Professional Documents
Culture Documents
com
للشتراك في هذه الخدمة الرجاء زيارة موقعنا "بلّـغوا عنّـي ولو آية" في السفل
:وتسجيل البريد اللكتروني
http://www.balligho.com
ن في السلم سنة حسنة ،فعمل بها قال رسول ال صلى ال عليه وسلم" :من س ّ
بعده ،كتب له مثل أجر من عمل بها .ول ينقص من أجورهم شيء ...الحديث.
فاحرصوا يرحمكم ال على نشرها فكل من يزور الموقع ويستفيد منه عن طريقك
تكسب من الجر الكثير وإن قام بدوره بالعمل بها ونشرها أيضا فكلنا نكسب أمثل
.أجورهم ول ينقص من الجر شيئا
والسّنة
ب َ
دة إلى الك َِتا ِ و َع ْ
منهاجناَ :
مة ف ال ُسل َ ِ بِ َ
ّ هم ِ َف ْ
1
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
2
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
وتحس أحاسيس ،وتحس ذلك الحساس المؤلم أنها قلة في وسط كثرة ،
وأنها ضعف إلى جانبه قوة ،وهذا إحساس مباشر وصحيح ،كل إنسان يشعر
به ،لكنكم تدركون تماما ً ما أثارته اليات حينما ذكر الله شأن عاد وثمود
وفرعون ،متى تموت المم ؟ تموت حين يسكن الرعب في قلوبها ،نحن
انهزمنا في العصر الحديث أمام إسرائيل ونحن جيوش كبيرة وأعداد كثيرة ،
أمن قلة ؟ ل ،أمن نقص في التسلح والتدريب ؟ ل ،ولكن لذلك الرعب
والخور الذي يسكن في القلوب ،كنا نتصور الجندي السرائيلي كائنا ً ل
ُيغلب ،وجندينا يدخل المعركة وهو واثق بالهزيمة ،يعرف أنه يقاتل ولكن
وجهه إلى الوراء ،يفتش عن مواطن أقدامه حين يفر من المعركة ،من أجل
ذلك انهزمنا .وحينما نقلب صفحات التاريخ فنحن نجد أن التتار حين تغلبوا
على العالم السلمي ما تغلبوا عليه خرقا ً لقوانين الوجود أبدا ً ،وإنما تغلبوا
ق بها التمزق عليه تساوقا ً مع قوانين الكون ومع سنن الجتماع ،إنما المة با ٍ
والعصف الحالة التي أطمعت بها العداء وجعلتها تعيش هذا الرعب الذي
تحس به تجاه السلطات الحاكمة وتجاه المم المجاورة ،فمن أجل ذلك ل
نستغرب حينما نقرأ في تاريخنا أن الجندي التتري كان يأتي إلى المسلمين
فيجمع ثلث مائة أو أربع مائة من المسلمين ول يكون عنده خنجر ول سيف ،
يقول لهم :قفوا صفا ً واحدا ً ،وانتظروني حتى أجلب السيف لذبحكم ،
وبالفعل يذهب التتري وهذه البغال واقفة في مكانها ويعود بالسيف ويقتلها
واحدا ً واحدا ً ،لو أن واحدا ً منهم ضربه بقدمه لقضى عليه ،ولكنهم لم يفعلوا
،لماذا ؟ لن الرعب في قلوبهم .
)(7 /
إن السلم عالج هذه القضية ،وحين أثار قضية عاد وثمود وفرعون والمم
التي بادت من قبل والتي عاشت كانت لها حضارات وسلطات وصولة ودولة
تهمدت وتحطمت ،فل ينبغي لحد أن يسأل عن الكثرة والقلة ،وإنما ينبغي
أن يسأل عن الصحة وعدم الصحة ،عن الصواب وعن الخطأ ،مجتمعك حين
يكون سائرا ً على طريق صحيح وقائما ً على قواعد سليمة فل تسأل ،إن
المستقبل معك ،ولكنك حين تقوم مركزا ً على قواعدك الخاطئة فمهما يكن
لك من أساطيل ومن جيوش ومن طائرات فأنت ل بد فاشل ومنهزم ،إن
السلم ثّبت هذه القضية في عقول المسلمين ،فمن أجل ذلك رأيناه تبارك
وتعالى يذكر نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن الشدة بعد أن ذكر له
أنباء القرون الخوالي ) ألم نشرح لك صدرك ( كان محمد عليه الصلة
والسلم يعيش هذه الزعازع المتلطمة كموج البحر المظلم وهو منشرح
الصدر واثق من المستقبل قانع بأن الله الذي أوحى إليه هذا الدين سيقوده
إلى النصر ل محالة ،كان عليه الصلة والسلم يقود المة بهذه العزمة التي
ل تبلغها عزمة ،ومن الخير أن نتذكر أن هذه العزمة التي وجدت في نفس
محمد عليه الصلة والسلم وشحن بها قلبه كانت عدوى تسللت إلى قلوب
الصحاب رضوان الله تعالى عليهم ،وما من أحد يجهل أن النسانية بمفكريها
اليوم يعجبون كيف أمكن لهذه المة الضعيفة المستضعفة أن تسيطر على
العالم القديم كله في أقل من قرن واحد من الزمان ؟ كيف أمكن ذلك ؟
عرف السبب بطل العجب .إن المسألة واضحة ،بناء المجتمع كان ولكن إذا ُ
ً ً
منذ البداية كي يفيء إليه الناس ويلتزمون به التزاما مصيريا بدل النتساب
إلى الحزب انتساب إلى المجتمع ،بدل انتساب إلى المنظمة النخراط في
3
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(8 /
4
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الذين نقلوا إلينا شرائع الله في الحلل وفي الحرام ،أي هم الذين حملوا
إلينا علم القرآن وسنن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ،ومن هذا الباب
فإن الطعن في هؤلء الرواة الكبار شيء ل يدعو إلى الرتياح .
إن كل المفسرين القدامى يقفون عند حدود الروايات ويثبتون ما جاء بها ،
ويتفقون على أن حادث انشقاق القمر حادث وقع قبل هجرة الرسول صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة ،وبعضهم يذهب إلى تحديد الزمن الذي وقع
الحادث فيه بنحو من خمس سنين من قبل الهجرة أي في حدود السنة
الثامنة أو أواخر السنة السابعة من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ،ولن
يأتينا بطائل تحديد الزمن ،لكن الشيء الخطير حقا ً هو البحث في ثبوت
الواقعة أو عدم ثبوتها .وبطبيعة الحال فنحن من حيث المبدأ والساس مع
كل القائلين بأن رسولنا عليه الصلة والسلم في غنى عن الخوارق
والمعجزات الحسية والكونية ،ونحن أيضا ً مع جميع القائلين بأن القرآن
الكريم هو المعجزة الكبرى لرسولنا عليه الصلة والسلم ،ولكنا لسنا معهم
في حال من الحوال حينما يكون هذا القول من باب دغدغة العواطف وتملق
الحس الديني لدى المسلمين لكي يكون هذا القول من بعد ذريعة إلى نسخ
ما جاءنا بالطريق الثابت الصحيح من خوارق حصلت لنبينا عليه الصلة
والسلم .
القدامى من المفسرين ولست أزعم لنفسي أنني شديد الولوع بما قال
القدمون فأنا قانع بأن الحياة حركة وتجدد وأن النسان الذي يجمد على نحو
واحد إنسان يفقد حقه بأهلية الحياة الكريمة ،وأن المة التي ل تعرف هذا
الطريق الصاعد باستمرار نحو التقدم والنماء أمة مجردة من أية رسالة
يمكن أن تتقدم بها إلى الناس وتسهم بسببها في خدمة البشرية .ولكني
ف بين التجدد وعوامل الثبات في هذا الدين ،إنني أميز بدقة وبوضوح كا ٍ
ً
أفهم أن تتطور المة دائما ،ولكني ل أفهم أن يأتي كلوف جاءوا بعد أن فسد
اللسان وتلوثت السليقة وذهب حس اللغة وذوق اللغة ليستدركوا على أهل
اللسان نبضات في هذه اللغة يزعمون أنها ذهبت عليهم .ل أستطيع أن أفهم
هذا من أكبر المتعمقين في لغة العرب حينما يريد أن يستدرك على أعرابي
ف حافي القدمين شعث الشعر يعيش في أعمق أعماق البادية من أهل جا ٍ
هذا اللسان .
وإنني أفهم التجدد ولكني ل أفهم الهزيمة العقلية ول الهزيمة الشعورية أمام
منجزات مادية يراد لها أن تكون هي البديل عن أنبل ما عرفته النسانية وهي
معالم هذا الدين .
إن المفسرين القدامى أجمعوا على أن الحادثة وقعت ،وجاءت الرواية في
ذلك بألفاظ ونصوص تتفاوت بعض الشيء ولكنها تجتمع لتزيد وقوع الحادثة
ثباتا ً ووثوقا ً ،وفي بعض الروايات أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم آية ،وفي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق له
القمر نصفين ،وفي بعضها انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه
وسلم نصفين فقال لهل مكة :اشهدوا .وفي بعضها أن المل من أشراف
قريش طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية يعرفون منزلته عند
الله وكرامته عليه فأراهم القمر منشقا ً نصفين .
)(1 /
5
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أما سلفنا العاقل المدرك صاحب اللسان والمالك لقدر هائل من التربية
اليمانية الوثيقة فقد وقف عند حدود النصوص التي وردت عن النبي صلى
الله عليه وسلم .وأما الخلئق التي جاءت بعد فيؤسفني جدا ً أن أقول إن
معظم الذين قرأت لهم حتى الن مصابون بهزيمة عقلية أمام الضغط
الحضاري العنيف الذي يعيشه المسلمون وغير المسلمين ،إنهم يقولون إنه
ل توجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إل القرآن وما كان من
شيء خل ذلك فهو وهم واختلق .وهذه القضية ل تتصل فقط برد رواية ،ول
أدري كيف تأتيك رواية ما من طريق فلن عن فلن عن فلن يبلغ به النبي
صلى الله عليه وسلم وتكون في الحلل والحرام وتكون في شرائع الدين
وأصول العتقاد فتقول :هذه رواية صحيحة والحكم الذي تضمنته لزم ،ثم
تأتيك رواية أخرى من نفس الطريق بالذات بنقل الرجال بأعيانهم فتقول :
إنني أرفض هذه الرواية وأشك في صحتها .ماذا نسمي هذا إن لم يكن
تحكيما ً للهوى في نصوص هذه الشريعة ؟ أحب قبل ً أن أقول إن السناد وهو
نقل الوقائع والحكام عن طريق الرواة الذين ينقلونها واحدا ً عن واحد أو
قوما ً عن قوم أو جيل ً عن جيل خصيصة هذه المة التي ل يشاركها فيها أحد .
ولعل الذين لهم اطلع على مبادئ علوم التاريخ يعرفون أن التاريخ كله إنما
يعتمد هذه الطريقة ،ولكن ليس بدرجة من التوثق تبلغ الدرجة التي بلغها
المسلمون ول عشر معشارها أيضا ً ،فالمسلمون ُ
عنوا أبلغ العناية بالتوثق لما
ينقلونه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ،ولنهم يعلمون أن هذا الذي ينقلونه
دين ،وهو دين لزم للمة إلى أن تقوم القيامة ،وذلك يعني أن الحتياط
واجب وضروري ،وأن التهاون والتساهل في قبول الروايات تحميل للمة ثقل ً
وأغلل ً لم يأذن بها الله تعالى ولم ينزل بها سلطان .
جماهير المفسرين المحدثين يقولون إن حادث انشقاق القمر لم يقع ،وما
جاء في نظم الية من قوله تعالى ) اقتربت الساعة وانشق القمر ( فإنما
ذلك يكون قرب يوم القيامة حين يأذن الله تعالى بخراب الدنيا ،ويعتمدون
في ذلك رواية مكذوبة تنسب إلى الحسن البصري وهو من كبار التابعين
رضي الله عنهم أجمعين من أن هذا يكون يوم القيامة .والتعبير بقوله تعالى
) وانشق القمر ( بصيغة الماضي هو تعبير يراد منه تأكيد الحدوث ول يراد
منه تحديد الزمن وهو أسلوب معروف في أساليب البيان العربي .ونحن ل
نحتاج إن شاء الله تعالى إلى من يدلنا على خصائص البيان العربي وطرائق
السلوب الذي يتخاطب به العرب والذي نزل به القرآن وتحدث به محمد
صلى الله عليه وسلم .
ولكن المسألة ليست هنا ،المسألة فيما نرى ليست موضع اجتهاد ،فإن من
علماء المسلمين من قرر أن حادث انشقاق القمر حادث ُنقل بصورة تبلغ
مبلغ التواتر ،وما ُنقل إلينا متواترا ً فل سبيل إلى رده ،لننا حينما نرد النقل
المتواتر فنحن ضرورة نرد نقل القرآن ،لن القرآن ُنقل إلينا بطريق الكافة
عن الكافة جيل ً من بعد جيل ،وهذا هو طريق التواتر ,ومهما يكن من شيء
فلكي تحدد المشكلة ويستبين الخطر فإن علماء السلم حددوا مبحثا ً خاصا ً
يتعلق بمنكر انشقاق القمر ،وبحثوا هل يكفر من ينكر وقوع الحادثة أم ل ؟
والجمهور على أنه ل يكفر ،ذلك لن التواتر ل يثبت ،صحيح أنه جاءنا عن
خمسة أو ستة من الصحابة رضي الله عنهم بالطريق الصحيح المثبوت
بصحته ،وصحيح أن الواقعة رويت في جميع كتب الصحاح والسنن والجوامع
والمسانيد بأسانيد ل سبيل للشك فيها ول تعلق بها شبهة ،ولكن الصحيح أن
منكر هذه القضية ل يكفر وإنما أذكر هذا لبيان خطورة المسألة فقط .
6
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إن المسألة ل تتصل بإنكار حادث فردي ،فنبينا عليه الصلة والسلم أجل
وأعظم وأكرم على الله من أن يكون محتاجا ً لي شيء ،ولكن هذه قضية ،
وإكرام الله تعالى لمن يشاء من عباده بلون من الكرامة قضية أخرى ،وما
جاء في السورة وما جاء في الحاديث يؤكد الواقعة ،والشك الذي حصل
لدى جمهور المفسرين المحدثين والمعاصرين جاء من طريق الهجمة العنيفة
شط ذاكرة الشرسة على السلم وعلى نبي السلم وعلوم السلم ..سأن ّ
الذين يذكرون ،حينما كنا واقعين تحت الستعمار الفرنسي في هذا البلد كان
الذين يلبسون مسوح النسانية ويشتغلون في مهنة الطبابة والتمريض
يدورون في القرى والمدن بحجة مكافحة المراض ومدواة المرضى وفي
يدهم زجاجة الدواء وفي اليد الخرى النجيل ،وفي رؤوسهم شيء واحد هو
الحقد الدفين المر على السلم ونبي السلم وكتاب السلم وتاريخ السلم ،
وفي قلبهم نبض واحد هو التحسب والخوف من أن تستيقظ هذه اليد التي
دقت أبواب أوروبا وهددت عواصمها في الماضي لتعطل عليهم مسيرتهم في
امتصاص الدماء ونهب الثروات وإذلل عباد الله .
)(2 /
كانوا يسيرون في القرى وفي المدن ليقولوا للناس إن نبيكم ليس له
معجزات ولكن عيسى أحيا الموتى وأبرأ الكمه والبرص وكان يعلم الناس
بما يدخرون في بيوتهم وكان وكان ..وموسى ألقى عصاه بشهادة قرآنكم
أمام السحرة فإذا هي تلقف ما يأفكون ،و ضرب البحر بعصاه فانفلق فكان
كل فرق كالطود العظيم ،ومشى فيه موسى ومن معه من بني إسرائيل كما
يمشون على اليابسة حتى إذا أنجاهم الله إلى البر انطبقت شعبتا الماء على
فرعون ومن معه فأهلكتهم ،فماذا عند نبيكم من معجزات .
ت لهم من معجزة يعمدون إلى إنكارها ويقولون هذه غير صحيحة ، حيثما ذكر َ
وأمضى السلحة في أيديهم أن هذه المعجزات ينقلها أناس ل ُيدرى حالهم
من الضبط والتقان والدراية والدراك ..فهي إذا ً موضع شك ،وما كان بهذه
المثابة فهو خليق بأن ُيرد ..هذه واحدة .الثانية :إن العلوم الكونية
المستحدثة كشفت أشياء ل نقول إنها جديدة بمرة ،فالعلم وعلم الفلك
والرياضيات بصورة خاصة توصل منذ عصور ازدهار السلم إلى وضع مقاييس
ثابتة لحركة الكواكب وقياس النسب والبعاد ،ولم يكن علماؤنا الماضون
فل العلماء المحدثون والمعاصرون على موائدهم يجهلون أن هذه الذين تط ّ
الكواكب المزروعة في جو السماء لها كتلة ولها كثافة وهي فيما بينها ذات
نسب ،لو اختلت هذه النسب لحدث تخّرب كوني هائل ،لم يكن علماؤنا
يجهلون ذلك .ولكنهم ما كانوا بدرجة من الضلل كالتي عليها المهزومون من
أبناء جلدتنا في هذه اليام ومنذ مطالع هذا القرن .
يقولون لك إن القمر يمارس جذبه بالنسبة إلى الرض وبالنسبة لما حوله
ككل كوكب آخر ،فلو أن القمر انشق فعل ً لحصل خلل في قانون الجاذبية
يؤدي إلى عدم ٍ في التوزع النسبي الموجود في الكون ،وهذا هو ما يؤذن
بتحطم الكون وانحلله وخرابه .العلماء المحدثون يقولون هذا ولكنهم
ُيغفلون حقيقة بحثها العلماء المسلمون من قديم وهي أيضا ً مبحوثة في
حمون القول على كتاب الفلسفة القديمة ،لو أن هؤلء المحدثين ممن يتق ّ
سط أحسنوا النتفاع بما قال القدمون . الله بغير روية وبل تب ّ
إن علماءنا بحثوا في العلقة بين السبب والنتيجة ،بين السبب والمسبب ،
7
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ت به قالوا :إن السيف بطبعه قاطع ،والمشهود من التجربة أنك إذا ضرب َ
الجسم مضى فيه ،والمعروف أن الماء قاطع للعطش ،والمعروف عادة
وطبعا ً أن العطشان إذا شرب الماء انقطع عنه لغوب العطش ،والمعروف
أن النار محرقة ،وأنك حين تلمسها تحترق يدك .كل ذلك معروف طبعا ً
وعادة ،ولكن السؤال ليس هنا ،السؤال في التي :هل العلقة بين السبب
والنتيجة علقة ضرورية ل تنفك ول تنفصل أم أنها علقة معية ومصاحبة ؟
ذهب معظم فلسفتنا ممن لم يتأثروا بنخالة الفكر اليوناني ول بزبالة الفكر
الروماني والمسيحي إلى أن السبب والنتيجة يتعايشان والعلقة بينهما علقة
مصاحبة ومعية .بمعنى أن النسان يحصل له الرواء حينما يشرب الماء ،ولو
شاء الله جل وعل لجعل الماء غير قاطع للعطش ،وأن المحترق يحترق ل
لن الحتراق لزم للنار ،ولكن الحتراق يحصل مع وجود النار ل بسبب النار ،
وإنما بين السبب والنتيجة ،من هنا فليس شيئا ً يحيله العقل وليس شيئا ً يرده
المنطق أن تتعطل بعض النواميس وأن تبطل بعض السباب وأن تتخلف
بعض النتائج عن أسبابها .هذا على مستوى النظري .
ولقد كان علماؤنا الماضون رضي الله عنهم إذا جاءهم المر من كلم الله أو
من كلم رسوله عليه الصلة والسلم ل يبحثون في تعليله وإنما يبحثون في
مدى ثبوته ،فإذا ثبت بالدليل القطعي فعلى الرأس والعينين ،وإذا لم يثبت
م ؟ ول يقولون :كيف ؟ وإنما دوه غير آسفين .وحينما يثبت ل يقولون :ل َ ر ّ
يفسرون ما يعرفون ويتركون علم ما يجهلون تفسيره إلى الله تعالى .ذات
دث أبو هريرة رضي الله عنه بحديث فقال له عبد الله بن عباس رضي يوم ح ّ
الله عنهما :كيف ذلك ؟ قال له أبو هريرة :يا ابن أخي إذا جاء الحديث عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فل تضرب له المثال .إياك ،المسألة
ليست مسألة كلم يجوز لنا أن نأخذ منه أو أن نترك ،المسألة أنها كلم النبي
سر ،وما لم ت فاعمل وافهم وف ّ المرسل الذي ل ينطق عن الهوى ،فما عرف َ
كل العلم إلى العالم ،إن من وراء هذا علم الله تعالى الذي أحاط تعرف ف ِ
ً
بكل شيء علما .ودعك من هذا ،إن من وراء ذلك مسيرة علمية بشرية
ً
كونية ماضية في طريقها ،ما جهلته اليوم من جوانب العلم فستعرفه غدا أو
بعد غد أو بعد عشرات أو مئات السنين ..فالتهجم على النكار لمجرد النكار
فضيحة عقلية ،وأقول فضيحة عقلية لماذا ؟ لن حادث انشقاق القمر الذي
كبر على المعاندين والمهزومين أن يقروا به برغم وثاقة الطرق التي بلغنا بها
حادث واقع وثابت بالخبر وبالثر .
)(3 /
منذ مدة قليلة أقل من عشر سنوات كتبت صحيفة أجنبية وهذا كلم نقوله
للذين يحتقرون كل نتاج محلي وينحنون ذلة وخضوعا ً لكل نتاج أجنبي ،كتبت
م الكشف عن معهد بوذي في الشرق القصى ، جريدة أجنبية تقول :إنه ت ّ
وُوجدت عليه كتابة وقرئت الكتابة ،وكان مفادها كالتي :إنه حدث في عصر
حسب تاريخ مضى حادث كوني رهيب هو أن القمر انشق نصفين ،وحينما ُ
الكتابة ُوجد مطابقا ً تماما ً للحادث الذي جاءت أحاديث أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم تشير إليه .وفي رسالة للدكتور محمد محمد السماحي
من كبار علماء الزهر إشارة أخرى إلى واقعتين أثريتين أخريين تثبتان حصول
هذه الواقعة .فماذا يقول المهزومون ؟ إذا حصلت الواقعة بهذا الشكل
يقرون بها ،لنها جاءتنا عن طريق الجانب ،وأما حين تأتينا عن طريق
8
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
القرآن وعن طريق السنة النبوية فنحن ل نخجل من التحايل على نص
القرآن لكي نصرفه عن وجهه ،ول نخجل من اتهام أوثق الناس على الطلق
بأنهم واهمون أو كاذبون حينما ينقلون إلينا الخبار .وإذا ً فواقعة انشقاق
القمر حادث ل مجال لنكرانه .
بقيت حول هذه النقطة أريد أن أشير إليها ،وصاحبها عزيز علي وعلى كل
مسلم ،ولكن الحق دائما ً أعز من أي إنسان ،إن أستاذنا شهيد السلم
المرحوم سيد قطب رجل معروف بالتقى ،ومعروف أنه شديد الحترام لما
ثبت في السنة النبوية ثبوتا ً قاطعا ً ،ولقد تعّرض لهذا المر ،وفي تقديري أنه
فذت على يد لو لم يعالجه الظالمون بالمؤامرة التي حيكت في موسكو ون ّ
الجلدين في مصر لكان خليق بأن يعيد النظر فيما كتب ،وأن يقول غير الذي
قال .إن الرجل عليه رحمة الله ورضوانه يورد الحاديث التي ذكرنا جانبا ً منها
،ويقرر أن الحادثة واقعة ول مجال لنكارها على الطلق .ولكن ليست هي
المعجزة الكونية ،وإنما هي كرامة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ،
وآية ظهرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غير طلب من
المشركين .قد يكون هذا الكلم غامضا ً أو غير مفهوم من قبل البعض .إن
الستاذ سيد قطب رحمه الله يستند في ذلك إلى عموم من عمومات القرآن
ذب ،عندنا في سورة السراء آية تقول ) وما منعنا أن نرسل باليات إل أن ك ّ
بها الولون ( ومنذ عدة سنوات وفي غير هذا المكان وغير هذا البلد سئلت
هذا السؤال :ما معنى قول الله تعالى ) وما منعنا أن نرسل باليات إل أن
ذب بها الولون ( ؟ وقلت يومها كلما ً مغنيا ً حول هذا الموضوع يتعلق برد ك ّ
المر إلى شيء يتصل بصميم الرسالة إل أنني هنا أحب أن ألقي الضواء
على جوانب أخرى .
أول ً ـ قلت إن الستاذ رحمه الله أقّر بالحادثة ،لن بين يديه أحاديث ل مجال
لردها ،وهو كما قلت لكم شديد الحترام لما ثبت بالنقل الصحيح عن رسول
الله ،ولكنه فّرق بين الية والكرامة والمعجزة ،وهو تفريق ل معنى له ،
وحينما بحث ابن تيمية وهو من أئمة السلم وهو رجل ُيرمى من قبل
الجاهلين المغفلين المضللين بأنه عدو للنبوات وعدو للمعجزات حينما بحث
رضي الله عنه موضوع النبوات لم يفّرق بين المعجزة التي تكون للنبياء
وبين الكرامة التي يكرم الله بها بعض أوليائه ،وقال إن المعجزة والكرامة
من باب واحد على اعتبار أنهما خرق لناموس من نواميس الكون ولما جرت
به عادة الله في خلقه وعادات الناس فيما بينهم .
فالتفريق بين المعجزة والكرامة تفريق يشبه أن يكون تفريقا ً لفظيا ً ليس له
محصل عملي ،وحينما يقول إنها آية جاءت إكراما ً لرسول الله من ربه جل
وعل فنحب أن نقول :وهل المعجزات إل آيات ؟ والقرآن معجزة النبي
الكبرى ،فماذا هو غير هذه اليات ؟ وهل سماه الله بشيء غير اليات ؟
والمعجزات حينما نتتبع تسمياتها وأوصافها في القرآن ل نجدها بلفظ
المعجزات ،ففي كل القرآن ل يوجد لفظ معجزة ،جاءت البصائر ..جاءت
اليات ..جاءت البينات ..وما في معنى ذلك وكلها تشير إلى معجزات كونية
خارقة ،والية هي المعجزة بالذات ،ولسنا محتاجين إلى كثير من إعمال
الفكر ،نرجع إلى فاتحة السورة ) اقتربت الساعة وانشق القمر ،وإن يروا
آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ( هنا ُوصف انشقاق القمر بأنه آية ،والية
هي ما كان واضحا ً في الدللة على المقصود وضوحا ً ل يخفى على أحد في
شيء من إدراك .وأما أن المشركين المكيين لم يطلبوا ذلك من رسول الله
صلى الله عليه وسلم فهذا غريب من الستاذ سيد رحمة الله عليه .إنه لم
9
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(4 /
استناد الستاذ سيد إلى قضية معروفة ،إن تتبع المعجزات الماضية التي
جاءت على يد النبياء الماضين معجزات ذات طابع خاص ،والله جل وعل
ذب بها الولون ( ذكر في هذه الية ) وما منعنا أن نرسل باليات إل أن ك ّ
جت فدلت الية على أن الله جل وعل إذا عاندت أمة رسلها فكذبت وأبت ول ّ
في عنادها فجاءت آية خارقة بناًء على طلب المرسل إليهم فكذبوا بها فإن
الله جل وعل مضت سنته في عباده أن يسلط عليهم عذاب المحو والمحق
والستئصال ،ولما كان هذا لم يحصل بالنسبة إلى العرب الذين كانوا بين
أظهر محمد صلى الله عليه وسلم ،أو الذين كان محمد صلى الله عليه
وسلم بين أظهرهم فذلك يعني أن ما جاء في بعض الحاديث من أن المكيين
طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية شيء يستحق الرفض أو
التوقف على القل .
ونقول :إن المسألة ليست في هذا المستوى أبدا ً ،إننا نقرأ من وقائع
السيرة وفي صحاح الحديث ومن نقل إلينا من أخبار نبينا صلى الله عليه
وسلم أن زعماء المكيين :أبا جهل وأبا سفيان وعتبة وشيبة وأضرابهم مشوا
ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له :يا محمد إنك قد
ت من ت أحلمهم وضلل َ فه َ ت فيه جمعهم وس ّ ت قومك بأمر عظيم ،فّرق َ جئ َ
مضى من آبائهم ،فاسأل الله جل وعل أن يعطيك آية ترينا منزلتك وكرامتك
على الله .قال لهم :إنني ما ُبعثت بهذا إليكم ،وإنما ُبعثت إليكم بل إله إل
الله ،فإن تقبلوها مني فهي حظكم في الدنيا والخرة ،وإن تردوها علي
أصبر لمر الله حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين .قالوا :إن لم تفعل
فنحن نراك تضطرب في السواق وتبيع وتشتري فاسأل الله أن يجعل لك
جنات وقصورا ً كما جعل لملوك فارس والروم .قال :ما ُبعثت إليكم بهذا
وأعاد عليهم نفس المقال .قالوا :أما إذ أبيت أن تسأل الله لنفسك فأنت
ترى أننا أهل بلد ل أضيق منا عيشا ً ول أضيق منا رقعة ،فاسأل الله أن يحول
الصفا والمروة ذهبا ً .فقال :ما بهذا ُبعثت .قالوا :فاسأل الله أن يحول عنا
هذه الجبال التي ضّيقت علينا وأن يخرج لنا النهار حتى تكون بلدنا رخية
خصيبة .قال :ما بهذا أرسلت إليكم .وجاءه ملك ربه تبارك وتعالى ،قال له
ولت عنكم هذه الجبال فذت لكم ما تريدون وح ّ :يا محمد قل لهم إن شئتم ن ّ
ً
وأحلت لكم الصفا والمروة ذهبا فإن تؤمنوا فذاك وإل أحللت بكم ما أحللت
بالمم الماضية المكذبة من قبلكم .وكان ذلك تخييرا ً من الله لنبيه صلى الله
عليه وسلم ،وكانت الخيرة بيد محمد صلى الله عليه وسلم ،وسأل الله جل
وعل أن ل يأخذ أمته بغضبه ،واستعاذ بالله من ذلك ،وقال للملك :بل
أستأني بهم وأصبر عليهم لعل الله تعالى أن ُيخرج من أصلبهم من يوحد الله
تعالى .
إذا ً فها هنا آيات كونية لو أنها جاءت على سبيل المعاجزة والتحدي ثم كلب
ّ ُ
10
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
بها لحصل ما حصل ،ولكن ها هنا آية سماوية لم تكن نتيجة تحد ٍ وإنما جاءت
طلبا ً لظهار المنزلة والكرامة التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند
ربه ،إن الله تعالى أهلك القوام الماضية حينما وضع بين أيديهم خوارق
مادية يلمسونها لمس اليد ،ثمود حينما عقروا الناقة ،لم تكن هذه الناقة من
النوق السارحة ،وإنما طلبوا هم أن ُيخرج الله لهم الناقة من هضبة عينوها
له ،واستجاب الله لهم وأخرج ناقة من هضبة صماء ،فكانت ناقة تأكل
وتشرب وتسرح وتمرح ،وكان لها يوم معين لتشرب ،ولهم يوم معين
ليشربوا ،وكانوا ينتفعون بلبنها ،وظلت آية بّينة على صدق الرسول المرسل
إليهم حتى انبعث أشقاها فعقر الناقة فأحل الله بهم ما أحل .
وأما هذا فالمر ليس كذلك ،وفي تقديري أننا نحتاج قبل البت لمور من هذا
القبيل تتعلق بمعجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن نفّرق بين قوم
وقوم ،وأن نفّرق بين معجزة ومعجزة ،وقضية من هذا القبيل ل ُيقضى بها
بكلم ُيلقى على المنبر لنها أدق وأعمق من أن تساق على المنابر ،وإنما
حم على آيات الله جل قلت ما قلت لكي أنبه الخوة جميعا ً إلى خطر التق ّ
وعل بالتكذيب أو بإلقاء الشبه والشكوك من حولها ،فكم من كلم لله وكم
من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنكره من أنكره في الماضي
ثم جاءت البيانات والشواهد والحقائق المادية مصدقة لهذا الذي نطق به
القرآن أو هذا الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبعد فثمة حديثا ً صحيحا ً جدا ً مرويا ً في البخاري وغيره يستند إليه هؤلء
المنكرون ول مستند لهم فيه ،إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
ما من نبي من النبياء من قبلي إل أوتي ما مثله آمن عليه الناس ،وكان
الذي أوتيته وحيا ً من الله ،فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا ً يوم القيامة .
)(5 /
حينما ندقق في صياغة الحديث ،والكلم كلم رسول الله وليس الكلم كلم
الدميين العاديين ،أي كلم رجل مسؤول يضع كل حرف في مكانه الذي ل
يغني حرف في سواه نجد المر ل يفيد الحصر بحال من الحوال .ل يعني
ذلك أن الية الوحيدة التي أوتيها رسولنا صلى الله عليه وسلم هي هذا
القرآن ،ولكن يعني التفريق والتمييز بين وسيلة البلغ عنده ووسيلة البلغ
عند النبياء الخرين دون أن يتطرق ذلك إلى نفي المعجزات الخرى .يعني
بتعبير أدق أن المعجزات المادية الحسية المحدودة في الزمان والمكان هي
معجزات موقوتة وليست لها صفة الديمومة والخلود .وما كان من معجزات
للنبياء الماضين عليهم الصلة والسلم فقد انقضت بانقضاء زمنهم ،فليس
في توراة موسى عليه السلم ما يدل على العجاز المتصل الخالد على النحو
الموجود في القرآن ،وليس في إنجيل عيسى عليه الصلة والسلم ما يدل
على العجاز المتصل الخالد على النحو الموجود في القرآن ،ومعجزاتهم
التي كانت سواء كانت انفلق بحر أو انقلب عصا إلى ثعبان هائل أو إحياء
ميت أو ما شابه ذلك فهي إن نفعت تنفع الناس الذين رأوها أو عاينوها ،ثم
هي بعد ذلك خبر من الخبار .
ُ
ولكن المر بالنسبة إلى القرآن يختلف ،إن الذي أعطيه رسولنا صلى الله
عليه وسلم كوسيلة مستمرة وخالدة للدعوة هي هذا القرآن ،لن القرآن
بذاته وبنظمه وبأسلوبه وبالحشد من الفكار والتصورات الموجودة فيه يحمل
العجاز الذي ل ينقطع والدليل الذي ل ُيقهر ول يكسر على سلمة هذا الدين
11
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(6 /
إذا ً ل مجال لنكار بعض المعجزات الثابتة المنقولة إلينا بنقل الثقات العدول
الذين نقلوا إلينا أحكام الحلل والحرام مهما تكن درجة الهزيمة العقلية ،لننا
يوم أن نجازف بكلم من هذا القبيل فنحن نهدم السس التي قام عليها بناء
هذا الدين كله .ماذا عندنا ؟ قرآننا منقول بنقل الرجال ،ومات عليه الصلة
والسلم والقرآن محفوظ في الصدور ،وبالرغم من اللواح والقطع التي كان
ن عن معارضته اللواح لما كان مجموعا ً في صدور ً
مكتوبا عليها فذلك لم يغ ِ
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .فإذا طعنا بالرواة طعنا بالقرآن
12
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
بالذات ،كيف يكون هذا وما نعرفه من شئون العقائد ومن شئون الشريعة
منقول إلينا من هؤلء الرواة الذين كانوا لئن يخّر أحدهم من السماء إلى
الرض ولئن يحترق أحدهم حتى يكون حممة أهون عليه من أن يكذب على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ كيف نرد ّ هذه الروايات وهي ثابتة بالنقل
الصحيح ؟ ألمجرد أننا نشعر إننا أمة ضعيفة مخذولة مهزومة ؟ هذا ل يجوز ،
آن لنا أن نعرف أن ديننا ليس فيه غموض وليس فيه أسرار ،إن الغرب الذي
يتعاجب بمسيحيته يرى أن مسيحيته التي يأخذ بها ل تروج حتى بين الوثنيين
الذين يعيشون في مجاهل أفريقيا وأستراليا حتى الن ،ومع ذلك فهم
يرفعون الرأس بها ،وأما نحن فأصحاب العقيدة الواضحة وأصحاب الشريعة
السمحة فنحن نخجل من بعض المور التي أخبر القرآن بها أو أخبر بها
رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ل لنها غير حقيقية ولكن لنها موضع اتهام
من قبل أعدائنا ،ولنها محل هجوم من قبل أعدائنا ،إن هذا ينبغي أن يزيدنا
ونها في أنفسنا طرفة عين .بها استمساكا ً وأن ل يه ّ
أتصور أن هذه القضية أخذت ما فيها الكفاية ،وليس عندي حولها بعد ذلك ما
أقوله على المنبر ،ما وراء ذلك من بحث فليس مكانه المنبر ولكنه كلم
ُيكتب أو كلم يتطارحه الناس في مجالسهم الخاصة ،لنه بعد هذا المستوى
يصبح كلما ً غير مفهوم ،ل تؤاخذوني إذا وقفت عند هذا الحد .
بقيت في السورة بعض القضايا التي تحتاج إلى عرض ،ل أدري ربما أقف
عندها في الجمعة القادة أو ل أقف ،ليس هذا مهما ً ،إنما المهم أن نستعين
الله جميعا ً على أن يرزقنا السداد في العتقاد وأن يرزقنا الثقة لمقررات
الدين الحنيف في كتاب ربنا ..وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
)(7 /
13
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
التي سيقت عليه يراد منه أساسا ً أن تطرد من ذهن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعض التصورات التي ل بد أن تقع في ذهن النسان أي إنسان
وهو في غمرة العمل وعلى وجه الخصوص ل بد أن تقع في أذهان أولئك
النفر من الناس الذين بلغت القضية التي يدعون إليها شغاف قلوبهم ،
واستقرت في مكان القناعة التي ل تناقش ،فهؤلء حينما يرون من الناس ما
يرون من استغراب وشك وارتياب وسخرية واستهزاء وخصومة ،بل ولدد في
هذه الخصومة ،ثم يتحول ذلك كله إلى موجة عارمة وطاغية من الرغبة
بالفتك والقتل والمحو والستئصال ،إن الطراز من الناس الواثقة من أحقية
ما يدعو إليه في مواجهة موقف كهذا بحاجة إلى السلوى والعزاء .
ولكنه العزاء الذي ل يكون من نوع التمنيات ولكن بسرد وقائع الماضين ممن
يماثلونه في الوصف ويحملون من الرسالة مثلما يحمل ،لكي يخرج هذا
الصنف من الناس بالنطباع اللزم أن طبع الناس هكذا ،وأن معطيات
الطريق ل بد أن تكون بهذا الشكل ،وأنها يوم أن تكون على غير هذا الشكل
فذلك يعني قطعا ً أن الطريق غلط .السورة برمتها من حيث الساس وفي
المبدأ أرادت أن تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ل مكان للعجب
من موقف قومك منك ،فتلك هي طبيعة الشياء وذلك هو رجع المجتمعات
الجاهلية على الدعوات التوحيدية التي جاءت في كل جيل وبين كل قبيل ،
وإذا ً فالواجب هو الصح ،ومواصلة الطريق ومتابعة بذل المجهود ،وما يلقاه
الداعي إلى الله تعالى ممن يوئس ويحمل على السوداوية فذلك ل علج له
ت أن تبتغي إل المزيد من الصبر ) وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطع َ
نفقا ً في الرض أو سلما ً في السماء فتأتيهم بآية ( ل يمكن ،ولهذا فوعد الله
نبيه عليه الصلة والسلم إزاء ضيق الصدر هذا أن ل يكون من الجاهليين ،
لن التضعضع والملل واليأس والقرف لبعض ما يلقاه النسان في طريقه
مما هو في طبعه منفر ليس من أخلق الدعاة ،ول من طبع النبيين ،ول من
وصف السائرين في طريق الرسالة .
دد الله تعالى عليه من نبأ الماضين أنباًء فذكر له ما كان منمن أجل ذلك ع ّ
قوم نوح مع نبيهم عليه الصلة والسلم ،وأعطاه هذه اللمحة الموجزة
) كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ( وما زادت
السورة في الوصف على هذا شيئا ً ،لكنها حددت باختصار ما يكفي لقناع
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مثله في الدعوة كمثل إخوانه من
النبياء ،وأن مثله في ضرورة الصبر على البلء كمثل إخوانه من النبياء أيضا ً
،وحسبه أن يفكر بهذا الذي أخبره الله به عن موقف قوم نوح من نوح بأنهم
كذبوه ،ولم يكتفوا بالتكذيب وإنما قالوا مجنون ،ووقع هذه الكلمة غير
مجهول من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم لن سفهاء قريش قالوا
عن محمد صلى الله عليه وسلم نفس الكلم ،ووصفوه بذات الوصف ونبذوه
بنفس اللقب ،قالوا عنه مجنون .
ولهذا فحين تلقى في أذن النبي عليه الصلة والسلم بطريق الوحي هذه
اللفظة فإن لها في نفسه وقلبه وفكره وشعوره ظلل ً ل نستطيع أن نحس
بها ،لنها تلك الظلل التي تتضخم بفعل التجربة المعاشة والمعاناة التي كان
يعانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلء القوم .
وجاءت اليات بجانب آخر من جوانب موقف الكافرين من قوم نوح بهذه
اللفظة المفردة ) وازدجر ( يعني زجر وُنهي وُأغلظ له القول ،وأيضا ً هذه
يدركها رسول الله صلى الله عليه وسلم جيدا ً ،لنه من أول يوم جاءه
المشركون حينما رأوه على حالة لم يألفوها ولم يعهدوها واقفا ً بين يدي ربه
14
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
قارئا ً راكعا ً ساجدا ً على خلف ما يعهدون في أداء الشعائر لصنامهم ،نهروه
وتهددوه وتوعدوه ،فهو يعرف عليه الصلة والسلم ما تعنيه هذه الكلمة
) وازدجر
)(1 /
وكذلك عرضت اليات لما كان من قوم عاد ،لم تزد شيئا ً على أنها كذبت ،
ل الله بها جزاء الفعلة التي لم يسبقهم بها أحد وما كان من قوم لوط وما أح َ
ل الله بقوم فرعون على صورة وجيزة ،لكن من العالمين ،وكذلك ما أح ّ
ً
يلفت الذهن والنظر ما جاء عن قوم ثمود ،مرارا قلت لكم إنني أتمنى لو أن
الله سبحانه وتعالى وهبنا سلئق الماضين من أهل اللسان الذين يدركون
تماما ً حقائق اللفظ اللغوي وإيحاءات الكلم العربي الذي نزل به القرآن ،
وإن لم يكن إلى ذلك سبيل فلنجتزء بالقليل وما لم تكن إبل فمعزة .
حينما جاء الكلم على ثمود جاء سياق اليات بصورة تقف الذهن عند حقائق
من حقائق السيرة النبوية تتشابه من المشركين حذو النعل بالنعل وتتشابه
من العاندين عن أمر الله حذو النعل بالنعل أيضا ً ن ولكن الجديد فيها أنها
صت اليات المر على النحو ذات إيحاءات مزدوجة ،واسمعوا ما أعني :ق ّ
التالي ) كذبت ثمود بالنذر ( ول شيء جديد فكل أمة جاءها رسولها كذبته
للوهلة الولى ،لكن مقولة هؤلء الناس ومواقفهم هي التي تشد الذهن نحو
التأمل البالغ ،ونحن محتاجون لن ندقق بعض الشيء في الشرح لن الكلم
اللهي في القرآن شديد التكثيف ،فهو إذا ً إلى فضل تأمل ) فقالوا أبشرا ً منا
واحدا ً نتبعه إنا إذا ً لفي ضلل وسعر ،أءلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب
أشر ،سيعلمون من هو الكذاب الشر ( علينا أن نفكر هنا في دقة الصياغة
القرآنية وما توحيه هذه الصياغة ) فقالوا أبشرا ً منا واحدا ً نتبعه ( وإذا ً ففي
هذا الكلم الموجز تكثيف شديد لموقف كل أمة إزاء الدعوة الجديدة ) أبشرا ً
( وهذه لفظة ) منا ( لفظة مفردة ) واحدا ً ( لفظة مفردة ) نتبعه ( إذا فهذه
أربع كلمات ،انظروا ما الذي تحويه وما الذي تشير إليه وما هي المشابه بين
هذا الموقف البعيد الموغل في التاريخ المتعلق بأمم بادت ولم يبقَ لها في
ذاكرة الناس إل ظلل وأصداء باهتة ،وبيم الموقف الذي كان يحياه رسول
الله صلى الله عليه وسلم مع قومه في أوائل الدعوة .
فأول ما قالوا ) أبشرا ً ( فهم يستنكرون إذا ً ما سبق للمكيين أن استنكروه ،
مما هو معروف أن الغربة قرينة الرهبة ،فما كان مألوفا ً لك فهذا ل يعطيك
أي رهبة ول يثير في نفسك أي استغراب ،ولكنك حين يفجؤك الشيء
الغريب تحس بهذه الرهبة ،إن البشر من طينة واحدة ( ولقد خلقنا النسان
من سللة من طين ( ولول تباين الوطان والعمار والجناس واللوان
س كل إنسان باللف لكل إنسان ،ومع ذلك فهذا الشعور واللغات لح ّ
ً
المشترك بين الناس الذي يحمل على اللفة يزيل كثيرا من منافع الغربة
التي قد تكون لزمة في بعض الحيان .فالمشركون من العرب حينما جاءهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة رأوا أنه بشرا ً يأكل مما يأكلون
ويشرب مما يشربون ويضطرب في السواق كما يضطربون ويسعى لمعاشه
كما يسعون ،وإذا ً فأي جديد يأتي به هذا النسان ؟ إن من شرائط الدعوة
التي تستلزم الذعان والطاعة والتصديق الجازم غير المتردد في عرف هؤلء
الناس ومعظم الناس أن تأتي بالغرائب وأن تأتي عن طريق عناصر مغايرة
لعناصر الناس .ولهذا كان من سؤال المكيين لرسول الله واعتراضهم على
15
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(2 /
ولهذا فالمم الماضية حينما اعترضت ،اعترضت وهي تستند إلى هذه
الحقيقة المجتمعية البشرية النسانية ) منا ( يعني لو كان مرسل ً إلينا من غير
قومنا لهان المر ،ول شك أن العرب الذين ُووجهوا بالدعوة لو كان المرسل
إليهم من فارس أو الروم لكانت العتراضات عليه أقل ،إل أنه ل سبيل إلى
ذلك لستحالة التفاهم ولن الله تعالى قال ) وما أرسلنا من رسول إل بلسان
قومه ليبين لهم ( فحاجة البيان تقتضي اتحاد الجنس واتحاد اللسان وإل لو
كان المرسل من غير هؤلء القوم لهانت المسألة ) أبشرا ً منا واحدا ً ( لعل
بعضكم يتصور أن قول الله ) واحدا ً ( يعني أنه لو كان اثنين أو ثلثة أو أربعة
أو عشرة أقصد المرسلين لمكان ذلك أحرى أن ُيسمع لهم ،هذا خطأ لن
أسرار البيان العربي ليست هكذا ،حينما تقول العرب :هذا واحد ،فل تقصد
العدد دائما ً ،وإنما تقصد لزم العدد ،أي المفرد أي متفرد ،ليس معه من
يعينه ومن ينصره ،أي ل أعوان ول نصراء ول جنود ول أتباع ،وإذا ً فهذه
معضلة من المعضلت التي تعاني منها الدعوات ول سيما في المراحل الولى
،ودائما ً مع كل دعوة فالداعي واحد ،ما عدا ما رأينا في القرآن من تعزيز
الله جل وعل لبعض النبياء بواحد واثنين ،وإل فالنبياء مفردون ،إنسان واحد
يقوم بالدعوة تقوم في وجهه هذه المشكلة .
الناس ول عيب حين نقر بواقع الناس ،الناس ل تتسرب العقائد والراء
والمبادئ والمذاهب إليهم فقط من طريق الحجاج العقلي وترتيب القضايا
المنطقية ،بل لعلي ل أعدو الحقيقة حينما أقول إن قضية العقل آخر سلح
16
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
في الميدان ،إن الناس ول سيما من هم دون الوسط ،السواد ،ل يكادون
يتساءلون عن مدى أحقية دعوة ما ،ولكنهم إذا رأوا الدعوة من حولها التباع
والنصار ورأوا لها الجند الكثيف انساقوا دون تساؤل .وإذا فهؤلء يساقون
بقوة الجماعة ل بقضية العقل ،ويساقون بالسواد ل بحجة المنطق ،ولهذا
فنحن نجد شرسة العداء أقوى ما تكون وأعنف ما تكون حينما تكون
الدعوات اللهية في مراحل الضعف وقلة العوان والنصراء ،حين ذلك تجد
سواد الناس معرضا ً عنها ،وعقلؤهم يماحكون ،ل نزول ً عند قضية عقل
ولكن تحايل ً على شهوات وعلى أطماع .والسلم دين واقعي ،أي أنه جاء
ليعتنقه بشر ،وهو من أجل ذلك ل يريد أن يغفل ول يهمل أية وسيلة من
الوسائل التي تؤدي إلى تدعيم الصف المسلم ،ولهذا فحين هاجر النبي صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة قال بصريح العبارة :أنا بريء ممن أسلم ولم
يهاجر ،لماذا ؟ لن من الضروري هنا أن ُيكّثر سواد المسلمين ،وليس
مقبول ً بحال من الحوال أن يجلس المسلم في زاوية من زوايا الرض ويقول
حسبي أنني مسلم وحسبي أنني أصوم وأصلي لله تبارك وتعالى وحسبي
أنب أؤدي ما علي ،ل ،فالمر أخطر من ذلك ،وأكبر من ذلك وأبعد ،وهذه
قضية حينما أشير إليها فليس المراد فقط أؤدي حق الصياغة في الموضوع
ولكن أن أؤدي حق المانة لكثير من الخوة الذين يصلون ويصومون ويحجون
ويزكون ويحجون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ً ،بل لولئك الذين يسيرون
يظنون أنهم يدعمون صف السلم ولكنهم يبتعدون عن الصف بتسارع ل
مثيل له إل في صفوف الشياطين وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا ً .
إن السلم يتعّرض في بلده وخارج بلده لهجمة محسوبة ومدروسة تقوم
عليها رؤوس مردت على الكفر وتمرست في أفانين الصد ّ والنكران ،وإن
المسلمين ليست لهم عدة لدرء هذا الخطر ورد ّ هذه الغاشية إل أن يكون
صفا ً واحدا ً يعرفون ما يتوجب عليهم ويؤدون ما أراد الله منهم .فالسواد ل
بد منه ،لننا حين نسمح للصف السلم أن يتخلل فذلك يعني توهين العقيدة
من حيث النتيجة في قلوب المسلمين ،والسلم حريص على وحدة الصف )
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ً كأنهم بنيان مرصوص ( حتى في
وقت الهول والرعب يطلب السلم هذه الوحدة الجامعة ،وفي صف الصلة
كان النبي عليه الصلة والسلم يقول :تراصوا ل يتخللكم الشيطان ،
فالسواد والجمع مهم في السلم ،لكن ثمة مرحلة هي مرحلة البناء ل بد
من معاناة القلة ،فذلك هو المر المفروض ولهذا قالوا ) أبشرا ً منا واحدا ً ( ل
يريدون أنه نبي واحد ولو كان نبيين لكان الوضع أحسن ولكن واحدا ً يعني
مجردا ً عن العوان ،ل يعينه أحد وليس من ورائه جمع ،أي ل يستند إلى قوة
وصولة وسلطان ،إن هذه مشكلة ،وهي مشكلة ل تستطيع عقول هؤلء
الناس أن تتحملها ول أن تستوعبها .
)(3 /
وحينما تساءلوا هذا التساؤل قالوا :لو أننا فعلنا ذلك لكنا في ضلل أي بعدٍ
وضيعة عن الحق وسعر ،والسعر هو أقصى حالت الجنون ،هو الحالة التي
دمات الجنون كما يتّلعب الك ََلب بالكلب
تجد النسان فيها تتلّعب فيه مخ ّ
المسعور ،فهؤلء يظنون أن اتباعهم لهذا النبي بالرغم ما في الدعوة من
حق وهدى ونور مبين ،لنه بشر ولنه واحد إن هذا يعني أنهم فقدوا عقولهم
وأضلوا صوابهم ) إنا إذا ً لفي ضلل وسعر ( وأيضا ً نفس الشياء التي قيلت
17
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
لمحمد صلى الله عليه وسلم لكي يبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم
مشدودا ً إلى هذا الموكب الكريم الذي سبقه من قبل والذي جاء هو لكي
وجه كله كخاتم للنبياء والمرسلين .
يت ّ
فت ذاب ( كلمة خ ّ ) أُألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر ( وكلمة ) ك ّ
وهانت على ألسنة المشركين الذين جابهوا محمد عليه الصلة والسلم ،
وهي كلمة وقالة كانوا يرتكبونها بل حق فقد قضى بينهم أربعين سنة ،ل
ُيعرف إل بالصدق والمانة والعفاف ،وحسبه صلى الله عليه وسلم شهادة
منهم أنه ظل يدعوهم في مكة ثلث عشرة سنة وبينه وبينهم ما صنع الحداد
وعنده أمانات المشركين ،كلما خاف واحد منهم على شيء يريد أن يحفظه
ذاب ،وفي أودعه عند محمد صلى الله عليه وسلم ،هم يقولون له أنت ك ّ
نفس الوقت يضعون ودائعهم عنده ،كيف يتلعبون على الواقع وعلى
الحقيقة ؟ لم ُيعرف طيلة عهده في الجاهلية ،أربعون عاما ً ،إل أنه الصادق
المين ،وبعد أن جلل الشيب صدغيه وجاء هم بهذا الذي جاءهم من عند الله
تعالى انفجرت دفائن الحقاد والشهوات والهواء فتجاوزوا الحقيقة وأكذبوا
ذاب ،وهذه كلمة أنفسهم وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ك ّ
فاحشة ومؤذية ،ولكنها ليست جديدة ،ما من نبي قبل محمد صلى الله عليه
وسلم إل قيل له هذا الكلم ،فالتكذيب سمة لزمة لكل المجتمعات التي
جاءتهم النبياء ،والية أشارت أيضا ً إلى نوازع الحسد والنانية البغيضة في
هؤلء الناس ) أءلقي الذكر من بيننا ( كلمة قالتها قبيلة ثمود لنبيها عليه
الصلة والسلم كما قالتها قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) وقالوا
لول ُأنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( فهذه أيضا ً مشكلة
أخرى ،إن النبياء في العادة ل يبعثهم الله إل من نفس أقوامهم ،ومع ذلك
فهم دائما ً يكونون من أشراف الناس ،لكن ليس من أشراف الناس في
المقاييس المجتمعية الباطلة بل من أشراف الناس في مقاييس الله تعالى ،
في مقاييس الحق والصواب ،والنبي عليه الصلة والسلم يقول :ما زال
ربي ينقلني من الصلب الطاهرة إلى الرحام الطاهرة فما تنشعب شعبتان
إل كنت في خيرهما .حتى ولدته أمه من أبيه عبد الله ،فالنبياء دائما ً ُيبعثون
مبرئين من الدنس ) والله أعلم حيث يجعل رسالته ( وبطبيعة الحال ليس
شرطا ً أن تنطبق أوصاف الشرف على أعراف الناس ،وكثيرا ً ما عرضت
لكم مقالة النبي عليه الصلة والسلم لصحابه وهو يسأل عن رجال :ما
تقولون في هذا ؟ فيمدحونه ،ثم يقول :ما تقولون في هذا ؟ فيقولون :يا
رسول الله هذا هين عليه آثار الزراية والفقر والمسكنة ..فيقول النبي عليه
الصلة والسلم مصححا ً لمفاهيم الجاهلية رادا ً أقدار الرجال إلى موازينها
الحقة :إن هذا خير من ملء الرض من مثل هذا .
فالشرف ُتبعث منه النبياء ولكن ليس ضروريا ً أن تتفق موازين الحقيقة مع
أعراف الناس .لماذا ؟ لن مجرى الحياة النسانية غالبا ً ل يسير وفاقا ً
للمحاور التي أرادها الله جل وعل ،انظروا كيف كان رد ّ الفعل لدى أعرابي
يعيش في زمن النبي عليه الصلة والسلم في أوائل الدعوة حينما جاءه ورآه
ونظر إلى الذين آمنوا به ملتفين من حوله فرأى فيهم الضعفاء والحبشان
والرومان ورأى كبراء قريش متروكين قال :وي إن هذا يريد أن يجعل
السافل أعالي ،والعالي أسافل .وهذا صحيح ،لن الدعوة في الحقيقة
تريد أن تعيد أقدار الناس لكي توزن في موازين الحق والصواب ،وأما أن
وم من خلل شهوات وما أشبه ذلك ،فذلك هو ُتترك أقدار الناس لكي تق ّ
الخبال البشري ،وهذا أمر أظن الناس يعرفونه ،فمن قبل وكل واحد منا
18
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
عاصر في جيله أناسا ً كان يشار إليهم بالبنان تغّيرت القيم واختلت الموازين
دون في الذناب ،وتقدم إلى الرؤوس أناسا ً واختلفت المفاهيم وأصبحوا ُيع ّ
من قبل قرشا ً واحدا ً ،فهذه الموازين إذا تختلف ،ولهذا فهؤلء الذين
ً
استنكروا أن تكون الرسالة منزلة على هذا الشخص ،كانوا ينطلقون من
واقع مجتمعي بشري يتحدثون من زاوية تتحكم به أعراف معينة ،والدعوات
اللهية لها صفة الطلق الذي يتجاوز الزمان والمكان ،ولهذا ل يصح أبدا ً أن
ُتقايس حقائق الشرع على وقائع الحياة ،ولكن الوضع الصحيح هو قلب
المسألة تماما ً لتقايس وقائع الحياة على مقررات الشرع .
)(4 /
19
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
السلمية في هذه اليام ،وأنا كما تعلمون ل أجامل أحدا ً ،إن الغيرية هي
أول صفة يجب أن يتصف بها الدعاة إلى الله تعالى ،والشيء الذي يجب أن
يبحث عنه المسلم هي الحقيقة السلمية ول تسأل نفسك بعد :من المنادي
بهذا ؟ ومن الداعي إلى هذا ؟ في اللحظة التي تقف فيها عند سؤال كهذا
فأنت بعيد جدا ً عن السلم وعن قضايا السلم ،أنت إذا ً في صف هؤلء
الذين قالوا ) أُألقي الذكر عليه من بيننا ( أنت إذا ً في صف هؤلء الذين قالوا
) لول ُأنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( إن عملة السلم ل
تروج مع الحسد والبغضاء ول مع النانية ،وإنما تروج مع الغيرية ومع الفناء
في القضية ،مع الفناء في الله تبارك وتعالى .
وكم من إنسان بل كم من جموع من الناس ُرّدوا عن دعوة الله ل لن دعوة
الله غلط ولكن لن الذي يحمل لواءها فلن وفلن من الناس ،فنحن نكرههم
ول نطيقهم ،ونحن نتصور أنهم كذا وكذا وكلها أخطاء وأغلط وأكاذيب
ومفتريات وزيوف ،نحن في الواقع نرزح تحت هذا الداء ،داء الحسد الذي
ب إليكم داء المم من ذرنا منه رسول الله صلى عليه وسلم حينما قال :د ّ ح ّ
قبلكم الحسد والبغضاء .
)(5 /
فهذا ما أردت أن أقف عنده اليوم مما يتصل بالمشابه الملحوظة بين موقف
هؤلء النفر الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا
بما أرسلتم به كافرون ،وبين الموقف الذي كان يعالجه ويعاني منه رسول
الله صلى الله عليه وسلم ،إن الداعية إلى الله محتاج دائما ً إلى أن يب ّ
صر
بعقبات الطريق ،وإلى أن ُتكشف له الساحة كشفا ً ل زيف فيه ول تعمية ول
غبش ،إننا كمسلمين نسير في طريق ربما كان غيرنا يستطيع أن يلعب على
الحبال ،وربما ملكنا غيرنا أن يرتزق وأن ينافق وأن يدجل ،وربما ملكنا غير
أن يبيع الدنيا بالخرة ،وربما وربما ..لكننا نحن نسير في طريق له حدوده
وله مواصفاته ويحتاج السائرين فيه إلى نماذج أخلقية معينة ،وبكل ما فيه
من عقبات ومشقات ترهق أرباب العزائم الشامخات فإنه ل بد من أن يعتد ّ
النسان لذلك بعدة ل تنفك ،من الصبر على هذه المشقات والصبر على هذه
جه بها .المكاره وتحمل كل السفاهات التي يوا َ
ً
ور لنفسك :لو أن رجل ممن أنت تسمع النداء من قبل الله تعالى ،ص ّ
تحترمه ناداك فجأة ،فأنت تهرع إليه وربما تنسى أن تلبس حذاءك فتسير
على الحجارة وعلى الشوك ،وقد تدمى رجلك ول تشعر ،فكيف والذي
يدعوك هو الله الذي خلقك فسواك فعدلك ؟ كيف والذي يدعوك هو الله
الذي يملك حياتك وموتك ورزقك وضرك ونفعك ؟ إن عليك حين تسمع النداء
) يا أيها الذين آمنوا ( أن تهرع ل تلتفت ل هنا ول هناك ول هنالك ،اجعل
همك كله أن تقول :لبيك اللهم لبيك .أن تجيب داعي الله ) يا قومنا أجيبوا
داعي الله ومن لم يجب داعي الله فليس بمعجز في الرض ول في السماء (
ول تسمح للعقبات أن تعوقك في الطريق ،ل تسمح للنكبات أن تلفتك عما
أنت في سبيله ،ذلك شرط الرجل المسلم ،وحينما وضع الله تعالى أمام
نبيه قصص النبيين والماضين وقال له ) لقد كان في قصصهم عبرة لولي
اللباب ما كان حديثا ً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه ( حينما قال له ذلك
أراد لنبيه عليه الصلة والسلم ولهذه الفئة المؤمنة معه أن تتحلى بهذا الصبر
الذي تحلى به المؤمنون من قبل والذي تحلت به رسل الله من قبل ،وأراد
20
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الله تعالى تلقينا ً مستمر المدى بالنسبة إلى هذه المة إلى أن تقوم الساعة
على اعتبارها وارثة النبوات وحاملة الرسالة الخالدة إلى النسانية أن يكون
كل عامل من أبنائها على قدم النبيين والمرسلين يصبر كما صبروا ويترك كل
ما حوله كما تركوا ويسير ملبيا ً داعي الله كما ساروا ول يلتفت إلى مساءات
المشركين والكافرين كما لم يلتفتوا فذلك هو شرط الفلح وشرط النجاح .
كم كان بودي أن أقف عند قضية أخرى وقلت في مفتتح الحديث ثمة قضية
أو قضيتان ،قضية التعليق على قول الله تعالى ) ولقد يسرنا القرآن للذكر
فهل من مدكر ( لكني أكتفي بالذي قلت وأرجو أن يكون فيه بلغ ومقنع
وأرجو أم يكون قد كشف شيئين :الول ما تحتاجه دراسة النص القرآني من
مجهودات ،فليس كل قارئ للقرآن قارئا ً .إن قراءة القرآن لكي تكون
منتجة تحتاج إلى التدبر ،ونحن نسمع كلمة التدبر في القرآن وفيما بيننا
دبروا آياته ( ) أفل يتدبرون القرآن ( ولكن حينما نفكر بمعنى وقال تعالى ) لي ّ
ً
هذه اللفظة فسنجد عجبا ،إن كلمة ) تدّبر ( مأخوذة من هذا الفعل ) دبر (
وهذا جذري لغوي يحمل معنى النظر إلى دبر المور أي إلى عواقب المور ،
فمعنى ) تدّبر القرآن ( هو التفكر في مآلت اليات ،في النتائج التي تؤدي
إليها اليات ،وليس فقط هذا التحلي بالكلم اللهي ،وإنما هو التفكر المنتج
الذي يجعلك تسمع الية فتقول :ماذا أراد الله بها ؟ وإذا تركتها ما دبر
المر ؟ ما عاقبة المر وما نتيجة المر ؟ هذا هو التدبر .فنحن إذا ً نحتاج إلى
أن نتدبر النص القرآني لكي نستفيد منه تماما ً .
والشيء الثاني أرجو أن أكون قد كشفت عن أمر ،كثيرا ً ما تحدثنا عنه ولكن
بهذه الكثافة ل ،عن أمر ضروري ،نحن محتاجون في كل وقت إلى أن
نجعل طاعة الله جل وعل نصب أعيننا ،ل نلتفت يمينا ً ول شمال ً ،الطريق
مفروغ منه ومليئ بالعقبات والشواك ،الطريق مفروغ منه دماء ودموع
ولكن الوقوف عند الدماء والدموع فشل ،وإنما النجاح والفلح هو في أن
يعتد ّ المسلم بعدة كافية من الصبر الطويل لكي يستعين بذاك على قطع
مراحل الطريق ،وأرجو أن أكون قد بلغت من ذلك ،أو من هذين ما أريد من
إخوتي من الشباب الذين يهتمون بقضية السلم ،ولي مع الناس حديث
سأقوله إن شاء الله جل وعل في الجمعة القادمة حينما أتحدث إليكم حديثا ً
وجيزا ً عن تلقينات قوله تعالى في هذه السورة ) ولقد يسرنا القرآن للذكر
فهل من مدكر ( لنرى ما معنى هذا التيسير وما هي الكلف التي يلقيه هذا
التيسير على أكتاف المة ،وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين والحمد لله رب العالمين
)(6 /
21
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
في نهاية المرحلة شيء أكبر وأخطر من أن نأتي عليه بحديث واحد قصير ،
ولكن ما ل يدرك كله ل ُيترك جله كما يقولون .
أحب في البداية أن ألفت أنظاركم إلى ما لفتنا النظر إليه في أول حديث لنا
عن سورة القمر ،عن هذا التكرار لصيغة واحدة جاءت تعقيبا ً على قصص
الماضين ،كان منطق الحديث يقضي أن نتعّرض لشيء من الكلم لقصص
القوام الذين ُذكروا في السورة ،وبالتتبع تبّين أن السورة التي تلي سورة
القمر وهي سورة ) ص ( تضمنت هذه القصص ،وأن السورة التي تلي
سورة ) ص ( وهي سورة العراف تضمنت هذه القصص ولكن بتفصيل
أكبر ،فرجوت إن شاء الله تعالى أن يسّهل الله لنا سبيل القول عن هذه
السور حينما نبلغ في أحاديثنا سورة العراف ،لن الحديث عنها هناك أليق .
الشيء الذي يلفت النظر في سورة القمر هو هذه اللزمة التي تكررت أربع
سرنا القرآن للذكر فهل من مدكر مرات تعقيبا ً على قصص الماضين ) ولقد ي ّ
( وكأنموذج لذلك نأخذ أول قصة لنتعّرف على جو التعقيب وموحياته ،فبعد
افتتاح السورة الكريمة سيقت القصص كما تعلمون تعزية وتسلية لرسول
الله صلى الله عليه وسلم عما يلقى من قومه من الذى وما يقابله من
المكروه ،وإنما سيقت هذه القصص ليعرف رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن الناس هكذا وأن الدنيا هكذا فل يضيق صدره ول يحرج ) فلعلك
تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ( وليعرف أن من طبيعة الناس
أنهم يقادون إلى الجنة بالسلسل ،وأنهم تخطم أعناقهم خطما ً ليجروا إلى
طريق الصواب كارهين أو راضين ،ولن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقي من قومه فوق ما يتصوره العقل ،فقد ساق الله له هذه القصص
ليعرف أنه حلقة في سلسلة الهداية اللهية المستمرة ،وأنه الحلقة الخاتمة
فخليق به أن يلقى حثالة ما في الطبع البشري من مساوئ وأوزار ،فهذه
ص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ( وهذه القصص تثبيت ) وكل ً نق ّ
القصص عظة وتذكير ) لقد كان في قصصهم عبرة لولي اللباب ما كان
حديثا ً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء ( .
لكن هذه القصص في هذه السورة ،سورة القمر ،سيقت بجسمها وتركيبها
وبالتعقيبات التي جاءت عليها سياقة توحي باللطف اللهي ) كذبت قبلهم
قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ( وشيء من التأمل يوحي إليك
بمعاني ما ينبغي أن تغيب على قارئ القرآن ،قوم نوح هم الجيل الثاني
للبشرية إذ أن نوحا ً عليه السلم هو الب الثاني للبشرية ،فبعد أن فسق
جر اللهالناس عن أمر ربهم من بعد آدم أبي البشر عليه الصلة والسلم ف ّ
الرض عيونا ً وأطلق السماء ماًء وحمل في الفلك نوحا ً ومن معه وقال
) وجعلنا ذريته هم الباقين ( فهؤلء إذا ً فاتحة طيبة يمكن أن يستخلص منها
قارئ القرآن ورجل الدعوة درسا ً ل أبلغ منه ) كذبت قبلهم قوم نوح (
والتعبير بقوله جل وعل ) كذبت ( يوحي بأن هؤلء الناس يتبعون أهواءهم
ويعطلون عقولهم ول يملكون من أسلحة المعركة إل هذا الشيء الذي ل
يكلف شيئا ً إل سوء الخلق وفساد الطبع وهو التكذيب المجرد غير المستند
إلى نظر وغير المؤسس على تحقيق وتدقيق .
وفي قوله تعالى ) فكذبوا عبدنا ( إشارة بالغة ،فهذا المنادي بأسباب الهداية
ول عليهم من ليس رجل ً يبحث لنفسه مجدا ً أو يلتمس عند الناس نفعا ً أو يتق ّ
ذات نفسه ،وإنما هو مأمور ) فكذبوا عبدنا ( لم يقل :رسولنا ،لن الرسول
وإن كان ينطق بلسان المرسل ،لكن الرسول يحتفظ بذاتيته النسانية
الكاملة غير منقوصة ،والتعبير بقوله هنا ) عبدنا ( إشارة إلى أن هذا المتكلم
22
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
عن الله ل يملك ذاتيته ،ل يملك أسباب الحرية التي تجعله يقول على الله
غير الحق وإنما هو عبد مأمور يتحرك ضمن الدائرة التي رسمها له الذي
أرسله ) وكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ( وهذه اللفاظ وراءها دللت
وحالت نفسية وأوضاع مجتمعية عاشها محمد صلى الله عليه وسلم وهو
يدعو قومه .
فأول ما يستقّر في ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول ما يستقر
جه الداعين إلى الله بهذا
في ذهن أتباعه أن طبائع المور تقضي بأن يوا َ
التكذيب وبهذه السلسلة التي ل تريد أن تنتهي من التهامات والفتراءات ،
وأن الواجب إزاء ذلك كله الصبر بغير حدود .
)
)(1 /
كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ( ) قالوا يا نوح لئن
لم تنتهِ لتكونن من المرجومين ( وإذا ً فهو الزجر والدفع والصد والكيد واليذاء
وأكثر ،إن نوحا ً عليه السلم كما ذكر القرآن لبث في قومه داعيا ً ألف سنة
إل خمسين عاما ً ،وكانت الجيال تذهب وتجيء ،وكان الشيخ الهرم وهو
يدلف إلى القبر يمسك بولده الصغير ويأتي به إلى نوح عليه السلم ويقول
له :إياك أن تتبع هذا الكاذب المجنون .وإذا ً فهم يتواصون على رفض الهداية
وعلى محاربة الداعين إلى سبيل الحق والصواب كما يتواصى أبناء هذا
الزمان على مكافحة الهداية وطمس معالم الهدى والحق .
ص الله علينا من نبئهم في سورة القمر ،كيف جاء هؤلء القوام بعد أن ق ّ
التعقيب ؟ ذكر الله خاتمتهم ،ذكر لنا بالنسبة إلى قوم نوح كيف أغرق
المكذبين وأنجى نوحا ً ومن معه ،وذكر لنا كيف أرسل الريح العقيم على
عاد ،وذكر لنا كيف أخذ القوام الخرين بالصيحة وأشباهها ،شيء يجب أن
نلتفت إليه :هذا التساؤل اللهي الذي يلقيه إلى الناس بعد كل قصة ) فكيف
سرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( قليل من كان عذابي ونذر ( ثم ) ولقد ي ّ
التفكير يوحي بأن لطف الله جل وعل يتخلل هذه الصور المرعبة للقوام
التي أخذها الله جل وعل أخذ عزيز مقتدر ،إن الله تعالى ل يأخذ الناس لول
ذنب وحاشاه ،جاء رجل إلى ابن الخطاب رضي الله عنه أو جيء به في حدٍ
من حدود الله سارقا ً ،فقال يا أمير المؤمنين أقلني ،يعني اعف عني ،فهذه
هي أول مرة أسرق فيها ،قال له :كذبت يا عدو الله ما كان الله ليفضح
عبده المسلم لول ذنب .أول ذنب في عوائد الله جل وعل مستور ومغفور
ومعفو عنه إن شاء الله ،لكن النسان يستحق النكال إذا استمرأ المرتع
الوبيل وذاق الطعام الخبيث فأساغه ،حين ذلك فقط يحق عليه النكال
ويأخذه الله تعالى إنفاذا ً لسنته الماضية في الكون والنفس والفاق .
فهؤلء حينما يسألنا الله ) فكيف كان عذابي ونذر ( يلفت نظرنا إلى أن الله
كر ،ويأخذهمتعالى ل يأخذ الناس اعتباطا ً وإنما يمهل ويمهل ويحذر ويذ ّ
بالشدائد لعلهم يرجعون ولعلهم يتقون ولعلهم يحذرون ،بل إنه ليمهلهم
ل بهم ويقولون في طويل ً فيمتع أجيال ً برمتها حتى ينسى الناس ما ح ّ
س آباءنا السراء والضراء ( ويظن الناس أنهم الحاديث وفي السمار ) قد م ّ
بمنجاة من العذاب ولكن الله تعالى يأخذهم فإذا هم مبلسون ) فكيف كان
عذابي ونذر ( عذاب الله ل يأتي إل بعد النذار ،والنذار يكون تارة بالقول
ويكون تارة بالذي يحدث للناس من الوبئة والمراض والسنين ونقص من
23
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الموال والثمرات ،ويكون تارة ـ وهذا من اللطف ـ بما يصيب المجاورين من
شدائد وكوارث وبليا فإذا أراد الله جل وعل أن يفتح مغاليق القلوب اهتدوا ،
وإذا أصّر الناس على العتاد والستكبار نفذ فيهم قانون الله الذي ل يتخلف .
سرنا القرآن للذكر فهل ثم يأتي هذا التعقيب الذي تكرر أربع مرات ) ولقد ي ّ
من مدكر ( تيسير القرآن للذكر تيسير مطلق ،وأعملوا فكركم معي قليل ً ،
وفارق بين أن يكون الشيء مطلقا ً وبين أن يكون مقيدا ً في جو معين ،إن
تقييد المطلق بجو معين يلونه بتلوين خاصة ،وها هنا في سياق السورة
فالقضية مقيدة كما هو واضح ولو أننا قرأنا السورة الكريمة إلى آخرها
لوجدنا المر واضحا ً ،بعد أن ينتهي عرض الصور التي ُأخذت بها المم
الماضية وُيختَتم ذلك بهذا اليجاز الذي يوحي بالموت والعذاب السريع والخذ
غير الممهل فقصص آل فرعون ) ولقد جاء آل فرعون النذر ،كذبوا بآياتنا
كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ( بعد هذا القتضاب واليجاز الشديد يأتي
كلم بالغ الدللة بالنسبة إلى ذلك الزمان ولكل زمان وإذا ً فهو مستمر المدى
،بالنسبة إلى التذكر ) أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ( أنتم
أمة من جملة المم التي برأها الله جل وعل وبثها على ظهر هذا الكوكب ،
وأنتم لستم خيرا ً من أولئك القوام ،فلقد مضى قبلكم أمم أكثر عددا ً وجمعا ً
ل بهم ما وأولدا ً وأكثر قوة وأثاروا الرض وعمروها أكثر مما عمرتموها فح ّ
ص عليكم ،فهل كفار العرب الذين يناوئون رسول الله صلى الله عليه ق ّ
وسلم خير من أولئكم ؟ ما وجه الخير ؟ الدم واحد ،الخلقة واحدة ،المنزلة
عند الله واحدة ،والناس كلهم عباد الله ليس بين الله وبين أحد نسب ول
سبب وإنما يتفاضلون عنده بالتقوى والعافية ويمتازون عنده بطاعة الله
تعالى والستمساك بأوامره والبعد عن مساخطه .
)
)(2 /
أم لكم براءة في الزبر ( أم تقولون نفس القالة التي قالتها اليهود من قبل
وقالتها النصارى ) نحن أبناء الله وأحباؤه ( وإذا ً فإن الله لن يعذبنا بذنوبنا ،
كل ذلك غير كائن ،ثم يلفت أنظارهم إلى أن الله تعالى عذابه حاضر وعتيد )
ولقد أهلكنا أشياعكم ( والشياع هم المثال والنظراء ،تقول هذا الشيء شيع
هذا الشيء يعني مثله ونظيره ) ،ولقد أهلكنا أشياعكم ( أي من كان على
طريقتكم في العناد والستكبار على الله تتعالى ،وإذا ً فالقيد الذي يطرأ على
سرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( في ظلل السورة وإطارها قوله ) ولقد ي ّ
ص هذا القصص من قصص العام وفي جوها يوحي بداهة وابتداًء أن الله ق ّ
الماضين وعرضه على المسلمين وغير المسلمين وتركه كلما ً باقيا ً على
الدهر لكي يكون وسيلة من وسائل التذكر اليسير ،كان ممكنا ً أن يطمس
الحديث وأن يهذب الله من ذاكرة الناس بنبأ هؤلء القوام وأن يمسح
صفحات التاريخ مسحا ً فل يسمع الناس ل بقوم نوح ول بقوم عاد ول ثمود ول
بقوم لوط ول بفرعون ..ويكون الناس كالذي يواجه المور لول مرة ،ولكن
دأ وأعاد لكي يكون صل فيه وأب ْ َ
الله بلطفه وبرحمته ساق هذا القصص وف ّ
وسيلة للتذكرة ،ثم هو أحد وجوه تيسير القرآن للذكر ،وطبيعي أن النسان
حينما يقرأ ما جاء في الكتاب الكريم من سير الماضين ومن معارك بين
الحق والباطل ،ومن وصف دقيق لمواقف النبياء والمرسلين مع أقوامهم ،
سيكون عليه يسيرا ً أن يعي وأن يتذكر وأن يستبصر .
24
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
في هذا الطار موضوع تيسير القرآن للذكر يبدو للوهلة الولى محكوما ً بفهم
مغازي القصص التي سيقت في هذه السورة ،لكن المسألة لها جانبها
المطلق ،لها جانبها الذي يتصل بصميم الدعوة وبأصولها العامة ،فالقرآن
سر ،وقبل أن نذكر بعضا ً من وجوه التيسير أحب أن ألفت بالفعل مي ّ
أنظاركم إلى أن النص على تيسير القرآن للذكر جاء في السور التالية :في
سورة القمر يقول الله ) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( في
سورة الدخان ) فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ( في أواخر سورة
مريم ) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما ً لد ّا ً ( ..في كل
القرآن لم يرد التيسير صراحة إل في هذه السور فقط ،تأملوا الن :حينما
سرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ( تكون عندنا نأتي إلى آية الدخان ) فإنما ي ّ
قضية ،في آية مريم ) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما ً
لدا ً ( تكون عندنا القضية ذاتها مع ضمائم أخرى ،في سورة الدخان ُيذكر
التيسير مقرونا ً بأنه بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أنه نزل بلغة
العرب الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهذا الكلم ل يعطينا
أكثر من أن هذا القرآن من جملة وجوه تيسيره للذكر أنه جاء بلسان
العرب ،لكن حينما نأتي إلى آية مريم نجد الضمائم تضاف إلى المعنى
الصلي ) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما ً لدا ً ( النذار
ما هو ؟ التحذير ،واللد من هم ؟ هم القوم الخصمون ،بل ولو أنني أدخل
معكم في بعض الحيان بمباحث تتعلق باللغة لكن هذا ضروري من أجل
استقامة الفهم ،كلمة ) اللد ( جمع مفرده ) اللد ( واللد هو الخصم الشديد
الخصومة بل إن من بعض معانيه الخصم الذي يغلب صاحبه في الخصومة ،
إذا ً فاللد هو الذي يغلبك في الخصومة ،أيضا ً من معاني المادة التحّير ،تقول
دد في طريقه أي يتحّير ول يتهدي سبيله أين يكون ،وإذا ً :رأيت فلنا ً يتل ّ
فحينما نسمع الله تعالى يصف كتابه الكريم والمحكم بأنه إنذار لقوم لد ّ معنى
ذلك أنه مؤثر في مواقف بالغة الصعوبة شديدة العنف ،إن النسان الذي
يحّيرك وهو يخاصمك ويجادلك بنص كلم الله تعالى يمكن أن ُينار له الطريق
مل على أن يتخلى عن هذا الموقف الشنيع ،وإن النسان الذي يغلب وأن ُيح َ
في العادة خصومه في اللدد والحجاج ل يستطيع أن يغلب كلم الله جل
صت عليه آيتان وعل ،ثم هو أيضا ً يبشر المتقين ،ولكن هنا شيء أساسي ن ّ
الدخان ومريم هو تيسير القرآن بلسان رسول الله أي بلسان العرب .
)(3 /
قبل بحث هذه النقطة بصورة وجيزة أحب أن ألفت النظر إلى وجه من وجوه
التيسير ،إن القرآن نزل نجوما ً متفرقة على رسول الله صلى الله عليه
وسلم في ثلثة وعشرين سنة وفي بعض الروايات في عشرين سنة على
اعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه فاتحة سورة ) اقرأ
يعني العلق ( ثم فتر الوحي ثلث سنين لن يأته فيها جبريل عليه السلم ثم
حمي الوحي وتتابع بعد هذه السنوات الثلث ،وأيا ً ما هو كان فالقرآن كما هو
مقطوع به نزل تفاريق على حسب الحوادث والنوازل ،وكان من دأب رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزلت اليات دعا كّتاب الوحي وقال لهم :
ذكر فيه كذا وكذا فُيكتب الوحي غضا ًاكتبوا هؤلء اليات في المكان الذي ي ُ
طريا ً فور نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ومات عليه الصلة
والسلم والقرآن كله مجموع ومكتوب لم يذهب على المسلمين منه حرف
25
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
كتبت في جمع الجمعة الخيرة من الصحف التي ُ ولم تسقط منه آية ،ثم ُ
زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن الخليفة الراشد عثمان رضي
الله عنه وما زال هذا القرآن ُينقل إلينا وُيقرأ بيننا على ذات الصورة التي
قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها الصحاب فهو نقل الكافة عن
الكافة وباعتراف خصوم السلم والقرآن أنه ل يوجد على ظهر الرض نص
نقل إلى الناس على النحو الذي جاء به إل القرآن الكريم .
حينما تأخذ بالمقايسة والمقارنة :أين صحف إبراهيم وأين زبور داوود وأين
ما أنزل الله على المرسلين السابقين تجد أن هذا غير موجود بإطلق ،حينما
تأتي إلى النبوات المتأخرة إلى توراة موسى وإنجيل عيسى صلى الله عليهما
وتسأل :أين هما ؟ ل تجدهما ،وما يقرأهما الناس من هذا الكلم الركيك
العجمي المخلط الذي يسمى توراةً ويسمى إنجيل ً فما هو بالتوراة وما هو
بالنجيل وإنما هي أماني اكتتبها الحبار والرهبان ليضعوا المكان لنفسهم
وليصطادوا أموال الناس وليلفتوا أعناق الناس نحوهم ) فويل للذين يكتبون
الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل
لهم مما يكسبون ( نصوص التوراة والنجيل لم ُتكتب في حينها وإنما كتبت
بعد عشرات السنين ،والمر بالنسبة إلى التوراة أخطر ،لن التوراة لم
ُتكتب إل بعد السبي البابلي أي بعد ما ل يقل عن خمسة قرون من وفاة
موسى صلوات الله عليه وكتبت بناًء على نقل شفوي ل يستند إلى أصل
مكتوب .
وإذا ً فحينما نريد أن نرجع إلى نص في التوراة أو نص في النجيل فالمر
ليس يسيرا ً وإنما هو عسير غاية العسر ،والذين لهم بعض الطلع على
مقارنة الديان يعرفون الكلم الكثير الذي أثير حول نصوص التوراة
والنجيل ،وإذا ً فل أعسر ول أشق ول صعب من أن يستطيع النسان الهتداء
إلى وصاةٍ من وصايا الله في التوراة والنجيل ،ثم يقول باطمئنان هذا هو ما
قال الله أو هذا هو ما قال موسى أو عيسى عليهما السلم ،لكن المر
بالنسبة إلى القرآن فمختلف تماما ً .
بالنسبة إلى القرآن ..الصغير والكبير والرجل والمرأة والقريب والبعيد
والذي مات منذ عشرات القرون ومن هو حي الن ل يختلفون جميعا ً في أن
هذا القرآن هو النص الذي نزل من عند الله بوساطة المين جبريل سفير
الوحي على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وأن ما يقرأ الناس في
مصاحفهم وما يقرأون في محاريبهم فذات الكلم النازل من عند الله على
رسوله صلى الله عليه وسلم ،فهذا وجه من وجوه التيسير الذي حفظ الله
به هذا الدين وجعله يسيرا ً على طالبيه .
هذا تيسير أي تقريب للنص ووضع له بدقة وصدق بين أيدي الناس .تبقى
المسألة واحدة ،مسألة تيسير القرآن بلسان محمد صلى الله عليه وسلم ،
وهي مسألة طويلة الذيول ،وأحسبني ألمحت إليها من قبل ،وسأقول لكم
بعد قليل .
)(4 /
إن اللغة وعاء الفكر ،وباللغة يتواصل الناس ،ولول اللغة لما أمكن أن ينقل
فكر إلى فكر ول أمكن أن يتفاهم إنسان مع إنسان ،واتحاد اللغة شرط ل
غنى عنه من أجل الفهام والتبليغ ،والله تعالى ذكر هذا في معرض المنة
وقال ) ولو أنزلناه على بعض العجمين ( فلو كان القرآن نازل ً على العرب
26
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
بلسان بعض العجمين لكان عسيرا ً غير يسير ولستحال التفاهم ،فاتحاد
اللسان بين المرسل والمرسل إليهم شرط ل بد منه من أجل وصول البلغ
سرناه بلسانك ( ولو ومن أجل تسير الوصول إليهم ولهذا قال الله ) فإنما ي ّ
لم يكن نازل ً بلغة العرب لستحال أن يفهم العرب شيئا ً من كلم الله تعالى ،
وهنا تبدأ المعضلة فنحن نعلم أن هذا السلم كتابه الخالد ودستوره الباقي
هو القرآن ،وأن القرآن نزل بلسان عربي مبين على قلب رسول الله ليكون
ذرين ،لكنا نعلم من جانب آخر أن السلم كلمة الله إلى الناس كافة من المن ِ
،وأن محمدا عليه الصلة والسلم رسوله إلى الناس عامة ) وما أرسلناك إل ً
رحمة إل العالمين ( ) وما أرسلناك إل كافة للناس بشيرا ً ونذيرا ً ( ) قل يا أيها
الناس إني رسول الله إليكم جميعا ً الذي له ملك السماوات والرض ( وإذا ً
سرا ً للذكر مع اختلف اللسنة ؟ فكيف يستقيم لنا اّدعاء أن يكون القرآن مي ّ
في ظاهر المر يضع السلح في أيدي خصوم السلم الذين يقولون إن
السلم دين للعرب وليس لغير العرب ،ولكن هذا القول يصطدم بالحقائق
الرئيسية الساسية في السلم وفي كتاب الله وفي سنن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ،سأقول من غير مقدمات ،الله تعالى قال ) الله يجتبي من
الملئكة رسل ً ومن الناس ( أي يختار ،والله قال في معرض الرد على الذين
يتخيرون كما يشتهون أن يكون الرسل قال ) الله أعلم حيث يجعل رسالته (
والله تعالى اختار أن يكون كتابه الخاتم بلسان العرب ،وعلماء اللسان عامة
يعرفون أن لسان العرب له مزاياه الخاصة ،أي أنه قادر أي اللسان على
حمل الدلئل وليس فقط الدلئل بل الموحيات أي الظلل والنعكاسات التي
تتولد في النفس والذهن وتثير المشاعر حينما يسمع النسان الكلم ،ذلك
شيء في طبيعة لسان العرب ،وسائر اللسنة الخرى عاجزة عن إيصال
أدق المشاعر النسانية على النحو الذي يقدر عليه لسان العرب ،ومن هنا
كان السلم عربي اللسان ،وواقع التاريخ يشهد أن انتشار السلم كان دائما ً
مصحوبا ً بانتشار لغة العرب ،لن هذا السلم ل ُيفهم حق الفهم إل إذا
استطعنا أن نفهم اللسان الذي نزل به كتاب الله ونطق به رسول الله صلى
الله عليه وسلم ،وحول هذه القضية حصلت بلبلة خطيرة ،حصلت بلبلة
مفاده ضياع القضية الساسية ،وأنا أقول ضياعها ول أعني أنها ضاعت من
تلقاء نفسها ،فتلك قضية كانت واضحة تماما ً في أذهان الرواد الوائل من
المسلمين ولكنها أضيعت بفعل البالسة من المسلمين ومن غير المسلمين
من خصوم هذه المة وأعداء تاريخها والذين يبغون لها الخبالة والضيعة .
إن هذه القضية ضاعت بين الشعوبية التي تضرب العرب باسم السلم وبين
العروبيين الذين يضربون السلم باسم العرب ،وكل الفريقين مخطئ وواهم
بل ومجرم ،ول أقول هو مجرم بحق العرب كالعرب فأنا ل يعنيني العرب
كالعرب وإنما يعنيني العرب كمسلمين ،ولكنهم مجرمون بحق النسانية
لنهم يؤخرون ساعة خلص هذه النسانية من هذه الوهام التي تشدهم إلى
الوحال النتنة التي يتمرغون بها في هذه اليام .إن السلم كما قلنا عربي
اللسان عربي الكتاب عربي النبي ،ولكن في مفهومات السلم ،الناس من
حيث الجبلة والطينة شيء واحد يتمايزون عند الله بالتقوى ويتفاضلون عنده
بالطاعة ،والمزايا التي يمنحها الله للفراد ويمنحها الله للمم لها في مفاهيم
السلم معنى ،بعض الناس حينما يرى نفسه قوي البدن يتصور أن قوة بدنه
تعني أن يستطيل على الناس بالعدوان بالضرب والقتل وسفك الدم ،بعض
الناس حينما يبسط الله لهم بالرزق يتصورون أن هذا الرزق المبسوط وهذا
27
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(5 /
بعض المم حين تصل إلى بعض المعارف التي تهيئ لها وسيلة من وسائل
القوة وحينما تجد نفسها أربى من غيرها في ميزان القوة تتصور أن من حقها
أن تنهب وتعمل كل شيء .المزايا والفضائل في السلم لها غير هذه
المعاني ،المزية تكليف في السلم وليست تشريفا ً ،عمر بن الخطاب وأبو
بكر ومن قبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبل في سجل
التاريخ أنبياء الله جميعا ً كانوا حينما توسد إليهم المور وتوكل إليهم قضايا
الناس يحرمون أنفسهم لذيذ الطعام وهنيئ المنام ويتعبون وينصبون من أجل
راحة الناس .وحينما رأى عمر رضي الله عنه وهو يعس ذات ليلة امرأة
ورجل ً قد جهدهما الجوع وأصابهما البرد والمرأة في المخاض ذهب يسعى
كالمأخوذ حتى جاء إلى بيته وقال لمرأته :هل لك في خير ساقه الله إليك ؟
قالت :ماذا ؟ قال لها :امرأة كذا وكذا ،فقومي ساعديها على الولدة .ثم
أخذ كيسا ً من دقيق وعكة من سمن وأخذهما على ظهره وأخذ يشتد مهرول ً
يطلب هذا الخباء الذي يسكنه فقير وفقيرة وصبية يبكون من الجوع ،وكان
معه غلمه ،قال له :أل أحمل عنك يا أمير المؤمنين ؟ قال :أتحمل عني
وزري يوم القيامة ل أم لك .وإذا ً فهو يشعر بهذه المزية التي منحها الله له
وساقها إليه تكليفا ً وليست تشريفا ً .كان ذات يوم يقف في وادٍ ونظر وضرب
ت ترعى الغنم بالدرة على قدمه وقال :بٍخ بٍخ يا ابن الخطاب بالمس كن َ
للخطاب وكان يعنف عليك ،قال له ابنه عبد الله :يا أبتي ما أكثر ما تهين
نفسك ؟ قال :يا بني إن أباك أعجبته نفسه فأحببت أن أهينها .
)(6 /
فالمزايا سواء كانت للفراد أو كانت للمم هي تكليف وليست تشريفا ً ،ولن
ينفعنا شيء أن نقول :نحن العرب ،فذلك شيء ل يقدم ول يؤخر .ومذ
سنتين فيما أظن في هذا المكان حينما كنت أحدثكم عن بعض موحيات
الهجرة إلى الحبشة تعرضت لهذه الناحية ،نحن ل نهتم للعرب كعرب ،
والعرب لم يأخذوا قيمتهم في التاريخ ولم يأخذوا قيمتهم حاليا ً ولم تضربهم
المم عن قوس واحدة لنهم أبناء قحطان أو أبناء عدنان ،فقحطان وعدنان
ل يزنان عند الله جناح بعوضة ،ولكنهم أخذوا منزلتهم في التاريخ وأخذوا
قيمتهم الماضية ولهم وزنهم الحاضر من حيث هم حملة الرسالة وأرباب
اللسان الذي نزل به كتاب الله ،والكثرة والقلة ليست شيئا ً .هذه الهند التي
تعد ّ ست أو سبع مائة مليون ،في الموازين الدولية ل تساوي شيئا ً ،وهذه
الصين تعد ّ ألف مليون ،في الموازين الدولية وفي الصراع ل تساوي شيئا ً ،
دون مائة مليون ومع ذلك فالشرق والغرب والشمال لكن العرب كعرب يع ّ
والجنوب يتواصون على ضرورة إبقاء العرب في التخلف والخبال ،وإبعادهم
عن حقائق اللسان وتمزيقهم كي ل يكونوا أمة واحدة ،لماذا ؟ ألنهم عرب ؟
وما قحطان وما عدنان وما يعرب وما يشجب ؟ هؤلء العاريب ليسوا عند
الله شيئا ً ،ولكن القيمة مستمدة من هذا الكتاب ،من هذا الدين ،والمة
حينما تعي هذه الحقيقة وتفي لهذا الدين وتعرف أن حياتها ومستقبلها لهذا
28
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ملها أثقال ً لكي تقوم بها فحينئذ سيتبدد الدين وتعرف أن الله كّلفها تكاليف وح ّ
وجه الرض ،وسيكون العرب غير عرب اليوم الذين يشكلون خزيا ً وعارا ً
وشنارا ً ليس في جبين العرب فقط وإنما في جبين النسانية جميعا ً ،إن
عرب اليوم أناس شائهون فكرا ً وخلقا ً واتجاها ً ،إن عرب اليوم ل يملكون أن
وموا ألسنتهم بلغتهم الخاصة فهم يتراطنون بلغات العاجم وذلك شيء يق ّ
مصنوع لكي تغيب حقائق الكتاب في هذه الرطانة العجمية ،وإن العرب
يقفون من غير استثناء من غير اّدعاءات من غير منفخة فارغة وكاذبة ،كلهم
ضالعون مع الستعمار ،أجراء وأذلة مع أعداء هذه المة ومع خصومها
التاريخيين ،حتى الناس الذي ب ُّرر وجودهم لكونهم يريدون أن يجمعوا شمل
العرب أصبحوا أكبر العوامل في تمزيق أمة العرب ،هؤلء لو عقلوا عن الله
لعرفوا أنهم يحافظون على صناعة استعمارية بحتة ،وكم من مرة قلت
لكم :كان الموظف في زمن آبائكم يذهب من هنا إلى القسطنطينية ويخدم
هناك ،ويذهب من هنا إلى اليمن ويخدم هناك كما ينقل من مدينة إلى
أخرى ،لماذا ؟ لنها كانت أمة واحدة ،متى كان ذلك ؟ عام ، 1917حينذاك
جاء الستعمار واليهودية العالمية والصليبية الدولية وخصوم المة الذين يقف
وزراؤهم وملوكهم ورؤساؤهم يمسكون بالقرآن قائلين في مجالسهم
العامة :ما بقي هذا القرآن ُيقرأ بين العرب فل سبيل إلى استعمارهم ،هؤلء
خططوا لتكون المة الواحدة أمم ،والدولة الواحدة دول ً ،وأصبحنا وبعد
مسيرة دامت ستين سنة إلى الن نحاول أن نخرج من هذا التيه ،وأكرر
م
الناس الذين يًبرر وجودهم على مسرح الحياة السياسية والجتماعية بل ّ
شمل المة هم الذين يمزقون المة ويؤخرون جمعها ،ونحن حينما ننادي
بجمع المة العربية ليس في ذهننا كما أحب أن يكون ذلك واضحا ً تماما ً أن
نصنع دولة عربية من المحيط إلى الخليج ،تلك شعارات ل تساوي في
موازين التاريخ فلسا ً ممسوحا ً ،ل ،ولكن نريد لهذه المة حين تجتمع على
جنسها وعلى لسانها أن تعود لتعرف واجباتها ،ما هو واجبها ؟
ً
اسمعوا الله تعالى ماذا يقول في سورة الزخرف ،يقول مخاطبا نبيه عليه
الصلة والسلم ) :فاستمسك بالذي ُأوحي إليك إنك على صراط مستقيم
وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ( أي إن هذا القرآن شرف لك
ولقومك وليس هذا فحسب ولكنكم سوف تسألون يوم القيامة عن هذا
ت نفسك فلم تنظر لها ،هل تستحق الشرف ،ولماذا السؤال ؟ أأنت صنع َ
كل هذا التهديد الرعيد ؟ ل ،ولكن أنت باستمساكك بالذي أوحي إليك
وبمحافظتك على هذا الشرف الذي اختصك الله به إنما تؤدي للنسانية خدمة
التي تنتظرها النسانية ،إن النسانية طالما كانت تعيش في دول منعزلة
على طريقة القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر وطالما كانت
النسانية تعيش على ألسنة مبلبلة غير متفقة فل مجال لن يسود بينها
السلم ول مجال لن يتحقق بين أفرادها التفاهم ،وإن شرط التفاهم
والسلم في وحدة اللسان وإزالة الحدود وفوارق الجغرافيا التي يتمسك بها
الناس ،وتلك مهمة منوطة بالسلم والمسلمين وشرطها أن يعرف العرب
واجبهم حيال هذا المر .
)(7 /
في حديث معاوية الصحيح بعد أن ذكر بعد أن سمع من رسول الله صلى الله
عليه وسلم مما سيحل بالخلئق الشائهة في هذه المة قال أي رسول الله :
29
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
سيكون أقوام تتجارى بهم الهواء كما يتجارى الك ََلب لصاحبه ،ل يدع عرقا ً
ول مفصل ً إل دخله .ثم يلتفت معاوية على منبر النبي عليه الصلة السلم
فيخاطب المسلمين قائل ً هذه الكلمة التي قلت لكم وعاها الرواد وعيا ً تماما ً
وعملوا بمقتضاها عمل ً مشكورا ً ومبرورا ً وهم من أجل ذلك مذكورون أبد
الدهر قال لهم :يا معشر العرب والله لئن لم تقوموا بما جاء به محمد صلى
الله عليه وسلم لغيركم من المم أعجز عن ذلك .إن خلص النسانية إذا ً
أمانة في عنق العرب ل لنهم جنس ولكن لنهم أصحاب اللسان الذي نزل به
القرآن ،والذي اعتبر هذا اللسان وسيلة أو وجها ً من وجوه التيسير ،أليس
من التيسير أن تقرأ القرآن وأنت لم تشدو من العلم إل القليل فتفهم مراد
الله ؟ أليس من التيسير أن تقرأ القرآن فتنفعل به ؟ أليس من التيسير أن
تقرأ القرآن فيقشعر له جلدك ويخشع له قلبك ؟ أليس من التيسير أن يفهم
القرآن الطفل والشاب والشيخ والمرأة وكل أحد ؟ ذلك كله تيسير وهو سّر
من أسرار الله جل وعل أودعه في هذا الكتاب وجعل وعاءه هذا اللسان
سرناه بلسانك ( .وجعله المنة ) فإنما ي ّ
أأزيدكم شيئا ً ؟ ل أعتقد بعد هذا الكلم محتاجون إلى شيء ،شيء أخير
أحب أن أكرره .أقول لكم بمنتهى الحرية والوضوح ،الزمان الذي كانت
ترّوج فيه الشعارات المضللة والباطلة واليوم ،في الماضي وقبل عشرات
كانت الخرافة تحتاج إلى عشرات السنين لكي يظهر زيفها وبطلنها ،ونحن
نعيش في عصر ُفتحت فيه منافذ العصر جميعا ً وتواصل الناس فيه لم يكن
يحلم فيها اشد الناس جموحا ً في التطور والحياة .والخرافة التي تطلق اليوم
قد ل تحتاج إل إلى عدة أيام لتسقط ويبدو زيفها ،هذه المة عاشت على
خرافات وعاشت على أضاليل ،ومن أخطر الضاليل أن يوضع العرب في
مقابلة المسلمين وأن يظهرا أنهما نقيضان ،آن لكل واحد أن يعلن حقيقة
أولية بدهية :من لم يكن مسلما ً فليس بعربي وإن نطق بلغة العرب وإن
نزل من صلب عدنان وقحطان ،فالعرب هم المسلمون ،ومن كان يريد
شاهدا ً ودليل ً فليسأل الذين كانوا في أوروبا وفي أمريكا عام ، 1967ماذا
فعل اليهود والنصارى بل الذين ل يحبون اليهود ول النصارى من الملحدة
هزم العرب هزيمتهم الشنيعة الشيوعيين ول يؤمنون برب ول بدين ،حينما ُ
عرضت صورنا ونحن نعاني الهزيمة والذل كانوا يرقصون في الشوارع ،و ُ
كدعاوى على أننا أمة ل تستحق البقاء ول تستحق العيش ،بل لماذا نذهب
إلى أوروبا وأمريكا ؟ اذهبوا إلى الجزيرة ماذا كان يفعل النصارى حينما حّلت
سرت على أنها هزيمة للسلم ، الكسرة بالعرب ،إنما الكسرة بالعرب فُ ّ
والشعار الذي كان ينادي به اليهود بعد أن أكملوا احتلل مدينة القدس محمد
مات وخلف بنات ،ويا ليتهن بنات بل هن عاهرات .مع السف الشديد ،إن
هذه المناقضة باطلة فالعرب الحقيقيون هم المسلمون ،والمسلمون هم
الذين يحفظون كرامة العرب وهم الذين يصونون بيضة العرب ،وهم الذين
ُيطلب إليهم أن يجعلوا لغة العرب لغة العالم كله ،وكما قال النبي عليه
الصلة والسلم :أل إن العربية ليست من أحدكم بأم ول أب ،أل إنما العربية
اللسان .فمن تكلم العربية فهو عربي ،وهذا تحديد قاطع لرجل لم يأتنا من
اليونان كميشيل عفلق مثل ً ،وإنما هو أعرب العرب وسيد العرب ،يحدد
معنى العروبة ويحدد من هم العرب ،وحينما نأخذ على عواتقنا نحن
المسلمين أن نجعل لغة الدنيا كلها هي اللغة العربية فقولوا لي من هم أوفى
للعرب ؟ أنحن أم اللصقاء بالعرب ؟ أنحن أم الذين ينتمون إلى العرب زورا ً
وبهتانا ً تقذفهم إلينا بقاع الدنيا ل ُيعَرف لهم أب ول ُيعَرف لهم جد ،ويأتون
30
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ليزاودوا علينا في العروبة ،وأحدهم إذا نطق كلمتين يخلط فيهما بلغة
أعجمية ،إننا حينما نقول هذا الكلم نطلب إلى شباب المة أن يواجهوا
الحقائق ،زمن الخرافات ولى ،وزمن الشعارات ولى ،وشباب المة منتدب
لكي يواجه الحقيقة المرة ،فإما أن يواجهها مواجهة الرجال ،وإما أن يحق
عليه مقالة اليهود ) محمد مات وخّلف بنات ( وأنا أزيد وبنات عاهرات .
لكنا في الله جل وعل رجاًء متينا ً وقويا ً أل يضيع هذه المة وأن يحفظ علها
دينها وأن يعطف قلوبها على هذا الدين وأن يأخذ بمقادتها إلى طريق الهدى
والصواب وأن يجعل في كل واحد منا وازعا ً يدفعه إلى أن يتجاوز شهواته ،
وإلى أن يدوس على أطماعه ،وإلى أن يعلم أن الله ضرب علينا قدرا ً وهو
لنا تكليف ومسؤولية نؤدي الحساب هنا ولكن الحساب الخير والعسير
سيؤدى عنها هناك .
وأسأل الله تعالى أن ل تطيش موازيننا هناك وأن ُيثقل الله موازيننا بالعمل
الصالح المثمر وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين
والحمد لله رب العالمين .
)(8 /
31
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
وهي التي جاءت بعد سورة القيامة ،يرى بوضوح أن موضوع القيامة واليوم
الخر حين عرضه القرآن في شوطه الول لن تذهب أصداؤه ضائعة بين
أمواج الثير ولكنها تركت أصداءها القوية وآثارها العارمة في المجتمع الذي
وجه إليه خطاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم . ت ّ
فإذا مضى بعد يستعرض سورة المرسلت رأى المر يعاد ولكن بأثواب أخرى
وبأساليب جديدة ،فإذا انحدر إلى سورة قاف رأى المر يأخذ ُبعدا ً آخر أو
أبعادا ً أخرى ،فقبل ،كان موضوع القيامة موضوع إنكار واستنكار وكانت
الجوبة تأتي على هذا على قدر الموقف ومتطلبات الموقف ول مزيد ،ولكننا
من سورة قاف نستشف شيء آخر عرضناه قبل وتكلمنا عليه بما يسر الله
وأعان ،رأينا أن موضوع القيامة يخرج ليكون تساؤل ً ضخما ً عن قدرة الله
وعن علم الله تبارك وتعالى ،وإذا ً فالقضية تنداح وتتسع .
فإذا جئنا بعد ذلك إلى سورة البلد وسورة الطارق وهي السورة التي عرضنا
لها في الجمعة الماضية كشفنا عن شيء جديد أيضا ً وهو أن الله سبحانه لن
يكتفي بالرد على شبهات المشركين وبتفنيد تخرصات الكافرين وإنما تناول
النسان ،فبّين أنه كرم هذا النسان ،ومما تعارف الناس عليه وجرى بينهم
كالقانون ،إن شكر المنعم واجب وإن معرفة كرم الكريم ضروري وحسن
في أخلق الناس ،وأنه تبعا ً لذلك ولما أن أحدا ً من خلق الله ل يدعي أنه
خلق من غير شيء ،من أجل ذلك خلق نفسه ول يستقيم في العقل أنه ُ
كانت بداهة الحس وضرورة العقل وأوليات المنطق تقضي بأن النسان
مخلوق من قبل قوة أخرى مفارقة ولنصطلح على أن نسميها ) الله ( فإذا
كان المر كذلك فمن عدم الخلق الذي يستنكره آحاد الناس فيما بينهم في
الحياة الدنيا وفيما يتهادونه من معروف أن يقف النسان من المنعم موقف
الجحود والنكران .
فإذا نقلنا المر إلى موضوع الرب والعبد كانت الجريمة أكبر ،وكانت الساءة
أوغل في الشناعة والسفاف ،وهذا طور جديد ترقى إليه السورة ..لماذا ؟
لن الله تعالى يريد قلب النسان وإرادته المحررة من كل ضغط ،المبرأة
من كل استكراه ،ولو أن الله تعالى شاء أن يعطف قلوب الناس جميعا ً إلى
اليمان لستطاع ذلك ..وتبارك الله ) ولو شاء ربك لمن من في الرض
كلهم جميعا ً ( ولكن النسان يتفرد في هذا الكون بأنه مخلوق حر الرادة
طليق التفكير لكي يكون مؤهل ً لتحمل التبعة ومواجهة المسؤولية وهي
أساس الثواب والعقاب ومناط الحساب في هذه الدنيا وعند الله في اليوم
الخر .
)(1 /
ق بال ً
ولول أن النسان مخلوق يلج في العناد ويسترسل في التكذيب ،غير مل ٍ
إلى ما يستند إليه من حجة وعقل ومنطق ،لول ذلك لكان بعض ما مضى
كافيا ً لكي يحمل الناس على القرار بيوم القيامة ،وبأن الناس معروضون
على الله وبأن كشف الحساب ل بد أن يقدم هناك .وأنا في غنى عن إعادة
القول بأن إلحاح القرآن على تأكيد يوم القيامة وغرسه في جذر قلوب
المؤمنين أمر ضروري ،لن النسان الذي ل يؤمن بمرد ول بمعاد إنسان ل
خير فيه ،لنه هو والبهيمة السارحة سواء ،بل لعل البهيمة أقل أذى وأقل
شرا ً من النسان الذي ل يؤمن بالله وبحتمية الحساب بين يدي الله تعالى ،
وما أصدق قولة الشاعر العربي القديم :
32
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
33
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
عن نبأ أقوام ،وليس غريبا ً عنا عن نبأ القوام الماضين ،فقد مّر معنا من
قبل حديث عن بعض القوام في سورة الفجر ) ألم تَر كيف فعل ربك بعاد ،
إرم ذات العماد ،وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ،وفرعون ذي الوتاد ،
الذين طغوا في البلد ،فأكثروا فيها الفساد ،فصب عليهم ربك سوط
عذاب ،إن ربك لبالمرصاد ( إذا ً فبين أيدينا حديث مضى عن أقوام ثلثة
جاءت الشارة إليها مقتضبة إلى حد ٍ ما ،لكنا هنا نواجه حديثا ً إضافيا ً عن
أقوام جدد ،تحدثنا السورة عن قوم نوح ،كما تحدثنا عن قوم لوط ،وهذه
هي المرة الولى التي نسمع فيها في سياق التنزيل بنبأ هاتين المتين مع
رسل الله تبارك وتعالى .
)(2 /
يقول الله تعالى مفتتحا ً الحديث عن القوام المكذبين تسلية وتعزية للنبي
صلى الله عليه وسلم وتثبيتا ً للمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم
وبيانا ً لبعض القواعد والسس اللزمة أثناء العمل من أجل هذا الدين وحمل
حقيقة هذا السلم ُ ،يفتتح الحديث عن قوم نوح ول غرابة ،فنوح الب الثاني
للبشرية ) كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر (
وللمتأمل أن ينظر في هذه المقالة التي ُووجه بها نبي الله نوح عليه الصلة
والسلم وإلى تكررها على ألسنة المكذبين باستمرار حتى استقرت على
ألسنة الذي كذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ،أما أنهم قالوا إن محمدا ً
عليه الصلة والسلم مجنون فذلك أشهر من أن ُيذكر ،وليس بعيدا ً عنكم ما
كان من حديثنا عن قول الله تعالى في فاتحة سورة القلم ) نون والقلم وما
يسطرون ،ما أنت بنعمة ربك بمجنون ( فنفى عنه الجنون .وكما ازدجر نوح
عليه السلم وُنهي عن المضي في الدعوة إلى الله فقد ازدجر محمد عليه
الصلة والسلم وُنهي عن الدعوة إلى الله تعالى .
وفي أول سورة نزلت من القرآن وهي سورة العلق ) أرأيت الذي ينهى ،
عبدا ً إذا صلى ،أرأيت إن كان على الهدى ،أو أمر بالتقوى ،ألم يعلم بأن
الله يرى ،كل لئن لم يتنهِ لنسفعن بالناصية ،ناصية كاذبة خاطئة ،فليدعُ
ناديه ،سندع الزبانية ،كل ل تطعه واسجد واقترب ( فالفاتحة كما ترون
ص
عندما انعقل عن الله تعالى معنى ما أراد في كتابه ليست تراد لكي يق ّ
علينا قصص من تاريخ القوام الذين مضوا ،فشأن القرآن أرفع وأجل وأعظم
وأكثر فاعلية من أن يكون كتاب تاريخ يثبت وقائع من وقائع التاريخ ،ولكن
القرآن يختار الواقعة التاريخية لتخدم الغرض العام فتأتي في مناسبتها
الخاصة وفي تقديرها الذي ل يوجد إل في محكم التنزيل في كتاب الله تعالى
.والذي يقرأ هذا الكلم يدرك بكل سهولة أن مردوده في نفس النبي صلى
ت به من صد الله عليه وسلم أن يا محمد ليس بدعا ً من البدع ما ُووجه َ
ذب رسل الله جميعا ً .وليس جديدا ً من صد ّ من قبلك وك ُ ّ
وتكذيب ،فقد ُ
سفاهة البشرية وضللها أن يقال لك إنك مجنون ،فأبو النبياء نوح قيل له
ذلك ،وليس جديدا ً أبدا ً أن تزجر عن الدعوة إلى الله فقد ازدجر من قبلك
نوح وهو أول الرسل من أولي العزم صلوات الله تعالى عليهم ،وإذا ً فالذي
يراد منك يا محمد أن تزداد بصيرة في أمر الله ،وأن تزداد رسوخا ً على
طريق الدعوة ،وأن ل يلفتك عن مرضاة الله تعالى هذه السفاهة الصغيرة
التي تخرج وتنجم من قوم سفهاء الحلم صغار العقول .
فهذا ما يستقر في ذهن أي قارئ للقرآن ،ولك بعد أن تعمم ،فالمسألة أي
34
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
هذه الواقعة الدعوية الحركية ليست واقفة عند حدود النبيين والمرسلين ،
وإنما هي واقعة تتكرر باستمرار على مدى اليام والدهار والعصور ،فحيثما
رأيت دعوة ً إلى الله تأخذ طريقها باستقامة وتثبت قدميها في مستنقع الموت
في سبيل الله جل وعل تواجه بهذه السخرية المهينة ،إن هؤلء الدعاة
ل لن يزجروا وينهوا كما ُينهى السفهاء والمجانين ومن في مجانين وإنهم أه ٌ
حكمهم .ولكن لن يمضي إل قليل وقت حتى يضحك الذين كانوا يبكون من
قبل ،ويبكي الذين كانوا يضحكون من قبل ذلك ،ذلك بأن الله غالب على
أمره ولكن أكثر الناس ل يعلمون .
فالقصة التي ُبدأت بها هذه السلسلة من الحاديث وهي قصة نوح عليه
السلم زاخرة بالعبر والدلئل مما ل أريد أن أتعرض له الن ،ولكني ألمعت
إلماعا ً يشبه أن يكون ضوءا ً أمام الخوة لكي يقرؤا القرآن بعقلنية أكثر
وبتدبر أكثر ،فوراء كل آية وكل كلمة من كلمات الله جل وعل عالم من
المعاني يحتاج إلى ناس يقرؤونه بوعي لكي يدركوا مرادات الخالق تبارك
وتعالى .
نمضي ) كذبت قبلهم ( يعني قبل هؤلء المشركين ) قوم نوح فكذبوا عبدنا
وقالوا مجنون وازدجر ،فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ،ففتحنا أبواب السماء
بماء منهمر ،وفجرنا الرض عيونا ً فالتقى الماء على أمر قد قدر ،وحملناه
على ذات ألواح ودسر ،تجري بأعيننا ( أي بحفظنا ) جزاًء لمن كان كفر ،
ولقد تركناها آية ( أي تركنا هذه الواقعة آية يتناقل الناس خبرها سلفا ً عن
سلف ،أو تركنا السفينة التي حملت نوحا ً ومن معه آية بّينة على قدرة الله
حتى أدركت بقاياها أوائل هذه المة ،ولقد حدثني بعض الذين يسكنون في
منطقة الجودي وهو الجبل الذي رست عليه سفينة نوح في أشهر الروايات
أنهم يجدون إلى الن بقايا المسامير المتخلفة عن سفينة نوح عليه السلم
في قمة جبل الجودي ،ولكني ما رأيت ذلك بعيني للسف ،مع أني كنت
قريبا ً من قمة الجبل .
)(3 /
) ولقد تركناها آية فهل من مدكر ،فكيف كان عذابي ونذر ،ولقد يسرنا
القرآن للذكر فهل من مدكر ( بصورة عامة وبإجمال نقول :إن الخطوط
الرئيسية التي تتناغم في هذه القصة تشبه إلى حد بعيد وليس من حيث
النهاية ما حصل لمحمد عليه الصلة والسلم ،رجل يختاره الله تعالى من
بني البشر ليحمل الرسالة إلى الناس ) والله أعلم حيث يجعل رسالته ( ثم
يأمره بالجهر وبالدعوة وبأن يصدع بما يؤمر ،فيشمر لمر الله ويجهر
بالدعوة وينادي بها ،ويكون لذلك أرجاع عند الناس وهي أرجاع معروفة ،
وحين تتقّراها في ساحة التاريخ عامة تجدها متماثلة ،إعراض وصد وتكذيب
وسخرية واستهزاء وإيذاء ..
ويظن المغفلون أن المر صراع بين النسان وإنسان آخر ،ويذهب الغرور
بالمغفلين إلى أن هذا النبي المرسل واحد وهم جمع كثير ،وغالبا ً وإن يكون
النبياء المرسلون من أشرف بيوتات القبائل غالبا ً ل يكون النبياء من ذوي
الثراء والجاه والمكانة ،وإنما يكونون من أوساط الناس ممن استقامت
خلئقهم ثم طهرت فطرهم وسجاياهم ،وإذا ً فالذين يتصدون لهم أكبر مقاما ً
وأعظم قوة وأوسع ثراًء وأبعد جاها ً وصوتا ً ،وطبيعي أن خصاما ً ونزاعا ً
وعراكا ً يقع بين قبيلين من هؤلء في حسابات الناس وفي القاموس
35
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
البشري ،فالنتائج مقررة فتكون الغلبة للقوى وللكثر ثراًء وما أشبه ذلك ،
وهذا كما قلت حساب المغفلين والذين ل يعقلون .إن حقيقة الصراع
حض المعركة بين واليمان ليست صراعا ً بين بشر وبشر باستمرار حينما ُتم ّ
يحكمه قانون العدد وقانون القوة التي يجب أن تتساوى وتزيد لكي يضمن
نجاح المعركة لحد الطرفين ،ولكنها صراع بين النسان الضعيف والمغرور
والتافه وبين الله الذي يغلب ول ُيغلب .
ولهذا فحين قال نوح في دعواه لربه ) إني مغلوب فانتصر ( تدخلت قدرة
الله جل وعل من وراء السباب جميعا ً ) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ،
وفجرنا الرض عيونا ً فالتقى الماء على أمر قد قدر ( كان يمكن أن يكون
التعبير بأن أبواب السماء تفتحت بالماء ،وُيسند التفتح إلى أبواب السماء أو
إلى السماء ،وكان يمكن أن يقول إن الرض تفجرت عيونا ً ،ويكون الكلم
دال ً على المراد على نحو ما ،ولكن صيغة اليات بسياقها هنا ل يراد منه أن
توصف الواقعة ،وإن كان وصفها بالنحو الذي قلناه مغنيا ً غاية الغناء ،وإنما
يريد أن يبرز عيانا ً ومشاهدة قوة الله القوي أمام النسان العاجز ،فأضاف
الفتح إلى ذاته الكريمة وأضاف التفجير إلى ذاته الكريمة أيضا ً ،أي أن الله
در المر تقديرا ً بحيث يكون جر الرض عيونا ً وفتح أبواب السماء وق ّ هو الذي ف ّ
الماء النازل من السماء مساوقا ً في الوقت للماء النابع من الرض بحيث
يلتقي الماءان ليكون الطوفان أهول وأعظم فتكا ً وتدميرا ً .
فهذه بعض جوانب العبر مما يستفيده النسان من الخطوط الرئيسية بالقصة
ذب ،فيلجأ إلى ربه ،فتتدخل القدرة الربانية لتقّر في ،نبي يدعو ،فُيك ّ
موضعه عبدا ً مخلوقا تافها حقيرا ل يملك لنفسه ضرا ول نفعا ول موتا ول
ً ً ً ً ً ً
خر عليه أضعف جنده لباده وأفناه . حياة ول نشورا ً ،ولو أن الله س ّ
ثم تتدخل ذات اليد ،يد وقدرة ،لتنجي الذين آمنوا ،فكما أنجى الله نوحا ً
ومن معه في الفلك المشحون كذلك قرر الله جل وعل أنه كان حقا ً عليه أن
ينجي المؤمنين .فالذين آمنوا ينصب عليه البلء وُيطاردون وتسفك منهم
الدماء ،وُيدخلون في السجون ،وتوضع في أيديهم وأرجلهم وأعناقهم القيود
محنة من الله وابتلًء واختبارا ً ،ولكن العاقبة للمتقين .
والذين يدعون إلى الله جل وعل إذا اهتزت في نفوسهم هذه العقيدة لحظة
واحدة فقدوا كل مؤهلت الدعوة إلى الله تعالى ،لن جند الله هم الذين
أضافهم إلى نفسه فجعلهم أعظم الناس به ثقة وأكثرهم إليه عودة والتجاًء .
)(4 /
فهذه قصة نوح مع قومه ذكرها الله تعالى بهذا السياق ..ثم ماذا ؟ ) كذبت
عاد ( وعاد مّر معنا شيء من خبرها ) فكيف كان عذابي ونذر ،إنا أرسلنا
عليهم ريحا ً صرصرا ً ( ويا حبذا لو كل أخ ذاق معي طعم هذه اللفظة ) ريحا ً
صرصرا ً ( يكاد الريح العنيف القاصف العاصف البارد الشديد يذاق طعمه من
هذه اللفظة ) ريحا ً صرصرا ً في يوم نحس مستمر ،تنزع الناس كأنهم أعجاز
سرنا القرآن للذكر فهل من نخل منقعر ،فكيف كان عذابي ونذر ،ولقد ي ّ
مدكر ( ثم ماذا ؟ بعد عاد تذكر السورة قوم ثمود ) كذبت ثمود بالنذر ،
فقالوا أبشرا ً منا واحدا ً نتبعه إنا إذا ً لفي ضلل وسعر ( والسعر هو الجنون أو
مي على النسان مسالك الرأي ، شدة الجنون أو الجنون المطبق الذي يع ّ
ً
ويفقده القدرة على التصرف السليم الحكيم ) إنا إذا لفي ضلل وسعر ،
أءلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر ،سيعلمون غدا ً من الكذاب
36
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الشر ،إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ،ونّبئهم أن الماء قسمة
ب محتضر ،فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ( وهو قدار بن سالم بينهم كل شر ٍ
) فكيف كان عذابي ونذر ،إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم
سرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( ثم ماذا ؟ تأتي القصة المحتظر ،ولقد ي ّ
بسياقها على شيء من نبأ قوم لوط ،وهذه هي المرة الولى التي نواجه في
سياق حديثا ً عن قوم لوط ،وحديث القرآن عن قوم لوط تكرر في سور
عديدة ،سيأتيكم الخبر عنه إن شاء الله تعالى في مواطنها ..
) كذبت قوم لوط بالنذر ،إنا أرسلنا عليهم حاصبا ً ( والحاصب هو الريح الذي
يحمل لشدته وعنفوانه الحجارة والحصى فيرسلها تنصب على الناس من
السماء ) إنا أرسلنا عليهم حاصبا ً إل آل لوط نجيناهم بسحر ،نعمة من عندنا
كذلك نجزي من شكر ( أي من شكر الله على نعمة الدعوة والرسالة فالله
جل وعل ينجيه ثم يأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يصنعون .
) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ( أي أن نبيهم لوطا ً أنذرهم أن الله إذا
بطش البطشة الكبرى فل مجال بعد للعتذار ) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا
بالنذر ( شكوا بهذا النذير الذي جاءهم على لسان ) ولقد راودوه عن ضيفه
فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ،ولقد صّبحهم بكرة عذاب مستقر ،
سرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( . فذوقوا عذابي ونذر ،ولقد ي ّ
)(5 /
ثم ماذا ؟ حديث مقتضب عن فرعون وقومه ) ولقد جاء آل فرعون النذر ،
كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيزا ً مقتدر ( إلى هنا ينتهي الحديث عن
القوام الخمسة الذين كانت لهم مواقف متشابهة من أنبيائهم ومن كلمات
الله ،وكانت مواقفهم متشابهة من كل الوجوه مع مواقف الرسول صلى الله
عليه وسلم .فمتى التعقيب ؟ هنا طعم السورة يتجلى ،إن السورة تحمل
تهديدا ً ولكن ل يخطئ الحس فيها نازع الشفاق على الناس ) أكفاركم خير
من أولئكم ( هل كفار قريش خير من المم التي ذكرناها ؟ ) أم لكم براءة
في الزبر ( هل عندكم صك عند الله تعالى أن يدعكم تسرحون وتمرحون
وتفسقون وتفجرون ثم ل يأخذكم بالذي جنته أيديكم ؟ ) أم لكم براءة في
الزبر ( يعني في الكتب الماضية النازلة من عند الله ) أم يقولون نحن جميع
منتصر ( أم تذهب به أحلمهم وعقولهم إلى أن يقيسوا المر قياسا ً بشريا ً
صرفا ً فيقولون إن محمدا ً وحيد ومن حوله ضعفاء ونحن جمع مجموع كثير
والنصر لنا ل ريب فيه ؟ ) أم يقولون نحن جميع منتصر ،سيهزم الجمع
ويولون الدبر ( ويرحم الله ابن الخطاب رضي الله عنه قال حينما نزل قول
الله تعالى ) سيهزم الجمع ويولون الدبر ( قلت في نفسي :أي جمع ُيهزم ؟
دها وعديدها وسلحها وأوباشها ومن حولها من العراب ترمي هذه قريش بع ّ
َ
رسول الله والمؤمنين معه عن قوس واحدة ،فكيف سُيغلب هذا الجمع .
قال :فلما كانت غزوة بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم خرج من
العريش وهو يثب في درع ويقول :سيهزم الجمع ويولون الدبر .فعلمت
تأويلها يوم ذاك .أي أن الله تعالى أنزل في القرآن وعده لمحمد عليه
الصلة والسلم وللمؤمنين معه وهم في وسط البلء المنصب عليهم كالمطر
بأن هذا الجمع سيهزم ثم حقق الله وعده بعد الهجرة في أول صدام وقع بين
المؤمنين من جهة والمشركين من جهة أخرى ) سيهزم الجمع ويولون الدبر ،
بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ( انظروا إلى هذا الحرف ) بل ( بل
37
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
حرف في اللغة العربية يسمى حرف إضراب ومعنى الضراب صرف النظر
عن ما مضى واستئناف كلم جديد يقوم في الدللة على المقصود أبلغ وأدل .
صل للمشركين منها فقد النفس والرواح دعك إذا ً من هذه الهزيمة التي تح ّ
وخسارة في الموال والعتاد والخزي الذي لحقهم والفضيحة التي شملتهم
بين العرب ،دعك من هذا ،هذا ل شيء ،كل هذه الخسائر والمصائب ما
تعد شيئا ً أمام ما ينتظرهم يوم القيامة ) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى
وأمر ( وإذا ً ففي هذا اللفظ المبهم المهول ما يكشف عن أن ما أعد الله
للمكذبين برسله شيء ل يأتي على الوصف ول تطيق تصوره العقول ،بل
الساعة موعدهم والساعة أدهى من هذه الهزيمة وأمر من هذه الهزيمة ) بل
الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ( .
) إن المجرمين ( وهم الكافرون ) في ضلل وسعر ( أي متاهة وبعد من
الحق وجنون مطبق يجعلهم يضربون شمال ً ويمينا ً ول يستطيعون أن يتبينوا
مواطئ أقدامهم ) يوم ُيسحبون في النار على وجوههم ( هناك ) ذوقوا مس
سقر ،إن كل شيء خلقناه بقدر ( وهذه الية الفاذة ) إن كل شيء خلقناه
بقدر ( تثبيت وتطمين للمؤمنين أبد الدهر ،إن هذا الكون بما فيه ومن فيه
وبقضايا الصراع التي تدور فيه ليست شيئا ً مفلتا ً من قدرة الله جل وعل ،
فكل شيء قدره الرب وأحكم تقديره وكل شيء يجري بعينه ل يشذ عن
أمره شيء ،وإذا ً فعلى المؤمنين أل يستيئسوا حين يرون الباطل يتشامخ
وينتفخ ويتيه في الرض ،ويخيل لضعفاء العقول ولمهازيل الفرص والمرتزقة
أن الدولة ُأحكمت بالباطل يجب أل يفتر المؤمنون بهذا ،فالكون بما فيه
ومن فيه بقبضة الجبار تبارك وتعالى ،والله لن يسوي بين المؤمنين
والفاجرين ولن يجعل المؤمنين طعمة في أفواه الكافرين ) ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين سبيل ً ( صدق الله العظيم .
) إن كل شيء خلقناه بقدر ،وما أمرنا إل واحدة ( يعني كلمة واحدة ) كلمح
بالبصر ،ولقد أهلكنا أشياعكم ( والخطاب هنا للمكيين المشركين وأشياعهم
هم الذين يماثلونهم في التكذيب والكفر تقول شايعت فلنا ً على رأيه أي
صدقت به وتابعته عليه ،فأشياعهم هم الذين يماثلونهم في الكفر بآيات الله
وحرب أنبياء الله تعالى ) ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر ،وكل شيء
فعلوه في الزبر ( أي كل شيء فعلوه مكتوب عند الله ومعد ّ لكي يواجهوا به
يوم الحساب ) وكل صغير وكبير مستطر ( حتى الخطى حتى الهمسة تدور
في خلدك ل تشذ عن الله وتكتبها عليك الكرام الكتبة الحافظون لكي تلقى
جزاءها هناك إن خيرا ً فخير وإن شرا ً فشر .
)(6 /
وينتهي الحديث عن تحذير هؤلء الكفار بهذا الشكل الذي أبرز لهم فيه ما
أحل بالمم التي قبلهم وأبان لهم خطأ رأيهم بأنهم خير من المم التي مضت
من قبلهم ،لتأتينا آيتان فقط تبينان لنا ما أعد ّ الله تعالى للمؤمنين المتقين
من راحة وروح وريحان ) إن المتقين في جنات ونهر ،في مقعد صدق عند
مليك مقتدر ( وصدق الله العظيم ،لحظوا المر هنا ،ليس فقط من حيث
التأويل ولكن من حيث اللفاظ المفردة ،وانظروا الدقة في هذا القرآن
المعجز الذي ل يقدر ه حق قدره إل الذين يتأملون فيه تأمل ً زائدا ً ويعنون به
عناية بالغة ويتدبرونه تدبرا ً طويل ً جدا ً ،المتقون ما لهم ؟ في جنات ل يعلم
إل الله ما أعد الله فيها للمتقين ) ،في مقعد صدق ( ل حظوا هذه الكلمة
38
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
) مقعد صدق ( إن مقعد الصدق الذي أعده الله للمتقين له صلة وارتباط
بموقف الصدق الذي يقفه المؤمنون في هذه الحياة ) عند مليك مقتدر (
والعندية هنا عندية تشريف وعندية حماية ورعاية ،كأن هذه اللفظة
) مقتدر ( تشير لك وأنت في الحياة الدنيا قبل أن تصير إلى الله لتأخذ
الجائزة وتقبض المكافأة ،أنه عليك أن تكون غاية في التقى بأنك أنت هنا
ت أنت جنديا ً من حزب ت غائبا ً عن أمر الله ،وما دم َ
وسط البلء والعذاب لس َ
تالله جل وعل فيجب أن تثق بقوله ) أل إن حزب الله هو الغالبون ( وما دم َ
تعتقد أن كل صغيرة وكبيرة في هذا الكون تبعي للجبار وفي يده وأنت تعلم
أن هذا الله الرب قادر على كل شيء فعليك أن ل يتزعزع إيمانك ول يهتّز
ثقتك بأن قدرتك مستندة ومشتقة من قدرة المليك المقتدر الذي تأتي إليه
يوم القيامة وتجلس عنده في مقعد صدق ..فما أعظمها من بشائر وما
أوفاها من إشارة لو أحسن الناس التدبر ،ل سيما ونحن نقرأ في هذه
السورة هذه اللزمة التي تكررت في خاتمة كل حديث عن أمة من المم ورد
سرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( في هذه ذكرها في هذه السورة ) ولقد ي ّ
الية المعجزة سوق للنسان ودفع له إلى الفادة العزيز الجبار ،كلم الله
عربي مبين وليس متعاظل ً ول مشكل ً ول متداخل ً ول مضطربا ً ول مختلفا ً ،
وليس مما تتعايبه العيوب ويعلو على الفهام ولكنه الكلم الميسر ،يستطيع
العامي والمتعلم أن يفهم وأن يحسن الفادة منه ،فإلى الله وإلى كلم
الله ..اجعلوا القرآن سميركم واقطعوا به آناء الليل وأطراف النهار يهدي
الله قلوبكم ويصحح الله أفهامكم ويثبت الله أقدامكم ..وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين
)(7 /
39
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الله إليه في الكتاب من تفصيلت صغيرة فهذه الشارة ل تعني عدم الهمية
بالنسبة إلى هذه التفاصيل ،إن هذه التفاصيل الصغيرة فيما يبدو للناس
أشبه ما تكون في الملط ) السمنت ( الذي يمسك الحجارة حين البناء ،
بغيرها ل يكون البناء بناًء ،بل هو رصف للحجارة بعضها فوق بعض .
ولكني ل أملك إل أن أضرب صفحا ً عن كل هذه التفاصيل ،فكما قلت وأؤكد
وأكرر وأريد أن ينغرس هذا عميقا ً في قلوب الخوة وفي عقولهم ،إن اليام
القادمة تحمل من النذر بالنسبة إلى السلم والمسلمين ما ل يعلمه إل الله
تعالى ،وإن من الكبر الجناية على هذا السلم ومن أعظم الساءة إلى هذه
المة أن تواجه المة أخطارا ً جساما ً برؤية غير مبصرة ،أو تواجه المة هذه
الخطار الجسام وهي مشتتة الرأي موزعة الفكر ،وفي ظني والله أعلم أننا
طالما نفتقر إلى رؤية صحيحة وكاملة لصورة الحركة السلمية كما قادها
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن نستطيع أن نفلح ولن نستطيع أن ننجح
،قد يؤتى أحدنا لسانا ً ،وقد يكون أحدنا قادرا ً على اعتلء المنابر ليحرك
عواطف الناس ويستثير فيهم الشجن والحزان ،ولكن ما فائدة هذا ؟ إذا كنا
نقتنع تماما ً بأننا في مواجهة صعوبات ،وأننا بحاجة إلى أن نعمل ثم ل ندري
ماذا نعمل ،فأية قيمة لهذه المشاعر ؟ ل شيء ل شيء بتاتا ً ،بل ربما دفع
هذا الجهل بحقيقة الصورة التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فتوفر لها النجاح والفلح قد يدفعنا الجهل بها إلى مغامرات طائشة أشبه ما
تكون بالعمليات النتحارية ،من أجل ذلك ومن أجل أنني قانع تماما ً وواثق
جدا ً من أننا مقبلون على أيام شداد وأوقات عصيبة رأيت أن ُأعرض عن
النهج السابق في تفصيلته ودقائقه ،لمسك بالخيوط الساسية فقط ،
عسى أن ننتهي في أقرب وقت ممكن من استجلء الصورة الحقيقية لدعائم
وقواعد وقوانين الحركة السلمية .
نحن يا إخوة ل نخدع أحدا ً ،بنفس القدر الذي ل نرضى فيه أن يخدعنا أحد ،
نحن قلنا ونقول إن هذا الربع الخير من القرن العشرين هو عصر التحرك
السلمي ،ولعل كثيرين سيغيظهم هذا الكلم فلينشقوا غيظا ً ،ولكن هذه
البشارة يجب أل تطمئن العاملين .إن معنى أن يكون النسان في غمرة
العمل مزيد من الصعوبات ومزيد من المشكلت ومزيد من المتاعب ،قد
ترون السجون تضيق بالنزلء من المسلمين ،وقد ترون الساحات العامة
تتدلى عليها جثث الشهداء ،ذلك ل يضر ول يهم ،تلك هي الطبيعة
ل وعل ،إن ساعة النجاح الساسية ،وتلك هي السمة البارزة لدعوة الله ج ّ
ُ
مني المسلمون فيها بخسارة دائما ً تسبقها لحظات كارثة ،إن غزوة أحد التي ُ
فادحة وأصابتهم فيها ضربة موجعة كانت من بعدها الحزاب ،وعندها قال
الرسول عليه الصلة والسلم :اليوم نغزوهم ول يغزوننا .ومن بعدها كانت
الحديبية ،وظن بعض المسلمين أن تنازلت الرسول صلى الله عليه وآله
للمشركين مجحفة وتكشف عن ضعف موقف ،فكان أن أنزل الله على نبيه
صلوات الله عليه وهو قافل من الحديبية ) إنا فتحنا لك فتحا ً مبينا ً ( وانطلق
بعد ذلك تيار السلم كالعصار ل يرده شيء ول يقف في وجهه شيء .
أكرر نحن ل نخدع أحدا ً فتلك ليست من قيمنا ،كما أننا ل نرضى أبدا ً أن
يخدعنا أي مخلوق ،نحن مقبلون على أيام شداد وعلى أوقات سوداء ،
وعدتنا في ذلك اليقين والصبر ،عدتنا في ذلك الستمساك المطلق بحبل
الله المتين ،لكن على هدى وبينة وبصيرة ،وخضوع لهذه العوامل رأيت أن
أكتفي بالمور الهامة في عرض القرآن المكي ،أو عرض جانب منه .
40
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(1 /
ونواجه الن تاسعة السور ،وانظروا إلى الخلف ترون أننا في ثمانية من
السور القصيرة سلخنا وقتا ً طويل ً ،فما بالكم حين تكون سورة كالعراف
من جملة السور المكية التي يجب أن تواجه وأن تدرس .هذه السورة
التاسعة هي سورة ) الليل ( سورة تعد من قصار السور تقرأها بسهولة
ويسر ) بسم الله الرحمن الرحيم ،والليل إذا يغشى ،والنهار إذا تجلى ،وما
خلق الذكر والنثى ،إن سعيكم لشتى ،فأما من أعطى واتقى ،وصدق
بالحسنى ،فسنيسره لليسرى ،وأما من بخل واستغنى ،وكذب بالحسنى ،
فسنيسره للعسرى ،وما يغني عنه ماله إذا تردى ،إن علينا للهدى ،وإن لنا
للخرة والولى ،فأنذرتكم نارا ً تلظى ،ل يصلها إل الشقى ( ..هذه
السورة ،لو سألتم أنفسكم :كم من المرات قرأتموها ؟ لعياكم العد
والحصاء ،ومع ذلك تعالوا ندقق النظر لتروا أنكم تظلمون قرآنكم حينما
تدعون أنكم تقرأون هذا القرآن ،لقد فرق الله جل وعل بين صنفين من
ل من قائل القارئين ،الذين يتدبرون آيات الله ،والذين ل يتدبرونه ،فقال ج ّ
) أفل يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ( بعض القلوب كالمقفلة ،عليها
رتاج غليظ سميك ،وبعض القلوب تعي وتفقه وتدرك وتفهم ،والله نسأل أن
يفتح قلوبنا وإياكم لفهم كتابه الكريم وتدبر آياته البينات .
ارجعوا بأذهانكم إلى ما سبق أن عرضناه في السبوع الماضي من أواخر
سورة ) العلى ( ترون أن الله سبحانه وتعالى امتدح صنفا ً من الناس ،ذلك
الصنف الذي يزكي نفسه ،يبذل مجهودا ً صادقا ً ومخلصا ً من أجل أن ينفتح
قلبه للفهم والتدبر ،ومن أجل أن ُتشحذ عزيمته للعمل والنتاج والنجاز ،
وعرض الله تعالى في آخر السورة لهم السباب أو للسبب الرئيسي الذي
يصد الناس عن الهدى وهو انغماسهم في الدنيا وانكبابهم على الشهوات
فقال جل وعل ) بل تؤثرون الحياة الدنيا والخرة خير وأبقى ( بعد أن سبق
أن قال لهم ) قد أفلح من تزكى ،وذكر اسم ربه فصلى ( بعد هذه الخاتمة
التي عرضت لهذا المجهود الذي يطلب من النسان المسلم أن يبذله في
صميمه وفي داخله كي يغّير من بنائه النفسي والعقلي والشعوري تأتي هذه
السورة لتضرب على ذات الوتر ولكن من زوايا أخرى ،اسمع ُ ،فتحت
السورة بالقسم ) والليل إذا يغشى ،والنهار إذا تجلى ،وما خلق الذكر
والنثى ،إن سعيكم لشتى ( ويقتضي أن نقول كلما ً بسيطا ً لنعرف حكمة
القسم ،لماذا يقسم النسان ؟ معلوم هنا أن الله جل وعل يقسم بالليل
وبتغشيته وبتغطيته بظلمه على الكوان ،ويقسم بالنور حين يشع وحين
يشرق نور النهار ) والنهار إذا تجلى ( ويقسم بخلقة النسان وقسمته إلى
ذكر وأنثى ،يقسم على أن سعي الناس شتى ،وشتى جمع شتيت وهو
المتفرق والمختلف ،حينما تقول :والله العظيم سوف أفعل كذا ،أو لن
أفعل كذا ،فماذا تريد ؟ ماذا تقصد بالقسم ؟ دع عنك الكف أو الفعل ،لكن
ت بهذه الصيغة صيغة القسم ،إنك طبعا ً تعظم الله وترى أنه أعظم لماذا جئ َ
من كل عظيم وأكبر من كل كبير ،ولن الله تعالى بهذه المثابة من العظمة
والكبرياء ومن المهابة في قلوب عباده ،فجعله جل وعل حاجزا ً وحائل ً
وقاسما ً بين النسان وبين الفعل أو الترك مشعر بأن القدام على المر الذي
ت به .........
ت عليه يتضمن انتهاك حرمة هذا العظيم الذي حلف َ حلف َ
انقطع الشريط قليل ً ..............................................................
م ( وهي تدل على الفصل والتمييز ،فالقسم مأخوذ من من الفعل ) قَ َ
س َ
41
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
تمييزه بين الفعل والترك ،بين القدام والحجام ،بين المراد وغير المراد ،
ظم وبما هو مقدس ،لن ما هو ومن هنا كان ل يمكن أن يقسم إل بما هو مع ّ
معظم ومقدس أدعى إلى أن ل ُتنتهك له حرمة ول يتجاوز النسان ما يقتضي
له من إجلل .
)(2 /
42
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
هذا واقع بشري مشهود ،ولكنه واقع سطحي ،انظر أبعد ،انظر أبعد ،لول
ت البياض ،ولول الليل ما عرفت معنى النهار ،ولول الهدى ما السواد ما عرف َ
ً
ت الضلل ،وتصور حياةً يعيشها الناس نسخا مكرورة ل تختلف نسخة عرف َ
عن أخرى ،كيف يكون شأنها ؟ إنها ثقيلة ثقيلة مملة شديد الملل ،ثم هي
حياة تسقط فيها المحنة وُيحذف منها البتلء والختبار ،النسان ُوجد في هذه
الدنيا لكي يمر في نار التجربة ،لكي ُيمتحن وُيبتلى ،لو كان الناس جميعا ً
أتقياء فما ثمة داٍع إلى المحنة بل ل مكان للمحنة ول مكان للبتلء .
ل وعل معنى ما يقول ل يؤذيه أن فالنسان المؤمن الذي يفقه عن الله ج ّ
يرى استشراء البغي والظلم ،ول يؤذيه أن يرى سيادة الفسوق والعصيان ،
وإنما الذي يؤذيه حقا ً هو أن يشعر داخل نفسه بالنهزام أمام هذه الظواهر
المؤذية التي تخدش في ضمير النسان .
)(3 /
ل وعل حينما يعرض هذا فكأنما يحفر لك في ) إن سعيكم لشتى ( الله ج ّ
الرض تحت قدميك حفرة عميقة تثبت قدميك على الصراط كي ل تزل ول
تزيغ ،كم من الناس مروا علينا وعليكم ..كانوا أول المر أتقياء وكانوا
خلقوا خلقا ً آخر ،من متدينين وكانوا مستقيمين ،ثم رأيتموهم بعد ذلك كأنما ُ
التدين إلى التفلت ،وأجارك الله من فسوق النسان الذي كان متدينا ً ،إنه
يكون أستاذا ً في الفسوق ،كم من الناس رأيناهم على هذه الشاكلة ؟ لو
ذهبت تتعرف على السباب ،لماذا انحرف هذا النسان ؟ إن هذا النسان لم
خلقوا على فطرة واحدة ،والله ج ّ
ل ينحرف أبدا ً لن طبعه منحرف ،فالناس ُ
وعل يخبر عن دينه بأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها ،ويخبر على لسان
نبيه صلوات الله عليه :إني خلقت عبادي كلهم حنفاء .يعني على الفطرة
السليمة وعلى الستعداد الكامل لمعرفة الطريق الحق ،ثم جاءتهم
الشياطين فاجتالتهم عن دينهم يعني زحزحتهم عن القواعد التي خلقهم الله
ل وعل عليها .حينما تأخذ حالة أو شريحة من المجتمع فاسدة شاذة ج ّ
تتسائل ؟ لماذا فسق هذا الخ ؟ لماذا فسدت هذه الطائفة من الناس ؟
ستجد أنهم تعبوا من الطريق ،إن الستقامة تكاليف ،يتوهم كثيرا ً من يظن
التقوى تمرة يأكلها أو جرعة ماء يشربها ،صعب ،الستقامة تكاليف
ومشقة ،ومع ذلك فواجب النسان أن يظل في غمرة هذا الصراع حتى
النهاية ،إل أن الناس في كثير من الحيان يرون أن الشر مستطير وأن
الناس يأخذون طرائق الفساد ول يصيبهم شيء ،وأن فلنا ً من الناس سرق
ونهب وقتل وغش وفعل السبع الموبقات ،ثم هو في أعين الناس مبجل
ومعظم ومحترم ،ثم مضى دون أن يصيبه شيء ،أذلك نظر مؤمنين ؟ ل أيها
الخوة ،إنكم لو رجعتم إلى القرآن لوجدتم في القرآن نصا ً من أثمن ما
ل وعل يقول ) ولول أن يكون الناس أمة واحدة ( تكون النصوص ،إن الله ج ّ
يعني سبيل ً واحدا ً مطبقين على الكفر ) لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم
سقفا ً من فضة ومعارج عليها يظهرون ( إلى آخر ما وعد الله جل وعل ،ما
للكافر عند الله ؟ ل شيء .
إن عمر رضي الله عنه دخل ذات يوم على بيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم ،وكان عليه الصلة والسلم يضطجع على رمال حصير ،رمال حصير
أيها الخوة هي العقد ،عقد النسج التي تبرز حينما يهترئ الحصير ،ليس
حصيرا ً جديدا ً مسوى ،ولكنه حصير عتيق ظهرت فيه العجر ،فلما جلس
43
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الرسول عليه الصلة والسلم نظر إليه عمر فرأى في جلده أثر الحصير
فبكى ،بكى وبكى بكاء مرا ً ،قال له النبي صلى الله عليه وسلم :ما يبكيك
يا ابن الخطاب ؟ قال :يا رسول الله إني نظرت فإذا كسرى وقيصر بالحرير
والديباج والسرة والصولجانات وأنت رسول الله أنظر فل أرى ما يرد البصر .
فطمأنه النبي صلى الله عليه وسلم ،تصوروا الفارق بين النفسيتين ،عمر
بالرغم من أنه عملق ،لو بقيت الدنيا يأخذها المخاض إلى قيام الساعة ما
ولدت مثل عمر ،ومع ذلك فالفارق بين عمر وبين محمد كالفارق بين الرض
والسماء ،قال له :يا عمر أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم ،يا
عمر أل يرضيك أن تكون لهم الدنيا وتكون لنا الخرة ؟ ما شأن المؤمن ؟ ل
أسخف ول أقل ول أضل عقل ً من ذلك المؤمن الذي يتصور أن معركة
السلم معركة قوة ؟ ما أسخف الناس ؟ يا حسرة على العباد ،ذلك قصارى
المؤمن أن يدخل في صراع يعرف أوله ول يعرف نهايته ،من أجل القوت ؟
هذا شيء سخيف ،إن كلبين على المزبلة يصطرعان يمثلن هذا الصراع
أحسن مما يمثله النسان ،كلبان على مزبلة يتهارشان على عظم يمثلن
ظاهرة الصراع على القوت بأفضل مما يمثلها النسان ،إن المؤمن حينما
يتصور أن وظيفته في هذا الوجود أن يسعى نحو مآرب آنية من هذا القبيل
يكون قد تخلى عن إيمانه ،هذا الكفر الذي يطبق الرض ،هذا الفسوق ،هذا
العصيان ،هذا التمرد على الله ،أين أنت عنه أيها المؤمن ؟ حينما تفرغ من
الصراع في هذه الميادين التي هي ميادينك وبيئتك الوحيدة التي تستطيع أن
تتنفس فيها بحرية وبملءة فتش بعد ذلك عن القوت .
)(4 /
إن محمد عليه الصلة والسلم حينما هاجر إلى المدينة ما فكر أن يبني
لنفسه بيتا ً وهو الغريب عن المدينة ،أمر بأن ُيبنى المسجد أول ً ،وبني
المسجد ،وليست المسألة هنا ،ولكنهم أي أصحاب حين بدأوا يبنون لرسول
الله صلى الله عليه وسلم بيتا ً قال لهم :ل ترفعوه أكثر من هكذا ،قامة
الرجل ومد ذراعه فقط ،وساقفوه بجريد النخل ،وأرادوا على عادة ذلك
الزمان أن يطلوا الحيطان بالقفصة يعني بالجص ،فقال لهم :ل ،الشأن
أعجل من ذلك .وذات يوم طلبوا من الرسول عليه الصلة والسلم أن ينعم
نفسه بعض الشيء ،فقال لهم :مالي ولدنيا ،إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل
راكب في الفلة استظل بظل شجرة ثم راح وتركها .كذلك شأن المؤمن ،
بل المسألة تبلغ في بعض الحيان حد الزمة وحد الحراج ،في يوم من اليام
عملت نساء نبي الله صلى الله عليه وسلم على رسول الله ما يشبه
العتصاب ،والنساء مذ كن ناقصات عقل ودين ،جئن إليه يطالبنه بالقوت :
نحن يا رسول الله ل نأكل كما يأكل الناس ول نلبس كما يلبس الناس ول
نتوسع كما يتوسع الناس .وأين كان يعيش محمد وأين كانت تعيش أمهات
المؤمنين ،أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اعتزل عنهن شهرا ً
كامل ً ،لم يطرق واحدة منهن أبدا ً ،ثم نزل من السماء أمر الله لنساء نبيه
بالتخيير ) إن كنتن تردن الله ورسوله والدار الخرة فإن الله أعد للمحسنات
منكن أجرا ً عظيما ً ،وإن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن
وأسرحكن سراحا ً جميل ً ( إن هذه الظاهرة هي التي يجب أل تغيب عن بال
المؤمن ،وأنا ألح عليها وأركز ،ألح عليها لكي أطرد من نفوس الخوة
تصورات انطبعت في أذهانهم من جراء معايشتهم لفكار اليوم وأعراف اليوم
44
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
،إنكم أبناء عالم مغاير لهذا العالم ،اعرفوا هذه الحقيقة ،حينما تنطلقون
من النقط الحضارية القائمة الن فثقوا أنكم فاشلون ول يمكنكم أن تنجحوا
بتاتا ً ،ولكنكم حينا تنطلقون من النقاط اليمانية البحتة فأنتم واصلون بإذن
الله ،ولن تقوى قوة في الرض أبدا ً على أن توهنكم أو تحطمكم .
هذا الذي تراه أيها المؤمن لشتيت السعي بين الناس ومن اختلف أمزجة
الناس ومن إعراض البعض وإقبال البعض ،ينبغي أل يزعجك ،وهي ظاهرة
ل وعل في هذه السورة كما ترون عظيمة تستحق القسم الذي بدأه ج ّ
) والليل إذا يغشى ،والنهار إذا تجلى ،وما خلق الذكر والنثى ،إن سعيكم
لشتى ( مع أن السعي مختلف والختلف ل يمكن حصره ،لكنا نستطيع في
ضوء القرآن الكريم أن نصنف الناس عموما ً تحت ضنفين فقط ) فأما من
أعطى واتقى ،وصدق بالحسنى ،فسنيسره لليسرى ( هذا هو الصنف الول
) وأما من بخل واستغنى ،وكذب بالحسنى ،فسنيسره للعسرى ،وما يغني
عنه ماله إذا تردى ( حينما ندقق في الية في صياغتها نجد أن هذه الية
تلمس نفس الوتار التي لمستها السورة الماضية ،العلة في اختلف الناس
إلى هذين الصنفين الرئيسين الساسيين ،حب الدنيا والنغماس فيها ،أو
عدم حبها والتخفف منها ،فالصنف الول ذلك الصنف الذي أعطى واتقى
وصدق بالحسنى ،والحسنى هي وصف هذه الرسالة هذه الشريعة هذا
السلم ،فهذا بما أفاء الله من نعمة اليقين والطمأنينة القلبية سيأخذ الله
بناصيته إلى طريق الخير فيكون من المهتدين .وأما الصنف الخر وهو الذي
بخل ،كّزت يده ،ثم واستغنى ،ونحن لو رجعنا إلى السور التي سبق لنا أن
ل وعل في عدد من المواطن أبرز ظاهرة الستغناء ، عرضناها لوجدنا الله ج ّ
فالستغناء ليس فقط من كثرة المال ،قد يكون من المال وقد يكون من
غير المال ،النسان في سلطانه يشعر أنه غني عن الناس ،وغني عن كل
شيء ،والنسان في عنفوان ثروته يشعر أنه أن يستطيع أن يشتري بماله
ن عن الناس وعن رب الناس ،والنسان حينما السعادة لنفسه ،فهو مستغ ٍ
يكون ذا حشم وخدم وأتباع وعشيرة وما أشبه ذلك يشعر بأنه عزيز ،
فالستغناء من الخطأ أن نفهم أنه متولد عن المال فقط ،ولكن المال عنصر
أساسي بل هو العنصر الول في بروز ظاهرة الستغناء ،لحظ إنك تجد
إنسانا ً ل عشيرة له ول حمولة وليس له جاه ول سلطان ،فجأة يغتني ويكون
ذا ثروة وذا مال ،إنك برغم ما تراه عليه من تواضع وطيبة ل تخطئ عينك
هذه الصلفة الغليظة التي تكون فيه ،إن هذه الصلفة وهذه الجلفة مظهر
أولي من مظاهر الستغناء ،فإذا أضيف إلى المال عوامل أخرى كان
الستغناء خطرا ً مدمرا ً ،لنه يصرف النسان عن الله ج ّ
ل وعل .
)(5 /
ما الذي يقربك إلى الله ؟ شعورك أنك فقير إلى الله ) يا أيها الناس أنتم
الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ( ما لم تكن شاعرا ً شعورا ً صادقا ً
ل وعل ، لفقرك المطلق إلى الله تعالى فسوف تظل بعيدا ً عن حضرة الله ج ّ
فهذا الذي بخل فلم ينفق في الحقوق ،واستغنى وشعر أنه بغير حاجة إلى
هذه الدعوة ،لديه من أسباب الحياة والطمأنينة والرفاه ما يكفي ويزيد ،هذا
فقد طريق الهداية ) وأما من بخل واستغنى ،وكذب بالحسنى ،فسنيسره
للعسرى ( ولو أنكم ذهبتم تستعرضون دعوة محمد صلى الله عليه وسلم
ودعوات النبياء من قبله لوجدتم أن الرؤوس التي تنطحت للدعوات
45
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
46
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(6 /
تصوروا لو أن الله قال بدل ) إن علينا للهدى ( لو قال :إن علينا للهداية ،
لكان حتما ً أن يتهدي الناس جميعا ً ،لن الهداية غير الهدى ،لو تكفل بهداية
ل وعل ،ولكنه قال ) إن علينا للهدى ( أي لوصل كل إنسان إلى طريقه ج ّ
ل وعل فقط أن يبذل لك أيها النسان أسباب الهداية ،فحينما على الله ج ّ
ل وعل ل يتعهد إل بأن يعطيك أسباب الهداية ترى أيها العبد المؤمن أن الله ج ّ
ً
،أفأنت أن تكون على الناس جبارا ؟ أفأنت تريد أن تكون على الناس
مسيطرا ً ؟ أفأنت تريد أن تكون عليهم قهارا ً ؟ ل يا أخي ،ما عليك إل أن تبلغ
وأن تذكر وأن تنذر وأن تبين ضمن حدود وشرائط التذكير والبلغ ،ولكي ل
يكون في الكلم أي إبهام فأنا أعني بذلك حرفيا ً أن الذي يدعو إلى الله ج ّ
ل
وعل عليه أن يكون بكلمة جامعة قرآنا ً يتحرك ،زهادة عن الدنيا وإعراضا ً عن
ل وعل وإخلصا ً والتصاقا ً بهذا الدين وعدم التفات إلى الخلق ورجاًء بالله ج ّ
أي شيء سواه ..حينما توفر لدينا النموذجات التي من هذا القبيل فإن
شخصا ً واحدا ً أستطيع أن أطرحه بين مليين وأنا واثق أنه قادر على أن يحول
ل وعل في هذا الزمان اتجاه هذه المليين .أما أن نقوم دعاة ً إلى الله ج ّ
العضوض ونحن ل نفترق عن الناس ل سلوكا ً ول تذكيرا ول مشاعر ول ول ،
ً
فذلك هو الفشل وذلك هو الخسران المبين .
ل وعل ومع ل وعل قال ) إن علينا للهدى ( وواجب التأدب مع الله ج ّ الله ج ّ
هذه الشريعة أل نكون ملكيين أكثر من الملك ،نحن نريد للنسان المسلم
فاكا ً ول قاتل ً ول أن يكون داعية إلى الله ،رسول محبة ،رسول سلم ،ل س ّ
ة حقا ً ،حينما يكون داعية إرهابيا ً ول شيء من هذا القبيل ،وإنما نريده داعي ً
ل وعل سيضع بين يديه أزمة القلوب جميعا ً ، حقا ً إلى الله فليعلم أن الله ج ّ
وأما بغير هذه الطريقة فل فائدة ) إن علينا للهدى ( .
) فأنذرتكم نارا ً تلظى ،ل يصلها إل الشقى ،ويجنبها التقى ،الذي يؤتي
ماله يتزكى ،وما لحد عنده من نعمة تجزى ،إل ابتغاء وجه ربه العلى (
أحسب أنني أطلت عليكم بعض الشيء ،والحقيقة مهما بلغ بكم الذى فأنا
متأذ ٍ أكثر منكم ،كنت أتمنى أن أواجه هذه السورة بحالة صحية أفضل ،لكن
شاء الله ذلك ،أريد أن أنتهي من السورة كما قلت ،لن أطيل الوقوف عند
التفصيلت .
هذه الظاهرة تصادفنا لول مرة ،في السور الثمانية التي مرت واجهنا بعض
الظواهر وبعض الشارات التي تشير إلى التزكي والتزكية والبذل وما أشبه
ذلك ،ولكن بهذا الشكل وبهذا التركيز وبهذا السياق هذه أول مرة نواجه ذلك
ل وعل المكذبين نارا ً تلظى وبّين أنه سيصلها الشقى .بعد أن أنذر الله ج ّ
بّين أنه سيجنبها أي سيبعد عن هذه النار التقى ،من هو التقى ؟ ولحظوا
أن التقى صيغة مبالغة للتقي ،أي أنه التقي الذي بلغ في التقوى ذروتها
وغايتها ،قال ) الذي يؤتي ماله ( يعطيه ) يتزكى ( وكلمة يتزكى فعل
وفاعل ،جملة فعلية محلها الحال ،يعني الذي يؤتي ماله متزكيا ً طالبا ً وراغبا ً
أن يطّهر نفسه من نوازع الشح والجشع والطمع والكزازة والبخل ) الذي
يؤتي ماله يتزكى ( كفى ؟ ل ) وما لحد عنده من نعمة تجزى ( قد أعطيك
وأنا أشعر بأن لك سابق فضل علي ،وقد أعطيك وأنا أرجو أن تعود علي في
المستقبل بمعروف ،هذه النواع من العطايا أنواع رديئة ،قد تحدث آثارا ً
مادية ،لكن ثقوا أنها ممحوقة البركة ،العطاء المبارك هو الذي يعطيه
النسان للناس ل يقصد بذلك إل وجه الله ،ل يجازي الحسنة بالحسنة ،ول
47
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يرجو من وراء المعروف معروفا ً يصيبه ،وإنما يرجو وجه الله وثواب الله
فقط .
)(7 /
وبعض المفسرين وفي بعض روايات السير أن هؤلء اليات نزلت في شأن
أبي بكر رضي الله تعالى عنه ،فأبو بكر كان كما تعلمون في الجاهلية
تاجرا ً ،وكان محبوبا ً من قومه ،رجل أوتي من اللطافة والكياسة ما يجعله
خر ماله كله لخدمة السلم ، قريبا ً من كل قلب ،فلما دخل اليمان قلبه س ّ
كان يمر ويرى قريشا ً قد وثبت بالضعفاء ويرى المشركين يعذبون عبيدهم
العذاب الواصب ،ماذا يملك لهم أبو بكر ؟ ل يملك لهم إل أن يشتريهم ،
يذهب إلى صاحب العبد فيساومه على العبد ويشتريه منه بالغا ً ما بلغ الثمن ،
ل وعل وخلصه من هذا العذاب ،أعتق فإذا اشتراه أعتقه وحرره لوجه الله ج ّ
أبو بكر رضي الله عنه عددا ً من هؤلء العبيد ،وكما قال عمر رضي الله
عنه :أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ،والسيد الثاني هو بلل رضي الله عنه ،
يروى في بعض الروايات أن بلل ً هذا كان عبدا ً لمية بن خلف وكان يطرح
على صدره الصخرة العظيمة بعد أن يجرده من ثيابه ويلقيه على رمال
الجزيرة العربية الحارقة ،ثم يأمر الصبية فيسحبوه على الرمال وهو على
هذه الحالة ،ويقول له :ستبقى هكذا حتى تكفر بمحمد .فل يزيد بلل على
أن يقول :أحد أحد ،فيقول له :دع أحد أحد فليخلصك ،مر أبو بكر فرأى
هذا المنظر فهانه ،فذهب إلى أمية وقال له :يا أمية إن هذا ل يحل لك ،
حرام ،فقال له :فإن استطعت فخلصه ،يقال إن لبي بكر عبدا ً بالغ
النشاط اسمه نسطاس رومي فجاء فأعطاه نسطاسا ً وأخذ منه بلل ً ،وقال
إنه اشتراه بحر ماله ،ويقال إن هؤلء اليات نزلت في هذا الشأن بعد أرجف
الكافرون بأن أبا بكر رضي الله عنه اشترى بلل ً وأعتقه لسابق يد وفضل
ل وعل أن أحدا ً من الناس ليست له عند أبي كان لبلل عنده ،فأبان الله ج ّ
بكر نعمة يريد أبو بكر أن يجزيه بها ) وما لحد عنده من نعمة تجزى ،إل
ابتغاء وجه ربه العلى ،ولسوف يرضى ( .
ة من هذا القبيل ،ولقد لمه أبوه وأبو بكر رضي الله عنه أعتق ستة أو سبع ً
ذات يوم قال له :يا بني إنك إذ فعلت ما فعلت فلو أنك أعتقت رجال ً جلدا ً
ة جاهلية ،وأن أبا اشترِ شبابا ً وأعتقهم يمنعونك ،يفكر أبوه أن المسألة مسأل ً
بكر يريد جموعا ً يتعزز بها وتقاتل دونه ،قال :يا أبتي إنما أفعل ما أفعل
ل وعل .هذه رواية ل أدري مبلغها من الصحة ولكني ابتغاء مرضاة الله ج ّ
أتصور أنه ربما كان لها مدخل في الواقع ،لكن الشيء الذي يمكن أن نقطع
به أن هذا السلم حينما بدأ يأخذ طريقه واجه ظاهرة غريبة ،ماذا تظنون ؟
هل يتخلى الب عن ابنه ؟ هل تتخلى الم عن ولدها وفلذة كبدها ؟ في
الحالة العادية ل ،لكن حينما بدأ المسلمون يدخلون في دين الله ُوجدت هذه
الظاهرة في المجتمع المكي ،كان الب يتخلى عن ابنه ،وكانت الم تتخلى
عن ابنها لمجرد أن يسلم ،تكاثر هؤلء الناس وأصبحوا عددا ً هائل ً ،أين كانوا
يذهبون ؟ كانوا يلوذون برسول الله صلى الله عليه وسلم ُ ،وجد ما يشبه
المجتمع المصغر ،انتبه ،إن الدعوة حينما تأخذ طريقها إلى البروز ،وتبدأ
بظاهرة النتشار تشكل مجتمعا ً وليدا ً ،هذا المجتمع دائما ً له احتياجات ،دائما ً
ل وعل يمتدح الذين يؤتون أموالهم ، وأبدا ً منذ هذه اللحظة نرى أن الله ج ّ
الزكاة ما فرضت بعد ،الزكاة فرضت في المدينة ،ولكنا هنا نلحظ أن الله
48
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ل وعل يستغرق باليتاء جميع المال ) الذي يؤتي ماله ( كل ماله يتزكى ، ج ّ
ً
فمرحلة الدعوة الولى خلفا لما يتوهم كثير من الناس من الذين ينظرون
في قواعد الدعوة وقوانينها ،في المراحل الولى الدعوة محتاجة إلى كل
نشاطك ،ومحتاجة إلى كل مالك ،ومحتاجة إلى كل مجهودك ،وأما بعد
الستقرار فيا أخ الدعوة ل تكلفك إل القليل وأقل من القليل ،أما في
المراحل الولى فاعرف أنك دخلت مع الله في صفقة بيع ،بعته نفسك .
فهذه الظاهرة ننص عليها الن ونؤكد عليها ول نفصل بها ،ولكنا نقرر أن
الدعوة في مرحلة معينة من مراحل النشاط والنتشار تبلغ حدود المجتمع
المصغر ،الذي توجد له احتياجاته ومتطلباته ومستلزماته ،وفي هذه الحالة
يجب أن يجند كل شيء لخدمة هذا المجتمع الوليد الذي سيأخذ على عاتقه
مسؤولية السير بالدعوة إلى النهاية .
ً
وفي السور المقبلة سوف نواجه كثيرا من الشارات والتوجيهات وسنزيدها
تفصيل ً بإذن الله تبارك وتعالى وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
)(8 /
49
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إلى الله وقضية السؤال بين يديه وموضوع الثواب والعقاب شغلت من كتاب
الله في مرحلتيه المكية والمدنية حيزا ً كبيرا ً ،وإذا ذهبنا نقارن بين موضوعين
رئيسيين إن جاز الفصل بينهما كموضوع اللوهية وهو مسألة المسائل
وموضوع اليوم الخر وهو موضوع يتفرع عن موضوع اللوهية فسوف نجد أن
الحديث عن اليوم الخر أخذ من القرآن أضعاف ما أخذت قضية اللوهية ،
هل المسألة هنا تتعلق بالهمية وعدمها أو بدرجة الهمية ؟ كل قطعا ً ،فما
يشك عاقل أن أهم شيء في السلم هو اليمان بالله تعالى ،لنه المدخل
الذي يلج منه النسان إلى رحاب هذا الدين العظيم وبغيره فمهما يفعل
النسان من خيرات ومهما يقدم من معروف فإن ذلك ليس بنافعه في قليل
ول كثير ،لكن المسألة كما يجب ُيعلم أن مشكلة اللوهية ل تحتل من أذهان
الناس عادة ذلك المكان الخطير على الحس وعلى العقل الذي تحتله قضية
اليوم الخر .
جه إلى الناس كافة ،وبصورة أساسية ومباشرة فل شك أن هذا السلم وُ ّ
جه إلى العرب الوثنيين ،لكنك حينما تستشير القرآن بالذات هل المعضلة وُ ّ
بالنسبة لموضوع اللوهية كهي بالنسبة لقضية اليوم الخر ؟ تجد أن الله جل
وعل يقول ) :ولئن سألتهم من خلق السماوات والرض ليقولن الله (
دعون أن هذه الوثان خلقت شيئا ً من فالعرب الذين كانوا يعبدون الوثان ل ي ّ
مخلوقات الله جل وعل ،وإنما هي وسائط وشفعاء كما يدعون ويزعمون .
ولهذا نجد الله جل وعل يقول في وصف هؤلء الصنف من المشركين ) وما
يؤمن أكثرهم بالله إل وهم مشركون ( فمسألة اللوهية في الحقيقة يشبه أن
تكون مسألة مستقرة في قاع البديهة النسانية ،مهما كابر النسان وجادل ،
ومهما حاول أن يبتعد عن القرار بها ،فهو مسوق بهذا النازع الفطري إلى
أن يقر بها على نحو من النحاء .صحيح أن السلم له وجهته الخاصة في
تقرير اللوهية منزهة عن الوسائط والشفعاء والشركاء والنداد والمثال ،
لكن صحيحا ً أيضا ً أن العرب المشركين يقرون باللوهية من حيث المبدأ ،
لكن معضلته الكبرى ومعضلة النسانية عموما ً هي :كيف يمكن أن يعود
النسان بعد الموت خلقا ً جديدا ً وكيف يمكن أن تتسع الكوان لما ل يحصى
من مليين الناس الذي أكلهم الدهر وماتوا ؟ وكيف يمكن أن يحشروا ؟
وكيف يمكن لملك الموت أن يميت في اليوم وفي الساعة وفي اللحظة كذا
وكذا عددا ً من ألوف ومئات اللوف من الناس ؟ وكيف يمكن أن يوقف
الناس جميعا ً وأن يجري لهم الحساب ؟ إلى آخر هذه السلسلة التي تشكل
فعل ً معضلة أمام العقل البشري ،بل أمام الحس البشري .
ونحن نعلم أن مقررات العقل وقناعات العقل ل بد لها أن تستند إلى شيء
من وقائع الحس ومن العالم المشهود ،وإل كانت مثال ً وتجريدا ً ل صلة له
بالواقع ،وبالتالي فهو عاجز عن أن يتفاعل مع الكينونة النسانية بكل ما فيها
من قوى وطاقات .
)(1 /
إن هذه المشكلة عرضها القرآن تباعا ً ،وعرضها في المرحلة المكية ،وأشدد
على ضرورة ملحظة هذه الظاهرة في القرآن التي يغفل عنها معظم الذين
يقرأون القرآن ،إن المرحلة المكية حفلت بالحديث عن اليوم الخر مباشرة
وابتداًء وكغرض مقصود ،قضايا اليوم الخر ُأبرزت على أنها غاية مقصودة
ت صحف القرآن في العرض والبحث والحجاج والمنافحة عنها ،ولكنك إذا قلب َ
50
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
المدني فسوف تلحظ أن موضوعات اليوم الخر قّلما ُتعرض على أنها قضايا
مقصودة بالذات ،تأتيك تبعا ً في نهاية آيات الحكام ،في نهاية التوجيهات
التي ُيطلب من المسلمين أن يتقيدوا بها ،تذكر المسلمين باليوم الخر
كرت وبالمصير إلى الله جل وعل ،وتنبهوا إلى أن آخر آية نزلت من القرآن ذ ّ
باليوم الخر على هذا النحو المقتضب جدا ً وهي قول الله تعالى ) واتقوا يوما ً
ُترجعون فيه إلى الله ثم توّفى كل نفس ما كسبت وهم ل ُيظلمون ( هنا يحق
لنا أن نسأل ولماذا ؟ والجواب يتطلب منا أن نعرف وجهة السلم في علج
مشكلت الجنس البشري وفي علج القضايا النسانية حال ً ومآل ً ،لو أننا
نعالج أمرا ً ذا صفة جزئية لكان هينا ً لن تعطى جملة مختصرة من التوجيهات
وينتهي المر ،لو كنا نعالج مشكلة محلية لكان هينا ً لن يتداعى العقلء لحلها
ول حاجة لتدخل السماء ،لو كنا نعالج فترة زمنية محدودة لكان بحسبنا عدد
قليل من اليات تحصر مشكلت المرحلة وتضع لها الحلول ،لو كنا نعالج
أناسا ً بل حس وبل مشاعر وبل دوافع وبل عواطف لكان هينا ً لن تحل المور
بأي سبيل ،لكن المشكلة التي واجهها السلم كما واجهتها الديانات الخرى
مع فارق أن السلم واجهها بعمق وبشمولية وجذرية ،هي مشكلة من غير
هذه الطرز التي أعطينا أمثلة لها .
نحن حينما نريد أن نعالج وضعا ً بشريا ً فأمامنا عادة طريقان يمكن أن نختار
أيهما شئنا ،يمكن أن نعالج مشكلت المجتمع النساني بالسوط والعصا ،
وبقهر القوة ورهبة السلطان ،والنسان إنسان محكوم بضرورات شئنا أم
أبينا ،ذلك واقع ل يمكن تجازوه ،نحن بشر ولسنا ملئكة ،والنسان حينما
يوجه نحوه القهر بصورة مستمرة ومستديمة وقاسية فسوف يسير في
الطريق الذي يراد أن يسير فيه ،يمكن ذلك .لكن تجربة البشرية تقول إن
قبضة السلطان تتراخى باستمرار ،وإذا كانت القضية بهذا الشكل فما لم
يكن مستقبل النسانية مضمونا ً بضمانة القناعة النسانية فإن ضمانة القهر
والسلطان قاصرة عن أن تحافظ على استمرارية المثل ودوام السير بالنسبة
لهذا الركب النساني .فهي إذا ً طريقة فاشلة ،وإن كان هي الطريقة
مل الناس حمل ً على ما يراد بهم ولهم المعتمدة للسف في هذه اليام أن يح َ
دون أن يقام وزن لقناعاتهم ،لن الناس انفصلوا عن هداية السماء وجهلوا
تماما ً فلسفة السلم في البناء النساني .هذا خيار ،ورأينا أنه فاشل عقل ً
كما هو فاشل تاريخيا ً كما هو فاشل في الواقع اليومي المعاش ،ليس أمام
السلم من طريق يسلكه ،وهو كلمة الله الخيرة للناس ودعوته الشاملة
إلى الجنس البشري ،إل أن يسلك الطريق الخر وهو أن يضع الجنس
البشري بضمانة القناعة النسانية ،والقناعة ليست كلمة تلقى في الهواء ،
ولكنه تعامل مستمر مع الواقع الذي يتحرك بالناس ويتحرك به الناس ،
والقناعة مجموعة من التراكمات المحسوسة وغير المحسوسة ،والمباشرة
والتبعية ،والقناعة حصيلة تجارب عمر يعيشها النسان فردا ً ويعيشها النسان
جل الناس النتائج لهذه التجارب ،ل جماعة ،ومن اللجاجة في الفكر أن يتع ّ
بد من التأسيس انطلقا ً من هذه الوجهة السلمية الصافية .
نستطيع الن أن نواجه قضايا اليوم الخر ،كما نواجه كل القضايا الهامة
والرئيسية في السلم بالصبر وبالناة ،لكن سبق أن قارنا لكم سابقة بين
سورة القارعة التي عرضت صور اليوم الخر عرضا ً إن صح أن نسميه
باصطلحات العقل عرضا ً فيه برودة وجفاف العقل ،فالمر كذلك ،وعرض
المشكلة بهذا الشكل أثار لدى المكيين ردود أفعال فتساءلوا .
51
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(2 /
بعيد عن النسان أن يعاد خلقا ً جديدا ً بعد أن بلي ومات ،ولكن لماذا يستبعد
النسان هذا الشيء ؟ إنه يستبعده قياسا ً على المقاييس البشرية ،إلى
خبراته اليومية ،إلى قناعاته المتولدة عن تحديد نظره بآفاق النعيم ،فجاء
سع من آفاق الناس .وثمة عندنا فريقان ،فريق القرآن يعرض المشكلة ليو ّ
يعيش على موروثات مضى عليها زمان طويل ،هم هؤلء المشركون
ً
المخاطبون بهذا القرآن ،مرنوا على أن يعيشوا على نهب الملذات نهبا ،
ويجمعون من الدنيا من الحل ومن الحرم ،دون سؤال ودون مراجعة ،وذلك
لنهم ل يرجون لله وقارا ً ،ول ينتظرون منه مرجعا ً ومآل ً .وفريق آخر كان
يقوم على تكوينه وبنائه محمد صلى الله عليه وسلم ،لكن الفريقين كانا
محتاجين إلى مرحلة تأسيس طويلة المدى بالغة العمق ،كان لزما ً بالنسبة
للمشركين أن ُتفّتح أعينهم بأن الكون ليس فقط هذا الشيء الذي تلمسه
أيديهم وتراه أعينهم ،فإن هذه الحواس المحدودة ل ترى من كون الله جل
وعل العريض إل القل القليل ،ما تراه ل يشكل إل هباءة تائهة في هذا
الفضاء الكبير .وكان ل بد لهذه النباتات الغضة الطرية التي يتعهدها بالسقاية
والغراس محمد صلى الله عليه وسلم من أن يستأني بها رسول الله صلى
الله عليه وسلم من كيانها النفسي وبنائها الشعوري ومن قناعاتها العقلية ،
وليس صحيحا ً أبدا ً من أنه يمكن لنا أن نفعل ذلك بطرفة عين ونحن نتحرك
على الصعيد النساني .
إذا ً فكل الطرفين كان محتاج إلى أن ُتعرض القضايا شيئا بعد شيء ،وبأناة
ً
عرضت زائدة ،وفي كل مرة يضاف شيء جديد .كما قلنا في القارعة ُ
عرضا ً مجردا ً ،فلما حصلت ردود الفعال لدى المكيين كان محتاجين لن تمد ّ
آفاق أنظارهم شيئا ً من هذا ،والمسلمون لم يكونوا أغنياء عن هذا فجاءت
سورة القيامة .جاءت سورة القيامة لتقيم دلئل من الواقع المشهود ودلئل
تستند إلى قضية العقل ،ودلئل تستند إلى مقررات الخلق ،وتكلمنا عن
كل ذلك .والنسان إنسان وعلينا أن ل نستغرب منه ول عليه أي شيء ،
وصدق ربنا ) وكان النسان أكثر شيء جدل ً ( .
المكيون لم يستطيعوا على أن يحملوا على أنفسهم النخلع بتة من هذه
الموروثات التي ألفوها ،ولم يقبلوا أن يتخلوا عن معتقدات درج عليها الباء
جوبهوا بقضايا ل سبيل إلى إنكارها ول سبيل إلى تجاهلها ، والجداد ،لكنهم ُ
فلجأوا إلى الطيش والعناد والسفاهة ،فجاءت سورة الهمزة تعرض
للمسلمين لكي يبقى ذلك لهم أبد الدهر .موقف المكيين الرعن الذي تخلى
عن العقل ليبدأ سلسلة طويلة من الهمز واللمز والسخرية ،وما هي الصلة
بين قضية العقل والشعور ،وقضية الحس والخلق ،وهذا الهمز واللمز
وسائر التصرفات الرعناء الصبيانية التي تكشف عن زمام انفلت العصاب
من أي قضية ؟ إنه لدرس بليغ ،وعلى كل مسلم أن يعي لكي ل يستغرب
حينما يعرض مع مرور اليام وتتابع آنات الدهور حينما يعرض رسالة الله إلى
الناس فيصطدم بهذه الصناف التي تعرف أن ما تقوله حق وتعرف أن ما
تقوله صدق ،ولكنها محكومة بالهوى والشهوة والغرض ،مضروبة على آذانها
،ل تسمع نداء الله تعالى .
ً ً
في كل زمان وفي كل مكان حينما ُتعرض قضايا السلم عرضا مجردا ويعجز
الناس عن تجاوز بداهة العقل يلجئون إلى الطعن والتشكيك ويلجئون إلى
الهمز واللمز .وفي سورة المرسلت قلت لكم إن سورة المرسلت يمكن
52
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أن تكون معزوفة عالية النبرة ،ويمكن أن تكون جيشا ً يقاتل ،أن الله جل
وعل وهو الحق يغار على الحق أن ُينتهك ،وحينما عرض الله قضايا اليوم
الخر على المكيين مجردة عارية فلم يقنعوا بها ،وعرضها مشفوعة بالحجج ،
محفوفة بالدلئل والبراهين فأهدروا عقولهم وأهانوا إنسانيتهم ولجئوا إلى هذا
السلح الوسخ أي سلح الهمز واللمز والشائعات الكاذبة المغرضة للتهويل
من حملة الدعوة كي تهون الدعوة من وراء ذلك ،جاءت آيات الله في
المرسلت تزلزل هؤلء .ذلك شيء مبرر من واقع السيرة التي عاشها
رسول الله صلى الله عليه وسلم .
)(3 /
عالجت السورة مشكلة سبق وأن واجهناها ،عالجت قضايا اليوم الخر ..هل
أضافت شيئا ً جديدا ً إلى ما كنا قد تعرفنا عليه فيما مضى ؟ نقول :نعم .
لحظوا ..في سورة القيامة قال الله تعالى في آخرها ) أليس ذلك بقادر
على أن يحيي الموتى ( أمسكوا طرف الخيط ،إن النسان حينما يستبعد
إمكان اليوم الخر فذلك يعني أنه لم يقدر الله حق قدره ،يعني أنه قاس
إمكانات الله إلى إمكانات نفسه ،يعني أنه لم يعرف قدرة الله جل وعل
التي ل تحدها الحدود ول تبلغ نهاياتها العقول ،فإذا جئت إلى سورة
ت دلئل يوم الخر إن صح أن نسميها دلئل ُتشحن بهذا المرسلت وجد َ
الشيء الذي يراد له أن يثّبت مفهوم القدرة اللهية ،لن النسان يوم أن
يعتقد بأنه مخلوق من قبل الله وبأنه هذا الخالق قادر على كل شيء ل
يعجزه شيء ول تدخل الستحالة في قاموسه ،فالمشكلة منتهية .ولكن إن
تصورنا قدرة الله على نحو ما نتصور قدرات البشر فلن نصل إلى نتيجة في
معالجة موضوع اليوم الخر .
ً
انظر ..افتتحت السورة بقول الله تعالى ) والمرسلت عرفا ( يعني متتابعة ،
تقول العرب :جاء القطا عرفا ً أي جاء متتابعا ً ،والمرسلت هنا هي الرياح ) .
فالعاصفات عصفا ً ،والناشرات نشرا ً ،فالفارقات فرقا ً ،فالملقيات ذكرا ً ،
عذرا ً أو نذرا ً ،إن ما توعدون لواقع ( قسم وجواب قسم ،وبقطع النظر عن
اختلف المفسرين في أنها هي الرياح أو هي الملئكة ،ولعل من قال بأن
الملئكة مرادة في جزء من هذه اليات قول الله تعالى ) فالملقيات ذكرا ً ( :
إنهم تصوروا هي التي تلقي الذكر الذي هو القرآن ،فنحن نميل إلى أن الله
أراد أن يلفت النسان إلى مظهر من مظاهر القدرة اللهية محسوس
ومشهود يراه العمى والبصير على سواء ،إنها الرياح التي تهب في الصباح
المساء وتحمل من أمر الله ما تحمل ،أرأيت هذه السحب التي تنشأ في
السماء أأنت أيها النسان أنشأته ؟ ل ،إنك ل تملك أن تدعي ادعاًء من هذا
القبيل ،أرأيت كيف تأتي الرياح فتنشرها في السماء أأنت نشرتها بوسائلك
الصناعية ؟ ل ،ول تملك أن تدعي شيئا ً من هذا القبيل .أرأيت كيف أن هذه
السحب تنتشر في السماء فتغطي جو السماء كله ؟ أرأيت كيف أن الرياح
تفرق السحب فرقا ً تسوق شيئا ً منها يمينا ً وشيئا ً منها شمال ً وشيئا ً شمال ً
ت ذلك ؟ ل ،أرأيت من وشيئا ً جنوبا ً لكي تغطي مناطق مختلفة ..أأنت فعل َ
بعد كيف يتنزل المطر بقدرة الله جل وعل فيصيب الله به من يشاء ويمنعه
عمن يشاء ..أأنت الذي فعل ذلك ؟ ل ،كل ذلك لم يكن منك .
) والملقيات ذكرا ً ( هي الرياح ل أشك في ذلك ،لماذا ؟ لن كل ما يحدث
في كون الله جل وعل فهو مذكر بالله تعالى ،وليس ضروريا ً أن نحمل الذكر
53
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(4 /
54
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ل يقاتل الجيش ،السلح يحقق نصرا ً موقوتا ً ،ولكن الكلمة الصائبة تبقى
محققة لهذا النصر طيلة الزمان والدهور .ل تملوا هذا التحليل الضروري
وأنكم مطالبون بأن تقرأوا القرآن وأن تفهموا قيمة الكلمة التي كانت تنزل
على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن عشق العرب للكلم الجميل الفصيح الجذل القوي بلغ حد الهيام والغرام ،
الكلمة عندهم فوق كل شيء .والله جل وعل أعطى هذا اللسان العربي من
القدرة على التخييل والتمثيل ما ترى معه أن الشيء الذي يحدثك به
المتحدث واقع مشهود ،وصف يوما ً رجل أسدا ً عند عمر بن الخطاب رضي
الله عنه بحيث كان هذا الوصف مهول ً كأنما هو حاضر يتوّثب لكي يفترس
ت الناس .
الموجودين فقال عمر للواصف :حسبك لقد أفزع َ
)(5 /
لغة العرب قادرة على تجسيم المور وتمثيلها وجعلها كالحاضرة المشهودة
أمام الناس .قضايا الغيب ل يفلح معها أن نكل أمرها إلى الفلسفة
والعقلنيين والمفكرين ،لنهم ل يملكون الوسائل التي تعينهم على المعرفة
الصحيحة بواقع المر ،فهم من أجل ذلك يعجزون عن إيصالها إلى الناس .
وكما قلت من قبل فقضايا الغيب ل سبيل إلى معرفتها إل من طريق
ور أن الشهادة والغيب الوحي ،لكنا نخطئ خطأ فاحشا ً ول ُيغتفر حينما نتص ّ
عالمان منفصلن ل يلتقيان ،في الحقيقة عالم الغيب والشهادة عالم واحد ،
وإنما التفرقة اصطلحية ل أكثر ول أقل ،وآية ذلك :أنك وأنت هنا تشعر في
دخيلة نفسك بأنك صغير عاجز ومخلوق ،وأن ثمة قدرة أقوى منك وأعلى
ونتك ،أتعرف أنت عن كل هذه القدرة شيئا ً ؟ منك وأعظم منك هي التي ك ّ
أبدا ً ،من ذا الذي يمكن أن يحيط بأوصاف الله جل وعل ؟ أهو جسم ؟ أهو
روح ؟ أهو متحّيز في جهة ؟ أهو محيط بالزمان والمكان ؟ ذلك شيء ل
يعلمه النسان ،غاية ما تعلمه فطرة النسان ونباهة النسان وجود هذه
القوة القادرة الفاعلة المحيطة بكل شيء .فهذا من عالم الغيب ولكن عالم
الشهادة يتجاوب مع هذا الشيء ،أنت هنا تعيش ويمر بك غنى كما يمر بك
فقر ،وتمر بك صحة كما يمر بك مرض ،ويمر بك عز كما تمر بك ذلة ،
وتختلف بك الحوال رفعا ً وخفضا ً ،ومن خلل هذه التجارب المكرورة
تتساءل :هذه القوافل التي تذهب ،قافلة في أثر قافلة ،ل يرجع الماضي
ول يعرف التي ماذا يؤول إليه المر ،أمن العقل والمنطق ،أمن الخلق ،
أم يكون ذلك كله عبثا ً وسدى ؟ إنك تشعر في أعمق أعماقك أنه ل بد من
وقت يثاب فيها المحسن ويعاقب فيها المسيء ،وإل لكانت حياة الدنيا
مجزرة يأكل القوي فيها الضعيف ،ويسرق الفقير من الغني ،وينتهي كل
معنى إنساني كريم يعيش عليه الناس أو يطمح إليه الناس .
هذا من عالم الغيب ،ولكنك في عالم الشهادة تجد له في نفسك ظلل ً
وأصداًء ،هذه القضية يجب أن ُتستحضر ،ونحن أمام التخييلت التي يضعها
القرآن أمام أعيننا ،وضع القرآن أمام أعيننا الن :كيف تنسف الجبال ،كيف
تغير الرض غير الرض ،كيف تؤقت الرسل ،كيف يوقفون لُيسألوا عن
المانة التي ُوضعت بين أيديهم ) فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك
على هؤلء شهيدا ً ،يومئذ يود ّ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم
الرض ول يكتمون الله حديثا ً ( ) وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت
للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول
55
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ما ليس لي به حق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ول أعلم ما
لم الغيوب ( متى هذا ؟ في الدنيا ؟ ل ،في الخرة ، في نفسك إنك أنت ع ّ
ُ
ولكن آيات الله تضع هذا أمام عينيك كأنما تراه ) وإذا الرسل أقتت ( أي
ضرب لها وقت معلوم وأجل محدود لكي ُتسأل عن المانة ولكي تشهد على ُ
الناس ،هذا السلوب كان عظيم الفاعلية ،ولهذا فإن من أوصاف المؤمنين
في القرآن الكريم أنهم إذا تليت عليهم آيات الله خشعت قلوبهم واقشعّرت
جلودهم وبكت عيونهم ووصف الله جل وعل أولئك الذين يؤمنون من أهل
الكتاب من قبلنا أنهم إذا سمعوا آيات الله تتلى يخّرون إلى الذقان يبكون ،
لماذا ؟ لفاعلية الكلمة ،ولقدرة الكلمة على التأثير ،لستحضار الكلمة لهذه
المعاني العظيمة والمواقف المهولة التي يعرضها القرآن ،لقد كان ذلك
السلوب من التعبير القرآني ول سيما في باب الغيبيات أنجع أسلوب
استخدمه القرآن ،بل أنجع أسلوب عرفته النسانية بإطلق .
لكن هذه السلوب له أخطار ،ويجب أن أنبه ،إن نجاح هذا السلوب الذي
تبناه القرآن واستعمله بكثرة يعود إلى ماذا ؟ هل يعود إلى قوة ذاتية في
السلوب ؟ ل ،إن كل إنسان يستطيع أن يتصور وأن يتخّيل ،ويستطيع أن
يستجيش فيك عاطفة موقوتة ،وقد يدفعك إلى عمل ما ،لكن هل يمكن لنا
أن نتصور استمرار هذا الشيء ؟ حينما يكون التمثيل والتخييل مؤسسان
على الصدق وعلى العقل تكون القضية صادقة ومستمرة ويكون السلوب
بالغ الفاعلية إلى ما ل نهاية .أما إذا بنينا هذا السلوب على شيء ل نصيب
له من الصحة ،على شيء بعيد من الصدق ،فنحن سوف نفشل ،لسبب
بسيط ،لن التمثيل والتخييل والتجسيم والتشبيه يصبح ذلك كله في
استجاشة العاطفة وفي جعل كل الملكات البشرية مستوفزة حاضرة
للستجابة ،لكنها إذا ذهبت الرغوة عنها وتبّين أن هذه التظاهرة ليس تحتها
شيء من الصواب والصدق فإن خيبة المل حاضرة وعتيدة ،وإن الذي
جل عليه الكذب فهو إن نطق س ّ
يستعمل هذا السلوب كذلك الكذاب الذي ُ
بالصدق فل يصدق بحال من الحوال .
)(6 /
إن أسلوب القرآن هذا كان مؤسسا ً على قضايا ل مجال للمناورة فيها ول
للجدل ،من ذا الذي يقول لك إن الله غير موجود ؟ سل شيوعيا ً من هؤلء
القذرين الذين يتباهون بأن الله غير موجود ،سل تقدميا ً من هؤلء المسوخ
درون ويسخرون على الله الذين انسلخوا من كل معنى إنساني والذين يتن ّ
وملئكته ،سله وقلت له :يا قذر يا تافه حينما تسقط في حفرة أتقول أين
الرسالة الخالدة أم تقول يا الله ؟ إن بداهة الفطرة هنا ل مجال للمماراة
فيها ،ول مجال للمجادلة فيها ،إنك حينما تتأّزم المور تلجأ إلى الواحد القهار
،تنسى لينين وتنسى ماركس وتنسى كل الزعماء وتنسى كل شيء وتذكر
الله الذي بيده كل شيء .
سر النجاح في هذا السلوب التخييلي العظيم أنه مؤسس على قضايا صادقة
بصورة مطلقة ،والذين يريدون أن يستعملوا هذا السلوب بفاعلية ونجاح
ولسد أو أن نه ّعليهم أن يدركوا أخطار هذه السلوب ،إننا حين نحاول أن نج ّ
فينبغي أن يكون الساس صحيحا ً ،فإذا كان الساس فاسدا ً على النحو الذي
يستعمله الناس في هذه اليام فسوف تنتهي المور إلى كارثة ،أنتم
تسمعون ،واسمحوا لي أن آخذ من الوقت دقائق خمسة ،تسمعون أجهزة
56
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
العلم ومبالغتها ،وتعرفون كلكم أن تسعة وتسعين مما يقال زيف وكذب
وباطل إن لم نقل إن الواحد الذي من تسع وتسعين هو كذلك زيف وباطل ،
على أي شيء يؤسس هذا ،إن القاعدة التي يؤسس عليها العلم المعاصر
تعتمد على أن النسان حينما تكرر عليه القضية باستمرار يأباها أول المر
ويأباها ثانيا ً وثالثا ُ ورابعا ً وخامسا ً وهكذا ..ولكنه مع التكرار يتقّبلها شيئا ً فشيئا ً
حتى يصدقها .وقاعدة أخرى تعتمد على هذه الظاهرة من الضعف البشري
ت أن قى المور ،فمثل ً أنت سمع َ الطبيعي ،ليس كل إنسان قادرا ً على أن يت ّ
القضية الفلنية حدثت كذا وكذا ،واجبك كإنسان وتحترم عقلك وتقدر موقفك
وتدرك أن خطواتك المبنية على التصديق أو التكذيب واجبك أن تتحرى وأن
تحقق ،لكن واحد من اللف هو الذي يصبر على التحقق ويتابع المور لكي
يصل إلى الحقيقة ،إل أن السواد العظم من الناس ل يصبرون على هذا ،
لذا هم يصدقون كل شيء بل سؤال أو تحقق ،ومن هذا باب ما يشاع في
العلم المعاصر من أننا نحن العرب ونحن المسلمين ل نقرأ ،إن ما يقال
بيننا وما يكَتب بيننا من أكاذيب ل نكلف أنفسنا مؤونة فحص مبلغها من
الصحة ،لكن هذا قليل ما يقوله عنا الجانب وما يبّيت لنا الجانب من خطط
ومن مؤامرات تستهدفنا وهو مكتوب في اللغات الجنبية بل حتى العربية
وهم مطمئنون بأننا أمة ل تقرأ ،وإذا قرأت ل تفهم ،لنها ل تكلف نفسها
مشقة البحث والتحليل والتحقق من صحة المور أو عدم صحتها .
ومع ذلك فينبغي أن نعلم أن هذا الواقع الذي يعتمد عليه العلم المعاصر
واقع مرفوض من وجهة نظر السلم ،لماذا ؟ لنه يشكل حالة مرضية في
الوجود النساني ،ول يشكل حالة صحيحة ،لن الحالة الصحيحة هي ما أخبر
الله تعالى بقوله ) يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا
قوما ً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ( إن السلم خلق رجال ً يشعر
كل واحد منهم أنه يمّثل الكون برمته ،فهو من أجل ذلك أمين على هذه
الكينونة النسانية الصافية التي ل يمكن أن ينطوي عليها الزيف .
أقول هذا وفي ذهني أن أنبه أننا ونحن نعرض قضايا السلم ينبغي أن ندرك
أخطار أسلوب التخييل والتمثيل ،إن هذا السلوب يجب أن يكون معتمدا ً ل
سيما في عرض قضايا الغيب ،ولكن على قواعد الصدق ،على قواعد
الحق ،فإذا تورطنا في استخدام هذا السلوب بشكل سيء فسوف نفشل .
لقد كان هذا القرآن الذي نقرأه وهذا الذي نجابه منذ الن وإلى نهاية المرحلة
المكية نموذجه المثل مؤسسا ً على هذه القاعدة .ليس في القرآن قضية
ُتعَرض للدعاوى ول للعلم ول لستجاشة العواطف ول لثارة الغرائز ،ولكنها
إثارة لتجسيد الحقيقة حتى يتعّرف العقل عليها بكل أبعادها .
في الجمعة القادمة أرجو من الله تعالى أن أمّر معكم كالبرق على بقية
السورة ،لننا أمامنا سورا ً عديدة أخرى تمشي على هذه الوتيرة ،نريد أن
نعرف ماذا أضافت .ومن الن فلنعرف أن سورة المرسلت أضافت على
سورة القيامة زيادة على الدلئل والشواهد والمؤيدات جوا ً ودلئل أخرى
تشير إلى قدرة الله جل وعل التي هي لزمة من لوازم اللوهية ول يمكن
تصور إمكان القيامة إل مع إثبات هذه القدرة التي ل يحدها حد ول يقيدها قيد
.
والله جل وعل أسأل أن ينفعنا والمسلمين بهذا القرآن ..وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،والحمد لله رب العالمين .
)(7 /
57
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
58
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الغيب بعضها على بعض ،في القارعة وما وليها كان الكلم على يوم الخر
يشبه أن يكون مجردا ً ،وحتى جاءت سورة القيامة فعرضت قضية يوم الخر
بشواهدها وأدلتها وأساليبها المختلفة ،لكن الناس هم الناس في كل زمان
ومكان بالرغم من أننا لحظنا خلل سياحتنا الطويلة منذ بداية التنزيل وإلى
الن أن الله تعال ل يترك مناسبة إل ويجلو أمام أنظار الناس طبيعة العوامل
التي تصرفهم عن القتناع بالحقيقة والتزام الحقيقة والوقوف مع الحقيقة
والدفاع عنها ،النسان الغارق بالشهوات ،والمبتلى بالمنكرات ،النسان
الذي لم يتحرر بعد من عبوديته لذاته بما تمور به من مطامع وأهواء ،هذا
النسان ل يزال في حد غير العبودية لله تعالى ،ول يزال غير قادر على أن
يملك أسباب التحرر الذاتي الذي هو الشرط الذي ل غنى عنه لسلمة النظر
والحكم ولتحديد المواقف .
إن السلم كما رأيتم خلل المسيرة الماضية كلها أكد على موضوع الوحدانية
منذ أول حرف نزل من القرآن ،وشدد على موضوع عبودية النسان لله
تعالى ،هل معنى ذلك أن الله يريد أن يرهق النسان بأثقال هذه العبودية
وبتكاليفها ،أبدا ً ،ليس المر على هذه الشاكلة ،وإنما الهدف كله يتركز في
أمر بسيط ،إن النسان كما نراه يعيش على الطبيعة وبصورة ميدانية إنسان
موزع النفس ومشتت القلب ومبدد التفكير ،وبالتالي مهدر الطاقة ،أي أنه
كائن ل يستخدم الفاعليات الموجودة فيه استخداما ً على قدر معقول من
التفاؤل ،فهو بهذه المثابة إنسان يعطل عن عمد وإصرار قوى وطاقات
وإمكانات مفروض أن تخدم الغاية العليا التي نزل القرآن وجاءت هذه
الدعوة لتأكيدها بين الناس .
)(1 /
حين شدد الله جل وعل على ضرورة أن يخلع النسان من عنقه كل ما يشده
إلى أغراض الحياة وكل ما يوزع نفسه ويشتت فكره ويبدد أهواءه وطاقاته
ليحصرها في الله تعالى فمعنى هذا أن السلم يريد أن يبلغ بالنسان ذروة
الحرية .إن النسان الذي يدين لله فقط بالعبودية هو وحده النسان الحر ،
حرية كاملة وصحيحة غير منتقصة ،وهو أيضا ً إنسان يسود نفسه ويملك
نفسه ،ول تستعبده نفسه ،ول تضغط عليه شهواته .فهو إذا ً أمام الحقيقة
بدون ضغوط يستطيع أن يلتزم بها أو أن يقتنع بها وأن يفي لها وأن ينافح من
أجلها حتى النهاية .غير هذا النسان ل يصلح .قد يصلح في أي مكان تضعه
فيه من هذه الدنيا ،لكنه في ميدان الدعوة وفي ميدان الله تعالى وفي
ميدان السلم إنسان ل يصلح بتاتا ً .
لكن المشكلة ليست في أن يقّر بالمبدأ من حيث هو مبدأ ،وحتى الذين
يعبدون الحجارة والذين يدعون مع الله آلهة أخرى ما زعموا أن هؤلء
يخلقون ويرزقون ولكنهم قالوا :شفعاؤنا عند الله ،قالوا :أبناء الله وبناته ،
قالوا :شركاء الله ولكن في مرتبة أدنى .فأصل القضية مقرر عند وعند
المؤمن ،والمعضلة ليست هنا ،المعضلة أن تعرف حقا ً ما هو هذا الله الذي
تعبده ،وما هو قدرته وما هو جبروته ،وما مكانه من هذا الكون ؟ إذا
استقامت لك الفكرة عن الله تعالى فأنت إذا ً على باب التوحيد ،وإذا لم
تستقم لك الفكرة في الله تعالى فأنت إذا ً بعيد عن التوحيد .
هذا على صعيد النظرية ،لكن على صعيد التطبيق وهو ما يسهل عليكم
ملحظته وإدراكه ،حينما يعرض لك أمران أحدهما لله والخر للدنيا ،أحدهما
59
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
للدين والخر للهوى والشهوة والطمع وسائر الجواذب الرضية الخرى ..فإذا
تكنت شجاعا ً قادرا ً على أن تمتحن نفسك فذلك هو الميزان ،إذا أنت آثر َ
ت قضية السلم ووقفت مع حدود الدين فأنت في باب مرضاة الله واختر َ
ت
َ وانقد ً اجانب الله أمر وتركت شهواتك وصرعتك نفسك قهرتك اليمان ،وإذا
لما سوى ذلك فأنت خليق بك أن تبكي على نفسك ،لنك فوق على أنك
إنسان ناقص التفكير فأنت إنسان يمارس على نفسه تضليل ً بالغ الخطورة
لنه سيدمر نفسك تدميرا ً كامل ً .
إن موضوع القيامة حينما ُأثير ُأشير في سورة القيامة بالدلئل والشواهد
الكافية ،ولكن حينما يأتيك إنسان ل يعرف عن الله جل وعل الصفات الواجبة
للله التي يجب إثباتها لله جل وعل فالمر يصبح مشكلة ،وليست المسألة
مسألة عامية وغير عامية ،أي ليست المسألة مسألة جهل وثقافة ،فنحن
لدينا الن وبعد هذه المسيرة الطويلة من تاريخ الجنس البشري ومن تجاربه
الكبيرة والكثيرة والمختلفة الصقاع والزمان لدينا ما يشهد على ضلل الفكر
تؤدي إلى ارتباكات ل نهاية لها .
الفلسفة القدامى وهم قيمة الفكر النساني بل ريب ولهم في مجال التفكير
إبداعات ما تزال حتى الن شاهدة على عظمة النسان وعلى جبروته وعلى
مدى ما يستطيع أن يبلغه هذا النسان .لكن النسان ما لم يكن له مدد من
الله تعالى فهو ل بد أن يسقط لنه ضعيف مغلوب على أمره :
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
)(2 /
60
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
مع النسان في الماضي السحيق ما يزال يصاحبه حتى الن ،نفس الضلل
ونفس العبودية ونفس الشهوات ونفس الرتباكات الخطيرة ونفس العقد
التي يرزح الناس تحتها ،نفس المظالم ،نفس كل ما عانت وتعاني النسانية
،كل شيء ترونه الن له أصله الذي كان موجودا ً في السابق .الحصيلة التي
نخرج بها من تحليل من هذا القبيل هي أن السلم كان حكيما ً غاية الحكمة
ور للمسلمين وللناس الله على غير الصورة التي كان يتصورها حين ص ّ
الناس والتي ما يزال كثير من الناس يتصورونها الن .
ً
بعد أن تحدثت سورة القيامة عن اليوم الخر كأن كثيرا من الناس شككوا
في مسألة إمكان اليوم الخر ،في القدرة على إحياء من مات من الناس ،
هذه خصيصة من خصائص الله ،إن الله لكي يكون إلها ً حقا ً ينبغي أن يكون
مقتدرا ً على كل شيء وينبغي أن تكون إرادته طليقة ل يحدها حد ول يقيدها
قيد ،وإل فل يمكن أن يكون إلها ً على غير هذه الصورة .
)(3 /
جئنا إلى سورة المرسلت ،في سورة المرسلت ظلل وإيماءات وإيحاءات
ت السورة بإمعان وروية إلى دلئل ذات قيمة على اليوم الخر ،لكنك لو قرأ َ
فأنت تلحظ أمرين ،تلحظ أن الفرق بين عرض القضية في السور السابقة
وعرضها في سورة المرسلت يتركز جوهريا ً في أن الله تعالى من أول
السورة إلى آخر السورة عرض القضية على صورة التخييل والتمثيل ،
عرضها واقعا ً حيا ً تشهده وتحسه به وتنفعل معه ،وعرضها على صورة
تساؤلت ،وعرضها ضمن إطار يوحي إليك أنك في موقف الحساب وأنك
ت عليه قدرته ُتسأل ،تشعر أنك ُتسأل أمام الواحد الديان ،هذا الذي أنكر َ
في أن يبعثك من بعد الموت ،لفت نظرك في فواتح السورة إلى ما حولك ،
انظر ،أنت تعيش في كون يفترض أنك ل تجهله ،هذا الكون له ظاهرات
ت أن تغلق عينيك عنها وأن تسد أذنيك عنها لما كان لك أنت تعيشها ،لو حاول َ
إلى ذلك سبيل ،فانظر إليها إنها تشهد لك على قدرة القادر القاهر الواحد
الديان ،وتجعلك تقتنع بأن الذي خلقك ابتداًء قادر على أن يعيدك مرة أخرى
ت ل تريد أن تنظر إلى ما حولك متى شاء وعلى النحو الذي شاء ،فإن كن َ
فأنت كائن تاريخي ،وتعلمون ما معنى الكائن التاريخي ،هذا كائن ولكنه
جماد وليس له تاريخ ،لكنك أنت أيها النسان سللة مخلوقات مضت قبلك ،
خلقها الله كما خلقك ،وأماتها كما سوف يميتك ،فأنت تضرب في أصولك
في الزمان وفي المكان ،أنت إنسان تاريخي مضت قبلك أجيال ،ماذا
كانت ؟ اسمعوا ،بأسلوب التساؤل بل بأسلوب السؤال ،كأنما الله جاء بك
في الموقف يوم يقوم الناس لرب العالمين ليسألك :لماذا لم تصدق
برسولي الذي جاء من عندي ؟ أكبر عليك ذلك ولماذا يكبر عليك ذلك ؟ أأنت
ت ذرية قوم فذ وبديع في هذا الكون ؟ ألم يكن لك آباء وأجداد ؟ ألس َ
ت ؟ ) ألم نهلك الولين ،ثم نتبعهم الخرين ،كذلك نفعل آخرين ؟ فأين كن َ
بالمجرمين ( والسؤال هنا أو المحاسبة ل ينصب على الجنس كله ،ولكن
ينصب على صنف من الناس ،هذا الصنف الذي ما قدر الله حق قدره إذ قال
إن الله ل يقدر على العادة بعد الماتة ،ولكنه ينصب على أمم مضت من
عرضت لهم الدلئل والشواهد والمؤيدات قبل ،جاءتهم رسلهم بالبينات و ُ
كروا بعد غفلة ،وُأوقظوا بعد نوم ،ثم أصروا على التكذيب ) ألم نهلك وذ ُ ّ
الولين ،ثم نتبعهم الخرين ،كذلك نفعل بالمجرمين ( إلى ما أح ّ
ل الله تعالى
61
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(4 /
يطمع بنا من لم يكن نفسه تحدثه بالطمع بنا ،بل حتى ينتزع من أراضيها
ونصبح غثاًء كغثاء السيل ،وقد كان ما قاله محمد عليه الصلة والسلم .
ما حصيلة ذلك ،لستم بحاجة إلى تتبع رقعة العالم لتعرفوا مدى الخراب
والدمار الذي تمارسه قوى الشر والبغي والعدوان على النسان من حيث هو
إنسان ،أنتم بحسبكم أن تنظروا إلى الواقع الذي تعيشون فيه لتروا أية هوة
مخيفة وعميقة التي تقف المة على شفيرها وتكاد أن تتردى فيها .ما
السبب في ذلك ؟ السبب أننا أصبنا بنفس الداء الذي كانت المة التي
خوطبت بالقرآن مصابة بها ،نحن تركنا أمر الله ،لننا لم نعد نعرف الله جل
وعل على النحو الذي ينبغي أن نعرفه عليه ،إننا نقول ل إله إل الله ،ولكن
في الواقع نحن نشّرك مع الله آلهة أخرى .
62
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
انظر إلى نفسك أيها البائع في سوقك في دكانك حينما يأتيك ما تشره إليك
نفسك من طمع وتجد من أخيك المشتري غرة فتقتنص هذه الغفلة لتحقق
لنفسك مكسبا ً على حسابه ،إنك غالبا ً ما تتردد ،فأين الله وأين قولك ل إله
إل الله ،إن قولك ل إله إل الله يتقاضاك أن تستحضر هيبة الله وخشية الله
في السر والعلن .أنتم الن ترون أن الناس يتراكضون شرقا ً وغربا ً وشمال ً
وجنوبا ً من أجل مهزلة ل أسخف منها ول أقتل منها لهذه المة ،كلكم تصلون
وكلكم تقولون ل إله إل الله ولكنكم بعد خروجكم من المسجد إل من عصم
الله تجدون أنفسكم مجرورين من لحاكم لتركضوا في التيار الضار الذي
يدعو إلى مناهج الشيطان وإلى نكران الله جل وعل .
فأين الله وأين وحدانية الله ،إن معنى وحدانية الله جل وعل أنك تقدر تحت
ت الناس كل الظروف وفي جميع الشروط أن تقف مع الله وحده ولو أغضب َ
كلهم ،إن هذه الخصيصة مفقودة في هذه المة أو شبه مفقودة في هذه
المة ،وهذه الخصيصة بالذات هي التي جاءت سور القرآن لتستحييها في
ون طرازا ً جديدا ً من الناس .
نفوس الناس ،لماذا ؟ لتك ّ
ً
إننا يجب أن نعلم أن سور القرآن انصبت أساسا في المرحلة المكية على
التالي :إننا أمام واقع يستعبد الناس فيه بعضهم بعضا ً ،ويقطعون صلتهم
وه صورة الحياة عندهم ويبتدعون لنفسهم تقاليد بالله جل وعل ،فتتش ّ
وأعراس ومناهج ونظما ً هي في صميمها وفي أصل تكوينها قاصرة وناقصة
وبالتالي مدمرة ،إننا يجب أن نصحح النظرة قبل كل شيء ،ما مقامك أيها
النسان في هذه الحياة ؟ أأنت خالد مخلد ؟ هل هذه الدنيا سرمدية ؟ هذه
هي النقطة التي وقف السلم عندها طويل ً ،فأبان منذ البداية أنك في هذا
الكون الطارئ ضيف غريب وصدق رسول الله حينما قال ) كن في الدنيا
كأنك غريب أو عابر سبيل ( وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما
هاجر إلى المدينة وبدأ الصحاب رضوان الله عليهم بعد الفراغ من بناء
المسجد النبوي يبنون له بيته صلوات الله عليه فأرادوا أن يشيدوه ويعلوه
فقال لهم :المر أعجل من ذلك ،إن مثلي كمثل راكب استظل بظل شجرة
ثم راح عنها وتركها .ذلك هو وضع النسان في هذه الحياة ،حياة واحدة ذو
مرحلتين ،دنيا وأخرى ول شيء وراء ذلك ،وحين يغفل النسان عن هذه
الحقيقة يسقط في عبودية الدنيا ،يرى أن هذه الحياة هي كل شيء ،وهذا
وغ للقرآن أن يقف طويل ً عند هذه هو الخطأ والخطر وهذا هو الذي س ّ
النقطة التي توقظ النسان إلى هذه الحقيقة .
إن مقامك أيها النسان في هذه الدنيا قليل ،أيام أو شهور أو سنوات ،ثم
بعد ذلك المنقلب والمصير إلى الله جل وعل ،فإذا وقر في ذهنك أنه ل
مرجع ول معاد ،فأنت في الواقع مجرم .لكن هل المسألة سهلة ؟ ل ،يجب
أن ل نكون أغبياء وأن ل نبسط المور أكثر مما ينبغي ،إن المسألة بحاجة
إلى نموذج جديد كل الجدة من النسانية ،إننا بحاجة إلى تكوين النسان
الرباني ،بل إلى تكوين النسان الكوني بكل معنى الكلمة .النسان الكوني
هو ذلك النسان الذي يعرف أنه ُوجد في هذا الزمان وهذا الموقع لداء غاية
معينة إذا أداها مضى إلى سبيله كدحا ً إلى الله جل وعل لكي يقدم الحساب .
)(5 /
والنسان غير الكوني هو ذلك النسان الذي يقول قولة الفاجرين :نموت
ونحيا وما يهلكنا إل الدهر .والله شدد غاية الشدة فيما يتعلق في هذه الناحية
63
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
64
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الدنيا في الخرة إل قليل ( سبب ذلك أن الله أراد حينما يبدأ ببناء النسان
الرباني والنسان الكوني أن يكون هذا النسان مستوفزا ً حاضرا ً لتلبية نداء
الله جل وعل ،يعرف أن هذه الدنيا ليست له قرارا ً وليست له وطنا ً وأن
المصير إلى الله وأن الجنة أبدا ً أو النار أبدا ً ،فهو من أجل ذلك على وجل
وخوف من الله تعالى من عواقب التقصير وعواقب الخلل .
إن المسألة بالغة الخطورة جدا ً ،لماذا ؟ لن النسان حينما يتكل على الدنيا
ينتهي ،والرسالة التي يحملها تنتهي ،ولكن النسان الذي ُيطلب في مراحل
البناء والتأسيس هو ذلك المخلوق الذي يعلم أنه على الدنيا طارئ وضيف
وغريب ،بين يديه رسالة مطلوب منه أن يؤديها ثم هو صائر إلى يوم العرض
ض فيه وجوه وتسود فيه وجوه ،من يقدر على ذلك ؟ ،إلى الحساب الذي تبي ّ
الله الذي ل إله إل هو .
)(6 /
الجاهليون لما كانت عقولهم ل تستطيعوا أن تبلغ هذا المرتقى الصعب ،ولما
كز القرآن كانت أبصارهم حسيرة وكليلة عن التعرف على هذا الفق العالي ر ّ
تركيزا ً هائل ً جدا ً ـ وسوف ترون ذلك في السور القادمة ـ سوف تعرض
عليكم وجوها ً من الوصاف التي يجب أن يعتقدها النسان في الذات اللهية
كي يعرف دائما ً أنه في حد العبودية لله جل وعل .
هذا الدين يخدمه عباد الله ،أولئك الناس الذين حصلوا صفة النسان الكوني
والرباني ،ذلك الذي يرضى برضى الله ويغضب لغضب الله ويتحرك لله
ويسكن لله وينطق إن نطق لله ،ويسكت إن سكت لله ،ويحيا لله ،ويموت
إن مات لله ،وتلك ليست غاية خيالية .حينما نتحدث عن المر بتجريد يشبه
أن يكون في أذهان الكثيرين خيال ً وتجريدا ً أو على القل مقاييس وقضايا
عقلية ،لكني أحب أن أضف لكم وأضرب لكم بعض المثال التي تحصلت
عن تجربة محمد صلى الله عليه وسلم ،كل إنسان يستطيع أن يتبجح وأن
يدعي ،لكن الختبار هو الذي يحدد النتيجة بدقة ،كلنا نستطيع أن نقول :
أرواحنا فداء لدعوة السلم ،دماؤنا فداء لكلمة الله تعالى ،ولكن الشهادة
على ذلك تكون على محك الختبار والواقع .خذوا مثال ً :حينما وقف
المسلمون في غزوة بدر في أول لقاء مكشوف بينهم وبين المشركين ،كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف الفئة المؤمنة ،ينظر إليهم ،ثلثمائة
يزيدون قليل ً ،ويلتفت نحو السماء يخاطب الله جل وعل :اللهم إن تهلك
هذه العصابة ل ُتعَبد بعد اليوم على الرض ،هؤلء فقط هم الذين آمنوا بك
ووحدوك واتبعوا منهاجك وطريقك وصدقوا نبيك صلى الله عليه وسلم ،ثم
دل الصفوف ،ويحرضها على الثبات والجهاد ، يعود إلى هذه الفئة المؤمنة يع ّ
ويقول :والذي نفسي بيده ل يقاتلهم اليوم مسلم مقبل ً غير مدبر إل أدخله
الله الجنة .كان في القوم فتى اسمه عمير بن الحمام النصاري رضي الله
عنه كان يأكل بعض تمرات في يده ،قال :بخ بخ يا رسول الله ،قال له :ما
حملك على أن تقول هذا ؟ قال :يا رسول الله أليس بيني وبين الجنة إل أن
يقتلني هؤلء ؟ قال :نعم يا عمير .فألقى التمرات من يده وقال :لئن أنا
حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة .ألقى التمرات من يده
وركض نحو القوم وقاتلهم حتى ُقتل .
في غزوة أحد حينما انجلت المعركة عن قتلى وصرعى وجرحى وشهداء كان
النبي صلى الله عليه وسلم واللم يعتصر نفسه الشريفة يقول :من ينظر
65
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
لي ماذا فعل سعد بن الربيع ،أفي الحياء هو أم في الموات ؟ قال رجل :
أنا أنظر يا رسول الله .وذهب وفتش بين القتلى وبين الجرحى ،بين الجثث
الكريمة التي تعب عليها محمد عليه الصلة والسلم لتحصدها سيوف
المشركين في ضحوة من نهار ثم وجد سعد بن الربيع يجود بنفسه ،قال له :
يا سعد إن رسول الله أرسلني لنظر أفي الحياء أنت أم في الموات .قال :
أنا في الموات ،أبلغ رسول الله عني السلم وقل له يا نبي الله جزاك الله
عنا خير ما جزى نبيا ً عن أمته ،وقل لقومي من النصار يقول لكم سعد بن
خلص إلى رسول الله وفيكم عين الربيع ل عذر لكم عند الله جل وعل إذا ُ
تطرف .ثم فاضت الروح إلى بارئها تشكو إلى الله ظلم النسان .
حينما خرجت الهارعة ) أي الصوت ( الذي يدعو المسلمين إلى غزوة أحد
كان من المسلمين رجل تزوج بالمس ،كان يعيش في حضن العروس
المحببة ،ينمي النفس بالحياة الوادعة الهادئة ،ويمني النفس بالبيت وبالولد
الذي سيشرف على تربيتهم ،حينما خرج الصوت ينادي إلى ساحة الجهاد ما
كر هذا العريس بأن يتلّبث عند زوجه لحظة واحدة ،انتزع نفسه من حضن ف ّ
الزوجة ونسي نفسه أن يغتسل لكي يسقط الجنابة عن نفسه ،ومشى إلى
الله قائل ً :
ركضا ً إلى الله بغير زادِ إل التقى وعمل المعاد
هناك قاتل حتى ُقتل ،في هذه اللحظات الهائلة التي يحق فيها الحق ويبطل
فيها الباطل وتتكشف النفس فيها عن الخبيئات تبّين حصائل التجربة الكريمة
التي جربها محمد صلى الله عليه وسلم بإذن الله فإذا هي بالفعل تنتج رجال ً
يمثلون ذلك النسان الكوني الذي يثق فيما عند الله جل وعل ويعلم أن الدنيا
ل تساوي عند الله جناح بعوضة .
هؤلء هم النماذج الذين صنعوا السلم ،وصنعهم السلم ،وهم الذين مكنوا
لكم في الرض ،ل البالسة ول التافهون ول الساقطون ،الذين يريدون منكم
أن تزدادوا خبال ً إلى خبال بهذه الساليب الشيطانية التي يبتدعونها لكي
يجتثوا الصلة التي تربطكم بالله تعالى .
)(7 /
في تلك اللحظات الهائلة المريعة يتكشف جوهر النسان ومعدن الرجال ،
ولقد تكشفت تجربة التربية السلمية زمن محمد صلى الله عليه وسلم عن
هوان الدنيا على المسلمين ،ويقول بعضهم لبعض في المعركة :والذي
نفسي بيده إني لشم رائحة الجنة من دون أحد .هذه حقائق وليست خيالت
ون من جديد ،لكنه نسخة ليست مكررة وليست أوهاما ً ،تعبر عن إنسان ك ُ ّ
عن النسخ الشائهة الممسوخة التي كانت الجاهلية تعيشها ،إنها النسان
الكامل المكمل ،إنه إنسان الرسالة ،إنسان البناء ،جيل التأسيس ،الجيل
الذي يحمل على كتفيه أثقل رسالة ،وأطول رسالة ،وأعظم رسالة ،وكذلك
تساس النفوس ،وكذلك ُتبنى المم ،وبغير هذه الطرائق والساليب
فالمسألة لن تزيد الناس إل خبال ً ،والمسألة لن تزيد على هذه الصور
الشائهة من الحياة السخيفة المخيفة التي يعيشها الناس اليوم .
وأريد من كل أخ أن يعرف لماذا شدد السلم على هذه المور ،وما الذي
كان يهدف إليه السلم من خلل هذا اللون والطراز الفريد من التربية ؟ وما
هي المهمات العظيمة التي تقاضت السلم أن يحرص على تكوين نماذج من
هذا القبيل .من الن يجب أن نعرف هذه المبررات ،ويقينا ً أنا أعرف أن
66
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إشكالت ستطرأ على أذهان بعض الخوة من جّراء هذا الكلم .ومرة أخرى
فأحب أن أقول أنا غير قادر على تبسيط المور أكثر مما ينبغي .
إن السلم ذو طريقة فذة في البناء ،إن السلم ليس منهجا ً دراسيا يتلقى
ً
في المدارس ليسكن العقول ،ولكنه منهج واقعي وعملي ،والعلم ل ينفك
عن العمل بتاتا ً ،وعبقرية السلم أنه بنى المة من خلل الواقع العملي
المتحرك ،ولم يجلس الناس صفوفا ً أمام رسول الله ليسمعوا منه محاضرة
قن السلم المسلمين دروسه ثم يمشون .وإنما من خلل الواقع المتحرك ل ّ
العظمى .كثير من هذه الدروس لو شئنا أن نتعرف عليها من خلل النظر
العقلي والمجادلت المنطقية لما وصلنا إلى شيء ،ولكنا في صعيد العمل
سوف تتسرب إلى ذواتنا إشعاعات الحقيقة ،وهذا هو السر الذي جعل الله
تعالى يقول ) واتقوا الله ويعلمكم الله ( ) ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ( في
مجال العمل تشعر بشيء من هذه الطمأنينة التي تغمر نفسك إلى صلحية
منهجك وإلى أحقية موقفك وإلى عظيم ثقتك بالله تعالى .فل يستعجل أحد ،
ول يثقل علينا أخ من إخواننا بالمماحكات اللفظية ،ول بالمجادلت العقلية ،
لنا طريق أوله العمل وآخره العمل ،والكلمة فيه في خدمة العمل ،وحينما
تكون الكلمة غاية فالمسألة مصيبة ل علج لها ،قبل أن يفكر أحد في
المماحكة والمجادلة والمناقشة عليه أن يضع نفسه في غمرة العمل ،وحينما
يكون في غمرة العمل فهو في نور كاشف يتسلط عليه من جميع الجهات ،
ما كان يحسبه معضلة من المعضلت العقلية فسيرى أنه ل شيء ،وسيرى
أن القضايا تتهاوى ،والمشكلت ُتحل فقط حينما يعزم العزمة الكيدة على
أن يعمل فعل ً على مرضاة الله وفاقا ً للمنهج الذي ل ّ
قنه الله تعالى لنبيه
ووضعه هذا النبي الكريم عليه الصلة والسلم وديعة بين يديك أيها المسلم .
أسأل الله لك ولي وللمسلمين أن يعيننا ويسدد ويوفق ..وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،والحمد لله رب العالمين .
)(8 /
67
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(1 /
68
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
انظر أيها النسان ..أأنت وحدك في هذا الكون أم أنت واحد من مليين
وآلف المليين منها ما طحنته راح الزمان فمات ،ومنها ما يحيا معك
ويضطرب على الرض التي تضطرب عليها ،ومنها ما تبشر به وعود
المستقبل ؟ بدون شك أنت واحد من أناسي كثيرين ،وأنت بالذات ومن
معك ممن يشاركك ويشابهك .أأنتم كل ما في كون الله أم ثمة مخلوقات
ومصنوعات صدرت عن هذه الذات أو القوة وسموها بالذي تشاؤون التي
تقرون بها أنتم ؟ أدر نظرك في الرض في السماء في الفاق فأنت واجد
عوالم أخرى ،عوالم منها ما تراه بعينك وتلمسه بيدك ومنها ما ل تراه ،
ولكنك تحس آثاره وتلمس هذه الثار ،ومنها ما تنكشف عنه حجب الزمان
شيئا ً من وراء شيء ،ومنها ما تجد البشرية نفسها على موعد معه بعد زمان
يطول أو يقصر .
هذه المخلوقات المتكاثرة التي ل تقع تحت حساب ول يحصيها العد ول
يجمعه ديوان كيف يقع في وهمك أنها تصدر عن قوة محدودة القدرة ؟ إن
كونا ً بهذه العظمة وهذه السعة وهذا التناسق والبداع ل بد أن يكون من
ورائه قوة ل تحدها حدود ول تقيدها قيود ،ذلك أبسط ما ينبغي للنسان أن
يسلم به ،أبسط شيء يجب عليك أن تسلم به أن هذا الذي خلق الكوان
كلها ل تحد قدرته حدود ول تقوم دون إرادته قيود ،هذه المسلمة البدهية
خاذ الصغيرة هي التي أبرزها القرآن في سورة المرسلت وأبرزها على نحو أ ّ
عجيب ،لنه كلم الله الذي يأتي في الوقت المناسب والمكان المناسب ردا ً
وعلجا ً لواقع عيني مشهود .تعال أيها العربي ..انظر حواليك وقّلب النظر ..
أنت تستكثر على الله أن يحي الموات بعد أن هرمت ،ل بأس عليك قد
تكون عاجزا ً عن مواجهة نفسك مع أن نفسك بالذات تحمل الدلئل على ذلك
وصدق الله إذ يقول ) وفي أنفسكم أفل تبصرون ( لكن انظر بعد ) وفي
الرض آيات للموقنين ( انظر حواليك ماذا ترى :ليل ونهار وأرض وسماء
ورياح تسوق السحاب وكل شيء من حولك يوحي بالدقة والتقان ويوحي
بالتناسق والضبط ويوحي بالقصدية التي ل بد أن يلمحها العاقل من تصرفات
هذه الذات القوية التي نطلق عليها اسم الله جل وعل .
هذه الرياح المرسلة التي تسوق السحاب إلى الرض الجرز فينزل الله به
الماء فيحيي به الزرع والضرع ويحيي به ميت المال في نفوس الناس ،هذه
الرسل التي تتابعت تؤكد حقيقة واحدة هي أن الله موجود وأن الله خالق ،
وأن النسان في هذه الحياة الدنيا ُوجد لغاية حددها القصد اللهي ،وأنه لم
ُيخلق سدى ،وأنه لم ُيترك لن يتصرف على هواه وإنما ل بد من الشريعة
تضبطه ،ولكي يؤدي من حيث النتيجة كشف الحساب ،هذا كله ل بد أن
يكون عن قدرة ليس لها حد .
ً
انظر كيف أن السور تصور لك كيف أن الله جل وعل نقلك فورا فوضعك في
جو يوم الخر ،وأنت قضيت حياتك كلها مكذبا ً جاحدا ً رادا ً على المرسلين ،
هذا النور الذي جاء من عند الله هدى وبشرى للمتقين ،وعمى وضلل ً على
الفاجرين ،تصور الله تعالى يجمع الرسل يوم القيامة ليكونوا شهداء على
الناس ،ويجمع كذلك هذه الجماهير المكذبة التي تسمع من أخبارها ما تسمع
،والتي تجهل منها أكثر مما تعرف ) ألم نهلك الولين ،ثم نتبعهم الخرين ،
كذلك نفعل بالمجرمين ( هذا السؤال وهذه المناقشة ليست هنا ،إنها تصوٌّر
لما سيكون في يوم القيامة حينما يواجه النسان المكذب عواقب التكذيب
في الوقت الذي يبطل فيه التكليف ،وتسقط فيه الفرائض ،ول ينفع نفسا ً
إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ً ) كذلك نفعل
69
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(2 /
) ألم نخلقكم من ماء مهين ،فجعلناه في قرار مكين ،إلى قدر معلوم ،
فقدرنا فنعم القادرون ( ليس في نيتي أن أشرح لكم ما وصل إليه العلم من
وجوه العجاز ودلئل القدرة في هذا الصندوق الذي يحفظ نطفة الماء هذه
كي تتخّلق هناك وفاقا ً لقدار محسوبة وموزونة وشرائط ،لو تخّلف منها
شرط لجاء المخلوق شائها ً .
ولكن أريد أن أتحدث عما يبده العقل ابتداًء من هذه القضية ،هل في عقلك
ما يصور لك ويقدر أن هذه القطرة من ماء الذكر تستقر في رحم النثى
يمكن أن تكون في المستقبل ذلك النسان الجبار الذي يمشي على الرض
يقوم ويقعد ويفعل ويترك ويتجبر ؟ ل ،نحن نعرف أن كل شيء ينتج من
شكله ،وما من مناسبة مرئية بين الماء والنسان وإن كان الله تعالى ينص
على أنه خلق كل شيء من ماء ،إل أنها عملية مشهودة تشد الذهن شدا ً إلى
واقع يراه الصغير والكبير والعالم والجاهل ،وفيه معتَبر لمن يريد أن يعتبر
من آيات الله .
هذا النسان رأيتم كيف أنه من مادة مهما نقل عن وصف الحياة المستقرة
فيها فهي موات وشبه موات يتخّلق منها الكائن الحي الذي ينكر على ربه أن
يقدر على العادة بعد الموت .انظر ،يناقشك الله فيقول ) ألم نجعل الرض
كفاتا ً ،أحياًء وأمواتا ً ،وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ً ،
ويل يومئذ للمكذبين ( أترى الموات ل يتخّلق منه حياة ،انظر إلى الرض ،
يقول الله :ألم نجعلها كفاتا ً ،ومعنى كفاتا ً أي أنها تضم الحياء والموات ،
والصل في ذلك مادة ) كفت ( بمعنى ضم وجمع ،ومنه قول النبي صلى الله
عليه وسلم :اكفتوا صبيانكم في الليل ،أي ضموهم إليكم واجمعوهم ول
تسمحوا لهم بالتفرق في الليل .هذه الرض التي مهدها لك الله وخلقك
عليها وجعلها أمك ومثواك شيء يجمع الحياء والموات .
70
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أرأيت هذه الرض الجديبة تراها تتسافى من فوقها الرمال ،موات ل أثر فيها
س ول حركة ،ل نبات ول حيوان ،كيف يتنّزل عليها المطر من حياة ،ل ح ّ
) فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ،إن الذي أحياها لمحي الموتى وإنه
على كل شيء قدير ( هذه الرض التي تتصور أنها موات كم تحمل من بذور
الحياة مما تراه يوميا ً ،ولو أنك فتحت عقلك لرأيته كل ساعة وكل لحظة
كيف يخرج الحي من الميت والميت من الحي ) يخرج الحي من الميت
ويخرج الميت من الحي ( ..
) ألم نجعل الرض كفاتا ً ،أحياًء وأمواتا ،وجعلنا فيها رواسي شامخات ( التي
ً
هي الجبال العاتية والتي هي أوتاد الرض كما جاء في تعبيرات القرآن والتي
تمنع الرض أن يختل دوراها في فلكها المرسوم له ) وأسقيناكم ماء فراتا ً (
ت إلى هذه العملية التي قلما تلتفت إليها ؟ هذا النهر الذي تشرب ماءه أنظر َ
وح لك بها عذبا ً فراتا ،من أين جاء ؟ استخلصه لك الله بالرياح اللواقح التي ل ّ
ً
في أول السورة من ماء البحر حتى استقلت في السماء سحابا ً فأنزله الله
جل وعل فجرت به الرض أنهارا ً وعيونا ً .من أين ؟ من صنعك ؟ من
قدرتك ؟ هكذا اتفاقا ً من غير شيء ،تلك إحالة عقلية ل يسقط فيها إنسان
يحترم عقله في حال من الحوال ،فيلفت إليها نظرك كتاب الله تعالى في
موقع الحجاج والنقاش ،ولكن يقيم لك من خلل الحجاج والنقاش الحجة
التي ل تدفع ،والدليل الذي ل ُينقض ،والمنطق الذي ل ينكسر ،على عدم
وجود أي حد يقف في وجه القدرة اللهية .
أرأيت ؟ أقنعت ؟ ولكن متى ؟ حين ل تنفع القناعة ،ول يجزيك اليمان أيها
المكذب الضال ،هناك يصدر النداء من الباري تعالى إلى جحافل المكذبين
والضالين ) انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ( ألم تكونوا مكذبين باليوم الخر
وبما فيه من نعيم للبرار ؟ وعذاب بئيس للشرار ؟ ) انطلقوا إلى ما كنتم به
تكذبون ،انطلقوا إلى ظل ذي ثلث شعب ،ل ظليل ول يغني من اللهب (
عهد الناس بالظل وقاء من الحر ولفح السموم ،ولكن الظلل التي تكون
عن ألسنة اللهب المنبعثة من قلب جهنم يوم القيامة ليست ظليلة ،ل تؤنس
ول تسر ،ول تغني شيئا ً من أن يمس المكذبين لفح نار السموم ولهب
الجحيم ) ل ظليل ول يغني من اللهب ،إنها ترمي بشرر كالقصر ( هذه النار
التي يسمع لها المكذبون تغّيظا ً وزفيرا ً ،هذه النار تتقاذف منها أكوام الجحيم
كبيرة كالقصر ،والعرب تسمي كل شيء كبير قصرا ً حتى الجبال تقول لها
قصور ،وسمت البنية العالية قصورا ً لنها كبيرة ،هذا الشرر المتصاعد لكبره
يشبه القصور ) كأنه جمالة صفر ( أرأيت عنق الجمال ،والعنق ل أريد به
الرقبة ،وإنما أريد به جماعة الجمال حينما تأخذ بعضها برقاب بعض وهي
تمشي في طريقها ،كذلك يتتابع هذا اللهب المرعب المخيف ) كأنه جمالة
صفر ،ويل يومئذ للمكذبين ( .
)(3 /
ت به هل تعرف شيئا ً من كنهه ؟ أنت الذي هجمت على هذا اليوم الذي كذب َ
ت كمات في أسر شهواتك ،ورغب َ التكذيب بل مبرر ،بل دليل ،إل لنك سقط َ
كشف الله لك في سور سابقات ،من أجل التمتع بالشهوات ،أتعرف ما هذا
اليوم ؟ أنت هنا اليوم ذرف اللسان كثير اللجاج والحجاج ،تظن نفسك كل
شيء لكنك هناك يا ويلك ،يا ويحك ) هذا يوم ل ينطقون ،ول يؤذن له
فيعتذرون ( ) اليوم نختم على أفواهنا وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما
71
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يكذبون ( إنك هنا تستطيع أن تراوغ وتستطيع أن تداور وتناور ،تستطيع أن
تلبس الباطل ثوب الحق وأن تعري الحق من حجج الحق لتسلكه في سبيل
الباطل ،ولكنك هناك محروم من هذه القدرة ل داعي إلى أن تتكلم ) هذا
يوم ل ينطلقون ( ختم على الفواه ) ول يؤذن لهم فيعتذرون ( إن المعذرة
مقبولة في الدنيا قبل أن يغرغر النسان ،ومن رحمة الله بك يا ابن آدم أنه
فسح لك في المدة وأطال لك في الجل وأعطاك المد الواسع كي تراجع
نفسك وكي تراجع ربك ولكي تصلح ما بينك وما بين الرب الرحيم .فإذا
انقضت على الرض مدتك فل مجال للعتذار ول داعي للتكذيب لن الرض
التي فسقت عليها ستكون شاهدا ً عليك ،ولن اليد التي بطشت بها ستكون
شاهدا ً عليك ،ولن الرجل التي حملتك إلى مساخط الله ستكون شاهدة
عليك ) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل
شيء ( هنالك ل مجال للعتذار .
أتعرف هول هذا اليوم الذي هجمت على التكذيب به من حيث ل تدري ومن
حيث سفهت نفسك وضيعت حظك وأوبقت نفسك وأضعت آخرتك ) هذا يوم
ل ينطقون ،ول يؤذن له فيعتذرون ،ويل يومئذ للمكذبين ( هذا اليوم يقتص
الله عليك من أنبائه ما يقتص بهذه السورة مما لست بالحاجة للطالة فيه
ولكني أقف عند آيتين ذكرهما الله جل وعل في السورة ونعرج من بعدهما
على الخاتمة .
) إن المتقين في ظلل وعيون ،وفواكه مما يشتهون ،كلوا واشربوا هنيئا ً بما
كنتم تعملون ،إنا كذلك نجزي المحسنين ،ويل يومئذ للمكذبين ،كلوا
وتمتعوا قليل ً إنكم مجرمون ،ويل يومئذ للمكذبين ( لحظوا ،في اليات فرق
حينما انصبت على المؤمنين وحينما انصبت على المكذبين ،إنها حينما تناولت
حكاية ما أعد ّ الله من الكرامة والنعيم للمؤمنين قال ) كلوا واشربوا هنيئا ً بما
كنتم تعملون ،إنا كذلك نجزي المحسنين ( وحينما التفت إلى الضالين
المكذبين قال ) كلوا وتمتعوا قليل ً إنكم مجرمون ،ويل يومئذ للمكذبين ( ما
الفارق بين المرين ؟ الفارق أن الكل والشرب حاجة حيوية كالوقود بالنسبة
إلى اللة ل تدور من غيرها ،والنسان بما هو مستخلف في الرض موكولة
إليه مهمة بحاجة إلى هذا الوقود ،فهو يأكل ويشرب ،ولكن ل شيء وراء
هذا ،يأكل لكي يتقوى على الطاعة ،ويشرب لكي يتقوى على أمر الله
تعالى ،ولكن التمتع وراء الكل والشرب ،إنك تتمتع حينما تشعر بهذه الراحة
الغامرة التي تنسيك الماضي والتي ،وتأسرك في اللحظة التي أنت فيها ل
تسمح لنفسك أن تخرج من لذاتها وهذا الشعور المريح الذي تحسه به ،هذا
الشعور من باب النسيان بالنسبة إلى النسان ،النسان بمجرد أن ينسى
حقيقة موقفه في هذه الدنيا والمهمة المطلوبة منه في هذه الدنيا ،بمجرد
أن ينسى أن وجوده في هذا الكون موقوت وطارئ سقط من إنسانيته جميعا ً
،ودخل في زمرة الحيوانات ،ومن هنا نجد الله تعالى يصف الكافرين في
سورة محمد عليه الصلة والسلم بقوله ) والذين كفروا يتمتعون ويأكلون
كما تأكل النعام والنار مثوى لهم ( ففارق بين النسان الذي يأكل ويشرب
ويرعى حق إنسانيته عليه وبين النسان الذي يأكل ويشرب وهو يطلب التمتع
المطغي والتمتع المنسي ،ذلك شأن المتقين البرار ،وهذا شأن الكافرين
ً
الشرار ،فهذا فرق ما بين المرين في اليات الكريمة ) كلوا وتمتعوا قليل (
والنص بقوله تعالى ) قليل ً ( إشعار مقصود بهوان الدنيا وقلة الدنيا وقلة لبث
النسان في هذه الدنيا ) إنكم مجرمون ( .
ثم أمر آخر ) وإذا قيل لهم اركعوا ل يركعون ،ويل يومئذ للمكذبين (
72
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أأحسستم معنى هذا ؟ إن الكرامة في الدار الخرة متجر ربيح ،وما لم يبذل
النسان الثمن فهو تاجر فاشل ،إن الخرة عروس ل يوجد لها نظير ،وإن
ل ،مهرها طاعة الله وإنفاذ أمر الله والوفاء بعهد الله ،إنك في
مهرها غا ٍ
الدنيا تملك أن تقدم هذا الثمن ،تملك أن تدفع هذا المهر ،ولكن الناس كثيرا ً
ما يسهون عن ذلك ،ويذهبون ضحايا التسويف والتأجيل ،فإذا جاء وعد
الخرة تبين النسان هذه الحقيقة المرة ،يود لو أنه ُأعيد إلى الدنيا ليطيع
الله ويصدق المرسلين ،ولقد سبقت كلمة الله أنها إليها ل يرجعون .
)(4 /
يوم القيامة ل مجال للعتذار كما رأينا في أول السورة ،ول مجال لداء
الحقوق كما نرى الن ،إنك دعيت في دار الدنيا إلى الطاعة فرفضت ،إنك
دعيت إلى الركوع والسجود فرفضت ،فكان حقا ً وعدل ً من أن ُتمنع ذلك من
يوم القيامة ،يقول الله تعالى ) يوم ُيكشف عن ساق ويدعون إلى السجود
فل يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا ُيدعون إلى السجود
وهم سالمون ( يوم القيامة حينما تتوج كرامة الله لعباده المؤمنين بالتجلي
العظم للذات اللهية يخر المؤمنون سجدا ً لله جل وعل ،ويحاول الضالون
والكافرون والمنافقون أن يسجدوا أمام هذه العظمة وهذا الجبروت فل
يطيقون ذلك ،ومن باب النكاية والستهزاء ،ومن باب التنكيل يقول الله
عنهم ) وإذا قيل لهم اركعوا ( اركعوا الن في الدار الخرة ،فلقد دعيتم في
الدنيا فأبيتم بمحض إرادتكم ،اركعوا الن واستخدموا الرادة التي كانت
معكم في الدنيا إن كنتم قادرين على ذلك ،فيحاول النسان أن يركع لكنه ل
يقدر على ذلك ،فالله هنا جعله عبدا ً عاجزا ً بين يديه .
هذه اليات التي استعرضتها الن ،هذا الستعراض السريع جدا ً ،ثم ختمت
بهذه الية التي تلمح من خلل صياغتها ،من نغمها ،تلمح رائحة السى على
هذا النسان ) فبأي حديث بعده يؤمنون ( إذا كنت أيها النسان تكذب بدلئل
القرآن ،وترد حجج الله تعالى التي جاءتك على يد محمد صلى الله عليه
وسلم ،إذا كنت ترد كتاب الله ) فبأي حديث بعده يؤمنون ( أل تلمح هذا
السى الذي يشيع في ثنايا الية مع كل حرف من حروفها ،إن الله برغم
تجبرك وبرغم تكذيبك للمرسلين وبرغم انغماسك في الشهوات لطيف
ورحيم بك ،ساق لك الحجج والبراهين ،فإذا رفضت أن تنصاع لما جاء عن
الله على يد محمد صلى الله عليه وسلم ما بقي أي إمكان لن تؤمن بشيء
على الطلق .
إن أنصع الحجج والبراهين قامت في القرآن ،ومن أصاخ إلى الله وهو يحدثه
،ومن اعتبر كلم الله رسائل توجه من الله إلى عباده ،وأنصف نفسه مع
ذلك ،واستعمل عقله ،وأصاخ إلى نداء الفطرة بين جنبيه أدرك أن كل
حرف في القرآن حق وصدق ،وأدرك من بعد أن الحجة التي توهم
المشركون أنها حجة تقوم في وجه إمكان القيامة حجة داحضة ،كل ما
حولك يشعرك بأن الذي خلقك أول مرة قادر على أن يخلقك مرة أخرى ،
) وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل العلى في
السماوات والرض (
إن الخلق ابتداًء أصعب من إعادة الخلق بعد المرة الولى ،اعتبر نفسك
صانعا ً تصنع جهازا ً ،إنك تجرب وتحاول في المرة الولى والثانية والثالثة ..ثم
تصل إلى المرحلة التي تصنع فيها الجهاز ،ولكنك بعد هذه المحاولة الناجحة
73
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
تجد أن المر أصبح سهل ً ،لنك تنسج على مثال ً سابق ،فالنشأة الخرة
ليست أصعب من النشأة الولى ،بل هي أهون من النشأة الولى ولله المثل
العلى ،وهذا كلم نقوله على التقريب .فما يدعيه الناس من عدم إمكان
يوم القيامة ليس دفعا ً لهذا المكان ولكنه انحسار لمفهوم الوصاف التي
يجب أن يتحلى بها هذا الله الخالق القادر ،إنه تصور حسير وكليل للقدرة
التي ليست لها حدود التي ينبغي أن يتصف بها الله لكي يكون إلها ً .
مرة أخرى أتساءل معكم :لماذا هذا التشديد من القرآن في المراحل
الباكرة جدا ً من الدعوة السلمية على موضوعات نراها في عقلنا اليوم في
القرن العشرين من الهنات الهينات ؟ إن النسان أيها الخوة ويجب أن
تدركوا هذا إدراكا ً صافيا ً وسليما ً ،في هذه الدنيا أمامه خياران ،الول :أنه
وحده في هذا الكون ،ل إله خلق ول مصير إليه ينتهي .والثاني :أنه
مخلوق ،وأن هذا الرب يتصف بأوصاف الجلل والجمال وفي ذروتها القوة
والقدرة التي ل تتناهى ،والعدل ..فإذا أخذنا الخيار الول ،وللسف إنسانيتنا
اليوم أخذت الخيار الول فاعتبرت النسانية وحدها غير مرتبطة بالله ول
بهداية النبياء عليهم السلم ،فما الذي كان ؟ إن هذه الفكرة والخيار يتحمل
وحده مسؤولية كل الرتباكات التي تعاني منها البشرية اليوم ،ويحمل وحده
مسؤولية المجتمع البشري على شفير الكارثة ،لنه قطع صلته بهداية
السماء ،ولكن المجتمع الذي نأخذه كشريحة بشرية بالتدليل والتمثيل ،
مجتمع المسلمين الذين رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم ،شعروا حين
تبنوا الخيار الثاني أنه ينبغي لهم أن ينسجموا مع النواميس العامة والقوانين
الكلية التي تحكم الكون كله ماضيه وحاضره ومستقبله ،إنسه وجنه وملئكته
تت القصدية واضحة ،ووجد َ ،حيه وجامده على سواء ،فمن أجل ذلك وجد َ
الهدف واضحا ً ،ووجدت النسان بارتباطه بقرآنه وببشائر نبيه صلى الله عليه
وسلم وتمسكه بالصراط المستقيم ،يسير بخطى ثابتة .
)(5 /
خياران ل غير أمام النسانية ،إما أن تأخذ النسانية بخيار الجاهلية فهو الدمار
والفناء .وإما أن تأخذ بخيار السلم فهو الراحة والهناء والطمئنان والسلم ،
والخرة التي فيها النعيم المقيم الذي ل يزول .ولكن هذا تجريد ،سمعناه
من الخطباء ومن الوعاظ ،يقولونه في المنابر وفي مواطن التذكير ،إنما
فرق ما بيننا وبين محمد عليه الصلة والسلم وهو يعمل أنه كان يعالج أدوات
النسانية على الطبيعة ،كان ل بد منذ المراحل الباكرة أن تحكم الصلة جيدا ً
بين هذا النسان وبين الله تعالى ،وأن يغرس عميقا ً وفي جذور القلوب يقين
ن
هذا النسان المؤمن بأن كل حركة وسكنة وكل قول وفعل وكل أخذ وكل م ّ
مدّون ومكتوب ) ما يلفظ من قول إل لديه رقيب عتيد ( وأنه ل بد من وقفة
أمام الجبار الديان لكي يقدم النسان كشف الحساب .
م نفسه بزمام التقوى ول يسمح فمن هنا كان النسان المسلم إنسانا ً يز ّ
لنفسه بالندفاعات الضارة التي تضره في نفسه أو تضر مجتمعه أو تسيء
إلى هذه الرسالة النقية التي يحملها عن الله تعالى .
إن هذا ل يتأتى اعتباطا ً ،ولكنه يتأتى من خلل الممارسة اليومية التي يسهر
عليها قائد حكيم مسدد من قبل الله تعالى ،فمن أجل هذا وجدنا القرآن
يطيل التركيز في المراحل المكية عموما ً على استحياء اليقين باليوم الخر
كي تكون كل حركة من النسان بحساب وكي تكون كل حسبة يجريها
74
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(6 /
75
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يقول الله تعالى :بسم الله الرحمن الرحيم ) والمرسلت عرفا ً ،فالعاصفات
عصفا ً ،والناشرات نشرا ً ،فالفارقات فرقا ً ،فالملقيات ذكرا ً ،عذرا ً أو نذرا ً ،
طمست ،وإذا السماء فرجت ،وإذا الجبال إنما توعدون لواقع ،فإذا النجوم ُ
نسفت ،وإذا الرسل أقتت ،لي يوم أجلت ،ليوم الفصل ،وما أدراك ما يوم
الفصل ،ويل يومئذ للمكذبين ،ألم نهلك الولين ،ثم نتبعهم الخرين ،كذلك
نفعل بالمجرمين ،ويل يومئذ للمكذبين ،ألم نخلقكم من ماء مهين ،فجعلناه
في قرار مكين ،إلى قدر معلوم ،فقدرنا فنعم القادرون ،ويل يومئذ
للمكذبين ،ألم نجعل الرض كفاتا ً ،أحياًء وأمواتا ً ،وجعلنا فيها رواسي
شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ً ،ويل يومئذ للمكذبين ،انطلقوا إلى ما كنتم
به تكذبون ،انطلقوا إلى ظل ذي ثلثة شعب ،ل ظليل ول يغني من اللهب ،
إنها ترمي عليهم بشرر كالقصر ،كأنه جمالت صفر ،ويل يومئذ للمكذبين ،
هذا يوم ل ينطقون ،ول يؤذن لهم فيعتذرون ،ويل يومئذ للمكذبين ،هذا يوم
الفصل جمعناكم والولين ،فإن كان لكم فكيدون ،ويل يومئذ للمكذبين ،إن
المتقين في ظلل وعيون ،وفواكه مما يشتهون ،كذلك نفعل بالمحسنين ،
ويل يومئذ للمكذبين ،كلوا وتمتعوا قليل ً إنكم مجرمون ،ويل يومئذ للمكذبين
،وإذا قيل لهم اركعوا ل يركعون ،ويل يومئذ للمكذبين ،فبأي حديث بعده
يؤمنون ( .
إنك حين تقرأ السورة تلحظ أن نظم السورة يختلف عما ألفناه في السور
الماضية ،ول سيما حين الحديث عن يوم القيامة ،تقريرا ً أو دحضا ً لشبه أو
عرضا ً لدلئل وشواهد ..ولو أن إنسانا ً ل يعرف اللسان العربي بالمرة
يسمعك تقرأ السورة فسيدرك أنه أمام أمر خطير ،وإل ما تساوقت
الفواصل بهذا الشكل ،وبحسبك أن تلتفت إلى هذه اللزمة ) ويل يومئذ
للمكذبين ( التي تكررت عشر مرات ،وهي سورة ل تقول أنها قصيرة كما ل
تقول أنه متوسطة ،فهي بين بين ،فلماذا أدير الحديث أصل ً بهذا الشكل ؟
إننا نتعّرف على حوادث السيرة ووقائع السلم في مراحله الولى من خلل
آيات الله تعالى متبعين في ذلك نهجا ً خاصا ً ينبغي أن نتساءل دائما ً ،لماذا
ذكرت القضية هنا ولم تذكر هناك ؟ لماذا شرحت القضية هنا واقتضبت
هناك ؟ لماذا خفت اللهجة هنا واشتدت هناك ؟ كل هذه معالم يستطيع قارئ
القرآن ومتتبع السيرة أن يجد لها تفسيرها المناسب وأن يجد تفسيرها الذي
يلقي الضواء على المور التي يهتم البحث عنها .
)(1 /
كما لحظتم أيضا ً تتناول السورة موضوع اليوم الخر ،إن سورا ً عديدة
تحدثت عن هذا ،وسور أخرى اختصت بالحديث عن هذا الموضوع ،فهل له
في صلب السلم كل هذه الهمية ؟ ابتداءا ً فنحن كلما رأينا القرآن الكريم
يفيض بالحديث عن موضوع ما فيجب أن نتأكد أن هذا الموضوع يتمتع بأهمية
خاصة ،إن موضوع اليوم الخر شغل من كتاب الله تعالى مساحة كبيرة جدا ً
لم تشغلها أية موضوعات أخرى ،لو أنك أخذت اليات التي تتضمن عرض
الشرائع التي يقوم عليها بناء المجتمع المسلم وتتحدد من خللها الوجائب
والحقوق بين المسلمين وبين المسلمين وغير المسلمين لوجدت أن هذه
اليات ل تتجاوز خمسمائة آية ،بينما تجد اليات التي تعرضت لموضوع اليوم
الخر أكثر من ذلك بكثير ،فالمسألة وفاقا ً للقاعدة التي قلناها الن وهي
ضخامة القضية اعتبارا ً بسعة الحديث عنها لها أهميتها الخاصة كما ل يخفى .
76
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
موضوع اليوم الخر موضوع أساسي وحيوي في عقيدة السلم ،ويجب أن
نعلم قبل أي شيء أن السلم نظام ل كغيره من النظمة ،إن أنظمة الدنيا
تعتمد على قشرة ظاهرة رقيقة جدا ً من القناع ولكنها في أصولها تأخذ
الناس بزمام الرغبة والرهبة ،وتسوق الناس بقهر السلطان ،ول يشك عاقل
في أن نهجا ً من هذا القبيل لن يفلح في تزكية النسان ،ولن يرفع من سوية
النسانية ،ولن يسهم أبدا ً في تكميل الشخصية النسانية .إن الذي يفلح هو
القناعة الداخلية المنبعثة من عقل متحرر مستنير وقلب شفاف طهور ،إن
حقائق السلم ُتغرس في القلوب قبل أن تغرس في العقول ،وإنها تعتمد
على هذا اليقين وعلى هذه القناعة ،وأي خير في النسان الذي يساق إلى
المعروف بالعصا ؟ وأي خير يرد عن المنكر بسوط الجلد ؟ إن النسان
الكامل والذي يريده السلم ويحرص على توفير الجواء لبروزه هو ذلك
النسان الذي يفعل الخير لنه خير ،وينتهي عن الشر لنه منكر وقبيح ،ول
يحتاج إلى عصا الجلد تلحقه آناء الليل وأطراف النهار ،وإذا كان المر كذلك
فإذا لم يقتنع النسان منذ البداية بأن كل شيء محسوب على النسان مدون
ومسجل وأن النسان مسؤول وأن كشف الحساب حاضر فهذا النسان لن
تتحكم فيه في هذه الحالة إل شهواته ونزواته .
وإذا ً فل خير بالنسان الذي ل يؤمن بالمصير إلى الله تعالى ،ول خير في
نظام ل يؤسس على نظام من هذا القبيل ،من أجل ذلك كان السلم حريصا ً
على تأكيد هذه العقيدة باليوم الخر .هذا من حيث المبدأ ،كي ل يستغرب
أن السلم يبدئ ويعيد في موضوع اليوم الخر ،إن المسألة خطيرة للغاية ،
إن مستقبل النسان كله يتوقف على اقتناعك وعلى إيمانك باليوم الخر ،
فإذا فقد إيمانه باليوم الخر أهلك دنياه وخسر آخرته ،هذا من حيث المبدأ .
وأما من حيث جوهر السورة فمن الحق أن نتساءل :لماذا هذه النبرة الحادة
؟ لماذا هذه القسمات الغريبة والملمح التي يشبه أن تكون شاذة في
شخصية السورة ؟ لكي نعرف لماذا علينا أن نرجع قليل ً للوراء وعلينا أن
نستعين على الفهم وإنارة الساحة باستثمار شيء من وقائع السورة ولتكن
وقائع نموذجية .
ل داعية لن نعود إلى أوائل اليات التي تحدثت عن اليوم الخر ..هذا غير
مهم ،لنقف عند سورة عرضناها منذ ثلثة أسابيع وهي سورة القارعة ،إن
سورة القارعة ألقت الضواء على يوم الخر إلقاًء هادئا ً ليس فيه شيء من
العنف والثارة وإنما هي وصف ) القارعة ،ما القارعة ،وما أدراك ما
القارعة ،يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ،وتكون الجبال كالعهن
المنفوش ،فأما من ثقلت موازينه ،فهو في عيشة راضية ،وأما من خفت
موازينه ،فأمه هاوية ،وما أدراك ما هيه ،نار حامية ( تستطيع أن تقول أن
السورة ل تتعّرض لحد مطلقا ً ،وإنما تثير موضوعا ً معينا ً كيف يكون يوم
القيامة ،ويوم القيامة يكون على هذه الحالة ,مع هذا فنحن نرى أن سورة
القيامة أخذت بتلبيب سورة القارعة فنزلت بعدها مباشرة .سورة القيامة
أيضا ً تعالج نفس الموضوع ،وأخذت اسمها بمبررات كاملة أنها فعل ً سورة
القيامة أنها تحدثت عن يوم القيامة ،لكنها تحدثت حديث العقل إلى العقل ،
شبه وعرض وحديث القلب على القلب ،لكنه حديث مستفيض عرض ال ُ
الشكوك وكشف العلل التي تدفع الناس إلى أن يستبعدوا يوم القيامة ،هل
نستطيع أن نضع استنتاجا ً معينا ً مستخلصا ً من تساوق السورتين ؟ أقول :
نعم .
77
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(2 /
إن العرب في الجاهلية كانت تعبد الصنام ولكنك لو أخذت أي عربي من
هؤلء فسألته :أتعتقد أنت أن هذه الحجارة المنحوتة تخلق أو ترزق أو تعطي
أو تميت ..أو تدفع هي عن أنفسها الضر أو تجلب بنفسها الخير ؟ لقال لك :
ل ،إن الخالق الرازق المحي المميت هو الله ،ولكن الله في عليائه أبعد
وأمنع وأسمى وأعلى وأجل من أن نتطاول نحن المخلوقات الصغيرة إلى
مخاطبته .فهذه الصنام شفعاؤنا عند الله ) ما نعبدهم إل ليقربونا إلى الله
زلفى ( تأسيسا ً على هذه العقيدة الغامضة المضطربة غير الواقعية غير
العقلنية نشأت غيوم حول موضوع المآل والمصير ،فكانت فكرة يوم الخر
فكرة مشوشة وغائمة في فكر العربي الجاهلي ،غاية ما يتسامى إليه في
عقل العربي أن ينظر إلى الحوادث المباشرة فيرى ما يراه كل إنسان
ويصوغ هذه الرؤيا بكلم لعل التعبير النموذجي عنها خطبة قس بن ساعدة
اليادي الجاهلي الذي كان يتوكأ على عصاه ويخطب في عرب الجاهلية في
سوق عكاظ متسائل ً عن هذه الرحام التي تدفع ،والرض التي تبلع ،ومآل
هذه القوافل التي ذهبت في الماضي وتذهب الن ألها مصير تنتهي إليه أم
ليس لها مصير ؟
ً ً
إنه تساؤل عن المشكلة ل يطرح لها حل ول يوجد لها تعليل يستطيع أن
يطمئن إليه عقل العربي .ومعلوم أن كل إنسان مقطوع الصلة بالدين
معذور ،لن الكلم عن اليوم الخر ليس صناعة عقول وإنما هو أن يتلقى
الناس خبر يوم الخر من الوحي ،ول مجال للمعرفة عن اليوم الخر من أي
طريق آخر .
حينما فوجئ المشركون بسورة القارعة تتحدث بهذه اللفاظ الفخمة الجذلة
عن اليوم الخر وتصفه لهم وأنه يرونه رأي العين أو يلمسونه لمس اليد حتى
تقشعر له أبدانهم أحدث دون شك بلبلة واضطرابا ً شديدين ،ول بد أن
طرحت ول بد أن حوارا ً قام بين المشركين وبين الرسول صلى الله تساؤلت ُ
عليه وسلم .فتلك هي طبيعة المور ،فجاءت سورة القيامة تضع المور
مكانها حقا ً .عرضت لموضوع القيامة فقررته أول ً ،ثم كشفت عن الدوافع
التي تجعل الناس يستبعدون إمكان يوم الخر ول يؤمنون بهذا اليوم ،فإذا
هي أمور دنيوية صرفة تتعلق بالرغائب والشهوات واللذائذ ول تتصل بقناعة
العقل ول بطمأنينة القلب .ثم ساقت السورة دلئل يشهدها الناس يوميا ً
ويستطيعون أن يتلفتون إليها ويقرأوها في أنفسها وفيما حولهم وفي الفاق .
وكان يمكن أن يستقر كل شيء في قراره الحق لو أن هذه النسانية كانت
رشيدة ،ولكن النسانية كالعهد بها حينما تواجه بالحقائق الصلبة التي ل
تحتمل النقاش تحاول أن تلجأ إلى طرق شائكة وغريبة ول أخلقية ،ماذا الرد
؟ كان الرد الغريب العجيب غير المعقول وغير المقبول لدى أي إنسان عنده
ذرة من عقل ،كانت حملة التشويش والتشويه والتجريح على من ؟ ليس
عرضت في سورة على الحقائق التي عرضتها سورة القيامة ،فالحقائق التي ُ
القيامة أمنع من أن تطالها ثقافات البشر ،ولكن كما قلت لكم في الجمعة
الماضية فإن النسانية المعذبة الشقية اخترعت حيلة قديمة قدم هذه
البشرية ،حينما أدعوك إلى طريق فيه كل الهدى والحق والصلح يضمن لك
استقرار عيشك وسلمة مصيرك ويوفر عليك حقوقك ويرد عنك كل أنواع
الظلم والعدوان ،لكنك ل تطيقه ،وترفضه شهواتك ،يقطع عنك حبل
نزواتك ،أنت ل تستطيع أن تقول عن الشمس أنها مظلمة ،ذلك شيء يرده
78
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
واقع المر ،لكنك تملك هذه الحيلة الرخيصة المجرمة أن تجرح صاحب
فذ فيه
الطريق وصاحب الدعوة ،أن تصب هجومك على الشعب الذي تتن ّ
الدعوة ،ولهذا انصبت نقمة المشركين وانصبت دعواتهم الكاذبة على شخص
النبي صلى الله عليه وسلم فذهبوا يطعنون .
وعجيب هذا الموقف ،إن محمد عليه الصلة والسلم عاش بين هؤلء
المكيين أربعين سنة ،ما جربوا عليه كذبة قط ،ما صبا كما يصبو الشباب ،
كان بينهم طفل ً فكان زهرة الطفال ،ثم نشأ شابا ً فكان فخر الشباب ،ثم
أصبح رجل ً فكان تاج الرجال ،ولم يمسك عليه أحد أي مطعن طيلة الربعين
السنة ،لم يكن شخصه الكريم صلوات الله عليه إل موضع والجلل والتقدير
والمحبة ،الشباب والشيوخ يقدرونه ،كل امرأة تتمنى أن يكون محمد لها
بعل ً أو أبا ً أو أخا ً ،حتى إذا جهر بالدعوة انقلبت كل شيء ،ورجع محمد صلى
الله عليه وسلم كذابا ً وأّفاقا ً ومفتريا ً على الله تعالى ،ذهبت الدعاوى تأخذ
هذا الطريق الوسخ ،ولكن غير المنتج ،فجاءت سورة الهمزة ل تتنزل بحيث
تمسك بنفس السلح لتضرب المكيين مع أنهم كلهم فيهم المطاعن ،كلهم
مقاتلهم ظاهرة ،السلم أشرف من أن يستخدم سلح الدعاوى الرخيصة أو
أن يتورط في الكذب من أجل إسقاط الخصم .ولكنها قالت ) ويل لكل
همزة لمزة ( سيلقي العاقبة وسيلقي المصير ،كلم نظيف .
)(3 /
هل انتهى الكلم عند هذا الحد ؟ ل ،إن المشركين تجاوزوا كل حد معقول
ومقبول ،وهنا نريد أن نرجع إلى وقائع نموذجية ،إن موضوع اليوم الخر أثير
كشفت الساحة عرضت دلئله وشواهده ومؤيداته ،ثم ُ أول ً إثارة عادية ،ثم ُ
عن أناس ل يؤمنون به ل لن المر غير معقول ولكنه لنه ينغص عليهم
شهواتهم التي اعتادونها .لكن المكيين الذين كان خليقا ً بهم أن ل يثيروا
الموضوع أبدا ً .كان الصحابي الجليل خباب بن الرت رضي الله عنه حدادا ً
في مكة يصنع السيوف ،وصنع للعاص بن وائل السهمي وهو من زعماء
القبائل المكية القرشية صنع له سيوفا ً ،وأصبح له عليه دين ،فلما جاء
الخباب يتقاضى العاص بن وائل دينه الذي له في ذمته ،ما تتصورون الجواب
؟ إن الواقعة استثمرت استثمارا ً قذرا ً ،في ذلك الوقت كانت آيات اليوم
الخر تتنزل ،وكان الحوار حولها يشتد ،وكانت أندية قريش تبدئ في هذا
الموضوع وتعيد ،حينما تقاضى خباب رضي الله عنه دينه ،قال له العاص :يا
خباب أليس يزعم صاحبك هذا الذي أنت على دينه أن الجنة فيها ما يشتهيه
النسان من ذهب وفضة وطعام وخدم ؟ قال :بلى .قال :فأنظرني إلى
ذلك اليوم ،فإذا دخلت إلى الجنة فسوف أقضيك ،فوالله لن تكون أنت ول
صاحبك آثر على الله مني ول أكثر حظا ً مما في اليوم الخر .هذه السخرية
المرة ،رجل له على رجل دين ،مسألة حقوق دنيوية تحصل بين الناس ،ما
علقة يوم الخر وهي قضية القضايا بعد اليمان بالله تعالى بعد السلم لكي
تجر إلى الساحة بهذه السخرية المرة المقيتة التي تكشف عن انهزام
أصحابها قبل أن تكشف عن سخريتهم لهذه القضية .
فلم يمهله الوحي ،فجاءت آيات الله تعالى تقول ) أرأيت الذي كفر بآياتنا
طلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا ً ،كل سنرثه وقال لوتين مال ً وولدا ً ؟ أ ّ
ما يقول ونمد ّ له من العذاب مدا ً ( .
وواقعة أخرى ،كان أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط زعيمين من زعماء
79
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الجاهلية متصافيين في الجاهلية ،وذات يوم جلس عقبة بن أبي معيط إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه ،في تلك اليام يبدو أن
المشركين قرروا حظر الجتماع مع الرسول صلى الله عليه وسلم ،في تلك
الوقات كانوا يأخذون أفواه السكك والطرق كي ل يسمحوا لحد من
الوافدين على مكة أن يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم أي شيء .
حينما سمع أبي أن عقبة بن أبي معيط جلس إلى النبي عليه الصلة والسلم
مشى إليه وقال له :وجهي من وجهك حرام ،ل أكلمك أبدا ً إذا أنت جلس َ
ت
إلى محمد ،وإذا أنت كلمته فلم تذهب وتتفل في وجهه .وفعل ً مشى عدو
الله عقبة حتى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في وجهه
الشريف ،ونزل قول الله تعالى ) ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني
اتخذت مع الرسول سبيل ً ،يا ليتني لم أتخذ فلنا ً خليل ً ،لقد أضلني عن الذكر
بعد إذ جاءني وكان الشيطان للنسان خذول ً ( .
أبي بن خلف هذا الزعيم السفيه المتعجرف مشى إلى النبي صلى الله عليه
ل ،ففركه في وسلم حينما سمع اليات تنذر باليوم الخر وفي يديه عظم با ٍ
يديه حتى كان ترابا ً ونفخه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له :
أنت تزعم أن الله يحيي هذا بعد أن بلي ؟ قال :نعم ،يحييه الله ويبعثك
ويدخلك النار .وأنزل الله في شأنه ) وضرب لنا مثل ً ونسي خلقه قال من
يحيي العظام وهي رميم ،قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق
عليم ( هذا الجو مع هذه المواقف المزعجة غير الخلقية التي ُوجه بها النبي
صلى الله عليه وسلم والتي ينفذ لها صبر الحديد هي التي كانت وراء هذه
اللهجة الحادة في صياغة سورة المرسلت .
إن المر تجاوز كل حد ،ومع ذلك فمن الخير أن نعيد قراءة سورة المرسلت
حينما نقرأها ،مع كل هذه المواقف المستهزئة ،مع كل هذه الظواهر
جل على سورة المرسلت أنها كانت العدوانية ،هل يستطيع أحد أن يس ّ
بنفس أسلوب المشركين في تهجمهم على محمد صلى الله عليه وسلم ؟
أن تخاطب المشركين بنفس اللغة التي كانوا يخاطبون بها رسول الله صلى
الله عليه وسلم ؟ أم تستخدم نفس السلحة التي يستخدمونها ؟ ل ،بقيت
قضية السلم في مستواها الرفيع العالي الذي ل يجوز أن يهان وأن ي َُنزل به
إلى هذه المستويات الرخيصة ،بقيت كلمات الله تعالى في الموقع الذي
يقول لنا أنه مهما طال الشوط ومهما امتد الطريق فإن النسان يسكنه
جوهره النساني الذي ل يستطيع أن يثبت على مواطن الخطأ إلى ما ل نهاية
،ل بد أن تحل الساعة الذي يفيء النسان إلى عقله ويرجع إلى رشده
ويراجع حسابه ،فيرى أنه في ضلل مبين ويرى له أنه من الخير أن يدخل
فيما دخل فيه الناس ،وأن يكون جنديا ً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه
وسلم وأن يكون خادما ً لهذا الدين العظيم ،يجّند كل ما لديه من طاقة من
أجل تدعيم مواقعه وترسيخ أقدام أتباعه حتى يفوزوا بالهمة التي أوكلها الله
إليهم وهي استخلفهم في الرض لينظر كيف كان يعملون .
)(4 /
ل أريد في هذه الجمعة أن أدخل في صلب السورة فقد وعدتم بأن أقتصر
على أقل ما يمكن من الوقت ،وهذا قد أخذنا من الوقت ما هو مقدور لنا .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم ..والحمد لله رب
العالمين .
80
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(5 /
81
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
بد لك أن تواجهها وأنت تتعرف على حقائق التنزيل ،ومثل هذا أيضا ً لك أن
تقوله بالنسبة ليوم الخر .
)(1 /
حينما نبسط أمامنا مخططا ً عاما ً لسورة النجم فبالتأكيد سوف نعثر على هذه
القضايا بالذات ،أول شيء بدئت به السورة تلميح إلى موضوع اللوهية
ولكن من الجانب الذي يهدم العقيدة الفاسدة أي من الجانب السلبي وليس
من الجانب اليجابي ) .والنجم إذا هوى ( فالنجم باعتباره أحد المعبودات
التي كانت تعبدها المم القديمة ،ومن الخطأ أن نظن أن عبادة النجوم عبادة
كانت مقصورة على العرب ،فالواقع أن العرب أخذوها عن غيرهم ،عبادة
الكواكب والنجوم كانت أشيع ما تكون وأظهر ما تكون عند البابليين ،وحينما
أرسل الله جل وعل أبا النبياء إبراهيم عليه السلم بالحنيفية السمحة كانت
عبادة النجوم أظهر شيء يكون في المجتمع البشري المعروف في العالم
ة عن مقام إبراهيم عليه السلم ) فنظر القديم ،ولعل الشارة في الية حكاي ً
نظرة في النجوم فقال إني سقيم ( تشير إلى هذا الواقع الذي كان معروفا ً
في ذلك التاريخ .والعرب أخذت عبادة بعض الكواكب عن المم الخرى ،
صحيح إن البابليين في الصل موجة من موجات الهجرة العربية من الجزيرة
العربية ولكنها تحيزت مع الزمن أمة قائمة بذاتها ،انفصلت بمعتقداتها
وبآرائها ونظمها وبأنماط حياتها عن المة الم التي بقيت تعيش داخل
الجزيرة العربية ،فل بد ّ نعرف أن عبادة النجوم طارئة على المة العربية
وليست أصيلة ،وأنها جاءت إليها من أمم أخرى .هذا التلميح الذي أشرنا
شعُِر عند من يذوق تراكيب سم ٍ بالنجم إذا هوى ي ُ ْ إليه الن والذي يشير إلى قَ َ
ُ
العربية ويعرف خصائص اللسان الذي أنزل به القرآن ويعرف قيمة الزخم
والشعاع الذي تتمتع به هذه اللغة الشريفة التي نطق بها أفصح الخلق
وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم تترك في حس العربي وهو يسمع هذا
موا أعاجم ، الكلم .العربي ول نعني عرب اليوم فكثير منهم يجب أن ُيس ّ
م واستقامت سلئقهم وبرئت من العقد وأعني العرب الذين خلصت فِط َُرهُ ْ
نفوسهم ،هذا العربي حين كان يسمع الله يقول ) والنجم إذا هوى ( يتصور
في ذهنه عالما ً كامل ً ،قضية برمتها تقوم رأسا ً في الذهن وتنبثق لتأخذ شكل
عالم ،يتصور العربي أمته وتلك الطوائف منها التي كانت تعبد النجوم
والكواكب سواء عبدتها استقلل ً أي اعتبرتها آلهة من دون الله أو عبدتها على
سبيل المشاركة مع الله جل وعل أو عبدتها على سبيل الب ُن ُوّةِ لله جل وعل
تعالى الله عما يقول الظالمون علوا ً كبيرا ً ،كما كانت العرب تدعي أن
الملئكة بنات الله ،وسواء عبدت هذه النجوم على أنها أشياء مقدسة لها
ون للسف فلسفة م ْس َ
تأثير أو فاعلية في الوجود أو بتعبير الفلسفة ـ الذين ي ُ َ
المسلمين ـ أن هذه الكواكب مدبرات للكون .سواء كانت الصورة هذه أو
تلك فإن العربي يتصور مباشرة هذه الصورة .هذا النجم يراه أمامه كلما جن
الليل ونظر العربي إلى أديم السماء ولحظ حركات النجوم وجد النجم ينتقل
بانتقال الفلك ويتحرك بحركة الفلك ،ثم وجد هذه النجوم المتهاوية
المتساقطة فهو يرى دلئل التغير والحدوث ،ما كان متغيرا ً وحادثا ً فل بد أن
يكون البداية ،والله الخالق البارئ المصور يستحيل أن تكون له بداية ،ما
كان خاضعا ً للتغير فإن الزمان يؤثر فيه ،وإن المكان يؤثر فيه ،والمعبود
الحق خالق الزمان والمكان ومؤثر فيهما ،حينما تقع هذه اللحظة في حس
82
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
العربي ) والنجم إذا هوى ( يدرك فورا ً دللة ما فيه طوائف من العرب ممن
عبد النجوم ،وصحيح أن الهجوم على صورة من صور الوثنية بهذا الشكل
هجوم غير مباشر ولكنه فّعال ،ليست المسألة أن أواجهك مواجهة صريحة
وأن أكسر ساقيك ،ل ،هذه صورة من صور عديدة قد تكون أضعف الصور
وأقلها تأثيرا ً ،المسألة التي يجب أن توضع في العتبار وأن ت ُوَْلي العناية
الكافية ليست أن نسب معبودات العرب وغير العرب ،فإن السباب المباشر
والهجوم المباشر دون أن يكون مصحوبا ً بهذه الزعزعة التي تتناول التشكيك
بأساس القضية يؤدي إلى عكس المطلوب ،ولهذا نجد من جملة تأديبات
القرآن للمة المسلمة حينما كان بعض المسلمين يتسرع فيسب آلهة
المشركين نجد الله تعالى يقول على سبيل التأديب والتوجيه وبيان الطريقة
الجدى والمثل ) ول تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسب الله عدوا ً بغير
علم ( ماذا تكون النتيجة ؟ تكون النتيجة حين تهجم أنت الهجوم المباشر على
الخصم أنت ل تفعل أكثر من أن تزيد ضلله على ضلل ،وقساوة على
س القضية من أطرافها بالتشكيك ،لزعزعة قساوة ،الطريقة المثلى أن تم ّ
الثقة ،حتى إذا ما اهتزت السس ولم يبقى للقضية التي يحملها خصمك كل
هذه القداسة والتمسك فحينئذٍ اضرب الضربة القاضية وذلك هو ما فعله
القرآن الكريم .
)(2 /
83
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
دائما ً مواجهة فعلية ،إن النهاية الفعلية هي نهاية المطاف ،وأما في الدعوة
فأنت مأمور بأن تتلطف بالناس وأن تأخذهم على أنه بشر ،قد يكون أبي
ت ملك الملوك أن تسب أبي ،وحين تسب فاسدا ً ولكن ل أرضى منك ولو كن َ
أبي فسوف أسب أباك ،ولهذا قال النبي صلى الله عيه وسلم :ل تؤذوا
الحياء بسب الموات .وقال أيضا ً فيمن يرتكب الكبائر عد ّ منهم أن يسب
الرجل أباه .قالوا :وكيف يسب الرجل أباه ؟ قال :يسب أبا الرجل فيسب
الرجل أباه ،ويسب أمه فيسب أمه .فالتعامل مع كائن حي ،علينا أن نعرفه
بدقة كي نعرف الطريق الذي يوصل إلى قلبه ،ولكي نمسك بالمفتاح الذي
يفتح مغاليق هذا القلب .تجدون ربنا جل وعل حينما يعرض سورة النجم بهذا
الشكل الذي تحدث به ل يزيد في فاتحة السورة على أن يعرض تعريضا ً
يدركه أولوا اللباب ) والنجم إذا هوى ( هذه قضية تعرض ل مجال للمكابرة
فيها ،سقوط النجوم شيء يراه النسان كل يوم ل سيما سكان الصحارى
الذين تصفو عندهم السماء يرون تساقط النجوم بكثرة ،فإذا كانت النجوم
متغيرة بهذا الشكل فقد وقع في الحس أن هذا ل يستحق أن يكون إلها ً .
)(3 /
ما أريد بعد هذا الكلم الذي أردته كالمدخل إلى ما أحب أن أقول لكم أن
أتعرض مرة أخرى لموضوع فاتحة السورة التي تقص شيئا ً من مشكلت
السراء والمعراج فأنا أدخر هذا إلى اليوم الذي نقف فيه مع سورة السراء ،
وإنما أريد أن أمر سريعا ً إلى بعض موضوعات السورة وأقف عند قضية
عرضت جوانب منها في الجمعة الماضية ،قضية اللوهية التي تصدى لها
السلم ،وقضية المعتقدات التي كانت سائدة في الجزيرة العربية .تعرفون
أن الله تعالى قال مخاطبا ً هؤلء الناس ) :أفرأيتم اللت والعزى ،ومناة
الثالثة الخرى ،ألكم الذكر وله النثى ،تلك إذا ً قسمة ضيزى ( ) إن هي إل
أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ( ) إن يتبعون إل
الظن وإن الظن ل يغني من الحق شيئا ً ( وفي هذا الموضوع عن ادعاء
العرب في الجاهلية أن الملئكة بنات الله ،وعن ادعائهم أنهم شفعاء لهم
عند الله ،وأنهم باعتبارهم بناتا ً كانوا ينطلقون من تصور جاهلي متأصل في
نفوس فرضته الحالة البدوية في الصحراء التي كانت تعيش فيه العرب .
ففي الصحارى حينما ل يكون ثمة قانون ول دولة فالنسان يحتكم إلى
ساعده وإلى قوته باستمرار ،من يقدر على هذا ؟ الذكران دون الناث ،
ولهذا كانت العرب تفرح بالمواليد الذكور وتبتئس بالناث ،ولكراهيتهم للنثى
ولهوان قضية اللوهية عليهم أنفوا لنفسهم واستكبروا أن ينسبوا الناث إلى
أنفسهم فنسبوها إلى الله جل وعل واعتبروا الملئكة إناثا ً وأنهم بنات الله
وسموا الصنام بأسماء الناث ،اللت والعزى ومناة كلها على وزن التأنيث ،
لنهم ينفرون من النثى ويدفنونها وهي حية .ما عند هذا أريد أن أقف ،وإنما
أريد أن أقف عند هذه الظاهرة ،من أين جاءت إلى العرب ؟ إننا في الواقع
نعرف أن العرب سللة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم ،يقول الله تعالى )
ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيم
الصلة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم
يشكرون ( في موضع آخر كان إبراهيم عليه السلم ينظر إلى الغيب البعيد
ويقول ) ربنا وابعث فيهم رسول ً منهم يتلو عليهم آياتك ( فالعرب المستعربة
هم من سللة إبراهيم عليه السلم ،أرأيتم في ديانة إبراهيم شيئا ً من الوثنية
84
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
والصنمية ؟ إن إبراهيم عليه السلم جاء بها بيضاء نقية حنيفية سمحاء
وتوحيدا ً مطلقا ً ل شرك ول شائبة من شوائب الشرك ،فلماذا إذا ً وجدنا هذه
المة حينما جاءها محمد صلى الله عليه وسلم ول شيء أظهر عندها من
عبادة الصنام ؟ أهو شيء اخترعوه وابتدعوه أم هو شيء طرأ عليهم من
الخارج ؟ من حيث المردود العملي فل فرق ُيذكر بين أن تكون الصنام
طارئة من الخارج أم نابعة من ذات المة ،لكن من وجهة إبراز مكانة المة
فعلينا أن ننظر في القضية نظرا ً أدق وأقرب إلى وقائع التاريخ ،إن المة
العربية والتي هي نسل إسماعيل والتي تلقت رسالة إبراهيم وإسماعيل
عليهما السلم لبثت على الحنيفية السمحة ،ويقول الرواة إن إسماعيل عليه
السلم تزوج امرأة من قبيلة جرهم ،حينما أنزل إبراهيم عليه السلم هاجر
وابنها في مكان البيت كان البيت ربوة بيضاء ول ماء ول شيء ،وترك أهله
الخرين في العراق وترك إسماعيل في الحجاز ومضى عائدا ً إلى العراق ،لم
يكن في المكان إل هاجر وابنها الرضيع إسماعيل .
)(4 /
ها نحن في قصة إسماعيل ،المهم أن البادية أعز شيء فيها هو الماء ،حيثما
ُوجد الماء وجد السكان ،والمكان الذي ل ماء فيه ل سكان فيه ،منطقة
البيت لم يكن فيها ماء ولهذا لم يكن فيها سكان ،حينما أنبع الله جل وعل
وم حول المكان فلحظت زمزم لهاجر وابنها إسماعيل بدأت هذه الطيور تح ّ
ومفصائل من قبيلة جرهم وهي من العرب العاربة لحظت وجود طائر يح ّ
حول مكان معين قال قائلهم ل بد أن يكون هناك ماء ،وقصدوا هذا المكان
ولدهشتهم وجدوا الماء فعل ً ولكن لم يجدوا إل امرأة تحمل على صدرها
رضيعا ً .وبما أن في العرب خلئق جيدة ،لو كان هؤلء يتمتعون بروح الشر
والعدوان فماذا تستطيع امرأة أن تفعل أمام قبيلة ؟ ومع ذلك فإن القبيلة
احترمت هذه المرأة وابنها واستأذنوا المرأة بأن يخيموا في هذا المكان .
فوافقت المرأة ولكن قالت لهم :ولكن الماء لنا .وكبر إسماعيل عليه
السلم وهو ل يرى إل هذه القبيلة أمامه .ثم تزوج من هذه القبيلة وانتشرت
ذرية إسماعيل .حينما انتشرت هذه الذرية وتكاثرت كان بينها ما يكون بين
الناس في مزدحم الحياة ،الخلفات والقتال ..وجد الناس أنفسهم مضطرين
أن يرحلوا ،بعضهم خرج إلى مناطق أخرى ولكن ضمن جزيرة العرب ،مكة
المشرفة من خصائصها أن القلوب تهوي إليها ،وأن النسان إذا رآها مرة إل
ويسكنه الحنين إليها طيلة عمره .حينما وقف النبي صلى الله عليه وسلم
وهو يتأهب للهجرة من مكة إلى المدينة نظر إلى البيت وإلى ربوع مكة التي
كانت ملعب الصبا ومدارج الشباب ونظر إلى هذه البقاع التي شهدت أخطر
وأصعب مرحلة من حياة محمد صلى الله عليه وسلم وقال يخاطب مكة :
والله إنك لحب بلد الله إلى الله ،ولول أن قومك أخرجوني منك ما
خرجت .مكة حبيبة إلى النفوس ،أرانا الله جميعا ً إياها إن شاء الله .
حينما اضطرت بعض فصائل من ذرية إسماعيل للهجرة لشوقهم إلى مكة
أخذوا معهم شيئا ً من حجارة مكة ،كانوا يتذكرون هذا البلد الحبيب إلى
نفوسهم ،ل شيء أكثر من ذلك في المرحلة الولى .ولحظوا كيف تتسلل
العقائد الفاسدة وكيف يدخل تيار النحراف إلى النفوس ؟ في المبدأ ليس
أكثر من أنك حملت صورة صديق أو حبيب ووضعتها في جيبك وكلما تشوقت
إليه استخرجت الصورة من جيبك ونظرت إليها .كذلك فعل العربي حين
85
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
هاجر من مكة أخذ معه بعضا ً من حجارة الكعبة ،كلما اشتاق إليها نظر إلى
هذه الحجارة ،في مرحلة الشوق الولى تكفيك النظر فترى أن شوقك قد
روي ،ولكنك مع شدة الشوق ل تكتفي بذلك تضع يدك فتلمس فتشعر بهذا
التيار العجيب الهادئ إلى نفسك ،ثم أخذوا يتلمسون هذه الحجارة كل
فترة ،ومع الزمن ومع توالي الجيال زادت المحبة وانقلبت المحبة إلى
قداسة ،وانقلبت لمسة الحب إلى تقديس وعبادة ،وأصبح لدى العرب من
العقائد والشعائر أنهم يتمسحون بالصنام تكملة إلى أداء الشعيرة التي
يريدونها .ثم تتطور المر ،هذه الحجارة الصماء أخذ الناس يشكلون فيها مع
عبدت من عبدت ومسحت ثم ُنحر لها ثم ُ الزمن على هيئة صنم فطورت ثم ُ
دون الله تعالى .
من هنا إذا ً نشأت الوثنية ،انظر إلى البداية ثم إلى النهاية تجد أن العمل
الول ل شيء فيه ،ثم تتطور المر إلى العبادة .فنحن حين نعرض إلى
توجيهات السلم نجد السلم غاية في الحكمة وبعد النظر ،حينما كان
م أن يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل على أصحابه كان بعضهم يه ّ
إجلل ً واحتراما ً للرسول صلى الله عليه وسلم ،فأنتم تعرفون الن أنه حين
ندخل إلى مجلس من المجالس ول يقوم الناس لنا حين ندخل نغضب ونشعر
بأنه ُألحقت بنا إهانة ،النبي صلى الله عليه وسلم بنظره المحكم كان يقول
لهم :اجلسوا ،ل تقوموا لي كما تفعل العاجم يعظم بعضها بعضا ً .النبي
صلى الله عليه وسلم يعلم أن العاجم عبدت ملوكها ،فرعون كان ُيعبد من
دون الله ،إمبراطور الرومان كان ُيعبد من دون الله ،وكذلك كسرى .ما
الملك ؟ هو بشر من البشر اختير من قبيلة قوية ليكون مدبرا ً .له شيء من
الحترام ول شيء أكثر من ذلك .لكنه مع الزمن يستخف قومه فإذا هو
يفرض عليهم مع الزمن احتراما ً أكثر وهكذا حتى يطلب منهم أن يعبدوه .
)(5 /
النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع من هذه الظاهرة .وحين مرض صلى
الله عليه وسلم مرضه الخير وكانت تأخذه غاشية الموت كان يغطي وجهه
بثوب ،فإذا أفاق رفع الثوب من على وجهه ومسح وجهه وقال :اشتد غضب
الله على ُأناس اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ،اللهم ل تجعل قبري من بعدي
وثنا ُ ُيعبد .إن تطور الحترام إلى تقديس أمر وارد ،ونحن نستطيع أن نلمح
هذا في حياتنا المعاصرة ،بعد عشرات ومئات اللوف من السنين التي
قطعتها البشرية وهي تعيش وهي ترى كيف يموت الزعماء وكيف يحيون ؟
نحن ليس بعيدا ً عنا أن الزعماء كانوا ُيعبدون من دون الله جل وعل وأن
تماثيلهم وأصنامهم ُنصبت على الطرقات كي تجذب اهتمام الناس ،ونحن
نرى ونسمع مما عاصرناه أنه من السهل عليك أن تشتم الله وأن تكفر بأنبياء
الله جميعا ً ،لكن ليس من السهل عليك أن تسب أمام ضعيف عقل أحد
وط ..ويعيش ويموت ، هؤلء الناس وزعيما ً من الزعماء يأكل وينام ويتغ ّ
والنسانية لم تستفد من هذه التجربة بعد مئات من اللوف من السنين
عاشتها وهي ترى أن إنسانا ً ل يختلف عن إنسان ،وأن إنسانا ً ل يصح أن
ينحني أمام إنسان .من هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا ً على أن
يرفع هامة المسلم وأن يمنعها من أن تنحني لغير الله تعالى .ولهذا فنحن
نجد أن ظاهرة النحسار والنحطاط التي تعرضت لها المة كانت مصحوبة
للسف الشديد بهذا التقديس المبالغ فيه للصالحين وأصحاب الكرامات وما
86
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أشبه ذلك ،فهذا ينذر للقبر وهذا يسجد للقبر ..مما يخيل إليك أن المة
عادت إلى جاهلية الولى .مراحل النحطاط كانت دائما مترافقة بهذه
الظاهرة .فالسلم يحرص على سد مثل هذه البواب أمام المسلم .
فمرحلة الوثنية نشأت من هذا الشيء ،أصلها حنين إلى البيت الحرام ثم إلى
عبدت من دون الله تعالى .وحين ُبعث أخذ حجارة من البيت ثم مع الزمن ُ
النبي صلى الله عليه وسلم كانت الوثنية أعجوبة من العاجيب ،كان الرجل
منهم يتقّرب من مناة وإلى العزى ..ثم ل يكفيه هذا ،فل بد أن تعلق حول
الكعبة ثلث مائة وستون صنما ً حينما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة
المكرمة وفتحت أبواب الكعبة أخذ يطعنها بقوسه وهو يقول ) قل جاء الحق
وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ً ( وكانت هذه الصنام تنكب للوجوه على
الرض ،وكان كذلك الذي حدث في كل بيت من بيوت العرب التي فيها
أصنام .
وما قصة عمرو بن الجموح عنكم ببعيدة ،حينما فشى السلم أسلم أولد
عمرو بن الجموح وكان لعمرو بن الجموح صنم من الخشب ،كيف يحتال
أولده لكي يزعزعوا ثقة الشيخ بهذا الصنم ،كانوا كلما نام الشيخ جروا
الصنم إلى المكان الذي ُتلقى فيها القذار ،فإذا استيقظ من نومه وأراد أن
يقيم بعض الشعائر عند صنمه لم يجده فبحث عنه حتى يجده بين القذار
فيأخذه ويغسله ويطيبه ثم يعبده ،وفي المرة الخيرة ربط أولده هذا الصنم
بكلب ميت ،فاكتشف الرجل أن هذا المر ضللة .فكل بيت من بيوت
العرب فيها صنم .
تسمعون في سورة نوح أن الله جل وعل يحكي عن قوم نوح ) وقالوا ل
ن ودا ً ول سواعا ً ول يغوث ويعوق ونسرا ً وقد أضلوا كثيرا ًن آلهتكم ول تذر ّتذر ّ
( فهذه أسماء كانت أسماء أصنام كانت ُتعبد عند قوم نوح ،وتعرفون أن
نوحا ً عليه السلم عاش ألفا ً إل خمسين سنة من عمره في قومه ،وكان
الرجل من قومه إذا كبر وشاخ يأتي بابنه إلى نوح ويقول له :احذر هذا
الكذاب فإن أبي جاء بي وأنا في مثل سنك وقال لي :احذر هذا الكذاب .
الباء يوصون البناء بتكذيب نوح عليه السلم .إلى هذه الدرجة كانت عبادة
الصنام متأصلة فيهم .
هناك اتجاه آخر في قضية عبادة الصنام جديٌر باعتبار ،ويشده حديث للنبي
صلى الله عليه وسلم ُيقال إن أبا خزاعة ) وخزاعة هي القبيلة الم للقبائل
القرشية جميعا ً ( أي ) عمرو بن لحي الخزاعي ( مرض حتى أشرف على
الموت فقالوا له إن في الشام ) حمى ( فيها ماء ساخن فلو ذهبت إلى هناك
واستحممت فيها برئت ،وذهب عمرو إلى الشام حتى استحمى بالحمى
فبرئ ،ووجد في الشام أنهم يضعون تماثيل وأصنام ،فقال لهم :ما هذه ؟
فقالوا :هذه أصنام نستمطر بها المطر ونستنصر بها على العدو ،فطلب
منهم أن يعيروه واحدا ً منها فأعطوه واحدا ً ،فذلك أول دخول الوثنية إلى
جزيرة العرب .إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول :رأيت عمرو بن لحي
في النار يجر قصبه في النار ) أي أمعاءه ( لنه كان أول من بحر البحيرة
وسّيب السائبة وحمى الحامي وغّير دين إبراهيم عليه السلم .فمضمون
الحديث إلى الواقعة التاريخية تشعر إلى أن الصنمية تحدرت من مشارف
الشام من الحمى وهي قريبة من درعا التي على الحدود الردنية الفلسطينية
السورية .
)(6 /
87
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الشيء الثاني ،حينما ننظر إلى الية نكتشف مقابلة لطيفة ،انظر إلى الية )
أفرأيتم اللت والعزى ،ومناة الثالثة الخرى ،ألكم الذكر وله النثى ،تلك إذا ً
قسمة ضيزى ،إن هي إل أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من
سلطان ( لحظوا ،إننا هنا أمام مقابلة بين الله الحق واللهة المدعاة ،
الفارق الجوهري بين الله الحق أنه إله بالذات وأن اللهة المدعاة آلهة
بالتسمية بالسم ،الله جل وعل إله لنه هو الخالق وهو يستحق اللوهية بذاته
،وأما اللهة المدعاة فسواء علينا كانت صنما ً أم بشرا ً أم حيوانا ً أم كوكبا ً في
السماء فنحن البشر الذين نسمي هذه السماء ،إذا كنا نحن نعطيها هذا
الوصف فنحن كما أعطينا نستطيع أن نسترد ،نحن كما سمينا نستطيع أن
نلغي ،لكن اكفر أنت ولتكفر الدنيا جميعا ً أذلك يغير من الحقيقة شيئا ً وهو
أن الله رب الولين والخرين وأن الله رب السماوات والرض ؟ إن الله ل
تتعّرض ألوهيته لكفران الناس جميعا ً لي خدش من الخدوش ،إن تكفروا
أنتم ومن في الرض جميعا ً فإن الله غني حميد .ففارق ُيلفت إليه النظر ،
إن الله إله ليست لنك أنت الذي أّلهته ولكن لنه هو إلهك ،وسمي إلها ً لنك
أنت تأله إليه أي تشتاق إليه وتنجذب إليه وتفتقر إليه فهو إله بالذات ،لكن
ت اللت والعزى ومناة وهبل وما أشبه ذلك ،أنت هذه الصنام حينما سمي َ
الذي سميته أم هي آلهة أعطت ومنعت وخلقت وأماتت ورزقت وأفقرت
وأغنت وأقنت ؟ ل ،أنت الذي فعلت هذا وإذا فالمسألة تذهب منك لتعود
إليك ،وقولك إن هؤلء اللهة ل يزيد في الحساب على أنه كلمة خرجت من
شفتيك ،ولهذا قال الله هنا ) إن هي إل أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ( ما
قال مسميات ،أنا كشخص مسمى ،ولكن حينما تسميني باسم الذي يعرفني
فالسم هو السم والمسمى غير السم ،فهذه الصنام أسماء أي ل حقيقة
لها في الواقع ل أثر لها بالمرة وهذا ما أرادت اليات أن تلفت نظر النسان
إليه بدقة ولطف ودون جرح ودون مهاترات ودون سباب ،القضية تحل في
ضوء العقل وفي ضوء الحكم في نور العقل تحل ،هذه الصنام التي أنتم
عليها هذا النمط من العبودية كله فاسد بدللة العقل وببداهة العقل وبقضية
العقل ،وبعد أن تعرض المور وأن تكشف بهذا الشكل ،أفنحن المسيطرون
على الناس أنحن جبارون أقلوب الناس بأيدينا ؟ ل إن المر بعد الكشف إلى
الله ،من شاء أخذ بقلبه وناصيته إلى طريق الحق والصواب ومن شاء صرفه
عن هذا الطريق ليرديه في مهاوي الهلك والبواري والعذاب المقيم ،فنسأل
الله سبحانه وتعالى أن ينير عقولنا وعقولكم وأن يضيء أمامنا وأمامكم
الطريق كي نعرف سبيل الطريق الوصول إليه تبارك وتعالى وصلى الله
تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين
.
)(7 /
88
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
وفيما قلناه في السبوع الماضي أن القرآن المكي بصورة عامة يدور حول
أمور أساسية كلها على امتداد ثلثة عشر عاما ً التي قضاها نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم في مكة ،كان يدور حول قضية اللوهية ،وثانيا ً حول مشكلة
الرسالة ،وثالثا ً حول قضية اليوم الخر .وإبراز هذه القضايا في الحاضر
ضروري ،هو ضروري من وجهة نظر الدراسة ،فالسورة كما عرفتم في أول
حديث عنه أثارت في وجهنا مشكلة ليست هينة ،لن فاتحة السورة تنتمي
إلى الوقت الذي حصل فيه السراء والمعراج وهو في أواخر السنة العاشرة
ونحن نتحدث عن وقائع تدور في فترة زمنية ل تتجاوز السنة السابعة من
المبعث ،ومن هنا فنحن نريد أن ننفذ إلى إكمال لبقية الحديث للحل الذي
قدمناه عن هذه المشكلة ،ثم نكمل ما تبقى من السورة .
قلنا إنه ل شك أن فاتحة سورة النجم تشير إلى واقعة حصلت في السراء
والمعراج متأخرة جدا ً من المرحلة المكية ،وقلنا إن هذه المشكلة ُتحل على
ضوء تاريخ القرآن ،فالقرآن حين دّون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
وبأمر منه وبتوقيف منه أيضا ً كانت آياته تنزل متفرقة ،كانت الية تنزل اليوم
،وقد تنزل الية بعد سنة أو أكثر ،وضربنا مثل ً سورة البقرة وهي مجموعة
في القرآن في سورة واحدة وقلنا إن فيها آيات ُتعد من أبكر اليات في
المرحلة المدنية ،كما أن فيها آية يقال إنها آخر ما نزل من القرآن ،فعمر
هذه السورة في النزال ل يقل عن تسع سنوات ،ومع ذلك فهي سورة
واحدة .والدارس للقرآن مضطر لن يأخذ السورة على أنها بناء واحد
ومتكامل ،لن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرتبها على الوجه الذي
رتبت عليه ،فوجود الية في سورة معينة أو وجود عدة آيات في سورة معينة
تشير إلى واقعة من الوقائع المحددة تاريخيا ً ل يعني أن السورة برمتها تنتمي
إلى الزمن الذي حصلت فيه الواقعة .تسميات السور قد ل تدل مطلقا ً على
مضامينها وقد ل تشير إلى شيء مما تضمنته ،عندنا سورة قاف سميت
بالحرف الهجائي الذي بدئت به ،فماذا تفهم من هذا الحرف مما يدل على
مضامين السورة ؟ ل شيء .عندنا سورة صاد وهي سورة سميت باسم
الحرف الهجائي الذي بدئت به السورة بصرف النظر عن مضامين السورة ،
قلنا إننا على هذا النحو نستطيع أن نقول إن فاتحة سورة النجم ل يعني أن
السورة برمتها نزلت متأخرة ،وبالتالي ل يسحب التشكيك على التوقيت
الذي وضعه بصورة متقاربة علماء القرآن حينما رتبوا القرآن وفاقا ً للنزول .
حينما ذهبنا نستعرض قضايا القرآن وقلنا لكم إن قضايا القرآن المكي عموما ً
تدور حول هذه القطاب الثلثة :اللوهية والرسالة واليوم الخر ،آن لنا أن
ننظر إلى فاتحة السورة من زاوية أخرى .لنرى أهي متنافرة مع الجو العام
الذي أشارت إليه السورة ؟ أم هي منسجمة معها كليا ً ؟ هذا هو الحديث
الذي نريد أن نبدأ به لنلفت النظر إلى أن الذين لم يرزقوا في القرآن ذوقا ً
خاصا ً ولم ُتكشف عن عيونهم الحجب لكي يذوقوا طعم هذا القرآن ،
يتصورون المور في القرآن تتكرر متشابهة مكروهة وهذا خطأ ،فالقضية من
القضايا التي تعرض في السورة كما تعرض في تلك كما تعرض في هاتيك ،
وهي هنا لها دللة وهي هناك لها دللة أخرى وهنالك لها دللة مغايرة ،قلنا إن
فاتحة السورة تشير إلى واقعة السراء والمعراج فلماذا سحبت هذه الواقعة
من السنة العاشرة أو بالحرى من أواخر السنة العاشرة لتحشر في سورة
أثارت قضايا ضمن السنوات الخمس الولى من البعثة ؟ حينما نعود إلى
استحضار ما نصصنا عليه من المور التي يدور حولها القرآن المكي ونتعرف
على قضية الرسالة وما يتفرع عليها من مشكلت أثارها الحجاج المكي
89
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(1 /
لقد كانت للمشركين ردود أفعال متباين ومختلفة حول ذلك ،أرأيت الذي
يحاصره خطر داهم يريد أن يأتي عليه ،كيف يحاول أن يتملص من هذا
الجانب أو ذاك ،كذلك حينما واجه محمد صلى الله عليه وسلم المة العربية
وعلى وجه الخصوص المجتمع المكي القرشي كذلك ُأخذت عليهم المور
وعميت عليهم السبل ،فهم تارة يدفعون عن أنفسهم بهذه الحجة وتارة
يثيرون في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المشكلة ..حينما قال
لهم :أنا رسول الله إليكم وإلى الناس جميعا ً ،أثاروا في وجهه مشكلة
الصلة بين النسان وعالم الغيب ،وأثاروا في وجهه مشكلة مبرر الختيار ،
لماذا أنت من دون الناس ،ألم يجد الله غيرك يرسله إلى الناس ،فكان من
مقالتهم ) لول ُأنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( لو أن
الرسالة تنزلت على عظيم من عظماء مكة أو الطائف وهما البلدتان الشهر
في المجتمع العربي الجاهلي ،لو أن الرسالة جاءت إلى رجل من هاتين
القريتين لكان مبررة ومعقولة ،ولكن أنت اليتيم والفقير تأتي بهذه الرسالة
العظيمة على الشياخ من قومك ،هذا شيء غريب ،وهناك مشكلت أخرى
ل داعي لذكرها .
فكما أن القرآن الكريم يتولى تفنيد حجج المشركين والرد عليهم ويبرز من
خلل ذلك مكانة النبي صلى الله عليه وسلم والمبررات التي جعلت الله جل
وعل يختار هذا اليتيم الفقير من أهل مكة ليختصه برسالته ،والله تعالى
يقول ) الله أعلم حيث يجعل رسالته ( فالمر ليس إلى الناس ،والمسألة
ليست مسألة مجاملت ومودات ولكنه اصطفاء من الله ) الله يصطفي من
الملئكة رسل ً ومن الناس ( والصطفاء قائم على مبررات كاملة والمعقولة
في علم الله جل وعل وأمام العقل البشري أيضا ً .
هذه المشكلة أثيرت من زاوية معينة في فاتحة سورة النجم ،أشارت
السورة إلى ما كان في السراء والمعراج ولكنكم ترون أن السورة لم
تتعرض لتفاصيل السراء والمعراج وأن السراء اختص بالقرآن بسورة خاصة
سميت بهذا السم هي سورة السراء تحدثت عن هذه المعجزة الخالدة ،
لكن فاتحة سورة النجم أخذت جانبا ً آخر .
)(2 /
90
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
مجردا ً وإنما موصوفا ً بالهوي والتغير والنحدار والحدوث لكي يترك هذا
الشعاع اللطيف الذي ينفذ إلى الحس ويأخذ بمجامع النفوس حين يشير إلى
آلهة من آلهة العرب تعبدها من غير استحقاق ومن غير جدارة ،وتعبدها لماذا
؟ لنها بعيدة فقط ومتعالية عن أن تنالها اليد في ذلك الزمان .ولكن المر
انتهى عند هذا الحد ليسوق الله تعالى الحديث في اتجاه قضية النبوة وهي
عني بها القرآن المكي ،قال لهم ) والنجم إذا إحدى القضايا الرئيسية التي ُ
هوى ،ما ضل صاحبكم وما غوى ،وما ينطق عن الهوى ،إن هو إل وحي
يوحى ،علمه شديد القوى ( وشديد القوى هنا يشار به إلى جبريل عليه
السلم ) ذو مرة فاستوى ( المرة أي القوة ،والصل في المرة الحبل ُيفتل
فتل ً شديدا ً حتى يقوى فيقال :استمر مرير فلن أي مضى في المر الذي هو
قاصد إليه بحزم وعزم وقوة ،فالمراد بذي المرة ذو القوة ) ذو مرة فاستوى
،وهو بالفق العلى ،ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ،فأوحى إلى
عبده ما أوحى ( إلى هذا الحد من اليات تكون فاتحة السورة قد عرضت
علينا عددا ً من القضايا ،أول هذه القضايا تبرئة محمد صلى الله عليه وسلم
مما اتهمه به المشركون ،فالمشركون قالوا عنه أنه كذاب ومجنون وشاعر
وساحر وكاهن وقالوا إن هذا الذي يأتي به أساطير الولين أي كلم من
الخرافات التي ترويها العجائز فهي تملى عليه بكرة وأصيل ً ،وقالوا إنما
يعلمه بشر من هؤلء الذين لفظتهم دولة الرومان فجاءوا مشردين إلى
الجزيرة العربية يسكنون هنا وهناك فرد الله عليهم قائل ً ) لسان الذي
يلحدون إليه ( يتهمون محمدا ً صلى الله عليه وسلم بالخذ عنه ) لسان الذي
يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ( فلو أنك ضممت كل هذه التهم
التي ألصقها الجاهليون بمحمد صلى الله عليه وسلم لكان حصيلتها أن من
يتصف بهذه الوصاف جميعا ً هو ضال ومتقول ومفترٍ ،نزه الله تعالى نبيه
وحبيبه صلى الله عليه وسلم من مطاعن المشركين بصياغة ل بد أن يلتفت
إليها النسان ليدرك إعجاب القرآن وليدرك البلغة التي تتقطع دونها العناق
وليدرك أن قصارى ما يبلغه طوق البشر أن يشموا شيئا ً من روائح هذه
البلغة المعجزة .لحظوا ) ما ضل صاحبكم وما غوى ( ما قال ما ضل محمد
،وما قال ما ضل عبدي ،وما قال ما ضل رسول الله ،وإنما قال ) :ما ضل
صاحبكم ( بهذه اللفظة المفردة التي هي صاحبكم أثيرت المشكلة على
صعيد الواقع وهو أجدى الصعدة التي ُتثار عليها المشكلت ،من محمد ؟
أنتم الن تماروا وتجادلون في صحة وأحقية هذا الذي يأتيكم به رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،أتجهلونه يا معاشر العرب ؟ أليس محمد هو اليتيم
الذي ولد لعبد الله ،ثم ماتت أمه وجده ثم ُترك لمعضلت الحياة
ومشكلتها ؟ وهو الذي عاش بينكم أربعين عاما ً ليس يوما ً ول يومين ول سنة
ول سنتين وإنما هي أربعون عاما ً ،صرفها بينكم يا معاشر المكيين فهو
صاحبكم تعرفونه كما يعرف الصاحب صاحبه ،ليس غريبا ً عنكم ،في كل
مراحل حياته أخذتم معه وأعطيتم ،أجّربتم عليه كذبا ً ؟ هل رأيتم عليه في
كل مراحل حياته صبوة أو كبوة ؟ هل لحظتم عليه شيئا ً من اختلل العقل أو
ما شابه ذلك ؟ ل من هذا ول من ذاك .يرحم الله أبا العلء لقد كان يدرك أن
النسان إذا قطع أشواطا ً من عمره حتى جاوز مرحلة معينة فل خوف عليه ،
كان يقول :
وما بعد الربعين صباء
ما بعد الربعين انحراف إل عند هؤلء المسوخ التي يستعبدها الشيطان .
تجارب الحياة الطويلة تعيب عليه أن يفعل ما يعيب ،بل تجعله أن يتوقر .
91
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(3 /
ولهذا نجد الله تعالى يكشف الحقيقة عارية حينما تزايدت تهجمات المشركين
على محمد صلى الله عيه وسلم وهو بشر يأخذه ما يأخذ البشر من ألم
نفسي ،ولكن الله قال له ) فإنهم ل يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله
يجحدون ( كل واحد منهم فيما بينه وبين نفسه ل يجرؤ على أن يقول إن
محمدا ً يتورط في الكذب ،بل أشرافهم حينما كانوا يجلسون في منتدياتهم
كانوا يستعرضون أمر محمد صلى الله عليه وسلم فيقرون بأنه الصادق
المين ،بل أين نحن من زمن سوف يأتي بعد سنوات من الخصومة قامت
على أشدها بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين المشركين ،والمشركون
قبل الرسالة يعرفون صدق محمد وأمانته ،فما منهم من أحد عنده شيء
نفيس يريد أن يحافظ عليه إل ذهب إلى محمد ووضعه عنده .أثناء اشتداد
المعركة معهم يقولون له إنك كاذب أو شاعر أو كاهن أو ساحر أو مجنون
..ولكن أحدا ً منهم لم يفكر مطلقا ً في أن يقول له :هات وديعتي التي عندك
فإنك كذاب .ما قالوا هذا ،حين عزم محمد صلى الله عليه وسلم الهجرة
إلى المدينة كانت ودائع المشركين عنده وقد خّلف الرسول صلى الله عليه
وسلم عليا ً رضي الله عنه حتى يرد ّ هذه الودائع إلى أهلها .فشخص محمد
صلى الله عليه وسلم فوق الريبة والشكوك .
) ما ضل صاحبكم وما غوى ( ولكن قد ل يضل النسان ،يمشي في الدنيا
مستقيما ً ول ينحدر إلى رذائل الخلق ،ولكنه من ذات نفسه ،بمحض
تصوراته ..وهنا فارق أساسي وجوهري بين النبي وغير النبي .النبي مرسل
ول وإنما يوصل ما ُأرسل به ل أقل ول أكثر ، أي مؤتمن ومبلغ ،والمبلغ ل يتق ّ
فالله تعالى أبرز الوصف الثاني برسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) وما
ينطق عن الهوى ( هذا الذي يقوله لكم ويجاهر به أمامكم ليسن من كلم
محمد ول تصورا ً من تصورات محمد ول تفكيرا ً من تفكيره ول شيئا ً من
هواه ،نحن كما بشر نحب ونكره ويروق لنا أن نوصل الخير إلى من نحب ،
وقد ُندخل هذا الخبر اللذيذ أن نلحق الشر بمن نكره ،ومن هنا فالنسان
العادي إن لم تصحبه عناية الله من جهة ،وإن لم يكن رقيبا ً عليها فإن هذه
العواصف المتضاربة التي تعتري النسان ل بد أن تنعكس على سلوكه ،
محاباة ومجاملة أو تحامل ً وعنفا ً على العداء .إل أن الرسالة شيء آخر ،
هناك فاصل حاسم بين الرسالة التي جاءت من خالق الكون لتنظم شؤون
الكون إلى آخر عمر الكون وبين تصورات المخلوقين ،نحن فيما يتعلق
بتصورات التي عاشت على البشرية وما زالت تعيش ما نزال قانونا ً ينسخ
قانونا ً وشريعة تنهي شريعة واتجاها ً يدمدم على اتجاه ،ما معنى هذا ؟ الناس
هم الناس ،النسان رأسه في أعله ورجله في أسفله ،لم يتحول ويمشي
على رأسه ويفكر برجليه ،والنسان يمشي رجليه لم يتحول ليمشي على
أربع ،منذ أن خلق الله سيدنا آدم النسان لم يغير شيئا ً في جوهره ،
والملكات النفسية والشواق الروحية والتصورات العقلية هي نفسها ،فإذا
كان المخلوق البشري هو نفسه منذ أن خلقه الله فما الذي يبرر اختلف
النظم من وقت إلى وقت ،من جيل إلى جيل ومن زمان إلى زمان ومن
مكان إلى مكان .الذي يبرر هذا فعل ً هو أن النسان إن لم يكن مرتبطا ً
بوحي الله جل وعل يفيء إليه حين تختلط عليه السبل والطرق فإنه سوف
يتأثر ل محالة بهذه النوازع التي توجدها في داخله الظروف والحوال التي
يعيش فيها .
92
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
لو أننا تركنا الناس يفكرون لنفسهم فالنسان يحب ذاته ويحب قريبه
وأصدقائه ،والنسان يكره أعداءه ويريد أن يلحق الضرر بهؤلء الذين ألحقوا
به الضرار ،فساحة الحياة حين ُتترك بين يدي النسان لن تكون أقل من
ساحة حرب أو ساحة وحوش ولن تكون النتيجة أقل من مجازر هنا وهناك .
التفتوا إلى الماضي البعيد أو القريب في التاريخ كله فأنتم تعثرون على
النتائج الوخيمة التي وقعت فيها البشرية من وراء احتكامها إلى تصوراتها
وأهوائها ومن وراء نبذها لكلم الله تعالى .
)(4 /
فالرسالة جوهرها الساسي وهي تعرض الن على المكيين المكذبين لتحدث
تغييرا ً جوهريا ً في حياتهم وحياة المجتمع البشري تعزل منذ بداية الطريق
عاطفة الرسول وهواه ورغبته عن حقائقها النازلة وحيا ً من الله جل وعل .
دث الرسول صلى الله عليه وسلم يقول إنه يغضب كما يغضب البشر فإذا ح ّ
الناس عن شيء من شؤون دنياهم أنتم أعلم بشئون دنياكم .أنتم
تستطيعون أن تفلحوا وتزرعوا ،وبالتأكيد أي إنسان من المسلمين في ذلك
الزمان كان يعرف من أمور الزراعة أكثر مما يعرف محمد صلى الله عليه
وسلم ،جاء مرة في المدينة فوجدهم يلقحون النخل ،قال :ما تفعلون ؟
قالوا :نلقح النخل .قال :ما أظن أن هذا يغني شيئا ً .هذا رأيه ،لو لم تلقح
النخلة لثمرت ،هذا ما تصوره الرسول صلى الله عليه وسلم ،فترك
المسلمون التلقيح ،فجاء التمر غير كامل النضج .فلما رأى ما رأى صلى
الله عليه وسلم قال لهم :ما حدثتم عن أمر دنياكم فأنتم أعلم بشئون
دنياكم ،وما حدثكم عن الله فإني ل أكذب على الله .فالنبي صلى الله عليه
ول ول يقول من عنده شيئا ً ،والله تعالى يخرج هذه القضية وسلم ل يتق ّ
ول علينا مخرج التهديد المرعب لرسول صلى الله عليه وسلم فيقول ) ولو تق ّ
بعض القاويل لخذنا منه باليمين ،ثم لقطعنا منه الوتين ،فما منكم من أحد
ول على الله غير واردة في سلوك النبياء . عنه حاجزين ( مسألة التق ّ
نحن المسلمين يتكرر فشلنا ،لماذا ؟ لننا لم نملك بعد ُ القدرة الضرورية
على أن نعزل عواطفنا وأهواءنا عن ميدان الدعوة .الدعوة توجه إلى العدو
والصديق بمنتهى اللطف والرغبة في أن يأذن الله جل وعل لهؤلء الناس أن
تتفتح مغاليق قلوبهم ،ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعث عليا ً إلى
اليمن أوصاه :لئن يهدي الله بك رجل ً واحدا ً خير لك مما طلعت عليه
الشمس وغربت .فالمهم أن يهتدي الناس ،وليس أن نتشفى من الناس .
والمهم أن يتعّرف الناس على طريق الله وليس أن نسفك دماء الناس .
ولهذا فهذه القضية عرضت بهذا اليجاز ) وما ينطق عن الهوى ( شخصه
معزول ،رغباته معزولة عن المجال الوحي ثم يصف هذا الكلم ) إن هو (
بهذه الصياغة التي تدل على أشد النفي والبعاد ) إن هو إل وحي يوحى ( هذا
الكلم إذا ً وحي من الله ،والوحي عرضنا قبل اليوم في ما مضى ،لكن هذا
الوحي حينما يتحدث عنه القرآن في هذه السورة يأتي الحديث مقرونا ً أو
مشحونا ً بما يلمح إلى ادعاءات المشركين ،نحن نقتطع من القرآن شريحة ،
هذه الشريحة ليست شيئا ً جامدا ً وإنما هي تعبر عن واقع المعاش عن فترة
زمنية عاشتها الدعوة المحمدية ،عن أناس تحركوا خللها وانفعلوا بأحداثها
وتركوا بصمات عليها ،هذه الشريحة ل يمكن أن تكون موعظة معزولة عن
الواقع ،ولكنها كلم يتصل بالواقع ولكنه اتصال الذي يحتاج إلى الذهن اللماح
93
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الذي يستطيع أن يدرك نوعية هذه الصلت ،قال المشركون إن محمدا ً صلى
الله عليه وسلم يتسقط الخبار والحاديث من الذين يعرفون أخبار الفرس
والروم أو من أهل الكتاب ،فجاء الكلم بأنه ) علمه شديد القوى ( وإنما هو
من طريق جبريل عليه السلم ،طريق الملك الذي هو الصلة بين الله جل
وعل وبين من اصطفاه تبارك وتعالى لداء الرسالة .هذا الملك ربما يقع في
تصور الناس أنه مخلوق كنحن ول غرابة ،فالنسان في تصوراته محكوم
بواقعه ،بحالته التي هو فيها بشرائط الدنيا ،ولهذا فنحن حينما نستعرض
الساحة الدينية في العالم القديم نجد أن المم القديمة الوثنية حينما نحتت
أصناما ً آلهة نحتتها على شكل الدميين ،جسم إنسان ربما يزيد فيه ذنب
سمكة أو أجنحة لكي يشيروا إلى تمييزه عن الناس ،ولنه على الجملة وفي
الساس على التصور البشري جاء ،فالنسان ل يستطيع أن يتصور المغيبات
إل انطلقا ً من ذاته وشخصه ومن معطيات هذه الذات فقط ،فالنسان قد
يتصور الله على صورة إنسان وهذا خطأ ،وقد يتصور جبريل على صورة
البشر وهذا خطأ ،والبشر يخضعون إلى هذه الحالت من الضعف كل هذا
خطأ ،وإنما هو شديد القوى ،هذا الملك قوي على أمر الله جل وعل ل
تحيط به عقولكم ،لن أبصاركم ل تدركه .
) ذو مرة فاستوى ،وهو بالفق العلى ( أي أن جبريل عليه السلم قوي
مستوٍ بالفق العلى حينما جاء إلى محمد صلى الله عله وسلم بهذه الرسالة
،حينما نضع هذه الية إلى جانب الية الماضية ) وما ينطق عن الهوى (
تكتمل صورة التفريق بين ما يريد النسان وما يريده الله جل وعل ،أول ً :
طبيعة الوحي أنه معزول عن رغبات البشر ،ثانيا ً :الذي يحمل كلم الله
مخلوق مستوٍ في أفق السماء ،والموحى إليه هو محمد صلى الله عليه
وسلم البشر الذي تختلف طبيعته عن طبيعة جبريل .فترون القضية متشابكة
.
)(5 /
) ثم دنى فتدلى ،فكان قاب قوسين أو أدنى ،فأوحى إلى عبده ما أوحى (
أي أوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى ) ما كذب الفؤاد
ما رأى ( هنا نصل إلى نهاية السورة تقريبا ً التي صورت قضية الوحي ،
أبرزتها للمؤمنين كي يزدادوا إيمانا ً إلى إيمانهم ،وقربتها للمشركين لكي
يفيئوا إلى أمر الله ولكي يدركوا أن القضية على خلف ما يتصورون كما وقع
في أخيلتهم وأذهانهم ،وإنما هي عملية قادر مقتدر رتبها الله جل وعل لتكون
بلغه الخير إلى الناس .
حينما تصل اليات في التشخيص والتصوير هذا الحد يلتفت الخطاب ل إلى
أحد ،وإنما ُيترك مطلقا ً ) ما كذب الفؤاد ما رأى ( ليس ضروريا ً أن يوجه هذا
الخطاب إلى المشركين ،وليس ضروريا ً أن يوجه إلى محمد صلى الله عليه
عرضت عرضت بمبرراتها الكاملة ،و ُ
وسلم ول إلى المسلمين ،إن القضية ُ
بحججها الحسية والعقلية ،فإذا ً ُتركت القضية مجردة ) ما كذب الفؤاد ما
رأى ( إن قلب محمد صلى الله عليه وسلم بما وقع به من تصديق لمر الله
جل وعل لم يكن كاذبا ً ولم يكن زائغا ً ،وإذا كان المر كذلك فسينصب
الخطاب إلى المشركين ) أفتمارونه على ما يرى ( أتكذبونه بهذا الشيء
الذي رآه ،إننا أمام شخصين مثل ً :شخص يتمتع بقدرة بصرية خارقة ،
وشخص آخر ضعيف البصر ،الذي يتمتع بالقدرة البصرية الكاملة قد يرى
94
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الشخص يتحرك على بعد عدد كبير من المتار ،والذي يتمتع ببصر ضعيف ل
بد أن تناوله الشيء مناولة ،حينما يقول صاحب البصر الممتد :أنا أرى من
الجانب الثاني من النهر خيال شخص ،يأتي صاحب البصر الضعيف ويقول له
:ل .نقول له يا هذا الزم حدك .إن المجال ليس مجالك ،هذا يرى وأنت ل
ترى ،والعمى ليس حجة على المبصر ،فما دام المر كذلك وما دام محمد
صلى الله عليه وسلم رأى من أمر ربه ما رأى واطمأن إلى ما رآه وكان
بشهادتكم صادقا ً فيما يقول فلماذا تكذبونه فيما رآه ؟ ) أفتمارونه على ما
يرى ( .
)(6 /
) ولقد رآه نزلة أخرى ،عند سدرة المنتهى ( هنا جاء الحديث عن السراء
والمعراج ،لن محمد صلى الله عليه وسلم لم يَر جبريل عليه السلم على
صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها إل مرتين ،مرة وهو في حراء ،ومرة
في المعراج ،أول ما جاء إليه الوحي وبعد أن فتر قليل ً وذهب محمد صلى
الله عليه وسلم ليتردى من الجبال حزنا ً على هذا الوحي الذي فتر عنه تبدى
له جبريل عليه السلم ،ناداه :يا محمد ،قال :فالتفت يمينا ً فلم أَر شيئا ً ،
والتفت شمال ً فلم أَر شيئا ً ،وأمامي وخلفي فلم أَر شيئا ً ،فتكرر النداء
فرفعت طرفي إلى السماء فإذا جبريل ساد بجناحيه أفق السماء ،فجفلت
رعبا ً ،فطمأنه جبريل عليه السلم وقال له :أنا جبريل وأنت رسول الله .
هذه هي المرة الولى ،والمرة الثانية التي أشار إليها القرآن بهذه السورة
) ولقد رآه نزلة أخرى ،عند سدرة المنتهى ( في الرحلة العجيبة في السراء
عرج به إلى السماء إلى حيث التي ُأسري به من مكة إلى بيت المقدس و ُ
ينتهي كل مخلوق ،إلى سدرة المنتهى التي ل يعرف وصفها إل الله جل
وعل ،هناك أيضا ً رأى الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلم
بصورته التي خلقه الله عليها ،قال :لقد رأيته وله ستمائة جناح .الرسول
صلى الله عليه وسلم رأى جبريل مرتين ،أما المرة الولى فمفهوم أن يشار
إليها ،وأما المرة الثانية فما مبرر الشارة إليها ؟ من هذه الزاوية الضيقة
ولكن ليس لنا غيرها نستطيع أن ندخل إلى تأطير فاتحة السورة في هذا
الجو المكي المبكر ،إن الكلم ينصب على أمين الوحي فهو جبريل وهو
القوي والمين وهو الذي رآه في الفق العلى ثم رآه نزلة أخرى عند سدرة
المنتهى وذلك في حادثة السراء والمعراج ،فالشارة إلى ما كان في
السراء والمعراج ليست مقصودة بالذات وإنما هي مقصودة تبعا ً لكي تزيد
من الظلل التي توقع القناعة في النفوس بقوة أمين الوحي وبقدرته على
إبلغ كلم الله جل وعل إلى الناس ،خذ إليك ما شرحناه الن تجد أن فاتحة
السورة من أولها إلى الحد الذي انتهينا إليه يتحدث عن موضوع النبوة .
وموضوع النبوة من الموضوعات المبكرة في الدعوة ،بل لعل موضوع النبوة
أسبق الموضوعات جميعا ً التي أثارها المشركون في وجه رسول الله صلى
الله عليه وسلم ،هنا دخلت فاتحة السورة بإشارتها إلى ما حدث في السراء
والمعراج دخلت في جسم السورة دخول ً طبيعيا ً أنيقا ً هينا ً لينا ً معجبا ً معجزا ً ،
وهذا هو الذي يجب أن يلتفت إليه دارس القرآن .القرآن نزل ليخاطب جملة
الملكات النسانية ،ليس فقط يخاطب عقلك ،ولكن يخاطب عقلك وما فيه
من مقاييس ،ويخاطب معارفك ومعلوماتك وما تستدعيه أنت من خزانة
ذاكرة وأنت تقرأ الكتاب ،ويخاطب أحاسيسك ومشاعرك ،ويخاطب قلبك
95
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أي يخاطب الكينونة البشرية بكل ما فيها من قوى ومواهب وإمكانات وحوافز
ودوافع ،فالنسان الذي يقرأ القرآن إذا لم يكن مقبل ً عليه بكل ما فيه من
طاقة وقوى وإمكانات ل يمكن بتاتا ً أن يفيد من هذا الكلم اللهي إل كما يفيد
النسان الذي يمر فيسمع لغوا ً من لغو الحديث ل أكثر ول أقل .فاتقوا الله
في قرآنكم ،واقرأوه كما ينبغي لكم أن تقرأوه ،وثقة أحدثكم ـ وهذا من
التحدث بنعمة الله جل وعل ـ أنا الن في الخمسين من العمر ،وما أعرف
بين أصحابي من حصل من العلم ما حصلت ،عمري كله دراسة ،كنت أقرأ
القرآن وأنا طفل ،وقرأته بعد ذلك في الليل والنهار ،وأشهد صادقا ٌ غير
متواضع تواضعا ً زائفا ً أنني أقرأ القرآن اليوم على غير ما كنت أقرأه من
قبل ،وأنني في السنتين أو الثلثة الخيرة أصبحت أذوق للقرآن طعما ً حينما
أتذكر أيامي الماضيات أشعر بالمرارة في حلقي ،لماذا لم أذق هذا الطعم
در الله وما شاء فعل ، ُ
قبل اليوم ؟ لماذا لم أدرك هذا العالم قبل اليوم ؟ ق ّ
وها نحن نعيش مع القرآن عيشة من يتطفل على مائدة القرآن ،فاقرأوه إذا ً
بهذا الشكل .إذا كنتم تريدون أن تستفيدوا من هذا القرآن المعجز وإل
وم لكم فدعوه ،إنه لن يغني عنكم شيئا ً ،لنه لن يزكي لكم نفسا ً ولن يق ّ
سلوكا ً ،وإنما الذي يستفيد من القرآن هو من يعطي كله للقرآن .فعيشوا
مع القرآن بكليتكم ثم انتظروا بعد ذلك مدد ربكم جل وعل فسيفتح عليكم ،
والنسان حينما يلتجئ إلى الله يفتح الله له منافذ من العلم ما كانت تخطر
له من بال .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ،والحمد لله رب
العالمين.
)(7 /
96
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
سوف يربكه ل محالة ،وسوف يحجب عنه كثيرا ً مما ينبغي أن ل يحجب عن
قارئ القرآن .
ً
ل أذكر فيما قرأت حول سورة النجم حديثا أبعد المنحى الذي أخذنا به في
الجمعة الماضية وإنما جّرنا إلى هذا مزيد من التدقيق في السورة ،وبكل
صدق وأمانة أقول لكم إنني حين شرعت ُأرتب في ذهني خصائص السورة
الكريمة في البداية وأخطط للحديث عنها لم يكن يخطر في بالي أي شيء
من هذا الذي قلته في الجمعة الماضية .وأحب أن أغتنم هذه الفرصة لشير
إلى شيء طال حوله التساؤل وكثرت علي فيه الملم ،للسف حينما تكون
المة بمجموعها على درجة ليست سارة من الرقي العقلي ومن النضج
تستحسن أي شيء ،ولقد يعلم الله أنني أقل الناس اكتراثا ً واحتفاًء بهذا
الذي أقول ،ولكني أفاجأ دائما ً هنا وفي كل مكان من يقول لي :لماذا ل
تدّون هذه الفكار ول تكتبها إنها حق الناس عليك .مرة أخرى أستدعي إلى
نفسي شعور السف ،إن هذا ليس شيئا ً يستحق العناية ول شيئا ً يستحق
الهتمام ،ولقد مضى الناس الذين يحق لهم أن يقولوا في القرآن ،إن
طح له إل من ضرب الله عليه الشقاء القول في القرآن شديد ،وإنه ل يتن ّ
وسوء القول ،ولول أننا في أمة وفي زمن كهذا الذي تعرفون ما كان لهذا
الذي نقوله .
كان الناس في الماضي حينما كانت نفوسهم نقية ونظيفة وكان التوجه إلى
الله صادقا ً أصيل ً وكانت المعرفة بحقائق الشريعة موفورة وكانت الرغبة في
الحق هي المحور الذي يدور عليه الناس حينما كان الناس بهذا الشكل ،كان
القول في القرآن ميسرا ً مذلل ً مهيأة أسبابه ،ول تستغربوا فالله جل وعل
يقول ) ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ( ويقول أيضا ً ) واتقوا الله ويعلمكم الله (
فالنسان حينما يكون على درجة معينة من الصلة بالله جل وعل فالله جل
وعل يفتح أمامه مغاليق المور وينير له معميات السبل ويكشف له عن أبواب
من العلم لم تكن تخطر له ببال ،ونحن لسنا هكذا ،ل تقاة ول ورعا ً ول علما ً
ول إحاطة ول تجردا ً من حظوظ النفس ورغباتها ،مع هذا فبالمعاناة والصبر
وبمداومة البحث والتفكير تنقذف لنا بين الن والخرى أفكار ،ربما يجدها
الناس جيدة ولكن تأكد أنني أفقد اهتمامي بها لمجرد أن أقولها ،ولو أنني
كتبتها لفقدت الثقة بها لمجرد أن أرمي القلم من يدي ،إنني ُألحظ وأنا
أدرس معكم القرآن ووقائع السيرة أنه في مسار الطريق تتكشف أمور لو
لم نكن قلنا شيئا ً في البداية ثم رجعنا إليه نعاود النظر فيه ونعيد القول ثم
نعود إليه مرة أخرى ومرات ما خرج معنا هذا الشيء الذي يجده بعض الناس
ً
ثمينا ُ ،كيف أستطيع أن ُأجاذف في أمر أجده أشق المور على النسان ؟
جل تدوين كلم أن أدرى الناس أو من أدراهم بأنه حينما كيف أستطيع أن أتع ّ
ً
يوضع بين يدي الجيال ُيقرأ مصحوبا بقداسة الكلمة المكتوبة ما الذي
سيتركه من انطباعات ومن آثار ومن نتائج في نفس قراء نعلمهم وقراء ل
نعلمهم الله أعلم بهم ،ثقوا يا إخوة بكل أمانة أنني كلما تصورت حالة من
هذا القبيل شعرت أني أنسحب ول أستطيع أن أتحمل هذه المسؤولية ،إن
المر كبير .
ت
ي من عوج وأم ِخذي عني وحسبك ذاك مني على ما ف ّ
ولول أن الزمان منقلب فهذا المكان ليس لي ،بصدق هذا المكان ليس لي
لكن زماننا منكوس ،زماننا معكوس .خذوا عنا يا إخوة وجنبونا الملمة
وجنبونا الطلبات ،نحن دونما في أنفسكم بكثير ،ولكن الله جل وعل قضى
97
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(1 /
فاتحة السورة كما وضعناها من جسم السورة كانت إذا ً من الله حجاجا ً في
وجه المشركين حول موضوع أساسي من الموضوعات المبكرة التي طرحتها
سحبت لتوضع في الدعوة وهو موضوع النبوة ،وآيات فاتحة السورة حينما ُ
سورة النجم فليس لتشير إلى الحادثة البعيدة أي حادثة السراء والمعراج ،
ولكن لتشير إلى المصدر الذي يتلقى منه رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا الوحي ولتشير إلى الواسطة التي توصل هذا الوحي إلى رسول الله
ول إذا ً ول اختراع ول أهواء ول تصورات وإنما صلى الله عليه وسلم ،فل تق ّ
قي لمحمد صلى الله هو شعاع صادر من منبع حق هو الله جل وعل ،ثم ل تل ّ
عليه وسلم ل من خرافات الفرس ول من أساطير العرب ول من بقايا أهل
الكتاب المنتشرين في الجزيرة العربية ،وإنما التلقي من أمين الوحي جبريل
ذي القوة المكين عند الله جل وعل ،فالسورة بفاتحتها ل تضع في اعتبارها
تفصيل حادثة السراء والمعراج وإنما تضع في اعتبارها بيان أحقية الوحي
وكونه صادرا ً من الله جل وعل بواسطة المين جبريل عليه الصلة والسلم ،
فالسورة إذا ً نستطيع أن نقول بعد كل المراحل والشواط التي قطعناها إنها
بالفعل من السور المبكرة في النزول جدا ً ،وليس صحيحا ً أننا كلما عثرنا
على آية من سورة تشير إلى واقعة معينة محددة التاريخ أن السورة نازلة
في هذا التاريخ ليس صحيحا ً هذا وإنما الصحيح أن ننظر من داخل السياق
وأن نحاول من مجموع قرائن السورة أن نتعرف سيقت الواقعة بهذا الموضع
من كتاب الله جل وعل ،أمامكم كمثل حي القصص في القرآن ،كم من
السور حوت أخبار آدم ونوح وصالح وفرعون وثمود وعاد وموسى وبني
إسرائيل ..سور عديدة ل تكاد تخلو من سورة إل ما ندر من ذكر هذه
القصص ،الناظر المتعجل في القرآن يتصور أن ثمة تكرارا ً ،وهذا خطأ مبين
،في الحقيقة حينما تساق قصة أو واقعة في سورة وتساق هي بالذات
بالنص أو تغيير طفيف في سورة أخرى فالغرض مختلف ،الواقعة جاءت هنا
لغرض وجاءت هناك لغرض آخر ووظيفة قارئ القرآن هي أن يدرك بالحس
اللطيف وباستلهام معلم إبراهيم صلوات الله عليه لماذا سيقت الوقائع هنا
وهناك وما هي الغراض التي عالجتها هنا وهناك ؟ وهذه أعلم أنها مهمة
الشأن ،عسيرة وصعبة ،لكن ل بد من المعاناة ،فالذي أريده حقا ً هو أن
أستنهض هممكم وأن أستثير تطلعاتكم لكي تكون قراءتكم للقرآن مصحوبة
بقدر أكثر من العناية .نأتي الن بعد هذه الملحوظة التي ل بد منها كموعظة
لي ولكم ولكل قارئ للقرآن .
)(2 /
قى من السورة ،لكني أريد أن أعيد إلى نأتي الن ونحاول أن ننظر لما تب ّ
أذهانكم بعض اليات التي سبق أن تلوناها ليس لنشرحها ولكن لنستحضرها .
حينما واجهت السورة من المشركين من العرب بالتنديد بآلهتهم والعيب لها
والنتقاص منها ومنهم قال الله ) أفرأيتم اللت والعزى ،ومناة الثالثة الخرى
،ألكم الذكر وله النثى ،تلك إذا ً قسمة ضيزى ،إن هي إل أسماء سميتموها
98
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ،إن يتبعون إل الظن وما تهوى
النفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ،أم للنسان ما تمنى ،فلله الخرة
والولى ،وكم من ملك في السماوات ل تغني شفاعتهم شيئا ً إل من بعد أن
مون الملئكة يأذن الله لمن يشاء ويرضى ،إن الذين ل يؤمنون بالخرة ليس ّ
تسمية النثى ،وما لهم به من علم إن يتبعون إل الظن وإن الظن ل يغني
من الحق شيئا ً ،ذلك فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إل الحياة الدنيا
ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن
اهتدى ( هذا المقطع تحدثنا عنه ،لكني أريد أن أقف عند آخر شيء منه
لشير إلى موقفين يتباينان ،موقف المؤمنين وموقف غير المؤمنين ،فأنتم
ترون من استعراض هذا المقطع من السورة الكريمة أن هذه التصورات
والفكار التي سكنت عقول العرب الجاهليين من قبل سماها الله جل وعل
ظنونا ً ،شيء يظنه النسان ،يتخيله ويتصوره ،ولكن الله جل وعل بّين أمرا ً
جوهريا ً ،بّين أن ميدان الدينيات ليس كسائر الميادين ،نحن نتعامل في
الدنيا نأخذ ونعطي ،نشتري ونبيع ،نشق الرض ونستودعها البذور ،ونضرب
في الرض يمينا ً وشمال ً ،تصرفاتنا هذه مبنية على حسابات وعلى تصورات
وعلى خبرات وعلى تجارب ،لكن هل هذه التصورات معصومة من أن
تخطئ ؟ ل ،إنك تشتري السلعة وأنت تاجر وفي حساباتك وظنك أنك سوف
تربح كذا وكذا ،وأي تاجر متمرس يتهّيب أن يضع لنفسه رقما ً معينا ً للربح ،
لماذا ؟ لن عامل الربح تتحكم فيه ظروف متعددة ل تقع تحت الحساب غالبا ً
ول يمكن التحكم بها في أغلب الحيان ،ولكن غالب الظن أن الصفقة في
السواق وأن البيع والشراء يعود على النسان بربح معقول ،شؤون الدنيا
مبناها على هذه القاعدة ،قاعدة العمل بغالب الظن ،ولول أننا نأخذ أنفسنا
بهذه القاعدة لبطل العمل تماما ً ،لن استخلص الحقيقة المطلقة القاطعة
في أي أمر من المور شيء يكاد يدخل في حد المستحيلت .هذا ما يتعّلق
في شؤون الدنيا ،ولكن شؤون الدين ل تنبني على شيء كهذا التفكير وهذا
التصور ،في موضوع الدينيات ل مجال لشيء غير الحقيقة المطلقة ،لن
موضوع الدينيات موضوع مصير ،ل يتناول وجود النسان في الدنيا وإنما
يمس مصير النسان في الدنيا والخرة جميعا ً ،فالله جل وعل حينما بّين لنبيه
صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أن هذا الذي تأخذ به العرب ومن نحى
نحوهم إنما هو ظنون بين أمرين أو ثلثة أمور ،كونها ظنونا ً وأن الظن غير
الحق ) وإن الظن ل يغني من الحق شيئا ً ( وأن هذا الذي يقولونه هو مبلغهم
من العلم ،هو كل ما يملكون من العلم ،ولو كان عندهم شيء آخر من
العلم لخذوا به ولقالوا بمقتضاه .تدركون الن ما أعني بتقرير هذه الحقيقة
البسيطة جدا ً ،سأشرح لكم هذه المسألة شرحا ً موجزا ً .
إن النسان أي إنسان ول تتصوروا أن هذا الوصف مقصور على العرب الذين
خاطبهم محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن ،الناس جميعا ً جبلة
واحدة ،تركيب واحد ،وإنما يتباينون ويختلفون وتتعدد مواقفهم تبعا ً لظروف
هي ناشئة مع نشأة المجتمع النساني وليست كامنة في ذات النسان التي
ُفطر عليها ،إن العرب حينما قالت هذا الكلم لم تكن تملك مبلغا ً آخر من
العلم تقوم به ،إنسان حينما يكون على مستوى علمي وعقلي معين يأخذ
هذا الذي هو فيه متأقلما ً مع هذا الجو الذي هو فيه راضيا ً عما وضعه الله جل
وعل فيه ،حينما تأتيه بالشيء الجديد يقع النسان تحت تأثير عاملين
متناقضين ،عامل الثبات وعامل الجذب ،عامل الوفاء للذي كان عليه
وعامل التطلع نحو هذا الشيء الجديد الذي يشعر النسان أن فيه شيئا ً ما
99
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
من الحقيقة ،النسان مفطور كفطرة على أنه يحب الستقرار ،يحب أن
يكون أليفا ً ،يحب أن ل يغير باستمرار ،تلك فطرة إنسانية عامة ل تجد
خلفها إل على ندرة وعلى شذوذ ،والمتنبي كان يعلل خوفنا من الموت بإلفنا
للحياة فيقول :
ق
إلف هذا الهواء أوقع في النفس أن الحمام مّر المذا ِ
)(3 /
في الواقع أن الموت ل شيء فيه ولكن خوفنا من تغيير الجو الذي ألفناه
وتأقلمنا معه وانصهرنا بمعطياته هو الذي يصور لنا أن هذا الحال الجديد الذي
سنقدم عليه قد ل يكون مريحا ً بنفس الدرجة التي نحن عليها الن ،وهذا في
الحقيقة أمر له نتائج بالغة ،الصراع بين الجيال وفي عصرنا هذا نجد أن
الصراع بين الجيال يبلغ مداه ،والناس يتحدثون عن ثورات الشباب في
الشرق والغرب عموما ً ،ما سّر هذا ؟ سّره أن الشيوخ من الناس يحبون أن
يظلوا على ما هم عليه ) ذلك مبلغهم من العلم ( وصلوا إلى مرحلة من
العلم معينة فهم بها راضون ،لكن العلم متطور ومتجدد ،الجيال الجديدة
تتلقى من العلم فنونا ً وقضايا ربما ل يعرفها الجيل الماضي أو ل يعرف عنها
إل القليل .سأقرب المسألة إليكم أكثر ،الطالب يبدأ الدراسة في المرحلة
البتدائية ويبقى يدرس حتى يدخل الجامعة وينتهي من الجامعة ،فإذا انتهى
من الجامعة ووضع الشهادة في جيبه ذهب يطلب الرزق من الله جل وعل ،
قلما يلتفت إلى أن يزداد علما ً ،إنه يعرف أن العلم متطور وأن الدنيا تضيف
الجديد في كافة العلوم ،لكنه يرى أن المرحلة العليا من الدراسة تكفيه ،
الشياء الجديدة ل يعرفها هو كما يجب وإنما سيعرفها الجيل الذي سيليه ،
والجيل الذي يليه يفعل نفس المر وهكذا ...هنا نجد أن النسان الذي بلغ
من السن مرحلة عالية قلما يحسن التعّرف على قضايا الجيال المعاصرة ،
فمن هنا ينشأ الصراع بين الجيال ،جيل يريد أن يبقى محافظا ً على الذي هو
فيه ،وجيل يريد أن يغير لكي يتلءم مع مقررات العلم ،ويقينا ً لو أن التفاعل
كان حقيقيا ً بين الجيال لنتهت هذه النقيضة الملحوظة ،ولكن المر كما نرى
ور صراع الجيال فقال عن الدنيا : وره المتنبي حينما ص ّ
حتى الن كما ص ّ
تملكها التي تملك سالب وفارقها الماضي فراق سليب
بين الجيلين صراع ،أحدهما محكوم عليه أن ينهزم بالحسرة ،والخر محكوم
عليه أن ينتصر بكل مشاعر الظفر ،والسبب في ذلك كما قلنا هذه الحقيقة
البسيطة .
إن النسان حينما ُتكشف له آفاق العلم على غير الوجه الذي كان عنده ،
بإضافات أخرى ربما يعارضك ،ربما يتأبى عليك ،ربما يرفض هذا الذي تقوله
له ،ذلك مبلغه من العلم ،ولهذا ألحق الله جل وعل ) إن ربك هو أعلم بمن
ل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ( لماذا قال الله هذا الكلم في هذا ض ّ
الموضع ؟ لو أننا نعيش ضمن مقررات البشرية ،لو أننا نعيش في ظلل
إنسانية ،لو أننا نتحرك من منظور تقدمي ،لكان الكلم على غير هذا الشكل
ل عن سبيله ،ذلك مبلغهم من العلم صحيح ،ولكن ليس ربك أعلم بمن ض ّ
ول هو أعلم بمن اهتدى إنما اغسل المخ ،اسحل الناس ،اقتل كل الذين
يخالفونك في الرأي .تلك رعونة النسان ،ضيق صدر النسان وتعجله ،
ضيق أفق هذا النسان .لكن الذي يتحدث هنا هو الله الذي خلقك فسواك
كبك ،الله هو الذي أودع فيك القوى والحوافز فعدلك في أي صورة ما شاء ر ّ
100
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(4 /
ل ،المور ليست كما تتبدى وتظهر ،هذا النسان الذي تراه الن انقلب في
ي ملزم للمسجد ،هذا طرفة عين من إنسان فاسق فاجر إلى إنسان تق ّ
النسان أنت لم تَر منه إل الظاهر ولم تَر منه إل القشر فقط ،أما ما يدور
في عالمه الداخلي من صراع ومن تناقض ،وأما ما يديره بينه وبين نفسه
من حوار ومن أخذ وعطاء فكل ذلك مغّيب عنك .نتائج هذا هو هذه النقطة
التي انفجر عندها التكوين الفاسد لكي يوّلد النسان التقي المستقيم ،هذا
النسان عشرات اليام وربما الشهور والسنين وهو يخوض معركة قاسية مع
نفسه في غاية القسوة .كثير من الناس واسألوا الفساق وحدثني كثير
منهم ،واسألوا الفجرة وحدثني كثير منهم ،اسألوا الزناة وحدثني كثير
منهم ،والله إن بعض الزناة رووا لي أنهم يزنون فإذا انتهوا من الزنى بصقوا
على أنفسهم ،هو إنسان مغلوب على نفسه وهو يعرف في الداخل أنه
مخطئ ،فهذا النسان حين تراه ينقلب بين عشية وضحاها إلى إنسان تقي
لم يكن في المر شيء معجز ول خارق ،وإنما أمر إنساني بحت ،لن
النسان مهما يكن شقيا ً أو بعيدا ً عن الله أو مهم يكن مجردا ً من مشاعر
النسان فهو أول ً حزمة من الحاسيس ومن المشاعر من القوى ومن
س هذا القبس المقدس ،هذه الجزوة المباركة التي هي المواهب ،ول تن َ
فطرة الله التي فطر الناس عليها .النسان يرضى بالذي هو فيه وفاقا ً
لقانون الرضى بالمستوى المعين من العلم ،لكن وظيفة الديان والشرائع
والوحي والرسالة هي أن تفتح باستمرار آفاقا ً جديدة أمام ناظريك ،ربما
يكون لك موقف ،ل بأس ،سيكون لك موقف بكل تأكيد ،ونحن حين نرجع
إلى وقائع السيرة النبوية ونجد أن الله جل وعل هدى على يد نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم عشرات اللوف من الناس ،ماذا نجد ؟ نجده يقول :
ما دعوت أحدا ً إلى السلم إل كان عنده كبوة وتردد .دعني أنظر ..دعني
أفكر ..حتى ربيبه علي رضي الله الذي نشأ عنده في بيته حينما فاتحه
بالسلم قال له :دعني أستشر أبا طالب ،أراد أن يستشير أباه .قال صلى
الله عليه وسلم :ما دعوت أحدا ً إلى السلم إل كانت عنده كبوة وتردد إل ما
كان من ابن أبي قحافة ) أبي بكر الصديق ( فإنه ما عكم عنه ،أي ما تردد ،
فبمجرد أن دعاه استجاب له .واحد من عشرات اللوف من الناس ،لن
موقفهم يخضع لهذين العاملين :تطلع النسان إلى أن يأخذ بالجديد وإلى أن
يكون وفيا ً إلى مقررات العقل وإلى يكون أن وفيا ً لقواعد العلم ،ورغبة
101
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(5 /
الجيال ،وإن تصرفاته جميعا ً في سجل النسانية ،وإن أية زلة من لسان
سوف تجّر وراءها ما ل يحصى من الخطأ والزلل .ولهذا فالله جل وعل أنزل
عليه في هذا الموقف الهائل وهو بين اللم والحزان والدماء والدموع ) ليس
لك من المر شيء أو يتوب الله عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ( وبالفعل
عدهم محمد صلى الله حين نتتبع تراجم رجالت السلم نجد أن هؤلء الذي تو ّ
عليه وسلم وهؤلء الذين دعا عليهم قد أسلموا جميعا ً وحسن إسلمهم وكان
منهم قادة الجيوش ،كان منهم خالد بن الوليد الذي أنزل الهزيمة بالمسلمين
في ُأحد فكان سيف الله الذي سّله الله على أعدائه من المشركين وكان
قائد المعارك المظفرة التي خاضها المسلمون على وجه العموم .وكان
منهم أبو سفيان سيد البطحاء الذي فقد عينه في معركة اليرموك وهو يقاتل
ويحرض المسلمين على القتال .
102
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(6 /
هذا الكلم الموجز جدا ً ،مسألة موقف الناس من الرسالة ليست مسألة
مبنية على علم ،لكنها مبنية على ظن ،لماذا ؟ لن الناس بطبعهم يميلون
إلى المحافظة على ما ألفوه ،إن تغيير الجو قد يوجد أمام مفاجأة ل تريد أن
تواجهها ،فأنت من أجل ذلك تسد أذنيك وتسد عينيك عن رؤية الشيء
الجديد ،ولكن على حملة الشيء الجديد وهو هنا هذه الرسالة أن ل
يستحسروا أمامها هذا الواقع النساني ،عليهم أن يصبروا وأن يثابروا وأن
يستمروا في بث هذا العلم الجديد الذي يحملونه إلى الناس ،وأن يطيلوا
الصبر ،يتركوا الناس في نزاعهم مع أنفسهم ،إن موقف المسلمين ثابتون
على دينهم غير مفرطين في شيء من صغيره ول من كبيره ،وموقف
المسلمين في دعوتهم إلى الله لجئون إليها في كل وقت وفي كل موقف ،
وموقف المسلمين في رقابتهم الصارمة على أنفسهم على مقالهم على
تصرفاتهم معوان خير معوان على أن تكون دولة المستقبل لهذا العلم الجديد
الذي ينسخ الظن الذي كانت فيه الجاهلية .إننا نريد أن نؤكد على هذا الكلم
ونؤكد عليه لماذا ؟ نؤكد عليه لننا حقا ً نعيش عصرا ً ل أعرف في العصور
أكثر وقاحة منه ول أكثر جرأة على مقررات العلم منه ،إنك تأخذ مسلوكا ً
شيوعيا ً قذرا ً جاهل ً أحمق أرعن فتراه يقول لك إن السلم ينافي العلم وإن
جميع ما جاء من عند الله جل وعل هباء وخرافة وإن قضايا العلم ومقررات
العلم تقول خلف ذلك .هل نسي هؤلء الناس وأشباههم كثير وكثير أكثر من
الدود هل نسي هؤلء أن فتنة العقل البشري بالعلم مضت عليها مائة سنة ،
وأن العقل البشري يوم كان يقف في القرن الثامن عشر ليدل بما وصل إليه
من مخترعات ومكتشفات تصاغر الن ووضع خده على الرض وأن كل
شمس تطلع في كل يوم تضيف إلى مجهولت النسانية مجهولت كثيرة
يقف العلم أمامها عاجزا ً ،هل نسي هؤلء الناس ذلك ؟ هل نسي هؤلء
الناس أن مقررات المذهب الماركسي الشيوعي الوسخ أصبحت شيئا ً يجب
أن ُيلقى في مزبلة التاريخ ؟ هل نسي هؤلء الناس أن ما يتعاجبون به اليوم
من مقررات ماركس في منتصف القرن التاسع عشر أصبحت أحاديث خرافة
ووهما ً من الوهام ؟ هل نسوا جميعا ً أن العلماء اليوم أكثر تواضعا ً مما كانوا
من قبل ؟ هل نسوا جميعا ً أن العلماء اليوم هم يقولون أن العلم يصف ول
يفسر ؟ هل نسي هؤلء أن العلماء اليوم هم الذي يقولون إن العلم برمته
وبجملته جملة من الحقائق والمشاهدات التي نوضع بعضها إلى جانب بعض
ويستخلص منها قانون قد ُيخرق وقد ل ُيخرق ولكن من يحرك القانون ؟ من
الذي أوجد الظاهرات ؟ ما كل هذه الظاهرات ؟ العلم يقول هذا شيء ل
نعرفه .إننا في هذا العصر الذي ُنواجه فيه بهذه الدعوى العريضة الوقحة
نريد أن نقول للناس :خّيطوا بغير هذه المسلة .خذوا هذا الكلم ،إن العلم
ليس معكم ،إن العلم مع القرآن والسلم ،وإن ما أنتم فيه كما قال الله إنه
الظن الذي ل يغني عن الحق شيئا ً ،وإن موقفنا وهو موقف هل أقوله لعامة
الناس أم أهمس به في آذان إخوتي وأحبابي وأبنائي من الشباب الذين
عاهدوا الله جل وعل على السير في طريقه والدعوة إلى سبيله ،ليكن
للفريقين ،إن موقفنا تجاه هذه العجاجة المصطنعة محدد في هذه الية
) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إل الحياة الدنيا ذلك مبلغه من
العلم ( إن الله جل وعل في هذا الكلم الموجز كشف عن أمرين أساسيين
حدد موقف النسان المسلم بالعراب وكشف عن العلة التي تحرك هؤلء
103
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الخصوم فأبان أنها إرادة الدنيا ،موقفنا نحن من حيث أننا لسنا جبارين ولسنا
مسيطرين ولسنا أوصياء على الناس طبعا ً ،موقفنا محدد بأن نعرض على
الناس هذا الذي نحمله من أمر الله ومن علم الشريعة ومن حقائق القرآن
ومقررات القرآن ) ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ( ونحن على هذا
ماضون ،ولكن الله جل وعل وضع في أيدينا السلح ،السلح الكثر فاعلية
الذي يجعلنا نلمس مكمن العلة في موقف العاندين عن أمر الله على اختلف
صنوفهم وألوانهم ،إنه إرادة الحياة الدنيا ،من يا إخوة ل يعرف أن السلم
حق وعدل وصدق ؟ من يا إخوة ل يعرف أن قضايا السلم هي الحق
المطلق ؟ من يا إخوة ل يعرف أن هذا النسان هو المنقذ الوحيد للبشرية
عموما ً من المأساة الرهيبة التي تتخبط فيها ؟ إن جهلتم ذلك فأعداء السلم
وخصوم السلم يقرون اليوم بهذا الكلم الذي نقوله إقرارا ً ل شك فيه ول
شائبة ول شبهة .ولكن بين القناعة والعمل دنيا من المشكلت تحتاج إلى
الصبر الطويل وتحتاج إلى العناية البالغة ،إن القناعة تكون مستقرة في إذننا
،سلني أليس الله موجودا ً حقا ً ؟ أقول لك بلى .أليس الله أهل ً لن ُيعبد
ويخشى ويتقى ؟ أقول لك بلى .أليس فرض الله عليك أن تصلي ؟ أقول لك
بلى .فلماذا ل تصلي ؟ أقول لك متكاسل متهاون وإلى آخر هذا الكلم .
سلني لماذا ل تصف قدميك مع العاملين في سبيل الله ؟ لماذا ل تأخذ طريق
الله جل وعل ؟ أعندك في الله شك فاطر
)(7 /
104
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
للطين أكثر من الوفاء لنفخة الله في هذا النسان .الجماهير والغوغاء كانت
ترى إذا كان أبو سفيان وكان أبو جهل وكان فلن وكان فلن ل يستطيعون
أن يقتنعوا بأحقية السلم فأين نحن من هؤلء ؟ وهذا نحن نرى الجماهير
تقوله الن ،الغوغاء ..القمار ..عامة الناس يقولون لك إذا كان فلن الزعيم
وفلن القائد وفلن الرئيس وفلن الملك ،ل يستطيعون أن يأخذوا مناهج
السلم فأين نحن ؟ ما الذي نستطيع أن نفعل ؟ فالمواقف كما ترون
متشابهة واليات تتحرك على أرض واقعية ليست شيئأ ً يأتيك من فوق ول
شيء يخاطب تصوراتك وتخيلتك ،إنما هو شيء يعبر عن واقع متحرك ،إذا ً
فنحن حينما نقف أمام هذا الواقع المتحرك عموما ً كإخوة ،وواجب الوفاء
للخوة يتقضانا أن نقول :من ابتدأ فعليه أن يصبر ومع الصبر أن يعرف ،ومع
العرض أن يتمثل بهذا الشيء الذي يقوم به ،إن أْقتل شيء بنسبة للدعوات
أن يكون قولك شيئا ً وفعلك شيئا ً آخر ،إنه حينما يكذب الفعل القول فإن
الدعوة تنتهي تماما ً .فموقفنا أن نصبر وأن نعرض وأن نتمسك وأن نطمئن ،
وموقف الخرين رجاء وإهابة ودعوة ،إن الذي هم فيه من الغفلة عن
الحقائق السلم ومقررات القرآن شيء لن يطول ،ولكن نرجو أن يساعدونا
على أنفسنا ،نرجو أن يكون عندهم هذا التطلع النبيل ،هذا الحافظ الشريف
الذي يكون في النسان حينما ُتعرض عليه دعوة من الدعوات ،والله إني
ي ديانته أن أنظر إليها بحرية وبأمانة ومن لقادر لو جاءني يهودي يعرض عل ّ
غير حساسيات ،فليكن موقفنا عموما ً كذلك ،إننا أمام قرآن وأمام دين
وأمام قضية هي نداء الله إلى الناس قاطبة ،لماذا ل ننظر إليها بجدية ؟
لماذا ل ننظر إليها بوفاء عقلي لزم متمم لكرامة النسان ؟ نحن نقرأ فلسفة
الفلسفة ومقررات القتصاديين ومناهج الساسة نقرأها بإمعان وبدراسة
وبمقارنات ونتعب عليها اليام والليالي الطويلة ،لماذا ل ننفق بعض هذا
المجهود أو شيئا ً شبيها ً من هذا الهتمام ونحن ننظر إلى قضايا السلم ؟ إن
السلم دينك ،اعرف هذا جيدا ً ،كل مسلم يساق إليه هذا الكلم ،السلم
دينك ،ربما أنت الن في غمرة وأنت ساهٍ ،تتصور أل خوف على السلم ،
ولكن المسألة بالنسبة إليك لم تصل بعد إلى اللحم الحي ،للسف ،ربما
يكون جلدك سميكا ً ،ولكن ثق يا محترم أن مجرى اليام ومجرى الحوادث
يسوق إليك الذى شئت أم أبيت ،إنه سيأتي اليوم الذي تكتشف فيه بكل
الصدق ولكن بفاجعة ل مثيل لها أنك فرقت في أيامك الماضية وأنه كان خيرا ً
لك لو صففت مع إخوانك الذين يسيرون على طريق الله وأنه كان خيرا ً لك
وأجدى لو سددت إذنيك عن دعوات إبليس هذه التي تتعاوى بها الكلب في
الشرق والغرب وأصخت السمع إلى نداء الله جل وعل ،إنه سيأتي اليوم
الذي تجد أمم الرض فيه جميعا ً تقف ضدك ،وهذا يوم ليس ببعيد ،هذا يوم
قد ل يطول شهورا ً وإن طال أكثر من شهور فسنة أو سنتان .سوف تكتشف
من أقصى الرض إلى أقصاها أن شعوب الرض جميعا ً تعاديك ل لنك تعيش
على
)(8 /
بحر من البترول ،ول لنك تعيش في قمة كنز من الذهب ،ل ،إنها تعاديك
فقط لنك تقول ل إله إلى الله ،إنها تعاديك من أجل السلم فقط لنك
مسلم ،ولهذا ترى الزرادشت واليهودي والنصراني والوثني جميعا ً يتعاونون
عليك ،إن النور عدو الظلمة وإن الحق عدو الباطل ،والله جل وعل ندبك
105
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
منذ القديم قال ) وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ( كيف ترون
الناس غير المؤمنين يجتمعون جميعا ً ليقاتلوكم جميعا ً ،كذلك أنتم فكونوا
عصبة واحدة مجتمعين تقاتلون أعداء الله جل وعل ،ومع هذا ومع هذا ومع
هذا فأن أريد أن أزيد التنبيه والتكرار إننا وننحن نتجه إليكم بهذا الخطاب
وإلى أمتنا المسلمة ،ليكن واضحا ً أننا ندعو إلى الله على بصيرة وبينة ،وأن
لنا مهمة واضحة ووظيفة محددة هي أن نجهر بهذا النداء الذي امتحننا الله
جل وعل بأن نكون مؤتمنين عليه ،وأن ندعو الناس جميعا ً مسلمهم وكافرهم
إلى طريق الله تبارك وتعالى ،وليس إلينا أن يهتدي الناس ،وليس إلينا أن
يشقى الناس ،فذلك إلى الله جل وعل ،ول نشجع ول نرضى ول نرغب أن
يقيم أحد من خلق الله جل وعل من نفسه وصيا ً على عباد الله جل وعل ،
فالله جل وعل هو الولي فقط وأن على الدعاة إلى الله أن يطيلوا الصبر
وهم يسيرون في طريقهم إلى الله مع رجاٍء ل بد ّ أن نرجوه من الناس جميعا ً
أن يزيدوا من مشاعرهم النسانية وأن يعلموا أن الجهل يتنافى مع الخصائص
الولى للنسانية ودعك ،ليكن هذا السلم فلسفة الثورة الفرنسية ،ليكن
هذا السلم شيئا ً من تاريخ الثورة الروسية ن ليكن هذا السلم بعض من
مآثر الثورة المريكية ،ليكن أي شيء من هذا ،أنت تقرأ كل هذه الشياء ،
تقرأ تاريخها وتفاصيلها وحياة رجالتها وتقرأ مبادئها وتحفظها وتستوعبها
وتفرع عليها وتحاول أن تقيم على أساسها دول ً ونظما ً ،لماذا ل تجرب
السلم ؟ تراثك ..دينك وديعة الله عندك ،جربها مرة واحدة ،ويحك ما الذي
يمسك بك ما الذي يمنعك ؟ جرب أذلك أيضا ً ممنوع ؟ أممنوع عليك أن تنظر
وتستعمل هذا الصندوق ؟ ل ،ولكن أنت بالتصاقك بالدنيا تنفر من هذا ،
فتخفف يا أخي تخفف من هذه الوهام ،تخفف من هذه الثقال وشد نفسك
م قراءة كتاب الله وأسأل الله لنا ولكم وللمسلمين جميعا ً إن إلى الله وأدِ ْ
شاء الله تعالى أن يغرس في قلوبنا هذا الوفاء لدينه الذي يسهل لنا صعوبات
الطريق ،وإلى السبوع القادم نأمل لم نعد نجرؤ على القول إننا ننتهي أو ل
ننتهي من السورة إنما نأمل أن ننتهي من السورة إن شاء الله وصلى الله
تعالى على سيدنا محمد وآله أجمعين والحمد لله رب العالمين.
)(9 /
106
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
المطابقة ،وفي أنه يشكل أساسا ً طيبا ً جدا ً لعتماد المناهج التي يسير عليها
ت نظركم في الجمعة الماضية إلى الدعاة إلى الله جل وعل ،وأذكر أنني لف ّ
أن هذا الكلم الذي أثارته تلك اليات القلئل ليست مقطوعة الصلة بمجرى
الحياة في ذلك الزمن الذي تنّزلت في هؤلء اليات ،بل هي تعّبر بأمانة
وصدق عن الواقع المتحرك في ذلك الحين .فليكن هذا مدخلنا إلى الحديث
عرض . اليوم تكملة وتتويجا ً إلى ما ُ
قب على مواقف المشركين واعتقاداتهم سمعتم ربنا تبارك وتعالى ُيع ّ
وتصوراتهم ،ويصفها بالوصف الذي تستحقه ول تستحق أكثر منه ول أقل ،
إنما هي ظنون ،والظنون في باب الدينيات شيء ل يجوز البناء عليه ول
الطمئنان إلى ما يؤدي إليه من نتائج ،ذلك أمر .
وأمر آخر هو أن هذا الموقف الذي أثاره أو وقفه المشركون من الدعوة ومن
رسول الله صلوات الله عليه وآله إنما هو مبلغ القوم ومبلغ النسانية من
العلم ،وذلك نافع جدا ً لنه يحدد المهمة الولى أمام محمد عليه الصلة
والسلم ،وأمام الذين يأخذون بطريقه ،إنها طرد الجهل بالعلم وطرد الظلم
بالنور ،وتلك مهمة ل يمكن لحد أن يفكر بتخطيها بحال من الحوال ،لنه لو
فعل سيكون بانيا ً على الرمل وعلى غير أساس ،ثم إن هذا الموقف الذي
وقفه المشركون ويقفه أشباههم في كل زمان وفي كل مكان ليس شيئا ً
مقطوع الصلة بالواقع الذي يعيشه الناس ،وليس شيئا ً خارجا ً على قوانين
الجتماع البشري ،كما أنه ليس شيئا ً في صلب الطبيعة البشرية ،وإنما هو
مرض إنساني معروف ،أي علة بشرية قديمة هي إرادة الناس للدنيا ،أي
تغليب المصالح العاجلة على المصالح الجلة ،تغليب مرضاة النفس وإوراء
ق وعلى ما هو مطامحها وإشباع شهواتها ودغدغة عواطفها على ما هو با ٍ
صحيح وعلى ما هو حقيقي .إن الله عرض المسألة بهذا الشكل كشأنه جل
وعل دائما ً وهو يقود المؤمنين في معركتهم الخالدة المستمرة ضد
المشركين والمرجفين والمشككين حتى يسير المسلمون على أرض معروفة
بالنسبة إليهم وحتى يستطيعوا أن يردوا الظاهرات إلى أسبابها وعللها
الحقيقية كي ل يخطئوا فيما بعد ول يخطئوا في تناول المور .
) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إل الحياة الدنيا ،ذلك مبلغهم من
ل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ( بعد هذا العلم إن ربك هو أعلم بمن ض ّ
البيان والبلغ تأتينا صياغة ونحن نراجع سياق السورة تلفت النظر وتشد
الهتمام ) ولله ما في السماوات وما في الرض ليجزي الذين أساؤوا بما
عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( ول بد ّ من أن نخلص النظر إلى
الصياغة ،إن الصياغة جاءت معقبة على تشريح حالة كانت راهنة في
المجتمع المكي المشرك وهي كما قلنا حالة توجد في أي وقت وفي أي
حدد لها بعد التشريح مكان حينما تستدعيها دوافعها وأسبابها ،هذه الحالة ُ
موقف ،على المؤمنين أن يتخذوه ،والموقف المؤسس على القاعدة التي
ألمحنا إليها الن حين يكون موقف الناس منبثقا ً عن حدٍ معين من العلم يتأكد
بث العلم الجديد وأخذ الناس بقواعده وقوانينه ،ووقفهم مع قضاياه ،مع
تجريد المؤمنين من كل عوامل الغرور التي قد تجّر النسان إلى رؤية نفسه
ور النسان أنه وكيل الله على الناس في وإلى وضعها في غير محلها ،فيتص ّ
وله حق الكراه الرض ،وأنه يملك عليهم من السيطرة والسلطان ما ُيخ ّ
حدد بناًء على هذه الساس بأنه العراض والقسر والجبار ،الموقف ُ
) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلى الحياة الدنيا ( وبظني أنني
ذكرت قبل اليوم ومنذ شهور أن السلم وأن القرآن بالذات حينما يطالعنا
107
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
بهذا الطلب ـ طلب العراض وطلب الصبر ـ فالسلم معلوم أنه دين القوة
ودين النسانية الكاملة الممتلئة ،فليس معقول ً والحالة هذه أن يو ّ
طن
المؤمنين على الستخذاء وعلى المهانة وعلى النهزام أمام الصدمات التي ل
بد أن يواجهها السائر في طريق الله جل وعل .
)(1 /
والحل هو أن الله جل وعل بالذي فطر عليه الناس والذي يعرفه جل وعل
وعلمه من الناس أن النسان حين يترك أمام الحقيقة عارية ووجها ً لوجه لن
يطول تأبيه عليها ،ولن يطول تمرده عليها ،والحقيقة تمثل العنصر الحي في
هذا الكون المتراحب العظيم ،الحقيقة تمثل جذوة الحياة ،والنسان
برعوناته وبمواقفه الخاطئة يمثل الجانب الكثر فسادا ً في الكون ،ول بد
لعوامل الصلح من أن تتغلب ول بد من أن يقع النسان الخاطئ صريعا ً أمام
الحقيقة عندما تتكشف ساحة الصراع مجردة عن أهواء النفوس ،فقول الله
جل وعل ) فأعرض ( ..مؤسس على هذه القضية التي تتمتع بأحقية مطلقة ،
بعد هذا يأتي الكلم ) ولله ما في السماوات والرض ليجزي الذين أساؤوا بما
عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( أين مكان التأمل في هذه الصياغة ؟
مكان التأمل أننا حين نستعرض قرآننا المكرم نلحظ أن موضوعات الجزاء
والعقاب والثواب وما أشبه غالبا ً ما تتركز وتضاف إلى الدار الخرة ،فالله
جل وعل في غالب آيات القرآن حين يتوعد ويشير إلى المصائر والنتائج
يضيف ذلك إلى اليوم الخر ،لكن في هذا الموطن من السورة جاء ذكر
الجزاء غير مقرون بآخرة ول دنيا ،جاء مطلقا ً ) ليجزي الذين أساؤوا بما
عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( فهل هذا الجزاء مصروف إلى الدار
الخرة أم هو جزاء ينال الخاطئين في الدنيا أم هو شيء يمسهم في الخرة
والدنيا جميعا ً ؟ حينما نأخذ في اعتبارنا هذه الصياغة الموحية في القرآن
الكريم ونأخذ في اعتبارنا مجرى الحياة النسانية البشرية نخرج باستنتاج جيد
وهو أن هذه الدنيا بما يتصرف فيها الناس وما يأخذون ويعطون وبما
يضطربون من شأن ل يمر فيها خطأ من غير عقوبة ،وإن عاقبة الطريق
المعوج دمار وفساد ينال صاحبه في هذه الدنيا ،وحينما نرجع إلى خصائص
الذات اللهية إلى الله فنعلم أنه ليس الله المنتقم ،وليس الله الشرير ،
وليس الله الراغب في الدماء والدموع واللم ،وإنما هو الله البر الرحيم ،
نضع أيدينا على قضية إنسانية في غاية الهمية .
ورط في الخطاء ويكررها بالرغم من النصح نحن نقول حينما نرى إنسانا ً يت ّ
والتحذير نقول دع هذا النسان يتعّلم على حسابه ،يتعّلم من كيسه ،ماذا
يعني هذا الكلم ؟ يعني أن النسان ل تغنيه هذه الحقائق والوفاء لها التزاما ً
ورها عقل ً ،وأن يعتنقها عقل ً ،ل بد ّ من معونة مادية ،ل بد ّ من أن أن يتص ّ
تعلمه حوادث الدهر ،ل بد ّ أن تعلمه مجريات اليام أن الطريق الذي هو فيه
باطل ،وهو طريق خطأ ل صواب فيه .فالجزاء إذا ً في الدنيا ل ُتراد به
العقوبة لمجرد العقوبة ،بل لعل لفت نظر النسان هو أظهر ما يكون في
تقرير هذه القضية ) ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ( في الدنيا صاحب
الباطل ل يمكن أن يسلم له باطله أبدا ً ،ل بد من أن ينال عقابه ،ل بد أن
يتعرض لنتائج العراض ،إن كل طريق معوج ينتهي إلى دمار في هذه الدنيا
قبل أن يقف الناس لرب العالمين يوم الحساب يوم العرض الكبر ،يوم
ُتعرضون ل تخفى منكم على الله خافية ) ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا
108
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(2 /
في صورة من هذا النوع سيكون هناك احتكاك ،والحتكاك كما قلنا يكون
كلما ً وتراشقا ً بالتهم ،كما يكون عراكا ً وتضاربا ً باليدي ،كما يكون مقاطعة
وتبّرأ من الحباب والصحاب .هذا الحتكاك رأينا منه صورا ً مرت معنا ،لكن
هنا صورة جديدة وهي صورة في الواقع معروفة وقريبة ول يمر يوم دون أن
يلحظها الناس ،أيها الخ لمجرد أن تبرز ويكون لك مقام في مجتمعك سوف
تت فيه ودخل َ ت من واقع كن َ تكون صفحة مكشوفة أمام الناس ،أنت خرج َ
في واقع جديد حقق لك امتيازا ً سيئا ً أو غير سيئ ،هذا غير مهم ،المهم أن
انفصال ً وقع بين صورتين من صور الجتماع البشري ،لمجرد أن يحدث هذا
ت كذا ،كان لديك كذا وصار لديك كذا ، ت كذا فصر َ
بمراجعة سجلتك ،كن َ
هذا النوع من الحتكاك ظاهرة إنسانية معروفة ومألوفة .حينما جاء السلم
مُثل الجاهلية ويقود الناس بأخلق غير أخلق الجاهلية وقع مُثل غير ُ
ونادى ب ُ
هم المشركين هؤلء التساؤلت التي ل بد أن تقع . في و ْ
السلم بعبادة الواحد الحد ،والجاهليون يعكفون على الصنام ،والرجل
منهم كان في المس يعكف على صنمه طائفا ً ناحرا ً عابدا ً متمسحا ً ،وهو
اليوم يسب ويهين صنمه ويدين بالعبودية لله تبارك وتعالى .المجتمع المسلم
ينادي بالعفة وبطهارة الخلق ،والمجتمع الجاهلي قلما يقيم وزنا ً لهذه
المور ،فحينما يخرج المسلم من المجتمع الجاهلي فإن من ورائه سجل ً فقد
يكون قتل أو سرق أو زنى وقد ..إلى آخره .إن هذه الصفحات التي طوتها
109
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
اليام من حياة النماذج السلمية التي أسلمت على يد محمد صلى الله عليه
وسلم بدأت ُتنشر لدى المجتمع المكي وبدأت تأخذ شكل التعيير .كل واحد
يجد في نفسه الدافع حينما تخرج له فجأة لتنهاه عن الموبقات وأن في
ت عبدا ً لهذه الموبقات كل واحد سيقول لك :ما خطبك يا فلن الماضي كن َ
ت من أصحاب هذه الخلق وأصحاب هذه الموبقات ،إن الله جل أنت كن َ
وعل يكشف عن هذه الظاهرة ،حينما قال ) ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا
ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( ولحظوا اللفظة ) الحسنى ( ليس فقط
الشيء الحسن ولكنه الشيء الحسن البالغ غاية الحسن ،بماذا عّرفهم ؟
قال جل وعل ) الذين يجتنبون كبائر الثم والفواحش إل اللمم إن ربك واسع
المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم
فل تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ( لحظتم هذا الكلم الدقيق البليغ
المعجز وكيف كشف الغطاء عن هذه المعركة الدائرة بين المسلمين
والمشركين في جانب من أخطر جوانبها لنها تمس بالثقة بالنسان الذي
ينادي بالسلم ،إنه ذكر عن الذين أحسنوا والذين سيجزيهم بالحسنى أي
بالخير مما أحسنوا فيه فعّرفهم بأنهم هو الذين يجتنبون كبائر الثم
والفواحش .
حينما نفهم كبائر الثم والفواحش ونفهم اللمم ونفهم ما تعنيه الشارة حين
يقول الله أنه أدرى بخلقه إذ أنشأهم من الرض من طينها ،وأعلم بهم إذ هم
أجنة في بطون أمهاتهم وحين نسمع الله ينهاهم عن أن يزكوا أنفسهم نجد
أمامنا صورة حية واقعية تتكرر باستمرار ينفع جدا ً أن ل تغيب عن البال .
إن السلم ل يضع في اعتباره أن النسان لمجرد أن يؤمن يخرج عن كونه
إنسان ،إنه وهو مؤمن غاية اليمان يظل إنسانا ً ،النسان إنسان والملك
ملك والشيطان شيطان ،ول مجال للنسان للنسلخ من طبيعته ،النسان
من شأنه أن ينسى أو يعصي أو يتمرد أو يتعامى عن الحقيقة أو أن يضعف أو
يكبو ،أو أن يتورط في الخطاء .ذلك شأن النسان ،والرسول صلى الله
عليه وسلم يكشف هذه الحقيقة بصورة ل تدع لمستزيد زيادة فيقول صلى
طاء وخير الخ ّ
طائين التوابون . الله عليه وسلم :كل ابن آدم خ ّ
إن السلم يشير إلى مبدأ خلقة النسان من أنه من هذا الطين ،فيه كل ما
في الطين من كثافة وقدورة ،فيه كل ما في الطين ما يجذب إلى الرض
ويمنع الرتفاع نحو السماء ،وإن السلم يكشف أن هذا النسان ضعيف بما
أشار إليه بعلم الله به وهو جنين في بطن أمه ل يعلم شيئا ً ول يملك لنفسه
دفع ضرٍ ول جلب نفع ،وإن السلم حين ينهى الناس عن أن يزكوا أنفسهم
يشير إلى هذه النتائج .
)(3 /
110
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
لك إن الزعماء خير حال ً وأسعد مآل ً من هؤلء المستضعفين .ولكن السلم
ل يقيم مقاييسه على هذه السس الباطلة الواهية السخيفة ،إنما معيار
التفاضل ليس قائما ً على الدم الذي يجري في العروق ،وليس قائما ً على
النساب والحساب ،ول على الثروات التي جمعت من حلل أو حرام ،ول
على الزعامات وما أشبه ذلك .إنه قائم على الفضائل النسانية الذاتية ،فقد
تجد إنسانا ً غير منظور إليه في المجتمع نظرة إجلل وإكبار ولكنه صادق
اللهجة عفيف النفس طاهر الضيم مستقيم الخلق فإنه في هذه الحالة
فون يساوي الشيء الكثير من الزعماء والغنياء وأكابر المجتمع الذين ل يع ّ
عن موبقة من الموبقات .
مّر رجل من الناس المستضعفين فقال النبي صلى الله عليه وسلم
لصحابه :ما تقولون في هذا ؟ قالوا :يا رسول الله هذا حري به إن دخل أل
يؤبه له ول يكترث به أحد وإن قال أن ل يسمع أحد إلى قوله وإن خطب أل
ُيزوج .ثم مّر رجل عليه شارة الوجاهة والزعامة ،فقال :ما تقولون بهذا ؟
فوصفوه بعكس تلك الوصاف .قال لهم :ذاك الذي رأيتموه مهانا ً وبل قيمة
خير من ملء الرض من مثل هذا .إن المقياس في السلم مؤسس على
الفضائل الذاتية النسانية وليس مؤسسا ً على المظاهر الجوفاء .
فلهذا بدأ المشركون يعارضون المسلمين بنماذج الزعامة الموجودة عندهم،
عارض الله لهم ذلك بلونين :لون كشف عن الطبيعة البشرية بعامة وأنها
طبيعة قائمة على الضعف وقائمة على النسيان والعصيان ،والله جل وعل ل
يطلب من خلقه المستحيل ولكن فارق ما بين النسان المؤمن وغير المؤمن
واب ،وأن غير المؤمن مصّر ل يعرف التوبة .فالله جل أن المؤمن خ ّ
طاء ت ّ
وعل ذكر الذين أحسنوا بهذا الوصف قال عنهم أنهم يجتبنون كبائر الثم
والفواحش إل اللمم .ولقد دار خلف طويل بين تراجمة القرآن حول كبائر
الثم والفواحش وحول اللمم ،ومن رأي بعض العلماء أن كبائر الثم
والفواحش هي الشرك فقط وأن ما سواها فليس من الكبائر ،ودار خلف
أيضا ً ل حاجة إلى معرفته حول اللمم وحول موضع ) إل ( هذا الستثناء ،هل
هو استثناء منقطع أم استثناء جاء على بابه ،ل حاجة لكم بهذا كله ،ولكن
ُأريد أن ل أذهب مع الذاهبين في الخلفات وُأحدد على ضوء معطيات اللغة
فقط .
فحين نقول إن الشرك فقط هو كبائر الثم والفواحش يجب أن ل يغيب عن
بالنا أن الشرك مفرد ،وأن كبائر الثم والفواحش متعددات لنها جاءت
بصيغة الجمع ،فليس صحيحا ً أن نقول إن الكبائر هي الشرك فقط .وحين
نعرف معنى اللمم ما هو تنحل المشكلة ،فمن العلماء من قال إن اللمم هي
ت عليها صغار الذنوب مما تكفره الصلة والصيام والصدقة ،وهي التي لم يأ ِ
وعيد ول تهديد ،وبعض العلماء قالوا بخلف ذلك .وقواعد اللغة تحل
المشكلة ،فما معنى اللمم في لغة العرب ؟ والقرآن على قانون العرب في
م فلن بالمكان إذا زاره زيارة قصيرة ،إذا قام فيه كلمهم ،العرب تقول :أل ّ
م بالمكان ،ولكن حينما فترة قصيرة ثم ارتحل عنه ،هذا الملم هو الذي أل ّ
م فلن في هذا المكان ، يطيل النسان إقامته في المكان ل تقول العرب أل ّ
وطن فيه واستقر فيه ،فالله حين يصف الذين ولكن تقول أقام فيه وت ّ
أحسنوا بأنهم الذين يجتنبون كبائر الثم والفواحش إل اللمم يشير إلى هذه
الظاهرة أو الحقيقة التي تكلمنا عنها وهي أن النسان قد يقع ويكبو
ويخطئ ،هذا طبيعي ،ولكن الشيء غير الطبيعي بالنسبة للمؤمن أن يقيم
على المعصية .إن القامة على المعصية ُتخرج النسان من إيمانه الصحيح ،
111
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
لكن المؤمن قد يسرق ،قد يزني وقد يقتل وقد يشرب الخمر ويتوب ،فإذا
فعل الفاحشة التي هي كبيرة ثم أقلع عنها ولم يصّر عليها فهو ممن استثنى
الله جل وعل بهذه الية .
)(4 /
إن ثمة أمورا ً صغيرة لعلكم تستغربون هذا الكلم لكن اسمعوا ،جاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :يا رسول الله إني أصبت من امرأة
م بدخول المسجد لداء ما دون الزنا .وكان النبي صلى الله عليه وسلم يه ّ
الصلة ،فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ،لم يعقب على كلمه ،
ح والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت ودخل في الصلة وصلى والرجل يل ّ
الرجل خلف النبي صلى الله عليه وسلم ،فلما خرج النبي صلى الله عليه
وسلم من المسجد أخذت الرجل مواجيد المعصية فجاء إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وأخذ بردائه وقال :يا نبي الله إني أصبت من امرأة ما دون
الزنا ،كل شيء فعلته معها إل الزنا .التفت النبي صلى الله عليه وسلم
وقال له :أليس صليت معنا آنفا ً ؟ قال :نعم يا رسول الله ،فقال صلى الله
عليه وسلم :فهذه بتلك إن الحسنات يذهبن السيئات .فهذا لم يفعل الكبيرة
،ولو فعل الكبيرة لقام النبي صلى الله عليه وسلم عليه الحد ،ولكن
النسان قد يفعل الكبيرة التي توجب عقوبة وحدا ً ،فيستر الله عليه ول
يفضحه بين الناس ،هل يعني ذلك أن هذا الرجل ُأغلقت في وجهه جميع
البواب ،ل ،إن المهم أن يراجع النسان الخاطئ نفسه وأن يراجع ربه وأن
موا بالمعصية إلماما ً ولم ُيقيموا عليهايتوب من ذنبه فيكون من هؤلء الذين أل ّ
القامة التي تنفي عنهم هذا اليمان .
هذه هي القضية التي عرضها السلم بعد أن مّهد لها بالكشف عن الطبيعة
البشرية وهي قضية بالغة الهمية ،نحن نتصور أن النسان المسلم معصوم
من المعاصي ،ل يمكن أن يخطئ أو يزل ،ل سيما إذا رأيناه مصليا ً ،وإذا
ج بيت الله الحرام فنحن نتصوره أنه سيعود إلينا كحمام مكة ،إن ذهب وح ّ
هذه التصورات الباطلة ل أساس لها ول قيمة لها ول وزن ،إن النسان يصلي
ويصوم ويحج وهو في معرض المعصية ،بل هو في معرض أن يشرك بالله
جل وعل ،إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثيرا ً ما يدعو ) يا مقلب
القلوب ثّبت قلبي على دينك ( فقالت له عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها
يوما ً :يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء ؟ قال لها :يا عائشة إن
قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ،إن أراد أن
يقيمها أقامها ،وإن أراد أن يزيغها أزاغها .
أين تتركز أهمية هذه القضية ؟ إن وضعنا اليوم شبيه من وجوه كثيرة بالوضع
الذي قابله محمد صلى الله عليه وسلم ،أيما إنسان دعا إلى الله وتحدث
إلى الناس بذلك لم يتعرض إلى هذا النغم المكرور الممل ،حينما تقول
ل يا أخانا ،يقول :ما نفعت الصلة لنسان تارك للصلة بعيد عن الله ص ِ
فلنا ً ،نحن نعرف أن فلنا ً يصلي الصلوات الخمس ولكننا نعرف أنه يغش
في المكيال والميزان ،ونعرف فلنا ً يصلي كذلك ولكن نعرفه كذلك إذا خل
بمحارم الله جل وعل كان ذئبا ً شرسا ً ،نحن نرى فلنا ً يصلي ولكن يتعامل
بالربا ،نعرف فلنا ً يصلي ويصوم رمضان فإذا سمع بقدوم العيد وضع الطاس
والكأس وعاد إلى الموبقات ،كل هذه الشياء نعرفها .نقول له يا فلن أنت
ملكت النصاب فحج إلى بيت الله فإن محمدا ً يقول :من ملك زادا ً وراحلة
112
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
تبلغه بيت الله الحرام ثم لم يحج فليمت إن شاء يهوديا ً أو نصرانيا ً أو مجوسيا ً
ضل انظر إلى الحجاج هذا حاج وهذا حاج ...وهذا من صفته .يقول لك :تف ّ
كذا وكذا ،وكل الذي يقوله الناس صحيح في الغالب ،لكن وجه الخطأ أين ؟
وجه الخطأ أننا ل نملك أن نتصور النسان أخذ العصمة بمجرد أن قال ل إله
إل الله ،إن عصرا ً لو كان له أن ُيعصم من هذه الظاهرة البشرية لكان عصر
النبي صلى الله عليه وسلم أحق العصور بهذا ،في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم وبين المؤمنين بالذات من زنى ومن شرب الخمر ومن أتى بعض
الموبقات ،ولو كان العصر مبرأ من هذه لكان أحق العصور عصر محمد
صلى الله عليه وسلم ،ولكن ) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ل يضركم
ل إذا اهتديتم ( وإذا كان بعض الناس الذين دخلوا في السلم من ض ّ
ب ما قبله ،يتحسسون من بعض الشياء في ماضيهم فليعلموا أن السلم يج ّ
والنبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءه عمرو بن العاص رضي الله عنه
لكي يسلم قال يا رسول الله :إني أشترط لنفسي قبل أن ُأسلم .قال :
ماذا تشترط يا عمرو ؟ قال :أن ُيغفر ما سبق من ذنوبي .فقال له النبي
ب ما قبله .كثير منصلى الله عليه وسلم :يا عمرو ألم تعلم أن السلم يج ّ
ض ولكن هذا الماضي ل ينبغي أن يحول دون نفضي هذا الغبار الناس لهم ما ٍ
كله ،والدخول في ساحة نظيفة ضمن تصورات نظيفة وضمن حياة شريفة .
)(5 /
نحن كلنا عانينا من هذه المور ،وكلنا واجهنا هذه النتائج ،إننا في السياق
جه هذه الحقائق المّرة ،وللسف أنه من خدع الشيطان الدعوة إلى الله نوا َ
أنك حينما تدعو الناس إلى السلم يوحد الناس بين السلم وبين المسلمين
توحيدا ً مطلقا ً ،الصورة التي يخرج بها النسان عن السلم صورة هذا
العاصي أو الزاني أو شارب الخمر أو ما أشبه ذلك ،هذا خطأ مبين وضلل
عريض ل ينبغي أن يكون ،ومع ذلك فإن واجبنا أن نصبر عليه ،وإن واجبنا
أن نوطن أنفسنا على قبول مثل هذه النماذج بصدر رحب ،كيف ؟ قبول ذلك
ليس إضفاء صفة المشروعية عليها ولكن اعتبارها أمرا ً إنسانيا ً طبيعيا ً ،من
الطبيعي أن يخطئ النسان ،وكل ما نريد من النسان إذا زّلت قدمه أن
ينوب إلى الله تعالى ،فإن باب التوبة مفتوح بشكل واسع .
هذه القضية التي واجهت الرسول صلى الله عليه وسلم عرضها القرآن
بالشكل الذي شرحناه لكم ) ولله ما في السماوات وما في الرض ليجزي
الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى .الذين يجتنبون كبائر
الثم والفواحش إل اللمم إن ربك واسع المغفرة ،هو أعلم بكم إذ أنشأكم
من الرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فل تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن
اتقى ( ل يقل أحد منكم أنا خير من فلن .ثم جاءت اليات تعرض شيئا ً آخر
نريد أن نمّر عليه .
ً
يقول الله تعالى مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم ) أفرأيت الذي
تولى ،وأعطى قليل ً وأكدى ،أعنده علم الغيب فهو يرى ،أم لم ينبأ بما في
صحف موسى ،وإبراهيم الذي وفى ،أن لن تزر وازرة وزر أخرى ،وأن ليس
للنسان إل ما سعى ،وأن سعيه سوف ُيرى ،ثم ُيجزاه الجزاء الوفى ،وأن
إلى ربك المنتهى ( أول هذا المقطع تحدثنا عنه من قبل ،ولكن الكلم عن
قوله تعالى ) أم لم ُينبأ بما في صحف موسى ،وإبراهيم الذي وفى ،أن ل
تزر وازرة وزر أخرى ،وأن ليس للنسان إل ما سعى ( يضع أمامنا أهم
113
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الفوارق الجوهرية بين السلم وغيره من الدعوات الخرى .إن السلم في
هذه اليات القلئل يقرر المسؤولية الفردية على النسان ،ولكي نعرف خطأ
المجتمع البشري ول سيما المعاصر ل بد أن نلفت النظر إلى أن جدال ً طويل ً
ثار مع نشاط الدراسات الجتماعية والنفسية والسياسية غي القرنين
السابقين ،إن الخلف دار طويل ً ومازال على أنه إذا أخطأ النسان فمن هو
المسؤول ؟ هل المسؤول هو النسان بالذات أم المسؤول هو المجتمع الذي
لم يهيئ سبيل الستقامة ؟ هذا السؤال عرض للفلسفة والمفكرين ،فمن
آخذ أقصى اليمين ومن آخذ أقصى الشمال ،ولعل عصرنا الذي نحن فيه يرى
أن المجتمع مسؤول عن زلل الفراد ،يعني حينما يسرق السارق فعلى
المجتمع أن يتحمل مسؤولية السرقة ،لماذا ؟ لنه لم يوّفر القوت لهذا
النسان كي ل يسرق ،حينما يزني الزاني فعلى المجتمع أن يتحمل
المسؤولية لنه بأعراف الضيقة وبتصوراته الفاسدة جعل التصريف الجنسي
أمرا ً مليئا ً بالمحظورات والمحرمات حتى أصبح العتداء على العراض شيئا ً
يجد النسان نفسه مضطرا ً لرتكابه اضطرارا ً يرفع المسؤولية عنه ،وهكذا
قل في بقية الخلق .
أين انعكست هذه المور ؟ ارجع إلى القوانين السائدة في العالم ،وإلى
القوانين السائدة عندنا نحن معاشر المسلمين ،نحن نعلن بطبيعة الحال أن
السارق الذي يسرق لحاجة ل ُتقطع يده ،وعمر بن الخطاب رضي الله عنه
حينما جيء بغلمان لحاطب بن أبي بلتعة الصحابي رضي الله عنه سرقوا
ناقة لرجل ،بعد أن أمر بأن ُتقطع أيديهم عاد فسألهم :ما الذي دفعكم إلى
السرقة ؟ قالوا :يا أمير المؤمنين إن حاطب يتعبنا ويجيعنا ،أي ل يطعمنا
كما ينبغي .فاستدعى عمر حاطبا ً وقال له :والله لقد هممت أن أقطع يدك
أنت ،ثم أمر بأن يغرم لصاحب الناقة ناقته ،وخلى عن الغلمان .وعمر هو
طل حد نفسه رضي الله عنه في عام الرمادة حينما جاع الناس وأقحطوا ع ّ
السرقة .
نحن في السلم حينما تكون هناك مبررات حقيقية وواقعية نشعر بأن
كز المسؤولية المجتمع مسؤول عنها وأن النظام السياسي مسؤول عنها نر ّ
على النظام وعلى المجتمع ونعفي صاحب الخطيئة من نتائج خطأه .ولكن
في الحوال العادية هل يجوز أن نقول ذلك ؟ ل ،فهذا غير جائز بتاتا ً .قد
يكون مفهوما ً أن نعفو عن السارق فل نقطع يده ،لنه سرق لحاجة .ولكن
أية حاجة تدعو النسان المستقيم لن يشرب الخمر ؟ أية حاجة لن يتعامل
بالربا ؟ أية حاجة تدفع النسان إلى الزنا ؟ ل حاجة على الطلق ،ول شيء
يتحمله المجتمع من هذه المور .
)(6 /
فإذا رجعنا إلى قوانيننا السائدة اليوم ونظرنا إلى انعكاسات التفكير المعوج
الذي سرى إلينا بعدوى الفكار الجنبية نجد أن قوانيننا ل تعاقب السارق ما
لم تكن السرقة ظاهرة جلية أو مصحوبة باستعمال العنف والكراه ،هذا
واحد .وإذا نظرنا إلى قوانيننا فنحن نجد أنك إذا أمسكت بزوجتك متلبسة
بالزنا مع رجل في فراش الزوجية في فراشك أنت فليس لك أن تقاضيها إذا
ض بين الزوجة وبين هذا الذي زنت به ،وإذا أمسكت ً
كان الفعل ناتجا عن ترا ٍ
مى في القوانين بابنتك وقد بلغت الثامنة عشرة وهي تزني فإن فعلها ل يس ّ
مى قباحة ،يعني أقل من جنحة ،وإن عقوبة هذا الفعل ليس جريمة وإنما يس ّ
114
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أكثر من عشر ليرات سورية يقررها القاضي على البنت الزانية برضاها ،
ولكن القانون يثور إذا كان الزنا ناتجا ً عن إكراه .
هذه القوانين المعوجة ،هذه الحياة الفاسدة سببها ماذا ؟ سببها إلغاء
المسؤولية الفردية ،في الواقع النسان مسؤول عن عمله ،ول يجوز بتاتا ً أن
نسحب نتائج العمل عن أي إنسان آخر ...لننا لو سحبنا
)(7 /
115
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(1 /
ولكن ثقيفا ً قبيلة مشركة جاهلية ،وهي قبيلة منافسة لقريش ،فكما أن
قريشا ً سادنة بيت الله الحرام الكعبة المشرفة ،فإن ثقيف بنت لصنمها
اللت بيتا ً ورتبت له سدنة وكان يعظمونه كتعظيم بيت الله الحرام ،فأرادوا
أن يغروا محمدا ً صلى الله عليه وسلم بقريش ،ويغروا قريشا ً بمحمد صلى
الله عليه وسلم ،يأمنون من ذلك أن تصطرع قريش فيما بينها لتضعف ،
وتضعف الكعبة من جّراء ذلك ،ويكون لثقيف المكان الول بين قبائل العرب
وللطاغية صنمهم المنزلة الولى بين أصنام العرب ،ولبيتهم في الطائف
المكانة الولى ،ويتحول الحج من مكة إلى الطائف .فأغروا به السفهاء
والصبيان ،وسبقت هذه الخبار محمدا ً صلى الله عليه وسلم إلى مكة
فازدادت قريش شراسة إلى شراسة .
في هذا الثناء أو قبلها بقليل بعد الخروج من الشعب بخمس وثلثين ليلة
توفيت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ،ولم تلبث قليل ً حتى توفي أبو
طالب ،وفقد النبي صلى الله عليه وسلم الزوجة الوفية الصابرة المحتسبة
التي كانت بلمسات حنانها تمسح متاعب النبي صلى الله عليه وسلم وتعيد
السكينة والطمأنينة إلى نفسه .وبفقد أبي طالب فقد النبي صلى الله عليه
وسلم شيخ القبيلة بل شيخ قريش ،حيث كانت قريش والعرب جميعا ً تعظمه
وتحترمه وتعرف قدره بينها .ولشدة المصاب سمى النبي صلى الله عليه
وسلم هذا العام عام الحزن ،لن النبي صلى الله عليه وسلم لقي من
116
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
المتاعب والهوال ما تنهد له الجبال .وتلفت النبي صلى الله عليه وسلم
ؤذن حالهم بأن فوجد نفسه وحيدا ً بين قوم تزداد شراستهم مع اليام ،ول ي ُ
يستقر على قرار إل أن ُيقضى على هذه الدعوة وعلى هذا النبي صلى الله
عليه وسلم .
في هذه الثناء كانت حادثة السراء والمعراج ،كالتعزية والتسلية لرسول
الله صلى الله عليه وسلم عن كل هذا البلء من جّراء حمل هذه الرسالة ،
متى كانت ؟ المبعدون جدا ً يقولون أنها كانت قبل ثمانية عشر شهرا ً من
الهجرة .ونحن الن في النصف الثاني من البعثة ،في السنة الحادية عشر
للبعثة النبوية ،فنحن إذا ً قد قطعنا مرحلة طويلة جدا ً طوت خللها أحداثا ً ما
مررنا بها ،طوت وقائع ما تعرفنا عليها ،طوت خللها أمورا ً نزل بها القرآن
ما قرأناها حتى الن ،فكيف التوفيق ؟ ل مجال للقول بأن هذه الفاتحة ل
تتعلق بالسراء والمعراج ،فاتحة السورة صريحة في أنها تقص شيئا ً من نبأ
السراء والمعراج على سبيل الية للنبي صلى الله عليه وسلم ،كيف أن الله
تعالى أسرى به من ليلته ،من فراشه من مكة حتى أتى به بيت المقدس ثم
عرج به من هناك إلى السماء وعاين من أمر الله ما عاين .ففاتحة السورة ُ
قصت هذا كله ووضعت أمام قارئ القرآن إلى آخر الزمان هذه السورة
العجيبة المليئة بالتهاويل والعاجيب التي هي بذاتها خارقة من الخوارق التي
أجراها الله تعالى تسلية وتعزية لمحمد صلى الله عليه وسلم عن هذا البلء
الذي رآه في مكة .
كان عليه الصلة والسلم يتردد بين مكة والطائف وبين قبائل من قبائل
العرب ليست بعيدة عن مكة ،هذا الحيز الصغير من الرض هي التي شهدت
دت هذا الثوران من الحداث التي أثقلت على النبي صلى الله عليه وسلم وه ّ
قواه هدا ً لول عناية الله جل وعل .كيف السبيل كي ُيمسح هذا كله ؟ هو أن
يأخذ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في سياحة في كونه العريض في
عالمه الذي ل يتناها ،ورأى محمد صلى الله عليه وسلم من ملك الله ما رأى
،واستقر في حسه ما أرادت اليات أن تقره ،وكذلك أن تقّر في قلوب
جميع الدعاة إلى الله على آخر الزمان أن هذا الحيز الصغير الذي تضطربون
فيه ،ما هو ؟ ما شأنه ؟ مكان صغير في كوكب صغير في زاوية ل يؤبه لها
في كون الله العريض .والله جل وعل يوم كّلفك يا محمد بأن تحمل للناس
كلمته الخيرة والخالدة والباقية أتراه يتركك لهؤلء السفهاء والمعاندين ؟ من
هؤلء إلى جانب جنود الله جل وعل ؟ ومن هم إلى جانب من أهلك الله من
المم السابقة التي كانت ذات قوة وجبروت ؟ إذا ً فلتثق بالله ،وأنت أيها
الداعي إلى الله أتظن أن الله جل وعل ليس في علمه وفي ملكه إل هذا
الحيز الضيق الصغير الذي تجد من أهله الصد ّ والجحود والنكران ؟ أتظن أن
الكون خل إل من هذه الزنزانة الضيقة التي ألقاك بها الظلمة ؟ أبدا ً .أنت
أينما كنت في عين الله جل وعل ،وأنت قبل وبعد حامل رسالة ليست منك
ليكون أمر تدبيرها إليك ،ولكنها من الله خالق الكون كله ورب الكون كله
الذي يسوس الكون كله ،فلتثق بأن الله لن يضيعك .
)(2 /
هذه القضية تنتمي إلى واقعة السراء والمعراج ،وهما في منتصف السنة
الحادية عشر من البعثة النبوية .إذا ً فأين نحن ؟ ونحن حددنا لنفسنا حدا ً ل
يتجاوز السنة الخامسة من البعثة ،هل هناك من حل للمشكلة ؟ سنحاول
117
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
118
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ينتهي الحديث عن النجم إذا هوى قسما ً مشعرا ً بضلل العرب الذين تسرب
إليهم دين الصابئة في الجاهلية وعبدت قبائل منهم الكواكب ،وكانوا يعبدون
الشعر اليمانية ويعبدون غيرها من الكواكب وكانوا يتصورون حولها تصورات
مما ل يمكن لنا أن نقص عليكم اليوم ،ولكن سنأتي على نبذ ٍ منه إن شاء
الله تعالى حين نأخذ بالتعرف على ديانات العرب في الجاهلية .
)(3 /
بعد أن أشار الله بهوي النجم أي سقوطه ،إلى تغير هذا النجم وحدوثه
ووجود قوة تمسك به إذا شاءت أن تمسك به ،وتسقطه إذا أرادت أن
تسقطه ،أشارت بهذا إلى ضلل العرب أن هذا الكون المحدث المخلوق
المتغير ل يستحق أن يسمى إلها ً فيقسم بهذا المعبود الجاهلي على استقامة
أمر محمد وعلى رشاد محمد صلى الله عليه وسلم ) ما ضل صاحبكم وما
غوى ( وتشير أيضا ً بعد ذلك مباشرة إلى فارق جوهري كان الحديث ينصب
عليه منذ بدايات الدعوة ) وما ينطق عن الهوى ( فنحن نعرف من السور
التي استعرضناها في الماضي أن هذا القرآن من أول المر فصل فصل ً
حاسما ً وأكيدا ً بين ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم وما هو نازل على
سبيل الوحي من الله جل وعل ،فالنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في
الرضى والغضب ولكنه ل يقول إل حقا ً على كل الحالت ،ومع ذلك فكان
صلى الله عليه وسلم حريصا ً غاية الحرص على أن ل يلتبس قول الله بقوله
كي تضمن سلمة الوحي بأقصى ما في الطاقة البشرية من الضمانات التي
يمكن أن تقدمها البشرية ،لماذا ؟ لسبب الجوهري الذي ألمحنا إليه قبل
ول المخلوقين قليل وهو أن هذا القرآن ليس من عمل محمد وليس من تق ّ
ولكنه قول الله جل وعل ورسالته إلى الناس وكلمته الخاتمة في سجل
النبوات التي أنزلها منذ آدم عليه السلم وانتهاًء بنبينا محمد صلى الله عليه
وسلم ،وأن مجهودات البشر في معزل عن هذا التنزيل ،وأن رغبات البشر
وما يطيقه البشر أو ما ل يطيقونه في معزل عن قضايا التنزيل وعن قضايا
الوحي وعن طلبات الله جل وعل ) ..وما ينطق عن الهوى ( أي أنه ل يقول
لكم هذا الشيء الذي أمرته أن يقوله لكم عن التشهي والتباع لما تهواه
نفسه ) إن هو إل وحي يوحى ( .
بعد الكلم عن السراء والمعراج يأتي النغم الذي ألفناه في السور الماضية ،
التنديد والهجاء والذم واللوم والتقريع للعرب التي عبدت آلهة من دون الله
جل وعل .
)(4 /
الن الثالثة الخرى ) ألكم الذكر وله النثى تلك إذا ً قسمة ضيزى ( واللت
والعزى ومناة من الصنام المشهورة التي كانت تعبدها العرب في الجاهلية
والتي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمها وهدمت جميعا ً ،أرأيتم هذه
الصنام التي اتخذتموها آلهة من دون الله ؟ أتخلق أو ترزق أو يسمعونكم إذ
تدعون ..؟ ل ،هل المشكلة أن نعبد ؟ ل ،ليست المشكلة أن نعبد ،فإنما
العبادة من حيث هي حاسة ودافع وحافز وحاجة ورغبة أصيلة في الكيان
النساني ،ومؤرخو الحضارات النسانية يقولون إنه قد يمكن أن ُيكتشف
اليوم أو في المستقبل حضارة ل يكون فيها علم ول فن ول سياسة ول
119
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
120
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(5 /
ومن هنا كان العرب فيهم هذه الخصلة ولعلها ما زالت موجودة إلى الن ل
سيما في الرياف وفي أبناء الجاهليين من أبناء المدن أنهم حين يولد لهم
مون ..وحين تولد النثى يقطب الوالد وجهه ويغضب ، الذكر يفرحون وَُيول ِ ُ
ولقد كانت هذه المشاعر وراء الدافع الذي حمل قبائل إلى أن تئد البنات أي
تدفن البنات وهن على قيد الحياة ،فالعرب من كراهتهم للنثى سموا
ص الله علينا في أصنامهم بأسماء الناث وقالوا أن الملئكة بنات الله كما ق ّ
القرآن .فالله جل وعل بهذا السلوب الساخر يقول لهم ) أفرأيتم اللت
والعزى ،ومناة الثالثة الخرى ،ألكم الذكر وله النثى ،تلك إذا ً قسمة ضيزى
( أي قسمة جائرة غير عادلة ،لو أنك أجريت هذه القسمة بين من هو على
شاكلتك من الناس لكانت قسمة تفتقد إلى العدالة ،فكيف وهي قسمة بينك
وبين الله جل وعل ،إنك ترتكب هذه الرذيلة لضلل عقلك ،لنه من المعلوم
أن النحراف أوله خطوة وآخره ضلل كبير .
وهكذا تمضي السيرة في عرضها لكل الغراض التي جاءت بها منددة
للمشركين فاضحة لهم أمام البشرية جمعاء .مشيرة أثناء ذلك ) أرأيت الذي
تولى ،وأعطى قليل ً وأكدى ،أعنده علم الغيب فهو يرى ،أم لم ينبأ بما في
صحف موسى ،وإبراهيم الذي وفى ،أن ل تزر وازرة وزر أخرى ،وأن ليس
ن
للنسان إل ما سعى ،وأن سعيه سوف ُيرى ،ثم ُيجزاه الجزاء الوفى ،وأ ّ
إلى ربك المنتهى ( هذه اليات تشير إلى حادث أغلب الظن أنه ينتمي إلى
حوادث السراء والمعراج ،للسف نحن نعثر بين الن والن في كتب
التفسير والتاريخ القديمة أخبارا ً ل تستقيم ،ومع ذلك نقول جزى الله أسلفنا
كل خير فقد جمعوا ما استطاعوا من علم وعلينا أن نبحث ،عند هذه الية
ورد في كتب التفاسير أن المراد بهذا الكلم مجموعة من المشركين ،وورد
على ألسنة بعض رواة السيرة ونقل صاحب الكشاف الزمخشري هذا الكلم
أن اليات تتعلق بعثمان رضي الله عنه ،مشيرة إلى أن عثمان كان ينفق في
سبيل الله جل وعل وأنه ذات يوم جاءه أخوه من الرضاعة طريد رسول الله
صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سعد بن أبي السرح وقال له :إن بقيت
تنفق هكذا فستنهي مالك ،فأمسك عثمان عن النفاق ،فنزلت هؤلء اليات
تندد بعثمان ،وظني أن عثمان أكبر من هذه الرواية بكثير فهو أجود رجل في
دخر من ماله ل قبل الهجرة ول بعدها شيئا ً ،وكان يجّهز السلم ،ولم ي ّ
الجيش بكامله من ماله الخاص ،وأنا أقطع والله أعلم أن هذه الرواية
اندست من فئة الشيعة لعنهم الله ،لنهم كانوا يبغضون أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
وكذلك ل يستقيم معنا أن نقول إن هذه اليات نزلت في شأن رجل من
المشركين ،إن المسألة كما هو واضح تشير إلى شيء يتعلق داخل المجتمع
المسلم ،وحين نلجأ إلى واقعة السراء والمعراج فنحن نلمح أنها كانت في
الواقع تمحيصا ً وبلًء للمسلمين ،وأن من الناس الذين أسلموا حديثا ً لم
تستوعب عقولهم هذه الحادثة ،وينص كّتاب السيرة على أن بعضا ً من
ضعفاء اليمان ارتدوا عن السلم حين سمعوا أن الرسول صلى الله عليه
121
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(6 /
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ،والحمد لله رب
العالمين .
)(7 /
122
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
العمل الذي نباشره ،إننا الن مع السورة الحادية والثلثين أي أننا مع قدر
من القرآن الكريم ل بأس به .
ولقد رأيتم إن كانت أذهانكم قادرة على استحياء ما سبق أن قلناه إن السور
الثلثين الماضية أثارت مشكلت هامة ،وعرضت لقضايا ذات حساسية
بالغة ،ولكي تدركوا بين طرفي المة الجادة والمة اللهية العابثة ل بد أن
أستعيد لكم وجهة نظر القرآن الكريم ووجهة نظر السلم بعامة حول بناء
النسان وبناء النسانية .
إن هذا العلم الذي بثه السلم في الناس قضايا وأفكار وتصورات وصور
ومشاهد قيمتها اللفظية أنها كلم ،وقيمتها الفكرية أنها معتقد ،وليس أكثر ،
والسلم حين جاء والقرآن حين نزل اعتبر العلم خادما ً للعمل ،واعتبر العمل
ثمرة للعلم وأعطى العمل مرتبة متقدمة ،بل اعتبر العمل الوسيلة الوحيدة
التي تمنح العلم هذه الحيوية المطلوبة لكي يتحول العلم إلى أداة نافعة في
توجيه السلوك وبناء الشخصية وتأسيس القواعد الصحيحة التي تقوم عليها
المم ،فقال الله تعالى ) واتقوا الله ويعلمكم الله ( وقال أيضا ً ) ومن يؤمن
بالله يهد ِ قلبه ( فالعلم وسيلة وليس غاية ،وأخسر الناس صفقة وأقلهم حظا ً
وأقلهم نصيبا ً من هذا السلم من صرف النظر عن الثمرة المطلوبة وهي
العمل .
لقد كان الجيل المسلم الذي رباه محمد صلى الله عليه وسلم في مراحله
الولى ل يعرف من الدنيا معشار ما تعرفون ،ول يعرف من شئون الدين إل
بعض ما تعرفون ،ولقد انقضت حياة كثير من الصحاب رضوان الله عليهم
ممن كانت لهم على السلم أيادٍ بيضاء وفي رقبة النسانية منة ل تكافأ ول
يقوم بتعويضها شيء ،كان الكثير من هؤلء الصحاب ل يحفظ من القرآن إل
القليل ،ولكنهم جميعا ً كانوا يعملون ،ويعملون على هدي هذا الكتاب الكريم
وفي ضوء توجيهات محمد صلى الله عليه وسلم ،فأنتجوا للناس ذلك الجيل
الخارق الذي عجز النسانية حتى الن أن ُتخرج من طرازهم حتى الحاد .
لقد وفد أبو ذر رضي الله عنه إلى مكة وسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم
وأحب أن يستطلع نبأه ،وأن يتعّرف على ما عنده ،فسأل عنه فدّلوه عليه ،
وتل عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ً من القرآن فآمن وصدق ،وطلب
إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه ،لقد كان الوقت على
النبي والصحاب شديدا ً جدا ً ،كانت مكة حتى الحجارة فيها تتنّزى حقدا ً
وضغينة على رسول الله وعلى المؤمنين ،وأبو ذر رجل من بني غفار من
طان البادية ،وإن بني غفار كانوا من شياطين العرب في الجاهلية ،كانوا ق ّ
قطاع طرق ولصوص صحراء ومن فتاك العرب ،ولكنه في مكة ليس له
حلف يمنعه ول عشيرة تحميه ،فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يجنب
هذا المؤمن الجديد شدائد العيش في مكة في تلك المراحل العصيبة ،فنصح
له أن يرجع إلى قومه حتى إذا سمع أن أمر السلم قد استوثق وقوي جاء .
ولكن أبا ذر رفض أن يعود إلى قومه قبل أن ُيسمع المكيين ما يكرهون من
هذا القرآن ،فطاف على نواديهم وحلق مجتمعاتهم وأعلن لهم أنه آمن بالله
جل وعل واتبع نبيه صلى الله عليه وسلم وتل عليهم ما سمع من القرآن ،
فثاروا إليه يضربونه حتى كادوا أن يأتوا على نفسه لول أن العباس بن عبد
المطلب رضي الله عنه جاءهم فقال :يا قوم إنه من غفار وإن تجارتكم على
جار ،أبناء دنيا وعبيد مال ،فكفوا عن
طريق غفار والقوم كما تعلمون ف ّ
ً ً
الرجل ..المسألة أن أبا ذر رضي الله عنه حين أسلم كان سادسا أو سابعا أو
أنه أسلم في أبكر مراحل الدعوة ،وبقي مع النبي صلى الله عليه وسلم مدة
123
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ل تزيد على السبوع ،وحين عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يرحل
رحل إلى قومه .
)(1 /
كم تظنون كان من القرآن مع أبي ذر ؟ في تلك اليام كانت السور النازلت
قليلة جدا ً ،ولنسلم أن أبا ذر رضي الله عنه حمل معه إلى قبيلته بني غفار
كل هذا الذي نزل حتى تلك الساعة ،فهو ل يتجاوز خمس سور أو ستا ً أو
شيئا ً من هذا القبيل ..ثم كم تظنون أن الغيبة طالت ؟ إن النبي صلى الله
عليه وسلم بقي في مكة ثلثة عشر عاما ً يدعو إلى الله جل وعل وآذان
المكيين فيها وقر ل تسمع النداء وقلوبهم كهذه الصخور التي حول مكة ل
ترق ول تلين لنداء الله تعالى .وبعدها هاجر إلى المدينة ،وبعد الهجرة جاء
أبو ذر إلى المدينة لم يلقَ نبيه وزعيمه ومعلمه مدة ل تقل عن عشر
سنوات ،أترون هذا الصحابي الجليل رضوان الله عليه قال :إن معي من
القرآن يكفي لكي أقيم به صلتي ولكي أستحفظه بتردادي على ذهني ؟
أترون هذا الصحابي الجليل بقي كل هذه المدة المديدة وهو يتصور أن ما
معه من أمر السلم شيء يخصه وأن إسلمه ل يعني بتاتا ً أن عليه أن يزيد
من رفعة نفسه وأن يمد ّ من رقعة دعوته ؟
لقد كان أبو ذر حين جاء بعد الهجرة ل يقود بني غفار وحدهم أي قبيلته ،
وإنما يقود معه أيضا ً قبيلة أخرى هي بنو أسلم ،وهي من القبائل العربي
البادية الشرسة ،أقبلوا فلما انجلى عنهم الغبار استقبلهم النبي صلى الله
عليه وسلم مرحبا ً وهاشا ً وباشا ً وهو يقول :غفار غفر الله لها ،وأسلم
سالمها الله .
إن القضية التي أريد أن أركز عليها هي ما يلي :إن هناك علمات ل تخطئها
العين تفرق بين الجيال ،فأنت تقول عن جيل ما من أجيال المة إنه جيل
البناء والنتاج ،حينما تتحقق معينة ،وتقول عن جيل ما يحمل الصفات
السالبة ،إنه جيل البطالة والكسل بل جيل الهدم والتخريب .إن ديناميكية
السلم ترفض الوقوف عند نقطة محدودة تعني في نظر السلم بداية
التحلل والنحدار ،إن هذا الصحابي لو كان يفقه السلم على نحو مما نفهمه
عليه الن لجاء بعد هذه السنوات الطوال يحمل على كتفيه عصاه وزوادته
وحيدا ً فريدا ً ،وذلك حسبه ،ولكنه من بداية المر ومن أوائل الخطى في
الطريق أدرك أن السلم دعوة نامية متقدمة تتطلب من النسان أن يهبها
نفسه وأن يمنحها كيانه ،وأن يعيش بها ولها ،وأن يموت عليها .فحينما رأى
ذلك واستقر في سويداء قلبه باشر الدعوة إلى الله في صحراء قاحلة وبين
أقوام قلوبهم ليست أقل جذبا ً من هذه الصحراء التي تلفهم بين جنباتها
وصخورها .ومع هذا وحينما دعا وحينما عمل جاء بأبرك الثمرات وقدم على
النبي صلى الله عليه وسلم يجر من خلفه ومعه قبيلتين كانتا تعدان من
القبائل التي تعيث في الرض فسادا ً ول تعرف الصلح أبدا ً .
إذا ً فالمسألة بل المشكلة أنه ليست أن نعلم الكثير بل أن نعمل الكثير ،إن
العمل هو الغاية المقصودة ،فإذا عدم العمل فإن العلم في هذه الحالة وبال ً
على صاحبه في الدنيا والخرة .أما في الدنيا فلن النسان خضوعا ً لشهوات
ل اسمه ) يا نفسه يضّر كثيرا ً لن يقول ما ل يفعل فيدخل تحت قول الله ج ّ
م تقولون ما ل تفعلون ،كبر مقتا ً عند الله أن تقولوا ما ل أيها الذين آمنوا ل َ
تفعلون ( وأما في الخرة فإن من أوائل من تسّعر به النار يوم القيامة رجل
124
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
آتاه الله القرآن وآتاه العلم فيأتي به الله جل وعل فيعّرفه نعمه عليه فيعرفها
،ويقول له :ألم أعلمك ما لم تكن تعلم ؟ فيقول :بلى يا رب .فيقول له :
فماذا عملت فيما علمت ؟ فيكون الجواب تحايل ً على الله ،ويرد ّ الله عليه :
بل علمت ليقال فلن عالم وذلك هو نصيبك ،ثم يأمر به إلى النار .
)(2 /
ومن هنا كان من سير السلف الصالح رضي الله عنهم أنهم ل يطلبون من
العلم إل هذا الذي يحتاجونه في سياق العمل .وأما ما ل يحتاجون إليه فل
يطلبونه ،لنهم يرون أن من طلب الكثير من العلم مما ل تطيق العمل قواه
فقد استكثر من حجج الله عليه ،ل أكثر ول أقل .وما نحن الن سلخنا من
القرآن مرحلة من تاريخ الدعوة السلمية تعد مرحلة المان ،وسلخنا من
القرآن قدرا ً لو أتيح لكثير من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم في ذلك
دت دوا من العلماء وأشير إليهم بالبنان و ُ
ش ّ دوا بين أقوامهم ولعُ ّالزمان لج ّ
إليهم الرواحل تطلب ما عندهم .فأي شيء أخذناه من هذا الذي قرأناه
واستعرضناه ؟ أترون في مجتمعنا الصغير هذا استطعنا أن نوسع من آفاقنا
دل من مسالكنا أو أن نخرج من مهازلنا ومباذلنا لنمنح حياتنا من أو أن نع ّ
الجدية التي ترافق النسان المسلم ؟ أم نحن نأتي لنسمع ولنرضى بما
نسمع ؟ إن أمة السلم حينما قامت بلغت ما بلغت بالعدل ،ونحن حينما
انحدرنا وهبطنا فإنما كان ذلك ثمرة طبيعية لنبذ العمل والتكّثر بالعلم ،وكم
في المة الن من علماء تتقاصر كثير من الماضين عن تحصيل هذه الكمية
ت عملهم على علمهم تكاد تتقّيئ ، من العلم التي يحملونها ؟ ولكنك إذا عرض َ
جة ونوايا مجهولة وقلوب هواء ،ولو روائحهم تزكم النوف ،مسالك معو ّ
م هذا العلم لكان لهم شأن آخر . كانوا يعرفون ما العلم ول َ
ّ
نحن أيها الخوة محتاجون إلى أن نتذكر هذا الكلم ،وما كنت أرغب في طيه
،وإنما هو ذكرى ليعرف كل أخ أن عليه واجبا ً ثقيل ً ،إن عليه أن يعمل في
ظرف يقتضي العمل ،فأنا ل أعرف في كل تاريخنا الطويل مرحلة أشد
خطورة على السلم والمسلمين من هذه المرحلة .وما من سبيل إلى أن
نتغّلب على المشاكل إل أن نعزم عزم الرجال وأن نضع ضرورة العمل أمام
أعيننا وأن نعرف أن هذا السلم قوة تتطلب نموا ً مستمر ،وأنه قوة ليست
مقصورة على صاحبها ،بل ينبغي أن تعمم على الناس جميعا ً
) يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ً وقودها الناس والحجارة عليها
ملئكة غلظ شداد ( .
وقبل أن نواجه السورة أستعيد إلى أذهانكم أعجاز السورة الماضية أي
سورة القيامة ،فيما عرض الله في سورة القيامة من العوامل الصارفة عن
اليمان باليوم الخر هذه الخليقة العجلة الموجودة لدى بني النسان ) كل بل
تحبون العاجلة ،وتذرون الخرة ( ومحبة العاجلة ونبذ التفكير في الخرة داء
شديد الخطر لنه يحدد نظرة النسان بإطار محدود ،وإذا حدد النسان
نظرته بإطار محدود فقد فارق المطلق الذي يسمح للقيم العليا والهداف
النبيلة أن تتنفس وتعيش ،والنسان ذو الهدف المحدود هو دائما ً عبد
للضرورات المحكومة بين طرفي البداية والنهاية في هذا المد المحدود ،إن
خلق للبقاء ولم يخلق النسان كما أراده السلم هو النسان الذي يعرف أنه ُ
خلق للوجود ،وأن وجوده في الدنيا مرحلة ل أكثر ول أقل .وأن للفناء ،و ُ
من وراء الحياة الخلود إما في الجنة وإما في النار ،ولكن النسان حينما
125
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يتغافل عن هذا ويعرف أن مداه هو هذه السنوات التي يعيشها على ظهر هذا
الكوكب ثم ل شيء بعد ذلك فهو إذا ً مضطر نزول ً عند ضرورات هذا التصور
أن يكّيف مسالكه وخلئقه وفاقا ً لما يقتضيه إشباع هذه الحاجات التي يحسها
النسان في هذا المدى القريب .
أما مغالبة الرغبات ومصارعة الشهوات والنتصار على النفس والتضحية
بالعاجل من أجل تحقيق قيم عليا ومن أجل ترقية حياة النسان فذلك شيء
ل يفكر به من ل يؤمن بالله واليوم الخر ..هذه قضية عرضناها في السورة
الماضية ،وأما هذه السورة الحادية والثلثين وهي سورة الهمزة فهي تعرض
لنا هذا النموذج المخّرب الفتاك ،ولكنها تعرضه مع تعرية للدوافع على
الطريقة المعهودة في القرآن واسمعوا لتروا أن هذا القرآن ل يفهمه إل من
يستحضر بداياته ونهاياته ،إن الله يقول ) ويل لكل همزة لمزة ( والهمزة هو
الذي يعيب الناس في وجوههم ،واللمزة هو الذي يطعن الناس في غيابهم ،
أو هما مترادفان يتعاوران على معنى واحد ،وعلى العموم فهما تؤديان
الوصف الذي ينطبق على هذا الصنف المخرب من الناس ،صنف الثرثارين
المبتغين للبحث عن العيب ،الذين يحبون أن تشيع الفاحشة بين الناس .
ليس هذا مهما ً الن وإنما المهم هو ما يلي ..
)(3 /
من هو الهمزة اللمزة ؟ قال ) الذي جمع مال ً وعدده ،يحسب أن ماله أخلده
( هنا كل المسألة التي تدور عليها حقائق القرآن وترجع إليها ،إن سّر
انصراف الناس عن الخذ بتعاليم السلم وعن التأدب بالقرآن هو هذه
المحدودية النظر ،وهو هذا النطباع في ذهن معظم الناس ،أما ما يراد من
ح عليه في هذه الحياة ،لقد كان النسان هو أن يشبع هذه الحاجات التي تل ّ
هذا الدرس ضروريا ً وأساسيا ً في العهد الذي بدأ فيه نزول القرآن ،لكنك إذا
مرر على ذهنك صورة التاريخ البشري والحضارة ملكت القدرة على أن ت ُ ّ
البشرية برمتها فستجد هذا الدرس هو ألزم ما يكون للنسانية اليوم ،لن
كل صوت يرتفع وكل دعاية تشاع فإنما تقوم على تزيين هذه الحياة الدنيا
في عيون وعقول الناس وقلوبهم ،وأن كل الوعود التي يبذلها الساسة
والزعماء والمصلحون فإنما تدور على سد جرعة البطن وإرواء شهوة الفرج
وتأمين الكساء والمنزل وما أشبه ذلك ،أو تأمين الحوائج والضرورات التي
ب على هذه الرض .فّتش في كلم يشترك فيها النسان وأي حيوان يد ّ
الزعماء ..دعك من العاَلم غير المسلم ،هؤلء ل كلم لنا معهم ،هم غير
مسلمين ،اسمع إلى هذه النصوص التي تتزعم العالم السلمي فيما تذيع
ت أحدا ً منهم
وفيما تعد وفيما تقطع من مواثيق ،ماذا تقول لك ؟ هل سمع ً
يقول يا أيها الناس اتقوا الله ؟ أو يقول إن من ورائكم يوما ً يقوم فيه الناس
لرب العالمين ؟ هل سمعتم أحدا ً يقول يا أيها الناس هبوا لنجاهد لعلء كلمة
الله ؟ أبدا ً ،هذه القضايا ل تخطر لهم على بال ول تجري منهم على لسان ،
لنهم تربية الدوائر الستعمارية ،ولنهم تربية المباءات الوسخة التي تمسخ
الرجولة وتخرب النسانية .
ً ً
إن هذا النموذج الذي عرضته السورة باعتباره خطرا من الخطار ومعوقا من
المعوقات ،من هو ؟ هو ذلك الصنف الطّعان الذي ل يقّر له القرار ول يهدأ
له بال ما دام يرى مخلوقين متصافيين ،ل بد له أن يزرع بينهم أسباب
العداوة والبغضاء ،ول بد ول بد ول بد مما سأقوله لكم بعد قليل ،ولكن لماذا
126
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(4 /
إن النسان كما قلنا يمنح النسان الضمان وهو أيضا ً يمنحه قوة ويمنحه
سلطانا ً ،والسلطان ل يتأتى عن المال فقط ،قد يأتي عن طرائق أخرى ،
ماعا ً للفكر وكبيرا ً في العقل ،فعقله هذا وعلمه يمنحه على الناسقد ج ّ
سلطانا ً ،قد يكون النسان زعيما ً بين قومه ،منظورا ً إليه من بيت رياسة ،
فتكون على قومه كلمة نافذة ،قد يكون النسان حاكما ً على أمة يستطيع أن
يتصرف بأموالها وبأنفسها ،ذلك أيضا ً يمنحه قوة وقدرة وسلطانا ً .إن هذه
أشياء مطلوبة ومرغوبة ،ولكن من أجل ماذا ؟ من أجل تدعيم المثل العليا
الكبيرة التي أنزلها الله على النبياء والمرسلين ،أما أن تستخدم من أجل أن
اتخاذ الناس دول ً وعباد الله خول ً فذلك هو الشيء الذي ل ُيطَلب أبدا ً إل من
هذا الصنف من الناس الذين ينصبون من أنفسهم في تاريخ البشرية خصوما ً
للحق ولكل صوت يدعو إلى الفضيلة .
إن هذه السورة عرضت لنا المشكلة ،مسألة الشعر بأن ل دار بعد هذه الدار
ن عن اليمان ،وأن النسان يستطيع أن يقوم بكل ما يرغب ،وأنه مستغ ٍ
127
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
بالله واليوم الخر ،مسألة عرضت لنا في أول سورة من سور القرآن
الكريم ،يقول الله تعالى ) إن النسان ليطغى ،أن رآه استغنى ( فالشعور
بالستغناء سواء كان هذا الستغناء عن طريق المال ،أو عن طريق الجاه أو
السلطان يدفع النسان إلى الطغيان ومجاوزة الحد وأن ينسى مكانه أو
منزلته .
والقضية الثانية قضية هذا النفر الذي عرض الله شأنهم في سورة القلم ،
يقول الله تعالى ) فل تطع المكذبين ،ودوا لو تدهن فيدهنون ،ول تطع كل
حلف مهين ،هماز مشاء بنميم ( فالهمز هنا مذكور ،وهذا الصنف من الناس
مذكور في أوائل الدعوة ،ولكنك الن محتاج لكي تدرك الصلت بين أوائل
القرآن وأواخر القرآن تبعا ً لتطور مراحل الدعوة محتاج لن تضع الصورتين
أمامك .
في الصورة الولى التي جاءت في سورة القلم عرضت اليات الكريمة
صنفين من الناس يكثرون الحلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم له
محبون وعليه مشفقون ،وهؤلء يكثرون الحلف لنهم يشعرون في دخيلة
أنفسهم أن هذا الرسول الكريم يعرف أنهم يكذبون ،ولهذا وصفهم الله
تعالى بالهوان ) فل تطع كل حلف مهين ( ثم هم إن كانوا معك كانوا على
أحسن حال معك ولكن حين تغيب عنهم لمزوك وهمزوك ) هماز مشاء بنميم
،مناع للخير معتد أثيم ( هؤلء الناس في مراحل الدعوة الولى كانوا ل
يواجهون النبي صلى الله عليه وسلم بالطعن مباشرة لماذا ؟ أهو الحترام ؟
ل ،وضعوا في أذهناكم أن هذه الصور صور تاريخية ،أي أنها صور مستمرة
في الزمان والمكان ،ومتكررة مع كل جيل ،إنهم ل يحبون هذا النبي الكريم
مرت .والصحاب الكرام فهموا أن هذه الصفات لو ُوجدت في المجتمع لد ّ
هذا المجتمع .
وهذا الصنف من الناس جاءوا إلى النبي يجادلونه في أمر الدين ،فقال تعالى
مخاطبا ً نبيه ) فل تطع المكذبين ،ودوا لو تدهن فيدهنون ( ودوا لو تتنازل
قليل ً عن هذا الموقف الصلب الذي وصفك الله إياه .لكن السلم دعوة
ربانية إلهية ل تفهم هذه الحلول الوسط ،بل تدرك تماما ً أن النسان المسلم
لمجرد أن يترخص ويتنازل أضاع دينه وأهلك دنيا أيضا ً .إن هذه السلم
طريق مستوى معتدل ،ل يمكن أن يطعم بغيره من المبادئ والهداف ،
والذين ينادون بتطوير السلم وبتجديد السلم وبعصرنة السلم وبعلمنة
السلم أناس شموا كل رائحة إل رائحة السلم ،أناس عرفوا كل شيء إل
هذا السلم ،ولو أنهم فهموا من السلم شيئا ً من حقائقه لعلموا أن هذا
فَرض عليه من حياة الناس .المشركون كانوا السلم يرفض كل شيء ي ُ
يريدون هذا ،من أجل ذلك كانوا يتحاشون مواجهة النبي صلى الله عليه
وسلم ،ولكنهم حينما يغيبون عنه يتناولون بالعيب واللمز والطعن .
ً
إن المشركين تمسكوا في مواقفهم ،لماذا ؟ لنهم قطعوا المل تماما من
أن يتجاوب الرسول صلى الله عليه وسلم معهم بشيء ولو بالقليل ،وإذا ً لم
يبقَ شيء من المراعاة ول للمجاملة ،ولهذا هم يلمزون ويهمزون .يحاربون
الدعوة بالدعاوى والعلم .هذا واحد .
إن السلم جاء ليخاطب أناسا ً ورجال ً وأحرارا ،لم يجئ ليخاطب
ً
الحيوانات ..وإن الرجولة تقتضي أنه حينما يرى النسان خطأ وانحرافا ً أن
يحاول تقييم النحراف وتصحيح الخطأ بالسلوب الصحيح الذي يرضى الله
عنه .بالنصيحة والمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق .هذه
طريقة السلم .
128
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
وأما أن تتخذ الطريقة الخرى وهي همز الناس وعيبهم وإشاعة الفحشاء
عنهم فتلك طريقة الهوام من الناس .
)(5 /
من أجل هذا أحببت أن ألفت نظركم إلى أن دللة السورة الكريمة هو ما
يلي :هو أن ل يكون اختلف الرأي سببا ً لتجريح الناس ،إن النسانية اتصفت
بهذه الصفة منذ القديم ،فحينما يعجز الناس عن مواجهة الحقيقة ،ما الذي
تفعله ؟ إن النسان عجيب ،ل يمكن أن يلقي السلح طواعية ،إنه يخترع
طرقا ً أخرى ،فمن أجل ذلك فحينما يعجز أعداء الدعوة عن مواجهة فكر
الدعوة يطعنون رجالت الدعوة .إن المشركين عجزوا عن إقامة الحجة على
أن الوثنية خير من العبودية لله وحده .ولكن هذا لم يحملهم عن الخضوع
للسلم ،فانبروا يطعنون بالنبي صلى الله عليه وسلم .
كم حدثتنا السيرة النبوية عن رجالت من العرب ،أبو سفيان حينما وضع
طلع عليه أحد المشركين وقال له :أهكذا تفعل بابن قضيبه على جثة حمزة ا ّ
عمك ؟ قال :استر علي .إن العربي في الجاهلية كان يحاذر أن يقف أي
وه منه وقاره ورجولته .تصوروا أن هول هذا السلم أخرج العرب موقف يش ّ
ّ
الذين هم بهذا الطبع عن كل حد معقول .كان الزعيم منهم يقلد النبي صلى
الله عليه وسلم في مشيته وفي حركاته فيضحك ويضحك القوم معه .إلى
هذا الحد كانوا يفعلون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيهمزون ويلمزون
ويعيبون .
والسورة لم تعرض هذا لكي تدافع ،وإنما عرضت لبيان المآل ،هؤلء الذين
يلمزون ويهمزون سيكون جزاؤهم الحطمة ،والحطمة صيغة يعني أن النار
تحطم كل شيء يوقع فيها لشدة هذا اللهيب الذي فيها .أرأيتم كيف أن الله
يصف هذه النار بأن لها تغيظ وزفير حينما ترى الكافرين ..
قارنوا بين هذه الطبائع الكريهة للمشركين وبين موقف السلم ،إن السلم
كان قادرا ً على أن يشّرح مواقفهم تشريحا ً كامل ً ،ولكن السلم كريم
ونظيف ل يتناول أشخاصهم ،لن أشخاصهم ل شيء ،وإنما الذي يهمنا
القضية .ولكن هؤلء المشركين ليست لهم قضية في كل الحوال ،فمن هنا
اكتفى القرآن ببيان عاقبتهم ل أقل ول أكثر .
ل من الصراع ،بل لعله أكثر من العهود السابقة ،إن إن زماننا اليوم لم يخ ُ
تقدم العلوم واستبحار المعارف مع العداء للسلم وضع بين يدي الناس
إمكانات ل حصر لها للستخدام في هذا الصراع ،إن وسائل الدعاوى والعلم
والذاعة والتلفزيون والكتاب والصحف والندوات ..جعلت بين يدي النسانية
اليوم وسائل للمكافحة تتقاصر دونها الوسائل التي كانت بين أيدي المشركين
.
إن الزمن الذي نعيش فيه خطير ،ول ينفع معه إل الصدق مع النفس ومع
الله ومع هذه المة ،إن المرحلة التي نجتازها اليوم ل يمكن أن نتجاوزها
بنجاح إل على سفينة السلم ،وما لم تأخذ بأسباب السلم فل أمل لها .ومع
هذا ومع قناعة جماهير المة بهذا فإن مراكز القوة ونفوذ السلطان ينفذون
انحرافا ً مقصودا ً في حياة المة ،وهم يطبقون هذا شيئا ً فشيئا ً .هل سمعتم
من أحد منهم قال يوما ً ما :إن الله ليس موجودا ً ؟ ل ،إن زعماءكم يصلون
في الجمعات والعياد .هل سمعتم أحدا ً يقول إن السلم غير مرغوب فيه ؟
ل ،إن كل أنظمتكم تتمسح بهذا السلم ولكن في الجانب المريض ،في
129
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(6 /
إن الساليب نفسها التي طبقت في الجاهلية القديمة ،وأرجو أن نعد لتحمل
آلم المخاض على الرغم مما يحدث لنا ،ذلك ثمن ل بد أن ُيدفع .ولكن
نعتب على شعبنا ،آن لكم أن تعلموا أن تجريح الدعوة من وراء تجريح
الشخاص مسلك فاسد وفاشل ول يؤدي إلى نتيجة ،من كان عنده كلم على
السلم فليتقدم به ،فنحن بحمد الله على بينة من أمرنا ) .ول يأتونك بمثل
إل جئناك بالحق ( إن قرآننا يرد على كل مشكلة ويعالج كل داء ،وإن سنن
نبينا صلى الله عليه وسلم حاضرة بين أيدي المسلمين يستطيعوا أن يلوحوا
بالدواء الذي يشفي النسانية من عللها وأمراضها ومن أتعابها .
أما هذه الطريقة القذرة فليأخذ بها من يشاء ،وليقل ما يشاء أننا عملء
للستعمار ،ولقد قالوها .أذكر لكم حين قام إنسان وسخ فاجر ودخيل على
هذه المة في عام ، 1967فقال إن الله خرافة يجب أن توضع في متحف
التاريخ .وقلت من هذا المكان إن هذا المخلوق عليه أن يعلم أنه يتكلم في
بلد مسلم ،فهو ل يتكلم في موسكو ول في بكين ،وكان نهاية هذا المأفون
هي في السجن .
فليعلم هذا أن هذا القرآن هادٍ وأنه بلسم ل يدع النسان في حيرة وعماء ،
وانه حينما يسمع كلمات الله بإمعان وروية ويأخذ نفسه بالفهم والتدبر
فسيدرك تماما ً أن هذه الحيل واللعيب ل مكان لها وأنه آن لهذه المة أن
تستعيد زمام أمورها بين يديها .
والمل معقود بالله جل وعل أن يهدي هذه المة ..وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وأصحابه وسلم والحمد لله رب العالمين .
)(7 /
تفسير سورة ) ص (
الجمعة 24ذي الحجة 2 / 1397كانون الول 1977
130
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
) 4من ( 5
شوح العلمة محمود م ّ
)أبو طريف(
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ..أما بعد أيها الخوة المؤمنون :
في نطاق حديثنا عن السورة السابعة والثلثين في سياق التنزيل سورة ) ص
( تحدثنا في الجمعة الماضية ساعة وبعض الساعة ونحن نتحدث عن بعض
آية عن قول الله جل وعل في مفتتح السورة ) بل الذين كفروا في عزة
وشقاق ( وكانت الوقفة مقصودة ،وقلت لكم حينها إنني أريد أن نتعلم كيفية
التعامل مع النص القرآني ،فإن الفهم المستقيم لمعاني كتاب الله جل وعل
وقضايا السلم يتوقف على حسن التعامل مع نصوص القرآن الكريم ،
ولعلكم لحظتم في الجمعة الماضية أنني اعتمدت قاعدة التحليل اللغوي
بصورة أساسية في كل الحديث الذي كان في الجمعة الماضية ،وأنا أصدر
في ذلك عن أمر يجب أن تعرفوه وأن يعرفه كل أحد من المسلمين الذين
يرغبون أن يكون لهم في الدعوة إلى الله نصيب ،وأسأله تعالى أن يقسم
لنا نصيبنا من هذا الشرف الذي ل يتاح إل للصفوة التي اختصها الله جل وعل
بمحبته وبرضوانه .
والشيء الذي أصدر عنه ويجب أن تعرفوه كنت أريد أن أكون في حالة
صحية تساعد على إيضاحه ،ولكن ما ل يدرك كله ل يدرك جله .إن من
قصور المنهج أن نعتمد الساس اللغوي في فهم الكتاب وحسب ،ومن الحق
أن هذا ضروري ،ومن كان ل يحسن فنون كلم العرب التي نزل القرآن
وفاقا ً لها فليس يجوز له أن يتكلم في كتاب الله شيئا ً ،ولكن من الصحيح
أيضا ً أن الذي ل يملك قدرة ذوقية معينة تتيح له استشفاف فحوى الكلم
وإشارات الكلم فل يجوز له أن يتكلم في كتاب الله شيئا ً ،ومن الحق أيضا ً
أن هذين فقط ل يكفيان فإن الذي ل يدرك أن كل سورة من سور القرآن
تمثل شخصية قائمة على حيالها لمختلف أغراضها وتعابيرها وإيحاءاتها ،وأن
سور القرآن جميعا ً وآيات القرآن جميعا ً بينها من التناسب والرتباط ما ل
يخطئه إل قصير النظر ،إذا عرفنا هذا تبين أيضا ً أن الذي ينبغي أن يتحدث
في كتاب الله ل بد لها من أن يملك هذه القدرة الخاصة على استخلص
المعاني الكبيرة المتولدة عن ملحظة التناسب بين آيات الكتاب الكريم
وسور الكتاب الكريم .
وهذا كما ترون كلم يتعلق بالمنهج ،أقوله ليعرفه كل أحد ،ففي ما يبدو لي
أن الله تعالى قضى أل يضع بين يديّ إل هذا اللسان ،ولو أنني أمتهن الكتابة
لكان ذلك خيرا ً لي ،وهذا كلم يقال للعاتبين والطالبين والغاضبين ،لن الذي
يكتب ما يريد يستريح من هذا الشيء الذي يكتبه ويلقيه عن كاهله ول يعود
ضرب عليه العبئ الثقيل مثلي فإنما يعيش كل آناته إليه إل لماما ً ،ولكن من ُ
معذبا ً ممزقا ً يعيش مع الفكار مع حركة الفكار مع استهلك العصاب مع
التفكير الذي يطرأ حتى أثناء النوم ،ومن أجل ذلك أريد للخوة أن يعرفوا
أول ً حدود المنهج حتى إذا غاب الشخص المعول عليه كان بين الناس سراج
يستطيعون أن يستضيئوا به ،ومن المحن القاسية أن تكون المة مفتقرة
إلى قدرة رجل واحد .
منذ بدايات الطريق قلت إنني أرغب لكل أخ أن يعيد درس هذا الشيء الذي
نقول وأن يناقش معي هذا الشيء الذي نقول ،وأن يعرف بكل جلء وصدق
أنه صاحب الفضل علي حين يناقشني في هذا الذي أقول ،ولكني أسجل
أسفي وخيبة أملي وانقطاع رجائي بعد سنوات ما وجدت ل هنا ول هناك إل
131
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
شيئا ً واحدا ً يدل على التجمد وانعدام الفاعلية وضعف الهمة وتقاسم القوى ،
ناس يريدون أن يطبعوا الحاديث كما هي ،وناس يلحون علي أن أكتب لهم ،
ولعمري إنها لخيبة وخيبة كبيرة ،فكل واحد من المسلمين يملك أن يكون
ود أنفسنا هذا الخلق الرديء الذميم الملقي خيرا ً مما أنا عليه ،ولماذا نع ّ
العبئ من كتف إلى كتف ،وتقوم الحصيلة أل يستقر على كتف أحد ،إنني
للمرة أخيرة أهيب بكل الخوة أن يعطوا من ذوات أنفسهم قدرا ً زائدا ً من
ون عليهم الطريق ،فبعد اثنتين وثلثين الهتمام بكتاب الله جل وعل ،وما أه ّ
سنة قضيتها في العمل الشاق المرهق الصعب ل يخرج معي إل هذا الكلم
الغفي والفكار التي ل أرضى عنه .فالطريق صعب ولكن لست حالة أمام
همم الرجال ،فأنا أستنهض همم إخوتي لكي يمنحوا قضية القرآن والسلم
أكثر مما منحوها حتى الن ل سيما ونحن نعيش ظروفا ً حساسة بالغة
الحساسية خطيرة غاية الخطورة .
)(1 /
في النص الذي قرأناه عليكم في الجمعة الماضية من فواتح سورة صاد بقايا
من ما يحتاج إلى النظر وفاقا ً لقاعدة اللغة التي تحدثنا تأسيسا ً عليها في
الجمعة الماضية ،ولكني لن أعود إليها الن ويكفي أن أذكر لكي أخلص إلى
ما بعد الفواتح ،لن ما جاء في فواتح سورة صاد شبيه من معظم الوجوه
بالذي جاء في فواتح سورة القمر السابقة النزول لسورة صاد ،سأذكركم
يقول الله تعالى في فاتحة سورة القمر ) اقتربت الساعة وانشق القمر ،
وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ،وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر
مستقر ،ولقد جاءهم من النباء ما فيه مزدجر ،حكمة بالغة فما تغني النذر (
ثم يتجه الخطاب إلى النبي عليه الصلة والسلم ،وأرجو أن تتمعنوا في
دقائق الصياغة ) فتولى عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر ،خشعا ً
أبصارهم يخرجون من الجداث كأنهم جراد منتشر ،مهطعين إلى الداعي
يقول الكافرون هذا يوم عسر ( ثم يتجه الخطاب بعد ذلك إلى أقوام من
القوام التي مضت يقتص الله نبأها وفاقا ً لمحور معين شرحناه في أحاديثنا
عن سورة القمر ) كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون
وازدجر ( وهكذا يتجه الخطاب إلى قوم عاد وثمود ولوط وفرعون لتلقي
السورة بعد ذلك سؤال ً كبيرا ً على المشركين ) أكفاركم خير من أولئكم أم
لكم براءة في الزبر ،أم يقولون نحن جميع منتصر ( سؤال ذو ثلث شعب ،
هل أنتم خير من المم التي مضت واقتصصنا عليكم من أنبائها في هذه
السورة ممن مردت على العصيان وتكذيب رسلها وأنبيائها فأحل الله بها
العقوبة والنكال الليم ؟ طبعا ً ل ،لن الخيرية في بني آدم ليست في صورة
اللحم والدم ،ولكن الخيرية وصف مكتسب من تناسق النسان مع مجموع
القوانين التي تحكم الكون برمته ،والمعبر عنها والممثلة لشرائع الله النازلة
من السماء ) أم لكم براءة في الزبر ( أم أنتم تسقطون في نفس الشيء
التي سقطت فيها بنو إسرائيل فقالت تعليل ً لعدم تعذيب الله إياها ) نحن
أبناء الله وأحباؤه ( علما ً بأن الله ل يجامل ول يحابي وليس بينه وبين أحد من
خلقه سبب ول نسب ،وإنما يتفاضلون عنده بالطاعة والتقوي والعافية ،
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم :الناس رجلن ،مؤمن تقي كريم
على الله ،وفاجر شقي هين على الله تعالى .
ثم الشعبة الثالثة من السؤال الكبير الذي جوبه به المشركون ) أم يقولون
132
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
نحن جميع منتصر ( تلك خدعة الكثرة والسواد العظيم ،ولكن وقائع التاريخ
والحوادث اليومية المشهودة ترينا أن الجمع ل يغني عن صاحبه شيئا ً ،وأن
البقاء مرهون للحق ،وأن الباطل إذا أرغى وأزبد فهو غثاء كغثاء السيل ،
وبهذا تتضح المعاني التي دارت حولها سورة القمر .ويهمنا الفاتحة ،رأيتم
كزت على بيان أسباب من تلك التي أبداها المشركون من عدم كيف ر ّ
اليمان بالرسل .
ونأتي إلى سورة صاد متعرفين على فواتحها لننظر في الترابط بين
السورتين وبين الفاتحتين وفي الختلفات التي تتحصل من جاء الموازنة
والمقارنة .في سورة صاد تفتتح هكذا ) ص والقرآن ذو الذكر ،بل الذين
كفروا في عزة وشقاق ،كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولت حين
مناص ( يعني ل منجى ،لت هي الحرف النافي ل ولكن من عادة العرب أن
تلحق التاء ببعض الحروف وبعض الكلمات شدا ً للمعنى ،فتقول في ) ثم (
ثمت وتقول في ) ُرب ( ُربت وتقول ) ل ( وتقول لت ،فهذه التاء تأتي بها
العرب لتشد بها المعنى المراد والمناص هو المهرب وهو الملجأ أي أنهم
هؤلء المشركون استغاثوا وأعلنوا البراء من أوثانهم وأعلنوا التوبة ولكن ل
ملجأ ول مهرب من أمر الله حين ُيقِبل ،وإن أبواب التوبة في ذلك الحين
تغلق تماما ً في وجوه المكذبين .
)(2 /
) كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولت حينما مناص ،وعجبوا ( هنا يأتي
دور المقارنة بين الفاتحتين ) وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ،وقال الكافرون
هذا ساحر كذاب ،أجعل اللهة إلها ً واحدا ً إن هذا لشيء عجاب ،وانطلق
المل منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إنه هذا لشيء يراد ( يعني إن
محمدا ً يريد بدعوته السيادة علينا والتمكين في الرض ) ما سمعنا بهذا في
الملة الخرة إن هذا إل اختلق ،أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك
من ذكري بل لما يذوقوا عذاب ،أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز
الوهاب ،أم لهم ملك السماوات والرض وما بينهما فليرتقوا في السباب ،
جند ما هنالك مهزوم من الحزاب ،كذبت قبلهم قوم نوح ( إلى آخره
وينطلق السياق بعد ذلك مباشرة إلى النبي عليه الصلة والسلم بأمرٍ يشبه
من بعض الوجوه المر الذي جاء في سورة القمر ) اصبر على ما يقولون (
هناك في سورة القمر ) فتولى عنهم ( وهنا ) اصبر على ما يقولون ( إذا ً
فالتغاير ل بد أن تكون له حكمة ،وقارئ القرآن يظلم نفسه حين يتغاضى
عن هذه الفروق التي تتبدى لوساط الناس غير ذات أهمية ،لحظوا في
سورة القمر يقول له الله ) فتولى عنهم ( ول نكتفي بالوقوف عند قوله
) فتولى عنهم ( وإنما نلحظ صيغة الية ) فتولى عنهم يوم يدعو الداعي إلى
شيء نكر ( متى ؟ يوم يدعو الداعي هذا يكون يوم القيامة ،إذا ً فالية
الكريمة نقلتنا نقلة بعيدة عبر الزمان وعبر المكان إلى الوقت المعلوم الذي
ضربه الله أجل ً لقيام الساعة ،كذلك معناه هو المؤداة أنه ُيطلب من النبي
عليه الصلة والسلم العراض عن المشركين وترك المر لله جل وعل ،وهذا
عرضت في سورة القمر ، يتسق تماما ً مع جو السورة ومع القصص التي ُ
بملحظة القصص التي عرضت في سورة القمر نخرج بنتيجة :إن الله وضع
أمام أنظار الناس صورا ً لمم كذبت وعصت وجاءتها الرسل والنبياء فتولت
وأعرضت ،وبغير تفصيل في المور التي حصلت آنذاك فإن الله جل وعل
133
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
وضع خواتيم أولئك القوام أمام أعيننا ليقّر في الذهان حقيقة ،ما هي ؟ أن
الله غالب على أمره ،وأن الذين ُيعرضون عن الذكر ويستمرئون طعم
المعصية فإن الله جل وعل غير غافل عنهم وسيأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
وهذه ليس القضية كلها وللسف فنحن نجد من آثار انطباعات من هذا النوع
أن التواكل والسقوط في هاوية العجز وعدم الهتمام بما يدور حول الناس
هو السمة الغالبة على المسلمين نتيجة الفهم المغلوط والمجزوء للقضايا
التي سقطت بين أيديهم وماتت لعدم قدرتهم على تحديد منهج النظر إلى
كتاب الله جل وعل بالفاق الواسعة العريضة التي شرحناها الن .
فيما يتعلق بالفاتحتين ،ما يقال للنبي عليه الصلة والسلم وما يقال للنبياء
السابقين وما يقال لكل مصلح وكل داٍع إلى صراط هدى وسبيل رشد ،
فيجب أل يستوقف اهتمام أحد ،إن هذا هو خلق الولين كما قال الله وإن
هذا هو ما طرحه الله في القرآن على صيغة تساؤل ) أتواصوا به ( كل أمة
جاءها رسول قالت نفس القول ،ونحن نجد نصا ً ثمينا ً للغاية في سورة
) فصلت ( يقول الله جل وعل لنبيه محمد عليه صلوات الله وسلمه ) ما
يقال لك إل ما قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو المغفرة وذو عقاب أليم (
فهذا الذي تراه من قومك أمر طبيعي وغاية في البساطة ،وعليه ل ينبغي أن
ل تلتفت إليه ،والشيء الذي نهتم إليه الن هو ما بعد الفواتح .
)(3 /
رأينا أن الله طلب في سورة القمر إلى النبي عليه الصلة والسلم أن يعرض
وأن يتولى عن المشركين وأن يكلهم إلى الله الذي بيده مقاليد السماوات
والرض الذي ل يشذ عن علمه شيء بتاتا ً ،ولكنا في سورة ) ص ( نلحظ
ح التعبير ولله المثل العلى ،إن الله أننا نخرج من السلب إلى اليجاب إن ص ّ
حين يقول له ) اصبر على ما يقولون ( فالعراض حالة سالبة وترك للقضية
في يد الغير أي في يد الله ،لكن الصبر حالة ممارسة ومعاناة وإل فما معنى
الصبر ؟ الصبر هو الخليقة التي تتولد لدى النسان وهو يعالج المشقات
والصعاب ،وإذا ً فهو حالة إيجابية ،وإذا ذهبنا نتعّرف على ما بعد هذا الكلم
نجد أنفسنا في الجانب الثاني من القضية التي طرحت سورة القمر جانبها
الول ) اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا اليدي إنه أواب ،إنا
سخرنا معه الجبال يسبحن بالعشي والشراق ،والطير محشورة كل له أواب
،وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ( ثم يلتفت الكلم إلى النبي
عليه الصلة والسلم في عملية تنبيه شديدة ) وهل أتاك نبأ الخصم إذ
تسوروا المحراب ،إذا دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا ل تخف خصمان
بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ول تشطط واهدنا إلى سواء
الصراط ،إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها
وعزني في الخطاب ( أي غلبني وقهرني في الحجة والكلم ) قال لقد ظلمك
بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا ً من الخلطاء ( أي الشركاء ) ليبغي
بعضهم على بعض إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود
أنما فتناه فاستغفر ربه وخّر راكعا ً وأناب ،فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى
وحسن مآب ،يا داوود إنا جعلناك خليفة في الرض فاحكم بين الناس بالحق
ول تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم
عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ،وما خلقنا السماء والرض وما بينهما
باطل ً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ،أفنجعل الذين آمنوا
134
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(4 /
135
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
بالتابوت ،فجاءوا بمركبة وشدوا عليها بقرتين ووضعوا التابوت فوق المركبة
وأطلقوها باتجاه بني إسرائيل ،وذهبت البقرتان بل قائد حتى جاءتا إلى بني
إسرائيل .
هذه الفترة وهذه القصة المضطربة قبيل تملك داوود عليه السلم جاء نبؤها
بتعبير رائع في القرآن الكريم في سورة البقرة ابتداءا ً من الية ) 246وما
بعدها ( بقول الله تعالى ) ألم تَر إلى المل من بني إسرائيل من بعد موسى
كتب إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا ً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن ُ
عليكم القتال أل تقاتلوا قالوا وما لنا أل نقاتل وقد ُأخرجنا من ديارنا وأبنائنا
كتب عليهم القتال تولوا إل قليل ً منهم والله عليم بالظالمين ،وقال لهم فلما ُ
ً
نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ( وطالوت في أدبيات العبرانيين
اسمه شاول بن قيس ) قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك
ت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في منه ولم يؤ َ
العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ،وقال لهم نبيهم
إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل
موسى وآل هارون تحمله الملئكة إن في ذلك لية لكم إن كنتم مؤمنين (
والواقع أن الملئكة لم تحمل التابوت بأيديها وإنما كانت تهدي البقرتين وهما
تسوقان العربة لتحمل التابوت إلى بني إسرائيل ،ول يجوز أن ُيفهم غير
هذا .
) وقال لهم نبيهم إن آية ملكه ( أي علمة رضاء الله عن تمليك طالوت ) أن
يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون
تحمله الملئكة إن في ذلك لية لكم إن كنتم مؤمنين ( وحينئذ قادهم ملكهم
إلى القتال ،وابتلهم الله بالنهر ،والمهم أم الله جل وعل قال ) ولما برزوا
لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا ً وثّبت أقدامنا وانصرنا على القوم
الكافرين ،فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكم
وعلمه مما يشاء ( ..إلى آخر اليات .فهذا هو مبدأ ملك داوود .
نبيهم الذي كان في زمن داوود اسمه صموئيل ،تعّرف على داوود بالعلمات
الموحى به وأقدمه إليه ،وتعّرف على طالوت وأقدمه إليه وجعله ملكا ً على
بني إسرائيل ،وحين وقعت الواقعة كان في الفلسطينيين رجل شجاع
مشهور بالشجاعة اسمه جالوت وهو في الدبيات السرائيلية وفي التوراة
اسمه جوليات ،جالوت كان شديدا ً تتحاماه البطال ،وداوود لم يكن من
جملة الجيش الذي ذهب ليقاتل جالوت والفلسطينين ،ولكن أباه أرسله لكي
يستعلم له عن خبر إخوته الثلثة الذين كانوا في الجيش ،فلما جاء إلى
الجيش وجد الناس يتحامون قتال جالوت ووجد جالوت يدعو إلى المبارزة ول
يتقدم إليه أحد ،فتساءل داوود :ماذا يكون للذي يقتل جالوت ؟ قالوا إن
الملك يغنيه ويزوجه ابنته ويجعل بيت أبيه حرا ً في بني إسرائيل ،فلما طلب
المبارزة ألبسه طالوت لمة الحرب فوجدها تعيقه عن الحركة فرماها ،من ؟
داود ،وتقدم إلى الوادي فاختار خمسة أحجار وفي يده مقلع فوضع حجرا ً
في المقلع وضرب جالوت فأصابه على جبهته ورماه ،وتقدم فأخذ سيف
جالوت واحتز به رأسه ،منذ ذلك الحين عل نجم داود وعظم شأنه في بني
إسرائيل وأصبحت له رئاسة الجند ،وبعض خطوب ل داعي لذكرها كان ملكا ً
على بني إسرائيل ونبيا ً من أنبياء الله عليهم الصلة والسلم .
)(5 /
136
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
هذا النبي الذي خاض الغمرات وتمرس بالصعوبات في الحرب وفي السلم
وعالج من التواءات نفوس بني إسرائيل ما عالج ،هو النموذج الذي افتتح
الله به العرض أمام ناظري النبي صلى الله عليه وسلم .فماذا ؟ إن الله ذكر
في اليات التي تلوناها عليكم من سورة ) ص ( أن الله طلب من محمد
صلوات الله عليه أن يتذكر داوود وأن يتذكر ما كان عليه من الملك القوي
واليدي الشديدة وأن يتذكر أيضا ً ما كان عليه من العبادة والخبات إنه أواب ،
وأن يتذكر أن الذي شد ّ ملكه هو الله ل غيره وأن يتذكر أنه نبي ول كالنبياء ،
وملك ول كالملوك .ومع هذا ففي حياة داوود سقطة ،وأقول سقطة
بالمعنى المجازي ،جعلت ربنا جل وعل يعاتبه بعنف وبشدة ،وجعلت داوود
عليه السلم يستحي من ربه وتسيل دموعه باستمرار ويموت وهو يبكي على
خطيئته ،ما هي هذه الخطيئة ؟ للسف الشديد كتب التفسير تزدحم
بمرويات هي من نتائج روايات كعب الحبار ووهب بن منبه وأضرابهما من
مسلمة اليهود الذين دسوا على المسلمين أباطيل من أباطيل المم
سم وقته أجزاًء السابقة ،من جملة ما دسوا قالوا :إن داوود عليه السلم ق ّ
فكان من أجزاء هذا الوقت وقت يخلو فيه في المحراب ،يغلق الباب على
نفسه ويوقف الحرس والجنود ،وبعض الروايات تبالغ فتقول إنه يضع على
باب مكان العبادة أربعة آلف حارس يمنعون الناس من الدخول عليه في
وقت فراغه للعبادة ،في تلك الثناء لم يشعر داوود عليه السلم إل وخصمان
أمامه ففزع ،كيف وهو الملك المحروس ذو الجند والذي يعلم أن المؤامرات
تحاك من حوله ؟ كيف تسرب هذان إلى المحراب وهو المكان المنيع الذي ل
يدخله أحد وفاقا ً لوامر الملك والنبي داوود عليه السلم ؟ ليس المهم هنا
الن ،المهم أن الروايات وبعضها منسوب إلى ابن عباس ول أراه يصح أن
داوود وهو في معتكفه في المحراب تمثلت له حمامة من ذهب فلفتت نظره
فلما مد يده ليقبض عليها طارت فلحق بها فلما لحق بها طارات وقعت على
كوة من كوى المحراب ،شباك صغير ،فلحق بها فلما أشرف نظر في بيت
مجاور إلى امرأة متعرية تغتسل والتفتت المرأة فلحظت نظرة داوود
فأسدلت شعرها على جسمها وتغطت به ،ويقال إن داوود عليه السلم علق
هذه المرأة ولم يعد يستطيع الصبر عنها ،وذهب يستفسر ويسأل ،فقيل له
إن هذه زوجة القائد أوريا الذي يقاتل في مكان كذا ،ودبر داوود في نفسه
أمرا ً ،وكتب إلى قائده العام أن يقدم أوريا لكي يكون مع التابوت ،وحين
يكون الفارس مع التابوت فمعنى ذلك احتمال قتله يصل إلى تسعة وتسعين
بالمئة ،ولكن الله فتح عليه فأمره أن يضعه في نحر العدو ،فقتل أوريا
وتزوج داوود من زوجة أوريا وعاتبه الله جل وعل بهذه الصورة الموّراة ،
ويقال في بعض الروايات ما هو أشنع ،استدعى المرأة وزوجها غائب
وعاشرها وحملت وأراد أن يداري الفضيحة فاستدعى زوجها من المعركة
لكي يصيب أهله وتخلص الفضيحة ،ولكن الرجل كان قائدا ً مخلصا ً وجنديا ل
ً
يعرف إل الطاعة فبات على باب داوود ولم يذهب إلى أهله ،فلما اكتشف
ذلك داوود أمرهم أن يقدموه في نحر العدو حتى قتل ،وثمة رواية أخرى
لبن عباس حول هذا الموضوع تقص ذات القصة مسندة طبعا ً إلى أهل
دم زوج الكتاب تقول إن داوود عليه السلم أراد في نفسه هذا المر فق ّ
المرأة في نحر العدو عدة مرات ،وكلما قدمه نحو العدو كان ينتصر ثم
صرفه الله جل وعل عن هذا الخاطر السيء بهذا العتاب الذي جاء في سورة
صاد ،وما أشبه بما قيل لول ملحظة :إننا نستطيع الن أن نعقد مقارنة
بسيطة بين خطيئة يوسف وخطيئة داوود ،خطئية يوسف ) ولقد همت به
137
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
وهم بها لول أن رأى برهان ربه ( فهو هم يعتلج في النفس دون أن يأخذ
طريقه إلى التحقق والعمل ،ولكن في هذه الواقعة حينما نأخذ الرواية الثانية
لبن عباس نجد أن داوود باشر التدبير وأخرجه إلى حيز الفعل ،وهذا ل يليق
بفجار الناس ول بساقطيهم ول بأوباشهم ،هذا فعل الزنات والفجرة وليس
فعل أنبياء الله تبارك وتعالى ،إذا رجعنا إلى المفهومات الصحيحة فنحن نجد
الروايات قال بها بعض المفسرين تقول إن داوود عوتب لسبب هو أنه كان
يشتهي ما في أيدي الناس فصرفه الله جل وعل بهذه اليات عن أن يشتهي
ما في أيدي الناس ،واشتهاء ما في أيدي الناس خطيئة بالنسبة لمن كان في
المركز الول ،ويقال وهو الشبه وهو الذي نعتمده وذهب إليه مفسرون
محترمون وآخر من اطلعنا على رأيهم موافقا ً لهذا أستاذنا شهيد السلم
المرحوم سيد قطب هو أن المسألة ل تحتاج إلى كل هذا الجري وراء
المرويات والمنقولت ،اقرأ اليات تجد أن الخصمين حينما دخل على داوود
ت لنريد بك سوءا ً ولكننا عليه السلم ففزع منهم فقال له :ل تخف نحن لم نأ ِ
خصمان بغى بعضنا على بعض أي اعتدى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بقدر
ول تشطط يعني ل تجاوز الحد واهدنا إلى سواء الصراط يعني عظنا وعلمنا
ما ينفعنا في معاشنا ومعادنا ) إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي
)(6 /
138
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(7 /
السلم ليس مع هؤلء ول مع هؤلء ،السلم يبدأ فرديا ً لينتهي جماعيا ً ،لنه
يقول :إن قاعدة الصلح والصلح تتوقف على وجود اللبنات الصالحة التي
مُثل السلم تشكل بمنطقها وبعملها وبمواقفها ونواياها تعبيرا ً حيا ً عن ُ
وأحداث السلم .وهذا ل يتم إل بعملية قاسية من المعاناة الداخلية
المستمرة المعبر عنها إسلميا ً بالمحاسبة ،هذا هو منطلق السلم .ومن هنا
نجد الله جل وعل يقول ) إن الله ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (
139
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
فالمر إذا ً موكول إلينا ،أعود لرد ّ أواخر الحديث أو أوائله ،ليست القضية
كما يتركه انطباع سورة القمر ،هذا جانب واحد من الموضوع ،ولكنها
تحتمل الجانبين ،إننا يجب أن تكون لدينا ثقة مطلقة بأن الله غالب على
أمره ،وبأن الله لن يمكن للظلم في هذه الرض ،لماذا ؟ لن هذا يعني
العبث والبطلن ،والله تعالى منزه عن العبث والبطلن .ولكن يجب أن نعلم
أن مراد الله ل يتحقق بلمسة سحرية ول بجند من الملئكة ينزلون ليسكنوا
الرض بدل البشرية المعذبة الخاطئة ؟ ل ،وإنما يتحقق مراد الله تعالى ببني
آدم ،يعني أن البشر هم الداة الذين يشكلون مجلى الله تبارك وتعالى ،
ومن هنا كان التركيز على إصلح النفس البشرية خطوة أولية ل غنى عنها ،
هذا من جهة .
من جهة أخرى ،فما من شك أن الناس :طويل وقصير وأسود وأبيض ،
والناس ذكي وبليد ومفكر وخامل الفكر ،وهناك النشيط والعاجز وبين بين ،
فليس كل الناس على مستوى واحد ،ل من حيث البناء الجسمي ول من
حيث القدرات العقلية والهتمامات الروحية .إن الله جل وعل أناط مهمة
الصلح البشرية للصفوة المختارة من الناس ،ولكنه رّتب عليهم واجبات .
افهموا القانون ،قانون السلم يتحدد كالتي :إنك كمسلم مطلوب منك أن
تزيد في عمق نفسك ،أي أنك تمارس حركة داخل نفسك تستهدف تطهير
الباطن وإصلح الباطن وتهيئة هذه النفس لكي تكون على القواعد التي
ترضي الله تبارك وتعالى .
من جهة أخرى ،أنت تمارس أيضا ً وفي نفس الوقت حركة خارج ذاتك ،أي
تأثيرا ً يتبّين في مجتمعك الذي تعيش فيه ،انتبه إن تأثيرك في الخارج
يتساوق تماما ً على نفس النسبة التي تحققها في داخلك .حينما تكون قهارا ً
لنفسك ،صبورا ً على الحرمان ،صبورا ً على البليا ،صبورا ً على المشقات ،
مرضيا ً لربك ،ملحظا ً لما يريده منك في كل شيء من أشيائك فإن تأثيراتك
خارج ذاتك ستكون كثيرة ،ولكن في الوقت الذي تتهاون وتكسل وتتراخى
ينحسر تأثيرك ،ولهذا لما كان النبياء عليهم السلم معّرضين وهم في غمرة
العمل وفي وسط الكوارث ،ناس مبصرون في وسط قوم عمي ل
ينظرون ،لما كان النبياء على هذه الحالة تأخذهم اللم والحزان من
أقطارهم جميعا ً ) فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث
أسفا ً ( لما كان النبياء عليهم السلم بهذه المثابة كان ل بد أن يثبتهم الله جل
وعل وأن يمنحهم الحصانة .
تمّثلت هذه الحصانة في قضية ذات جناحين :الجناح الول هو الذي عرضته
سورة القمر من حيث العراض عن المشركين وما يدبرون وترك المور لله
وهم الخطر يصرفها كما يشاء ،فإن هذا يعطينا دفعة قوة ل أكبر منها ،إن ت ّ
والمخاوف من قبل العدو يوّلد في النفس انحسارا ً ،سأمّثل لكم :لو أننا
سّيرنا قطعة من الجيش لتقاتل عدوا ً ،فنحن أمام أحد وضعين ،إما أن تكون
قوتنا أكثر من قوة العدو ،وإما أن تكون قوتنا أقل من قوة العدو ،حينما
تكون أكثر من قوة العدو ،أنا أتكلم عن الحالة العادية طبعا ً المقطوعة الصلة
بهداية الله ،حين تكون قوتنا أكثر من قوة العدو فل شك أن عوامل القدام
والشجاعة والجراءة متوفرة لدى قوتنا .ولكن حين تكون أقل تنعكس الية
ويكون الخصم مرهوبا ً للغاية ،ونتصور الكوارث والهوال ويسكن قلوبنا
خوف مجهول ،ومن هنا كان أول دروس القادة في القتال أن يحرص القائد
وهو يقود جنده على أن يحطم في قلوب وعقول جنده أسطورة العدو
المتفوق ،لننا حينما نحطم هذه السطورة فسوف تتفجر لدينا قوى كانت
140
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(8 /
الجناح الخر لهذه القضية الثبات على المبدأ دون أن يتزحزح النسان عن
موقفه بفعل هذه التأثيرات المجتمعية التي يعيشها .إن الله عرض قضية
داوود ،مسألة بسيطة جدا ً ،خصمان تقابل أمامه سمع وجهة نظر واحد
وأهمل وجهة الطرف الخر ،وأصدر الحكم ،كان هذا خطأ دون ريب ،وخطأ
يعاتب عليه النبي فل يجوز أن يقع فيه ،لن النبي يمثل الحق الذي قامت
عليه السماوات والرض ،وحينما عرض الله هذه الصورة لمحمد صلى الله
عليه وسلم فإنما كان يعالج جراحا ً غائرة في نفس محمد صلى الله عليه
وسلم ،حين كان يضطرب في جنبات مكة يدعو أهلها إلى الله ،وهم يصرون
على السخرية واليذاء والستكبار ،أراد الله له أن ل ينزل عن هذا الفق
العالي .أل يوجد من وراء ذلك عبرة يا إخوة ؟ أقول :نعم .نحن كدعاة إلى
الله نذرنا لذلك أنفسنا ،ونسأله الشهادة من أجل ذلك إن شاء الله ،لنها
أقصى ما يتمناه المسلم ،وقد كان عمر رضي الله عنه يقول في دعائه :
اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتا ً في بلد نبيك صلى الله عليه وسلم
.نحن كدعاة إلى الله جل وعل نواجه من أوطار اتلبشرية ما يعرفه كل أحد ،
ول سيما في هذه الجاهلية المستحكمة في عصرنا هذا الذي يحسبه الغرار
والمغفلون عصر العلم والمدنية ،وهو العصر الذي يشكل االدمار بالنسبة
إلى البشر .
نحن كدعاة يجب علينا أن ل نتنازل عن مواقفنا التي وضعنا الله جل وعل فيها
،وأن ل تغترنا عن ذلك فلتات العواطف التي تكون ثائرة بين جوانحنا تجاه
بعض المواقف التي تصدر من خصوم الله ،ل ،يجب علينا أن نحافظ على
الفق المرتفع السامق الذي يجب أن يعيش فيه رجل السلم ،وأن ل نتبع
الهوى ،وأن نكون عادلين مع أنفسنا ومع غيرنا ،ومع صديقنا ومع أعدائنا ،
اللهم إني أسألك كلمة الحق في الرضى والغضب .
إن درس داوود درس بليغ ،لما يترتب على السقطة الهينة من آثار مدمرة
تتناول حيوات الناس إلى آجال طويلة ،إن على المسلم اليوم أن يستذكر
هذه الحقيقة الصغيرة الكبيرة في آن واحد ،إنه يحمل في عنقه أمانة
الجنس البشري برمته ،أي إنه ل يعيش لنفسه ،ول يعيش لهوائه ول لنزواته
،وإنما يعيش لله ولعباد الله ،ويعيش لهذه الرسالة .
سره الله جل وعل فهو فاللهم عونك ،فإن المر صعب ،وكل صعب إذا ي ّ
يسير ،فاسألوا الله التيسير ،وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين والحمد لله رب العالمين .
)(9 /
تفسير سورة ) ص (
الجمعة 29ذي الحجة 9 / 1397كانون الول 1977
) 5من ( 5
141
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
شوحالعلمة محمود م ّ
)أبو طريف(
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ..أما بعد أيها الخوة المؤمنون :
م بأطراف الحديث عما تبقى من سورة ( ص) ،وسأكون أرجو اليوم أن أل ّ
بذلك قد قطعت مرحلة طيبة بحمد الله تعالى ،استعرضت فيها المراحل
الولى للدعوة السلمية في الفترة المكية ،وأتوقع أنني سأريح نفسي فترة
مناسبة بعد ذلك ،بعد أن أخذنا وعدا ً من أخينا الشيخ عبد القادر بأن يتحمل
بعض الواجب عليه وعلى القادرين من الخدمة اللزمة لهذه المة في وقت
عصيب للغاية يتقاضى كل قادر على العطاء أن يبذل ما عنده على القل لكي
يبرئ ذمته أمام الله تعالى ولكي يسعى لفك رقبته من النار .
فأقول مستعينا ً بالله تعالى ،إن الذي عرضناه عليكم في الجمعة الماضية
على الخصوص وفيما سبقها بعامة يشير إلى أمر ذي أهمية شرحناه لكم
بالتفصيل ول مانع من أن نعيد التذكير بفكرته العامة .ولقد رأيتم أثناء تحليلنا
لسورتي القمر وصاد أنهما تتعاوران على قضية واحدة وعلى إبراز درس
واحد بصورة رئيسية وهو أن تحث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن
تحث المؤمنين العاملين على طريقه بأن ل يسمحوا لضغوط الحداث ول
لمنغصات الدنيا ول للظواهر البشعة التي تظهر من الناس استجابة رديئة
لهذه الدعوة أن تنزلهم عن الفق الرفيع الذي وضعهم فيه ربنا تبارك
وتعالى ،لن الصل أن السلم ل يجوز أن يتلون بألوان الذاتيات التي
تحمله ،ول يجوز بتاتا ً أن تتدخل نوازع النفس بالتحكم بقوانين الدعوة
وبطرائق الدعوة ،فهناك عزل كامل بين ما نريد نحن وما يريد الله تعالى ،
وفرق ما بين المؤمن كامل اليمان والمؤمن ضعيف اليمان ،وفرق ما بين
المؤمن العارف بمرادات الله جل وعل والمؤمن ضعيف المعرفة بهذه
طن النسان نفسه لكي يكون وفيا ً وفاًء مطلقا ً المرادات هو هذا ،هو أن يو ّ
لما أراد الله تعالى ،برغم كل ما يعترضه في الطريق ،وبرغم كل ما تجيش
به نفسه من المثبطات والمعوقات والمزعجات .
ً
وذلك شيء اتضح بصورة رئيسية في الجمعة الماضية جزءا من قصة داوود
عليه السلم التي أمر الله محمدا ً صلوات الله عليه أن يصبر على ما يقول
ملك المؤيد المشركون ،وأن يذكر داوود ،فداوود عليه السلم برغم هذا ال ُ
من الله تعالى الذي آتاه الله إياه ،وبرغم مما جبله الله عليه على سنة
النبياء من طهارة النفس وسلمة الوجدان والقدرة على تخطي الصعوبات
فإن الله تعالى حفاظا ً على هذه القاعدة المنتجة التي تقتضي من العامل في
سبيل الله بعدا ً وارتفاعا ً عن كل أشياء الدنيا ،إن الله كما رأيتم عاتب داوود
عليه السلم عتابا ً مرا ً ومشوبا ً بالتهديد حينما سمع قصة الخصمين وأذن
لواحد ولم ينتظر أن يدلي الخصم الخر بحجته ،فنطق بالحكم قبل ذلك ،
فعاتبه الله جل وعل ،وأشار إلى ما فعل بأنه الفتنة ) وظن داود أنما فتناه
فاستغفر ربه وخّر راكعا ً وأناب فغفرنا له ذلك ( .
لكن المسألة لم تنتهِ في سياق التنزيل عند هذا الحد ،فكل شيء من هذا
القبيل على سنة القرآن المعهودة ل بد أن يليها الدرس ،فالله جل وعل بعد
كر داوود عليه السلم بموقعه من دين الله ،وبمسؤوليته التاريخية ذلك ذ ّ
بالنسبة إلى رسالة الله جل وعل ) يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض (
ت إنسانا ً من الناس العاديين ،ولكنك قّيم على دين الله ،وهذا فأنت لس َ
يتقاضاك أن تنطق بلسان الله وأن تعمل بما يرضي الله ،وأن تكف عن
التعجل والنزق كالذي كان منك في قصة الحكمين ) يا داود إنا جعلناك خليفة
142
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
في الرض فاحكم بين الناس بالحق ول تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله (
فثمة أمران في إدارة شئون البشرية وتخليص أمور الناس ،حق وباطل
فق من الشيئين شيء جديد ،فالذي يكون وشريعة وهوى ،ول مجال لن ُيل ّ
مع الحق يبعد بكل تأكيد عن الهوى ،والذي يتلبس بالهوى ينسلخ بكل تأكيد
عن الحق .
ولهذا كان شعار المؤمنين المتقين الميل مع الحق ورفض كل دواعي الهوى ،
وليس بعيدا ً عن أذهانكم قصة المرأة المخزومية التي سرقت في زمن النبي
م المسلمين أمرها ،لنها من عائلة وقبيلة لها في صلى الله عليه وسلم فأه ّ
ً
الشرف والرياسة جاهلية وإسلما نصيب موفور ،فتشاوروا فيمن يكلم
رسول الله فقالوا :من يقدر على ذلك إل أسامة بن زيد حب رسول الله
وابن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم .فلما كلمه غضب النبي عليه
الصلة والسلم غضبا ً شديدا ً وقال له :يا أسامة أتشفع في حدٍ من حدود الله
؟ وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها .
)(1 /
143
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(2 /
ومن هنا تجدون النسان حينما يضع نفسه في طريق اليمان ويأسر ذاته على
طاقة الله تعالى وتترسخ في صميمه دعائم التقوى ومخافة الله جل وعل
يزداد مع اليام بصيرة من أمره ووضوحا ً واستقامة على طريقته لنه يجد
بركة ذلك في نفسه ،وعلى ذلك فل داعي للنقاش حول صحة الطريق وعدم
صحته طالما أن النسان يجد دليل ذلك ومصداق ذلك وشاهد ذلك في داخل
نفسه .
بعد هذا الكلم تأتي قصة سليمان عليه السلم ،ولي وقفة قصيرة عندها ،
فالله تعالى ذكر في هذه السورة فقال ) ووهبنا لداود سليمان ( وداوود حكم
بني إسرائيل أربعين سنة ،وجاء سليمان وليا ً للعهد ،وتولى الملك ملكا ً
موطد الدعائم ومشيد الركان ،وفي زمن سليمان عليه السلم اتسعت
144
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
مملكة بني إسرائيل غاية التساع ولم تشهد توسعا ً من هذا النوع بعد هذا
التاريخ أبدا ً .فإن ملك سليمان امتد اعتبارا ً من شمال الجزيرة العربية إلى
أجزاء شرقية وإلى مناطق الشام وفلسطين وإلى الفرات ،والله جل وعل
شد ملكه جدا ً وسخر له ما سخر مما ذكر لنا في السورة الكريمة ،لكن الله
جل وعل ذكر أمورا ً ينبغي أن نزيل عنها البهام قال ) ووهبنا له سليمان نعم
العبد إنه أواب ( كثير الرجوع إلى الله تعالى مستغفرا ً وتائبا ً ومنيبا ً ) إذ عرض
عليه بالعشي الصافنات الجياد ( أي الخيل ) فقال إني أحببت حب الخير عن
ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ،ردوها عليه فطفق مسحا ً بالسوق والعناق ،
ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ً ثم أناب ،قال ربي اغفرلي
وهب لي ملكا ً ل ينبغي لحد من بعدي إنك أنت الوهاب ( في هذا المجال
ومرة أخرى نقول للسف فإن كتب التفسير معظمها يجيء مشحونا ً بروايات
تسربت عن أهل الكتاب وأخذها المسلمون بحسن النية كحوادث تروى ،
ولكن المتأخرين أدخلوها في كتب التفسير ل على أنها هي ما أراد الله
بالفعل ولكن كلون من ألوان الفهم لظلل اليات الواردة ،من هذه الشياء
التي وردت أن سليمان عليه السلم حينما أراد الله امتحانه وابتلءه كان
ملكه في خاتمه ،ومن هنا القصة الخرافية التي تشيع بين الناس عن خاتم
سليمان ،وهي قصة ل أصل لها ،أنه إذا كان أراد الذهاب إلى الخلء وضع
خاتمه عند أم ولد له تسمى أمينة ،وفي مرة من المرات وضع الخاتم عند
هذه المرأة ودخل بيت الخلء ولما كان هناك جاء الشيطان متمثل ً في صورة
سليمان وقال :خاتمي ،فأعطته الخاتم ،فلما أعطته الخاتم ألقى الله عليه
شبه سليمان ودان له البشر ودانت له الجن ودان له الطير ،وجاء سليمان
فقال للمرأة :أعطني خاتمي ،قالت :أخذته .وتنكر الناس من سليمان
وذهب ،ودامت الفتنة أربعين يوما ً وأصبح الناس يرجمونه بالحجارة حتى
ألجأوه إلى شاطئ البحر ،وكان هناك ناس يصيدون السمك فأصبح يخدمهم
ويعينهم على ما هم فيه ،وحين أراد الله جل وعل أن يرفع عن سليمان هذه
المحنة كان هؤلء السماكون يعطونه كل يوم سمكتين كأجر ،فشق بطن
إحدى السمكتين ليأكلها فوجد فيه الخاتم بعد أن طار الشيطان وألقى الخاتم
في البحر ،فلبسه وعاد إليه ملكه .
هنالك حوادث أخرى أن حكماء بني إسرائيل استنكروا من الشيطان الذي
ألقي عليه شبه سليمان بعض التصرفات ،فلما سألوا نساءه ،قالوا إنه ل
يغتسل من جنابة ول يمتنع عن امرأة في دورتها ،فعرفوا أنها الفتنة .نقول
تعقيبا ً على ذلك ،إن هذا ل يقع في الذهان ،فأنبياء الله معصومون ،ولكن
بني إسرائيل في الحقيقة ل يعتقدون أن سليمان نبي من النبياء ،وإنما
يقولون إنه ملك ،ويقولون هو ساحر ،وفي سورة البقرة حديث عن هذا
الكلم ) واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن
الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت
وماروت ( إلى آخر هذا الكلم ,بيانا ً لنوع من أخطاء بني إسرائيل التي
تورطوا فيها بعد سليمان عليه السلم ،نقول إن هذا ل يقع في الفهم لعصمة
النبياء ،ولمر آخر بالغ الهمية ،فإذا كنا نتصور أنه من الممكن أن يتلبس
الشيطان في صورة نبي من النبياء فأية ثقة تبقى بعد ذلك في مقالت
النبياء ؟ أليس من الجائز أن يتلبس الشيطان بصورة موسى وعيسى ومحمد
وغيرهم من النبياء عليهم الصلة والسلم ،فكلم من هذا النوع إذا ً يتناول
أمرا ً اعتقاديا ً ل يجوز معه الركون إلى مرويات الكذبة والجَرآء على الله
وعلى أنبيائه الله من بني إسرائيل .
145
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(3 /
ولذلك نحن في حل من رفضها ابتداءا ً ونعود لنسجل أسفنا لما أدخل بعض
المفسرين عن حسن نية من هذه المرويات في كتب التفسير ،ويبقى
عرض في هذه القضية أمران ،ثانيهما أقرب السؤال :ما هي الفتنة ؟ إنه ُ
إلى المعقول من الخر ويسنده المنقول كما سوف ترون .حينما نظر
المفسرون في أوائل الكلم عن سليمان وما قال الله جل وعل من حبه
للخيل الجياد ) إذ عرض عليه بالعشي الصافيات الجياد ،فقال إني أحببت
حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ،ردوها عليه فطفق مسحا ً
بالسوق والعناق ( في كلم العرب ما يشير إلى أن المسح ُيستعمل أيضا ً
في الضرب بالسيف ،فقالوا :إن الفتنة كانت أن سليمان عليه السلم ككل
الملوك كان عنده استعراض لقواته ،والخيل ول سيما الجياد منها هي العدة
القاهرة التي تساوي أحدث المكتشفات في عصرنا الحاضر ،فكان
استعراض الخيل معجبا ً ومزهوا ً ،وظل يستعرض الخيل حتى توارت بالحجاب
،أي غابت الشمس ،ولم يكن قد صلى العصر ،فانتبه لذلك وقال :ردوها
علي ،أي ردوا الخيل علي ،فطفق مسحا ً بالسوق والعناق ،أي أنه عاقب
الخيول بسيفه وقطع أعناقها لنه ألهته عن الصلة ،فهموا ذلك من قول الله
) إني أحببت الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ( ولكننا ل نستطيع
كأسلوب من أساليب الفهم لكتاب الله أن نطمئن اطمئنانا ً كامل ً وأن نثق ثقة
مطلقة لتأويل من هذا القبيل لماذا ؟ للتي :أول ً :إن المسح بالسوق
والعناق كلما ً يحتمل الكناية عن الصل ،وكلما ً يحتمل المسح العادي على
سوق الخيل والعناق للتدليل والعجاب ،فلما كان الكلم محتمل ً سقط به
الستدلل وبطل به الحتجاج .
والثاني ما يتأتى من فهم كلمة ) عن ( فمن الجائز لغة وهي اللغة التي نزل
بها القرآن أن نفهم :إني أحببت حب الخير حتى ألهتني عن ذكر ربي .ومن
الجائز أيضا ً أن نفهم التي :إني أحببت حب الخير بسبب ذكري لربي ،
ويكنى عن ذكر الله هنا عن الجهاد في سبيل الله ،أي أنني لم أحب الخيل
المعّبر عنها بالخير وهي المال الكثير إل أن الله أمرني بجهاد العداء وهو أمر
عن أمر الله جل وعل حتى توارت بالحجاب ،أي غابت الخيل عن النظار .
وهذا محتمل في لغة العرب .
فالتأويل ليس قاطعا ً ،وحينما نرجع إلى المرويات نجد أن الفتنة ليست هي
ل سليمان العصر .فنبينا محمد المرادة بهذا حتى ولو غابت الشمس ولم يص ِ
شغل في غزوة الخندق عن الصلة حتى قال :لقد عليه الصلة والسلم ُ
ً
شغلونا عن صلة الوسطى صلة العصر مل الله قلوبهم وقبورهم نارا .ولم
يترتب على ذلك من الله عتاب .ولم يعبر عن ذلك بفتنة لنه أمر عادي .وإذا
النسان كان في غمرة الشغل ونسي واجبا ً من الواجبات فل يعّرض
للمؤاخذة ،لن الله تجاوز عن الناس فيما نسوه ،ولكن يؤاخذ عن فعل
العمد .
حينما نرجع إلى المرويات نجد البخاري ومسلم قد أخرجا في صحيحيهما عن
النبي صلى الله عليه وسلم أن سليمان عليه السلم كانت له نساء كثيرات ،
فقال يوما ً :لطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل واحدة منها فتلد
مولودا ً ذكرا ً يشب ليقاتل في سبيل الله ،ولم يقل إن شاء الله .فلم تحمل
من السبعين إل امرأة ،وحينما ولدت جاءت بطفل ً مشوه الخلقة وهذا هو
الذي جيء به فألقي على كرسي سليمان .هل تحتاج المسألة إلى عتاب إذا
146
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
لم يقل إن شاء الله ؟ أقول :نعم .فثمة حادث مشابه في سيرة نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم وذلك حينما سأله المشركون عن بعض المسائل ،قال
سأجيبكم غدا ً ،ولم يقل إن شاء الله .فتلّبث الوحي وأرجف الناس أن
محمدا ً يكذب ،لنه قال بأنه سيخبرنا غدا ً ولم يخبر ،فمعنى ذلك أن ما
يتحدث به عن الوحي كلم ل قيمة له وكلم مختلق .
حتى مضت خمسة عشر يوما ً بالتمام فجاءه الوحي من الله تعالى ) ول
تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ً إل أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل
عسى ربي أن يهديني لقرب من هذا رشدا ً ( ثم جاءه الجواب فيما سأله
المشركون .
ً
قول النسان سأفعل ذلك غدا وسأقول ذلك بعد قليل دون أن يرد ّ ذلك إلى
قدرة الله الذي بيده فقط أنفاس النسان وإمكانات النسان لون من نسيان
الله تعالى ويستحق عليه النسان المعاتبة .
وإذا ً فخطأ سليمان كان في هذا ،وبعد أن يرد النص عليها مشروحا من النبي
ً
عليه الصلة والسلم فل معنى أن يذهب أي إنسان للتماس التأويلت من أي
مصدر آخر على الطلق .
)(4 /
فإذا تركنا قصة سليمان جاءتنا قصة أيوب وهو مثال الصبر ،ثم جاءتنا قصص
أخرى ) واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي اليدي والبصار ،إنا
فين الخيار ( أي أن أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ،وإنهم عندنا لمن المصط َ
الله تعالى أخلصهم لنفسه وزاد التصاقهم بشرعه وجعلهم مذكورين في الدنيا
إلى أن تقوم الساعة وأوجب لهم المقام المحمود يوم القيامة بخالصة ،يعني
بخصلة خالصة وهي أنهم يذكرون الله جل وعل ) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى
الدار ،وإنهم عندنا لمن المصطفين الخيار ،واذكر إسماعيل واليسع وذا
الكفل وكل من الخيار ،هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب ( أي أن هذا
القرآن ذكر وموعظة للناس ) جنات عدن مفتحة لهم البواب ،متكئين فيها
يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب ،وعندهم قاصرات الطرف أتراب ،هذا ما
توعدون ليوم الحساب ( ثم ما جاء بعد ذلك عن أهل النار ) هذا وإن للطاغين
لشر مآب ،جهنم يصلونها فبئس المهاد ،هذا فليذوقوه حميم وغساق ،وآخر
من شكله أزواج ( لماذا جاء هذا الكلم ؟ كلم يترجم عما أعده الله للصنفين
يوم القيامة .
جنات عدن ونعيم مقيم للمتقين ،وعذاب مهول للكافرين ..من أين جاء
العلم لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو خبر ل يتأتى العلم به من التجارب
البشرية ،ومن ل استعراض حوادث التاريخ ول من أي شيء آخر ..إنه إذا ً
جاء دليل ً على أن ما يتلوه محمد على الناس من عند الله تعالى .
أيضا ً ) هذا فوج مقتحم معكم ل مرحبا ً بهم إنهم صالو النار ،قالوا بل أنتم ل
مرحبا ً بكم أنتم قدمتوه لنا فبئس القرار ،قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده
عذابا ً ضعفا ً في النار ( من أين جاء العلم بهذا الجدل الذي يكون بين الرؤساء
والتباع ،وكم سيكون جدل ً مخيفا ً بين الرؤساء والغرار من التباع يوم
القيامة ولكن في النار ،من أين جاء العلم ؟ جاء من عند الله ،إذا ً فذلك
دليل على دليل على أن ما يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم إخبارا ً من الله
وهو ُيسلك في قائمة الدلة على ربانية المصدر الذي يصدر عنه الكتاب
الكريم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
147
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ثم أيضا ً ) وقالوا ما لنا ل نرى رجال ً كنا نعدهم من الشرار ،أتخذناهم سخريا ً
أم زاغت عنهم البصار ،إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ( وما أحرى المسلم
أن يقف طويل ً عند هذا الكلم ،إن ناسا ً كثيرين أخذتهم الدنيا وانشغلوا
بالمناصب وتعززوا بالقوة الناقصة بقوة المخلوق الضعيف المغلوب ،واحتقر
الناس واحتقر المؤمنين ،أذلك يذهب هباًء في كون عظيم ؟ ل ،إن هؤلء
الناس في النار والجحيم يتساءلون :ما لنا ل نرى بلل ً وعمارا ً وصهيبا ً من
الناس الذين كنا نقول عنهم :من هذا وما قيمة هذا ؟ هؤلء أشرار الناس
غافلين عن أن الموازين والمعايير في شرع الله ل تقاس وفاقا ً إلى ما يبتلي
به الله الناس من أنواع المحن ،وإنما يقاس بالفضائل النسانية والكمالت
البشرية .
)(5 /
ثم يأتي السياق بعد ذلك إلى أمر يعود على أول السورة ،إن المشركين
عموما ً الذين سخروا من محمد سخروا من قبله برسل الله جميعا ً ،وحينما
عرضنا لفاتحة سورة صاد وجدنا أن من أهم السباب التي حددت للمشركين
مواقفهم الشائنة من أنبياء الله ترتد إلى عامل الحسد ،ومن هنا جاء كلم
الله في آخر السورة ليلفت المؤمنين إلى هذه الرذيلة التي سببت شقاًء
طويل ً للجنس البشري وسببت طردا ً أبديا ً لبليس الذي كان من خيرة عباد
الله ) .قل هو نبأ عظيم ،أنتم عنه معرضون ،ما كان لي من علم بالمل
العلى إذ يختصمون ( الخصومة القائمة في السماء عند الله ) إن يوحى إلي
إل أنما أنا نذير مبين ( لست إل واحدا ً منكم ل أعلم أكثر مما تعلمون ،وما
جئت به فهو من الله وليس من عندي ) إذ قال ربك للملئكة إني خالق بشرا ً
من طين ،فإذا سويته ونفخت فيه من رحي فقعوا له ساجدين ،فسجد
الملئكة كلهم أجمعون ،إل إبليس استكبر وكان من الكافرين ،قال يا إبليس
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين ،قال أنا
خير منه خلقتني ( هذه الكلمة التي يتوّرط فيها كثير من المسلمين ،أنا خير
من فلن ،ويحك ما أدراك أنك خير منه ؟ إن المعول على ما هو عند الله ،ل
على الثياب الجميلة ول على الوجه البراق ول على الصحة الفارهة ول على
الجيوب المحشوة ول على الكراسي ول على السلطان العظيم ول على
الجاه العريض ،إن المعول على ما عند الله ) قال أنا خير منه خلقتني من
نار وخلقته من طين ،قال فاخرج منه فإنك رجيم ،وإن عليك لعنتي إلى يوم
الدين ،قال ربي فأنظرني إلى يوم يبعثون ،قال فإنك من النمظرين ،إلى
يوم الوقت المعلوم ،قال فبعزتك لغوينهم أجمعين ،إل عبادك منهم
المخلصين ( يعني إبليس أستاذ الكافرين جميعا ً في القديم والحديث إلى أن
تقوم الساعة يقسم بعزة الله واعتراف صريح بأنه مخلوق لله وبأن الله هو
الرب ،فإذا ً هؤلء الوباش الفاسدون الساقطون الذين يتصورون اليوم أن
ف لفهم الناس لم يخلقهم الله شر من إبليس ،طوائف الشيوعيين ومن ل ّ
خلق هكذا وأن النسان هو سيد نفسه ورب نفسه ممن يزعمون أن الكون ُ
شر من إبليس ،فإبليس أستاذ الكل من هذا الركب الوسخ يعترض ويقسم
بعزة الخالق ) قال فبعزتك لغوينهم أجمعين ،إل عبادك منهم المخلصين ،
ن جهنم منك ممن تبعك منهم أجمعين ( ما قال فالحق والحق أقول ،لمل ّ
الذي أفسد إبليس ؟ الحسد .ما الذي منع المكذبين في المم السابقة أن
يصدقوا بأنبياء الله رغم وضح الحجة واستقامة الدليل في النفس والفاق ؟
148
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الحسد .ما الذي حمل أبا جهل وأضرابه على الوقوف من محمد صلى الله
عليه وسلم موقف العناد والتكذيب ؟ الحسد ) .وقالوا لول أنزل هذا القرآن
على رجل من القريتين عظيم ( وجاء رجل من المشركين إلى أبي جهل
فقال :يا أبا الحكم أتظن أن محمدا ً يكذب ؟ قال :ل ،ولكنا تزاحمنا نحن
وبنو هاشم في الجاهلية فأطعموا وأطعمنا وسقوا وسقينا وحملوا وحملنا
فلما قالوا منا نبي أنى يكون لنا مثل ذلك .وإذا ً فهو الحسد الذي صد هؤلء
المكذبين عن سماع هداية الله .
ولو أنك جئت الن إلى واقعنا المتخبط بالرذائل لوجدت الحسد يلعب دوره
المقيت في هذه الظاهرة أيضا ً .أما أعرف أن فلن تقي في نفسه مستقيم
في سلوكه يدعو إلى الحق وإلى الصراط المستقيم ولكن أتساءل :لماذا ل
أكون أنا الذي أتصدى لهذا المر ؟ وإذا ً فأنا ل أتبع فلنا ً .وهذا ليس من أخلق
المؤمنين .
واليات التي خوتمت بها السورة آيات تلفت النظر إلى هذين المرين ،إلى
تعليل وبيان سبب التكذيب الذي ُووجهت به النبياء السابقة ،والتكذيب الذي
ُووجه به محمد صلى الله عليه وسلم من جهة ،وتنبيه إلى المؤمنين أن ل
يسقطوا فيما سقط به فإبليس وسقط فيها من بعده جميع المكذبين الضالين
من المم السابقة .
فالسورة خوتمت بهذه اليات ،وهو كلم يأتي في صيغة المر التلقيني ..
خطابا ً لمحمد صلى الله عليه وسلم ليقول شيئين انتبهوا إليهما .
)(6 /
149
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
فاطمة فأزالت القذار عن أبيها .أي أن المسلم كان في ذاك الزمان ُيعذب
ويطارد ويسفك دمه ،وبمجرد أنه ُيكتشف بأنه يصلي كان هذا اللم ينزل
ن نبأه بعد على محمد ويقوله محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين ) لتعلم ّ
حين ( .
فهو إذا ً قوة الحق الذي ل ُيغلب ،يقوله الرسول عليه الصلة والسلم في
وجه القوة الجبارة كاشفا ً عن طمأنينة ل نهاية لها من أن العاقبة للتقوى ،
ومن أن النصر هو للسلم ومن أن الحزاب حتى ولو تحزبت من كل وجه
الرض لكي تقف في هذا النور ما أفلحت .
فيا مسلمين يا من حملتم دعوة الله على رضا منكم أو كره ،يا من دعيتم
لحمل دعوة رسول الله ل يغرنكم ما ترون فيه أعداء الله من سلطان ومن
عز فذلك باطل ،والرجل الذي يرى نفسه غاية في القوة غاية في المنعة
غاية في العز ،من ورائه الجنود والجيوش المزيفة تأتيها اللحظة التي يفتش
فيها عن وسيلة لكي ينجو منها فل يجدها .وحسبكم أنكم رأيتموا من أناس
جّروا من أرجلهم كما تجر الكلب وألقوا في المزابل بعد العز والسلطان ، ُ
وبقيت كلمة الله .ل يتطرق الوهم والوهن إلى قلب أحدكم ،المهم هو أن
تكونوا واثقين بالله الذي ينصر المؤمنين ) إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في
الحياة الدنيا ويوم يقوم الشهاد ( في الحياة الدنيا ) وكان حقا ً علينا نصر
المؤمنين ( ويوم يقوم الشهاد يلقن الله حجتهم حتى يفيئوا برضاء الله تعالى
.
ولكن الذين تتضعضع عزائمهم وتخور قواهم أمام الصدمات يحتاجون إلى
دروس مطولة في الصبر على الخلص لله تعالى وهي ليست بالقليلة .
وعسى أن يكون في استعراضنا لسورة صاد في هذه الجمعة وما سبقها
دروس تفيد المة لكي تعرف ان نصر الله مضمون ولكن ضمن شروط ،
نلخصها باختصار :
ـ ثقة ل حد ّ لها بأن الباطل مهزوم ومخذول لنه ضد القانون الذي شرعه الله
تعالى في الكون .
ـ عمل موصول من أجل أن يكون النسان أبدا ً ملتصقا ً بشريعة الله وفيا ً
لوامر الله ونواهي الله تعالى .
ـ ُبعد عن الصغائر والسفاف .
ـ إصرار على مواصلة الطريق رغم كل المثبطات والموئسات .
ـ ثقة بغير حدود بهذا النصر الذي قال الله عنه ) ولتعلمن نبأه بعد حين ( .
وبعد ذلك فإن الله يغّير بل شك .
أسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا منتفعين نافعين ،وأسأله تعالى أن يجعلنا من
عباده الصالحين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ،وأسأله تعالى أن
ينير بنا جنبات النسانية التي أظلمت ،وأن يعيننا بحوله وبقوته وقدرته على
تصحيح ما يكتنف الناس اليوم من شبهات وأوهام ،إنه وحده المسؤول وعليه
وحده المعول ..وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين
والحمد لله رب العالمين .
)(7 /
تفسير سورة ص
الجمعة 8ذي الحجة 18 / 1397تشرين الثاني 1977
) من ( 2-5
150
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
شوحالعلمة محمود م ّ
)أبو طريف(
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ..أما بعد أيها الخوة المؤمنون :
فبالرغم من حرصنا في الجمعة الماضية على أن نعطي تلخيصا ً وافيا ً لسورة
) ص ( فإن ذلك لم يستيسر لنا لما كنا معنيين به من إبراز الفوارق بين هذه
ل من السورتين ذكر مفصل السورة والتي قبلها أعني سورة القمر ،ففي ك ٍ
إلى حدٍ ما لوقائع النبياء مع أممها وأقوامها ،ولكن عبقرية القرآن تتجلى في
كونه يسوق القصص الواحد في المواطن المتعددة لشتيت الغراض ،فركزنا
على هذه الناحية في الجمعة الماضية ولكن على حساب التلخيص اللزم
لسورة ) ص ( وهي السورة التي نواجهها اليوم والذي سيكون له من بعد
تفصيل بعد إجمال إن شاء الله تعالى .
ما كان من كلم في الجمعة الماضية يكفي فيما أتصور لكي يضعنا في جواء
كر بأن الجانب الذي عرضته السورة ،وضمن موحياتها ،وفقط أحب أن أذ ّ
هذه السورة من حياة النبياء كان يهدف إلى إبراز قضية يفتقر إليها النسان
وهو في غمرة العمل وإن كان نبيا ً .فالنبياء صلوات الله عليهم هم بشر أول ً
وآخرا ً ،أي أن حذف النوازع البشرية والتأشيرات العارضة وضغوط الحداث
أمر ل ُيعقل ،وإل لنسلخ النبي عن بشريته ولحق بعالم المل العلى وذلك ل
يكون .وإزاء مظاهر الجحود والتكذيب والعناد الذي ليس له مبرر فإن أقوى
النفوس وأرسخها في اليمان ليست محصنة ضد التأثرات العارضة إل أن
يتداركها الله تعالى بعصمة منه وحفظه ،ونبينا عليه الصلة والسلم لقي من
خضت عنه الطينة البشرية من رديء الخلق قومه كفار مكة خلصة ما تم ّ
وفاسد الطباع ومنحط الشيم ،خلصة ما ُووجه النبياء كلهم ُووجه به رسول
الله صلى الله عليه وسلم ،وبشراسة أشد وخصومة أعنف ومعارضة أعتى ،
وهو بأبي وأمي بشر يحس كما نحس ويألم مثلما نألم ،وهو المفعم قلبه
بالرحمة ،يكاد يعدو على نفسه بالهلك ألما ً وحرقة أن ل يؤمن هؤلء
الناس ،وذلك شأن النفوس العظيمة ،إن اللم يعتصرها اعتصارا ً حينما تبلغ
من الشفافية ومن رسوخ اليمان وقوة اليقين الدرجة التي تجعل الحق الذي
تحمله كالشمس ظهورا ً ويرى الناس يخبطون في التيه والعماء ويتمرغون
في الوحل ،ذلك في الحقيقة شيء مؤلم .
وكل هذا مشروع وطبيعي ومتساوق مع جوهر الحداث وجوهر النسان ،
لكن النفوس من حيث ل تدري قد تجنح وهي وسط هذا العصار العنيف
وش أمامها ساحة الرؤية ،وهنا يبدأ الخطر ،وهذا أمر لتستيئس ولكي تتش ّ
منظور ،فمن أجل ذلك جاءت سورة ) ص ( لتعرض أمام أنظار رسول الله
صلى الله عليه وسلم صورا ً وملمح من حياة النبياء من قبله .إن النبي
فذ أمرا ً خاصا ً ،ليس له فيه يدان ، مكّلف بغرض ،بوظيفة ،مأمور بأن ين ّ
ليس من كيسه ،فمن أجل هذا ل يملك أن يتصرف فيه إل بإذن الله تعالى .
وذلك يعني منطقيا ً أن النبي وكل عامل في طريق النبياء مطلوب منه
وبوضوح ومن بداية الطريق أن يكون أقوى من نوازعه ،وأكبر من مجتمعه ،
وأقوى من كل ضغوط هذا المجتمع .مطلوب منه أن يبقى أبدا ً في هذا
الفق العالي السامق الذي وضعه الله تعالى فيه ،وأن تبقى الغاية النبيلة
الكبيرة العظيمة هي التي تجتذب قواه جميعا ً وتشد إليها اهتماماته جميعا ً .
ونحن بأيسر المراجعة لما كان حتى المرحلة التي نتحدث عنها من
المشركين في مواجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أن جدل ً طويل ً
كزت عليه سورة ) ص ( للغاية ُأثير حول قضايا ذات أهمية ،لكن شيئا ً ر ّ
151
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يعطينا تقديرا ً مناسبا ً لواحدة من هذه القضايا وهي قضية الرسالة .
فالمراجعة العامة لسورة ) ص ( تكشف لنا أن ثمة خيطا ً واحدا ً ورئيسيا ً
ينتظم كل القضايا التي عرضتها سورة ) ص ( ،هذا الخط الساسي الرئيسي
يدور حول قضية النبوة والرسالة وما يتفّرع عنها ،اسمعوا ُتفتتح السورة
هكذا ،وأنا أتمنى أن أكمل استعراضها اليوم لنفرغ لتفصيلتها من بعد ) بسم
الله الرحمن الرحيم ،ص والقرآن ذي الذكر ،بل الذين كفروا في عزة
وشقاق ،كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولت حين مناص ( فنادوا أي
استغاثوا ،إلى هنا وبلمحة خاطفة عرضت السورة الكريمة في البداية حالة
الكافرين باعتبار أن هذه الحالة وصفا ً ملزما ً للقوام الكافرة ل يتخّلف مع
اختلف الزمنة والمكنة ،فالتكذيب وما يترتب على التكذيب من تحكيم
الهوى وما ينتج من تحكيم الهوى من شقاق وفرقة وتنابز ،ثم ما يتأتى من
كر قد فاتكر بعد أن يكون التذ ّ ذلك كله من تدمير وإهلك ،ثم ما يأتي من تذ ّ
وقته ،ذلك هو الطبع الملزم للكافرين عموما ً .
)(1 /
152
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(2 /
) وانطلق المل منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ،ما
سمعنا بهذا في الملة الخرة إن هذا إل اختلق ( الملة الخرة قال الكثير من
المفسرين إن المراد بها وثنية العرب ،ونحن نرفض هذا القول ،فلم ُيعهد
في تاريخ الديان أن الوثنية سميت ملة أو نحلة أودينا ً ،والناس كلهم في
الماضي والحاضر متفقون على أنه خبل بشري ولوثة في الطبع النساني ،
أي الشرك والوثنية .والذي نميل إليه أن المراد بقوله تعالى ) ما سمعنا بهذا
في الملة الخرة ( هي الملة النصرانية باعتبارها آخر النبوات ،والذي يبرر لنا
بهذا الرأي أن القرآن للمرة الولى يواجهنا بالتعريض بالنصارى ،قبل ذلك
153
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يوجد سبع وثلثون سورة مضت لم يرد لهؤلء القوم ذكر ،منذ الن سوف
يبدأ ذكر النصارى واليهود يتردد في أطواء القرآن المكي حتى إذا بلغنا
القرآن المدني وجدنا البحاث القرآنية تسلط الضواء عليهم بصورة مباشرة .
ويبرر هذا أيضا ً أن النصارى الذين جاءهم عيسى صلوات الله عليه وسلمه
جاءهم بالوحدانية وبالحنيفية دين إبراهيم بل دين الله تعالى الذي نادى به
النبياء والمرسلون جميعا ً من لدن آدم إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه
وسلم .هذه النصرانية التي ُيفترض أن تكون أمينة على وحي السماء خرجت
بعد ومن قريب لتكون دين وثنية وتعدد وشرك ،والنصارى الذين عاصرتهم
الدعوة السلمية كانوا يقولون بآلهة ثلثة :الب والبن والروح القدس ،وهم
متفقون على ذلك جميعا ً .فالعرب يحتجون على رفض الوحدانية بالنصرانية
التي ليست موحدة ،ولكن الحق ل ُيحتج عليه بالباطل ،ومبرر بعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالسلم هو فساد النصرانية ،ولو أن النصرانية
بقيت أمينة على كلمات الله لسقط مبرر إرسال رسالة جديدة ،لن قانون
النبوات هو أن الله جل وعل يبتعث رسول ً إلى الناس كلما اندرست معالم
الديانة الماضية وطفئت مصابيح الهداية التي جاءت على يد آخر رسول كان .
ولهذا قلنا إن النصرانية هي المقصودة بقول الله تعالى ) ما سمعنا بهذا في
الملة الخرة إن هذا إل اختلق ( هل انتهت تخرصات المشركين ؟ ل ،أيضا ً
ثمة نوازع تعمل ) أءلقي الذكر عليه من بيننا ( لماذا اختار الله هذا الفقير
اليتيم ولم يختر واحدا ً من الزعماء ذوي الثراء وقواد الحروب ..؟ فهذه
مشكلة من المشكلت منشؤها الحسد ،وسوف نرى أن عجز السورة أي
آخر السورة سيرد ّ إلى أولها حينما يتحدث الله عن أول النشأة وما كان من
اختصام في المل العلى بين الله وبين إبليس حينما امتنع عن السجود لدم ،
فُلعن لعنة أبدية بسبب الحسد والكبرياء الذي يعتمل في قلوب هؤلء الذين
يقولون ) أءلقي الذكر عليه من بيننا ( لكنها حجة واهية ،هذا شيء غير
صحيح ) بل هم في شك من ذكري ( فالمسألة ليست مسألة حسد وحسب
وإنما هي في التحليل الخير تعود إلى أن هؤلء الناس شاكون في الله أصل ً،
ولو كانوا يقدرون الله حق قدره لعلموا أن المالك يتصرف في ملكه بدون
قيد ،أرأيت أحدا ً يمنعك من أن تتصرف في قروشك التي في جيبك ؟ فكل
مالك له مطلق الحق في أن يتصرف في ملكه ،فإذا كان الكون لله خلقا ً
ص برحمته من يشاء ويمنع ومن الله إيجادا ً وله ملكا ً فذلك يعني أن الله يخت ّ
قب لحكمه ) بل الله يحكم ما يريد ( والناس ل خيرة فضله عمن يشاء ول مع ّ
لهم في ذلك ،وإذا ً فالقضية قضية شك في أصل الرسالة وليست شيئا ً آخر
بإطلق .
) بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب ( لو نزل بساحتهم العذاب
كما نزل بساحة المكذبين من قبلهم لجأروا إلى الله بالدعاء ولكن ولت حين
مناص ،أي بعد فوات الوان كما عرضت لنا أول السورة .
ثم يعرض الله عليهم ) أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ،أم لهم
ملك السماوات والرض وما بينهما فليرتقوا في السباب ( الله هو الذي
خلقكم وأوجدكم من العدم ،أفلكم ملك السماوات والرض ؟ أنت تتصرف
بين يديك في شيء قليل من حطام الدنيا ،والله تعالى مالك الدنيا والخرة ،
والله يخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن الدنيا ل تزن عند الله
جناح بعوضة ،وأنت تتصرف منها في شيء ل ُيذكر .وماذا بعد ؟ فثمة
السماوات والرض والماضي والحاضر والمستقبل أتدعي أن ذلك لك ؟ تلك
إحالة عقلية ل تقع في وهم واهم ،ولهذا سألهم الله ) أم لهم ملك
154
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(3 /
ثم يأتي التطمين بعد ذلك ) جند ما هنالك مهزوم من الحزاب ( تطمين للنبي
عليه الصلة والسلم وتطمين لكل عامل في هذا الطريق المستقيم ،
الحزاب من هي ؟ الية التي نتحدث عنها بل السورة كلها مكية ،وهي تنتمي
إلى السنوات الخمس الولى من عمر الدعوة ،ول يراد بها الحزاب الذين
تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ،وإنما يريد الله
جل وعل بالحزاب المهزومين حكما ً ،كل المكذبين الذين شهدتهم ساحة
هذه الرض ،ابتداءا ً من أول الخلق إلى أن تقوم الساعة ،لو أن جند الباطل
والضلل اجتمعوا على صعيد واحد ليقضوا على الحق الوليد فلن يكون لهم
لب ،ولكن ضمن شروطه المعروضة إلى ذلك سبيل ،لن الحق بطبعه غ ّ
لهذه السورة والسور الخرى ،إن الله جل وعل بعد أن يفرغ في أوائل
السورة التي قرأناها حتى الن من عرض تخرصات المشركين حول الرسالة
يريد أن يزيل من ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم الثار السيئة التي
تترتب على الموقف غير المعقول الذي وقفه المكذبون ) كذبت قبلهم قوم
نوح وعاد وفرعون ذي الوتاد ،وثمود وقوم لوط وأصحاب اليكة أولئك
ذب الرسل فحق عقاب ،وما ينظر هؤلء ( أي ل ينتظر الحزاب ،إن كل إل ك ّ
هؤلء ) إل صيحة واحدة ما لها من فواق ،وقالوا ( أي المشركون العرب
جل لنا قطنا ( أي نصيبنا من الخير والشر الذي يحدثنا عنه محمد ) ربنا ع ّ
) قبل يوم الحساب ( وهذه قالة استهزاء وسخرية برسول الله بل بالله
تبارك وتعالى .
ثم يأتي بعد ذلك حديث عن النبياء مقصود ،يفتتح الحديث بخطاب موجه
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) اصبر على ما يقولون ( لم يقل له :
امتشق الحسام ،فالعقائد ل ُتفرغ في عقول الناس بالرهاب ول بالقوة ،
ولكن بالقناع والخذ بالحجة ،فالله عز وجل برأ الكون وفاقا ً لسنن أودعه
في هذا الوجود ،ولن يخرق هذه السنن إكراما ً لخاطرك يا محمد أبدا ً ) ولو
شاء ربك لمن من في الرض كلهم جميعا ً أفنت تكره الناس حتى يكونوا
مؤمنين ( ل يمكن ذلك تحت الضغط والرهاب وبتأثير السجون والمشانق ،
إن السلم ل يصلح له إل بالقلوب المطمئنة والعقول الواثقة المستبصرة .
النسان بالطبع تكونت لديه بفعل تراكم الحداث قناعات أخذت وضعا ً ل يقبل
المناقشة ،لكن ضغط الحداث في مواجهة الحق والباطل كفيل بإيقاظ
النائمين ،وتنبيه الغافلين ،وواجبك هنا أن تصبر ،أن تستأني بالطبيعة
البشرية ،أن تطيل بالك وتوسع صدرك ) اصبر على ما يقولون ( ابقَ في
الموضع السامق الذي وضعك الله تعالى فيه ول تسمح لظواهر الكنود
والجحود والصد والتكذيب أن تثني من عزمك ول أن توقظ اليأس في قلبك ،
ول أن تخّرب الثقة في الطبيعة البشرية داخل نفسك ) ..اصبر على ما
يقولون واذكر عبدنا داوود ذا اليدي إنه أّواب ( وتمضي اليات تتحدث عن
نبي الله داوود صلى الله عليه وسلم من الزاوية التي تمس واجبات النبوة
والتي سنعرض لها بتفصيل في المستقبل إن شاء الله تعالى .
فإذا فرغت السورة من الحديث عن داوود عليه السلم قالت لرسول الله
155
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
عرض صلى الله عليه وسلم ) ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أّواب ،إذ ُ
عليه بالعشي الصافنات الجياد ،فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي
حتى توارت بالحجاب ،رّدوا علي فطفق مسحا ً بالسوق والعناق ( وتمضي
س واجبات الرسالة من سيرة السورة باقتصاص الجانب ذاته الذين يم ّ
كر رسول الله صلى الله سليمان عليه السلم ،فإذا فرغت من ذلك مضت تذ ّ
عليه وسلم بصاحب البلء والصبر الذي ُيضرب به المثل ) واذكر عبدنا أيوب
إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ،اركض برجلك هذا مغتسل
بارد وشراب ( وهؤلء ثلثة أنبياء ُذكروا في السورة بشيء من التفصيل لكن
جاء من بعد إجمال لنبياء ستة آخرين ) واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق
ويعقوب أولي اليدي والبصار ،إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ،وإنهم
ل منفين الخيار ،واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وك ٌ عندنا لمن المصط َ
الخيار ( هؤلء النبياء وضعتهم السورة أو وضعت جوانب من سيرتهم وما
فعلوه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ،لن طريق الدعوة ليس شيئا ً
وإنما هو مشقة مستمرة وتعب موصول ل يقدر على أن يستمر به إل الذي
يحافظ على هذا الفق البعيد الذي يعيش فيه الدعاة إلى الله ابتداءا ً من
النبياء عليهم السلم إلى الداعين إلى الله في كل زمان ومكان .
)(4 /
قبت عليه بأن ذكرت لرسول الله صلى الله فإذا انتهت السورة من ذلك ع ّ
ص
عليه وسلم قيمة هذا الكلم ،فهذا ذكر فإما أن يكون الذكر هنا هو ما اقت ّ
الله من سير النبياء وأما أن يكون القرآن كله ،هذا ذكر ولكن ستخبرنا
السورة عن أمور ل يعلمها إل النبياء ،لنها بطبيعتها تنتمي إلى عالم الغيب
ُ
ص السورة ما أعد ّ مما ل ُيفلح بالوصول إليه كل المجهود البشري ،تق ّ
للمتقين من النعيم والحبور ،وما ُأعد ّ للفجار الشرار من النكال والوبال
) هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب ،جنات عدن مفتحة لهم البواب ( ..
) هذا وإن للطاغين لشر مآب ،جنهم يصلونها فبئس المهاد ،هذا فليذوقوه
ُ ُ
ساق ،وآخر من شكله أزواج ( ما أعد ّ من النار للشقياء ،وما أعد ّ حميم وغ ّ
في الجنة للمتقين شيء ل يملك المنطق أن يصل إليه ،ول تملك القدرات
البشري أن تكشفه ،فالعلم به موقوف على إخبار الله جل وعل أي على
الوحي أي على النبي .وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واحدا ً من
هؤلء الناس وكان ـ حاشاه ـ مختلقا ً للنبوة ومدعيا ً للرسالة ما أمكن أبدا ً أن
يخبر بحرف واحد عن أمر من أمور الخرة .
وأيضا ً فليس هذا فقط الذي ينتمي إلى عالم الغيب والذي يتوقف العلم به
على معرفة النبي المعصوم ما يكون من التخاصم والتلحي في النار بين
التباع والمتبوعين بين الضالين والمضلين بين الرؤساء والرعاع ) هذا فوج
مقتحم معكم ل مرحبا ً بهم إنهم صالو النار ،قالوا بل أنتم ل مرحبا ً بكم أنتم
دم لنا هذا فزده عذابا ً ضعفا ً في قدمتموه لنا فبئس القرار ،قالوا ربنا من ق ّ
النار ( هذا الكلم الذي يكون في النار يوم الحساب بين المضلين من
الرؤساء والسادة والقادة وبين التباع ممن قبلوا أن يؤجروا عقولهم
ويسخروا كل إمكاناتهم لخدمة هؤلء المضلين أمر حتما ً سيكون في النار ،
وسوف يدعو بعضهم على بعض هناك وسوف يلعن بعضهم بعضا ً هناك ،
ل ضعف وسوف يطلب بعضهم لبعض زيادة العذاب وسيقول الله لهم ) لك ٍ
ولكن ل تعلمون ( إن هذا أيضا ً ينتمي إلى الدار الخرة ،وليس شيئا يستقل
ً
156
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
بعلمه آحاد من الناس وعوام الناس ،شيء ل يعلمه إل نبي ،وحين أخبر به
رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إخباره مطابقا ً لما جاء على ألسنة
ل ذلك على أن محمدا ً رسول الله صادق في دعواه أنه النبياء من قبله د ّ
مرسل من عند الله وأن الواجب على كل أحد أن يسلك طريق رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
بعد ذلك تأتي تعقيبات سنأتي إليها في المستقبل ،المهم أن الله جل وعل
يرد ّ عجز السورة على أولها ) قل إنما منذر وما من إله إل الله الواحد
القهار ،رب السماوات والرض وما بينهما العزيز الغفار ،قل هو نبأ عظيم (
على القرآن ) أنتم عنه معرضون ،ما كان لي من علم بالمل العلى إذ
يختصمون ( أأنا كنت موجودا ً حينما جبل الله طينة آدم ثم نفخ فيه الروح ثم
طرد إبليس ؟ أكنت موجودا ً أمر الملئكة بالسجود له ثم عتى إبليس ثم ُ
آنذاك ؟ كنت في عالم العدم ) ما كان لي من علم بالمل العلى إذ يختصمون
(.
ويته ونفخت فيه ً
ثم ) إذ قال ربك للملئكة إني خالق بشرا من طين ،فإذا س ّ
من روحي فقعوا له ساجدين ،فسجد الملئكة كلهم أجمعون ،إل إبليس
استكبر وكان من الكافرين ،قال يا لبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت
ت من العالين ،قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته ت أم كن َ بيدي أستكبر َ
من طين ،قال اخرج منها فإنك رجيم ،وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ،قال
فأنظرني إلى يوم ُيبعثون ،قال فإنك من المنظرين ،إلى يوم الوقت
المعلوم ،قال فبعّزتك ( ولحظ أن لبليس اللعين سبب الغواء والفساد منذ
أن كان الناس يعترف بأن الله هو العزيز الغفار ) قال فبعّزتك لغوينهم
ن
أجمعين ،إل عبادك منهم المخلصين ،قال فالحق والحق أقول ،لمل ّ
جهنهم منك ومن تبعك منهم أجمعين ( هذه الواقعة جاءت في خواتيم
ن سوف نقف عند بعضها ،لكن أول إيحاء مما يتصل السورة تتضمن معا ٍ
بالخط العام للسورة أن الذي ُيخبر عما يدور في المل العلى ليس آحاد
الناس وإنما النبي الذي يخبر الناس بما يخبره الملك عن الله تعالى ،وهذه
قضايا ل ُيقضى فيها بالظن ول ُيرجم فيها بالغيب ،ولو أن محمدا ً عليه الصلة
والسلم كان مختلقا ً ومفتريا ً وكذابا ً كما يزعمون لستحال عليه أبدا ً أن يخبر
بحرف واحد عن هذا .
)(5 /
157
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
يؤمن بالله ويؤمن أن الله يوم خلق الله أباه آدم كّرمه بإسجاد الملئكة له ،
ل ينبغي له أن يقف مواقف الذل أبدا ً أبدا ً .والنبي عليه الصلة والسلم
يكشف عن وعيد شديد بالنسبة للذين يمارسون الذلل على عباد الله فيقول
:صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما ـ أي لن يكونا موجودين في حياته
الشريفة صلوات الله عليه ـ نساء كاسيات عاريات ـ كمعظم نساء هذه اليام
ـ مائلت مميلت يتخلعن في خطوهن كما تتخلع المومس الفاجرة ل يجدن
ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا .هذا الصنف لم يره رسول
الله ،والصنف آخر :ورجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها ظهور
ت بيقين ترمز بهذا الناس .صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله لقد كن َ
إلى اليلم والتعذيب الذي سيكون من بعد ،فالسياط يا سيدي أمرها هين
لقد ابتكر الناس أساليب النفخ والكهرباء وغسل الدماغ والتصفية بالسيد ،
هؤلء الذين يذلون الناس لن يجدوا ريح الجنة لنهم أعداء للجنس البشري ،
ي في الكون أعداء للجنس الذي خلقه الله ليقيم في الرض شرعه ولُيعل َ
مر .معة يطير كلما طار ويمشي وراء كل مطّبل ومز ّ كلمته ،ل ليكون إ ّ
ً
خلق ليكون إنسانا له استقلله ،والنبي عليه الصلة والسلم المؤيد النسان ُ
بالوحي الذي يغاديه ويماسيه جبريل عليه السلم يقول الله له ) لست عليهم
بمسيطر ( وسفهاء الناس يقولون :بلى نحن سوف نقولب الناس نضعهم
في قوالب خاصة ونخلقهم كما نشاء ل ما يشاء الله ،وهؤلء ل يدركون ،لن
الطبيعة البشرية المتمردة على كل ما يضادها ويعاندها سوف تعاقبهم أشنع
العقاب ،هذا من موحيات هذه اليات سنقف عندها .
فإذا ختمت السورة ختمت بهذا الكلم الموجز الذي يكشف عن طبيعة
أساسية للرسالة ) قل ما أسألكم عليه أجرا ً ( لو ذهبتم تفتشون عن السبب
الكامن وراء الفشل المتكرر في الدعوة السلمية منذ وجدت وإلى الن
لوجدتم شراه النفس وطمع النفس من وراء ذلك ،إن الرسول ُيبتعث
ويقول منذ البداية للذين يخاطبهم :مالكم ل أرب لي فيه ،جاركم ل أطلبه ،
السيادة عليكم لست أريدها .أنا ل أطلب أجرا ً على هذا الذي جئت به وكل
نبي كما تقرءون في القرآن كان يقول ) إن أجري إل على الله ( والعمل كل
عمل إذا شابته شائبة الدنيا وإرادة العلو والفساد في الرض فقد حبط وفسد
،ولهذا كانت أخص خصائص النبوة البعد عن ابتغاء الجر واللتماس المنفعة
من الناس ،وحين لم المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم في
محضر عمه أبي طالب قال له :يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر
في يساري على أن أترك هذا المر ما تركته أو أهلك دونه حتى يحكم الله
بيننا وهو خير الحاكمين .
)(6 /
158
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
أخبركم بالذي يخبرني الله جل وعل ،أنا واحد منكم ل أقرأ ول أكتب ول
أحسب ،كما أنكم أميون ل تقرأون ول تكتبون ،ولكني حين أخبركم فعن الله
أخبركم ،ولهذا فلست من الذين يتكّلفون علم ما ل علم لهم به ) وما أنا من
المتكلفين إن هو إل ذكر للعالمين ( وهذه قضية هامة ،لننا نواجه هنا بيان
القرآن بأن الدعوة السلمية ليست مقصورة على العرب ،إنما هي دعوة
ن
الله إلى الناس كافة ) إن هو إل ذكر للعالمين ( هل يكفي هذا ؟ ) ولتعلم ّ
نبأه بعد حين ( من الذي يجرؤ على المجازفة بإعطاء الوعد بالمراهنة على
المستقبل ؟ من الذي يجرؤ على شيء من هذا في وسط العواصف الهائجة
المائجة كالوضع الذي كان سائدا ً في مكة زمن النبي صلى الله عليه وسلم
من يستطيع أن يأخذ الورقة والقلم فيعمل حسابا ً للقوى والمكانات ليقول
إن العاقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ في كل حسابات البشر هذا
غلط ،ولكن الحساب في قانون الله تعالى ل تخضع لحسابات البشر
ن نبأه بعد حين ( وعد ُيقطع من الله تعالى لكنه مب ّ
طن بالتهديد ، ) ولتعلم ّ
ن نبأ هذا القرآن بعد حين ،وبالفعل ما دارت اليام والشهور والسنون لتعلم ّ
حتى كان الذين يعاندون رسول الله من أخلص أتباعه ،وحتى كان الذين
يكذبون بالقرآن من الذين يتلونه آناء الليل وأطراف النهار ،وحتى أصبحت
البيوت التي كانت في المس مظلمة في الشرك مضيئة اليوم بالتوحيد ،
وحتى أصبحنا ونحن اليوم في أسوء حال نسمع هذا القرآن يتردد في جنبات
الرض كلها .هذا وعد الله جل وعل ،لكن كيف يتحقق هذا ؟ ما شرطه
الساسي ؟ ذلك ما سوف يتجلى لنا بإذن الله حينما نأخذ بالتفصيل بعد هذا
الجمال الذي حللنا فيه آيات السورة الكريمة سائلين المولى جل وعل أن
يمنحنا القوة والعون على إنجاز ذلك وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
)(7 /
تفسير سورة ) ق (
الجمعة 5رمضان 19 / 1397آب 1977
) 1من ( 4
شوحالعلمة محمود م ّ
)أبو طريف(
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ..أما بعد أيها الخوة المؤمنون :
فقد كان مقررا ً أن يكون الحديث عن السورة الثالثة والثلثين في ترتيب
النزول في الجمعة الماضية ،لول ما شغلنا آنذاك من حديث رأيناه ضروريا ً
حرصا ً على مصالح الناس في هذا البلد وأمنهم وسلمهم ،وتذكيرا ً للناس
بقواعد دينهم غفلوا عنها أو أغفلوها ،وها نحن اليوم نعود لنتابع السياق الذي
كنا فيه .
ً
فقد يكون ضروريا أن نعيد إلى الذهان بعض ملمح السورة التي سبقت هذه
الوقفة التي نحن فيها .إن أحد المشاكل الخطيرة التي قررها السلم في
بواكير الدعوة فأحدثت آثارا ً بعيدة ،وتركت في الناس بلبلة شديدة ،هي
تقرير السلم في موضوع اليوم الخر ،لقد كان لتقرير هذه القضية أثر
صاعق على كل أحلس الشهوات والذين يتبعون الحطام ،وكدأب الناس في
كل زمان ومكان يجادلون في الحق فيطيلون فيه الجدال ،ويخاصمون في
الباطل فيشتدون في الخصومة وينسى النسان حق عقله وحق كرامته
159
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
وآدميته عليه ،وهو يلج في الطغيان ويدفع بالباطل الذي ل شبهة فيه .
إن المشركين حين بادأهم القرآن بتقرير هذه القضية أبدوا دهشتهم
واستغرابهم ،وليس ضروريا ً أن أعيد الشوط الذي مشيناه في هذه القضية ،
وإنما الضروري أن تعلموا أنه بدءا ً من سورة المرسلت فإن المسألة لم تعد
مسألة إنسان يصدق أو يكذب باليوم الخر على الجملة ،إن كل موقف
تنشعب عنه مواقف ،وكل قضية ُتشتق منها قضايا ،كانت المسألة مسألة
استغراب أن يبعث الله الموتى من بعد البلى ،فلما واجههم القرآن بتشريح
الواقع البشري تشريحا ً ل رحمة فيه ،وأن المسألة ليست مسألة صواب
وخطأ ،وليست مسألة إمكان وعدم إمكان ،ولكن المشكلة هي مشكلة
النسان الذي يدفعه حرصه على البقاء وما يمليه له هذا البقاء من تمتع
بالشهوات الممنوعة وغير الممنوعة ،وما يجر ذلك إليه من رغبة النسان في
أن يتجاهل باستمرار لحظة الموت ولحظة المصير إلى الله ،إن هذا هو
الشيء الذي يدفع الناس إلى ارتكاب مواقف ل تتسق مع عقل ول دين ) بل
يريد النسان ليفجر أمامه ،يسأل أيان يوم القيامة ( .
إن المشكلة ليست هي أن يوم القيامة ممكن أو غير ممكن ولكن المشكلة
جه بما يعكر عليه استمتاعه بالطيبات هي أن النسان ل يريد أن يوا َ
والشهوات والملذات التي يمارسها في هذه الحياة ،ولهذا فهو يريد أن
يغمض عينيه عن هذا اليوم ،ويريد أن يسد أذنيه عن سماع نبأ هذا اليوم لكي
يزيد في أجل الستمتاع يوما ً آخر إن كان ذلك ممكنا ً .
وهذا موقف أولي وساذج ،لكن المور كما قلنا يسلم بعضها إلى بعض ،
ويؤدي بعضها إلى بعض ،وكل أمر حينما تضعه على بساط الواقع ليتعامل
الناس معه أو ضده فلست تملك من بعد من أمره قليل ً ول كثيرا ً ،إن
للحوادث منطقا ً ل بد أن يكتمل ،وهكذا رأينا في موضوع يوم القيامة
يتسلسل المر من دهشة واستغراب وسخرية واستهزاء تغلف رغبة كامنة
في نفوس الناس أن يطيلوا أجل الستمتاع فيما منعهم السلم منه من
الشهوات الضارة الممنوعة الخبيثة ،إلى موقف استبعاد أن يقدر الله تعالى
على أن يعيد إلى الحياة أجساما ً بليت وعظاما ً فنيت .
وهكذا واجهنا فيما مضى ليس موضوع اليوم الخر بذاته ،وإنما موضوعا ً
خطيرا ً أيضا ً سيأتي بتفاصيله العديدة فيما نستقبل في المرحلة المكية وهي
ما ينبغي أن تكون عليه صورة الله المعبود في ذهن النسان ،إننا إذا أقررنا
من حيث المبدأ أننا مخلوقات ولسنا خالقين ،أننا ولسنا أربابا ً ول آلهة ،فمن
البداهة أن الكلم يتضمن وجود قوة وقدرة هي التي انبثقت عنها هذا الكون
ومن ضمنه نحن .وإذا ً فبمجرد القرار يعني التسليم بوجود الذات اللهية ،
والذات اللهية تتقاضى أوصافا ً ،فما كل قوة تستحق أن ُتعبد ،إن بعض
المتزعمين من الفراعنة وأشباههم فرضوا عبادتهم على الناس ،وليس هذا
شريحة من التاريخ الماضي ،فإن هذه اللوثة العجيبة ما تزال تعيش بين
الناس إلى اليوم ،وما يزال كثيرون من ضعاف العقول يتصورن الزعماء
والقادة من طينة غير طينة البشر ،وأن الدم الذي يجري في عروقه تركيبه
تختلف عن تركيب دماء سائر الناس ،ل يزال هذا موجودا ً .
نقول مع ذلك فل أحد يستطيع أن يقول إن هذا المخلوق يستحق أن ُيعَبد ،
فالعبادة التي تتضمن إعطاء الوصاف التي هي أوصاف الكمال والجلل ل
تنبغي إل لله جل وعل ،ولكن المسألة يجب من بداية الطريق أن تكون
معروفة ،إن مسائل من هذا القبيل ليست شيئا ً يخضع لمقاييس المنطق ول
لقضايا العقل البشري ،إنها قضية الخبر لنها قضية الغيب .موضوع الوصاف
160
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
التي يجب أن تتصف بها الذات اللهية ليست شيئا ً يدرك بالعقل ول ببديهة
الحس ول بمعطيات الوجدان ،لنها قضية أعلى من ذلك ،لنها إخبار محض
من الله تعالى عما يتصف به من أوصاف الكمال والجلل .
)(1 /
لهذا فليس عجيبا ً أن نرى المجتمع الجاهلي حينما ُوجه بموضوع اليوم الخر
يقف طويل ً عند وصف نرى الن أنه ل ينبغي التنازع من حوله ،هو وصف
القدرة :هل يقدر الله على العادة بعد الفناء ؟ إن صفة القدرة شغلت
أذهان المكيين المخاطبين بالقرآن آنذاك حيزا ً وسببت لهم مشاكل ل تكاد
تنتهي ،وقلت إنه ليس غريبا ً وليس من باب العتذار عن العرب المشركين
فمعاذ الله أن يكون المر على هذه الشاكلة ،لكن الجو النساني العام في
تلك الوقات كان يتصور الذات اللهية على نحو قريب مما يتصوره المكيون
المشركون ،حتى أهل الكتاب تصوروا الله تعالى خلق ثم أحال اختصاصاته
إلى المجامع الكنسية وإلى الحبار والرهبان لكي تتصرف نيابة عنه ،ولعل
من المظاهر التي تشعر بعدم فهم أهل الكتاب لموضوع الصفات اللهية ما
يأتيك في التوراة من أن الله تعالى خلق الخلق في ستة أيام ثم أدركه التعب
فاستراح في اليوم السابع ،والله الذي يتعب ل يستحق أن يسمى إلها ً ،
فالمسألة ل تحمل معنى العتذار عن ضللة العرب الجاهليين بقدر ما تحمل
إدانة الجو العام على وجه الكرة الرضية في ذلك الزمان .
وقف المشركون أمام القدرة واستبعدوا أن يقدر الله على الحياء بعد الماتة
،فجاءتنا سورة المرسلت برمتها لتثبت لنا أن قدرة الله ل تعجزها شيء ،
ومن خلل إثبات أن هذه القدرة ل يعجزها شيء كانت الدلئل أيضا ً تتساوق
لتتوارد على إثبات ليس فقط إمكانية اليوم الخر ،بل حتمية هذا اليوم .
وانتهينا من هناك لنقف اليوم أمام طور جديد .
ً
لنقف أمام سورة ) ق ( وهي من السور المتوسطة نوعا ما والتي نزلت بعد
سورة المرسلت والتي عالجت موضوع القدرة بصورة مباشرة وبلمسات
عابرة وبإيحاءات يدركها أولو اللباب ،كما لمست جوانب أخرى لها صلتها
بصفة أخرى من صفات الله تعالى هي الحكمة .
تذكرون أننا حين تحدثنا إليكم قبل عدد من السابيع عن سورة القيامة قلنا
إن من جملة الدلئل التي ساقها الله تعالى في السورة تدليل ً على إمكانية
يوم الخر دلئل أخلقية ،والدلئل الخلقية ل يمكن أن يستهان بها ،ومن
الدلئل الخلقية التي سيقت ضرورة إقامة العدالة فليس من العدل وليس
من الخلق أن ترتكب النسان جناية وجريمة ثم يفلت دون أن يناله عقاب .
إننا هنا ربما رأينا العدالة المباشرة تتخلف ،أي ربما رأينا نصوص القوانين ل
تطال جميع المجرمين ،ولكن لله عدالة أعلى من النص الجامد المكتوب
المتحيز ،يعني المحكوم بحيز معلوم .إن لله عدالة في الدنيا وعدالة في
الخرة ،وهذا من تتويج المبدأ الخلقي والدليل الخلقي .ففي الدنيا ما
يصيب المجرم من قلق أو من نقص في الجسم أو المال أو الولد أو الراحة
أو الطمأنينة جزء من العقاب الذي يفرضه عقاب الله تعالى .
وما من إنسان استطاع أن يخرج من الدنيا فارا ً بنتائج جرمه دون أن يتعرض
لشيء من المؤاخذة والمحاسبة والقتصاص .لكن إقامة العدل الكامل تكون
يوم القيامة يوم ينصب الله الموازين القسط ليوم القيامة فل تظلم نفس
شيئا ً ،هنالك يقام العدل .هذا وجه من وجوه الدلئل الخلقية التي سيقت
161
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
بضرورة أن يكون هناك يوم يقام العدل بين الناس جميعا ً ويقتص فيه للدجعاء
من القرناء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ،إن هذه الدلئل الخلقية
تتصل بمسألة ألمحت إليها سورة ) ق (وسوف تأتي بعد ذلك مفصلة في ما
سوف نستقبل من السور .
إلى جانب القدرة التي ل تتناهى ..إلى جانب السلطان الذي ل يحد ..الذي
ينبغي أن يتصف به الله فثمة وصف آخر ل بد أن يتحقق في الذات اللهية
هو وصف الحكمة ،نحن نعجب بالرجل الحكيم ،ونسمع بالحكمة حين تتلى
علينا بإعجاب وشوق ،وهذا من الناس ،ونحن نكبر الحكماء إكبارا ً للحكمة .
فإذا اتصل المر بالذات اللهية فقد وجب أن يكون الله تعالى على درجة من
الحكمة ل تنالها العقول ول تطالها الوصاف ،ل بد أن يكون الله جل وعل
حكيما ً .
)(2 /
مما أثاره الجاهليون كما سوف ترون أشارت سورة ) ق ( إشارة موجزة إليه
موضوع الرسالة ،ليس في الصميم وليس في المبدأ ،لكن في الشكل
والمظهر ،حين قال محمد صلى الله عليه وسلم :يا أيها الناس أرأيتم لو
أخبرتكم أن جيشا ً وراء هذا الوادي يريد أن يصبحكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا :
ما جربنا عليك كذبا ً .قال :فإني نذير لكم بين عذاب شديد .أخبرهم أنه
رسول من عند الله تعالى ،هذه مشكلة بالفعل ،وخاصة على أمة لم تشم
روائح اليمان من قبل ،ولم يأتها نبي من قبل .هنا أخذ العجب منهم كل
مأخذ ،ليس بالنسبة إلى مبدأ الرسالة وجوهرها ولكن إلى شكل عارض ،
هل يمكن أن يكون الرسول بشرا ً من جملة الناس ؟ ولماذا ل يكون الرسول
ملكا ً من ملئكة الله تعالى ؟ هنا يأتي ميدان الحكمة التي يجب أن يتصف بها
الخالق جل وعل .إن سورا ً أخرى عرضت لهذا المشكلة وحكت وقصت
تساؤل المشركين ،لماذا لم يبعث الله ملكا ً رسول ً إلى الناس ؟ فقال الله
تعالى ) :ولو جعلناه ملكا ً لجعلناه رجل ً وللبثنا عليهم ما يلبثون ( لو أننا أوجبنا
أن يكون الرسول منا إلى الناس ملكا ً لكان ضروريا ً أن يكون هذا الملك بشرا ً
من البشر كي يمكن التفاهم ويمكن التخاطب ،مع عدم اتحاد الجنس ،مع
اختلف الجوهر ،ل يمكن التفاهم .والرسالة أسلوب من أساليب الفهام
بالنسبة إلى الناس يؤديه الله جل وعل فيضا ً من رحمته تبارك وتعالى ،فإذا
اختلف الجنس بين المرسل والمرسل إليه استحال التفاهم وألغيت الرسالة
وسقطت كل مبررات النبوة .
إن الحكمة التي يتصف بها الخالق جل وعل تتجلى في أنه اصطفى من
الملئكة رسل ً ومن الناس ) والله أعلم حيث يجعل رسالته ( وبهذا ُرد ّ على
المشركين هذا التساؤل الشكلي المظهري الذي ل يقدم ول يؤخر إل زيادة
الشبه والشكوك .
ً ً
ُتفتتح السورة هكذا بلمحة سريعة جدا ولكنها تحتمل وقوفا طويل ً وطويل ً
للغاية ) ق والقرآن المجيد ،بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون
هذا شيء عجيب ،أإذا متنا وكنا ترابا ً ذلك رجع بعيد ،قد علمنا ما تنقص
الرض منهم وعندنا كتاب حفيظ ( انتبهوا إلى اليحاءات والشارات التي
حملتها فاتحة السورة ) ق والقرآن المجيد ،بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم
فقال الكافرون هذا شيء عجيب ( خذ إليك الحرف الول ،والذي سميت
السورة باسمه ،فهي سميت سورة ) ق ( ليس لها اسم آخر ،اسأل
162
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
نفسك :ما معنى قاف ؟ ولماذا سميت السورة بهذا السم الغريب العجيب ؟
ارجع ودقق وتأمل ،ما هذا الحرف ؟ واحد من حروف الهجاء التي يتألف منها
الكلم العربي ،لكنه حرف مفرد ،له صورته في الرسم وليس له معناه في
الذهن ،لن الحروف جميعا ً ل يمكن أن تؤدي معنى إل إذا تضام بعضها إلى
بعض فشكلت صورة تؤدي وتترجم عن معنى مستقر في الذهن ،وبغير هذا
فالحروف المنثورة بل نظام ل تؤدي أي معنى .
) ق والقرآن المجيد ( قسم ومقسم عليه ،والقرآن المجيد ،فهل تثير في
ذهنك شيئا ً هذه المقارنة أو هذا التجاوب أو هذه الصيغة من صيغ القسم ؟
اعمل فكرك واجهد نفسك يا قارئ القرآن أن تجيب نفسك عن هذا الشيء ،
إن القرآن المجيد بحرف الهجاء ) ق ( يحمل معنى في غاية الخطورة ،
ويحمل معنى واسعا ً له صلته المباشرة بهذا السياق الذي نواجهه ابتداًء من
سورة القارعة وإلى الن ،ولكن كيف ؟ إن القسم جاء على هذا الشكل ) ق
والقرآن المجيد ( فالمقسم به هو القرآن ،والقرآن معلوم أنه كلم الله
المعجز المتحدى به الذي حكم الله جل وعل ) أن لو اجتمعت الجن والنس
على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ل يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ً (
إن هذا القرآن منذ نزل ،نزل آية خارقة دالة على عظمة المرسل الذي هو
الله جل وعل ،وقد تنتهي المعجزات ،ولكن معجزة القرآن ستبقى إلى أبد
الدهر شاهدة صدق على هذه الرسالة ،ودليل ً ل ينفذ على وجود الله تعالى ،
وحجة كاملة على صحة كل ما أخبر الله به في هذا الكتاب وعلى لسان نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم .إن الله لم يجامل العرب وهم فرسان البلغة
والفصاحة والبيان ،وإنما قال بداهة وبصريح العبارة :إنكم عاجزون عن أن
تأتوا ليس فقط بمثل هذا القرآن ولكن بعشر سور من هذا القرآن ،أنتم
عاجزون عن التيان بمثلها ،بل عاجزون عن التيان بسورة ،بل أنتم
عاجزون عن التيان بآية .وكانت صفعة ُوجهت إلى العرب وإلى البشرية منذ
بداية الدعوة ومازالت تتساقط على رؤوس المنكرين إلى اليوم ،ولم
يستطع أحد ،ل من العرب ول من غير العرب ،أن يصوغ كلما ً له حيوية هذا
القرآن وأن يصوغ كلما ً له قوة وأسر هذا القرآن ،وأن يصوغ كلما ً له دقة
وإحكام هذا القرآن .
)(3 /
التحدي قائم ،والعجز البشري قائم ،ولكن لماذا ؟ مما صيغ هذا القرآن ؟
ألسنا نقرأه كلما ً عربيا ً مبينا ً ؟ لماذا يأتي سر وضع الحرف الهجائي ) ق (
في أول السورة وقرنها بالقسم على القرآن ؟ إن هذا القرآن الذي تحديتم
به فعجزتم عن التيان بسورة تقارب أصغر سورة من سوره ل يتألف من
شيء غريب عليكم ،إنه يتألف من ذات الحروف الهجائية التي تستعملونها
في كلمكم وفي مخاطباتكم ،ولو كان الشأن شأن الحروف والتئامها لكان
أي إنسان قادرا ً على أن يلم شتات الكلم ويؤلف منه كتابا ً كمثل هذا
القرآن ،ولكن نرى ل مقارنة مع كلم سائر البشر بل مقارنة مع كلم أبلغ
البلغاء وأفصح الفصحاء وهو محمد صلى الله عليه وسلم حينما نقارن
الحديث النبوي بالقرآن الكريم نجد الفرق واسعا ً شاسعا ً كالفرق بين الرب
والعبد سواء بسواء ،فأين يكمن العجاز إذا ً أين ؟ في الحرف ؟ هذا الحرف
هو من جنس الحروف التي تستعملونها في الكلم ،في الترتيب ؟ إنك تقول
) قال ( كلمة تدل على القول ،وتتسرب باشتقاقاتها وأبنيتها أنت تعرف ما
163
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
تفعل ،ولكن ل تجد عليها طلوة القرآن ول رونق القرآن .في تركيب الجمل
في الخيلة في الصور أنت تستعمل هذه الشياء في كلمك وفي كتابتك وفي
منطقك كله ،ولكن ل تصل إلى مستوى القرآن ،أين إذا ً ؟ ل مجال لك ،إنه
العجاز الذي ل يمكن أن نوقف على حقيقته برغم ما بذل العلماء قديما ً
وحديثا ً من البحث في أسراره وقواعده ،ل يمكن .
أرأيت هذا الجسم البشري وهنا الصلة التي قلت لكم إنها سارية في
الموضوع ابتداء من سورة القارعة إلى الن ،أرأيت هذا الجسم البشري إن
العلم استطاع أن يدخل الجسم البشري إلى معالم التشريح ،وأحصى بدقة
متناهية العناصر التي يتألف منها الجسم البشري وقدر بدقة متناهية المقادير
والتقنيات المتوافرة في الجسم البشري من كل عنصر من هذه العناصر ،
ومن الممكن أن يقدم العلم هذه العناصر مأخوذة من الطبيعة نفس العناصر
التي يتركب منها الجسم البشري نفس المقادير التي يتركب منها الجسم
البشري نفس المثل نفس المواصفات ولكن العلم يقف عاجزا ً ل يستطيع أن
يبعث الروح في الخلية التي حاول أن يصنعها ول في هذا الجسم الذي حاول
ت إلى مسألة حل ً فانظر في أن يسويه ،إن السر هنا كالسر هناك وإذا أرد َ
القرآن الكريم ،إن الله تعلى حين بدأ خلق آدم عليه السلم قال مخاطبا ً
الملئكة ) وإذ قال ربك إني خالق بشرا ً من طين ( والشيء الذي أريد أن
ألفت نظركم إليه هو قول الله ) :فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ( ..إن
الله يقسم عملية الخلق إلى مرحلتين :عملية الخلق والتكوين ،التسوية
والنفخ ،فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ،إما التسوية
فشيء معروف ،أقول :سويت العصا ،إذا أزلت ما فيها من عقد وشذبتها ،
وسويت التمثال والصورة ،أي إذا أوجدت نسبا ً ومقاييس بينهما ،فالتسوية
ضد التشويه ،والتسوية عمل مقصود نخرج هذا العمل إلى حيز يكون معه
واضح الملمح .
لكن التسوية لن تستلزم أن يقع الملئكة ساجدين لهذا المخلوق ،سوي هذا
التمثال من الطين ،أصبح له يدان ورجلن وبقية جسمه ،ومع ذلك لم يبلغ
المرتبة التي يمكن أن يقال للملئكة :اسجدوا لهذا المخلوق .متى تأتي هذه
المرحلة ؟ بعد النفخ ) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ( هنا يتم البداع
والعجاز ويستحق النسان بنفخة الروح هذه الكرامة على الله تعلى ،وقبل
هذه النفخة فهو شيء من الشياء ،عنصر من العناصر ،كأي شيء مبثوث
على هذه الرض .إن الحياة النسانية معجزة الله ،وإعجازها في هذا السر
الذي تمّثل في النفخ ،أي نفخ الروح .
وكذلك هذا القرآن ) ق والقرآن المجيد ( صحيح أن هذا الكتاب مؤلف من
ذات الحرف التي تؤلف منها الكلمات ولكن ليس المر أن نسوي كلمات
وأن نرصف جمل ً ولكن الشأن في الروح السارية من وراء ذلك ،والروح
السارية في القرآن هي الروح اللهية ،فكما أن الروح السارية في النسان
هي النفخة اللهية ،وكما يستحق الخلق بأن يوصفوا بأنهم معجزة الخالق
بالنفخة التي جعلت الروح تسري كذلك فإن معجزة القرآن بالتسوية اللهية
وبالروح المعجزة الخلقة المبدعة التي تسري خلل كلمات هذا القرآن .
)(4 /
رأيتم إذا ً كيف أن هذا الكلم الموجز جدا ً ) ق والقرآن المجيد ( تضمنت
إشارة إلى اليوم الخر ،كما تضمنت إشارة إلى القدرة غير المتناهية ،كما
164
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
تضمنت إشارة إلى حكمة الله البالغة التي تمثلت في إنزال هذا القرآن قال )
والقرآن المجيد ( قسم على كلم لم يتطاول الناس منذ أن ُووجهوا بالتحدي
إلى معارضته أو محاولة نقضه إلى الن ) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم (
أرأيتم تمام الحكمة في جعل هذا القرآن على هذا الشكل المساوق لعملية
الخلق والبداع وعملية النفخ في الروح ،إن حكمة الله تعالى في إرسال
الرسل تشبه هذا الشيء بالذات ،ولذلك فل معنى للتعجب ) بل عجبوا أن
جاءهم منذر منهم ( هم لم يعجبوا أن يأتي منذر من الجن أو من الملئكة ،
ولكن منهم فهذه مشكلة خطيرة عندهم ،إنها مشكلة ل تستبعدوها ،مشكلة
تعيش مع الناس ،إن النسان يستغرب أن يكون الرسول بشرا ً مثله ،وإذا
ت مثل ً له انظر لكي ترى على أية قاعدة يستند هذا التعجب :إلى أية أرد َ
مدينة أية بقعة يأتيها من الخارج عالم من العلماء فيقبل الناس إليه فتمتد
أعناقهم إليه ويتحدثون عن خلله ومناقبه هذا شيء واقعي ومشاهد ،لننا
جربناه آلف المرات ،ويكون عندهم في مدينتهم منهم من يكون من ذلك
العالم أفضل منه بمئات المرات ،ومع هذا يقبلون على الغريب الذي
يسمعون به أول مرة ،ويحول اللف بينهم وبين النتفاع بالقريب الذي هو
موجود عندهم في كل حين ،لو نظرت إلى القاعدة التي يستند إليها تصرف
ت أنه الحسد ،إلى الحسد ،أنا أحسدك ول أتمنى لك من هذا القبيل لعرف َ
الخير وأريد زوال النعمة عنك ،وحينما يأتي نظيرك في العلم أو في المهنة
أو الصنعة من خارج بلدي ومن غير قومي فأنا أنتقم لصغاري ولهواني من
علمك بتعظيم هذا الذي أنت خير منه ،فالمسألة تستند إلى التحاسد وإلى
ت المسألة على نطاق إنكار الفضائل التي توجد عند بعض الناس ،فإذا سحب َ
أوسع وأشمل هان عليك أن تفهم إلى أية قاعدة يستند قول المشركين ) بل
عجبوا أن جاءهم منذ منهم ( يقصدون محمدا ً صلى الله عليه وسلم ول
يريدون أن يقبلوا أن يكون هذا النسان خيرا ً منهم وأحظى عند الله ،والله
صل هذا المر تفصيل ً مترادفا ً ) أم يحسدون الناستعالى كما سيأتيكم قد ف ّ
على ما آتاهم من فضله ( فهذه هي القاعدة التي يستند إليها هذا النكار وهذا
التعجب .
ل ترجع إلى شيء من العقل ول إلى شيء من المنطق ،ولكنها تنبثق عن
غرائز خسيسة هابطة منحطة ل تسمح لنا أن نوليها أي عناية ول أي اهتمام .
) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ( إن
موضوع النبوة الذي سيأتينا بالتفصيل في المستقبل لم يثر في هذه السورة
إل في هذه الية فقط ،وفي غير هذه الية لم يتعّرض القرآن أبدا ً إلى إثارة
موضوع الرسالة .لكن لنا أن نسأل الن سؤال ً :ما العلقة بين اليوم الخر
الذي تهتم به اليات ابتداًء من سورة القارعة بصورة ذاتية ومباشرة وبين
موضوع الرسول البشر ؟ إن العلقة واضحة وبسيطة ،إن المشركين أنكروا
على الله القدرة على الحياء بعد الماتة ،فمن باب أولى أن ينكروا عليه
القدرة على أن يختص بشرا ً من البشر برسالة يؤديها إلى البشر ،فالموضوع
من هذه الزاوية يتصل بوصف القدرة الذي أشارت إليها اليات في سورة
المرسلت وتشير إليه اليات هنا ،وإن هذه المسألة التي تتصل أيضا ً بسر
التصرف اللهي ،إن للتصرف اللهي لما يجري في الكون حكم وأعاجيب ل
يدركها أكثر الناس ،بل ل يدرك منها الناس إل القل القليل ،أرأيت كيف
ضربنا لك المثل ؟ إن القرآن مؤلف من الحروف التي نتحدث فيها ومع ذلك
ففرق عظيم بين كلمنا وكلم الله في القرآن ،وإن النسان مؤلف من
العناصر المادية الموجودة على ظهر الرض والتي أحصيناها إحصاًء ،ومع
165
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(5 /
وبعد ذلك فأنت تجد هذه الحكمة حينما تكتشف أن هذا التساؤل ل معنى له ،
لننا حينما نتعجب من إرسال رسول إلينا من أنفسنا فما الذي سيكون ؟
أمران :إما أن ينزل الله من سمائه لعيش بين الناس كما تصورت اليهود
والنصارى فقالوا إن الله فدى خطايا البشر بان نزل في بطن مريم فكان
جنينا ً ثم ولد ثم مات على الصليب ليتحمل خطايا البشرية كلها .إما أن يكون
المر بهذه الصورة وهو كما ترون ضلل مبين وفساد في العقل ل تدرك له
غاية ،وإما أن يكون الرسول من الملئكة .أما أن ينزل الله من علياء سمائه
ليخاطب كل مخلوق بحقائق الرسالة فهذا مستحيل ،إن الله تعالى حجب
ذاته بحجاب العظمة والكبرياء ،ولو سفر عن ذاته لحرقت سبحات وجهه كل
شيء ،إن موسى عليه السلم أثناء المناجاة ) قال ربي أرني أنظر إليك قال
لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ( أيوجد
شيء أقوى من الجبال ؟ ) فلما تجلى ربه للجيل جعله دكا ً وخّر موسى صعقا ً
فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المسلمين ( إن تواجد الله بين
العباد أمر غير متصور .يبقى الحتمال الخر أن يكون الرسول من غير
الجنس البشري أي من الملئكة ،وقلنا من قبل إن القرآن تولى الرد بصورة
مفحمة على هذا الحتمال قال ) ولو جعلناه ملكا ً لجعلناه رجل ً وللبثنا عليهم
ما يلبثون ( لو أننا فعل ً اصطفيناه من الملئكة وقلنا له احمل الرسالة إلى
الناس لكان من ضرورة تفاهمه مع الناس أن يسبغ عليه جسم البشر ،
وعادت المسألة كما كانت في الول ،عادت لبثا ً جديدا ً لننا ننظر أمامنا فنرى
صورة بشرية ،ما يدرينا أنها من الملئكة ؟ ل ندري ،فرجعنا إلى التشكيك .
إذا كان هذان الحتمالن غير واردين انهما غير ممكنين فماذا يبقى ؟ يبقى
الحتمال الثالث والخير والوحيد والممكن أن يكون رسول كل قوم منهم ول
يمكن أن يكون رسول القوم من غيرهم .أرأيتم البشر ؟ أرسل إليهم رسول ً
من البشر من نفس قومه يتكلم معهم بلسانهم قال تعالى ) وما أرسلنا من
رسول إل بلسان قومه ليبّين لهم ويضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ( أن
هذا بيان وبلغ تترتب عليها نتائج ويترتب عليها هدى وضلل ،وما لم يكن ثمة
ضمانات واحتياطات تضمن سلمة هذا البلغ فنحن ننتقص من قيمة البلغ
وننتقص من قدره ،ل بد إذا ً أن يكون الرسول منا ،فحين يقال ) بل عجبوا
أن جاءهم منذر منهم ( نضحك ونسخر لهذه العقول التي تتصور أنها تصنع
شيئا ً وهي ل تصنع أي شيء ،ولو أنها أنصفت لوجدت الحق والحقيقة .
وفي الجمعة القادمة نتابع السورة ..وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم ،والحمد لله رب العالمين .
)(6 /
تفسير سورة ) ق (
الجمعة 12رمضان 26 / 1397آب 1977
166
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
) 2من ( 4
شوحالعلمة محمود م ّ
)أبو طريف(
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ..أما بعد فيا أيها الخوة
المؤمنون :
فبعد الوقفة المتأنية التي وقفناها في الجمعة الماضية مع مطالع سورة
) ق ( ل أجد ضرورة تمس إلى إطالة الوقوف عند بقية أجزاء السورة ،
وبحسبنا أن نلمس فيها رؤوس المسائل وأن ننظر إلى المهم منها ،فقد رأينا
أن الحجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين أخذ يتشعب
ويأخذ مناحي متعددة بعد أن بلغ هذا الحجاج أطواره الجادة .
رأينا أن القضية الواحدة تسلم إلى عدد من القضايا إسلم السبب إلى
النتيجة ،فقضية اليوم الخر التي أثيرت من زمن وشغلت من اهتمام
المشركين حيزا ً واسعا ً فأّرقتهم وأفسدت عليهم لذائذهم واستمتاعهم بهذه
اللذائذ ،تتشعب هذه القضية حتى تجر إلى عدد من المور ،من أهمها
إمكانية أن يكون الرسول المرسل إلى الناس بشرا ً منهم ،ومنها وهو شيء
مهم أن سياق الحجاج مع المشركين أدى إلى أبحاثا ً تهدف إلى تصحيح
التصورات اللهية ،وقلت إن هذا شيء مهم فالواقع أن العبد الذي ل يعرف
موله على الوصف الحق ل يدرك عظمة هذا الله ،وبالتالي فإن طاعته له
وولءه له لن تكون إل ناقصة .
إن تحرير صفة القدرة التي ل يعجزها شيء أمر ل غنى عنه يتصل بالغيب
وقضايا الغيب ،إن بحث القدرة وتقريرها بشمولها الذي ل يتناهى بعدم
عجزها عن أي شيء ركيزة ل ُيستغنى عنها من البحث في قضايا القيامة
واليوم الخر ،إن تقرير القدرة التي ل يعجزها شيء أمر ل محيص عنه إنما
تثار أمام المؤمنين مشكلة شائكة كتلك المشكلة التي جّر إليها الحديث عن
يوم القيامة وهي مشكلة بعث الجساد بعد الموت .
إنك حينما تتأكد وتقتنع بقدرة الله التي ل تتناهى ول يعجزها شيء فلن يقودك
أبدا ً أن تسلم بهذه المكانات التي بدت للمشركين مستحيلة ،ونحن نرى من
أوائل سورة ) ق ( أن المشركين قالوا ) أإذا متنا وكنا ترابا ً ذلك رجع بعيد (
أي أتقوم القيامة وتعود الجساد إلى ما كانت عليه بعد الموت وبعد أن
تستحيل هذه الجساد إلى تراب ؟ يردون عليه ) ذلك رجع بعيد ( والرجع هو
الرجوع والبعث وقيامة يوم الخر ،وفي قولهم ) ذلك رجع بعيد ( إشارة
واضحة إلى أنهم يكذبون بإمكانية هذا اليوم ،فليسوا يريدون ـ والله أعلم ـ
عودة إلى الحياة ثانية كهذه التي يتحدث عنها القرآن أمر بعيد أي أنه لن
يكون إل بعد سنين يخطئها العد ّ والحصاء ،ل ،وإنما يريدون أن ذلك
مستحيل على حد ما يقول القائل هذا أمر بعيد عن التصور وعن التصديق ،
وقولهم ) ذلك رجع بعيد ( معناه ذلك أمر مستحيل ،وهنا تثار المشكلة
عرضت مشكلة العلم المحيط بكل شيء ،العلم الرباني ،إن القضية حين ُ
ً
عرضت وهي تتضمن استحالة المرجع مرة أخرى استنادا إلى بهذا الشكل ُ ،
ماذا ؟ ولماذا يستحيل المرجع ؟ إن القضية التي استند إليها المشركون
قضية ظاهرة ) أإذا متنا وكنا ترابا ً ( فهم يستندون في نفيهم هذا إلى حقيقة
معروفة مشهودة ماثلة هي أن النسان حينما يأتي أجله فيموت يوضع في
باطن الرض ،فإذا أودع في باطن الرض ،بدأت تعمل فيه عوامل التحلل
والبلى فتتفرق أجزاء الجسم ،تختلط بالتراب وقد ينكشف القبر فتتفرق من
الجسم أشلء وأجزاء ،وقد تعبث الريح بهذا التراب الذي تحللت إليه خليا
167
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الجسم فيتطاير في كل مكان ،وقد يتمزق فيكون قسم في البر وقسم في
البحر وقسم تحت الثرى وشيء منه طائر في الهواء ،إن هذه الحقيقة
الماثلة المشهودة أثارت في أذهان المشركين قضية صبيانية ،ونقول إنها
صبيانية لن هؤلء ما زالوا يقيسون الرب تعالى بالعبيد ،ينسبون قوى الله
إلى قوى العبيد ،وقدرة الله إلى قدرة العبيد ،وعلم الله إلى علم العبيد ،
وحين يكون المر أمر مقارنة ومقايسة على هذا المستوى ومن هذا القبيل
فالمر أضحوكة صبيان ،لن الله إذ يدخل ميدان المقارنات والمقايسات مع
عباده فما هو بإله وليس ربا ً ،وبالتالي فلن تكون له الوصاف العليا
والسمات المثلى .
إنهم حين رأوا أن النسان إذا غاب الشيء عن حسه غاب عن علمه ،قالوا
استنادا ً إلى هذا :إن الجسد النساني إذا تحلل وتفرق أجزاءه وإذا أضفت
إلى هذه الواقعة المعروفة واقعة أخرى ل تقل عنها ظهورا ً وبروزا ً وهو أن
المر ليس أمر جسد واحد ،وإنما هو أمر المليين من الجساد التي تختلط
جميعا ً ل تفترق منها ذرة عن ذرة في التركيب وفي الوصف والتي تذهب في
أجواء السماء وعلى أديم الرض مختلطة متناثرة ل تستطيع أن تميز منها
شيء ،ول تستطيع أن تميز منها عضوا ً عن عضو ،إنك حينما ترى المر بهذا
الشكل فستكون القضية مشكلة بحق كما يزعمون .
)(1 /
فنعود ونؤكد إن القضية صبيانية لنها نتيجة قياس كاذب ،قياس القدرة
اللهية الخارقة على القدرة البشرية العاجزة ،وقياس العلم اللهي الشامل
المحيط بالعلم البشري الناقص المتهافت ،ولهذا يرد الله عليهم في هذا
الموطن ردا ً يشعرهم بتفاهة هذا التطور ،أنتم تستغربون وتستكثرون على
الله أن يجمع أجزاء الجسم بعد التفرق والبلى ؟ ذلك كل ما يعجبكم من
هذا ؟ ل بأس ،إذا ً فاعلموا أن مشكلتكم ليست مع الله وليست مع مبدأ
القرار بيوم القيامة ،إنما مشكلتكم في عجزكم عن إعطاء الله الوصاف
المناسبة له ،إن مشكلتكم أنكم ل تدركون إحاطة علم الله تعالى فيما
تشهدون وفيما ل تشهدون ،فيما تبصرون وفيما ل تبصرون ،فيما يقع تحت
تطوركم وما يعلو ويكبر عن تصوركم ،إن الله أعلم مما تتصورون ،وصدق
الله العظيم ) وما قدروا الله حق قدره ( فمشكلة النسانية عموما ً أنها لن
تستطيع أن تمنح الذات اللهية الصفات اللئقة بها ،ولهذا قلنا في أوائل هذا
الحديث إن هذه السورة وما سيتبعها من سور سوف تتناول تصحيح كثير من
المفاهيم والتطورات المتعلقة بذات الله تبارك وتعالى .
وإذا ً فمشكلة هؤلء المشركين مع صفة العلم التي يتصف بها الرب جل
وعل ،أأنتم تستكثرون أن يجمع الله الجزاء المتفرقة بعد أن ذهبت في كل
مكان ؟ أأنتم تستكثرون أن يعلم الله أين ذهبت هذه الذرة من الجسم وأين
أصبحت هذه الخلية وأين راح هذا العظم ؟ فإذا ً اعلموا أن علم الله على غير
ما تتصورون ) قد علمنا ما تنقص الرض مهم وعندنا كتاب حفيظ ( وإنها
لصور ل شك أن البيان النساني يقف عاجزا ً حتى عن تقريبها ،إن لك أن
تتصور جهازا ً يشبه أن يكون تلفزيونيا ً يسجل هذه المراحل المتعاقبة ولكن
ببطء شديد ،هذه المراحل التي تمر على الجسم بعد أن يودع في التراب ،
وبعد أن تبرد فيه حرارة الحياة ليسلم إلى برودة الموت ،وبعد أن يؤذن
بالتفاعل بين هذا الجسد الذي فارقته الروح وبين عوامل التحلل الكامنة فيه
168
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(2 /
169
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
كل هذا الذي مر إنه ل يستحق اللتفاف ،فالذي مر ل قيمة له لنه ليس مبنيا ً
على أساس صحيح ،وتعال نقول لك ما هؤلء الناس ؟ فهؤلء مكذبون ) بل
كذبوا بالحق لما جاءهم ( ويقينا ً إن القرآن معجز في كل شيء كما هو معجز
في قضاياه ،معجز في أساليب عرضه لهذه القضايا ،وكما هو معجز في
أساليب عرضه فهو معجز في دقائق وتفصيلت هذه الساليب ..انظر إلى
قوله تعالى ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ( والمر المريج
هو المر المختلط الذي ل يستطيع النسان أن يستقر معه على شاكلة واحدة
.
إن كلمة ) الحق ( هنا يمكن أن تحمل على القرآن وأن يكون المعنى بل
كذبوا بهذا القرآن لما أبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم ،والقرآن حق
بدون أدنى ريب ،وإن كلمة الحق هنا يمكن أن ُتحمل على الرسول صلى
الله عليه وسلم ،لن الله أرسل رسوله بالحق وهو حق كذلك ،وإن كلمة
الحق هنا يمكن أن تحمل على الدين عامة على هذا السلم الذي تضمنه
القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ،وإن كلمة الحق هنا يمكن أن تتضمن
هنا يوم القيامة ،لن يوم القيامة نتيجة للموت الذي يحل بكل مخلوق ،ويوم
القيامة هو يوم الحق ،والموت هو الحق ،قلت لكم القرآن معجز في كل
شيء ،والقرآن يأتي فيقول لك ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم ( ويترك لك
المجال لكي تسرح بفكرك مع السلم ونبي السلم ومع القرآن المتضمن
لشريعة السلم ومع يوم القيامة هذا الذي يجري الحديث من حوله ،ومع
الموت هذا الذي يواجهه النسان ،إن كل هذه المور موضع تكذيب من هؤلء
) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ( ومن هنا أن يتأمل النسان
هذا المقطع الخير وأن يطيل فيه التأمل ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم
في أمر مريج ( أرأيت كيف يخّيم الظلم فجأة عليك وأنت تسير في الرض ل
علمات فيها ول دلئل ول صوت ؟ أرأيت الحيرة التي تحسها أين تذهب ؟ إلى
اليمين أم إلى الشمال أم إلى المام أم إلى الوراء ؟ أرأيت لو كنت في
م عليك المسالك والسبل أية حيرة تحسها ؟ إن هذا طريقك فح ّ
ل الضباب فع ّ
ً ً
تقريب وليس تشبيها ول تمثيل للحالة النفسية والعصبية والعقلية التي تنتج
عند النسان حينما يفقد القدرة على ضبط اتجاهه في مسلك واحد ،إن
النسان بالحق وليس كل مكذب مكذبا ً ،إن حينما تتورط في دفع الحق
ورفض الحق والتكذيب بالحق فجدير بك أن تفكر وأن تطيل التفكير ..ماذا
بعد الحق إل الضلل ،وهل في الدنيا إل هذان الشيئان ،حق يقابله باطل ،
وهدى يقابله ضلل ،وعدل يقابله جور ،ونور تقابله ظلمة ،وإلى آخر ما
هنالك من المتقابلت .
إن الدنيا ليس فيها إل هذا ،فحين ترفض الحق وتدفعه وتأنف أن تقف معه
وتقّر به ،هل فكرت في المآل الذي ستنتهي إليه نفسيا ً وعصبيا ً وعقليا ً
وأخلقيا ً ؟ ما أظن ،إن موقف التكذيب في الصل موقف انفعالي أي أنه
وليد الساعة عاطفي ،ولذلك فهو ل يسمح بطبيعته بأن يفكر النسان وأن
يطيل التفكير .قلت إن أظهر وصف للمكذب هو مسارعته إلى التكذيب ،إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف في الناس ومن ورائه سفهاء
المكيين يقولون للناس ل تصدقوه فإنه كذاب ،قبل أن يتحدث إلى الناس ،
إنه يأتي إلى نادي القوم فيجلس إليهم فإذا فتح فمه ليتكلم قالوا له :تكلم أو
اسكت فإنا لن نصدق بهذا الذي تقول .
)(3 /
170
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إن موقف التكذيب موقف عجيب سخيف ولكن سفيه غاية السفاهة لنه
موقف يهين النسان ويرفض العتراف على ذاتية النسان ،ولهذا قلت لكم
هذا الموقف ل يسمح بالتفكير ،ولو أن النسان ملك القدرة على أن يفكر
بالضبط وبأناة وروية لوجد أمرا ً مهول ً ،إن الحق أبلج أي أنه واضح ،والباطل
لجلج أي أنه شك وريب ،إن النسان لو فكر أنه حينما يزحزح قدميه عن
قاعدة الحق فسوف تقعان ل ريب في بؤرة الباطل لدرك أية حالة يضع
ي من الشبه والرّيب ، نفسه فيها ،إن الوقوف مع الباطل وقوف مع بحر لج ّ
ويا لبؤس هذا النسان الذي يسمح لنفسه أن يكون أسير الريب والشكوك ،
إن الله يقول ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ( أي أن أمرهم
كله مختلط ومضطرب ،ولكي تحاول أن تعرف بعضا ً مما مردود هذه الكلمة
ارجع إلى مواقف الناس في الدنيا ،إن أرباب الحق وأتباع الحق يملكون
سكينة النفس وطمأنينة القلب وسلمة التفكير حتى في أدق الظروف وأحلك
الوقات ،كما يملكون هدوء العصاب ويملكون القدرة على التحكم والضبط
في مسالكهم وأقوالهم ،يملكون القدرة على أن يكونوا أولئك الناس
المتوازنين عقليا ً ونفسيا ً وعصبيا ً وأخلقيا ً ،وليس مهما ً بعد أن يكون هؤلء
قلة كالشعرة البيضاء في جسم الثور السود هذا غير مهم ،المهم أن حجة
صلوا من الكمال الله على العالمين ناهضة وقائمة بهؤلء الناس الذين ح ّ
النساني وأماراته تتقاصر عنها همم القاصرين والقاعدين والمتكاسلين .
فإذا جئت الطرف الخر ،جئت إلى الذين رضوا أن يكونوا مع أرباب الباطل
جنودا ً عونا ً للفساد والخراب ،فما الذي أنت واجد ؟ إن قدرتهم على التحكم
في أعصابهم معلومة ،ولذلك هم دائما ً متوترو العصاب قابلون للثورة
والفوران والندفاع العمى غير المصلح ،إنهم كذلك ل يملكون تلك النفوس
البريئة السليمة المعتدلة ،إنهم يرزحون تحت مجموعات بل حق من العقد
النفسية ومن المراض النفسية ،فهم أناس تتلون الدنيا بما فيها في أعينهم
تبعا ً لهذه المراض والعقد التي تعمل داخل نفوسهم .إنهم من جهة أخرى ل
يملكون المنهج الخلقي الذي تستطيع أن نطمئن إليه .إن المنهج الخلقي
المتوازن نتيجة طبيعية للخذ بأهداه الحق ،أما أرباب الباطل فل أخلق لهم ،
فأنتم بحاجة إلى أدلة وإلى براهين ما أظن أن كل أتباع الباطل بشتى صنوفه
وصوره وألوانه بل أخلق ،وانظر إلى أين شئت وعلى أي مستوى شئت
فستجد أن أرباب الباطل بل أخلق في كل زمان وفي كل مكان ،وسأضرب
لكم مثل ً ك في الستينات حينما امتحن الله المة بسفلة وأوباش يمكن أن
يكون مفهوما ً أن يزل عن الخلق إنسان عادي ،لكن غير المفهوم أن يزل
شكي إلى رئيس عن قانون الخلق رأس المة ،في 1964على ما أظن ُ
دون لمقارعة العدو ليست الدولة عندنا أن كثيرا ً من ضباط الجيش الذي ُيع ّ
لديهم أخلق ،زنا وخمور ونساء كل ذلك مما يؤدي إلى تحطيم الروح القتالية
عند الجندي ،فماذا كان جوابه ؟ قال :هذا أمر طبيعي ،إن هؤلء الضباط
من حقهم أن يعبثوا ،من حقهم أن يسكروا وأن يزنوا ،واستشهد بأبيات من
الشعر .كنت أسمع هذا في الواقع وأنا في دمشق وأخذني الذهول .أنا
أعرف مجتمعي وأعرف أمتي وأعرف الهوة العميقة الواسعة التي بينها وبين
الخلق المستقيم ،ولكن أن يكون حتى في الرأس ،فهذا عجيب .وانزل أنت
ور لنفسك ما شئت وضع يدك حيث شئت طالما أنت في محاور الباطل وص ّ
ً
فأنت مع فساد الخلق ،إذا فل استقامة للخلق ول سلمة للنفس ول هدوء
للعصاب ول قدرة على التفكير المستقيم .
إن المكذبين الذين يقفون مع الباطل وهذا شيء مشهود ول سيما في قطاع
171
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(4 /
إن تعبير القرآن هنا تعبير دقيق ومعجز ول يمكن أن يوّفى حقه من البيان
) بل كذبوا بالحق لما جاءهم ( فكانت بذلك نتيجة واحدة ) فهم في أمر مريج
ت من نتائج هذا الشيء المريج ،على كل مستوى ور لنفسك ما شئ َ (.ص ّ
وعلى كل اتجاه وفي أي قطاع ستجد آثار هذا المر المريج واضحة ،لو أنك
ت ظواهر ومظاهر هذا الوصف بارزة على ت في التاريخ القديم لوجد َ نظر َ
معسر المشركين الذي كانوا يناوئون رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
بارزة على شكل حيرة واضطراب وتخلخل وعدم قدرة على المجابة
ت سمات الموقف المحق في والنفلت لزمام المبادرة من أيديهم ،ولوجد َ
ً
موقف النبي عليه الصلة والسلم وأصحابه ثباتا على الحق ووفاًء للحقيقة
وصفاء للرؤية وقدرة على التفكير السليم وقدرة على أخذ النفس بأقصى ما
يمكن أن تؤخذ على الكمالت الخلقية .
ت قديما ً وحديثا ً فأنت واجد هذا الحرب المستمرة المستعرة بين ومهما نظر َ
الصنفين من الناس ،صنف يقف مع الحق فهو يمثل قوة الله التي ل تقاوم
وصبغة الله التي ل ُتغلب ول يمكن أن يمحوها شيء ،وقد يكون أرباب الحق
كالشامة في الجسد كالشعرة البيضاء في جسد الثور السود ،وهم حجة الله
على العالمين .أنت تجد النسان الواقف مع الحق الوفي معه فل تجد معه
مال ً وليس له نسبا ً ول أعوانا ً ول سلطانا ً وإنما هو مجرد إنسان ،ومع هذا فهو
مع تجرده وفرديته يفرض نفسه على الناس فرضا ً بما معه من الحق وبالحق
الذي يتمثل به .وتجد آخرين يتمتعون بالمال والجاه والسلطان ُيخافون
جون ليصال المنافع فُيتملقون ،ومع ذلك فبمجرد أن يدير فُيصانعون وُير َ
النسان منهم ظهره للناس يلعنونه ويطعنون به ،وهذا دليل عن ضعفه وعلى
هوانه عند الناس ،لنه يمثل الباطل الذي يعنون للهزيمة النسانية على
ساحة التاريخ كله ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم أمر مريج ( أفليس يسوغ
لنا بعد هذا البيان كله أن نوجه إلى الناس جميعا ً نداًء أن يعاودوا فحص
ذواتهم وقناعاتهم ومواقفهم ،وأن يعاودوا فحص ولءاتهم وأن تنظروا إلى أي
ن
معسكر من المعسكرين ينبغي وفاًء للمعنى النساني أن ينحازوا ،ألم يأ ِ
لخواننا ولبنائنا أن يقفوا وقفة صادقة مع الذات ل تتحيز ول تتردد .
أأمر السلم أيها الخوة أمر ملتبس ؟ هل هو أمر مريج ؟ هل هو أمر
مشكوك فيه ؟ ما أظن ،وهذا السلم يشهد له ألد أعداء قديما ً وحديثا بأنه
ً
172
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
الحق الذي ل تعلق فيه شائبة من باطل .فلماذا التردد ؟ إن السلم هو الذي
يمثل الحق ،وغيره على اختلف الصنوف يمثل الباطل ،وإنك من أجل
نفسك ل من أجل السلم ،فالسلم غني عنك ) وإن تتولوا يستبدل قوما ً
غيركم ( من أجل نفسك ل من أجل الله فالله غني عنك ) يا أيها الناس أنتم
الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ( من أجلك أنت أيها النسان يجب أن
تعيد حساباتك وأن تقف مع الحق فذلك هو الذي يزيد بالكرامة التي قررها
الله تعالى لك ) ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من
الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا ( فانظر عناية الله فيك ،أسجد لك
ملئكته المقربين وسخر لك كونه العظيم والعريض كله ،فانظر عناية الله
بك ،أفيليق بك أن تسفه نفسك بهذا الشكل ؟ أل ينبغي لك أن ُتعنى بنفسك
عني الله تعالى ،إن ذلك عليك حق وواجب ،وإن من جزءا ً من العناية التي ُ
مظاهر عنايتك بنفسك أن تأطرها على الحق أطرا ً ،وأن تقفها مع الحق دائما ً
لكي تحصل على هذه الطمأنينة التي حصل عليها المسلمون ،على برد
اليقين الذي يحسه المؤمنون ،على سلمة الصدر وبراءة النفس التي تسمح
للمؤمنين أن يناموا هادئين وادعين .
أسأل الله تعالى لنا ولكم جميعا ً أن يرزقنا القدرة على معرفة الحق واعتناق
الحق والوقوف مع الحق والدفاع عن الحق والموت في سبيل الحق ..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب
العالمين .
)(5 /
تفسير سورة ) ق (
الجمعة 26رمضان 9 / 1397أيلول 1977
) 4من ( 4
شوح العلمة محمود م ّ
)أبو طريف(
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ..أما بعد أيها الخوة المؤمنون :
كم أتشوق إلى الوقت الذي أجد نرجو اليوم أن نفرغ من سورة ) ق ( ،ول َ َ
نفسي قد انتهيت تماما ً من عرض هذه الشريحة من عمر الدعوة السلمية
في عهدها الباكر ،إن نفسي تنازعني منذ زمن إلى الخلص من هذه
الحاديث ،لنتفرغ لتحديد المعالم والسبل واستخلص القواعد والمناهج مما
للناس حاجة إليه اليوم ،وصحيح أن القرآن حوى هذا كله ،ولكن صحيح أيضا ً
أن القرآن كتاب ُأنزل لذوي اللباب الذين يملكون القدرة على التفكر والتذكر
،ويملكون القدرة على صبر النفس على أشياء لعل نفوس الكثيرين ل تصبر
عليها ،ولو كان الناس على سوية واحدة من التفكير ومن حيث التمثل
للستفادة من كتاب الله تعالى لكنا أغنياء عن هذا الكلم كله .ونزول ً عند
حكم الضرورة نحن نتحدث ونصبر على هذه الشهور بل وأكثر من الشهور
حتى تتبلور بين أيدينا قضية نعتقد أنها قضية قرآنية .
فيما يتصل بسورة ) ق ( عرفتم فيما أظن أن العمود الفقري لها هو الحديث
عن اليوم الخر وإجابة المشركين عن بعض الستفسارات التي تتركز أيضا ً
حول هذه إمكانية قيام اليوم الخر .وقد مّر منها جانب ،الجانب الذي عرض
الموضوع ،والقسم الذي أقام الدلئل مما هو في السماء ،ومما هو في
الرض ،ومما هو في جو السماء ،مما عّبر الله عنه بالماء الذي يسوقه
173
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
فيحيي الرض بعد موتها ليقول للناس ) كذلك الخروج ( أي كما يخرج النبات
الحي من الرض الهامدة كذلك ُيخرج الله الموتى من قبورهم ويبث فيهم
الحياة مرة أخرى لمصيرهم وليقفوا بين يدي الله تعالى موقف الحساب .
وبعد هذا كله فقد مّر معكم حتى الن من أساليب العرض القرآني أسلوب
واضح قلما تصدر منه صورة من صور هذا الكتاب وهو السلوب التاريخي ،
والسلوب التاريخي أسلوب بالغ الدللة على المقصود ،لنه يعتمد وحدة
النواميس الكونية ووحدة الجنس البشري ،فالله تعالى حينما يقص علينا أنباء
من قد سبقنا من المم فإنما يقصها علينا من حيث جزء من هذه المسيرة
النسانية الكبرى التي بدأت بأبي البشر آدم عليه السلم والتي نحن حلقتها
الخيرة حتى الن ،وستكون لهذه المسيرة حلقات وحلقات .
فوحدة النسانية ووحدة الجنس البشري شيء يعتمد عليه القرآن اعتمادا ً
كبيرا ً وكذلك رحمة للنواميس الكونية ،فالخالق العظيم جل وعل ل يحابى
جنسا ً على جنس ول يقّرب لونا ً ويبعد لونا ً ،وليست لديه تمايزات إل ضمن
القواعد التي أنزلها على رسله كافة ،وهي تمايز الناس بالتقوى والعافية ،
ل بالمم الماضية بسبب العتو والكفر والتمرد وعلى ذلك فما كان من بلء ح ّ
ل بكل من يعمل على شاكلة هذه القوام .إن والعصيان فمعقول جدا ً أن يح ّ
القوانين الكونية والنواميس الجتماعية سنن الله في الخلق واحدة ،فأية ملة
في الماضي قامت ووقفت في وجه المرسلين وكفرت بأنعم الله وصدت عن
سبيل الله فأصابها الله جل وعل بعذاب وببلء قذفا ً من السماء أو خسفا ً في
الرض أو مسخا ً في الصور والشكال أو إلى ذلك أخذا ً بالسنين والمجاعة .
وأية أمة من المم من غير هذه المة تسلك نفس الطريق وتقوم بنفس
أشكال العصيان فهي ل تملك أية حصانة أن يصيبها من البلء مثلما أصاب
المم الماضية ) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله
تبديل ً ( .
فهؤلء القرشيون الذين واجههم محمد عليه الصلة والسلم بالدعوة إلى الله
جل وعل وقرأ عليهم هذا القرآن بأمر ربه كذبوا وأعرضوا بل فعلوا أكثر من
ذلك فشردوا وعذبوا وقتلوا أيضا ً ،فهل تتصور قريش وغير قريش من المم
المخاطبة بهذا الكلم الرباني بهذا القرآن العظيم أنها فريدة في ذاتها وأنها
تحتل في ساحة قدر الله منزلة الصدارة والمحاباة والكرامة بغير استحقاق ،
أبدا ً ،إن قريشا ً ل تملك شيئا ً من هذا القبيل ولهذا فبعد أن عرض الله جل
وعل دلئل النشأة الخرى مما في السماوات من ترتيب ومحكم ودقيق و مما
في الرض من مظاهر العناية المتمثلة مما يشاهده النسان حسا ً ويشاهده
عيانا ً سوف ينزل المطر من السماء إلى الرض الجرز فتهتز هذه الرض
وتربت ،وتخرج نباتا ً يخرج منه حب متراكب يستعمله الناس طعاما ً لهم
ويستعملونه علفا ً لبهائمهم .كيف يخرج نفس الماء ونفس الرض بنفس
الشروط ؟ كيف تخرج بواسق النخيل التي تزيد في الحجم والمتانة والقوة
على الحشائش والنباتات التي تنبت الحب أضعافا ً كثيرة ؟ ثم كيف تكون هذه
الشجار البواسق ما هو عقيم ل يحمل وما يحمل الطلع المتراكب بعضه فوق
بعض وكل ذلك آية التقان والبداع ومظهر العناية بهذا النسان الجاحد
المكذب ؟ وكيف ينزل المطر من السماء فتكون ضمن هذه الحياة ؟ يسوق
الله ذلك كله في لوحة واحدة ليقول للناس بعد ) كذلك الخروج ( .
)(1 /
174
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
فما يحدث التغير في الجوانب التي تشهدونها في السماء وفي الرض وما
بين ذلك فيخرج الحي من الميت كذلك يكون خروج الناس يوم القيامة للقاء
ربهم جل وعل ،ومع هذا فقريش تكذب وتعاند وتصر على العناد ،ومحمد
صلى الله عليه وسلم يسمع ويرى ويتألم آلما ً شديدا ً ،والرسول الله صلى
ة باطلة أن يتولى الله عليه وسلم ناله من اليذاء ما حمله أن يتمنى ولو أمني ً
الله بنفسه تأديب هؤلء العصاة ،فالله جل وعل هنا يقول ) كذبت قبلهم قوم
س أرجح القاويل أنهم قوم شعيب س وثمود ( وأصحاب الر ّ نوح وأصحاب الر ّ
س فيالذين كانوا يسكنون المنطقة الشمالية من جزيرة العرب ،والر ّ
الصل هي البئر في لغة العرب ،وهؤلء يقال في الخبار أن الله جل وعل
أرسل إليهم رسول ً فرموه في البئر ،أي غرقوه في البئر .ول نعرف حتى
س فعل لدخال مخلوق في البئر .وكما س اسم للبئر أو أن الر ّ الن أن الر ّ
أن تعلمون أن لغة العرب لغة واسعة تحتاج إلى متابعة متواصلة حتى يدركها
الواحد منا .
س
س ( دللة بّينة على أن أصحاب الر ّ وفي قول الله تعالى ) وأصحاب الر ّ
قوم من الناس جاءهم من عند الله رسول ،فوقفوا منه موقف العناد
والتكذيب فأصابهم الله جل وعل ببلء وعذاب .ونحن ل نملك من أخبار
س إل ما جاء في هذه السورة وفي موطن آخر سيأتيكم بعد حين أصحاب الر ّ
.
المهم أن الغرض في السورة ليس تشريح قصة قوم مضوا ،ولكن الغرض
بيان موقف جملة من القوام مع عرض النتائج التي تعرضوا لها ) كذبت
س ،وثمود وهم قبائل قبلهم قوم نوح ( وقوم نوح معروفين ،وأصحاب الر ّ
من العرب التي بادت ،وعاد وفرعون وإخوان لوط ،أما عاد فهم الذين ذكر
الله من شأنهم قبل الن وهم أيضا ً من قبائل العرب البائدة التي ل ذكر لها
الن إل في بطون الكتب وعلى صفحات التاريخ ،وأما فرعون فهو في مصر
الذي طغى في البلد وأكثر فيها الفساد والذي جعله الله آية للمعتبرين إلى
آخر الزمان حين أغرقه في اليم بعدما تبع موسى عليه السلم ،ثم نجاه
ببدنه ليكون لمن خلفه آية ،وما زال جثمانه يحتل في المتاحف الثرية حتى
اليوم .
ً
) وعاد وفرعون وإخوان لوط ( ولوط أيضا نبي من النبياء الذين أرسلوا إلى
قبيلة عربية ،فأخذها الله بعذاب بحيث جعل عاليها سافلها لما كانوا يفعلونه
من الفواحش ما سبقهم أحد من العالمين .
وقال ) وأصحاب اليكة وقوم تبع ( وهؤلء أيضا ً من القبائل العربية .فهذه
الجملة عنت بإبراز أكبر عدد من القبائل العربية التي طغت وعتت عن أمر
ل بها البادة والدمار ،وقد كان العربربها ولم تصدق برسله ،فح ّ
المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم يتناقلون أخبارهم .
فكأن الله تعالى يقول لنبيه :إذا كان قومك كذبوك فقد كذبت المم السابقة
ذب الرسل( ولكن ماذا يترتب على ذلك ؟ يترتب على ذلك ما لك ّأنبياءها ) ك ٌ
ل بهم العقوبات التي توعدهم قاله فيهم ) فحق وعيد ( أي أن الله تعالى أح ّ
ً
بها ،فقريش هم من نسل هؤلء القوام ،وعموما فالعرب المعاصرين للنبي
صلى الله عليه وسلم يعرفون الشيء الكثير عن هؤلء القوام ،فهم منهم .
فلماذا ل يقع على قريش من العذاب مثلما وقع بهؤلء القوام السابقة التي
ذبت رسلها ؟ فهل لديهم صك من الله أن ل ينالهم شيء من العذاب ؟ إن ك ّ
فذ وعيده ،وحال قريش من حال هؤلء القوام ،فالله عد ن ّ
الله تعالى إذا تو ّ
يمسهم بالعذاب شيئا ً فشيئا ً فما استكانوا وما تضرعوا كشفنا عنهم العذاب .
175
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(2 /
لكنا كما نرى أن القرآن ل يقف طويل ً عند هذه النقطة ،ليرجع إلى الدرس
الساسي فيقول ) أفعيينا بالخلق الول بل هم في لبس من خلق جديد (
أفعيينا أي أعجزنا ،أتعبنا من الخلق الول ؟ أكبر علينا خلق النسان أول مرة
؟ كأن القصص الماضين بين معترضتين ،يأتي السياق بعدها مباشرة إلى
أساس المشكلة والقضية ،إن النسان المكذب ل يستوعب إمكانية الحياء
بعد الماتة ،إمكانية العادة بعد الفناء وتفرق الجزاء .فيسأل الله سؤال ً ،
إنك أيها النسان ل تشك قطعا ً أنك مخلوق وإل فكما قال الله ) أم خلقوا من
ت خلق َت نفسك أو تكون ُ غير شيء أم هم الخالقون ( إما أن تكون قد خلق َ
مصادفة من غير شيء ،وكل المرين باطل ،ل تملك أنت أن تدعي ذلك
أبدا ً ،وإذا ً فأنت تقّر بأنك مخلوق ،من خلقك ؟ سمه القوة العظمى أو الله
أو ما تريد ،ل مشاححة في السماء ،المهم أن تعلم أن قوة أقوى منك وهو
أكبر منك هو الذي خلقك من العدم ،إذا كنت تقّر بأنك مخلوق في الساس
فما الذي يجعلك ترفض الخضوع لخالقك ؟ ويسأل الله :أأتعبنا الخلق الول
حتى ل نستطيع أن نعيده مرة أخرى ؟ إن كل صانع حين يبدأ بإنتاج شيء
جديد فل شك أنه يعاني شيئا ً من الصعوبات ،ولكن حينما يعاود الكرة مرة
ثانية فتكون المرة الثانية سهلة وليس فيها صعوبة ،وتكون المرة الثالثة
أسهل وهكذا ..والعجاز في البداع أي في بدء الخلق في المرة الولى ،هذا
هو العجاز ،وأما الذي اعتاد على صيغة الشياء فلن يعي بها .ولهذا فمن
أكبر الخطاء العقلية أن يتصور النسان عجز الخالق للمرة الولى عن العادة
في المرة الثانية ،هذا مدلول الية الكريمة ) أفعيينا بالخلق الول ( أي أننا
لن نتعب من الخلق ولكن المكذبين في لبث جديد ،فيصعب على أذهانهم
إمكان العادة مرة أخرى .
ثم يذهب الله تعالى في بيان أساليب القدرة ) ولقد خلقنا النسان ( وهذا
تقرير جازم وأن القضية ليست مطروحة للمناقشة والجدل ولكنها قضية
مفروغ منها ) ،ولقد خلقنا النسان ونعلم ما توسوس به نفسه ( ومن قدراتنا
أن علمنا يتغلغل ل إلى الحركات الظاهرة ول وإلى التصرفات المرئية ولكن
إلى الخواطر التي ل ترى ول تسمع والتي تجول بين هذا الكيان النساني
) ونعلم ما توسوس به نفسه ( ول حظوا التعبير ) ما توسوس به نفسه ( لو
قال :تحدثه به نفسه ،لكان المر أضعف في باب البيان عن مقدار قدرة
الله تعالى ،لماذا ؟ لن الحديث كلم مفهوم ،ولكن الوسوسة جرس غير
مفهوم ،ومع هذا فالله يذكر أنه يعلم حتى هذا الهمس الخفي الذي ل يفهم
مما هو موجود في أطواء النفس .
) ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ( الله تعالى
ليس إله فلسفة اليونان الذين تصوروا الله خالقا ً نفض يده من الخلق تكبرا ً
بعد أن خلقهم وفرغ منهم وسكن في عليائه ل يسمع كلمهم ول شكاياهم ول
يجيب دعاءهم ،الله في تصور السلم ليس بهذا الشكل .وحين كان
الصحاب رضوان الله عليهم يسوقون برواحلهم صوب مكة أصبحوا يضجون
بالدعاء ويرفعون أصواتهم بالدعاء فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم :يا
أيها الناس اربعوا على أنفسكم ) أي راعوا على أنفسكم شيئا ً ما ( ول
تجهدوها ،إنكم ل تدعون أصما ً ول غائبا ً ،إنكم تدعون سميعا ً بصيرا ً ،إن
الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته .فالله جل وعل قريب جدا ً
أقرب مما يتصور النسان ،والله جل وعل يقول ) ما يكون من نجوى ثلثة إل
176
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(3 /
) وجاءت سكرة الموت بالحق ( والحق هنا هو المصير الذي سيأتيه كل
ت منه مخلوق أي هو الموت ) ،وجاءت سكرة الموت بالحق فذلك ما كن َ
ت منه تحيد ،أي هذا الموقف هو تحيد ( أي هذا الموقف وهذه الحال ما كن َ
ت منه تهرب ولحق بك فهو الموت . ت تفّر منه ،جاءك ما كن َ
الذي كن َ
) وُنفخ في الصور ذلك اليوم الوعيد ،وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (
سائق يسوقها إلى الله ،وشهيد يشهد عليها بأعمالها .يمضي زمن الدجل
والمراءات التي كانت في الدنيا ،وُيذعن للشهود الذين ل يكذبون ) ..وجاءت
ت في كل نفس معها سائق وشهيد ( يأتي الخطاب إلى النسان ) لقد كن َ
ت ليست غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ( لقد كن َ
متصورا ً شيئا ً من هذا القبيل ،أنت الن ترى من أحوال القيامة ومن أوضاع
ت تسمع عنه ولكن تغفل عنه ،ولكنك الن تراه بعدما اليوم الخر ما كن َ
كشفنا عنك الغطاء عن عينيك .
) وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ( نحن هنا في يوم القيامة أمام المشهد الذي
يضع النسان أمام أعماله ،وقال قرينه لله هذا ما لدي عتيد ،هذا سجل
العمال حاضر ) ،ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ،مناع للخير معتد مريب ،
الذي جعل مع الله إلها ً آخر فألقياه في العذاب الشديد ( هذا نداء الحق ولكن
) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلل بعيد ،قال ل تختصموا إلي
وقد قدمت إليكم بالوعيد ،ما يبدل القول لدي وما أنا بظ ّ
لم للعبيد ( فهنا
قرين ،وفي اليات من قبل قرين ،فهل القرين هنا هو ذات القرين هناك ؟
بعض المفسرين يذهب إلى الوحدة بين القرينين ،وفي تقديري أن هذا
خطأ ،وما جاء في قول الله ) وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ( إشارة إلى
الملئكة التي تراقب العبد وتسجل عليه أعماله ،ولكن الشارة إلى القرين
الخر ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ( توحي بمعنى آخر ،فالقرين الول ل يمكن
177
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(4 /
بعد هذا يلتفت السياق إلى العرب المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم
) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا ً فنقبوا في البلد هل من
محيص ( والقرن هم الجماعة والقبيلة من الناس ،هؤلء القرون الذين كانوا
قبلكم يا معشر المكذبين كانوا أشد منكم قوة وأكثر منكم أولدا ً وأموال ً
وأثاروا الرض وعمروها أكثر مما عمرتموها أنتم وذهبوا وسافروا وجاءوا
ونقبوا في البلد ،ومعنى نقبوا في البلد :النقب هو رأس الطريق ،تقول
قب الطريق وأخذ القوم أنقاب الطرق أي وقفوا على أفواه أخذ فلن ن ُ َ
ً
الطرق ،من يأخذ فم الطريق يكون حارسا للطريق ،أي يملك الطريق
قب أي أنه سلك الطرقات سلوكا ً بحيث جعله خاصا ً برمته ،فمعنى الفعل ن ّ
به من كثرة ما مشى فيها وسافر عليها ..فالله جل وعل حين يقول ) فنقبوا
ل والترحال إلى البلد الواسعة في البلد ( أي أنهم أكثروا السفر والح ّ
178
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
179
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(5 /
عند هذه النقطة تنتهي السورة جميعا ً وأعترف أني تجاوزت نقاطا ً كثيرة ،
ومع ذلك فلو أنني وقفت عند كل شيء لطال الشوط طول ً متصاعدا ً ،
وحسبنا أن نعرف أن الشيء الساسي لكل سورة والمدلولت الرئيسية لكل
سورة .وسوف نستعين بالله تعالى على ما تبقى بين أيدينا من بقية هذا
الشوط ،لعلنا أن ننتهي في القريب العاجل لنقف وإياكم إذا أراد الله وقفة
الدارس المتأمل الذي يبدأ العمل اليجابي المثمر الذي ينتج للجيال الجديدة
قواعد ومعالم يسير عليها المسلمون .
اللهم نسألك العون والمزيد من فضلك ..وصلى الله على سيدنا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين ..والحمد لله رب العالمين .
)(6 /
تفسير سورة ص (
الجمعة 16ذي الحجة 25 / 1397تشرين الثاني 1977
) 3من ( 5
شوحالعلمة محمود م ّ
)أبو طريف(
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ...أما بعد أيها الخوة المؤمنون :
سنحاول اليوم أن نلقي بعض النظرات التفصيلية على بعض ما أجملناه في
الماضي ونحن نلخص مقاصد سورة ) ص ( ،ومن التلخيص الذي قمنا به في
الجمعة الماضية يتضح أن فواتح السورة الكريمة تتصل أوثق اتصال للجدل
الذي كان دائرا ً في مكة إبان فواتح الدعوة ،ويتضح أن هذا الجدل يحمل
طابعه الخاص من حيث أنه ل يصدر عن نظر عقلي وليست له ضرورات
منطقية ،وإنما ابتعثه وأثاره ما كان يعتمل في نفوس المشركين المخالفين
لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بواعث الحسد وما يوّلده الحسد من
ضغائن وأحقاد .
كما يتضح من مراجعة فواتح السورة أن الله جل وعل ذكر لرسوله
وللمؤمنين جملة من التلقينات التي أراد لها الله تعالى أن تحيا في المسلمين
أبدا ً ،لكي ل يطغى ضجيج المعركة الدائرة رحاها على عوامل الثقة في
المستقبل التي يريد الله تعالى أن تظل حية نيرة مشعة موجهة لمسالك
المسلمين أبد الدهر .فبّين له جل وعل أن ما يراه أمامه من ظواهر ل
عقلنية ومن وقائع بعيدة عن النسانية فشيء عند التأمل ل يدعو للعجب
وللدهشة والستغراب ،فتلك هي طبيعة الناس بما أنهم ينفرون من الجديد
ويفرون من كل ما يرفعهم عن هاوية التقليد ،وأن أمما ً مّرت على هذا
الكوكب جاءتها رسل الله من قبل بالهدى والبينات وعرضت لها الدلئل
الواضحات ل تحتمل أخذا ً ول ردا ً ،ومع ذلك أصرت على العناد واستمر
مريرها في التكييف وأبان له أيضا ً ـ كي ل تتزعزع ثقة المؤمنين بالطريق
الذي اختاره لهم ربهم جل وعل ـ أنه برغم أن الجو من حولهم مكفهر ،
صعب مخيف موئس ،فإن هذا كله يجب أن ل يؤثر على ثقة المؤمن بغلبة
الحق وانتصار العدل .
وحين قال لهم ) جند ما هنالك مهزوم من الحزاب ( فإنما أراد له أن يعلم
هو والمؤمنون جميعا ً أن أتباع الباطل وأحلس الضللة مهما تحالفوا ومهما
180
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
بلغت قدرتهم على المناوأة والكيد والحرب فإن النتائج المقررة في علم الله
سلفا ً وهو أنه ينصر رسله وينصر المؤمنين ،ولكن بعد سلسلة من البلء
والتمحيص تميز الخبيث من الطيب والصادق من الكاذب والمؤمن البر من
الفاجر الشقي ،وحين قال له ) جند ما هنالك مهزوم من الحزاب ( فإنما
أراد أن يلفت المخاطب بهذا القرآن وهو النسان العربي اللسان إلى ما في
خمة أو ول ويصور الصورة مض ّ حرف ) ما ( في ) جند ما ( من البهام الذي يه ّ
خمة إلى ما يتركه هذا الحرف في ذهن السامع ،فالله تعالى كان غير مض ّ
قادرا ً على أن يقول له :إن جند قريش مغلوبون ،فيتناول التخصيص إطارا ً
محدودا ً في الزمان ومحدودا ً في الحجم والمكان ،ولكنه في البهام المتمثل
في حرف ) ما ( أراد له أن يفهم وهو ابن اللسان أن الجند مطلق جند ،إذا
تكاتف وقاتل الحق فهو مهزوم ،وحينما أردف هذا الحرف بكلمة الحزاب
أراد أن يترك في أذهان المؤمنين الذين يفهمون عن الله جل وعل معنى ما
أراد ما أشارت إليه بداية السورة الكريمة ) بل الذين كفروا في عزة وشقاق
(.
سأترك هذه النقطة الن ،لبدأ من البداية عسى أن أستطيع إلقاء بعض
الضواء على جملة من القضايا التي عرضتها فواتح السورة الكريمة ،
ومعذرة إذا بدا الحديث مخالفا ً بعض الشيء لما ألفتموه ،فنحن في تتبعنا
لسياق الدعوة في طور متقدم تقدما ً طيبا ً للغاية ،وإذا ً فما ُيعرض من قضايا
وما يثار من مشكلت لها طبع الجدية ولها صفة الستمرار ،ويجب أن يكون
لها مداها الواسع والعميق ،وانسجاما ً مع هذا فنحن مطالبون بشيء من
الناة والنظر الدقيق في صياغة آيات الله تبارك وتعالى ،لنبدأ من البداية .
إن الله تعالى يقول ) ص والقرآن ذي الذكر ،بل الذين كفروا في عزة
وشقاق ( وسنسلك طريقا ً نرجو أن يأخذ الخوة جميعا ً أنفسهم به على ما
فيه من مشقة ،ولكنه الطريق المنتج وهو الطريق الذي يعتمد حقائق اللغة
وأساليب البيان وفنون القول أساسا ً لفهم موحيات القرآن الكريم .
)(1 /
حرف ) ص ( تحدثنا عنه فيما مضى ،ويأتي بعده قسم بالقرآن ووصف
للقرآن وكما قلنا عن القسم في الماضي نقول عنه تكرارا ً إن القسم يكون
ضا َ على شيء عظيم الهمية بالنسبة للمقسم وبالنسبة لما يتناوله القسم ح ّ
ظم وإل بذي حرمة لن ودفعا ً أو رد ّا ً ومنعا ً ،وبذلك ل يصح القسم إل بمع ّ
المراد من القسم هو الدفع إلى عمل عظيم وتأكيد هذا الدفع أو الكف عن
أمر شائن وتأكيد هذا الكف .والقسم هنا ل شك جاء لعظيم وهو القرآن الذي
حوى شرائع السلم وهداية الله إلى الناس جميعا ً إلى آخر الزمان ،فهو
قسم بعظيم ،وهو أيضا ً قسم على شيء عظيم وهو حالة النسانية حينما
تنبذ هداية الله وتعرض عن تعليمات النبياء ،ولكن القرآن جاء هنا منصوصا ً
أيضا ً ،فإذا عرفنا أن القسم في أساسه وفي طبيعته ل يكون إل بما هو
ظم وبما هو مقدس عرفنا بداهة أن المقسم به وهو هنا القرآن ل يحتاج مع ّ
إلى إضافة أخرى توقع في الذهن أن هذا القسم وقع بشيء عظيم ،فمجرد
التيان بصيغة القسم ُتشعر بعظمة المقسم به ،فحين تضاف إلى المقسم
به صفة أخرى فهي صفة مرادة بالذات ل بالتبع ،فأية هذه التي ُوصف بها
القرآن الكريم ؟ إنه ُوصف بأنه ) ذي الذكر ( والذكر والذكرى والتذ ّ
كر وما
في بابها عملية استعادة لما كان منفيا ً ،فل يجوز لنا أن نقول عن عملية
181
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
قنه من قبل أنه عملية تذكير ،لن التعليم المبتدأ الذي لم يسبق لحد أن تل ّ
التعليم المبتدأ تثبيت معلومات ل عهد للنسان بها من قبل ،فيستحيل
كر أو استذكار ويتناقض أن نقول إن هذه العملية عملية تذكير أو ذكرى أو تذ ّ
ولكن حينما تستجيش في نفس إنسان ما دواعي الذاكرة لشيء أسقطه من
حسابه كان معلوما ً له من قبل فأنت في هذه الحالة فقط تمارس عملية
الذكر والتذكير والذكرى والستذكار وما في هذا الباب .فالقرآن إذا ً ُيحدد هنا
ج المسلمين إلى أن يعرفوا ،وصف يتناول بنتائج تحديده له وصف ما أحو ُ
جملة السلوك الذي يسلكه النسان وهو يدعو إلى الله تبارك وتعالى سواء
في الدعوة العامة التي تدور على الجدل بالتي هي أحسن والموعظة الحسنة
أو الدعوة العنيفة التي قد تضطّر إليها أمة السلم أحيانا ً حينما ترفع السلح
لتبليغ رقاب الجبارين من أجل أن تناط بالضمير النساني أمانة هذه الرسالة
اللهية السامية .
فالقرآن موصوف بأنه ذو الذكر أي صاحب الذكر وقوله تعالى ذو الذكر يعني
صائب الذكر ُيشعر بمزيد اختصاص بالوصف ،فحينما تقول هذا الشيء
صاحبه فلن أي أن فلنا ً يختص به دون غيره من المخلوقات ،فحينما نقول
إن القرآن ذو الذكر أو صاحب الذكر فذلك يعني بالضبط أنه ل توجد وسيلة
وسيلة أخرى لتذكير النسان بما نسي إل هذا القرآن ،وهذا يحدد سبيل
الهداية وإلى أن تقوم الساعة بالقرآن وينفيها بطريق اللزوم عن ما سوى
القرآن .
)(2 /
نعود إلى الذكر فنقول لماذا وصف الله جل وعل هنا بأنه ذو الذكر ،ذلك لن
هذا النسان وإن جاءته آيات الله على ألسنة النبياء وفي صحائف موحى بها
من عند الله تبارك وتعالى فل جديد في أصول اليمان ول جديد في قواعد
العقيدة يفجأ بها رسل الله وأنبياؤه هؤلء الناس ،إن الله جل وعل ذكر لنا أن
الدين هو ما فطر الله جل وعل الناس عليه قال ) فطرة الله التي فطر
الناس عليها ل تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ( وبعد أن بين لنا بوضوح أن
السلم الذي هو دين الله ودين النبياء جميعا ً الذي ارتضاه الله لخلقه هو دين
الفطرة زاد لنا المسألة إيضاحا ً ألقى الضواء على جانب من جوانب هذه
الجبلة وهذه الفطرة فذكر لنا في سورة النعام أن الله جل وعل أخذ من بني
آدم من ظهورهم ذّريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى .
ففي صميم كل إنسان في صميم الكينونة البشري الجبلة النسانية استعداد
لهذه المعرفة التي تأتي آيات الله جل وعل لتجلو عنها الغبار فالقرآن حينما
يوصف بأنه ذو الذكر وينزل على قوم مشركين ل يزيد على أن يذكر الناس
بالحقيقة الزلية الخالدة وهي أنهم في طبعهم وفي تكوينهم وفي جبلتهم
وفي أعمق أعماقهم يعرفون أن الله هو الذي خلقهم ،ولقد ذكر لهم في
سور عديد من هذا القرآن أنهم إذا وقعوا في الشدائد وإذا عضتهم النوائب
وادلهمت عليهم الخطوب جأروا إلى الله بالدعاء ورفعوا أصواتهم بالنداء
ل من تدعون إل إياه ( ولكنه أيضا ً ذكر تبارك وتعالى أنه حينما
وقال لهم ض ّ
يكشف عنهم الضر يعودون لما نهو عنه ،فطبيعة النسان مكونة من النسيان
) ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ً ( ولما كان المر بهذه
المثابة ،النسان مركوز في طبعه معرفة الخالق والتسليم لمرادات الخالق
والطاعة لوامر الخالق ولما كان معروفا ً أن هذا النسان يفتقر إلى العزيمة
182
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
التي تهيئ القدرة للوقوف مع الحقيقة حتى الموت ،ولما كان النسان
مفطورا ً على النسيان كانت أوضحت ذلك كله آيات الله تبارك وتعالى كان
لزما ً أن يكون الوصف اللزم والمصاحب دائما ً ليات الله تبارك وتعالى
ولهداياته إلى الناس أنه مذكر ،وهذا ما وصف به رسول الله صلى الله عليه
وسلم في قول الله جل وعل ) فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم
بمسيطر ( .
فحين يوصف القرآن أنه ذو الذكر أي أنه الوسيلة التي تعين النسان إلى
النفاذ إلى ما وراء المشاغل اليومية وزحمة العوارض التي تصيب النسان
ليستذكر النشأة الولى والجبلة الساسية وليستذكر حقيقة الحقائق التي
ينبغي أل تغيب عن باله وهي أنه جاء إلى هذا الكون بموجد أوجده في هذا
الكون ،ولن يجئ من تلقاء ذاته ولن يجئ مصادفة ول اعتباطا ً .وحين ُتركزَ
مثل هذه القضية فينبغي أن نشير إشارة خاطفة إلى انعكاساتها على التفكير
البشري وعلى السلوك البشري ،إذا كان الدين برمته عملية استذكار لما
نسي النسان وعملية بعث للعزيمة كي يقف النسان المتردد الخائر مع آيات
الله بكل قوة وأن يأخذ بأحسنها وهي كلها أحسن إذا كان الدين بهذا الشكل
فعلى صعيد الدعوة وكما تجلى ذلك واضحا ً في تأديبات الله جل وعل
للمؤمنين وفي توجيهات الرسول الله صلى عليه وسلم للمة فإن الخذ
بأسباب اللطف والليونة والحكمة والموعظة الحسنة هو القانون الذي يجب
أن ل يحيد عنه الدعاة إلى الله قيد شعرة ،لن عدا هذا القانون فنسيان
لجملة أوامر الشريعة وذكٌر لحط ما في نفس النسان من حب للذات ورغبة
في الشهرة والظهور والستعلء ،وكل ذلك يفسد على العامل في طريق
السلم كل عمل .
وإذا ً ففي صعيد الدعوة إن هذه الكلمة المفردة التي وصف القرآن بها من
أنه ذو الذكر إنما تحتم على المؤمنين التمسك بهذا الجانب بالدعوة والبعد
عن رعونات الخلق التي تلزم كثيرا ً من الناس بسبب نسيانهم لهذا الحقيقة
الهامة من حقائق هذا الدين .ولو أننا راجعنا وقائع السيرة ووقائع حياة
الصحاب رضوان الله عليهم جميعا ً ووقائع حياة الصالحين من سلفنا المبارك
رحمهم الله تعالى لوجدنا صحائف حياتهم طافحة بهذه النماط الرائعة من
الدعوة إلى الله على هدى وبينة ولكن بمنتهى المحبة وبمنتهى الطيب
وبمنتهى المعرفة بحقيقة النفس البشرية وبما يثيرها ويدفعها إلى اعتماد
أساليب ردود الفعل العنيفة والضارة والتي ل تجدي المسلمين نفعا ً قليل ً ول
كثيرا ً .
)(3 /
183
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
وفي مجال الدعوة العنيفة وحينما ُيضطر المسلمون لخوض المعارك فالله
جل وعل حدد المور بمنتهى الدقة وبمنتهى الوضوح ،إن السلم حين يرفع
السيف للقتال فليس يطلب دماء الناس وإنما يريد أن يوفر دماء الناس ) من
أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا ً بغير نفس أو فساد في
الرض فكأنما قتل الناس جميعا ً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ً (
ومحمد بن عبد الله صلوات الله عليه وآله كان يقول :ما يزال الرجل في
فسحة من دينه حتى يغمس يده في الدم الحرام .ومحمد بن عبد الله صلى
الله عليه وآله كان يقول ما من قتيل يقتل ظلما ً إلى يوم القيامة إل كان على
ابن آدم الول كفل من دمه لنه أول من سن القتل .فالسلم بهذه النصوص
القواطع وبهذه التوجيهات البينات يعلن كراهته للعنف ويعلن كراهته لسفك
الدماء ،ويحدد طريقه الواضحة بأنه جاء ليحفظ على الناس حيواتهم
وكراماتهم ،ولم يجئ ليهدرها بحال من الحوال .
ولكن الناس كأفراد وكعينات تعيش في المجتمع يجدون أنفسهم وبصورة
دائمة تحت قهر أنظمة تسوقهم طوعا ً أو كرها ً قصدا ً أو تغفل ً نحو مبادئ
وأهداف ومقاصد وغايات ل تمت إلى سعادة البشرية المحددة بدقة في
تعليمات الله وتعليمات الرسل عليهم السلم .في هذه الحالة ما العمل ؟
أنسمح للشياطين أن تعيث في الرض فسادا ً ؟ أنغمض العين عن الظلم
يحيك بالناس ؟ يضرب أبشارهم ويستصفي أموالهم ويستهلك حياتهم ؟
أنسمح لهذه البشرية أن تذهب بعيدا ً في دياجير الظلم أم نحمل إليها نور
إلى الله ؟ بل نحمل إليها نور الله ،وحين نحمل إليها هذا النور المبين فنحن
واثقون بتعليمات ديننا وبما أقرت فينا هذه التعليمات من أن السلم دين
عرضت على الناس عرض عقل لعقل الفطرة أن هذه الحقيقة الباهرة لو ُ
ووجدان لوجدان وقلب لقلب بالشرائط المحددة في تعليمات السلم الرامية
إلى فتح مغاليق القلوب ،الرامية إلى إعطاء المثلة العالية والنماذج العالية
للدعاة الراغبين في خير الناس ،للدعاة الراغبين في تقدم الناس ،للدعاة
الراغبين في إسعاد الناس فإن أي قلب ل يمكن أن يغلق في وجه هذه
الحقيقة ،ولكن الطواغيت تقوم لتحول بين الناس وبين التعرف على هذه
الحقيقة ،وفي القرن العشرين بل في ربعه الخير نعيش الن عصرا ً نسميه
عصر النور والعلم والمدنية والنسانية والتواصل البشري ومع ذلك فإن مما
يحز في النفس قدرة هذا المخلوق على الكذب على نفسه والحتيال على
ذاته ،حتى الن إلى يوم الناس هذا برغم الذاعة وبرغم التلفزة وبرغم
اللسلكي وبرغم المطابع وبرغم الصحافة وبرغم النباء التي تصل إلى أي
بقعة في الرض في حينها بالذات ،مع هذا فنحن إلى اليوم نجد طوائف
كبيرة من غير المسلمين تعتقد أن السلم دين وحشية وهمجية ،وأن
م لهم إل فروجهم وإل إذلل الناس وهم متعطشون المسلمين قوم ل ه ّ
للدماء ،وأن القرآن إما أن يكون نسخة محرفة من التوراة والنجيل أو أنه
على أفضل الفروض من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم ،وأن هذا النبي
دجال كبير وأّفاق أثيم ،والناس الذين يقولون هذا مقتنعون بهذا القول ،لماذا
؟ لن طواغيت وجبابرة حالوا بيننا ـ وطبعا ً أنا ل أخفف من مسؤوليتنا نحن
كمسلمين عن ضرورة إيصال الحقائق إلى الناس ـ ولكن الشيء الذي يبقى
بعد كل حساب أنه يحال عن عمد وإصرار من قبل طواغيت الرض بين
المسلمين وبين إيصال حقائق السلم إلى الناس من أجل المعرفة ،لمذا
كان المر كذلك الن وهو من قبل أعتى وأعنف فإن على المسلمين واجبا ً
محددا ً بصورة دقيقة هو تحطيم السوار التي تمنع نفاذ أشعة النور إلى الناس
184
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
،فإذا تحطمت وألقى الناس السلم ورضوا أن ينظروا إلى حقائق السلم
وقضاياه بحرية فلهم شأنهم وهم وضمائرهم ل نملك وهذا مستحيل أن
نسكب اليمان في قلوبهم بحقنة ،ذلك أمره إلى الله ) ولو شاء ربك لمن
من في كلهم الرض جميعا ً ( .
)(4 /
ولكننا نملك أن نجعلهم في مواجهة الحقيقة عارية بدون تزييف وبدون تضليل
،ل تزييف من قبلنا ول تضليل من قبل الطواغيت ،هذا العمل ل بد له من
خطوة عنيفة ولكنها كما رأيتم أو كما استشفيتم على القل مقدرة بقدرها ،
إننا نعد إلى ما قلناه من أن هذه الكلمة المفردة في وصف القرآن بأنه ذو
الذكر شيء بالغ الهمية ،لنه فوق أنه يعطينا الوصف الساسي والحقيقة
لهذا القرآن يحدد لنا مسالكنا في الدعوة إلى الله تحديدا ً إنسانيا ً فإذا انتهى
هذا جئنا إلى أمر آخر .
إن الله بعد أن قال ) ص والقرآن ذي الذكر ( قال ) بل الذين كفروا في عزة
وشقاق ( اصبروا معنا على تحليل النص واسمحوا لنا أن نطلب منكم أن
تبذلوا جهودا ً طيبة من أجل إتقان التعامل مع نص القرآن الكريم ) بل الذين
كفروا في عزة وشقاق ( بل حرف يسمى باللغة العربية حرف إضراب ،
فأنت تقول كان كذا وكذا بل ،يعني دع عنك الذي قلناه سابقا ً فإن المر
سيكون كذا وكذا ،فكأن الله جل وعل بعد أن وصف القرآن مقسما ً عليه بأنه
ذو الذكر قال لنبيه عليه الصلة والسلم :دع هذا الن ول تعجب ول تذهب
في العجل بعيدا ً ،فإن الذين كفروا في عزة وشقاق ،ما هي العزة ؟ وما هو
الشقاق ؟ وما هي موحيات التعبير وأسلوب الصياغة ؟ لحظوا أول ً أن الله لم
يصف الكافرين مباشرة بالعزة والشقاق ،لنك تصف إنسان فتقول فلن
شجاع فتكون الشجاعة وصفا ً ،لكن ليس من الضروري أن يكون هذا
الموصوف متصفا ً بالشجاعة على طول الخط ،قد يسقط في الخور وقد
ينتابه الجبن في بعض اللحظات ،وتقول فلن كريم وأنت تقول هذا على ما
تعهد وتلحظ منه ،لكن ليس هذا ضروريا ً دائما ً ،وأيضا ً أنت حينما تصف هذا
النسان بالشجاعة أو هذا النسان بالكرم فذلك ل يلغي أن يكون متصفا ً
بجملة أخرى من الوصاف ،وإذا ً فالوصف الذي أطلقته عليه وصف واحد من
جملة أوصاف أخرى عديدة ،هذا هو مدلول الوصف الملزم المباشر ،ولكن
في العربية أساليب وألوان من البيان تحمل مدلولت أخرى إن الله قال هنا )
بل الذين كفروا في عزة وشقاق ( استعمال الحرف في المفيد للظرفية
يشعر بأن الكافرين ليسوا فقط يشعرون بالعزة المصطنعة والشقاق المضر
المدمر ،ولكن هم مستغرقون ،إن العزة مستولية عليهم وشاملة لهم
ومتضمنة إياهم ،وإن الشقاق كذلك .
فإذا ً استعمال الحرف المشعر بالظرفية يوحي باستيلء الصفات التي وصف
بها الكافرون استيلًء كامل ً عليه .والن لننظر ما تعني العزة وماذا يعني
مح بقوله جل وعل ) ذي الشقاق وما صلة العزة والشقاق بنسيان الذي ل ُ ّ
الذكر ( لن الناس ينسونه ،إن العزة كلمة تدل على المنعة ،وهي في
الناس وصف مانع من الستسلم للغير ،تقول فلن عزيز أي أنه في منعة ول
يغاَلب ،وفي نفس السورة في قصة داود مع الخصوم الذين تسوروا عليه
المحراب قال ) وعزني في الخطاب ( أي غلبني وقهرني ،فالعزة كما قلنا
حالة مانعة من الستسلم للغير تدل على العتصام بالذات ،والعزة وردت
185
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
في القرآن الكريم على ثلثة أنماط ،وردت في معرض الذم ،وصفا ً للذين
يشعرون بها شعورا ً ذاتيا ً كما في هذا المجال ) بل الذين كفروا في عزة
وشقاق ( أي أنهم برفضهم اليمان بالله جل وعل وشعورهم أنهم أعز من أن
تطالهم قوانين الخالق عزوجل فإنما يتصفون بالمعنى المرذول من معاني
العزة .ووصفت العزة بمعناها الحسن على ضربيه :العزة المطلقة والتي
ُتستحق ابتداء وأصل ً وهي ل تكون إل لله ،قال الله جل وعل ) من كان يريد
العزة فلله العزة جميعا ً ( أي أن الكائن الوحيد الذي يغلب ول ُيغلب ويمتنع
ول يمتنع عليه شيء ويقهر ول ُيقهر هو الله فقط .ووردت في معرض مدح
المؤمنين ) من كان يريد العزة فإن العزة لله جميعا ً ( تلك لله ولله العزة
ولرسوله وللمؤمنين ،تلك للمؤمنين .
)(5 /
فالفارق بين شعور المؤمن بالعزة وشعور الكافر بالعزة ،أن شعور المؤمن
بالعزة ليس شعورا ً ذاتيا ً ملزما ً للنسان ولكنه شعور تبعي ناجم عن اعتصامه
بالله جل وعل ،على عكس شعور الكافر الذي ل محصل للعزة عنده إل
نفخة الغرور والكبرياء ،وعند المحاسبة يبدو أنه إنسان ضعيف مهين ل يملك
دفع الضر عن نفسه ول تحويله ،فهذا معنى العزة .ما معنى الشقاق ؟ إن
حى الشقاق مأخوذ من كلمة شقّ ،وكلمة شقّ معناها أفرد شيئا ً عن شيء ون ّ
شيئا ً عن شيء ،تقول مشى فلن في شق الطريق أي مشى في ناحية
منه ،والمتشاقان هما اللذان يمشي كل واحد منهما في ناحية غير الناحية
التي يمشي فيها صاحبه ،ولذلك ورد في كلم العرب يقال فلن شقّ عصى
الطاعة بمعنى أن العرب سابقا ً كانت إذا مشت وهم أبناء الصحارى يتعرضون
لما في الصحارى من مخاوف وأهوال يحملون العصي في أيديهم ،فإذا كان
اثنان يتلحقان في الطريق فعصا واحدة تكفي لذب عنهم في وجه الخطاء ،
ولكنهما هما يأخذان في طريق واحد إذا افترقا وتنازعا فإن بقية النسانية
توجب على المفترقين المتنازعين أل ينفرد أحدهما بالعصى ،يأخذ هذا واحدة
وهذا واحدة ،من هذا يتبّين أن محصل الكلمة لغويا ً أن الشقاق هو النزاع
همة لهم أنهم والفتراق الذي ل لقاء معه ،فإذا عرفنا أن عزة الكفار صفة مو ِ
في عز وغلبة ومنعة ،على عكس قوانين الوجود وعلى عكس قوانين
الحضارة البشرية وعلى عكس تجربة التاريخ النساني ،وإذا عرفنا أن صفة
الكافرين هذا النزاع الذي ل لقاء من بعده فقد آن الن لنا أن نتساءل لماذا ؟
لماذا يكون الكفر بذاته من حيث هو كفر عامل ً أساسيا ً ورئيسا ً بل ووحيدا ً
للتنازع والتفرق والعظمة الكاذبة والخيلء التي ل محصل من ورائها ؟ لنرجع
إلى الوراء إلى أوائل القضايا التي كنا نطرحها عليكم في هذا المكان ،إن
أول شيء بدأت به آيات الكتاب الكريم هو أن الله جل وعل برحمته وبرأفته
حدد منذ البداية داء البشرية وعلل البشرية ومعايب البشرية ،إن المر الذي
ترتد إليه جميع المعايب والسواء اختلل ناموسي على صعيد الحياة النسانية
،ماذا يعني اختلل الناموس ؟ أن النسان حينما يكفر ينسى أصله ينسى مبدأ
خلقه ينسى عبودية ،ثم يبدأ يجاذب الله تعالى رداء الكبرياء ،هذه الخلة
البغيضة من أول ما عني السلم بعلجه منذ بدأت آيات الله جل وعل تتنزل
على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ،وبمراجعةٍ لسير النبياء عليهم السلم
نجد أن وصف كل نبي وأن هدف كل نبي كان ينصب على إعادة التوازن
المفقود إلى الحياة النسانية المختلة ،كان ضروريا ً باستمرار أن يكون الرب
186
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
ربا ً ،يأمر فيطاع ،وأن يكون العبد عبدا ً يؤمر فيطيع ،فإذا اختل هذا الميزان
تولدت في الحياة النسانية خلئق مدمرة شديدة التدمير ،حينما واجهت
التجربة الدينية حياة الناس في مجتمعهم النساني تجلت آثار هذه الخلئق ،
في أول موقف حدثنا القرآن عنه في سورة اقرأ قال ) :أرأيت الذي ينهى ،
عبدا ً إذا صلى ( حينما رأى أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد
لله راكعا ً وساجدا ً وتاليا ً وداعيا ً ،ما الذي كان يضر أبا جهل من هذا ؟ ل شيء
على الطلق ولكن أبا جهل كان يرى أنه عظيم قريش وفرعون هذه المة
كان يرى أن أية خليقة أو عادة أو عرف يجب أن تأخذ منه الموافقة المسبقة
عليه ،يجب أن يجيزها لكي تكون نافذة كما يعتمد الرؤساء الن القوانين
والنظم بالتوقيع عليها ،فإن أبا جهل يتصور أن أي مواطن في بيئة مكة عليه
أن يستجيز أبا جهل بأي شيء جديد يريد أن يأتي به ،من أين جاءه هذا ؟ لو
أنه كان مؤمنا ً بالله لعرف أن هذا النسان الذي يصلي مثله هو مخلوق لله
وهذا مخلوق لله ،وإذا ً فل تمايز ول تعالي ول افتراء ،ولكن أبا جهل غطى
كفره على هذه الحقيقة ،ظن أنه رب الناس العلى ونسي أنه عبد فتزحزح
عن قائمة العبودية ليأخذ برداء الربوبية ويرى بنفسه حق المر والنهي على
الناس ،ويرى من واجب الناس أن يطيعوه حينما يأمر ،ومنها كانت مقالته
ن علىللرسول عليه الصلة والسلم :لئن رأيتك تفعل هذا بعد الن لطأ ّ
عنقك .
)(6 /
فهذا موقف محدد من أول السورة من سور القرآن الكريم إن العزة الكاذبة
التي تصرف النسان عن وزن نفسه وعن إعطاء نفسه قدرها الحقيقي صفة
ملزمة للكفر ،لن الكفر ينسي النسان حقيقة العبودية لله وأيضا ً الشقاق
لماذا ل بد أن يكون الشقاق دائما ً ومستحكما ً بين الكافرين لحظوا إن
الشقاق نتيجة وليس سبب ،بمعنى أنه تعبير عن تطلعات نفس وعن شهوات
نفس وعن إرادة نفس ،أنا وأنت ننظر في قضية واحدة حينما أرى فيها رأي
محدد فأنت ترى قد ترى رأيا ً آخر ،حينما تكون شاعرا ً بذاتك غاية الشعور
على درجة عالية بوتيرة غير معقولة فأنت ترى أن كل جانب من جوانب
الصواب في موقفي خطأ ،ول بد أن يكون الحق معك في الجزئيات وفي
التفاصيل وفي الكليات ،ول بد أن أكون مخطأ ً في الصغيرة وفي الكبيرة ،
هذا يأتي من أين ؟ يأتي من رؤية النفس ،يأتي من حب النتصار للذات ،
يأتي من النانية البغيضة والحسد المقيت ،ولهذا رأينا سورة صاد تختم
بالحديث عن تمرد إبليس عن السجود لدم عليه السلم ،بدافع الكبرياء
والحسد ،ليحذر المؤمنون هذه الخليقة .
نحن كمسلمين ليست لدينا خيارات واسعة ومفتوحة بل نهاية ،عندنا قرآن
وعندنا سنن المصطفى عليه الصلة والسلم وعندنا كليات هذا السلم ،فإذا ً
عندنا الوسائل والمهيئات التي تسمح لنا بأن ننظر إلى المور نظرا ً موزونا ً
بموازين الشرع ،أي بقوانين العدل والقسط بين الناس ومع الذات .ولكن
الكافرين ل يملكون هذا ،لماذا ؟ لن رفضوا بالدينونة لله تبارك وتعالى ،
فلمجرد أن ترفض دينونتك لله بمجرد أن ترفض قبول العبودية لله فأنت
حينئذ سوف ُتستعبد لنفسك دون ريب ،ولهذا فإن الشقاق والختلل
والتخاصم والتعالي والتقاتل من صفات الكفر الملزمة له بل المحيطة به من
كل جانب .انظروا إلى معسكر الشرك والضلل ..منذ أن برأ الله الناس
187
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
إلى اليوم تجدون الناس لمجرد أن يتزحزحوا عن قواعد اليمان يدخلون فورا ً
في متاهات الشقاق والخلف ،في الدولة الواحدة في المة الواحدة في
الشعب الواحد حينما ل توضع شرائع السلم وقواعد الشرف وتوجيهات
القرآن الكريم والتعاليم الربانية موضع التطبيق فإن الثمرة التي ُتقطف من
جراء ذلك نزاع وشقاق ل ينتهيان بحال من الحوال ،تلك هي ثمرة طبيعية
ومهما يكن من مظهر التحزب والجتماع الذي يكون بين الكافرين في المة
الواحدة والكيان الواحد وفي المم المتعددة والكيانات المختلفة فلعلينا
كمؤمنين ومسلمين ـ وهذه هي فائدة النص هنا على هذه الخليقة ـ علينا أن
ل ننسى أن الشقاق واقع وإن غطت عليه ظواهر الحال ،في معركة
الحزاب حينما استطاع أبو سفيان أن يؤلف زعماء الشرك والوثنية على
رسول الله وعلى المؤمنين وهاجموا المدينة وأحاطوا بها إحاطة السور على
المعصم ووقع الزلزال والخوف وضاقت الرض على المؤمنين بما رحبت بل
ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أنهم مأكولون ،في هذه اللحظات الحرجة
المصيرية الحاسمة أرسل الله جل وعل جنوده من الريح وما أشبه ذلك
فزلزت معسكر المشركين ،في تلك الساعة ظهرت ظاهرتان تنتميان إلى
عنصر واحد هو عنصر الشقاق المستحكم في معسكرات الشرك ،جاء رجل
من المشركين إلى رسول صلى الله عليه وسلم مسلما ً ،في الوقت الذي
كانت مظاهر المور جميعا ً تشير إلى أن قوة السلم ستمحى خلل لحظات
وأن رسول الله والمؤمنين سيبادون خلل لحظات ،جاء رجل يعلن إيمانه
ويعلن إسلمه فاستثمر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخذيل
بين المشركين والتخذيل بين المشركين وحلفائهم من اليهود داخل المدينة ،
في تلك اللحظات الحرجة أيضا ً وبما أن جحافل الشرك ليست بينها روابط
أبدية دائمة كالربائط القائمة بين المؤمنين والتي هي روابط في الله أي
الروابط المصيرية المؤبدة بما أن هذا وصف المشركين فإن أبا سفيان نسي
ما أعطى من تعاهدات للقبائل التي جاءت معه ،وحين رأى أن الجو اكفهر
وأن موازين القوى بدأت تميل لغير صالحه ركب ناقته وقال :يا معشر
العرب إني مرتحل فمن شاء يرتحل فاليرتحل ،لم يعقد مجلسا ً لركان
الحرب ولم يؤخذ رأي وجوه القبائل التي جاءت بتعاقد وتحالف لكي تفتك
بالنبي والمؤمنين ،وإنما كانت مبادرة ذاتية من أبي سفيان كان من نتائجها
أن الله جل وعل نثر جنده وهزم الحزاب وحده .
)(7 /
ولو أنك ذهبت تلتمس هذه الظاهرة في وقائع البشرية أبدا ً كسلسلة
مستمرة لوجدتها ظاهرة ،وحين كان الله جل وعل يفتتح بها سورة صاد فلم
يفتتح ذلك ليعلن النصر في السلم ليس علما ً يتلقى في الكادميات
والجامعات ولكنه دين يتحرك الناس به في الحياة ،إنما هذا بذلك فوق إظهار
الناصب وفوق تعرية الساحة أن يظل أمل المسلمين في النصر قائما ً ،كان
يقول لهم هذا الكلم ) بل الذين كفروا في عزة وشقاق ( والجو من حولهم ل
شيء فيه مما يدعو إلى الثقة ويبعث على المل ،وكان يقول لهم ) جند ما
هنالك مغلوب من الحزاب ( لماذا ؟ لن هذه الحزاب المتحزبة مهما تبلغ
من كثافتها ومهما يبلغ هيلها وهيلمانها فإنها كالهباء تطير بنفخة ،ذلك لنها
تتجمع ظاهريا ً ولكن قلوبها متخالفة وهم كما وصف الله جل وعل المنافقين )
تحسبهم جميعا ً وقلوبهم شتى ( فلكي يعيد الثقة إلى نبيه عليه الصلة واسلم
188
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
)(8 /
189
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
فيه آية من آيات الله لهذا النسان ،يلفته به إلى وجوده وعظمته وقهره
واقتداره ،وفي كل يوم تقريبا ً تسجل المراصد على الرض انفجارات هنا
وهناك تكون من نتائجها عشرات اللوف ابتلعتهم الرض التي تشققت ،
وأضعاف هذا العدد ممن شردوا من غير مأوى وتركوا للرياح والمطار
والثلوج ،ولو أنهم ذهبوا فيمن ذهب لكان أهنأ لهم بال ً ولكنهم تركوا للشقاء
الطويل .
والذي ل بد أن يلفت النظر في هذا أن هذه الشياء والظواهر مما يخوف الله
بها عباده ،فالذين اتقوا يفزعون إلى ذكر الله ويرون يد البطش اللهي قريبة
جدا ً من الناس ،والذين ل إيمان عندهم يفيئون إلى تفسيرات ل تغني عن
الكارثة حين تقع ل قليل ً ول كثيرا ً ،فاتقوا الله أيها الناس واعلموا أن الله في
بعض الحيان يأخذ الناس على تخوف ،وفي بعضها الخر يأخذهم بغتة فإذا
هم مبلسون ،فاتقوا الله واسألوه أن يجيركم من العذاب وأن يجنبكم مما
يحل بالمم من حولكم .
ونحن الن في صدد سورتين ،وأحببت أن أجمل الكلم على السورتين وهما
سورة ) الضحى ( وهي الحادية عشرة وسورة ) الشرح ( وهي الثانية
عشرة ،أحببت أن أجمل الحديث عنهما دفعة واحدة لتحاد الغرض في
السورتين ،ولن بعض قدماء العلماء وقرائهم كان يعتبرهما سورة واحدة ،
فإذا قرأهما في الصلة قرأهما في ركعة دون فصل ،وإذا قرأهما لم يفصل
بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم التي هي علمة الفصل بين السور ،فهم
يرون أنهما سورة واحدة لتساوق الغرض فيهما جميعا ً .
يقول الله تعالى ) والضحى ،والليل إذا سجى ،ما ودعك ربك وما قلى ،
وللخرة خير لك من الولى ،ولسوف يعطيك ربك فترضى ،ألم يجدك يتيما ً
فآوى ،ووجدك ضال ً فهدى ،ووجدك عائل ً فأغنى ،فأما اليتيم فل تقهر ،وأما
السائل فل تنهر ،وأما بنعمة ربك فحدث ( وتبدأ سورة الشرح ) ألم نشرح
لك صدرك ،ووضعنا عنك وزرك ،الذي أنقض ظهرك ،ورفعنا لك ذكرك ،
فإن مع العسر يسرا ً ،إن مع العسر يسرا ً ،فإذا فرغت فانصب ،وإلى ربك
فارغب ( ول يخطئ القارئ أن يلحظ هذا التشابه في الغرض في السورتين
جميعا ً ،وليس مما يدعو إلى التنبيه أن نقول إن الخطاب في السورتين
كلتيهما موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ويكاد المفسرون
القدامى يتفقون إل في النادر على أن السورتين سيقتا لتعزية رسول الله
صلى الله عليه وسلم وتسليته عما ألحقه المشركون به من صنوف الذى
وأنواع المضرة ،مع أغراض أخرى سنأتي عليها .لكن نحب أن نلفت النظر
إلى أمر أساسي ،إن السورتين جاءتا بعد مرحلة ل بأس بها طويلة بعض
الشيء ،وجاءتا ليس فقط للتعزية ،فالقرآن دون شك ليس خطابا ً لرسول
الله صلى الله عليه وسلم ولكنه خطاب للناس عامة إلى آخر الزمان ،
فأغراضه وقضاياه تخاطب الناس جميعا ً ول يصح قصر شيء منها إل ما جاء
النص قاطعا ً بقصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،هذا من جهة .
)(1 /
ومن جهة أخرى فنحن بالموازنة بين الحالة الجديدة التي يستقبلها المسلمون
والمرحلة التي مرت قبل نزول السورتين نجد أننا قادرون على أن نسمح
لنفسنا بوقفة من لون خاص ،نعيد النظر في اليات ) والضحى ،والليل إذا
سجى ( هذا قسم شأنه شأن القسام التي مرت والكلم عليه كالكلم على
190
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
القسام التي مرت ،وأما قوله تعالى ) ما ودعك ربك وما قلى ( فالتوديع
والودع في كلم العرب هو الترك ،يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو لفعلن بهم كذا وكذا .يريد لينتهين
أقوام عن تركهم الجمعات أو لفعلن بهم كذا وكذا ،فالودع هو الترك ،
والقلى هو البغض والهجر ،تقول :قليت فلنا ً إذا هجرته ،فالله عز وجل
يقسم ويجعل جواب القسم أنه ما ترك محمدا ً صلى الله عليه وسلم ول
هجره ول أبغضه .وبالرجوع إلى الروايات الواردة في التفسير بالمأثور نجد
أن الروايات تتكاثر ل ندري إلى أي حد هي صحيحة لكن تظاهرها يسمح لنا
بأن نطمئن إلى ورود شيء منها ،يقال إن امرأة حين فتر الوحي على
رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم :يا
محمد ما أرى شيطانك إل أنه هجرك ،ويقال إن من المشركين عّيروا محمدا ً
صلى الله عليه وسلم بأن ربه قله وتركه فنزلت هذه اليات ترد على هؤلء
الناس ،والذي يلفت النظر إلى أن حديث البخاري الذي يفيد بأن الرسول
صلى الله عليه وسلم تلقى الوحي أول ً في غار حراء بفواتح سورة العلق ثم
فتر عنه الوحي بعد ذلك ،بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث
عن نفسه بأنه حزن لتأخر الوحي عليه وأنه حاول مرارا ً أن يلقي بنفسه من
م بأن يفعل ذلك تبدى له جبريل عليه السلم يقول على الجبل ،وأنه كلما ه ّ
له :يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله ،فيثبت عليه الصلة والسلم .
فمسألة انقطاع الوحي أو الفترة التي تحدث عنها حديث البخاري مسألة
مبكرة أكثر من هذه اليات ،وفي ظني أن اليات تعالج أمرا ً جوهريا ً تكشف
عن طبيعة العلقة بين الوحي وبين النبي صلى الله عليه وسلم ،بين النسان
وبين هداية السماء ،ل شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء
كان يعاين تجربة فريدة من نوع خاص لم يسبق أن جربها من قبل ولم يسبق
أن جربها أحد من خلق الله تعالى إل هذه الصفوة المختارة من الله التي هي
النبياء .والعرب قوم محمد صلى الله عليه وسلم ل يعرفون شيئا ً عن طبيعة
الوحي ،والنبي صلى الله عليه وسلم ليس بعيدا ً أن تنازعه نفسه بالشوق أن
يطيل العيش مع هذا النداء السماوي الذي سمعه في غار حراء ،إل أن
الوحي دليل ومرشد وليس قائدا ً يأخذ بيد النسان في كل الحوال .والعرب
خليقة بأن تفهم من طبيعة الوحي بأنه قيادة مطلقة وأنه إلغاء لرادة النسان
،والنبي صلى الله عليه وسلم لو وقع في ذهنه هذا الشيء لكان معذورا ً فهو
ل يعرف عن وظيفة الوحي شيئا ً قبل هذا ) ما كنت تدري ما الكتاب ول
اليمان ولكن جعلناه نورا ً نهدي به من نشاء ( .
فالنبي عليه الصلة والسلم والعرب أيضا ً تصوروا أن كل حركة وكل سكون
يجب أن يكون فيه وحي ،وهذا هو الشيء الذي جاءت اليات لتضعه في
نصابه ،الوحي ليس علجا ً لحالة موقوتة في زمن موقوت في محل محدود ،
ولكنه نداء مطلق وهداية مطلقة إلى الناس في كل زمان وفي كل مكان ،
والوحي ليس من طبيعته أن يلغي إرادة النسان ول أن يشطب على شخصية
النسان وإل لسقطت المحنة وذهب معنى البتلء ،وإنما معنى الوحي جملة
من القواعد والرشادات التي يتخذها النسان أساسا ً له في حياته وفي
تصرفاته ينطلق منها معمل ً إرادته محييا ً شخصيته .فالعرب إذا ً معذورون
حين تصوروا أن الوحي لكي يكون وحيا ً يجب أن يلزم النبي صلى الله عليه
وسلم ،لنه تصوروا قياسا ً على الكهانة أن الكاهن ل يستطيع أن يتكهن إل
جاءه شيطانه فأدلى إليه بالمراد ،ولكن الرسالة غير الكهانة ،والنبي صلى
الله عليه وسلم مكانه في قومه ،مكانه من المة ،ليس مكانه مكان اللة
191
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
التي يوعز إليها لكي تنفذ ولكنه مكان النسان الذي شحن بالوحي وأدرك
مرادات الله جل وعل فقاد الناس بمبادرات خاصة من قبله وبإشارات من
الله جل وعل دون أن يؤثر ذلك بتاتا ً على قيمة الشخصية النسانية ول على
إرادتها ،فهذا الكلم ل شك أنه جاء في غالب الظن ردا ً على كلم قاله هؤلء
الناس عن فترة الوحي .
)(2 /
لكني أسأل :هل من شرط هذا الكلم أن يكون بعد انقطاع الوحي من
الفترة الولى ،أتصور أن هذا غير ميسور ،فالوحي جاء إلى الرسول صلى
الله عليه وسلم في المرة الولى ثم انقطع ،بعضهم يقول إنها نصف شهر
وبعضهم يرقى بها إلى عدة أشهر ،ثم حمي الوحي وتتابع كما جاء في
الحديث الشريف ،ولكنه مع أنه تتابع كان ينقطع بين الحين والحين ،وحينما
انقطع في المرة الولى لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد ظهر أمره
للناس ،آمنت به زوجه خديجة وصديقه أبو بكر وابن عمه علي رضي الله
عنهم جميعا ً مع نفر قلئل دون أن يلفت نظر أحد .لكنه بعد ذلك جرت
فترات من انقطاع الوحي قيل ما قيل فقال الله هذا الكلم ليضع الوحي في
إطاره الصحيح وليضع النبوة في مكانها الحق في حياة الناس .
) ما ودعك ربك وما قلى ،وللخرة خير لك من الولى ،ولسوف يعطيك ربك
فترضى ( فيما قرأت كل المفسرين القدماء قلما يشذ أحد عنه ،حينما
يواجهون قول الله تعالى خطابا ً لحمد عليه الصلة والسلم ) وللخرة خير لك
من الولى ( يشيرون بهذا إلى ما أعد الله لك يا محمد من النعمة والكرامة
في الدار الخرة خير لك من الولى التي هي هذه الدنيا ،ولكن نفرا ً من
كرام المفسرين وهم قليل يشيرون إلى معنى متساوق مع خطوات الدعوة ،
يقولون بأن المراد ـ والله أعلم ـ أن مستقبل أمرك خيٌر مما مضى من أمرك
،ل على معنى أن ما جاءك من الوحي فاستقبلت به أيامك الجديدة خير لك
من أيامك التي قضيتها في الجاهلية ،ل ،فهذا شيء ل يحتاج إلى نص ول
يحتاج إلى كلم ،ولكن على معنى أن أمرك ما يزال ينمو ويتقدم نحو
الحسن حتى تكون مقبلت أيامك خيرا ً مما مضى مع ملحظة استحالة
الفصل بين شخص النبي صلى الله عليه وسلم وحاله وبين حال المة
برمتها ،وفي تقديري أن هذا معنى حسن وهو يتساوق مع خطوات الدعوة ،
ولو أننا ألقينا البصر إلى آخر السورة فسمعنا الله يقول ) ألم يجدك يتيما ً
فآوى ،ووجدك ضال ً فهدى ،ووجدك عائل ً فأغنى ( لرأينا هذا الكلم يشد
المعنى الذي ذهب إليه المفسرون المحدثون .قلنا قبل اليوم إن للقرآن
وللسلم طريقة يتميزان بها عن أية دعوة أرضية ظهرت على وجه الرض ،
في الحالة العادية قد تتوفر فرص ومناسبات يتوهم النسان أنه يستطيع أن
يحقق بها مكسبا ً ما للقضية التي يحملها ،وقلما يتمالك النسان نفسه تجاه
إغراء من هذا النوع ،لعل النتهازية والوصولية في الحزاب الدنيوية مبنية
على هذا إل السلم ،فالسلم ل يرضى أن ينتهز الفرص وإنما يأخذ بالبناء
لبنة بعد لبنة ،قد تكون هناك فرص تعرض ولكن السلم يضرب عنها صفحة
ول يلتفت إليها ول يكترث بها ،لو فعل ذلك لسقط في سياسة حرق
المراحل التي يكون فيها الكسب الخارجي على حساب التنمية الداخلية
وعلى حساب البناء الداخلي ،من أجل هذا رأينا السلم منذ البداية لم يعرف
التقهقر ولم يعرف التراجع ،رأيناه في تقدم مستمر ونمو متصل ورأينا
192
مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية http://www.balligho.com
المسلمين يزدادون باستمرار ،وحينما نعود إلى نصوص الحديث نستمع إلى
نص معين من الحوار الذي قام بين أبي سفيان وبين هرقل ملك الروم على
أثر صلح الحديبية ،فإن هرقل في جملة السئلة عن الرسول وعن الرسالة
وعن التباع سأله :أيزيدون أم ينقصون ؟ قال :بل يزيدون .
فالسلم ما عرف التراجع ول عرف التقهقر إلى الوراء ولم يعرف إل التقدم
وإل اتساع الرقعة ،لماذا ؟ المر كله يعود إلى هذه القضية أي أن البناء يجب
أن يبدأ من الساس وإنه ل يجوز أن توضع اللبنة الثالثة قبل أن توضع اللبنة
الثانية ،وإن الذي يتورط في عمل هذا الخرق وقلة العقل يغامر بالبناء كله ،
ح في الفق من المغريات ومن الفرص فطريقة السلم بهذا الشكل مهما ي َل ُ ْ
قد يعض عليها البعض بنان الندم لنها فاتت ،فالسلم ل يكترث بهذا ول
يلقي إليه بال ً ،قد خاض معركته الساسية في داخل الذات ،ومنذ أوائل
الدعوة ربط السلم ربطا ً وثيقا ً محكما ً بين النسان وبين السماء حتى تتحرر
حركته بوحي السماء ،وحتى يكون المسلم مرتبطا ً دائما ً بالله تبارك وتعالى ،
ففي سورة المزمل يطلب الله جل وعل من نبيه صلى الله عليه وسلم أن
يقوم نصف الليل أو ثلثه أو ثلثيه تدريبا ً له على تحمل الصعوبات والمشاق
في ذات الله جل وعل وصرفا ً له عن المغريات التي يصادفها المرء في الحياة
،منذ ذلك التاريخ والسلم يقود المة خطوة وراء خطوة .
)(3 /
193