You are on page 1of 193

‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.

com‬‬

‫تم تحميل هذا الكتاب‬


‫من مكتبة موقع‬
‫"بّلغوا عّني ولو آية"‬
‫رسالتنا‪ :‬يصل الكثير من الناس بعض الرسائل اللكترونية عن السلم ويقومون‬
‫صصنا هذه‬‫بحذفها أو تجاهلها بحجة أنها طويلة ويثقل عليهم قراءتها‪ .‬لذلك خ ّ‬
‫الصفحة للشتراك في عظة يومية قصيرة أو حديث شريف أو آية تصل إلى بريد‬
‫المشترك بحيث لن يصعب قرائتها والستفادة منها راجيا من المولى عز وجل‬
‫الجر والثواب‪ .‬مثال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬بلّـغوا عنّـي ولو‬
‫‪".‬آية‬

‫للشتراك في هذه الخدمة الرجاء زيارة موقعنا "بلّـغوا عنّـي ولو آية" في السفل‬
‫‪ :‬وتسجيل البريد اللكتروني‬
‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪ :‬أو عن طريق إرسال رسالة ولو فارغة إلى‬


‫‪subscribe@balligho.com‬‬

‫‪.‬ويمكنكم أيضا أن تتصفحوا الرشيف بالحاديث المرسلة مسبقًا‬

‫ن في السلم سنة حسنة‪ ،‬فعمل بها‬ ‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬من س ّ‬
‫بعده‪ ،‬كتب له مثل أجر من عمل بها‪ .‬ول ينقص من أجورهم شيء‪ ...‬الحديث‪.‬‬
‫فاحرصوا يرحمكم ال على نشرها فكل من يزور الموقع ويستفيد منه عن طريقك‬
‫تكسب من الجر الكثير وإن قام بدوره بالعمل بها ونشرها أيضا فكلنا نكسب أمثل‬
‫‪.‬أجورهم ول ينقص من الجر شيئا‬

‫والسّنة‬
‫ب َ‬
‫دة إلى الك َِتا ِ‬ ‫و َ‬‫ع ْ‬
‫منهاجنا‪َ :‬‬
‫مة‬ ‫ف ال ُ‬‫سل َ ِ‬ ‫بِ َ‬
‫ّ‬ ‫هم ِ َ‬‫ف ْ‬

‫‪1‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ةة ةةةةة ةةة ةةةةةة ةةةة ةةةةةة ةةةةةةة ةةةةةةة‬


‫)ةةةة ةةة ةةةةةةةة ةةة ةةةة ةةةةةةة ةةةةةةة ةةة‬
‫ةةةةةةةة(‬

‫الكتاب ‪ :‬موسوعة البحوث والمقالت العلمية‬


‫جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة‬
‫حوالي خمسة آلف وتسعمائة مقال وبحث‬
‫علي بن نايف الشحود‬

‫للمسلمين أن يمتشقوا الحسام وأن يرفعوه في وجه القوة الباغية ‪.‬‬


‫ونتساءل هنا ‪ :‬هل القتال ضرورة من ضرورات الدعوة ؟ ل ‪ ،‬بكل تأكيد ‪ ،‬إن‬
‫الضرورة المطلقة في الدعوة هي البلء ‪ ،‬وأي مجتمع وأي قوم فتحوا‬
‫صدورهم وفتحوا بلدهم لسماع هذه الدعوة فإن استعمال السلح محرم ‪،‬‬
‫ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ‪ ،‬لن من مقررات السلم الثقة بالعقل‬
‫النساني والثقة بالدراك النساني بعد أن تمهد السبل أمامه لكي يرى وينظر‬
‫ويفكر ويحاسب نفسه مفصول ً عن الضغوط التي تضغط عليه من كهنوت‬
‫طهرت الرض من هؤلء‬ ‫ورأسمالية ومن سياسيين يضغطون عليه ‪ ،‬إذا ُ‬
‫فالنسان خليق أن يجد طريقه إلى الله تبارك وتعالى ‪ .‬ولكن مهمة من هذا‬
‫القبيل ليست شيئا ً هينا ً ‪ ،‬إننا يجب أن نصل إلى الصيغة التي تستطيع الثبات‬
‫أمام هذه الزعازع التي تثور من حولنا ‪ ،‬ما هي الصيغة ؟ إن السلم اهتدى‬
‫إلى صيغة قريبة فعل ً وكان يجب أن يفكر فيها الناس ‪ ،‬والمؤلم الذي حدثتكم‬
‫عنه أول هذا الكلم هو أننا في العصر الحاضر ما زلنا نتلمس هذه الصيغة‬
‫تلمس العميان مع السف ‪ ،‬إن المسألة قريبة ‪ ،‬إن كل حركة يمكن أن تثور‬
‫في وجه السلطة كفيلة بأن تفشل ‪ ،‬وإن السلطة قادرة على تحطيمها‬
‫بتحريك قطعة صغيرة من قطع الجيش ‪ ،‬ولكن قطع الجيش جميعا ً تفشل‬
‫أمام الرادة الشعبية المجمعة على أمر معين ‪ .‬إنك تستطيع أن تحطم يد‬
‫النسان لكنك ل تستطيع أن تحطم قلبه ‪ ،‬إنك تستطيع أن تقيد يديه ورجليه ‪،‬‬
‫ولكنك ل تستطيع أن تقيد إرادته ‪ ،‬إن تحرير الرادة وتحرير العقل وربط‬
‫النسان المسلم بالمجتمع الذي يفيء إليه هو الطريق الذي وضعه السلم‬
‫حل ً لمعضلة النسان المزمنة ‪ .‬فمن أجل ذلك قلت لكم ارجعوا إلى الوراء‬
‫كن‬‫قليل ً وانظروا ‪ ،‬فستجدون في الفجر وقبل الفجر أن السلم بعد أن م ّ‬
‫ل وعل بين الناس طرح عليهم أمورا ً ذات أهمية ‪ ،‬طلب‬ ‫عرى اليمان بالله ج ّ‬
‫منهم حينما كانوا يسلمون فيلتفون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن‬
‫تكون طاقاتهم في خدمة الدعوة مجندة لذلك ‪ ،‬ليس في المسألة انتسابا ً‬
‫لحزب يدفع من أجل ذلك اشتراك ‪ ،‬المسألة أكبر وأخطر ‪ ،‬إن المسألة‬
‫انتساب إلى مجتمع ‪ ،‬والنتساب إلى المجتمع يعني الفناء في المجتمع ‪ ،‬يعني‬
‫هبة الذات للمجتمع برمتها دون أن يختزل منها شيء ‪ ،‬فمن أجل ذلك كان‬
‫السلم من بواكيره الولى يطلب من المسلمين إمكانياتهم جميعا ً كل ما‬
‫لديك من مال ‪ ،‬كل ما لديك من طاقة ‪ ،‬يجب أن توضع بين يدي رسول الله‬
‫أي بين يدي الدعوة ‪ .‬والدعوة بذلك تقوم على أقدامها وتشكل مجتمعها‬

‫‪2‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وتحس أحاسيس ‪ ،‬وتحس ذلك الحساس المؤلم أنها قلة في وسط كثرة ‪،‬‬
‫وأنها ضعف إلى جانبه قوة ‪ ،‬وهذا إحساس مباشر وصحيح ‪ ،‬كل إنسان يشعر‬
‫به ‪ ،‬لكنكم تدركون تماما ً ما أثارته اليات حينما ذكر الله شأن عاد وثمود‬
‫وفرعون ‪ ،‬متى تموت المم ؟ تموت حين يسكن الرعب في قلوبها ‪ ،‬نحن‬
‫انهزمنا في العصر الحديث أمام إسرائيل ونحن جيوش كبيرة وأعداد كثيرة ‪،‬‬
‫أمن قلة ؟ ل ‪ ،‬أمن نقص في التسلح والتدريب ؟ ل ‪ ،‬ولكن لذلك الرعب‬
‫والخور الذي يسكن في القلوب ‪ ،‬كنا نتصور الجندي السرائيلي كائنا ً ل‬
‫ُيغلب ‪ ،‬وجندينا يدخل المعركة وهو واثق بالهزيمة ‪ ،‬يعرف أنه يقاتل ولكن‬
‫وجهه إلى الوراء ‪ ،‬يفتش عن مواطن أقدامه حين يفر من المعركة ‪ ،‬من أجل‬
‫ذلك انهزمنا ‪ .‬وحينما نقلب صفحات التاريخ فنحن نجد أن التتار حين تغلبوا‬
‫على العالم السلمي ما تغلبوا عليه خرقا ً لقوانين الوجود أبدا ً ‪ ،‬وإنما تغلبوا‬
‫ق بها التمزق‬ ‫عليه تساوقا ً مع قوانين الكون ومع سنن الجتماع ‪ ،‬إنما المة با ٍ‬
‫والعصف الحالة التي أطمعت بها العداء وجعلتها تعيش هذا الرعب الذي‬
‫تحس به تجاه السلطات الحاكمة وتجاه المم المجاورة ‪ ،‬فمن أجل ذلك ل‬
‫نستغرب حينما نقرأ في تاريخنا أن الجندي التتري كان يأتي إلى المسلمين‬
‫فيجمع ثلث مائة أو أربع مائة من المسلمين ول يكون عنده خنجر ول سيف ‪،‬‬
‫يقول لهم ‪ :‬قفوا صفا ً واحدا ً ‪ ،‬وانتظروني حتى أجلب السيف لذبحكم ‪،‬‬
‫وبالفعل يذهب التتري وهذه البغال واقفة في مكانها ويعود بالسيف ويقتلها‬
‫واحدا ً واحدا ً ‪ ،‬لو أن واحدا ً منهم ضربه بقدمه لقضى عليه ‪ ،‬ولكنهم لم يفعلوا‬
‫‪ ،‬لماذا ؟ لن الرعب في قلوبهم ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫إن السلم عالج هذه القضية ‪ ،‬وحين أثار قضية عاد وثمود وفرعون والمم‬
‫التي بادت من قبل والتي عاشت كانت لها حضارات وسلطات وصولة ودولة‬
‫تهمدت وتحطمت ‪ ،‬فل ينبغي لحد أن يسأل عن الكثرة والقلة ‪ ،‬وإنما ينبغي‬
‫أن يسأل عن الصحة وعدم الصحة ‪ ،‬عن الصواب وعن الخطأ ‪ ،‬مجتمعك حين‬
‫يكون سائرا ً على طريق صحيح وقائما ً على قواعد سليمة فل تسأل ‪ ،‬إن‬
‫المستقبل معك ‪ ،‬ولكنك حين تقوم مركزا ً على قواعدك الخاطئة فمهما يكن‬
‫لك من أساطيل ومن جيوش ومن طائرات فأنت ل بد فاشل ومنهزم ‪ ،‬إن‬
‫السلم ثّبت هذه القضية في عقول المسلمين ‪ ،‬فمن أجل ذلك رأيناه تبارك‬
‫وتعالى يذكر نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن الشدة بعد أن ذكر له‬
‫أنباء القرون الخوالي ) ألم نشرح لك صدرك ( كان محمد عليه الصلة‬
‫والسلم يعيش هذه الزعازع المتلطمة كموج البحر المظلم وهو منشرح‬
‫الصدر واثق من المستقبل قانع بأن الله الذي أوحى إليه هذا الدين سيقوده‬
‫إلى النصر ل محالة ‪ ،‬كان عليه الصلة والسلم يقود المة بهذه العزمة التي‬
‫ل تبلغها عزمة ‪ ،‬ومن الخير أن نتذكر أن هذه العزمة التي وجدت في نفس‬
‫محمد عليه الصلة والسلم وشحن بها قلبه كانت عدوى تسللت إلى قلوب‬
‫الصحاب رضوان الله تعالى عليهم ‪ ،‬وما من أحد يجهل أن النسانية بمفكريها‬
‫اليوم يعجبون كيف أمكن لهذه المة الضعيفة المستضعفة أن تسيطر على‬
‫العالم القديم كله في أقل من قرن واحد من الزمان ؟ كيف أمكن ذلك ؟‬
‫عرف السبب بطل العجب ‪ .‬إن المسألة واضحة ‪ ،‬بناء المجتمع كان‬ ‫ولكن إذا ُ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫منذ البداية كي يفيء إليه الناس ويلتزمون به التزاما مصيريا بدل النتساب‬
‫إلى الحزب انتساب إلى المجتمع ‪ ،‬بدل انتساب إلى المنظمة النخراط في‬

‫‪3‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫حياة المجتمع اليومية وممارسة للشعارات والقضايا والوقائع التي يضعها‬


‫حق لنا أن نقابل الن سورة‬ ‫الوحي في أيدينا ‪ .‬بهذا نجح السلم ‪ ،‬وبهذا ُ‬
‫العصر لنرى أنها ل تخاطب أفرادا ً ‪ ،‬ولكنها تخاطب كينونة معينة بلغها‬
‫المجتمع المسلم ‪ ،‬تخاطب المجتمع الذي أرسى قواعده محمد صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وقاد خطواته شيئا ً فشيئا ً ‪ ،‬ووضع لبناته لبنة بعد لبنة ‪ ،‬كم كان‬
‫يطيب لي أن أعفي نفسي من هذه المقدمة الطويلة وأن ل أثقل على‬
‫عقولكم ‪ .‬أنا أعرف أن ما يثار من قضايا ونحن نواجه أوليات الوحي قد يكون‬
‫صعبا ً على كثير من العقول لكن من زمن بعيد قلت لكم أنني قررت أن أدخل‬
‫معكم من الباب الضيق ‪ ،‬لقد تعودنا على الرخاوة والطراوة ‪ ،‬تعودنا على لين‬
‫العيش وإعفاء النفس من التكاليف وعلى تعطيل ملكات الفكر والرأي‬
‫والنظر ‪ ،‬وذلك كله ضلل بعيد ‪ ،‬وآن لنا ونحن نخطو طريق مستقبلنا أن‬
‫نعرف خطوات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫)‪(8 /‬‬

‫تفسير سورة القمر‬


‫الجمعة ‪ 2‬ذي القعدة ‪ 14 / 1397‬تشرين الول ‪1977‬‬
‫) ‪ 2‬من ‪( 4‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫فهذه هي الوقفة الثانية مع سورة جليلة هي سورة القمر ‪ ،‬ولول بعض‬
‫التعقيبات التي أراها ضرورية لتصحيح بعض المفاهيم ولتحديد معالم الحركة‬
‫لكان لزما ً أن أمضي في تنفيذ الوعد الذي قطعته لكم منذ جمعتين أن ل‬
‫أطيل الوقوف مع القضايا الثانوية ‪ ،‬وأن أعمل على إبراز القضايا الرئيسية‬
‫التي تتصل بالمحور الذي نهتم له ‪ ،‬طبعا ً دون عدوان على المنهج ول تحّيف‬
‫من هذه القضايا الساسية ‪.‬‬
‫وفي الجمعة الماضية أتيت على تلخيص أتصور أنه طيب للسورة الكريمة‬
‫ولعله أن يكون مغنيا ً إن شاء الله تعالى ‪ .‬لكني وعدت أن أعود إلى بعض‬
‫النقاط بسبب ما ضاق علينا من الوقت ‪ ،‬فنقول مستعينين بالله تعالى ‪ ،‬أول‬
‫هذه النقاط التي نريد أن نقف عندها قليل ً ول نزعم أننا نمنحها حقها من‬
‫التمحيص والدرس ‪ ،‬هي ما تعرضت له فاتحة السورة وما كان السبب في‬
‫منحها السم الذي سميت به وهو حادث انشقاق القمر ‪.‬‬
‫ً‬
‫ولقد كان يغني ما قلناه في الجمعة الماضية لول أننا نعيش عصرا غريب‬
‫التلوين شديد الوطء على أهله ‪ ،‬ل تكاد تعثر بين عشرات اللوف من أبنائه‬
‫على واحد فقط يستطيع أن يملك لعقله حرية الحركة ‪ .‬إن حادث انشقاق‬
‫القمر جاء ذكره في السورة الكريمة كما يلي ) بسم الله الرحمن الرحيم ‪،‬‬
‫اقتربت الساعة وانشق القمر ‪ ،‬وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ‪،‬‬
‫وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ( وأوردت لكم في الجمعة الماضية‬
‫بعضا ً من نصوص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وأبنت لكم‬
‫وأظنني ذكرت لكم بعض السانيد أن الحادثة ُنقلت في صحاح الحديث‬
‫بأسانيد كالشمس وضوحا ً ‪ ،‬والرواة الذين نقلوا إلينا هذه الحادثة هم ذاتهم‬

‫‪4‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الذين نقلوا إلينا شرائع الله في الحلل وفي الحرام ‪ ،‬أي هم الذين حملوا‬
‫إلينا علم القرآن وسنن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ومن هذا الباب‬
‫فإن الطعن في هؤلء الرواة الكبار شيء ل يدعو إلى الرتياح ‪.‬‬
‫إن كل المفسرين القدامى يقفون عند حدود الروايات ويثبتون ما جاء بها ‪،‬‬
‫ويتفقون على أن حادث انشقاق القمر حادث وقع قبل هجرة الرسول صلى‬
‫الله عليه وسلم إلى المدينة ‪ ،‬وبعضهم يذهب إلى تحديد الزمن الذي وقع‬
‫الحادث فيه بنحو من خمس سنين من قبل الهجرة أي في حدود السنة‬
‫الثامنة أو أواخر السنة السابعة من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ولن‬
‫يأتينا بطائل تحديد الزمن ‪ ،‬لكن الشيء الخطير حقا ً هو البحث في ثبوت‬
‫الواقعة أو عدم ثبوتها ‪ .‬وبطبيعة الحال فنحن من حيث المبدأ والساس مع‬
‫كل القائلين بأن رسولنا عليه الصلة والسلم في غنى عن الخوارق‬
‫والمعجزات الحسية والكونية ‪ ،‬ونحن أيضا ً مع جميع القائلين بأن القرآن‬
‫الكريم هو المعجزة الكبرى لرسولنا عليه الصلة والسلم ‪ ،‬ولكنا لسنا معهم‬
‫في حال من الحوال حينما يكون هذا القول من باب دغدغة العواطف وتملق‬
‫الحس الديني لدى المسلمين لكي يكون هذا القول من بعد ذريعة إلى نسخ‬
‫ما جاءنا بالطريق الثابت الصحيح من خوارق حصلت لنبينا عليه الصلة‬
‫والسلم ‪.‬‬
‫القدامى من المفسرين ولست أزعم لنفسي أنني شديد الولوع بما قال‬
‫القدمون فأنا قانع بأن الحياة حركة وتجدد وأن النسان الذي يجمد على نحو‬
‫واحد إنسان يفقد حقه بأهلية الحياة الكريمة ‪ ،‬وأن المة التي ل تعرف هذا‬
‫الطريق الصاعد باستمرار نحو التقدم والنماء أمة مجردة من أية رسالة‬
‫يمكن أن تتقدم بها إلى الناس وتسهم بسببها في خدمة البشرية ‪ .‬ولكني‬
‫ف بين التجدد وعوامل الثبات في هذا الدين ‪ ،‬إنني‬ ‫أميز بدقة وبوضوح كا ٍ‬
‫ً‬
‫أفهم أن تتطور المة دائما ‪ ،‬ولكني ل أفهم أن يأتي كلوف جاءوا بعد أن فسد‬
‫اللسان وتلوثت السليقة وذهب حس اللغة وذوق اللغة ليستدركوا على أهل‬
‫اللسان نبضات في هذه اللغة يزعمون أنها ذهبت عليهم ‪ .‬ل أستطيع أن أفهم‬
‫هذا من أكبر المتعمقين في لغة العرب حينما يريد أن يستدرك على أعرابي‬
‫ف حافي القدمين شعث الشعر يعيش في أعمق أعماق البادية من أهل‬ ‫جا ٍ‬
‫هذا اللسان ‪.‬‬
‫وإنني أفهم التجدد ولكني ل أفهم الهزيمة العقلية ول الهزيمة الشعورية أمام‬
‫منجزات مادية يراد لها أن تكون هي البديل عن أنبل ما عرفته النسانية وهي‬
‫معالم هذا الدين ‪.‬‬
‫إن المفسرين القدامى أجمعوا على أن الحادثة وقعت ‪ ،‬وجاءت الرواية في‬
‫ذلك بألفاظ ونصوص تتفاوت بعض الشيء ولكنها تجتمع لتزيد وقوع الحادثة‬
‫ثباتا ً ووثوقا ً ‪ ،‬وفي بعض الروايات أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم آية ‪ ،‬وفي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق له‬
‫القمر نصفين ‪ ،‬وفي بعضها انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم نصفين فقال لهل مكة ‪ :‬اشهدوا ‪ .‬وفي بعضها أن المل من أشراف‬
‫قريش طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية يعرفون منزلته عند‬
‫الله وكرامته عليه فأراهم القمر منشقا ً نصفين ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫‪5‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أما سلفنا العاقل المدرك صاحب اللسان والمالك لقدر هائل من التربية‬
‫اليمانية الوثيقة فقد وقف عند حدود النصوص التي وردت عن النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ .‬وأما الخلئق التي جاءت بعد فيؤسفني جدا ً أن أقول إن‬
‫معظم الذين قرأت لهم حتى الن مصابون بهزيمة عقلية أمام الضغط‬
‫الحضاري العنيف الذي يعيشه المسلمون وغير المسلمين ‪ ،‬إنهم يقولون إنه‬
‫ل توجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إل القرآن وما كان من‬
‫شيء خل ذلك فهو وهم واختلق ‪ .‬وهذه القضية ل تتصل فقط برد رواية ‪ ،‬ول‬
‫أدري كيف تأتيك رواية ما من طريق فلن عن فلن عن فلن يبلغ به النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم وتكون في الحلل والحرام وتكون في شرائع الدين‬
‫وأصول العتقاد فتقول ‪ :‬هذه رواية صحيحة والحكم الذي تضمنته لزم ‪ ،‬ثم‬
‫تأتيك رواية أخرى من نفس الطريق بالذات بنقل الرجال بأعيانهم فتقول ‪:‬‬
‫إنني أرفض هذه الرواية وأشك في صحتها ‪ .‬ماذا نسمي هذا إن لم يكن‬
‫تحكيما ً للهوى في نصوص هذه الشريعة ؟ أحب قبل ً أن أقول إن السناد وهو‬
‫نقل الوقائع والحكام عن طريق الرواة الذين ينقلونها واحدا ً عن واحد أو‬
‫قوما ً عن قوم أو جيل ً عن جيل خصيصة هذه المة التي ل يشاركها فيها أحد ‪.‬‬
‫ولعل الذين لهم اطلع على مبادئ علوم التاريخ يعرفون أن التاريخ كله إنما‬
‫يعتمد هذه الطريقة ‪ ،‬ولكن ليس بدرجة من التوثق تبلغ الدرجة التي بلغها‬
‫المسلمون ول عشر معشارها أيضا ً ‪ ،‬فالمسلمون ُ‬
‫عنوا أبلغ العناية بالتوثق لما‬
‫ينقلونه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ولنهم يعلمون أن هذا الذي ينقلونه‬
‫دين ‪ ،‬وهو دين لزم للمة إلى أن تقوم القيامة ‪ ،‬وذلك يعني أن الحتياط‬
‫واجب وضروري ‪ ،‬وأن التهاون والتساهل في قبول الروايات تحميل للمة ثقل ً‬
‫وأغلل ً لم يأذن بها الله تعالى ولم ينزل بها سلطان ‪.‬‬
‫جماهير المفسرين المحدثين يقولون إن حادث انشقاق القمر لم يقع ‪ ،‬وما‬
‫جاء في نظم الية من قوله تعالى ) اقتربت الساعة وانشق القمر ( فإنما‬
‫ذلك يكون قرب يوم القيامة حين يأذن الله تعالى بخراب الدنيا ‪ ،‬ويعتمدون‬
‫في ذلك رواية مكذوبة تنسب إلى الحسن البصري وهو من كبار التابعين‬
‫رضي الله عنهم أجمعين من أن هذا يكون يوم القيامة ‪ .‬والتعبير بقوله تعالى‬
‫) وانشق القمر ( بصيغة الماضي هو تعبير يراد منه تأكيد الحدوث ول يراد‬
‫منه تحديد الزمن وهو أسلوب معروف في أساليب البيان العربي ‪ .‬ونحن ل‬
‫نحتاج إن شاء الله تعالى إلى من يدلنا على خصائص البيان العربي وطرائق‬
‫السلوب الذي يتخاطب به العرب والذي نزل به القرآن وتحدث به محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫ولكن المسألة ليست هنا ‪ ،‬المسألة فيما نرى ليست موضع اجتهاد ‪ ،‬فإن من‬
‫علماء المسلمين من قرر أن حادث انشقاق القمر حادث ُنقل بصورة تبلغ‬
‫مبلغ التواتر ‪ ،‬وما ُنقل إلينا متواترا ً فل سبيل إلى رده ‪ ،‬لننا حينما نرد النقل‬
‫المتواتر فنحن ضرورة نرد نقل القرآن ‪ ،‬لن القرآن ُنقل إلينا بطريق الكافة‬
‫عن الكافة جيل ً من بعد جيل ‪ ،‬وهذا هو طريق التواتر ‪ ,‬ومهما يكن من شيء‬
‫فلكي تحدد المشكلة ويستبين الخطر فإن علماء السلم حددوا مبحثا ً خاصا ً‬
‫يتعلق بمنكر انشقاق القمر ‪ ،‬وبحثوا هل يكفر من ينكر وقوع الحادثة أم ل ؟‬
‫والجمهور على أنه ل يكفر ‪ ،‬ذلك لن التواتر ل يثبت ‪ ،‬صحيح أنه جاءنا عن‬
‫خمسة أو ستة من الصحابة رضي الله عنهم بالطريق الصحيح المثبوت‬
‫بصحته ‪ ،‬وصحيح أن الواقعة رويت في جميع كتب الصحاح والسنن والجوامع‬
‫والمسانيد بأسانيد ل سبيل للشك فيها ول تعلق بها شبهة ‪ ،‬ولكن الصحيح أن‬
‫منكر هذه القضية ل يكفر وإنما أذكر هذا لبيان خطورة المسألة فقط ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إن المسألة ل تتصل بإنكار حادث فردي ‪ ،‬فنبينا عليه الصلة والسلم أجل‬
‫وأعظم وأكرم على الله من أن يكون محتاجا ً لي شيء ‪ ،‬ولكن هذه قضية ‪،‬‬
‫وإكرام الله تعالى لمن يشاء من عباده بلون من الكرامة قضية أخرى ‪ ،‬وما‬
‫جاء في السورة وما جاء في الحاديث يؤكد الواقعة ‪ ،‬والشك الذي حصل‬
‫لدى جمهور المفسرين المحدثين والمعاصرين جاء من طريق الهجمة العنيفة‬
‫شط ذاكرة‬ ‫الشرسة على السلم وعلى نبي السلم وعلوم السلم ‪ ..‬سأن ّ‬
‫الذين يذكرون ‪ ،‬حينما كنا واقعين تحت الستعمار الفرنسي في هذا البلد كان‬
‫الذين يلبسون مسوح النسانية ويشتغلون في مهنة الطبابة والتمريض‬
‫يدورون في القرى والمدن بحجة مكافحة المراض ومدواة المرضى وفي‬
‫يدهم زجاجة الدواء وفي اليد الخرى النجيل ‪ ،‬وفي رؤوسهم شيء واحد هو‬
‫الحقد الدفين المر على السلم ونبي السلم وكتاب السلم وتاريخ السلم ‪،‬‬
‫وفي قلبهم نبض واحد هو التحسب والخوف من أن تستيقظ هذه اليد التي‬
‫دقت أبواب أوروبا وهددت عواصمها في الماضي لتعطل عليهم مسيرتهم في‬
‫امتصاص الدماء ونهب الثروات وإذلل عباد الله ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫كانوا يسيرون في القرى وفي المدن ليقولوا للناس إن نبيكم ليس له‬
‫معجزات ولكن عيسى أحيا الموتى وأبرأ الكمه والبرص وكان يعلم الناس‬
‫بما يدخرون في بيوتهم وكان وكان ‪ ..‬وموسى ألقى عصاه بشهادة قرآنكم‬
‫أمام السحرة فإذا هي تلقف ما يأفكون ‪ ،‬و ضرب البحر بعصاه فانفلق فكان‬
‫كل فرق كالطود العظيم ‪ ،‬ومشى فيه موسى ومن معه من بني إسرائيل كما‬
‫يمشون على اليابسة حتى إذا أنجاهم الله إلى البر انطبقت شعبتا الماء على‬
‫فرعون ومن معه فأهلكتهم ‪ ،‬فماذا عند نبيكم من معجزات ‪.‬‬
‫ت لهم من معجزة يعمدون إلى إنكارها ويقولون هذه غير صحيحة ‪،‬‬ ‫حيثما ذكر َ‬
‫وأمضى السلحة في أيديهم أن هذه المعجزات ينقلها أناس ل ُيدرى حالهم‬
‫من الضبط والتقان والدراية والدراك ‪ ..‬فهي إذا ً موضع شك ‪ ،‬وما كان بهذه‬
‫المثابة فهو خليق بأن ُيرد ‪ ..‬هذه واحدة ‪ .‬الثانية ‪ :‬إن العلوم الكونية‬
‫المستحدثة كشفت أشياء ل نقول إنها جديدة بمرة ‪ ،‬فالعلم وعلم الفلك‬
‫والرياضيات بصورة خاصة توصل منذ عصور ازدهار السلم إلى وضع مقاييس‬
‫ثابتة لحركة الكواكب وقياس النسب والبعاد ‪ ،‬ولم يكن علماؤنا الماضون‬
‫فل العلماء المحدثون والمعاصرون على موائدهم يجهلون أن هذه‬ ‫الذين تط ّ‬
‫الكواكب المزروعة في جو السماء لها كتلة ولها كثافة وهي فيما بينها ذات‬
‫نسب ‪ ،‬لو اختلت هذه النسب لحدث تخّرب كوني هائل ‪ ،‬لم يكن علماؤنا‬
‫يجهلون ذلك ‪ .‬ولكنهم ما كانوا بدرجة من الضلل كالتي عليها المهزومون من‬
‫أبناء جلدتنا في هذه اليام ومنذ مطالع هذا القرن ‪.‬‬
‫يقولون لك إن القمر يمارس جذبه بالنسبة إلى الرض وبالنسبة لما حوله‬
‫ككل كوكب آخر ‪ ،‬فلو أن القمر انشق فعل ً لحصل خلل في قانون الجاذبية‬
‫يؤدي إلى عدم ٍ في التوزع النسبي الموجود في الكون ‪ ،‬وهذا هو ما يؤذن‬
‫بتحطم الكون وانحلله وخرابه ‪ .‬العلماء المحدثون يقولون هذا ولكنهم‬
‫ُيغفلون حقيقة بحثها العلماء المسلمون من قديم وهي أيضا ً مبحوثة في‬
‫حمون القول على كتاب‬ ‫الفلسفة القديمة ‪ ،‬لو أن هؤلء المحدثين ممن يتق ّ‬
‫سط أحسنوا النتفاع بما قال القدمون ‪.‬‬ ‫الله بغير روية وبل تب ّ‬
‫إن علماءنا بحثوا في العلقة بين السبب والنتيجة ‪ ،‬بين السبب والمسبب ‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ت به‬ ‫قالوا ‪ :‬إن السيف بطبعه قاطع ‪ ،‬والمشهود من التجربة أنك إذا ضرب َ‬
‫الجسم مضى فيه ‪ ،‬والمعروف أن الماء قاطع للعطش ‪ ،‬والمعروف عادة‬
‫وطبعا ً أن العطشان إذا شرب الماء انقطع عنه لغوب العطش ‪ ،‬والمعروف‬
‫أن النار محرقة ‪ ،‬وأنك حين تلمسها تحترق يدك ‪ .‬كل ذلك معروف طبعا ً‬
‫وعادة ‪ ،‬ولكن السؤال ليس هنا ‪ ،‬السؤال في التي ‪ :‬هل العلقة بين السبب‬
‫والنتيجة علقة ضرورية ل تنفك ول تنفصل أم أنها علقة معية ومصاحبة ؟‬
‫ذهب معظم فلسفتنا ممن لم يتأثروا بنخالة الفكر اليوناني ول بزبالة الفكر‬
‫الروماني والمسيحي إلى أن السبب والنتيجة يتعايشان والعلقة بينهما علقة‬
‫مصاحبة ومعية ‪ .‬بمعنى أن النسان يحصل له الرواء حينما يشرب الماء ‪ ،‬ولو‬
‫شاء الله جل وعل لجعل الماء غير قاطع للعطش ‪ ،‬وأن المحترق يحترق ل‬
‫لن الحتراق لزم للنار ‪ ،‬ولكن الحتراق يحصل مع وجود النار ل بسبب النار ‪،‬‬
‫وإنما بين السبب والنتيجة ‪ ،‬من هنا فليس شيئا ً يحيله العقل وليس شيئا ً يرده‬
‫المنطق أن تتعطل بعض النواميس وأن تبطل بعض السباب وأن تتخلف‬
‫بعض النتائج عن أسبابها ‪ .‬هذا على مستوى النظري ‪.‬‬
‫ولقد كان علماؤنا الماضون رضي الله عنهم إذا جاءهم المر من كلم الله أو‬
‫من كلم رسوله عليه الصلة والسلم ل يبحثون في تعليله وإنما يبحثون في‬
‫مدى ثبوته ‪ ،‬فإذا ثبت بالدليل القطعي فعلى الرأس والعينين ‪ ،‬وإذا لم يثبت‬
‫م ؟ ول يقولون ‪ :‬كيف ؟ وإنما‬ ‫دوه غير آسفين ‪ .‬وحينما يثبت ل يقولون ‪ :‬ل َ‬ ‫ر ّ‬
‫يفسرون ما يعرفون ويتركون علم ما يجهلون تفسيره إلى الله تعالى ‪ .‬ذات‬
‫دث أبو هريرة رضي الله عنه بحديث فقال له عبد الله بن عباس رضي‬ ‫يوم ح ّ‬
‫الله عنهما ‪ :‬كيف ذلك ؟ قال له أبو هريرة ‪ :‬يا ابن أخي إذا جاء الحديث عن‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم فل تضرب له المثال ‪ .‬إياك ‪ ،‬المسألة‬
‫ليست مسألة كلم يجوز لنا أن نأخذ منه أو أن نترك ‪ ،‬المسألة أنها كلم النبي‬
‫سر ‪ ،‬وما لم‬ ‫ت فاعمل وافهم وف ّ‬ ‫المرسل الذي ل ينطق عن الهوى ‪ ،‬فما عرف َ‬
‫كل العلم إلى العالم ‪ ،‬إن من وراء هذا علم الله تعالى الذي أحاط‬ ‫تعرف ف ِ‬
‫ً‬
‫بكل شيء علما ‪ .‬ودعك من هذا ‪ ،‬إن من وراء ذلك مسيرة علمية بشرية‬
‫ً‬
‫كونية ماضية في طريقها ‪ ،‬ما جهلته اليوم من جوانب العلم فستعرفه غدا أو‬
‫بعد غد أو بعد عشرات أو مئات السنين ‪ ..‬فالتهجم على النكار لمجرد النكار‬
‫فضيحة عقلية ‪ ،‬وأقول فضيحة عقلية لماذا ؟ لن حادث انشقاق القمر الذي‬
‫كبر على المعاندين والمهزومين أن يقروا به برغم وثاقة الطرق التي بلغنا بها‬
‫حادث واقع وثابت بالخبر وبالثر ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫منذ مدة قليلة أقل من عشر سنوات كتبت صحيفة أجنبية وهذا كلم نقوله‬
‫للذين يحتقرون كل نتاج محلي وينحنون ذلة وخضوعا ً لكل نتاج أجنبي ‪ ،‬كتبت‬
‫م الكشف عن معهد بوذي في الشرق القصى ‪،‬‬ ‫جريدة أجنبية تقول ‪ :‬إنه ت ّ‬
‫وُوجدت عليه كتابة وقرئت الكتابة ‪ ،‬وكان مفادها كالتي ‪ :‬إنه حدث في عصر‬
‫حسب تاريخ‬ ‫مضى حادث كوني رهيب هو أن القمر انشق نصفين ‪ ،‬وحينما ُ‬
‫الكتابة ُوجد مطابقا ً تماما ً للحادث الذي جاءت أحاديث أصحاب رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم تشير إليه ‪ .‬وفي رسالة للدكتور محمد محمد السماحي‬
‫من كبار علماء الزهر إشارة أخرى إلى واقعتين أثريتين أخريين تثبتان حصول‬
‫هذه الواقعة ‪ .‬فماذا يقول المهزومون ؟ إذا حصلت الواقعة بهذا الشكل‬
‫يقرون بها ‪ ،‬لنها جاءتنا عن طريق الجانب ‪ ،‬وأما حين تأتينا عن طريق‬

‫‪8‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫القرآن وعن طريق السنة النبوية فنحن ل نخجل من التحايل على نص‬
‫القرآن لكي نصرفه عن وجهه ‪ ،‬ول نخجل من اتهام أوثق الناس على الطلق‬
‫بأنهم واهمون أو كاذبون حينما ينقلون إلينا الخبار ‪ .‬وإذا ً فواقعة انشقاق‬
‫القمر حادث ل مجال لنكرانه ‪.‬‬
‫بقيت حول هذه النقطة أريد أن أشير إليها ‪ ،‬وصاحبها عزيز علي وعلى كل‬
‫مسلم ‪ ،‬ولكن الحق دائما ً أعز من أي إنسان ‪ ،‬إن أستاذنا شهيد السلم‬
‫المرحوم سيد قطب رجل معروف بالتقى ‪ ،‬ومعروف أنه شديد الحترام لما‬
‫ثبت في السنة النبوية ثبوتا ً قاطعا ً ‪ ،‬ولقد تعّرض لهذا المر ‪ ،‬وفي تقديري أنه‬
‫فذت على يد‬ ‫لو لم يعالجه الظالمون بالمؤامرة التي حيكت في موسكو ون ّ‬
‫الجلدين في مصر لكان خليق بأن يعيد النظر فيما كتب ‪ ،‬وأن يقول غير الذي‬
‫قال ‪ .‬إن الرجل عليه رحمة الله ورضوانه يورد الحاديث التي ذكرنا جانبا ً منها‬
‫‪ ،‬ويقرر أن الحادثة واقعة ول مجال لنكارها على الطلق ‪ .‬ولكن ليست هي‬
‫المعجزة الكونية ‪ ،‬وإنما هي كرامة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ‪،‬‬
‫وآية ظهرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غير طلب من‬
‫المشركين ‪ .‬قد يكون هذا الكلم غامضا ً أو غير مفهوم من قبل البعض ‪ .‬إن‬
‫الستاذ سيد قطب رحمه الله يستند في ذلك إلى عموم من عمومات القرآن‬
‫ذب‬ ‫‪ ،‬عندنا في سورة السراء آية تقول ) وما منعنا أن نرسل باليات إل أن ك ّ‬
‫بها الولون ( ومنذ عدة سنوات وفي غير هذا المكان وغير هذا البلد سئلت‬
‫هذا السؤال ‪ :‬ما معنى قول الله تعالى ) وما منعنا أن نرسل باليات إل أن‬
‫ذب بها الولون ( ؟ وقلت يومها كلما ً مغنيا ً حول هذا الموضوع يتعلق برد‬ ‫ك ّ‬
‫المر إلى شيء يتصل بصميم الرسالة إل أنني هنا أحب أن ألقي الضواء‬
‫على جوانب أخرى ‪.‬‬
‫أول ً ـ قلت إن الستاذ رحمه الله أقّر بالحادثة ‪ ،‬لن بين يديه أحاديث ل مجال‬
‫لردها ‪ ،‬وهو كما قلت لكم شديد الحترام لما ثبت بالنقل الصحيح عن رسول‬
‫الله ‪ ،‬ولكنه فّرق بين الية والكرامة والمعجزة ‪ ،‬وهو تفريق ل معنى له ‪،‬‬
‫وحينما بحث ابن تيمية وهو من أئمة السلم وهو رجل ُيرمى من قبل‬
‫الجاهلين المغفلين المضللين بأنه عدو للنبوات وعدو للمعجزات حينما بحث‬
‫رضي الله عنه موضوع النبوات لم يفّرق بين المعجزة التي تكون للنبياء‬
‫وبين الكرامة التي يكرم الله بها بعض أوليائه ‪ ،‬وقال إن المعجزة والكرامة‬
‫من باب واحد على اعتبار أنهما خرق لناموس من نواميس الكون ولما جرت‬
‫به عادة الله في خلقه وعادات الناس فيما بينهم ‪.‬‬
‫فالتفريق بين المعجزة والكرامة تفريق يشبه أن يكون تفريقا ً لفظيا ً ليس له‬
‫محصل عملي ‪ ،‬وحينما يقول إنها آية جاءت إكراما ً لرسول الله من ربه جل‬
‫وعل فنحب أن نقول ‪ :‬وهل المعجزات إل آيات ؟ والقرآن معجزة النبي‬
‫الكبرى ‪ ،‬فماذا هو غير هذه اليات ؟ وهل سماه الله بشيء غير اليات ؟‬
‫والمعجزات حينما نتتبع تسمياتها وأوصافها في القرآن ل نجدها بلفظ‬
‫المعجزات ‪ ،‬ففي كل القرآن ل يوجد لفظ معجزة ‪ ،‬جاءت البصائر ‪ ..‬جاءت‬
‫اليات ‪ ..‬جاءت البينات ‪ ..‬وما في معنى ذلك وكلها تشير إلى معجزات كونية‬
‫خارقة ‪ ،‬والية هي المعجزة بالذات ‪ ،‬ولسنا محتاجين إلى كثير من إعمال‬
‫الفكر ‪ ،‬نرجع إلى فاتحة السورة ) اقتربت الساعة وانشق القمر ‪ ،‬وإن يروا‬
‫آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ( هنا ُوصف انشقاق القمر بأنه آية ‪ ،‬والية‬
‫هي ما كان واضحا ً في الدللة على المقصود وضوحا ً ل يخفى على أحد في‬
‫شيء من إدراك ‪ .‬وأما أن المشركين المكيين لم يطلبوا ذلك من رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم فهذا غريب من الستاذ سيد رحمة الله عليه ‪ .‬إنه لم‬

‫‪9‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ف عليه بل هو ساق في جملة ما ساق من الحاديث النصوص التي تقول‬ ‫يخ َ‬


‫إن أهل مكة طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية ‪ ،‬فأراهم‬
‫انشقاق القمر نصفين ‪ ،‬فأي معنى بعد ذلك لعمال قسم من الحديث وإهمال‬
‫قسم آخر ‪ ،‬هذا ل معنى له ‪ ،‬إذا أنا صدقت بالحديث فهذا يعني أني أصدق‬
‫بالحديث كله ‪ ،‬وإذا لم أصدق به فأنا أرفضه كله ‪ .‬أما أن آخذ ما أريد وأن أدع‬
‫ما أريد فأخشى أن ل يكون هذا المسلك مسلكا ً عقلنيا ً ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫استناد الستاذ سيد إلى قضية معروفة ‪ ،‬إن تتبع المعجزات الماضية التي‬
‫جاءت على يد النبياء الماضين معجزات ذات طابع خاص ‪ ،‬والله جل وعل‬
‫ذب بها الولون (‬ ‫ذكر في هذه الية ) وما منعنا أن نرسل باليات إل أن ك ّ‬
‫جت‬ ‫فدلت الية على أن الله جل وعل إذا عاندت أمة رسلها فكذبت وأبت ول ّ‬
‫في عنادها فجاءت آية خارقة بناًء على طلب المرسل إليهم فكذبوا بها فإن‬
‫الله جل وعل مضت سنته في عباده أن يسلط عليهم عذاب المحو والمحق‬
‫والستئصال ‪ ،‬ولما كان هذا لم يحصل بالنسبة إلى العرب الذين كانوا بين‬
‫أظهر محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬أو الذين كان محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم بين أظهرهم فذلك يعني أن ما جاء في بعض الحاديث من أن المكيين‬
‫طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية شيء يستحق الرفض أو‬
‫التوقف على القل ‪.‬‬
‫ونقول ‪ :‬إن المسألة ليست في هذا المستوى أبدا ً ‪ ،‬إننا نقرأ من وقائع‬
‫السيرة وفي صحاح الحديث ومن نقل إلينا من أخبار نبينا صلى الله عليه‬
‫وسلم أن زعماء المكيين ‪ :‬أبا جهل وأبا سفيان وعتبة وشيبة وأضرابهم مشوا‬
‫ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له ‪ :‬يا محمد إنك قد‬
‫ت من‬ ‫ت أحلمهم وضلل َ‬ ‫فه َ‬ ‫ت فيه جمعهم وس ّ‬ ‫ت قومك بأمر عظيم ‪ ،‬فّرق َ‬ ‫جئ َ‬
‫مضى من آبائهم ‪ ،‬فاسأل الله جل وعل أن يعطيك آية ترينا منزلتك وكرامتك‬
‫على الله ‪ .‬قال لهم ‪ :‬إنني ما ُبعثت بهذا إليكم ‪ ،‬وإنما ُبعثت إليكم بل إله إل‬
‫الله ‪ ،‬فإن تقبلوها مني فهي حظكم في الدنيا والخرة ‪ ،‬وإن تردوها علي‬
‫أصبر لمر الله حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ‪ .‬قالوا ‪ :‬إن لم تفعل‬
‫فنحن نراك تضطرب في السواق وتبيع وتشتري فاسأل الله أن يجعل لك‬
‫جنات وقصورا ً كما جعل لملوك فارس والروم ‪ .‬قال ‪ :‬ما ُبعثت إليكم بهذا‬
‫وأعاد عليهم نفس المقال ‪ .‬قالوا ‪ :‬أما إذ أبيت أن تسأل الله لنفسك فأنت‬
‫ترى أننا أهل بلد ل أضيق منا عيشا ً ول أضيق منا رقعة ‪ ،‬فاسأل الله أن يحول‬
‫الصفا والمروة ذهبا ً ‪ .‬فقال ‪ :‬ما بهذا ُبعثت ‪ .‬قالوا ‪ :‬فاسأل الله أن يحول عنا‬
‫هذه الجبال التي ضّيقت علينا وأن يخرج لنا النهار حتى تكون بلدنا رخية‬
‫خصيبة ‪ .‬قال ‪ :‬ما بهذا أرسلت إليكم ‪ .‬وجاءه ملك ربه تبارك وتعالى ‪ ،‬قال له‬
‫ولت عنكم هذه الجبال‬ ‫فذت لكم ما تريدون وح ّ‬ ‫‪ :‬يا محمد قل لهم إن شئتم ن ّ‬
‫ً‬
‫وأحلت لكم الصفا والمروة ذهبا فإن تؤمنوا فذاك وإل أحللت بكم ما أحللت‬
‫بالمم الماضية المكذبة من قبلكم ‪ .‬وكان ذلك تخييرا ً من الله لنبيه صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وكانت الخيرة بيد محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وسأل الله جل‬
‫وعل أن ل يأخذ أمته بغضبه ‪ ،‬واستعاذ بالله من ذلك ‪ ،‬وقال للملك ‪ :‬بل‬
‫أستأني بهم وأصبر عليهم لعل الله تعالى أن ُيخرج من أصلبهم من يوحد الله‬
‫تعالى ‪.‬‬
‫إذا ً فها هنا آيات كونية لو أنها جاءت على سبيل المعاجزة والتحدي ثم كلب‬
‫ّ‬ ‫ُ‬

‫‪10‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بها لحصل ما حصل ‪ ،‬ولكن ها هنا آية سماوية لم تكن نتيجة تحد ٍ وإنما جاءت‬
‫طلبا ً لظهار المنزلة والكرامة التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند‬
‫ربه ‪ ،‬إن الله تعالى أهلك القوام الماضية حينما وضع بين أيديهم خوارق‬
‫مادية يلمسونها لمس اليد ‪ ،‬ثمود حينما عقروا الناقة ‪ ،‬لم تكن هذه الناقة من‬
‫النوق السارحة ‪ ،‬وإنما طلبوا هم أن ُيخرج الله لهم الناقة من هضبة عينوها‬
‫له ‪ ،‬واستجاب الله لهم وأخرج ناقة من هضبة صماء ‪ ،‬فكانت ناقة تأكل‬
‫وتشرب وتسرح وتمرح ‪ ،‬وكان لها يوم معين لتشرب ‪ ،‬ولهم يوم معين‬
‫ليشربوا ‪ ،‬وكانوا ينتفعون بلبنها ‪ ،‬وظلت آية بّينة على صدق الرسول المرسل‬
‫إليهم حتى انبعث أشقاها فعقر الناقة فأحل الله بهم ما أحل ‪.‬‬
‫وأما هذا فالمر ليس كذلك ‪ ،‬وفي تقديري أننا نحتاج قبل البت لمور من هذا‬
‫القبيل تتعلق بمعجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن نفّرق بين قوم‬
‫وقوم ‪ ،‬وأن نفّرق بين معجزة ومعجزة ‪ ،‬وقضية من هذا القبيل ل ُيقضى بها‬
‫بكلم ُيلقى على المنبر لنها أدق وأعمق من أن تساق على المنابر ‪ ،‬وإنما‬
‫حم على آيات الله جل‬ ‫قلت ما قلت لكي أنبه الخوة جميعا ً إلى خطر التق ّ‬
‫وعل بالتكذيب أو بإلقاء الشبه والشكوك من حولها ‪ ،‬فكم من كلم لله وكم‬
‫من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنكره من أنكره في الماضي‬
‫ثم جاءت البيانات والشواهد والحقائق المادية مصدقة لهذا الذي نطق به‬
‫القرآن أو هذا الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫وبعد فثمة حديثا ً صحيحا ً جدا ً مرويا ً في البخاري وغيره يستند إليه هؤلء‬
‫المنكرون ول مستند لهم فيه ‪ ،‬إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫ما من نبي من النبياء من قبلي إل أوتي ما مثله آمن عليه الناس ‪ ،‬وكان‬
‫الذي أوتيته وحيا ً من الله ‪ ،‬فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا ً يوم القيامة ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫حينما ندقق في صياغة الحديث ‪ ،‬والكلم كلم رسول الله وليس الكلم كلم‬
‫الدميين العاديين ‪ ،‬أي كلم رجل مسؤول يضع كل حرف في مكانه الذي ل‬
‫يغني حرف في سواه نجد المر ل يفيد الحصر بحال من الحوال ‪ .‬ل يعني‬
‫ذلك أن الية الوحيدة التي أوتيها رسولنا صلى الله عليه وسلم هي هذا‬
‫القرآن ‪ ،‬ولكن يعني التفريق والتمييز بين وسيلة البلغ عنده ووسيلة البلغ‬
‫عند النبياء الخرين دون أن يتطرق ذلك إلى نفي المعجزات الخرى ‪ .‬يعني‬
‫بتعبير أدق أن المعجزات المادية الحسية المحدودة في الزمان والمكان هي‬
‫معجزات موقوتة وليست لها صفة الديمومة والخلود ‪ .‬وما كان من معجزات‬
‫للنبياء الماضين عليهم الصلة والسلم فقد انقضت بانقضاء زمنهم ‪ ،‬فليس‬
‫في توراة موسى عليه السلم ما يدل على العجاز المتصل الخالد على النحو‬
‫الموجود في القرآن ‪ ،‬وليس في إنجيل عيسى عليه الصلة والسلم ما يدل‬
‫على العجاز المتصل الخالد على النحو الموجود في القرآن ‪ ،‬ومعجزاتهم‬
‫التي كانت سواء كانت انفلق بحر أو انقلب عصا إلى ثعبان هائل أو إحياء‬
‫ميت أو ما شابه ذلك فهي إن نفعت تنفع الناس الذين رأوها أو عاينوها ‪ ،‬ثم‬
‫هي بعد ذلك خبر من الخبار ‪.‬‬
‫ُ‬
‫ولكن المر بالنسبة إلى القرآن يختلف ‪ ،‬إن الذي أعطيه رسولنا صلى الله‬
‫عليه وسلم كوسيلة مستمرة وخالدة للدعوة هي هذا القرآن ‪ ،‬لن القرآن‬
‫بذاته وبنظمه وبأسلوبه وبالحشد من الفكار والتصورات الموجودة فيه يحمل‬
‫العجاز الذي ل ينقطع والدليل الذي ل ُيقهر ول يكسر على سلمة هذا الدين‬

‫‪11‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وكمال وخلود هذا الدين ‪ .‬هذا كل ما يعطينا إياه الحديث ‪.‬‬


‫والذين يبشرون بالنجيل الن يواجهون خيبة المل في كل مكان ‪ ،‬والذين‬
‫بشروا بالتوراة يواجهوا خيبة المل في كل مكان وزمان ‪ ،‬ولكن الذين‬
‫سر ذلك ما جاء‬ ‫يبشرون بالقرآن يواجهون النجاح كل يوم وفي كل مكان ‪ .‬نف ّ‬
‫ثابتا ً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحكيه عن حاله صلوات الله‬
‫عليه وعن حال المرسلين عليهم السلم يوم القيامة يقول ‪ :‬إذا كان يوم‬
‫القيامة يأتي النبي وليس معه أحد ‪ ،‬ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلن ‪،‬‬
‫ويأتي النبي ومعه الرهيط أي الجماعة الصغيرة ‪ ،‬ثم يعقب فيقول ‪ :‬والذي‬
‫نفسي بيده إني لرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ‪ .‬وإذا ً فثمة أنبياء لم تكن‬
‫بين أيديهم معجزات تضمن استمرار الدعوة إلى البد ‪ ،‬ولهذا يأتون ول أحد‬
‫معهم ‪ ،‬وثمة أنبياء كانت لهم معجزات حسية على نطاق ضيق آمن بها نفر‬
‫صغير فهؤلء هم الذين يأتون ومعهم الرجل والرجلن ‪ ،‬وثمة أنبياء كانت لهم‬
‫شر بها أتباعهم من بعدهم فهؤلء يأتي معهم الرهط‬ ‫مع المعجزات كتب ب ّ‬
‫اليسير والنفر الصغير ‪ ،‬ولكن الجمهور العظم من أهل الجنة الذين يوافون‬
‫ربهم تبارك وتعالى يوم القيامة هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لن‬
‫الدعوة بالقرآن خالدة ل تتخلف ول تتعطل ‪.‬‬
‫ولكن هذا ل يعني أنه عليه الصلة والسلم ليست له معجزات ‪ ،‬والنبي صلى‬
‫الله عليه وسلم ببركته كّثر الطعام ‪ ،‬ودعاه واحد من أصحابه على جدي‬
‫صغير وقليل من دقيق الذرة لكي يأكل لما رأى منه من الجوع ‪ ،‬فلما أخبره‬
‫بذلك قال له ‪ :‬ادع ُ المهاجرين والنصار ‪ .‬ودعاهم ووضع عليه الصلة والسلم‬
‫كسر الخبز ووضع فوقها المرق وشيئا ً من اللحم وقال لهم ‪ :‬كلوا باسم الله‬
‫ويده على الطعام يبّرك عليه حتى صدروا عنه وإنهم لكثر من مائة شخص ‪.‬‬
‫ح المياه في غزوة من الغزوات فأتوه بقدح فيه‬ ‫كيف وقد شكا إليه الناس ش ّ‬
‫قليل من الماء ل يواري الكف فوضع يده فيه فأصبح الماء يفور من بين‬
‫أصابعه صلى الله عليه وسلم حتى صدروا جميعا ً رواًء وكانوا كما يذكر الراوي‬
‫رضي الله عنه خمس عشرة مائة أي ألفا ً وخمسمائة شخص ‪.‬‬
‫ح عليه الماء ذات يوم وكانوا في طريق قفرة فمرت امرأة‬ ‫كيف وقد ش ّ‬
‫تحمل مزادتين من ماء فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‬
‫لها ‪ :‬متى عهدك بالماء ؟ قالت ‪ :‬مسيرة يوم وليلة ‪ .‬والمسلمون عطاش ‪،‬‬
‫فقال النبي عليه الصلة والسلم ‪ :‬بسم الله وفتح المزادتين وقال ‪ :‬خذ ‪،‬‬
‫وأخذ الجيش وملوا أزوادهم وسقوا رواحلهم ولم ينقص من المزادتين‬
‫شيء ‪ ،‬بل كانتا قبل الخذ منهم أقل مما كانتا عليه من بعد ما ُاخذ منهما ‪.‬‬
‫فلما جاءت قومها قالت لهم ‪ :‬جئتكم من عند أسحر الناس أو إنه نبي‬
‫بالفعل ‪ .‬وأسلمت وأسلم القوم كلهم ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫إذا ً ل مجال لنكار بعض المعجزات الثابتة المنقولة إلينا بنقل الثقات العدول‬
‫الذين نقلوا إلينا أحكام الحلل والحرام مهما تكن درجة الهزيمة العقلية ‪ ،‬لننا‬
‫يوم أن نجازف بكلم من هذا القبيل فنحن نهدم السس التي قام عليها بناء‬
‫هذا الدين كله ‪ .‬ماذا عندنا ؟ قرآننا منقول بنقل الرجال ‪ ،‬ومات عليه الصلة‬
‫والسلم والقرآن محفوظ في الصدور ‪ ،‬وبالرغم من اللواح والقطع التي كان‬
‫ن عن معارضته اللواح لما كان مجموعا ً في صدور‬ ‫ً‬
‫مكتوبا عليها فذلك لم يغ ِ‬
‫أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ .‬فإذا طعنا بالرواة طعنا بالقرآن‬

‫‪12‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بالذات ‪ ،‬كيف يكون هذا وما نعرفه من شئون العقائد ومن شئون الشريعة‬
‫منقول إلينا من هؤلء الرواة الذين كانوا لئن يخّر أحدهم من السماء إلى‬
‫الرض ولئن يحترق أحدهم حتى يكون حممة أهون عليه من أن يكذب على‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ كيف نرد ّ هذه الروايات وهي ثابتة بالنقل‬
‫الصحيح ؟ ألمجرد أننا نشعر إننا أمة ضعيفة مخذولة مهزومة ؟ هذا ل يجوز ‪،‬‬
‫آن لنا أن نعرف أن ديننا ليس فيه غموض وليس فيه أسرار ‪ ،‬إن الغرب الذي‬
‫يتعاجب بمسيحيته يرى أن مسيحيته التي يأخذ بها ل تروج حتى بين الوثنيين‬
‫الذين يعيشون في مجاهل أفريقيا وأستراليا حتى الن ‪ ،‬ومع ذلك فهم‬
‫يرفعون الرأس بها ‪ ،‬وأما نحن فأصحاب العقيدة الواضحة وأصحاب الشريعة‬
‫السمحة فنحن نخجل من بعض المور التي أخبر القرآن بها أو أخبر بها‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ل لنها غير حقيقية ولكن لنها موضع اتهام‬
‫من قبل أعدائنا ‪ ،‬ولنها محل هجوم من قبل أعدائنا ‪ ،‬إن هذا ينبغي أن يزيدنا‬
‫ونها في أنفسنا طرفة عين ‪.‬‬‫بها استمساكا ً وأن ل يه ّ‬
‫أتصور أن هذه القضية أخذت ما فيها الكفاية ‪ ،‬وليس عندي حولها بعد ذلك ما‬
‫أقوله على المنبر ‪ ،‬ما وراء ذلك من بحث فليس مكانه المنبر ولكنه كلم‬
‫ُيكتب أو كلم يتطارحه الناس في مجالسهم الخاصة ‪ ،‬لنه بعد هذا المستوى‬
‫يصبح كلما ً غير مفهوم ‪ ،‬ل تؤاخذوني إذا وقفت عند هذا الحد ‪.‬‬
‫بقيت في السورة بعض القضايا التي تحتاج إلى عرض ‪ ،‬ل أدري ربما أقف‬
‫عندها في الجمعة القادة أو ل أقف ‪ ،‬ليس هذا مهما ً ‪ ،‬إنما المهم أن نستعين‬
‫الله جميعا ً على أن يرزقنا السداد في العتقاد وأن يرزقنا الثقة لمقررات‬
‫الدين الحنيف في كتاب ربنا ‪ ..‬وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله‬
‫وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة القمر‬


‫الجمعة ‪ 9‬ذي القعدة ‪ 21 / 1397‬تشرين الول ‪1977‬‬
‫) ‪ 3‬من ‪( 4‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله من الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫لقد رأينا أن نقف اليوم عند معنيين من سورة القمر نرى أن من اللزم أن‬
‫نقف عندهما ‪ ،‬ل أقول إكمال ً للحديث عن السورة ‪ ،‬فذلك فوق الوسع وأكبر‬
‫من الطاقة ‪ ،‬ولكن إبرازا ً لبعض ما هو ضروري وتلزم معرفته في هذه اليام‬
‫التي مرج فيها أمر السلم والمسلمين ‪.‬‬
‫سمعتم السورة من قبل ‪ ،‬وقراءة السورة بذاتها تغني والله أعلم عن كل‬
‫إضاءة وعن كل شرح ‪ ،‬لول أن الناس في هذه اليام مصروفون بشدة في‬
‫طرائق وسبل ل يرضاها الله ول تنسجم مع وحي الله تعالى ‪ ،‬ولقد بلغت من‬
‫شدة هذه الطرائق أنها حولت المنكر معروفا ً ‪ ،‬والمعروف منكرا ً ‪ ،‬وجعلت‬
‫من قضايا السلم ومبادئه الولية والساسية حديثا ً يقع من الذان موقع‬
‫الستغراب وتكاد القلوب تنكره أشد النكار ‪ .‬وذلك كله يبرر في نظرنا‬
‫الفاضة في كثير مما ل يستدعي الفاضة ‪ ،‬ولكنها الضرورة التي ل محيص‬
‫عن النزول عند أحكامها ‪.‬‬
‫سمعتم السورة ويمكن أن نقول بكل اختصار إن سياقة السورة على النحو‬

‫‪13‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫التي سيقت عليه يراد منه أساسا ً أن تطرد من ذهن رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم بعض التصورات التي ل بد أن تقع في ذهن النسان أي إنسان‬
‫وهو في غمرة العمل وعلى وجه الخصوص ل بد أن تقع في أذهان أولئك‬
‫النفر من الناس الذين بلغت القضية التي يدعون إليها شغاف قلوبهم ‪،‬‬
‫واستقرت في مكان القناعة التي ل تناقش ‪ ،‬فهؤلء حينما يرون من الناس ما‬
‫يرون من استغراب وشك وارتياب وسخرية واستهزاء وخصومة ‪ ،‬بل ولدد في‬
‫هذه الخصومة ‪ ،‬ثم يتحول ذلك كله إلى موجة عارمة وطاغية من الرغبة‬
‫بالفتك والقتل والمحو والستئصال ‪ ،‬إن الطراز من الناس الواثقة من أحقية‬
‫ما يدعو إليه في مواجهة موقف كهذا بحاجة إلى السلوى والعزاء ‪.‬‬
‫ولكنه العزاء الذي ل يكون من نوع التمنيات ولكن بسرد وقائع الماضين ممن‬
‫يماثلونه في الوصف ويحملون من الرسالة مثلما يحمل ‪ ،‬لكي يخرج هذا‬
‫الصنف من الناس بالنطباع اللزم أن طبع الناس هكذا ‪ ،‬وأن معطيات‬
‫الطريق ل بد أن تكون بهذا الشكل ‪ ،‬وأنها يوم أن تكون على غير هذا الشكل‬
‫فذلك يعني قطعا ً أن الطريق غلط ‪ .‬السورة برمتها من حيث الساس وفي‬
‫المبدأ أرادت أن تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ل مكان للعجب‬
‫من موقف قومك منك ‪ ،‬فتلك هي طبيعة الشياء وذلك هو رجع المجتمعات‬
‫الجاهلية على الدعوات التوحيدية التي جاءت في كل جيل وبين كل قبيل ‪،‬‬
‫وإذا ً فالواجب هو الصح ‪ ،‬ومواصلة الطريق ومتابعة بذل المجهود ‪ ،‬وما يلقاه‬
‫الداعي إلى الله تعالى ممن يوئس ويحمل على السوداوية فذلك ل علج له‬
‫ت أن تبتغي‬ ‫إل المزيد من الصبر ) وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطع َ‬
‫نفقا ً في الرض أو سلما ً في السماء فتأتيهم بآية ( ل يمكن ‪ ،‬ولهذا فوعد الله‬
‫نبيه عليه الصلة والسلم إزاء ضيق الصدر هذا أن ل يكون من الجاهليين ‪،‬‬
‫لن التضعضع والملل واليأس والقرف لبعض ما يلقاه النسان في طريقه‬
‫مما هو في طبعه منفر ليس من أخلق الدعاة ‪ ،‬ول من طبع النبيين ‪ ،‬ول من‬
‫وصف السائرين في طريق الرسالة ‪.‬‬
‫دد الله تعالى عليه من نبأ الماضين أنباًء فذكر له ما كان من‬‫من أجل ذلك ع ّ‬
‫قوم نوح مع نبيهم عليه الصلة والسلم ‪ ،‬وأعطاه هذه اللمحة الموجزة‬
‫) كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ( وما زادت‬
‫السورة في الوصف على هذا شيئا ً ‪ ،‬لكنها حددت باختصار ما يكفي لقناع‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مثله في الدعوة كمثل إخوانه من‬
‫النبياء ‪ ،‬وأن مثله في ضرورة الصبر على البلء كمثل إخوانه من النبياء أيضا ً‬
‫‪ ،‬وحسبه أن يفكر بهذا الذي أخبره الله به عن موقف قوم نوح من نوح بأنهم‬
‫كذبوه ‪ ،‬ولم يكتفوا بالتكذيب وإنما قالوا مجنون ‪ ،‬ووقع هذه الكلمة غير‬
‫مجهول من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم لن سفهاء قريش قالوا‬
‫عن محمد صلى الله عليه وسلم نفس الكلم ‪ ،‬ووصفوه بذات الوصف ونبذوه‬
‫بنفس اللقب ‪ ،‬قالوا عنه مجنون ‪.‬‬
‫ولهذا فحين تلقى في أذن النبي عليه الصلة والسلم بطريق الوحي هذه‬
‫اللفظة فإن لها في نفسه وقلبه وفكره وشعوره ظلل ً ل نستطيع أن نحس‬
‫بها ‪ ،‬لنها تلك الظلل التي تتضخم بفعل التجربة المعاشة والمعاناة التي كان‬
‫يعانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلء القوم ‪.‬‬
‫وجاءت اليات بجانب آخر من جوانب موقف الكافرين من قوم نوح بهذه‬
‫اللفظة المفردة ) وازدجر ( يعني زجر وُنهي وُأغلظ له القول ‪ ،‬وأيضا ً هذه‬
‫يدركها رسول الله صلى الله عليه وسلم جيدا ً ‪ ،‬لنه من أول يوم جاءه‬
‫المشركون حينما رأوه على حالة لم يألفوها ولم يعهدوها واقفا ً بين يدي ربه‬

‫‪14‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫قارئا ً راكعا ً ساجدا ً على خلف ما يعهدون في أداء الشعائر لصنامهم ‪ ،‬نهروه‬
‫وتهددوه وتوعدوه ‪ ،‬فهو يعرف عليه الصلة والسلم ما تعنيه هذه الكلمة‬
‫) وازدجر‬

‫)‪(1 /‬‬

‫وكذلك عرضت اليات لما كان من قوم عاد ‪ ،‬لم تزد شيئا ً على أنها كذبت ‪،‬‬
‫ل الله بها جزاء الفعلة التي لم يسبقهم بها أحد‬ ‫وما كان من قوم لوط وما أح َ‬
‫ل الله بقوم فرعون على صورة وجيزة ‪ ،‬لكن‬ ‫من العالمين ‪ ،‬وكذلك ما أح ّ‬
‫ً‬
‫يلفت الذهن والنظر ما جاء عن قوم ثمود ‪ ،‬مرارا قلت لكم إنني أتمنى لو أن‬
‫الله سبحانه وتعالى وهبنا سلئق الماضين من أهل اللسان الذين يدركون‬
‫تماما ً حقائق اللفظ اللغوي وإيحاءات الكلم العربي الذي نزل به القرآن ‪،‬‬
‫وإن لم يكن إلى ذلك سبيل فلنجتزء بالقليل وما لم تكن إبل فمعزة ‪.‬‬
‫حينما جاء الكلم على ثمود جاء سياق اليات بصورة تقف الذهن عند حقائق‬
‫من حقائق السيرة النبوية تتشابه من المشركين حذو النعل بالنعل وتتشابه‬
‫من العاندين عن أمر الله حذو النعل بالنعل أيضا ً ن ولكن الجديد فيها أنها‬
‫صت اليات المر على النحو‬ ‫ذات إيحاءات مزدوجة ‪ ،‬واسمعوا ما أعني ‪ :‬ق ّ‬
‫التالي ) كذبت ثمود بالنذر ( ول شيء جديد فكل أمة جاءها رسولها كذبته‬
‫للوهلة الولى ‪ ،‬لكن مقولة هؤلء الناس ومواقفهم هي التي تشد الذهن نحو‬
‫التأمل البالغ ‪ ،‬ونحن محتاجون لن ندقق بعض الشيء في الشرح لن الكلم‬
‫اللهي في القرآن شديد التكثيف ‪ ،‬فهو إذا ً إلى فضل تأمل ) فقالوا أبشرا ً منا‬
‫واحدا ً نتبعه إنا إذا ً لفي ضلل وسعر ‪ ،‬أءلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب‬
‫أشر ‪ ،‬سيعلمون من هو الكذاب الشر ( علينا أن نفكر هنا في دقة الصياغة‬
‫القرآنية وما توحيه هذه الصياغة ) فقالوا أبشرا ً منا واحدا ً نتبعه ( وإذا ً ففي‬
‫هذا الكلم الموجز تكثيف شديد لموقف كل أمة إزاء الدعوة الجديدة ) أبشرا ً‬
‫( وهذه لفظة ) منا ( لفظة مفردة ) واحدا ً ( لفظة مفردة ) نتبعه ( إذا فهذه‬
‫أربع كلمات ‪ ،‬انظروا ما الذي تحويه وما الذي تشير إليه وما هي المشابه بين‬
‫هذا الموقف البعيد الموغل في التاريخ المتعلق بأمم بادت ولم يبقَ لها في‬
‫ذاكرة الناس إل ظلل وأصداء باهتة ‪ ،‬وبيم الموقف الذي كان يحياه رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم مع قومه في أوائل الدعوة ‪.‬‬
‫فأول ما قالوا ) أبشرا ً ( فهم يستنكرون إذا ً ما سبق للمكيين أن استنكروه ‪،‬‬
‫مما هو معروف أن الغربة قرينة الرهبة ‪ ،‬فما كان مألوفا ً لك فهذا ل يعطيك‬
‫أي رهبة ول يثير في نفسك أي استغراب ‪ ،‬ولكنك حين يفجؤك الشيء‬
‫الغريب تحس بهذه الرهبة ‪ ،‬إن البشر من طينة واحدة ( ولقد خلقنا النسان‬
‫من سللة من طين ( ولول تباين الوطان والعمار والجناس واللوان‬
‫س كل إنسان باللف لكل إنسان ‪ ،‬ومع ذلك فهذا الشعور‬ ‫واللغات لح ّ‬
‫ً‬
‫المشترك بين الناس الذي يحمل على اللفة يزيل كثيرا من منافع الغربة‬
‫التي قد تكون لزمة في بعض الحيان ‪ .‬فالمشركون من العرب حينما جاءهم‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة رأوا أنه بشرا ً يأكل مما يأكلون‬
‫ويشرب مما يشربون ويضطرب في السواق كما يضطربون ويسعى لمعاشه‬
‫كما يسعون ‪ ،‬وإذا ً فأي جديد يأتي به هذا النسان ؟ إن من شرائط الدعوة‬
‫التي تستلزم الذعان والطاعة والتصديق الجازم غير المتردد في عرف هؤلء‬
‫الناس ومعظم الناس أن تأتي بالغرائب وأن تأتي عن طريق عناصر مغايرة‬
‫لعناصر الناس ‪ .‬ولهذا كان من سؤال المكيين لرسول الله واعتراضهم على‬

‫‪15‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إرساله أنه كان من المفروض أن يكون الرسول ملكا ً من الملئكة ل بشرا ً‬


‫من البشر ‪ ،‬لن الملك من جنس آخر ومعقول في ظنهم ووهمهم أن يكون‬
‫الرسول بهذا الشكل ‪ ،‬ولكن الله تعالى أبان لهم فساد هذا التصور بقوله ) لو‬
‫جعلناه ملكا ً لجعلناه رجل ً وللبسنا عليهم ما يلبسون ( لنه ل سبيل ول طريق‬
‫إلى التفاهم إل بين المتحدين في النوع ‪ ،‬والملك وابن آدم يستحيل أن‬
‫يتفاهما ‪ ،‬والجن وابن آدم يستحيل أن يتفاهما كما يستحيل أن يتفاهم ابن آدم‬
‫مع الدواب ‪ ،‬فكل تفاهم ل بد من اتحاد الجنس لكي يكون هذا الشتراك‬
‫ذريعة إلى وحدة في المفاهيم والمشاعر تسّهل الشيء المطلوب ‪ ،‬فرد ّ الله‬
‫عليهم ذلك ‪.‬‬
‫ول شك أن هذه القضية وهذا الشكال وهذا الطعن في موضوع النبوة ترك‬
‫في نفس النبي عليه الصلة والسلم شيئا ً من اللم لهؤلء الناس الذين ل‬
‫يريدون أن يفهموا حقائق المور مع أنها في متناول اليد فجاءت الية هنا‬
‫تحكي قصة ثمود مع نبيهم وتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن ما‬
‫أثير في وجهك من شبهة ليس بدعا ً من المر ‪ ،‬من قبل قالته المم المكذبة‬
‫والمعاندة ) أبشرا ً منا ( في هذه اللفظة ) منا ( إشارة إلى مانع من الموانع‬
‫الحقيقية التي يتخذها كبار المشركين ذريعة إلى رفض الدعوة وتنكب طريقها‬
‫‪ .‬فمن المعلوم المشهود أن الرجل الغريب إذا جاء إلى قوم غير قومه له‬
‫عندهم من المكانة ما ليس لمن هو من أبنائهم ‪ ،‬ومن هنا قيل ‪ :‬ل كرامة‬
‫لنبي في قومه ‪ .‬وقبل اليوم قلت لكم إننا جربنا في كل مكان أناسا ً يأتون ‪،‬‬
‫ظ لهم من علم يرفع الرأس ول من منطق يسلب اللب ويأسر العقل ‪،‬‬ ‫لح ّ‬
‫ولكن تشرئب ل لشيء إل لنه غريب ‪ ،‬والغريب مرهوب ومطلوب للستماع‬
‫إليه ‪ ،‬وبضاعة ابن المكان كاسدة غير رائجة ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ولهذا فالمم الماضية حينما اعترضت ‪ ،‬اعترضت وهي تستند إلى هذه‬
‫الحقيقة المجتمعية البشرية النسانية ) منا ( يعني لو كان مرسل ً إلينا من غير‬
‫قومنا لهان المر ‪ ،‬ول شك أن العرب الذين ُووجهوا بالدعوة لو كان المرسل‬
‫إليهم من فارس أو الروم لكانت العتراضات عليه أقل ‪ ،‬إل أنه ل سبيل إلى‬
‫ذلك لستحالة التفاهم ولن الله تعالى قال ) وما أرسلنا من رسول إل بلسان‬
‫قومه ليبين لهم ( فحاجة البيان تقتضي اتحاد الجنس واتحاد اللسان وإل لو‬
‫كان المرسل من غير هؤلء القوم لهانت المسألة ) أبشرا ً منا واحدا ً ( لعل‬
‫بعضكم يتصور أن قول الله ) واحدا ً ( يعني أنه لو كان اثنين أو ثلثة أو أربعة‬
‫أو عشرة أقصد المرسلين لمكان ذلك أحرى أن ُيسمع لهم ‪ ،‬هذا خطأ لن‬
‫أسرار البيان العربي ليست هكذا ‪ ،‬حينما تقول العرب ‪ :‬هذا واحد ‪ ،‬فل تقصد‬
‫العدد دائما ً ‪ ،‬وإنما تقصد لزم العدد ‪ ،‬أي المفرد أي متفرد ‪ ،‬ليس معه من‬
‫يعينه ومن ينصره ‪ ،‬أي ل أعوان ول نصراء ول جنود ول أتباع ‪ ،‬وإذا ً فهذه‬
‫معضلة من المعضلت التي تعاني منها الدعوات ول سيما في المراحل الولى‬
‫‪ ،‬ودائما ً مع كل دعوة فالداعي واحد ‪ ،‬ما عدا ما رأينا في القرآن من تعزيز‬
‫الله جل وعل لبعض النبياء بواحد واثنين ‪ ،‬وإل فالنبياء مفردون ‪ ،‬إنسان واحد‬
‫يقوم بالدعوة تقوم في وجهه هذه المشكلة ‪.‬‬
‫الناس ول عيب حين نقر بواقع الناس ‪ ،‬الناس ل تتسرب العقائد والراء‬
‫والمبادئ والمذاهب إليهم فقط من طريق الحجاج العقلي وترتيب القضايا‬
‫المنطقية ‪ ،‬بل لعلي ل أعدو الحقيقة حينما أقول إن قضية العقل آخر سلح‬

‫‪16‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫في الميدان ‪ ،‬إن الناس ول سيما من هم دون الوسط ‪ ،‬السواد ‪ ،‬ل يكادون‬
‫يتساءلون عن مدى أحقية دعوة ما ‪ ،‬ولكنهم إذا رأوا الدعوة من حولها التباع‬
‫والنصار ورأوا لها الجند الكثيف انساقوا دون تساؤل ‪ .‬وإذا فهؤلء يساقون‬
‫بقوة الجماعة ل بقضية العقل ‪ ،‬ويساقون بالسواد ل بحجة المنطق ‪ ،‬ولهذا‬
‫فنحن نجد شرسة العداء أقوى ما تكون وأعنف ما تكون حينما تكون‬
‫الدعوات اللهية في مراحل الضعف وقلة العوان والنصراء ‪ ،‬حين ذلك تجد‬
‫سواد الناس معرضا ً عنها ‪ ،‬وعقلؤهم يماحكون ‪ ،‬ل نزول ً عند قضية عقل‬
‫ولكن تحايل ً على شهوات وعلى أطماع ‪ .‬والسلم دين واقعي ‪ ،‬أي أنه جاء‬
‫ليعتنقه بشر ‪ ،‬وهو من أجل ذلك ل يريد أن يغفل ول يهمل أية وسيلة من‬
‫الوسائل التي تؤدي إلى تدعيم الصف المسلم ‪ ،‬ولهذا فحين هاجر النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم إلى المدينة قال بصريح العبارة ‪ :‬أنا بريء ممن أسلم ولم‬
‫يهاجر ‪ ،‬لماذا ؟ لن من الضروري هنا أن ُيكّثر سواد المسلمين ‪ ،‬وليس‬
‫مقبول ً بحال من الحوال أن يجلس المسلم في زاوية من زوايا الرض ويقول‬
‫حسبي أنني مسلم وحسبي أنني أصوم وأصلي لله تبارك وتعالى وحسبي‬
‫أنب أؤدي ما علي ‪ ،‬ل ‪ ،‬فالمر أخطر من ذلك ‪ ،‬وأكبر من ذلك وأبعد ‪ ،‬وهذه‬
‫قضية حينما أشير إليها فليس المراد فقط أؤدي حق الصياغة في الموضوع‬
‫ولكن أن أؤدي حق المانة لكثير من الخوة الذين يصلون ويصومون ويحجون‬
‫ويزكون ويحجون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ً ‪ ،‬بل لولئك الذين يسيرون‬
‫يظنون أنهم يدعمون صف السلم ولكنهم يبتعدون عن الصف بتسارع ل‬
‫مثيل له إل في صفوف الشياطين وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا ً ‪.‬‬
‫إن السلم يتعّرض في بلده وخارج بلده لهجمة محسوبة ومدروسة تقوم‬
‫عليها رؤوس مردت على الكفر وتمرست في أفانين الصد ّ والنكران ‪ ،‬وإن‬
‫المسلمين ليست لهم عدة لدرء هذا الخطر ورد ّ هذه الغاشية إل أن يكون‬
‫صفا ً واحدا ً يعرفون ما يتوجب عليهم ويؤدون ما أراد الله منهم ‪ .‬فالسواد ل‬
‫بد منه ‪ ،‬لننا حين نسمح للصف السلم أن يتخلل فذلك يعني توهين العقيدة‬
‫من حيث النتيجة في قلوب المسلمين ‪ ،‬والسلم حريص على وحدة الصف )‬
‫إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ً كأنهم بنيان مرصوص ( حتى في‬
‫وقت الهول والرعب يطلب السلم هذه الوحدة الجامعة ‪ ،‬وفي صف الصلة‬
‫كان النبي عليه الصلة والسلم يقول ‪ :‬تراصوا ل يتخللكم الشيطان ‪،‬‬
‫فالسواد والجمع مهم في السلم ‪ ،‬لكن ثمة مرحلة هي مرحلة البناء ل بد‬
‫من معاناة القلة ‪ ،‬فذلك هو المر المفروض ولهذا قالوا ) أبشرا ً منا واحدا ً ( ل‬
‫يريدون أنه نبي واحد ولو كان نبيين لكان الوضع أحسن ولكن واحدا ً يعني‬
‫مجردا ً عن العوان ‪ ،‬ل يعينه أحد وليس من ورائه جمع ‪ ،‬أي ل يستند إلى قوة‬
‫وصولة وسلطان ‪ ،‬إن هذه مشكلة ‪ ،‬وهي مشكلة ل تستطيع عقول هؤلء‬
‫الناس أن تتحملها ول أن تستوعبها ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫وحينما تساءلوا هذا التساؤل قالوا ‪ :‬لو أننا فعلنا ذلك لكنا في ضلل أي بعدٍ‬
‫وضيعة عن الحق وسعر ‪ ،‬والسعر هو أقصى حالت الجنون ‪ ،‬هو الحالة التي‬
‫دمات الجنون كما يتّلعب الك ََلب بالكلب‬
‫تجد النسان فيها تتلّعب فيه مخ ّ‬
‫المسعور ‪ ،‬فهؤلء يظنون أن اتباعهم لهذا النبي بالرغم ما في الدعوة من‬
‫حق وهدى ونور مبين ‪ ،‬لنه بشر ولنه واحد إن هذا يعني أنهم فقدوا عقولهم‬
‫وأضلوا صوابهم ) إنا إذا ً لفي ضلل وسعر ( وأيضا ً نفس الشياء التي قيلت‬

‫‪17‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫لمحمد صلى الله عليه وسلم لكي يبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫مشدودا ً إلى هذا الموكب الكريم الذي سبقه من قبل والذي جاء هو لكي‬
‫وجه كله كخاتم للنبياء والمرسلين ‪.‬‬
‫يت ّ‬
‫فت‬ ‫ذاب ( كلمة خ ّ‬ ‫) أُألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر ( وكلمة ) ك ّ‬
‫وهانت على ألسنة المشركين الذين جابهوا محمد عليه الصلة والسلم ‪،‬‬
‫وهي كلمة وقالة كانوا يرتكبونها بل حق فقد قضى بينهم أربعين سنة ‪ ،‬ل‬
‫ُيعرف إل بالصدق والمانة والعفاف ‪ ،‬وحسبه صلى الله عليه وسلم شهادة‬
‫منهم أنه ظل يدعوهم في مكة ثلث عشرة سنة وبينه وبينهم ما صنع الحداد‬
‫وعنده أمانات المشركين ‪ ،‬كلما خاف واحد منهم على شيء يريد أن يحفظه‬
‫ذاب ‪ ،‬وفي‬ ‫أودعه عند محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬هم يقولون له أنت ك ّ‬
‫نفس الوقت يضعون ودائعهم عنده ‪ ،‬كيف يتلعبون على الواقع وعلى‬
‫الحقيقة ؟ لم ُيعرف طيلة عهده في الجاهلية ‪ ،‬أربعون عاما ً ‪ ،‬إل أنه الصادق‬
‫المين ‪ ،‬وبعد أن جلل الشيب صدغيه وجاء هم بهذا الذي جاءهم من عند الله‬
‫تعالى انفجرت دفائن الحقاد والشهوات والهواء فتجاوزوا الحقيقة وأكذبوا‬
‫ذاب ‪ ،‬وهذه كلمة‬ ‫أنفسهم وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ك ّ‬
‫فاحشة ومؤذية ‪ ،‬ولكنها ليست جديدة ‪ ،‬ما من نبي قبل محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم إل قيل له هذا الكلم ‪ ،‬فالتكذيب سمة لزمة لكل المجتمعات التي‬
‫جاءتهم النبياء ‪ ،‬والية أشارت أيضا ً إلى نوازع الحسد والنانية البغيضة في‬
‫هؤلء الناس ) أءلقي الذكر من بيننا ( كلمة قالتها قبيلة ثمود لنبيها عليه‬
‫الصلة والسلم كما قالتها قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) وقالوا‬
‫لول ُأنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( فهذه أيضا ً مشكلة‬
‫أخرى ‪ ،‬إن النبياء في العادة ل يبعثهم الله إل من نفس أقوامهم ‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فهم دائما ً يكونون من أشراف الناس ‪ ،‬لكن ليس من أشراف الناس في‬
‫المقاييس المجتمعية الباطلة بل من أشراف الناس في مقاييس الله تعالى ‪،‬‬
‫في مقاييس الحق والصواب ‪ ،‬والنبي عليه الصلة والسلم يقول ‪ :‬ما زال‬
‫ربي ينقلني من الصلب الطاهرة إلى الرحام الطاهرة فما تنشعب شعبتان‬
‫إل كنت في خيرهما ‪ .‬حتى ولدته أمه من أبيه عبد الله ‪ ،‬فالنبياء دائما ً ُيبعثون‬
‫مبرئين من الدنس ) والله أعلم حيث يجعل رسالته ( وبطبيعة الحال ليس‬
‫شرطا ً أن تنطبق أوصاف الشرف على أعراف الناس ‪ ،‬وكثيرا ً ما عرضت‬
‫لكم مقالة النبي عليه الصلة والسلم لصحابه وهو يسأل عن رجال ‪ :‬ما‬
‫تقولون في هذا ؟ فيمدحونه ‪ ،‬ثم يقول ‪ :‬ما تقولون في هذا ؟ فيقولون ‪ :‬يا‬
‫رسول الله هذا هين عليه آثار الزراية والفقر والمسكنة ‪ ..‬فيقول النبي عليه‬
‫الصلة والسلم مصححا ً لمفاهيم الجاهلية رادا ً أقدار الرجال إلى موازينها‬
‫الحقة ‪ :‬إن هذا خير من ملء الرض من مثل هذا ‪.‬‬
‫فالشرف ُتبعث منه النبياء ولكن ليس ضروريا ً أن تتفق موازين الحقيقة مع‬
‫أعراف الناس ‪ .‬لماذا ؟ لن مجرى الحياة النسانية غالبا ً ل يسير وفاقا ً‬
‫للمحاور التي أرادها الله جل وعل ‪ ،‬انظروا كيف كان رد ّ الفعل لدى أعرابي‬
‫يعيش في زمن النبي عليه الصلة والسلم في أوائل الدعوة حينما جاءه ورآه‬
‫ونظر إلى الذين آمنوا به ملتفين من حوله فرأى فيهم الضعفاء والحبشان‬
‫والرومان ورأى كبراء قريش متروكين قال ‪ :‬وي إن هذا يريد أن يجعل‬
‫السافل أعالي ‪ ،‬والعالي أسافل ‪ .‬وهذا صحيح ‪ ،‬لن الدعوة في الحقيقة‬
‫تريد أن تعيد أقدار الناس لكي توزن في موازين الحق والصواب ‪ ،‬وأما أن‬
‫وم من خلل شهوات وما أشبه ذلك ‪ ،‬فذلك هو‬ ‫ُتترك أقدار الناس لكي تق ّ‬
‫الخبال البشري ‪ ،‬وهذا أمر أظن الناس يعرفونه ‪ ،‬فمن قبل وكل واحد منا‬

‫‪18‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عاصر في جيله أناسا ً كان يشار إليهم بالبنان تغّيرت القيم واختلت الموازين‬
‫دون في الذناب ‪ ،‬وتقدم إلى الرؤوس أناسا ً‬ ‫واختلفت المفاهيم وأصبحوا ُيع ّ‬
‫من قبل قرشا ً واحدا ً ‪ ،‬فهذه الموازين إذا تختلف ‪ ،‬ولهذا فهؤلء الذين‬
‫ً‬
‫استنكروا أن تكون الرسالة منزلة على هذا الشخص ‪ ،‬كانوا ينطلقون من‬
‫واقع مجتمعي بشري يتحدثون من زاوية تتحكم به أعراف معينة ‪ ،‬والدعوات‬
‫اللهية لها صفة الطلق الذي يتجاوز الزمان والمكان ‪ ،‬ولهذا ل يصح أبدا ً أن‬
‫ُتقايس حقائق الشرع على وقائع الحياة ‪ ،‬ولكن الوضع الصحيح هو قلب‬
‫المسألة تماما ً لتقايس وقائع الحياة على مقررات الشرع ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫فحينما نتخير ل شك أننا نرى من الناس ظاهرا ً ول نعرف البواطن ‪ ،‬فعلم‬


‫البواطن إلى الله تعالى ‪ ،‬ولو أننا أردنا أن نحمل إنسانا ً مهمة ما أو رسالة ما‬
‫أو مسؤولية ما فنحن ننظر إلى ما يظهر ‪ ،‬ننظر إلى البدلة الحسنة والمظهر‬
‫المونق واللفظ المعسول وإلى الخلق المرضي فيما يتعارف عليه الناس‬
‫ونختار ‪ ،‬وأما الفضائل النفسية وأما الشمائل الخلقية وأما تقوى الله جل وعل‬
‫وأما رعاية أوامره ونواهيه فهذه أشياء ل نقدر على الحاطة بها ‪ .‬من أجل‬
‫ذلك تروننا في عصرنا هذا نتدهور باستمرار ‪ ،‬لماذا ؟ لننا ل نحكم مقررات‬
‫الشريعة في اختياراتنا ولكن نحكم الهواء والشهوات والطماع المستحكمة‬
‫التي تملي علينا مسالك معينة هي باستمرار بعيدة عن رضى الله قريبة جدا ً‬
‫من مساخط الله تعالى ول حول ول قوة إل بالله ‪.‬‬
‫لهذا ) فقالوا أبشرا ً منا واحدا ً نتبعه إنا إذا لفي ضلل وسعر ‪ ،‬أءلقي الذكر‬
‫عليه من بيننا ( ولماذا اختاره الله وحده ؟ لماذا ل يختارني أنا ؟ ولماذا ل‬
‫يختار فلن ؟ وقد رأيتم وسمعتم أن أبا جهل سيد الوادي ‪ ،‬وأن أبا سفيان‬
‫سيد الوادي ‪ ،‬وأن عتبة وشيبة من كبراء القوم ‪ ،‬فجاءت الرسالة وتخطت‬
‫هؤلء جميعا ً ‪ ،‬لم تنزل على أحد منهم ‪ ،‬هل احتقارا ً من الله جل وعل لهؤلء‬
‫الناس ؟ ل ‪ ،‬ولكن النبوة اختصاص ‪ ،‬والختصاص يحتاج إلى مواصفات وهؤلء‬
‫الناس ل يتمتعون بالمواصفات ‪ُ ،‬ترك أبو سفيان على ما له من جاه ‪ ،‬وعلى‬
‫أنه سيد الوادي ‪ ،‬وُترك الحكم بن هشام الذي هو أبو جهل مع أنه سيد قريش‬
‫‪ ،‬وُترك العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه الثري المنظور إليه ‪،‬‬
‫واختير محمد ‪ ،‬رجل ً يتيما ً وفقيرا ً ‪ ،‬حينما أراد أن يتزوج ملكته الحيرة لنه ل‬
‫يملك المهر الذي يدفعه إلى الزوجة ‪ ،‬لماذا ؟ لن محمدا ً عليه الصلة‬
‫معت في شخصه الكريم كل فضائل النسانية وكل وراثات النبياء‬ ‫والسلم تج ّ‬
‫عليه الصلة والسلم ‪ ،‬وُترك هؤلء الناس ‪ُ ،‬ترك هؤلء الناس لنهم ل‬
‫يتمّيزون بما يتمّيز به رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫فالمسألة إذا ً لمجرد أن يدخلها هذا النازع من الحسد تفسد كما فسدت في‬
‫الماضي كما فسدت على القوام الماضية أمورهم لنهم أرادوا أن يكونوا‬
‫مخصوصين بالرسالة ‪ ،‬وفسدت على سفهاء المكيين أمورهم لنهم أرادوا أن‬
‫يكونوا مخصوصين بالرسالة ‪ ،‬كذلك للسف نرى أن غيبة هذه القضية الولية‬
‫من قضايا الدعوة السلمية تسبب ارتباكات ل أول لها ول آخر ‪ .‬الله تعالى‬
‫يقول ) وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ( إنني لمجرد أن أرى فلنا ً من‬
‫الناس يدعو إلى أمر ما ذا أخذتني الغيرة وشملني الحسد فأنا ل أسمح‬
‫لنفسي أبدا ً أن أناقش هذه القضية أنا أردها سلفا ً ‪ ،‬لماذا ؟ لداعي الحسد ‪،‬‬
‫للنانية البغيضة ‪ ،‬وهذه مظهر من مظاهر الداء القّتال في جسم الدعوة‬

‫‪19‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫السلمية في هذه اليام ‪ ،‬وأنا كما تعلمون ل أجامل أحدا ً ‪ ،‬إن الغيرية هي‬
‫أول صفة يجب أن يتصف بها الدعاة إلى الله تعالى ‪ ،‬والشيء الذي يجب أن‬
‫يبحث عنه المسلم هي الحقيقة السلمية ول تسأل نفسك بعد ‪ :‬من المنادي‬
‫بهذا ؟ ومن الداعي إلى هذا ؟ في اللحظة التي تقف فيها عند سؤال كهذا‬
‫فأنت بعيد جدا ً عن السلم وعن قضايا السلم ‪ ،‬أنت إذا ً في صف هؤلء‬
‫الذين قالوا ) أُألقي الذكر عليه من بيننا ( أنت إذا ً في صف هؤلء الذين قالوا‬
‫) لول ُأنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( إن عملة السلم ل‬
‫تروج مع الحسد والبغضاء ول مع النانية ‪ ،‬وإنما تروج مع الغيرية ومع الفناء‬
‫في القضية ‪ ،‬مع الفناء في الله تبارك وتعالى ‪.‬‬
‫وكم من إنسان بل كم من جموع من الناس ُرّدوا عن دعوة الله ل لن دعوة‬
‫الله غلط ولكن لن الذي يحمل لواءها فلن وفلن من الناس ‪ ،‬فنحن نكرههم‬
‫ول نطيقهم ‪ ،‬ونحن نتصور أنهم كذا وكذا وكلها أخطاء وأغلط وأكاذيب‬
‫ومفتريات وزيوف ‪ ،‬نحن في الواقع نرزح تحت هذا الداء ‪ ،‬داء الحسد الذي‬
‫ب إليكم داء المم من‬ ‫ذرنا منه رسول الله صلى عليه وسلم حينما قال ‪ :‬د ّ‬ ‫ح ّ‬
‫قبلكم الحسد والبغضاء ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫فهذا ما أردت أن أقف عنده اليوم مما يتصل بالمشابه الملحوظة بين موقف‬
‫هؤلء النفر الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا‬
‫بما أرسلتم به كافرون ‪ ،‬وبين الموقف الذي كان يعالجه ويعاني منه رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬إن الداعية إلى الله محتاج دائما ً إلى أن يب ّ‬
‫صر‬
‫بعقبات الطريق ‪ ،‬وإلى أن ُتكشف له الساحة كشفا ً ل زيف فيه ول تعمية ول‬
‫غبش ‪ ،‬إننا كمسلمين نسير في طريق ربما كان غيرنا يستطيع أن يلعب على‬
‫الحبال ‪ ،‬وربما ملكنا غيرنا أن يرتزق وأن ينافق وأن يدجل ‪ ،‬وربما ملكنا غير‬
‫أن يبيع الدنيا بالخرة ‪ ،‬وربما وربما ‪ ..‬لكننا نحن نسير في طريق له حدوده‬
‫وله مواصفاته ويحتاج السائرين فيه إلى نماذج أخلقية معينة ‪ ،‬وبكل ما فيه‬
‫من عقبات ومشقات ترهق أرباب العزائم الشامخات فإنه ل بد من أن يعتد ّ‬
‫النسان لذلك بعدة ل تنفك ‪ ،‬من الصبر على هذه المشقات والصبر على هذه‬
‫جه بها ‪.‬‬‫المكاره وتحمل كل السفاهات التي يوا َ‬
‫ً‬
‫ور لنفسك ‪ :‬لو أن رجل ممن‬ ‫أنت تسمع النداء من قبل الله تعالى ‪ ،‬ص ّ‬
‫تحترمه ناداك فجأة ‪ ،‬فأنت تهرع إليه وربما تنسى أن تلبس حذاءك فتسير‬
‫على الحجارة وعلى الشوك ‪ ،‬وقد تدمى رجلك ول تشعر ‪ ،‬فكيف والذي‬
‫يدعوك هو الله الذي خلقك فسواك فعدلك ؟ كيف والذي يدعوك هو الله‬
‫الذي يملك حياتك وموتك ورزقك وضرك ونفعك ؟ إن عليك حين تسمع النداء‬
‫) يا أيها الذين آمنوا ( أن تهرع ل تلتفت ل هنا ول هناك ول هنالك ‪ ،‬اجعل‬
‫همك كله أن تقول ‪ :‬لبيك اللهم لبيك ‪ .‬أن تجيب داعي الله ) يا قومنا أجيبوا‬
‫داعي الله ومن لم يجب داعي الله فليس بمعجز في الرض ول في السماء (‬
‫ول تسمح للعقبات أن تعوقك في الطريق ‪ ،‬ل تسمح للنكبات أن تلفتك عما‬
‫أنت في سبيله ‪ ،‬ذلك شرط الرجل المسلم ‪ ،‬وحينما وضع الله تعالى أمام‬
‫نبيه قصص النبيين والماضين وقال له ) لقد كان في قصصهم عبرة لولي‬
‫اللباب ما كان حديثا ً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه ( حينما قال له ذلك‬
‫أراد لنبيه عليه الصلة والسلم ولهذه الفئة المؤمنة معه أن تتحلى بهذا الصبر‬
‫الذي تحلى به المؤمنون من قبل والذي تحلت به رسل الله من قبل ‪ ،‬وأراد‬

‫‪20‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الله تعالى تلقينا ً مستمر المدى بالنسبة إلى هذه المة إلى أن تقوم الساعة‬
‫على اعتبارها وارثة النبوات وحاملة الرسالة الخالدة إلى النسانية أن يكون‬
‫كل عامل من أبنائها على قدم النبيين والمرسلين يصبر كما صبروا ويترك كل‬
‫ما حوله كما تركوا ويسير ملبيا ً داعي الله كما ساروا ول يلتفت إلى مساءات‬
‫المشركين والكافرين كما لم يلتفتوا فذلك هو شرط الفلح وشرط النجاح ‪.‬‬
‫كم كان بودي أن أقف عند قضية أخرى وقلت في مفتتح الحديث ثمة قضية‬
‫أو قضيتان ‪ ،‬قضية التعليق على قول الله تعالى ) ولقد يسرنا القرآن للذكر‬
‫فهل من مدكر ( لكني أكتفي بالذي قلت وأرجو أن يكون فيه بلغ ومقنع‬
‫وأرجو أم يكون قد كشف شيئين ‪ :‬الول ما تحتاجه دراسة النص القرآني من‬
‫مجهودات ‪ ،‬فليس كل قارئ للقرآن قارئا ً ‪ .‬إن قراءة القرآن لكي تكون‬
‫منتجة تحتاج إلى التدبر ‪ ،‬ونحن نسمع كلمة التدبر في القرآن وفيما بيننا‬
‫دبروا آياته ( ) أفل يتدبرون القرآن ( ولكن حينما نفكر بمعنى‬ ‫وقال تعالى ) لي ّ‬
‫ً‬
‫هذه اللفظة فسنجد عجبا ‪ ،‬إن كلمة ) تدّبر ( مأخوذة من هذا الفعل ) دبر (‬
‫وهذا جذري لغوي يحمل معنى النظر إلى دبر المور أي إلى عواقب المور ‪،‬‬
‫فمعنى ) تدّبر القرآن ( هو التفكر في مآلت اليات ‪ ،‬في النتائج التي تؤدي‬
‫إليها اليات ‪ ،‬وليس فقط هذا التحلي بالكلم اللهي ‪ ،‬وإنما هو التفكر المنتج‬
‫الذي يجعلك تسمع الية فتقول ‪ :‬ماذا أراد الله بها ؟ وإذا تركتها ما دبر‬
‫المر ؟ ما عاقبة المر وما نتيجة المر ؟ هذا هو التدبر ‪ .‬فنحن إذا ً نحتاج إلى‬
‫أن نتدبر النص القرآني لكي نستفيد منه تماما ً ‪.‬‬
‫والشيء الثاني أرجو أن أكون قد كشفت عن أمر ‪ ،‬كثيرا ً ما تحدثنا عنه ولكن‬
‫بهذه الكثافة ل ‪ ،‬عن أمر ضروري ‪ ،‬نحن محتاجون في كل وقت إلى أن‬
‫نجعل طاعة الله جل وعل نصب أعيننا ‪ ،‬ل نلتفت يمينا ً ول شمال ً ‪ ،‬الطريق‬
‫مفروغ منه ومليئ بالعقبات والشواك ‪ ،‬الطريق مفروغ منه دماء ودموع‬
‫ولكن الوقوف عند الدماء والدموع فشل ‪ ،‬وإنما النجاح والفلح هو في أن‬
‫يعتد ّ المسلم بعدة كافية من الصبر الطويل لكي يستعين بذاك على قطع‬
‫مراحل الطريق ‪ ،‬وأرجو أن أكون قد بلغت من ذلك ‪ ،‬أو من هذين ما أريد من‬
‫إخوتي من الشباب الذين يهتمون بقضية السلم ‪ ،‬ولي مع الناس حديث‬
‫سأقوله إن شاء الله جل وعل في الجمعة القادمة حينما أتحدث إليكم حديثا ً‬
‫وجيزا ً عن تلقينات قوله تعالى في هذه السورة ) ولقد يسرنا القرآن للذكر‬
‫فهل من مدكر ( لنرى ما معنى هذا التيسير وما هي الكلف التي يلقيه هذا‬
‫التيسير على أكتاف المة ‪ ،‬وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين والحمد لله رب العالمين‬

‫)‪(6 /‬‬

‫تفسير سورة القمر‬


‫الجمعة ‪ 23‬ذي القعدة ‪ 4 / 1397‬تشرين الثاني ‪1977‬‬
‫) ‪ 4‬من ‪( 4‬‬
‫شوح‬ ‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫فهذه نهاية المطاف إن شاء الله تعالى مع سورة القمر نقف بها عند هذا‬
‫الحد لنستقبل أحاديث أخرى فيما تبقى من سور المرحلة المكية التي حددنا‬
‫بأنفسنا حدود النظر فيها ‪ ،‬وما تبقى من سورة القمر مما أردت أن أعرض له‬

‫‪21‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫في نهاية المرحلة شيء أكبر وأخطر من أن نأتي عليه بحديث واحد قصير ‪،‬‬
‫ولكن ما ل يدرك كله ل ُيترك جله كما يقولون ‪.‬‬
‫أحب في البداية أن ألفت أنظاركم إلى ما لفتنا النظر إليه في أول حديث لنا‬
‫عن سورة القمر ‪ ،‬عن هذا التكرار لصيغة واحدة جاءت تعقيبا ً على قصص‬
‫الماضين ‪ ،‬كان منطق الحديث يقضي أن نتعّرض لشيء من الكلم لقصص‬
‫القوام الذين ُذكروا في السورة ‪ ،‬وبالتتبع تبّين أن السورة التي تلي سورة‬
‫القمر وهي سورة ) ص ( تضمنت هذه القصص ‪ ،‬وأن السورة التي تلي‬
‫سورة ) ص ( وهي سورة العراف تضمنت هذه القصص ولكن بتفصيل‬
‫أكبر ‪ ،‬فرجوت إن شاء الله تعالى أن يسّهل الله لنا سبيل القول عن هذه‬
‫السور حينما نبلغ في أحاديثنا سورة العراف ‪ ،‬لن الحديث عنها هناك أليق ‪.‬‬
‫الشيء الذي يلفت النظر في سورة القمر هو هذه اللزمة التي تكررت أربع‬
‫سرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‬ ‫مرات تعقيبا ً على قصص الماضين ) ولقد ي ّ‬
‫( وكأنموذج لذلك نأخذ أول قصة لنتعّرف على جو التعقيب وموحياته ‪ ،‬فبعد‬
‫افتتاح السورة الكريمة سيقت القصص كما تعلمون تعزية وتسلية لرسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم عما يلقى من قومه من الذى وما يقابله من‬
‫المكروه ‪ ،‬وإنما سيقت هذه القصص ليعرف رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم أن الناس هكذا وأن الدنيا هكذا فل يضيق صدره ول يحرج ) فلعلك‬
‫تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ( وليعرف أن من طبيعة الناس‬
‫أنهم يقادون إلى الجنة بالسلسل ‪ ،‬وأنهم تخطم أعناقهم خطما ً ليجروا إلى‬
‫طريق الصواب كارهين أو راضين ‪ ،‬ولن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫لقي من قومه فوق ما يتصوره العقل ‪ ،‬فقد ساق الله له هذه القصص‬
‫ليعرف أنه حلقة في سلسلة الهداية اللهية المستمرة ‪ ،‬وأنه الحلقة الخاتمة‬
‫فخليق به أن يلقى حثالة ما في الطبع البشري من مساوئ وأوزار ‪ ،‬فهذه‬
‫ص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ( وهذه‬ ‫القصص تثبيت ) وكل ً نق ّ‬
‫القصص عظة وتذكير ) لقد كان في قصصهم عبرة لولي اللباب ما كان‬
‫حديثا ً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء ( ‪.‬‬
‫لكن هذه القصص في هذه السورة ‪ ،‬سورة القمر ‪ ،‬سيقت بجسمها وتركيبها‬
‫وبالتعقيبات التي جاءت عليها سياقة توحي باللطف اللهي ) كذبت قبلهم‬
‫قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ( وشيء من التأمل يوحي إليك‬
‫بمعاني ما ينبغي أن تغيب على قارئ القرآن ‪ ،‬قوم نوح هم الجيل الثاني‬
‫للبشرية إذ أن نوحا ً عليه السلم هو الب الثاني للبشرية ‪ ،‬فبعد أن فسق‬
‫جر الله‬‫الناس عن أمر ربهم من بعد آدم أبي البشر عليه الصلة والسلم ف ّ‬
‫الرض عيونا ً وأطلق السماء ماًء وحمل في الفلك نوحا ً ومن معه وقال‬
‫) وجعلنا ذريته هم الباقين ( فهؤلء إذا ً فاتحة طيبة يمكن أن يستخلص منها‬
‫قارئ القرآن ورجل الدعوة درسا ً ل أبلغ منه ) كذبت قبلهم قوم نوح (‬
‫والتعبير بقوله جل وعل ) كذبت ( يوحي بأن هؤلء الناس يتبعون أهواءهم‬
‫ويعطلون عقولهم ول يملكون من أسلحة المعركة إل هذا الشيء الذي ل‬
‫يكلف شيئا ً إل سوء الخلق وفساد الطبع وهو التكذيب المجرد غير المستند‬
‫إلى نظر وغير المؤسس على تحقيق وتدقيق ‪.‬‬
‫وفي قوله تعالى ) فكذبوا عبدنا ( إشارة بالغة ‪ ،‬فهذا المنادي بأسباب الهداية‬
‫ول عليهم من‬ ‫ليس رجل ً يبحث لنفسه مجدا ً أو يلتمس عند الناس نفعا ً أو يتق ّ‬
‫ذات نفسه ‪ ،‬وإنما هو مأمور ) فكذبوا عبدنا ( لم يقل ‪ :‬رسولنا ‪ ،‬لن الرسول‬
‫وإن كان ينطق بلسان المرسل ‪ ،‬لكن الرسول يحتفظ بذاتيته النسانية‬
‫الكاملة غير منقوصة ‪ ،‬والتعبير بقوله هنا ) عبدنا ( إشارة إلى أن هذا المتكلم‬

‫‪22‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عن الله ل يملك ذاتيته ‪ ،‬ل يملك أسباب الحرية التي تجعله يقول على الله‬
‫غير الحق وإنما هو عبد مأمور يتحرك ضمن الدائرة التي رسمها له الذي‬
‫أرسله ) وكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ( وهذه اللفاظ وراءها دللت‬
‫وحالت نفسية وأوضاع مجتمعية عاشها محمد صلى الله عليه وسلم وهو‬
‫يدعو قومه ‪.‬‬
‫فأول ما يستقّر في ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول ما يستقر‬
‫جه الداعين إلى الله بهذا‬
‫في ذهن أتباعه أن طبائع المور تقضي بأن يوا َ‬
‫التكذيب وبهذه السلسلة التي ل تريد أن تنتهي من التهامات والفتراءات ‪،‬‬
‫وأن الواجب إزاء ذلك كله الصبر بغير حدود ‪.‬‬
‫)‬

‫)‪(1 /‬‬

‫كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ( ) قالوا يا نوح لئن‬
‫لم تنتهِ لتكونن من المرجومين ( وإذا ً فهو الزجر والدفع والصد والكيد واليذاء‬
‫وأكثر ‪ ،‬إن نوحا ً عليه السلم كما ذكر القرآن لبث في قومه داعيا ً ألف سنة‬
‫إل خمسين عاما ً ‪ ،‬وكانت الجيال تذهب وتجيء ‪ ،‬وكان الشيخ الهرم وهو‬
‫يدلف إلى القبر يمسك بولده الصغير ويأتي به إلى نوح عليه السلم ويقول‬
‫له ‪ :‬إياك أن تتبع هذا الكاذب المجنون ‪ .‬وإذا ً فهم يتواصون على رفض الهداية‬
‫وعلى محاربة الداعين إلى سبيل الحق والصواب كما يتواصى أبناء هذا‬
‫الزمان على مكافحة الهداية وطمس معالم الهدى والحق ‪.‬‬
‫ص الله علينا من نبئهم في سورة القمر ‪ ،‬كيف جاء‬ ‫هؤلء القوام بعد أن ق ّ‬
‫التعقيب ؟ ذكر الله خاتمتهم ‪ ،‬ذكر لنا بالنسبة إلى قوم نوح كيف أغرق‬
‫المكذبين وأنجى نوحا ً ومن معه ‪ ،‬وذكر لنا كيف أرسل الريح العقيم على‬
‫عاد ‪ ،‬وذكر لنا كيف أخذ القوام الخرين بالصيحة وأشباهها ‪ ،‬شيء يجب أن‬
‫نلتفت إليه ‪ :‬هذا التساؤل اللهي الذي يلقيه إلى الناس بعد كل قصة ) فكيف‬
‫سرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( قليل من‬ ‫كان عذابي ونذر ( ثم ) ولقد ي ّ‬
‫التفكير يوحي بأن لطف الله جل وعل يتخلل هذه الصور المرعبة للقوام‬
‫التي أخذها الله جل وعل أخذ عزيز مقتدر ‪ ،‬إن الله تعالى ل يأخذ الناس لول‬
‫ذنب وحاشاه ‪ ،‬جاء رجل إلى ابن الخطاب رضي الله عنه أو جيء به في حدٍ‬
‫من حدود الله سارقا ً ‪ ،‬فقال يا أمير المؤمنين أقلني ‪ ،‬يعني اعف عني ‪ ،‬فهذه‬
‫هي أول مرة أسرق فيها ‪ ،‬قال له ‪ :‬كذبت يا عدو الله ما كان الله ليفضح‬
‫عبده المسلم لول ذنب ‪ .‬أول ذنب في عوائد الله جل وعل مستور ومغفور‬
‫ومعفو عنه إن شاء الله ‪ ،‬لكن النسان يستحق النكال إذا استمرأ المرتع‬
‫الوبيل وذاق الطعام الخبيث فأساغه ‪ ،‬حين ذلك فقط يحق عليه النكال‬
‫ويأخذه الله تعالى إنفاذا ً لسنته الماضية في الكون والنفس والفاق ‪.‬‬
‫فهؤلء حينما يسألنا الله ) فكيف كان عذابي ونذر ( يلفت نظرنا إلى أن الله‬
‫كر ‪ ،‬ويأخذهم‬‫تعالى ل يأخذ الناس اعتباطا ً وإنما يمهل ويمهل ويحذر ويذ ّ‬
‫بالشدائد لعلهم يرجعون ولعلهم يتقون ولعلهم يحذرون ‪ ،‬بل إنه ليمهلهم‬
‫ل بهم ويقولون في‬ ‫طويل ً فيمتع أجيال ً برمتها حتى ينسى الناس ما ح ّ‬
‫س آباءنا السراء والضراء ( ويظن الناس أنهم‬ ‫الحاديث وفي السمار ) قد م ّ‬
‫بمنجاة من العذاب ولكن الله تعالى يأخذهم فإذا هم مبلسون ) فكيف كان‬
‫عذابي ونذر ( عذاب الله ل يأتي إل بعد النذار ‪ ،‬والنذار يكون تارة بالقول‬
‫ويكون تارة بالذي يحدث للناس من الوبئة والمراض والسنين ونقص من‬

‫‪23‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الموال والثمرات ‪ ،‬ويكون تارة ـ وهذا من اللطف ـ بما يصيب المجاورين من‬
‫شدائد وكوارث وبليا فإذا أراد الله جل وعل أن يفتح مغاليق القلوب اهتدوا ‪،‬‬
‫وإذا أصّر الناس على العتاد والستكبار نفذ فيهم قانون الله الذي ل يتخلف ‪.‬‬
‫سرنا القرآن للذكر فهل‬ ‫ثم يأتي هذا التعقيب الذي تكرر أربع مرات ) ولقد ي ّ‬
‫من مدكر ( تيسير القرآن للذكر تيسير مطلق ‪ ،‬وأعملوا فكركم معي قليل ً ‪،‬‬
‫وفارق بين أن يكون الشيء مطلقا ً وبين أن يكون مقيدا ً في جو معين ‪ ،‬إن‬
‫تقييد المطلق بجو معين يلونه بتلوين خاصة ‪ ،‬وها هنا في سياق السورة‬
‫فالقضية مقيدة كما هو واضح ولو أننا قرأنا السورة الكريمة إلى آخرها‬
‫لوجدنا المر واضحا ً ‪ ،‬بعد أن ينتهي عرض الصور التي ُأخذت بها المم‬
‫الماضية وُيختَتم ذلك بهذا اليجاز الذي يوحي بالموت والعذاب السريع والخذ‬
‫غير الممهل فقصص آل فرعون ) ولقد جاء آل فرعون النذر ‪ ،‬كذبوا بآياتنا‬
‫كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ( بعد هذا القتضاب واليجاز الشديد يأتي‬
‫كلم بالغ الدللة بالنسبة إلى ذلك الزمان ولكل زمان وإذا ً فهو مستمر المدى‬
‫‪ ،‬بالنسبة إلى التذكر ) أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ( أنتم‬
‫أمة من جملة المم التي برأها الله جل وعل وبثها على ظهر هذا الكوكب ‪،‬‬
‫وأنتم لستم خيرا ً من أولئك القوام ‪ ،‬فلقد مضى قبلكم أمم أكثر عددا ً وجمعا ً‬
‫ل بهم ما‬ ‫وأولدا ً وأكثر قوة وأثاروا الرض وعمروها أكثر مما عمرتموها فح ّ‬
‫ص عليكم ‪ ،‬فهل كفار العرب الذين يناوئون رسول الله صلى الله عليه‬ ‫ق ّ‬
‫وسلم خير من أولئكم ؟ ما وجه الخير ؟ الدم واحد ‪ ،‬الخلقة واحدة ‪ ،‬المنزلة‬
‫عند الله واحدة ‪ ،‬والناس كلهم عباد الله ليس بين الله وبين أحد نسب ول‬
‫سبب وإنما يتفاضلون عنده بالتقوى والعافية ويمتازون عنده بطاعة الله‬
‫تعالى والستمساك بأوامره والبعد عن مساخطه ‪.‬‬
‫)‬

‫)‪(2 /‬‬

‫أم لكم براءة في الزبر ( أم تقولون نفس القالة التي قالتها اليهود من قبل‬
‫وقالتها النصارى ) نحن أبناء الله وأحباؤه ( وإذا ً فإن الله لن يعذبنا بذنوبنا ‪،‬‬
‫كل ذلك غير كائن ‪ ،‬ثم يلفت أنظارهم إلى أن الله تعالى عذابه حاضر وعتيد )‬
‫ولقد أهلكنا أشياعكم ( والشياع هم المثال والنظراء ‪ ،‬تقول هذا الشيء شيع‬
‫هذا الشيء يعني مثله ونظيره ‪ ) ،‬ولقد أهلكنا أشياعكم ( أي من كان على‬
‫طريقتكم في العناد والستكبار على الله تتعالى ‪ ،‬وإذا ً فالقيد الذي يطرأ على‬
‫سرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( في ظلل السورة وإطارها‬ ‫قوله ) ولقد ي ّ‬
‫ص هذا القصص من قصص‬ ‫العام وفي جوها يوحي بداهة وابتداًء أن الله ق ّ‬
‫الماضين وعرضه على المسلمين وغير المسلمين وتركه كلما ً باقيا ً على‬
‫الدهر لكي يكون وسيلة من وسائل التذكر اليسير ‪ ،‬كان ممكنا ً أن يطمس‬
‫الحديث وأن يهذب الله من ذاكرة الناس بنبأ هؤلء القوام وأن يمسح‬
‫صفحات التاريخ مسحا ً فل يسمع الناس ل بقوم نوح ول بقوم عاد ول ثمود ول‬
‫بقوم لوط ول بفرعون ‪ ..‬ويكون الناس كالذي يواجه المور لول مرة ‪ ،‬ولكن‬
‫دأ وأعاد لكي يكون‬ ‫صل فيه وأب ْ َ‬
‫الله بلطفه وبرحمته ساق هذا القصص وف ّ‬
‫وسيلة للتذكرة ‪ ،‬ثم هو أحد وجوه تيسير القرآن للذكر ‪ ،‬وطبيعي أن النسان‬
‫حينما يقرأ ما جاء في الكتاب الكريم من سير الماضين ومن معارك بين‬
‫الحق والباطل ‪ ،‬ومن وصف دقيق لمواقف النبياء والمرسلين مع أقوامهم ‪،‬‬
‫سيكون عليه يسيرا ً أن يعي وأن يتذكر وأن يستبصر ‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫في هذا الطار موضوع تيسير القرآن للذكر يبدو للوهلة الولى محكوما ً بفهم‬
‫مغازي القصص التي سيقت في هذه السورة ‪ ،‬لكن المسألة لها جانبها‬
‫المطلق ‪ ،‬لها جانبها الذي يتصل بصميم الدعوة وبأصولها العامة ‪ ،‬فالقرآن‬
‫سر ‪ ،‬وقبل أن نذكر بعضا ً من وجوه التيسير أحب أن ألفت‬ ‫بالفعل مي ّ‬
‫أنظاركم إلى أن النص على تيسير القرآن للذكر جاء في السور التالية ‪ :‬في‬
‫سورة القمر يقول الله ) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( في‬
‫سورة الدخان ) فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ( في أواخر سورة‬
‫مريم ) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما ً لد ّا ً ( ‪ ..‬في كل‬
‫القرآن لم يرد التيسير صراحة إل في هذه السور فقط ‪ ،‬تأملوا الن ‪ :‬حينما‬
‫سرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ( تكون عندنا‬ ‫نأتي إلى آية الدخان ) فإنما ي ّ‬
‫قضية ‪ ،‬في آية مريم ) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما ً‬
‫لدا ً ( تكون عندنا القضية ذاتها مع ضمائم أخرى ‪ ،‬في سورة الدخان ُيذكر‬
‫التيسير مقرونا ً بأنه بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أنه نزل بلغة‬
‫العرب الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وهذا الكلم ل يعطينا‬
‫أكثر من أن هذا القرآن من جملة وجوه تيسيره للذكر أنه جاء بلسان‬
‫العرب ‪ ،‬لكن حينما نأتي إلى آية مريم نجد الضمائم تضاف إلى المعنى‬
‫الصلي ) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما ً لدا ً ( النذار‬
‫ما هو ؟ التحذير ‪ ،‬واللد من هم ؟ هم القوم الخصمون ‪ ،‬بل ولو أنني أدخل‬
‫معكم في بعض الحيان بمباحث تتعلق باللغة لكن هذا ضروري من أجل‬
‫استقامة الفهم ‪ ،‬كلمة ) اللد ( جمع مفرده ) اللد ( واللد هو الخصم الشديد‬
‫الخصومة بل إن من بعض معانيه الخصم الذي يغلب صاحبه في الخصومة ‪،‬‬
‫إذا ً فاللد هو الذي يغلبك في الخصومة ‪ ،‬أيضا ً من معاني المادة التحّير ‪ ،‬تقول‬
‫دد في طريقه أي يتحّير ول يتهدي سبيله أين يكون ‪ ،‬وإذا ً‬ ‫‪ :‬رأيت فلنا ً يتل ّ‬
‫فحينما نسمع الله تعالى يصف كتابه الكريم والمحكم بأنه إنذار لقوم لد ّ معنى‬
‫ذلك أنه مؤثر في مواقف بالغة الصعوبة شديدة العنف ‪ ،‬إن النسان الذي‬
‫يحّيرك وهو يخاصمك ويجادلك بنص كلم الله تعالى يمكن أن ُينار له الطريق‬
‫مل على أن يتخلى عن هذا الموقف الشنيع ‪ ،‬وإن النسان الذي يغلب‬ ‫وأن ُيح َ‬
‫في العادة خصومه في اللدد والحجاج ل يستطيع أن يغلب كلم الله جل‬
‫صت عليه آيتان‬ ‫وعل ‪ ،‬ثم هو أيضا ً يبشر المتقين ‪ ،‬ولكن هنا شيء أساسي ن ّ‬
‫الدخان ومريم هو تيسير القرآن بلسان رسول الله أي بلسان العرب ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫قبل بحث هذه النقطة بصورة وجيزة أحب أن ألفت النظر إلى وجه من وجوه‬
‫التيسير ‪ ،‬إن القرآن نزل نجوما ً متفرقة على رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم في ثلثة وعشرين سنة وفي بعض الروايات في عشرين سنة على‬
‫اعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه فاتحة سورة ) اقرأ‬
‫يعني العلق ( ثم فتر الوحي ثلث سنين لن يأته فيها جبريل عليه السلم ثم‬
‫حمي الوحي وتتابع بعد هذه السنوات الثلث ‪ ،‬وأيا ً ما هو كان فالقرآن كما هو‬
‫مقطوع به نزل تفاريق على حسب الحوادث والنوازل ‪ ،‬وكان من دأب رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزلت اليات دعا كّتاب الوحي وقال لهم ‪:‬‬
‫ذكر فيه كذا وكذا فُيكتب الوحي غضا ً‬‫اكتبوا هؤلء اليات في المكان الذي ي ُ‬
‫طريا ً فور نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ومات عليه الصلة‬
‫والسلم والقرآن كله مجموع ومكتوب لم يذهب على المسلمين منه حرف‬

‫‪25‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫كتبت في‬ ‫جمع الجمعة الخيرة من الصحف التي ُ‬ ‫ولم تسقط منه آية ‪ ،‬ثم ُ‬
‫زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن الخليفة الراشد عثمان رضي‬
‫الله عنه وما زال هذا القرآن ُينقل إلينا وُيقرأ بيننا على ذات الصورة التي‬
‫قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها الصحاب فهو نقل الكافة عن‬
‫الكافة وباعتراف خصوم السلم والقرآن أنه ل يوجد على ظهر الرض نص‬
‫نقل إلى الناس على النحو الذي جاء به إل القرآن الكريم ‪.‬‬
‫حينما تأخذ بالمقايسة والمقارنة ‪ :‬أين صحف إبراهيم وأين زبور داوود وأين‬
‫ما أنزل الله على المرسلين السابقين تجد أن هذا غير موجود بإطلق ‪ ،‬حينما‬
‫تأتي إلى النبوات المتأخرة إلى توراة موسى وإنجيل عيسى صلى الله عليهما‬
‫وتسأل ‪ :‬أين هما ؟ ل تجدهما ‪ ،‬وما يقرأهما الناس من هذا الكلم الركيك‬
‫العجمي المخلط الذي يسمى توراةً ويسمى إنجيل ً فما هو بالتوراة وما هو‬
‫بالنجيل وإنما هي أماني اكتتبها الحبار والرهبان ليضعوا المكان لنفسهم‬
‫وليصطادوا أموال الناس وليلفتوا أعناق الناس نحوهم ) فويل للذين يكتبون‬
‫الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل‬
‫لهم مما يكسبون ( نصوص التوراة والنجيل لم ُتكتب في حينها وإنما كتبت‬
‫بعد عشرات السنين ‪ ،‬والمر بالنسبة إلى التوراة أخطر ‪ ،‬لن التوراة لم‬
‫ُتكتب إل بعد السبي البابلي أي بعد ما ل يقل عن خمسة قرون من وفاة‬
‫موسى صلوات الله عليه وكتبت بناًء على نقل شفوي ل يستند إلى أصل‬
‫مكتوب ‪.‬‬
‫وإذا ً فحينما نريد أن نرجع إلى نص في التوراة أو نص في النجيل فالمر‬
‫ليس يسيرا ً وإنما هو عسير غاية العسر ‪ ،‬والذين لهم بعض الطلع على‬
‫مقارنة الديان يعرفون الكلم الكثير الذي أثير حول نصوص التوراة‬
‫والنجيل ‪ ،‬وإذا ً فل أعسر ول أشق ول صعب من أن يستطيع النسان الهتداء‬
‫إلى وصاةٍ من وصايا الله في التوراة والنجيل ‪ ،‬ثم يقول باطمئنان هذا هو ما‬
‫قال الله أو هذا هو ما قال موسى أو عيسى عليهما السلم ‪ ،‬لكن المر‬
‫بالنسبة إلى القرآن فمختلف تماما ً ‪.‬‬
‫بالنسبة إلى القرآن ‪ ..‬الصغير والكبير والرجل والمرأة والقريب والبعيد‬
‫والذي مات منذ عشرات القرون ومن هو حي الن ل يختلفون جميعا ً في أن‬
‫هذا القرآن هو النص الذي نزل من عند الله بوساطة المين جبريل سفير‬
‫الوحي على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وأن ما يقرأ الناس في‬
‫مصاحفهم وما يقرأون في محاريبهم فذات الكلم النازل من عند الله على‬
‫رسوله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فهذا وجه من وجوه التيسير الذي حفظ الله‬
‫به هذا الدين وجعله يسيرا ً على طالبيه ‪.‬‬
‫هذا تيسير أي تقريب للنص ووضع له بدقة وصدق بين أيدي الناس ‪ .‬تبقى‬
‫المسألة واحدة ‪ ،‬مسألة تيسير القرآن بلسان محمد صلى الله عليه وسلم ‪،‬‬
‫وهي مسألة طويلة الذيول ‪ ،‬وأحسبني ألمحت إليها من قبل ‪ ،‬وسأقول لكم‬
‫بعد قليل ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫إن اللغة وعاء الفكر ‪ ،‬وباللغة يتواصل الناس ‪ ،‬ولول اللغة لما أمكن أن ينقل‬
‫فكر إلى فكر ول أمكن أن يتفاهم إنسان مع إنسان ‪ ،‬واتحاد اللغة شرط ل‬
‫غنى عنه من أجل الفهام والتبليغ ‪ ،‬والله تعالى ذكر هذا في معرض المنة‬
‫وقال ) ولو أنزلناه على بعض العجمين ( فلو كان القرآن نازل ً على العرب‬

‫‪26‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بلسان بعض العجمين لكان عسيرا ً غير يسير ولستحال التفاهم ‪ ،‬فاتحاد‬
‫اللسان بين المرسل والمرسل إليهم شرط ل بد منه من أجل وصول البلغ‬
‫سرناه بلسانك ( ولو‬ ‫ومن أجل تسير الوصول إليهم ولهذا قال الله ) فإنما ي ّ‬
‫لم يكن نازل ً بلغة العرب لستحال أن يفهم العرب شيئا ً من كلم الله تعالى ‪،‬‬
‫وهنا تبدأ المعضلة فنحن نعلم أن هذا السلم كتابه الخالد ودستوره الباقي‬
‫هو القرآن ‪ ،‬وأن القرآن نزل بلسان عربي مبين على قلب رسول الله ليكون‬
‫ذرين ‪ ،‬لكنا نعلم من جانب آخر أن السلم كلمة الله إلى الناس كافة‬ ‫من المن ِ‬
‫‪ ،‬وأن محمدا عليه الصلة والسلم رسوله إلى الناس عامة ) وما أرسلناك إل‬ ‫ً‬
‫رحمة إل العالمين ( ) وما أرسلناك إل كافة للناس بشيرا ً ونذيرا ً ( ) قل يا أيها‬
‫الناس إني رسول الله إليكم جميعا ً الذي له ملك السماوات والرض ( وإذا ً‬
‫سرا ً للذكر مع اختلف اللسنة ؟‬ ‫فكيف يستقيم لنا اّدعاء أن يكون القرآن مي ّ‬
‫في ظاهر المر يضع السلح في أيدي خصوم السلم الذين يقولون إن‬
‫السلم دين للعرب وليس لغير العرب ‪ ،‬ولكن هذا القول يصطدم بالحقائق‬
‫الرئيسية الساسية في السلم وفي كتاب الله وفي سنن رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ ،‬سأقول من غير مقدمات ‪ ،‬الله تعالى قال ) الله يجتبي من‬
‫الملئكة رسل ً ومن الناس ( أي يختار ‪ ،‬والله قال في معرض الرد على الذين‬
‫يتخيرون كما يشتهون أن يكون الرسل قال ) الله أعلم حيث يجعل رسالته (‬
‫والله تعالى اختار أن يكون كتابه الخاتم بلسان العرب ‪ ،‬وعلماء اللسان عامة‬
‫يعرفون أن لسان العرب له مزاياه الخاصة ‪ ،‬أي أنه قادر أي اللسان على‬
‫حمل الدلئل وليس فقط الدلئل بل الموحيات أي الظلل والنعكاسات التي‬
‫تتولد في النفس والذهن وتثير المشاعر حينما يسمع النسان الكلم ‪ ،‬ذلك‬
‫شيء في طبيعة لسان العرب ‪ ،‬وسائر اللسنة الخرى عاجزة عن إيصال‬
‫أدق المشاعر النسانية على النحو الذي يقدر عليه لسان العرب ‪ ،‬ومن هنا‬
‫كان السلم عربي اللسان ‪ ،‬وواقع التاريخ يشهد أن انتشار السلم كان دائما ً‬
‫مصحوبا ً بانتشار لغة العرب ‪ ،‬لن هذا السلم ل ُيفهم حق الفهم إل إذا‬
‫استطعنا أن نفهم اللسان الذي نزل به كتاب الله ونطق به رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ ،‬وحول هذه القضية حصلت بلبلة خطيرة ‪ ،‬حصلت بلبلة‬
‫مفاده ضياع القضية الساسية ‪ ،‬وأنا أقول ضياعها ول أعني أنها ضاعت من‬
‫تلقاء نفسها ‪ ،‬فتلك قضية كانت واضحة تماما ً في أذهان الرواد الوائل من‬
‫المسلمين ولكنها أضيعت بفعل البالسة من المسلمين ومن غير المسلمين‬
‫من خصوم هذه المة وأعداء تاريخها والذين يبغون لها الخبالة والضيعة ‪.‬‬
‫إن هذه القضية ضاعت بين الشعوبية التي تضرب العرب باسم السلم وبين‬
‫العروبيين الذين يضربون السلم باسم العرب ‪ ،‬وكل الفريقين مخطئ وواهم‬
‫بل ومجرم ‪ ،‬ول أقول هو مجرم بحق العرب كالعرب فأنا ل يعنيني العرب‬
‫كالعرب وإنما يعنيني العرب كمسلمين ‪ ،‬ولكنهم مجرمون بحق النسانية‬
‫لنهم يؤخرون ساعة خلص هذه النسانية من هذه الوهام التي تشدهم إلى‬
‫الوحال النتنة التي يتمرغون بها في هذه اليام ‪ .‬إن السلم كما قلنا عربي‬
‫اللسان عربي الكتاب عربي النبي ‪ ،‬ولكن في مفهومات السلم ‪ ،‬الناس من‬
‫حيث الجبلة والطينة شيء واحد يتمايزون عند الله بالتقوى ويتفاضلون عنده‬
‫بالطاعة ‪ ،‬والمزايا التي يمنحها الله للفراد ويمنحها الله للمم لها في مفاهيم‬
‫السلم معنى ‪ ،‬بعض الناس حينما يرى نفسه قوي البدن يتصور أن قوة بدنه‬
‫تعني أن يستطيل على الناس بالعدوان بالضرب والقتل وسفك الدم ‪ ،‬بعض‬
‫الناس حينما يبسط الله لهم بالرزق يتصورون أن هذا الرزق المبسوط وهذا‬

‫‪27‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المال الممدود إنما هو وسيلة لنتهاك العراض وتعبيد الناس واستخدام‬


‫البشر والستطالة عليهم ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫بعض المم حين تصل إلى بعض المعارف التي تهيئ لها وسيلة من وسائل‬
‫القوة وحينما تجد نفسها أربى من غيرها في ميزان القوة تتصور أن من حقها‬
‫أن تنهب وتعمل كل شيء ‪ .‬المزايا والفضائل في السلم لها غير هذه‬
‫المعاني ‪ ،‬المزية تكليف في السلم وليست تشريفا ً ‪ ،‬عمر بن الخطاب وأبو‬
‫بكر ومن قبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبل في سجل‬
‫التاريخ أنبياء الله جميعا ً كانوا حينما توسد إليهم المور وتوكل إليهم قضايا‬
‫الناس يحرمون أنفسهم لذيذ الطعام وهنيئ المنام ويتعبون وينصبون من أجل‬
‫راحة الناس ‪ .‬وحينما رأى عمر رضي الله عنه وهو يعس ذات ليلة امرأة‬
‫ورجل ً قد جهدهما الجوع وأصابهما البرد والمرأة في المخاض ذهب يسعى‬
‫كالمأخوذ حتى جاء إلى بيته وقال لمرأته ‪ :‬هل لك في خير ساقه الله إليك ؟‬
‫قالت ‪ :‬ماذا ؟ قال لها ‪ :‬امرأة كذا وكذا ‪ ،‬فقومي ساعديها على الولدة ‪ .‬ثم‬
‫أخذ كيسا ً من دقيق وعكة من سمن وأخذهما على ظهره وأخذ يشتد مهرول ً‬
‫يطلب هذا الخباء الذي يسكنه فقير وفقيرة وصبية يبكون من الجوع ‪ ،‬وكان‬
‫معه غلمه ‪ ،‬قال له ‪ :‬أل أحمل عنك يا أمير المؤمنين ؟ قال ‪ :‬أتحمل عني‬
‫وزري يوم القيامة ل أم لك ‪ .‬وإذا ً فهو يشعر بهذه المزية التي منحها الله له‬
‫وساقها إليه تكليفا ً وليست تشريفا ً ‪ .‬كان ذات يوم يقف في وادٍ ونظر وضرب‬
‫ت ترعى الغنم‬ ‫بالدرة على قدمه وقال ‪ :‬بٍخ بٍخ يا ابن الخطاب بالمس كن َ‬
‫للخطاب وكان يعنف عليك ‪ ،‬قال له ابنه عبد الله ‪ :‬يا أبتي ما أكثر ما تهين‬
‫نفسك ؟ قال ‪ :‬يا بني إن أباك أعجبته نفسه فأحببت أن أهينها ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫فالمزايا سواء كانت للفراد أو كانت للمم هي تكليف وليست تشريفا ً ‪ ،‬ولن‬
‫ينفعنا شيء أن نقول ‪ :‬نحن العرب ‪ ،‬فذلك شيء ل يقدم ول يؤخر ‪ .‬ومذ‬
‫سنتين فيما أظن في هذا المكان حينما كنت أحدثكم عن بعض موحيات‬
‫الهجرة إلى الحبشة تعرضت لهذه الناحية ‪ ،‬نحن ل نهتم للعرب كعرب ‪،‬‬
‫والعرب لم يأخذوا قيمتهم في التاريخ ولم يأخذوا قيمتهم حاليا ً ولم تضربهم‬
‫المم عن قوس واحدة لنهم أبناء قحطان أو أبناء عدنان ‪ ،‬فقحطان وعدنان‬
‫ل يزنان عند الله جناح بعوضة ‪ ،‬ولكنهم أخذوا منزلتهم في التاريخ وأخذوا‬
‫قيمتهم الماضية ولهم وزنهم الحاضر من حيث هم حملة الرسالة وأرباب‬
‫اللسان الذي نزل به كتاب الله ‪ ،‬والكثرة والقلة ليست شيئا ً ‪ .‬هذه الهند التي‬
‫تعد ّ ست أو سبع مائة مليون ‪ ،‬في الموازين الدولية ل تساوي شيئا ً ‪ ،‬وهذه‬
‫الصين تعد ّ ألف مليون ‪ ،‬في الموازين الدولية وفي الصراع ل تساوي شيئا ً ‪،‬‬
‫دون مائة مليون ومع ذلك فالشرق والغرب والشمال‬ ‫لكن العرب كعرب يع ّ‬
‫والجنوب يتواصون على ضرورة إبقاء العرب في التخلف والخبال ‪ ،‬وإبعادهم‬
‫عن حقائق اللسان وتمزيقهم كي ل يكونوا أمة واحدة ‪ ،‬لماذا ؟ ألنهم عرب ؟‬
‫وما قحطان وما عدنان وما يعرب وما يشجب ؟ هؤلء العاريب ليسوا عند‬
‫الله شيئا ً ‪ ،‬ولكن القيمة مستمدة من هذا الكتاب ‪ ،‬من هذا الدين ‪ ،‬والمة‬
‫حينما تعي هذه الحقيقة وتفي لهذا الدين وتعرف أن حياتها ومستقبلها لهذا‬

‫‪28‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ملها أثقال ً لكي تقوم بها فحينئذ سيتبدد‬ ‫الدين وتعرف أن الله كّلفها تكاليف وح ّ‬
‫وجه الرض ‪ ،‬وسيكون العرب غير عرب اليوم الذين يشكلون خزيا ً وعارا ً‬
‫وشنارا ً ليس في جبين العرب فقط وإنما في جبين النسانية جميعا ً ‪ ،‬إن‬
‫عرب اليوم أناس شائهون فكرا ً وخلقا ً واتجاها ً ‪ ،‬إن عرب اليوم ل يملكون أن‬
‫وموا ألسنتهم بلغتهم الخاصة فهم يتراطنون بلغات العاجم وذلك شيء‬ ‫يق ّ‬
‫مصنوع لكي تغيب حقائق الكتاب في هذه الرطانة العجمية ‪ ،‬وإن العرب‬
‫يقفون من غير استثناء من غير اّدعاءات من غير منفخة فارغة وكاذبة ‪ ،‬كلهم‬
‫ضالعون مع الستعمار ‪ ،‬أجراء وأذلة مع أعداء هذه المة ومع خصومها‬
‫التاريخيين ‪ ،‬حتى الناس الذي ب ُّرر وجودهم لكونهم يريدون أن يجمعوا شمل‬
‫العرب أصبحوا أكبر العوامل في تمزيق أمة العرب ‪ ،‬هؤلء لو عقلوا عن الله‬
‫لعرفوا أنهم يحافظون على صناعة استعمارية بحتة ‪ ،‬وكم من مرة قلت‬
‫لكم ‪ :‬كان الموظف في زمن آبائكم يذهب من هنا إلى القسطنطينية ويخدم‬
‫هناك ‪ ،‬ويذهب من هنا إلى اليمن ويخدم هناك كما ينقل من مدينة إلى‬
‫أخرى ‪ ،‬لماذا ؟ لنها كانت أمة واحدة ‪ ،‬متى كان ذلك ؟ عام ‪ ، 1917‬حينذاك‬
‫جاء الستعمار واليهودية العالمية والصليبية الدولية وخصوم المة الذين يقف‬
‫وزراؤهم وملوكهم ورؤساؤهم يمسكون بالقرآن قائلين في مجالسهم‬
‫العامة ‪ :‬ما بقي هذا القرآن ُيقرأ بين العرب فل سبيل إلى استعمارهم ‪ ،‬هؤلء‬
‫خططوا لتكون المة الواحدة أمم ‪ ،‬والدولة الواحدة دول ً ‪ ،‬وأصبحنا وبعد‬
‫مسيرة دامت ستين سنة إلى الن نحاول أن نخرج من هذا التيه ‪ ،‬وأكرر‬
‫م‬
‫الناس الذين يًبرر وجودهم على مسرح الحياة السياسية والجتماعية بل ّ‬
‫شمل المة هم الذين يمزقون المة ويؤخرون جمعها ‪ ،‬ونحن حينما ننادي‬
‫بجمع المة العربية ليس في ذهننا كما أحب أن يكون ذلك واضحا ً تماما ً أن‬
‫نصنع دولة عربية من المحيط إلى الخليج ‪ ،‬تلك شعارات ل تساوي في‬
‫موازين التاريخ فلسا ً ممسوحا ً ‪ ،‬ل ‪ ،‬ولكن نريد لهذه المة حين تجتمع على‬
‫جنسها وعلى لسانها أن تعود لتعرف واجباتها ‪ ،‬ما هو واجبها ؟‬
‫ً‬
‫اسمعوا الله تعالى ماذا يقول في سورة الزخرف ‪ ،‬يقول مخاطبا نبيه عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ ) :‬فاستمسك بالذي ُأوحي إليك إنك على صراط مستقيم‬
‫وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ( أي إن هذا القرآن شرف لك‬
‫ولقومك وليس هذا فحسب ولكنكم سوف تسألون يوم القيامة عن هذا‬
‫ت نفسك فلم تنظر لها ‪ ،‬هل تستحق‬ ‫الشرف ‪ ،‬ولماذا السؤال ؟ أأنت صنع َ‬
‫كل هذا التهديد الرعيد ؟ ل ‪ ،‬ولكن أنت باستمساكك بالذي أوحي إليك‬
‫وبمحافظتك على هذا الشرف الذي اختصك الله به إنما تؤدي للنسانية خدمة‬
‫التي تنتظرها النسانية ‪ ،‬إن النسانية طالما كانت تعيش في دول منعزلة‬
‫على طريقة القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر وطالما كانت‬
‫النسانية تعيش على ألسنة مبلبلة غير متفقة فل مجال لن يسود بينها‬
‫السلم ول مجال لن يتحقق بين أفرادها التفاهم ‪ ،‬وإن شرط التفاهم‬
‫والسلم في وحدة اللسان وإزالة الحدود وفوارق الجغرافيا التي يتمسك بها‬
‫الناس ‪ ،‬وتلك مهمة منوطة بالسلم والمسلمين وشرطها أن يعرف العرب‬
‫واجبهم حيال هذا المر ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫في حديث معاوية الصحيح بعد أن ذكر بعد أن سمع من رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم مما سيحل بالخلئق الشائهة في هذه المة قال أي رسول الله ‪:‬‬

‫‪29‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫سيكون أقوام تتجارى بهم الهواء كما يتجارى الك ََلب لصاحبه ‪ ،‬ل يدع عرقا ً‬
‫ول مفصل ً إل دخله ‪ .‬ثم يلتفت معاوية على منبر النبي عليه الصلة السلم‬
‫فيخاطب المسلمين قائل ً هذه الكلمة التي قلت لكم وعاها الرواد وعيا ً تماما ً‬
‫وعملوا بمقتضاها عمل ً مشكورا ً ومبرورا ً وهم من أجل ذلك مذكورون أبد‬
‫الدهر قال لهم ‪ :‬يا معشر العرب والله لئن لم تقوموا بما جاء به محمد صلى‬
‫الله عليه وسلم لغيركم من المم أعجز عن ذلك ‪ .‬إن خلص النسانية إذا ً‬
‫أمانة في عنق العرب ل لنهم جنس ولكن لنهم أصحاب اللسان الذي نزل به‬
‫القرآن ‪ ،‬والذي اعتبر هذا اللسان وسيلة أو وجها ً من وجوه التيسير ‪ ،‬أليس‬
‫من التيسير أن تقرأ القرآن وأنت لم تشدو من العلم إل القليل فتفهم مراد‬
‫الله ؟ أليس من التيسير أن تقرأ القرآن فتنفعل به ؟ أليس من التيسير أن‬
‫تقرأ القرآن فيقشعر له جلدك ويخشع له قلبك ؟ أليس من التيسير أن يفهم‬
‫القرآن الطفل والشاب والشيخ والمرأة وكل أحد ؟ ذلك كله تيسير وهو سّر‬
‫من أسرار الله جل وعل أودعه في هذا الكتاب وجعل وعاءه هذا اللسان‬
‫سرناه بلسانك ( ‪.‬‬‫وجعله المنة ) فإنما ي ّ‬
‫أأزيدكم شيئا ً ؟ ل أعتقد بعد هذا الكلم محتاجون إلى شيء ‪ ،‬شيء أخير‬
‫أحب أن أكرره ‪ .‬أقول لكم بمنتهى الحرية والوضوح ‪ ،‬الزمان الذي كانت‬
‫ترّوج فيه الشعارات المضللة والباطلة واليوم ‪ ،‬في الماضي وقبل عشرات‬
‫كانت الخرافة تحتاج إلى عشرات السنين لكي يظهر زيفها وبطلنها ‪ ،‬ونحن‬
‫نعيش في عصر ُفتحت فيه منافذ العصر جميعا ً وتواصل الناس فيه لم يكن‬
‫يحلم فيها اشد الناس جموحا ً في التطور والحياة ‪ .‬والخرافة التي تطلق اليوم‬
‫قد ل تحتاج إل إلى عدة أيام لتسقط ويبدو زيفها ‪ ،‬هذه المة عاشت على‬
‫خرافات وعاشت على أضاليل ‪ ،‬ومن أخطر الضاليل أن يوضع العرب في‬
‫مقابلة المسلمين وأن يظهرا أنهما نقيضان ‪ ،‬آن لكل واحد أن يعلن حقيقة‬
‫أولية بدهية ‪ :‬من لم يكن مسلما ً فليس بعربي وإن نطق بلغة العرب وإن‬
‫نزل من صلب عدنان وقحطان ‪ ،‬فالعرب هم المسلمون ‪ ،‬ومن كان يريد‬
‫شاهدا ً ودليل ً فليسأل الذين كانوا في أوروبا وفي أمريكا عام ‪ ، 1967‬ماذا‬
‫فعل اليهود والنصارى بل الذين ل يحبون اليهود ول النصارى من الملحدة‬
‫هزم العرب هزيمتهم الشنيعة‬ ‫الشيوعيين ول يؤمنون برب ول بدين ‪ ،‬حينما ُ‬
‫عرضت صورنا ونحن نعاني الهزيمة والذل‬ ‫كانوا يرقصون في الشوارع ‪ ،‬و ُ‬
‫كدعاوى على أننا أمة ل تستحق البقاء ول تستحق العيش ‪ ،‬بل لماذا نذهب‬
‫إلى أوروبا وأمريكا ؟ اذهبوا إلى الجزيرة ماذا كان يفعل النصارى حينما حّلت‬
‫سرت على أنها هزيمة للسلم ‪،‬‬ ‫الكسرة بالعرب ‪ ،‬إنما الكسرة بالعرب فُ ّ‬
‫والشعار الذي كان ينادي به اليهود بعد أن أكملوا احتلل مدينة القدس محمد‬
‫مات وخلف بنات ‪ ،‬ويا ليتهن بنات بل هن عاهرات ‪ .‬مع السف الشديد ‪ ،‬إن‬
‫هذه المناقضة باطلة فالعرب الحقيقيون هم المسلمون ‪ ،‬والمسلمون هم‬
‫الذين يحفظون كرامة العرب وهم الذين يصونون بيضة العرب ‪ ،‬وهم الذين‬
‫ُيطلب إليهم أن يجعلوا لغة العرب لغة العالم كله ‪ ،‬وكما قال النبي عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ :‬أل إن العربية ليست من أحدكم بأم ول أب ‪ ،‬أل إنما العربية‬
‫اللسان ‪ .‬فمن تكلم العربية فهو عربي ‪ ،‬وهذا تحديد قاطع لرجل لم يأتنا من‬
‫اليونان كميشيل عفلق مثل ً ‪ ،‬وإنما هو أعرب العرب وسيد العرب ‪ ،‬يحدد‬
‫معنى العروبة ويحدد من هم العرب ‪ ،‬وحينما نأخذ على عواتقنا نحن‬
‫المسلمين أن نجعل لغة الدنيا كلها هي اللغة العربية فقولوا لي من هم أوفى‬
‫للعرب ؟ أنحن أم اللصقاء بالعرب ؟ أنحن أم الذين ينتمون إلى العرب زورا ً‬
‫وبهتانا ً تقذفهم إلينا بقاع الدنيا ل ُيعَرف لهم أب ول ُيعَرف لهم جد ‪ ،‬ويأتون‬

‫‪30‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ليزاودوا علينا في العروبة ‪ ،‬وأحدهم إذا نطق كلمتين يخلط فيهما بلغة‬
‫أعجمية ‪ ،‬إننا حينما نقول هذا الكلم نطلب إلى شباب المة أن يواجهوا‬
‫الحقائق ‪ ،‬زمن الخرافات ولى ‪ ،‬وزمن الشعارات ولى ‪ ،‬وشباب المة منتدب‬
‫لكي يواجه الحقيقة المرة ‪ ،‬فإما أن يواجهها مواجهة الرجال ‪ ،‬وإما أن يحق‬
‫عليه مقالة اليهود ) محمد مات وخّلف بنات ( وأنا أزيد وبنات عاهرات ‪.‬‬
‫لكنا في الله جل وعل رجاًء متينا ً وقويا ً أل يضيع هذه المة وأن يحفظ علها‬
‫دينها وأن يعطف قلوبها على هذا الدين وأن يأخذ بمقادتها إلى طريق الهدى‬
‫والصواب وأن يجعل في كل واحد منا وازعا ً يدفعه إلى أن يتجاوز شهواته ‪،‬‬
‫وإلى أن يدوس على أطماعه ‪ ،‬وإلى أن يعلم أن الله ضرب علينا قدرا ً وهو‬
‫لنا تكليف ومسؤولية نؤدي الحساب هنا ولكن الحساب الخير والعسير‬
‫سيؤدى عنها هناك ‪.‬‬
‫وأسأل الله تعالى أن ل تطيش موازيننا هناك وأن ُيثقل الله موازيننا بالعمل‬
‫الصالح المثمر وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين‬
‫والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(8 /‬‬

‫تفسير سورة القمر‬


‫الجمعة ‪ 24‬شوال ‪ 7 / 1397‬تشرين الول ‪1977‬‬
‫) ‪ 1‬من ‪( 4‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ...‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫فنحن اليوم نواجه سورة كريمة في سياق تتبعنا لوائل ما نزل من كتاب الله‬
‫تعالى من أجل أن نتعرف على أساسيات الدعوة وقواعدها في العمل‬
‫والسلوك وأساليب نشر الدعوة ‪ ،‬إضافة إلى ما تضمنته اليات الكريمة منذ‬
‫البداية من ترسيخ قواعد العقيدة بأسسها الثابتة ‪.‬‬
‫هذه السورة هي السادسة والثلثون في ترتيب النزول على الشهر وما‬
‫ارتضيناه في هذا الترتيب وفاقا ً لما تبين لنا من شواهد ودلئل ‪ ..‬وهذه‬
‫السورة الكريمة هي سورة القمر وهي من السور المتوسطة ‪ ،‬وبالرغم من‬
‫أنها تدور حول المحور الذي دارت حوله سور عديدة ماضية استعرضناها‬
‫وتحدثنا عنها ‪ ،‬فالذي يلفت النظر في هذه السورة الكريمة طعمها ومذاقها‬
‫الخاص ‪ ،‬وقعها المميز ‪ ،‬في الحس والشعور والعقل جميعا ً ‪ ,‬ولئن أراد‬
‫الواحد منكم ممن تتبع هذه السلسلة من الحاديث ‪ ،‬ول سيما في شوطها‬
‫الخير ‪ ،‬لمن أراد أن يرجع إلى أوائل السور التي اخُتصت أو تميزت بالحديث‬
‫عن اليوم الخر بصورة أساسية ومقصودة فبدأ بإلقاء نظرة على سورة‬
‫القارعة ‪ ،‬وهي سورة اختصت بوصف اليوم الخر وما يكون من شأن الناس‬
‫فيه ‪ ،‬دون أن تعّرج على ضرب المثال ول إيراد الحجج وسوق الدلئل‬
‫والبراهين ‪ ،‬ثم ذهب يستعرض السورة التي بعدها وهي سورة القيامة ‪،‬‬
‫فيرى ما تناولته أثناء الحديث عن موضوع اليوم الخر ‪ ،‬من شواهد ودلئل‬
‫وبينات فأوضحت دلئل ذلك في الكون والثار ‪ ،‬وأوضحت شواهد ذلك في‬
‫النفس ‪ ،‬وساقت دلئل ذلك في باب الخلقيات وما يتعايش عليه الناس‬
‫وضرورة أن ل يضيع حس العدل وقانون العدل ‪ ،‬وأن ل تطيش موازين العدل‬
‫التي قامت به السماوات والرض ‪ ،‬ثم عقب بعد ذلك على سورة الهمزة‬

‫‪31‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وهي التي جاءت بعد سورة القيامة ‪ ،‬يرى بوضوح أن موضوع القيامة واليوم‬
‫الخر حين عرضه القرآن في شوطه الول لن تذهب أصداؤه ضائعة بين‬
‫أمواج الثير ولكنها تركت أصداءها القوية وآثارها العارمة في المجتمع الذي‬
‫وجه إليه خطاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ‪.‬‬ ‫ت ّ‬
‫فإذا مضى بعد يستعرض سورة المرسلت رأى المر يعاد ولكن بأثواب أخرى‬
‫وبأساليب جديدة ‪ ،‬فإذا انحدر إلى سورة قاف رأى المر يأخذ ُبعدا ً آخر أو‬
‫أبعادا ً أخرى ‪ ،‬فقبل ‪ ،‬كان موضوع القيامة موضوع إنكار واستنكار وكانت‬
‫الجوبة تأتي على هذا على قدر الموقف ومتطلبات الموقف ول مزيد ‪ ،‬ولكننا‬
‫من سورة قاف نستشف شيء آخر عرضناه قبل وتكلمنا عليه بما يسر الله‬
‫وأعان ‪ ،‬رأينا أن موضوع القيامة يخرج ليكون تساؤل ً ضخما ً عن قدرة الله‬
‫وعن علم الله تبارك وتعالى ‪ ،‬وإذا ً فالقضية تنداح وتتسع ‪.‬‬
‫فإذا جئنا بعد ذلك إلى سورة البلد وسورة الطارق وهي السورة التي عرضنا‬
‫لها في الجمعة الماضية كشفنا عن شيء جديد أيضا ً وهو أن الله سبحانه لن‬
‫يكتفي بالرد على شبهات المشركين وبتفنيد تخرصات الكافرين وإنما تناول‬
‫النسان ‪ ،‬فبّين أنه كرم هذا النسان ‪ ،‬ومما تعارف الناس عليه وجرى بينهم‬
‫كالقانون ‪ ،‬إن شكر المنعم واجب وإن معرفة كرم الكريم ضروري وحسن‬
‫في أخلق الناس ‪ ،‬وأنه تبعا ً لذلك ولما أن أحدا ً من خلق الله ل يدعي أنه‬
‫خلق من غير شيء ‪ ،‬من أجل ذلك‬ ‫خلق نفسه ول يستقيم في العقل أنه ُ‬
‫كانت بداهة الحس وضرورة العقل وأوليات المنطق تقضي بأن النسان‬
‫مخلوق من قبل قوة أخرى مفارقة ولنصطلح على أن نسميها ) الله ( فإذا‬
‫كان المر كذلك فمن عدم الخلق الذي يستنكره آحاد الناس فيما بينهم في‬
‫الحياة الدنيا وفيما يتهادونه من معروف أن يقف النسان من المنعم موقف‬
‫الجحود والنكران ‪.‬‬
‫فإذا نقلنا المر إلى موضوع الرب والعبد كانت الجريمة أكبر ‪ ،‬وكانت الساءة‬
‫أوغل في الشناعة والسفاف ‪ ،‬وهذا طور جديد ترقى إليه السورة ‪ ..‬لماذا ؟‬
‫لن الله تعالى يريد قلب النسان وإرادته المحررة من كل ضغط ‪ ،‬المبرأة‬
‫من كل استكراه ‪ ،‬ولو أن الله تعالى شاء أن يعطف قلوب الناس جميعا ً إلى‬
‫اليمان لستطاع ذلك ‪ ..‬وتبارك الله ) ولو شاء ربك لمن من في الرض‬
‫كلهم جميعا ً ( ولكن النسان يتفرد في هذا الكون بأنه مخلوق حر الرادة‬
‫طليق التفكير لكي يكون مؤهل ً لتحمل التبعة ومواجهة المسؤولية وهي‬
‫أساس الثواب والعقاب ومناط الحساب في هذه الدنيا وعند الله في اليوم‬
‫الخر ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ق بال ً‬
‫ولول أن النسان مخلوق يلج في العناد ويسترسل في التكذيب ‪ ،‬غير مل ٍ‬
‫إلى ما يستند إليه من حجة وعقل ومنطق ‪ ،‬لول ذلك لكان بعض ما مضى‬
‫كافيا ً لكي يحمل الناس على القرار بيوم القيامة ‪ ،‬وبأن الناس معروضون‬
‫على الله وبأن كشف الحساب ل بد أن يقدم هناك ‪ .‬وأنا في غنى عن إعادة‬
‫القول بأن إلحاح القرآن على تأكيد يوم القيامة وغرسه في جذر قلوب‬
‫المؤمنين أمر ضروري ‪ ،‬لن النسان الذي ل يؤمن بمرد ول بمعاد إنسان ل‬
‫خير فيه ‪ ،‬لنه هو والبهيمة السارحة سواء ‪ ،‬بل لعل البهيمة أقل أذى وأقل‬
‫شرا ً من النسان الذي ل يؤمن بالله وبحتمية الحساب بين يدي الله تعالى ‪،‬‬
‫وما أصدق قولة الشاعر العربي القديم ‪:‬‬

‫‪32‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضا ً خيانة‬


‫فالنسان الذي ل تشده إلى قواعد الحق والعدل وأصول الخير أسباب تتصل‬
‫باليقين بالله ‪ ،‬وبحتمية المصير إلى الله ‪ ،‬إنسان فاتك أقرب إلى أن يكون‬
‫شيطانا ً رجيما ً ‪.‬‬
‫هذه السورة التي نواجهها الن سورة تدور حول ذات المحاور ‪ ،‬لكن لها‬
‫مذاقا ً خاصا ً ولها جرس خاص ‪ ،‬وحسبنا أن نلتفت إلى فواصل السورة ‪،‬‬
‫ولعلي ل أبالغ إذا قلت ‪ :‬إن امرأ لم يتضلع بعلوم اللغة العربية ولم يفقه‬
‫ت عليه هذه السورة لشعر من‬ ‫أسرار اللسان الذي نزل به القرآن لو تلو َ‬
‫موسيقاها ومن تقطيع فواصلها ومن جرس كلماتها أنه أمام شيء رهيب غير‬
‫عادي ‪ ،‬السورة ل أستطيع أن أشرحها كلها في هذا الموقف ‪ ،‬وإنما ألقي‬
‫عليها نظرة عجلى ‪ ،‬وإن بقي لدي من الوقت ما يسمح بشيء من الزيادة‬
‫زدت ملحظة ضرورية ستأتيكم إن شاء الله ‪.‬‬
‫هذه السورة تشير في مطالعها إلى حادث شهير ذكره القرآن في هذه‬
‫السورة وجاءت به الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم مصرحة بالوقوع‬
‫‪ ،‬تشير إلى اشتهر بانشقاق القمر ‪ ،‬اسمعوا أول السورة ) بسم الله الحمن‬
‫الرحيم ‪ ،‬اقتربت الساعة وانشق القمر ‪ ،‬وإن يروا آية ُيعرضوا ويقولوا سحر‬
‫مستمر ‪ ،‬وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ‪ ،‬ولقد جاءهم من النباء ما‬
‫ل عنهم يوم يدعو الداِع إلى‬ ‫ن النذر ‪ ،‬فتو َ‬ ‫فيه مزدجر ‪ ،‬حكمة بالغة فما تغ ِ‬
‫شيء نكر ‪ ،‬خشعا ً أبصارهم يخرجون من الجداث كأنهم جراد منتشر ‪،‬‬
‫مهطعين إلى الداِع يقول الكافرون هذا يوم عسر ( هذه فاتحة السورة‬
‫الكريمة تشير إلى واقعة هي انشقاق القمر في زمن النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم قبل الهجرة النبوية أثناء انصباب المحن وصنوف البلء على‬
‫المسلمين ‪.‬‬
‫والروايات كما قلنا في الحديث الشريف جاءت مصرحة بأن المشركين من‬
‫المكيين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق‬
‫القمر نصفين ‪ ،‬فلقة ثبتت في مكانها ‪ ،‬وأخرى ذهبت خلف الجبل ‪ ،‬حتى رؤي‬
‫حراء وهو الجبل المعروف قرب مكة من بين فرقتي القمر المنشق استجابة‬
‫لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وقد قال المام أحمد رضي الله عنه في‬
‫المسند حدثنا معمر يعني ابن راشد عن قتادة عن أنس أن أهل مكة طلبوا‬
‫من النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم القمر قد انشق شقين ‪ .‬وأخرجه‬
‫من طريق قتادة أيضا ً البخاري في الصحيح ‪ ،‬ولم ينفرد أنس بهذه الرواية ‪،‬‬
‫فالرواية في الصحاح وليس خارج الصحاح ‪ ،‬لو أردت أن أذكر لكم عما جاء‬
‫عنها خارج صحاح الحديث لطال بنا المطال ‪ ،‬ولكنها في الصحاح مروية عن‬
‫أنس بطرق صحيحة وثيقة ‪ ،‬ومروية عن جبير بن مطعم رضي الله عنه‬
‫بطرق صحيحة وثيقة ‪ ،‬ومروية عن ابن عباس رضي الله عنهما بطرق‬
‫صحيحة وثيقة ‪ ،‬وعن ابن عمر كذلك ‪ ،‬وعن عبد الله بن مسعود ‪ ،‬فهؤلء‬
‫خمسة من كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يثبتون هذه الواقعة إثباتا ً‬
‫ل شبهة فيها ول ريب بأسانيد هي كالشمس وضوحا ً ‪ ،‬فل معنى للنقاش‬
‫والمراء من حول ذلك ‪.‬‬
‫وسأعود فيما بعد لناقش بعض المفسرين من المحدثين والمعاصرين ممن‬
‫كبر عليهم للهزيمة العقلية والشعورية التي يحسها ابن اليوم فيسارع إلى‬
‫تكذيب الخوارق والمعجزات ظنا ً منه أنه إنسان عقلني ‪ ..‬سأعود لمناقشة‬
‫هذه النقطة فيما بعد إن شاء الله ‪.‬‬
‫أقول بعد ذلك بعد أن عرضت السورة الكريمة هذا الخارق المعجز تحدثت‬

‫‪33‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عن نبأ أقوام ‪ ،‬وليس غريبا ً عنا عن نبأ القوام الماضين ‪ ،‬فقد مّر معنا من‬
‫قبل حديث عن بعض القوام في سورة الفجر ) ألم تَر كيف فعل ربك بعاد ‪،‬‬
‫إرم ذات العماد ‪ ،‬وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ‪ ،‬وفرعون ذي الوتاد ‪،‬‬
‫الذين طغوا في البلد ‪ ،‬فأكثروا فيها الفساد ‪ ،‬فصب عليهم ربك سوط‬
‫عذاب ‪ ،‬إن ربك لبالمرصاد ( إذا ً فبين أيدينا حديث مضى عن أقوام ثلثة‬
‫جاءت الشارة إليها مقتضبة إلى حد ٍ ما ‪ ،‬لكنا هنا نواجه حديثا ً إضافيا ً عن‬
‫أقوام جدد ‪ ،‬تحدثنا السورة عن قوم نوح ‪ ،‬كما تحدثنا عن قوم لوط ‪ ،‬وهذه‬
‫هي المرة الولى التي نسمع فيها في سياق التنزيل بنبأ هاتين المتين مع‬
‫رسل الله تبارك وتعالى ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫يقول الله تعالى مفتتحا ً الحديث عن القوام المكذبين تسلية وتعزية للنبي‬
‫صلى الله عليه وسلم وتثبيتا ً للمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫وبيانا ً لبعض القواعد والسس اللزمة أثناء العمل من أجل هذا الدين وحمل‬
‫حقيقة هذا السلم ‪ُ ،‬يفتتح الحديث عن قوم نوح ول غرابة ‪ ،‬فنوح الب الثاني‬
‫للبشرية ) كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر (‬
‫وللمتأمل أن ينظر في هذه المقالة التي ُووجه بها نبي الله نوح عليه الصلة‬
‫والسلم وإلى تكررها على ألسنة المكذبين باستمرار حتى استقرت على‬
‫ألسنة الذي كذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬أما أنهم قالوا إن محمدا ً‬
‫عليه الصلة والسلم مجنون فذلك أشهر من أن ُيذكر ‪ ،‬وليس بعيدا ً عنكم ما‬
‫كان من حديثنا عن قول الله تعالى في فاتحة سورة القلم ) نون والقلم وما‬
‫يسطرون ‪ ،‬ما أنت بنعمة ربك بمجنون ( فنفى عنه الجنون ‪ .‬وكما ازدجر نوح‬
‫عليه السلم وُنهي عن المضي في الدعوة إلى الله فقد ازدجر محمد عليه‬
‫الصلة والسلم وُنهي عن الدعوة إلى الله تعالى ‪.‬‬
‫وفي أول سورة نزلت من القرآن وهي سورة العلق ) أرأيت الذي ينهى ‪،‬‬
‫عبدا ً إذا صلى ‪ ،‬أرأيت إن كان على الهدى ‪ ،‬أو أمر بالتقوى ‪ ،‬ألم يعلم بأن‬
‫الله يرى ‪ ،‬كل لئن لم يتنهِ لنسفعن بالناصية ‪ ،‬ناصية كاذبة خاطئة ‪ ،‬فليدعُ‬
‫ناديه ‪ ،‬سندع الزبانية ‪ ،‬كل ل تطعه واسجد واقترب ( فالفاتحة كما ترون‬
‫ص‬
‫عندما انعقل عن الله تعالى معنى ما أراد في كتابه ليست تراد لكي يق ّ‬
‫علينا قصص من تاريخ القوام الذين مضوا ‪ ،‬فشأن القرآن أرفع وأجل وأعظم‬
‫وأكثر فاعلية من أن يكون كتاب تاريخ يثبت وقائع من وقائع التاريخ ‪ ،‬ولكن‬
‫القرآن يختار الواقعة التاريخية لتخدم الغرض العام فتأتي في مناسبتها‬
‫الخاصة وفي تقديرها الذي ل يوجد إل في محكم التنزيل في كتاب الله تعالى‬
‫‪ .‬والذي يقرأ هذا الكلم يدرك بكل سهولة أن مردوده في نفس النبي صلى‬
‫ت به من صد‬ ‫الله عليه وسلم أن يا محمد ليس بدعا ً من البدع ما ُووجه َ‬
‫ذب رسل الله جميعا ً ‪ .‬وليس جديدا ً من‬ ‫صد ّ من قبلك وك ُ ّ‬
‫وتكذيب ‪ ،‬فقد ُ‬
‫سفاهة البشرية وضللها أن يقال لك إنك مجنون ‪ ،‬فأبو النبياء نوح قيل له‬
‫ذلك ‪ ،‬وليس جديدا ً أبدا ً أن تزجر عن الدعوة إلى الله فقد ازدجر من قبلك‬
‫نوح وهو أول الرسل من أولي العزم صلوات الله تعالى عليهم ‪ ،‬وإذا ً فالذي‬
‫يراد منك يا محمد أن تزداد بصيرة في أمر الله ‪ ،‬وأن تزداد رسوخا ً على‬
‫طريق الدعوة ‪ ،‬وأن ل يلفتك عن مرضاة الله تعالى هذه السفاهة الصغيرة‬
‫التي تخرج وتنجم من قوم سفهاء الحلم صغار العقول ‪.‬‬
‫فهذا ما يستقر في ذهن أي قارئ للقرآن ‪ ،‬ولك بعد أن تعمم ‪ ،‬فالمسألة أي‬

‫‪34‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫هذه الواقعة الدعوية الحركية ليست واقفة عند حدود النبيين والمرسلين ‪،‬‬
‫وإنما هي واقعة تتكرر باستمرار على مدى اليام والدهار والعصور ‪ ،‬فحيثما‬
‫رأيت دعوة ً إلى الله تأخذ طريقها باستقامة وتثبت قدميها في مستنقع الموت‬
‫في سبيل الله جل وعل تواجه بهذه السخرية المهينة ‪ ،‬إن هؤلء الدعاة‬
‫ل لن يزجروا وينهوا كما ُينهى السفهاء والمجانين ومن في‬ ‫مجانين وإنهم أه ٌ‬
‫حكمهم ‪ .‬ولكن لن يمضي إل قليل وقت حتى يضحك الذين كانوا يبكون من‬
‫قبل ‪ ،‬ويبكي الذين كانوا يضحكون من قبل ذلك ‪ ،‬ذلك بأن الله غالب على‬
‫أمره ولكن أكثر الناس ل يعلمون ‪.‬‬
‫فالقصة التي ُبدأت بها هذه السلسلة من الحاديث وهي قصة نوح عليه‬
‫السلم زاخرة بالعبر والدلئل مما ل أريد أن أتعرض له الن ‪ ،‬ولكني ألمعت‬
‫إلماعا ً يشبه أن يكون ضوءا ً أمام الخوة لكي يقرؤا القرآن بعقلنية أكثر‬
‫وبتدبر أكثر ‪ ،‬فوراء كل آية وكل كلمة من كلمات الله جل وعل عالم من‬
‫المعاني يحتاج إلى ناس يقرؤونه بوعي لكي يدركوا مرادات الخالق تبارك‬
‫وتعالى ‪.‬‬
‫نمضي ) كذبت قبلهم ( يعني قبل هؤلء المشركين ) قوم نوح فكذبوا عبدنا‬
‫وقالوا مجنون وازدجر ‪ ،‬فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ‪ ،‬ففتحنا أبواب السماء‬
‫بماء منهمر ‪ ،‬وفجرنا الرض عيونا ً فالتقى الماء على أمر قد قدر ‪ ،‬وحملناه‬
‫على ذات ألواح ودسر ‪ ،‬تجري بأعيننا ( أي بحفظنا ) جزاًء لمن كان كفر ‪،‬‬
‫ولقد تركناها آية ( أي تركنا هذه الواقعة آية يتناقل الناس خبرها سلفا ً عن‬
‫سلف ‪ ،‬أو تركنا السفينة التي حملت نوحا ً ومن معه آية بّينة على قدرة الله‬
‫حتى أدركت بقاياها أوائل هذه المة ‪ ،‬ولقد حدثني بعض الذين يسكنون في‬
‫منطقة الجودي وهو الجبل الذي رست عليه سفينة نوح في أشهر الروايات‬
‫أنهم يجدون إلى الن بقايا المسامير المتخلفة عن سفينة نوح عليه السلم‬
‫في قمة جبل الجودي ‪ ،‬ولكني ما رأيت ذلك بعيني للسف ‪ ،‬مع أني كنت‬
‫قريبا ً من قمة الجبل ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫) ولقد تركناها آية فهل من مدكر ‪ ،‬فكيف كان عذابي ونذر ‪ ،‬ولقد يسرنا‬
‫القرآن للذكر فهل من مدكر ( بصورة عامة وبإجمال نقول ‪ :‬إن الخطوط‬
‫الرئيسية التي تتناغم في هذه القصة تشبه إلى حد بعيد وليس من حيث‬
‫النهاية ما حصل لمحمد عليه الصلة والسلم ‪ ،‬رجل يختاره الله تعالى من‬
‫بني البشر ليحمل الرسالة إلى الناس ) والله أعلم حيث يجعل رسالته ( ثم‬
‫يأمره بالجهر وبالدعوة وبأن يصدع بما يؤمر ‪ ،‬فيشمر لمر الله ويجهر‬
‫بالدعوة وينادي بها ‪ ،‬ويكون لذلك أرجاع عند الناس وهي أرجاع معروفة ‪،‬‬
‫وحين تتقّراها في ساحة التاريخ عامة تجدها متماثلة ‪ ،‬إعراض وصد وتكذيب‬
‫وسخرية واستهزاء وإيذاء ‪..‬‬
‫ويظن المغفلون أن المر صراع بين النسان وإنسان آخر ‪ ،‬ويذهب الغرور‬
‫بالمغفلين إلى أن هذا النبي المرسل واحد وهم جمع كثير ‪ ،‬وغالبا ً وإن يكون‬
‫النبياء المرسلون من أشرف بيوتات القبائل غالبا ً ل يكون النبياء من ذوي‬
‫الثراء والجاه والمكانة ‪ ،‬وإنما يكونون من أوساط الناس ممن استقامت‬
‫خلئقهم ثم طهرت فطرهم وسجاياهم ‪ ،‬وإذا ً فالذين يتصدون لهم أكبر مقاما ً‬
‫وأعظم قوة وأوسع ثراًء وأبعد جاها ً وصوتا ً ‪ ،‬وطبيعي أن خصاما ً ونزاعا ً‬
‫وعراكا ً يقع بين قبيلين من هؤلء في حسابات الناس وفي القاموس‬

‫‪35‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫البشري ‪ ،‬فالنتائج مقررة فتكون الغلبة للقوى وللكثر ثراًء وما أشبه ذلك ‪،‬‬
‫وهذا كما قلت حساب المغفلين والذين ل يعقلون ‪ .‬إن حقيقة الصراع‬
‫حض المعركة بين واليمان ليست صراعا ً بين بشر وبشر‬ ‫باستمرار حينما ُتم ّ‬
‫يحكمه قانون العدد وقانون القوة التي يجب أن تتساوى وتزيد لكي يضمن‬
‫نجاح المعركة لحد الطرفين ‪ ،‬ولكنها صراع بين النسان الضعيف والمغرور‬
‫والتافه وبين الله الذي يغلب ول ُيغلب ‪.‬‬
‫ولهذا فحين قال نوح في دعواه لربه ) إني مغلوب فانتصر ( تدخلت قدرة‬
‫الله جل وعل من وراء السباب جميعا ً ) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ‪،‬‬
‫وفجرنا الرض عيونا ً فالتقى الماء على أمر قد قدر ( كان يمكن أن يكون‬
‫التعبير بأن أبواب السماء تفتحت بالماء ‪ ،‬وُيسند التفتح إلى أبواب السماء أو‬
‫إلى السماء ‪ ،‬وكان يمكن أن يقول إن الرض تفجرت عيونا ً ‪ ،‬ويكون الكلم‬
‫دال ً على المراد على نحو ما ‪ ،‬ولكن صيغة اليات بسياقها هنا ل يراد منه أن‬
‫توصف الواقعة ‪ ،‬وإن كان وصفها بالنحو الذي قلناه مغنيا ً غاية الغناء ‪ ،‬وإنما‬
‫يريد أن يبرز عيانا ً ومشاهدة قوة الله القوي أمام النسان العاجز ‪ ،‬فأضاف‬
‫الفتح إلى ذاته الكريمة وأضاف التفجير إلى ذاته الكريمة أيضا ً ‪ ،‬أي أن الله‬
‫در المر تقديرا ً بحيث يكون‬ ‫جر الرض عيونا ً وفتح أبواب السماء وق ّ‬ ‫هو الذي ف ّ‬
‫الماء النازل من السماء مساوقا ً في الوقت للماء النابع من الرض بحيث‬
‫يلتقي الماءان ليكون الطوفان أهول وأعظم فتكا ً وتدميرا ً ‪.‬‬
‫فهذه بعض جوانب العبر مما يستفيده النسان من الخطوط الرئيسية بالقصة‬
‫ذب ‪ ،‬فيلجأ إلى ربه ‪ ،‬فتتدخل القدرة الربانية لتقّر في‬ ‫‪ ،‬نبي يدعو ‪ ،‬فُيك ّ‬
‫موضعه عبدا ً مخلوقا تافها حقيرا ل يملك لنفسه ضرا ول نفعا ول موتا ول‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫خر عليه أضعف جنده لباده وأفناه ‪.‬‬ ‫حياة ول نشورا ً ‪ ،‬ولو أن الله س ّ‬
‫ثم تتدخل ذات اليد ‪ ،‬يد وقدرة ‪ ،‬لتنجي الذين آمنوا ‪ ،‬فكما أنجى الله نوحا ً‬
‫ومن معه في الفلك المشحون كذلك قرر الله جل وعل أنه كان حقا ً عليه أن‬
‫ينجي المؤمنين ‪ .‬فالذين آمنوا ينصب عليه البلء وُيطاردون وتسفك منهم‬
‫الدماء ‪ ،‬وُيدخلون في السجون ‪ ،‬وتوضع في أيديهم وأرجلهم وأعناقهم القيود‬
‫محنة من الله وابتلًء واختبارا ً ‪ ،‬ولكن العاقبة للمتقين ‪.‬‬
‫والذين يدعون إلى الله جل وعل إذا اهتزت في نفوسهم هذه العقيدة لحظة‬
‫واحدة فقدوا كل مؤهلت الدعوة إلى الله تعالى ‪ ،‬لن جند الله هم الذين‬
‫أضافهم إلى نفسه فجعلهم أعظم الناس به ثقة وأكثرهم إليه عودة والتجاًء ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫فهذه قصة نوح مع قومه ذكرها الله تعالى بهذا السياق ‪ ..‬ثم ماذا ؟ ) كذبت‬
‫عاد ( وعاد مّر معنا شيء من خبرها ) فكيف كان عذابي ونذر ‪ ،‬إنا أرسلنا‬
‫عليهم ريحا ً صرصرا ً ( ويا حبذا لو كل أخ ذاق معي طعم هذه اللفظة ) ريحا ً‬
‫صرصرا ً ( يكاد الريح العنيف القاصف العاصف البارد الشديد يذاق طعمه من‬
‫هذه اللفظة ) ريحا ً صرصرا ً في يوم نحس مستمر ‪ ،‬تنزع الناس كأنهم أعجاز‬
‫سرنا القرآن للذكر فهل من‬ ‫نخل منقعر ‪ ،‬فكيف كان عذابي ونذر ‪ ،‬ولقد ي ّ‬
‫مدكر ( ثم ماذا ؟ بعد عاد تذكر السورة قوم ثمود ) كذبت ثمود بالنذر ‪،‬‬
‫فقالوا أبشرا ً منا واحدا ً نتبعه إنا إذا ً لفي ضلل وسعر ( والسعر هو الجنون أو‬
‫مي على النسان مسالك الرأي ‪،‬‬ ‫شدة الجنون أو الجنون المطبق الذي يع ّ‬
‫ً‬
‫ويفقده القدرة على التصرف السليم الحكيم ) إنا إذا لفي ضلل وسعر ‪،‬‬
‫أءلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر ‪ ،‬سيعلمون غدا ً من الكذاب‬

‫‪36‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الشر ‪ ،‬إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ‪ ،‬ونّبئهم أن الماء قسمة‬
‫ب محتضر ‪ ،‬فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ( وهو قدار بن سالم‬ ‫بينهم كل شر ٍ‬
‫) فكيف كان عذابي ونذر ‪ ،‬إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم‬
‫سرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( ثم ماذا ؟ تأتي القصة‬ ‫المحتظر ‪ ،‬ولقد ي ّ‬
‫بسياقها على شيء من نبأ قوم لوط ‪ ،‬وهذه هي المرة الولى التي نواجه في‬
‫سياق حديثا ً عن قوم لوط ‪ ،‬وحديث القرآن عن قوم لوط تكرر في سور‬
‫عديدة ‪ ،‬سيأتيكم الخبر عنه إن شاء الله تعالى في مواطنها ‪..‬‬
‫) كذبت قوم لوط بالنذر ‪ ،‬إنا أرسلنا عليهم حاصبا ً ( والحاصب هو الريح الذي‬
‫يحمل لشدته وعنفوانه الحجارة والحصى فيرسلها تنصب على الناس من‬
‫السماء ) إنا أرسلنا عليهم حاصبا ً إل آل لوط نجيناهم بسحر ‪ ،‬نعمة من عندنا‬
‫كذلك نجزي من شكر ( أي من شكر الله على نعمة الدعوة والرسالة فالله‬
‫جل وعل ينجيه ثم يأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يصنعون ‪.‬‬
‫) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ( أي أن نبيهم لوطا ً أنذرهم أن الله إذا‬
‫بطش البطشة الكبرى فل مجال بعد للعتذار ) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا‬
‫بالنذر ( شكوا بهذا النذير الذي جاءهم على لسان ) ولقد راودوه عن ضيفه‬
‫فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ‪ ،‬ولقد صّبحهم بكرة عذاب مستقر ‪،‬‬
‫سرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( ‪.‬‬ ‫فذوقوا عذابي ونذر ‪ ،‬ولقد ي ّ‬

‫)‪(5 /‬‬

‫ثم ماذا ؟ حديث مقتضب عن فرعون وقومه ) ولقد جاء آل فرعون النذر ‪،‬‬
‫كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيزا ً مقتدر ( إلى هنا ينتهي الحديث عن‬
‫القوام الخمسة الذين كانت لهم مواقف متشابهة من أنبيائهم ومن كلمات‬
‫الله ‪ ،‬وكانت مواقفهم متشابهة من كل الوجوه مع مواقف الرسول صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ .‬فمتى التعقيب ؟ هنا طعم السورة يتجلى ‪ ،‬إن السورة تحمل‬
‫تهديدا ً ولكن ل يخطئ الحس فيها نازع الشفاق على الناس ) أكفاركم خير‬
‫من أولئكم ( هل كفار قريش خير من المم التي ذكرناها ؟ ) أم لكم براءة‬
‫في الزبر ( هل عندكم صك عند الله تعالى أن يدعكم تسرحون وتمرحون‬
‫وتفسقون وتفجرون ثم ل يأخذكم بالذي جنته أيديكم ؟ ) أم لكم براءة في‬
‫الزبر ( يعني في الكتب الماضية النازلة من عند الله ) أم يقولون نحن جميع‬
‫منتصر ( أم تذهب به أحلمهم وعقولهم إلى أن يقيسوا المر قياسا ً بشريا ً‬
‫صرفا ً فيقولون إن محمدا ً وحيد ومن حوله ضعفاء ونحن جمع مجموع كثير‬
‫والنصر لنا ل ريب فيه ؟ ) أم يقولون نحن جميع منتصر ‪ ،‬سيهزم الجمع‬
‫ويولون الدبر ( ويرحم الله ابن الخطاب رضي الله عنه قال حينما نزل قول‬
‫الله تعالى ) سيهزم الجمع ويولون الدبر ( قلت في نفسي ‪ :‬أي جمع ُيهزم ؟‬
‫دها وعديدها وسلحها وأوباشها ومن حولها من العراب ترمي‬ ‫هذه قريش بع ّ‬
‫َ‬
‫رسول الله والمؤمنين معه عن قوس واحدة ‪ ،‬فكيف سُيغلب هذا الجمع ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فلما كانت غزوة بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم خرج من‬
‫العريش وهو يثب في درع ويقول ‪ :‬سيهزم الجمع ويولون الدبر ‪ .‬فعلمت‬
‫تأويلها يوم ذاك ‪ .‬أي أن الله تعالى أنزل في القرآن وعده لمحمد عليه‬
‫الصلة والسلم وللمؤمنين معه وهم في وسط البلء المنصب عليهم كالمطر‬
‫بأن هذا الجمع سيهزم ثم حقق الله وعده بعد الهجرة في أول صدام وقع بين‬
‫المؤمنين من جهة والمشركين من جهة أخرى ) سيهزم الجمع ويولون الدبر ‪،‬‬
‫بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ( انظروا إلى هذا الحرف ) بل ( بل‬

‫‪37‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫حرف في اللغة العربية يسمى حرف إضراب ومعنى الضراب صرف النظر‬
‫عن ما مضى واستئناف كلم جديد يقوم في الدللة على المقصود أبلغ وأدل ‪.‬‬
‫صل للمشركين منها فقد النفس والرواح‬ ‫دعك إذا ً من هذه الهزيمة التي تح ّ‬
‫وخسارة في الموال والعتاد والخزي الذي لحقهم والفضيحة التي شملتهم‬
‫بين العرب ‪ ،‬دعك من هذا ‪ ،‬هذا ل شيء ‪ ،‬كل هذه الخسائر والمصائب ما‬
‫تعد شيئا ً أمام ما ينتظرهم يوم القيامة ) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى‬
‫وأمر ( وإذا ً ففي هذا اللفظ المبهم المهول ما يكشف عن أن ما أعد الله‬
‫للمكذبين برسله شيء ل يأتي على الوصف ول تطيق تصوره العقول ‪،‬بل‬
‫الساعة موعدهم والساعة أدهى من هذه الهزيمة وأمر من هذه الهزيمة ) بل‬
‫الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ( ‪.‬‬
‫) إن المجرمين ( وهم الكافرون ) في ضلل وسعر ( أي متاهة وبعد من‬
‫الحق وجنون مطبق يجعلهم يضربون شمال ً ويمينا ً ول يستطيعون أن يتبينوا‬
‫مواطئ أقدامهم ) يوم ُيسحبون في النار على وجوههم ( هناك ) ذوقوا مس‬
‫سقر ‪ ،‬إن كل شيء خلقناه بقدر ( وهذه الية الفاذة ) إن كل شيء خلقناه‬
‫بقدر ( تثبيت وتطمين للمؤمنين أبد الدهر ‪ ،‬إن هذا الكون بما فيه ومن فيه‬
‫وبقضايا الصراع التي تدور فيه ليست شيئا ً مفلتا ً من قدرة الله جل وعل ‪،‬‬
‫فكل شيء قدره الرب وأحكم تقديره وكل شيء يجري بعينه ل يشذ عن‬
‫أمره شيء ‪ ،‬وإذا ً فعلى المؤمنين أل يستيئسوا حين يرون الباطل يتشامخ‬
‫وينتفخ ويتيه في الرض ‪ ،‬ويخيل لضعفاء العقول ولمهازيل الفرص والمرتزقة‬
‫أن الدولة ُأحكمت بالباطل يجب أل يفتر المؤمنون بهذا ‪ ،‬فالكون بما فيه‬
‫ومن فيه بقبضة الجبار تبارك وتعالى ‪ ،‬والله لن يسوي بين المؤمنين‬
‫والفاجرين ولن يجعل المؤمنين طعمة في أفواه الكافرين ) ولن يجعل الله‬
‫للكافرين على المؤمنين سبيل ً ( صدق الله العظيم ‪.‬‬
‫) إن كل شيء خلقناه بقدر ‪ ،‬وما أمرنا إل واحدة ( يعني كلمة واحدة ) كلمح‬
‫بالبصر ‪ ،‬ولقد أهلكنا أشياعكم ( والخطاب هنا للمكيين المشركين وأشياعهم‬
‫هم الذين يماثلونهم في التكذيب والكفر تقول شايعت فلنا ً على رأيه أي‬
‫صدقت به وتابعته عليه ‪ ،‬فأشياعهم هم الذين يماثلونهم في الكفر بآيات الله‬
‫وحرب أنبياء الله تعالى ) ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر ‪ ،‬وكل شيء‬
‫فعلوه في الزبر ( أي كل شيء فعلوه مكتوب عند الله ومعد ّ لكي يواجهوا به‬
‫يوم الحساب ) وكل صغير وكبير مستطر ( حتى الخطى حتى الهمسة تدور‬
‫في خلدك ل تشذ عن الله وتكتبها عليك الكرام الكتبة الحافظون لكي تلقى‬
‫جزاءها هناك إن خيرا ً فخير وإن شرا ً فشر ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫وينتهي الحديث عن تحذير هؤلء الكفار بهذا الشكل الذي أبرز لهم فيه ما‬
‫أحل بالمم التي قبلهم وأبان لهم خطأ رأيهم بأنهم خير من المم التي مضت‬
‫من قبلهم ‪ ،‬لتأتينا آيتان فقط تبينان لنا ما أعد ّ الله تعالى للمؤمنين المتقين‬
‫من راحة وروح وريحان ) إن المتقين في جنات ونهر ‪ ،‬في مقعد صدق عند‬
‫مليك مقتدر ( وصدق الله العظيم ‪ ،‬لحظوا المر هنا ‪ ،‬ليس فقط من حيث‬
‫التأويل ولكن من حيث اللفاظ المفردة ‪ ،‬وانظروا الدقة في هذا القرآن‬
‫المعجز الذي ل يقدر ه حق قدره إل الذين يتأملون فيه تأمل ً زائدا ً ويعنون به‬
‫عناية بالغة ويتدبرونه تدبرا ً طويل ً جدا ً ‪ ،‬المتقون ما لهم ؟ في جنات ل يعلم‬
‫إل الله ما أعد الله فيها للمتقين ‪ ) ،‬في مقعد صدق ( ل حظوا هذه الكلمة‬

‫‪38‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫) مقعد صدق ( إن مقعد الصدق الذي أعده الله للمتقين له صلة وارتباط‬
‫بموقف الصدق الذي يقفه المؤمنون في هذه الحياة ) عند مليك مقتدر (‬
‫والعندية هنا عندية تشريف وعندية حماية ورعاية ‪ ،‬كأن هذه اللفظة‬
‫) مقتدر ( تشير لك وأنت في الحياة الدنيا قبل أن تصير إلى الله لتأخذ‬
‫الجائزة وتقبض المكافأة ‪ ،‬أنه عليك أن تكون غاية في التقى بأنك أنت هنا‬
‫ت أنت جنديا ً من حزب‬ ‫ت غائبا ً عن أمر الله ‪ ،‬وما دم َ‬
‫وسط البلء والعذاب لس َ‬
‫ت‬‫الله جل وعل فيجب أن تثق بقوله ) أل إن حزب الله هو الغالبون ( وما دم َ‬
‫تعتقد أن كل صغيرة وكبيرة في هذا الكون تبعي للجبار وفي يده وأنت تعلم‬
‫أن هذا الله الرب قادر على كل شيء فعليك أن ل يتزعزع إيمانك ول يهتّز‬
‫ثقتك بأن قدرتك مستندة ومشتقة من قدرة المليك المقتدر الذي تأتي إليه‬
‫يوم القيامة وتجلس عنده في مقعد صدق ‪ ..‬فما أعظمها من بشائر وما‬
‫أوفاها من إشارة لو أحسن الناس التدبر ‪ ،‬ل سيما ونحن نقرأ في هذه‬
‫السورة هذه اللزمة التي تكررت في خاتمة كل حديث عن أمة من المم ورد‬
‫سرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( في هذه‬ ‫ذكرها في هذه السورة ) ولقد ي ّ‬
‫الية المعجزة سوق للنسان ودفع له إلى الفادة العزيز الجبار ‪ ،‬كلم الله‬
‫عربي مبين وليس متعاظل ً ول مشكل ً ول متداخل ً ول مضطربا ً ول مختلفا ً ‪،‬‬
‫وليس مما تتعايبه العيوب ويعلو على الفهام ولكنه الكلم الميسر ‪ ،‬يستطيع‬
‫العامي والمتعلم أن يفهم وأن يحسن الفادة منه ‪ ،‬فإلى الله وإلى كلم‬
‫الله ‪ ..‬اجعلوا القرآن سميركم واقطعوا به آناء الليل وأطراف النهار يهدي‬
‫الله قلوبكم ويصحح الله أفهامكم ويثبت الله أقدامكم ‪ ..‬وصلى الله على‬
‫سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة الليل(‬


‫‪1976 / 11 / 12‬‬
‫شوح‬ ‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫فلقد فرغنا بفضل الله تعالى وتوفيقه من الكلم عن السورة الثامنة في‬
‫سياق تنزيل الكتاب الكريم ‪ ،‬وهي سورة ) العلى ( ‪ ،‬ونقف اليوم مستمدين‬
‫العون والتوفيق من الله جل وعل مع السورة التاسعة في سياق التنزيل وهي‬
‫سورة ) الليل ( ‪ .‬ولقد كان لنا فيما مضى منهج واضح في دراسة هذه السور‬
‫الثمانية ‪ ،‬نحن راضون عنه كل الرضى من حيث الجوهر ‪ ،‬ولكني أشعر أن‬
‫متابعة الكلم على جانب من السور المكية على ذات النهج الذي مضى‬
‫سيكون شوطا ً طويل ً جدا ً ‪ ،‬قد تفنى فيه العمار وتستهلك القوى ‪ ،‬وأنا أريد‬
‫أن يتوفر للخوة ضوء يكفي للتعّرف على حقائق الحركة السلمية في عهدها‬
‫المبكر ‪ ،‬وأريد لهذا الضوء أن يتوفر للخوة بأسرع ما يمكن ‪ ،‬ولعلي لو‬
‫استطعت لصببت للناس ذلك كله مرة واحدة ‪ ،‬وما ذلك بممكن ‪ ،‬من أجل‬
‫هذا أرى لزاما ً علي ل أن أغير في حقائق المنهج ولكن في أسلوبه ‪ ،‬فبدل ً من‬
‫التوقف الطويل عند الدقائق والتفاصيل سنمر على هذه التفاصيل مرا ً سريعا ً‬
‫‪ ،‬وسنولي الشياء الهامة مزيدا ً من العناية ‪.‬‬
‫أنا أعرف تماما ً أن هذه الطريقة ستجني على أمور كثيرة ‪ ،‬بل لعلها سوف‬
‫تنعكس على ذات القضايا التي نحرص على دراستها وإبرازها ‪ ،‬إن القرآن‬
‫ليس فيه شيء مهم وشيء غير مهم ‪ ،‬كل ما في القرآن مهم ‪ ،‬وما أشار‬

‫‪39‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الله إليه في الكتاب من تفصيلت صغيرة فهذه الشارة ل تعني عدم الهمية‬
‫بالنسبة إلى هذه التفاصيل ‪ ،‬إن هذه التفاصيل الصغيرة فيما يبدو للناس‬
‫أشبه ما تكون في الملط ) السمنت ( الذي يمسك الحجارة حين البناء ‪،‬‬
‫بغيرها ل يكون البناء بناًء ‪ ،‬بل هو رصف للحجارة بعضها فوق بعض ‪.‬‬
‫ولكني ل أملك إل أن أضرب صفحا ً عن كل هذه التفاصيل ‪ ،‬فكما قلت وأؤكد‬
‫وأكرر وأريد أن ينغرس هذا عميقا ً في قلوب الخوة وفي عقولهم ‪ ،‬إن اليام‬
‫القادمة تحمل من النذر بالنسبة إلى السلم والمسلمين ما ل يعلمه إل الله‬
‫تعالى ‪ ،‬وإن من الكبر الجناية على هذا السلم ومن أعظم الساءة إلى هذه‬
‫المة أن تواجه المة أخطارا ً جساما ً برؤية غير مبصرة ‪ ،‬أو تواجه المة هذه‬
‫الخطار الجسام وهي مشتتة الرأي موزعة الفكر ‪ ،‬وفي ظني والله أعلم أننا‬
‫طالما نفتقر إلى رؤية صحيحة وكاملة لصورة الحركة السلمية كما قادها‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن نستطيع أن نفلح ولن نستطيع أن ننجح‬
‫‪ ،‬قد يؤتى أحدنا لسانا ً ‪ ،‬وقد يكون أحدنا قادرا ً على اعتلء المنابر ليحرك‬
‫عواطف الناس ويستثير فيهم الشجن والحزان ‪ ،‬ولكن ما فائدة هذا ؟ إذا كنا‬
‫نقتنع تماما ً بأننا في مواجهة صعوبات ‪ ،‬وأننا بحاجة إلى أن نعمل ثم ل ندري‬
‫ماذا نعمل ‪ ،‬فأية قيمة لهذه المشاعر ؟ ل شيء ل شيء بتاتا ً ‪ ،‬بل ربما دفع‬
‫هذا الجهل بحقيقة الصورة التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫فتوفر لها النجاح والفلح قد يدفعنا الجهل بها إلى مغامرات طائشة أشبه ما‬
‫تكون بالعمليات النتحارية ‪ ،‬من أجل ذلك ومن أجل أنني قانع تماما ً وواثق‬
‫جدا ً من أننا مقبلون على أيام شداد وأوقات عصيبة رأيت أن ُأعرض عن‬
‫النهج السابق في تفصيلته ودقائقه ‪ ،‬لمسك بالخيوط الساسية فقط ‪،‬‬
‫عسى أن ننتهي في أقرب وقت ممكن من استجلء الصورة الحقيقية لدعائم‬
‫وقواعد وقوانين الحركة السلمية ‪.‬‬
‫نحن يا إخوة ل نخدع أحدا ً ‪ ،‬بنفس القدر الذي ل نرضى فيه أن يخدعنا أحد ‪،‬‬
‫نحن قلنا ونقول إن هذا الربع الخير من القرن العشرين هو عصر التحرك‬
‫السلمي ‪ ،‬ولعل كثيرين سيغيظهم هذا الكلم فلينشقوا غيظا ً ‪ ،‬ولكن هذه‬
‫البشارة يجب أل تطمئن العاملين ‪ .‬إن معنى أن يكون النسان في غمرة‬
‫العمل مزيد من الصعوبات ومزيد من المشكلت ومزيد من المتاعب ‪ ،‬قد‬
‫ترون السجون تضيق بالنزلء من المسلمين ‪ ،‬وقد ترون الساحات العامة‬
‫تتدلى عليها جثث الشهداء ‪ ،‬ذلك ل يضر ول يهم ‪ ،‬تلك هي الطبيعة‬
‫ل وعل ‪ ،‬إن ساعة النجاح‬ ‫الساسية ‪ ،‬وتلك هي السمة البارزة لدعوة الله ج ّ‬
‫ُ‬
‫مني المسلمون فيها بخسارة‬ ‫دائما ً تسبقها لحظات كارثة ‪ ،‬إن غزوة أحد التي ُ‬
‫فادحة وأصابتهم فيها ضربة موجعة كانت من بعدها الحزاب ‪ ،‬وعندها قال‬
‫الرسول عليه الصلة والسلم ‪ :‬اليوم نغزوهم ول يغزوننا ‪ .‬ومن بعدها كانت‬
‫الحديبية ‪ ،‬وظن بعض المسلمين أن تنازلت الرسول صلى الله عليه وآله‬
‫للمشركين مجحفة وتكشف عن ضعف موقف ‪ ،‬فكان أن أنزل الله على نبيه‬
‫صلوات الله عليه وهو قافل من الحديبية ) إنا فتحنا لك فتحا ً مبينا ً ( وانطلق‬
‫بعد ذلك تيار السلم كالعصار ل يرده شيء ول يقف في وجهه شيء ‪.‬‬
‫أكرر نحن ل نخدع أحدا ً فتلك ليست من قيمنا ‪ ،‬كما أننا ل نرضى أبدا ً أن‬
‫يخدعنا أي مخلوق ‪ ،‬نحن مقبلون على أيام شداد وعلى أوقات سوداء ‪،‬‬
‫وعدتنا في ذلك اليقين والصبر ‪ ،‬عدتنا في ذلك الستمساك المطلق بحبل‬
‫الله المتين ‪ ،‬لكن على هدى وبينة وبصيرة ‪ ،‬وخضوع لهذه العوامل رأيت أن‬
‫أكتفي بالمور الهامة في عرض القرآن المكي ‪ ،‬أو عرض جانب منه ‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ونواجه الن تاسعة السور ‪ ،‬وانظروا إلى الخلف ترون أننا في ثمانية من‬
‫السور القصيرة سلخنا وقتا ً طويل ً ‪ ،‬فما بالكم حين تكون سورة كالعراف‬
‫من جملة السور المكية التي يجب أن تواجه وأن تدرس ‪ .‬هذه السورة‬
‫التاسعة هي سورة ) الليل ( سورة تعد من قصار السور تقرأها بسهولة‬
‫ويسر ) بسم الله الرحمن الرحيم ‪ ،‬والليل إذا يغشى ‪ ،‬والنهار إذا تجلى ‪ ،‬وما‬
‫خلق الذكر والنثى ‪ ،‬إن سعيكم لشتى ‪ ،‬فأما من أعطى واتقى ‪ ،‬وصدق‬
‫بالحسنى ‪ ،‬فسنيسره لليسرى ‪ ،‬وأما من بخل واستغنى ‪ ،‬وكذب بالحسنى ‪،‬‬
‫فسنيسره للعسرى ‪ ،‬وما يغني عنه ماله إذا تردى ‪ ،‬إن علينا للهدى ‪ ،‬وإن لنا‬
‫للخرة والولى ‪ ،‬فأنذرتكم نارا ً تلظى ‪ ،‬ل يصلها إل الشقى ‪ ( ..‬هذه‬
‫السورة ‪ ،‬لو سألتم أنفسكم ‪ :‬كم من المرات قرأتموها ؟ لعياكم العد‬
‫والحصاء ‪ ،‬ومع ذلك تعالوا ندقق النظر لتروا أنكم تظلمون قرآنكم حينما‬
‫تدعون أنكم تقرأون هذا القرآن ‪ ،‬لقد فرق الله جل وعل بين صنفين من‬
‫ل من قائل‬ ‫القارئين ‪ ،‬الذين يتدبرون آيات الله ‪ ،‬والذين ل يتدبرونه ‪ ،‬فقال ج ّ‬
‫) أفل يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ( بعض القلوب كالمقفلة ‪ ،‬عليها‬
‫رتاج غليظ سميك ‪ ،‬وبعض القلوب تعي وتفقه وتدرك وتفهم ‪ ،‬والله نسأل أن‬
‫يفتح قلوبنا وإياكم لفهم كتابه الكريم وتدبر آياته البينات ‪.‬‬
‫ارجعوا بأذهانكم إلى ما سبق أن عرضناه في السبوع الماضي من أواخر‬
‫سورة ) العلى ( ترون أن الله سبحانه وتعالى امتدح صنفا ً من الناس ‪ ،‬ذلك‬
‫الصنف الذي يزكي نفسه ‪ ،‬يبذل مجهودا ً صادقا ً ومخلصا ً من أجل أن ينفتح‬
‫قلبه للفهم والتدبر ‪ ،‬ومن أجل أن ُتشحذ عزيمته للعمل والنتاج والنجاز ‪،‬‬
‫وعرض الله تعالى في آخر السورة لهم السباب أو للسبب الرئيسي الذي‬
‫يصد الناس عن الهدى وهو انغماسهم في الدنيا وانكبابهم على الشهوات‬
‫فقال جل وعل ) بل تؤثرون الحياة الدنيا والخرة خير وأبقى ( بعد أن سبق‬
‫أن قال لهم ) قد أفلح من تزكى ‪ ،‬وذكر اسم ربه فصلى ( بعد هذه الخاتمة‬
‫التي عرضت لهذا المجهود الذي يطلب من النسان المسلم أن يبذله في‬
‫صميمه وفي داخله كي يغّير من بنائه النفسي والعقلي والشعوري تأتي هذه‬
‫السورة لتضرب على ذات الوتر ولكن من زوايا أخرى ‪ ،‬اسمع ‪ُ ،‬فتحت‬
‫السورة بالقسم ) والليل إذا يغشى ‪ ،‬والنهار إذا تجلى ‪ ،‬وما خلق الذكر‬
‫والنثى ‪ ،‬إن سعيكم لشتى ( ويقتضي أن نقول كلما ً بسيطا ً لنعرف حكمة‬
‫القسم ‪ ،‬لماذا يقسم النسان ؟ معلوم هنا أن الله جل وعل يقسم بالليل‬
‫وبتغشيته وبتغطيته بظلمه على الكوان ‪ ،‬ويقسم بالنور حين يشع وحين‬
‫يشرق نور النهار ) والنهار إذا تجلى ( ويقسم بخلقة النسان وقسمته إلى‬
‫ذكر وأنثى ‪ ،‬يقسم على أن سعي الناس شتى ‪ ،‬وشتى جمع شتيت وهو‬
‫المتفرق والمختلف ‪ ،‬حينما تقول ‪ :‬والله العظيم سوف أفعل كذا ‪ ،‬أو لن‬
‫أفعل كذا ‪ ،‬فماذا تريد ؟ ماذا تقصد بالقسم ؟ دع عنك الكف أو الفعل ‪ ،‬لكن‬
‫ت بهذه الصيغة صيغة القسم ‪ ،‬إنك طبعا ً تعظم الله وترى أنه أعظم‬ ‫لماذا جئ َ‬
‫من كل عظيم وأكبر من كل كبير ‪ ،‬ولن الله تعالى بهذه المثابة من العظمة‬
‫والكبرياء ومن المهابة في قلوب عباده ‪ ،‬فجعله جل وعل حاجزا ً وحائل ً‬
‫وقاسما ً بين النسان وبين الفعل أو الترك مشعر بأن القدام على المر الذي‬
‫ت به ‪.........‬‬
‫ت عليه يتضمن انتهاك حرمة هذا العظيم الذي حلف َ‬ ‫حلف َ‬
‫انقطع الشريط قليل ً ‪..............................................................‬‬
‫م ( وهي تدل على الفصل والتمييز ‪ ،‬فالقسم مأخوذ من‬ ‫من الفعل ) قَ َ‬
‫س َ‬

‫‪41‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تمييزه بين الفعل والترك ‪ ،‬بين القدام والحجام ‪ ،‬بين المراد وغير المراد ‪،‬‬
‫ظم وبما هو مقدس ‪ ،‬لن ما هو‬ ‫ومن هنا كان ل يمكن أن يقسم إل بما هو مع ّ‬
‫معظم ومقدس أدعى إلى أن ل ُتنتهك له حرمة ول يتجاوز النسان ما يقتضي‬
‫له من إجلل ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫فأول ما يجب أن تعرفوه عن القسم بقطع النظر عن بقية تفصيلت القسم‬


‫في فقه اللغة العربية هو أنه ل ُيقسم إل بشيء ذي أهمية ‪ ،‬ما لم يكن‬
‫الشيء ذا أهمية فالقسم عبث ‪ .‬إذا نظرنا تحت هذا الضوء ومن هذا المنظار‬
‫إلى القسم الوارد هنا وجدنا الله تعالى يقسم بالليل والنهار ويقسم بعجائب‬
‫الخلق في الذكر والنثى ‪ ،‬ويقسم على أمر عظيم ‪ ،‬فهل الليل والنهار وخلقة‬
‫خلق عليه شيء له كل هذه العظمة وهذه الجللة ؟‬ ‫النسان على النحو الذي ُ‬
‫نقول ‪ :‬نعم ‪ .‬ونقول نعم مع تحفظنا بأن عظمة هذه الشياء ليست عظمة‬
‫ذاتية ‪ ،‬وإنما هي عظيمة من حيث أنها تؤدي وتقود إلى معرفة العظيم جل‬
‫وعل ‪ ،‬فحينما نلحظ تعاقب الليل والنهار يتعاوران على الدنيا مذ كانت الدنيا‬
‫على هذا النحو من النتظام والتناسق ‪ ،‬وحينما ننظر في خلق النسان ونجد‬
‫أن النطفة تستقر في رحم النثى قابلة لن تكون ذكرا ً أو تكون أنثى ‪ ،‬ثم‬
‫ننظر في الدنيا فنرى منذ ُوجدت إلى الن ميزان الذكورة والنوثة يتعادل أو‬
‫يقرب من التعادل دون أن يكون ثمة طغيان للذكران على الناث ول للناث‬
‫على الذكران ‪ ،‬وإذا نظرنا إلى الليل والنهار ونغلق بابة والنهار من بابة‬
‫أخرى ‪ ،‬وإذا نظر إلى النسان ذكرا ً وأنثى ‪ ،‬والذكر من بابة ‪ ،‬والنثى من بابة‬
‫أخرى ‪ ،‬قد نشعر بشيء من الفوضى في هذا الكون ‪ ،‬ولكن الله تعالى يلفتك‬
‫إلى هذا التناسق المنبثق من قلب هذه الفوضى أو هذا الختلف ‪ ،‬ل نسميه‬
‫فوضى ولكن اختلف ‪ ،‬اختلف الليل والنهار هو الذي يسهل للناس‬
‫المعايش ‪ ،‬ولول الليل وما جعل الله منه سباتا ً ومثابة للراحة والستجمام‬
‫واستعادة النشاط ما قدر النسان على مباشرة العمال في النهار ‪ .‬ولول‬
‫النهار وما جعله الله تعالى ظرفا ً للحركة والسعي والكسب والمعاش لكان‬
‫النسان على شرف الهلك من الجوع لعدم التكسب والحتراف ‪ .‬ولول‬
‫الذكور ما كانت الناث ‪ ،‬ولول ما كانت الذكور ‪.‬‬
‫فالختلف في ظواهر الكون ‪ ،‬والختلف في حقائق النسان ل يعني الفوضى‬
‫ول يعني التصادم ‪ ،‬وإنما يعني التعاون المثمر المؤدي إلى النتائج التي رسمها‬
‫ل وعل باعتبارها غايات يسعى إليها الناس ويكدحون من أجل الوصول‬ ‫الله ج ّ‬
‫ل وعل يكشف لنا عن‬ ‫إليها ‪ .‬كذلك بذات الوصف وبنفس المنظور إن الله ج ّ‬
‫جانب يبدو للناظر السطحي أنه جانب مأساوي مزعج ) إن سعيكم لشتى (‬
‫الناس في اضطرابهم في هذه الحياة وكدحهم من أجل المعاش ل تكاد‬
‫تجدهم يتفقون على طريقة واحدة ‪ ،‬هذا أمين وهذا خائن ‪ ،‬وهذا صادق وهذا‬
‫كذاب ‪ ،‬وهذا مستقيم وهذا معوج شديد العوج ‪ ،‬وهذا مهتد ٍ وهذا ضال ‪ ،‬فمع‬
‫ل وعل زّود النسان كل إنسان بطاقات متماثلة مع إخوانه من بني‬ ‫أن الله ج ّ‬
‫البشر ‪ ،‬مع ذلك فالثار والنتائج المادية المترتبة على سعي النسان في هذه‬
‫الحياة تبدو متفاوتة ومختلفة ‪ .‬ول شك أن النسان المستقيم يؤذيه أن يرى‬
‫النحراف ‪ ،‬وأن النسان المتقي يؤذيه أن يرى الشقاوة والفسوق ‪ ،‬وكذلك‬
‫فالنسان الفاسق يهينه جدا ً منظر النسان المتقي ‪ ،‬والنسان الخائن‬
‫والغشاش يهينه جدا ً جدا ً أن يرى النسان المستقيم والمين ‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫هذا واقع بشري مشهود ‪ ،‬ولكنه واقع سطحي ‪ ،‬انظر أبعد ‪ ،‬انظر أبعد ‪ ،‬لول‬
‫ت البياض ‪ ،‬ولول الليل ما عرفت معنى النهار ‪ ،‬ولول الهدى ما‬ ‫السواد ما عرف َ‬
‫ً‬
‫ت الضلل ‪ ،‬وتصور حياةً يعيشها الناس نسخا مكرورة ل تختلف نسخة‬ ‫عرف َ‬
‫عن أخرى ‪ ،‬كيف يكون شأنها ؟ إنها ثقيلة ثقيلة مملة شديد الملل ‪ ،‬ثم هي‬
‫حياة تسقط فيها المحنة وُيحذف منها البتلء والختبار ‪ ،‬النسان ُوجد في هذه‬
‫الدنيا لكي يمر في نار التجربة ‪ ،‬لكي ُيمتحن وُيبتلى ‪ ،‬لو كان الناس جميعا ً‬
‫أتقياء فما ثمة داٍع إلى المحنة بل ل مكان للمحنة ول مكان للبتلء ‪.‬‬
‫ل وعل معنى ما يقول ل يؤذيه أن‬ ‫فالنسان المؤمن الذي يفقه عن الله ج ّ‬
‫يرى استشراء البغي والظلم ‪ ،‬ول يؤذيه أن يرى سيادة الفسوق والعصيان ‪،‬‬
‫وإنما الذي يؤذيه حقا ً هو أن يشعر داخل نفسه بالنهزام أمام هذه الظواهر‬
‫المؤذية التي تخدش في ضمير النسان ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫ل وعل حينما يعرض هذا فكأنما يحفر لك في‬ ‫) إن سعيكم لشتى ( الله ج ّ‬
‫الرض تحت قدميك حفرة عميقة تثبت قدميك على الصراط كي ل تزل ول‬
‫تزيغ ‪ ،‬كم من الناس مروا علينا وعليكم ‪ ..‬كانوا أول المر أتقياء وكانوا‬
‫خلقوا خلقا ً آخر ‪ ،‬من‬ ‫متدينين وكانوا مستقيمين ‪ ،‬ثم رأيتموهم بعد ذلك كأنما ُ‬
‫التدين إلى التفلت ‪ ،‬وأجارك الله من فسوق النسان الذي كان متدينا ً ‪ ،‬إنه‬
‫يكون أستاذا ً في الفسوق ‪ ،‬كم من الناس رأيناهم على هذه الشاكلة ؟ لو‬
‫ذهبت تتعرف على السباب ‪ ،‬لماذا انحرف هذا النسان ؟ إن هذا النسان لم‬
‫خلقوا على فطرة واحدة ‪ ،‬والله ج ّ‬
‫ل‬ ‫ينحرف أبدا ً لن طبعه منحرف ‪ ،‬فالناس ُ‬
‫وعل يخبر عن دينه بأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها ‪ ،‬ويخبر على لسان‬
‫نبيه صلوات الله عليه ‪ :‬إني خلقت عبادي كلهم حنفاء ‪ .‬يعني على الفطرة‬
‫السليمة وعلى الستعداد الكامل لمعرفة الطريق الحق ‪ ،‬ثم جاءتهم‬
‫الشياطين فاجتالتهم عن دينهم يعني زحزحتهم عن القواعد التي خلقهم الله‬
‫ل وعل عليها ‪ .‬حينما تأخذ حالة أو شريحة من المجتمع فاسدة شاذة‬ ‫ج ّ‬
‫تتسائل ؟ لماذا فسق هذا الخ ؟ لماذا فسدت هذه الطائفة من الناس ؟‬
‫ستجد أنهم تعبوا من الطريق ‪ ،‬إن الستقامة تكاليف ‪ ،‬يتوهم كثيرا ً من يظن‬
‫التقوى تمرة يأكلها أو جرعة ماء يشربها ‪ ،‬صعب ‪ ،‬الستقامة تكاليف‬
‫ومشقة ‪ ،‬ومع ذلك فواجب النسان أن يظل في غمرة هذا الصراع حتى‬
‫النهاية ‪ ،‬إل أن الناس في كثير من الحيان يرون أن الشر مستطير وأن‬
‫الناس يأخذون طرائق الفساد ول يصيبهم شيء ‪ ،‬وأن فلنا ً من الناس سرق‬
‫ونهب وقتل وغش وفعل السبع الموبقات ‪ ،‬ثم هو في أعين الناس مبجل‬
‫ومعظم ومحترم ‪ ،‬ثم مضى دون أن يصيبه شيء ‪ ،‬أذلك نظر مؤمنين ؟ ل أيها‬
‫الخوة ‪ ،‬إنكم لو رجعتم إلى القرآن لوجدتم في القرآن نصا ً من أثمن ما‬
‫ل وعل يقول ) ولول أن يكون الناس أمة واحدة (‬ ‫تكون النصوص ‪ ،‬إن الله ج ّ‬
‫يعني سبيل ً واحدا ً مطبقين على الكفر ) لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم‬
‫سقفا ً من فضة ومعارج عليها يظهرون ( إلى آخر ما وعد الله جل وعل ‪ ،‬ما‬
‫للكافر عند الله ؟ ل شيء ‪.‬‬
‫إن عمر رضي الله عنه دخل ذات يوم على بيت رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وكان عليه الصلة والسلم يضطجع على رمال حصير ‪ ،‬رمال حصير‬
‫أيها الخوة هي العقد ‪ ،‬عقد النسج التي تبرز حينما يهترئ الحصير ‪ ،‬ليس‬
‫حصيرا ً جديدا ً مسوى ‪ ،‬ولكنه حصير عتيق ظهرت فيه العجر ‪ ،‬فلما جلس‬

‫‪43‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الرسول عليه الصلة والسلم نظر إليه عمر فرأى في جلده أثر الحصير‬
‫فبكى ‪ ،‬بكى وبكى بكاء مرا ً ‪ ،‬قال له النبي صلى الله عليه وسلم ‪ :‬ما يبكيك‬
‫يا ابن الخطاب ؟ قال ‪ :‬يا رسول الله إني نظرت فإذا كسرى وقيصر بالحرير‬
‫والديباج والسرة والصولجانات وأنت رسول الله أنظر فل أرى ما يرد البصر ‪.‬‬
‫فطمأنه النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬تصوروا الفارق بين النفسيتين ‪ ،‬عمر‬
‫بالرغم من أنه عملق ‪ ،‬لو بقيت الدنيا يأخذها المخاض إلى قيام الساعة ما‬
‫ولدت مثل عمر ‪ ،‬ومع ذلك فالفارق بين عمر وبين محمد كالفارق بين الرض‬
‫والسماء ‪ ،‬قال له ‪ :‬يا عمر أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم ‪ ،‬يا‬
‫عمر أل يرضيك أن تكون لهم الدنيا وتكون لنا الخرة ؟ ما شأن المؤمن ؟ ل‬
‫أسخف ول أقل ول أضل عقل ً من ذلك المؤمن الذي يتصور أن معركة‬
‫السلم معركة قوة ؟ ما أسخف الناس ؟ يا حسرة على العباد ‪ ،‬ذلك قصارى‬
‫المؤمن أن يدخل في صراع يعرف أوله ول يعرف نهايته ‪ ،‬من أجل القوت ؟‬
‫هذا شيء سخيف ‪ ،‬إن كلبين على المزبلة يصطرعان يمثلن هذا الصراع‬
‫أحسن مما يمثله النسان ‪ ،‬كلبان على مزبلة يتهارشان على عظم يمثلن‬
‫ظاهرة الصراع على القوت بأفضل مما يمثلها النسان ‪ ،‬إن المؤمن حينما‬
‫يتصور أن وظيفته في هذا الوجود أن يسعى نحو مآرب آنية من هذا القبيل‬
‫يكون قد تخلى عن إيمانه ‪ ،‬هذا الكفر الذي يطبق الرض ‪ ،‬هذا الفسوق ‪ ،‬هذا‬
‫العصيان ‪ ،‬هذا التمرد على الله ‪ ،‬أين أنت عنه أيها المؤمن ؟ حينما تفرغ من‬
‫الصراع في هذه الميادين التي هي ميادينك وبيئتك الوحيدة التي تستطيع أن‬
‫تتنفس فيها بحرية وبملءة فتش بعد ذلك عن القوت ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫إن محمد عليه الصلة والسلم حينما هاجر إلى المدينة ما فكر أن يبني‬
‫لنفسه بيتا ً وهو الغريب عن المدينة ‪ ،‬أمر بأن ُيبنى المسجد أول ً ‪ ،‬وبني‬
‫المسجد ‪ ،‬وليست المسألة هنا ‪ ،‬ولكنهم أي أصحاب حين بدأوا يبنون لرسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم بيتا ً قال لهم ‪ :‬ل ترفعوه أكثر من هكذا ‪ ،‬قامة‬
‫الرجل ومد ذراعه فقط ‪ ،‬وساقفوه بجريد النخل ‪ ،‬وأرادوا على عادة ذلك‬
‫الزمان أن يطلوا الحيطان بالقفصة يعني بالجص ‪ ،‬فقال لهم ‪ :‬ل ‪ ،‬الشأن‬
‫أعجل من ذلك ‪ .‬وذات يوم طلبوا من الرسول عليه الصلة والسلم أن ينعم‬
‫نفسه بعض الشيء ‪ ،‬فقال لهم ‪ :‬مالي ولدنيا ‪ ،‬إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل‬
‫راكب في الفلة استظل بظل شجرة ثم راح وتركها ‪ .‬كذلك شأن المؤمن ‪،‬‬
‫بل المسألة تبلغ في بعض الحيان حد الزمة وحد الحراج ‪ ،‬في يوم من اليام‬
‫عملت نساء نبي الله صلى الله عليه وسلم على رسول الله ما يشبه‬
‫العتصاب ‪ ،‬والنساء مذ كن ناقصات عقل ودين ‪ ،‬جئن إليه يطالبنه بالقوت ‪:‬‬
‫نحن يا رسول الله ل نأكل كما يأكل الناس ول نلبس كما يلبس الناس ول‬
‫نتوسع كما يتوسع الناس ‪ .‬وأين كان يعيش محمد وأين كانت تعيش أمهات‬
‫المؤمنين ‪ ،‬أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اعتزل عنهن شهرا ً‬
‫كامل ً ‪ ،‬لم يطرق واحدة منهن أبدا ً ‪ ،‬ثم نزل من السماء أمر الله لنساء نبيه‬
‫بالتخيير ) إن كنتن تردن الله ورسوله والدار الخرة فإن الله أعد للمحسنات‬
‫منكن أجرا ً عظيما ً ‪ ،‬وإن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن‬
‫وأسرحكن سراحا ً جميل ً ( إن هذه الظاهرة هي التي يجب أل تغيب عن بال‬
‫المؤمن ‪ ،‬وأنا ألح عليها وأركز ‪ ،‬ألح عليها لكي أطرد من نفوس الخوة‬
‫تصورات انطبعت في أذهانهم من جراء معايشتهم لفكار اليوم وأعراف اليوم‬

‫‪44‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪ ،‬إنكم أبناء عالم مغاير لهذا العالم ‪ ،‬اعرفوا هذه الحقيقة ‪ ،‬حينما تنطلقون‬
‫من النقط الحضارية القائمة الن فثقوا أنكم فاشلون ول يمكنكم أن تنجحوا‬
‫بتاتا ً ‪ ،‬ولكنكم حينا تنطلقون من النقاط اليمانية البحتة فأنتم واصلون بإذن‬
‫الله ‪ ،‬ولن تقوى قوة في الرض أبدا ً على أن توهنكم أو تحطمكم ‪.‬‬
‫هذا الذي تراه أيها المؤمن لشتيت السعي بين الناس ومن اختلف أمزجة‬
‫الناس ومن إعراض البعض وإقبال البعض ‪ ،‬ينبغي أل يزعجك ‪ ،‬وهي ظاهرة‬
‫ل وعل في هذه السورة‬ ‫كما ترون عظيمة تستحق القسم الذي بدأه ج ّ‬
‫) والليل إذا يغشى ‪ ،‬والنهار إذا تجلى ‪ ،‬وما خلق الذكر والنثى ‪ ،‬إن سعيكم‬
‫لشتى ( مع أن السعي مختلف والختلف ل يمكن حصره ‪ ،‬لكنا نستطيع في‬
‫ضوء القرآن الكريم أن نصنف الناس عموما ً تحت ضنفين فقط ) فأما من‬
‫أعطى واتقى ‪ ،‬وصدق بالحسنى ‪ ،‬فسنيسره لليسرى ( هذا هو الصنف الول‬
‫) وأما من بخل واستغنى ‪ ،‬وكذب بالحسنى ‪ ،‬فسنيسره للعسرى ‪ ،‬وما يغني‬
‫عنه ماله إذا تردى ( حينما ندقق في الية في صياغتها نجد أن هذه الية‬
‫تلمس نفس الوتار التي لمستها السورة الماضية ‪ ،‬العلة في اختلف الناس‬
‫إلى هذين الصنفين الرئيسين الساسيين ‪ ،‬حب الدنيا والنغماس فيها ‪ ،‬أو‬
‫عدم حبها والتخفف منها ‪ ،‬فالصنف الول ذلك الصنف الذي أعطى واتقى‬
‫وصدق بالحسنى ‪ ،‬والحسنى هي وصف هذه الرسالة هذه الشريعة هذا‬
‫السلم ‪ ،‬فهذا بما أفاء الله من نعمة اليقين والطمأنينة القلبية سيأخذ الله‬
‫بناصيته إلى طريق الخير فيكون من المهتدين ‪ .‬وأما الصنف الخر وهو الذي‬
‫بخل ‪ ،‬كّزت يده ‪ ،‬ثم واستغنى ‪ ،‬ونحن لو رجعنا إلى السور التي سبق لنا أن‬
‫ل وعل في عدد من المواطن أبرز ظاهرة الستغناء ‪،‬‬ ‫عرضناها لوجدنا الله ج ّ‬
‫فالستغناء ليس فقط من كثرة المال ‪ ،‬قد يكون من المال وقد يكون من‬
‫غير المال ‪ ،‬النسان في سلطانه يشعر أنه غني عن الناس ‪ ،‬وغني عن كل‬
‫شيء ‪ ،‬والنسان في عنفوان ثروته يشعر أنه أن يستطيع أن يشتري بماله‬
‫ن عن الناس وعن رب الناس ‪ ،‬والنسان حينما‬ ‫السعادة لنفسه ‪ ،‬فهو مستغ ٍ‬
‫يكون ذا حشم وخدم وأتباع وعشيرة وما أشبه ذلك يشعر بأنه عزيز ‪،‬‬
‫فالستغناء من الخطأ أن نفهم أنه متولد عن المال فقط ‪ ،‬ولكن المال عنصر‬
‫أساسي بل هو العنصر الول في بروز ظاهرة الستغناء ‪ ،‬لحظ إنك تجد‬
‫إنسانا ً ل عشيرة له ول حمولة وليس له جاه ول سلطان ‪ ،‬فجأة يغتني ويكون‬
‫ذا ثروة وذا مال ‪ ،‬إنك برغم ما تراه عليه من تواضع وطيبة ل تخطئ عينك‬
‫هذه الصلفة الغليظة التي تكون فيه ‪ ،‬إن هذه الصلفة وهذه الجلفة مظهر‬
‫أولي من مظاهر الستغناء ‪ ،‬فإذا أضيف إلى المال عوامل أخرى كان‬
‫الستغناء خطرا ً مدمرا ً ‪ ،‬لنه يصرف النسان عن الله ج ّ‬
‫ل وعل ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫ما الذي يقربك إلى الله ؟ شعورك أنك فقير إلى الله ) يا أيها الناس أنتم‬
‫الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ( ما لم تكن شاعرا ً شعورا ً صادقا ً‬
‫ل وعل ‪،‬‬ ‫لفقرك المطلق إلى الله تعالى فسوف تظل بعيدا ً عن حضرة الله ج ّ‬
‫فهذا الذي بخل فلم ينفق في الحقوق ‪ ،‬واستغنى وشعر أنه بغير حاجة إلى‬
‫هذه الدعوة ‪ ،‬لديه من أسباب الحياة والطمأنينة والرفاه ما يكفي ويزيد ‪ ،‬هذا‬
‫فقد طريق الهداية ) وأما من بخل واستغنى ‪ ،‬وكذب بالحسنى ‪ ،‬فسنيسره‬
‫للعسرى ( ولو أنكم ذهبتم تستعرضون دعوة محمد صلى الله عليه وسلم‬
‫ودعوات النبياء من قبله لوجدتم أن الرؤوس التي تنطحت للدعوات‬

‫‪45‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وخاصمت النبيين هم المترفون والغنياء وأصحاب الموال ‪ ،‬مفروض في‬


‫أصحاب الموال أنهم يخشون على أنفسهم ‪ ،‬جبناء ‪ ،‬ل تصدق أن هناك غنيا ً‬
‫يتمتع بالشجاعة إل من عصم الله ‪ ،‬الغني الحريص على ماله جبان ‪،‬‬
‫والدعوات تكاليف ‪ ،‬والتكاليف تقتضي شجاعة ‪ ،‬وأول مظاهر الشجاعة‬
‫النخلع من المال ‪ ،‬وهذا يتصور أن ينخلع من حياته كلها ول ينخلع من ماله ‪،‬‬
‫ولهذا نص الله عليه في هذه الية ) وأما من بخل واستغنى ‪ ،‬وكذب بالحسنى‬
‫( الذين ناصبوا محمد عليه السلم العداء كانوا سادة قريش وكانوا أغنياء‬
‫قريش الذين يمسكون بزمام الثروة ويحركون قوافل التجارة ‪.‬‬
‫) فسنيسره للعسرى ( والعسرى هنا هي العذاب المؤلم الذي أعده الله‬
‫للكافرين ) وما يغني عنه ماله إذا تردى ( في الواقع هذا النسان عجيب ‪ ،‬إن‬
‫الله نصب لهذا النسان من اليات والدلئل ما يلفت نظر الحمار ‪ ،‬حتى‬
‫الحمار يلفت نظره ‪ ،‬ويحك ‪ ،‬قبلك ألم يكن أغنياء ؟ بلى ‪ ،‬مئات وآلف‬
‫ومليين ومليارات ‪ ،‬كانوا أغنياء ماذا أخذوا معهم ؟ حينما دلوا في الحفرة كل‬
‫ما أخذوه من الدنيا بضعة أشبار من القماش الرخيص التافه ‪ ،‬ثم مضى‬
‫وانتهى كل شيء ‪ ،‬وأصبح المال للوارث قد ينفق منه وهو يلعنك ‪ ،‬فلماذا إذا ً‬
‫هذا الحرص ؟ مالك ل يغني عنك إذا ترديت في نار جهنم ‪ ،‬أنت تتركه هنا‬
‫وتقابل مصيرك المؤلم ‪ ،‬ولكن النسان قّلما يرعوي ‪ ،‬قّلما يفيد من التجربة ‪،‬‬
‫والمر كذلك ‪.‬‬
‫) وما يغني عنه ماله إذا تردى ( إلى هنا يكون الشرح الذي عرضه الله ج ّ‬
‫ل‬
‫كامل ً ‪ ،‬ولكن هل انتهى المر عند هذا الحد ؟ نحن أمام واقع تاريخي ‪ ،‬ونحن‬
‫حين أخذنا أنفسنا بدراسة المرحلة المكية أخذناها بهدف اكتشاف المعالم‬
‫البارزة في هذا الواقع التاريخي ‪ ،‬إن المسلمين الذين آمنوا برسول الله بشر‬
‫آدميون مثلنا ‪ ،‬فيهم كما فينا نوازع ‪ ،‬وفيهم كما فينا عواطف ‪ ،‬يتألمون‬
‫ل ما ربط دعوته بعواطف الناس ‪ ،‬ولو أن دعوات‬ ‫وينزعجون ‪ ،‬ولكن الله ج ّ‬
‫ل وعل كانت طوع عواطف الناس لتحطمت منذ زمن آدم ومنذ زمن‬ ‫الله ج ّ‬
‫نوح ‪ .‬إن الدعوة كما يجب أن ُيفهم بل لبس وبل إبهام وبل غمغمة ومداورة‬
‫شيء مفصول عن الناس ‪ ،‬قد يكون الناس فاسدين أو صالحين هذا شيء ل‬
‫يؤثر على الدعوة في كثير ول قليل ‪ .‬قاعدة الدعوة هي قاعدتهم من شاء أن‬
‫يتأقلم معها فليصف قدميه على الطريق ‪ ،‬ومن أراد أن يأخذ ذات اليمين أو‬
‫ذات الشمال فليكن أي شيء يريد ولكنه لن يكون مسلما ً بحال من الحوال ‪،‬‬
‫ل وعل بعد أن عرض هذا التشتت في مساع الناس ومواقف الناس‬ ‫إن الله ج ّ‬
‫ل وعل أبان للنبي‬ ‫وربطه بالظاهرة الكونية وجعله دليل ً على وجوده وقدرته ج ّ‬
‫صلى الله عليه وسلم وللمسلمين إلى آخر الزمان بأسلوب ل نظير له أبدا ً ‪،‬‬
‫ل وعل في مواطن عديدة من القرآن يخاطب نبيه صلى الله‬ ‫نحن سمع الله ج ّ‬
‫عليه وسلم يقول له ) إن عليك إل البلغ ( ) فذكر إنما أنت مذكر ( ) وما أنت‬
‫عليهم بمسيطر ( ) وما أنت عليهم بجبار ( فيسند الخطاب إلى من ؟ إلى‬
‫الرسول عليه الصلة والسلم ‪ ،‬لكن العجاز هنا والغرابة أن الخطاب ُأسند‬
‫ل وعل قادر‬ ‫إلى الذات العلية إلى الله جل ّ وعل ) إن علينا للهدى ( الله ج ّ‬
‫على أن يجعل الناس يؤمنون جميعا ً وفي لحظة واحدة ‪ ،‬ومع ذلك فالله ج ّ‬
‫ل‬
‫ل وعل أن يبذل للناس أسباب‬ ‫وعل يقول ) إن علينا للهدى ( يعني على الله ج ّ‬
‫الهدى ‪ ،‬وأما أن يهتدوا أو ل يهتدوا فذلك مردود إلى سابق علم الله ج ّ‬
‫ل‬
‫وعل ‪ ،‬ومردود إلى المجهود الذي يبذله النسان من أجل التفاعل مع هذا‬
‫الهدى ‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫تصوروا لو أن الله قال بدل ) إن علينا للهدى ( لو قال ‪ :‬إن علينا للهداية ‪،‬‬
‫لكان حتما ً أن يتهدي الناس جميعا ً ‪ ،‬لن الهداية غير الهدى ‪ ،‬لو تكفل بهداية‬
‫ل وعل ‪ ،‬ولكنه قال ) إن علينا للهدى ( أي‬ ‫لوصل كل إنسان إلى طريقه ج ّ‬
‫ل وعل فقط أن يبذل لك أيها النسان أسباب الهداية ‪ ،‬فحينما‬ ‫على الله ج ّ‬
‫ل وعل ل يتعهد إل بأن يعطيك أسباب الهداية‬ ‫ترى أيها العبد المؤمن أن الله ج ّ‬
‫ً‬
‫‪ ،‬أفأنت أن تكون على الناس جبارا ؟ أفأنت تريد أن تكون على الناس‬
‫مسيطرا ً ؟ أفأنت تريد أن تكون عليهم قهارا ً ؟ ل يا أخي ‪ ،‬ما عليك إل أن تبلغ‬
‫وأن تذكر وأن تنذر وأن تبين ضمن حدود وشرائط التذكير والبلغ ‪ ،‬ولكي ل‬
‫يكون في الكلم أي إبهام فأنا أعني بذلك حرفيا ً أن الذي يدعو إلى الله ج ّ‬
‫ل‬
‫وعل عليه أن يكون بكلمة جامعة قرآنا ً يتحرك ‪ ،‬زهادة عن الدنيا وإعراضا ً عن‬
‫ل وعل وإخلصا ً والتصاقا ً بهذا الدين وعدم التفات إلى‬ ‫الخلق ورجاًء بالله ج ّ‬
‫أي شيء سواه ‪ ..‬حينما توفر لدينا النموذجات التي من هذا القبيل فإن‬
‫شخصا ً واحدا ً أستطيع أن أطرحه بين مليين وأنا واثق أنه قادر على أن يحول‬
‫ل وعل في هذا الزمان‬ ‫اتجاه هذه المليين ‪ .‬أما أن نقوم دعاة ً إلى الله ج ّ‬
‫العضوض ونحن ل نفترق عن الناس ل سلوكا ً ول تذكيرا ول مشاعر ول ول ‪،‬‬
‫ً‬
‫فذلك هو الفشل وذلك هو الخسران المبين ‪.‬‬
‫ل وعل ومع‬ ‫ل وعل قال ) إن علينا للهدى ( وواجب التأدب مع الله ج ّ‬ ‫الله ج ّ‬
‫هذه الشريعة أل نكون ملكيين أكثر من الملك ‪ ،‬نحن نريد للنسان المسلم‬
‫فاكا ً ول قاتل ً ول‬ ‫أن يكون داعية إلى الله ‪ ،‬رسول محبة ‪ ،‬رسول سلم ‪ ،‬ل س ّ‬
‫ة حقا ً ‪ ،‬حينما يكون داعية‬ ‫إرهابيا ً ول شيء من هذا القبيل ‪ ،‬وإنما نريده داعي ً‬
‫ل وعل سيضع بين يديه أزمة القلوب جميعا ً ‪،‬‬ ‫حقا ً إلى الله فليعلم أن الله ج ّ‬
‫وأما بغير هذه الطريقة فل فائدة ) إن علينا للهدى ( ‪.‬‬
‫) فأنذرتكم نارا ً تلظى ‪ ،‬ل يصلها إل الشقى ‪ ،‬ويجنبها التقى ‪ ،‬الذي يؤتي‬
‫ماله يتزكى ‪ ،‬وما لحد عنده من نعمة تجزى ‪ ،‬إل ابتغاء وجه ربه العلى (‬
‫أحسب أنني أطلت عليكم بعض الشيء ‪ ،‬والحقيقة مهما بلغ بكم الذى فأنا‬
‫متأذ ٍ أكثر منكم ‪ ،‬كنت أتمنى أن أواجه هذه السورة بحالة صحية أفضل ‪ ،‬لكن‬
‫شاء الله ذلك ‪ ،‬أريد أن أنتهي من السورة كما قلت ‪ ،‬لن أطيل الوقوف عند‬
‫التفصيلت ‪.‬‬
‫هذه الظاهرة تصادفنا لول مرة ‪ ،‬في السور الثمانية التي مرت واجهنا بعض‬
‫الظواهر وبعض الشارات التي تشير إلى التزكي والتزكية والبذل وما أشبه‬
‫ذلك ‪ ،‬ولكن بهذا الشكل وبهذا التركيز وبهذا السياق هذه أول مرة نواجه ذلك‬
‫ل وعل المكذبين نارا ً تلظى وبّين أنه سيصلها الشقى‬ ‫‪ .‬بعد أن أنذر الله ج ّ‬
‫بّين أنه سيجنبها أي سيبعد عن هذه النار التقى ‪ ،‬من هو التقى ؟ ولحظوا‬
‫أن التقى صيغة مبالغة للتقي ‪ ،‬أي أنه التقي الذي بلغ في التقوى ذروتها‬
‫وغايتها ‪ ،‬قال ) الذي يؤتي ماله ( يعطيه ) يتزكى ( وكلمة يتزكى فعل‬
‫وفاعل ‪ ،‬جملة فعلية محلها الحال ‪ ،‬يعني الذي يؤتي ماله متزكيا ً طالبا ً وراغبا ً‬
‫أن يطّهر نفسه من نوازع الشح والجشع والطمع والكزازة والبخل ) الذي‬
‫يؤتي ماله يتزكى ( كفى ؟ ل ) وما لحد عنده من نعمة تجزى ( قد أعطيك‬
‫وأنا أشعر بأن لك سابق فضل علي ‪ ،‬وقد أعطيك وأنا أرجو أن تعود علي في‬
‫المستقبل بمعروف ‪ ،‬هذه النواع من العطايا أنواع رديئة ‪ ،‬قد تحدث آثارا ً‬
‫مادية ‪ ،‬لكن ثقوا أنها ممحوقة البركة ‪ ،‬العطاء المبارك هو الذي يعطيه‬
‫النسان للناس ل يقصد بذلك إل وجه الله ‪ ،‬ل يجازي الحسنة بالحسنة ‪ ،‬ول‬

‫‪47‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يرجو من وراء المعروف معروفا ً يصيبه ‪ ،‬وإنما يرجو وجه الله وثواب الله‬
‫فقط ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫وبعض المفسرين وفي بعض روايات السير أن هؤلء اليات نزلت في شأن‬
‫أبي بكر رضي الله تعالى عنه ‪ ،‬فأبو بكر كان كما تعلمون في الجاهلية‬
‫تاجرا ً ‪ ،‬وكان محبوبا ً من قومه ‪ ،‬رجل أوتي من اللطافة والكياسة ما يجعله‬
‫خر ماله كله لخدمة السلم ‪،‬‬ ‫قريبا ً من كل قلب ‪ ،‬فلما دخل اليمان قلبه س ّ‬
‫كان يمر ويرى قريشا ً قد وثبت بالضعفاء ويرى المشركين يعذبون عبيدهم‬
‫العذاب الواصب ‪ ،‬ماذا يملك لهم أبو بكر ؟ ل يملك لهم إل أن يشتريهم ‪،‬‬
‫يذهب إلى صاحب العبد فيساومه على العبد ويشتريه منه بالغا ً ما بلغ الثمن ‪،‬‬
‫ل وعل وخلصه من هذا العذاب ‪ ،‬أعتق‬ ‫فإذا اشتراه أعتقه وحرره لوجه الله ج ّ‬
‫أبو بكر رضي الله عنه عددا ً من هؤلء العبيد ‪ ،‬وكما قال عمر رضي الله‬
‫عنه ‪ :‬أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ‪ ،‬والسيد الثاني هو بلل رضي الله عنه ‪،‬‬
‫يروى في بعض الروايات أن بلل ً هذا كان عبدا ً لمية بن خلف وكان يطرح‬
‫على صدره الصخرة العظيمة بعد أن يجرده من ثيابه ويلقيه على رمال‬
‫الجزيرة العربية الحارقة ‪ ،‬ثم يأمر الصبية فيسحبوه على الرمال وهو على‬
‫هذه الحالة ‪ ،‬ويقول له ‪ :‬ستبقى هكذا حتى تكفر بمحمد ‪ .‬فل يزيد بلل على‬
‫أن يقول ‪ :‬أحد أحد ‪ ،‬فيقول له ‪ :‬دع أحد أحد فليخلصك ‪ ،‬مر أبو بكر فرأى‬
‫هذا المنظر فهانه ‪ ،‬فذهب إلى أمية وقال له ‪ :‬يا أمية إن هذا ل يحل لك ‪،‬‬
‫حرام ‪ ،‬فقال له ‪ :‬فإن استطعت فخلصه ‪ ،‬يقال إن لبي بكر عبدا ً بالغ‬
‫النشاط اسمه نسطاس رومي فجاء فأعطاه نسطاسا ً وأخذ منه بلل ً ‪ ،‬وقال‬
‫إنه اشتراه بحر ماله ‪ ،‬ويقال إن هؤلء اليات نزلت في هذا الشأن بعد أرجف‬
‫الكافرون بأن أبا بكر رضي الله عنه اشترى بلل ً وأعتقه لسابق يد وفضل‬
‫ل وعل أن أحدا ً من الناس ليست له عند أبي‬ ‫كان لبلل عنده ‪ ،‬فأبان الله ج ّ‬
‫بكر نعمة يريد أبو بكر أن يجزيه بها ) وما لحد عنده من نعمة تجزى ‪ ،‬إل‬
‫ابتغاء وجه ربه العلى ‪ ،‬ولسوف يرضى ( ‪.‬‬
‫ة من هذا القبيل ‪ ،‬ولقد لمه أبوه‬ ‫وأبو بكر رضي الله عنه أعتق ستة أو سبع ً‬
‫ذات يوم قال له ‪ :‬يا بني إنك إذ فعلت ما فعلت فلو أنك أعتقت رجال ً جلدا ً‬
‫ة جاهلية ‪ ،‬وأن أبا‬ ‫اشترِ شبابا ً وأعتقهم يمنعونك ‪ ،‬يفكر أبوه أن المسألة مسأل ً‬
‫بكر يريد جموعا ً يتعزز بها وتقاتل دونه ‪ ،‬قال ‪ :‬يا أبتي إنما أفعل ما أفعل‬
‫ل وعل ‪ .‬هذه رواية ل أدري مبلغها من الصحة ولكني‬ ‫ابتغاء مرضاة الله ج ّ‬
‫أتصور أنه ربما كان لها مدخل في الواقع ‪ ،‬لكن الشيء الذي يمكن أن نقطع‬
‫به أن هذا السلم حينما بدأ يأخذ طريقه واجه ظاهرة غريبة ‪ ،‬ماذا تظنون ؟‬
‫هل يتخلى الب عن ابنه ؟ هل تتخلى الم عن ولدها وفلذة كبدها ؟ في‬
‫الحالة العادية ل ‪ ،‬لكن حينما بدأ المسلمون يدخلون في دين الله ُوجدت هذه‬
‫الظاهرة في المجتمع المكي ‪ ،‬كان الب يتخلى عن ابنه ‪ ،‬وكانت الم تتخلى‬
‫عن ابنها لمجرد أن يسلم ‪ ،‬تكاثر هؤلء الناس وأصبحوا عددا ً هائل ً ‪ ،‬أين كانوا‬
‫يذهبون ؟ كانوا يلوذون برسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ُ ،‬وجد ما يشبه‬
‫المجتمع المصغر ‪ ،‬انتبه ‪ ،‬إن الدعوة حينما تأخذ طريقها إلى البروز ‪ ،‬وتبدأ‬
‫بظاهرة النتشار تشكل مجتمعا ً وليدا ً ‪ ،‬هذا المجتمع دائما ً له احتياجات ‪ ،‬دائما ً‬
‫ل وعل يمتدح الذين يؤتون أموالهم ‪،‬‬ ‫وأبدا ً منذ هذه اللحظة نرى أن الله ج ّ‬
‫الزكاة ما فرضت بعد ‪ ،‬الزكاة فرضت في المدينة ‪ ،‬ولكنا هنا نلحظ أن الله‬

‫‪48‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ل وعل يستغرق باليتاء جميع المال ) الذي يؤتي ماله ( كل ماله يتزكى ‪،‬‬ ‫ج ّ‬
‫ً‬
‫فمرحلة الدعوة الولى خلفا لما يتوهم كثير من الناس من الذين ينظرون‬
‫في قواعد الدعوة وقوانينها ‪ ،‬في المراحل الولى الدعوة محتاجة إلى كل‬
‫نشاطك ‪ ،‬ومحتاجة إلى كل مالك ‪ ،‬ومحتاجة إلى كل مجهودك ‪ ،‬وأما بعد‬
‫الستقرار فيا أخ الدعوة ل تكلفك إل القليل وأقل من القليل ‪ ،‬أما في‬
‫المراحل الولى فاعرف أنك دخلت مع الله في صفقة بيع ‪ ،‬بعته نفسك ‪.‬‬
‫فهذه الظاهرة ننص عليها الن ونؤكد عليها ول نفصل بها ‪ ،‬ولكنا نقرر أن‬
‫الدعوة في مرحلة معينة من مراحل النشاط والنتشار تبلغ حدود المجتمع‬
‫المصغر ‪ ،‬الذي توجد له احتياجاته ومتطلباته ومستلزماته ‪ ،‬وفي هذه الحالة‬
‫يجب أن يجند كل شيء لخدمة هذا المجتمع الوليد الذي سيأخذ على عاتقه‬
‫مسؤولية السير بالدعوة إلى النهاية ‪.‬‬
‫ً‬
‫وفي السور المقبلة سوف نواجه كثيرا من الشارات والتوجيهات وسنزيدها‬
‫تفصيل ً بإذن الله تبارك وتعالى وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله‬
‫وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(8 /‬‬

‫تفسير سورة المرسلت‬


‫الجمعة ‪ 6‬شعبان ‪ 22 / 1397‬تموز ‪1977‬‬
‫) ‪ 2‬من ‪( 4‬‬
‫العلمة محمود م ّ‬
‫شوح‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد فيا أيها الخوة‬
‫المؤمنون ‪:‬‬
‫فقد سبق أن تلونا عليكم قبل جمعتين سورة المرسلت ونحن في طريقنا‬
‫من أجل التعرف على خطوات البناء التي سلكها رسول الله صلى الله عليه‬
‫وآله ‪ ،‬وشغلنا عن متابعة الحديث عنها ما كان ل بد أن يشغلنا مما يتصل بهذه‬
‫الدعوة العظيمة من قريب أو بعيد ‪ ،‬وها نحن اليوم نعيد النظر في السورة‬
‫الكريمة بغاية ما يمكن من اليجاز ‪ ،‬آملين أن تكون عقول الخوة وقلوبهم‬
‫معنا ونحن نستعرض كلم الله جل وعل ‪ ،‬وقبل أي شيء فإن من الضروري‬
‫أن نعرف ابتداًء أن طول الحديث عن اليوم الخر ومتعلقاته ‪ ،‬أي ما يتصل به‬
‫ويتفرع عليه ربما جعل بعض القارئين للقرآن أو السامعين لكلم الله‬
‫يشعرون أن في الحديث زيادة عما ينبغي أن يكون ‪ ،‬ولعل الملل أن يتطرق‬
‫إلى بعض النفوس وهي تقرأ أو تتابع هذه الحلقات المتصلة من حديث يدور‬
‫حول قطب واحد وهو موضوع اليوم الخر وما يتصل به وما يتفرع عنه ‪،‬‬
‫ولكي نزيل هذه الفكرة إن خطرت ل سمح الله فمن الواجب أن نذكر أن‬
‫كلم الله كله حق ل باطل معه ‪ ،‬وحكمة ل عبث معها ‪ ،‬وأن ما أنزل الله من‬
‫قول على نبيه عليه الصلة والسلم فكل حرف منه لزم لنه جاء ليؤدي‬
‫الغرض منه في المكان والزمان الملئمين ‪.‬‬
‫ً‬
‫وإنكم حينما تتبعون قضية من قضايا القرآن ولتكن مثل قضية اليوم الخر‬
‫على وجه الخصوص ‪ ،‬فلن يفوتكم إن قرأتم القرآن بإمعان أن كل حديث عن‬
‫اليوم الخر يضيف شيئا ً جديدا ً إلى المفهومات السابقة من السور واليات‬
‫التي نزلت من قبل ‪ ،‬وسؤال ل بد أن يطرح هنا وأن يجاب عليه ‪ :‬ولماذا كل‬
‫هذا ؟ فأقول ليس يخفى على أحد أن موضوع اليوم الخر ومسألة المصير‬

‫‪49‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إلى الله وقضية السؤال بين يديه وموضوع الثواب والعقاب شغلت من كتاب‬
‫الله في مرحلتيه المكية والمدنية حيزا ً كبيرا ً ‪ ،‬وإذا ذهبنا نقارن بين موضوعين‬
‫رئيسيين إن جاز الفصل بينهما كموضوع اللوهية وهو مسألة المسائل‬
‫وموضوع اليوم الخر وهو موضوع يتفرع عن موضوع اللوهية فسوف نجد أن‬
‫الحديث عن اليوم الخر أخذ من القرآن أضعاف ما أخذت قضية اللوهية ‪،‬‬
‫هل المسألة هنا تتعلق بالهمية وعدمها أو بدرجة الهمية ؟ كل قطعا ً ‪ ،‬فما‬
‫يشك عاقل أن أهم شيء في السلم هو اليمان بالله تعالى ‪ ،‬لنه المدخل‬
‫الذي يلج منه النسان إلى رحاب هذا الدين العظيم وبغيره فمهما يفعل‬
‫النسان من خيرات ومهما يقدم من معروف فإن ذلك ليس بنافعه في قليل‬
‫ول كثير ‪ ،‬لكن المسألة كما يجب ُيعلم أن مشكلة اللوهية ل تحتل من أذهان‬
‫الناس عادة ذلك المكان الخطير على الحس وعلى العقل الذي تحتله قضية‬
‫اليوم الخر ‪.‬‬
‫جه إلى الناس كافة ‪ ،‬وبصورة أساسية ومباشرة‬ ‫فل شك أن هذا السلم وُ ّ‬
‫جه إلى العرب الوثنيين ‪ ،‬لكنك حينما تستشير القرآن بالذات هل المعضلة‬ ‫وُ ّ‬
‫بالنسبة لموضوع اللوهية كهي بالنسبة لقضية اليوم الخر ؟ تجد أن الله جل‬
‫وعل يقول ‪ ) :‬ولئن سألتهم من خلق السماوات والرض ليقولن الله (‬
‫دعون أن هذه الوثان خلقت شيئا ً من‬ ‫فالعرب الذين كانوا يعبدون الوثان ل ي ّ‬
‫مخلوقات الله جل وعل ‪ ،‬وإنما هي وسائط وشفعاء كما يدعون ويزعمون ‪.‬‬
‫ولهذا نجد الله جل وعل يقول في وصف هؤلء الصنف من المشركين ) وما‬
‫يؤمن أكثرهم بالله إل وهم مشركون ( فمسألة اللوهية في الحقيقة يشبه أن‬
‫تكون مسألة مستقرة في قاع البديهة النسانية ‪ ،‬مهما كابر النسان وجادل ‪،‬‬
‫ومهما حاول أن يبتعد عن القرار بها ‪ ،‬فهو مسوق بهذا النازع الفطري إلى‬
‫أن يقر بها على نحو من النحاء ‪ .‬صحيح أن السلم له وجهته الخاصة في‬
‫تقرير اللوهية منزهة عن الوسائط والشفعاء والشركاء والنداد والمثال ‪،‬‬
‫لكن صحيحا ً أيضا ً أن العرب المشركين يقرون باللوهية من حيث المبدأ ‪،‬‬
‫لكن معضلته الكبرى ومعضلة النسانية عموما ً هي ‪ :‬كيف يمكن أن يعود‬
‫النسان بعد الموت خلقا ً جديدا ً وكيف يمكن أن تتسع الكوان لما ل يحصى‬
‫من مليين الناس الذي أكلهم الدهر وماتوا ؟ وكيف يمكن أن يحشروا ؟‬
‫وكيف يمكن لملك الموت أن يميت في اليوم وفي الساعة وفي اللحظة كذا‬
‫وكذا عددا ً من ألوف ومئات اللوف من الناس ؟ وكيف يمكن أن يوقف‬
‫الناس جميعا ً وأن يجري لهم الحساب ؟ إلى آخر هذه السلسلة التي تشكل‬
‫فعل ً معضلة أمام العقل البشري ‪ ،‬بل أمام الحس البشري ‪.‬‬
‫ونحن نعلم أن مقررات العقل وقناعات العقل ل بد لها أن تستند إلى شيء‬
‫من وقائع الحس ومن العالم المشهود ‪ ،‬وإل كانت مثال ً وتجريدا ً ل صلة له‬
‫بالواقع ‪ ،‬وبالتالي فهو عاجز عن أن يتفاعل مع الكينونة النسانية بكل ما فيها‬
‫من قوى وطاقات ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫إن هذه المشكلة عرضها القرآن تباعا ً ‪ ،‬وعرضها في المرحلة المكية ‪ ،‬وأشدد‬
‫على ضرورة ملحظة هذه الظاهرة في القرآن التي يغفل عنها معظم الذين‬
‫يقرأون القرآن ‪ ،‬إن المرحلة المكية حفلت بالحديث عن اليوم الخر مباشرة‬
‫وابتداًء وكغرض مقصود ‪ ،‬قضايا اليوم الخر ُأبرزت على أنها غاية مقصودة‬
‫ت صحف القرآن‬ ‫في العرض والبحث والحجاج والمنافحة عنها ‪ ،‬ولكنك إذا قلب َ‬

‫‪50‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المدني فسوف تلحظ أن موضوعات اليوم الخر قّلما ُتعرض على أنها قضايا‬
‫مقصودة بالذات ‪ ،‬تأتيك تبعا ً في نهاية آيات الحكام ‪ ،‬في نهاية التوجيهات‬
‫التي ُيطلب من المسلمين أن يتقيدوا بها ‪ ،‬تذكر المسلمين باليوم الخر‬
‫كرت‬ ‫وبالمصير إلى الله جل وعل ‪ ،‬وتنبهوا إلى أن آخر آية نزلت من القرآن ذ ّ‬
‫باليوم الخر على هذا النحو المقتضب جدا ً وهي قول الله تعالى ) واتقوا يوما ً‬
‫ُترجعون فيه إلى الله ثم توّفى كل نفس ما كسبت وهم ل ُيظلمون ( هنا يحق‬
‫لنا أن نسأل ولماذا ؟ والجواب يتطلب منا أن نعرف وجهة السلم في علج‬
‫مشكلت الجنس البشري وفي علج القضايا النسانية حال ً ومآل ً ‪ ،‬لو أننا‬
‫نعالج أمرا ً ذا صفة جزئية لكان هينا ً لن تعطى جملة مختصرة من التوجيهات‬
‫وينتهي المر ‪ ،‬لو كنا نعالج مشكلة محلية لكان هينا ً لن يتداعى العقلء لحلها‬
‫ول حاجة لتدخل السماء ‪ ،‬لو كنا نعالج فترة زمنية محدودة لكان بحسبنا عدد‬
‫قليل من اليات تحصر مشكلت المرحلة وتضع لها الحلول ‪ ،‬لو كنا نعالج‬
‫أناسا ً بل حس وبل مشاعر وبل دوافع وبل عواطف لكان هينا ً لن تحل المور‬
‫بأي سبيل ‪ ،‬لكن المشكلة التي واجهها السلم كما واجهتها الديانات الخرى‬
‫مع فارق أن السلم واجهها بعمق وبشمولية وجذرية ‪ ،‬هي مشكلة من غير‬
‫هذه الطرز التي أعطينا أمثلة لها ‪.‬‬
‫نحن حينما نريد أن نعالج وضعا ً بشريا ً فأمامنا عادة طريقان يمكن أن نختار‬
‫أيهما شئنا ‪ ،‬يمكن أن نعالج مشكلت المجتمع النساني بالسوط والعصا ‪،‬‬
‫وبقهر القوة ورهبة السلطان ‪ ،‬والنسان إنسان محكوم بضرورات شئنا أم‬
‫أبينا ‪ ،‬ذلك واقع ل يمكن تجازوه ‪ ،‬نحن بشر ولسنا ملئكة ‪ ،‬والنسان حينما‬
‫يوجه نحوه القهر بصورة مستمرة ومستديمة وقاسية فسوف يسير في‬
‫الطريق الذي يراد أن يسير فيه ‪ ،‬يمكن ذلك ‪ .‬لكن تجربة البشرية تقول إن‬
‫قبضة السلطان تتراخى باستمرار ‪ ،‬وإذا كانت القضية بهذا الشكل فما لم‬
‫يكن مستقبل النسانية مضمونا ً بضمانة القناعة النسانية فإن ضمانة القهر‬
‫والسلطان قاصرة عن أن تحافظ على استمرارية المثل ودوام السير بالنسبة‬
‫لهذا الركب النساني ‪ .‬فهي إذا ً طريقة فاشلة ‪ ،‬وإن كان هي الطريقة‬
‫مل الناس حمل ً على ما يراد بهم ولهم‬ ‫المعتمدة للسف في هذه اليام أن يح َ‬
‫دون أن يقام وزن لقناعاتهم ‪ ،‬لن الناس انفصلوا عن هداية السماء وجهلوا‬
‫تماما ً فلسفة السلم في البناء النساني ‪ .‬هذا خيار ‪ ،‬ورأينا أنه فاشل عقل ً‬
‫كما هو فاشل تاريخيا ً كما هو فاشل في الواقع اليومي المعاش ‪ ،‬ليس أمام‬
‫السلم من طريق يسلكه ‪ ،‬وهو كلمة الله الخيرة للناس ودعوته الشاملة‬
‫إلى الجنس البشري ‪ ،‬إل أن يسلك الطريق الخر وهو أن يضع الجنس‬
‫البشري بضمانة القناعة النسانية ‪ ،‬والقناعة ليست كلمة تلقى في الهواء ‪،‬‬
‫ولكنه تعامل مستمر مع الواقع الذي يتحرك بالناس ويتحرك به الناس ‪،‬‬
‫والقناعة مجموعة من التراكمات المحسوسة وغير المحسوسة ‪ ،‬والمباشرة‬
‫والتبعية ‪ ،‬والقناعة حصيلة تجارب عمر يعيشها النسان فردا ً ويعيشها النسان‬
‫جل الناس النتائج لهذه التجارب ‪ ،‬ل‬ ‫جماعة ‪ ،‬ومن اللجاجة في الفكر أن يتع ّ‬
‫بد من التأسيس انطلقا ً من هذه الوجهة السلمية الصافية ‪.‬‬
‫نستطيع الن أن نواجه قضايا اليوم الخر ‪ ،‬كما نواجه كل القضايا الهامة‬
‫والرئيسية في السلم بالصبر وبالناة ‪ ،‬لكن سبق أن قارنا لكم سابقة بين‬
‫سورة القارعة التي عرضت صور اليوم الخر عرضا ً إن صح أن نسميه‬
‫باصطلحات العقل عرضا ً فيه برودة وجفاف العقل ‪ ،‬فالمر كذلك ‪ ،‬وعرض‬
‫المشكلة بهذا الشكل أثار لدى المكيين ردود أفعال فتساءلوا ‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫بعيد عن النسان أن يعاد خلقا ً جديدا ً بعد أن بلي ومات ‪ ،‬ولكن لماذا يستبعد‬
‫النسان هذا الشيء ؟ إنه يستبعده قياسا ً على المقاييس البشرية ‪ ،‬إلى‬
‫خبراته اليومية ‪ ،‬إلى قناعاته المتولدة عن تحديد نظره بآفاق النعيم ‪ ،‬فجاء‬
‫سع من آفاق الناس ‪ .‬وثمة عندنا فريقان ‪ ،‬فريق‬ ‫القرآن يعرض المشكلة ليو ّ‬
‫يعيش على موروثات مضى عليها زمان طويل ‪ ،‬هم هؤلء المشركون‬
‫ً‬
‫المخاطبون بهذا القرآن ‪ ،‬مرنوا على أن يعيشوا على نهب الملذات نهبا ‪،‬‬
‫ويجمعون من الدنيا من الحل ومن الحرم ‪ ،‬دون سؤال ودون مراجعة ‪ ،‬وذلك‬
‫لنهم ل يرجون لله وقارا ً ‪ ،‬ول ينتظرون منه مرجعا ً ومآل ً ‪ .‬وفريق آخر كان‬
‫يقوم على تكوينه وبنائه محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬لكن الفريقين كانا‬
‫محتاجين إلى مرحلة تأسيس طويلة المدى بالغة العمق ‪ ،‬كان لزما ً بالنسبة‬
‫للمشركين أن ُتفّتح أعينهم بأن الكون ليس فقط هذا الشيء الذي تلمسه‬
‫أيديهم وتراه أعينهم ‪ ،‬فإن هذه الحواس المحدودة ل ترى من كون الله جل‬
‫وعل العريض إل القل القليل ‪ ،‬ما تراه ل يشكل إل هباءة تائهة في هذا‬
‫الفضاء الكبير ‪ .‬وكان ل بد لهذه النباتات الغضة الطرية التي يتعهدها بالسقاية‬
‫والغراس محمد صلى الله عليه وسلم من أن يستأني بها رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم من كيانها النفسي وبنائها الشعوري ومن قناعاتها العقلية ‪،‬‬
‫وليس صحيحا ً أبدا ً من أنه يمكن لنا أن نفعل ذلك بطرفة عين ونحن نتحرك‬
‫على الصعيد النساني ‪.‬‬
‫إذا ً فكل الطرفين كان محتاج إلى أن ُتعرض القضايا شيئا بعد شيء ‪ ،‬وبأناة‬
‫ً‬
‫عرضت‬ ‫زائدة ‪ ،‬وفي كل مرة يضاف شيء جديد ‪ .‬كما قلنا في القارعة ُ‬
‫عرضا ً مجردا ً ‪ ،‬فلما حصلت ردود الفعال لدى المكيين كان محتاجين لن تمد ّ‬
‫آفاق أنظارهم شيئا ً من هذا ‪ ،‬والمسلمون لم يكونوا أغنياء عن هذا فجاءت‬
‫سورة القيامة ‪ .‬جاءت سورة القيامة لتقيم دلئل من الواقع المشهود ودلئل‬
‫تستند إلى قضية العقل ‪ ،‬ودلئل تستند إلى مقررات الخلق ‪ ،‬وتكلمنا عن‬
‫كل ذلك ‪ .‬والنسان إنسان وعلينا أن ل نستغرب منه ول عليه أي شيء ‪،‬‬
‫وصدق ربنا ) وكان النسان أكثر شيء جدل ً ( ‪.‬‬
‫المكيون لم يستطيعوا على أن يحملوا على أنفسهم النخلع بتة من هذه‬
‫الموروثات التي ألفوها ‪ ،‬ولم يقبلوا أن يتخلوا عن معتقدات درج عليها الباء‬
‫جوبهوا بقضايا ل سبيل إلى إنكارها ول سبيل إلى تجاهلها ‪،‬‬ ‫والجداد ‪ ،‬لكنهم ُ‬
‫فلجأوا إلى الطيش والعناد والسفاهة ‪ ،‬فجاءت سورة الهمزة تعرض‬
‫للمسلمين لكي يبقى ذلك لهم أبد الدهر ‪ .‬موقف المكيين الرعن الذي تخلى‬
‫عن العقل ليبدأ سلسلة طويلة من الهمز واللمز والسخرية ‪ ،‬وما هي الصلة‬
‫بين قضية العقل والشعور ‪ ،‬وقضية الحس والخلق ‪ ،‬وهذا الهمز واللمز‬
‫وسائر التصرفات الرعناء الصبيانية التي تكشف عن زمام انفلت العصاب‬
‫من أي قضية ؟ إنه لدرس بليغ ‪ ،‬وعلى كل مسلم أن يعي لكي ل يستغرب‬
‫حينما يعرض مع مرور اليام وتتابع آنات الدهور حينما يعرض رسالة الله إلى‬
‫الناس فيصطدم بهذه الصناف التي تعرف أن ما تقوله حق وتعرف أن ما‬
‫تقوله صدق ‪ ،‬ولكنها محكومة بالهوى والشهوة والغرض ‪ ،‬مضروبة على آذانها‬
‫‪ ،‬ل تسمع نداء الله تعالى ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في كل زمان وفي كل مكان حينما ُتعرض قضايا السلم عرضا مجردا ويعجز‬
‫الناس عن تجاوز بداهة العقل يلجئون إلى الطعن والتشكيك ويلجئون إلى‬
‫الهمز واللمز ‪ .‬وفي سورة المرسلت قلت لكم إن سورة المرسلت يمكن‬

‫‪52‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أن تكون معزوفة عالية النبرة ‪ ،‬ويمكن أن تكون جيشا ً يقاتل ‪ ،‬أن الله جل‬
‫وعل وهو الحق يغار على الحق أن ُينتهك ‪ ،‬وحينما عرض الله قضايا اليوم‬
‫الخر على المكيين مجردة عارية فلم يقنعوا بها ‪ ،‬وعرضها مشفوعة بالحجج ‪،‬‬
‫محفوفة بالدلئل والبراهين فأهدروا عقولهم وأهانوا إنسانيتهم ولجئوا إلى هذا‬
‫السلح الوسخ أي سلح الهمز واللمز والشائعات الكاذبة المغرضة للتهويل‬
‫من حملة الدعوة كي تهون الدعوة من وراء ذلك ‪ ،‬جاءت آيات الله في‬
‫المرسلت تزلزل هؤلء ‪ .‬ذلك شيء مبرر من واقع السيرة التي عاشها‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫عالجت السورة مشكلة سبق وأن واجهناها ‪ ،‬عالجت قضايا اليوم الخر ‪ ..‬هل‬
‫أضافت شيئا ً جديدا ً إلى ما كنا قد تعرفنا عليه فيما مضى ؟ نقول ‪ :‬نعم ‪.‬‬
‫لحظوا ‪ ..‬في سورة القيامة قال الله تعالى في آخرها ) أليس ذلك بقادر‬
‫على أن يحيي الموتى ( أمسكوا طرف الخيط ‪ ،‬إن النسان حينما يستبعد‬
‫إمكان اليوم الخر فذلك يعني أنه لم يقدر الله حق قدره ‪ ،‬يعني أنه قاس‬
‫إمكانات الله إلى إمكانات نفسه ‪ ،‬يعني أنه لم يعرف قدرة الله جل وعل‬
‫التي ل تحدها الحدود ول تبلغ نهاياتها العقول ‪ ،‬فإذا جئت إلى سورة‬
‫ت دلئل يوم الخر إن صح أن نسميها دلئل ُتشحن بهذا‬ ‫المرسلت وجد َ‬
‫الشيء الذي يراد له أن يثّبت مفهوم القدرة اللهية ‪ ،‬لن النسان يوم أن‬
‫يعتقد بأنه مخلوق من قبل الله وبأنه هذا الخالق قادر على كل شيء ل‬
‫يعجزه شيء ول تدخل الستحالة في قاموسه ‪ ،‬فالمشكلة منتهية ‪ .‬ولكن إن‬
‫تصورنا قدرة الله على نحو ما نتصور قدرات البشر فلن نصل إلى نتيجة في‬
‫معالجة موضوع اليوم الخر ‪.‬‬
‫ً‬
‫انظر ‪ ..‬افتتحت السورة بقول الله تعالى ) والمرسلت عرفا ( يعني متتابعة ‪،‬‬
‫تقول العرب ‪ :‬جاء القطا عرفا ً أي جاء متتابعا ً ‪ ،‬والمرسلت هنا هي الرياح ‪) .‬‬
‫فالعاصفات عصفا ً ‪ ،‬والناشرات نشرا ً ‪ ،‬فالفارقات فرقا ً ‪ ،‬فالملقيات ذكرا ً ‪،‬‬
‫عذرا ً أو نذرا ً ‪ ،‬إن ما توعدون لواقع ( قسم وجواب قسم ‪ ،‬وبقطع النظر عن‬
‫اختلف المفسرين في أنها هي الرياح أو هي الملئكة ‪ ،‬ولعل من قال بأن‬
‫الملئكة مرادة في جزء من هذه اليات قول الله تعالى ) فالملقيات ذكرا ً ( ‪:‬‬
‫إنهم تصوروا هي التي تلقي الذكر الذي هو القرآن ‪ ،‬فنحن نميل إلى أن الله‬
‫أراد أن يلفت النسان إلى مظهر من مظاهر القدرة اللهية محسوس‬
‫ومشهود يراه العمى والبصير على سواء ‪ ،‬إنها الرياح التي تهب في الصباح‬
‫المساء وتحمل من أمر الله ما تحمل ‪ ،‬أرأيت هذه السحب التي تنشأ في‬
‫السماء أأنت أيها النسان أنشأته ؟ ل ‪ ،‬إنك ل تملك أن تدعي ادعاًء من هذا‬
‫القبيل ‪ ،‬أرأيت كيف تأتي الرياح فتنشرها في السماء أأنت نشرتها بوسائلك‬
‫الصناعية ؟ ل ‪ ،‬ول تملك أن تدعي شيئا ً من هذا القبيل ‪ .‬أرأيت كيف أن هذه‬
‫السحب تنتشر في السماء فتغطي جو السماء كله ؟ أرأيت كيف أن الرياح‬
‫تفرق السحب فرقا ً تسوق شيئا ً منها يمينا ً وشيئا ً منها شمال ً وشيئا ً شمال ً‬
‫ت ذلك ؟ ل ‪ ،‬أرأيت من‬ ‫وشيئا ً جنوبا ً لكي تغطي مناطق مختلفة ‪ ..‬أأنت فعل َ‬
‫بعد كيف يتنزل المطر بقدرة الله جل وعل فيصيب الله به من يشاء ويمنعه‬
‫عمن يشاء ‪ ..‬أأنت الذي فعل ذلك ؟ ل ‪ ،‬كل ذلك لم يكن منك ‪.‬‬
‫) والملقيات ذكرا ً ( هي الرياح ل أشك في ذلك ‪ ،‬لماذا ؟ لن كل ما يحدث‬
‫في كون الله جل وعل فهو مذكر بالله تعالى ‪ ،‬وليس ضروريا ً أن نحمل الذكر‬

‫‪53‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫هنا على القرآن ‪ ،‬لن الذكر هو كل ما يذ ّ‬


‫كر بالله ‪ ،‬وكل ما يلفت النظر إلى‬
‫عظمة الله وقهر الله وسلطانه وجبروته ‪ ،‬ألم تسمعوا ربكم جل وعل يقول‬
‫) إن في خلق السماوات والرض واختلف الليل والنهار ليات لولي اللباب‬
‫الذين يذكرون الله قياما ً وقعودا ً وعلى جنوبهم ( فذلك هو تذكير من الله‬
‫للنسان بقدرة القادر الذي استبعد عليه هؤلء المشركون أن يعيد الناس‬
‫خلقا ً جديدا ً بعد أن ماتوا ‪ ،‬واستكثروا على الله تعالى أن يسوق الناس إلى‬
‫الحشر سوقا ً ليسأل كل أحد عما قدمت يداه ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫) والمرسلت عرفا ً ‪ ،‬فالعاصفات عصفا ً ‪ ،‬والناشرات نشرا ً ‪ ،‬فالفارقات‬


‫فرقا ً ‪ ،‬فالملقيات ذكرا ً ‪ ،‬عذرا ً أو نذرا ً ‪ ،‬إنما توعدون لواقع ‪ ،‬فإذا النجوم‬
‫طمست ‪ ،‬وإذا الجبال نسفت ‪ ،‬وإذا الرسل ُأقتت ‪ ،‬لي يوم ُأجلت ‪ ،‬ليوم‬ ‫ُ‬
‫الفصل ‪ ،‬وما أدراك ما يوم الفصل ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ( أريد أن أقف‬
‫معكم في هذه النقطة لننا نوجه الن بصورة أساسية أسلوبا ً من أساليب‬
‫القرآن وهو أسلوب ربما يستخدمه بعض الناس فيفشل ‪ ،‬وفشله ليس متأتيا ً‬
‫فن عجز السلوب ولكن عن صنع استخدام السلوب ‪ ،‬إننا نواجه في هذه‬
‫السورة ما يسمى في بلغة العرب بالتخييل والتمثيل والتجسيد ‪ ،‬إن القرآن‬
‫مشحون بهذه التخييلت التي تصور بأن المور المغيبات كأنما هي واقع تراه‬
‫رأي العين وتلمسه لمس اليد ‪ ،‬تسأل ‪ :‬ما مكان هذا السلوب في صفحة‬
‫القناع ؟ ومع أني ل أقر هذا السؤال لكن لبعد الناس عن تذوق هذه اللغة‬
‫الشريفة أريد أن أقف وأحلل وأن أحاول التعرف معكم على حكمة هذا‬
‫السلوب وأخطار هذا السلوب حينما ُيستخدم استخداما ً رديئا ً ‪ .‬يجب أن ل‬
‫يغيب عن بالنا أن القرآن خاطب أمة هي صاحبة اللسان وهذه اللغة ‪ ،‬كيف‬
‫تلفظ أنت باللهجة العامية التي رضعتها مع لبن أمك ونشأت عليها وتتحدث‬
‫في شئونك كلها ‪ ،‬لفظة عامية واحدة تقولها أو تسمعها فتتأمل وتتداعى لها‬
‫الصور وأخيلة وقضايا من هذه اللفظة ‪ ،‬لماذا ؟ لن اللفظة جزء من الكيان‬
‫النساني ‪ ،‬يمثل الكيان النساني بالذات ‪ ،‬لن الكلم ليس شيئا ً جامدا ً ول‬
‫باردا ً ولكنه قطعة من هذا الكون ‪ ،‬وإذا كانت ألسنة الناس جميعا ً تتمتع بهذه‬
‫الخاصية الساسية ‪ ،‬فلغة العرب من بين اللغات جميعا ً أحسن اللغات كلها‬
‫لهذه الخاصية العجيبة ‪ .‬إن اللفظة المفردة التي كانت تقال لعرب الجاهلية‬
‫كانت تفعل فعل السلح ‪ ،‬وليس غريبا ً على الخوة الذين يعرفون شيئا ً من‬
‫حياة الجاهليين أن القبيلة التي كانت ينبغ فيها شاعر أو يبرز فيها خطيب تقيم‬
‫الحفال وتولم الولئم وتعمل الفراح ‪ ،‬لماذا ؟ لنها تعرف أن الشاعر‬
‫والخطيب يدافع بالمثل الشرود والكلمة السائرة والبيت من الشعر الفاذ ‪،‬‬
‫يحاول ما ل يحاول السيف ‪ ،‬وأن بيتا ً من الشعر أخمل من ذكر قبيلة وأرفع‬
‫من ذكر قبيلة ‪ ،‬ذلك شيء يعرفه الناس كلهم ‪.‬‬
‫كانت قبيلة من القبائل ُتعّير بأنها أنف الناقة لماذا ؟ لن هذه القبيلة ذبحت‬
‫مرة لحد الضياف ناقة وقدموا له أنف الناقة فذهب شاعر يسبهم بأنه قدموا‬
‫له أراذل لحم الناقة فسموا بأنف الناقة ‪ ،‬فجاء شاعر منهم فقال بيتا ً من‬
‫الشعر أذهب به هذه السبة التي كانت تعّير بها القبيلة ‪:‬‬
‫قال قوم هم النف والذناب دونهم ومن يسوي بأنف الناقة ذنب‬
‫إذا كانت هذه القبيلة يقال لها أنف الناقة فغير من القبائل أذناب ‪ ،‬فالشاعر‬
‫رفع من ذكر القبيلة ‪ .‬فللكلمة في الكيان العربي شأن ‪ ،‬وهي كلمة تقاتل ما‬

‫‪54‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ل يقاتل الجيش ‪ ،‬السلح يحقق نصرا ً موقوتا ً ‪ ،‬ولكن الكلمة الصائبة تبقى‬
‫محققة لهذا النصر طيلة الزمان والدهور ‪ .‬ل تملوا هذا التحليل الضروري‬
‫وأنكم مطالبون بأن تقرأوا القرآن وأن تفهموا قيمة الكلمة التي كانت تنزل‬
‫على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫إن عشق العرب للكلم الجميل الفصيح الجذل القوي بلغ حد الهيام والغرام ‪،‬‬
‫الكلمة عندهم فوق كل شيء ‪ .‬والله جل وعل أعطى هذا اللسان العربي من‬
‫القدرة على التخييل والتمثيل ما ترى معه أن الشيء الذي يحدثك به‬
‫المتحدث واقع مشهود ‪ ،‬وصف يوما ً رجل أسدا ً عند عمر بن الخطاب رضي‬
‫الله عنه بحيث كان هذا الوصف مهول ً كأنما هو حاضر يتوّثب لكي يفترس‬
‫ت الناس ‪.‬‬
‫الموجودين فقال عمر للواصف ‪ :‬حسبك لقد أفزع َ‬

‫)‪(5 /‬‬

‫لغة العرب قادرة على تجسيم المور وتمثيلها وجعلها كالحاضرة المشهودة‬
‫أمام الناس ‪ .‬قضايا الغيب ل يفلح معها أن نكل أمرها إلى الفلسفة‬
‫والعقلنيين والمفكرين ‪ ،‬لنهم ل يملكون الوسائل التي تعينهم على المعرفة‬
‫الصحيحة بواقع المر ‪ ،‬فهم من أجل ذلك يعجزون عن إيصالها إلى الناس ‪.‬‬
‫وكما قلت من قبل فقضايا الغيب ل سبيل إلى معرفتها إل من طريق‬
‫ور أن الشهادة والغيب‬ ‫الوحي ‪ ،‬لكنا نخطئ خطأ فاحشا ً ول ُيغتفر حينما نتص ّ‬
‫عالمان منفصلن ل يلتقيان ‪ ،‬في الحقيقة عالم الغيب والشهادة عالم واحد ‪،‬‬
‫وإنما التفرقة اصطلحية ل أكثر ول أقل ‪ ،‬وآية ذلك ‪ :‬أنك وأنت هنا تشعر في‬
‫دخيلة نفسك بأنك صغير عاجز ومخلوق ‪ ،‬وأن ثمة قدرة أقوى منك وأعلى‬
‫ونتك ‪ ،‬أتعرف أنت عن كل هذه القدرة شيئا ً ؟‬ ‫منك وأعظم منك هي التي ك ّ‬
‫أبدا ً ‪ ،‬من ذا الذي يمكن أن يحيط بأوصاف الله جل وعل ؟ أهو جسم ؟ أهو‬
‫روح ؟ أهو متحّيز في جهة ؟ أهو محيط بالزمان والمكان ؟ ذلك شيء ل‬
‫يعلمه النسان ‪ ،‬غاية ما تعلمه فطرة النسان ونباهة النسان وجود هذه‬
‫القوة القادرة الفاعلة المحيطة بكل شيء ‪ .‬فهذا من عالم الغيب ولكن عالم‬
‫الشهادة يتجاوب مع هذا الشيء ‪ ،‬أنت هنا تعيش ويمر بك غنى كما يمر بك‬
‫فقر ‪ ،‬وتمر بك صحة كما يمر بك مرض ‪ ،‬ويمر بك عز كما تمر بك ذلة ‪،‬‬
‫وتختلف بك الحوال رفعا ً وخفضا ً ‪ ،‬ومن خلل هذه التجارب المكرورة‬
‫تتساءل ‪ :‬هذه القوافل التي تذهب ‪ ،‬قافلة في أثر قافلة ‪ ،‬ل يرجع الماضي‬
‫ول يعرف التي ماذا يؤول إليه المر ‪ ،‬أمن العقل والمنطق ‪ ،‬أمن الخلق ‪،‬‬
‫أم يكون ذلك كله عبثا ً وسدى ؟ إنك تشعر في أعمق أعماقك أنه ل بد من‬
‫وقت يثاب فيها المحسن ويعاقب فيها المسيء ‪ ،‬وإل لكانت حياة الدنيا‬
‫مجزرة يأكل القوي فيها الضعيف ‪ ،‬ويسرق الفقير من الغني ‪ ،‬وينتهي كل‬
‫معنى إنساني كريم يعيش عليه الناس أو يطمح إليه الناس ‪.‬‬
‫هذا من عالم الغيب ‪ ،‬ولكنك في عالم الشهادة تجد له في نفسك ظلل ً‬
‫وأصداًء ‪ ،‬هذه القضية يجب أن ُتستحضر ‪ ،‬ونحن أمام التخييلت التي يضعها‬
‫القرآن أمام أعيننا ‪ ،‬وضع القرآن أمام أعيننا الن ‪ :‬كيف تنسف الجبال ‪ ،‬كيف‬
‫تغير الرض غير الرض ‪ ،‬كيف تؤقت الرسل ‪ ،‬كيف يوقفون لُيسألوا عن‬
‫المانة التي ُوضعت بين أيديهم ) فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك‬
‫على هؤلء شهيدا ً ‪ ،‬يومئذ يود ّ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم‬
‫الرض ول يكتمون الله حديثا ً ( ) وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت‬
‫للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول‬

‫‪55‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ما ليس لي به حق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ول أعلم ما‬
‫لم الغيوب ( متى هذا ؟ في الدنيا ؟ ل ‪ ،‬في الخرة ‪،‬‬ ‫في نفسك إنك أنت ع ّ‬
‫ُ‬
‫ولكن آيات الله تضع هذا أمام عينيك كأنما تراه ) وإذا الرسل أقتت ( أي‬
‫ضرب لها وقت معلوم وأجل محدود لكي ُتسأل عن المانة ولكي تشهد على‬ ‫ُ‬
‫الناس ‪ ،‬هذا السلوب كان عظيم الفاعلية ‪ ،‬ولهذا فإن من أوصاف المؤمنين‬
‫في القرآن الكريم أنهم إذا تليت عليهم آيات الله خشعت قلوبهم واقشعّرت‬
‫جلودهم وبكت عيونهم ووصف الله جل وعل أولئك الذين يؤمنون من أهل‬
‫الكتاب من قبلنا أنهم إذا سمعوا آيات الله تتلى يخّرون إلى الذقان يبكون ‪،‬‬
‫لماذا ؟ لفاعلية الكلمة ‪ ،‬ولقدرة الكلمة على التأثير ‪ ،‬لستحضار الكلمة لهذه‬
‫المعاني العظيمة والمواقف المهولة التي يعرضها القرآن ‪ ،‬لقد كان ذلك‬
‫السلوب من التعبير القرآني ول سيما في باب الغيبيات أنجع أسلوب‬
‫استخدمه القرآن ‪ ،‬بل أنجع أسلوب عرفته النسانية بإطلق ‪.‬‬
‫لكن هذه السلوب له أخطار ‪ ،‬ويجب أن أنبه ‪ ،‬إن نجاح هذا السلوب الذي‬
‫تبناه القرآن واستعمله بكثرة يعود إلى ماذا ؟ هل يعود إلى قوة ذاتية في‬
‫السلوب ؟ ل ‪ ،‬إن كل إنسان يستطيع أن يتصور وأن يتخّيل ‪ ،‬ويستطيع أن‬
‫يستجيش فيك عاطفة موقوتة ‪ ،‬وقد يدفعك إلى عمل ما ‪ ،‬لكن هل يمكن لنا‬
‫أن نتصور استمرار هذا الشيء ؟ حينما يكون التمثيل والتخييل مؤسسان‬
‫على الصدق وعلى العقل تكون القضية صادقة ومستمرة ويكون السلوب‬
‫بالغ الفاعلية إلى ما ل نهاية ‪ .‬أما إذا بنينا هذا السلوب على شيء ل نصيب‬
‫له من الصحة ‪ ،‬على شيء بعيد من الصدق ‪ ،‬فنحن سوف نفشل ‪ ،‬لسبب‬
‫بسيط ‪ ،‬لن التمثيل والتخييل والتجسيم والتشبيه يصبح ذلك كله في‬
‫استجاشة العاطفة وفي جعل كل الملكات البشرية مستوفزة حاضرة‬
‫للستجابة ‪ ،‬لكنها إذا ذهبت الرغوة عنها وتبّين أن هذه التظاهرة ليس تحتها‬
‫شيء من الصواب والصدق فإن خيبة المل حاضرة وعتيدة ‪ ،‬وإن الذي‬
‫جل عليه الكذب فهو إن نطق‬ ‫س ّ‬
‫يستعمل هذا السلوب كذلك الكذاب الذي ُ‬
‫بالصدق فل يصدق بحال من الحوال ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫إن أسلوب القرآن هذا كان مؤسسا ً على قضايا ل مجال للمناورة فيها ول‬
‫للجدل ‪ ،‬من ذا الذي يقول لك إن الله غير موجود ؟ سل شيوعيا ً من هؤلء‬
‫القذرين الذين يتباهون بأن الله غير موجود ‪ ،‬سل تقدميا ً من هؤلء المسوخ‬
‫درون ويسخرون على الله‬ ‫الذين انسلخوا من كل معنى إنساني والذين يتن ّ‬
‫وملئكته ‪ ،‬سله وقلت له ‪ :‬يا قذر يا تافه حينما تسقط في حفرة أتقول أين‬
‫الرسالة الخالدة أم تقول يا الله ؟ إن بداهة الفطرة هنا ل مجال للمماراة‬
‫فيها ‪ ،‬ول مجال للمجادلة فيها ‪ ،‬إنك حينما تتأّزم المور تلجأ إلى الواحد القهار‬
‫‪ ،‬تنسى لينين وتنسى ماركس وتنسى كل الزعماء وتنسى كل شيء وتذكر‬
‫الله الذي بيده كل شيء ‪.‬‬
‫سر النجاح في هذا السلوب التخييلي العظيم أنه مؤسس على قضايا صادقة‬
‫بصورة مطلقة ‪ ،‬والذين يريدون أن يستعملوا هذا السلوب بفاعلية ونجاح‬
‫ول‬‫سد أو أن نه ّ‬‫عليهم أن يدركوا أخطار هذه السلوب ‪ ،‬إننا حين نحاول أن نج ّ‬
‫فينبغي أن يكون الساس صحيحا ً ‪ ،‬فإذا كان الساس فاسدا ً على النحو الذي‬
‫يستعمله الناس في هذه اليام فسوف تنتهي المور إلى كارثة ‪ ،‬أنتم‬
‫تسمعون ‪ ،‬واسمحوا لي أن آخذ من الوقت دقائق خمسة ‪ ،‬تسمعون أجهزة‬

‫‪56‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫العلم ومبالغتها ‪ ،‬وتعرفون كلكم أن تسعة وتسعين مما يقال زيف وكذب‬
‫وباطل إن لم نقل إن الواحد الذي من تسع وتسعين هو كذلك زيف وباطل ‪،‬‬
‫على أي شيء يؤسس هذا ‪ ،‬إن القاعدة التي يؤسس عليها العلم المعاصر‬
‫تعتمد على أن النسان حينما تكرر عليه القضية باستمرار يأباها أول المر‬
‫ويأباها ثانيا ً وثالثا ُ ورابعا ً وخامسا ً وهكذا ‪ ..‬ولكنه مع التكرار يتقّبلها شيئا ً فشيئا ً‬
‫حتى يصدقها ‪ .‬وقاعدة أخرى تعتمد على هذه الظاهرة من الضعف البشري‬
‫ت أن‬ ‫قى المور ‪ ،‬فمثل ً أنت سمع َ‬ ‫الطبيعي ‪ ،‬ليس كل إنسان قادرا ً على أن يت ّ‬
‫القضية الفلنية حدثت كذا وكذا ‪ ،‬واجبك كإنسان وتحترم عقلك وتقدر موقفك‬
‫وتدرك أن خطواتك المبنية على التصديق أو التكذيب واجبك أن تتحرى وأن‬
‫تحقق ‪ ،‬لكن واحد من اللف هو الذي يصبر على التحقق ويتابع المور لكي‬
‫يصل إلى الحقيقة ‪ ،‬إل أن السواد العظم من الناس ل يصبرون على هذا ‪،‬‬
‫لذا هم يصدقون كل شيء بل سؤال أو تحقق ‪ ،‬ومن هذا باب ما يشاع في‬
‫العلم المعاصر من أننا نحن العرب ونحن المسلمين ل نقرأ ‪ ،‬إن ما يقال‬
‫بيننا وما يكَتب بيننا من أكاذيب ل نكلف أنفسنا مؤونة فحص مبلغها من‬
‫الصحة ‪ ،‬لكن هذا قليل ما يقوله عنا الجانب وما يبّيت لنا الجانب من خطط‬
‫ومن مؤامرات تستهدفنا وهو مكتوب في اللغات الجنبية بل حتى العربية‬
‫وهم مطمئنون بأننا أمة ل تقرأ ‪ ،‬وإذا قرأت ل تفهم ‪ ،‬لنها ل تكلف نفسها‬
‫مشقة البحث والتحليل والتحقق من صحة المور أو عدم صحتها ‪.‬‬
‫ومع ذلك فينبغي أن نعلم أن هذا الواقع الذي يعتمد عليه العلم المعاصر‬
‫واقع مرفوض من وجهة نظر السلم ‪ ،‬لماذا ؟ لنه يشكل حالة مرضية في‬
‫الوجود النساني ‪ ،‬ول يشكل حالة صحيحة ‪ ،‬لن الحالة الصحيحة هي ما أخبر‬
‫الله تعالى بقوله ) يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا‬
‫قوما ً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ( إن السلم خلق رجال ً يشعر‬
‫كل واحد منهم أنه يمّثل الكون برمته ‪ ،‬فهو من أجل ذلك أمين على هذه‬
‫الكينونة النسانية الصافية التي ل يمكن أن ينطوي عليها الزيف ‪.‬‬
‫أقول هذا وفي ذهني أن أنبه أننا ونحن نعرض قضايا السلم ينبغي أن ندرك‬
‫أخطار أسلوب التخييل والتمثيل ‪ ،‬إن هذا السلوب يجب أن يكون معتمدا ً ل‬
‫سيما في عرض قضايا الغيب ‪ ،‬ولكن على قواعد الصدق ‪ ،‬على قواعد‬
‫الحق ‪ ،‬فإذا تورطنا في استخدام هذا السلوب بشكل سيء فسوف نفشل ‪.‬‬
‫لقد كان هذا القرآن الذي نقرأه وهذا الذي نجابه منذ الن وإلى نهاية المرحلة‬
‫المكية نموذجه المثل مؤسسا ً على هذه القاعدة ‪ .‬ليس في القرآن قضية‬
‫ُتعَرض للدعاوى ول للعلم ول لستجاشة العواطف ول لثارة الغرائز ‪ ،‬ولكنها‬
‫إثارة لتجسيد الحقيقة حتى يتعّرف العقل عليها بكل أبعادها ‪.‬‬
‫في الجمعة القادمة أرجو من الله تعالى أن أمّر معكم كالبرق على بقية‬
‫السورة ‪ ،‬لننا أمامنا سورا ً عديدة أخرى تمشي على هذه الوتيرة ‪ ،‬نريد أن‬
‫نعرف ماذا أضافت ‪ .‬ومن الن فلنعرف أن سورة المرسلت أضافت على‬
‫سورة القيامة زيادة على الدلئل والشواهد والمؤيدات جوا ً ودلئل أخرى‬
‫تشير إلى قدرة الله جل وعل التي هي لزمة من لوازم اللوهية ول يمكن‬
‫تصور إمكان القيامة إل مع إثبات هذه القدرة التي ل يحدها حد ول يقيدها قيد‬
‫‪.‬‬
‫والله جل وعل أسأل أن ينفعنا والمسلمين بهذا القرآن ‪ ..‬وصلى الله على‬
‫سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ‪ ،‬والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫‪57‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تفسير سورة المرسلت‬


‫الجمعة ‪ 13‬شعبان ‪ 29 / 1397‬تموز ‪1977‬‬
‫) ‪ 3‬من ‪( 4‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫وقفنا معكم في الجمعة الماضية عند مطالع سورة المرسلت ‪ ،‬ووجدنا أن‬
‫من اللزم أن نتعرف على بعض خصائص أسلوب القرآن الكريم في عرض‬
‫القضايا والمشكلت ومعالجتها ‪ ،‬ولما كنا بصدد الوقوف فترة طويلة جدا ً عند‬
‫أسلوب التخييل والتمثيل واستحياء المشاهد وعرضها على الناس مفعمة‬
‫بالحركة والحيوية يقرأها القارئ في كتاب الله أو يسمعها من أفواه الخرين‬
‫فيحس أنه أمام مشهد حي واقعي تنفعل معه أحاسيسه وتتجاوب معه‬
‫مشاعره ويتحرك من أجل ذلك عقله ‪ ،‬فوجدنا أن من الضروري أن نتحدث‬
‫عن حكمة استخدام هذا السلوب في القرآن الكريم ومجال استخدامه ومدى‬
‫قدرة الناس على الستفادة من هذا السلوب ‪.‬‬
‫ً‬
‫وبالرغم من حديثنا حول هذه القضية قد أثار عند بعض الخوة شيئا من‬
‫الشكالت فأحب أن أقول إن الذي يطلب منا أن نوضح كل شيء بحيث‬
‫يصبح مفهوما ً لجميع مستويات الناس يطلب المستحيل ‪ .‬إن طبيعة الموقف‬
‫هنا ل تسمح بعرض كثير من المور على نحو مدرسي بحت ‪ ،‬وإن على كل‬
‫أخ يحضر الجمعة أن يحضرها وهو يدرك جيدا ً أن عليه قسطا ً كبيرا ً من‬
‫الواجب تجاه المهمة التي يقوم بها الخطيب وهي أن يشارك بفكره وأن‬
‫يقدم ما يستطيع من جهده من أجل الوصول إلى فهم أفضل ‪ ،‬زد على ذلك‬
‫أنني قلت مرارا ً أن ثمة أمورا ً يجني عليها التبسيط لن التبسيط يخرجها إلى‬
‫حد السفاف والبتذال ‪ ،‬ولنها بطبيعة تكوينها غير قابلة لهذا التبسيط ‪.‬‬
‫إن المسألة التي وقفنا عندها معظم الوقت في الجمعة الماضية مسألة‬
‫تتعلق بالخصائص الذاتية لهذه اللغة الشريفة التي نزل بها القرآن الكريم ‪،‬‬
‫صل الناس تلك الملكة العزيزة‬ ‫وأحسب أنه سيمضي زمن طويل قبل أن يح ّ‬
‫النادرة التي كان يتحلى بها العرب والتي كانت تعينهم على الفهم الصحيح‬
‫والدراك الصائب لخصائص الكلم المنزل من ربنا جل وعل ‪.‬‬
‫واليوم أريد أن أمضي مع السورة ملمسا ً رؤوس القضايا أو القضية التي‬
‫تثيرها بفروعها وشعبها ‪ ،‬غير غافل عن ضرورة التنبيه مقدما ً إلى أن الذي‬
‫يدفعنا إلى وقفات قد تطول في بعض الحيان عند بعض الظاهرات في‬
‫الحركة أو أسلوب المعالجة أو القضايا ‪ ،‬ل بد أن نطيل الوقوف عندها لنها‬
‫ستشغل حيزا ً كبيرا ً جدا ً ‪ .‬ل أدري لعلكم تذكرون أنني قلت لكم وأنا أتحدث‬
‫عن سورة الطارق إن الدعوة السلمية ابتداًء من هذا التاريخ دخلت طورا ً‬
‫ل مهاترات ومجادلت بالباطل ونظرة أناس إلى‬ ‫جديدا ً كانت القضية من قب ُ‬
‫الدعوة يحسون بالستكبار وأن هذه الدعوة غير جديرة بالهتمام ‪ ،‬لكنه ابتداًء‬
‫من سورة الطارق فإن الدعوة بدأت تواجه المشكلت الحقيقية المتعلقة‬
‫بصميم عملية البناء ‪ ،‬ومنذ سورة القارعة وإلى الن وإلى مرحلة تالية قد‬
‫تطول فنحن سنرود من عالم الغيب مساحات شاسعة ‪ ،‬وقلت في الجمعة‬
‫الماضية إن أسلوب التخييل والتمثيل وإحياء المشاهد استخدم في القرآن‬
‫على وجه الخصوص في ميادين عالم الغيب لن هذه الميادين هي التي تنجع‬
‫فيها السلوب من هذا القبيل ‪.‬‬
‫ونحن سوف نواجه هذه المشكلت منذ الن ‪ ،‬ولحظوا كيف تتفرع قضايا‬

‫‪58‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الغيب بعضها على بعض ‪ ،‬في القارعة وما وليها كان الكلم على يوم الخر‬
‫يشبه أن يكون مجردا ً ‪ ،‬وحتى جاءت سورة القيامة فعرضت قضية يوم الخر‬
‫بشواهدها وأدلتها وأساليبها المختلفة ‪ ،‬لكن الناس هم الناس في كل زمان‬
‫ومكان بالرغم من أننا لحظنا خلل سياحتنا الطويلة منذ بداية التنزيل وإلى‬
‫الن أن الله تعال ل يترك مناسبة إل ويجلو أمام أنظار الناس طبيعة العوامل‬
‫التي تصرفهم عن القتناع بالحقيقة والتزام الحقيقة والوقوف مع الحقيقة‬
‫والدفاع عنها ‪ ،‬النسان الغارق بالشهوات ‪ ،‬والمبتلى بالمنكرات ‪ ،‬النسان‬
‫الذي لم يتحرر بعد من عبوديته لذاته بما تمور به من مطامع وأهواء ‪ ،‬هذا‬
‫النسان ل يزال في حد غير العبودية لله تعالى ‪ ،‬ول يزال غير قادر على أن‬
‫يملك أسباب التحرر الذاتي الذي هو الشرط الذي ل غنى عنه لسلمة النظر‬
‫والحكم ولتحديد المواقف ‪.‬‬
‫إن السلم كما رأيتم خلل المسيرة الماضية كلها أكد على موضوع الوحدانية‬
‫منذ أول حرف نزل من القرآن ‪ ،‬وشدد على موضوع عبودية النسان لله‬
‫تعالى ‪ ،‬هل معنى ذلك أن الله يريد أن يرهق النسان بأثقال هذه العبودية‬
‫وبتكاليفها ‪ ،‬أبدا ً ‪ ،‬ليس المر على هذه الشاكلة ‪ ،‬وإنما الهدف كله يتركز في‬
‫أمر بسيط ‪ ،‬إن النسان كما نراه يعيش على الطبيعة وبصورة ميدانية إنسان‬
‫موزع النفس ومشتت القلب ومبدد التفكير ‪ ،‬وبالتالي مهدر الطاقة ‪ ،‬أي أنه‬
‫كائن ل يستخدم الفاعليات الموجودة فيه استخداما ً على قدر معقول من‬
‫التفاؤل ‪ ،‬فهو بهذه المثابة إنسان يعطل عن عمد وإصرار قوى وطاقات‬
‫وإمكانات مفروض أن تخدم الغاية العليا التي نزل القرآن وجاءت هذه‬
‫الدعوة لتأكيدها بين الناس ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫حين شدد الله جل وعل على ضرورة أن يخلع النسان من عنقه كل ما يشده‬
‫إلى أغراض الحياة وكل ما يوزع نفسه ويشتت فكره ويبدد أهواءه وطاقاته‬
‫ليحصرها في الله تعالى فمعنى هذا أن السلم يريد أن يبلغ بالنسان ذروة‬
‫الحرية ‪ .‬إن النسان الذي يدين لله فقط بالعبودية هو وحده النسان الحر ‪،‬‬
‫حرية كاملة وصحيحة غير منتقصة ‪ ،‬وهو أيضا ً إنسان يسود نفسه ويملك‬
‫نفسه ‪ ،‬ول تستعبده نفسه ‪ ،‬ول تضغط عليه شهواته ‪ .‬فهو إذا ً أمام الحقيقة‬
‫بدون ضغوط يستطيع أن يلتزم بها أو أن يقتنع بها وأن يفي لها وأن ينافح من‬
‫أجلها حتى النهاية ‪ .‬غير هذا النسان ل يصلح ‪ .‬قد يصلح في أي مكان تضعه‬
‫فيه من هذه الدنيا ‪ ،‬لكنه في ميدان الدعوة وفي ميدان الله تعالى وفي‬
‫ميدان السلم إنسان ل يصلح بتاتا ً ‪.‬‬
‫لكن المشكلة ليست في أن يقّر بالمبدأ من حيث هو مبدأ ‪ ،‬وحتى الذين‬
‫يعبدون الحجارة والذين يدعون مع الله آلهة أخرى ما زعموا أن هؤلء‬
‫يخلقون ويرزقون ولكنهم قالوا ‪ :‬شفعاؤنا عند الله ‪ ،‬قالوا ‪ :‬أبناء الله وبناته ‪،‬‬
‫قالوا ‪ :‬شركاء الله ولكن في مرتبة أدنى ‪ .‬فأصل القضية مقرر عند وعند‬
‫المؤمن ‪ ،‬والمعضلة ليست هنا ‪ ،‬المعضلة أن تعرف حقا ً ما هو هذا الله الذي‬
‫تعبده ‪ ،‬وما هو قدرته وما هو جبروته ‪ ،‬وما مكانه من هذا الكون ؟ إذا‬
‫استقامت لك الفكرة عن الله تعالى فأنت إذا ً على باب التوحيد ‪ ،‬وإذا لم‬
‫تستقم لك الفكرة في الله تعالى فأنت إذا ً بعيد عن التوحيد ‪.‬‬
‫هذا على صعيد النظرية ‪ ،‬لكن على صعيد التطبيق وهو ما يسهل عليكم‬
‫ملحظته وإدراكه ‪ ،‬حينما يعرض لك أمران أحدهما لله والخر للدنيا ‪ ،‬أحدهما‬

‫‪59‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫للدين والخر للهوى والشهوة والطمع وسائر الجواذب الرضية الخرى ‪ ..‬فإذا‬
‫ت‬‫كنت شجاعا ً قادرا ً على أن تمتحن نفسك فذلك هو الميزان ‪ ،‬إذا أنت آثر َ‬
‫ت قضية السلم ووقفت مع حدود الدين فأنت في باب‬ ‫مرضاة الله واختر َ‬
‫ت‬
‫َ‬ ‫وانقد‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫جانب‬ ‫الله‬ ‫أمر‬ ‫وتركت‬ ‫شهواتك‬ ‫وصرعتك‬ ‫نفسك‬ ‫قهرتك‬ ‫اليمان ‪ ،‬وإذا‬
‫لما سوى ذلك فأنت خليق بك أن تبكي على نفسك ‪ ،‬لنك فوق على أنك‬
‫إنسان ناقص التفكير فأنت إنسان يمارس على نفسه تضليل ً بالغ الخطورة‬
‫لنه سيدمر نفسك تدميرا ً كامل ً ‪.‬‬
‫إن موضوع القيامة حينما ُأثير ُأشير في سورة القيامة بالدلئل والشواهد‬
‫الكافية ‪ ،‬ولكن حينما يأتيك إنسان ل يعرف عن الله جل وعل الصفات الواجبة‬
‫للله التي يجب إثباتها لله جل وعل فالمر يصبح مشكلة ‪ ،‬وليست المسألة‬
‫مسألة عامية وغير عامية ‪ ،‬أي ليست المسألة مسألة جهل وثقافة ‪ ،‬فنحن‬
‫لدينا الن وبعد هذه المسيرة الطويلة من تاريخ الجنس البشري ومن تجاربه‬
‫الكبيرة والكثيرة والمختلفة الصقاع والزمان لدينا ما يشهد على ضلل الفكر‬
‫تؤدي إلى ارتباكات ل نهاية لها ‪.‬‬
‫الفلسفة القدامى وهم قيمة الفكر النساني بل ريب ولهم في مجال التفكير‬
‫إبداعات ما تزال حتى الن شاهدة على عظمة النسان وعلى جبروته وعلى‬
‫مدى ما يستطيع أن يبلغه هذا النسان ‪ .‬لكن النسان ما لم يكن له مدد من‬
‫الله تعالى فهو ل بد أن يسقط لنه ضعيف مغلوب على أمره ‪:‬‬
‫إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده‬

‫)‪(2 /‬‬

‫إن الفلسفة القدامى والمحدثين والمعاصرين لديهم هذه النطباعة الولية‬


‫عن الذات اللهية أو عن القدرة التي انبثقت عنها الكوان والتي صدرت عنها‬
‫هذه الموجودات ‪ ،‬لكن ما كنهها وما أوصافها ؟ ذلك شيء يمسكون عنه ‪ .‬في‬
‫تاريخ الفكرة النساني تيار يعرفه المطلعون أقل اطلع على تاريخ الفكر‬
‫النساني يقولون إن هذا الكون كله صدر عن ذات واحدة ل تنقسم ول تتعدد‬
‫ول تقبل الشركة في حال من الحوال ‪ ،‬ولكن هذه القوة بعد أن صدر عنها‬
‫هذا الكون تعالت عن الكون فلم تعد تهتم به ول تكترث له ول تعتني بتدبيره‬
‫بحال من الحوال ‪ .‬فكرة قد يصور لبعض الناس أنها من المغالة في التنزيه‬
‫وفي التوحيد ‪ ،‬إن كثيرا ً من الناس يكبر عليهم أن يتصوروا الله الخالق‬
‫المبدع العميم الخير العظيم القدرة معنيا ً ومشغول ً بإدارة شئون الكون يشبه‬
‫أن يكون مديرا ً لمؤسسة كبرى يصرف شؤونها ويطلع على كل مما فيها من‬
‫صغيرة وكبيرة ‪ ،‬كثير من الناس يرون هذا التصور ل يليق بمقام اللوهية ‪،‬‬
‫لكن لو تركناهم والتصورات وقلنا لهم تعالوا معنا إلى واقع الحياة ‪ ،‬تعالوا إلى‬
‫مسيرة النسانية ما الذي ترتب ويترتب على اعتماد فكرة من هذا القبيل ؟‬
‫يترتب على ذلك أن النسان من حيث هو ذات يشعر أنه في هذا الكون وحده‬
‫ل عناية واهتمام ‪ ،‬غريب وفي كل ما في الغربة من قسوة وبكل ما فيها من‬
‫معاني الضيعة ‪ ،‬ما الذي ينتج من ذلك ؟ ينتج من ذلك أن النسان يناغي‬
‫نفسه ويعتمد عليها ‪ ،‬وأنه ل سند له ول معين له من خارج نفسه ‪ ،‬فمن أجل‬
‫ذلك يكون أمر الناس في الصغيرة والكبيرة موكول ً إلى الطاقة البشرية وإلى‬
‫الجهد البشري وموكول ً إلى السير في طريق التجربة والخطأ والصواب ‪،‬‬
‫بحيث ينتظر النسان تراكمات الزمن أن تصحح له المسيرة ‪ ،‬لكن شاهد‬
‫التاريخ يقول لنا غير هذا ‪ ،‬إن شاهد التاريخ عندنا يقول إن الضلل الذي عاش‬

‫‪60‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫مع النسان في الماضي السحيق ما يزال يصاحبه حتى الن ‪ ،‬نفس الضلل‬
‫ونفس العبودية ونفس الشهوات ونفس الرتباكات الخطيرة ونفس العقد‬
‫التي يرزح الناس تحتها ‪ ،‬نفس المظالم ‪ ،‬نفس كل ما عانت وتعاني النسانية‬
‫‪ ،‬كل شيء ترونه الن له أصله الذي كان موجودا ً في السابق ‪ .‬الحصيلة التي‬
‫نخرج بها من تحليل من هذا القبيل هي أن السلم كان حكيما ً غاية الحكمة‬
‫ور للمسلمين وللناس الله على غير الصورة التي كان يتصورها‬ ‫حين ص ّ‬
‫الناس والتي ما يزال كثير من الناس يتصورونها الن ‪.‬‬
‫ً‬
‫بعد أن تحدثت سورة القيامة عن اليوم الخر كأن كثيرا من الناس شككوا‬
‫في مسألة إمكان اليوم الخر ‪ ،‬في القدرة على إحياء من مات من الناس ‪،‬‬
‫هذه خصيصة من خصائص الله ‪ ،‬إن الله لكي يكون إلها ً حقا ً ينبغي أن يكون‬
‫مقتدرا ً على كل شيء وينبغي أن تكون إرادته طليقة ل يحدها حد ول يقيدها‬
‫قيد ‪ ،‬وإل فل يمكن أن يكون إلها ً على غير هذه الصورة ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫جئنا إلى سورة المرسلت ‪ ،‬في سورة المرسلت ظلل وإيماءات وإيحاءات‬
‫ت السورة بإمعان وروية‬ ‫إلى دلئل ذات قيمة على اليوم الخر ‪ ،‬لكنك لو قرأ َ‬
‫فأنت تلحظ أمرين ‪ ،‬تلحظ أن الفرق بين عرض القضية في السور السابقة‬
‫وعرضها في سورة المرسلت يتركز جوهريا ً في أن الله تعالى من أول‬
‫السورة إلى آخر السورة عرض القضية على صورة التخييل والتمثيل ‪،‬‬
‫عرضها واقعا ً حيا ً تشهده وتحسه به وتنفعل معه ‪ ،‬وعرضها على صورة‬
‫تساؤلت ‪ ،‬وعرضها ضمن إطار يوحي إليك أنك في موقف الحساب وأنك‬
‫ت عليه قدرته‬ ‫ُتسأل ‪ ،‬تشعر أنك ُتسأل أمام الواحد الديان ‪ ،‬هذا الذي أنكر َ‬
‫في أن يبعثك من بعد الموت ‪ ،‬لفت نظرك في فواتح السورة إلى ما حولك ‪،‬‬
‫انظر ‪ ،‬أنت تعيش في كون يفترض أنك ل تجهله ‪ ،‬هذا الكون له ظاهرات‬
‫ت أن تغلق عينيك عنها وأن تسد أذنيك عنها لما كان لك‬ ‫أنت تعيشها ‪ ،‬لو حاول َ‬
‫إلى ذلك سبيل ‪ ،‬فانظر إليها إنها تشهد لك على قدرة القادر القاهر الواحد‬
‫الديان ‪ ،‬وتجعلك تقتنع بأن الذي خلقك ابتداًء قادر على أن يعيدك مرة أخرى‬
‫ت ل تريد أن تنظر إلى ما حولك‬ ‫متى شاء وعلى النحو الذي شاء ‪ ،‬فإن كن َ‬
‫فأنت كائن تاريخي ‪ ،‬وتعلمون ما معنى الكائن التاريخي ‪ ،‬هذا كائن ولكنه‬
‫جماد وليس له تاريخ ‪ ،‬لكنك أنت أيها النسان سللة مخلوقات مضت قبلك ‪،‬‬
‫خلقها الله كما خلقك ‪ ،‬وأماتها كما سوف يميتك ‪ ،‬فأنت تضرب في أصولك‬
‫في الزمان وفي المكان ‪ ،‬أنت إنسان تاريخي مضت قبلك أجيال ‪ ،‬ماذا‬
‫كانت ؟ اسمعوا ‪ ،‬بأسلوب التساؤل بل بأسلوب السؤال ‪ ،‬كأنما الله جاء بك‬
‫في الموقف يوم يقوم الناس لرب العالمين ليسألك ‪ :‬لماذا لم تصدق‬
‫برسولي الذي جاء من عندي ؟ أكبر عليك ذلك ولماذا يكبر عليك ذلك ؟ أأنت‬
‫ت ذرية قوم‬ ‫فذ وبديع في هذا الكون ؟ ألم يكن لك آباء وأجداد ؟ ألس َ‬
‫ت ؟ ) ألم نهلك الولين ‪ ،‬ثم نتبعهم الخرين ‪ ،‬كذلك نفعل‬ ‫آخرين ؟ فأين كن َ‬
‫بالمجرمين ( والسؤال هنا أو المحاسبة ل ينصب على الجنس كله ‪ ،‬ولكن‬
‫ينصب على صنف من الناس ‪ ،‬هذا الصنف الذي ما قدر الله حق قدره إذ قال‬
‫إن الله ل يقدر على العادة بعد الماتة ‪ ،‬ولكنه ينصب على أمم مضت من‬
‫عرضت لهم الدلئل والشواهد والمؤيدات‬ ‫قبل ‪ ،‬جاءتهم رسلهم بالبينات و ُ‬
‫كروا بعد غفلة ‪ ،‬وُأوقظوا بعد نوم ‪ ،‬ثم أصروا على التكذيب ) ألم نهلك‬ ‫وذ ُ ّ‬
‫الولين ‪ ،‬ثم نتبعهم الخرين ‪ ،‬كذلك نفعل بالمجرمين ( إلى ما أح ّ‬
‫ل الله تعالى‬

‫‪61‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بالمم المكذبة من بطشه وسطوته ونقمته ‪ ،‬فكأنه يريد أن يقول لك بلسان‬


‫ت على ركوب‬ ‫ذب له شاهد إنك إن أصرر َ‬ ‫التاريخ الذي ل ُتدَفع له حجة ول ُيك َ‬
‫ت في الكون بدعا ً وليس في يدك من الله‬ ‫طريق العناد والتكذيب فأنت لس َ‬
‫ميثاق أن قضاءه وقدره وأن سنته في الكون لم تطالك ‪ ،‬أنت واحد من‬
‫الناس وأنتم أمة من المم وأنتم خلق من خلق الله جل وعل ‪ ،‬كما كذبت‬
‫المم السابقة فأصابها ما أصابها مما ل يخفى عليكم ومما تناقلته آباؤكم عن‬
‫آبائهم وصل إليكم خبره ونبأه وعلمه فكذلك أنتم إن كذبتم رسولنا فسيحل‬
‫ل بالمم الماضية ) كذلك نفعل بالمجرمين ( واستعمال‬ ‫بكم ذات الذي ح ّ‬
‫كلمة المجرمين هنا استعمال له دللته التاريخية المعينة ‪ ،‬إن الجريمة جريمة‬
‫ولها ظلها في ذهن كل إنسان ‪ ،‬فما علقتها في هذا الموقف ؟ العلقة يمكن‬
‫اكتشافها بسهولة ‪ ،‬إن هذا القرآن الذي تقرأه أيها المسلم هو الرث الذي‬
‫تناقلته النبياء وانتهى إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأودعك هذا الرسول‬
‫العظيم إياه لكي تحمله إلى الناس إلى آخر الزمان ‪ ،‬فما بعد القرآن كتاب‬
‫وما بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي ‪ ،‬وتركزت المسؤولية على المة‬
‫المسلمة ‪ .‬ما نتيجة الخلل بجملة هذه التعاليم التي يطرحها عليك هذا‬
‫الكتاب ؟ ما عاقبة ذلك ؟ عاقبة ذلك دمار البشرية ‪ ،‬وعاقبة ذلك ترك الناس‬
‫فوضى يقودهم أهل الهواء وأصحاب المطامع ول يبالون أفلح الناس أم‬
‫فسدوا ‪ ،‬استقامت حياتهم أم اعوجت ‪ ،‬ملء البطن وإرواء الفرج وتحصيل‬
‫الحطام ‪ ،‬أما أن يكون ذلك على حساب الناس وعلى تلل من الجماجم‬
‫والرؤوس فذلك شيء آخر ل ينظرون إليه ول يلتفتون نحوه ‪ ،‬من نتيجة‬
‫ذلك ؟ جريمة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ‪ ،‬ل بحق فرد ول بحق أمة‬
‫ولكن بحق النسانية جميعا ً ‪ ،‬إن أمتنا المحمدية اليوم لو ُأتيح لفرادها أن‬
‫يواجهوا أنفسهم بشجاعة وبصراحة وبحرية لعرفوا أنهم فعل ً مجرمون ‪،‬‬
‫مجرمون بحق أنفسهم وبالتالي بحق البشرية جميعا ً ‪ ،‬متى عرفتم في تاريخ‬
‫النسانية كل هذا الدمار وكل هذا التقتيل وكل هذا الهلك ؟ متى عرفتم ذلك‬
‫إل في حال غياب هذه المة عن مسرح التاريخ ؟ إن الناس كلهم وكل أمم‬
‫الرض كانت تعلم أن ثمة أمة تحمل في يدها ميزان العدل والحق والخير هي‬
‫أمة السلم ‪ ،‬كانت مأوى المظلومين وملذ المكروبين والمثابة التي يفيء‬
‫إليها كل هارب من الظلم والبغي والعدوان ‪ ،‬وما زالت تنحدر هذه المة حتى‬
‫كن منها عدوها ‪ ،‬وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه نبهنا في‬ ‫تم ّ‬
‫حديث شريف له بأن الضعف سيحل بنا حتى‬

‫)‪(4 /‬‬

‫يطمع بنا من لم يكن نفسه تحدثه بالطمع بنا ‪ ،‬بل حتى ينتزع من أراضيها‬
‫ونصبح غثاًء كغثاء السيل ‪ ،‬وقد كان ما قاله محمد عليه الصلة والسلم ‪.‬‬
‫ما حصيلة ذلك ‪ ،‬لستم بحاجة إلى تتبع رقعة العالم لتعرفوا مدى الخراب‬
‫والدمار الذي تمارسه قوى الشر والبغي والعدوان على النسان من حيث هو‬
‫إنسان ‪ ،‬أنتم بحسبكم أن تنظروا إلى الواقع الذي تعيشون فيه لتروا أية هوة‬
‫مخيفة وعميقة التي تقف المة على شفيرها وتكاد أن تتردى فيها ‪ .‬ما‬
‫السبب في ذلك ؟ السبب أننا أصبنا بنفس الداء الذي كانت المة التي‬
‫خوطبت بالقرآن مصابة بها ‪ ،‬نحن تركنا أمر الله ‪ ،‬لننا لم نعد نعرف الله جل‬
‫وعل على النحو الذي ينبغي أن نعرفه عليه ‪ ،‬إننا نقول ل إله إل الله ‪ ،‬ولكن‬
‫في الواقع نحن نشّرك مع الله آلهة أخرى ‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫انظر إلى نفسك أيها البائع في سوقك في دكانك حينما يأتيك ما تشره إليك‬
‫نفسك من طمع وتجد من أخيك المشتري غرة فتقتنص هذه الغفلة لتحقق‬
‫لنفسك مكسبا ً على حسابه ‪ ،‬إنك غالبا ً ما تتردد ‪ ،‬فأين الله وأين قولك ل إله‬
‫إل الله ‪ ،‬إن قولك ل إله إل الله يتقاضاك أن تستحضر هيبة الله وخشية الله‬
‫في السر والعلن ‪ .‬أنتم الن ترون أن الناس يتراكضون شرقا ً وغربا ً وشمال ً‬
‫وجنوبا ً من أجل مهزلة ل أسخف منها ول أقتل منها لهذه المة ‪ ،‬كلكم تصلون‬
‫وكلكم تقولون ل إله إل الله ولكنكم بعد خروجكم من المسجد إل من عصم‬
‫الله تجدون أنفسكم مجرورين من لحاكم لتركضوا في التيار الضار الذي‬
‫يدعو إلى مناهج الشيطان وإلى نكران الله جل وعل ‪.‬‬
‫فأين الله وأين وحدانية الله ‪ ،‬إن معنى وحدانية الله جل وعل أنك تقدر تحت‬
‫ت الناس‬ ‫كل الظروف وفي جميع الشروط أن تقف مع الله وحده ولو أغضب َ‬
‫كلهم ‪ ،‬إن هذه الخصيصة مفقودة في هذه المة أو شبه مفقودة في هذه‬
‫المة ‪ ،‬وهذه الخصيصة بالذات هي التي جاءت سور القرآن لتستحييها في‬
‫ون طرازا ً جديدا ً من الناس ‪.‬‬
‫نفوس الناس ‪ ،‬لماذا ؟ لتك ّ‬
‫ً‬
‫إننا يجب أن نعلم أن سور القرآن انصبت أساسا في المرحلة المكية على‬
‫التالي ‪ :‬إننا أمام واقع يستعبد الناس فيه بعضهم بعضا ً ‪ ،‬ويقطعون صلتهم‬
‫وه صورة الحياة عندهم ويبتدعون لنفسهم تقاليد‬ ‫بالله جل وعل ‪ ،‬فتتش ّ‬
‫وأعراس ومناهج ونظما ً هي في صميمها وفي أصل تكوينها قاصرة وناقصة‬
‫وبالتالي مدمرة ‪ ،‬إننا يجب أن نصحح النظرة قبل كل شيء ‪ ،‬ما مقامك أيها‬
‫النسان في هذه الحياة ؟ أأنت خالد مخلد ؟ هل هذه الدنيا سرمدية ؟ هذه‬
‫هي النقطة التي وقف السلم عندها طويل ً ‪ ،‬فأبان منذ البداية أنك في هذا‬
‫الكون الطارئ ضيف غريب وصدق رسول الله حينما قال ) كن في الدنيا‬
‫كأنك غريب أو عابر سبيل ( وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما‬
‫هاجر إلى المدينة وبدأ الصحاب رضوان الله عليهم بعد الفراغ من بناء‬
‫المسجد النبوي يبنون له بيته صلوات الله عليه فأرادوا أن يشيدوه ويعلوه‬
‫فقال لهم ‪ :‬المر أعجل من ذلك ‪ ،‬إن مثلي كمثل راكب استظل بظل شجرة‬
‫ثم راح عنها وتركها ‪ .‬ذلك هو وضع النسان في هذه الحياة ‪ ،‬حياة واحدة ذو‬
‫مرحلتين ‪ ،‬دنيا وأخرى ول شيء وراء ذلك ‪ ،‬وحين يغفل النسان عن هذه‬
‫الحقيقة يسقط في عبودية الدنيا ‪ ،‬يرى أن هذه الحياة هي كل شيء ‪ ،‬وهذا‬
‫وغ للقرآن أن يقف طويل ً عند هذه‬ ‫هو الخطأ والخطر وهذا هو الذي س ّ‬
‫النقطة التي توقظ النسان إلى هذه الحقيقة ‪.‬‬
‫إن مقامك أيها النسان في هذه الدنيا قليل ‪ ،‬أيام أو شهور أو سنوات ‪ ،‬ثم‬
‫بعد ذلك المنقلب والمصير إلى الله جل وعل ‪ ،‬فإذا وقر في ذهنك أنه ل‬
‫مرجع ول معاد ‪ ،‬فأنت في الواقع مجرم ‪ .‬لكن هل المسألة سهلة ؟ ل ‪ ،‬يجب‬
‫أن ل نكون أغبياء وأن ل نبسط المور أكثر مما ينبغي ‪ ،‬إن المسألة بحاجة‬
‫إلى نموذج جديد كل الجدة من النسانية ‪ ،‬إننا بحاجة إلى تكوين النسان‬
‫الرباني ‪ ،‬بل إلى تكوين النسان الكوني بكل معنى الكلمة ‪ .‬النسان الكوني‬
‫هو ذلك النسان الذي يعرف أنه ُوجد في هذا الزمان وهذا الموقع لداء غاية‬
‫معينة إذا أداها مضى إلى سبيله كدحا ً إلى الله جل وعل لكي يقدم الحساب ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫والنسان غير الكوني هو ذلك النسان الذي يقول قولة الفاجرين ‪ :‬نموت‬
‫ونحيا وما يهلكنا إل الدهر ‪ .‬والله شدد غاية الشدة فيما يتعلق في هذه الناحية‬

‫‪63‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪ ،‬تقرأون في سورة المؤمن قول الرجل الصالح ) يا قومي إن هذه الدنيا‬


‫متاع وإن الخرة هي دار القرار ( وتسمعون قول الله تعالى ) قل متاع الدنيا‬
‫قليل والخرة خير لمن اتقى ول ُتظلمون فتيل ً ( وإذا وقفتم عند آيات معينة‬
‫من العهد المدني فستجدون الله جل وعل يعرض هذه القضية بمعرض يصور‬
‫الخطورة البالغة على البشرية وعلى المسلمين بصورة خاصة ) يا أيها الذين‬
‫آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الرض أرضيتم‬
‫بالحياة الدنيا من الخرة فما متاع الحياة الدنيا في الخرة إل قليل ( ولكن هل‬
‫انتهت المور عند هذا الحد ؟ أبدا ً ‪ ،‬إن حكمة الية تأتي بعد ذلك ) إل تنفروا‬
‫يعذبكم عذابا ً أليما ً ويستبدل قوما ً غيركم ول تضروه شيئا ً والله على كل‬
‫شيء قدير ( فالية تضمنت أمورا ً ثلثة ينبغي أن ل تغيب عن العاقل أبدا ً ‪،‬‬
‫عاقبة التثاقل إلى الرض ‪ ،‬ونسيان أن الدنيا في جنب الخرة قليل ‪ ،‬تتركز‬
‫أول ً في أن الله تعالى سيحل العقوبة بأصحاب هذا العتقاد ‪ ،‬لماذا ؟ لن‬
‫القضية ليست توجيها ً أخلقيا ً ولكنها ناموس كوني ‪ ،‬وكل من يعتدي على‬
‫نواميس الكوني يعاقب ‪ ،‬هذه العقوبة الرهيبة التي هي الدمار والمحو‬
‫والهلك والستئصال ) يعذبكم عذابا ً أليما ً ويستبدل قوما ً غيركم ( ما معنى‬
‫أن يستبدل الله تعالى قوما ً غيرنا ؟ معناه أن ُيطرد الغرور من نفس النسان‬
‫ومن نفوس المم ‪ ،‬حينما تتصور أن انتماءها إلى السلم اسما ً بدون معنى ‪،‬‬
‫وجسما ً بدون روح ‪ ،‬يعصم من الكوارث والنكبات ‪ ،‬إن الدين هو دين الله‬
‫وليس هو صنعتك يا أيها النسان ‪ .‬وإنه وديعة الله عندك استخلفك الله‬
‫عليها ‪ ،‬فحين تخل بشرائط الستخلف وتخون أمانة الله عندك وتنقض عهد‬
‫الله وميثاقه وتقطع ما أمر الله به أن يوصل وتفسد في الرض فأنت لست‬
‫بمحل من الكرامة على الله الذي يصبر عليك إلى ما ل نهاية ‪ ،‬إن دينه سوف‬
‫يوكل إلى أقوام هم خير منك وأتقى منك وأصلب عودا ً منك وأقدر على‬
‫المضي بالرسالة منك ‪.‬‬
‫ً‬
‫ثم ) ولن تضروا الله شيئا ( ثمة فاصل حاسم بين الخالق والمخلوق ‪ ،‬إن‬
‫خلقت وإلى أن يأخذها الله ل تساوي شيئا ً عند الله‬‫الدنيا بحزافيرها منذ ُ‬
‫تعالى ‪ ،‬إذا كان يقول لك ‪ :‬قل متاع الدنيا قليل ‪ .‬فمن أنت في هذا القليل ؟‬
‫وأين تقع شهواتك ورغباتك من هذا المتاع الذي هو كل الدنيا ‪ ،‬بماضيها‬
‫وحاضرها ومستقبلها ‪ ،‬إن الله جل وعل حين يقول ) ولن تضروه شيئا ً ( يعني‬
‫أن يقيم الفاصل الحاسم بينك وبينه ‪ ،‬فالرب رب والعبد عبد ‪ ،‬العبد عاجز‬
‫ضعيف متكل ومفتقر إلى الله ) يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو‬
‫ص فيه نبأ‬ ‫الغني الحميد ( في حديث لبن عباس رضي الله عنهما الذي اقت ّ‬
‫الخضر وموسى عليهما السلم جاء في جزء من الحديث أنهما حينما كانا‬
‫يتحاوران والحديث وارد في دواوين السنة كلها عن رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم قال الخضر لموسى ‪ :‬يا موسى إنك على علم من عند الله ل‬
‫أعلمه ‪ ،‬وأنا على علم من علم الله ل تعلمه ‪ ،‬وبينما هما يتحاوران جاء طائر‬
‫فحط على شراع السفينة ثم نزل فنقر بمنقاره حسوة من ماء البحر ‪ ،‬لفت‬
‫الخضر نظر موسى عليه السلم قال ‪ :‬أرأيت كم رزأ هذا الطائر البحر ؟ أي‬
‫كر ‪ ،‬قال ‪ :‬فالدنيا كلها عند الله تعالى‬ ‫كم حمل من البحر ‪ ،‬قال ‪ :‬ل شيء ُيذ َ‬
‫ل تساوي عند الله هذه الحسوة التي أخذها الطائر ‪.‬‬
‫إن الله جل وعل لن تنفعه طاعة الطائع كما لن تضره معصية العاصي ‪ ،‬لذا‬
‫يجب على النسان أن يعلم ذلك حق العلم ‪ ،‬فإن كان نفع فهو للنسان عائد ‪،‬‬
‫وإن كان ضرر فعلى النسان ُيراح ‪ ،‬والله جل وعل فوق ذلك كله ‪ ،‬ماذا سبب‬
‫أن يركز الله تعالى هذه العقوبات الماحقة الثلث بعد قوله ) فما متاع الحياة‬

‫‪64‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الدنيا في الخرة إل قليل ( سبب ذلك أن الله أراد حينما يبدأ ببناء النسان‬
‫الرباني والنسان الكوني أن يكون هذا النسان مستوفزا ً حاضرا ً لتلبية نداء‬
‫الله جل وعل ‪ ،‬يعرف أن هذه الدنيا ليست له قرارا ً وليست له وطنا ً وأن‬
‫المصير إلى الله وأن الجنة أبدا ً أو النار أبدا ً ‪ ،‬فهو من أجل ذلك على وجل‬
‫وخوف من الله تعالى من عواقب التقصير وعواقب الخلل ‪.‬‬
‫إن المسألة بالغة الخطورة جدا ً ‪ ،‬لماذا ؟ لن النسان حينما يتكل على الدنيا‬
‫ينتهي ‪ ،‬والرسالة التي يحملها تنتهي ‪ ،‬ولكن النسان الذي ُيطلب في مراحل‬
‫البناء والتأسيس هو ذلك المخلوق الذي يعلم أنه على الدنيا طارئ وضيف‬
‫وغريب ‪ ،‬بين يديه رسالة مطلوب منه أن يؤديها ثم هو صائر إلى يوم العرض‬
‫ض فيه وجوه وتسود فيه وجوه ‪ ،‬من يقدر على ذلك ؟‬ ‫‪ ،‬إلى الحساب الذي تبي ّ‬
‫الله الذي ل إله إل هو ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫الجاهليون لما كانت عقولهم ل تستطيعوا أن تبلغ هذا المرتقى الصعب ‪ ،‬ولما‬
‫كز القرآن‬ ‫كانت أبصارهم حسيرة وكليلة عن التعرف على هذا الفق العالي ر ّ‬
‫تركيزا ً هائل ً جدا ً ـ وسوف ترون ذلك في السور القادمة ـ سوف تعرض‬
‫عليكم وجوها ً من الوصاف التي يجب أن يعتقدها النسان في الذات اللهية‬
‫كي يعرف دائما ً أنه في حد العبودية لله جل وعل ‪.‬‬
‫هذا الدين يخدمه عباد الله ‪ ،‬أولئك الناس الذين حصلوا صفة النسان الكوني‬
‫والرباني ‪ ،‬ذلك الذي يرضى برضى الله ويغضب لغضب الله ويتحرك لله‬
‫ويسكن لله وينطق إن نطق لله ‪ ،‬ويسكت إن سكت لله ‪ ،‬ويحيا لله ‪ ،‬ويموت‬
‫إن مات لله ‪ ،‬وتلك ليست غاية خيالية ‪ .‬حينما نتحدث عن المر بتجريد يشبه‬
‫أن يكون في أذهان الكثيرين خيال ً وتجريدا ً أو على القل مقاييس وقضايا‬
‫عقلية ‪ ،‬لكني أحب أن أضف لكم وأضرب لكم بعض المثال التي تحصلت‬
‫عن تجربة محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬كل إنسان يستطيع أن يتبجح وأن‬
‫يدعي ‪ ،‬لكن الختبار هو الذي يحدد النتيجة بدقة ‪ ،‬كلنا نستطيع أن نقول ‪:‬‬
‫أرواحنا فداء لدعوة السلم ‪ ،‬دماؤنا فداء لكلمة الله تعالى ‪ ،‬ولكن الشهادة‬
‫على ذلك تكون على محك الختبار والواقع ‪ .‬خذوا مثال ً ‪ :‬حينما وقف‬
‫المسلمون في غزوة بدر في أول لقاء مكشوف بينهم وبين المشركين ‪ ،‬كان‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف الفئة المؤمنة ‪ ،‬ينظر إليهم ‪ ،‬ثلثمائة‬
‫يزيدون قليل ً ‪ ،‬ويلتفت نحو السماء يخاطب الله جل وعل ‪ :‬اللهم إن تهلك‬
‫هذه العصابة ل ُتعَبد بعد اليوم على الرض ‪ ،‬هؤلء فقط هم الذين آمنوا بك‬
‫ووحدوك واتبعوا منهاجك وطريقك وصدقوا نبيك صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ثم‬
‫دل الصفوف ‪ ،‬ويحرضها على الثبات والجهاد ‪،‬‬ ‫يعود إلى هذه الفئة المؤمنة يع ّ‬
‫ويقول ‪ :‬والذي نفسي بيده ل يقاتلهم اليوم مسلم مقبل ً غير مدبر إل أدخله‬
‫الله الجنة ‪ .‬كان في القوم فتى اسمه عمير بن الحمام النصاري رضي الله‬
‫عنه كان يأكل بعض تمرات في يده ‪ ،‬قال ‪ :‬بخ بخ يا رسول الله ‪ ،‬قال له ‪ :‬ما‬
‫حملك على أن تقول هذا ؟ قال ‪ :‬يا رسول الله أليس بيني وبين الجنة إل أن‬
‫يقتلني هؤلء ؟ قال ‪ :‬نعم يا عمير ‪ .‬فألقى التمرات من يده وقال ‪ :‬لئن أنا‬
‫حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة ‪ .‬ألقى التمرات من يده‬
‫وركض نحو القوم وقاتلهم حتى ُقتل ‪.‬‬
‫في غزوة أحد حينما انجلت المعركة عن قتلى وصرعى وجرحى وشهداء كان‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم واللم يعتصر نفسه الشريفة يقول ‪ :‬من ينظر‬

‫‪65‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫لي ماذا فعل سعد بن الربيع ‪ ،‬أفي الحياء هو أم في الموات ؟ قال رجل ‪:‬‬
‫أنا أنظر يا رسول الله ‪ .‬وذهب وفتش بين القتلى وبين الجرحى ‪ ،‬بين الجثث‬
‫الكريمة التي تعب عليها محمد عليه الصلة والسلم لتحصدها سيوف‬
‫المشركين في ضحوة من نهار ثم وجد سعد بن الربيع يجود بنفسه ‪ ،‬قال له ‪:‬‬
‫يا سعد إن رسول الله أرسلني لنظر أفي الحياء أنت أم في الموات ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫أنا في الموات ‪ ،‬أبلغ رسول الله عني السلم وقل له يا نبي الله جزاك الله‬
‫عنا خير ما جزى نبيا ً عن أمته ‪ ،‬وقل لقومي من النصار يقول لكم سعد بن‬
‫خلص إلى رسول الله وفيكم عين‬ ‫الربيع ل عذر لكم عند الله جل وعل إذا ُ‬
‫تطرف ‪ .‬ثم فاضت الروح إلى بارئها تشكو إلى الله ظلم النسان ‪.‬‬
‫حينما خرجت الهارعة ) أي الصوت ( الذي يدعو المسلمين إلى غزوة أحد‬
‫كان من المسلمين رجل تزوج بالمس ‪ ،‬كان يعيش في حضن العروس‬
‫المحببة ‪ ،‬ينمي النفس بالحياة الوادعة الهادئة ‪ ،‬ويمني النفس بالبيت وبالولد‬
‫الذي سيشرف على تربيتهم ‪ ،‬حينما خرج الصوت ينادي إلى ساحة الجهاد ما‬
‫كر هذا العريس بأن يتلّبث عند زوجه لحظة واحدة ‪ ،‬انتزع نفسه من حضن‬ ‫ف ّ‬
‫الزوجة ونسي نفسه أن يغتسل لكي يسقط الجنابة عن نفسه ‪ ،‬ومشى إلى‬
‫الله قائل ً ‪:‬‬
‫ركضا ً إلى الله بغير زادِ إل التقى وعمل المعاد‬
‫هناك قاتل حتى ُقتل ‪ ،‬في هذه اللحظات الهائلة التي يحق فيها الحق ويبطل‬
‫فيها الباطل وتتكشف النفس فيها عن الخبيئات تبّين حصائل التجربة الكريمة‬
‫التي جربها محمد صلى الله عليه وسلم بإذن الله فإذا هي بالفعل تنتج رجال ً‬
‫يمثلون ذلك النسان الكوني الذي يثق فيما عند الله جل وعل ويعلم أن الدنيا‬
‫ل تساوي عند الله جناح بعوضة ‪.‬‬
‫هؤلء هم النماذج الذين صنعوا السلم ‪ ،‬وصنعهم السلم ‪ ،‬وهم الذين مكنوا‬
‫لكم في الرض ‪ ،‬ل البالسة ول التافهون ول الساقطون ‪ ،‬الذين يريدون منكم‬
‫أن تزدادوا خبال ً إلى خبال بهذه الساليب الشيطانية التي يبتدعونها لكي‬
‫يجتثوا الصلة التي تربطكم بالله تعالى ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫في تلك اللحظات الهائلة المريعة يتكشف جوهر النسان ومعدن الرجال ‪،‬‬
‫ولقد تكشفت تجربة التربية السلمية زمن محمد صلى الله عليه وسلم عن‬
‫هوان الدنيا على المسلمين ‪ ،‬ويقول بعضهم لبعض في المعركة ‪ :‬والذي‬
‫نفسي بيده إني لشم رائحة الجنة من دون أحد ‪ .‬هذه حقائق وليست خيالت‬
‫ون من جديد ‪ ،‬لكنه نسخة ليست مكررة‬ ‫وليست أوهاما ً ‪ ،‬تعبر عن إنسان ك ُ ّ‬
‫عن النسخ الشائهة الممسوخة التي كانت الجاهلية تعيشها ‪ ،‬إنها النسان‬
‫الكامل المكمل ‪ ،‬إنه إنسان الرسالة ‪ ،‬إنسان البناء ‪ ،‬جيل التأسيس ‪ ،‬الجيل‬
‫الذي يحمل على كتفيه أثقل رسالة ‪ ،‬وأطول رسالة ‪ ،‬وأعظم رسالة ‪ ،‬وكذلك‬
‫تساس النفوس ‪ ،‬وكذلك ُتبنى المم ‪ ،‬وبغير هذه الطرائق والساليب‬
‫فالمسألة لن تزيد الناس إل خبال ً ‪ ،‬والمسألة لن تزيد على هذه الصور‬
‫الشائهة من الحياة السخيفة المخيفة التي يعيشها الناس اليوم ‪.‬‬
‫وأريد من كل أخ أن يعرف لماذا شدد السلم على هذه المور ‪ ،‬وما الذي‬
‫كان يهدف إليه السلم من خلل هذا اللون والطراز الفريد من التربية ؟ وما‬
‫هي المهمات العظيمة التي تقاضت السلم أن يحرص على تكوين نماذج من‬
‫هذا القبيل ‪ .‬من الن يجب أن نعرف هذه المبررات ‪ ،‬ويقينا ً أنا أعرف أن‬

‫‪66‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إشكالت ستطرأ على أذهان بعض الخوة من جّراء هذا الكلم ‪ .‬ومرة أخرى‬
‫فأحب أن أقول أنا غير قادر على تبسيط المور أكثر مما ينبغي ‪.‬‬
‫إن السلم ذو طريقة فذة في البناء ‪ ،‬إن السلم ليس منهجا ً دراسيا يتلقى‬
‫ً‬
‫في المدارس ليسكن العقول ‪ ،‬ولكنه منهج واقعي وعملي ‪ ،‬والعلم ل ينفك‬
‫عن العمل بتاتا ً ‪ ،‬وعبقرية السلم أنه بنى المة من خلل الواقع العملي‬
‫المتحرك ‪ ،‬ولم يجلس الناس صفوفا ً أمام رسول الله ليسمعوا منه محاضرة‬
‫قن السلم المسلمين دروسه‬ ‫ثم يمشون ‪ .‬وإنما من خلل الواقع المتحرك ل ّ‬
‫العظمى ‪ .‬كثير من هذه الدروس لو شئنا أن نتعرف عليها من خلل النظر‬
‫العقلي والمجادلت المنطقية لما وصلنا إلى شيء ‪ ،‬ولكنا في صعيد العمل‬
‫سوف تتسرب إلى ذواتنا إشعاعات الحقيقة ‪ ،‬وهذا هو السر الذي جعل الله‬
‫تعالى يقول ) واتقوا الله ويعلمكم الله ( ) ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ( في‬
‫مجال العمل تشعر بشيء من هذه الطمأنينة التي تغمر نفسك إلى صلحية‬
‫منهجك وإلى أحقية موقفك وإلى عظيم ثقتك بالله تعالى ‪ .‬فل يستعجل أحد ‪،‬‬
‫ول يثقل علينا أخ من إخواننا بالمماحكات اللفظية ‪ ،‬ول بالمجادلت العقلية ‪،‬‬
‫لنا طريق أوله العمل وآخره العمل ‪ ،‬والكلمة فيه في خدمة العمل ‪ ،‬وحينما‬
‫تكون الكلمة غاية فالمسألة مصيبة ل علج لها ‪ ،‬قبل أن يفكر أحد في‬
‫المماحكة والمجادلة والمناقشة عليه أن يضع نفسه في غمرة العمل ‪ ،‬وحينما‬
‫يكون في غمرة العمل فهو في نور كاشف يتسلط عليه من جميع الجهات ‪،‬‬
‫ما كان يحسبه معضلة من المعضلت العقلية فسيرى أنه ل شيء ‪ ،‬وسيرى‬
‫أن القضايا تتهاوى ‪ ،‬والمشكلت ُتحل فقط حينما يعزم العزمة الكيدة على‬
‫أن يعمل فعل ً على مرضاة الله وفاقا ً للمنهج الذي ل ّ‬
‫قنه الله تعالى لنبيه‬
‫ووضعه هذا النبي الكريم عليه الصلة والسلم وديعة بين يديك أيها المسلم ‪.‬‬
‫أسأل الله لك ولي وللمسلمين أن يعيننا ويسدد ويوفق ‪..‬وصلى الله على‬
‫سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ‪ ،‬والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(8 /‬‬

‫تفسير سورة المرسلت‬


‫الجمعة ‪ 20‬شعبان ‪ 5 / 1397‬آب ‪1977‬‬
‫) ‪ 4‬من ‪( 4‬‬
‫شوح‬ ‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد فيا أيها الخوة‬
‫المؤمنون ‪:‬‬
‫فقد ذكرنا لكم قبل ‪ ،‬ونحن نتحدث على هامش سورة المرسلت أن السورة‬
‫الكريمة بالرغم ما سبقها مما تحدث عن اليوم الخر فإنها تتميز بمذاق‬
‫خاص ‪ ،‬إن القارئ ليدرك فروقا ً واضحة سواء في طريقة الصياغة أم في‬
‫طريقة تناول الموضوعات ‪ ،‬يدرك هذه الفروق عن التي سبق هذه السورة‬
‫من سورة القارعة والقيامة والهمزة وبين سورة المرسلت ‪ ،‬ولقد أتيت‬
‫بالحديث على بعض السباب التي حملت على هذا اللون من الكلم ‪ ،‬وأكمل‬
‫لكي ل يسقط على الخوة شيء من الصول العامة التي يدور حولها كلمنا‬
‫فأقول ‪ :‬إن لهجة السورة قد تغيرت فاتسمت بطابع الحدة لما سبق أن وقفه‬
‫المشركون من مواقف رعناء تدل على أنهم فقدوا صوابهم ولم يستطيعوا أن‬
‫يقفوا مع ما يقتضي به العقل والمنطق السليم ‪ ،‬فإزاء الطعون والهمز‬

‫‪67‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫واللمز والتشكيك الذي واجه المشركون به محمدا ً عليه الصلة والسلم‬


‫جاءت سورة المرسلت حادة اللهجة متميزة المذاق لنها ترد ّ على موقف‬
‫معين ‪ .‬ولكن دون إخلل ـ ولو بسيط ـ بحق العقل والحجة والدليل ‪ ،‬وجاءت‬
‫تتناول المور من منحى جديد ‪ ،‬لن مسألة اليوم الخر والقيامة مما يدركه‬
‫النسان بأيسر النظر ‪ ،‬ولكن النسان الجدل الكثير الخصومة واللجاج ل يريد‬
‫أن يدع حجة ول ذريعة تفلت من يديه لكي يرفعها في وجه المنادين بأحقية‬
‫اليوم الخر وبأنها واقع ل ريب فيه ‪.‬‬
‫فاتجه الطعن والتشكيك إلى وصف من الوصاف التي ل يكون الخالق خالقا ً‬
‫بغيرها ‪ ،‬إلى القدرة ‪ ،‬تشكك المشركون في هذه المكانية ‪ ..‬هل من الممكن‬
‫والمستطاع أن تعود الجسام بعد أن فنيت وبليت ؟ وكيف أن هذه الجزاء أن‬
‫تتجمع وتتناسق بعد أن تحللت وتفرقت وبعثرت الرياح كثيرا ً منها وأكلت‬
‫الرض سائرها ‪ .‬إن المشكلة حين تحدد على هذا النحو فإنها تكون من غير‬
‫ريب إهدارا ً لقيمة العقل ‪ .‬وإعجاز القرآن وهذا الدين أنه يلزمك بالحجة‬
‫ويقيم لك الدليل من ذات المسلمات التي تسلم بها أنت ‪ ،‬ل يأتيك بشيء‬
‫يصدم موروثاتك ومعتقداتك ابتداًء ومن كل وجه ‪.‬‬
‫فهؤلء المشركون الذين أطالوا الحجاج والجدال مع رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم ل ينكرون أن الله ربهم ‪ ،‬إن هذه المسألة محل تسليك ‪ ،‬غاية ما‬
‫في المر أنه ربما ذهابا ً في التنزيه إلى حدود غير عقلنية كان تصورهم للذات‬
‫اللهية وما ينبغي لها من أوصاف تتصور في عليائه بعد أن فرغ من خلقه‬
‫أصبح أعلى وأعز وأمنع من أن يصيخ لشكوى الشاكين وأن يستجيب لدعاء‬
‫الداعين فكان ل بد بحساب تصوراتهم من وسائط وشفعاء ومقربين ‪ ،‬ومن‬
‫عبد مع الله أو من دون‬ ‫هنا كانت الوثان والصنام وكانت النداد من كل ما ُ‬
‫الله من طواغيت عرفتها النسانية في تاريخها الطويل ‪.‬‬
‫إن لوثة الوثنية في التاريخ النسانية كله تنبعث من هذه النقطة ‪ ،‬عجز العقل‬
‫النساني في مراحل معينة من انحطاطه عن إدراك القدرة التي ل بد أن‬
‫يتصف بها الخالق ‪ .‬إن القرآن حين عرض في سورة المرسلت موضوع‬
‫القدرة لو يبده العقل العرب والنساني بغير ما يعرف ‪ ،‬فالذين عبدوا الوثان‬
‫والصنام مما عملته أيديهم ل يجهلون أبدا ً أنها ل تضر ول تنفع ول تملك‬
‫الحياء ول الماتة ول الرزق ول منع العطاء ‪ .‬ويدركون أن من يملك ذلك كله‬
‫هو الله ‪ ،‬وهؤلء شفعاء ووسطاء وزلفى ل أكثر ول أقل ‪ .‬والذين عبدوا‬
‫الفراعين والطواغيت من دون الله ممن هم على مثالهم وشاكلتهم من بني‬
‫البشر لم يجهلوا أبدا ً أن الملوك اللهة بشر يجري عليهم من أمر الله ما‬
‫يجري على كل الكائنات التي خلقها الله ‪ .‬ولكنهم تصوروا حلول الذات اللهية‬
‫أو حلول جزء من اللوهية في هذه الذوات البشرية ‪ .‬إذا ً فالمبدأ بين أيدينا‬
‫سالم لم يتزحزح من مكانه ثمة قوة فوق هذه القوى ول مشاححة في‬
‫السماء ‪ ،‬ثمة القوة التي انبثق عنها الوجود وفاض عنها الكون وصدرت عنها‬
‫الخلئف في ما بين الكاف والنون ‪ ،‬ثمة الله ‪ .‬هذا مطلوب ومسلم لدى‬
‫المشركين الذين خوطبوا بالقرآن جميعا ً ‪ ،‬فجاء القرآن يعتمد على هذا‬
‫الساس الذي ل يناقش فيه المشركون ليلزم هؤلء المشركين من ذات‬
‫الموقع الذي يعتقدونه بالحجة التي يريد أن يسوقها إليهم ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫‪68‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫انظر أيها النسان ‪ ..‬أأنت وحدك في هذا الكون أم أنت واحد من مليين‬
‫وآلف المليين منها ما طحنته راح الزمان فمات ‪ ،‬ومنها ما يحيا معك‬
‫ويضطرب على الرض التي تضطرب عليها ‪ ،‬ومنها ما تبشر به وعود‬
‫المستقبل ؟ بدون شك أنت واحد من أناسي كثيرين ‪ ،‬وأنت بالذات ومن‬
‫معك ممن يشاركك ويشابهك ‪ .‬أأنتم كل ما في كون الله أم ثمة مخلوقات‬
‫ومصنوعات صدرت عن هذه الذات أو القوة وسموها بالذي تشاؤون التي‬
‫تقرون بها أنتم ؟ أدر نظرك في الرض في السماء في الفاق فأنت واجد‬
‫عوالم أخرى ‪ ،‬عوالم منها ما تراه بعينك وتلمسه بيدك ومنها ما ل تراه ‪،‬‬
‫ولكنك تحس آثاره وتلمس هذه الثار ‪ ،‬ومنها ما تنكشف عنه حجب الزمان‬
‫شيئا ً من وراء شيء ‪ ،‬ومنها ما تجد البشرية نفسها على موعد معه بعد زمان‬
‫يطول أو يقصر ‪.‬‬
‫هذه المخلوقات المتكاثرة التي ل تقع تحت حساب ول يحصيها العد ول‬
‫يجمعه ديوان كيف يقع في وهمك أنها تصدر عن قوة محدودة القدرة ؟ إن‬
‫كونا ً بهذه العظمة وهذه السعة وهذا التناسق والبداع ل بد أن يكون من‬
‫ورائه قوة ل تحدها حدود ول تقيدها قيود ‪ ،‬ذلك أبسط ما ينبغي للنسان أن‬
‫يسلم به ‪ ،‬أبسط شيء يجب عليك أن تسلم به أن هذا الذي خلق الكوان‬
‫كلها ل تحد قدرته حدود ول تقوم دون إرادته قيود ‪ ،‬هذه المسلمة البدهية‬
‫خاذ‬ ‫الصغيرة هي التي أبرزها القرآن في سورة المرسلت وأبرزها على نحو أ ّ‬
‫عجيب ‪ ،‬لنه كلم الله الذي يأتي في الوقت المناسب والمكان المناسب ردا ً‬
‫وعلجا ً لواقع عيني مشهود ‪ .‬تعال أيها العربي ‪ ..‬انظر حواليك وقّلب النظر ‪..‬‬
‫أنت تستكثر على الله أن يحي الموات بعد أن هرمت ‪ ،‬ل بأس عليك قد‬
‫تكون عاجزا ً عن مواجهة نفسك مع أن نفسك بالذات تحمل الدلئل على ذلك‬
‫وصدق الله إذ يقول ) وفي أنفسكم أفل تبصرون ( لكن انظر بعد ) وفي‬
‫الرض آيات للموقنين ( انظر حواليك ماذا ترى ‪ :‬ليل ونهار وأرض وسماء‬
‫ورياح تسوق السحاب وكل شيء من حولك يوحي بالدقة والتقان ويوحي‬
‫بالتناسق والضبط ويوحي بالقصدية التي ل بد أن يلمحها العاقل من تصرفات‬
‫هذه الذات القوية التي نطلق عليها اسم الله جل وعل ‪.‬‬
‫هذه الرياح المرسلة التي تسوق السحاب إلى الرض الجرز فينزل الله به‬
‫الماء فيحيي به الزرع والضرع ويحيي به ميت المال في نفوس الناس ‪ ،‬هذه‬
‫الرسل التي تتابعت تؤكد حقيقة واحدة هي أن الله موجود وأن الله خالق ‪،‬‬
‫وأن النسان في هذه الحياة الدنيا ُوجد لغاية حددها القصد اللهي ‪ ،‬وأنه لم‬
‫ُيخلق سدى ‪ ،‬وأنه لم ُيترك لن يتصرف على هواه وإنما ل بد من الشريعة‬
‫تضبطه ‪ ،‬ولكي يؤدي من حيث النتيجة كشف الحساب ‪ ،‬هذا كله ل بد أن‬
‫يكون عن قدرة ليس لها حد ‪.‬‬
‫ً‬
‫انظر كيف أن السور تصور لك كيف أن الله جل وعل نقلك فورا فوضعك في‬
‫جو يوم الخر ‪ ،‬وأنت قضيت حياتك كلها مكذبا ً جاحدا ً رادا ً على المرسلين ‪،‬‬
‫هذا النور الذي جاء من عند الله هدى وبشرى للمتقين ‪ ،‬وعمى وضلل ً على‬
‫الفاجرين ‪ ،‬تصور الله تعالى يجمع الرسل يوم القيامة ليكونوا شهداء على‬
‫الناس ‪ ،‬ويجمع كذلك هذه الجماهير المكذبة التي تسمع من أخبارها ما تسمع‬
‫‪ ،‬والتي تجهل منها أكثر مما تعرف ) ألم نهلك الولين ‪ ،‬ثم نتبعهم الخرين ‪،‬‬
‫كذلك نفعل بالمجرمين ( هذا السؤال وهذه المناقشة ليست هنا ‪ ،‬إنها تصوٌّر‬
‫لما سيكون في يوم القيامة حينما يواجه النسان المكذب عواقب التكذيب‬
‫في الوقت الذي يبطل فيه التكليف ‪ ،‬وتسقط فيه الفرائض ‪ ،‬ول ينفع نفسا ً‬
‫إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ً ) كذلك نفعل‬

‫‪69‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بالمجرمين ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ( أي في تلك الساعة وتلك الدار حين‬


‫مناقشة الحساب ‪.‬‬
‫ومع أن الجو كله جو تخييل وتصوير واستحياء لمشهد ما سيكون في يوم‬
‫القيامة ابتغاء استجاشة المشاعر لكي ترجع إلى نداء الفطرة الكامنة في كل‬
‫ذات بشرية ‪ ،‬فإن الله تعالى لطفا ً بعباده ل يهمل حتى في هذا الموقف أن‬
‫يلفت نظر النسان وهو في موقف الحجاج والنقاش إلى حقائق أولية ) ألم‬
‫نخلقكم من ماء مهين ‪ ،‬فجعلناه في قرار مكين ‪ ،‬إلى قدر معلوم ‪ ،‬فقدرنا‬
‫فنعم القادرون ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ( أنت ترى أنه يستحيل أن يصير‬
‫الموات حيا ً ‪ ،‬أنت ترى أن من المستحيل أن يعود الناس من بعد اليوم أحياء‬
‫ُيسألون وُيجيبون ‪ ،‬أفعل ً أنت صادق مع نفسك ؟ ما أنت ؟ أولك نطفة مذرة ‪،‬‬
‫وآخرتك جيفة قذرة ‪ ،‬وأنت فيما بينهما تحمل العذرة ‪ .‬ما أنت ؟ أنت نطفة‬
‫من ماء مهين ‪ ،‬وما أبلغ قول الله جل اسمه ) ألم نخلقكم من ماء مهين (‬
‫والمهين هو ما كان في غاية الهوان والخسة والذلة وقلة القدر والقيمة ‪ ،‬هذه‬
‫النطفة التي تنقذف منك في رحم المرأة في ساعة أو لحظة ل يخطر في‬
‫بالك ما سيترتب عليها ‪ ،‬هذه النطفة المهينة التي ل تلقي لها بال ً والتي ل‬
‫تحمل شيئا ً من خصائص الحياة ‪ ،‬ماء ليس فيه عظم ول عصب ‪ ،‬ول عروق‬
‫يجري فيها الدم ول لحم وشحم ‪ ،‬ول شيء من وراء ذلك كله ‪ ،‬هذه التي‬
‫استقرت في الرحم ‪ ،‬سخرك الله تعالى لتقذفها هنا لنها واسطة الخلق ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫) ألم نخلقكم من ماء مهين ‪ ،‬فجعلناه في قرار مكين ‪ ،‬إلى قدر معلوم ‪،‬‬
‫فقدرنا فنعم القادرون ( ليس في نيتي أن أشرح لكم ما وصل إليه العلم من‬
‫وجوه العجاز ودلئل القدرة في هذا الصندوق الذي يحفظ نطفة الماء هذه‬
‫كي تتخّلق هناك وفاقا ً لقدار محسوبة وموزونة وشرائط ‪ ،‬لو تخّلف منها‬
‫شرط لجاء المخلوق شائها ً ‪.‬‬
‫ولكن أريد أن أتحدث عما يبده العقل ابتداًء من هذه القضية ‪ ،‬هل في عقلك‬
‫ما يصور لك ويقدر أن هذه القطرة من ماء الذكر تستقر في رحم النثى‬
‫يمكن أن تكون في المستقبل ذلك النسان الجبار الذي يمشي على الرض‬
‫يقوم ويقعد ويفعل ويترك ويتجبر ؟ ل ‪ ،‬نحن نعرف أن كل شيء ينتج من‬
‫شكله ‪ ،‬وما من مناسبة مرئية بين الماء والنسان وإن كان الله تعالى ينص‬
‫على أنه خلق كل شيء من ماء ‪ ،‬إل أنها عملية مشهودة تشد الذهن شدا ً إلى‬
‫واقع يراه الصغير والكبير والعالم والجاهل ‪ ،‬وفيه معتَبر لمن يريد أن يعتبر‬
‫من آيات الله ‪.‬‬
‫هذا النسان رأيتم كيف أنه من مادة مهما نقل عن وصف الحياة المستقرة‬
‫فيها فهي موات وشبه موات يتخّلق منها الكائن الحي الذي ينكر على ربه أن‬
‫يقدر على العادة بعد الموت ‪ .‬انظر ‪ ،‬يناقشك الله فيقول ) ألم نجعل الرض‬
‫كفاتا ً ‪ ،‬أحياًء وأمواتا ً ‪ ،‬وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ً ‪،‬‬
‫ويل يومئذ للمكذبين ( أترى الموات ل يتخّلق منه حياة ‪ ،‬انظر إلى الرض ‪،‬‬
‫يقول الله ‪ :‬ألم نجعلها كفاتا ً ‪ ،‬ومعنى كفاتا ً أي أنها تضم الحياء والموات ‪،‬‬
‫والصل في ذلك مادة ) كفت ( بمعنى ضم وجمع ‪ ،‬ومنه قول النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ :‬اكفتوا صبيانكم في الليل ‪ ،‬أي ضموهم إليكم واجمعوهم ول‬
‫تسمحوا لهم بالتفرق في الليل ‪ .‬هذه الرض التي مهدها لك الله وخلقك‬
‫عليها وجعلها أمك ومثواك شيء يجمع الحياء والموات ‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أرأيت هذه الرض الجديبة تراها تتسافى من فوقها الرمال ‪ ،‬موات ل أثر فيها‬
‫س ول حركة ‪ ،‬ل نبات ول حيوان ‪ ،‬كيف يتنّزل عليها المطر‬ ‫من حياة ‪ ،‬ل ح ّ‬
‫) فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ‪ ،‬إن الذي أحياها لمحي الموتى وإنه‬
‫على كل شيء قدير ( هذه الرض التي تتصور أنها موات كم تحمل من بذور‬
‫الحياة مما تراه يوميا ً ‪ ،‬ولو أنك فتحت عقلك لرأيته كل ساعة وكل لحظة‬
‫كيف يخرج الحي من الميت والميت من الحي ) يخرج الحي من الميت‬
‫ويخرج الميت من الحي ( ‪..‬‬
‫) ألم نجعل الرض كفاتا ً ‪ ،‬أحياًء وأمواتا ‪ ،‬وجعلنا فيها رواسي شامخات ( التي‬
‫ً‬
‫هي الجبال العاتية والتي هي أوتاد الرض كما جاء في تعبيرات القرآن والتي‬
‫تمنع الرض أن يختل دوراها في فلكها المرسوم له ) وأسقيناكم ماء فراتا ً (‬
‫ت إلى هذه العملية التي قلما تلتفت إليها ؟ هذا النهر الذي تشرب ماءه‬ ‫أنظر َ‬
‫وح لك بها‬ ‫عذبا ً فراتا ‪ ،‬من أين جاء ؟ استخلصه لك الله بالرياح اللواقح التي ل ّ‬
‫ً‬
‫في أول السورة من ماء البحر حتى استقلت في السماء سحابا ً فأنزله الله‬
‫جل وعل فجرت به الرض أنهارا ً وعيونا ً ‪ .‬من أين ؟ من صنعك ؟ من‬
‫قدرتك ؟ هكذا اتفاقا ً من غير شيء ‪ ،‬تلك إحالة عقلية ل يسقط فيها إنسان‬
‫يحترم عقله في حال من الحوال ‪ ،‬فيلفت إليها نظرك كتاب الله تعالى في‬
‫موقع الحجاج والنقاش ‪ ،‬ولكن يقيم لك من خلل الحجاج والنقاش الحجة‬
‫التي ل تدفع ‪ ،‬والدليل الذي ل ُينقض ‪ ،‬والمنطق الذي ل ينكسر ‪ ،‬على عدم‬
‫وجود أي حد يقف في وجه القدرة اللهية ‪.‬‬
‫أرأيت ؟ أقنعت ؟ ولكن متى ؟ حين ل تنفع القناعة ‪ ،‬ول يجزيك اليمان أيها‬
‫المكذب الضال ‪ ،‬هناك يصدر النداء من الباري تعالى إلى جحافل المكذبين‬
‫والضالين ) انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ( ألم تكونوا مكذبين باليوم الخر‬
‫وبما فيه من نعيم للبرار ؟ وعذاب بئيس للشرار ؟ ) انطلقوا إلى ما كنتم به‬
‫تكذبون ‪ ،‬انطلقوا إلى ظل ذي ثلث شعب ‪ ،‬ل ظليل ول يغني من اللهب (‬
‫عهد الناس بالظل وقاء من الحر ولفح السموم ‪ ،‬ولكن الظلل التي تكون‬
‫عن ألسنة اللهب المنبعثة من قلب جهنم يوم القيامة ليست ظليلة ‪ ،‬ل تؤنس‬
‫ول تسر ‪ ،‬ول تغني شيئا ً من أن يمس المكذبين لفح نار السموم ولهب‬
‫الجحيم ) ل ظليل ول يغني من اللهب ‪ ،‬إنها ترمي بشرر كالقصر ( هذه النار‬
‫التي يسمع لها المكذبون تغّيظا ً وزفيرا ً ‪ ،‬هذه النار تتقاذف منها أكوام الجحيم‬
‫كبيرة كالقصر ‪ ،‬والعرب تسمي كل شيء كبير قصرا ً حتى الجبال تقول لها‬
‫قصور ‪ ،‬وسمت البنية العالية قصورا ً لنها كبيرة ‪ ،‬هذا الشرر المتصاعد لكبره‬
‫يشبه القصور ) كأنه جمالة صفر ( أرأيت عنق الجمال ‪ ،‬والعنق ل أريد به‬
‫الرقبة ‪ ،‬وإنما أريد به جماعة الجمال حينما تأخذ بعضها برقاب بعض وهي‬
‫تمشي في طريقها ‪ ،‬كذلك يتتابع هذا اللهب المرعب المخيف ) كأنه جمالة‬
‫صفر ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ( ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫ت به هل تعرف شيئا ً من كنهه ؟ أنت الذي هجمت على‬ ‫هذا اليوم الذي كذب َ‬
‫ت كما‬‫ت في أسر شهواتك ‪ ،‬ورغب َ‬ ‫التكذيب بل مبرر ‪ ،‬بل دليل ‪ ،‬إل لنك سقط َ‬
‫كشف الله لك في سور سابقات ‪ ،‬من أجل التمتع بالشهوات ‪ ،‬أتعرف ما هذا‬
‫اليوم ؟ أنت هنا اليوم ذرف اللسان كثير اللجاج والحجاج ‪ ،‬تظن نفسك كل‬
‫شيء لكنك هناك يا ويلك ‪ ،‬يا ويحك ) هذا يوم ل ينطقون ‪ ،‬ول يؤذن له‬
‫فيعتذرون ( ) اليوم نختم على أفواهنا وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما‬

‫‪71‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يكذبون ( إنك هنا تستطيع أن تراوغ وتستطيع أن تداور وتناور ‪ ،‬تستطيع أن‬
‫تلبس الباطل ثوب الحق وأن تعري الحق من حجج الحق لتسلكه في سبيل‬
‫الباطل ‪ ،‬ولكنك هناك محروم من هذه القدرة ل داعي إلى أن تتكلم ) هذا‬
‫يوم ل ينطلقون ( ختم على الفواه ) ول يؤذن لهم فيعتذرون ( إن المعذرة‬
‫مقبولة في الدنيا قبل أن يغرغر النسان ‪ ،‬ومن رحمة الله بك يا ابن آدم أنه‬
‫فسح لك في المدة وأطال لك في الجل وأعطاك المد الواسع كي تراجع‬
‫نفسك وكي تراجع ربك ولكي تصلح ما بينك وما بين الرب الرحيم ‪ .‬فإذا‬
‫انقضت على الرض مدتك فل مجال للعتذار ول داعي للتكذيب لن الرض‬
‫التي فسقت عليها ستكون شاهدا ً عليك ‪ ،‬ولن اليد التي بطشت بها ستكون‬
‫شاهدا ً عليك ‪ ،‬ولن الرجل التي حملتك إلى مساخط الله ستكون شاهدة‬
‫عليك ) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل‬
‫شيء ( هنالك ل مجال للعتذار ‪.‬‬
‫أتعرف هول هذا اليوم الذي هجمت على التكذيب به من حيث ل تدري ومن‬
‫حيث سفهت نفسك وضيعت حظك وأوبقت نفسك وأضعت آخرتك ) هذا يوم‬
‫ل ينطقون ‪ ،‬ول يؤذن له فيعتذرون ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ( هذا اليوم يقتص‬
‫الله عليك من أنبائه ما يقتص بهذه السورة مما لست بالحاجة للطالة فيه‬
‫ولكني أقف عند آيتين ذكرهما الله جل وعل في السورة ونعرج من بعدهما‬
‫على الخاتمة ‪.‬‬
‫) إن المتقين في ظلل وعيون ‪ ،‬وفواكه مما يشتهون ‪ ،‬كلوا واشربوا هنيئا ً بما‬
‫كنتم تعملون ‪ ،‬إنا كذلك نجزي المحسنين ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ‪ ،‬كلوا‬
‫وتمتعوا قليل ً إنكم مجرمون ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ( لحظوا ‪ ،‬في اليات فرق‬
‫حينما انصبت على المؤمنين وحينما انصبت على المكذبين ‪ ،‬إنها حينما تناولت‬
‫حكاية ما أعد ّ الله من الكرامة والنعيم للمؤمنين قال ) كلوا واشربوا هنيئا ً بما‬
‫كنتم تعملون ‪ ،‬إنا كذلك نجزي المحسنين ( وحينما التفت إلى الضالين‬
‫المكذبين قال ) كلوا وتمتعوا قليل ً إنكم مجرمون ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ( ما‬
‫الفارق بين المرين ؟ الفارق أن الكل والشرب حاجة حيوية كالوقود بالنسبة‬
‫إلى اللة ل تدور من غيرها ‪ ،‬والنسان بما هو مستخلف في الرض موكولة‬
‫إليه مهمة بحاجة إلى هذا الوقود ‪ ،‬فهو يأكل ويشرب ‪ ،‬ولكن ل شيء وراء‬
‫هذا ‪ ،‬يأكل لكي يتقوى على الطاعة ‪ ،‬ويشرب لكي يتقوى على أمر الله‬
‫تعالى ‪ ،‬ولكن التمتع وراء الكل والشرب ‪ ،‬إنك تتمتع حينما تشعر بهذه الراحة‬
‫الغامرة التي تنسيك الماضي والتي ‪ ،‬وتأسرك في اللحظة التي أنت فيها ل‬
‫تسمح لنفسك أن تخرج من لذاتها وهذا الشعور المريح الذي تحسه به ‪ ،‬هذا‬
‫الشعور من باب النسيان بالنسبة إلى النسان ‪ ،‬النسان بمجرد أن ينسى‬
‫حقيقة موقفه في هذه الدنيا والمهمة المطلوبة منه في هذه الدنيا ‪ ،‬بمجرد‬
‫أن ينسى أن وجوده في هذا الكون موقوت وطارئ سقط من إنسانيته جميعا ً‬
‫‪ ،‬ودخل في زمرة الحيوانات ‪ ،‬ومن هنا نجد الله تعالى يصف الكافرين في‬
‫سورة محمد عليه الصلة والسلم بقوله ) والذين كفروا يتمتعون ويأكلون‬
‫كما تأكل النعام والنار مثوى لهم ( ففارق بين النسان الذي يأكل ويشرب‬
‫ويرعى حق إنسانيته عليه وبين النسان الذي يأكل ويشرب وهو يطلب التمتع‬
‫المطغي والتمتع المنسي ‪ ،‬ذلك شأن المتقين البرار ‪ ،‬وهذا شأن الكافرين‬
‫ً‬
‫الشرار ‪ ،‬فهذا فرق ما بين المرين في اليات الكريمة ) كلوا وتمتعوا قليل (‬
‫والنص بقوله تعالى ) قليل ً ( إشعار مقصود بهوان الدنيا وقلة الدنيا وقلة لبث‬
‫النسان في هذه الدنيا ) إنكم مجرمون ( ‪.‬‬
‫ثم أمر آخر ) وإذا قيل لهم اركعوا ل يركعون ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين (‬

‫‪72‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أأحسستم معنى هذا ؟ إن الكرامة في الدار الخرة متجر ربيح ‪ ،‬وما لم يبذل‬
‫النسان الثمن فهو تاجر فاشل ‪ ،‬إن الخرة عروس ل يوجد لها نظير ‪ ،‬وإن‬
‫ل ‪ ،‬مهرها طاعة الله وإنفاذ أمر الله والوفاء بعهد الله ‪ ،‬إنك في‬
‫مهرها غا ٍ‬
‫الدنيا تملك أن تقدم هذا الثمن ‪ ،‬تملك أن تدفع هذا المهر ‪ ،‬ولكن الناس كثيرا ً‬
‫ما يسهون عن ذلك ‪ ،‬ويذهبون ضحايا التسويف والتأجيل ‪ ،‬فإذا جاء وعد‬
‫الخرة تبين النسان هذه الحقيقة المرة ‪ ،‬يود لو أنه ُأعيد إلى الدنيا ليطيع‬
‫الله ويصدق المرسلين ‪ ،‬ولقد سبقت كلمة الله أنها إليها ل يرجعون ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫يوم القيامة ل مجال للعتذار كما رأينا في أول السورة ‪ ،‬ول مجال لداء‬
‫الحقوق كما نرى الن ‪ ،‬إنك دعيت في دار الدنيا إلى الطاعة فرفضت ‪ ،‬إنك‬
‫دعيت إلى الركوع والسجود فرفضت ‪ ،‬فكان حقا ً وعدل ً من أن ُتمنع ذلك من‬
‫يوم القيامة ‪ ،‬يقول الله تعالى ) يوم ُيكشف عن ساق ويدعون إلى السجود‬
‫فل يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا ُيدعون إلى السجود‬
‫وهم سالمون ( يوم القيامة حينما تتوج كرامة الله لعباده المؤمنين بالتجلي‬
‫العظم للذات اللهية يخر المؤمنون سجدا ً لله جل وعل ‪ ،‬ويحاول الضالون‬
‫والكافرون والمنافقون أن يسجدوا أمام هذه العظمة وهذا الجبروت فل‬
‫يطيقون ذلك ‪ ،‬ومن باب النكاية والستهزاء ‪ ،‬ومن باب التنكيل يقول الله‬
‫عنهم ) وإذا قيل لهم اركعوا ( اركعوا الن في الدار الخرة ‪ ،‬فلقد دعيتم في‬
‫الدنيا فأبيتم بمحض إرادتكم ‪ ،‬اركعوا الن واستخدموا الرادة التي كانت‬
‫معكم في الدنيا إن كنتم قادرين على ذلك ‪ ،‬فيحاول النسان أن يركع لكنه ل‬
‫يقدر على ذلك ‪ ،‬فالله هنا جعله عبدا ً عاجزا ً بين يديه ‪.‬‬
‫هذه اليات التي استعرضتها الن ‪ ،‬هذا الستعراض السريع جدا ً ‪ ،‬ثم ختمت‬
‫بهذه الية التي تلمح من خلل صياغتها ‪ ،‬من نغمها ‪ ،‬تلمح رائحة السى على‬
‫هذا النسان ) فبأي حديث بعده يؤمنون ( إذا كنت أيها النسان تكذب بدلئل‬
‫القرآن ‪ ،‬وترد حجج الله تعالى التي جاءتك على يد محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬إذا كنت ترد كتاب الله ) فبأي حديث بعده يؤمنون ( أل تلمح هذا‬
‫السى الذي يشيع في ثنايا الية مع كل حرف من حروفها ‪ ،‬إن الله برغم‬
‫تجبرك وبرغم تكذيبك للمرسلين وبرغم انغماسك في الشهوات لطيف‬
‫ورحيم بك ‪ ،‬ساق لك الحجج والبراهين ‪ ،‬فإذا رفضت أن تنصاع لما جاء عن‬
‫الله على يد محمد صلى الله عليه وسلم ما بقي أي إمكان لن تؤمن بشيء‬
‫على الطلق ‪.‬‬
‫إن أنصع الحجج والبراهين قامت في القرآن ‪ ،‬ومن أصاخ إلى الله وهو يحدثه‬
‫‪ ،‬ومن اعتبر كلم الله رسائل توجه من الله إلى عباده ‪ ،‬وأنصف نفسه مع‬
‫ذلك ‪ ،‬واستعمل عقله ‪ ،‬وأصاخ إلى نداء الفطرة بين جنبيه أدرك أن كل‬
‫حرف في القرآن حق وصدق ‪ ،‬وأدرك من بعد أن الحجة التي توهم‬
‫المشركون أنها حجة تقوم في وجه إمكان القيامة حجة داحضة ‪ ،‬كل ما‬
‫حولك يشعرك بأن الذي خلقك أول مرة قادر على أن يخلقك مرة أخرى ‪،‬‬
‫) وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل العلى في‬
‫السماوات والرض (‬
‫إن الخلق ابتداًء أصعب من إعادة الخلق بعد المرة الولى ‪ ،‬اعتبر نفسك‬
‫صانعا ً تصنع جهازا ً ‪ ،‬إنك تجرب وتحاول في المرة الولى والثانية والثالثة ‪ ..‬ثم‬
‫تصل إلى المرحلة التي تصنع فيها الجهاز ‪ ،‬ولكنك بعد هذه المحاولة الناجحة‬

‫‪73‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تجد أن المر أصبح سهل ً ‪ ،‬لنك تنسج على مثال ً سابق ‪ ،‬فالنشأة الخرة‬
‫ليست أصعب من النشأة الولى ‪ ،‬بل هي أهون من النشأة الولى ولله المثل‬
‫العلى ‪ ،‬وهذا كلم نقوله على التقريب ‪ .‬فما يدعيه الناس من عدم إمكان‬
‫يوم القيامة ليس دفعا ً لهذا المكان ولكنه انحسار لمفهوم الوصاف التي‬
‫يجب أن يتحلى بها هذا الله الخالق القادر ‪ ،‬إنه تصور حسير وكليل للقدرة‬
‫التي ليست لها حدود التي ينبغي أن يتصف بها الله لكي يكون إلها ً ‪.‬‬
‫مرة أخرى أتساءل معكم ‪ :‬لماذا هذا التشديد من القرآن في المراحل‬
‫الباكرة جدا ً من الدعوة السلمية على موضوعات نراها في عقلنا اليوم في‬
‫القرن العشرين من الهنات الهينات ؟ إن النسان أيها الخوة ويجب أن‬
‫تدركوا هذا إدراكا ً صافيا ً وسليما ً ‪ ،‬في هذه الدنيا أمامه خياران ‪ ،‬الول ‪ :‬أنه‬
‫وحده في هذا الكون ‪ ،‬ل إله خلق ول مصير إليه ينتهي ‪ .‬والثاني ‪ :‬أنه‬
‫مخلوق ‪ ،‬وأن هذا الرب يتصف بأوصاف الجلل والجمال وفي ذروتها القوة‬
‫والقدرة التي ل تتناهى ‪ ،‬والعدل ‪ ..‬فإذا أخذنا الخيار الول ‪ ،‬وللسف إنسانيتنا‬
‫اليوم أخذت الخيار الول فاعتبرت النسانية وحدها غير مرتبطة بالله ول‬
‫بهداية النبياء عليهم السلم ‪ ،‬فما الذي كان ؟ إن هذه الفكرة والخيار يتحمل‬
‫وحده مسؤولية كل الرتباكات التي تعاني منها البشرية اليوم ‪ ،‬ويحمل وحده‬
‫مسؤولية المجتمع البشري على شفير الكارثة ‪ ،‬لنه قطع صلته بهداية‬
‫السماء ‪ ،‬ولكن المجتمع الذي نأخذه كشريحة بشرية بالتدليل والتمثيل ‪،‬‬
‫مجتمع المسلمين الذين رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬شعروا حين‬
‫تبنوا الخيار الثاني أنه ينبغي لهم أن ينسجموا مع النواميس العامة والقوانين‬
‫الكلية التي تحكم الكون كله ماضيه وحاضره ومستقبله ‪ ،‬إنسه وجنه وملئكته‬
‫ت‬‫ت القصدية واضحة ‪ ،‬ووجد َ‬ ‫‪ ،‬حيه وجامده على سواء ‪ ،‬فمن أجل ذلك وجد َ‬
‫الهدف واضحا ً ‪ ،‬ووجدت النسان بارتباطه بقرآنه وببشائر نبيه صلى الله عليه‬
‫وسلم وتمسكه بالصراط المستقيم ‪ ،‬يسير بخطى ثابتة ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫خياران ل غير أمام النسانية ‪ ،‬إما أن تأخذ النسانية بخيار الجاهلية فهو الدمار‬
‫والفناء ‪ .‬وإما أن تأخذ بخيار السلم فهو الراحة والهناء والطمئنان والسلم ‪،‬‬
‫والخرة التي فيها النعيم المقيم الذي ل يزول ‪ .‬ولكن هذا تجريد ‪ ،‬سمعناه‬
‫من الخطباء ومن الوعاظ ‪ ،‬يقولونه في المنابر وفي مواطن التذكير ‪ ،‬إنما‬
‫فرق ما بيننا وبين محمد عليه الصلة والسلم وهو يعمل أنه كان يعالج أدوات‬
‫النسانية على الطبيعة ‪ ،‬كان ل بد منذ المراحل الباكرة أن تحكم الصلة جيدا ً‬
‫بين هذا النسان وبين الله تعالى ‪ ،‬وأن يغرس عميقا ً وفي جذور القلوب يقين‬
‫ن‬
‫هذا النسان المؤمن بأن كل حركة وسكنة وكل قول وفعل وكل أخذ وكل م ّ‬
‫مدّون ومكتوب ) ما يلفظ من قول إل لديه رقيب عتيد ( وأنه ل بد من وقفة‬
‫أمام الجبار الديان لكي يقدم النسان كشف الحساب ‪.‬‬
‫م نفسه بزمام التقوى ول يسمح‬ ‫فمن هنا كان النسان المسلم إنسانا ً يز ّ‬
‫لنفسه بالندفاعات الضارة التي تضره في نفسه أو تضر مجتمعه أو تسيء‬
‫إلى هذه الرسالة النقية التي يحملها عن الله تعالى ‪.‬‬
‫إن هذا ل يتأتى اعتباطا ً ‪ ،‬ولكنه يتأتى من خلل الممارسة اليومية التي يسهر‬
‫عليها قائد حكيم مسدد من قبل الله تعالى ‪ ،‬فمن أجل هذا وجدنا القرآن‬
‫يطيل التركيز في المراحل المكية عموما ً على استحياء اليقين باليوم الخر‬
‫كي تكون كل حركة من النسان بحساب وكي تكون كل حسبة يجريها‬

‫‪74‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫النسان مقصود بها أن يرضى الله عنها ‪:‬‬


‫فإذا رضيت عني كرام عشيرتي فل زال غضبان علي لئامها‬
‫رأيتم كيف تساوق موضوع اليوم الخر وأسلمنا إلى شيء جديد ل نقول في‬
‫نهاية المطاف ولكن أثناء المسيرة ‪ ،‬سنرى ونحن نستعرض بدءا ً من الجمعة‬
‫الماضية ونحن نواجه سورة قاف كيف تتفرع موضوع القدرة ليشمل دوائر‬
‫أوسع ‪ ،‬إن الساحة تضيء للعاملين هذه الحركة البشرية التي تتكرر باستمرار‬
‫‪ ،‬إننا طالما نعمل من وراء الحجاب ونعمل من مواقف المر والنهي ‪ ،‬ونعمل‬
‫منطلقين من التجريد والمعقولت فلن ننتهي إلى شيء ‪ ،‬لننا لن نواجه‬
‫أشياء حقيقية ‪ ،‬ولكن حينما ننزل إلى ساحة الواقع ‪ ..‬إلى المعترك البشري‬
‫فسوف نجد أن المشاكل تبرد ‪ ،‬يتولد بعضها من بعض ‪ ،‬وسوف نجد أنفسنا‬
‫نتربع ‪ ،‬من خلل المعاناة ‪ ،‬ومن خلل التجربة ‪ ،‬ومن خلل الصبر على‬
‫مشقات الطريق ‪ .‬فأسأل الله العليم القدير العون التام الذي يعين على هذه‬
‫المشقات ‪.‬‬
‫وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ‪ ..‬والحمد لله رب‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫تفسير سورة المرسلت‬


‫الجمعة ‪ 8‬رجب ‪ 24 / 1397‬حزيران ‪1977‬‬
‫الحلقة ) ‪ 1‬من ‪( 4‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد فيا أيها الخوة‬
‫المؤمنون ‪:‬‬
‫فقد فرغنا في الجمعة الماضية من الحديث عن سورة الهمزة وهي سورة‬
‫تستحق من الشرح أكثر مما كان ‪ ،‬لنها تكشف عن حالة غير سوية خرج إليها‬
‫المشركون ‪ ،‬ولكن المشكلة التي أرقت هؤلء المشركين وأفسدت عليهم‬
‫مسالك الرأي وأصول التصرف هي السورتان اللتان سبقتا سورة الهمزة ‪،‬‬
‫وهاتان السورتان تبحثان بصورة أساسية ومباشرة مسألة من أخطر المسائل‬
‫التي أثارتها الديانات عموما ً وألح عليها السلم على وجه الخصوص ‪ ،‬هذه‬
‫المسألة هي مسألة اليمان باليوم الخر ‪.‬‬
‫صحيح أن هذه المسألة بالذات أشار إليها الكتاب الكريم منذ بداية الوحي ‪،‬‬
‫لكنها كانت إشارة مقتضبة تارة وعرضية تارة أخرى ‪ ،‬ولم نألف في كل ما‬
‫استعرضناه من السور السابقة قبل القارعة أن سورة برمتها يدار الحديث‬
‫فيها عن موضوع واحد ل يعدوه ول يتجاوزه وهو موضوع القيامة ‪.‬‬
‫نحن الن أمام سورة هي في الترتيب الثانية والثلثون وهي سورة المرسلت‬
‫‪ ،‬وهذه السورة كذلك تثير نفس الموضوع ولكنها تحمل طعما ً من نوع‬
‫خاص ‪ ،‬لها ملمح فيها شيء من الغرابة يكاد القارئ لها أو السامع أن يتصور‬
‫أمامه جيشا ً يقاتل ل كلم يطلق ‪ ،‬وقبل أن نتحدث بأي شيء فمن الخير أن‬
‫نقرأ السورة باهتمام ‪ ،‬ومن الخير أن ألفت أنظار الخوة إلى ضرورة التمعن‬
‫في صياغة السورة ‪ ،‬فالواقع أنك حينما تقرأ هذه السورة حتى على إنسان‬
‫عامي أو حتى على إنسان ل يعرف اللسان العربي الذي نزل به القرآن ندرك‬
‫من الفواصل أن أمامه كلما ً يقاتل ‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يقول الله تعالى ‪ :‬بسم الله الرحمن الرحيم ) والمرسلت عرفا ً ‪ ،‬فالعاصفات‬
‫عصفا ً ‪ ،‬والناشرات نشرا ً ‪ ،‬فالفارقات فرقا ً ‪ ،‬فالملقيات ذكرا ً ‪ ،‬عذرا ً أو نذرا ً ‪،‬‬
‫طمست ‪ ،‬وإذا السماء فرجت ‪ ،‬وإذا الجبال‬ ‫إنما توعدون لواقع ‪ ،‬فإذا النجوم ُ‬
‫نسفت ‪ ،‬وإذا الرسل أقتت ‪ ،‬لي يوم أجلت ‪ ،‬ليوم الفصل ‪ ،‬وما أدراك ما يوم‬
‫الفصل ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ‪ ،‬ألم نهلك الولين ‪ ،‬ثم نتبعهم الخرين ‪ ،‬كذلك‬
‫نفعل بالمجرمين ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ‪ ،‬ألم نخلقكم من ماء مهين ‪ ،‬فجعلناه‬
‫في قرار مكين ‪ ،‬إلى قدر معلوم ‪ ،‬فقدرنا فنعم القادرون ‪ ،‬ويل يومئذ‬
‫للمكذبين ‪ ،‬ألم نجعل الرض كفاتا ً ‪ ،‬أحياًء وأمواتا ً ‪ ،‬وجعلنا فيها رواسي‬
‫شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ً ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ‪ ،‬انطلقوا إلى ما كنتم‬
‫به تكذبون ‪ ،‬انطلقوا إلى ظل ذي ثلثة شعب ‪ ،‬ل ظليل ول يغني من اللهب ‪،‬‬
‫إنها ترمي عليهم بشرر كالقصر ‪ ،‬كأنه جمالت صفر ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ‪،‬‬
‫هذا يوم ل ينطقون ‪ ،‬ول يؤذن لهم فيعتذرون ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ‪ ،‬هذا يوم‬
‫الفصل جمعناكم والولين ‪ ،‬فإن كان لكم فكيدون ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ‪ ،‬إن‬
‫المتقين في ظلل وعيون ‪ ،‬وفواكه مما يشتهون ‪ ،‬كذلك نفعل بالمحسنين ‪،‬‬
‫ويل يومئذ للمكذبين ‪ ،‬كلوا وتمتعوا قليل ً إنكم مجرمون ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين‬
‫‪ ،‬وإذا قيل لهم اركعوا ل يركعون ‪ ،‬ويل يومئذ للمكذبين ‪ ،‬فبأي حديث بعده‬
‫يؤمنون ( ‪.‬‬
‫إنك حين تقرأ السورة تلحظ أن نظم السورة يختلف عما ألفناه في السور‬
‫الماضية ‪ ،‬ول سيما حين الحديث عن يوم القيامة ‪ ،‬تقريرا ً أو دحضا ً لشبه أو‬
‫عرضا ً لدلئل وشواهد ‪ ..‬ولو أن إنسانا ً ل يعرف اللسان العربي بالمرة‬
‫يسمعك تقرأ السورة فسيدرك أنه أمام أمر خطير ‪ ،‬وإل ما تساوقت‬
‫الفواصل بهذا الشكل ‪ ،‬وبحسبك أن تلتفت إلى هذه اللزمة ) ويل يومئذ‬
‫للمكذبين ( التي تكررت عشر مرات ‪ ،‬وهي سورة ل تقول أنها قصيرة كما ل‬
‫تقول أنه متوسطة ‪ ،‬فهي بين بين ‪ ،‬فلماذا أدير الحديث أصل ً بهذا الشكل ؟‬
‫إننا نتعّرف على حوادث السيرة ووقائع السلم في مراحله الولى من خلل‬
‫آيات الله تعالى متبعين في ذلك نهجا ً خاصا ً ينبغي أن نتساءل دائما ً ‪ ،‬لماذا‬
‫ذكرت القضية هنا ولم تذكر هناك ؟ لماذا شرحت القضية هنا واقتضبت‬
‫هناك ؟ لماذا خفت اللهجة هنا واشتدت هناك ؟ كل هذه معالم يستطيع قارئ‬
‫القرآن ومتتبع السيرة أن يجد لها تفسيرها المناسب وأن يجد تفسيرها الذي‬
‫يلقي الضواء على المور التي يهتم البحث عنها ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫كما لحظتم أيضا ً تتناول السورة موضوع اليوم الخر ‪ ،‬إن سورا ً عديدة‬
‫تحدثت عن هذا ‪ ،‬وسور أخرى اختصت بالحديث عن هذا الموضوع ‪ ،‬فهل له‬
‫في صلب السلم كل هذه الهمية ؟ ابتداءا ً فنحن كلما رأينا القرآن الكريم‬
‫يفيض بالحديث عن موضوع ما فيجب أن نتأكد أن هذا الموضوع يتمتع بأهمية‬
‫خاصة ‪ ،‬إن موضوع اليوم الخر شغل من كتاب الله تعالى مساحة كبيرة جدا ً‬
‫لم تشغلها أية موضوعات أخرى ‪ ،‬لو أنك أخذت اليات التي تتضمن عرض‬
‫الشرائع التي يقوم عليها بناء المجتمع المسلم وتتحدد من خللها الوجائب‬
‫والحقوق بين المسلمين وبين المسلمين وغير المسلمين لوجدت أن هذه‬
‫اليات ل تتجاوز خمسمائة آية ‪ ،‬بينما تجد اليات التي تعرضت لموضوع اليوم‬
‫الخر أكثر من ذلك بكثير ‪ ،‬فالمسألة وفاقا ً للقاعدة التي قلناها الن وهي‬
‫ضخامة القضية اعتبارا ً بسعة الحديث عنها لها أهميتها الخاصة كما ل يخفى ‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫موضوع اليوم الخر موضوع أساسي وحيوي في عقيدة السلم ‪ ،‬ويجب أن‬
‫نعلم قبل أي شيء أن السلم نظام ل كغيره من النظمة ‪ ،‬إن أنظمة الدنيا‬
‫تعتمد على قشرة ظاهرة رقيقة جدا ً من القناع ولكنها في أصولها تأخذ‬
‫الناس بزمام الرغبة والرهبة ‪ ،‬وتسوق الناس بقهر السلطان ‪ ،‬ول يشك عاقل‬
‫في أن نهجا ً من هذا القبيل لن يفلح في تزكية النسان ‪ ،‬ولن يرفع من سوية‬
‫النسانية ‪ ،‬ولن يسهم أبدا ً في تكميل الشخصية النسانية ‪ .‬إن الذي يفلح هو‬
‫القناعة الداخلية المنبعثة من عقل متحرر مستنير وقلب شفاف طهور ‪ ،‬إن‬
‫حقائق السلم ُتغرس في القلوب قبل أن تغرس في العقول ‪ ،‬وإنها تعتمد‬
‫على هذا اليقين وعلى هذه القناعة ‪ ،‬وأي خير في النسان الذي يساق إلى‬
‫المعروف بالعصا ؟ وأي خير يرد عن المنكر بسوط الجلد ؟ إن النسان‬
‫الكامل والذي يريده السلم ويحرص على توفير الجواء لبروزه هو ذلك‬
‫النسان الذي يفعل الخير لنه خير ‪ ،‬وينتهي عن الشر لنه منكر وقبيح ‪ ،‬ول‬
‫يحتاج إلى عصا الجلد تلحقه آناء الليل وأطراف النهار ‪ ،‬وإذا كان المر كذلك‬
‫فإذا لم يقتنع النسان منذ البداية بأن كل شيء محسوب على النسان مدون‬
‫ومسجل وأن النسان مسؤول وأن كشف الحساب حاضر فهذا النسان لن‬
‫تتحكم فيه في هذه الحالة إل شهواته ونزواته ‪.‬‬
‫وإذا ً فل خير بالنسان الذي ل يؤمن بالمصير إلى الله تعالى ‪ ،‬ول خير في‬
‫نظام ل يؤسس على نظام من هذا القبيل ‪ ،‬من أجل ذلك كان السلم حريصا ً‬
‫على تأكيد هذه العقيدة باليوم الخر ‪ .‬هذا من حيث المبدأ ‪ ،‬كي ل يستغرب‬
‫أن السلم يبدئ ويعيد في موضوع اليوم الخر ‪ ،‬إن المسألة خطيرة للغاية ‪،‬‬
‫إن مستقبل النسان كله يتوقف على اقتناعك وعلى إيمانك باليوم الخر ‪،‬‬
‫فإذا فقد إيمانه باليوم الخر أهلك دنياه وخسر آخرته ‪ ،‬هذا من حيث المبدأ ‪.‬‬
‫وأما من حيث جوهر السورة فمن الحق أن نتساءل ‪ :‬لماذا هذه النبرة الحادة‬
‫؟ لماذا هذه القسمات الغريبة والملمح التي يشبه أن تكون شاذة في‬
‫شخصية السورة ؟ لكي نعرف لماذا علينا أن نرجع قليل ً للوراء وعلينا أن‬
‫نستعين على الفهم وإنارة الساحة باستثمار شيء من وقائع السورة ولتكن‬
‫وقائع نموذجية ‪.‬‬
‫ل داعية لن نعود إلى أوائل اليات التي تحدثت عن اليوم الخر ‪ ..‬هذا غير‬
‫مهم ‪ ،‬لنقف عند سورة عرضناها منذ ثلثة أسابيع وهي سورة القارعة ‪ ،‬إن‬
‫سورة القارعة ألقت الضواء على يوم الخر إلقاًء هادئا ً ليس فيه شيء من‬
‫العنف والثارة وإنما هي وصف ) القارعة ‪ ،‬ما القارعة ‪ ،‬وما أدراك ما‬
‫القارعة ‪ ،‬يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ‪ ،‬وتكون الجبال كالعهن‬
‫المنفوش ‪ ،‬فأما من ثقلت موازينه ‪ ،‬فهو في عيشة راضية ‪ ،‬وأما من خفت‬
‫موازينه ‪ ،‬فأمه هاوية ‪ ،‬وما أدراك ما هيه ‪ ،‬نار حامية ( تستطيع أن تقول أن‬
‫السورة ل تتعّرض لحد مطلقا ً ‪ ،‬وإنما تثير موضوعا ً معينا ً كيف يكون يوم‬
‫القيامة ‪ ،‬ويوم القيامة يكون على هذه الحالة ‪ ,‬مع هذا فنحن نرى أن سورة‬
‫القيامة أخذت بتلبيب سورة القارعة فنزلت بعدها مباشرة ‪ .‬سورة القيامة‬
‫أيضا ً تعالج نفس الموضوع ‪ ،‬وأخذت اسمها بمبررات كاملة أنها فعل ً سورة‬
‫القيامة أنها تحدثت عن يوم القيامة ‪ ،‬لكنها تحدثت حديث العقل إلى العقل ‪،‬‬
‫شبه وعرض‬ ‫وحديث القلب على القلب ‪ ،‬لكنه حديث مستفيض عرض ال ُ‬
‫الشكوك وكشف العلل التي تدفع الناس إلى أن يستبعدوا يوم القيامة ‪ ،‬هل‬
‫نستطيع أن نضع استنتاجا ً معينا ً مستخلصا ً من تساوق السورتين ؟ أقول ‪:‬‬
‫نعم ‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫إن العرب في الجاهلية كانت تعبد الصنام ولكنك لو أخذت أي عربي من‬
‫هؤلء فسألته ‪ :‬أتعتقد أنت أن هذه الحجارة المنحوتة تخلق أو ترزق أو تعطي‬
‫أو تميت ‪ ..‬أو تدفع هي عن أنفسها الضر أو تجلب بنفسها الخير ؟ لقال لك ‪:‬‬
‫ل ‪ ،‬إن الخالق الرازق المحي المميت هو الله ‪ ،‬ولكن الله في عليائه أبعد‬
‫وأمنع وأسمى وأعلى وأجل من أن نتطاول نحن المخلوقات الصغيرة إلى‬
‫مخاطبته ‪ .‬فهذه الصنام شفعاؤنا عند الله ) ما نعبدهم إل ليقربونا إلى الله‬
‫زلفى ( تأسيسا ً على هذه العقيدة الغامضة المضطربة غير الواقعية غير‬
‫العقلنية نشأت غيوم حول موضوع المآل والمصير ‪ ،‬فكانت فكرة يوم الخر‬
‫فكرة مشوشة وغائمة في فكر العربي الجاهلي ‪ ،‬غاية ما يتسامى إليه في‬
‫عقل العربي أن ينظر إلى الحوادث المباشرة فيرى ما يراه كل إنسان‬
‫ويصوغ هذه الرؤيا بكلم لعل التعبير النموذجي عنها خطبة قس بن ساعدة‬
‫اليادي الجاهلي الذي كان يتوكأ على عصاه ويخطب في عرب الجاهلية في‬
‫سوق عكاظ متسائل ً عن هذه الرحام التي تدفع ‪ ،‬والرض التي تبلع ‪ ،‬ومآل‬
‫هذه القوافل التي ذهبت في الماضي وتذهب الن ألها مصير تنتهي إليه أم‬
‫ليس لها مصير ؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إنه تساؤل عن المشكلة ل يطرح لها حل ول يوجد لها تعليل يستطيع أن‬
‫يطمئن إليه عقل العربي ‪ .‬ومعلوم أن كل إنسان مقطوع الصلة بالدين‬
‫معذور ‪ ،‬لن الكلم عن اليوم الخر ليس صناعة عقول وإنما هو أن يتلقى‬
‫الناس خبر يوم الخر من الوحي ‪ ،‬ول مجال للمعرفة عن اليوم الخر من أي‬
‫طريق آخر ‪.‬‬
‫حينما فوجئ المشركون بسورة القارعة تتحدث بهذه اللفاظ الفخمة الجذلة‬
‫عن اليوم الخر وتصفه لهم وأنه يرونه رأي العين أو يلمسونه لمس اليد حتى‬
‫تقشعر له أبدانهم أحدث دون شك بلبلة واضطرابا ً شديدين ‪ ،‬ول بد أن‬
‫طرحت ول بد أن حوارا ً قام بين المشركين وبين الرسول صلى الله‬ ‫تساؤلت ُ‬
‫عليه وسلم ‪ .‬فتلك هي طبيعة المور ‪ ،‬فجاءت سورة القيامة تضع المور‬
‫مكانها حقا ً ‪ .‬عرضت لموضوع القيامة فقررته أول ً ‪ ،‬ثم كشفت عن الدوافع‬
‫التي تجعل الناس يستبعدون إمكان يوم الخر ول يؤمنون بهذا اليوم ‪ ،‬فإذا‬
‫هي أمور دنيوية صرفة تتعلق بالرغائب والشهوات واللذائذ ول تتصل بقناعة‬
‫العقل ول بطمأنينة القلب ‪ .‬ثم ساقت السورة دلئل يشهدها الناس يوميا ً‬
‫ويستطيعون أن يتلفتون إليها ويقرأوها في أنفسها وفيما حولهم وفي الفاق ‪.‬‬
‫وكان يمكن أن يستقر كل شيء في قراره الحق لو أن هذه النسانية كانت‬
‫رشيدة ‪ ،‬ولكن النسانية كالعهد بها حينما تواجه بالحقائق الصلبة التي ل‬
‫تحتمل النقاش تحاول أن تلجأ إلى طرق شائكة وغريبة ول أخلقية ‪ ،‬ماذا الرد‬
‫؟ كان الرد الغريب العجيب غير المعقول وغير المقبول لدى أي إنسان عنده‬
‫ذرة من عقل ‪ ،‬كانت حملة التشويش والتشويه والتجريح على من ؟ ليس‬
‫عرضت في سورة‬ ‫على الحقائق التي عرضتها سورة القيامة ‪ ،‬فالحقائق التي ُ‬
‫القيامة أمنع من أن تطالها ثقافات البشر ‪ ،‬ولكن كما قلت لكم في الجمعة‬
‫الماضية فإن النسانية المعذبة الشقية اخترعت حيلة قديمة قدم هذه‬
‫البشرية ‪ ،‬حينما أدعوك إلى طريق فيه كل الهدى والحق والصلح يضمن لك‬
‫استقرار عيشك وسلمة مصيرك ويوفر عليك حقوقك ويرد عنك كل أنواع‬
‫الظلم والعدوان ‪ ،‬لكنك ل تطيقه ‪ ،‬وترفضه شهواتك ‪ ،‬يقطع عنك حبل‬
‫نزواتك ‪ ،‬أنت ل تستطيع أن تقول عن الشمس أنها مظلمة ‪ ،‬ذلك شيء يرده‬

‫‪78‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫واقع المر ‪ ،‬لكنك تملك هذه الحيلة الرخيصة المجرمة أن تجرح صاحب‬
‫فذ فيه‬
‫الطريق وصاحب الدعوة ‪ ،‬أن تصب هجومك على الشعب الذي تتن ّ‬
‫الدعوة ‪ ،‬ولهذا انصبت نقمة المشركين وانصبت دعواتهم الكاذبة على شخص‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم فذهبوا يطعنون ‪.‬‬
‫وعجيب هذا الموقف ‪ ،‬إن محمد عليه الصلة والسلم عاش بين هؤلء‬
‫المكيين أربعين سنة ‪ ،‬ما جربوا عليه كذبة قط ‪ ،‬ما صبا كما يصبو الشباب ‪،‬‬
‫كان بينهم طفل ً فكان زهرة الطفال ‪ ،‬ثم نشأ شابا ً فكان فخر الشباب ‪ ،‬ثم‬
‫أصبح رجل ً فكان تاج الرجال ‪ ،‬ولم يمسك عليه أحد أي مطعن طيلة الربعين‬
‫السنة ‪ ،‬لم يكن شخصه الكريم صلوات الله عليه إل موضع والجلل والتقدير‬
‫والمحبة ‪ ،‬الشباب والشيوخ يقدرونه ‪ ،‬كل امرأة تتمنى أن يكون محمد لها‬
‫بعل ً أو أبا ً أو أخا ً ‪ ،‬حتى إذا جهر بالدعوة انقلبت كل شيء ‪ ،‬ورجع محمد صلى‬
‫الله عليه وسلم كذابا ً وأّفاقا ً ومفتريا ً على الله تعالى ‪ ،‬ذهبت الدعاوى تأخذ‬
‫هذا الطريق الوسخ ‪ ،‬ولكن غير المنتج ‪ ،‬فجاءت سورة الهمزة ل تتنزل بحيث‬
‫تمسك بنفس السلح لتضرب المكيين مع أنهم كلهم فيهم المطاعن ‪ ،‬كلهم‬
‫مقاتلهم ظاهرة ‪ ،‬السلم أشرف من أن يستخدم سلح الدعاوى الرخيصة أو‬
‫أن يتورط في الكذب من أجل إسقاط الخصم ‪ .‬ولكنها قالت ) ويل لكل‬
‫همزة لمزة ( سيلقي العاقبة وسيلقي المصير ‪ ،‬كلم نظيف ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫هل انتهى الكلم عند هذا الحد ؟ ل ‪ ،‬إن المشركين تجاوزوا كل حد معقول‬
‫ومقبول ‪ ،‬وهنا نريد أن نرجع إلى وقائع نموذجية ‪ ،‬إن موضوع اليوم الخر أثير‬
‫كشفت الساحة‬ ‫عرضت دلئله وشواهده ومؤيداته ‪ ،‬ثم ُ‬ ‫أول ً إثارة عادية ‪ ،‬ثم ُ‬
‫عن أناس ل يؤمنون به ل لن المر غير معقول ولكنه لنه ينغص عليهم‬
‫شهواتهم التي اعتادونها ‪ .‬لكن المكيين الذين كان خليقا ً بهم أن ل يثيروا‬
‫الموضوع أبدا ً ‪ .‬كان الصحابي الجليل خباب بن الرت رضي الله عنه حدادا ً‬
‫في مكة يصنع السيوف ‪ ،‬وصنع للعاص بن وائل السهمي وهو من زعماء‬
‫القبائل المكية القرشية صنع له سيوفا ً ‪ ،‬وأصبح له عليه دين ‪ ،‬فلما جاء‬
‫الخباب يتقاضى العاص بن وائل دينه الذي له في ذمته ‪ ،‬ما تتصورون الجواب‬
‫؟ إن الواقعة استثمرت استثمارا ً قذرا ً ‪ ،‬في ذلك الوقت كانت آيات اليوم‬
‫الخر تتنزل ‪ ،‬وكان الحوار حولها يشتد ‪ ،‬وكانت أندية قريش تبدئ في هذا‬
‫الموضوع وتعيد ‪ ،‬حينما تقاضى خباب رضي الله عنه دينه ‪ ،‬قال له العاص ‪ :‬يا‬
‫خباب أليس يزعم صاحبك هذا الذي أنت على دينه أن الجنة فيها ما يشتهيه‬
‫النسان من ذهب وفضة وطعام وخدم ؟ قال ‪ :‬بلى ‪ .‬قال ‪ :‬فأنظرني إلى‬
‫ذلك اليوم ‪ ،‬فإذا دخلت إلى الجنة فسوف أقضيك ‪ ،‬فوالله لن تكون أنت ول‬
‫صاحبك آثر على الله مني ول أكثر حظا ً مما في اليوم الخر ‪ .‬هذه السخرية‬
‫المرة ‪ ،‬رجل له على رجل دين ‪ ،‬مسألة حقوق دنيوية تحصل بين الناس ‪ ،‬ما‬
‫علقة يوم الخر وهي قضية القضايا بعد اليمان بالله تعالى بعد السلم لكي‬
‫تجر إلى الساحة بهذه السخرية المرة المقيتة التي تكشف عن انهزام‬
‫أصحابها قبل أن تكشف عن سخريتهم لهذه القضية ‪.‬‬
‫فلم يمهله الوحي ‪ ،‬فجاءت آيات الله تعالى تقول ) أرأيت الذي كفر بآياتنا‬
‫طلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا ً ‪ ،‬كل سنرثه‬ ‫وقال لوتين مال ً وولدا ً ؟ أ ّ‬
‫ما يقول ونمد ّ له من العذاب مدا ً ( ‪.‬‬
‫وواقعة أخرى ‪ ،‬كان أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط زعيمين من زعماء‬

‫‪79‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الجاهلية متصافيين في الجاهلية ‪ ،‬وذات يوم جلس عقبة بن أبي معيط إلى‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه ‪ ،‬في تلك اليام يبدو أن‬
‫المشركين قرروا حظر الجتماع مع الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬في تلك‬
‫الوقات كانوا يأخذون أفواه السكك والطرق كي ل يسمحوا لحد من‬
‫الوافدين على مكة أن يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم أي شيء ‪.‬‬
‫حينما سمع أبي أن عقبة بن أبي معيط جلس إلى النبي عليه الصلة والسلم‬
‫مشى إليه وقال له ‪ :‬وجهي من وجهك حرام ‪ ،‬ل أكلمك أبدا ً إذا أنت جلس َ‬
‫ت‬
‫إلى محمد ‪ ،‬وإذا أنت كلمته فلم تذهب وتتفل في وجهه ‪ .‬وفعل ً مشى عدو‬
‫الله عقبة حتى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في وجهه‬
‫الشريف ‪ ،‬ونزل قول الله تعالى ) ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني‬
‫اتخذت مع الرسول سبيل ً ‪ ،‬يا ليتني لم أتخذ فلنا ً خليل ً ‪ ،‬لقد أضلني عن الذكر‬
‫بعد إذ جاءني وكان الشيطان للنسان خذول ً ( ‪.‬‬
‫أبي بن خلف هذا الزعيم السفيه المتعجرف مشى إلى النبي صلى الله عليه‬
‫ل ‪ ،‬ففركه في‬ ‫وسلم حينما سمع اليات تنذر باليوم الخر وفي يديه عظم با ٍ‬
‫يديه حتى كان ترابا ً ونفخه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ‪:‬‬
‫أنت تزعم أن الله يحيي هذا بعد أن بلي ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬يحييه الله ويبعثك‬
‫ويدخلك النار ‪ .‬وأنزل الله في شأنه ) وضرب لنا مثل ً ونسي خلقه قال من‬
‫يحيي العظام وهي رميم ‪ ،‬قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق‬
‫عليم ( هذا الجو مع هذه المواقف المزعجة غير الخلقية التي ُوجه بها النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم والتي ينفذ لها صبر الحديد هي التي كانت وراء هذه‬
‫اللهجة الحادة في صياغة سورة المرسلت ‪.‬‬
‫إن المر تجاوز كل حد ‪ ،‬ومع ذلك فمن الخير أن نعيد قراءة سورة المرسلت‬
‫حينما نقرأها ‪ ،‬مع كل هذه المواقف المستهزئة ‪ ،‬مع كل هذه الظواهر‬
‫جل على سورة المرسلت أنها كانت‬ ‫العدوانية ‪ ،‬هل يستطيع أحد أن يس ّ‬
‫بنفس أسلوب المشركين في تهجمهم على محمد صلى الله عليه وسلم ؟‬
‫أن تخاطب المشركين بنفس اللغة التي كانوا يخاطبون بها رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم ؟ أم تستخدم نفس السلحة التي يستخدمونها ؟ ل ‪ ،‬بقيت‬
‫قضية السلم في مستواها الرفيع العالي الذي ل يجوز أن يهان وأن ي َُنزل به‬
‫إلى هذه المستويات الرخيصة ‪ ،‬بقيت كلمات الله تعالى في الموقع الذي‬
‫يقول لنا أنه مهما طال الشوط ومهما امتد الطريق فإن النسان يسكنه‬
‫جوهره النساني الذي ل يستطيع أن يثبت على مواطن الخطأ إلى ما ل نهاية‬
‫‪ ،‬ل بد أن تحل الساعة الذي يفيء النسان إلى عقله ويرجع إلى رشده‬
‫ويراجع حسابه ‪ ،‬فيرى أنه في ضلل مبين ويرى له أنه من الخير أن يدخل‬
‫فيما دخل فيه الناس ‪ ،‬وأن يكون جنديا ً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه‬
‫وسلم وأن يكون خادما ً لهذا الدين العظيم ‪ ،‬يجّند كل ما لديه من طاقة من‬
‫أجل تدعيم مواقعه وترسيخ أقدام أتباعه حتى يفوزوا بالهمة التي أوكلها الله‬
‫إليهم وهي استخلفهم في الرض لينظر كيف كان يعملون ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫ل أريد في هذه الجمعة أن أدخل في صلب السورة فقد وعدتم بأن أقتصر‬
‫على أقل ما يمكن من الوقت ‪ ،‬وهذا قد أخذنا من الوقت ما هو مقدور لنا ‪.‬‬
‫وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم ‪ ..‬والحمد لله رب‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫تفسير سورة النجم‬


‫الجمعة ‪ 8‬صفر ‪ 28 / 1397‬كانون الثاني ‪1977‬‬
‫الحلقة ) ‪ 2‬ـ ‪( 5‬‬
‫شوح‬ ‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ،‬أما بعد فيا أيها الخوة‬
‫المؤمنون ‪:‬‬
‫لقد كانت وقفتنا الولى في السبوع الماضي مع سورة النجم ‪ ،‬وهي السورة‬
‫التي أثارت في وجهنا وفي وجه كل الدارسين مشكلة من أعقد المشاكل‬
‫التي تواجه دارس القرآن من حيث ارتباط اليات بالوقائع ‪.‬‬
‫وقفت بكم في الجمعة الماضية عند بعض مضامين سورة النجم وكان الهدف‬
‫من ذلك أن نتحسس مدى صلة هذه المضامين بذلك الواقع البعيد ‪ ،‬ثم ننظر‬
‫إلى النتائج التي حصلت والتي يمكن أن نلقيها على الواقع المعاصر ‪ .‬وتحدثنا‬
‫عن فاتحة السورة بما أحسبه مغنيا ً إن شاء الله في هذا الموضع ‪ ،‬فمسألة‬
‫الحديث عن السراء والمعراج ليست مسألة أساسية في سورة النجم لكي‬
‫يفيض الحديث عنها في هذا الموقف ‪ ،‬لكن محلها في سورة السراء وهي‬
‫من السور المكية التي ل بد أن نمر عليها إذا أحيانا الله وأقدرنا الله على‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫عموما فيما يتعلق في مضامين السورة فإن القرآن المكي برمته يدور حول‬ ‫ً‬
‫المور السارية بصورة أساسية ‪ ،‬أول ً مشكلة اللوهية وما يتفرع عليه ‪ ،‬ثانيا ً‬
‫مشكلة الرسالة وما ينبني عليها ‪ ،‬ثالثا مشكلة الدار الخرة وما تثيره من‬
‫الصعوبات ‪ ،‬فهذه المور الثلثة هي في الحقيقة السس التي يدور عليه‬
‫القرآن المكي كله ‪ .‬وبطبيعة الحال فهذا إجمال ل يغني عن تفصيل ‪ ،‬وإيجاز‬
‫من ورائه كلم طويل ‪ ،‬خذ إليك مثل ً موضوع اللوهية ‪ ،‬وقلت إنها مشكلة‬
‫حّلت انتهى كل شيء ورجعت المور‬ ‫اللوهية وهي في الحقيقة مشكلة إذا ُ‬
‫إلى الحق ‪ ،‬وإذا لم تحل فل جدوى من متابعة الطريق ‪ .‬إن مشاكل السلم‬
‫وقضاياه يتصل بعضها ببعض ويأخذ بعضها برقاب بعض ‪ ،‬وهي كأجزاء البناء ‪،‬‬
‫هي بمجموعها تسمى البناء ولكنها على شكل تفاريق وأجزاء ليست بناًء ول‬
‫شيئا ً قريبا ً من البناء ‪ .‬مشكلة اللوهية ل يمكن أن ُينظر إليها بصدق وبجدية‬
‫وبأسلوب علمي باختصار ما لم تتعرف قبل ذلك على الرضية التي كانت‬
‫متوفرة حين نزول الرسالة السلمية ‪.‬‬
‫ما هو الواقع الديني ؟ ما هي جملة الفكار التي كانت تموج بها الساحة‬
‫النسانية في ذلك الوقت ؟ ما مبعث هذه الفكار ؟ ما مأتاها ؟ ما منشؤها ؟‬
‫ما قيمتها في حياة الناس العقلية والعملية ؟ كل أولئك يجب أن تتعرف عليه‬
‫ت ب َعْد ُ مطالب بأن تعرض‬ ‫قبل أن تأذن لنفسك بأن تخوض هذا الغمار ‪ ،‬ثم أن ْ َ‬
‫مسألة اللوهية على النحو الذي جاءت به الرسالة وأن تعرضها وهي في‬
‫غمرة الصراع مع هذا الواقع الذي يتحرك بمختلف التجاهات والمبادئ ‪ .‬قل‬
‫مثل ذلك بالنسبة لمشكلة الرسالة ‪ ،‬كيف يكون البشر رسول ً ؟ كيف تتحقق‬
‫الصلة بين السماء والرض ؟ ما ماهية الوحي ؟ ما موضوعات الوحي ؟ ما‬
‫مقام الرسول من دين الله وشرعه ؟ ما مقام الرسول من أمته التي دعا‬
‫إلى الله فيها ؟ ما مقام الرسالة ككل بالنسبة للبشرية ؟ كل أولئك أسئلة ل‬

‫‪81‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بد لك أن تواجهها وأنت تتعرف على حقائق التنزيل ‪ ،‬ومثل هذا أيضا ً لك أن‬
‫تقوله بالنسبة ليوم الخر ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫حينما نبسط أمامنا مخططا ً عاما ً لسورة النجم فبالتأكيد سوف نعثر على هذه‬
‫القضايا بالذات ‪ ،‬أول شيء بدئت به السورة تلميح إلى موضوع اللوهية‬
‫ولكن من الجانب الذي يهدم العقيدة الفاسدة أي من الجانب السلبي وليس‬
‫من الجانب اليجابي ‪ ) .‬والنجم إذا هوى ( فالنجم باعتباره أحد المعبودات‬
‫التي كانت تعبدها المم القديمة ‪ ،‬ومن الخطأ أن نظن أن عبادة النجوم عبادة‬
‫كانت مقصورة على العرب ‪ ،‬فالواقع أن العرب أخذوها عن غيرهم ‪ ،‬عبادة‬
‫الكواكب والنجوم كانت أشيع ما تكون وأظهر ما تكون عند البابليين ‪ ،‬وحينما‬
‫أرسل الله جل وعل أبا النبياء إبراهيم عليه السلم بالحنيفية السمحة كانت‬
‫عبادة النجوم أظهر شيء يكون في المجتمع البشري المعروف في العالم‬
‫ة عن مقام إبراهيم عليه السلم ) فنظر‬ ‫القديم ‪ ،‬ولعل الشارة في الية حكاي ً‬
‫نظرة في النجوم فقال إني سقيم ( تشير إلى هذا الواقع الذي كان معروفا ً‬
‫في ذلك التاريخ ‪ .‬والعرب أخذت عبادة بعض الكواكب عن المم الخرى ‪،‬‬
‫صحيح إن البابليين في الصل موجة من موجات الهجرة العربية من الجزيرة‬
‫العربية ولكنها تحيزت مع الزمن أمة قائمة بذاتها ‪ ،‬انفصلت بمعتقداتها‬
‫وبآرائها ونظمها وبأنماط حياتها عن المة الم التي بقيت تعيش داخل‬
‫الجزيرة العربية ‪ ،‬فل بد ّ نعرف أن عبادة النجوم طارئة على المة العربية‬
‫وليست أصيلة ‪ ،‬وأنها جاءت إليها من أمم أخرى ‪ .‬هذا التلميح الذي أشرنا‬
‫شعُِر عند من يذوق تراكيب‬ ‫سم ٍ بالنجم إذا هوى ي ُ ْ‬ ‫إليه الن والذي يشير إلى قَ َ‬
‫ُ‬
‫العربية ويعرف خصائص اللسان الذي أنزل به القرآن ويعرف قيمة الزخم‬
‫والشعاع الذي تتمتع به هذه اللغة الشريفة التي نطق بها أفصح الخلق‬
‫وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم تترك في حس العربي وهو يسمع هذا‬
‫موا أعاجم ‪،‬‬ ‫الكلم ‪ .‬العربي ول نعني عرب اليوم فكثير منهم يجب أن ُيس ّ‬
‫م واستقامت سلئقهم وبرئت من العقد‬ ‫وأعني العرب الذين خلصت فِط َُرهُ ْ‬
‫نفوسهم ‪ ،‬هذا العربي حين كان يسمع الله يقول ) والنجم إذا هوى ( يتصور‬
‫في ذهنه عالما ً كامل ً ‪ ،‬قضية برمتها تقوم رأسا ً في الذهن وتنبثق لتأخذ شكل‬
‫عالم ‪ ،‬يتصور العربي أمته وتلك الطوائف منها التي كانت تعبد النجوم‬
‫والكواكب سواء عبدتها استقلل ً أي اعتبرتها آلهة من دون الله أو عبدتها على‬
‫سبيل المشاركة مع الله جل وعل أو عبدتها على سبيل الب ُن ُوّةِ لله جل وعل‬
‫تعالى الله عما يقول الظالمون علوا ً كبيرا ً ‪ ،‬كما كانت العرب تدعي أن‬
‫الملئكة بنات الله ‪ ،‬وسواء عبدت هذه النجوم على أنها أشياء مقدسة لها‬
‫ون للسف فلسفة‬ ‫م ْ‬‫س َ‬
‫تأثير أو فاعلية في الوجود أو بتعبير الفلسفة ـ الذين ي ُ َ‬
‫المسلمين ـ أن هذه الكواكب مدبرات للكون ‪ .‬سواء كانت الصورة هذه أو‬
‫تلك فإن العربي يتصور مباشرة هذه الصورة ‪ .‬هذا النجم يراه أمامه كلما جن‬
‫الليل ونظر العربي إلى أديم السماء ولحظ حركات النجوم وجد النجم ينتقل‬
‫بانتقال الفلك ويتحرك بحركة الفلك ‪ ،‬ثم وجد هذه النجوم المتهاوية‬
‫المتساقطة فهو يرى دلئل التغير والحدوث ‪ ،‬ما كان متغيرا ً وحادثا ً فل بد أن‬
‫يكون البداية ‪ ،‬والله الخالق البارئ المصور يستحيل أن تكون له بداية ‪ ،‬ما‬
‫كان خاضعا ً للتغير فإن الزمان يؤثر فيه ‪ ،‬وإن المكان يؤثر فيه ‪ ،‬والمعبود‬
‫الحق خالق الزمان والمكان ومؤثر فيهما ‪ ،‬حينما تقع هذه اللحظة في حس‬

‫‪82‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫العربي ) والنجم إذا هوى ( يدرك فورا ً دللة ما فيه طوائف من العرب ممن‬
‫عبد النجوم ‪ ،‬وصحيح أن الهجوم على صورة من صور الوثنية بهذا الشكل‬
‫هجوم غير مباشر ولكنه فّعال ‪ ،‬ليست المسألة أن أواجهك مواجهة صريحة‬
‫وأن أكسر ساقيك ‪ ،‬ل ‪ ،‬هذه صورة من صور عديدة قد تكون أضعف الصور‬
‫وأقلها تأثيرا ً ‪ ،‬المسألة التي يجب أن توضع في العتبار وأن ت ُوَْلي العناية‬
‫الكافية ليست أن نسب معبودات العرب وغير العرب ‪ ،‬فإن السباب المباشر‬
‫والهجوم المباشر دون أن يكون مصحوبا ً بهذه الزعزعة التي تتناول التشكيك‬
‫بأساس القضية يؤدي إلى عكس المطلوب ‪ ،‬ولهذا نجد من جملة تأديبات‬
‫القرآن للمة المسلمة حينما كان بعض المسلمين يتسرع فيسب آلهة‬
‫المشركين نجد الله تعالى يقول على سبيل التأديب والتوجيه وبيان الطريقة‬
‫الجدى والمثل ) ول تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسب الله عدوا ً بغير‬
‫علم ( ماذا تكون النتيجة ؟ تكون النتيجة حين تهجم أنت الهجوم المباشر على‬
‫الخصم أنت ل تفعل أكثر من أن تزيد ضلله على ضلل ‪ ،‬وقساوة على‬
‫س القضية من أطرافها بالتشكيك ‪ ،‬لزعزعة‬ ‫قساوة ‪ ،‬الطريقة المثلى أن تم ّ‬
‫الثقة ‪ ،‬حتى إذا ما اهتزت السس ولم يبقى للقضية التي يحملها خصمك كل‬
‫هذه القداسة والتمسك فحينئذٍ اضرب الضربة القاضية وذلك هو ما فعله‬
‫القرآن الكريم ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫حين كان بعض المتسرعين من المسلمين يسبون الصنام ماذا كانت‬


‫النتيجة ؟ كانت النتيجة أن المشركين أخذوا يسبون الله ‪ ،‬ماذا فعلنا ؟ حصيلة‬
‫العملية ماذا كانت ؟ أننا أقمنا حاجزا ً كثيفا ً بيننا وبين هذا النسان الذي نتحدث‬
‫معه لكي نقتلع من ساحة تفكيره ومن جذر قلبه عقائد فاسدة لنحل في‬
‫مكانها عقائد سليمة وأفكار صحيحة نكون قد أنزلنا حجابا ً كثيفا ً أمام هذا‬
‫النسان ‪ ،‬هذا واحد ‪ .‬الشيء الثاني ‪ :‬في الوقت الذي نبعد أنفسنا عن هذا‬
‫النسان ونبعد هذا النسان عنا نكون قد تسببنا في أن ُيسب الله تعالى عدوا ً‬
‫بغير علم ‪ .‬فعل ً إن الذي تنفض إليه ما عندك إنسان كما أنت إنسان ‪ ،‬كما أن‬
‫لك عقل ً فله عقل ‪ ،‬وكما أنك تتمتع بأحاسيس ومشاعر فهو مثلك كذلك ‪،‬‬
‫وكما أنك تحب قضيتك التي تحملها وتتفانى من أجلها ‪ ،‬فكذلك هو يحب‬
‫ذلك ‪ ،‬فمن هنا ندرك ما قال الله تعالى تعقيبا ً على هذا الفهم المغلوط‬
‫) كذلك زينا لكل أمة عملهم ( ‪ .‬في السابق قلت لكم إن من الخطر أن‬
‫تظنوا أن عابد الصنم ل يحس بالراحة والرضى ‪ ،‬ومن الخطأ أن تظنوا أن‬
‫النصراني الذي يقول إن عيسى ربي وهو مخلصي وهو إلهي ل يحس بالرضى‬
‫والطمأنينة ‪ ،‬ومن الخطأ أن تتصوروا اليهودي الذي يرزح تحت مجموعة هائلة‬
‫ض عما هو فيه ‪ ،‬بل من الخطأ أن تتصور أن هذا المشرك‬ ‫من العقد غير را ٍ‬
‫في الهند أو في الصين الذي يتقدس ويتطهر بروث البقر ل يحس الرضى‬
‫والطمأنينة ‪ ،‬ل تتصوروا المسألة بهذا الشكل ‪ .‬من عجيب صنع الله أن الله‬
‫ضى كل إنسان بالذي هو فيه وإل لنشق النسان إلى نصفين ألما ً‬ ‫َ‬
‫تعالى أْر َ‬
‫وانزعاجا ً ‪ ،‬لكن الله تعالى من أجل استقامة الحياة جعل كل إنسان راضيا ً‬
‫بالذي هو فيه ‪ .‬ومهمة الرسالة أن تزيل هذه الحجب عن عيني النسان ‪ ،‬أن‬
‫تجعل النسان يتطلع إلى ما هو أعلى ‪ ،‬وأن ينظر إلى ما هو فيه ‪ ،‬فيرى أن‬
‫ما هو خلف لهذا قد يكون أفضل وأحسن ‪.‬‬
‫ً‬
‫أريد أن يعرف كل واحد منا أن طريق الدعوة ليست سبابا أو ليست هي‬

‫‪83‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫دائما ً مواجهة فعلية ‪ ،‬إن النهاية الفعلية هي نهاية المطاف ‪ ،‬وأما في الدعوة‬
‫فأنت مأمور بأن تتلطف بالناس وأن تأخذهم على أنه بشر ‪ ،‬قد يكون أبي‬
‫ت ملك الملوك أن تسب أبي ‪ ،‬وحين تسب‬ ‫فاسدا ً ولكن ل أرضى منك ولو كن َ‬
‫أبي فسوف أسب أباك ‪ ،‬ولهذا قال النبي صلى الله عيه وسلم ‪ :‬ل تؤذوا‬
‫الحياء بسب الموات ‪ .‬وقال أيضا ً فيمن يرتكب الكبائر عد ّ منهم أن يسب‬
‫الرجل أباه ‪ .‬قالوا ‪ :‬وكيف يسب الرجل أباه ؟ قال ‪ :‬يسب أبا الرجل فيسب‬
‫الرجل أباه ‪ ،‬ويسب أمه فيسب أمه ‪ .‬فالتعامل مع كائن حي ‪ ،‬علينا أن نعرفه‬
‫بدقة كي نعرف الطريق الذي يوصل إلى قلبه ‪ ،‬ولكي نمسك بالمفتاح الذي‬
‫يفتح مغاليق هذا القلب ‪ .‬تجدون ربنا جل وعل حينما يعرض سورة النجم بهذا‬
‫الشكل الذي تحدث به ل يزيد في فاتحة السورة على أن يعرض تعريضا ً‬
‫يدركه أولوا اللباب ) والنجم إذا هوى ( هذه قضية تعرض ل مجال للمكابرة‬
‫فيها ‪ ،‬سقوط النجوم شيء يراه النسان كل يوم ل سيما سكان الصحارى‬
‫الذين تصفو عندهم السماء يرون تساقط النجوم بكثرة ‪ ،‬فإذا كانت النجوم‬
‫متغيرة بهذا الشكل فقد وقع في الحس أن هذا ل يستحق أن يكون إلها ً ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫ما أريد بعد هذا الكلم الذي أردته كالمدخل إلى ما أحب أن أقول لكم أن‬
‫أتعرض مرة أخرى لموضوع فاتحة السورة التي تقص شيئا ً من مشكلت‬
‫السراء والمعراج فأنا أدخر هذا إلى اليوم الذي نقف فيه مع سورة السراء ‪،‬‬
‫وإنما أريد أن أمر سريعا ً إلى بعض موضوعات السورة وأقف عند قضية‬
‫عرضت جوانب منها في الجمعة الماضية ‪ ،‬قضية اللوهية التي تصدى لها‬
‫السلم ‪ ،‬وقضية المعتقدات التي كانت سائدة في الجزيرة العربية ‪ .‬تعرفون‬
‫أن الله تعالى قال مخاطبا ً هؤلء الناس ‪ ) :‬أفرأيتم اللت والعزى ‪ ،‬ومناة‬
‫الثالثة الخرى ‪ ،‬ألكم الذكر وله النثى ‪ ،‬تلك إذا ً قسمة ضيزى ( ) إن هي إل‬
‫أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ( ) إن يتبعون إل‬
‫الظن وإن الظن ل يغني من الحق شيئا ً ( وفي هذا الموضوع عن ادعاء‬
‫العرب في الجاهلية أن الملئكة بنات الله ‪ ،‬وعن ادعائهم أنهم شفعاء لهم‬
‫عند الله ‪ ،‬وأنهم باعتبارهم بناتا ً كانوا ينطلقون من تصور جاهلي متأصل في‬
‫نفوس فرضته الحالة البدوية في الصحراء التي كانت تعيش فيه العرب ‪.‬‬
‫ففي الصحارى حينما ل يكون ثمة قانون ول دولة فالنسان يحتكم إلى‬
‫ساعده وإلى قوته باستمرار ‪ ،‬من يقدر على هذا ؟ الذكران دون الناث ‪،‬‬
‫ولهذا كانت العرب تفرح بالمواليد الذكور وتبتئس بالناث ‪ ،‬ولكراهيتهم للنثى‬
‫ولهوان قضية اللوهية عليهم أنفوا لنفسهم واستكبروا أن ينسبوا الناث إلى‬
‫أنفسهم فنسبوها إلى الله جل وعل واعتبروا الملئكة إناثا ً وأنهم بنات الله‬
‫وسموا الصنام بأسماء الناث ‪ ،‬اللت والعزى ومناة كلها على وزن التأنيث ‪،‬‬
‫لنهم ينفرون من النثى ويدفنونها وهي حية ‪ .‬ما عند هذا أريد أن أقف ‪ ،‬وإنما‬
‫أريد أن أقف عند هذه الظاهرة ‪ ،‬من أين جاءت إلى العرب ؟ إننا في الواقع‬
‫نعرف أن العرب سللة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم ‪ ،‬يقول الله تعالى )‬
‫ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيم‬
‫الصلة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم‬
‫يشكرون ( في موضع آخر كان إبراهيم عليه السلم ينظر إلى الغيب البعيد‬
‫ويقول ) ربنا وابعث فيهم رسول ً منهم يتلو عليهم آياتك ( فالعرب المستعربة‬
‫هم من سللة إبراهيم عليه السلم ‪ ،‬أرأيتم في ديانة إبراهيم شيئا ً من الوثنية‬

‫‪84‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والصنمية ؟ إن إبراهيم عليه السلم جاء بها بيضاء نقية حنيفية سمحاء‬
‫وتوحيدا ً مطلقا ً ل شرك ول شائبة من شوائب الشرك ‪ ،‬فلماذا إذا ً وجدنا هذه‬
‫المة حينما جاءها محمد صلى الله عليه وسلم ول شيء أظهر عندها من‬
‫عبادة الصنام ؟ أهو شيء اخترعوه وابتدعوه أم هو شيء طرأ عليهم من‬
‫الخارج ؟ من حيث المردود العملي فل فرق ُيذكر بين أن تكون الصنام‬
‫طارئة من الخارج أم نابعة من ذات المة ‪ ،‬لكن من وجهة إبراز مكانة المة‬
‫فعلينا أن ننظر في القضية نظرا ً أدق وأقرب إلى وقائع التاريخ ‪ ،‬إن المة‬
‫العربية والتي هي نسل إسماعيل والتي تلقت رسالة إبراهيم وإسماعيل‬
‫عليهما السلم لبثت على الحنيفية السمحة ‪ ،‬ويقول الرواة إن إسماعيل عليه‬
‫السلم تزوج امرأة من قبيلة جرهم ‪ ،‬حينما أنزل إبراهيم عليه السلم هاجر‬
‫وابنها في مكان البيت كان البيت ربوة بيضاء ول ماء ول شيء ‪ ،‬وترك أهله‬
‫الخرين في العراق وترك إسماعيل في الحجاز ومضى عائدا ً إلى العراق ‪ ،‬لم‬
‫يكن في المكان إل هاجر وابنها الرضيع إسماعيل ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫ها نحن في قصة إسماعيل ‪ ،‬المهم أن البادية أعز شيء فيها هو الماء ‪ ،‬حيثما‬
‫ُوجد الماء وجد السكان ‪ ،‬والمكان الذي ل ماء فيه ل سكان فيه ‪ ،‬منطقة‬
‫البيت لم يكن فيها ماء ولهذا لم يكن فيها سكان ‪ ،‬حينما أنبع الله جل وعل‬
‫وم حول المكان فلحظت‬ ‫زمزم لهاجر وابنها إسماعيل بدأت هذه الطيور تح ّ‬
‫وم‬‫فصائل من قبيلة جرهم وهي من العرب العاربة لحظت وجود طائر يح ّ‬
‫حول مكان معين قال قائلهم ل بد أن يكون هناك ماء ‪ ،‬وقصدوا هذا المكان‬
‫ولدهشتهم وجدوا الماء فعل ً ولكن لم يجدوا إل امرأة تحمل على صدرها‬
‫رضيعا ً ‪ .‬وبما أن في العرب خلئق جيدة ‪ ،‬لو كان هؤلء يتمتعون بروح الشر‬
‫والعدوان فماذا تستطيع امرأة أن تفعل أمام قبيلة ؟ ومع ذلك فإن القبيلة‬
‫احترمت هذه المرأة وابنها واستأذنوا المرأة بأن يخيموا في هذا المكان ‪.‬‬
‫فوافقت المرأة ولكن قالت لهم ‪ :‬ولكن الماء لنا ‪ .‬وكبر إسماعيل عليه‬
‫السلم وهو ل يرى إل هذه القبيلة أمامه ‪ .‬ثم تزوج من هذه القبيلة وانتشرت‬
‫ذرية إسماعيل ‪ .‬حينما انتشرت هذه الذرية وتكاثرت كان بينها ما يكون بين‬
‫الناس في مزدحم الحياة ‪ ،‬الخلفات والقتال ‪ ..‬وجد الناس أنفسهم مضطرين‬
‫أن يرحلوا ‪ ،‬بعضهم خرج إلى مناطق أخرى ولكن ضمن جزيرة العرب ‪ ،‬مكة‬
‫المشرفة من خصائصها أن القلوب تهوي إليها ‪ ،‬وأن النسان إذا رآها مرة إل‬
‫ويسكنه الحنين إليها طيلة عمره ‪ .‬حينما وقف النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫وهو يتأهب للهجرة من مكة إلى المدينة نظر إلى البيت وإلى ربوع مكة التي‬
‫كانت ملعب الصبا ومدارج الشباب ونظر إلى هذه البقاع التي شهدت أخطر‬
‫وأصعب مرحلة من حياة محمد صلى الله عليه وسلم وقال يخاطب مكة ‪:‬‬
‫والله إنك لحب بلد الله إلى الله ‪ ،‬ولول أن قومك أخرجوني منك ما‬
‫خرجت ‪ .‬مكة حبيبة إلى النفوس ‪ ،‬أرانا الله جميعا ً إياها إن شاء الله ‪.‬‬
‫حينما اضطرت بعض فصائل من ذرية إسماعيل للهجرة لشوقهم إلى مكة‬
‫أخذوا معهم شيئا ً من حجارة مكة ‪ ،‬كانوا يتذكرون هذا البلد الحبيب إلى‬
‫نفوسهم ‪ ،‬ل شيء أكثر من ذلك في المرحلة الولى ‪ .‬ولحظوا كيف تتسلل‬
‫العقائد الفاسدة وكيف يدخل تيار النحراف إلى النفوس ؟ في المبدأ ليس‬
‫أكثر من أنك حملت صورة صديق أو حبيب ووضعتها في جيبك وكلما تشوقت‬
‫إليه استخرجت الصورة من جيبك ونظرت إليها ‪ .‬كذلك فعل العربي حين‬

‫‪85‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫هاجر من مكة أخذ معه بعضا ً من حجارة الكعبة ‪ ،‬كلما اشتاق إليها نظر إلى‬
‫هذه الحجارة ‪ ،‬في مرحلة الشوق الولى تكفيك النظر فترى أن شوقك قد‬
‫روي ‪ ،‬ولكنك مع شدة الشوق ل تكتفي بذلك تضع يدك فتلمس فتشعر بهذا‬
‫التيار العجيب الهادئ إلى نفسك ‪ ،‬ثم أخذوا يتلمسون هذه الحجارة كل‬
‫فترة ‪ ،‬ومع الزمن ومع توالي الجيال زادت المحبة وانقلبت المحبة إلى‬
‫قداسة ‪ ،‬وانقلبت لمسة الحب إلى تقديس وعبادة ‪ ،‬وأصبح لدى العرب من‬
‫العقائد والشعائر أنهم يتمسحون بالصنام تكملة إلى أداء الشعيرة التي‬
‫يريدونها ‪ .‬ثم تتطور المر ‪ ،‬هذه الحجارة الصماء أخذ الناس يشكلون فيها مع‬
‫عبدت من‬ ‫عبدت ومسحت ثم ُنحر لها ثم ُ‬ ‫الزمن على هيئة صنم فطورت ثم ُ‬
‫دون الله تعالى ‪.‬‬
‫من هنا إذا ً نشأت الوثنية ‪ ،‬انظر إلى البداية ثم إلى النهاية تجد أن العمل‬
‫الول ل شيء فيه ‪ ،‬ثم تتطور المر إلى العبادة ‪ .‬فنحن حين نعرض إلى‬
‫توجيهات السلم نجد السلم غاية في الحكمة وبعد النظر ‪ ،‬حينما كان‬
‫م أن يقوم‬ ‫الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل على أصحابه كان بعضهم يه ّ‬
‫إجلل ً واحتراما ً للرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فأنتم تعرفون الن أنه حين‬
‫ندخل إلى مجلس من المجالس ول يقوم الناس لنا حين ندخل نغضب ونشعر‬
‫بأنه ُألحقت بنا إهانة ‪ ،‬النبي صلى الله عليه وسلم بنظره المحكم كان يقول‬
‫لهم ‪ :‬اجلسوا ‪ ،‬ل تقوموا لي كما تفعل العاجم يعظم بعضها بعضا ً ‪ .‬النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم يعلم أن العاجم عبدت ملوكها ‪ ،‬فرعون كان ُيعبد من‬
‫دون الله ‪ ،‬إمبراطور الرومان كان ُيعبد من دون الله ‪ ،‬وكذلك كسرى ‪ .‬ما‬
‫الملك ؟ هو بشر من البشر اختير من قبيلة قوية ليكون مدبرا ً ‪ .‬له شيء من‬
‫الحترام ول شيء أكثر من ذلك ‪ .‬لكنه مع الزمن يستخف قومه فإذا هو‬
‫يفرض عليهم مع الزمن احتراما ً أكثر وهكذا حتى يطلب منهم أن يعبدوه ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع من هذه الظاهرة ‪ .‬وحين مرض صلى‬
‫الله عليه وسلم مرضه الخير وكانت تأخذه غاشية الموت كان يغطي وجهه‬
‫بثوب ‪ ،‬فإذا أفاق رفع الثوب من على وجهه ومسح وجهه وقال ‪ :‬اشتد غضب‬
‫الله على ُأناس اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ‪ ،‬اللهم ل تجعل قبري من بعدي‬
‫وثنا ُ ُيعبد ‪ .‬إن تطور الحترام إلى تقديس أمر وارد ‪ ،‬ونحن نستطيع أن نلمح‬
‫هذا في حياتنا المعاصرة ‪ ،‬بعد عشرات ومئات اللوف من السنين التي‬
‫قطعتها البشرية وهي تعيش وهي ترى كيف يموت الزعماء وكيف يحيون ؟‬
‫نحن ليس بعيدا ً عنا أن الزعماء كانوا ُيعبدون من دون الله جل وعل وأن‬
‫تماثيلهم وأصنامهم ُنصبت على الطرقات كي تجذب اهتمام الناس ‪ ،‬ونحن‬
‫نرى ونسمع مما عاصرناه أنه من السهل عليك أن تشتم الله وأن تكفر بأنبياء‬
‫الله جميعا ً ‪ ،‬لكن ليس من السهل عليك أن تسب أمام ضعيف عقل أحد‬
‫وط ‪ ..‬ويعيش ويموت ‪،‬‬ ‫هؤلء الناس وزعيما ً من الزعماء يأكل وينام ويتغ ّ‬
‫والنسانية لم تستفد من هذه التجربة بعد مئات من اللوف من السنين‬
‫عاشتها وهي ترى أن إنسانا ً ل يختلف عن إنسان ‪ ،‬وأن إنسانا ً ل يصح أن‬
‫ينحني أمام إنسان ‪ .‬من هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا ً على أن‬
‫يرفع هامة المسلم وأن يمنعها من أن تنحني لغير الله تعالى ‪ .‬ولهذا فنحن‬
‫نجد أن ظاهرة النحسار والنحطاط التي تعرضت لها المة كانت مصحوبة‬
‫للسف الشديد بهذا التقديس المبالغ فيه للصالحين وأصحاب الكرامات وما‬

‫‪86‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أشبه ذلك ‪ ،‬فهذا ينذر للقبر وهذا يسجد للقبر ‪ ..‬مما يخيل إليك أن المة‬
‫عادت إلى جاهلية الولى ‪ .‬مراحل النحطاط كانت دائما مترافقة بهذه‬
‫الظاهرة ‪ .‬فالسلم يحرص على سد مثل هذه البواب أمام المسلم ‪.‬‬
‫فمرحلة الوثنية نشأت من هذا الشيء ‪ ،‬أصلها حنين إلى البيت الحرام ثم إلى‬
‫عبدت من دون الله تعالى ‪ .‬وحين ُبعث‬ ‫أخذ حجارة من البيت ثم مع الزمن ُ‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم كانت الوثنية أعجوبة من العاجيب ‪ ،‬كان الرجل‬
‫منهم يتقّرب من مناة وإلى العزى ‪ ..‬ثم ل يكفيه هذا ‪ ،‬فل بد أن تعلق حول‬
‫الكعبة ثلث مائة وستون صنما ً حينما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة‬
‫المكرمة وفتحت أبواب الكعبة أخذ يطعنها بقوسه وهو يقول ) قل جاء الحق‬
‫وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ً ( وكانت هذه الصنام تنكب للوجوه على‬
‫الرض ‪ ،‬وكان كذلك الذي حدث في كل بيت من بيوت العرب التي فيها‬
‫أصنام ‪.‬‬
‫وما قصة عمرو بن الجموح عنكم ببعيدة ‪ ،‬حينما فشى السلم أسلم أولد‬
‫عمرو بن الجموح وكان لعمرو بن الجموح صنم من الخشب ‪ ،‬كيف يحتال‬
‫أولده لكي يزعزعوا ثقة الشيخ بهذا الصنم ‪ ،‬كانوا كلما نام الشيخ جروا‬
‫الصنم إلى المكان الذي ُتلقى فيها القذار ‪ ،‬فإذا استيقظ من نومه وأراد أن‬
‫يقيم بعض الشعائر عند صنمه لم يجده فبحث عنه حتى يجده بين القذار‬
‫فيأخذه ويغسله ويطيبه ثم يعبده ‪ ،‬وفي المرة الخيرة ربط أولده هذا الصنم‬
‫بكلب ميت ‪ ،‬فاكتشف الرجل أن هذا المر ضللة ‪ .‬فكل بيت من بيوت‬
‫العرب فيها صنم ‪.‬‬
‫تسمعون في سورة نوح أن الله جل وعل يحكي عن قوم نوح ) وقالوا ل‬
‫ن ودا ً ول سواعا ً ول يغوث ويعوق ونسرا ً وقد أضلوا كثيرا ً‬‫ن آلهتكم ول تذر ّ‬‫تذر ّ‬
‫( فهذه أسماء كانت أسماء أصنام كانت ُتعبد عند قوم نوح ‪ ،‬وتعرفون أن‬
‫نوحا ً عليه السلم عاش ألفا ً إل خمسين سنة من عمره في قومه ‪ ،‬وكان‬
‫الرجل من قومه إذا كبر وشاخ يأتي بابنه إلى نوح ويقول له ‪ :‬احذر هذا‬
‫الكذاب فإن أبي جاء بي وأنا في مثل سنك وقال لي ‪ :‬احذر هذا الكذاب ‪.‬‬
‫الباء يوصون البناء بتكذيب نوح عليه السلم ‪ .‬إلى هذه الدرجة كانت عبادة‬
‫الصنام متأصلة فيهم ‪.‬‬
‫هناك اتجاه آخر في قضية عبادة الصنام جديٌر باعتبار ‪ ،‬ويشده حديث للنبي‬
‫صلى الله عليه وسلم ُيقال إن أبا خزاعة ) وخزاعة هي القبيلة الم للقبائل‬
‫القرشية جميعا ً ( أي ) عمرو بن لحي الخزاعي ( مرض حتى أشرف على‬
‫الموت فقالوا له إن في الشام ) حمى ( فيها ماء ساخن فلو ذهبت إلى هناك‬
‫واستحممت فيها برئت ‪ ،‬وذهب عمرو إلى الشام حتى استحمى بالحمى‬
‫فبرئ ‪ ،‬ووجد في الشام أنهم يضعون تماثيل وأصنام ‪ ،‬فقال لهم ‪ :‬ما هذه ؟‬
‫فقالوا ‪ :‬هذه أصنام نستمطر بها المطر ونستنصر بها على العدو ‪ ،‬فطلب‬
‫منهم أن يعيروه واحدا ً منها فأعطوه واحدا ً ‪ ،‬فذلك أول دخول الوثنية إلى‬
‫جزيرة العرب ‪ .‬إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ‪ :‬رأيت عمرو بن لحي‬
‫في النار يجر قصبه في النار ) أي أمعاءه ( لنه كان أول من بحر البحيرة‬
‫وسّيب السائبة وحمى الحامي وغّير دين إبراهيم عليه السلم ‪ .‬فمضمون‬
‫الحديث إلى الواقعة التاريخية تشعر إلى أن الصنمية تحدرت من مشارف‬
‫الشام من الحمى وهي قريبة من درعا التي على الحدود الردنية الفلسطينية‬
‫السورية ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫‪87‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الشيء الثاني ‪ ،‬حينما ننظر إلى الية نكتشف مقابلة لطيفة ‪ ،‬انظر إلى الية )‬
‫أفرأيتم اللت والعزى ‪ ،‬ومناة الثالثة الخرى ‪ ،‬ألكم الذكر وله النثى ‪ ،‬تلك إذا ً‬
‫قسمة ضيزى ‪ ،‬إن هي إل أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من‬
‫سلطان ( لحظوا ‪ ،‬إننا هنا أمام مقابلة بين الله الحق واللهة المدعاة ‪،‬‬
‫الفارق الجوهري بين الله الحق أنه إله بالذات وأن اللهة المدعاة آلهة‬
‫بالتسمية بالسم ‪ ،‬الله جل وعل إله لنه هو الخالق وهو يستحق اللوهية بذاته‬
‫‪ ،‬وأما اللهة المدعاة فسواء علينا كانت صنما ً أم بشرا ً أم حيوانا ً أم كوكبا ً في‬
‫السماء فنحن البشر الذين نسمي هذه السماء ‪ ،‬إذا كنا نحن نعطيها هذا‬
‫الوصف فنحن كما أعطينا نستطيع أن نسترد ‪ ،‬نحن كما سمينا نستطيع أن‬
‫نلغي ‪ ،‬لكن اكفر أنت ولتكفر الدنيا جميعا ً أذلك يغير من الحقيقة شيئا ً وهو‬
‫أن الله رب الولين والخرين وأن الله رب السماوات والرض ؟ إن الله ل‬
‫تتعّرض ألوهيته لكفران الناس جميعا ً لي خدش من الخدوش ‪ ،‬إن تكفروا‬
‫أنتم ومن في الرض جميعا ً فإن الله غني حميد ‪ .‬ففارق ُيلفت إليه النظر ‪،‬‬
‫إن الله إله ليست لنك أنت الذي أّلهته ولكن لنه هو إلهك ‪ ،‬وسمي إلها ً لنك‬
‫أنت تأله إليه أي تشتاق إليه وتنجذب إليه وتفتقر إليه فهو إله بالذات ‪ ،‬لكن‬
‫ت اللت والعزى ومناة وهبل وما أشبه ذلك ‪ ،‬أنت‬ ‫هذه الصنام حينما سمي َ‬
‫الذي سميته أم هي آلهة أعطت ومنعت وخلقت وأماتت ورزقت وأفقرت‬
‫وأغنت وأقنت ؟ ل ‪ ،‬أنت الذي فعلت هذا وإذا فالمسألة تذهب منك لتعود‬
‫إليك ‪ ،‬وقولك إن هؤلء اللهة ل يزيد في الحساب على أنه كلمة خرجت من‬
‫شفتيك ‪ ،‬ولهذا قال الله هنا ) إن هي إل أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ( ما‬
‫قال مسميات ‪ ،‬أنا كشخص مسمى ‪ ،‬ولكن حينما تسميني باسم الذي يعرفني‬
‫فالسم هو السم والمسمى غير السم ‪ ،‬فهذه الصنام أسماء أي ل حقيقة‬
‫لها في الواقع ل أثر لها بالمرة وهذا ما أرادت اليات أن تلفت نظر النسان‬
‫إليه بدقة ولطف ودون جرح ودون مهاترات ودون سباب ‪ ،‬القضية تحل في‬
‫ضوء العقل وفي ضوء الحكم في نور العقل تحل ‪ ،‬هذه الصنام التي أنتم‬
‫عليها هذا النمط من العبودية كله فاسد بدللة العقل وببداهة العقل وبقضية‬
‫العقل ‪ ،‬وبعد أن تعرض المور وأن تكشف بهذا الشكل ‪ ،‬أفنحن المسيطرون‬
‫على الناس أنحن جبارون أقلوب الناس بأيدينا ؟ ل إن المر بعد الكشف إلى‬
‫الله ‪ ،‬من شاء أخذ بقلبه وناصيته إلى طريق الحق والصواب ومن شاء صرفه‬
‫عن هذا الطريق ليرديه في مهاوي الهلك والبواري والعذاب المقيم ‪ ،‬فنسأل‬
‫الله سبحانه وتعالى أن ينير عقولنا وعقولكم وأن يضيء أمامنا وأمامكم‬
‫الطريق كي نعرف سبيل الطريق الوصول إليه تبارك وتعالى وصلى الله‬
‫تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين‬
‫‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة النجم‬


‫الجمعة ‪ 15‬صفر ‪ 2 / 1397‬شباط ‪1977‬‬
‫)‪3‬ـ‪(5‬‬
‫شوح‬ ‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ،‬أما بعد فيا أيها الخوة‬
‫المؤمنون ‪:‬‬

‫‪88‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وفيما قلناه في السبوع الماضي أن القرآن المكي بصورة عامة يدور حول‬
‫أمور أساسية كلها على امتداد ثلثة عشر عاما ً التي قضاها نبينا محمد صلى‬
‫الله عليه وسلم في مكة ‪ ،‬كان يدور حول قضية اللوهية ‪ ،‬وثانيا ً حول مشكلة‬
‫الرسالة ‪ ،‬وثالثا ً حول قضية اليوم الخر ‪ .‬وإبراز هذه القضايا في الحاضر‬
‫ضروري ‪ ،‬هو ضروري من وجهة نظر الدراسة ‪ ،‬فالسورة كما عرفتم في أول‬
‫حديث عنه أثارت في وجهنا مشكلة ليست هينة ‪ ،‬لن فاتحة السورة تنتمي‬
‫إلى الوقت الذي حصل فيه السراء والمعراج وهو في أواخر السنة العاشرة‬
‫ونحن نتحدث عن وقائع تدور في فترة زمنية ل تتجاوز السنة السابعة من‬
‫المبعث ‪ ،‬ومن هنا فنحن نريد أن ننفذ إلى إكمال لبقية الحديث للحل الذي‬
‫قدمناه عن هذه المشكلة ‪ ،‬ثم نكمل ما تبقى من السورة ‪.‬‬
‫قلنا إنه ل شك أن فاتحة سورة النجم تشير إلى واقعة حصلت في السراء‬
‫والمعراج متأخرة جدا ً من المرحلة المكية ‪ ،‬وقلنا إن هذه المشكلة ُتحل على‬
‫ضوء تاريخ القرآن ‪ ،‬فالقرآن حين دّون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫وبأمر منه وبتوقيف منه أيضا ً كانت آياته تنزل متفرقة ‪ ،‬كانت الية تنزل اليوم‬
‫‪ ،‬وقد تنزل الية بعد سنة أو أكثر ‪ ،‬وضربنا مثل ً سورة البقرة وهي مجموعة‬
‫في القرآن في سورة واحدة وقلنا إن فيها آيات ُتعد من أبكر اليات في‬
‫المرحلة المدنية ‪ ،‬كما أن فيها آية يقال إنها آخر ما نزل من القرآن ‪ ،‬فعمر‬
‫هذه السورة في النزال ل يقل عن تسع سنوات ‪ ،‬ومع ذلك فهي سورة‬
‫واحدة ‪ .‬والدارس للقرآن مضطر لن يأخذ السورة على أنها بناء واحد‬
‫ومتكامل ‪ ،‬لن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرتبها على الوجه الذي‬
‫رتبت عليه ‪ ،‬فوجود الية في سورة معينة أو وجود عدة آيات في سورة معينة‬
‫تشير إلى واقعة من الوقائع المحددة تاريخيا ً ل يعني أن السورة برمتها تنتمي‬
‫إلى الزمن الذي حصلت فيه الواقعة ‪ .‬تسميات السور قد ل تدل مطلقا ً على‬
‫مضامينها وقد ل تشير إلى شيء مما تضمنته ‪ ،‬عندنا سورة قاف سميت‬
‫بالحرف الهجائي الذي بدئت به ‪ ،‬فماذا تفهم من هذا الحرف مما يدل على‬
‫مضامين السورة ؟ ل شيء ‪ .‬عندنا سورة صاد وهي سورة سميت باسم‬
‫الحرف الهجائي الذي بدئت به السورة بصرف النظر عن مضامين السورة ‪،‬‬
‫قلنا إننا على هذا النحو نستطيع أن نقول إن فاتحة سورة النجم ل يعني أن‬
‫السورة برمتها نزلت متأخرة ‪ ،‬وبالتالي ل يسحب التشكيك على التوقيت‬
‫الذي وضعه بصورة متقاربة علماء القرآن حينما رتبوا القرآن وفاقا ً للنزول ‪.‬‬
‫حينما ذهبنا نستعرض قضايا القرآن وقلنا لكم إن قضايا القرآن المكي عموما ً‬
‫تدور حول هذه القطاب الثلثة ‪ :‬اللوهية والرسالة واليوم الخر ‪ ،‬آن لنا أن‬
‫ننظر إلى فاتحة السورة من زاوية أخرى ‪ .‬لنرى أهي متنافرة مع الجو العام‬
‫الذي أشارت إليه السورة ؟ أم هي منسجمة معها كليا ً ؟ هذا هو الحديث‬
‫الذي نريد أن نبدأ به لنلفت النظر إلى أن الذين لم يرزقوا في القرآن ذوقا ً‬
‫خاصا ً ولم ُتكشف عن عيونهم الحجب لكي يذوقوا طعم هذا القرآن ‪،‬‬
‫يتصورون المور في القرآن تتكرر متشابهة مكروهة وهذا خطأ ‪ ،‬فالقضية من‬
‫القضايا التي تعرض في السورة كما تعرض في تلك كما تعرض في هاتيك ‪،‬‬
‫وهي هنا لها دللة وهي هناك لها دللة أخرى وهنالك لها دللة مغايرة ‪ ،‬قلنا إن‬
‫فاتحة السورة تشير إلى واقعة السراء والمعراج فلماذا سحبت هذه الواقعة‬
‫من السنة العاشرة أو بالحرى من أواخر السنة العاشرة لتحشر في سورة‬
‫أثارت قضايا ضمن السنوات الخمس الولى من البعثة ؟ حينما نعود إلى‬
‫استحضار ما نصصنا عليه من المور التي يدور حولها القرآن المكي ونتعرف‬
‫على قضية الرسالة وما يتفرع عليها من مشكلت أثارها الحجاج المكي‬

‫‪89‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والجدال المكي ل نستغرب وجود الفاتحة ) أي فاتحة السورة ( في هذه‬


‫السورة المبكرة زمنيا ً ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫لقد كانت للمشركين ردود أفعال متباين ومختلفة حول ذلك ‪ ،‬أرأيت الذي‬
‫يحاصره خطر داهم يريد أن يأتي عليه ‪ ،‬كيف يحاول أن يتملص من هذا‬
‫الجانب أو ذاك ‪ ،‬كذلك حينما واجه محمد صلى الله عليه وسلم المة العربية‬
‫وعلى وجه الخصوص المجتمع المكي القرشي كذلك ُأخذت عليهم المور‬
‫وعميت عليهم السبل ‪ ،‬فهم تارة يدفعون عن أنفسهم بهذه الحجة وتارة‬
‫يثيرون في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المشكلة ‪ ..‬حينما قال‬
‫لهم ‪ :‬أنا رسول الله إليكم وإلى الناس جميعا ً ‪ ،‬أثاروا في وجهه مشكلة‬
‫الصلة بين النسان وعالم الغيب ‪ ،‬وأثاروا في وجهه مشكلة مبرر الختيار ‪،‬‬
‫لماذا أنت من دون الناس ‪ ،‬ألم يجد الله غيرك يرسله إلى الناس ‪ ،‬فكان من‬
‫مقالتهم ) لول ُأنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( لو أن‬
‫الرسالة تنزلت على عظيم من عظماء مكة أو الطائف وهما البلدتان الشهر‬
‫في المجتمع العربي الجاهلي ‪ ،‬لو أن الرسالة جاءت إلى رجل من هاتين‬
‫القريتين لكان مبررة ومعقولة ‪ ،‬ولكن أنت اليتيم والفقير تأتي بهذه الرسالة‬
‫العظيمة على الشياخ من قومك ‪ ،‬هذا شيء غريب ‪ ،‬وهناك مشكلت أخرى‬
‫ل داعي لذكرها ‪.‬‬
‫فكما أن القرآن الكريم يتولى تفنيد حجج المشركين والرد عليهم ويبرز من‬
‫خلل ذلك مكانة النبي صلى الله عليه وسلم والمبررات التي جعلت الله جل‬
‫وعل يختار هذا اليتيم الفقير من أهل مكة ليختصه برسالته ‪ ،‬والله تعالى‬
‫يقول ) الله أعلم حيث يجعل رسالته ( فالمر ليس إلى الناس ‪ ،‬والمسألة‬
‫ليست مسألة مجاملت ومودات ولكنه اصطفاء من الله ) الله يصطفي من‬
‫الملئكة رسل ً ومن الناس ( والصطفاء قائم على مبررات كاملة والمعقولة‬
‫في علم الله جل وعل وأمام العقل البشري أيضا ً ‪.‬‬
‫هذه المشكلة أثيرت من زاوية معينة في فاتحة سورة النجم ‪ ،‬أشارت‬
‫السورة إلى ما كان في السراء والمعراج ولكنكم ترون أن السورة لم‬
‫تتعرض لتفاصيل السراء والمعراج وأن السراء اختص بالقرآن بسورة خاصة‬
‫سميت بهذا السم هي سورة السراء تحدثت عن هذه المعجزة الخالدة ‪،‬‬
‫لكن فاتحة سورة النجم أخذت جانبا ً آخر ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫) والنجم إذا هوى ( والجمعة الماضية تحدثت إليكم عن اليحاءات التي‬


‫يحسها العربي صاحب اللغة المتمتع بالفطرة السليمة والسليقة السليمة‬
‫حينما يأتيه الكلم اللهي المعجز بلغته التي يتحدث بها يوميا ً ‪ ،‬تحدثت إليكم‬
‫عن ماذا يحس النسان العربي حينما يسمع القسم بالنجم ‪ ،‬الله تعالى أقسم‬
‫في سور عديدة قسما ً مجردا ً ‪ ،‬قال ) والسماء والطارق ( ولم يذكر شيئا ً من‬
‫أوصاف السماء فبحسب قارئ القرآن أن يلتفت ذهنه إلى هذا البناء والسقف‬
‫المحفوظ لكي يدرك عظيم صنع الله وهو المراد في هذا الموطن ‪ .‬ولكن‬
‫المراد في فاتحة النجم غير هذا ‪ ،‬المراد به أن يلفت النظر إلى ضللة العرب‬
‫حينما كانت تعبد النجوم فقال لهم ) والنجم إذا هوى( أقسم بالنجم ليس‬

‫‪90‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫مجردا ً وإنما موصوفا ً بالهوي والتغير والنحدار والحدوث لكي يترك هذا‬
‫الشعاع اللطيف الذي ينفذ إلى الحس ويأخذ بمجامع النفوس حين يشير إلى‬
‫آلهة من آلهة العرب تعبدها من غير استحقاق ومن غير جدارة ‪ ،‬وتعبدها لماذا‬
‫؟ لنها بعيدة فقط ومتعالية عن أن تنالها اليد في ذلك الزمان ‪ .‬ولكن المر‬
‫انتهى عند هذا الحد ليسوق الله تعالى الحديث في اتجاه قضية النبوة وهي‬
‫عني بها القرآن المكي ‪ ،‬قال لهم ) والنجم إذا‬ ‫إحدى القضايا الرئيسية التي ُ‬
‫هوى ‪ ،‬ما ضل صاحبكم وما غوى ‪ ،‬وما ينطق عن الهوى ‪ ،‬إن هو إل وحي‬
‫يوحى ‪ ،‬علمه شديد القوى ( وشديد القوى هنا يشار به إلى جبريل عليه‬
‫السلم ) ذو مرة فاستوى ( المرة أي القوة ‪ ،‬والصل في المرة الحبل ُيفتل‬
‫فتل ً شديدا ً حتى يقوى فيقال ‪ :‬استمر مرير فلن أي مضى في المر الذي هو‬
‫قاصد إليه بحزم وعزم وقوة ‪ ،‬فالمراد بذي المرة ذو القوة ) ذو مرة فاستوى‬
‫‪ ،‬وهو بالفق العلى ‪ ،‬ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ‪ ،‬فأوحى إلى‬
‫عبده ما أوحى ( إلى هذا الحد من اليات تكون فاتحة السورة قد عرضت‬
‫علينا عددا ً من القضايا ‪ ،‬أول هذه القضايا تبرئة محمد صلى الله عليه وسلم‬
‫مما اتهمه به المشركون ‪ ،‬فالمشركون قالوا عنه أنه كذاب ومجنون وشاعر‬
‫وساحر وكاهن وقالوا إن هذا الذي يأتي به أساطير الولين أي كلم من‬
‫الخرافات التي ترويها العجائز فهي تملى عليه بكرة وأصيل ً ‪ ،‬وقالوا إنما‬
‫يعلمه بشر من هؤلء الذين لفظتهم دولة الرومان فجاءوا مشردين إلى‬
‫الجزيرة العربية يسكنون هنا وهناك فرد الله عليهم قائل ً ) لسان الذي‬
‫يلحدون إليه ( يتهمون محمدا ً صلى الله عليه وسلم بالخذ عنه ) لسان الذي‬
‫يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ( فلو أنك ضممت كل هذه التهم‬
‫التي ألصقها الجاهليون بمحمد صلى الله عليه وسلم لكان حصيلتها أن من‬
‫يتصف بهذه الوصاف جميعا ً هو ضال ومتقول ومفترٍ ‪ ،‬نزه الله تعالى نبيه‬
‫وحبيبه صلى الله عليه وسلم من مطاعن المشركين بصياغة ل بد أن يلتفت‬
‫إليها النسان ليدرك إعجاب القرآن وليدرك البلغة التي تتقطع دونها العناق‬
‫وليدرك أن قصارى ما يبلغه طوق البشر أن يشموا شيئا ً من روائح هذه‬
‫البلغة المعجزة ‪ .‬لحظوا ) ما ضل صاحبكم وما غوى ( ما قال ما ضل محمد‬
‫‪ ،‬وما قال ما ضل عبدي ‪ ،‬وما قال ما ضل رسول الله ‪ ،‬وإنما قال ‪ ) :‬ما ضل‬
‫صاحبكم ( بهذه اللفظة المفردة التي هي صاحبكم أثيرت المشكلة على‬
‫صعيد الواقع وهو أجدى الصعدة التي ُتثار عليها المشكلت ‪ ،‬من محمد ؟‬
‫أنتم الن تماروا وتجادلون في صحة وأحقية هذا الذي يأتيكم به رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬أتجهلونه يا معاشر العرب ؟ أليس محمد هو اليتيم‬
‫الذي ولد لعبد الله ‪ ،‬ثم ماتت أمه وجده ثم ُترك لمعضلت الحياة‬
‫ومشكلتها ؟ وهو الذي عاش بينكم أربعين عاما ً ليس يوما ً ول يومين ول سنة‬
‫ول سنتين وإنما هي أربعون عاما ً ‪ ،‬صرفها بينكم يا معاشر المكيين فهو‬
‫صاحبكم تعرفونه كما يعرف الصاحب صاحبه ‪ ،‬ليس غريبا ً عنكم ‪ ،‬في كل‬
‫مراحل حياته أخذتم معه وأعطيتم ‪ ،‬أجّربتم عليه كذبا ً ؟ هل رأيتم عليه في‬
‫كل مراحل حياته صبوة أو كبوة ؟ هل لحظتم عليه شيئا ً من اختلل العقل أو‬
‫ما شابه ذلك ؟ ل من هذا ول من ذاك ‪ .‬يرحم الله أبا العلء لقد كان يدرك أن‬
‫النسان إذا قطع أشواطا ً من عمره حتى جاوز مرحلة معينة فل خوف عليه ‪،‬‬
‫كان يقول ‪:‬‬
‫وما بعد الربعين صباء‬
‫ما بعد الربعين انحراف إل عند هؤلء المسوخ التي يستعبدها الشيطان ‪.‬‬
‫تجارب الحياة الطويلة تعيب عليه أن يفعل ما يعيب ‪ ،‬بل تجعله أن يتوقر ‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫ولهذا نجد الله تعالى يكشف الحقيقة عارية حينما تزايدت تهجمات المشركين‬
‫على محمد صلى الله عيه وسلم وهو بشر يأخذه ما يأخذ البشر من ألم‬
‫نفسي ‪ ،‬ولكن الله قال له ) فإنهم ل يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله‬
‫يجحدون ( كل واحد منهم فيما بينه وبين نفسه ل يجرؤ على أن يقول إن‬
‫محمدا ً يتورط في الكذب ‪ ،‬بل أشرافهم حينما كانوا يجلسون في منتدياتهم‬
‫كانوا يستعرضون أمر محمد صلى الله عليه وسلم فيقرون بأنه الصادق‬
‫المين ‪ ،‬بل أين نحن من زمن سوف يأتي بعد سنوات من الخصومة قامت‬
‫على أشدها بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين المشركين ‪ ،‬والمشركون‬
‫قبل الرسالة يعرفون صدق محمد وأمانته ‪ ،‬فما منهم من أحد عنده شيء‬
‫نفيس يريد أن يحافظ عليه إل ذهب إلى محمد ووضعه عنده ‪ .‬أثناء اشتداد‬
‫المعركة معهم يقولون له إنك كاذب أو شاعر أو كاهن أو ساحر أو مجنون‬
‫‪..‬ولكن أحدا ً منهم لم يفكر مطلقا ً في أن يقول له ‪ :‬هات وديعتي التي عندك‬
‫فإنك كذاب ‪ .‬ما قالوا هذا ‪ ،‬حين عزم محمد صلى الله عليه وسلم الهجرة‬
‫إلى المدينة كانت ودائع المشركين عنده وقد خّلف الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم عليا ً رضي الله عنه حتى يرد ّ هذه الودائع إلى أهلها ‪ .‬فشخص محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم فوق الريبة والشكوك ‪.‬‬
‫) ما ضل صاحبكم وما غوى ( ولكن قد ل يضل النسان ‪ ،‬يمشي في الدنيا‬
‫مستقيما ً ول ينحدر إلى رذائل الخلق ‪ ،‬ولكنه من ذات نفسه ‪ ،‬بمحض‬
‫تصوراته ‪ ..‬وهنا فارق أساسي وجوهري بين النبي وغير النبي ‪ .‬النبي مرسل‬
‫ول وإنما يوصل ما ُأرسل به ل أقل ول أكثر ‪،‬‬ ‫أي مؤتمن ومبلغ ‪ ،‬والمبلغ ل يتق ّ‬
‫فالله تعالى أبرز الوصف الثاني برسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) وما‬
‫ينطق عن الهوى ( هذا الذي يقوله لكم ويجاهر به أمامكم ليسن من كلم‬
‫محمد ول تصورا ً من تصورات محمد ول تفكيرا ً من تفكيره ول شيئا ً من‬
‫هواه ‪ ،‬نحن كما بشر نحب ونكره ويروق لنا أن نوصل الخير إلى من نحب ‪،‬‬
‫وقد ُندخل هذا الخبر اللذيذ أن نلحق الشر بمن نكره ‪ ،‬ومن هنا فالنسان‬
‫العادي إن لم تصحبه عناية الله من جهة ‪ ،‬وإن لم يكن رقيبا ً عليها فإن هذه‬
‫العواصف المتضاربة التي تعتري النسان ل بد أن تنعكس على سلوكه ‪،‬‬
‫محاباة ومجاملة أو تحامل ً وعنفا ً على العداء ‪ .‬إل أن الرسالة شيء آخر ‪،‬‬
‫هناك فاصل حاسم بين الرسالة التي جاءت من خالق الكون لتنظم شؤون‬
‫الكون إلى آخر عمر الكون وبين تصورات المخلوقين ‪ ،‬نحن فيما يتعلق‬
‫بتصورات التي عاشت على البشرية وما زالت تعيش ما نزال قانونا ً ينسخ‬
‫قانونا ً وشريعة تنهي شريعة واتجاها ً يدمدم على اتجاه ‪ ،‬ما معنى هذا ؟ الناس‬
‫هم الناس ‪ ،‬النسان رأسه في أعله ورجله في أسفله ‪ ،‬لم يتحول ويمشي‬
‫على رأسه ويفكر برجليه ‪ ،‬والنسان يمشي رجليه لم يتحول ليمشي على‬
‫أربع ‪ ،‬منذ أن خلق الله سيدنا آدم النسان لم يغير شيئا ً في جوهره ‪،‬‬
‫والملكات النفسية والشواق الروحية والتصورات العقلية هي نفسها ‪ ،‬فإذا‬
‫كان المخلوق البشري هو نفسه منذ أن خلقه الله فما الذي يبرر اختلف‬
‫النظم من وقت إلى وقت ‪ ،‬من جيل إلى جيل ومن زمان إلى زمان ومن‬
‫مكان إلى مكان ‪ .‬الذي يبرر هذا فعل ً هو أن النسان إن لم يكن مرتبطا ً‬
‫بوحي الله جل وعل يفيء إليه حين تختلط عليه السبل والطرق فإنه سوف‬
‫يتأثر ل محالة بهذه النوازع التي توجدها في داخله الظروف والحوال التي‬
‫يعيش فيها ‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫لو أننا تركنا الناس يفكرون لنفسهم فالنسان يحب ذاته ويحب قريبه‬
‫وأصدقائه ‪ ،‬والنسان يكره أعداءه ويريد أن يلحق الضرر بهؤلء الذين ألحقوا‬
‫به الضرار ‪ ،‬فساحة الحياة حين ُتترك بين يدي النسان لن تكون أقل من‬
‫ساحة حرب أو ساحة وحوش ولن تكون النتيجة أقل من مجازر هنا وهناك ‪.‬‬
‫التفتوا إلى الماضي البعيد أو القريب في التاريخ كله فأنتم تعثرون على‬
‫النتائج الوخيمة التي وقعت فيها البشرية من وراء احتكامها إلى تصوراتها‬
‫وأهوائها ومن وراء نبذها لكلم الله تعالى ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫فالرسالة جوهرها الساسي وهي تعرض الن على المكيين المكذبين لتحدث‬
‫تغييرا ً جوهريا ً في حياتهم وحياة المجتمع البشري تعزل منذ بداية الطريق‬
‫عاطفة الرسول وهواه ورغبته عن حقائقها النازلة وحيا ً من الله جل وعل ‪.‬‬
‫دث‬ ‫الرسول صلى الله عليه وسلم يقول إنه يغضب كما يغضب البشر فإذا ح ّ‬
‫الناس عن شيء من شؤون دنياهم أنتم أعلم بشئون دنياكم ‪ .‬أنتم‬
‫تستطيعون أن تفلحوا وتزرعوا ‪ ،‬وبالتأكيد أي إنسان من المسلمين في ذلك‬
‫الزمان كان يعرف من أمور الزراعة أكثر مما يعرف محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬جاء مرة في المدينة فوجدهم يلقحون النخل ‪ ،‬قال ‪ :‬ما تفعلون ؟‬
‫قالوا ‪ :‬نلقح النخل ‪ .‬قال ‪ :‬ما أظن أن هذا يغني شيئا ً ‪ .‬هذا رأيه ‪ ،‬لو لم تلقح‬
‫النخلة لثمرت ‪ ،‬هذا ما تصوره الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فترك‬
‫المسلمون التلقيح ‪ ،‬فجاء التمر غير كامل النضج ‪ .‬فلما رأى ما رأى صلى‬
‫الله عليه وسلم قال لهم ‪ :‬ما حدثتم عن أمر دنياكم فأنتم أعلم بشئون‬
‫دنياكم ‪ ،‬وما حدثكم عن الله فإني ل أكذب على الله ‪ .‬فالنبي صلى الله عليه‬
‫ول ول يقول من عنده شيئا ً ‪ ،‬والله تعالى يخرج هذه القضية‬ ‫وسلم ل يتق ّ‬
‫ول علينا‬ ‫مخرج التهديد المرعب لرسول صلى الله عليه وسلم فيقول ) ولو تق ّ‬
‫بعض القاويل لخذنا منه باليمين ‪ ،‬ثم لقطعنا منه الوتين ‪ ،‬فما منكم من أحد‬
‫ول على الله غير واردة في سلوك النبياء ‪.‬‬ ‫عنه حاجزين ( مسألة التق ّ‬
‫نحن المسلمين يتكرر فشلنا ‪ ،‬لماذا ؟ لننا لم نملك بعد ُ القدرة الضرورية‬
‫على أن نعزل عواطفنا وأهواءنا عن ميدان الدعوة ‪ .‬الدعوة توجه إلى العدو‬
‫والصديق بمنتهى اللطف والرغبة في أن يأذن الله جل وعل لهؤلء الناس أن‬
‫تتفتح مغاليق قلوبهم ‪ ،‬ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعث عليا ً إلى‬
‫اليمن أوصاه ‪ :‬لئن يهدي الله بك رجل ً واحدا ً خير لك مما طلعت عليه‬
‫الشمس وغربت ‪ .‬فالمهم أن يهتدي الناس ‪ ،‬وليس أن نتشفى من الناس ‪.‬‬
‫والمهم أن يتعّرف الناس على طريق الله وليس أن نسفك دماء الناس ‪.‬‬
‫ولهذا فهذه القضية عرضت بهذا اليجاز ) وما ينطق عن الهوى ( شخصه‬
‫معزول ‪ ،‬رغباته معزولة عن المجال الوحي ثم يصف هذا الكلم ) إن هو (‬
‫بهذه الصياغة التي تدل على أشد النفي والبعاد ) إن هو إل وحي يوحى ( هذا‬
‫الكلم إذا ً وحي من الله ‪ ،‬والوحي عرضنا قبل اليوم في ما مضى ‪ ،‬لكن هذا‬
‫الوحي حينما يتحدث عنه القرآن في هذه السورة يأتي الحديث مقرونا ً أو‬
‫مشحونا ً بما يلمح إلى ادعاءات المشركين ‪ ،‬نحن نقتطع من القرآن شريحة ‪،‬‬
‫هذه الشريحة ليست شيئا ً جامدا ً وإنما هي تعبر عن واقع المعاش عن فترة‬
‫زمنية عاشتها الدعوة المحمدية ‪ ،‬عن أناس تحركوا خللها وانفعلوا بأحداثها‬
‫وتركوا بصمات عليها ‪ ،‬هذه الشريحة ل يمكن أن تكون موعظة معزولة عن‬
‫الواقع ‪ ،‬ولكنها كلم يتصل بالواقع ولكنه اتصال الذي يحتاج إلى الذهن اللماح‬

‫‪93‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الذي يستطيع أن يدرك نوعية هذه الصلت ‪ ،‬قال المشركون إن محمدا ً صلى‬
‫الله عليه وسلم يتسقط الخبار والحاديث من الذين يعرفون أخبار الفرس‬
‫والروم أو من أهل الكتاب ‪ ،‬فجاء الكلم بأنه ) علمه شديد القوى ( وإنما هو‬
‫من طريق جبريل عليه السلم ‪ ،‬طريق الملك الذي هو الصلة بين الله جل‬
‫وعل وبين من اصطفاه تبارك وتعالى لداء الرسالة ‪ .‬هذا الملك ربما يقع في‬
‫تصور الناس أنه مخلوق كنحن ول غرابة ‪ ،‬فالنسان في تصوراته محكوم‬
‫بواقعه ‪ ،‬بحالته التي هو فيها بشرائط الدنيا ‪ ،‬ولهذا فنحن حينما نستعرض‬
‫الساحة الدينية في العالم القديم نجد أن المم القديمة الوثنية حينما نحتت‬
‫أصناما ً آلهة نحتتها على شكل الدميين ‪ ،‬جسم إنسان ربما يزيد فيه ذنب‬
‫سمكة أو أجنحة لكي يشيروا إلى تمييزه عن الناس ‪ ،‬ولنه على الجملة وفي‬
‫الساس على التصور البشري جاء ‪ ،‬فالنسان ل يستطيع أن يتصور المغيبات‬
‫إل انطلقا ً من ذاته وشخصه ومن معطيات هذه الذات فقط ‪ ،‬فالنسان قد‬
‫يتصور الله على صورة إنسان وهذا خطأ ‪ ،‬وقد يتصور جبريل على صورة‬
‫البشر وهذا خطأ ‪ ،‬والبشر يخضعون إلى هذه الحالت من الضعف كل هذا‬
‫خطأ ‪ ،‬وإنما هو شديد القوى ‪ ،‬هذا الملك قوي على أمر الله جل وعل ل‬
‫تحيط به عقولكم ‪ ،‬لن أبصاركم ل تدركه ‪.‬‬
‫) ذو مرة فاستوى ‪ ،‬وهو بالفق العلى ( أي أن جبريل عليه السلم قوي‬
‫مستوٍ بالفق العلى حينما جاء إلى محمد صلى الله عله وسلم بهذه الرسالة‬
‫‪ ،‬حينما نضع هذه الية إلى جانب الية الماضية ) وما ينطق عن الهوى (‬
‫تكتمل صورة التفريق بين ما يريد النسان وما يريده الله جل وعل ‪ ،‬أول ً ‪:‬‬
‫طبيعة الوحي أنه معزول عن رغبات البشر ‪ ،‬ثانيا ً ‪ :‬الذي يحمل كلم الله‬
‫مخلوق مستوٍ في أفق السماء ‪ ،‬والموحى إليه هو محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم البشر الذي تختلف طبيعته عن طبيعة جبريل ‪ .‬فترون القضية متشابكة‬
‫‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫) ثم دنى فتدلى ‪ ،‬فكان قاب قوسين أو أدنى ‪ ،‬فأوحى إلى عبده ما أوحى (‬
‫أي أوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى ) ما كذب الفؤاد‬
‫ما رأى ( هنا نصل إلى نهاية السورة تقريبا ً التي صورت قضية الوحي ‪،‬‬
‫أبرزتها للمؤمنين كي يزدادوا إيمانا ً إلى إيمانهم ‪ ،‬وقربتها للمشركين لكي‬
‫يفيئوا إلى أمر الله ولكي يدركوا أن القضية على خلف ما يتصورون كما وقع‬
‫في أخيلتهم وأذهانهم ‪ ،‬وإنما هي عملية قادر مقتدر رتبها الله جل وعل لتكون‬
‫بلغه الخير إلى الناس ‪.‬‬
‫حينما تصل اليات في التشخيص والتصوير هذا الحد يلتفت الخطاب ل إلى‬
‫أحد ‪ ،‬وإنما ُيترك مطلقا ً ) ما كذب الفؤاد ما رأى ( ليس ضروريا ً أن يوجه هذا‬
‫الخطاب إلى المشركين ‪ ،‬وليس ضروريا ً أن يوجه إلى محمد صلى الله عليه‬
‫عرضت‬ ‫عرضت بمبرراتها الكاملة ‪ ،‬و ُ‬
‫وسلم ول إلى المسلمين ‪ ،‬إن القضية ُ‬
‫بحججها الحسية والعقلية ‪ ،‬فإذا ً ُتركت القضية مجردة ) ما كذب الفؤاد ما‬
‫رأى ( إن قلب محمد صلى الله عليه وسلم بما وقع به من تصديق لمر الله‬
‫جل وعل لم يكن كاذبا ً ولم يكن زائغا ً ‪ ،‬وإذا كان المر كذلك فسينصب‬
‫الخطاب إلى المشركين ) أفتمارونه على ما يرى ( أتكذبونه بهذا الشيء‬
‫الذي رآه ‪ ،‬إننا أمام شخصين مثل ً ‪ :‬شخص يتمتع بقدرة بصرية خارقة ‪،‬‬
‫وشخص آخر ضعيف البصر ‪ ،‬الذي يتمتع بالقدرة البصرية الكاملة قد يرى‬

‫‪94‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الشخص يتحرك على بعد عدد كبير من المتار ‪ ،‬والذي يتمتع ببصر ضعيف ل‬
‫بد أن تناوله الشيء مناولة ‪ ،‬حينما يقول صاحب البصر الممتد ‪ :‬أنا أرى من‬
‫الجانب الثاني من النهر خيال شخص ‪ ،‬يأتي صاحب البصر الضعيف ويقول له‬
‫‪ :‬ل ‪ .‬نقول له يا هذا الزم حدك ‪ .‬إن المجال ليس مجالك ‪ ،‬هذا يرى وأنت ل‬
‫ترى ‪ ،‬والعمى ليس حجة على المبصر ‪ ،‬فما دام المر كذلك وما دام محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم رأى من أمر ربه ما رأى واطمأن إلى ما رآه وكان‬
‫بشهادتكم صادقا ً فيما يقول فلماذا تكذبونه فيما رآه ؟ ) أفتمارونه على ما‬
‫يرى ( ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫) ولقد رآه نزلة أخرى ‪ ،‬عند سدرة المنتهى ( هنا جاء الحديث عن السراء‬
‫والمعراج ‪ ،‬لن محمد صلى الله عليه وسلم لم يَر جبريل عليه السلم على‬
‫صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها إل مرتين ‪ ،‬مرة وهو في حراء ‪ ،‬ومرة‬
‫في المعراج ‪ ،‬أول ما جاء إليه الوحي وبعد أن فتر قليل ً وذهب محمد صلى‬
‫الله عليه وسلم ليتردى من الجبال حزنا ً على هذا الوحي الذي فتر عنه تبدى‬
‫له جبريل عليه السلم ‪ ،‬ناداه ‪ :‬يا محمد ‪ ،‬قال ‪ :‬فالتفت يمينا ً فلم أَر شيئا ً ‪،‬‬
‫والتفت شمال ً فلم أَر شيئا ً ‪ ،‬وأمامي وخلفي فلم أَر شيئا ً ‪ ،‬فتكرر النداء‬
‫فرفعت طرفي إلى السماء فإذا جبريل ساد بجناحيه أفق السماء ‪ ،‬فجفلت‬
‫رعبا ً ‪ ،‬فطمأنه جبريل عليه السلم وقال له ‪ :‬أنا جبريل وأنت رسول الله ‪.‬‬
‫هذه هي المرة الولى ‪ ،‬والمرة الثانية التي أشار إليها القرآن بهذه السورة‬
‫) ولقد رآه نزلة أخرى ‪ ،‬عند سدرة المنتهى ( في الرحلة العجيبة في السراء‬
‫عرج به إلى السماء إلى حيث‬ ‫التي ُأسري به من مكة إلى بيت المقدس و ُ‬
‫ينتهي كل مخلوق ‪ ،‬إلى سدرة المنتهى التي ل يعرف وصفها إل الله جل‬
‫وعل ‪ ،‬هناك أيضا ً رأى الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلم‬
‫بصورته التي خلقه الله عليها ‪ ،‬قال ‪ :‬لقد رأيته وله ستمائة جناح ‪ .‬الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم رأى جبريل مرتين ‪ ،‬أما المرة الولى فمفهوم أن يشار‬
‫إليها ‪ ،‬وأما المرة الثانية فما مبرر الشارة إليها ؟ من هذه الزاوية الضيقة‬
‫ولكن ليس لنا غيرها نستطيع أن ندخل إلى تأطير فاتحة السورة في هذا‬
‫الجو المكي المبكر ‪ ،‬إن الكلم ينصب على أمين الوحي فهو جبريل وهو‬
‫القوي والمين وهو الذي رآه في الفق العلى ثم رآه نزلة أخرى عند سدرة‬
‫المنتهى وذلك في حادثة السراء والمعراج ‪ ،‬فالشارة إلى ما كان في‬
‫السراء والمعراج ليست مقصودة بالذات وإنما هي مقصودة تبعا ً لكي تزيد‬
‫من الظلل التي توقع القناعة في النفوس بقوة أمين الوحي وبقدرته على‬
‫إبلغ كلم الله جل وعل إلى الناس ‪ ،‬خذ إليك ما شرحناه الن تجد أن فاتحة‬
‫السورة من أولها إلى الحد الذي انتهينا إليه يتحدث عن موضوع النبوة ‪.‬‬
‫وموضوع النبوة من الموضوعات المبكرة في الدعوة ‪ ،‬بل لعل موضوع النبوة‬
‫أسبق الموضوعات جميعا ً التي أثارها المشركون في وجه رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ ،‬هنا دخلت فاتحة السورة بإشارتها إلى ما حدث في السراء‬
‫والمعراج دخلت في جسم السورة دخول ً طبيعيا ً أنيقا ً هينا ً لينا ً معجبا ً معجزا ً ‪،‬‬
‫وهذا هو الذي يجب أن يلتفت إليه دارس القرآن ‪ .‬القرآن نزل ليخاطب جملة‬
‫الملكات النسانية ‪ ،‬ليس فقط يخاطب عقلك ‪ ،‬ولكن يخاطب عقلك وما فيه‬
‫من مقاييس ‪ ،‬ويخاطب معارفك ومعلوماتك وما تستدعيه أنت من خزانة‬
‫ذاكرة وأنت تقرأ الكتاب ‪ ،‬ويخاطب أحاسيسك ومشاعرك ‪ ،‬ويخاطب قلبك‬

‫‪95‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أي يخاطب الكينونة البشرية بكل ما فيها من قوى ومواهب وإمكانات وحوافز‬
‫ودوافع ‪ ،‬فالنسان الذي يقرأ القرآن إذا لم يكن مقبل ً عليه بكل ما فيه من‬
‫طاقة وقوى وإمكانات ل يمكن بتاتا ً أن يفيد من هذا الكلم اللهي إل كما يفيد‬
‫النسان الذي يمر فيسمع لغوا ً من لغو الحديث ل أكثر ول أقل ‪ .‬فاتقوا الله‬
‫في قرآنكم ‪ ،‬واقرأوه كما ينبغي لكم أن تقرأوه ‪ ،‬وثقة أحدثكم ـ وهذا من‬
‫التحدث بنعمة الله جل وعل ـ أنا الن في الخمسين من العمر ‪ ،‬وما أعرف‬
‫بين أصحابي من حصل من العلم ما حصلت ‪ ،‬عمري كله دراسة ‪ ،‬كنت أقرأ‬
‫القرآن وأنا طفل ‪ ،‬وقرأته بعد ذلك في الليل والنهار ‪ ،‬وأشهد صادقا ٌ غير‬
‫متواضع تواضعا ً زائفا ً أنني أقرأ القرآن اليوم على غير ما كنت أقرأه من‬
‫قبل ‪ ،‬وأنني في السنتين أو الثلثة الخيرة أصبحت أذوق للقرآن طعما ً حينما‬
‫أتذكر أيامي الماضيات أشعر بالمرارة في حلقي ‪ ،‬لماذا لم أذق هذا الطعم‬
‫در الله وما شاء فعل ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫قبل اليوم ؟ لماذا لم أدرك هذا العالم قبل اليوم ؟ ق ّ‬
‫وها نحن نعيش مع القرآن عيشة من يتطفل على مائدة القرآن ‪ ،‬فاقرأوه إذا ً‬
‫بهذا الشكل ‪ .‬إذا كنتم تريدون أن تستفيدوا من هذا القرآن المعجز وإل‬
‫وم لكم‬ ‫فدعوه ‪ ،‬إنه لن يغني عنكم شيئا ً ‪ ،‬لنه لن يزكي لكم نفسا ً ولن يق ّ‬
‫سلوكا ً ‪ ،‬وإنما الذي يستفيد من القرآن هو من يعطي كله للقرآن ‪ .‬فعيشوا‬
‫مع القرآن بكليتكم ثم انتظروا بعد ذلك مدد ربكم جل وعل فسيفتح عليكم ‪،‬‬
‫والنسان حينما يلتجئ إلى الله يفتح الله له منافذ من العلم ما كانت تخطر‬
‫له من بال ‪.‬‬
‫وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ‪ ،‬والحمد لله رب‬
‫العالمين‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة النجم‬


‫الجمعة ‪ 22‬صفر ‪ 11 / 1397‬شباط ‪1977‬‬
‫)‪4‬ـ‪(5‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ،‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫لعل اليوم نستطيع أن ننهي الكلم عن سورة النجم ‪ ،‬ولول أن مشكلة من‬
‫المشكلت استغرقت جانبا ً من هذه الحاديث لكان منظورا ً للكلم على‬
‫السورة أن ينجز قبل اليوم ‪ ،‬ولكننا اغتنمنا الفرصة ونحن عازمون على أن ل‬
‫نفرط إن شاء الله تعالى في فرص من هذا القبيل لكي نتعاون على الوصول‬
‫إلى فهم أفضل لكتاب الله تعالى ‪.‬‬
‫كان مما شغلنا به أنفسنا في الجمعة الماضية عود على فاتحة السورة‬
‫الكريمة ‪ ،‬ولقد صرفنا في هذا مجهودا ً ما أدري هل ُوفقنا فيه أم لم نوفق ؟‬
‫لكنه على أي حال هو الذي استيسر من القول ومن الفهم جميعا ً ‪.‬‬
‫لقد كنا تحدثنا قبل الجمعة الماضية عن فاتحة السورة ‪ ،‬ثم أدرنا الحديث عن‬
‫الفاتحة بالذات من زاوية جديدة وفي ضوء جديد ‪ ،‬وغرضنا الساسي أن‬
‫نلفت قارئ القرآن إلى حقيقة جوهرية وهي أن هذه السورة الذي يضعها بين‬
‫يديه شيء كامل له صفات وخصائص الكائن الحي الذي يرفض البتر والتجزئة‬
‫‪ ،‬وإذا ُأريد إليه أن ُينظر إليه بصحة فينبغي أن ُينظر إليه في كليته ‪ ،‬ومن‬
‫الخطأ بل من الخطل لقارئ القرآن أن ل يحيط بعمومات القرآن ‪ ،‬لن ذلك‬

‫‪96‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫سوف يربكه ل محالة ‪ ،‬وسوف يحجب عنه كثيرا ً مما ينبغي أن ل يحجب عن‬
‫قارئ القرآن ‪.‬‬
‫ً‬
‫ل أذكر فيما قرأت حول سورة النجم حديثا أبعد المنحى الذي أخذنا به في‬
‫الجمعة الماضية وإنما جّرنا إلى هذا مزيد من التدقيق في السورة ‪ ،‬وبكل‬
‫صدق وأمانة أقول لكم إنني حين شرعت ُأرتب في ذهني خصائص السورة‬
‫الكريمة في البداية وأخطط للحديث عنها لم يكن يخطر في بالي أي شيء‬
‫من هذا الذي قلته في الجمعة الماضية ‪ .‬وأحب أن أغتنم هذه الفرصة لشير‬
‫إلى شيء طال حوله التساؤل وكثرت علي فيه الملم ‪ ،‬للسف حينما تكون‬
‫المة بمجموعها على درجة ليست سارة من الرقي العقلي ومن النضج‬
‫تستحسن أي شيء ‪ ،‬ولقد يعلم الله أنني أقل الناس اكتراثا ً واحتفاًء بهذا‬
‫الذي أقول ‪ ،‬ولكني أفاجأ دائما ً هنا وفي كل مكان من يقول لي ‪ :‬لماذا ل‬
‫تدّون هذه الفكار ول تكتبها إنها حق الناس عليك ‪ .‬مرة أخرى أستدعي إلى‬
‫نفسي شعور السف ‪ ،‬إن هذا ليس شيئا ً يستحق العناية ول شيئا ً يستحق‬
‫الهتمام ‪ ،‬ولقد مضى الناس الذين يحق لهم أن يقولوا في القرآن ‪ ،‬إن‬
‫طح له إل من ضرب الله عليه الشقاء‬ ‫القول في القرآن شديد ‪ ،‬وإنه ل يتن ّ‬
‫وسوء القول ‪ ،‬ولول أننا في أمة وفي زمن كهذا الذي تعرفون ما كان لهذا‬
‫الذي نقوله ‪.‬‬
‫كان الناس في الماضي حينما كانت نفوسهم نقية ونظيفة وكان التوجه إلى‬
‫الله صادقا ً أصيل ً وكانت المعرفة بحقائق الشريعة موفورة وكانت الرغبة في‬
‫الحق هي المحور الذي يدور عليه الناس حينما كان الناس بهذا الشكل ‪ ،‬كان‬
‫القول في القرآن ميسرا ً مذلل ً مهيأة أسبابه ‪ ،‬ول تستغربوا فالله جل وعل‬
‫يقول ) ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ( ويقول أيضا ً ) واتقوا الله ويعلمكم الله (‬
‫فالنسان حينما يكون على درجة معينة من الصلة بالله جل وعل فالله جل‬
‫وعل يفتح أمامه مغاليق المور وينير له معميات السبل ويكشف له عن أبواب‬
‫من العلم لم تكن تخطر له ببال ‪ ،‬ونحن لسنا هكذا ‪ ،‬ل تقاة ول ورعا ً ول علما ً‬
‫ول إحاطة ول تجردا ً من حظوظ النفس ورغباتها ‪ ،‬مع هذا فبالمعاناة والصبر‬
‫وبمداومة البحث والتفكير تنقذف لنا بين الن والخرى أفكار ‪ ،‬ربما يجدها‬
‫الناس جيدة ولكن تأكد أنني أفقد اهتمامي بها لمجرد أن أقولها ‪ ،‬ولو أنني‬
‫كتبتها لفقدت الثقة بها لمجرد أن أرمي القلم من يدي ‪ ،‬إنني ُألحظ وأنا‬
‫أدرس معكم القرآن ووقائع السيرة أنه في مسار الطريق تتكشف أمور لو‬
‫لم نكن قلنا شيئا ً في البداية ثم رجعنا إليه نعاود النظر فيه ونعيد القول ثم‬
‫نعود إليه مرة أخرى ومرات ما خرج معنا هذا الشيء الذي يجده بعض الناس‬
‫ً‬
‫ثمينا ُ ‪ ،‬كيف أستطيع أن ُأجاذف في أمر أجده أشق المور على النسان ؟‬
‫جل تدوين كلم أن أدرى الناس أو من أدراهم بأنه حينما‬ ‫كيف أستطيع أن أتع ّ‬
‫ً‬
‫يوضع بين يدي الجيال ُيقرأ مصحوبا بقداسة الكلمة المكتوبة ما الذي‬
‫سيتركه من انطباعات ومن آثار ومن نتائج في نفس قراء نعلمهم وقراء ل‬
‫نعلمهم الله أعلم بهم ‪ ،‬ثقوا يا إخوة بكل أمانة أنني كلما تصورت حالة من‬
‫هذا القبيل شعرت أني أنسحب ول أستطيع أن أتحمل هذه المسؤولية ‪ ،‬إن‬
‫المر كبير ‪.‬‬
‫ت‬
‫ي من عوج وأم ِ‬‫خذي عني وحسبك ذاك مني على ما ف ّ‬
‫ولول أن الزمان منقلب فهذا المكان ليس لي ‪ ،‬بصدق هذا المكان ليس لي‬
‫لكن زماننا منكوس ‪ ،‬زماننا معكوس ‪ .‬خذوا عنا يا إخوة وجنبونا الملمة‬
‫وجنبونا الطلبات ‪ ،‬نحن دونما في أنفسكم بكثير ‪ ،‬ولكن الله جل وعل قضى‬

‫‪97‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫علينا أن نقف موقفا ً ل نريده ‪ ،‬ولوددت والله لو أن بعضكم كفاني هذه‬


‫المواقف ‪ ،‬وأني وادع مطمئن خالي الذهن من كل هذا الذي يشغله ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫فاتحة السورة كما وضعناها من جسم السورة كانت إذا ً من الله حجاجا ً في‬
‫وجه المشركين حول موضوع أساسي من الموضوعات المبكرة التي طرحتها‬
‫سحبت لتوضع في‬ ‫الدعوة وهو موضوع النبوة ‪ ،‬وآيات فاتحة السورة حينما ُ‬
‫سورة النجم فليس لتشير إلى الحادثة البعيدة أي حادثة السراء والمعراج ‪،‬‬
‫ولكن لتشير إلى المصدر الذي يتلقى منه رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫هذا الوحي ولتشير إلى الواسطة التي توصل هذا الوحي إلى رسول الله‬
‫ول إذا ً ول اختراع ول أهواء ول تصورات وإنما‬ ‫صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فل تق ّ‬
‫قي لمحمد صلى الله‬ ‫هو شعاع صادر من منبع حق هو الله جل وعل ‪ ،‬ثم ل تل ّ‬
‫عليه وسلم ل من خرافات الفرس ول من أساطير العرب ول من بقايا أهل‬
‫الكتاب المنتشرين في الجزيرة العربية ‪ ،‬وإنما التلقي من أمين الوحي جبريل‬
‫ذي القوة المكين عند الله جل وعل ‪ ،‬فالسورة بفاتحتها ل تضع في اعتبارها‬
‫تفصيل حادثة السراء والمعراج وإنما تضع في اعتبارها بيان أحقية الوحي‬
‫وكونه صادرا ً من الله جل وعل بواسطة المين جبريل عليه الصلة والسلم ‪،‬‬
‫فالسورة إذا ً نستطيع أن نقول بعد كل المراحل والشواط التي قطعناها إنها‬
‫بالفعل من السور المبكرة في النزول جدا ً ‪ ،‬وليس صحيحا ً أننا كلما عثرنا‬
‫على آية من سورة تشير إلى واقعة معينة محددة التاريخ أن السورة نازلة‬
‫في هذا التاريخ ليس صحيحا ً هذا وإنما الصحيح أن ننظر من داخل السياق‬
‫وأن نحاول من مجموع قرائن السورة أن نتعرف سيقت الواقعة بهذا الموضع‬
‫من كتاب الله جل وعل ‪ ،‬أمامكم كمثل حي القصص في القرآن ‪ ،‬كم من‬
‫السور حوت أخبار آدم ونوح وصالح وفرعون وثمود وعاد وموسى وبني‬
‫إسرائيل ‪ ..‬سور عديدة ل تكاد تخلو من سورة إل ما ندر من ذكر هذه‬
‫القصص ‪ ،‬الناظر المتعجل في القرآن يتصور أن ثمة تكرارا ً ‪ ،‬وهذا خطأ مبين‬
‫‪ ،‬في الحقيقة حينما تساق قصة أو واقعة في سورة وتساق هي بالذات‬
‫بالنص أو تغيير طفيف في سورة أخرى فالغرض مختلف ‪ ،‬الواقعة جاءت هنا‬
‫لغرض وجاءت هناك لغرض آخر ووظيفة قارئ القرآن هي أن يدرك بالحس‬
‫اللطيف وباستلهام معلم إبراهيم صلوات الله عليه لماذا سيقت الوقائع هنا‬
‫وهناك وما هي الغراض التي عالجتها هنا وهناك ؟ وهذه أعلم أنها مهمة‬
‫الشأن ‪ ،‬عسيرة وصعبة ‪ ،‬لكن ل بد من المعاناة ‪ ،‬فالذي أريده حقا ً هو أن‬
‫أستنهض هممكم وأن أستثير تطلعاتكم لكي تكون قراءتكم للقرآن مصحوبة‬
‫بقدر أكثر من العناية ‪ .‬نأتي الن بعد هذه الملحوظة التي ل بد منها كموعظة‬
‫لي ولكم ولكل قارئ للقرآن ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫قى من السورة ‪ ،‬لكني أريد أن أعيد إلى‬ ‫نأتي الن ونحاول أن ننظر لما تب ّ‬
‫أذهانكم بعض اليات التي سبق أن تلوناها ليس لنشرحها ولكن لنستحضرها ‪.‬‬
‫حينما واجهت السورة من المشركين من العرب بالتنديد بآلهتهم والعيب لها‬
‫والنتقاص منها ومنهم قال الله ) أفرأيتم اللت والعزى ‪ ،‬ومناة الثالثة الخرى‬
‫‪ ،‬ألكم الذكر وله النثى ‪ ،‬تلك إذا ً قسمة ضيزى ‪ ،‬إن هي إل أسماء سميتموها‬

‫‪98‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ‪ ،‬إن يتبعون إل الظن وما تهوى‬
‫النفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ‪ ،‬أم للنسان ما تمنى ‪ ،‬فلله الخرة‬
‫والولى ‪ ،‬وكم من ملك في السماوات ل تغني شفاعتهم شيئا ً إل من بعد أن‬
‫مون الملئكة‬ ‫يأذن الله لمن يشاء ويرضى ‪ ،‬إن الذين ل يؤمنون بالخرة ليس ّ‬
‫تسمية النثى ‪ ،‬وما لهم به من علم إن يتبعون إل الظن وإن الظن ل يغني‬
‫من الحق شيئا ً ‪ ،‬ذلك فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إل الحياة الدنيا‬
‫ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن‬
‫اهتدى ( هذا المقطع تحدثنا عنه ‪ ،‬لكني أريد أن أقف عند آخر شيء منه‬
‫لشير إلى موقفين يتباينان ‪ ،‬موقف المؤمنين وموقف غير المؤمنين ‪ ،‬فأنتم‬
‫ترون من استعراض هذا المقطع من السورة الكريمة أن هذه التصورات‬
‫والفكار التي سكنت عقول العرب الجاهليين من قبل سماها الله جل وعل‬
‫ظنونا ً ‪ ،‬شيء يظنه النسان ‪ ،‬يتخيله ويتصوره ‪ ،‬ولكن الله جل وعل بّين أمرا ً‬
‫جوهريا ً ‪ ،‬بّين أن ميدان الدينيات ليس كسائر الميادين ‪ ،‬نحن نتعامل في‬
‫الدنيا نأخذ ونعطي ‪ ،‬نشتري ونبيع ‪ ،‬نشق الرض ونستودعها البذور ‪ ،‬ونضرب‬
‫في الرض يمينا ً وشمال ً ‪ ،‬تصرفاتنا هذه مبنية على حسابات وعلى تصورات‬
‫وعلى خبرات وعلى تجارب ‪ ،‬لكن هل هذه التصورات معصومة من أن‬
‫تخطئ ؟ ل ‪ ،‬إنك تشتري السلعة وأنت تاجر وفي حساباتك وظنك أنك سوف‬
‫تربح كذا وكذا ‪ ،‬وأي تاجر متمرس يتهّيب أن يضع لنفسه رقما ً معينا ً للربح ‪،‬‬
‫لماذا ؟ لن عامل الربح تتحكم فيه ظروف متعددة ل تقع تحت الحساب غالبا ً‬
‫ول يمكن التحكم بها في أغلب الحيان ‪ ،‬ولكن غالب الظن أن الصفقة في‬
‫السواق وأن البيع والشراء يعود على النسان بربح معقول ‪ ،‬شؤون الدنيا‬
‫مبناها على هذه القاعدة ‪ ،‬قاعدة العمل بغالب الظن ‪ ،‬ولول أننا نأخذ أنفسنا‬
‫بهذه القاعدة لبطل العمل تماما ً ‪ ،‬لن استخلص الحقيقة المطلقة القاطعة‬
‫في أي أمر من المور شيء يكاد يدخل في حد المستحيلت ‪ .‬هذا ما يتعّلق‬
‫في شؤون الدنيا ‪ ،‬ولكن شؤون الدين ل تنبني على شيء كهذا التفكير وهذا‬
‫التصور ‪ ،‬في موضوع الدينيات ل مجال لشيء غير الحقيقة المطلقة ‪ ،‬لن‬
‫موضوع الدينيات موضوع مصير ‪ ،‬ل يتناول وجود النسان في الدنيا وإنما‬
‫يمس مصير النسان في الدنيا والخرة جميعا ً ‪ ،‬فالله جل وعل حينما بّين لنبيه‬
‫صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أن هذا الذي تأخذ به العرب ومن نحى‬
‫نحوهم إنما هو ظنون بين أمرين أو ثلثة أمور ‪ ،‬كونها ظنونا ً وأن الظن غير‬
‫الحق ) وإن الظن ل يغني من الحق شيئا ً ( وأن هذا الذي يقولونه هو مبلغهم‬
‫من العلم ‪ ،‬هو كل ما يملكون من العلم ‪ ،‬ولو كان عندهم شيء آخر من‬
‫العلم لخذوا به ولقالوا بمقتضاه ‪ .‬تدركون الن ما أعني بتقرير هذه الحقيقة‬
‫البسيطة جدا ً ‪ ،‬سأشرح لكم هذه المسألة شرحا ً موجزا ً ‪.‬‬
‫إن النسان أي إنسان ول تتصوروا أن هذا الوصف مقصور على العرب الذين‬
‫خاطبهم محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن ‪ ،‬الناس جميعا ً جبلة‬
‫واحدة ‪ ،‬تركيب واحد ‪ ،‬وإنما يتباينون ويختلفون وتتعدد مواقفهم تبعا ً لظروف‬
‫هي ناشئة مع نشأة المجتمع النساني وليست كامنة في ذات النسان التي‬
‫ُفطر عليها ‪ ،‬إن العرب حينما قالت هذا الكلم لم تكن تملك مبلغا ً آخر من‬
‫العلم تقوم به ‪ ،‬إنسان حينما يكون على مستوى علمي وعقلي معين يأخذ‬
‫هذا الذي هو فيه متأقلما ً مع هذا الجو الذي هو فيه راضيا ً عما وضعه الله جل‬
‫وعل فيه ‪ ،‬حينما تأتيه بالشيء الجديد يقع النسان تحت تأثير عاملين‬
‫متناقضين ‪ ،‬عامل الثبات وعامل الجذب ‪ ،‬عامل الوفاء للذي كان عليه‬
‫وعامل التطلع نحو هذا الشيء الجديد الذي يشعر النسان أن فيه شيئا ً ما‬

‫‪99‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫من الحقيقة ‪ ،‬النسان مفطور كفطرة على أنه يحب الستقرار ‪ ،‬يحب أن‬
‫يكون أليفا ً ‪ ،‬يحب أن ل يغير باستمرار ‪ ،‬تلك فطرة إنسانية عامة ل تجد‬
‫خلفها إل على ندرة وعلى شذوذ ‪ ،‬والمتنبي كان يعلل خوفنا من الموت بإلفنا‬
‫للحياة فيقول ‪:‬‬
‫ق‬
‫إلف هذا الهواء أوقع في النفس أن الحمام مّر المذا ِ‬
‫)‪(3 /‬‬

‫في الواقع أن الموت ل شيء فيه ولكن خوفنا من تغيير الجو الذي ألفناه‬
‫وتأقلمنا معه وانصهرنا بمعطياته هو الذي يصور لنا أن هذا الحال الجديد الذي‬
‫سنقدم عليه قد ل يكون مريحا ً بنفس الدرجة التي نحن عليها الن ‪ ،‬وهذا في‬
‫الحقيقة أمر له نتائج بالغة ‪ ،‬الصراع بين الجيال وفي عصرنا هذا نجد أن‬
‫الصراع بين الجيال يبلغ مداه ‪ ،‬والناس يتحدثون عن ثورات الشباب في‬
‫الشرق والغرب عموما ً ‪ ،‬ما سّر هذا ؟ سّره أن الشيوخ من الناس يحبون أن‬
‫يظلوا على ما هم عليه ) ذلك مبلغهم من العلم ( وصلوا إلى مرحلة من‬
‫العلم معينة فهم بها راضون ‪ ،‬لكن العلم متطور ومتجدد ‪ ،‬الجيال الجديدة‬
‫تتلقى من العلم فنونا ً وقضايا ربما ل يعرفها الجيل الماضي أو ل يعرف عنها‬
‫إل القليل ‪ .‬سأقرب المسألة إليكم أكثر ‪ ،‬الطالب يبدأ الدراسة في المرحلة‬
‫البتدائية ويبقى يدرس حتى يدخل الجامعة وينتهي من الجامعة ‪ ،‬فإذا انتهى‬
‫من الجامعة ووضع الشهادة في جيبه ذهب يطلب الرزق من الله جل وعل ‪،‬‬
‫قلما يلتفت إلى أن يزداد علما ً ‪ ،‬إنه يعرف أن العلم متطور وأن الدنيا تضيف‬
‫الجديد في كافة العلوم ‪ ،‬لكنه يرى أن المرحلة العليا من الدراسة تكفيه ‪،‬‬
‫الشياء الجديدة ل يعرفها هو كما يجب وإنما سيعرفها الجيل الذي سيليه ‪،‬‬
‫والجيل الذي يليه يفعل نفس المر وهكذا ‪ ...‬هنا نجد أن النسان الذي بلغ‬
‫من السن مرحلة عالية قلما يحسن التعّرف على قضايا الجيال المعاصرة ‪،‬‬
‫فمن هنا ينشأ الصراع بين الجيال ‪ ،‬جيل يريد أن يبقى محافظا ً على الذي هو‬
‫فيه ‪ ،‬وجيل يريد أن يغير لكي يتلءم مع مقررات العلم ‪ ،‬ويقينا ً لو أن التفاعل‬
‫كان حقيقيا ً بين الجيال لنتهت هذه النقيضة الملحوظة ‪ ،‬ولكن المر كما نرى‬
‫ور صراع الجيال فقال عن الدنيا ‪:‬‬ ‫وره المتنبي حينما ص ّ‬
‫حتى الن كما ص ّ‬
‫تملكها التي تملك سالب وفارقها الماضي فراق سليب‬
‫بين الجيلين صراع ‪ ،‬أحدهما محكوم عليه أن ينهزم بالحسرة ‪ ،‬والخر محكوم‬
‫عليه أن ينتصر بكل مشاعر الظفر ‪ ،‬والسبب في ذلك كما قلنا هذه الحقيقة‬
‫البسيطة ‪.‬‬
‫إن النسان حينما ُتكشف له آفاق العلم على غير الوجه الذي كان عنده ‪،‬‬
‫بإضافات أخرى ربما يعارضك ‪ ،‬ربما يتأبى عليك ‪ ،‬ربما يرفض هذا الذي تقوله‬
‫له ‪ ،‬ذلك مبلغه من العلم ‪ ،‬ولهذا ألحق الله جل وعل ) إن ربك هو أعلم بمن‬
‫ل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ( لماذا قال الله هذا الكلم في هذا‬ ‫ض ّ‬
‫الموضع ؟ لو أننا نعيش ضمن مقررات البشرية ‪ ،‬لو أننا نعيش في ظلل‬
‫إنسانية ‪ ،‬لو أننا نتحرك من منظور تقدمي ‪ ،‬لكان الكلم على غير هذا الشكل‬
‫ل عن سبيله‬ ‫‪ ،‬ذلك مبلغهم من العلم صحيح ‪ ،‬ولكن ليس ربك أعلم بمن ض ّ‬
‫ول هو أعلم بمن اهتدى إنما اغسل المخ ‪ ،‬اسحل الناس ‪ ،‬اقتل كل الذين‬
‫يخالفونك في الرأي ‪ .‬تلك رعونة النسان ‪ ،‬ضيق صدر النسان وتعجله ‪،‬‬
‫ضيق أفق هذا النسان ‪ .‬لكن الذي يتحدث هنا هو الله الذي خلقك فسواك‬
‫كبك ‪ ،‬الله هو الذي أودع فيك القوى والحوافز‬ ‫فعدلك في أي صورة ما شاء ر ّ‬

‫‪100‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫م تصوراتك‬‫والمواهب ‪ ،‬الله الذي يعرف بأية قوانين تتشكل قناعاتك وتت ّ‬


‫وتستطيع أن تبني لنفسك ما تريد ‪ ،‬الله الذي خلقك هو أعلم بك ‪ ،‬يعرف أن‬
‫مسألة القناعة ليست شيئا ً يصب في الدماغ على شكل حقن ‪ ،‬وليست شيئا ً‬
‫ُيدخل إلى قلوب الناس بالقهر والغلبة والعنف والعنفوان ‪ ،‬ولكنه التراكم ‪،‬‬
‫تراكم الشياء والقناعات والخبرات والتجارب العقلية هو الذي سوف يوّلد‬
‫قناعاتك ‪ .‬خذ مثل ً وكثيرا ً ما نرى هذا إنسانا ً منغمسا ً في الفسوق من فرقه‬
‫إلى قدمه ‪ ،‬يشرب الخمور ويزني ول يتورع عن الموبقات ‪ ،‬نرى نماذج من‬
‫هذا القبيل فإذا نحن نستيقظ في الصباح وإذا هذا الخ المفترى في‬
‫ست النسان أو شيئا ً كما يقول‬ ‫المسجد ‪ ،‬نتصور أن المر عبارة عن كهرباء م ّ‬
‫ابن الرومي ‪:‬‬
‫ً‬
‫س كلبا أحاله إنسانا‬
‫إن للحظ كيمياًء إذا ما م ّ‬

‫)‪(4 /‬‬

‫ل ‪ ،‬المور ليست كما تتبدى وتظهر ‪ ،‬هذا النسان الذي تراه الن انقلب في‬
‫ي ملزم للمسجد ‪ ،‬هذا‬ ‫طرفة عين من إنسان فاسق فاجر إلى إنسان تق ّ‬
‫النسان أنت لم تَر منه إل الظاهر ولم تَر منه إل القشر فقط ‪ ،‬أما ما يدور‬
‫في عالمه الداخلي من صراع ومن تناقض ‪ ،‬وأما ما يديره بينه وبين نفسه‬
‫من حوار ومن أخذ وعطاء فكل ذلك مغّيب عنك ‪ .‬نتائج هذا هو هذه النقطة‬
‫التي انفجر عندها التكوين الفاسد لكي يوّلد النسان التقي المستقيم ‪ ،‬هذا‬
‫النسان عشرات اليام وربما الشهور والسنين وهو يخوض معركة قاسية مع‬
‫نفسه في غاية القسوة ‪ .‬كثير من الناس واسألوا الفساق وحدثني كثير‬
‫منهم ‪ ،‬واسألوا الفجرة وحدثني كثير منهم ‪ ،‬اسألوا الزناة وحدثني كثير‬
‫منهم ‪ ،‬والله إن بعض الزناة رووا لي أنهم يزنون فإذا انتهوا من الزنى بصقوا‬
‫على أنفسهم ‪ ،‬هو إنسان مغلوب على نفسه وهو يعرف في الداخل أنه‬
‫مخطئ ‪ ،‬فهذا النسان حين تراه ينقلب بين عشية وضحاها إلى إنسان تقي‬
‫لم يكن في المر شيء معجز ول خارق ‪ ،‬وإنما أمر إنساني بحت ‪ ،‬لن‬
‫النسان مهما يكن شقيا ً أو بعيدا ً عن الله أو مهم يكن مجردا ً من مشاعر‬
‫النسان فهو أول ً حزمة من الحاسيس ومن المشاعر من القوى ومن‬
‫س هذا القبس المقدس ‪ ،‬هذه الجزوة المباركة التي هي‬ ‫المواهب ‪ ،‬ول تن َ‬
‫فطرة الله التي فطر الناس عليها ‪ .‬النسان يرضى بالذي هو فيه وفاقا ً‬
‫لقانون الرضى بالمستوى المعين من العلم ‪ ،‬لكن وظيفة الديان والشرائع‬
‫والوحي والرسالة هي أن تفتح باستمرار آفاقا ً جديدة أمام ناظريك ‪ ،‬ربما‬
‫يكون لك موقف ‪ ،‬ل بأس ‪ ،‬سيكون لك موقف بكل تأكيد ‪ ،‬ونحن حين نرجع‬
‫إلى وقائع السيرة النبوية ونجد أن الله جل وعل هدى على يد نبيه محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم عشرات اللوف من الناس ‪ ،‬ماذا نجد ؟ نجده يقول ‪:‬‬
‫ما دعوت أحدا ً إلى السلم إل كان عنده كبوة وتردد ‪ .‬دعني أنظر ‪ ..‬دعني‬
‫أفكر ‪ ..‬حتى ربيبه علي رضي الله الذي نشأ عنده في بيته حينما فاتحه‬
‫بالسلم قال له ‪ :‬دعني أستشر أبا طالب ‪ ،‬أراد أن يستشير أباه ‪ .‬قال صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ :‬ما دعوت أحدا ً إلى السلم إل كانت عنده كبوة وتردد إل ما‬
‫كان من ابن أبي قحافة ) أبي بكر الصديق ( فإنه ما عكم عنه ‪ ،‬أي ما تردد ‪،‬‬
‫فبمجرد أن دعاه استجاب له ‪ .‬واحد من عشرات اللوف من الناس ‪ ،‬لن‬
‫موقفهم يخضع لهذين العاملين ‪ :‬تطلع النسان إلى أن يأخذ بالجديد وإلى أن‬
‫يكون وفيا ً إلى مقررات العقل وإلى يكون أن وفيا ً لقواعد العلم ‪ ،‬ورغبة‬

‫‪101‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫النسان بالمحافظة على الشيء المألوف ‪ .‬هذا التجاذب والتناقض هو الذي‬


‫أوجب على المسلم وهو يدعو إلى الله جل وعل أن يتذرع بالصبر وأن يطيل‬
‫باله ولن يوسع صدره وأن يذكر باستمرار أن الله جل وعل جعل قلوب عباده‬
‫بين أصبعين من أصابعه وأنه يكل الهداية والضلل إلى أحد من الناس ‪ ،‬وهو‬
‫الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ‪ ،‬وأن وظيفة النبياء والمرسلين فمن‬
‫ل عن سبيله وهو‬ ‫دونهم البلغ ول شيء إل البلغ ) إن ربك هو أعلم بمن ض ّ‬
‫أعلم بمن اهتدى ( ارجعوا إلى وقائع تستطيعون أن تضيفوها إلى هذه‬
‫الحقيقة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ‪ .‬عمر ‪ ،‬من عمر ؟ هو إنسان‬
‫ل من حمار أهله ‪،‬‬ ‫أشد قساوة من الصخر ‪ ،‬وأشد جفاًء من الحيوان ‪ ،‬أض ّ‬
‫عمر هذا هو في الجاهلية ‪ ،‬وحينما بدأت بعض طلئع المسلمين تتحرك‬
‫للهجرة إلى الحبشة مّر على امرأة منهم ‪ ،‬قال ‪ :‬أين يا أم فلن ؟ قالت ‪ :‬إلى‬
‫أرض الله ‪ ،‬والله لقد قهرتمونا وضيقتم علينا ‪ .‬قال ‪ :‬صحبك الله ‪ .‬وكأن‬
‫المرأة لمست من لهجة عمر لينا ً ورقة ‪ ،‬فلما جاء زوجها قالت له هذا الذي‬
‫ت في إسلمه ‪ ،‬إن عمر ل يسلم حتى‬ ‫قاله عمر لها ‪ .‬قال لها ‪ :‬لعلك طمع ِ‬
‫يسلم حمار الخطاب ‪ .‬حينما يسلم حمار أبيه سوف يسلم عمر ‪ .‬لكن عمر‬
‫أسلم وكان الشديد في أمر الله ‪ ،‬وأسلم وكان الرقيق على المسلمين ‪،‬‬
‫وأسلم وكان يوم الخلفة يقول للمسلمين ‪ :‬إني أضع خدي على الرض‬
‫لصاحب الحاجة حتى تقضى حاجته ‪ .‬عمر بهذا الشكل أسلم ولكن بعد صراع‬
‫وبعد نضال بينه وبين نوازع نفسه استمرت سنين ‪ ،‬النبي صلى الله عليه‬
‫ل بأصحابه من القتل‬ ‫وسلم يوم نكب النكبة العظمى في أحد ‪ ،‬ورأى ما ح ّ‬
‫ً‬
‫والتمثيل مما لم تتعوده العرب ‪ ،‬إن العربي يقتلك ولكن ل يمثل بجثتك أبدا ‪،‬‬
‫هو رجل شريف حتى وهو يقتل ‪ ،‬العربي شريف ‪ ،‬ومع ذلك فإن أعصاب‬
‫المكيين انفلتت من بين أيديهم من جّراء هذا الذي جاءهم به محمد صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فلم يكتفوا بقتل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه‬
‫مثلوا بجثث القتلى ‪ .‬وحين رأى صلى الله عليه وسلم هذا المنظر المؤلم‬
‫القاسي أقسم لئن أمكنه الله منهم ليمثلن بهم مثلة ما سمعت العرب بمثلها‬
‫قط ‪ .‬ولكن محمدا ً صلى الله عليه وسلم ليس رئيس دولة ول زعيم أمة ول‬
‫قائد جيش ول تاجرا ً من تجار السياسة ول أّفاقا ً من هؤلء الّفاقين الذين‬
‫طاع الطرق ‪ ،‬محمد صلى الله عليه‬ ‫يصنفون في قاموس السياسيين بين ق ّ‬
‫وسلم نبي ورسول ثم هو بعين الله جل وعل ‪ ،‬إن كلمه محسوب على‬

‫)‪(5 /‬‬

‫الجيال ‪ ،‬وإن تصرفاته جميعا ً في سجل النسانية ‪ ،‬وإن أية زلة من لسان‬
‫سوف تجّر وراءها ما ل يحصى من الخطأ والزلل ‪ .‬ولهذا فالله جل وعل أنزل‬
‫عليه في هذا الموقف الهائل وهو بين اللم والحزان والدماء والدموع ) ليس‬
‫لك من المر شيء أو يتوب الله عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ( وبالفعل‬
‫عدهم محمد صلى الله‬ ‫حين نتتبع تراجم رجالت السلم نجد أن هؤلء الذي تو ّ‬
‫عليه وسلم وهؤلء الذين دعا عليهم قد أسلموا جميعا ً وحسن إسلمهم وكان‬
‫منهم قادة الجيوش ‪ ،‬كان منهم خالد بن الوليد الذي أنزل الهزيمة بالمسلمين‬
‫في ُأحد فكان سيف الله الذي سّله الله على أعدائه من المشركين وكان‬
‫قائد المعارك المظفرة التي خاضها المسلمون على وجه العموم ‪ .‬وكان‬
‫منهم أبو سفيان سيد البطحاء الذي فقد عينه في معركة اليرموك وهو يقاتل‬
‫ويحرض المسلمين على القتال ‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫هذا الكلم الموجز جدا ً ‪ ،‬مسألة موقف الناس من الرسالة ليست مسألة‬
‫مبنية على علم ‪ ،‬لكنها مبنية على ظن ‪ ،‬لماذا ؟ لن الناس بطبعهم يميلون‬
‫إلى المحافظة على ما ألفوه ‪ ،‬إن تغيير الجو قد يوجد أمام مفاجأة ل تريد أن‬
‫تواجهها ‪ ،‬فأنت من أجل ذلك تسد أذنيك وتسد عينيك عن رؤية الشيء‬
‫الجديد ‪ ،‬ولكن على حملة الشيء الجديد وهو هنا هذه الرسالة أن ل‬
‫يستحسروا أمامها هذا الواقع النساني ‪ ،‬عليهم أن يصبروا وأن يثابروا وأن‬
‫يستمروا في بث هذا العلم الجديد الذي يحملونه إلى الناس ‪ ،‬وأن يطيلوا‬
‫الصبر ‪ ،‬يتركوا الناس في نزاعهم مع أنفسهم ‪ ،‬إن موقف المسلمين ثابتون‬
‫على دينهم غير مفرطين في شيء من صغيره ول من كبيره ‪ ،‬وموقف‬
‫المسلمين في دعوتهم إلى الله لجئون إليها في كل وقت وفي كل موقف ‪،‬‬
‫وموقف المسلمين في رقابتهم الصارمة على أنفسهم على مقالهم على‬
‫تصرفاتهم معوان خير معوان على أن تكون دولة المستقبل لهذا العلم الجديد‬
‫الذي ينسخ الظن الذي كانت فيه الجاهلية ‪ .‬إننا نريد أن نؤكد على هذا الكلم‬
‫ونؤكد عليه لماذا ؟ نؤكد عليه لننا حقا ً نعيش عصرا ً ل أعرف في العصور‬
‫أكثر وقاحة منه ول أكثر جرأة على مقررات العلم منه ‪ ،‬إنك تأخذ مسلوكا ً‬
‫شيوعيا ً قذرا ً جاهل ً أحمق أرعن فتراه يقول لك إن السلم ينافي العلم وإن‬
‫جميع ما جاء من عند الله جل وعل هباء وخرافة وإن قضايا العلم ومقررات‬
‫العلم تقول خلف ذلك ‪ .‬هل نسي هؤلء الناس وأشباههم كثير وكثير أكثر من‬
‫الدود هل نسي هؤلء أن فتنة العقل البشري بالعلم مضت عليها مائة سنة ‪،‬‬
‫وأن العقل البشري يوم كان يقف في القرن الثامن عشر ليدل بما وصل إليه‬
‫من مخترعات ومكتشفات تصاغر الن ووضع خده على الرض وأن كل‬
‫شمس تطلع في كل يوم تضيف إلى مجهولت النسانية مجهولت كثيرة‬
‫يقف العلم أمامها عاجزا ً ‪ ،‬هل نسي هؤلء الناس ذلك ؟ هل نسي هؤلء‬
‫الناس أن مقررات المذهب الماركسي الشيوعي الوسخ أصبحت شيئا ً يجب‬
‫أن ُيلقى في مزبلة التاريخ ؟ هل نسي هؤلء الناس أن ما يتعاجبون به اليوم‬
‫من مقررات ماركس في منتصف القرن التاسع عشر أصبحت أحاديث خرافة‬
‫ووهما ً من الوهام ؟ هل نسوا جميعا ً أن العلماء اليوم أكثر تواضعا ً مما كانوا‬
‫من قبل ؟ هل نسوا جميعا ً أن العلماء اليوم هم يقولون أن العلم يصف ول‬
‫يفسر ؟ هل نسي هؤلء أن العلماء اليوم هم الذي يقولون إن العلم برمته‬
‫وبجملته جملة من الحقائق والمشاهدات التي نوضع بعضها إلى جانب بعض‬
‫ويستخلص منها قانون قد ُيخرق وقد ل ُيخرق ولكن من يحرك القانون ؟ من‬
‫الذي أوجد الظاهرات ؟ ما كل هذه الظاهرات ؟ العلم يقول هذا شيء ل‬
‫نعرفه ‪ .‬إننا في هذا العصر الذي ُنواجه فيه بهذه الدعوى العريضة الوقحة‬
‫نريد أن نقول للناس ‪ :‬خّيطوا بغير هذه المسلة ‪ .‬خذوا هذا الكلم ‪ ،‬إن العلم‬
‫ليس معكم ‪ ،‬إن العلم مع القرآن والسلم ‪ ،‬وإن ما أنتم فيه كما قال الله إنه‬
‫الظن الذي ل يغني عن الحق شيئا ً ‪ ،‬وإن موقفنا وهو موقف هل أقوله لعامة‬
‫الناس أم أهمس به في آذان إخوتي وأحبابي وأبنائي من الشباب الذين‬
‫عاهدوا الله جل وعل على السير في طريقه والدعوة إلى سبيله ‪ ،‬ليكن‬
‫للفريقين ‪ ،‬إن موقفنا تجاه هذه العجاجة المصطنعة محدد في هذه الية‬
‫) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إل الحياة الدنيا ذلك مبلغه من‬
‫العلم ( إن الله جل وعل في هذا الكلم الموجز كشف عن أمرين أساسيين‬
‫حدد موقف النسان المسلم بالعراب وكشف عن العلة التي تحرك هؤلء‬

‫‪103‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الخصوم فأبان أنها إرادة الدنيا ‪ ،‬موقفنا نحن من حيث أننا لسنا جبارين ولسنا‬
‫مسيطرين ولسنا أوصياء على الناس طبعا ً ‪ ،‬موقفنا محدد بأن نعرض على‬
‫الناس هذا الذي نحمله من أمر الله ومن علم الشريعة ومن حقائق القرآن‬
‫ومقررات القرآن ) ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ( ونحن على هذا‬
‫ماضون ‪ ،‬ولكن الله جل وعل وضع في أيدينا السلح ‪ ،‬السلح الكثر فاعلية‬
‫الذي يجعلنا نلمس مكمن العلة في موقف العاندين عن أمر الله على اختلف‬
‫صنوفهم وألوانهم ‪ ،‬إنه إرادة الحياة الدنيا ‪ ،‬من يا إخوة ل يعرف أن السلم‬
‫حق وعدل وصدق ؟ من يا إخوة ل يعرف أن قضايا السلم هي الحق‬
‫المطلق ؟ من يا إخوة ل يعرف أن هذا النسان هو المنقذ الوحيد للبشرية‬
‫عموما ً من المأساة الرهيبة التي تتخبط فيها ؟ إن جهلتم ذلك فأعداء السلم‬
‫وخصوم السلم يقرون اليوم بهذا الكلم الذي نقوله إقرارا ً ل شك فيه ول‬
‫شائبة ول شبهة ‪ .‬ولكن بين القناعة والعمل دنيا من المشكلت تحتاج إلى‬
‫الصبر الطويل وتحتاج إلى العناية البالغة ‪ ،‬إن القناعة تكون مستقرة في إذننا‬
‫‪ ،‬سلني أليس الله موجودا ً حقا ً ؟ أقول لك بلى ‪ .‬أليس الله أهل ً لن ُيعبد‬
‫ويخشى ويتقى ؟ أقول لك بلى ‪ .‬أليس فرض الله عليك أن تصلي ؟ أقول لك‬
‫بلى ‪ .‬فلماذا ل تصلي ؟ أقول لك متكاسل متهاون وإلى آخر هذا الكلم ‪.‬‬
‫سلني لماذا ل تصف قدميك مع العاملين في سبيل الله ؟ لماذا ل تأخذ طريق‬
‫الله جل وعل ؟ أعندك في الله شك فاطر‬

‫)‪(7 /‬‬

‫السماوات والرض ؟ تقول ل ‪ .‬أعندك شك في صحة مناهج السلم وقدرتها‬


‫وأهليتها على إسعاد البشرية ؟ أقول لك ل ‪ .‬إذا ً لماذا ؟ أقول لك الراتب‬
‫والمعيشة والخوف من السجن ‪ ..‬الزنزانة ‪ ..‬صوت الجلد وإلى آخر هذا‬
‫الكلم ‪ .‬فالمسألة كلها إذا ً تدور أين ؟ على الدنيا وعلى إرادة الدنيا وعلى‬
‫شدة اللتصاق بالدنيا ‪ ،‬قد يحاول النسان أن يغش نفسه وأن يبتدع ‪،‬‬
‫والنسان عجيب وصدقوني حينما أقول لكم إن النسان عجيب ‪ ،‬النسان‬
‫قادر تماما ً على أن يخدع نفسه بشكل ل أغرب ول أعجب منه ‪ ،‬قادر على أن‬
‫يسير في الطريق الخطأ ‪ ،‬ثم ُيقنع نفسه أنه على الصواب ‪ ،‬قادر على أن‬
‫يسير في طريق التخريب وهو يقنع نفسه أنه مصلح ‪ ،‬وهذا من المآسي في‬
‫حياة النسان ‪ ،‬ومع هذا فنحن نتوجه إلى عموم الناس انطلقا ً من هذه الية ‪،‬‬
‫وأرى أنها يشبه أن تكون عقوبة لي من الله جل وعل كنت أريد أن أنجز‬
‫السورة الن فتشبثت بي آخر آية ‪ ،‬جزء أخير من آية تشبثت بي كل هذا‬
‫الوقت نحن حينما نصل إلى آخر هذه الية الكريمة ينبغي أن نحدد أنفسنا‬
‫بالتي ‪ ،‬وينبغي أن ل يغيب عن بالنا أن هذا الكلم الذي عرضناه الن وعرضه‬
‫الجزء الخير من الية ) فأعرض من تولى عن ذكرنا ولم يرد إل الحياة الدنيا‬
‫ذلك مبلغه عن العلم ( يجب أن نعرف أن هذا الكلم كان ُيعّبر بدقة وبأمانة‬
‫عن الواقع المتحرك في المجتمع المكي حينما خاطبهم محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ .‬موقف المكيين الذين نفروا من دعوة السلم وردوها كموقف الناس‬
‫اليوم الذي يحاربون السلم بحجة التخلف والرجعية أو بحجة عدم إمكان‬
‫التطبيق بداعي أن ثمة أمما ً نصرانية يمكن أن تعتصب علينا وأن تسحقنا ‪،‬‬
‫وموقف الجماهير موقف الغوغاء ‪ ،‬هذا الكلم الذي قلته الن والموقف الذي‬
‫عرضته الن موقف البالسة أي قمة المجتمع ‪ ،‬أما موقف الجماهير فهو‬
‫موقف الغفلة والتردي في رذيلة حب الدنيا واللتصاق بالرض ‪ ،‬والوفاء‬

‫‪104‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫للطين أكثر من الوفاء لنفخة الله في هذا النسان ‪ .‬الجماهير والغوغاء كانت‬
‫ترى إذا كان أبو سفيان وكان أبو جهل وكان فلن وكان فلن ل يستطيعون‬
‫أن يقتنعوا بأحقية السلم فأين نحن من هؤلء ؟ وهذا نحن نرى الجماهير‬
‫تقوله الن ‪ ،‬الغوغاء ‪ ..‬القمار ‪ ..‬عامة الناس يقولون لك إذا كان فلن الزعيم‬
‫وفلن القائد وفلن الرئيس وفلن الملك ‪ ،‬ل يستطيعون أن يأخذوا مناهج‬
‫السلم فأين نحن ؟ ما الذي نستطيع أن نفعل ؟ فالمواقف كما ترون‬
‫متشابهة واليات تتحرك على أرض واقعية ليست شيئأ ً يأتيك من فوق ول‬
‫شيء يخاطب تصوراتك وتخيلتك ‪ ،‬إنما هو شيء يعبر عن واقع متحرك ‪ ،‬إذا ً‬
‫فنحن حينما نقف أمام هذا الواقع المتحرك عموما ً كإخوة ‪ ،‬وواجب الوفاء‬
‫للخوة يتقضانا أن نقول ‪ :‬من ابتدأ فعليه أن يصبر ومع الصبر أن يعرف ‪ ،‬ومع‬
‫العرض أن يتمثل بهذا الشيء الذي يقوم به ‪ ،‬إن أْقتل شيء بنسبة للدعوات‬
‫أن يكون قولك شيئا ً وفعلك شيئا ً آخر ‪ ،‬إنه حينما يكذب الفعل القول فإن‬
‫الدعوة تنتهي تماما ً ‪ .‬فموقفنا أن نصبر وأن نعرض وأن نتمسك وأن نطمئن ‪،‬‬
‫وموقف الخرين رجاء وإهابة ودعوة ‪ ،‬إن الذي هم فيه من الغفلة عن‬
‫الحقائق السلم ومقررات القرآن شيء لن يطول ‪ ،‬ولكن نرجو أن يساعدونا‬
‫على أنفسنا ‪ ،‬نرجو أن يكون عندهم هذا التطلع النبيل ‪ ،‬هذا الحافظ الشريف‬
‫الذي يكون في النسان حينما ُتعرض عليه دعوة من الدعوات ‪ ،‬والله إني‬
‫ي ديانته أن أنظر إليها بحرية وبأمانة ومن‬ ‫لقادر لو جاءني يهودي يعرض عل ّ‬
‫غير حساسيات ‪ ،‬فليكن موقفنا عموما ً كذلك ‪ ،‬إننا أمام قرآن وأمام دين‬
‫وأمام قضية هي نداء الله إلى الناس قاطبة ‪ ،‬لماذا ل ننظر إليها بجدية ؟‬
‫لماذا ل ننظر إليها بوفاء عقلي لزم متمم لكرامة النسان ؟ نحن نقرأ فلسفة‬
‫الفلسفة ومقررات القتصاديين ومناهج الساسة نقرأها بإمعان وبدراسة‬
‫وبمقارنات ونتعب عليها اليام والليالي الطويلة ‪ ،‬لماذا ل ننفق بعض هذا‬
‫المجهود أو شيئا ً شبيها ً من هذا الهتمام ونحن ننظر إلى قضايا السلم ؟ إن‬
‫السلم دينك ‪ ،‬اعرف هذا جيدا ً ‪ ،‬كل مسلم يساق إليه هذا الكلم ‪ ،‬السلم‬
‫دينك ‪ ،‬ربما أنت الن في غمرة وأنت ساهٍ ‪ ،‬تتصور أل خوف على السلم ‪،‬‬
‫ولكن المسألة بالنسبة إليك لم تصل بعد إلى اللحم الحي ‪ ،‬للسف ‪ ،‬ربما‬
‫يكون جلدك سميكا ً ‪ ،‬ولكن ثق يا محترم أن مجرى اليام ومجرى الحوادث‬
‫يسوق إليك الذى شئت أم أبيت ‪ ،‬إنه سيأتي اليوم الذي تكتشف فيه بكل‬
‫الصدق ولكن بفاجعة ل مثيل لها أنك فرقت في أيامك الماضية وأنه كان خيرا ً‬
‫لك لو صففت مع إخوانك الذين يسيرون على طريق الله وأنه كان خيرا ً لك‬
‫وأجدى لو سددت إذنيك عن دعوات إبليس هذه التي تتعاوى بها الكلب في‬
‫الشرق والغرب وأصخت السمع إلى نداء الله جل وعل ‪ ،‬إنه سيأتي اليوم‬
‫الذي تجد أمم الرض فيه جميعا ً تقف ضدك ‪ ،‬وهذا يوم ليس ببعيد ‪ ،‬هذا يوم‬
‫قد ل يطول شهورا ً وإن طال أكثر من شهور فسنة أو سنتان ‪ .‬سوف تكتشف‬
‫من أقصى الرض إلى أقصاها أن شعوب الرض جميعا ً تعاديك ل لنك تعيش‬
‫على‬

‫)‪(8 /‬‬

‫بحر من البترول ‪ ،‬ول لنك تعيش في قمة كنز من الذهب ‪ ،‬ل ‪ ،‬إنها تعاديك‬
‫فقط لنك تقول ل إله إلى الله ‪ ،‬إنها تعاديك من أجل السلم فقط لنك‬
‫مسلم ‪ ،‬ولهذا ترى الزرادشت واليهودي والنصراني والوثني جميعا ً يتعاونون‬
‫عليك ‪ ،‬إن النور عدو الظلمة وإن الحق عدو الباطل ‪ ،‬والله جل وعل ندبك‬

‫‪105‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫منذ القديم قال ) وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ( كيف ترون‬
‫الناس غير المؤمنين يجتمعون جميعا ً ليقاتلوكم جميعا ً ‪ ،‬كذلك أنتم فكونوا‬
‫عصبة واحدة مجتمعين تقاتلون أعداء الله جل وعل ‪ ،‬ومع هذا ومع هذا ومع‬
‫هذا فأن أريد أن أزيد التنبيه والتكرار إننا وننحن نتجه إليكم بهذا الخطاب‬
‫وإلى أمتنا المسلمة ‪ ،‬ليكن واضحا ً أننا ندعو إلى الله على بصيرة وبينة ‪ ،‬وأن‬
‫لنا مهمة واضحة ووظيفة محددة هي أن نجهر بهذا النداء الذي امتحننا الله‬
‫جل وعل بأن نكون مؤتمنين عليه ‪ ،‬وأن ندعو الناس جميعا ً مسلمهم وكافرهم‬
‫إلى طريق الله تبارك وتعالى ‪ ،‬وليس إلينا أن يهتدي الناس ‪ ،‬وليس إلينا أن‬
‫يشقى الناس ‪ ،‬فذلك إلى الله جل وعل ‪ ،‬ول نشجع ول نرضى ول نرغب أن‬
‫يقيم أحد من خلق الله جل وعل من نفسه وصيا ً على عباد الله جل وعل ‪،‬‬
‫فالله جل وعل هو الولي فقط وأن على الدعاة إلى الله أن يطيلوا الصبر‬
‫وهم يسيرون في طريقهم إلى الله مع رجاٍء ل بد ّ أن نرجوه من الناس جميعا ً‬
‫أن يزيدوا من مشاعرهم النسانية وأن يعلموا أن الجهل يتنافى مع الخصائص‬
‫الولى للنسانية ودعك ‪ ،‬ليكن هذا السلم فلسفة الثورة الفرنسية ‪ ،‬ليكن‬
‫هذا السلم شيئا ً من تاريخ الثورة الروسية ن ليكن هذا السلم بعض من‬
‫مآثر الثورة المريكية ‪ ،‬ليكن أي شيء من هذا ‪ ،‬أنت تقرأ كل هذه الشياء ‪،‬‬
‫تقرأ تاريخها وتفاصيلها وحياة رجالتها وتقرأ مبادئها وتحفظها وتستوعبها‬
‫وتفرع عليها وتحاول أن تقيم على أساسها دول ً ونظما ً ‪ ،‬لماذا ل تجرب‬
‫السلم ؟ تراثك ‪ ..‬دينك وديعة الله عندك ‪ ،‬جربها مرة واحدة ‪ ،‬ويحك ما الذي‬
‫يمسك بك ما الذي يمنعك ؟ جرب أذلك أيضا ً ممنوع ؟ أممنوع عليك أن تنظر‬
‫وتستعمل هذا الصندوق ؟ ل ‪ ،‬ولكن أنت بالتصاقك بالدنيا تنفر من هذا ‪،‬‬
‫فتخفف يا أخي تخفف من هذه الوهام ‪ ،‬تخفف من هذه الثقال وشد نفسك‬
‫م قراءة كتاب الله وأسأل الله لنا ولكم وللمسلمين جميعا ً إن‬ ‫إلى الله وأدِ ْ‬
‫شاء الله تعالى أن يغرس في قلوبنا هذا الوفاء لدينه الذي يسهل لنا صعوبات‬
‫الطريق ‪ ،‬وإلى السبوع القادم نأمل لم نعد نجرؤ على القول إننا ننتهي أو ل‬
‫ننتهي من السورة إنما نأمل أن ننتهي من السورة إن شاء الله وصلى الله‬
‫تعالى على سيدنا محمد وآله أجمعين والحمد لله رب العالمين‪.‬‬

‫)‪(9 /‬‬

‫تفسير سورة النجم‬


‫الجمعة ‪ 29‬صفر ‪ 18 / 1397‬شباط ‪1977‬‬
‫)‪5‬ـ‪(5‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫فإننا نأمل إن شاء الله تعالى أن نأتي على ما تبقى لنا من سورة النجم ‪،‬‬
‫قضينا في النظر في قضاياها وقتا ً ل بأس به ‪ ،‬وكنا في السبوع الفائت قد‬
‫اضطررنا إلى الوقوف عند آيات قلئل من السورة الكريمة ‪ ،‬وإن الذي يشفع‬
‫لهذه الوقفة الطويلة عند آيات قليلة تجاوبها مع العصر ومسيس حاجة‬
‫الداعين إلى الله للتعرف على ما تشير إليه وتدل عليه ‪.‬‬
‫وأظن أننا بعد في الجو ‪ ،‬لم يتغّير علينا منه كبير أمر ‪ ،‬فليس ثمة من شك‬
‫في كل الذي شرحناه في الجمعة الماضية ‪ ،‬وفي صلة هذا الذي شرحناه‬
‫باحتياجات الدعوة ‪ ،‬وما يشك أحد في أنه مطابق للواقع البشري غاية‬

‫‪106‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المطابقة ‪ ،‬وفي أنه يشكل أساسا ً طيبا ً جدا ً لعتماد المناهج التي يسير عليها‬
‫ت نظركم في الجمعة الماضية إلى‬ ‫الدعاة إلى الله جل وعل ‪ ،‬وأذكر أنني لف ّ‬
‫أن هذا الكلم الذي أثارته تلك اليات القلئل ليست مقطوعة الصلة بمجرى‬
‫الحياة في ذلك الزمن الذي تنّزلت في هؤلء اليات ‪ ،‬بل هي تعّبر بأمانة‬
‫وصدق عن الواقع المتحرك في ذلك الحين ‪ .‬فليكن هذا مدخلنا إلى الحديث‬
‫عرض ‪.‬‬ ‫اليوم تكملة وتتويجا ً إلى ما ُ‬
‫قب على مواقف المشركين واعتقاداتهم‬ ‫سمعتم ربنا تبارك وتعالى ُيع ّ‬
‫وتصوراتهم ‪ ،‬ويصفها بالوصف الذي تستحقه ول تستحق أكثر منه ول أقل ‪،‬‬
‫إنما هي ظنون ‪ ،‬والظنون في باب الدينيات شيء ل يجوز البناء عليه ول‬
‫الطمئنان إلى ما يؤدي إليه من نتائج ‪ ،‬ذلك أمر ‪.‬‬
‫وأمر آخر هو أن هذا الموقف الذي أثاره أو وقفه المشركون من الدعوة ومن‬
‫رسول الله صلوات الله عليه وآله إنما هو مبلغ القوم ومبلغ النسانية من‬
‫العلم‪ ،‬وذلك نافع جدا ً لنه يحدد المهمة الولى أمام محمد عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ ،‬وأمام الذين يأخذون بطريقه ‪ ،‬إنها طرد الجهل بالعلم وطرد الظلم‬
‫بالنور ‪ ،‬وتلك مهمة ل يمكن لحد أن يفكر بتخطيها بحال من الحوال ‪ ،‬لنه لو‬
‫فعل سيكون بانيا ً على الرمل وعلى غير أساس ‪ ،‬ثم إن هذا الموقف الذي‬
‫وقفه المشركون ويقفه أشباههم في كل زمان وفي كل مكان ليس شيئا ً‬
‫مقطوع الصلة بالواقع الذي يعيشه الناس ‪ ،‬وليس شيئا ً خارجا ً على قوانين‬
‫الجتماع البشري ‪ ،‬كما أنه ليس شيئا ً في صلب الطبيعة البشرية ‪ ،‬وإنما هو‬
‫مرض إنساني معروف ‪ ،‬أي علة بشرية قديمة هي إرادة الناس للدنيا ‪ ،‬أي‬
‫تغليب المصالح العاجلة على المصالح الجلة ‪ ،‬تغليب مرضاة النفس وإوراء‬
‫ق وعلى ما هو‬ ‫مطامحها وإشباع شهواتها ودغدغة عواطفها على ما هو با ٍ‬
‫صحيح وعلى ما هو حقيقي ‪ .‬إن الله عرض المسألة بهذا الشكل كشأنه جل‬
‫وعل دائما ً وهو يقود المؤمنين في معركتهم الخالدة المستمرة ضد‬
‫المشركين والمرجفين والمشككين حتى يسير المسلمون على أرض معروفة‬
‫بالنسبة إليهم وحتى يستطيعوا أن يردوا الظاهرات إلى أسبابها وعللها‬
‫الحقيقية كي ل يخطئوا فيما بعد ول يخطئوا في تناول المور ‪.‬‬
‫) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إل الحياة الدنيا ‪ ،‬ذلك مبلغهم من‬
‫ل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ( بعد هذا‬ ‫العلم إن ربك هو أعلم بمن ض ّ‬
‫البيان والبلغ تأتينا صياغة ونحن نراجع سياق السورة تلفت النظر وتشد‬
‫الهتمام ) ولله ما في السماوات وما في الرض ليجزي الذين أساؤوا بما‬
‫عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( ول بد ّ من أن نخلص النظر إلى‬
‫الصياغة ‪ ،‬إن الصياغة جاءت معقبة على تشريح حالة كانت راهنة في‬
‫المجتمع المكي المشرك وهي كما قلنا حالة توجد في أي وقت وفي أي‬
‫حدد لها بعد التشريح‬ ‫مكان حينما تستدعيها دوافعها وأسبابها ‪ ،‬هذه الحالة ُ‬
‫موقف ‪ ،‬على المؤمنين أن يتخذوه ‪ ،‬والموقف المؤسس على القاعدة التي‬
‫ألمحنا إليها الن حين يكون موقف الناس منبثقا ً عن حدٍ معين من العلم يتأكد‬
‫بث العلم الجديد وأخذ الناس بقواعده وقوانينه ‪ ،‬ووقفهم مع قضاياه ‪ ،‬مع‬
‫تجريد المؤمنين من كل عوامل الغرور التي قد تجّر النسان إلى رؤية نفسه‬
‫ور النسان أنه وكيل الله على الناس في‬ ‫وإلى وضعها في غير محلها ‪ ،‬فيتص ّ‬
‫وله حق الكراه‬ ‫الرض ‪ ،‬وأنه يملك عليهم من السيطرة والسلطان ما ُيخ ّ‬
‫حدد بناًء على هذه الساس بأنه العراض‬ ‫والقسر والجبار ‪ ،‬الموقف ُ‬
‫) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلى الحياة الدنيا ( وبظني أنني‬
‫ذكرت قبل اليوم ومنذ شهور أن السلم وأن القرآن بالذات حينما يطالعنا‬

‫‪107‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بهذا الطلب ـ طلب العراض وطلب الصبر ـ فالسلم معلوم أنه دين القوة‬
‫ودين النسانية الكاملة الممتلئة ‪ ،‬فليس معقول ً والحالة هذه أن يو ّ‬
‫طن‬
‫المؤمنين على الستخذاء وعلى المهانة وعلى النهزام أمام الصدمات التي ل‬
‫بد أن يواجهها السائر في طريق الله جل وعل ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫والحل هو أن الله جل وعل بالذي فطر عليه الناس والذي يعرفه جل وعل‬
‫وعلمه من الناس أن النسان حين يترك أمام الحقيقة عارية ووجها ً لوجه لن‬
‫يطول تأبيه عليها ‪ ،‬ولن يطول تمرده عليها ‪ ،‬والحقيقة تمثل العنصر الحي في‬
‫هذا الكون المتراحب العظيم ‪ ،‬الحقيقة تمثل جذوة الحياة ‪ ،‬والنسان‬
‫برعوناته وبمواقفه الخاطئة يمثل الجانب الكثر فسادا ً في الكون ‪ ،‬ول بد‬
‫لعوامل الصلح من أن تتغلب ول بد من أن يقع النسان الخاطئ صريعا ً أمام‬
‫الحقيقة عندما تتكشف ساحة الصراع مجردة عن أهواء النفوس ‪ ،‬فقول الله‬
‫جل وعل ) فأعرض ‪ ( ..‬مؤسس على هذه القضية التي تتمتع بأحقية مطلقة ‪،‬‬
‫بعد هذا يأتي الكلم ) ولله ما في السماوات والرض ليجزي الذين أساؤوا بما‬
‫عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( أين مكان التأمل في هذه الصياغة ؟‬
‫مكان التأمل أننا حين نستعرض قرآننا المكرم نلحظ أن موضوعات الجزاء‬
‫والعقاب والثواب وما أشبه غالبا ً ما تتركز وتضاف إلى الدار الخرة ‪ ،‬فالله‬
‫جل وعل في غالب آيات القرآن حين يتوعد ويشير إلى المصائر والنتائج‬
‫يضيف ذلك إلى اليوم الخر ‪ ،‬لكن في هذا الموطن من السورة جاء ذكر‬
‫الجزاء غير مقرون بآخرة ول دنيا ‪ ،‬جاء مطلقا ً ) ليجزي الذين أساؤوا بما‬
‫عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( فهل هذا الجزاء مصروف إلى الدار‬
‫الخرة أم هو جزاء ينال الخاطئين في الدنيا أم هو شيء يمسهم في الخرة‬
‫والدنيا جميعا ً ؟ حينما نأخذ في اعتبارنا هذه الصياغة الموحية في القرآن‬
‫الكريم ونأخذ في اعتبارنا مجرى الحياة النسانية البشرية نخرج باستنتاج جيد‬
‫وهو أن هذه الدنيا بما يتصرف فيها الناس وما يأخذون ويعطون وبما‬
‫يضطربون من شأن ل يمر فيها خطأ من غير عقوبة ‪ ،‬وإن عاقبة الطريق‬
‫المعوج دمار وفساد ينال صاحبه في هذه الدنيا ‪ ،‬وحينما نرجع إلى خصائص‬
‫الذات اللهية إلى الله فنعلم أنه ليس الله المنتقم ‪ ،‬وليس الله الشرير ‪،‬‬
‫وليس الله الراغب في الدماء والدموع واللم ‪ ،‬وإنما هو الله البر الرحيم ‪،‬‬
‫نضع أيدينا على قضية إنسانية في غاية الهمية ‪.‬‬
‫ورط في الخطاء ويكررها بالرغم من النصح‬ ‫نحن نقول حينما نرى إنسانا ً يت ّ‬
‫والتحذير نقول دع هذا النسان يتعّلم على حسابه ‪ ،‬يتعّلم من كيسه ‪ ،‬ماذا‬
‫يعني هذا الكلم ؟ يعني أن النسان ل تغنيه هذه الحقائق والوفاء لها التزاما ً‬
‫ورها عقل ً ‪ ،‬وأن يعتنقها عقل ً ‪ ،‬ل بد ّ من معونة مادية ‪ ،‬ل بد ّ من أن‬ ‫أن يتص ّ‬
‫تعلمه حوادث الدهر ‪ ،‬ل بد ّ أن تعلمه مجريات اليام أن الطريق الذي هو فيه‬
‫باطل ‪ ،‬وهو طريق خطأ ل صواب فيه ‪ .‬فالجزاء إذا ً في الدنيا ل ُتراد به‬
‫العقوبة لمجرد العقوبة ‪ ،‬بل لعل لفت نظر النسان هو أظهر ما يكون في‬
‫تقرير هذه القضية ) ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ( في الدنيا صاحب‬
‫الباطل ل يمكن أن يسلم له باطله أبدا ً ‪ ،‬ل بد من أن ينال عقابه ‪ ،‬ل بد أن‬
‫يتعرض لنتائج العراض ‪ ،‬إن كل طريق معوج ينتهي إلى دمار في هذه الدنيا‬
‫قبل أن يقف الناس لرب العالمين يوم الحساب يوم العرض الكبر ‪ ،‬يوم‬
‫ُتعرضون ل تخفى منكم على الله خافية ) ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا‬

‫‪108‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( ‪.‬‬


‫نحن الن في ساحة الواقع الذي كان يواجه النبي صلى الله عليه وسلم ‪،‬‬
‫وقبل أن ندخل هذه الساحة ل بد أن نقول ما يلي على وجه الختصار ‪.‬‬
‫هذا السلم حينما نادى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بتاتا ً‬
‫قضية تصورات وأخيلة ‪ ،‬ول قضية عقليات ول استنتاجات واستنباطات ‪ ،‬وإنما‬
‫كان قضية حياة بكل ما يتفّرع من الحياة وبكل ما ينبني على الحياة ‪ ،‬مخطط‬
‫كامل يتناول بالتعديل والتغيير والتبديل معتقدات النسان ‪ ،‬ويغير تصورات‬
‫وطرائق تفكير النسان ‪ ،‬ويغير الهداف والغايات التي يسعى إليها النسان ‪،‬‬
‫ثم هو قبل ذلك وبعده ل يترك الناس لهذه المور التي قد تكون في بعض‬
‫ب لها ‪ ،‬ويشّرع من أجلها ‪،‬‬ ‫الحيان غائبة ‪ ،‬وإنما يأخذ أمهات المسائل فيط ّ‬
‫فهو إذا ً نظام يتناول بالتغيير بنية الناس الجتماعية ‪ .‬وبطبيعة الحال فنحن‬
‫ننادي بالسلم ‪ ،‬ومحمد صلى الله عليه وسلم حينما نادى بالسلم كان‬
‫مفهوما ً جدا ً أن هذه الصورة المجتمعية التي كانت موجودة في المجتمع‬
‫الجاهلي سوف تتعرض لتغييرات جذرية ‪ .‬من كان في القمة قد ينزل لن‬
‫يكون في أسفل السلم ‪ ،‬ومن كان ذا صوت وسلطان فقد يجرد من سلطانه‬
‫وسوف يتخافت صوته ‪ .‬والصورة الجتماعية لن تبقى على ما كانت عليه‬
‫يتحكم فيها أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان وأضرابهم من زعماء الجاهلية‬
‫ليبقوا في قمة المجتمع ‪ ،‬لن المجتمع في بنائه الجديد ل يأذن ول يسمح بأن‬
‫تكون هذه العناصر بما تحمل من تكوين مغاير هي قمة المجتمع الجديد‬
‫شف بعض‬ ‫ون ‪ ،‬وبدأت تتك ّ‬
‫الوليد ‪ .‬إن مجتمع السلم بدأ يأخذ طريقه إلى التك ّ‬
‫المعالم لهذا المجتمع ‪ ،‬وبدأ التمّيز في السلوك وفي الخلق وفي الفاق التي‬
‫يتطلع إليها الناس ‪ ،‬بدأ التميز يظهر بين المجتمع الجاهلي وبين المجتمع‬
‫السلمي الجديد ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫في صورة من هذا النوع سيكون هناك احتكاك ‪ ،‬والحتكاك كما قلنا يكون‬
‫كلما ً وتراشقا ً بالتهم ‪ ،‬كما يكون عراكا ً وتضاربا ً باليدي ‪ ،‬كما يكون مقاطعة‬
‫وتبّرأ من الحباب والصحاب ‪ .‬هذا الحتكاك رأينا منه صورا ً مرت معنا ‪ ،‬لكن‬
‫هنا صورة جديدة وهي صورة في الواقع معروفة وقريبة ول يمر يوم دون أن‬
‫يلحظها الناس ‪ ،‬أيها الخ لمجرد أن تبرز ويكون لك مقام في مجتمعك سوف‬
‫ت‬‫ت فيه ودخل َ‬ ‫ت من واقع كن َ‬ ‫تكون صفحة مكشوفة أمام الناس ‪ ،‬أنت خرج َ‬
‫في واقع جديد حقق لك امتيازا ً سيئا ً أو غير سيئ ‪ ،‬هذا غير مهم ‪ ،‬المهم أن‬
‫انفصال ً وقع بين صورتين من صور الجتماع البشري ‪ ،‬لمجرد أن يحدث هذا‬
‫ت كذا ‪ ،‬كان لديك كذا وصار لديك كذا ‪،‬‬ ‫ت كذا فصر َ‬
‫بمراجعة سجلتك ‪ ،‬كن َ‬
‫هذا النوع من الحتكاك ظاهرة إنسانية معروفة ومألوفة ‪ .‬حينما جاء السلم‬
‫مُثل الجاهلية ويقود الناس بأخلق غير أخلق الجاهلية وقع‬ ‫مُثل غير ُ‬
‫ونادى ب ُ‬
‫هم المشركين هؤلء التساؤلت التي ل بد أن تقع ‪.‬‬ ‫في و ْ‬
‫السلم بعبادة الواحد الحد ‪ ،‬والجاهليون يعكفون على الصنام ‪ ،‬والرجل‬
‫منهم كان في المس يعكف على صنمه طائفا ً ناحرا ً عابدا ً متمسحا ً ‪ ،‬وهو‬
‫اليوم يسب ويهين صنمه ويدين بالعبودية لله تبارك وتعالى ‪ .‬المجتمع المسلم‬
‫ينادي بالعفة وبطهارة الخلق ‪ ،‬والمجتمع الجاهلي قلما يقيم وزنا ً لهذه‬
‫المور ‪ ،‬فحينما يخرج المسلم من المجتمع الجاهلي فإن من ورائه سجل ً فقد‬
‫يكون قتل أو سرق أو زنى وقد ‪ ..‬إلى آخره ‪ .‬إن هذه الصفحات التي طوتها‬

‫‪109‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫اليام من حياة النماذج السلمية التي أسلمت على يد محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم بدأت ُتنشر لدى المجتمع المكي وبدأت تأخذ شكل التعيير ‪ .‬كل واحد‬
‫يجد في نفسه الدافع حينما تخرج له فجأة لتنهاه عن الموبقات وأن في‬
‫ت عبدا ً لهذه الموبقات كل واحد سيقول لك ‪ :‬ما خطبك يا فلن‬ ‫الماضي كن َ‬
‫ت من أصحاب هذه الخلق وأصحاب هذه الموبقات ‪ ،‬إن الله جل‬ ‫أنت كن َ‬
‫وعل يكشف عن هذه الظاهرة ‪ ،‬حينما قال ) ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا‬
‫ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( ولحظوا اللفظة ) الحسنى ( ليس فقط‬
‫الشيء الحسن ولكنه الشيء الحسن البالغ غاية الحسن ‪ ،‬بماذا عّرفهم ؟‬
‫قال جل وعل ) الذين يجتنبون كبائر الثم والفواحش إل اللمم إن ربك واسع‬
‫المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم‬
‫فل تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ( لحظتم هذا الكلم الدقيق البليغ‬
‫المعجز وكيف كشف الغطاء عن هذه المعركة الدائرة بين المسلمين‬
‫والمشركين في جانب من أخطر جوانبها لنها تمس بالثقة بالنسان الذي‬
‫ينادي بالسلم ‪ ،‬إنه ذكر عن الذين أحسنوا والذين سيجزيهم بالحسنى أي‬
‫بالخير مما أحسنوا فيه فعّرفهم بأنهم هو الذين يجتنبون كبائر الثم‬
‫والفواحش ‪.‬‬
‫حينما نفهم كبائر الثم والفواحش ونفهم اللمم ونفهم ما تعنيه الشارة حين‬
‫يقول الله أنه أدرى بخلقه إذ أنشأهم من الرض من طينها ‪ ،‬وأعلم بهم إذ هم‬
‫أجنة في بطون أمهاتهم وحين نسمع الله ينهاهم عن أن يزكوا أنفسهم نجد‬
‫أمامنا صورة حية واقعية تتكرر باستمرار ينفع جدا ً أن ل تغيب عن البال ‪.‬‬
‫إن السلم ل يضع في اعتباره أن النسان لمجرد أن يؤمن يخرج عن كونه‬
‫إنسان ‪ ،‬إنه وهو مؤمن غاية اليمان يظل إنسانا ً ‪ ،‬النسان إنسان والملك‬
‫ملك والشيطان شيطان ‪ ،‬ول مجال للنسان للنسلخ من طبيعته ‪ ،‬النسان‬
‫من شأنه أن ينسى أو يعصي أو يتمرد أو يتعامى عن الحقيقة أو أن يضعف أو‬
‫يكبو ‪ ،‬أو أن يتورط في الخطاء ‪ .‬ذلك شأن النسان ‪ ،‬والرسول صلى الله‬
‫عليه وسلم يكشف هذه الحقيقة بصورة ل تدع لمستزيد زيادة فيقول صلى‬
‫طاء وخير الخ ّ‬
‫طائين التوابون ‪.‬‬ ‫الله عليه وسلم ‪ :‬كل ابن آدم خ ّ‬
‫إن السلم يشير إلى مبدأ خلقة النسان من أنه من هذا الطين ‪ ،‬فيه كل ما‬
‫في الطين من كثافة وقدورة ‪ ،‬فيه كل ما في الطين ما يجذب إلى الرض‬
‫ويمنع الرتفاع نحو السماء ‪ ،‬وإن السلم يكشف أن هذا النسان ضعيف بما‬
‫أشار إليه بعلم الله به وهو جنين في بطن أمه ل يعلم شيئا ً ول يملك لنفسه‬
‫دفع ضرٍ ول جلب نفع ‪ ،‬وإن السلم حين ينهى الناس عن أن يزكوا أنفسهم‬
‫يشير إلى هذه النتائج ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫ل شك أن المكيين أقاموا الموازنات ‪ ،‬كيف يجوز لنا أن نقول أن بلل ً‬


‫الحبشي اللقيط الطريد يمكن أن يتساوى في القيمة أو يرجح على زعماء‬
‫مكة ذوي النسب الصريح وذوي النسب الصيل ؟ كيف يجوز لنا أن نقول عن‬
‫صهيب الرومي إنه إنسان يتساوى وقد يزيد في المنزلة على زعماء قريش ؟‬
‫كيف نقول عن المستضعفين أنهم سواسية مع الزعماء ومع الغنياء ؟ إن هذا‬
‫كان موجودا ً وهو أحد السلحة التي استعملت وهو سلح ينفع بالنسبة‬
‫للمغفلين والغرار ‪ ،‬حينما تضع في المقياس أمامك إنسانا ً ضعيفا ً وتضع في‬
‫المقابل رجل ً من ذوي الصوت والصلة وتقارن ‪ ،‬فإن الذين ل يفكرون يقولون‬

‫‪110‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫لك إن الزعماء خير حال ً وأسعد مآل ً من هؤلء المستضعفين ‪ .‬ولكن السلم‬
‫ل يقيم مقاييسه على هذه السس الباطلة الواهية السخيفة ‪ ،‬إنما معيار‬
‫التفاضل ليس قائما ً على الدم الذي يجري في العروق ‪ ،‬وليس قائما ً على‬
‫النساب والحساب ‪ ،‬ول على الثروات التي جمعت من حلل أو حرام ‪ ،‬ول‬
‫على الزعامات وما أشبه ذلك ‪ .‬إنه قائم على الفضائل النسانية الذاتية ‪ ،‬فقد‬
‫تجد إنسانا ً غير منظور إليه في المجتمع نظرة إجلل وإكبار ولكنه صادق‬
‫اللهجة عفيف النفس طاهر الضيم مستقيم الخلق فإنه في هذه الحالة‬
‫فون‬ ‫يساوي الشيء الكثير من الزعماء والغنياء وأكابر المجتمع الذين ل يع ّ‬
‫عن موبقة من الموبقات ‪.‬‬
‫مّر رجل من الناس المستضعفين فقال النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫لصحابه ‪ :‬ما تقولون في هذا ؟ قالوا ‪ :‬يا رسول الله هذا حري به إن دخل أل‬
‫يؤبه له ول يكترث به أحد وإن قال أن ل يسمع أحد إلى قوله وإن خطب أل‬
‫ُيزوج ‪ .‬ثم مّر رجل عليه شارة الوجاهة والزعامة ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما تقولون بهذا ؟‬
‫فوصفوه بعكس تلك الوصاف ‪ .‬قال لهم ‪ :‬ذاك الذي رأيتموه مهانا ً وبل قيمة‬
‫خير من ملء الرض من مثل هذا ‪ .‬إن المقياس في السلم مؤسس على‬
‫الفضائل الذاتية النسانية وليس مؤسسا ً على المظاهر الجوفاء ‪.‬‬
‫فلهذا بدأ المشركون يعارضون المسلمين بنماذج الزعامة الموجودة عندهم‪،‬‬
‫عارض الله لهم ذلك بلونين ‪ :‬لون كشف عن الطبيعة البشرية بعامة وأنها‬
‫طبيعة قائمة على الضعف وقائمة على النسيان والعصيان ‪ ،‬والله جل وعل ل‬
‫يطلب من خلقه المستحيل ولكن فارق ما بين النسان المؤمن وغير المؤمن‬
‫واب ‪ ،‬وأن غير المؤمن مصّر ل يعرف التوبة ‪ .‬فالله جل‬ ‫أن المؤمن خ ّ‬
‫طاء ت ّ‬
‫وعل ذكر الذين أحسنوا بهذا الوصف قال عنهم أنهم يجتبنون كبائر الثم‬
‫والفواحش إل اللمم ‪ .‬ولقد دار خلف طويل بين تراجمة القرآن حول كبائر‬
‫الثم والفواحش وحول اللمم ‪ ،‬ومن رأي بعض العلماء أن كبائر الثم‬
‫والفواحش هي الشرك فقط وأن ما سواها فليس من الكبائر ‪ ،‬ودار خلف‬
‫أيضا ً ل حاجة إلى معرفته حول اللمم وحول موضع ) إل ( هذا الستثناء ‪ ،‬هل‬
‫هو استثناء منقطع أم استثناء جاء على بابه ‪ ،‬ل حاجة لكم بهذا كله ‪ ،‬ولكن‬
‫ُأريد أن ل أذهب مع الذاهبين في الخلفات وُأحدد على ضوء معطيات اللغة‬
‫فقط ‪.‬‬
‫فحين نقول إن الشرك فقط هو كبائر الثم والفواحش يجب أن ل يغيب عن‬
‫بالنا أن الشرك مفرد ‪ ،‬وأن كبائر الثم والفواحش متعددات لنها جاءت‬
‫بصيغة الجمع ‪ ،‬فليس صحيحا ً أن نقول إن الكبائر هي الشرك فقط ‪ .‬وحين‬
‫نعرف معنى اللمم ما هو تنحل المشكلة ‪ ،‬فمن العلماء من قال إن اللمم هي‬
‫ت عليها‬ ‫صغار الذنوب مما تكفره الصلة والصيام والصدقة ‪ ،‬وهي التي لم يأ ِ‬
‫وعيد ول تهديد ‪ ،‬وبعض العلماء قالوا بخلف ذلك ‪ .‬وقواعد اللغة تحل‬
‫المشكلة ‪ ،‬فما معنى اللمم في لغة العرب ؟ والقرآن على قانون العرب في‬
‫م فلن بالمكان إذا زاره زيارة قصيرة ‪ ،‬إذا قام فيه‬ ‫كلمهم ‪ ،‬العرب تقول ‪ :‬أل ّ‬
‫م بالمكان ‪ ،‬ولكن حينما‬ ‫فترة قصيرة ثم ارتحل عنه ‪ ،‬هذا الملم هو الذي أل ّ‬
‫م فلن في هذا المكان ‪،‬‬ ‫يطيل النسان إقامته في المكان ل تقول العرب أل ّ‬
‫وطن فيه واستقر فيه ‪ ،‬فالله حين يصف الذين‬ ‫ولكن تقول أقام فيه وت ّ‬
‫أحسنوا بأنهم الذين يجتنبون كبائر الثم والفواحش إل اللمم يشير إلى هذه‬
‫الظاهرة أو الحقيقة التي تكلمنا عنها وهي أن النسان قد يقع ويكبو‬
‫ويخطئ ‪ ،‬هذا طبيعي ‪ ،‬ولكن الشيء غير الطبيعي بالنسبة للمؤمن أن يقيم‬
‫على المعصية ‪ .‬إن القامة على المعصية ُتخرج النسان من إيمانه الصحيح ‪،‬‬

‫‪111‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫لكن المؤمن قد يسرق ‪ ،‬قد يزني وقد يقتل وقد يشرب الخمر ويتوب ‪ ،‬فإذا‬
‫فعل الفاحشة التي هي كبيرة ثم أقلع عنها ولم يصّر عليها فهو ممن استثنى‬
‫الله جل وعل بهذه الية ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫إن ثمة أمورا ً صغيرة لعلكم تستغربون هذا الكلم لكن اسمعوا ‪ ،‬جاء رجل‬
‫إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‪ :‬يا رسول الله إني أصبت من امرأة‬
‫م بدخول المسجد لداء‬ ‫ما دون الزنا ‪ .‬وكان النبي صلى الله عليه وسلم يه ّ‬
‫الصلة ‪ ،‬فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬لم يعقب على كلمه ‪،‬‬
‫ح والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت ودخل في الصلة وصلى‬ ‫والرجل يل ّ‬
‫الرجل خلف النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فلما خرج النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم من المسجد أخذت الرجل مواجيد المعصية فجاء إلى النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم وأخذ بردائه وقال ‪ :‬يا نبي الله إني أصبت من امرأة ما دون‬
‫الزنا ‪ ،‬كل شيء فعلته معها إل الزنا ‪ .‬التفت النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫وقال له ‪ :‬أليس صليت معنا آنفا ً ؟ قال ‪ :‬نعم يا رسول الله ‪ ،‬فقال صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ :‬فهذه بتلك إن الحسنات يذهبن السيئات ‪ .‬فهذا لم يفعل الكبيرة‬
‫‪ ،‬ولو فعل الكبيرة لقام النبي صلى الله عليه وسلم عليه الحد ‪ ،‬ولكن‬
‫النسان قد يفعل الكبيرة التي توجب عقوبة وحدا ً ‪ ،‬فيستر الله عليه ول‬
‫يفضحه بين الناس ‪ ،‬هل يعني ذلك أن هذا الرجل ُأغلقت في وجهه جميع‬
‫البواب ‪ ،‬ل ‪ ،‬إن المهم أن يراجع النسان الخاطئ نفسه وأن يراجع ربه وأن‬
‫موا بالمعصية إلماما ً ولم ُيقيموا عليها‬‫يتوب من ذنبه فيكون من هؤلء الذين أل ّ‬
‫القامة التي تنفي عنهم هذا اليمان ‪.‬‬
‫هذه هي القضية التي عرضها السلم بعد أن مّهد لها بالكشف عن الطبيعة‬
‫البشرية وهي قضية بالغة الهمية ‪ ،‬نحن نتصور أن النسان المسلم معصوم‬
‫من المعاصي ‪ ،‬ل يمكن أن يخطئ أو يزل ‪ ،‬ل سيما إذا رأيناه مصليا ً ‪ ،‬وإذا‬
‫ج بيت الله الحرام فنحن نتصوره أنه سيعود إلينا كحمام مكة ‪ ،‬إن‬ ‫ذهب وح ّ‬
‫هذه التصورات الباطلة ل أساس لها ول قيمة لها ول وزن ‪ ،‬إن النسان يصلي‬
‫ويصوم ويحج وهو في معرض المعصية ‪ ،‬بل هو في معرض أن يشرك بالله‬
‫جل وعل ‪ ،‬إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثيرا ً ما يدعو ) يا مقلب‬
‫القلوب ثّبت قلبي على دينك ( فقالت له عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها‬
‫يوما ً ‪ :‬يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء ؟ قال لها ‪ :‬يا عائشة إن‬
‫قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ‪ ،‬إن أراد أن‬
‫يقيمها أقامها ‪ ،‬وإن أراد أن يزيغها أزاغها ‪.‬‬
‫أين تتركز أهمية هذه القضية ؟ إن وضعنا اليوم شبيه من وجوه كثيرة بالوضع‬
‫الذي قابله محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬أيما إنسان دعا إلى الله وتحدث‬
‫إلى الناس بذلك لم يتعرض إلى هذا النغم المكرور الممل ‪ ،‬حينما تقول‬
‫ل يا أخانا ‪ ،‬يقول ‪ :‬ما نفعت الصلة‬ ‫لنسان تارك للصلة بعيد عن الله ص ِ‬
‫فلنا ً ‪ ،‬نحن نعرف أن فلنا ً يصلي الصلوات الخمس ولكننا نعرف أنه يغش‬
‫في المكيال والميزان ‪ ،‬ونعرف فلنا ً يصلي كذلك ولكن نعرفه كذلك إذا خل‬
‫بمحارم الله جل وعل كان ذئبا ً شرسا ً ‪ ،‬نحن نرى فلنا ً يصلي ولكن يتعامل‬
‫بالربا ‪ ،‬نعرف فلنا ً يصلي ويصوم رمضان فإذا سمع بقدوم العيد وضع الطاس‬
‫والكأس وعاد إلى الموبقات ‪ ،‬كل هذه الشياء نعرفها ‪ .‬نقول له يا فلن أنت‬
‫ملكت النصاب فحج إلى بيت الله فإن محمدا ً يقول ‪ :‬من ملك زادا ً وراحلة‬

‫‪112‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تبلغه بيت الله الحرام ثم لم يحج فليمت إن شاء يهوديا ً أو نصرانيا ً أو مجوسيا ً‬
‫ضل انظر إلى الحجاج هذا حاج وهذا حاج ‪ ...‬وهذا من صفته‬ ‫‪ .‬يقول لك ‪ :‬تف ّ‬
‫كذا وكذا ‪ ،‬وكل الذي يقوله الناس صحيح في الغالب ‪ ،‬لكن وجه الخطأ أين ؟‬
‫وجه الخطأ أننا ل نملك أن نتصور النسان أخذ العصمة بمجرد أن قال ل إله‬
‫إل الله ‪ ،‬إن عصرا ً لو كان له أن ُيعصم من هذه الظاهرة البشرية لكان عصر‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم أحق العصور بهذا ‪ ،‬في عهد النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم وبين المؤمنين بالذات من زنى ومن شرب الخمر ومن أتى بعض‬
‫الموبقات ‪ ،‬ولو كان العصر مبرأ من هذه لكان أحق العصور عصر محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ولكن ) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ل يضركم‬
‫ل إذا اهتديتم ( وإذا كان بعض الناس الذين دخلوا في السلم‬ ‫من ض ّ‬
‫ب ما قبله ‪،‬‬‫يتحسسون من بعض الشياء في ماضيهم فليعلموا أن السلم يج ّ‬
‫والنبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءه عمرو بن العاص رضي الله عنه‬
‫لكي يسلم قال يا رسول الله ‪ :‬إني أشترط لنفسي قبل أن ُأسلم ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫ماذا تشترط يا عمرو ؟ قال ‪ :‬أن ُيغفر ما سبق من ذنوبي ‪ .‬فقال له النبي‬
‫ب ما قبله ‪ .‬كثير من‬‫صلى الله عليه وسلم ‪ :‬يا عمرو ألم تعلم أن السلم يج ّ‬
‫ض ولكن هذا الماضي ل ينبغي أن يحول دون نفضي هذا الغبار‬ ‫الناس لهم ما ٍ‬
‫كله ‪ ،‬والدخول في ساحة نظيفة ضمن تصورات نظيفة وضمن حياة شريفة ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫نحن كلنا عانينا من هذه المور ‪ ،‬وكلنا واجهنا هذه النتائج ‪ ،‬إننا في السياق‬
‫جه هذه الحقائق المّرة ‪ ،‬وللسف أنه من خدع الشيطان‬ ‫الدعوة إلى الله نوا َ‬
‫أنك حينما تدعو الناس إلى السلم يوحد الناس بين السلم وبين المسلمين‬
‫توحيدا ً مطلقا ً ‪ ،‬الصورة التي يخرج بها النسان عن السلم صورة هذا‬
‫العاصي أو الزاني أو شارب الخمر أو ما أشبه ذلك ‪ ،‬هذا خطأ مبين وضلل‬
‫عريض ل ينبغي أن يكون ‪ ،‬ومع ذلك فإن واجبنا أن نصبر عليه ‪ ،‬وإن واجبنا‬
‫أن نوطن أنفسنا على قبول مثل هذه النماذج بصدر رحب ‪ ،‬كيف ؟ قبول ذلك‬
‫ليس إضفاء صفة المشروعية عليها ولكن اعتبارها أمرا ً إنسانيا ً طبيعيا ً ‪ ،‬من‬
‫الطبيعي أن يخطئ النسان ‪ ،‬وكل ما نريد من النسان إذا زّلت قدمه أن‬
‫ينوب إلى الله تعالى ‪ ،‬فإن باب التوبة مفتوح بشكل واسع ‪.‬‬
‫هذه القضية التي واجهت الرسول صلى الله عليه وسلم عرضها القرآن‬
‫بالشكل الذي شرحناه لكم ) ولله ما في السماوات وما في الرض ليجزي‬
‫الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ‪ .‬الذين يجتنبون كبائر‬
‫الثم والفواحش إل اللمم إن ربك واسع المغفرة ‪ ،‬هو أعلم بكم إذ أنشأكم‬
‫من الرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فل تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن‬
‫اتقى ( ل يقل أحد منكم أنا خير من فلن ‪ .‬ثم جاءت اليات تعرض شيئا ً آخر‬
‫نريد أن نمّر عليه ‪.‬‬
‫ً‬
‫يقول الله تعالى مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم ) أفرأيت الذي‬
‫تولى ‪ ،‬وأعطى قليل ً وأكدى ‪ ،‬أعنده علم الغيب فهو يرى ‪ ،‬أم لم ينبأ بما في‬
‫صحف موسى ‪ ،‬وإبراهيم الذي وفى ‪ ،‬أن لن تزر وازرة وزر أخرى ‪ ،‬وأن ليس‬
‫للنسان إل ما سعى ‪ ،‬وأن سعيه سوف ُيرى ‪ ،‬ثم ُيجزاه الجزاء الوفى ‪ ،‬وأن‬
‫إلى ربك المنتهى ( أول هذا المقطع تحدثنا عنه من قبل ‪ ،‬ولكن الكلم عن‬
‫قوله تعالى ) أم لم ُينبأ بما في صحف موسى ‪ ،‬وإبراهيم الذي وفى ‪ ،‬أن ل‬
‫تزر وازرة وزر أخرى ‪ ،‬وأن ليس للنسان إل ما سعى ( يضع أمامنا أهم‬

‫‪113‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الفوارق الجوهرية بين السلم وغيره من الدعوات الخرى ‪ .‬إن السلم في‬
‫هذه اليات القلئل يقرر المسؤولية الفردية على النسان ‪ ،‬ولكي نعرف خطأ‬
‫المجتمع البشري ول سيما المعاصر ل بد أن نلفت النظر إلى أن جدال ً طويل ً‬
‫ثار مع نشاط الدراسات الجتماعية والنفسية والسياسية غي القرنين‬
‫السابقين ‪ ،‬إن الخلف دار طويل ً ومازال على أنه إذا أخطأ النسان فمن هو‬
‫المسؤول ؟ هل المسؤول هو النسان بالذات أم المسؤول هو المجتمع الذي‬
‫لم يهيئ سبيل الستقامة ؟ هذا السؤال عرض للفلسفة والمفكرين ‪ ،‬فمن‬
‫آخذ أقصى اليمين ومن آخذ أقصى الشمال ‪ ،‬ولعل عصرنا الذي نحن فيه يرى‬
‫أن المجتمع مسؤول عن زلل الفراد ‪ ،‬يعني حينما يسرق السارق فعلى‬
‫المجتمع أن يتحمل مسؤولية السرقة ‪ ،‬لماذا ؟ لنه لم يوّفر القوت لهذا‬
‫النسان كي ل يسرق ‪ ،‬حينما يزني الزاني فعلى المجتمع أن يتحمل‬
‫المسؤولية لنه بأعراف الضيقة وبتصوراته الفاسدة جعل التصريف الجنسي‬
‫أمرا ً مليئا ً بالمحظورات والمحرمات حتى أصبح العتداء على العراض شيئا ً‬
‫يجد النسان نفسه مضطرا ً لرتكابه اضطرارا ً يرفع المسؤولية عنه ‪ ،‬وهكذا‬
‫قل في بقية الخلق ‪.‬‬
‫أين انعكست هذه المور ؟ ارجع إلى القوانين السائدة في العالم ‪ ،‬وإلى‬
‫القوانين السائدة عندنا نحن معاشر المسلمين ‪ ،‬نحن نعلن بطبيعة الحال أن‬
‫السارق الذي يسرق لحاجة ل ُتقطع يده ‪ ،‬وعمر بن الخطاب رضي الله عنه‬
‫حينما جيء بغلمان لحاطب بن أبي بلتعة الصحابي رضي الله عنه سرقوا‬
‫ناقة لرجل ‪ ،‬بعد أن أمر بأن ُتقطع أيديهم عاد فسألهم ‪ :‬ما الذي دفعكم إلى‬
‫السرقة ؟ قالوا ‪ :‬يا أمير المؤمنين إن حاطب يتعبنا ويجيعنا ‪ ،‬أي ل يطعمنا‬
‫كما ينبغي ‪ .‬فاستدعى عمر حاطبا ً وقال له ‪ :‬والله لقد هممت أن أقطع يدك‬
‫أنت ‪ ،‬ثم أمر بأن يغرم لصاحب الناقة ناقته ‪ ،‬وخلى عن الغلمان ‪ .‬وعمر هو‬
‫طل حد‬ ‫نفسه رضي الله عنه في عام الرمادة حينما جاع الناس وأقحطوا ع ّ‬
‫السرقة ‪.‬‬
‫نحن في السلم حينما تكون هناك مبررات حقيقية وواقعية نشعر بأن‬
‫كز المسؤولية‬ ‫المجتمع مسؤول عنها وأن النظام السياسي مسؤول عنها نر ّ‬
‫على النظام وعلى المجتمع ونعفي صاحب الخطيئة من نتائج خطأه ‪ .‬ولكن‬
‫في الحوال العادية هل يجوز أن نقول ذلك ؟ ل ‪ ،‬فهذا غير جائز بتاتا ً ‪ .‬قد‬
‫يكون مفهوما ً أن نعفو عن السارق فل نقطع يده ‪ ،‬لنه سرق لحاجة ‪ .‬ولكن‬
‫أية حاجة تدعو النسان المستقيم لن يشرب الخمر ؟ أية حاجة لن يتعامل‬
‫بالربا ؟ أية حاجة تدفع النسان إلى الزنا ؟ ل حاجة على الطلق ‪ ،‬ول شيء‬
‫يتحمله المجتمع من هذه المور ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫فإذا رجعنا إلى قوانيننا السائدة اليوم ونظرنا إلى انعكاسات التفكير المعوج‬
‫الذي سرى إلينا بعدوى الفكار الجنبية نجد أن قوانيننا ل تعاقب السارق ما‬
‫لم تكن السرقة ظاهرة جلية أو مصحوبة باستعمال العنف والكراه ‪ ،‬هذا‬
‫واحد ‪ .‬وإذا نظرنا إلى قوانيننا فنحن نجد أنك إذا أمسكت بزوجتك متلبسة‬
‫بالزنا مع رجل في فراش الزوجية في فراشك أنت فليس لك أن تقاضيها إذا‬
‫ض بين الزوجة وبين هذا الذي زنت به ‪ ،‬وإذا أمسكت‬ ‫ً‬
‫كان الفعل ناتجا عن ترا ٍ‬
‫مى في القوانين‬ ‫بابنتك وقد بلغت الثامنة عشرة وهي تزني فإن فعلها ل يس ّ‬
‫مى قباحة ‪ ،‬يعني أقل من جنحة ‪ ،‬وإن عقوبة هذا الفعل ليس‬ ‫جريمة وإنما يس ّ‬

‫‪114‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أكثر من عشر ليرات سورية يقررها القاضي على البنت الزانية برضاها ‪،‬‬
‫ولكن القانون يثور إذا كان الزنا ناتجا ً عن إكراه ‪.‬‬
‫هذه القوانين المعوجة ‪ ،‬هذه الحياة الفاسدة سببها ماذا ؟ سببها إلغاء‬
‫المسؤولية الفردية ‪ ،‬في الواقع النسان مسؤول عن عمله ‪ ،‬ول يجوز بتاتا ً أن‬
‫نسحب نتائج العمل عن أي إنسان آخر ‪ ...‬لننا لو سحبنا‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة النجم‬


‫الجمعة ‪ 1‬صفر ‪ 21 / 1397‬كانون الثاني ‪1977‬‬
‫الحلقة ) ‪ 1‬ـ ‪( 5‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله من الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫السور القصيرة التي تحدثنا عنها في الماضي تعد واحدا ً وعشرين سورة ‪،‬‬
‫ونحن الن نواجه السورة الثانية والعشرين في سياق التنزيل وهي سورة‬
‫النجم ‪ ،‬وتعرفون مطالع سورة النجم ‪ ،‬وهي تبدأ ) والنجم إذا هوى ‪ ،‬ما ضل‬
‫صاحبكم وما غوى ‪ ،‬وما ينطق عن الهوى ‪ ،‬إن هو إل وحي يوحى ‪ ،‬علمه‬
‫مّرةٍ فاستوى ‪ ،‬وهو بالفق العلى ‪ ،‬ثم دنى فتدلى ‪ ،‬فكان‬ ‫شديد القوى ‪ ،‬ذو ِ‬
‫قاب قوسين أو أدنى ‪ ،‬فأوحى إلى عبده ما أوحى ‪ ،‬ما كذب الفؤاد ما رأى ‪،‬‬
‫أفتمارونه على ما يرى ‪ ،‬ولقد رآه نزلة أخرى ‪ ،‬عند سدرة المنتهى ‪ ،‬عندها‬
‫جنة المأوى ‪ ،‬إذ يغشى السدرة ما يغشى ‪ ،‬ما زاغ البصر وما طغى ‪ ،‬لقد رأى‬
‫من آيات ربه الكبرى ( هذا المقطع الذي تفتتح به السورة هو يشكل‬
‫المشكلة الضخمة في وجهنا ونحن ندرس هذه السورة ‪ ،‬واضح من سماعي‬
‫هذا الكلم اللهي أن هذا المقطع من السورة يشير إلى واقعة من وقائع‬
‫السيرة المشهورة وهي السراء والمعراج ‪ ،‬نحن حددنا لنفسنا مدى زمنيا ً‬
‫ينتهي في السنة الخامسة من المبعث ‪ ،‬وقلنا إن الية التي تحمل المر‬
‫بالبلغ العام تنتهي هذه السنة ‪ ،‬ونحن الن في السورة الثاني والعشرين أي‬
‫بيننا وبين نهاية المرحلة وفاقا ً لترتيب سور القرآن تسع وعشرون سورة ‪،‬‬
‫فمتى كانت حادثة السراء والمعراج ؟‬
‫حسب الترتيب المتعارف عليه بين كّتاب السيرة أن الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم ن ُّبئ على رأس الربعين من عمره الشريف صلى الله عليه وسلم ‪،‬‬
‫وأنه في رأي المكثرين ظل يدعو سرا ً من يثق به من قومه ثلث سنين ‪ ،‬ثم‬
‫ُأمر بالبلغ ‪ ،‬ونحن أضفنا من عندنا سنتين إكراما ً لخاطر أولئك الذين‬
‫يتصورون سرية الدعوة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على نمط‬
‫سرية الحزاب المعروفة اليوم والمحظورة والممنوعة والتي تعتبر خارجة‬
‫على القانون ‪ ،‬إكراما ً لهؤلء أضفنا من عندنا سنتين رجاء أن ننظر في‬
‫مضامين القرآن النازلة في هذه الفترة كلها لنرى نصيب السرية من الدعوة‬
‫السلمية في هذه الفترة ‪ ،‬وبعد مرور سنتين على آخر مدى وضعه أكثر‬
‫كّتاب السيرة إسرافا ً في تصور السرية ‪ ،‬فحادثة السراء والمعراج هل وقعت‬
‫ضمن هذه المدة ؟ ل ‪ ،‬كما قلنا ظل النبي يدعو من يثق به وجاءه أمر الله‬
‫بأن ينذر عشيرته القربين فجمعهم عنده وأنذرهم وأبلغهم أنه رسول من الله‬
‫جل وعل إليهم خاصة وإلى الناس عامة ‪ ،‬وأبان لهم مكانتهم في نفسه وشدة‬
‫حرصه على سعادتهم وقال لهم ‪ :‬والله لو كذبت الناس جميعا ً ما كذبتكم ‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فالنسان ل يتآمر على أهله وقومه وعشيرته ول سيما في المنظور‬


‫الجاهلي ‪ ،‬القبيلة هي محور الوجود النساني كله ‪ ،‬والفرد من القبيلة ل يرى‬
‫لنفسه وجودا ً خارج نطاق القبيلة ‪ .‬لكن معظم قومه ردوه كما ردته سائر‬
‫قريش ‪ ،‬ثم ُأمر بالبلغ فبّلغ ‪ ،‬ثم ما كان من البلء واليذاء والفتنة ‪..‬‬
‫وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عن المسلمين بعض الذي يرونه‬
‫من عنت قريش فأشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة إلى أرض النجاشي‬
‫مت عددا ً من رجال المسلمين وعددا ً‬ ‫فكانت الهجرة الولى إلى الحبشة ض ّ‬
‫قليل ً من النساء المسلمات ‪ .‬كان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة ‪.‬‬
‫وظل النبي صلى الله عليه وسلم قائما ً على أمر الله ‪ ،‬شديد النفاذ لما‬
‫يريده الله تعالى منه ‪ ،‬يتردد على مجالس قريش وأنديتها ويلتقي بالقبائل‬
‫القريبة من مكة ‪ ،‬ويلقى منهم مثل ما يلقى من قريش ‪ .‬ثم كان تآمر قريش‬
‫ليس على شخص النبي صلى الله عليه وسلم فحسب وليس على الذين‬
‫آمنوا فحسب وإنما على بني هاشم وبني عبد المطلب جميعا ً ‪.‬‬
‫فقررت قريش مقاطعة بني عبد المطلب أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫مسلمهم وكافرهم على سواء ‪ ،‬وكان حصار الشعب الذي استمر ثلث سنين‬
‫أو أقل قليل ً ‪ .‬ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الشعب ‪ ،‬كان الوقت‬
‫يقارب السنة التاسعة أو يزيد من البعثة ‪ ،‬ثم خرج إلى الطائف ولقي في‬
‫الطائف أشد مما لقي في مكة ‪ ،‬يروى أن أهل الطائف حين جاءهم النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم وقفوا له في الطريق صفين ‪ ،‬فكان كلما نقل قدما ً‬
‫وهو يمشي كانت تأتيه الحجارة حتى أخذ الدم ينزف من قدميه صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬ولما رأى ما رأى من هذا الستقبال الشنيع رجا أشراف ثقيف‬
‫قائل ً ‪ :‬ما دمتم فعلتم ما فعلتم فأنا أرجو أن تكتموا هذا اللقاء عن قريش ‪،‬‬
‫كي ل تزداد عداًء له ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ولكن ثقيفا ً قبيلة مشركة جاهلية ‪ ،‬وهي قبيلة منافسة لقريش ‪ ،‬فكما أن‬
‫قريشا ً سادنة بيت الله الحرام الكعبة المشرفة ‪ ،‬فإن ثقيف بنت لصنمها‬
‫اللت بيتا ً ورتبت له سدنة وكان يعظمونه كتعظيم بيت الله الحرام ‪ ،‬فأرادوا‬
‫أن يغروا محمدا ً صلى الله عليه وسلم بقريش ‪ ،‬ويغروا قريشا ً بمحمد صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ ،‬يأمنون من ذلك أن تصطرع قريش فيما بينها لتضعف ‪،‬‬
‫وتضعف الكعبة من جّراء ذلك ‪ ،‬ويكون لثقيف المكان الول بين قبائل العرب‬
‫وللطاغية صنمهم المنزلة الولى بين أصنام العرب ‪ ،‬ولبيتهم في الطائف‬
‫المكانة الولى ‪ ،‬ويتحول الحج من مكة إلى الطائف ‪ .‬فأغروا به السفهاء‬
‫والصبيان ‪ ،‬وسبقت هذه الخبار محمدا ً صلى الله عليه وسلم إلى مكة‬
‫فازدادت قريش شراسة إلى شراسة ‪.‬‬
‫في هذا الثناء أو قبلها بقليل بعد الخروج من الشعب بخمس وثلثين ليلة‬
‫توفيت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ‪ ،‬ولم تلبث قليل ً حتى توفي أبو‬
‫طالب ‪ ،‬وفقد النبي صلى الله عليه وسلم الزوجة الوفية الصابرة المحتسبة‬
‫التي كانت بلمسات حنانها تمسح متاعب النبي صلى الله عليه وسلم وتعيد‬
‫السكينة والطمأنينة إلى نفسه ‪ .‬وبفقد أبي طالب فقد النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم شيخ القبيلة بل شيخ قريش ‪ ،‬حيث كانت قريش والعرب جميعا ً تعظمه‬
‫وتحترمه وتعرف قدره بينها ‪ .‬ولشدة المصاب سمى النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم هذا العام عام الحزن ‪ ،‬لن النبي صلى الله عليه وسلم لقي من‬

‫‪116‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المتاعب والهوال ما تنهد له الجبال ‪ .‬وتلفت النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫ؤذن حالهم بأن‬ ‫فوجد نفسه وحيدا ً بين قوم تزداد شراستهم مع اليام ‪ ،‬ول ي ُ‬
‫يستقر على قرار إل أن ُيقضى على هذه الدعوة وعلى هذا النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪.‬‬
‫في هذه الثناء كانت حادثة السراء والمعراج ‪ ،‬كالتعزية والتسلية لرسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم عن كل هذا البلء من جّراء حمل هذه الرسالة ‪،‬‬
‫متى كانت ؟ المبعدون جدا ً يقولون أنها كانت قبل ثمانية عشر شهرا ً من‬
‫الهجرة ‪ .‬ونحن الن في النصف الثاني من البعثة ‪ ،‬في السنة الحادية عشر‬
‫للبعثة النبوية ‪ ،‬فنحن إذا ً قد قطعنا مرحلة طويلة جدا ً طوت خللها أحداثا ً ما‬
‫مررنا بها ‪ ،‬طوت وقائع ما تعرفنا عليها ‪ ،‬طوت خللها أمورا ً نزل بها القرآن‬
‫ما قرأناها حتى الن ‪ ،‬فكيف التوفيق ؟ ل مجال للقول بأن هذه الفاتحة ل‬
‫تتعلق بالسراء والمعراج ‪ ،‬فاتحة السورة صريحة في أنها تقص شيئا ً من نبأ‬
‫السراء والمعراج على سبيل الية للنبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬كيف أن الله‬
‫تعالى أسرى به من ليلته ‪ ،‬من فراشه من مكة حتى أتى به بيت المقدس ثم‬
‫عرج به من هناك إلى السماء وعاين من أمر الله ما عاين ‪ .‬ففاتحة السورة‬ ‫ُ‬
‫قصت هذا كله ووضعت أمام قارئ القرآن إلى آخر الزمان هذه السورة‬
‫العجيبة المليئة بالتهاويل والعاجيب التي هي بذاتها خارقة من الخوارق التي‬
‫أجراها الله تعالى تسلية وتعزية لمحمد صلى الله عليه وسلم عن هذا البلء‬
‫الذي رآه في مكة ‪.‬‬
‫كان عليه الصلة والسلم يتردد بين مكة والطائف وبين قبائل من قبائل‬
‫العرب ليست بعيدة عن مكة ‪ ،‬هذا الحيز الصغير من الرض هي التي شهدت‬
‫دت‬ ‫هذا الثوران من الحداث التي أثقلت على النبي صلى الله عليه وسلم وه ّ‬
‫قواه هدا ً لول عناية الله جل وعل ‪ .‬كيف السبيل كي ُيمسح هذا كله ؟ هو أن‬
‫يأخذ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في سياحة في كونه العريض في‬
‫عالمه الذي ل يتناها ‪ ،‬ورأى محمد صلى الله عليه وسلم من ملك الله ما رأى‬
‫‪ ،‬واستقر في حسه ما أرادت اليات أن تقره ‪ ،‬وكذلك أن تقّر في قلوب‬
‫جميع الدعاة إلى الله على آخر الزمان أن هذا الحيز الصغير الذي تضطربون‬
‫فيه ‪ ،‬ما هو ؟ ما شأنه ؟ مكان صغير في كوكب صغير في زاوية ل يؤبه لها‬
‫في كون الله العريض ‪ .‬والله جل وعل يوم كّلفك يا محمد بأن تحمل للناس‬
‫كلمته الخيرة والخالدة والباقية أتراه يتركك لهؤلء السفهاء والمعاندين ؟ من‬
‫هؤلء إلى جانب جنود الله جل وعل ؟ ومن هم إلى جانب من أهلك الله من‬
‫المم السابقة التي كانت ذات قوة وجبروت ؟ إذا ً فلتثق بالله ‪ ،‬وأنت أيها‬
‫الداعي إلى الله أتظن أن الله جل وعل ليس في علمه وفي ملكه إل هذا‬
‫الحيز الضيق الصغير الذي تجد من أهله الصد ّ والجحود والنكران ؟ أتظن أن‬
‫الكون خل إل من هذه الزنزانة الضيقة التي ألقاك بها الظلمة ؟ أبدا ً ‪ .‬أنت‬
‫أينما كنت في عين الله جل وعل ‪ ،‬وأنت قبل وبعد حامل رسالة ليست منك‬
‫ليكون أمر تدبيرها إليك ‪ ،‬ولكنها من الله خالق الكون كله ورب الكون كله‬
‫الذي يسوس الكون كله ‪ ،‬فلتثق بأن الله لن يضيعك ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫هذه القضية تنتمي إلى واقعة السراء والمعراج ‪ ،‬وهما في منتصف السنة‬
‫الحادية عشر من البعثة النبوية ‪ .‬إذا ً فأين نحن ؟ ونحن حددنا لنفسنا حدا ً ل‬
‫يتجاوز السنة الخامسة من البعثة ‪ ،‬هل هناك من حل للمشكلة ؟ سنحاول‬

‫‪117‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ويجب أن تعلموا أن المسألة مسألة ظن وليس هو غالب الظن كذلك ‪ ،‬وهو‬


‫من المحتمل أن يتغير نتيجة الدراسة ‪ ،‬ولكم علي إن شاء الله أن أقول لكم‬
‫ما سيستقر عليه الرأي إذا تغير هذا الذي أقول ‪.‬‬
‫كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه اليات دعا من كان يكتب له‬
‫الوحي ‪ ،‬وبعد الكتابة يقول لهم ‪ :‬ضعوا هؤلء اليات في السورة التي يذكر‬
‫فيها كذا وكذا ‪ ،‬فوضع اليات في السور ليس اجتهادا ً من الصحابة رضي الله‬
‫عنهم ولكنه توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فكل اليات المحشودة‬
‫في أية سورة من السور فبأمر النبي صلى الله عليه وسلم وضعت في هذه‬
‫السورة ‪ ،‬ولكن هل في تاريخ القرآن ما يشير إلى أن سور القرآن عموما ً‬
‫ة واحدة ؟ ل ‪ ،‬لنأخذ مثل ً سورة البقرة‬ ‫كانت تنزل كل سورة على حيالها دفع ً‬
‫وهي أول سور القرآن وأطول سور القرآن والذي ل شك فيه أن سورة‬
‫البقرة تنتمي إلى أوائل عهد الهجرة النبوية إلى المدينة ‪ ،‬أي أنها على البعد‬
‫بدأ نزولها في السنة الثانية من الهجرة ‪ ،‬وسورة البقرة فيها آية يقال إنها‬
‫آخر شيء نزل من القرآن الكريم وهو قوله جل وعل ) واتقوا يوما ً ترجعون‬
‫فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت ( فيقال إن هذه الية آخر ما نزل‬
‫من القرآن الكريم ‪ ،‬وبناء على هذا نستطيع أن نقول إن سورة البقرة‬
‫استمرت في النزال تسع سنوات كوامل ‪ ،‬وهي سورة واحدة ‪ ،‬لكنها كانت‬
‫تنزل منها اليات فيقول رسول الله ‪ :‬ضعوا هؤلء اليات في السورة التي‬
‫تذكر فيها البقرة بعد الية كذا وكذا حتى موضع الية لسياق السورة يعينه‬
‫رسول الله صلى عليه وسلم ‪.‬‬
‫إذا فرغنا من هذا فلنطرح عل أنفسنا سؤال ً آخر ‪ ،‬تسمية السور ‪ ،‬نسمع أن‬
‫هذه السورة هنا سورة البقرة ‪ ،‬ونسمع أن هذه السورة اسمها سورة آل‬
‫عمران أو سورة بني إسرائيل ‪ ،‬وأن تلك سورة الكهف فلماذا ؟ لوجود واقعة‬
‫تشير إليها آية أو عدد محصور من اليات في هذه السورة بالذات ‪ ،‬فسورة‬
‫البقرة مع أنها ‪ 286‬آية وفيها أطول آيات القرآن الكريم وهي آية الدين‬
‫سميت‬ ‫جاءت قصة البقرة فيها في عدد محدود جدا ً من اليات ومع ذلك ُ‬
‫السورة كلها باسم هذه السورة ‪ .‬وسورة آل عمران سميت بهذا السم مع‬
‫أن معظمها كان يدور الحديث فيه على غزوة أحد ومعقباتها والدروس‬
‫المستخلصة منها وجملة العبر والتوجيهات التي أخذ الله بها المة المسلمة ‪،‬‬
‫فإنما سميت سورة آل عمران أو سورة بني إسرائيل لن فاتحتها تأخذ‬
‫بالحديث عن بني إسرائيل وما اختلفوا فيه من شأن عيسى صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ .‬وقل مثل ذلك في جمهور السور ‪ ،‬لكنا نصادف في تسميات السور‬
‫تسميات ل تدل على مضمون من مضامين السورة أبدا ً ‪ ،‬نحن نسمع أن هناك‬
‫سورة في القرآن اسمها سورة قاف ‪ ،‬فقاف هو الحرف الهجائي الذي بدئت‬
‫به السورة وسميت السورة باسم هذا الحرف مع أنها ل تشير ـ أي هذه‬
‫التسمية ـ إلى شيء من أغراض السورة وجمهور القضايا التي أثارتها‬
‫السورة ‪ .‬فالتسمية إذن ل تحل لنا المشكلة في الشيء الذي نحن بصدده ‪،‬‬
‫لكن الذي قد يكون فيه شيء من الدور باتجاه حل المشكلة هذا الزمن‬
‫المتطايل التي تأخذ به السورة في النماء والكتمال ‪ ،‬فقد تنزل السورة اليوم‬
‫ول تكتمل إلى بعد عدد من السنين ‪ ،‬ولعل سورة النجم أن تكون من هذا‬
‫القبيل ‪.‬‬
‫فإذا رجعنا إلى مضامين السورة نفسها أي سورة النجم فنحن نجد أن جمهور‬
‫مضمون السورة بعد أن ينتهي الحديث عن إشارات إلى السراء والمعراج‬
‫ينتمي إلى الحداث التي وقعت أول ً في العهد المبكر من عهد النبوة ‪ ،‬بعد أن‬

‫‪118‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ينتهي الحديث عن النجم إذا هوى قسما ً مشعرا ً بضلل العرب الذين تسرب‬
‫إليهم دين الصابئة في الجاهلية وعبدت قبائل منهم الكواكب ‪ ،‬وكانوا يعبدون‬
‫الشعر اليمانية ويعبدون غيرها من الكواكب وكانوا يتصورون حولها تصورات‬
‫مما ل يمكن لنا أن نقص عليكم اليوم ‪ ،‬ولكن سنأتي على نبذ ٍ منه إن شاء‬
‫الله تعالى حين نأخذ بالتعرف على ديانات العرب في الجاهلية ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫بعد أن أشار الله بهوي النجم أي سقوطه ‪ ،‬إلى تغير هذا النجم وحدوثه‬
‫ووجود قوة تمسك به إذا شاءت أن تمسك به ‪ ،‬وتسقطه إذا أرادت أن‬
‫تسقطه ‪ ،‬أشارت بهذا إلى ضلل العرب أن هذا الكون المحدث المخلوق‬
‫المتغير ل يستحق أن يسمى إلها ً فيقسم بهذا المعبود الجاهلي على استقامة‬
‫أمر محمد وعلى رشاد محمد صلى الله عليه وسلم ) ما ضل صاحبكم وما‬
‫غوى ( وتشير أيضا ً بعد ذلك مباشرة إلى فارق جوهري كان الحديث ينصب‬
‫عليه منذ بدايات الدعوة ) وما ينطق عن الهوى ( فنحن نعرف من السور‬
‫التي استعرضناها في الماضي أن هذا القرآن من أول المر فصل فصل ً‬
‫حاسما ً وأكيدا ً بين ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم وما هو نازل على‬
‫سبيل الوحي من الله جل وعل ‪ ،‬فالنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في‬
‫الرضى والغضب ولكنه ل يقول إل حقا ً على كل الحالت ‪ ،‬ومع ذلك فكان‬
‫صلى الله عليه وسلم حريصا ً غاية الحرص على أن ل يلتبس قول الله بقوله‬
‫كي تضمن سلمة الوحي بأقصى ما في الطاقة البشرية من الضمانات التي‬
‫يمكن أن تقدمها البشرية ‪ ،‬لماذا ؟ لسبب الجوهري الذي ألمحنا إليه قبل‬
‫ول المخلوقين‬ ‫قليل وهو أن هذا القرآن ليس من عمل محمد وليس من تق ّ‬
‫ولكنه قول الله جل وعل ورسالته إلى الناس وكلمته الخاتمة في سجل‬
‫النبوات التي أنزلها منذ آدم عليه السلم وانتهاًء بنبينا محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وأن مجهودات البشر في معزل عن هذا التنزيل ‪ ،‬وأن رغبات البشر‬
‫وما يطيقه البشر أو ما ل يطيقونه في معزل عن قضايا التنزيل وعن قضايا‬
‫الوحي وعن طلبات الله جل وعل ‪ ) ..‬وما ينطق عن الهوى ( أي أنه ل يقول‬
‫لكم هذا الشيء الذي أمرته أن يقوله لكم عن التشهي والتباع لما تهواه‬
‫نفسه ) إن هو إل وحي يوحى ( ‪.‬‬
‫بعد الكلم عن السراء والمعراج يأتي النغم الذي ألفناه في السور الماضية ‪،‬‬
‫التنديد والهجاء والذم واللوم والتقريع للعرب التي عبدت آلهة من دون الله‬
‫جل وعل ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫الن الثالثة الخرى ) ألكم الذكر وله النثى تلك إذا ً قسمة ضيزى ( واللت‬
‫والعزى ومناة من الصنام المشهورة التي كانت تعبدها العرب في الجاهلية‬
‫والتي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمها وهدمت جميعا ً ‪ ،‬أرأيتم هذه‬
‫الصنام التي اتخذتموها آلهة من دون الله ؟ أتخلق أو ترزق أو يسمعونكم إذ‬
‫تدعون ‪..‬؟ ل ‪ ،‬هل المشكلة أن نعبد ؟ ل ‪ ،‬ليست المشكلة أن نعبد ‪ ،‬فإنما‬
‫العبادة من حيث هي حاسة ودافع وحافز وحاجة ورغبة أصيلة في الكيان‬
‫النساني ‪ ،‬ومؤرخو الحضارات النسانية يقولون إنه قد يمكن أن ُيكتشف‬
‫اليوم أو في المستقبل حضارة ل يكون فيها علم ول فن ول سياسة ول‬

‫‪119‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫اقتصاد ول أي شيء ‪ ،‬ولكن من المستحيل أن توجد في الدنيا حضارة ليس‬


‫فيها دين ‪ ،‬فالدين رافق النسانية منذ كانت النسانية ‪ .‬وليست المشكلة في‬
‫هذا الحافز الذي يحسه كل إنسان من ضعفه وحاجته إلى العون الخارجي‬
‫الذي يستمده ل من داخل ذاته ‪ ،‬فهذا ليس جوهر التدّين ‪ ،‬أن تشعر بأنك غير‬
‫قادر استقلل ً أن تنشأ وتعيش ولكنك محتاج بصدق أن تمد يدك إلى قوة‬
‫غيبية تعتقد أنها هي التي خلقتك وهي التي رزقتك وتشكل لك الغوث عند‬
‫الزمات والمهمات ‪ .‬المشكلة ليست بهذا ‪ ،‬فالناس قد يعبدون الصنام‬
‫فيجدون لذلك راحة في نفوسهم ‪ ،‬وقد يعبدون الزعماء ويجدون لذلك راحة‬
‫في نفوسهم ‪ ،‬ويعبدون السلف كما يفعل الصينيون ويجدون راحة في‬
‫نفوسهم ‪ ،‬ويعبدون المسيح بن مريم والعزير ويجدون هذه الراحة ‪ ،‬وهذا هو‬
‫السر في أن هؤلء الناس الذين اتبعوا ديانات متعددة راضون ‪ ،‬من الخطأ أن‬
‫تتصوروا أن هؤلء الناس غير راضين عن دياناتهم ‪ ،‬في الحقيقة هم راضون‬
‫في دياناتهم ‪ ،‬ما السبب ؟ لن هذه الديانات أشبعت الحاجة الولية التي‬
‫تشكل ما يشبه رمي الحمل المبهم عن كتف النسان المتعب ‪ .‬المشكلة‬
‫ليست هنا إل عند النسان الذي يتحدد نظره ول يتجاوز مواطئ قدميه ‪،‬‬
‫المشكلة أن نعرف من نعبد ؟ الذي يستحق العبادة من ؟ المتغير المحدث‬
‫الذي يأتي عليه الفناء أم الباقي الزلي الذي هو الله ؟ ل شك أن الباقي هو‬
‫الذي ُيعبد ‪ ،‬والسلف الذين ماتوا ل يستحقون العبادة ‪ ،‬والنبياء الذين أّلهتهم‬
‫أقوامهم بعد أن وارتهم التراب ل يستحقون أن ُيعبدوا ‪ .‬دعك من الصنام‬
‫التي ُتنحت من الحجارة أو الخشاب فهذه أهون شأنا ً من أن ُيكترث بها ‪.‬‬
‫الذي يستحق العبادة هو الله ‪ .‬ولكن هل انتهت المشكلة عند هذا الحد ؟‬
‫عرفنا المعبود الحق ‪ ،‬ولكن المشكلة تبدأ بالتعقيد حين نعرف المعبود الحق ‪،‬‬
‫إذا عرفنا المعبود الحق فأي طريق يرضي هذا المعبود الحق ؟ أنعبده وفقا ً‬
‫لتصوراتنا وآرائنا ورغباتنا ؟ أنعبده بجزء من كياننا بجانب من ليلنا أو نهارنا ؟‬
‫أم نعبده بما شرع وبما أراد وبما أوحى ؟ إن المسألة مسألة إرادة خالق‬
‫وليست إرادة مخلوق ‪ ،‬لو كانت إرادة مخلوق لتحددت غاية التشريع بحياة‬
‫المخلوق وبتطلعاته وبالقوى التي يتمتع بها هذا المخلوق ‪ .‬ولكن المسألة‬
‫إرادة خالق ‪ ،‬وحينما يريد الخالق فعلى المخلوق أن يتلئم مع مراد الله جل‬
‫وعل ‪ ،‬والخالق لم يخلقك أنت وحدك أيها النسان ولم يخلق هذا الجيل‬
‫فحسب ول الماضين وحسب ولم يخلق الرض فقط ‪ ،‬وإنما له كونه الذي‬
‫تمضي فيه إرادته العليا مضيا ً مصمما ً ل يردها أي شيء ‪ ،‬فإذا ً على نظرك‬
‫وعلى تطلعك أن يمتد امتداد نظر الخالق وإرادة الخلق جل وعل ‪ ،‬فالتشريع‬
‫يحفظ امتداده وديمومته وخلوده بخلود الخالق جل وعل ‪ ،‬والمخلوق الذي‬
‫يأخذ بهذا التشريع يستمد من الخالق القدرة على أن تتراحب آفاقه حتى‬
‫يتلئم في نظره وتطلعاته مع آفاق هذا التشريع الذي ل نهاية له ‪ ،‬فإذا ً ل‬
‫يمكن أن نرضي الخالق إل بوحيه هو بالذات ‪ ،‬لنه هو فقط الذي يعّبر عن‬
‫إرادة الخالق جل وعل ‪.‬‬
‫م من جملة الكلم يلمس القضايا التي مررنا‬ ‫ن بعد ُ كل ٌ‬
‫واليات التي أثارته م ْ‬
‫عليها من قبل ‪ ،‬تنديد بالصنام ‪ ،‬يا ليتكم وقفتم عند سفاهة وطيش الصنم ‪،‬‬
‫أنتم يا معاشر العرب أضفتم إلى هذه الرذيلة رذيلة أخرى ل تستقيم في ذهن‬
‫‪ ،‬أنتم عبدتم الكواكب والصنام وسميتموها بأسماء الناث ‪ ،‬مناة اسم أنثى ‪،‬‬
‫العزى اسم أنثى وكذلك اللت ‪ ،‬فكل أصنامهم على نفس السماء لماذا ؟‬
‫العرب ككل القبائل البادية تعتمد في بقاء وجودها واكتساب أرزاقها ورد‬
‫العدوان على الذكور ‪:‬‬

‫‪120‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫خلق القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جّر الذيول‬


‫النساء متاع في البيت ولعمال البيت وغير ذلك ‪ ،‬أما القتال فهو من عمل‬
‫الرجال ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫ومن هنا كان العرب فيهم هذه الخصلة ولعلها ما زالت موجودة إلى الن ل‬
‫سيما في الرياف وفي أبناء الجاهليين من أبناء المدن أنهم حين يولد لهم‬
‫مون ‪ ..‬وحين تولد النثى يقطب الوالد وجهه ويغضب ‪،‬‬ ‫الذكر يفرحون وَُيول ِ ُ‬
‫ولقد كانت هذه المشاعر وراء الدافع الذي حمل قبائل إلى أن تئد البنات أي‬
‫تدفن البنات وهن على قيد الحياة ‪ ،‬فالعرب من كراهتهم للنثى سموا‬
‫ص الله علينا في‬ ‫أصنامهم بأسماء الناث وقالوا أن الملئكة بنات الله كما ق ّ‬
‫القرآن ‪ .‬فالله جل وعل بهذا السلوب الساخر يقول لهم ) أفرأيتم اللت‬
‫والعزى ‪ ،‬ومناة الثالثة الخرى ‪ ،‬ألكم الذكر وله النثى ‪ ،‬تلك إذا ً قسمة ضيزى‬
‫( أي قسمة جائرة غير عادلة ‪ ،‬لو أنك أجريت هذه القسمة بين من هو على‬
‫شاكلتك من الناس لكانت قسمة تفتقد إلى العدالة ‪ ،‬فكيف وهي قسمة بينك‬
‫وبين الله جل وعل ‪ ،‬إنك ترتكب هذه الرذيلة لضلل عقلك ‪ ،‬لنه من المعلوم‬
‫أن النحراف أوله خطوة وآخره ضلل كبير ‪.‬‬
‫وهكذا تمضي السيرة في عرضها لكل الغراض التي جاءت بها منددة‬
‫للمشركين فاضحة لهم أمام البشرية جمعاء ‪ .‬مشيرة أثناء ذلك ) أرأيت الذي‬
‫تولى ‪ ،‬وأعطى قليل ً وأكدى ‪ ،‬أعنده علم الغيب فهو يرى ‪ ،‬أم لم ينبأ بما في‬
‫صحف موسى ‪ ،‬وإبراهيم الذي وفى ‪ ،‬أن ل تزر وازرة وزر أخرى ‪ ،‬وأن ليس‬
‫ن‬
‫للنسان إل ما سعى ‪ ،‬وأن سعيه سوف ُيرى ‪ ،‬ثم ُيجزاه الجزاء الوفى ‪ ،‬وأ ّ‬
‫إلى ربك المنتهى ( هذه اليات تشير إلى حادث أغلب الظن أنه ينتمي إلى‬
‫حوادث السراء والمعراج ‪ ،‬للسف نحن نعثر بين الن والن في كتب‬
‫التفسير والتاريخ القديمة أخبارا ً ل تستقيم ‪ ،‬ومع ذلك نقول جزى الله أسلفنا‬
‫كل خير فقد جمعوا ما استطاعوا من علم وعلينا أن نبحث ‪ ،‬عند هذه الية‬
‫ورد في كتب التفاسير أن المراد بهذا الكلم مجموعة من المشركين ‪ ،‬وورد‬
‫على ألسنة بعض رواة السيرة ونقل صاحب الكشاف الزمخشري هذا الكلم‬
‫أن اليات تتعلق بعثمان رضي الله عنه ‪ ،‬مشيرة إلى أن عثمان كان ينفق في‬
‫سبيل الله جل وعل وأنه ذات يوم جاءه أخوه من الرضاعة طريد رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سعد بن أبي السرح وقال له ‪ :‬إن بقيت‬
‫تنفق هكذا فستنهي مالك ‪ ،‬فأمسك عثمان عن النفاق ‪ ،‬فنزلت هؤلء اليات‬
‫تندد بعثمان ‪ ،‬وظني أن عثمان أكبر من هذه الرواية بكثير فهو أجود رجل في‬
‫دخر من ماله ل قبل الهجرة ول بعدها شيئا ً ‪ ،‬وكان يجّهز‬ ‫السلم ‪ ،‬ولم ي ّ‬
‫الجيش بكامله من ماله الخاص ‪ ،‬وأنا أقطع والله أعلم أن هذه الرواية‬
‫اندست من فئة الشيعة لعنهم الله ‪ ،‬لنهم كانوا يبغضون أصحاب رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫وكذلك ل يستقيم معنا أن نقول إن هذه اليات نزلت في شأن رجل من‬
‫المشركين ‪ ،‬إن المسألة كما هو واضح تشير إلى شيء يتعلق داخل المجتمع‬
‫المسلم ‪ ،‬وحين نلجأ إلى واقعة السراء والمعراج فنحن نلمح أنها كانت في‬
‫الواقع تمحيصا ً وبلًء للمسلمين ‪ ،‬وأن من الناس الذين أسلموا حديثا ً لم‬
‫تستوعب عقولهم هذه الحادثة ‪ ،‬وينص كّتاب السيرة على أن بعضا ً من‬
‫ضعفاء اليمان ارتدوا عن السلم حين سمعوا أن الرسول صلى الله عليه‬

‫‪121‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وسلم يحدثهم عن السراء والمعراج ‪ .‬وملخص ما تشير إليه اليات أن رجل ً‬


‫مسلما ً كان ينفق على المسلمين الناشئة ‪ ،‬وقلنا من قبل أن المسلمين‬
‫اخذوا طريقهم إلى البروز وأن احتياجاتها كثرت وأن السلم طلب من أبنائه‬
‫بذل إمكاناتهم جميعا ً لصبها في هذا المجتمع الجديد ‪ ،‬كان فيما يبدو من هؤلء‬
‫الذين أسلموا حديثا ُ ينفق في سبيل الله ‪ ،‬ول نستطيع أن نسقط من حسابنا‬
‫أن مشركي قريش كانت عيونهم ل تغفل عن متابعة المسلمين وأحوالهم ‪،‬‬
‫ففي دعوة الناشئة يكون كسبا ً كبيرا ً حين تصل إلى أسماع هؤلء الناشة أن‬
‫هناك من يرتد عن دينه ‪ ،‬ويبدو أن زعماء قريش قالوا لمن لمسوا منه‬
‫اهتزازا ً في اليمان دع النفاق في سبيل الله ودع ما أنت فيه ونحن نحمل‬
‫عنك أوزارك بعد أن قال لهم إني أخاف الله ‪ .‬قالوا له ‪ :‬نحن نحمل عنك‬
‫المسؤولية يوم القيامة ‪ .‬فجاءت هؤلء اليات ) أرأيت الذي تولى ‪ ،‬وأعطى‬
‫قليل ً وأكدى ‪ ،‬أعنده علم الغيب فهو يرى ‪ ،‬أم لم ينبأ بما في صحف موسى ‪،‬‬
‫وإبراهيم الذي وفى ‪ ،‬أن ل تزر وازرة وزر أخرى ‪ ،‬وأن ليس للنسان إل ما‬
‫سعى ‪ ،‬وأن سعيه سوف ُيرى ‪ ،‬ثم ُيجزى الجزاء الوفى ( أن هذه المواعيد‬
‫التي بذلها المشركون له كلها كذب وأن ل شيء منها سوف تعينه يوم القيامة‬
‫ة يوم القيامة فردية ‪ ،‬وأنه ل تكسب كل نفس إل ما عليها ول تزر‬ ‫‪ ،‬لن الت َب ِعَ َ‬
‫وازرة وزر أخرى ‪) .‬وإن تدع مثقلة إلى حملها ل ُيحمل منها شيء ولو كان ذا‬
‫قربى ( فالله جل وعل يشير في هؤلء اليات إلى واقعة كانت أثناء حادثة‬
‫السراء والمعراج ‪ ،‬أما ما تبقى فكله في علم الله جل وعل ينتمي إلى الفترة‬
‫التي نتحدث عنها ‪ ،‬أي ضمن الخمس السنوات الولى من عمر الدعوة ‪.‬‬
‫وأكتفي اليوم بما قلناه عن هذا الجزء من السورة ‪ ،‬ونكمل في الجمعة‬
‫المقبلة بقية الحديث ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ‪ ،‬والحمد لله رب‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة الهمزة‬


‫الجمعة ‪ 1‬رجب ‪ 17 / 1397‬حزيران ‪1977‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫فقد فرغنا في الجمعة الماضية من الحديث عن سورة القيامة أو من الحديث‬
‫عن أهم ما أردنا أن ندير الكلم عليه ‪ ،‬ونواجه اليوم السورة الحادية والثلثين‬
‫في سياق التنزيل وهي سورة الهمزة ‪ ،‬والتي يقول الله جل وعل فيها ) ويل‬
‫لكل همزة لمزة ‪ ،‬الذي جمع مال ً وعدده ‪ ،‬يحسب أن ماله أخلده ‪ ،‬كل لينبذن‬
‫طلع على‬ ‫في الحطمة ‪ ،‬وما أدراك ما الحطمة ‪ ،‬نار الله الموقدة ‪ ،‬التي ت ّ‬
‫الفئدة ‪ ،‬إنها عليهم مؤصدة ‪ ،‬في عمد ممدة ( وهي من قصار السور كما‬
‫ترون ‪ ،‬وجاءت تحمل التهديد وبيان العاقبة لصنف معين من الكفرة الذين‬
‫واجهتهم الدعوة السلمية في مراحلها الباكرة ‪ ،‬وقبل أن آخذ بالحديث عن‬
‫هذه السورة الكريمة أحب أن أقف بعض الشيء لبيان أمر تقتضيه طبيعة‬

‫‪122‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫العمل الذي نباشره ‪ ،‬إننا الن مع السورة الحادية والثلثين أي أننا مع قدر‬
‫من القرآن الكريم ل بأس به ‪.‬‬
‫ولقد رأيتم إن كانت أذهانكم قادرة على استحياء ما سبق أن قلناه إن السور‬
‫الثلثين الماضية أثارت مشكلت هامة ‪ ،‬وعرضت لقضايا ذات حساسية‬
‫بالغة ‪ ،‬ولكي تدركوا بين طرفي المة الجادة والمة اللهية العابثة ل بد أن‬
‫أستعيد لكم وجهة نظر القرآن الكريم ووجهة نظر السلم بعامة حول بناء‬
‫النسان وبناء النسانية ‪.‬‬
‫إن هذا العلم الذي بثه السلم في الناس قضايا وأفكار وتصورات وصور‬
‫ومشاهد قيمتها اللفظية أنها كلم ‪ ،‬وقيمتها الفكرية أنها معتقد ‪ ،‬وليس أكثر ‪،‬‬
‫والسلم حين جاء والقرآن حين نزل اعتبر العلم خادما ً للعمل ‪ ،‬واعتبر العمل‬
‫ثمرة للعلم وأعطى العمل مرتبة متقدمة ‪ ،‬بل اعتبر العمل الوسيلة الوحيدة‬
‫التي تمنح العلم هذه الحيوية المطلوبة لكي يتحول العلم إلى أداة نافعة في‬
‫توجيه السلوك وبناء الشخصية وتأسيس القواعد الصحيحة التي تقوم عليها‬
‫المم ‪ ،‬فقال الله تعالى ) واتقوا الله ويعلمكم الله ( وقال أيضا ً ) ومن يؤمن‬
‫بالله يهد ِ قلبه ( فالعلم وسيلة وليس غاية ‪ ،‬وأخسر الناس صفقة وأقلهم حظا ً‬
‫وأقلهم نصيبا ً من هذا السلم من صرف النظر عن الثمرة المطلوبة وهي‬
‫العمل ‪.‬‬
‫لقد كان الجيل المسلم الذي رباه محمد صلى الله عليه وسلم في مراحله‬
‫الولى ل يعرف من الدنيا معشار ما تعرفون ‪ ،‬ول يعرف من شئون الدين إل‬
‫بعض ما تعرفون ‪ ،‬ولقد انقضت حياة كثير من الصحاب رضوان الله عليهم‬
‫ممن كانت لهم على السلم أيادٍ بيضاء وفي رقبة النسانية منة ل تكافأ ول‬
‫يقوم بتعويضها شيء ‪ ،‬كان الكثير من هؤلء الصحاب ل يحفظ من القرآن إل‬
‫القليل ‪ ،‬ولكنهم جميعا ً كانوا يعملون ‪ ،‬ويعملون على هدي هذا الكتاب الكريم‬
‫وفي ضوء توجيهات محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فأنتجوا للناس ذلك الجيل‬
‫الخارق الذي عجز النسانية حتى الن أن ُتخرج من طرازهم حتى الحاد ‪.‬‬
‫لقد وفد أبو ذر رضي الله عنه إلى مكة وسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم‬
‫وأحب أن يستطلع نبأه ‪ ،‬وأن يتعّرف على ما عنده ‪ ،‬فسأل عنه فدّلوه عليه ‪،‬‬
‫وتل عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ً من القرآن فآمن وصدق ‪ ،‬وطلب‬
‫إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه ‪ ،‬لقد كان الوقت على‬
‫النبي والصحاب شديدا ً جدا ً ‪ ،‬كانت مكة حتى الحجارة فيها تتنّزى حقدا ً‬
‫وضغينة على رسول الله وعلى المؤمنين ‪ ،‬وأبو ذر رجل من بني غفار من‬
‫طان البادية ‪ ،‬وإن بني غفار كانوا من شياطين العرب في الجاهلية ‪ ،‬كانوا‬ ‫ق ّ‬
‫قطاع طرق ولصوص صحراء ومن فتاك العرب ‪ ،‬ولكنه في مكة ليس له‬
‫حلف يمنعه ول عشيرة تحميه ‪ ،‬فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يجنب‬
‫هذا المؤمن الجديد شدائد العيش في مكة في تلك المراحل العصيبة ‪ ،‬فنصح‬
‫له أن يرجع إلى قومه حتى إذا سمع أن أمر السلم قد استوثق وقوي جاء ‪.‬‬
‫ولكن أبا ذر رفض أن يعود إلى قومه قبل أن ُيسمع المكيين ما يكرهون من‬
‫هذا القرآن ‪ ،‬فطاف على نواديهم وحلق مجتمعاتهم وأعلن لهم أنه آمن بالله‬
‫جل وعل واتبع نبيه صلى الله عليه وسلم وتل عليهم ما سمع من القرآن ‪،‬‬
‫فثاروا إليه يضربونه حتى كادوا أن يأتوا على نفسه لول أن العباس بن عبد‬
‫المطلب رضي الله عنه جاءهم فقال ‪ :‬يا قوم إنه من غفار وإن تجارتكم على‬
‫جار ‪ ،‬أبناء دنيا وعبيد مال ‪ ،‬فكفوا عن‬
‫طريق غفار والقوم كما تعلمون ف ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الرجل ‪ ..‬المسألة أن أبا ذر رضي الله عنه حين أسلم كان سادسا أو سابعا أو‬
‫أنه أسلم في أبكر مراحل الدعوة ‪ ،‬وبقي مع النبي صلى الله عليه وسلم مدة‬

‫‪123‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ل تزيد على السبوع ‪ ،‬وحين عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يرحل‬
‫رحل إلى قومه ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫كم تظنون كان من القرآن مع أبي ذر ؟ في تلك اليام كانت السور النازلت‬
‫قليلة جدا ً ‪ ،‬ولنسلم أن أبا ذر رضي الله عنه حمل معه إلى قبيلته بني غفار‬
‫كل هذا الذي نزل حتى تلك الساعة ‪ ،‬فهو ل يتجاوز خمس سور أو ستا ً أو‬
‫شيئا ً من هذا القبيل ‪ ..‬ثم كم تظنون أن الغيبة طالت ؟ إن النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم بقي في مكة ثلثة عشر عاما ً يدعو إلى الله جل وعل وآذان‬
‫المكيين فيها وقر ل تسمع النداء وقلوبهم كهذه الصخور التي حول مكة ل‬
‫ترق ول تلين لنداء الله تعالى ‪ .‬وبعدها هاجر إلى المدينة ‪ ،‬وبعد الهجرة جاء‬
‫أبو ذر إلى المدينة لم يلقَ نبيه وزعيمه ومعلمه مدة ل تقل عن عشر‬
‫سنوات ‪ ،‬أترون هذا الصحابي الجليل رضوان الله عليه قال ‪ :‬إن معي من‬
‫القرآن يكفي لكي أقيم به صلتي ولكي أستحفظه بتردادي على ذهني ؟‬
‫أترون هذا الصحابي الجليل بقي كل هذه المدة المديدة وهو يتصور أن ما‬
‫معه من أمر السلم شيء يخصه وأن إسلمه ل يعني بتاتا ً أن عليه أن يزيد‬
‫من رفعة نفسه وأن يمد ّ من رقعة دعوته ؟‬
‫لقد كان أبو ذر حين جاء بعد الهجرة ل يقود بني غفار وحدهم أي قبيلته ‪،‬‬
‫وإنما يقود معه أيضا ً قبيلة أخرى هي بنو أسلم ‪ ،‬وهي من القبائل العربي‬
‫البادية الشرسة ‪ ،‬أقبلوا فلما انجلى عنهم الغبار استقبلهم النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم مرحبا ً وهاشا ً وباشا ً وهو يقول ‪ :‬غفار غفر الله لها ‪ ،‬وأسلم‬
‫سالمها الله ‪.‬‬
‫إن القضية التي أريد أن أركز عليها هي ما يلي ‪ :‬إن هناك علمات ل تخطئها‬
‫العين تفرق بين الجيال ‪ ،‬فأنت تقول عن جيل ما من أجيال المة إنه جيل‬
‫البناء والنتاج ‪ ،‬حينما تتحقق معينة ‪ ،‬وتقول عن جيل ما يحمل الصفات‬
‫السالبة ‪ ،‬إنه جيل البطالة والكسل بل جيل الهدم والتخريب ‪ .‬إن ديناميكية‬
‫السلم ترفض الوقوف عند نقطة محدودة تعني في نظر السلم بداية‬
‫التحلل والنحدار ‪ ،‬إن هذا الصحابي لو كان يفقه السلم على نحو مما نفهمه‬
‫عليه الن لجاء بعد هذه السنوات الطوال يحمل على كتفيه عصاه وزوادته‬
‫وحيدا ً فريدا ً ‪ ،‬وذلك حسبه ‪ ،‬ولكنه من بداية المر ومن أوائل الخطى في‬
‫الطريق أدرك أن السلم دعوة نامية متقدمة تتطلب من النسان أن يهبها‬
‫نفسه وأن يمنحها كيانه ‪ ،‬وأن يعيش بها ولها ‪ ،‬وأن يموت عليها ‪ .‬فحينما رأى‬
‫ذلك واستقر في سويداء قلبه باشر الدعوة إلى الله في صحراء قاحلة وبين‬
‫أقوام قلوبهم ليست أقل جذبا ً من هذه الصحراء التي تلفهم بين جنباتها‬
‫وصخورها ‪ .‬ومع هذا وحينما دعا وحينما عمل جاء بأبرك الثمرات وقدم على‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم يجر من خلفه ومعه قبيلتين كانتا تعدان من‬
‫القبائل التي تعيث في الرض فسادا ً ول تعرف الصلح أبدا ً ‪.‬‬
‫إذا ً فالمسألة بل المشكلة أنه ليست أن نعلم الكثير بل أن نعمل الكثير ‪ ،‬إن‬
‫العمل هو الغاية المقصودة ‪ ،‬فإذا عدم العمل فإن العلم في هذه الحالة وبال ً‬
‫على صاحبه في الدنيا والخرة ‪ .‬أما في الدنيا فلن النسان خضوعا ً لشهوات‬
‫ل اسمه ) يا‬ ‫نفسه يضّر كثيرا ً لن يقول ما ل يفعل فيدخل تحت قول الله ج ّ‬
‫م تقولون ما ل تفعلون ‪ ،‬كبر مقتا ً عند الله أن تقولوا ما ل‬ ‫أيها الذين آمنوا ل َ‬
‫تفعلون ( وأما في الخرة فإن من أوائل من تسّعر به النار يوم القيامة رجل‬

‫‪124‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫آتاه الله القرآن وآتاه العلم فيأتي به الله جل وعل فيعّرفه نعمه عليه فيعرفها‬
‫‪ ،‬ويقول له ‪ :‬ألم أعلمك ما لم تكن تعلم ؟ فيقول ‪ :‬بلى يا رب ‪ .‬فيقول له ‪:‬‬
‫فماذا عملت فيما علمت ؟ فيكون الجواب تحايل ً على الله ‪ ،‬ويرد ّ الله عليه ‪:‬‬
‫بل علمت ليقال فلن عالم وذلك هو نصيبك ‪ ،‬ثم يأمر به إلى النار ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ومن هنا كان من سير السلف الصالح رضي الله عنهم أنهم ل يطلبون من‬
‫العلم إل هذا الذي يحتاجونه في سياق العمل ‪ .‬وأما ما ل يحتاجون إليه فل‬
‫يطلبونه ‪ ،‬لنهم يرون أن من طلب الكثير من العلم مما ل تطيق العمل قواه‬
‫فقد استكثر من حجج الله عليه ‪ ،‬ل أكثر ول أقل ‪ .‬وما نحن الن سلخنا من‬
‫القرآن مرحلة من تاريخ الدعوة السلمية تعد مرحلة المان ‪ ،‬وسلخنا من‬
‫القرآن قدرا ً لو أتيح لكثير من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم في ذلك‬
‫دت‬ ‫دوا من العلماء وأشير إليهم بالبنان و ُ‬
‫ش ّ‬ ‫دوا بين أقوامهم ولعُ ّ‬‫الزمان لج ّ‬
‫إليهم الرواحل تطلب ما عندهم ‪ .‬فأي شيء أخذناه من هذا الذي قرأناه‬
‫واستعرضناه ؟ أترون في مجتمعنا الصغير هذا استطعنا أن نوسع من آفاقنا‬
‫دل من مسالكنا أو أن نخرج من مهازلنا ومباذلنا لنمنح حياتنا من‬ ‫أو أن نع ّ‬
‫الجدية التي ترافق النسان المسلم ؟ أم نحن نأتي لنسمع ولنرضى بما‬
‫نسمع ؟ إن أمة السلم حينما قامت بلغت ما بلغت بالعدل ‪ ،‬ونحن حينما‬
‫انحدرنا وهبطنا فإنما كان ذلك ثمرة طبيعية لنبذ العمل والتكّثر بالعلم ‪ ،‬وكم‬
‫في المة الن من علماء تتقاصر كثير من الماضين عن تحصيل هذه الكمية‬
‫ت عملهم على علمهم تكاد تتقّيئ ‪،‬‬ ‫من العلم التي يحملونها ؟ ولكنك إذا عرض َ‬
‫جة ونوايا مجهولة وقلوب هواء ‪ ،‬ولو‬ ‫روائحهم تزكم النوف ‪ ،‬مسالك معو ّ‬
‫م هذا العلم لكان لهم شأن آخر ‪.‬‬ ‫كانوا يعرفون ما العلم ول َ‬
‫ّ‬
‫نحن أيها الخوة محتاجون إلى أن نتذكر هذا الكلم ‪ ،‬وما كنت أرغب في طيه‬
‫‪ ،‬وإنما هو ذكرى ليعرف كل أخ أن عليه واجبا ً ثقيل ً ‪ ،‬إن عليه أن يعمل في‬
‫ظرف يقتضي العمل ‪ ،‬فأنا ل أعرف في كل تاريخنا الطويل مرحلة أشد‬
‫خطورة على السلم والمسلمين من هذه المرحلة ‪ .‬وما من سبيل إلى أن‬
‫نتغّلب على المشاكل إل أن نعزم عزم الرجال وأن نضع ضرورة العمل أمام‬
‫أعيننا وأن نعرف أن هذا السلم قوة تتطلب نموا ً مستمر ‪ ،‬وأنه قوة ليست‬
‫مقصورة على صاحبها ‪ ،‬بل ينبغي أن تعمم على الناس جميعا ً‬
‫) يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ً وقودها الناس والحجارة عليها‬
‫ملئكة غلظ شداد ( ‪.‬‬
‫وقبل أن نواجه السورة أستعيد إلى أذهانكم أعجاز السورة الماضية أي‬
‫سورة القيامة ‪ ،‬فيما عرض الله في سورة القيامة من العوامل الصارفة عن‬
‫اليمان باليوم الخر هذه الخليقة العجلة الموجودة لدى بني النسان ) كل بل‬
‫تحبون العاجلة ‪ ،‬وتذرون الخرة ( ومحبة العاجلة ونبذ التفكير في الخرة داء‬
‫شديد الخطر لنه يحدد نظرة النسان بإطار محدود ‪ ،‬وإذا حدد النسان‬
‫نظرته بإطار محدود فقد فارق المطلق الذي يسمح للقيم العليا والهداف‬
‫النبيلة أن تتنفس وتعيش ‪ ،‬والنسان ذو الهدف المحدود هو دائما ً عبد‬
‫للضرورات المحكومة بين طرفي البداية والنهاية في هذا المد المحدود ‪ ،‬إن‬
‫خلق للبقاء ولم يخلق‬ ‫النسان كما أراده السلم هو النسان الذي يعرف أنه ُ‬
‫خلق للوجود ‪ ،‬وأن وجوده في الدنيا مرحلة ل أكثر ول أقل ‪ .‬وأن‬ ‫للفناء ‪ ،‬و ُ‬
‫من وراء الحياة الخلود إما في الجنة وإما في النار ‪ ،‬ولكن النسان حينما‬

‫‪125‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يتغافل عن هذا ويعرف أن مداه هو هذه السنوات التي يعيشها على ظهر هذا‬
‫الكوكب ثم ل شيء بعد ذلك فهو إذا ً مضطر نزول ً عند ضرورات هذا التصور‬
‫أن يكّيف مسالكه وخلئقه وفاقا ً لما يقتضيه إشباع هذه الحاجات التي يحسها‬
‫النسان في هذا المدى القريب ‪.‬‬
‫أما مغالبة الرغبات ومصارعة الشهوات والنتصار على النفس والتضحية‬
‫بالعاجل من أجل تحقيق قيم عليا ومن أجل ترقية حياة النسان فذلك شيء‬
‫ل يفكر به من ل يؤمن بالله واليوم الخر ‪ ..‬هذه قضية عرضناها في السورة‬
‫الماضية ‪ ،‬وأما هذه السورة الحادية والثلثين وهي سورة الهمزة فهي تعرض‬
‫لنا هذا النموذج المخّرب الفتاك ‪ ،‬ولكنها تعرضه مع تعرية للدوافع على‬
‫الطريقة المعهودة في القرآن واسمعوا لتروا أن هذا القرآن ل يفهمه إل من‬
‫يستحضر بداياته ونهاياته ‪ ،‬إن الله يقول ) ويل لكل همزة لمزة ( والهمزة هو‬
‫الذي يعيب الناس في وجوههم ‪ ،‬واللمزة هو الذي يطعن الناس في غيابهم ‪،‬‬
‫أو هما مترادفان يتعاوران على معنى واحد ‪ ،‬وعلى العموم فهما تؤديان‬
‫الوصف الذي ينطبق على هذا الصنف المخرب من الناس ‪ ،‬صنف الثرثارين‬
‫المبتغين للبحث عن العيب ‪ ،‬الذين يحبون أن تشيع الفاحشة بين الناس ‪.‬‬
‫ليس هذا مهما ً الن وإنما المهم هو ما يلي ‪..‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫من هو الهمزة اللمزة ؟ قال ) الذي جمع مال ً وعدده ‪ ،‬يحسب أن ماله أخلده‬
‫( هنا كل المسألة التي تدور عليها حقائق القرآن وترجع إليها ‪ ،‬إن سّر‬
‫انصراف الناس عن الخذ بتعاليم السلم وعن التأدب بالقرآن هو هذه‬
‫المحدودية النظر ‪ ،‬وهو هذا النطباع في ذهن معظم الناس ‪ ،‬أما ما يراد من‬
‫ح عليه في هذه الحياة ‪ ،‬لقد كان‬ ‫النسان هو أن يشبع هذه الحاجات التي تل ّ‬
‫هذا الدرس ضروريا ً وأساسيا ً في العهد الذي بدأ فيه نزول القرآن ‪ ،‬لكنك إذا‬
‫مرر على ذهنك صورة التاريخ البشري والحضارة‬ ‫ملكت القدرة على أن ت ُ ّ‬
‫البشرية برمتها فستجد هذا الدرس هو ألزم ما يكون للنسانية اليوم ‪ ،‬لن‬
‫كل صوت يرتفع وكل دعاية تشاع فإنما تقوم على تزيين هذه الحياة الدنيا‬
‫في عيون وعقول الناس وقلوبهم ‪ ،‬وأن كل الوعود التي يبذلها الساسة‬
‫والزعماء والمصلحون فإنما تدور على سد جرعة البطن وإرواء شهوة الفرج‬
‫وتأمين الكساء والمنزل وما أشبه ذلك ‪ ،‬أو تأمين الحوائج والضرورات التي‬
‫ب على هذه الرض ‪ .‬فّتش في كلم‬ ‫يشترك فيها النسان وأي حيوان يد ّ‬
‫الزعماء ‪ ..‬دعك من العاَلم غير المسلم ‪ ،‬هؤلء ل كلم لنا معهم ‪ ،‬هم غير‬
‫مسلمين ‪ ،‬اسمع إلى هذه النصوص التي تتزعم العالم السلمي فيما تذيع‬
‫ت أحدا ً منهم‬
‫وفيما تعد وفيما تقطع من مواثيق ‪ ،‬ماذا تقول لك ؟ هل سمع ً‬
‫يقول يا أيها الناس اتقوا الله ؟ أو يقول إن من ورائكم يوما ً يقوم فيه الناس‬
‫لرب العالمين ؟ هل سمعتم أحدا ً يقول يا أيها الناس هبوا لنجاهد لعلء كلمة‬
‫الله ؟ أبدا ً ‪ ،‬هذه القضايا ل تخطر لهم على بال ول تجري منهم على لسان ‪،‬‬
‫لنهم تربية الدوائر الستعمارية ‪ ،‬ولنهم تربية المباءات الوسخة التي تمسخ‬
‫الرجولة وتخرب النسانية ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إن هذا النموذج الذي عرضته السورة باعتباره خطرا من الخطار ومعوقا من‬
‫المعوقات ‪ ،‬من هو ؟ هو ذلك الصنف الطّعان الذي ل يقّر له القرار ول يهدأ‬
‫له بال ما دام يرى مخلوقين متصافيين ‪ ،‬ل بد له أن يزرع بينهم أسباب‬
‫العداوة والبغضاء ‪ ،‬ول بد ول بد ول بد مما سأقوله لكم بعد قليل ‪ ،‬ولكن لماذا‬

‫‪126‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫؟ أذلك من طبع النسان ؟ ل ‪ ،‬إن المسألة مرض ‪ ،‬ومرض خبيث ‪ ،‬إنها رد ّ‬


‫فعل طبيعي لحالة يعيشها النسان ولكنها على العموم حالة مرضية ‪ ،‬إن هذا‬
‫كما عّراه القرآن إنما دعاه إلى هذا السلوك العفن كونه من ذوي المال ولكن‬
‫معه صفة أخرى وهي البخل الشديد الذي يجمع الحطام ويحب الحطام ‪،‬‬
‫تفكروا بالصورة ) الذي جمع مال ً وعدده ( ترى أمامك صورة النسان الذي ل‬
‫م له إل أن يجمع المال من حله ومن حرمه ثم هو يصفه صفوفا ً ويكدسه‬ ‫ه ّ‬
‫ً‬
‫م له إل ذلك ‪ ،‬خيال المال في ذهنه ليل ً ونهارا ‪ ،‬وهو في كل‬ ‫ً‬
‫رزما ‪ ،‬ل ه ّ‬
‫ً‬
‫الحوال عبد لهذا المال ‪ ،‬كل شيء عنده هو هذا المال ‪ ،‬فإذا فالدفاع عن هذا‬
‫المال هو الهدف الذي يضعه هذا النسان نصب عينيه‬
‫) الذي جمع مال ً وعدده ( ‪.‬‬
‫ً‬
‫إن وجود المال يمنح بدون شك نوعا من الضمان ‪ ،‬ولكن هذه الضمانة تكون‬
‫موهومة في بعض الحيان ‪ ،‬فكم من غني افتقر ‪ ،‬وكم من فقير اغتنى ‪،‬‬
‫ولكن على العموم نعرف أن المال يمنح النسان ضمانة ضد مفاجآت‬
‫المستقبل ‪ ،‬وهذا صحيح وهو معقول ‪ ،‬وإنما الشيء غير المعقول هو ما‬
‫يسمح به النسان لنفسه وما يتوّلد معه من الشعور من التواءات ل ضرورة‬
‫لها في سياق هذا التفكير ‪ ،‬وهو ما أشارت إليه الية الكريمة ) يحسب أن‬
‫ماله أخلده ( كثيرا ً من الناس وهم يجمعون المال ويكدسونه في خزائنهم‬
‫يظنون أن الدنيا دانت لهم وأن حوادث الدهر غفلت عنهم ‪ ،‬ويظنون أنه ل‬
‫يمكن أن يأتي ذلك اليوم الذي تتحرك الروح في الصدر بعدما انقضت تلك‬
‫السنون من عمره ‪ ،‬ارتكب النسان فيها من المظالم ما ارتكب ‪ ،‬وانتهك‬
‫النسان من الحرمات ما انتهك ‪ ،‬يرى أنه يترك كل هذا ‪ ،‬وسينسى كل شيء‬
‫ق على الرض ‪ ،‬ل يذهب مع النسان‬ ‫إل شيئا ً واحدا ً أنه ما هو من الرض فبا ٍ‬
‫إلى الدار الخرة ‪ ،‬هذا النسان الذي يظن أن المال وسلة إلى الخلود إنسان‬
‫أبله ومغفل ‪ ،‬وهو في الموازين الجتماعية إنسان خاسر ‪ .‬والمال هنا ُذكر‬
‫ولكن ليس لذاته فقط وإنما المراد به الشعور الذي يتولد عنه ‪ ،‬وهذا الشعور‬
‫يتولد عن المال وعن غير المال ‪ ،‬وكل حالة أنتجت شعورا ً من هذا القبيل‬
‫فهي حالة خطير وتعد من معوقات الدعوة ‪ ،‬وتعد من الخطار التي ينبغي أن‬
‫تمحق ‪ ،‬لنها تفسد على الناس دنياهم وآخرتهم ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫إن النسان كما قلنا يمنح النسان الضمان وهو أيضا ً يمنحه قوة ويمنحه‬
‫سلطانا ً ‪ ،‬والسلطان ل يتأتى عن المال فقط ‪ ،‬قد يأتي عن طرائق أخرى ‪،‬‬
‫ماعا ً للفكر وكبيرا ً في العقل ‪ ،‬فعقله هذا وعلمه يمنحه على الناس‬‫قد ج ّ‬
‫سلطانا ً ‪ ،‬قد يكون النسان زعيما ً بين قومه ‪ ،‬منظورا ً إليه من بيت رياسة ‪،‬‬
‫فتكون على قومه كلمة نافذة ‪ ،‬قد يكون النسان حاكما ً على أمة يستطيع أن‬
‫يتصرف بأموالها وبأنفسها ‪ ،‬ذلك أيضا ً يمنحه قوة وقدرة وسلطانا ً ‪ .‬إن هذه‬
‫أشياء مطلوبة ومرغوبة ‪ ،‬ولكن من أجل ماذا ؟ من أجل تدعيم المثل العليا‬
‫الكبيرة التي أنزلها الله على النبياء والمرسلين ‪ ،‬أما أن تستخدم من أجل أن‬
‫اتخاذ الناس دول ً وعباد الله خول ً فذلك هو الشيء الذي ل ُيطَلب أبدا ً إل من‬
‫هذا الصنف من الناس الذين ينصبون من أنفسهم في تاريخ البشرية خصوما ً‬
‫للحق ولكل صوت يدعو إلى الفضيلة ‪.‬‬
‫إن هذه السورة عرضت لنا المشكلة ‪ ،‬مسألة الشعر بأن ل دار بعد هذه الدار‬
‫ن عن اليمان‬ ‫‪ ،‬وأن النسان يستطيع أن يقوم بكل ما يرغب ‪ ،‬وأنه مستغ ٍ‬

‫‪127‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بالله واليوم الخر ‪ ،‬مسألة عرضت لنا في أول سورة من سور القرآن‬
‫الكريم ‪ ،‬يقول الله تعالى ) إن النسان ليطغى ‪ ،‬أن رآه استغنى ( فالشعور‬
‫بالستغناء سواء كان هذا الستغناء عن طريق المال ‪ ،‬أو عن طريق الجاه أو‬
‫السلطان يدفع النسان إلى الطغيان ومجاوزة الحد وأن ينسى مكانه أو‬
‫منزلته ‪.‬‬
‫والقضية الثانية قضية هذا النفر الذي عرض الله شأنهم في سورة القلم ‪،‬‬
‫يقول الله تعالى ) فل تطع المكذبين ‪ ،‬ودوا لو تدهن فيدهنون ‪ ،‬ول تطع كل‬
‫حلف مهين ‪ ،‬هماز مشاء بنميم ( فالهمز هنا مذكور ‪ ،‬وهذا الصنف من الناس‬
‫مذكور في أوائل الدعوة ‪ ،‬ولكنك الن محتاج لكي تدرك الصلت بين أوائل‬
‫القرآن وأواخر القرآن تبعا ً لتطور مراحل الدعوة محتاج لن تضع الصورتين‬
‫أمامك ‪.‬‬
‫في الصورة الولى التي جاءت في سورة القلم عرضت اليات الكريمة‬
‫صنفين من الناس يكثرون الحلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم له‬
‫محبون وعليه مشفقون ‪ ،‬وهؤلء يكثرون الحلف لنهم يشعرون في دخيلة‬
‫أنفسهم أن هذا الرسول الكريم يعرف أنهم يكذبون ‪ ،‬ولهذا وصفهم الله‬
‫تعالى بالهوان ) فل تطع كل حلف مهين ( ثم هم إن كانوا معك كانوا على‬
‫أحسن حال معك ولكن حين تغيب عنهم لمزوك وهمزوك ) هماز مشاء بنميم‬
‫‪ ،‬مناع للخير معتد أثيم ( هؤلء الناس في مراحل الدعوة الولى كانوا ل‬
‫يواجهون النبي صلى الله عليه وسلم بالطعن مباشرة لماذا ؟ أهو الحترام ؟‬
‫ل ‪ ،‬وضعوا في أذهناكم أن هذه الصور صور تاريخية ‪ ،‬أي أنها صور مستمرة‬
‫في الزمان والمكان ‪ ،‬ومتكررة مع كل جيل ‪ ،‬إنهم ل يحبون هذا النبي الكريم‬
‫مرت‬ ‫‪ .‬والصحاب الكرام فهموا أن هذه الصفات لو ُوجدت في المجتمع لد ّ‬
‫هذا المجتمع ‪.‬‬
‫وهذا الصنف من الناس جاءوا إلى النبي يجادلونه في أمر الدين ‪ ،‬فقال تعالى‬
‫مخاطبا ً نبيه ) فل تطع المكذبين ‪ ،‬ودوا لو تدهن فيدهنون ( ودوا لو تتنازل‬
‫قليل ً عن هذا الموقف الصلب الذي وصفك الله إياه ‪ .‬لكن السلم دعوة‬
‫ربانية إلهية ل تفهم هذه الحلول الوسط ‪ ،‬بل تدرك تماما ً أن النسان المسلم‬
‫لمجرد أن يترخص ويتنازل أضاع دينه وأهلك دنيا أيضا ً ‪ .‬إن هذه السلم‬
‫طريق مستوى معتدل ‪ ،‬ل يمكن أن يطعم بغيره من المبادئ والهداف ‪،‬‬
‫والذين ينادون بتطوير السلم وبتجديد السلم وبعصرنة السلم وبعلمنة‬
‫السلم أناس شموا كل رائحة إل رائحة السلم ‪ ،‬أناس عرفوا كل شيء إل‬
‫هذا السلم ‪ ،‬ولو أنهم فهموا من السلم شيئا ً من حقائقه لعلموا أن هذا‬
‫فَرض عليه من حياة الناس ‪ .‬المشركون كانوا‬ ‫السلم يرفض كل شيء ي ُ‬
‫يريدون هذا ‪ ،‬من أجل ذلك كانوا يتحاشون مواجهة النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬ولكنهم حينما يغيبون عنه يتناولون بالعيب واللمز والطعن ‪.‬‬
‫ً‬
‫إن المشركين تمسكوا في مواقفهم ‪ ،‬لماذا ؟ لنهم قطعوا المل تماما من‬
‫أن يتجاوب الرسول صلى الله عليه وسلم معهم بشيء ولو بالقليل ‪ ،‬وإذا ً لم‬
‫يبقَ شيء من المراعاة ول للمجاملة ‪ ،‬ولهذا هم يلمزون ويهمزون ‪ .‬يحاربون‬
‫الدعوة بالدعاوى والعلم ‪ .‬هذا واحد ‪.‬‬
‫إن السلم جاء ليخاطب أناسا ً ورجال ً وأحرارا ‪ ،‬لم يجئ ليخاطب‬
‫ً‬
‫الحيوانات ‪ ..‬وإن الرجولة تقتضي أنه حينما يرى النسان خطأ وانحرافا ً أن‬
‫يحاول تقييم النحراف وتصحيح الخطأ بالسلوب الصحيح الذي يرضى الله‬
‫عنه ‪ .‬بالنصيحة والمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق ‪ .‬هذه‬
‫طريقة السلم ‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وأما أن تتخذ الطريقة الخرى وهي همز الناس وعيبهم وإشاعة الفحشاء‬
‫عنهم فتلك طريقة الهوام من الناس ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫من أجل هذا أحببت أن ألفت نظركم إلى أن دللة السورة الكريمة هو ما‬
‫يلي ‪ :‬هو أن ل يكون اختلف الرأي سببا ً لتجريح الناس ‪ ،‬إن النسانية اتصفت‬
‫بهذه الصفة منذ القديم ‪ ،‬فحينما يعجز الناس عن مواجهة الحقيقة ‪ ،‬ما الذي‬
‫تفعله ؟ إن النسان عجيب ‪ ،‬ل يمكن أن يلقي السلح طواعية ‪ ،‬إنه يخترع‬
‫طرقا ً أخرى ‪ ،‬فمن أجل ذلك فحينما يعجز أعداء الدعوة عن مواجهة فكر‬
‫الدعوة يطعنون رجالت الدعوة ‪ .‬إن المشركين عجزوا عن إقامة الحجة على‬
‫أن الوثنية خير من العبودية لله وحده ‪ .‬ولكن هذا لم يحملهم عن الخضوع‬
‫للسلم ‪ ،‬فانبروا يطعنون بالنبي صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫كم حدثتنا السيرة النبوية عن رجالت من العرب ‪ ،‬أبو سفيان حينما وضع‬
‫طلع عليه أحد المشركين وقال له ‪ :‬أهكذا تفعل بابن‬ ‫قضيبه على جثة حمزة ا ّ‬
‫عمك ؟ قال ‪ :‬استر علي ‪ .‬إن العربي في الجاهلية كان يحاذر أن يقف أي‬
‫وه منه وقاره ورجولته ‪ .‬تصوروا أن هول هذا السلم أخرج العرب‬ ‫موقف يش ّ‬
‫ّ‬
‫الذين هم بهذا الطبع عن كل حد معقول ‪ .‬كان الزعيم منهم يقلد النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم في مشيته وفي حركاته فيضحك ويضحك القوم معه ‪ .‬إلى‬
‫هذا الحد كانوا يفعلون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيهمزون ويلمزون‬
‫ويعيبون ‪.‬‬
‫والسورة لم تعرض هذا لكي تدافع ‪ ،‬وإنما عرضت لبيان المآل ‪ ،‬هؤلء الذين‬
‫يلمزون ويهمزون سيكون جزاؤهم الحطمة ‪ ،‬والحطمة صيغة يعني أن النار‬
‫تحطم كل شيء يوقع فيها لشدة هذا اللهيب الذي فيها ‪ .‬أرأيتم كيف أن الله‬
‫يصف هذه النار بأن لها تغيظ وزفير حينما ترى الكافرين ‪..‬‬
‫قارنوا بين هذه الطبائع الكريهة للمشركين وبين موقف السلم ‪ ،‬إن السلم‬
‫كان قادرا ً على أن يشّرح مواقفهم تشريحا ً كامل ً ‪ ،‬ولكن السلم كريم‬
‫ونظيف ل يتناول أشخاصهم ‪ ،‬لن أشخاصهم ل شيء ‪ ،‬وإنما الذي يهمنا‬
‫القضية ‪ .‬ولكن هؤلء المشركين ليست لهم قضية في كل الحوال ‪ ،‬فمن هنا‬
‫اكتفى القرآن ببيان عاقبتهم ل أقل ول أكثر ‪.‬‬
‫ل من الصراع ‪ ،‬بل لعله أكثر من العهود السابقة ‪ ،‬إن‬ ‫إن زماننا اليوم لم يخ ُ‬
‫تقدم العلوم واستبحار المعارف مع العداء للسلم وضع بين يدي الناس‬
‫إمكانات ل حصر لها للستخدام في هذا الصراع ‪ ،‬إن وسائل الدعاوى والعلم‬
‫والذاعة والتلفزيون والكتاب والصحف والندوات ‪ ..‬جعلت بين يدي النسانية‬
‫اليوم وسائل للمكافحة تتقاصر دونها الوسائل التي كانت بين أيدي المشركين‬
‫‪.‬‬
‫إن الزمن الذي نعيش فيه خطير ‪ ،‬ول ينفع معه إل الصدق مع النفس ومع‬
‫الله ومع هذه المة ‪ ،‬إن المرحلة التي نجتازها اليوم ل يمكن أن نتجاوزها‬
‫بنجاح إل على سفينة السلم ‪ ،‬وما لم تأخذ بأسباب السلم فل أمل لها ‪ .‬ومع‬
‫هذا ومع قناعة جماهير المة بهذا فإن مراكز القوة ونفوذ السلطان ينفذون‬
‫انحرافا ً مقصودا ً في حياة المة ‪ ،‬وهم يطبقون هذا شيئا ً فشيئا ً ‪ .‬هل سمعتم‬
‫من أحد منهم قال يوما ً ما ‪ :‬إن الله ليس موجودا ً ؟ ل ‪ ،‬إن زعماءكم يصلون‬
‫في الجمعات والعياد ‪ .‬هل سمعتم أحدا ً يقول إن السلم غير مرغوب فيه ؟‬
‫ل ‪ ،‬إن كل أنظمتكم تتمسح بهذا السلم ولكن في الجانب المريض ‪ ،‬في‬

‫‪129‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الجانب الزائف ‪ ،‬ل يستطيعون أن يجابهوا السلم ‪ ،‬لكنهم يملكون أن يضعوا‬


‫في الساحة من بدائل ‪ ،‬أن يطرحوا شعارات ‪ ،‬ويضعوا مناهج ‪ ،‬فإذا قامت‬
‫دعوة وارتفع صوت وتحرك شعب فماذا يكون ؟ تقوم القيامة ‪ ،‬وهذا أمر‬
‫طبيعي نعرفه ‪ ،‬وأنا ل أحب أن يقف أحدكم هذا الموقف ‪ ،‬ولكني أعتب على‬
‫شعبي حينما ينساقون وراء هذه التيارات الضالة ‪ ،‬إننا نرحب في كل وقت‬
‫بصراع الفكار ‪ ،‬وإننا نعلن أن السلم ل يخاف من أية منازلة فكرية مع أي‬
‫منهج من مناهج الدنيا ‪ ،‬لن السلم أقوى من كل شيء ‪.‬‬
‫ولكن ل بد من المخاض ‪ ،‬ل بد من المتاعب التي تواجه الداعين إلى الله ‪ ،‬إن‬
‫كل السلطات القائمة في العالم السلمي تسلك هذا السبيل القذر الذي‬
‫أشارت إليه الية الكريمة ‪ ،‬أي تجريح الشخاص ‪ ،‬قيل عن جمال الدين‬
‫الفغاني رحمة الله عليه إنه عميل ومخرب ‪ ،‬وقيل عن المام محمد عبده‬
‫رحمة الله عليه أنه عميل للسفارة البريطانية ‪ ،‬وقيل عن المام الشهيد‬
‫حسن البنا رحمة الله عليه إنه من أصول يهودية ‪ ،‬وقيل عن الحركة السلمية‬
‫أنها حركة استعمارية ‪ .‬مع علم هؤلء بأن أطهر هذه المة هي أيدي‬
‫المسلمين ‪ ،‬وأن الضمانة الكيدة لمصالح المسلمين هي أيدي المسلمين ‪،‬‬
‫وأن أشد الناس خطرا ً على المة هي أيدي غير المسلمين ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫إن الساليب نفسها التي طبقت في الجاهلية القديمة ‪ ،‬وأرجو أن نعد لتحمل‬
‫آلم المخاض على الرغم مما يحدث لنا ‪ ،‬ذلك ثمن ل بد أن ُيدفع ‪ .‬ولكن‬
‫نعتب على شعبنا ‪ ،‬آن لكم أن تعلموا أن تجريح الدعوة من وراء تجريح‬
‫الشخاص مسلك فاسد وفاشل ول يؤدي إلى نتيجة ‪ ،‬من كان عنده كلم على‬
‫السلم فليتقدم به ‪ ،‬فنحن بحمد الله على بينة من أمرنا ‪ ) .‬ول يأتونك بمثل‬
‫إل جئناك بالحق ( إن قرآننا يرد على كل مشكلة ويعالج كل داء ‪ ،‬وإن سنن‬
‫نبينا صلى الله عليه وسلم حاضرة بين أيدي المسلمين يستطيعوا أن يلوحوا‬
‫بالدواء الذي يشفي النسانية من عللها وأمراضها ومن أتعابها ‪.‬‬
‫أما هذه الطريقة القذرة فليأخذ بها من يشاء ‪ ،‬وليقل ما يشاء أننا عملء‬
‫للستعمار ‪ ،‬ولقد قالوها ‪ .‬أذكر لكم حين قام إنسان وسخ فاجر ودخيل على‬
‫هذه المة في عام ‪ ، 1967‬فقال إن الله خرافة يجب أن توضع في متحف‬
‫التاريخ ‪ .‬وقلت من هذا المكان إن هذا المخلوق عليه أن يعلم أنه يتكلم في‬
‫بلد مسلم ‪ ،‬فهو ل يتكلم في موسكو ول في بكين ‪ ،‬وكان نهاية هذا المأفون‬
‫هي في السجن ‪.‬‬
‫فليعلم هذا أن هذا القرآن هادٍ وأنه بلسم ل يدع النسان في حيرة وعماء ‪،‬‬
‫وانه حينما يسمع كلمات الله بإمعان وروية ويأخذ نفسه بالفهم والتدبر‬
‫فسيدرك تماما ً أن هذه الحيل واللعيب ل مكان لها وأنه آن لهذه المة أن‬
‫تستعيد زمام أمورها بين يديها ‪.‬‬
‫والمل معقود بالله جل وعل أن يهدي هذه المة ‪ ..‬وصلى الله على سيدنا‬
‫محمد وعلى آله وأصحابه وسلم والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة ) ص (‬
‫الجمعة ‪ 24‬ذي الحجة ‪ 2 / 1397‬كانون الول ‪1977‬‬

‫‪130‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫) ‪ 4‬من ‪( 5‬‬
‫شوح‬ ‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫في نطاق حديثنا عن السورة السابعة والثلثين في سياق التنزيل سورة ) ص‬
‫( تحدثنا في الجمعة الماضية ساعة وبعض الساعة ونحن نتحدث عن بعض‬
‫آية عن قول الله جل وعل في مفتتح السورة ) بل الذين كفروا في عزة‬
‫وشقاق ( وكانت الوقفة مقصودة ‪ ،‬وقلت لكم حينها إنني أريد أن نتعلم كيفية‬
‫التعامل مع النص القرآني ‪ ،‬فإن الفهم المستقيم لمعاني كتاب الله جل وعل‬
‫وقضايا السلم يتوقف على حسن التعامل مع نصوص القرآن الكريم ‪،‬‬
‫ولعلكم لحظتم في الجمعة الماضية أنني اعتمدت قاعدة التحليل اللغوي‬
‫بصورة أساسية في كل الحديث الذي كان في الجمعة الماضية ‪ ،‬وأنا أصدر‬
‫في ذلك عن أمر يجب أن تعرفوه وأن يعرفه كل أحد من المسلمين الذين‬
‫يرغبون أن يكون لهم في الدعوة إلى الله نصيب ‪ ،‬وأسأله تعالى أن يقسم‬
‫لنا نصيبنا من هذا الشرف الذي ل يتاح إل للصفوة التي اختصها الله جل وعل‬
‫بمحبته وبرضوانه ‪.‬‬
‫والشيء الذي أصدر عنه ويجب أن تعرفوه كنت أريد أن أكون في حالة‬
‫صحية تساعد على إيضاحه ‪ ،‬ولكن ما ل يدرك كله ل يدرك جله ‪ .‬إن من‬
‫قصور المنهج أن نعتمد الساس اللغوي في فهم الكتاب وحسب ‪ ،‬ومن الحق‬
‫أن هذا ضروري ‪ ،‬ومن كان ل يحسن فنون كلم العرب التي نزل القرآن‬
‫وفاقا ً لها فليس يجوز له أن يتكلم في كتاب الله شيئا ً ‪ ،‬ولكن من الصحيح‬
‫أيضا ً أن الذي ل يملك قدرة ذوقية معينة تتيح له استشفاف فحوى الكلم‬
‫وإشارات الكلم فل يجوز له أن يتكلم في كتاب الله شيئا ً ‪ ،‬ومن الحق أيضا ً‬
‫أن هذين فقط ل يكفيان فإن الذي ل يدرك أن كل سورة من سور القرآن‬
‫تمثل شخصية قائمة على حيالها لمختلف أغراضها وتعابيرها وإيحاءاتها ‪ ،‬وأن‬
‫سور القرآن جميعا ً وآيات القرآن جميعا ً بينها من التناسب والرتباط ما ل‬
‫يخطئه إل قصير النظر ‪ ،‬إذا عرفنا هذا تبين أيضا ً أن الذي ينبغي أن يتحدث‬
‫في كتاب الله ل بد لها من أن يملك هذه القدرة الخاصة على استخلص‬
‫المعاني الكبيرة المتولدة عن ملحظة التناسب بين آيات الكتاب الكريم‬
‫وسور الكتاب الكريم ‪.‬‬
‫وهذا كما ترون كلم يتعلق بالمنهج ‪ ،‬أقوله ليعرفه كل أحد ‪ ،‬ففي ما يبدو لي‬
‫أن الله تعالى قضى أل يضع بين يديّ إل هذا اللسان ‪ ،‬ولو أنني أمتهن الكتابة‬
‫لكان ذلك خيرا ً لي ‪ ،‬وهذا كلم يقال للعاتبين والطالبين والغاضبين ‪ ،‬لن الذي‬
‫يكتب ما يريد يستريح من هذا الشيء الذي يكتبه ويلقيه عن كاهله ول يعود‬
‫ضرب عليه العبئ الثقيل مثلي فإنما يعيش كل آناته‬ ‫إليه إل لماما ً ‪ ،‬ولكن من ُ‬
‫معذبا ً ممزقا ً يعيش مع الفكار مع حركة الفكار مع استهلك العصاب مع‬
‫التفكير الذي يطرأ حتى أثناء النوم ‪ ،‬ومن أجل ذلك أريد للخوة أن يعرفوا‬
‫أول ً حدود المنهج حتى إذا غاب الشخص المعول عليه كان بين الناس سراج‬
‫يستطيعون أن يستضيئوا به ‪ ،‬ومن المحن القاسية أن تكون المة مفتقرة‬
‫إلى قدرة رجل واحد ‪.‬‬
‫منذ بدايات الطريق قلت إنني أرغب لكل أخ أن يعيد درس هذا الشيء الذي‬
‫نقول وأن يناقش معي هذا الشيء الذي نقول ‪ ،‬وأن يعرف بكل جلء وصدق‬
‫أنه صاحب الفضل علي حين يناقشني في هذا الذي أقول ‪ ،‬ولكني أسجل‬
‫أسفي وخيبة أملي وانقطاع رجائي بعد سنوات ما وجدت ل هنا ول هناك إل‬

‫‪131‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫شيئا ً واحدا ً يدل على التجمد وانعدام الفاعلية وضعف الهمة وتقاسم القوى ‪،‬‬
‫ناس يريدون أن يطبعوا الحاديث كما هي ‪ ،‬وناس يلحون علي أن أكتب لهم ‪،‬‬
‫ولعمري إنها لخيبة وخيبة كبيرة ‪ ،‬فكل واحد من المسلمين يملك أن يكون‬
‫ود أنفسنا هذا الخلق الرديء الذميم الملقي‬ ‫خيرا ً مما أنا عليه ‪ ،‬ولماذا نع ّ‬
‫العبئ من كتف إلى كتف ‪ ،‬وتقوم الحصيلة أل يستقر على كتف أحد ‪ ،‬إنني‬
‫للمرة أخيرة أهيب بكل الخوة أن يعطوا من ذوات أنفسهم قدرا ً زائدا ً من‬
‫ون عليهم الطريق ‪ ،‬فبعد اثنتين وثلثين‬ ‫الهتمام بكتاب الله جل وعل ‪ ،‬وما أه ّ‬
‫سنة قضيتها في العمل الشاق المرهق الصعب ل يخرج معي إل هذا الكلم‬
‫الغفي والفكار التي ل أرضى عنه ‪ .‬فالطريق صعب ولكن لست حالة أمام‬
‫همم الرجال ‪ ،‬فأنا أستنهض همم إخوتي لكي يمنحوا قضية القرآن والسلم‬
‫أكثر مما منحوها حتى الن ل سيما ونحن نعيش ظروفا ً حساسة بالغة‬
‫الحساسية خطيرة غاية الخطورة ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫في النص الذي قرأناه عليكم في الجمعة الماضية من فواتح سورة صاد بقايا‬
‫من ما يحتاج إلى النظر وفاقا ً لقاعدة اللغة التي تحدثنا تأسيسا ً عليها في‬
‫الجمعة الماضية ‪ ،‬ولكني لن أعود إليها الن ويكفي أن أذكر لكي أخلص إلى‬
‫ما بعد الفواتح ‪ ،‬لن ما جاء في فواتح سورة صاد شبيه من معظم الوجوه‬
‫بالذي جاء في فواتح سورة القمر السابقة النزول لسورة صاد ‪ ،‬سأذكركم‬
‫يقول الله تعالى في فاتحة سورة القمر ) اقتربت الساعة وانشق القمر ‪،‬‬
‫وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ‪ ،‬وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر‬
‫مستقر ‪ ،‬ولقد جاءهم من النباء ما فيه مزدجر ‪ ،‬حكمة بالغة فما تغني النذر (‬
‫ثم يتجه الخطاب إلى النبي عليه الصلة والسلم ‪ ،‬وأرجو أن تتمعنوا في‬
‫دقائق الصياغة ) فتولى عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر ‪ ،‬خشعا ً‬
‫أبصارهم يخرجون من الجداث كأنهم جراد منتشر ‪ ،‬مهطعين إلى الداعي‬
‫يقول الكافرون هذا يوم عسر ( ثم يتجه الخطاب بعد ذلك إلى أقوام من‬
‫القوام التي مضت يقتص الله نبأها وفاقا ً لمحور معين شرحناه في أحاديثنا‬
‫عن سورة القمر ) كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون‬
‫وازدجر ( وهكذا يتجه الخطاب إلى قوم عاد وثمود ولوط وفرعون لتلقي‬
‫السورة بعد ذلك سؤال ً كبيرا ً على المشركين ) أكفاركم خير من أولئكم أم‬
‫لكم براءة في الزبر ‪ ،‬أم يقولون نحن جميع منتصر ( سؤال ذو ثلث شعب ‪،‬‬
‫هل أنتم خير من المم التي مضت واقتصصنا عليكم من أنبائها في هذه‬
‫السورة ممن مردت على العصيان وتكذيب رسلها وأنبيائها فأحل الله بها‬
‫العقوبة والنكال الليم ؟ طبعا ً ل ‪ ،‬لن الخيرية في بني آدم ليست في صورة‬
‫اللحم والدم ‪ ،‬ولكن الخيرية وصف مكتسب من تناسق النسان مع مجموع‬
‫القوانين التي تحكم الكون برمته ‪ ،‬والمعبر عنها والممثلة لشرائع الله النازلة‬
‫من السماء ) أم لكم براءة في الزبر ( أم أنتم تسقطون في نفس الشيء‬
‫التي سقطت فيها بنو إسرائيل فقالت تعليل ً لعدم تعذيب الله إياها ) نحن‬
‫أبناء الله وأحباؤه ( علما ً بأن الله ل يجامل ول يحابي وليس بينه وبين أحد من‬
‫خلقه سبب ول نسب ‪ ،‬وإنما يتفاضلون عنده بالطاعة والتقوي والعافية ‪،‬‬
‫وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ :‬الناس رجلن ‪ ،‬مؤمن تقي كريم‬
‫على الله ‪ ،‬وفاجر شقي هين على الله تعالى ‪.‬‬
‫ثم الشعبة الثالثة من السؤال الكبير الذي جوبه به المشركون ) أم يقولون‬

‫‪132‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫نحن جميع منتصر ( تلك خدعة الكثرة والسواد العظيم ‪ ،‬ولكن وقائع التاريخ‬
‫والحوادث اليومية المشهودة ترينا أن الجمع ل يغني عن صاحبه شيئا ً ‪ ،‬وأن‬
‫البقاء مرهون للحق ‪ ،‬وأن الباطل إذا أرغى وأزبد فهو غثاء كغثاء السيل ‪،‬‬
‫وبهذا تتضح المعاني التي دارت حولها سورة القمر ‪ .‬ويهمنا الفاتحة ‪ ،‬رأيتم‬
‫كزت على بيان أسباب من تلك التي أبداها المشركون من عدم‬ ‫كيف ر ّ‬
‫اليمان بالرسل ‪.‬‬
‫ونأتي إلى سورة صاد متعرفين على فواتحها لننظر في الترابط بين‬
‫السورتين وبين الفاتحتين وفي الختلفات التي تتحصل من جاء الموازنة‬
‫والمقارنة ‪ .‬في سورة صاد تفتتح هكذا ) ص والقرآن ذو الذكر ‪ ،‬بل الذين‬
‫كفروا في عزة وشقاق ‪ ،‬كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولت حين‬
‫مناص ( يعني ل منجى ‪ ،‬لت هي الحرف النافي ل ولكن من عادة العرب أن‬
‫تلحق التاء ببعض الحروف وبعض الكلمات شدا ً للمعنى ‪ ،‬فتقول في ) ثم (‬
‫ثمت وتقول في ) ُرب ( ُربت وتقول ) ل ( وتقول لت ‪ ،‬فهذه التاء تأتي بها‬
‫العرب لتشد بها المعنى المراد والمناص هو المهرب وهو الملجأ أي أنهم‬
‫هؤلء المشركون استغاثوا وأعلنوا البراء من أوثانهم وأعلنوا التوبة ولكن ل‬
‫ملجأ ول مهرب من أمر الله حين ُيقِبل ‪ ،‬وإن أبواب التوبة في ذلك الحين‬
‫تغلق تماما ً في وجوه المكذبين ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫) كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولت حينما مناص ‪ ،‬وعجبوا ( هنا يأتي‬
‫دور المقارنة بين الفاتحتين ) وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ‪ ،‬وقال الكافرون‬
‫هذا ساحر كذاب ‪ ،‬أجعل اللهة إلها ً واحدا ً إن هذا لشيء عجاب ‪ ،‬وانطلق‬
‫المل منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إنه هذا لشيء يراد ( يعني إن‬
‫محمدا ً يريد بدعوته السيادة علينا والتمكين في الرض ) ما سمعنا بهذا في‬
‫الملة الخرة إن هذا إل اختلق ‪ ،‬أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك‬
‫من ذكري بل لما يذوقوا عذاب ‪ ،‬أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز‬
‫الوهاب ‪ ،‬أم لهم ملك السماوات والرض وما بينهما فليرتقوا في السباب ‪،‬‬
‫جند ما هنالك مهزوم من الحزاب ‪ ،‬كذبت قبلهم قوم نوح ( إلى آخره‬
‫وينطلق السياق بعد ذلك مباشرة إلى النبي عليه الصلة والسلم بأمرٍ يشبه‬
‫من بعض الوجوه المر الذي جاء في سورة القمر ) اصبر على ما يقولون (‬
‫هناك في سورة القمر ) فتولى عنهم ( وهنا ) اصبر على ما يقولون ( إذا ً‬
‫فالتغاير ل بد أن تكون له حكمة ‪ ،‬وقارئ القرآن يظلم نفسه حين يتغاضى‬
‫عن هذه الفروق التي تتبدى لوساط الناس غير ذات أهمية ‪ ،‬لحظوا في‬
‫سورة القمر يقول له الله ) فتولى عنهم ( ول نكتفي بالوقوف عند قوله‬
‫) فتولى عنهم ( وإنما نلحظ صيغة الية ) فتولى عنهم يوم يدعو الداعي إلى‬
‫شيء نكر ( متى ؟ يوم يدعو الداعي هذا يكون يوم القيامة ‪ ،‬إذا ً فالية‬
‫الكريمة نقلتنا نقلة بعيدة عبر الزمان وعبر المكان إلى الوقت المعلوم الذي‬
‫ضربه الله أجل ً لقيام الساعة ‪ ،‬كذلك معناه هو المؤداة أنه ُيطلب من النبي‬
‫عليه الصلة والسلم العراض عن المشركين وترك المر لله جل وعل ‪ ،‬وهذا‬
‫عرضت في سورة القمر ‪،‬‬ ‫يتسق تماما ً مع جو السورة ومع القصص التي ُ‬
‫بملحظة القصص التي عرضت في سورة القمر نخرج بنتيجة ‪ :‬إن الله وضع‬
‫أمام أنظار الناس صورا ً لمم كذبت وعصت وجاءتها الرسل والنبياء فتولت‬
‫وأعرضت ‪ ،‬وبغير تفصيل في المور التي حصلت آنذاك فإن الله جل وعل‬

‫‪133‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وضع خواتيم أولئك القوام أمام أعيننا ليقّر في الذهان حقيقة ‪ ،‬ما هي ؟ أن‬
‫الله غالب على أمره ‪ ،‬وأن الذين ُيعرضون عن الذكر ويستمرئون طعم‬
‫المعصية فإن الله جل وعل غير غافل عنهم وسيأخذهم أخذ عزيز مقتدر ‪.‬‬
‫وهذه ليس القضية كلها وللسف فنحن نجد من آثار انطباعات من هذا النوع‬
‫أن التواكل والسقوط في هاوية العجز وعدم الهتمام بما يدور حول الناس‬
‫هو السمة الغالبة على المسلمين نتيجة الفهم المغلوط والمجزوء للقضايا‬
‫التي سقطت بين أيديهم وماتت لعدم قدرتهم على تحديد منهج النظر إلى‬
‫كتاب الله جل وعل بالفاق الواسعة العريضة التي شرحناها الن ‪.‬‬
‫فيما يتعلق بالفاتحتين ‪ ،‬ما يقال للنبي عليه الصلة والسلم وما يقال للنبياء‬
‫السابقين وما يقال لكل مصلح وكل داٍع إلى صراط هدى وسبيل رشد ‪،‬‬
‫فيجب أل يستوقف اهتمام أحد ‪ ،‬إن هذا هو خلق الولين كما قال الله وإن‬
‫هذا هو ما طرحه الله في القرآن على صيغة تساؤل ) أتواصوا به ( كل أمة‬
‫جاءها رسول قالت نفس القول ‪ ،‬ونحن نجد نصا ً ثمينا ً للغاية في سورة‬
‫) فصلت ( يقول الله جل وعل لنبيه محمد عليه صلوات الله وسلمه ) ما‬
‫يقال لك إل ما قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو المغفرة وذو عقاب أليم (‬
‫فهذا الذي تراه من قومك أمر طبيعي وغاية في البساطة ‪ ،‬وعليه ل ينبغي أن‬
‫ل تلتفت إليه ‪ ،‬والشيء الذي نهتم إليه الن هو ما بعد الفواتح ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫رأينا أن الله طلب في سورة القمر إلى النبي عليه الصلة والسلم أن يعرض‬
‫وأن يتولى عن المشركين وأن يكلهم إلى الله الذي بيده مقاليد السماوات‬
‫والرض الذي ل يشذ عن علمه شيء بتاتا ً ‪ ،‬ولكنا في سورة ) ص ( نلحظ‬
‫ح التعبير ولله المثل العلى ‪ ،‬إن الله‬ ‫أننا نخرج من السلب إلى اليجاب إن ص ّ‬
‫حين يقول له ) اصبر على ما يقولون ( فالعراض حالة سالبة وترك للقضية‬
‫في يد الغير أي في يد الله ‪ ،‬لكن الصبر حالة ممارسة ومعاناة وإل فما معنى‬
‫الصبر ؟ الصبر هو الخليقة التي تتولد لدى النسان وهو يعالج المشقات‬
‫والصعاب ‪ ،‬وإذا ً فهو حالة إيجابية ‪ ،‬وإذا ذهبنا نتعّرف على ما بعد هذا الكلم‬
‫نجد أنفسنا في الجانب الثاني من القضية التي طرحت سورة القمر جانبها‬
‫الول ) اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا اليدي إنه أواب ‪ ،‬إنا‬
‫سخرنا معه الجبال يسبحن بالعشي والشراق ‪ ،‬والطير محشورة كل له أواب‬
‫‪ ،‬وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ( ثم يلتفت الكلم إلى النبي‬
‫عليه الصلة والسلم في عملية تنبيه شديدة ) وهل أتاك نبأ الخصم إذ‬
‫تسوروا المحراب ‪ ،‬إذا دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا ل تخف خصمان‬
‫بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ول تشطط واهدنا إلى سواء‬
‫الصراط ‪ ،‬إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها‬
‫وعزني في الخطاب ( أي غلبني وقهرني في الحجة والكلم ) قال لقد ظلمك‬
‫بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا ً من الخلطاء ( أي الشركاء ) ليبغي‬
‫بعضهم على بعض إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود‬
‫أنما فتناه فاستغفر ربه وخّر راكعا ً وأناب ‪ ،‬فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى‬
‫وحسن مآب ‪ ،‬يا داوود إنا جعلناك خليفة في الرض فاحكم بين الناس بالحق‬
‫ول تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم‬
‫عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ‪ ،‬وما خلقنا السماء والرض وما بينهما‬
‫باطل ً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ‪ ،‬أفنجعل الذين آمنوا‬

‫‪134‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وعملوا الصالحات كالمفسدين في الرض أن نجعل المتقين كالفجار ‪ ،‬كتاب‬


‫أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكر أولو اللباب ( ‪.‬‬
‫ارجعوا بعض الشيء إلى ما سبق أن قلناه ونحن في بدايات الحديث عن‬
‫سورة ) ص ( إن سورة ) ص ( تواجه في عملية البناء السلمي مرحلة‬
‫دقيقة ومتقدمة بالنسبة إلى المراحل التي مرت من قبل ‪ ،‬ولهذا فهي معنية‬
‫بأن تكمل القضايا المطروحة قبلها وأن ترفع مستوى المسلمين في النظر‬
‫والعمل إلى أرفع وأعلى مما كانوا عليه ‪ .‬إن الله جل وعل بعد أن أمر نبيه‬
‫بالصبر وهو المعالجة والمعاناة ‪ ،‬وبذل المجهود الواجب وانتظار النتائج‬
‫المقدورة في علم الله يلفت نظر رسوله عليه الصلة والسلم إلى داوود‬
‫لحكمة ‪ ،‬إن قصة داوود ليست في الحقيقة قصة بني إسرائيل ‪ ،‬ولكنها قصة‬
‫النبي ‪ ،‬أي أن اليحاء والنطباع الول الذي يخرج به قارئ هذا النص أن‬
‫مجمل ما تفيده عبرة هذه القصة موجه إلى شخص النبي عليه الصلة‬
‫والسلم وبالتالي إلى شخص كل داعية إلى السلم ممن يقفو أثر رسوله‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬أي من هنا تكمن أهمية القضية ‪.‬‬
‫قبل أن نأخذ بالحديث عن فحوى هذه القصة يجب أن نعود إلى الوراء قليل ‪ً.‬‬
‫من المعروف أن موسى عليه السلم بعثه الله إلى فرعون ليخرج بني‬
‫إسرائيل من الظلم الفادح الذي كان ينزله فرعون فيهم ‪ ،‬وفعل ً جاوز الله‬
‫ل الله بجنوده ‪ ،‬وضرب الله عليهم التيه‬ ‫ل ما أح ّ‬‫ببني إسرائيل البحر وأح ّ‬
‫يتيهون في الرض أربعين سنة ‪ ،‬ومات موسى عليه الصلة والسلم قبل أن‬
‫يدخل بيت المقدس ‪ ،‬وفي الحديث الشريف أنه حين دنا أجله قال ‪ :‬ربي‬
‫اجعلني أنظر إلى بيت المقدس ‪ .‬ومات وهو يرى بيت المقدس ‪ ،‬ولكنه لم‬
‫يدخل بيت المقدس وقبره هناك وقد أشار النبي عليه الصلة والسلم بأنه لو‬
‫ذهب إلى هناك لراهم قبر موسى عليه الصلة والسلم ‪.‬‬
‫بعد موسى دخل ببني إسرائيل إلى الرض المقدسة يوشع بن نوح ‪ ،‬وساسهم‬
‫سم عليهم الرض وفاقا ً لتقسيم السباط في بني إسرائيل ‪ ،‬وبعد يوشع لم‬ ‫وق ّ‬
‫يكن عليهم ملك يسوسهم ويدبر أمرهم ‪ ،‬وظلوا بهذا الشكل من بعد موسى‬
‫بثلثمائة وست وخمسين سنة بالضبط ‪ ،‬ول ملك لهم ‪ ,‬وإنما يسوسهم‬
‫القضاة ‪ ،‬وهي الفترة المعروفة في تاريخ بني إسرائيل بفترة حكم القضاة ‪،‬‬
‫القضاة إما أن يكونوا أنبياء وإما أن يكونوا قضاة ويوجد أنبياء ليبلغوا هؤلء‬
‫القضاة أوامر الله تعالى ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫بعد مدة استعرت الحروب بين بني إسرائيل وجيرانهم من المديانيين‬


‫والفينيقيين والعمالقة والفلسطينيين ‪ ،‬وكانت الحروب سجال ً بينهم ‪ .‬في آخر‬
‫هذه المرحلة وقعت حرب طاحنة بين بني إسرائيل وبين الفلسطينيين ‪ ،‬وكان‬
‫من عادة بني إسرائيل أنهم يخرجون تابوت العهد ‪ ،‬وهو تابوت توضع فيه بقايا‬
‫التوراة وبقايا ما تركه موسى وهارون عليهما الصلة والسلم ‪ ،‬وفي هذه‬
‫الحرب حّلت الهزيمة ببني إسرائيل ‪ ،‬واستولى الفلسطينيون على تابوت‬
‫العهد وأخذوه إلى بلدهم في أشدود قرب غزة ‪ ،‬وبقي هناك التابوت سبعة‬
‫أشهر في يد الفلسطينيين ‪ ،‬وضعوا التابوت في بيت صنمهم ‪ ،‬وكان لهم صنم‬
‫رأسه رأس إنسان وجسمه جسم سمكة ‪ ،‬ولكن الفلسطينيين لحظوا أمرا ً‬
‫غريبا ً ‪ ،‬لحظوا أنهم في كل يوم يجدون الصنم ملقى على وجهه ‪ ،‬ثم ابتلهم‬
‫الله بكثرة الفئران والوبئة والمراض ‪ ،‬فرأوا أن هذا من فعل احتفاظهم‬

‫‪135‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بالتابوت ‪ ،‬فجاءوا بمركبة وشدوا عليها بقرتين ووضعوا التابوت فوق المركبة‬
‫وأطلقوها باتجاه بني إسرائيل ‪ ،‬وذهبت البقرتان بل قائد حتى جاءتا إلى بني‬
‫إسرائيل ‪.‬‬
‫هذه الفترة وهذه القصة المضطربة قبيل تملك داوود عليه السلم جاء نبؤها‬
‫بتعبير رائع في القرآن الكريم في سورة البقرة ابتداءا ً من الية ) ‪ 246‬وما‬
‫بعدها ( بقول الله تعالى ) ألم تَر إلى المل من بني إسرائيل من بعد موسى‬
‫كتب‬ ‫إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا ً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن ُ‬
‫عليكم القتال أل تقاتلوا قالوا وما لنا أل نقاتل وقد ُأخرجنا من ديارنا وأبنائنا‬
‫كتب عليهم القتال تولوا إل قليل ً منهم والله عليم بالظالمين ‪ ،‬وقال لهم‬ ‫فلما ُ‬
‫ً‬
‫نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ( وطالوت في أدبيات العبرانيين‬
‫اسمه شاول بن قيس ) قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك‬
‫ت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في‬ ‫منه ولم يؤ َ‬
‫العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ‪ ،‬وقال لهم نبيهم‬
‫إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل‬
‫موسى وآل هارون تحمله الملئكة إن في ذلك لية لكم إن كنتم مؤمنين (‬
‫والواقع أن الملئكة لم تحمل التابوت بأيديها وإنما كانت تهدي البقرتين وهما‬
‫تسوقان العربة لتحمل التابوت إلى بني إسرائيل ‪ ،‬ول يجوز أن ُيفهم غير‬
‫هذا ‪.‬‬
‫) وقال لهم نبيهم إن آية ملكه ( أي علمة رضاء الله عن تمليك طالوت ) أن‬
‫يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون‬
‫تحمله الملئكة إن في ذلك لية لكم إن كنتم مؤمنين ( وحينئذ قادهم ملكهم‬
‫إلى القتال ‪ ،‬وابتلهم الله بالنهر ‪ ،‬والمهم أم الله جل وعل قال ) ولما برزوا‬
‫لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا ً وثّبت أقدامنا وانصرنا على القوم‬
‫الكافرين ‪ ،‬فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكم‬
‫وعلمه مما يشاء ‪ ( ..‬إلى آخر اليات ‪ .‬فهذا هو مبدأ ملك داوود ‪.‬‬
‫نبيهم الذي كان في زمن داوود اسمه صموئيل ‪ ،‬تعّرف على داوود بالعلمات‬
‫الموحى به وأقدمه إليه ‪ ،‬وتعّرف على طالوت وأقدمه إليه وجعله ملكا ً على‬
‫بني إسرائيل ‪ ،‬وحين وقعت الواقعة كان في الفلسطينيين رجل شجاع‬
‫مشهور بالشجاعة اسمه جالوت وهو في الدبيات السرائيلية وفي التوراة‬
‫اسمه جوليات ‪ ،‬جالوت كان شديدا ً تتحاماه البطال ‪ ،‬وداوود لم يكن من‬
‫جملة الجيش الذي ذهب ليقاتل جالوت والفلسطينين ‪ ،‬ولكن أباه أرسله لكي‬
‫يستعلم له عن خبر إخوته الثلثة الذين كانوا في الجيش ‪ ،‬فلما جاء إلى‬
‫الجيش وجد الناس يتحامون قتال جالوت ووجد جالوت يدعو إلى المبارزة ول‬
‫يتقدم إليه أحد ‪ ،‬فتساءل داوود ‪ :‬ماذا يكون للذي يقتل جالوت ؟ قالوا إن‬
‫الملك يغنيه ويزوجه ابنته ويجعل بيت أبيه حرا ً في بني إسرائيل ‪ ،‬فلما طلب‬
‫المبارزة ألبسه طالوت لمة الحرب فوجدها تعيقه عن الحركة فرماها ‪ ،‬من ؟‬
‫داود ‪ ،‬وتقدم إلى الوادي فاختار خمسة أحجار وفي يده مقلع فوضع حجرا ً‬
‫في المقلع وضرب جالوت فأصابه على جبهته ورماه ‪ ،‬وتقدم فأخذ سيف‬
‫جالوت واحتز به رأسه ‪ ،‬منذ ذلك الحين عل نجم داود وعظم شأنه في بني‬
‫إسرائيل وأصبحت له رئاسة الجند ‪ ،‬وبعض خطوب ل داعي لذكرها كان ملكا ً‬
‫على بني إسرائيل ونبيا ً من أنبياء الله عليهم الصلة والسلم ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫‪136‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫هذا النبي الذي خاض الغمرات وتمرس بالصعوبات في الحرب وفي السلم‬
‫وعالج من التواءات نفوس بني إسرائيل ما عالج ‪ ،‬هو النموذج الذي افتتح‬
‫الله به العرض أمام ناظري النبي صلى الله عليه وسلم ‪ .‬فماذا ؟ إن الله ذكر‬
‫في اليات التي تلوناها عليكم من سورة ) ص ( أن الله طلب من محمد‬
‫صلوات الله عليه أن يتذكر داوود وأن يتذكر ما كان عليه من الملك القوي‬
‫واليدي الشديدة وأن يتذكر أيضا ً ما كان عليه من العبادة والخبات إنه أواب ‪،‬‬
‫وأن يتذكر أن الذي شد ّ ملكه هو الله ل غيره وأن يتذكر أنه نبي ول كالنبياء ‪،‬‬
‫وملك ول كالملوك ‪ .‬ومع هذا ففي حياة داوود سقطة ‪ ،‬وأقول سقطة‬
‫بالمعنى المجازي ‪ ،‬جعلت ربنا جل وعل يعاتبه بعنف وبشدة ‪ ،‬وجعلت داوود‬
‫عليه السلم يستحي من ربه وتسيل دموعه باستمرار ويموت وهو يبكي على‬
‫خطيئته ‪ ،‬ما هي هذه الخطيئة ؟ للسف الشديد كتب التفسير تزدحم‬
‫بمرويات هي من نتائج روايات كعب الحبار ووهب بن منبه وأضرابهما من‬
‫مسلمة اليهود الذين دسوا على المسلمين أباطيل من أباطيل المم‬
‫سم وقته أجزاًء‬ ‫السابقة ‪ ،‬من جملة ما دسوا قالوا ‪ :‬إن داوود عليه السلم ق ّ‬
‫فكان من أجزاء هذا الوقت وقت يخلو فيه في المحراب ‪ ،‬يغلق الباب على‬
‫نفسه ويوقف الحرس والجنود ‪ ،‬وبعض الروايات تبالغ فتقول إنه يضع على‬
‫باب مكان العبادة أربعة آلف حارس يمنعون الناس من الدخول عليه في‬
‫وقت فراغه للعبادة ‪ ،‬في تلك الثناء لم يشعر داوود عليه السلم إل وخصمان‬
‫أمامه ففزع ‪ ،‬كيف وهو الملك المحروس ذو الجند والذي يعلم أن المؤامرات‬
‫تحاك من حوله ؟ كيف تسرب هذان إلى المحراب وهو المكان المنيع الذي ل‬
‫يدخله أحد وفاقا ً لوامر الملك والنبي داوود عليه السلم ؟ ليس المهم هنا‬
‫الن ‪ ،‬المهم أن الروايات وبعضها منسوب إلى ابن عباس ول أراه يصح أن‬
‫داوود وهو في معتكفه في المحراب تمثلت له حمامة من ذهب فلفتت نظره‬
‫فلما مد يده ليقبض عليها طارت فلحق بها فلما لحق بها طارات وقعت على‬
‫كوة من كوى المحراب ‪ ،‬شباك صغير ‪ ،‬فلحق بها فلما أشرف نظر في بيت‬
‫مجاور إلى امرأة متعرية تغتسل والتفتت المرأة فلحظت نظرة داوود‬
‫فأسدلت شعرها على جسمها وتغطت به ‪ ،‬ويقال إن داوود عليه السلم علق‬
‫هذه المرأة ولم يعد يستطيع الصبر عنها ‪ ،‬وذهب يستفسر ويسأل ‪ ،‬فقيل له‬
‫إن هذه زوجة القائد أوريا الذي يقاتل في مكان كذا ‪ ،‬ودبر داوود في نفسه‬
‫أمرا ً ‪ ،‬وكتب إلى قائده العام أن يقدم أوريا لكي يكون مع التابوت ‪ ،‬وحين‬
‫يكون الفارس مع التابوت فمعنى ذلك احتمال قتله يصل إلى تسعة وتسعين‬
‫بالمئة ‪ ،‬ولكن الله فتح عليه فأمره أن يضعه في نحر العدو ‪ ،‬فقتل أوريا‬
‫وتزوج داوود من زوجة أوريا وعاتبه الله جل وعل بهذه الصورة الموّراة ‪،‬‬
‫ويقال في بعض الروايات ما هو أشنع ‪ ،‬استدعى المرأة وزوجها غائب‬
‫وعاشرها وحملت وأراد أن يداري الفضيحة فاستدعى زوجها من المعركة‬
‫لكي يصيب أهله وتخلص الفضيحة ‪ ،‬ولكن الرجل كان قائدا ً مخلصا ً وجنديا ل‬
‫ً‬
‫يعرف إل الطاعة فبات على باب داوود ولم يذهب إلى أهله ‪ ،‬فلما اكتشف‬
‫ذلك داوود أمرهم أن يقدموه في نحر العدو حتى قتل ‪ ،‬وثمة رواية أخرى‬
‫لبن عباس حول هذا الموضوع تقص ذات القصة مسندة طبعا ً إلى أهل‬
‫دم زوج‬ ‫الكتاب تقول إن داوود عليه السلم أراد في نفسه هذا المر فق ّ‬
‫المرأة في نحر العدو عدة مرات ‪ ،‬وكلما قدمه نحو العدو كان ينتصر ثم‬
‫صرفه الله جل وعل عن هذا الخاطر السيء بهذا العتاب الذي جاء في سورة‬
‫صاد ‪ ،‬وما أشبه بما قيل لول ملحظة ‪ :‬إننا نستطيع الن أن نعقد مقارنة‬
‫بسيطة بين خطيئة يوسف وخطيئة داوود ‪ ،‬خطئية يوسف ) ولقد همت به‬

‫‪137‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وهم بها لول أن رأى برهان ربه ( فهو هم يعتلج في النفس دون أن يأخذ‬
‫طريقه إلى التحقق والعمل ‪ ،‬ولكن في هذه الواقعة حينما نأخذ الرواية الثانية‬
‫لبن عباس نجد أن داوود باشر التدبير وأخرجه إلى حيز الفعل ‪ ،‬وهذا ل يليق‬
‫بفجار الناس ول بساقطيهم ول بأوباشهم ‪ ،‬هذا فعل الزنات والفجرة وليس‬
‫فعل أنبياء الله تبارك وتعالى ‪ ،‬إذا رجعنا إلى المفهومات الصحيحة فنحن نجد‬
‫الروايات قال بها بعض المفسرين تقول إن داوود عوتب لسبب هو أنه كان‬
‫يشتهي ما في أيدي الناس فصرفه الله جل وعل بهذه اليات عن أن يشتهي‬
‫ما في أيدي الناس ‪ ،‬واشتهاء ما في أيدي الناس خطيئة بالنسبة لمن كان في‬
‫المركز الول ‪ ،‬ويقال وهو الشبه وهو الذي نعتمده وذهب إليه مفسرون‬
‫محترمون وآخر من اطلعنا على رأيهم موافقا ً لهذا أستاذنا شهيد السلم‬
‫المرحوم سيد قطب هو أن المسألة ل تحتاج إلى كل هذا الجري وراء‬
‫المرويات والمنقولت ‪ ،‬اقرأ اليات تجد أن الخصمين حينما دخل على داوود‬
‫ت لنريد بك سوءا ً ولكننا‬ ‫عليه السلم ففزع منهم فقال له ‪ :‬ل تخف نحن لم نأ ِ‬
‫خصمان بغى بعضنا على بعض أي اعتدى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بقدر‬
‫ول تشطط يعني ل تجاوز الحد واهدنا إلى سواء الصراط يعني عظنا وعلمنا‬
‫ما ينفعنا في معاشنا ومعادنا ) إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي‬

‫)‪(6 /‬‬

‫نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب ( هذه هي القضية أي موضوع‬


‫الدعوة التي قدمت لنبي الله داوود عليه السلم ‪ ،‬شريكان أحدهما يملك تسع‬
‫وتسعين نعجة والخر يملك نعجة واحدة ‪ ،‬صاحب التسع والتسعين يريد من‬
‫صاحب النعجة الواحدة أن يضع نعجته تحت يديه ليكمل بها المائة ‪ ،‬هذه هي‬
‫قضية الدعوة وموضوعها ‪ ،‬ماذا كان الجواب ؟ رأسا ً وبغير سؤال الطرف‬
‫الخر قال داوود ‪ :‬لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ‪ ،‬ثم عقب على ذلك‬
‫درسا ً آخر ) وإن كثيرا ً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إل الذين آمنوا‬
‫وعملوا الصالحات ( هنا استذكر داوود أن الموضوع فتنة من قبل الله وابتله‬
‫واختبار ليشده إلى الفق الرفيع الذي ينبغي أن يظل أنبياء الله والدعاة إلى‬
‫الحق السائرون على أقدام النبياء مرتبطين به ل يتزحزحون عنه شعرة‬
‫واحدة ‪ ،‬إن المنطق وقواعد العدل تقضي حينما يأتيك خصمان أن ل تنطق‬
‫بالحكم قبل سماع وجهة الطرف الخر ‪ ،‬داوود عليه السلم سمع وجهة‬
‫طرف واحد ولم يسمه وجهة الطرف الخر ‪ ،‬وما يدرينا لعل المسألة يكون‬
‫فيها شيء ‪ ،‬ورسولنا محمد عليه الصلة والسلم كان يحتاط لهذا ويقول‬
‫لصحابه ‪ :‬إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر أقضي على نحوٍ مما أسمع ‪،‬‬
‫ولعل بعضكم ألحن في حجته من أخيه ‪ ،‬فمن قضيت له من حق أخيه شيئا ً‬
‫فليأخذ أو ليذر فإنما أقتطع له قطعة من النار ‪.‬‬
‫إذا ً ففي كثير من الحيان تقدم إلينا الدعوة وبظاهر المر وقبل تقصي‬
‫الحقائق ومعرفة السباب والدوافع ربما نقع في الخطأ في الحكم ‪ ،‬ولهذا‬
‫عاتب الله داوود عليه السلم ‪ ،‬ليس هكذا يحكم النبياء ‪ .‬وسياق اليات واضح‬
‫في هذا ) وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخّر راكعا ً وأناب ( ‪ ،‬ولو أنا‬
‫قرأنا الية التي بعدها مباشرة وبإمعان لوجدنا تصديق هذا المفهوم كامل ً ‪ ،‬إن‬
‫الله ينادي داوود ) يا داوود إن جعلناك خليفة في الرض ( وخلفة الله في‬
‫الرض قوامة على شرعه من فوق الرغبات والشهوات ومن فوق عوامل‬
‫الضيق والعصبية ) فاحكم بين الناس بالحق ول تتبع الهوى ( ل تمل مع‬

‫‪138‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ظواهر ول مع القرابة ول تمل مع الصداقة ول تمل مع أي نازع من النوازع ‪،‬‬


‫إنك مؤتمن على قضية كبيرة هي قضية الحق الذي يساوي الوجود ‪ ،‬وسأبرز‬
‫لكم الن ) فاحكم بين الناس بالحق ول تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن‬
‫الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ‪ ،‬إذا‬
‫قرأتم الن وبعد هذا ) وما خلقنا السماء والرض وما بينهما باطل ً ذلك ظن‬
‫الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ( أي أن الحق هو روح الوجود وأن‬
‫هذا الحق تعبير عن الناموس الذي يحكم السماوات والرض ‪ ،‬ما معنى‬
‫الباطل في كلم العرب ؟ الباطل هو اللشيء ‪ ،‬يقال بطل المر إذا ذهب‬
‫وتلشى ‪ ،‬يعني أنه مرادف العبث والعدم ‪ ،‬وهذا غير صحيح ‪ ،‬لن العدم ضد‬
‫الوجود ‪ ،‬ونحن نشهد الوجود ونحن جزء من الوجود ‪ ،‬وإذا ً فل عبث ‪ ،‬ونحن‬
‫نرفض العبث لننا نلحظ هذا الكون بكل أجزائه يسير على تناسق بديع ل‬
‫اختلل فيه ‪ ،‬وإذا ً فل باطل في المر ‪ ،‬وهذا الباطل هو الذي يوافق الظلم‬
‫والقهر واستغلل الناس ‪ ،‬ولكن الحق هو الذي يكون ترجمة وتعبيرا ً حيا ً‬
‫لناموس الله جل وعل الذي رّتب عليه هذا الوجود برمته ‪.‬‬
‫قبل أن أتعّرض لشيء آخر ‪ ،‬ما أنا بمتعّرض له اليوم ‪ ،‬أريد أن أخلص إلى‬
‫عبرة ‪ .‬يا إخوة ‪ ،‬وهذا أهم شيء أريد أن أقوله لكم ‪ ،‬النسان نبيا ً أو صديقا أو‬
‫ً‬
‫عالما ً أو مجاهدا ً أو أي وصف من الوصاف ُوجد لتشمله خلفة الله في‬
‫الرض ‪ ،‬أي أنه مخاطب ومسؤول ‪ ،‬بمعنى أن عليه وجائب والتزامات تجاه‬
‫نفسه وتجاه الخرين ‪ ،‬والسلم مجلود ومظلوم بين أبنائه ‪ ،‬إن للسلم وجهة‬
‫نظر دقيقة ‪ ،‬وإن من أفحش الخطأ أن نتورط فيما توّرط فيه كتابنا ومفكرونا‬
‫السلميون في هذا الزمن ‪ ،‬فنسقط في الفخ الذي يعامل السلم وفاقا ً‬
‫لمصطلحات الحياة المعاصرة ول سيما في باب النسانيات ‪ ،‬إن تساؤل ً ظل‬
‫يدور في العالم السلمي أن السلم دين فردي أو دين جماعي ‪ ،‬واقع المر‬
‫أن هذا السؤال كله ل فائدة له ‪ ،‬إننا في الحضارة الغربية تساؤل ً من هذا‬
‫القبيل تقوم عليه نظم ‪ ،‬في الحقيقة هناك من قال بأن النسان كائن فردي ‪،‬‬
‫ومنهم من قال أنه كائن اجتماعي ‪ ،‬وبنوا على ذلك خلفا ً منهجيا ً في الحياة ‪،‬‬
‫خلف أدى إلى أن توجد مدرسة تعطي الولوية للمجتمع ‪ ،‬ومدرسة أخرى‬
‫تعطي أولوية للفرد ‪ ،‬ومن المضحكات المبكيات على هذا الجنس البشري‬
‫المنكود أن الذين اتخذوا الفرد قاعدة لمنهجهم انتهوا إلى عبودية الجماعة ‪،‬‬
‫كما في النتخابات الدول المتقدمة التي يتحكم فيها القطيع بأخيار الناس‬
‫وبأشراف الناس ‪ ،‬وأن الدول التي اتخذت القضية الجماعية أساسا ً لمنهجها‬
‫انتهت إلى أن تكون دول ً فردية ‪ ،‬كما هو الشأن في الدول الشيوعية‬
‫دمة وأن لها‬ ‫والشتراكية ‪ ،‬بالرغم من أنها تقول من أن الجماعة هي المق ّ‬
‫الولوية المطلقة ‪ ،‬انتهت إلى دكتاتورية بغيضة كدكتاتورية استالين وماو وما‬
‫أشبه ذلك ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫السلم ليس مع هؤلء ول مع هؤلء ‪ ،‬السلم يبدأ فرديا ً لينتهي جماعيا ً ‪ ،‬لنه‬
‫يقول ‪ :‬إن قاعدة الصلح والصلح تتوقف على وجود اللبنات الصالحة التي‬
‫مُثل السلم‬ ‫تشكل بمنطقها وبعملها وبمواقفها ونواياها تعبيرا ً حيا ً عن ُ‬
‫وأحداث السلم ‪ .‬وهذا ل يتم إل بعملية قاسية من المعاناة الداخلية‬
‫المستمرة المعبر عنها إسلميا ً بالمحاسبة ‪ ،‬هذا هو منطلق السلم ‪ .‬ومن هنا‬
‫نجد الله جل وعل يقول ) إن الله ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (‬

‫‪139‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فالمر إذا ً موكول إلينا ‪ ،‬أعود لرد ّ أواخر الحديث أو أوائله ‪ ،‬ليست القضية‬
‫كما يتركه انطباع سورة القمر ‪ ،‬هذا جانب واحد من الموضوع ‪ ،‬ولكنها‬
‫تحتمل الجانبين ‪ ،‬إننا يجب أن تكون لدينا ثقة مطلقة بأن الله غالب على‬
‫أمره ‪ ،‬وبأن الله لن يمكن للظلم في هذه الرض ‪ ،‬لماذا ؟ لن هذا يعني‬
‫العبث والبطلن ‪ ،‬والله تعالى منزه عن العبث والبطلن ‪ .‬ولكن يجب أن نعلم‬
‫أن مراد الله ل يتحقق بلمسة سحرية ول بجند من الملئكة ينزلون ليسكنوا‬
‫الرض بدل البشرية المعذبة الخاطئة ؟ ل ‪ ،‬وإنما يتحقق مراد الله تعالى ببني‬
‫آدم ‪ ،‬يعني أن البشر هم الداة الذين يشكلون مجلى الله تبارك وتعالى ‪،‬‬
‫ومن هنا كان التركيز على إصلح النفس البشرية خطوة أولية ل غنى عنها ‪،‬‬
‫هذا من جهة ‪.‬‬
‫من جهة أخرى ‪ ،‬فما من شك أن الناس ‪ :‬طويل وقصير وأسود وأبيض ‪،‬‬
‫والناس ذكي وبليد ومفكر وخامل الفكر ‪ ،‬وهناك النشيط والعاجز وبين بين ‪،‬‬
‫فليس كل الناس على مستوى واحد ‪ ،‬ل من حيث البناء الجسمي ول من‬
‫حيث القدرات العقلية والهتمامات الروحية ‪ .‬إن الله جل وعل أناط مهمة‬
‫الصلح البشرية للصفوة المختارة من الناس ‪ ،‬ولكنه رّتب عليهم واجبات ‪.‬‬
‫افهموا القانون ‪ ،‬قانون السلم يتحدد كالتي ‪ :‬إنك كمسلم مطلوب منك أن‬
‫تزيد في عمق نفسك ‪ ،‬أي أنك تمارس حركة داخل نفسك تستهدف تطهير‬
‫الباطن وإصلح الباطن وتهيئة هذه النفس لكي تكون على القواعد التي‬
‫ترضي الله تبارك وتعالى ‪.‬‬
‫من جهة أخرى ‪ ،‬أنت تمارس أيضا ً وفي نفس الوقت حركة خارج ذاتك ‪ ،‬أي‬
‫تأثيرا ً يتبّين في مجتمعك الذي تعيش فيه ‪ ،‬انتبه إن تأثيرك في الخارج‬
‫يتساوق تماما ً على نفس النسبة التي تحققها في داخلك ‪ .‬حينما تكون قهارا ً‬
‫لنفسك ‪ ،‬صبورا ً على الحرمان ‪ ،‬صبورا ً على البليا ‪ ،‬صبورا ً على المشقات ‪،‬‬
‫مرضيا ً لربك ‪ ،‬ملحظا ً لما يريده منك في كل شيء من أشيائك فإن تأثيراتك‬
‫خارج ذاتك ستكون كثيرة ‪ ،‬ولكن في الوقت الذي تتهاون وتكسل وتتراخى‬
‫ينحسر تأثيرك ‪ ،‬ولهذا لما كان النبياء عليهم السلم معّرضين وهم في غمرة‬
‫العمل وفي وسط الكوارث ‪ ،‬ناس مبصرون في وسط قوم عمي ل‬
‫ينظرون ‪ ،‬لما كان النبياء على هذه الحالة تأخذهم اللم والحزان من‬
‫أقطارهم جميعا ً ) فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث‬
‫أسفا ً ( لما كان النبياء عليهم السلم بهذه المثابة كان ل بد أن يثبتهم الله جل‬
‫وعل وأن يمنحهم الحصانة ‪.‬‬
‫تمّثلت هذه الحصانة في قضية ذات جناحين ‪ :‬الجناح الول هو الذي عرضته‬
‫سورة القمر من حيث العراض عن المشركين وما يدبرون وترك المور لله‬
‫وهم الخطر‬ ‫يصرفها كما يشاء ‪ ،‬فإن هذا يعطينا دفعة قوة ل أكبر منها ‪ ،‬إن ت ّ‬
‫والمخاوف من قبل العدو يوّلد في النفس انحسارا ً ‪ ،‬سأمّثل لكم ‪ :‬لو أننا‬
‫سّيرنا قطعة من الجيش لتقاتل عدوا ً ‪ ،‬فنحن أمام أحد وضعين ‪ ،‬إما أن تكون‬
‫قوتنا أكثر من قوة العدو ‪ ،‬وإما أن تكون قوتنا أقل من قوة العدو ‪ ،‬حينما‬
‫تكون أكثر من قوة العدو ‪ ،‬أنا أتكلم عن الحالة العادية طبعا ً المقطوعة الصلة‬
‫بهداية الله ‪ ،‬حين تكون قوتنا أكثر من قوة العدو فل شك أن عوامل القدام‬
‫والشجاعة والجراءة متوفرة لدى قوتنا ‪ .‬ولكن حين تكون أقل تنعكس الية‬
‫ويكون الخصم مرهوبا ً للغاية ‪ ،‬ونتصور الكوارث والهوال ويسكن قلوبنا‬
‫خوف مجهول ‪ ،‬ومن هنا كان أول دروس القادة في القتال أن يحرص القائد‬
‫وهو يقود جنده على أن يحطم في قلوب وعقول جنده أسطورة العدو‬
‫المتفوق ‪ ،‬لننا حينما نحطم هذه السطورة فسوف تتفجر لدينا قوى كانت‬

‫‪140‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫مخبوءة وراء هذا التصور المقيت أي تصور قوة العدو ‪.‬‬


‫فنحن إذا ً والنبياء حينما كانوا يواجهون الجموع الكثيفة يعرضون عن الله‬
‫ويكذبون النبياء كانوا بحاجة إلى هذه الحماية التي تمثلت في ربطهم بالله‬
‫وربط الكون كله بالله ‪ ،‬ووإقناعهم بأن الله يمهل ولكنه ل يهمل ‪.‬‬

‫)‪(8 /‬‬

‫الجناح الخر لهذه القضية الثبات على المبدأ دون أن يتزحزح النسان عن‬
‫موقفه بفعل هذه التأثيرات المجتمعية التي يعيشها ‪ .‬إن الله عرض قضية‬
‫داوود ‪ ،‬مسألة بسيطة جدا ً ‪ ،‬خصمان تقابل أمامه سمع وجهة نظر واحد‬
‫وأهمل وجهة الطرف الخر ‪ ،‬وأصدر الحكم ‪ ،‬كان هذا خطأ دون ريب ‪ ،‬وخطأ‬
‫يعاتب عليه النبي فل يجوز أن يقع فيه ‪ ،‬لن النبي يمثل الحق الذي قامت‬
‫عليه السماوات والرض ‪ ،‬وحينما عرض الله هذه الصورة لمحمد صلى الله‬
‫عليه وسلم فإنما كان يعالج جراحا ً غائرة في نفس محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬حين كان يضطرب في جنبات مكة يدعو أهلها إلى الله ‪ ،‬وهم يصرون‬
‫على السخرية واليذاء والستكبار ‪ ،‬أراد الله له أن ل ينزل عن هذا الفق‬
‫العالي ‪ .‬أل يوجد من وراء ذلك عبرة يا إخوة ؟ أقول ‪ :‬نعم ‪ .‬نحن كدعاة إلى‬
‫الله نذرنا لذلك أنفسنا ‪ ،‬ونسأله الشهادة من أجل ذلك إن شاء الله ‪ ،‬لنها‬
‫أقصى ما يتمناه المسلم ‪ ،‬وقد كان عمر رضي الله عنه يقول في دعائه ‪:‬‬
‫اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتا ً في بلد نبيك صلى الله عليه وسلم‬
‫‪ .‬نحن كدعاة إلى الله جل وعل نواجه من أوطار اتلبشرية ما يعرفه كل أحد ‪،‬‬
‫ول سيما في هذه الجاهلية المستحكمة في عصرنا هذا الذي يحسبه الغرار‬
‫والمغفلون عصر العلم والمدنية ‪ ،‬وهو العصر الذي يشكل االدمار بالنسبة‬
‫إلى البشر ‪.‬‬
‫نحن كدعاة يجب علينا أن ل نتنازل عن مواقفنا التي وضعنا الله جل وعل فيها‬
‫‪ ،‬وأن ل تغترنا عن ذلك فلتات العواطف التي تكون ثائرة بين جوانحنا تجاه‬
‫بعض المواقف التي تصدر من خصوم الله ‪ ،‬ل ‪ ،‬يجب علينا أن نحافظ على‬
‫الفق المرتفع السامق الذي يجب أن يعيش فيه رجل السلم ‪ ،‬وأن ل نتبع‬
‫الهوى ‪ ،‬وأن نكون عادلين مع أنفسنا ومع غيرنا ‪ ،‬ومع صديقنا ومع أعدائنا ‪،‬‬
‫اللهم إني أسألك كلمة الحق في الرضى والغضب ‪.‬‬
‫إن درس داوود درس بليغ ‪ ،‬لما يترتب على السقطة الهينة من آثار مدمرة‬
‫تتناول حيوات الناس إلى آجال طويلة ‪ ،‬إن على المسلم اليوم أن يستذكر‬
‫هذه الحقيقة الصغيرة الكبيرة في آن واحد ‪ ،‬إنه يحمل في عنقه أمانة‬
‫الجنس البشري برمته ‪ ،‬أي إنه ل يعيش لنفسه ‪ ،‬ول يعيش لهوائه ول لنزواته‬
‫‪ ،‬وإنما يعيش لله ولعباد الله ‪ ،‬ويعيش لهذه الرسالة ‪.‬‬
‫سره الله جل وعل فهو‬ ‫فاللهم عونك ‪ ،‬فإن المر صعب ‪ ،‬وكل صعب إذا ي ّ‬
‫يسير ‪ ،‬فاسألوا الله التيسير ‪ ،‬وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(9 /‬‬

‫تفسير سورة ) ص (‬
‫الجمعة ‪ 29‬ذي الحجة ‪ 9 / 1397‬كانون الول ‪1977‬‬
‫) ‪ 5‬من ‪( 5‬‬

‫‪141‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫م بأطراف الحديث عما تبقى من سورة ( ص) ‪ ،‬وسأكون‬ ‫أرجو اليوم أن أل ّ‬
‫بذلك قد قطعت مرحلة طيبة بحمد الله تعالى ‪ ،‬استعرضت فيها المراحل‬
‫الولى للدعوة السلمية في الفترة المكية ‪ ،‬وأتوقع أنني سأريح نفسي فترة‬
‫مناسبة بعد ذلك ‪ ،‬بعد أن أخذنا وعدا ً من أخينا الشيخ عبد القادر بأن يتحمل‬
‫بعض الواجب عليه وعلى القادرين من الخدمة اللزمة لهذه المة في وقت‬
‫عصيب للغاية يتقاضى كل قادر على العطاء أن يبذل ما عنده على القل لكي‬
‫يبرئ ذمته أمام الله تعالى ولكي يسعى لفك رقبته من النار ‪.‬‬
‫فأقول مستعينا ً بالله تعالى ‪ ،‬إن الذي عرضناه عليكم في الجمعة الماضية‬
‫على الخصوص وفيما سبقها بعامة يشير إلى أمر ذي أهمية شرحناه لكم‬
‫بالتفصيل ول مانع من أن نعيد التذكير بفكرته العامة ‪ .‬ولقد رأيتم أثناء تحليلنا‬
‫لسورتي القمر وصاد أنهما تتعاوران على قضية واحدة وعلى إبراز درس‬
‫واحد بصورة رئيسية وهو أن تحث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن‬
‫تحث المؤمنين العاملين على طريقه بأن ل يسمحوا لضغوط الحداث ول‬
‫لمنغصات الدنيا ول للظواهر البشعة التي تظهر من الناس استجابة رديئة‬
‫لهذه الدعوة أن تنزلهم عن الفق الرفيع الذي وضعهم فيه ربنا تبارك‬
‫وتعالى ‪ ،‬لن الصل أن السلم ل يجوز أن يتلون بألوان الذاتيات التي‬
‫تحمله ‪ ،‬ول يجوز بتاتا ً أن تتدخل نوازع النفس بالتحكم بقوانين الدعوة‬
‫وبطرائق الدعوة ‪ ،‬فهناك عزل كامل بين ما نريد نحن وما يريد الله تعالى ‪،‬‬
‫وفرق ما بين المؤمن كامل اليمان والمؤمن ضعيف اليمان ‪ ،‬وفرق ما بين‬
‫المؤمن العارف بمرادات الله جل وعل والمؤمن ضعيف المعرفة بهذه‬
‫طن النسان نفسه لكي يكون وفيا ً وفاًء مطلقا ً‬ ‫المرادات هو هذا ‪ ،‬هو أن يو ّ‬
‫لما أراد الله تعالى ‪ ،‬برغم كل ما يعترضه في الطريق ‪ ،‬وبرغم كل ما تجيش‬
‫به نفسه من المثبطات والمعوقات والمزعجات ‪.‬‬
‫ً‬
‫وذلك شيء اتضح بصورة رئيسية في الجمعة الماضية جزءا من قصة داوود‬
‫عليه السلم التي أمر الله محمدا ً صلوات الله عليه أن يصبر على ما يقول‬
‫ملك المؤيد‬ ‫المشركون ‪ ،‬وأن يذكر داوود ‪ ،‬فداوود عليه السلم برغم هذا ال ُ‬
‫من الله تعالى الذي آتاه الله إياه ‪ ،‬وبرغم مما جبله الله عليه على سنة‬
‫النبياء من طهارة النفس وسلمة الوجدان والقدرة على تخطي الصعوبات‬
‫فإن الله تعالى حفاظا ً على هذه القاعدة المنتجة التي تقتضي من العامل في‬
‫سبيل الله بعدا ً وارتفاعا ً عن كل أشياء الدنيا ‪ ،‬إن الله كما رأيتم عاتب داوود‬
‫عليه السلم عتابا ً مرا ً ومشوبا ً بالتهديد حينما سمع قصة الخصمين وأذن‬
‫لواحد ولم ينتظر أن يدلي الخصم الخر بحجته ‪ ،‬فنطق بالحكم قبل ذلك ‪،‬‬
‫فعاتبه الله جل وعل ‪ ،‬وأشار إلى ما فعل بأنه الفتنة ) وظن داود أنما فتناه‬
‫فاستغفر ربه وخّر راكعا ً وأناب فغفرنا له ذلك ( ‪.‬‬
‫لكن المسألة لم تنتهِ في سياق التنزيل عند هذا الحد ‪ ،‬فكل شيء من هذا‬
‫القبيل على سنة القرآن المعهودة ل بد أن يليها الدرس ‪ ،‬فالله جل وعل بعد‬
‫كر داوود عليه السلم بموقعه من دين الله ‪ ،‬وبمسؤوليته التاريخية‬ ‫ذلك ذ ّ‬
‫بالنسبة إلى رسالة الله جل وعل ) يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض (‬
‫ت إنسانا ً من الناس العاديين ‪ ،‬ولكنك قّيم على دين الله ‪ ،‬وهذا‬ ‫فأنت لس َ‬
‫يتقاضاك أن تنطق بلسان الله وأن تعمل بما يرضي الله ‪ ،‬وأن تكف عن‬
‫التعجل والنزق كالذي كان منك في قصة الحكمين ) يا داود إنا جعلناك خليفة‬

‫‪142‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫في الرض فاحكم بين الناس بالحق ول تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله (‬
‫فثمة أمران في إدارة شئون البشرية وتخليص أمور الناس ‪ ،‬حق وباطل‬
‫فق من الشيئين شيء جديد ‪ ،‬فالذي يكون‬ ‫وشريعة وهوى ‪ ،‬ول مجال لن ُيل ّ‬
‫مع الحق يبعد بكل تأكيد عن الهوى ‪ ،‬والذي يتلبس بالهوى ينسلخ بكل تأكيد‬
‫عن الحق ‪.‬‬
‫ولهذا كان شعار المؤمنين المتقين الميل مع الحق ورفض كل دواعي الهوى ‪،‬‬
‫وليس بعيدا ً عن أذهانكم قصة المرأة المخزومية التي سرقت في زمن النبي‬
‫م المسلمين أمرها ‪ ،‬لنها من عائلة وقبيلة لها في‬ ‫صلى الله عليه وسلم فأه ّ‬
‫ً‬
‫الشرف والرياسة جاهلية وإسلما نصيب موفور ‪ ،‬فتشاوروا فيمن يكلم‬
‫رسول الله فقالوا ‪ :‬من يقدر على ذلك إل أسامة بن زيد حب رسول الله‬
‫وابن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ .‬فلما كلمه غضب النبي عليه‬
‫الصلة والسلم غضبا ً شديدا ً وقال له ‪ :‬يا أسامة أتشفع في حدٍ من حدود الله‬
‫؟ وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫فالمسألة مسألة حق ‪ ،‬ويوم يميل الناس عن الحق يقعون في الهوى ‪،‬‬


‫والهوى كما قال الله في خاتمة الية ) فل تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله‬
‫إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (‬
‫فالمسألة ليست بالنسبة إلى داوود عليه السلم ول بالنسبة لمحمد عليه‬
‫السلم ول بالنسبة إلى كل داٍع إلى الله مجرد درس ُيلقى ثم يسدل الستار‬
‫بعد ذلك على الواقعة ‪ ،‬ولكن قضية تهديد مرعب يقول الله فيه ) إن الذين‬
‫يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ( وفي قوله‬
‫تعالى ) بما نسوا يوم الحساب ( إشارة إلى أن ميل الناس مع الهوى ل يكون‬
‫أبدا ً من الناس الذين يذكرون الله والدار الخرة ‪ ،‬لن الباء هنا المتصلة بما‬
‫هي باء السببية ‪ ،‬أي أن الذين يضلون عن سبيل الله لهم هذا العذاب الشديد‬
‫ت إنسانا ً يترك الحق الواضح‬
‫بسبب نسيانهم ليوم الحساب ‪ ،‬فحيثما وجد َ‬
‫ليأخذ بأسباب الهوى تحت أية ذريعة من الذرائع فلك أن تحكم بكل اطمئنان‬
‫أن هذا النسان نسي الله تبارك وتعالى ونسي المنقلب والمصير إليه ‪ ،‬أي‬
‫نسي الدار الخرة ‪.‬‬
‫ثم جاءت اليات بعد ذلك تردف بين هذه القضية والنظام الكوني برمته ‪،‬‬
‫للدللة على أن التوجيهات الربانية المتمثلة في شريعة السلم النازلة على‬
‫ألسنة النبياء جميعا ً هي جزء من النظام الكوني ‪ ،‬بمعنى أن الخلل به ُيحدث‬
‫من حيث النتائج المترتبة عليه حكما ً ما يترتب على اختلل الشمس أو القمر‬
‫أو اختلل أي ناموس من النواميس التي تحكم هذا الكون العظيم ‪ .‬فكما أن‬
‫هذا الختلل يؤدي إلى انهيار كامل في النظام الكوني فكذلك الخلل بشريعة‬
‫الله جل وعل يؤدي إلى الفساد الذي هو قرين الخلل بالنظام ‪ ،‬أي أنه يلغي‬
‫الحياة البشرية بإلغائه للغاية من الحياة البشرية ‪ ،‬وهذا هو ما يتحصل لقارئ‬
‫القرآن الممعن في التفهم حين يقف عند قوله تعالى ) وما خلق السماء‬
‫والرض وما بينهما باطل ً ذلك ظن الذين كفروا ( هذا مما يخطر على بال‬
‫الكافرين ‪ ،‬ولكن المؤمنين ل يأتيهم هذا الخاطر إلى ظنهم أبدا ً ) فويل للذين‬
‫كفروا من النار ( ‪.‬‬
‫ثم ل يقتصر الدرس بعمقه وبعنفوانه عند هذا الحد ‪ ،‬وإنما يلفت الله تعالى‬
‫النظار إلى أمر ذي أهمية حاسمة في مجال الصلح والطلح في مجال الخير‬

‫‪143‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والشر في مجال الستقامة والفساد ) أم نجعل الذين آمنوا وعملوا‬


‫الصالحات كالمفسدين في الرض أم نجعل المتقين كالفجار ( هذا تساؤل‬
‫يسمى في علوم اللغة سؤال ً إنكاريا ً ‪ ،‬أي أن هذا ل يكون ‪ .‬ماذا ُيفهم من ذلك‬
‫؟ ان الله تعالى ليس فقط في الخرة ل يسوي بين المجرم وبين المؤمن ‪،‬‬
‫ول يسوي بين التقي وبين الشقي ‪ ،‬وإنما أيضا ً في هذه الحياة الدنيا كما جاء‬
‫ذلك مصرحا ً به في مواضع عدة من كتاب الله ) سواء محياهم ومماتهم ساء‬
‫ما يحكمون ( فالشيء المعروف أن الناس صنفان ‪ :‬صنف شقي ومجرم‬
‫ورافض لهداية الله تعالى ‪ ،‬وصنف مؤمن تقي مستمسك بما جاء من عند‬
‫الله تبارك وتعالى ‪ .‬وباستعراض حياة الصنفين تبين أن الصنف المؤمن‬
‫الواقف مع المر والنهي والوفي لشريعة الله جل وعل يتمتع بنمط من الحياة‬
‫يفتقر إليه ذلك الصنف الخر المجرم الشقي ‪.‬‬
‫فالمؤمن إنسان مطمئن النفس هادئ البال مرتاح الضمير ميسر المور ‪.‬‬
‫والشقي المجرم الكافر إنسان قلق معذب ممزق معسر المور ‪ .‬ذلك شيء‬
‫يجده النسان بنفسه ويجده فيما حوله ‪ ،‬ولفت النظر إلى هذه القضية لفت‬
‫نظر إلى قضية تربوية تتصل بذات الشريعة وبصميم المنهج السلمي ‪،‬‬
‫فالذي ُيعرف الن وفي كل وقت أن الناس المؤمنين يجدون هذا الشيء في‬
‫أنفسهم ويحمدون الله تعالى عليه ‪ ،‬فكم من مرات وجد النسان المؤمن‬
‫نفسه أمام جدار مطبق في طريق مسدود ‪ ،‬وكم من مرة وجد النسان‬
‫نفسه أمام مزعجات ومنغصات وأمام كوارث وأهوال ‪ ،‬وفي الحساب العقلي‬
‫يتبين أن النتائج محسومة وأنها خراب ودمار ‪ ،‬لكن الله اللطيف الخبير الذي‬
‫كتب أنه غالب على أمره والذي كتب أنه سيغلب هو ورسله والداعون إلى‬
‫الحق يفرج المور من حيث يدري أحد ) ومن يتق الله يجعل له مخرجا ً‬
‫ِ‬
‫ويرزقه من حيث ل يحتسب ( ) ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ً‬
‫ويعظم له أجره ( فهذا شيء ملحوظ ‪ .‬على العكس مما تلحظه في‬
‫الخرين ‪ ،‬فكم من إنسان استمرأ طعم الشهوة وذاق طعم نفسه واسترسل‬
‫وراء الغوايات وظن أن الدنيا دانت له وأن المور ُذللت بين يديه وأنه ل‬
‫إزعاج ول تنغيص ول كوارث ول شيء من هذا القبيل ‪ ،‬وفجأة ترى العزيز في‬
‫غاية الذلة والمهانة ‪ ،‬والغني الغني يتكفف الناس من الفقر والحاجة ‪،‬‬
‫والشريف الشريف تراه مدفوعا ً في البواب ‪ ،‬لماذا ؟ لنها هي العاقبة التي‬
‫قررها الله تعالى في هذا الكلم الذي قاله ) أم نجعل الذين آمنوا وعملوا‬
‫الصالحات كالمفسدين في الرض أم نجعل المتقين كالفجار ( ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ومن هنا تجدون النسان حينما يضع نفسه في طريق اليمان ويأسر ذاته على‬
‫طاقة الله تعالى وتترسخ في صميمه دعائم التقوى ومخافة الله جل وعل‬
‫يزداد مع اليام بصيرة من أمره ووضوحا ً واستقامة على طريقته لنه يجد‬
‫بركة ذلك في نفسه ‪ ،‬وعلى ذلك فل داعي للنقاش حول صحة الطريق وعدم‬
‫صحته طالما أن النسان يجد دليل ذلك ومصداق ذلك وشاهد ذلك في داخل‬
‫نفسه ‪.‬‬
‫بعد هذا الكلم تأتي قصة سليمان عليه السلم ‪ ،‬ولي وقفة قصيرة عندها ‪،‬‬
‫فالله تعالى ذكر في هذه السورة فقال ) ووهبنا لداود سليمان ( وداوود حكم‬
‫بني إسرائيل أربعين سنة ‪ ،‬وجاء سليمان وليا ً للعهد ‪ ،‬وتولى الملك ملكا ً‬
‫موطد الدعائم ومشيد الركان ‪ ،‬وفي زمن سليمان عليه السلم اتسعت‬

‫‪144‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫مملكة بني إسرائيل غاية التساع ولم تشهد توسعا ً من هذا النوع بعد هذا‬
‫التاريخ أبدا ً ‪ .‬فإن ملك سليمان امتد اعتبارا ً من شمال الجزيرة العربية إلى‬
‫أجزاء شرقية وإلى مناطق الشام وفلسطين وإلى الفرات ‪ ،‬والله جل وعل‬
‫شد ملكه جدا ً وسخر له ما سخر مما ذكر لنا في السورة الكريمة ‪ ،‬لكن الله‬
‫جل وعل ذكر أمورا ً ينبغي أن نزيل عنها البهام قال ) ووهبنا له سليمان نعم‬
‫العبد إنه أواب ( كثير الرجوع إلى الله تعالى مستغفرا ً وتائبا ً ومنيبا ً ) إذ عرض‬
‫عليه بالعشي الصافنات الجياد ( أي الخيل ) فقال إني أحببت حب الخير عن‬
‫ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ‪ ،‬ردوها عليه فطفق مسحا ً بالسوق والعناق ‪،‬‬
‫ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ً ثم أناب ‪ ،‬قال ربي اغفرلي‬
‫وهب لي ملكا ً ل ينبغي لحد من بعدي إنك أنت الوهاب ( في هذا المجال‬
‫ومرة أخرى نقول للسف فإن كتب التفسير معظمها يجيء مشحونا ً بروايات‬
‫تسربت عن أهل الكتاب وأخذها المسلمون بحسن النية كحوادث تروى ‪،‬‬
‫ولكن المتأخرين أدخلوها في كتب التفسير ل على أنها هي ما أراد الله‬
‫بالفعل ولكن كلون من ألوان الفهم لظلل اليات الواردة ‪ ،‬من هذه الشياء‬
‫التي وردت أن سليمان عليه السلم حينما أراد الله امتحانه وابتلءه كان‬
‫ملكه في خاتمه ‪ ،‬ومن هنا القصة الخرافية التي تشيع بين الناس عن خاتم‬
‫سليمان ‪ ،‬وهي قصة ل أصل لها ‪ ،‬أنه إذا كان أراد الذهاب إلى الخلء وضع‬
‫خاتمه عند أم ولد له تسمى أمينة ‪ ،‬وفي مرة من المرات وضع الخاتم عند‬
‫هذه المرأة ودخل بيت الخلء ولما كان هناك جاء الشيطان متمثل ً في صورة‬
‫سليمان وقال ‪ :‬خاتمي ‪ ،‬فأعطته الخاتم ‪ ،‬فلما أعطته الخاتم ألقى الله عليه‬
‫شبه سليمان ودان له البشر ودانت له الجن ودان له الطير ‪ ،‬وجاء سليمان‬
‫فقال للمرأة ‪ :‬أعطني خاتمي ‪ ،‬قالت ‪ :‬أخذته ‪ .‬وتنكر الناس من سليمان‬
‫وذهب ‪ ،‬ودامت الفتنة أربعين يوما ً وأصبح الناس يرجمونه بالحجارة حتى‬
‫ألجأوه إلى شاطئ البحر ‪ ،‬وكان هناك ناس يصيدون السمك فأصبح يخدمهم‬
‫ويعينهم على ما هم فيه ‪ ،‬وحين أراد الله جل وعل أن يرفع عن سليمان هذه‬
‫المحنة كان هؤلء السماكون يعطونه كل يوم سمكتين كأجر ‪ ،‬فشق بطن‬
‫إحدى السمكتين ليأكلها فوجد فيه الخاتم بعد أن طار الشيطان وألقى الخاتم‬
‫في البحر ‪ ،‬فلبسه وعاد إليه ملكه ‪.‬‬
‫هنالك حوادث أخرى أن حكماء بني إسرائيل استنكروا من الشيطان الذي‬
‫ألقي عليه شبه سليمان بعض التصرفات ‪ ،‬فلما سألوا نساءه ‪ ،‬قالوا إنه ل‬
‫يغتسل من جنابة ول يمتنع عن امرأة في دورتها ‪ ،‬فعرفوا أنها الفتنة ‪ .‬نقول‬
‫تعقيبا ً على ذلك ‪ ،‬إن هذا ل يقع في الذهان ‪ ،‬فأنبياء الله معصومون ‪ ،‬ولكن‬
‫بني إسرائيل في الحقيقة ل يعتقدون أن سليمان نبي من النبياء ‪ ،‬وإنما‬
‫يقولون إنه ملك ‪ ،‬ويقولون هو ساحر ‪ ،‬وفي سورة البقرة حديث عن هذا‬
‫الكلم ) واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن‬
‫الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت‬
‫وماروت ( إلى آخر هذا الكلم ‪ ,‬بيانا ً لنوع من أخطاء بني إسرائيل التي‬
‫تورطوا فيها بعد سليمان عليه السلم ‪ ،‬نقول إن هذا ل يقع في الفهم لعصمة‬
‫النبياء ‪ ،‬ولمر آخر بالغ الهمية ‪ ،‬فإذا كنا نتصور أنه من الممكن أن يتلبس‬
‫الشيطان في صورة نبي من النبياء فأية ثقة تبقى بعد ذلك في مقالت‬
‫النبياء ؟ أليس من الجائز أن يتلبس الشيطان بصورة موسى وعيسى ومحمد‬
‫وغيرهم من النبياء عليهم الصلة والسلم ‪ ،‬فكلم من هذا النوع إذا ً يتناول‬
‫أمرا ً اعتقاديا ً ل يجوز معه الركون إلى مرويات الكذبة والجَرآء على الله‬
‫وعلى أنبيائه الله من بني إسرائيل ‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫ولذلك نحن في حل من رفضها ابتداءا ً ونعود لنسجل أسفنا لما أدخل بعض‬
‫المفسرين عن حسن نية من هذه المرويات في كتب التفسير ‪ ،‬ويبقى‬
‫عرض في هذه القضية أمران ‪ ،‬ثانيهما أقرب‬ ‫السؤال ‪ :‬ما هي الفتنة ؟ إنه ُ‬
‫إلى المعقول من الخر ويسنده المنقول كما سوف ترون ‪ .‬حينما نظر‬
‫المفسرون في أوائل الكلم عن سليمان وما قال الله جل وعل من حبه‬
‫للخيل الجياد ) إذ عرض عليه بالعشي الصافيات الجياد ‪ ،‬فقال إني أحببت‬
‫حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ‪ ،‬ردوها عليه فطفق مسحا ً‬
‫بالسوق والعناق ( في كلم العرب ما يشير إلى أن المسح ُيستعمل أيضا ً‬
‫في الضرب بالسيف ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إن الفتنة كانت أن سليمان عليه السلم ككل‬
‫الملوك كان عنده استعراض لقواته ‪ ،‬والخيل ول سيما الجياد منها هي العدة‬
‫القاهرة التي تساوي أحدث المكتشفات في عصرنا الحاضر ‪ ،‬فكان‬
‫استعراض الخيل معجبا ً ومزهوا ً ‪ ،‬وظل يستعرض الخيل حتى توارت بالحجاب‬
‫‪ ،‬أي غابت الشمس ‪ ،‬ولم يكن قد صلى العصر ‪ ،‬فانتبه لذلك وقال ‪ :‬ردوها‬
‫علي ‪ ،‬أي ردوا الخيل علي ‪ ،‬فطفق مسحا ً بالسوق والعناق ‪ ،‬أي أنه عاقب‬
‫الخيول بسيفه وقطع أعناقها لنه ألهته عن الصلة ‪ ،‬فهموا ذلك من قول الله‬
‫) إني أحببت الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ( ولكننا ل نستطيع‬
‫كأسلوب من أساليب الفهم لكتاب الله أن نطمئن اطمئنانا ً كامل ً وأن نثق ثقة‬
‫مطلقة لتأويل من هذا القبيل لماذا ؟ للتي ‪ :‬أول ً ‪ :‬إن المسح بالسوق‬
‫والعناق كلما ً يحتمل الكناية عن الصل ‪ ،‬وكلما ً يحتمل المسح العادي على‬
‫سوق الخيل والعناق للتدليل والعجاب ‪ ،‬فلما كان الكلم محتمل ً سقط به‬
‫الستدلل وبطل به الحتجاج ‪.‬‬
‫والثاني ما يتأتى من فهم كلمة ) عن ( فمن الجائز لغة وهي اللغة التي نزل‬
‫بها القرآن أن نفهم ‪ :‬إني أحببت حب الخير حتى ألهتني عن ذكر ربي ‪ .‬ومن‬
‫الجائز أيضا ً أن نفهم التي ‪ :‬إني أحببت حب الخير بسبب ذكري لربي ‪،‬‬
‫ويكنى عن ذكر الله هنا عن الجهاد في سبيل الله ‪ ،‬أي أنني لم أحب الخيل‬
‫المعّبر عنها بالخير وهي المال الكثير إل أن الله أمرني بجهاد العداء وهو أمر‬
‫عن أمر الله جل وعل حتى توارت بالحجاب ‪ ،‬أي غابت الخيل عن النظار ‪.‬‬
‫وهذا محتمل في لغة العرب ‪.‬‬
‫فالتأويل ليس قاطعا ً ‪ ،‬وحينما نرجع إلى المرويات نجد أن الفتنة ليست هي‬
‫ل سليمان العصر ‪ .‬فنبينا محمد‬ ‫المرادة بهذا حتى ولو غابت الشمس ولم يص ِ‬
‫شغل في غزوة الخندق عن الصلة حتى قال ‪ :‬لقد‬ ‫عليه الصلة والسلم ُ‬
‫ً‬
‫شغلونا عن صلة الوسطى صلة العصر مل الله قلوبهم وقبورهم نارا ‪ .‬ولم‬
‫يترتب على ذلك من الله عتاب ‪ .‬ولم يعبر عن ذلك بفتنة لنه أمر عادي ‪ .‬وإذا‬
‫النسان كان في غمرة الشغل ونسي واجبا ً من الواجبات فل يعّرض‬
‫للمؤاخذة ‪ ،‬لن الله تجاوز عن الناس فيما نسوه ‪ ،‬ولكن يؤاخذ عن فعل‬
‫العمد ‪.‬‬
‫حينما نرجع إلى المرويات نجد البخاري ومسلم قد أخرجا في صحيحيهما عن‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم أن سليمان عليه السلم كانت له نساء كثيرات ‪،‬‬
‫فقال يوما ً ‪ :‬لطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل واحدة منها فتلد‬
‫مولودا ً ذكرا ً يشب ليقاتل في سبيل الله ‪ ،‬ولم يقل إن شاء الله ‪ .‬فلم تحمل‬
‫من السبعين إل امرأة ‪ ،‬وحينما ولدت جاءت بطفل ً مشوه الخلقة وهذا هو‬
‫الذي جيء به فألقي على كرسي سليمان ‪ .‬هل تحتاج المسألة إلى عتاب إذا‬

‫‪146‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫لم يقل إن شاء الله ؟ أقول ‪ :‬نعم ‪ .‬فثمة حادث مشابه في سيرة نبينا محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم وذلك حينما سأله المشركون عن بعض المسائل ‪ ،‬قال‬
‫سأجيبكم غدا ً ‪ ،‬ولم يقل إن شاء الله ‪ .‬فتلّبث الوحي وأرجف الناس أن‬
‫محمدا ً يكذب ‪ ،‬لنه قال بأنه سيخبرنا غدا ً ولم يخبر ‪ ،‬فمعنى ذلك أن ما‬
‫يتحدث به عن الوحي كلم ل قيمة له وكلم مختلق ‪.‬‬
‫حتى مضت خمسة عشر يوما ً بالتمام فجاءه الوحي من الله تعالى ) ول‬
‫تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ً إل أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل‬
‫عسى ربي أن يهديني لقرب من هذا رشدا ً ( ثم جاءه الجواب فيما سأله‬
‫المشركون ‪.‬‬
‫ً‬
‫قول النسان سأفعل ذلك غدا وسأقول ذلك بعد قليل دون أن يرد ّ ذلك إلى‬
‫قدرة الله الذي بيده فقط أنفاس النسان وإمكانات النسان لون من نسيان‬
‫الله تعالى ويستحق عليه النسان المعاتبة ‪.‬‬
‫وإذا ً فخطأ سليمان كان في هذا ‪ ،‬وبعد أن يرد النص عليها مشروحا من النبي‬
‫ً‬
‫عليه الصلة والسلم فل معنى أن يذهب أي إنسان للتماس التأويلت من أي‬
‫مصدر آخر على الطلق ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫فإذا تركنا قصة سليمان جاءتنا قصة أيوب وهو مثال الصبر ‪ ،‬ثم جاءتنا قصص‬
‫أخرى ) واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي اليدي والبصار ‪ ،‬إنا‬
‫فين الخيار ( أي أن‬ ‫أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ‪ ،‬وإنهم عندنا لمن المصط َ‬
‫الله تعالى أخلصهم لنفسه وزاد التصاقهم بشرعه وجعلهم مذكورين في الدنيا‬
‫إلى أن تقوم الساعة وأوجب لهم المقام المحمود يوم القيامة بخالصة ‪ ،‬يعني‬
‫بخصلة خالصة وهي أنهم يذكرون الله جل وعل ) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى‬
‫الدار ‪ ،‬وإنهم عندنا لمن المصطفين الخيار ‪ ،‬واذكر إسماعيل واليسع وذا‬
‫الكفل وكل من الخيار ‪ ،‬هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب ( أي أن هذا‬
‫القرآن ذكر وموعظة للناس ) جنات عدن مفتحة لهم البواب ‪ ،‬متكئين فيها‬
‫يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب ‪ ،‬وعندهم قاصرات الطرف أتراب ‪ ،‬هذا ما‬
‫توعدون ليوم الحساب ( ثم ما جاء بعد ذلك عن أهل النار ) هذا وإن للطاغين‬
‫لشر مآب ‪ ،‬جهنم يصلونها فبئس المهاد ‪ ،‬هذا فليذوقوه حميم وغساق ‪ ،‬وآخر‬
‫من شكله أزواج ( لماذا جاء هذا الكلم ؟ كلم يترجم عما أعده الله للصنفين‬
‫يوم القيامة ‪.‬‬
‫جنات عدن ونعيم مقيم للمتقين ‪ ،‬وعذاب مهول للكافرين ‪ ..‬من أين جاء‬
‫العلم لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو خبر ل يتأتى العلم به من التجارب‬
‫البشرية ‪ ،‬ومن ل استعراض حوادث التاريخ ول من أي شيء آخر ‪ ..‬إنه إذا ً‬
‫جاء دليل ً على أن ما يتلوه محمد على الناس من عند الله تعالى ‪.‬‬
‫أيضا ً ) هذا فوج مقتحم معكم ل مرحبا ً بهم إنهم صالو النار ‪ ،‬قالوا بل أنتم ل‬
‫مرحبا ً بكم أنتم قدمتوه لنا فبئس القرار ‪ ،‬قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده‬
‫عذابا ً ضعفا ً في النار ( من أين جاء العلم بهذا الجدل الذي يكون بين الرؤساء‬
‫والتباع ‪ ،‬وكم سيكون جدل ً مخيفا ً بين الرؤساء والغرار من التباع يوم‬
‫القيامة ولكن في النار ‪ ،‬من أين جاء العلم ؟ جاء من عند الله ‪ ،‬إذا ً فذلك‬
‫دليل على دليل على أن ما يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم إخبارا ً من الله‬
‫وهو ُيسلك في قائمة الدلة على ربانية المصدر الذي يصدر عنه الكتاب‬
‫الكريم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ثم أيضا ً ) وقالوا ما لنا ل نرى رجال ً كنا نعدهم من الشرار ‪ ،‬أتخذناهم سخريا ً‬
‫أم زاغت عنهم البصار ‪ ،‬إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ( وما أحرى المسلم‬
‫أن يقف طويل ً عند هذا الكلم ‪ ،‬إن ناسا ً كثيرين أخذتهم الدنيا وانشغلوا‬
‫بالمناصب وتعززوا بالقوة الناقصة بقوة المخلوق الضعيف المغلوب ‪ ،‬واحتقر‬
‫الناس واحتقر المؤمنين ‪ ،‬أذلك يذهب هباًء في كون عظيم ؟ ل ‪ ،‬إن هؤلء‬
‫الناس في النار والجحيم يتساءلون ‪ :‬ما لنا ل نرى بلل ً وعمارا ً وصهيبا ً من‬
‫الناس الذين كنا نقول عنهم ‪ :‬من هذا وما قيمة هذا ؟ هؤلء أشرار الناس‬
‫غافلين عن أن الموازين والمعايير في شرع الله ل تقاس وفاقا ً إلى ما يبتلي‬
‫به الله الناس من أنواع المحن ‪ ،‬وإنما يقاس بالفضائل النسانية والكمالت‬
‫البشرية ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫ثم يأتي السياق بعد ذلك إلى أمر يعود على أول السورة ‪ ،‬إن المشركين‬
‫عموما ً الذين سخروا من محمد سخروا من قبله برسل الله جميعا ً ‪ ،‬وحينما‬
‫عرضنا لفاتحة سورة صاد وجدنا أن من أهم السباب التي حددت للمشركين‬
‫مواقفهم الشائنة من أنبياء الله ترتد إلى عامل الحسد ‪ ،‬ومن هنا جاء كلم‬
‫الله في آخر السورة ليلفت المؤمنين إلى هذه الرذيلة التي سببت شقاًء‬
‫طويل ً للجنس البشري وسببت طردا ً أبديا ً لبليس الذي كان من خيرة عباد‬
‫الله ‪ ) .‬قل هو نبأ عظيم ‪ ،‬أنتم عنه معرضون ‪ ،‬ما كان لي من علم بالمل‬
‫العلى إذ يختصمون ( الخصومة القائمة في السماء عند الله ) إن يوحى إلي‬
‫إل أنما أنا نذير مبين ( لست إل واحدا ً منكم ل أعلم أكثر مما تعلمون ‪ ،‬وما‬
‫جئت به فهو من الله وليس من عندي ) إذ قال ربك للملئكة إني خالق بشرا ً‬
‫من طين ‪ ،‬فإذا سويته ونفخت فيه من رحي فقعوا له ساجدين ‪ ،‬فسجد‬
‫الملئكة كلهم أجمعون ‪ ،‬إل إبليس استكبر وكان من الكافرين ‪ ،‬قال يا إبليس‬
‫ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين ‪ ،‬قال أنا‬
‫خير منه خلقتني ( هذه الكلمة التي يتوّرط فيها كثير من المسلمين ‪ ،‬أنا خير‬
‫من فلن ‪ ،‬ويحك ما أدراك أنك خير منه ؟ إن المعول على ما هو عند الله ‪ ،‬ل‬
‫على الثياب الجميلة ول على الوجه البراق ول على الصحة الفارهة ول على‬
‫الجيوب المحشوة ول على الكراسي ول على السلطان العظيم ول على‬
‫الجاه العريض ‪ ،‬إن المعول على ما عند الله ) قال أنا خير منه خلقتني من‬
‫نار وخلقته من طين ‪ ،‬قال فاخرج منه فإنك رجيم ‪ ،‬وإن عليك لعنتي إلى يوم‬
‫الدين ‪ ،‬قال ربي فأنظرني إلى يوم يبعثون ‪ ،‬قال فإنك من النمظرين ‪ ،‬إلى‬
‫يوم الوقت المعلوم ‪ ،‬قال فبعزتك لغوينهم أجمعين ‪ ،‬إل عبادك منهم‬
‫المخلصين ( يعني إبليس أستاذ الكافرين جميعا ً في القديم والحديث إلى أن‬
‫تقوم الساعة يقسم بعزة الله واعتراف صريح بأنه مخلوق لله وبأن الله هو‬
‫الرب ‪ ،‬فإذا ً هؤلء الوباش الفاسدون الساقطون الذين يتصورون اليوم أن‬
‫ف لفهم‬ ‫الناس لم يخلقهم الله شر من إبليس ‪ ،‬طوائف الشيوعيين ومن ل ّ‬
‫خلق هكذا وأن النسان هو سيد نفسه ورب نفسه‬ ‫ممن يزعمون أن الكون ُ‬
‫شر من إبليس ‪ ،‬فإبليس أستاذ الكل من هذا الركب الوسخ يعترض ويقسم‬
‫بعزة الخالق ) قال فبعزتك لغوينهم أجمعين ‪ ،‬إل عبادك منهم المخلصين ‪،‬‬
‫ن جهنم منك ممن تبعك منهم أجمعين ( ما‬ ‫قال فالحق والحق أقول ‪ ،‬لمل ّ‬
‫الذي أفسد إبليس ؟ الحسد ‪ .‬ما الذي منع المكذبين في المم السابقة أن‬
‫يصدقوا بأنبياء الله رغم وضح الحجة واستقامة الدليل في النفس والفاق ؟‬

‫‪148‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الحسد ‪ .‬ما الذي حمل أبا جهل وأضرابه على الوقوف من محمد صلى الله‬
‫عليه وسلم موقف العناد والتكذيب ؟ الحسد ‪ ) .‬وقالوا لول أنزل هذا القرآن‬
‫على رجل من القريتين عظيم ( وجاء رجل من المشركين إلى أبي جهل‬
‫فقال ‪ :‬يا أبا الحكم أتظن أن محمدا ً يكذب ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬ولكنا تزاحمنا نحن‬
‫وبنو هاشم في الجاهلية فأطعموا وأطعمنا وسقوا وسقينا وحملوا وحملنا‬
‫فلما قالوا منا نبي أنى يكون لنا مثل ذلك ‪ .‬وإذا ً فهو الحسد الذي صد هؤلء‬
‫المكذبين عن سماع هداية الله ‪.‬‬
‫ولو أنك جئت الن إلى واقعنا المتخبط بالرذائل لوجدت الحسد يلعب دوره‬
‫المقيت في هذه الظاهرة أيضا ً ‪ .‬أما أعرف أن فلن تقي في نفسه مستقيم‬
‫في سلوكه يدعو إلى الحق وإلى الصراط المستقيم ولكن أتساءل ‪ :‬لماذا ل‬
‫أكون أنا الذي أتصدى لهذا المر ؟ وإذا ً فأنا ل أتبع فلنا ً ‪ .‬وهذا ليس من أخلق‬
‫المؤمنين ‪.‬‬
‫واليات التي خوتمت بها السورة آيات تلفت النظر إلى هذين المرين ‪ ،‬إلى‬
‫تعليل وبيان سبب التكذيب الذي ُووجهت به النبياء السابقة ‪ ،‬والتكذيب الذي‬
‫ُووجه به محمد صلى الله عليه وسلم من جهة ‪ ،‬وتنبيه إلى المؤمنين أن ل‬
‫يسقطوا فيما سقط به فإبليس وسقط فيها من بعده جميع المكذبين الضالين‬
‫من المم السابقة ‪.‬‬
‫فالسورة خوتمت بهذه اليات ‪ ،‬وهو كلم يأتي في صيغة المر التلقيني ‪..‬‬
‫خطابا ً لمحمد صلى الله عليه وسلم ليقول شيئين انتبهوا إليهما ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫) قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ‪ ،‬إن هو إل ذكر للعالمين‬


‫‪ ،‬ولتعلمن نبأه بعد حين ( الوصف الساسي للنبياء ومن يسيرون وراءهم في‬
‫الدعوة إلى الله أنهم يأخذون الجر على الدعوة ‪ ،‬وإنما يلتمسون الجر من‬
‫الله تعالى ‪ ،‬وجاء أحد الصالحين إلى أحد الخلفاء يأمره وينهاه ‪ ،‬فقيل له ‪:‬‬
‫سم ِ ما تريد ‪ .‬قال له ‪ :‬إنك ل تقدر على ما أريد ‪ .‬قال وأي شيء ل أقدر عليه‬
‫؟ إن السحابة تمر وتغيب ولكني واثق من أنها ستمطر في أرضي وسيأتيني‬
‫خراجها ‪ .‬قال ‪ :‬أنا أريد أن أعطيك الجنة فهل تستطيع أن تعطيني الجنة ؟ إن‬
‫النسان المؤمن أكبر من أعراض الدنيا وأشيائها فوقها جميعا ً ‪ .‬يطلب من‬
‫الله الرحمة وهذا بيد الله وحده ‪ ،‬ويطلب من الله الرضا وهذا بيد الله وحده ‪،‬‬
‫ويطلب من الله الجنة وهذا شيء ل يقدر عليه إل الله ‪ .‬وإذا ً فذلك هو وصف‬
‫لزم لنبياء الله جميعا ً ‪ ،‬ولكل داعية إلى الله أن يتقدم إلى الله إلى الله‬
‫مجردا ً من أية رغبة من أي شيء من أعراض الدنيا ‪.‬‬
‫والرسول صلى الله عليه وسلم أزال من أذهان المشركين أنه يريد من‬
‫دعوته شيئا ً ‪ ،‬ل أريد الجاه والسلطان ول الموال ول النساء ول أي شيء مما‬
‫تتصورون ‪ ،‬وإنما أجري على الله ‪.‬‬
‫ثم ) وما أنا من المتكلفين ( أي أنا ل أتكلف أي شيء ‪ ،‬وإنما أنا واحد منكم‬
‫بكل بساطة ‪ ،‬وإنما أصدع بالحق الذي أمرني به الله تعالى ‪.‬‬
‫) ولتعلمن نبأه بعد حين ( متى قال هذا الكلم ؟ قال هذا الكلم يوم كان‬
‫المسلم في مكة المكرمة يتخفى في صلته ‪ ،‬لنه لو رآه المشركون وهو‬
‫يصلي يؤذوه ‪ .‬حتى أن أحد المشركين رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي‬
‫فأخذ جزور بني فلن ووضعها على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫وهو ساجد ‪ ،‬وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم ساجدا ً حتى جاءت بنته‬

‫‪149‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فاطمة فأزالت القذار عن أبيها ‪ .‬أي أن المسلم كان في ذاك الزمان ُيعذب‬
‫ويطارد ويسفك دمه ‪ ،‬وبمجرد أنه ُيكتشف بأنه يصلي كان هذا اللم ينزل‬
‫ن نبأه بعد‬ ‫على محمد ويقوله محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين ) لتعلم ّ‬
‫حين ( ‪.‬‬
‫فهو إذا ً قوة الحق الذي ل ُيغلب ‪ ،‬يقوله الرسول عليه الصلة والسلم في‬
‫وجه القوة الجبارة كاشفا ً عن طمأنينة ل نهاية لها من أن العاقبة للتقوى ‪،‬‬
‫ومن أن النصر هو للسلم ومن أن الحزاب حتى ولو تحزبت من كل وجه‬
‫الرض لكي تقف في هذا النور ما أفلحت ‪.‬‬
‫فيا مسلمين يا من حملتم دعوة الله على رضا منكم أو كره ‪ ،‬يا من دعيتم‬
‫لحمل دعوة رسول الله ل يغرنكم ما ترون فيه أعداء الله من سلطان ومن‬
‫عز فذلك باطل ‪ ،‬والرجل الذي يرى نفسه غاية في القوة غاية في المنعة‬
‫غاية في العز ‪ ،‬من ورائه الجنود والجيوش المزيفة تأتيها اللحظة التي يفتش‬
‫فيها عن وسيلة لكي ينجو منها فل يجدها ‪ .‬وحسبكم أنكم رأيتموا من أناس‬
‫جّروا من أرجلهم كما تجر الكلب وألقوا في المزابل بعد العز والسلطان ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وبقيت كلمة الله ‪ .‬ل يتطرق الوهم والوهن إلى قلب أحدكم ‪ ،‬المهم هو أن‬
‫تكونوا واثقين بالله الذي ينصر المؤمنين ) إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في‬
‫الحياة الدنيا ويوم يقوم الشهاد ( في الحياة الدنيا ) وكان حقا ً علينا نصر‬
‫المؤمنين ( ويوم يقوم الشهاد يلقن الله حجتهم حتى يفيئوا برضاء الله تعالى‬
‫‪.‬‬
‫ولكن الذين تتضعضع عزائمهم وتخور قواهم أمام الصدمات يحتاجون إلى‬
‫دروس مطولة في الصبر على الخلص لله تعالى وهي ليست بالقليلة ‪.‬‬
‫وعسى أن يكون في استعراضنا لسورة صاد في هذه الجمعة وما سبقها‬
‫دروس تفيد المة لكي تعرف ان نصر الله مضمون ولكن ضمن شروط ‪،‬‬
‫نلخصها باختصار ‪:‬‬
‫ـ ثقة ل حد ّ لها بأن الباطل مهزوم ومخذول لنه ضد القانون الذي شرعه الله‬
‫تعالى في الكون ‪.‬‬
‫ـ عمل موصول من أجل أن يكون النسان أبدا ً ملتصقا ً بشريعة الله وفيا ً‬
‫لوامر الله ونواهي الله تعالى ‪.‬‬
‫ـ ُبعد عن الصغائر والسفاف ‪.‬‬
‫ـ إصرار على مواصلة الطريق رغم كل المثبطات والموئسات ‪.‬‬
‫ـ ثقة بغير حدود بهذا النصر الذي قال الله عنه ) ولتعلمن نبأه بعد حين ( ‪.‬‬
‫وبعد ذلك فإن الله يغّير بل شك ‪.‬‬
‫أسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا منتفعين نافعين ‪ ،‬وأسأله تعالى أن يجعلنا من‬
‫عباده الصالحين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ‪ ،‬وأسأله تعالى أن‬
‫ينير بنا جنبات النسانية التي أظلمت ‪ ،‬وأن يعيننا بحوله وبقوته وقدرته على‬
‫تصحيح ما يكتنف الناس اليوم من شبهات وأوهام ‪ ،‬إنه وحده المسؤول وعليه‬
‫وحده المعول ‪ ..‬وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين‬
‫والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة ص‬
‫الجمعة ‪ 8‬ذي الحجة ‪ 18 / 1397‬تشرين الثاني ‪1977‬‬
‫) من ‪( 2-5‬‬

‫‪150‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫فبالرغم من حرصنا في الجمعة الماضية على أن نعطي تلخيصا ً وافيا ً لسورة‬
‫) ص ( فإن ذلك لم يستيسر لنا لما كنا معنيين به من إبراز الفوارق بين هذه‬
‫ل من السورتين ذكر مفصل‬ ‫السورة والتي قبلها أعني سورة القمر ‪ ،‬ففي ك ٍ‬
‫إلى حدٍ ما لوقائع النبياء مع أممها وأقوامها ‪ ،‬ولكن عبقرية القرآن تتجلى في‬
‫كونه يسوق القصص الواحد في المواطن المتعددة لشتيت الغراض ‪ ،‬فركزنا‬
‫على هذه الناحية في الجمعة الماضية ولكن على حساب التلخيص اللزم‬
‫لسورة ) ص ( وهي السورة التي نواجهها اليوم والذي سيكون له من بعد‬
‫تفصيل بعد إجمال إن شاء الله تعالى ‪.‬‬
‫ما كان من كلم في الجمعة الماضية يكفي فيما أتصور لكي يضعنا في جواء‬
‫كر بأن الجانب الذي عرضته‬ ‫السورة ‪ ،‬وضمن موحياتها ‪ ،‬وفقط أحب أن أذ ّ‬
‫هذه السورة من حياة النبياء كان يهدف إلى إبراز قضية يفتقر إليها النسان‬
‫وهو في غمرة العمل وإن كان نبيا ً ‪ .‬فالنبياء صلوات الله عليهم هم بشر أول ً‬
‫وآخرا ً ‪ ،‬أي أن حذف النوازع البشرية والتأشيرات العارضة وضغوط الحداث‬
‫أمر ل ُيعقل ‪ ،‬وإل لنسلخ النبي عن بشريته ولحق بعالم المل العلى وذلك ل‬
‫يكون ‪ .‬وإزاء مظاهر الجحود والتكذيب والعناد الذي ليس له مبرر فإن أقوى‬
‫النفوس وأرسخها في اليمان ليست محصنة ضد التأثرات العارضة إل أن‬
‫يتداركها الله تعالى بعصمة منه وحفظه ‪ ،‬ونبينا عليه الصلة والسلم لقي من‬
‫خضت عنه الطينة البشرية من رديء الخلق‬ ‫قومه كفار مكة خلصة ما تم ّ‬
‫وفاسد الطباع ومنحط الشيم ‪ ،‬خلصة ما ُووجه النبياء كلهم ُووجه به رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وبشراسة أشد وخصومة أعنف ومعارضة أعتى ‪،‬‬
‫وهو بأبي وأمي بشر يحس كما نحس ويألم مثلما نألم ‪ ،‬وهو المفعم قلبه‬
‫بالرحمة ‪ ،‬يكاد يعدو على نفسه بالهلك ألما ً وحرقة أن ل يؤمن هؤلء‬
‫الناس ‪ ،‬وذلك شأن النفوس العظيمة ‪ ،‬إن اللم يعتصرها اعتصارا ً حينما تبلغ‬
‫من الشفافية ومن رسوخ اليمان وقوة اليقين الدرجة التي تجعل الحق الذي‬
‫تحمله كالشمس ظهورا ً ويرى الناس يخبطون في التيه والعماء ويتمرغون‬
‫في الوحل ‪ ،‬ذلك في الحقيقة شيء مؤلم ‪.‬‬
‫وكل هذا مشروع وطبيعي ومتساوق مع جوهر الحداث وجوهر النسان ‪،‬‬
‫لكن النفوس من حيث ل تدري قد تجنح وهي وسط هذا العصار العنيف‬
‫وش أمامها ساحة الرؤية ‪ ،‬وهنا يبدأ الخطر ‪ ،‬وهذا أمر‬ ‫لتستيئس ولكي تتش ّ‬
‫منظور ‪ ،‬فمن أجل ذلك جاءت سورة ) ص ( لتعرض أمام أنظار رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم صورا ً وملمح من حياة النبياء من قبله ‪ .‬إن النبي‬
‫فذ أمرا ً خاصا ً ‪ ،‬ليس له فيه يدان ‪،‬‬ ‫مكّلف بغرض ‪ ،‬بوظيفة ‪ ،‬مأمور بأن ين ّ‬
‫ليس من كيسه ‪ ،‬فمن أجل هذا ل يملك أن يتصرف فيه إل بإذن الله تعالى ‪.‬‬
‫وذلك يعني منطقيا ً أن النبي وكل عامل في طريق النبياء مطلوب منه‬
‫وبوضوح ومن بداية الطريق أن يكون أقوى من نوازعه ‪ ،‬وأكبر من مجتمعه ‪،‬‬
‫وأقوى من كل ضغوط هذا المجتمع ‪ .‬مطلوب منه أن يبقى أبدا ً في هذا‬
‫الفق العالي السامق الذي وضعه الله تعالى فيه ‪ ،‬وأن تبقى الغاية النبيلة‬
‫الكبيرة العظيمة هي التي تجتذب قواه جميعا ً وتشد إليها اهتماماته جميعا ً ‪.‬‬
‫ونحن بأيسر المراجعة لما كان حتى المرحلة التي نتحدث عنها من‬
‫المشركين في مواجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أن جدل ً طويل ً‬
‫كزت عليه سورة ) ص (‬ ‫للغاية ُأثير حول قضايا ذات أهمية ‪ ،‬لكن شيئا ً ر ّ‬

‫‪151‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يعطينا تقديرا ً مناسبا ً لواحدة من هذه القضايا وهي قضية الرسالة ‪.‬‬
‫فالمراجعة العامة لسورة ) ص ( تكشف لنا أن ثمة خيطا ً واحدا ً ورئيسيا ً‬
‫ينتظم كل القضايا التي عرضتها سورة ) ص ( ‪ ،‬هذا الخط الساسي الرئيسي‬
‫يدور حول قضية النبوة والرسالة وما يتفّرع عنها ‪ ،‬اسمعوا ُتفتتح السورة‬
‫هكذا ‪ ،‬وأنا أتمنى أن أكمل استعراضها اليوم لنفرغ لتفصيلتها من بعد ) بسم‬
‫الله الرحمن الرحيم ‪ ،‬ص والقرآن ذي الذكر ‪ ،‬بل الذين كفروا في عزة‬
‫وشقاق ‪ ،‬كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولت حين مناص ( فنادوا أي‬
‫استغاثوا ‪ ،‬إلى هنا وبلمحة خاطفة عرضت السورة الكريمة في البداية حالة‬
‫الكافرين باعتبار أن هذه الحالة وصفا ً ملزما ً للقوام الكافرة ل يتخّلف مع‬
‫اختلف الزمنة والمكنة ‪ ،‬فالتكذيب وما يترتب على التكذيب من تحكيم‬
‫الهوى وما ينتج من تحكيم الهوى من شقاق وفرقة وتنابز ‪ ،‬ثم ما يتأتى من‬
‫كر قد فات‬‫كر بعد أن يكون التذ ّ‬ ‫ذلك كله من تدمير وإهلك ‪ ،‬ثم ما يأتي من تذ ّ‬
‫وقته ‪ ،‬ذلك هو الطبع الملزم للكافرين عموما ً ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫) بل الذين كفروا في عزة وشقاق ‪ ،‬كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا‬


‫ولت حين مناص ( هذا العرض تبعه مباشرة حديث عما يختلطه ويأتفكه‬
‫الفاكون والكافرون حول موضوع النبوة ‪ ،‬ماذا يقولون ) وعجبوا أن جاءهم‬
‫منذر منهم ( ذلك أول شيء أخذ ألباب الكفار أن يكون المنذر من البشر ‪،‬‬
‫ولماذا ل يكون ملكا ً ؟ بل لماذا ل يكون كما جاء على ألسنة بعض سفهاء مكة‬
‫لماذا ل يجيء الله والملئكة قبيل ً ليتحدثوا مع هؤلء المشركين ‪ ،‬ولو جاءهم‬
‫لكفروا به ‪.‬‬
‫) وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ( ما هو رد ّ الفعل وما هي الستجابة ؟ ) وقال‬
‫الكافرون هذا ساحر كذاب ( أفبعد هذه السفاهة سفاهة ؟ ولنتابع سلسلة‬
‫اعتراضات المشركين ) أجعل اللهة إلها ً واحدا ً إن هذا لشيء عجاب ( وهذه‬
‫النقطة فيما أتصور ألقيت عليها بعض اليضاحات في الجمعة الماضية ‪ ،‬خبل‬
‫في العقل البشري قديم الزمن ومنذ ُوجدت هذه النسانية لحكم قصور قواها‬
‫المدركة تتصور أن هذه الخلئق التي ل تكاد تتناهى ل يمكن أن يديرها وأن‬
‫يدبر أمرها إله واحد ‪ ،‬فليكن التدبير وما إليه صنع آلهة عديدين ‪ ،‬وأيضا ً فإن‬
‫النسان الفاني وهم يرون قانون الحياة أرحاما ً تدفع وقبورا ً تبلع إن هذا‬
‫البشر الفاني بما هو مجبور عليه من فناء وقصور ونقص ل ينبغي له لن‬
‫يتطاول بأن يدعو الله المتسامي والمتعالي ‪ ،‬ول أن يمد يده إلى الله ‪ ،‬فمن‬
‫هنا نشأت فكرة الوسائط والشفعاء والشركاء وعُّبر عن ذلك بالقالة التي‬
‫قالها مشركو مكة وقالها المشركون في كل وقت ) ما نعبدهم إل ليقربونا‬
‫إلى الله زلفى ( وأيضا ً فإن النشأة واللف يطبع في نفس النسان كراهة‬
‫التغيير ‪ ،‬ويجعل النسان يتصور رياح التغيير سموما ً قاتلة ‪ ،‬مع أن التغيير سنة‬
‫الحياة ‪ ،‬مع أن التغيير ينبغي أن يكون نحو الصلح باستمرار ‪ .‬لكن قانون‬
‫اللف جعل الناس يميلون إلى حياة الركود والجمود وينفرون من كل دعوة‬
‫تدعوهم إلى نبذ المألوفات ‪ .‬ويرحم الله المتنبي لقد عّبر عن هذه الخليقة‬
‫في النسان تعبيرا ً في غاية الدقة فيقول ‪:‬‬
‫إلف هذا الهواء أوقع في النفس أن الحمام مّر المذاق‬
‫فالموت نتصوره مّرا ً لننا ألفنا الحياة ‪ ،‬ولو أننا لم نسمح لهذا المألوف أن‬
‫يتحكم فينا تحكما ً بالغا ً لوجدنا أن الموت أمر ل شيء فيه ‪ ،‬مجرد نقلة من‬

‫‪152‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫دار إلى دار ‪.‬‬


‫ولهذا فنحن نجد استجابة العرب المكيين لرسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫تخضع أيضا ً لهذا القانون ‪ ،‬لقد عاش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫مئات من السنين يألفون الصنام منصوبة في جوف البيت وعديدة تعد‬
‫بالمئات ‪ ،‬وهم يألفون الصنام منتشرة في البيوت وبين القبائل ‪ ،‬بل هم‬
‫يألفون ما هو أكثر ‪ ،‬يألفون أن يتخذوا لهم صنما ً من أي شيء يجدونه في‬
‫طريقهم وهم مسافرون أيضا ً ‪ .‬ففكرة التعدد شيء درج عليها الناس ‪ ،‬نشأ‬
‫عليه الصغير وهرم عليه الكبير ‪ ،‬وحينما ينادي رسول الله أن ل إله إل الله‬
‫فتلك دعوة عجيبة في نظر المكيين الكافرين ) أجعل اللهة إلها ً واحدا ً إن هذا‬
‫لشيء عجاب ( ذلك مجرد انطباع ‪ ،‬مجرد تفكير ‪ ،‬لكن هذا التفكير والنطباع‬
‫يوّلد موقفا ً وينتج سلوكا ً عّبرت عنه السورة بالية التي هي ) وانطلق المل‬
‫منهم ( الشرار المتمسكون بالخرافة وبالوهم وبالضلل المبين ) وانطلق‬
‫المل منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ‪ ،‬ما سمعنا هذا‬
‫في الملة الخرة إن هذا إل اختلق ( إن أشراف المكيين أعرضوا عن رسول‬
‫الله بعد مفاوضات يائسين ‪ ،‬عرفوا أن رسول الله لن يحيد عن دعوة الله ‪،‬‬
‫وأن العرض الذي قدموه في المهادنة ومد ّ الجسور واللتقاء على النقطة‬
‫الوسط أن يترك لهم آلهتهم ليعبدونها ول يتعّرض لها وأن يتركوا له إلهه يعبده‬
‫ول يتعرضون له ‪ ،‬هذه القضية لم ُتفلح ‪ ،‬وفشلت فشل ً ذريعا ً ‪.‬‬
‫وإذا ً فالمشركون أعرضوا وتواصوا فيما بينهم أن كفوا عن هذه المحاولة‬
‫واصبروا على العبادة الباطلة التي ورثتموها عن الباء والجداد ‪ ) ..‬إن هذا‬
‫لشيء يراد ( إن هذا الموقف المتصّلب المتشدد الذي ترونه من محمد صلى‬
‫الله عليه وسلم شيء له ما بعده ‪ ،‬إنه يريد منكم شيئا ً ‪ ،‬ماذا ؟ إنه يريد‬
‫الزعامة فيكم ويريد الستعلء عليكم ‪ ،‬وهذه قالة الفراعنة منذ فرعون‬
‫موسى ‪ ،‬ومن قبل ذلك ومن بعد ذلك ‪ ،‬وإلى اليوم وإلى أن تقوم الساعة ‪،‬‬
‫في وجه دعوة السلم دائما ً يرفع هذا السلح المثلوم الفاشل ‪ ،‬إنهم يريدون‬
‫الكبرياء في الرض ‪ ،‬ويريدون الستعلء في الرض ‪ ،‬ويا ليت الذين يقولون‬
‫هذا ناس لهم من الشرف أدنى نصيب ‪ ،‬ومن الوطنية أقل قدر ‪ ،‬ومن المانة‬
‫أقل مقدار ‪ .‬إن الذين يقولونه هم سرقة الشعوب وجلدو الشعوب ومحطمو‬
‫الشعوب ‪ ..‬وذلك شيء يدعو إلى السف ‪ .‬أن تقابل الدعوة المستقيمة‬
‫النيرة باتهام رجالها بأنه يريدون علوا ً في الرض ‪ ،‬ويريدون أن يتعّبدوا‬
‫الناس ‪ ،‬وبين أيديهم تاريخ الرسل والنبياء ‪ ،‬وبين أيديهم تاريخ السلم كله ‪،‬‬
‫يكشف لهم عن مبلغ الحساس بثقل التبعة وضخامة المانة التي يحملها رجل‬
‫السلم ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫) وانطلق المل منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ‪ ،‬ما‬
‫سمعنا بهذا في الملة الخرة إن هذا إل اختلق ( الملة الخرة قال الكثير من‬
‫المفسرين إن المراد بها وثنية العرب ‪ ،‬ونحن نرفض هذا القول ‪ ،‬فلم ُيعهد‬
‫في تاريخ الديان أن الوثنية سميت ملة أو نحلة أودينا ً ‪ ،‬والناس كلهم في‬
‫الماضي والحاضر متفقون على أنه خبل بشري ولوثة في الطبع النساني ‪،‬‬
‫أي الشرك والوثنية ‪ .‬والذي نميل إليه أن المراد بقوله تعالى ) ما سمعنا بهذا‬
‫في الملة الخرة ( هي الملة النصرانية باعتبارها آخر النبوات ‪ ،‬والذي يبرر لنا‬
‫بهذا الرأي أن القرآن للمرة الولى يواجهنا بالتعريض بالنصارى ‪ ،‬قبل ذلك‬

‫‪153‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يوجد سبع وثلثون سورة مضت لم يرد لهؤلء القوم ذكر ‪ ،‬منذ الن سوف‬
‫يبدأ ذكر النصارى واليهود يتردد في أطواء القرآن المكي حتى إذا بلغنا‬
‫القرآن المدني وجدنا البحاث القرآنية تسلط الضواء عليهم بصورة مباشرة ‪.‬‬
‫ويبرر هذا أيضا ً أن النصارى الذين جاءهم عيسى صلوات الله عليه وسلمه‬
‫جاءهم بالوحدانية وبالحنيفية دين إبراهيم بل دين الله تعالى الذي نادى به‬
‫النبياء والمرسلون جميعا ً من لدن آدم إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ .‬هذه النصرانية التي ُيفترض أن تكون أمينة على وحي السماء خرجت‬
‫بعد ومن قريب لتكون دين وثنية وتعدد وشرك ‪ ،‬والنصارى الذين عاصرتهم‬
‫الدعوة السلمية كانوا يقولون بآلهة ثلثة ‪ :‬الب والبن والروح القدس ‪ ،‬وهم‬
‫متفقون على ذلك جميعا ً ‪ .‬فالعرب يحتجون على رفض الوحدانية بالنصرانية‬
‫التي ليست موحدة ‪ ،‬ولكن الحق ل ُيحتج عليه بالباطل ‪ ،‬ومبرر بعث رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم بالسلم هو فساد النصرانية ‪ ،‬ولو أن النصرانية‬
‫بقيت أمينة على كلمات الله لسقط مبرر إرسال رسالة جديدة ‪ ،‬لن قانون‬
‫النبوات هو أن الله جل وعل يبتعث رسول ً إلى الناس كلما اندرست معالم‬
‫الديانة الماضية وطفئت مصابيح الهداية التي جاءت على يد آخر رسول كان ‪.‬‬
‫ولهذا قلنا إن النصرانية هي المقصودة بقول الله تعالى ) ما سمعنا بهذا في‬
‫الملة الخرة إن هذا إل اختلق ( هل انتهت تخرصات المشركين ؟ ل ‪ ،‬أيضا ً‬
‫ثمة نوازع تعمل ) أءلقي الذكر عليه من بيننا ( لماذا اختار الله هذا الفقير‬
‫اليتيم ولم يختر واحدا ً من الزعماء ذوي الثراء وقواد الحروب ‪ ..‬؟ فهذه‬
‫مشكلة من المشكلت منشؤها الحسد ‪ ،‬وسوف نرى أن عجز السورة أي‬
‫آخر السورة سيرد ّ إلى أولها حينما يتحدث الله عن أول النشأة وما كان من‬
‫اختصام في المل العلى بين الله وبين إبليس حينما امتنع عن السجود لدم ‪،‬‬
‫فُلعن لعنة أبدية بسبب الحسد والكبرياء الذي يعتمل في قلوب هؤلء الذين‬
‫يقولون ) أءلقي الذكر عليه من بيننا ( لكنها حجة واهية ‪ ،‬هذا شيء غير‬
‫صحيح ) بل هم في شك من ذكري ( فالمسألة ليست مسألة حسد وحسب‬
‫وإنما هي في التحليل الخير تعود إلى أن هؤلء الناس شاكون في الله أصل ‪ً،‬‬
‫ولو كانوا يقدرون الله حق قدره لعلموا أن المالك يتصرف في ملكه بدون‬
‫قيد ‪ ،‬أرأيت أحدا ً يمنعك من أن تتصرف في قروشك التي في جيبك ؟ فكل‬
‫مالك له مطلق الحق في أن يتصرف في ملكه ‪ ،‬فإذا كان الكون لله خلقا ً‬
‫ص برحمته من يشاء ويمنع‬ ‫ومن الله إيجادا ً وله ملكا ً فذلك يعني أن الله يخت ّ‬
‫قب لحكمه ) بل الله يحكم ما يريد ( والناس ل خيرة‬ ‫فضله عمن يشاء ول مع ّ‬
‫لهم في ذلك ‪ ،‬وإذا ً فالقضية قضية شك في أصل الرسالة وليست شيئا ً آخر‬
‫بإطلق ‪.‬‬
‫) بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب ( لو نزل بساحتهم العذاب‬
‫كما نزل بساحة المكذبين من قبلهم لجأروا إلى الله بالدعاء ولكن ولت حين‬
‫مناص ‪ ،‬أي بعد فوات الوان كما عرضت لنا أول السورة ‪.‬‬
‫ثم يعرض الله عليهم ) أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ‪ ،‬أم لهم‬
‫ملك السماوات والرض وما بينهما فليرتقوا في السباب ( الله هو الذي‬
‫خلقكم وأوجدكم من العدم ‪ ،‬أفلكم ملك السماوات والرض ؟ أنت تتصرف‬
‫بين يديك في شيء قليل من حطام الدنيا ‪ ،‬والله تعالى مالك الدنيا والخرة ‪،‬‬
‫والله يخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن الدنيا ل تزن عند الله‬
‫جناح بعوضة ‪ ،‬وأنت تتصرف منها في شيء ل ُيذكر ‪ .‬وماذا بعد ؟ فثمة‬
‫السماوات والرض والماضي والحاضر والمستقبل أتدعي أن ذلك لك ؟ تلك‬
‫إحالة عقلية ل تقع في وهم واهم ‪ ،‬ولهذا سألهم الله ) أم لهم ملك‬

‫‪154‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫السماوات والرض ( لكي يعطوا من يشاءون الرسالة ويمنعوها عمن‬


‫يشاءون ‪ ،‬وإن قالوا ‪ :‬نعم ‪ .‬فليرتقوا في السباب ‪ ،‬ليسلكوا السباب لتدبير‬
‫أمر السماوات والرض ‪ ،‬وذلك غير كائن ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫ثم يأتي التطمين بعد ذلك ) جند ما هنالك مهزوم من الحزاب ( تطمين للنبي‬
‫عليه الصلة والسلم وتطمين لكل عامل في هذا الطريق المستقيم ‪،‬‬
‫الحزاب من هي ؟ الية التي نتحدث عنها بل السورة كلها مكية ‪ ،‬وهي تنتمي‬
‫إلى السنوات الخمس الولى من عمر الدعوة ‪ ،‬ول يراد بها الحزاب الذين‬
‫تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ‪ ،‬وإنما يريد الله‬
‫جل وعل بالحزاب المهزومين حكما ً ‪ ،‬كل المكذبين الذين شهدتهم ساحة‬
‫هذه الرض ‪ ،‬ابتداءا ً من أول الخلق إلى أن تقوم الساعة ‪ ،‬لو أن جند الباطل‬
‫والضلل اجتمعوا على صعيد واحد ليقضوا على الحق الوليد فلن يكون لهم‬
‫لب ‪ ،‬ولكن ضمن شروطه المعروضة‬ ‫إلى ذلك سبيل ‪ ،‬لن الحق بطبعه غ ّ‬
‫لهذه السورة والسور الخرى ‪ ،‬إن الله جل وعل بعد أن يفرغ في أوائل‬
‫السورة التي قرأناها حتى الن من عرض تخرصات المشركين حول الرسالة‬
‫يريد أن يزيل من ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم الثار السيئة التي‬
‫تترتب على الموقف غير المعقول الذي وقفه المكذبون ) كذبت قبلهم قوم‬
‫نوح وعاد وفرعون ذي الوتاد ‪ ،‬وثمود وقوم لوط وأصحاب اليكة أولئك‬
‫ذب الرسل فحق عقاب ‪ ،‬وما ينظر هؤلء ( أي ل ينتظر‬ ‫الحزاب ‪ ،‬إن كل إل ك ّ‬
‫هؤلء ) إل صيحة واحدة ما لها من فواق ‪ ،‬وقالوا ( أي المشركون العرب‬
‫جل لنا قطنا ( أي نصيبنا من الخير والشر الذي يحدثنا عنه محمد‬ ‫) ربنا ع ّ‬
‫) قبل يوم الحساب ( وهذه قالة استهزاء وسخرية برسول الله بل بالله‬
‫تبارك وتعالى ‪.‬‬
‫ثم يأتي بعد ذلك حديث عن النبياء مقصود ‪ ،‬يفتتح الحديث بخطاب موجه‬
‫إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) اصبر على ما يقولون ( لم يقل له ‪:‬‬
‫امتشق الحسام ‪ ،‬فالعقائد ل ُتفرغ في عقول الناس بالرهاب ول بالقوة ‪،‬‬
‫ولكن بالقناع والخذ بالحجة ‪ ،‬فالله عز وجل برأ الكون وفاقا ً لسنن أودعه‬
‫في هذا الوجود ‪ ،‬ولن يخرق هذه السنن إكراما ً لخاطرك يا محمد أبدا ً ) ولو‬
‫شاء ربك لمن من في الرض كلهم جميعا ً أفنت تكره الناس حتى يكونوا‬
‫مؤمنين ( ل يمكن ذلك تحت الضغط والرهاب وبتأثير السجون والمشانق ‪،‬‬
‫إن السلم ل يصلح له إل بالقلوب المطمئنة والعقول الواثقة المستبصرة ‪.‬‬
‫النسان بالطبع تكونت لديه بفعل تراكم الحداث قناعات أخذت وضعا ً ل يقبل‬
‫المناقشة ‪ ،‬لكن ضغط الحداث في مواجهة الحق والباطل كفيل بإيقاظ‬
‫النائمين ‪ ،‬وتنبيه الغافلين ‪ ،‬وواجبك هنا أن تصبر ‪ ،‬أن تستأني بالطبيعة‬
‫البشرية ‪ ،‬أن تطيل بالك وتوسع صدرك ) اصبر على ما يقولون ( ابقَ في‬
‫الموضع السامق الذي وضعك الله تعالى فيه ول تسمح لظواهر الكنود‬
‫والجحود والصد والتكذيب أن تثني من عزمك ول أن توقظ اليأس في قلبك ‪،‬‬
‫ول أن تخّرب الثقة في الطبيعة البشرية داخل نفسك ‪ ) ..‬اصبر على ما‬
‫يقولون واذكر عبدنا داوود ذا اليدي إنه أّواب ( وتمضي اليات تتحدث عن‬
‫نبي الله داوود صلى الله عليه وسلم من الزاوية التي تمس واجبات النبوة‬
‫والتي سنعرض لها بتفصيل في المستقبل إن شاء الله تعالى ‪.‬‬
‫فإذا فرغت السورة من الحديث عن داوود عليه السلم قالت لرسول الله‬

‫‪155‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عرض‬ ‫صلى الله عليه وسلم ) ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أّواب ‪ ،‬إذ ُ‬
‫عليه بالعشي الصافنات الجياد ‪ ،‬فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي‬
‫حتى توارت بالحجاب ‪ ،‬رّدوا علي فطفق مسحا ً بالسوق والعناق ( وتمضي‬
‫س واجبات الرسالة من سيرة‬ ‫السورة باقتصاص الجانب ذاته الذين يم ّ‬
‫كر رسول الله صلى الله‬ ‫سليمان عليه السلم ‪ ،‬فإذا فرغت من ذلك مضت تذ ّ‬
‫عليه وسلم بصاحب البلء والصبر الذي ُيضرب به المثل ) واذكر عبدنا أيوب‬
‫إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ‪ ،‬اركض برجلك هذا مغتسل‬
‫بارد وشراب ( وهؤلء ثلثة أنبياء ُذكروا في السورة بشيء من التفصيل لكن‬
‫جاء من بعد إجمال لنبياء ستة آخرين ) واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق‬
‫ويعقوب أولي اليدي والبصار ‪ ،‬إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ‪ ،‬وإنهم‬
‫ل من‬‫فين الخيار ‪ ،‬واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وك ٌ‬ ‫عندنا لمن المصط َ‬
‫الخيار ( هؤلء النبياء وضعتهم السورة أو وضعت جوانب من سيرتهم وما‬
‫فعلوه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬لن طريق الدعوة ليس شيئا ً‬
‫وإنما هو مشقة مستمرة وتعب موصول ل يقدر على أن يستمر به إل الذي‬
‫يحافظ على هذا الفق البعيد الذي يعيش فيه الدعاة إلى الله ابتداءا ً من‬
‫النبياء عليهم السلم إلى الداعين إلى الله في كل زمان ومكان ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫قبت عليه بأن ذكرت لرسول الله صلى الله‬ ‫فإذا انتهت السورة من ذلك ع ّ‬
‫ص‬
‫عليه وسلم قيمة هذا الكلم ‪ ،‬فهذا ذكر فإما أن يكون الذكر هنا هو ما اقت ّ‬
‫الله من سير النبياء وأما أن يكون القرآن كله ‪ ،‬هذا ذكر ولكن ستخبرنا‬
‫السورة عن أمور ل يعلمها إل النبياء ‪ ،‬لنها بطبيعتها تنتمي إلى عالم الغيب‬
‫ُ‬
‫ص السورة ما أعد ّ‬ ‫مما ل ُيفلح بالوصول إليه كل المجهود البشري ‪ ،‬تق ّ‬
‫للمتقين من النعيم والحبور ‪ ،‬وما ُأعد ّ للفجار الشرار من النكال والوبال‬
‫) هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب ‪ ،‬جنات عدن مفتحة لهم البواب ‪( ..‬‬
‫) هذا وإن للطاغين لشر مآب ‪ ،‬جنهم يصلونها فبئس المهاد ‪ ،‬هذا فليذوقوه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ساق ‪ ،‬وآخر من شكله أزواج ( ما أعد ّ من النار للشقياء ‪ ،‬وما أعد ّ‬ ‫حميم وغ ّ‬
‫في الجنة للمتقين شيء ل يملك المنطق أن يصل إليه ‪ ،‬ول تملك القدرات‬
‫البشري أن تكشفه ‪ ،‬فالعلم به موقوف على إخبار الله جل وعل أي على‬
‫الوحي أي على النبي ‪ .‬وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واحدا ً من‬
‫هؤلء الناس وكان ـ حاشاه ـ مختلقا ً للنبوة ومدعيا ً للرسالة ما أمكن أبدا ً أن‬
‫يخبر بحرف واحد عن أمر من أمور الخرة ‪.‬‬
‫وأيضا ً فليس هذا فقط الذي ينتمي إلى عالم الغيب والذي يتوقف العلم به‬
‫على معرفة النبي المعصوم ما يكون من التخاصم والتلحي في النار بين‬
‫التباع والمتبوعين بين الضالين والمضلين بين الرؤساء والرعاع ) هذا فوج‬
‫مقتحم معكم ل مرحبا ً بهم إنهم صالو النار ‪ ،‬قالوا بل أنتم ل مرحبا ً بكم أنتم‬
‫دم لنا هذا فزده عذابا ً ضعفا ً في‬ ‫قدمتموه لنا فبئس القرار ‪ ،‬قالوا ربنا من ق ّ‬
‫النار ( هذا الكلم الذي يكون في النار يوم الحساب بين المضلين من‬
‫الرؤساء والسادة والقادة وبين التباع ممن قبلوا أن يؤجروا عقولهم‬
‫ويسخروا كل إمكاناتهم لخدمة هؤلء المضلين أمر حتما ً سيكون في النار ‪،‬‬
‫وسوف يدعو بعضهم على بعض هناك وسوف يلعن بعضهم بعضا ً هناك ‪،‬‬
‫ل ضعف‬ ‫وسوف يطلب بعضهم لبعض زيادة العذاب وسيقول الله لهم ) لك ٍ‬
‫ولكن ل تعلمون ( إن هذا أيضا ً ينتمي إلى الدار الخرة ‪ ،‬وليس شيئا يستقل‬
‫ً‬

‫‪156‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بعلمه آحاد من الناس وعوام الناس ‪ ،‬شيء ل يعلمه إل نبي ‪ ،‬وحين أخبر به‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إخباره مطابقا ً لما جاء على ألسنة‬
‫ل ذلك على أن محمدا ً رسول الله صادق في دعواه أنه‬ ‫النبياء من قبله د ّ‬
‫مرسل من عند الله وأن الواجب على كل أحد أن يسلك طريق رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫بعد ذلك تأتي تعقيبات سنأتي إليها في المستقبل ‪ ،‬المهم أن الله جل وعل‬
‫يرد ّ عجز السورة على أولها ) قل إنما منذر وما من إله إل الله الواحد‬
‫القهار ‪ ،‬رب السماوات والرض وما بينهما العزيز الغفار ‪ ،‬قل هو نبأ عظيم (‬
‫على القرآن ) أنتم عنه معرضون ‪ ،‬ما كان لي من علم بالمل العلى إذ‬
‫يختصمون ( أأنا كنت موجودا ً حينما جبل الله طينة آدم ثم نفخ فيه الروح ثم‬
‫طرد إبليس ؟ أكنت موجودا ً‬ ‫أمر الملئكة بالسجود له ثم عتى إبليس ثم ُ‬
‫آنذاك ؟ كنت في عالم العدم ) ما كان لي من علم بالمل العلى إذ يختصمون‬
‫(‪.‬‬
‫ويته ونفخت فيه‬ ‫ً‬
‫ثم ) إذ قال ربك للملئكة إني خالق بشرا من طين ‪ ،‬فإذا س ّ‬
‫من روحي فقعوا له ساجدين ‪ ،‬فسجد الملئكة كلهم أجمعون ‪ ،‬إل إبليس‬
‫استكبر وكان من الكافرين ‪ ،‬قال يا لبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت‬
‫ت من العالين ‪ ،‬قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته‬ ‫ت أم كن َ‬ ‫بيدي أستكبر َ‬
‫من طين ‪ ،‬قال اخرج منها فإنك رجيم ‪ ،‬وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ‪ ،‬قال‬
‫فأنظرني إلى يوم ُيبعثون ‪ ،‬قال فإنك من المنظرين ‪ ،‬إلى يوم الوقت‬
‫المعلوم ‪ ،‬قال فبعّزتك ( ولحظ أن لبليس اللعين سبب الغواء والفساد منذ‬
‫أن كان الناس يعترف بأن الله هو العزيز الغفار ) قال فبعّزتك لغوينهم‬
‫ن‬
‫أجمعين ‪ ،‬إل عبادك منهم المخلصين ‪ ،‬قال فالحق والحق أقول ‪ ،‬لمل ّ‬
‫جهنهم منك ومن تبعك منهم أجمعين ( هذه الواقعة جاءت في خواتيم‬
‫ن سوف نقف عند بعضها ‪ ،‬لكن أول إيحاء مما يتصل‬ ‫السورة تتضمن معا ٍ‬
‫بالخط العام للسورة أن الذي ُيخبر عما يدور في المل العلى ليس آحاد‬
‫الناس وإنما النبي الذي يخبر الناس بما يخبره الملك عن الله تعالى ‪ ،‬وهذه‬
‫قضايا ل ُيقضى فيها بالظن ول ُيرجم فيها بالغيب ‪ ،‬ولو أن محمدا ً عليه الصلة‬
‫والسلم كان مختلقا ً ومفتريا ً وكذابا ً كما يزعمون لستحال عليه أبدا ً أن يخبر‬
‫بحرف واحد عن هذا ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫ثم من موحياتها أيضا ً ما افتتحت به هؤلء اليات من إشارة إلى كرامة‬


‫الجنس البشري التي ينبغي أن يحافظ عليها وأل ُتذل وأل تهان ‪ ،‬إن الله خلق‬
‫الخلق فكّرمهم ‪ ،‬كّرم أباهم آدم عليه السلم فأسجد له ملئكته ‪ ،‬أسجد له‬
‫المل العلى لما يعلم فيه ولما في علم الله جل وعل من أن سيكون من‬
‫ذرية هذا المجبول من الطين النبياء والمرسلون والشهداء والصديقون‬
‫والصالحون ‪ ،‬فالله جل وعل أعلى من قيمة النسان ورفع من قدر النسان ‪،‬‬
‫ولكن النسان للسف وعلى مدار التاريخ يحاول باستمرار أن يذل نفسه‬
‫ويحاول أن يقلل من قيمته ‪ ،‬وهذا شيء ل يريد له الله جل وعل ‪.‬‬
‫أفلم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‪:‬عباد الله ل تذلوا‬
‫المسلمين ‪ .‬لن إذلل المسلمين يقضي على الشخصية الواسعة المتفتحة‬
‫المستقلة القادرة وحدها على عمارة الكون ‪ ،‬ولهذا قال رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ :‬ل ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ‪ .‬أي ل ينبغي لمن كان‬

‫‪157‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يؤمن بالله ويؤمن أن الله يوم خلق الله أباه آدم كّرمه بإسجاد الملئكة له ‪،‬‬
‫ل ينبغي له أن يقف مواقف الذل أبدا ً أبدا ً ‪ .‬والنبي عليه الصلة والسلم‬
‫يكشف عن وعيد شديد بالنسبة للذين يمارسون الذلل على عباد الله فيقول‬
‫‪ :‬صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما ـ أي لن يكونا موجودين في حياته‬
‫الشريفة صلوات الله عليه ـ نساء كاسيات عاريات ـ كمعظم نساء هذه اليام‬
‫ـ مائلت مميلت يتخلعن في خطوهن كما تتخلع المومس الفاجرة ل يجدن‬
‫ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ‪ .‬هذا الصنف لم يره رسول‬
‫الله ‪ ،‬والصنف آخر ‪ :‬ورجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها ظهور‬
‫ت بيقين ترمز بهذا‬ ‫الناس ‪ .‬صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله لقد كن َ‬
‫إلى اليلم والتعذيب الذي سيكون من بعد ‪ ،‬فالسياط يا سيدي أمرها هين‬
‫لقد ابتكر الناس أساليب النفخ والكهرباء وغسل الدماغ والتصفية بالسيد ‪،‬‬
‫هؤلء الذين يذلون الناس لن يجدوا ريح الجنة لنهم أعداء للجنس البشري ‪،‬‬
‫ي في الكون‬ ‫أعداء للجنس الذي خلقه الله ليقيم في الرض شرعه ولُيعل َ‬
‫مر ‪.‬‬‫معة يطير كلما طار ويمشي وراء كل مطّبل ومز ّ‬ ‫كلمته ‪ ،‬ل ليكون إ ّ‬
‫ً‬
‫خلق ليكون إنسانا له استقلله ‪ ،‬والنبي عليه الصلة والسلم المؤيد‬ ‫النسان ُ‬
‫بالوحي الذي يغاديه ويماسيه جبريل عليه السلم يقول الله له ) لست عليهم‬
‫بمسيطر ( وسفهاء الناس يقولون ‪ :‬بلى نحن سوف نقولب الناس نضعهم‬
‫في قوالب خاصة ونخلقهم كما نشاء ل ما يشاء الله ‪ ،‬وهؤلء ل يدركون ‪ ،‬لن‬
‫الطبيعة البشرية المتمردة على كل ما يضادها ويعاندها سوف تعاقبهم أشنع‬
‫العقاب ‪ ،‬هذا من موحيات هذه اليات سنقف عندها ‪.‬‬
‫فإذا ختمت السورة ختمت بهذا الكلم الموجز الذي يكشف عن طبيعة‬
‫أساسية للرسالة ) قل ما أسألكم عليه أجرا ً ( لو ذهبتم تفتشون عن السبب‬
‫الكامن وراء الفشل المتكرر في الدعوة السلمية منذ وجدت وإلى الن‬
‫لوجدتم شراه النفس وطمع النفس من وراء ذلك ‪ ،‬إن الرسول ُيبتعث‬
‫ويقول منذ البداية للذين يخاطبهم ‪ :‬مالكم ل أرب لي فيه ‪ ،‬جاركم ل أطلبه ‪،‬‬
‫السيادة عليكم لست أريدها ‪ .‬أنا ل أطلب أجرا ً على هذا الذي جئت به وكل‬
‫نبي كما تقرءون في القرآن كان يقول ) إن أجري إل على الله ( والعمل كل‬
‫عمل إذا شابته شائبة الدنيا وإرادة العلو والفساد في الرض فقد حبط وفسد‬
‫‪ ،‬ولهذا كانت أخص خصائص النبوة البعد عن ابتغاء الجر واللتماس المنفعة‬
‫من الناس ‪ ،‬وحين لم المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم في‬
‫محضر عمه أبي طالب قال له ‪ :‬يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر‬
‫في يساري على أن أترك هذا المر ما تركته أو أهلك دونه حتى يحكم الله‬
‫بيننا وهو خير الحاكمين ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫لو أن هؤلء المشركين جاءوا لي بملك الدنيا بل بالسماوات والرض وما‬


‫بينهما ما تركت هذا المر ‪ ،‬أنا ل أطلب الجاه ول أطلب المال ول أطلب‬
‫عرض على رسول الله‬ ‫الثراء ول النساء ول أي شيء ‪ ،‬وبالفعل فكل أولئك ُ‬
‫فرفضه رفض الكريم البي الشهم النبيل ‪ ،‬وبّين لهم أنه ل يريد هذا كله ‪ .‬كان‬
‫يريدهم على كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم به العجم الجزية‬
‫هي أن يقولوا ل إله إل الله ‪ ،‬وحينما قال لهم هذا نفروا منه كما تنفر الحمر‬
‫وقالوا قولتهم المعلومة ) أجعل اللهة إلها ً واحدا ً إن هذا لشيء عجاب ( ) قل‬
‫ما أسألكم عليه أجرا ً وما أنا من المتكلفين ( أي ل أّدعي ما ل أعلم وإنما‬

‫‪158‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أخبركم بالذي يخبرني الله جل وعل ‪ ،‬أنا واحد منكم ل أقرأ ول أكتب ول‬
‫أحسب ‪ ،‬كما أنكم أميون ل تقرأون ول تكتبون ‪ ،‬ولكني حين أخبركم فعن الله‬
‫أخبركم ‪ ،‬ولهذا فلست من الذين يتكّلفون علم ما ل علم لهم به ) وما أنا من‬
‫المتكلفين إن هو إل ذكر للعالمين ( وهذه قضية هامة ‪ ،‬لننا نواجه هنا بيان‬
‫القرآن بأن الدعوة السلمية ليست مقصورة على العرب ‪ ،‬إنما هي دعوة‬
‫ن‬
‫الله إلى الناس كافة ) إن هو إل ذكر للعالمين ( هل يكفي هذا ؟ ) ولتعلم ّ‬
‫نبأه بعد حين ( من الذي يجرؤ على المجازفة بإعطاء الوعد بالمراهنة على‬
‫المستقبل ؟ من الذي يجرؤ على شيء من هذا في وسط العواصف الهائجة‬
‫المائجة كالوضع الذي كان سائدا ً في مكة زمن النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫من يستطيع أن يأخذ الورقة والقلم فيعمل حسابا ً للقوى والمكانات ليقول‬
‫إن العاقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ في كل حسابات البشر هذا‬
‫غلط ‪ ،‬ولكن الحساب في قانون الله تعالى ل تخضع لحسابات البشر‬
‫ن نبأه بعد حين ( وعد ُيقطع من الله تعالى لكنه مب ّ‬
‫طن بالتهديد ‪،‬‬ ‫) ولتعلم ّ‬
‫ن نبأ هذا القرآن بعد حين ‪ ،‬وبالفعل ما دارت اليام والشهور والسنون‬ ‫لتعلم ّ‬
‫حتى كان الذين يعاندون رسول الله من أخلص أتباعه ‪ ،‬وحتى كان الذين‬
‫يكذبون بالقرآن من الذين يتلونه آناء الليل وأطراف النهار ‪ ،‬وحتى أصبحت‬
‫البيوت التي كانت في المس مظلمة في الشرك مضيئة اليوم بالتوحيد ‪،‬‬
‫وحتى أصبحنا ونحن اليوم في أسوء حال نسمع هذا القرآن يتردد في جنبات‬
‫الرض كلها ‪ .‬هذا وعد الله جل وعل ‪ ،‬لكن كيف يتحقق هذا ؟ ما شرطه‬
‫الساسي ؟ ذلك ما سوف يتجلى لنا بإذن الله حينما نأخذ بالتفصيل بعد هذا‬
‫الجمال الذي حللنا فيه آيات السورة الكريمة سائلين المولى جل وعل أن‬
‫يمنحنا القوة والعون على إنجاز ذلك وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله‬
‫وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫تفسير سورة ) ق (‬
‫الجمعة ‪ 5‬رمضان ‪ 19 / 1397‬آب ‪1977‬‬
‫) ‪ 1‬من ‪( 4‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫فقد كان مقررا ً أن يكون الحديث عن السورة الثالثة والثلثين في ترتيب‬
‫النزول في الجمعة الماضية ‪ ،‬لول ما شغلنا آنذاك من حديث رأيناه ضروريا ً‬
‫حرصا ً على مصالح الناس في هذا البلد وأمنهم وسلمهم ‪ ،‬وتذكيرا ً للناس‬
‫بقواعد دينهم غفلوا عنها أو أغفلوها ‪ ،‬وها نحن اليوم نعود لنتابع السياق الذي‬
‫كنا فيه ‪.‬‬
‫ً‬
‫فقد يكون ضروريا أن نعيد إلى الذهان بعض ملمح السورة التي سبقت هذه‬
‫الوقفة التي نحن فيها ‪ .‬إن أحد المشاكل الخطيرة التي قررها السلم في‬
‫بواكير الدعوة فأحدثت آثارا ً بعيدة ‪ ،‬وتركت في الناس بلبلة شديدة ‪ ،‬هي‬
‫تقرير السلم في موضوع اليوم الخر ‪ ،‬لقد كان لتقرير هذه القضية أثر‬
‫صاعق على كل أحلس الشهوات والذين يتبعون الحطام ‪ ،‬وكدأب الناس في‬
‫كل زمان ومكان يجادلون في الحق فيطيلون فيه الجدال ‪ ،‬ويخاصمون في‬
‫الباطل فيشتدون في الخصومة وينسى النسان حق عقله وحق كرامته‬

‫‪159‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وآدميته عليه ‪ ،‬وهو يلج في الطغيان ويدفع بالباطل الذي ل شبهة فيه ‪.‬‬
‫إن المشركين حين بادأهم القرآن بتقرير هذه القضية أبدوا دهشتهم‬
‫واستغرابهم ‪ ،‬وليس ضروريا ً أن أعيد الشوط الذي مشيناه في هذه القضية ‪،‬‬
‫وإنما الضروري أن تعلموا أنه بدءا ً من سورة المرسلت فإن المسألة لم تعد‬
‫مسألة إنسان يصدق أو يكذب باليوم الخر على الجملة ‪ ،‬إن كل موقف‬
‫تنشعب عنه مواقف ‪ ،‬وكل قضية ُتشتق منها قضايا ‪ ،‬كانت المسألة مسألة‬
‫استغراب أن يبعث الله الموتى من بعد البلى ‪ ،‬فلما واجههم القرآن بتشريح‬
‫الواقع البشري تشريحا ً ل رحمة فيه ‪ ،‬وأن المسألة ليست مسألة صواب‬
‫وخطأ ‪ ،‬وليست مسألة إمكان وعدم إمكان ‪ ،‬ولكن المشكلة هي مشكلة‬
‫النسان الذي يدفعه حرصه على البقاء وما يمليه له هذا البقاء من تمتع‬
‫بالشهوات الممنوعة وغير الممنوعة ‪ ،‬وما يجر ذلك إليه من رغبة النسان في‬
‫أن يتجاهل باستمرار لحظة الموت ولحظة المصير إلى الله ‪ ،‬إن هذا هو‬
‫الشيء الذي يدفع الناس إلى ارتكاب مواقف ل تتسق مع عقل ول دين ) بل‬
‫يريد النسان ليفجر أمامه ‪ ،‬يسأل أيان يوم القيامة ( ‪.‬‬
‫إن المشكلة ليست هي أن يوم القيامة ممكن أو غير ممكن ولكن المشكلة‬
‫جه بما يعكر عليه استمتاعه بالطيبات‬ ‫هي أن النسان ل يريد أن يوا َ‬
‫والشهوات والملذات التي يمارسها في هذه الحياة ‪ ،‬ولهذا فهو يريد أن‬
‫يغمض عينيه عن هذا اليوم ‪ ،‬ويريد أن يسد أذنيه عن سماع نبأ هذا اليوم لكي‬
‫يزيد في أجل الستمتاع يوما ً آخر إن كان ذلك ممكنا ً ‪.‬‬
‫وهذا موقف أولي وساذج ‪ ،‬لكن المور كما قلنا يسلم بعضها إلى بعض ‪،‬‬
‫ويؤدي بعضها إلى بعض ‪ ،‬وكل أمر حينما تضعه على بساط الواقع ليتعامل‬
‫الناس معه أو ضده فلست تملك من بعد من أمره قليل ً ول كثيرا ً ‪ ،‬إن‬
‫للحوادث منطقا ً ل بد أن يكتمل ‪ ،‬وهكذا رأينا في موضوع يوم القيامة‬
‫يتسلسل المر من دهشة واستغراب وسخرية واستهزاء تغلف رغبة كامنة‬
‫في نفوس الناس أن يطيلوا أجل الستمتاع فيما منعهم السلم منه من‬
‫الشهوات الضارة الممنوعة الخبيثة ‪ ،‬إلى موقف استبعاد أن يقدر الله تعالى‬
‫على أن يعيد إلى الحياة أجساما ً بليت وعظاما ً فنيت ‪.‬‬
‫وهكذا واجهنا فيما مضى ليس موضوع اليوم الخر بذاته ‪ ،‬وإنما موضوعا ً‬
‫خطيرا ً أيضا ً سيأتي بتفاصيله العديدة فيما نستقبل في المرحلة المكية وهي‬
‫ما ينبغي أن تكون عليه صورة الله المعبود في ذهن النسان ‪ ،‬إننا إذا أقررنا‬
‫من حيث المبدأ أننا مخلوقات ولسنا خالقين ‪ ،‬أننا ولسنا أربابا ً ول آلهة ‪ ،‬فمن‬
‫البداهة أن الكلم يتضمن وجود قوة وقدرة هي التي انبثقت عنها هذا الكون‬
‫ومن ضمنه نحن ‪ .‬وإذا ً فبمجرد القرار يعني التسليم بوجود الذات اللهية ‪،‬‬
‫والذات اللهية تتقاضى أوصافا ً ‪ ،‬فما كل قوة تستحق أن ُتعبد ‪ ،‬إن بعض‬
‫المتزعمين من الفراعنة وأشباههم فرضوا عبادتهم على الناس ‪ ،‬وليس هذا‬
‫شريحة من التاريخ الماضي ‪ ،‬فإن هذه اللوثة العجيبة ما تزال تعيش بين‬
‫الناس إلى اليوم ‪ ،‬وما يزال كثيرون من ضعاف العقول يتصورن الزعماء‬
‫والقادة من طينة غير طينة البشر ‪ ،‬وأن الدم الذي يجري في عروقه تركيبه‬
‫تختلف عن تركيب دماء سائر الناس ‪ ،‬ل يزال هذا موجودا ً ‪.‬‬
‫نقول مع ذلك فل أحد يستطيع أن يقول إن هذا المخلوق يستحق أن ُيعَبد ‪،‬‬
‫فالعبادة التي تتضمن إعطاء الوصاف التي هي أوصاف الكمال والجلل ل‬
‫تنبغي إل لله جل وعل ‪ ،‬ولكن المسألة يجب من بداية الطريق أن تكون‬
‫معروفة ‪ ،‬إن مسائل من هذا القبيل ليست شيئا ً يخضع لمقاييس المنطق ول‬
‫لقضايا العقل البشري ‪ ،‬إنها قضية الخبر لنها قضية الغيب ‪ .‬موضوع الوصاف‬

‫‪160‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫التي يجب أن تتصف بها الذات اللهية ليست شيئا ً يدرك بالعقل ول ببديهة‬
‫الحس ول بمعطيات الوجدان ‪ ،‬لنها قضية أعلى من ذلك ‪ ،‬لنها إخبار محض‬
‫من الله تعالى عما يتصف به من أوصاف الكمال والجلل ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫لهذا فليس عجيبا ً أن نرى المجتمع الجاهلي حينما ُوجه بموضوع اليوم الخر‬
‫يقف طويل ً عند وصف نرى الن أنه ل ينبغي التنازع من حوله ‪ ،‬هو وصف‬
‫القدرة ‪ :‬هل يقدر الله على العادة بعد الفناء ؟ إن صفة القدرة شغلت‬
‫أذهان المكيين المخاطبين بالقرآن آنذاك حيزا ً وسببت لهم مشاكل ل تكاد‬
‫تنتهي ‪ ،‬وقلت إنه ليس غريبا ً وليس من باب العتذار عن العرب المشركين‬
‫فمعاذ الله أن يكون المر على هذه الشاكلة ‪ ،‬لكن الجو النساني العام في‬
‫تلك الوقات كان يتصور الذات اللهية على نحو قريب مما يتصوره المكيون‬
‫المشركون ‪ ،‬حتى أهل الكتاب تصوروا الله تعالى خلق ثم أحال اختصاصاته‬
‫إلى المجامع الكنسية وإلى الحبار والرهبان لكي تتصرف نيابة عنه ‪ ،‬ولعل‬
‫من المظاهر التي تشعر بعدم فهم أهل الكتاب لموضوع الصفات اللهية ما‬
‫يأتيك في التوراة من أن الله تعالى خلق الخلق في ستة أيام ثم أدركه التعب‬
‫فاستراح في اليوم السابع ‪ ،‬والله الذي يتعب ل يستحق أن يسمى إلها ً ‪،‬‬
‫فالمسألة ل تحمل معنى العتذار عن ضللة العرب الجاهليين بقدر ما تحمل‬
‫إدانة الجو العام على وجه الكرة الرضية في ذلك الزمان ‪.‬‬
‫وقف المشركون أمام القدرة واستبعدوا أن يقدر الله على الحياء بعد الماتة‬
‫‪ ،‬فجاءتنا سورة المرسلت برمتها لتثبت لنا أن قدرة الله ل تعجزها شيء ‪،‬‬
‫ومن خلل إثبات أن هذه القدرة ل يعجزها شيء كانت الدلئل أيضا ً تتساوق‬
‫لتتوارد على إثبات ليس فقط إمكانية اليوم الخر ‪ ،‬بل حتمية هذا اليوم ‪.‬‬
‫وانتهينا من هناك لنقف اليوم أمام طور جديد ‪.‬‬
‫ً‬
‫لنقف أمام سورة ) ق ( وهي من السور المتوسطة نوعا ما والتي نزلت بعد‬
‫سورة المرسلت والتي عالجت موضوع القدرة بصورة مباشرة وبلمسات‬
‫عابرة وبإيحاءات يدركها أولو اللباب ‪ ،‬كما لمست جوانب أخرى لها صلتها‬
‫بصفة أخرى من صفات الله تعالى هي الحكمة ‪.‬‬
‫تذكرون أننا حين تحدثنا إليكم قبل عدد من السابيع عن سورة القيامة قلنا‬
‫إن من جملة الدلئل التي ساقها الله تعالى في السورة تدليل ً على إمكانية‬
‫يوم الخر دلئل أخلقية ‪ ،‬والدلئل الخلقية ل يمكن أن يستهان بها ‪ ،‬ومن‬
‫الدلئل الخلقية التي سيقت ضرورة إقامة العدالة فليس من العدل وليس‬
‫من الخلق أن ترتكب النسان جناية وجريمة ثم يفلت دون أن يناله عقاب ‪.‬‬
‫إننا هنا ربما رأينا العدالة المباشرة تتخلف ‪ ،‬أي ربما رأينا نصوص القوانين ل‬
‫تطال جميع المجرمين ‪ ،‬ولكن لله عدالة أعلى من النص الجامد المكتوب‬
‫المتحيز ‪ ،‬يعني المحكوم بحيز معلوم ‪ .‬إن لله عدالة في الدنيا وعدالة في‬
‫الخرة ‪ ،‬وهذا من تتويج المبدأ الخلقي والدليل الخلقي ‪ .‬ففي الدنيا ما‬
‫يصيب المجرم من قلق أو من نقص في الجسم أو المال أو الولد أو الراحة‬
‫أو الطمأنينة جزء من العقاب الذي يفرضه عقاب الله تعالى ‪.‬‬
‫وما من إنسان استطاع أن يخرج من الدنيا فارا ً بنتائج جرمه دون أن يتعرض‬
‫لشيء من المؤاخذة والمحاسبة والقتصاص ‪ .‬لكن إقامة العدل الكامل تكون‬
‫يوم القيامة يوم ينصب الله الموازين القسط ليوم القيامة فل تظلم نفس‬
‫شيئا ً ‪ ،‬هنالك يقام العدل ‪ .‬هذا وجه من وجوه الدلئل الخلقية التي سيقت‬

‫‪161‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بضرورة أن يكون هناك يوم يقام العدل بين الناس جميعا ً ويقتص فيه للدجعاء‬
‫من القرناء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬إن هذه الدلئل الخلقية‬
‫تتصل بمسألة ألمحت إليها سورة ) ق (وسوف تأتي بعد ذلك مفصلة في ما‬
‫سوف نستقبل من السور ‪.‬‬
‫إلى جانب القدرة التي ل تتناهى ‪ ..‬إلى جانب السلطان الذي ل يحد ‪ ..‬الذي‬
‫ينبغي أن يتصف به الله فثمة وصف آخر ل بد أن يتحقق في الذات اللهية‬
‫هو وصف الحكمة ‪ ،‬نحن نعجب بالرجل الحكيم ‪ ،‬ونسمع بالحكمة حين تتلى‬
‫علينا بإعجاب وشوق ‪ ،‬وهذا من الناس ‪ ،‬ونحن نكبر الحكماء إكبارا ً للحكمة ‪.‬‬
‫فإذا اتصل المر بالذات اللهية فقد وجب أن يكون الله تعالى على درجة من‬
‫الحكمة ل تنالها العقول ول تطالها الوصاف ‪ ،‬ل بد أن يكون الله جل وعل‬
‫حكيما ً ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫مما أثاره الجاهليون كما سوف ترون أشارت سورة ) ق ( إشارة موجزة إليه‬
‫موضوع الرسالة ‪ ،‬ليس في الصميم وليس في المبدأ ‪ ،‬لكن في الشكل‬
‫والمظهر ‪ ،‬حين قال محمد صلى الله عليه وسلم ‪ :‬يا أيها الناس أرأيتم لو‬
‫أخبرتكم أن جيشا ً وراء هذا الوادي يريد أن يصبحكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا ‪:‬‬
‫ما جربنا عليك كذبا ً ‪ .‬قال ‪ :‬فإني نذير لكم بين عذاب شديد ‪ .‬أخبرهم أنه‬
‫رسول من عند الله تعالى ‪ ،‬هذه مشكلة بالفعل ‪ ،‬وخاصة على أمة لم تشم‬
‫روائح اليمان من قبل ‪ ،‬ولم يأتها نبي من قبل ‪ .‬هنا أخذ العجب منهم كل‬
‫مأخذ ‪ ،‬ليس بالنسبة إلى مبدأ الرسالة وجوهرها ولكن إلى شكل عارض ‪،‬‬
‫هل يمكن أن يكون الرسول بشرا ً من جملة الناس ؟ ولماذا ل يكون الرسول‬
‫ملكا ً من ملئكة الله تعالى ؟ هنا يأتي ميدان الحكمة التي يجب أن يتصف بها‬
‫الخالق جل وعل ‪ .‬إن سورا ً أخرى عرضت لهذا المشكلة وحكت وقصت‬
‫تساؤل المشركين ‪ ،‬لماذا لم يبعث الله ملكا ً رسول ً إلى الناس ؟ فقال الله‬
‫تعالى ‪ ) :‬ولو جعلناه ملكا ً لجعلناه رجل ً وللبثنا عليهم ما يلبثون ( لو أننا أوجبنا‬
‫أن يكون الرسول منا إلى الناس ملكا ً لكان ضروريا ً أن يكون هذا الملك بشرا ً‬
‫من البشر كي يمكن التفاهم ويمكن التخاطب ‪ ،‬مع عدم اتحاد الجنس ‪ ،‬مع‬
‫اختلف الجوهر ‪ ،‬ل يمكن التفاهم ‪ .‬والرسالة أسلوب من أساليب الفهام‬
‫بالنسبة إلى الناس يؤديه الله جل وعل فيضا ً من رحمته تبارك وتعالى ‪ ،‬فإذا‬
‫اختلف الجنس بين المرسل والمرسل إليه استحال التفاهم وألغيت الرسالة‬
‫وسقطت كل مبررات النبوة ‪.‬‬
‫إن الحكمة التي يتصف بها الخالق جل وعل تتجلى في أنه اصطفى من‬
‫الملئكة رسل ً ومن الناس ) والله أعلم حيث يجعل رسالته ( وبهذا ُرد ّ على‬
‫المشركين هذا التساؤل الشكلي المظهري الذي ل يقدم ول يؤخر إل زيادة‬
‫الشبه والشكوك ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ُتفتتح السورة هكذا بلمحة سريعة جدا ولكنها تحتمل وقوفا طويل ً وطويل ً‬
‫للغاية ) ق والقرآن المجيد ‪ ،‬بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون‬
‫هذا شيء عجيب ‪ ،‬أإذا متنا وكنا ترابا ً ذلك رجع بعيد ‪ ،‬قد علمنا ما تنقص‬
‫الرض منهم وعندنا كتاب حفيظ ( انتبهوا إلى اليحاءات والشارات التي‬
‫حملتها فاتحة السورة ) ق والقرآن المجيد ‪ ،‬بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم‬
‫فقال الكافرون هذا شيء عجيب ( خذ إليك الحرف الول ‪ ،‬والذي سميت‬
‫السورة باسمه ‪ ،‬فهي سميت سورة ) ق ( ليس لها اسم آخر ‪ ،‬اسأل‬

‫‪162‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫نفسك ‪ :‬ما معنى قاف ؟ ولماذا سميت السورة بهذا السم الغريب العجيب ؟‬
‫ارجع ودقق وتأمل ‪ ،‬ما هذا الحرف ؟ واحد من حروف الهجاء التي يتألف منها‬
‫الكلم العربي ‪ ،‬لكنه حرف مفرد ‪ ،‬له صورته في الرسم وليس له معناه في‬
‫الذهن ‪ ،‬لن الحروف جميعا ً ل يمكن أن تؤدي معنى إل إذا تضام بعضها إلى‬
‫بعض فشكلت صورة تؤدي وتترجم عن معنى مستقر في الذهن ‪ ،‬وبغير هذا‬
‫فالحروف المنثورة بل نظام ل تؤدي أي معنى ‪.‬‬
‫) ق والقرآن المجيد ( قسم ومقسم عليه ‪ ،‬والقرآن المجيد ‪ ،‬فهل تثير في‬
‫ذهنك شيئا ً هذه المقارنة أو هذا التجاوب أو هذه الصيغة من صيغ القسم ؟‬
‫اعمل فكرك واجهد نفسك يا قارئ القرآن أن تجيب نفسك عن هذا الشيء ‪،‬‬
‫إن القرآن المجيد بحرف الهجاء ) ق ( يحمل معنى في غاية الخطورة ‪،‬‬
‫ويحمل معنى واسعا ً له صلته المباشرة بهذا السياق الذي نواجهه ابتداًء من‬
‫سورة القارعة وإلى الن ‪ ،‬ولكن كيف ؟ إن القسم جاء على هذا الشكل ) ق‬
‫والقرآن المجيد ( فالمقسم به هو القرآن ‪ ،‬والقرآن معلوم أنه كلم الله‬
‫المعجز المتحدى به الذي حكم الله جل وعل ) أن لو اجتمعت الجن والنس‬
‫على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ل يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ً (‬
‫إن هذا القرآن منذ نزل ‪ ،‬نزل آية خارقة دالة على عظمة المرسل الذي هو‬
‫الله جل وعل ‪ ،‬وقد تنتهي المعجزات ‪ ،‬ولكن معجزة القرآن ستبقى إلى أبد‬
‫الدهر شاهدة صدق على هذه الرسالة ‪ ،‬ودليل ً ل ينفذ على وجود الله تعالى ‪،‬‬
‫وحجة كاملة على صحة كل ما أخبر الله به في هذا الكتاب وعلى لسان نبيه‬
‫محمد صلى الله عليه وسلم ‪ .‬إن الله لم يجامل العرب وهم فرسان البلغة‬
‫والفصاحة والبيان ‪ ،‬وإنما قال بداهة وبصريح العبارة ‪ :‬إنكم عاجزون عن أن‬
‫تأتوا ليس فقط بمثل هذا القرآن ولكن بعشر سور من هذا القرآن ‪ ،‬أنتم‬
‫عاجزون عن التيان بمثلها ‪ ،‬بل عاجزون عن التيان بسورة ‪ ،‬بل أنتم‬
‫عاجزون عن التيان بآية ‪ .‬وكانت صفعة ُوجهت إلى العرب وإلى البشرية منذ‬
‫بداية الدعوة ومازالت تتساقط على رؤوس المنكرين إلى اليوم ‪ ،‬ولم‬
‫يستطع أحد ‪ ،‬ل من العرب ول من غير العرب ‪ ،‬أن يصوغ كلما ً له حيوية هذا‬
‫القرآن وأن يصوغ كلما ً له قوة وأسر هذا القرآن ‪ ،‬وأن يصوغ كلما ً له دقة‬
‫وإحكام هذا القرآن ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫التحدي قائم ‪ ،‬والعجز البشري قائم ‪ ،‬ولكن لماذا ؟ مما صيغ هذا القرآن ؟‬
‫ألسنا نقرأه كلما ً عربيا ً مبينا ً ؟ لماذا يأتي سر وضع الحرف الهجائي ) ق (‬
‫في أول السورة وقرنها بالقسم على القرآن ؟ إن هذا القرآن الذي تحديتم‬
‫به فعجزتم عن التيان بسورة تقارب أصغر سورة من سوره ل يتألف من‬
‫شيء غريب عليكم ‪ ،‬إنه يتألف من ذات الحروف الهجائية التي تستعملونها‬
‫في كلمكم وفي مخاطباتكم ‪ ،‬ولو كان الشأن شأن الحروف والتئامها لكان‬
‫أي إنسان قادرا ً على أن يلم شتات الكلم ويؤلف منه كتابا ً كمثل هذا‬
‫القرآن ‪ ،‬ولكن نرى ل مقارنة مع كلم سائر البشر بل مقارنة مع كلم أبلغ‬
‫البلغاء وأفصح الفصحاء وهو محمد صلى الله عليه وسلم حينما نقارن‬
‫الحديث النبوي بالقرآن الكريم نجد الفرق واسعا ً شاسعا ً كالفرق بين الرب‬
‫والعبد سواء بسواء ‪ ،‬فأين يكمن العجاز إذا ً أين ؟ في الحرف ؟ هذا الحرف‬
‫هو من جنس الحروف التي تستعملونها في الكلم ‪ ،‬في الترتيب ؟ إنك تقول‬
‫) قال ( كلمة تدل على القول ‪ ،‬وتتسرب باشتقاقاتها وأبنيتها أنت تعرف ما‬

‫‪163‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تفعل ‪ ،‬ولكن ل تجد عليها طلوة القرآن ول رونق القرآن ‪ .‬في تركيب الجمل‬
‫في الخيلة في الصور أنت تستعمل هذه الشياء في كلمك وفي كتابتك وفي‬
‫منطقك كله ‪ ،‬ولكن ل تصل إلى مستوى القرآن ‪ ،‬أين إذا ً ؟ ل مجال لك ‪ ،‬إنه‬
‫العجاز الذي ل يمكن أن نوقف على حقيقته برغم ما بذل العلماء قديما ً‬
‫وحديثا ً من البحث في أسراره وقواعده ‪ ،‬ل يمكن ‪.‬‬
‫أرأيت هذا الجسم البشري وهنا الصلة التي قلت لكم إنها سارية في‬
‫الموضوع ابتداء من سورة القارعة إلى الن ‪ ،‬أرأيت هذا الجسم البشري إن‬
‫العلم استطاع أن يدخل الجسم البشري إلى معالم التشريح ‪ ،‬وأحصى بدقة‬
‫متناهية العناصر التي يتألف منها الجسم البشري وقدر بدقة متناهية المقادير‬
‫والتقنيات المتوافرة في الجسم البشري من كل عنصر من هذه العناصر ‪،‬‬
‫ومن الممكن أن يقدم العلم هذه العناصر مأخوذة من الطبيعة نفس العناصر‬
‫التي يتركب منها الجسم البشري نفس المقادير التي يتركب منها الجسم‬
‫البشري نفس المثل نفس المواصفات ولكن العلم يقف عاجزا ً ل يستطيع أن‬
‫يبعث الروح في الخلية التي حاول أن يصنعها ول في هذا الجسم الذي حاول‬
‫ت إلى مسألة حل ً فانظر في‬ ‫أن يسويه ‪ ،‬إن السر هنا كالسر هناك وإذا أرد َ‬
‫القرآن الكريم ‪ ،‬إن الله تعلى حين بدأ خلق آدم عليه السلم قال مخاطبا ً‬
‫الملئكة ) وإذ قال ربك إني خالق بشرا ً من طين ( والشيء الذي أريد أن‬
‫ألفت نظركم إليه هو قول الله ‪ ) :‬فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ( ‪ ..‬إن‬
‫الله يقسم عملية الخلق إلى مرحلتين ‪ :‬عملية الخلق والتكوين ‪ ،‬التسوية‬
‫والنفخ ‪ ،‬فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ‪ ،‬إما التسوية‬
‫فشيء معروف ‪ ،‬أقول ‪ :‬سويت العصا ‪ ،‬إذا أزلت ما فيها من عقد وشذبتها ‪،‬‬
‫وسويت التمثال والصورة ‪ ،‬أي إذا أوجدت نسبا ً ومقاييس بينهما ‪ ،‬فالتسوية‬
‫ضد التشويه ‪ ،‬والتسوية عمل مقصود نخرج هذا العمل إلى حيز يكون معه‬
‫واضح الملمح ‪.‬‬
‫لكن التسوية لن تستلزم أن يقع الملئكة ساجدين لهذا المخلوق ‪ ،‬سوي هذا‬
‫التمثال من الطين ‪ ،‬أصبح له يدان ورجلن وبقية جسمه ‪ ،‬ومع ذلك لم يبلغ‬
‫المرتبة التي يمكن أن يقال للملئكة ‪ :‬اسجدوا لهذا المخلوق ‪ .‬متى تأتي هذه‬
‫المرحلة ؟ بعد النفخ ) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ( هنا يتم البداع‬
‫والعجاز ويستحق النسان بنفخة الروح هذه الكرامة على الله تعلى ‪ ،‬وقبل‬
‫هذه النفخة فهو شيء من الشياء ‪ ،‬عنصر من العناصر ‪ ،‬كأي شيء مبثوث‬
‫على هذه الرض ‪ .‬إن الحياة النسانية معجزة الله ‪ ،‬وإعجازها في هذا السر‬
‫الذي تمّثل في النفخ ‪ ،‬أي نفخ الروح ‪.‬‬
‫وكذلك هذا القرآن ) ق والقرآن المجيد ( صحيح أن هذا الكتاب مؤلف من‬
‫ذات الحرف التي تؤلف منها الكلمات ولكن ليس المر أن نسوي كلمات‬
‫وأن نرصف جمل ً ولكن الشأن في الروح السارية من وراء ذلك ‪ ،‬والروح‬
‫السارية في القرآن هي الروح اللهية ‪ ،‬فكما أن الروح السارية في النسان‬
‫هي النفخة اللهية ‪ ،‬وكما يستحق الخلق بأن يوصفوا بأنهم معجزة الخالق‬
‫بالنفخة التي جعلت الروح تسري كذلك فإن معجزة القرآن بالتسوية اللهية‬
‫وبالروح المعجزة الخلقة المبدعة التي تسري خلل كلمات هذا القرآن ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫رأيتم إذا ً كيف أن هذا الكلم الموجز جدا ً ) ق والقرآن المجيد ( تضمنت‬
‫إشارة إلى اليوم الخر ‪ ،‬كما تضمنت إشارة إلى القدرة غير المتناهية ‪ ،‬كما‬

‫‪164‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تضمنت إشارة إلى حكمة الله البالغة التي تمثلت في إنزال هذا القرآن قال )‬
‫والقرآن المجيد ( قسم على كلم لم يتطاول الناس منذ أن ُووجهوا بالتحدي‬
‫إلى معارضته أو محاولة نقضه إلى الن ) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم (‬
‫أرأيتم تمام الحكمة في جعل هذا القرآن على هذا الشكل المساوق لعملية‬
‫الخلق والبداع وعملية النفخ في الروح ‪ ،‬إن حكمة الله تعالى في إرسال‬
‫الرسل تشبه هذا الشيء بالذات ‪ ،‬ولذلك فل معنى للتعجب ) بل عجبوا أن‬
‫جاءهم منذر منهم ( هم لم يعجبوا أن يأتي منذر من الجن أو من الملئكة ‪،‬‬
‫ولكن منهم فهذه مشكلة خطيرة عندهم ‪ ،‬إنها مشكلة ل تستبعدوها ‪ ،‬مشكلة‬
‫تعيش مع الناس ‪ ،‬إن النسان يستغرب أن يكون الرسول بشرا ً مثله ‪ ،‬وإذا‬
‫ت مثل ً له انظر لكي ترى على أية قاعدة يستند هذا التعجب ‪ :‬إلى أية‬ ‫أرد َ‬
‫مدينة أية بقعة يأتيها من الخارج عالم من العلماء فيقبل الناس إليه فتمتد‬
‫أعناقهم إليه ويتحدثون عن خلله ومناقبه هذا شيء واقعي ومشاهد ‪ ،‬لننا‬
‫جربناه آلف المرات ‪ ،‬ويكون عندهم في مدينتهم منهم من يكون من ذلك‬
‫العالم أفضل منه بمئات المرات ‪ ،‬ومع هذا يقبلون على الغريب الذي‬
‫يسمعون به أول مرة ‪ ،‬ويحول اللف بينهم وبين النتفاع بالقريب الذي هو‬
‫موجود عندهم في كل حين ‪ ،‬لو نظرت إلى القاعدة التي يستند إليها تصرف‬
‫ت أنه الحسد ‪ ،‬إلى الحسد ‪ ،‬أنا أحسدك ول أتمنى لك‬ ‫من هذا القبيل لعرف َ‬
‫الخير وأريد زوال النعمة عنك ‪ ،‬وحينما يأتي نظيرك في العلم أو في المهنة‬
‫أو الصنعة من خارج بلدي ومن غير قومي فأنا أنتقم لصغاري ولهواني من‬
‫علمك بتعظيم هذا الذي أنت خير منه ‪ ،‬فالمسألة تستند إلى التحاسد وإلى‬
‫ت المسألة على نطاق‬ ‫إنكار الفضائل التي توجد عند بعض الناس ‪ ،‬فإذا سحب َ‬
‫أوسع وأشمل هان عليك أن تفهم إلى أية قاعدة يستند قول المشركين ) بل‬
‫عجبوا أن جاءهم منذ منهم ( يقصدون محمدا ً صلى الله عليه وسلم ول‬
‫يريدون أن يقبلوا أن يكون هذا النسان خيرا ً منهم وأحظى عند الله ‪ ،‬والله‬
‫صل هذا المر تفصيل ً مترادفا ً ) أم يحسدون الناس‬‫تعالى كما سيأتيكم قد ف ّ‬
‫على ما آتاهم من فضله ( فهذه هي القاعدة التي يستند إليها هذا النكار وهذا‬
‫التعجب ‪.‬‬
‫ل ترجع إلى شيء من العقل ول إلى شيء من المنطق ‪ ،‬ولكنها تنبثق عن‬
‫غرائز خسيسة هابطة منحطة ل تسمح لنا أن نوليها أي عناية ول أي اهتمام ‪.‬‬
‫) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ( إن‬
‫موضوع النبوة الذي سيأتينا بالتفصيل في المستقبل لم يثر في هذه السورة‬
‫إل في هذه الية فقط ‪ ،‬وفي غير هذه الية لم يتعّرض القرآن أبدا ً إلى إثارة‬
‫موضوع الرسالة ‪ .‬لكن لنا أن نسأل الن سؤال ً ‪ :‬ما العلقة بين اليوم الخر‬
‫الذي تهتم به اليات ابتداًء من سورة القارعة بصورة ذاتية ومباشرة وبين‬
‫موضوع الرسول البشر ؟ إن العلقة واضحة وبسيطة ‪ ،‬إن المشركين أنكروا‬
‫على الله القدرة على الحياء بعد الماتة ‪ ،‬فمن باب أولى أن ينكروا عليه‬
‫القدرة على أن يختص بشرا ً من البشر برسالة يؤديها إلى البشر ‪ ،‬فالموضوع‬
‫من هذه الزاوية يتصل بوصف القدرة الذي أشارت إليها اليات في سورة‬
‫المرسلت وتشير إليه اليات هنا ‪ ،‬وإن هذه المسألة التي تتصل أيضا ً بسر‬
‫التصرف اللهي ‪ ،‬إن للتصرف اللهي لما يجري في الكون حكم وأعاجيب ل‬
‫يدركها أكثر الناس ‪ ،‬بل ل يدرك منها الناس إل القل القليل ‪ ،‬أرأيت كيف‬
‫ضربنا لك المثل ؟ إن القرآن مؤلف من الحروف التي نتحدث فيها ومع ذلك‬
‫ففرق عظيم بين كلمنا وكلم الله في القرآن ‪ ،‬وإن النسان مؤلف من‬
‫العناصر المادية الموجودة على ظهر الرض والتي أحصيناها إحصاًء ‪ ،‬ومع‬

‫‪165‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ذلك فنحن لو جمعناها على النسب والتراكيب الموجودة في الجسم البشري‬


‫لما وصلنا إلى شيء ‪ ،‬ل بد من النفخ ‪ ،‬إن التسوية شيء والنفخ شيء ‪ ،‬وأنت‬
‫ت من وراء ذلك حكمة الله تعالى التي تعجز الفهام والتي تعلو‬
‫ت وجد َ‬‫إذا بحث َ‬
‫على العقول ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫وبعد ذلك فأنت تجد هذه الحكمة حينما تكتشف أن هذا التساؤل ل معنى له ‪،‬‬
‫لننا حينما نتعجب من إرسال رسول إلينا من أنفسنا فما الذي سيكون ؟‬
‫أمران ‪ :‬إما أن ينزل الله من سمائه لعيش بين الناس كما تصورت اليهود‬
‫والنصارى فقالوا إن الله فدى خطايا البشر بان نزل في بطن مريم فكان‬
‫جنينا ً ثم ولد ثم مات على الصليب ليتحمل خطايا البشرية كلها ‪ .‬إما أن يكون‬
‫المر بهذه الصورة وهو كما ترون ضلل مبين وفساد في العقل ل تدرك له‬
‫غاية ‪ ،‬وإما أن يكون الرسول من الملئكة ‪ .‬أما أن ينزل الله من علياء سمائه‬
‫ليخاطب كل مخلوق بحقائق الرسالة فهذا مستحيل ‪ ،‬إن الله تعالى حجب‬
‫ذاته بحجاب العظمة والكبرياء ‪ ،‬ولو سفر عن ذاته لحرقت سبحات وجهه كل‬
‫شيء ‪ ،‬إن موسى عليه السلم أثناء المناجاة ) قال ربي أرني أنظر إليك قال‬
‫لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ( أيوجد‬
‫شيء أقوى من الجبال ؟ ) فلما تجلى ربه للجيل جعله دكا ً وخّر موسى صعقا ً‬
‫فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المسلمين ( إن تواجد الله بين‬
‫العباد أمر غير متصور ‪ .‬يبقى الحتمال الخر أن يكون الرسول من غير‬
‫الجنس البشري أي من الملئكة ‪ ،‬وقلنا من قبل إن القرآن تولى الرد بصورة‬
‫مفحمة على هذا الحتمال قال ) ولو جعلناه ملكا ً لجعلناه رجل ً وللبثنا عليهم‬
‫ما يلبثون ( لو أننا فعل ً اصطفيناه من الملئكة وقلنا له احمل الرسالة إلى‬
‫الناس لكان من ضرورة تفاهمه مع الناس أن يسبغ عليه جسم البشر ‪،‬‬
‫وعادت المسألة كما كانت في الول ‪ ،‬عادت لبثا ً جديدا ً لننا ننظر أمامنا فنرى‬
‫صورة بشرية ‪ ،‬ما يدرينا أنها من الملئكة ؟ ل ندري ‪ ،‬فرجعنا إلى التشكيك ‪.‬‬
‫إذا كان هذان الحتمالن غير واردين انهما غير ممكنين فماذا يبقى ؟ يبقى‬
‫الحتمال الثالث والخير والوحيد والممكن أن يكون رسول كل قوم منهم ول‬
‫يمكن أن يكون رسول القوم من غيرهم ‪ .‬أرأيتم البشر ؟ أرسل إليهم رسول ً‬
‫من البشر من نفس قومه يتكلم معهم بلسانهم قال تعالى ) وما أرسلنا من‬
‫رسول إل بلسان قومه ليبّين لهم ويضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ( أن‬
‫هذا بيان وبلغ تترتب عليها نتائج ويترتب عليها هدى وضلل ‪ ،‬وما لم يكن ثمة‬
‫ضمانات واحتياطات تضمن سلمة هذا البلغ فنحن ننتقص من قيمة البلغ‬
‫وننتقص من قدره ‪ ،‬ل بد إذا ً أن يكون الرسول منا ‪ ،‬فحين يقال ) بل عجبوا‬
‫أن جاءهم منذر منهم ( نضحك ونسخر لهذه العقول التي تتصور أنها تصنع‬
‫شيئا ً وهي ل تصنع أي شيء ‪ ،‬ولو أنها أنصفت لوجدت الحق والحقيقة ‪.‬‬
‫وفي الجمعة القادمة نتابع السورة ‪ ..‬وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله‬
‫وصحبه وسلم ‪ ،‬والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫تفسير سورة ) ق (‬
‫الجمعة ‪ 12‬رمضان ‪ 26 / 1397‬آب ‪1977‬‬

‫‪166‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫) ‪ 2‬من ‪( 4‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد فيا أيها الخوة‬
‫المؤمنون ‪:‬‬
‫فبعد الوقفة المتأنية التي وقفناها في الجمعة الماضية مع مطالع سورة‬
‫) ق ( ل أجد ضرورة تمس إلى إطالة الوقوف عند بقية أجزاء السورة ‪،‬‬
‫وبحسبنا أن نلمس فيها رؤوس المسائل وأن ننظر إلى المهم منها ‪ ،‬فقد رأينا‬
‫أن الحجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين أخذ يتشعب‬
‫ويأخذ مناحي متعددة بعد أن بلغ هذا الحجاج أطواره الجادة ‪.‬‬
‫رأينا أن القضية الواحدة تسلم إلى عدد من القضايا إسلم السبب إلى‬
‫النتيجة ‪ ،‬فقضية اليوم الخر التي أثيرت من زمن وشغلت من اهتمام‬
‫المشركين حيزا ً واسعا ً فأّرقتهم وأفسدت عليهم لذائذهم واستمتاعهم بهذه‬
‫اللذائذ ‪ ،‬تتشعب هذه القضية حتى تجر إلى عدد من المور ‪ ،‬من أهمها‬
‫إمكانية أن يكون الرسول المرسل إلى الناس بشرا ً منهم ‪ ،‬ومنها وهو شيء‬
‫مهم أن سياق الحجاج مع المشركين أدى إلى أبحاثا ً تهدف إلى تصحيح‬
‫التصورات اللهية ‪ ،‬وقلت إن هذا شيء مهم فالواقع أن العبد الذي ل يعرف‬
‫موله على الوصف الحق ل يدرك عظمة هذا الله ‪ ،‬وبالتالي فإن طاعته له‬
‫وولءه له لن تكون إل ناقصة ‪.‬‬
‫إن تحرير صفة القدرة التي ل يعجزها شيء أمر ل غنى عنه يتصل بالغيب‬
‫وقضايا الغيب ‪ ،‬إن بحث القدرة وتقريرها بشمولها الذي ل يتناهى بعدم‬
‫عجزها عن أي شيء ركيزة ل ُيستغنى عنها من البحث في قضايا القيامة‬
‫واليوم الخر ‪ ،‬إن تقرير القدرة التي ل يعجزها شيء أمر ل محيص عنه إنما‬
‫تثار أمام المؤمنين مشكلة شائكة كتلك المشكلة التي جّر إليها الحديث عن‬
‫يوم القيامة وهي مشكلة بعث الجساد بعد الموت ‪.‬‬
‫إنك حينما تتأكد وتقتنع بقدرة الله التي ل تتناهى ول يعجزها شيء فلن يقودك‬
‫أبدا ً أن تسلم بهذه المكانات التي بدت للمشركين مستحيلة ‪ ،‬ونحن نرى من‬
‫أوائل سورة ) ق ( أن المشركين قالوا ) أإذا متنا وكنا ترابا ً ذلك رجع بعيد (‬
‫أي أتقوم القيامة وتعود الجساد إلى ما كانت عليه بعد الموت وبعد أن‬
‫تستحيل هذه الجساد إلى تراب ؟ يردون عليه ) ذلك رجع بعيد ( والرجع هو‬
‫الرجوع والبعث وقيامة يوم الخر ‪ ،‬وفي قولهم ) ذلك رجع بعيد ( إشارة‬
‫واضحة إلى أنهم يكذبون بإمكانية هذا اليوم ‪ ،‬فليسوا يريدون ـ والله أعلم ـ‬
‫عودة إلى الحياة ثانية كهذه التي يتحدث عنها القرآن أمر بعيد أي أنه لن‬
‫يكون إل بعد سنين يخطئها العد ّ والحصاء ‪ ،‬ل ‪ ،‬وإنما يريدون أن ذلك‬
‫مستحيل على حد ما يقول القائل هذا أمر بعيد عن التصور وعن التصديق ‪،‬‬
‫وقولهم ) ذلك رجع بعيد ( معناه ذلك أمر مستحيل ‪ ،‬وهنا تثار المشكلة‬
‫عرضت‬ ‫مشكلة العلم المحيط بكل شيء ‪ ،‬العلم الرباني ‪ ،‬إن القضية حين ُ‬
‫ً‬
‫عرضت وهي تتضمن استحالة المرجع مرة أخرى استنادا إلى‬ ‫بهذا الشكل ‪ُ ،‬‬
‫ماذا ؟ ولماذا يستحيل المرجع ؟ إن القضية التي استند إليها المشركون‬
‫قضية ظاهرة ) أإذا متنا وكنا ترابا ً ( فهم يستندون في نفيهم هذا إلى حقيقة‬
‫معروفة مشهودة ماثلة هي أن النسان حينما يأتي أجله فيموت يوضع في‬
‫باطن الرض ‪ ،‬فإذا أودع في باطن الرض ‪ ،‬بدأت تعمل فيه عوامل التحلل‬
‫والبلى فتتفرق أجزاء الجسم ‪ ،‬تختلط بالتراب وقد ينكشف القبر فتتفرق من‬
‫الجسم أشلء وأجزاء ‪ ،‬وقد تعبث الريح بهذا التراب الذي تحللت إليه خليا‬

‫‪167‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الجسم فيتطاير في كل مكان ‪ ،‬وقد يتمزق فيكون قسم في البر وقسم في‬
‫البحر وقسم تحت الثرى وشيء منه طائر في الهواء ‪ ،‬إن هذه الحقيقة‬
‫الماثلة المشهودة أثارت في أذهان المشركين قضية صبيانية ‪ ،‬ونقول إنها‬
‫صبيانية لن هؤلء ما زالوا يقيسون الرب تعالى بالعبيد ‪ ،‬ينسبون قوى الله‬
‫إلى قوى العبيد ‪ ،‬وقدرة الله إلى قدرة العبيد ‪ ،‬وعلم الله إلى علم العبيد ‪،‬‬
‫وحين يكون المر أمر مقارنة ومقايسة على هذا المستوى ومن هذا القبيل‬
‫فالمر أضحوكة صبيان ‪ ،‬لن الله إذ يدخل ميدان المقارنات والمقايسات مع‬
‫عباده فما هو بإله وليس ربا ً ‪ ،‬وبالتالي فلن تكون له الوصاف العليا‬
‫والسمات المثلى ‪.‬‬
‫إنهم حين رأوا أن النسان إذا غاب الشيء عن حسه غاب عن علمه ‪ ،‬قالوا‬
‫استنادا ً إلى هذا ‪ :‬إن الجسد النساني إذا تحلل وتفرق أجزاءه وإذا أضفت‬
‫إلى هذه الواقعة المعروفة واقعة أخرى ل تقل عنها ظهورا ً وبروزا ً وهو أن‬
‫المر ليس أمر جسد واحد ‪ ،‬وإنما هو أمر المليين من الجساد التي تختلط‬
‫جميعا ً ل تفترق منها ذرة عن ذرة في التركيب وفي الوصف والتي تذهب في‬
‫أجواء السماء وعلى أديم الرض مختلطة متناثرة ل تستطيع أن تميز منها‬
‫شيء ‪ ،‬ول تستطيع أن تميز منها عضوا ً عن عضو ‪ ،‬إنك حينما ترى المر بهذا‬
‫الشكل فستكون القضية مشكلة بحق كما يزعمون ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫فنعود ونؤكد إن القضية صبيانية لنها نتيجة قياس كاذب ‪ ،‬قياس القدرة‬
‫اللهية الخارقة على القدرة البشرية العاجزة ‪ ،‬وقياس العلم اللهي الشامل‬
‫المحيط بالعلم البشري الناقص المتهافت ‪ ،‬ولهذا يرد الله عليهم في هذا‬
‫الموطن ردا ً يشعرهم بتفاهة هذا التطور ‪ ،‬أنتم تستغربون وتستكثرون على‬
‫الله أن يجمع أجزاء الجسم بعد التفرق والبلى ؟ ذلك كل ما يعجبكم من‬
‫هذا ؟ ل بأس ‪ ،‬إذا ً فاعلموا أن مشكلتكم ليست مع الله وليست مع مبدأ‬
‫القرار بيوم القيامة ‪ ،‬إنما مشكلتكم في عجزكم عن إعطاء الله الوصاف‬
‫المناسبة له ‪ ،‬إن مشكلتكم أنكم ل تدركون إحاطة علم الله تعالى فيما‬
‫تشهدون وفيما ل تشهدون ‪ ،‬فيما تبصرون وفيما ل تبصرون ‪ ،‬فيما يقع تحت‬
‫تطوركم وما يعلو ويكبر عن تصوركم ‪ ،‬إن الله أعلم مما تتصورون ‪ ،‬وصدق‬
‫الله العظيم ) وما قدروا الله حق قدره ( فمشكلة النسانية عموما ً أنها لن‬
‫تستطيع أن تمنح الذات اللهية الصفات اللئقة بها ‪ ،‬ولهذا قلنا في أوائل هذا‬
‫الحديث إن هذه السورة وما سيتبعها من سور سوف تتناول تصحيح كثير من‬
‫المفاهيم والتطورات المتعلقة بذات الله تبارك وتعالى ‪.‬‬
‫وإذا ً فمشكلة هؤلء المشركين مع صفة العلم التي يتصف بها الرب جل‬
‫وعل ‪ ،‬أأنتم تستكثرون أن يجمع الله الجزاء المتفرقة بعد أن ذهبت في كل‬
‫مكان ؟ أأنتم تستكثرون أن يعلم الله أين ذهبت هذه الذرة من الجسم وأين‬
‫أصبحت هذه الخلية وأين راح هذا العظم ؟ فإذا ً اعلموا أن علم الله على غير‬
‫ما تتصورون ) قد علمنا ما تنقص الرض مهم وعندنا كتاب حفيظ ( وإنها‬
‫لصور ل شك أن البيان النساني يقف عاجزا ً حتى عن تقريبها ‪ ،‬إن لك أن‬
‫تتصور جهازا ً يشبه أن يكون تلفزيونيا ً يسجل هذه المراحل المتعاقبة ولكن‬
‫ببطء شديد ‪ ،‬هذه المراحل التي تمر على الجسم بعد أن يودع في التراب ‪،‬‬
‫وبعد أن تبرد فيه حرارة الحياة ليسلم إلى برودة الموت ‪ ،‬وبعد أن يؤذن‬
‫بالتفاعل بين هذا الجسد الذي فارقته الروح وبين عوامل التحلل الكامنة فيه‬

‫‪168‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وفي الرض التي أودع فيها ‪.‬‬


‫ب كالشبح غير المنظور في ظلمة الليل البهيم تحلله‬ ‫إن عوامل البلى تد ّ‬
‫وتنتقص من أطرافه ‪ ،‬ولكن ل على هيئة منظورة ‪ ،‬ل على شكل محسوس ‪،‬‬
‫عرض أمام جهاز‬ ‫شيئا ً وراء شيء ‪ ،‬ولكنه النقص الذي ُيرى لو أن هذا الجسم ُ‬
‫بالغ الحساسية لراك في كل لحظة شيئا ً ُينتقص من هذا الجسم ‪ ،‬وأن عملية‬
‫النتقاص مستمرة دائبة ل تهدأ ول تفتر ول تتعطل حتى تأتي على الجسم كله‬
‫) قد علمنا ما تنقص الرض منهم وعندنا كتاب حفيظ ( أرأيتم من ذا الذي‬
‫يستطيع أن يحدد بالضبط المراحل التي يقطعها الجسم الميت وهو منغمر‬
‫في عملية التحلل والبلى ؟ من يستطيع أن يصور هذا ؟ فيعلم أين تذهب كل‬
‫ذرة وأين تروح كل خلية وما يحصل لكل جزء من أجزاء هذا الجسم ‪ ،‬من‬
‫الذي يملك أن يعرف هذا بالضبط ؟ ل أحد ‪ ،‬ولكن الله تعالى وهو القوة‬
‫المتعالية عنك أيها النسان ‪ ..‬والبعيدة عن إحساسك المباشر ‪ ..‬يعلم رأي‬
‫العين ماذا ينقص من جسمك في كل لحظة ‪ ،‬وأين يذهب هذا النقص ‪ ،‬فعلمه‬
‫ل ينقصه شيء ‪ ،‬بل هو كامل وهو محيط ‪ ،‬فإذا كانت مثل هذه المور تسبب‬
‫لك أيها النسان معضلة من المعضلت العقلية فالمر على خلف ذلك‬
‫بالنسبة إلى الله جل وعل ‪.‬‬
‫إن علم الله ل يلحق به جهل فهو عالم بصير يعلم ما يلج في الرض وما‬
‫يخرج منها وما يعرج في السماء ويفعل ما يشاء ‪ .‬إنه يعلم أخفى ما يمكن أن‬
‫ت صفة العلم التي يجب أن تنسب إلى الله لما شكلت‬ ‫تتصور ‪ ،‬إنك لو حرر َ‬
‫هذه القضية في ذهنك مشكلة ‪ ،‬ودليل ً على استهانة القرآن بهذه التصورات‬
‫الصبيانية المؤسسة على مقايسات حتى في مجال المقايسات البشرية ل‬
‫ُتعد ّ شيئا ً لماذا ؟ لن هذه المقايسات خطأ في الساس ‪ ،‬فالقياس المنتج‬
‫والذي يصح أن يسمى قياسا ً علميا ً هو ما تماثل ركناه من كل وجه ‪ ،‬المقيس‬
‫والمقيس عليه ‪ ،‬وأنت تقيس علم الله إلى علمك وقدرة الله إلى قدرتك‬
‫وهذا خطأ في القياس ‪ ،‬لن الذاتين ل تتماثلن وكيف يتماثل العبد والرب‬
‫وكيف يتماثل النسان والله ‪ ،‬إن القرآن كدليل على استهانته بهذه التطورات‬
‫الصبيانية أعرض عن كل هذا ‪ ،‬فكأنه يريد أن يوقع في ذهن القارئ أن ل‬
‫صل له ) بل كذبوا بالحق لما‬
‫تكترث بهذا الهراء وبهذا السخف الذي ل مح ّ‬
‫جاءهم وهم في أمر مريج ( ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫إن المشكلة ليست أن هؤلء يعرضون موقفا ً عقلنيا ً يأخذ به من يصدق‬


‫ويرفض من ل يكترث ‪ ،‬ليست المشكلة هنا ‪ ،‬لكنك أمام قوم مكذبين وحين‬
‫ل لها ‪ ،‬إن النسان‬ ‫تكون أمام قوم مكذبين فالقضية عضلة من العضل ل ح ّ‬
‫يظل في حدود النسانية وفيا ّ لفكره أمينا ً مع عقله منطقيا مع إنسانيته ‪ ،‬ما‬
‫ً‬
‫دام يستطيع أن يأخذ ويعطي في حدود المعقول ‪ ،‬فإذا عن ذلك فالمسألة‬
‫مشكلة ‪ ،‬إن هؤلء لم تكن لهم قضية عقلنية يدافعون عنها ‪ ،‬بل لم تكن لهم‬
‫قضية أصل ً ‪ ،‬إنهم مكذبون ‪ ،‬والمكذب وصفه الساسي أنه مكذب ‪ ،‬ل تتحدث‬
‫معه لمجرد أن تفتح فمك لتتحدث معها يقول لك أنت كذاب أنا ل أصدق ‪،‬‬
‫وإذا ً فما فائدة الكلم ؟ إن موقف المشركين على هذه الشاكلة موقف‬
‫تكذيب في الساس ‪ ،‬وموقف التكذيب ل يسمح بالنظر ويعطل قضية العقل‬
‫ولهذا قال الله تعالى ‪ ) :‬بل كذبوا بالحق لما جاءهم ( و) بل ( حرف إضراب‬
‫في عرف علماء اللغة وحرف الضراب يؤتى به ليقول لك عد ّ عن ذاك دع‬

‫‪169‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫كل هذا الذي مر إنه ل يستحق اللتفاف ‪ ،‬فالذي مر ل قيمة له لنه ليس مبنيا ً‬
‫على أساس صحيح ‪ ،‬وتعال نقول لك ما هؤلء الناس ؟ فهؤلء مكذبون ) بل‬
‫كذبوا بالحق لما جاءهم ( ويقينا ً إن القرآن معجز في كل شيء كما هو معجز‬
‫في قضاياه ‪ ،‬معجز في أساليب عرضه لهذه القضايا ‪ ،‬وكما هو معجز في‬
‫أساليب عرضه فهو معجز في دقائق وتفصيلت هذه الساليب ‪ ..‬انظر إلى‬
‫قوله تعالى ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ( والمر المريج‬
‫هو المر المختلط الذي ل يستطيع النسان أن يستقر معه على شاكلة واحدة‬
‫‪.‬‬
‫إن كلمة ) الحق ( هنا يمكن أن تحمل على القرآن وأن يكون المعنى بل‬
‫كذبوا بهذا القرآن لما أبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬والقرآن حق‬
‫بدون أدنى ريب ‪ ،‬وإن كلمة الحق هنا يمكن أن ُتحمل على الرسول صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ ،‬لن الله أرسل رسوله بالحق وهو حق كذلك ‪ ،‬وإن كلمة‬
‫الحق هنا يمكن أن تحمل على الدين عامة على هذا السلم الذي تضمنه‬
‫القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وإن كلمة الحق هنا يمكن أن تتضمن‬
‫هنا يوم القيامة ‪ ،‬لن يوم القيامة نتيجة للموت الذي يحل بكل مخلوق ‪ ،‬ويوم‬
‫القيامة هو يوم الحق ‪ ،‬والموت هو الحق ‪ ،‬قلت لكم القرآن معجز في كل‬
‫شيء ‪ ،‬والقرآن يأتي فيقول لك ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم ( ويترك لك‬
‫المجال لكي تسرح بفكرك مع السلم ونبي السلم ومع القرآن المتضمن‬
‫لشريعة السلم ومع يوم القيامة هذا الذي يجري الحديث من حوله ‪ ،‬ومع‬
‫الموت هذا الذي يواجهه النسان ‪ ،‬إن كل هذه المور موضع تكذيب من هؤلء‬
‫) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ( ومن هنا أن يتأمل النسان‬
‫هذا المقطع الخير وأن يطيل فيه التأمل ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم‬
‫في أمر مريج ( أرأيت كيف يخّيم الظلم فجأة عليك وأنت تسير في الرض ل‬
‫علمات فيها ول دلئل ول صوت ؟ أرأيت الحيرة التي تحسها أين تذهب ؟ إلى‬
‫اليمين أم إلى الشمال أم إلى المام أم إلى الوراء ؟ أرأيت لو كنت في‬
‫م عليك المسالك والسبل أية حيرة تحسها ؟ إن هذا‬ ‫طريقك فح ّ‬
‫ل الضباب فع ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تقريب وليس تشبيها ول تمثيل للحالة النفسية والعصبية والعقلية التي تنتج‬
‫عند النسان حينما يفقد القدرة على ضبط اتجاهه في مسلك واحد ‪ ،‬إن‬
‫النسان بالحق وليس كل مكذب مكذبا ً ‪ ،‬إن حينما تتورط في دفع الحق‬
‫ورفض الحق والتكذيب بالحق فجدير بك أن تفكر وأن تطيل التفكير ‪ ..‬ماذا‬
‫بعد الحق إل الضلل ‪ ،‬وهل في الدنيا إل هذان الشيئان ‪ ،‬حق يقابله باطل ‪،‬‬
‫وهدى يقابله ضلل ‪ ،‬وعدل يقابله جور ‪ ،‬ونور تقابله ظلمة ‪ ،‬وإلى آخر ما‬
‫هنالك من المتقابلت ‪.‬‬
‫إن الدنيا ليس فيها إل هذا ‪ ،‬فحين ترفض الحق وتدفعه وتأنف أن تقف معه‬
‫وتقّر به ‪ ،‬هل فكرت في المآل الذي ستنتهي إليه نفسيا ً وعصبيا ً وعقليا ً‬
‫وأخلقيا ً ؟ ما أظن ‪ ،‬إن موقف التكذيب في الصل موقف انفعالي أي أنه‬
‫وليد الساعة عاطفي ‪ ،‬ولذلك فهو ل يسمح بطبيعته بأن يفكر النسان وأن‬
‫يطيل التفكير ‪ .‬قلت إن أظهر وصف للمكذب هو مسارعته إلى التكذيب ‪ ،‬إن‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف في الناس ومن ورائه سفهاء‬
‫المكيين يقولون للناس ل تصدقوه فإنه كذاب ‪ ،‬قبل أن يتحدث إلى الناس ‪،‬‬
‫إنه يأتي إلى نادي القوم فيجلس إليهم فإذا فتح فمه ليتكلم قالوا له ‪ :‬تكلم أو‬
‫اسكت فإنا لن نصدق بهذا الذي تقول ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫‪170‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إن موقف التكذيب موقف عجيب سخيف ولكن سفيه غاية السفاهة لنه‬
‫موقف يهين النسان ويرفض العتراف على ذاتية النسان ‪ ،‬ولهذا قلت لكم‬
‫هذا الموقف ل يسمح بالتفكير ‪ ،‬ولو أن النسان ملك القدرة على أن يفكر‬
‫بالضبط وبأناة وروية لوجد أمرا ً مهول ً ‪ ،‬إن الحق أبلج أي أنه واضح ‪ ،‬والباطل‬
‫لجلج أي أنه شك وريب ‪ ،‬إن النسان لو فكر أنه حينما يزحزح قدميه عن‬
‫قاعدة الحق فسوف تقعان ل ريب في بؤرة الباطل لدرك أية حالة يضع‬
‫ي من الشبه والرّيب ‪،‬‬ ‫نفسه فيها ‪ ،‬إن الوقوف مع الباطل وقوف مع بحر لج ّ‬
‫ويا لبؤس هذا النسان الذي يسمح لنفسه أن يكون أسير الريب والشكوك ‪،‬‬
‫إن الله يقول ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ( أي أن أمرهم‬
‫كله مختلط ومضطرب ‪ ،‬ولكي تحاول أن تعرف بعضا ً مما مردود هذه الكلمة‬
‫ارجع إلى مواقف الناس في الدنيا ‪ ،‬إن أرباب الحق وأتباع الحق يملكون‬
‫سكينة النفس وطمأنينة القلب وسلمة التفكير حتى في أدق الظروف وأحلك‬
‫الوقات ‪ ،‬كما يملكون هدوء العصاب ويملكون القدرة على التحكم والضبط‬
‫في مسالكهم وأقوالهم ‪ ،‬يملكون القدرة على أن يكونوا أولئك الناس‬
‫المتوازنين عقليا ً ونفسيا ً وعصبيا ً وأخلقيا ً ‪ ،‬وليس مهما ً بعد أن يكون هؤلء‬
‫قلة كالشعرة البيضاء في جسم الثور السود هذا غير مهم ‪ ،‬المهم أن حجة‬
‫صلوا من الكمال‬ ‫الله على العالمين ناهضة وقائمة بهؤلء الناس الذين ح ّ‬
‫النساني وأماراته تتقاصر عنها همم القاصرين والقاعدين والمتكاسلين ‪.‬‬
‫فإذا جئت الطرف الخر ‪ ،‬جئت إلى الذين رضوا أن يكونوا مع أرباب الباطل‬
‫جنودا ً عونا ً للفساد والخراب ‪ ،‬فما الذي أنت واجد ؟ إن قدرتهم على التحكم‬
‫في أعصابهم معلومة ‪ ،‬ولذلك هم دائما ً متوترو العصاب قابلون للثورة‬
‫والفوران والندفاع العمى غير المصلح ‪ ،‬إنهم كذلك ل يملكون تلك النفوس‬
‫البريئة السليمة المعتدلة ‪ ،‬إنهم يرزحون تحت مجموعات بل حق من العقد‬
‫النفسية ومن المراض النفسية ‪ ،‬فهم أناس تتلون الدنيا بما فيها في أعينهم‬
‫تبعا ً لهذه المراض والعقد التي تعمل داخل نفوسهم ‪ .‬إنهم من جهة أخرى ل‬
‫يملكون المنهج الخلقي الذي تستطيع أن نطمئن إليه ‪ .‬إن المنهج الخلقي‬
‫المتوازن نتيجة طبيعية للخذ بأهداه الحق ‪ ،‬أما أرباب الباطل فل أخلق لهم ‪،‬‬
‫فأنتم بحاجة إلى أدلة وإلى براهين ما أظن أن كل أتباع الباطل بشتى صنوفه‬
‫وصوره وألوانه بل أخلق ‪ ،‬وانظر إلى أين شئت وعلى أي مستوى شئت‬
‫فستجد أن أرباب الباطل بل أخلق في كل زمان وفي كل مكان ‪ ،‬وسأضرب‬
‫لكم مثل ً ك في الستينات حينما امتحن الله المة بسفلة وأوباش يمكن أن‬
‫يكون مفهوما ً أن يزل عن الخلق إنسان عادي ‪ ،‬لكن غير المفهوم أن يزل‬
‫شكي إلى رئيس‬ ‫عن قانون الخلق رأس المة ‪ ،‬في ‪ 1964‬على ما أظن ُ‬
‫دون لمقارعة العدو ليست‬ ‫الدولة عندنا أن كثيرا ً من ضباط الجيش الذي ُيع ّ‬
‫لديهم أخلق ‪ ،‬زنا وخمور ونساء كل ذلك مما يؤدي إلى تحطيم الروح القتالية‬
‫عند الجندي ‪ ،‬فماذا كان جوابه ؟ قال ‪ :‬هذا أمر طبيعي ‪ ،‬إن هؤلء الضباط‬
‫من حقهم أن يعبثوا ‪ ،‬من حقهم أن يسكروا وأن يزنوا ‪ ،‬واستشهد بأبيات من‬
‫الشعر ‪ .‬كنت أسمع هذا في الواقع وأنا في دمشق وأخذني الذهول ‪ .‬أنا‬
‫أعرف مجتمعي وأعرف أمتي وأعرف الهوة العميقة الواسعة التي بينها وبين‬
‫الخلق المستقيم ‪ ،‬ولكن أن يكون حتى في الرأس ‪ ،‬فهذا عجيب ‪ .‬وانزل أنت‬
‫ور لنفسك ما شئت وضع يدك حيث شئت طالما أنت في محاور الباطل‬ ‫وص ّ‬
‫ً‬
‫فأنت مع فساد الخلق ‪ ،‬إذا فل استقامة للخلق ول سلمة للنفس ول هدوء‬
‫للعصاب ول قدرة على التفكير المستقيم ‪.‬‬
‫إن المكذبين الذين يقفون مع الباطل وهذا شيء مشهود ول سيما في قطاع‬

‫‪171‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المثقفين يعرفونه ول يجادلون فيه ول يناقشون ‪ ،‬إن مسألة تغيير القناعات‬


‫والولءات وتبديل الصفوف والمعسكرات والمواقف شيء أصبح سمة بارزة‬
‫من سمات إخواننا المثقفين الذين ربطوا أنفسهم بعجلة الباطل ‪ ،‬لو لم‬
‫يكونوا مرتبطون في عجلة الباطل لعرفوا أن طريق الحق واضح مستقيم ل‬
‫ي له هناك‬ ‫يقبل تغييرا ً ول تبديل ً ‪ ،‬وأن النسان الوفي للحق وف ّ‬
‫ي هنا ووف ّ‬
‫ي له بعد ألف عام ‪ ،‬ل يمكن أن يتغير موقفه ‪ ،‬ول يمكن‬‫ي له اليوم ووف ّ‬ ‫ووف ّ‬
‫أن تغير قناعاته ‪ ،‬وأرباب الباطل الذين أصبحوا في أمر مريج هانت عليهم‬
‫هذه التبدلت والتغيرات لنهم ل يقفون مع قضية ول يدافعون عن قضية وإنما‬
‫يعبرون عن شهوات عن تطلعات وأطماع ‪ ،‬أما القضايا والمثل فكلم يقال‬
‫ليكون حلية في المجالس ل أكثر ول أقل ‪ ،‬ولكنك لو أتيح لك أن تفحص‬
‫سلوك هؤلء الناس لوجدت الناس يلبسون جلود الذئاب حينما تلوح بارقة من‬
‫ب لها النفوس ‪.‬‬
‫طمع يسيل لها اللعاب وتشرئ ّ‬

‫)‪(4 /‬‬

‫إن تعبير القرآن هنا تعبير دقيق ومعجز ول يمكن أن يوّفى حقه من البيان‬
‫) بل كذبوا بالحق لما جاءهم ( فكانت بذلك نتيجة واحدة ) فهم في أمر مريج‬
‫ت من نتائج هذا الشيء المريج ‪ ،‬على كل مستوى‬ ‫ور لنفسك ما شئ َ‬ ‫(‪.‬ص ّ‬
‫وعلى كل اتجاه وفي أي قطاع ستجد آثار هذا المر المريج واضحة ‪ ،‬لو أنك‬
‫ت ظواهر ومظاهر هذا الوصف بارزة على‬ ‫ت في التاريخ القديم لوجد َ‬ ‫نظر َ‬
‫معسر المشركين الذي كانوا يناوئون رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪،‬‬
‫بارزة على شكل حيرة واضطراب وتخلخل وعدم قدرة على المجابة‬
‫ت سمات الموقف المحق في‬ ‫والنفلت لزمام المبادرة من أيديهم ‪ ،‬ولوجد َ‬
‫ً‬
‫موقف النبي عليه الصلة والسلم وأصحابه ثباتا على الحق ووفاًء للحقيقة‬
‫وصفاء للرؤية وقدرة على التفكير السليم وقدرة على أخذ النفس بأقصى ما‬
‫يمكن أن تؤخذ على الكمالت الخلقية ‪.‬‬
‫ت قديما ً وحديثا ً فأنت واجد هذا الحرب المستمرة المستعرة بين‬ ‫ومهما نظر َ‬
‫الصنفين من الناس ‪ ،‬صنف يقف مع الحق فهو يمثل قوة الله التي ل تقاوم‬
‫وصبغة الله التي ل ُتغلب ول يمكن أن يمحوها شيء ‪ ،‬وقد يكون أرباب الحق‬
‫كالشامة في الجسد كالشعرة البيضاء في جسد الثور السود ‪ ،‬وهم حجة الله‬
‫على العالمين ‪ .‬أنت تجد النسان الواقف مع الحق الوفي معه فل تجد معه‬
‫مال ً وليس له نسبا ً ول أعوانا ً ول سلطانا ً وإنما هو مجرد إنسان ‪ ،‬ومع هذا فهو‬
‫مع تجرده وفرديته يفرض نفسه على الناس فرضا ً بما معه من الحق وبالحق‬
‫الذي يتمثل به ‪ .‬وتجد آخرين يتمتعون بالمال والجاه والسلطان ُيخافون‬
‫جون ليصال المنافع فُيتملقون ‪ ،‬ومع ذلك فبمجرد أن يدير‬ ‫فُيصانعون وُير َ‬
‫النسان منهم ظهره للناس يلعنونه ويطعنون به ‪ ،‬وهذا دليل عن ضعفه وعلى‬
‫هوانه عند الناس ‪ ،‬لنه يمثل الباطل الذي يعنون للهزيمة النسانية على‬
‫ساحة التاريخ كله ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم أمر مريج ( أفليس يسوغ‬
‫لنا بعد هذا البيان كله أن نوجه إلى الناس جميعا ً نداًء أن يعاودوا فحص‬
‫ذواتهم وقناعاتهم ومواقفهم ‪ ،‬وأن يعاودوا فحص ولءاتهم وأن تنظروا إلى أي‬
‫ن‬
‫معسكر من المعسكرين ينبغي وفاًء للمعنى النساني أن ينحازوا ‪ ،‬ألم يأ ِ‬
‫لخواننا ولبنائنا أن يقفوا وقفة صادقة مع الذات ل تتحيز ول تتردد ‪.‬‬
‫أأمر السلم أيها الخوة أمر ملتبس ؟ هل هو أمر مريج ؟ هل هو أمر‬
‫مشكوك فيه ؟ ما أظن ‪ ،‬وهذا السلم يشهد له ألد أعداء قديما ً وحديثا بأنه‬
‫ً‬

‫‪172‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الحق الذي ل تعلق فيه شائبة من باطل ‪ .‬فلماذا التردد ؟ إن السلم هو الذي‬
‫يمثل الحق ‪ ،‬وغيره على اختلف الصنوف يمثل الباطل ‪ ،‬وإنك من أجل‬
‫نفسك ل من أجل السلم ‪ ،‬فالسلم غني عنك ) وإن تتولوا يستبدل قوما ً‬
‫غيركم ( من أجل نفسك ل من أجل الله فالله غني عنك ) يا أيها الناس أنتم‬
‫الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ( من أجلك أنت أيها النسان يجب أن‬
‫تعيد حساباتك وأن تقف مع الحق فذلك هو الذي يزيد بالكرامة التي قررها‬
‫الله تعالى لك ) ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من‬
‫الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا ( فانظر عناية الله فيك ‪ ،‬أسجد لك‬
‫ملئكته المقربين وسخر لك كونه العظيم والعريض كله ‪ ،‬فانظر عناية الله‬
‫بك ‪ ،‬أفيليق بك أن تسفه نفسك بهذا الشكل ؟ أل ينبغي لك أن ُتعنى بنفسك‬
‫عني الله تعالى ‪ ،‬إن ذلك عليك حق وواجب ‪ ،‬وإن من‬ ‫جزءا ً من العناية التي ُ‬
‫مظاهر عنايتك بنفسك أن تأطرها على الحق أطرا ً ‪ ،‬وأن تقفها مع الحق دائما ً‬
‫لكي تحصل على هذه الطمأنينة التي حصل عليها المسلمون ‪ ،‬على برد‬
‫اليقين الذي يحسه المؤمنون ‪ ،‬على سلمة الصدر وبراءة النفس التي تسمح‬
‫للمؤمنين أن يناموا هادئين وادعين ‪.‬‬
‫أسأل الله تعالى لنا ولكم جميعا ً أن يرزقنا القدرة على معرفة الحق واعتناق‬
‫الحق والوقوف مع الحق والدفاع عن الحق والموت في سبيل الحق ‪..‬‬
‫وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫تفسير سورة ) ق (‬
‫الجمعة ‪ 26‬رمضان ‪ 9 / 1397‬أيلول ‪1977‬‬
‫) ‪ 4‬من ‪( 4‬‬
‫شوح‬ ‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ..‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫كم أتشوق إلى الوقت الذي أجد‬ ‫نرجو اليوم أن نفرغ من سورة ) ق ( ‪ ،‬ول َ َ‬
‫نفسي قد انتهيت تماما ً من عرض هذه الشريحة من عمر الدعوة السلمية‬
‫في عهدها الباكر ‪ ،‬إن نفسي تنازعني منذ زمن إلى الخلص من هذه‬
‫الحاديث ‪ ،‬لنتفرغ لتحديد المعالم والسبل واستخلص القواعد والمناهج مما‬
‫للناس حاجة إليه اليوم ‪ ،‬وصحيح أن القرآن حوى هذا كله ‪ ،‬ولكن صحيح أيضا ً‬
‫أن القرآن كتاب ُأنزل لذوي اللباب الذين يملكون القدرة على التفكر والتذكر‬
‫‪ ،‬ويملكون القدرة على صبر النفس على أشياء لعل نفوس الكثيرين ل تصبر‬
‫عليها ‪ ،‬ولو كان الناس على سوية واحدة من التفكير ومن حيث التمثل‬
‫للستفادة من كتاب الله تعالى لكنا أغنياء عن هذا الكلم كله ‪ .‬ونزول ً عند‬
‫حكم الضرورة نحن نتحدث ونصبر على هذه الشهور بل وأكثر من الشهور‬
‫حتى تتبلور بين أيدينا قضية نعتقد أنها قضية قرآنية ‪.‬‬
‫فيما يتصل بسورة ) ق ( عرفتم فيما أظن أن العمود الفقري لها هو الحديث‬
‫عن اليوم الخر وإجابة المشركين عن بعض الستفسارات التي تتركز أيضا ً‬
‫حول هذه إمكانية قيام اليوم الخر ‪ .‬وقد مّر منها جانب ‪ ،‬الجانب الذي عرض‬
‫الموضوع ‪ ،‬والقسم الذي أقام الدلئل مما هو في السماء ‪ ،‬ومما هو في‬
‫الرض ‪ ،‬ومما هو في جو السماء ‪ ،‬مما عّبر الله عنه بالماء الذي يسوقه‬

‫‪173‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فيحيي الرض بعد موتها ليقول للناس ) كذلك الخروج ( أي كما يخرج النبات‬
‫الحي من الرض الهامدة كذلك ُيخرج الله الموتى من قبورهم ويبث فيهم‬
‫الحياة مرة أخرى لمصيرهم وليقفوا بين يدي الله تعالى موقف الحساب ‪.‬‬
‫وبعد هذا كله فقد مّر معكم حتى الن من أساليب العرض القرآني أسلوب‬
‫واضح قلما تصدر منه صورة من صور هذا الكتاب وهو السلوب التاريخي ‪،‬‬
‫والسلوب التاريخي أسلوب بالغ الدللة على المقصود ‪ ،‬لنه يعتمد وحدة‬
‫النواميس الكونية ووحدة الجنس البشري ‪ ،‬فالله تعالى حينما يقص علينا أنباء‬
‫من قد سبقنا من المم فإنما يقصها علينا من حيث جزء من هذه المسيرة‬
‫النسانية الكبرى التي بدأت بأبي البشر آدم عليه السلم والتي نحن حلقتها‬
‫الخيرة حتى الن ‪ ،‬وستكون لهذه المسيرة حلقات وحلقات ‪.‬‬
‫فوحدة النسانية ووحدة الجنس البشري شيء يعتمد عليه القرآن اعتمادا ً‬
‫كبيرا ً وكذلك رحمة للنواميس الكونية ‪ ،‬فالخالق العظيم جل وعل ل يحابى‬
‫جنسا ً على جنس ول يقّرب لونا ً ويبعد لونا ً ‪ ،‬وليست لديه تمايزات إل ضمن‬
‫القواعد التي أنزلها على رسله كافة ‪ ،‬وهي تمايز الناس بالتقوى والعافية ‪،‬‬
‫ل بالمم الماضية بسبب العتو والكفر والتمرد‬ ‫وعلى ذلك فما كان من بلء ح ّ‬
‫ل بكل من يعمل على شاكلة هذه القوام ‪ .‬إن‬ ‫والعصيان فمعقول جدا ً أن يح ّ‬
‫القوانين الكونية والنواميس الجتماعية سنن الله في الخلق واحدة ‪ ،‬فأية ملة‬
‫في الماضي قامت ووقفت في وجه المرسلين وكفرت بأنعم الله وصدت عن‬
‫سبيل الله فأصابها الله جل وعل بعذاب وببلء قذفا ً من السماء أو خسفا ً في‬
‫الرض أو مسخا ً في الصور والشكال أو إلى ذلك أخذا ً بالسنين والمجاعة ‪.‬‬
‫وأية أمة من المم من غير هذه المة تسلك نفس الطريق وتقوم بنفس‬
‫أشكال العصيان فهي ل تملك أية حصانة أن يصيبها من البلء مثلما أصاب‬
‫المم الماضية ) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله‬
‫تبديل ً ( ‪.‬‬
‫فهؤلء القرشيون الذين واجههم محمد عليه الصلة والسلم بالدعوة إلى الله‬
‫جل وعل وقرأ عليهم هذا القرآن بأمر ربه كذبوا وأعرضوا بل فعلوا أكثر من‬
‫ذلك فشردوا وعذبوا وقتلوا أيضا ً ‪ ،‬فهل تتصور قريش وغير قريش من المم‬
‫المخاطبة بهذا الكلم الرباني بهذا القرآن العظيم أنها فريدة في ذاتها وأنها‬
‫تحتل في ساحة قدر الله منزلة الصدارة والمحاباة والكرامة بغير استحقاق ‪،‬‬
‫أبدا ً ‪ ،‬إن قريشا ً ل تملك شيئا ً من هذا القبيل ولهذا فبعد أن عرض الله جل‬
‫وعل دلئل النشأة الخرى مما في السماوات من ترتيب ومحكم ودقيق و مما‬
‫في الرض من مظاهر العناية المتمثلة مما يشاهده النسان حسا ً ويشاهده‬
‫عيانا ً سوف ينزل المطر من السماء إلى الرض الجرز فتهتز هذه الرض‬
‫وتربت ‪ ،‬وتخرج نباتا ً يخرج منه حب متراكب يستعمله الناس طعاما ً لهم‬
‫ويستعملونه علفا ً لبهائمهم ‪ .‬كيف يخرج نفس الماء ونفس الرض بنفس‬
‫الشروط ؟ كيف تخرج بواسق النخيل التي تزيد في الحجم والمتانة والقوة‬
‫على الحشائش والنباتات التي تنبت الحب أضعافا ً كثيرة ؟ ثم كيف تكون هذه‬
‫الشجار البواسق ما هو عقيم ل يحمل وما يحمل الطلع المتراكب بعضه فوق‬
‫بعض وكل ذلك آية التقان والبداع ومظهر العناية بهذا النسان الجاحد‬
‫المكذب ؟ وكيف ينزل المطر من السماء فتكون ضمن هذه الحياة ؟ يسوق‬
‫الله ذلك كله في لوحة واحدة ليقول للناس بعد ) كذلك الخروج ( ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫‪174‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فما يحدث التغير في الجوانب التي تشهدونها في السماء وفي الرض وما‬
‫بين ذلك فيخرج الحي من الميت كذلك يكون خروج الناس يوم القيامة للقاء‬
‫ربهم جل وعل ‪ ،‬ومع هذا فقريش تكذب وتعاند وتصر على العناد ‪ ،‬ومحمد‬
‫صلى الله عليه وسلم يسمع ويرى ويتألم آلما ً شديدا ً ‪ ،‬والرسول الله صلى‬
‫ة باطلة أن يتولى‬ ‫الله عليه وسلم ناله من اليذاء ما حمله أن يتمنى ولو أمني ً‬
‫الله بنفسه تأديب هؤلء العصاة ‪ ،‬فالله جل وعل هنا يقول ) كذبت قبلهم قوم‬
‫س أرجح القاويل أنهم قوم شعيب‬ ‫س وثمود ( وأصحاب الر ّ‬ ‫نوح وأصحاب الر ّ‬
‫س في‬‫الذين كانوا يسكنون المنطقة الشمالية من جزيرة العرب ‪ ،‬والر ّ‬
‫الصل هي البئر في لغة العرب ‪ ،‬وهؤلء يقال في الخبار أن الله جل وعل‬
‫أرسل إليهم رسول ً فرموه في البئر ‪ ،‬أي غرقوه في البئر ‪ .‬ول نعرف حتى‬
‫س فعل لدخال مخلوق في البئر ‪ .‬وكما‬ ‫س اسم للبئر أو أن الر ّ‬ ‫الن أن الر ّ‬
‫أن تعلمون أن لغة العرب لغة واسعة تحتاج إلى متابعة متواصلة حتى يدركها‬
‫الواحد منا ‪.‬‬
‫س‬
‫س ( دللة بّينة على أن أصحاب الر ّ‬ ‫وفي قول الله تعالى ) وأصحاب الر ّ‬
‫قوم من الناس جاءهم من عند الله رسول ‪ ،‬فوقفوا منه موقف العناد‬
‫والتكذيب فأصابهم الله جل وعل ببلء وعذاب ‪ .‬ونحن ل نملك من أخبار‬
‫س إل ما جاء في هذه السورة وفي موطن آخر سيأتيكم بعد حين‬ ‫أصحاب الر ّ‬
‫‪.‬‬
‫المهم أن الغرض في السورة ليس تشريح قصة قوم مضوا ‪ ،‬ولكن الغرض‬
‫بيان موقف جملة من القوام مع عرض النتائج التي تعرضوا لها ) كذبت‬
‫س ‪ ،‬وثمود وهم قبائل‬ ‫قبلهم قوم نوح ( وقوم نوح معروفين ‪ ،‬وأصحاب الر ّ‬
‫من العرب التي بادت ‪ ،‬وعاد وفرعون وإخوان لوط ‪ ،‬أما عاد فهم الذين ذكر‬
‫الله من شأنهم قبل الن وهم أيضا ً من قبائل العرب البائدة التي ل ذكر لها‬
‫الن إل في بطون الكتب وعلى صفحات التاريخ ‪ ،‬وأما فرعون فهو في مصر‬
‫الذي طغى في البلد وأكثر فيها الفساد والذي جعله الله آية للمعتبرين إلى‬
‫آخر الزمان حين أغرقه في اليم بعدما تبع موسى عليه السلم ‪ ،‬ثم نجاه‬
‫ببدنه ليكون لمن خلفه آية ‪ ،‬وما زال جثمانه يحتل في المتاحف الثرية حتى‬
‫اليوم ‪.‬‬
‫ً‬
‫) وعاد وفرعون وإخوان لوط ( ولوط أيضا نبي من النبياء الذين أرسلوا إلى‬
‫قبيلة عربية ‪ ،‬فأخذها الله بعذاب بحيث جعل عاليها سافلها لما كانوا يفعلونه‬
‫من الفواحش ما سبقهم أحد من العالمين ‪.‬‬
‫وقال ) وأصحاب اليكة وقوم تبع ( وهؤلء أيضا ً من القبائل العربية ‪ .‬فهذه‬
‫الجملة عنت بإبراز أكبر عدد من القبائل العربية التي طغت وعتت عن أمر‬
‫ل بها البادة والدمار ‪ ،‬وقد كان العرب‬‫ربها ولم تصدق برسله ‪ ،‬فح ّ‬
‫المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم يتناقلون أخبارهم ‪.‬‬
‫فكأن الله تعالى يقول لنبيه ‪ :‬إذا كان قومك كذبوك فقد كذبت المم السابقة‬
‫ذب الرسل( ولكن ماذا يترتب على ذلك ؟ يترتب على ذلك ما‬ ‫لك ّ‬‫أنبياءها ) ك ٌ‬
‫ل بهم العقوبات التي توعدهم‬ ‫قاله فيهم ) فحق وعيد ( أي أن الله تعالى أح ّ‬
‫ً‬
‫بها ‪ ،‬فقريش هم من نسل هؤلء القوام ‪ ،‬وعموما فالعرب المعاصرين للنبي‬
‫صلى الله عليه وسلم يعرفون الشيء الكثير عن هؤلء القوام ‪ ،‬فهم منهم ‪.‬‬
‫فلماذا ل يقع على قريش من العذاب مثلما وقع بهؤلء القوام السابقة التي‬
‫ذبت رسلها ؟ فهل لديهم صك من الله أن ل ينالهم شيء من العذاب ؟ إن‬ ‫ك ّ‬
‫فذ وعيده ‪ ،‬وحال قريش من حال هؤلء القوام ‪ ،‬فالله‬ ‫عد ن ّ‬
‫الله تعالى إذا تو ّ‬
‫يمسهم بالعذاب شيئا ً فشيئا ً فما استكانوا وما تضرعوا كشفنا عنهم العذاب ‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫لكنا كما نرى أن القرآن ل يقف طويل ً عند هذه النقطة ‪ ،‬ليرجع إلى الدرس‬
‫الساسي فيقول ) أفعيينا بالخلق الول بل هم في لبس من خلق جديد (‬
‫أفعيينا أي أعجزنا ‪ ،‬أتعبنا من الخلق الول ؟ أكبر علينا خلق النسان أول مرة‬
‫؟ كأن القصص الماضين بين معترضتين ‪ ،‬يأتي السياق بعدها مباشرة إلى‬
‫أساس المشكلة والقضية ‪ ،‬إن النسان المكذب ل يستوعب إمكانية الحياء‬
‫بعد الماتة ‪ ،‬إمكانية العادة بعد الفناء وتفرق الجزاء ‪ .‬فيسأل الله سؤال ً ‪،‬‬
‫إنك أيها النسان ل تشك قطعا ً أنك مخلوق وإل فكما قال الله ) أم خلقوا من‬
‫ت‬ ‫خلق َ‬‫ت نفسك أو تكون ُ‬ ‫غير شيء أم هم الخالقون ( إما أن تكون قد خلق َ‬
‫مصادفة من غير شيء ‪ ،‬وكل المرين باطل ‪ ،‬ل تملك أنت أن تدعي ذلك‬
‫أبدا ً ‪ ،‬وإذا ً فأنت تقّر بأنك مخلوق ‪ ،‬من خلقك ؟ سمه القوة العظمى أو الله‬
‫أو ما تريد ‪ ،‬ل مشاححة في السماء ‪ ،‬المهم أن تعلم أن قوة أقوى منك وهو‬
‫أكبر منك هو الذي خلقك من العدم ‪ ،‬إذا كنت تقّر بأنك مخلوق في الساس‬
‫فما الذي يجعلك ترفض الخضوع لخالقك ؟ ويسأل الله ‪ :‬أأتعبنا الخلق الول‬
‫حتى ل نستطيع أن نعيده مرة أخرى ؟ إن كل صانع حين يبدأ بإنتاج شيء‬
‫جديد فل شك أنه يعاني شيئا ً من الصعوبات ‪ ،‬ولكن حينما يعاود الكرة مرة‬
‫ثانية فتكون المرة الثانية سهلة وليس فيها صعوبة ‪ ،‬وتكون المرة الثالثة‬
‫أسهل وهكذا ‪ ..‬والعجاز في البداع أي في بدء الخلق في المرة الولى ‪ ،‬هذا‬
‫هو العجاز ‪ ،‬وأما الذي اعتاد على صيغة الشياء فلن يعي بها ‪ .‬ولهذا فمن‬
‫أكبر الخطاء العقلية أن يتصور النسان عجز الخالق للمرة الولى عن العادة‬
‫في المرة الثانية ‪ ،‬هذا مدلول الية الكريمة ) أفعيينا بالخلق الول ( أي أننا‬
‫لن نتعب من الخلق ولكن المكذبين في لبث جديد ‪ ،‬فيصعب على أذهانهم‬
‫إمكان العادة مرة أخرى ‪.‬‬
‫ثم يذهب الله تعالى في بيان أساليب القدرة ) ولقد خلقنا النسان ( وهذا‬
‫تقرير جازم وأن القضية ليست مطروحة للمناقشة والجدل ولكنها قضية‬
‫مفروغ منها ‪ ) ،‬ولقد خلقنا النسان ونعلم ما توسوس به نفسه ( ومن قدراتنا‬
‫أن علمنا يتغلغل ل إلى الحركات الظاهرة ول وإلى التصرفات المرئية ولكن‬
‫إلى الخواطر التي ل ترى ول تسمع والتي تجول بين هذا الكيان النساني‬
‫) ونعلم ما توسوس به نفسه ( ول حظوا التعبير ) ما توسوس به نفسه ( لو‬
‫قال ‪ :‬تحدثه به نفسه ‪ ،‬لكان المر أضعف في باب البيان عن مقدار قدرة‬
‫الله تعالى ‪ ،‬لماذا ؟ لن الحديث كلم مفهوم ‪ ،‬ولكن الوسوسة جرس غير‬
‫مفهوم ‪ ،‬ومع هذا فالله يذكر أنه يعلم حتى هذا الهمس الخفي الذي ل يفهم‬
‫مما هو موجود في أطواء النفس ‪.‬‬
‫) ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ( الله تعالى‬
‫ليس إله فلسفة اليونان الذين تصوروا الله خالقا ً نفض يده من الخلق تكبرا ً‬
‫بعد أن خلقهم وفرغ منهم وسكن في عليائه ل يسمع كلمهم ول شكاياهم ول‬
‫يجيب دعاءهم ‪ ،‬الله في تصور السلم ليس بهذا الشكل ‪ .‬وحين كان‬
‫الصحاب رضوان الله عليهم يسوقون برواحلهم صوب مكة أصبحوا يضجون‬
‫بالدعاء ويرفعون أصواتهم بالدعاء فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ‪ :‬يا‬
‫أيها الناس اربعوا على أنفسكم ) أي راعوا على أنفسكم شيئا ً ما ( ول‬
‫تجهدوها ‪ ،‬إنكم ل تدعون أصما ً ول غائبا ً ‪ ،‬إنكم تدعون سميعا ً بصيرا ً ‪ ،‬إن‬
‫الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ‪ .‬فالله جل وعل قريب جدا ً‬
‫أقرب مما يتصور النسان ‪ ،‬والله جل وعل يقول ) ما يكون من نجوى ثلثة إل‬

‫‪176‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫هو رابعهم ول خمسة إل هو سادسهم ول أدنى من ذلك ول أكثر إل هو معهم‬


‫أينما كانوا ( فأثبت لنفسه المعية التي تقتضي ل القرب فقط وإنما التحاد‬
‫والمتزاج ‪.‬‬
‫) ولقد خلقنا النسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل‬
‫الوريد ‪ ،‬إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ‪ ،‬ما يلفظ من قول‬
‫إل لديه رقيب عتيد ( النسان يرى نفسه خاليا ً ‪ ،‬ولو أنه وعى عن الله جل‬
‫وعل لعرف أن الله وكل به من يحفظ عليه حسناته وسيئاته ) ما يلفظ من‬
‫قول إل لديه رقيب عتيد ( والرقيب هو المراقب ‪ ،‬والعتيد هو القادر ‪ ،‬وليس‬
‫الكلم هنا منصرفا ً كما هو متبادر إلى أذهان العوام إلى ملكين جالسين على‬
‫كتفي ابن آدم أحدهما اسمه رقيب والخر اسمه عتيد ‪ ،‬هذا غلط ‪ ،‬وإنما هو‬
‫مراقب لله ‪ ،‬وهو مراقب حاضر ‪ ،‬ومن أجل أنه حاضر هو عتيد ‪ ،‬ثم ما دام‬
‫النسان محفوظا ً من جميع الجهات بهذا الشكل ومدونة عليه أعماله صغرت‬
‫أو كبرت أو حتى الوسوسة التي تكون في النفس ول يعلمها النسان ‪ ،‬لذلك‬
‫ل تستغربوا أن النسان تخطر في باله أشياء ل يعلمها ‪ ،‬ولهذا جاء في أخبار‬
‫النبي عليه الصلة والسلم ‪ :‬اللهم إني أستغفرك لما أعلم ولما ل أعلم وبما‬
‫أنت أعلم به ‪ .‬فقد يصدر في النسان ولو من باب الصغائر ما ل يقع تحت‬
‫علم النسان ‪ .‬حتى هذا مسجل ومدون عند الله تعالى ‪ ،‬إذا كان المر كذلك‬
‫فهل يستطيع النسان أن يتابع المسيرة ‪ ،‬ل بأس سنأخذ بيدك ‪..‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫) وجاءت سكرة الموت بالحق ( والحق هنا هو المصير الذي سيأتيه كل‬
‫ت منه‬ ‫مخلوق أي هو الموت ‪ ) ،‬وجاءت سكرة الموت بالحق فذلك ما كن َ‬
‫ت منه تحيد ‪ ،‬أي هذا الموقف هو‬ ‫تحيد ( أي هذا الموقف وهذه الحال ما كن َ‬
‫ت منه تهرب ولحق بك فهو الموت ‪.‬‬ ‫ت تفّر منه ‪ ،‬جاءك ما كن َ‬
‫الذي كن َ‬
‫) وُنفخ في الصور ذلك اليوم الوعيد ‪ ،‬وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (‬
‫سائق يسوقها إلى الله ‪ ،‬وشهيد يشهد عليها بأعمالها ‪ .‬يمضي زمن الدجل‬
‫والمراءات التي كانت في الدنيا ‪ ،‬وُيذعن للشهود الذين ل يكذبون ‪ ) ..‬وجاءت‬
‫ت في‬ ‫كل نفس معها سائق وشهيد ( يأتي الخطاب إلى النسان ) لقد كن َ‬
‫ت ليست‬ ‫غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ( لقد كن َ‬
‫متصورا ً شيئا ً من هذا القبيل ‪ ،‬أنت الن ترى من أحوال القيامة ومن أوضاع‬
‫ت تسمع عنه ولكن تغفل عنه ‪ ،‬ولكنك الن تراه بعدما‬ ‫اليوم الخر ما كن َ‬
‫كشفنا عنك الغطاء عن عينيك ‪.‬‬
‫) وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ( نحن هنا في يوم القيامة أمام المشهد الذي‬
‫يضع النسان أمام أعماله ‪ ،‬وقال قرينه لله هذا ما لدي عتيد ‪ ،‬هذا سجل‬
‫العمال حاضر ‪ ) ،‬ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ‪ ،‬مناع للخير معتد مريب ‪،‬‬
‫الذي جعل مع الله إلها ً آخر فألقياه في العذاب الشديد ( هذا نداء الحق ولكن‬
‫) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلل بعيد ‪ ،‬قال ل تختصموا إلي‬
‫وقد قدمت إليكم بالوعيد ‪ ،‬ما يبدل القول لدي وما أنا بظ ّ‬
‫لم للعبيد ( فهنا‬
‫قرين ‪ ،‬وفي اليات من قبل قرين ‪ ،‬فهل القرين هنا هو ذات القرين هناك ؟‬
‫بعض المفسرين يذهب إلى الوحدة بين القرينين ‪ ،‬وفي تقديري أن هذا‬
‫خطأ ‪ ،‬وما جاء في قول الله ) وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ( إشارة إلى‬
‫الملئكة التي تراقب العبد وتسجل عليه أعماله ‪ ،‬ولكن الشارة إلى القرين‬
‫الخر ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ( توحي بمعنى آخر ‪ ،‬فالقرين الول ل يمكن‬

‫‪177‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أن يطغى ‪ ،‬لماذا ؟ لن وظيفته المراقبة والتسجيل وتقديم كشف الحساب‬


‫لله تعالى ‪ ،‬وليس من وظيفته أن يطغي المخلوق البشري ‪ ،‬لكنه في اليات‬
‫الخيرة يوجد غير القرين الول ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في‬
‫ضلل بعيد ( فثمة جدل ونقاش بين الكائن النساني الذي ُبعث من النفخة‬
‫الخرى وهذا القرين الخر ‪ ،‬والله جل وعل يقول ) ل تختصموا لدي ( من هنا‬
‫نستطيع أن نقول أن القرين الخر هو ما يصاحب النسان من الناس‬
‫المضلين ورفقاء السوء والذين يزينون للناس الضللة ‪ ..‬هؤلء القرناء جاء‬
‫ذكرهم كثيرا ً ‪ ،‬وعرض القرآن مواقف للحجاج والنقاش بينهم وبين قرنائهم‬
‫وكيف أنه تبّرأ الذين ) اتبعوا من الذي ُأتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم‬
‫السباب ‪ ،‬وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك‬
‫يريهم الله أعمالهم حسرات وما هم بخارجين من النار ( فالذي نرجح أن‬
‫القرين هنا هو الذي يرافق النسان في الدنيا ممن يزينون لهم خلق الضللة‬
‫والفحشاء والمنكر ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ( أي تنصل من المسؤولية‬
‫) ولكن كان في ضلل بعيد ‪ ،‬قال ل تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ‪،‬‬
‫ما يبدل القول لدي وما أنا بظلم للعبيد ( ‪.‬‬
‫ت فتقول هل من مزيد ( يعني جهنم من كثرة ما‬ ‫) ويوم نقول لجهنم هل امتل ِ‬
‫دخل فيها من العصاة والمكذبين والكافرين تزدحم فيسألها الجبار جل وعل ‪:‬‬
‫ت ؟ فتقول ‪ :‬هل من مزيد ؟ أي هل بقي شيء مني يتسع لمزيد من‬ ‫هل امتل ِ‬
‫الخلق ؟ إن جهنم من كثرة ما ُيلقى بها تمتلئ ‪ ،‬وقد جاء في الحديث‬
‫القدسي بما معناه أن الله تعالى يقول للجنة ولجهنم ‪ :‬لكل منكما ملؤها ‪ .‬أي‬
‫للجنة ملؤها ممن يستحقها ‪ ،‬وللنار ملؤها ممن يستحقها من الكفرة‬
‫والمعاندين ‪.‬‬
‫) وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد ( لن أصحاب الجنة يتراءون أصحاب النار ‪،‬‬
‫وأصحاب النار يتراءون أصحاب الجنة ‪ ،‬لن الجنة وجهنم متجاورتان ‪،‬‬
‫ص علينا أن بعض المؤمنين يطلع على‬ ‫وأصحابهما يسمع الخر ‪ ،‬والله تعالى ق ّ‬
‫أهل الجحيم ‪.‬‬
‫) هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ ‪ ،‬من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب‬
‫منيب ‪ ،‬ادخلوها بسلم ذلك يوم الخلود ‪ ،‬لهم ما يشاءون ولدينا مزيد ( هذا‬
‫المشهد حينما يحق الحق وينكشف الغطاء ويرى المؤمن ما أعده الله للتقياء‬
‫من النعيم وما أعده الله للشقياء ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫بعد هذا يلتفت السياق إلى العرب المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم‬
‫) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا ً فنقبوا في البلد هل من‬
‫محيص ( والقرن هم الجماعة والقبيلة من الناس ‪ ،‬هؤلء القرون الذين كانوا‬
‫قبلكم يا معشر المكذبين كانوا أشد منكم قوة وأكثر منكم أولدا ً وأموال ً‬
‫وأثاروا الرض وعمروها أكثر مما عمرتموها أنتم وذهبوا وسافروا وجاءوا‬
‫ونقبوا في البلد ‪ ،‬ومعنى نقبوا في البلد ‪ :‬النقب هو رأس الطريق ‪ ،‬تقول‬
‫قب الطريق وأخذ القوم أنقاب الطرق أي وقفوا على أفواه‬ ‫أخذ فلن ن ُ َ‬
‫ً‬
‫الطرق ‪ ،‬من يأخذ فم الطريق يكون حارسا للطريق ‪ ،‬أي يملك الطريق‬
‫قب أي أنه سلك الطرقات سلوكا ً بحيث جعله خاصا ً‬ ‫برمته ‪ ،‬فمعنى الفعل ن ّ‬
‫به من كثرة ما مشى فيها وسافر عليها ‪ ..‬فالله جل وعل حين يقول ) فنقبوا‬
‫ل والترحال إلى البلد الواسعة‬ ‫في البلد ( أي أنهم أكثروا السفر والح ّ‬

‫‪178‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فخرجوا من بلدهم لتجارات أو لصناعات أو لمعارك وحروب أو أي سبب من‬


‫السباب ‪ ،‬فإذا ً أنتم يا معشر قريش ماذا تعرفون من الدنيا إل هذه البلد‬
‫الضيقة ‪ ،‬وحياتكم ليس فيها إل هذا الحرم وإل رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة‬
‫الصيف إلى الشام وهذا كل شيء عندكم ‪ ..‬أما من كان قبلكم فقد طافوا‬
‫الدنيا وهذا دليل على قوة هؤلء القوام وعلى كبر حجم دولتهم وأنها ملكت‬
‫من أسباب القوة الشيء الكثير ‪ ..‬ومع ذلك فقد أبادها الله ‪ ..‬فاغتراركم‬
‫بقوتكم يا معشر قريش شيء ل وزن له ‪ .‬لذا جاء صيغة السؤال ) هل من‬
‫محيص ( هل استطاع أحد أن يتملص من بلء الله ؟ ل ‪ ) .‬إن في ذلك ذكرى‬
‫لمن ألقى السمع وهو شهيد ( ‪.‬‬
‫) ولقد خلقنا السماوات والرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من‬
‫لغوب ( هل يريد الله هنا أن يقول لنا أنه ينفي عنه التعب خلل خلق‬
‫السماوات والرض ؟ ل ‪ ،‬ولكن الله يريد أن يطبع في أذهاننا أن العمل يجب‬
‫أن ل تكون له عواقب من التعب ‪ ،‬يريد أن يقول لنبيه هذا وأنه يجب أن‬
‫يدركك اللغوب والتعب ‪ ،‬لنك في طريق يضمن لك مرضاة الله ويضمن لك‬
‫السعادة في الدنيا والسعادة في الخرة ‪ ،‬فينبغي لك أن ل تتعب ‪ .‬و) لغوب (‬
‫دللة على جفاف الحلق الذي يكون من التعب ‪.‬‬
‫) فاصبر على ما يقولون ( فإيحاءات الية السابقة موجهة إلى محمد عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ ) ..‬وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ‪،‬‬
‫ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ‪ ،‬واستمع يوم يناد ِ المناد ِ من مكان قريب ‪،‬‬
‫يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج ( فترى أن الله حدد لنبيه عليه‬
‫الصلة والسلم مهمته في شيئين ‪ :‬صبره على البلء ‪ ،‬وتمسكه بالعبادة‬
‫) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك ( ثم ماذا ؟ ) واستمع يوم ينادِ‬
‫المناد ِ من مكان قريب ( والفعال من هذا القبيل ‪ ،‬أي أن العرب تضع الفعال‬
‫مكان بعض ‪ ،‬فاستماع المنادي شيء ل ُيعقل ‪ ،‬لن النسان إذا في ذلك‬
‫الوقت فإنه ل ينتفع بذلك النداء ‪ ،‬إذا ُنفخ في الصور يسمع الخلئق النفخة‬
‫لكنه السمع الذي ل ينفع ‪ ،‬والله تعال ساق الستماع هنا في معرض النتفاع‬
‫والسمع ) يوم يناد المناد من مكان قريب ‪ ،‬يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك‬
‫يوم الخروج ( وإذا ً فالله جل وعل يريد من الستماع أن يكون بمعنى النتظار‬
‫والتربص ‪ ) .‬ذلك يوم الخرج ( أي الخروج من الجداث ‪.‬‬
‫ثم ) إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير ( هذا تيئيس لكل الذين يشعرون‬
‫بضيق الصدر ويتمنون أن لو أن الله بطش البطشة الكبرى ‪ ) ،‬إنا نحن نحيي‬
‫ونميت ( أي أن المر أمرنا نوقع الموت ساعة نشاء ونحيي ساعة نشاء ‪.‬‬
‫) يوم تشقق الرض عنهم سراعا ً ذلك حشر علينا يسير ‪ ،‬نحن أعلم بما‬
‫يقولون ‪ ( ..‬نحن نعرف ماذا يتسلى به هؤلء المشركون ‪ ،‬ولكن ) وما أنت‬
‫عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ( بعد كل هذه الرحلة وبعد عرض‬
‫جميع الحجج والبراهين وبعد أن انطبعت في أذهاننا مواقف عصيبة وسفيهة‬
‫خض الدري بقوله ) ما أنت‬ ‫من المشركين تجاه رسول الله ‪ ..‬بعد كل هذا يتم ّ‬
‫عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ( وجبار صيغة مشتقة من الفعل )‬
‫جبر ( وجبر تحمل معنى القهر والكراه والقسر ‪ ،‬ومعنى ) ما أنت عليهم‬
‫بجبار ( أي ل تملك قهرهم ول قسرهم على أن يؤمنوا لنهم لن يؤمنوا إل أن‬
‫ت جبارا ً ول‬‫يشاء الله ‪ ..‬فأنت ليست وظيفتك أن ترغمهم على اليمان ولس َ‬
‫قهارا ً على الناس ‪ ،‬ولكن أنت مذكر ) فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ( فالله‬
‫ت جبارا ً ول قاهرا ً ‪ ،‬وإنما‬
‫كر النبي والدعاة جميعا ً بهاتين الكلمتين ‪ :‬لس َ‬
‫هنا ذ ّ‬
‫أنت مذكر ‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫عند هذه النقطة تنتهي السورة جميعا ً وأعترف أني تجاوزت نقاطا ً كثيرة ‪،‬‬
‫ومع ذلك فلو أنني وقفت عند كل شيء لطال الشوط طول ً متصاعدا ً ‪،‬‬
‫وحسبنا أن نعرف أن الشيء الساسي لكل سورة والمدلولت الرئيسية لكل‬
‫سورة ‪ .‬وسوف نستعين بالله تعالى على ما تبقى بين أيدينا من بقية هذا‬
‫الشوط ‪ ،‬لعلنا أن ننتهي في القريب العاجل لنقف وإياكم إذا أراد الله وقفة‬
‫الدارس المتأمل الذي يبدأ العمل اليجابي المثمر الذي ينتج للجيال الجديدة‬
‫قواعد ومعالم يسير عليها المسلمون ‪.‬‬
‫اللهم نسألك العون والمزيد من فضلك ‪ ..‬وصلى الله على سيدنا محمد وعلى‬
‫آله وصحبه أجمعين ‪ ..‬والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫تفسير سورة ص (‬
‫الجمعة ‪ 16‬ذي الحجة ‪ 25 / 1397‬تشرين الثاني ‪1977‬‬
‫) ‪ 3‬من ‪( 5‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‪ ...‬أما بعد أيها الخوة المؤمنون ‪:‬‬
‫سنحاول اليوم أن نلقي بعض النظرات التفصيلية على بعض ما أجملناه في‬
‫الماضي ونحن نلخص مقاصد سورة ) ص ( ‪ ،‬ومن التلخيص الذي قمنا به في‬
‫الجمعة الماضية يتضح أن فواتح السورة الكريمة تتصل أوثق اتصال للجدل‬
‫الذي كان دائرا ً في مكة إبان فواتح الدعوة ‪ ،‬ويتضح أن هذا الجدل يحمل‬
‫طابعه الخاص من حيث أنه ل يصدر عن نظر عقلي وليست له ضرورات‬
‫منطقية ‪ ،‬وإنما ابتعثه وأثاره ما كان يعتمل في نفوس المشركين المخالفين‬
‫لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بواعث الحسد وما يوّلده الحسد من‬
‫ضغائن وأحقاد ‪.‬‬
‫كما يتضح من مراجعة فواتح السورة أن الله جل وعل ذكر لرسوله‬
‫وللمؤمنين جملة من التلقينات التي أراد لها الله تعالى أن تحيا في المسلمين‬
‫أبدا ً ‪ ،‬لكي ل يطغى ضجيج المعركة الدائرة رحاها على عوامل الثقة في‬
‫المستقبل التي يريد الله تعالى أن تظل حية نيرة مشعة موجهة لمسالك‬
‫المسلمين أبد الدهر ‪ .‬فبّين له جل وعل أن ما يراه أمامه من ظواهر ل‬
‫عقلنية ومن وقائع بعيدة عن النسانية فشيء عند التأمل ل يدعو للعجب‬
‫وللدهشة والستغراب ‪ ،‬فتلك هي طبيعة الناس بما أنهم ينفرون من الجديد‬
‫ويفرون من كل ما يرفعهم عن هاوية التقليد ‪ ،‬وأن أمما ً مّرت على هذا‬
‫الكوكب جاءتها رسل الله من قبل بالهدى والبينات وعرضت لها الدلئل‬
‫الواضحات ل تحتمل أخذا ً ول ردا ً ‪ ،‬ومع ذلك أصرت على العناد واستمر‬
‫مريرها في التكييف وأبان له أيضا ً ـ كي ل تتزعزع ثقة المؤمنين بالطريق‬
‫الذي اختاره لهم ربهم جل وعل ـ أنه برغم أن الجو من حولهم مكفهر ‪،‬‬
‫صعب مخيف موئس ‪ ،‬فإن هذا كله يجب أن ل يؤثر على ثقة المؤمن بغلبة‬
‫الحق وانتصار العدل ‪.‬‬
‫وحين قال لهم ) جند ما هنالك مهزوم من الحزاب ( فإنما أراد له أن يعلم‬
‫هو والمؤمنون جميعا ً أن أتباع الباطل وأحلس الضللة مهما تحالفوا ومهما‬

‫‪180‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بلغت قدرتهم على المناوأة والكيد والحرب فإن النتائج المقررة في علم الله‬
‫سلفا ً وهو أنه ينصر رسله وينصر المؤمنين ‪ ،‬ولكن بعد سلسلة من البلء‬
‫والتمحيص تميز الخبيث من الطيب والصادق من الكاذب والمؤمن البر من‬
‫الفاجر الشقي ‪ ،‬وحين قال له ) جند ما هنالك مهزوم من الحزاب ( فإنما‬
‫أراد أن يلفت المخاطب بهذا القرآن وهو النسان العربي اللسان إلى ما في‬
‫خمة أو‬ ‫ول ويصور الصورة مض ّ‬ ‫حرف ) ما ( في ) جند ما ( من البهام الذي يه ّ‬
‫خمة إلى ما يتركه هذا الحرف في ذهن السامع ‪ ،‬فالله تعالى كان‬ ‫غير مض ّ‬
‫قادرا ً على أن يقول له ‪ :‬إن جند قريش مغلوبون ‪ ،‬فيتناول التخصيص إطارا ً‬
‫محدودا ً في الزمان ومحدودا ً في الحجم والمكان ‪ ،‬ولكنه في البهام المتمثل‬
‫في حرف ) ما ( أراد له أن يفهم وهو ابن اللسان أن الجند مطلق جند ‪ ،‬إذا‬
‫تكاتف وقاتل الحق فهو مهزوم ‪ ،‬وحينما أردف هذا الحرف بكلمة الحزاب‬
‫أراد أن يترك في أذهان المؤمنين الذين يفهمون عن الله جل وعل معنى ما‬
‫أراد ما أشارت إليه بداية السورة الكريمة ) بل الذين كفروا في عزة وشقاق‬
‫(‪.‬‬
‫سأترك هذه النقطة الن ‪ ،‬لبدأ من البداية عسى أن أستطيع إلقاء بعض‬
‫الضواء على جملة من القضايا التي عرضتها فواتح السورة الكريمة ‪،‬‬
‫ومعذرة إذا بدا الحديث مخالفا ً بعض الشيء لما ألفتموه ‪ ،‬فنحن في تتبعنا‬
‫لسياق الدعوة في طور متقدم تقدما ً طيبا ً للغاية ‪ ،‬وإذا ً فما ُيعرض من قضايا‬
‫وما يثار من مشكلت لها طبع الجدية ولها صفة الستمرار ‪ ،‬ويجب أن يكون‬
‫لها مداها الواسع والعميق ‪ ،‬وانسجاما ً مع هذا فنحن مطالبون بشيء من‬
‫الناة والنظر الدقيق في صياغة آيات الله تبارك وتعالى ‪ ،‬لنبدأ من البداية ‪.‬‬
‫إن الله تعالى يقول ) ص والقرآن ذي الذكر ‪ ،‬بل الذين كفروا في عزة‬
‫وشقاق ( وسنسلك طريقا ً نرجو أن يأخذ الخوة جميعا ً أنفسهم به على ما‬
‫فيه من مشقة ‪ ،‬ولكنه الطريق المنتج وهو الطريق الذي يعتمد حقائق اللغة‬
‫وأساليب البيان وفنون القول أساسا ً لفهم موحيات القرآن الكريم ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫حرف ) ص ( تحدثنا عنه فيما مضى ‪ ،‬ويأتي بعده قسم بالقرآن ووصف‬
‫للقرآن وكما قلنا عن القسم في الماضي نقول عنه تكرارا ً إن القسم يكون‬
‫ضا َ‬ ‫على شيء عظيم الهمية بالنسبة للمقسم وبالنسبة لما يتناوله القسم ح ّ‬
‫ظم وإل بذي حرمة لن‬ ‫ودفعا ً أو رد ّا ً ومنعا ً ‪ ،‬وبذلك ل يصح القسم إل بمع ّ‬
‫المراد من القسم هو الدفع إلى عمل عظيم وتأكيد هذا الدفع أو الكف عن‬
‫أمر شائن وتأكيد هذا الكف ‪ .‬والقسم هنا ل شك جاء لعظيم وهو القرآن الذي‬
‫حوى شرائع السلم وهداية الله إلى الناس جميعا ً إلى آخر الزمان ‪ ،‬فهو‬
‫قسم بعظيم ‪ ،‬وهو أيضا ً قسم على شيء عظيم وهو حالة النسانية حينما‬
‫تنبذ هداية الله وتعرض عن تعليمات النبياء ‪ ،‬ولكن القرآن جاء هنا منصوصا ً‬
‫أيضا ً ‪ ،‬فإذا عرفنا أن القسم في أساسه وفي طبيعته ل يكون إل بما هو‬
‫ظم وبما هو مقدس عرفنا بداهة أن المقسم به وهو هنا القرآن ل يحتاج‬ ‫مع ّ‬
‫إلى إضافة أخرى توقع في الذهن أن هذا القسم وقع بشيء عظيم ‪ ،‬فمجرد‬
‫التيان بصيغة القسم ُتشعر بعظمة المقسم به ‪ ،‬فحين تضاف إلى المقسم‬
‫به صفة أخرى فهي صفة مرادة بالذات ل بالتبع ‪ ،‬فأية هذه التي ُوصف بها‬
‫القرآن الكريم ؟ إنه ُوصف بأنه ) ذي الذكر ( والذكر والذكرى والتذ ّ‬
‫كر وما‬
‫في بابها عملية استعادة لما كان منفيا ً ‪ ،‬فل يجوز لنا أن نقول عن عملية‬

‫‪181‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫قنه من قبل أنه عملية تذكير ‪ ،‬لن‬ ‫التعليم المبتدأ الذي لم يسبق لحد أن تل ّ‬
‫التعليم المبتدأ تثبيت معلومات ل عهد للنسان بها من قبل ‪ ،‬فيستحيل‬
‫كر أو استذكار‬ ‫ويتناقض أن نقول إن هذه العملية عملية تذكير أو ذكرى أو تذ ّ‬
‫ولكن حينما تستجيش في نفس إنسان ما دواعي الذاكرة لشيء أسقطه من‬
‫حسابه كان معلوما ً له من قبل فأنت في هذه الحالة فقط تمارس عملية‬
‫الذكر والتذكير والذكرى والستذكار وما في هذا الباب ‪ .‬فالقرآن إذا ً ُيحدد هنا‬
‫ج المسلمين إلى أن يعرفوا ‪ ،‬وصف يتناول بنتائج تحديده‬ ‫له وصف ما أحو ُ‬
‫جملة السلوك الذي يسلكه النسان وهو يدعو إلى الله تبارك وتعالى سواء‬
‫في الدعوة العامة التي تدور على الجدل بالتي هي أحسن والموعظة الحسنة‬
‫أو الدعوة العنيفة التي قد تضطّر إليها أمة السلم أحيانا ً حينما ترفع السلح‬
‫لتبليغ رقاب الجبارين من أجل أن تناط بالضمير النساني أمانة هذه الرسالة‬
‫اللهية السامية ‪.‬‬
‫فالقرآن موصوف بأنه ذو الذكر أي صاحب الذكر وقوله تعالى ذو الذكر يعني‬
‫صائب الذكر ُيشعر بمزيد اختصاص بالوصف ‪ ،‬فحينما تقول هذا الشيء‬
‫صاحبه فلن أي أن فلنا ً يختص به دون غيره من المخلوقات ‪ ،‬فحينما نقول‬
‫إن القرآن ذو الذكر أو صاحب الذكر فذلك يعني بالضبط أنه ل توجد وسيلة‬
‫وسيلة أخرى لتذكير النسان بما نسي إل هذا القرآن ‪ ،‬وهذا يحدد سبيل‬
‫الهداية وإلى أن تقوم الساعة بالقرآن وينفيها بطريق اللزوم عن ما سوى‬
‫القرآن ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫نعود إلى الذكر فنقول لماذا وصف الله جل وعل هنا بأنه ذو الذكر ‪ ،‬ذلك لن‬
‫هذا النسان وإن جاءته آيات الله على ألسنة النبياء وفي صحائف موحى بها‬
‫من عند الله تبارك وتعالى فل جديد في أصول اليمان ول جديد في قواعد‬
‫العقيدة يفجأ بها رسل الله وأنبياؤه هؤلء الناس ‪ ،‬إن الله جل وعل ذكر لنا أن‬
‫الدين هو ما فطر الله جل وعل الناس عليه قال ) فطرة الله التي فطر‬
‫الناس عليها ل تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ( وبعد أن بين لنا بوضوح أن‬
‫السلم الذي هو دين الله ودين النبياء جميعا ً الذي ارتضاه الله لخلقه هو دين‬
‫الفطرة زاد لنا المسألة إيضاحا ً ألقى الضواء على جانب من جوانب هذه‬
‫الجبلة وهذه الفطرة فذكر لنا في سورة النعام أن الله جل وعل أخذ من بني‬
‫آدم من ظهورهم ذّريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ‪.‬‬
‫ففي صميم كل إنسان في صميم الكينونة البشري الجبلة النسانية استعداد‬
‫لهذه المعرفة التي تأتي آيات الله جل وعل لتجلو عنها الغبار فالقرآن حينما‬
‫يوصف بأنه ذو الذكر وينزل على قوم مشركين ل يزيد على أن يذكر الناس‬
‫بالحقيقة الزلية الخالدة وهي أنهم في طبعهم وفي تكوينهم وفي جبلتهم‬
‫وفي أعمق أعماقهم يعرفون أن الله هو الذي خلقهم ‪ ،‬ولقد ذكر لهم في‬
‫سور عديد من هذا القرآن أنهم إذا وقعوا في الشدائد وإذا عضتهم النوائب‬
‫وادلهمت عليهم الخطوب جأروا إلى الله بالدعاء ورفعوا أصواتهم بالنداء‬
‫ل من تدعون إل إياه ( ولكنه أيضا ً ذكر تبارك وتعالى أنه حينما‬
‫وقال لهم ض ّ‬
‫يكشف عنهم الضر يعودون لما نهو عنه ‪ ،‬فطبيعة النسان مكونة من النسيان‬
‫) ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ً ( ولما كان المر بهذه‬
‫المثابة ‪ ،‬النسان مركوز في طبعه معرفة الخالق والتسليم لمرادات الخالق‬
‫والطاعة لوامر الخالق ولما كان معروفا ً أن هذا النسان يفتقر إلى العزيمة‬

‫‪182‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫التي تهيئ القدرة للوقوف مع الحقيقة حتى الموت ‪ ،‬ولما كان النسان‬
‫مفطورا ً على النسيان كانت أوضحت ذلك كله آيات الله تبارك وتعالى كان‬
‫لزما ً أن يكون الوصف اللزم والمصاحب دائما ً ليات الله تبارك وتعالى‬
‫ولهداياته إلى الناس أنه مذكر ‪ ،‬وهذا ما وصف به رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم في قول الله جل وعل ) فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم‬
‫بمسيطر ( ‪.‬‬
‫فحين يوصف القرآن أنه ذو الذكر أي أنه الوسيلة التي تعين النسان إلى‬
‫النفاذ إلى ما وراء المشاغل اليومية وزحمة العوارض التي تصيب النسان‬
‫ليستذكر النشأة الولى والجبلة الساسية وليستذكر حقيقة الحقائق التي‬
‫ينبغي أل تغيب عن باله وهي أنه جاء إلى هذا الكون بموجد أوجده في هذا‬
‫الكون ‪ ،‬ولن يجئ من تلقاء ذاته ولن يجئ مصادفة ول اعتباطا ً ‪ .‬وحين ُتركزَ‬
‫مثل هذه القضية فينبغي أن نشير إشارة خاطفة إلى انعكاساتها على التفكير‬
‫البشري وعلى السلوك البشري ‪ ،‬إذا كان الدين برمته عملية استذكار لما‬
‫نسي النسان وعملية بعث للعزيمة كي يقف النسان المتردد الخائر مع آيات‬
‫الله بكل قوة وأن يأخذ بأحسنها وهي كلها أحسن إذا كان الدين بهذا الشكل‬
‫فعلى صعيد الدعوة وكما تجلى ذلك واضحا ً في تأديبات الله جل وعل‬
‫للمؤمنين وفي توجيهات الرسول الله صلى عليه وسلم للمة فإن الخذ‬
‫بأسباب اللطف والليونة والحكمة والموعظة الحسنة هو القانون الذي يجب‬
‫أن ل يحيد عنه الدعاة إلى الله قيد شعرة ‪ ،‬لن عدا هذا القانون فنسيان‬
‫لجملة أوامر الشريعة وذكٌر لحط ما في نفس النسان من حب للذات ورغبة‬
‫في الشهرة والظهور والستعلء ‪ ،‬وكل ذلك يفسد على العامل في طريق‬
‫السلم كل عمل ‪.‬‬
‫وإذا ً ففي صعيد الدعوة إن هذه الكلمة المفردة التي وصف القرآن بها من‬
‫أنه ذو الذكر إنما تحتم على المؤمنين التمسك بهذا الجانب بالدعوة والبعد‬
‫عن رعونات الخلق التي تلزم كثيرا ً من الناس بسبب نسيانهم لهذا الحقيقة‬
‫الهامة من حقائق هذا الدين ‪ .‬ولو أننا راجعنا وقائع السيرة ووقائع حياة‬
‫الصحاب رضوان الله عليهم جميعا ً ووقائع حياة الصالحين من سلفنا المبارك‬
‫رحمهم الله تعالى لوجدنا صحائف حياتهم طافحة بهذه النماط الرائعة من‬
‫الدعوة إلى الله على هدى وبينة ولكن بمنتهى المحبة وبمنتهى الطيب‬
‫وبمنتهى المعرفة بحقيقة النفس البشرية وبما يثيرها ويدفعها إلى اعتماد‬
‫أساليب ردود الفعل العنيفة والضارة والتي ل تجدي المسلمين نفعا ً قليل ً ول‬
‫كثيرا ً ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫وحينما نراجع مسالكنا ومسالك الخلف الناسين المهملين المفرطين نجد‬


‫العكس تماما ً ‪ ،‬ففي تاريخ العلم السلمي تاريخ الحضارة السلمية وحينما‬
‫يؤرخ لحركة ازدهار العلم في العصر العباسي كان يقال بصورة دائمة إن‬
‫مجالس الجدل والمناظرة بين العلماء كانت تعقد في عواصم العالم‬
‫السلمي الكبرى ‪ ،‬ولكن كل مجلس يعقد للجدل والمناظرة ينفض عن ظهور‬
‫طوائف أخرى وأحزاب جديدة ‪ .‬وتتساءل لماذا ؟ لن المسلمين أهملوا هذه‬
‫الحقيقة ‪ ،‬ظنوا أنهم يملكون أن يصبوا أدمغة الناس في قوالب معينة ليست‬
‫هي بالقطع قوالب السلم ولكنها قوالب تأخذ ألوانا ً وأشكال ً وشيات‬
‫الشخاص الذين أسبغوا ذاتيتهم على هذه النماذج وعلى هذه المناهج ‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وفي مجال الدعوة العنيفة وحينما ُيضطر المسلمون لخوض المعارك فالله‬
‫جل وعل حدد المور بمنتهى الدقة وبمنتهى الوضوح ‪ ،‬إن السلم حين يرفع‬
‫السيف للقتال فليس يطلب دماء الناس وإنما يريد أن يوفر دماء الناس ) من‬
‫أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا ً بغير نفس أو فساد في‬
‫الرض فكأنما قتل الناس جميعا ً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ً (‬
‫ومحمد بن عبد الله صلوات الله عليه وآله كان يقول ‪ :‬ما يزال الرجل في‬
‫فسحة من دينه حتى يغمس يده في الدم الحرام ‪ .‬ومحمد بن عبد الله صلى‬
‫الله عليه وآله كان يقول ما من قتيل يقتل ظلما ً إلى يوم القيامة إل كان على‬
‫ابن آدم الول كفل من دمه لنه أول من سن القتل ‪ .‬فالسلم بهذه النصوص‬
‫القواطع وبهذه التوجيهات البينات يعلن كراهته للعنف ويعلن كراهته لسفك‬
‫الدماء ‪ ،‬ويحدد طريقه الواضحة بأنه جاء ليحفظ على الناس حيواتهم‬
‫وكراماتهم ‪ ،‬ولم يجئ ليهدرها بحال من الحوال ‪.‬‬
‫ولكن الناس كأفراد وكعينات تعيش في المجتمع يجدون أنفسهم وبصورة‬
‫دائمة تحت قهر أنظمة تسوقهم طوعا ً أو كرها ً قصدا ً أو تغفل ً نحو مبادئ‬
‫وأهداف ومقاصد وغايات ل تمت إلى سعادة البشرية المحددة بدقة في‬
‫تعليمات الله وتعليمات الرسل عليهم السلم ‪ .‬في هذه الحالة ما العمل ؟‬
‫أنسمح للشياطين أن تعيث في الرض فسادا ً ؟ أنغمض العين عن الظلم‬
‫يحيك بالناس ؟ يضرب أبشارهم ويستصفي أموالهم ويستهلك حياتهم ؟‬
‫أنسمح لهذه البشرية أن تذهب بعيدا ً في دياجير الظلم أم نحمل إليها نور‬
‫إلى الله ؟ بل نحمل إليها نور الله ‪ ،‬وحين نحمل إليها هذا النور المبين فنحن‬
‫واثقون بتعليمات ديننا وبما أقرت فينا هذه التعليمات من أن السلم دين‬
‫عرضت على الناس عرض عقل لعقل‬ ‫الفطرة أن هذه الحقيقة الباهرة لو ُ‬
‫ووجدان لوجدان وقلب لقلب بالشرائط المحددة في تعليمات السلم الرامية‬
‫إلى فتح مغاليق القلوب ‪ ،‬الرامية إلى إعطاء المثلة العالية والنماذج العالية‬
‫للدعاة الراغبين في خير الناس ‪ ،‬للدعاة الراغبين في تقدم الناس ‪ ،‬للدعاة‬
‫الراغبين في إسعاد الناس فإن أي قلب ل يمكن أن يغلق في وجه هذه‬
‫الحقيقة ‪ ،‬ولكن الطواغيت تقوم لتحول بين الناس وبين التعرف على هذه‬
‫الحقيقة ‪ ،‬وفي القرن العشرين بل في ربعه الخير نعيش الن عصرا ً نسميه‬
‫عصر النور والعلم والمدنية والنسانية والتواصل البشري ومع ذلك فإن مما‬
‫يحز في النفس قدرة هذا المخلوق على الكذب على نفسه والحتيال على‬
‫ذاته ‪ ،‬حتى الن إلى يوم الناس هذا برغم الذاعة وبرغم التلفزة وبرغم‬
‫اللسلكي وبرغم المطابع وبرغم الصحافة وبرغم النباء التي تصل إلى أي‬
‫بقعة في الرض في حينها بالذات ‪ ،‬مع هذا فنحن إلى اليوم نجد طوائف‬
‫كبيرة من غير المسلمين تعتقد أن السلم دين وحشية وهمجية ‪ ،‬وأن‬
‫م لهم إل فروجهم وإل إذلل الناس وهم متعطشون‬ ‫المسلمين قوم ل ه ّ‬
‫للدماء ‪ ،‬وأن القرآن إما أن يكون نسخة محرفة من التوراة والنجيل أو أنه‬
‫على أفضل الفروض من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وأن هذا النبي‬
‫دجال كبير وأّفاق أثيم ‪ ،‬والناس الذين يقولون هذا مقتنعون بهذا القول ‪ ،‬لماذا‬
‫؟ لن طواغيت وجبابرة حالوا بيننا ـ وطبعا ً أنا ل أخفف من مسؤوليتنا نحن‬
‫كمسلمين عن ضرورة إيصال الحقائق إلى الناس ـ ولكن الشيء الذي يبقى‬
‫بعد كل حساب أنه يحال عن عمد وإصرار من قبل طواغيت الرض بين‬
‫المسلمين وبين إيصال حقائق السلم إلى الناس من أجل المعرفة ‪ ،‬لمذا‬
‫كان المر كذلك الن وهو من قبل أعتى وأعنف فإن على المسلمين واجبا ً‬
‫محددا ً بصورة دقيقة هو تحطيم السوار التي تمنع نفاذ أشعة النور إلى الناس‬

‫‪184‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪ ،‬فإذا تحطمت وألقى الناس السلم ورضوا أن ينظروا إلى حقائق السلم‬
‫وقضاياه بحرية فلهم شأنهم وهم وضمائرهم ل نملك وهذا مستحيل أن‬
‫نسكب اليمان في قلوبهم بحقنة ‪ ،‬ذلك أمره إلى الله ) ولو شاء ربك لمن‬
‫من في كلهم الرض جميعا ً ( ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫ولكننا نملك أن نجعلهم في مواجهة الحقيقة عارية بدون تزييف وبدون تضليل‬
‫‪ ،‬ل تزييف من قبلنا ول تضليل من قبل الطواغيت ‪ ،‬هذا العمل ل بد له من‬
‫خطوة عنيفة ولكنها كما رأيتم أو كما استشفيتم على القل مقدرة بقدرها ‪،‬‬
‫إننا نعد إلى ما قلناه من أن هذه الكلمة المفردة في وصف القرآن بأنه ذو‬
‫الذكر شيء بالغ الهمية ‪ ،‬لنه فوق أنه يعطينا الوصف الساسي والحقيقة‬
‫لهذا القرآن يحدد لنا مسالكنا في الدعوة إلى الله تحديدا ً إنسانيا ً فإذا انتهى‬
‫هذا جئنا إلى أمر آخر ‪.‬‬
‫إن الله بعد أن قال ) ص والقرآن ذي الذكر ( قال ) بل الذين كفروا في عزة‬
‫وشقاق ( اصبروا معنا على تحليل النص واسمحوا لنا أن نطلب منكم أن‬
‫تبذلوا جهودا ً طيبة من أجل إتقان التعامل مع نص القرآن الكريم ) بل الذين‬
‫كفروا في عزة وشقاق ( بل حرف يسمى باللغة العربية حرف إضراب ‪،‬‬
‫فأنت تقول كان كذا وكذا بل ‪ ،‬يعني دع عنك الذي قلناه سابقا ً فإن المر‬
‫سيكون كذا وكذا ‪ ،‬فكأن الله جل وعل بعد أن وصف القرآن مقسما ً عليه بأنه‬
‫ذو الذكر قال لنبيه عليه الصلة والسلم ‪ :‬دع هذا الن ول تعجب ول تذهب‬
‫في العجل بعيدا ً ‪ ،‬فإن الذين كفروا في عزة وشقاق ‪ ،‬ما هي العزة ؟ وما هو‬
‫الشقاق ؟ وما هي موحيات التعبير وأسلوب الصياغة ؟ لحظوا أول ً أن الله لم‬
‫يصف الكافرين مباشرة بالعزة والشقاق ‪ ،‬لنك تصف إنسان فتقول فلن‬
‫شجاع فتكون الشجاعة وصفا ً ‪ ،‬لكن ليس من الضروري أن يكون هذا‬
‫الموصوف متصفا ً بالشجاعة على طول الخط ‪ ،‬قد يسقط في الخور وقد‬
‫ينتابه الجبن في بعض اللحظات ‪ ،‬وتقول فلن كريم وأنت تقول هذا على ما‬
‫تعهد وتلحظ منه ‪ ،‬لكن ليس هذا ضروريا ً دائما ً ‪ ،‬وأيضا ً أنت حينما تصف هذا‬
‫النسان بالشجاعة أو هذا النسان بالكرم فذلك ل يلغي أن يكون متصفا ً‬
‫بجملة أخرى من الوصاف ‪ ،‬وإذا ً فالوصف الذي أطلقته عليه وصف واحد من‬
‫جملة أوصاف أخرى عديدة ‪ ،‬هذا هو مدلول الوصف الملزم المباشر ‪ ،‬ولكن‬
‫في العربية أساليب وألوان من البيان تحمل مدلولت أخرى إن الله قال هنا )‬
‫بل الذين كفروا في عزة وشقاق ( استعمال الحرف في المفيد للظرفية‬
‫يشعر بأن الكافرين ليسوا فقط يشعرون بالعزة المصطنعة والشقاق المضر‬
‫المدمر ‪ ،‬ولكن هم مستغرقون ‪ ،‬إن العزة مستولية عليهم وشاملة لهم‬
‫ومتضمنة إياهم ‪ ،‬وإن الشقاق كذلك ‪.‬‬
‫فإذا ً استعمال الحرف المشعر بالظرفية يوحي باستيلء الصفات التي وصف‬
‫بها الكافرون استيلًء كامل ً عليه ‪ .‬والن لننظر ما تعني العزة وماذا يعني‬
‫مح بقوله جل وعل ) ذي‬ ‫الشقاق وما صلة العزة والشقاق بنسيان الذي ل ُ ّ‬
‫الذكر ( لن الناس ينسونه ‪ ،‬إن العزة كلمة تدل على المنعة ‪ ،‬وهي في‬
‫الناس وصف مانع من الستسلم للغير ‪ ،‬تقول فلن عزيز أي أنه في منعة ول‬
‫يغاَلب ‪ ،‬وفي نفس السورة في قصة داود مع الخصوم الذين تسوروا عليه‬
‫المحراب قال ) وعزني في الخطاب ( أي غلبني وقهرني ‪ ،‬فالعزة كما قلنا‬
‫حالة مانعة من الستسلم للغير تدل على العتصام بالذات ‪ ،‬والعزة وردت‬

‫‪185‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫في القرآن الكريم على ثلثة أنماط ‪ ،‬وردت في معرض الذم ‪ ،‬وصفا ً للذين‬
‫يشعرون بها شعورا ً ذاتيا ً كما في هذا المجال ) بل الذين كفروا في عزة‬
‫وشقاق ( أي أنهم برفضهم اليمان بالله جل وعل وشعورهم أنهم أعز من أن‬
‫تطالهم قوانين الخالق عزوجل فإنما يتصفون بالمعنى المرذول من معاني‬
‫العزة ‪ .‬ووصفت العزة بمعناها الحسن على ضربيه ‪ :‬العزة المطلقة والتي‬
‫ُتستحق ابتداء وأصل ً وهي ل تكون إل لله ‪ ،‬قال الله جل وعل ) من كان يريد‬
‫العزة فلله العزة جميعا ً ( أي أن الكائن الوحيد الذي يغلب ول ُيغلب ويمتنع‬
‫ول يمتنع عليه شيء ويقهر ول ُيقهر هو الله فقط ‪ .‬ووردت في معرض مدح‬
‫المؤمنين ) من كان يريد العزة فإن العزة لله جميعا ً ( تلك لله ولله العزة‬
‫ولرسوله وللمؤمنين ‪ ،‬تلك للمؤمنين ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫فالفارق بين شعور المؤمن بالعزة وشعور الكافر بالعزة ‪ ،‬أن شعور المؤمن‬
‫بالعزة ليس شعورا ً ذاتيا ً ملزما ً للنسان ولكنه شعور تبعي ناجم عن اعتصامه‬
‫بالله جل وعل ‪ ،‬على عكس شعور الكافر الذي ل محصل للعزة عنده إل‬
‫نفخة الغرور والكبرياء ‪ ،‬وعند المحاسبة يبدو أنه إنسان ضعيف مهين ل يملك‬
‫دفع الضر عن نفسه ول تحويله ‪ ،‬فهذا معنى العزة ‪ .‬ما معنى الشقاق ؟ إن‬
‫حى‬ ‫الشقاق مأخوذ من كلمة شقّ ‪ ،‬وكلمة شقّ معناها أفرد شيئا ً عن شيء ون ّ‬
‫شيئا ً عن شيء ‪ ،‬تقول مشى فلن في شق الطريق أي مشى في ناحية‬
‫منه ‪ ،‬والمتشاقان هما اللذان يمشي كل واحد منهما في ناحية غير الناحية‬
‫التي يمشي فيها صاحبه ‪ ،‬ولذلك ورد في كلم العرب يقال فلن شقّ عصى‬
‫الطاعة بمعنى أن العرب سابقا ً كانت إذا مشت وهم أبناء الصحارى يتعرضون‬
‫لما في الصحارى من مخاوف وأهوال يحملون العصي في أيديهم ‪ ،‬فإذا كان‬
‫اثنان يتلحقان في الطريق فعصا واحدة تكفي لذب عنهم في وجه الخطاء ‪،‬‬
‫ولكنهما هما يأخذان في طريق واحد إذا افترقا وتنازعا فإن بقية النسانية‬
‫توجب على المفترقين المتنازعين أل ينفرد أحدهما بالعصى ‪ ،‬يأخذ هذا واحدة‬
‫وهذا واحدة ‪ ،‬من هذا يتبّين أن محصل الكلمة لغويا ً أن الشقاق هو النزاع‬
‫همة لهم أنهم‬ ‫والفتراق الذي ل لقاء معه ‪ ،‬فإذا عرفنا أن عزة الكفار صفة مو ِ‬
‫في عز وغلبة ومنعة ‪ ،‬على عكس قوانين الوجود وعلى عكس قوانين‬
‫الحضارة البشرية وعلى عكس تجربة التاريخ النساني ‪ ،‬وإذا عرفنا أن صفة‬
‫الكافرين هذا النزاع الذي ل لقاء من بعده فقد آن الن لنا أن نتساءل لماذا ؟‬
‫لماذا يكون الكفر بذاته من حيث هو كفر عامل ً أساسيا ً ورئيسا ً بل ووحيدا ً‬
‫للتنازع والتفرق والعظمة الكاذبة والخيلء التي ل محصل من ورائها ؟ لنرجع‬
‫إلى الوراء إلى أوائل القضايا التي كنا نطرحها عليكم في هذا المكان ‪ ،‬إن‬
‫أول شيء بدأت به آيات الكتاب الكريم هو أن الله جل وعل برحمته وبرأفته‬
‫حدد منذ البداية داء البشرية وعلل البشرية ومعايب البشرية ‪ ،‬إن المر الذي‬
‫ترتد إليه جميع المعايب والسواء اختلل ناموسي على صعيد الحياة النسانية‬
‫‪ ،‬ماذا يعني اختلل الناموس ؟ أن النسان حينما يكفر ينسى أصله ينسى مبدأ‬
‫خلقه ينسى عبودية ‪ ،‬ثم يبدأ يجاذب الله تعالى رداء الكبرياء ‪ ،‬هذه الخلة‬
‫البغيضة من أول ما عني السلم بعلجه منذ بدأت آيات الله جل وعل تتنزل‬
‫على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وبمراجعةٍ لسير النبياء عليهم السلم‬
‫نجد أن وصف كل نبي وأن هدف كل نبي كان ينصب على إعادة التوازن‬
‫المفقود إلى الحياة النسانية المختلة ‪ ،‬كان ضروريا ً باستمرار أن يكون الرب‬

‫‪186‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ربا ً ‪ ،‬يأمر فيطاع ‪ ،‬وأن يكون العبد عبدا ً يؤمر فيطيع ‪ ،‬فإذا اختل هذا الميزان‬
‫تولدت في الحياة النسانية خلئق مدمرة شديدة التدمير ‪ ،‬حينما واجهت‬
‫التجربة الدينية حياة الناس في مجتمعهم النساني تجلت آثار هذه الخلئق ‪،‬‬
‫في أول موقف حدثنا القرآن عنه في سورة اقرأ قال ‪ ) :‬أرأيت الذي ينهى ‪،‬‬
‫عبدا ً إذا صلى ( حينما رأى أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد‬
‫لله راكعا ً وساجدا ً وتاليا ً وداعيا ً ‪ ،‬ما الذي كان يضر أبا جهل من هذا ؟ ل شيء‬
‫على الطلق ولكن أبا جهل كان يرى أنه عظيم قريش وفرعون هذه المة‬
‫كان يرى أن أية خليقة أو عادة أو عرف يجب أن تأخذ منه الموافقة المسبقة‬
‫عليه ‪ ،‬يجب أن يجيزها لكي تكون نافذة كما يعتمد الرؤساء الن القوانين‬
‫والنظم بالتوقيع عليها ‪ ،‬فإن أبا جهل يتصور أن أي مواطن في بيئة مكة عليه‬
‫أن يستجيز أبا جهل بأي شيء جديد يريد أن يأتي به ‪ ،‬من أين جاءه هذا ؟ لو‬
‫أنه كان مؤمنا ً بالله لعرف أن هذا النسان الذي يصلي مثله هو مخلوق لله‬
‫وهذا مخلوق لله ‪ ،‬وإذا ً فل تمايز ول تعالي ول افتراء ‪ ،‬ولكن أبا جهل غطى‬
‫كفره على هذه الحقيقة ‪ ،‬ظن أنه رب الناس العلى ونسي أنه عبد فتزحزح‬
‫عن قائمة العبودية ليأخذ برداء الربوبية ويرى بنفسه حق المر والنهي على‬
‫الناس ‪ ،‬ويرى من واجب الناس أن يطيعوه حينما يأمر ‪ ،‬ومنها كانت مقالته‬
‫ن على‬‫للرسول عليه الصلة والسلم ‪ :‬لئن رأيتك تفعل هذا بعد الن لطأ ّ‬
‫عنقك ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫فهذا موقف محدد من أول السورة من سور القرآن الكريم إن العزة الكاذبة‬
‫التي تصرف النسان عن وزن نفسه وعن إعطاء نفسه قدرها الحقيقي صفة‬
‫ملزمة للكفر ‪ ،‬لن الكفر ينسي النسان حقيقة العبودية لله وأيضا ً الشقاق‬
‫لماذا ل بد أن يكون الشقاق دائما ً ومستحكما ً بين الكافرين لحظوا إن‬
‫الشقاق نتيجة وليس سبب ‪ ،‬بمعنى أنه تعبير عن تطلعات نفس وعن شهوات‬
‫نفس وعن إرادة نفس ‪ ،‬أنا وأنت ننظر في قضية واحدة حينما أرى فيها رأي‬
‫محدد فأنت ترى قد ترى رأيا ً آخر ‪ ،‬حينما تكون شاعرا ً بذاتك غاية الشعور‬
‫على درجة عالية بوتيرة غير معقولة فأنت ترى أن كل جانب من جوانب‬
‫الصواب في موقفي خطأ ‪ ،‬ول بد أن يكون الحق معك في الجزئيات وفي‬
‫التفاصيل وفي الكليات ‪ ،‬ول بد أن أكون مخطأ ً في الصغيرة وفي الكبيرة ‪،‬‬
‫هذا يأتي من أين ؟ يأتي من رؤية النفس ‪ ،‬يأتي من حب النتصار للذات ‪،‬‬
‫يأتي من النانية البغيضة والحسد المقيت ‪ ،‬ولهذا رأينا سورة صاد تختم‬
‫بالحديث عن تمرد إبليس عن السجود لدم عليه السلم ‪ ،‬بدافع الكبرياء‬
‫والحسد ‪ ،‬ليحذر المؤمنون هذه الخليقة ‪.‬‬
‫نحن كمسلمين ليست لدينا خيارات واسعة ومفتوحة بل نهاية ‪ ،‬عندنا قرآن‬
‫وعندنا سنن المصطفى عليه الصلة والسلم وعندنا كليات هذا السلم ‪ ،‬فإذا ً‬
‫عندنا الوسائل والمهيئات التي تسمح لنا بأن ننظر إلى المور نظرا ً موزونا ً‬
‫بموازين الشرع ‪ ،‬أي بقوانين العدل والقسط بين الناس ومع الذات ‪ .‬ولكن‬
‫الكافرين ل يملكون هذا ‪ ،‬لماذا ؟ لن رفضوا بالدينونة لله تبارك وتعالى ‪،‬‬
‫فلمجرد أن ترفض دينونتك لله بمجرد أن ترفض قبول العبودية لله فأنت‬
‫حينئذ سوف ُتستعبد لنفسك دون ريب ‪ ،‬ولهذا فإن الشقاق والختلل‬
‫والتخاصم والتعالي والتقاتل من صفات الكفر الملزمة له بل المحيطة به من‬
‫كل جانب ‪ .‬انظروا إلى معسكر الشرك والضلل ‪ ..‬منذ أن برأ الله الناس‬

‫‪187‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إلى اليوم تجدون الناس لمجرد أن يتزحزحوا عن قواعد اليمان يدخلون فورا ً‬
‫في متاهات الشقاق والخلف ‪ ،‬في الدولة الواحدة في المة الواحدة في‬
‫الشعب الواحد حينما ل توضع شرائع السلم وقواعد الشرف وتوجيهات‬
‫القرآن الكريم والتعاليم الربانية موضع التطبيق فإن الثمرة التي ُتقطف من‬
‫جراء ذلك نزاع وشقاق ل ينتهيان بحال من الحوال ‪ ،‬تلك هي ثمرة طبيعية‬
‫ومهما يكن من مظهر التحزب والجتماع الذي يكون بين الكافرين في المة‬
‫الواحدة والكيان الواحد وفي المم المتعددة والكيانات المختلفة فلعلينا‬
‫كمؤمنين ومسلمين ـ وهذه هي فائدة النص هنا على هذه الخليقة ـ علينا أن‬
‫ل ننسى أن الشقاق واقع وإن غطت عليه ظواهر الحال ‪ ،‬في معركة‬
‫الحزاب حينما استطاع أبو سفيان أن يؤلف زعماء الشرك والوثنية على‬
‫رسول الله وعلى المؤمنين وهاجموا المدينة وأحاطوا بها إحاطة السور على‬
‫المعصم ووقع الزلزال والخوف وضاقت الرض على المؤمنين بما رحبت بل‬
‫ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أنهم مأكولون ‪ ،‬في هذه اللحظات الحرجة‬
‫المصيرية الحاسمة أرسل الله جل وعل جنوده من الريح وما أشبه ذلك‬
‫فزلزت معسكر المشركين ‪ ،‬في تلك الساعة ظهرت ظاهرتان تنتميان إلى‬
‫عنصر واحد هو عنصر الشقاق المستحكم في معسكرات الشرك ‪ ،‬جاء رجل‬
‫من المشركين إلى رسول صلى الله عليه وسلم مسلما ً ‪ ،‬في الوقت الذي‬
‫كانت مظاهر المور جميعا ً تشير إلى أن قوة السلم ستمحى خلل لحظات‬
‫وأن رسول الله والمؤمنين سيبادون خلل لحظات ‪ ،‬جاء رجل يعلن إيمانه‬
‫ويعلن إسلمه فاستثمر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخذيل‬
‫بين المشركين والتخذيل بين المشركين وحلفائهم من اليهود داخل المدينة ‪،‬‬
‫في تلك اللحظات الحرجة أيضا ً وبما أن جحافل الشرك ليست بينها روابط‬
‫أبدية دائمة كالربائط القائمة بين المؤمنين والتي هي روابط في الله أي‬
‫الروابط المصيرية المؤبدة بما أن هذا وصف المشركين فإن أبا سفيان نسي‬
‫ما أعطى من تعاهدات للقبائل التي جاءت معه ‪ ،‬وحين رأى أن الجو اكفهر‬
‫وأن موازين القوى بدأت تميل لغير صالحه ركب ناقته وقال ‪ :‬يا معشر‬
‫العرب إني مرتحل فمن شاء يرتحل فاليرتحل ‪ ،‬لم يعقد مجلسا ً لركان‬
‫الحرب ولم يؤخذ رأي وجوه القبائل التي جاءت بتعاقد وتحالف لكي تفتك‬
‫بالنبي والمؤمنين ‪ ،‬وإنما كانت مبادرة ذاتية من أبي سفيان كان من نتائجها‬
‫أن الله جل وعل نثر جنده وهزم الحزاب وحده ‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫ولو أنك ذهبت تلتمس هذه الظاهرة في وقائع البشرية أبدا ً كسلسلة‬
‫مستمرة لوجدتها ظاهرة ‪ ،‬وحين كان الله جل وعل يفتتح بها سورة صاد فلم‬
‫يفتتح ذلك ليعلن النصر في السلم ليس علما ً يتلقى في الكادميات‬
‫والجامعات ولكنه دين يتحرك الناس به في الحياة ‪ ،‬إنما هذا بذلك فوق إظهار‬
‫الناصب وفوق تعرية الساحة أن يظل أمل المسلمين في النصر قائما ً ‪ ،‬كان‬
‫يقول لهم هذا الكلم ) بل الذين كفروا في عزة وشقاق ( والجو من حولهم ل‬
‫شيء فيه مما يدعو إلى الثقة ويبعث على المل ‪ ،‬وكان يقول لهم ) جند ما‬
‫هنالك مغلوب من الحزاب ( لماذا ؟ لن هذه الحزاب المتحزبة مهما تبلغ‬
‫من كثافتها ومهما يبلغ هيلها وهيلمانها فإنها كالهباء تطير بنفخة ‪ ،‬ذلك لنها‬
‫تتجمع ظاهريا ً ولكن قلوبها متخالفة وهم كما وصف الله جل وعل المنافقين )‬
‫تحسبهم جميعا ً وقلوبهم شتى ( فلكي يعيد الثقة إلى نبيه عليه الصلة واسلم‬

‫‪188‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والمؤمنين بعاقبة الطريق الذي هم فيه قال له ) بل الذين كفروا في عزة‬


‫وشقاق ( ‪.‬‬
‫ولو أن أمتنا الكريمة حاولت أن تفيد من هذين اللفظين من هذه الية الفاذة‬
‫من أوائل سورة صاد لعلمت أنها ـ وهي ذات العداد الهائلة والمكانات‬
‫الباذخة والتاريخ المجيد والمستقبل الواعد ـ تملك أن تغّير مصائر البشرية‬
‫وأن تفتح للحضارة السلمية صفحات جديدة ‪ .‬إن هذا هذا الكلم قيل لمحمد‬
‫عليه الصلو والسلم ولمن آمن معه من المسلمين فوعوا هذا الكلم وعرفوا‬
‫أن الكفر ضعيف وأم الكافرين هباء وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ‪ ،‬وإن‬
‫هذا الكلم قيل للمؤمنين فعرفوا أن معركتهم لها شرطها المسبق وهي‬
‫الخاء ‪ ،‬الوحدة الجامعة للمؤمنين الذين ل تفرقهم أهواء النفوس ول تبدد‬
‫طاقاتهم الشهوات والطماع ‪ ،‬وانهم حينما يخوضون المعركة على هذا‬
‫الساس فإنهم منتصرون ‪ ،‬وأن القوة التي تناوئهم موحدون في الظاهر‬
‫مختلفون في الباطن ‪ ،‬فكما ألهم الله رسوله والمؤمنين في الماضي أن‬
‫يفقهوا عبرة هذا الدرس أسأله تبارك وتعالى أن يعيننا على أن نفقه عبرة‬
‫هذا الدرس لنسعد ونعز ونتوحد ونتفق ونكون جديرين في حمل كلمة الله‬
‫إلى الناس عامة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‬
‫والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬

‫)‪(8 /‬‬

‫تفسير سورتي الضحى الشرح (‬


‫‪ 19‬ذي الحجة ‪ 30 / 1396‬كانون الول ‪1976‬‬
‫شوح‬‫العلمة محمود م ّ‬
‫)أبو طريف(‬
‫الحمد لله رب العالمين والصلة والسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‬
‫وسلم ‪ .‬أما بعد ‪:‬‬
‫ُنقل بالطريق الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا هبت ريح‬
‫ون وجهه الشريف وأكثر الدخول والخروج‬ ‫أو نشأت سحابة في السماء تل ّ‬
‫وفزع إلى الصلة والدعاء فإذا قيل له في ذلك ‪ ،‬قال ‪ ) :‬ما يدريني لعله‬
‫يكون عذابا ً ‪ ،‬فإن قوما ً قد أهلكهم الله تعالى بالريح ‪ ،‬وإن قوما ً رأوا ناشئة‬
‫السحاب فقالوا هذا عارض ممطرنا فأخذهم الله بالبلء من ذلك السحاب ( ‪.‬‬
‫وإن هذا الحس العميق بين الرسول صلى الله علي وسلم وما يجري في‬
‫الكون يكشف عن مدى هذا اليمان العظيم الذي كان يعمر قلب الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ويرينا إلى أي حد كان عليه الصلة والسلم يعرف أن‬
‫هذا الكون كله بين يدي الله تبارك وتعالى ‪ ،‬وأنه يحكم ما يريد ‪ ،‬ل معقب‬
‫لحكمه ‪ ،‬ول يسأل عما يفعل وهم يسألون ‪.‬‬
‫ولقد كان الله سبحانه وتعالى حينما كان يمتن على العرب الذين جاءهم‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم برسالة الله جل وعل يذكرهم بنعمة المن ‪،‬‬
‫المن من الخوف الذي كان يلف الناس في أرجاء الرض جميعا ً ‪ ،‬والذي‬
‫أعاذهم منه تبارك وتعالى وكان يقول لهم ) أولم يروا أنا جعلنا حرما ً آمنا ً‬
‫ويتخطف الناس من حولهم ( وما من أحد من الناس في هذه اليام يجهل أن‬
‫كوارث الطبيعة تفتك بالناس فتكا ً ذريعا ً وتلتهم منهم المئات واللوف ‪ ،‬ومن‬
‫كان أغلف القلب مصمت الجنان فلن يرى في ذلك أكثر من حوادث طبيعية‬
‫تجري وفاقا ً لسبابها المعروفة ‪ .‬ولكن الطبيعة وأحداثها والكون وما يجري‬

‫‪189‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فيه آية من آيات الله لهذا النسان ‪ ،‬يلفته به إلى وجوده وعظمته وقهره‬
‫واقتداره ‪ ،‬وفي كل يوم تقريبا ً تسجل المراصد على الرض انفجارات هنا‬
‫وهناك تكون من نتائجها عشرات اللوف ابتلعتهم الرض التي تشققت ‪،‬‬
‫وأضعاف هذا العدد ممن شردوا من غير مأوى وتركوا للرياح والمطار‬
‫والثلوج ‪ ،‬ولو أنهم ذهبوا فيمن ذهب لكان أهنأ لهم بال ً ولكنهم تركوا للشقاء‬
‫الطويل ‪.‬‬
‫والذي ل بد أن يلفت النظر في هذا أن هذه الشياء والظواهر مما يخوف الله‬
‫بها عباده ‪ ،‬فالذين اتقوا يفزعون إلى ذكر الله ويرون يد البطش اللهي قريبة‬
‫جدا ً من الناس ‪ ،‬والذين ل إيمان عندهم يفيئون إلى تفسيرات ل تغني عن‬
‫الكارثة حين تقع ل قليل ً ول كثيرا ً ‪ ،‬فاتقوا الله أيها الناس واعلموا أن الله في‬
‫بعض الحيان يأخذ الناس على تخوف ‪ ،‬وفي بعضها الخر يأخذهم بغتة فإذا‬
‫هم مبلسون ‪ ،‬فاتقوا الله واسألوه أن يجيركم من العذاب وأن يجنبكم مما‬
‫يحل بالمم من حولكم ‪.‬‬
‫ونحن الن في صدد سورتين ‪ ،‬وأحببت أن أجمل الكلم على السورتين وهما‬
‫سورة ) الضحى ( وهي الحادية عشرة وسورة ) الشرح ( وهي الثانية‬
‫عشرة ‪ ،‬أحببت أن أجمل الحديث عنهما دفعة واحدة لتحاد الغرض في‬
‫السورتين ‪ ،‬ولن بعض قدماء العلماء وقرائهم كان يعتبرهما سورة واحدة ‪،‬‬
‫فإذا قرأهما في الصلة قرأهما في ركعة دون فصل ‪ ،‬وإذا قرأهما لم يفصل‬
‫بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم التي هي علمة الفصل بين السور ‪ ،‬فهم‬
‫يرون أنهما سورة واحدة لتساوق الغرض فيهما جميعا ً ‪.‬‬
‫يقول الله تعالى ) والضحى ‪ ،‬والليل إذا سجى ‪ ،‬ما ودعك ربك وما قلى ‪،‬‬
‫وللخرة خير لك من الولى ‪ ،‬ولسوف يعطيك ربك فترضى ‪ ،‬ألم يجدك يتيما ً‬
‫فآوى ‪ ،‬ووجدك ضال ً فهدى ‪ ،‬ووجدك عائل ً فأغنى ‪ ،‬فأما اليتيم فل تقهر ‪ ،‬وأما‬
‫السائل فل تنهر ‪ ،‬وأما بنعمة ربك فحدث ( وتبدأ سورة الشرح ) ألم نشرح‬
‫لك صدرك ‪ ،‬ووضعنا عنك وزرك ‪ ،‬الذي أنقض ظهرك ‪ ،‬ورفعنا لك ذكرك ‪،‬‬
‫فإن مع العسر يسرا ً ‪ ،‬إن مع العسر يسرا ً ‪ ،‬فإذا فرغت فانصب ‪ ،‬وإلى ربك‬
‫فارغب ( ول يخطئ القارئ أن يلحظ هذا التشابه في الغرض في السورتين‬
‫جميعا ً ‪ ،‬وليس مما يدعو إلى التنبيه أن نقول إن الخطاب في السورتين‬
‫كلتيهما موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ويكاد المفسرون‬
‫القدامى يتفقون إل في النادر على أن السورتين سيقتا لتعزية رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم وتسليته عما ألحقه المشركون به من صنوف الذى‬
‫وأنواع المضرة ‪ ،‬مع أغراض أخرى سنأتي عليها ‪ .‬لكن نحب أن نلفت النظر‬
‫إلى أمر أساسي ‪ ،‬إن السورتين جاءتا بعد مرحلة ل بأس بها طويلة بعض‬
‫الشيء ‪ ،‬وجاءتا ليس فقط للتعزية ‪ ،‬فالقرآن دون شك ليس خطابا ً لرسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم ولكنه خطاب للناس عامة إلى آخر الزمان ‪،‬‬
‫فأغراضه وقضاياه تخاطب الناس جميعا ً ول يصح قصر شيء منها إل ما جاء‬
‫النص قاطعا ً بقصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬هذا من جهة ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ومن جهة أخرى فنحن بالموازنة بين الحالة الجديدة التي يستقبلها المسلمون‬
‫والمرحلة التي مرت قبل نزول السورتين نجد أننا قادرون على أن نسمح‬
‫لنفسنا بوقفة من لون خاص ‪ ،‬نعيد النظر في اليات ) والضحى ‪ ،‬والليل إذا‬
‫سجى ( هذا قسم شأنه شأن القسام التي مرت والكلم عليه كالكلم على‬

‫‪190‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫القسام التي مرت ‪ ،‬وأما قوله تعالى ) ما ودعك ربك وما قلى ( فالتوديع‬
‫والودع في كلم العرب هو الترك ‪ ،‬يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬
‫لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو لفعلن بهم كذا وكذا ‪ .‬يريد لينتهين‬
‫أقوام عن تركهم الجمعات أو لفعلن بهم كذا وكذا ‪ ،‬فالودع هو الترك ‪،‬‬
‫والقلى هو البغض والهجر ‪ ،‬تقول ‪ :‬قليت فلنا ً إذا هجرته ‪ ،‬فالله عز وجل‬
‫يقسم ويجعل جواب القسم أنه ما ترك محمدا ً صلى الله عليه وسلم ول‬
‫هجره ول أبغضه ‪ .‬وبالرجوع إلى الروايات الواردة في التفسير بالمأثور نجد‬
‫أن الروايات تتكاثر ل ندري إلى أي حد هي صحيحة لكن تظاهرها يسمح لنا‬
‫بأن نطمئن إلى ورود شيء منها ‪ ،‬يقال إن امرأة حين فتر الوحي على‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ‪ :‬يا‬
‫محمد ما أرى شيطانك إل أنه هجرك ‪ ،‬ويقال إن من المشركين عّيروا محمدا ً‬
‫صلى الله عليه وسلم بأن ربه قله وتركه فنزلت هذه اليات ترد على هؤلء‬
‫الناس ‪ ،‬والذي يلفت النظر إلى أن حديث البخاري الذي يفيد بأن الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم تلقى الوحي أول ً في غار حراء بفواتح سورة العلق ثم‬
‫فتر عنه الوحي بعد ذلك ‪ ،‬بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث‬
‫عن نفسه بأنه حزن لتأخر الوحي عليه وأنه حاول مرارا ً أن يلقي بنفسه من‬
‫م بأن يفعل ذلك تبدى له جبريل عليه السلم يقول‬ ‫على الجبل ‪ ،‬وأنه كلما ه ّ‬
‫له ‪ :‬يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله ‪ ،‬فيثبت عليه الصلة والسلم ‪.‬‬
‫فمسألة انقطاع الوحي أو الفترة التي تحدث عنها حديث البخاري مسألة‬
‫مبكرة أكثر من هذه اليات ‪ ،‬وفي ظني أن اليات تعالج أمرا ً جوهريا ً تكشف‬
‫عن طبيعة العلقة بين الوحي وبين النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬بين النسان‬
‫وبين هداية السماء ‪ ،‬ل شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء‬
‫كان يعاين تجربة فريدة من نوع خاص لم يسبق أن جربها من قبل ولم يسبق‬
‫أن جربها أحد من خلق الله تعالى إل هذه الصفوة المختارة من الله التي هي‬
‫النبياء ‪ .‬والعرب قوم محمد صلى الله عليه وسلم ل يعرفون شيئا ً عن طبيعة‬
‫الوحي ‪ ،‬والنبي صلى الله عليه وسلم ليس بعيدا ً أن تنازعه نفسه بالشوق أن‬
‫يطيل العيش مع هذا النداء السماوي الذي سمعه في غار حراء ‪ ،‬إل أن‬
‫الوحي دليل ومرشد وليس قائدا ً يأخذ بيد النسان في كل الحوال ‪ .‬والعرب‬
‫خليقة بأن تفهم من طبيعة الوحي بأنه قيادة مطلقة وأنه إلغاء لرادة النسان‬
‫‪ ،‬والنبي صلى الله عليه وسلم لو وقع في ذهنه هذا الشيء لكان معذورا ً فهو‬
‫ل يعرف عن وظيفة الوحي شيئا ً قبل هذا ) ما كنت تدري ما الكتاب ول‬
‫اليمان ولكن جعلناه نورا ً نهدي به من نشاء ( ‪.‬‬
‫فالنبي عليه الصلة والسلم والعرب أيضا ً تصوروا أن كل حركة وكل سكون‬
‫يجب أن يكون فيه وحي ‪ ،‬وهذا هو الشيء الذي جاءت اليات لتضعه في‬
‫نصابه ‪ ،‬الوحي ليس علجا ً لحالة موقوتة في زمن موقوت في محل محدود ‪،‬‬
‫ولكنه نداء مطلق وهداية مطلقة إلى الناس في كل زمان وفي كل مكان ‪،‬‬
‫والوحي ليس من طبيعته أن يلغي إرادة النسان ول أن يشطب على شخصية‬
‫النسان وإل لسقطت المحنة وذهب معنى البتلء ‪ ،‬وإنما معنى الوحي جملة‬
‫من القواعد والرشادات التي يتخذها النسان أساسا ً له في حياته وفي‬
‫تصرفاته ينطلق منها معمل ً إرادته محييا ً شخصيته ‪ .‬فالعرب إذا ً معذورون‬
‫حين تصوروا أن الوحي لكي يكون وحيا ً يجب أن يلزم النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬لنه تصوروا قياسا ً على الكهانة أن الكاهن ل يستطيع أن يتكهن إل‬
‫جاءه شيطانه فأدلى إليه بالمراد ‪ ،‬ولكن الرسالة غير الكهانة ‪ ،‬والنبي صلى‬
‫الله عليه وسلم مكانه في قومه ‪ ،‬مكانه من المة ‪ ،‬ليس مكانه مكان اللة‬

‫‪191‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫التي يوعز إليها لكي تنفذ ولكنه مكان النسان الذي شحن بالوحي وأدرك‬
‫مرادات الله جل وعل فقاد الناس بمبادرات خاصة من قبله وبإشارات من‬
‫الله جل وعل دون أن يؤثر ذلك بتاتا ً على قيمة الشخصية النسانية ول على‬
‫إرادتها ‪ ،‬فهذا الكلم ل شك أنه جاء في غالب الظن ردا ً على كلم قاله هؤلء‬
‫الناس عن فترة الوحي ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫لكني أسأل ‪ :‬هل من شرط هذا الكلم أن يكون بعد انقطاع الوحي من‬
‫الفترة الولى ‪ ،‬أتصور أن هذا غير ميسور ‪ ،‬فالوحي جاء إلى الرسول صلى‬
‫الله عليه وسلم في المرة الولى ثم انقطع ‪ ،‬بعضهم يقول إنها نصف شهر‬
‫وبعضهم يرقى بها إلى عدة أشهر ‪ ،‬ثم حمي الوحي وتتابع كما جاء في‬
‫الحديث الشريف ‪ ،‬ولكنه مع أنه تتابع كان ينقطع بين الحين والحين ‪ ،‬وحينما‬
‫انقطع في المرة الولى لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد ظهر أمره‬
‫للناس ‪ ،‬آمنت به زوجه خديجة وصديقه أبو بكر وابن عمه علي رضي الله‬
‫عنهم جميعا ً مع نفر قلئل دون أن يلفت نظر أحد ‪ .‬لكنه بعد ذلك جرت‬
‫فترات من انقطاع الوحي قيل ما قيل فقال الله هذا الكلم ليضع الوحي في‬
‫إطاره الصحيح وليضع النبوة في مكانها الحق في حياة الناس ‪.‬‬
‫) ما ودعك ربك وما قلى ‪ ،‬وللخرة خير لك من الولى ‪ ،‬ولسوف يعطيك ربك‬
‫فترضى ( فيما قرأت كل المفسرين القدماء قلما يشذ أحد عنه ‪ ،‬حينما‬
‫يواجهون قول الله تعالى خطابا ً لحمد عليه الصلة والسلم ) وللخرة خير لك‬
‫من الولى ( يشيرون بهذا إلى ما أعد الله لك يا محمد من النعمة والكرامة‬
‫في الدار الخرة خير لك من الولى التي هي هذه الدنيا ‪ ،‬ولكن نفرا ً من‬
‫كرام المفسرين وهم قليل يشيرون إلى معنى متساوق مع خطوات الدعوة ‪،‬‬
‫يقولون بأن المراد ـ والله أعلم ـ أن مستقبل أمرك خيٌر مما مضى من أمرك‬
‫‪ ،‬ل على معنى أن ما جاءك من الوحي فاستقبلت به أيامك الجديدة خير لك‬
‫من أيامك التي قضيتها في الجاهلية ‪ ،‬ل ‪ ،‬فهذا شيء ل يحتاج إلى نص ول‬
‫يحتاج إلى كلم ‪ ،‬ولكن على معنى أن أمرك ما يزال ينمو ويتقدم نحو‬
‫الحسن حتى تكون مقبلت أيامك خيرا ً مما مضى مع ملحظة استحالة‬
‫الفصل بين شخص النبي صلى الله عليه وسلم وحاله وبين حال المة‬
‫برمتها ‪ ،‬وفي تقديري أن هذا معنى حسن وهو يتساوق مع خطوات الدعوة ‪،‬‬
‫ولو أننا ألقينا البصر إلى آخر السورة فسمعنا الله يقول ) ألم يجدك يتيما ً‬
‫فآوى ‪ ،‬ووجدك ضال ً فهدى ‪ ،‬ووجدك عائل ً فأغنى ( لرأينا هذا الكلم يشد‬
‫المعنى الذي ذهب إليه المفسرون المحدثون ‪ .‬قلنا قبل اليوم إن للقرآن‬
‫وللسلم طريقة يتميزان بها عن أية دعوة أرضية ظهرت على وجه الرض ‪،‬‬
‫في الحالة العادية قد تتوفر فرص ومناسبات يتوهم النسان أنه يستطيع أن‬
‫يحقق بها مكسبا ً ما للقضية التي يحملها ‪ ،‬وقلما يتمالك النسان نفسه تجاه‬
‫إغراء من هذا النوع ‪ ،‬لعل النتهازية والوصولية في الحزاب الدنيوية مبنية‬
‫على هذا إل السلم ‪ ،‬فالسلم ل يرضى أن ينتهز الفرص وإنما يأخذ بالبناء‬
‫لبنة بعد لبنة ‪ ،‬قد تكون هناك فرص تعرض ولكن السلم يضرب عنها صفحة‬
‫ول يلتفت إليها ول يكترث بها ‪ ،‬لو فعل ذلك لسقط في سياسة حرق‬
‫المراحل التي يكون فيها الكسب الخارجي على حساب التنمية الداخلية‬
‫وعلى حساب البناء الداخلي ‪ ،‬من أجل هذا رأينا السلم منذ البداية لم يعرف‬
‫التقهقر ولم يعرف التراجع ‪ ،‬رأيناه في تقدم مستمر ونمو متصل ورأينا‬

‫‪192‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المسلمين يزدادون باستمرار ‪ ،‬وحينما نعود إلى نصوص الحديث نستمع إلى‬
‫نص معين من الحوار الذي قام بين أبي سفيان وبين هرقل ملك الروم على‬
‫أثر صلح الحديبية ‪ ،‬فإن هرقل في جملة السئلة عن الرسول وعن الرسالة‬
‫وعن التباع سأله ‪ :‬أيزيدون أم ينقصون ؟ قال ‪ :‬بل يزيدون ‪.‬‬
‫فالسلم ما عرف التراجع ول عرف التقهقر إلى الوراء ولم يعرف إل التقدم‬
‫وإل اتساع الرقعة ‪ ،‬لماذا ؟ المر كله يعود إلى هذه القضية أي أن البناء يجب‬
‫أن يبدأ من الساس وإنه ل يجوز أن توضع اللبنة الثالثة قبل أن توضع اللبنة‬
‫الثانية ‪ ،‬وإن الذي يتورط في عمل هذا الخرق وقلة العقل يغامر بالبناء كله ‪،‬‬
‫ح في الفق من المغريات ومن الفرص‬ ‫فطريقة السلم بهذا الشكل مهما ي َل ُ ْ‬
‫قد يعض عليها البعض بنان الندم لنها فاتت ‪ ،‬فالسلم ل يكترث بهذا ول‬
‫يلقي إليه بال ً ‪ ،‬قد خاض معركته الساسية في داخل الذات ‪ ،‬ومنذ أوائل‬
‫الدعوة ربط السلم ربطا ً وثيقا ً محكما ً بين النسان وبين السماء حتى تتحرر‬
‫حركته بوحي السماء ‪ ،‬وحتى يكون المسلم مرتبطا ً دائما ً بالله تبارك وتعالى ‪،‬‬
‫ففي سورة المزمل يطلب الله جل وعل من نبيه صلى الله عليه وسلم أن‬
‫يقوم نصف الليل أو ثلثه أو ثلثيه تدريبا ً له على تحمل الصعوبات والمشاق‬
‫في ذات الله جل وعل وصرفا ً له عن المغريات التي يصادفها المرء في الحياة‬
‫‪ ،‬منذ ذلك التاريخ والسلم يقود المة خطوة وراء خطوة ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫‪193‬‬

You might also like