‬
‫داَء عَلى الّنا ِ‬
‫شه َ َ‬
‫مل للخر‪ ،‬لن الشهادة‬ ‫منافاة بين التفسيرين‪ ،‬بل أحدهما مك ّ‬ ‫ول ُ‬
‫المعتبرة عند الله ما كانت عدل‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق فقد جاءت آيات كثيرة تبّين وجوب العممدل‬
‫ضما ‪ -‬والشمهادة همي إحمدى‬
‫فمي الشمهادة‪ ،‬وكمذلك فمي الحكمم ‪ -‬أي ً‬
‫دمات الحكم في كثير من الحكام‪ ،‬بل في كلها إذا اعتبرنا إقممرار‬
‫مق ّ‬
‫المرء على نفسه شهادة‪ ،‬وهو كذلك‪.‬‬
‫وإذا كان العدل يعني الوسط‪ ،‬كما تقمّرر‪ ،‬فممإن أمممر اللممه بالعممدل‬
‫في الشهادة والحكم هو أمر وإقرار لمنهج الوسطّية‪ ،‬ويّتضح ذلممك ‪-‬‬
‫تفصيل ‪ -‬من خلل ما سيأتي ‪ -‬إن شاء الله ‪:-‬‬
‫َ‬
‫من ُمموا ُ‬
‫كون ُمموا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫‪ -1‬قال ‪ -‬تعالى ‪ -‬في سورة النساء‪َ) :‬يا أي ّهَمما ال ّم ِ‬
‫َ‬ ‫شهداَء ل ِل ّه ول َو عََلى أ َنُفسك ُ َ‬
‫ن َواْلقَْرِبي َ‬
‫ن‬ ‫وال ِد َي ْ ِ‬‫م أو ِ ا ل ْ َ‬‫ْ ِ ْ‬ ‫ِ َ ْ‬ ‫ط ُ َ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ن ِبال ِْق ْ‬ ‫مي َ‬ ‫وا ِ‬‫قَ ّ‬
‫ن ت َعْمدُِلوا‬ ‫َ‬ ‫إن يك ُن غَن ِيا ً أ َو فَقيرا ً َفالل ّ َ‬
‫وى أ ْ‬ ‫ممما َفل ت َت ّب ِعُمموا ال ْهَم َ‬ ‫ه أوْل َممى ب ِهِ َ‬
‫ُ‬ ‫ّ ْ ِ‬ ‫ِ ْ َ ْ‬
‫خِبيممرًا( )النسمماء‪:‬‬ ‫َ‬
‫ن َ‬ ‫مل ُممو َ‬‫ممما ت َعْ َ‬
‫ن بِ َ‬ ‫ن الل ّم َ‬
‫ه ك َمما َ‬ ‫ضوا فَمإ ِ ّ‬‫ووا أوْ ت ُعْرِ ُ‬ ‫ن ت َل ْ ُ‬‫وَإ ِ ْ‬
‫‪ .(135‬ولنتأمل ما قاله الطبري في تفسيره للية‪ ،‬فإننا نجد الدللممة‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪ .(2/7‬والحديث أخرجه الترمذي )‪ (5/190‬رقم )‪ (2961‬وأحمد )‪ (3/9‬وعندهما "عدل" بدل "عدول"‪.‬‬
‫مة وس ً‬
‫طا(‪ .‬في أول هذه الرسالة‪.‬‬ ‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير قوله تعالى‪) :‬وكذلك جعلناكم أ ّ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪185‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫البينة في هذه الية على منهج العدل والوسط‪ ،‬والّتحذير من الحيف‬


‫والجور واتباع الهوى‪ ،‬وإليك بعض ما قال‪:‬‬
‫َ‬
‫ط(‬
‫سم ِ‬ ‫ن ِبال ِْق ْ‬
‫مي َ‬
‫وا ِ‬ ‫من ُمموا ُ‬
‫كون ُمموا قَ م ّ‬ ‫نآ َ‬
‫ذي َ‬ ‫يقول الله لهممم‪) :‬ي َمما أي ّهَمما ال ّم ِ‬
‫)النساء‪ :‬من الية ‪ .(135‬يقول‪ :‬ليكن من أخلقكم وصفاتكم القيممام‬
‫ه( )النساء‪ :‬من اليممة ‪ (135‬معنمماه‪:‬‬ ‫داَء ل ِل ّ ِ‬
‫شه َ َ‬‫بالقسط‪ ،‬يعني العدل ) ُ‬
‫قوموا بالقسممط للممه عنممد شممهادتكم‪ ،‬أو حيممن شممهادتكم )وَل َموْ عَل َممى‬
‫َ‬
‫م( )النساء‪ :‬من الية ‪ .(135‬يقول‪ :‬ولو كانت شمهادتكم علمى‬ ‫سك ُ ْ‬
‫أن ُْف ِ‬
‫أنفسممكم‪ ،‬أو علممى والممديكم أو أقربيكممم‪ ،‬فقوممموا فيهمما بالقسممط‬
‫والعدل‪ ،‬وأقيموا على صحتها بأن تقولوا فيها الحق‪ ،‬ول تميلمموا فيهمما‬
‫لغني لغناه على فقير‪ ،‬ول لفقيمر لفقمره علمى غنمي فتجموروا‪ ،‬فمإن‬
‫وى بين حكم الغني والفقيممر فيممما ألزمكممم أّيهمما النمماس‬
‫الله الذي س ّ‬
‫من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما‪ ،‬وأحقّ منكم‪،‬‬
‫لنه مالكهما‪ ،‬وأولى بهما دونكم‪ ،‬فهممو أعلممم بممما فيهمما مصمملحة كممل‬
‫واحد منهما في ذلممك‪ ،‬وفممي غيممره مممن المممور كلهمما منكممم‪ ،‬فلممذلك‬
‫أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليهما‪.‬‬
‫ن ت َعْدُِلوا( )النساء‪ :‬من اليممة ‪ .(135‬فل تتبعمموا‬ ‫َ‬
‫)َفل ت َت ّب ُِعوا ال ْهَ َ‬
‫وى أ ْ‬
‫أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بهمما‪ ،‬ولكممن قوممموا‬
‫دوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمممن‬
‫فيه بالقسط‪ ،‬وأ ّ‬
‫شهدتم عليه وله‪.‬‬
‫والتعبير بالغني والفقير هو في مقام العدو أو القريب كما سيأتي‬
‫في آيتي المائدة والنعام‪ ،‬ويمكن استعماله في المموجهين كممما يممدل‬
‫عليه كلم الطبري‪ ،‬فقد يكون بعض الناس مع الغنممي ضممد الفقيممر ‪-‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪186‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وهو الغالب ‪ ،-‬وقد يكون البعض مع الفقير لفقره‪ ،‬ضد الغني لغناه‪،‬‬
‫ولكل حالة ما يناسبها‪.‬‬
‫ن ل ِل ّمهِ ُ‬ ‫َ‬
‫داءَ‬
‫ش مه َ َ‬ ‫مي َ‬ ‫كوُنوا قَ م ّ‬
‫وا ِ‬ ‫مُنوا ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫‪ -2‬قال ‪ -‬تعالى ‪َ) :-‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫ن قَوْم ٍ عََلى أ َّل ت َْعمدُِلوا ا ْ‬
‫عمدُِلوا هُموَ أْقمَر ُ‬
‫ب‬ ‫شَنآ ُ‬ ‫م َ‬ ‫من ّك ُ ْ‬
‫جرِ َ‬
‫ط َول ي َ ْ‬ ‫ِبال ِْق ْ‬
‫س ِ‬
‫وى( )المائدة‪ :‬من الية ‪.(8‬‬ ‫ِللت ّْق َ‬
‫قال الطبري في معنى الية‪ :‬يعني بذلك ‪ -‬ج م ّ‬
‫ل ثنمماؤه ‪ :-‬يمما‬
‫أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد‪ ،‬ليكن من أخلقكممم وصممفاتكم‬
‫القيام لله‪ ،‬شهداء بالعدل في أوليممائكم وأعممدائكم‪ ،‬ول تجمموروا فممي‬
‫ددت لكم في أعدائكم لعممداوتهم‬
‫أحكامكم وأفعالكم‪ ،‬فتجاوزوا ما ح ّ‬
‫ددت لكممم فممي أحكممامي وحممدودي فممي‬‫صممروا فيممما ح م ّ‬
‫لكممم‪ ،‬ول تق ّ‬
‫دي‪ ،‬واعملمموا فيممه‬
‫أوليائكم لوليتهم‪ ،‬ولكن انتهوا في جميعهم إلى ح ّ‬
‫بأمري)‪.(1‬‬
‫وهممذا التفسممير لليممة واضممح الدللممة علممى منهممج الوسممطّية فممي‬
‫الشهادة والحكم‪ ،‬ومثل ذلك تفسير ابن كثير‪ ،‬حيث قال في قمموله ‪-‬‬
‫ن قَ موْم ٍ عَل َممى أ َّل ت َعْ مدُِلوا( )المممائدة‪ :‬مممن‬
‫شَنآ ُ‬ ‫من ّك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫جرِ َ‬
‫تعالى ‪َ) :-‬ول ي َ ْ‬
‫الية ‪ .(8‬أي‪ :‬ل يحملّنكم بغممض قمموم علممى تممرك العممدل فيهممم‪ ،‬بممل‬
‫استعملوا العدل فممي كممل أحممد‪ ،‬صممديًقا كممان أو عممدّوا‪ ،‬ولهممذا قممال‪:‬‬
‫َ‬
‫وى( )المائدة‪ :‬من الية ‪.(2)(8‬‬ ‫)اعْدُِلوا هُوَ أقَْر ُ‬
‫ب ِللت ّْق َ‬
‫م‬ ‫من ّ ُ‬
‫كمم ْ‬ ‫جرِ َ‬
‫وقد جاء قبل هذه اليــة قــوله ‪ -‬تعــالى ‪َ) :-‬ول ي َ ْ‬
‫َ‬ ‫شنآن قَوم أ َ‬
‫دوا( )المممائدة‪:‬‬ ‫ن ت َعْت َم ُ‬ ‫جدِ ال ْ َ‬
‫حمَرام ِ أ ْ‬ ‫سم ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫ِ‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫دو‬
‫ّ‬ ‫ص‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫َ َ ُ ْ ٍ‬
‫من الية ‪.(2‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(6/141‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(2/30‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪187‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫قال الطبري في تفسيرها‪ :‬فتأويممل اليممة إذن‪ :‬ل يحملّنكممم‬


‫بغض قمموم لن صممدوكم عممن المسممجد الحممرام أيهمما المؤمنممون‪ .‬أن‬
‫دوا حكم الله فيهم‪ ،‬فتجاوزوه إلى ما نهمماكم عنممه‪ ،‬ولكممن ألزممموا‬
‫تعت ّ‬
‫طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم)‪.(1‬‬
‫ما العتداء على من‬ ‫وقال رشيد رضا في تفسيره للية‪ :‬وأ ّ‬
‫حممرم‪،‬‬ ‫تبغضونهم فل ُيباح لكم وأنتم ح ّ‬
‫ل‪ ،‬كما أّنه ل ُيباح لكممم وأنتممم ُ‬
‫دوكم عن المسجد الحرام من قبل‪ ،‬وهممذا ل يمنممع مممن‬
‫وإن كانوا ص ّ‬
‫الجزاء على العتداء بالمثل‪ ،‬لنه نهى عممن اسممتئناف العتممداء علممى‬
‫سبيل النتقام‪ ،‬فإن من يحمله البغض والعداوة على العتممداء علممى‬
‫من يبغضه يكون منتصًرا لنفسه ل للحق‪ ،‬وحينئذ ل يراعي المماثلممة‬
‫ول يقف عند حدود العدل)‪.(2‬‬
‫م َفاعْمدُِلوا وَل َموْ ك َمما َ‬
‫ن‬ ‫ذا قُل ْت ُ ْ‬
‫‪ -3‬ومثل هذه الية قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَإ ِ َ‬
‫ذا قُْرَبى()النعام‪ :‬من الية ‪.(152‬‬
‫َ‬
‫م َفاعْدُِلوا(‬
‫ذا قُل ْت ُ ْ‬
‫قال الطبري‪ :‬يعني ‪ -‬تعالى ذكره ‪ -‬بقوله‪) :‬وَإ ِ َ‬
‫)النعام‪ :‬من الية ‪ (152‬وإذا حكمتم بين النمماس فتكلمتممم‪ ،‬فقولمموا‬
‫الحق بينهم‪ ،‬واعدلوا‪ ،‬وأنصفوا‪ ،‬ول تجمموروا‪ ،‬ولممو كممان الممذي يتمموجه‬
‫الحق عليممه والحكممم ذا قرابممة لكممم‪ ،‬ول يحملّنكممم قرابممة قريممب‪ ،‬أو‬
‫صداقة صديق‪ ،‬حكمتم بينه وبين غيره‪ ،‬أن تقولمموا غيممر الحممق فيممما‬
‫احتكمتم إليه فيه )‪.(3‬‬
‫م َفاعْمممدُِلوا(‬ ‫ذا قُل ْت ُممم ْ‬
‫وقــال القرطــبي‪ :‬قممموله ‪ -‬تعمممالى ‪) :-‬وَإ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫من الحكام والشممهادات‪) ،‬وَل َموْ ك َمما َ‬
‫ن َ‬ ‫)النعام‪ :‬من الية ‪ (152‬يتض ّ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(6/69‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(6/129‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(8/86‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪188‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫قُْرب َممى( )النعممام‪ :‬مممن اليممة ‪ .(152‬أي ولممو كممان الحممق علممى مثممل‬
‫دم في النساء)‪.(1‬‬
‫قراباتكم‪ ،‬كما تق ّ‬
‫مل ليممتي المممائدة والنعممام‪ ،‬فوجممدت أن كل‬ ‫وقد وقفت متــأ ّ‬
‫منهما تممأمر بالعممدل وهممو طريممق الوسممط‪ ،‬ولكممن كممل آيممة اختصممت‬
‫بمعنى ليس في الخرى‪ ،‬فآية المائدة تنهى عن الحيف والجمور فمي‬
‫حق العدّو‪ ،‬وأن عداوته وبغضه ل يجمموز أن يكممون حممائل دون العممدل‬
‫ما‪ ،‬فهي تنهي عمن الفمراط والغلمو بالنسمبة‬ ‫في حقه‪ ،‬شهادة أو حك ً‬
‫لصدور الحكم ضده‪ ،‬وعن التفريط والجفاء بالنسممبة لحفممظ حقمموقه‬
‫وما يجب له‪.‬‬
‫ق‬ ‫أما آيــة النعــام فإنهمما ُتح م ّ‬
‫ذر مممن الميممل والفممراط فممي ح م ّ‬
‫القريب‪ ،‬مما يكون سبًبا لعدم ثبوت الحممق عليممه‪ ،‬وهممذا غلممو منهممي‬
‫عنه‪ ،‬كما تنهى عن التفريط في حممق خصمممه بسممبب القرابممة‪ ،‬فممإن‬
‫عدم أداء الشممهادة محابمماة للقريممب فيممه تفريممط فممي حممق الخصممم‬
‫وضياع للحقوق‪ .‬ومن هنا فإن همماتين اليممتين بمجموعهممما ترسمممان‬
‫خط الوسطّية‪ ،‬وترشدان إليه‪ ،‬وتحذران مممن الحيممف والميممل سممواء‬
‫طا أو تفري ً‬
‫طا‪.‬‬ ‫أكان إفرا ً‬
‫ب القريممب إلممى شممهادة ال مّزور‬
‫و أو ح م ّ‬‫وقد يؤدي بغض العــد ّ‬
‫والكذب‪ ،‬فيحكم على العممدوّ بممما ليممس عليممه‪ ،‬ويحكممم للقريممب بممما‬
‫ليس له‪ ،‬وكل هذا خروج عن العممدل‪ ،‬ومممن الظلممم الممذي ل يرضمماه‬
‫دا‪.‬‬
‫الله أب ً‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪ ،(7/137‬و)‪.(5/410‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪189‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ما آية النساء فإنهمما جمعممت بيممن المعنييممن كممما هممو واضممح مممن‬
‫أ ّ‬
‫سياقها‪ ،‬وتفسير الطبري لها‪ ،‬وإن كانت لمعنى ما في سورة النعام‬
‫أقرب منها لما في سورة المائدة‪.‬‬
‫‪ -4‬ونجد تطبيًقا عملي ّمما لمممدلول هممذه اليممات ممما ذكممره اللممه فممي‬
‫سورة يوسف في قصة زوجة العزيز مع يوسف‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬حين‬
‫ر( )يوسممف‪:‬‬ ‫ن د ُب ُ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ص ُ‬
‫مي َ‬ ‫ت قَ ِ‬ ‫ب وَقَد ّ ْ‬ ‫ست َب ََقا ال َْبا َ‬
‫راودته عن نفسه‪َ) :‬وا ْ‬
‫َ‬
‫ب(‬‫دى ال ْب َمما ِ‬‫ها ل َم َ‬ ‫سمي ّد َ َ‬ ‫من اليممة ‪ .(25‬وهنمما حممدثت المفاجممأة )وَأل َْفي َمما َ‬
‫)يوسف‪ :‬من الية ‪ .(25‬وبسرعة مذهلة يدرك المممرأة كيممد النسمماء‪:‬‬
‫م( )يوسف‪ :‬مممن اليممة ‪ ،(28‬فتقلممب الممدعوى علممى‬ ‫ظي ٌ‬
‫ن عَ ِ‬ ‫ن ك َي ْد َك ُ ّ‬‫)إ ِ ّ‬
‫ب‬ ‫ن أ َوْ عَ َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫ج َ‬ ‫س َ‬ ‫ن يُ ْ‬
‫َ‬
‫سوءا ً إ ِّل أ ْ‬ ‫ك ُ‬‫ن أ ََراد َ ب ِأ َهْل ِ َ‬
‫م ْ‬‫جَزاُء َ‬ ‫ما َ‬
‫ت َ‬ ‫يوسف‪َ) :‬قال َ ْ‬
‫م( )يوسف‪ :‬من الية ‪ .(25‬وهذه دعوى خطيممرة‪ ،‬ولكممن يوسممف‪،‬‬ ‫َ‬
‫أِلي ٌ‬
‫سممي(‬‫ن ن َْف ِ‬
‫ي َراوَد َت ْن ِممي عَم ْ‬ ‫عليه السلم‪ ،‬يرد ّ هممذه الممدعوى‪) :‬قَمما َ‬
‫ل ه ِم َ‬
‫)يوسف‪ :‬من الية ‪ ،(26‬ووقع العزيز في إشكال فممي هممذه القضممية‪،‬‬
‫ن الرجممل هممو الممذي‬
‫وبخاصة إذا كممانت امممرأة‪ ،‬لن العممادة الغالبممة أ ّ‬
‫يعتدي عليها‪ ،‬ل أن تعتدي هي عليممه‪ ،‬وفممي هممذه اللحظممات الحرجممة‬
‫شاهد م َ‬
‫ن قُب ُم ٍ‬
‫ل‬ ‫ه قُ مد ّ ِ‬
‫مم ْ‬ ‫صم ُ‬
‫مي ُ‬ ‫ن ك َمما َ‬
‫ن قَ ِ‬ ‫شهِد َ َ ِ ٌ ِ ْ‬
‫ن أهْل َِها إ ِ ْ‬ ‫يأتي الفرج‪) :‬وَ َ‬
‫و‬ ‫ن د ُب ُرٍ فَك َذ َب َ ْ‬
‫ت وَهُ َ‬ ‫ه قُد ّ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ن قَ ِ‬
‫مي ُ‬ ‫ن َ‬
‫كا َ‬ ‫ن وَإ ِ ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫كاذِِبي َ‬ ‫م َ‬
‫ت وَهُوَ ِ‬‫صد َقَ ْ‬
‫فَ َ‬
‫ن( )يوسف‪ ،26:‬م ‪ ،(27‬إنها شهادة عجيبة تنطق بالعممدل‬ ‫صادِِقي َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬
‫ِ‬
‫والصدق‪ ،‬مع قرابته للمرأة‪.‬‬
‫فقد وضع أمام العزيز ميزاًنا دقيًقا دون حيف أو محاباة‪ ،‬وبدأ بممما‬
‫يتعّلق بالرجل أول‪ ،‬وما أشبه فعل يوسف‪ ،‬عليه السمملم بممه‪ ،‬عنممدما‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪190‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫بدأ بأوعية إخوته قبل وعاء أخيه‪ ،‬ثم ذكر ما يتعّلق بممالمرأة‪ ،‬ويظهممر‬
‫العدل في هذا من خلل ما يلي‪:‬‬
‫)أ( فعدم كتمانه للشهادة دليل على عممدم محابمماته للمممرأة وهممي‬
‫قريبته‪.‬‬
‫)ب( البداءة بيوسف وعدم اقتصاره على ما يتعلق بممالمرأة يممد ّ‬
‫ل‬
‫على أنه ل يحابي يوسف‪ ،‬عليه السمملم‪ .‬وهنمما صممدر الحكممم العممادل‬
‫ه‬ ‫ن د ُب ُمرٍ قَمما َ‬
‫ل إ ِن ّم ُ‬ ‫ه قُد ّ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ما َرأى قَ ِ‬
‫مي َ‬ ‫المبني على شهادة العدل‪) :‬فَل َ ّ‬
‫ري‬ ‫ن هَ م َ‬ ‫من ك َيدك ُن إن ك َيدك ُن عَظيمم يوسم ُ َ‬
‫س مت َغِْف ِ‬
‫ذا َوا ْ‬ ‫ض ع َم ْ‬
‫ف أعْمرِ ْ‬ ‫ِ ٌ ُ ُ‬ ‫ِ ْ ْ ِ ّ ِ ّ ْ َ ّ‬
‫ن( )يوسف‪.(29 ،28:‬‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫خاط ِِئي َ‬ ‫م َ‬ ‫ك ك ُن ْ ِ‬
‫ت ِ‬ ‫ل ِذ َن ْب ِ ِ‬
‫ك إ ِن ّ ِ‬
‫‪ -5‬وردت آيات كثيرة تأمر بالعدل‪ ،‬وتنهى عن الهوى‪ ،‬وذلك مثممل‬
‫ت إ ِل َممى أ َهْل ِهَمما وَإ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫قوله ‪ -‬تعالى – )إن الل ّه يأ ْمرك ُ َ‬
‫ذا‬ ‫دوا اْل َ‬
‫مان َمما ِ‬ ‫ن ت ُمؤَ ّ‬‫مأ ْ‬ ‫َ َ ُ ُ ْ‬ ‫ِ ّ‬
‫َ‬
‫ل( )النسمماء‪ :‬مممن اليممة ‪.(58‬‬ ‫ممموا ِبال ْعَمد ْ ِ‬
‫حك ُ ُ‬
‫ن تَ ْ‬
‫سأ ْ‬‫ن الن ّمما ِ‬
‫م ب َي ْم َ‬ ‫حك َ ْ‬
‫مت ُم ْ‬ ‫َ‬
‫وقوله ‪ -‬تعالى ‪ -‬في سورة النحل‪) :‬إن الل ّ ْ‬
‫ن‬
‫سمما ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ل َواْل ِ ْ‬‫مُر ِبال ْعَ مد ْ ِ‬‫ه ي َأ ُ‬
‫َ‬ ‫ِ ّ‬
‫ي ي َعِظ ُك ُم ْ‬
‫م‬ ‫من ْك َمرِ َوال ْب َغْم ِ‬
‫شمماِء َوال ْ ُ‬ ‫ن ال َْف ْ‬
‫ح َ‬ ‫ْ‬
‫وَِإيت َمماِء ِذي الُقْرب َممى وَي َن ْهَممى عَم ِ‬
‫ن( )النحمل‪ ،(90:‬وكمذلك قموله ‪ -‬تعمالى ‪ -‬فمي سمورة‬ ‫ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م َتمذ َك ُّرو َ‬
‫العراف‪) :‬قُ ْ َ‬
‫ط( )العراف‪ :‬من الية ‪ ،(1)(29‬وفممي‬ ‫س ِ‬ ‫مَر َرّبي ِبال ِْق ْ‬
‫لأ َ‬
‫ن‬‫ك عَ م ْ‬‫ض مل ّ َ‬
‫وى فَي ُ ِ‬ ‫حقّ َول ت َت ّب ِِع ال ْهَ َ‬ ‫س ِبال ْ َ‬‫ن الّنا ِ‬ ‫م ب َي ْ َ‬‫حك ُ ْ‬ ‫سورة )ص(‪َ) :‬فا ْ‬
‫ص‪ :‬من الية ‪ (26‬وقريب من هممذه اليممة ممما جمماء فممي‬ ‫ه( ) ّ‬ ‫ل الل ّ ِ‬
‫سِبي ِ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ك َفادعُ واستقم ك َ ُ‬ ‫سورة الشورى )فَل ِذ َل ِ َ‬
‫واءَهُ ْ‬‫ت َول ت َت ّب ِمعْ أهْ م َ‬ ‫م مْر َ‬ ‫ما أ ِ‬‫ْ َ ْ َِ ْ َ‬
‫ت ِل َعْدِ َ‬ ‫ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬
‫م( )الشممورى‪:‬‬ ‫ل ب َي ْن َك ُ ُ‬ ‫مْر ُ‬
‫ب وَأ ِ‬ ‫ن ك َِتا ٍ‬
‫م ْ‬
‫ه ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ت بِ َ‬‫من ْ ُ‬
‫لآ َ‬‫وَقُ ْ‬
‫ممما‬
‫ل َ‬ ‫م فََعاقُِبوا ب ِ ِ‬
‫مث ْ ِ‬ ‫عاقَب ْت ُ ْ‬
‫ن َ‬
‫من الية ‪ (15‬ونجد في سورة النحل‪) :‬وَإ ِ ْ‬

‫‪ - 1‬العبرة بعموم اللفظ ل بخصوص السبب‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪191‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ه( )النحل‪ :‬من الية ‪ ،(126‬واليات فمي مثمل همذا المعنمى‬ ‫م بِ ِ‬


‫عوقِب ْت ُ ْ‬
‫ُ‬
‫كثيرة ومعلومة‪ ،‬وكلها تممأمر بالعممدل‪ ،‬وتنهممى عممن البغممي والعممدوان‪،‬‬
‫وهذه دللة الوسطّية‪ ،‬والنهي عن الفراط والتفريط‪.‬‬
‫‪ -6‬ومن الدلة العملية على وجوب التزام العدل وعممدم البغممي أو‬
‫مظ ُْلوما ً فََقد ْ‬ ‫ن قُت ِ َ‬
‫ل َ‬ ‫م ْ‬
‫العدوان قوله ‪ -‬تعالى ‪ -‬في سورة السراء‪) :‬وَ َ‬
‫صممورًا(‬
‫من ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫ه َ‬
‫كمما َ‬ ‫ف ِفممي ال َْقْتمم ِ‬
‫ل إ ِّنمم ُ‬ ‫طانا ً َفل ي ُ ْ‬
‫سممرِ ْ‬ ‫سممل ْ َ‬
‫جعَل َْنمما ِلمموَل ِي ّهِ ُ‬
‫َ‬
‫)السراء‪ :‬من الية ‪ .(33‬فهنا ثلث حالت ‪ -‬طرفان ووسط ‪-‬‬
‫أ‪ -‬ضياع حمقّ أوليمماء المقتممول‪ ،‬كممما يقممع فممي كممثير مممن الزمنممة‪،‬‬
‫وتحمممي هممذا الضممياع أنظمممة ودول وبخاصممة فممي عصممرنا الحاضممر‪،‬‬
‫ما أو واقعًمما‪ ،‬وهممو‬
‫ما نظا ً‬ ‫وبال ّ‬
‫ذات الدول التي ألغت عقوبة العدام‪ ،‬إ ّ‬
‫الكثر ‪ -‬وبخاصة إذا كان القاتل شريًفا فهيهات أن يؤخذ الحق منه‪.‬‬
‫ب‪ -‬أن يأخذ أولياء المقتول أكممثر مممما لهممم‪ ،‬وهممو السممراف فممي‬
‫القتل‪ ،‬وهذا ما كان يجري في الجاهلية‪ ،‬ويوجد في عصرنا الحاضممر‬
‫في بعض المجتمعات التي تأخذ بالثأر‪ ،‬فتقتل غير القاتممل دون ذنممب‬
‫ما وثأًرا‪.‬‬
‫إل أنه من أقرباء القاتل‪ ،‬أو تقتل أكثر من فرد انتقا ً‬
‫صا‪ ،‬أو تؤخذ الدية‪ ،‬أو يكون العفو برضممى‬ ‫ج‪ -‬أن يقتل القاتل ِقصا ً‬
‫أولياء القتيل‪ .‬والحالة الولى تمثل الّتفريط‪.‬‬
‫والحالة الثانية تمثل الّتعدي والفراط‪.‬‬
‫والحالة الثالثة هي العدل والوسط‪.‬‬
‫جعَل ْن َمما‬
‫ولقد نمزل القرآن بالحالة الثالثة‪ ،‬فقمموله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬فََقمد ْ َ‬
‫طانًا( )السراء‪ :‬من الية ‪ (33‬إثبات للحالمة الثالثمة‪ ،‬ونفمي‬ ‫سل ْ َ‬
‫ل ِوَل ِي ّهِ ُ‬
‫للحالة الولى‪ ،‬فإثبات الحقّ نفممي للتفريممط وإضمماعة الممدم‪ ،‬وقمموله‪:‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪192‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ف ِفي ال َْقت ْ ِ‬
‫ل( )السممراء‪ :‬مممن اليممة ‪ (33‬نهممي عممن الحالممة‬ ‫)َفل ي ُ ْ‬
‫سرِ ْ‬
‫دي والفراط‪.‬‬ ‫الثانية‪ ،‬وهي التع ّ‬
‫ن‬
‫صواب في ذلك من تأّول‪ :‬أ ّ‬ ‫قال الطبري‪ :‬وأولى التأويلين بال ّ‬
‫السلطان الذي ذكر الله ‪ -‬تعمالى ‪ -‬فمي همذا الموضمع مما قماله ابمن‬
‫دية‪ ،‬وإن‬
‫عباس‪ :‬من أن لولي القتيل القتل إن شاء‪ ،‬وإن شاء أخذ ال ّ‬
‫أّنه قال يوم فتح مكة‪:‬‬ ‫شاء العفو‪ ،‬لصحة الخبر عن رسول الله‪ ،‬‬
‫أل ومن قتل له قتيل فهممو بخيممر النظريممن بيممن أن يقتممل أو يأخممذ‬ ‫‪‬‬

‫الدية ‪.(1) ‬‬


‫ف ِفي ال َْقت ْ ِ‬
‫ل( )السراء‪ :‬من الية ‪ (33‬يقول‪ :‬فل‬ ‫وقوله‪َ) :‬فل ي ُ ْ‬
‫سرِ ْ‬
‫ما غير قاتله‪.‬‬ ‫تقتل بالمقتول ظل ً‬
‫ن أهل الجاهليممة كممانوا يفعلممون ذلممك‪ ،‬إذا قتممل رجممل رجل‬
‫وذلك أ ّ‬
‫عمد ولى القتيل إلى ال ّ‬
‫شريف من قبيلة القاتل فقتله بممولّيه‪ ،‬وتممرك‬
‫قتممل غيممر‬ ‫القاتل‪ ،‬فنهى الله ‪ ‬عن ذلك عباده‪ ،‬وقال لرسوله‪ ،‬‬
‫القاتل بالمقتول معصية وسرف‪ ،‬فل تقتل به غير قمماتله‪ ،‬وإن قتلممت‬
‫القاتل بالمقتول فل تمثل به )‪.(2‬‬
‫وقال القاسمي‪ :‬أي ومن قتل بغير حق ‪ -‬مممما تقممدم – )فََق مد ْ‬
‫جعَل َْنا ل ِوَل ِي ّ ِ‬
‫ه( )السراء‪ :‬من الية ‪ (33‬الذي بينه وبينممه قرابممة تمموجب‬ ‫َ‬
‫طانًا( )السراء‪ :‬من الية ‪ (33‬أي‪ :‬تسمل ّ ً‬
‫طا علممى‬ ‫سل ْ َ‬
‫المطالبة بدمه‪ُ ) .‬‬
‫القاتل في القتصاص منه‪ ،‬أو حجة يثب بها عليه‪ ،‬وحينئذ فل ُيسرف‬
‫في القتل‪ ،‬أي‪ :‬فل يقتل غير القاتل‪ ،‬ول اثنين والقاتل واحممد‪ ،‬كعممادة‬
‫ه ك َمما َ‬
‫ن‬ ‫الجاهليممة‪ ،‬كممان إذا ُقتممل منهممم واحممد قتلمموا بممه جماعممة‪) ،‬إ ِن ّم ُ‬
‫‪ - 1‬أخرجه البخاري )‪ .(8/38‬ومسلم )‪ (2/988‬رقم )‪.(1355‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(15/81‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪193‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫صورًا( )السراء‪ :‬من الية ‪ (33‬تعليل للنهي‪ .‬يعني‪ :‬حسبه أ ّ‬


‫ن الله‬ ‫من ْ ُ‬
‫َ‬
‫قد نصره بأن أوجب له القصاص‪ ،‬فل يستزد على ذلك)‪.(1‬‬
‫وبهممذا المثممال ومممن خلل ممما سممبق مممن آيممات اتضممح لنمما منهممج‬
‫الوسطّية فمي الشمهادة والحكمم‪ ،‬لن اللمه أممر بالعمدل ونهمى عمن‬
‫الظلم والبغي‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(10/3926‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪194‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬


‫مهمما قيامهمما بممواجب المممر‬
‫مممة الخيري ّممة لسممباب مممن أه ّ‬
‫نممالت ال ّ‬
‫بالمعروف‪ ،‬والّنهي عن المنكر‪ ،‬واستمرار الخيرّية مرهون بالسباب‬
‫درجة الرفيعة‪.‬‬
‫التي نالت بها هذه ال ّ‬
‫ن هنمماك فئات‬ ‫والواقع المشاهد اسممتمرار للواقممع الماضممي فممي أ ّ‬
‫كممثيرة ض مّلت فممي هممذا البمماب‪ ،‬فهنمماك كممثيرون ج م ّ‬
‫دا تركمموا المممر‬
‫دا‪،‬‬
‫صممروا فيهمما تقصمميًرا شممدي ً‬
‫بممالمعروف‪ ،‬والنهممي عممن المنكممر‪ ،‬أو ق ّ‬
‫وهؤلء سمملكوا سممبيل الّتفريممط‪ ،‬وآخممرون ‪ -‬وهممم أقممل مممن أولئك ‪-‬‬
‫قاموا بالمر بالمعروف ونهوا عن المنكر‪ ،‬ولكنهم لم يعرفوا مراتبممه‬
‫ودرجاته وحدوده‪ ،‬أو لم يلممتزموا بهمما‪ ،‬فوقممع كممثير منهممم فممي الغلممو‬
‫والفراط‪.‬‬
‫سممبيل المسممتقيم‪،‬‬‫والقّلة القليلة ‪ -‬ماضًيا وحاضًرا ‪ -‬مممن سمملك ال ّ‬
‫طريق القويم‪ ،‬والتزم بالمنهممج الوسممط الممذي شممرعه اللممه علممى‬ ‫وال ّ‬
‫لسان رسوله‪. ،‬‬
‫وعناية بهذا الركممن العظيممم‪ ،‬ومممن أجممل القيممام بممه علممى المموجه‬
‫المشروع جمماءت اليممات تلممو اليممات تممبّين حكمممه‪ ،‬وترسممم معممالمه‬
‫وحدوده‪ ،‬وتزجر‪ ،‬عن النحراف به وعنه ذات اليمين وذات الشمال‪.‬‬
‫وكل هذه اليات في دللتها جاءت لتقّرر منهج الوسطّية‪ ،‬وتصون‬
‫هذا الركن عن النحراف والتبديل‪ ،‬والتضييع والهمال‪.‬‬
‫وسأختار بعض اليات التي تبّين هذه الحقيقممة وتممد ّ‬
‫ل عليهمما‪ ،‬فممي‬
‫ضوء المنهج الذي سلكته فيما مضى‪:‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪195‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫س‬
‫ت ِللن ّمما ِ‬
‫جم ْ‬ ‫م مة ٍ أ ُ ْ‬
‫خرِ َ‬
‫ُ‬
‫خي ْمَر أ ّ‬‫م َ‬ ‫‪ -1‬قممال ‪ -‬سممبحانه وتعممالى ‪) :-‬ك ُن ْت ُم ْ‬
‫ْ‬
‫ه( )آل عمممران‪:‬‬ ‫ن ب ِممالل ّ ِ‬ ‫من ْك َرِ وَت ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫ن عَ ِ‬
‫ف وَت َن ْهَوْ َ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬ ‫مُرو َ‬
‫ت َأ ُ‬
‫من الية ‪.(110‬‬
‫خي مر أ ُم مة أ ُ‬
‫س(‬
‫ِ‬ ‫ما‬
‫م‬‫ّ‬ ‫ن‬‫لل‬‫ِ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫م‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫خ‬‫ْ‬ ‫م َ ْ َ ّ ٍ‬ ‫قال ابن كثير في تفسير الية‪) :‬ك ُن ْت ُ ْ‬
‫)آل عمران‪ :‬من الية ‪ (110‬يعني خير الناس للناس‪ ،‬والمعنى أنهم‬
‫ْ‬
‫ف‬
‫معُْرو ِ‬ ‫ن ب ِممال ْ َ‬
‫مُرو َ‬ ‫خير المم‪ ،‬وأنفع النمماس للنمماس‪ ،‬ولهممذا قممال‪) :‬ت َمأ ُ‬
‫ن ِبالل ّ ِ‬
‫ه( )آل عمممران‪ :‬مممن اليممة ‪- (110‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫من ْك َرِ وَت ُؤْ ِ‬ ‫ن عَ ِ‬
‫وَت َن ْهَوْ َ‬
‫ممة كمل‬
‫إلى أن قال ‪ :-‬والصحيح ان همذه اليمة عاممة فمي جميمع ال ّ‬
‫قرن بحسبه‪ ،‬وخير قرونهم الذين بعث فيهم‪  ،‬ثم الذين يلممونهم‪،‬‬
‫ك جعل ْنمماك ُ ُ‬
‫ة‬
‫مم ً‬
‫مأ ّ‬‫ْ‬ ‫ثم الذين يلونهم‪ ،‬كما قال في الية الخرى‪) :‬وَك َمذ َل ِ َ َ َ َ‬
‫سطًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪ (143‬أي‪ :‬خياًرا)‪.(1‬‬
‫وَ َ‬
‫ضممحت ذلممك فممي‬
‫والشاهد هنا أن الخيرّية تعني الوسطّية‪ ،‬كممما و ّ‬
‫مبحث )ملمح الوسطّية(‪ ،‬ولذلك فلبد أن يكممون المممر بممالمعروف‪،‬‬
‫والنهي عن المنكر‪ُ ،‬يحّقق هذه الخاصية‪ ،‬وينطلق من ضوابطها‪.‬‬
‫‪ -2‬نعى الله على الذين أضمماعوا المممر بممالمعروف‪ ،‬والنهممي عممن‬
‫ن‬ ‫ن ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬ ‫المنكر‪ ،‬وتركمموا الممدعوة إلممى اللممه فقممال ‪ -‬سممبحانه ‪) :-‬ل ُعِم َ‬
‫ما‬‫بِ َ‬ ‫ك‬‫م ذ َل ِ َ‬
‫مْري َ َ‬
‫ن َ‬ ‫سى اب ْ ِ‬ ‫عي َ‬ ‫داوُد َ وَ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫سا ِ‬ ‫ل عََلى ل ِ َ‬ ‫سرائي َ‬ ‫ن ب َِني إ ِ ْ‬ ‫م ْ‬‫ك ََفُروا ِ‬
‫ممما‬‫َ‬ ‫من ْك َمرٍ فَعَل ُمموهُ ل َب ِئ ْ َ‬
‫س‬ ‫ن ُ‬ ‫ن عَم ْ‬ ‫ن ك َمماُنوا ل ي َت َن َمماهَوْ َ‬‫دو َ‬ ‫وا وَ َ‬
‫كاُنوا ي َعْت َم ُ‬ ‫ص ْ‬‫عَ َ‬
‫ن( )المائدة‪.(79 ،78:‬‬ ‫كاُنوا ي َْفعَُلو َ‬ ‫َ‬

‫م اْل ِث ْ َ‬
‫م‬ ‫ن قَوْل ِهِ ُ‬ ‫حَباُر عَ ْ‬‫ن َواْل َ ْ‬ ‫م الّرّبان ِّيو َ‬ ‫ول ي َن َْهاهُ ُ‬‫وقال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬ل َ ْ‬
‫َ‬
‫ن( )المممائدة‪ .(63:‬وقممال ‪-‬‬ ‫صمن َُعو َ‬ ‫ممما ك َمماُنوا ي َ ْ‬‫س َ‬ ‫ت ل َب ِئ ْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫سم ْ‬ ‫م ال ّ‬ ‫وَأك ْل ِهِم ُ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/391‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪196‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫خذ َ الل ّه ميَثاقَ ال ّذي ُ‬ ‫سبحانه ‪) :-‬وَإ ِذ ْ أ َ َ‬


‫س َول‬ ‫ه ِللّنمما ِ‬ ‫ب ل َت ُب َي ّن ُن ّ ُ‬‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ُ ِ‬
‫ممما‬
‫س َ‬ ‫من ما ً قَِليل ً فَب ِئ ْ َ‬ ‫ش مت ََرْوا ب ِمهِ ث َ َ‬
‫م َوا ْ‬‫ذوهُ وََراَء ظ ُهُممورِهِ ْ‬ ‫ه فَن َب َم ُ‬‫مممون َ ُ‬‫ت َك ْت ُ ُ‬
‫ن‬
‫مو َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ُ‬
‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬ ‫ن( )آل عمران‪ .(187:‬وقال ‪ -‬جل وعل ‪) :-‬إ ِ ّ‬ ‫شت َُرو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬
‫ب‬‫س فِممي ال ْك ِت َمما ِ‬ ‫ممما ب َي ّن ّمماهُ ِللن ّمما ِ‬ ‫ن ب َعْمدِ َ‬‫م ْ‬ ‫دى ِ‬ ‫ت َوال ْهُ َ‬ ‫ن ال ْب َي َّنا ِ‬‫م َ‬ ‫ما أن َْزل َْنا ِ‬ ‫َ‬
‫ن( )البقرة‪.(159:‬‬ ‫عُنو َ‬‫م الّل ِ‬ ‫ه وَي َل ْعَن ُهُ ُ‬
‫م الل ّ ُ‬ ‫ُأول َئ ِ َ‬
‫ك ي َل ْعَن ُهُ ُ‬
‫من ْك َم ٍ‬
‫ر‬ ‫ن ُ‬‫ن عَ ْ‬ ‫قال ابن كثير في الية الولى‪َ ) :‬‬
‫كاُنوا ل ي َت ََناهَوْ َ‬
‫دا عن‬ ‫ه( )المائدة‪ :‬من الية ‪ .(79‬أي‪ :‬كان ل ينهى أحد منهم أح ً‬ ‫فَعَُلو ُ‬
‫ذر أن يرتكب مثل‬ ‫ارتكاب المآثم‪ ،‬والمحارم‪ ،‬ثم ذمهم على ذلك ليح ّ‬
‫كاُنوا ي َْفعَل ُممو َ‬
‫ن( )المممائدة‪ :‬مممن اليممة‬ ‫ما َ‬ ‫الذي ارتكبوه‪ ،‬فقال‪) :‬ل َب ِئ ْ َ‬
‫س َ‬
‫‪.(79‬‬
‫ن( )المائدة‪ :‬من الية ‪ (79‬أي‬ ‫وقال القرطبي‪َ ) :‬‬
‫كاُنوا ل ي َت ََناهَوْ َ‬
‫كاُنوا ي َْفعَُلو َ‬
‫ن( )المائدة‪ :‬مممن اليممة‬ ‫ما َ‬ ‫ضا‪ ( .‬ل َب ِئ ْ َ‬
‫س َ‬ ‫ل ينهى بعضهم بع ً‬
‫‪ (79‬ذم لتركهم النهي‪ ،‬وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم )‪.(1‬‬
‫ن‬
‫م الّرب ّممان ِّيو َ‬ ‫وقال الطبري فــي اليــة الثانيــة‪) :‬ل َم ْ‬
‫ول ي َن ْهَمماهُ ُ‬
‫حَباُر( )المائدة‪ :‬من الية ‪ .(63‬هل ّ ينهى هممؤلء الممذين يسممارعون‬ ‫َواْل َ ْ‬
‫في الثم والعدوان وأكل الرشمماء فممي الحكممم مممن اليهممود مممن بنممي‬
‫إسممرائيل ربممانيوهم‪ ،‬وهممم أئمتهممم المؤمنممون‪ ،‬وساسممتهم العلممماء‬
‫بسياستهم وأحبارهم‪ ،‬وهم علماؤهم وقوادهم‪.‬‬
‫ن()المائدة‪ :‬من الية ‪ (63‬وهذا قسممم مممن‬
‫صن َُعو َ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫)ل َب ِئ ْ َ‬
‫س َ‬
‫الله أقسم به‪ ،‬يقممول ‪ -‬تعممالى ذكممره ‪ :-‬أقسممم‪ :‬لممبئس الصممنيع كممان‬
‫يصنع هؤلء الربانيون والحبار في تركهم نهي الذين يسارعون منهم‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(6/253‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪197‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫سممحت‪ ،‬عممما كممانوا يفعلممون مممن ذلممك‪،‬‬


‫في الثم والعدوان‪ ،‬وأكممل ال ّ‬
‫خمما للعلممماء مممن‬
‫وكان العلماء يقولون‪ :‬ما في القرآن أش مد ّ آيممة توبي ً‬
‫هذه الية‪ ،‬ول أخوف عليهم منها‪ ،‬ثم روي عن ابن عباس قمموله‪ :‬ممما‬
‫خا من هذه الية‪.‬‬
‫في القرآن آية أشد توبي ً‬
‫ضحاك قوله‪ :‬ما في القرآن آية أخمموف عنممدي‬
‫وكذلك روي عن ال ّ‬
‫منها‪ ،‬إّنا ل ننهى )‪.(1‬‬
‫وقال القرطبي‪ :‬ودلت الية على أن تارك النهي عممن المنكممر‬
‫كمرتكب المنكر‪ ،‬فالية توبيخ للعلممماء فممي تممرك المممر بممالمعروف‪،‬‬
‫والنهي المنكر )‪.(2‬‬
‫ن‬ ‫ميَثاقَ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ه ِ‬ ‫وقال ابن كثير في الية الثالثة‪) :‬وَإ ِذ ْ أ َ َ‬
‫خذ َ الل ّ ُ‬
‫ُ‬
‫أوُتوا ال ْك َِتا َ‬
‫ب( )آل عمران‪ :‬من الية ‪.(187‬‬
‫هذا توبيخ من الله وتهديد لهل الكتاب‪ ..‬إلى أن قممال‪ :‬وفممي هممذا‬
‫تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم‪ ،‬فيصمميبهم ممما أصممابهم‪ ،‬ويسمملك‬
‫بهم مسلكهم‪ ،‬فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلممم النممافع‪،‬‬
‫صالح‪ ،‬ول يكتمون منه شيًئا)‪.(3‬‬ ‫الدا ّ‬
‫ل على العمل ال ّ‬
‫ومعنى الية الرابعة قريب من معنى هذه الية)‪.(4‬‬
‫والخلصة أن هذه اليات ‪ -‬وأمثالها ‪ -‬جمماءت لتممبّين خطممورة تممرك‬
‫المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬وأن تضييع هممذا الركممن وعممدم‬
‫صراط المستقيم‪.‬‬
‫القيام به انحراف عن ال ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(6/298‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(6/237‬‬

‫‪ - 3‬انظر تفسير ابن كثير )‪.(436/ 1‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/200‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪198‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وهي بهذا تح ّ‬
‫ذر المؤمنين من سوء عاقبة هممذا المممر‪ ،‬وترشممدهم‬
‫إلى طريق الحق والسلمة والّنجاة‪.‬‬
‫‪ -3‬وإذا كان ترك المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عممن المنكممر‪ ،‬انحممراف‬
‫صراط المستقيم‪ ،‬وهممو منهممج المغضمموب عليهممم مممن‬ ‫وخروج عن ال ّ‬
‫اليهود وأشباههم‪ ،‬فإن هناك انحراًفا آخممر قممد ل ينتبممه لممه كممثير مممن‬
‫الناس‪ ،‬وهو أن يأمر النسان وينهى‪ ،‬ولكنه ل يلتزم بما يدعو الناس‬
‫إليه‪ ،‬وينهاهم عنه‪ ،‬ولممذلك جمماءت اليممات تممبين خطممأ هممذا المسمملك‬
‫وسوء هذا الفعل‪.‬‬
‫َ‬ ‫قال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬أ َتأ ْمرون الناس بممال ْبر وتنسمو َ‬
‫م‬‫م وَأن ْت ُم ْ‬ ‫سمك ُ ْ‬‫ن أن ُْف َ‬‫َ ُ ُ َ ّ َ ِ ِّ ََْ َ ْ َ‬
‫َ‬
‫ن( )البقرة‪.(44:‬‬ ‫ب أَفل ت َعِْقُلو َ‬ ‫ن ال ْك َِتا َ‬‫ت َت ُْلو َ‬
‫َ‬
‫ن ك َُبممَر‬ ‫ما ل ت َْفعَُلو َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ت َُقوُلو َ‬
‫مُنوا ل ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫وقال ‪ -‬تعالى ‪َ) :-‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫َ‬
‫ن( )الصف‪.(3 ،2:‬‬ ‫ما ل ت َْفعَُلو َ‬ ‫ن ت َُقوُلوا َ‬ ‫عن ْد َ الل ّهِ أ ْ‬
‫مْقتا ً ِ‬‫َ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ما أِريممد ُ أ ْ‬ ‫وقال ‪ -‬جل وعل ‪ -‬حكاية عن شعيب‪ ،‬عليه السلم‪) :‬وَ َ‬
‫خال َِفك ُم إَلى ما أ َنهاك ُم عَنه إ ُ‬ ‫أُ َ‬
‫ممما‬ ‫ت وَ َ‬ ‫س مت َط َعْ ُ‬‫ممما ا ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ن أِري مد ُ إ ِّل اْل ِ ْ‬
‫صممل َ‬ ‫َ َْ ْ ْ ُ ِ ْ‬ ‫ْ ِ‬
‫ه( )هود‪ :‬من الية ‪.(88‬‬‫ت َوِْفيِقي إ ِّل ِبالل ّ ِ‬
‫وأنّبه هنا إلى أن النحممراف ليممس بممأمره بممالمعروف‪ ،‬ونهيممه عممن‬
‫قال ابن كثير والغرض أن الله‬ ‫)‪(1‬‬
‫المنكر‪ ،‬وإنما لمخالفة فعله قوله‬
‫مهممم علممى أمرهممم‬
‫‪ -‬تعالى ‪ -‬ذمهم على هذا الصنيع‪ ،‬وليس المراد ذ ّ‬
‫بممالبر مممع تركهممم لمه‪ ،‬بممل علممى تركهممم لممه‪ ،‬فممإن المممر بممالمعروف‬
‫معروف‪ ،‬وهو واجب على العالم‪ ،‬ولكن الواجب والولى بالعممالم أن‬
‫يفعله مع من أمرهم به‪ ،‬ول يتخّلف عنهممم‪ ،‬كممما قممال شممعيب‪ ،‬عليممه‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬القول البين الظهر للشيخ عبد العزيز الراجحي ص )‪.(49‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪199‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫َ‬ ‫ن أُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬


‫ه( )هممود‪ :‬مممن اليممة‬ ‫م عَن ْ ُ‬ ‫م إ َِلى َ‬
‫ما أن َْهاك ُ ْ‬ ‫خال َِفك ُ ْ‬ ‫ما أِريد ُ أ ْ‬ ‫السلم‪) :‬وَ َ‬
‫‪.(1)(88‬‬
‫س ب ِممال ْب ِّر‬ ‫َ ْ‬
‫ن الن ّمما َ‬
‫مُرو َ‬
‫قال القرطبي في قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬أت َأ ُ‬
‫وتنسو َ‬
‫م( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(44‬‬ ‫سك ُ ْ‬‫ن أن ُْف َ‬
‫ََْ َ ْ َ‬
‫ذا‪ :‬أتأمرون النمماس‬ ‫ل على صحته ظاهر التلوة إ ً‬ ‫فالتأويل الذي يد ّ‬
‫بطاعة الله‪ ،‬وتتركون أنفسكم تعصيه!! فهل تأمرونها بما تأمرون به‬
‫حا إليهم ما أتوا به‪.‬‬
‫الناس من طاعة ربكم‪ ،‬فعّيرهم بذلك‪ ،‬ومقب ّ ً‬
‫َ‬
‫ن( )البقرة‪ :‬من الية ‪ (44‬أفل تفقهون وتفهمون قبممح‬ ‫)أَفل ت َعِْقُلو َ‬
‫ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلفها‪ ،‬وتنهممونهم‬
‫عن ركوبها‪ ،‬وأنتم راكبوها‪ ،‬وأنتم تعلمون أن الذي عليكممم مممن حممق‬
‫الله وطاعته في اتباع محمد واليمان به‪ ،‬وربما جاء بممه‪ ،‬مثممل الممذي‬
‫على من تأمرونه باتباعه)‪.(2‬‬
‫قال قتادة‪ :‬كممان بنممو إسممرائيل يممأمرون النمماس بطاعممة اللممه‪،‬‬
‫وبتقواه وبالبّر‪ ،‬ويخالفون‪ ،‬فعيرهم الله )‪.(3‬‬
‫وقال ابن جريج‪ :‬أهل الكتماب والمنممافقون كمانوا يمأمرون النمماس‬
‫بالصلة والصوم‪ ،‬ويدعون العمل بما يأمرون به الناس‪ ،‬فعّيرهم الله‬
‫بذلك‪ ،‬فمن أمر بخير فليكن أشد ّ الناس فيه مسارعة )‪.(4‬‬
‫َ‬
‫وقال رشيد رضا في قوله‪) :‬أَفل ت َعِْقُلو َ‬
‫ن( )البقرة‪ :‬من الية‬
‫سممفة‪ ،‬مثممل مممن‬
‫‪ (44‬يعني أل يوجد فيكم عقل يحبسكم عن هذا ال ّ‬
‫كانت هذه حاله‪ ،‬كمثل رجل أمامه طريق مضيء نصبت فيه العلم‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/85‬‬

‫‪ - 2‬انظر تفسير الطبري )‪.(1/259‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(1/258‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(1/258‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪200‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ممما‬ ‫والصوى‪ ،‬بحيث ل يض ّ‬


‫ل سالكه‪ ،‬ثم هممو يسمملك طريًقمما آخممر مظل ً‬
‫صمما نصممحه أل يمشممي‬ ‫طامس العلم‪ ،‬وكّلما لقممي فممي طريقممه شخ ً‬
‫معه‪ ،‬وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه)‪.(1‬‬
‫وأختم أقوال العلماء في هممذه اليممة بممما قممال عبممد الرحمممن بممن‬
‫سعدي‪ :‬فإن الكمال أن يقوم النسممان بممالواجبين‪ ،‬والنقممص الكاممل‬
‫ما قيامه بأحدهما دون الخر‪ ،‬فليس فممي رتبممة الول‪،‬‬ ‫أن يتركهما‪ ،‬وأ ّ‬
‫ضمما ‪ -‬فممإن النفمموس مجبولممة علممى عممدم‬
‫وهممو دون الخيممر )‪ - (2‬وأي ً‬
‫النقيمماد لمممن ُيخممالف قمموله فعلممه‪ ،‬فاقتممداؤهم بالفعممال أبلممغ مممن‬
‫اقتدائهم بالقوال المجردة )‪.(3‬‬
‫َ‬
‫ممما ل ت َْفعَل ُممو َ‬
‫ن ك َب ُمَر‬ ‫م ت َُقوُلو َ‬
‫ن َ‬ ‫مُنوا ل ِ َ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫أما آيتا الصف‪َ) .‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن( )الصممف‪ .(2،3:‬فإنهممما وإن‬ ‫ممما ل ت َْفعَل ُممو َ‬ ‫ن ت َُقول ُمموا َ‬
‫عن ْد َ الل ّهِ أ ْ‬
‫مْقتا ً ِ‬
‫َ‬
‫كانتا في قضممية خاصممة كممما ذكممر المفسممرون‪ ،‬فممإن العممبرة بعممموم‬
‫سبب‪ ،‬كمما هممو مقمّرر عنممد الصمموليين‪ .‬ولممذلك‬ ‫اللفظ ل بخصوص ال ّ‬
‫س ب ِممال ْب ِّر( )البقممرة‪ :‬مممن‬ ‫َ ْ‬
‫ن الّنا َ‬
‫مُرو َ‬
‫فإن دللتها كدللة أية البقرة‪) :‬أت َأ ُ‬
‫الية ‪ (44‬الية‪.‬‬
‫م إ ِل َممى َ‬
‫ممما‬ ‫ن أُ َ‬
‫خممال َِفك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ما أِريد ُ أ ْ‬
‫وقال الطبري في آية هود‪) :‬وَ َ‬
‫َ‬
‫ه( )هود‪ :‬من الية ‪ (88‬يقول‪:‬‬ ‫أن َْهاك ُ ْ‬
‫م عَن ْ ُ‬
‫وما أريد أن أنهاكم عن أمر‪ ،‬ثم أفعل خلفه‪ ،‬بممل ل أفعممل إل بممما‬
‫ما أنهاكم عنه)‪.(4‬‬
‫آمركم به‪ ،‬ول أنتهي إل ع ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(1/296‬‬

‫‪ - 2‬أي دونه بالثم وشناعة وقبح الفعل‪.‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن سعدي )‪.(1/82‬‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(12/103‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪201‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫)‪(1‬‬
‫ص علممى النمماس‬‫وقال الّنخعــي‪ :‬ثلث آيممات منعتنممي أن أقمم ّ‬
‫)أ َتأ ْمرون الناس بال ْبر وتنسو َ‬
‫م( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪(44‬م ‪،‬‬ ‫سك ُ ْ‬‫ن أن ُْف َ‬ ‫َ ُ ُ َ ّ َ ِ ِّ ََْ َ ْ َ‬
‫َ‬ ‫ن أُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ه( )هود‪ :‬من الية ‪َ) ، (88‬يمما‬ ‫م عَن ْ ُ‬‫ما أن َْهاك ُ ْ‬ ‫م إ َِلى َ‬
‫خال َِفك ُ ْ‬ ‫ما أِريد ُ أ ْ‬ ‫)و َ َ‬
‫َ‬
‫ن( )الصف‪.(2)(2:‬‬ ‫ما ل ت َْفعَُلو َ‬ ‫ن َ‬‫م ت َُقوُلو َ‬‫مُنوا ل ِ َ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫أي َّها ال ّ ِ‬
‫والشاهد من قول النخعممي أن هممذه اليممات مممدلولها واحممد‪ ،‬وهممو‬
‫النهممي عممن مثممل هممذا الفعممل‪ ،‬وبيممان خطممورة هممذا النحممراف عممن‬
‫سوي‪.‬‬ ‫صراط ال ّ‬‫ال ّ‬
‫‪ -4‬وإذا كممان إهمممال المممر بممالمعروف‪ ،‬والنهممي عممن المنكممر‪ ،‬أو‬
‫صراط المستقيم‪ ،‬وخممروج عممن‬ ‫مخالفة الفعل للقول انحراف عن ال ّ‬
‫منهج الوسطّية‪ ،‬فإن أعظم أنواع النحراف فممي هممذا البمماب هممو ممما‬
‫بّينه الله تعالى فمي سمورة التوبممة ممما همو ممن سممات المنمافقين‬
‫ْ‬
‫ن‬
‫مُرو َ‬
‫ض َيممأ ُ‬
‫ن ب َْعمم ٍ‬
‫ممم ْ‬
‫م ِ‬
‫ضممهُ ْ‬
‫ت ب َعْ ُ‬
‫مَنافَِقمما ُ‬‫ن َوال ْ ُ‬
‫مَنممافُِقو َ‬‫وأخلقهممم‪) :‬ال ْ ُ‬
‫ف( )التوبة‪ :‬من الية ‪.(67‬‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ن عَ ِ‬ ‫ِبال ْ ُ‬
‫من ْك َرِ وَي َن ْهَوْ َ‬
‫قــال رشــيد رضــا‪ :‬أي أهممل النفمماق مممن الرجممال والنسمماء‬
‫متشابهون فيه وصفا وعمل‪ ،‬كأن كل منهم عين الخر‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫هل تلد الحية إل الحيــة!!‬ ‫تلـــك العصـــا مـــن هـــذه‬
‫العصـــــــــــــــــــــــــية‬

‫ْ‬
‫ن‬
‫عمم ِ‬
‫ن َ‬ ‫ن ِبممال ْ ُ‬
‫من ْك َرِ وَي َن َْهمموْ َ‬ ‫مُرو َ‬‫ثممم بيممن هممذا التشممابه بقمموله‪َ) :‬يممأ ُ‬
‫شممرع‬ ‫شرعي ما ينكممره ال ّ‬ ‫ف( )التوبة‪ :‬من الية ‪ (67‬المنكر ال ّ‬ ‫معُْرو ِ‬‫ال ْ َ‬
‫ويستقبحه‪ ،‬والمنكر العقلي والفطري ما تستنكره العقول الراجحة‪،‬‬
‫‪ - 1‬هذه اليات يجب أن تكون دافعة للعمل ل للتوقف عن الدعوة‪ ،‬وكلم المام من باب بيان عظم شأن هذه اليات وغفلة الناس عنها‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(18/80‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪202‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫والفطر السليمة‪ ،‬لمنافاته للفضممائل‪ ،‬والمنممافع الفرديممة‪ ،‬والمصممالح‬


‫شرع هو القسطاس المستقيم في ذلك كله‪.‬‬ ‫مة‪ ،‬وال ّ‬
‫العا َ‬
‫والمعروف‪ :‬ما ُيقابل المنكر مقابلة تضاد‪.‬‬
‫ضا؟ الكذب والخيانة وإخلف‬
‫ومن المنكر الذي يأمر به بعضهم بع ً‬
‫الوعود‪ ،‬والفجور‪ ،‬والغدر بنقض العهود‪.‬‬
‫ومن المعروف الذي ينهون عنه‪ :‬الجهاد‪ ،‬وبذل المال فممي سممبيل‬
‫الله‪ ،‬للقتال وغير القتال )‪.(1‬‬
‫ويقول سيد قطممب وهممو يفسممر هممذه اليممة ويممبين وجممه انحممراف‬
‫المنافقين‪ :‬أما سلوكهم ‪ -‬أي المنافقين ‪ -‬فهو المر بالمنكر‪ ،‬والنهي‬
‫عن المعروف‪ ،‬وهم حين يأمرون بممالمنكر‪ ،‬وينهممون عممن المعممروف‪،‬‬
‫سا‪ ،‬وغم مًزا ولم مًزا‪ ،‬لنهممم ل‬ ‫سا وهم ً‬ ‫يستخفون بهما‪ ،‬ويفعلون ذلك د ّ‬
‫ن(‬ ‫م ال َْفا ِ‬
‫سُقو َ‬ ‫ن هُ ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مَنافِِقي َ‬ ‫يجرءون على الجهر إل حين يؤمنون‪) .‬إ ِ ّ‬
‫)التوبة‪ :‬من الية ‪ .(67‬فهم خممارجون عممن اليمممان‪ ،‬منحرفممون عممن‬
‫طريق‪ ،‬وقد وعدهم الله مصيًرا كمصير الكفار)‪.(2‬‬‫ال ّ‬
‫وبهذا يّتضح لنا أن هذا المسلك أسوأ ألمموان النحممراف فممي بمماب‬
‫المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫صريحة على أن المممر‬
‫دللة ال ّ‬
‫‪ -5‬ومن اليات التي جاءت تحمل ال ّ‬
‫بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬هو الطريق الصحيح‪ ،‬والمنهج الحق‪،‬‬
‫وأّنه ل يستوي من قام به‪ ،‬ومن أهمله وفّرط فيه‪ ،‬قوله ‪ -‬تعالى ‪:-‬‬
‫ت الل ّمهِ آن َمماءَ‬ ‫ُ‬ ‫)ل َيسوا سواًء م َ‬
‫ة ي َت ْل ُممو َ‬
‫ن آي َمما ِ‬ ‫ة َقائ ِ َ‬
‫مم ٌ‬ ‫مم ٌ‬ ‫بأ ّ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ن أه ْ ِ‬ ‫ِ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ ُ‬
‫ْ‬
‫ف‬
‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبممال ْ َ‬‫مُرو َ‬ ‫خرِ وَي َأ ُ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل ِ‬‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬
‫دو َ‬ ‫ج ُ‬
‫س ُ‬‫م يَ ْ‬
‫ل وَهُ ْ‬‫الل ّي ْ ِ‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(10/533‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(3/1673‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪203‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن(‬
‫حي َ‬
‫صممال ِ ِ‬‫ن ال ّ‬
‫م َ‬‫ك ِ‬ ‫ت وَُأول َئ ِ َ‬ ‫ن ِفي ال ْ َ‬
‫خي َْرا ِ‬ ‫عو َ‬
‫سارِ ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫من ْك َرِ وَي ُ َ‬ ‫ن عَ ِ‬
‫وَي َن ْهَوْ َ‬
‫)آل عمران‪.(114 ،113:‬‬
‫واءً ( )آل‬ ‫س َ‬‫سوا َ‬‫قال ابن كثير في تفسيره لهذه الية‪) :‬ل َي ْ ُ‬
‫عمران‪ :‬من الية ‪ (113‬أي‪ :‬ليسوا كّلهم على حد ّ سواء‪ ،‬بممل منهممم‬
‫ُ‬ ‫المؤمن ومنهم‪ ،‬المجرم‪ ،‬ولهذا قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬م َ‬
‫ة‬
‫م ٌ‬
‫بأ ّ‬‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ن أه ْ ِ‬
‫ِ ْ‬
‫ة( )آل عمران‪ :‬من اليممة ‪ (113‬أي‪ :‬قائمممة بممأمر اللممه‪ ،‬مطيعممة‬ ‫َقائ ِ َ‬
‫م ٌ‬
‫لشرعه‪ ،‬متبعة نبي الله‪ ،‬فهي قائمة يعني مستقيمة)‪.(1‬‬
‫مة التي ليست كذلك‪ ،‬ولم تتصممف بهممذه‬‫ومفهوم هذه الية أن ال ّ‬
‫مة منحرفة ضالة زائغة‪.‬‬ ‫الصفات‪ ،‬فهي أ ّ‬
‫‪ -6‬واليات السابقة جاءت مقمّررة أن المممر بممالمعروف‪ ،‬والنهممي‬
‫عن المنكر‪ ،‬هو طريممق الخيري ّممة والسممتقامة‪ ،‬وأن ممما عممداه طريممق‬
‫ضللة‪.‬‬
‫النحراف وال ّ‬
‫ولكن المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬يختلف من حال إلممى‬
‫ور أن ّممه قممام بممه قممد‬
‫حال‪ ،‬ومن مقام إلى مقام‪ ،‬فليس كممل مممن تصم ّ‬
‫صواب فممي ذلمك‪ ،‬فكمم ممن داعيمة يمأمر وينهممى ‪ -‬اسممتجابة‬ ‫وافق ال ّ‬
‫لليات الداعية لذلك على وجه العموم ‪ -‬ضم ّ‬
‫ل فممي هممذا المممر‪ ،‬ولممم‬
‫يوّفق للمنهج الوسط‪ ،‬وهو المنهج الحق‪ ،‬فقد يتكّلم في مقام يجممب‬
‫سكوت‪ ،‬وقد يغلظ في حممال تجممب فيهمما الليممن والرفممق‪ ،‬وقممد‬
‫فيه ال ّ‬
‫يلين القول فيما ل يجدي فيه إل الغلظة والشدة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ولذلك جاءت اليمات تمبّين المنهمج القمويم فمي مثمل همذا الممر‪،‬‬
‫وترسم الطريق المستقيم الذي قد يخفى على الكثيرين‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/397‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪204‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ولصعوبة التفصيل في هذا المر‪ ،‬فسأذكر بعض اليات التي تبّين‬


‫هذا المنهج وتدل عليه‪.‬‬
‫ن الل ّهِ فَي َ ُ‬
‫س مّبوا‬ ‫دو ِ‬
‫ن ُ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬
‫عو َ‬‫ن ي َد ْ ُ‬ ‫سّبوا ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫)أ( قال ‪ -‬تعالى ‪َ) :-‬ول ت َ ُ‬
‫م( )النعام‪ :‬من الية ‪.(108‬‬ ‫دوا ً ب ِغَي ْرِ ِ ْ‬ ‫الل ّ َ‬
‫عل ٍ‬ ‫ه عَ ْ‬
‫قال ابن عباس‪ :‬قالت قريش‪ :‬يمما محمممد‪ :‬لتنتهيممن عممن س مّبك‬
‫ن ربك‪ ،‬فنهاهم الله أن يسّبوا أوثانهم‪ .‬وقممال قتممادة‪:‬‬
‫آلهتنا‪ ،‬أو لنهجو ّ‬
‫عممدًوا‬ ‫ب الكفار اللممه ‪‬‬
‫كان المسلمون يسّبون أصنام الكّفار‪ ،‬فيس ّ‬
‫بغير علم‪ ،‬فأنمزل الله هذه الية)‪.(1‬‬
‫وانظر ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬إلى ما قاله القرطبي‪ :‬قال العلماء‪ :‬حكمها‬
‫مة على كل حال‪ ،‬فمتى كان الكافر في منعة وخيف‬ ‫باق في هذه ال ّ‬
‫ب السمملم أو النممبي‪  ،‬أو اللممه ‪ ‬فل يحمم ّ‬
‫ل لمسمملم أن‬ ‫أن يس م ّ‬
‫ب صلبانهم‪ ،‬ول دينهم‪ ،‬ول كنائسمهم‪ ،‬ول يتعمّرض إلمى مما ُيمؤدي‬
‫يس ّ‬
‫إلى ذلك‪ ،‬لنه بمنمزلة البعث على المعصية)‪.(2‬‬
‫ب الكّفممار وأصممنامهم أن‬
‫وقال ابن الغرس‪ :‬إنه متى خيف من س ّ‬
‫يسّبوا الله أو رسوله أو القرآن‪ ،‬لم يجز أن يسممبوا ول دينهممم‪ ،‬وهممي‬
‫أصل في قاعدة سد ّ الذرائع)‪.(3‬‬
‫وبعد هذا التأصيل لمدلول هذه الية‪ ،‬أذكر بعممض ممما قيممل حولهمما‬
‫فيما يتعّلق بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫قال السيوطي‪ :‬وقد يستد ّ‬
‫ل بهمما علممى سممقوط وجمموب المممر‬
‫بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬إذا خيف مممن ذلممك مفسممدة أقمموى‪،‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬القولين في تفسير ابن كثير )‪.(2/164‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(7/61‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(6/2463‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪205‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وكذا كل فعل مطلوب ترّتب على فعله مفسدة أقوى مممن مفسممدة‬
‫تركه )‪.(4‬‬
‫صل بعض العلماء في المسألة‪ ،‬ومن هؤلء الحاكم‪ ،‬حيث قال‪:‬‬ ‫وف ّ‬
‫والذي يجب علينا بيان بغضها‪ ،‬وأنه ل تجوز عبادتها‪ ،‬وأنها ل تضمّر ول‬
‫ب‪ ،‬ولهممذا قممال أميممر‬
‫تنفع‪ ،‬وأّنها ل تستحقّ العبادة‪ ،‬وهممذا ليممس بس م ّ‬
‫المؤمنين يوم صفين‪ :‬ل تسّبوهم‪ ،‬ولكن اذكروا قبيح أفعالهم )‪.(1‬‬
‫دين‪ ،‬لئل يتشاغل‬
‫وقال الرازي‪ :‬وفي الية تأديب لمن يدعو إلى ال ّ‬
‫بما ل فائدة له في المطلوب‪ ،‬لن وصف الجمادات بأنها ل تضممّر ول‬
‫تنفع‪ ،‬يكفي في القدح في إلهيتها‪ ،‬فل حاجة مع ذلك إلى شتمها)‪.(2‬‬
‫وأختم هذا الكلم النفيس حول الية‪ ،‬بما قاله الزمخشري‪ :‬قممال‪:‬‬
‫ح الّنهممي عنممه؟ وإنممما‬
‫ب اللهة حق وطاعة‪ ،‬فكيممف صم ّ‬
‫ت‪ :‬س ّ‬
‫فإن قل َ‬
‫ح الّنهي عن المعاصي؟‬
‫يص ّ‬
‫ب طاعة علم أنها تكون مفسممدة‪ ،‬فتخممرج عممن أن تكممون‬ ‫قلت‪ُ :‬ر ّ‬
‫طاعة‪ ،‬فيجب النهي عنها لنها معصممية‪ ،‬ل لنهمما طاعممة كممالنهي عممن‬
‫طاعات‪ ،‬فإذا علم أّنه يؤدي إلى زيادة الش مّر‬‫ل ال ّ‬
‫المنكر‪ ،‬وهو من أج ّ‬
‫انقلممب معصممية‪ ،‬ووجممب الّنهممي عممن ذلممك‪ ،‬كممما يجممب الّنهممي عممن‬
‫المنكر)‪.(3‬‬

‫ومما سبق يّتضح أن القرآن الكريم قممد وضممع قاعممدة فممي رسممم‬
‫ما‪ ،‬وكممذلك‬
‫ن الحكم يدور مممع علتممه وجمموًدا وعممد ً‬
‫منهج الوسطّية‪ ،‬وأ ّ‬
‫‪ - 4‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(6/2463‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(6/2463‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الرازي‪ ،‬وتفسير القاسمي )‪.(6/2463‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬الكشاف‪ ،‬وتفسير القاسمي )‪.(6/2463‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪206‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫فمن الحق النظر إلممى مممآلت المممور دون الوقمموف عنممد ظواهرهمما‬
‫فقط‪.‬‬
‫ن الوسطّية في الدعوة إلممى‬
‫)ب( ونقف وقفة أخرى يتضح فيها أ ّ‬
‫الله والمر بالمعروف‪ ،‬والنهممي عممن المنكممر مسممألة نسممبّية تختلممف‬
‫باختلف ملبساتها والظروف المحيطة بها‪.‬‬
‫فإن هناك من يرى أن المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬يجممب‬
‫ل بقمموله ‪ -‬تعممالى ‪:-‬‬ ‫ما بالّلين‪ ،‬وخفض الجممانب‪ ،‬ويسممتد ّ‬ ‫أن يكون دائ ً‬
‫ه ي ََتمذ َك ُّر أ َْو‬
‫ه َقموْل ً ل َّينما ً ل َعَّلم ُ‬
‫ه ط َغَممى فَُقممول َلم ُ‬ ‫)اذ ْهَب َمما إ ِل َممى فِْرعَموْ َ‬
‫ن إ ِّنم ُ‬
‫شى( )طمه‪،43:‬م ‪ ،(44‬ووجه استدلله من اليممة‪ :‬أن فرعممون قممد‬ ‫خ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫بلغ من العتوّ والطغيان والكبر ما لم يبلغممه أحممد مممن البشممر‪ ،‬حيممث‬
‫دعى اللوهية‪ ،‬ومع ذلك يأمر الله بالنممة القممول لممه‪ ،‬والّرفممق معممه‪.‬‬
‫ا ّ‬
‫فإذا كان ذلك مع فرعون‪ ،‬فإن من هو دونه بالجرم والثم أولى منه‬
‫بالّرفق والّلين‪.‬‬
‫دة والغلظ فممي القممول مطلًقمما‪،‬‬ ‫وآخممرون يممرون وجمموب الشمم ّ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫جاهِ مدِ ال ْك ُّفمماَر َوال ْ ُ‬
‫من َممافِِقي َ‬ ‫ويستدّلون بقوله ‪ -‬تعالى ‪َ) :-‬يا أي َّها الن ّب ِ ّ‬
‫ي َ‬
‫ن‬ ‫م( )التوبة‪ :‬من الية ‪ .(73‬وقوله سبحانه‪َ) :‬قات ُِلوا اّلمم ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ظ عَل َي ْهِ ْ‬‫َواغْل ُ ْ‬
‫ة( )التوبممة‪ :‬مممن اليممة ‪.(123‬‬ ‫م ِغل ْظ َم ً‬ ‫دوا ِفيك ُم ْ‬ ‫ن ال ْك ُّفارِ وَل ْي َ ِ‬
‫ج ُ‬ ‫م َ‬ ‫ي َُلون َك ُ ْ‬
‫م ِ‬
‫مث ْب ُممورًا( )السممراء‪:‬‬ ‫ن َ‬
‫ك َيا فِْرعَموْ ُ‬‫وقول موسى لفرعون‪) :‬وَإ ِّني َل َظ ُن ّ َ‬
‫من الية ‪ .(102‬فيقولون‪ :‬إن هذه اليات تدل علممى وجمموب الغلظ‬
‫والشدة مع هؤلء‪ ،‬وأن اللين يكون مع المؤمنين‪ ،‬لقمموله ‪ -‬تعممالى ‪:-‬‬
‫ن( )الحجر‪ :‬من الية ‪ ،(88‬وأمثالها‪.‬‬
‫مِني َ‬ ‫ك ل ِل ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫ح َ‬
‫جَنا َ‬
‫ض َ‬
‫خِف ْ‬
‫)َوا ْ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪207‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫والحمق أن همذه اليمات همي المتي تؤكمد صمحة مما قلتمه ممن أن‬
‫ف بهمما مممن قممرائن‬
‫الوسطّية مسألة نسبية‪ ،‬تختلف بمماختلف ممما يحم ّ‬
‫وأحوال‪ ،‬يجب اعتبارها في مثل هذه المسائل‪.‬‬
‫والقول المثل أن ّممه يجممب النظممر فممي مجممموع الدلممة‪ ،‬وعممدم‬
‫القتصار على بعضها دون الخر‪ ،‬فضل عممن ضممرب بعضممها ببعممض ‪-‬‬
‫كما يفعل أصحاب الهواء ‪.-‬‬
‫وهذا المسلك ‪ -‬مسملك النظمر فمي جميمع الدلمة ‪ -‬سمميؤدي إلمى‬
‫إعمال كل دليل في موضممعه‪ ،‬دون إهمممال الممدليل الخممر أو الغفلممة‬
‫عنه‪.‬‬
‫ولننظر ‪ -‬الن ‪ -‬فيما ذكرته من أدّلة كل من الفريقيممن‪ ،‬فنجممد أن‬
‫أمر الله لموسممى وهمارون‪ ،‬عليهممما السملم‪ ،‬باسممتعمال الرفمق ممع‬
‫فرعون‪ ،‬كان في أول رسالة موسى‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬كممما يممد ّ‬
‫ل عليممه‬
‫سياق اليات في سورة طه‪ ،‬ولذلك جاء المممر معّلل برجمماء إسمملمه‬
‫شى( )طمه‪.(44:‬‬ ‫ه ي َت َذ َك ُّر أ َوْ ي َ ْ‬
‫خ َ‬ ‫ه قَوْل ً ل َّينا ً ل َعَل ّ ُ‬
‫وانقياده )فَُقول ل َ ُ‬
‫قال ابن كثير ‪ -‬بعد أن ذكر أقوال المفسرين في القول الليممن ‪:-‬‬
‫والحاصل من أقوالهم إن دعوتهما له تكون بكلم رقيممق لي ّممن سممهل‬
‫رفيق‪ ،‬ليكون أوقع في النفوس‪ ،‬وأبلغ وأنجممع‪ ،‬كممما قممال ‪ -‬تعممالى ‪:-‬‬
‫م ِبال ِّتي هِ َ‬
‫ي‬ ‫جادِل ْهُ ْ‬
‫سن َةِ وَ َ‬ ‫عظ َةِ ال ْ َ‬
‫ح َ‬ ‫مةِ َوال ْ َ‬
‫مو ْ ِ‬ ‫ك ِبال ْ ِ‬
‫حك ْ َ‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫)اد ْعُ إ َِلى َ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن( )النحل‪ :‬من الية ‪.(125‬‬ ‫َ‬
‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫أ ْ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪208‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ه ي َت َمذ َك ُّر أ َوْ ي َ ْ‬


‫خ َ‬
‫شممى( )طمممه‪ :‬مممن اليممة‬ ‫قال الحسن البصري‪) :‬ل َعَل ّ ُ‬
‫‪ (44‬يقول‪ :‬ل تقل أنت يا موسى وأخوك هارون أهلكه قبل أن أعذر‬
‫إليه )‪.(1‬‬
‫وقال القاسمي‪ :‬وظاهر أن الرجاء في )لعلممه( إنممما هممو منهممما ل‬
‫ح منه‪ ،‬ولذا قال القاضي‪ :‬أي باشرا المممر علممى‬
‫من الله‪ ،‬فإّنه ل يص ّ‬
‫رجائكما وطمعكما‪ ،‬أنه يثمر ول يخيب سعيكما‪ ،‬فإن الراجي مجتهد‪،‬‬
‫واليس متكّلف‪.‬‬
‫والفائدة في إرسالهما‪ ،‬والمبالغة عليهما في الجتهاد ‪ -‬مع علمممه‬
‫بأنه ل يؤمن ‪ -‬إلزام الحجة‪ ،‬وقطع المعذرة‪ ،‬وإظهممار ممما حممدث فممي‬
‫تضاعيف ذلك من آيات )‪.(1‬‬
‫ما آية السراء فإنها جاءت في نهاية المطاف مع فرعممون‪ ،‬ولممما‬ ‫أ ّ‬
‫لم تنفع جميع اليات التي جاء بها موسى‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬وهممي تسممع‬
‫آيات عظيمة‪ ،‬فلم يكن بد من الغلظ له في القول )وَإ ِّني َل َظ ُن ّ َ‬
‫ك َيا‬
‫مث ُْبورًا( )السراء‪ :‬مممن اليممة ‪ .(102‬أي هالك ًمما‪ ،‬فممإن الثبممور‪:‬‬ ‫ن َ‬‫فِْرعَوْ ُ‬
‫الهلك والخسران )‪ .(2‬والدليل علممى أن هممذا المممر كممان فممي نهايممة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫مم َ‬ ‫م ِ‬ ‫س مت َِفّزهُ ْ‬
‫ن يَ ْ‬ ‫المر معه قوله ‪ -‬تعالى ‪ -‬بعد هذه اليممة‪) :‬فَ مأَراد َ أ ْ‬
‫ميعًا( )السراء‪.(103:‬‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫ج ِ‬ ‫ه َ‬ ‫مع َ ُ‬
‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫ض فَأغَْرقَْناهُ وَ َ‬ ‫الْر ِ‬
‫ن َواغْل ُم ْ‬ ‫َ‬
‫ظ‬ ‫مَنافِِقي َ‬ ‫جاهِدِ ال ْك ُّفاَر َوال ْ ُ‬ ‫ي َ‬‫ما قوله ‪ -‬تعالى ‪َ) :-‬يا أي َّها الن ّب ِ ّ‬ ‫أ ّ‬
‫من ُمموا قَممات ُِلوا‬ ‫َ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫م( )التوبة‪ :‬من الية ‪ .(73‬وقمموله‪) :‬ي َمما أي ّهَمما ال ّم ِ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫ة()التوبممة‪ :‬مممن اليممة‬ ‫م ِغل ْظ َم ً‬ ‫دوا ِفيك ُم ْ‬ ‫جم ُ‬‫ن ال ْك ُّفممارِ وَل ْي َ ِ‬‫م َ‬‫م ِ‬ ‫ن ي َُلون َك ُ ْ‬‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(3/153‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(11/4182‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(10/337‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪209‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ضا ‪ -‬في آخر العهد النبوي‪ ،‬حيث إن سممورة‬


‫‪ .(123‬فإن هذا كان ‪ -‬أي ً‬
‫التوبة من آخر ما نمزل من القرآن‪ ،‬وكذلك سورة الّتحريم متأخرة‪.‬‬
‫قممد خمماطب المشممركين قبممل ذلممك‪،‬‬ ‫‪‬‬ ‫ن الرسول‪،‬‬
‫ومعنى هذا أ ّ‬
‫ودعاهم إلى الله باللين‪ ،‬واستخدم معهم جميع وسائل الرفق‪ ،‬حممتى‬
‫سيف والغلظة‪.‬‬
‫لم يعد ُيجدي معهم إل ال ّ‬
‫وكممذلك المنممافقون‪ ،‬لممم تجممد معهممم وسممائل المهادنممة والمموعظ‪،‬‬
‫والرفق واللين‪ ،‬فكان لبد ّ من الغلظ لهم بالقول‪ ،‬كالغلظ للكّفمار‬
‫سيف‪.‬‬
‫بال ّ‬
‫وخلصة القول‪ :‬إن اللين والغلظ‪ ،‬أمران مشروعان‪ ،‬ل يجوز‬
‫القتصار على أحدهما دون الخر في كل الحوال‪ ،‬وإنممما الحممق هممو‬
‫استخدام كل واحد منهما في موضعه‪ .‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫مضّر كوضع الســيف فــي‬
‫ُ‬ ‫ووضع الندي فــي موضــع‬
‫موضـــــــــع النـــــــــدى‬ ‫الســـــــــيف بـــــــــالعل‬

‫)ج( وأخي مًرا نممأتي لكلمممة الفصممل فممي هممذه القضممية‪ :‬إذا كممانت‬
‫الوسطّية في هذا الباب تختلف بمماختلف الحممال والمح م ّ‬
‫ل‪ ،‬والّزمممان‬
‫ضابط لذلك؟‬
‫والمكان‪ ،‬فما هو ال ّ‬
‫والجواب حسمممه القممرآن الكريممم فممي آيممة واحممدة‪ ،‬حيممث قممال ‪-‬‬
‫ة‬
‫سممن َ ِ‬ ‫عظ َةِ ال ْ َ‬
‫ح َ‬ ‫مةِ َوال ْ َ‬
‫مو ْ ِ‬ ‫ك ِبال ْ ِ‬
‫حك ْ َ‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫سبحانه وتعالى ‪) :-‬اد ْعُ إ َِلى َ‬
‫سِبي ِ‬
‫َ‬
‫ن( )النحل‪ :‬من الية ‪.(125‬‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬‫يأ ْ‬ ‫م ِبال ِّتي هِ َ‬
‫جادِل ْهُ ْ‬
‫وَ َ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪210‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ضابط‪ ،‬والفيصل في ذلك‪ ،‬فحيممث كممانت الحكمممة‬


‫فالحكمة هي ال ّ‬
‫كانت الوسطّية‪ ،‬وحيث فقدت فإن هناك انحراًفا إلى ذات اليمين أو‬
‫ذات الشمال‪.‬‬
‫ولع ّ‬
‫ل من المناسب أن أختم هذا المبحممث بتعريممف الحكمممة كممما‬
‫عرفها العلماء‪.‬‬
‫قممال إبراهيممم النخعممي‪ :‬الحكمممة‪ :‬الفهممم‪ .‬وقممال زيممد بممن أسمملم‪:‬‬
‫الحكمة‪ :‬العقل‪ .‬وقال مالك‪ :‬وإنممه ليقممع فممي قلممبي أن الحكمممة هممو‬
‫الفقممه فممي ديممن اللممه‪ ،‬وأمممر يممدخله اللمه فممي القلمموب مممن رحمتممه‬
‫وفضله)‪.(1‬‬
‫وقال عبممد الرحمممن بممن سممعدي‪ :‬الحكمممة‪ :‬هممي العلمموم الّنافعممة‪،‬‬
‫ددة‪ ،‬واللبمماب الّرزينممة‪ ،‬وإصممابة‬
‫صائبة‪ ،‬والعقممول المسم ّ‬
‫والمعارف ال ّ‬
‫صواب في القوال والفعال‪.‬‬ ‫ال ّ‬
‫ثم قممال‪ :‬وجميممع المممور ل تصمملح إل بالحكمممة‪ ،‬الممتي هممي‪ :‬وضممع‬
‫الشممياء مواضممعها‪ ،‬وتنمممزيل المممور منازلهمما‪ ،‬والقممدام فممي محممل‬
‫القدام‪ ،‬والحجام في موضع الحجام )‪.(2‬‬
‫سرت الحكمة بأنها معرفممة حقممائق الشممياء‬
‫وقال ابن عاشور‪ :‬وف ّ‬
‫على ما هي عليه‪ ،‬بما تبلغه الطاقممة‪ ،‬أي‪ :‬بحيممث ل تلتبممس الحقممائق‬
‫المتشابهة بعضها مع بعض‪ ،‬ول يغلط في العلل والسباب )‪.(3‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬هذه القوال الثلثة ‪ -‬في تفسير ابن كثير ‪ .1/322‬ورسالة الحكمة للمؤلف ص )‪.(17‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير ابن سعدي )‪.(1/332‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬التحرير والتنوير )‪.(3/61‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪211‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقممال سمميد قطممب‪ :‬الحكمممة‪ :‬القصممد والعتممدال‪ ،‬وإدراك العلممل‬


‫صممالح الصممائب مممن‬
‫والغايات‪ ،‬والبصمميرة المسممتنيرة الممتي تهممديه لل ّ‬
‫الحركات والعمال )‪.(1‬‬
‫وجماع الحكمة في قول ابن القيم‪ :‬فعل ما ينبغممي‪ ،‬علممى المموجه‬
‫الذي ينبغي‪ ،‬في الوقت الذي ينبغي)‪.(2‬‬
‫وبعد‪ :‬فإن منهج القممرآن فممي تقريممر الوسممطّية فممي بمماب المممر‬
‫ي‪ ،‬زادته‬
‫بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬والدعوة إلى الله واضح جل ّ‬
‫هذه الدلة بياًنا وتفصيل‪.‬‬
‫م البممواب ‪ -‬العمليممة ‪ -‬الممتي يجممب أن يتحمّرى‬
‫وهذا الباب من أهم ّ‬
‫فيها الدعاة وطلب العلم منهج القرآن‪ ،‬ويلممتزموا بممه‪ ،‬حممتى ل تممزل‬
‫العقول والقدام‪ ،‬فيقعوا في الغلو والفممراط‪ ،‬نتيجممة الحممماس غيممر‬
‫المنضبط‪ ،‬أو يقعوا في الّتفريط والّتهاون اسمتجابة لرغبممات النفمس‬
‫وشهواتها‪.‬‬
‫كل طرفــي قصــد المــور‬ ‫ول تغــل فــي شــيء مــن‬
‫ذميــــــــــــــــــــــــــــم‬ ‫المــــــــر واقتصــــــــد‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(1/312‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬مدارج السالكين )‪ ،(2/479‬وانظر‪ :‬لكل ما سبق رسالة الحكمة للمؤلف ص )‪ (16‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪212‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫الجهاد في سبيل الله‬


‫ض إلممى أن‬
‫وهو ممما ٍ‬
‫)‪(1‬‬
‫الجهاد في سبيل الله ذروة سنام السلم‬
‫ساعة )‪.(2‬‬
‫تقوم ال ّ‬
‫ول عّزة للمة ول فخر ول سؤدد إل بإقامة هذا الركن العظيم‪.‬‬
‫وما تركت أمة الجهاد في سبيل اللممه إل ذل ّممت وضممعفت‪ ،‬وهممانت‬
‫م على خلقه‪.‬‬ ‫على الله ومن ث ّ‬
‫ما وحممديًثا ‪ -‬فممي موضمموع الجهمماد فممي‬
‫ولقد انقسم النمماس ‪ -‬قممدي ً‬
‫سبيل الله إلى ثلث طوائف‪:‬‬
‫‪ -1‬فطائفة يغلب عليها الحماس‪ ،‬والندفاع‪ ،‬والقدام‪ ،‬ومممن‬
‫حرصها على ذلك أفرطت في موضوع الجهمماد‪ ،‬ولممذلك وقعممت فممي‬
‫سلبيات ما ل يخفى‪.‬‬
‫مزالق كبيرة‪ ،‬وكان لهذا المر من ال ّ‬
‫‪ -2‬وطائفة في مقابل هذه ال ّ‬
‫طائفة‪ ،‬فّرطت فممي الجهمماد‬
‫ما لضمماعة وإماتممة هممذا الّركممن العظيممم‪،‬‬
‫في سبيل الله‪ ،‬وتسعى دائ ً‬
‫وإذا دعا داعي الجهاد‪ ،‬انتفضت خوًفا وفرًقا وذعًُرا‪ ،‬وذهبت تلتمممس‬
‫العذار للتخّلف والقعود‪.‬‬
‫سممطت بيممن الط ّممائفتين‪،‬‬
‫ما الطائفة الثالثة فهي الممتي تو ّ‬
‫‪ -3‬أ ّ‬
‫حبت الجهاد‪ ،‬ورغبت فيه‪ ،‬وسعت إليه‪ ،‬ولكن ذلك لم يممدفعهم لن‬ ‫فأ ّ‬
‫ضوابط ال ّ‬
‫شرعية في‬ ‫يستعجلوا الشيء قبل أوانه‪ ،‬ولذلك التزموا بال ّ‬
‫العداد للجهاد‪ ،‬وإعلنه‪ ،‬والستمرار فيه‪.‬‬

‫‪ - 1‬ورد ذلك في حديث أخرجه الترمذي ) ‪ (13 /5‬رقم )‪ ،(2616‬وابن ماجة )‪ (1314 /2‬رقم )‪ ،(3973‬قال الترمذي‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬

‫ض مع البر والفاجر"‪ .‬وذكر قوله‪ ،‬صلى الله عليه وسلم‪" :‬الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"‪ .‬وقد روى أبو داود )‬
‫‪ - 2‬ترجم البخاري في الصحيح باب "الجهاد ما ٍ‬
‫ض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال‪،‬‬
‫‪ :(18 /3‬عن أنس بن مالك قال‪ :‬قال رسول الله‪ ،‬صلى الله عليه وسلم‪" :‬ثلثة من أصل اليمان" وذكر منها‪" :‬والجهاد ما ٍ‬
‫سلمي‪ :‬مجهول من الخامسة‪ .‬انظر‪ :‬التقريب ص )‪.) 605‬‬ ‫ول يبطله جور جائر ول عدل عادل"‪ .‬حديث رقم )‪ (2532‬وفي إسناده يزيد بن أبي ن ُ ْ‬
‫شَبة ال ّ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪213‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وكذلك إذا دعا داعي الجهاد‪ ،‬لم يقعدوا مع القاعدين‪ ،‬ولم يّثبطوا‬
‫مع المّثبطين‪ ،‬بل سارعوا إلى إجابة المنادي غير خائفين أو وجلين‪.‬‬
‫ن خطممأ الطممائفتين‪ ،‬الولممى والثانيممة‪ :‬الغاليممة‬
‫ولقد جاء القرآن يبي ّ‬
‫ق‪ ،‬منهممج‬‫م يرسم المنهج الح م ّ‬ ‫رطة والمفّرطة‪ ،‬ومن ث ّ‬ ‫والجافية‪ ،‬المْف ِ‬
‫دا على خطورة الفراط والّتفريط‪ ،‬داعًيا إلممى‬ ‫طائفة الوسط‪ ،‬مؤك ً‬ ‫ال ّ‬
‫الجهمماد فممي سممبيل اللممه‪ ،‬إذا تمموافرت أسممبابه ودواعيممه‪ ،‬وتحّققممت‬
‫شروطه وضوابطه‪ .‬وسأبّين أسلوب القرآن في إقرار المنهج الحق‪،‬‬
‫صراط المستقيم‪.‬‬ ‫دللة إلى ال ّ‬ ‫وال ّ‬
‫طائفة الولى‪:‬‬ ‫ولنقف مع تشخيص القرآن لل ّ‬
‫َ‬
‫ن ب َعْ مدِ‬ ‫مم ْ‬‫ل ِ‬ ‫سممرائي َ‬ ‫ن ب َِني إ ِ ْ‬ ‫م ْ‬‫مل ِ ِ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ْ َ‬ ‫قال الله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬أل َ ْ‬
‫ل‬‫ل الل ّمهِ قَمما َ‬ ‫سمِبي ِ‬‫ل فِممي َ‬ ‫مِلكا ً ن َُقات ِ ْ‬ ‫ث ل ََنا َ‬ ‫م اب ْعَ ْ‬ ‫ي ل َهُ ُ‬ ‫سى إ ِذ ْ َقاُلوا ل ِن َب ِ ّ‬‫مو َ‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ما ل ََنمما أ َّل ن َُقاِتمم َ‬‫ل أّل ت َُقات ُِلوا َقاُلوا وَ َ‬
‫ل عَسيتم إن ك ُت ِب عَل َيك ُم ال ْقتا ُ َ‬
‫ْ ُ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ ْ ِ ْ‬ ‫هَ ْ‬
‫م ال ِْقَتا ُ‬ ‫َ‬ ‫ل الل ّهِ وَقَد ْ أ ُ ْ‬
‫ل‬ ‫ب عَل َي ْهِ ُ‬ ‫ما ك ُت ِ َ‬‫ن دَِيارَِنا وَأب َْنائ َِنا فَل َ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫جَنا ِ‬ ‫خرِ ْ‬ ‫سِبي ِ‬
‫ِفي َ‬
‫ن( )البقرة‪.(246:‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫م ِبال ّ‬ ‫ه عَِلي ٌ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫وا إ ِّل قَِليل ً ِ‬‫ت َوَل ّ ْ‬
‫هذه الية خّلد الله فيهمما قصممة مممن قصممص بنممي إسممرائيل‪ ،‬الممتي‬
‫انحرفوا فيها عن السبيل القويم‪ ،‬وال ّ‬
‫طريق المستقيم‪.‬‬
‫ها نحن نرى الحماس والندفاع للجهاد في سبيل الله‪ ،‬ويطممالبون‬
‫نبيهم‪ ،‬عليه السلم‪ ،‬بإعلن الجهاد واختيار قائد يقودهم إليه‪.‬‬
‫ن‬
‫م إِ ْ‬‫سمي ْت ُ ْ‬ ‫ويأتي نبّيهم‪ ،‬ويسممألهم سممؤال يحمممل الحقيقممة‪) :‬هَم ْ‬
‫ل عَ َ‬
‫ل أ َّل ت َُقات ُِلوا( )البقرة‪ :‬من اليممة ‪(246‬؟ وهنمما يممأتي‬ ‫م ال ِْقَتا ُ‬
‫ب عَل َي ْك ُ ُ‬‫ك ُت ِ َ‬
‫ل‬‫س مِبي ِ‬
‫ل ِفي َ‬ ‫ما ل ََنا أ َّل ن َُقات ِ َ‬
‫ما‪) :‬وَ َ‬
‫مسون دائ ً‬
‫دده المتح ّ‬ ‫الجواب الذي ير ّ‬
‫ن دَِيارَِنا وَأ َب َْنائ َِنا( )البقرة‪ :‬من الية ‪ ، (246‬وكيممف‬ ‫م ْ‬‫جَنا ِ‬‫خرِ ْ‬ ‫الل ّهِ وَقَد ْ أ ُ ْ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪214‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫م َوالل ّم ُ‬
‫ه‬ ‫وا إ ِّل قَِليل ً ِ‬
‫من ْهُم ْ‬ ‫ل ت َوَل ّم ْ‬
‫م ال ِْقت َمما ُ‬
‫ب عَل َي ْهِم ُ‬ ‫كانت النتيجة‪) :‬فَل َ ّ‬
‫ما ك ُت ِ َ‬
‫ن( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(246‬‬ ‫مي َ‬ ‫م ِبال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫عَِلي ٌ‬
‫دعوى‬ ‫خممر همذه الم ّ‬ ‫صة وتفاصمميلها نعمايش مشماهد تب ّ‬ ‫وفي ثنايا الق ّ‬
‫ك عَل َينمما ونحم َ‬ ‫مل ْ ُ‬ ‫والحماس‪ ،‬وأول ذلك‪َ) :‬قاُلوا أ َّنى ي َ ُ‬
‫ق‬
‫حم ّ‬ ‫نأ َ‬ ‫َْ ََ ْ ُ‬ ‫ه ال ْ ُ‬
‫ن لَ ُ‬
‫كو ُ‬
‫ه( )البقرة‪ :‬من الية ‪ .(247‬وتبدأ رحلة الجهاد‪ ،‬ويبدأ معها‬ ‫من ْ ُ‬ ‫مل ْ ِ‬
‫ك ِ‬ ‫ِبال ْ ُ‬
‫ه‬‫ن الل ّم َ‬ ‫تحقق ما قاله نبيهم في خوفه من عدم صممدقهم وثبمماتهم‪) :‬إ ِ ّ‬
‫ه إ ِّل‬
‫من ْم ُ‬ ‫ر( )البقرة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(249‬والنتيجممة )فَ َ‬
‫شمرُِبوا ِ‬ ‫مب ْت َِليك ُ ْ‬
‫م ب ِن َهَ ٍ‬ ‫ُ‬
‫م( )البقرة‪ :‬من الية ‪ .(249‬وبعد ذلك تقول فئة من البقيممة‬ ‫قَِليل ً ِ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫ه( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة‬ ‫جن ُممودِ ِ‬ ‫جمماُلو َ‬
‫ت وَ ُ‬ ‫ة ل َن َمما ال ْي َموْ َ‬
‫م بِ َ‬ ‫الباقية‪) :‬ل َ‬
‫طاقَ م َ‬
‫‪.(249‬‬
‫وأخيًرا ل يثبت إل فئة أقل مممن القليممل‪ ،‬ولعممل هممذه الفئة الممتي‬
‫قتلت جالوت‪ ،‬وانتصرت بعد ثباتها لمم تكمن ممن أولئك المتحمسمين‬
‫المندفعين‪ ،‬الذين كانوا أول الهاربين والمتخاذلين‪.‬‬
‫ب عَل َي ْهِ م ُ‬
‫م‬ ‫قال القرطبي فــي قــوله ‪ -‬تعــالى ‪) :-‬فَل َ ّ‬
‫ممما ك ُت ِم َ‬
‫ل( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(246‬أخممبر ‪ -‬تعممالى ‪ -‬أنممه لممما فممرض‬ ‫ال ِْقَتا ُ‬
‫عليهم القتال ورأوا الحقيقة‪ ،‬ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب‪،‬‬
‫وأن نفوسهم ربما قد تممذهب )ت َوَل ّم ْ‬
‫وا( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪ (246‬أي‬
‫اضممطربت نيمماتهم وفممترت عزائمهممم‪ ،‬وهممذا شممأن المممم الممتنعممة‪،‬‬
‫المائلة إلى الدعة‪ ،‬تتمنى الحرب أوقات النفة‪ ،‬فإذا حضرت الحرب‬
‫كعت وانقادت لطبعها‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪215‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ل تتمنمموا لقمماء العممدو‬ ‫‪‬‬ ‫بقمموله‪:‬‬ ‫وعن هذا المعنى نهى النبي‪ ،‬‬
‫رواه الئمة‪.‬‬ ‫)‪(1‬‬
‫‪‬‬ ‫وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا‬
‫ثممم أخممبر اللممه عممن قليممل منهممم أنهممم ثبتمموا علممى النيممة الولممى‪،‬‬
‫واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله ‪ -‬تعالى ‪.(2) -‬‬
‫وقال ابن عباس‪ :‬شممربوا علممى قممدر يقينهممم‪ ،‬فشممرب الكفممار‬
‫شرب الهيم‪ ،‬وشرب العاصون دون ذلك‪ ،‬وانصرف من القمموم سممتة‬
‫وسبعون ألًفا ‪ -‬قيل كان عددهم ثمانين ألًفا ‪ -‬وبقي بعض المممؤمنين‬
‫لم يشرب شيًئا‪ ،‬وأخذ بعضهم الغرفة‪.‬‬
‫وقال ابن عباس والسدي‪ :‬جاز معه في النهر أربعممة آلف رجممل‪،‬‬
‫فيهم من شرب‪ ،‬فلما نظروا إلى جالوت وجنوده‪ ،‬رجممع منهممم ثلثممة‬
‫آلف وستمائة وبضعة وثمانون )‪.(3‬‬
‫وهذا نموذج آخر من نماذج المتحمســين للقتــال‪ ،‬الممذي‬
‫أفرطمموا فممي طلبممه والسممعي إليممه‪ ،‬فلمما تحقممق لهممم ذلممك خممالفت‬
‫أفعالهم أقوالهم‪.‬‬
‫وإذا كان المثل الول كان في بني إسرائيل‪ ،‬فإن هذا المثممل فممي‬
‫وهذا يؤكد حقيقة مهمة أن ذلك النموذج يتكممرر فممي‬ ‫أمة محمد‪ ،‬‬
‫كل عصر وحين‪ ،‬وها نحن نراه ماثل أمام أعيننا في زمننا الحاضر‪.‬‬
‫والحماس هو الحماس‪ ،‬والنهاية هي النهاية‪ ،‬وها هي اليات تممذكر‬
‫البداية والنهاية‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م ك ُّفمموا أي ْمدِي َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ل ل َهُم ْ‬
‫ن ِقيم َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ت َمَر إ ِل َممى ال ّم ِ‬‫قال ‪ -‬سممبحانه ‪) :-‬أل َم ْ‬
‫م ال ِْقَتا ُ‬ ‫َ‬
‫م‬‫من ُْهمم ْ‬
‫ريقٌ ِ‬ ‫ذا فَ ِ‬ ‫ل إِ َ‬ ‫ب عَل َي ْهِ ُ‬ ‫كاةَ فَل َ ّ‬
‫ما ك ُت ِ َ‬ ‫صلةَ َوآُتوا الّز َ‬
‫موا ال ّ‬
‫وَأِقي ُ‬
‫‪ - 1‬أخرجه البخاري )‪ (24 ،4/9‬ومسلم )‪ (1362 /3‬رقم )‪.(1742‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(244 /3‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪ .(3/254‬وبالنسبة لعددهم ومقدار من رجع منهم من أخبار بني إسرائيل والمهم أن الكثر هم الذين رجعوا‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪216‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ت عَل َي َْنا‬ ‫ة وََقاُلوا َرب َّنا ل ِ َ‬


‫م ك َت َب ْ َ‬ ‫خ ْ‬
‫شي َ ً‬ ‫شد ّ َ‬‫شي َةِ الل ّهِ أ َوْ أ َ َ‬
‫خ ْ‬ ‫س كَ َ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫خ َ‬
‫شو ْ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ل َواْل ِ‬ ‫َ‬ ‫ول أ َ ّ‬
‫خْيممٌر‬ ‫خَرةُ َ‬ ‫مَتاعُ الد ّن َْيا قَِلي ٌ‬ ‫ل َ‬‫ب قُ ْ‬‫ري ٍ‬ ‫ل قَ ِ‬ ‫ج ٍ‬ ‫خْرت ََنا إ َِلى أ َ‬ ‫ل لَ ْ‬
‫ال ِْقَتا َ‬
‫ل( )النساء‪.(77:‬‬ ‫ن فَِتي ً‬ ‫مو َ‬ ‫ن ات َّقى َول ت ُظ ْل َ ُ‬ ‫م ِ‬‫لِ َ‬
‫قال الطبري‪ :‬ذكر أن هذه الية نمزلت في قمموم مممن أصممحاب‬
‫كانوا قد آمنوا به‪ ،‬وصدقوه قبل أن يفممرض عليهممم‬ ‫رسول الله‪ ،‬‬
‫الجهاد‪ ،‬وقد فرض عليهم الصلة والزكمماة‪ ،‬وكممانوا يسممألون اللممه أن‬
‫يفرض عليهم القتال‪ ،‬فلما فرض عليهممم القتممال شممق عليهممم ذلممك‪،‬‬
‫وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتابه‪.‬‬
‫روى الطبري بسنده عن ابن عباس أن عبممد الرحمممن بممن عمموف‬
‫فقالوا‪ :‬يا رسول الله كنا فممي عممز ونحممن‬ ‫وأصحاًبا له أتوا النبي‪ ،‬‬
‫إنممي أمممرت بممالعفو فل‬ ‫مشركون‪ ،‬فلما آمنمما صممرنا أذلممة‪ ،‬فقممال‪:‬‬
‫‪‬‬

‫تقاتلوا فلما حوله الله إلى المدينة ُأمر بالقتال فكفوا‪ ،‬فأنمزل الله ‪-‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل ل َهُ ْ‬
‫م ك ُّفوا أي ْدِي َك ُ ْ‬
‫م ‪ .‬الية )‪.(1‬‬ ‫ن ِقي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫تبارك وتعالى ‪ :-‬أل َ ْ‬
‫ولننظممر فيممما قمماله سمميد قطممب فممي هممذه اليممة حيممث يشممخص‬
‫الحقيقة في أدق تصوير‪ ،‬قال‪:‬‬
‫يعجممب اللممه ‪ -‬سممبحانه ‪ -‬مممن أمممر هممؤلء النمماس الممذين كممانوا‬
‫يتدافعون حماسة إلى القتال‪ ،‬ويستعجلونه‪ ،‬وهممم فممي مكممة يتلقممون‬
‫الذى والضطهاد والفتنة من المشركين‪ ،‬حين لم يكممن مأذون ًمما لهممم‬
‫في القتال للحكمة التي يريدها الله‪.‬‬
‫فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدره الله‪ ،‬وتهيممأت الظممروف‬
‫المناسبة‪ ،‬وكتب عليهم القتال ‪ -‬فممي سممبيل اللممه ‪ -‬إذا فريممق منهممم‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪ .(5/170‬والحديث أخرجه النسائي )‪ (6/3‬رقم )‪ .(3086‬والبيهقي في السنن )‪ (9/11‬والحاكم في المستدرك )‪ ،(2/307‬وقال‪ :‬صحيح على شرط‬

‫البخاري ولم يخرجاه‪ .‬ووافقه الذهبي ‪ -‬وانظر‪ :‬الدر المنثور )‪.(2/328‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪217‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫شديد الجزع‪ ،‬شديد الفزع‪ ،‬حتى ليخش الذين أمروا بقتمالهم ‪ -‬وهمم‬
‫ناس من البشر‪ -‬كخشية الله‪ ،‬القهار الجبار‪ ،‬أو أشد خشية‪ ،‬وإذا هم‬
‫ت عَل َي ْن َمما ال ِْقت َمما َ‬
‫ل(‬ ‫م ك َت َب ْم َ‬
‫يقولون في ‪ -‬حسرة وخوف وجزع ‪َ) :-‬رب َّنا ل ِ َ‬
‫)النساء‪ :‬من الية ‪.(77‬‬
‫عا وتهمموًرا‪ ،‬قممد يكونممون هممم أش مد ّ‬
‫إن أشد ّ الناس حماسة وانممدفا ً‬
‫د‪ ،‬وتقممع الواقعممة‪ ،‬بممل‬
‫عا‪ ،‬وانهياًرا وهزيمة‪ ،‬عندما يجد ّ الج ّ‬
‫الناس جز ً‬
‫ور والحماسممة‬‫إن هممذه قممد تكممون القاعممدة‪ ،‬ذلممك أن النممدفاع والتهم ّ‬
‫الفائقة ‪ -‬غالًبا ما تكون منبعثة من عدم التقدير لحقيقة الّتكاليف‪ ،‬ل‬
‫عن شجاعة واحتمال وإصرار‪ ،‬كما أنهمما قممد تكممون منبعثممة عممن قلممة‬
‫الحتمممال‪ ،‬قلممة احتمممال الذى‪ ،‬والض مّيق والهزيمممة‪ ،‬فتممدفعهم قلممة‬
‫الحتمال إلى طلب الحركة‪ ،‬والدفع والنتصار بأي شكل دون تقممدير‬
‫لتكاليف الحركة‪ ،‬والدفع والنتصار‪ ،‬حتى إذا ووجهوا بهممذه التكمماليف‬
‫عا‬
‫وروا‪ ،‬فكانوا أول الصف جز ً‬ ‫كانت أثقل مما قدروا‪ ،‬وأشقّ مما تص ّ‬
‫ونكممول وانهيمماًرا‪ ،‬علممى حيممن يثبممت أولئك الممذين كممانوا يمسممكون‬
‫دون للمممر‬
‫أنفسممهم‪ ،‬ويحتملممون الضمميق والذى بعممض المموقت‪ ،‬ويع م ّ‬
‫عممدته‪ ،‬والمتهممورون المنممدفعون المتحمسممون يحسممبونهم إذ ذاك‬
‫ضعاًفا‪ ،‬ول يعجبهم تمهلهم‪ ،‬ووزنهم للمور‪ ،‬وفي المعركة يتممبين أي‬
‫الفريقين أكثر احتمال‪ ،‬وأي الفريقين ‪ -‬كان ‪ -‬أبعد نظًرا كذلك )‪.(1‬‬
‫إنها الحقيقة التي عّبر عنهمما سمميد ‪ -‬رحمممه اللممه ‪ ،-‬تلممك الحقيقممة‬
‫التي ل يدركها إل من عاشها‪ ،‬وذاق مرارة هممذا اللممون مممن النممدفاع‬
‫والحماس‪ ،‬مممما نممراه ممماثل أمممام أعيننمما فممي صممنف مممن النمماس‪ ،‬ل‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(2/712‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪218‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫يقدرون عواقب المور‪ ،‬ويثورون لقل السباب‪ ،‬غافلين عن السممنن‬


‫الربانيممة‪ ،‬والحكممام الشممرعية‪ ،‬والقممدرات البشممرية‪ ،‬متصممورين أن‬
‫طيبتهم وحسن نيتهم‪ ،‬ومقصدهم تكفي سبًبا لنتصارهم‪.‬‬
‫وكما جاءت آية النسمماء‪ ،‬فقممد جمماءت آيممة الصممف‪ ،‬تعالممج القضممية‬
‫َ‬
‫ممما ل‬ ‫م ت َُقول ُممو َ‬
‫ن َ‬ ‫من ُمموا ل ِم َ‬
‫نآ َ‬ ‫نفسها‪ ،‬وتبين الحقيقة ذاتها‪َ) :‬يا أي َّها ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬
‫َ‬
‫ن( )الصف‪.(2،3:‬‬ ‫ما ل ت َْفعَُلو َ‬ ‫ن ت َُقوُلوا َ‬ ‫عن ْد َ الل ّهِ أ ْ‬
‫مْقتا ً ِ‬ ‫ت َْفعَُلو َ‬
‫ن ك َب َُر َ‬
‫قال ابن كثير‪ :‬وحملوا الية ‪ -‬أي الجمهور ‪ -‬علممى أنهمما نمممزلت‬
‫حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم‪ ،‬فلما فرض نكل بعضممهم‪ ،‬كقمموله ‪-‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م( )النساء‪ :‬من الية‬ ‫ل ل َهُ ْ‬
‫م ك ُّفوا أي ْدِي َك ُ ْ‬ ‫ن ِقي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫تعالى ‪) :-‬أل َ ْ‬
‫‪ (77‬الية‪ ،‬وهكذا هذه الية معناها‪ ،‬كما قال علي بن أبي طلحة عن‬
‫َ‬
‫ممما ل‬ ‫م ت َُقوُلو َ‬
‫ن َ‬ ‫مُنوا ل ِ َ‬
‫نآ َ‬ ‫ابن عباس في قوله ‪ -‬تعالى ‪َ) :-‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ت َْفعَُلو َ‬
‫ن( )الصف‪ .(2:‬قال‪ :‬كان ناس من المممؤمنين قبممل أن يفممرض‬
‫دلنمما علممى أحممب العمممال إليممه‬ ‫الجهاد يقولون‪ :‬لوددنا أن الله ‪‬‬
‫فنعمل به‪ ،‬فأخبر الله نبيه أن أحب العمممال إيمممان بممه لشممك فيممه‪،‬‬
‫وجهاد أهل معصية الذين خالفوا اليمان‪ ،‬ولم يقممروا بممه‪ ،‬فممما نمممزل‬
‫الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين‪ ،‬وشق عليهممم أمممر اللممه‪ ،‬فقممال‬
‫َ‬
‫ممما ل ت َْفعَل ُممو َ‬
‫ن(‬ ‫م ت َُقول ُممو َ‬
‫ن َ‬ ‫من ُمموا ِلم َ‬
‫نآ َ‬ ‫الله ‪ -‬سممبحانه ‪) :-‬ي َمما أي ّهَمما ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬
‫)الصف‪.(1)(2:‬‬
‫هممذه حقيقممة النممدفاع والحممماس‪ ،‬عنممدما ل ينضممبط بالضمموابط‬
‫الشرعية ول السنن الربانية‪ .‬إنه انحراف عن المنهج الحق‪ ،‬انحراف‬
‫يمثل الغلو والفممراط‪ ،‬ومممن ثممم فهممو خممروج عممن المنهممج الوسممط‪،‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/357‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪219‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫المنهج الذي ل يلغي العتبارات المتعددة قبل اتخاذ القرار الحاسم‪،‬‬


‫لخطورة هذه القضية وآثارها بعد ذلك‪.‬‬
‫ولعل في هذه اليــات عظــة وذكــرى لولئك المغــالين‪،‬‬
‫وعبرة لهؤلء المتعجلين المندفعين‪.‬‬
‫إن المنهج الذي يسلكه أولئك ل يؤدي إلى الهداف الممتي شممرع‬
‫من أجلها الجهمماد‪ ،‬بممل قممد يكممون سممبًبا لتعطيممل الجهمماد‪ ،‬أو تممأخيره‬
‫سنوات وسنوات‪ ،‬ومن استعجل شيًئا قبل أوانه عوقب بحرمانه‪.‬‬
‫وكما جاءت اليات تعالج قضية الفراط والغلو‪ ،‬فقد جاءت تعالممج‬
‫قضية التفريط والتضييع‪.‬‬
‫فإذا كممان أولئك المتحمسممون والمنممدفعون قممد خممالفوا الصممراط‬
‫المستقيم في قضية مشروعية الجهمماد‪ ،‬فممإن المثبطيممن والقاعممدين‬
‫يمثلون المموجه الخممر للنحممراف والضمملل‪ .‬وقممد جمماءت اليممات تلممو‬
‫اليات تبين خطورة هذه الفئة‪ ،‬وما تحدثه من خلل وانحراف‪.‬‬
‫ل الل ّم ِ‬
‫ه‬ ‫سممو ِ‬
‫ف َر ُ‬ ‫خل َ‬ ‫م ِ‬ ‫مْقعَمدِهِ ْ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫خل ُّفممو َ‬ ‫م َ‬‫ح ال ْ ُ‬ ‫قال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬فَمرِ َ‬
‫ل الل ّمهِ وَقَمماُلوا ل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وك َر ُ َ‬
‫سمِبي ِ‬‫م فِممي َ‬ ‫س مه ِ ْ‬ ‫م وَأن ُْف ِ‬ ‫وال ِهِ ْ‬ ‫م َ‬
‫دوا ب ِمأ ْ‬‫جاهِم ُ‬‫ن يُ َ‬‫هوا أ ْ‬‫َ ِ‬
‫ن( )التوبممة‪:‬‬ ‫حّرا ً ل َموْ ك َمماُنوا ي َْفَقهُممو َ‬‫شد ّ َ‬ ‫م أَ َ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫ل َناُر َ‬ ‫حّر قُ ْ‬‫ت َن ِْفُروا ِفي ال ْ َ‬
‫‪ .(81‬ثم يبين الله خطورة ما صنع هؤلء‪ ،‬يتضح ذلممك‪ .‬مممن العقوبممة‬
‫أن يعمماقب بهمما هممؤلء جممزاء ممما‬ ‫القاسية التي أمر الله رسمموله‪ ،‬‬
‫صنعوا‪:‬‬
‫طائَفة منهم َفاستأ ْ‬
‫ن‬‫ل ل َم ْ‬ ‫ج فَُق م ْ‬ ‫ِ‬ ‫رو‬‫ُ‬ ‫م‬ ‫خ‬
‫ُ‬ ‫ك ل ِل ْ‬
‫َ‬ ‫نو‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ْ َ‬ ‫ه إ َِلى َ ِ ٍ ِ ْ ُ ْ‬ ‫ك الل ّ ُ‬ ‫جع َ َ‬
‫ن َر َ‬ ‫)فَإ ِ ْ‬
‫م ب ِممال ُْقُعودِ أ َوّ َ‬
‫ل‬ ‫ضمميت ُ ْ‬ ‫م َر ِ‬ ‫ي عَد ُوّا ً إ ِن ّك ُم ْ‬ ‫ن ت َُقات ُِلوا َ‬
‫مع ِ َ‬
‫َ‬
‫ي أَبدا ً وَل َ ْ‬ ‫مع ِ َ‬ ‫جوا َ‬ ‫خُر ُ‬
‫تَ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ت أَبدا ً َول ت َُق ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫حدٍ ِ‬ ‫ل عََلى أ َ‬ ‫ص ّ‬‫ن َول ت ُ َ‬ ‫خال ِِفي َ‬ ‫معَ ال ْ َ‬‫دوا َ‬ ‫مّرةٍ َفاقْعُ ُ‬ ‫َ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪220‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن( )التوبممة‪:‬‬ ‫سمُقو َ‬ ‫م َفا ِ‬ ‫ماُتوا وَهُ ْ‬ ‫سول ِهِ وَ َ‬ ‫م ك ََفُروا ِبالل ّهِ وََر ُ‬
‫عََلى قَب ْرِهِ إ ِن ّهُ ْ‬
‫‪.(84 ،83‬‬
‫َ‬ ‫وقال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬وإ َ ُ‬
‫ع‬
‫مم َ‬‫دوا َ‬ ‫جاهِم ُ‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ وَ َ‬ ‫نآ ِ‬ ‫سوَرةٌ أ ْ‬ ‫ت ُ‬ ‫ذا أن ْزِل َ ْ‬‫َِ‬
‫م معَ ال َْقا ِ‬ ‫رسول ِه استأ ْذ َن َ ُ‬
‫ن(‬‫دي َ‬‫عم ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م وََقاُلوا ذ َْرَنا ن َك ُم ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫ل ِ‬ ‫ك أوُلوا الط ّوْ ِ‬ ‫َ ُ ِ ْ َ َ‬
‫)التوبة‪.(86:‬‬
‫ن‬‫ل إِ ْ‬ ‫وقال ‪ -‬جل وعل ‪ -‬مبيًنا خطورة القعود عن سبيل اللممه‪ُ) :‬قمم ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫وا ٌ‬‫ممم َ‬ ‫م وَأ ْ‬ ‫شمميَرت ُك ُ ْ‬ ‫م وَعَ ِ‬ ‫ج ُ‬
‫كمم ْ‬ ‫م وَأْزَوا ُ‬ ‫وان ُك ُ ْ‬‫خمم َ‬
‫م وَإ ِ ْ‬‫م وَأب َْنمماؤُك ُ ْ‬ ‫ن آَبمماؤُك ُ ْ‬ ‫كمما َ‬‫َ‬
‫ب إ ِل َي ْ ُ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫كمم ْ‬ ‫حمم ّ‬ ‫ضوْن ََها أ َ‬ ‫ن ت َْر َ‬‫ساك ِ ُ‬‫م َ‬‫ها وَ َ‬ ‫ساد َ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫شو ْ َ‬ ‫خ َ‬ ‫جاَرةٌ ت َ ْ‬ ‫ها وَت ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫اقْت ََرفْت ُ ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫مرِهِ‬ ‫ه ب ِمأ ْ‬ ‫ي الل ّم ُ‬ ‫حت ّممى ي َمأت ِ َ‬‫صوا َ‬ ‫سِبيل ِهِ فَت ََرب ّ ُ‬‫جَهادٍ ِفي َ‬ ‫سول ِهِ وَ ِ‬ ‫ن الل ّهِ وََر ُ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫ن( )التوبة‪.(24:‬‬ ‫سِقي َ‬ ‫م ال َْفا ِ‬ ‫دي ال َْقوْ َ‬ ‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫دا القاعدين عن الجهاد في سبيل‬ ‫دا ومتوع ً‬ ‫وقال ‪ -‬جل وعل ‪ -‬مهد ً‬
‫َ‬
‫ل الل ّم ِ‬
‫ه‬ ‫س مِبي ِ‬‫م ان ِْفُروا ِفي َ‬ ‫ل ل َك ُ ُ‬‫ذا ِقي َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫الله‪َ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬
‫حَياةِ‬‫مَتاعُ ال ْ َ‬ ‫ما َ‬ ‫خَرةِ فَ َ‬ ‫ن اْل ِ‬ ‫م َ‬‫حَياةِ الد ّن َْيا ِ‬ ‫م ِبال ْ َ‬‫ضيت ُ ْ‬
‫ض أَر ِ‬ ‫م إ ِلى الْر ِ‬
‫اّثاقَل ْت ُ ْ َ‬
‫َ‬
‫ل‬‫س مت َب ْدِ ْ‬‫ذابا ً أِليم ما ً وَي َ ْ‬
‫م عَم َ‬ ‫ل إ ِل ّ ت َن ِْف مُروا ي ُعَ مذ ّب ْك ُ ْ‬ ‫خَرةِ إ ِّل قَِلي ٌ‬ ‫الد ّن َْيا ِفي اْل ِ‬
‫ديٌر( )التوبممة‪:‬‬ ‫يٍء قَم ِ‬ ‫شم ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عَل َممى ك ُم ّ‬ ‫شْيئا ً َوالل ّ ُ‬ ‫ضّروهُ َ‬ ‫م َول ت َ ُ‬ ‫وما ً غَي َْرك ُ ْ‬ ‫قَ ْ‬
‫‪.(39 ،38‬‬
‫دوا‬
‫همم ُ‬‫جا ِ‬‫ن يُ َ‬
‫َ‬
‫خممرِ أ ْ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬ ‫ك ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ست َأ ْذِن ُ َ‬
‫وقال‪) :‬ل ي َ ْ‬
‫نل‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّم ِ‬ ‫س مت َأ ْذِن ُ َ‬
‫ممما ي َ ْ‬‫ن إ ِن ّ َ‬ ‫م ب ِممال ْ ُ‬
‫مت ِّقي َ‬ ‫ه عَِلي م ٌ‬ ‫م َوالل ّم ُ‬ ‫س مه ِ ْ‬
‫َ‬
‫م وَأن ُْف ِ‬
‫وال ِهِ ْ‬
‫م َ‬
‫َ‬
‫ب ِمأ ْ‬
‫ن(‬
‫دو َ‬ ‫م ي َت ََرد ّ ُ‬‫م ِفي َري ْب ِهِ ْ‬ ‫م فَهُ ْ‬ ‫ت قُُلوب ُهُ ْ‬ ‫خرِ َواْرَتاب َ ْ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ي ُؤْ ِ‬
‫)التوبة‪.(44،45:‬‬
‫سَق ُ‬ ‫َ‬
‫طوا‬ ‫ن ِلي َول ت َْفت ِّني أل ِفي ال ِْفت ْن َةِ َ‬
‫ل ائ ْذ َ ْ‬
‫ن ي َُقو ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫وقال‪) :‬وَ ِ‬
‫ن( )التوبة‪.(49:‬‬ ‫ري َ‬ ‫ة ِبال ْ َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫حيط َ ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫م لَ ُ‬
‫جهَن ّ َ‬
‫ن َ‬
‫وَإ ِ ّ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪221‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقال ‪ -‬جل ذكره ‪ -‬مصوًرا حالة أولئك الممذين ل يريممدون الجهمماد‪:‬‬


‫ة وذ ُكمر فيهمما ال ْقتمما ُ َ‬ ‫)فَمإ َ ُ‬
‫ن فِممي‬ ‫ت ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ل َرأي ْم َ‬ ‫ِ َ‬ ‫مم ٌ َ ِ َ ِ َ‬‫حك َ َ‬
‫م ْ‬
‫سمموَرةٌ ُ‬ ‫ذا أن ْزِل َم ْ‬
‫ت ُ‬ ‫ِ‬
‫ت(‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م مو ْ ِ‬ ‫ي عَل َي ْمهِ ِ‬
‫مم َ‬ ‫شم ّ‬ ‫ك ن َظ َمَر ال ْ َ‬
‫مغ ْ ِ‬ ‫ن إ ِل َي ْم َ‬
‫ض ي َن ْظ ُمُرو َ‬
‫م مَر ٌ‬ ‫قُل ُمموب ِهِ ْ‬
‫م َ‬
‫)محمد‪ :‬من الية ‪.(20‬‬
‫إلى غير ذلك من اليات التي تبّين خطممورة هممذا المسمملك وسمموء‬
‫عاقبة أصحابه في الدنيا والخرة)‪.(1‬‬
‫ونقف مع تفسير هذه اليات‪ ،‬وما قيل في معناهمما‪ ،‬مممع القتصممار‬
‫على ما تدعو الحاجة إليه‪ :‬قال الطبري في معنمى قموله ‪ -‬تعمالى ‪:-‬‬
‫ه( )التوبة‪ :‬من الية ‪(81‬‬‫ل الل ّ ِ‬
‫سو ِ‬
‫ف َر ُ‬
‫خل َ‬
‫م ِ‬
‫مْقعَدِهِ ْ‬ ‫خل ُّفو َ‬
‫ن بِ َ‬ ‫ح ال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫)فَرِ َ‬
‫فرح الذين خلفهممم اللممه مممع الغممزو مممع رسمموله والمممؤمنين‪ ،‬وجهمماد‬
‫ل الل ّ ِ‬
‫ه( )التوبة‪ :‬مممن اليممة ‪ (81‬يقممول‪:‬‬ ‫سو ِ‬
‫ف َر ُ‬
‫خل َ‬
‫أعدائه بمقعدهم ) ِ‬
‫بجلوسممهم فممي منممازلهم خلف رسممول اللممه‪ ،‬يقممول‪ :‬علممى الخلف‬
‫أمرهممم‬ ‫لرسول الله في جلوسه ومقعده وذلك أن رسول اللممه‪ ،‬‬
‫بالنفر إلى جهاد أعداء الله‪ ،‬فخالفوا أمره‪ ،‬وجلسوا في منازلهم)‪.(2‬‬
‫َ‬
‫ذا‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬
‫م إِ َ‬ ‫مُنوا َ‬
‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫وقال ابن كثير في قوله ‪ -‬تعالى ‪َ) :-‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ض( )التوبممة‪ :‬مممن‬ ‫ر‬ ‫ل ل َك ُم ان ِْفروا ِفي سمبيل الل ّمهِ اث ّمماقَل ْت ُم إل َممى اْل َ‬
‫ِقي َ‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ِ‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الية ‪ (38‬الية‪ .‬هذا شروع في عتاب من تخلممف عممن رسممول اللممه‪،‬‬
‫دة الحمّر‬ ‫‪ ‬في غممزوة تبمموك حيممن طممابت الثمممار والظلل فممي شم ّ‬
‫وحمارة القيظ )‪.(3‬‬
‫م وَقَمماُلوا‬ ‫وقال في قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬اسمتأ ْذ َن َ ُ‬
‫من ْهُم ْ‬ ‫ك أول ُمموا الط ّموْ ِ‬
‫ل ِ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ن( )التوبة‪ :‬من الية ‪.(86‬‬
‫دي َ‬ ‫معَ ال َْقا ِ‬
‫ع ِ‬ ‫ذ َْرَنا ن َك ُ ْ‬
‫ن َ‬
‫‪ - 1‬تعتبر سورة التوبة السورة التي فضحت المتخلفين عن الجهاد وبينت سوء مصيرهم وحكم الله فيهم‪.‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(10/200‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(2/357‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪222‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ما للمتخلفين عن الجهاد‪ ،‬الناكلين عنه‪،‬‬ ‫يقول ‪ -‬تعالى ‪ -‬منكًرا وذا ً‬


‫مع القدرة عليه ووجود السعة والطول‪ .‬واستأذنوا الرسول‪  ،‬في‬
‫ن( )التوبممة‪ :‬مممن اليممة ‪(86‬‬
‫دي َ‬ ‫ممعَ ال َْقا ِ‬
‫عم ِ‬ ‫ن َ‬ ‫القعود‪ ،‬وقمالوا‪) :‬ذ َْرن َمما ن َك ُم ْ‬
‫ورضوا لنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء‪ ،‬وهممن الخوالممف‬
‫بعد خروج الجيش‪ ،‬فإذا وقع الحممرب كممانوا أجبممن النمماس‪ ،‬وإذا كممان‬
‫ممما‪ ،‬كممما قممال ‪ -‬تعممالى ‪ -‬عنهممم فممي اليممة‬ ‫أمن كانوا أكثر النمماس كل ً‬
‫َ‬ ‫خو ُ َ‬
‫ذي‬ ‫كاّلمم ِ‬
‫م َ‬ ‫دوُر أعْي ُن ُهُ ْ‬ ‫ن إ ِل َي ْ َ‬
‫ك تَ ُ‬ ‫م ي َن ْظ ُُرو َ‬‫ف َرأي ْت َهُ ْ‬ ‫جاَء ال ْ َ ْ‬ ‫ذا َ‬‫الخرى‪) :‬فَإ ِ َ‬
‫َ‬
‫داٍد(‬‫حم َ‬‫سمن َةٍ ِ‬‫م ب ِأل ْ ِ‬‫سمل َُقوك ُ ْ‬‫ف َ‬ ‫ب ال ْ َ‬
‫خ مو ْ ُ‬ ‫ذا ذ َهَ َ‬ ‫ت فَإ ِ َ‬‫مو ْ ِ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫شى عَل َي ْهِ ِ‬
‫م َ‬ ‫ي ُغْ َ‬
‫)الحزاب‪ :‬من الية ‪.(1)(19‬‬
‫نل‬‫ذي َ‬ ‫سمت َأ ْذِن ُ َ‬
‫ك اّلم ِ‬ ‫مما ي َ ْ‬
‫وقال رشيد رضما فممي قمموله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬إ ِن ّ َ‬
‫ر( )التوبة‪ :‬من اليممة ‪ (45‬اليممة‪ :‬والمعنممى‪:‬‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل ِ‬
‫خ ِ‬ ‫ي ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬
‫إنما يستأذنك بالتخلف عن الجهاد الذين ل يؤمنممون بممالله ول بمماليوم‬
‫ممما يفمموت عليهممم بعممض‬
‫الخر‪ ،‬لنهم يرون بممذل المممال للجهمماد مغر ً‬
‫منافعهم به‪ ،‬ول يرجون عليه ثواًبا كما يرجو المؤمنون‪.‬‬
‫ضا للقتل المذي ليمس‬ ‫ما ومتاعب‪ ،‬وتعر ً‬ ‫ويرون الجهاد بالنفسي آل ً‬
‫بعممده حيمماة عنممدهم‪ ،‬فطبيعممة كفرهممم بممالله واليمموم الخممر تقتضممي‬
‫كراهتهم للجهاد‪ ،‬وفرارهم منه ما وجدوا له سبيل)‪.(2‬‬
‫ذابا ً‬ ‫وقال سيد قطب في قوله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬إ ِل ّ ت َن ِْف مُروا ي ُعَمذ ّب ْك ُ ْ‬
‫م ع َم َ‬
‫أ َِليمًا( )التوبة‪ :‬من الية ‪.(39‬‬
‫والخطاب لقوم معينين في موقف معين‪ ،‬ولكنه عام في مدلوله‪،‬‬
‫لكل ذي عقيدة في الله‪ ،‬والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الخرة‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(2/380‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(10/469‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪223‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وحده‪ ،‬فهو كذلك عذاب الدنيا‪ ،‬عذاب الذلمة المتي تصميب القاعمدين‬
‫عن الجهاد والكفاح‪ ،‬والغلبة عليهم للعداء‪ ،‬والحرمان من الخيرات‪،‬‬
‫واسممتغللها للمعممادين‪ ،‬وهمم ممع ذلمك كلمه يخسممرون ممن النفموس‬
‫والموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهمماد‪ ،‬ويقممدمون علممى‬
‫مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء‪.‬‬
‫وما من أمة تركت الجهمماد إل ضممرب اللممه عليهمما الممذل‪ ،‬فممدفعت‬
‫مرغمة صاغرة لعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح العداء‪.‬‬
‫وما ً غَي َْرك ُم ْ‬
‫م( )التوبممة‪ :‬مممن اليممة ‪ .(39‬يقومممون علممى‬ ‫ل قَ ْ‬
‫ست َب ْدِ ْ‬
‫)وَي َ ْ‬
‫العقيدة‪ ،‬ويؤدون ثمن العزة‪ ،‬ويستعلون على أعداء الله)‪.(1‬‬
‫هذه بعض اليات التي جاءت تبين انحراف المثبطين عن الجهمماد‪،‬‬
‫ن‬
‫معَموِّقي َ‬‫ه ال ْ ُ‬
‫م الل ّم ُ‬
‫القاعدين عنه‪ ،‬الذين وصفهم الله بقوله‪) :‬قَمد ْ ي َعْل َم ُ‬
‫س إ ِّل قَِلي ً‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ل(‬ ‫ن ال َْبممأ َ‬‫م إ ِل َي َْنمما َول َيممأُتو َ‬
‫م هَُلمم ّ‬
‫وان ِهِ ْ‬
‫خمم َ‬ ‫م َوال َْقممائ ِِلي َ‬
‫ن ِل ِ ْ‬ ‫من ْ ُ‬
‫كمم ْ‬ ‫ِ‬
‫)الحزاب‪.(18:‬‬
‫والنتيجة التي نخلص منها بعد بيان طرفي النحراف‪ ،‬سواء الذين‬
‫أفرطوا وغلوا‪ ،‬أم الذين فرطوا وجفوا‪ ،‬تلكم النتيجممة هممي أن هنمماك‬
‫طا ل إفراط فيه ول تفريط‪.‬‬‫جا وس ً‬
‫منه ً‬
‫وذلكم أن الجهمماد ذروة سممنام السمملم وركممن مممن أركممانه‪ ،‬وهممو‬
‫ماض إلى أن يأتي أمر الله‪ ،‬وما ترك قوم الجهاد في سبيل اللممه إل ّ‬
‫دوهم‪ .‬والجهمماد لممه شممروطه‬ ‫ّ‬
‫ذلوا‪ ،‬وضممعفوا‪ ،‬وسمملط اللممه عليهممم عم ّ‬
‫وضوابطه‪ ،‬وأسبابه وموانعه‪ ،‬فإذا توافرت السباب وانتفت الموانممع‪،‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(3/1655‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪224‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ي على الجهاد‪ ،‬ووجممب‬


‫وتحّققت الشروط وجب أن ُينادي المنادي ح ّ‬
‫على القادرين أن يستجيبوا للنداء‪ ،‬فرض عين أو فرض كفاية‪.‬‬
‫وهذا هو المنهج الوسط الذي جمماءت اليممات الكممثيرة تممدعو إليممه‬
‫صمملة‬
‫وتممأمر بممه وتحممث عليممه‪ ،‬وجمماءت السممنة شممارحة ومبّينممة‪ ،‬ومف ّ‬
‫سمملم والموادعممة‬
‫لحكممام الجهمماد‪ ،‬كممما جمماءت مبينممة أحكممام ال َ‬
‫والمعاهدات‪.‬‬
‫ما وحممديًثا ‪ -‬فممي بيممان هممذه القضممية‪،‬‬
‫وقممد عنممي العلممماء ‪ -‬قممدي ً‬
‫وأشبعوها بحًثا وتفصيل‪ ،‬وهم بذلك لم يدعوا مجال لنحراف منحرف‬
‫بدعوى الجهل وعدم الوضوح‪.‬‬
‫وأخيًرا أختم هذا المبحث بذكر بعض اليات التي تدعو إلى‬
‫الجهاد‪ ،‬وتثني على المجاهدين‪ ،‬أولئك الممذين ل يتممأخرون لحظممة إذا‬
‫دعا داعي الجهاد‪ ،‬وهم كذلك يستجيبون لممداعي السمملم والموادعممة‬
‫إذا جاء وقتها‪ ،‬وتوافرت أسباب السلم ودواعيه‪.‬‬
‫َ‬
‫وال ِك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م َ‬‫دوا ِبممأ ْ‬ ‫همم ُ‬ ‫جا ِ‬ ‫خَفافمما ً وَث َِقممال ً وَ َ‬ ‫قممال ‪ -‬سممبحانه ‪) :-‬ان ِْفممُروا ِ‬
‫َ‬
‫ن( )التوبممة‪:‬‬ ‫مممو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُم ْ‬
‫م إِ ْ‬‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬‫م َ‬ ‫ل الل ّهِ ذ َل ِك ُ ْ‬‫سِبي ِ‬
‫م ِفي َ‬ ‫سك ُ ْ‬‫وَأن ُْف ِ‬
‫ك‬ ‫س مت َأ ْذِن ُ َ‬‫‪ .(41‬وقال مبيًنا صفة المؤمنين إذا دعا داعممي الجهمماد )ل ي َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫س مه ِ ْ‬ ‫م وَأن ُْف ِ‬ ‫وال ِهِ ْ‬‫م َ‬ ‫دوا ب ِمأ ْ‬ ‫جاهِم ُ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫خمرِ أ ْ‬ ‫ن ب ِممالل ّهِ َوال ْي َموْم ِ اْل ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ن( )التوبة‪.(44:‬‬ ‫مت ِّقي َ‬ ‫م ِبال ْ ُ‬
‫ه عَِلي ٌ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫َ‬
‫ل(‬ ‫ن عَل َممى ال ِْقت َمما ِ‬ ‫مِني َ‬ ‫ض ال ْ ُ‬
‫م مؤ ْ ِ‬ ‫ح مّر ِ‬ ‫ي َ‬ ‫وقال ‪ -‬سبحانه ‪َ) :-‬يا أي َّها الن ّب ِم ّ‬
‫ه(‬ ‫ل الل ّم ِ‬ ‫سمِبي ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫م ل ت َُقات ُِلو َ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫)النفال‪ :‬من الية ‪ .(65‬وقال‪) :‬وَ َ‬
‫)النساء‪ :‬من الية ‪.(75‬‬
‫وهذه بعض اليات التي تأمر بالقتال‪:‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪225‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫م َ‬
‫كافّ ً‬
‫ة( )التوبممة‪ :‬مممن اليممة‬ ‫ما ي َُقات ُِلون َك ُ ْ‬
‫ة كَ َ‬‫كافّ ً‬ ‫ن َ‬ ‫كي َ‬‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫)وََقات ُِلوا ال ْ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م( )التوبة‪ :‬مممن اليممة ‪.(12‬‬ ‫ن ل َهُ ْ‬‫ما َ‬ ‫م ل أي ْ َ‬ ‫ة ال ْك ُْفرِ إ ِن ّهُ ْ‬ ‫‪) (36‬فََقات ُِلوا أئ ِ ّ‬
‫م َ‬
‫)التوبممة‪ :‬مممن اليممة‬ ‫ر(‬‫خم ِ‬ ‫ن ب ِممالل ّهِ َول ب ِممال ْي َوْم ِ اْل ِ‬ ‫مُنو َ‬‫ن ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫)َقات ُِلوا ال ّ ِ‬
‫ه( )البقممرة‪ :‬مممن‬‫ل ِل ّ ِ‬ ‫ن‬‫دي ُ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫كو َ‬ ‫ة وَي َ ُ‬‫ن فِت ْن َ ٌ‬ ‫حّتى ل ت َ ُ‬
‫كو َ‬ ‫م َ‬ ‫‪) .(29‬وََقات ُِلوهُ ْ‬
‫ه ل ِّلم ِ‬
‫ه(‬ ‫ن ك ُّلم ُ‬
‫دي ُ‬ ‫ة وَي َك ُممو َ‬
‫ن الم ّ‬ ‫ن فِت ْن َم ٌ‬ ‫حّتى ل ت َك ُممو َ‬ ‫م َ‬ ‫الية ‪) .(193‬وََقات ُِلوهُ ْ‬
‫)النفال‪ :‬من الية ‪.(39‬‬

‫وقال مبيًنا فضل المجاهدين في سبيل الله‪:‬‬


‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫س مه ِ ْ‬ ‫م وَأن ُْف ِ‬ ‫وال ِهِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل الل ّهِ ب ِأ ْ‬ ‫سِبي ِ‬‫دوا ِفي َ‬ ‫جاهَ ُ‬ ‫جُروا وَ َ‬ ‫ها َ‬ ‫مُنوا وَ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫)ال ّ ِ‬
‫ة‬
‫مم ٍ‬ ‫ح َ‬‫م ب َِر ْ‬ ‫م َرب ّهُم ْ‬ ‫شمُرهُ ْ‬ ‫م ال َْفممائ ُِزو َ‬
‫ن ي ُب َ ّ‬ ‫ك هُ م ُ‬ ‫عن ْد َ الل ّهِ وَُأول َئ ِ َ‬ ‫ة ِ‬ ‫ج ً‬
‫م د ََر َ‬ ‫أعْظ َ ُ‬
‫َ‬

‫م( )التوبمة‪،20:‬م ‪َ) .(21‬ول‬ ‫مِقيم ٌ‬‫م ُ‬ ‫م ِفيَهما ن َِعيم ٌ‬ ‫ت ل َهُ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫وا ٍ‬ ‫ض َ‬ ‫ه وَرِ ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫تحسبن ال ّمذين قُت ِل ُمموا فممي سمبيل الل ّمه أ َمواتما ً بم ْ َ‬
‫عن ْمد َ َرب ّهِم ْ‬ ‫حي َمماٌء ِ‬ ‫لأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ ْ َ‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ ْ َ َ ّ‬
‫م عَل َممى‬ ‫يرزُقون( )آل عمران‪) .(169:‬يا أ َيها ال ّمذين آمنمموا هَ م ْ َ‬
‫ل أد ُل ّك ُم ْ‬ ‫ِ َ َ ُ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ‬
‫َ‬
‫ن فِممي‬ ‫دو َ‬ ‫جاهِم ُ‬ ‫سول ِهِ وَت ُ َ‬ ‫ن ِبالل ّهِ وََر ُ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ب أِليم ٍ ت ُؤْ ِ‬ ‫ذا ٍ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جيك ُ ْ‬ ‫جاَرةٍ ت ُن ْ ِ‬ ‫تِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن(‬ ‫مممو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬‫ن ك ُن ْت ُم ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫خي ْمٌر ل َك ُم ْ‬‫م َ‬ ‫م ذ َل ِك ُم ْ‬ ‫سمك ُ ْ‬ ‫م وَأن ُْف ِ‬ ‫وال ِك ُ ْ‬‫م َ‬‫ل الل ّهِ ب ِمأ ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫َ‬
‫)الصف‪.(11 ،10:‬‬
‫وأختم هذه اليات ‪ -‬آيات الجهاد ‪ -‬بهاتين اليتين‪:‬‬
‫ن‬‫مم َ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫عم ُ‬‫وي ال َْقا ِ‬ ‫س مت َ ِ‬
‫قال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬فممي سممورة النسمماء‪) :‬ل ي َ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫م‬
‫وال ِهِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل الل ّمهِ ب ِمأ ْ‬ ‫س مِبي ِ‬ ‫ن فِممي َ‬ ‫دو َ‬ ‫جاهِم ُ‬ ‫ضَررِ َوال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫ن غَي ُْر أوِلي ال ّ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬‫ال ْ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫دي َ‬‫عم ِ‬ ‫م عَل َممى ال َْقا ِ‬ ‫س مه ِ ْ‬‫م وَأن ُْف ِ‬ ‫وال ِهِ ْ‬‫م َ‬‫ن ب ِأ ْ‬‫دي َ‬‫جاهِ ِ‬ ‫م َ‬‫ه ال ْ ُ‬‫ل الل ّ ُ‬ ‫م فَ ّ‬
‫ض َ‬ ‫سه ِ ْ‬
‫وَأن ُْف ِ‬
‫ن‬ ‫دي َ‬‫عمم ِ‬‫ن عََلى ال َْقا ِ‬ ‫دي َ‬ ‫جاهِ ِ‬ ‫م َ‬‫ه ال ْ ُ‬
‫ل الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫سَنى وَفَ ّ‬ ‫ح ْ‬ ‫ه ال ْ ُ‬‫ة وَك ُّل ً وَعَد َ الل ّ ُ‬ ‫ج ً‬‫د ََر َ‬
‫ظيمًا( )النساء‪.(95:‬‬ ‫َ‬
‫جرا ً عَ ِ‬ ‫أ ْ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪226‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن‬ ‫م مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫مم َ‬‫ش مت ََرى ِ‬ ‫ها ْ‬‫ن الل ّم َ‬ ‫وقممال ‪ ‬فممي سممورة التوبممة‪) :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل الل ّمهِ فَي َْقت ُل ُممو َ‬
‫ن‬ ‫س مِبي ِ‬‫ن فِممي َ‬ ‫ة ي َُقات ُِلو َ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫ن ل َهُ ُ‬ ‫وال َهُ ْ‬
‫م ب ِأ ّ‬ ‫م َ‬
‫م وَأ ْ‬‫سه ُ ْ‬
‫أن ُْف َ‬
‫ن أ َوْفَممى‬ ‫مم ْ‬ ‫ل َوال ُْق مْرآ ِ‬
‫ن وَ َ‬ ‫جي م ِ‬‫حّقا ً ِفي الت ّوَْراةِ َواْل ِن ْ ِ‬ ‫عدا ً عَل َي ْهِ َ‬ ‫وَي ُْقت َُلو َ‬
‫ن وَ ْ‬
‫ك هُ موَ ال َْف موُْز‬
‫م ب ِمهِ وَذ َل ِم َ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫ذي َباي َعْت ُ ْ‬ ‫شُروا ب ِب َي ْعِك ُ ُ‬ ‫ن الل ّهِ َفا ْ‬
‫ست َب ْ ِ‬ ‫م َ‬
‫ب ِعَهْدِهِ ِ‬
‫م( )التوبة‪.(111:‬‬ ‫ال ْعَ ِ‬
‫ظي ُ‬
‫ومما يؤكد وسطية هذا المنهــج اســتجابتهم لمــر اللــه‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫ذي َ‬ ‫بالدخول في السلم‪ ،‬كاستجابتهم لمره بالقتال‪) :‬ي َمما أي ّهَمما ال ّم ِ‬
‫ه ل َك ُم ْ‬
‫م‬ ‫ن إ ِن ّم ُ‬‫طا ِ‬‫ش مي ْ َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫وا ِ‬ ‫خط ُ َ‬ ‫ة َول ت َت ّب ُِعوا ُ‬ ‫سل ْم ِ َ‬
‫كافّ ً‬ ‫خُلوا ِفي ال ّ‬ ‫مُنوا اد ْ ُ‬‫آ َ‬
‫ل‬ ‫ح ل َهَمما وَت َوَك ّم ْ‬ ‫سمل ْم ِ َفا ْ‬
‫جن َم ْ‬ ‫حمموا ِلل ّ‬ ‫جن َ ُ‬
‫ن َ‬ ‫ن( )البقممرة‪) .(208:‬وَإ ِ ْ‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫عَد ُوّ ُ‬
‫ه( )النفال‪ :‬من الية ‪ ،(61‬ولكن السلم ل يعنممي الستسمملم‬ ‫عََلى الل ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن‬‫م وَل َم ْ‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ن َوالل ّ ُ‬ ‫م اْل َعْل َوْ َ‬ ‫سل ْم ِ وَأن ْت ُ ُ‬
‫عوا إ َِلى ال ّ‬ ‫والذل‪َ) :‬فل ت َهُِنوا وَت َد ْ ُ‬
‫يت ِرك ُ َ‬
‫م( )محمد‪.(35:‬‬ ‫مال َك ُ ْ‬
‫م أعْ َ‬ ‫َ َ ْ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪227‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫الخلق والمعاملة‬
‫سئلت عائشة ‪ -‬رضممي اللممه عنهمما ‪ -‬عممن خلممق رسممول اللممه‪ ،‬‬
‫ُ‬
‫فقالت‪" :‬كان خلقه القرآن"‬
‫م(‬
‫ظيم ٍ‬
‫ق عَ ِ‬ ‫ك ل َعََلى ُ ُ‬
‫خل م ٍ‬ ‫فقال‪) :‬وَإ ِن ّ َ‬ ‫وقد أثنى الله على رسوله‪ ،‬‬
‫)القلم‪.(4:‬‬
‫أما المعاملة فهي قرينة الخلق‪ ،‬حيممث إن معاملممة المممرء‬
‫نتاج طبيعي لخلقه‪ ،‬ولقد رسم القرآن المنهج السوي لما يجممب أن‬
‫تكون عليه أخلق المسلم ومعاملته‪.‬‬
‫وهــذا البــاب يســوده الغلــو والجفــاء‪ ،‬وينممدر فيممه المنهممج‬
‫الوسط‪ ،‬ولذلك فقد عني القرآن الكريم بممه عنايممة خاصممة‪ ،‬وجمماءت‬
‫اليات تترى توضممح هممذا المنهممج‪ ،‬وتممدعو إليممه‪ ،‬وتربممي المممة عليممه‪،‬‬
‫طا أو تفري ً‬
‫طا‪.‬‬ ‫وا أو جفاء‪ ،‬إفرا ً‬ ‫وتحذر مما يضاده غل ً‬
‫ولطول الموضوع وتشعبه‪ ،‬وكثرة اليات الواردة فيه‪ ،‬نظممًرا‬
‫لتعدد أجزائه ومنطلقاته‪ ،‬فسأقتصر على اختيار نماذج متفرقة تممبين‬
‫عناية القرآن الكريم به‪ ،‬فممي ضمموء المنهممج الممذي سمملكته فممي هممذا‬
‫البحث‪ ،‬ومن الله استمد العون والتوفيق‪.‬‬
‫الكبر والطغيان خلق ذميم‪ ،‬ذمه اللممه فممي أكممثر مممن موضممع فممي‬
‫كتابه‪ ،‬لما له من الثار السلبية على الفرد والمجتمع‪ ،‬والكبر خممروج‬
‫عن المنهج الوسط إلى الفراط والغلو وحب الذات‪ .‬والتفريط فممي‬
‫حق الخرين‪.‬‬
‫قال ‪ -‬تعالى ‪ -‬مبيًنا أثر الكبر على النسان‪ ،‬وكيف أنه يممؤدي إلممى‬
‫ت الل ّمهِ ب ِغَي ْم ِ‬
‫ر‬ ‫جادُِلو َ‬
‫ن ِفي آي َمما ِ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫الحيلولة بينه وبين اليمان‪) .‬إ ِ ّ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪228‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫طا َ‬
‫سمت َعِذ ْ ب ِممالل ّهِ‬
‫م ب ِب َممال ِِغيهِ َفا ْ‬
‫ما هُ ْ‬ ‫م إ ِّل ك ِب ٌْر َ‬
‫دورِهِ ْ‬
‫ص ُ‬
‫ن ِفي ُ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫سل ْ َ ٍ‬
‫ن أَتاهُ ْ‬ ‫ُ‬
‫صيُر( )غافر‪.(56:‬‬ ‫ميعُ ال ْب َ ِ‬‫س ِ‬‫ه هُوَ ال ّ‬ ‫إ ِن ّ ُ‬
‫ت‬‫ن ِفممي آَيمما ِ‬ ‫جادُِلو َ‬
‫ن يُ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫قال ابن كثير في تفسير الية‪) :‬ال ّ ِ‬
‫طا َ‬
‫م( )غافمر‪ :‬من الية ‪ (35‬أي‪ :‬يممدفعون الحممق‬ ‫ن أَتاهُ ْ‬ ‫سل ْ َ ٍ‬ ‫الل ّهِ ب ِغَي ْرِ ُ‬
‫بالباطل‪ ،‬ويردون الحجج الصممحيحة بالشممبه الفاسممدة‪ ،‬بل برهممان ول‬
‫م إ ِّل ك ِب ٌْر( )غممافر‪ :‬مممن اليممة ‪ (56‬أي‪:‬‬
‫دورِهِ ْ‬
‫ص ُ‬
‫ن ِفي ُ‬
‫حجة من الله )إ ِ ْ‬
‫ما في صدورهم إل كبر على اتباع الحق واحتقار لمن جاءهم به)‪.(1‬‬
‫ل‬‫ن ك ُم ّ‬‫مم ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ت ب َِرب ّممي وََرب ّك ُم ْ‬
‫سى إ ِّني عُذ ْ ُ‬
‫مو َ‬ ‫وقال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وََقا َ‬
‫ل ُ‬
‫ك ي َط ْب َمعُ الل ّم ُ‬
‫ه‬ ‫ب( )غافر‪ .(27:‬وقال‪) :‬ك َذ َل ِ َ‬ ‫سا ِ‬ ‫ن ب ِي َوْم ِ ال ْ ِ‬
‫ح َ‬ ‫م ُ‬ ‫مت َك َب ّرٍ ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫س ِفممي‬ ‫جّباٍر( )غافر‪ :‬من الية ‪ .(35‬وقال‪) :‬أل َي ْ َ‬ ‫مت َك َب ّرٍ َ‬ ‫ب ُ‬ ‫ل قَل ْ ِ‬ ‫عََلى ك ُ ّ‬
‫وى‬ ‫مث ْم َ‬‫س َ‬‫ن( )الزمر‪ :‬من الية ‪ (60‬وقال‪) :‬فَل َب ِئ ْ َ‬ ‫ري َ‬ ‫مْثوىً ل ِل ْ ُ‬
‫مت َك َب ّ ِ‬ ‫م َ‬‫جهَن ّ َ‬‫َ‬
‫ن( )النحمل‪ :‬من الية ‪.(29‬‬ ‫ري َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مت َك َب ّ ِ‬
‫َْ‬
‫ق‬
‫خ مرِ َ‬ ‫ن تَ ْ‬‫ك ل َم ْ‬‫مَرح ما ً إ ِن ّم َ‬‫ض َ‬ ‫ش فِممي الْر ِ‬ ‫مم ِ‬ ‫وقال ‪ -‬سبحانه ‪َ) :-‬ول ت َ ْ‬
‫ل ُ‬ ‫َ‬
‫ل( )السراء‪.(37:‬‬ ‫طو ً‬ ‫ن ت َب ْل ُغَ ال ْ ِ‬
‫جَبا َ‬ ‫ض وَل َ ْ‬‫اْلْر َ‬
‫خ مد ّ َ‬
‫ك‬ ‫ص معّْر َ‬ ‫ومن وصايا لقمان لبنه كما ذكر اللممه ‪َ) ‬ول ت ُ َ‬
‫ِللّناس ول ت َمش ِفي اْل َ‬
‫خوٍر(‬‫ل فَ ُ‬ ‫خَتا ٍ‬ ‫م ْ‬‫ل ُ‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ل يُ ِ‬ ‫مَرحا ً إ ِ ّ‬
‫ض َ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫ْ ِ‬ ‫ِ َ‬
‫)لقمان‪.(18:‬‬
‫قال ابن كثير في تفسيرها‪ :‬قال ابن عباس‪ :‬يقول ل تتكممبر‬
‫فتحتقر عباد الله‪ ،‬وتعرض عنهم بوجهك إذا كّلموك)‪.(2‬‬
‫واليات في ذم الكبر والنهي عنه‪ ،‬وبيان عاقبة المتكممبرين كممثيرة‬
‫دا‪.‬‬
‫ج ً‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/84‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(3/446‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪229‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ومن اليات التي جاءت تنهي عن بعض الخلق الممقوتة‪ ،‬قوله ‪-‬‬
‫َ‬ ‫كإ َ‬
‫ت‬
‫وا ِ‬ ‫ن أن ْك ََر اْل ْ‬
‫صمم َ‬ ‫صوْت ِ َ ِ ّ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ض ِ‬
‫ض ْ‬ ‫شي ِ َ‬
‫ك َواغْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫تعالى ‪َ) :-‬واقْ ِ‬
‫صد ْ ِفي َ‬
‫ر( )لقمان‪.(19:‬‬
‫مي ِ‬ ‫ت ال ْ َ‬
‫ح ِ‬ ‫لَ َ‬
‫صو ْ ُ‬
‫ونهى الله ‪ -‬سبحانه ‪ -‬عن كتمان الشهادة لممما لهمما مممن آثممار فممي‬
‫إضاعة الحقوق وسوء المعاملة بين الناس‪ ،‬فقال ‪ -‬جممل وعل ‪َ) :-‬ول‬
‫ه( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(283‬‬‫م قَل ْب ُ ُ‬
‫ه آث ِ ٌ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ْ‬
‫مَها فَإ ِن ّ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ت َك ْت ُ ُ‬
‫موا ال ّ‬
‫شَهاد َةَ وَ َ‬
‫ومن سوء أخلق بني إسرائيل ما ذكممره اللممه عنهممم بقمموله‪) :‬وَإ ِذ ْ‬
‫ة( )البقرة‪ :‬من الية‬ ‫جهَْر ً‬ ‫حّتى ن ََرى الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫ن لَ َ‬
‫ك َ‬ ‫م َ‬ ‫سى ل َ ْ‬
‫ن ن ُؤْ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫قُل ْت ُ ْ‬
‫م َيا ُ‬
‫‪.(55‬‬
‫قال عبد الرحمن بن سعدي‪:‬‬
‫وهذه غاية الجرأة على الله وعلى رسوله)‪.(1‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن سعدي )‪.(1/86‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪230‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقال ابن عاشور‪:‬‬


‫تذكير بنعمة أخرى نشأت بعد عقاب على جفا طبع)‪.(1‬‬
‫ولذلك جمماء‬ ‫)‪(2‬‬
‫ونقض العهد والميثاق خلق فاسد ومعاملة ممقوتة‬
‫ذم الناكثين العهممود الخممائنين للمواثيممق والعقممود‪ ،‬قممال ‪ -‬سممبحانه ‪:-‬‬
‫َ‬
‫ه‬
‫ه ب ِم ِ‬ ‫مَر الل ّم ُ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ميَثاقِهِ وَي َْقط َُعو َ‬ ‫ن ب َعْدِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن عَهْد َ الل ّهِ ِ‬ ‫ضو َ‬ ‫ن ي َن ُْق ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫)َوال ّ ِ‬
‫داِر(‬ ‫سوءُ المم ّ‬ ‫م ُ‬ ‫ة وَل َهُ ْ‬‫م الل ّعْن َ ُ‬‫ك ل َهُ ُ‬‫ض ُأول َئ ِ َ‬‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ‬
‫ن ِفي اْل َ‬ ‫َ‬ ‫دو‬
‫ُ‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫ف‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ص‬
‫َ‬ ‫يو‬ ‫ُ‬ ‫ن‬
‫ْ‬
‫أَ‬

‫جعَل ْن َمما قُل ُمموب َهُ ْ‬


‫م‬ ‫م وَ َ‬ ‫م ل َعَن ّمماهُ ْ‬
‫ميث َمماقَهُ ْ‬‫م ِ‬ ‫ض مه ِ ْ‬
‫ما ن َْق ِ‬ ‫)الرعد‪ .(25:‬وقال‪) :‬فَب ِ َ‬
‫ة( )المائدة‪ :‬من الية ‪.(13‬‬ ‫سي َ ً‬ ‫َقا ِ‬
‫وفي مقابل الكممبر نجممد الممذل والضممعف والخممور‪ ،‬وبخاصممة أمممام‬
‫أعداء اللمه‪ ،‬فمإنه خلمق ل يرضماه اللمه ‪ -‬جمل وعل ‪ ،-‬فلمذلك قمال ‪-‬‬
‫سبحانه ‪ :-‬واصًفا المؤمنين بما هم عليه من خلق رفيع‪) :‬أ َذِل ّمةٍ عَل َممى‬
‫ن( )المائدة‪ :‬من الية ‪.(54‬‬
‫ري َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫ن أَ ِ‬
‫عّزةٍ عََلى ال ْ َ‬ ‫مِني َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬
‫ومن هنا‪ ،‬ودللة على أن الذل مسممبة وعممار‪ ،‬وليممس خلًقمما رفيعًمما‬
‫وسيرة محمودة‪ ،‬بين الله أنه جعله عقوبة لمن عصاه‪ ،‬وتكممبر علممى‬
‫س مك َن َ ُ‬
‫ة‬ ‫ة َوال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫م الذ ّل ّم ُ‬
‫ت عَل َي ْهِ م ُ‬
‫ض مرِب َ ْ‬
‫رسله وهداه‪ ،‬فقال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬وَ ُ‬
‫ه( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(61‬‬ ‫ن الل ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬‫ض ٍ‬ ‫وََباُءوا ب ِغَ َ‬
‫ما ث ُِقُفوا( )آل عمران‪ :‬مممن اليممة‬ ‫وقال‪) :‬ضربت عَل َيهم الذ ّل ّ ُ َ‬
‫ن َ‬‫ة أي ْ َ‬ ‫ِْ ُ‬ ‫ُ َِ ْ‬
‫م‬
‫ن َرب ّهِ م ْ‬
‫مم ْ‬
‫ب ِ‬
‫ضم ٌ‬ ‫س مي ََنال ُهُ ْ‬
‫م غَ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ذوا ال ْعِ ْ‬
‫جم َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ن ات ّ َ‬‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬
‫‪ .(112‬وقال‪) :‬إ ِ ّ‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا( )العراف‪ :‬من الية ‪.(152‬‬ ‫ة ِفي ال ْ َ‬ ‫وَذِل ّ ٌ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬التحرير والتنوير )‪.(2/504‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفصيل ذلك في رسالة المؤلف‪ :‬العهد والميثاق في القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪231‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫قال سيد قطب مبيًنا أثر الذل علــى هــؤلء اليهــود‪ ،‬إن‬
‫فترة الذلل التي قضوها تحت حكم فرعممون الطاغيممة قممد أفسممدت‬
‫دا عميًقا‪.‬‬
‫فطرتهم إفسا ً‬
‫دا للفطممرة مممن الممذل الممذي ينشممئه الطغيممان‬
‫وليممس أشممد إفسمما ً‬
‫الطويل‪ ،‬والذي يحطم فضائل النفممس البشممرية‪ ،‬ويحلممل مقوماتهمما‪،‬‬
‫ويغرس فيهمما المعممروف مممن طبمماع العبيممد‪ ،‬اسممتخذاء تحممت سمموط‬
‫الجلد‪ ،‬وتمردا حين يرفع عنها السوط‪ ،‬وتبطًرا حين يتاح لهمما شمميء‬
‫من النعمة والقوة‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(1‬‬
‫وهكذا كانت إسرائيل‪ ،‬وهكذا هي في كل حين‬
‫وإذا كان هؤلء قد ضرب الله عليهم الذلة في الحياة الدنيا‪ ،‬فممإن‬
‫ضمما ‪ -‬جممزاء هممؤلء وغيرهممم ممممن ُدعممي إلممى عبممادة اللممه‬ ‫الذلممة ‪ -‬أي ً‬
‫م ذِل ّم ٌ‬ ‫خاشع ً َ‬
‫ة وَقَمد ْ‬ ‫م ت َْرهَُقهُم ْ‬
‫صاُرهُ ْ‬
‫ة أب ْ َ‬ ‫فاستكبر وأبى‪ ،‬قال ‪ -‬تعالى ‪َ ِ َ ) :-‬‬
‫ن( )القلممم‪ .(43:‬وقممال‪:‬‬ ‫مو َ‬ ‫سممال ِ ُ‬‫م َ‬ ‫جودِ وَهُ م ْ‬ ‫سم ُ‬‫ن إ ِل َممى ال ّ‬‫ك َمماُنوا ي ُمد ْعَوْ َ‬
‫خاشع ً َ‬
‫ن(‬
‫دو َ‬ ‫م ال ّم ِ‬
‫ذي ك َمماُنوا ُيوعَم ُ‬ ‫ك ال ْي َموْ ُ‬ ‫م ذِل ّم ٌ‬
‫ة ذ َل ِم َ‬ ‫م ت َْرهَُقهُم ْ‬
‫صمماُرهُ ْ‬
‫ة أب ْ َ‬ ‫) َ ِ َ‬
‫)المعارج‪.(44:‬‬
‫وقممال ‪ -‬سممبحانه ‪ -‬ممتن ًمما علممى عبمماده حيممث أعزهممم بعممد الذلممة‬
‫ه ل َعَل ّك ُم ْ‬
‫م‬ ‫م أ َذِل ّم ٌ‬
‫ة فَممات ُّقوا الل ّم َ‬
‫َ‬
‫م الل ّ ُ‬
‫ه ب ِب َمد ْرٍ وَأن ْت ُم ْ‬ ‫والنكسار‪) :‬وَل ََقد ْ ن َ َ‬
‫صَرك ُ ُ‬
‫شك ُُرو َ‬
‫ن( )آل عمران‪.(123:‬‬ ‫تَ ْ‬
‫وخلصة المر‪ :‬أن هذه اليات تدل على أن تلك الخلق مما ل‬
‫يقممره الشممرع لمخالفتهمما للمنهممج الحممق والطريممق السمموي‪ ،‬ولممذلك‬
‫جاءت اليات تبين ما يجب أن يكون عليه المسلم من خلممق صممادق‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(1/72‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪232‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫دا عن الخلق الذميم سواء كان إفرا ً‬


‫طمما أو‬ ‫وحسن في المعاملة‪ ،‬بعي ً‬
‫طا‪ ،‬وهذه اليات هي التي ترسممم المنهممج الوسممط فممي الخلق‬ ‫تفري ً‬
‫والمعاملة‪.‬‬
‫م(‬
‫ظيم ٍ‬
‫ق عَ ِ‬ ‫ك ل َعََلمى ُ ُ‬
‫خلم ٍ‬ ‫)وَإ ِّنم َ‬ ‫قال ‪ -‬تعمالى ‪ -‬مثنًيما علمى نمبيه‪ ،‬‬
‫)القلم‪.(4:‬‬
‫ت فَظ ّما ً‬ ‫م وَل َوْ ك ُن ْم َ‬‫ت ل َهُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ ل ِن ْ َ‬‫م َ‬‫مة ٍ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ما َر ْ‬ ‫وقال ‪ -‬جل وعل ‪) :-‬فَب ِ َ‬
‫م‬‫سممت َغِْفْر ل َُهمم ْ‬
‫م َوا ْ‬ ‫ف عَن ُْهمم ْ‬ ‫ك َفمماعْ ُ‬ ‫حوِْلمم َ‬ ‫ن َ‬ ‫ممم ْ‬ ‫ضمموا ِ‬ ‫ب َلن َْف ّ‬ ‫ظ ال َْقْلمم ِ‬
‫غَِليمم َ‬
‫َ‬
‫ر( )آل عمران‪ :‬من الية ‪.(159‬‬ ‫م ِ‬‫م ِفي اْل ْ‬ ‫وَ َ‬
‫شاوِْرهُ ْ‬
‫ن(‬ ‫جمماهِِلي َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫عمم ِ‬ ‫ض َ‬ ‫عممرِ ْ‬ ‫ف وَأ َ ْ‬ ‫مممْر ِبممال ْعُْر ِ‬
‫ْ‬
‫خممذِ ال ْعَْفمموَ وَأ ُ‬ ‫وقممال‪ُ ) :‬‬
‫)العراف‪.(199:‬‬
‫ن( )الشممعراء‪:‬‬ ‫مِني َ‬‫م مؤ ْ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫مم َ‬‫ك ِ‬ ‫ن ات ّب َعَم َ‬‫مم ِ‬ ‫ك لِ َ‬ ‫حم َ‬‫جَنا َ‬‫ض َ‬ ‫خِف ْ‬ ‫وقال‪َ) :‬وا ْ‬
‫‪.(215‬‬
‫وقال ‪ -‬جل وعل ‪ -‬واصًفا عباده المؤمنين وما هم عليه من خلممق‬
‫ض‬ ‫َْ‬ ‫شممو َ َ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ال ّ م ِ‬
‫ن عَلممى الْر ِ‬ ‫ن يَ ْ‬
‫ذي َ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬
‫عَباد ُ الّر ْ‬ ‫رفيع‪ ،‬ومعاملة حسنة‪) :‬وَ ِ‬
‫سلمًا( )الفرقان‪ (63:‬ثممم قممال‪( :‬‬ ‫ن َقاُلوا َ‬ ‫جاهُِلو َ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫خاط َب َهُ ُ‬‫ذا َ‬‫ونا ً وَإ ِ َ‬ ‫هَ ْ‬
‫م مّروا ك َِرام مًا( )الفرقممان‪:‬‬‫مّروا ب ِممالل ّغْوِ َ‬‫ذا َ‬ ‫ن الّزوَر وَإ ِ َ‬ ‫دو َ‬ ‫شه َ ُ‬‫ن ل يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫َوال ّ ِ‬
‫‪ (72‬وهذا قمة الخلق وحسن الطوية‪ ،‬ولذلك قال في آيممات أخممرى‪:‬‬
‫ممدِ‬
‫ح ْ‬
‫حوا ب ِ َ‬ ‫جدا ً وَ َ‬
‫سمب ّ ُ‬ ‫سم ّ‬ ‫ذا ذ ُك ّمُروا ب ِهَمما َ‬
‫خمّروا ُ‬ ‫ن إِ َ‬ ‫ن ِبآيات َِنا ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ما ي ُؤْ ِ‬
‫م ُ‬ ‫)إ ِن ّ َ‬
‫ن( )السجدة‪ .(15:‬أما غيرهم فكما أخممبر اللممه‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬
‫م ل يَ ْ‬‫م وَهُ ْ‬ ‫َرب ّهِ ْ‬
‫ن( )الصممافات‪:‬‬ ‫س مت َك ْب ُِرو َ‬ ‫ه إ ِّل الل ّ ُ‬
‫ه يَ ْ‬ ‫م ل إ ِل َ َ‬
‫ل ل َهُ ْ‬
‫ذا ِقي َ‬
‫كاُنوا إ ِ َ‬‫م َ‬‫عنهم (إ ِن ّهُ ْ‬
‫‪ ،(35‬وفرق شاسع بين الخلقين‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪233‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ومما أمر الله به عباده‪ ،‬تربية على الخلممق الحسممن‪ ،‬ودفعًمما لكيممد‬
‫الشيطان ونمزغه ما قاله ‪ -‬سبحانه ‪ -‬فممي سممورة المؤمنممون‪) :‬اد ْفَم ْ‬
‫ع‬
‫ة نح َ‬ ‫َ‬
‫ن( )المؤمنون‪.(96:‬‬ ‫صُفو َ‬
‫ما ي َ ِ‬ ‫ن أعْل َ ُ‬
‫م بِ َ‬ ‫سي ّئ َ َ َ ْ ُ‬
‫ن ال ّ‬
‫س ُ‬
‫ح َ‬
‫يأ ْ‬‫ِبال ِّتي هِ َ‬
‫ة اد ْفَم ْ‬
‫ع‬ ‫سمي ّئ َ ُ‬‫ة َول ال ّ‬ ‫سمن َ ُ‬‫ح َ‬‫وي ال ْ َ‬ ‫سمت َ ِ‬ ‫وقال في سورة فصمملت‪َ) :‬ول ت َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ممما‬
‫م وَ َ‬‫ميم ٌ‬ ‫ح ِ‬
‫ي َ‬ ‫ه وَل ِم ّ‬ ‫داوَةٌ ك َمأن ّ ُ‬ ‫ه عَ َ‬ ‫ك وَب َي ْن َ ُ‬‫ذي ب َي ْن َ َ‬ ‫ذا ال ّ ِ‬
‫ن فَإ ِ َ‬‫س ُ‬‫ح َ‬‫يأ ْ‬ ‫ِبال ِّتي هِ َ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫ك ِ‬ ‫ما ي َن َْزغَن ّ َ‬
‫ظيم ٍ وَإ ِ ّ‬ ‫ظ عَ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ذو َ‬ ‫ها إ ِّل ُ‬ ‫ما ي ُل َّقا َ‬ ‫صب َُروا وَ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ها إ ِّل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ي ُل َّقا َ‬
‫م( )فصمملت‪-34:‬‬ ‫ميعُ ال ْعَِلي م ُ‬ ‫سم ِ‬ ‫ه هُ موَ ال ّ‬ ‫ست َعِذ ْ ِبالل ّهِ إ ِن ّم ُ‬‫ن ن َْزغٌ َفا ْ‬‫طا ِ‬ ‫شي ْ َ‬
‫ال ّ‬
‫‪.(36‬‬
‫وكذلك أمر الله بالوفــاء بــالعهود والمواثيــق والعقــود‪،‬‬
‫وذلك من صميم المعاملة التي يجب أن تكون بيممن المسمملمين‪ ،‬بممل‬
‫َ‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫حتى ولو كانت مع الكافرين‪ ،‬فقال ‪ -‬جل وعل ‪َ) :-‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن‬‫مم َ‬ ‫م ِ‬ ‫عاهَ مد ْت ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫أوُْفوا ِبال ْعُُقوِد( )المائدة‪ :‬من الية ‪ (1‬وقال‪) :‬إ ِّل ال ّم ِ‬
‫َ‬ ‫شيئا ً ول َم يظ َمماهروا عَل َيك ُم َ‬
‫موا‬ ‫حممدا ً فَمأت ِ ّ‬ ‫مأ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ِ ُ‬ ‫م َ ْ َ ْ ُ‬ ‫صوك ُ ْ‬ ‫م لَ ْ‬
‫م ي َن ُْق ُ‬ ‫ن ثُ ّ‬ ‫كي َ‬‫شرِ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫م( )التوبة‪ :‬من الية ‪.(4‬‬ ‫م عَهْد َهُ ْ‬ ‫إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫ن ب ِعَهْ مدِ الل ّمهِ َول‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن ُيوفُممو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب ال ّم ِ‬ ‫ممما ي َت َمذ َك ُّر أول ُممو اْلل ْب َمما ِ‬ ‫وقممال‪) :‬إ ِن ّ َ‬
‫ذا‬ ‫ق( )الرعمد‪،19:‬م ‪ .(20‬وقمال‪) :‬وَأ َوْفُمموا ب ِعَْهمدِ الّلمهِ إ ِ َ‬ ‫ميَثا َ‬ ‫ن ال ْ ِ‬ ‫ضو َ‬ ‫ي َن ُْق ُ‬
‫َ‬
‫م ك َِفيل ً‬ ‫ه عَل َي ْك ُ ْ‬‫م الل ّ َ‬ ‫جعَل ْت ُ ُ‬
‫ها وَقَد ْ َ‬ ‫كيدِ َ‬
‫ن ب َعْد َ ت َوْ ِ‬‫ما َ‬ ‫ضوا اْلي ْ َ‬ ‫م َول ت َن ُْق ُ‬ ‫عاهَد ْت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫ن( )النحممل‪ .(91:‬وقممال‪) :‬وَأوْفُمموا ِبال ْعَهْ مدِ إ ِ ّ‬ ‫ممما ت َْفعَل ُممو َ‬‫م َ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫ل( )السمراء‪ :‬من الية ‪.(34‬‬ ‫ؤو ً‬ ‫س ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ال ْعَهْد َ َ‬
‫ومن الخلق التي أمر الله بها‪ ،‬ممما أمممر بممه الممزوج عنممدما‬
‫ن‬‫سمماءَ فَب َل َغْ م َ‬‫م الن ّ َ‬‫ذا ط َل ّْقت ُم ُ‬ ‫يطلق زوجته طلًقا رجعًيا‪ ،‬حيث قممال‪) :‬وَإ ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫كوهُ ّ‬ ‫سم ُ‬ ‫م ِ‬‫ف َول ت ُ ْ‬ ‫معْمُرو ٍ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫حوهُ ّ‬‫سمّر ُ‬
‫ف أو ْ َ‬
‫معُْرو ٍ‬
‫ن بِ َ‬ ‫س ُ‬
‫كوهُ ّ‬ ‫م ِ‬ ‫جل َهُ ّ‬
‫ن فَأ ْ‬ ‫أ َ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪234‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ه( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة‬ ‫س ُ‬ ‫م ن َْف َ‬‫ك فََقد ْ ظ َل َ َ‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬ ‫ن ي َْفعَ ْ‬ ‫م ْ‬‫دوا وَ َ‬ ‫ضَرارا ً ل ِت َعْت َ ُ‬ ‫ِ‬
‫س ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫كوهُ ّ‬ ‫م ِ‬ ‫‪ .(231‬ومثل ذلك الية التي جاءت في سورة الطلق‪) :‬فَأ ْ‬
‫َ‬
‫ف( )الطلق‪ :‬من الية ‪.(2‬‬ ‫معُْرو ٍ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫ف أوْ َفارُِقوهُ ّ‬ ‫معُْرو ٍ‬ ‫بِ َ‬
‫وكذلك من العدل وحسممن الخلممق فممي المعاملممة ممما جمماء بممالمر‬
‫م وَزُِنمموا‬ ‫ذا ك ِل ُْتمم ْ‬
‫ل إِ َ‬‫بالوفمماء بالكيممل‪ ،‬قممال سممبحانه‪) :‬وَأ َوُْفمموا ال ْك َْيمم َ‬
‫م( )السممراء‪ :‬مممن اليممة ‪ (35‬وقممال‪) :‬فَمأ َوُْفوا‬ ‫سمت َِقي ِ‬ ‫م ْ‬ ‫س ال ْ ُ‬‫سمطا ِ‬
‫ِبال ِْق ْ َ‬
‫ض‬ ‫َْ‬
‫دوا ِفممي الْر ِ‬ ‫س ُ‬‫م َول ت ُْف ِ‬ ‫شَياَءهُ ْ‬ ‫س أَ ْ‬ ‫سوا الّنا َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ن َول ت َب ْ َ‬ ‫ميَزا َ‬ ‫ل َوال ْ ِ‬ ‫ال ْك َي ْ َ‬
‫ن( )العممراف‪ :‬مممن اليممة‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬‫م إِ ْ‬ ‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫حَها ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫صل ِ‬ ‫ب َعْد َ إ ِ ْ‬
‫‪.(85‬‬
‫ولذلك شنع الله على أولئك الذين حادوا على المنهج الوسط في‬
‫ذا اك ْت َمماُلوا عَل َممى‬ ‫ن إِ َ‬ ‫ن ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬ ‫مط َّفِفيم َ‬ ‫ل ل ِل ْ ُ‬
‫الكيممل والميممزان‪ ،‬فقممال‪) :‬وَي ْم ٌ‬
‫ن ُأول َئ ِ َ‬
‫ك‬ ‫خسمرو َ‬
‫ن أل ي َظ ُم ّ‬ ‫م يُ ْ ِ ُ َ‬ ‫م أوْ وََزن ُمموهُ ْ‬
‫ذا ك َمماُلوهُ َ‬
‫ْ‬ ‫ن وَإ ِ َ‬‫ست َوُْفو َ‬ ‫س يَ ْ‬ ‫الّنا ِ‬
‫َ‬
‫م( )المطففين‪.(5-1:‬‬ ‫ظي ٍ‬‫ن ل ِي َوْم ٍ عَ ِ‬ ‫مب ُْعوُثو َ‬ ‫م َ‬ ‫أن ّهُ ْ‬
‫ومن الخلق التي أمر الله بها ما جاء في سورة المجادلة‪َ) :‬يا أ َي َّها‬
‫ح‬‫سم ِ‬ ‫حوا ي َْف َ‬ ‫سم ُ‬‫س َفافْ َ‬ ‫جممال ِ ِ‬‫م َ‬‫حوا فِممي ال ْ َ‬ ‫سم ُ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬
‫م ت ََف ّ‬ ‫ذا ِقي َ‬ ‫مُنوا إ ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫شُزوا( )المجادلة‪ :‬من الية ‪.(11‬‬ ‫شُزوا َفان ْ ُ‬ ‫ل ان ْ ُ‬ ‫ذا ِقي َ‬ ‫م وَإ ِ َ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬‫الل ّ ُ‬
‫وإذا تأملنا سورة الحجرات وما فيهمما مممن أخلق عاليممة أمممر اللممه‬
‫بها‪ ،‬ونهى عن سيئ الخلق وأرذلها‪ ،‬علمنمما الجهممد المبممذول لتربيممة‬
‫هذه المة على الخلق القويمة‪ ،‬وتجنيبها ما وقعت فيه بعض المممم‬
‫ما واليهممود‬
‫السابقة من أراذل الخلق وسفسافها كأهل الكتاب عمو ً‬
‫صا‪.‬‬
‫خصو ً‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪235‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫مممل همماتين اليممتين لممترى كيممف يرسممم القممرآن الكريممم منهممج‬


‫وتأ ّ‬
‫الوسطية‪.‬‬
‫قال ‪ -‬تعالى ‪ -‬في سورة القصص مخبًرا عما جممرى بيممن موسممى‬
‫حم َ‬ ‫ل إني أ ُريد أ َ ُ‬
‫ي‬
‫دى اب ْن َت َم ّ‬ ‫حم َ‬‫ك إِ ْ‬ ‫ن أن ْك ِ َ‬‫ِ ُ ْ‬ ‫وشعيب )‪ (1‬عليهما السلم‪َ) :‬قا َ ِ ّ‬
‫حجج فَإ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك‬‫عن ْمدِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫مم ْ‬‫شممرا ً فَ ِ‬
‫ت عَ ْ‬ ‫م َ‬‫م ْ‬
‫ن أت ْ َ‬‫ي ِ َ ٍ ِ ْ‬ ‫مان ِ َ‬‫جَرِني ث َ َ‬‫ن ت َأ ُ‬‫ن عََلى أ ْ‬ ‫هات َي ْ ِ‬
‫َ‬
‫ن(‬ ‫حي َ‬ ‫صممال ِ ِ‬‫ن ال ّ‬ ‫مم َ‬ ‫ه ِ‬‫شمماَء الّلم ُ‬ ‫ن َ‬ ‫جد ُِني إ ِ ْ‬
‫سمت َ ِ‬
‫ك َ‬ ‫شمقّ عَل َي ْم َ‬ ‫ن أَ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ممما أِريمد ُ أ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫)القصص‪.(27:‬‬
‫ن ال َْق موْ ِ‬
‫ل‬ ‫مم َ‬
‫سمموءِ ِ‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫جهَْر ِبال ّ‬ ‫ب الل ّ ُ‬
‫ح ّ‬
‫وقال في سورة النساء‪) :‬ل ي ُ ِ‬
‫ميعا ً عَِليمًا( )النساء‪.(148:‬‬ ‫س ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ن ظ ُل ِ َ‬
‫م وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫إ ِّل َ‬
‫م ْ‬
‫وأختم هذا المبحث بهذه الوقفة المهمة‪:‬‬
‫ك ل َعََلممى‬ ‫لما أثنى الله على رسوله‪  ،‬لحسن خلقه‪ ،‬فقال‪) :‬وَإ ِن ّ َ‬

‫دوا َلمموْ ُتممد ْهِ ُ‬


‫ن‬ ‫م( )القلممم‪ (4:‬قممال بعممد عممدة آيممات‪) :‬وَ ّ‬
‫ظيمم ٍ‬
‫ق عَ ِ‬ ‫ُ ُ‬
‫خلمم ٍ‬
‫فَي ُد ْهُِنو َ‬
‫ن( )القلم‪.(9:‬‬
‫قال ابن عباس‪:‬‬
‫لو ترخص لهم فيرخصون)‪.(2‬‬
‫والوقفة هنا‪ :‬هناك مممن يتصممور أن مممن لمموازم حسممن الخلممق‬
‫المداهنة والمصانعة‪.‬‬
‫بممل تعجممب إذا سمممعت مممن يممرى أن ذلممك مممن أسممس الممدعوة‬
‫وأساليبها‪.‬‬
‫وهذا خلل في الفهم‪ ،‬وقصممور فممي التصممور‪ ،‬وذلممك أنممه فممي‬
‫لخلقممه الرفيعممة‬ ‫السمورة المتي أثنمى اللمه فيهمما علممى رسموله‪ ،‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(13/270‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/403‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪236‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن َول‬ ‫دوا ل َوْ ت ُد ْهِ ُ‬


‫ن فَي ُد ْهُِنو َ‬ ‫العظيمة‪ ،‬نفى عنه المداهنة والمصانعة‪) .‬وَ ّ‬
‫ن( )القلم‪ ،9:‬م ‪ (10‬مع التنبيه إلى أن هناك فرقمما‬ ‫مِهي ٍ‬ ‫حّل ٍ‬
‫ف َ‬ ‫ت ُط ِعْ ك ُ ّ‬
‫ل َ‬
‫بين المداهنة المحرمة‪ ،‬والمدرارة المشروعة فليعلم ذلك)‪.(1‬‬
‫هذه بعض الخلق التي ذكرها الله في القرآن الكريم‪،‬‬
‫جاءت لممتربي المممة علممى الخلق الفاضمملة‪ ،‬والمعاملممة المسممتقيمة‬
‫دون تكبر وبطر وغمط لحقوق الناس‪ ،‬أو ضعف وخور وذلة‪.‬‬
‫لقد اتصف اليهود بالكبر والتعالي والغطرسة حتى على أنبيممائهم‪،‬‬
‫َ‬
‫ورسمملهم‪ ،‬عليهممم السمملم‪ ،‬بممل علممى ربهممم ‪ -‬جل وعل ‪) :-‬أرِن َمما الل ّم َ‬
‫ه‬
‫ة( )النساء‪ :‬من الية ‪) (153‬اد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ‬
‫ك( )البقممرة‪ :‬مممن اليممات‬ ‫جهَْر ً‬
‫َ‬
‫ك فََقاِتل( )المائدة‪ :‬من الية ‪.(24‬‬ ‫ت وََرب ّ َ‬ ‫َ‬
‫‪َ) (70 ،68،69‬فاذ ْهَ ْ‬
‫ب أن ْ َ‬
‫واتصف النصارى بالذل والجبن‪ ،‬حتى كممان مممما يتوارثممونه‪.‬‬
‫"إذا صفعك أحد على خدك اليسر فأدر له خدك اليمممن"‪ .‬أممما هممذه‬
‫المة فقد ربيممت علممى العممزة والكرامممة‪ ،‬مممع سمممو الخلممق وحسممن‬
‫التعامل‪ ،‬حتى مع العداء‪ ،‬بل وأثناء القتال والطعان‪ ،‬وهذه درجة لم‬
‫تصل إليها أمة من المم الماضية‪ ،‬ولن تصل إليها أي أمممة حاضممرة‪:‬‬
‫ك‬‫ول عجممب فممي ذلممك فإنهمما أمممة السمملم‪ ،‬المممة الوسممط )وَك َمذ َل ِ َ‬
‫ُ‬ ‫جعل ْنمماك ُ ُ‬
‫م مةٍ‬‫خي ْمَر أ ّ‬ ‫سممطًا( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪) .(143‬ك ُن ْت ُم ْ‬
‫م َ‬ ‫ة وَ َ‬ ‫مم ً‬‫مأ ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ‬
‫س( )آل عمران‪ :‬من الية ‪ (110‬ورسولها‪  ،‬قال فيه‬ ‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬ ‫أُ ْ‬
‫خرِ َ‬
‫م( )القلم‪.(4:‬‬ ‫ك ل َعََلى ُ ُ‬‫موله‪) :‬وَإ ِن ّ َ‬
‫ظي ٍ‬
‫ق عَ ِ‬‫خل ٍ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬كتاب‪ :‬القول البين الظهر للراجحي ص )‪ (115‬فقد بين ذلك‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪237‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫كسب المال وإنفاقه‬


‫قضية المال من القضايا الكممبرى الممتي عنممي بهمما السمملم كسمًبا‪،‬‬
‫وحف ً‬
‫ظا‪ ،‬وإنفاًقا‪.‬‬
‫وذلك أن المال عصب الحيــاة‪ ،‬وهممو بالنسممبة للحيمماة الممدنيا‬
‫كالماء الذي يمشي في غصون الشجر‪ ،‬وكالممدماء الممتي تجممري فممي‬
‫عروق البشر‪.‬‬
‫ولقد سلك الناس ‪ -‬ول يزالون ‪ -‬مسالك شتى في هذا المال‪،‬‬
‫كسًبا‪ ،‬وجمًعا‪ ،‬وإنفاًقا‪.‬‬
‫والكثرة الكاثرة‪ ،‬والغالبية العظمى ضلوا الطريق‪ ،‬وحادوا عن‬
‫سواء السبيل‪.‬‬
‫ولذلك جــاء القــرآن الكريــم مبين ًمما خطممورة هممذا النحممراف‪،‬‬
‫وهادًيا إلى الصراط المستقيم‪.‬‬
‫وفي ضوء المنهج الذي أشرت إليه مممراًرا‪ ،‬سممأذكر بعممض ممما‬
‫ورد فممي كتمماب اللممه مممن آيممات تممبين خطمموط النحممراف‪ ،‬وطريممق‬
‫الوسط الذي يجممب أن يسمملكه المؤمنممون‪) .‬أ( في جمــع المــال‬
‫وحبه‪:‬‬
‫وردت عممدة آيممات تممبين خطممورة النهممماك فممي جمممع المممال‬
‫والمبالغة‪ ،‬والفراط في حبممه‪ ،‬وقممد وردت هممذه اليممات فممي سممياق‬
‫الذم لذلك‪ .‬ومن تلك اليات‪:‬‬
‫مممًا(‬ ‫قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وتأ ْك ُُلون الترا َ َ‬
‫حب ّا ً َ‬
‫ج ّ‬ ‫ل ُ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ما َ‬ ‫ما ً وَت ُ ِ‬
‫حّبو َ‬ ‫ث أك ْل ً ل َ ّ‬ ‫َ َّ‬ ‫ََ‬
‫)الفجر‪.(20 ،19:‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪238‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقد برر المتخلفون عممن الجهمماد مممن المنممافقين وغيرهممم سممبب‬


‫ن‬ ‫مم َ‬ ‫ن ِ‬ ‫خل ُّفممو َ‬ ‫م َ‬‫ك ال ْ ُ‬
‫ل لَ َ‬ ‫سي َُقو ُ‬ ‫تخلفهم‪ ،‬بانشغالهم بأموالهم وأولدهم‪َ ) :‬‬
‫وال َُنا وَأ َهُْلوَنا( )الفتح‪ :‬من الية ‪.(11‬‬ ‫م َ‬
‫َ‬
‫شغَل َت َْنا أ ْ‬ ‫ب َ‬ ‫اْلعَْرا ِ‬
‫َ‬

‫شممِهيد ٌ‬ ‫ك لَ َ‬ ‫ه عََلى ذ َل ِ َ‬ ‫ن ل َِرب ّهِ ل َك َُنود ٌ وَإ ِن ّ ُ‬ ‫سا َ‬ ‫ن اْل ِن ْ َ‬ ‫وقال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬إ ِ ّ‬
‫د( )العاديات‪.(8-6:‬‬ ‫دي ٌ‬ ‫ش ِ‬‫خي ْرِ ل َ َ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه لِ ُ‬‫وَإ ِن ّ ُ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫ن ث ُم ّ‬ ‫مممو َ‬ ‫ف ت َعْل َ ُ‬‫س مو ْ َ‬ ‫مَقمماب َِر ك َّل َ‬ ‫م ال ْ َ‬‫حّتى ُزْرت ُ ُ‬ ‫كاث ُُر َ‬ ‫م الت ّ َ‬ ‫وقال‪) :‬أل َْهاك ُ ُ‬
‫ن( )التكاثر‪.(4:‬‬ ‫مو َ‬ ‫ف ت َعْل َ ُ‬ ‫سوْ َ‬ ‫ك َّل َ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫بأ ّ‬ ‫سم ُ‬ ‫ح َ‬ ‫مممال ً وَعَ مد ّد َهُ ي َ ْ‬ ‫مع َ َ‬‫ج َ‬‫ذي َ‬ ‫مَزةٍ ال ّ ِ‬ ‫مَزةٍ ل ُ َ‬ ‫ل هُ َ‬ ‫ل ل ِك ُ ّ‬ ‫وقال‪) :‬وَي ْ ٌ‬
‫ة( )الهمزة‪.(4-1:‬‬ ‫م ِ‬ ‫حط َ َ‬ ‫ن ِفي ال ْ ُ‬ ‫خل َد َهُ ك َّل ل َي ُن ْب َذ َ ّ‬ ‫ه أَ ْ‬‫مال َ ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ممما‬ ‫ب َ‬ ‫ب وَت َم ّ‬ ‫دا أب ِممي ل َهَم ٍ‬ ‫ت ي َم َ‬ ‫وقال ‪ -‬جل وعل ‪ -‬عن أبي لهممب‪) :‬ت َب ّم ْ‬
‫َ‬
‫ب( )المسد‪.(3-1:‬‬ ‫ت ل َهَ ٍ‬ ‫ذا َ‬ ‫صَلى َنارا ً َ‬ ‫سي َ ْ‬‫ب َ‬ ‫س َ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫مال ُ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫أغَْنى عَن ْ ُ‬
‫وقال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬مخبًرا عمن سيؤتى كتابه بشماله يمموم القيامممة‬
‫َ‬
‫ه(‬ ‫ما أغَْنى عَن ّممي َ‬
‫مممال ِي َ ْ‬ ‫ة َ‬ ‫ضي َ َ‬‫ت ال َْقا ِ‬
‫كان َ ِ‬ ‫حيث سيقول متحسًرا‪َ) :‬يا ل َي ْت ََها َ‬
‫)الحاقة‪.(28 ،27:‬‬
‫َ‬
‫ست َغَْنى( )العلق‪.(7 ،6:‬‬ ‫ن َرآهُ ا ْ‬ ‫ن ل َي َط َْغى أ ْ‬ ‫سا َ‬ ‫ن اْل ِن ْ َ‬‫وقال‪) :‬ك َّل إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫ن( )القلممم‪،13:‬‬ ‫ل وَب َِني م َ‬ ‫ممما ٍ‬ ‫ن َ‬
‫ذا َ‬ ‫ن ك َمما َ‬ ‫ك َزِني مم ٍ أ ْ‬ ‫ل ب َعْد َ ذ َل ِ َ‬‫وقال‪) :‬عُت ُ ّ‬
‫‪.(14‬‬
‫دى( )الليل‪.(11:‬‬ ‫ذا ت ََر ّ‬‫ه إِ َ‬‫مال ُ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ما ي ُغِْني عَن ْ ُ‬ ‫وقال‪) :‬وَ َ‬
‫مممال ً وَأ َعَمّز ن ََفممرا ً‬ ‫ك َ‬
‫َ َ‬
‫حاوُِرهُ أَنا أك ْث َُر ِ‬
‫من ْم َ‬ ‫حب ِهِ وَهُوَ ي ُ َ‬ ‫صا ِ‬ ‫ل لِ َ‬ ‫وقال‪) :‬فََقا َ‬
‫ن ت َِبيمد َ هَمذِهِ أ َب َممدًا(‬‫نأ ْ‬
‫ل ممما أ َظ ُم َ‬
‫ّ‬ ‫سمهِ قَمما َ َ‬ ‫م ل ِن َْف ِ‬‫ه وَهُموَ ظ َممال ِ ٌ‬ ‫جن ّت َم ُ‬ ‫خ َ‬
‫ل َ‬ ‫وَد َ َ‬
‫)الكهف‪.(35 ،34:‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪239‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقصة قارون فيها العظة والعبرة‪ ،‬والتحذير مممن الفممراط‬


‫ن‬ ‫ممما إ ِ ّ‬ ‫ن ال ْك ُُنمموزِ َ‬ ‫م َ‬ ‫في حب الدنيا‪ ،‬وعدم أداء حق الله فيها‪َ) :‬وآت َي َْناهُ ِ‬
‫هل‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ح إِ ّ‬‫ه ل ت َْفَر ْ‬ ‫ه قَوْ ُ‬
‫م ُ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫صب َةِ ُأوِلي ال ُْقوّةِ إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫ه ل َت َُنوُء ِبال ْعُ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫مَفات ِ َ‬ ‫َ‬
‫ن( )القصص‪ :‬مممن اليممة ‪ (76‬ثممم يممذكر اللممه حالممة مممن‬ ‫حي َ‬ ‫ب ال َْفرِ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫يُ ِ‬
‫ن‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّم ِ‬ ‫مهِ فِممي ِزين َت ِمهِ قَمما َ‬ ‫ج عَل َممى قَموْ ِ‬ ‫خمَر َ‬ ‫حالت بطممره وفرحممه‪) :‬فَ َ‬
‫حم ّ‬ ‫ه ل َم ُ‬ ‫ُ‬
‫ظ‬ ‫ذو َ‬ ‫ن إ ِن ّم ُ‬ ‫ي قَمماُرو ُ‬ ‫ممما أوت ِم َ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫ت ل ََنا ِ‬ ‫حَياةَ الد ّن َْيا َيا ل َي ْ َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫يُ ِ‬
‫ه‬
‫دارِ ِ‬ ‫سمْفَنا ب ِمهِ وَب ِم َ‬ ‫خ َ‬ ‫م( )القصص‪ .(79:‬وممماذا كممانت النتيجممة‪) :‬فَ َ‬ ‫ظي ٍ‬ ‫عَ ِ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫مم َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ممما ك َمما َ‬ ‫ن الل ّمهِ وَ َ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫مم ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫صمُرون َ ُ‬ ‫ن فِئ َةٍ ي َن ْ ُ‬ ‫مم ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫ض فَ َ‬ ‫اْلْر َ‬
‫ك‬ ‫ن( )القصص‪ (81:‬ولم يخسر الدنيا فقط بل والخرة‪) :‬ت ِل ْ َ‬ ‫ري َ‬ ‫ص ِ‬ ‫من ْت َ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫سممادا ً‬ ‫ن عُل ُموا ً فِممي اْل َ‬ ‫جعَل ُهَمما ل ِل ّم ِ‬ ‫داُر اْل ِ‬
‫ض َول فَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫دو َ‬ ‫ريم ُ‬ ‫ن ل يُ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫خَرةُ ن َ ْ‬ ‫ال ّ‬
‫ن( )القصص‪.(83:‬‬ ‫مت ِّقي َ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬ ‫َوال َْعاقِب َ ُ‬
‫ب وَل َهْموٌ وَِزين َم ٌ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫حي َمماةُ المد ّن َْيا ل َعِم ٌ‬ ‫ممما ال ْ َ‬ ‫ممموا أن ّ َ‬ ‫وقال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬اعْل َ ُ‬
‫ب ال ْك ُّفمماَر‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جم َ‬ ‫ث أعْ َ‬ ‫ل غَي ْ ٍ‬‫مث َ ِ‬ ‫ل َواْلْولدِ ك َ َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬‫كاث ٌُر ِفي اْل ْ‬ ‫م وَت َ َ‬ ‫خٌر ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫وَت ََفا ُ‬
‫طامًا()الحديد‪ :‬من الية ‪.(20‬‬ ‫ح َ‬ ‫ن ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫صَفّرا ً ث ُ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ج فَت ََراهُ ُ‬ ‫م ي َِهي ُ‬ ‫ه ثُ ّ‬ ‫ن ََبات ُ ُ‬
‫هممذه بعممض اليممات الممتي تممبين خطمموط النحممراف عممن الصممراط‬
‫دا‪.‬‬
‫المستقيم في جمع المال وحبه‪ ،‬واليات كثيرة ج ً‬
‫ولجل المزيد من إلقاء الضوء على هممذه القضممية فسممأذكر شمميًئا‬
‫من أقوال المفسرين حول بعض هذه اليات‪:‬‬
‫َ‬
‫قال الطبري في قمموله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬أل ْهَمماك ُ ُ‬
‫م الت ّك َمماث ُُر( )التكمماثر‪(1:‬‬
‫ألهاكم أيها الناس المباهاة بكثرة المممال والعممدد عممن طاعممة ربكممم‪،‬‬
‫وعما ينجيكم من سخطه عليكم‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪240‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫كلم يدل على أن معناه التكاثر بالمال)‪.(1‬‬ ‫وروي عن النبي‪ ،‬‬


‫ة‬ ‫مَزةٍ ل ُ َ‬
‫مَز ٍ‬ ‫ل ل ِك ُ ّ‬
‫ل هُ َ‬ ‫وقال ابن كثير في قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَي ْ ٌ‬
‫ه( )الهمممزة‪ ،1:‬م ‪ (2‬الهممماز بممالقول واللممماز‬ ‫مممال ً وَعَمد ّد َ ُ‬
‫م مع َ َ‬
‫ج َ‬ ‫ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬
‫بالفعل‪ ،‬يعني يزدري الناس وينتقص بهم‪.‬‬
‫ه( )الهمزة‪ (2:‬أي‪ :‬جمعه بعضه على بعض‪،‬‬ ‫مال ً وَعَد ّد َ ُ‬
‫مع َ َ‬
‫ج َ‬ ‫)ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫َ‬
‫عى( )المعمارج‪ (18:‬قمال‬ ‫معَ فَأوْ َ‬
‫ج َ‬
‫وأحصى عده‪ ،‬كقوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَ َ‬
‫مممال ً‬
‫م مع َ َ‬
‫ج َ‬
‫السدي وابن جرير وقممال محمممد بممن كعممب فممي قمموله‪َ ) :‬‬
‫ه( )الهمزة‪ :‬من الية ‪ (2‬ألهاه ماله بالنهار‪ ،‬هذا إلى هذا‪ ،‬فممإذا‬ ‫وَعَد ّد َ ُ‬
‫كان الليل نام كأنه جيفة منتنة‪.‬‬
‫ه( )الهمزة‪ (3:‬أي‪ :‬يظممن أن جمعممه المممال‬ ‫ه أَ ْ‬
‫خل َد َ ُ‬ ‫مال َ ُ‬
‫ن َ‬
‫َ‬
‫بأ ّ‬‫س ُ‬
‫ح َ‬‫)ي َ ْ‬
‫يخلده في هذه الدار‪) .‬ك َّل( )الهمزة‪ :‬مممن اليممة ‪ (4‬أي‪ :‬المممر ليممس‬
‫كما زعم ول كما حسب )‪.(2‬‬
‫د( )العاديممات‪:‬‬
‫دي ٌ‬ ‫خي ْمرِ ل َ َ‬
‫شم ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬
‫ح ّ‬
‫ه لِ ُ‬
‫وقال في قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَإ ِن ّ ُ‬
‫‪ .(8‬أي‪ :‬وإنه لحب الخير وهو المال لشديد‪ ،‬وفيه مذهبان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن المعنى وإنه لشديد المحبة للمال‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬وإنه لحريص بخيل من محبة المال‪.‬‬
‫وكلهما صحيح )‪.(3‬‬
‫ر(‬ ‫ب ال ْ َ‬
‫خي ْم ِ‬ ‫حم ّ‬
‫ه لِ ُ‬
‫وقال القرطــبي فــي اليــة نفســها‪) :‬وَإ ِن ّم ُ‬
‫ن ت َمَر َ‬
‫ك‬ ‫)العاديات‪ :‬من الية ‪ (8‬أي‪ :‬المال‪ ،‬ومنه قوله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬إ ِ ْ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪ .(283 /30‬ويشير إلى ما رواه عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال‪ :‬انتهيت إلى رسول الله‪ ،‬صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وهو يقرأ )ألهاكم التكاثر(‬

‫وهو يقول‪" :‬يقول ابن آدم‪ :‬مالي مالي!! وهل لك من مالك إل ما أكلت فأفنيت‪ ،‬أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت"‪ .‬أخرجه مسلم رقم )‪ (2958‬والترمذي )‪ (417 /5‬رقم‬

‫)‪ - (3354‬والنسائي )‪ (238 /6‬رقم )‪ (3613‬وأحمد )‪.(26 ،24 /4‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/548‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/542‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪241‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫د( )العاديات‪ :‬من اليممة ‪ (8‬أي‬


‫دي ٌ‬ ‫خْيرًا( )البقرة‪ :‬من الية ‪) (180‬ل َ َ‬
‫ش ِ‬ ‫َ‬
‫لقوي في حبه للمال‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬لشديد‪ :‬لبخيل‪ .‬ويقال للبخيل‪ :‬شديد ومتشدد‪.‬‬
‫ممما‪،‬‬
‫قال ابن زيد‪ :‬سمي المال خيًرا‪ ،‬وعسى أن يكون شممًرا وحرا ً‬
‫ولكن الناس يعدونه خيًرا‪ ،‬فسماه الله خيًرا لذلك)‪.(1‬‬
‫َ‬
‫ب(‬‫سم َ‬ ‫ممما ك َ َ‬ ‫مممال ُ ُ‬
‫ه وَ َ‬ ‫ممما أغْن َممى عَن ْم ُ‬
‫ه َ‬ ‫وقممال فممي قمموله ‪ -‬تعممالى ‪َ ) :-‬‬
‫)المسد‪ (2:‬أي‪ :‬ما دفممع عنممه عممذاب اللممه ممما جمممع مممن المممال‪ ،‬ول‬
‫كسب من جاه‪.‬‬
‫عشيرته بالنار قممال‬ ‫قال ابن عباس‪ :‬لما أنذر رسول الله‪ ،‬‬
‫أبو لهب‪ :‬إن كان ما يقول ابن أخي حًقا فإني أفممدي نفسممي بمممالي‬
‫َ‬
‫ب( )المسد‪.(2)(2:‬‬ ‫ما ك َ َ‬
‫س َ‬ ‫مال ُ ُ‬
‫ه وَ َ‬ ‫ما أغَْنى عَن ْ ُ‬
‫ه َ‬ ‫وولدي‪ ،‬فنمزل‪َ ) :‬‬
‫حّبمما ً‬ ‫ممما َ‬
‫ل ُ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫حّبممو َ‬
‫وقال الطبري في قوله ‪ -‬تعــالى ‪) :-‬وَت ُ ِ‬
‫مًا( )الفجممر‪ (20:‬وتحبممون المممال أيهمما النمماس واقتنمماءه حب ًمما كممثيًرا‬
‫ج ّ‬
‫َ‬
‫دا‪.‬‬
‫شدي ً‬
‫من قولهم‪ :‬حم الماء في الحوض‪ :‬إذا اجتمع‪.‬‬
‫دا‪.‬‬
‫ما" أي‪ :‬حًبا شدي ً‬‫قال قتادة‪" :‬حًبا ج ً‬
‫وقال الضحاك‪ :‬يحبون كثرة المال)‪.(3‬‬
‫وقال القاسمي في آية الكهف‪" :‬وكممان لممه" أي‪ :‬لصمماحب‬
‫الجنتين‪" ،‬ثمر" أي أنواع من المال غير الجنتين‪ ،‬من "ثمر ممماله" إذا‬
‫ه( )الكهممف‪ :‬مممن اليممة ‪ (34‬أي‪:‬‬ ‫حمماوُِر ُ‬
‫حب ِهِ وَهُ موَ ي ُ َ‬
‫صمما ِ‬ ‫كممثر‪) ،‬فََقمما َ‬
‫ل لِ َ‬
‫يراجعه الكلم‪ ،‬تعبيًرا له بالفقر‪ ،‬وفخمًرا عليممه بالمممال والجممماه‪) :‬أ َن َمما‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(20/162‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(20/238‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(30/184‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪242‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫مال ً وَأعَّز ن ََفرًا( )الكهف‪ :‬من الية ‪ (34‬أي أنصاًرا وحش ً‬
‫ما‪.‬‬ ‫ك َ‬ ‫أك ْث َُر ِ‬
‫من ْ َ‬
‫ه( )الكهف‪ :‬من اليممة ‪ (35‬أي بصمماحبه يطمموف بممه فيهمما‪،‬‬ ‫جن ّت َ ُ‬
‫ل َ‬ ‫خ َ‬‫)وَد َ َ‬
‫ويفاخره بها)‪.(1‬‬
‫ن‬ ‫ن اْل ِن ْ َ‬
‫سمما َ‬ ‫وقــال ابــن كــثير فــي قــوله ‪ -‬تعــالى ‪) :-‬ك َّل إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫ست َغَْنى( )العلق‪ (6،7:‬يخبر ‪ -‬تعممالى ‪ -‬عممن النسممان‬ ‫ل َي َط َْغى أ ْ‬
‫ن َرآهُ ا ْ‬
‫أنه ذو فرح‪ ،‬وأشر بطر‪ ،‬وطغيان‪ ،‬إذا رأى نفسه قممد اسممتغنى وكممثر‬
‫جعَممى(‬ ‫ن إ ِل َممى َرب ّم َ‬
‫ك الّر ْ‬ ‫ماله‪ ،‬ثم تهممدده وتوعممده ووعظممه‪ ،‬فقممال‪) :‬إ ِ ّ‬
‫)العلق‪.(2)(8:‬‬
‫وأختم أقــوال المفســرين بمــا قــاله ســيد قطــب فــي‬
‫مطلع تفسيره ليات سورة القصص‪ ،‬في قصة قارون‪ ،‬حيممث‬
‫قال‪ :‬والن تجيء قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم‪ ،‬وكيف‬
‫ينتهي بالبوار مع البغممي والبطممر‪ ،‬والسممتكبار علممى الخلممق‪ ،‬وجحممود‬
‫نعمة الخالق‪.‬‬
‫وتقرر حقيقة القيم‪ ،‬فترخص من قيمممة المممال والزينممة إلممى‬
‫جانب قيمة اليمان والصلح‪ ،‬مع العتدال والتمموازن فممي السممتمتاع‬
‫بطيبات الحياة دون علو في الرض ول فساد‪.‬‬
‫قائل‪ :‬ل تفرح‬ ‫ح( )القصص‪ :‬من الية ‪(76‬‬
‫)‪(3‬‬
‫ثم فسر قوله‪) :‬ل ت َْفَر ْ‬
‫فرح الزهو المنبعث من العتزاز بالمال‪ ،‬والحتفال بالثراء‪ ،‬والتعلممق‬
‫بالكنوز‪ ،‬والبتهاج بالملك والستحواذ‪.‬‬
‫ل تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعممم بالمممال‪ ،‬وينسممي نعمتممه‪،‬‬
‫وما يجب لها من الحمد والشكران‪.‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(11/4058‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/528‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/528‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪243‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ل تفرح فرح الذي يستخفه المال‪ ،‬فيشممغل بممه قلبممه‪ ،‬ويطيممر لممه‬
‫لبه‪ ،‬ويتطاول به على العباد)‪.(4‬‬
‫واليات التي مضت وكلم المفسرين حولها ُيعطممي الدللممة علممى‬
‫المنهج الخاطئ الذي يسلكه كثير من الناس في جمع المال‪ ،‬حيممث‬
‫أفرطوا في ذلك وبالغوا فيه‪ ،‬وكانت النتيجة الطبيعية أن أصبح هممذا‬
‫المال وبال عليهم في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫إن السلم ليس ضد جمع المال ‪ -‬كما قد يتوهم البعض ‪ -‬بل إنممه‬
‫أمر مشروع جاءت اليات الكثيرة تممبين مشممروعيته وأهميتممه‪ ،‬ومممن‬
‫ل الل ّم ِ‬
‫ه‬ ‫ممما ِ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫م ِ‬
‫ذلك قوله ‪ -‬تعالى ‪ -‬مبيًنا أن المال من الله‪َ) :‬وآُتوهُ ْ‬
‫م( )النور‪ :‬من الية ‪ (33‬وقال ممتن ًمما علممى بنممي إسممرائيل‪:‬‬ ‫ذي آَتاك ُ ْ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫م أ َك ْث ََر ن َِفيرًا( )السراء‪ :‬مممن اليممة‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جعَل َْناك ُ ْ‬
‫ن وَ َ‬
‫ل وَب َِني َ‬
‫وا ٍ‬
‫م َ‬ ‫مد َد َْناك ُ ْ‬
‫م ب ِأ ْ‬ ‫)وَأ ْ‬
‫‪ .(6‬ويقول نوح لقومه داعًيا إياهم إلى اليمممان‪ ،‬ومبين ًمما عاقبممة ذلممك‬
‫ممد َْرارا ً وَي ُ ْ‬
‫ممدِد ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م ِ‬ ‫ماَء عَل َي ْ ُ‬
‫كم ْ‬ ‫سم َ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫سم ِ‬
‫في الممدنيا قبمل الخممرة‪) :‬ي ُْر ِ‬
‫م أ َن َْهارًا( )نوح‪.(12 ،11:‬‬ ‫َ‬
‫ل ل َك ُ ْ‬‫جع َ ْ‬‫ت وَي َ ْ‬‫جّنا ٍ‬
‫م َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬‫جع َ ْ‬
‫ن وَي َ ْ‬
‫ل وَب َِني َ‬
‫وا ٍ‬
‫م َ‬
‫ب ِأ ْ‬
‫وقال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬آمًرا بالمحافظة على المال الذي هو مممن اللممه‪:‬‬
‫م قَِيامًا( )النساء‪ :‬مممن‬ ‫َ‬
‫ه ل َك ُ ْ‬‫ل الل ّ ُ‬‫جع َ َ‬ ‫م ال ِّتي َ‬ ‫وال َك ُ ُ‬
‫م َ‬‫سَفَهاَء أ ْ‬ ‫)َول ت ُؤُْتوا ال ّ‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا( )الكهف‪ :‬من اليممة‬ ‫ة ال ْ َ‬ ‫ل َوال ْب َُنو َ‬
‫ن ِزين َ ُ‬ ‫الية ‪ (5‬وقال‪) :‬ال ْ َ‬
‫ما ُ‬
‫م ت َط َُأوهَمما(‬ ‫َ‬
‫م وَأْرضا ً ل َم ْ‬
‫وال َهُ ْ‬
‫م َ‬
‫َ‬
‫م وَأ ْ‬‫م وَدَِياَرهُ ْ‬ ‫ضه ُ ْ‬
‫م أْر َ‬
‫‪ (46‬وقال‪) :‬وأ َورث َك ُ َ‬
‫ْ‬ ‫َ َْ‬
‫)الحزاب‪ :‬من الية ‪.(27‬‬
‫إذن فكما أن القرآن الكريم يحذر من الغمراق فمي حمب الممال‪،‬‬
‫وقضاء الحياة في جمعممه وتحصمميله دون أداء حممق اللممه فيممه‪ ،‬ويممبين‬

‫‪ - 4‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(5/2710‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪244‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫عاقبممة مممن كممانت هممذه حمماله‪ ،‬فممإنه ل يرضممى بالرهبنممة والتصمموف‬


‫ن الممد ّن َْيا(‬
‫ممم َ‬ ‫صمميب َ َ‬
‫ك ِ‬ ‫س نَ ِ‬
‫والعممراض عممن المممال بالكليممة‪َ) .‬ول ت َْنمم َ‬
‫)القصص‪ :‬من الية ‪ (77‬بل إنه يقر جمممع المممال وتحصمميله‪ ،‬ويشممرع‬
‫السبل الصحيحة لذلك‪ ،‬وهذا ما سيتضح في الفقرة التالية‪:‬‬

‫)ب( في كسب المال‬


‫توصمملنا فممي الفقممرة السممابقة إلممى أن القممرآن الكريممم بيممن لنمما‬
‫خطوط النحراف في جمع المال وحبه‪ ،‬واتضمح لنما أن جممع الممال‬
‫مشروع‪ ،‬ولكن النحراف يكون في الفراط فيه أو التفريط‪ ،‬وكذلك‬
‫سا أو عاًرا‪ ،‬بممل هممو أمممر جبلممي فطممري‪ ،‬ل‬‫فإن حب المال ليس رج ً‬
‫ينفي ذلك إل مكابر أو شمماذ‪ ،‬والشممذوذ يؤكممد القاعممدة‪ :‬وإنممما المممر‬
‫المنهي عنه هو الغلو فممي حبممه وتقديسممه‪ ،‬والتوسممط فممي ذلممك هممو‬
‫ت‬ ‫حا ُ‬ ‫صممال ِ َ‬
‫ت ال ّ‬ ‫حي َمماةِ ال مد ّن َْيا َوال َْباقِي َمما ُ‬‫ة ال ْ َ‬ ‫ن ِزين َ ُ‬ ‫ل َوال ْب َُنو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫المشروع‪) :‬ال ْ َ‬
‫خي مر أ َ‬
‫ب‬‫حم ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ِ‬ ‫ما‬
‫م‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫لل‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫م‬‫ّ‬ ‫ي‬ ‫ز‬
‫ُ‬ ‫)‬ ‫(‬ ‫‪46‬‬ ‫مف‪:‬‬ ‫م‬ ‫)الكه‬ ‫ً‬
‫ل(‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫واب ما ً وَ َ ْ ٌ‬ ‫عن ْمد َ َرب ّم َ‬
‫ك ثَ َ‬ ‫خي ْمٌر ِ‬ ‫َ‬
‫ب‬ ‫ن ال مذ ّهَ ِ‬ ‫مم َ‬ ‫مَقن ْط َمَرةِ ِ‬ ‫طيرِ ال ْ ُ‬‫ن َوال َْقن َمما ِ‬ ‫سمماِء َوال ْب َِني م َ‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫مم َ‬ ‫ت ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫ش مه َ َ‬ ‫ال ّ‬
‫حي َمماةِ المد ّن َْيا‬ ‫مت َمماعُ ال ْ َ‬ ‫ك َ‬ ‫ث ذ َل ِ َ‬ ‫حْر ِ‬ ‫مةِ َواْل َن َْعام ِ َوال ْ َ‬ ‫سو ّ َ‬‫م َ‬ ‫ل ال ْ ُ‬‫خي ْ ِ‬ ‫ضةِ َوال ْ َ‬ ‫َوال ِْف ّ‬
‫ب( )آل عمران‪.(14:‬‬ ‫مآ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫عن ْد َهُ ُ‬‫ه ِ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫ومممن هنمما جمماءت اليممات تممبين الخطمموط العريضممة والمنطلقممات‬
‫الشرعية في كسب المال وتحصيله‪ ،‬وجاءت القاعدة الممتي تفرعممت‬
‫َ‬
‫م الّربا( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة‬ ‫ه ال ْب َي ْعَ وَ َ‬
‫حّر َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫ح ّ‬
‫عنها كل القواعد‪) :‬وَأ َ‬
‫‪.(275‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪245‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫إذن فكسب المال مشروع‪ ،‬ولكن ليممس كممل طريممق يممؤدي إلممى‬
‫ذلك جائز ومحمود‪.‬‬
‫فل نحرم ما أحل الله من وسائل الكسممب المباحممة‪ ،‬ول نبيممح‬
‫ما حرم الله من الوسائل الممنوعة‪) :‬ول تُقوُلوا ل ِما تص ُ َ‬
‫م‬ ‫ف أل ْ ِ‬
‫سممن َت ُك ُ ُ‬ ‫َ َ ِ‬ ‫َ َ‬
‫ن‬ ‫ن ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م ل ِت َْفت َمُروا عَل َممى الل ّمهِ ال ْك َمذِ َ‬
‫ب إِ ّ‬ ‫حمَرا ٌ‬ ‫ل وَهَم َ‬
‫ذا َ‬ ‫حل ٌ‬ ‫ب هَ َ‬
‫ذا َ‬ ‫ال ْك َذِ َ‬
‫ن( )النحل‪.(116:‬‬ ‫حو َ‬ ‫ن عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ‬
‫ب ل ي ُْفل ِ ُ‬ ‫ي َْفت َُرو َ‬
‫وســأذكر بعـض مــا ورد مــن آيـات تنهممي عممن بعممض أوجممه‬
‫جا وسم ً‬
‫طا فممي‬ ‫الكسب المحرمة‪ ،‬ليتضح من خلل ذلك أن هناك منه ً‬
‫ذلك ل إفراط ول تفريط‪:‬‬
‫فقد نهى الله عن الربا‪ ،‬وبين أنه من الكسمب المحممرم بمل غلمظ‬
‫الله في عقوبة هذا الكسب‪ ،‬الممذي أفممرط فيممه كممثير مممن النمماس‪- ،‬‬
‫وبخاصة في عصرنا الحاضر ‪ -‬حتى قل أن يسمملم أحممد مممن الربمما أو‬
‫من غباره‪ ،‬والله المستعان‪.‬‬
‫َ‬
‫م الّربا( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة‬ ‫حّر َ‬‫ه ال ْب َي ْعَ وَ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ح ّ‬‫قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَأ َ‬
‫ْ‬
‫ذي‬ ‫م ال ّم ِ‬ ‫ن إ ِّل ك َ َ‬
‫مما ي َُقممو ُ‬ ‫ممو َ‬ ‫ن الّربما ل ي َُقو ُ‬ ‫ن َيمأك ُُلو َ‬ ‫‪ (275‬وقممال‪) :‬ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬
‫س( )البقممرة‪ :‬مممن اليممة ‪ (275‬وقممال‪:‬‬ ‫مم ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫مم َ‬ ‫ن ِ‬‫طا ُ‬ ‫ش مي ْ َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫خب ّط ُم ُ‬ ‫ي َت َ َ‬
‫ت( )البقرة‪ :‬من اليممة ‪ (276‬وقممال‪:‬‬ ‫صد ََقا ِ‬ ‫ه الّربا وَي ُْرِبي ال ّ‬ ‫حقُ الل ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫)ي َ ْ‬
‫َ‬
‫ن ك ُن ْت ُم ْ‬
‫م‬ ‫ن الّربمما إ ِ ْ‬ ‫مم َ‬‫ي ِ‬ ‫ممما ب َِقم َ‬ ‫ه وَذ َُروا َ‬ ‫من ُمموا ات ُّقمموا الل ّم َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫)َيا أي َّها ال ّم ِ‬
‫من ُمموا ل ت َمأ ْك ُُلوا الّربمما‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬
‫َ‬
‫ن( )البقرة‪ (278:‬وقال‪) :‬ي َمما أي ّهَمما ال ّم ِ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫ة( )آل عمران‪ :‬من الية ‪.(130‬‬ ‫ضاعََف ً‬ ‫م َ‬ ‫ضَعافا ً ُ‬ ‫أ ْ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪246‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وكذلك من طرق الكسب المحرمة‪ :‬الميسممر‪ ،‬وهممو القمممار‪ ،‬كممما‬


‫قال ابن كثير وغيره)‪ .(1‬وقد جاءت بعض اليات تبين حكمه وأن الله‬
‫قد حرمه‪ .‬قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬يس َ‬
‫ممما‬ ‫ل ِفيهِ َ‬ ‫سرِ قُ م ْ‬ ‫مي ْ ِ‬ ‫مرِ َوال ْ َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫ألو‬ ‫َ ْ‬
‫َ‬
‫ما( )البقرة‪ :‬مممن اليممة‬ ‫ن ن َْفعِهِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما أك ْب َُر ِ‬ ‫مه ُ َ‬ ‫س وَإ ِث ْ ُ‬ ‫مَنافِعُ ِللّنا ِ‬ ‫م ك َِبيٌر وَ َ‬ ‫إ ِث ْ ٌ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫مم ْ‬ ‫س ِ‬ ‫جم ٌ‬ ‫م رِ ْ‬ ‫ب َواْلْزل ُ‬ ‫صمما ُ‬ ‫س مُر َواْلن ْ َ‬ ‫مي ْ ِ‬ ‫م مُر َوال ْ َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ما ال ْ َ‬ ‫‪ (219‬وقال‪) :‬إ ِن ّ َ‬
‫طا َ‬
‫ع‬
‫ن ُيوقِ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫شي ْ َ ُ‬ ‫ريد ُ ال ّ‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫ن إ ِن ّ َ‬ ‫حو َ‬ ‫م ت ُْفل ِ ُ‬ ‫جت َن ُِبوهُ ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫ن َفا ْ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ِ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫م ِ‬ ‫عَ َ‬
‫كممرِ الّلممهِ‬ ‫ن ذِ ْ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫صد ّك ُ ْ‬ ‫سرِ وَي َ ُ‬ ‫مي ْ ِ‬ ‫مرِ َوال ْ َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ضاَء ِفي ال ْ َ‬ ‫داوَةَ َوال ْب َغْ َ‬ ‫م ال ْعَ َ‬‫ب َي ْن َك ُ ُ‬
‫ن( )الممائدة‪.(91 ،90:‬‬ ‫وعَن الصلة فَه ْ َ‬
‫من ْت َُهو َ‬ ‫م ُ‬ ‫ل أن ْت ُ ْ‬ ‫ّ ِ َ‬ ‫َ ِ‬
‫وكمذلك ممن أوجمه الكسمب المحرمممة السممرقة‪ .‬قمال ‪ -‬تعممالى ‪:-‬‬
‫َ‬
‫سَبا( )المائدة‪ :‬من‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫جَزاًء ب ِ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ة َفاقْط َُعوا أي ْدِي َهُ َ‬ ‫سارِقَ ُ‬ ‫سارِقُ َوال ّ‬ ‫)َوال ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ك عََلممى أ ْ‬ ‫ت ي َُباي ِعْن َ َ‬ ‫مَنا ُ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫ك ال ْ ُ‬ ‫جاَء َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ي إِ َ‬ ‫الية ‪ .(38‬وقال‪َ) :‬يا أي َّها الن ّب ِ ّ‬
‫ش ميئا ً ول يس مرقْن ول يزِني من ول يْقتل ْم َ‬
‫ن َول‬ ‫ن أْولد َهُ م ّ‬ ‫َ َ َ ُ َ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َ ْ َ َ ْ ِ َ َ َ ْ‬ ‫شرِك ْ َ‬ ‫ل يُ ْ‬
‫ف‬ ‫صممين َ َ‬ ‫َ‬ ‫يأ ِْتين ببهتان يْفترينه بي َ‬
‫معْمُرو ٍ‬ ‫ك فِممي َ‬ ‫ن َول ي َعْ ِ‬ ‫جل ِهِ ّ‬ ‫ن وَأُر ُ‬ ‫ديهِ ّ‬ ‫ن أي ْ ِ‬ ‫َ َ ُِْ َ ٍ َ َ ِ َ ُ َْ َ‬
‫م( )الممتحنة‪.(12:‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫ه غَُفوٌر َر ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ست َغِْفْر ل َهُ ّ‬ ‫ن َوا ْ‬ ‫فََباي ِعْهُ ّ‬
‫ن‬‫ومن الكسممب المحممرم أكممل مممال اليممتيم‪ .‬قممال ‪ -‬سممبحانه ‪) :-‬إ ِ ّ‬
‫م ن َممارا ً‬ ‫ْ‬ ‫ال ّذين يأ ْك ُُلو َ‬
‫ن فِممي ب ُط ُممون ِهِ ْ‬
‫ممما ي َمأك ُُلو َ‬
‫مى ظ ُْلم ما ً إ ِن ّ َ‬
‫ل ال ْي ََتا َ‬
‫وا َ‬
‫م َ‬
‫نأ ْ‬‫َ‬ ‫ِ َ َ‬
‫سِعيرًا( )النساء‪.(10:‬‬ ‫ن َ‬‫صل َوْ َ‬‫سي َ ْ‬
‫وَ َ‬
‫وبالجملة فكل مال ُأخذ بالباطل فهو محرم‪ ،‬ولذلك جاءت اليات‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫م‬ ‫وال َك ُ ْ‬‫م َ‬‫تنهى عن أكل المال بالباطل‪ .‬فقال ‪ -‬سبحانه ‪َ( :-‬ول ت َأك ُُلوا أ ْ‬
‫كام ل ِتأ ْك ُُلوا فَريقا ً من أ َ‬
‫س‬
‫ِ‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫وا‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ح ّ ِ َ‬ ‫ل وَت ُد ُْلوا ب َِها إ َِلى ال ْ ُ‬ ‫م ِبال َْباط ِ ِ‬ ‫ب َي ْن َك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ن( )البقرة‪.(188:‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬
‫ِباْل ِث ْم ِ وَأن ْت ُ ْ‬
‫سا على‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪ ،(1/255‬وزاد المسير )‪ (1/240‬حيث قال ابن الجوزي‪ :‬العلماء أجمعوا على أن القمار حرام‪ ،‬وإنما ذكر الميسر من بينه‪ ،‬وجعل كله قيا ً‬
‫الميسر‪ ،‬والميسر إنما يكون قماًرا في الجزر خاصة‪ ،‬وقال‪ :‬قال ابن عباس وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة في آخرين‪ :‬الميسر‪ :‬هو القمار‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪247‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن‬ ‫م َ‬‫وقال مبيًنا سبب تحريم الطيبات على بني إسرائيل‪) :‬فَب ِظ ُل ْم ٍ ِ‬
‫ل الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫صد ّهِ ْ‬
‫م وَب ِ َ‬ ‫ت ل َهُ ْ‬ ‫ت أُ ِ‬
‫حل ّ ْ‬ ‫م ط َي َّبا ٍ‬ ‫مَنا عَل َي ْهِ ْ‬‫حّر ْ‬ ‫دوا َ‬ ‫ها ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫ال ّ ِ‬
‫خذهم الربا وقَمد نهمموا عَنمه وأ َك ْل ِهم َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫س ِبال َْباط ِم ِ‬ ‫ل الن ّمما ِ‬ ‫وا َ‬ ‫مم َ‬‫مأ ْ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ْ ُ َ‬ ‫ك َِثيرا ً وَأ ْ ِ ِ ُ ّ َ ْ ُ ُ‬
‫ذابا ً أ َِليمًا( )النساء‪.(161 ،160:‬‬ ‫م عَ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ن ِ‬‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫وَأ َعْت َد َْنا ل ِل ْ َ‬
‫س‬ ‫وا َ‬ ‫وقممال‪) :‬إن ك َِثيممرا ً ممن اْل َحبممار والرهْبممان ل َيمأ ْك ُُلو َ‬
‫ل الن ّمما ِ‬ ‫مم َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ِ َ ّ َ ِ َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ ّ‬
‫ل( )التوبة‪ :‬من الية ‪.(34‬‬ ‫ِبال َْباط ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫وال َك ُ ْ‬
‫م ب َي ْن َك ُم ْ‬ ‫مم َ‬ ‫من ُمموا ل ت َمأك ُُلوا أ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقال ‪ -‬سبحانه ‪َ) :-‬يا أي ّهَمما ال ّم ِ‬
‫بال ْباطل إّل أ َ‬
‫م( )النسمماء‪ :‬مممن اليممة‬ ‫من ْك ُم ْ‬
‫ض ِ‬ ‫ٍ‬ ‫را‬ ‫َ‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ً‬ ‫ة‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫جا‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ن تَ ُ‬
‫كو‬ ‫ْ‬ ‫ِ َ ِ ِ ِ‬
‫‪.(29‬‬
‫قال ابن الجوزي مبيًنا معنى الباطل هنا‪ :‬ل يأكل بعضكم‬
‫أموال بعض‪ ،‬قال القاضي أبو يعلى‪:‬‬
‫والباطل على وجهين‪ :‬أحدهما أن يأخممذه بغيممر طيممب نفممس‬
‫من مالكه‪ ،‬كالسرقة‪ ،‬والغضب‪ ،‬والخيانة‪.‬‬
‫والثــاني‪ :‬أن يأخممذه بطيممب نفسممه‪ ،‬كالقمممار والغنمماء‪ ،‬وثمممن‬
‫الخمر)‪.(1‬‬
‫وقال القرطبي‪ :‬والمعنى‪ :‬ل يأكممل بعضممكم مممال بعممض بغيممر‬
‫حق‪ ،‬فيدخل في هذا‪ :‬القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق‪ ،‬وما‬
‫ل تطيب به نفس مالكه‪ ،‬أو حرمته الشممريعة‪ ،‬وإن طممابت بممه نفممس‬
‫حلوان الكاهن‪ ،‬وأثمان الخمور والخنازير وغير‬
‫مالكه‪ ،‬كمهر البغي‪ ،‬و ُ‬
‫ذلك‪ ،‬ثم قال‪ :‬من أخذ مال غيره ل على وجه إذن الشرع فقد أكلممه‬
‫بالباطل‪ ،‬ومن الكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنممك‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬زاد المسير )‪.(1/194‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪248‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫مبطممل‪ ،‬فممالحرام ل يصممير حلل بقضمماء القاضممي‪ ،‬لنممه إنممما يقضممي‬


‫بالظاهر‪ ،‬وهذا إجماع في الموال )‪.(1‬‬
‫جا وس ً‬
‫طا في كسب المال‪.‬‬ ‫ومما سبق يتضح أن هناك منه ً‬
‫فالقول بإباحــة جميــع المعــاملت قممول باطممل‪ ،‬وهممو مممن‬
‫التفريممط‪ .‬وكممذلك التشممديد‪ ،‬وجعممل أن الصممل فممي الكتسمماب هممو‬
‫التحريم إل ما ورد نص في إباحته قول باطل‪ ،‬وهو من الفراط‪.‬‬
‫والقــول الصــحيح وهمممو الوسمممط أن الصمممل فمممي المممبيوع‬
‫)‪(2‬‬
‫والمعمماملت الحممل والباحممة‪ ،‬إل ممما ورد النممص بتحريمممه ومنعممه‬
‫سواء كان المنع بدليل خاص أو عام‪ ،‬فممن الخمماص تحريمم الميسمر‬
‫والربا والسرقة ونحوها‪ ،‬ومن العام ما يدخل تحت الضرر أو الظلممم‬
‫أو الغرر ونحو ذلك مما هو مفصل في كتب الفقه والحكام‪.‬‬
‫)جـ( إنفاق المال‬
‫وبعد أن تبين لنا تقرير القرآن لمنهج الوسمطية فممي جمممع المممال‬
‫وكسبه‪ ،‬نقف أخيًرا مع المنهج الشرعي في إنفاق المال كمما قممرره‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬
‫والناس في هذه المسألة طرفان ووسط‪:‬‬
‫فهنمماك القابضممون أيممديهم‪ ،‬البخلء بممأموالهم‪ ،‬المقممترون علممى‬
‫أنفسهم وأهليهم‪ ،‬فضل عمن سواهم‪.‬‬
‫وعلــى النقيــض مــن هــؤلء‪ ،‬آخممرون مسممرفون مممترفون‪،‬‬
‫باسطو أيديهم كل البسط‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(2/338‬‬

‫‪ - 2‬للعلماء كلم في هذه القضية‪ ،‬وتفصيل في هذه القاعدة‪ ،‬انظر‪ :‬مثل تفسير القرطبي )‪ (3/356‬تجد بيان ذلك‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪249‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وبيممن هممؤلء وأولئك قلممة مممن النمماس سمملكوا السممبيل القممويم‪،‬‬


‫والتزموا العدل والعتدال‪ ،‬واتخذوا بين ذلك سبيل )‪.(1‬‬
‫وقد نـزلت اليات من لدن عليم حكيم‪ ،‬تممبين سمملمة هممذا‬
‫المنهممج‪ ،‬وتممأمر بممه‪ ،‬وتحممث عليممه‪ ،‬مممع النهممي عممن سمملوك أي مممن‬
‫المنهجين المنحرفين‪ ،‬وبيان عاقبة ذلك عاجل وآجل )‪.(2‬‬
‫وسأذكر من اليات ما يبين هذا المنهج ويقرره‪ ،‬دون إيجماز مخمل‬
‫أو إطناب ممل‪ ،‬بل سأتخذ بين ذلك سبيل‪:‬‬
‫فبالنســبة للطــرف الول‪ ،‬وهممم القابضممون أيممديهم‪ ،‬البخلء‬
‫بأموالهم‪ ،‬جاءت اليات تبين انحراف هممذا المنهممج‪ ،‬وتنهممى عممن هممذا‬
‫م‬
‫ممما آت َمماهُ ُ‬ ‫خل ُممو َ‬
‫ن بِ َ‬ ‫ن ي َب ْ َ‬ ‫ن ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬ ‫سمب َ ّ‬
‫ح َ‬
‫المسلك‪ ،‬فقال ‪ -‬سبحانه ‪َ) :-‬ول ي َ ْ‬
‫خل ُمموا ب ِم ِ‬
‫ه‬ ‫ما ب َ ِ‬‫ن َ‬ ‫سي ُط َوُّقو َ‬ ‫م َ‬ ‫شّر ل َهُ ْ‬ ‫ل هُوَ َ‬ ‫م بَ ْ‬‫خْيرا ً ل َهُ ْ‬‫ضل ِهِ هُوَ َ‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬‫الل ّ ُ‬
‫ت واْل َ‬ ‫مةِ وَل ِل ّهِ ِ‬
‫ض ()آل عمران‪ :‬من اليممة‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫ماَوا ِ َ‬ ‫س َ‬
‫ث ال ّ‬ ‫ميَرا ُ‬ ‫م ال ِْقَيا َ‬‫ي َوْ َ‬
‫خُلممو َ‬
‫ن‬ ‫ن ي َب ْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫خورٍ اّلمم ِ‬ ‫ل فَ ُ‬ ‫خَتا ٍ‬ ‫م ْ‬‫ل ُ‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫‪ (180‬وقال ‪ -‬جل وعل ‪) :-‬ل ي ُ ِ‬
‫ْ‬
‫د(‬‫ميم ُ‬ ‫ح ِ‬‫ي ال ْ َ‬ ‫هموَ ال ْغَن ِم ّ‬‫ه ُ‬ ‫ن الّلم َ‬ ‫ل ف َ مإ ِ ّ‬ ‫ن ي َت َموَ ّ‬ ‫مم ْ‬‫ل وَ َ‬ ‫خم ِ‬ ‫س ِبال ْب ُ ْ‬
‫ن الن ّمما َ‬ ‫مُرو َ‬ ‫وَي َأ ُ‬
‫)الحديد‪.(24 ،23:‬‬
‫ه‬ ‫ن فَ ْ‬
‫ض مل ِ ِ‬ ‫مم ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما آت َمماهُ ْ‬‫وقال مبيًنا خصلة من خصال المنافقين‪) :‬فَل َ ّ‬
‫ن( )التوبة‪.(76:‬‬ ‫ضو َ‬ ‫معْرِ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫وا وَهُ ْ‬ ‫خُلوا ب ِهِ وَت َوَل ّ ْ‬ ‫بَ ِ‬
‫َ‬
‫ل الل ّم ِ‬
‫ه‬ ‫سمِبي ِ‬ ‫فُقمموا فِممي َ‬ ‫ن ل ِت ُن ْ ِ‬‫ؤلِء ت ُمد ْعَوْ َ‬ ‫هم ُ‬ ‫م َ‬ ‫وقال سبحانه‪) :‬هَمما أن ْت ُم ْ‬
‫َ‬
‫م‬
‫ي وَأن ْت ُ ُ‬‫ه ال ْغَن ِ ّ‬
‫سهِ َوالل ّ ُ‬
‫ن ن َْف ِ‬ ‫ل عَ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫ما ي َب ْ َ‬‫ل فَإ ِن ّ َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن ي َب ْ َ‬‫م ْ‬
‫ل وَ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ن ي َب ْ َ‬ ‫م ْ‬
‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫فَ ِ‬
‫َ‬
‫م(‬‫مث َممال َك ُ ْ‬
‫كون ُمموا أ ْ‬ ‫م ل يَ ُ‬‫م ث ُم ّ‬ ‫وم ما ً غَي َْرك ُم ْ‬ ‫ل قَ ْ‬ ‫س مت َب ْدِ ْ‬‫وا ي َ ْ‬ ‫ن ت َت َوَل ّم ْ‬ ‫ال ُْفَق مَراُء وَإ ِ ْ‬
‫)محمد‪. (38:‬‬
‫‪ - 1‬أي‪ :‬بين المنهجين المتطرفين‪.‬‬

‫ما محسوًرا(‪] .‬سورة السراء‪ ،‬آية‪ .[29 :‬ومن الجل قوله‪) :‬سيطوقون ما‬
‫‪ - 2‬من بيان العاجل قوله تعالى‪) :‬ول تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ول تبسطها كل البسط فتقعد ملو ً‬
‫بخلوا به يوم القيامة(‪] .‬سورة آل عمران‪ ،‬الية‪.[180 :‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪250‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫َ‬
‫مةِ َرّبي‬
‫ح َ‬
‫ن َر ْ‬
‫خَزائ ِ َ‬
‫ن َ‬ ‫مل ِ ُ‬
‫كو َ‬ ‫م تَ ْ‬‫ل ل َوْ أن ْت ُ ْ‬ ‫وقال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪) :-‬قُ ْ‬
‫ن قَُتورًا( )السراء‪.(100:‬‬ ‫َ‬
‫سا ُ‬ ‫ن اْل ِن ْ َ‬‫كا َ‬ ‫ة اْل ِن َْفا ِ‬
‫ق وَ َ‬ ‫خ ْ‬
‫شي َ َ‬ ‫سك ْت ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ِإذا ً َل ْ‬
‫م َ‬
‫قال ابن كثير في هذه الية‪ :‬يقول ‪ -‬تعممالى ‪ -‬لرسمموله‪ ،‬‬
‫قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكممون التصممرف فممي خممزائن‬
‫الله لمسكتم خشية النفمماق‪ ،‬قممال ابممن عبمماس وقتممادة‪ :‬أي‪ :‬الفقممر‬
‫دا‪ ،‬لن هممذا مممن‬
‫خشممية أن ت ُممذهبوها‪ ،‬مممع أنهمما ل تنفممد ول تفممرغ أب م ً‬
‫طباعكم وسجاياكم‪ ،‬ولهذا قال‪" :‬وكممان النسممان قتمموًرا"‪ .‬قممال ابممن‬
‫عا‪.‬‬
‫عباس وقتادة‪ :‬أي‪ :‬بخيل منو ً‬
‫َ‬
‫س‬ ‫ك فَ مِإذا ً ل ي ُؤْت ُممو َ‬
‫ن الن ّمما َ‬ ‫مل ْ ِ‬
‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬
‫ب ِ‬
‫صي ٌ‬ ‫م ل َهُ ْ‬
‫م نَ ِ‬ ‫وقال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬أ ْ‬
‫ن َِقيرًا( )النساء‪ .(53:‬أي‪ :‬لو أن لهم نصيًبا في ملمك اللمه ممما أعطمموا‬
‫دا شيًئا ول مقدار نقير‪.‬‬
‫أح ً‬
‫والله ‪ -‬تعالى ‪ -‬يصف النسان من حيث هممو ‪ -‬إل مممن وفقممه اللممه‬
‫وهداه ‪ -‬فإن البخل والجزع والهلع صفة له‪ ،‬ويممدل هممذا علممى كرمممه‬
‫وجوده وإحسانه ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪.(1)-‬‬
‫ن‬ ‫ن اّلمم ِ‬
‫ذي َ‬ ‫سممب َ ّ‬‫ح َ‬‫في قوله ‪ -‬تعــالى ‪َ) :-‬ول ي َ ْ‬ ‫وقال القرطبي‬
‫م( )آل‬ ‫ش مّر ل َهُ م ْ‬‫ل هُوَ َ‬ ‫خْيرا ً ل َهُ ْ‬
‫م بَ ْ‬ ‫ن فَ ْ‬
‫ضل ِهِ هُوَ َ‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ما آَتاهُ ُ‬ ‫خُلو َ‬
‫ن بِ َ‬ ‫ي َب ْ َ‬
‫عمران‪ :‬من الية ‪ (180‬هذه الية نمزلت في البخل بالمال‪ ،‬والنفاق‬
‫في سبيل الله‪ ،‬وأداء الزكاة المفروضة‪.‬‬
‫والبخل في اللغة‪ :‬أن يمنع النسان الحق الممواجب‪ ،‬فأممما مممن‬
‫منع ممما ل يجممب عليممه فليممس ببخيممل‪ ،‬لنممه ل يممذم بممذلك‪ .‬ثممم قممال‪:‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(3/66‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪251‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫واختلف في البخل والشح‪ ،‬هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فقيل‪:‬‬


‫البخل‪ :‬المتناع من إخراج ما حصل عندك‪.‬‬
‫والشح‪ :‬الحرص على تحصيل ما ليس عندك‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن الشح هو البخل مع حممرص‪ ،‬وهممو الصممحيح‪ ،‬لممما رواه‬
‫اتقمموا‬ ‫‪‬‬ ‫قممال‪:‬‬ ‫مسلم عن جابر بن عبممد اللممه‪ ،‬أن رسممول اللممه‪ ،‬‬
‫الظلم فإن الظلم ظلمات يمموم القيامممة‪ ،‬واتقمموا الشممح فممإن الشممح‬
‫أهلك من كان قبلكم‪ ،‬حملهممم علممى أن سممفكوا دممماءهم واسممتحلوا‬
‫‪‬‬ ‫محارمهم‬
‫وهذا يردّ قول من قال‪ :‬إن البخل منع الواجب‪ ،‬والشح‪ :‬منممع‬
‫المستحب‪ ،‬إذ لو كممان الشممح منممع المسممتحب لممما دخممل تحممت هممذا‬
‫الوعيد العظيم‪ ،‬والذم الشديد الذي فيه هلك الدنيا والخرة )‪.(1‬‬
‫وكما جاءت اليات محذرة من عاقبــة البخــل والتقــتير‪،‬‬
‫فقد جاءت ناهية عن الطرف المقابل وهو السراف والتبذير‪.‬‬
‫ل‬‫سممِبي ِ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ن َواب ْ َ‬ ‫كي َ‬
‫س ِ‬ ‫م ْ‬‫ه َوال ْ ِ‬‫حّق ُ‬‫ذا ال ُْقْرَبى َ‬‫ت َ‬‫فقال ‪ -‬سبحانه ‪َ) :-‬وآ ِ‬
‫ن‬
‫طا ُ‬‫ش مي ْ َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ن وَك َمما َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مب َذ ِّري َ‬ ‫ذيرا ً إ ِ ّ‬
‫َول ت ُب َذ ّْر ت َب ْ ِ‬
‫طي ِ‬‫شَيا ِ‬ ‫وا َ‬
‫خ َ‬
‫كاُنوا إ ِ ْ‬
‫ل َِرب ّهِ ك َُفورًا( )السراء‪.(27 ،26:‬‬
‫هل‬‫س مرُِفوا إ ِن ّم ُ‬
‫صممادِهِ َول ت ُ ْ‬ ‫ح َ‬‫م َ‬
‫ه ي َموْ َ‬
‫حّق م ُ‬
‫وقال ‪ -‬جل وعل ‪َ) :-‬وآت ُمموا َ‬
‫ن( )النعام‪ :‬من الية ‪.(141‬‬ ‫سرِِفي َ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ح ّ‬
‫يُ ِ‬
‫ذيرًا( )السراء‪:‬‬ ‫قال القاسمي في تفسير آية السراء‪َ) :‬ول ت ُب َذ ّْر ت َب ْ ِ‬
‫من الية ‪ (26‬أي‪ :‬بوجه من الوجوه‪ ،‬بالنفاق في محرم أو مكممروه‪،‬‬
‫أو على من ل يستحق‪ ،‬فتحسبه إحساًنا إلى نفسك أو غيممرك‪ .‬قممال‪:‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪ .(293-4/291‬والحديث أخرجه مسلم )‪ (4/1996‬رقم )‪.(2578‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪252‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وفي الكشمماف‪ :‬كممانت الجاهليممة تنحممر إبلهمما وتتياسممر عليهمما‪ ،‬وتبممذر‬


‫أموالها في الفخر والسمعة‪ ،‬وتذكر ذلممك فممي أشممعارها‪ ،‬فممأمر اللممه‬
‫بالنفقة في وجوهها مما يقرب منه ويزلف‪.‬‬
‫ن( )السممراء‪ :‬مممن اليممة ‪(27‬‬
‫طي ِ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ش مَيا ِ‬ ‫وا َ‬
‫خ َ‬ ‫ن َ‬
‫كاُنوا إ ِ ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مب َذ ِّري َ‬ ‫)إ ِ ّ‬
‫أي‪ :‬أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما ل ينبغي‪ ،‬وهذا غاية‬
‫المذمة لنه ل شر من الشيطان‪.‬‬
‫وقال‪ :‬قال أبو السعود‪ :‬وتخصيص هذا الوصممف بالممذكر مممن بيممن‬
‫سائر أوصممافه القبيحممة‪ ،‬لليممذان بممأن التبممذير الممذي هممو عبممارة عممن‬
‫صرف نعممم اللمه ‪ -‬تعمالى ‪ -‬إلمى غيمر مصممرفها‪ ،‬ممن بماب الكفمران‬
‫المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ممما خلقممت هممي لممه‪،‬‬
‫والتعرض لوصف الربوبيممة للشممعار بكمممال عتمموه‪ ،‬فممإن كفممر نعمممة‬
‫الرب‪ ،‬مممع كممون الربوبيممة مممن أقمموى الممدواعي إلممى شممكرها‪ ،‬غايممة‬
‫الكفران‪ ،‬ونهاية الضلل والطغيان‪.‬‬
‫وقال‪ :‬وقد استدل بالية ممع منمع إعطماء الممال كلمه فمي سمبيل‬
‫الخير‪ ،‬ومن منع الصدقة بكل ماله )‪.(1‬‬
‫هل‬‫سرُِفوا إ ِن ّ ُ‬
‫وقال الطبري مبيًنا مدلول آية النعام‪َ) ،‬ول ت ُ ْ‬
‫ن()النعام‪ :‬من الية ‪ (141‬قال‪ :‬بعد أن ذكممر أقمموال‬ ‫سرِِفي َ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ح ّ‬
‫يُ ِ‬
‫العلماء‪ :‬والصواب من القممول فمي ذلممك عنمدي أن يقممال‪ :‬إن اللمه ‪-‬‬
‫سرُِفوا( )النعام‪ :‬من الية ‪ (141‬عن جميع‬
‫تعالى ‪ -‬نهى بقوله‪َ) :‬ول ت ُ ْ‬
‫معاني السراف‪ ،‬ولم يخصص منها معنى دون معنى‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(10/3921‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪253‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وإذا كــان ذلــك كــذلك‪ ،‬وكممان السممراف فممي كلم العممرب‪:‬‬


‫الخطاء بإصابة الحق في العطية‪ ،‬إما بتجاوز حده في الزيادة‪ ،‬وإممما‬
‫ة‪،‬‬
‫ما أن المفممرق ممماله مبممارا ً‬
‫كان معلو ً‬
‫)‪(1‬‬
‫بتقصير عن حده الواجب‬
‫والباذَله للناس حتى أجحفت به عطيته‪ ،‬مسممرف بتجمماوزه حممد اللممه‬
‫إلى ما كيفته له‪.‬‬
‫وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه‪ ،‬وذلممك كمنعممه‬
‫ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصممدقة‪ ،‬إذا وجبممت فيممه‪ ،‬أو منعممه‬
‫من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها‪.‬‬
‫وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه‪.‬‬
‫كل هؤلء فيما فعلوا من ذلك مسرفون‪ ،‬داخلون في معنممى مممن‬
‫سمرُِفوا( )النعممام‪:‬‬
‫أتى ما نهى الله عنه مممن السمراف بقمموله‪َ) :‬ول ت ُ ْ‬
‫من الية ‪ (141‬في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم‪.(2).‬‬
‫لسممراف ضممدان قممد نهممى اللممه‬
‫وبهذا يتضح لنــا أن البخممل وا ِ‬
‫عنهما‪ ،‬وحرمهما على عباده‪ ،‬كل طرفي قصد المور ذميم‪.‬‬
‫وإذا كانت اليات السابقة‪ ،‬بيّنت كل واحدة منها أحد طرفي‬
‫النحراف وح ّ‬
‫ذرت منه‪ ،‬فإنها تدل بمفهومها على أن طريق الوسط‪،‬‬
‫هو طريق الستقامة‪ ،‬وبخاصة إذا نظرنا إلى مجموع اليات السابقة‬
‫لسراف والبخل ل يمثلن المنهج الصحيح‪.‬‬ ‫التي تدل على أن ا ِ‬
‫ومع ذلك فقد جاءت آيات تممد ّ‬
‫ل صممراحة علممى انحممراف كممل مممن‬
‫ص بعضممها علممى طريممق الوسممط‪ ،‬وأنممه‬
‫الطرفيممن المممذكورين‪ ،‬وين م ّ‬
‫المنهج الحق الذي يجب اللتزام به والسير فيه‪.‬‬
‫‪ - 1‬ممن قال بذلك وفسر به السراف‪ :‬سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب‪ ،‬كما ذكر الطبري في تفسيره )‪ .(8/61‬ولكن السراف إذا أطلق يراد به التبذير‪ ،‬وما يقابل البخل‬

‫لسراف بالبخل فيه نظر‪ .‬والله أعلم‪.‬‬


‫ما(‪] .‬سورة الفرقان‪ ،‬آية‪ .[67 :‬وتفسير ا ٍ‬
‫والتقتير‪ ،‬قال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوا ً‬
‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(8/61‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪254‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫قممال ‪ -‬تعممالى ‪ -‬فممي وصممف المممؤمنين‪) :‬وال ّمذين إ َ َ‬


‫ذا أن َْفُقمموا ل َم ْ‬
‫م‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫َ‬
‫وامًا( )الفرقان‪.(67:‬‬ ‫ك قَ َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫ن ب َي ْ َ‬
‫كا َ‬ ‫سرُِفوا وَل َ ْ‬
‫م ي َْقت ُُروا وَ َ‬ ‫يُ ْ‬
‫سممط َْها‬
‫ك َول ت َب ْ ُ‬‫ة إ َِلى عُن ُِق َ‬
‫مغُْلول َ ً‬
‫ك َ‬ ‫ل ي َد َ َ‬ ‫جع َ ْ‬‫وقال ‪ -‬سبحانه ‪َ) :-‬ول ت َ ْ‬
‫سورًا( )السراء‪.(29:‬‬
‫ح ُ‬ ‫مُلوما ً َ‬
‫م ْ‬ ‫ط فَت َْقعُد َ َ‬‫س ِ‬ ‫ل ال ْب َ ْ‬
‫كُ ّ‬
‫قال ابن كثير في الية الفرقــان‪) :‬واّلممذين إ َ َ‬
‫ذا أن َْفُقمموا ل َم ْ‬
‫م‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫َ‬
‫م ي َْقت ُُروا( )الفرقان‪ :‬من الية ‪ (67‬أي ليسوا بمبذرين في‬ ‫سرُِفوا وَل َ ْ‬ ‫يُ ْ‬
‫إنفاقهم‪ ،‬فيصرفون فوق الحاجة‪ ،‬ول بخلء على أهليهممم‪ ،‬فيقصممرون‬
‫في حقهم‪ ،‬فل يكفونهم‪ ،‬بل عممدل خيمماًرا‪ ،‬وخيممر المممور أوسممطها‪ ،‬ل‬
‫هذا ول هذا‪.‬‬
‫وامًا( )الفرقان‪ :‬من الية ‪ (67‬كما قال ‪ -‬تعممالى‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬
‫ك قَ َ‬ ‫ن ب َي ْ َ‬ ‫)و َ َ‬
‫كا َ‬
‫ط(‬
‫سم ِ‬ ‫ل ال ْب َ ْ‬
‫س مط َْها ك ُم ّ‬‫ك َول ت َب ْ ُ‬ ‫ة إ ِل َممى عُن ُِق م َ‬
‫مغُْلول َم ً‬ ‫ل ي َمد َ َ‬
‫ك َ‬ ‫جع َ م ْ‬
‫‪َ) :-‬ول ت َ ْ‬
‫)السراء‪ :‬من الية ‪.(1)(29‬‬
‫ة إ ِل َممى‬
‫مغُْلوَلم ً‬‫ك َ‬ ‫ل َيمد َ َ‬
‫جَعم ْ‬ ‫وقممال الطممبري فممي آيمة السممراء‪َ) :‬ول ت َ ْ‬
‫عُن ُِق َ‬
‫ك( )السراء‪ :‬من الية ‪.(29‬‬
‫وإنما معنى الكلم‪ :‬ول تمسك يا محمد يدك بخل عممن النفقممة‬
‫في حقوق اللممه‪ ،‬فل تنفممق فيهمما شمميًئا‪ ،‬إمسمماك المغلولممة يممده إلممى‬
‫ط( )السممراء‪:‬‬ ‫ل ال ْب َ ْ‬
‫س ِ‬ ‫سط َْها ك ُ ّ‬
‫عنقه‪ ،‬الذي ل يستطيع بسطها‪َ) .‬ول ت َب ْ ُ‬
‫من اليممة ‪ (29‬يقممول‪ :‬ول تبسممطها بالعطيممة كممل البسممط‪ ،‬فتبقممى ل‬
‫مُلوممما ً‬
‫شيء عندك‪ ،‬ول تجد إذا سئلت شيًئا تعطيه سائلك‪) .‬فَت َْقُعممد َ َ‬
‫سورًا( )السراء‪ :‬من الية ‪ (29‬يقول‪ :‬فتقعد يلومممك سممائلوك إذا‬
‫ح ُ‬
‫م ْ‬
‫َ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(3/325‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪255‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫لم تعطهم حيممن سممألوك‪ ،‬وتلمموم نفسممك علممى السممراع فممي مالممك‬
‫وذهابه)‪.(1‬‬
‫ومما يدل علــى الوســطية فــي النفقــة قمموله ‪ -‬تعممالى ‪:-‬‬
‫ما آَتاهُ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ه فَل ْي ُن ِْفقْ ِ‬
‫م ّ‬ ‫ن قُدَِر عَل َي ْهِ رِْزقُ ُ‬
‫م ْ‬
‫سعَت ِهِ وَ َ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫سعَةٍ ِ‬ ‫)ل ِي ُن ِْفقْ ُ‬
‫ذو َ‬
‫ه ن َْفسما ً إ ِّل َ‬
‫ممما آَتاهَمما( )الطلق‪ :‬مممن اليممة ‪ .(7‬وهممذا مممن‬ ‫ف الل ّ ُ‬
‫ل ي ُك َل ّ ُ‬
‫الوسطية النسبية التي يراعى فيها حال المنفق‪ ،‬وممما جممرت العممادة‬
‫به ونحو ذلك‪.‬‬
‫در النفقممة بحسممب الحالممة مممن المنِفممق‪،‬‬
‫قال القرطبي‪ :‬فتق م ّ‬
‫والحاجة من المنَفق عليه بالجتهاد على مجرى حياة العادة‪ ،‬فينظممر‬
‫المفتي إلى قدر حاجة المنَفق عليه‪ ،‬ثممم ينظممر إلممى حالممة المنَفممق‪،‬‬
‫فإن احتملت الحالة أمضاها عليممه‪ ،‬وإن اقتصممرت حممالته علممى حالممة‬
‫دها إلى قدر احتماله)‪.(2‬‬
‫المنفق عليه ر ّ‬
‫حا جلّيا في الجمع‬
‫من خلل ما سبق ظهر لنا منهج الوسطية واض ً‬
‫والكسب‪ ،‬وإنفاق المال‪.‬‬
‫لفممراط والتفريممط‪،‬‬ ‫ت اليممات السممابقة علممى النهممي علممى ا ِ‬ ‫ودل م ّ‬
‫ووجوب اللتزام بالمنهج الوسط‪ ،‬وجممماع ذلممك قممول اللممه العظيممم‪،‬‬
‫وام مًا(‬ ‫)وال ّذين إ َ َ‬
‫ن ذ َل ِم َ‬
‫ك قَ َ‬ ‫ن ب َي ْم َ‬ ‫سرُِفوا وَل َم ْ‬
‫م ي َْقت ُمُروا وَك َمما َ‬ ‫ذا أن َْفُقوا ل َ ْ‬
‫م يُ ْ‬ ‫َ ِ َ ِ‬
‫)الفرقان‪ .(67:‬ومن أصدق من الله قيل‪.‬‬
‫ومما سبق في تقرير وسطية السمملم فممي جمممع المممال وكسممبه‬
‫وإنفمماقه يّتضممح انحممراف كممل مممن المنهممج الرأسمممالي والمنهممج‬
‫الشتراكي)‪.(3‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(15/76‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(18/170‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬الوسطية في السلم د‪ /‬زيد الزيد ص )‪.(56‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪256‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫فالنظام الرأسمالي يقوم على حرية الفرد في عمل ما يروق لممه‬


‫من العمال التجارية‪.‬‬
‫فهي تعنــي حريــة الســتثمار‪ ،‬وحريممة الفممرد فممي التملممك‪،‬‬
‫الحرية المطلقة‪ ،‬فهو حمّر فممي البحممث عممن الربممح بشممتى الوسممائل‬
‫والطرق‪.‬‬
‫دها ضابط أو قيد‪ ،‬حتى‬
‫س‪ ،‬ول يح ّ‬
‫دسة‪ ،‬ل تم ّ‬‫والملكية الفردية مق ّ‬
‫دت هذه الملكية لحتكار المالك للسلعة‪.‬‬ ‫لو أ ّ‬
‫إن هممذه الحريممة بممل هممذه الفوضمموية المطلقممة ‪ -‬كممان لهمما نتممائج‬
‫عكسية على المجتمع‪ ،‬حيث أوقدت نار الحتكار والنانية الفردية‪.‬‬
‫ولت الحياة القتصادية إلى شممريعة غمماب‪ ،‬يأكممل فيهمما‬
‫وبالتالي تح ّ‬
‫القوي الضعيف‪.‬‬
‫وأّدى هذا إلى تكدس رءوس الممموال فممي يممد طبقممة معينممة مممن‬
‫أصحاب رءوس الموال‪ ،‬ويقابلهم طبقة العمال الذين ل حممول لهممم‬
‫وة‪.‬‬
‫ول ق ّ‬
‫ويقابل المنهج الرأسمممالي المنهممج الشممتراكي‪ ،‬حيممث قممام علممى‬
‫فكممرة وفلسممفة انتقمال السميطرة علممى الممال مممن أيمدي أصمحاب‬
‫رءوس الموال إلى أيدي الطبقة العاملة‪ .‬حيث قامت علممى أسممس‬
‫من أبرزها‪:‬‬
‫‪ -1‬إلغــاء الملكيــة الفرديــة‪ ،‬وتممأميم الممتلكممات التجاريممة‬
‫والصناعية‪ ،‬بدعوى مصلحة الجميع‪ ،‬والفممراد يممؤدون أعمممال للدولممة‬
‫نظير أجور متساوية‪.‬‬
‫‪ -2‬توزيع السلع والمنتوجات الستهلكية كل وفق حاجته‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪257‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫فالقتصمماد الشممتراكي يعتمممد علممى ‪ -‬دعمموى ‪ -‬تغليممب مصمملحة‬


‫المجتمع‪ ،‬ويجعل الدولة مالكة لكممل شمميء‪ ،‬وموجهممة للقتصمماد‪ ،‬فل‬
‫يكاد يوجه للفراد حقوق تذكر‪ ،‬من التملك والتنقل أو اختيار العمل‪،‬‬
‫فأفقر الغني ولم ُيغن الفقير‪.‬‬
‫وبهذا فإن فممي هممذين النظممامين يتمثممل الفممراط والتفريممط فممي‬
‫أبشع صورة‪.‬‬
‫لسلم ‪ -‬فكما سبق بيان منهج القرآن في ذلك ‪ -‬يختلف عن‬ ‫ما ا ِ‬
‫أ ّ‬
‫هذين النظامين اختلًفا جذرّيا‪.‬‬
‫ة المجتمع في وقممت واحممد‪ ،‬فهممو‬
‫فهو آخذ بمصلحة الفرد ومصلح َ‬
‫يحترم الملكية الفردية ويقّرها‪ ،‬لنها توافق الفطرة النسانية‪ ،‬ولكنه‬
‫ل يقّرها مطلقة من كل قيودها‪ ،‬بل جعل لها ضمموابط وقيممود تحممول‬
‫دون العتداء على مصلحة المجتمع‪ ،‬وكذلك يحترم مصلحة المجتمع‬
‫دون التعدي على مصلحة الفرد‪.‬‬
‫لرث والوصممية والزكمماة والصممدقة وغيممر ذلممك مممن وجمموه‬
‫ففيممه ا ِ‬
‫النفاقُ المشروعة‪.‬‬
‫ش وغيرهمما مممن وجمموه الكتسمماب‬
‫كما حّرم الحتكار والّربمما والغم ّ‬
‫المحّرمة )‪.(1‬‬
‫وبهذا تحّققت الوسطّية في أبهى صورها‪ ،‬الوسطية الممتي توافممق‬
‫ق‬ ‫ل لِ َ ْ‬ ‫س عَل َي َْها ل ت َب ْ ِ‬
‫دي َ‬ ‫ت الل ّهِ ال ِّتي فَط ََر الّنا َ‬ ‫الفطرة وتنميها‪) :‬فِط َْر َ‬
‫خل ِ‬
‫ك الدين ال َْقيم ول َكن أ َ‬
‫ن( )الروم‪ :‬من الية‬ ‫س ل ي َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ِ‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ث‬‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ّ ُ َ ِ ّ‬ ‫ّ ُ‬ ‫الل ّهِ ذ َل ِ َ‬
‫‪.(30‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬الوسطية في السلم د‪ /‬زيد الزيد ص )‪ (56‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪258‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫مطالب النفس وشهواتها‬


‫ن‬
‫مم َ‬ ‫ت ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫ب ال ّ‬
‫ش مه َ َ‬ ‫حم ّ‬‫س ُ‬ ‫ن ِللن ّمما ِ‬ ‫قال الله ‪ -‬سبحانه وتعممالى ‪ُ) :-‬زي ّم َ‬
‫ل‬ ‫ضمةِ َوال ْ َ‬
‫خي ْم ِ‬ ‫ب َوال ِْف ّ‬ ‫ن المذ ّهَ ِ‬ ‫مم َ‬ ‫مَقن ْط َمَرةِ ِ‬‫طيرِ ال ْ ُ‬
‫ن َوال َْقن َمما ِ‬ ‫ساِء َوال ْب َِني َ‬ ‫الن ّ َ‬
‫ن‬‫س ُ‬‫ح ْ‬ ‫عن ْد َهُ ُ‬ ‫ه ِ‬‫حَياةِ الد ّن َْيا َوالل ّ ُ‬‫مَتاعُ ال ْ َ‬‫ك َ‬‫ث ذ َل ِ َ‬‫حْر ِ‬‫مةِ َواْل َن َْعام ِ َوال ْ َ‬ ‫سو ّ َ‬‫م َ‬‫ال ْ ُ‬
‫ب( )آل عمران‪.(14:‬‬ ‫مآ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫قال سيد قطب‪ :‬صياغة الفعل للمجهول ‪ -‬هنا ‪ -‬تشير إلممى أن‬
‫من هذا الميممل‪ ،‬فهممو محب ّممب ومزيممن‪ ،‬وهممذا‬ ‫تركيبهم الفطري قد تض ّ‬
‫لنسممان هممذا الميممل إلممى هممذه‬
‫تقرير للواقع من أحد جممانبيه‪ ،‬ففممي ا ِ‬
‫الشهوات‪ ،‬وهو جزء من تكمموينه الصمميل‪ ،‬ل حاجممة إلممى إنكمماره‪ ،‬ول‬
‫إلى استنكاره في ذاته‪ ،‬فهو ضروري للحيمماة البشممرية‪ ،‬كممي تتأصممل‬
‫وتنمو وتطرد)‪.(1‬‬
‫وقال رشيد رضا بعممد أن بيممن اختلف المفسممرين فممي إسممناد‬
‫التزيين في هذا المقام‪ ،‬فأسنده بعضهم إلى اللممه‪ ،‬وأسممنده بعضممهم‬
‫إلى الشمميطان‪ .‬قممال‪ :‬وغفممل الجميممع عممن كممون الكلم فممي طبيعممة‬
‫البشر‪ ،‬وبيان حقيقة المر في نفسه‪ ،‬ل في جزئياته‪ ،‬وأفراد وقائعه‪،‬‬
‫فالمراد أن الله ‪ -‬تعمالى ‪ -‬أنشمأ النماس علمى همذا وفطرهمم عليمه‪،‬‬
‫ومثل هذا ل يجوز إسناده إلى الشيطان بحال‪ ،‬وإّنما يسممند إليممه ممما‬
‫حمما‪،‬‬
‫قد يعد ّ هو من أسبابه‪ ،‬كالوسوسة التي تزيممن للنسممان عمل قبي ً‬
‫ولذلك لم يسند إليه القرآن إل تزيين العمال‪ ،‬قممال ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬وَإ ِذ ْ‬
‫طا َ‬
‫ن‬ ‫مال َهُ ْ‬
‫م( )النفال‪ :‬من اليممة ‪ (48‬وقممال‪) :‬وََزي ّم َ‬ ‫شي ْ َ ُ‬
‫ن أعْ َ‬ ‫ن ل َهُ ُ‬
‫م ال ّ‬ ‫َزي ّ َ‬
‫مُلو َ‬
‫ن( )النعام‪ :‬من الية ‪.(43‬‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ُ‬ ‫ل َهُ ُ‬
‫م ال ّ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(1/373‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪259‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ما الحقائق وطبائع الشممياء فل تسممند إل ّ إلممى الخممالق الحكيممم‪،‬‬ ‫وأ ّ‬


‫ة ل َهَمما‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫الذي ل شممريك لممه‪ ،‬قممال ‪) ‬إ ِن ّمما َ‬
‫ض ِزين َم ً‬ ‫جعَل ْن َمما َ‬
‫ممما عَلممى الْر ِ‬
‫ل( )الكهف‪.(1)(7:‬‬ ‫م ً‬ ‫ل ِنبل ُوهُم أ َيه َ‬
‫ن عَ َ‬
‫س ُ‬
‫ح َ‬‫مأ ْ‬‫َْ َ ْ ُّ ْ‬
‫وبعد أن تّقررت هذه الحقيقة‪ :‬وهي أن الميل إلى شهوات الممدنيا‬
‫أمر فطري مركوز في خلق النسان‪ ،‬فإن الناس أمام هذه الحقيقة‬
‫طرفان ووسط‪.‬‬
‫فهناك من وقف أمام هذا الميل موقًفا مغالًيا‪ ،‬فحّرم على نفسممه‬
‫الطيبات وغيرها‪ ،‬ومنعها من الملّذ‪ ،‬وممما ُفطممرت عليممه مممن الممزواج‬
‫والمال وأطايب الملبس والمآكل‪ ،‬وهؤلء يمثلهممم رهبممان النصممارى‬
‫وغلة الصوفية‪ ،‬وابتدع النصارى رهبانية قاسية على النفممس‪ ،‬تحممرم‬
‫الزواج‪ ،‬وتكبت الغرائز‪ ،‬وترفض كل أشكال الزينة‪ ،‬وطيبات الممرزق‪،‬‬
‫جمما‬
‫سا من عمل الشيطان‪ ،‬وأصبح هذا النمممزوع مممذهًبا رائ ً‬
‫وتراها رج ً‬
‫)‪.(2‬‬
‫فهممؤلء رأوا الجسممد سممجًنا للممروح‪ ،‬يحممول بينهمما وبيممن أشممواقها‬
‫العالية‪ ،‬وشفافيتها السامية‪ ،‬فاخترعوا الرياضيات الروحيممة الشمماقة‪،‬‬
‫وله إلممى شممبح هزيممل‪،‬‬
‫التي تقوم على إرهاق الجسممد وتعممذيبه‪ ،‬وتحم ّ‬
‫يسممكن المغمماور والمقممابر والكهمموف‪ ،‬وينفممر مممن كممل الصمملت‬
‫لنسانية)‪.(3‬‬
‫ا ِ‬
‫وهؤلء أفرطوا وغلوا‪ ،‬وخرجوا عن سواء السبيل‪.‬‬
‫والطممرف المقابممل لهممؤلء‪ ،‬هممم الممذين انسمماقوا وراء شممهوات‬
‫ي‬
‫ممما هِ م َ‬
‫أنفسهم‪ ،‬واعتبروا الحياة الدنيا هي الغاية والنهاية‪ ،‬وقالوا‪َ ) :‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(3/239‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي ص )‪ ،(186‬والوسطية في السلم ص )‪.(42‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬المسلمون بين التشديد والتيسير للعودة ص ‪ ،13‬والوسطية في السلم ص ‪.44‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪260‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ما ي ُهْل ِك َُنا إ ِّل الد ّهُْر( )الجاثمية‪ :‬من اليممة‬


‫حَيا وَ َ‬
‫ت وَن َ ْ‬
‫مو ُ‬
‫حَيات َُنا الد ّن َْيا ن َ ُ‬‫إ ِّل َ‬
‫‪.(24‬‬
‫فأغرقوا في الشهوات‪ ،‬وعبدوا أنفسممهم للماديممات‪ ،‬ولممم يعرفمموا‬
‫لهم هدًفا سامًيا يسعون إليمه‪ ،‬غيمر منممافع الممدنيا العاجلمة‪ ،‬ولممذائذها‬
‫الفانية‪.‬‬
‫وأصبحوا كالنعام‪ ،‬بل هم أض ّ‬
‫ل سبيل‪.‬‬
‫وهذا المنهج سقطت فيه الكثير من اليديولوجيات‪ ،‬وتبعه ملييممن‬
‫البشر‪ ،‬الذين ارتموا في أحضان النفعية الغربية المادية‪ ،‬أو سممقطوا‬
‫في مخالب المادية الماركسية‪ ،‬التي تعيممث فممي الرض فسمماًدا مممن‬
‫حيث يشعرون أو ل يشعرون‪.‬‬
‫وهؤلء فّرطوا وضّيعوا‪ ،‬وضّلوا عن سواء السبيل‪.‬‬
‫وبين هؤلء وأولئك جاء القرآن بالمنهج العدل الوسممط‪ ،‬فمماعترف‬
‫لنسان إلى تلبية فطرته‪ ،‬وتحقيق بعممض رغبمماته‪ ،‬دون حجممر‬
‫بحاجة ا ِ‬
‫أو كبت‪.‬‬
‫ولكنه لم يترك له الحبل على غاربه‪ ،‬بل وضع الضوابط والحدود‪،‬‬
‫ن له مهمة سامية يسعى إليها أشرف من الدنيا وما فيها‪.‬‬‫نأ ّ‬
‫وبي ّ‬
‫ن الن ما جاء في القرآن تجاه كل طرف‪ ،‬ثم تقريره للمنهممج‬ ‫ونبي ّ‬
‫الوسط‪.‬‬
‫ما الطرف الول وهم الذين غلمموا وأفرطمموا‪ ،‬فقممد جمماءت بعممض‬ ‫أ ّ‬
‫ل‬‫اليات التي ترد ّ هذا المنهج وتبين انحرافه‪ ،‬فقممال ‪ -‬سممبحانه ‪) :-‬قُم ْ‬
‫ي‬
‫ل هِم َ‬‫ق قُ م ْ‬
‫ن المّرْز ِ‬
‫م َ‬ ‫ج ل ِعَِبادِهِ َوالط ّي َّبا ِ‬
‫ت ِ‬ ‫ة الل ّهِ ال ِّتي أ َ ْ‬
‫خَر َ‬ ‫م ِزين َ َ‬
‫حّر َ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫َ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪261‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ت‬‫ل اْليا ِ‬ ‫ص ُ‬
‫ك ن َُف ّ‬ ‫مةِ ك َذ َل ِ َ‬ ‫م ال ِْقَيا َ‬ ‫ة ي َوْ َ‬ ‫ص ً‬ ‫خال ِ َ‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا َ‬ ‫مُنوا ِفي ال ْ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ِل ّ ِ‬
‫ن( )العراف‪.(32:‬‬ ‫مو َ‬ ‫ل َِقوْم ٍ ي َعْل َ ُ‬
‫ما‬‫من َْها وَ َ‬‫ما ظ َهََر ِ‬ ‫ش َ‬ ‫ح َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ي ال َْف َ‬ ‫م َرب ّ َ‬ ‫حّر َ‬ ‫ما َ‬ ‫ل إ ِن ّ َ‬ ‫وقال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬قُ ْ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫ل ب ِم ِ‬‫م ي ُن َمّز ْ‬‫ممما ل َم ْ‬ ‫كوا ب ِممالل ّهِ َ‬ ‫ش مرِ ُ‬ ‫ن تُ ْ‬ ‫حقّ وَأ ْ‬ ‫ي ب ِغَي ْرِ ال ْ َ‬ ‫م َوال ْب َغْ َ‬ ‫ن َواْل ِث ْ َ‬ ‫ب َط َ َ‬
‫َ‬
‫ن( )العراف‪.(33:‬‬ ‫مو َ‬ ‫ما ل ت َعْل َ ُ‬ ‫ن ت َُقوُلوا عََلى الل ّهِ َ‬ ‫طانا ً وَأ ْ‬ ‫سل ْ َ‬‫ُ‬
‫حلل ً ط َّيبمًا( )البقممرة‪:‬‬ ‫مممما فِممي اْل َ‬ ‫س ك ُل ُ‬ ‫وقال‪) :‬يا أ َ‬
‫ض َ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫موا‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ها‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫من الية ‪.(168‬‬
‫َ‬
‫ش مك ُُروا‬ ‫م َوا ْ‬ ‫ما َرَزقْن َمماك ُ ْ‬ ‫ت َ‬ ‫ن ط َي َّبا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مُنوا ك ُُلوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫وقال‪َ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن( )البقرة‪.(172:‬‬ ‫دو َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م إ ِّياهُ ت َعْب ُ ُ‬ ‫ل ِل ّهِ إ ِ ْ‬
‫ة الل ّم ِ‬
‫ه‬ ‫م ِزين َ َ‬
‫حّر َ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫قال ابن كثير في قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬قُ ْ‬
‫ل َ‬
‫ق( )العراف‪ :‬من الية ‪.(32‬‬ ‫ن الّرْز ِ‬
‫م َ‬ ‫ج ل ِعَِبادِهِ َوالط ّي َّبا ِ‬
‫ت ِ‬ ‫خَر َ‬ ‫ال ِّتي أ َ ْ‬
‫دا على من حّرم شيًئا من المآكل والمشارب أو‬
‫يقول ‪ -‬تعالى ‪ -‬ر ّ‬
‫الملبس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله‪ ،‬قل يا محمد لهؤلء‬
‫حرمون بآرائهم الفاسممدة وابتممداعهم‪:‬‬ ‫المشركين الذين يحرمون ما ي ُ ّ‬
‫ه( )العراف‪ :‬من اليممة ‪(32‬‬ ‫ج ل ِعَِبادِ ِ‬
‫خَر َ‬‫ة الل ّهِ ال ِّتي أ َ ْ‬
‫م ِزين َ َ‬
‫حّر َ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫)قُ ْ‬
‫ل َ‬
‫أي‪ :‬هممي مخلوقممة لمممن آمممن بممالله وعبممده فممي الحيمماة الممدنيا‪ ،‬وإن‬
‫شركهم فيها الكفار حبا ً في الدنيا‪ ،‬فهي لهم خاصة يمموم القيامممة‪ ،‬ل‬
‫يشركهم فيها أحد من الكفار)‪.(1‬‬
‫ي‬
‫م َرب ّم َ‬
‫ح مّر َ‬
‫ممما َ‬ ‫وقال الطبري في قوله ‪ -‬تعـالى ‪) :-‬قُ م ْ‬
‫ل إ ِن ّ َ‬
‫ن( )العراف‪ :‬من الية ‪.(33‬‬ ‫ما ب َط َ َ‬ ‫ما ظ َهََر ِ‬
‫من َْها وَ َ‬ ‫ش َ‬
‫ح َ‬ ‫ال َْف َ‬
‫وا ِ‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(2/211‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪262‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫قممل يمما محمممد لهممؤلء‬ ‫يقول الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬ذكره لنبيه محمد‪ ،‬‬
‫المشركين الذين يتجّردون من ثيممابهم للطممواف بممالبيت‪ ،‬ويحرمممون‬
‫أكل طيبات ما أحل الله لهم من رزقه‪ ،‬أّيها القوم إن الله لم يحممّرم‬
‫حل ذلك لعباده المؤمنين وطّيبه لهممم‪ ،‬وإّنممما حممرم‬
‫ما تحرمونه‪ ،‬بل أ ّ‬
‫ي القبائح من الشياء‪ ،‬وهي الفواحش‪ ،‬ما ظهر منها فكان علنية‪،‬‬ ‫رب ّ‬
‫وما بطن منها فكان سّرا في خفاء‪.‬‬
‫َ‬
‫ن ت َُقوُلوا عََلى الّلممهِ َ‬
‫ممما‬ ‫ثم فسّر ‪ -‬قوله تعالى ‪ -‬في آخر الية‪) :‬وَأ ْ‬
‫ن( )العراف‪ :‬من اليممة ‪ (33‬فقممال‪ :‬يقممول وأن تقولمموا‪ :‬إن‬ ‫ل ت َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬
‫الله أمركم بالتعري والتجرد للطواف بالبيت‪ ،‬وحرم عليكم أكل هذه‬
‫النعام الممتي حرمتموهمما وسمميبتموها‪ ،‬وجعلتموهمما وصممائل وحمموامي‪،‬‬
‫وغيممر ذلممك مممما ل تعلمممون أن اللممه حرمممه‪ ،‬أو أمممر بممه أو أبمماحه‪،‬‬
‫فتضيفوا إلى الله تحريمه وحظره والمر به‪.‬‬
‫فإن ذلك ‪ -‬أي هذا القول ‪ -‬هو الذي حرمممه اللممه عليكممم دون ممما‬
‫تزعمون أن الله حرمه‪ ،‬أو تقولممون إن اللممه أمركممم بممه‪ ،‬جهل ً منكممم‬
‫بحقيقة ما تقولون‪ ،‬وتضيفونه إلى الله)‪.(1‬‬
‫م‬ ‫ح مّر َ‬
‫ن َ‬
‫مم ْ‬ ‫وقال رشيد رضا مفسرا ً قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬قُم ْ‬
‫ل َ‬
‫ق( )العممراف‪ :‬مممن‬ ‫ن المّرْز ِ‬
‫مم َ‬‫ت ِ‬‫ج ل ِعَِبادِهِ َوالط ّي ّب َمما ِ‬ ‫ة الل ّهِ ال ِّتي أ َ ْ‬
‫خَر َ‬ ‫ِزين َ َ‬
‫الية ‪.(32‬‬
‫حرمت العممرب فممي جاهليتهمما زينممة اللبمماس فممي الطممواف تعبممدا ً‬
‫وقربة‪ ،‬وحرم بعضهم أكل بعض الطيبات مممن الدهممان وغيرهمما فممي‬
‫حال الحرام بالحج كذلك‪ ،‬وحّرموا مممن الحممرث والنعممام ممما بّينممه ‪-‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(8/167‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪263‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫تعالى ‪ -‬في سورة النعام‪ ،‬وحّرم غيرهم من الوثنيين وأهمل الكتماب‬


‫كثيًرا من الطيبات والزينة كممذلك‪ ،‬فجمماء ديممن الفطممرة الجممامع بيممن‬
‫مصالح البشر فممي معاشممهم ومعممادهم‪ ،‬المطهممر المربممي لرواحهممم‬
‫وأجسادهم‪ ،‬ينكر هذا التحكم والظلم للنفس‪ ،‬فالستفهام في قوله‪:‬‬
‫م( )العراف‪ :‬من الية ‪ (32‬إنكاري‪ ،‬يدل علممى أن هممذا‬ ‫حّر َ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫)قُ ْ‬
‫ل َ‬
‫التحريم من وساوس الشمميطان‪ ،‬ل مممما أوحمماه ‪ -‬تعممالى ‪ -‬إلممى مممن‬
‫سبق من المرسلين)‪.(1‬‬
‫صراط المستقيم‪.‬‬ ‫وبهذا يّتضح انحراف هذا المنهج وبعده عن ال ّ‬
‫ومثلما جاءت اليات مبينة حكممم اللممه فممي هممذا الطممرف‪ ،‬جمماءت‬
‫كذلك تبين انحراف الطرف المقابل وميله عممن الحممق‪ ،‬وهممم الممذين‬
‫تركمموا العنممان لنفسممهم تعبممث كيفممما تشمماء‪ ،‬وترتممع كالنعممام فيممما‬
‫اشتهت وهوت‪ ،‬دون حسيب أو رقيب أو ضابط‪.‬‬
‫صلةَ‬ ‫خل ْ ٌ َ‬ ‫خل َ َ‬‫قال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪) :-‬فَ َ‬
‫عوا ال ّ‬ ‫ضا ُ‬ ‫فأ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ب َعْدِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ف ِ‬
‫ن غَي ًّا( )مريم‪.(59:‬‬ ‫ف ي َل َْقوْ َ‬ ‫سو ْ َ‬ ‫ت فَ َ‬ ‫وا ِ‬ ‫شه َ َ‬‫َوات ّب َُعوا ال ّ‬
‫َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ري مد ُ ال ّم ِ‬ ‫ب عَل َي ْك ُم ْ‬
‫م وَي ُ ِ‬ ‫ن ي َت ُممو َ‬ ‫ري مد ُ أ ْ‬
‫ه يُ ِ‬‫ل وعل ‪َ) :-‬والل ّم ُ‬ ‫وقال ‪ -‬ج م ّ‬
‫ظيمًا( )النساء‪.(27:‬‬ ‫َ‬
‫مي ْل ً عَ ِ‬ ‫ميُلوا َ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫تأ ْ‬ ‫وا ِ‬ ‫شه َ َ‬‫ن ال ّ‬
‫ي َت ّب ُِعو َ‬
‫ل‬ ‫ممما ت َأ ْك ُم ُ‬ ‫ن كَ َ‬
‫ْ‬
‫ن وَي َمأك ُُلو َ‬ ‫مت ّعُممو َ‬ ‫ن ك ََفمُروا ي َت َ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقممال عمّز ذكممره‪َ) :‬وال ّم ِ‬
‫َ‬
‫م( )محمد‪ :‬من الية ‪.(12‬‬ ‫مْثوىً ل َهُ ْ‬ ‫م َوالّناُر َ‬ ‫اْلن َْعا ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن(‬ ‫مممو َ‬ ‫ف ي َعْل َ ُ‬‫س مو ْ َ‬‫ل فَ َ‬ ‫مم ُ‬ ‫م اْل َ‬‫مت ّعُمموا وَي ُل ْهِهِم ُ‬ ‫م ي َمأك ُُلوا وَي َت َ َ‬‫وقال‪) :‬ذ َْرهُم ْ‬
‫)الحجر‪.(3:‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(8/387‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪264‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫َ‬
‫م فِممي‬ ‫م ط َي ّب َممات ِك ُ ْ‬
‫ن ك ََفُروا عََلى الّنارِ أذ ْهَب ْت ُ ْ‬ ‫ذي َ‬‫ض ال ّ ِ‬ ‫م ي ُعَْر ُ‬ ‫وقال‪) :‬وَي َوْ َ‬
‫ممما ك ُن ْت ُم ْ‬
‫م‬ ‫ن بِ َ‬ ‫ب ال ْهُممو ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن عَ َ‬‫جَزوْ َ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫م ب َِها َفال ْي َوْ َ‬ ‫مت َعْت ُ ْ‬
‫ست َ ْ‬ ‫حَيات ِك ُ ُ‬
‫م الد ّن َْيا َوا ْ‬ ‫َ‬
‫ض ب ِغَي ْرِ ال ْ َ‬ ‫َْ‬
‫ن( )الحقمماف‪:‬‬ ‫س مُقو َ‬ ‫م ت َْف ُ‬‫ممما ك ُن ْت ُم ْ‬
‫حقّ وَب ِ َ‬ ‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬
‫تَ ْ‬
‫‪.(20‬‬
‫ممما‬ ‫ن ي َُقو ُ‬
‫ل َرب َّنا آت َِنا ِفي ال مد ّن َْيا وَ َ‬ ‫م ْ‬
‫س َ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫وقال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬فَ ِ‬
‫م َ‬
‫ق()البقرة‪ :‬من الية ‪.(200‬‬ ‫خل ٍ‬‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫ه ِفي اْل ِ‬
‫خَرةِ ِ‬ ‫لَ ُ‬
‫دل علممى ضمملل هممؤلء وانحرافهممم‪ ،‬حيممث‬
‫فهذه اليات وأمثالها تم ّ‬
‫فّرطوا بركونهم إلى الحياة الدنيا وشهواتها‪ ،‬وتفصيل لهذا النحممراف‬
‫أذكر بعض أقوال المفسرين حول معنى هذه اليات‪.‬‬
‫ن‬
‫ن ي َت ّب ِعُممو َ‬ ‫ري مد ُ ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قال الطبري في قــوله ‪ -‬تعــالى ‪) :-‬وَي ُ ِ‬
‫ظيمًا( )النساء‪ :‬من الية ‪ (27‬يقول‪ :‬يريممد‬ ‫َ‬
‫ميُلوا َ‬
‫مي ْل ً عَ ِ‬ ‫ن تَ ِ‬
‫تأ ْ‬‫وا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫شه َ َ‬
‫ذات الدنيا وشممهوات أنفسممهم فيهمما‪ ،‬أن تميلمموا عممن‬ ‫الذين يطلبون ل ّ‬
‫أمر الله ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬فتجمموروا عنممه بإتيممانكم ممما حمّرم عليكممم‪،‬‬
‫دا‪.‬‬
‫ما‪ ،‬جوًرا وعدول عنه شدي ً‬ ‫وركوبكم معاصيه ميل عظي ً‬
‫ثم قال بعممد أن ذكممر أقمموال العلممماء فممي المممراد بالممذين يتبعممون‬
‫الشهوات‪ :‬فأولى المعاني باليممة ممما د ّ‬
‫ل عليممه ظاهرهمما دون باطنهمما‬
‫الذين ل شاهد عليه من أصل أو قياس‪.‬‬
‫وإذا كممان ذلممك كممذلك كممان داخل فممي الممذين يّتبعممون الشممهوات‪:‬‬
‫اليهود والنصارى والّزناة‪ ،‬وكل متبع باطل‪ ،‬لن كل متبع ما نهاه اللممه‬
‫عنه فمتبع شهوة نفسه)‪.(1‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(5/28‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪265‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن ك ََف مُروا‬ ‫وقــال ابــن كــثير فــي قــوله ‪ -‬تعــالى ‪َ) :-‬واّلمم ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن ك َما ت َأ ْك ُ ُ َ‬ ‫ْ‬
‫م( )محمد‪ :‬من الية ‪ .(12‬قممال‪ :‬أي‬ ‫ل اْلن َْعا ُ‬ ‫ن وَي َأك ُُلو َ َ‬
‫مت ُّعو َ‬
‫ي َت َ َ‬
‫ما‪،‬‬
‫ما وقض م ً‬
‫في دنياهم يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل النعممام خض م ً‬
‫وليس لهم همة إل ذلك‪ ،‬ولذلك ثبت في الصحيح‪  :‬المممؤمن يأكممل‬
‫د‪ ،‬والكافر يأكل في سبعة أمعاء ‪.(1) ‬‬ ‫في معي واح ٍ‬
‫َ‬
‫م ِفمي‬‫م ط َي َّبات ِك ُ ْ‬
‫وقال القرطبي في قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬أذ ْهَب ْت ُ ْ‬
‫م ب َِها( )الحقاف‪ :‬من اليممة ‪ .(20‬أي‪ :‬تمتعتممم‬ ‫مت َعْت ُ ْ‬
‫ست َ ْ‬ ‫حَيات ِك ُ ُ‬
‫م الد ّن َْيا َوا ْ‬ ‫َ‬
‫بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات‪ ،‬يعني المعاصي‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬أي أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي‪.‬‬
‫قال ابن بحر‪ :‬الطيبات‪ :‬الشباب والقمموة‪ ،‬مممأخوذ مممن قممولهم‪:‬‬
‫وته‪.‬‬
‫ذهب أطيباه‪ ،‬أي‪ :‬شبابه وق ّ‬
‫قال القرطبي‪ :‬قلت‪ :‬القول الول أظهر‪ ،‬ثم ساق الدلة علممى‬
‫لليممة وغيممره مممن السمملف‬ ‫صحة هذا القول‪ ،‬وذلك بتفسير عمر ‪‬‬
‫)‪.(2‬‬
‫خل َم َ‬
‫ف‬ ‫ضا ‪ -‬فــي قــوله ‪ -‬تعــالى ‪) :-‬فَ َ‬ ‫وقال القرطبي ‪ -‬أي ً‬
‫ت( )مريم‪ :‬من اليممة‬ ‫صلةَ َوات ّب َُعوا ال ّ‬ ‫خل ْ ٌ َ‬
‫وا ِ‬
‫شه َ َ‬ ‫عوا ال ّ‬
‫ضا ُ‬
‫فأ َ‬ ‫م َ‬
‫ن ب َعْدِهِ ْ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬
‫هو مممن بنممي المشمميد‪ ،‬وركممب المنظممور‪ ،‬ولبممس‬ ‫‪ (59‬عن علي‪ ،‬‬
‫المشهور‪.‬‬
‫قلممت ‪ -‬أي القرطممبي ‪ :-‬الشممهوات عبممارة عممما يوافممق النسممان‪،‬‬
‫حّفممت الجن ّممة بالمكمماره‪،‬‬ ‫‪‬‬ ‫يشتهيه ويلئمه ول يتقيه‪ ،‬وفي الصممحيح‪:‬‬
‫وحّفت النار بالشهوات ‪.(3)‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪ (4/175‬والحديث أخرجه البخاري )‪.(6/200‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(16/200‬‬

‫حجبت الجنة بالمكاره"‪.‬‬


‫حجبت النار بالشهوات و ُ‬
‫ضا )‪ (7/186‬عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ " ُ‬
‫‪ - 3‬أخرجه مسلم )‪ (4/2174‬رقم )‪ (2822‬وهو عند البخاري أي ً‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪266‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫جزء من هذا)‪.(1‬‬ ‫وما ذكر عن علي ‪‬‬


‫وأختم أقوال المفســرين بمــا قــاله ســيد فــي تفســير‬
‫َ‬
‫م‬
‫مت َعْت ُ ْ‬
‫س مت َ ْ‬ ‫حي َممات ِك ُ ُ‬
‫م ال مد ّن َْيا َوا ْ‬ ‫م ط َي َّبات ِك ُ ْ‬
‫م ِفي َ‬ ‫قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬أذ ْهَب ْت ُ ْ‬
‫ب ِهَمما( )الحقمماف‪ :‬مممن اليممة ‪ (20‬قممد كممانوا يملكممون الطيبممات إذن‪،‬‬
‫دخروا للخرة منهمما شمميًئا‪،‬‬
‫ولكنهم استنفذوها في الحياة الدنيا‪ ،‬فلم ي ّ‬
‫واستمتعوا بها غير حاسبين فيها للخرة حساًبا‪.‬‬
‫استمتعوا بها استمتاع النعام للحصول علممى اللممذة بالمتمماع‪ ،‬غيممر‬
‫ناظرين فيها للخرة‪ ،‬ول شاكرين لله نعمته‪ ،‬ول متورعين فيهمما عممن‬
‫م كانت لهم دنيا ولم تكن لهم آخرة )‪.(2‬‬ ‫فاحش أو حرام‪ ،‬ومن ث ّ‬
‫ن التفريممط مممذموم‪،‬‬
‫وهذه اليات وكلم المفسرين حولها بّينممت أ ّ‬
‫وعاقبته وخيمة‪ ،‬وأّنه مجافاة للطريق السوي‪ ،‬والصراط المستقيم‪.‬‬
‫ددة ل لبــس فيهــا ول‬
‫وننتهي بعد ذلك إلــى نتيجــة مح ـ ّ‬
‫غمــوض‪ ،‬وهممي أن تحريممم الطيبممات وممما أح م ّ‬
‫ل اللممه لعبمماده غلممو‬
‫وإفراط‪ ،‬ومثل ذلك ‪ -‬في ال ّ‬
‫ذم ‪ -‬اتباع الشهوات وعدم منممع النفممس‬
‫ممما‪ ،‬فهممذا تفريممط‪ .‬والطريممق العممدل‬ ‫مممما تشممتهي حلل كممان أو حرا ً‬
‫دده وُتبّينه اليات التالية‪:‬‬ ‫والمنهج الوسط ما بين ذلك‪ ،‬وهو ما تح ّ‬
‫جدٍ وَك ُل ُمموا‬
‫سم ِ‬
‫م ْ‬ ‫عن ْمد َ ك ُم ّ‬
‫ل َ‬ ‫ذوا ِزين َت َك ُم ْ‬
‫م ِ‬ ‫خ ُ‬‫م ُ‬
‫قال ‪ -‬تعالى ‪َ) :-‬يا ب َِني آد َ َ‬
‫ن( )العممراف‪ .(31:‬فهممذه‬
‫سرِِفي َ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫سرُِفوا إ ِن ّ ُ‬
‫ه ل يُ ِ‬ ‫َوا ْ‬
‫شَرُبوا َول ت ُ ْ‬
‫من أوضح اليات دللة على المراد‪ ،‬حيث حددت معالم هذا المنهممج‪،‬‬
‫فلباس الزينة مشروع‪ ،‬ومثل ذلك الكل والشرب مما أباح الله‪ ،‬ولو‬
‫كان فيه زيادة على الحاجة والضرورة‪ ،‬ولكن المنهي عنمه أن يكممون‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(11/125‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(6/3264‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪267‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫هناك إسراف وتبممذير‪ ،‬سمواء كممان السممراف فممي النمموع أو الكممم أو‬
‫العادة‪.‬‬

‫وما أجمل ما قاله القرطبي في هممذا البمماب‪ ،‬حيممث قممال‪ :‬والممذي‬


‫يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه‪ :‬على المرء أن يأكل ما وجد‪ ،‬طيًبمما‬
‫كان أو قفاًرا‪ ،‬ول يتكّلف الطيب ويتخذه عادة‪ ،‬وقد كممان النممبي‪ ،‬‬
‫يشممبع إذا وجممد‪ ،‬ويصممبر إذا عممدم‪ ،‬ويأكممل الحلمموى إذا قممدر عليهمما‪،‬‬
‫ويشرب العسل إذا اتفق له‪ ،‬ويأكل اللحم إذا تيسر‪ ،‬ول يعتمد أصل‪،‬‬
‫معلومممة‪ ،‬وطريقممة الصممحابة‬ ‫ول يجعلممه ديممدًنا‪ ،‬ومعيشممة النممبي‪ ،‬‬
‫منقولة)‪.(1‬‬
‫م(‬‫ذوا ِزين َت َك ُم ْ‬ ‫خم ُ‬‫م ُ‬ ‫وقال الطبري في هذه اليــة‪) :‬ي َمما ب َن ِممي آد َ َ‬
‫جدٍ‬‫سم ِ‬‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عن ْمد َ ك ُم ّ‬‫)العراف‪ :‬من الية ‪ (31‬من الكسمماء واللبمماس‪ِ ) ،‬‬
‫وَك ُُلوا( )العراف‪ :‬من الية ‪ (31‬من طيبات ما رزقتكم وحللته لكممم‪،‬‬
‫)َوا ْ‬
‫شَرُبوا( )العراف‪ :‬من الية ‪ (31‬ممن حلل الشممربة‪ ،‬ول ُتحّرمموا‬
‫إل ما حّرمت عليكم في كتابي‪ ،‬أو على لسان رسولي محمد‪. ،‬‬
‫ثم قال‪ :‬عن ابن عباس قال‪ :‬أح ّ‬
‫ل الله الكل والشرب ما لم يكن‬
‫سرًفا أو مخيلة‪.‬‬
‫ن(‬
‫سممرِِفي َ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫حمم ّ‬
‫ه ل يُ ِ‬
‫وروي عممن ابممن عبمماس فممي قمموله‪) :‬إ ِّنمم ُ‬
‫)العراف‪ :‬من الية ‪.(31‬‬
‫قال‪ :‬في الطعام والشراب‪.‬‬
‫وقال السدي‪ :‬ل تسرفوا في التحريم‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(16/202‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪268‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ما‪ ،‬ذلك السراف‪.‬‬


‫وقال ابن زيد‪ :‬ل تأكلوا حرا ً‬
‫ن( )العراف‪ :‬من اليممة ‪ (31‬يقممول‪:‬‬‫سرِِفي َ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ح ّ‬
‫ه ل يُ ِ‬
‫وقوله‪) :‬إ ِن ّ ُ‬
‫ده‪ ،‬في حلل أو حرام‪ ،‬الغالين فيما أح ّ‬
‫ل‬ ‫إن الله ل يحب المتعدين ح ّ‬
‫الله أو حّرم بإحلل الحرام‪ ،‬وبتحريم الحلل‪ ،‬ولكنمه يجمب أن ُيحّلمل‬
‫ل ويحّرم ما حّرم‪ ،‬وذلك العدل الذي أمر به)‪.(1‬‬ ‫ما أح ّ‬
‫وقال ابن كثير‪ :‬قال بعض السلف‪ :‬جمع الله الطممب كلممه فممي‬
‫سرُِفوا( )العممراف‪ :‬مممن اليممة ‪(31‬‬ ‫نصف الية‪) :‬وَك ُُلوا َوا ْ‬
‫شَرُبوا َول ت ُ ْ‬
‫وقال البخاري قال ابن عباس‪ :‬كل ما شممئت والبممس ممما شممئت‪ ،‬ممما‬
‫أخطأتك خصلتان‪ :‬سرف ومخيلة)‪.(2‬‬
‫ومن الدلة على الوسطية والعتدال في مطالب النفممس قمموله ‪-‬‬
‫حلل ً ط َّيبما ً َول ت َت ّب ُِعموا‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫ض َ‬
‫مما ِفمي الْر ِ‬ ‫س ك ُُلموا ِ‬
‫م ّ‬ ‫تعالى ‪َ) :-‬يا أي َّها الّنما ُ‬
‫ن( )البقرة‪ .(168:‬فقوله‪) :‬ك ُُلوا(‬ ‫مِبي ٌ‬
‫م عَد ُوّ ُ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬
‫ن إ ِن ّ ُ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ِ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫خط ُ َ‬
‫وا ِ‬ ‫ُ‬
‫هم مممن التحريممم جهل أو‬ ‫)البقرة‪ :‬من الية ‪ (168‬إباحة لما قممد يتممو ّ‬
‫ن( )البقرة‪ :‬من الية ‪(168‬‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ِ‬ ‫ت ال ّ‬‫وا ِ‬ ‫خط ُ َ‬‫وا‪ .‬وقوله‪َ) :‬ول ت َت ّب ُِعوا ُ‬ ‫غل ّ‬
‫نهى عن الحرام‪ ،‬والسراف حرام‪ ،‬فهو منهي عنه‪.‬‬
‫قال الطبري في الية‪ :‬يا أيها الناس كلمموا مممما أحللممت لكممم‬
‫فطيبتممه لكممم‪ ،‬مممما‬ ‫من الطعمممة علممى لسممان رسممولي محمممد‪ ،‬‬
‫تحرمونه على أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل‪ ،‬وممما أشممبه‬
‫ذلك‪ ،‬مما لم أحّرمه عليكم‪ ،‬دون ممما حّرمتممه عليكممم مممن المطمماعم‬
‫والمآكل فنجسته؛ من ميتة ودم ولحم خنمزير‪ ،‬وما ُأهممل بممه لغيممري‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(8/162‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪ .(2/210‬وصحيح البخاري )‪.(7/33‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪269‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ودعوا خطوات الشميطان المذي يموبقكم فيهلككمم ويموردكم مموارد‬


‫العطب‪.‬‬
‫ثم قال بعد أن بّين أقوال العلماء في المراد بخطوات الشيطان‪:‬‬
‫وهذه القوال قريب معنى بعضها من بعممض‪ ،‬غيممر أن حقيقممة تأويممل‬
‫الكلمة هو ما بّينت من أنها ُبعممد ممما بيممن قممدميه‪ ،‬ثممم تسممتعمل فممي‬
‫جميع آثاره وطرقه على ما قد بّينت)‪.(1‬‬
‫ل َرب َّنا آت َِنا ِفممي الممد ّن َْيا‬ ‫ن ي َُقو ُ‬ ‫م ْ‬‫م َ‬‫من ْهُ ْ‬
‫ومن الدلة قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَ ِ‬
‫مما‬ ‫م ّ‬ ‫ب ِ‬‫صمي ٌ‬
‫م نَ ِ‬ ‫ك ل َهُم ْ‬ ‫ب الّنمارِ ُأول َئ ِ َ‬‫ذا َ‬ ‫عم َ‬‫ة وَقَِنا َ‬
‫سن َ ً‬
‫ح َ‬ ‫خَرةِ َ‬ ‫ة وَِفي اْل ِ‬ ‫سن َ ً‬
‫ح َ‬‫َ‬
‫ب( )البقرة‪.(202 ،201:‬‬ ‫سا ِ‬‫ح َ‬ ‫ريعُ ال ْ ِ‬
‫س ِ‬‫ه َ‬‫سُبوا َوالل ّ ُ‬ ‫كَ َ‬
‫قال ابن كثير في هذه الية‪:‬‬
‫جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا‪ ،‬وصممرفت كممل ش مّر‪ ،‬فممإن‬
‫كل الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلمموب دنيمموي‪ ،‬مممن عافيممة ودار‬
‫رحبممة‪ ،‬وزوجممة حسممنة‪ ،‬ورزق واسممع‪ ،‬وعلممم نممافع‪ ،‬وعمممل صممالح‪،‬‬
‫ومركب هّين‪ ،‬وثناء جميل‪ ،‬إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبممارات‬
‫المفسرين‪ ،‬ول منافاة بينها‪ ،‬فإنهمما كلهمما مندرجممة فممي الحسممنة فممي‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫وتوابعه‪ ،‬من‬ ‫ما الحسنة في الخرة‪ ،‬فأعلى ذلك دخول الجنة‬
‫)‪(2‬‬
‫وأ ّ‬
‫المن من الفزع الكبر في العرصات‪ ،‬وتيسير الحساب‪ ،‬وغيممر ذلممك‬
‫من أمور الخرة الصالحة‪.‬‬
‫ما النجاة من النار فهو يقتضي تيسممير أسممبابه فممي الممدنيا‪ ،‬مممن‬
‫وأ ّ‬
‫اجتناب المحارم والثام‪ ،‬وترك الشبهات والحرام)‪.(3‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(2/76‬‬

‫‪ - 2‬وأعلى منها لذة النظر إلى وجه الله الكريم‪ ،‬ولكنه ل يكون إل لمن دخل الجنة‪.‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/243‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪270‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن‬‫ذي َ‬‫ومن الدلة التي تصلح في هذا المقام قمموله ‪ -‬تعممالى ‪َ) :-‬وال ّم ِ‬
‫َ‬ ‫ظون إّل عََلى أ َزواجه َ‬
‫م َفممإ ِن ّهُ ْ‬
‫م‬ ‫مان ُهُ ْ‬
‫ت أي ْ َ‬ ‫مل َك َ ْ‬
‫ما َ‬ ‫م أو ْ َ‬‫ْ َ ِ ِ ْ‬ ‫حافِ ُ َ ِ‬ ‫م َ‬‫جه ِ ْ‬
‫م ل ُِفُرو ِ‬
‫هُ ْ‬
‫ن( )المؤمنممون‪:‬‬ ‫دو َ‬‫م ال َْعا ُ‬
‫ك هُ ُ‬ ‫ك فَُأول َئ ِ َ‬
‫ن اب ْت ََغى وََراَء ذ َل ِ َ‬ ‫ن فَ َ‬
‫م ِ‬ ‫مي َ‬ ‫مُلو ِ‬
‫غَي ُْر َ‬
‫‪.(7-5‬‬
‫قال ابن كثير في تفسـيره لليـة‪ :‬أي والممذين قممد حفظمموا‬
‫فروجهم مممن الحممرام‪ ،‬فل يقعممون فيممما نهمماهم اللمه عنهممم مممن زنمما‬
‫ولواط‪ ،‬ل يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم‪ ،‬أو ممما ملكممت‬
‫أيمانهم من السراري‪ ،‬ومن تعاطى ما أحل ّممه اللممه فل لمموم عليممه ول‬
‫ن( )المؤمنون‪ :‬من الية ‪.(1)(6‬‬ ‫مُلو ِ‬
‫مي َ‬ ‫م غَي ُْر َ‬
‫حمرج‪ ،‬ولهمذا قال‪) :‬فَإ ِن ّهُ ْ‬
‫ووجه الستدلل من هذه الية على منهج الوسطّية أنه أبمماح لهممم‬
‫بعممض مطممالب أنفسممهم كممالزواج والتسممري‪ ،‬وهممذا هممو الطريممق‬
‫ضمما ‪ -‬حممّرم التعممدي‬‫المشممروع لشممباع هممذه الغريممزة‪ ،‬ولكنممه ‪ -‬أي ً‬
‫والسراف والفراط والتفريط‪ ،‬وذلك بإتيان ما حرم اللممه مممن الزنمما‬
‫واللواط‪ ،‬بل والستمناء على القول الراجح من أقوال العلماء)‪.(2‬‬
‫وأختم الكلم في هذا المبحث بما قاله سيد قطب أثنمماء تفسمميره‬
‫ن‬ ‫سمماِء َوال ْب َِني م َ‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫مم َ‬ ‫ت ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫ب ال ّ‬
‫ش مه َ َ‬ ‫حم ّ‬ ‫س ُ‬‫ن ِللن ّمما ِ‬‫لقوله ‪ -‬تعالى ‪ُ) :-‬زي ّ َ‬
‫َْ‬
‫مةِ َوالن َْعممام ِ‬ ‫سو ّ َ‬‫م َ‬‫ل ال ْ ُ‬ ‫ضةِ َوال ْ َ‬
‫خي ْ ِ‬ ‫ب َوال ِْف ّ‬ ‫ن الذ ّهَ ِ‬‫م َ‬‫مَقن ْط ََرةِ ِ‬
‫طيرِ ال ْ ُ‬
‫َوال َْقَنا ِ‬
‫ب( )آل‬ ‫ممآ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫سم ُ‬‫ح ْ‬ ‫عن ْمد َهُ ُ‬ ‫ه ِ‬ ‫حَيماةِ المد ّن َْيا َوالّلم ُ‬
‫مت َمماعُ ال ْ َ‬ ‫ث ذ َِلم َ‬
‫ك َ‬ ‫حمْر ِ‬‫َوال ْ َ‬
‫عمران‪ (14:‬حيث قال‪:‬‬
‫ب شممهوات الرض إلممى‬
‫في الية واحدة يجمع السياق القرآني أح ّ‬
‫نفس النسان‪ :‬النساء والبنين والممموال المكدسممة والخيممل والرض‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(3/239‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفصيل ذلك في تفسير القرطبي )‪.(12/105‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪271‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫المخصبة والنعام‪ ،‬وهي خلصة للرغائب الرضية‪ ،‬إممما بممذاتها‪ ،‬وإممما‬


‫بما تستطيع أن توفره لصحابها من لذائذ أخرى‪.‬‬
‫ت( )آل عمممران‪ :‬مممن اليممة ‪ (14‬فهممي‬
‫وا ِ‬ ‫ب ال ّ‬
‫ش مه َ َ‬ ‫ح ّ‬
‫س ُ‬
‫ن ِللّنا ِ‬
‫)ُزي ّ َ‬
‫شهوات مستحبة مستلذة‪ ،‬وليست مستقذرة ول كريهة‪ ،‬والتعممبير ل‬
‫يدعو إلى استقذارها وكراهيتها‪ ،‬إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها‬
‫وبواعثها‪ ،‬ووضعها في مكانها ل تتعداه‪ ،‬ول تطغى على ما هممو أكممرم‬
‫في الحياة وأعلى‪.‬‬
‫وهنا يمتاز السلم بمراعاته للفطرة البشــرّية‪ ،‬وقبمموله‬
‫بواقعها‪ ،‬ومحاولة تهذيبها ورفعها‪ ،‬ل كبتها وقمعها‪ ،‬إننا نممرى السمملم‬
‫قد ضمن سلمة الكائن النساني من الصراع بيممن شممطري النفممس‬
‫البشرية‪ ،‬بين نوازع الشهوة واللممذة‪ ،‬وأشممواق الرتفمماع والتسممامي‪،‬‬
‫وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والعتدال)‪.(1‬‬
‫هذه هي الوسطية التي رسمها القرآن الكريممم فيممما يتعلممق‬
‫بمطالب النفس وشهواتها‪.‬‬
‫وهو بهــذا يمثــل الواقعيــة والحكمــة‪ ،‬ويمموازن بيممن نمموازع‬
‫النفس البشرية وحقائق العبودية وتكاليفها‪.‬‬
‫عاشًرا‪ :‬شواهد أخرى‬
‫وبعد أن ذكرت اليات التي جاءت تقّرر منهج الوسطّية في إطممار‬
‫البواب الماضية‪ ،‬فإن هناك آيات أخرى ليست داخلممة فممي أي بمماب‬
‫من البواب السابقة دخول مباشًرا‪ .‬وهممي تممد ّ‬
‫ل دللممة واضممحة علممى‬
‫هذا المنهج وتؤكده )‪.(2‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(1/373‬‬

‫‪ - 2‬قد ترد آيات يبدو منها لول وهلة دخولها تحت باب من البواب السابقة‪ ،‬ولكن عند التأمل سنجد أن هناك فرًقا في وجه الدللة آثرت معه إفرادها هنا‪ ،‬مع وجود شيء من‬

‫الشتراك هناك‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪272‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ولذلك سأذكر بعض هذه اليات دون استطراد في التفسممير‬


‫أو التعليق‪ ،‬وإنما سأكتفي بذكر الية مع الشارة إلممى وجممه الدللممة‪،‬‬
‫وذكر قول لحد المفسرين أو قولين‪ ،‬بما يؤدي الغرض ويحققه‪.‬‬
‫َ‬
‫ي أْقموَ ُ‬
‫م(‬ ‫دي ل ِل ِّتمي ِ‬
‫هم َ‬ ‫ذا ال ُْقمْرآ َ‬
‫ن ي َْهم ِ‬ ‫هم َ‬
‫ن َ‬
‫‪ -1‬قال الله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬إ ِ ّ‬
‫)السراء‪ :‬من الية ‪.(9‬‬
‫قال ابن كثير‪ :‬يمدح الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬كتممابه العزيممز الممذي أنمممزله‬
‫وهمو القمرآن بمأنه يهمدي لقموم الطمرق‪،‬‬ ‫علمى رسموله محممد‪ ،‬‬
‫وأوضح السبل)‪.(1‬‬
‫َ‬
‫م( )السراء‪ :‬مممن اليممة‬ ‫وقال القرطبي‪ :‬ومعنى )ل ِل ِّتي هِ َ‬
‫ي أقْوَ ُ‬
‫‪ (9‬أي الطريقة التي هي أسد ّ وأعدل وأصوب)‪.(2‬‬
‫وبهذا التفسير فإن الوسطّية داخلممة فممي هممذه الهدايممة مممن بمماب‬
‫أولى‪ ،‬لنها متضمّنة للعدل والستقامة‪.‬‬
‫جُزوعا ً‬ ‫ه ال ّ‬
‫شّر َ‬ ‫س ُ‬
‫م ّ‬ ‫خل ِقَ هَُلوعا ً إ ِ َ‬
‫ذا َ‬ ‫ن ُ‬ ‫سا َ‬‫ن اْل ِن ْ َ‬
‫‪ -2‬قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬إ ِ ّ‬
‫ن( )المعارج‪.(22 -19:‬‬ ‫صّلي َ‬
‫م َ‬ ‫مُنوعا ً إ ِّل ال ْ ُ‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫خي ُْر َ‬ ‫س ُ‬
‫م ّ‬ ‫وَإ ِ َ‬
‫ذا َ‬
‫قال القرطبي‪ :‬الهلع في اللغة‪ :‬أشد الحممرص‪ ،‬وأسمموأ الجممزع‬
‫وأفحشه‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬أنه ل يصبر على خير ول شّر حتى يفعل فيهممما ممما ل‬
‫ينبغي‪.‬‬
‫والمنوع‪ :‬هو الذي أصاب المال منع منه حق الله ‪ -‬تعالى ‪.-‬‬
‫سه الخير لممم يشممكر‪ ،‬وإذا‬
‫وقال أبو عبيدة‪ :‬الهلوع‪ :‬هو الذي إذا م ّ‬
‫مسه الضّر لم يصبر)‪.(3‬‬
‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(3/26‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(10/225‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(18/290‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪273‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ك أ َّل‬
‫ما عَل َي ْم َ‬ ‫َ‬ ‫‪ -3‬قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬أ َما من استغنى فَأ َ‬
‫دى وَ َ‬
‫ص ّ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ّ َ ِ ْ ََْ‬
‫ه ت َل َّهى( )عبس‪-5:‬‬ ‫َ‬ ‫جاَء َ‬ ‫َ‬ ‫ي َّز ّ‬
‫ت عَن ْ ُ‬ ‫شى فَأن ْ َ‬ ‫خ َ‬
‫سَعى وَهُوَ ي َ ْ‬
‫ك يَ ْ‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ما َ‬
‫كى وَأ ّ‬
‫‪.(10‬‬
‫قال ابن كثير مبيًنا دللتها على الوسطية‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ممما الغنممي‬
‫دى( )عبممس‪ (5،6:‬أي‪ :‬أ ّ‬ ‫صم ّ‬‫ه تَ َ‬ ‫ت ل َم ُ‬
‫ست َغَْنى فَأن ْ َ‬‫نا ْ‬‫م ِ‬‫ما َ‬ ‫)أ ّ‬
‫ك أ َّل ي َّزك ّممى( )عبممس‪ (7:‬أي‪:‬‬‫ممما عَل َي ْم َ‬ ‫فأنت تعرض له لعله يهتدي‪) ،‬وَ َ‬
‫بمطالب منه إذا لم يحصل له زكاة ‪ -‬وهي الهداية ‪.-‬‬
‫شى( )عبممس‪،8:‬م ‪ (9‬أي‪ :‬يقصممدك‬ ‫خ َ‬ ‫سَعى وَهُوَ ي َ ْ‬ ‫جاَء َ‬ ‫َ‬
‫ك يَ ْ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬‫ما َ‬‫)وَأ ّ‬
‫ه ت َل َّهمى( )عبمس‪ (10:‬أي‪:‬‬ ‫َ‬
‫ت عَْنم ُ‬ ‫ويؤمك‪ ،‬ليهتدي بما تقمول لمه‪َ) ،‬فمأن ْ َ‬
‫تتشاغل‪.‬‬
‫دا‪ ،‬بممل‬
‫ص بالنممذار أح م ً‬
‫أل يخ ّ‬ ‫ومن هنا أمر الله تعالى رسوله‪ ،‬‬
‫يسمماوي فيممه بيممن الشممريف والضممعيف‪ ،‬والفقيممر والغنممي‪ ،‬والسممادة‬
‫والعبيد‪ ،‬والرجال والنساء‪ ،‬والصغار والكبار‪ ،‬ثم الله يهدي من يشمماء‬
‫إلى صراط مستقيم‪ ،‬وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة)‪.(1‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫مم ُ‬
‫ه وَن َعّ َ‬
‫م ُ‬‫ه فَمأك َْر َ‬ ‫ما اب َْتلهُ َرب ّ ُ‬
‫ذا َ‬ ‫ن إِ َ‬ ‫ما اْل ِن ْ َ‬
‫سا ُ‬ ‫‪ -4‬قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬فَأ ّ‬
‫َ‬ ‫ل ربي أ َ‬
‫ل َرب ّممي‬ ‫ه فَي َُقممو ُ‬‫ما اب َْتلهُ فََقد ََر عَل َي ْمهِ رِْزقَم ُ‬ ‫ما إ ِ َ‬
‫ذا َ‬ ‫ن وَأ ّ‬
‫ِ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫فَي َُقو ُ َ ّ‬
‫ن( )الفجر‪.(15،16:‬‬ ‫أَ َ‬
‫هان َ ِ‬
‫وهذا المر فيه إفراط وتفريط‪ ،‬قال ابن كممثير مبين ًمما ذلممك‪،‬‬
‫حا طريق الستقامة في ذلك‪.‬‬
‫وموض ً‬
‫سممع اللممه‬
‫يقول ‪ -‬تعالى ‪ -‬منكًرا على النسممان فممي اعتقمماده إذا و ّ‬
‫عليه في الرزق ليختبره في ذلك‪ ،‬فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له‪،‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/470‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪274‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن‬ ‫َ‬
‫س مُبو َ‬
‫ح َ‬‫وليس كذلك بل هو ابتلء وامتحممان‪ ،‬كممما قممال ‪-‬تعممالى‪) :-‬أي َ ْ‬
‫م ِفمي ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫لل‬‫ت َبم ْ‬‫خْيمَرا ِ‬ ‫سمارِعُ ل َُهم ْ‬
‫ن نُ َ‬
‫ل وَب َِنيم َ‬
‫مما ٍ‬
‫ن َ‬
‫مم ْ‬
‫م ِبمهِ ِ‬
‫ممد ّهُ ْ‬
‫مما ن ُ ِ‬
‫أن ّ َ‬
‫ن( )المؤمنون‪.(56 ،55:‬‬ ‫يَ ْ‬
‫شعُُرو َ‬
‫وكذلك فممي الجممانب الخممر‪ ،‬إذا ابتله وامتحنممه وضمّيق عليممه فممي‬
‫الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له‪.‬‬
‫)ك َّل( أي ليس المر كما زعم‪ ،‬ل في هذا‪ ،‬ول في هذا‪ ،‬فممإن اللممه‬
‫ب‪ ،‬ويضيق علممى مممن يحممب‬
‫ب ومن ل يح ّ‬
‫تعالى يعطي المال من يح ّ‬
‫ب‪ ،‬وإنما المدار في ذلك علممى طاعممة اللممه فممي كممل مممن‬
‫ومن ل يح ّ‬
‫الحالين‪ ،‬إذا كان غنّيا بأن يشكر الله على ذلك‪ ،‬وإذا كان فقيمًرا بممأن‬
‫يصبر)‪.(1‬‬
‫َ‬
‫جمماَءك ُ ْ‬
‫م َفا ِ‬
‫س مقٌ ب ِن َب َمأ ٍ‬ ‫ن َ‬
‫من ُمموا إ ِ ْ‬
‫نآ َ‬ ‫‪ -5‬قال ‪ -‬تعممالى – )ي َمما أي ّهَمما ال ّم ِ‬
‫ذي َ‬
‫فَت َب َي ُّنوا( )الحجرات‪ :‬من الية ‪.(6‬‬
‫ما قبوله مطلًقمما‪ ،‬وهممذا‬
‫والموقف من الخبر إذا جاء من الفاسق إ ّ‬
‫ده مطلًقا‪ ،‬وهذا تفريط‪ ،‬فقد يصدق خبره‪ ،‬وإممما التثبممت‬ ‫إفراط‪ ،‬أو ر ّ‬
‫والتبين‪ ،‬وهذا هو الوسط وهو المشروع‪.‬‬
‫قال القرطبي‪ :‬في الية دليل على قبول خبر الواحممد إذا كممان‬
‫عدل‪ ،‬لنه إنما أمر فيها بالتثبيت عند نقل خممبر الفاسممق‪ ،‬ومممن ثبممت‬
‫فسقه بطل قوله فممي الخبممار إجماعًمما‪ ،‬لن الخممبر أمانممة‪ ،‬والفسممق‬
‫قرينة يبطلها‪ ،‬وقمد اسمتثنى الجممماع ممن ذلمك ممما يتعلمق بالمدعوى‬
‫والجحود‪ ،‬وإثبات حق مقصود على الغير )‪.(2‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/509‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(16/312‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪275‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقال ابن كــثير‪ :‬يممأمر ‪ -‬تعممالى ‪ -‬بممالتثبت فممي خممبر الفاسممق‬


‫ليحتاط له‪ ،‬لئل يحكم بقوله فيكون في نفس المممر كاذب ًمما أو مخطًئا‬
‫)‪.(3‬‬
‫هنا ً عََلممى‬ ‫ه وَ ْ‬ ‫‪ -6‬قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬ووصينا اْلنسان بوال ِديه حمل َت ُ‬
‫م ُ‬
‫هأ ّ‬ ‫ِْ َ َ ِ َ َ ْ ِ َ َ ْ ُ‬ ‫َ َ ّ َْ‬
‫عامي َ‬
‫ن‬
‫صمميُر وَإ ِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ي ال ْ َ‬ ‫ك إ ِل َم ّ‬
‫وال ِمد َي ْ َ‬‫شك ُْر ل ِممي وَل ِ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫نأ ِ‬ ‫ه ِفي َ َ ْ ِ‬ ‫صال ُ ُ‬
‫ن وَفِ َ‬ ‫وَهْ ٍ‬
‫َ‬
‫ممما‬‫م َفل ت ُط ِعْهُ َ‬ ‫عل ْم ٌ‬‫ك ب ِمهِ ِ‬ ‫س ل َم َ‬ ‫ممما ل َي ْم َ‬
‫ك ب ِممي َ‬ ‫ش مرِ َ‬‫ن تُ ْ‬ ‫ك عَل َممى أ ْ‬ ‫دا َ‬ ‫جاهَ م َ‬
‫َ‬
‫ل مم َ‬
‫ي( )لقمممان‪:‬‬ ‫ب إ ِل َم ّ‬ ‫ن أن َمما َ‬ ‫س مِبي َ َ ْ‬ ‫معُْروفا ً َوات ّب ِعْ َ‬ ‫ما ِفي الد ّن َْيا َ‬ ‫حب ْهُ َ‬‫صا ِ‬‫وَ َ‬
‫‪ (15 ،14‬والمر يدورعلى ثلثة أوجه‪:‬‬
‫إما الطاعة وحسن الصحبة والحسان‪ ،‬وإما البراء منهممما مطلًقمما‬
‫فل طاعة ول صحبة ول إحسان‪ ،‬وإمما التوسمط‪ ،‬وهمو عمدم الطاعمة‬
‫في معصية الله‪ ،‬مممع الحسممان إليهممما‪ ،‬وحسممن الصممحبة‪ ،‬وهممذا هممو‬
‫الوسط وهو المشروع‪.‬‬
‫وقريب ممن همذا المعنمى مما جماء فممي سممورة الممتحنمة‪ ،‬قممال ‪-‬‬
‫م‬‫ن وَل َم ْ‬ ‫دي ِ‬‫م فِممي ال م ّ‬ ‫م ي َُقممات ُِلوك ُ ْ‬‫ن ل َم ْ‬
‫ذي َ‬‫ن ال ّم ِ‬
‫ه عَ ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫سبحانه ‪) :-‬ل ي َن َْهاك ُ ُ‬
‫خرجوك ُم ممن ديممارك ُ َ‬
‫ب‬ ‫حم ّ‬ ‫ه يُ ِ‬‫ن الل ّم َ‬
‫م إِ ّ‬ ‫طوا إ ِل َي ْهِم ْ‬‫سم ُ‬ ‫م وَت ُْق ِ‬‫ن ت َب َّروهُم ْ‬‫مأ ْ‬ ‫ْ ِ ْ َِ ِ ْ‬ ‫يُ ْ ِ ُ‬
‫ن‬ ‫دي ِ‬‫م ِفممي المم ّ‬ ‫ن َقممات َُلوك ُ ْ‬ ‫ن اّلمم ِ‬
‫ذي َ‬ ‫عمم ِ‬‫ه َ‬‫م الّلمم ُ‬ ‫ممما ي َن َْهمماك ُ ُ‬ ‫ن إ ِن ّ َ‬‫طي َ‬ ‫سمم ِ‬ ‫مْق ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫خراجك ُم َ‬ ‫وَأ َ ْ‬
‫ن‬
‫مم ْ‬ ‫م وَ َ‬‫ن ت َوَل ّموْهُ ْ‬
‫مأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫م وَظ َمماهَُروا عَل َممى إ ِ ْ َ ِ‬ ‫ن دَِيارِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جوك ُ ْ‬
‫خَر ُ‬
‫ن( )الممتحنة‪.(9:‬‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫م فَُأول َئ ِ َ‬ ‫ي َت َوَل ّهُ ْ‬
‫والدللة في الية واضحة جلية‪.‬‬
‫‪ -7‬ومشاقة الله ورسوله خروج عن منهج الوسطّية‪ ،‬ولمذلك جماء‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ذمها في القرآن في أكثر من موضع‪ ،‬قال ‪ -‬سبحانه ‪) :-‬ذ َِلمم َ‬
‫ك ِبممأن ّهُ ْ‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/308‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪276‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ديد ُ‬
‫شم ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّم َ‬ ‫سممول َ ُ‬
‫ه ف َ مإ ِ ّ‬ ‫ق الل ّم َ‬
‫ه وََر ُ‬ ‫ن يُ َ‬
‫شمماقِ ِ‬ ‫مم ْ‬ ‫سممول َ ُ‬
‫ه وَ َ‬ ‫شاّقوا الل ّ َ‬
‫ه وََر ُ‬ ‫َ‬
‫ال ْعَقاب( )النفال‪ .(13:‬وقال‪) :‬ذ َل َ َ‬
‫ن‬ ‫ممم ْ‬ ‫سول َ ُ‬
‫ه وَ َ‬ ‫ه وََر ُ‬ ‫شاّقوا الل ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ك ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ديد ُ ال ْعَِقا ِ‬
‫ب( )الحشر‪.(4:‬‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬
‫ش ِ‬ ‫شاقّ الل ّ َ‬
‫ه فَإ ِ ّ‬ ‫يُ َ‬
‫قال سيد قطب في تفسيره للية الثانية‪ :‬والمشممماقة أن‬
‫يأخذوا لهم شّقا غير شق اللمه‪ ،‬وجانًبما غيمر جمانبه‪ ،‬وقمد جعمل اللمه‬
‫جانبه هو جانب رسوله‪  ،‬حين وصممف عل ّممة اسممتحقاقهم للعممذاب‬
‫في صدر الية‪ ،‬فاكتفى في عجزها بمشاقة الله وحده‪ ،‬فهي تشمممل‬
‫مشاقة الرسول وتتضمنها‪.‬‬
‫ثم ليقف المشاّقون في ناحية أمام الله ‪ -‬سبحانه ‪ -‬وهممو موقممف‬
‫جح قبيح‪ ،‬حين يقف المخاليق في وجه الخالق ُيشاّقونه )‪.(1‬‬ ‫فيه تب ّ‬
‫َْ‬
‫ض‬ ‫ه الّرْزقَ ل ِعَِبادِهِ ل َب َغَ ْ‬
‫وا فِممي الْر ِ‬ ‫ط الل ّ ُ‬
‫س َ‬ ‫‪ -8‬قال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وَل َوْ ب َ َ‬
‫صيٌر( )الشورى‪.(27:‬‬ ‫خِبيٌر ب َ ِ‬
‫ه ب ِعَِبادِهِ َ‬ ‫ما ي َ َ‬
‫شاُء إ ِن ّ ُ‬ ‫ل ب َِقد َرٍ َ‬ ‫وَل َك ِ ْ‬
‫ن ي ُن َّز ُ‬
‫سممعه وكث ّممره‬
‫قال الطبري‪ :‬ولو بسممط اللممه الممرزق لعبمماده‪ ،‬فو ّ‬
‫ده الله لهم إلى غير ذلك الممذي‬
‫عندهم لبغوا‪ ،‬فتجاوزوا الحد ّ الذي ح ّ‬
‫ده لهم في بلده بركمموبهم فممي الرض ممما حظممره عليهممم‪ ،‬ولكنممه‬
‫ح ّ‬
‫ينمّزل رزقهم بقدر لكفايتهم الذي يشاء منه)‪.(2‬‬
‫وقال ابن كثير‪ :‬أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الممرزق لحملهممم‬
‫ذلك على البغي والطغيان‪ ،‬من بعضهم على بعض أشًرا وبطًرا‪.‬‬
‫وقال قتادة‪ :‬كان يقال‪ :‬خير العيش ما ل يلهيك ول يطغيك )‪.(3‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(6/3522‬‬

‫‪ - 2‬انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(25/30‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/115‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪277‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ودللة هذه الية‪ :‬أن وسطّية الممرزق تممؤدي إلممى وسممطية العمممل‬
‫والعبادة‪ ،‬والفراط يؤدي إلى الفراط والتفريط‪ ،‬فأصبحت وسممطّية‬
‫الرزق مانعة من الطغيان والبغي‪.‬‬
‫لفممراط والتفريممط قمموله ‪ -‬تعممالى ‪) :-‬وَإ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫ما ِ‬ ‫ل على ذ ّ‬ ‫‪ -9‬ومما ُيد ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ذا‬‫م إِ َ‬‫ديهِ ْ‬
‫ت أي ْ ِ‬ ‫ما قَد ّ َ‬
‫م ْ‬ ‫سي ّئ َ ٌ‬
‫ة بِ َ‬ ‫م َ‬
‫صب ْهُ ْ‬
‫ن تُ ِ‬
‫حوا ب َِها وَإ ِ ْ‬‫ة فَرِ ُ‬
‫م ً‬
‫ح َ‬‫س َر ْ‬‫أذ َقَْنا الّنا َ‬
‫ن( )الروم‪ .(36:‬ومثل هممذا المعنممى قمموله ‪ -‬تعممالى ‪ -‬عممن‬ ‫م ي َْقن َ ُ‬
‫طو َ‬ ‫هُ ْ‬
‫المنافقين‪.‬‬
‫م‬‫ن َلمم ْ‬
‫ضوا وَإ ِ ْ‬ ‫من َْها َر ُ‬
‫طوا ِ‬‫ن أ ُعْ ُ‬ ‫ت فَإ ِ ْ‬
‫صد ََقا ِ‬‫ك ِفي ال ّ‬‫مُز َ‬‫ن ي َل ْ ِ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫)و َ ِ‬
‫ن( )التوبممة‪ (58:‬ثممم يممبين لهممم المنهممج‬ ‫طو َ‬‫خ ُ‬
‫سم َ‬
‫م يَ ْ‬
‫ذا هُم ْ‬ ‫من َْها إ ِ َ‬
‫وا ِ‬ ‫ي ُعْط َ ْ‬
‫َ‬
‫م الل ّم ُ‬
‫ه‬ ‫ممما آت َمماهُ ُ‬
‫ضمموا َ‬ ‫الحممق الممذي يجممب أن يسمملكوه‪) :‬وَل َموْ أن ّهُ م ْ‬
‫م َر ُ‬
‫ه إ ِن ّمما إ ِل َممى‬
‫سممول ُ ُ‬ ‫ن فَ ْ‬
‫ضل ِهِ وََر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫سي ُؤِْتيَنا الل ّ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫سب َُنا الل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ه وََقاُلوا َ‬
‫ح ْ‬ ‫سول ُ ُ‬
‫وََر ُ‬
‫ن( )التوبة‪.(59:‬‬ ‫الل ّهِ َراِغُبو َ‬
‫قال القاسمي في الية الولى‪) :‬وإ َ َ‬
‫ة( )الروم‪:‬‬ ‫م ً‬ ‫ح َ‬ ‫ذا أذ َقَْنا الّنا َ‬
‫س َر ْ‬ ‫َِ‬
‫حوا ب ِهَمما( )الممروم‪ :‬مممن‬ ‫من الية ‪ (36‬أي‪ :‬نعمة من صحة وسعة )فَرِ ُ‬
‫دا وشكًرا‪.‬‬
‫الية ‪ (36‬أي‪ :‬بطًرا وفخًرا‪ ،‬ل حم ً‬
‫ت‬‫م ْ‬‫ممما َقممد ّ َ‬‫دة )ب ِ َ‬
‫ة( )الروم‪ :‬من الية ‪ (36‬أي‪ :‬ش ّ‬ ‫سي ّئ َ ٌ‬
‫م َ‬
‫صب ْهُ ْ‬
‫ن تُ ِ‬‫)وَإ ِ ْ‬
‫م‬ ‫م( )الروم‪ :‬من الية ‪ (36‬أي‪ :‬مممن المعاصممي والثممام‪) :‬إ ِ َ‬ ‫َ‬
‫ذا هُ م ْ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫أي ْ ِ‬
‫ن( )الروم‪ :‬من الية ‪ (36‬أي‪ :‬ييأسون من روح الله‪.‬‬ ‫طو َ‬ ‫ي َْقن َ ُ‬
‫قال‪ :‬هذا إنكار على النسان من حيممث هممو‪ ،‬إل مممن عصمممه اللممه‬
‫ت‬‫س مي َّئا ُ‬ ‫ووفّقه‪ ،‬فإن النسان إذا أصابته نعمة بطممر وقممال‪) :‬ذ َهَ م َ‬
‫ب ال ّ‬
‫خمموٌر( )هممود‪ :‬مممن اليممة ‪ (10‬أي يفممرح فممي نفسممه‪،‬‬ ‫ه ل ََفرِ ٌ‬
‫ح فَ ُ‬ ‫عَّني إ ِن ّ ُ‬
‫ويفخر على غيره‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪278‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫دة قنط وأيس أن يحصل بعد ذلك خير بالكلية‪ ،‬ثممم‬


‫وإذا أصابته ش ّ‬
‫بين المنهج الوسط‪.‬‬
‫ت( )هممود‪:‬‬
‫حا ِ‬ ‫مل ُمموا ال ّ‬
‫صممال ِ َ‬ ‫صب َُروا وَعَ ِ‬
‫ن َ‬ ‫قال الله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬إ ِّل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫مممن اليممة ‪ (11‬أي‪ :‬صممبروا فممي الضممراء‪ ،‬وعملمموا الصممالحات فممي‬
‫الّرخاء‪ ،‬كما ثبت في الصحيح‪ :‬عجًبا للمؤمن‪ ،‬ل يقضي الله له قضاء‬
‫إل كان خيًرا له‪ ،‬إن أصابته سراء شكر‪ ،‬فكان خيًرا لممه‪ ،‬وإن أصممابته‬
‫ضراء صبر‪ ،‬فكان خيًرا له)‪.(1‬‬
‫وأشير إلى الية التي وردت قبل هذه الية‪ ،‬وهي تدل على فساد‬
‫مسلك من خرج عن منهج الستقامة‪ ،‬وانحراف ُيمنة وُيسرة‪ ،‬قال ‪-‬‬
‫م إِ َ‬
‫ذا‬ ‫ن إ ِل َي ْمهِ ث ُم ّ‬‫مِنيِبيم َ‬ ‫م ُ‬‫وا َرب ّهُم ْ‬ ‫ضمّر د َعَم ْ‬ ‫س ُ‬ ‫س الن ّمما َ‬‫مم ّ‬ ‫ذا َ‬ ‫سبحانه ‪) :-‬وَإ ِ َ‬
‫ن( )الروم‪.(33:‬‬ ‫كو َ‬‫شرِ ُ‬ ‫م يُ ْ‬‫م ب َِرب ّهِ ْ‬
‫من ْهُ ْ‬‫ريقٌ ِ‬ ‫ذا فَ ِ‬
‫ة إِ َ‬‫م ً‬
‫ح َ‬ ‫ه َر ْ‬‫من ْ ُ‬
‫م ِ‬ ‫أَ َ‬
‫ذاقَهُ ْ‬
‫‪ -10‬وانظر نتيجة الخروج عن منهج الوسممطية والعتممدال وشممكر‬
‫ن‬
‫م وَب َي ْم َ‬ ‫جعَل ْن َمما ب َي ْن َهُم ْ‬
‫النعمة فيما قصه الله علينا فممي هممذه اليممات‪) :‬وَ َ‬
‫سمميُروا ِفيَهمما‬ ‫سي َْر ِ‬ ‫ظاهَِرةً وَقَد ّْرَنا ِفيَها ال ّ‬‫ال ُْقَرى ال ِّتي َباَرك َْنا ِفيَها ُقرىً َ‬
‫َ‬ ‫ع مد بي م َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫س مه ُ ْ‬ ‫س مَفارَِنا وَظ َل َ ُ‬
‫ممموا أن ُْف َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ن فََقاُلوا َرب َّنا َبا ِ ْ َ ْ َ‬ ‫ي وَأّياما ً آ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ل ََيال ِ َ‬
‫فَجعل ْناهُ َ‬
‫ل‬ ‫ك َليمما ٍ‬
‫ت ل ِك ُم ّ‬ ‫ن فِممي ذ َل ِم َ‬ ‫ق إِ ّ‬‫ممّز ٍ‬‫م َ‬
‫ل ُ‬‫م ك ُم ّ‬
‫مّزقْن َمماهُ ْ‬
‫ث وَ َ‬‫حاِدي َ‬‫مأ َ‬ ‫َ َ َ ْ‬
‫ش ُ‬
‫كوٍر( )سمبأ‪.(19 ،18:‬‬ ‫صّبارٍ َ‬
‫َ‬
‫قال ابمن كمثير‪ :‬وذلمك أنهمم بطمروا همذه النعممة‪ ،‬وأحّبموا مفماوز‬
‫ومهامممة يحتمماجون فممي قطعهمما إلممى الممزاد والرواحممل والسممير‬
‫والمخاوف‪ ،‬كما طلب بنو إسرائيل من موسممى أن يخممرج اللممه لهممم‬
‫مما ُتنبت الرض‪ ،‬من بقلهمما وقّثائهمما وُفومهمما وعدسممها وبصمملها‪ ،‬مممع‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير القاسمي ص )‪ .(4780‬والحديث أخرجه مسلم )‪ .(4/2295‬رقم )‪.(2999‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪279‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ن وسلوى وما يشتهون مممن مآكممل‬ ‫أنهم كانوا في عيش رغيد‪ ،‬في م ّ‬
‫َ‬
‫و‬ ‫ن ال ّم ِ‬
‫ذي هُ م َ‬ ‫س مت َب ْدُِلو َ‬
‫ومشارب‪ ،‬وملبس مرتفعة‪ ،‬ولهذا قال لهم‪) :‬أت َ ْ‬
‫َ‬
‫خي ٌْر( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(61‬‬ ‫أد َْنى ِبال ّ ِ‬
‫ذي هُوَ َ‬
‫وقال ‪) ‬وك َ َ‬
‫شت ََها( )القصص‪ :‬مممن‬ ‫مِعي َ‬‫ت َ‬‫ن قَْري َةٍ ب َط َِر ْ‬ ‫م أهْل َك َْنا ِ‬
‫م ْ‬ ‫َ ْ‬
‫الية ‪.(58‬‬
‫م ك ُم ّ‬ ‫وانظر ممماذا كممانت النتيجممة‪) :‬فَجعل ْنمماهُ َ‬
‫ل‬ ‫مّزقْن َمماهُ ْ‬
‫ث وَ َ‬
‫حمماِدي َ‬
‫مأ َ‬‫ْ‬ ‫َ َ َ‬
‫ق( )سمممبأ‪ :‬ممن اليمة ‪ (19‬قمال ابممن كممثير‪ :‬أي جعلنماهم حمديًثا‬ ‫مّز ٍ‬
‫م َ‬
‫ُ‬
‫للناس‪ .‬وسمًرا يتحدثون به من خيرهم‪ ،‬وكيف مكر الله بهم‪ ،‬وفمّرق‬
‫شملهم بعممد الجتممماع واللفممة والعيممش الهنيممء‪ ،‬تفرقمموا فممي البلد‬
‫هاهنا وهاهنا‪ ،‬ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا‪ :‬تفرقوا أيدي‬
‫سبأ‪ ،‬وأيادي سبأ‪ ،‬وتفرقوا شذر مذر)‪.(1‬‬
‫َ‬
‫و‬
‫ذي هُ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ست َب ْدُِلو َ‬
‫ما بنو إسرائيل فكان أمرهم كما أخبر الله‪) :‬أت َ ْ‬ ‫أ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ت‬
‫ضمرِب َ ْ‬‫م وَ ُ‬ ‫سمأل ْت ُ ْ‬
‫مما َ‬ ‫م َ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫كم ْ‬ ‫صمرا ً َفمإ ِ ّ‬
‫م ْ‬ ‫خْيمٌر اهْب ِ ُ‬
‫طموا ِ‬ ‫هموَ َ‬ ‫أد َْنى ِبال ّ ِ‬
‫ذي ُ‬
‫ن الّلم ِ‬
‫ه( )البقمرة‪ :‬ممن اليمة‬ ‫مم َ‬
‫ب ِ‬
‫ض ٍ‬ ‫سك َن َ ُ‬
‫ة وََباُءوا ب ِغَ َ‬ ‫ة َوال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫م الذ ّل ّ ُ‬
‫عَل َي ْهِ ُ‬
‫‪.(61‬‬
‫‪ -11‬الطغيان خروج عن السممتقامة‪ ،‬بممل هممو مضمماد لهمما ومبمماين‪،‬‬
‫م الطغمماة وتنهممى عممن الطغيممان‪ ،‬وتممأمر‬
‫ولممذلك جمماءت اليممات تممذ ّ‬
‫بالستقامة‪:‬‬
‫قال ‪ -‬تعالى – )َفاستقم ك َ ُ‬
‫ك َول ت َط ْغَ م ْ‬
‫وا(‬ ‫مع َ م َ‬
‫ب َ‬
‫ن ت َمما َ‬
‫مم ْ‬
‫ت وَ َ‬
‫مْر َ‬
‫ما أ ِ‬
‫ْ َِ ْ َ‬
‫)هود‪ :‬من الية ‪.(1121‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(3/533‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪280‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫ه ط َغَممى( )طممه‪.(43:‬‬ ‫ن إ ِّنم ُ‬‫وقال عن فرعمون‪) :‬اذ ْهَب َمما إ ِل َممى فِْرعَموْ َ‬
‫م مأ َْوى(‬
‫ي ال ْ َ‬
‫م هِم َ‬
‫حي م َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ج ِ‬ ‫حَياةَ الد ّن َْيا فَإ ِ ّ‬‫ن ط ََغى َوآث ََر ال ْ َ‬‫م ْ‬ ‫ما َ‬
‫َ‬
‫وقال‪) :‬فَأ ّ‬
‫)النازعمات‪.(39-37:‬‬
‫ُ‬
‫ت( )الشممورى‪ :‬مممن اليممة‬ ‫م مْر َ‬‫ممما أ ِ‬ ‫م كَ َ‬‫س مت َِق ْ‬ ‫وقال‪) :‬فَل ِذ َل ِ َ‬
‫ك َفاد ْعُ َوا ْ‬
‫‪.(15‬‬
‫دقًا(‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ممماءً غَ م َ‬
‫م َ‬ ‫ريَق مةِ َل ْ‬
‫س مَقي َْناهُ ْ‬ ‫موا عَل َممى الط ّ ِ‬ ‫وقممال‪) :‬وَأل ّموِ ا ْ‬
‫س مت ََقا ُ‬
‫)الجمن‪.(16:‬‬
‫ومن ترك الطغيان واستقام فقد التزم منهممج الوسممط والعتممدال‬
‫سطا ً ()البقرة‪ :‬من الية ‪.(143‬‬ ‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫مأ ّ‬‫)وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬
‫وإلى هنا نصل إلــى نهايــة بيممان القممرآن لمنهممج الوسممطّية‪،‬‬
‫وتقريره لذلك والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪281‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫الخاتمة‬
‫ممما‬
‫م الصممالحات‪ ،‬وأشممكره شممكًرا عظي ً‬ ‫الحمد لله الذي بنعمته تت م ّ‬
‫على ما أوله من فضل وعون وتوفيممق‪ ،‬وأصمملي وأسمملم علممى نبينمما‬
‫محمد‪ ،‬وآله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫وبعد‪:‬‬
‫فقد ذكرت في مقدمة هذه الرسالة أن البحث جاء ُيعالممج قضممية‬
‫الوسطية من حيث جهل كثير من الناس بها‪ ،‬وما ترت ّممب علممى ذلممك‬
‫من إفراط وتفريط‪.‬‬
‫ولذا فإّني أجد من المناسب أن ألخص ما توصلت إليه فممي هممذه‬
‫الرسالة فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬ذكرت تعريفات العلماء لكلمة )وسط(‪ ،‬وخلصة ما ذكروا‬
‫ما عّبر عنه محمد باكريم‪ ،‬حيث قال‪:‬‬
‫وكيفما تصّرفت هذه اللفظة نجدها ل يخرج معناهمما عممن معمماني‪:‬‬
‫العدل والفضل والخيرية‪ ،‬والنصف والبينية والتوسط بين الطرفين‪.‬‬
‫ضا ‪ -‬ما ذكره فريد عبد القادر‪ ،‬حيث قممال‪ :‬اسممتقّر‬ ‫وذكرت ‪ -‬أي ً‬
‫عنممد العممرب أنهممم إذا أطلقمموا كلمممة )وسممط( أرادوا معمماني الخيممر‬
‫والعدل والنصفة والجودة والرفعة والمكانة العلّية‪.‬‬
‫وختمممت ممما قيممل فممي معنممى )الوسممط( بممما ذكممره ابممن عاشممور‬
‫خصه‪:‬‬
‫ومل ّ‬
‫والوسط اسم للمكان الواقممع بيممن أمكنممة ُتحيممط بممه‪ ،‬أو للشمميء‬
‫محيطة به‪ ،‬ليس هو إلممى بعضممها أقممرب منممه إلممى‬
‫الواقع بين أشياء ُ‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪282‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫عرًفا‪ ،‬ولما كان الوصول إليه ل يقع إل بعد اخممتراق ممما يحيممط‬
‫بعض ُ‬
‫به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة‪.‬‬
‫فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيممار مممن لمموازم‬
‫ممما إطلق‬‫معنى الوسط عرًفا‪ ،‬فأطلقوه على الخيار النفيس كناية‪ .‬أ ّ‬
‫الوسط على الصفة الواقعة عدل بين خلقين ذميمين فيهممما إفممراط‬
‫وتفريط‪ ،‬فذلك مجاز‪.‬‬
‫وقد شاع هذان الطلقان حتى صارا حقيقتين عرفيتين‪.‬‬
‫دة‬
‫‪ -2‬ذكرت ورود كلمــة )وســط( فممي القممرآن الكريممم بع م ّ‬
‫طا" و‬‫تصاريف‪ ،‬حيث وردت خمس مرات‪ ،‬في البقممرة بلفممظ‪" :‬وس م ً‬
‫سطى"‪.‬‬ ‫"الوُ ْ‬
‫سط"‪.‬‬ ‫وفي المائدة بلفظ‪" :‬أوْ َ‬
‫سط َُهم"‪.‬‬‫وفي القلم بلفظ‪" :‬أوْ َ‬
‫س ْ‬
‫طن"‪.‬‬ ‫وفي العاديات بلفظ‪" :‬فَوَ َ‬
‫وبينت مممدلول كممل كلمممة فممي ضمموء أقمموال المفسممرين‪ ،‬وكممذلك‬
‫ذكرت مدى دللة كل لفظة على معنى الوسطية‪.‬‬
‫‪ -3‬استشــهدت ببعــض الحــاديث الممتي وردت وفيهمما لفممظ‬
‫)وسط(‪.‬‬
‫قد ذكرت )‪ (12‬حديًثا شرحت فيها معنى كممل لفظممة‪ ،‬وهممل هممي‬
‫من الوسط أو الوسطية؟‬
‫‪ -4‬وفي ختــام تعريــف الوســطية حممررت معناهمما‪ ،‬وبينممت‬
‫المراد من هذا المصطلح عند إطلقه‪ ،‬وكان مما قلت‪:‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪283‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وقد تأملت ما ورد في القرآن والسنة والمممأثور مممن كلم‬


‫العرب فيما أطلق وأريد به مصطلح )الوسطية(‪ ،‬فتوصمملت إلممى أن‬
‫هذا المصطلح ل يصح إطلقه إل إذا توافر فيه صفتان‪:‬‬
‫)أ( الخيرية أو ما يدل عليها‪.‬‬
‫)ب( البينية‪ ،‬سواء كانت حسية أو معنوية‪ .‬فإذا جاء أحد الوصفين‬
‫دون الخر فل يكون داخل في مصطلح الوسطية‪.‬‬
‫‪ -5‬هناك أسس لبد منها لفهم الوسطية‪ ،‬وتلممك السممس‬
‫مطردة مع وصفي الخيرية والبينية‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫)أ( الغلو والفراط‪.‬‬
‫)ب( الجفا والتفريط‪.‬‬
‫)ج( الصراط المستقيم فالصراط المســتقيم يمثممل الخيريممة‬
‫ويحقق معناها‪ ،‬وهو وسط بين الغلو والجفاء‪ ،‬وهو كذلك وسط بيممن‬
‫الفراط والتفريط‪.‬‬
‫حا‪ ،‬ثم توصلت إلى‬
‫وقد وقفت مع هذه السس الثلثة مبيًنا وشار ً‬
‫عدة حقائق أهمها‪:‬‬
‫أن الصــراط المســتقيم يمثــل قمــة الوســطية‪ ،‬وذروة‬
‫سنامها‪ ،‬وأعلى درجاتها‪.‬‬
‫أنه يجب عند النظر فممي أي أمممر مممن المممور لتحديممد علقتممه‬
‫بالوسطية‪ ،‬ومدى قربه أو بعده منها دقة النظر والعتبار في حقيقة‬
‫المر دون القتصار على ظاهره فقط‪ ،‬ثم إلى أي هذه السممس هممو‬
‫أقرب‪ ،‬مراعاة في ذلك عدة أمور أشرت إليها في ذلك المبحث‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪284‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫فإذا اتضح قربه في حقيقته ومآله إلممى الصممراط المسممتقيم فهممو‬


‫داخل فممي الوسممطية‪ ،‬أممما إذا كممان إلممى الفممراط والتفريممط أقممرب‬
‫حقيقة ومآل‪ ،‬فليس مممن الوسممطية فممي شمميء‪ ،‬وإن حسممبه النمماس‬
‫كذلك‪.‬‬
‫‪ -6‬للوسممطية ملمممح وسمممات تحممف بهمما وتميزهمما عممن غيرهمما‪،‬‬
‫بمجموع تلك الملمح ل بآحادها‪.‬‬
‫صلت إلى تحديممد أهممم تلممك السمممات والملمممح باسممتقراء‬
‫وقد تو ّ‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وما ورد في وسطية هذه المة بيممن المممم‪ ،‬وكممذلك‬
‫ما كتبه بعض الباحثين في ضوء الكتاب والسنة‪.‬‬
‫إن تحديد تلك الملمح مهمممة أساسممية‪ ،‬حممتى ل تكممون الوسممطية‬
‫مجال لصحاب الهواء وأرباب الشهوات‪.‬‬
‫وقد توصلت إلى أن أهم سمات الوسطية ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬الخيرية‪.‬‬
‫‪ -2‬الستقامة‪.‬‬
‫‪ -3‬اليسر ورفع الحرج‪.‬‬
‫‪ -4‬البينية‪.‬‬
‫‪ -5‬العدل والحكمة‪ .‬وكل سمة من هذه السمات يندرج تحتهمما‬
‫بعض آحادها‪ .‬وأشرت إلممى أن هممذه الملمممح تصمملح ضمماب ً‬
‫طا لتحديممد‬
‫الوسطية ومعرفتها‪ ،‬بما يجيب على السؤال الذي يرد في الذهان‪.‬‬
‫أين ضابط الوسطية؟ وكيف نميزها عن غيرها؟‬
‫‪ -7‬نـزل القرآن الكريم هداية للناس ونوًرا‪ ،‬يخرج الله به من‬
‫شاء من الظلمات إلى النور‪ ،‬ولممزوم منهممج الوسممطية عيممن الهدايممة‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪285‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وجوهرهمما‪ ،‬ولممذلك فقممد جمماءت اليممات مستفيضممة ترسممم منهممج‬


‫الوسطية وتدل عليه‪ .‬والوسطية ليسمت محصممورة فممي جزئيممة مممن‬
‫الجزئيات‪ ،‬بل ول في ركن واحد من الركان‪ ،‬وإنما هي منهج شامل‬
‫متكامل‪ ،‬ل ينفصل بعضمه عمن بعمض‪ ،‬فالسملم كلمه وسممط‪ ،‬وهمذه‬
‫سطًا( )البقمرة‪ :‬مممن اليمة‬ ‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫مأ ّ‬‫المة أمة الوسط‪) .‬وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬
‫‪.(143‬‬
‫والذين يغفلون عممن هممذه الحقيقممة يغفلممون عممن حقيقممة القممرآن‬
‫وهداياته‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق بينممت ‪ -‬بالتفصمميل ‪ -‬تقريممر القممرآن لمنهممج‬
‫الوسطية في أبواب كثيرة‪ ،‬أجملها فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬العتقاد‪.‬‬
‫‪ -2‬التشريع والتكليف‪.‬‬
‫‪ -3‬العبادة‪.‬‬
‫‪ -4‬الشهادة والحكم‪.‬‬
‫‪ -5‬المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫‪ -6‬الجهاد في سبيل الله‪.‬‬
‫‪ -7‬المعاملة والخلق‪.‬‬
‫‪ -8‬كسب المال وإنفاقه‪.‬‬
‫‪ -9‬مطالب النفس وشهواتها‪.‬‬
‫وختمت هذه البواب بباب ضمنته شواهد متفرقة‪ ،‬تممدل علممى‬
‫منهج الوسطية وتأمر به‪ .‬هذا بالضافة إلى ممما ذكرتممه فممي أول‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪286‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫هذا المبحث من دللة سورة الفاتحة على هذا المنهج في عدة آيات‬
‫منها‪.‬‬
‫ومن خلل هذه البواب اتضح لنا أن الوسطية منهج حياة وتشريع‬
‫متكامل‪ ،‬ل يقبل التجزئة والتفريق‪ ،‬وأن أدلة الوسممطية ليسممت هممي‬
‫التي ورد فيها لفممظ )الوسممط( فقممط‪ ،‬بممل أعممم مممن ذلممك وأشمممل‪،‬‬
‫واليات التي جاءت تدل دللممة صممريحة علممى منهممج الوسممطية تربممو‬
‫على العشرات‪ ،‬إذ هي في عداد المئات‪.‬‬
‫‪ -8‬وبعد بيان موجز للمسائل العلمية التي توصلت إليها فممي هممذا‬
‫البحث‪ ،‬أذكر أهم النتائج العملية التي نخرج بهمما مممن هممذه الدراسممة‬
‫العلمية‪.‬‬
‫)أ( أن أهممم أسممباب نشمموء جماعممات الغلممو بيممن المنتسممبين إلممى‬
‫الدعوة في همذا العصمر همو الجهمل بحقيقمة الوسمطية‪ ،‬بمل الجهمل‬
‫بمكانتها في السلم‪.‬‬
‫)ب( وكذلك أجد من السباب الرئيسية لقبول ما يطلقممه العممداء‬
‫علممى الممدعاة الصممادقين مممن ألقمماب وأوصمماف‪ :‬كممالتطرف والغلممو‪،‬‬
‫والتزمت والتشدد‪ ،‬ونحوها‪ ،‬مممن أبممرز أسممباب قبولهمما ورواجهمما بيمن‬
‫الناس لسببين‪:‬‬
‫‪ -1‬الجهــل بحقيقــة الوســطية الشــرعية‪ ،‬وتصممور أولئك‬
‫العامة أن الوسطية التي أمر الله بها تعني التساهل والتنازل واتباع‬
‫شممهوات النفممس ورغباتهمما‪ ،‬ولهممذا تجممدهم يسممتخدمون هممذا الفهممم‬
‫سا لرمي الدعاة بتلك الوصاف واللقاب‪.‬‬
‫مقيا ً‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪287‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫‪ -2‬السبب الثاني وهو أهم من الول فممي قمموة التممأثير‪ :‬عممدم‬


‫ممارسممة الوسممطية علممى وجههمما الصممحيح مممن قبممل بعممض الممدعاة‬
‫والملتزمين‪ ،‬حيث تجد خلل في تطبيقها أتاح للعداء فرصة اقتنمماص‬
‫بعض الخطاء والهفوات‪ ،‬ومن ثم إقناع كثير من الناس بصممحة تلممك‬
‫الدعاوى وتلبيس هذه التهم الباطلة‪.‬‬
‫)ج( وأخلص إلى حقيقة عملية تكون هي المخرج مما نعانيه تجاه‬
‫موضوع الوسطية‪ ،‬وتتمثل هذه الحقيقة فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬بذل الجهود العلمية من قبل العلماء وطلب العلم فممي بحممث‬
‫موضوع الوسطية‪ ،‬واستفراغ الوسع في ذلممك‪ ،‬حيممث أرى أن هنمماك‬
‫جوانب مهمة لم تعط حقها من البحث والدراسة‪.‬‬
‫‪ -2‬عقد الندوات والمحاضرات لبيان أهميممة الموضمموع وحقيقتممه‪،‬‬
‫وأثره اليجابي في حياة الناس‪.‬‬
‫‪ -3‬الممارسة العلمية الواقعية لمنهج الوسطية من قبممل العلممماء‬
‫وطلب العلم والدعاة‪ ،‬مممما يتيممح للنمماس أن يممروا القممدوة الصممالحة‬
‫التي هم في أمس الحاجة إليها‪.‬‬
‫‪ -4‬تربية المة على هذا المنهج تربية عملية شماملة‪ ،‬ممما يقضمي‬
‫علممى الخلممل الموجممود فممي محيممط المجتمممع المسمملم سممواء أكممان‬
‫طا أو تفري ً‬
‫طا‪.‬‬ ‫إفرا ً‬
‫سا فممي فهممم الوسممطية وممارسمماتها مممن‬ ‫‪ -5‬وأخيًرا فإن هناك لب ً‬
‫قبل بعض الجماعات والدعاة‪ ،‬وهممذا اللبممس أدى إلممى أنهممم خلطمموا‬
‫حا وآخر سيًئا‪ ،‬فرأينا التنازل مع العممداء باسممم المصمملحة‪،‬‬
‫عمل صال ً‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪288‬‬
‫الوسطية في ضوء القرآن الكريم )للشيخ ناصر العمر(‬

‫وضعًفا في حقيقة الولء والبراء بحجة تأليف القلوب والممدعوة إلممى‬


‫الله‪ ،‬ومصانعة لبعض الظالمين بدعوى دفع الشر والفتنة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ولذلك ل بد من تصفية المنهج مما علق به ليكممون وفممق الكتمماب‬
‫والسنة‪ ،‬ومنهج سلف المة‪ ،‬فلن يصلح آخر هذه المة إل بممما صمملح‬
‫به أولها‪.‬‬
‫وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‪ ،‬والصملة والسملم علمى‬
‫سيد الولين والخرين‪ ،‬وعلى آله وصحبه ومن تبعهممم بإحسممان إلممى‬
‫يوم الدين‪.‬‬

‫‪http://www.almoslim.net‬‬ ‫‪289‬‬

You might also like