You are on page 1of 201

‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.

com‬‬

‫تم تحميل هذا الكتاب‬


‫من مكتبة موقع‬
‫"بّلغوا عّني ولو آية"‬
‫رسالتنا‪ :‬يصل الكثير من الناس بعض الرسائل اللكترونية عن السلم ويقومون‬
‫صصنا هذه‬‫بحذفها أو تجاهلها بحجة أنها طويلة ويثقل عليهم قراءتها‪ .‬لذلك خ ّ‬
‫الصفحة للشتراك في عظة يومية قصيرة أو حديث شريف أو آية تصل إلى بريد‬
‫المشترك بحيث لن يصعب قرائتها والستفادة منها راجيا من المولى عز وجل‬
‫الجر والثواب‪ .‬مثال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬بلّـغوا عنّـي ولو‬
‫‪".‬آية‬

‫للشتراك في هذه الخدمة الرجاء زيارة موقعنا "بلّـغوا عنّـي ولو آية" في السفل‬
‫‪ :‬وتسجيل البريد اللكتروني‬
‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪ :‬أو عن طريق إرسال رسالة ولو فارغة إلى‬


‫‪subscribe@balligho.com‬‬

‫‪.‬ويمكنكم أيضا أن تتصفحوا الرشيف بالحاديث المرسلة مسبقًا‬

‫ن في السلم سنة حسنة‪ ،‬فعمل بها‬ ‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬من س ّ‬
‫بعده‪ ،‬كتب له مثل أجر من عمل بها‪ .‬ول ينقص من أجورهم شيء‪ ...‬الحديث‪.‬‬
‫فاحرصوا يرحمكم ال على نشرها فكل من يزور الموقع ويستفيد منه عن طريقك‬
‫تكسب من الجر الكثير وإن قام بدوره بالعمل بها ونشرها أيضا فكلنا نكسب أمثل‬
‫‪.‬أجورهم ول ينقص من الجر شيئا‬

‫والسّنة‬
‫ب َ‬
‫دة إلى الك َِتا ِ‬ ‫و َ‬‫ع ْ‬
‫منهاجنا‪َ :‬‬
‫مة‬ ‫ف ال ُ‬‫سل َ ِ‬ ‫بِ َ‬
‫ّ‬ ‫هم ِ َ‬‫ف ْ‬

‫‪1‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ةة ةةةةة ةةة ةةةةةة ةةةة ةةةةةة ةةةةةةة ةةةةةةة‬


‫)ةةةة ةةة ةةةةةةةة ةةة ةةةة ةةةةةةة ةةةةةةة ةةة‬
‫ةةةةةةةة(‬

‫الكتاب ‪ :‬موسوعة البحوث والمقالت العلمية‬


‫جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة‬
‫حوالي خمسة آلف وتسعمائة مقال وبحث‬
‫علي بن نايف الشحود‬

‫ضا فهذا الذي أوَرد َْته عليك النفس يجب عليك طرده في جميع السباب‬ ‫وأي ً‬
‫مع مسبباتها حتى في أسباب دخول الجنة والنجاة من النار‪ ،‬فهل تعطلها‬
‫اعتماًدا على التوكل أم تقوم بها مع التوكل؟ بل لن تخلو الرض من متوكل‬
‫صبر نفسه لله ومل قلبه من الثقة به ورجائه وحسن الظن به‪ ،‬فضاق قلبه مع‬
‫ذلك عن مباشرة بعض السباب فسكن قلبه إلى الله واطمأن إليه ووثق به‪،‬‬
‫وكان هذا من أقوى أسباب حصول رزقه‪ ،‬فلم يعطل السبب‪ ،‬وإنما رغب عن‬
‫سبب إلى سبب أقوى منه فكان توكله أوثق السباب عنده؛ فكان اشتغال‬
‫قلبه بالله وسكونه إليه وتضرعه إليه أحب إليه من اشتغاله بسبب يمنعه من‬
‫ذلك‪ ،‬أو من كماله؛ فلم يتسع قلبه للمرين فأعرض عن أحدهما إلى الخر‪.‬‬
‫ول ريب أن هذا أكمل حال ً ممن امتل قلبه بالسبب‪ ،‬واشتغل به عن ربه‪.‬‬
‫وأكمل منهما من جمع المرين؛ وهي حال الرسل والصحابة؛ فقد كان زكريا‬
‫نجاًرا‪ ،‬وقد أمر الله نوحا ً أن يصنع السفينة‪ ،‬ولم يكن في الصحابة من يعطل‬
‫السبب اعتمادا ً على التوكل‪ ،‬بل كانوا أقوم الناس بالمرين؛ أل ترى أنهم‬
‫بذلوا جهدهم في محاربة أعداء الدين بأيديهم وألسنتهم‪ ،‬وقاموا في ذلك‬
‫بحقيقة التوكل‪ ،‬وعمروا أموالهم وأصلحوها وأعدوا لهليهم كفايتهم من‬
‫القوت اقتداء بسيد المتوكلين صلوات الله وسلمه عليه وآله«)‪.(13‬‬
‫صرِ الل ّهِ َ ْ ُ ُ َ ْ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫ر‬ ‫ص‬ ‫ن‬‫ي‬ ‫ويقول سيد قطب ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬عند قوله تعالى‪) :‬ب ِن َ ْ‬
‫م( )الروم‪:(5:‬‬‫حي ُ‬ ‫شاُء وَهُوَ ال ْعَ ِ‬
‫زيُز الّر ِ‬ ‫يَ َ‬
‫»فالمر له من قبل ومن بعد‪ ،‬وهو ينصر من يشاء؛ ل مقيد لمشيئته سبحانه‪.‬‬
‫والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر السباب‪ .‬فل تعارض بين‬
‫تعليق النصر بالمشيئة ووجود السباب‪ .‬والنواميس التي تصرف هذا الوجود‬
‫كله صادرة عن المشيئة الطليقة‪ .‬وقد أراد الله عز وجل أن تكون هناك سنن‬
‫ل تتخلف؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات‪ .‬والنصر والهزيمة أحوال‬
‫تنشأ عن مؤثرات‪ ،‬وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة‪.‬‬
‫والعقيدة السلمية واضحة ومنطقية في هذا المجال؛ فهي ترد المر كله إلى‬
‫الله؛ ولكنها ل تعفي البشر من الخذ بالسباب الطبيعية التي من شأنها أن‬
‫تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع‪ .‬أما أن تتحقق تلك النتائج فعل ً أو ل‬
‫تتحقق فليس داخل ً في التكليف؛ لن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله‪.‬‬
‫ولقد ترك العرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه‬
‫ل‪» :‬توكلت على الله«‪ ،‬فقال له رسول الله صلى الله‬ ‫وسلم ودخل يصلي قائ ً‬
‫عليه وسلم‪» :‬اعقلها وتوكل«)‪ .(14‬فالتوكل في العقيدة مقيد بالخذ‬

‫‪2‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بالسباب‪ ،‬ورد المر بعد ذلك إلى الله«)‪.(15‬‬


‫كا‪ :‬ذلك الخلف القديم والجديد في‬ ‫ومما له علقة بمسألة السباب فعل ً أو تر ً‬
‫النظر إلى السباب والمبالغة في أثرها والتعلق بها‪ ،‬أو إلغائها وإنكارها؛ فكان‬
‫الناس فيها طرفين مذمومين منحرفين‪ ،‬وهدى الله عز وجل من شاء من‬
‫عباده إلى الموقف الوسط العدل فيها‪.‬‬
‫ويجلي هذه المسألة المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬حيث يقول‪:‬‬
‫»والناس في السباب والقوى والطبائع ثلثة أقسام‪:‬‬
‫منهم‪ :‬من بالغ في نفيها وإنكارها‪ ،‬فأضحك العقلء على عقله‪ .‬وزعم أنه بذلك‬
‫ينصر الشرع‪ ،‬فجنى على العقل والشرع‪ ،‬وسلط خصمه عليه‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬من ربط العالم العلوي والسفلي بها بدون ارتباطها بمشيئة فاعل‬
‫مختار‪ ،‬ومدبر لها يصرفها كيف أراد؛ فيسلب قوة هذا ويقيم لقوة هذا قوة‬
‫تعارضه‪ ،‬ويكف قوة هذا عن التأثير مع بقائها‪ ،‬ويتصرف فيها كما يشاء ويختار‪.‬‬
‫وهذان طرفان جائران عن الصواب‪.‬‬
‫عا‪ .‬وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله‬ ‫قا وأمًرا‪ ،‬وقدًرا وشر ً‬‫ومنهم‪ :‬من أثبتها خل ً‬
‫به من‪ :‬كونها تحت تدبيره ومشيئته‪ ،‬وهي طوع المشيئة والرادة‪ ،‬ومحل‬
‫وي سبحانه بعضها ببعض‪ ،‬ويبطل ‪ -‬إن شاء ‪ -‬بعضها‬ ‫جريان حكمها عليها‪ .‬فيق ّ‬
‫ببعض‪ ،‬ويسلب بعضها قوته وسببيته‪ ،‬وُيعريها منها‪ ،‬ويمنعه من موجبها مع‬
‫بقائها عليه؛ ليعلم خلقه أنه الفّعال لما يريد‪ ،‬وأنه ل مستقل بالفعل والتأثير‬
‫غير مشيئته‪ ،‬وأن التعلق بالسبب دونه كالتعلق ببيت العنكبوت‪ ،‬مع كونه سبًبا‪.‬‬
‫كم يوجب للعبد ‪ -‬إذا تبصر فيه ‪-‬‬ ‫ح َ‬
‫وهذا باب عظيم نافع في التوحيد‪ ،‬وإثبات ال ِ‬
‫الصعود من السباب إلى مسببها‪ ،‬والتعلق به دونها‪ ،‬وأنها ل تضر ول تنفع إل‬
‫بإذنه‪ ،‬وأنه إذا شاء جعل نافعها ضاًرا وضارها نافًعا ودواءها داًء وداءها دواًء‪.‬‬
‫فاللتفات إليها بالكلية شرك مناف للتوحيد‪ ،‬وإنكار أن تكون أسباًبا بالكلية‬
‫قدح في الشرع والحكمة‪ .‬والعراض عنها ‪ -‬مع العلم بكونها أسباًبا ‪ -‬نقصان‬
‫في العقل‪ .‬وتنزيلها منازلها‪ ،‬ومدافعة بعضها ببعض‪ ،‬وتسليط بعضها على‬
‫بعض‪ ،‬وشهود الجمع مع تفرقها‪ ،‬والقيام بها هو محض العبودية والمعرفة‪،‬‬
‫وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة‪ .‬والله أعلم«)‪.(16‬‬
‫] ‪ [ 14‬التوازن بين طلقة المشيئة اللهية وثبات السنن الكونية‪:‬‬

‫)‪(27 /‬‬

‫وهذه الصورة من التوازن لها علقة بالصورة السابقة‪ ،‬ولكن آثرت إفرادها‬
‫في صورة مستقلة لهميتها؛ وذلك أن الناس فيها طرفان ووسط‪.‬‬
‫الطرف الول‪ :‬من قصر نظره على ثبات السنن الكونية‪ ،‬واعتمد على ذلك‬
‫اعتماًدا كلًيا دون أن ينظر إلى طلقة المشيئة اللهية‪ ،‬وغفل عن أن الله‬
‫سبحانه الذي ثّبت هذه السنن وجعلها مطردة حاسمة قادر متى شاء وكيف‬
‫شاء أن يخرق هذه السنن؛ لنه الفعال لما يريد‪ ،‬والقادر على كل شيء‪ .‬وهذا‬
‫الطرف الذي أفرط في النظر إلى ثبات السنن الكونية مثله مثل من أفرط‬
‫في فعل السباب وتعلق بها كما في الصورة السابقة‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬من نظر إلى طلقة المشيئة اللهية ولم يعتبر بثبات السنن‬
‫الكونية وترتب النتائج على السباب‪ ،‬فأفرط في نظرته لطلقة المشيئة‬
‫اللهية مما جعله يفّرط في الخذ بالسباب والنتفاع من السنن الكونية‪ ،‬بل‬
‫اعتمد على الخوارق دون بذل الجهد والعمل‪ .‬وهذا مثله في الصورة السابقة‬
‫ما أنه متوكل على الله تعالى‪.‬‬
‫مثل من ترك الخذ بالسباب زاع ً‬

‫‪3‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والوسط‪ :‬من نظر إلى ثبات السنة الكونية وعمل في ضوئها وبذل السباب‬
‫دا‪ .‬بل يؤمن بأن الله عز وجل‬ ‫الممكنة دون أن يتعلق بها أو بكونها ل تنخرق أب ً‬
‫يخرقها متى شاء لمن بذل السباب والجهد واستنفد ما في وسعه من العمل‬
‫والجهد والجهاد؛ كما هي حال النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وصحبه الكرام؛‬
‫حيث بذلوا الجهد والعمل في سبيل الله عز وجل‪ ،‬واستحقوا أن ينصرهم الله‬
‫عز وجل بجند من عنده‪ ،‬ويخرق لهم من السنن الثابتة ما يظن الناس أنها ل‬
‫تنخرق وهذا هو ما في القرآن الكريم؛ حيث ذكر الله عز وجل أن له سنًنا‬
‫ثابتة ل تتبدل ول تتحول وفي ضوئها يعمل الناس وتنضبط حركاتهم وأعمالهم‪،‬‬
‫جد َ‬ ‫ن تَ ِ‬‫ديل ً وَل َ ْ‬ ‫ت الل ّهِ ت َب ْ ِ‬ ‫سن ّ ِ‬ ‫جد َ ل ِ ُ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫ويكيفون حياتهم وفقها كما قال تعالى‪) :‬فَل َ ْ‬
‫ل( )فاطر‪ :‬من الية ‪.(43‬‬ ‫وي ً‬ ‫ح ِ‬‫ت الل ّهِ ت َ ْ‬ ‫سن ّ ِ‬ ‫لِ ُ‬
‫وفي مواطن أخرى من القرآن يذكر الله سبحانه أنه فعال لما يريد‪ ،‬وأنه متى‬
‫ما‬‫شاء سبحانه خرق هذه السنن لمن شاء من عباده كما في قوله تعالى‪) :‬إ ِن ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن( )النحل‪ ،(40:‬وقوله تعالى‪:‬‬ ‫كو ُ‬ ‫ن فَي َ ُ‬ ‫ه كُ ْ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫قو َ‬ ‫ن نَ ُ‬ ‫يٍء إ َِذا أَرد َْناه ُ أ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫قَوْل َُنا ل ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ك الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ل ك َذ َل ِ َ‬‫عاقٌِر َقا َ‬ ‫مَرأِتي َ‬ ‫ي ال ْك ِب َُر َوا ْ‬ ‫م وَقَد ْ ب َل َغَن ِ َ‬ ‫غل ٌ‬ ‫ن ِلي ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫ب أّنى ي َ ُ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫)َقا َ‬
‫َ‬
‫ن ِلي وَل َد ٌ‬ ‫كو ُ‬ ‫ب أّنى ي َ ُ‬ ‫ت َر ّ‬ ‫شاُء( )آل عمران‪ ،(40:‬وقوله تعالى‪َ) :‬قال َ ْ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫فعَ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫ما ي َشاُء( )آل عمران‪ :‬من الية ‪،(47‬‬ ‫َ‬ ‫خل ق ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫ّ‬
‫ك الل ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سِني ب َشٌر قال كذل ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫َ‬
‫وَل ْ‬
‫كوِني‬ ‫ن قُل َْنا َيا َناُر ُ‬ ‫لي‬
‫ِ ِ َ‬ ‫ع‬ ‫َ‬
‫فا‬ ‫م‬ ‫ت‬‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ك‬
‫َِ َ ْ ِ ْ ُْ ْ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ت‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫آ‬ ‫روا‬ ‫ص‬ ‫ن‬
‫ُ َ ْ ُ ُ‬‫وا‬ ‫ه‬ ‫قو‬‫ُ‬ ‫ر‬ ‫ح‬
‫َ ّ‬ ‫لوا‬‫ُ‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫)‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫وقوله‬
‫ن( )النبياء‪-68:‬‬ ‫ري‬ ‫س‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫جعَل َْناهُم اْل َ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫يد‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫دوا‬ ‫را‬ ‫بردا ً وسلما ً عََلى إبراهيم وأ َ‬
‫َ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِْ َ ِ َ َ َ ُ ِ ِ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬
‫‪ .(70‬وغيرها من اليات التي تقرر نفوذ مشيئة الله عز وجل وعدم تقيدها‬
‫ما ل فكاك‬ ‫بقيد ما مما يخطر على قلب بشر مما يحسبه الناس قانوًنا لز ً‬
‫منه‪.‬‬
‫يقول سيد قطب ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» : -‬وبين ثبات السنن وطلقة المشيئة‬
‫اللهية يقف الضمير البشري على أرض ثابتة مستقرة؛ يعمل فيها وهو يعلم‬
‫طبيعة الرض‪ ،‬وطبيعة الطريق‪ ،‬وغاية السعي‪ ،‬وجزاء الحركة‪ .‬ويتعرف إلى‬
‫نواميس الكون‪ ،‬وسنن الحياة‪ ،‬وطاقات الرض‪ ،‬وينتفع بها وبتجاربه الثابتة‬
‫فيها بمنهج علمي ثابت‪ .‬وفي الوقت ذاته يعيش موصول الروح بالله‪ ،‬معلق‬
‫القلب بمشيئته؛ ل يستكثر عليها شيئًا‪ ،‬ول يستبعد عليها شيًئا‪ ،‬ول ييئس أمام‬
‫دا‪ .‬يعيش طليق التصور‪ ،‬غير محصور في قوالب حديدية‪ ،‬يضع‬ ‫ضغط الواقع أب ً‬
‫فيها نفسه‪ ،‬ويتصور أن مشيئة الله ‪ -‬سبحانه ‪ -‬محصورة فيها! وهكذا ل يتبلد‬
‫مر رجاؤه‪ ،‬ول يعيش في إلف مكرور!‬ ‫حسه‪ ،‬ول يض ُ‬
‫سّنة‪ ،‬لنه مأمور‬ ‫والمسلم يأخذ بالسباب لنه مأمور بالخذ بها‪ .‬ويعمل وفق ال ّ‬
‫بمراعاتها‪ ،‬ل لنه يعتقد أن السباب والوسائل هي المنشئة للمسببات‬
‫والنتائج؛ فهو يرد المر كله إلى خالق السباب‪ ،‬ويتعلق به وحده من وراء‬
‫السباب‪ ،‬بعد أداء واجبه في الحركة والسعي والعمل واتخاذ السباب طاعة‬
‫لمر الله‪.‬‬
‫وهكذا ينتفع المسلم بثبات السنن في بناء تجاربه العلمية وطرائقه العملية‪،‬‬
‫في التعامل مع الكون وأسراره وطاقاته ومدخراته؛ فل يفوته شيء من مزايا‬
‫العلوم التجريبية والطرائق العملية‪ .‬وهو في الوقت ذاته موصول القلب بالله‪،‬‬
‫حي القلب بهذا التصال‪ ،‬موصول الضمير بالمشاعر الدبية الخلقية‪ ،‬التي‬
‫ترفع العمر وتباركه وتزكيه‪ ،‬وتسمو بالحياة النسانية إلى أقصى الكمال‬
‫المقدر لها في الرض‪ ،‬وفي حدود طاقة النسان«)‪.(17‬‬
‫] ‪ [ 15‬التوازن والوسطية في تكفير المعين ‪:‬‬
‫إن مسألة تكفير المعين مسألة خطيرة وذلك من جهتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬من جهة تكفير المعين الذي ل يستحق التكفير بمجرد شبهات ل‬

‫‪4‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ترتقي إلى القطع بتكفيره‪.‬‬


‫الثانية‪ :‬عدم تكفير المعين المقطوع بكفره والحكم بإسلمه‪.‬‬

‫)‪(28 /‬‬

‫وبناء على ذلك فإن الناس في تكفير المعين طرفان مذمومان ووسط‬
‫محمود‪.‬‬
‫الطرف الول‪ :‬من غل وأفرط في تكفير المعين بمجرد تلبسه بأمر مكفر‬
‫دون أن ينظر إلى توفر الشروط في تكفيره وانتفاء الموانع‪ .‬بل إن مجرد‬
‫التلبس بقول‪ ،‬أو عمل مكفرين‪ ،‬فإنه عند هذا الفريق من الناس كافر بعينه‬
‫مهما وجد من الموانع من ذلك؛ كالكراه أو التأول‪ ،‬أو الخطأ أو غير ذلك من‬
‫العوارض الشرعية‪..‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬من فّرط وتساهل في عدم تكفير المعين حتى أدى به المر‬
‫إلى القول بأنه ل يجوز تكفير المعين مهما أتى بناقض من نواقض السلم ما‬
‫دا‪ ،‬مهما توفرت الشروط‪ ،‬وانتفت الموانع‪ .‬وهذا‬ ‫لم يعتقد الكفر ويقصده قص ً‬
‫جفاء وتضييع وتفريط ويؤول إلى أنه ل مرتد في السلم‪ ،‬وبالتالي ل حاجة‬
‫إلى وجود أحكام المرتد في الفقه السلمي‪.‬‬
‫صل في ذلك‬ ‫الموقف الوسط العدل‪ :‬من فّرق بين الكفر ومرتكب الكفر‪ ،‬وف ّ‬
‫وقال‪ :‬إن من تلبس بمكفر أو ناقض من نواقض السلم فإن المتعين في‬
‫حقه أن ينظر إلى حال هذا المعّين فإذا لم تتوفر الشروط في تكفيره أو وجد‬
‫مانع من تكفيره؛ كالكراه والخطأ وغيرهما؛ فإنه ل يجوز تكفيره والحالة هذه‪.‬‬
‫أما إذا رؤي أن شروط تكفيره متوفرة ول يوجد مانع شرعي من تكفيره فإنه‬
‫يحكم بتكفيره بعينه وتطبق عليه أحكام المرتد‪ .‬وهذا التفصيل هو شأن‬
‫الراسخين في العلم‪ ،‬الذين هم وسط بين الغالي والجافي‪ ،‬نسأل الله عز‬
‫وجل أن يلحقنا بهم‪ .‬وبهذا الموقف العدل يسلم المسلم من تكفير من لم‬
‫يستحق التكفير‪ ،‬كما يسلم من جعل الكافر أو المرتد في عداد المسلمين‪.‬‬
‫] ‪ [ 16‬التوازن والوسط بين الدنيا والخرة ‪:‬‬
‫ن الد ّن َْيا‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫صيب َك ِ‬ ‫س نَ ِ‬ ‫خَرةَ َول ت َن ْ َ‬ ‫ْ‬
‫داَر ال ِ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ك الل ّ ُ‬ ‫ما آَتا َ‬ ‫قال الله تعالى‪َ) :‬واب ْت َِغ ِفي َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ه إ ِل َي ْك َول ت َب ِْغ ال َ‬
‫ْ‬ ‫وأ َحسن ك َ َ‬
‫ب‬‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ض إِ ّ‬
‫ساد َ ِفي الْر ِ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬‫س َ‬ ‫ح َ‬
‫ما أ ْ‬‫َ ْ ِ ْ َ‬
‫ن( )القصص‪.(77:‬‬ ‫دي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫يقول السعدي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في تفسير هذه الية‪ ...» :‬أي قد حصل‬
‫عندك من وسائل الخرة ما ليس عند غيرك من الموال فابتغ بها ما عند الله‪،‬‬
‫س‬
‫وتصدق ول تقتصر على مجرد نيل الشهوات وتحصيل اللذات‪َ) .‬ول ت َن ْ َ‬
‫ن الد ّن َْيا( أي ل نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائًعا‪ ،‬بل أنفق‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫صيب َ َ‬ ‫نَ ِ‬
‫عا ل يثلم دينك ول يضر آخرتك«)‪.(18‬‬ ‫لخرتك‪ ،‬واستمتع بدنياك استمتا ً‬
‫ما‬
‫وقال المام ابن كثير ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬عند هذه الية‪» :‬وقوله‪َ) :‬واب ْت َِغ ِفي َ‬
‫ن الد ّن َْيا(‪ ،‬أي‪ :‬استعمل ما وهبك الله‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫صيب َ َ‬‫س نَ ِ‬ ‫خَرةَ َول ت َن ْ َ‬ ‫داَر اْل ِ‬
‫ه ال ّ‬ ‫ك الل ّ ُ‬ ‫آَتا َ‬
‫من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫صيب َ َ‬ ‫س نَ ِ‬ ‫القربات‪ ،‬التي يحصل لك بها الثواب في الدار الخرة‪َ) ،‬ول ت َن ْ َ‬
‫الد ّن َْيا(‪ ،‬أي‪ :‬مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملبس والمساكن‬
‫قا‪،‬‬ ‫قا‪ ،‬ولهلك عليك ح ً‬ ‫قا‪ ،‬ولنفسك عليك ح ً‬ ‫والمناكح‪ ،‬فإن لربك عليك ح ً‬
‫قا‪ ،‬فآت كل ذي حق حقه«)‪.(19‬‬ ‫ولَزْورك عليك ح ً‬
‫هّ‬ ‫َ‬
‫ما آَتاك الل ُ‬ ‫ويقول سيد قطب ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬عند هذه الية‪َ)» :‬واب ْت َِغ ِفي َ‬
‫ن الد ّن َْيا( ‪ ..‬وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج‬ ‫م َ‬‫ك ِ‬ ‫صيب َ َ‬
‫س نَ ِ‬ ‫خَرةَ َول ت َن ْ َ‬ ‫داَر اْل ِ‬ ‫ال ّ‬

‫‪5‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫اللهي القويم‪ .‬المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالخرة‪ ،‬ول يحرمه أن‬
‫يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة‪ .‬بل يحضه على هذا ويكلفه إياه‬
‫فا‪ ،‬كي ل يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها‪.‬‬
‫تكلي ً‬
‫لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس‪ ،‬وليعملوا في الرض لتوفيرها‬
‫وتحصيلها؛ فتنمو الحياة وتتجدد‪ ،‬وتتحقق خلفة النسان في هذه الرض‪ .‬ذلك‬
‫على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الخرة‪ ،‬فل ينحرفون عن طريقها‪،‬‬
‫ول ُيشغلون بالمتاع عن تكاليفها‪ .‬والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان‬
‫الشكر للمنعم‪ ،‬وتقبل لعطاياه‪ ،‬وانتفاع بها‪ ،‬فهو طاعة من الطاعات يجزي‬
‫عليها الله بالحسنى‪.‬‬
‫وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة النسان‪ ،‬ويمكنه من‬
‫الرتقاء الروحي الدائم من خلل حياته الطبيعية المتعادلة‪ ،‬التي ل حرمان‬
‫فيها‪ ،‬ول إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة«)‪.(20‬‬
‫والناس في نظرهم للدنيا والخرة طرفان ووسط‪:‬‬
‫الطرف الول‪ :‬من جعل همه للدنيا وقصر نظره عليها‪ ،‬وكأنه مخلد فيها‪ .‬وهو‬
‫وإن كان يؤمن بالخرة إل أنه فصلها عن الدنيا ونظر إلى أنه ل يمكن الجمع‬
‫بين الدنيا والخرة؛ فإما أن ينصرف إلى الدنيا وإما إلى الخرة‪ ،‬واستدل‬
‫أصحاب هذا الطرف بالنصوص التي فيها الحث على العمل والكسب ونسوا‬
‫الدلة الخرى‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬يشارك الطرف الول في فهمه للدنيا والخرة؛ وذلك‬
‫باستحالة الجمع بين الدنيا والخرة‪ ،‬ويفترق عنه في أنه انصرف إلى الخرة‬
‫وانقطع عن الدنيا وأهلها‪ ،‬وترك الدنيا لهل الفساد يعيثون فيها ويفسدون‪،‬‬
‫واستدل أصحاب هذا الطرف باليات التي تحث على الزهد في الدنيا‪.‬‬

‫)‪(29 /‬‬

‫الطرف العدل والوسط‪ :‬وهم أهل الحق الذين عملوا بالية التي سبق شرحها‬
‫في سورة القصص‪ ،‬وعملوا بكل اليات والحاديث الواردة في العمل‬
‫والصلح في الدنيا‪ ،‬وكذلك التي وردت في التحذير من الدنيا والستعداد‬
‫للخرة؛ فجمعوا بين النصوص‪ ،‬وتوجهوا إلى الدنيا بعمارتها وإصلحها‪،‬‬
‫دوها مزرعة الخرة فجعلوها في أيديهم ل في‬ ‫ومدافعة المفسدين فيها‪ ،‬وع ّ‬
‫قلوبهم‪ ،‬ونظروا إليها على أنها ممر ومحطة للتزود منها للخرة‪ ،‬وأنها فانية ل‬
‫تساوي شيًئا في مقابل النعيم البدي في الدار الخرة‪.‬‬
‫وفي ذلك يقول شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬والناس‬
‫أقسام‪:‬‬
‫أصحاب »دنيا محضة«‪ :‬وهم المعرضون عن الخرة‪.‬‬
‫وأصحاب »دين فاسد«‪ :‬وهم الكفار والمبتدعة الذين يتدينون بما لم يشرعه‬
‫الله من أنواع العبادات والزهادات‪.‬‬
‫و »القسم الثالث«‪ :‬وهم أهل الدين الصحيح؛ أهل السلم المستمسكون‬
‫بالكتاب والسنة والجماعة‪ ،‬والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لول أن‬
‫هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق«)‪.(21‬‬
‫ويقول الشيخ سفر الحوالي ‪ -‬حفظه الله تعالى ‪:-‬‬
‫»وأهل السنة والجماعة وسط حتى في حياتهم العملية‪:‬‬
‫فمن أهل السنة والجماعة من كان يلي القضاء‪ ،‬ومن كان بلي بعض‬
‫المناصب‪ ،‬ومن كان ذا مال وسعة وفضل‪ .‬وفي أصحاب رسول الله صلى‬

‫‪6‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الله عليه وسلم السوة الكاملة؛ فقد كان فيهم أهل الثراء والغنى‪ ،‬كما كان‬
‫ضا أهل الفاقة والفقر‪ ،‬وأهل الصبر‬ ‫في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أي ً‬
‫والزهد‪ ،‬وكان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أهل العبادة والذكر‪،‬‬
‫كما كان فيهم أهل الجهاد‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫دهم حصل عندهم الضطراب في ذلك؛ فبعضهم مال إلى الدنيا‪،‬‬ ‫ن بع َ‬
‫م ْ‬
‫و َ‬
‫وركن إليها‪ ،‬ولم يتحرز من قبول أي ولية‪ ،‬ولم يتحرز من قبول أي منصب‪،‬‬
‫ول في التوسع في الدنيا والخذ منها‪ ،‬وقالوا‪ :‬هذه خيرات وطيبات أحلها الله؛‬
‫فتوسعوا في ذلك توسًعا أخرجهم عما كان عليه السلف من التقلل من الدنيا‬
‫والرغبة في الخرة‪ ،‬وصدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ومنهم طائفة مالت إلى العكس‪ :‬فأخذوا بالزهد وتركوا متاع الحياة الدنيا‪،‬‬
‫حتى أنهم حّرموا الطيبات‪ ،‬أو على القل نظروا إلى من يأخذ شيًئا من‬
‫الطيبات بأنه خارج عن الصواب وعن إصابة الحق‪.‬‬
‫فهذا المر وإن كان أمرا واقعًيا ‪ -‬أي في التطبيق العملي ‪ -‬إل أنه يوصلنا‬
‫ويدلنا على توسط أهل السنة والجماعة فيه‪.‬‬
‫خاصية عظمى يتميز بها أهل السنة والجماعة‪ :‬وهي أنهم يدخلون في السلم‬
‫كله ويجمعون الدين كله«)‪.(22‬‬
‫ويجلي هذه الحقيقة سيد قطب ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬حيث يقول‪» :‬لقد افترق‬
‫طريق الدنيا وطريق الخرة في تفكير كثير من الناس وضميرهم وواقعهم؛‬
‫بحيث أصبح الفرد العادي ‪ -‬وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة ‪ -‬ل يرى أن‬
‫هنالك سبيل ً لللتقاء بين الطرفين‪ .‬ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق‬
‫الدنيا فيهمل الخرة من حسابه‪ ،‬وإما أن يختار طريق الخرة فيهمل الدنيا من‬
‫حسابه‪ ،‬ول سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ول واقع؛ لن واقع الرض‬
‫والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا‪.‬‬
‫حقيقة‪ :‬إن أوضاع الحياة الجاهلية البعيدة عن الله‪ ،‬وعن منهجه للحياة اليوم‬
‫تباعد بين طريق الدنيا وطريق الخرة‪ ،‬وتحتم على الذين يريدون البروز في‬
‫المجتمع‪ ،‬والكسب في مضمار المنافع الدنيوية أن يتخلوا عن طريق الخرة‪،‬‬
‫وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية والتصورات الرفيعة والسلوك‬
‫النظيف الذي يحض عليه الدين‪ .‬كما تحتم على الذين يريدون النجاة في‬
‫الخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة‪ ،‬والوسائل التي يصل بها‬
‫الناس في مثل هذه الوضاع إلى البروز في المجتمع‪ ،‬والكسب في مضمار‬
‫المنافع؛ لنها وسائل ل يمكن أن تكون نظيفة ول مطابقة للدين والخلق‪ ،‬ول‬
‫مرضية لله سبحانه‪ .‬ولكن تراها ضربة لزب! ترى أنه ل مفر من هذا الحال‬
‫التعيس؟ ول سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الخرة؟‬
‫كل إنها ليست ضربة لزب! فالعداء بين الدنيا والخرة‪ ،‬والفتراق بين طريق‬
‫الدنيا وطريق الخرة ليس هو الحقيقة النهائية التي ل تقبل التبديل‪ ،‬بل إنها‬
‫ل‪ ،‬إنما هي عارض ناشئ من انحراف‬ ‫ليست من طبيعة هذه الحياة أص ً‬
‫طارئ!‬

‫)‪(30 /‬‬

‫إن الصل في طبيعة الحياة النسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق‬
‫الخرة‪ ،‬وأن يكون الطريق إلى صلح الخرة هو ذاته الطريق إلى صلح‬
‫الدنيا‪ ،‬وأن يكون النتاج والنماء والوفرة في عمل الرض هو ذاته المؤهل‬
‫لنيل ثواب الخرة‪ ،‬كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا‪ ،‬وأن يكون‬

‫‪7‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫اليمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الرض‪ ،‬كما أنها هي‬
‫وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الخروي‪ .‬هذا هو الصل في طبيعة‬
‫الحياة النسانية؛ ولكن هذا الصل ل يتحقق إل حين تقوم الحياة على منهج‬
‫الله الذي رضيه للناس؛ فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة‪ ،‬وهو الذي‬
‫يجعل الخلفة في الرض وفق شريعة الله فريضة‪ .‬والخلفة عمل وإنتاج‪،‬‬
‫ووفرة ونماء‪ ،‬وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن‬
‫تحت أرجلهم كما يقول الله في كتابه الكريم ‪...‬‬
‫والمنهج السلمي ‪ -‬بهذا ‪ -‬يجمع بين العمل للدنيا والعمل للخرة في توافق‬
‫وت عليه آخرته‬ ‫وت على النسان دنياه لينال آخرته‪ ،‬ول يف ّ‬ ‫وتناسق؛ فل يف ّ‬
‫لينال دنياه؛ فهما ليسا نقيضين ول بديلين في التصور السلمي ‪ ...‬إن هذا‬
‫الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الخرة في حياة الناس‪ ،‬وبين العمل‬
‫للدنيا والعمل للخرة‪ ،‬وبين العبادة الروحية والبداع المادي‪ ،‬وبين النجاح في‬
‫الحياة الدنيا‪ ،‬والنجاح في الحياة الخرى؛ إن هذا الفصام النكد ليس ضريبة‬
‫مفروضة على البشرية بحكم من أحكام القدر الحتمية! إنما هو ضريبة بائسة‬
‫فرضتها البشرية على نفسها وهي تشرد عن منهج الله‪ ،‬وتتخذ لنفسها مناهج‬
‫أخرى من عند أنفسها معادية لمنهج الله في الساس والتجاه‪.‬‬
‫وهي ضريبة يؤديها الناس من دمائهم وأعصابهم في الحياة الدنيا‪ ،‬فوق ما‬
‫يؤدونه منها في الخرة وهو أشد وأنكى‪.‬‬
‫قا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر‪ ،‬من جراء خواء قلوبهم من‬ ‫إنهم يؤدونها قل ً‬
‫طمأنينة اليمان وبشاشته وزاده وريه‪ ،‬إذا هم آثروا اطراح الدين كله‪ ،‬على‬
‫زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والنتاج والعلم والتجربة‪ ،‬والنجاح‬
‫الفردي والجماعي في المعترك العالمي! ذلك أنهم في هذه الحالة يصارعون‬
‫فطرتهم‪ ،‬يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تمل القلب‪ ،‬ول تطيق الفراغ‬
‫والخواء‪ .‬وهي جوعة ل تملؤها مذاهب اجتماعية‪ ،‬أو فلسفية‪ ،‬أو فنية على‬
‫الطلق‪ ،‬لنها جوعة النزعة إلى إله‪.‬‬
‫قا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر إذا هم حاولوا‬ ‫وهم يؤدونها كذلك قل ً‬
‫الحتفاظ بعقيدة في الله‪ ،‬وحاولوا معها مزاولة الحياة في هذا المجتمع‬
‫العالمي الذي يقوم نظامه كله وتقوم أوضاعه وتقوم تصوراته‪ ،‬وتقوم وسائل‬
‫الكسب فيه ووسائل النجاح على غير منهج الله‪ ،‬وتتصادم فيه العقيدة الدينية‬
‫والخلق الديني‪ ،‬والسلوك الديني‪ ،‬مع الوضاع والقوانين والقيم والموازين‬
‫السائدة في هذا المجتمع المنكود‪.‬‬
‫وتعاني البشرية كلها ذلك الشقاء‪ ،‬سواء اتبعت المذاهب المادية اللحادية‪ ،‬أو‬
‫المذاهب المادية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة بعيدة عن نظام الحياة‬
‫العملية‪ ،‬وتتصور ‪ -‬أو يصور لها أعداء البشرية ‪ -‬أن الدين لله‪ ،‬وأن الحياة‬
‫للناس! وأن الدين عقيدة وشعور وعبادة وخلق‪ ،‬والحياة نظام وقانون وإنتاج‬
‫وعمل!‬
‫وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة ضريبة الشقاء والقلق والحيرة والخواء‬
‫لنها ل تهتدي إلى منهج الله الذي ل يفصل بين الدنيا والخرة بل يجمع‪ ،‬ول‬
‫يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الخرة‪ ،‬بل ينسق‪.‬‬
‫ما ل تؤمن ول‬ ‫ول يجوز أن تخدعنا ظواهر كاذبة‪ ،‬في فترة موقوتة؛ إذ نرى أم ً‬
‫تتقي‪ ،‬ول تقيم منهج الله في حياتها‪ ،‬وهي موفورة الخيرات‪ ،‬كثيرة النتاج‬
‫عظيمة الرخاء‪.‬‬
‫إنه رخاء موقوت حتى تفعل السنن الثابتة فعلها الثابت‪ ،‬وحتى تظهر كل آثار‬
‫الفصام النكد بين البداع المادي والمنهج الرباني‪ .‬والن تظهر بعض هذه الثار‬

‫‪8‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫في صور شتى‪:‬‬


‫ً‬
‫‪ -‬تظهر في سوء التوزيع في هذه المم؛ مما يجعل المجتمع حافل بالشقاء‪،‬‬
‫وحافل ً بالمخاوف من النقلبات المتوقعة نتيجة هذه الحقاد الكظيمة‪ .‬وهو‬
‫بلء على رغم الرخاء!‪..‬‬
‫عا‬
‫‪ -‬وتظهر في الكبت والقمع والخوف في المم التي أرادت أن تضمن نو ً‬
‫من عدالة التوزيع‪ ،‬واتخذت طريق التحطيم والقمع والرهاب ونشر الخوف‬
‫والذعر لقرار الجراءات التي تأخذ بها لعادة التوزيع وهو بلء ل يأمن‬
‫النسان فيه على نفسه ول يطمئن ول يبيت ليلة في سلم!‬
‫‪ -‬وتظهر في النحلل النفسي والخلقي الذي يؤدي بدوره ‪ -‬إن عاجل ً أو آجل ً ‪-‬‬
‫إلى تدمير الحياة المادية ذاتها‪ .‬فالعمل والنتاج والتوزيع‪ :‬كلها في حاجة إلى‬
‫ضمانة الخلق‪ .‬والقانون الرضي وحده عاجز كل العجز عن تقديم الضمانات‬
‫لسير العمل كما نرى في كل مكان!‬

‫)‪(31 /‬‬

‫‪ -‬وتظهر في القلق العصبي والمراض المنوعة التي تجتاح أمم العالم ‪-‬‬
‫وبخاصة أشدها رخاء مادًيا ‪ -‬مما يهبط بمستوى الذكاء والحتمال‪ ،‬ويهبط بعد‬
‫ذلك بمستوى العمل والنتاج‪ ،‬وينتهي إلى تدمير القتصاد المادي والرخاء!‬
‫وهذه الدلئل اليوم واضحة وضوحا ً كافيا ً يلفت النظار!‬
‫‪ -‬وتظهر في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي‬
‫المتوقع في كل لحظة في هذا العالم المضطرب؛ الذي تحوم حوله نذر‬
‫الحرب المدمرة‪ .‬وهو خوف يضغط على أعصاب الناس من حيث يشعرون أو‬
‫ل يشعرون‪ ،‬فيصيبهم بشتى المراض العصبية‪ .‬ولم ينتشر الموت بالسكتة‬
‫وانفجار المخ والنتحار كما انتشر في أمم الرخاء«)‪ (23‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫] ‪ [ 17‬العدل والتوازن في الولء والبراء ‪:‬‬
‫الولء والبراء صلب عقيدة التوحيد؛ فكلمة التوحيد نصفها براءة من الشرك‬
‫وأهله؛ وذلك من قول‪) :‬ل إله(‪ .‬والنصف الخر ولء لله عز وجل وعبودية له‬
‫سبحانه؛ وذلك من قول‪) :‬إل الله(؛ فالعبد ل يصح توحيده إل بعبادة الله عز‬
‫وجل وموالته‪ ،‬ومحبة ما يحبه ومن يحبه سبحانه‪ ،‬والبراءة من كل ما يُعبد‬
‫من دون الله تعالى‪ ،‬وبغض ما يبغضه ومن يبغضه عز وجل‪ .‬ولقد حصل في‬
‫عقيدة الولء والبراء ‪ -‬كما في غيرها من أبواب العتقاد ‪ -‬غلو وجفاء‪ ،‬فكان‬
‫الناس في فهم الحب والولء طرفان ووسط‪:‬‬
‫الطرف الول‪ :‬من غل وأفرط في فهمه للمحبة والولء؛ حيث غل في الحكم‬
‫على من وقع في موالة الكفار‪ ،‬ولم يفرق بين الموالة المكفرة وغير‬
‫المكفرة‪ ،‬بل عد ّ أي نوع من أنواع الموالة للكفار ردة وكفر‪ .‬كما أن هذا‬
‫الطرف لم يفرق بين المداراة والمداهنة؛ فعد ّ أي صورة من صور المداراة‬
‫والتقية مداهنة وموالة‪ ،‬كما غل في بغضه للمخالف فتبرأ منه كما يتبرأ من‬
‫الكفار‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬من فّرط في فهمه وتطبيقه لهذه الشعيرة العظيمة‪ ،‬ووقع‬
‫في موالة الكفار ومداهنتهم بحجة المداراة والتقية‪ ،‬ولم يفرق بين المحرم‬
‫منها والمخرج من الملة‪ ،‬بل هي عنده إما جائزة أو محرمة ل تخرج من‬
‫الملة‪.‬‬
‫الموقف الوسط‪ :‬وهو موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم‬
‫بإحسان؛ وهو وجوب محبة الله عز وجل‪ ،‬ومحبة ما يحبه من اليمان‬

‫‪9‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والعمال الصالحة‪ ،‬ومحبة من يحبه سبحانه من أنبيائه وأتباعهم من‬


‫المؤمنين‪ ،‬وبغض ما يبغضه الله عز وجل من الشرك والكفر والفسوق‬
‫والعصيان‪ ،‬والبراءة ممن يبغضه الله عز وجل من أهل الشرك والكفر‬
‫والعصيان‪ ،‬ولكنهم يفرقون بين الكافر والعاصي في الموالة؛ فهم يتولون‬
‫المؤمنين التقياء ويحبونهم من كل وجه ول يتبرأون منهم من أي وجه‪،‬‬
‫ويتبرأون من كل كافر ومشرك ومنافق من كل وجه‪ ،‬ول يوالونهم من أي‬
‫وجه‪ ،‬وأما المؤمن العاصي المصر على فسقه فهم ل يتبرأون منه بإطلق‪،‬‬
‫ول يتولونه باطلق‪ ،‬بل يتولونه الولء العام للمؤمنين بما معه من اليمان‪،‬‬
‫ويتبرأون منه من وجه بما يصر عليه من الفسوق والعصيان‪.‬‬
‫كما أنهم ل ينظرون إلى موالة الكفار بحكم واحد‪ ،‬بل يرون أن موالة الكفار‬
‫تنقسم إلى‪ :‬ولء مكفر مخرج من الملة؛ وهو تولي الكفار ومحبتهم لدينهم‪،‬‬
‫أو مظاهرتهم ونصرتهم على المسلمين‪ ،‬وولء دون الكفر وهو ما لم يكن‬
‫تولًيا ومحبة ونصرة للكفار؛ فهم لم يعدوا جميع صور موالة الكفار كفًرا أكبًرا‬
‫كالطرف الول‪ ،‬ولم يعدوها جميعها من المور المحرمة غير المكفرة‬
‫كالطرف الثاني؛ فهم وسط بين الطرفين كما أنهم يفرقون بين المداراة‬
‫والتقية المشروعة وبين المداهنة والتقية المحرمة؛ فل يلغون المدارة والتقية‬
‫قا‪ ،‬ول يفتحونها على مصراعيها حتى توقعهم في المداهنة والموالة‬ ‫مطل ً‬
‫المحرمة للكفار‪.‬‬
‫كما أنهم وسط في بغضهم ومحبتهم؛ فل يغلون في حبهم للشخاص حتى‬
‫يقدسونهم أو يخلعون عليهم ثوب العصمة‪ ،‬ول يغلون في بغضهم للشخاص‬
‫حتى يقعوا في ظلمهم وبخسهم حقهم أو اتهامهم بما ل يقولونه أو يعتقدونه‬
‫أو يعملونه‪ ،‬ول يتجاهلون حسناتهم وجهادهم وبلءهم‪.‬‬
‫قال الرسول صلى الله عليه وسلم‪» :‬أحبب حبيبك هوًنا ما عسى أن يكون‬
‫ما ما«)‪.(24‬‬ ‫ما ما‪ ،‬وأبغض بغيضك هوًنا ما عسى أن يكون حبيبك يو ً‬ ‫بغيضك يو ً‬
‫وأعرض فيما يلي بعض المثلة لفقد التوازن في الحب أو البغض‪:‬‬
‫ذكر الذهبي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في السير أن محمد بن يحيى النيسابوري‬
‫أخذه الحزن على أحمد بن حنبل ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬ودفعه حبه لن يقول‪:‬‬
‫ينبغي لكل أهل دار بغداد أن يقيموا عليه النياحة في دورهم‪.‬‬
‫علق الذهبي على هذا بقوله‪) :‬تكلم الذهلي بمقتضى الحزن ل بمقتضى‬
‫الشرع()‪.(25‬‬
‫ومن ذلك أن إمام الحرمين أبا المعالي ‪ -‬شيخ الشافعية بنيسابور ‪ -‬حين مات‬
‫ما‬
‫غلقت السواق‪ ،‬وكسر أربعمائة من تلميذه محابرهم وأقلمهم وجلسوا عا ً‬
‫ل يغطون رؤوسهم‪ ،‬يطوفون في البلد نائحين عليه مبالغين في الصياح‬
‫والجزع‪ .‬قال الذهبي‪) :‬هذا كان من زي العاجم ل من فعل العلماء المتبعين(‬
‫)‪.(26‬‬

‫)‪(32 /‬‬

‫ومن ذلك قول من قال في المام أحمد ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪) :-‬عندنا‬
‫بخراسان يظنون أن أحمد ل يشبه البشر؛ يظنون أنه من الملئكة( وقول‬
‫الخر‪) :‬نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة(‪ .‬علق الذهبي على هذا الغلو‬
‫فا المحب والمحبوب بقوله‪) :‬هذا غلو ل ينبغي‪ ،‬لكن الباعث له حب ولي‬ ‫منص ً‬
‫الله في الله()‪.(27‬‬
‫ومن صور غلو المخالفين في البغض‪:‬‬

‫‪10‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫التهوين من شأن مخالفهم والحط من قدره إلى درجة ل تعقل ول تليق؛ ومن‬
‫ذلك أن فقيًها من فقهاء العراق ‪ -‬وهو من أهل الرأي ‪ -‬لما رجع من الحج أراد‬
‫أن يبشر أهل الكوفة بتقدمهم في علوم الشريعة على من خالفهم فقال‪:‬‬
‫)أبشروا يا أهل الكوفة؛ فإني قدمت على أهل الحجاز‪ ،‬فرأيت عطاء‬
‫دا‪ ،‬فصبيانكم بل صبيان صبيانكم أفقه منهم(‪ .‬يقول المغيرة‬ ‫سا ومجاه ً‬ ‫وطاوو ً‬
‫‪ -‬راوي هذه الواقعة ‪) :-‬فرأينا أن ذاك بغي منه()‪.(28‬‬
‫وقد يدفع البغض أصحاب الغلو إلى الفتراء والبهتان؛ ومن ذلك أنه نسب‬
‫لب ‪ -‬رأس المتكلمين في البصرة ‪ -‬الذي كان يرد على‬ ‫البعض إلى ابن ك ُ ّ‬
‫المعتزلة والجهمية أنه إنما ابتدع ما ابتدعه ‪ -‬من القضايا الكلمية ‪ -‬ليدس دين‬
‫النصارى في ملتنا‪ ،‬وأنه أرضى أخته بذلك‪ .‬يقول الذهبي في إنصاف الرجل‪:‬‬
‫)وهذا باطل‪ ،‬والرجل أقرب المتكلمين إلى السنة()‪.(29‬‬
‫س على ابن بطوطة في كتابه من أنه سمع‬ ‫ومن الفتراء على أهل العلم ما د ُ ّ‬
‫ابن تيمية يقول على منبر مسجد دمشق الموي‪) :‬إن الله ينزل كل ليلة ‪(..‬‬
‫قال‪ :‬كنزولي هذا‪ ،‬ونزل على المنبر‪ .‬افتروا ذلك على ابن تيمية لتأييد‬
‫دعواهم فيما ينسبونه إلىه من التشبيه والتجسيم‪ ،‬مع أن ابن تيمية كان في‬
‫سجن قلعة دمشق أثناء مرور ابن بطوطة بدمشق)‪.(30‬‬
‫وفي واقعنا المعاصر صور وأمثلة مؤذية من الغلو وفقدان العدل في الحب أو‬
‫البغض‪ ،‬وهي من الوضوح بحيث ل تحتاج إلى ذكر وتفصيل‪ ،‬وإن كان سيأتي‬
‫لها ذكر في مبحث العدل والتوازن مع المخالف إن شاء الله تعالى‪.‬‬
‫] ‪ [ 18‬العدل والتوازن في الموقف من العقل ‪:‬‬
‫سنة وسط في نظرتهم للعقل بين الذين غلو في العقل وعظموه‬ ‫أهل ال ّ‬
‫وأدخلوه في غير مجاله‪ ،‬وظنوا أنه يمكن أن يقدم على النقل‪ ،‬وردوا‬
‫الحاديث الصحيحة بزعم مخالفتها للمعقول‪ ،‬وبين الطرف المقابل لهؤلء؛‬
‫وهم الذين وقعوا في الطرف المناقض حتى للعقل الفطري البدهي؛ فابتعدوا‬
‫عن تعليل الحكام الشرعية وإظهار الحكمة فيها‪ ،‬أو قبلوا بالخرافات‬
‫والساطير المصادمة لبدهية العقول‪ .‬وكل الطرفين ابتعد عن منهج أهل‬
‫سنة‪ ،‬وهدى الله السلف وأتباعهم لما اخُتلف فيه من الحق بإذنه؛ حيث‬ ‫ال ّ‬
‫جهوه‬ ‫أعطوا العقل مكانته اللئقة به‪ ،‬ولم يعارضوا به النصوص‪ ،‬وإنما و ّ‬
‫لتدبرها‪ ،‬والستنباط منها‪ ،‬والتسليم بما لم تحط به العقول منها‪ .‬والقرآن‬
‫مليء بالستدللت العقلية‪ ،‬والبراهين النظرية؛ كالقيسة والمثال‪ ،‬ومليء‬
‫َ‬
‫سيُروا‬ ‫م يَ ِ‬‫بالنصوص التي تذم المعطلين لعقولهم كما في قوله تعالى‪) :‬أفَل َ ْ‬
‫َ‬ ‫ِفي اْل َْرض فَت َ ُ‬
‫مى‬‫ن ب َِها فَإ ِن َّها ل ت َعْ َ‬
‫مُعو َ‬ ‫س َ‬‫ن يَ ْ‬‫ن ب َِها أوْ آَذا ٌ‬ ‫قُلو َ‬‫ب ي َعْ ِ‬ ‫م قُُلو ٌ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬ ‫كو َ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫دوِر( )الحج‪ ،(46:‬وكما في قوله‬ ‫ّ ُ‬‫ص‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ب‬‫ُ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫مى‬ ‫صاُر وَل َ ِ ْ َ ْ َ‬
‫ع‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫اْلب ْ َ‬
‫ن( )الروم‪ :‬من‬ ‫قُلو َ‬ ‫قوْم ٍ ي َعْ ِ‬
‫ت لِ َ‬‫ك َليا ٍ‬ ‫ن ِفي ذ َل ِ َ‬ ‫تعالى ‪ -‬وفي أكثر من آية ‪) :-‬إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫ن( )ّيس‪ :‬من الية ‪.(31)(68‬‬ ‫قُلو َ‬ ‫الية ‪ ،(24‬وقوله‪) :‬أَفل ي َعْ ِ‬
‫يقول شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬ولما أعرض كثير من‬
‫أرباب الكلم والحروف‪ ،‬وأرباب العمل والصوت‪ ،‬عن القرآن واليمان‪ :‬تجدهم‬
‫في العقل على طريق كثير من المتكلمة؛ يجعلون العقل وحده أصل علمهم‪،‬‬
‫ويفردونه‪ ،‬ويجعلون اليمان والقرآن تابعين له‪.‬‬
‫والمعقولت عندهم هي الصول الكلية الولية‪ ،‬المستغنية بنفسها عن اليمان‬
‫والقرآن‪.‬‬
‫وكثير من المتصوفة يذمون العقل ويعيبونه‪ ،‬ويرون أن الحوال العالية‪،‬‬
‫ذب به‬ ‫والمقامات الرفيعة‪ ،‬ل تحصل إل مع عدمه‪ ،‬ويقرون من المور بما ُيك ّ‬
‫صريح العقل‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ويمدحون السكر والجنون والوله‪ ،‬وأموًرا من المعارف والحوال التي ل تكون‬


‫إل مع زوال العقل والتمييز‪ ،‬كما يصدقون بأمور يعلم بالعقل الصريح بطلنها‬
‫ممن لم يعلم صدقه‪ ،‬وكل الطرفين مذموم‪.‬‬
‫بل العقل شرط في معرفة العلوم‪ ،‬وكمال وصلح العمال‪ ،‬وبه يكمل العلم‬
‫والعمل؛ لكنه ليس مستقل بذلك؛ لكنه غريزة في النفس‪ ،‬وقوة فيها بمنزلة‬
‫قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور اليمان والقرآن‪ ،‬كان كنور‬
‫العين إذا اتصل به نور الشمس والنار‪.‬‬
‫وإن انفرد بنفسه لم يبصر المور التي يعجز وحده عن دركها‪ ،‬وإن عزل‬
‫بالكلية كانت القوال والفعال مع عدمه أموًرا حيوانية‪ ،‬قد يكون فيها محبة‪،‬‬
‫ووجد‪ ،‬وذوق‪ ،‬كما قد يحصل للبهيمة‪.‬‬
‫فالحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة‪ ،‬والقوال المخالفة للعقل باطلة‪.‬‬

‫)‪(33 /‬‬

‫والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه‪ ،‬لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه‪،‬‬
‫لكن المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها‪ ،‬وامتناعها لحجج عقلية‬
‫قا‪ ،‬وهي باطل‪ ،‬وعارضوا بها النبوات وما جاءت به‪،‬‬ ‫بزعمهم اعتقدوها ح ً‬
‫والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة‪ ،‬ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة‪،‬‬
‫وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم«)‪.(32‬‬
‫مسألة‪ :‬تتعلق بدور العقل في معرفة حسن الشياء وقبحها‪:‬‬
‫ضا من المسائل التي ضل فيها طرفان عن الحق‪ ،‬وهدى الله عز‬ ‫وهذه أي ً‬
‫وجل أتباع السلف إلى الحق فيها‪ .‬فكان الناس فيها طرفان مذمومان ووسط‬
‫عدل محمود‪.‬‬
‫الطرف الول‪ :‬من غل وأفرط في دور العقل واستقلليته في معرفة قبح‬
‫الشياء وحسنها‪ ،‬حتى آل بهم المر إلى أن الثواب أو العقاب عليها ثابت‬
‫بالعقل وليس متوقف على الشرع وإبلغ الرسل‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬من فّرط ونفى أن يكون للعقل دور في التحسين والتقبيح‬
‫وإنما ذلك متوقف على الشرع‪.‬‬
‫الوسط العدل‪ :‬يثبتون دور العقل في معرفة الحسن والقبيح؛ أما العقاب‬
‫والثواب عليها فمتوقف على الشرع وإبلغ الرسل‪.‬‬
‫وقد أفاض المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في ذكر الدلة التي يرد بها‬
‫على الفريقين المذمومين‪ :‬الغلة والجفاة‪ ،‬وبخاصة على النفاة منهم؛ فقال ‪-‬‬
‫رحمه الله تعالى ‪» :-‬فاعلم أن هذا مقام عظيم زلت فيه أقدام طائفتين من‬
‫الناس‪ :‬طائفة من أهل الكلم والنظر‪ ،‬وطائفة من أهل السلوك والرادة‪.‬‬
‫فنفى لجله كثير من النظار التحسين والتقبيح العقليين‪ ،‬وجعلوا الفعال كلها‬
‫سواء في نفس المر‪ ،‬وأنها غير منقسمة في ذواتها إلى حسن وقبيح‪ ،‬ول‬
‫يميز القبيح بصفة اقتضت قبحه‪ ،‬بحيث يكون منشأ القبح‪ ،‬وكذلك الحسن‪،‬‬
‫فليس للفعل عندهم منشأ حسن ول قبح‪ ،‬ول مصلحة ول مفسدة‪ ،‬ول فرق‬
‫بين السجود للشيطان والسجود للرحمن في نفس المر‪ ،‬ول بين الصدق‬
‫والكذب‪ ،‬ول بين السفاح والنكاح‪ ،‬إل أن الشارع حّرم هذا وأوجب هذا؛ فمعنى‬
‫حسنه كونه مأموًرا به‪ ،‬ل أنه منشأ مصلحة‪ ،‬ومعنى قبحه كونه منهّيا عنه‪ ،‬ل‬
‫أنه منشأ مفسدة‪ ،‬ول فيه صفة اقتضت قبحه‪ ،‬ومعنى حسنه أن الشارع أمر‬
‫به ل أنه منشأ مصلحة‪ ،‬ول فيه صفة اقتضت حسنه‪.‬‬
‫وقد بينا بطلن هذا المذهب من ستين وجًها في كتابنا المسمى »تحفة‬

‫‪12‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫النازلين بجوار رب العالمين«)‪ (33‬وأشبعنا الكلم في هذه المسألة هناك‪.‬‬


‫وذكرنا جميع ما احتج به أرباب هذا المذهب وبينا بطلنه‪.‬‬
‫فإن هذا المذهب ‪ -‬بعد تصوره‪ ،‬وتصور لوازمه ‪ -‬يجزم العقل ببطلنه‪ .‬وقد دل‬
‫القرآن على فساده في غير موضع‪ ،‬والفطرة أيضا ً وصريح العقل‪.‬‬
‫طر عباده على استحسان الصدق والعدل‪ ،‬والعفة‬ ‫فإن الله سبحانه فَ َ‬
‫والحسان‪ ،‬ومقابلة النعم بالشكر‪ .‬وفَط ََرهم على استقباح أضدادها‪ .‬ونسبة‬
‫هذا إلى فطرهم وعقولهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم‪ ،‬وكنسبة‬
‫مهم‪ ،‬وكنسبة الصوت اللذيذ وضده إلى‬ ‫رائحة المسك ورائحة الن ّْتن إلى مشا ّ‬
‫أسماعهم‪ .‬وكذلك كل ما يدركونه بمشاعرهم الظاهرة والباطنة فيفرقون بين‬
‫طيبه وخبيثه‪ ،‬ونافعه وضاره‪.‬‬
‫وقد زعم بعض نفاة التحسين والتقبيح أن هذا متفق عليه‪ ،‬وهو راجع إلى‬
‫الملئمة والمنافرة‪ ،‬بحسب اقتضاء الطباع‪ ،‬وقبولها للشيء‪ ،‬وانتفاعها به‪،‬‬
‫ونفرتها من ضده‪.‬‬
‫قا للذم والمدح‬ ‫ّ‬
‫مت َعَل ً‬
‫قالوا‪ :‬وهذا ليس الكلم فيه‪ ،‬وإنما الكلم في كون الفعل ُ‬
‫ل‪ ،‬والثواب والعقاب آجل‪ .‬فهذا الذي نفيناه‪ ،‬وقلنا‪ :‬إنه ل يعلم إل بالشرع‪.‬‬ ‫عاج ً‬
‫ض له‪.‬‬
‫وقال خصومنا‪ :‬إنه معلوم بالعقل‪ ،‬والعقل مقت ٍ‬
‫فيقال‪ :‬هذا فرار من الزحف؛ إذ ههنا أمران متغايران ل تلزم بينهما‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه وقبحه‪ ،‬بحيث‬
‫ينشأ الحسن والقبح منه؛ فيكون منشأ لهما أم ل؟‬
‫والثاني‪ :‬أن الثواب المرتب على حسن الفعل‪ ،‬والعقاب المرتب على قبحه‪،‬‬
‫ثابت ‪ -‬بل واقع ‪ -‬بالعقل‪ ،‬أم ل يقع إل بالشرع؟‬
‫ولما ذهب المعتزلة ومن وافقهم إلى تلزم الصلين استطلتم عليهم‪ ،‬وتمكنتم‬
‫من إبداء تناقضهم وفضائحهم‪ ،‬ولما نفيتم أنتم الصلين جميًعا استطالوا‬
‫عليكم‪ ،‬وأبدوا من فضائحهم وخلفكم لصريح العقل والفطرة ما أبدوه؛ وهم‬
‫غلطوا في تلزم الصلين‪ ،‬وأنتم غلطتم في نفي الصلين‪.‬‬
‫والحق الذي ل يجد التناقض إليه السبيل‪ :‬أنه ل تلزم بينهما‪ ،‬وأن الفعال في‬
‫نفسها حسنة وقبيحة‪ ،‬كما أنها نافعة وضارة‪ .‬والفرق بينهما كالفرق بين‬
‫المطعومات والمشمومات والمرئيات‪ .‬ولكن ل يترتب عليها ثواب ول عقاب‬
‫حا موجًبا للعقاب مع‬ ‫إل بالمر والنهي‪ .‬وقبل ورود المر والنهي ل يكون قبي ً‬
‫قبحه في نفسه؛ بل هو في غاية القبح‪ ،‬والله ل يعاقب عليه إل بعد إرسال‬
‫الرسل‪ .‬فالسجود للشيطان والوثان‪ ،‬والكذب والزنا‪ ،‬والظلم والفواحش كلها‬
‫قبيحة في ذاتها؛ والعقاب عليها مشروط بالشرع‪.‬‬

‫)‪(34 /‬‬

‫فالنفاة يقولون‪ :‬ليست في ذاتها قبيحة‪ ،‬وقبحها والعقاب عليها إنما ينشأ‬
‫بالشرع‪ .‬والمعتزلة تقول‪ :‬قبحها والعقاب عليها ثابتان بالعقل‪ .‬وكثير من‬
‫الفقهاء من الطوائف الربع يقولون‪ :‬قبحها ثابت بالعقل‪ ،‬والعقاب متوقف‬
‫على ورود الشرع؛ وهو الذي ذكره سعد بن علي الزنجاني من الشافعية‪ ،‬وأبو‬
‫صا‪ .‬لكن‬ ‫الخطاب من الحنابلة‪ ،‬وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة ن ّ‬
‫المعتزلة منهم يصرحون بأن العقاب ثابت بالعقل‪.‬‬
‫وقد دل القرآن أنه ل تلزم بين المرين‪ ،‬وأنه ل يعاقب إل بإرسال الرسل‪،‬‬
‫وأن الفعل نفسه حسن وقبيح‪ .‬ونحن نبين دللته على المرين‪:‬‬
‫ً‬
‫سول( )السراء‪:‬‬ ‫ث َر ُ‬
‫حّتى ن َب ْعَ َ‬
‫ن َ‬ ‫ما ك ُّنا ُ‬
‫معَذ ِّبي َ‬ ‫أما الول‪ :‬ففي قوله تعالى‪) :‬وَ َ‬

‫‪13‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫س عََلى الل ّهِ‬ ‫ن ُِللّنا ِ‬ ‫كو َ‬ ‫ن ل ِئ َّل ي َ ُ‬ ‫من ْذِِري َ‬ ‫ن وَ ُ‬ ‫ري َ‬ ‫ش ِ‬ ‫مب َ ّ‬ ‫سل ً ُ‬ ‫من الية ‪ ،(15‬وفي قوله‪ُ) :‬ر ُ‬
‫ج‬ ‫َ‬
‫ي ِفيَها فوْ ٌ‬ ‫ق َ‬ ‫ْ‬
‫ما أل ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ل( )النساء‪ :‬من الية ‪ ،(165‬وفي قوله‪) :‬كل َ‬ ‫س ِ‬ ‫ة ب َعْد َ الّر ُ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ح ّ‬ ‫ُ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما ن َّزل الل ُ‬ ‫ذيٌر فكذب َْنا وَقلَنا َ‬ ‫جاَءَنا ن َ ِ‬ ‫ذيٌر قالوا ب َلى قد ْ َ‬ ‫م نَ ِ‬ ‫م ي َأت ِك ْ‬ ‫خَزن َت َُها أل ْ‬ ‫م َ‬ ‫سألهُ ْ‬ ‫َ‬
‫يٍء( )الملك‪ :‬من اليتين ‪(9 ،8‬؛ فلم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل‪ ،‬بل‬ ‫ْ‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ذر‪ .‬وبذلك دخلوا النار ‪...‬‬ ‫للن ُ‬
‫وأما الصل الثاني‪ :‬وهو دللته على أن الفعل في نفسه حسن وقبيح فكثير‬
‫مَرَنا ب َِها‬ ‫ة َقاُلوا وجدنا عَل َيها آباَءنا والل ّ َ‬ ‫ح َ‬ ‫جدا ً كقوله تعالى‪) :‬وَإ َِذا فَعَُلوا َفا ِ‬
‫هأ َ‬ ‫َْ َ َ َ ُ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫ش ً‬
‫قوُلون عََلى الل ّه ما ل تعل َمون قُ ْ َ‬ ‫شاِء أ َت َ ُ‬ ‫مُر ِبال ْ َ‬ ‫ْ‬
‫مَر َرّبي‬ ‫لأ َ‬ ‫َْ ُ َ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ح َ‬ ‫ف ْ‬ ‫ه ل ي َأ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫قُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫ن كَ َ‬ ‫دي َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫نل ُ‬ ‫صي َ‬ ‫خل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عوه ُ ُ‬ ‫جد ٍ َواد ْ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عن ْد َ ك ُ ّ‬ ‫م ِ‬ ‫جوهَك ُ ْ‬ ‫موا وُ ُ‬ ‫ط وَأِقي ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ِبال ْ ِ‬
‫ضلل َ ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫طي َ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫ذوا ال ّ‬ ‫خ ُ‬ ‫م ات ّ َ‬ ‫ة إ ِن ّهُ ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫حقّ عَل َي ْهِ ُ‬ ‫ريقا ً َ‬ ‫دى وَفَ ِ‬ ‫ريقا ً هَ َ‬ ‫ن فَ ِ‬ ‫م ت َُعوُدو َ‬ ‫ب َد َأك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬‫عن ْد َ ك ُ ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ذوا ِزين َت َك ُ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ن َيا ب َِني آد َ َ‬ ‫دو َ‬ ‫مهْت َ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ن أن ّهُ ْ‬ ‫سُبو َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن الل ّهِ وَي َ ْ‬ ‫ن ُدو ِ‬ ‫م ْ‬ ‫أوْل َِياَء ِ‬
‫ة‬
‫م ِزين َ َ‬ ‫حّر َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن قُ ْ‬ ‫سرِِفي َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫سرُِفوا إ ِن ّ ُ‬ ‫شَرُبوا َول ت ُ ْ‬ ‫جدٍ وَك ُُلوا َوا ْ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ق قُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حَيا ِ‬ ‫مُنوا ِفي ال َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ي ل ِل ِ‬ ‫ل هِ َ‬ ‫ن الّرْز ِ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ج ل ِعَِبادِهِ َوالطي َّبا ِ‬ ‫خَر َ‬ ‫اللهِ الِتي أ ْ‬
‫ي‬
‫م َرب ّ َ‬ ‫حّر َ‬ ‫ما َ‬ ‫ل إ ِن ّ َ‬ ‫نق ْ‬ ‫ُ‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫قوْم ٍ ي َعْل ُ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫ل اليا ِ‬ ‫ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ف ّ‬ ‫َ‬
‫مةِ كذ َل ِك ن ُ َ‬ ‫َ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م ال ِ‬ ‫ْ‬ ‫ة ي َوْ َ‬ ‫ص ً‬ ‫خال ِ َ‬ ‫الد ّن َْيا َ‬
‫هّ‬ ‫ُ‬ ‫ن تُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫شرِكوا ِبالل ِ‬ ‫حقّ وَأ ْ‬ ‫ي ب ِغَي ْرِ ال َ‬ ‫م َوالب َغْ َ‬ ‫ن َوال ِث َ‬ ‫ما ب َط َ‬ ‫من َْها وَ َ‬ ‫ما ظهََر ِ‬ ‫ش َ‬ ‫ح َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ف َ‬
‫َ‬
‫ن( )العراف‪-28:‬‬ ‫مو َ‬ ‫ما ل ت َعْل َ ُ‬ ‫قوُلوا عََلى الل ّهِ َ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫طانا ً وَأ ْ‬ ‫سل ْ َ‬ ‫ل ب ِهِ ُ‬ ‫م ي ُن َّز ْ‬ ‫ما ل َ ْ‬ ‫َ‬
‫ة قبل نهيه عنه‪ .‬وأمر باجتنابه بأخذ‬ ‫ٌ‬ ‫فاحش‬ ‫فعلهم‬ ‫أن‬ ‫سبحانه‬ ‫فأخبر‬ ‫(؛‬ ‫‪33‬‬
‫عراة ‪ -‬الرجال والنساء‪ -‬غير‬ ‫الزينة‪ .‬و »الفاحشة« ههنا هي طوافهم بالبيت ُ‬
‫مُر ِبال ْ َ‬ ‫ْ‬
‫شاِء( أي ل يأمر بما هو مناف‬ ‫ح َ‬ ‫ف ْ‬ ‫ه ل ي َأ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫قريش‪ .‬ثم قال تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫للحكمة‪.‬‬
‫ن(‪ ،‬ولو كان كونها‬ ‫َ‬
‫ما ب َط َ‬ ‫من َْها وَ َ‬ ‫ما ظهََر ِ‬ ‫َ‬ ‫ش َ‬ ‫ح َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ي ال َ‬ ‫ْ‬ ‫م َرب ّ َ‬ ‫حّر َ‬ ‫ما َ‬ ‫ل إ ِن ّ َ‬ ‫ثم قال‪) :‬قُ ْ‬
‫فواحش إنما هو لتعلق التحريم بها‪ ،‬وليست فواحش قبل ذلك‪ ،‬لكان حاصل‬
‫حّرم‪ .‬وكذلك تحريم الثم والبغي؛ فكون ذلك‬ ‫الكلم‪ :‬قل إنما حرم ربي ما َ‬
‫ما وبغًيا بمنزلة كون الشرك شركا؛ فهو شرك في نفسه قبل‬ ‫ً‬ ‫فاحشة وإث ً‬
‫النهي وبعده‪.‬‬
‫فمن قال‪ :‬إن الفاحشة والقبائح والثام إنما صارت كذلك بعد النهي‪ ،‬فهو‬
‫كا قبل ذلك‪.‬‬ ‫كا بعد النهي‪ ،‬وليس شر ً‬ ‫بمنزلة من يقول‪ :‬الشرك إنما صار شر ً‬
‫ومعلوم أن هذا وهذا مكابرة صريحة للعقل والفطرة؛ فالظلم ظلم في نفسه‬
‫قبل النهي وبعده‪ ،‬والقبيح قبيح في نفسه قبل النهي وبعده‪ ،‬والفاحشة كذلك‪،‬‬
‫وكذلك الشرك؛ ل أن هذه الحقائق صارت بالشرع كذلك‪.‬‬
‫حا عند‬ ‫حا؛ فكان قبحها من ذاتها‪ ،‬وازدادت قب ً‬ ‫نعم الشارع كساها بنهيه عنها قب ً‬
‫مه لها‪ ،‬وإخباره ببغضها وبغض فاعلها‪ .‬كما‬ ‫العقل بنهي الرب تعالى عنها‪ ،‬وذ َ ّ‬
‫م المنعم بالثناء والشكر‪ :‬حسن في‬ ‫ة ِنع َ‬ ‫أن العدل والصدق والتوحيد‪ ،‬ومقابل َ‬
‫نفسه‪ ،‬وازداد حسًنا إلى حسنه بأمر الرب به‪ ،‬وثنائه على فاعله‪ .‬وإخباره‬
‫بمحبته ذلك ومحبة فاعله«)‪.(34‬‬
‫] ‪ [ 19‬العدل والتوازن في الخلص لله تعالى ‪:‬‬
‫الخلص شرط في صحة العمال وقبولها عند الله عز وجل‪ .‬والخلص عمل‬
‫قلبي تبدو آثاره على العمال الظاهرة‪ ،‬وهو كغيره من العمال يكتنفه‬
‫طرفان مذمومان والوسط العدل بينهما‪ .‬إذن فالخلص فيه طرفان ووسط‪.‬‬
‫الطرف الول‪ :‬طرف الفراط والتقصير‪ :‬وأهله هم الذين تتعرض بعض‬
‫أعمالهم إلى ما يقدح في الخلص وابتغاء وجه الله تعالى؛ كأن يريدوا ببعض‬
‫أعمالهم الدنيا من مال أو منصب أو شهرة وثناء‪ ،‬أو غير ذلك ما يقدح في‬
‫الخلص‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(35 /‬‬

‫الطرف الثاني‪ :‬طرف الغلو والفراط‪ :‬وهم الذين يراعون الخلص‪،‬‬


‫ويحرصون على أن تكون أعمالهم ابتغاء وجه الله تعالى‪ ،‬ويحاسبون‪،‬‬
‫ويدققون على أنفسهم في ذلك إلى أن يتجاوزوا العدل الوسط فيه بحيث‬
‫يصل بهم الحال إلى التشكيك في نواياهم ونوايا الناس‪ ،‬أو يتركون بعض‬
‫العمال الصالحة ظًنا منهم بعدم الخلص فيها‪ ،‬أو صعوبة تحقيقه‪ ،‬حتى يؤول‬
‫المر بهم إلى السلبية والقعود عن أعمال البر والدعوة والمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر؛ وهذا من تزيين الشيطان ومداخله الخطيرة؛ حيث يتحول‬
‫الخلص إلى عمل سلبي يعوق عن فعل الخير‪.‬‬
‫الوسط والعدل‪ :‬وهم الذين يجاهدون أنفسهم في تحقيق الخلص في جميع‬
‫أقوالهم وأعمالهم‪ ،‬ويندفعون إلى كل عمل يرضي الله عز وجل‪ ،‬ول يلتفتون‬
‫إلى وساوس الشيطان في ترك ما يحبه الله عز وجل خشية عدم الخلص‬
‫لله تعالى‪ ،‬أو صعوبة تحقيقه‪ .‬وهم متوازنون في ذلك حيث يرون أن الخلص‬
‫ي إيجابي يدفع المرء إلى فعل كل ما يستطيعه مما يحبه الله عز‬ ‫ل قلب ٌ‬ ‫عم ٌ‬
‫وجل ابتغاء مرضات الله تعالى‪ ،‬ل أنه عمل سلبي يحول بين المرء وفعل‬
‫الطاعات ومجاهدة الفساد والمفسدين‪.‬‬
‫] ‪ [ 20‬العدل والتوازن في تحقيق شروط الجتماع والئتلف ‪:‬‬
‫إن المتأمل في كتاب الله عز وجل‪ ،‬وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد‬
‫صا كثيرة بعضها يأمر بالجتماع والئتلف على الحق‪ ،‬وبعضها ينهى عن‬ ‫نصو ً‬
‫التفرق والتنازع‪ ،‬ويحذر من عواقب التفرق في الدنيا والخرة‪ .‬وأكتفي هنا‬
‫بذكر اليات الواردة في سورة آل عمران والتي جمعت بين المر بالجتماع‬
‫والعتصام بحبله وبين النهي عن التفرق والختلف‪:‬‬
‫ت اللهِّ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫فّرقوا َواذكُروا ن ِعْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ميعا ً َول ت َ َ‬ ‫ج ِ‬‫ل الل ّهِ َ‬ ‫حب ْ‬
‫موا ب ِ َ‬‫ص ُ‬‫قال الله عز وجل‪) :‬واعْت َ ِ‬
‫وانًا‪) (...‬آل‬ ‫خ‬ ‫إ‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ن‬‫ب‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ح‬‫ب‬ ‫ص‬ ‫عل َيك ُم إذ ْ ك ُنتم أ َعداًء َفَأ َل ّف بين قُُلوب ِك ُم فَأ َ‬
‫ْ َ ْ ُ ْ ِِْ َ ِ ِ ِ ْ َ‬ ‫ِ ْ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫ُْ ْ ْ َ‬ ‫َ ْ ْ ِ‬
‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬
‫ِ ْ َْ ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫فوا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ت‬
‫َ َ‬‫خ‬
‫ْ‬ ‫وا‬ ‫قوا‬‫ُ‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ف‬
‫ِ َ َ ّ‬‫ت‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫نوا‬ ‫كو‬‫ُ‬
‫َ َ ُ‬ ‫ت‬ ‫ول‬ ‫)‬ ‫قوله‪:‬‬ ‫إلى‬ ‫(‬ ‫‪103‬‬ ‫الية‬ ‫من‬ ‫عمران‪:‬‬
‫ُ‬
‫م( )آل عمران‪.(105:‬‬ ‫ظي ٌ‬ ‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬‫ك ل َهُ ْ‬
‫ت وَأول َئ ِ َ‬ ‫م ال ْب َي َّنا ُ‬‫جاَءهُ ُ‬‫ما َ‬
‫َ‬
‫وأمر الجتماع والئتلف كغيره من المور السابقة يكتنفه طرفان مذمومان‬
‫والوسط العدل المتوازن بينهما‪.‬‬
‫الطرف الول‪ :‬طرف التقصير والتفريط في تحقيق شروط الجتماع‬
‫والئتلف‪ .‬وهم الذين يحرصون على اجتماع المسلمين ‪ -‬وبخاصة أهل العلم‬
‫والدعوة ‪ -‬دون أن يراعوا اختلف العقائد والنحل‪ .‬وهذا الطرف من الناس ل‬
‫يمتنع عنده أن يجتمع أهل القبلة من المسلمين ويتحدوا فيما بينهم دونما‬
‫مراعاة لتوجهات وعقائد المجتمعين؛ فيمكن أن يجتمع أهل السنة والجماعة‬
‫مع أهل البدع والهواء‪ ،‬كالصوفية المبتدعة أو الخوارج أو المرجئة أو‬
‫المعتزلة‪ ،‬بل إن بعض الحريصين على جمع الكلمة ل مانع عنده من الجتماع‬
‫والتقارب مع أهل البدع الكفرية كالشيعة الرافضة والعلمانيين المنافقين‪ .‬ولنا‬
‫أن نتصور هذا الجتماع المشكل من خليط من العقائد‪ :‬كل عقيدة تضاد‬
‫قيها‬ ‫الخرى‪ ،‬وكل حزب بما لديهم فرحون‪ ،‬وكل فرقة لها مصادر تل ّ‬
‫واستدللها‪ .‬فماذا عسى أن يثمر مثل هذا الجتماع إل المر والحنظل؛ لنه لن‬
‫ينتج عنه إل تنازلت أو مزايدات تخرم أصول أهل السنة والجماعة وثوابتهم‪.‬‬
‫ف طارئة يضطرون فيها إلى أن‬ ‫نعم؛ قد تمر بأهل السنة والتباع ظرو ٌ‬
‫يتحالفوا أو يجتمعوا مع بعض أهل القبلة المبتدعة ‪ -‬ل مع الكفرة الملحدة ‪-‬‬
‫في دفع خطر داهم من قبل الكفار على بلد المسلمين‪ ،‬أو في دفع منكر‬

‫‪15‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وفساد يتفق على دفعه الجميع‪ .‬وهذا الجتماع طارئ ومؤقت وفي مهمة‬
‫معينة‪ ،‬ل أنه دائم وثابت أو أن فيه تنازل ً لهل البدع أو سكوًتا عن بدعهم‪.‬‬
‫رط في تحقيق ضوابط الجتماع؛ وذلك بأن‬ ‫ف ِ‬
‫الطرف الثاني‪ :‬الغالي والم ْ‬
‫جر واسًعا‪ ،‬ويتشدد في وضع الشروط والضوابط التي تؤول بأهله إلى أن‬ ‫ح ّ‬
‫ي َ‬
‫قا يرون أنه هو الحق‪ ،‬وهو الممثل لكيان أهل‬ ‫يرسموا لنفسهم كياًنا معيًنا مغل ً‬
‫السنة والتباع؛ فمن دخله كان منهم ومن أخل بشيء من ضوابط الدخول‬
‫فهو خارج عن دائرة أهل السنة وما كان عليه سلف المة‪ .‬ول يخفى ما في‬
‫هذه النظرة من الغلو والعجاب بالنفس؛ لن أصحاب هذا الطرف سيجدون‬
‫أنفسهم في دائرة ضيقة تمثل أهل السنة عندهم‪ ،‬وغيرهم خارج هذه الدائرة‬
‫مستحقون للتبديع والتحذير منهم‪ .‬وحجة هذا الطرف أن من تلبس بأي بدعة‬
‫دقت أو جلت‪ ،‬وسواء كانت في العقائد أو العمال‪ ،‬وسواء كان المتلبس بها‬
‫دا؛ كل أولئك مبتدعة ول يجوز الجتماع معهم‪ .‬وقد يكون هذا‬ ‫جاهل ً أو مقل ً‬
‫المتلبس ببدعة دقيقة يعتقد ويتبع ما كان عليه سلف المة في جميع أموره‬
‫غير أنه تلبس ببدعة أو بدعتين؛ فهذا عندهم من المفارقين‪ ،‬وقد تكون‬
‫المخالفة في مسألة اجتهادية أو تدور بين راجح ومرجوح وليست في مسألة‬
‫أصولية‪ ،‬ومع ذلك نجد أن هذا الطرف من الناس يفارق عليها‪ ،‬وينابذ صاحبها‪.‬‬
‫وهذا من الغلو والفراط المؤديين إلى مزيد من الفرقة والتخاصم والتدابر‪.‬‬

‫)‪(36 /‬‬

‫الموقف المتوازن وهو الوسط العدل‪ :‬وهم الذين يحرصون على الجتماع‬
‫والئتلف بين أهل السنة‪ ،‬دون أن يكون ذلك على حساب العقيدة وثوابتها؛‬
‫فهم ليسوا كالطرف الول المفّرط في ضوابط الجتماع الشرعية بل‬
‫يخالفوهم في ذلك؛ فل يرون الجتماع مع أهل البدع المعروفين بأصولهم‬
‫البدعية وبالدعوة إليها‪ ،‬ولو كانوا من أهل القبلة ‪ -‬كالخوارج والمعتزلة‬
‫والمرجئة وغيرهم ‪ -‬فضل ً عن أن يكونوا من الخارجين عن الملة كفرق‬
‫الباطنية من رافضة وغيرهم‪ .‬ومع ذلك فهم ل يذهبون إلى رأي الطرف‬
‫رط في تحقيق شروط الجتماع‪ ،‬بل إنهم يرون الجتماع مع كل‬ ‫الغالي المف ِ‬
‫ن لصل من أصول أهل البدع‪ ،‬ولو‬ ‫منتسب لهل السنة والجماعة غير متب ٍ‬
‫دا‪ .‬فهذا عند الطرف العدل يعد من‬ ‫تلبس ببدعة من البدع جهل ً منه أو تقلي ً‬
‫أهل السنة والجماعة جملة‪ ،‬وإن خالفهم في مسألة جزئية من مسائل‬
‫العتقاد؛ فمثل هذا يقال إنه من أهل السنة بالجملة مخالف لهم في بدعته‬
‫فارق عليها ما دام أنه لم ينطلق في مخالفته تلك‬ ‫التي هو عليها؛ وعندها ل ي ُ َ‬
‫من أصول أهل البدع‪ ،‬مع الجتهاد في نصحه وإزالة الشبهة عنه‪.‬‬
‫كما أنهم من باب أولى ل يجعلون المسائل الجتهادية التي يخالفون فيها‬
‫غيرهم سبًبا في الفتراق‪ ،‬بل يرون الجتماع مع المنتسبين لهل السنة‬
‫والتباع ولو اختلفوا معهم في فرع أو أكثر من فروع الحكام‪ .‬فما زال‬
‫العلماء من القديم وفي عصرنا يختلفون في أحكامهم واجتهاداتهم‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فقد كانوا إخواًنا متآلفين لم يتفرقوا بسبب اختلفاتهم‪.‬‬
‫ومن الفقه بمقاصد الشريعة المحافظة على الكليات ولو تخلفت بعض‬
‫الجزئيات؛ أما أن يعكس المر فيحافظ على جزئي‪ ،‬ولو أدى إلى ذهاب‬
‫الكلي‪ ،‬فهذا غلط وقلة فقه بمقاصد الشريعة‪ .‬وبناء على ذلك فإن الجتماع‬
‫أصل كلي فل ُيفّرط فيه ول يضيع بمحافظتنا على جزئي فرعي‪ .‬أما إذا أدى‬
‫الجتماع إلى ذهاب الكليات والتنازل عن الثوابت فهذا اجتماع باطل وهو‬

‫‪16‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫كالزبد يذهب جفاًء؛ لنه مبني على شفا جرف هار‪.‬‬


‫______________‬
‫)‪ (1‬أخرجه الطبري في التفسير‪ ،(14/210) :‬ورواه مختصًرا الترمذي في‬
‫تفسير سورة براءة‪ ،‬وقال‪ :‬هذا حديث غريب ل نعرفه إل من حديث‬
‫عبدالسلم بن حرب‪.‬‬
‫)‪ (2‬وقد توسع الستاذ سيد قطب ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في هذه المسألة‬
‫المهمة بكلم نفيس حيث قال‪) :‬والتوازن بين مجال المشيئة اللهية الطليقة‪،‬‬
‫ومجال المشيئة النسانية المحدودة‪ ،‬وهي القضية المشهورة في تاريخ الجدل‬
‫في العالم كله‪ ،‬وفي المعتقدات كلها‪ ،‬وفي الفلسفات والوثنيات كذلك باسم‬
‫قضية »القضاء والقدر« أو »الجبر والختيار«‪ .‬والسلم يثبت للمشيئة اللهية‬
‫الطلقة ويثبت لها الفاعلية التي ل فاعلية سواها ول معها وفي الوقت ذاته‬
‫يثبت للمشيئة النسانية اليجابية ويجعل للنسان الدور الول في الرض‬
‫وخلفتها‪ .‬وهو دور ضخم‪ ،‬يعطي النسان مركًزا ممتاًزا في نظام الكون كله‪،‬‬
‫ويمنحه مجال ً هائل ً للعمل والفاعلية والتأثير‪ ،‬ولكن في توازن تام مع العتقاد‬
‫بطلقة المشيئة اللهية‪ ،‬وتفردها بالفاعلية الحقيقية‪ ،‬من وراء السباب‬
‫الظاهرة؛ وذلك باعتبار أن النشاط النساني هو أحد هذه السباب الظاهرة‬
‫وباعتبار أن وجود النسان ابتداء‪ ،‬وإرادته وعمله‪ ،‬وحركته ونشاطه‪ ،‬داخل في‬
‫نطاق المشيئة الطليقة‪ ،‬المحيطة بهذا الوجود وما فيه ومن فيه‪.‬‬
‫ض َول ِفي‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫صيب َةٍ ِفي الْر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫صا َ‬ ‫ما أ َ‬
‫َ‬
‫ويقرأ النسان في القرآن الكريم‪َ ) :‬‬
‫فسك ُم إّل في كتاب من قَب َ‬ ‫َ‬
‫سيٌر( )الحديد‪:‬‬ ‫ك عََلى الل ّهِ ي َ ِ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫ها إ ِ ّ‬ ‫ن ن َب َْرأ َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫َِ ٍ ِ ْ ْ ِ‬ ‫أن ْ ُ ِ ْ ِ ِ‬
‫ل‬‫ولَنا وَعََلى الل ّهِ فَل ْي َت َوَك ّ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ل ََنا هُوَ َ‬ ‫ب الل ّ ُ‬ ‫ما ك َت َ َ‬ ‫صيب ََنا إ ِّل َ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫ل لَ ْ‬ ‫‪) ،(22‬قُ ْ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ل ِ‬‫ك ُقل ك ُ ّ‬ ‫عن ْدِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قولوا هَذِهِ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ة يَ ُ‬‫سي ّئ َ ٌ‬ ‫م َ‬ ‫صب ْهُ ْ‬ ‫ن تُ ِ‬ ‫ن( )التوبة‪) ،(51:‬وَإ ِ ْ‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ديثًا( )النساء‪ :‬من الية ‪...(78‬‬ ‫ح ِ‬ ‫ن َ‬ ‫قُهو َ‬ ‫ف َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫كاُدو َ‬ ‫قوْم ِ ل ي َ َ‬ ‫ؤلِء ال ْ َ‬ ‫ل هَ ُ‬ ‫ما ِ‬ ‫عن ْدِ الل ّهِ فَ َ‬ ‫ِ‬
‫ما‬
‫حّتى ي ُغَي ُّروا َ‬ ‫قوْم ٍ َ‬ ‫ما ب ِ َ‬ ‫ه ل ي ُغَي ُّر َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ويقرأ كذلك في الجانب الخر‪) :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب ِأ َن ْ ُ‬
‫مَها عَلى‬ ‫ة أن ْعَ َ‬ ‫م ً‬‫مغَّيرا ن ِعْ َ‬ ‫م ي َك ُ‬ ‫هل ْ‬ ‫ن الل َ‬ ‫م( )الرعد‪ :‬من الية ‪) ،(11‬ذ َل ِك ب ِأ ّ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬
‫ن عََلى‬ ‫سا ُ‬ ‫ل اْل ِن ْ َ‬ ‫م( )النفال‪ :‬من الية ‪) ،(53‬ب َ ِ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ما ب ِأ َن ْ ُ‬ ‫حّتى ي ُغَي ُّروا َ‬ ‫قَوْم ٍ َ‬
‫ها‬ ‫وا َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س ّ‬ ‫ما َ‬ ‫س وَ َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ه( )القيامة‪) ،(15 ،14:‬وَن َ ْ‬ ‫مَعاِذيَر ُ‬ ‫قى َ‬ ‫صيَرةٌ وَلوْ أل َ‬ ‫سهِ ب َ ِ‬ ‫ف ِ‬
‫َ‬
‫نَ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ها( )الشمس‪:‬‬ ‫سا َ‬ ‫ن دَ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ب َ‬ ‫خا َ‬ ‫ها وَقد ْ َ‬ ‫ن َزكا َ‬ ‫م ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ها قد ْ أفل َ‬ ‫وا َ‬ ‫ق َ‬ ‫ها وَت َ ْ‬ ‫جوَر َ‬ ‫مَها ف ُ‬ ‫فَألهَ َ‬
‫ه( )النساء‪ :‬من الية ‪.(111‬‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ه عََلى ن َ ْ‬ ‫سب ُ ُ‬ ‫ما ي َك ْ ِ‬ ‫ب إ ِْثما ً فَإ ِن ّ َ‬ ‫س ْ‬ ‫ن ي َك ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫‪) ،(10 -7‬وَ َ‬

‫)‪(37 /‬‬
‫َ‬
‫ن إ ِّل أ ْ‬
‫ن‬ ‫ما ي َذ ْك ُُرو َ‬ ‫شاَء ذ َك ََره ُ وَ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ت َذ ْك َِرةٌ فَ َ‬ ‫ثم يقرأ بعد هذا وذلك‪) :‬ك َّل إ ِن ّ ُ‬
‫ن هَذِهِ ت َذ ْك َِرةٌ‬ ‫ة( )المدثر‪) ،(56-54:‬إ ِ ّ‬ ‫فَر ِ‬ ‫مغْ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫وى وَأ َهْ ُ‬ ‫ق َ‬
‫ل الت ّ ْ‬ ‫ه هُوَ أ َهْ ُ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫يَ َ‬
‫َ‬
‫ه( )النسان‪،29 :‬‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫ن إ ِّل أ ْ‬ ‫شاُءو َ‬ ‫ما ت َ َ‬ ‫سِبيل ً وَ َ‬ ‫خذ َ إ َِلى َرب ّهِ َ‬ ‫شاَء ات ّ َ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫فَ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عن ْدِ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل هُوَ ِ‬ ‫ذا قُ ْ‬ ‫م أّنى هَ َ‬ ‫مث ْلي َْها قُلت ُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ة قَد ْ أ َ‬
‫صب ْت ُ ْ‬ ‫صيب َ ٌ‬
‫م ِ‬ ‫م ُ‬ ‫صاب َت ْك ُ ْ‬
‫ما أ َ‬ ‫‪) ،(30‬أوَل ّ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫ن‬‫ن فَب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫مَعا ِ‬‫ج ْ‬
‫قى ال َ‬ ‫م الت َ َ‬ ‫م ي َوْ َ‬ ‫صاب َك ُ ْ‬
‫ما أ َ‬ ‫ديٌر وَ َ‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عَلى ك ُ ّ‬ ‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫ف ِ‬
‫ه( )آل عمران‪.(166 ،165 :‬‬ ‫الل ّ ِ‬
‫يقرأ النسان أمثال هذه المجموعات المنوعة الثلثة؛ فيدرك منها سعة مفهوم‬
‫»القدر« في التصور السلمي‪ ،‬مع بيان المجال الذي تعمل فيه المشيئة‬
‫النسانية في حدود هذا القدر المحيط‪.‬‬
‫لقد ضربت الفلسفات والعقائد المحرفة في التيه ‪ -‬في هذه القضية ‪ -‬ولم‬
‫تعد إل بالحيرة والتخليط بما في ذلك من خاضوا في هذه القضية من‬
‫متكلمي المسلمين أنفسهم ‪ ..‬ذلك أنهم قلدوا منهج الفلسفة الغريقية أكثر‬

‫‪17‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫مما تأثروا بالمنهج السلمي في علج هذه القضية‪.‬‬


‫جه المر‬ ‫في التصور السلمي ليست هناك »مشكلة« في الحقيقة‪ ،‬حين يوا َ‬
‫بمفهوم هذا التصور وإيحائه‪:‬‬
‫إن قدر الله في الناس هو الذي ينشئ ويخلق كل ما ينشأ وما ُيخلق من‬
‫الحداث والشياء والحياء ‪ ..‬وهو الذي يصّرف حياة الناس ويكّيفها‪ .‬شأنهم‬
‫في هذا شأن هذا الوجود كله كل شيء فيه مخلوق بقدر‪ ،‬وكل حركة تتم فيه‬
‫بقدر‪ .‬ولكن قدر الله في الناس يتحقق من خلل إرادة الناس وعملهم في‬
‫حّتى‬ ‫قوْم ٍ َ‬ ‫ما ب ِ َ‬‫ه ل ي ُغَي ُّر َ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫ذات أنفسهم‪ ،‬وما يحدثونه فيها من تغييرات‪) .‬إ ِ ّ‬
‫م( )الرعد‪ :‬من الية ‪ ،(11‬وكون مرد المر كله إلى المشيئة‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ما ب ِأ َن ْ ُ‬
‫ي ُغَي ُّروا َ‬
‫ً‬
‫اللهية المطلقة‪ ،‬ل يبطل هذا ول يعطله‪ .‬فالمران يجيئان مجتمعين أحيانا في‬
‫النص القرآني الواحد‪ ،‬كما رأينا في المجموعة الثالثة من هذه النماذج‪ ،‬ونحن‬
‫إنما نفترض التعارض والتناقض حين ننظر إلى القضية بتصور معين نصوغه‬
‫من عند أنفسنا عن حقيقة العلقة بين المشيئة الكبرى وحركة النسان في‬
‫نطاقها‪ .‬إل أن المنهج الصحيح‪ :‬هو أل نستمد تصوراتنا في هذا المر من‬
‫مقررات عقلية سابقة‪ .‬بل أن نستمد من النصوص مقرراتنا العقلية في مثل‬
‫هذه الموضوعات‪ ،‬وفيما تقصه علينا النصوص من شأن التقديرات اللهية في‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫المجال الذي ل دليل لنا فيه غير ما يطلعنا الله عليه منه؛ فهو قال‪) :‬فَ َ‬
‫ن إ ِّل‬ ‫شاُءو َ‬ ‫ما ت َ َ‬ ‫ل( )المزمل‪ :‬من الية ‪ ،(19‬وهو قال‪) :‬وَ َ‬ ‫سِبي ً‬ ‫خذ َ إ َِلى َرب ّهِ َ‬ ‫شاَء ات ّ َ‬ ‫َ‬
‫ن عََلى ن َ ْ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫سا ُ‬‫ل اْل ِن ْ َ‬ ‫ه( )النسان‪ :‬من الية ‪ ،(30‬وهو قال‪) :‬ب َ ِ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫أ ْ‬
‫ن‬ ‫قى معاذيره( )القيامة‪ ،(15 ،14:‬وهو قال‪) :‬فَمن يرد الل ّ َ‬ ‫صيَرة ٌ وَل َوْ أ َل ْ َ‬
‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ ُ ِ ِ‬ ‫َ َ ِ َ ُ‬ ‫بَ ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ما‬‫حَرجا ك َأن ّ َ‬ ‫ضّيقا َ‬ ‫صد َْره ُ َ‬ ‫ل َ‬ ‫جعَ ْ‬ ‫ه يَ ْ‬‫ضل ُ‬ ‫ن يُ ِ‬‫ن ي ُرِد ْ أ ْ‬
‫م ْ‬‫سلم ِ وَ َ‬ ‫صد َْره ُ ل ِل ِ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫شَر ْ‬‫ه يَ ْ‬ ‫ي َهْدِي َ ُ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ماِء( )النعام‪ :‬من الية ‪ ،(125‬وهو قال في الوقت نفسه‪َ ) :‬‬ ‫س َ‬ ‫صعّد ُ ِفي ال ّ‬ ‫يَ ّ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ما َرب ّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫د( )فصلت‪.(46:‬‬ ‫ك ب ِظلم ٍ ل ِلعَِبي ِ‬ ‫ساَء فَعَلي َْها وَ َ‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫سهِ وَ َ‬ ‫ف ِ‬‫صاِلحا فَل ِن َ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫عَ ِ‬
‫فل بد إذن ‪ -‬وفق تصور المسلم للهه وعدله في جزائه‪ ،‬وشمول مشيئته‬
‫وقدره ‪ -‬من أن تكون حقيقة النسب بين مدلولت هذه النصوص في حساب‬
‫الله من شأنها أن تسمح للنسان بقدرٍ من اليجابية في التجاه والعمل‪ ،‬يقوم‬
‫قدر مع مجال المشيئة اللهية‬ ‫عليه التكليف والجزاء دون أن يتعارض هذا ال ْ‬
‫المطلقة‪ ،‬المحيطة بالناس والشياء والحداث ‪ ..‬كيف؟‬
‫كيفيات فعل الله كلها‪ ،‬وكيفيات اتصال مشيئته بما يراد خلقه وإنشاؤه كلها ‪..‬‬
‫ليس في مقدور العقل البشري إدراكها‪ .‬والتصور السلمي يشير بتركها‬
‫للعلم المطلق‪ ،‬والتدبير المطلق ‪ -‬مع الطمأنينة إلى تقدير الله وعدله‬
‫ورحمته وفضله ‪ -‬فالتفكير البشري المحدود بحدود الزمان والمكان‪،‬‬
‫سب وهذه‬ ‫وبالتأثرات الوقتية والذاتية‪ ،‬ليس هو الذي يدرك مثل هذه الن ّ َ‬
‫الكيفيات‪ ،‬وليس هو الذي يحكم في العلقات والرتباطات بين المشيئة‬
‫اللهية والنشاط النساني‪ .‬إنما هذا كله متروك للرادة المدبرة المحيطة‬
‫والعلم المطلق الكامل‪ .‬متروك لله الذي يعلم حقيقة النسان‪ ،‬وتركيب‬
‫كينونته‪ ،‬وطاقات فطرته وعمله الحقيقي‪ ،‬ومدى ما فيه من الختيار‪ ،‬في‬
‫نطاق المشيئة المحيطة‪ ،‬ومدى ما يترتب على هذا القدر من الختيار من‬
‫جزاء‪.‬‬

‫)‪(38 /‬‬

‫وبهذا وحده يقع التوازن في التصور‪ ،‬والتوازن في الشعور‪ ،‬والطمئنان إلى‬


‫الحركة وفق منهج الله‪ ،‬والتطلع معها إلى حسن المصير ‪ ...‬إن الله قادر‬

‫‪18‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫طبًعا على تبديل فطرة النسان ‪ -‬عن طريق هذا الدين أو عن غير طريقه ‪-‬‬
‫أو خلقه بفطرة أخرى‪ .‬ولكنه شاء أن يخلق النسان بهذه الفطرة‪ ،‬وأن يخلق‬
‫الكون على هذا النحو الذي نراه‪ .‬وليس لحد من خلقه أن يسأله لماذا شاء‬
‫دا من خلقه ليس إلًها! وليس لديه العلم والدراك ‪ -‬ول إمكان‬ ‫هذا؟ لن أح ً‬
‫العلم والدراك ‪ -‬للنظام الكلي للكون‪ ،‬ولمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل‬
‫كائن في هذا الوجود‪ ،‬وللحكمة الكامنة في خلقه كل كائن بطبيعته التي خلق‬
‫عليها‪.‬‬
‫والله وحده هو الذي يعلم؛ لنه وحده هو الذي خلق الكون ومن فيه وما فيه‪،‬‬
‫وهو وحده الذي يرى ما هو خير فينشئه ويبقيه‪،‬وهو وحده الذي يقدر أحسن‬
‫ن( )المؤمنون‪ :‬من الية‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ك الل ّ َ‬‫وضع للخلق فينشئه فيه‪) :‬فَت ََباَر َ‬
‫قي َ‬‫خال ِ ِ‬ ‫س ُ‬‫ح َ‬‫هأ ْ‬‫ُ‬
‫‪.(14‬‬
‫]عن كتاب خصائص التصور السلمي ومقوماته‪ :‬ص ‪ [150-143‬مختصًرا‪.‬‬
‫)‪ (3‬فهم وسط بين هؤلء وأولئك؛ فيحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم وأصحابه الكرام ويوالونهم ويترضون عنهم‪ ،‬ول يغلون فيهم ول‬
‫يخرجونهم عن منزلتهم التي هم عليها‪.‬‬
‫)‪ (4‬مجموع الفتاوى‪.(375-3/370) :‬‬
‫)‪ (5‬خصائص التصور السلمي‪) :‬ص ‪ (162-160‬باختصار‪.‬‬
‫)‪ (6‬مجموع الفتاوى‪.(10/21) :‬‬
‫)‪ (7‬مجموع الفتاوى‪.(10/21) :‬‬
‫)‪ (8‬مدارج السالكين‪ (2/145) :‬ط دار طيبة‪.‬‬
‫)‪ (9‬مدارج السالكين‪ (228 ،2/227) :‬ط دار طيبة‪.‬‬
‫دعون أنهم يعبدون الله حًبا له ل رجاًء لثوابه ول خوًفا من‬ ‫)‪ (10‬وهم الذين ي ّ‬
‫عقابه!!‬
‫)‪ (11‬مدارج السالكين‪ (299-2/297) :‬ط دار طيبة‪.‬‬
‫)‪ (12‬مدارج السالكين‪ (3/214) :‬ط دار طيبة‪.‬‬
‫)‪ (13‬الروح‪) :‬ص ‪.(542 ،541‬‬
‫)‪ (14‬رواه الترمذي‪ ،(2649) :‬وصححه اللباني برقم )‪ (2044‬في صحيح‬
‫سنن الترمذي‪.‬‬
‫)‪ (15‬في ظلل القرآن‪.(5/2758) :‬‬
‫)‪ (16‬مدارج السالكين‪ (441 ،1/440) :‬ط دار طيبة‪.‬‬
‫)‪ (17‬خصائص التصور السلمي‪) :‬ص ‪.(142 ،141‬‬
‫)‪ (18‬تفسير السعدي‪.(4/40) :‬‬
‫)‪ (19‬تفسير ابن كثير عند الية‪ (77) :‬من سورة القصص‪.‬‬
‫)‪ (20‬في ظلل القرآن‪.(5/2711) :‬‬
‫)‪ (21‬مجموع الفتاوى‪.(623 ،10/622) :‬‬
‫)‪ (22‬عن رسالة للشيخ غير مطبوعة بعنوان‪) :‬وسطية أهل السنة‬
‫والجماعة(‪.‬‬
‫)‪ (23‬في ظلل القرآن‪ (934 - 2/931) :‬باختصار‪.‬‬
‫)‪ (24‬رواه الترمذي في البر والصلة باب القتصاد في الحب والبغض‪،‬‬
‫وصححه اللباني في صحيح الجامع‪.(178) :‬‬
‫)‪ (25‬نزهة الفضلء‪) :‬ص ‪.(814‬‬
‫)‪ (26‬نزهة الفضلء‪) :‬ص ‪.(1311‬‬
‫)‪ (27‬نزهة الفضلء‪.(816 ،815) :‬‬
‫)‪ (28‬نزهة الفضلء‪) :‬ص ‪.(486‬‬

‫‪19‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪ (29‬سير أعلم النبلء‪.(11/174) :‬‬


‫)‪ (30‬انظر )فقه الئتلف( للستاذ محمود الخزندار ‪-‬رحمه الله تعالى‪) :-‬ص‬
‫‪.(330‬‬
‫)‪ (31‬انظر كتاب )فاستقم كما أمرت(‪) :‬ص ‪ (171 ،170‬للمؤلف‪.‬‬
‫)‪ (32‬مجموع الفتاوى‪.(339 ،3/338) :‬‬
‫)‪ (33‬لعله يعني الكتاب المطبوع اليوم باسم‪) :‬مفتاح دار السعادة(؛ حيث‬
‫ذكر فيه ابن القيم أكثر من ستين وجًها على بطلن هذا المذهب‪.‬‬
‫)‪ (34‬مدارج السالكين‪ (427-1/420) :‬باختصار‪ ،‬ط‪ .‬دار طيبة‪.‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫من مظاهر العدل والوسطية والتوازن‬
‫في المر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول هذا الدين؛ ومنه الجهاد‬
‫في سبيل الله تعالى الذي هو‪ :‬ذروة سنامه‪ ،‬والطريق إلى أن تكون كلمة‬
‫الله هي العليا‪ ،‬ويكون الدين كله لله عز وجل‪ .‬وخيرية هذه المة وعزتها‬
‫متوقفان على القيام بشعيرة المر والنهي والجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال‬
‫ْ‬
‫ن‬‫ن عَ ِ‬
‫ف وَت َن ْهَوْ َ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬ ‫مُرو َ‬
‫س ت َأ ُ‬
‫ت ِللّنا ِ‬
‫ج ْ‬ ‫مةٍ أ ُ ْ‬
‫خرِ َ‬
‫ُ‬
‫خي َْر أ ّ‬
‫م َ‬ ‫الله عز وجل‪) :‬ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ه( )آل عمران‪ :‬من الية ‪.(110‬‬ ‫ن ِبالل ّ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫من ْك َرِ وَت ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬
‫ومن أجل القيام بها على الوجه المشروع المرضي لله تعالى جاءت اليات‬
‫والحاديث التي ترسم معالمها وضوابطها وتحذر عن النحراف بها يميًنا‬
‫ل‪ ،‬وتهدي إلى الوسطية والعدل الذي هو سمة بارزة للمة الوسط التي‬ ‫وشما ً‬
‫هي خير أمة أخرجت للناس‪.‬‬
‫وقد افترق الناس في القيام بشعيرة المر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى‬
‫طرفين ووسط‪.‬‬
‫الطرف الول‪ :‬أهل الغلو والفراط‪ :‬وهم الذين قاموا بهذه الشعيرة وباشروا‬
‫المر والنهي دون مراعاة للضوابط الشرعية للمر والنهي‪ ،‬ودون النظر في‬
‫الموازنة بين المفاسد والمصالح‪ ،‬ودون مراعاة لحوال الزمان أو المكان أو‬
‫الشخاص‪ ،‬بل قد يصل بهم الفراط إلى الخروج على المة بالسيف‪ ،‬كما‬
‫حصل ذلك من الخوارج‪ ،‬والمعتزلة ومن تأثر بهما‪.‬‬

‫)‪(39 /‬‬

‫ويتحدث المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬عن شمول الشريعة وكمالها‬
‫وخيريتها ويضرب لذلك أمثلة فيقول‪» :‬فإن الشريعة مبناها وأساسها على‬
‫دل كلها‪ ،‬ورحمة كلها‪،‬‬‫كم ومصالح العباد في المَعاش والمعاد‪ ،‬وهي عَ ْ‬ ‫ح َ‬‫ال ِ‬
‫ومصالح كّلها‪ ،‬وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجوِْر‪ ،‬وعن‬
‫الرحمة إلى ضدها‪ ،‬وعن المصلحة إلى المفسدة‪ ،‬وعن الحكمة إلى الَعبث‪،‬‬
‫دل الله بين‬
‫فليست من الشريعة‪ ،‬وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عَ ْ‬
‫عباده‪ ،‬ورحمته بين خلقه‪ ،‬وظله في أرضه‪ ،‬وحكمته الدالة عليه‪ ،‬وعلى صدق‬
‫رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دللة وأصدقها‪ ،‬وهي نوره الذي به أبصر‬
‫داه الذي به اهتدى المهتدون‪ ،‬وشفاؤه التام الذي به دواء كل‬ ‫المبصرون‪ ،‬وهُ َ‬
‫ن استقام عليه فقد استقام على سواء‬ ‫م ْ‬‫عليل‪ ،‬وطريقه المستقيم الذي َ‬
‫السبيل؛ فهي قرة العيون‪ ،‬وحياة القلوب‪ ،‬ولذة الرواح‪ ،‬وبها الحياة والغذاء‬
‫والدواء والنور والشفاء والعصمة‪.‬‬
‫فاد منها‪ ،‬وحاصل بها‪ .‬وكل نقص في‬ ‫ل خير في الوجود فإنما هو مست َ‬ ‫وك ّ‬

‫‪20‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وى‬‫ربت الدنيا‪ ،‬وط ُ ِ‬ ‫خ ِ‬‫م قد بقيت ل َ‬ ‫الوجود‪ ،‬فسببه من إضاعتها‪ .‬ولول رسو ٌ‬
‫العالم‪ ،‬وهي العصمة للناس‪ ،‬وِقوام العالم‪ ،‬وبها يمسك الله السموات‬
‫ى العالم رفع‬ ‫َ‬
‫ب الدنيا‪ ،‬وط ّ‬ ‫خرا َ‬
‫والرض أن تزول‪ .‬فإذا أراد الله سبحانه وتعالى َ‬
‫إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود‬
‫العالم‪ ،‬وقطب الفلح والسعادة في الدنيا والخرة‪ .‬ونحن نذكر تفصيل ما‬
‫أجملناه في هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة‪:‬‬
‫المثال الول‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لمته إيجاب إنكار المنكر‪،‬‬
‫ليحصل بإنكاره من المعروف ما ُيحبه الله ورسوله‪ ،‬فإذا كان إنكار المنكر‬
‫سوغ إنكاُره‪ ،‬وإن‬ ‫يستلزم ما هو أنكر منه‪ ،‬وأبغض إلى الله ورسوله‪ ،‬فإنه ل ي ُ‬
‫كان الله يبغضه‪ ،‬ويمقت أهله ‪ ...‬ومن تأمل ما جرى على السلم من الفتن‬
‫الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الصل وعدم الصبر على منكر‪ ،‬فطلب‬
‫إزالته فتولد منه منكر أكبر منه ‪ ...‬فإنكار المنكر أربع درجات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أن يزول ويخلفه ضده‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن يقل وإن لم يزل بجملته‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن يخلفه ما هو مثله‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬أن يخلفه ما هو شر منه؛ فالدرجتان الوليان مشروعتان‪ ،‬والثالثة‪:‬‬
‫ل الفجور والفسوق يلعبون‬ ‫ة‪ .‬فإذا رأيت أه َ‬ ‫موضع اجتهاد‪ ،‬والرابعة محّرم ُ‬
‫بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة‪ ،‬إل إذا نقلتهم منه‬
‫شاب‪ ،‬وسباق الخيل‪ ،‬ونحو ذلك‪،‬‬ ‫إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله ك َْرمي الن ّ ّ‬
‫صدِية‪ ،‬فإن‬ ‫مكاء وت َ ْ‬ ‫ساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع ُ‬ ‫ف ّ‬ ‫وإذا رأيت ال ُ‬
‫نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد‪ ،‬وإل كان تركهم على ذلك خيًرا من أن‬
‫تفرغهم لما هو أعظم من ذلك‪ ،‬فكان ما هم فيه شاغل ً عن ذلك‪ ،‬وكما إذا‬
‫فت من نقله عنها انتقاله إلى‬ ‫خ ْ‬‫كان الرجل مشتغل ً بكتب المجون ونحوها‪ ،‬و ِ‬
‫دع والضلل والسحرة‪ ،‬فدعه وكتبه الولى‪ ،‬وهذا باب واسع«)‪.(1‬‬ ‫كتب الب َ‬
‫الطرف الثاني‪ :‬أهل التفريط والتقصير‪ :‬وهم الذين قعدوا عن المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر وآثروا الراحة على الدعوة والجهاد‪ ،‬وبرروا ذلك‬
‫باجتناب الفتن التي تترتب على المر والنهي كما حصل ذلك من المرجئة‬
‫وأهل الفجور‪.‬‬
‫الموقف الوسط المتوازن‪ :‬وهو الذي عليه أهل الستقامة؛ أهل السنة‬
‫والجماعة الذين قاموا بشعيرة المر والنهي مراعين في ذلك الضوابط‬
‫ذروا من‬ ‫ذروا وح ّ‬ ‫ح ِ‬‫الشرعية والنظر في الموازنة بين المفاسد والمصالح‪ ،‬و َ‬
‫الخروج على جماعة المسلمين بالسيف‪ ،‬ومع ذلك فهم يصدعون بالحق من‬
‫دون سيف ول عصا؛ ولو أصابهم في ذلك من الذى ما أصابهم؛ قال الله عز‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ك( )لقمان‪ :‬من‬ ‫صاب َ َ‬‫ما أ َ‬ ‫صب ِْر عََلى َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫من ْك َرِ َوا ْ‬ ‫ه عَ ِ‬‫ف َوان ْ َ‬ ‫مْر ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬ ‫وجل‪) :‬وَأ ُ‬
‫الية ‪.(17‬‬
‫وعن هذين الطرفين المذمومين ‪ -‬طرف الفراط وطرف التفريط ‪ -‬يقول‬
‫شيخ السلم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫عن قتال أئمة الجور‪ ،‬وأمر بالصبر على جورهم‪ ،‬ونهى عن القتال في الفتنة‪،‬‬
‫فأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتالهم والخروج‬
‫ما‪ ،‬ويرون ذلك من باب المر‬ ‫عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنوه هم ظل ً‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون‬
‫ترك المر بالمعروف والنهي عن المنكر ظّنا أن ذلك من باب ترك الفتنة‪،‬‬
‫وهؤلء يقابلون لولئك«)‪.(2‬‬
‫أما عن الوسط بين هذين الطرفين فيقول رحمه الله تعالى‪» :‬ومع ذلك‬

‫‪21‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فيجب المر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة‪،‬‬


‫والنهي عن البدعة والضللة بحسب المكان‪ ،‬كما دل على وجوب ذلك الكتاب‬
‫والسنة وإجماع المة‪.‬‬

‫)‪(40 /‬‬

‫وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة في ذلك؛ فيرى أن المر والنهي ل‬


‫يقوم إل بفتنة؛ فإما أن يؤمر بهما جميًعا أو ينهى عنهما جميًعا‪ ،‬وليس كذلك‪،‬‬
‫ْ‬
‫ن‬
‫ه عَ ِ‬‫ف َوان ْ َ‬ ‫مْر ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬ ‫بل يؤمر وينهى ويصبر عن الفتنة‪ ،‬كما قال تعالى‪) :‬وَأ ُ‬
‫َ‬
‫ك( )لقمان‪ :‬من الية ‪.(17‬‬ ‫صاب َ َ‬
‫ما أ َ‬ ‫صب ِْر عََلى َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫من ْك َرِ َوا ْ‬
‫وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه‪» :‬بايعنا رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا‪ ،‬ومنشطنا ومكرهنا‪ ،‬وأثرة‬
‫علينا‪ ،‬وأل ننازع المر أهله‪ ،‬وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا‪ ،‬ل نخاف في‬
‫الله لومة لئم«)‪ ،(3‬فأمرهم بالطاعة ونهاهم عن منازعة المر أهله‪ ،‬وأمرهم‬
‫رض الحيرة في ذلك‬ ‫ن تعارض هذين ت َعْ ِ‬
‫م ْ‬ ‫بالقيام بالحق‪ .‬ولجل ما ي ُظ َ ّ‬
‫ن ِ‬
‫لطوائف الناس‪ .‬والحائر الذي ل يدري ‪ -‬لعدم ظهور الحق‪ ،‬وتمييز المفعول‬
‫من المتروك ‪ -‬ما يفعل إما لخفاء الحق عليه أو لخفاء ما يناسب هواه عليه«)‬
‫‪ (4‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫أما الجهاد في سبيل الله عز وجل‪ ،‬وإن كان يدخل في الكلم السابق عن‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر إل أنه من المهم أن يفرد بكلم خاص عن‬
‫الوسط والطرفان المذمومان اللذان بكتنفانه وبخاصة في واقعنا المعاصر‬
‫الذي اختلفت فيه الرؤى حول الجهاد في سبيل الله عز وجل‪ :‬ما بين قاعد‬
‫عاجز ل يفكر في الستعداد وإعداد العدة للجهاد‪ ،‬وما بين متسرع ومطالب‬
‫بجهاد الكفر وأهله دونما الحصول على الحد الدنى من القدرة والبيان الذي‬
‫تستبان فيه سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين‪ .‬وبين هذين الطرفين يقع‬
‫الموقف العدل المتوازن‪.‬‬
‫ويتحدث سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬عن هذين الطرفين المذمومين فيقول‪:‬‬
‫»وهكذا نرى صفحة من حسم السلم وجديته‪ ،‬إلى جانب سماحته وتغاضيه؛‬
‫هذه في موضعها‪ ،‬وتلك في موضعها‪ .‬وطبيعة الموقف وحقيقة الواقعة هي‬
‫التي تحدد هذه وتلك ‪..‬‬
‫ورؤية هاتين الصفحتين ‪ -‬على هذا النحو ‪ -‬كفيلة بأن تنشئ التوازن في شعور‬
‫المسلم؛ كما تنشئ التوازن في النظام السلمي ‪ -‬السمة الساسية الصيلة‬
‫فا وحماسة وشدة‬ ‫‪ -‬فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون المر كله عن ً‬
‫عا فليس هذا هو السلم! وأما حين يجيء المتميعون المترققون‬ ‫واندفا ً‬
‫المعتذرون عن الجهاد في السلم ‪ -‬كأن السلم في قفص التهام وهم‬
‫ما‬
‫يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير! ‪ -‬فيجعلون المر كله سماحة وسل ً‬
‫وا؛ ومجرد دفاع عن الوطن السلمي وعن جماعة المسلمين ‪-‬‬ ‫وإغضاء وعف ً‬
‫وليس دفًعا عن حرية الدعوة وإبلغها لكل زاوية في الرض بل عقبة‪ ،‬وليس‬
‫تأميًنا لي فرد في كل زاوية من زوايا الرض يريد أن يختار السلم عقيدة‪،‬‬
‫وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن الناس كلهم في ظله؛ من‬
‫اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء ‪ ..‬فأما حينئذ فليس هذا هو السلم«)‪.(5‬‬
‫ولمزيد من التفصيل يمكن القول بأن الناس في موقفهم من الجهاد في‬
‫سبيل الله تعالى طرفان ووسط‪:‬‬
‫الطرف الول‪ :‬هو من نظر إلى أحوال المسلمين اليوم وضعفهم وعجزهم‬

‫‪22‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عن مواجهة أعدائهم فرأى استحالة الجهاد في هذا الزمان‪ ،‬ورضي بالمر‬
‫الواقع ولم يسع للعداد والستعداد‪ ،‬وتجاوز تبرير ضعفه وموقفه إلى التشنيع‬
‫على الحركات الجهادية التي قامت للدفاع عن المسلمين في بقاع الرض؛‬
‫كما في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها‪.‬‬
‫ويستند أصحاب هذا الرأي إلى هديه صلى الله عليه وسلم مع المشركين في‬
‫مَر بكف اليد والصبر‪ .‬وهذا الستدلل صحيح في حد ذاته فيما لو‬ ‫ُ‬
‫مكة؛ حيث أ ِ‬
‫نظر أصحاب هذا الرأي إلى أنها مرحلة مؤقتة يسعون فيها إلى بذل الجهد‬
‫في الدعوة والعداد لتغيير النفوس وشحذ الهمم وتربيتها على التضحية‬
‫والبذل في سبيل الله عز وجل‪.‬‬
‫أما أن ينظر لهذه المرحلة وكأنها دائمة فيستسلم للواقع وُتستمرأ الذلة‪،‬‬
‫وتفتر الهمم ول يحصل العداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فهذا مخالف‬
‫لهديه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان مع كف اليد يربي الصحابة على‬
‫التوحيد الخالص‪ ،‬والصبر في سبيل الله عز وجل‪ ،‬ويعد النفوس للتضحية‬
‫بالمال والوطن والنفس في سبيل الله عز وجل؛ وهذا مطلوب لذاته كما أنه‬
‫من أعظم العدة والزاد لما ُينتظر من الهجرة والجهاد في سبيل الله عز‬
‫وجل‪ .‬ويلحق بأصحاب هذا الرأي أولئك المهزومون الذين وقفوا مع المراحل‬
‫الولى للدعوة وفرضية الجهاد‪ ،‬وحاولوا تقييد النصوص التي تأمر بجهاد الكفار‬
‫فوا بنصوص المراحل السابقة التي فيها المر بجهاد الدفع ورد العداء‬ ‫أينما ث ُ ِ‬
‫ق ُ‬
‫فحسب‪.‬‬

‫)‪(41 /‬‬

‫وفي ذلك يقول سيد قطب ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬إن هذه النصوص التي‬
‫يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقًعا معيًنا‪ .‬وهذا الواقع المعين قد يتكرر‬
‫وقوعه في حياة المة المسلمة‪ ،‬وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص‬
‫المرحلية لن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك‬
‫النصوص بتلك الحكام‪ ،‬ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى‪ ،‬وأن‬
‫هذه هي نهاية خطوات هذا الدين ‪ ..‬إنما معناه أن على المة المسلمة أن‬
‫ما في تحسين ظروفها‪ ،‬وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن‬ ‫تمضي قد ً‬
‫في النهاية من تطبيق الحكام النهائية الواردة في السورة الخيرة‪ ،‬والتي‬
‫كانت تواجه واقًعا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية«)‪ (6‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬وأصحاب هذا الطرف يرون أن آية السيف التي نزلت في‬
‫سورة براءة قد نسخت كل مراحل الجهاد السابقة؛ سواء في كف اليد أو‬
‫المسالمة مع الكفار‪ ،‬أو عقد صلح أو هدنة معهم ‪ ..‬إلخ‪ ،‬ونظروا إلى أن قتال‬
‫الكفار والمرتدين اليوم فرض دون أن ينظروا إلى أحوال المسلمين‬
‫وضعفهم‪ ،‬ودون أن ينظروا إلى تحقيق شرائط الجهاد من‪ :‬القدرة‪ ،‬وإقامة‬
‫الحجة على الناس بالبيان الكافي لسبيل المؤمنين‪ ،‬والتعرية التامة لسبيل‬
‫المجرمين؛ ليكفر من كفر ويهلك من هلك عن بينة‪ ،‬ويؤمن من آمن ويحيى‬
‫من حيى عن بينة؛ ودون أن يكون هناك العداد المعنوي الروحي للمجاهدين‬
‫ما وعمل ً وعبادة وأخلًقا ودعوة‪.‬‬
‫عل ً‬
‫يقول شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬فمن كان من المؤمنين‬
‫بأرض هو فيها مستضعف‪ ،‬أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر‬
‫من يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين‪ .‬وأما‬ ‫والصفح ع ّ‬
‫أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين‪ ،‬وبآية‬

‫‪23‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون«)‪ (7‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وقد جاء موقف هذا الطرف الذي لم ينظر إل إلى المرحلة الخيرة من‬
‫مراحل فرض الجهاد في مقابل موقف الطرف السابق الذي لم ينظر إل إلى‬
‫المرحلة الولى ‪ -‬وهي كف اليد ‪ -‬ولم ي ُعِد ّ للمراحل الجهادية التي تلت كف‬
‫اليد والصبر على أذى الكفار‪.‬‬
‫الموقف الوسط المتوازن‪ :‬وهو الموقف العدل الذي أحسب أنه الموافق‬
‫لهديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة والجهاد؛ حيث رأى أن واقع‬
‫المسلمين اليوم وما يعيشونه من ذلة ومهانة وتسلط أعدائهم عليهم وذهاب‬
‫دولتهم هو أشبه ما يكون بحال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حيث‬
‫الستضعاف وتسلط الكفار‪ .‬ولكن أصحاب هذا الموقف فارقوا الموقف الول‬
‫الذي رضخ للواقع في أنهم لم يرضوا بالستسلم للواقع‪ ،‬ولم يرضوا بالذل‬
‫والمهانة؛ بل قاموا باتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه‬
‫الظروف حيث جاهد وصبر وبّلغ التوحيد الخالص للناس وأوضح سبيل‬
‫المجرمين وحذر منها‪ ،‬وربى أصحابه رضي الله عنهم على التوحيد‬
‫ما وعمل ً للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى؛‬ ‫ومقتضياته‪ ،‬وأعدهم عل ً‬
‫فصبروا وصابروا‪ ،‬وهجروا الخلن والوطان‪ ،‬واستعذبوا ذلك في سبيل الله‬
‫عز وجل؛ حتى إذا علم الله عز وجل صدق ذلك منهم هيأ لهم المراحل التالية‬
‫من مراحل الجهاد في سبيله سبحانه‪ ،‬وهيأ لهم النصار والدولة التي‬
‫ينطلقون منها للجهاد في سبيل الله عز وجل‪ ،‬ففتحوا الدنيا ونشروا أنوار‬
‫التوحيد ورسالة السلم في كل مكان قدروا عليه حتى أصبح الدين كله لله‪،‬‬
‫وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى‪.‬‬
‫كما فارقوا الموقف الثاني بالصبر وعدم العجلة في جهاد الطلب للكفار‬
‫والمرتدين قبل العداد الشامل لذلك والبيان التام لسبيل المؤمنين وسبيل‬
‫المجرمين‪.‬‬
‫تنبيه‪:‬‬
‫ليس المقصود بالطرف الثاني تلك الحركات الجهادية التي تدافع اليوم عن‬
‫المسلمين في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها؛ فهذا جهاد‬
‫دفع ل يشترط فيه ما يشترط لجهاد الطلب؛ وإنما المقصود هم أولئك الذين‬
‫يرون مواجهة النظمة الطاغوتية في بلدان المسلمين دون الحصول على‬
‫الحد الدنى من العداد والقدرة‪ ،‬وقبل وضوح راية الكفر وأهلها وراية أهل‬
‫اليمان في تلك البلدان للناس؛ مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس‪،‬‬
‫فتختلط الوراق ويجد هؤلء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجًها لوجه‬
‫أمام إخوانهم المسلمين الذين غرر بهم ولبس عليهم المر‪.‬‬
‫____________‬
‫)‪ (1‬إعلم الموقعين‪ (7-3/5) :‬باختصار‪.‬‬
‫)‪ (2‬الداب الشرعية‪.(1/177) :‬‬
‫)‪ (3‬البخاري في الفتن‪ ،‬باب قوله صلى الله عليه وسلم‪» :‬سترون بعدي‬
‫أموًرا تنكرونها« ح )‪ ،(7056‬ورواه مسلم في المارة‪ ،‬باب وجوب طاعة‬
‫المراء في غير معصية ح )‪. (1709‬‬
‫)‪ (4‬الستقامة‪.(42 ،1/41) :‬‬
‫)‪ (5‬في ظلل القرآن‪.(2/734) :‬‬
‫)‪ (6‬في ظلل القرآن‪.(3/1581) :‬‬
‫)‪ (7‬الصارم المسلول‪.(2/414) :‬‬

‫‪24‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في العبادات‬

‫)‪(42 /‬‬

‫والمقصود بالعبادات هنا‪ :‬تلك العبادات التي بين العبد وربه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬كما‬
‫هو الحاصل في شعائر التعبد؛ كالصلة والصيام والزكاة والحج والذكر وقراءة‬
‫القرآن وغيرها‪ ،‬مما ل يدخل في معاملت الخلق‪ .‬وهذا من باب التقسيم‬
‫الفني فقط‪ ،‬وإل فكل أعمال العبد وحركاته ومعاملته ينبغي أن تكون كلها‬
‫ما لربه خاضًعا لشرعه؛ قال‬ ‫عبادة لله تعالى‪ ،‬وأن يكون فيها العبد مستسل ً‬
‫نل‬ ‫مي َ‬ ‫َ‬
‫ب الَعال ِ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ماِتي ل ِلهِ َر ّ‬ ‫م َ‬‫حَيايَ وَ َ‬ ‫م ْ‬‫كي وَ َ‬ ‫س ِ‬ ‫صلِتي وَن ُ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫الله تعالى‪) :‬قُ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن( )النعام‪.(163 ،162:‬‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ال ُ‬ ‫ت وَأَنا أوّ ُ‬ ‫مْر ُ‬ ‫كأ ِ‬ ‫ه وَب ِذ َل ِ َ‬‫ك لَ ُ‬‫ري َ‬ ‫ش ِ‬ ‫َ‬
‫وأول ما نبدأ به في وسطية هذا الدين في العبادات تلك الوسطية العامة‬
‫البارزة والتوازن المنضبط في تشريع العبادات وأحكامها ويسرها‪ ،‬ولكي تبرز‬
‫هذه السمة بصورة واضحة فل بد من التعرض للمناهج الخرى السائدة فيما‬
‫طا؛ وذلك كما يلي‪:‬‬ ‫طا أو إفرا ً‬ ‫يتعلق بالعبادة تفري ً‬
‫»المنهج الول‪ :‬ويمثله اليهود في تفريطهم وجفائهم؛ فلو تأملنا في التوارة ‪-‬‬
‫بعد تحريفها ‪ -‬لوجدنا تقديس المادة غلب على بنودها‪ ،‬فل تقرأ في أسفار‬
‫التوارة ذكرا ً للخرة‪ ،‬حتى ما ورد فيها من وعد ووعيد فإنما هو متعلق بالدنيا‬
‫فقط‪ ،‬فل يعمل الشخص إل لتحقيق كسب عاجل‪ ،‬أو خوفا ً من عقوبة عاجلة‪،‬‬
‫َ‬
‫ة(‬
‫جهَْر ً‬ ‫ه َ‬ ‫بل بلغوا وطبقوا ماديتهم حتى في معرفة الله‪ ،‬فقالوا‪) :‬أرَِنا الل ّ َ‬
‫ة( )البقرة‪:‬‬ ‫جهَْر ً‬ ‫ه َ‬ ‫حّتى ن ََرى الل ّ َ‬ ‫ك َ‬ ‫ن لَ َ‬‫م َ‬ ‫ن ن ُؤْ ِ‬ ‫)النساء‪ :‬من الية ‪ ،(153‬وقالوا‪) :‬ل َ ْ‬
‫من الية ‪.(55‬‬
‫قا لهذا التصور المادي الدنيوي أغرق هؤلء في تقديس المحسوسات‪،‬‬ ‫ووف ً‬
‫قا للرقي‪ ،‬وأصبحت القيم المادية محور الحياة‪ ،‬وتحول النسان‬ ‫واتخذوها طري ً‬
‫في نظر هؤلء إلى آلة تتحرك‪ ،‬ومعدة تهضم‪ ،‬وكائن يلهو‪ .‬وقد وصفهم‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وبين مدى تعلقهم بالحياة الدنيا وحرصهم عليها فقال تعالى‪:‬‬
‫)ول َتجدنه َ‬
‫ة( )البقرة‪ :‬من الية ‪ .(96‬أيّ حياة؛ حتى لو‬ ‫حَيا ٍ‬ ‫س عََلى َ‬ ‫ِ‬ ‫ص الّنا‬ ‫حَر َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫َ َ ِ َُّ ْ‬
‫من ّوْه ُ أ ََبدا(ً‬ ‫ن ي َت َ َ‬ ‫َ‬
‫كانت حياة البهائم ونحوها؛ وذلك لنهم يخشون الموت‪) :‬وَل ْ‬
‫)البقرة‪ :‬من الية ‪(95‬؛ لنهم ربطوا غايتهم بالدنيا‪ ،‬فعلمهم للدنيا وعبادتهم‬
‫لمآرب دنيوية! فإذا انتهت الدنيا فقد فاتهم كل شيء فهم بهذا أغرقوا في‬
‫ما‬
‫الشهوات‪ ،‬وعّبدوا أنفسهم للماديات‪ ،‬فهم كمشركي قريش الذين قالوا‪َ :‬‬
‫)‬
‫ما ي ُهْل ِك َُنا إ ِّل الد ّهُْر( )الجاثية‪ :‬من الية ‪،(24‬‬ ‫حَيا وَ َ‬ ‫ت وَن َ ْ‬ ‫مو ُ‬ ‫حَيات َُنا الد ّن َْيا ن َ ُ‬ ‫ي إ ِّل َ‬ ‫هِ َ‬
‫وهذا المنهج يمثل التفريط في أسوأ صوره وحالته‪ ،‬ولذلك أمرنا الله أن‬
‫ب عَل َي ْهِ ْ‬
‫م(‬ ‫ضو ِ‬ ‫مغْ ُ‬ ‫نستعيذ منه في كل صلة‪ ،‬ونسأله أن يجنبنا إياه‪) :‬غَي ْرِ ال ْ َ‬
‫)الفاتحة‪ :‬من الية ‪.(7‬‬
‫أما المنهج الثاني‪ :‬وهو المنهج القائم على الروحانيات؛ وذلك بإعلئها‬
‫وتمجيدها‪ ،‬والغراق في مفهوم العبادة والرهبنة‪ ،‬ويمثل هذا المنهج النصارى‪،‬‬
‫وهو منهج الفراط والغلو وابتداع النصارى رهبانية قاسية على النفس‪ :‬تحرم‬
‫الزواج‪ ،‬وتكبت الغرائز‪ ،‬وتمنع كل أنواع الزينة وطيبات الرزق‪ ،‬وترى ذلك‬
‫سا من عمل الشيطان‪ ،‬وبالغوا في العبادة‪ ،‬وأخرجوها عن كيفيتها‪ ،‬وعن‬ ‫رج ً‬
‫المراد منها‪ ،‬وأصبحت رهبانية غالية مشوهة‪ ،‬مؤذية للجساد‪ ،‬ابتدعوها من‬
‫م إ ِّل اب ْت َِغاَء‬ ‫ها عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ما ك َت َب َْنا َ‬
‫ها َ‬ ‫عو َ‬ ‫ة اب ْت َد َ ُ‬ ‫أنفسهم‪ ،‬بل حجة ول برهان؛ )وََرهَْبان ِي ّ ً‬
‫عاي َت َِها( )الحديد‪ :‬من الية ‪....(27‬‬ ‫حق ّ ر ِ َ‬ ‫ها َ‬ ‫ما َرعَوْ َ‬ ‫ن الل ّهِ فَ َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ض َ‬ ‫رِ ْ‬

‫‪25‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وهذا المنهج يمثل الفراط والغلو‪ ،‬وهو الوجه الثاني من وجوه النحراف عن‬
‫ُ‬
‫ضاّلي َ‬
‫ن(‬ ‫مْرنا بأن نسأل الله أن يجنبنا إياه‪َ) :‬ول ال ّ‬
‫الصراط المستقيم‪ ،‬ولذلك أ ِ‬
‫)الفاتحة‪ :‬من الية ‪.(1)«(7‬‬
‫إذن فشريعة السلم وسط وعدل في العبادات بين المنهج القائم على‬
‫التفريط والجفاء‪ ،‬وبين المنهج القائم على الغلو والفراط والرهبانية‪.‬‬
‫وفي ذلك يقول شيخ السلم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬ولهذا كان السلف‬
‫يحذرون من هذين الصنفين؛ قال الحسن‪ :‬هو المبتدع في دينه والفاجر في‬
‫دنياه‪ ،‬وكانوا يقولون‪ :‬احذروا صاحب دنيا أغوته دنياه‪ ،‬وصاحب هوى متبع‬
‫لهواه‪ ،‬وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور‪.‬‬
‫فالقسم الول‪ :‬أهل الفجور؛ وهم المترفون المنعمون أوقعهم في الفجور ما‬
‫هم فيه‪.‬‬
‫والقسم الثاني‪ :‬المترهبون؛ أوقعهم في البدع غلوهم وتشديدهم‪ .‬هؤلء‬
‫استمتعوا بخلقهم‪ ،‬وهؤلء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم؛ وذلك أن الذين‬
‫يتبعون الشهوات المنهي عنها‪ ،‬أو يسرفون في المباحات ويتركون الصلوات‬
‫والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم الله والدار‬
‫الخرة‪ ،‬ويفسد حالهم‪ ،‬كما هو مشاهد كثيًرا منهم‪.‬‬

‫)‪(43 /‬‬

‫والذين يحرمون ما أحل الله من الطيبات ‪ -‬وإن كانوا يقولون‪ :‬إن الله لم‬
‫يحرم هذا‪ ،‬بل يلتزمون أن ل يفعلوه؛ إما بالنذر وإما باليمين‪ ،‬كما حرم كثير‬
‫ما بالنهار‬‫ي أن ل آكل طعا ً‬
‫من العباد والزهاد أشياء ‪ -‬يقول أحدهم‪ :‬لله عل ّ‬
‫دا‪ ،‬ويعاهد أحدهم أن ل يأكل الشهوة الملئمة‪ ،‬ويلتزم ذلك بقصده وعزمه‪،‬‬ ‫أب ً‬
‫وإن لم يحلف ولم ينذر‪ .‬فهذا يلتزم أن ل يشرب الماء‪ ،‬وهذا يلتزم أن ل يأكل‬
‫قاع)‪ ،(2‬وهذا يلتزم أن ل يتكلم قط‪ ،‬وهذا‬ ‫ف ّ‬
‫الخبز‪ ،‬وهذا يلتزم أن ل يشرب ال ُ‬
‫ب نفسه‪ ،‬وهذا يلتزم أن ل ينكح ول يذبح‪ .‬وأنواع هذه الشياء من الرهبانية‬ ‫ج ّ‬‫يَ ُ‬
‫التي ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس‪ ،‬وقهر الهوى والشهوة‪.‬‬
‫ول ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها‪ ،‬وكذلك قهر الهوى والشهوة‪ ،‬كما ثبت‬
‫عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‪) :‬المجاهد من جاهد نفسه في ذات‬
‫الله‪ ،‬والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت‪ ،‬والعاجز من اتبع نفسه‬
‫هواها وتمنى على الله()‪ (3‬لكن المسلم المتبع لشريعة السلم هو المحرم‬
‫ما حرمه الله ورسوله؛ فل يحرم الحلل ول يسرف في تناوله؛ بل يتناول ما‬
‫يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح‪ ،‬ويقتصد في ذلك‪ ،‬ويقتصد في العبادة؛‬
‫فل يحمل نفسه ما ل تطيق«)‪.(4‬‬
‫ولمزيد من البيان لهذه الوسطية والعدل والتوازن في العبادات أذكر بعض‬
‫النماذج والمظاهر الدالة على ذلك؛ وذلك فيما يلي‪:‬‬
‫النموذج الول ‪:‬‬
‫عن أنس رضي الله عنه قال‪ :‬جاء ثلثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم‬
‫تقالوها‪ ،‬فقالوا‪ :‬وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له‬
‫دا‪ ،‬وقال‬ ‫ُ‬
‫ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ قال أحدهم‪ :‬أما أنا فإني أصلي الليل أب ً‬
‫دا‪.‬‬
‫آخر‪ :‬أنا أصوم الدهر ول أفطر‪ ،‬وقال آخر‪ :‬أنا أعتزل النساء فل أتزوج أب ً‬
‫فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‪) :‬أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما‬
‫والله إني لخشاكم لله وأتقاكم له‪ ،‬لكني أصوم وأفطر‪ ،‬وأصلي وأرقد‪،‬‬

‫‪26‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني()‪.(5‬‬


‫يقول صاحب كتاب الوسطية في القرآن‪» :‬فهذا موقف من مواقف الغلو‬
‫يجلي لنا سبب هذه النزعة‪ :‬وهو الرغبة الصادقة في التزود من الخير التي‬
‫دفعتهم للسؤال عن أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته‪ ،‬فلما‬
‫علموا‪ ،‬رأوا أن ذلك قليل فقالوا ما قالوا‪.‬‬
‫ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر هذا التجاه فبادر بعلجه‪ ،‬وصحح‬
‫نظرتهم لتحصيل خشية الله وتقواه؛ فبين أنها ليست بالتضلع من أعمال‬
‫والتفريط في أخرى‪ ،‬ولكنها تحصل بالموازنة بين جميع مطالب الله‪ ،‬وهذا هو‬
‫عين الوسطية والحكمة والستقامة والعتدال والعدل«)‪.(6‬‬
‫ويعلق سيد قطب ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬على هذا الحديث وأمثاله فيقول‪:‬‬
‫»والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل‬
‫طاقاته الروحية الطليقة؛ كلهما يخرج على سواء فطرته ويريد من نفسه ما‬
‫لم يرده الخالق له‪ ،‬وكلهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها‬
‫الصيل‪ .‬وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير‪.‬‬
‫من أجل هذا أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من أراد أن يترهبن فل‬
‫يقرب النساء‪ ،‬ومن أراد أن يصوم الدهر فل يفطر‪ ،‬ومن أراد أن يقوم الليل‬
‫فل ينام‪ .‬أنكر عليهم كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها وقال‪) :‬فمن‬
‫رغب عن سنتي فليس مني(‪.‬‬
‫وقد أقام السلم شريعته للنسان على أساس تكوينه ذاك؛ وأقام له عليها‬
‫مْر فيه طاقة واحدة من طاقات البشر‪ .‬إنما قصارى هذا‬ ‫ما بشرًيا ل ت ُد َ ّ‬
‫نظا ً‬
‫النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات‪ ،‬لتعمل جميعها في غير طغيان‬
‫ول ضعف؛ ول اعتداء من إحداها على الخرى‪ .‬فكل اعتداء يقابله تعطيل‪.‬‬
‫وكل طغيان يقابله تدمير«)‪.(7‬‬
‫النموذج الثاني ‪:‬‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل‬
‫قائم فسأل عنه‪ ،‬فقالوا‪ :‬أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم ول يقعد ول يستظل ول‬
‫مْره ُ فليتكلم وليستظل‬ ‫يتكلم ويصوم‪ .‬قال النبي صلى الله عليه وسلم‪ُ ) :‬‬
‫وليقعد وليتم صومه()‪ .(8‬فهذا يدل على سماحة ويسر الشريعة‪.‬‬
‫النموذج الثالث ‪:‬‬
‫»آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا‬
‫الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها‪ :‬ما شأنك؟ قالت‪ :‬أخوك أبو الدرداء‬
‫ما فقال‪ :‬كل فإني‬ ‫ليس له حاجة في الدنيا‪ .‬فجاء أبو الدرداء فصنع طعا ً‬
‫صائم‪ .‬قال‪ :‬ما أنا بآكل حتى تأكل‪ ،‬فأكل‪ .‬فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء‬
‫يقوم فقال‪ :‬نم‪ .‬فنام‪ ،‬ثم ذهب يقوم فقال‪ :‬نم‪ .‬فلما كان آخر الليل قال‬
‫قا‪ ،‬ولنفسك‬ ‫سلمان‪ :‬قم الن‪ .‬قال‪ :‬فصليا‪ ،‬فقال له سلمان‪ :‬إن لربك عليك ح ً‬
‫قا‪ ،‬فأعط كل ذي حق حقه‪ .‬فأتى النبي صلى الله‬ ‫قا‪ ،‬ولهلك عليك ح ً‬ ‫عليك ح ً‬
‫عليه وسلم فذكر ذلك له‪ ،‬فقال النبي صلى الله عليه وسلم‪) :‬صدق سلمان()‬
‫‪.(9‬‬
‫النموذج الرابع ‪:‬‬

‫)‪(44 /‬‬

‫ي رسول الله صلى الله عليه‬ ‫عن عائشة رضي الله عنها قالت‪» :‬دخل عل ّ‬
‫وسلم وعندي امرأة فقال‪) :‬من هذه؟( فقلت‪ :‬امرأة ل تنام ُتصلي‪ .‬قال‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)عليكم من العمل ما تطيقون؛ فوالله ل يمل الله حتى تملوا(‪ ،‬وكان أحب‬
‫الدين إليه ما داوم عليه صاحبه«)‪ .(10‬وهذا توجيه نبوي كريم نحو العتدال‬
‫والتوسط‪.‬‬
‫النموذج الخامس ‪:‬‬
‫عن أنس رضي الله عنه‪ ،‬قال‪ :‬دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫المسجد وحبل مدود بين ساريتين‪ .‬فقال‪) :‬ما هذا؟( قالوا‪ :‬لزينب تصلي‪ ،‬فإذا‬
‫كسلت أو فترت أمسكت به‪ .‬فقال‪) :‬حلوه‪ ،‬ليصل أحدكم نشاطه‪ ،‬فإذا كسل‬
‫أو فتر قعد()‪.(11‬‬
‫صا من الرجال على‬ ‫»فهذا الحديث يدل على أن النساء لم يكن أقل حر ً‬
‫التزود من الخير‪ ،‬والتنافس في أعمال البر‪ ،‬وقد تجلى ذلك في هذه النزعة‬
‫الجامحة نحو العبادة‪ ،‬ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر هذا‬
‫الجموح الضار‪ ،‬فعمد إلى الزجر عنه‪ ،‬وأمر بالوسط النافع«)‪.(12‬‬
‫ولنستمع الن إلى تعليق المام النووي النافع حول هذين الحديثين حيث‬
‫يقول‪» :‬فيه دليل على الحث على القتصاد في العبادة واجتناب التعمق‪،‬‬
‫وليس الحديث مختصا ً بالصلة بل هو عام في جميع أعمال البر ‪ ...‬وفي هذا‬
‫الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته؛ لنه أرشدهم إلى‬
‫ما يصلحهم‪ ،‬وهو ما يمكنهم الدوام عليه بل مشقة ول ضرر‪ ،‬فتكون النفس‬
‫حا‪ ،‬فتتم العبادة‪.(13)(...‬‬ ‫أنشط والقلب منشر ً‬
‫ويلحظ في النماذج السابقة التحذير من الغلو والفراط‪ ،‬وأنه قد ينتهي‬
‫بصاحبه إلى النقطاع والتوقف‪ ،‬أو الزيادة على ما لم يشرعه الله عز وجل‪،‬‬
‫وبالتالي يصبح مردودا ً على صاحبه‪.‬‬
‫وفي مقابل الغلو نهى الله عز وجل عن التفريط والضاعة للصلة‪ ،‬فقال‬
‫خل ْ ٌ َ‬ ‫خل َ َ‬
‫ف‬‫سو ْ َ‬‫ت فَ َ‬ ‫وا ِ‬ ‫شهَ َ‬‫صلة َ َوات ّب َُعوا ال ّ‬ ‫عوا ال ّ‬ ‫ضا ُ‬ ‫فأ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ب َعْدِهِ ْ‬‫م ْ‬‫ف ِ‬ ‫تعالى‪) :‬فَ َ‬
‫ن غَي ًّا( )مريم‪.(59:‬‬ ‫قو ْ َ‬ ‫ي َل ْ َ‬
‫قال المام ابن كثير ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في تفسيره لهذه الية‪» :‬لما ذكر‬
‫الله تعالى حزب السعداء‪ ،‬وهم النبياء عليهم السلم ومن اتبعهم من‬
‫القائمين بحدود الله وأوامره‪ ،‬المؤّدين فرائض الله‪ ،‬التاركين لزواجره‪ ،‬ذكر‬
‫ة(‪ .‬وإذا أضاعوها‬ ‫صل َ‬ ‫َ‬ ‫خل ْ ٌ‬ ‫خل َ َ‬ ‫أنه‪) :‬فَ َ‬
‫عوا ال ّ‬ ‫ضا ُ‬ ‫ف(‪ .‬أي قرون أخر‪) .‬أ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ب َعْدِهِ ْ‬
‫م ْ‬‫ف ِ‬
‫فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لنها عماد الدين وقوامه‪ ،‬وخير أعمال‬
‫العباد‪ ،‬وأقبلوا على شهوات الدنيا وملذها‪ ،‬ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها؛‬
‫ون غّيا أي‪ :‬خسارة يوم القيامة«)‪.(14‬‬ ‫فهؤلء سي َل ْ َ‬
‫ق ْ‬
‫النموذج السادس ‪:‬‬
‫سِبي ً‬
‫ل(‬ ‫ك َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬‫ت ب َِها َواب ْت َِغ ب َي ْ َ‬ ‫خافِ ْ‬ ‫ك َول ت ُ َ‬ ‫صلت ِ َ‬ ‫جهَْر ب ِ َ‬
‫في قوله تعالى‪َ) :‬ول ت َ ْ‬
‫)السراء‪ :‬من الية ‪.(110‬‬
‫قال ابن كثير ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬قال المام أحمد)‪ :(15‬حدثنا هشيم‪،‬‬
‫حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما‪ ،‬قال‪:‬‬
‫صلت ِكَ‬
‫جهَْر ب ِ َ‬‫نزلت الية ورسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬متوارٍ بمكة‪َ) :‬ول ت َ ْ‬
‫ت ب َِها(‪ .‬قال‪ :‬كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن‪ ،‬فلما سمع‬ ‫خافِ ْ‬ ‫َول ت ُ َ‬
‫ذلك المشركون سّبوا القرآن وسّبوا من أنزله‪ ،‬ومن جاء به‪ ،‬قال‪ :‬فقال الله‬
‫ك(؛ أي بقراءتك فيسمع‬ ‫صلت ِ َ‬ ‫جهَْر ب ِ َ‬ ‫تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‪َ) :‬ول ت َ ْ‬
‫ت ب َِها( عن أصحابك فل تسمعهم‬ ‫خافِ ْ‬ ‫المشركون فيسبوا القرآن‪َ) ،‬ول ت ُ َ‬
‫سِبيل(‪ .‬أخرجاه في الصحيحين)‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ن ذ َل ِك َ‬ ‫القرآن‪ ،‬حتى يأخذوه عنك‪َ) .‬واب ْت َِغ ب َي ْ َ‬
‫‪ (16‬من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به‪.‬‬
‫وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس‪ :‬نزلت في الدعاء«)‪.(17‬‬

‫‪28‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وقال القرطبي‪» :‬روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها في قوله عز وجل‪:‬‬
‫ت ب َِها( قالت‪ :‬أنزل هذا في الدعاء«)‪.(18‬‬ ‫خافِ ْ‬ ‫ك َول ت ُ َ‬ ‫صلت ِ َ‬ ‫جهَْر ب ِ َ‬
‫)َول ت َ ْ‬
‫والشاهد أن هذه الية تأمر بالتوسط بين أمرين منهي عنهما؛ وهما الجهر‬
‫ل(‪.‬‬‫سِبي ً‬‫ك َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫الشديد أو المخافتة والسرار؛ )َواب ْت َِغ ب َي ْ َ‬
‫النموذج السابع ‪:‬‬
‫ل‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫قو ْ ِ‬ ‫م َ‬
‫جهْرِ ِ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫ة وَُدو َ‬‫ف ً‬‫خي َ‬‫ضّرعا ً وَ ِ‬ ‫ك تَ َ‬ ‫س َ‬ ‫ف ِ‬ ‫ك ِفي ن َ ْ‬ ‫في قوله تعالى‪َ) :‬واذ ْك ُْر َرب ّ َ‬
‫ن( )العراف‪.(205:‬‬ ‫ْ‬
‫ن الَغافِِلي َ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫ل َول ت َك ُ ْ‬ ‫صا ِ‬ ‫ِبال ْغُد ُوّ َواْل َ‬
‫ر(‪ :‬أي دون الرفع في القول؛ أي أسمع نفسك؛‬ ‫جهْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫قال القرطبي‪) » :‬وَُدو َ‬
‫ل( أي بين الجهر والمخافتة«)‪.(19‬‬ ‫سِبي ً‬ ‫ك َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫كما قال‪َ) :‬واب ْت َِغ ب َي ْ َ‬
‫النموذج الثامن ‪:‬‬
‫ن( )العراف‪:‬‬ ‫دي َ‬ ‫معْت َ ِ‬ ‫ْ‬
‫ب ال ُ‬‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ة إ ِن ّ ُ‬‫في َ ً‬
‫خ ْ‬ ‫ً‬
‫ضّرعا وَ ُ‬ ‫م تَ َ‬ ‫ُ‬
‫عوا َرب ّك ْ‬ ‫في قوله تعالى‪) :‬اد ْ ُ‬
‫‪.(55‬‬

‫)‪(45 /‬‬

‫قال المام ابن كثير ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬لقد كان المسلمون يجتهدون في‬
‫سا بينهم وبين ربهم؛ وذلك أن‬ ‫الدعاء وما يسمع لهم صوت؛ إن كان إل هم ً‬
‫حا‬
‫دا صال ً‬ ‫ة(‪ ،‬وذلك أن الله ذكر عب ً‬ ‫في َ ً‬
‫خ ْ‬‫ضّرعا ً وَ ُ‬ ‫م تَ َ‬‫عوا َرب ّك ُ ْ‬ ‫الله تعالى يقول‪) :‬اد ْ ُ‬
‫في ًّا( )مريم‪ (3:‬وقال ابن جريج‪ُ :‬يكره‬ ‫خ‬
‫َ ِ‬ ‫ً‬ ‫ء‬ ‫رضي فعله فقال‪) :‬إ ِذ ْ َ َ َ ّ ُ ِ َ‬
‫دا‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫دى‬ ‫نا‬
‫رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء‪ ،‬ويؤمر بالتضرع والستكانة‪ ،‬ثم روى‬
‫ن(‪ :‬في‬ ‫دي َ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫معْت َ ِ‬ ‫ح ّ‬‫ه ل يُ ِ‬ ‫عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله‪) :‬إ ِن ّ ُ‬
‫ن(‪ :‬ل يسأل منازل‬ ‫دي َ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫معْت َ ِ‬ ‫ح ّ‬
‫ه ل يُ ِ‬ ‫الدعاء ول في غيره‪ .‬وقال أبو مجلز‪) :‬إ ِن ّ ُ‬
‫النبياء‪ .‬وقال أحمد‪ :‬حدثنا عبدالرحمن ابن مهدي‪ ،‬حدثنا شعبة عن زياد بن‬
‫دا سمع ابًنا له يدعو وهو‬ ‫مخراق‪ ،‬سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد أن سع ً‬
‫وا من هذا‪ ،‬وأعوذ بك‬ ‫يقول‪ :‬اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها ونح ً‬
‫من النار وسلسلها وأغللها فقال‪ :‬لقد سألت الله خيًرا كثيًرا وتعوذت به من‬
‫شر كثير‪ ،‬وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‪» :‬إنه سيكون‬
‫قوم يعتدون في الدعاء« وفي لفظ‪» :‬يعتدون في الطهور والدعاء« وقرأ هذه‬
‫ضّرعًا( الية‪ ،‬وإن بحسبك أن تقول‪ :‬اللهم إني أسألك‬ ‫م تَ َ‬‫عوا َرب ّك ُ ْ‬‫الية‪) :‬اد ْ ُ‬
‫الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل‪ ،‬وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من‬
‫قول أو عمل)‪ (20‬ورواه أبو داود من حديث شعبة عن زياد بن مخراق عن‬
‫أبي نعامة عن ابن لسعد عن سعد فذكره والله أعلم‪ ،‬وقال المام أحمد‪:‬‬
‫حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا الحريري عن أبي نعامة أن عبدالله‬
‫بن مغفل سمع ابنه يقول‪ :‬اللهم إني أسألك القصر البيض عن يمين الجنة إذا‬
‫دخلتها؛ فقال‪ :‬يا بني‪ ،‬سل الله الجنة وعُذ ْ به من النار؛ فإني سمعت رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم يقول‪) :‬يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور()‬
‫‪.(21)«(20‬‬
‫النموذج التاسع ‪:‬‬
‫قوله صلى الله عليه وسلم‪» :‬إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يكره أن تؤتى‬
‫معصيته«)‪ ،(22‬والناس مع الرخص الشرعية طرفان ووسط‪.‬‬
‫الطرف الول‪ :‬من يتمادى في أخذ الرخصة‪ ،‬ويسترسل معها حتى يخرج بها‬
‫عن المقصود الشرعي‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬من يتشدد في الورع حتى يترك الرخص الشرعية ويشدد‬
‫على نفسه‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الوسط‪ :‬وهو الذي يعظم أمر الله عز وجل ونهيه؛ فل يعارضهما بترخص جاف‬
‫ول يعرضهما لتشديد غال ويزهد في رخص الله عز وجل‪.‬‬
‫ويفصل هذا المر المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬فيقول‪» :‬فحقيقة‬
‫خص جاف‪ ،‬ول يعرضا لتشديد غال؛‬ ‫التعظيم للمر والنهي أن ل يعاَرضا بتر ّ‬
‫فإن المقصود هوالصراط المستقيم الموصل إلى الله ‪ -‬عز وجل ‪ -‬بسالكه‪.‬‬
‫مَر الله ‪ -‬عز وجل ‪ -‬بأمر إل وللشيطان فيه نزغتان‪ :‬إما تقصير وتفريط‪،‬‬ ‫وما أ َ‬
‫و‪ ،‬فل يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين‪ ،‬فإنه يأتي إلى‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫وإما إفراط وغُل ّ‬
‫صا؛ أخذه من هذه‬ ‫قلب العبد فيشامه‪ :‬فإن وجد فيه فتوًرا وتوانًيا وترخي ً‬
‫الخطة‪ ،‬فثّبطه‪ ،‬وأقعده‪ ،‬وضربه بالكسل والتواني والفتور‪ ،‬وفتح له باب‬
‫التأويلت والرخاء‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬حتى ربما ترك العبد ُ المأموَر جملة‪.‬‬
‫دا‪ ،‬وتشميًرا ونهضة‪ ،‬وأيس أن يأخذه من هذا الباب؛‬ ‫وإن وجد عنده حذًرا وج ّ‬
‫ول له أن هذا ل يكفيك‪ ،‬وهمتك فوق هذا‪ ،‬وينبغي‬ ‫أمره بالجتهاد الزائد‪ ،‬وس ّ‬
‫لك أن تزيد على العاملين‪ ،‬وأن ل ترقد إذا رقدوا‪ ،‬ول تفطر إذا أفطروا‪ ،‬وأن‬
‫فت َُر إذا فََتروا‪ ،‬وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلث مرات فاغسل أنت‬ ‫ل تَ ْ‬
‫دي‪،‬‬‫سبًعا‪ ،‬وإذا توضأ للصلة فاغتسل أنت لها‪ ،‬ونحو ذلك من الفراط والتع ّ‬
‫دي الصراط المستقيم؛ كما يحمل الول‬ ‫فيحمله على الغلوّ والمجاوزة وتع ّ‬
‫على التقصير دونه وأن ل يقربه‪.‬‬
‫ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم‪ :‬هذا بأن ل يقرَبه ول‬
‫يدنو منه‪ ،‬وهذا بأن يجاوزه ويتعداه‪.‬‬
‫خ‪ ،‬وإيمان وقوة‬ ‫م راس ٌ‬‫جي من ذلك إل عل ٌ‬ ‫وقد فُِتن بهذا أكثُر الخلق‪ ،‬ول ي ُن َ ّ‬
‫على محاربته‪ ،‬ولزوم الوسط والله المستعان«)‪.(23‬‬
‫ضا‪» :‬ومن علمات تعظيم المر والنهي‪ :‬أن ل يسترسل مع الرخصة‬ ‫وقال أي ً‬
‫إلى حد يكون صاحبه جافًيا غير مستقيم على المنهج الوسط‪.‬‬
‫خص الجافي‬ ‫ة وردت بالبراد بالظهر في شدة الحر‪ ،‬فالتر ّ‬ ‫ن السن ّ َ‬ ‫مثال ذلك‪ :‬أ ّ‬
‫صا جافًيا‪.‬‬‫أن يبرِد َ إلى فوات الوقت‪ ،‬أو مقاربة خروجه‪ ،‬فيكون مترخ ً‬
‫وحكمة هذه الرخصة أن الصلة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع‬
‫والحضور‪ ،‬ويفعل العبادة بتكّره وضجر‪ ،‬فمن حكمة الشارع أن أمرهم‬
‫بتأخيرها حتى ينكسر الحر‪ ،‬فيصلي العبد بقلب حاضر‪ ،‬ويحصل له مقصود‬
‫الصلة من الخشوع والقبال على الله تعالى‪.‬‬
‫ومن هذا نهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي بحضرة الطعام‪ ،‬أو عند مدافعة‬
‫وش عليه مقصود الصلة‪ ،‬ول‬ ‫البول والغائط؛ لتعلق قلبه من ذلك بما يش ّ‬
‫يحصل المراد منها‪.‬‬

‫)‪(46 /‬‬

‫ل على شغله فيعمله‪ ،‬ثم يفرغ قلبه‬ ‫قب َ‬ ‫فمن فقه الرجل في عبادته‪ :‬أن ي ُ ْ‬
‫ّ‬
‫للصلة‪ ،‬فيقوم فيها وقد فّرغ قلبه لله تعالى‪ ،‬ونصب وجهه له‪ ،‬وأقبل بكليته‬
‫فُر للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه‪.‬‬ ‫عليه؛ فركعتان من هذه الصلة ي ُغْ َ‬
‫صا جافًيا‪.‬‬ ‫والمقصود أن ل يترخص ترخ ً‬
‫ومن ذلك‪ :‬أنه رخص للمسافر في الجمع بين الصلتين عند العذر‪ ،‬وتعذر فعل‬
‫كل صلة في وقتها لمواصلة السير‪ ،‬وتعذر النزول أو تعسره عليه‪ ،‬فإذا أقام‬
‫في المنزل اليومين والثلثة‪ ،‬أو أقام اليوم؛ فجمعه بين الصلتين ل موجب له؛‬
‫لتمكنه من فعل كل صلة في وقتها من غير مشقة‪ ،‬فالجمع ليس سنة راتبة‬
‫جد َ عذر أم لم‬
‫كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع‪ ،‬سواء وُ ِ‬

‫‪30‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫سنة راتبة‪ ،‬فسنة المسافر قصر الرباعية‪،‬‬ ‫يوجد‪ ،‬بل الجمع رخصة‪ ،‬والقصر ُ‬
‫سواء كان له عذر أو لم يكن‪ ،‬وأما جمعه بين الصلتين فحاجة ورخصة‪ ،‬فهذا‬
‫لون‪ ،‬وهذا لون‪.‬‬
‫ومن هذا‪ :‬أن الشبع في الكل رخصة غير محرمة‪ ،‬فل ينبغي أن يجفو العبد‬
‫فيها حتى يصل به الشبع إلى حد الّتخمة والمتلء‪ ،‬فيتطلب ما يصرف به‬
‫الطعام‪ ،‬فيكون همه بطنه قبل الكل وبعده‪ .‬بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع‪،‬‬
‫ويدع الطعام وهو يشتهيه‪ ،‬وميزان ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم‪:‬‬
‫ه()‪.(24‬‬ ‫س ِ‬
‫ف ِ‬‫ث لن َ‬‫ه‪ ،‬وث ُل ُ ٌ‬ ‫ثل َ‬
‫شراب ِ ِ‬ ‫ه‪ ،‬وث ُل ُ ٌ‬
‫م ِ‬ ‫)ث ُل ُ ٌ‬
‫ث لطعا ِ‬
‫ول يجعل الثلثة الثلث كلها للطعام وحده‪.‬‬
‫وأما تعريض المر والنهي للتشديد الغالي؛ فهو كمن يتوسوس في الوضوء‬
‫متغالًيا فيه حتى يفوت الوقت‪ ،‬أو يرّدد تكبيرة الحرام إلى أن تفوته مع المام‬
‫قراءة الفاتحة‪ ،‬أو يكاد تفوته الركعة‪ ،‬أو يتشدد في الورع الغالي حتى ل يأكل‬
‫شيئا ً من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه‪.‬‬
‫ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العّباد الذين نقص حظهم من العلم‪،‬‬
‫وت بما يحمل إليه من بلد‬ ‫حتى امتنع أن يأكل شيًئا من بلد السلم‪ ،‬وكان يتق ّ‬
‫النصارى‪ ،‬ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك‪ ،‬فأوقعه الجهل المفرط‪ ،‬والغُل ُوّ الزائد‬
‫في إساءة الظن بالمسلمين‪ ،‬وحسن الظن بالنصارى نعوذ بالله من‬
‫الخذلن«)‪.(25‬‬
‫النموذج العاشر ‪:‬‬
‫الوسطية في الطهارة والصلة‪:‬‬
‫قال المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬والدب‪ :‬الوقوف في الوسط بين‬
‫طرفين؛ فل يقصر بحدود الشرع عن تمامها‪ ،‬ول يتجاوز بها ما جعلت حدوًدا‬
‫له؛ فكلهما عدوان‪ ،‬والله ل يحب المعتدين‪ .‬والعدوان‪ :‬هو سوء الدب‪.‬‬
‫وقال بعض السلف‪ :‬دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه‪.‬‬
‫فإضاعة الدب بالجفاء؛ كمن لم يكمل أعضاء الوضوء‪ ،‬ولم يوف الصلة آدابها‬
‫سّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها‪ .‬وهي قريب من مائة‬ ‫التي َ‬
‫أدب‪ :‬ما بين واجب ومستحب‪.‬‬
‫وإضاعته بالغلو‪ :‬كالوسوسة في عقد النية‪ ،‬ورفع الصوت بها‪ ،‬والجهر بالذكار‬
‫ة تخفيفه وحذفه كالتشهد‬ ‫والدعوات التي شرعت سًرا‪ ،‬وتطويل ما السن ُ‬
‫حذ ُْفه سنة‪ ،‬وزيادة التطويل على ما فعله رسول الله‬ ‫الول والسلم الذي َ‬
‫سّراق الصلة والنقارون لها ويشتهونه؛‬ ‫صلى الله عليه وسلم ل على ما يظنه ُ‬
‫فإن النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬لم يكن ليأمر بأمر ويخالفه‪ ،‬وقد صانه الله‬
‫من ذلك‪ .‬وكان يأمرهم بالتخفيف ويؤمهم بالصاّفات‪ ،‬ويأمرهم بالتخفيف‪،‬‬
‫وتقام صلة الظهر‪ ،‬فيذهب الذاهب إلى البقيع‪ ،‬فيقضي حاجته‪ ،‬ويأتي أهله‬
‫ويتوضأ‪ ،‬ويدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الولى‪ .‬فهذا هو‬
‫التخفيف الذي أمر به‪ ،‬ل نقر الصلة وسرقها؛ فإن ذلك اختصار‪ ،‬بل اقتصار‬
‫على ما يقع عليه السم‪ ،‬ويسمى به مصليًا‪.(26)«...‬‬
‫وقال في موطن آخر وهو يفرق بين الحتياط في العبادة والوسوسة فيها‪:‬‬
‫»والفرق بين الحتياط والوسوسة أن الحتياط الستقصاء والمبالغة في اتباع‬
‫سّنة وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غير‬ ‫ال ُ‬
‫غلو ومجاوزة ول تقصير ول تفريط؛ فهذا هو الحتياط الذي يرضاه الله‬
‫سّنة ولم يفعله رسول‬ ‫ورسوله‪ .‬وأما الوسوسة فهي ابتداع ما لم تأت به ال ُ‬
‫ما أنه يصل بذلك‬ ‫الله صلى الله عليه وآله وسلم‪ ،‬ول أحد من الصحابة؛ زاع ً‬
‫إلى تحصيل المشروع وضبطه؛ كمن يحتاط بزعمه ويغسل أعضاءه في‬

‫‪31‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الوضوء فوق الثلث فيسرف في صب الماء في وضوئه وغسله‪ ،‬ويصرح‬


‫بالتلفظ بنية الصلة مراًرا‪ ،‬أو مرة واحدة‪ ،‬ويغسل ثيابه مما ل يتيقن نجاسته‬
‫طا‪ ،‬إلى أضعاف أضعاف هذا مما‬ ‫طا‪ ،‬ويرغب عن الصلة في نعله احتيا ً‬ ‫احتيا ً‬
‫اتخذه الموسوسون ديًنا وزعموا أنه احتياط‪.‬‬
‫وقد كان الحتياط باتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما كان‬
‫عليه أولى بهم؛ فإنه الحتياط الذي من خرج عنه فقد فارق الحتياط‪ ،‬وعدل‬
‫سّنة ولو‬
‫عن سواء الصراط‪ .‬والحتياط كل الحتياط الخروج عن خلف ال ُ‬
‫خالفت أكثر أهل الرض بل كلهم«)‪.(27‬‬
‫النموذج الحادي عشر ‪:‬‬

‫)‪(47 /‬‬

‫عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‪ :‬قال لي رسول الله صلى الله عليه‬
‫ذف‪،‬‬ ‫خ ْ‬
‫ت من حصى ال َ‬ ‫ت له حصيا ٍ‬ ‫مٍع‪) :‬هلم القط لي(‪ .‬فلقط ُ‬ ‫ج ْ‬
‫وسلم غداة َ‬
‫فلما وضعهن في يده قال‪) :‬نعم بأمثال هؤلء‪ ،‬وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما‬
‫هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين()‪.(28‬‬
‫وقد قال أهل العلم في حجم الحصى الذي يرمى به أنه بين الحمص والبندق‪،‬‬
‫فما زاد على البندق فهذا إفراط‪ ،‬وما نقص عن الحمص فهو تفريط‪ ،‬والعدل‬
‫بين الفراط والتفريط‪.‬‬
‫وأختم الكلم عن الوسطية في العبادات بكلم نفيس للمام ابن تيمية ‪-‬‬
‫رحمه الله تعالى ‪ -‬حيث يقول‪» :‬فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله‬
‫ورسوله صلى الله عليه وسلم هو القتصاد في العبادة كما قال النبي صلى‬
‫دا()‪ .(29‬وقال‪» :‬إن‬ ‫دا‪ ،‬عليكم هدًيا قاص ً‬ ‫الله عليه وسلم‪) :‬عليكم هدًيا قاص ً‬
‫هذا الدين متين‪ ،‬ولن يشاد الدين أحد إل غلبه‪ ،‬فاستعينوا بالغدوة والروحة‬
‫وشيء من الدلجة‪ ،‬والقصد القصد تبلغو«)‪ .(30‬وكلهما في الصحيح‪.‬‬
‫وقال أبي بن كعب رضي الله عنه‪) :‬اقتصاد في سنة‪ ،‬خير من اجتهاد في‬
‫بدعة( فمتى كانت العبادة توجب له ضرًرا يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها‬
‫ما يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن‬ ‫كانت محرمة؛ مثل أن يصوم صو ً‬
‫العقل‪ ،‬أو الفهم الواجب‪ ،‬أو يمنعه عن الجهاد الواجب‪ ،‬وكذلك إذا كانت توقعه‬
‫في محل محرم ل يقاوم مفسدته مصلحتها‪ ،‬مثل أن يخرج ماله كله‪ ،‬ثم‬
‫يستشرف إلى أموال الناس‪ ،‬ويسألهم‪.‬‬
‫وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها‪ ،‬وأوقعته في مكروهات‪ ،‬فإنها مكروهة‪.‬‬
‫َ‬
‫ما‬
‫ت َ‬ ‫موا ط َي َّبا ِ‬
‫حّر ُ‬
‫مُنوا ل ت ُ َ‬
‫نآ َ‬
‫ذي َ‬‫وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله‪َ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن( )المائدة‪ (87:‬فإنها نزلت‬ ‫دي َ‬‫معْت َ ِ‬‫ب ال ْ ُ‬‫ح ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ل يُ ِ‬ ‫دوا إ ِ ّ‬
‫م َول ت َعْت َ ُ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬
‫ل الل ّ ُ‬
‫ح ّ‬
‫أ َ‬
‫في أقوام من الصحابة كانوا قد اجتمعوا وعزموا على التبتل للعبادة‪ :‬هذا‬
‫يسرد الصوم‪ ،‬وهذا يقوم الليل كله‪ ،‬وهذا يجتنب أكل اللحم‪ ،‬وهذا يجتنب‬
‫النساء‪ ،‬فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات من أكل اللحم‪،‬‬
‫والنساء‪ ،‬وعن العتداء وهو الزيادة على الدين المشروع في الصيام‪ ،‬والقيام‪،‬‬
‫والقراءة‪ ،‬والذكر‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬والزيادة في التحريم على ما حرم والزيادة في‬
‫المباح على ما أبيح‪ .‬ثم إنه أمرهم بعد هذا بكفارة ما عقدوه من اليمين على‬
‫هذا التحريم‪ ،‬والعدوان«)‪.(31‬‬
‫______________‬
‫)‪ (1‬انظر‪ :‬الوسطية في القرآن الكريم‪ ،‬علي الصلبي‪) :‬ص ‪(492 ،491‬‬
‫باختصار يسير‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫قاع‪ :‬هو شراب ُيتخذ من الشعير سمي به لما يعلوه من الزبد‪.‬‬ ‫ف ّ‬


‫)‪ (2‬ال ُ‬
‫)‪ (3‬لم أجد لهذا الحديث بهذا التركيب وإنما ورد في حديثين مستقلين‪ :‬الول‪:‬‬
‫)المجاهد من جاهد نفسه( وهذا رواه الترمذي )‪ ،(1687‬وصححه اللباني في‬
‫صحيح الترمذي )‪ ،(1322‬والثاني‪) :‬الكيس من دان نفسه ‪ ...‬الحديث( وهذا‬
‫رواه الترمذي في القيامة‪ ،‬باب رقم )‪ (26‬وقال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫)‪ (4‬مجموع الفتاوى‪.(461-41/459) :‬‬
‫)‪ (5‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب النكاح‪ ،‬باب الترغيب في النكاح‪.(5063) :‬‬
‫)‪ (6‬الوسطية في القرآن‪) :‬ص ‪.(494‬‬
‫)‪ (7‬في ظلل القرآن‪.(4/2139) :‬‬
‫)‪ (8‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب اليمان والنذور‪ ،‬باب النذر فيما ل يملك وفي‬
‫معصية‪ ،‬ح )‪.(6704‬‬
‫)‪ (9‬البخاري‪ ،‬كتاب الدب‪ ،‬باب صنع الطعام والتكلف للضيف‪ ،‬ح )‪.(6139‬‬
‫)‪ (10‬البخاري‪ ،‬كتاب الجمعة‪ ،‬باب ما يكره من التشديد في العبادة‪ ،‬ح )‬
‫‪ ،(1151‬ومسلم‪ ،‬كتاب صلة المسافرين وقصرها‪ ،‬ح )‪ ،(785‬واللفظ له‪.‬‬
‫)‪ (11‬البخاري‪ ،‬كتاب الجمعة‪ ،‬باب ما يكره من التشديد ‪ ،...‬ح )‪،(1150‬‬
‫ومسلم كتاب صلة المسافرين وقصرها‪ ،‬ح )‪.(784‬‬
‫)‪ (12‬الوسطية في القرآن‪) :‬ص ‪.(497‬‬
‫)‪ (13‬شرح النووي على صحيح مسلم‪.(6/71) :‬‬
‫)‪ (14‬تفسير ابن كثير‪.(3/137) :‬‬
‫)‪ (15‬المسند‪ ،(1/251) :‬وصححه أحمد شاكر‪.(1853) :‬‬
‫)‪ (16‬صحيح البخاري‪ ،(4722) :‬ومسلم‪.(446) :‬‬
‫)‪ (17‬انظر تفسير ابن كثير‪.(69 ،3/68) :‬‬
‫)‪ (18‬تفسير القرطبي‪ ،(10/344) :‬وانظر صحيح مسلم‪.(447) :‬‬
‫)‪ (19‬تفسير القرطبي‪.(7/355) :‬‬
‫)‪ (20‬مسند أحمد‪ ،(1/172) :‬ورواه أبو داود في الطهارة‪ ،‬باب السراف في‬
‫الماء )‪ ،(96‬وصححه اللباني في صحيح أبي داود‪.(87) :‬‬
‫)‪ (21‬تفسير ابن كثير‪.(222 ،2/221) :‬‬
‫)‪ (22‬مسند أحمد‪ ،(2/108) :‬وصححه اللباني في إرواء الغليل‪.(564) :‬‬
‫)‪ (23‬الوابل الصيب‪) :‬ص ‪ (32‬ت‪ :‬سليم الهللي‪.‬‬
‫)‪ (24‬رواه الترمذي‪ ،(2380) :‬وابن ماجة‪ ،(3349) :‬وصححه اللباني في‬
‫صحيح سنن ابن ماجة‪.(2704) :‬‬
‫)‪ (25‬الوابل الصيب‪ ،‬ت‪ :‬الهللي‪) :‬ص ‪.(31-29‬‬
‫)‪ (26‬مدارج السالكين‪ (212 ،1/211) :‬ط‪ .‬دار طيبة‪.‬‬
‫)‪ (27‬الروح‪) :‬ص ‪.(543 ،542‬‬
‫)‪ (28‬النسائي‪ ،(3057) :‬وابن ماجة‪ ،(3025) :‬وصححه اللباني في‬
‫الصحيحة‪ ،(1283) :‬وأحمد في المسند‪ (1/215) :‬واللفظ له‪ ،‬وصححه أحمد‬
‫شاكر )‪.(1851‬‬
‫)‪ (29‬لم أحده بهذا اللفظ في الصحيح وإنما رواه المام أحمد في مسنده‪) :‬‬
‫‪ ،(5/350‬وغيره‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح الجامع‪.(4086) :‬‬
‫)‪ (30‬لم أجده بهذا اللفظ في الصحيح وإنما رواه النسائي‪ ،‬كتاب اليمان‪،‬‬
‫باب الدين يسر‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح النسائي رقم‪.(4661) :‬‬

‫)‪(48 /‬‬

‫‪33‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪» (31‬مجموع الفتاوى«‪.(25/272) :‬‬


‫المبحث الرابع‬
‫من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الخلق والمعاملت‬
‫لقد فطر الله عز وجل النسان على الخير‪ ،‬وركز في فطرته أصول الخلق‬
‫الفاضلة؛ وركب فيها الميل إلى الحسن‪ ،‬والنفرة من القبيح‪ ،‬إل من انتكست‬
‫فطرته تحت وطأة البيئة وسوء التربية‪ ،‬وإغواء النفس والشيطان‪ .‬ومع ذلك‬
‫جاء السلم بالتأكيد على الخلق الفاضلة‪ ،‬والحث عليها‪ ،‬والتنفير من الخلق‬
‫السيئة بصورة تتسم بالوسطية والعدل والتوازن‪.‬‬
‫والدين كله خلق‪ :‬عقائده وعباداته وأحكامه ومعاملته؛ كما سئلت عائشة‬
‫رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‪) :‬كان خلقه‬
‫القرآن()‪.(1‬‬
‫ويقول المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬الدين كله خلق؛ فمن زاد‬
‫عليك في الخلق زاد عليك في الدين«)‪.(2‬‬
‫ولكن الحديث في هذا الفصل سيكون متوجًها إلى المعنى الخاص للخلق؛‬
‫كالمعاملت‪ ،‬والسلوك الحميد؛ مما ل يدخل في العقائد والعبادات‪.‬‬
‫وقد جاءت أخلق السلم متصفة بصفة العدل والتوازن؛ فكل خلق حميد فهو‬
‫وسط بين خلقين ذميمين‪ :‬أحدهما ينزع إلى الغلو والفراط‪ ،‬والخر ينزع إلى‬
‫التفريط والتضييع‪.‬‬
‫وفي ذلك يقول المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬والعدل يحمله على‬
‫اعتدال أخلقه‪ ،‬وتوسطه فيها بين طرفي الفراط والتفريط؛ فيحمله على‬
‫خلق الجود والسخاء الذين هما توسط بين المساك والسراف والتبذير‪،‬‬
‫وعلى خلق الحياء الذي هو سط بين الذل والقحة‪ ،‬وعلى خلق الشجاعة الذي‬
‫هو توسط بين الجبن والتهور‪ ،‬وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب‬
‫والمهانة وسقوط النفس ‪ ...‬وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين‪ ،‬وهو‬
‫سط بينهما‪ ،‬وطرفاه خلقان ذميمان ‪ ...‬فإن النفس متى انحرفت عن‬
‫التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ل بد‪ ،‬فإذا انحرفت عن خلق‬
‫التواضع انحرفت إما إلى كبر وعلو‪ ،‬وإما إلى ذل ومهانة وحقارة‪ ،‬وإذا‬
‫ور‬
‫خ َ‬
‫انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة‪ ،‬وإما إلى عجز و َ‬
‫مع في نفسه عدوه‪ ،‬ويفوته كثير من مصالحه‪ ،‬ويزعم أن‬ ‫ومهانة‪ ،‬بحيث ُيط ِ‬
‫الحامل له على ذلك الحياء؛ وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس‪.‬‬
‫وكذلك إذا انحرفت عن خلق »الصبر المحمود« انحرفت‪ :‬إما إلى جزع وهلع‬
‫وجشع وتسخط‪ ،‬وإما إلى غلظة كبد‪ ،‬وقسوة قلب‪ ،‬وتحجر طبع ‪ ...‬وإذا‬
‫انحرفت عن خلق »الحلم« انحرفت‪ :‬إما إلى الطيش والنزق والحدة والخفة‪،‬‬
‫وإما إلى الذل والمهانة والحقارة‪ .‬ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة‬
‫وحقارة وعجز‪ ،‬وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف‪.‬‬
‫كما قيل‪:‬‬
‫كل حلم أتى بغير اقتدار حجة لجئ إليها اللئام‬
‫وإذا انحرفت عن خلق »الناة والرفق« انحرفت‪ :‬إما إلى عجلة وطيش‬
‫وعنف‪ ،‬وإما إلى تفريط وإضاعة‪ .‬والرفق والناة بينهما‪.‬‬
‫وإذا انحرفت عن خلق »العزة« التي وهبها الله للمؤمنين‪ ،‬انحرفت‪ :‬إما إلى‬
‫كبر‪ ،‬وإما إلى ذل‪ .‬والعزة المحمودة بينهما‪.‬‬
‫وإذا انحرفت عن خلق »الشجاعة« انحرفت‪ :‬إما إلى تهور وإقدام غير‬
‫محمود‪ ،‬وإما إلى جبن وتأخر مذموم‪.‬‬
‫وإذا انحرفت عن خلق »المنافسة في المراتب العالية والغبطة« انحرفت‪:‬‬

‫‪34‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫إما إلى حسد‪ ،‬وإما إلى مهانة وعجز وذل ورضى بالدون‪.‬‬
‫سة‬‫خ ّ‬ ‫َ‬
‫وإذا انحرفت عن »القناعة« انحرفت‪ :‬إما إلى حرص وك َلب‪ ،‬وإما إلى ِ‬
‫ومهانة وإضاعة‪.‬‬
‫وإذا انحرفت عن خلق »الرحمة« انحرفت‪ :‬إما إلى قسوة‪ ،‬وإما إلى ضعف‬
‫قلب وجبن نفس‪ ،‬كمن ل يقدم على ذبح شاة‪ ،‬ول إقامة حد‪ ،‬وتأديب ولد؛‬
‫م الخلق صلى الله عليه‬ ‫ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك‪ .‬وقد ذبح أرح ُ‬
‫وسلم بيده في موضع واحد ثلًثا وستين بدنة‪ ،‬وقطع اليدي من الرجال‬
‫والنساء‪ ،‬وضرب العناق‪ ،‬وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم‪.‬‬
‫وكان أرحم خلق الله على الطلق وأرأفهم‪.‬‬
‫وكذلك طلقة الوجه‪ ،‬والبشر المحمود؛ فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب‬
‫شر‪ ،‬وبين السترسال بذلك مع كل أحد‬ ‫شر عن الب َ َ‬ ‫وتصعير الخد‪ ،‬وطي الب ِ ْ‬
‫بحيث ُيذهب الهيبة‪ ،‬ويزيل الوقار‪ ،‬ويطمع في الجانب‪ ،‬كما أن النحراف الول‬
‫يوقع الوحشة والبغضة‪ ،‬والنفرة في قلوب الخلق‪.‬‬
‫وصاحب الخلق الوسط مهيب محبوب‪ ،‬عزيز جانبه‪ ،‬حبيب لقاؤه‪ .‬وفي صفة‬
‫شرة أحبه()‬ ‫ع ْ‬
‫نبينا صلى الله عليه وسلم‪) :‬من رآه بديًهة هابه‪ .‬ومن خالطه ِ‬
‫‪ .(3‬والله أعلم«)‪.(4‬‬
‫وبعد هذا الجمال في بيان الوسطية والتوزان في بعض أخلق هذا الدين؛‬
‫فإنه يحسن بنا التفصيل في إظهار هذه السمة في بعض الخلق‪ ،‬ومنها تلك‬
‫التي ظهرت في عصرنا الحاضر وهي مجانبة للتوسط والعتدال‪ ،‬خاصة وأنها‬
‫سرت في المجتمع حتى وصلت إلى بعض الدعاة وطلبة العلم‪.‬‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬صحيح مسلم‪.(746) :‬‬
‫)‪ (2‬مدارج السالكين‪ (3/73) :‬ط‪ .‬دار طيبة‪.‬‬
‫)‪ (3‬رواه الترمذي في المناقب باب ما جاء في صفة النبي‪ ،‬وقال حسن‬
‫غريب‪ ،‬وضعفه اللباني في ضعيف الترمذي‪.(748) :‬‬
‫)‪ (4‬مدارج السالكين‪ (79-3/74) :‬باختصار‪ .‬ط دار طيبة‪.‬‬
‫أول ً ‪ :‬العدل والتوازن في الكلم والبيان ‪:‬‬
‫إن نعمة النطق واللسان والبيان نعمة عظيمة ل يقدرها حق قدرها إل من‬
‫ما‪.‬‬‫فقدها أو عاش بين الناس أبك ً‬

‫)‪(49 /‬‬

‫ن‬
‫سا َ‬‫خل َقَ اْل ِن ْ َ‬
‫ن َ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫قْرآ َ‬ ‫ن عَل ّ َ‬
‫م ُ‬ ‫قال تعالى ممتنا ً على عباده بنعمة البيان‪) :‬الّر ْ‬
‫ح َ‬
‫ن( )الرحمن‪.(4-1:‬‬ ‫ه ال ْب ََيا َ‬ ‫عَل ّ َ‬
‫م ُ‬
‫والقلم والكتابة من البيان الذي أنعم الله به على النسان‪.‬‬
‫يتحدث سيد قطب ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬عن نعمة البيان فيقول‪» :‬إننا نرى‬
‫النسان ينطق ويعبر ويبين‪ ،‬ويتفاهم‪ ،‬ويتجاوب مع الخرين فننسى بطول‬
‫اللفة عظمة هذه الهبة‪ ،‬وضخامة هذه الخارقة‪ ،‬فيردنا القرآن إليها‪ ،‬ويوقظنا‬
‫لتدبرها في مواضع شتى‪.‬‬
‫فما النسان؟ ما أصله؟ كيف يبدأ؟ وكيف ُيعلم البيان؟‬
‫إنه هذه الخلية الواحدة التي تبدأ حياتها في الرحم؛ خلية ساذجة صغيرة‪،‬‬
‫ضئيلة‪ ،‬مهينة‪ ،‬ترى بالمجهر ول تكاد تبين‪ ،‬وهي ل ُتبين ولكن هذه الخلية ما‬
‫ون الجنين‪ .‬الجنين المكون من مليين الخليا المنوعة‪ :‬عظمية‪،‬‬ ‫تلبث أن ُتك ّ‬
‫وغضروفية‪ ،‬وعضلية‪ ،‬وعصبية‪ ،‬وجلدية‪ .‬ومنها كذلك تتكون الجوارح والحواس‬

‫‪35‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ووظائفها المدهشة‪ :‬السمع‪ ،‬البصر‪ ،‬الذوق‪ ،‬الشم‪ ،‬اللمس ثم ‪ ..‬ثم الخارقة‬


‫الكبرى والسر العظم‪ :‬الدراك والبيان‪ ،‬والشعور واللهام‪ .‬كله من تلك‬
‫الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة الضئيلة المهينة‪ ،‬التي ل تكاد َتبين‪ ،‬والتي ل‬
‫ُتبين!‬
‫كيف؟ ومن أين؟ من الرحمن‪ ،‬وبصنع الرحمن‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ه أَ ْ‬
‫ن‬‫مو َ‬‫م ل ت َعْل َ ُ‬
‫مَهات ِك ُ ْ‬
‫نأ ّ‬ ‫ن بُ ُ‬
‫طو ِ‬ ‫م ْ‬ ‫جك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫خَر َ‬ ‫فلننظر كيف يكون البيان؟‪َ) .‬والل ّ ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ة( )النحل‪ :‬من الية ‪.(78‬‬ ‫صاَر َوالفْئ ِد َ َ‬ ‫معَ َواْلب ْ َ‬
‫س ْ‬
‫م ال ّ‬‫ل ل َك ُ ُ‬ ‫شْيئا ً وَ َ‬
‫جعَ َ‬ ‫َ‬
‫إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة ل ينقضي منها العجب‪ :‬اللسان‪،‬‬
‫والشفتان‪ ،‬والفك‪ ،‬والسنان‪ ،‬والحنجرة‪ ،‬والقصبة الهوائية‪ ،‬والشعب‪،‬‬
‫والرئتان‪ .‬إنها كلها تشترك في عملية التصويت اللية‪ ،‬وهي حلقة في سلسة‬
‫البيان‪ .‬وهي على ضخامتها ل تمثل إل الجانب الميكانيكي اللي في هذه‬
‫العملية المعقدة‪ ،‬المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والعصاب‪ .‬ثم بالعقل الذي‬
‫ل نعرف عنه إل اسمه‪ ،‬ول ندري شيًئا عن ماهيته وحقيقته‪ .‬بل ل نكاد ندري‬
‫شيًئا عن عمله وطريقته!‬
‫كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد؟‬
‫إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والجهزة‪ ،‬مجهولة في بعض‬
‫المراحل خافية حتى الن‪.‬‬
‫إنها تبدأ شعوًرا بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لداء غرض معين‪ .‬هذا الشعور‬
‫ينتقل ‪ -‬ل ندري كيف ‪ -‬من الدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية‬
‫‪ ..‬المخ ‪ ..‬ويقال‪ :‬إن المخ يصدر أمره عن طريق العصاب بالنطق بهذا‬
‫اللفظ المطلوب‪ .‬واللفظ ذاته مما علمه الله للنسان وعرفه معناه‪ .‬وهنا‬
‫تطرد الرئة قدًرا من الهواء المختزن فيها‪ ،‬ليمر من الشعب إلى القصبة‬
‫الهوائية‪ ،‬إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي ل تقاس إليها أوتار أية‬
‫آلة صوتية صنعها النسان‪ ،‬ول جميع اللت الصوتية المختلفة النغام! فيصوت‬
‫الهواء في الحنجرة صوًتا تشكله حسبما يريد العقل‪ .‬عالًيا أو خافًتا‪ ،‬سريًعا أو‬
‫ما أو رفيًعا‪ ،‬إلى آخر أشكال الصوت وصفاته‪ .‬ومع‬ ‫ما‪ ،‬ضخ ً‬ ‫بطيًئا‪ ،‬خشًنا أو ناع ً‬
‫الحنجرة اللسان والشفتان والفك والسنان؛ يمر بها هذا الصوت فيتشكل‬
‫بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة‪ .‬وفي اللسان خاصة يمر كل‬
‫وت الحرف‬ ‫حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين‪ ،‬يتم فيه الضغط المعين‪ ،‬ليص ّ‬
‫بجرس معين‪.‬‬
‫وذلك كله لفظ واحد‪ .‬ووراءه العبارة‪ ،‬والموضوع‪ ،‬والفكرة‪ ،‬والمشاعر‬
‫السابقة واللحقة‪ .‬وكل منها عالم عجيب غريب‪ ،‬ينشأ في هذا الكيان العجيب‬
‫الغريب‪ ،‬بصنعة الرحمن‪ ،‬وفضل الرحمن«)‪.(1‬‬
‫وبعد هذا الستعراض البديع من سيد قطب ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬لنعمة النطق‬
‫والبيان‪ ،‬وكيف يقوم النسان بهما‪ ،‬يتعين علينا التعرف على تفاوت الناس في‬
‫نعمة الكلم والبيان حيث ينقسمون إلى طرفين ووسط‪.‬‬
‫الطرف الول‪ :‬الفراط في الكلم والبيان‪ :‬وصاحبه هو المهذار الذي يطلق‬
‫لسانه أو قلمه في ما ل فائدة فيه؛ وما ل يعنيه؛ وهذا في الغالب يعرض‬
‫نفسه لكثير من آفات الكتابة‪ ،‬واللسان؛ كالرياء والغيبة والنميمة والكذب‬
‫وقول الباطل والسب والشتم وغيرها من آفات اللسان والقلم‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬التفريط في الكلم والبيان النافع‪ :‬وصاحب هذا الطرف هو‬
‫الذي يغلب عليه الصمت‪ ،‬وقلة الكلم حتى يوقعه ذلك في السكوت عن قول‬
‫الحق أو السكوت على باطل‪ ،‬أو ترك المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫باللسان‪ ،‬وقد يصل به التقصير في أداء نعمة الكلم إلى أن يفوت على نفسه‬

‫‪36‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫كثيًرا من العبادات اللسانية؛ كالذكر والدعاء وقراءة القرآن‪.‬‬


‫وعن هذين الطرفين يتحدث المام ابن القيم وهو يصور وصية الشيطان‬
‫لذريته في القيام على ثغر اللسان فيقول‪» :‬قوموا على ثغر اللسان؛ فإنه‬
‫الثغر العظم‪ ،‬وهو قبالة الملك‪ ،‬فأجروا عليه من الكلم ما يضره ول ينفعه‪،‬‬
‫وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه‪ :‬من ذكر الله تعالى واستغفاره‪،‬‬
‫وتلوة كتابه‪ ،‬ونصيحة عباده‪ ،‬والتكلم بالعلم النافع‪ ،‬ويكون لكم في هذا الثغر‬
‫أمران عظيمان‪ ،‬ل تبالون بأيهما ظفرتم‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬التكلم بالباطل؛ فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم‪ ،‬ومن أكبر‬
‫جندكم وأعوانكم‪.‬‬

‫)‪(50 /‬‬

‫والثاني‪ :‬السكوت عن الحق؛ فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس‪ ،‬كما أن‬
‫الول أخ ناطق‪ ،‬وربما كان الخ الثاني أنفع أخويكم لكم؛ أما سمعتم قول‬
‫الناصح‪ :‬المتكلم بالباطل شيطان ناطق‪ ،‬والساكت عن الحق شيطان‬
‫أخرس؟‪.‬‬
‫فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل‪ ،‬وزينوا له‬
‫طريق‪.‬‬
‫َ‬ ‫التكلم بالباطل بكل طريق‪ ،‬وخوفوه من التكلم بالحق بكل‬
‫ك منه بني آدم‪ ،‬وأك ُّّبهم منه على‬‫ي أن ثغر اللسان هو الذي ُأهل ِ ُ‬‫واعلموا يا ب َن ِ ّ‬
‫مناخرهم في النار‪ ،‬فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر«)‪.(2‬‬
‫الموقف الوسط العدل‪ :‬وهو الموقف الذي يقوم فيه أهله بأداء شكر نعمة‬
‫اللسان والبيان؛ فيتكلمون ويكتبون في المر حين يكون طاعة لله عز وجل‪،‬‬
‫خرون هذه النعمة في اللهج بذكر‬ ‫وأمًرا بالمعروف‪ ،‬ونهًيا عن المنكر‪ ،‬وُيس ّ‬
‫الله تعالى‪ ،‬وشكره وعبادته‪ ،‬وإحقاق الحق‪ ،‬وإبطال الباطل‪ .‬ويسكتون حين‬
‫يكون السكوت محبوًبا لله عز وجل؛ وذلك حينما يكون الكلم معصًية لله عز‬
‫وجل؛ كالظلم والرياء والغيبة والنميمة‪ ،‬وقول الباطل وغير ذلك من آفات‬
‫اللسان‪..‬‬
‫ويصف المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬هذه المواقف الثلثة فيقول‪:‬‬
‫»وفي اللسان آفتان عظيمتان‪ ،‬إن خلص من إحداهما لم يخلص من الخرى‪:‬‬
‫ما من الخرى في‬ ‫آفة الكلم‪ ،‬وآفة السكوت؛ وقد يكون كل منهما أعظم إث ً‬
‫وقتها؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس‪ ،‬عاص لله‪ ،‬مراء مداهن إذا لم‬
‫يخف على نفسه‪ .‬والمتكلم بالباطل شيطان ناطق‪ ،‬عاص لله‪ .‬وأكثر الخلق‬
‫منحرف في كلمه وسكوته؛ فهم بين هذين النوعين‪ .‬وأهل الوسط ‪ -‬وهم‬
‫فوا ألسنتهم عن الباطل‪ ،‬وأطلقوها فيما يعود‬ ‫أهل الصراط المستقيم ‪ -‬ك ّ‬
‫عليهم نفعه في الخرة؛ فل ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بل‬
‫منفعة‪ ،‬فضل ً أن تضره في آخرته‪ ،‬وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال‬
‫الجبال‪ ،‬فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها‪ ،‬ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد‬
‫لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به«)‪.(3‬‬
‫وهكذا كان السلف الصالح ‪ -‬رحمهم الله تعالى ‪ -‬في طريقتهم في الكلم أو‬
‫السكوت وس ً‬
‫طا بين الفراط والتفريط‪.‬‬
‫فعن ميمون بن مهران قال‪ :‬جاء رجل إلى سلمان فقال‪ :‬أوصني‪ .‬قال‪ :‬ل‬
‫م‪ .‬قال‪ :‬ل يستطيع من عاش في الناس أن ل يتلكم‪ .‬قال‪ :‬فإن تكلمت‬ ‫َتكل ّ ْ‬
‫ت‪ .‬قال‪ :‬زدني‪ .‬قال‪ :‬ل تغضب‪ .‬قال‪ :‬إنه ليغشاني ما ل‬ ‫فتكلم بحق أو اسك ْ‬
‫أملكه‪ .‬قال‪ :‬فإن غضبت فأمسك عليك لسانك ويدك‪ .‬قال زدني‪ .‬قال‪ :‬ل‬

‫‪37‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تلبس الناس‪ .‬قال‪ :‬ل يستطيع من عاش في الناس أن ل يلبسهم‪ .‬قال‪ :‬فإن‬
‫لبستهم فاصدق الحديث وأد المانة)‪.(4‬‬
‫وعن يعلى بن عبيد قال‪ :‬دخلنا على محمد بن سوقة فقال‪ :‬أحدثكم بحديث‬
‫لعله ينفعكم‪ ،‬فإنه قد نفعني‪ .‬ثم قال‪ :‬قال لنا عطاء بن رباح‪ :‬يا بني أخي إن‬
‫دون فضوله ما عدا‬ ‫من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلم‪ ،‬وكانوا يع ّ‬
‫كتاب الله عز وجل أن تقرأه‪ ،‬وتأمر بمعروف‪ ،‬أو تنهى عن منكر‪ ،‬أو تنطق‬
‫ما‬
‫بحاجتك في معيشتك التي ل بد لك منها‪ .‬أتنكرون أن عليكم حافظين كرا ً‬
‫كاتبين‪ ،‬عن اليمين وعن الشمال قعيد؛ ما يلفظ من قول إل لديه رقيب عتيد؟‬
‫ل صدَر نهاره‪ ،‬فإن‬ ‫أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أم ّ‬
‫أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ول دنياه)‪.(5‬‬
‫ل‪ :‬أرجو أن ألقى الله ول‬ ‫وقال بكر بن منير‪ :‬سمعت أبا عبدالله البخاري يقو ُ‬
‫د‪.‬‬
‫ت أح ً‬
‫يحاسبني أّني اغتب ُ‬
‫صد َقَ رحمه الله‪ ،‬ومن نظر في كلمه في الجرِح والتعديل علم‬ ‫قال الذهبي‪َ :‬‬
‫ل‪ :‬منكر‬ ‫فه؛ فإنه أكثر ما يقو ُ‬ ‫ضعّ ُ‬
‫وََرعه في الكلم في الناس‪ ،‬وإنصافه فيمن ي ُ َ‬
‫ذاب‪ ،‬أو كان‬ ‫نك ّ‬‫ل أن يقول‪ :‬فل ٌ‬ ‫الحديث‪ ،‬سكُتوا عنه‪ ،‬فيه نظر‪ ،‬ونحو هذا‪ .‬وق ّ‬
‫ه‪.‬‬
‫ت فلن في حديثه نظر‪ ،‬فهو مّتهم وا ٍ‬ ‫ضعُ الحديث‪ .‬حتى إنه قال‪ :‬إذا قل ُ‬ ‫ي َ‬
‫دا‪ .‬وهذا هو والله غاية الورع)‬ ‫ً‬ ‫أح‬ ‫تبت‬‫ْ‬ ‫اغ‬ ‫أني‬ ‫الله‬ ‫بني‬‫ُ‬ ‫يحاس‬ ‫ل‬ ‫قوله‪:‬‬ ‫معنى‬ ‫وهذا‬
‫‪.(6‬‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬في ظلل القرآن‪.(3447 ،6/3446) :‬‬
‫)‪ (2‬الجواب الكافي‪) :‬ص ‪ (138 ،137‬ت‪ :‬حسين عبدالحميد‪.‬‬
‫)‪ (3‬الجواب الكافي‪) :‬ص ‪ ،(220‬ت‪ :‬حسين عبد الحميد‪.‬‬
‫)‪ (4‬صفة الصفوة‪.(1/549) :‬‬
‫)‪ (5‬صفة الصفوة‪.(2/213) :‬‬
‫)‪ (6‬سير أعلم النبلء‪.(12/439) :‬‬
‫ثانًيا ‪ :‬العدل والوسط في المزاح والنبساط ‪:‬‬
‫والناس في هذا الخلق طرفان ووسط‪:‬‬
‫الطرف الول‪ :‬أهل الفراط في المزاح والنبساط‪ :‬وهم الذين يسترسلون‬
‫في ذلك‪ ،‬ويكثرون منه‪ ،‬حتى يوقعهم في المحذور من المزاح والنبساط؛‬
‫كالكذب‪ ،‬والسخرية‪ ،‬والفرح المذموم الذي قد يؤدي إلى البطر والغفلة عن‬
‫الخرة‪ ،‬كما يؤدي إلى قلة الوقار والحياء والسقوط من أعين الناس‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬أهل التفريط الذين ل يرون النبساط مع الناس‪ ،‬ول المزاح‬
‫المباح‪ ،‬وإنما الذي يغلب على حياتهم الحزن‪ ،‬والنقباض عن الناس‪ ،‬والعبوس‬
‫في وجوههم‪.‬‬

‫)‪(51 /‬‬

‫الموقف العدل الوسط‪ :‬وهذا الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم‬
‫وأصحابه الكرام؛ حيث التوازن والوسطية في هذا الخلق‪ ،‬فلم يكونوا‬
‫يفرطون في ضحكهم ومزاحهم‪ ،‬ولم يكونوا منقبضين عن الناس‪ ،‬عابسين‬
‫في وجوههم‪ ،‬مغلبين الحزن‪ ،‬والغم على حياتهم‪.‬‬
‫ويحسن في هذا المقام إيراد بعض الدلة والمثلة على حسن هذا الموقف‬
‫واعتداله‪:‬‬
‫عن أبي هريرة قال‪ :‬قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا‪ .‬قال‪) :‬إني ل أقول إل‬

‫‪38‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫قا()‪.(1‬‬ ‫ح ً‬
‫وقال محمد بن النعمان بن عبدالسلم‪ :‬لم أر أعبد من يحيى بن حماد‪ ،‬وأظنه‬
‫ل‪،‬‬‫م أفض ُ‬ ‫س ُ‬‫قا على ذلك‪» :‬الضحك اليسيُر والتب ّ‬ ‫لم يضحك‪ .‬قال الذهبي تعلي ً‬
‫وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين‪:‬‬
‫حزًنا على نفسه‬ ‫ه أدًبا وخوًفا من الله‪ ،‬و ُ‬ ‫ن فاضل ً لمن ترك َ ُ‬ ‫أحدهما‪ :‬يكو ُ‬
‫المسكينة‪.‬‬
‫ن أكثر الضح َ‬
‫ك‬ ‫م ْ‬ ‫ن َ‬ ‫قا وك ِب ًْرا وتصن ًّعا‪ ،‬كما أ ّ‬ ‫م لمن فعله حم ً‬ ‫والثاني‪ :‬مذمو ٌ‬
‫ف منه وأعذُر منه في‬ ‫ف به‪ ،‬ول ريب أن الضحك في الشاب أخ ّ‬ ‫خ َ‬ ‫است ُ ِ‬
‫الشيوخ‪.‬‬
‫ي صلى الله عليه‬ ‫ة الوجه فأرفعُ من ذلك كله؛ قال النب ّ‬ ‫م وطلق ُ‬ ‫س ُ‬‫وأما التب ّ‬
‫دقة()‪ ،(2‬وقال جرير رضي الله عنه‪ :‬ما‬ ‫ص َ‬ ‫سمك في وجه أخيك َ‬ ‫َ‬ ‫وسلم‪) :‬تب ّ‬
‫سم)‪.(3‬‬ ‫رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إل تب ّ‬
‫ما بالنهار‪.‬‬ ‫سا ً‬ ‫َ‬
‫فهذا هو خلقُ السلم‪ ،‬فأعلى المقامات من كان بكاًء بالليل‪ ،‬ب َ ّ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪) :‬لن تسعوا الناس بأموالكم‪ ،‬فليسعهم منكم‬
‫بسط الوجه()‪.(4‬‬
‫ما أن ُيقصر من ذلك‪ ،‬ويلوم نفسه‬ ‫سا ً‬ ‫ً‬
‫بقي هنا شيٌء‪ :‬ينبغي لمن كان ضحوكا ب ّ‬
‫ضا أن يتبسم‪ ،‬وُيحسن‬ ‫ً‬ ‫منقب‬ ‫سا‬
‫ً‬ ‫عبو‬ ‫ه النفس‪ ،‬وينبغي لمن كان‬ ‫ج ُ‬‫حتى ل تم ّ‬
‫م‪،‬‬
‫مذمو ٌ‬ ‫ل انحراف عن العتدال فَ َ‬ ‫خُلقه‪ ،‬وك ّ‬ ‫خلقه‪ ،‬ويمقت نفسه على رداءة ُ‬
‫ول بد ّ للنفس من مجاهدة وتأديب«)‪.(5‬‬
‫ويتأكد هذا المنهج في حق العلماء والدعاة؛ فالناس يميلون إلى الطلق‬
‫حا‪ .‬وحال الرجل في‬ ‫مّزا ً‬ ‫البسام البشوش‪ .‬روي أن سفيان الثوري كان َ‬
‫التبسط بين خواص الجلساء غير حاله مع العامة‪ ،‬ولكل مقام مقال‪ .‬فقد روى‬
‫سا في الزهد‬ ‫آخر عن سفيان أنه ما لقيه إل باكًيا‪ ،‬وكما قال الذهبي‪ :‬كان رأ ً‬
‫والتأله والخوف‪ .‬وهكذا يكون التوازن والقصد)‪.(6‬‬
‫_______________‬
‫)‪ (1‬الترمذي‪ ،‬في البر والصلة‪ ،‬باب ما جاء في المزاح‪ ،‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫)‪ (2‬البخاري‪.(891) :‬‬
‫)‪ (3‬البخاري‪ ،(3035) :‬ومسلم‪.(2475) :‬‬
‫)‪ (4‬البزار‪ ،(1977) :‬والحاكم في المستدرك‪ ،(1/124) :‬وصححه الحاكم‬
‫وتعقبه الذهبي بقوله عن عبدالله المقبري‪ :‬واه‪.‬‬
‫)‪ (5‬سير أعلم النبلء‪.(141 ،01/140) :‬‬
‫)‪ (6‬انظر )فقه الئتلف(‪) :‬ص ‪ ،(331‬للستاذ محمود خازندار رحمه الله‬
‫تعالى‪.‬‬
‫ثالًثا ‪ :‬العدل والتوازن في النفاق‪:‬‬
‫ط‬
‫س ِ‬ ‫ْ‬
‫ل الب َ ْ‬ ‫سطَها ك ُ ّ‬ ‫ْ‬ ‫ك َول ت َب ْ ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ة إ ِلى عُن ُ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫مغْلول ً‬ ‫ك َ‬ ‫ل ي َد َ َ‬ ‫جعَ ْ‬‫قال الله عز وجل‪َ) :‬ول ت َ ْ‬
‫سورًا( )السراء‪.(29:‬‬ ‫ح ُ‬‫م ْ‬ ‫مُلوما ً َ‬‫قعُد َ َ‬ ‫فَت َ ْ‬
‫ن ذ َل ِكَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن ب َي ْ َ‬ ‫قت ُُروا وَكا َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫سرُِفوا وَل ْ‬ ‫م يُ ْ‬ ‫قوا ل ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫ن إ َِذا أن ْ َ‬
‫ذي َ‬‫وقال عز وجل‪َ) :‬وال ِ‬
‫وامًا( )الفرقان‪.(67:‬‬ ‫قَ َ‬
‫يقول المام ابن كثير ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬عند هذه الية‪» :‬أي‪ :‬ليسوا‬
‫بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة‪ ،‬ول بخلء على أهليهم فيقصرون‬
‫في حقهم فل يكفونهم بل عدل ً خياًرا‪ ،‬وخير المور أوسطها ل هذا‪ ،‬ول هذا«‪.‬‬
‫ويقول المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في وصف أهل التوسط‬
‫والعتدال‪» :‬وقد مدح تعالى أهل التوسط بين الطرفين المنحرفين في غير‬
‫قت ُُروا وَ َ َ‬
‫ن‬ ‫كا‬ ‫م يَ ْ‬ ‫سرُِفوا وَل َ ْ‬ ‫م يُ ْ‬ ‫قوا ل َ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫ن إ َِذا أ َن ْ َ‬ ‫ذي َ‬‫موضع من كتابه؛ فقال تعالى‪َ) :‬وال ّ ِ‬

‫‪39‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ة إ َِلى‬ ‫مغُْلول َ ً‬‫ك َ‬ ‫ل ي َد َ َ‬ ‫جعَ ْ‬ ‫وامًا( )الفرقان‪ ،(67:‬وقال تعالى‪َ) :‬ول ت َ ْ‬ ‫ك قَ َ‬‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫ب َي ْ َ‬
‫سورا( )السراء‪ ،(29:‬وقال‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ح ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ً‬
‫ملوما َ‬ ‫ُ‬ ‫قعُد َ َ‬ ‫ط فت َ ْ‬‫َ‬ ‫س ِ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫سطَها كل الب َ ْ‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫قك َول ت َب ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫عُن ُ ِ‬
‫ذيرا( )السراء‪.(26:‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ل َول ت ُب َذْر ت َب ْ ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن َواب ْ َ‬ ‫كي َ‬ ‫س ِ‬‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ه َوال ِ‬ ‫ق ُ‬‫ح ّ‬
‫قْرَبى َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ت ذا ال ُ‬ ‫)َوآ ِ‬
‫من ْعُ ذي القربى والمسكين وابن السبيل حقهم انحراف في جانب المساك‪،‬‬ ‫فَ َ‬
‫والتبذير انحراف في جانب البذل‪ ،‬ورضاء الله فيما بينهما‪ .‬ولهذا كانت هذه‬
‫المة أوسط المم‪ ،‬وقبلتها أوسط القبل بين القبلتين المنحرفتين‪ .‬والوسط‬
‫ما محمي الطرف«)‪.(1‬‬ ‫دائ ً‬
‫خلق‬‫ُ‬ ‫ويقول في موطن آخر‪» :‬وأما الفرق بين القتصاد والشح‪ :‬أن القتصاد ُ‬
‫محمود يتولد من خلقين‪ :‬عدل وحكمة؛ فبالعدل يعتدل في المنع والبذل‪،‬‬
‫وبالحكمة يضع كل واحد منهما موضعه الذي يليق به‪ ،‬فيتولد من بينهما‬
‫ل ي َد َكَ‬‫جعَ ْ‬ ‫القتصاد؛ وهو وسط بين طرفين مذمومين كما قال تعالى‪َ) :‬ول ت َ ْ‬
‫سورًا( )السراء‪:‬‬ ‫ح ُ‬ ‫م ْ‬ ‫مُلوما ً َ‬ ‫قعُد َ َ‬‫ط فَت َ ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ل ال ْب َ ْ‬ ‫سط َْها ك ُ ّ‬ ‫ك َول ت َب ْ ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ة إ َِلى عُن ُ ِ‬ ‫مغُْلول َ ً‬ ‫َ‬
‫ن ذ َل ِكَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن ب َي ْ َ‬‫قت ُُروا وَكا َ‬ ‫م يَ ْ‬‫سرُِفوا وَل ْ‬ ‫م يُ ْ‬ ‫قوا ل ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫ن إ َِذا أن ْ َ‬‫ذي َ‬ ‫‪ ،(29‬وقال تعالى‪َ) :‬وال ِ‬
‫سرِفوا( )العراف‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫شَرُبوا َول ت ُ ْ‬ ‫وامًا( )الفرقان‪ ،(67:‬وقال تعالى‪) :‬وَكلوا َوا ْ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫قَ َ‬
‫من الية ‪.(31‬‬

‫)‪(52 /‬‬

‫خُلق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس‪ ،‬ويمده وعد‬ ‫وأما الشح فهو ُ‬
‫الشيطان حتى يصير هلًعا‪ ،‬والهلع شدة الحرص على الشيء والشره به فتولد‬
‫خل ِقَ هَُلوعا ً إ َِذا‬
‫ن ُ‬ ‫ن اْل ِن ْ َ‬
‫سا َ‬ ‫عنه المنع لبذله والجزع لفقده كما قال تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫مُنوعًا( )المعارج‪.(2)«(21-19:‬‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫خي ُْر َ‬ ‫س ُ‬ ‫جُزوعا ً وَإ َِذا َ‬
‫م ّ‬ ‫ه ال ّ‬
‫شّر َ‬ ‫س ُ‬
‫م ّ‬‫َ‬
‫ويقول سيد قطب ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬عند آية الفرقان‪» :‬وهذه هي سمة‬
‫السلم التي يحققها في حياة الفراد والجماعات ويتجه إليها في التربية‬
‫والتشريع؛ يقيم بناءه كله على التوازن والعتدال‪.‬‬
‫والمسلم ‪ -‬مع اعتراف السلم بالملكية الفردية المقيدة ‪ -‬ليس حًرا في‬
‫إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي‪ ،‬وعند‬
‫المم التي ل يحكم التشريع اللهي حياتها في كل ميدان‪ .‬إنما هو مقيد‬
‫بالتوسط في المرين السراف والتقتير‪ .‬فالسراف مفسدة للنفس والمال‬
‫والمجتمع‪ ،‬والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به‪ ،‬وانتفاع الجماعة‬
‫من حوله؛ فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية‪ .‬والسراف‬
‫والتقتير يحدثان اختلل ً في المحيط الجتماعي والمجال القتصادي‪ ،‬وحبس‬
‫الموال يحدث أزمات‪ ،‬ومثله إطلقها بغير حساب‪ .‬ذلك فوق فساد القلوب‬
‫والخلق‪.‬‬
‫والسلم وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد‪ ،‬فيجعل‬
‫وامًا( )الفرقان‪)«(67:‬‬ ‫ك قَ َ‬‫ن ذ َل ِ َ‬
‫ن ب َي ْ َ‬ ‫العتدال سمة من سمات اليمان‪) :‬وَ َ‬
‫كا َ‬
‫‪.(3‬‬
‫من كل ما سبق نخلص إلى أن القرآن الكريم قد بّين لنا المنهج العدل‬
‫الوسط في إنفاق المال وأنه وسط بين طرفين‪:‬‬
‫الول‪ :‬طرف القابضين أيديهم‪ ،‬البخلء بأموالهم المقترين على أنفسهم وعلى‬
‫أهليهم فضل ً عن من سواهم‪.‬‬
‫طين في إنفاق المال الذين بسطوا‬ ‫فرِ ُ‬ ‫الثاني‪ :‬طرف المسرفين المترفين‪ ،‬الم ْ‬
‫أيديهم كل البسط‪.‬‬
‫وبين هذين الطرفين تقف قلة من الناس سلكوا السبيل القويم والتزموا‬

‫‪40‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫قا‪.‬‬
‫العدل والتوازن؛ وهؤلء هم عباد الرحمن ح ً‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬الصلة‪ ،‬لبن القيم‪) :‬ص ‪.(194 ،193‬‬
‫)‪ (2‬الروح‪) :‬ص ‪.(503‬‬
‫)‪ (3‬في ظلل القرآن‪.(2579 ،5/2578) :‬‬
‫رابًعا ‪ :‬العدل والوسطية والتوازن في حقوق الخلق‪:‬‬
‫شرع الله عز وجل لعباده حقوًقا بعضهم على بعض؛ فللوالدين حقوق وللولد‬
‫حقوق‪ ،‬وللزواج حقوق‪ ،‬وللقارب حقوق‪ ،‬وللجيران حقوق‪ ،‬وللضيف حقوق‪،‬‬
‫ولليتامى والمساكين حقوق‪ ،‬وللصحاب حقوق‪ ،‬وغير هؤلء من الخلق‪.‬‬
‫والعدل في ذلك والتوازن‪ :‬أن ل يطغى حق على حق‪ ،‬ول تطغى حقوق هؤلء‬
‫على حق النفس‪ ،‬ول يطغى حق النفس وحقوق الخلق على حق الله تعالى‪.‬‬
‫والموفق من رزقه الله عز وجل الموازنة بين الحقوق كلها‪.‬‬
‫والناس في الموازنة بين هذه الحقوق وبين حق الله تعالى‪ ،‬أو حق النفس‬
‫طرفان ووسط‪:‬‬
‫الطرف الول‪ :‬طرف من أفرط في حقوق الخلق‪ ،‬وقام بها حتى شغله ذلك‬
‫عن حق الله عز وجل‪ ،‬وطاعته والدعوة إليه‪ ،‬والجهاد في سبيله‪ ،‬أو شغله‬
‫ذلك عن نفسه‪ ،‬ومحاسبتها في تفريطها في جنب الله تعالى‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬طرف من فَّرط في حقوق العباد‪ ،‬حتى قصر في ما يجب‬
‫عليه نحوهم من حقوق دينية؛ كدعوة أو تعليم أو حقوق صلة وبر‪ ،‬متعلل ً بحق‬
‫الله تعالى أو حق النفس‪.‬‬
‫الوسط والعدل‪ :‬وهو من لم يطغ عنده حق على حق‪ ،‬بل وازن بين الحقوق‬
‫كلها وأعطى كل ذي حق حقه متمثل ً في ذلك التوجيه النبوي الكريم والذي‬
‫يتمثل في الرواية التالية‪:‬‬
‫عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال‪ :‬آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين‬
‫ذلة‪ ،‬فقال‬ ‫متب ّ‬
‫سلمان وأبي الدرداء‪ ،‬فزار سلمان أبا الدرداء‪ ،‬فرأى أم الدرداء ُ‬
‫لها‪» :‬ما شُأنك؟« قالت‪ :‬أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا‪ ،‬فجاء أبو‬
‫ما‪ ،‬فقال له‪ :‬كل‪ ،‬فإني صائم‪ .‬قال‪ :‬ما أنا بآكل حتى‬ ‫الدرداء‪ ،‬فصنع له طعا ً‬
‫م‪ ،‬فقال‪ :‬نم‪ ،‬فنام‪ ،‬ثم ذهب‬ ‫تأكل‪ ،‬فأكل‪ ،‬فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقو ُ‬
‫ُ‬
‫ن‪ :‬قم ِ الن‪ ،‬فصلّيا‪ ،‬فقال‬ ‫م‪ ،‬فلما كان من آخر الليل‪ ،‬قال سلما ُ‬ ‫يقوم‪ ،‬فقال‪ :‬ن َ ْ‬
‫قا‪،‬‬‫قا‪ ،‬ولهلك عليك ح ّ‬ ‫ن لنفسك عليك ح ّ‬ ‫ّ‬ ‫وإ‬ ‫قا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ح‬ ‫عليك‬ ‫ربك‬‫ن ّ‬
‫ل‬ ‫ن‪ :‬إ ّ‬
‫له سلما ُ‬
‫ه‪ ،‬فأتى النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فذكر ذلك له‪،‬‬ ‫ق ُ‬
‫فأعط كل ذي حق ح ّ‬
‫ن()‪.(1‬‬ ‫فقال صلى الله عليه وسلم‪) :‬صد َقَ سلما ُ‬
‫وفي ذلك يقول المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬وهو يتحدث عن الدب‬
‫وأنه التوسط في المور‪» :‬ومثال ذلك ‪ -‬أي التوسط ‪ -‬في حقوق الخلق‪ :‬أن‬
‫ل يفرط في القيام بحقوقهم‪ ،‬ول يستغرق فيها‪ ،‬بحيث يشتغل بها عن حقوق‬
‫الله‪ ،‬أو عن تكميلها‪ ،‬أو عن مصلحة دينه وقلبه‪ ،‬وأن ل يجفو عنها حتى يعطلها‬
‫بالكلية؛ فإن الطرفين من العدوان الضار‪ .‬وعلى هذا الحد‪ ،‬فحقيقة الدب‪:‬‬
‫هي العدل‪ .‬والله أعلم«)‪.(2‬‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬رواه البخاري‪ ،‬في الدب‪ ،‬باب صنع الطعام والتكلف للضيف‪.(6139) :‬‬
‫)‪ (2‬مدارج السالكين‪ (3/213) :‬ط‪ .‬دار طيبة‪.‬‬
‫سا ‪ :‬العدل والتوازن في التواضع ‪:‬‬ ‫خام ً‬
‫التواضع خلق رفيع يحبه الله عز وجل ويحب المتصفين به‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(53 /‬‬

‫ن‬
‫شو َ‬ ‫م ُ‬‫ن يَ ْ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م ِ‬
‫ح َ‬‫عَباد ُ الّر ْ‬
‫قال الله عز وجل في وصف عباد الرحمن‪) :‬وَ ِ‬
‫ً‬ ‫َْ‬
‫سلما( )الفرقان‪.(63:‬‬ ‫ن َقاُلوا َ‬ ‫جاهُِلو َ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫خاط َب َهُ ُ‬ ‫ونا ً وَإ َِذا َ‬
‫ض هَ ْ‬ ‫عَلى الْر ِ‬
‫َ‬
‫ونهى سبحانه عن ضده‪ ،‬ومقت أهله ‪ -‬وهم أهل التكبر والمرح والبطر ‪ -‬قال‬
‫ض‬ ‫َْ‬ ‫خد ّ َ‬
‫ش ِفي الْر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫س َول ت َ ْ‬ ‫ك ِللّنا ِ‬ ‫صعّْر َ‬‫سبحانه في وصية لقمان لبنه‪َ) :‬ول ت ُ َ‬
‫خوٍر( )لقمان‪.(18:‬‬ ‫ل فَ ُ‬ ‫خَتا ٍ‬‫م ْ‬‫ل ُ‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫مَرحا ً إ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫والتواضع المحمود كغيره من الخلق وسط بين طرفين مذمومين‪:‬‬
‫فرط في التواضع حتى يوقعه ذلك في المهانة‬ ‫طرف الفراط‪ :‬وهو أن ي ُ ْ‬
‫والخسة وابتذال النفس وإذللها وهوانها‪ .‬وأما وصف الله عز وجل عباد‬
‫الرحمن أنهم يمشون على الرض هوًنا؛ فالَهون هنا كما قال ابن القيم ‪-‬‬
‫رحمه الله تعالى ‪)» :-‬والَهون( بالفتح في اللغة‪ :‬الرفق واللين‪) ،‬والُهون(‬
‫بالضم‪ :‬الهوان‪ .‬فالمفتوح منه‪ :‬صفة أهل اليمان‪ ،‬والمضموم‪ :‬صفة أهل‬
‫الكفران والنيران«)‪.(1‬‬
‫طرف التفريط‪ :‬وهو التقصير في التحلي بهذا الخلق‪ ،‬والوقوع في ضده وهو‬
‫الكبر والتكبر إما على الخلق وإما على الحق بترك النقياد له‪.‬‬
‫الوسط والعدل‪ :‬وهو التواضع الذي وصفه المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله‬
‫تعالى‪ -‬بقوله‪» :‬وهوالتواضع الذي يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة‬
‫أسمائه وصفاته ونعوته جلله وتعظيمه ومحبته وإجلله‪ ،‬ومن معرفة النفس‬
‫وتفاصيلها وعيوب عملها‪ ،‬وآفاتها؛ فيتولد من بين ذلك كله خلق التواضع؛ وهو‬
‫إنكسار القلب لله وخفض جناح الذلة والرحمة بعباده؛ فل يرى له على أحد‬
‫قا‪ ،‬بل يرى الفضل للناس عليه‪ ،‬والحقوق لهم‬ ‫ل‪ ،‬ول يرى له عند أحد ح ً‬ ‫فض ً‬
‫قبله‪ .‬وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه«)‪.(2‬‬
‫ومما وصف به الله عز وجل أهل هذا الخلق العدل قوله تعالى‪) :‬أ َذِل ّةٍ عَلى‬
‫َ‬
‫ن( )المائدة‪ :‬من الية ‪.(54‬‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫عّزةٍ عََلى ال ْ َ‬ ‫ن أَ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬
‫وما أحسن ما قاله المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬عن معنى »الذلة«‬
‫في الية؛ قال رحمه الله تعالى‪» :‬لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف‬
‫داه بأداة »على« تضميًنا لمعاني هذه الفعال؛ فإنه لم يرد‬ ‫وشفقة وإخبات ع ّ‬
‫به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل‪ ،‬وإنما هو ذل اللين والنقياد الذي صاحبه‬
‫ذلول«)‪.(3‬‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬مدارج السالكين‪ (3/108) :‬ط‪ .‬دار طيبة‪.‬‬
‫)‪ (2‬انظر الروح لبن القيم‪) :‬ص ‪.(495‬‬
‫)‪ (3‬مدارج السالكين‪ (3/108) :‬ط‪ .‬دار طيبة‪.‬‬
‫سا ‪ :‬التوسط والعدل والتوازن في التأني والتؤدة ‪:‬‬ ‫ساد ً‬
‫التؤدة والناة خلقان محمودان محبوبان لله عز وجل كما قال ذلك الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم لشج عبد قيس‪) :‬إن فيك خصلتان يحبهما الله‬
‫ورسوله‪ :‬الحلم والناة()‪ ،(1‬وقوله صلى الله عليه وسلم‪) :‬التؤدة في كل‬
‫شيء خير إل في عمل الخرة()‪ .(2‬ولكن يكتنف هذين الخلقين المحمودين‬
‫خلقان مذمومان‪ :‬أحدهما ينزع إلى الفراط والخر إلى التفريط‪:‬‬
‫فطرف الفراط‪ :‬هو الذي يغلب على صاحبه الغلو في التأني حتى تضيع عليه‬
‫فرص من الخير ينالها‪ ،‬أو فرص من الشر يدفعها‪ ،‬ثم لم يبادر إلى ذلك إغراًقا‬
‫منه في التأني والتؤدة‪.‬‬
‫وطرف التفريط‪ :‬هو الذي يفّرط في الخذ بالتؤدة والتأني ويقع بسبب ذلك‬

‫‪42‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫في العجلة والطيش وطلب الشيء قبل أوانه‪.‬‬


‫والوسط العدل ‪ :‬وهو من يأخذ بهذا الخلق الكريم بحيث ل يدفعه ذلك إلى‬
‫الكسل‪ ،‬وتفويت الفرص والمبادرة إليها في وقتها‪ ،‬كما ل يفّرط فيه فيقع في‬
‫العجلة والطيش‪.‬‬
‫يقول المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬والفرق بين المبادرة والعجلة‪:‬‬
‫أن المبادرة انتهاز الفرص في وقتها ول يتركها حتى إذا فاتت طلبها‪ ،‬فهو ل‬
‫يطلب المور في إدبارها ول قبل وقتها‪ ،‬بل إذا حضر وقتها بادر إليها‪ ،‬ووثب‬
‫عليها وثوب السد على فريسته‪ ،‬فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت‬
‫كمال نضجها وإدراكها‪.‬‬
‫والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته؛ فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من يأخذ‬
‫الثمرة قبل أوان إدراكها‪ ،‬فالمبادرة وسط بين خلقين مذمومين أحدهما‪:‬‬
‫التفريط والضاعة‪ ،‬والثاني‪ :‬الستعجال قبل الوقت‪ .‬ولهذا كانت العجلة من‬
‫الشيطان؛ فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار‬
‫عا من‬ ‫والحلم‪ ،‬وتوجب له وضع الشياء في غير مواضعها‪ ،‬وتجلب عليه أنوا ً‬
‫ل من استعجل إل ندم‪ ،‬كما‬ ‫الشرور وتمنعه من الخير‪ ،‬وهي قرين الندامة؛ فق ّ‬
‫أن الكسل قرين الفوت والضاعة«)‪.(3‬‬

‫)‪(54 /‬‬

‫ويقول في موطن آخر‪» :‬فالعجلة والطيش من الشيطان‪ ،‬فمن ثبت عند‬


‫صدمة البداءات استقبل أمره بعلم وحزم‪ ،‬ومن لم يثبت لها استقبله بعجلة‬
‫وطيش‪ ،‬وعاقبته الندامة‪ ،‬وعاقبة الول حمد أمره‪ ،‬ولكن للول آفة متى‬
‫قرنت بالحزم والعزم نجا منها‪ ،‬وهي‪ :‬الفوت؛ فإنه ل يخاف من التثبيت إل ّ‬
‫م أمره‪ .‬ولهذا جاء في الدعاء الذي رواه‬ ‫الفوت فإذا اقترن به العزم والحزم ت ّ‬
‫المام أحمد والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم‪) :‬اللهم إني أسألك‬
‫الثبات في المر والعزيمة على الرشد()‪ ،(4‬وهاتان الكلمتان هما جماع‬
‫الفلح‪ ،‬وما ُأتي العبد إل ّ من تضييعهما أو تضييع أحدهما؛ فما أتي أحد إل من‬
‫ّ‬
‫باب العجلة والطيش واستفزاز البداءات له‪ ،‬أو من باب التهاون والنمات‬
‫وتضييع الفرصة بعد مواتاتها فإذا حصل الثبات أول ً والعزيمة ثانيا ً أفلح كل‬
‫ي التوفيق«)‪.(5‬‬
‫الفلح‪ ،‬والله ول ّ‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬رواه مسلم في اليمان‪.(18) :‬‬
‫)‪ (2‬أبو داود‪ ،(4810) :‬وصححه اللباني في السلسلة‪.(1794) :‬‬
‫)‪ (3‬انظر كتاب الروح لبن القيم‪.(547 ،546) :‬‬
‫)‪ (4‬رواه أحمد‪ ،(4/125) :‬ورواه النسائي‪ ،(1304) :‬وضعفه اللباني في‬
‫ضعيف النسائي‪.(70) :‬‬
‫)‪ (5‬مفتاح دار السعادة‪.(1/146) :‬‬
‫سابًعا ‪ :‬الوسطية والعدل والتوازن في الشجاعة ‪:‬‬
‫الشجاعة خلق رفيع‪ ،‬وصاحبه محبوب إلى الله تعالى إذا كانت شجاعته لله‬
‫تعالى وفي ما يحبه الله؛ ولكنها قد تزيد عن حد العتدال والتوسط فتكون‬
‫تهوًرا وجرأة‪ ،‬وقد تضعف وتقل في القلب فيتولد من ذلك الجبن والهلع‪.‬‬
‫إذن فالشجاعة خلق محمود متوسط بين طرفين مذمومين‪:‬‬
‫الطرف الول‪ :‬الفراط والغلو في الشجاعة والقدام‪ ،‬دون النظر في عاقبة‬
‫ذلك‪ ،‬ويسمى هذا تهوًرا‪ ،‬حيث تقدم النفس في غير موضع القدام معرضة‬

‫‪43‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عما يترتب على إقدامها من المفاسد والشرور وغير مبالية بذلك‪.‬‬


‫الطرف الثاني‪ :‬التفريط وضعف القلب وعدم ثباته عند المخاوف؛ وهذا يتولد‬
‫عنه الجبن والخوف‪» .‬والجبن عادة يتولد من سوء الظن وعدم الصبر؛ فل‬
‫يظن الجبان بالظفر‪ ،‬ول يساعده الصبر‪ ،‬فإذا ساء الظن ووسوست النفس‬
‫بالسوء ضعف القلب وضعف ثباته«)‪.(1‬‬
‫الموقف الوسط المتوازن‪ :‬وهو الوسط العدل بين الطرفين السابقين؛‬
‫فصاحبه ثابت الجنان؛ »لن الشجاعة من القلب‪ ،‬وهي تتولد من الصبر‬
‫وحسن الظن ‪ ...‬والشجاعة حرارة القلب وغضبه وقيامه وانتصابه وثباته؛ فإذا‬
‫رأته العضاء كذلك أعانته فإنها خدم له وجنوده‪ ،‬كما أنه إذا ولى ولت سائر‬
‫جنوده«)‪.(2‬‬
‫ومع ثبات القلب وشجاعة صاحبه إل أنه ل يتهور ول يتجرأ على اللقاء بنفسه‬
‫في المخاطر دون أن ينظر في عواقبها‪ ،‬ول يقدم في غير موضع القدام‪.‬‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬كتاب الروح لبن القيم‪) :‬ص ‪.(502 ،501‬‬
‫)‪ (2‬انظر كتاب الروح لبن القيم‪) :‬ص ‪.(502 ،501‬‬
‫ثامًنا ‪ :‬التوازن والعدل والتوسط في الحذر وأخذ الحيطة ‪:‬‬
‫إن أخذ الحيطة والحذر من العداء وممن يظن به الشر هو أمر مطلوب‪ ،‬وهو‬
‫من باب الخذ بالسباب والوقاية من الشرور قبل وقوعها؛ قال الله عز وجل‪:‬‬
‫َ‬
‫م( )النساء‪ :‬من الية ‪ ،(71‬ولكن هذا الحتراز‬ ‫حذ َْرك ُ ْ‬ ‫خ ُ‬
‫ذوا ِ‬ ‫مُنوا ُ‬
‫نآ َ‬
‫ذي َ‬ ‫)َيا أي َّها ال ّ ِ‬
‫قد يختل التوازن فيه‪ ،‬فيميل إما إلى الفراط ومجاوزة الحد وإما إلى‬
‫التفريط والضاعة‪ .‬والناس فيه طرفان مذمومان ووسط عدل‪.‬‬
‫الطرف الول‪ :‬أهل الغلو والفراط وهم الذين تجاوزوا العدل والتوسط حتى‬
‫أوقعهم ذلك في سوء الظن بعموم الناس والحذر المفرط الذي أدى بهم إلى‬
‫الخوف الشديد‪ ،‬وترك بعض مجالت الخير أو السكوت على بعض المنكرات‬
‫بحجة الحذر والخوف على الدعوة والدعاة‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬أهل التفريط والضاعة‪ :‬وهم الذين لم يأخذوا بأسباب الحيطة‬
‫والحتراز ممن يظن به الشر‪ ،‬وإنما غلب عليهم البله وقلة الوعي حتى‬
‫أحسنوا الظن بكل الناس وُأتوا من حيث لم يحتسبوا‪.‬‬
‫الموقف العدل والمتوازن والمتوسط‪ :‬وهو المتوسط بين الطرفين السابقين‪،‬‬
‫الذي يرى الخذ بأسباب الوقاية والحذر ممن غلب على الظن شره وفساده‪،‬‬
‫رط في ذلك بالوسوسة وإساءة الظن بكل شيء‪ ،‬بل الفرق عنده‬ ‫ف ِ‬
‫لكنه لم ي ُ ْ‬
‫واضح بين الحتراز وسوء الظن الفاسد‪.‬‬

‫)‪(55 /‬‬

‫يقول المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬والفرق بين الحتراز وسوء‬
‫الظن‪ :‬أن المحترز بمنزلة رجل قد خرج بماله ومركوبه مسافًرا فهو يحترز‬
‫بجهده من كل قاطع للطريق‪ ،‬وكل مكان يتوقع منه الشر‪ ،‬وكذلك يكون مع‬
‫التأهب والستعداد وأخذ السباب التي بها ينجو من المكروه؛ فالمحترز‬
‫مه في تهيئة‬‫كالمتسلح المتدرع الذي قد تأهب للقاء عدوه وأعد ّ له عُد َّته‪ ،‬فه ّ‬
‫أسباب النجاة ومحاربة عدوه قد أشغلته عن سوء الظن به‪ ،‬وكلما ساء به‬
‫الظن أخذ في أنواع العدة والتأهب‪ .‬وأما سوء الظن فهو امتلء قلبه بالظنون‬
‫دا في الهمز‬ ‫السيئة بالناس حتى يطفح على لسانه وجوارحه؛ فهم معه أب ً‬
‫واللمز والطعن والعيب والبغض؛ يبغضهم ويبغضونه‪ ،‬ويلعنهم ويلعنونه‪،‬‬

‫‪44‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ويحذرهم ويحذرون منه؛ فالول يخالطهم ويحترز منهم‪ ،‬والثاني يتجنبهم‬


‫ويلحقه أذاهم‪ ،‬الول داخل فيهم بالنصيحة والحسان مع الحتراز‪ ،‬والثاني‬
‫خارج منهم مع الغش والدغل والبغض«)‪.(1‬‬
‫ومن اليات التي يظهر فيها التوازن بين الحذر والطمأنينة‪ :‬قوله تعالى في‬
‫م َ‬ ‫صلة َ فَل ْت َ ُ‬ ‫َ‬
‫ك‬‫معَ َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ٌ‬ ‫طائ ِ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ّ‬ ‫م ال‬ ‫ت ل َهُ ُ‬ ‫م َ‬ ‫م فَأقَ ْ‬ ‫ت ِفيهِ ْ‬ ‫صلة الخوف‪) :‬وَإ َِذا ك ُن ْ َ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫خ ُ َ‬ ‫ْ‬
‫م‬‫خَرى ل َ ْ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫ف ٌ‬ ‫طائ ِ َ‬‫ت َ‬ ‫م وَل ْت َأ ِ‬ ‫ن وََرائ ِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫كوُنوا ِ‬ ‫دوا فَل ْي َ ُ‬ ‫ج ُ‬ ‫س َ‬ ‫م فَإ َِذا َ‬ ‫حت َهُ ْ‬ ‫سل ِ َ‬‫ذوا أ ْ‬ ‫وَل ْي َأ ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫فُلو َ‬
‫ن‬ ‫فُروا ل َوْ ت َغْ ُ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م وَد ّ ال ّ ِ‬ ‫حت َهُ ْ‬ ‫سل ِ َ‬‫م وَأ ْ‬ ‫حذ َْرهُ ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫ك وَل ْي َأ ُ‬ ‫معَ َ‬ ‫صّلوا َ‬ ‫صّلوا فَل ْي ُ َ‬ ‫يُ َ‬
‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫كا َ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ح عَلي ْك ُ ْ‬ ‫جَنا َ‬ ‫حد َة ً َول ُ‬ ‫ة َوا ِ‬ ‫مي ْل ً‬ ‫م َ‬ ‫ن عَلي ْك ُ ْ‬ ‫ميلو َ‬ ‫م فَي َ ِ‬ ‫مت ِعَت ِك ُ ْ‬ ‫م وَأ ْ‬ ‫حت ِك ُ ْ‬ ‫سل ِ َ‬‫نأ ْ‬ ‫عَ ْ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫حذ َْرك ُ ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬
‫م وَ ُ‬ ‫حت َك ُ ْ‬ ‫سل ِ َ‬ ‫ضُعوا أ ْ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫ضى أ ْ‬ ‫مْر َ‬ ‫م َ‬ ‫مطرٍ أوْ ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م أذىً ِ‬ ‫ب ِك ُ ْ‬
‫مِهينا( )النساء‪.(102:‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ن عَ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ذابا ُ‬ ‫ري َ‬ ‫أعَد ّ ل ِلكافِ ِ‬
‫ويجلي هذا التوازن في الية صاحب الظلل ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬فيقول‪...» :‬‬
‫الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو‪،‬‬
‫وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة‬
‫غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم ليميل عليهم ميلة واحدة! ومع هذا‬
‫ما‬
‫التحذير والتخويف‪ ،‬التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قو ً‬
‫مِهينًا(‪ ..‬وهذا التقابل‬ ‫ذابا ً ُ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ه أ َعَد ّ ل ِل ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫كتب الله عليهم الهوان‪) :‬إ ِ ّ‬
‫بين التحذير والتطمين‪ ،‬وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض‬
‫الثقة هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم في‬
‫مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم!«)‪.(2‬‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬الروح‪) :‬ص ‪.(504‬‬
‫)‪ (2‬في ظلل القرآن‪.(2/748) :‬‬
‫تاسًعا ‪ :‬التوازن والعدل والوسطية في العفو والصفح ‪:‬‬
‫العفو والصفح خلقان محمودان ورد الحث عليهما في الكتاب والسنة؛ قال‬
‫ب ال ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن(‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫جُرهُ عََلى الل ّهِ إ ِن ّ ُ‬ ‫ح فَأ ْ‬ ‫صل َ َ‬ ‫فا وَأ ْ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫الله تعالى‪) :‬فَ َ‬
‫ن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن عَ ِ‬ ‫ن الغَي ْظ َوالَعاِفي َ‬ ‫مي َ‬ ‫)الشورى‪ :‬من الية ‪ ،(40‬وقال عز وجل‪َ) :‬والكاظ ِ ِ‬
‫ن( )آل عمران‪ :‬من الية ‪ ،(134‬وقال الرسول‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫س َوالل ّ ُ‬ ‫الّنا ِ‬
‫ً‬
‫صلى الله عليه وسلم‪) :‬ما نقصت صدقة من مال‪ ،‬وما زاد الله رجل بعفوٍ إل‬
‫عًزا‪ ،‬وما تواضع أحد لله إل رفعه الله()‪.(1‬‬
‫والناس في هذا الخلق الكريم طرفان ووسط‪:‬‬
‫الطرف الول‪ :‬أهل الفراط فيه والغلو‪ :‬وهم الذين يضعون العفو في غير‬
‫موضعه؛ إما أن يعفوا عمن لم يستحق العفو؛ كالظالم والمستهتر المتكبر‬
‫ما وتمرًدا وغروًرا؛ فمثل هذا ل يصلح‬ ‫المتغطرس الذي ل يزيده العفو إل ظل ً‬
‫في حقه العفو‪ ،‬وإما أن يكون العفو عن ذلة ومهانة وعدم قدرة على رد‬
‫العتداء؛ فهذا عفوه ليس محموًدا‪ ،‬وإنما هو عجز ومهانة‪ ،‬وتضييع للحقوق‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬أهل التفريط والضاعة‪ :‬وهم الذين فرطوا في هذا الخلق‬
‫الرفيع وأصبح ليس لهم هم إل النتقام من كل من أخطأ في حقهم‪ ،‬ولو كانت‬
‫الهفوة منه زلة عابرة‪ ،‬أو خطأ ً غير مقصود؛ فل يدفنون لمسلم زلة ول‬
‫من ارتكب في حقهم مزلة‪.‬‬ ‫يصفحون ع ّ‬
‫الوسط العدل المتوازن‪ :‬وهم الذين وضعوا العفو في موضعه الذي يحبه الله‬
‫عز وجل ويرضاه؛ فلم يتجاوزوا فيه الحد فيعفوا عن من ل يصلح في حقه‬
‫العفو‪ ،‬ولم يكونوا ممن عفوهم ناشئ عن ذلة ومهانة وعجز ل عن حلم وعفو‬
‫واقتدار‪ ،‬ولم يفّرطوا في هذا الخلق حتى أضاعوه بسبب شهوة النتقام‬
‫والنتصار للنفس‪ ،‬بل هم على حظ كبير من هذا الخلق الذي يعفون به عن‬

‫‪45‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫من ظلمهم أو أخطأ في حقهم ممن لم يكن الظلم مهنته ول التكبر والغرور‬
‫صفته‪ ،‬وإنما هو زلة عابرة أو خطأ غير مكرر أو مقصود‪.‬‬

‫)‪(56 /‬‬

‫ويبين المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬الفرق بين العفو الناشئ عن‬
‫الجود والكرم مع قدرته على النتقام‪ ،‬وبين العفو الناشئ عن الذل والعجز‬
‫عن النتقام فيقول‪» :‬والفرق بين العفو والذل‪ :‬أن العفو إسقاط حقك جوًدا‬
‫ما وإحساًنا مع قدرتك على النتقام؛ فتؤثر الترك رغبة في الحسان‬ ‫وكر ً‬
‫ومكارم الخلق‪ ،‬بخلف الذل؛ فإن صاحبه يترك النتقام عجًزا وخوًفا ومهانة‬
‫نفس؛ فهذا مذموم غير محمود‪ ،‬ولعل المنتقم بالحق أحسن حال ً منه؛ قال‬
‫َ‬
‫ن( )الشورى‪.(39:‬‬ ‫صُرو َ‬ ‫م ي َن ْت َ ِ‬‫ي هُ ْ‬ ‫م ال ْب َغْ ُ‬ ‫ن إ َِذا أ َ‬
‫صاب َهُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫تعالى‪َ) :‬وال ّ ِ‬
‫فمدحهم بقوتهم على النتصار لنفوسهم‪ ،‬وتقاضيهم منها ذلك حتى إذا قدروا‬
‫على من بغى عليهم وتمكنوا من استيفاء ما لهم عليه ندبهم إلى الخلق‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ح‬
‫صل َ‬ ‫فا وَأ ْ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫مث ْل َُها فَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ة ِ‬‫سي ّئ َ ٌ‬
‫سي ّئ َةٍ َ‬ ‫جَزاُء َ‬ ‫الشريف من العفو والصفح فقال‪) :‬وَ َ‬
‫ب ال ّ‬ ‫َ‬
‫ن( )الشورى‪ .(40:‬فذكر المقامات‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ح ّ‬‫ه ل يُ ِ‬ ‫جُرهُ عََلى الل ّهِ إ ِن ّ ُ‬ ‫فَأ ْ‬
‫م وحرمه‪....‬‬ ‫ل وندب إليه‪ ،‬والظل َ‬ ‫الثلثة‪ :‬العدل وأباحه‪ ،‬والفض َ‬
‫قال بعض السلف في هذه الية‪ :‬كانوا يكرهون أن يستذلوا‪ ،‬فإذا قدروا عفوا‪،‬‬
‫فمدحهم على عفو بعد قدرة‪ ،‬ل على عفو ذل وعجز ومهانة‪ ،‬وهذا هو الكمال‬
‫ديرًا( )النساء‪:‬‬ ‫فوّا ً قَ ِ‬‫ن عَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫الذي مدح سبحانه به نفسه في قوله‪) :‬فَإ ِ ّ‬
‫من الية ‪.(2)«(149‬‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬الترمذي في البر والصلة‪ ،‬باب ما جاء في التواضع‪ ،‬وصححه اللباني في‬
‫صحيح الترمذي‪.(1652) :‬‬
‫)‪ (2‬الروح‪) :‬ص ‪ (514 ،513‬باختصار‪.‬‬
‫عاشًرا ‪ :‬العدل والتوسط والتوازن في المنافسة والغبطة ‪:‬‬
‫الغبطة والتنافس في الخير خلقان كريمان أمر بهما الشارع الحكيم‪ ،‬وعمل‬
‫بهما سلفنا الصالح؛ حيث تنافسوا في مرضاة الله وجنته وتسابقوا إليها؛ قال‬
‫ن( )المطففين‪ :‬من الية ‪،(26‬‬ ‫سو َ‬ ‫مت ََنافِ ُ‬ ‫س ال ْ ُ‬ ‫الله عز وجل‪) :‬وَِفي ذ َل ِ َ ْ‬
‫ك فَلي َت ََنافَ ِ‬
‫ماِء‬
‫س َ‬
‫ض ال ّ‬ ‫َ‬
‫ضَها كعَْر ِ‬ ‫جن ّةٍ عَْر ُ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫فَرةٍ ِ‬ ‫مغْ ِ‬ ‫قوا إ َِلى َ‬ ‫ساب ِ ُ‬‫وقال تعالى‪َ ) :‬‬
‫ض( )الحديد‪ :‬من الية ‪ ،(21‬وقال الرسول صلى الله عليه وسلم‪) :‬ل‬ ‫َْ‬
‫َوالْر ِ‬
‫حسد إل في اثنتين‪ :‬رجل آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار‪،‬‬
‫ورجل أعطاه الله مال ً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار()‪.(1‬‬
‫ومع جللة هذا الخلق‪ ،‬فإنه كغيره من العمال والخلق مكتنف بخلقين‬
‫مذمومين والناس فيه طرفان ووسط‪:‬‬
‫الطرف الول‪ :‬أهل الغلو والفراط‪ :‬وهم الذين تجاوزوا الحد في التنافس‪،‬‬
‫فمالوا من العدل الممدوح إلى الغلو والفراط فيه حتى أوقعهم ذلك في‬
‫الحسد والحقد للجهة المنافسة‪ ،‬أو السابقة‪ .‬والحسد خلة ذميمة ساقطة‬
‫ممقوت صاحبها عند الله عز وجل وعند عباده‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬أهل التفريط والضاعة‪ :‬وهم الذين ضعفت هممهم عن‬
‫التنافس في الخير ورضوا بالدون‪ ،‬ولم يثر عزائمهم تشمير الصالحين‬
‫وتسابقهم إلى الخيرات وإلى دار المتقين‪ ،‬فلم ينافسوهم ولم يحرك ذلك في‬
‫نفوسهم شيًئا‪.‬‬
‫الموقف الوسط والعدل المتوازن‪ :‬وهو الذي كان عليه سلفنا الصالح ‪ -‬رضي‬

‫‪46‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الله عنهم ‪ -‬من الهمة العالية‪ ،‬حيث تنافسوا في الصالحات وسارعوا في‬
‫الخيرات‪ ،‬وتسابقوا إلى الجنات‪ ،‬وتمنى أحدهم أن يكون على مستوى ما عليه‬
‫ن من أحدهم زوال نعمة الله عز‬ ‫أخوه أو يزيد عليه دون حسد ول حقد‪ ،‬ول تم ٍ‬
‫وجل الدينية أو الدنيونة عن أخيه المنافس‪.‬‬
‫»كما كان ذلك من عمر بن الخطاب رضي الله عنه في منافسته لبي بكر‬
‫ما علم أن أبا بكر‬ ‫الصديق رضي الله عنه ومحاولة اللحوق به أو سبقه‪ ،‬فل ّ‬
‫دا‪.‬‬
‫رضي الله عنه قد استولى على المامة قال‪ :‬والله ل أسابقك إلى شيء أب ً‬
‫وقال‪ :‬والله ما سبقته إلى خير إل وجدته قد سبقني إليه‪.‬‬
‫والمتنافسان كعبدين بين يدي سيدهما يتباريان ويتنافسان في مرضاته‬
‫ويتسابقان إلى محابه‪ ،‬فسيدهما يعجبه ذلك منهما ويحثهما عليه‪ ،‬وكل منهما‬
‫يحب الخر ويحرضه على مرضاة سيده«)‪.(2‬‬
‫ويفرق المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬بين الحسد والمنافسة فيقول‪:‬‬
‫»والفرق بين المنافسة والحسد‪ :‬أن المنافسة المبادرة إلى الكمال الذي‬
‫تشاهده من غيرك‪ ،‬فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه؛ فهي من شرف‬
‫النفس وعلو الهمة وكبر القدر؛ قال تعالى‪) :‬وَِفي ذ َل ِ َ ْ‬
‫ك فَلي َت ََنافَ ِ‬
‫س‬
‫ن( )المطففين‪ :‬من الية ‪.(26‬‬ ‫سو َ‬
‫مت ََنافِ ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفوس طلًبا ورغبة‪ ،‬فينافس فيه‬
‫كل من النفسين الخرى‪ ،‬وربما فرحت إذا شاركتها فيه كما كان أصحاب‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافسون في الخير‪ ،‬ويفرح بعضهم ببعض‬
‫ضا عليه مع تنافسهم فيه؛ وهي نوع من‬ ‫باشتراكهم فيه‪ ،‬بل يحض بعضهم بع ً‬
‫ت( )البقرة‪ :‬من الية ‪،(148‬‬ ‫خي َْرا ِ‬ ‫ْ‬
‫قوا ال َ‬ ‫المسابقة‪ ،‬وقد قال تعالى‪َ) :‬فا ْ‬
‫ست َب ِ ُ‬
‫ماِء‬
‫س َ‬
‫ض ال ّ‬ ‫َ‬
‫ضَها كعَْر ِ‬ ‫جن ّةٍ عَْر ُ‬‫م وَ َ‬‫ن َرب ّك ُ ْ‬‫م ْ‬‫فَرةٍ ِ‬ ‫قوا إ َِلى َ‬
‫مغْ ِ‬ ‫ساب ِ ُ‬
‫وقال تعالى‪َ ) :‬‬
‫ض( )الحديد‪ :‬من الية ‪.(21‬‬ ‫َْ‬
‫َوالْر ِ‬
‫)‪(57 /‬‬

‫والحسد خلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة ليس فيها حرص على الخير؛‬
‫فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد‪ ،‬ويفوز بها دونها‪ ،‬وتتمنى‬
‫ل‬ ‫أن ل َو َفاته كسبها حتى يساويها في العدم؛ كما قال تعالى‪) :‬ود ك َِثير م َ‬
‫ن أهْ ِ‬ ‫ٌ ِ ْ‬ ‫َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ْ َ ُ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ما‬
‫ن ب َعْد ِ َ‬
‫م ْ‬
‫م ِ‬
‫سهِ ْ‬‫ف ِ‬
‫عن ْد ِ أن ْ ُ‬
‫ن ِ‬‫م ْ‬
‫سدا ِ‬‫ح َ‬
‫فارا َ‬ ‫ُ‬
‫مك ّ‬ ‫ُ‬
‫مان ِك ْ‬‫ن ب َعْد ِ ِإي َ‬
‫م ْ‬ ‫ب ل َوْ ي َُرّدون َك ْ‬
‫م ِ‬ ‫ُ‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫ق( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(109‬‬ ‫ح ّ‬‫م ال ْ َ‬ ‫ن ل َهُ ُ‬
‫ت َب َي ّ َ‬
‫ن زوالها عن المحسود كما زالت عنه هو‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫متم‬ ‫النعمة‬ ‫عدو‬ ‫فالحسود‬
‫ن تمامها عليه وعلى من ينافسه؛ فهو ينافس‬ ‫ٍ‬ ‫متم‬ ‫والمنافس مسابق النعمة‬
‫غيره أن يعلو عليه‪ ،‬ويحب لحاقه به أو مجاوزته له في الفضل‪ ،‬والحسود‬
‫يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان‪ ،‬وأكثر النفوس الفاضلة الخيرة‬
‫صا من أهل الفضل والسبق‬ ‫تنتفع بالمنافسة؛ فمن جعل نصب عينيه شخ ً‬
‫فنافسه انتفع به كثيًرا؛ فإنه يتشبه به ويطلب اللحاق به والتقدم عليه وهذا ل‬
‫نذمه«)‪.(3‬‬
‫______________‬
‫)‪ (1‬البخاري‪ ،(5025) :‬ومسلم‪.(815) :‬‬
‫)‪ (2‬كتاب الروح‪) :‬ص ‪ (533‬بتصرف يسير‪.‬‬
‫)‪ (3‬كتاب الروح‪) :‬ص ‪.(534 ،533‬‬
‫حادي عشر ‪ :‬العدل والوسطية والتوازن في العزلة ‪:‬‬
‫جاء في كتاب الله عز وجل‪ ،‬وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وفي‬

‫‪47‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فعل السلف الصالح ما يدل تارة على فضل العزلة وعدم الخلطة بالناس أو‬
‫تقليلها‪ ،‬وورد تارة أخرى ما يدل على النهي عنها‪ ،‬والحث على الجماعة‬
‫والختلط بالناس‪ .‬ويحسب الناظر في هذه الدلة والمواقف أنها متعارضة؛‬
‫ضا لنه من عند الله العليم‬ ‫وحاشا أن يوجد في هذا الدين ما ينقض بعضه بع ً‬
‫الحكيم‪ ،‬المبرأ من الجهل والنقص والهوى‪ .‬ولكن بالجمع بين هذه الدلة‬
‫والمواقف يظهر لنا وسطية هذا الدين وعدله وتوازنه في مسألة العزلة؛‬
‫صل في ذلك بحيث‬ ‫حيث لم يأمر بها بإطلق‪ ،‬ولم ينه عنها بإطلق؛ وإنما ف ّ‬
‫يكون الموقف العدل فيها كغيرها من المواقف والسلوكيات‪ :‬وسط بين‬
‫طرفين مذمومين‪.‬‬
‫الطرف الول‪ :‬أهل الغلو والفراط‪ :‬وهم الذين رأوا اعتزال الناس اعتزال ً‬
‫كلًيا‪ ،‬واعتزال ما هم عليه من المنكرات والفساد‪ ،‬والبعد عن مناسباتهم وعن‬
‫قا للبراءة من‬ ‫صا منهم على صيانة دينهم وأخلقهم‪ ،‬وتحقي ً‬ ‫الختلط بهم حر ً‬
‫المنكر وأهله‪ ،‬وامتثال للنصوص الواردة في فضل العزلة؛ ومنها ما أثنى به‬ ‫ً‬
‫ن إ ِلّ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ي َعْب ُ ُ‬
‫م وَ َ‬‫موهُ ْ‬ ‫الله عز وجل على أهل الكهف بقوله تعالى‪) :‬وَإ ِذِ اعْت ََزل ْت ُ ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫مرِك ُ ْ‬
‫م‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫ئ ل َك ُ ْ‬‫مت ِهِ وَي ُهَي ّ ْ‬ ‫ح َ‬
‫ن َر ْ‬
‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫شْر ل َك ُ ْ‬
‫م َرب ّك ُ ْ‬ ‫ف ي َن ْ ُ‬ ‫ه فَأُووا إ َِلى ال ْك َهْ ِ‬
‫الل ّ َ‬
‫مْرَفقًا( )الكهف‪ .(16:‬ولكن هذا أدى بهم إلى ترك الجمع والجماعات وقطع‬ ‫ِ‬
‫الرحام‪ ،‬وترك المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وفتح المجال للمبطلين‬
‫والمفسدين يجولون ويصولون ويفسدون على الناس دينهم وأخلقهم‬
‫وأعراضهم بل مجاهدة ول مواجهة‪ .‬وقد قال صلى الله عليه وسلم‪) :‬المؤمن‬
‫الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي ل يخالط الناس ول يصبر‬
‫على أذاهم()‪.(1‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬أهل التفريط والضاعة‪ :‬وهم الذين فرطوا في العزلة‬
‫وأفرطوا في الخلطة‪ ،‬سواء كانت في الخير أو الشر‪ ،‬ولم يكن لهم خلوات‬
‫بربهم وبأنفسهم؛ وهؤلء في العادة يتأثرون بمن حولهم‪ ،‬ويضعف دينهم‬
‫ويداهنون الناس فيما هم عليه من منكرات ومخالفات‪ .‬وعن مثل هؤلء‬
‫وصنيعهم جاء النهي والتنفير‪ ،‬وجاء الحث على العزلة والتحذير من هذه‬
‫الحوال من الخلطة‪ .‬كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‪» :‬العزلة راحة‬
‫من أخلط السوء«)‪ ،(2‬وكما قال الفضيل بن عياض ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪:-‬‬
‫»من خالط الناس لم يسلم ولم ينج من احدى اثنتين‪ :‬إما أن يخوض معهم إذا‬
‫كرا أو سمعه من جلسائه‪ ،‬فل‬ ‫خاضوا في الباطل‪ ،‬وإما أن يسكت إذا رأى من ً‬
‫يغير فيأثم ويشركهم فيه«)‪.(3‬‬
‫الوسط العدل المتوازن‪ :‬وهو الذي لم يجنح إلى الفراط في العزلة ول‬
‫التفريط‪ ،‬وإنما نظر إلى هذه المسألة نظرة متوازنة يلتمس فيها مرضاة الله‬
‫عز وجل وما هو المحبوب منها لله تعالى‪.‬‬
‫وأكتفي بما ذكره شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في وصفه لهذا‬
‫المنهج المتوازن؛ حيث يقول رحمه الله تعالى‪» :‬فهذه المسألة وإن كان‬
‫عا كلًيا‪ ،‬وإما حالًيا ‪ -‬فحقيقة المر‪ :‬أن‬ ‫الناس يتنازعون فيها ‪ -‬إما نزا ً‬
‫»الخلطة« تارة تكون واجبة أو مستحبة‪ ،‬والشخص الواحد قد يكون مأموًرا‬
‫بالمخالطة تارة‪ ،‬وبالنفراد تارة‪.‬‬
‫وجماع ذلك‪ :‬أن »المخالطة« إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي‬
‫مأمور بها‪ ،‬وإن كان فيها تعاون على الثم والعدوان فهي منهي عنها‪،‬‬
‫فالختلط بالمسلمين في جنس العبادات؛ كالصلوات الخمس‪ ،‬والجمعة‪،‬‬
‫والعيدين‪ ،‬وصلة الكسوف‪ ،‬والستسقاء‪ ،‬ونحو ذلك هو مما أمر الله به‬
‫ورسوله‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وكذلك الختلط بهم في الحج‪ ،‬وفي غزو الكفار والخوارج المارقين‪ ،‬وإن كان‬
‫أئمة ذلك فجاًرا‪ ،‬وإن كان في تلك الجماعات فجار‪ ،‬وكذلك الجتماع الذي‬
‫يزداد العبد به إيماًنا؛ إما لنتفاعه به‪ ،‬وإما لنفعه له‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫)‪(58 /‬‬

‫ول بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلته وتفكره‪،‬‬
‫ومحاسبة نفسه وإصلح قلبه‪ ،‬وما يختص به من المور التي ل يشركه فيها‬
‫غيره؛ فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه‪ ،‬إما في بيته؛ كما قال طاووس‪:‬‬
‫نعم صومعة الرجل بيته؛ يكف فيها بصره ولسانه‪ .‬وإما في غير بيته‪.‬‬
‫قا خطأ‪ ،‬وأما مقدار ما‬ ‫قا خطأ‪ ،‬واختيار النفراد مطل ً‬‫فاختيار المخالطة مطل ً‬
‫يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا‪ ،‬وما هو الصلح له في كل حال؛ فهذا‬
‫يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم«)‪ (4‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وبنحو ذلك قال ابن قدامة ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬فإذا عرفت فوائد العزلة‬
‫وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقا ً بالتفضيل نفًيا وإثباًتا خطأ‪ ،‬بل ينبغي‬
‫أن ينظر إلى الشخص وحاله‪ ،‬وإلى الخليط وحاله‪ ،‬وإلى الباعث على‬
‫مخالطته‪ ،‬وإلى الفائت بسبب مخالطته من الفوائد‪ ،‬ويقاس الفائت بالحاصل‪.‬‬
‫فعند ذلك يتبين الحق ويتضح الفضل«)‪.(5‬‬
‫ولذلك رأينا المام الخطابي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬بعد أن ساق جملة من‬
‫النقولت التي تمدح العزلة وتحسنها استدرك وأفرد في كتابه العزلة باًبا‬
‫سماه‪» :‬باب في لزوم القصد في حالتي العزلة والخلطة« قال فيه‪» :‬قد‬
‫انتهى منا الكلم في أمر العزلة إلى حيث شرطنا أن نبلغه‪ ،‬وأوردنا فيها من‬
‫سنا معه الجفاء من حيث أردنا الحتراز منه‪،‬‬ ‫الخبار ما خفنا أن نكون قد ح ّ‬
‫وليس إلى هذا أجرينا‪ ،‬ول إياه أردنا؛ فإن الغراق في كل شيء مذموم‪ ،‬وخير‬
‫المور أوسطها‪ ،‬والحسنة بين السيئتين‪ .‬وقد عاب رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم الغراق في عبادة الخالق ‪ -‬عز وعل ‪ -‬والحمل على النفس منها ما‬
‫يؤودها ويكلها؛ فما ظنك بما دونها من باب التخلق والتكلف؟«)‪ .(6‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫تنبيه‪:‬‬
‫إن القول بأن العزلة التامة للناس فيها مجانبة للوسطية والعدل ل يعني أنها‬
‫ل ُتمدح في بعض الحوال أو المكنة أو الزمنة‪ ،‬بل قد تكون في بعض‬
‫الحوال هي الموقف الحق الوسط العدل‪.‬‬
‫مّثل لذلك بالحوال التالية‪:‬‬ ‫ُ‬
‫وأ َ‬
‫الحالة الولى‪ :‬عند فشو المعاصي وانتشارها انتشاًرا واسًعا يتعذر علي بعض‬
‫الناس حينها القدرة على النكار ول يوجد المعاون‪ ،‬ول يوجد المكان الصالح‬
‫الذي يهاجر إليه‪ ،‬فإنه يشرع والحالة هذه لبعض الفراد دون بعض العزلة؛‬
‫وذلك حين ل يستطيع الفرد الصبر على رؤيتها‪ ،‬فيتعجل بإنكارها بصورة‬
‫شديدة غير منضبطة‪ ،‬أو أن المنكرات تعكر صفو حياته‪ ،‬ويعيش برؤيتها في‬
‫هم وحزن‪ ،‬أو أنه يخاف على نفسه من الوقوع في المعاصي والفواحش‬
‫خوًفا ظاهًرا قوًيا‪ .‬وهذه عزلة مقيدة بأحوال الفراد وليست عزلة مطلقة‬
‫لكل إنسان‪.‬‬
‫الحالة الثانية‪ :‬أيام الفتن واختلف المسلمين وتفرق كلمتهم واقتتالهم‪:‬‬
‫وفي هذه الحوال يشرع اعتزال الناس حتى تنجلي الفتنة‪ .‬ومن أراد لنفسه‬
‫السلمة في الدنيا والخرة فليعتزل الناس أيام الفتن بقلبه ولسانه ويده ول‬
‫وث نفسه بشيء من كدرها وغبارها؛ وهذا ما وجه الرسول صلى الله عليه‬ ‫ُيل ّ‬

‫‪49‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وسلم أمته إليه عند هيجان الفتن‪.‬‬


‫قال عثمان الشحام‪ :‬انطلقت أنا وفرقد السبخي إلى مسلم بن أبي بكرة وهو‬
‫دث في الفتن حديًثا؟‬ ‫في أرضه‪ ،‬فدخلنا عليه‪ ،‬فقلت‪ :‬هل سمعت أباك يح ّ‬
‫فقال‪ :‬نعم‪ ،‬سمعت أبا بكرة يحدث قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم‪) :‬إنها ستكون فتن‪ ،‬أل ثم تكون فتنة‪ :‬القاعد فيها خير من الماشي‬
‫فيها‪ ،‬والماشي فيها خير من الساعي إليها‪ ،‬أل فإذا نزلت‪ ،‬أو وقعت‪ ،‬فمن كان‬
‫له إبل فليلحق بإبله‪ ،‬ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه‪ ،‬ومن كانت له أرض‬
‫فليلحق بأرضه(‪ ،‬قال‪ :‬فقال رجل‪ :‬يا رسول الله أرأيت إن لم يكن له إبل ول‬
‫غنم ول أرض؟ قال‪) :‬يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر‪ ،‬ثم لينج إن‬
‫استطاع النجاء‪ .‬اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟‪.(7)(...‬‬
‫وهذا ما كان عليه سلف المة أيام الفتن‪:‬‬
‫فعن ابن سيرين قال‪ :‬لما قيل لسعد بن أبي وقاص ‪ -‬رضي الله عنه ‪ :-‬أل‬
‫تقاتل؟ إنك من أهل الشورى‪ ،‬وأنت أحق بهذا المر من غيرك‪ ،‬قال‪» :‬ل‬
‫أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر‪،‬‬
‫فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد«)‪.(8‬‬
‫وعن يزيد بن أبي عبيد ‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬قال‪» :‬لما قتل عثمان خرج سلمة‬
‫بن الكوع إلى الربذة‪ ،‬وتزوج هناك امرأة‪ ،‬وولدت له أولًدا‪ ،‬فلم يزل بها‪،‬‬
‫حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة‪ ،‬فمات بها« أخرجه البخاري‪ ،‬وأخرج هو‬
‫ومسلم »أن سلمة دخل على الحجاج‪ ،‬فقال‪ :‬يا ابن الكوع‪ ،‬أرتددت على‬
‫عاقبيك؟ تعّربت؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي‬
‫في البدو«)‪.(9‬‬

‫)‪(59 /‬‬

‫الحالة الثالثة‪ :‬عند فساد الزمان وفساد الناس ومروج عهودهم وأماناتهم؛‬
‫وذلك حين يتعذر الصلح في الناس لختلفهم وتناحرهم ورقة أديانهم؛ أي‬
‫حين يطبق النحراف التام العام والغربة الشاملة؛ فحينئذ يشرع للمسلم أن‬
‫يعتزل الناس ويعتني بنفسه‪ ،‬كما يعتني بأمر الخاصة من أصحابه وخلصائه‪،‬‬
‫ويهتم بصلح شؤونهم‪ ،‬ويذر أمر العامة‪ .‬وهذه الحالة إما أن تكون في مكان‬
‫دون مكان؛ كما هو الحال في بعض الماكن اليوم‪ ،‬وإما أن يشمل النحراف‬
‫العام كل الرض وتستحكم الغربة والجاهلية فيها كلها؛ وهذا ل يكون إل قرب‬
‫قيام الساعة‪ ،‬والله تعالى أعلم‪.‬‬
‫وهذا المعنى هو الذي جاء في الحديث الذي رواه عبدالله بن عمرو ابن‬
‫العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‪) :‬كيف بكم وبزمان ‪ -‬أو‬
‫يوشك أن يأتي زمان ‪ -‬يغربل الناس فيه غربلة؛ تبقى حثالة من الناس قد‬
‫مرجت عهودهم وأماناتهم‪ ،‬واختلفوا فكانوا هكذا‪ ،‬وشبك بين أصابعه‪ .‬فقالوا‪:‬‬
‫وكيف بنا يا رسول الله؟ قال‪ :‬تأخذون ما تعرفون‪ ،‬وتذرون ما تنكرون‪،‬‬
‫وتقبلون على أمر خاصتكم‪ ،‬وتذرون أمر عامتكم()‪.(10‬‬
‫ويعلق صاحب كتاب‪) :‬العزلة والخلطة( ‪ -‬حفظه الله تعالى ‪ -‬على هذا‬
‫الحديث فيقول‪» :‬ومحصل هذه الصفات كلها‪ :‬أن ل فائدة من المر والنهي‬
‫والصلح في مجال العامة وهم الدهماء والجمهور‪ ،‬وإن ترّأسوا وسادوا‪ ،‬بل‬
‫ربما ترتب على المر والنهي ضرر بأن يتضاعف المنكر ويزداد‪ ،‬أو ُيؤَذى المر‬
‫في نفسه‪ ،‬أو أهله‪ ،‬أو ماله‪.‬‬
‫م فائدة ترجى من الدعوة‬ ‫َ‬
‫ولعل هذا هو الضابط العام لتلك الحال‪ :‬أل يكون ث ّ‬

‫‪50‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والمر والنهي بين هؤلء المسمين بـ »العامة«‪ ،‬وفي مقابل التحقق من عدم‬
‫النفع‪ ،‬هناك توقع لحصول الضرر الديني والدنيوي للمر ولغيره‪ .‬ول شك أن‬
‫الصول العامة تقتضي ترك المر والنهي ‪ -‬حينئذ ‪ -‬دفًعا للمفسدة المتوقعة‬
‫التي ل توجد مصلحة تكافئها في فضل المر والنهي؛ فيكون الحديث مطرًدا‬
‫مع القاعدة العامة في المصلحة والمفسدة«)‪.(11‬‬
‫______________‬
‫)‪ (1‬رواه البخاري في الدب المفرد‪ ،(388) :‬وصححه اللباني في صحيح‬
‫الدب المفرد‪.(300) :‬‬
‫)‪ (2‬العزلة والنفراد لبن أبي الدنيا‪) :‬ص ‪.(60‬‬
‫)‪ (3‬المصدر السابق نفسه‪) :‬ص ‪.(67‬‬
‫)‪ (4‬مجموع الفتاوى‪.(01/425) :‬‬
‫)‪ (5‬مختصر منهاج القاصدين‪) :‬ص ‪.(117‬‬
‫)‪ (6‬العزلة للخطابي‪) :‬ص ‪.(97‬‬
‫)‪ (7‬مسلم في الفتن‪ ،‬باب نزول الفتن‪.(2887) :‬‬
‫)‪ (8‬مجمع الزوائد‪.(7/584) :‬‬
‫)‪ (9‬البخاري في الفتن‪ ،‬باب التعرب في الفتنة‪ ،‬ومسلم‪.(1862) :‬‬
‫)‪ (10‬أبو داود في الملحم‪ ،(4342) :‬وابن ماجة في الفتن‪،(3957) :‬‬
‫وصححه اللباني في صحيح أبي داود‪.(3648) :‬‬
‫)‪ (11‬العزلة والخلطة للشيخ سلمان العودة ‪ -‬حفظه الله تعالى ‪) :-‬ص ‪.(70‬‬
‫ثاني عشر ‪ :‬الوسطية والعدل والتوازن في الغيرة ‪:‬‬
‫الغيرة بمعناها العام هي الغيرة على دين الله عز وجل ومحارم الله أن‬
‫تنتهك‪ .‬ولكننا هنا نريد الغيرة بمفهومها الخاص؛ أل وهي الغيرة على المحارم‬
‫والعراض‪.‬‬
‫فهي خصلة كريمة من خصال المؤمنين‪ ،‬ومن سمات الرجولة والقوامة‪،‬‬
‫والعزة والصالة‪ .‬ول تفقد إل عند أهل الخسة واللؤم والذلة والمهانة والدياثة‪.‬‬
‫ولما تعجب الصحابة من غيرة سعد بن عبادة رضي الله عنه قال الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم‪) :‬أتعجبون من غيرة سعد؟ لنا أغير منه‪ ،‬والله أغير‬
‫مني«)‪.(1‬‬
‫والغيرة المحمودة كغيرها من الخلق وسط بين طرفين مذمومين‪:‬‬
‫الطرف الول‪ :‬أهل الفراط والغلو‪ :‬وهم الذين أفرطوا في غيرتهم على‬
‫محارمهم وأعراضهم حتى أوقعهم ذلك في الوساوس والشكوك والخواطر‬
‫الرديئة فأتعبوا أنفسهم‪ ،‬وأتعبوا محارمهم‪ .‬ومنشأ هذا الغلو‪ :‬الفراط في‬
‫َ‬
‫مُنوا‬
‫نآ َ‬‫ذي َ‬‫الظن السيء‪ ،‬والتجسس والتحسس؛ قال الله تعالى‪َ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫سوا‪) (...‬الحجرات‪ :‬من‬ ‫س ُ‬‫ج ّ‬‫م َول ت َ َ‬ ‫ض الظ ّ ّ‬
‫ن إ ِث ْ ٌ‬ ‫ن ب َعْ َ‬ ‫ن الظ ّ ّ‬
‫ن إِ ّ‬ ‫جت َن ُِبوا ك َِثيرا ً ِ‬
‫م َ‬ ‫ا ْ‬
‫الية ‪.(12‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬أهل التفريط والضاعة‪ :‬وهم الذين فرطوا في أمانتهم‬
‫وقوامتهم وغيرتهم وحميتهم على أعراضهم ومحارمهم‪ ،‬وضيعوا أماناتهم‬
‫ورعيتهم التي استرعاهم الله إياها‪ ،‬ولم يبالوا بما يفعله نساؤهم ومولياتهم‬
‫مما يخدش الحياء‪ ،‬ويعرضهن لسهام المفسدين‪ ،‬ويجرأ أهل الشهوات‬
‫والقلوب المريضة عليهن‪ .‬وقد ظهرت في زماننا اليوم صور من ضعف الغيرة‬
‫على النساء‪ ،‬وتسلط النساء وغلبتهن على أوليائهن‪ ،‬حتى أصبحت المرأة في‬
‫بعض البيوت لها القوامة على البيت بما فيه من رجال ونساء‪ ،‬وصارت المرأة‬
‫من زوجة أو بنت أو أخت تذهب إلى السوق وحدها‪ ،‬وتخلو بأصحاب المحلت‪،‬‬
‫وتركب مع السائق وحدها‪ ،‬وتجلس مع الرجال الجانب من أقاربها أو أقارب‬

‫‪51‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الزوج دون حشمة تذكر‪ .‬كل ذلك يتم أمام ناظري الزوج أو الب أو الخ دون‬
‫أن يحرك ذلك عندهم ساكًنا‪ ،‬أو أن تتحرك الغيرة في قلوبهم‪ .‬نسأل الله عز‬
‫وجل العافية في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫)‪(60 /‬‬

‫الوسط العدل‪ :‬وهم الذين حفظوا أماناتهم ورعيتهم التي استرعاهم الله إياها‬
‫من أزواج وأخوات وبنات وموليات‪ ،‬فغاروا عليهن وصانوهن من كل ما‬
‫يخدش أعراضهن وحياءهن‪ ،‬وبذلوا ما في وسعهم من التربية الصالحة لهن‪،‬‬
‫وأبعدوا عنهن كل ما يفسد عليهن دينهن وأخلقهن‪ .‬مع إشعارهن بالثقة‬
‫وإحسان الظن بهن‪ ،‬وقطع الطريق على الشيطان وكيده ووسوسته التي‬
‫توقع من استرسل معها في الشك والوساوس الرديئة‪ .‬فهذا دأب الشيطان‬
‫مع النسان؛ إن لم يفلح معه في التفريط وقلة الغيرة أتاه من الغلو‬
‫والفراط في الغيرة والشك والوساوس الرديئة‪.‬‬
‫___________‬
‫)‪ (1‬البخاري في الحدود‪ ،(6846) :‬ومسلم في اللعان‪.(1499) :‬‬
‫ثالث عشر ‪ :‬التوازن والعدل والوسطية في سلمة القلب ‪:‬‬
‫لقد مدح الله عز وجل نبيه ورسوله إبراهيم عليه الصلة والسلم بقوله‪) :‬إ ِذ ْ‬
‫م( )الصافات‪ ،(84:‬وبين أنه لن ينجو من عذاب الله تعالى‬ ‫سِلي ٍ‬
‫ب َ‬ ‫قل ْ ٍ‬
‫ه بِ َ‬
‫جاَء َرب ّ ُ‬ ‫َ‬
‫ن أَتى‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫إ‬ ‫ن‬ ‫نو‬‫ب‬ ‫ول‬ ‫ٌ‬
‫ل‬ ‫ما‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ف‬‫ن‬‫ي‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫)‬ ‫سليم‬ ‫بقلب‬ ‫الله‬ ‫أتى‬ ‫من‬ ‫إل‬ ‫القيامة‬ ‫يوم‬
‫َ َُ َ ِ َ ْ‬ ‫َْ ُ َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫م( )الشعراء‪.(89 ،88:‬‬ ‫سِلي ٍ‬
‫ب َ‬ ‫قل ْ ٍ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه بِ َ‬
‫والقلب السليم هو الذي سّلمه الله تعالى‪ ،‬من كل شبهة تعارض خبر الله‬
‫تعالى ومن كل شهوة تعارض أمره سبحانه‪ .‬ومن ذلك ما اشتهر عند الناس‬
‫أن صاحب القلب السليم هو الذي علم الشر واجتنبه وسلم الناس من شره‪،‬‬
‫ولكن هذا العمل القلبي النظيف يكتنفه طرفان مذمومان‪:‬‬
‫الطرف الول ‪ :‬الفراط أو الغلو في سلمة القلب حتى ينقلب إلى بله وغفلة‬
‫وانخداع لهل الخداع‪ ،‬وقلة معرفة بالشر وأهله‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬التفريط والجفاء في التحلي بهذا الخلق الرفيع حتى يصبح‬
‫القلب مأوىً للشبهات والشهوات والخداع والحقاد وإرادة الشر والمكروه‬
‫بالغير‪.‬‬
‫الوسط والعدل‪ :‬وهو الذي من الله عليه بقلب سليم مطمئن يحرق ما يرد‬
‫ها ول غدًرا ول خيانة‬ ‫دا ول مكرو ً‬ ‫عليه من الشبهات والشهوات‪ ،‬ول يحمل حق ً‬
‫لمسلم‪ .‬في الوقت الذي هو فيه يقظ لخداع الخادعين‪ ،‬عارف بالشر وأهله‪،‬‬
‫حذر منهم ومن كيدهم‪.‬‬
‫ويفرق المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬بين سلمة القلب والبله والتغفل‬
‫فيقول‪» :‬والفرق بين سلمة القلب والب َُله والتغفل‪ :‬أن سلمة القلب تكون‬
‫من عدم إرادة الشر بعد معرفته فيسلم قلبه من إرادته وقصده ل من‬
‫معرفته والعلم به‪.‬‬
‫وهذا بخلف البله والغفلة؛ فإنها جهل وقلة معرفة‪ ،‬وهذا ل يحمد إذ هو نقص‪،‬‬
‫وإنما يحمد الناس من هو كذلك لسلمتهم منه‪ .‬والكمال أن يكون القلب‬
‫ما من إرادته‪.‬‬ ‫عارًفا بتفاصيل الشر سلي ً‬
‫قال عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي الله عنه ‪) :-‬لست بخب ول يخدعني الخب(‪،‬‬
‫ع‬
‫ف ُ‬ ‫م ل ي َن ْ َ‬‫وكان عمر أعقل من أن ُيخدع وأورع من أن يخدع‪ ،‬وقال تعالى‪) :‬ي َوْ َ‬
‫ل ول بنون إّل م َ‬
‫م(؛ فهذا هو السليم من الفات التي‬ ‫سِلي ٍ‬
‫ب َ‬‫قل ْ ٍ‬ ‫ن أَتى الل ّ َ‬
‫ه بِ َ‬ ‫ما ٌ َ َ ُ َ ِ َ ْ‬ ‫َ‬

‫‪52‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تعتري القلوب المريضة من مرض الشبهة التي توجب اتباع الظن‪ ،‬ومرض‬
‫الشهوة التي توجب اتباع ما تهوى النفس‪ ،‬فالقلب السليم الذي سلم من‬
‫هذا وهذا«)‪.(1‬‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬كتاب الروح‪) :‬ص ‪.(517‬‬
‫رابع عشر ‪ :‬التوازن والعدل والوسطية في الحياء ‪:‬‬
‫خل ُقٌ يبعث على ترك القبائح‪ ،‬ويمنع من التفريط‬ ‫الحياء خير كله‪ ،‬وحقيقته‪ُ :‬‬
‫في حق صاحب الحق)‪ .(1‬ولما مر الرسول صلى الله عليه وسلم برجل وهو‬
‫يعظ أخاه في الحياء قال‪) :‬دعه؛ فإن الحياء من اليمان()‪ ،(2‬وقال‪) :‬الحياء ل‬
‫يأتي إل بخير()‪) ،(3‬وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياًء من العذراء في‬
‫خدرها‪ ،‬فإذا رأى شيًئا يكرهه عرفناه في وجهه()‪ .(4‬ومع حسن هذا الخلق‪،‬‬
‫إل أنه كغيره من الخلق الحميدة يكتنفه طرفان مذمومان وهو وسط بينهما‪.‬‬
‫الطرف الول‪ :‬أهل الفراط والغلو الذين وصل بهم الغراق في الحياء إلى‬
‫العجز والمهانة والجهل‪ ،‬والتفويت على النفس مصالحها الدنيوية والخروية‪،‬‬
‫ومن آثار ذلك الرضى بالدون والبقاء في مؤخرة الركب‪ ،‬والتبعية للغير‪،‬‬
‫وتضييع الحقوق‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬أهل التفريط والضاعة‪ :‬وهم الذين قل حياؤهم وتجرأوا على‬
‫فعل ما يعاب وفعل ما يقبح؛ دون حياء من الله عز وجل‪ ،‬ول من الناس‪ ،‬ولم‬
‫يبالوا فيما يقولونه أو يفعلونه مروءة ول آداًبا‪ ،‬ول صغيًرا ول كبيًرا‪.‬‬
‫الوسط العدل‪ :‬وهم الذين قاموا بهذا الخلق الرفيع كما جاء عن النبي صلى‬
‫ل‪ ،‬فاستحيوا من الله تعالى بحفظ حقوقه وحدوده‪،‬‬ ‫الله عليه وسلم قول ً وفع ً‬
‫واستحيوا من الناس؛ فلم يفعلوا أو يقولوا ما يعابون به من قول أو عمل‬
‫يخل بالداب أو المروءات‪ .‬كما أنهم مع ذلك لم يمنعهم الحياء من السعي في‬
‫مصالحهم الدينية والدنيوية والصدع بالحق‪ ،‬والسؤال عما أشكل عليهم في‬
‫دينهم ودنياهم‪.‬‬

‫)‪(61 /‬‬

‫يقول المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬فإن النفس متى انحرفت عن‬
‫التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ول بد ‪ ...‬وإذا انحرفت عن خلق‬
‫الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة‪ ،‬وإما إلى عجز وخور ومهانة؛ بحيث يطمع‬
‫في نفسه عدوه‪ ،‬ويفوته كثير من مصالحه؛ ويزعم أن الحامل على ذلك‬
‫الحياء‪ .‬وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس«)‪.(5‬‬
‫____________‬
‫)‪ (1‬انظر مدارج السالكين‪ (2/601) :‬ط‪ .‬دار طيبة‪.‬‬
‫)‪ (2‬البخاري‪ ،(24) :‬ومسلم‪.(36) :‬‬
‫)‪ (3‬البخاري‪ ،(6117) :‬ومسلم‪.(37) :‬‬
‫)‪ (4‬البخاري‪ ،(6119) :‬ومسلم‪.(2320) :‬‬
‫)‪ (5‬مدارج السالكين‪ (77 ،3/76) :‬ط‪ .‬دار طيبة‪.‬‬
‫خامس عشر ‪ :‬الوسطية والعدل والتوازن في الخذ بالقواعد الشرعية‪:‬‬
‫استنبط الفقهاء من الكتاب والسنة قواعد شرعية يحاكمون إليها ما يجد في‬
‫حياة الناس من أقضية وأحداث ونوازل‪ ،‬ليصلوا بذلك إلى الحكم الشرعي‬
‫المنطلق من هذه القواعد ومقاصد الشريعة‪ .‬ومع ذلك فقد تجرأ على هذه‬
‫القواعد وخاض فيها من ليس من أهل العلم والجتهاد المؤهلين للفتيا وبيان‬

‫‪53‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الحكام الشرعية؛ فزادوا فيها ونقصوا‪ ،‬وأفّرطوا‪ ،‬في تطبيقاتها وفّرطوا‪،‬‬


‫وحّرموا وحّللوا‪ ،‬وحصل من جراء ذلك غلو وتضييق على الناس‪ ،‬أو تفريط‬
‫وإضاعة ونشر للشر والفساد‪ .‬ووفق الله عز وجل الربانيين من أهل العلم‬
‫إلى التوسط في تناول هذه القواعد فطبقوها بعدل وتوازن وضبطوها‬
‫بضوابط شرعية)‪ (1‬تحميهم من التطرف نحو الغلو والفراط أو التطرف نحو‬
‫التفريط والضاعة‪.‬‬
‫يقول شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬النحراف عن الوسط‬
‫كثير في أكثر المور في أغلب الناس؛ مثل تقابلهم في بعض الفعال يتخذها‬
‫ما‬ ‫بعضهم ديًنا واجًبا أو مستحًبا أو مأموًرا به في الجملة‪ ،‬وبعضهم يعتقدها حرا ً‬
‫ما أو منهًيا عنه في الجملة«)‪.(2‬‬
‫ها أو محر ً‬
‫مكرو ً‬
‫وأذكر على سبيل المثال قاعدة شرعية عظيمة قام عليها ربع الحكام في‬
‫هذا الدين؛ أل وهي‪) :‬قاعدة سد الذائع(؛ يقول المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله‬
‫تعالى ‪ -‬عن هذه القاعدة‪» :‬وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر‬
‫ونهي‪ ،‬والمر نوعان‪ :‬أحدهما‪ :‬مقصود لنفسه‪ ،‬والثاني‪ :‬وسيلة إلى المقصود‪.‬‬
‫والنهي نوعان‪ :‬أحدهما‪ :‬ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه‪ .‬والثاني‪ :‬ما‬
‫يكون وسيلة إلى المفسدة‪ .‬فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع‬
‫الدين«)‪.(3‬‬
‫وقد ذكر ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬تسعة وتسعين وجًها للدللة على القاعدة؛ وهذه‬
‫الوجوه هي في حقيقتها أحكام شرعية ثابتة بالكتاب أو السنة‪ ،‬ويظهر فيها أن‬
‫السبب في تشريعها هو سد الذرائع‪ ،‬فليرجع إليها)‪.(4‬‬
‫وقد انقسم المتناولون لهذه القاعدة الشرعية إلى طرفين ووسط‪:‬‬
‫الطرف الول‪ :‬أهل الفراط والغلو‪ :‬وهم الذين أفرطوا في تطبيقات هذه‬
‫القاعدة‪ ،‬وتوسعوا فيها‪ ،‬حتى ضيقوا على الناس بتحريم بعض المباحات نظرا ً‬
‫إلى أنها قد تؤدي إلى محرم‪ ،‬ولو على وجه الندرة والظن الضعيف؛ كمن‬
‫يحرم بيع العنب على الناس لن من بينهم من قد يصنع منه خمًرا أو يحرم بيع‬
‫السلح على الناس في غير أيام الفتن خشية أن يستخدم في العدوان على‬
‫الناس‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬أهل التفريط والضاعة‪ :‬وهم الذين فّرطوا في اعتبار‬
‫المآلت‪ ،‬وأهملوا استخدام هذه القاعدة الشرعية ولم ينظروا إلى ما يؤول‬
‫حا فهو مباح وإن‬‫إليه المباح وقصروا النظر على الفعل نفسه؛ فإن كان مبا ً‬
‫غلب على الظن أنه يقود إلى محرم‪ .‬فنشأ من جراء ذلك مفاسد عظيمة‪،‬‬
‫عطلت هذه القاعدة الشرعية القائمة على أن ما أدى إلى الحرام فهو حرام‬ ‫و ُ‬
‫ن الوسائل لها حكم المقاصد؛ فنجد هؤلء مثل ً ل يمانعون أن يباع العنب‬ ‫وأ ّ‬
‫على رجل يغلب على الظن من حاله وسيرته أنه يصنعه خمًرا‪ ،‬ول يمانعون‬
‫من بيع السلح أيام الفتن‪ ،‬ولو غلب على الظن أن يستخدم في قتال‬
‫المسلمين؛ لنهم إنما نظروا إلى أصل عقد بيع العنب والسلح وهو الباحة‪،‬‬
‫ولم ينظروا إلى مآلت الفعل ومقاصد الفاعلين‪.‬‬
‫ً‬
‫ومن المثلة المعاصرة‪ :‬تجويز من جوز قيادة المرأة للسيارة قائل‪ :‬إن الصل‬
‫مباح؛ مثلها مثل قيادتها للبعير والحمار‪ ،‬وغض الطرف بقصد أو غير قصد عما‬
‫يترتب على قيادتها للسيارة من أمور عظيمة ل يتسع المقام إلى ذكرها‪.‬‬
‫وأحيل القارئ الكريم إلى ما أفتى به المامان الراحلن الشيخ عبدالعزيز بن‬
‫سئل عن قيادة‬ ‫باز‪ ،‬والشيخ محمد بن عثيمين ‪ -‬رحمهما الله تعالى ‪ -‬عندما ُ‬
‫المرأة للسيارة فأفتيا بالتحريم وبنيا فتواهما على هذه القاعدة الشرعية التي‬

‫‪54‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫نحن بصددها وذكرا المفاسد الكثيرة التي يؤول إليها هذا المر‪ .‬وبناًء على‬
‫مبدأ سد الذريعة حرما قيادة المرأة للسيارة‪.‬‬

‫)‪(62 /‬‬

‫أهل الموقف الوسط العدل المتوازن‪ :‬وهم الذين تناولوا هذه القاعدة بتوازن‬
‫ووسطية؛ فلم يلغوها من العتبار كما فعل المفّرطون‪ ،‬ولم يغلوا فيها حتى‬
‫رطون‪ .‬بل أوقعوها في مكانها‬ ‫ف ِ‬ ‫ضيقوا من الدين ما هو موسًعا كما فعل الم ْ‬
‫اللئق بها‪ .‬فمتى ما غلب على الظن أن الفعل المباح يؤول إلى مفاسد‬
‫محرمة حرموه بناء على هذه القاعدة والتي ذكر لها المام ابن القيم ‪ -‬رحمه‬
‫الله تعالى ‪ -‬تسعة وتسعين مثال ً من الكتاب والسنة‪ .‬ومتى ما غلب على‬
‫الظن أن فعل ذلك ل يؤول إلى أمور محرمة لم يحرموه بناء على أن شروط‬
‫تطبيق هذه القاعدة لم تتوفر‪ .‬وأسوق فيما يلي فتوى للصحابي الجليل ابن‬
‫عباس رضي الله عنهما حبر المة وترجمان القرآن تدل على العناية بهذه‬
‫القاعدة والفقه العظيم في تطبيقها‪.‬‬
‫نقل القرطبي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في تفسيره قال‪» :‬روى يزيد بن هارون قال‪:‬‬
‫أخبرنا أبو مالك الشجعي عن سعد بن عبيدة قال‪ :‬جاء رجل إلى ابن عباس‬
‫دا توبة؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬إل النار‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫رضي الله عنهما فقال‪ :‬ألمن قتل مؤمًنا متعم ً‬
‫فلما ذهب‪ .‬قال له جلساؤه‪ :‬أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة‬
‫مقبولة‪ ،‬قال‪ :‬إني لحسبه رجل ً مغضًبا يريد أن يقتل مؤمًنا‪ .‬قال‪ :‬فبعثوا في‬
‫أثره فوجدوه كذلك)‪.(5‬‬
‫______________‬
‫)‪ (1‬انظر تفصيل بعض هذه القواعد وضوابطها في كتاب )فاستقم كما‬
‫أمرت( للمؤلف‪) :‬ص ‪.(292-252‬‬
‫)‪ (2‬مجموع الفتاوى‪.(3/359) :‬‬
‫)‪ (3‬اعلم الموقعين‪.(3/159) :‬‬
‫)‪ (4‬انظر هذه الوجوه في إعلم الموقعين‪.(159-3/137) :‬‬
‫)‪ (5‬تفسير القرطبي‪.(5/333) :‬‬
‫سادس عشر‪ :‬التوازن والعدل والتوسط في عداء الكفار والتعامل معهم‪:‬‬
‫م‬ ‫ن وَل َ ْ‬ ‫دي ِ‬ ‫م ِفي ال ّ‬ ‫قات ُِلوك ُ ْ‬ ‫م يُ َ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫قال الله تعالى‪) :‬ل ي َن َْهاك ُ ُ‬
‫خرجوك ُم من ديارك ُ َ‬
‫ن‬
‫طي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ِ‬ ‫م ْ‬‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫طوا إ ِل َي ْهِ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ق ِ‬ ‫م وَت ُ ْ‬‫ن ت َب َّروهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ِ ْ َِ‬ ‫يُ ْ ُ‬
‫ظاهَُروا‬ ‫م وَ َ‬ ‫ن دَِيارِك ُْ‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫جو‬ ‫ر‬ ‫إنما ِ ينهاك ُم الل ّه عَ ِن ال ّذين َقاتُلوك ُم في الدين وأ َْ‬
‫خ‬
‫ْ ِ ْ‬ ‫ّ ِ َ َ ُ‬ ‫ْ ِ‬
‫م ومن يتول ّهم فَ ُ‬
‫َ‬ ‫ِ َ‬ ‫َُ ِ‬ ‫ِّ َ َْ َ ُ‬
‫ن( )الممتحنة‪،8:‬‬ ‫ِ ُ َ‬‫مو‬ ‫ل‬‫ظا‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫م‬
‫ُ ُ‬ ‫ه‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬‫َ‬ ‫ل‬‫أو‬ ‫خَرا ِ ْ ْ َ َ ْ ُ ْ َ َ ْ َ َ َ ُ ْ‬
‫ه‬ ‫و‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ج‬ ‫عََلى إ ِ ْ‬
‫َ‬
‫ط َول‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫داَء ِبال ْ ِ‬ ‫شهَ َ‬ ‫ن ل ِل ّهِ ُ‬ ‫مي َ‬ ‫وا ِ‬ ‫كوُنوا قَ ّ‬ ‫مُنوا ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫‪ ،(9‬وقال عز وجل‪َ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ه إِ ّ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫وى َوات ّ ُ‬ ‫ق َ‬‫ب ِللت ّ ْ‬ ‫ن قَوْم ٍ عََلى أّل ت َعْدُِلوا اعْدُِلوا هُوَ أقَْر ُ‬ ‫شَنآ ُ‬ ‫م َ‬ ‫من ّك ُ ْ‬ ‫جرِ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن( )المائدة‪ ،(8:‬ومع وضوح هذا المنهج الرباني في‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫خِبيٌر ب ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫الل َ‬
‫العلقة مع الكفار حسب أحوالهم إل أن الخلل والتطرف قد تطرق لهذا‬
‫النمط من العلقات عند كثير من الناس‪ ،‬وأصبح الناس فيها طرفان ووسط‪:‬‬
‫الطرف الول‪ :‬أهل الغو والفراط في عداء الكفار؛ حيث أدى بهم ذلك إلى‬
‫مجانبة العدل والقسط معهم وبخاصة المسالم منهم‪ .‬وفي اليات السابقة‬
‫أمر بالعدل والقسط مع الكفار‪ ،‬والبر بهم وبخاصة إذا كانوا أقارب وأرحام ما‬
‫داموا ليسوا حربيين‪.‬‬
‫قال المام ابن كثير ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في تفسير آية الممتحنة‪» :‬وقوله‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جوك ُ ْ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫م يُ ْ‬ ‫ن وَل َ ْ‬ ‫دي ِ‬ ‫م ِفي ال ّ‬ ‫قات ُِلوك ُ ْ‬ ‫م يُ َ‬ ‫ن لَ ْ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫تعالى‪) :‬ل ي َن َْهاك ُ ُ‬

‫‪55‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫م(‪ ،‬أي ل ينهاكم عن الحسان إلى الكفرة الذين ل يقاتلونكم في الدين؛‬ ‫دَِيارِك ُ ْ‬
‫َ‬
‫طوا إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫م(‪،‬‬ ‫س ُ‬‫ق ِ‬
‫م(‪ ،‬أي تحسنوا إليهم )وَت ُ ْ‬ ‫ن ت َب َّروهُ ْ‬ ‫كالنساء والضعفة منهم‪) ،‬أ ْ‬
‫ن(‪.‬‬‫طي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ِ‬ ‫م ْ‬‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه يُ ِ‬ ‫أي‪ :‬تعدلوا )إ ِ ّ‬
‫قال المام أحمد‪ :‬حدثنا أبو معاوية‪ ،‬حدثنا هشام بن عروة‪ ،‬عن فاطمة بنت‬
‫مت أمي‬ ‫المنذر‪ ،‬عن أسماء ‪ -‬هي بنت أبي بكر ‪ -‬رضي الله عنهما ‪ -‬قالت‪ :‬قَد َ َ‬
‫ت النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا‪ ،‬فأتي ُ‬
‫ْ‬
‫صلي‬ ‫فقلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إن أمي قدمت وهي راغبة‪ ،‬أفاصلها؟ قال‪) :‬نعم‪ِ ،‬‬
‫أمك(؛ أخرجاه)‪.(1‬‬
‫وقال المام أحمد‪ :‬حدثنا عارم‪ ،‬حدثنا عبدالله بن المبارك‪ ،‬حدثنا مصعب بن‬
‫ثابت‪ ،‬حدثنا عامر بن عبدالله بن الزبير‪ ،‬عن أبيه قال‪ :‬قدمت قَُتيلة على ابنتها‬
‫صَناب وأقط وسمن‪ ،‬وهي مشركة‪ ،‬فأبت أسماء‬ ‫أسماء ابنة أبي بكر بهدايا‪ِ :‬‬
‫أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها‪ ،‬فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫ن( إلى‬ ‫دي ِ‬
‫م ِفي ال ّ‬ ‫قات ُِلوك ُ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬
‫م يُ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫فأنزل الله عز وجل‪) :‬ل ي َن َْهاك ُ ُ‬
‫آخر الية‪ ،‬فأمرها أن تقبل هديتها‪ ،‬وأن تدخلها بيتها)‪.(3)«(2‬‬
‫رطين إلى أن يعدوا التعامل مع الكافر‬ ‫ف ِ‬‫وقد تصل الحال عند هؤلء الم ْ‬
‫المسالم بتجارة‪ ،‬أو بيع أو شراء‪ ،‬أو علم دنيوي ضروري‪ ،‬أو نحو ذلك من‬
‫المعاملت إنما هو ضرب من ضروب الموالة المحرمة للكافر‪ ،‬وأن عداوته‬
‫وبغضه والبراءة منه تقتضي قطع أي صلة أو تعامل معه‪.‬‬
‫وقد سبقت الشارة إلى هذا الموقف الخاطئ في مبحث الوسطية في الولء‬
‫والبراء)‪.(4‬‬

‫)‪(63 /‬‬

‫الطرف الثاني‪ :‬أهل التفريط والضاعة‪ :‬وأهل هذا الموقف هم المتساهلون‬


‫في عدائهم للكفار‪ ،‬والبراءة منهم‪ ،‬حتى تجاوزوا العدل والقسط والبر مع‬
‫المسالم منهم إلى المداهنة والمحبة لهم‪ ،‬والخوف منهم‪ ،‬وتعظيمهم‬
‫وتقديمهم على المسلمين‪ ،‬والنبهار والغترار بما هم عليه من دنيا وقوة‬
‫وصناعات متقدمة‪ ،‬وائتمانهم على أموال المسلمين وأعراضهم وعقولهم‬
‫وأسرارهم؛ بل وصلت الحال ببعضهم إلى التدسس بعقيدته والحياء من‬
‫إظهارها ودعوة الناس إليها‪.‬‬
‫أهل الموقف الوسط العدل المتوازن‪ :‬وهم أهل السنة والتباع الذين اقتفوا‬
‫أثر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم والتابعين له بإحسان‪ ،‬الذين‬
‫تبرؤا من الكفر وأهله‪ ،‬وأعلنوا بكل فخر واعتزاز عقيدة السلم‪ ،‬ودعوا‬
‫الناس إليها وجاهدوا في سبيلها‪ .‬فمن أسلم من الكفار فله ما للمسلمين‬
‫وعليه ما عليهم‪ ،‬وهو أخ من إخوانهم المسلمين له حقوق وعليه واجبات‪.‬‬
‫ومن لم يدخل في السلم وصالح المسلمين أو عاهدهم أو دفع الجزية مقابل‬
‫أن يعيش آمًنا داخل الدولة السلمية فإن الواجب نحوه العدل والقسط وإن‬
‫كان قريبا ً فله البر والحسان‪ .‬ول يجوز ظلمه لكونه كافًرا‪ ،‬وجاز التعامل معه‬
‫ببيع أو شراء أو إجارة أو غيرها من المعاملت في ضوء الشريعة السلمية‪،‬‬
‫بشرط أن ل يكون في ذلك تقوية لقتصاد الكفار المحاربين‪.‬‬
‫وهذا العدل وضمان المن للكافر المسالم هو ما أمر الله عز وجل به وطبقه‬
‫المسلمون في تاريخهم الطويل في فتوحاتهم وتعاملتهم مع الذين بقوا على‬
‫َ‬
‫مُنوا‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫دينهم من أهل تلك البلد المفتوحة؛ قال الله عز وجل‪َ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ن قَوْم ٍ عََلى أ َّل ت َعْدُِلوا‬ ‫شَنآ ُ‬ ‫من ّك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫جرِ َ‬
‫ط َول ي َ ْ‬
‫س ِ‬ ‫داَء ِبال ْ ِ‬
‫ق ْ‬ ‫ن ل ِل ّهِ ُ‬
‫شهَ َ‬ ‫مي َ‬
‫وا ِ‬ ‫ُ‬
‫كوُنوا قَ ّ‬

‫‪56‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬
‫َ‬
‫ن( )المائدة‪.(8:‬‬ ‫مُلو َ‬
‫ما ت َعْ َ‬
‫خِبيٌر ب ِ َ‬‫ه َ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬
‫ه إِ ّ‬ ‫وى َوات ّ ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ب ِللت ّ ْ‬ ‫اعْدُِلوا هُوَ أقَْر ُ‬
‫ومن تطبيقات هذا المنهج الرباني العادل في حياة الصحابة رضي الله عنهم‬
‫ومن بعدهم ما يلي‪:‬‬
‫لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عبدالله بن رواحة رضي الله عنه‬
‫على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم وزروعهم‪ ،‬أرادوا أن يرشوه ليرفق بهم‬
‫ي من أعدادكم‬ ‫ي‪ ،‬ولنتم أبغض إل ّ‬ ‫فقال‪» :‬والله لقد جئتكم من أحب الخلق إل ّ‬
‫من القردة والخنازير‪ ،‬وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن ل أعدل‬
‫فيكم‪ .‬فقالوا‪ :‬بهذا قامت السموات والرض«)‪.(5‬‬
‫لما جمع هرقل للمسلمين الجموع‪ ،‬وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة‬
‫اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا شغلنا‬
‫عن نصرتكم والدفع عنكم‪ ،‬فأنتم على أمركم‪ ،‬فقال أهل حمص‪َ :‬لوليتكم‬
‫وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم‪ ،‬ولندفعن جند هرقل عن‬
‫المدينة مع عاملكم‪ .‬ونهض اليهود فقالوا‪ :‬والتوراة ل يدخل عامل هرقل مدينة‬
‫حمص إل أن نغلب ونجهد‪ .‬فأغلقوا البواب وحرسوها‪ ،‬وكذلك فعل أهل‬
‫المدن التي صولحت من النصارى واليهود‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن ظهر الروم وأتباعهم‬
‫على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه‪ ،‬وإل فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين‬
‫عدد‪ .‬فلما هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا‬
‫المفلسين فلعبوا وأدوا الخراج‪.‬‬
‫ك ال ْي َُهود ُ َول‬ ‫ضى عَن ْ َ‬ ‫ن ت َْر َ‬‫فهؤلء اليهود والنصارى الذين قال الله عنهم‪) :‬وَل َ ْ‬
‫م( )البقرة‪ :‬من الية ‪ (120‬يقولون للمسلمين الذين‬ ‫مل ّت َهُ ْ‬‫حّتى ت َت ّب ِعَ ِ‬‫صاَرى َ‬‫الن ّ َ‬
‫عدلوا فيهم‪) :‬لوليتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ‪(...‬‬
‫وهل فوق هذا النصر من نصر)‪.(6‬‬
‫وُيذكر أن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى واليه على البصرة عدي بن أرطأة‬
‫من قَِبلك من‬ ‫يوصيه‪ ،‬ونقتطف من رسالته بعض المقاطع؛ يقول‪» :‬ثم انظر َ‬
‫جر عليه‬ ‫أهل الذمة‪ ،‬قد كبرت سنه‪ ،‬وضعفت قوته‪ ،‬وولت عنه المكاسب‪ ،‬فأ ْ‬
‫من بيت مال المسلمين ما يصلحه ‪ ..‬وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر‬
‫رضي الله عنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال‪ :‬ما‬
‫أنصفناك‪ ،‬أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك‪ ،‬ثم ضيعناك في كبرك‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه«)‪.(7‬‬
‫ويذكر في مواقف ابن تيمية السامية في النصاف حتى مع غير المسلمين أنه‬
‫حين سعى بإطلق سراح أسرى المسلمين من التتار‪ ،‬وعلم أنهم لن يطلقوا‬
‫معهم أسرى أهل الذمة‪ ،‬أصر على إطلق الجميع مًعا وقال‪» :‬بل جميع من‬
‫معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا؛ فإنا نفكهم‪ ،‬ول ندع أسيًرا ل‬
‫من أهل الملة ول من أهل الذمة«)‪.(8‬‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬البخاري‪ ،(2620) :‬ومسلم‪.(1003) :‬‬
‫)‪ (2‬المسند‪ ،(4/4) :‬والحاكم‪ (2/485) :‬وصححه ووافقه الذهبي‪.‬‬
‫)‪ (3‬تفسير ابن كثير عند الية )‪ (9‬من سورة الممتحنة‪.‬‬
‫)‪ (4‬انظر‪) :‬ص ‪ (105‬من هذا الكتاب‪.‬‬
‫)‪ (5‬تفسير ابن كثير‪ (2/412) :‬وروى بعضه المام أحمد‪ ،(3/367) :‬وأبو‬
‫داود‪ ،(3410) :‬وقال اللباني في صحيح أبي داود‪ :‬حسن صحيح‪.(2910) :‬‬
‫)‪ (6‬انظر كتاب الجهاد في سبيل الله‪ ،‬عبدالله القادري‪.(2/143) :‬‬
‫)‪ (7‬أحكام أهل الذمة لبن القيم‪ ،(1/38) :‬ت‪ :‬صبحي الصالح‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(64 /‬‬

‫)‪ (8‬حياة شيخ السلم‪ ،‬للشيخ محمد بهجت البيطار‪) :‬ص ‪.(15‬‬
‫سابع عشر ‪ :‬التوازن والعدل والوسطية في التخطيط والتنظيم ‪:‬‬
‫إن كل مشروع من مشاريع الدنيا والدين يحتاج ليتم تنفيذه إلى دراسة‬
‫وتخطيط وتحديد للهداف والوسائل‪ ،‬ثم يتبع ذلك توزيع للمهمات والولويات‬
‫والدوار‪ ،‬وتنظيم العمال التي من شأنها تحويل الخطط والدراسات النظرية‬
‫إلى واقع وعمل‪ .‬وهذا كله يدخل في الخذ بالسباب وبذل الوسع في ذلك؛‬
‫لن من سنة الله سبحانه أن رتب المسببات على أسبابها‪ ،‬والنتائج على‬
‫مقدماتها‪ ،‬والهداف على وسائلها؛ وكل ذلك خاضع لمسبب السباب سبحانه‬
‫ومشيئته النافذة‪ ،‬ومع أهمية التخطيط والتنظيم لي فكرة أو مشروع‬
‫إسلمي دعوي فإن الناس منقسمون فيها إلى طرفين ووسط‪.‬‬
‫الطرف الول‪ :‬أهل الغلو والفراط‪ :‬وهم الذين غلوا‪ ،‬وأغرقوا في التنظير‬
‫والتخطيط حتى تمر اليام والشهور بل والسنوات وهم ما زالوا في‬
‫جل ً ويؤخرون أخرى؛ ل تراهم إل مترددين‬ ‫تخطيطهم ودراساتهم يقدمون رِ ْ‬
‫رطين في أخذ الحيطة والحذر‪ ،‬مفوتين‬ ‫ف ِ‬
‫خائفين من القدام على العمل م ْ‬
‫عليهم الفرص الكثيرة تمر عليهم دون أن يستثمروها‪ ،‬مبررين عملهم هذا‬
‫بالتثبت والتأني والحكمة‪) .‬ارجع إلى مبحث التوازن والعدل في الحلم والناة(‬
‫)‪.(1‬‬
‫ثم إذا قدر لهؤلء أن ينتقلوا من التخطيط إلى التنفيذ والعمل فإنهم يغلون‬
‫في تنظيم هذا العمل ويفرطون في وضع الترتيبات الدارية والتنظيمية‬
‫الدقيقة التي تعرقل العمل‪ ،‬ول تمنح للفرد أن يستخدم عقله وطاقته‪ ،‬وإنما‬
‫يبقى رهين أطر تنظيمية ومركزية تقيد العمال وتجعلها تراوح في مكانها إن‬
‫لم تتراجع‪ .‬كما أن الفراط والغلو في التنظيم والترتيب قد يوقع أهله ‪-‬‬
‫وبخاصة أصحاب المشاريع الدعوية الجماعية ‪ -‬في حزبيات مقيتة وولءات‬
‫ملوثة؛ بحيث يصبح عند أهل التنظيم الواحد تحزب وتعصب لبعضهم يوالي‬
‫ضا؛ ويعادون أو ينابذون من سواهم من‬ ‫ضا‪ ،‬ويناصر بعضهم بع ً‬‫بعضهم بع ً‬
‫الطوائف السلمية؛ ل على أساس السلم‪ ،‬وإنما على أساس الحزب أو‬
‫التنظيم؛ وهذا غلو وتطرف‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬أهل الفراط والضاعة‪ :‬وهم الذين أهملوا الخذ بالسباب‬
‫فأهملوا التخطيط والدراسة المتأتية التي تسبق العمل والتنفيذ‪ ،‬فقامت‬
‫مشاريعهم على الفوضى والتخبط‪ ،‬فكانت النتيجة المترتبة على ذلك ضياع‬
‫الوقات والموال والعمال؛ إن لم يكن أكثر من ذلك من المفاسد العظيمة‬
‫والشرور الجسيمة‪ .‬وهذا الطرف يقابل الطرف السابق أو هو ردة فعل له‪.‬‬
‫وكما أنهم أهملوا وفرطوا في الدراسة والتخطيط فكذلك أهملوا الخذ‬
‫بوسائل التنظيم والترتيب‪ .‬فجاءت أمورهم نتاج أعمال فوضوية‪ ،‬وتصرفات‬
‫فردية تفتقد الشورى والروح الجماعية‪ .‬بل واتهموا أي عمل منظم مدروس‬
‫بأنه عمل حزبي بدعي‪.‬‬
‫الوسط العدل المتوازن‪ :‬وهم الذين اقتفوا أثر النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫وخلفائه الراشدين الذين أخذو بالسباب والسنن اللهية‪ ،‬فقامت أمور الدعوة‬
‫والجهاد والمال عندهم على الدراسة والتخطيط‪ ،‬وحولوا ذلك إلى عمل مثمر‬
‫مرتب يحكمه التنظيم وتوزيع الدوار وتفعيل الطاقات‪ ،‬دون عرقلة للعمل ول‬
‫فوضى وفردية‪ .‬إذن فأهل هذا الموقف لم تشغلهم الدراسة والتخطيط عن‬
‫العمل والتنظيم‪ ،‬وتفعيل الطاقات والدوار‪ ،‬ولم تنطلق أعمالهم وتنظيمهم‬

‫‪58‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫دون دراسة وتخطيط‪ ،‬ولم يجعلوا أطرهم التنظيمية حجر عثرة لعمال دعوية‬
‫وخيرية‪ ،‬أو تعطيل ً للطاقات‪ ،‬أو حزبية مقيتة تلوث عقيدة الحب في الله‬
‫والبغض في الله‪.‬‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬ص )‪.(171-169‬‬
‫ثامن عشر ‪ :‬التوازن في تقويم العمال الدعوية والجهادية ‪:‬‬
‫التقويم‪ :‬كلمة تحتمل معنيين كلهما مقصود‪ :‬التقويم بمعنى النقد وبيان قيمة‬
‫الشيء‪ ،‬والتقويم بمعنى التعديل والتوجيه‪ .‬وهما أمران متلزمان يكمل‬
‫ومون الحركات الدعوية والجهادية في المة اليوم‬ ‫أحدهما الخر)‪ ،(1‬والذين يق ّ‬
‫طرفان ووسط‪:‬‬
‫الطرف الول‪ :‬أهل الفراط والغلو في المدح والثناء‪ :‬وهم الذين يعرضون‬
‫هذه الدعوة أو تلك على أنها الدعوة المثالية وأنها امتداد لدعوة الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ .‬وتضطرهم هذه النظرة الغالية إلى تبرير للمواقف‬
‫فا‪ ،‬حتى لكأنهم يعتقدون العصمة في القائمين عليها‪،‬‬ ‫والخطاء تبريًرا متكل ً‬
‫كما يدفعهم ذلك إلى النظر في اجتهادات هذه الدعوة أو تلك على أنها المل‬
‫الوحيد لنهضة السلم والمسلمين‪ .‬وهذا بدوره يجعلهم ينظرون لغيرهم من‬
‫الدعوات نظر الدونية وضعف الفهم والوعي والتربية والتخطيط‪.‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬أهل الغلو والفراط في النقد والتقويم‪ :‬وهم الذين ينظرون‬
‫إلى الدعوات الصلحية والحركات الجهادية نظرة تشاؤم وتحامل؛ فل يرون‬
‫إل العيوب‪ ،‬فإن علموا شًرا أذاعوه وضخموه وإن علموا خيًرا كتموه أو أولوه‬
‫أو أساءوا الظن بفاعليه‪.‬‬
‫ي وما سمعوا من صالح دفنوا‬ ‫ً‬
‫إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحا ‪ ... ...‬عن ّ‬
‫ول تغل في شيء من المر واقتصد ‪ ... ...‬كل طرفي قصد المور ذميم)‪(2‬‬
‫وأهل هذا الطرف يقابلون الطرف الول‪.‬‬

‫)‪(65 /‬‬

‫أهل الموقف الوسط العدل‪ :‬وهم الذين تناولوا تقويم هذه الدعوات ودراستها‬
‫دراسة عادلة متوازنة بعيدة عن الفراط في التفاؤل أو التشاؤم‪ ،‬وبعيدة عن‬
‫الفراط في الحب أو الكره‪ ،‬وذكروا ما لهذه الدعوات من خير كثير وبلء‬
‫عظيم وأثر كبير في المة‪ ،‬مع القرار بالخطاء والعثرات والستفادة منها في‬
‫تجنبها ومناصحة أهلها‪.‬‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬مقالت في المنهج‪) :‬ص ‪.(90‬‬
‫)‪ (2‬المصدر السابق‪) :‬ص ‪ (90‬وما بعدها‪.‬‬
‫تاسع عشر‪ :‬الوسطية والعدل والتوزان في نقد المخالف ومعالجة الخطاء‪:‬‬
‫هذا المبحث في هذه الرسالة من أهم مباحثها وأطولها؛ وذلك لمساسه‬
‫بالواقع‪ ،‬وما نعاني فيه من فرقة ومنابذة أفرزهما المنهج الخاطئ في النقد‬
‫ومعالجة الخطاء والجور مع المخالف؛ في وقت نحن في أمس الحاجة إلى‬
‫الئتلف والوحدة والجتماع‪ ،‬ل إلى الفرقة والختلف‪ ،‬كما أننا في حاجة إلى‬
‫ضا‪ ،‬وأن يشفق بعضنا على بعض‪ ،‬وأن نتعاون فيما اتفقنا‬ ‫أن يرحم بعضنا بع ً‬
‫ضا فيما اختلفنا فيه‪ .‬وإن كان المر مما يسعه الجتهاد‬
‫عليه‪ ،‬ويناصح بعضنا بع ً‬
‫ضا فيه‪.‬‬‫عذر بعضنا بع ً‬
‫يقول شيخ السلم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬العتصام بالجماعة والئتلف من‬

‫‪59‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أصول الدين‪ .‬والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الصل‬
‫لحفظ الفرع«)‪.(1‬‬
‫ونظًرا لهمية هذا المر ومسيس الحاجة إلى طرحه ومداولته بين الدعاة‬
‫فسوف أطيل النفس فيه ‪ -‬إن شاء الله تعالى ‪ -‬محاول ً تغطيته من جوانبه‬
‫المختلفة بإذن الله تعالى‪ ،‬فأرجو من القارئ الكريم أن يتحمل هذه الطالة‬
‫التي سأسعى إلى أن ل تكون مملة‪.‬‬
‫ومن أهم البواعث على التطويل في هذا الموضوع ما يلي‪:‬‬
‫‪» -1‬قلة الفقه بأنواع الخلف‪ ،‬وما يسوغ منه وما ل يسوغ‪ ،‬وما ينكر منه‪ ،‬وما‬
‫يسكت عليه‪ ،‬أو ينصح فيه‪ ،‬وعدم التمييز بين الخلف في الصول أو الفروع‪،‬‬
‫واعتبار أصنافه كلها بمنزلة خلف الصول؛ كل ذلك أدى إلى كثير من الظلم‬
‫والجحاف والفرقة والختلف‪ ،‬فكان ل بد من عودة إلى ذلك الفقه الذي‬
‫ينصف المخالفين ليعودوا مؤتلفين‪.‬‬
‫‪ -2‬العصبية التي أهدرت الوقات وأضاعت الجهود انحياًزا إلى مذهب أو إمام‬
‫أو رأي فأورثت الفرقة والتباغض‪ ،‬وكان ل بد من تخفيف حدة العصبيات‬
‫بالنصاف‪ ،‬ولًء للحق وتطييًبا لقلوب المخالفين‪.‬‬
‫‪ -3‬عموم الجحاف في تقويم الرجال والجماعات والكتب بسبب تعظيم‬
‫الهفوات‪ ،‬وغياب الميزان العدل‪ ،‬وعدم اعتبار غلبة المحاسن‪ ،‬ولعدم التعامل‬
‫بالحترام اللئق مع المخالف‪ ،‬وبسبب التجريح الظالم لهواء نفسية أو‬
‫مت صور الظلم والتنافر‬ ‫لمبالغة في تصوير المساوئ‪ ،‬بسبب كل ذلك ع ّ‬
‫فكان ل بد من ضوابط للتقويم تحقق النصاف وتشيع روح اللفة‪.‬‬
‫‪ -4‬افتقاد كثير من المختلفين للموازنة بين المصالح والمفاسد في التعامل‬
‫مع المخالفين‪ ،‬وعدم الخبرة بالساليب الحكيمة في الدعوة‪ ،‬وفي المر‬
‫والنهي؛ أدى إلى تظالم وتقاطع‪ .‬فرأينا أن العودة إلى منهج أهل السنة‬
‫تنصف المخالفين وتزيل القطيعة‪.‬‬
‫‪ -5‬رجوع كثير من أسباب تظالم المختلفين إلى عدم إعذار المخالف بجهله‪،‬‬
‫أو اجتهاده‪ ،‬وتأوله‪ ،‬أو قيام الشبهة لديه‪ ،‬وعدم قيام الحجة عليه مما أدى إلى‬
‫تأثيم المخالف‪ ،‬والحكم بضلله ‪ -‬وقد يكون ممن يعذره الله ‪ -‬فكان ل بد من‬
‫إنصاف المخالفين بإعذار صاحب العذر منهم‪ ،‬مع مناصحته فيما أخطأ فيه‪،‬‬
‫فهذا أعدل وأدعى إلى التآلف«)‪.(2‬‬
‫والموضوع من الهمية بحيث ل يستكثر الكلم فيه‪ .‬أسأل الله عز وجل أن‬
‫يعينني على هذا المر‪ ،‬وأن يجعل فيه باًبا إلى الصلح‪ ،‬واجتماع القلوب‪،‬‬
‫وتوفير الجهود على نشر هذا الدين والتصدي لكيد العداء والمفسدين‬
‫وتسلطهم‪.‬‬
‫يقول شيخ السلم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬وهذا التفريق الذي حصل من‬
‫المة‪ :‬علمائها ومشائخها‪ ،‬وأمرائها وكبرائها‪ ،‬هو الذي أوجب تسلط العداء‬
‫عليها؛ وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله ‪ ...‬فمتى ترك الناس بعض ما‬
‫أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء‪ ،‬وإذا تفرق القوم فسدوا‬
‫وهلكوا‪ ،‬وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب«)‬
‫‪.(3‬‬
‫وقبل الدخول في تفصيل الموقف العدل المتوازن في نقد الخطاء والموقف‬
‫من المخالف يحسن التقدمة لذلك بمقدمتين هامتين‪:‬‬
‫المقدمة الولى‪ :‬في أنواع الخلف المحمود منه والمذموم وأسبابه‪.‬‬
‫المقدمة الثانية‪ :‬ضوابط شرعية في الرد على المخالف‪.‬‬
‫_____________‬

‫‪60‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪ (1‬مجموع الفتاوى‪.(22/245) :‬‬


‫ً‬
‫)‪ (2‬انظر »فقه الئتلف«‪) :‬ص ‪ (13 ،12‬ملخصا وبتصرف يسير‪.‬‬
‫)‪ (3‬مجموع الفتاوى‪.(3/421) :‬‬
‫المقدمة الولى‪ :‬في أنواع الخلف وأسبابه‪:‬‬

‫)‪(66 /‬‬

‫الخلف من طبيعة البشر؛ وذلك لختلف العقول والمدركات‪ ،‬ودخول الهوى‬


‫على النفوس‪ ،‬وهو قديم وحديث‪ ،‬لكنه قد يفتر أحياًنا وقد يتفجر أحياًنا‪.‬‬
‫ويتميز كل زمان بمسائل معينة يدور حولها الخلف‪ ،‬ومع كل ذلك فإن الحق‬
‫ظا ل يضره اختلف المختلفين‪ .‬وغالًبا ما يثور الخلف في‬ ‫واحد ويبقى محفو ً‬
‫المة وينشغل به الناس حينما تنشغل عن الهتمامات العالية والجهاد في‬
‫سبيل الله تعالى‪ ،‬وتميل إلى السترخاء والدعة والترف‪ ،‬فيظهر حينئذ الترف‬
‫الفكري والجدل والهوى‪.‬‬
‫وليس كل اختلف في أمر من المور مذموم‪ ،‬بل إن هناك كثير من المسائل‬
‫التي اختلف فيها السلف والخلف‪ ،‬ولم تؤد بهم إلى الفتراق والتنابذ‪ ،‬بل‬
‫دا والقلوب مؤتلفة‪.‬‬‫بقيت المودة بينهم‪ ،‬وبقي الصف موح ً‬
‫أما من فارقه السلف من المخالفين من أهل البدع فإن ذلك لم يكن إل‬
‫حينما خالفوا الصول‪ ،‬وخالفوا ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم‬
‫وأصحابه وهذا تفرق محمود‪.‬‬
‫ما إل إذا انتهى‬ ‫أما الختلف الحاصل بين أهل السنة والجماعة فل يعد مذمو ً‬
‫بالمختلفين إلى الخصومة والتفرق؛ وذلك لوجود الجهل‪ ،‬أو دخول الهوى‬
‫والبغي بين المختلفين‪ .‬وقد ذكر شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬
‫ما‪ ،‬ومتى يكون محموًدا‪،‬‬ ‫ما بديًعا عن الختلف وأنواعه‪ ،‬ومتى يكون مذمو ً‬ ‫كل ً‬
‫أرى من المناسب تدوينه في هذا المقام ليمهد لما بعده‪.‬‬
‫قال ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم قال‪) :‬تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة‪،‬‬
‫والنصارى مثل ذلك‪ ،‬وتفترق أمتي على ثلث وسبعين فرقة( رواه أبو داود‬
‫وابن ماجة والترمذي وقال‪ :‬هذا حديث حسن صحيح)‪ .(1‬وعن معاوية رضي‬
‫الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪) :‬إن أهل الكتاب‬
‫افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة‪ ،‬وإن هذه المة ستفترق على‬
‫ثلث وسبعين ملة ‪ -‬يعني الهواء ‪ -‬كلها في النار إل واحدة وهي الجماعة()‬
‫‪ ...(2‬ثم هذا الختلف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما في الدين‬
‫فقط‪ ،‬وإما في الدين والدنيا‪ ،‬ثم قد يؤول إلى الدماء‪ ،‬وقد يكون الختلف في‬
‫الدنيا فقط‪.‬‬
‫وهذا الختلف الذي دلت عليه الحاديث هو مما نهي عنه في قوله سبحانه‪:‬‬
‫فوا( )آل عمران‪ :‬من الية ‪ ،(105‬وهو موافق‬ ‫خت َل َ ُ‬
‫فّرُقوا َوا ْ‬
‫ن تَ َ‬ ‫كال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫كوُنوا َ‬
‫)َول ت َ ُ‬
‫لما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي‬
‫الله عنه أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من‬
‫أصحابه من العالية‪ ،‬حتى إذا مر بمسجد بني معاوية‪ ،‬دخل فركع فيه ركعتين‪،‬‬
‫ل‪ ،‬ثم انصرف إلينا فقال‪) :‬سألت ربي ثلًثا‬ ‫وصلينا معه ودعا ربه طوي ً‬
‫فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة‪ :‬سألت ربي أن ل يهلك أمتي بالسنة‬
‫فأعطانيها‪ ،‬وسألت ربي أن ل يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها‪ ،‬وسألته أن ل‬
‫يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها()‪ ...(3‬فهذا يشير إلى أن التفرقة والختلف ل بد‬

‫‪61‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫من وقوعهما في المة‪ ،‬وكان يحذر أمته لينجو منه من شاء الله له السلمة‪،‬‬
‫كما روى الن ّّزال بين سبرة‪ ،‬عن عبدالله بن مسعود قال‪» :‬سمعت رجل ً قرأ‬
‫آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلفها‪ ،‬فأخذت بيده‪ ،‬فانطلقت‬
‫به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له‪ ،‬فعرفت في وجهه الكراهية‪،‬‬
‫وقال‪) :‬كلكما محسن‪ ،‬ول تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا( رواه‬
‫مسلم)‪.(4‬‬
‫نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الختلف الذي فيه جحد كل واحد من‬
‫المختلفين ما مع الخر من الحق؛ لن كل القارئين كان محسًنا فيما قرأه‪،‬‬
‫وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا ‪ ...‬فأفاد ذلك بشيئين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬تحريم الختلف في مثل هذا‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬العتبار بمن كان قبلنا‪ ،‬والحذر من مشابهتهم‪.‬‬
‫واعلم أن أكثر الختلف بين المة الذي يورث الهواء تجده من هذا الضرب؛‬
‫وهو‪ :‬أن يكون كل واحد من المختلفين مصيًبا فيما يثبته‪ ،‬أو في بعضه‪ ،‬مخطًئا‬
‫في نفي ما عليه الخر‪ ،‬كما أن القارئين كل منهما كان مصيبا ً في القراءة‬
‫بالحرف الذي علمه‪ ،‬مخطًئا في نفي حرف غيره؛ فإن أكثر الجهل إنما يقع‬
‫في النفي الذي هو الجحود والتكذيب‪ ،‬ل في الثبات؛ لن إحاطة النسان بما‬
‫يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه‪ .‬ولهذا نهيت هذه المة أن تضرب آيات الله‬
‫بعضها ببعض؛ لن مضمون الضرب‪ :‬اليمان بإحدى اليتين‪ ،‬والكفر بالخرى ‪-‬‬
‫إذا اعتقد أن بينهما تضاًدا ‪ -‬إذ الضدان ل يجتمعان ‪ ...‬والختلف)*( على ما‬
‫ذكره الله في القرآن قسمان‪:‬‬

‫)‪(67 /‬‬

‫ن إ ِّل‬
‫في َ‬ ‫خت َل ِ ِ‬
‫م ْ‬‫ن ُ‬ ‫أحدهما‪ :‬يذم الطائفتين جميًعا‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ) :‬ول ي ََزاُلو َ‬
‫ك( )هود‪ :‬من اليتين ‪ .(119 ،118‬فجعل أهل الرحمة مستثنين‬ ‫م َرب ّ َ‬ ‫ح َ‬
‫ن َر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ه ن َّز َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حقّ وَإ ِ ّ‬ ‫ب ِبال َ‬ ‫ل الك َِتا َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ذ‬ ‫)‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قوله‬ ‫وكذلك‬ ‫الختلف‪،‬‬ ‫من‬
‫ما‬
‫د( )البقرة‪ ،(176:‬وكذلك قوله‪) :‬وَ َ‬ ‫ق ب َِعي ٍ‬ ‫قا ٍ‬ ‫ش َ‬‫في ِ‬ ‫ب لَ ِ‬‫فوا ِفي ال ْك َِتا ِ‬ ‫خت َل َ ُ‬
‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ُ‬
‫م( )آل عمران‪:‬‬ ‫م ب َْغيا ً ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫م ال ْعِل ْ ُ‬ ‫جاَءهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْد ِ َ‬ ‫ب إ ِّل ِ‬
‫م ْ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬‫ذي َ‬ ‫ف ال ّ ِ‬ ‫خت َل َ َ‬ ‫ا ْ‬
‫م‬
‫جاَءهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْد ِ َ‬‫م ْ‬ ‫فوا ِ‬ ‫َ‬
‫خت َل ُ‬‫فّرقوا َوا ْ‬ ‫ُ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫من الية ‪ ،(19‬وقوله‪َ) :‬ول ت َكوُنوا كال ِ‬
‫ت( )آل عمران‪ :‬من الية ‪.(105‬‬ ‫ال ْب َي َّنا ُ‬
‫وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف أن المة تفترق على ثلث‬
‫وسبعين فرقة قال )كلها في النار إل واحدة وهي الجماعة()‪ (5‬وفي الرواية‬
‫الخرى‪) :‬من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي()‪.(6‬‬
‫ن أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين‪ ،‬إل فرقة واحدة‪ ،‬وهم أهل‬ ‫فبي ّ َ‬
‫السّنة والجماعة‪.‬‬
‫وهذا الختلف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة‪ :‬فساد النية؛ لما في‬
‫النفوس من البغي والحسد‪ ،‬وإرادة العلو في الرض‪ ،‬ونحو ذلك؛ فيحب لذلك‬
‫ذم قول غيرها‪ ،‬أو فعله‪ ،‬أو غلبته ليتميز عليه‪ ،‬أو يحب قول من يوافقه في‬
‫نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة‪ ،‬ونحو ذلك؛ لما في قيام قوله من حصول‬
‫الشرف له والرئاسة‪ ،‬وما أكثر هذا من بني آدم‪ ،‬وهذا ظلم‪.‬‬
‫ويكون سببه تارة‪ :‬جهل المختلفين بحقيقة المر الذي يتنازعان فيه‪ ،‬أو الجهل‬
‫بالدليل الذي يرشد به أحدهما الخر‪ ،‬أو جهل أحدهما بما مع الخر من الحق‬
‫ما‬ ‫ما بما مع نفسه من الحق حك ً‬ ‫في الحكم‪ ،‬أو في الدليل‪ ،‬وإن كان عال ً‬
‫ودلي ً‬
‫ل‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ن‬
‫كا َ‬ ‫ه َ‬‫ن إ ِن ّ ُ‬
‫سا ُ‬‫مل ََها اْل ِن ْ َ‬‫ح َ‬
‫والجهل والظلم هما كل شر؛ كما قال سبحانه‪) :‬وَ َ‬
‫ل( )الحزاب‪ :‬من الية ‪.(72‬‬ ‫جُهو ً‬ ‫ظ َُلوما ً َ‬
‫أما أنواعه‪ :‬فهو في الصل قسمان‪:‬‬
‫اختلف تنوع‪ ،‬واختلف تضاد‪.‬‬
‫واختلف التنوع على وجوه‪:‬‬
‫عا؛ كما في‬ ‫قا مشرو ً‬ ‫منه‪ :‬ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين ح ً‬
‫القراءات التي اختلف فيها الصحابة‪ ،‬حتى زجرهم عن الختلف رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وقال‪) :‬كلكما محسن()‪.(7‬‬
‫ومثله اختلف النواع في صفة الذان‪ ،‬والقامة‪ ،‬والستفتاح‪ ،‬والتشهدات‪،‬‬
‫وصلة الخوف‪ ،‬وتكبيرات العيد‪ ،‬وتكبيرات الجنازة‪ ،‬إلى غير ذلك مما قد شرع‬
‫جميعه‪ ،‬وإن كان قد يقال‪ :‬إن بعض أنواعه أفضل‪.‬‬
‫ثم نجد لكثير من المة في ذلك من الختلف ما أوجب اقتتال طوائف منهم‬
‫على شفع القامة وإيتارها‪ ،‬ونحو ذلك؛ وهذا عين المحرم‪ .‬ومن لم يبلغ هذا‬
‫المبلغ فتجد كثيًرا منهم في قلبه من الهوى لحد هذه النواع والعراض عن‬
‫الخر‪ ،‬أو النهي عنه‪ ،‬ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫ومنه‪ :‬ما يكون كل من القولين هو في معنى القول الخر؛ لكن العبارتين‬
‫مختلفتان‪ ،‬كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود‪ ،‬وصيغ الدلة‪،‬‬
‫والتعبير عن المسميات‪ ،‬وتقسيم الحكام‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬ثم الجهل أو الظلم‬
‫يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الخرى‪.‬‬
‫ومنه‪ :‬ما يكون المعنيان غيرين‪ ،‬لكن ل يتنافيان؛ فهذا قول صحيح‪ ،‬وهذا قول‬
‫صحيح‪ ،‬وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الخر‪ ،‬وهذا كثير في المنازعات‬
‫جدًا‪.‬‬
‫ومنه‪ :‬ما يكون طريقتان مشروعتان‪ ،‬ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق‪،‬‬
‫وآخرون قد سلكوا الخرى‪ ،‬وكلهما حسن في الدين‪ .‬ثم الجهل أو الظلم‬
‫يحمل على ذم إحداهما أو تفضيلها بل قصد صالح‪ ،‬أو بل علم‪ ،‬أو بل نية وبل‬
‫علم ‪...‬‬
‫وهذا القسم ‪ -‬الذي سميناه‪ :‬اختلف التنوع ‪ -‬كل واحد من المختلفين مصيب‬
‫فيه بل تردد‪ ،‬لكن الذم واقع على من بغى على الخر فيه‪ ،‬وقد دل القرآن‬
‫على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك ‪ -‬إذا لم يحصل بغي ‪ -‬كما‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن الل ّ ِ‬
‫ه(‬ ‫صول َِها فَب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫ة عََلى أ ُ‬ ‫ها َقائ ِ َ‬
‫م ً‬ ‫ن ِلين َةٍ أوْ ت ََرك ْت ُ ُ‬
‫مو َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما قَط َعْت ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫في قوله‪َ ) :‬‬
‫)الحشر‪ :‬من الية ‪ ،(5‬وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم ‪ -‬يوم بني‬
‫قريظة ‪ -‬لمن صلى العصر في وقتها‪ ،‬ولمن أخّرها إلى أن وصل إلى بني‬
‫قريظة ‪...‬‬
‫وأما اختلف التضاد فهو‪ :‬القولن المتضادان إما في الصول‪ ،‬وإما في الفروع‬
‫عند الجمهور الذين يقولون »المصيب واحد« وإل فمن قال‪» :‬كل مجتهد‬
‫مصيب« فعنده هو من باب اختلف التنوع‪ ،‬ل اختلف التضاد‪ .‬فهذا الخطب‬
‫فيه أشد؛ لن القولين يتنافيان‪ ،‬لكن نجد كثيًرا من قد يكون القول الباطل‬
‫قا ما‪ ،‬فيرد الحق في‬ ‫الذي مع منازعه فيه حق ما‪ ،‬أو معه دليل يقتضي ح ً‬
‫الصل هذا كله‪ ،‬حتى يبقى هذا مبطل ً في البعض‪ ،‬كما كان الول مبطل في‬
‫ً‬
‫الصل‪ ،‬كما رأيته لكثير من أهل السّنة في مسائل القدر والصفات والصحابة‪،‬‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫وأما أهل البدعة‪ :‬فالمر فيهم ظاهر‪ ،‬وكما رأيته لكثير من الفقهاء‪ ،‬أو لكثر‬
‫المتأخرين في مسائل الفقه‪ ،‬وكذلك رأيت الختلف كثيًرا بين بعض‬
‫المتفقهة‪ ،‬وبعض المتصوفة‪ ،‬وبين فرق المتصوفة‪ ،‬ونظائره كثيرة‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(68 /‬‬

‫ومن جعل الله له هداية ونوًرا رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في‬
‫الكتاب والسّنة من النهي عن هذا وأشباهه‪ ،‬وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر‬
‫هذا ابتداء‪ ،‬لكن نور على نور ‪...‬‬
‫وأما القسم الثاني من الختلف المذكور في كتاب الله‪ :‬فهو ما حمد فيه‬
‫إحدى الطائفتين‪ ،‬وهم المؤمنون‪ ،‬وذم فيه الخرى‪ ،‬كما في قوله تعالى‪) :‬ت ِل ْكَ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫ما اقْت َت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫ض( إلى قوله‪) :‬وَل َوْ َ‬ ‫م عَلى ب َعْ ٍ‬
‫ضهُ ْ َ‬ ‫ضل َْنا ب َعْ َ‬ ‫ل فَ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫الّر ُ‬
‫م‬
‫من ْهُ ْ‬‫ن وَ ِ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫َ‬
‫فوا ف ِ‬ ‫َ‬
‫خت َل ُ‬
‫نا ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ت وَلك ِ ِ‬ ‫م الب َي َّنا ُ‬ ‫جاَءت ْهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْد ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ب َعْدِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ما اقت َت َلوا( )البقرة‪ :‬من الية ‪.(253‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫شاَء الل ُ‬ ‫َ‬
‫فَر وَلوْ َ‬ ‫َ‬
‫نك َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫فَر( حمد لحدى الطائفتين‬ ‫ن كَ َ‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫م‬‫آ‬
‫ِ ُْ ْ َ ْ َ َ َ ِ ُْ ْ َ ْ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫فوا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫خ‬ ‫ا‬
‫َ ِ ِ ْ َ‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫)‬ ‫فقوله‪:‬‬
‫موا ِفي‬ ‫َ َ ُ‬‫ص‬ ‫ت‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ما‬
‫ْ َ ِ‬ ‫ص‬ ‫خ‬‫َ‬ ‫ن‬‫َ ِ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ه‬ ‫)‬ ‫قوله‪:‬‬ ‫وكذلك‬ ‫الخرى‪،‬‬ ‫وذم‬ ‫‪-‬‬ ‫‪ -‬وهم المؤمنون‬
‫ن َناٍر( )الحج‪ :‬من الية ‪ (19‬إلى قوله‪:‬‬ ‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫م ث َِيا ٌ‬ ‫ت ل َهُ ْ‬ ‫فُروا قُط ّعَ ْ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م َفال ّ ِ‬ ‫َرب ّهِ ْ‬
‫ت‪) (...‬الحج‪ :‬من الية ‪ .(23‬مع ما‬ ‫حا ِ‬‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫ه ي ُد ْ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫)إ ِ ّ‬
‫ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه‪» :‬أنها أنزلت في المقتتلين يوم‬
‫بدر‪ :‬علي وحمزة وعبيدة‪ ،‬والذين بارزوهم من قريش وهم‪ :‬عتبة وشيبة‬
‫والوليد)‪.(8‬‬
‫وأكثر الختلف الذي يؤول إلى الهواء بين المة من القسم الول‪ ،‬وكذلك آل‬
‫إلى سفك الدماء‪ ،‬واستباحة الموال‪ ،‬والعداوة والبغضاء؛ لن إحدى الطائفتين‬
‫ل تعترف للخرى بما معها من الحق‪ ،‬ول تنصفها‪ ،‬بل تزيد على ما مع نفسها‬
‫من الحق زيادات من الباطل‪ ،‬والخرى كذلك‪.‬‬
‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م ْ‬ ‫ن أوُتوه ُ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ف ِفيهِ إ ِل ال ِ‬ ‫خت َل َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫وكذلك جعل الله مصدره البغي في قوله‪) :‬وَ َ‬
‫م( )البقرة‪ :‬من الية ‪(213‬؛ لن البغي‪ :‬مجاوزة‬ ‫ت ب َْغيا ً ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫م ال ْب َي َّنا ُ‬ ‫جاَءت ْهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ب َعْد ِ َ‬
‫الحد‪.‬‬
‫وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه المة«)‪.(9‬‬
‫ومن هذا النقل النفيس عن شيخ السلم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في أنواع‬
‫الختلف وأسبابه نخلص إلى النتائج التالية‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬أن الخلف مع الكفار والمبتدعة خلف محمود؛ لن الله عز وجل‬
‫يأمر بمفارقة الكفار والمبتدعة ويحب المخالف لهم من أهل السنة والتباع‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن الخلف في مسائل الجتهاد بين أهل السنة إذا لم يؤد إلى الفرقة‬
‫وفساد المودة فهو خلف محمود‪ ،‬أما إذا انتهى بالمختلفين إلى الفرقة‬
‫والخصام‪ ،‬فإن كل الطائفتين مذمومتان؛ إذ الغالب في مثل هذه الحال دخول‬
‫الهوى والعصبية إلى النفوس‪ .‬فمتى أدى الختلف في الجتهاد بين أهل‬
‫السنة إلى الفرقة‪ ،‬فليعلم أن الهوى أو البغي قد دخل في النفوس‪.‬‬
‫وفي ذلك يقول الشاطبي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ ...» :-‬فكل مسألة حدثت في‬
‫السلم فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الختلف بينهم عداوة ول بغضاء‬
‫ول فرقة علمنا أنها من مسائل السلم‪ ،‬وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة‬
‫والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء‪ ،‬وأنها‬
‫ن‬
‫التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الية وهي قوله‪) :‬إ ِ ّ‬
‫شَيعًا( )النعام‪ :‬من الية ‪ .. (159‬فيجب على كل‬ ‫كاُنوا ِ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ن فَّرُقوا ِدين َهُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي دين وعقل أن يجتنبها ‪ ..‬فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه‬
‫من اتباع الهوى ‪ ..‬وهو ظاهر في أن السلم يدعو إلى اللفة والتحاب‬
‫والتراحم والتعاطف‪ ،‬فكل رأي إلى خلف ذلك فخارج عن الدين«)‪.(10‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن أهم أسباب الخلف بين المختلفين‪ :‬إما الجهل بما عند المخالف‬

‫‪64‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫من الحق والدليل أو الجهل بالدلة الشرعية بعامة‪.‬‬


‫وإما البغي والهوى والحسد‪ :‬إذ قد يتضح الحق للمخالف ولكنه يستنكف عن‬
‫النقياد له بغًيا وكبًرا عياًذا بالله عز وجل‪.‬‬
‫والكلم هنا موجه لهل السنة والخلف الحاصل بينهم‪ ،‬وكيف يمكن تفادي‬
‫الفرقة الناشئة عنه‪ ،‬وما هو الميزان العدل الذي يوزن به هذا الخلف‪ .‬أما‬
‫الخلف مع أهل البدع والكفر فهو متعين وله مقام آخر‪.‬‬
‫_____________‬
‫)‪ (1‬انظر سنن أبي داود‪ ،(4596) :‬والترمذي )‪ ،(2640‬وابن ماجة‪.(3991) :‬‬
‫)‪ (2‬مسند أحمد‪.(4/102) :‬‬
‫)‪ (3‬مسلم‪.(2890) :‬‬
‫)‪ (4‬الحديث ل يوجد في مسلم وإنما في البخاري‪.(2410) :‬‬
‫)*( يقصد شيخ السلم بالختلف هنا ذلك الذي يؤدي إلى التفرق‬
‫والخصومات‪.‬‬
‫)‪ (5‬سبق تخريجه‪) :‬ص ‪.(207‬‬
‫)‪ (6‬انظر ما ذكره الشيخ اللباني ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬عن حديث الفتراق‬
‫في السلسلة الصحيحة )‪.(204‬‬
‫)‪ (7‬البخاري‪.(2410) :‬‬
‫)‪ (8‬البخاري‪.(2743) :‬‬
‫صا‪ ،‬ت‪ :‬د‪ .‬ناصر العقل‪.‬‬ ‫)‪ (9‬اقتضاء الصراط المستقيم‪ (156 - 1/135) :‬ملخ ً‬
‫)‪ (10‬الموافقات‪.(222-4/221) :‬‬
‫المقدمة الثانية‪ :‬ضوابط شرعية في الرد على المخالف‪:‬‬
‫قبل الشروع في الرد على المخالف ‪ -‬سواء كان مشافهة أو كتابة ‪ -‬فل بد‬
‫من مراعاة الضوابط الشرعية حتى يؤتي الرد ثمرته المطلوبة ول يؤدي إلى‬
‫مفاسد شرعية تربو على مفاسد ترك الرد‪.‬‬
‫ومن أهم هذه الضوابط ما يلي‪:‬‬

‫)‪(69 /‬‬

‫أول ً ‪ :‬اتصاف الّراد بالعلم الشرعي الصحيح الموافق لسنة النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم؛ وبخاصة في المسألة المراد الرد عليها ومناقشتها‪ ،‬وأن يكون‬
‫الكلم بعلم ودليل‪ ،‬ومأخذ صحيح في الستدلل؛ ومن ذلك التوثق والتثبت من‬
‫كلم المردود عليه من كتبه أو كلمه ل من الظنون وكلم الناس‪ .‬ومن ذلك‬
‫تحديد موضع النزاع وتحريره‪.‬‬
‫ثانًيا ‪ :‬اتصاف الراد بالخلص والتجرد لله تعالى في رده وبعده عن الهوى‬
‫والعصبية والتشفي‪ ،‬وهذا يلزم عليه أشياء كثيرة من أهمها‪:‬‬
‫العدل مع المخالف وإنصافه‪ ،‬وتجنب ظلمه وإهدار حقه وما عنده من‬
‫المحاسن‪ .‬وهذا يقتضي الحذر من الهوى والتعصب العمى‪.‬‬
‫وقد ذكر الشوكاني ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬بعض السباب التي تؤدي إلى عدم‬
‫العدل والنصاف فقال‪» :‬واعلم أن أسباب الخروج عن دائرة النصاف‬
‫دا منها‪:‬‬
‫والوقوع في موبقات التعصب كثيرة ج ً‬
‫] أ [ نشأة طالب العلم في بيئة تمذهب أهلها بمذهب معين‪ ،‬أو تلقوا عن‬
‫عالم مخصوص‪ ،‬فيتعصب ول ينصف‪.‬‬
‫]ب[ حب الشرف والمال‪ ،‬ومداراة أهل الوجاهة والسلطان‪ ،‬والتماس ما‬
‫عندهم‪ ،‬فيقول ما يناسبهم ول ينصف‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫]جـ[ الخوض في الجدال والمراء مع أهل العلم‪ ،‬والتعرض للمناظرات‪،‬‬


‫وطلب الظهور والغلبة‪ ،‬فيقوى تعصبه لما أيده ول ينصف‪.‬‬
‫] د [ الميل لمذهب القرباء‪ ،‬والبحث عن الحجج المؤيدة له‪ ،‬للمباهاة بعلم‬
‫أقربائه‪ ،‬فيتعصب حتى لخطئهم ول ينصف‪.‬‬
‫] هـ [ الحرج من الناس في الرجوع عن فتوى قالها‪ ،‬أو قول أيده واشتهر‬
‫عنه‪ ،‬ثم تبين بطلنه‪ ،‬فيتعصب دفًعا للحرج ول ينصف‪.‬‬
‫ما وشهرة‪ ،‬تجعله‬ ‫] و [ الزلة في المناظرة مع من هو أصغر سّنا‪ ،‬أو أق ّ‬
‫ل عل ً‬
‫يتعصب للخطأ ول ينصف‪.‬‬
‫] ز [ التعلق بقواعد معينة يصحح ما وافقها‪ ،‬ويخطئ ما خالفها‪ ،‬وهي نفسها‬
‫غير مسلمة على الطلق؛ فيتعصب بالبناء عليها ول ينصف‪.‬‬
‫] ح [ اعتماد أدلة الحكام من كتب المذاهب؛ لنه سيجد ما يؤيد المذهب‬
‫باستبعاد دليل المخالف‪ ،‬فيتعصب ول ينصف‪.‬‬
‫] ط [ العتماد في الجرح والتعديل على كتب المتعصبين؛ إذ يعدلون‬
‫الموافق‪ ،‬ويجرحون المخالف‪ ،‬فمن بنى على كتبهم يتعصب ول ينصف‪.‬‬
‫]ي[ التنافس بين المتقارب َْين في الفضيلة أو المنزلة‪ ،‬قد يدفع أحدهما لتخطئة‬
‫صواب الخر تعصًبا ومجانبة للنصاف‪.‬‬
‫]ك[ العتماد على الراء والقوال ‪ -‬من علم الرأي ‪ -‬المخلوطة بعلوم الجتهاد‬
‫كأصول الفقه مما يترتب عليه تعصب للرأي وخروج عن النصاف«)‪.(1‬‬
‫والخلص يقتضي الحذر من الكيل بمكيالين‪ :‬مكيال للنفس َيستوفي فيه‪،‬‬
‫ومكيال للمخالف ُيخسره فيه يبخسه حقه‪.‬‬
‫كا لرجل نخالفه‪ ،‬ثم تمر السنون‪،‬‬ ‫»عند تقويم مواقف الرجال كم نستنكر سلو ً‬
‫ويدور الزمان دورته‪ ،‬ويصدر نفس السلوك في موقف مشابه من رجل نحبه‬
‫ونتفق معه‪ ،‬فنعلل له ونبرر ونحسن الظن‪ ،‬بل ونكبر حكمته التي قد ل‬
‫تدركها عقولنا!!! لماذا نقبل الشيء نفسه من امرئ ونعده عيبا ً في غيره؟!!!‬
‫قد تجد بعض الناس يبالغون في حب امرئ ومديحه‪ ،‬وقد ل يتركون شرًفا في‬
‫الدنيا إل وينسبونه إليه‪ ،‬وتمر أقدار‪ ،‬وبالخلطة والمعايشة الطويلة في السفر‬
‫والحضر‪ ،‬والتعامل بالدرهم والدينار‪ ،‬وبالدخن والوساوس ‪ ..‬يغدو المادح‬
‫ما ‪ ..‬صور كثيرة من هذه الصناف‬ ‫حا‪ ،‬والممدوح مذمو ً‬
‫حا‪ ،‬والمزكي جار ً‬
‫قاد ً‬
‫نشهدها في بعض الوعاظ والخطباء والموجهين والناصحين الذين يرون في‬
‫ما يقومون به واجًبا شرعًيا ل يسكت عنه‪ ،‬فإذا ألقيت النصيحة والموعظة‬
‫إليه‪ ،‬وطرقت سمعه وانهالت التعليمات عليه صار ذلك من سوء الدب أو‬
‫عا؛ نرى ذلك في الشرح‬ ‫سوء الظن به‪ ،‬أو الظلم والتجريح المنهي عنه شر ً‬
‫ل‪ ،‬فإذا وضع هو‬‫ما وتعدي ً‬‫لعيوب الناس ونواياهم‪ ،‬ويسمي تشريحه هذا تقوي ً‬
‫على المشرحة والتقويم سماها غيبة ونميمة‪ ،‬وعدم ستر العيوب بالنصيحة‬
‫سًرا ‪ (2)«...‬وغيرها من صور الكيل بمكيالين‪.‬‬
‫والخلص يقتضي حرص الّراد على سلمة قلبه نحو المخالف‪ ،‬وأن يحذر من‬
‫التشفي في الرد والخصومة؛ لن الخلص يقتضي حب الخير للناس والرحمة‬
‫والشفقة بهم‪ .‬وهذا شأن أهل السنة والتباع المخلصين؛ يقول شيخ السلم‬
‫ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬وأهل السنة والعلم واليمان يعلمون الحق‬
‫ويرحمون الخلق«)‪ ،(3‬وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول عنه‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم‪» :‬أرحم أمتي بأمتي أبو بكر«)‪.(4‬‬
‫وهذا ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما يذكر عن نفسه أنه يحب‬
‫الخير للمسلمين في كل مكان ولو لم يكن يعرفهم أو ينتفع بالخير الذي‬
‫أصابهم‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فعن ابن بريدة السلمي قال‪» :‬شتم رجل ابن عباس فقال ابن عباس‪ :‬إنك‬
‫لتشتمني وإن في ثلث خصال‪ :‬إني لتي على الية في كتاب الله فلوددت أن‬
‫جميع الناس يعلمون ما أعلم‪ ،‬وإني لسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل‬
‫دا‪ ،‬وإني لسمع بالغيث قد أصاب‬‫في حكمه فأفرح‪ ،‬ولعلي ل أقاضي إليه أب ً‬
‫البلد من بلد المسلمين فأفرح وما لي به سائمة«)‪.(5‬‬
‫ثالثًا‪ :‬الحذر من ردود الفعال التي قد تذهب بالّراد إلى طرف آخر مقابل‬
‫للمردود عليه متجاوًزا حد التوسط والتوزان والعتدال‪.‬‬

‫)‪(70 /‬‬

‫رابًعا‪ :‬قبول ما يظهر على لسان المخالف من الحق والفرح به وبإصابته‬


‫للحق ورد الباطل من كلمه وتفنيده‪.‬‬
‫قال رجل لبن مسعود رضي الله عنه‪ :‬أوصني بكلمات جوامع‪ ،‬فكان مما‬
‫ضا‪ ،‬ومن‬ ‫دا بغي ً‬
‫أوصاه به أن قال‪ ...» :‬ومن أتاك بحق فأقبل منه وإن كان بعي ً‬
‫أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريًبا حبيًبا«)‪.(6‬‬
‫ويقول الشيخ بكر أبو زيد في وصاياه للدعاة‪» :‬التزم النصاف الدبي بأن ل‬
‫تجحد ما للنسان من فضل‪ ،‬وإذا أذنب فل تفرح بذنبه‪ ،‬ول تتخذ الوقائع‬
‫ّ‬
‫دا ينفق منه الجّراح في الثلب‪،‬‬ ‫العارضة منهية لحال الشخص‪ ،‬وباتخاذها رصي ً‬
‫والطعن‪ ،‬وأن تدعو له بالهداية‪ .‬أما التزيد عليه‪ ،‬وأما البحث عن هفواته‪،‬‬
‫وتصيدها‪ ،‬فذنوب مضافة أخرى‪ .‬والرسوخ في النصاف بحاجة إلى قدر كبير‬
‫من خلق رفيع ودين متين«)‪.(7‬‬
‫سا‪ :‬ل يؤخذ المخالف بلزم قوله؛ لن لزم المذهب ليس بمذهب‪ .‬أي أن‬ ‫خام ً‬
‫ما يلزم على كلم المخالف من لوازم باطلة ل يجوز أن تنسب إليه بمجرد‬
‫أنها من لوازم قوله؛ فإن هذا من الظلم‪ ،‬كمن يلزم من أحل النبيذ بلزم قوله‬
‫وهو استحلل ما حرم الله عز وجل‪ ،‬أو من لم ير الجمع بين الصلتين في‬
‫السفر بأنه يرد السنة ويهجرها‪ .‬ول يلزم أحد بلزم قوله حتى يتبناه صراحة‬
‫ويعبر عنه بنفسه‪ ،‬أو أن يسأل فيجيب فيكون منطوق لسانه حجة عليه‪ .‬وإنما‬
‫يستخدم ذكر لوازم القوال لبطالها‪ ،‬وبيان غلط وتناقض المردود عليه لكي‬
‫يتراجع عن كلمه‪.‬‬
‫فر الناس بما تؤول إليه‬ ‫يقول ابن حزم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬وأما من ك ّ‬
‫أقوالهم فخطأ؛ لنه كذب على الخصم‪ ،‬وتقويل له ما لم يقل به‪ ،‬وإن لزمه‬
‫فلم يحصل على غير التناقض فقط‪ ،‬والتناقض ليس كفًرا‪ ،‬بل قد أحسن إذ قد‬
‫فر من الكفر ‪ ..‬فصح أنه ل يكفر أحد إل بنفس قوله‪ ،‬ونص معتقده‪ ،‬ول ينفع‬
‫أحد أن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به متجه‪ ،‬لكن المحكوم به هو مقتضى‬
‫قوله فقط«)‪.(8‬‬
‫سا‪ :‬الحرص في نقد المخالف على وصف مقالته ونقدها والرد عليها‪،‬‬ ‫ساد ً‬
‫دون التعرض لشخصه أو نيته ومقصده‪ ،‬إل إذا ظهرت قرائن قوية تدل على‬
‫فساد النية وخبث الطوية‪.‬‬
‫سابًعا ‪ :‬العتناء الشديد بالدقة في التعبير والفهام ‪ -‬سواء كان مشافهة أو‬
‫كتابة ‪ -‬والبعد في الردود عن اللفاظ الغريبة الغامضة‪ ،‬أو الحمالة حتى ل‬
‫يفهم كلم الراد على غير ما أراد‪.‬‬
‫______________‬
‫)‪ (1‬انظر أدب الطلب ومنتهى الرب‪) :‬ص ‪] (31‬عن كتاب فقه الئتلف‬
‫لخازندار‪) :‬ص ‪.[(57‬‬

‫‪67‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪ (2‬انظر فقه الئتلف‪) :‬ص ‪ (102 ،101‬بتصرف يسير باختصار‪.‬‬


‫)‪ (3‬مجموع الفتاوى‪.(16/96) :‬‬
‫)‪ (4‬مسند أحمد‪ ،(3/2881) :‬وصححه اللباني في السلسلة الصحيحة‪) :‬‬
‫‪.(1224‬‬
‫)‪ (5‬مجمع الزوائد‪ ،(9/284) :‬وقال الهيثمي‪ :‬رواه الطبراني ورجاله رجال‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫)‪ (6‬الحكام في أصول الحكام‪.(4/586) :‬‬
‫)‪ (7‬تصنيف الناس بين الظن واليقين‪) :‬ص ‪.(78 ،77‬‬
‫)‪ (8‬الفصل لبن حزم‪.(3/294) :‬‬
‫ذكر الميزان العدل والوسط في نقد الخطاء والموقف من المخالف‪:‬‬
‫بعد هاتين المقدمتين عن أنواع الخلف‪ :‬محموده ومذمومه وأسبابه‪ ،‬وضوابط‬
‫النقد وأصوله‪ ،‬ندخل في صلب الموضوع الذي نحن بصدده؛ وهو ذكر الميزان‬
‫العدل الوسط في نقد الخطاء‪ ،‬والموقف من المخالفين‪ ،‬مع ذكر طرفي‬
‫النحراف عن هذا الميزان العدل‪ .‬فأقول وبالله التوفيق ‪..‬‬
‫الناس في موقفهم من الخطاء ونقدهم لصحابها طرفان ووسط‪:‬‬
‫الطرف الول ‪ :‬أهل الغلو والفراط‪:‬‬
‫وهم الذين أفرطوا في نقد الخطاء وأصحابها حتى جعلوا من الفروع أصول ً‬
‫مهم تصيد الخطاء والفرح بها‬ ‫ومن بعض الجزئيات كليات‪ .‬وجعلوا ه ّ‬
‫وتضخيمها‪ ،‬ولم يرحموا من وقع فيها من طلب العلم بل جاروا عليهم في‬
‫ذلك حتى أساءوا الظن بهم‪ ،‬وبنواياهم‪ ،‬ومقاصدهم‪ ،‬وبخسوهم حقهم‪،‬‬
‫وأهدروا حسناتهم وما لهم من بلء وجهاد ودعوة وعلم وعمل وتعليم‪ .‬ول‬
‫يخفى ما في هذا الموقف من عدوان‪ ،‬ومجانبة للعدل والنصاف‪ .‬وفي أمثال‬
‫ت تسًعا وتسعين‬ ‫هؤلء يقول الشعبي ‪ -‬رحمه الله تعالى‪» :-‬والله لو أصب ُ‬
‫دوا علي تلك الواحدة«)‪.(1‬‬ ‫مرة‪ ،‬وأخطأت مرة لع ّ‬
‫ولو أن هؤلء المنتقدين حاسبوا أنفسهم‪ ،‬وسألوها حينما يخطئون هل يودون‬
‫أن يعاملهم إخوانهم بهذا المنهج الجائر كما يعاملون غيرهم لكان في ذلك‬
‫سبًبا لمراجعة أنفسهم‪ ،‬واكتشافهم لهذا المنهج الخاطئ في نقد الرجال‬
‫ومعالجة الخطاء‪.‬‬
‫يقول شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬فليس من شرط أولياء‬
‫الله المتقين أن ل يكونوا مخطئين في بعض الشياء خطأ مغفوًرا لهم‪ ،‬بل ول‬
‫قا‪ ،‬بل ول من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر‬ ‫من شرطهم ترك الصغائر مطل ً‬
‫الذي تعقبه التوبة‪.‬‬

‫)‪(71 /‬‬

‫ما‬
‫م َ‬‫ن ل َهُ ْ‬‫قو َ‬ ‫مت ّ ُ‬‫م ال ْ ُ‬‫ك هُ ُ‬ ‫صد ّقَ ب ِهِ ُأول َئ ِ َ‬ ‫ق وَ َ‬ ‫ِ‬ ‫صد ْ‬‫جاَء ِبال ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقد قال الله تعالى‪َ) :‬وال ّ ِ‬
‫مُلوا‬ ‫َ‬ ‫فر الل ّه عَنه َ‬
‫ذي عَ ِ‬ ‫سوَأ ال ّ ِ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ُ ُْ ْ‬ ‫ن ل ِي ُك َ ّ َ‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫جَزاُء ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ك َ‬ ‫م ذ َل ِ َ‬ ‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫شاُءو َ‬ ‫يَ َ‬
‫ن( )الزمر‪ .(35-33:‬فقد وصفهم‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ملو َ‬ ‫ذي كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ب ِأ ْ‬ ‫جَرهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫جزِي َهُ ْ‬
‫وَي َ ْ‬
‫ن( هم أولياء الله‪ .‬ومع هذا فأخبر أنه يكفر عنهم‬ ‫قو َ‬ ‫مت ّ ُ‬ ‫ْ‬
‫الله بأنهم متقون‪ .‬و)ال ُ‬
‫أسوء الذي عملوا‪ .‬وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم واليمان«)‪.(2‬‬
‫َ‬
‫مُنوا‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ويعلق المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬على قوله‪َ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ن قَوْم ٍ عََلى أ َّل ت َعْدُِلوا‬ ‫شَنآ ُ‬ ‫م َ‬ ‫من ّك ُ ْ‬ ‫جرِ َ‬ ‫ط َول ي َ ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫داَء ِبال ْ ِ‬ ‫شهَ َ‬ ‫ن ل ِل ّهِ ُ‬ ‫مي َ‬ ‫وا ِ‬ ‫كوُنوا قَ ّ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫ن( )المائدة‪(8:‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬‫خِبيٌر ب ِ َ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬
‫ه إِ ّ‬ ‫وى َوات ّ ُ‬ ‫ق َ‬‫ب ِللت ّ ْ‬ ‫اعْدُِلوا هُوَ أقَْر ُ‬
‫فيقول‪» :‬فإذا كان قد نهى عباده أن يحملهم بغضهم لعدائه أن ل يعدلوا‬

‫‪68‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عليهم مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله فكيف يسوغ لمن‬
‫يدعي اليمان أن يحمله بغضه لطائفة منتسبة إلى الرسول تصيب وتخطئ‬
‫على أن ل يعدل فيهم‪ ،‬بل يجرد لهم العداوة وأنواع الذى‪ ،‬ولعله ل يدري أنهم‬
‫ل‪ ،‬ودعوة إلى الله على بصيرة‪،‬‬ ‫ما وعم ً‬
‫أولى بالله ورسوله وما جاء به منه عل ً‬
‫وصبًرا من قومهم على الذى في الله‪ ،‬وإقامة الحجة لله ومعذرة لمن‬
‫خالفهم بالجهل«)‪.(3‬‬
‫وأسوق بهذه المناسبة تلك المحاورة النافعة التي بّين فيها المسور بن‬
‫مخرمة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما بعض عيوبه‪ ،‬وماذا رد عليه‬
‫جا في معالجة أخطائنا‪.‬‬ ‫معاوية في ذلك لتكون منه ً‬
‫عن عقيل‪ ،‬ومعمر‪ ،‬عن الزهري‪ ،‬حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره‬
‫أنه وفد على معاوية‪ ،‬فقضى حاجته‪ ،‬ثم خل به‪ ،‬فقال‪ :‬يا مسور! ما فعل‬
‫طعنك على الئمة؟ قال‪ :‬دعنا من هذا وأحسن‪ .‬قال‪ :‬ل والله‪ ،‬لتكلمني بذات‬
‫ي‪ .‬قال مسور‪ :‬فلم أترك شيًئا أعيبه عليه إل بينت له‪.‬‬ ‫نفسك بالذي تعيب عل ّ‬
‫فقال‪ :‬ل أبرأ من الذنب‪ .‬فهل تعد ّ لنا يا مسور ما نلي من الصلح في أمر‬
‫العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬أم تعد ّ الذنوب‪ ،‬وتترك الحسان؟ قال‪ :‬ما‬
‫ُتذكر إل الذنوب‪ .‬قال معاوية‪ :‬فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه‪ ،‬فهل لك يا‬
‫ب في خاصتك تخشى أن ُتهلكك إن لم تغفر؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬فما‬ ‫مسور ذنو ٌ‬
‫يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني‪ ،‬فوالله ما ألي من الصلح أكثر مما‬
‫ت الله على‬ ‫ُ‬
‫تلي‪ ،‬ولكن والله ل أخّير بين أمرين‪ :‬بين الله وبين غيره‪ ،‬إل اختر ُ‬
‫ل‪ ،‬ويجزى فيه بالحسنات‪ ،‬ويجزى فيه‬ ‫ما سواه‪ ،‬وإني لعلى دين يقبل فيه العم ُ‬
‫ة‪ :‬فلم أسمع المسور‬ ‫بالذنوب إل أن يعفو الله عنها‪ ،‬قال‪ :‬فخصمني‪ .‬قال عرو ُ‬
‫ذكر معاوية إل صّلى عليه)‪.(4‬‬
‫الطرف الثاني‪ :‬أهل التفريط والضاعة‪:‬‬
‫وهؤلء وإن كانوا قد فّرطوا في الخذ بالحق ورد الباطل‪ ،‬والتقليد العمى‪ ،‬إل‬
‫إنهم وقعوا في المقابل في الغلو في الرجال والتعصب لخطائهم ولسان‬
‫حالهم يقول بالعصمة لمن قلدوهم‪.‬‬
‫ولذا ترى الواحد منهم يزعجه ويكدر خاطره إذا قيل إن شيخه وأستاذه‬
‫مخطئ في بعض ما ذهب إليه من قول أو عمل‪ ،‬ويدفعه تعصبه لشيخه‬
‫وغلوه في محبته له وتأدبه معه إلى تصحيح كل ما يقول أو يفعل مبرًرا ذلك‬
‫بمبررات سامجة متكلفة‪.‬‬
‫يقول المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في وصف أهل الطرفين‬
‫السابقين بعد أن ذكر فضل أئمة السلم‪ ...» :‬وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم‬
‫لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ل يوجب قبول كل ما قالوه‪ ،‬وما وقع في‬
‫فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم فقالوا بمبلغ علمهم ‪ -‬والحق في خلفها ‪ -‬ل يوجب اطراح أقوالهم‬
‫جملة‪ ،‬وتنقصهم والوقيعة فيهم؛ فهذان طرفان جائران عن القصد‪ ،‬وقصد‬
‫صم‪ ،‬ول نسلك بهم مسلك الرافضة في علي‬ ‫السبيل بينهما‪ ،‬فل نؤّثم ول ن َعْ ِ‬
‫رضي الله عنه ول مسلكهم في الشيخين رضي الله عنهما«)‪.(5‬‬
‫وينتقد ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬هذين الطرفين بصورة أوضح في معرض رّده‬
‫على بعض الشطحات التي وقع فيها الهروي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في منازل‬
‫السائرين‪ ،‬وانقسام الناس في تعاملهم مع هذه الشطحات فيقول‪» :‬شيخ‬
‫السلم حبيب إلينا‪ ،‬والحق أحب إلينا منه‪ ،‬وكل من عدا المعصوم صلى الله‬
‫عليه وسلم فمأخوذ من قوله ومتروك‪ ،‬ونحن نحمل كلمه على أحسن‬
‫محامله ثم نبين ما فيه ‪] ...‬إلى أن قال[‪ :‬هذا ونحوه من الشطحات التي‬

‫‪69‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات‪ ،‬ويستغرقها كمال الصدق وصحة المعاملة‬


‫وقوة الخلص وتجريد التوحيد‪ ،‬ولم تضمن العصمة لبشر بعد رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ .‬وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من‬
‫الناس‪:‬‬

‫)‪(72 /‬‬

‫إحداهما‪ :‬حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم‪ ،‬وصدق‬


‫معاملتهم؛ فأهدروها لجل هذه الشطحات‪ ،‬وأنكروها غاية النكار‪ .‬وأساءوا‬
‫قا؛ وهذا عدوان وإسراف؛ فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك‬ ‫الظن بهم مطل ً‬
‫جملة‪ ،‬وأهدرت محاسنه‪ ،‬لفسدت العلوم والصناعات‪ ،‬والحكم‪ ،‬وتعطلت‬
‫معالمها‪.‬‬
‫حجبوا بما رأوه من محاسن القوم‪ ،‬وصفاء قلوبهم‪ ،‬وصحة‬ ‫والطائفة الثانية‪ُ :‬‬
‫عزائمهم‪ ،‬وحسن معاملتهم عن رؤية عيوب شطحاتهم‪ ،‬ونقصانها‪ ،‬فسحبوا‬
‫عليها ذيل المحاسن‪ ،‬وأجروا عليها حكم القبول والنتصار لها‪ ،‬واستظهروا بها‬
‫في سلوكهم‪ .‬وهؤلء أيضا ً معتدون مفرطون‪.‬‬
‫والطائفة الثالثة‪ - :‬وهم أهل العدل والنصاف ‪ -‬الذين أعطوا كل ذي حق‬
‫حقه‪ ،‬وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته؛ فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم‬
‫المعلول‪ ،‬ول للمعلول السقيم بحكم الصحيح‪ ،‬بل قبلوا ما يقبل‪ ،‬ورّدوا ما‬
‫يرد«)‪.(6‬‬
‫ويقول الشيخ سلمان العودة ‪ -‬حفظه الله تعالى ‪ -‬في هذا المقام‪ ...» :‬ففي‬
‫مجال الجرح والتعديل المعاصر تعود الكثيرون إما أن يثقوا بالرجل ثقة‬
‫مطلقة ل مثنوية فيها‪ ،‬ويقلدوه في الجليل والحقير وإما أن يسقطوه من‬
‫ل‪ .‬ومن عجب أنهم أحياًنا ينتقلون من‬ ‫الحساب‪ ،‬فل يقبلوا منه صرًفا ول عد ً‬
‫النقيض إلى النقيض‪ ،‬فذاك الذي كان بالمس ملء أسماعنا وأبصارنا‪ ،‬أصبحنا‬
‫اليوم ل نملك إزاءه سمًعا ول بصًرا! وهذه من ثمرات الندفاع العاطفي غير‬
‫البصير؛ فإن العاطفة إذا طغت سريعة التقلب ل تعرف الستقرار والثبات‪.‬‬
‫سمعت أحدهم يقول على لسان طائفة‪ :‬فلن أخطأ في مسألة كذا فل نسمع‬
‫منه شيًئا! حسًنا ‪ ..‬إذا ً فأنتم ل تسمعون إل من المعصومين؟! ومن أين لكم‬
‫بهم؟! ل سبيل أمامكم إل أحد سبيلين‪:‬‬
‫ّ‬
‫أولهما‪ :‬أل تستمعوا من أحد؛ لنه ما من أحد إل ويخطئ‪ ،‬قل خطؤه أم كثر‪،‬‬
‫ومعنى ذلك أن تعتمدوا على أنفسكم فل تنتفعوا بشيخ‪ ،‬ول تجلسوا إلى فقيه‪،‬‬
‫م‬‫ول تسمعوا إلى داع ول تقتبسوا من مفكر‪ ،‬ثم من قال إنكم ل تخطئون؟ ول ِ َ‬
‫م تفترضوا أن المسألة التي تنقمونها على فلن أو فلن أنه هو المصيب‬ ‫لَ ْ‬
‫وأنتم المخطئون؟‬
‫أما السبيل الثاني‪ :‬فهو أن تسلكوا مسلك الفرق الضالة التي اخترعت لها‬
‫»معصومين« وإن كانوا في الحقيقة »معدومين«‪ ،‬وجعلت قولهم تشريًعا‪،‬‬
‫والّراد عليهم راًدا على الله تعالى‪ ،‬وهو على حد الشرك بالله‪ ،‬ول يستغربن‬
‫هذا الكلم أحد‪ ،‬أو يظن أنه يستحيل أن يحدث من بعض المسلمين؛ فإن من‬
‫الناس من يقول هذا بلسان الحال إن لم يقله بلسان المقال«)‪.(7‬‬
‫ويقول ‪ -‬حفظه الله تعالى ‪ -‬في موطن آخر مبيًنا ظهور طرفي الفراط‬
‫والتفريط في المواقف من الكتب‪ ،‬والمؤلفات‪ ،‬وما فيها من أخطاء المؤلفين‬
‫فيقول‪» :‬هل يتربى قراؤنا ‪ -‬وخاصة من الشباب ‪ -‬على »الموضوعية«‬
‫والعتدال في أحكامهم على الكتب؛ بحيث يستطيع القارئ أن يأخذ من‬

‫‪70‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الكتاب جوانبه اليجابية التي أصاب فيها‪ ،‬ويدع ما سوى ذلك‪ ،‬أم أن الشباب ‪-‬‬
‫أعني كثيًرا منهم ‪ -‬ل يبيعون ويشترون إل »بالجملة«! فإما أن يكون الكتاب‬
‫ل‪ .‬ونحن أناس ل توسط بيننا!‬ ‫دا‪ ،‬وإما أن يكون خطأ ً وباط ً‬ ‫قا ومعتم ً‬
‫كله موث ً‬
‫وصلة الكتاب بالمؤلف عريقة وعميقة ‪ ..‬ولذا فإن البعض يتعامل مع الكتب‬
‫من خلل مؤلفيها فحسب؛ فمؤلفات زيد كلها حسنة ومفيدة‪ ،‬ومؤلفات عبيد‬
‫كلها على الضد من ذلك‪ .‬نعم ‪ ..‬هنالك مؤلفون غالب ما يكتبونه صالح‪ ،‬وهناك‬
‫آخرون ل يحسنون إل الهدم‪ ،‬فل يأتي من يحتج مثل ً بمؤلفات أهل الضللة ‪..‬‬
‫ل‪ .‬الكلم في مجال الدراسات السلمية وما يتعلق بها‪ .‬وغيرها له حديث‬
‫آخر‪ ،‬ومن الناحية الواقعية فإن أي كتاب ‪ -‬غير كتاب الله تعالى ‪ -‬ل يسلم من‬
‫الخطأ والنقص مهما بالغ مؤلفه في تحريره والعناية به«)‪.(8‬‬
‫الموقف العدل الوسط المتوازن‪:‬‬
‫وأهله هم الذين ذكرهم ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في ما سبق وسماهم‬
‫بالطائفة الثالثة حيث قال عنهم‪» :‬وهم أهل العدل والنصاف الذين أعطوا‬
‫كل ذي حق حقه‪ ،‬وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته‪ ،‬فلم يحكموا للصحيح بحكم‬
‫السقيم المعلول‪ ،‬ول للمعلول السقيم بحكم الصحيح؛ بل قبلوا ما ُيقبل‪،‬‬
‫وردوا ما يرد«)‪ (9‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫أي أنهم لم يقعوا فيما وقع فيه أهل الغلو والفراط المضخمين للخطاء‪،‬‬
‫المهدرين لحق من وقع منه الخطأ‪ ،‬والمهدرين لحسناتهم‪ ،‬المتهمين لنياتهم‪،‬‬
‫بل حفظوا لهم حقوقهم‪ ،‬ولم ينسوا لهم بلءهم وجهادهم وحسناتهم‪ ،‬ووضعوا‬
‫أخطاءهم في حجمها الذي تستحقه‪ ،‬ووازنوا بين حسناتهم وسيئاتهم‪ .‬وفي‬
‫المقابل لم يذهبوا إلى تقديس الشخاص‪ ،‬وادعاء العصمة لهم ‪ -‬سواء بلسان‬
‫المقال أو الحال ‪ -‬بل نظروا للمخطئين بأنهم غير معصومين‪ ،‬ولم يدفعهم‬
‫حبهم وأدبهم مع شيوخهم إلى تقليدهم في كل ما يقولونه‪ ،‬أو أن يسحبوا ذيل‬
‫الحسن على كل ما يفعلونه‪.‬‬
‫______________‬
‫)‪ (1‬نزهة الفضلء‪.(1/504) :‬‬
‫)‪ (2‬مجموع الفتاوى‪.(67 ،11/66) :‬‬
‫)‪ (3‬بدائع التفسير‪.(2/105) :‬‬
‫)‪ (4‬سير أعلم النبلء‪ ،(3/150) :‬ومعنى‪) :‬صلى عليه( أي‪ :‬دعا له‪.‬‬
‫)‪ (5‬إعلم الموقعين‪.(3/358) :‬‬
‫)‪ (6‬مدارج السالكين‪ (224-2/220) :‬باختصار‪ .‬ط‪ .‬دار طيبة‪.‬‬

‫)‪(73 /‬‬

‫)‪ (7‬مقالت في المنهج‪) :‬ص ‪.(82 ،81‬‬


‫)‪ (8‬المصدر نفسه‪) :‬ص ‪.(87 ،86‬‬
‫)‪ (9‬مدارج السالكين‪ (2/224) :‬ط‪ .‬دار طيبة‪.‬‬
‫وبعد وضوح الموقف العدل وما يكتنفه من الطرفين المذمومين أسوق فيما‬
‫يلي نماذج رفيعة لقوال السلف‪ ،‬ومواقفهم العادلة من أخطاء المخالفين‬
‫وردودهم على بعضهم؛ تمثل المنهج العدل المتوازن الذي يجب على كل‬
‫مسلم وبخاصة طلب العلم والدعاة أن يأخذوا به ويتعاملوا مع بعضهم في‬
‫ضوئه وهداه)*(‪:‬‬
‫ت على عائشة‪ ،‬فقالت‪:‬‬ ‫سة قال‪ :‬دخل ُ‬ ‫ما َ‬ ‫النموذج الول‪ :‬عن عبدالرحمن بن ُ‬
‫ش َ‬
‫حديج في غزاتكم‬‫جد ُْتم ابن ُ‬
‫ت‪ :‬من أهل مصر‪ .‬قالت‪ :‬كيف و َ‬ ‫ممن أنت؟ قل ُ‬

‫‪71‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ل مكاَنه بعيًرا‪،‬‬ ‫س ول بعيٌر إل ّ أبد َ‬ ‫ف لرجل مّنا فر ٌ‬ ‫خي َْر أمير؛ ما يق ُ‬ ‫ت‪َ :‬‬ ‫هذه؟ قل ُ‬
‫دثكم ما‬ ‫ن أح ّ‬ ‫ُ‬
‫ما‪ ،‬قالت‪ :‬إنه ل يمنعني قتله أخي أ ْ‬ ‫ُ‬
‫ه غل ً‬ ‫َ‬
‫م إل أبدل مكان َ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ول غل ٌ‬
‫م من‬ ‫من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إني سمعته يقول‪» :‬اللهُ ّ‬ ‫ت ِ‬ ‫سمع ُ‬
‫ق‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬
‫ش‬ ‫فا‬ ‫عليهم‬ ‫ق‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫ومن‬ ‫به‪،‬‬ ‫ق‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫فار‬ ‫بهم‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫َ‬
‫فر‬ ‫ً‬
‫ئا‬ ‫شي‬ ‫أمتي‬ ‫ولي من أمر ُ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫عليه«)‪.(1‬‬
‫النموذج الثاني‪ :‬قال يونس الصدفي‪ :‬ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته‬
‫ما في مسألة‪ ،‬ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا أبا موسى أل‬ ‫يو ً‬
‫يستقيم أن نكون إخواًنا وإن لم نتفق في مسألة)‪.(2‬‬
‫النموذج الثالث‪ :‬عن يونس بن عبد العلى قال‪ :‬قال لي الشافعي‪» :‬يا يونس‬
‫إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره العداوة وقطع الولية‬
‫ل له‪ :‬بلغني عنك كذا وكذا‪،‬‬ ‫فتكون ممن أزال يقينه بشك‪ ،‬ولكن ألقه وقُ ْ‬
‫واحذر أن تسمي له المبّلغ؛ فإن أنكر ذلك فقل له‪ :‬أنت أصدق وأبر‪ .‬ل تزيدن‬
‫على ذلك شيًئا‪ ،‬وإن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجًها لعذر فاقبل منه‪،‬‬
‫وإن لم تر ذلك فقل له‪ :‬ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ما له وجه من‬
‫العذر فاقبل منه‪ ،‬وإن لم تر لذلك وجًها لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ‬
‫أثبتها عليه سيئة‪ ،‬ثم أنت في ذلك بالخيار؛ إن شئت كافأته بمثله من غير‬
‫زيادة‪ ،‬وإن شئت عفوت عنه والعفو أقرب للّتقوى وأبلغ في الكرم؛ لقول الله‬
‫َ‬ ‫ة مث ْل ُها فَمن ع َ َ َ‬
‫ه( )الشورى‪:‬‬ ‫جُرهُ عََلى الل ّ ِ‬ ‫صل َ َ‬
‫ح فَأ ْ‬ ‫فا وَأ ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫سي ّئ َ ٌ ِ َ‬ ‫سي ّئ َةٍ َ‬
‫جَزاُء َ‬ ‫تعالى‪) :‬وَ َ‬
‫من الية ‪ (40‬فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فأفكر فيما سبق له لديك من‬
‫ن باقي إحسانه‬ ‫خس ّ‬ ‫الحسان فعدها ثم ابدر له إحساًنا بهذه السيئة‪ ،‬ول تب ْ َ‬
‫السالف بهذه السيئة؛ فإن ذلك الظلم بعينه‪ .‬يا يونس إذا كان لك صديق فشد‬
‫يديك به‪ ،‬فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل«)‪.(3‬‬
‫النموذج الرابع‪ :‬قال الذهبي في ترجمته لصاحب الندلس الناصر لدين الله‪:‬‬
‫دهم‪ ،‬فأعدُتها بزوائد َ وفوائد‪ ،‬وإذا كان الرأس‬ ‫مَته مع ج ّ‬ ‫ت ترج َ‬ ‫ت ذكر ُ‬ ‫»وقد كن ُ‬
‫مة في الجهاد‪ ،‬احُتملت له هََنات‪ ،‬وحساُبه على الله‪ ،‬أما إذا أمات‬ ‫ي اله ّ‬‫عال َ‬
‫ن رّبك لبالمرصاد«)‪.(4‬‬ ‫م العباد‪ ،‬وللخزائن أباد‪ ،‬فإ ّ‬ ‫َ‬
‫الجهاد‪ ،‬وظل َ‬
‫النموذج الخامس‪ :‬وقال في ترجمته لمحمد بن نصر المروزي‪» :‬ولو أّنا كلما‬
‫أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوًرا له‪ ،‬قمنا عليه وبدعناه‬
‫وهجرناه لما سلم معنا ل ابن نصر ول ابن منده ول من هو أكبر منهما‪ .‬والله‬
‫هو هادي الخلق إلى الحق‪ ،‬وهو أرحم الراحمين‪ ،‬فنعوذ بالله من الهوى‬
‫والفظاظة)‪.(5‬‬
‫النموذج السادس‪ :‬كان إسحاق بن راهويه ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬يشيد بعلم‬
‫المام أبي عبيد القاسم بن سلم ويقول‪» :‬الحق يحبه الله عز وجل‪ :‬أبو عبيد‬
‫القاسم بن سلم أفقه مني وأعلم مني«)‪ .(6‬وكان أحمد بن حنبل ‪ -‬رحمه‬
‫الله تعالى ‪ -‬يقول في إسحاق‪» :‬لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق‪،‬‬
‫ضا«)‪.(7‬‬ ‫وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بع ً‬
‫النموذج السابع‪ :‬قال الذهبي في ترجمة قتادة ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬وهو‬
‫حجة بالجماع إذا بين السماع؛ فإنه مدلس معروف بذلك‪ ،‬وكان يرى القدر‬
‫نسأل الله العفو ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه ولعل‬
‫الله يعذ ُُر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه‪ ،‬وبذل‬
‫ن الكبير من‬ ‫وسعه‪ ،‬والله حكم عدل لطيف بعباده‪ ،‬ول يسأل عما يفعل‪ .‬ثم إ ّ‬
‫م تحّريه للحق‪ ،‬واّتسع علمه‪ ،‬وظهر ذكاؤه‪،‬‬ ‫عل َ‬ ‫أئمة العلم إذا ك َث َُر صواُبه‪ ،‬و ُ‬
‫عه واتباعه‪ُ ،‬يغفر له زلله‪ ،‬ول نضلله ونطرحه‪ ،‬وننسى‬ ‫حه وور ُ‬ ‫عرف صل ُ‬ ‫و ُ‬
‫محاسنه‪ .‬نعم ول نقتدي به في بدعته وخطئه‪ ،‬ونرجو له التوبة من ذلك«)‪.(8‬‬

‫‪72‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫النموذج الثامن‪ :‬يقول ابن رجب ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬أكثر الئمة غلطوا في‬
‫مسائل يسيرة مما ل يقدح في إمامتهم وعلمهم‪ ،‬فكان ماذا؟ لقد انغمر ذاك‬
‫في محاسنهم ‪،‬وكثرة وصوابهم‪ ،‬وحسن مقاصدهم‪ ،‬ونصرهم للدين‪.‬‬
‫والنتصاب للتنقيب عن زلتهم ليس محموًدا ول مشكوًرا‪ ،‬ل سيما في فضول‬
‫المسائل التي ل يضر فيها الخطأ ول ينفع فيها كشف خطئهم وبيانه«)‪.(9‬‬

‫)‪(74 /‬‬

‫ل‪ ،‬وأحسن‬ ‫ضا‪ ..» :‬فرحم الله من أساء الظن بنفسه علما ً وعمل ً وحا ً‬ ‫وقال أي ً‬
‫ل‪ ،‬ولم يهجم على‬ ‫صا ومن السلف كما ً‬ ‫الظن بمن سلف‪ ،‬وعرف من نفسه نق ً‬
‫أئمة الدين ‪ ...‬وإن أنت أبيت النصيحة ‪ ...‬وصار شغلك الرد على أئمة‬
‫عجًبا‪ ،‬ول‬ ‫المسلمين والتفتيش عن عيوب أئمة الدين فإنك ل تزداد لنفسك إل ُ‬
‫دا‪ ،‬ومن الباطل إل قرًبا«)‬ ‫لطلب العلو في الرض إل حًبا‪ ،‬وعن الحق إل بع ً‬
‫‪.(10‬‬
‫النموذج التاسع‪ :‬يقول المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬ومن له علم‬
‫بالشرع والواقع يعلم قطًعا أن الرجل الجليل الذي له في السلم قدم صالح‪،‬‬
‫وآثار حسنة‪ ،‬وهو من السلم وأهله بمكان‪ ،‬قد تكون منه الهفوة والزلة‪ ،‬هو‬
‫فيها معذور‪ ،‬بل ومأجور لجتهاده‪ ،‬فل يجوز أن ُيتبع فيها‪ ،‬ول يجوز أن تهدر‬
‫مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين«)‪.(11‬‬
‫وي ُط َّبق هذا عملًيا في موقفه من شطحات الهروي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في‬
‫منازل السائرين عندما شرحها ابن القيم في مدارج السالكين ورد عليها‪،‬‬
‫فتراه بعد ذلك يعقب فيقول‪» :‬ولول أن الحق لله ورسوله‪ ،‬وأن كل ما عدا‬
‫الله ورسوله فمأخوذ من قوله ومتروك‪ ،‬وهو عرضة الوهم والخطأ‪ ،‬لما‬
‫اعترضنا على من ل نلحق غبارهم‪ ،‬ول نجري معهم في مضمارهم‪ ،‬ونراهم‬
‫فوقنا في مقامات اليمان‪ ،‬ومنازل السائرين‪ ،‬كالنجوم الدراري‪ .‬ومن كان‬
‫صا وخلل ً فليهد إلينا‬ ‫عنده علم فليرشدنا‪ ،‬ومن رأى في كلمنا زيًغا‪ ،‬أو نق ً‬
‫الصواب‪ ،‬نشكر له سعيه‪ ،‬ونقابله بالقبول والذعان والنقياد والتسليم‪ ،‬والله‬
‫أعلم وهو الموفق«)‪.(12‬‬
‫ويقول ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬بعد رده على الهروي في منزلة التوبة بعض‬
‫شطحاته‪» :‬ول توجب هذه الزلة من شيخ السلم)*( إهدار محاسنه‪ ،‬وإساءة‬
‫الظن به؛ فمحله من العلم والمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك‬
‫المحل الذي ل يجهل‪ .‬وكل أحد فمأخوذ من قوله ومترك إل المعصوم صلوات‬
‫الله وسلمه عليه‪ .‬والكامل من عُد ّ خطؤه؛ ول سيما في مثل هذا المجال‬
‫الضنك‪ ،‬والمعترك الصعب؛ الذي َزّلت فيه أقدام‪ ،‬وضلت فيه أفهام‪ ،‬وافترقت‬
‫بالسالكين فيه الطرقات‪ ،‬وأشرفوا ‪ -‬إل أقلهم ‪ -‬على أودية الهلكات«)‪.(13‬‬
‫وفي رّده ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬على زلة كبيرة للهروي في منزلة )التلبيس(‬
‫يعقب على ذلك فيقول‪» :‬شيخ السلم)*( حبيبنا‪ ،‬ولكن الحق أحب إلينا منه‪.‬‬
‫وكان شيخ السلم ابن تيمية رحمه الله يقول‪) :‬عمله خير من علمه(‪ .‬وصدق‬
‫رحمه الله؛ فسيرته بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وجهاد أهل البدع ل‬
‫يشق له فيها غبار‪ ،‬وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله‪ .‬وأبى‬
‫الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي ل ينطق عن الهوى‬
‫ظا ومعنى«)‪.(14‬‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪ .‬وقد أخطأ في هذا الباب لف ً‬
‫النموذج العاشر‪ :‬رسالة الليث بن سعد إلى المام مالك ‪ -‬رحمهما الله تعالى‬
‫م عليك‪ ،‬فإني أحمد الله إليك الذي ل إله إل ّ هو‪.‬‬ ‫‪ -‬ومما جاء فيها‪» :‬سل ٌ‬

‫‪73‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أما بعد‪ :‬عافانا الله وإياك‪ ،‬وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫قد بلغني كتاُبك تذكر فيه من صلح حالكم الذي يسرني‪ ،‬فأدام الله ذلك لكم‪،‬‬
‫مه بالعون على شكره‪ ،‬والزيادة من إحسانه‪ ،‬وذكرت نظرك في الكتب‬ ‫وأت ّ‬
‫ت بها إليك‪ ،‬وإقامتك إياها‪ ،‬وختمك عليها بخاتمك وقد أتتنا‪ ،‬فجزاك‬ ‫ُ‬ ‫بعث‬ ‫التي‬
‫الله عما قدمت منها خيًرا‪ ،‬فإنها كتب انتهت إلينا عنك‪ ،‬فأحببت أن أبلغ‬
‫حقيقتها بنظرك فيها‪.‬‬
‫ت إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى‬ ‫شطك ما كتب ُ‬ ‫وذكرت أنه قد أن َ‬
‫ابتدائي بالنصيحة‪ ،‬ورجوت أن يكون لها عندي موضع وأنه لم يمنعك من ذلك‬
‫ل‪ ،‬إل ّ أني لم أذاكرك مثل هذا‪ ،‬وأنه بلغك‬
‫فيما خل إل أن يكون رأيت فينا جمي ً‬
‫أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم‪ ،‬وإني يحق علي‬
‫الخوف على نفسي لعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به‪ ،‬وَأن الناس تبعٌ لهل‬
‫المدينة التي إليها كانت الهجرة‪ ،‬وبها نزل القرآن‪.‬‬
‫وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى‪ ،‬ووقع مني بالموقع‬
‫شواذ ّ الفتيا‪ ،‬ول أشد تفضيل‬
‫دا ُينسب إليه العلم أكره ل َ‬‫الذي تحب‪ ،‬وما أجد أح ً‬
‫فْتياهم فيما اتفقوا عليه مني‪،‬‬
‫وا‪ ،‬ول آخذ ل ُ‬
‫ض ْ‬
‫م َ‬
‫لعلماء أهل المدينة الذين َ‬
‫والحمد لله رب العالمين ل شريك له‪.‬‬
‫وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة‪ ،‬ونزول‬
‫القرآن بها عليه بين ]ظهراني[)‪ (15‬أصحابه‪ ،‬وما علمهم الله منه‪ ،‬وأن الناس‬
‫صاروا به تبًعا لهم فيه‪ ،‬فكما ذكرت‪.‬‬

‫)‪(75 /‬‬

‫ن‬
‫ري َ‬ ‫ج ِ‬
‫مَها ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن اْل َوُّلو َ‬
‫ن ِ‬ ‫قو َ‬ ‫ساب ِ ُ‬ ‫وأما ما ذكرت من قول الله تعالى‪َ) :‬وال ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ت‬
‫جّنا ٍ‬
‫م َ‬ ‫ه وَأعَد ّ لهُ ْ‬ ‫ضوا عَن ْ ُ‬ ‫م وََر ُ‬ ‫ه عَن ْهُ ْ‬‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ن َر ِ‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫م ب ِإ ِ ْ‬
‫ن ات ّب َُعوهُ ْ‬‫ذي َ‬ ‫صارِ َوال ّ ِ‬ ‫َواْلن ْ َ‬
‫م( )التوبة‪ .(100:‬فإن‬ ‫ظي ُ‬‫فوُْز ال ْعَ ِ‬ ‫ن ِفيَها أ ََبدا ً ذ َل ِ َ‬
‫ك ال ْ َ‬ ‫دي َ‬ ‫حت ََها اْل َن َْهاُر َ‬
‫خال ِ ِ‬ ‫ري ت َ ْ‬ ‫ج ِ‬‫تَ ْ‬
‫كثيرا من أولئك السابقين الّولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاَء‬ ‫ً‬
‫مرضاة الله‪ ،‬فجّندوا الجناد‪ ،‬واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهْران َْيهم‬
‫كتاب الله وسنة نبيه‪ ،‬ولم يكتموهم شيًئا علموه ‪ ...‬وكان من خلف ربيعة‬
‫لبعض ما مضى ما قد عرفت‪ ،‬وحضرت وسمعت قولك فيه‪ ،‬وقول ذوي الرأى‬
‫من أهل المدينة‪ :‬يحيى بن سعيد‪ ،‬وعبيد الله بن عمر‪ ،‬وكثير بن َفرقد‪ ،‬وغير‬
‫ن منه‪ ،‬حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه‪.‬‬ ‫س ّ‬ ‫كثير ممن هو أ َ‬
‫وذاكرُتك أنت وعبدالعزيز بن عبدالله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك‪،‬‬
‫فكنتما من الموافقين فيما أنكرت؛ تكرهان منه ما أكرهه‪ ،‬ومع ذلك بحمد الله‬
‫عند ربيعة خير كثير‪ ،‬وعقل أصيل‪ ،‬ولسان بليغ‪ ،‬وفضل مستبين‪ ،‬وطريقة‬
‫ة في السلم‪ ،‬ومودة صادقة لخوانه عامة‪ ،‬ولنا خاصة‪ ،‬رحمه الله‪ ،‬وغفر‬ ‫سن ٌ‬ ‫ح َ‬ ‫َ‬
‫له‪ ،‬وجزاه بأحسن ما عمله ‪] ...‬إلى أن قال في ختام رسالته[‪ .‬وأنا أحب‬
‫توفيق الله إياك وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة‪ ،‬وما‬
‫ت الداُر‪ ،‬فهذه‬ ‫َ‬
‫ب مثلك مع استئناسي بمكانك‪ ،‬وإن ن َأ ْ‬ ‫أخاف من الضيعة إذا ذهِ َ‬
‫ي بخبرك وحالك‬ ‫ب إل ّ‬ ‫قْنه‪ ،‬ول تترك الكتا َ‬ ‫ستي ِ‬ ‫منزلتك عندي‪ ،‬ورأيى فيك فا ْ‬
‫ل بك‪ ،‬فإّني أسّر بذلك‪.‬‬ ‫ص ُ‬‫دك وأهلك‪ ،‬وحاجةٍ إن كانت لك‪ ،‬أو لحد ٍ ُيو َ‬ ‫وحال ول ِ‬
‫كتبت إليك‪ ،‬ونحن صالحون‪ ،‬معافون‪ ،‬والحمد لله‪.‬‬
‫نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولينا‪ ،‬وتمام ما أنعم به علينا‪ ،‬والسلم‬
‫عليك‪ ،‬ورحمة الله«)‪.(16‬‬
‫ديق حسن خان ‪-‬‬ ‫النموذج الحادي عشر‪ :‬رسالة الشيخ حمد بن عتيق إلى ص ّ‬

‫‪74‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫رحمهما الله تعالى ‪ -‬وما فيها من العدل والنصاف والدب الجم بين أهل‬
‫العلم ‪ -‬وإن اختلفوا ‪ -‬وهي رسالة طويلة اقتطف منها ما يلي‪:‬‬
‫»من حمد بن عتيق إلى المام المعظم والشريف المقدم المسمى محمد‬
‫الملقب صديق زاده الله من التحقيق وأجاره في مآله من عذاب الحريق‪.‬‬
‫السلم عليكم ورحمة الله وبركاته‪ ،‬وبعد‪ :‬فالموجب للكتاب إبلغ السلم‬
‫والتحفي والكرام؛ شيد الله بك قواعد السلم‪ ،‬ونشر بك السنن والحكام‪.‬‬
‫اعلم وفقك الله أنه كان يبلغنا أخبار سارة بظهور أخ صادق ذي فهم راسخ‬
‫وطريقة مستقيمة يقال له صديق فنفرح بذلك ونسر؛ لغرابة الزمان وقلة‬
‫طة وتحرير‬ ‫ح ّ‬‫الخوان وكثرة أهل البدع والغلل‪ ،‬ثم وصل إلينا كتاب ال ِ‬
‫حا وحمدنا لربنا العظيم لكون ذلك من‬ ‫الحاديث في تلك الفصول‪ ،‬فازددنا فر ً‬
‫فضل الله علينا وعلى الناس‪ .‬وكان لي ابن يتشبث بالعلم ويحب الطلب‪،‬‬
‫فجعل يتوق إلى اللحوق بكم والتخرج عليكم واللتقاط من جواهركم؛ لذهاب‬
‫العلم في أقطارنا وعموم الجهل وغلبة الهواء‪ .‬فبينما نحن كذلك إذ وصل‬
‫إلينا التفسير بكماله فرأينا أمًرا عجيًبا ما كنا نظن أن الزمان يسمح بمثله وما‬
‫قرب منه؛ لما من التفاسير التي تصل إلينا من التحريف والخروج عن طريقة‬
‫الستقامة‪ ،‬وحمل كلم الله على غير مراد الله‪ ،‬وركوب التفاسير في حمله‬
‫على المذاهب الباطلة‪ ،‬وجعلت السنة كذلك‪ ،‬فلما نظرنا في ذلك التفسير‬
‫تبين لنا حسن قصد منشيه‪ ،‬وسلمة عقيدته‪ ،‬وتبعده من تعمد مذهب غير ما‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫عليه السلف الكرام‪ .‬فعلمنا أن ذلك من قبيل قوله سبحانه‪) :‬وَعَل ّ ْ‬
‫مَناه ُ ِ‬
‫عْلمًا( )الكهف‪ :‬من الية ‪.(65‬‬
‫ل َد ُّنا ِ‬

‫)‪(76 /‬‬

‫دا كثيًرا طيًبا كما يحب ربنا ويرضى‪ ،‬وذلك فضل‬ ‫فالحمد لله رب العالمين حم ً‬
‫الله يؤتيه من يشاء الله ذو الفضل العظيم؛ فزاد اشتياق التائق وتضاعفت‬
‫رغبته‪ ،‬ولكن العوائق كثيرة والمثبطات مضاعفة‪ ،‬والله على كل شيء قدير‬
‫فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس‪ .‬فمن العوائق تباعد‬
‫الديار وطول المسافات؛ فإن مقرنا في فلج اليمامة‪ ،‬ومنها خطر الطريق‬
‫وكثرة القطاع وتسلط الحرامية في نهب الموال واستباحة الدماء وإخافة‬
‫السبيل‪ ،‬ومنها ما في الطريق من أهل البدع والضلل بل وأهل الشرك من‬
‫رافضي وجهمي إلى معتزلي ونحوهم؛ وكلهم أعداء قاتلهم الله‪ .‬ربنا آتنا من‬
‫لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا‪ .‬ومع ذلك فنحن نرجو أن يبعث الله لهذا‬
‫الدين من ينصره‪ ،‬وأن يجعلنا من أهله‪ ،‬وأن يسهل الطريق ويرفع الموانع‪،‬‬
‫ن الله به عليكم من‬ ‫ونسأله أن يمن بذلك فهو القادر عليه‪ .‬ولما رأينا ما م ّ‬
‫التحقيق وسعة الطلع‪ ،‬وعرفنا تمكنكم من اللت‪ ،‬وكانت نونية ابن القيم‬
‫المسماة بالكافية الشافية في النتصار للفرقة الناجية بين أيدينا‪ ،‬ولنا بها‬
‫عناية ولكن أفهامنا قاصرة وبضاعتنا مزجاة من أبواب العلم جملة‪ ،‬وفيها‬
‫دا تصدى لشرحها؛ غلب على‬ ‫مواضع محتاجة إلى البيان‪ ،‬ولم يبلغنا أن أح ً‬
‫الظن أنك تقدر على ذلك‪ .‬فافعل ذلك يكن من مكاسب الجور وهي واصلة‬
‫إليك إن شاء الله‪ ،‬فاجعل قَِراها شرحها وبيان معناها‪ ،‬وأصلح في النية ذلك‬
‫تكن حرًبا لجميع أهل البدع؛ فإنها لم تبق طائفة منهم إل ردت عليها فهذان‬
‫ن ب َعِْثها إليك‪ :‬أحدهما‪ :‬شرحها‪ ،‬والثاني‪ :‬الستعانة بها على الرد‬ ‫م ْ‬
‫مقصدان ِ‬
‫على أهل البدع؛ لن مثلك يحتاج إلى ذلك؛ لكونك في زمان الغربة وبلد‬
‫صا على ذلك فعليك بكتاب العقل والنقل‪ ،‬والتسعينية‬ ‫الغربة‪ ،‬فإن كنت حري ً‬

‫‪75‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫لشيخ السلم ابن تيمية وكتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة‬
‫والجيوش السلمية لبن القيم‪ ،‬ونحوهن من كتبهما فإن فيها الهدى والشفاء‪.‬‬
‫ولنا مقصد رابع مهم وهو أن هذا التفسير العظيم وصل إلينا في شعبان سنة‬
‫سبع وتسعين ومائتين وألف ‪1297‬هجرية‪ ،‬فنظرت فيه وفي هذا الشهر وفي‬
‫شوال‪ ،‬فتجهز الناس للحج ولم أتمكن إل من بعضه ومع ذلك وقفت فيه على‬
‫مواضع تحتاج إلى تحقيق‪ ،‬وظننت أن لذلك سببين أحدهما‪ :‬أنه لم يحصل‬
‫منكم إمعان نظر في هذا الكتاب بعد إتمامه‪ ،‬والغالب على من صنف الكتب‬
‫كثرة ترداده وإبقائه في يده سنين يبديه ويعيده‪ ،‬ويمحو ويثبت؛ ويبدل‬
‫العبارات؛ حتى يغلب على ظنه الصحة غالًبا‪ ،‬ولعل الصحاب عاجلوك بتلقيه‬
‫قبل ذلك‪ .‬والثاني‪ :‬أن ظاهر الصنيع أنك أحسنت الظن ببعض المتكلمة‪،‬‬
‫ضا بمعناه‪ ،‬فدخل عليك شيء من ذلك‬ ‫ضا بلفظه وبع ً‬ ‫وأخذت من عباراتهم بع ً‬
‫ولم تمعن النظر فيها ‪ -‬ولهم عبارات مزخرفة فيها الداء العضال ‪ -‬وما دخل‬
‫عليك من ذلك فنقول‪ :‬إن شاء الله بحسن القصد واعتماد الحق وتحري‬
‫الصدق والعدل‪ .‬وهو قليل بالنسبة إلى ما وقع فيه كثير ممن صنف في‬
‫التفسير وغيره‪ .‬وإذا نظر السني المنصف في كثير من التفاسير وشرح‬
‫الحديث وجد قّلته وما هو أكثر منه وقد سلكتم في هذا التفسير في مواضع‬
‫منه مسلك أهل التأويل مع أنه قد وصل إلينا لكم رسالة في ذم التأويل‬
‫مختصرة‪ ،‬وهي كافية ومطلعة على أن ما وقع في التفسير صدر من غير‬
‫تأمل وأنه من ذلك القليل‪ .‬وكذلك في التفسير من مخالفة أهل التأويل ما‬
‫يدل على ذلك‪ .‬وأنا اجترأت عليك ‪ -‬وإن كان مثلي ل ينبغي له ذلك ‪ -‬لنه‬
‫غلب على ظني إصغاؤك إلى التنبيه‪ ،‬ولن من أخلق أئمة الدين قبول التنبيه‬
‫والمذاكرة‪ ،‬وعدم التكبر وإن كان القائل غير أهل‪ ،‬ولنه بلغني عن بعض من‬
‫اجتمع بك أنك تحب الجتماع بأهل العلم وتحرص على ذلك وتقبل العلم ولو‬
‫ممن هو دونك بكثير؛ فرجوت أن ذلك عنوان توفيق جعلك الله كذلك وخيًرا‬
‫من ذلك‪...‬‬
‫فنسأل الله أن يلحقنا بآثار الموحدين‪ ،‬وأن يحشرنا في زمرة أهل السنة‬
‫حا لله ورسوله‪،‬‬ ‫والجماعة بمّنه وكرمه‪ .‬وقد اجترأت عليك بمثل هذا الكلم نص ً‬
‫رجاء من الله أن ينفع بك في هذا الزمان الذي ذهب فيه العلم النافع ولم‬
‫يبق إل رسومه‪ ،‬وأنا انتظر منك الجواب ورد ما صدر مني من الخطاب‪ .‬ثم‬
‫إني لما رأيت الترجمة وقد سمي فيها بعض مصنفاتك‪ ،‬وكنت في بلد قليلة‬
‫فيها الكتب‪ ،‬وقد ابتليت بالدخول في أمور الناس لجل ضرورتهم كما قيل‪:‬‬
‫خل لك الجو فبيضي واصفري‪ .‬وألتمس من جنابك تفضل علينا ببلوغ السؤول‬
‫من أقضية الرسول‪ ،‬والروضة الندية شرح الدرر البهية‪ ،‬ونيل المرام شرح‬
‫آيات الحكام‪.‬‬
‫فنحن في ضرورة عظيمة إلى هذه كلها‪ ،‬فاجعل من صالح أعمالك معونة‬
‫إخوانك ومحبيك بها‪ ،‬وابعث بها إلينا مأجوًرا إن شاء الله تعالى؛ وليكن ذلك‬
‫على يد الخ أحمد بن عيسى الساكن في مكة المكرمة المشرفة‪ ،‬واكتب لنا‬
‫دا منكم من يتلقى هذا العلم ويعتني به ويحفظه‬ ‫فا بأحوالكم‪ .‬ولعل أح ً‬‫تعري ً‬
‫عنك‪ ،‬واحرص على ذلك طمًعا أن يجمع لك شرف الدنيا والخرة‪ ،‬ونسأل الله‬
‫أن يهب لك ذلك‪.‬‬

‫)‪(77 /‬‬

‫‪76‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ثم اعلم أني قد بلغت السبعين‪ ،‬وأنا في معترك العمار ل آمن هجوم المنية‪،‬‬
‫ل‪ ،‬ويليه‬ ‫ولي أولد ثمانية منهم ثلثة يطلبون العلم كبيرهم سعد المذكور أو ً‬
‫عبدالعزيز‪ ،‬وتحته عبداللطيف‪ .‬ونرجو أنهم أهل الكتب وممن يعتز بها‬
‫ب ل ََنا‬ ‫ويحفظها‪ .‬وبقيتهم صغار منهم من هو في المكتب ومن دعائنا‪َ) :‬رب َّنا َ ْ‬
‫ه‬
‫مامًا( )الفرقان‪ :‬من الية‬ ‫َ‬ ‫م َ‬
‫ن إِ َ‬‫قي َ‬ ‫جعَل َْنا ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫ن َوا ْ‬ ‫ٍ‬ ‫جَنا وَذ ُّرّيات َِنا قُّرة َ أعْي ُ‬ ‫ن أْزَوا ِ‬ ‫ِ ْ‬
‫سك ََنا‬ ‫نا‬ ‫م‬ ‫نا‬ ‫ر‬‫ك وأ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫س‬‫م‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫م‬ ‫ك ومن ذ ُريت ِنا أ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫نا‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ع‬‫ج‬ ‫وا‬ ‫نا‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫)‬ ‫(‪،‬‬‫‪74‬‬
‫َ َِ َ َ ِ‬ ‫َ ِ ْ ّ ّ َ ّ ُ ْ َ‬ ‫َ ّ َ َ ْ ََ َ ُ ْ َ ْ ِ‬
‫م( )البقرة‪ ،(128:‬ل تنسنا من صالح دعائك‬ ‫ُ‬ ‫حي‬‫ِ‬ ‫ر‬‫ب ّ‬ ‫ال‬ ‫وا ُ‬ ‫ت الت ّ ّ‬
‫ك أن ْ َ‬ ‫ب عَل َي َْنا إ ِن ّ َ‬‫وَت ُ ْ‬
‫كما هو لك مبذول‪ ،‬والسلم عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على‬
‫صا(‪.‬‬ ‫محمد وآله وصحبه وسلم«)‪ .(17‬ا‪.‬هـ )ملخ ً‬
‫______________‬
‫)*( وفي هديه صلى الله عليه وسلم أمثلة كثيرة للمواقف المتوازنة‬
‫والمعالجات العادلة للخطاء والمنهج الوسط في النقد ما يكفي ويغني‪.‬‬
‫ويكفينا في ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم في طريقة معالجته لخطأ‬
‫حاطب ابن أبي بلتعة ]انظر تفصيل هذه المعالجة في رسالة وإذا قلتم‬
‫فاعدلوا للمؤلف‪ :‬ص ‪.[37-34‬‬
‫)‪ (1‬نزهة الفضلء‪ (1/327) :‬والحديث رواه مسلم‪.(1828) :‬‬
‫)‪ (2‬سير أعلم النبلء‪.(10/16) :‬‬
‫)‪ (3‬صفة الصفوة‪.(253 ،2/252) :‬‬
‫)‪ (4‬سير أعلم النبلء‪.(15/564) :‬‬
‫)‪ (5‬نزهة الفضلء‪.(2/1127) :‬‬
‫)‪ (6‬نزهة الفضلء‪.(2/775) :‬‬
‫)‪ (7‬المصدر نفسه‪.(2/840) :‬‬
‫)‪ (8‬سير إعلم النبلء‪.(5/271) :‬‬
‫)‪ (9‬فقه الئتلف‪) :‬ص ‪.(136‬‬
‫)‪ (10‬المصدر نفسه‪) :‬ص ‪.(206‬‬
‫)‪ (11‬إعلم الموقعين‪.(3/359) :‬‬
‫)‪ (12‬مدارج السالكين‪ (2/394) :‬ط‪ .‬دار طيبة‪.‬‬
‫)*( يقصد بشيخ السلم هنا‪ :‬الهروي‪.‬‬
‫)‪ (13‬مدارج السالكين‪ (1/366) :‬ط‪ .‬دار طيبة‪.‬‬
‫)‪ (14‬مدارج السالكين‪ (4/352) :‬ط‪ .‬دار طيبة‪.‬‬
‫)‪ (15‬كتبت في الصل‪ ،‬ظهرى‪ ،‬والظاهر والله أعلم أن مراده هو ما أثبته‪.‬‬
‫)‪ (16‬إعلم الموقعين‪.(3/110) :‬‬
‫)‪ (17‬رسالة لصديق حسن خان‪ :‬تنبيه له على أخطاء وقعت له في تفسيره‬
‫صا(‪.‬‬ ‫من الشيخ العلمة‪ :‬حمد بن عتيق‪) .‬ملخ ً‬
‫الخاتمة‬
‫الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأسأل الله سبحانه أن يحسن عاقبتنا‬
‫في المور كلها‪ ،‬وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الخرة‪.‬‬
‫وفي ختام هذه الرسالة أقف وقفتين استدرك في أولهما بعض ما فاتني فيها‬
‫من مسائل تتعلق بالموضوع‪ ،‬وأقف في الخرى للخص أهم ما جاء في‬
‫الكتاب من مسائل وموضوعات‪.‬‬
‫أول ً ‪ :‬وقفة الستدراك ‪:‬‬
‫كان من بين أبواب هذه الرسالة مبحث عن السباب المؤدية إلى لزوم‬
‫الوسطية والعدل والتوازن‪ .‬ولكن لما جمعت عناصر هذا الباب وجدته مشابًها‬
‫إلى حد كبير للباب الخير من رسالة )فاستقم كما أمرت()‪ (1‬والذي يبحث‬

‫‪77‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عن السباب المؤدية إلى لزوم الستقامة‪ ،‬ولما كانت الستقامة تحمل معنى‬
‫الوسطية والعدل والتوازن فإني اكتفي بما ذكر هنالك من تفصيل لهذه‬
‫صا سريًعا لبعضها‪:‬‬‫السباب‪ ،‬وأحيل إليها القارئ الكريم وأورد هنا ملخ ً‬
‫‪ -1‬العلم بالشرع والبصيرة في الدين‪:‬‬
‫فكلما وجد العلم بأصول هذا الدين ومقاصده ووزنت الحركات بميزان الشرع‬
‫كانت القوال والفعال والمعتقدات مسددة قويمة عادلة متوازنة‪ .‬وعلى‬
‫العكس من ذلك؛ فإن مجاوزة العدل والوسطية والتوازن في القوال‬
‫والعمال والمعتقد من أسبابها الجهل بهذا الدين وقواعده ومقاصده وأحكامه‬
‫وعدم الوزن بميزان الشرع القويم‪.‬‬
‫يقول المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ ...» :-‬ل يتصور حصول الستقامة‬
‫في القول والعمل والحال إل بعد الثقة بصحة ما معه من العلم‪ ،‬وأنه مقتبس‬
‫من مشكاة النبوة‪ ،‬ومن لم يكن كذلك فل ثقة له ول استقامة«)‪.(2‬‬
‫سا في مجاوزة‬‫كما أن في العلم حرق للشبهات التي عادة ما تكون سبًبا رئي ً‬
‫العدل والوسط‪ :‬إما إلى إفراط‪ ،‬أو إلى تفريط؛ كما هو شأن أهل البدع‬
‫والهواء المتقابلة‪ ،‬والتي تراوح بين الغلو والفراط وبين الجفاء والتفريط‪.‬‬
‫‪ -2‬مصاحبة أهل العلم الربانيين وأهل الحكمة ‪:‬‬
‫ن في مصاحبة أهل العلم الربانيين وأهل الحكمة والتجربة من الدعاة‬ ‫إ ّ‬
‫الصادقين المعروف عنهم العدل والتوازن نفع عظيم؛ لن الصاحب يؤثر على‬
‫صاحبه فينطبع بأخلقه ومنهجه‪ .‬ومما يلحق بذلك مصاحبة السلف الصالح في‬
‫كتبهم وقراءة سيرهم وما كانت عليه من العدل والتوازن والتوسط بين‬
‫الفراط والتفريط‪ .‬فهذا مما ُيؤّثر في صياغة التفكير والسلوك‪.‬‬
‫‪ -3‬مجانبة من يعرف عنهم التسرع في المور ‪:‬‬

‫)‪(78 /‬‬

‫ن في مجانبة من يعرف عنهم التسرع في المور والميل إما إلى الفراط أو‬ ‫إ ّ‬
‫إلى التفريط‪ - ،‬سواء من بعض طلبة العلم المتعجلين أو بعض المنتسبين‬
‫للدعوة الذين زادهم من العلم قليل وحظهم من التجربة والحكمة ضئيل ‪-‬‬
‫ضا يسري على‬ ‫في مجانبتهم حماية من الوقوع في مجاوزة العدل‪ .‬وهذا أي ً‬
‫الكتب والمؤلفات التي يغلب على أصحابها قلة العدل والتوازن‪ ،‬وعدم التأني‬
‫في المواقف والحداث؛ حيث ينبغي العراض عن مثل هذه الكتب والحذر‬
‫منها‪ .‬وأول ما يدخل في هذا كتب أهل البدع والشبهات والهواء والشهوات‬
‫رط أو مضيع مفّرط‪.‬‬ ‫ف ِ‬
‫لم ْ‬
‫الذين هم بين غا ٍ‬
‫‪ -4‬العمل الصالح بأداء الفرائض وكثرة النوافل ‪:‬‬
‫ي مما‬ ‫ي عبدي بشيء أحب إل ّ‬ ‫فقد جاء في الحديث الصحيح‪» :‬وما تقرب إل ّ‬
‫ي بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته‬ ‫افترضته عليه‪ ،‬وما يزال عبدي يتقرب إل ّ‬
‫كنت سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪،‬‬
‫ورجله التي يمشي بها ‪ ...‬الحديث«)‪.(3‬‬
‫فمن هذا الحديث يتبين فضل العمال الصالحة وآثارها في حفظ الله عز‬
‫وجل لعبده المؤمن الذي هذا شأنه؛ وذلك بحفظ جوارحه فل يتحرك إل في‬
‫مرضات الله تعالى‪ ،‬ول يبصر إل بالله‪ ،‬ول يسمع إل بالله؛ ومن هذا شأنه فهو‬
‫الموفق للحق والعدل والسداد‪.‬‬
‫ومن أفضل العمال الصالحة‪ :‬الصلة‪ ،‬والصيام‪ ،‬والذكر‪ ،‬والدعوة إلى الله عز‬
‫دوا ِفيَنا‬
‫جاهَ ُ‬
‫ن َ‬ ‫وجل‪ ،‬والجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال سبحانه‪َ) :‬وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬

‫‪78‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫سب ُل ََنا( )العنكبوت‪ :‬من الية ‪.(69‬‬ ‫م ُ‬‫ل َن َهْدِي َن ّهُ ْ‬


‫‪ -5‬الرفق والناة وعدم التعجل ‪:‬‬
‫إن العجلة والتسرع وترك التؤدة لهي من أخطر البواب التي تدخل منها‬
‫الشبهات والشهوات‪ ،‬وتجعل العبد يميل إما إلى الفراط أو التفريط ‪ -‬سواء‬
‫في المعتقد أو القول أو العمل ‪ -‬والعكس من ذلك في الناة والرفق؛ فإنهما‬
‫غالًبا ما يكونان باًبا إلى التعقل والحكمة والسداد في القول والعمل‪.‬‬
‫‪ -6‬التواصي بالحق والتناصح بين المسلمين ‪:‬‬
‫وهذا من أعظم ما يسد به باب التطرف والغلو والفراط والتفريط؛ فكلما‬
‫كثر التناصح بين المسلمين‪ ،‬والتواصي بالحق‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ ،‬والدعوة إلى الله عز وجل كان في ذلك الهتداء إلى الحق ومدافعة‬
‫الباطل بشبهاته وشهواته‪ .‬وعلى العكس من ذلك؛ فعندما يضعف التناصح‬
‫والتواصي بالحق‪ ،‬ويقل المر والنهي فإن الفكار المنحرفة تنتشر بين الناس‬
‫من غير إنكار‪ ،‬فتتشربها القلوب وتستحسنها العقول‪ ،‬وأصحابها يحسبون أنهم‬
‫يحسنون صنًعا‪.‬‬
‫‪ -7‬الصبر وتقوى الله عز وجل ‪:‬‬
‫ن(‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫سِني َ‬
‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫جَر ال ُ‬‫ضيعُ أ ْ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫صب ِْر فإ ِ ّ‬ ‫ق وَي َ ْ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬‫م ْ‬‫ه َ‬ ‫قال الله عز وجل‪) :‬إ ِن ّ ُ‬
‫)يوسف‪ :‬من الية ‪.(90‬‬
‫َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬وجعل ْنا منه َ‬
‫ن(‬‫كاُنوا ِبآيات َِنا ُيوقُِنو َ‬‫صب َُروا وَ َ‬ ‫ما َ‬ ‫مرَِنا ل َ ّ‬ ‫ن ب ِأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ة ي َهْ ُ‬ ‫م ً‬‫م أئ ِ ّ‬ ‫َ َ َ َ ِ ُْ ْ‬
‫)السجدة‪.(24:‬‬
‫ُ‬
‫موِر( )آل عمران‪:‬‬ ‫ن عَْزم ِ اْل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫قوا فَإ ِ ّ‬ ‫صب ُِروا وَت َت ّ ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫وقال عز وجل‪) :‬وَإ ِ ْ‬
‫من الية ‪.(186‬‬
‫ويقول المام ابن القيم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬فالصبر والتقوى دواء كل داء‬
‫من أدواء الدين ول يستغنى أحدهما عن صاحبه«)‪.(4‬‬
‫ويقول شيخ السلم ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪» :-‬فالتقوى تتناول فعل المأمور‬
‫وترك المحظور‪ ،‬والصبر يتضمن الصبر على المقدور«)‪.(5‬‬
‫إذن فلزوم الستقامة والعدل والتوازن في المور ل بد له من تقوى الله عز‬
‫وجل‪ ،‬والخوف من عقابه‪ ،‬ورجاء ثوابه‪ ،‬والصبر على ذلك؛ لن العلم بالشرع‬
‫ل يكفي وحده في لزوم الوسطية والعدل وإصابة الحق إن لم يكن معه‬
‫التقوى والصبر؛ فكم ممن يتجاوز العدل والحق إما لضعف دينه وتقواه‪ ،‬وإما‬
‫لضعف صبره وتحمله‪.‬‬
‫‪ -8‬دعاء الله عز وجل وسؤاله الهداية إلى الحق ولزومه ‪:‬‬
‫يعد الدعاء من أعظم الوسائل والسباب في لزوم الحق والعدل؛ لن الله عز‬
‫وجل هو الهادي والموفق إلى الحق والعدل‪ ،‬فل هادي لمن أضل ول مضل‬
‫حَياةِ‬‫ت ِفي ال ْ َ‬ ‫ل الّثاب ِ ِ‬
‫قو ْ ِ‬ ‫مُنوا ِبال ْ َ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫ت الل ّ ُ‬ ‫لمن هدى‪ .‬قال الله عز وجل‪) :‬ي ُث َب ّ ُ‬
‫شاُء( )إبراهيم‪.(27:‬‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ل الل ُ‬ ‫فعَ ُ‬ ‫ن وَي َ ْ‬ ‫مي َ‬ ‫ه ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ض ّ‬‫خَرةِ وَي ُ ِ‬ ‫الد ّن َْيا وَِفي اْل ِ‬
‫فمن سأل الله عز وجل الهداية للحق بصدق وإخلص وأخذ بالسباب المعينة‬
‫على ذلك أعطاه الله سؤاله ولم يخيب رجاءه‪ .‬ومن أنفع الدعية وأجمعها‬
‫ذلك الدعاء الذي كان يدعو به الرسول صلى الله عليه وسلم حين يستفتح‬
‫صلته في الليل )اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل‪ ،‬فاطر السموات‬
‫والرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون‪.‬‬
‫اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط‬
‫مستقيم()‪.(6‬‬
‫وقوله عليه الصلة والسلم‪) :‬يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك()‪.(7‬‬
‫وقوله صلى الله عليه وسلم‪) :‬اللهم إني أسألك الهدى والسداد()‪.(8‬‬

‫‪79‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه‪» :‬قل‪ :‬اللهم اهدني‬
‫وسددني‪ ،‬واذكر بالهدى هدايتك الطريق‪ ،‬والسداد سداد السهم«)‪.(9‬‬
‫ثانًيا ‪ :‬الوقوف مع أهم ما جاء في الكتاب من مواضيع ‪:‬‬

‫)‪(79 /‬‬

‫تدور أبواب الكتاب ومباحثه على إبراز هذه السمة العظيمة لهذا الدين وأهله؛‬
‫جعَل َْناك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ك َ‬ ‫أل وهي سمة العدل والوسطية والمأخوذة من قوله تعالى‪) :‬وَك َذ َل ِ َ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫شِهيدا( )البقرة‪:‬‬ ‫م َ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫سو ُ‬‫ن الّر ُ‬‫كو َ‬ ‫س وَي َ ُ‬ ‫َ‬
‫داَء عَلى الّنا ِ‬
‫شهَ َ‬ ‫سطا ً ل ِت َ ُ‬
‫كوُنوا ُ‬ ‫ة وَ َ‬
‫م ً‬
‫أ ّ‬
‫من الية ‪.(143‬‬
‫ومن أهم المباحث التي جاءت في الكتاب ما يلي‪:‬‬
‫] ‪ [ 1‬أهمية دراسة هذا الموضوع المتمثلة في تحرير معنى الوسطية‪ ،‬وأنها‬
‫العدل والحق والتوازن بين طرفي الفراط والتفريط‪ ،‬وأنها ليست كما يفهمها‬
‫بعض الناس في كونها اللتقاء مع الباطل في منتصف الطريق‪ ،‬أو الرضى‬
‫بالحلول الوسط‪ .‬كما أنها ل تعني التشدد والتضييق‪.‬‬
‫ضا في ما نعانيه اليوم من مجانبة للعدل‬ ‫كما برزت أهمية الموضوع أي ً‬
‫والتوازن في كثير من أصول الدين وأحكامه وأخلقه‪ ،‬والنزوع فيها إما إلى‬
‫الغلو والفراط وإما إلى الجفاء والتفريط والضاعة‪.‬‬
‫كما تأتي أهمية هذا الموضوع في كون العلم به وبجوانبه المختلفة باًبا إلى‬
‫إعادة النظر في المواقف المتشددة أو المتساهلة‪ ،‬وبخاصة في جانب‬
‫المعاملت والسلوك والخلق‪ .‬وهذا الفهم يقود بإذن الله تعالى إلى الجتماع‬
‫والئتلف‪ ،‬كما يقود إلى تفهم رأي المخالف والمعالجة العادلة لخطائه‪،‬‬
‫وإشاعة الود والتراحم بين المؤمنين وإن اختلفوا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫سطا‪ (...‬الية‪ ،‬وذلك بذكر‬ ‫ة وَ َ‬‫م ً‬
‫مأ ّ‬ ‫] ‪ [ 2‬تفسير قوله تعالى‪) :‬وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬
‫أقوال بعض المفسرين وبعض الحاديث المعينة على فهم الية الكريمة‪.‬‬
‫] ‪ [ 3‬ذكر الحاديث الواردة في لزوم الوسط والعدل‪ ،‬والمحذرة من الغلو‬
‫والفراط أو من التفريط والضاعة‪ ،‬مع شرح موجز لبعضها‪.‬‬
‫] ‪ [ 4‬تم تقسيم مظاهر الوسطية والعدل والتوازن في هذا الدين إلى‬
‫قسمين كبيرين‪:‬‬
‫القسم الول ‪ :‬مظاهرها في الخلق والتقدير‪:‬‬
‫وفي هذا القسم تم الحديث عن عظمة هذا الكون ودقة نظامه وتوازنه‪،‬‬
‫والتي تدل على عظمة خالقه عز وجل وحكمته وعدله ورحمته‪ ،‬وذكرت أمثلة‬
‫متفرقة لهذا التوازن والنظام الدقيق في خلق الله عز وجل؛ سواء ما كان‬
‫منها في الفاق كخلق السموات والرض وما بينهما من الفلك‪ ،‬وما على‬
‫الرض من اليات الباهرات‪ ،‬أو ما كان منها في النفس وما فيها من عجيب‬
‫صنع الله تعالى ودقة نظامها‪ ،‬وما فيها من التوازنات التي تبهر العقول وتحير‬
‫اللباب‪ ،‬وتدل على وحدانية رب الرباب‪.‬‬
‫القسم الثاني ‪ :‬مظاهرها في المر والشرع ‪:‬‬
‫وفي هذا القسم تم الحديث عن شريعة الله عز وجل المنزلة على نبينا محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم وما فيها من الوسطية والعدل والتوازن الواقعة بين‬
‫الفراط والتفريط‪ .‬وذكرت تحت هذا القسم أربعة مباحث مهمة‪:‬‬
‫الول ‪ :‬مظاهرها في العقيدة وأصول الدين‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬مظاهرها في شعائر التعبد‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬مظاهرها في الجهاد والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الرابع ‪ :‬مظاهرها في المعاملت والخلق‪.‬‬


‫وذكرت في باب العقيدة وأصول الدين مجموعة من المثلة التي يذكرها‬
‫علماء السلف وأنها وسط بين طرفين مذمومين هما أهل الغلو والفراط‪،‬‬
‫وأهل الجفاء والتفريط؛ وذلك كقولهم إن أهل السنة والتباع وسط في‬
‫السماء والصفات بين المعطلة النفاة وبين المجسمة المشبهة‪ ،‬وهم وسط‬
‫في باب القدر وأفعال العباد بين القدرية والجبرية‪ ،‬وهم وسط في الوعد‬
‫والوعيد بين الخوارج الغلة المكفرين لهل الكبائر ومن نحا نحوهم كالمعتزلة‬
‫وبين الجفاة المفّرطين كالمرجئة ومن شابههم‪ ،‬وغيرها من أبواب العقيدة‪.‬‬
‫ضا في شعائر التعبد مجموعة من المثلة على التوسط في كثير‬ ‫وذكرت أي ً‬
‫من العبادات‪ ،‬والتحذير من الوقوع في طرف الفراط والغلو الذي لم يشرعه‬
‫الله عز وجل أو في طرف التفريط والتقصير‪ .‬وذكرت أمثلة ذلك في الصلة‬
‫والصيام ومناسك الحج‪ ،‬وحرمان النفس من بعض الطيبات‪ ،‬وحرمانها من‬
‫الخذ بالرخص الشرعية وغيرها‪.‬‬
‫كما ذكرت في باب الجهاد والمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسطية هذا‬
‫الدين فيها‪ ،‬وما يكتنف الوسط العدل من طرفين مذمومين هما الفراط‬
‫والتفريط‪.‬‬
‫وأما قسم المعاملت والخلق فقد أطلت النفس فيه‪ ،‬وذكرت أمثلة كثيرة‬
‫من الخلق‪ ،‬وكيف يكون التوسط والعدل فيها؟ وما هما الطرفان المذمومان‬
‫اللذان يكتنفان كل خلق محمود؟ وسبب الطالة في هذا القسم ما نعانيه في‬
‫واقعنا المعاصر من أزمة في الخلق؛ وبخاصة ممن ينتسب منا إلى أهل‬
‫السنة والجماعة‪ ،‬مما كان له أكبر الثر في التفرق والخصومات‪.‬‬
‫وقد ركزت من بين المثلة التي ذكرتها على التوسط والعدل والتوزان في‬
‫النقد ومعالجة الخطاء‪ ،‬وذكرت الوسط المحمود وما يكتنفه من الطرفين‬
‫المذمومين‪ ،‬وتوجت ذلك بذكر طائفة من النماذج المضيئة للمواقف العادلة‬
‫المتوازنة لسلفنا الصالح في نقدهم لبعضهم البعض‪ ،‬ومعالجة أخطاء بعضهم‬
‫سا لنا وأسوة حسنة نقتدي بها في زمن كثرت فيه‬ ‫ضا علها تكون نبرا ً‬
‫بع ً‬
‫الهواء‪ ،‬وتكالبت فيه العداء من خارج المة وداخلها‪.‬‬

‫)‪(80 /‬‬

‫وفي ختام هذه الخاتمة أتوجه إلى الله عز وجل بسؤاله الخلص والصواب‬
‫فيما أقوله وأكتبه وأعمله‪ ،‬كما أسأله سبحانه الهداية للحق والعدل والنقياد‬
‫لهما والعمل بهما‪.‬‬
‫اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والرض عالم الغيب‬
‫والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون‪ ،‬اهدنا لما اختلف فيه‬
‫من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‪.‬‬
‫والحمد لله رب العالمين‪.‬‬
‫وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫عصر يوم السبت‬
‫الموافق ‪32/3/4241‬هـ‬
‫______________‬
‫)‪ (1‬وهي الرسالة الخامسة عشرة من سلسلة الوقفات التربوية‪.‬‬
‫)‪ (2‬مدارج السالكين‪ (3/125) :‬ط‪ .‬دار طيبة‪.‬‬
‫)‪ (3‬البخاري‪.(6502) :‬‬

‫‪81‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪ (4‬عدة الصابرين‪) :‬ص ‪.(54‬‬


‫)‪ (5‬مجموع الفتاوى‪.(2/286) :‬‬
‫)‪ (6‬رواه مسلم‪.(770) :‬‬
‫)‪ (7‬الترمذي في القدر‪ ،‬باب ما جاء أن القلوب بين ُأصُبعي الرحمن‪ ،‬وقال‬
‫حسن صحيح وصححه اللباني في صحيح الترمذي‪.(2792) :‬‬
‫)‪ (8‬صحيح مسلم‪.(2725) :‬‬
‫)‪ (9‬صحيح مسلم‪.(2725) :‬‬

‫)‪(81 /‬‬
‫وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً‬
‫لعل من السباب الرئيسة في تفرق وتشاحن بعض الدعاة هو ابتعادهم عن‬
‫المنهج الوسط‪ ،‬فالبعض متساهل إلى درجة التفريط‪ ،‬والبعض متشدد إلى‬
‫درجة الفراط‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫ولم يقف المر عند هذا الحد‪ ،‬بل تبعه تهجم وتجريح واتهام بين هذه الفئات‬
‫الثلث ) متساهل‪ ،‬وسط‪ ،‬متشدد(‪ .‬فكل يظن أن الحق معه‪ ،‬وأن الخطأ‬
‫والباطل مع غيره ) إل من رحمه الله من أهل العلم والفقه والعتدال(‪.‬‬
‫ول شك أن هذه المسألة تحتاج إلى وقفة متأنية‪ ،‬خاصة أن الدلة في ضرورة‬
‫العتدال والتوسط وافرة وكثيرة‪ ،‬ولكن المشكلة تكمن في تحديد ذلك‬
‫الوسط‪ ،‬فالمتساهل يصف نفسه بالعتدال والتوسط‪ ،‬وكذلك يفعل المعتدل‬
‫والمتشدد‪ ،‬فكل يصف نفسه بأنه هو الوسط هو المتطرف‪.‬‬
‫ليت الدعاة إلى الله حرصوا على ضرورة تتبع المنهج الوسط‪ ،‬وذلك بمزيد‬
‫من العلم والقفه في دين الله وما كان عليه سلف هذه المة‪ ،‬فأمة السلف‬
‫هي أمة الوسط والعتدال‪.‬‬
‫والوسط ل يعني التفريط في شيء من دين الله‪ ،‬وإنما هو اللتزام التام بدين‬
‫الله المبني على الفقه والوعي ومراعاة الواقع‪.‬‬
‫إن كثيرا ً من الشبهات والتهامات ) ل سيما بين الدعاة بعضهم بعضا( سوف‬
‫ً‬
‫تختفي إذا ما حرص المسلم على العتدال والتوسط واتباع منهج السلف في‬
‫ذلك‪ ،‬في حين أن التساهل أو التشدد داءان سببا ً كثيرا ً من التوتر واشتعال‬
‫الخلف والقذف بالتهم وإثارة الشبهات في أوساط الدعاة‪.‬‬
‫وقد أورد الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الصحوة السلمية بين الختلف‬
‫المشروع والتفرق المذموم( أمثلة عديدة على ضرورة العتدال والتوسط‬
‫والبعد عن التنطع والتشدد أنقل بعضها إتماما ً للفائدة‪ ،‬فكان مما قال‪:‬‬
‫مما ينبغي الحرص عليه لتوحيد صف الدعين إلى السلم‪ ،‬أو – على القل‪-‬‬
‫تقريب الشقة وإزالة الجفوة بينهم‪ :‬اتباع المنهج الوسط الذي يتجلى فيه‬
‫التوازن والعتدال‪ ،‬بعيدا ً عن طرفي الغلو والتفريط‪ ،‬فهذه المة أمة وسط‬
‫في كل شيء‪ ،‬ودين الله – كما أثر عن السلف‪ -‬بين الغالي فيه والجافي عنه‪.‬‬
‫ومن كلمات المام علي رضي الله عنه‪ :‬عليكم بالنمط الوسط‪ ،‬يلحق به‬
‫التالي‪ ،‬ويرجع إليه الغالي‪.‬‬
‫فالوسط هو مركز الدائرة التي ترجع إليه الطراف المتباعدة عن يمين‬
‫وشمال‪ ،‬وهو يمثل الصراط المستقيم‪ ،‬والذي عّلمنا الله تعالى أن نسأله‬
‫الهداية إليه كلما قرأنا فاتحة الكتاب في صلواتنا اليومية أو خارجها‪ :‬اهدنا‬
‫الصراط المستقيم ‪) .‬الفاتحة‪ :‬الية ‪ (6‬وهو الذي جاء فيه قوله تعالى‪ :‬وهذا‬

‫‪82‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ط ربك مستقيما ً ‪ ) .‬النعام‪ :‬الية ‪ (126‬وقوله تعالى‪ :‬وأن هذا صراطي‬ ‫صرا ُ‬
‫صاكم به‬‫مستقيما ً فاتبعوا ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم و ّ‬
‫لعلكم تتقون ‪ ) .‬النعام‪ :‬الية ‪(153‬‬
‫ويلزم في اتباع المنهج الوسط أن يتجنب المسلم التنطع في الدين وهو ما‬
‫أنذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الهلك‪ ،‬فيما وراه عنه ابن مسعود‬
‫رضي الله عنه قال‪ :‬هلك المتنطعون قالها ثلثًا‪) .‬رواه مسلم( سواء كان هذا‬
‫القول إخبارا ً عن هلكهم أو دعاء عليهم‪.‬‬
‫والمتنطعون‪ -‬كما قال المام النووي‪ :‬المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود‬
‫في أقوالهم وأفعالهم ‪) .‬شرح النووي على مسلم‪ ،‬ج ‪ ،5‬ص ‪(225‬‬
‫وقال غيره‪ :‬المراد بالمتنطعين‪ :‬الغالون في عباداتهم‪ ،‬بحيث يخرج عن‬
‫قوانين الشريعة‪ ،‬ويسترسل مع الشيطان في الوسوسة‪ .‬وقيل‪ :‬المتعنتون‬
‫في السؤال عن عويص المسائل التي يندر وقوعها‪.‬‬
‫ومنه‪ :‬الكثار من التفريع على مسألة ل أصل لها في كتاب ول سنة ول‬
‫إجماع‪ ،‬وهي نادرة الوقوع‪ ،‬فيصرف فيها زمنا ً كان صرفه في غيرها أولى‪،‬‬
‫سيما إن لزم منه إغفاله التوسع في بيان ما يكثر وقوعه‪.‬‬
‫وأشد منه‪ :‬البحث عن أمور معينة‪ ،‬ورد الشرع باليمان بها مع ترك كيفيتها‪،‬‬
‫ومنه ما ل يكون له شاهد في عالم الحس كالسؤال عن الساعة والروح‬
‫ومدة هذه المة إلى أمثال ذلك مما ل يعرف إل بالنقل الصرف‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬مثال التنطع إكثار السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب‬
‫بالمنع‪ ،‬بعد أن يفتي بالذن‪(1).‬‬
‫وكل هذا من الحرج الذي نفاه الله عن هذا الدين القائم على التيسير ل‬
‫التعسير‪ ،‬والتبشير ل التنفير‪.‬‬
‫وروى ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم‪ :‬إياكم والغلو في الدين‪ ،‬فإنما‬
‫هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ‪(2).‬‬
‫ول ريب أن التنطع والغلو في الدين يدفع إلى التشديد في المور الصغيرة‪،‬‬
‫والضيق بكل مخالف فيها‪ ،‬على حين تكون السماحة واليسر من أسباب‬
‫التقارب والوفاق‪.‬‬
‫وهذه الروح هي التي جعلت الصحابة ومن تبعهم بإحسان يتسامحون في‬
‫الفروع الجزئية‪ ،‬ول تضيق صدورهم بالخلف فيها‪ ،‬بل كانوا ينكرون على من‬
‫يجعل البحث عن هذه المور شغله الشاغل‪ ،‬ول يرحبون بهذا النوع من‬
‫السؤال الذي ل يأتي من ورائه إل التشديد‪.‬‬
‫والقرآن نفسه نبه على هذا الصل حين قال‪ :‬يا أيها الذين آمنوا ل تسألوا عن‬
‫أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ُينّزل القرآن تبد لكم عفا الله‬
‫عنها والله غفور حليم ‪ ) .‬المائدة‪ :‬الية ‪(101‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫والنبي صلى الله عيله وسلم يحذر من كثرة السئلة التي تنتهي بالتشديد‬
‫على المسلمين‪ ،‬وذلك حين قال‪ :‬إن أعظم المسلمين جرما ً رجل سأل عن‬
‫شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته ‪) .‬رواه البخاري ومسلم عن سعد بن‬
‫أبي وقاص(‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال‪ :‬ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ما سألوه إل عن ثلث عشرة مسألة حتى‬
‫قبض‪ ،‬كلهن في القرآن‪ ،‬منهن‪ :‬يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل‬

‫‪83‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫قتال فيه كبير ‪ ،‬ويسألونك عن المحيض قال‪ :‬ما كانوا يسألونه إل عما‬
‫ينفعهم‪.‬‬
‫وقال ابن عمر‪ :‬ل تسأل عما لم يكن‪ ،‬فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن‬
‫من سأل عما لم يكن‪.‬‬
‫وقال القاسم‪ :‬إنكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها وتنقرون)‪ (3‬عن‬
‫أشياء ما كنا ننقر عنها‪ ،‬تسألون عن أشياء ما أدري ما هي ولو علمناها ما حل‬
‫لنا أن نكتمها‪.‬‬
‫ت من أصحاب رسول الله صلى الله‬ ‫ن أدرك ُ‬
‫م ْ‬
‫وعن عمر بن إسحاق قال‪ :‬ل َ‬
‫ً‬
‫عليه وسلم أكثر ممن سبقني منهم‪ ،‬فما رأيت قوما أيسر سيرة ول أقل‬
‫تشديدا ً منهم‪.‬‬
‫وعن عبادة بن يسر الكندي‪ ،‬وقد سئل عن امرأة ماتت مع قوم ليس لها‬
‫ولي‪ ،‬فقال‪ :‬أدركت أقواما ً ما كانوا يشددون تشديدكم‪ ،‬ول يسألون مسائلكم)‬
‫‪ ) (4‬انتهى كلم الدكتور القرضاوي ()‪.(5‬‬
‫هذه بعض المثلة على ضرورة فهم الدين على قاعدة التوسط والعتدال‬
‫والبتعاد عن الغلو التنطع‪ ،‬فهل يا ترى فقه الدعاة هذه القاعدة وعملوا‬
‫بمقتضاها؟ وهل يا ترى رحمنا أنفسنا وحفظنا دعوة ربنا باتباعنا هذا المنهج‬
‫الرباني الكريم ؟‬
‫)‪ (1‬فيض القدير‪ :‬ج ‪ ،6‬ص ‪.355‬‬
‫)‪ (2‬رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان عن ابن عباس رضي‬
‫الله عنهما‪.‬‬
‫)‪ (3‬تنقرون‪ :‬من التنقير وهو التفتيش والستقصاء في البحث المبالغ فيه‪.‬‬
‫)‪ (4‬أخرج هذه الثار الدارمي‪ :‬حجة الله البالغة‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.141-140‬‬
‫)‪ (5‬يوسف القرضاوي‪ ،‬الصحوة السلمية بين الختلف المشروع والتفرق‬
‫المذموم‪ ،‬دار الصحوة‪ ،‬ص ‪. 104 - 95‬‬
‫المراجع د‪ .‬علي الحمادي‪ ،‬خفافيش أعماها النهار‪ ،‬ص ‪68-62‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ول تفرقوا‬
‫د‪ .‬علي بادحدح ـ إسلم تايم‬
‫ل توجد أمة من المم دعيت إلى الوحدة والئتلف ونهيت عن الفرقة‬
‫والختلف مثل المة السلمية‪ ،‬لن النظام الجتماعي ل يكمل إل في ظل‬
‫الوفاق والوئام‪ ،‬وحال الناس ل تصلح إل مع التعاطف والتآلف‪ ،‬ويدرك العقلء‬
‫أن القوة ل تكون إل مع الوحدة‪ ،‬وأن الذلة تكمن في الفرقة كما قال الشاعر‬
‫‪:‬‬
‫تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا ً ** وإذا افترقن تكسرت آحادا ً‬
‫والعرب تقول ‪:‬‬
‫"المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه "‪.‬‬
‫ولذا جاء النداء القرآني المصدر بالوصف اليماني داعيا ً إلى الوحدة وناهيا ً‬
‫عن الفرقة فقال تعالى ‪ } :‬يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ول تموتن‬
‫إل وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ً ول تفرقوا واذكروا نعمة الله‬
‫عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ً وكنتم على‬
‫شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون {‪.‬‬
‫والمتأمل يرى غاية الحكام في هذه الوامر اللهية ‪ ،‬بل المنح الربانية ‪ ،‬حيث‬

‫‪84‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بدأت بلزوم التقوى حتى الممات ‪ ،‬ثم جاء المر بالعتصام بحبل الله إشارة‬
‫إلى أن طريق تحقيق التقوى واستمرارها ل يكون إل بالعتصام ‪ ،‬ثم نهى عن‬
‫الفرقة التي تقطع الطريق وتشوه جمال التقوى ‪ ،‬وبعد ذلك بّين الله تعالى‬
‫أن التقوى والعتصام والبعد عن الفرقة يحتاج إلى أمر مهم يكملها‬
‫ويحفظها ‪ ،‬فجاء ذكر الخوة اليمانية التي تربط بين القلوب ‪ ،‬وتجمع بين‬
‫وحد بين الصفوف ‪ ،‬وتسمو فوق الرغبات الشخصية والنانية‬ ‫الجهود‪ ،‬وت ّ‬
‫الفردية ‪ ،‬كما تتجاوز الخلفات الهامشية والقضايا الجانبية ؛ لن أصلها المكين‬
‫‪ ،‬وأساسها المتين هو العقيدة الواحدة ] التوحيد [‪ ،‬والقدوة الواحدة‬
‫] الرسول [ ‪ ،‬والمنهج الواحد ] السلم [ ‪ ،‬وكلها عواصم من القواصم ‪.‬‬
‫وتشريعات السلم دعوة عملية دائمة للوحدة ‪ ،‬فالمة المسلمة تصوم‬
‫شهرها في وقت واحد ‪ ،‬وتؤدي نسكها في زمان ومكان واحد بهيئة واحدة ‪،‬‬
‫وفي كل يوم يستجيب المسلمون لنداء واحد في صف واحد خلف إمام واحد‬
‫في صفوف قد تراصت فل خلل بينها ول عوج فيها ‪ ،‬وفوق هذا ؛ فإن للمسلم‬
‫على المسلم حقوقا ً تقوي أواصر المحبة ‪ ،‬وتوطد عرى الوحدة ‪ ،‬وهناك آداب‬
‫إسلمية بين أبناء المجتمع تشيع المودة ‪ ،‬من تبسم في الوجه وحض على‬
‫الزيارة ‪ ،‬وطلب لحسن الظن ‪ ،‬ودعوة للتماس العذر ‪ ،‬وتشجيع على‬
‫التسامح والعفو ‪ ،‬كما أن هناك معالم إنسانية تذيب الفوارق العرقية ‪،‬‬
‫وتقضي على النعرات العصبية ‪ ،‬ول ننسى المناهي التي جاءت لئل يخدش‬
‫صفاء المحبة ‪ ،‬ولئل يقوض بنيان الوحدة ‪ ،‬حيث جاء النهي عن سوء الظن‬
‫والغيبة والنميمة والتجسس والتباغض والتدابر إلى غير ذلك من المور التي‬
‫تبين أن السلم دين الوحدة الذي يحارب في مجتمعاته الفرقة ‪.‬‬
‫هذا هو دين المسلمين فما بالهم إذن متفرقين؟‬
‫لقد فطن العداء إلى أهمية الوحدة وتأثيرها فعملوا على تمزيق الوحدة بين‬
‫المسلمين ‪ ،‬وإشاعة الفرقة في صفوفهم ‪ ،‬فحولوا دولتهم الواحدة إلى‬
‫دويلت ‪ ،‬وسلطوا على عقيدتهم الراسخة البدع والخرافات ‪ ،‬ونشروا في‬
‫مجتمعاتهم أسباب الفساد والنحراف‪ ،‬وبدلوا شريعتهم الواحدة بقوانين‬
‫مختلفة ‪ ،‬وتشريعات وضعية متباينة ‪ ،‬ثم أدخلوا آراء واجتهادات ما أنزل الله‬
‫بها من سلطان ‪ ،‬إلى غير ذلك من السباب التي ساهم فيها البعض من باع‬
‫دينه وأمته وكان عونا ً للعداء ‪ ،‬فكانت النتيجة هذا التباعد المخيف ‪ ،‬والفرقة‬
‫المحزنة على مستوى الدول والمجتمعات والجماعات ‪ ،‬بل والسر‬
‫والعائلت ‪.‬‬
‫ولذا لبد أن تكرس جهود القادة الصادقين والعلماء العاملين والدعاة‬
‫المخلصين للتأكيد على أهمية الوحدة ‪ ،‬وضرورة إحيائها وإذكاء روحها مع‬
‫الحرص على البحث عن أسباب الفرقة ‪ ،‬وبيان مخاطرها وأضرارها ‪ ،‬ولبد‬
‫أن تتضافر الجهود في منهج متكامل لهذه الغاية وذلك عبر المناهج التعليمية ‪،‬‬
‫والوسائل العلمية ‪ ،‬والخطب المنبرية ‪ ،‬والدروس العلمية ‪ ،‬والكتب الثقافية‬
‫وغيرها ‪ ،‬فالمر يستحق كل ذلك وأكثر‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ول تقربوا الزنا‬


‫ن ي َهْدِ الل ُّ‬ ‫َ‬
‫ه فَل َ‬ ‫م ْ‬‫سنا‪َ ،‬‬ ‫ف ِ‬‫شُرورِ أن ْ ُ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫فُرهُ وَن َُعوذ ُ ب ِهِ ِ‬‫ست َغْ ِ‬
‫ه وَن َ ْ‬‫ست َِعين ُ ُ‬‫مد ُ ل ِل ّهِ ن َ ْ‬
‫ح ْ‬‫ال َ‬
‫مدا ً‬ ‫َ‬ ‫ه‪ ،‬وأ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ه‪ ،‬وأ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ضل ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ض ّ‬
‫ح ّ‬ ‫م َ‬ ‫ن ُ‬‫شهَد ُ أ ّ‬ ‫ه إ ِل الل ُ‬ ‫ن ل ِإل َ‬ ‫شهَد ُ أ ْ‬ ‫ل فل هادِيَ ل ُ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه‪ ،‬وَ َ‬‫لل ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫َ‬
‫خل َ‬ ‫حد َةٍ وَ َ‬‫س َوا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ف ٍ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫قك ْ‬ ‫خل َ‬ ‫م الذي َ‬ ‫قوا َرب ّك ُ‬ ‫س ات ّ ُ‬
‫ه ?يا أي َّها الّنا ُ‬ ‫سول ُ‬ ‫عَب ْد ُه ُ وََر ُ‬

‫‪85‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ن ب ِهِ‬ ‫ه الذي َتساَءُلو َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫جال ً ك َِثيرا ً وَِنساًء‪ ،‬وات ّ ُ‬ ‫من ُْهما رِ َ‬ ‫ث ِ‬ ‫جها‪ ،‬وَب َ ّ‬ ‫مْنها َزوْ َ‬ ‫ِ‬
‫هّ‬
‫قوا الل َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ّ‬
‫م َرِقيبا?] النساء‪? .[1:‬يا أي َّها الذي َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ن عَلي ْك ْ‬ ‫َ‬ ‫ه كا َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫مإ ّ‬ ‫والْرحا َ‬
‫ّ‬
‫مون? ]آل عمران‪ ? .[102:‬يا أي َّها الذين‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ن إ ِل وأن ْت ُ ْ‬ ‫موت ُ ّ‬ ‫حقّ ُتقات ِهِ َول ت َ ُ‬ ‫َ‬
‫م‪،‬‬‫م ذ ُُنوب َك ُْ‬ ‫فْر ل َك ُْ‬ ‫غ‬
‫َْ ِ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫م‪،‬‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫عما‬ ‫ْ ْ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ح‬ ‫ل‬‫ص‬
‫ُ ْ ِ ْ‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫ديد‬‫َ ِ‬ ‫س‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫قو‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫له‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫قوا‬‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫منوا‬ ‫آ َ‬
‫ظيمًا? ]الحزاب‪.[71:‬‬ ‫قد ْ َفاَز فَوَْزا ً عَ ِ‬ ‫ه فَ َ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫ه وََر ُ‬ ‫ن ي ُط ِِع الل ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ َ‬
‫سِبيل ً ?‬ ‫ساء َ‬ ‫ة وَ َ‬ ‫ش ً‬ ‫ح َ‬‫ن َفا ِ‬ ‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫قَرُبوا ْ الّزَنى إ ِن ّ ُ‬ ‫قال الله تبارك وتعالى‪ ? :‬وَل َ ت َ ْ‬
‫]السراء‪ ، [32:‬قال العلماء‪ :‬إن الزنا كالقتل لن فيه إراقة للنطفة وسفح لها‬
‫في غير محلها‪ ،‬فلو كان منها ولد لكان مقطوع النسب‪ ،‬مقطوع الصلة‪،‬‬
‫ساقط الحق‪ ،‬فمن تسبب في وجوده على هذه الحالة فكأنه قتله‪ ،‬ولهذا‬
‫بعدما نهى الله عن الزنا الذي هو كقتلهم‪ ،‬لنه سبب لوجودهم غير مشروع‪.‬‬
‫قَرُبوا ْ الّزَنى ? فهو في النهي أبلغ وآكد من ولتزنوا‪،‬‬ ‫وفي قوله تعالى‪ ? :‬وَل َ ت َ ْ‬
‫فهو يعني النهي عن مجرد القتراب من هذه الجريمة وتحريمه‪ ،‬ل بالقلب ول‬
‫بالجوارح‪ ،‬وقد جاءت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫أنه قال‪" :‬كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك ل محالة فالعينان‬
‫زناهما النظر ‪ ،‬والذنان زناهما الستماع‪ ،‬واللسان زناه الكلم‪ ،‬واليد زناها‬
‫البطش‪ ،‬والرجل زناها الخطى‪ ،‬والقلب يهوى ويتمنى ‪ ،‬ويصدق ذلك الفرج أو‬
‫يكذبه")( فزنا هذه الجوارح دنو من الزنا الحقيقي ومؤد إليه‪.‬‬
‫أيها المؤمنون ‪ :‬إن السلم ليس دين خيال ولكنه الدين القيم الذي ينطلق‬
‫من الواقع الذي يعيشه النسان هذا النسان المخلوق العجيب الذي ركب الله‬
‫فيه الغرائز والعواطف ولم يكن ليتركه همل ً ليحقق إشباعها على طريقة‬
‫الحيوان البهيم‪ ،‬فالنسان خلقه الله من قبضة طين ونفخة روح‪ ،‬نفخ فيه من‬
‫روحه وأسجد له ملئكته‪ ،‬وسخر الكون بما فيه من مخلوقات ‪ ،‬أعطى‬
‫لجسده حظه من الحياة وأعطى لروحه العلوية حظها من العبادة والطاعة‬
‫والسمو والرفعة وأي خلل أو طغيان في توازن الجسد والروح يفسد النفس‬
‫النسانية ويعرضها للفات الجسمية والروحية‪.‬‬
‫ومن أقوى الغرائز التي ركبها الله في جسد النسان غريزة الجنس وقد‬
‫جعلها الله هكذا لهداف سامية وحكم عالية تستهدف عمارة الكون وعبادة‬
‫الخالق جل عل‪ .‬وغريزة الجنس هي نقطة الضعف التي يتسلل منها‬
‫الشيطان ليخرب البشرية ويقلب عليها نظام الحياة رأسا ً على عقب ويعطل‬
‫َ‬
‫ريد ُ‬ ‫م وَي ُ ِ‬ ‫ب عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ريد ُ أن ي َُتو َ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫رسالة النسان في الحياة قال تعالى‪َ ? :‬والل ّ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ق‬
‫خل ِ َ‬‫م وَ ُ‬ ‫عنك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ف َ‬ ‫خ ّ‬ ‫ه أن ي ُ َ‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬ ‫ظيما ً ي ُ ِ‬ ‫مي ْل ً عَ ِ‬ ‫ميُلوا ْ َ‬ ‫ت أن ت َ ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫شهَ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن ي َت ّب ُِعو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ضِعيفا ً ?]النساء‪.[28-27:‬‬ ‫ن َ‬ ‫سا ُ‬ ‫لن َ‬ ‫ا ِ‬
‫ولما كان لغريزة الجنس هذه القوة الطاغية على النفس البشرية فإننا نجد‬
‫أن السلم قد وضع لها الضوابط وسن لها السنن وعبد لها الطريق وأقام لها‬
‫الشارات التي تضبط حركتها في الحياة حتى ل تصطدم بسنة الله في‬
‫الخلق‪ .‬إن الضوابط والشارات الشرعية التي تنظم حياة الناس هي بمثابة‬
‫الضوابط والشارات المرورية التي تنظم حركة السير وتضبط أموره ‪..‬‬
‫وانظروا رحمكم الله لسائق مجنون يقود سيارة بل كوابح ‪ ..‬ل يلقي بال ً‬
‫للشارات الضوئية حمراء أو خضراء وإنما ينطلق في سرعة جنونية ل تلوى‬
‫على شي‪ ،‬لشك بأن من كان كذلك فإن نهايته محتومة ولكن بعد أن يقتل‬
‫ويدمر ويهلك الحرث والنسل ‪ .‬وكذلك هو الحال بمن تجاوز الضوابط‬
‫الشرعية وخالف تعاليمها ‪ ،‬فإن مآله إلى تباب وخسران وهذا ما نراه اليوم‬
‫في الذين يخالفون أمر الله ويستحلون الزنا‪.‬‬
‫أيها المؤمنون ‪ :‬لقد حمى الله العباد من فاحشة الزنا بتدابير وقائية عملية‬

‫‪86‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عديدة تصل في النهاية إلى إيجاد مجتمع عفيف طاهر نظيف من الزنا‬
‫والخنى والفواحش ومن تلك التدابير‪:‬‬
‫إن الله أمر بتيسير الزواج الحلل الطيب وأمر بإعانة من لم يتزوج من‬
‫الرجال والنساء‪ ،‬فإن كانوا فقراء فإن الله سيهيء لهم وسائل العيش الكريم‬
‫إن أرادوا تحصنا ً وعفة‪ ،‬قال تعالى مخاطبا ً الولياء المسئولين عن تزويج‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‪ ?...‬ـ العزاب من الجنسين ـ ?‬ ‫منك ُ ْ‬ ‫مى ِ‬ ‫حوا اْلَيا َ‬ ‫البنات والشباب ? وَأنك ِ ُ‬
‫من فَ ْ‬
‫ضل ِهِ ?‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫كوُنوا فُ َ‬
‫قَراء ي ُغْن ِهِ ُ‬ ‫م ِإن ي َ ُ‬ ‫مائ ِك ُ ْ‬
‫م وَإ ِ َ‬ ‫عَبادِك ُ ْ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬‫حي َ‬
‫صال ِ ِ‬
‫َوال ّ‬
‫] النور‪.[32 :‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ثم تأتي اليات القرآنية تبين للذين ل يجدون القدرة على مؤونات النكاح‬
‫والقيام بتكاليف الزواج بأن عليهم أن يسلكوا سبيل العفة حتى يهيء الله لهم‬
‫ن َل‬ ‫ذي َ‬ ‫ف ال ّ ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ست َعْ ِ‬ ‫من فضله مال ً يستطيعون به الزواج كما قال تعالى‪ ? :‬وَل ْي َ ْ‬
‫ضل ِهِ ‪ ]?...‬النور‪.[33 :‬‬ ‫من فَ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حّتى ي ُغْن ِي َهُ ْ‬ ‫كاحا ً َ‬ ‫ن نِ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫يَ ِ‬
‫ويوجه النبي صلى الله عليه وسلم الشباب بالزواج لمن يقدر ويصف الصوم‬
‫لمن عجز عن الزواج فقال‪" :‬يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة‬
‫فليتزوج ‪ ،‬فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج‪ ،‬ومن لم يستطع فعليه بالصوم‬
‫فإنه له وجاء")(‬
‫ومما يساعد على العفة والبتعاد عن السباب التي تؤجج الشهوات وتوقع في‬
‫الحرام ‪ ،‬غض البصر وعدم إطلقه بشهوة لن البصر هو الداة الولى لثارة‬
‫كوامن الجنس في النفس النسانية ومن روعة القرآن أنه يبين هذا المر بيان‬
‫ف ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫خِبيُر ?‬ ‫طي ُ‬ ‫خل َقَ وَهُوَ الل ّ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫العليم بالطبيعة البشرية الخبير لها‪ ? :‬أَل ي َعْل َ ُ‬
‫]الملك‪.[14 :‬‬
‫وفي بيان الله لنا في القرآن الكريم ترغيبا بأن نرتقي بأنفسنا ونصعد بها من‬ ‫ً‬
‫ن‬‫مِني َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫البتذال والفوضى إلى السمو والطهر والعفاف قال تعالى‪ُ ? :‬قل ل ّل ْ ُ‬
‫ما‬‫خِبيٌر ب ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫كى ل َهُ ْ‬ ‫ك أ َْز َ‬ ‫م ذ َل ِ َ‬ ‫جهُ ْ‬ ‫ظوا فُُرو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ح َ‬ ‫م وَي َ ْ‬ ‫صارِهِ ْ‬
‫يغُضوا م َ‬
‫ن أب ْ َ‬ ‫ِ ْ‬ ‫َ ّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ن‬
‫دي َ‬ ‫ن وَل ي ُب ْ ِ‬ ‫جهُ ّ‬ ‫ن فُُرو َ‬ ‫فظ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن وَي َ ْ‬ ‫صارِهِ ّ‬ ‫ن أب ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ض َ‬ ‫ض ْ‬ ‫ت ي َغْ ُ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫ن وَُقل لل ُ‬ ‫صن َُعو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن إ ِلّ‬ ‫ن زين َت َهُ ّ‬ ‫دي َ‬ ‫ن وَل ي ُب ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫جُيوب ِهِ ّ‬ ‫ن عَلى ُ‬ ‫َ‬ ‫مرِهِ ّ‬ ‫خ ُ‬ ‫ن بِ ُ‬ ‫ضرِب ْ َ‬ ‫ْ‬
‫من َْها وَلي َ ْ‬ ‫ما ظهََر ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن إ ِل َ‬ ‫ِزين َت َهُ ّ‬
‫خ ِوان ِهن أوَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن أوْ إ ِ ْ َ ِ ّ ْ‬ ‫ن أوْ أب َْناء ب ُُعولت ِهِ ّ‬ ‫ن أوْ أب َْنائ ِهِ ّ‬ ‫ن أوْ آَباء ب ُُعولت ِهِ ّ‬ ‫ن أوْ آَبائ ِهِ ّ‬ ‫ل ِب ُُعول َت ِهِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن غَي ْ ِ‬
‫ر‬ ‫ن أوِ الّتاب ِِعي َ‬ ‫مان ُهُ ّ‬ ‫ت أي ْ َ‬ ‫مل َك َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ن أوْ َ‬ ‫سائ ِهِ ّ‬ ‫ن أوْ ن ِ َ‬ ‫وات ِهِ ّ‬ ‫خ َ‬ ‫ن أوْ ب َِني أ َ‬ ‫وان ِهِ ّ‬ ‫خ َ‬ ‫ب َِني إ ِ ْ‬
‫ساء وََل‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ت‬ ‫را‬ ‫و‬ ‫ع‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫روا‬ ‫ه‬‫ْ‬ ‫ظ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ف‬‫ّ‬ ‫ط‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ّ َ‬ ‫َ َْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ ْ َ َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أوِْلي ا ِ ْ َ َ ِ ِ َ ّ َ ِ‬
‫جا‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ل‬
‫ميعا ً أ َي َّها‬ ‫ج ِ‬ ‫ن وَُتوُبوا إ َِلى الل ّهِ َ‬ ‫من ِزين َت ِهِ ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫في َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ما ي ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن ل ِي ُعْل َ َ‬ ‫جل ِهِ ّ‬ ‫ن ب ِأْر ُ‬ ‫ضرِب ْ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن ?] النور‪.[31-30 :‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫ن ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫وهكذا نرى القرآن الكريم يعالج الفساد في علقات الجنسين من بداية‬
‫الطريق إلى نهايته‪ ،‬فل يكفي أن يصون النسان نفسه عن لحظات النحراف‬
‫والسقوط والوقوع في الثم بل عليه أن يمتنع عن المقدمات التي توقع في‬
‫الثم وذلك بصيانة النظر عن المغريات إذ النظر هو المدخل الساسي‬
‫لتسرب الشهوة إلى النفس وطغيانها‪.‬‬
‫والله الخالق العليم بخلقه يعلم بغرائز النسان‪ ،‬فمهما حاول المرء أن يكون‬
‫شريفا ً متساميا ً فل يملك أن يضبط نفسه أمام نظر مثير من مفاتن المرأة أو‬
‫أمام نظرات مشحونة بالغراء‪ ،‬أو حركات مليئة بالثارة ولهذا السبب بين‬
‫الله السبيل الذي يجنب من الوقوع في هذه الفات بهذه اليات الجامعة التي‬
‫ذكرها ومن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب‬

‫‪87‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫رضي الله عنه وأرضاه أنه قال له‪" :‬يا علي ل تتبع النظرة النظرة ‪ ،‬فإن لك‬
‫الولى وليست لك الخرة")(‬
‫بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم النظرات الشرهة من أحد الجنسين إلى‬
‫الخر زنا كما قال عليه الصلة والسلم "العينان تزنيان وزناهما النظر")(‬
‫وإنما سماه النبي صلى الله عليه وسلم زنا لنه نوع من التلذذ والشباع‬
‫للغريزة الجنسية بغير الطريق المشروع‪.‬‬
‫ولهذا نهى الله عباده عن النظرات الخائنة وحذرهم منها وأمرهم بغض‬
‫خائ ِن َ َ ْ َ‬
‫دوُر ? ]غافر‪:‬‬
‫ص ُ‬‫في ال ّ‬ ‫خ ِ‬
‫ما ت ُ ْ‬
‫ن وَ َ‬ ‫ة العْي ُ ِ‬ ‫م َ‬‫أبصارهم كما قال تعالى‪ ? :‬ي َعْل َ ُ‬
‫‪[19‬وهي استراق النظر إلى مال يحل‪ ،‬وقال مجاهد خائنة العين نظرها إلى‬
‫ما نهى الله عنه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫م ‪]?...‬النور‪[30:‬‬ ‫فظوا فُُرو َ‬
‫جهُ ْ‬ ‫ح َ‬
‫م وَي َ ْ‬ ‫صارِهِ ْ‬‫ن أب ْ َ‬ ‫م ْ‬‫ضوا ِ‬ ‫ن ي َغُ ّ‬
‫مِني َ‬ ‫وقال‪ُ ? :‬قل ل ّل ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬
‫قال أبو حيان في تفسيره‪ :‬قدم غض البصر على حفظ الفرج لن النظر بريد‬
‫الزنا ورائد الفجور‪ ..‬وهو الباب الكبر إلى القلب‪ ،‬فإن النظرة تولد خطرة ثم‬
‫تولد الخطرة فكرة‪ ،‬ثم تولد الفكرة شهوة ثم تولد الشهوة إرادة ثم تقوى‬
‫فتصير عزيمة جازمة فيقع الفعل ولبد ما لم يمنع مانع ولهذا قيل‪:‬‬
‫كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر‬
‫كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بل قوس ول وتر‬
‫والعبد مادام ذا عين يقلبها في أعين الغير موقوف على الخطر‬
‫يسر مقلته ما ضر مهجته ل مرحبا ً بسرور عاد بالضرر‬

‫)‪(2 /‬‬

‫وفي مسند المام أحمد عن أبي أملحة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"ما من مسلم ينظر إلى محاسن إمرأة أول مرة ثم يغض بصره إل أحدث‬
‫الله له عبادة يجد حلوتها")( وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن من غض بصره‬
‫عما حرم الله يحصل له ثلث فوائد‪ :‬أحدها حلوة اليمان ولذته التي هي‬
‫أحلى وأطيب مما تركه لله‪ ،‬فإن من ترك شيئا ً لله عوضه خيرا ً منه‪ .‬والثانية‪:‬‬
‫أن غض البصر يورثه نور القلب‪ .‬والثالثة‪ :‬قوة القلب وثباته وشجاعته‪.‬‬
‫وفي الثر كل عين باكية يوم القيامة إل عينا ً غضت عن محارم الله وعينا ً‬
‫سهرت في سبيل الله وعينا ً بكت من خشية الله‪.‬‬
‫ُ‬ ‫صَر َوال ْ ُ‬
‫ن‬
‫كا َ‬‫ك َ‬ ‫ل أولئ ِ َ‬ ‫ؤاد َ ك ُ ّ‬‫ف َ‬ ‫معَ َوال ْب َ َ‬‫س ْ‬
‫ن ال ّ‬
‫أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ?‪ ...‬إ ِ ّ‬
‫ؤول ً ?]السراء‪.[ 36:‬‬
‫س ُ‬
‫م ْ‬
‫ه َ‬
‫عَن ْ ُ‬
‫الخطبة الثانية‪:‬‬
‫من التدابير الوقائية التي وضعها السلم للمسلمين لتحميهم الفاحشة‬
‫والوقوع في الزنا النهي عن التبرج فقد نهى الله المرأة عن إظهار محاسنها‬
‫للرجال الجانب واعتبره عمل ً شائنا ً قبيحا ً كما اعتبره من مخلفات الجاهلية‬
‫ة‬
‫جاهِل ِي ّ ِ‬‫ج ال ْ َ‬‫ن ت َب َّر َ‬
‫ج َ‬‫التي كانت قبل السلم قال الله تعالى‪ ...? :‬وََل ت َب َّر ْ‬
‫لوَلى ‪] ?...‬الحزاب‪[33 :‬والتبرج هو التكشف والظهور للعيون بالزينة وإبداء‬ ‫اُْ‬
‫المحاسن وقد نهى السلم عن هذا التبرج لنه يؤدي إلى إضرار المجتمع‬
‫وإفساده من تحريض على الفساد واغتصاب النساء‪ ،‬أو التحرش بهن‪ ،‬كما‬
‫يحصل في كثير من البلدان والسواق‪.‬‬
‫كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من لبس الثياب الفاضحة التي تشف‬
‫عما تحتها ل تسترها عن أعين الناظرين‪ ،‬فقد وصف صنفا ً من أهل النار‬
‫بقوله‪" :‬ونساء كاسيات عاريات مائلت مميلت رؤوسهن كأسنمة البخت‬

‫‪88‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المائلة ل يدخلن الجنة ول يجدن ريحها ‪ ،‬وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا‬
‫كذا")(‬
‫كما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء عن استعمال العطور ذات‬
‫الروائح العبقة التي تثير الغرائز الجنسية وذلك عند خروجهن من منازلهن إلى‬
‫السواق والماكن التي يتواجد بها الرجال‪ ،‬فقال‪" :‬أيما امرأة استعطرت ثم‬
‫خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية ‪ ،‬وكل عين زانية")(‬
‫وثمة خطر كبير على العفة ومحرض شنيع على الفحشاء أل وهو خلوة الرجل‬
‫بالمرأة الجنبية‪ .‬بعيدا ً عن رقابة الهل ‪ ،‬وقد يحصل من ذلك ما ل تحمد‬
‫عقباه‪ ،‬وقد تتطور هذه الخلوة إلى الوقوع في الفاحشة‪ ،‬وهناك أخطار كبيرة‬
‫تنشأ عن اختلء الجنسين بدون رقابة الهل وانعدام المحرم يقول الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم‪" :‬ل يخلون رجل بامرأة إل ومعها ذو محرم ول تسافر‬
‫المرأة إل مع ذي محرم")( وقال صلوات الله وسلمه عليه‪" :‬ل يخلون رجل‬
‫بامرأة إل كان ثالثهما الشيطان")(‬
‫ومن المور التي يتساهل بها الناس ول سيما النساء أنهن يتساهلن ول يتوقين‬
‫من الختلء بالرجال من أقاربهن أو أقارب الزوج من غير محارمهن بحجة‬
‫القرابة وفي ذلك خطر كبير ‪ ،‬فمخالطة القريب قد تكون أشد خطرا ً من‬
‫مخالطة الغريب‪ ،‬فالغريب بحكم ضعف صلته بالسرة ينظر إليه بعين الحذر‪،‬‬
‫والقريب بحكم القرابة يتساهل معه وتتاح له فرص اللقاء والكلم والخلوة‬
‫أحيانًا‪ ،‬وهذه مسالك الغواء والفساد‪ ،‬ولقد أحتاط السلم لهذه الحالت‬
‫وجعل النبي صلى الله عليه وسلم مخالطة القريب كالموت في خطورتها‬
‫حين قال‪" :‬إياكم والدخول على النساء فقال رجل من النصار أرأيت الحمو‬
‫قال الحمو الموت")(‪.‬‬
‫ل تخلو بامرأة لديك بريبة لو كنت في النساك مثل بنان‬
‫واغضض جفونك عن ملحظة النسا ومحاسن الحداث والصبيان‬
‫إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل الكلب تطوف باللحمان‬
‫إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بل عوض ول أثمان‬
‫أيها المسلمون جميعا ً كل منا يحتاج إلى كشف الكربات التي تصادفه في‬
‫الدنيا وكشف كربات القيامة أولى وقد ورد أن البعد عن الزنا ومقدماته سبب‬
‫عظيم من أسباب تفريج الكربات‪ ،‬كما في قصة الثلثة الذين انطبق عليهم‬
‫الغار‪ ،‬فاستصرخ كل منهم ربه بعمله الخالص الذي قدمه‪ ،‬وكان من أعمال‬
‫أحدهم أنه راود يوما ً امرأة في الحرام فلما وقع منها موقع الرجل من امرأته‬
‫قالت له يا هذا اتق الله ول تفض الخاتم إل بحقه ‪ ،‬فخاف الله وأقلع عنها‬
‫وكان هذا العمل سببا ً لرفع جزء من الصخرة والخروج من الكرب وكذلك‬
‫يفرج الله عن عباده المؤمنين العالمين به حال الضراء إذا مسهم الضر ونزل‬
‫بهم البلء‪.‬‬
‫ً‬
‫فتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون‪.‬‬
‫راجعه‪ /‬عبد الحميد أحمد مرشد‬
‫صحيح مسلم‪ :‬باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره‪:‬الحديث رقم‪) :‬‬
‫‪ (2657‬عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ‪.‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب‪ :‬قول النبي صلى الله عليه وسلم‪) :‬من‬
‫استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر أحصن للفرج(‪ .‬وهل يتزوج‬
‫من ل أرب له في النكاح‪:‬الحديث رقم‪ (4778) :‬و أخرجه مسلم في نكاح‪،‬‬
‫باب‪ :‬استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه‪ ،‬رقم‪. (1400 ) :‬‬
‫سنن أبي داؤود ‪ ،1/652‬حديث رقم‪ ،2149 :‬وحسنه اللباني ‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫مسند أحمد ‪ ،8507 ،343 /2‬وقال الرنؤوط‪ :‬إسناده صحيح على شرط‬
‫مسلم ‪.‬‬
‫مسند أحمد ‪ ،5/264‬حديث رقم‪ ،22332 :‬وقال شعيب الرنؤوط‪ :‬إسناده‬
‫ضعيف جدًا‪.‬‬
‫صحيح مسلم‪ :‬باب النار يدخلها الجبارون‪ ،‬والجنة يدخلها الضعفاء‪:‬الحديث‬
‫رقم‪ (2128) :‬عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ‪.‬‬
‫سنن الدارمي ‪ ،2/362‬حديث رقم‪ ،2646 :‬وقال حسين سليم أسد‪ :‬إسناده‬
‫صحيح مرسل ً وهو صحيح موصول أيضًا‪.‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب‪ :‬ل يخلون رجل بامرأة إل ذو محرم‪،‬‬
‫والدخول على المغيبة‪:‬الحديث رقم‪ . (110) :‬وصحيح مسلم‪ :‬باب سفر‬
‫المرأة مع محرم إلى حج وغيره‪ ::‬الحديث رقم‪ .(1341):‬عن ابن عباس‬
‫رضي الله تعالى عنهما ‪.‬‬
‫المستدرك ‪ ،1/199‬حديث رقم‪ ، 390 :‬وصححه الذهبي في التلخيص‪.‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب‪ :‬ل يخلون رجل بامرأة إل ذو محرم‪،‬‬
‫والدخول على المغيبة‪ :‬الحديث رقم‪ (4934):‬عن عقبة بن عامر ‪ .‬وصحيح‬
‫مسلم‪ :‬باب تحريم الخلوة بالجنبية والدخول عليها‪:‬الحديث رقم‪. (2172) :‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫م‬ ‫سل َ‬
‫ك ب ِهِ عل ٌ‬ ‫ف ما َلي َ‬
‫ول تق ُ‬
‫عبدالعزيز بن ناصر الجليل‬
‫قال الله عّز وجل‪:‬‬
‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫فؤاد َ كل أولئك كان عن ُ‬ ‫َ‬ ‫صَر وال ُ‬ ‫معَ والب َ َ‬
‫س ْ‬
‫ن ال ّ‬‫مإ ّ‬ ‫َ‬
‫س لك ب ِهِ عل ٌ‬ ‫ف ما َلي َ‬‫} ول تق ُ‬
‫مسؤول ً { ]السراء‪.[36 :‬‬
‫يقول المام ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الية‪" :‬قال علي بن أبي‬
‫طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما‪ :‬يقول‪ :‬ل تقل‪.‬‬
‫وقال العوفي عنه‪ :‬ل ترم ِ أحدا ً بما ليس لك به علم‪.‬‬
‫وقال محمد ابن الحنفية‪ :‬يعني شهادة الزور‪.‬‬
‫مت‪ ،‬ولم تعلم‪،‬‬ ‫وقال قتادة‪ :‬ل تقل‪ :‬رأيت‪ ،‬ولم تر‪ ،‬وسمعت‪ ،‬ولم تسمع‪ ،‬وعل ِ‬
‫ن الله تعالى سائلك عن ذلك كّله‪.‬‬ ‫فإ ّ‬
‫ن الذي هو‬ ‫ن الله تعالى نهى عن القول بل علم‪ ،‬بل بالظ ّ‬ ‫ومضمون ما ذكروه أ ّ‬
‫م‬
‫ن إث ٌ‬ ‫ّ‬
‫ض الظ ّ‬ ‫ن بع َ‬‫نإ ّ‬ ‫ً‬
‫هم والخيال‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬اجتنُبوا كثيرا من الظ ّ‬ ‫التو ّ‬
‫{ )الحجرات‪.(12:‬‬
‫ويقول سّيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الية‪:‬‬
‫"وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجا ً كامل ً للقلب والعقل‪ ،‬يشمل المنهج‬
‫العلمي الذي عرفته البشرية حديثا ً جدًا‪ ،‬ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة‬
‫الله‪ ،‬ميزة السلم عن المناهج العقلية الجاّفة‪.‬‬
‫ل حركة قبل الحكم عليها؛ هو‬ ‫ل ظاهرة ومن ك ّ‬ ‫ل خبر ومن ك ّ‬ ‫فالتثّبت من ك ّ‬
‫دعوة القرآن الكريم‪ ،‬ومنهج السلم الدقيق‪ ،‬ومتى استقام القلب والعقل‬
‫ل للوهم والخرافة في عالم العقيدة‪ ،‬ولم يبق‬ ‫على هذا المنهج لم يبق مجا ٌ‬
‫ل للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتأمل‪ ،‬ولم يبق مجال‬ ‫مجا ٌ‬
‫للحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف‬
‫من المانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى‪ ،‬ويجعل النسان‬
‫مسؤول ً عن سمعه وبصره وفؤاده‪ ،‬أمام واهب السمع والبصر والفؤاد‪.‬‬
‫إّنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب‪ ،‬أمانة يسأل عنها صاحبها وتسأل‬
‫عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعًا‪ ،‬أمانة يرتعش الوجدان لدّقتها‬
‫وجسامتها كّلما نطق اللسان بكلمة‪ ،‬وكّلما روى النسان رواية‪ ،‬وكّلما أصدر‬
‫حكما ً على شخص أو أمر أو حادثة"‪.‬‬
‫م { ول تتبع ما لم تعلمه علم اليقين‪ ،‬وما لم‬ ‫سل َ‬
‫ك ب ِهِ عل ٌ‬ ‫ف ما لي َ‬ ‫} ول تق ُ‬
‫سر أو واقعة‬ ‫حته‪ :‬من قول ُيقال ورواية ُتروى‪ ،‬ومن ظاهرة ُتف ّ‬ ‫تتثّبت من ص ّ‬
‫ُتعّلل‪ ،‬ومن حكم شرعي‪ ،‬أو قضية اعتقادية‪.‬‬
‫ن فإّنه أكذب الحديث"‪ ،‬وفي سنن أبي داود‪" :‬بئس‬ ‫وفي الحديث‪" :‬إّياكم والظ ّ‬
‫مطية الّرجل‪ :‬زعموا"‪ ،‬وفي الحديث الخر‪" :‬إن أفرى الفرى أن‪ُ :‬يري الّرجل‬
‫عينيه ما لم تريا"‪.‬‬
‫وهكذا تتضافر اليات والحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل‬
‫الذي ل يأخذ العقل وحده بالتحّرج في أحكامه والتثّبت في استقرائه؛ إّنما‬
‫وراته‪ ،‬وفي مشاعره وأحكامه‪ ،‬فل‬ ‫يصل ذلك التحّرج بالقلب في خواطره وتص ّ‬
‫يقول اللسان كلمة‪ ،‬ول يروي حادثة‪ ،‬ول ينقل رواية‪ ،‬ول يحكم العقل حكمًا‪،‬‬
‫ل ملبسة ومن ك ّ‬
‫ل‬ ‫ل جزئية ومن ك ّ‬ ‫ول يبرم النسان أمرا ً إل وقد تثّبت من ك ّ‬
‫دي للتي‬ ‫ن هذا القرآن َيه ِ‬ ‫حتها‪ } :‬إ ّ‬‫ك ول شبهة في ص ّ‬ ‫نتيجة‪ ،‬فلم يبق هنالك ش ّ‬
‫م‪) { ...‬السراء‪.(9:‬‬ ‫ي أقو ُ‬‫ه َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ن التفريط في هذا المنهج العظيم الذي أوصى الله به عباده المؤمنين‪ ،‬ل ِ‬ ‫إ ّ‬
‫أعظم أسباب الفرقة والعدوان والبغضاء‪ ،‬فكم من مظلوم في ماله أو بدنه‬
‫أو عرضه كان سبب ذلك التسّرع في نقل الخبار وإشاعتها دون تمحيص‬
‫وتثّبت‪ ،‬وكم من أواصر وصلت قطعت بين الرحام والخوان كان سببها عدم‬
‫التثّبت والقول بالظنون أو بل علم‪ ،‬بل كم قامت من حروب وفتن وأساسها‬
‫أخبار وشائعات وظنون وُتهم باطلة‪.‬‬
‫ل مسلم يريد لنفسه الّنجاة في الدنيا‬ ‫من أجل ذلك كان لزاما ً على ك ّ‬
‫والخرة‪ ،‬وأل ّ يكون سببا ً في ظلم العباد وإثارة الفتن‪ ،‬أن يعي معنى الية‬
‫السابقة ويطّبقها في حياته فيتثّبت من كلمه قبل أن يدلي به للّناس‪ ،‬ويتثّبت‬
‫من سماعه فل ينقل عن أحد ما لم يقله أو يقصده‪ ،‬ويتثّبت في أحكامه‬
‫ومواقفه‪.‬‬
‫ن منهج التثّبت في القول والنقل والسماع ل يستغني عنه مسلم مهما كان‬ ‫وإ ّ‬
‫مستواه من العلم والثقافة‪ ،‬فالعالم في تعليمه العلم ل بد ّ له من التثّبت فيما‬
‫ينقل من العلم والقوال والروايات‪ ،‬والقاضي ل بد ّ له من التثّبت من البيانات‬
‫والشهود وتفاصيل القضايا‪ ،‬والمفتي ل بد ّ له من التثّبت من الدّلة وتفاصيل‬
‫الواقعة التي يريد أن يفتي فيها‪ ،‬والداعية ل بد ّ له من التثّبت فيما يدعو الّناس‬
‫إليه بأّنه الحق‪ ،‬كما أّنه محتاج إلى التثّبت في نقل الخبار وسماعها وفهمها‬
‫مة الناس محتاجون إلى التثّبت فيما يتناقلونه من الخبار‬ ‫والحكم عليها‪ ،‬وعا ّ‬
‫ويسمعونه عن الشخاص أو الهيئات أو الحوال‪ ،‬وبقية طبقات الّناس من‬
‫ل أولئك محتاجون إلى هذا‬ ‫جار وساسة وعسكريون‪...‬إلخ‪ ،‬ك ّ‬ ‫إعلميين وت ّ‬
‫المنهج السامق الذي أوصى الله عّز وجل به‪ ،‬وإل يأخذ به المسلمون في‬
‫حياتهم وتعاملتهم تكن فتنة في الرض وفساد كبير‪.‬‬
‫ويمكن إرجاع أصول التثّبت إلى الصول التالية‪:‬‬

‫‪91‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫حة الكلم المسموع أو المقروء‪ :‬وثمرة هذا الصل الطمئنان‬ ‫ـ التثّبت من ص ّ‬


‫ً‬
‫ن الخبر قد يكون كذبا والرواية قد‬ ‫إلى صدق الخبر المسموع أو المكتوب؛ ل ّ‬
‫تكون مختلقة‪ ،‬وعندها ُيرفض الخبر وترد الرواية‪ ،‬ويسلم النسان من نقل‬
‫الخبار المكذوبة والشائعات‪.‬‬
‫ـ التثّبت من دّقة كلم المتكّلم ووضوح عبارته‪ :‬فقد يكون أصل الخبر صحيحا ً‬
‫ن الخبر ليس كما نقل‪ ،‬وذلك‬ ‫والمتكّلم به غير متهم بالكذب‪ ،‬ولكن قد يتبّين أ ّ‬
‫ن‬
‫ما يريد‪ ،‬أو أ ّ‬ ‫لعدم دّقة المتكّلم به في عباراته وعدم استطاعته الفصاح ع ّ‬
‫نقله للخبر كان بأسلوب ركيك غامض جعل السامع يفهم منه غير المقصود‪،‬‬
‫ومن هنا تنشأ الشائعات إذا تسلسل النقل بهذه الطريقة‪ ،‬ومن هنا يجب‬
‫التثّبت من دّقة عبارة المتكّلم ووضوحها‪.‬‬
‫ـ التثّبت من دّقة فهم السامع واستيعابه‪ :‬في هذه الحالة قد يكون المتكّلم‬
‫ب في‬ ‫بالخبر دقيقا ً في عبارته وأدائه وهو صادق فيما ينقل‪ ،‬ولكن التثّبت ينص ّ‬
‫هذه الحالة على دّقة فهم السامع للكلم المنقول‪ ،‬فقد يكون السامع بطيء‬
‫الستيعاب سيئ الفهم‪ ،‬فيفهم الكلم على غير مقصوده فينقله بعد ذلك‬
‫ن الناقلين‬ ‫لغيره بفهمه الخاطئ‪ ،‬ومن هنا أيضا ً تبدأ الشاعات والكاذيب‪ ،‬مع أ ّ‬
‫لم يؤتوا من كذبهم فهم صادقون‪ ،‬ولكنهم أتوا من سوء فهمهم وقّلة‬
‫ن السامع قد فهم الفهم الدقيق الصحيح‬ ‫انتباههم‪ ،‬ومن هنا يجب التثّبت من أ ّ‬
‫لما سمع‪.‬‬
‫ّ‬
‫وهذه المراحل الثلث من التثّبت ل بد ّ للمسلم أن يعيها وهو يتكلم بالخبار أو‬
‫يسمعها؛ حيث يجب عليه تقوى الله عّز وجل‪ ،‬فل يقول ول ينقل إل ّ صدقًا‪،‬‬
‫وإذا تكّلم فليكن منتبها ً في كلمه دقيقا ً في عبارته؛ حتى ل يفهم عنه الكلم‬
‫على غير حقيقته‪ ،‬وإذا سمع فليرع سمعه ويحضر ذهنه حتى يكون فهمه دقيقا ً‬
‫مستوعبا ً لما قيل‪.‬‬
‫وكما هو مطلوب منه أن يتثّبت من هذه المور في نفسه‪ ،‬فمطلوب منه أن‬
‫يطمئن على وجودها أيضا ً في غيره من الناقلين والسامعين‪.‬‬
‫ولقد كان السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ حريصين أشد ّ الحرص فيما يقولونه‬
‫ويسمعونه من الفتاوى والقوال على هذا المنهج الرّباني الكريم‪ ،‬ومن ذلك‬
‫ما تواتر من الروايات المنقولة عنهم في تحريمهم للفتاء بغير علم‪ ،‬وأن ل‬
‫حة دليلها‪ ،‬ول يروي رواية إل ّ بعد‬ ‫يفتي العالم في مسألة حتى يفهم واقعها وص ّ‬
‫حتها‪.‬‬
‫التثّبت من صدقها وص ّ‬
‫ومن ذلك ما نقله ابن القّيم رحمه الله تعالى في "آداب المفتي والمستفتي"‬
‫حيث يقول‪" :‬وكان أيوب إذا سأله السائل قال له‪ :‬أعد‪ ،‬فإن أعاد السؤال كما‬
‫سأله عنه أول ً أجابه وإل لم يجبه! وهذا من فهمه وفطنته رحمه الله تعالى‪،‬‬
‫ن المسألة تزداد وضوحا ً وبيانا ً بتفّهم السؤال‪،‬‬ ‫وفي ذلك فوائد عديدة‪ ،‬منها‪ :‬أ ّ‬
‫ن السائل لعّله أهمل فيها أمرا يتغّير به الحكم‪ ،‬فإذا أعادها رّبما يتبّين‬
‫ً‬ ‫ومنها أ ّ‬
‫م يحضر ذهنه بعد‬ ‫ّ‬ ‫ث‬ ‫ً‬
‫ل‪،‬‬ ‫أو‬ ‫السؤال‬ ‫عن‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫ذاه‬ ‫يكون‬ ‫قد‬ ‫المسؤول‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ومنها‬ ‫له‪،‬‬
‫ذلك‪ ،‬ومنها‪ :‬أّنه رّبما بان له تعّنت السائل وأّنه وضع المسألة؛ فإذا غّير‬
‫ن المسألة ل حقيقة لها‪ ،‬وأّنها من‬ ‫السؤال وزاد فيه ونقص فرّبما ظهر له أ ّ‬
‫الغلوطات أو غير الواقعات التي ل يجب الجواب عنها"‪.‬‬
‫ومن هذا النقل يتبّين لنا بعض جوانب التثّبت التي سبق الشارة إليها‪.‬‬
‫نسأله سبحانه الثبات في المر والعزيمة على الرشد‪ ،‬ونعوذ به من أن‬

‫‪92‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫نقترف على أنفسنا سوءا ً أو نجّره إلى مسلم‪ ،‬والحمد لله ر ّ‬


‫ب العالمين‪.‬‬
‫‪http://www.lahaonline.com‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ول تكن كصاحب الحوت‬


‫طارق حميدة‬
‫‪tariq_hamida@hotmail.com‬‬
‫مركز نون للدراسات القرآنية ‪ /‬البيرة‬
‫تبدأ سورة القلم بقوله تعالى ) ن والقلم وما يسطرون ‪ ،‬ما أنت بنعمة ربك‬
‫بمجنون ( ‪ ،‬وقد يبدو هذا القسم غريبا ً ‪ ،‬إذ هل قد بلغ المر بالرسول الكريم‬
‫أن يشك في أنه مجنون ؟ ‪.‬‬
‫لقد كانت الية واضحة وصريحة ) ما أنت بنعمة ربك بمجنون ( ‪ ،‬فلم يكن‬
‫الخطاب فيها ‪ :‬لست يا محمد مجنونا ً ‪ ،‬ولكن ‪ :‬لست بما كّرمك الله من نعمة‬
‫الرسالة ‪ ،‬وما تفضل به عليك من النبوة وحمل الدعوة بمجنون‪ ،‬فإنه لم‬
‫يتهمك أحد بالجنون قبل ذلك ‪ ،‬وإنك لصاحبهم الذي لبث فيهم عمرا ً من قبله‬
‫فعرفوك وخبروا رجاحة عقلك ‪،‬وما يوم الحجر السود منهم ببعيد ‪ ،‬ولذلك‬
‫فقد قّرعهم القرآن في موضع آخر بقوله ‪):‬وما صاحبكم بمجنون ( ‪.‬‬
‫إن الحملت الدعائية الشديدة الموجهة ضد الدعاة والمصلحين عموما ً ‪ ،‬مع‬
‫ما يرافقها من إيذاء نفسي وجسدي ‪ ،‬ل شك تفعل فعلها في نفوسهم‬
‫‪..‬أيمكن أن يكون الكل على خطأ وهم وحدهم على الحق والصواب ؟ وكأن‬
‫الواحد منهم يكاد يضعف أمام هذه الحملت ‪ ،‬وتحدثه نفسه تحت ضغطها أن‬
‫يترك الدعوة‪ ،‬فلماذا يسبح عكس التيار ويحمل السلم بالعرض ؟ ‪ ،‬فتأتي‬
‫مثل هذه اليات الكريمات لتثبت أفئدة الدعاة المصلحين‪ ،‬كما ثبتت من قبل‬
‫فؤاد المصطفى عليه السلم وهي تخاطبه ‪ :‬إنك بنعمة من ربك ولست‬
‫بمجنون‪ ،‬وإن لك على تحملك وصبرك لجرا ً غير ممنون ‪..‬وهل كان الله‬
‫ليختارك للرسالة لو كنت مجنونا ً ؟‪،‬إنه لول رجاحة عقلك وخطورة عملك‬
‫وأهميته وعلو شأنه‪ ،‬ما كنت جديرا ً بهذه المهمة ول ذلك الجر‪.‬‬
‫وليس ذلك فحسب فإنك )لعلى خلق عظيم (‪ ،‬وكيف يكون صاحب الخلق‬
‫العظيم مجنونا ً ‪ ،‬والحال أن سمو الخلق قرين العقل الراجح ‪ ،‬ول يتصور‬
‫أحدهما بمعزل عن الخر ؟‪.‬‬
‫ثم ل تلبث اليات إل قليل ً حتى تنهى النبي عليه السلم عن طاعة المكذبين‬
‫وطاعة كل حلف مهين هماز مشاء بنميم مّناع للخير معتد أثيم ‪ ،‬وكيف يطيع‬
‫صاحب الخلق العظيم من ل خلق لهم ‪ ،‬وكيف ينزل من عليائه إلى حضيضهم‬
‫‪ ..‬؟‬
‫وبعد ذلك تعرض السورة لقصة أصحاب الجنة تشبه حال قريش بحالهم ‪..‬‬
‫حين يقسم أصحاب الجنة بأن يقطفوا ثمار جنتهم دون أن يستثنوا للمساكين‬
‫شيئا‪ ،‬ول يستمعون لنصيحة أوسطهم‪ ،‬فعاقبهم الله تعالى بالحرمان وزوال‬
‫النعمة‪ ..‬إن حال أصحاب الجنة مع أخيهم كحال قريش مع محمد عليه السلم‬
‫‪ ،‬فإنه لوسطهم وأرجحهم عقل ً وأحسنهم خلقا ً ‪ ،‬يدعوهم إلى ما فيه خيرهم ‪،‬‬
‫ثم هم يضغطون عليه بكل الوسائل ليتخلى عن دعوته‪ ،‬وفي القصة تحذير‬
‫لقريش إذا خالفوا دعوة الرسول أن يصيبهم مثل ما أصاب أصحاب الجنة من‬
‫زوال النعم عندما لم يستجيبوا لنصح أخيهم الرجح عقل ً ‪.‬‬
‫وفيها تنبيه للنبي عليه السلم أن ل يضعف وينساق لهواء قومه فيشك في‬

‫‪93‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عقله أمام إجماعهم ‪ ..‬أو تحدثه نفسه كما يقول عقلء زماننا ‪ ":‬إذا جن ربعك‬
‫فلن ينفعك عقلك " ‪ ،‬إن النبي ‪،‬والداعية وكل مصلح ‪ ،‬هو صمام المان‬
‫لجماعته ‪ ..‬وبثباته ينجو هو وينجو معه من يكرمه الله تعالى بمتابعته ‪ ..‬وإذا‬
‫ما أدهن مع قومه ‪ ،‬أو تخلى عن وظيفته في الدعوة والصلح ‪ ،‬فيوشك الله‬
‫تعالى أن يعمهم بعقابه ‪.‬‬
‫وفي ختام السورة أمر للرسول ‪ ،‬عليه السلم ) فاصبر لحكم ربك ول تكن‬
‫كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ( ‪ ..‬اصبر فأنت بعد ُ في سعة وسلمة ‪،‬‬
‫ول تهرب من أداء الواجب ‪ ،‬مثلما فعل يونس عليه السلم فضيق الله عليه‬
‫في بطن الحوت ‪ ..‬وأنت الن في نعمة بل أعظم نعمة وأتمها وأسبغها ‪،‬‬
‫فإياك أن تخلعها عنك ‪ ،‬وما يدريك إن فعلت وألقيتها عنك أن يتداركك الله‬
‫بنعمته مرة أخرى ؟‬
‫ثم تتحول اليات لتكشف دخيلة المشركين أمام ناظري الرسول الكريم ‪:‬‬
‫إنهم يعلمون علم اليقين أنك أرجحهم عقل ً حتى وهم يتهمونك بالجنون ‪ ،‬وأنك‬
‫في نعمة عظيمة يحسدونك عليها‪ ،‬بل إنهم ليكادون يزلقونك بعيونهم لشدة‬
‫ما يجدون في أنفسهم تجاهك ‪ ،‬وإن كان الحال أنهم يتهمونك بالجنون عندما‬
‫سمعوا الذكر‪ ،‬على أمل أن تتخلى عن رسالتك فتنزل إلى مستواهم ما داموا‬
‫قد قصرت هاماتهم وهممهم عن أن يطاولوا درجتك أو حتى يؤمنوا بك‬
‫ويتبعوك ‪ ،‬ولو كنت مجنونا ً كما يزعمون ما ركزوا فيك أبصارهم‪.‬‬
‫وهم بعد أحرار في هذه الدنيا أن يؤمنوا أو ل يؤمنوا فإن هذا القرآن ذكر‬
‫للعالمين‪ ،‬كل العالمين‪ ،‬وسيبلغ مداه الذي أراده الله تعالى ولن يتوقف‬
‫نجاحه على إيمانهم أو عدمه )وما هو إل ذكر للعالمين(‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ول تلبسوا الحق بالباطل‬


‫الصفحة ‪ 1‬لـ ‪3‬‬
‫الموضوع الول‬
‫تمهيد ‪:‬‬
‫الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله‬
‫وصحبه ‪ ..‬أما بعد ‪:‬‬
‫فإن الله عز وجل خلق الخلق من الجن والنس لغاية عظيمة ‪ ،‬وهي عبادته‬
‫ت‬
‫ق ُ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ما َ‬‫سبحانه وتوحيده والخلص له وحده ل شريك له ‪ ،‬قال تعالى ‪ )) :‬وَ َ‬
‫ن((‬ ‫دو ِ‬ ‫س إ ِّل ل ِي َعْب ُ ُ‬
‫ن َواْل ِن ْ َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ج ّ‬
‫]الذاريات ‪. [56 :‬‬
‫ومن أجل ذلك أنزل سبحانه الكتب وأرسل الرسل ‪ ،‬وزود عباده بالعقول‬
‫التي تميز الخير من الشر والحق من الباطل ‪ ،‬وتكفل سبحانه بالعون‬
‫والتوفيق لمن أراد الهدى والحق فدله إليه ورزقه النقياد له ‪ ،‬وتخلى عمن‬
‫أعرض عن الحق فلم يقبل به ‪ ،‬ولم يستسلم ويخضع له ‪ ،‬وكل هذا من‬
‫ذي‬ ‫ّ‬
‫البتلء الذي خلق الله سبحانه الموت والحياة من أجله ‪ ،‬قال تعالى ‪ )) :‬ال ِ‬
‫زيُز ال ْغَ ُ‬ ‫خل َق ال ْموت وال ْحياة َ ل ِيبل ُوك ُم أ َيك ُ َ‬
‫فوُر(( (‬ ‫مل ً وَهُوَ ال ْعَ ِ‬
‫ن عَ َ‬
‫س ُ‬
‫ح َ‬
‫مأ ْ‬‫َْ َ ْ ّ ْ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ َ َ‬
‫]الملك ‪. [2 :‬‬
‫وانقسم الناس إثر ذلك إلى مؤمنين موحدين مدركين للغاية التي من أجلها‬
‫خلقوا ‪ ،‬فصار تدوافعهم كلها في مرضاة الله سبحانه ‪ ،‬وسخروا كل ما آتاهم‬
‫الله في هذه الدنيا لخدمة هذه الغاية الشريفة لنيل مرضاة الله سبحانه‬

‫‪94‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وتعالى ‪ ،‬فعملوا للخرة والفوز برضوان الله والجنة ‪ ،‬ومن الناس من أمضى‬
‫حياته في اللهو واللعب وإيثار الحياة الدنيا ‪ ،‬وجعل هذه الدنيا همه وغايته‬
‫واتبع هواه ‪ ،‬فخسر الدنيا والخرة ‪ ،‬أل ذلك هو الخسران المبين ‪.‬‬
‫ثم إن الفئة المؤمنة لم تسلم كذلك من الفتن ‪ ،‬وكيف ل يكون ذلك وعدوها‬
‫الشيطان الرجيم متربص بها ل يفتأ يضلها ويزين لها ويخدعها ؟ يقول الله عز‬
‫َ‬
‫م‬
‫قي َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ال ْ ُ‬ ‫صَراط َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬‫ما أغْوَي ْت َِني َل َقْعُد َ ّ‬ ‫ل فَب ِ َ‬‫وجل عن إبليس اللعين ‪َ )) :‬قا َ‬
‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫‪ ،‬ث ُم َلت ِينهم من بي َ‬
‫جد ُ‬ ‫م َول ت َ ِ‬ ‫مائ ِل ِهِ ْ‬‫ش َ‬ ‫م وَعَ ْ‬ ‫مان ِهِ ْ‬ ‫ن أي ْ َ‬ ‫م وَعَ ْ‬ ‫فهِ ْ‬
‫خل ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م وَ ِ‬
‫ديهِ ْ‬
‫ن أي ْ ِ‬‫َُّ ْ ِ ْ َْ ِ‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫ما‬‫ِ َ‬ ‫ب‬ ‫ب‬
‫ّ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫))‬ ‫‪:‬‬ ‫تعالى‬ ‫وقال‬ ‫‪،‬‬ ‫[‬ ‫‪17‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪:‬‬ ‫]العراف‬ ‫(‬ ‫ن(‬ ‫ري‬
‫ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫شا‬ ‫َ‬ ‫أك ْث َ َ ْ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ر‬
‫م‬ ‫عَباد َ َ‬‫ن ‪ ،‬إ ِّل ِ‬ ‫أ َغْويتِني َل ُزينن ل َهم في اْل َرض وَل ُغْوينه َ‬
‫من ْهُ ُ‬‫ك ِ‬ ‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬‫مأ ْ‬ ‫َُِّ ْ‬ ‫ْ ِ َ‬ ‫َ َّ ّ ُ ْ ِ‬ ‫ََْ‬
‫ن(( ]الحجر ‪. [40 ، 39 :‬‬ ‫صي َ‬ ‫خل ِ‬‫َ‬ ‫م ْ‬‫ال ْ ُ‬
‫أحابيل الشيطان ‪:‬‬
‫إن من أعظم الفتن التي يفتن الشيطان بها العباد ‪ ،‬فتنة التزيين ولبس الحق‬
‫شَرك الخطير كثير من‬ ‫بالباطل وإتباع الهوى في ذلك ‪ ،‬ولقد وقع في هذا ال َ‬
‫الناس وبخاصة في زماننا هذا ‪ ،‬حيث تموج الفتن موج البحر‪ ،‬وحيث كثر‬
‫الخداع والنفاق والدجل والرياء ‪.‬‬
‫ضلل كثير من الناس وتمكن‬ ‫نعم إننا في زمان اشتدت فيه غربة السلم ‪ ،‬و ُ‬
‫الشيطان من كثير منهم تمكنا ً يظنون معه أنهم بمنأى عن عدوهم اللدود‬
‫وعلى صلة بربهم سبحانه وتعالى ‪ ،‬وما ذلك إل بسبب التباس الحق بالباطل‬
‫ض‬ ‫ضهُ ْ َ‬
‫م إ ِلى ب َعْ ٍ‬ ‫حي ب َعْ ُ‬ ‫والجهل بالعلم ولتعاون شياطين الجن والنس ‪ُ )) :‬يو ِ‬
‫ل غُُرورا ً (( ]النعام ‪. [112 :‬‬ ‫قو ْ ِ‬ ‫ف ال ْ َ‬‫خُر َ‬ ‫ُز ْ‬
‫فتعاونوا في وضع هذا التلبيس في قوالب من القوال مزخرفة ‪ ،‬وألفاظ من‬
‫ل بسبب ذلك كثير من‬ ‫ض ّ‬ ‫القول خادعة ‪ ،‬وتسمية للشياء بغير أسمائها فَ َ‬
‫الناس ‪ ،‬والعاقل منهم من وقف حائرا ً ل يدري أين وجهة الحق فيما يسمع‬
‫ويرى من التناقضات وتبرير المواقف الخاطئة المخالفة للشريعة ‪ ،‬بسبب‬
‫استيلء الهوى على النفوس واستيلء الشهوات على القلوب ‪.‬‬
‫ولما كان من غير المستطاع المجاهرة برد الشريعة ورفضها ‪ ،‬كان لبد لهم‬
‫من لي أعناق النصوص من آيات وأحاديث ليستدل بها أولئك المبطلون على‬
‫المواقف المنحرفة وليست فيها دللة عليها ‪ ،‬ولو أن الذي يقع في النحراف‬
‫يعترف بذنبه وخطئه وضعفه في مخالفة الشريعة ‪ ،‬لكان المر أهون ‪ ،‬وكذلك‬
‫ه إلى هذا الخطأ في الستدلل رجع‬ ‫لو أنه استدل بدليل في غير محله ولما ن ُب ّ َ‬
‫ف‬
‫حّر َ‬ ‫واعترف لكان هذا أيضا ً أهون ‪ ،‬ولكن المصيبة أن يصر المسلم الذي َ‬
‫الدلة ولواها ليجد لعمله‬
‫جا ً وشرعية ‪ ،‬فيكابر بعد بيان الحق له ‪ ،‬ويغالط نفسه والمسلمين‬ ‫خَر َ‬ ‫م ْ‬‫َ‬
‫بصنيعه هذا‪.‬‬
‫منطلق هذه الوقفات ‪:‬‬
‫ً‬
‫* إننا في زماننا هذا نرى صورا كثيرة من لبس الحق بالباطل ‪ ،‬وصورا أخرى‬ ‫ً‬
‫من المغالطات والخداع والحيل المحرمة في شرع الله عز وجل ‪ ،‬فكان‬
‫لزاما ً على الدعاة والمصلحين أن يحذروا من الوقوع في هذا المزلق ‪ ،‬وأن‬
‫عوهم لهل الهواء يلبسون عليهم دينهم ويحرفون‬ ‫يكشفوه للناس ول يد َ ُ‬
‫الكلم عن مواضعه ‪ ،‬ومعلوم ما ينتج من وراء ذلك من الفتن والتضليل ‪.‬‬
‫* من أجل ذلك جاءت هذه الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم لمعالجة‬
‫هذا الموضوع المهم على ضوء الكتاب والسنة وما ذكره العلماء الفحول ‪،‬‬
‫ل (( ‪ ،‬وهو جزء‬ ‫حقّ ِبال َْباط ِ ِ‬ ‫سوا ال ْ َ‬ ‫وقد اخترت عنوانا ً لها قوله تعالى ‪َ)) :‬ول ت َل ْب ِ ُ‬
‫من آيتين كريمتين وردت إحداهما في سورة البقرة عند قوله تعالى ‪َ )) :‬ول‬

‫‪95‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬
‫َ‬
‫ن(( ]البقرة ‪ [42 :‬والخرى‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫موا ال ْ َ‬
‫حقّ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫حقّ ِبال َْباط ِ ِ‬
‫ل وَت َك ْت ُ ُ‬ ‫سوا ال ْ َ‬
‫ت َل ْب ِ ُ‬
‫في سورة آل عمران‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ق‬
‫ح ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫مو َ‬ ‫ل وَت َك ْت ُ ُ‬‫حقّ ِبال َْباط ِ ِ‬‫ن ال ْ َ‬‫سو َ‬‫م ت َل ْب ِ ُ‬‫ب لِ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬‫عند قوله تعالى ‪َ )) :‬يا أ َهْ َ‬
‫َ‬
‫ن(( ]آل عمران ‪. [71 :‬‬ ‫مو َ‬‫م ت َعْل َ ُ‬‫وَأن ْت ُ ْ‬
‫العبرة بعموم اللفظ ل بخصوص السبب ‪:‬‬
‫وهاتان اليتان وإن كانتا قد نزلتا في أهل الكتاب فالعبرة بعموم اللفظ ل‬
‫بخصوص السبب كما هو مقرر عند علماء الصول ‪ ،‬فكل من كتم الحق‬
‫وخلطه بالباطل وهو يعلم فهو من أهل هذه الية ‪ ،‬ولذلك سوف ل أتطرق‬
‫لمحاولت أهل الكتاب ول أصحاب الملل الكافرة في تلبيس الحق بالباطل‬
‫ومغالطاتهم في ذلك ‪ ،‬بل سينصب جل البحث على واقعنا المسلم الذي‬
‫نعيش فيه وندعو إلى الله فيه ‪ ،‬محاول ً كشف بعض الصور التي التبس فيها‬
‫الحق بالباطل والتي يقع فيها بعض المنتسبين‬
‫لهذا الدين من المنافقين وضعاف اليمان لتبرير النحراف أو التهوين منه‬
‫والرضى به وإقراره ‪ ،‬بل إن بعض الطيبين من دعاة وطلب علم قد تأثروا‬
‫بأولئك الملبسين فصاروا يرددون بعض ما يقولون بعلم أو بغير علم ‪ ،‬وقد‬
‫قسمت الموضوع إلى المباحث التالية ‪:‬‬
‫* أهمية الموضوع‬
‫* تعريفات‬
‫* أسباب التباس الحق بالباطل‬
‫* صور من لبس الحق بالباطل‬
‫* السباب الواقية من لبس الحق بالباطل‬
‫* خاتمة‪.‬‬
‫أهمية الموضوع ‪:‬‬
‫إن لدراسة التباس الحق بالباطل أهمية كبرى لما ينتج عن ذلك التلبيس من‬
‫تزييف وفتنة يكون لها الثر السيء والضرر البالغ في تضليل المة وتحريف‬
‫الحقائق وتزوير الحداث ‪ ،‬ويمكن توضيح أهمية الموضوع في المور التالية ‪:‬‬
‫‪ -1‬القيام بالعبودية لله تعالى ل يتم إل بالخلص له سبحانه وتعالى ‪ ،‬وأن‬
‫تكون العبادة على بصيرة باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم‪،‬‬
‫والبصيرة بالدين ل تتحقق مادام أن الباطل ملتبسا ً بالحق‪ ،‬مما يلزم تنقية‬
‫ي(( ]البقرة ‪. [56 :‬‬ ‫ن ال ْغَ ّ‬‫م َ‬‫شد ُ ِ‬‫ن الّر ْ‬ ‫الحق من الباطل قال تعالى ‪ )) :‬قَد ْ ت َب َي ّ َ‬
‫‪ -2‬كثرة التلبيس والتضليل في عصرنا بوسائل إعلمية ماكرة مضللة تلبس‬
‫على الناس دينهم وتخلط الحق بالباطل ‪ ،‬بل وصل المر لدرجة قلب الحقائق‬
‫وإظهار الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق ‪ ،‬وذلك لطمس‬
‫الحق أو تشويهه وتشويه حملته والداعين إليه ‪ ،‬فكان لبد من إزالة هذا‬
‫حقّ وَي ُب ْط ِ َ‬
‫ل‬ ‫حقّ ال ْ َ‬ ‫اللبس لحقاق الحق وإبطال الباطل بقدر المستطاع ))ل ِي ُ ِ‬
‫ن(( ]النفال ‪. [8 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫جرِ ُ‬ ‫ل وَل َوْ ك َرِهَ ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ال َْباط ِ َ‬
‫‪ -3‬السكوت المزعج لكثير من العلماء وطلبة العلم في ديار السلم أمام‬
‫كثير من المستجدات والنوازل التي تبحث فيها المة عن الموقف الشرعي‬
‫إزاء تلك النوازل ‪ ،‬مما حدا بذوي القلوب المريضة في غيبة العلماء أن‬
‫يلبسوا على المة أمرها ‪ ،‬وتكلمت الرويبضة في أمر العامة ‪ ،‬والدهى والمر‬
‫أن من أهل العلم من يساهم في هذا التلبيس فتراه يسمي المور بغير‬

‫‪96‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أسمائها ‪ ،‬وينزل النوازل في غير مناطاتها ‪ ،‬بل قد يثني على المبطلين ويغض‬
‫من قدر المصلحين ‪ ،‬فإلى الله المشتكى‪.‬‬
‫‪ -4‬أهمية تعرية الباطل وأهله ‪ ،‬فمادام أن الحق مختلط بالباطل ‪ ،‬وسبيل‬
‫المجرمين لم يتميز عن سبيل المؤمنين ‪ ،‬فإن الدين سيبقى مشوها ً عند‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫حَيى َ‬ ‫ن ب َي ّن َةٍ وَي َ ْ‬
‫ك عَ ْ‬ ‫ن هَل َ َ‬ ‫م ْ‬‫ك َ‬ ‫الناس ‪ ،‬وسيبقى التلبيس فيه قائما ً )) ل ِي َهْل ِ َ‬
‫ة(( )لنفال‪ :‬من الية ‪. (42‬‬ ‫ن ب َي ّن َ ٍ‬
‫ي عَ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫َ‬
‫‪ -5‬ضرورة بيان تلبيس الطواغيت ودعاة العلمنة في كثير من بلدان السلم‬
‫وما يضفونه على مخططاتهم الظالمة من تبريرات لظلمهم وادعاءاتهم التي‬
‫َْ‬
‫ض َقاُلوا إ ِن ّ َ‬
‫ما‬ ‫دوا ِفي الْر ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ف ِ‬‫م ل تُ ْ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫قال الله تعالى في مثلها ‪ )) :‬وَإ َِذا ِقي َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن(( ]البقرة ‪، 11 :‬‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫ن ل يَ ْ‬ ‫ن وَلك ِ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫س ُ‬
‫ف ِ‬‫م ْ‬‫م ال ْ ُ‬ ‫م هُ ُ‬
‫ن ‪ ،‬أل إ ِن ّهُ ْ‬
‫حو َ‬ ‫صل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫نَ ْ‬
‫‪. [12‬‬
‫‪ -6‬ظهور بعض المغالطات من كثير من الناس واستخدامها في تبرير‬
‫المواقف الخاطئة والمخالفات الشرعية ‪ ،‬سواء أكانت فردية أو جماعية‬
‫فينبثق عنها مواقف وممارسات خاطئة تلبس على الناس أمرهم ‪ ،‬ومنشأ‬
‫هذه المغالطات في الغالب شهوة مزجت بشبهة فتولد عنها مغالطة ‪،‬‬
‫وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد ‪.‬‬
‫مصطلحات في الموضوع ‪:‬‬
‫يحسن بنا قبل الدخول في ثنايا الموضوع اللمام بتعريفات كثر إيرادها ‪ ،‬من‬
‫أهمها )اللبس والتلبيس( و ) الغاليط والمغالطات( ‪:‬‬
‫ل‪ -‬اللبس والتلبيس ‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫قال في لسان العرب ‪ ) :‬اللْبس واللَبس ‪ :‬اختلط المر ‪ ،‬لبس عليه المر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يلبسه لْبسا ً فالتبس ‪ ،‬إذا خلطه عليه حتى ل يعرف جهته ‪ ،‬والتبس عليه المر‬
‫أي اختلط واشتبه ‪ ،‬والتلبيس ‪ :‬كالتدليس والتخليط ‪ ،‬شدد للمبالغة ‪ ،‬وربما‬
‫سه إذا شبهته عليهم وجعلته‬ ‫ت المر على القوم ألب ْ ُ‬ ‫شدد للتكثير ‪ ،‬يقال ‪ :‬ل ََبس ُ‬
‫مشكل ً ( أ ‪ .‬هـ ‪ ،‬وقال ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس ‪ ) :‬التلبيس‬
‫إظهار الباطل في صورة الحق ( أ ‪ .‬هـ ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫م‬
‫حقّ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫موا ال َ‬ ‫ْ‬
‫ل وَت َكت ُ ُ‬ ‫حقّ ِبالَباط ِ ِ‬ ‫سوا ال ْ َ‬ ‫ومن ذلك قوله تعالى ‪َ)) :‬ول ت َل ْب ِ ُ‬
‫ن(( )البقرة‪(42:‬‬ ‫مو َ‬ ‫ت َعْل َ ُ‬

‫)‪(2 /‬‬

‫قال شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬عند هذه الية ‪ ) :‬فإنه من لبس‬
‫الحق بالباطل فغطاه به فغلط به لزم أن يكتم الحق الذي تبين أنه باطل إذ‬
‫لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق ( ‪.‬‬
‫ثانيًا‪ -‬الغاليط والمغالطات ‪:‬‬
‫َ‬
‫قال في لسان العرب ‪ ) :‬المْغلطة والغلوطة ‪ :‬ما يغالط به من المسائل‬
‫والجمع ‪ :‬الغاليط ‪ ،‬وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن‬
‫الغلوطات‪ ،‬قال الهروي ‪ :‬وأراد بها المسائل التييغالط بها العلماء ليزلوا‬
‫فيهيج بذلك شر وفتنة ‪ ،‬وإنما نهي عنها لنها غير نافعة في الدين ول تكاد‬
‫تكون إل بما ل يقع ‪ ،‬ومثله قول ابن مسعود ‪ -‬رضي الله عنه ‪ ) : -‬أنذرتكم‬
‫صعاب المنطق ( يريد‬
‫المسائل الدقيقة الغامضة ( ‪.‬‬
‫وقد أخرج أبو داود رحمه الله في سننه عن معاوية رضي الله عنه أن النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلوطات ]‪. [1‬‬

‫‪97‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وروى كل من البخاري ومسلم حديث حذيفة المشهور في الفتن ‪ ،‬وفيه قول‬


‫حذيفة ‪ ) :‬إني حدثته حديثا ً ليس بالغاليط ( ]‪. [2‬‬
‫قال في الشرح ‪ :‬الغاليط جمع أغلوطة وهي المسائل التي يغلط فيها‬
‫والحاديث التي تذكر للتكذيب ‪ ،‬ونقل الحافظ بن رجب رحمه الله في جامع‬
‫العلوم والحكم عند شرحه للحديث التاسع من أحاديث الربعين النووية‬
‫قوله ‪ :‬وقال الحسن البصري ‪ ) :‬شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل‬
‫يعمون بها عباد الله ( ‪.‬‬
‫وقال الوزاعي ‪ ) :‬إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على‬
‫لسانه المغاليط ‪ ،‬فلقد رأيتهم أقل الناس علما ً ( ‪.‬‬
‫والحاصل مما ذكر أن المغاليط هي التي يثيرها المغالطون من صعاب‬
‫المسائل أو المسائل التي لم تقع ‪ ،‬وذلك ليغالطوا بها العلماء ليزلوا فيعمون‬
‫بها العباد ويهيج من ذلك شر وفتنة وتلبيس على الناس ‪ ،‬نسأل الله‬
‫السلمة ‪..‬‬
‫_____________‬
‫]‪ [1‬أبو داود كتاب العلم ح‪. 8/‬‬
‫]‪ [2‬البخاري كتاب المواقيت ح‪ ، 4/‬مسلم كتاب اليمان‬
‫ول تلبسوا الحق بالباطل‬
‫الصفحة ‪ 2‬لـ ‪3‬‬
‫الموضوع الثاني‬
‫الحمد لله وحده والصلة والسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن‬
‫واله وبعد ‪..‬‬
‫إن النحراف عن الحق والوقوع في الخطأ ل تعدوا أسبابه الفتن التالية ‪:‬‬
‫‪ -1‬فتنة الشبهات ‪.‬‬
‫‪ -2‬فتنة الشهوات ‪.‬‬
‫‪ -3‬فتنة الجمع بين الشبهة والشهوة لبس الحق بالباطل وكل انحراف أو‬
‫ضلل أو خطأ سواء أكان صغيرا ً أو كبيرا ً ل يخرج في دوافعه عن السباب‬
‫الثلثة السابقة ‪:‬‬
‫فإذا وقع العبد في مخالفة شرعية ‪ ،‬فإما أن يكون السبب في هذه المخالفة‬
‫هو الجهل بها وعدم العلم بحرمتها‪ ،‬أو اشتبه المر عليه فحسبها مكروهة‬
‫فقط ‪ ،‬فهذا الخطأ سبب الشبهة الناتجة من قلة العلم وضعف البصيرة ‪.‬‬
‫وأما إذا كان لدى من وقع في المخالفة علم وبصيرة في دين الله بأنها‬
‫محرمة ومخالفة للشرع ومع ذلك وقع فيها عمدا ً ‪ ،‬فإن الدافع لهذه المخالفة‬
‫إنما هو الشهوة ‪ ،‬وضعف النفس ‪ ،‬ومثل هذا يقر ويعترف بمخالفته ومجانبته‬
‫للصواب كما يعترف بذنبه وتقصيره ‪.‬‬
‫أما إذا وقع في المخالفة عن شهوة وضعف ثم لم يعترف بذنبه وتقصيره ‪،‬‬
‫وإنما راح يبحث عن شبهة شرعية أو تفسير خاطئ أو تأويل متعسف للدلة‬
‫ليبرر بها خطأه ويبرر بها ضعفه وشهوته مع علمه بخطأ تصرفه هذا في‬
‫قرارة نفسه فهذا هو الهوى وهذه هي المغالطة وهذا هو لبس الحق‬
‫بالباطل ‪ ،‬وهو أشنع أنواع النحراف لنه مكر وتحايل على شرع الله وخداع‬
‫للناس ‪.‬‬
‫إن أشد وأشر هذه الفتن من جمع بين الشبهة والشهوة وتحايل على شرع‬
‫الله بأن غطى مخالفته وانحرافه بشبهة شرعية ‪ ،‬وهو يعلم أنه متحايل‬
‫ومخادع ‪ ،‬ومثل هؤلء الملبسين عقوبتهم عند الله عز وجل أشد من الذين‬
‫يقعون في المخالفات الشرعية ولكنهم يعترفون بتقصيرهم وذنوبهم ‪ ،‬ول‬

‫‪98‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫يكابرون ‪ ،‬ول يبررون ولهذا حذر النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬أمته من‬
‫ارتكاب الحيل فقال ول تركبوا ما رتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى‬
‫الحيل ]‪.[1‬‬
‫وهذه هي حقيقة لبس الحق بالباطل وحقيقة المغالطة ‪ ،‬إذ أن الدافع‬
‫الحقيقي للنحراف هو الهوى والشهوة وحب الدنيا ‪ ،‬ولكن عوضا ً عن أن‬
‫يعترف بضعفه هذا وشهوته ‪ ،‬ويعترف بذنوبه في مخالفته للشريعة فإنه‬
‫يستدل لشهوته هذه بشبهة شرعية يعلم هو في قرارة نفسه أنها ل تصلح‬
‫للستدلل ‪ ،‬لكن لبد من غطاء يغطى به هذا الضعف والهوى ‪ ،‬وإذا ذهبنا‬
‫لنتعرف على وسائل التلبيس والطرق التي ينطلق منها الملبس في أغلوطاته‬
‫نجدها ل تخرج في الغالب عن المور التالية‬
‫‪ -1‬التأويل الفاسد واتباع المتشابه ‪.‬‬
‫‪ -2‬كتمان الحق وإخفاؤه ‪.‬‬
‫‪ -3‬تحريف الدلة عن مواضعها ‪ ،‬وعدم إنزالها في مناطاتها ‪ ،‬وتفصيل ذلك‬
‫فيما يلي ‪:‬‬
‫‪ -1‬التأويل وإتباع المتشابه ‪:‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫التأويل الفاسد الذي لم يدل عليه دليل يصرفه عن المعنى الظاهر الذي هو‬
‫أشبه بتحريف الكلم ‪ ،‬والغالب أن الذي يدفع إليه هو الجهل والهوى وفي ذلك‬
‫يقول المام ابن القيم رحمه الله ‪ :‬فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو التأويل‬
‫الذي لم يرده الله رسوله بكلمه ول دل عليه أنه مراده ‪ ،‬وهل اختلفت المم‬
‫على أنبيائها إل بالتأويل ‪ ،‬وهل وقعت في المة فتنة كبيرة أو صغيرة إل‬
‫بالتأويل ؟ فمن بابه دخل إليها ‪ ،‬وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إل‬
‫بالتأويل ؟ ]‪. [2‬‬
‫م‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫سن َت َهُ ْ‬
‫ن أل ِ‬ ‫وو َ‬‫ريقا ي َل ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫مل َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ن ِ‬ ‫وعند قول الله عز وجل في اليهود ‪ )) :‬وَإ ِ ّ‬
‫هّ‬
‫عن ْدِ الل ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬
‫ن هُوَ ِ‬ ‫قولو َ‬ ‫ُ‬ ‫ب وَي َ ُ‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ما هُوَ ِ‬ ‫ب وَ َ‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬ ‫م َ‬ ‫سُبوه ُ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ِبال ْك َِتا ِ‬
‫ب ل ِت َ ْ‬
‫ن(( ]آل عمران ‪:‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ي َعْل َ ُ‬ ‫ب وَهُ ْ‬ ‫ن عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫عن ْدِ الل ّهِ وَي َ ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما هُوَ ِ‬ ‫وَ َ‬
‫‪. [78‬‬
‫يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه الية ‪ :‬وآفة رجال الدين حين‬
‫يفسدون أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين وهذه‬
‫الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب نعرفها نحن جيدا ً‬
‫في زماننا هذا فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم ‪ ،‬ويلوونها ليا ً ‪ ،‬ليصلوا منها‬
‫إلى مقررات معينة ‪,‬يزعمون أنها مدلول هذه النصوص ‪ ،‬وأنها تمثل ما أراده‬
‫الله منها ‪ ،‬بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها‪ ،‬معتمدين‬
‫على أن كثرة السامعين ل تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولت هذه‬
‫النصوص الحقيقية ‪ ،‬وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي ُيلجئون إليها‬
‫النصوص إلجاء ]‪. [3‬‬
‫‪ -2‬كتمان الحق وإخفاؤه ‪:‬‬
‫وهو تحريف الدلة عن مواضعها وتغطية الحق بالباطل ‪ ،‬وقد ورد في كتاب‬
‫الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من النصوص المحذرة من‬
‫كتمان الحق وإخفائه والمتوعده لفاعليه بالوعيد الشديد من ذلك ‪ :‬قوله‬
‫َ‬
‫ما ب َي ّّناهُ‬‫ن ب َعْد ِ َ‬‫م ْ‬ ‫دى ِ‬ ‫ت َوال ْهُ َ‬ ‫ن ال ْب َي َّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ما أن َْزل َْنا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫تعالى ‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن(( ]البقرة ‪. [159 :‬‬ ‫عُنو َ‬ ‫م الل ِ‬ ‫ه وَي َلعَن ُهُ ُ‬
‫م الل ُ‬ ‫َ‬
‫ب أولئ ِك ي َلعَن ُهُ ُ‬ ‫س ِفي ال ْك َِتا ِ‬ ‫ِللّنا ِ‬

‫‪99‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫منا ً قَِليل ً‬
‫ن ب ِهِ ث َ َ‬‫شت َُرو َ‬ ‫ب وَي َ ْ‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬
‫ل الل ّ ُ‬ ‫ن َ‬‫مو َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ُ‬
‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬‫وقوله ‪ )) :‬إ ِ ّ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُأول َئ ِ َ‬
‫م‬ ‫ّ‬
‫مةِ َول ي َُزكيهِ ْ‬ ‫قَيا َ‬
‫م ال ِ‬ ‫ه ي َوْ َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫مهُ ُ‬ ‫َ‬
‫م إ ِل الّناَر َول ي ُكل ُ‬ ‫ن ِفي ب ُطون ِهِ ْ‬ ‫ما ي َأك ُُلو َ‬ ‫ك َ‬
‫َ‬
‫م( ]البقرة ‪. [174 :‬‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫م عَ َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫وَل َهُ ْ‬
‫يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيرها ‪ :‬هذه الية جارية على الرؤساء الذين‬
‫يحرمون على الناس ما لم يحرمه الله ‪ ،‬ويشرعون لهم ما لم يشرعه من‬
‫حيث يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك ‪ ،‬فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن‬
‫حذا حذوهم في شرع مالم يأذن به الله وإظهار خلفه سواء أكان ذلك في‬
‫أمر العقائد ككتمان اليهود أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬أو الكل‬
‫والتقشف وغير ذلك من الحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في‬
‫ن ك َِثيرًا(( ]النعام ‪:‬‬ ‫فو َ‬‫خ ُ‬ ‫دون ََها وَت ُ ْ‬ ‫س ت ُب ْ ُ‬ ‫طي َ‬ ‫ه قََرا ِ‬ ‫جعَُلون َ ُ‬‫ذلك ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ ) :‬ت َ ْ‬
‫‪ [91‬وفي حكمهم كل من يبدي بعض العلم ‪ ،‬ويكتم بعضه لمنفعة ل لظهار‬
‫الحق وتأييده ]‪. [4‬‬
‫وبقيت كلمة أخيرة في موضوع كتمان الحق ‪ ،‬أل وهي أن بعض الطيبين قد‬
‫يقول ‪ :‬أل يجوز كتمان العلم بل قد يجب أحيانا ً عند خوف الفتنة من الجهر به‬
‫سواء أكان على النفس أو على الناس ؟ والجواب أن في ذلك تفصيل كما‬
‫يلي ‪:‬‬
‫بادئ ذي بدء فإن حديثنا ليس عن كتمان العلم وإنما هو عن كتمان الحق‬
‫الذي يجب أن يقال ‪ ،‬وفي نظري والله أعلم أن بينهما اختلف ‪ ،‬وذلك أن‬
‫العلم أنواع فمنه ما هو واجب القول به وتعليمه الناس كفروض العين ونحوها‬
‫ومنه ما هو مستحب ومنه ما يجوز قوله لناس دون أناس حسب عقولهم‬
‫وأفهاهم ‪ ،‬أما قول الحق الواجب فأرى أنه من العلم الواجب إيصاله للناس ‪،‬‬
‫ول يجوز كتمه لن في كتمه مفسدة تنافي مقاصد الشرع أو بعضها ‪ ،‬وفي‬
‫إخفائه فتنة للناس وليس العكس ‪ ،‬فإذا جاز‬
‫كتمان العلم أو وجب في ضوء قواعد الشريعة المعتبرة فإنا والحالة هذه‬
‫نقول ‪ :‬إن الحق في هذا هو كتمان العلم ‪ ،‬وإن الجهر بالعلم مع معرفتنا‬
‫بالمفسدة المترتبة عليه هو الباطل والفتنة وهذا والله أعلم هو الذي عناه‬
‫الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات حيث قال ‪ :‬ومن هذا يعلم أنه‬
‫ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة ‪ ،‬ومما‬
‫يفيد علما ً بالحكام بل ذلك ينقسم ‪ ،‬فمنه ما هو مطلوب النشر وهو غالب‬
‫علم الشريعة ‪ ،‬ومنه ما ل يطلب نشره بإطلق ‪ ،‬أول يطلب نشره بالنسبة‬
‫إلى حال ‪ ،‬أو وقت أو شخص ‪ ،‬ومن ذلك تعيين هذه الفرق فإنه وإن كان حقا ً‬
‫فقد يثير فتنة كما تبين تقريره فيكون من تلك الجهة ممنوعا ً بثه ‪ ،‬ومن ذلك‬
‫علم المتشابهات والكلم فيها ‪ ،‬فإن الله ذم من اتبعها فإذا ذكرت وعرضت‬
‫للكلم فيها فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه ]‪. [5‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫‪ -3‬تحريف الدلة عن مواضعها ‪:‬‬


‫وهذه الطريقة من طرق التلبيس هي ثمرة من ثمرات الطريقتين‬
‫السابقتين ‪ ،‬إذ لبد لمحرف الدلة من كتمان الحق ‪ ،‬ولبد لمتبع المتشابه من‬
‫تأويل كلم الله سبحانه وكلم رسوله صلى الله عليه وسلم من التأويل‬
‫الفاسد الذي يؤدي إلى صرف الدلة عن ما أراد الله بها وأراده رسوله صلى‬
‫الله عليه وسلم ومن ثم وضعها في غير موضعها ‪ ،‬وهذا هو نوع من أنواع‬
‫التحريف للدلة عن مواضعها ‪ ،‬إذ ل يلزم من التحريف أن يكون لفظيا ً كما‬

‫‪100‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فعلت اليهود في التوراة بل إن تحريف المعنى المراد إلى غير المراد هو‬
‫تحريف للنصوص عن مواضعها أيضا ً وهذا ما‬
‫أشار إليه الشاطبي رحمه الله تعالى ‪ :‬وهو يستعرض مآخذ أهل البدع في‬
‫الستدلل‪ :‬ومنها تحريف الدلة عن مواضعها بأن يرد الدليل على مناط‬
‫فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهما ً أن المناطين واحد ‪ ،‬وهو من‬
‫خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله ‪ ،‬ويغلب على الظن أن من‬
‫أقر بالسلم وبأنه يذم تحريف الكلم عن مواضعه ل يلجأ إليه صراحا ً ‪ ،‬إل مع‬
‫اشتباه يعرض له ‪ ،‬أو جهل يصده عن الحق مع هوى يعميه عن أخذ الدليل‬
‫مأخذه ‪ ،‬فيكون بذلك السبب مبتدعا ً وبيان ذلك أن الدليل الشرعي إذا‬
‫اقتضى أمرا ً في الجملة مما يتعلق بالعبادات مثل ً فأتى به المكلف في الجملة‬
‫أيضا ً ‪ ،‬كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات وما أشبهها مما يعلم من‬
‫الشارع فيها التوسعة ‪ ،‬كان الدليل عاضدا ً لعلمه من جهتين ‪ :‬من جهة معناه ‪،‬‬
‫ومن جهة عمل السلف الصالح به ‪.‬‬
‫فإن أتى المكلف في ذلك المر بكيفية مخصوصة أو زمان مخصوص أو مكان‬
‫ن لعبادة مخصوصة‪ ،‬والتزم ذلك بحيث صار متخيل ً أن‬ ‫مخصوص أو مقار ٍ‬
‫ً‬
‫الكيفية أو الزمان أو المكان مقصود شرعا من غير أن يدل الدليل عليه ‪ ،‬كان‬
‫الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه ]‪_______________ [6‬‬
‫]‪ [1‬تفسير بن كثير ‪ ،‬طبعة الشعب ج ‪ 3‬ص ‪ ، 492‬وجود ابن كثير إسناد هذا‬
‫احديث ‪.‬‬
‫]‪ [2‬إعلم الموقعين ‪. 4/353‬‬
‫]‪ [3‬في ظلل القرآن ‪.‬‬
‫]‪ [4‬تفسير المنار ‪. 2/101‬‬
‫]‪ [5‬الموافقات ج ‪ 4‬ص ‪. 109‬‬
‫]‪ [6‬العتصام ج ‪. 318 1‬‬
‫مدخل ‪:‬‬
‫بعد بيان معنى اللبس والتلبيس وأنه إلباس الهوى والشهوة لبوسا ً شرعيا ً‬
‫بتحريف الدلة ‪ ،‬ثم بيان السباب التي تؤدي إلى لبس الحق بالباطل والمؤدية‬
‫بدورها إلى الضلل والضلل ‪ ،‬نذكر هنا بعضا ً من صور اللبس والتضليل ‪،‬‬
‫وذلك لنحذر من الوقوع فيها بأنفسنا ‪ ،‬ونحذر إخواننا المسلمين من الوقوع‬
‫ن في‬ ‫فيها والنخداع بها ‪ ،‬ولم أراع في ترتيبها الهمية ‪ ،‬لكن حسب ما ع ّ‬
‫الخاطر ‪ ،‬أسأله )سبحانه( التوفيق والسداد في القول والعمل ‪،‬‬
‫ومن هذه الصور ما يلي ‪:‬‬
‫‪ -1‬الحتجاج على شرعية النظمة المبدلة لشرع الله والمستحلة لما حرم‬
‫الله بآثار عن السلف رضي الله عنهم أنه ‪ :‬كفر دون كفر ‪:‬‬
‫وهذا‪ ،‬والله تحريف للدلة عن مواضعها ‪ ،‬وإنزال الحكم في غير محله ‪،‬‬
‫وافتراء وتجن على سلفنا الصالح وخير القرون في هذه المة ‪ ،‬فما كانوا عن‬
‫عصرنا يتحدثون ول أنظمته المبدلة لشرع الله يقصدون ‪ ،‬فالله المستعان ‪،‬‬
‫ومن أحسن ما رأيت من الردود على هذا التلبيس ما كتبه الشيخ أحمد شاكر‬
‫رحمه الله‪ ،‬ومما قاله ‪ :‬وهذه الثار عن ابن عباس وغيره مما يلعب به‬
‫المضللون في عصرنا من المنتسبين للعلم ومن غيرهم من الجرآء على‬
‫الدين ‪ ،‬يجعلونها عذرا ً أو إباحة للقوانين الوثنية الوضعية التي ضربت على‬
‫بلد المسلمين ]‪. [1‬‬
‫فاللهم إنا نبرأ من هذا اللبس ونبرئ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫والتابعين لهم بإحسان من هذا التلبيس وهذه المغالطات ‪ ،‬وإنه ل أحد ينزل‬

‫‪101‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫قول ابن عباس رضي الله عنه أو غيره من السلف على المبدلين لشرع الله‬
‫في زماننا هذا إل رجل سيطر عليه الجهل بالواقع فل يعلم ما يدور من‬
‫حوله ‪ ،‬أو رجل منافق ملبس يعلم واقعه وعدم مشابهته للواقع الذي كان‬
‫يتحدث عنه ابن عباس رضي الله عنه‪ ،‬ولكنه يغالط ويخلط الحق بالباطل‬
‫اتباعا ً للهوى وطمعا ً في دنيا يصيبها ؛ فإنه لم يحدث قط في تاريخ السلم أن‬
‫سن حاكم حكما ً وجعله شريعة يتحاكم إليها الناس ‪.‬‬
‫‪ -2‬الحتجاج بالقدر على فعل المعاصي ‪ ،‬والرضى بالذل والمهانة ‪:‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫وهذه الصورة من صور اللبس والمغالطة ليس القصد من إيرادها هنا الرد‬
‫على المحتجين بالقدر على ضللهم ومعاصيهم ‪ ،‬وإنما المقصود التنبيه على‬
‫أن من يحتج بالقضاء والقدر ليبرر به انحرافه وكسله وضعفه إنما هو مغالط‬
‫وملبس ومدلس‪ ،‬وموضوع الرد على المحتجين بالقدر موجود فيمظاّنه من‬
‫كتب العقيدة الصحيحة لدى سلفنا أهل السنة والجماعة ‪ ،‬مثل ‪ :‬العقيدة‬
‫الواسطية ‪ ،‬ومعارج القبول ‪ ،‬والعقيدة الطحاوية ‪ ..‬إلخ ‪ ،‬والمراد هنا ‪ :‬كشف‬
‫اللبس الحاصل بين الحق والباطل في هذه المسألة ‪ ،‬حيث إن المحتج بالقدر‬
‫على فعل المعاصي والصرار عليها قد وقع في لبس عظيم ‪ ،‬ويعلم هو‬
‫بنفسه أن احتجاجه ليس في محله‪ ،‬وإنما أورده لتبرير شهوته وضعفه بدليل‬
‫أنه في أمور الدنيا وكسبها ل نجده يقعد محتجا ً بالقدر‪ ،‬وأن الله سبحانه كتب‬
‫عليه الفقر أو الجوع أو عدم الزواج ‪ ،‬بل إنا نجده يسعى ويفعل السباب‬
‫الممكنة لدفع كل ذلك ‪ ،‬فلماذا ل يوجد هذا الدفع أيضا ً في أمور الدين وأمور‬
‫الخرة فيسعى للخرة سعيها‪ ،‬ويأخذ بأسباب الهداية وأسباب النجاة من‬
‫النار‪،‬وهي ميسرة لمن أرادها ؟ ! ‪ ،‬لماذا هو جبري في أمور الدين والخرة‪،‬‬
‫وقدري في أمور الدنيا ؟ ‪.‬‬
‫وقريب من الذين يحتجون بالقدر على فعل المعاصي والرضى بالواقع أولئك‬
‫الذين يتجرؤون على فعل المعاصي اعتمادا ً على رحمة الله سبحانه ‪ ،‬نعم إن‬
‫الله غفور رحيم ‪ ،‬ولكن ليس مقتضى هذه الرحمة أن يتجرأ هذا الملبس على‬
‫المعصية ‪ ،‬وإنما المقصود منها ‪ :‬فتح باب التوبة والرحمة لمن وقع فيها‬
‫وانتهى وندم ‪ ،‬فيقال له‪:‬ل تيأس ؛ فإن الله غفور رحيم ‪.‬‬
‫‪ -3‬ترك المر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله خوف‬
‫البتلء وتعريض النفس للفتن ‪:‬‬
‫هناك من يترك المر والنهي عجزا ً وكسل ً وجبنا ً وبخل ً ‪ ،‬لكن ل يريد أن يعترف‬
‫بهذه الصفات الذميمة ‪ ،‬فبدل ً من العتراف بها والسعي للتخلص منها فإنه‬
‫يحاول جاهدا ً في تغطية ضعفه هذا بمبررات شرعية ‪ ،‬منها ‪ :‬الخوف من‬
‫الفتن واعتزال كل ما يعرض النفس للبتلء والفتنة والهلكة ودرء المفاسد ‪،‬‬
‫معتمدا ً على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والضوابط‬
‫الشرعية في ذلك ‪ ،‬فمقصودنا هو كشف اللبس والتدليس والمغالطة على‬
‫النفس وعلى الناس في أن النكول عن المر والنهي قد تم من منطلق‬
‫شرعي وضوابط شرعية ‪ ،‬والمر في حقيقته ليس كذلك ‪ ،‬وإنما هو الخوف‬
‫والجبن وإيثار السلمة وعدم تحمل أي أذى أو مكروه في سبيل الله عز وجل‬
‫‪.‬‬
‫يقول المام ابن تيمية )رحمه الله( ‪ :‬ولما كان في المر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر والجهاد في سبيل الله من البتلء والمحن ما يعرض به المرء‬

‫‪102‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫للفتنة ‪ :‬صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب‬
‫السلمة من الفتنة ‪ ،‬كما قال ]تعالى[ عن المنافقين ‪ :‬ومنهم من يقول ‪:‬‬
‫ق ُ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫جهَن ّ َ‬ ‫ن َ‬ ‫طوا وَإ ِ ّ‬ ‫س َ‬
‫فت ْن َةِ َ‬ ‫فت ِّني أل ِفي ال ْ ِ‬ ‫ن ِلي َول ت َ ْ‬ ‫ل ائ ْذ َ ْ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫))وَ ِ‬
‫ن((‬ ‫ِ ِ َ‬‫ري‬ ‫ف‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬
‫ٌ ِ‬‫ة‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫حي‬ ‫م ِ‬ ‫لَ ُ‬
‫]التوبة ‪.[49 :‬‬
‫فل يصح لقائل أن يقول أنه يجب البتعاد في الدعوة إلى الله سبحانه عن كل‬
‫ما من شأنه أن يجر على الداعية الذى والمحن ! ‪ ،‬إن صاحب هذا القول قد‬
‫نسي أو تناسى سنة الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل ‪ ،‬وسنته‬
‫مّنا‬‫لآ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬‫م ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫سبحانه في البتلء والتمحيص ؛ قال تعالى ‪ )) :‬وَ ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ن َرب ّ َ‬
‫ك‬ ‫م ْ‬ ‫صٌر ِ‬ ‫جاَء ن َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ب اللهِ وَلئ ِ ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫س ك َعَ َ‬‫ة َ الّنا ِ‬ ‫ل فِت ْن َ َ‬ ‫جعَ َ‬ ‫ِبالل ّهِ فَإ َِذا أوذِيَ ِفي الل ّهِ َ‬
‫َ‬
‫ن الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫م ّ‬ ‫ن ‪ ،‬وَل َي َعْل َ َ‬ ‫مي َ‬‫دورِ ال َْعال َ ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫ما ِفي ُ‬ ‫م بِ َ‬‫ه ب ِأعْل َ َ‬ ‫س الل ّ ُ‬ ‫م أوَل َي ْ َ‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫ن إ ِّنا ك ُّنا َ‬ ‫قول ُ ّ‬ ‫ل َي َ ُ‬
‫ن(( ]العنكبوت ‪. [11 ، 10 :‬‬ ‫قي َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مَنافِ ِ‬ ‫م ّ‬ ‫مُنوا وَل َي َعْل َ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫نعم إن من بيننا من يريد المغنم من الدعوة ول يريد المغرم ‪ ،‬بدليل عدم‬
‫العداد والستعداد لي أذى يعترضه في الطريق ولو كان قليل ً ‪ ،‬وإنما مادام‬
‫المن والسلمة والراحة فهو نشيط ومتحرك ‪،‬فإذا ظهرت المحن وبدايات‬
‫البتلء والتمحيص آثر السلمة والراحة ‪ ،‬وعلل ذلك بالبتعاد عن الفتن ودرء‬
‫المفاسد ‪.‬‬
‫ول يعني ما سبق من الكلم أن يبحث الداعية عن الذى والبتلء ‪ ،‬كل ‪،‬‬
‫فالمطلوب سؤال الله العافية وعدم تمني البلء ‪ ،‬كما ل يفهم منه أيضا ً‬
‫الدعوة إلى التهور والطيش معاذ الله ‪ ،‬فلبد من وجود المنطلقات الشرعية‬
‫في كل التصرفات ‪ ،‬لكن المراد أن ل نغفل عن سنة الله سبحانه في ابتلء‬
‫المؤمنين ‪ ،‬وأن نوطن أنفسنا على هذه المور‪ ،‬لنه لبد منها لكل من ادعى‬
‫در للدعوة والجهاد ‪ ،‬ولبد منها ليتميز الخبيث من الطيب ‪ ،‬ولبد‬ ‫اليمان وتص ّ‬
‫منها لتمحيص القلوب والصفوف ‪ ،‬ولو قلبنا تاريخ النبياء عليهم الصلة‬
‫والسلم ‪ ،‬وتاريخ الدعاة والمصلحين لرأينا ذلك المعَلم ظاهرا ً وقاسما ً‬
‫مشتركا ً عندهم جميعا ً ‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫وقريب من هؤلء أولئك الذين يبررون كسلهم وحبهم للراحة وضعف همتهم‬
‫بالتواضع البارد والزهد في المسؤولية ‪ ،‬لنه يعرف أن الدعوة إلى الله‬
‫سبحانه ل يعرف صاحبها الراحة ‪ ،‬وتحتاج إلى همة عالية ‪ ،‬لكنه عوضا ً من أن‬
‫يعترف بضعفه هذا ‪ ،‬فإنه يغالط نفسه وغيره ‪ ،‬ويسعى إلى ترقيعه بإلقاء هذا‬
‫الضعف على الخوف من المسؤولية واحتقار النفس ‪ ،‬وأن هناك من هو أولى‬
‫وأتقى وأفضل ‪ ..‬إلخ ‪.‬‬
‫‪ -4‬المداهنة وضعف الولء والبراء بحجة المداراة والتسامح ومصلحة المة ‪:‬‬
‫إن الخلط بين المداراة والمداهنة ‪ ،‬والتميع في الولء والبراء بحجة التسامح ‪،‬‬
‫كل ذلك ينتجعنه آثار خطيرة على الدين وأهله‪ ،‬وذلك بما يفرزه هذا الخلط‬
‫واللبس من المغالطة والتضليل على المة في أن ما يقع من الملبسين من‬
‫مداهنة وموالة لعداء هذا الدين إنما هو مداراة ‪.‬‬
‫وإيضاحا ً لهذا المر ‪ :‬أنقل كلما ً لهل العلم يزيل اللبس في مسألة المداراة‬
‫والمداهنة ومسألة الولء والتسامح ‪.‬‬
‫قال البخاري رحمه الله في باب المداراة مع الناس ‪ :‬ويذكر عن أبي‬
‫الدرداء ‪ :‬إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم ‪ ،‬وعن عائشة رضي‬

‫‪103‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الله عنها أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال ‪ :‬ائذنوا له‬
‫فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة فلما دخل ألن له الكلم ‪ ،‬فقلت له‬
‫‪ :‬يا رسول الله ‪ ،‬قلت ثم ألنت له في القول ‪ ،‬فقال ‪ :‬أي عائشة ‪ ،‬إن شر‬
‫من َتركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه ]‪. [2‬‬‫الناس منزلة عند الله َ‬
‫ويعلق ابن حجر رحمه الله على حديث عائشة بقوله ‪:‬قال ابن بطال ‪:‬‬
‫المداراة من أخلق المؤمنين ‪ ،‬وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك‬
‫الغلظ في القول ‪ ،‬وذلك من أقوى أسباب اللفة ‪ ،‬وظن بعضهم أن المداراة‬
‫هي المداهنة فغلط ؛ لن المداراة مندوب إليها‪ ،‬والمداهنة محرمة ‪ ،‬والفرق ‪:‬‬
‫أن المداهنة من الدهان‪ ،‬وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه‪ ،‬وفسرها‬
‫العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه‪،‬‬
‫والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله‬
‫وترك الغلظ عليه ‪ ،‬حيث ل يظهر ما هو فيه‪ ،‬والنكار عليه بلطف القول‬
‫والفعل ‪ ،‬ل سيما إذا احتيج إلى تألفه‪ ،‬ونحو ذلك ]‪. [3‬‬
‫ومن هذا يتبين ما هي المداراة وما هي المداهنة‪ ،‬وأنهما ضدان ل يجتمعان ‪،‬‬
‫إذ إن المداراة صفة مدح وهي لهل اليمان ‪ ،‬بينما المداهنة صفة ذم وهي‬
‫لهل النفاق ‪ ،‬فهل بقي بعد هذا البيان مجال لللتباس في هذا المر ؟ ! ‪.‬‬
‫ثم إن مكمن الخطر في هذا الخلط ليس في مداهنة الفساق وأهل المعاصي‬
‫من المسلمين فحسب ‪ ،‬وإنما الخطر من ذلك هو ‪ :‬مداهنة الكفار بمشاربهم‬
‫المختلفة تحت غطاء المداراة ومصلحة المة ‪ ،‬حتى اهتز جانب الولء والبراء‬
‫الذي هو الركن الركين في عقيدة التوحيد وبدأ حاجز البغض للكفر وأهله‬
‫يضعف ‪،‬بل اهتز عند بعضهم ‪ ،‬والسبب في ذلك ‪ :‬الجهل بحقيقة المداراة‬
‫والمداهنة ‪ ،‬أو المغالطة فيهما عن علم وهوى ‪.‬‬
‫‪ -5‬النفتاح على الدنيا والركون إليها ‪ ،‬بحجة التعفف عن الناس وإنفاق المال‬
‫في وجوه الخير ‪:‬‬
‫وفي هذه الصورة مدخل خفي للشيطان يتسرب منه إلى نفس النسان‪ ،‬يبلغ‬
‫اللبس في هذا المرمن الخفاء بحيث ل يفطن له إل المجاهد لنفسه‪،‬‬
‫المفتش لقلبه‪ ،‬الحذر الخائف من الدنيا وغرورها‪ ،‬ومكمن اللبس هنا في أن‬
‫التعفف عن الناس أمر مطلوب‪ ،‬ويحث عليه الشرع في أكثر من آية وحديث‪،‬‬
‫وكذلك النفاق في سبيل الله وبذل المال في أوجه البر المختلفة‪ ،‬كل هذا‬
‫حق ل ريب فيه‪ ،‬لكن الشيطان ل يألو جهدا ً في إغواء بني آدم وجرهم إلى‬
‫حزبه خطوة خطوة‪ ،‬ولهذا ‪ :‬فهو يبدأ مع النسان ليجره إلى الدنيا وغرورها‬
‫من باب التعفف عن الناس ‪ ،‬ومساعدة المحتاج ‪ ،‬وإغاثة الملهوف ‪ ..‬إلخ ‪ ،‬ثم‬
‫بعد ذلك‪ ،‬وبعد إشغاله بالمال وطرق جمعه ومشاكله وشبهاته نبحث عن‬
‫صاحبنا الذي كنا نراه في لقاءات الخير والدعوة إلى الله سبحانه فل نراه إل‬
‫ل‪ ،‬وهكذا‪ ،‬حتى ينفتح على الدنيا ‪ ،‬ويركن إليها ‪ ،‬ويضع له الشيطان في كل‬ ‫قلي ً‬
‫ً‬
‫وادٍ من أوديتها شغل ً وهما يتشعب فيهما الفكر‪ ،‬ويتشتت فيهما الذهن ويتحول‬
‫المال المكتسب إلى استثمارات جديدة وتوسع في المباحات وإسراف في‬
‫المآكل والمراكب والمساكن‪ ،‬وقد كان الهدف في البداية هو التعفف‬
‫والسهام في وجوه الخير والبر ‪ ،‬والغريب في المر أن هذا المغالط عندما‬
‫ذر من الدنيا ‪ ،‬وسرعة زوالها ‪ ،‬وخطر الركون إليها ‪،‬‬ ‫كر باليات التي تح ّ‬‫يذ ّ‬
‫فإنه بدل ً من أن يشعر بالخطر ويسعى لتدارك المر ؛ فإنا نجده يصر على‬
‫المغالطة واللبس ‪ ،‬ويقول ‪ :‬إن التعفف عن الناس مطلوب‪ ،‬ولبد للداعية أن‬
‫يكون له مصدر يستغني به عن الناس وينفع به دعوته ‪ ،‬ويساهم في الخير‪،‬‬
‫وهو يعلم أن ليس هذا قصده‪ ،‬وإنما أراد تغطية حبه للدنيا والركون إليها بهذا‬

‫‪104‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الغطاء الشرعي الذي لم يراع الضوابط الشرعية فيه ‪.‬‬


‫وقد يقول قائل ‪ :‬إذن ‪ ،‬ما العمل في مثل هذه الحالة وبخاصة لمن أراد‬
‫صادقا ً أن يتعفف عن الناس وأن ينفع دعوته بالمال ؟‬

‫)‪(7 /‬‬

‫والجواب ل أملكه‪ ،‬لنها معادلة صعبة يختلف حلها من شخص لخر‪ ،‬ويكفي‬
‫في حلها أن يعلم الله سبحانه من أنفسنا أننا نريد التعفف والبذل بصدق في‬
‫سبيل الله سبحانه‪ ،‬فعندئذ يحمينا برحمته من الدنيا وزخرفها ‪ ،‬ويخرجها من‬
‫قلوبنا لتبقى في أيدينا ‪ ،‬وكل إنسان على نفسه بصيرة ‪.‬‬
‫‪ -6‬الحتجاج بيسر الشريعة وضغط الواقع ‪:‬‬
‫إن القول بيسر الشريعة وسماحتها حق ل شك فيه‪ ،‬ولكن الحتجاج بهذا‬
‫التيسير للتفلت من أحكام الشريعة والتحايل عليها‪ ،‬وإتباع الهوى في الخذ‬
‫بالرخص والشذوذات الفقهية ‪ ،‬كل هذا باطل وتلبيس وتضليل ‪ ،‬يتبنى ذلك‬
‫أهل الهواء الذين يتبعون الشهوات‪ ،‬يريدون بذلك تحلل المجتمع المسلم من‬
‫أحكام الشريعة باسم التيسير وترك التشديد ‪ ،‬وصدق الله العظيم ‪َ )) :‬والل ّ ُ‬
‫ه‬
‫ظيمًا((‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مي ْل ً عَ ِ‬ ‫ميُلوا َ‬ ‫ن تَ ِ‬‫تأ ْ‬ ‫وا ِ‬ ‫شهَ َ‬ ‫ن ال ّ‬‫ن ي َت ّب ُِعو َ‬ ‫ريد ُ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ب عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م وَي ُ ِ‬ ‫ن ي َُتو َ‬‫ريد ُ أ ْ‬
‫يُ ِ‬
‫]النساء ‪.[27 :‬‬
‫ومن رحمة الله عز وجل أنه لم يكل مصالح العباد إلى أهواء البشر‬
‫وشهواتهم ‪ ،‬بل وضع سبحانه شريعة كاملة مبرأة من الجهل والهوى ‪ ،‬ومبرأة‬
‫من النقص والقصور ‪ ،‬لن مصدرها منه سبحانه الذي له السماء الحسنى‬
‫والصفات العل ‪ ،‬ولو أن تقرير مصالح العباد كان في أيدي البشر لحصل من‬
‫ذلك شر وفساد كبير ‪ ،‬وذلك لما عليه البشر من الجهل والنقص والهوى‬
‫والشهوة ‪ ،‬وهذا مشاهد في الواقع ؛ فالمجتمعات التي ل يحكمها شرع الله‬
‫سبحانه وتحكمها أنظمة البشر وقوانينهم نرى فيها من الفساد والشرور‬
‫والظلم والستعباد والضنك والضيق ما تعج منه الرض والسماوات ‪ ،‬وتبرأ‬
‫َ‬
‫م‬‫واَءهُ ْ‬ ‫حقّ أهْ َ‬ ‫منه الوحوش في البريات ‪ ،‬وصدق الله العظيم ‪ )) :‬وَل َوِ ات ّب َعَ ال ْ َ‬
‫فسدت السماوات واْل َرض ومن فيهن ب ْ َ‬
‫ن ذِك ْرِهِ ْ‬
‫م‬ ‫م عَ ْ‬ ‫م فَهُ ْ‬ ‫م ب ِذِك ْرِهِ ْ‬‫ل أت َي َْناهُ ْ‬ ‫ّ َ َ ُ َ ْ ُ َ َ ْ ِ ِ ّ َ‬ ‫لَ َ َ َ ِ‬
‫ن(( ]المؤمنون ‪. [71 :‬‬ ‫ضو َ‬ ‫معْرِ ُ‬ ‫ُ‬
‫إن الذين يتشدقون بالتيسير ويغالطون به بغير علم ول هدى من الله سبحانه‪،‬‬
‫ظن فيها‬ ‫لو كان المر بأهوائهم لعطلوا كثيرا ً من أحكام الشريعة التي قد ي ُ َ‬
‫المشقة والضيق مع أن مآلها اليسر والسعادة في الدارين ‪ ،‬فالله سبحانه‬
‫الرحيم بعباده ‪ ،‬هو الذي يعلم ما يصلح شؤونهم ‪ ،‬وييسر أمورهم ‪ ،‬ويعلم ما‬
‫يشق عليهم وما ل يشق ‪ ،‬إنه حكيم عليم ‪.‬‬
‫‪ -7‬التشهير بالدعاة والمصلحين واغتيابهم بحجة النصيحة والتحذير من‬
‫الخطاء ‪:‬‬
‫عن أبي برزة السلمي ‪ ،‬والبراء بن عازب )رضي الله عنهما( ‪ ،‬قال ‪ :‬قال‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ :‬يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل‬
‫اليمان قلبه‪ :‬ل تغتابوا المسلمين ‪ ،‬ول تتبعوا عوراتهم ‪ ،‬فإنه من يتبع عورة‬
‫أخيه المسلم ‪ ،‬تتبع الله عورته ‪ ،‬ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف‬
‫بيته ]‪. [4‬‬
‫والمقصود من إيراد هذه الصورة هو الحذر من تزيين الشيطان وتلبيسه في‬
‫إظهار الغيبة أو النميمة أو التشهير في قالب النصيحة ‪ ،‬والتحذير من الخطاء‬
‫والغيرة على دين الله وتعظيم حرمات الله عز وجل ‪ ،‬إن هذاهو الخطير في‬

‫‪105‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المر‪ :‬إذ لو أن الواقع في الغيبة أو النميمة أقر بذنبه ‪ ،‬واعترفبتقصيره ‪،‬‬


‫واستغفر ذنبه لكان المر أهون ‪ ،‬أما أن يكابر ويلبس على نفسه وعلى الناس‬
‫بأن قصده النصيحة للمة وتحذيرها من الخطاء‪ ،‬وهو يعلم من نفسه غير‬
‫ذلك من التشفي أو الحسد أو التهوين من شأن من وقع منه الخطأ وتنفير‬
‫الناس عنه ‪ ،‬فكل ذلك من المغالطة وتلبيس الشيطان وتزيينه ‪.‬‬
‫يقول شيخ السلم ابن تيمية رحمه الله ‪ :‬ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب‬
‫شتى‪ ،‬تارة في قالب ديانة وصلح ‪ ،‬فيقول‪ :‬ليس لي عادة أن أذكر أحدا ً إل‬
‫بخير ول أحب الغيبة ول الكذب‪ ،‬وإنما أخبركم بأحواله‪ ،‬ويقول ‪ :‬والله إنه‬
‫مسكين‪ ،‬أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت ‪ ،‬وربما يقول ‪ :‬دعونا منه ‪ ،‬الله‬
‫يغفر لنا وله‪ ،‬وإنما قصده استنقاصه‪ ،‬وهضما ً لجنابه ‪ ،‬ويخرجون الغيبة في‬
‫قوالب صلح وديانة ‪ ،‬يخادعون الله بذلك ‪ ،‬كما يخادعون مخلوقًا‪ ،‬وقد رأينا‬
‫فيهم ألوانا ً كثيرة من هذا وأشباهه‪ ،‬إلى أن قال‪ :‬وربما يذكره عند أعدائه‬
‫ليتشفوا به‪ ،‬وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه‪،‬‬
‫ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر‪ ،‬فيظهر في هذا الباب‬
‫أشياء من زخارف القول‪ ،‬وقصده غير ما أظهر‪ ،‬والله المستعان ]‪. [5‬‬
‫فل مدخل لملّبس ومغالط في إظهار حقده وتشفيه وحميته لنفسه في قالب‬
‫النصح والديانة‪ ،‬وكل إنسان أدرى بنفسه وقصده ‪.‬‬
‫ولكن يبقى هناك بعض القرائن التي تكشف هذا اللبس والخداع في نفس‬
‫المدعي للنصح والديانة ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫‪ -1‬التشهير والتعيير بالمنصوح ‪ ،‬خاصة إذا كان من المصلحين وأهل العلم ‪.‬‬
‫‪ -2‬الظلم ‪ ،‬وعدم النصاف مع المنصوح ‪ ،‬وبخسه حقه ‪ ،‬وإخفاء خيره‬
‫وحسناته ‪.‬‬
‫‪ -3‬عدم التثبت ‪ ،‬والخذ بالشائعات ‪ ،‬وتصيد الخطاء والفرح بها ‪.‬‬
‫‪ -4‬تغليب سوء الظن ‪ ،‬وتفسير المقاصد بدون دليل وبرهان ‪.‬‬
‫‪ -5‬أن يكون قد عرف عنه الكذب وقلة الورع ‪.‬‬
‫‪ -6‬المداهنة للظالمين والركون إليهم ‪.‬‬

‫)‪(8 /‬‬

‫‪ -8‬التلبيس على الناس برفع لفتات إسلمية تخفي وراءها الكيد للدين وأهله‪:‬‬
‫إن من أخطر ما يهدد المة في عقيدتها وأخلقها أن تعيش في جو من اللبس‬
‫والتضليل والخداع ‪ ،‬فل ترى الحق بصورته المضيئة ول الباطل بصورته‬
‫القاتمة المظلمة ‪ ،‬بل قد يصل بها المكر والخداع إلى أن ترى الحق باطل ً‬
‫والباطل حقًا‪ ،‬ويلتبس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين ‪ ،‬ومن أعظم‬
‫اللتباس بين السبيلين أن يقوم المجرمون من أعداء المسلمين سواء من‬
‫الكفار الصرحاء أو المنافقين الدخلء برفع لفتات ‪ ،‬ظاهرها السلم ومحبة‬
‫الدين والدعوة إلي ‪ ،‬وباطنها الكيد والمكر والخداع ‪ ،‬ويحصل من جراء ذلك ‪:‬‬
‫أن ُيخدع كثير من المسلمين بهذه اللفتات فينشغلون بها ‪ ،‬ويثنون على أهلها‬
‫بدل ً من فضحها وكشف عوارها وتعرية باطلها‪ ،‬وعن خطورة التباس سبيل‬
‫المجرمين بسبيل المؤمنين ‪،‬‬
‫يقول ابن القيم رحمه الله‪ :‬فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو‬
‫أحدهما ؛ كما قال عمر بن الخطاب ‪ :‬إنما تنقض عرى السلم عروة عروة‬
‫إذا نشأ في السلم من لم يعرف الجاهلية ‪ ،‬وهذا من كمال علم عمر رضي‬
‫الله عنه ‪ ،‬فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها ‪ ،‬وهو كل ما خالف ما جاء به‬

‫‪106‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الرسول صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فإنه من الجاهلية ‪ ،‬فإنها منسوبة إلى الجهل ‪،‬‬
‫وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل ‪ ،‬فمن لم يعرف سبيل المجرمين ‪،‬‬
‫ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين ‪،‬‬
‫كما وقع في هذه المة من أمور كثيرة في باب العتقاد والعلم والعمل ‪ ،‬هي‬
‫من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل ‪ ،‬أدخلها من لم يعرف أنها من‬
‫سبيلهم في سبيل المؤمنين ‪ ،‬ودعا إليها وكفر من خالفها واستحل منه ما‬
‫حرمه الله ورسوله ]‪. [6‬‬
‫وقد قص الله سبحانه علينا في كتابه الكريم قصة قوم من المنافقين أرادوا‬
‫خداع الرسول ‪ -‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬ومن معه من المؤمنين برفع لفتة‬
‫إسلمية على صرح من صروح النفاق ‪ ،‬لكن الله )عز وجل( فضحهم وفضح‬
‫لفتتهم وعّرى باطلهم ‪ ،‬ليكونوا عبرة للمسلمين في وقتهم ‪ ،‬وعبر التاريخ‬
‫الطويل لمن يأتي بعدهم ممن يرفع لفتة إسلمية يخفي وراءها خبثه‬
‫ومكره ‪ ،‬ويكيد بها المسلمين في أي زمان ومكان ‪ ،‬وهذه القصة ذكرها الله‬
‫سبحانه في سورة التوبة بما يعرف بمسجد الضرار ‪ ،‬حيث أنزل فيها قرآنا ً‬
‫فرا ً‬‫ضَرارا ً وَك ُ ْ‬ ‫جدا ً ِ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ذوا َ‬ ‫خ ُ‬‫ن ات ّ َ‬ ‫ذي َ‬‫يتلى إلى قيام الساعة ‪ ،‬قال سبحانه ‪َ )) :‬وال ّ ِ‬
‫ن‬
‫ن إِ ْ‬ ‫ف ّ‬‫حل ِ ُ‬ ‫ل وَل َي َ ْ‬‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫ه وََر ُ‬ ‫ب الل ّ َ‬ ‫حاَر َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫صاد َا ً ل ِ َ‬
‫ن وَإ ِْر َ‬ ‫مِني َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬ ‫ريقا ً ب َي ْ َ‬ ‫ف ِ‬ ‫وَت َ ْ‬
‫س‬ ‫س‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫د‬ ‫ج‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫بد‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ه‬ ‫في‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫‪،‬‬ ‫ن‬ ‫بو‬ ‫ذ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ن‬ ‫إ‬ ‫د‬ ‫ه‬ ‫ْ‬
‫ش‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وال‬ ‫نى‬ ‫س‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫إ‬ ‫نا‬ ‫َ‬
‫َ ْ ِ ٌ ّ َ‬ ‫َ ْ ِ ِ َ‬ ‫ُِ َ‬ ‫َ ُ َ َ ُ ِّ ُ ْ‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫أَرد ْ َ‬
‫ن ي َت َط َهُّروا‬ ‫حبو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قوى م َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ل يُ ِ ّ َ‬ ‫جا ٌ‬ ‫م ِفيهِ ِفيهِ رِ َ‬ ‫قو َ‬ ‫ن تَ ُ‬‫حق ّ أ ْ‬ ‫ل ي َوْم ٍ أ َ‬ ‫ن أوّ ِ‬ ‫ِ ْ‬ ‫عََلى الت ّ ْ َ‬
‫ن(( ]التوبة ‪ ، [108 ،107 :‬واللفتات المرفوعة اليوم‬ ‫ري َ‬ ‫مط ّهّ ِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫كثيرة وماكرة ‪ ،‬أقتصر منها على بعض المثلة ‪:‬‬
‫ما يرفعه الذين بدلوا شرع الله عز وجل ورفضوا التحاكم إليه في بلدهم من‬
‫لفتات يخدعون بها شعوبهم المسلمة‪ ،‬مثل إقامة الذكرى السنوية لحراق‬
‫المسجد القصى المبارك ‪ ،‬فترى هؤلء المجرمين الخائنين لله سبحانه‬
‫ورسوله صلى الله عليه وسلم يخدعون المسلمين بإحياء ذكرى حرق‬
‫المسجد القصى كأنهم يهتمون بالمسلمين ومقدساتهم ‪ ،‬وهم قد خانوا الله‬
‫سبحانه من قبل بتنحية شريعته واستحلل محرماته‪ ،‬وخانوا أمتهم بعد ذلك‬
‫بالتذلل لليهود والنصارى‪ ،‬وما أصدق ما قاله الشيخ عبد الرحمن الدوسري‬
‫رحمه الله في محاضرة له مسجلة ‪ :‬إن إحراق المسجد القصى بل إحراق‬
‫مساجد الدنيا كلها ليس أعظم جرما ً من العتداء على شرع الله وحكمه‬
‫وسلطانه في الرض من قبل النظمة التي تتباكى على القصى وإحراقه ‪.‬‬
‫__________‬
‫]‪ [1‬عمدة التفسير ‪ ،‬ج ‪ ، 4‬ص ‪. 156158‬‬
‫]‪ [2‬مجموع الفتاوى ‪ ،‬ج ‪ ، 28‬ص ‪. 168‬‬
‫]‪ [3‬البخاري ‪ ،‬كتاب الدب ‪ ،‬وانظر ‪ :‬فتح الباري ‪ ،‬ج ‪ ، 10‬ص ‪. 528‬‬
‫]‪ [4‬رواه الترمذي وأبو داود ‪ ،‬وصححه اللباني في مشكاة المصابيح )‪(5044‬‬
‫‪.‬‬
‫]‪ [5‬مجموع الفتاوى ‪ ،‬ج ‪ ، 28‬ص ‪. 237238‬‬
‫]‪ [6‬الفوائد ‪ ،‬ص ‪. 109‬‬

‫)‪(9 /‬‬

‫ول تنازعوا فتفشلوا ‪... ...‬‬


‫ورد لفظ ) التنازع ( في القرآن الكريم في سبعة مواضع‪ ،‬وورد لفظ‬
‫) الفشل ( في أربعة مواضع‪ ،‬وجاء الربط بين اللفظين في ثلثة مواضع‪،‬‬

‫‪107‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫قوله تعالى‪ } :‬حتى إذا فشلتم وتنازعتم في المر { )آل عمران‪ (152:‬في‬
‫وقعة ُأحد؛ وقوله سبحانه‪ } :‬ولو أراكهم كثيًرا لفشلتم ولتنازعتم في المر {‬
‫)النفال‪ (43:‬وذلك في غزوة بدر؛ ثم قوله‪ } :‬ول تنازعوا فتفشلوا وتذهب‬
‫ريحكم { )النفال‪ (46:‬ولنا مع هذه الية الخيرة وقفة ‪.‬‬
‫م‪ .‬والفشل‪ :‬الوهن والعياء والجبن‬ ‫ص ُ‬
‫والتنازع‪ :‬التخالف والختلف والتخا ُ‬
‫وانحطاط القوة‪ ،‬مادية أو معنوية ‪.‬‬
‫ويلحظ أن الخطاب القرآني قد ربط بين هذه المعاني‪ ،‬ورتب بعضها على‬
‫ب المعلول على علته؛ وهذا شأن منهج‬ ‫بعض؛ َرْبط النتيجة بسببها‪ ،‬وت ََرت ّ َ‬
‫ما‪ ،‬ل يتبدل ول يتغير‪،‬‬ ‫القرآن الكريم في كثير من آياته‪ ،‬التي تقرر قانوًنا عا ً‬
‫ن ثابت مطرد ل اختلل فيه ول تبديل } فلن تجد لسنت‬ ‫سن َ ٍ‬
‫بل يجري على َ‬
‫الله تبديل ولن تجد لسنت الله تحويل { )فاطر‪. (43:‬‬
‫فقوله تعالى‪ } :‬ول تنازعوا فتفشلوا { إخبار واضح‪ ،‬ونهي جازم‪ ،‬وسنة ثابتة‪،‬‬
‫يدل على أن الفشل والتراجع ‪ -‬على مستوى المة أو الفراد ‪ -‬إنما مرجعه‬
‫إلى التنازع والختلف؛ إذ العلقة بين المرين علقة تلزمية‪ ،‬كعلقة السبب‬
‫سَنن الحياة الكونية‪ ،‬كأن تصبح قوة‬ ‫ما‪ ،‬ل تتخلف إل إذا تخلفت ُ‬ ‫بالمسّبب تما ً‬
‫الجاذبية إلى السماء ل إلى الرض !‬
‫وعلى ما تقدم‪ ،‬فإن النهي عن التنازع يقتضي المر بمنع أسباب التنازع‬
‫وموجباته‪ ،‬من شقاق واختلف وافتراق؛ والمر بتحصيل أسباب التفاهم‬
‫ومحصلته‪ ،‬من تشاور وتعاون ووفاق ‪.‬‬
‫ولما كان التنازع من شأنه أن ينشأ عن اختلف الراء والتوجهات‪ ،‬وهو أمر‬
‫جب ِّلة البشرية‪ ،‬بسط القرآن القول فيه ببيان سيئ‬ ‫مركوز في الفطرة وال ِ‬
‫آثاره‪ ،‬ومغبة مآله‪ ،‬ورتب عليه في الية هنا أمرين‪ :‬الفشل } فتفشلوا {‬
‫وذهاب القوة } وتذهب ريحكم { والفشل في الية هنا على حقيقته‪ ،‬إذ يعني‬
‫الفشل في مواجهة العدو ومدافعته؛ وذهاب الريح في الية‪ ،‬كناية عن ذهاب‬
‫القوة‪ ،‬والدخول في حالة الضعف والوهن ‪.‬‬
‫وإنما كان التنازع مفضًيا إلى الفشل‪ ،‬لنه ُيثير التباغض والشحناء‪ ،‬وُيزيل‬
‫التعاون واللفة بين النفوس‪ ،‬ويدفع بها إلى أن يتربص بعضها ببعض‪ ،‬ويمكر‬
‫مع العداء فيها‪ ،‬ويشجعهم على النيل منها‪،‬‬ ‫كل طرف بالخر‪ ،‬مما ي ُط ْ ِ‬
‫ُ‬
‫ويجرئهم على خرق حرماتها‪ ،‬واختراق محارمها‪ .‬وكم أتيت أمة السلم على‬
‫مر تاريخها ‪ -‬القديم والحديث ‪ -‬من جهة التنازع والتباغض‪ ،‬مع وضوح النص‬
‫وصراحته في النهي عن هذا ‪.‬‬
‫م‪ ،‬جاء صدر الية آمًرا بطاعة الله ورسوله‪ ،‬إذ بطاعتهما ُتتلشى‬ ‫ومن ث َ ّ‬
‫أسباب التنازع والختلف‪ ،‬وبالتزام أمرهما تتجمع أسباب النصر المادي‬
‫والمعنوي؛ فما يتنازع الناس إل حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه‪ ،‬وحين‬
‫جه الساس للراء والفكار‪ ،‬فإذا استسلم الناس‬ ‫يكون الهوى المطاع هو المو ّ‬
‫لمر الله ورسوله‪ ،‬وجعلوا أهواءهم على وَْفق ما يحب الله ورسوله انتفى‬
‫ضبطت‬ ‫ن الشرع الحنيف‪ ،‬و ُ‬ ‫سن َ ِ‬
‫النزاع والتنازع بينهم‪ ،‬وسارت المور على َ‬
‫بأحكامه وتوجيهاته ‪.‬‬
‫على أّنه من المهم هنا حمل ) الفشل ( في الية على معنى أعم وأوسع‪،‬‬
‫بحيث يشمل الفشل في أمور الحياة كافة‪ ،‬القتصادية والجتماعية‬
‫والسياسية‪ ،‬بحيث ل يقتصر الفشل على ساحات الوغى والقتال فحسب ‪-‬‬
‫كما هو السبب الذي وردت لجله الية الكريمة ‪ -‬وهو معنى ل تأباه اللغة‪ ،‬ول‬
‫من تتّبع مقاصد القرآن‪،‬‬ ‫يمنعه الشرع؛ وهذا أولى بفهم الية‪ ،‬كما ُيعلم ذلك ِ‬
‫وكلياته الساسية ‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وحاصل القول في الية‪ :‬أن الختلف والتنازع عاقبته الفشل والخسران‪ ،‬وأن‬
‫التعاون والوفاق سبب للفوز والنجاح في الدنيا والخرة؛ والقارئ لتاريخ المم‬
‫والشعوب ‪ -‬بما فيها تاريخ أمتنا السلمية ‪ -‬ل يعجزه أن يقف على العديد من‬
‫الحداث والشواهد والمشاهد ‪ -‬وعلى المستويات كافة ‪ -‬التي تصدق ما أخبر‬
‫به القرآن الكريم‪ .‬وصدق الله إذ يقول‪ } :‬واعتصموا بحبل الله جميًعا ول‬
‫تفرقوا { )آل عمران‪ (103:‬فهل يعمل المسلمون بهذا المر اللهي‪ ،‬أم ما‬
‫زالوا عنه غافلين ؟ ‪.‬‬
‫المصدر‪ :‬الشبكة السلمية‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ولؤنا لمن؟‬
‫المحتويات‬
‫مدخل‬
‫معنى الولء‬
‫أقسام الناس في الولء والبراء‬
‫القسم الول‬
‫القسم الثاني‬
‫القسم الثالث‬
‫لوازم الولء للمؤمنين ونتائجه‬
‫المر الول ‪ :‬المحبة للمؤمنين‬
‫المر الثاني ‪ :‬التألم لمصائبهم وآلمهم‬
‫المر الثالث ‪ :‬التأييد والعانة‬
‫المر الرابع ‪ :‬حق النصرة‬
‫المر الخامس ‪ :‬المناصحة‬
‫المر السادس ‪ :‬حسن الظن والعفو عن الخطأ‬
‫خوارم الولء للمؤمنين‬
‫أولها ‪ :‬وأشنعها إعانة الكفار عليهم‬
‫الثاني ‪ :‬الولء القبلي والعرقي‬
‫الثالث ‪ :‬الولء القليمي‬
‫الرابع ‪ :‬الولء الحزبي‬
‫الخامس‪ :‬الولء على أساس المسائل الجتهادية‬
‫مدخل‬
‫الحمد لله القائل في كتابه ) إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين‬
‫يقيمون الصلة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين‬
‫آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون(‪.‬‬
‫أحمد الله سبحانه وتعالى وأستغفره وأتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا‬
‫وسيئات أعمالنا من يهده الله فل مضل له ومن يضلل فل هادي له‪ ،‬وأشهد أل‬
‫إله إل الله وحده ل شريك له وأشهد أن محمدا ً صلى الله عليه وسلم عبده‬
‫ورسوله أول من خاطبه الله سبحانه وتعالى بقوله) قد كانت لكم أسوة‬
‫حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤ منكم ومما تعبدون‬
‫من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا ً حتى تؤمنوا‬
‫بالله وحده(‪ ،‬أما بعد …‬
‫فإن عقيدة الولء والبراء من أسس عقيدة أهل السنة والجماعة‪ ،‬وهي ليست‬

‫‪109‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫قضية متعلقة بالسلوك والخلق والمعاملة بل هي قضية عقيدة يترتب عليها‬


‫الكفر واليمان‪.‬‬
‫ومرجع هذا كله الولء له سبحانه وتعالى فقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه‬
‫محمدا ً صلى الله عليه وسلم بأن يعلن ولءه لله) إن وليي الله الذي نزل‬
‫الكتاب وهو يتولى الصالحين(‪ ،‬وما يتفرع عن ذلك من محبة المؤمنين‬
‫وموالتهم‪ ،‬ومن إظهار العداوة والبغضاء لعداء الله عز وجل إنما يعود إلى‬
‫هذا الصل أل وهو الولء والبراء لله سبحانه وتعالى‪ ،‬ولذلك يحصر الله عز‬
‫وجل الولية بهذا الحصر) إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون‬
‫الصلة ويؤتون الزكاة وهم راكعون(‪.‬‬
‫ً‬
‫يتحدث الناس عن عقيدة الولء والبراء كثيرا وهي تستحق أكثر من هذا‪.‬‬
‫تستحق أن يعنى بها بحثا ً وتأصيل ً وحديثا ً ومناقشة؛ لنها من أسس عقيدة أهل‬
‫السنة والجماعة‪ ،‬وبخاصة أنه قد حصل الخلل بها كثيرا ً في هذا العصر‪ ،‬وأنه‬
‫قد يترتب على الخلل ببعض واجباتها ولوازمها الكفر والردة‪.‬‬
‫ولكن جانب مهم في هذه العقيدة ينسى أو يغفل عنه عندما نتحدث عنها أل‬
‫وهو الولء للمؤمنين‪ ،‬فالولء والبراء أو الموالة والمعاداة كلمة ذات شقين ‪:‬‬
‫الشق الول ‪ :‬هو الولء أو الموالة‪ .‬الشق الثاني ‪ :‬هو البراء والمعاداة‪.‬‬
‫وحين يطلق هذا العنوان وهذا الحديث يتبادر إلى الذهان وينصرف إليها‬
‫الشق الثاني من هذه العقيدة أل وهو البراء من الكافرين‪.‬‬
‫والشق الول ل يقل أهمية عن الشق الثاني بل هما قضيتان متلزمتان ل‬
‫ينبغي الفصل بينهما أبدًا‪ ،‬ومن هنا فسأخصص بمشيئة الله هذه المحاضرة‬
‫للحديث عن بعض جوانب الولء للمؤمنين وما يتعلق بذلك‪.‬‬
‫معنى الولء‬
‫نحتاج بين يدي حديثنا أن نعرف بمفهوم الولء؛ فنعّرج على بعض ما قاله أئمة‬
‫اللغة وأهل الصطلح حول هذا المصطلح‪.‬‬
‫قال في لسان العرب‪ :‬الموالة ‪-‬كما قال ابن العرابي‪ -‬أن يتشاجر اثنان‬
‫فيدخل ثالث بينهما للصلح ويكون له في أحدهما هوى فيواليه أو يحابيه‪،‬‬
‫ووالى فلنا ً إذا أحبه‪ ،‬والموالة ضد المعاداة والولي ضد العدو‪.‬‬
‫وأما في الصطلح فهي‪ :‬النصرة‪ ،‬والمحبة‪ ،‬والكرام‪ ،‬والحترام‪ ،‬والكون مع‬
‫المحبوبين ظاهرا ً وباطنًا‪.‬‬
‫أقسام الناس في الولء والبراء‬
‫الناس عند أهل السنة بالنسبة للولء والبراء أقسام ثلثة ‪:‬‬
‫القسم الول‬
‫من يتبرأ منهم جملة وهم الكفار؛ فالواجب على المسلمين البراءة منهم‬
‫والعداوة لهم والبغضاء‪ ،‬بل ل يكفي مجرد البغض ول مجرد العداوة‪ ،‬فل بد‬
‫من إظهارها وإعلنها ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى) قد كانت لكم أسوة‬
‫حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون‬
‫من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا ً حتى تؤمنوا‬
‫بالله وحده(‪ ،‬أي ظهرت العداوة والبغضاء؛ فل يكفي مجرد وجود البغض‬
‫والعداوة في القلب بل ل بد من إظهارها وإعلنها لهم‪ ،‬سواء أكانوا من اليهود‬
‫أم من النصارى أم من المجوس أم من المرتدين أم من أي طائفة أخرى ما‬
‫داموا كفارا ً أعداء لله سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ل) إن ابني من‬ ‫ولقد قال الله سبحانه وتعالى لنبيه نوح لما سأله أن ينجي قائ ً‬
‫أهلي( قال الله سبحانه وتعالى) إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح(‬
‫ولذلك أغرقه الله سبحانه وتعالى مع الذين غرقوا‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وأما ما يجوز من التعامل معهم في البيع والشراء ونحو ذلك فهذا باب آخر‬
‫غير المودة والمحبة القلبية والوقوف معهم ونصرتهم‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫هذا هو الصنف الول وهم الكفار على اختلف مللهم ونحلهم‪ ،‬والواجب هو‬
‫إظهار العداوة والبغضاء وإعلنها لهذا الصنف وهذه الطائفة‪.‬‬
‫القسم الثاني‬
‫من يوالى جملة وهم المؤمنون‪ ،‬وتتفاوت درجات الولء والمحبة للمؤمنين‬
‫داخل هذه الدائرة‪ ،‬فهم يشتركون في أصل الولء لكن درجات الولء والمحبة‬
‫تتفاوت تبعا ً لقربهم من الله سبحانه وتعالى وطاعتهم له‪ ،‬فل شك أن‬
‫للصالحين والتقياء ولء ليس لعامة المسلمين ‪ ،‬وللدعاة والقائمين بأمر الله‬
‫سبحانه وتعالى والقائمين بدين الله عز وجل ولء ليس لغيرهم‪ ،‬لكنهم جميعا ً‬
‫يشتركون في هذا الصل أل وهو الولء والمحبة وما يترتب على ذلك من‬
‫اللوازم التي سيأتي الحديث عنها بمشيئة الله‪.‬‬
‫القسم الثالث‬
‫من يجتمع فيهم الولء والبراء‪ ،‬وهو من اجتمعت فيه الطاعة و المعصية من‬
‫فساق المسلمين‪ ،‬أو من جمع بين السنة والبدعة التي ل تخرجه عن دين‬
‫السلم‪ ،‬فهذا قد اجتمع فيه موجبان‪ :‬موجب الولء والمحبة وهو اليمان‬
‫والطاعة لله سبحانه وتعالى‪ ،‬وموجب البراء والبغض وهو المعصية لله‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬سواء كان عن هوى أو عن شبهة أو عن شهوة‪.‬‬
‫ويتفاوت الناس داخل هذه الدائرة تبعا ً لمدى قربهم من المؤمنين الخّلص‬
‫ومدى بعدهم عنهم‪.‬‬
‫قال شيخ السلم ابن تيميه رحمه الله ‪ " :‬ليعلم أن المؤمن تجب موالته وإن‬
‫ظلمك واعتدى عليك‪ ،‬والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك‪ ،‬فإن‬
‫الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب‬
‫لوليائه والبغض لعدائه‪ ،‬فإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور‪،‬‬
‫وطاعة ومعصية‪ ،‬وسنه وبدعة‪ ،‬استحق من الموالة والثواب بقدر ما فبه من‬
‫الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر؛ فيجتمع في‬
‫الشخص الواحد موجبات الكرام والهانة ‪ -‬إلى أن قال رحمه الله ‪ -‬هذا هو‬
‫الصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة‬
‫ومن وافقهم عليه "‪.‬‬
‫وكلمة طويل في تقرير هذه القضية رحمه الله‪ ،‬وهي قضية قد يغفل عنها‬
‫ويخطئ فيها كثير من الخّيرين؛ فحينما يقع من بعض المسلمين مخالفة إما‬
‫معصية أو شبهة أو هوى أو بدعة فإنه يتبرأ منه جملة ول يمنح له أي قدر من‬
‫الولء‪.‬‬
‫لوازم الولء للمؤمنين ونتائجه‬
‫هذا الولء للمؤمنين ينشأ عنه لوازم وأمور‪ ،‬سواء قلنا هي أصل الولء أم من‬
‫لوازمه ونتائجه‪ ،‬فل مشاحة في الصطلح‪ ،‬ومن هذه المور‪:‬‬
‫المر الول ‪ :‬المحبة للمؤمنين‬
‫لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ممن يظلهم الله سبحانه وتعالى في‬
‫ظله يوم ل ظل إل ظله رجلن تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه‪ ،‬وأخبر‬
‫صلى الله عليه وسلم أن المرء يحشر يوم القيامة مع من أحب‪ ،‬وأخبر صلى‬
‫الله عليه وسلم أيضا ً أن ذلك طريق لتحقيق وحصول لذة اليمان وحلوته‬

‫‪111‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فقال‪ ":‬ثلث من كن فيه وجد بهن حلوة اليمان أن يكون الله ورسوله أحب‬
‫إليه مما سواهما وأن يحب المرء ل يحبه إل لله وأن يكره أن يعود في الكفر‬
‫بعد أن أنقده الله منه كما يكره أن يقذف في النار "‪ ،‬فجعل النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم من شروط تحقيق حلوة اليمان وحصول لذته أن يحب المرء ل‬
‫يحبه إل لله‪ ،‬فالمسلم متعبد بمحبة إخوانه المؤمنين‪.‬‬
‫المر الثاني ‪ :‬التألم لمصائبهم وآلمهم‬
‫وهي قضية ل يعذر بها أحدا ً أبدًا‪ ،‬فالمشاعر القلبية أمر يملكه كل الناس‪،‬‬
‫وليعجز عنه أضعفهم‪ ،‬يملك المسلم أن يتألم للم إخوانه المسلمين‪ ،‬وأن‬
‫يتفاعل مع مصائبهم وإن عجز عن أن يقوم بنصرتهم بماله أو نفسه ‪.‬‬
‫ويشبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالجسد الواحد إذا اشتكى منه‬
‫عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر‪ ،‬فما مدى تحقق هذا الوصف‬
‫فينا؟ وما مدى مراعاتنا لهذا المر؟ ما مدى تألمنا للم المسلمين ومصائبهم‬
‫سواء أكانوا من عامة المسلمين أم من الدعاة والمصلحين؟‬
‫إن أبشع أنواع انتهاكات حقوق النسان وأبشع أنواع الظلم والضطهاد يسام‬
‫فيه إخواننا المسلمون‪ ،‬سواء أكانوا من الدعاة وهؤلء لهم ولء أعظم وأتم‬
‫من غيرهم‪ ،‬أم كانوا من عامة المسلمين المستضعفين وهؤلء أيضا ً لهم حق‬
‫الولء والمحبة والنصرة‪.‬‬
‫وها نحن الن لنفيق من مصيبة من مصائب إخواننا المسلمين حتى نصاب‬
‫بمصيبة أخرى‪ ،‬حتى أصبحت مصائب إخواننا المسلمين بعضها يشغل عن‬
‫بعض‪.‬‬
‫المر الثالث ‪ :‬التأييد والعانة‬
‫ً‬
‫فمن حق المؤمن أن نقف معه و نؤيده‪ ،‬خاصة عندما يكون قائما بأمر الله‬
‫سبحانه وتعالى داعيا ً لدين الله عز وجل يسعى إلى تطبيق شرع الله سبحانه‬
‫وتعالى بين الناس‪ ،‬فل يعذر أحد أبدا ً من المسلمين في ترك الوقوف معه‬
‫وإعانته وتأييده ولو بالدعاء أو المقال واللسان ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ولقد كان علماء أهل السنة قديما ً وحديثا ً يعنون بذلك عناية واضحة‪ ،‬كان أسد‬
‫بن الفرات قائما ً بمنهج أهل السنة في بلد المغرب وكان مواجها ً للمبتدعة‬
‫فكتب له أسد بن موسى رحمه الله رسالة يؤيده فيها ويعينه‪ ،‬وقد روى هذه‬
‫الرسالة ابن وضاح في كتابه) البدع والنهي عنها( يقول‪":‬اعلم أي أخي أن ما‬
‫حملني على الكتابة إليك ما ذكر أهل بلدك من صالح ما أعطاك الله من‬
‫إنصافك للناس‪ ،‬وحسن حالك‪ ،‬مما أظهرت من السنة وعيبك لهل البدعة‪،‬‬
‫وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم؛ فقمعهم الله بك‪ ،‬وشد بك ظهر أهل السنة‪،‬‬
‫وقواك عليهم بإظهار عيبهم والطعن عليهم فأذلهم الله بذلك‪ ،‬وصاروا‬
‫ببدعتهم مستترين‪ ،‬فأبشر أي أخي بثواب ذلك واعتد به أفضل حسناتك من‬
‫الصلة والصيام والحج والجهاد‪ ،‬وأين تقع هذه العمال من إقامة كتاب الله‬
‫وإحياء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ‪ -‬إلى أن قال ‪ -‬فاغتنم يا أخي هذا‬
‫الفضل وكن من أهله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثة‬
‫حمر‬‫إلى اليمن وأوصاه قال ‪ )) :‬لن يهدي الله بك رجل ً واحدا ً خير لك من َ‬
‫كذا وكذا (( وأعظم القول فيه‪ ،‬فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك‬
‫في ذلك إلفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك‬
‫فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة "‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فأسد بن الفرات لم يكن غائبا ً عنه أن هذا العمل فاضل‪ ،‬ولم يكن غائبا ً عنه‬
‫أثر إحياء السنة بل الذي دفع أصل ً أسد بن موسى إلى الكتابة إليه هو ما‬
‫سمع عنه من قيامة بدين الله سبحانه وتعالى‪ ،‬لكن البشر مهما كانوا‬
‫يحتاجون إلى العانة‪.‬‬
‫ومن هنا كان من حق المؤمنين علينا وبخاصة القائمين بأمر الله سبحانه‬
‫وتعالى والدعاة إلى الله عز وجل أن نؤيدهم ونعينهم ونقف معهم؛ فالكلمة‬
‫التي تقولها لحد القائمين لمر الله ربما زادته حماسة وقناعة بما هو عليه‪،‬‬
‫فازداد عمل ً فصار لك أنت نصيب من هذا العمل‪.‬‬
‫إن هذا القائم بدين الله ل بد أن يواجه مضايقة‪ ،‬ول بد أن يواجه حربا ً‬
‫وفتنة) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم ل يفتنون * ولقد فتنا‬
‫الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين( ومن هنا فهو‬
‫بحاجة إلى من يؤيده‪ ،‬ومن يدعمه ويقف معه‪.‬‬
‫وهذا موقف آخر يسلكه الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله‪ ،‬فقد سمع عن‬
‫صديق حسن خان وهو من علماء بلد الهند وكان قائما ً بالسنة ومنهج أهل‬
‫السنة فأرسل رسالة طويلة لكني أكتفي بجزء مما ورد فيها‪:‬‬
‫يقول الشيخ رحمه الله ‪ ":‬من حمد بن عتيق إلى المام المعظم والشريف‬
‫المقدم المسمى محمد الملقب صديق‪ ،‬زاده الله من التحقيق وأجاره في‬
‫ماله من عذاب الحريق‪ ،‬السلم عليكم ورحمة الله وبركاته‪ ،‬أما بعد ‪:‬‬
‫فالموجب للكتاب إبلغ السلم والتحفي والكرام شيد الله بك قواعد السلم‪،‬‬
‫ونشر بك السنة والحكام‪ ،‬اعلم وفقك الله أنه كان يبلغنا أخبار سارة بظهور‬
‫أخ صادق ذي فهم راسخ وطريقة مستقيمة يقال له صديق‪ ،‬فنفرح بذلك‬
‫وُنسر لغربة الزمان وقلة الخوان‪ ،‬وكثرة أهل البدع والغلل ثم وصل إلينا‬
‫كتاب الحطة وتحرير الحاديث من تلك الفصول فازددنا فرحا ً وحمدا ً لربنا‬
‫العظيم‪ ،‬ثم قال ‪ :‬فبينما نحن كذلك إذ وصل إلينا التفسير بكامله فرأينا أمرا ً‬
‫عجيبا ً ما كنا نظن أن الزمان سيسمح بمثله وما قرب منه ‪ -‬ثم أثنى على‬
‫التفسير الذي قرر فيه مذهب السلف ثم أبدى له بعض النصائح؛ وذلك أنه‬
‫ذكر بعض أقوال المبتدعة وأحسن الظن بهم‪ ،‬فقال له بأسلوب لطيف‪ -‬إني‬
‫اجترأت عليك محبة لك‪ ،‬ولما أسمع عنك أنك تحب النصح ‪-‬ثم اقترح عليه أن‬
‫يشرح نونية ابن القيم وبعد ذلك قال ‪ :‬إن لي ابنا ً وآمل أن يأتي ويطلب العلم‬
‫عندك "‪.‬‬
‫ما أثر هذه الرسالة على صديق رحمه الله وهو هناك في بلد الهند تأتيه هذه‬
‫الرسالة تجوب الفيافي والقطار وتقطع المحيطات من بلد الجزيرة‪ ،‬تأتي‬
‫إليه مثل هذه الرسالة فتشد من عضده وتؤيده وتعينه‪.‬‬
‫وقد كتب أحد علماء الدعوة وهو الشيخ راشد بن جريس‪ ،‬رسالة أخرى إلى‬
‫صديق خان‪ ،‬حين كان في تركيا‪ ،‬فعثر على بعض كتبه‪ ،‬ومما جاء في رسالته‪:‬‬
‫" كنا نظن أن هذه الطريقة لنا وليس لنا فيها مشارك في الدنيا حتى وقفنا‬
‫على بعض مؤلفاتك الشريفة فازددت بها فرحا ً وسرورا ً ولي أصحاب على‬
‫معتقدكم الطاهر ومؤلفات مشايخنا مطابقة لما أنتم عليه "‪.‬‬
‫المر الرابع ‪ :‬حق النصرة‬
‫وهو قريب من حق التأييد والعانة لكننا نعني بالتأييد ماكان ابتداء‪ ،‬أما النصرة‬
‫فهي عندما يتعرض المؤمن للظلم‪ ،‬وهذه النصرة على درجات ‪:‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫‪113‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الدرجة الولى ‪ :‬النصرة باليد وذلك أن يدفع عنه الظلم قال عز وجل‪ ):‬وإن‬
‫استنصروكم في الدين فعليكم النصر إل على قوم بينكم وبينهم ميثاق(‪ ،‬فإذا‬
‫اعتدي على المسلمين في أي بلد كان واجب على المسلمين جميعا ً أن يهبوا‬
‫لنصرتهم‪ ،‬أن ينصروهم باليد و بالسلح أما مجرد النصرة باللسان وإظهار‬
‫التعاون معهم فهذا أمر إنما هو لعامة المسلمين وآحادهم‪ ،‬أما الذين ولهم‬
‫الله أمر المسلمين فأقل ما يجب عليهم تجاه إخوانهم المسلمين هو يقفوا‬
‫معهم وقوفا ً ظاهرا ً وأن ينصروهم ويؤيدوهم قال صلى الله عليه وسلم فيما‬
‫رواه البخاري ‪ " :‬انصر أخاك ظالما ً أو مظلومًا‪ ،‬فسئل الرسول صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ :‬يا رسول الله نصرته مظلوما ً فكيف أنصره ظالما ً فقال ‪ :‬تردعه‬
‫عن الظلم فذلك نصره "‪.‬‬
‫وما من امرئ مسلم يخذل أخاه في موقف يحب أن ينصر فيه إل خذله الله‬
‫في موقف يحب أن ينصره فيه‪ ،‬فمن خذل المسلم خذله الله ‪ ،‬وهذه العقوبة‬
‫ل بد أن تأتي في دار الدنيا عاجل ً قبل الخرة‪ ،‬وأما ما عند الله فهو أشد‬
‫وأبقى ‪ ،‬واليام دول ومن يتصور أن حركة التاريخ ل بد أن تكون ثابتة‬
‫مستقرة؟ فقد تتبدل الحوال فنحتاج إلى أن ينصرنا هذا المسلم الذي تخلينا‬
‫عن نصرته وعن إعانته وعن الوقوف معه وتأييده‪.‬‬
‫والمسلم حينما ينصر أخاه المسلم‪ ،‬فدافعه لذلك القيام بالواجب الشرعي‪ ،‬ل‬
‫أن يتحقق له هو النصر في الدنيا حين يحتاج إليه‪.‬‬
‫الدرجة الثانية ‪ :‬النصرة باللسان؛ بأن ينصر أخاه المؤمن بلسانه سواء عندما‬
‫ينال من عرضه أو يغتاب أو يظلم في نفسه أو ماله أو ولده‪ ،‬وليس له قدرة‬
‫على نصرته بيده وعلى إعانته؛ فالواجب عليه أن ينصره بلسانه لقول النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق ‪ " :‬انصر أخاك ظالما ً أو مظلوما"‪،‬‬
‫ً‬
‫ويقول صلى الله عليه وسلم أيضًا‪ ":‬من ذب عن عرض أخيه المؤمن ذب الله‬
‫عن وجهه النار يوم القيامة "‪ ،‬وهذا عندما يذب المؤمن عن عرض عامة‬
‫ً‬
‫إخوانه المؤمنين من عامة الناس فما بالك بخاصة الناس كمن كان عالما أو‬
‫طالب علم أو صاحب طريقة مستقيمة ودعوة إلى الله سبحانه وتعالى؟ ل‬
‫شك أن أولئك ممن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالذب عن أعراضهم‬
‫والدفاع عنهم‪ ،‬في الحديث الخر الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة يقول‬
‫قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪ " :‬المؤمن مرآة المؤمن‪ ،‬والمؤمن أخ‬
‫المؤمن يكف عنه ضيعته ويحوطه من وراءه "‪.‬‬
‫وانظر إلى هذا الخلق كيف يتمثل به معاذ رضي الله عنه فعندما تخلف كعب‬
‫بن مالك عن تبوك سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ‪ :‬قال ما فعل‬
‫كعب‪ ،‬فقال رجل حبسه برداه والنظر إلى عطفيه‪ ،‬فقال معاذ رضي الله عنه‬
‫‪ :‬بئس ما قلت والله ما نعلم عليه إل خيرًا‪ ،‬فهذا معاذ يتكلم بهذه الكلمة في‬
‫مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينتظر أن يتكلم النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬ومعاذ رضي الله عنه ل يدري مالسبب والمانع الذي منع كعب بن‬
‫مالك من التخلف عن غزوة تبوك‪ ،‬ومع ذلك يقوم ويدافع عن عرضه في‬
‫محضر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لنه لو سكت فالنبي صلى الله عليه‬
‫وسلم بشر قد يظن أن هذا الرجل الذي ذكر ما ذكر إنما قاله عن علم‬
‫وإحاطة‪ ،‬والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال ‪ " :‬إنما أنا بشر وإنكم‬
‫ي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بالحجة من بعض "‪.‬‬ ‫تختصمون إل ّ‬
‫ً‬
‫ودأب أهل السنة أيضا النتصار للمؤمنين والذب عنهم باللسان ولذلك المام‬
‫الذهبي له مواقف كثيرة يدركها من يقرأ في كتابه سير أعلم النبلء فهو‬
‫كثيرا ً ما يدافع وينافح عن أئمة أهل السنة ومن ذلك ما ذكره عن وكيع فقد‬

‫‪114‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ذكر الفتنة التي أصيب بها في مكة ثم استطرد وقال بعد ذلك وهذا بحث‬
‫معترض في العتذار عن إمام من أئمة المسلمين وقد قام في الدفاع عنه‬
‫مثل إمام الحجاز سفيان بن عيينة ‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫وحصل أن صارت فتنة بين بعض أمراء نجد فاستعان أحدهم بالتراك على‬
‫أخيه فألف أحد العلماء ـ يقال له ابن عجلن ـ رسالة يجيز فيها الستعانة‬
‫بالمشركين فرد عليه الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله‪ ،‬وأغلظ حتى حكم عليه‬
‫بالردة فلمه الناس وأكثروا عليه فكتب الشيخ عبد اللطيف " وهذا هو‬
‫الشاهد" في رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان قال ‪ " :‬وبلغني أن بعضهم‬
‫دخل في هذا الباب واعترض على ابن عتيق وصرح بجهله ونال من عرضه‬
‫وتعاظم هذه العبارة وزعم أنه غل وتجاوز الحد فحصل بذلك تنفيس لهل‬
‫الجفاء وعباد الهوى والرجل وإن صدر منه بعض الخطأ في التعبير‪ ،‬فل ينبغي‬
‫معارضة من انتصر لله وكتابه وذب عن دينه وأغلظ في أمر الشرك‬
‫والمشركين على من تهاون ورخص وأباح في بعض شعبه‪ ،‬وفتح بعض وسائله‬
‫وذرائعه الغريبة المفضية إلى ظهوره وعلوه ورفض التوحيد ونكس أعلمه‬
‫ومحو أثاره وقلع أصوله وفروعه ومسبة من جاء به‪ ،‬رأى قولة رآها وعبارة‬
‫نقلها وما دراها ‪-‬يقصد ابن عجلن ‪ -‬من إباحة الستعانة بالمشركين مع الغفلة‬
‫والذهول عن صورة المر الحقيقية‪ ،‬فيجب حماية عرض من قام لله وسعى‬
‫في نصر دينه والذي شرعة وارتضاه وترك اللتفات إلى زلته والعتراض‬
‫على عبارته‪ ،‬فمحبة الله والغيرة لدينه ونصرة كتابه ورسوله مترتبة عليه‬
‫محبوبة له مرضية يغتفر فيها العظيم من الذنوب‪ ،‬ول ينظر معها إلى تلك‬
‫العتراضات الواهية والمناقشات التي تفت من عضد الداعي إلى الله‬
‫والملتمس لرضاه وحبه كما قيل فالمر سهل في جانب تلك الحسنات " ثم‬
‫قال بعد ذلك " ولما قال المتوكل لبن الزيات‪ ،‬يا ابن الفاعلة وقذف أمه قال‬
‫المام أحمد ‪ ":‬أرجو الله أن يغفر له نظرا ً إلى حسن قصده في نصر السنة‬
‫وقمع البدعة وذكر بعد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " وما يدريك‬
‫لعل الله اطلع على أهل بدر فقال‪:‬اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم "‪.‬‬
‫فالشيخ عبد اللطيف رحمه الله يقر بأن الشيخ حمد قد صدر منه خطأ وقد‬
‫تجاوز‪ ،‬وهذا أمر من شأن البشر؛ فحين يكون عند النسان غيرة لله ورسوله‬
‫وحمية لدين الله فقد يقع في الخطأ‪ ،‬وقد يتجاوز‪ ،‬وهاهم أصحاب النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم حين جاء العرابي وبال في المسجد قاموا إليه وانتهروه‪،‬‬
‫وفي مواضع عديدة يقول أحدهم ‪ :‬يا رسول الله دعني أضرب عنقه فقد‬
‫نافق‪ ،‬فقائل هذه المقولة قد تجاوز الحد الواجب في النكار على مثل هذا‬
‫الرجل‪ ،‬فلماذا يلم بعد ذلك من قام غيرة وحمية لدين الله سبحانه وتعالى؟‬
‫فقد يتجاوز في عباراته وقد يقع في بعض الخطأ ولكن هذا ل يسقط حق‬
‫الولء والنصرة والوقوف معه‪.‬‬
‫إن من الخلل بواجب الولء للمؤمنين أل نرى في هذه المواطن إل الخطأ‬
‫والزلل‪.‬‬
‫المر الخامس ‪ :‬المناصحة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪ " :‬انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قيل يا‬
‫رسول الله نصرته مظلوما ً فكيف أنصره إذا كان ظالما ً قال ‪ " :‬تردعه عن‬
‫الظلم فذلك نصرك إياه "‪ ،‬فمن حقه علينا أن نناصحه‪ ،‬بل بلغت منزلة‬

‫‪115‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫النصيحة أن يبايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها‪ ،‬كما قال جرير‬
‫رضي الله عنه ‪ " :‬بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع‬
‫والطاعة والنصح لكل مسلم"‪.‬‬
‫بل يجعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين هو النصيحة كما قال ‪ " :‬الحج‬
‫عرفة " وكما قال ‪ " :‬إنما الربا في النسيئة "‪ ،‬قال صلى الله عليه وسلم "‬
‫الدين النصيحة‪ ،‬الدين النصيحة‪ ،‬الدين النصيحة "‪ ،‬قالوا لمن يا رسول الله‬
‫قال ‪ :‬لك ولكتابه ولرسوله ولئمة المسلمين وعامتهم "‪.‬‬
‫فمن حق المؤمن علينا أن نناصحه‪ ،‬وعندما نناصح المؤمن ‪-‬وخاصة من يقوم‬
‫لدين الله سبحانه وتعالى وينتصر له ثم يقع في الخطأ‪ -‬فيجب أن نسلك‬
‫السلوب المناسب‪ ،‬فليست المناصحة أن نؤلف كتابا ً فنرد عليه ونشنع في‬
‫أخطائه‪ ،‬وليست المناصحة أن نتكلم بهذا المر على المنابر أمام الناس‪،‬‬
‫ونتحدث به في المجالس العامة‪ ،‬ونقول إن هذه نصيحة فإن كان صادقا ً وإن‬
‫كان جادا ً فليقبلها‪ ،‬المناصحة لمثل هؤلء تختلف عن النسان المظهر لفسوقه‬
‫وفجوره وحربه لدين الله‪.‬‬
‫المر السادس ‪ :‬حسن الظن والعفو عن الخطأ‬
‫ً‬
‫قال الله عز وجل ‪ ):‬يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن‬
‫إثم ول تجسسوا ول يغتب بعضكم بعضًا(‪ ،‬والظن أكذب الحديث؛ فمن حق‬
‫المسلم علينا أن نحسن الظن به فقد يقول كلما ً أو يعمل عمل ً فحينئذٍ يجتهد‬
‫الناس في تفسيره وتحميله ما ل يحتمل‪ ،‬بل يصل المر ببعضهم أن يقول‪:‬‬
‫إنك تقصد كذا وكذا‪ ،‬وتقصد فلنا ً وفلنا ً من الناس‪ ،‬وكأن هذا المنتقد قد‬
‫درجة عالية من العلم أو الكشف فأصبح أعلم من الناس بمقاصدهم‬
‫ونواياهم‪.‬‬
‫وفي المقابل فمن يقع عليه خطأ من إخوانه الذين يسيئون فهم مايقول‪،‬‬
‫فالواجب في حقه أن يعفو عنهم ويتنازل؛ فكما أني أريد الناس أن يتحملوا‬
‫أخطائي وكما أنني أقول للناس دائما ً عندما يلوموني على خطأ إني بشر‪ ،‬غير‬
‫مجرد من الهوى غير مجرد من الظلم ل أستطيع أن أتخلى عن هذه الطبائع‬
‫التي فطر الله الناس عليها فكذلك يجب أن أعامل الناس بهذا المنطق‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫خوارم الولء للمؤمنين‬


‫أولها ‪ :‬وأشنعها إعانة الكفار عليهم‬
‫بل هذه رده عن دين الله سبحانه وتعالى‪ ،‬وحين عد شيخ السلم محمد بن‬
‫عبد الوهاب رحمه الله مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين من‬
‫نواقض السلم ذكر التفاق على هذا المر بقوله رحمه الله ‪ " :‬واعلموا أن‬
‫الدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله أو صار مع المشركين على‬
‫الموحدين ‪ -‬وهذا هو الشاهد ‪ -‬ولو لم يشرك ‪ -‬أكثر من أن تحصر في كلم‬
‫الله وكلم رسوله وكلم أهل العلم "‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمه الله ‪ " :‬ومن جرهم وأعانهم على‬
‫المسلمين بأي إعانة فهي ردة صريحة "‬
‫الثاني ‪ :‬الولء القبلي والعرقي‬
‫الموالة على أساس القبلية من أمور الجاهلية‪ ،‬وقد نهى عنها النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم وقال ‪ " :‬أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم "‪ ،‬وإنما جاء النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم ليمحوا آثار هذه الولءات والفوارق والفواصل فيبقى‬

‫‪116‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الناس أمة واحدة كلهم لدم‪ ،‬لشرف ول نسب يفرق بينهم؛ فهذا أبو لهب في‬
‫غاية الشرف والمكانة والمنزلة في قريش ومع ذلك ما نفعته مكانته‪ ،‬وأنزل‬
‫الله فيه سورة تتلى إلى يوم القيامة) تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه‬
‫ماله وما كسب سيصلى نارا ً ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها‬
‫حبل من مسد(‪ ،‬وهذا هو بلل رضي الله عنه الله عنه يسمع النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم خشخشة نعاله في الجنة‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬الولء القليمي‬
‫كانت معايير الولء لدى أهل الجاهلية تتمثل في ولء القبيلة‪ ،‬ول يزال في‬
‫الكثير من المسلمين شيء من ذلك‪ ،‬وحين نجح أعداء السلم في تفريق‬
‫المسلمين إلى بلد وشيع وأحزاب‪ ،‬نشأ الولء القليمي‪.‬‬
‫فهذه الحدود الجغرافية بين بلد المسلمين طارئة‪ ،‬ول يمكن أن نعلق عليها‬
‫أحكاما ً شرعية وننسى أن ذلك بني على أصل فاسد وهي هذه الفوارق؛‬
‫فالمسلمون أمة واحدة‪.‬‬
‫كثير من المسلمين بل من الناس الخيار ومن طلبة العلم أصبحوا يوالون‬
‫على هذا الساس‪ ،‬فمن ليس من بلدهم له معاملة خاصة‪ ،‬فهو يسمى أجنبيا ً‬
‫ولو كان مسلمًا‪ ،‬والصل فيه الخيانة وعدم الثقة‪ ،‬بل ربما الصل فيه فساد‬
‫الديانة‪ ،‬وليس له حق في الثراء كأن هؤلء هم الذين بأيديهم خزائن‬
‫السماوات والرض‪.‬‬
‫وينعكس أثر هذه النظرة عليه‪ ،‬فيبادلنا الشعور نفسه‪ ،‬ويتحين الفرصة لرد‬
‫الصاع صاعين‪ ،‬فنحتج بذلك نحن على سوئه‪ ،‬وكنا السبب في تكوين هذا‬
‫الشعور لديه‪.‬‬
‫وكيف يعامل الن المسلم الوافد من بلد الهند أو بلد بنجلدش أو الشرق أو‬
‫الغرب‪ ،‬وكيف يعامل العلج الصليبي القادم من أمريكا أو من أوروبا؟ فهل‬
‫نحن نتمثل في ذلك عقيدة الولء والبراء؟ هل نحن نشعر بأن هذا المسلم أخ‬
‫لنا له حق ومكانه ونشعر بأن ذاك علج صليبي حاقد؟‪.‬‬
‫إن مراجعة هذه القضية وتصحيحها ل يمكن أن يتم بمجرد كلمات وانتقاد؛ فهو‬
‫خلل تربوي يحتاج إلى وقت وجهود‪.‬‬
‫وأحيانا ً يكون الولء القليمي داخل حدود الدولة الواحدة ‪ ،‬وقد يكون له أثر‬
‫في التأهل لوظائف شرعية !‬
‫إنه ولء جاهلي أسوأ من ولء الحزاب والجماعات السلمية المعاصرة على‬
‫أساس النتماء الحزبي ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬الولء الحزبي‬
‫وهو الولء على حسب الحزاب أو التجمعات أو التجاهات الفكرية أو غيرها‪،‬‬
‫وقد نما هذا الداء مع انتشار الحركات والجماعات السلمية في هذا العصر‪.‬‬
‫ولشيخ السلم ابن تيمية ‪-‬رحمه الله‪ -‬رسالة قيمة بعنوان " الوصية الكبرى‬
‫"‪ ،‬وهي موجودة في الفتاوى ضمن المجلد " ‪ " 28‬أرسلها إلى أصحاب عدي‬
‫بن مسافر وهو أحد الزهاد ترجم له الذهبي في السير وأثنى عليه وكان له‬
‫أتباع وأصحاب غلوا فيه‪ ،‬فأرسل له رسالة يناصحهم فيها ويبين لهم عقيدة‬
‫أهل السنة وكان مما قاله الشيخ رحمه الله ‪ " :‬وكذلك التفريق بين المة‬
‫وامتحانهم بما ل يأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬مثل أن يقال‬
‫للرجل أنت شكيلي أو قرفندي فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من‬
‫سلطان " ثم قال ‪ ":‬بل السماء التي قد يسوغ أن نسمى بها‪ ،‬مثل انتساب‬
‫الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي‪ ،‬أو إلى شيخ‬
‫كالقادري والعدوي ونحوهم‪ ،‬أو مثل النتساب إلى القبائل كالقيسي‪ ،‬أو إلى‬

‫‪117‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المصار كالشامي أو العراقي والمصري‪ ،‬ول يجوز لحد أن يمتحن الناس بها‬
‫ول يوالي بهذه السماء ول يعادي عليها‪ ،‬بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من‬
‫أي طائفة كان‪ ،‬وأولياء الله هم أولياؤه الذين آمنوا وكانوا يتقون "‪ .‬فأقر‬
‫رحمه الله النتساب والتسمي‪ ،‬لكنه أنكر الولء على أساس السماء‪.‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لما كسع غلم رجل من المهاجرين رجل ً‬
‫من النصار فقال المهاجري ياللمهاجرين وقال الخر ياللنصار قال النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم " فقد سوغ لهم‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم أن يتسموا بهذا السم‪ ،‬وأن ينتسبوا إلى‬
‫المهاجرين وأن ينتسبوا إلى النصار‪ ،‬بل هذا مصطلح شرعي‪ ،‬جاء في كتاب‬
‫الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لكن هذا النتساب‬
‫والنتماء حين يكون أساسا ً يوالي عليه ويعادي عليه تصبح المسألة من دعوى‬
‫الجاهلية‪.‬‬
‫ً‬
‫فل بد أن نربي أنفسنا على التجرد‪ ،‬فل يوالي أحدنا فلنا لنه من تلمذة‬
‫شيخه‪ ،‬أو لنه يلتقي معه في مدرسه فكرية أو تجمع أو‪ ..‬أو‪ ..‬إلى آخر ذلك‪،‬‬
‫بل إذا ساغ التسمي ‪-‬كما قال الشيخ‪ -‬إلى مذهب أو إلى طريق أو إلى غير‬
‫ذلك فل يسوغ أن يكون هذا أصل ً يوالى ويعادى عليه‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬الولء على أساس المسائل الجتهادية‬
‫سبق أن قررنا في مقدمة الحديث أن المؤمن إذا وقعت منه معصية أو بدعة‬
‫أو اجتهاد خاطئ فهذا ل يخرجه عن الولء جملة‪ ،‬وإن كان قد يحصل له من‬
‫البراء بقدر ما حصل عنده من الجهل والهوى‪.‬‬
‫أما المسائل الجتهادية التي يسوغ فيها الجتهاد فل يجوز أن تؤثر بحال على‬
‫الولء؛ فل نصنف من يخالف في المسائل الجتهادية ضمن ذلك الصنف الذين‬
‫يجتمع فيهم الولء والبراء‪ ،‬بل هو من المؤمنين الذين تجب موالتهم‬
‫ونصرتهم وتأييدهم إذا حصل له هذا المر عن طريق اجتهاد سائغ‪.‬‬
‫وعلى هذا الشأن كان أئمة أهل السنة‪ ،‬قال المام أحمد عن إسحاق ‪ " :‬لم‬
‫يعبر الجسر مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء فإن الناس لم يزل‬
‫يخالف بعضهم بعضا ً "‪.‬‬
‫وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ‪":‬أما إذا كانت المسألة من‬
‫مسائل الختلف عند الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية‪ ،‬فتلك مسألة‬
‫أخرى ل توجب خلفا ً ول عداوة بين المسلمين"‪.‬‬
‫أليس من الخطأ والتجاوز والخلل بهذا المفهوم أن تجعل المسائل الجتهادية‬
‫معيارا ً أو أساسا ً للولء والبراء فمن يوافقني على اجتهادي في هذه القضية‬
‫له الولء والمحبة والوقوف معه ومن يخالف في مثل هذه المسألة فإنه‬
‫مبتدع ضال زائغ أشد على السلم من أعدائه؟‬
‫أليس من الخطأ والظلم والحيف والتجني أن تكون هذه المسألة الجتهادية‬
‫معيارا ً لتقويم الناس؟ فمن قال بتحريم هذا المر فهو أخ لي‪ ،‬وهو النسان‬
‫صاحب الدعوة على المنهج الصحيح إلى غير ذلك‪ ،‬ومن خالف فيها فهو مبتدع‬
‫مخالف للمنهج إلى غير ذلك من الوصاف‪.‬‬
‫وهب أن فلنا ً من الناس اجتهد فرأى هذه الوسيلة وسيلة دعوية جائزة وهو‬
‫اجتهاد سائغ‪ ،‬وأنت تعتقد أنها محرمة فهل يعني هذا أن تسقط كل ما يقوم‬
‫به؟ وهل يعني هذا أل ننظر إلى فلن من الناس إل من هذه الزاوية الحادة؟‬

‫‪118‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫هل يعني هذا أن نجعل هذه القضية هي قضية القضايا عندنا فمن رأى هذا‬
‫العمل حرام وبدعة فهو صاحب منهج سليم ‪ ،‬ومن رأى أن هذا العمل جائز أو‬
‫مشروع فهذا رجل مبتدع ضال؟‬
‫ومن صور ذلك‪ :‬أن تجد الشاب معجبا ً بفلن من الناس يثني عليه ويدافع عنه‬
‫ويتبنى أراءه فحينما يسمع له اجتهادا ً في مثل هذه المسائل يسقطه جمل ً‬
‫ل‪ ،‬ويحول ذلك المنطق الذي كان يستعمله في الثناء عليه والذب عنه‬ ‫وتفصي ً‬
‫إلى الذم‪.‬‬
‫ومن صور الخلل بواجب الولء لخواننا المسلمين‪ ،‬أنه حينما يجتهد بعضهم‬
‫فيتخذ موقفا ً نرى أنه خلف المصلحة‪ ،‬ويترتب على ذلك تسلط العداء عليه‪،‬‬
‫نلوم إخواننا ونرى أنهم يستحقون ما أصابهم‪ ،‬وننصب أنفسنا محامين‬
‫ومدافعين عن الباطنيين ومدافعين عن العلمانيين ومدافعين عن أعداء الله‬
‫الذين يسلكون الوسائل ويعقدون المؤتمرات‪ ،‬ويجرون البحوث والدراسات‬
‫ويستقدمون المستشارين من أعداء الله عز وجل كل ذلك من أجل حرب‬
‫السلم وحرب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى‪ ،‬ونرى أنهم محقين فيما‬
‫فعلوا تجاه إخواننا‪.‬‬
‫والواجب الشرعي في ذلك‪ ،‬أن نبين الخطأ بالسلوب الشرعي‪ ،‬ثم نمنح‬
‫ولءنا لخواننا حين يكون عدوهم عدونا جميعا ً وهم أهل العلمنة والفساد‪،‬‬
‫الذين ليفرقون بيننا مادمنا دعاة إلى منهج السلم الشامل لمور الحياة‪.‬‬
‫هذا بعض ما تيسر قوله حول هذا الموضوع‪ ،‬والمر كما قلت يحتاج إلى أكثر‬
‫من ذلك‪ ،‬وكل ما قلته إنما هو اجتهاد‪ ،‬واقتناعات شخصية فإن أصبت فمن‬
‫الله سبحانه وتعالى‪ ،‬وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان و الله سبحانه‬
‫وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بريئان مما أقول‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫ولدات متكررة ‪ -‬النثى هل تلد من حولها؟!‬


‫مفكرة السلم‪ :‬اختلفت الراء في الجابة على السؤال التالي‪ :‬هل المرأة تلد‬
‫جميع من حولها؟! أي ابنها وزوجها وأخاها وأباها‪ ...‬أم أنها فقط تلد ابنها؟!‬
‫فمن الراء من يرى أن معاملة المرأة للرجل كطفل تعني أنه غير كفء‪ ,‬ما‬
‫يشعره بعدم الكفاءة‪ ,‬وهذا الشعور سيفقده احترامه لذاته‪ ,‬ويصل به إلى‬
‫مرحلة الرفض التام‪ ,‬ومعاملة الرجل كطفل يخنقه ويسلبه حريته وشخصيته‬
‫ويظهر بمظهر الضعف‪ ,‬بينما يرى آخرون أن المرأة المبدعة والناجحة هي‬
‫ما كيف تجعل زوجها يولد من جديد‪ .‬فالنسان الناجح ل يولد‬ ‫التي تعرف دائ ً‬
‫مرة واحدة‪ ,‬وإنما يولد باستمرار وبشكل متواصل‪ ,‬وكل مرة ُيولد فيها يمكن‬
‫حا من نوع جديد يتناسب مع الولدة الجديدة‪ ,‬أما النسان‬ ‫أن يحقق نجا ً‬
‫دا ساكًنا ل يستطيع مواكبة‬ ‫الفاشل فهو الذي ُولد مرة واحدة‪ ,‬فأصبح جام ً‬
‫تطور الحياة وتجددها‪ ،‬ويغدو 'نسخة مكررة' ولحًنا معاًدا‪.‬‬
‫والمرأة التي تستطيع أن تلد زوجها مرة ثانية وثالثة ورابعة هي المرأة الم‪,‬‬
‫فالمومة بمعناها الواسع الذي يعني البداع والعطاء والحنان والحب هي أهم‬
‫الخصائص في المرأة السوية‪.‬‬
‫وليس ثمة امرأة متوازنة من أدنى الرض إلى أقصاها ل تعتبر أن رفيقها هو‬
‫'طفلها' قبل كل شيء‪ ،‬سواء كان هذا الرفيق ابنها الصغير أو زوجها القوي؛‬
‫كر بالعقل أقل من الوجدان والعاطفة‪ ,‬ولذلك سيظل حتى‬ ‫لن المرأة تف ّ‬
‫رفيقها القوي القادر هو طفلها على الدوام إذا استطاعت أن تحتويه بكل‬

‫‪119‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وسائل الحتواء العاطفية والروحية والجسدية‪.‬‬


‫ولكن ليس معنى هذا أن تحاصره وتكّبل حركته وتفكيره‪ ,‬فارضة عليه كل‬
‫قيود السر والتحكم‪ ,‬فتتدخل في كل صغيرة وكبيرة‪ ،‬وإنما تعده وتهيئه حتى‬
‫ينطلق انطلقة القوي القادر في شتى ضروب الحياة‪.‬‬
‫معد لكي يخرج من أمه‪ ,‬ثم ينطلق انطلقة تؤمنها له‪ ،‬ولكن‬ ‫إن كل طفل ُ‬
‫ضا أن ترتبط بهذا الطفل إلى البد ارتباط التكبيل‬ ‫بوسع المرأة الم أي ً‬
‫والسيطرة‪ ,‬فيفقد شخصيته وتميزه وقدرته على مواجهة الحياة‪ ,‬وما تفعله‬
‫الم بولدها يمكن أن تكرره مع رفيقها‪ .‬تلك هي قضية كل امرأة 'أن تعطي أو‬
‫أن تحتفظ'‪.‬‬
‫وهنا يمكن تشبيه المرأة كالبحر الذي يحمل السفن أو يبتلعها‪ ,‬فقد يحمل‬
‫البحر السفن إلى آفاق بعيدة ومتعددة ومتجددة‪ ،‬وقد يبتلعها في بطنه‪,‬‬
‫فتكون حكًرا ً عليه في أعماقه‪.‬‬
‫حا فتلده ثانية كطفل نهل من أمه‬ ‫هل تبدع الرجل حًبا وحناًنا وعبقرية ونجا ً‬
‫قوى نفسية جديدة؟! أم أنها تحول بينه وبين أن ينطلق ثانية قوًيا قادًرا نحو‬
‫عمله وأفكاره؟!‬
‫أنت عائق أمامي‪:‬‬
‫قال لزوجته بعد ما كثرت المشاكل بينهما‪ :‬أنت عائق في طريقي؛ فل أجد‬
‫فين عن تكلفتي بأعباء صغيرة يمكنك‬ ‫منك الرعاية والحنان والمساعدة‪ ،‬ول تك ُ ّ‬
‫ما في‬‫القيام بها دوني‪ ,‬نفهم من ذلك أن الرجل يريد من المرأة أن تكون أ ً‬
‫العطف والحنان والرعاية‪ ,‬وفي نفس الوقت ل تكّبله بالقيود‪ ,‬وتجعل من‬
‫حضنها السجن المغلق على صاحبه‪ ,‬حتى ل ينطلق ويبدع ويأخذ طريقه‬
‫للعمل والنجاح‪.‬‬
‫ونعم الم‪:‬‬
‫السيدة خديجة رضي الله عنها الزوجة الم التي أحاطت زوجها صلى الله‬
‫عليه وسلم بكل ما عرفته معنى المومة من معاني‪ ,‬فقالت له كلمتها‬
‫دا‪ ,‬إنك‬‫فا‪' :‬كل‪ ..‬والله ما يخزيك الله أب ً‬ ‫عا خائ ً‬
‫المشهورة عندما جاء إليها فز ً‬
‫لتصل الرحم‪ ..‬وتحمل الكل‪ ..‬وتكسب المعدوم‪ ..‬وتقري الضعيف‪ ..‬وتعين‬
‫على نوائب الحق'‪.‬‬
‫خديجة الم احتوت زوجها بالحب والحنان والرعاية والمال والمساندة‬
‫واليمان والثبات والقوة‪ ,‬حتى قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما‬
‫غارت منها السيدة عائشة وهي متوفاة‪' :‬آمنت بي إذ كفر الناس‪ ،‬وصدقتني‬
‫إذ كذبني الناس‪ ،‬وواستني بمالها إذ حرمني الناس‪ ,‬ورزقني الله ولدها إذ‬
‫حرمني أولد الناس'‪.‬‬
‫وخلصة القول‪:‬‬
‫ما بعد يوم أو أن‬ ‫إن الرجل أي رجل يمكن بواسطة المرأة أن يولد مجدًدا يو ً‬
‫يموت‪ ,‬والمرأة تستطيع أن ترعى جميع من حولها بالحب والحنان والعطف‬
‫والمساعدة‪ ،‬كالب والزوج والبن والخ وجميع الهل‪ ,‬لتساعدهم أن يولدوا‬
‫ما بعد يوم وتصل بهم إلى طريق النجاح‪ ,‬أو تكون سبًبا في موتهم‬ ‫مجدًدا يو ً‬
‫وقتل براعم النجاح عندهم‪..‬‬
‫وّفق الله المرأة إلى خير الولدة‪..‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫‪120‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ولدى أعظم الناس ولدى ل أمل فيه‬


‫مفكرة السلم ‪ :‬عبارتان بينهما بون شاسع من المشاعر والنفعالت تجيش‬
‫في نفوس البوين وبينهما كذلك أيام وشهور وسنين من حلم بدأ عظيما ثم‬
‫إذا به يذوب شيًئا فشيًئا حتى ينقلب إلى كابوس يجثم على القلب والنفس‪.‬‬
‫المشهد الول‪:‬‬
‫حركة دائبة في المنزل‪ ،‬استعداد أعلى مستوى‪ ،‬ضيف مهم قادم‪ ،‬لكنه ضيف‬
‫ُيستعد له منذ أشهر ويراعى في كل خطوة مصلحته وما ينفعه‪ ،‬ثم تأتي‬
‫الساعة الحاسمة ساعة قدوم الضيف‪ ،‬وتزداد علمات القلق والترقب‬
‫والنتظار‪ ،‬الجميع ما بين واقف يبتهل وآخر يزرع الرض جيئة وذهاًبا‪ ،‬وثالث‬
‫يرفع يديه إلى السماء‪ ،‬والقلوب كلها معلقة برب السماء تدعوه‪ ،‬والعين‬
‫مثبتة على باب في آخر الردهة ينتظرون أي خارج منه بلهفة ‪ ...‬وفجأة ينفتح‬
‫ما معافى‬ ‫الباب‪ ،‬يخرج المكلف برئاسة لجنة الستقبال ليعلن عن وصوله سال ً‬
‫إلى أرض المطار‪ ،‬وما هي إل دقائق حتى يزول القلق والترقب وتحل محله‬
‫أمواج دافقة من النفعالت والمشاعر الجياشة الداخلية والخارجية‪.‬‬
‫المشهد الثاني‪:‬‬
‫أياد أربع تحمل الضيف الذي أقبل إلى هذه الدنيا منذ أقل من ساعة تنقل‬
‫إلى جسده مشاعر دافقة لقلبين يتعلقان بمضغة لحم رقيقة ضعيفة وأعين‬
‫ما عجزت هي عن تحقيقها‪ ،‬فإذا بها‬ ‫تنظر على هذا الضيف فترى فيه أحل ً‬
‫تتحقق وواقع تعيشه فتراه يكتمل على أحسن صورة على يد هذا الضيف‬
‫الكريم الذي يشع البهجة بمجرد وجوده‪ .‬أفكار في الذهن تتعاظم وآمال تعلو‬
‫وتكبر وكلمات تنطلق من الفواه برغبات وأماني ل حد لها تبشر بتحققها‬
‫على يد هذا الضيف الكريم‪.‬‬
‫قا 'ولدي أعظم الناس'‪.‬‬ ‫ح ً‬
‫المشهد الثالث‪:‬‬
‫سا ل أطمئن إلى‬ ‫ى'‪ ،‬يصاحب أنا ً‬
‫إنه يرفع صوته علي 'أكلمه فل ينظر إل ّ‬
‫هيئتهم‪ ,‬يتلفظ بألفاظ غريبة‪ ،‬ل يعرف مصلحته‪ ،‬ينام كثيًرا‪ ،‬ل يتكلم معي عن‬
‫خصوصياته‪ ،‬يسكت في المنزل ويضحك مع أصدقائه‪ ،‬يسرح كثيًرا‪ ،‬علقته مع‬
‫إخوته مضطربة‪ ،‬علقته مع ربه تسوء‪ ،‬يسأل أسئلة محرجة‪ ،‬عثرت على صور‬
‫وكتابات فاضحة في متعلقاته‪ ،‬ويلبس ملبس غريبة‪ ،‬يقص شعره بطريقة غير‬
‫طبيعية‪ ،‬مطالبه المادية تتزايد‪ ،‬تأخر دراسي‪ ،‬قلق واكتئاب‪ ،‬حساسية شديدة‪،‬‬
‫أحلم يقظة‪.‬‬
‫بصراحة ' ولدي ل أمل فيه'‪.‬كيف يحدث مثل هذا النقلب العجيب؟ كيف‬
‫يتحول حلم المس إلى كابوس اليوم؟‬
‫الجابة على هذا السؤال بسيطة‪ ،‬لكنها تحتاج منكما أيها البوان إلى تأمل هذا‬
‫المثل الواقع‪.‬‬
‫رجل يقدم على وضع حصيلة أمواله كلها في مشروع ضخم لكنه بدون دراسة‬
‫جدوى‪ ،‬ثم يقوم بعد ذلك بتحويل مسئولية الشراف على هذا المشروع‬
‫وخطوات إنفاق أمواله إلى آخرين بغير متابعة له‪ ،‬ثم هو بعد ذلك يفاجأ‬
‫بخسارة أمواله وضياع نقوده‪ ،‬وتنطلق‬
‫التعليقات ‪:‬‬
‫ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك‬
‫'يداك أوكتا وفوك نفخ' ‪' ،‬على نفسها جنت براقش'‪.‬‬
‫كيف يمكن أيها الب أيتها الم أن تنتظرا من وليدكما تحقيق الحلم والمال‬
‫وأنتما قد أوكلتما أمر رعايته وتربيته إلى محيطه من مجتمع بأفراده وإعلمه‬

‫‪121‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وعلقاته وأفكاره‪ ،‬ألقيتما البذر ثم تركتموه حتى الحصاد بغير رعاية أو عناية‪.‬‬
‫طا استراتيجية تقدر على أقل مستواها بالخمس سنوات‬ ‫إن الدول تضع خط ً‬
‫لصيانة البنية التحتية من صحة وتعليم وإعلم وخدمات وغيرها وهي في ذلك‬
‫عا قومًيا تصرف له الموال‬ ‫تصف النقلت في البناء والتعمير بوصفها مشرو ً‬
‫وتنشغل به الفكار والعقول وتبذل له الوقات‪.‬‬
‫ابنك مشروعك القومي‪:‬‬
‫سا وتتعلق به النظار معجبة‬ ‫إن رجل ً يحقق المال وينشئ الحلم واقًعا ملمو ً‬
‫بما بذل وما وصل إليه‪ ،‬إن رجل ً مثل هذا ليحتاج أن يكون في بداية نشأته قد‬
‫تم التعامل معه على أنه مشروع قومي صرفت عليه الموال وبذلت له‬
‫الوقات وانشغل به المحيطون‪ ،‬ووفروا له كل ما يستلزمه نجاح هذا‬
‫المشروع القومي‪.‬‬
‫سؤال‪ :‬هل ولدك 'أعظم الناس' هو مشروعك القومي؟‬
‫وهنا سيتركنا بعض الباء مقتنعين أن الجابة لديهم ل‪ ،‬فيبرر ذلك حقيقة‬
‫صدمتهم في أولدهم بينما الغلبية ستظل معنا مجيبة على سؤالنا السابق‬
‫بنعم فننطلق بهم إلى الفقرة التالية‪ .‬نعم لقد كان ابننا مشروعنا القومي‪،‬‬
‫فلقد عشنا من أجله ووفرنا له الموال لتحقيق رغباته وطموحاته‪ ،‬ولم نمنعه‬
‫من شيء‪ ،‬بل وضحينا في سبيل ذلك براحتنا ورغباتنا وتحملنا الكثير من‬
‫المشاق‪ ،‬وأحياًنا الغربة الجسدية وأحياًنا أخرى الغربة الروحية بالعمل طوال‬
‫اليوم‪ ،‬نعم ولدنا 'أعظم الناس' هو مشروعنا القومي مأكله ومشربه وملبسه‬
‫ونفقاته ورغباته ومطالبه‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫وا سيدي لنا هنا وقفة ‪ ..‬ابنك ليس مدينة تبنى لكنه نفخة من روح‬
‫لكن عف ً‬
‫ومسكة من طين إنه كتلة من المشاعر والفكار والحاسيس والتفاعلت‪ ،‬هل‬
‫تراك أيها الب الفاضل قد تلمست حاجات ولدك الحقيقية؟ ثم هل تراك بعد‬
‫ذلك قد أحسنت ترتيب أولوياتك؟ وبعد فمن سيتبقى الن بصحبتنا من الباء‬
‫والمهات هم هؤلء الذين اعتبروا ابنهم مشروعهم القومي فبذلوا له الوقات‬
‫تسبق الموال‪ ،‬وأيقنوا أن الجانب النفسي والعاطفي والفكري له الولوية‬
‫في تحقيق التوازن النفسي والقتراب من تحقيق صورة الكمال في تنفيذ‬
‫المشروع القومي‪.‬‬
‫لكننا سنجد من بين هؤلء الباء والمهات من ما زالت لديهم تلك الشكاوى‬
‫وهذه الدهشة التي تعتريهم أحياًنا من تصرفات أولدهم ومن تغيرات‬
‫سلوكياتهم خاصة عند انتقالهم من مرحلة إلى أخرى في فترات عمرهم فإلى‬
‫هؤلء نقول‪:‬‬
‫* إنه ل بد لوصول الباء والمهات إلى الصواب في التعامل مع أبنائهم إلى‬
‫التصال بذوي الختصاص من علماء الشريعة والمختصين بالتربية للنشء‬
‫المسلم ممن يتمتعون بقاعدة علمية شرعية قوية‪ ،‬ومن أصحاب الخبرة‬
‫والمشهود لهم بالعمل الدعوى الواقعي عميق الثر في المجتمع المسلم‪.‬‬
‫* ل بد لك أيها الب الفاضل والم الفاضلة من مراعاة العتدال والتوازن في‬
‫التعامل مع الظواهر الخاصة بالبن أو ما يمكننا أن نطلق عليه عبارة 'بين'‬
‫وفيما يلي بعض من هذه الشارات بين الفراط والتفريط‪.‬‬
‫‪1‬ـ بين السطحية والعمق‪:‬‬
‫في تعامل كثير من الباء والمهات مع تصرفات البناء نجد أنها تفتقد التوازن‬

‫‪122‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بين الفراط في السطحية أو العمق‪ ،‬والتفريط فيها‪.‬ويتمثل ذلك في الصور‬


‫التية‪:‬‬
‫أـ تضخيم التصرفات غير المتكررة أو بعض الكلمات التي تخرج من البن‬
‫بصورة عفوية لكن غير مقصودة‪ ،‬والتعامل مها على أنها أمراض متأصلة‪،‬‬
‫واتخاذ الجراءات للقضاء عليها‪ ،‬مما يعطي شعور التربص وتصيد الخطاء عند‬
‫البناء‪.‬‬
‫ب ـ التعامل مع التصرفات المتكررة بصورة سطحية أو ل مبالة إما لعدم‬
‫اعتبارها مؤشرات على مشاكل تبدأ في النمو أو لعتقاد أنها طبيعية في هذه‬
‫المرحلة التمردية فل حاجة للنشغال بها وعلجها وتنبه 'فمعظم النار من‬
‫مستصغر الشرر'‪.‬‬
‫‪2‬ـ بين رغباتنا ورغبات أبنائنا‪:‬‬
‫كم تختلط الفهام وتتوه الحقائق وسط الرغبات والماني الحلم‪ ،‬وإني‬
‫عشت‬ ‫لمقدر بشدة لحقيقة سيطرة الحلم والمنيات على بعض الباء‪ ،‬فقد ِ‬
‫أخي الب العمر كله ترجو تحقيق هذا الحلم لكن ابنك إنسان له آماله‬
‫وأحلمه وأمنياته‪.‬‬
‫فكن معه ول تكن عليه‪ ،‬ولن يحقق ولدك 'أعظم الناس' رغباتك بمحض‬
‫ها ثم يحملك عواقبها فتسوء‬ ‫إرادته أفضل من أن تقوم بإلزامه بتحقيقها مكر ً‬
‫العلقة بينكما‪.‬‬
‫‪3‬ـ بين العقاب والثواب‪:‬‬
‫وهذه من أكثر المواقف التي يحدث فيها الخلل في التزان بين الفراط‬
‫والتفريط وذلك عن طريق‪:‬‬
‫أـ وسائل العقاب فمنها ما أنكره الشرع من تعيير البن المستمر بخطأ ارتكبه‬
‫مث ً‬
‫ل‪.‬‬
‫صا وإهمال‪ً.‬‬ ‫ب ـ درجة العقاب بحيث ل يكون على مستوى الخطأ زيادة أو نق ً‬
‫ج ـ تخصيص بالعقاب أن يعاقب البن على ما يفعله غيره ول يعاقب عليه‪ ،‬أو‬
‫يفعله أبوه كالتدخين مث ً‬
‫ل‪.‬‬
‫د ـ عدم الثابة على الفعل الحسن بالكلمة أو الفعل أو الشارة‪.‬‬
‫و ـ شكل العقاب بإهانته أمام الخرين وفضحه‪.‬‬
‫هذه فقط لمحات قليلة لك أخي الب أختي الم‪ ،‬كل غرضي منها أن نتنبه أننا‬
‫قبل أن نربي أبناءنا بأشد الحتياج إلى تربية أنفسنا‪ ،‬وإذا كنا ل نعرف دواخل‬
‫أنفسنا ودوافعها فكيف بمعرفتنا لبنائنا فهم كالغراب‪ ،‬وهم ينامون بجوارنا‪ .‬ل‬
‫تدع ابنك يحلم وينمو ويكبر بمفرده فتفاجأ فيما بعد بولدك هذا الحلم العظيم‬
‫الذي داعب خيالك عندما حملته مضغة لحم ينقلب إلى كابوس جاثم ناقم‬
‫عليك ل تملك عليه سيطرة‪ ،‬وتنبه فالقاعدة تنص على‪:‬‬
‫'إن أخلق المراهق وتصرفاته تعكس أسلوب تربيته وهو طفل'‪.‬‬
‫إننا بحاجة إلى فهم دوافع البن في تصرفاته في مرحلة المراهقة وحقيقة‬
‫هذه الدوافع وأسبابها‪ ،‬ثم واجبنا تجاه هذه التصرفات وكيف نستثمرها وندفع‬
‫بها في طريق تحقيق الحلم والرغبات‪ ،‬أو بالصح تكوين الشاب والفتاة‬
‫الناضجين مكتملي النمو العقلي والنفسي والجسدي‪ ،‬ونحن في ذلك نتعلم‬
‫كما يتعلم أبناؤنا‪ ،‬ونستفيد كما يستفيدون ونحتاج إلى إعادة تصويب أفكارنا‬
‫وتصوراتنا باستمرار فنحن أمام مشروع قومي ل يجوز النشغال عنه بأي حال‬
‫وا نسوق لكم المشهد الخير لنقرب البعيد ونتلمس الغيب‬ ‫من الحوال‪ ،‬وعف ً‬
‫الذي وعد الله تعالى به كل أب وأم جزاًء لهما على حرصهما على بناء‬

‫‪123‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫مشروعهما القومي‪ ،‬وبذل الجهد كله لتحقيق كماله‪.‬‬


‫المشهد الخير‪:‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ابن يقدم أمه وأباه على زوجته ويبرهما في كبرها يسأل عليهما يكرمهما‪ ،‬ول‬
‫يهينهما‪ ،‬يبر أقرباءهما وأصدقاءهما‪ ،‬يدعو لهما‪ ،‬يخدمهما‪ ،‬وهو سبب شرفهما‪،‬‬
‫وقرة عينهما وفخر قلوبهما في الدنيا بما حققه من استكمال مستلزمات‬
‫وظيفة الستخلف في لرض‪ ،‬وفي الخرة بالشرف الكريم‪ ،‬إذ يلبسان حلة‬
‫الكرامة وتاج الكرامة‪ ،‬فيقال‪ :‬بم هذا؟ فينادي بأخذ ولدكما القرآن‪ .‬فكم تهون‬
‫حينذاك تلك الساعات الطوال المبذولة في النشغال بمعاناته ومشاركته‬
‫فكره والصبر عليه‪ ،‬وتنبه فكما تقول عند الفطار في الصيام‪' :‬ذهب الظمأ‬
‫وابتلت العروق وثبت الجر إن شاء الله' فها هنا نقول‪' :‬ذهب الرق‪ ،‬والقلق‬
‫واللم والمعاناة‪ ،‬وأنس القلب وفرح وانشرح الصدر وانفسح‪ ،‬وثبت الجر إن‬
‫شاء الله‪ ,‬فهنيًئا لمن ُرِزق بكنز فحافظ عليه وأدى أمانته فكوفئ جزاء أمانته‬
‫وصبره‪' ،‬وما يلقاها إل الذين صبروا'‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫ولعلكم تشكرون ‪... ...‬‬


‫الحمد لله‪ ،‬والصلة والسلم على عبده ورسوله نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن‬
‫عبدالله ‪ ،‬وعلى آله وصحبه ومن واله ‪،‬أما بعد ‪:‬‬
‫مها‪ ،‬سواٌء بانتصاره على نفسه ‪،‬أو على‬ ‫فإن اكتمال النعمة على العبد وتما َ‬
‫عدوه في معركة ‪،‬أو نجاٍح في دعوة ‪،‬أو فراٍغ من موسم طاعةٍ وُّفق فيه‬
‫ل ذلك يحتم عليه عبادتين عظيمتين‪ ،‬أل‬ ‫العبد لما تيسر من العمل الصالح‪ ،‬ك ُ ّ‬
‫وهما الشكر والستغفار‪ ،‬وما تتضمنان من العتراف بالنعمة والمنة‪.‬‬
‫لقد كان الشعور بمنة الله ـ بما يوُفّقُ له النسان من خير ديني أو دنيوي ـ‬
‫ت به ألسنتهم ‪،‬وتحركت به شفاههم‪،‬‬ ‫ج ْ‬ ‫أمرا ً مستقرا ً في نفوس الصالحين ‪،‬لهَ َ‬
‫وظهر ذلك على أعمالهم‪.‬‬
‫تأمل معي ـ أخي ـ قول نبي الله يوسف ـ بعد ما حدث له ما حدث‪ ،‬وجمع‬
‫مل ْ ِ‬
‫ك‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ب قَد ْ آت َي ْت َِني ِ‬
‫م َ‬ ‫الله شمله بأبويه وإخوته‪ ،‬وتمت له النعمة‪َ" :‬ر ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ت وَل ِّيي ِفي الد ّن َْيا‬ ‫ض أن ْ َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬
‫ْ‬ ‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬ ‫ث َفاط َِر ال ّ‬ ‫حاِدي ِ‬ ‫ل اْل َ َ‬‫ن ت َأِوي ِ‬
‫م ْ‬ ‫وَعَل ّ ْ‬
‫مت َِني ِ‬
‫َ‬
‫سِلما ً وَأل ْ ِ‬ ‫َواْل ِ‬
‫ن" )يوسف‪.(101:‬‬ ‫حي َ‬‫صال ِ ِ‬‫قِني ِبال ّ‬
‫ح ْ‬ ‫م ْ‬‫خَرةِ ت َوَفِّني ُ‬
‫إنك لتتعجب ـ والله ـ من هذا النبي الكريم الذي انتزع نفسه من فرحة‬
‫ج الشاكرين الواهين‪،‬‬ ‫اللقاء‪ ،‬وأنس الجتماع ليلهج بهذه الدعوات المباركة‪ ،‬لهَ َ‬
‫المنيبين ‪ ..‬هذه الدعوات المليئة بالفتقار والتذلل‪ ،‬والرغبة في تمام النعمة‬
‫عليه بأن يتوفاه ربه مسلمًا‪ ،‬وأن يلحقه بالصالحين من عباده‪.‬‬
‫وهكذا شأن الصالحين ! ل تلهيهم فرحة اكتمال النعمة‪ ،‬ول تمام المنية عن‬
‫اللهج بالعتراف بها لمسديها‪ ،‬وشكره عليها‪ ،‬وسؤالها الثبات على الحق حتى‬
‫الموت !‬
‫وتمضي مسيرة الشاكرين‪ ،‬لتقف بنا عند النبي الشاكر‪ ،‬والّواب الذاكر ‪:‬‬
‫سليمان بن داود _عليهما الصلة والسلم_‪ ،‬والذي حفظ القرآن له أكثر من‬
‫موقف عبر فيه عن شكره لنعم ربه‪.‬‬
‫فهو يعترف بذلك حينما بهره موقف من النملة من نذارتها لقومها بقولها ‪" :‬‬

‫‪124‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ن")النمل‪ :‬من‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫م ل يَ ْ‬‫جُنود ُه ُ وَهُ ْ‬‫ن وَ ُ‬ ‫ما ُ‬ ‫سل َي ْ َ‬‫م ُ‬‫من ّك ُ ْ‬‫حط ِ َ‬‫م ل يَ ْ‬ ‫ساك ِن َك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫خُلوا َ‬ ‫اد ْ ُ‬
‫الية ‪! (18‬‬
‫تأمل كيف لم تشغل هذا النبي الكريم لحظة الستماِع لحديث هذه النملة !‬
‫ول لحظة الستمتاع بمعرفة لغة هذه الحشرات الصغيرة التي حجبت لغتها‬
‫عن غيره من البشر !‬
‫لم يشغله ذلك كله عن التوجه إلى من أنعم عليه بهذه النعمة‪ ،‬بل حّرك فيه‬
‫مه منطق الطير !‬ ‫هذا المشهد الرغبة في الشكر لمستحقه‪ ،‬فهو الذي عل ّ‬
‫ما رأى عرش بلقيس مستقرا ً‬ ‫ويتكرر مشهد الشكر عند هذا النبي الكريم‪ ،‬ل ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل َرّبي ل ِي َب ْل ُوَِني أ َأ َ ْ‬
‫ما‬ ‫شك ََر فَإ ِن ّ َ‬‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫م أك ْ ُ‬
‫فُر وَ َ‬ ‫شك ُُر أ ْ‬ ‫ض ِ‬‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬‫ذا ِ‬ ‫عنده ـ فيقول ‪" :‬هَ َ‬
‫م" )النمل‪.(40:‬‬ ‫ري ٌ‬ ‫َ‬
‫يك ِ‬ ‫ن َرّبي غَن ِ ّ‬ ‫فَر فَإ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫نك َ‬ ‫م ْ‬‫سهِ وَ َ‬ ‫ف ِ‬ ‫شك ُُر ل ِن َ ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫إنها حال الشاكرين ‪ ،‬فسليمان ـ عليه الصلة والسلم ـ لم تذهله هذه الية‬
‫العظيمة‪ ،‬وهي حضور عرش بلقيس بسرعةٍ هي أقل من طرفة العين‪،‬‬
‫ويوضع عنده مستقرًا‪ ،‬وكأنما هو عنده منذ مدة من شدة استقراره ‪ ،‬لم‬
‫تذهله عن شكر المنعم بها‪ ،‬بل لهج بالثناء والحمد ـ والحمد رأس الشكر ـ !‬
‫وهكذا تستمر القافلة المباركة ؛ لتقف عند أكمل الخلق شكرا ً واستغفارا ً ‪،‬أل‬
‫وهو نبينا‪ ،‬فبعد حياةٍ حافلة بالبلغ ‪،‬والجهاد ‪،‬والصبر ‪،‬والبذل ‪،‬والعطاء ‪،‬تتنزل‬
‫على قلبه سورة النصر ‪ ،‬تلك السورة العجيبة التي جمعت ـ رغم قصرها ـ‬
‫بين البشرى بالفتح‪ ،‬وبين نعي أكرم نفس بشرية‪،‬فيمتثل _صلوات الله‬
‫وسلمه عليه_ هذا المر في أمرين ‪ :‬أحدهما قولي‪ ،‬والخر فعلي ‪:‬‬
‫أما القولي فتحدثنا أمنا عائشة عنه‪ ،‬فتذكر أنه كان يكثر أن يقول ـ في‬
‫ركوعه وسجوده ـ سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي‪ ،‬يتأول‬
‫القرآن ‪،‬أي ‪ :‬يمتثل أمر الله له بالتسبيح والستغفار‪ ،‬والحديث في‬
‫الصحيحين‪.‬‬
‫وأما المتثال الفعلي‪ ،‬فيتجلى في دخوله ـ بأبي هو وأمي ونفسي ـ مكة عام‬
‫الفتح منكسا ً رأسه‪ ،‬متخشعًا‪ ،‬معلنا ً بذلك خضوعه‪ ،‬وتواضعه‪ ،‬وتذلله لربه‬
‫_جل وعل_ ‪ ،‬ثم شفع هذه الهيئة المعبرة عن التواضع العظيم بثمان ركعات‬
‫من الضحى‪ ،‬شكرا ً لله _تعالى_ على هذه النعمة الكبرى‪.‬‬
‫وأنت إذا تأملت القرآن وجدت أن الله _تعالى_ صّرح بالثناء على صفوة خلقه‬
‫من أولي العزم من الرسل _عليهم الصلة والسلم_ بأنهم كانوا من‬
‫كرا ً‬ ‫ِ‬ ‫شا‬‫َ‬ ‫"‬ ‫كورًا"‪ ،‬وإبراهيم بأنه كان‬ ‫ش ُ‬‫ن عَْبدا ً َ‬ ‫كا َ‬ ‫الشاكرين‪ ،‬فوصف نوحا ً بأنه " َ‬
‫ل من موسى ومحمد ـ عليهما الصلة والسلم ـ ‪" :‬وَك ُ ْ‬
‫ن‬ ‫مهِ " ‪،‬وقال لك ٍ‬ ‫َل َن ْعُ ِ‬
‫ن" ‪،‬وقد كانا ـ والله ـ كذلك‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫فتأمل في كلمة )شكور ( فهي صيغة مبالغة‪ ،‬وتأمل في كلمة )شاكر( كيف‬
‫جاءت على صيغة اسم الفاعل الدال على الستمرار‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫فإذا كان هذا حال سادة الرسل‪ ،‬فغيرهم أحوج ما يكون إلى أن تكون هاتان‬
‫العبادتين شعارا ً لهم ودثارًا‪ ،‬وخصوصا ً في ختام مواسم الطاعات ‪،‬أو عند‬
‫نجاح بعض المشاريع الخيرية‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فإن حاجة العاملين تشتد إلى‬
‫الكثار من هاتين العبادتين ‪،‬مع أهمية بقائهما حاضرتين ل يفتر اللسان عنهما‬
‫ما دام في الجسد روح‪ ،‬فبالشكر تدوم النعمة‪ ،‬وبالستغفار ُتغفر الزلة وتقال‬
‫العثرة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وهانحن نودع موسما من أعظم مواسم الطاعات ‪،‬وسوقا من أعظم أسواق‬

‫‪125‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الخرة‪ ،‬وغني عن القول أن كل عامل ـ مهما عمل ـ ففي عمله نقص بوجه‬
‫من الوجوه‪ ،‬ولو لم يكن إل أنه ل يبلغ مكافأة نعمة واحدة من نعم الله‬
‫_تعالى_ فقط ‪ ،‬فكيف بنعمه كلها ؟!‬
‫لذا فنحن مضطرون أشد الضطرار إلى أن تتواطأ ألسنتنا مع قلوبنا على‬
‫ن به‬‫شكرٍ يحفظ النعمة‪ ،‬واستغفارٍ يرقع الخلل‪ ،‬عسى ربنا أن يتقبل ما م ّ‬
‫صرنا فيه‪ ،‬وما أكثره !‬ ‫علينا‪ ،‬ويتجاوز عما ق ّ‬
‫ً‬
‫وفي هذه المناسبة بالذات نجد أمرا خاصا بالشكر‪ ،‬فبعد أن ذكر الله _تعالى_‬ ‫ً‬
‫فرضية الصيام‪ ،‬وشيئا ً من أحكامه‪ ،‬جاء التعليل الرباني لهذه الحكام بقوله ‪:‬‬
‫ه عََلى‬
‫مُلوا ال ْعِد ّة َ وَل ِت ُك َب ُّروا الل ّ َ‬ ‫م ال ْعُ ْ‬
‫سَر وَل ِت ُك ْ ِ‬ ‫ريد ُ ب ِك ُ ُ‬
‫سَر َول ي ُ ِ‬ ‫م ال ْي ُ ْ‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬
‫ه ب ِك ُ ُ‬ ‫" يُ ِ‬
‫شكُرون")البقرة‪ :‬من الية ‪، (185‬والمعنى ‪ :‬ولتشكروا‬ ‫ُ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫م وَلعَلك ْ‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫داك ْ‬ ‫ما هَ َ‬ ‫َ‬
‫الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق‪.‬‬
‫يقول التابعي الجليل بكر بن عبد الله المزني ـ رحمه الله ـ ‪ :‬قلت لٍخ لي ‪:‬‬
‫أوصني ! فقال ‪ :‬ما أدرى ما أقول ! غير أنه ينبغي لهذا العبد أل يفتر من‬
‫ب ‪،‬ول تصلح النعمة إل بالحمد‬ ‫الحمد والستغفار‪ ،‬فإن ابن آدم بين نعمةٍ وذن ٍ‬
‫والشكر‪ ،‬ول يصلح الذنب إل بالتوبة والستغفار‪.‬‬
‫ل إضاعة الشكر‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ويقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ ‪" :‬وما أتي من أتي إل من قِب َ ِ‬
‫وإهمال الفتقار والدعاء‪ ،‬ول ظفر من ظفر ـ بمشيئة الله وعونه ـ إل بقيامة‬
‫ك ذلك ‪ :‬الصبر‪ ،‬فإنه من اليمان بمنزلة‬ ‫مل ُ‬ ‫بالشكر‪ ،‬وصدق الفتقار والدعاء‪ ،‬و ِ‬
‫الرأس من الجسد‪ ،‬فإذا قطع الرأس فل بقاء للجسد"‪.‬‬
‫دم ‪،‬فإن الرب أعظم‬ ‫وحري بمن وفق للشكر أن يلقي من ربه أعظم مما ق ّ‬
‫شكرًا‪.‬‬
‫يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ ‪" :‬والله _تعالى_ يشكر عبده إذا أحسن طاعته‪،‬‬
‫ويغفر له إذا تاب إليه‪ ،‬فيجمع للعبد بين شكره لحسانه‪ ،‬ومغفرته لساءته‪،‬‬
‫إنه غفور شكور ‪.‬‬
‫والله _تعالى_ أولى بصفة الشكر من كل شكور‪ ،‬بل هو الشكور على‬
‫الحقيقة‪ ،‬فإنه يعطي العبد ‪ ،‬ويوفقه لما يشكره عليه‪ ،‬ويشكر القليل من‬
‫العمل والعطاء‪ ،‬فل يستقله أن يشكره‪ ،‬ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى‬
‫أضعاف مضاعفة‪ ،‬ويشكر عبده بقوله‪ ،‬بأن يثنى عليه بين ملئكته‪ ،‬وفي ملئه‬
‫العلى‪ ،‬ويلقي له الشكر بين عباده‪ ،‬ويشكره بفعله‪ ،‬فإذا ترك له شيئا ً أعطاه‬
‫أفضل منه‪ ،‬وإذا بذل له شيئا ً رده عليه أضعافا ً مضاعفة‪ ،‬وهو الذي وفقه‬
‫كره على هذا وذاك ‪ "...‬انتهى‪ ،‬وهو كلم نفيس أنصح‬ ‫ش َ‬ ‫للترك والبذل‪ ،‬و َ‬
‫بمراجعة بقيته في آخر كتابه )عدة الصابرين( ‪.‬‬
‫والحمد الله رب العالمين ‪،‬وصى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله‬
‫وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫كاتب المقال‪ :‬الشيخ‪ /‬عمر المقبل‬
‫المصدر‪ :‬موقع المسلم‬

‫)‪(2 /‬‬

‫) ولقد همت به وهم بها لول أن رأى برهان ربه (‬


‫قال الشنقيطي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في تفسير هذه الية‪:‬‬
‫م بأن‬
‫ظاهر هذه الية الكريمة قد يفهم منه أن يوسف ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬ه ّ‬
‫يفعل مع تلك المرأة مثل ما همت هي به منه‪.‬‬
‫ولكن القرآن الكريم بين براءته ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ -‬من الوقوع فيما ل‬

‫‪126‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ينبغي‪ ،‬حيث بين شهادة كل من له تعلق بالمسألة ببراءته وشهادة الله له‬
‫بذلك واعتراف إبليس به‪.‬‬
‫أما الذين لهم تعلق بتلك الواقعة فهم‪ :‬يوسف‪ ،‬والمرأة‪ ،‬وزوجها‪ ،‬والنسوة‪،‬‬
‫والشهود‪.‬‬
‫‪ -‬أما جزم يوسف بأنه بريء من تلك المعصية فقد ذكره الله ‪ -‬تعالى ‪-‬في‬
‫ل رب السج َ‬
‫ما‬ ‫م ّ‬ ‫ي ِ‬ ‫ب إل َ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫نأ َ‬ ‫ّ ْ ُ‬ ‫سي( وقوله‪َ) :‬قا َ َ ّ‬ ‫ف ِ‬ ‫عن ن ّ ْ‬ ‫ي َراوَد َت ِْني َ‬ ‫قوله‪) :‬هِ َ‬
‫ه‪.( ...‬‬ ‫َ‬
‫عون َِني إلي ْ ِ‬ ‫ي َد ْ ُ‬
‫ه‬
‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫عن ن ّ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫قد ْ َراَودت ّ ُ‬ ‫َ‬
‫‪ -‬أما اعتراف المرأة بذلك ففي قولها للنسوة‪) :‬ول َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫هل ِ‬ ‫سهِ وإن ّ ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫عن ن ّ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫حقّ أَنا َراَودت ّ ُ‬ ‫ص ال َ‬ ‫ح َ‬ ‫ص َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م( وقولها‪) :‬ال َ‬ ‫ص َ‬‫ست َعْ َ‬ ‫َفا ْ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫ال ّ‬
‫م‬
‫ظي ٌ‬
‫ن عَ ِ‬ ‫ُ‬
‫ن كي ْد َك ّ‬ ‫َ‬ ‫نإ ّ‬ ‫ُ‬
‫من كي ْدِك ّ‬ ‫َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ل إن ّ ُ‬ ‫‪ -‬وأما اعتراف زوج المرأة ففي قوله‪َ) :‬قا َ‬
‫ُ‬ ‫* يوس ُ َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫خاط ِِئي َ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ك كن ِ‬ ‫ك إن ّ ِ‬ ‫ري ل ِذ َن ْب ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف‬
‫ست َغْ ِ‬‫ذا وا ْ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫ض عَ ْ‬ ‫ف أعْرِ ْ‬ ‫ُ ُ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫شهِد َ َ‬ ‫‪ -‬وأما اعتراف الشهود بذلك ففي قوله‪) :‬و َ‬
‫ن أهْل َِها إن كا َ‬ ‫م ْ‬ ‫شاهِد ٌ ّ‬
‫ن‪.( ..‬‬ ‫كاذِِبي َ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬‫ت وهُوَ ِ‬ ‫صد َقَ ْ‬ ‫ل فَ َ‬ ‫من قُب ُ ٍ‬ ‫ه قُد ّ ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫مي ُ‬ ‫قَ ِ‬
‫سوءَ‬‫ه ال ّ‬ ‫ف عَن ْ ُ‬ ‫صرِ َ‬ ‫ك ل ِن َ ْ‬ ‫‪ -‬وأما شهادة الله ‪ -‬جل وعل ‪ -‬ببراءته ففي قوله‪) :‬ك َذ َل ِ َ‬
‫ن(‪.‬‬‫صي َ‬ ‫خل َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عَبادَِنا ال ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫شاَء إن ّ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ف ْ‬‫وال ْ َ‬
‫ك‬‫‪ -‬وأما إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته ففي قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬فَب ِعِّزت ِ َ‬
‫ل ُغْوينه َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫صي َ‬ ‫خل َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ال ُ‬ ‫من ْهُ ُ‬ ‫ك ِ‬ ‫عَباد َ َ‬ ‫ن * إل ّ ِ‬ ‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫َُِّ ْ‬
‫فأقر بأنه ل يمكنه إغواء المخلصين‪ ،‬ول شك أن يوسف من المخلصين‪ ،‬كما‬
‫ن( فظهرت دللة القرآن‬ ‫صي َ‬‫خل َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عَبادَِنا ال ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫صرح ‪ -‬تعالى ‪-‬به في قوله‪) :‬إن ّ ُ‬
‫من جهات متعددة على براءته مما ل ينبغي‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬قد بينتم دللة القرآن على براءته ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬مما ل ينبغي في‬
‫اليات المتقدمة‪.‬‬
‫م ب َِها(؟ فالجواب من وجهين‪:‬‬ ‫ولكن ماذا تقولون في قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬وهَ ّ‬
‫م يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى‪.‬‬ ‫الول‪ :‬إن المراد به ّ‬
‫وقال بعضهم‪ :‬هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى‪ ،‬وهذا‬
‫ل معصية فيه لنه أمر جبلي ل يتعلق به التكليف‪ ،‬كما في الحديث عنه ‪ -‬صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ -‬أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول‪ » :‬اللهم هذا‬
‫قسمي فيما أملك « يعني ميل القلب الطبيعي‪.‬‬
‫ومثال هذا‪ :‬ميل الصائم إلى الماء البارد‪ ،‬مع أن تقواه يمنعه من الشرب وهو‬
‫صائم‪.‬‬
‫وقد قال ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ » :-‬ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له‬
‫حسنة كاملة «‪.‬‬
‫لنه ترك ما تميل إليه نفسه بالطبع خوفا من الله‪ ،‬و امتثال ً لمره‪ ،‬كما قال ‪-‬‬ ‫ً‬
‫َ‬
‫ي‬
‫ة هِ َ‬ ‫جن ّ َ‬ ‫ن ال َ‬ ‫وى * َفإ ّ‬ ‫ن الهَ َ‬ ‫س عَ ِ‬ ‫ف َ‬ ‫م َرب ّهِ ون ََهى الن ّ ْ‬ ‫قا َ‬ ‫م َ‬ ‫ف َ‬ ‫خا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما َ‬ ‫تعالى ‪)-‬وأ ّ‬
‫مأ َْوى(‪..‬‬ ‫ال َ‬
‫ً‬
‫الثاني‪ :‬وهو اختيار أبي حيان‪ :‬أن يوسف لم يقع منه هم أصل‪ ،‬بل هو منفي‬
‫عنه لوجود البرهان‪.‬‬
‫ثم قال الشنقيطي ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره هو‬
‫أجرى القوال على اللغة العربية‪ ،‬لن الغالب في القرآن وكلم العرب‪ :‬أن‬
‫كنُتم‬ ‫الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه كقوله‪) :‬فَعَل َي ْهِ ت َوَك ُّلوا إن ُ‬
‫ن( أي إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه‪ ،‬فالول دليل الجواب المحذوف‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫ل نفس الجواب‪ ،‬لن جواب الشرط وجواب لول ل يتقدم‪ ،‬ولكن يكون‬
‫المذكور قبله دليل ً عليه‪..‬‬

‫‪127‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ن( أي إن كنتم صادقين فهاتوا‬‫صادِِقي َ‬


‫م َ‬ ‫م إن ُ‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫هان َك ُ ْ‬
‫هاُتوا ب ُْر َ‬ ‫وكقوله‪) :‬قُ ْ‬
‫ل َ‬
‫برهانكم‪.‬‬
‫وعلى هذا القول فمعنى الية‪ - :‬وهم بها لول أن رأى برهان ربه‪.‬‬
‫أي لول أن رأى برهان ربه لهم بها‪ ،‬فبهذين الجوابين تعلم أن يوسف ‪ -‬عليه‬
‫م‬‫السلم ‪ -‬بريء من الوقوع فيما ل ينبغي‪ ،‬وأنه إما أن يكون لم يقع منه ه ّ‬
‫ل‪ ،‬وإما أن يكون همه خاطرا ً قلبيا ً صرف عنه وازع التقوى‪ ،‬فبهذا يتضح‬ ‫أص ً‬
‫م ب َِها( ل يعارض ما قدمنا من اليات على براءة‬ ‫لك أن قوله ‪ -‬تعالى ‪) -‬وهَ ّ‬
‫يوسف من الوقوع فيما ل ينبغي‪.‬‬
‫ثم يقول الشيخ ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬فإذا علمت مما بينا دللة القرآن العظيم على‬
‫براءته مما ل ينبغي‪ ،‬فما رواه صاحب )الدر المنثور( وابن جرير وأبو نعيم‪ ،‬من‬
‫أن يوسف ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬جلس منها مجلس الرجل من امرأته وأنه رأى‬
‫صورة يعقوب عاضا ً على إصبعه أو صاح به صائح‪...‬‬
‫هذه الروايات منقسمة إلى قسمين‪ - :‬قسم لم يثبت نقله عمن نقل عنه‬
‫بسند صحيح‪ ،‬وهذا ل إشكال في سقوطه‪.‬‬
‫‪ -‬وقسم ثبت عن بعض من ذكر‪ ،‬ومن ثبت عنه منهم شيء من ذلك فالظاهر‬
‫الغالب على الظن المزاحم لليقين أنه إنما تلقاه عن السرائيليات لنه ل‬
‫مجال للرأي فيه‪ ،‬ولم يرفع منه قليل ول كثير إليه ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪.-‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫وبهذا تعلم أنه ل ينبغي التجرؤ على القول في نبي الله يوسف اعتمادا ً على‬
‫مثل هذه الروايات‪.‬‬
‫]أضواء البيان ‪ [60-2/49‬قال شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬وأما‬
‫ه(‪.‬‬ ‫ن َرب ّ ِ‬ ‫ها َ‬‫ول َأن ّرَأى ب ُْر َ‬ ‫م ب َِها ل َ ْ‬
‫ت ب ِهِ وهَ ّ‬‫م ْ‬ ‫قد ْ ه َ ّ‬‫قوله‪) :‬ول َ َ‬
‫م إصرار‪.‬‬ ‫م خطرات وه ّ‬ ‫مان ه ّ‬ ‫فالّهم اسم جنس‪ ،‬كما قال المام أحمد‪ :‬الهم ه ّ‬
‫م‬‫وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬أن العبد إذا ه ّ‬
‫بسيئة لم تكتب عليه‪.‬‬
‫وإذا تركها لله كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له سيئة واحدة‪ ،‬وإن تركها من‬
‫غير أن يتركها لله لم تكتب له حسنة ول تكتب عليه سيئة‪ ،‬ويوسف ‪ -‬عليه‬
‫ما تركه لله‪ ،‬ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لخلصه‪،‬‬ ‫مه ّ‬ ‫السلم ‪ -‬ه ّ‬
‫ّ‬
‫وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الهم‪ ،‬وعارضه الخلص‬
‫الموجب لنصراف القلب عن الذنب لله‪ ،‬فيوسف ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬لم يصدر‬
‫ف‬ ‫م َ‬
‫طائ ِ ٌ‬ ‫سهُ ْ‬ ‫وا إَذا َ‬
‫م ّ‬ ‫ق ْ‬‫ن ات ّ َ‬ ‫ذي َ‬‫ن ال َ ِ‬‫منه إل حسنة يثاب عليها وقال ‪ -‬تعالى ‪) :-‬إ ّ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫صُرو َ‬
‫مب ْ ِ‬
‫هم ّ‬ ‫ن ت َذ َك ُّروا َفإَذا ُ‬‫طا ِ‬‫شي ْ َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫ّ‬
‫وأما ما ينقل من أنه حل سراويله‪ ،‬وجلس مجلس الرجل من المرأة‪ ،‬وأنه‬
‫رأى صورة يعقوب عاضا ً على يده‪ ،‬وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ول‬
‫رسوله‪ ،‬وما لم يكن كذلك‪ ،‬فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم‬
‫الناس كذبا ً على النبياء‪ ،‬وقدحا ً فيهم‪ ،‬وكل من نقله من المسلمين فعنهم‬
‫نقله‪ ،‬لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬حرفا ً واحدًا‪..‬‬
‫]دقائق التفسير ‪[273 - 3/272‬‬
‫‪ http://www.albayan-magazine.com‬المصدر‪:‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫‪128‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪...‬ولكن‪...‬‬
‫د‪ .‬عبد الكريم بكار ‪15/10/1426‬‬
‫‪17/11/2005‬‬
‫إذا تأملنا في بنية الخطاب السلمي الحالي وجدنا أنه يتجه شيًئا فشيًئا نحو‬
‫التعقيد والتركيب‪ ،‬حيث الخوض في التفاصيل‪ ،‬وحيث استخدام الستدراكات‬
‫والستثناءات والحترازات على نحو واسع ومتسع‪ .‬وهذا يشكل علمة إيجابية‬
‫على تطور الفكر السلمي واكتسابه المزيد من الحساسية حيال التنوع‬
‫العظيم الذي فطر الله –جل وعل‪ -‬عليه الشياء والحداث‪ .‬كما أنه يعبر عن‬
‫شعور أعظم بالمسؤولية تجاه التفاصيل الحياتية الكثيرة‪ .‬هذا كله ل ينفي‬
‫وجود شريحة إسلمية ليست قليلة‪ ،‬من الكتاب والمتحدثين‪ ،‬مازالت مفتونة‬
‫بالتقريرات الجازمة والحكام الصارمة؛ ظًنا منها أن ذلك يعبر عن التمكن‬
‫العلمي‪ ،‬كما أنه يحفز الناس على العمل الصالح؛ إذ يحشرهم في الزاوية‬
‫الضيقة! والخبر الساّر هنا هو أن هذه الشريحة تسير في اتجاه التقلص‬
‫دد والتساع‪ .‬ولعلنا نلقي بعض الضواء على هذه‬ ‫وليس في اتجاه التم ّ‬
‫المسألة عبر المفردات التية‪:‬‬
‫‪ -1‬إننا حين نستخدم أدوات مثل )لكن( و )إل( و)ربما( فإننا نعّبر في الحقيقة‬
‫عن عدد من المعاني‪ ،‬قد يكون أهمها الشعور بقصور النظام اللغوي الذي‬
‫نستخدمه‪ .‬ونحن نعرف أنه ليس هناك نظام لغوي كامل‪ ،‬وذلك القصور كثيًرا‬
‫ما يتجلى في قصور القواعد التي نعبر من خللها عن الظواهر‪ ،‬مما يلجئنا‬
‫في النهاية إلى استخدام أدوات تدل على الستثناء‪ ،‬ونحن نعبر عن ذلك‬
‫القصور بقولنا‪" :‬لكل قاعدة شواذ"‪ ،‬إلى جانب الشعور بعدم كفاءة النظام‬
‫اللغوي نشعر أننا نتحدث عن ظواهر مركبة‪ ،‬يصعب التعبير عنها بجمل جامعة‬
‫أو بجمل بسيطة ومختصرة‪ ،‬ولهذا الشعور دللة على النضج الفكري الذي‬
‫يتجسد في الوعي على امتلك الرؤى المركبة ذات البعاد المتعددة‪ .‬إن‬
‫حرم من التزّود بالمعرفة الجيدة يقنعون بأي‬ ‫من في حكمهم ممن ُ‬ ‫الطفال و َ‬
‫تعبير‪ ،‬ويسارعون إلى تصديق أي مقولة؛ لنهم ل يملكون من النضج العقلي‬
‫والثراء المعرفي ما يجعلهم يبحثون عن المهمل والمسكوت عنه والشاذ‬
‫والقليل من الظواهر المطروحة للبحث والتداول‪ .‬ولك أن تتخذ من هذا‬
‫معياًرا للتقدم العقلي‪ ،‬فالذين يكثرون من الستدراك والتحرز في كلمهم‬
‫ويحاولون نقد المقولت والقواعد العامة يكشفون عن وعي بالطبيعة المركبة‬
‫لمعظم ظواهر الوجود‪ ،‬والذي يحفزهم من جهته على الناة في إصدار‬
‫الحكام واقتراح طرق المعالجة‪ .‬أما الذين ما زالوا في أول طريق النضج‪،‬‬
‫فإنهم يفرحون بحفظ القوانين العامة والجمل ذات الدللت المطلقة‪،‬‬
‫ويتضايقون ممن يجادلهم في شيء منها‪ .‬وإن المتعمق في كثير من الحكم‬
‫سط عن‬ ‫والمثال الموروثة والحديثة يجد أنها تنزع إلى التعمق والتعبير المب ّ‬
‫قى من لدن كثيرين بشيء من الفهم الحرفي‪ ،‬مع أنها‬ ‫قضايا كبرى‪ ،‬لكنها ت َُتل ّ‬
‫في الصل رؤى وخبرات لشخاص معينين‪ ،‬أي أنها نابعة من نظرة خاصة أو‬
‫جزئية‪ .‬وأتمنى أن يتفّرغ لعادة النظر فيها بعض الباحثين النابهين بغية وضع‬
‫المور في نصابها‪.‬‬
‫‪ -2‬الرشد الفكري يعني أشياء عديدة‪ ،‬ومن أهم ما يعنيه وضوح الرؤية‪،‬‬
‫وينبغي أن نفترض ابتداء أن المعرفة النامية والخبرة المتراكمة تتيح للمتأخر‬
‫أن يرى ميزات الشياء وسلبياتها على نحو أفضل من رؤية المتقدم لها‪ .‬إن‬
‫المتأخر أشبه بمن يقف على كتفي عملق‪ ،‬فهو يرى ما يراه العملق‪ ،‬وما ل‬
‫يراه‪ .‬لكن هذا ل يتم إذا اعتقدنا أننا محرومون من المواهب التي حبا الله بها‬

‫‪129‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫السابقين‪ ،‬أو اعتقدنا أن كل ما قاله السابقون يظل أقرب إلى الصواب؛ على‬
‫حين يظل ما نقوله نحن يظل أقرب إلى الخطأ‪ .‬إن الله –سبحانه‪ -‬أتاح‬
‫للمتأخرين من الطلع على قوانين الكون أضعاف أضعاف ما أتاحه‬
‫للسابقين؛ ول مانع يمنع من أن نتمكن من كشف سنن نفسية واجتماعية‬
‫وإصلحية وتربوية كانت غائبة عن استيعاب معظم من سبقنا؛ فالمعطي‬
‫هاب رب السابقين واللحقين‪ ،‬ول على حاجر على فضله‪ .‬إن هذا الكلم‬ ‫الو ّ‬
‫دمنا اليوم ربما كان‬
‫من تق ّ‬
‫قد يثير الوحشة لدى بعض الناس‪ ،‬مع أن كثيًرا ِ‬
‫مرتب ً‬
‫طا بالعمل وفق معطياته ولوازمه‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫‪ -3‬الرؤية السطحية تتشكل من مجموعة كبيرة من المسلمات والمقولت‬


‫البسيطة والمستعجلة وذات الطابع الشخصي‪ .‬أما الرؤية المتعمقة المدققة‬
‫فهي رؤية مركبة‪ .‬والرؤية المركبة هي رؤية تفصيلية بامتياز‪ ،‬والمتأمل في‬
‫الذكر الحكيم يجد توجيًها قوًيا نحو تعميم هذه الرؤية وترسيخها في العقلية‬
‫السلمية‪ .‬وهذا التوجه يتجّلى تارة في الستثناء‪ ،‬وتارة في إطلق تعبيرات‬
‫غير حاسمة‪ ،‬وتارة في تعبيرات تؤسس إلى المحاسبة والحتزاز من التعميم‬
‫والشمول‪ .‬وهذه بعض النماذج لما يدل على ذلك‪ .‬يقول الله –سبحانه‪:-‬‬
‫وا‬‫وا َ ْ‬
‫ص‬ ‫ت وَت َ َ‬ ‫حا ِ‬‫صال ِ َ‬‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫سرٍ إ ِّل ال ّ ِ‬‫خ ْ‬ ‫في ُ‬ ‫ن لَ ِ‬ ‫سا َ‬ ‫لن َ‬ ‫ناِْ‬ ‫صرِ إ ِ ّ‬ ‫)َوال ْعَ ْ‬
‫ر( ]سورة العصر[‪ .‬وقد تلقى الوعي السلمي الستثناء‬ ‫صب ْ ِ‬‫وا ِبال ّ‬ ‫ص ْ‬
‫وا َ‬ ‫حقّ وَت َ َ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫في هذه السورة على أنه محورها والمقصود الكبر منها؛ حيث إننا نستشهد‬
‫بها في معظم الحيان للدللة على الهمية الكبرى للتواصي بلزوم الحق‬
‫َ‬ ‫قن َ‬ ‫ْ‬ ‫والصبر‪ .‬ويقول –جل وعل‪) :-‬وم َ‬
‫طارٍ ي ُؤَد ّهِ إ ِلي ْ َ‬
‫ك‬ ‫ه بِ ِ‬‫من ْ ُ‬
‫ن ِإن ت َأ َ‬‫م ْ‬‫ب َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ن أهْ ِ‬ ‫َ ِ ْ‬ ‫ْ‬
‫ت عَلي ْهِ َقآِئما( ]آل عمران‪:‬‬‫ً‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ك إ ِل ّ َ‬
‫ما د ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ديَنارٍ ل ّ ي ُؤَد ّهِ إ ِلي ْ َ‬ ‫ه بِ ِ‬ ‫من ْ ُ‬‫ن ِإن ت َأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫من ُْهم ّ‬ ‫وَ ِ‬
‫‪ .[75‬إن أهل الكتاب متفاوتون في أمانتهم‪ ،‬كما أنهم متفاوتون في صدقهم‬
‫وفي درجات انحرافهم‪ ،‬وفي مدى عداوتهم للمسلمين‪ .‬والرؤية التفصيلية هنا‬
‫تحرضنا على أن ننظم تجاههم ردود أفعال مختلفة‪ ،‬ونتوقع منهم مواقف‬
‫ْ‬
‫ما أكث َُر‬‫َ‬
‫وسلوكات متباينة‪ .‬وفي هذا نفع ومصلحة للجميع‪ .‬ويقول سبحانه‪) :‬وَ َ‬
‫كرا ً‬‫ش ْ‬ ‫ل َداُوود َ ُ‬ ‫مُلوا آ َ‬ ‫ن( ]يوسف‪ .[103 :‬وقال‪) :‬اعْ َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ت بِ ُ‬ ‫ص َ‬ ‫حَر ْ‬‫س وَل َوْ َ‬ ‫الّنا ِ‬
‫شكوُر( ]سبأ‪ .[13 :‬مهما بذلنا من الجهود الدعوية‪ ،‬ومهما‬ ‫ُ‬ ‫عَبادِيَ ال ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ّ‬ ‫وَقَِلي ٌ‬
‫كانت الغلبة للمسلمين في الرض فإن أهل ملة السلم سيظلون أقلية‪ ،‬وهذا‬
‫تشهد به كل مراحل التاريخ‪ ،‬وهذا ما يشهد به الواقع المعيش‪ .‬وهذا الشأن‬
‫في الشاكرين القائمين بحقوق النعمة‪ .‬إننا ل نستطيع تعميم حكم اليمان أو‬
‫الكفر أو الشكر أو الستقامة في أي عصر من العصور‪ .‬وعلينا قبل إصدار‬
‫الحكام أن ندقق ونتحقق‪ .‬ثم إن جهود المة المسلمة بناء على هذا استهدف‬
‫زيادة عدد المؤمنين والشاكرين وتقليل أعداد الكافرين والجاحدين‪ ،‬ليس أكثر‬
‫من ذلك‪ .‬والنطلق من هذا المقصد يعرض علينا التحّلي ببعض الخلق‬
‫والداب‪ ،‬واستخدام بعض الوسائل الخاصة وللحديث صلة‪.‬‬
‫ولكن ‪(2) ...‬‬
‫د‪ .‬عبد الكريم بكار ‪29/10/1426‬‬
‫‪01/12/2005‬‬
‫ذكرت في الحلقة السابقة الهتمام بمسألة التفصيل والستثناء والستدراك‬
‫دم الخبرة‪.‬‬ ‫في الخطاب السلمي‪ ،‬وأنه يعبر عن نوع من اتساع الرؤية وتق ّ‬
‫وسأكمل هذا الموضوع اليوم عبر المفردات التية‪:‬‬

‫‪130‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪ -1‬حين نتحدث عن ظواهر كبرى أو أوضاع عامة‪ ،‬فإن المشكلة التي قد‬
‫تواجهنا كثيًرا ما تتمثل في تحديد المستثنى والمستثنى منه أو الخط العام‪،‬‬
‫وما هو شاذ عنه أو دخيل عليه‪ :‬هل المة الن في حالة صحوة‪ ،‬يتخللها بعض‬
‫الشكالت والسلبيات؟ أو أن المة في غفوة على الرغم مما نشاهده من‬
‫شرات والنجازات؟ هل أوضاعنا تسير نحو الحسن أو‬ ‫بعض الشراقات والمب ّ‬
‫أنها تسير نحو السوأ؟‬
‫عشرات السئلة التي نطلقها هنا وهناك من أجل توفير نقطة ارتكاز للفهم أو‬
‫توفير مدخل للوعي‪ .‬ويكون الجواب في معظم الحيان متعدًدا ومتبايًنا‪ .‬وحين‬
‫يصل المر إلى هذا الحد من التشويش فإن كل أشكال البحث والنقاش تصبح‬
‫من غير معنى‪ ،‬ومن غير جدوى‪ ،‬كيف يكون في إمكاننا التغلب على هذه‬
‫المشكلة والصيرورة إلى درجة من الوضوح تسمح بالمعالجة الجيدة؟‬
‫في اعتقادي أن الوصول إلى وضعية متألقة ينقطع معها الجدل‪ ،‬ليس في‬
‫حيز الممكن؛ لسباب معروفة‪ ،‬لكن يمكن أن نحصل على شيء جيد إذا‬
‫خطونا الخطوات التية‪:‬‬
‫أ – تحديد التعريفات والمصطلحات المراد استخدامها في عملية )التقييم(‪،‬‬
‫ومحاولة التفاق عليها قدر المكان‪ .‬وأذكر في هذا السياق أنني طالما‬
‫سمعت من الشباب الغيور الخّير من يقول‪ :‬متى النصر؟ متى نرى رايات‬
‫السلم خفاقة في كل مكان؟‬
‫دت على سؤال أحدهم بسؤال جديد‪ ،‬هو‪ :‬ما‬ ‫وأذكر أنني في إحدى المرات رد َ ْ‬
‫الذي تعنيه بالنصر؟ هناك نصر عسكري‪ ،‬وهناك نصر سياسي وآخر تربوي‬
‫ورابع تعليمي وخامس اقتصادي‪ ....‬فعن أيّ نصر تسأل؟ ولم يجد ذلك الشاب‬
‫ما يجيب به‪.‬‬
‫حين يقول قائل‪ :‬ما أسباب سقوط العالم السلمي اليوم؟ فلنقل قبل أن‬
‫نتحدث عن أسباب السقوط‪ :‬ما المقصود بالسقوط؟ وما المكان الشاهق‬
‫الذي كانت تحتله المة في المجالت التي أشرنا إليها؟ وما الشواهد‬
‫والحصاءات التي تدل على تراجع المة في كل ذلك؟‬
‫لو أننا اتخذنا هذا المنهج في تناول الشياء‪ ،‬فسوف نجد أن معظم الناس‬
‫يتحدثون عن أشياء كثيرة‪ ,‬ل يعرفون عنها إل القليل‪ .‬وكثير من الناس يقول‬
‫دا عن أي مناقشة أو محاكمة!‬ ‫ما يقوله من باب التقليد بعي ً‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ب – تقسيم الظواهر موضع البحث إلى أصغر أجزاء ممكنة‪ .‬إن من الصعب‬
‫ومن غير الموضوعي أن تقول‪ :‬إن التعليم لدينا ينتقل من سيئ إلى أسوأ‪ ،‬أو‬
‫من حسن إلى أحسن؛ إذ إن هذا الحكم يشمل عشرات اللوف من المدارس‬
‫والمؤسسات التعليمية‪ .‬وإذا نظرنا بتأمل إلى واقع المدارس‪ ،‬فإننا سنجد‬
‫دا‪ ،‬ربما كان أفضل مما تقدمه‬
‫ما متميًزا ج ً‬
‫قطًعا أن بعضها يقدم تعلي ً‬
‫المدارس المناظرة في العديد من الدول المتقدمة‪ .‬كما أننا سنجد أن بعضها‬
‫يسيء إلى عقول الطلب ونفوسهم أكثر مما تفعله مدارس مناظرة في‬
‫الكثير من دول العالم‪ .‬لكن السؤال الذي ُيطرح بعد هذا هو‪ :‬ما الذي يمنح‬
‫للتعليم في هذا البلد مسحته العامة أو وضعه الطبيعي‪ :‬أهي المدارس السيئة‬
‫أم الممتازة؟ وما الذي يشكل الشاذة والستثنائي؟ وللجابة عن هذا السؤال‬
‫فإنه ل مناص من الخوض في التفاصيل والقيام بإجراء المسوح والدراسات‬
‫المساعدة‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ما عن رؤية محدودة وجزئية‪ ،‬وإن الحصاء المنهجي هو‬ ‫إن النسان يصدر دائ ً‬
‫الذي يحول دون الفرق في ذلك‪.‬‬
‫ّ‬
‫جـ ‪ -‬المقارنة مساعد آخر على كشف المطرد من الشاذ والمستثنى من‬
‫المستثنى منه‪ .‬يمكن لنا حتى نتعرف على الوضعية الحقيقية لمؤسسة أو‬
‫جماعة أو هيئة‪ ...‬أن نقوم بمقارنتها بنظيراتها المعاصرة‪ ،‬أو التي كانت‬
‫موجودة في مرحلة تاريخية معينة‪ .‬ولكن علينا أن نحذر في هذا السياق من‬
‫ود كثير من الناس أن يقارنوا أشياء بأشياء ل‬ ‫المقارنات الخاطئة؛ إذ تع ّ‬
‫سا‬
‫تناظرها ول تماثلها‪ .‬من خلل المقارنة نصل إلى بعض التحديد‪ ،‬ونوفر أسا ً‬
‫لصدار الحكام‪ .‬إن مقارنة الشياء المحسوسة بأخرى مثلها تأتي بنتائج‬
‫واضحة؛ لن السس التي تقوم عليها المقارنة تكون محددة بشكل جيد؛‬
‫فنحن اليوم نقارن مثل ً بسهولة الناتج القومي لي بلد إسلمي مع أي بلد‬
‫آخر‪ ،‬ونحصل على نتائج ذات مغزى‪ ،‬وذلك لن حساب الناتج يقوم على‬
‫أساس مّتفق عليه‪ ،‬وهو جمع قيم السلع والخدمات التي ينتجها القطر‪،‬‬
‫وتقسيم حاصل الجمع على عدد السكان‪ ،‬لكن من الصعب أن نقارن مقارنة‬
‫جيدة بين الناتج الدبي والدعوي والتربوي لجماعة إسلمية وجماعة مسيحية‪.‬‬
‫يمكن –بالطبع‪ -‬أن نقارن تنظيم إحداها بتنظيم الخرى‪ ،‬أو نقارن التقان في‬
‫الداء أو سرعة الحركة لمعالجة الخطاء‪.‬‬
‫‪ -2‬الخطاب الوعظي والتعليم التلقيني مسؤولن إلى حد بعيد عن تشكيل‬
‫دي( الذي يطرب للمطلقات والكلمات الكبيرة‪ ،‬وينفر من التقييد‬ ‫)التفكير الح ّ‬
‫من‬‫قن يظن أن َ‬ ‫والستثناء والستدراك‪ .‬إن كل ً من الواعظ والمعلم المل ّ‬
‫أمامه غير صالح للنقاش والحوار‪ ،‬وغير صالح لستيعاب التفاصيل؛ كما أن‬
‫دد وصارم تدفع في اتجاه‬ ‫الرغبة الجامحة في خروج المتلقي بشيء مح ّ‬
‫تناسي الشذوذات –والتي قد تشكل ظواهر كبرى‪ -‬والعراض عن‬
‫الستثناءات‪.‬‬
‫أما الخطاب المشوب بالنقد والحرص على بيان العلل والسباب وكشف‬
‫كب القادر على رؤية الشياء من‬ ‫العلقات فإنه يساعد على بناء العقل المر ّ‬
‫زوايا مختلفة‪ ،‬وعلى مستويات متباينة‪ ،‬ومن شأن التعليم القائم على الحوار‬
‫مش الستبداد الفكري‪ ،‬وتحّبذ البحث‬ ‫والتساؤل والستنتاج إشاعة ثقافة ته ّ‬
‫والتأمل والهتمام بالمستثنى والمهمل والمنزوي‪.‬‬
‫دي العاطفي الجانح إلى التعميم و)البيع بالجملة( تأثير‬ ‫‪ -3‬سيظل للخطاب الح ّ‬
‫واسع في الجماهير العريضة‪ ،‬وسيظل كل ما يخرج عن القواعد العامة‬
‫ق المستوى المعرفي للناس‪ ،‬وما لم تنتشر فيهم‬ ‫مصدًرا للمضايقة‪ ،‬ما لم يرت ِ‬
‫المفاهيم الدقيقة والمعّبرة عن حساسية فكرية عالية‪ .‬إن أصحاب الثقافة‬
‫الشفهية يعتمدون على الذاكرة في حفظ ما يحصلون عليه من معرفة‪ ،‬ولهذا‬
‫فإنهم يميلون إلى المختصرات والعبارات المقننة خوًفا من النسيان‪ .‬مع‬
‫حر في المعرفة وانتشار الثقافة الكتابية تنفتح شهية الناس إلى الشرح‬ ‫التب ّ‬
‫ّ‬
‫والتوضيح والتفاصيل المملة‪ .‬وإلى أن يحدث هذا لدى الجماهير المسلمة‪،‬‬
‫فإن علينا مراقبة تعبيراتنا ونشر وعي جديد بأهمية )لكن وأخواتها(‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫ولكن النصاف عزيز!‬


‫د‪.‬فهد بن سعد الجهني* ‪7/3/1425‬‬
‫‪26/04/2004‬‬

‫‪132‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫هذا العنوان جملة من درر المام الناقد الذهبي ‪-‬رحمه الله‪ -‬كررها مرارا ً في‬
‫موسوعته العجيبه "سير أعلم النبلء"‪ ،‬وهو يأسف على عدم النصاف في‬
‫بعض القوال والتصرفات‪.‬‬
‫ة‬
‫ً‬ ‫أم‬ ‫الناس‬ ‫يجعل‬ ‫أن‬ ‫يشأ‬ ‫لم‬ ‫العالمين‬ ‫رب‬ ‫أن‬ ‫وإن من سنن الله الكونية‬
‫واحدة ً في التوجه والتفكير والتصور‪ ،‬ولو شاء ربك لفعل؛ فهو سبحانه وحده‬
‫سألون"‪ .‬وبناًء عليه فإن رب العالمين خلق‬ ‫الذي "ل يسأل عما يفعل وهم ي ُ ْ‬
‫ل) وفي الحديث‪:‬‬ ‫النسان والخطأ والعجلة من طبيعته (وكان النسان عجو ً‬
‫"كل ابن آدم خطاء‪."..‬‬
‫والعجيب أن هاتين السنتين الكونيتين مع ظهورهما وتسليم الناس لهما‬
‫وإنعقاد الجماع عليهما؛ يعارضهما كثيٌر من أبناء هذه المة ‪-‬على اختلف‬
‫مستوياتهم ومنازعهم‪ -‬ليس من ناحية التنظير )فالتنظير يحسنه كل أحد(‬
‫ولكن من ناحية التطبيق والممارسة! وهو المحك وهو العمل الذي يصدق‬
‫التنظير أو يكذبه!!‬
‫والذي بات ملحظا في تصرفات بعض ممن يرجى منهم العدل والنصاف أنها‬ ‫ً‬
‫تأتي أحيانا ً على خلف ماقرره الله تعالى وفطر خلقه عليه‪ ،‬فترى منهم من‬
‫طئهم بناًء على رأيه وتوجهه‪ ،‬ويجعل من رأيه‬ ‫يحاكم الناس ويصوبهم أو يخ ّ‬
‫معيارا ً لمعرفة الحق وتصنيف الناس والحكم على الشياء!! وهو بذلك ومن‬
‫حيث ل يشعر ‪-‬غالبًا‪ -‬يتعامل مع الناس وكأنه يريد منهم أن يكونوا على جبل ٍ‬
‫ة‬
‫واحدة ورأي واحد‪ ،‬هو رأيه‬
‫وتصوره وحسب! فإن حادوا عن ذلك فقد تنكبوا الصراط وحادوا عن‬
‫ة‪ ،‬ويريد‬ ‫ة رباني ً‬
‫السبيل!! ول يعلم أو قل‪ :‬ل يشعر أنه بهذا التصور يعارض سن ً‬
‫لخلق الله غير ما أراده الله!! ويا سبحان الله!!‬
‫وآخرون يتعاملون مع الخرين وكأنهم )أعني الخرين( منزهون معصومون‬
‫ة كبرت أو صغرت‪،‬‬ ‫عن الخطأ والزلل‪ ،‬حتى إذا ما أخطأ أحدهم خطأ أو زل زل ً‬
‫أقام الدنيا عليه ولم يقعدها! وهنا أمران لبد من مراعاتهما‪:‬‬
‫ل‪ :‬إن من يتعامل مع الخرين ‪-‬مهما علت أقدارهم أو غزر علمهم‪ -‬وينتظر‬ ‫أو ً‬
‫منهم عدم الخطأ والهفوة والزلة؛ فقد ناقض سنة الله في خلقه‪ ،‬وأراد من‬
‫خلق الله مالم يرده الله! فقد خلق الخلق وهم غير معصومين إل من عصم‬
‫الله من النبياء والمرسلين‪.‬‬
‫ثانيا ً ‪ :‬أن حكمه على الخرين بالخطأ ليس بالحكم القطعي؛ بل هو ظني في‬
‫أغلب الحوال‪ ،‬وذلك أن المر ليخلو من إحدى ثلث حالت‪:‬‬
‫‪-1‬أن تكون نسبة الخطأ إلى الخر صحيحة وهي قسمان‪ :‬أ‪ -‬نسبة صحيحة‬
‫قطعيه )وهذا ل يكون إل في الخطأ في مخالفة ما انعقد عليه الجماع‪ ،‬أو‬
‫فيما اتفق عليه العقلء من سائر المور(‪.‬‬
‫ب‪ :‬نسبة صحيحة ظنيه )ومن ذلك مسائل الخلف التي ظهر فيها الدليل‬
‫بترجيح رأي ما‪ ،‬بحيث يظهر سقوط الرأي الخر وعواره ظهورا ً واضحًا(‪.‬‬
‫‪-2‬أن تكون نسبة الخطأ إلى الخر غير صحيحة قطعا ً ‪.‬‬
‫‪ -3‬أن تكون نسبة الخطأ إلى الخر تحتمل الصحة‪ ،‬ولكن الرأي أو التصرف‬
‫المقابل قد يكون له وجاهته ودليله؛ فترجيحي لرأي ل يلزم منه بالضرورة‬
‫بطلن الخر‪ ،‬وهذا النوع من التفكير ل يخرج عن قول السابقين من علماء‬
‫السلف المنصفين‪" :‬قولي صواب يحتمل الخطأ‪ ،‬وقول غيري خطأ يحتمل‬
‫الصواب"! فلله درهم ما أرقى تفكيرهم وأزكى نفوسهم‪.‬‬
‫أخي المسلم في كل مكان‪ :‬إن من تقوى الله‪ :‬العدل في القول حتى مع‬
‫الخصومه فذلك أقرب للتقوى‪ ،‬قال الله )‪..‬وليجرمنكم شنئان قوم على أل‬

‫‪133‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى‪.(....‬‬


‫وإني أتمنى من كل مثقف أو طالب علم أو مفكر أن يقرأ في سير السلف‬
‫وتراجم علماء المة الربانيين العاملين المتبصرين بقواعد الشرع وسنن الله‬
‫في الكون‪ ،‬رحماء فيما بينهم أشداء على عدوهم‪ .‬يقول شيخ السلم ابن‬
‫تيمية وهو يبين المنهج العدل في النظر إلى من يقع في الخطأ في عمله أو‬
‫قوله مع رغبته في الحق‪" :‬والعبد إذا اجتمع له‬
‫سيئات وحسنات؛ فإنه وإن استحق العقاب على سيئاته‪ ،‬فإن الله يثيبه على‬
‫حسناته‪ ،‬ول يحبط حسنات المؤمن لجل ما صدر منه‪ ،‬وإنما يقول بحبوط‬
‫الحسنات كلها بالكبيره الخوارج والمعتزله الذين يقولون بتخليد أهل‬
‫الكبائر‪] "..‬الفتاوى)‪ .[(35/68‬وإن من رحمة الله ولطفه بعباده أنه لم يكلف‬
‫المجتهدين والعاملين أن يصيبوا الحق قطعا ً وأن ذمتهم لتبرأ إل بهذا )وذلك‬
‫في مسائل الجتهاد على مختلف أنواعها(؛ بل كلفنا بالجتهاد والبحث‬
‫والحتياط‪ ،‬ثم إن أصاب المسلم الحق بعد اجتهاده فله‬
‫أجران‪ ،‬وإن لم يوفق لصابته فله أجٌر واحد‪ ،‬فسبحان الله ما أرحمه!‬
‫لذلك فإني أقول ناصحا ً نفسي ابتداًء ثم كل أٍخ مسلم أن يجعل الحق وقواعد‬
‫الشرع نصب عينيه‪ ،‬في قوله وحكمه وتعامله ‪ ،‬وأن يجتهد في التطبيق وليدع‬
‫التنظير ورفع الشعارات! وليتق الهوى والظلم‪ ،‬فهو بين أمرين لثالث لهما‪:‬‬
‫إما أن يحكم بالحق الذي دل عليه الشرع أو يحكم بالهوى ‪ ،‬قال الله‪ ) :‬ياداود‬
‫ة في الرض فاحكم بين الناس بالحق ول تتبع الهوى‪(..‬الية ‪..‬‬ ‫إنا جعلناك خليف ً‬
‫]ص‪.[26:‬‬
‫اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك‪ *.‬أستاذ أصول الفقه‬

‫)‪(1 /‬‬

‫وللبقار‪....‬أخطاؤها!!‬
‫بدرية العبد الرحمن ‪2/1/1427‬‬
‫‪01/02/2006‬‬
‫أعرف أن موضوعي هو موضوع الساحة السلمية السخن هذه اليام‪...‬ربما‬
‫يبدو لكثير منكم مكرورا ً أن أتحدث عن الحماقة الدنماركية التي احتشدت لها‬
‫مشاعر المسلمين بامتداد العالم‪...‬وكيف يمكننا أن نقرأ ونهدئ الوضع المنذر‬
‫بأمور ليحمد عقباها ‪...‬‬
‫_ما الحكاية؟‬
‫كيف يمكننا تفسير هذا التصرف الستثنائي جيدًا؟‬
‫ج للتعصب الديني في قرن‬ ‫هل يمكننا قراءته مثل ً على أنه استيقاظ ف ّ‬
‫صب؟!‬ ‫التسامح والل تع ّ‬
‫أو أنه استيقاظ أكثر فجاجة للتعصب اللديني ضد الدين والديان والرموز‬
‫الدينية ؟!‬
‫العجب أن يحدث ذلك في دولة هادئة مسالمة ومنعزلة عن القرار العالمي‬
‫مساسها( وبعدها‬ ‫بشكل ملحوظ‪...‬بل ربما كان ركودها السياسي و)ل ِ‬
‫الجغرافي عن مناطق الصدامات الحضارية والفكرية مع المسلمين‬
‫خاصة‪..‬ومع الحضارات الخرى عامة أمرا ً مثيرا ً للجدل‪....‬‬
‫أن تتحصل مبادرة )ولو كانت استثنائية( من مجلة ما لستفزاز حفيظة أتباع‬
‫الدين السلمي الذي يعتنقه المليين عبر العالم‪...‬‬
‫والدهى أن يحدث هذا الستفزاز لعلى سبيل إرادة الخير أو تحريك مستنقع‬

‫‪134‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الحوار مع الخر‪...‬وإنما على سبيل تكوين )ذات أنواط( إسلمية تعّلق عليها‬
‫مطة المحددة سلفا لديننا‪...‬‬ ‫التهم والصور المن ّ‬
‫كل ذلك المشهد كان حماقة )دنماركية( بالغة الفداحة‪ ،‬ل أظن أنها ستمرر‬
‫عبر التاريخ بسهولة‪...‬ولأظن أن بلد البقر والزبدة بصورتها البالغة الطيبة‬
‫والسذاجة كانت بحاجة لن تفتل عضلتها _حين أرادت أن تفتلها_ باستفزاز‬
‫السلميين والمسلمين باختلف أطيافهم ‪...‬‬
‫_لماذا السلم وحده‪...‬؟‬
‫م تسويق‬ ‫وبأكبر مايرمز لهذا الدين وهو نبيه الكريم عليه الصلة والسلم‪...‬ت ّ‬
‫صورة جيدة الصفاقة دقيقة التنميط عن السلم بوصفه دين القنابل‬
‫والموت‪...‬بصورة قاطعة‪...‬بصورة أقطع من قاطعة‪...‬لن وظيفة الكاريكاتور‬
‫في الجريدة هي تكريس صورة واقعة‪...‬حقيقية مسّلمة ليماري فيها إل‬
‫السفهاء ‪!...‬‬
‫هكذا بكل بساطة نختزل وُيختزل تاريخ طويل لدين كبير في رسم‬
‫كاريكاتوري مهين لنا وحدنا دون غيرنا من الديان والتيارات الفكرية في‬
‫العالم‪ ،‬والتي باسم كثير منها ارُتكبت فظائع وجرائم بحق العالم كله‪..‬ليبقى‬
‫السلم وحده متفردا ً على قائمة الموت ‪...‬‬
‫صبية حد الخطوط الحمراء‪،‬‬ ‫هكذا ُتنتهك المقدسات وُتطال المساسات التع ّ‬
‫وتتجاوزها بمئات المتار بدون أدنى حياء أو تحكيم للعقل‪...‬وكأن الديان قد‬
‫أصبحت بضاعة وسلعا ً كاسدة ل أهمية لما ترمز إليه وماتقوم به‪ ،‬وما تفعله‬
‫في نفوس معتنقيها‪...‬‬
‫إنها بكل اختصار‪...‬قلة أدب وصفاقة في عرف الفكر‪...‬في عرف‬
‫السياسة‪...‬في كل العراف‪ ،‬لشيء يعّبر عن هذه الحماقة سوى أنها قلة‬
‫أدب لتنتظر منه الدنمارك بعدها أي تصرف أحمق يجري ضدها بسببه‪...‬‬
‫لنها كانت بكل اختصار )أعقّ وأظلما(‪...‬‬
‫بؤسا ً لهذه الصورة وتعسًا‪...‬ليس فقط لنها مغلوطة وقبيحة‪...‬ولكن لنها أيضا ً‬
‫توقظ أمورا ً متخّثرة منذ قرون في العقل الغربي ضد السلمي‪..‬السلمي ذو‬
‫الموت والسيف والخيل وقطع الرقاب في سبيل الله‪...‬لأكثر‪..‬‬
‫كر صفو الوفاق النسبي الذي يعيشه المسلمون‬ ‫خواثر وجدت من يحّركها ليع ّ‬
‫صبيين )من أي جنس فكري(‬ ‫في الغرب‪ ،‬وفي الدنمارك تحديدا ً بسبب تع ّ‬
‫ليدركون خطورة مايفعلونه‪...‬‬
‫ماالذي فعلته الدنمارك بنفسها بحق الله؟!‬
‫وكيف تريد أن تكسب احترامنا لها بعد كل ما حصل؟!‬
‫وكيف يمكنها ان تأمن على رعاياها في البلد السلمية‪ ،‬وفي كل مكان بعد‬
‫الغضبة المضرية التي غضبها المسلمون الن؟!‬
‫مجرد تساؤلت‪ ،‬ل أدري هل دارت أو تدور في العقل الدنماركي ورأيه العام‬
‫وصّناع قراره‪...‬أم أن هذا العقل مازال مشغول ً بحلب أبقاره ودهن زبدتها‬
‫دون أن يعي حجم المأزق الذي أوقعه فيه طاقم تحرير مجلة أصبحت الن‬
‫هي كل دنماركي في عقل كل مسلم‪!...‬‬
‫_نقاطع ‪...‬من أجل أن نكون‪!..‬‬
‫وال واليميل لمقاطعة المنتجات‬ ‫إن الدعوات المتوحدة عبر رسائل الج ّ‬
‫حي وجيد أؤيده بدون أي ضوابط‪..‬‬ ‫الدنماركية والتشنيع عليها لهي مظهر ص ّ‬
‫منذ زمن مقاطعة البضائع المريكية والسرائيلية والعقل العربي السلمي‬
‫يتوثب ويصنع لاءاته الكثيرة الثقيلة والعسرة في بعض الحيان‪...‬ولكن‬
‫بصورة جميلة وتبعث على العجاب ولو اختلفنا معه‪...‬‬

‫‪135‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫لبد أن يفهم العقل العالمي أن المسلم لم يعد واحدا ً من مجموعة دول‬


‫أغلبها ينتمي للعالم الثالث الذي ُيقضى أمره )حين تغيب تيم ول ُيستأمرون‬
‫وهم شهود(‪ ...‬وإنما أصبح شخصا ً مثقفا ً واعيا ً لخلفيته الثقافية التي هي الدين‬
‫السلمي باختلف مذهبه أو تفاوت التزامه بتعاليم الدين‪...‬‬
‫ضر‪ ،‬وبطريقة تعّبر‬‫ل ومتح ّ‬‫المهم أنه يعرف الن كيف يقول‪ :‬ل‪...‬بصوت عا ٍ‬
‫عن تململه من حالة العنطزة التي تكتنف الغربي ضد العرب الذين‬
‫يحتاجونهم ويلجؤون إليهم ويصطفون بالطوابير للحصول على تأشيرات‬
‫الدخول والعمل هناك ‪...‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫مت أخيرا ً لحد المساس‬ ‫العنطزة الغربية التي طالت واستمرت وط ّ‬


‫دس الذي هو خط أحمر كبير في كل الثقافات من حق الكل‬ ‫دس‪...‬المق ّ‬ ‫بالمق ّ‬
‫أن يعترض على المساس به بصيغة التهكم والتقليل‪...‬‬
‫وأنا حين أقول ذلك فأنا أعلم أن مقاطعتي ومقاطعتك ومقاطعتكم لن تضر‬
‫أو تقلل من شأن الزبدة الدنماركية‪ ،‬ول من صيتها الواسع ‪...‬ولمن أبقارها‬
‫الغبية ‪...‬‬
‫لكننا سنفعلها من أجل أنفسنا‪...‬من أجل أن لنفقد الـ)ل( الوحيدة البسيطة‬
‫التي نملكها الن وتمل أفواهنا ‪...‬‬
‫لنقول‪ :‬إننا موجودون‪ ،‬وكائنون في هذا الكوكب بكل إشكالياتنا وأزماتنا‪...‬وإننا‬
‫قادرون على التعايش‪ ،‬وإننا نستحق الحترام‪...‬وإننا نملك أن نعّبر وأن نرفض‬
‫‪...‬وحتى أن نكره لو استلزم المر‪...‬‬
‫لكي ل تكون فتنة وكراهية جديدة تضخ في بحر الحقاد التي يموج بها هذا‬
‫الكوكب البائس‪ ...‬فإنني أتمنى أن تبادر الدنمارك باعتذار واسع وعميق‬
‫اللهجة لمشاعر المسلمين وتهدئ من حجم الزمة ‪...‬‬
‫وأل ّ تنتظر أن ُيغسل مافي القلب السلمي الواحد دفعة واحدة وباعتذار‬
‫واحد‪...‬لن حجم الصدمة كان قويا ً وإزالته لن تكون هينة‪...‬‬
‫لنه لو لم يحصل ذلكم العتذار فسنظل عمرنا كله نعزف على هذه‬
‫المقطوعة‪...‬نجتّر ألم الكراهية‪ ...‬ونرّبي أولدنا ويرّبي أولدنا أولدهم أن‬
‫الدنمارك والشيطان أخوان يلزم أحدهما مايلزم الخر‪...‬‬
‫لو لم يحصل ذلكم العتذار فستظل جمرة الحقاد مشتعلة‪...‬وربما ُتفاجأ‬
‫الدنمرك بأمر كانت استفزت مشاعر المسلمين لجله‪...‬ربما تجد تطبيقا ً جيدا ً‬
‫لنموذج الرهابي العسر ذي العمامة )المقنبلة( في أرضها وبين قلعها‬
‫الجميلة وأبقارها ثقيلة الظل ‪...‬‬
‫ربما تفقد الدنمرك كل جمالها وسذاجتها بسبب )طولة لسانها(‪....‬‬
‫ربما ثرثرت أبقارها هذه المرة بصورة )أغبى( من اللزم‪...‬‬
‫ربما لنحتاج أكثر من أيام قليلة لنشهد شيئا ً لم نتمّنه من قبل في الدنمرك‪...‬‬
‫ربما يحصل )هناك او هنا( كل شيء‪....‬‬
‫كم أكره )ربما( في هذه السياقات‪...‬اللهم اكفنا شر ربما‪!!!....‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ولله السماء الحسنى‬


‫المحتويات‬

‫‪136‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫مقدمة‬
‫منزلة السماء والصفات بين أبواب التوحيد‬
‫أول ً ‪ :‬منزلتها من القرآن‬
‫ثانيا ً ‪ :‬اليمان بالسماء والصفات‬
‫ثالثا ً ‪ :‬ختم اليات بالسماء والصفات‬
‫رابعا ً ‪ :‬المر بالدعاء بها‬
‫خامسًا‪ :‬من أحصاها دخل الجنة‬
‫آثار اليمان بالسماء والصفات‬
‫أول ‪ :‬تعظيم الله سبحانه وتعالى‬
‫ثانيا ً ‪ :‬الستهانة بالمخلوقين‬
‫ثالثا ً ‪ :‬التوبة‬
‫رابعا ً ‪ :‬الدعوة إلى الله ومواجهة العداء‬
‫خامسًا‪ :‬مراقبة الله سبحانه وتعالى‬
‫مقدمة‬
‫الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور‬
‫أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ‪،‬من يهده الله فل مضل له ومن يضلل فل هادي‬
‫له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل الله وحده لشريك له وأشهد أن محمدا ً صلى الله‬
‫عليه وسلم عبده ورسوله ‪ ،‬أما بعد ‪:‬‬
‫فموضوعنا في هذا اللقاء هو – ولله السماء الحسنى – ولشك أن الحديث‬
‫يأخذ قيمته وشأنه و مكانته مما يتحدث عنه‪ ،‬والحديث عن أسماء الله سبحانه‬
‫وتعالى وصفاته حديث يأخذ بالقلوب‪ ،‬وينقل المرء من عالم الدنيا وعالم‬
‫المحسوسات إلى عالم آخر‪ ،‬وحينها يشعر بعظمة الله سبحانه وتعالى‬
‫وسلطانه وملكه وكبريائه‪ ،‬ويدرك فقره وذله وحاجته لله سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫السماء والصفات باب واسع من أبواب العقيدة بل صارت في مرحلة من‬
‫المراحل هي المعلم البارز في اعتقاد أهل السنة‪ ،‬فن صنف من أهل السنة‬
‫والجماعة لبد أن يبدأ في الحديث عن السماء والصفات وكما أخبر النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم أن هذه المة ستفترق‪ ،‬وأن هذه الفرق كلها في النار‬
‫إل طائفة واحدة ناجية وهي أهل السنة والجماعة‪ ،‬وباب السماء والصفات‬
‫من أوسع البواب التي ضلت فيها الطوائف والفرق‪ ،‬ودار فيها جدل طويل‬
‫بين هؤلء وبين أهل السنة‪ ،‬ولشك أن علماء أهل السنة الذين كانوا يذبون‬
‫عنها ويسعون لبيانها للناس كان يعينهم بدرجة أولى أن يستقر المعتقد‬
‫السليم والصحيح عند الناس‪ ،‬وأن يدفعوا تلك الشبه التي كان يثيرها أولئك‬
‫الضالون زعما ً منهم أنهم يريدون تنزيه الله سبحانه وتعالى وتعظيمه عز‬
‫وجل‪ ،‬وهذا بل شك ترك أثره البارز على منهج عرض السماء والصفات‬
‫والحديث عنه فصار أهل السنة حينما يتحدثون عن السماء والصفات في‬
‫مرحلة من المراحل ُيعنون بدرجة كبيرة بقضية الثبات وقضية الجدل مع‬
‫المخالفين ودفع شبههم‪ ،‬وحينها يتوقفون عند هذا القدر وذلك أن الناس كانوا‬
‫يقرؤون القرآن ويتدبرونه وكانوا يُعون هذه المعاني وكان القدر الذي‬
‫يحتاجون إليه حينها هو أن يتضح لهم ما يجب عليهم اعتقاده في حق تجاه‬
‫الله سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫دهية يدركها أي مسلم يشعر بتعظيم الله عز وجل‪ ،‬ويعلم أنه‬ ‫وهي قضايا ب َ َ‬
‫سبحانه ل يمكن أن يقاس بخلقه‪ ،‬وأنه ليس له الحق بأن يتجرأ على ذات الله‬
‫سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته فيفهمها من خلل عقله القاصر‪ ،‬ويتعامل مع‬
‫هذه النصوص من خلل فهمه وقياسه العقلي‪ ،‬وهو يدرك أن سبحانه وتعالى‬

‫‪137‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫أكبر وأعظم وأجل من أن تحيط به هذه الفهام القاصرة‪.‬‬


‫ويعرف أن الله تعالى حينما يصف نفسه أنه الرازق ذو القوة المتين‪ ،‬وأنه‬
‫سبحانه على العرش استوى ‪ ,‬وأنه ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث‬
‫الليل الخر‪ ،‬يدرك من هذه النصوص كلها معنى يليق بالله سبحانه وتعالى‬
‫وعظمته‪ ،‬ولعلك حين ترى أحد كبار السن الصالحين العابدين لله عز وجل‬
‫عندما يسمع هذه اليات من كتاب الله عز وجل أو يسمع متحدثا ً عن عظمة‬
‫الله سبحانه وتعالى وعن أسمائه وعن صفاته ما يلبث أن يلهج لسانه‬
‫در لك أن ترى‬ ‫بالتسبيح والتمجيد والتنزيه لله سبحانه وتعالى وتقدس‪ ،‬ولو قُ ّ‬
‫وجهه لرأيت وقرأت فيه علمة التعظيم والخضوع لله سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫واستشعار النقص والفقر أمامه عز وجل‪.‬‬
‫دهية‪ ،‬ولكن نظرا ً لوجود هذا التيار الجارف من الشبه‬ ‫إنها مسائل متقررة وب َ َ‬
‫والضلل‪ ،‬الذي تجرأ على أسماء الله وصفاته وشبه الله عز وجل بخلقه‬
‫وسلط عقله القاصر البشري على ذات الله سبحانه وتعالى وعلى أسمائه‬
‫وصفاته‪ ،‬فجعل من عقله ونتاجه القاصر مقياسا ً وحكما ً على أسماء الله‬
‫وصفاته‪ ،‬وعلى ما يجوز في حق الله سبحانه وتعالى وما ل يجوز‪.‬‬
‫ولشك أن هذا التيار الجارف كان يفرض على أهل العلم مواجهته ورد الشبه‪،‬‬
‫والحديث عن هذا واجب متحتم‪ ،‬ومن حق عامة المسلمين أن يوضح لهم‬
‫المعتقد السليم وأن تدفع عنهم هذه الشبه‪.‬‬
‫وفيما مضى كان الناس يتدبرون القرآن ويعون هذه المعاني التي أشرنا إليها‪،‬‬
‫لكن طال الزمن وطال العهد بالناس وبعدوا عن مشكاة النبوة‪ ،‬وعن كتاب‬
‫الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ومن هنا انحرفت‬
‫نظرتهم‪ ،‬وصاروا حينما يسمعون الحديث عن السماء والصفات يقفز إلى‬
‫أذهانهم الجدل الطويل مع الشاعرة والمعتزلة والجهمية ومع سائر الطوائف‬
‫الكلمية‪ ،‬ويغيب عن بالهم معنى آخر معنى له أهميته حول هذا الجانب‬
‫ويتزامن هذا مع الفصام النكد الذي يعيشه المسلمون بين التوحيد والسلوك‬
‫والواقع الذي يعيشه المسلمون‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫لقد صار بعض المسلمين يتصور أن قضية التوحيد قضية جدلية فلسفية بحتة‪،‬‬
‫وأضرب لكم أمثلة سريعة حول هذا ثم أعود إلى موضوع الحديث‪ ،‬من أسس‬
‫عقيدة التوحيد أن ل إله إل الله وهذا يعني أن ل أحد يستحق العبادة ول‬
‫الخضوع غير الله سبحانه وتعالى‪ ،‬عبادته عز وجل بشعائر التعبد والخضوع له‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬والتشريع والتعظيم إنما هو حق لله سبحانه وتعالى‪ ،‬إن‬
‫قضية ل إله إل الله حينما تضعها على بساط النقاش المعرفي الجدلي البحت‬
‫تراها واضحة مقررة عند المسلمين‪ ،‬لكنك ترى هذا قد يخضع لغير الله‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬ويتوجه بقلبه لغير الله سبحانه وتعالى‪ ،‬إنه يخاف من‬
‫قر بعقيدة‬‫المخلوقين ويحسب ألف حساب للمخلوق‪ ،‬وهو نفسه الذي ي ّ‬
‫التوحيد وبأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينبغي أن ُيخاف ويخشى ويرجى‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫ولئن كان العلم النافع ل بد أن يترك أثره على صاحبه‪ ،‬فكيف بالعلم بالسماء‬
‫والصفات الذي هو من أشرف العلوم‪ ،‬قال ابن العربي رحمه الله‪" :‬شرف‬
‫العلم بشرف المعلوم‪ ،‬والباري أشرف المعلومات‪ ،‬والعلم بأسمائه أشرف‬
‫العلوم "‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وقال ابن القيم – رحمه الله –‪":‬وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده‪ ،‬فوجود‬
‫سواه تابع لوجوده‪ ،‬تبع المفعول المخلوق لخالقه‪ ،‬فكذلك العلم به أصل للعلم‬
‫بكل ما سواه‪ ،‬فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم‪ ،‬فمن أحصى‬
‫أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم‪ ،‬إذ إحصاء أسمائه أصل‬
‫لحصاء كل معلوم لن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها‪ ،‬وتأمل‬
‫صدور الخلق والمر عن علمه وحكمته تعالى‪ ،‬ولهذا ل تجد فيها خلل ً ول‬
‫تفاوتًا؛ لن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله‪ ،‬إما أن يكون لجهل به‪،‬‬
‫أو لعدم حكمته‪ ،‬وأما الرب تعالى فهو العليم الحكيم‪ ،‬فل يلحق فعله ول أمره‬
‫خلل ول تفاوت ول تناقض"‪.‬‬
‫منزلة السماء والصفات بين أبواب التوحيد‬
‫لو سألت أي شخص عن أنواع التوحيد لقال‪ :‬توحيد الربوبية‪ ،‬وتوحيد اللوهية‪،‬‬
‫وتوحيد السماء والصفات ولو تصفحت أحد كتب العقيدة لوجدت أن السماء‬
‫والصفات تأخذ حديثا ً واسعًا‪ ،‬بل إن هناك طوائف منشأ وجودها وخلفها مع‬
‫أهل السنة خلفها في السماء والصفات‪.‬‬
‫أول ً ‪ :‬منزلتها من القرآن‬
‫حين تتأمل كتاب الله عز وجل ل تكاد تفقد الحديث عن السماء والصفات؛‬
‫ففي سورة من السور أو صفحة من الصفحات تجد أحيانا ً سردا ً لسماء الله‬
‫عز وجل وصفاته وحديثا ً عن عظمة الله سبحانه وتعالى‪ ،‬وأحيانا ً تأتي تعقيبا ً‬
‫على آية من اليات في وعد أو وعيد أو حكم شرعي‪ ،‬أو حديث عن المكذبين‬
‫الضالين‪ ،‬أو عن أنبيائه ورسله‪ ،‬فلماذا هذا الحديث المستفيض في القرآن‬
‫الكريم عن السماء والصفات؟‬
‫أليس هذا موحيا ً بأهمية المر؟ ثم أليس هذا موحيا بأن هناك واجب آخر وأن‬
‫ً‬
‫هناك أثر آخر لقضية اليمان بالسماء والصفات ينبغي أن نعينه؟ وأل نقف‬
‫عند مجرد الثبات وحده‪ ،‬وهو أمر مهم‪ ،‬بل النحراف فيه ضلل‪.‬‬
‫ثانيا ً ‪ :‬اليمان بالسماء والصفات‬
‫اليمان بالسماء والصفات عند أهل السنة يتضمن إثبات معناها‪ ،‬فهي معلومة‬
‫المعنى مجهولة الكيف‪ ،‬ولهذا حكموا بضلل أهل التفويض الذين يقولون إن‬
‫المعنى مجهول أو إن ظاهرها غير مراد‪.‬‬
‫إنك حين تسأل مسلما ً عامّيا ل يقرأ ول يكتب‪،‬وتقول له إن الله سبحانه غفور‬
‫حليم تواب رحيم‪ ،‬فهل يعرف من هذه الكلمة معنى أنه عز وجل شديد‬
‫العقاب‪ ،‬وأن بطشه شديد؟ أل يفهم من هذا فهما ً يترك أثرا ً على نفسه بغض‬
‫النظر عن قدرته عن التعبير الدقيق عما فهمه؟‬
‫وحينما يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم ‪ " :‬ينزل ربنا إلى السماء‬
‫الدنيا حين يبقى ثلث الليل الخر؛ فيقول‪ :‬هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل‬
‫من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ " أل يفهم منه معنى‬
‫معينًا؟ اقرأ هذا الحدييث على أحد العامة‪ ،‬وانظر أثره على نفسه‪.‬‬
‫فإذا كان إثبات معاني السماء والصفات على ما يليق بجلل الله عز وجل‬
‫من واجبات المسلم و داخل ً ضمن اعتقاد أهل السنة‪ ،‬فالمعنى ينبغي أن‬
‫يكون له أثر على من يؤمن به‪.‬‬
‫ثالثا ً ‪ :‬ختم اليات بالسماء والصفات‬

‫)‪(2 /‬‬

‫‪139‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫نجد اليات كثيرا ً ما تختم بالسماء والصفات‪ ،‬وهي تختم ختما ً مناسبا ً بمعنى‬
‫ما دلت عليه الية‪ ،‬ويحكون أن أعرابيا ً سمع رجل ً يقرأ قول الله عز وجل ‪:‬‬
‫]والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكال ً من الله والله غفور‬
‫رحيم[ فقال هذا العرابي لست قارئا ً للقرآن ولكن عز فحكم فقطع‪ ،‬ولو‬
‫غفر ورحم لما قطع‪ ،‬ولهذا تجد ختم الية مناسب لمعناها‪ ،‬قال عز وجل‪] :‬قد‬
‫سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع‬
‫تحاوركما إن الله سميع بصير[ ‪،‬وفي آية الزكاة يقول الله عز وجل ‪] :‬إنما‬
‫الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب‬
‫والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم[‬
‫‪،‬وهذا الختم فيه مناسبة ظاهرة كما في آية الفرائض ]يوصيكم الله في‬
‫أولدكم للذكر مثل حظ النثيين ‪ [..‬ختمها عز وجل بقوله ‪]:‬آباؤكم وأبناؤكم ل‬
‫تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ً فريضة من الله إن الله كان عليما ً حكيمًا[‪ ،‬فحين‬
‫يقرأ أحد هذه الية فقد يتساءل ولم يعط البن أكثر من الب‪ ،‬ولم يفضل‬
‫الذكر على النثى؟ لكن حين يسمع قوله عز وجل‪] :‬آباؤكم وأبناؤكم ل تدرون‬
‫أيهم أقرب لكم نفعا ً فريضة من الله إن الله كان عليما ً حكيمًا[ ‪،‬يشعر أن‬
‫الله اتصف بصفة العلم والحكمة سبحانه وتعالى‪ ،‬وهو سبحانه يضع الشياء‬
‫في مواضعها‪.‬‬
‫وحين قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ‪]:‬ليس لك من المر شئ‬
‫[ تعقيبا ً على دعائه صلى الله عليه وسلم على الذين شجوا رأسه صلى الله‬
‫عليه وسلم ختمها عز وجل بقوله ‪]:‬يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله‬
‫غفور رحيم[ ‪،‬بينما قال في سورة المائدة ‪]:‬يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء‬
‫والله على كل شيء قدير[‪ ،‬فهذا السياق يختلف عن ذاك‪ ،‬ولهذا ختمت الية‬
‫بهذه الصفة وهناك ختمت بذلك السم‪.‬‬
‫إذا ً ختم اليات بالسماء والصفات يعطينا دللة على الرتباط بين السم‬
‫والصفة‪ ،‬وبين ما سبق في الية‪ ،‬ثم تجد عجبا ً حينما تتأمل الفرق بين ما قد‬
‫يبدو لنا أنها مترادفة وليست كذلك‪ ،‬فأحبانا ً يأتي )غفور رحيم( وأحيانا ً )غفور‬
‫حليم( وبينهما فرق دقيق‪ ،‬وأحيانًا) عليم حكيم( وأحيانا ً )عليم حليم( ‪،‬ولو‬
‫قرأت في كتب التفسير لوجدت عجبا ً في ذلك ‪.‬‬
‫رابعا ً ‪ :‬المر بالدعاء بها‬
‫لقد أمر الله تبارك وتعالى عباده بأن يدعوه بأسمائه فقال‪]:‬ولله السماء‬
‫الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه]‪ ،‬وفي القرآن الكريم‬
‫في مواضع عدة أخبر الله سبحانه وتعالى عن جمع من أنبيائه أنهم يدعونه‬
‫عز وجل بأسمائه وصفاته‪ ،‬قوله تعالى‪[:‬وأيوب إذ نادة ربه أني مسني الضر‬
‫وأنت أرحم الراحمين[ ‪،‬ودعاء يونس عليه السلم ‪]:‬ل إله إل أنت سبحانك‬
‫إني كنت من الظالمين[‪ .‬ونرى ذلك في السنة فيما نقل عن النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم من أدعية دعا بها أو أمرنا أن ندعو بها‪ ،‬نجد كثيرا ً من هذه‬
‫النصوص فيها الدعاء بالسماء والصفات‪ ،‬ومن ذلك قوله صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪":‬اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في‬
‫كتابك ‪ ، "..‬والدعاء نوعان‪ :‬دعاء ثناء‪ ،‬ودعاء مسألة‪ ،‬فحينما يقول المسلم ‪":‬‬
‫أمسينا وأمسى الملك لله …" فهذا دعاء لكنه دعاء ثناء على الله سبحانه‬
‫وتعالى ‪.‬‬
‫والدعاء بأسماء الله وصفاته ينبغي أن يتناسب مع ما يدعو به المسلم‪ ،‬كما‬
‫قال ابن العربي‪ ":‬يطلب بكل اسم ما يليق به‪ ،‬تقول‪ :‬يا رحيم ارحمني‪ ،‬يا‬
‫حكيم احكم لي‪ ،‬يا رّزاق ارزقني‪ ،‬يا هادي اهدني"‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وقال ابن القيم ‪ ": :‬يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيا ً لذلك‬
‫المطلوب‪ ،‬فيكون السائل متوسل ً بذلك السم‪ ،‬ومن تأمل أدعية الرسل‬
‫وجدها مطابقة لهذا"‪.‬‬
‫والدعاء بالسماء الحسنى والصفات العلى له آثار على المسلم‪ ،‬ومنها‪ :‬الثناء‬
‫على الله عز وجل بين يدي الدعاء له سبحانه‪" ،‬ول أحد أحب إليه الثناء من‬
‫الله عز وجل" كما قال صلى الله عليه وسلم ‪ .‬وكان النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم في كل خطبة يبدأ بحمد الله والثناء عليه‪ ،‬فالمسلم حينما يدعو الله‬
‫بأسمائه يثني على الله عز وجل ويتوسل بين يدي الدعاء بعمل صالح يقربه‬
‫إلى الله عز وجل‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬الثر النفسي على النسان حينما يدعو بهذا السم‪ ،‬فهذا يدعوه إلى‬
‫اليقين بالجابة‪ ،‬واليقين بالجابة سبب من أسباب استجابة الدعاء‪ ،‬تأمل دعاء‬
‫الستخارة "اللهم إني أستخيرك بعلمك‪ ،‬وأستقدرك بقدرتك‪ ،‬وأسألك من‬
‫فضلك العظيم فإنك تقدر ول أقدر وتعلم ول أعلم وأنت علم الغيوب‪ ،‬الله إن‬
‫كان هذا المر خير لي …" ‪،‬فحين يستخير المسلم ويدعو هذا الدعاء‪ ،‬سيتبرأ‬
‫من حوله وقوته‪ ،‬ويشعر أنه سلم نفسه بين يدي الله عز وجل‪ ،‬وحينها‬
‫سيشعر أنه محتاج لدعاء الله ومحتاج لن يختار الله له‪ ،‬ومحتاج لتوفيق الله‬
‫وعونه‪ ،‬لن الله يقدر وهو ل يقدر‪ ،‬ويعلم وهو ل يعلم وهو صاحب الفضل‬
‫سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫ثالثًا‪ :‬العبودية والخضوع لله والفتقار بين يدي الله تعالى حين يعيش آثار هذه‬
‫السماء والصفات ومعانيها‪ ،‬ولهذا كان الدعاء هو العبادة كما قال النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ ،‬فالعبادة كلها تجتمع في الدعاء لن فيها فقر وذل وخضوع‬
‫بين يدي الله عز وجل‪.‬‬
‫خامسًا‪ :‬من أحصاها دخل الجنة‬
‫ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‪ ":‬إن لله تسعا وتسعين اسمًا‪،‬‬
‫مائة إل واحدا ً من أحصاها دخل الجنة " وفي رواية " من حفظها دخل الجنة"‬
‫وقد اختلف أهل العلم في معنى "من أحصاها"‪ ،‬فمنهم من فسرها بقول الله‬
‫عز وجل ‪]:‬علم أن لن تحصوه[ فقال إحصاؤها إطاقتها‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬من‬
‫قام بحقها وتأمل معانيها وقام بآثارها‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬المقصود عدها‪ ،‬ومنهم‬
‫من قال‪ :‬أن يدعو الله بها‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬أن يقرأ القرآن لنها في القرآن‬
‫فإذا قرأ القرآن يكون قد أحصاها‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬حفظها‪.‬‬
‫وأشار ابن القيم رحمه الله إلى أن الحصاء مراتب وذكر بأنه لو قررنا أن‬
‫المعنى هو حفظها فحفظ القرآن الكريم على سبيل المثال معروف ثواب‬
‫حفظه‪ ،‬كما قال صلى الله عليه وسلم ‪":‬الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع‬
‫السفرة الكرام البررة " ‪،‬فلو فرضنا أن منافقا ً حافظ للقرآن لكنه ل يحل حل‬
‫له ول يحرم حرامه فهل ينفعه حفظه للقرآن ؟ وهل تنفعه تلوته للقرآن؟‬
‫فالقرآن حجة للمرء أو عليه‪ ،‬فكذلك هذه السماء حينما تكون مجرد حفظ‬
‫فقط ل ينفعه حفظها‪ ،‬لكن يحفظها ويتأمل معانيها ويلزم نفسه بمقتضياتها‪.‬‬
‫آثار اليمان بالسماء والصفات‬
‫ومن خلل كل ما سبق نصل إلى أن اليمان بالسماء والصفات ل بد أن يترك‬
‫آثارا ً على نفس المسلم‪ ،‬وهي آثار عظيمة نشير إلى جزء يسير منها‪:‬‬
‫أول ‪ :‬تعظيم الله سبحانه وتعالى‬

‫‪141‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ذلك أن المسلم الذي يعلم أن الله حليم‪ ،‬وأنه عز وجل غفور رحيم كريم‪،‬‬
‫وأنه شديد العقاب يبطش ويمكر بمن يمكر‪ ،‬يكيد بالكافرين ول يعجزه شيء‪،‬‬
‫إذا أراد شيئا ً إنما يقول له كن فيكون‪ ،‬ويعلم أن الله يسمع ويبصر‪ ،‬حين يعلم‬
‫هذه السماء والصفات فإنه يزداد تعظيما ً له سبحانه ويزداد خضوعًا‪.‬‬
‫ولله المثل العلى وهو سبحانه ل يقاس بخلقه لو رأيت إنسانا ً حليما ً قد بلغ‬
‫الغاية في الحلم‪ ،‬فإنك تزداد إعجابا ً به وسردا ً لتلك القصص التي تحكي حلمه‬
‫وصبره على من يجفوه‪ ،‬فكيف لو اتصف مع ذلك بالكرم والعفو والحسان‬
‫إلى الناس ونصرة المظلوم والشجاعة والحياء؟‬
‫فالله سبحانه أعلى وأجل من أن يقاس بخلقه‪ ،‬وله المثل العلى فالله حليم‬
‫لكن حلم المخلوقين ل يمكن أن يكون كحلم الله سبحانه‪ ،‬والله سبحانه كريم‬
‫لمنه ليقاس بخلقه‪ ،‬قوي عليم سميع بصير رزاق لخلقه يجيب من دعاه‬
‫ويعطي من سأله ويجير من استجار به‪.‬‬
‫ً‬
‫إن المسلم حين يتأمل هذه المعاني يزداد تعظيما لله سبحانه وتعالى‪ ،‬وكلما‬
‫ازداد تعظيما ً ازداد عبودية وخضوعا ً له ‪.‬‬
‫ثانيا ً ‪ :‬الستهانة بالمخلوقين‬
‫فالمسلم حينما يعلم أسماء الله وصفاته يستهين بالمخلوقين‪ ،‬ويشعر أن‬
‫المخلوق ل يساوي شيئًا‪ ،‬وهاهو العز بن عبد السلم حين أنكر على السلطان‬
‫وهو بخيله وخيلئه وسأله أحد تلميذه أما خفت السلطان؟ قال‪ :‬تذكرت‬
‫عظمة الله عز وجل فصار السلطان أمامي كالهر‪ ،‬بل انظر إلى أثر هذا المر‬
‫عند هودعليه السلم‪ ،‬هود حينما عاداه قومه رد عليهم مستهينا ً بجبروتهم‬
‫]قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك‬
‫بمؤمنين[ فعلم هود أنهم قوم ل يعرفون إل منطق التحدي‪ ،‬وقوم ل يعرفون‬
‫منطق الحوار فقال لهم متحديا ً [قال إني أشهد الله وأشهدوا أني بريء مما‬
‫تشركون من دونه فكيدوني جميعا ً ثم ل تنصرون‪ .‬إني توكلت على الله ربي‬
‫وربكم ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم] إن علمه‬
‫بأن نواصي العباد بيد الله هو الذي دفعه إلى أن يستهين بجبروتهم وببطشهم‪.‬‬
‫وحين يدرك المسلم أن نواصي العباد بين يدي الله عز وجل يشعر أن‬
‫المخلوق ل يساوي شيئًا؛ فل يمكن أن يتوجه إلى المخلوق‪ ،‬ول يرجو نفعا ول‬
‫ً‬
‫نوالً‪ ،‬ول يخاف من المخلوق ويرهبه‪.‬‬
‫ثالثا ً ‪ :‬التوبة‬
‫حينما يعلم المسلم أن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده‬
‫بالنهار ليتوب مسيء الليل‪ ،‬وحينما يعلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا‬
‫فيقول‪ :‬هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حينها يقبل‬
‫على الله عز وجل ويتوب إلى الله ويشعر أن الله رحيم رؤوف وأنه سيقبل‬
‫التوبة‪.‬‬
‫رابعا ً ‪ :‬الدعوة إلى الله ومواجهة العداء‬
‫حين قال موسى وهارون ‪]:‬قال ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن‬
‫يطغى[قال تعالى لهما ‪]:‬ل تخافا إنني معكما أسمع وأرى[‪ .‬فزادهما ذلك ثباتا ً‬
‫ويقينا ً وعزيمة على مواجهة فرعون وبطشه‪.‬‬
‫خامسًا‪ :‬مراقبة الله سبحانه وتعالى‬

‫)‪(4 /‬‬

‫‪142‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫قالت عائشة رضي الله عنها ‪ :‬سبحان الذي وسع سمعه الصوات لقد كانت‬
‫المجادلة تجادل النبي صلى الله عليه وسلم وهي في طائفة الحجرة وأنا‬
‫أسمع ثم نزل قول الله ‪]:‬قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها‪ [...‬وفي‬
‫السورة نفسها يقول تعالى ‪ ]:‬ما يكون من نجوى ثلثة إل هو رابعهم ول‬
‫خمسة إل هو سادسهم ول أدنى من ذلك ول أكثر إل هو معهم أين ما كانوا[‪،‬‬
‫حينها يعرف المسلم أن أي كلمة سيقولها سيسمعها الله‪ ،‬ويعلم أن الله ل‬
‫تخفى عليه خافية ]سواء منكم من أسر القول أو جهر به ومن هو مستخف‬
‫بالليل وسارب بالنهار[ ‪،‬فل يمكن أن يتجرأ على المعصية حين يخلو ول يراه‬
‫أحد لنه يعلم أن سبحانه يراه‪ ،‬يقول الشاعر ‪:‬‬
‫وإذا خلوت بريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى الطغيان‬
‫فاستحي من نظر الله وقل لها *** إن الذي خلق الظلم يراني‬
‫فحين يستشعر المسلم هذه المعاني يراقب الله‪ ،‬ويعلم أن الله سبحانه ل‬
‫تخفى عليه خافية‪.‬‬
‫أختم هذا الحديث بكلم طويل لبن القيم حول هذا المعنى يقول بعد أن‬
‫تحدث عن ألوهية الله عز وجل وما في ذلك الشهود الغنى التام‪":‬وليس هذا‬
‫صا بألوهيته تعالى فقط‪ ،‬بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الله سبحانه‬ ‫مخت ّ‬
‫يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديته؛ فمن شهد‬
‫علو الله على خلقه وفوقيته على عباده واستواءه على عرشه كما أخبر بها‬
‫أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث‬
‫يصير لقلبه صمد يعرج إليه مناجيا ً له مطرقا ً واقفا ً بين يديه وقوف العبد‬
‫الذليل بين يدي الملك العزيز؛ فيشعر أن كلمه وعمله وعلمه صاعد إليه‬
‫معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه؛ فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما‬
‫يخزيه ويفضحه هناك‪ ،‬ويشهد نزول المر والمراسيم اللهية إلى أقطار‬
‫العوالم كل وقت بأنواع التدبير والتصرف من الماتة والحياء والعطاء و المنع‬
‫والخفض والرفع وكشف البلء وإرساله إلى غير ذلك من التصرفات في‬
‫المملكة التي يتصرف فيها سواه‪ ،‬فمراسيمه نافذة فيها كما يشاء يدبر المر‬
‫من السماء إلى الرض ثم يعرج فيه في يوم كان مقداره ألف سنة مما‬
‫تعدون‪ ،‬فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به‪ ،‬وكذلك من‬
‫شهد مشهد العلم المحيط الذي ل يعزب عنه مثقال ذرة في الرض ول في‬
‫السماوات ول في قرار البحار ول تحت أطباق الجبال بل أحاط بذلك علمه‬
‫علما ً تفصيلّيا ثم تعّبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته‬
‫وجميع أحواله وعزماته وجوارحه علم أن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره‬
‫وإرادته وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه علنية بادية ل يخفى عليه فيها‬
‫شيء‪ ،‬وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه سبحانه وتعالى لصوات عباده على‬
‫اختلفها وجهرها وخفائها وسواء عنده من أسر القول أو جهر به ل يشغله‬
‫جهر من جهر عن سمعه صوت من أسر‪ ،‬ول يشغله سمع عن سمع ول تغلطه‬
‫الصوات على كثرتها واختلفها واجتماعها بل هي عنده كلها كصوت واحد‪،‬‬
‫كما أن خلق الخلق وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة‪ .‬وكذلك إذا شهد معنى‬
‫اسمه البصير جل جلله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء‬
‫في الليلة الظلماء‪ ،‬ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها‬
‫وحركتها ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل‪ ،‬وأعطى هذا المشهد حقه‬
‫من العبودية تيقن أنه بمرأى منه سبحانه ومشاهدته ل يغيب عنه منها شيء‪.‬‬
‫وكذلك إذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الفعال وأنه قائم على كل‬
‫شيء وقائم على كل نفس بما كسبت‪ ،‬وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم‬

‫‪143‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫لغيره‪ ،‬القائم عليهم بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن وجزاء‬
‫المسيء إليه‪ ،‬وأنه بكمال قيوميته ل ينام ول ينبغي له أن ينام يخفض القسط‬
‫ويرفعه‪ ،‬وُيرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل‪،‬‬
‫ل تأخذه سنة ول نوم ول يضل ول ينسى" إلى آخر كلمه‪ -‬رحمه الله –‪.‬‬
‫والمقصود أن هذه السماء الحسنى الصفات الُعلى لله سبحانه وتعالى ينبغي‬
‫أن تترك أثرا ً في نفوسنا وفي أعمالنا وفي سلوكنا‪ ،‬وأن نشعر أن من كمال‬
‫ف الله سبحانه بها‬‫ص َ‬
‫التعبد لله سبحانه وتعالى لهذه السماء والصفات أن ن ً ِ‬
‫كما يليق بجلله وعظمته سبحانه وتعالى‪ ،‬وأن ننزهه عن مشابهة خلقه‪ ،‬ومع‬
‫ذلك أيضا ً نتعبد الله سبحانه وتعالى بمقتضى هذه السماء والصفات؛ فالذي‬
‫يعرف أنه هو الرازق ذو القوة المتين ل يمكن أن تطمح عينه إلى ما حرم‪ ،‬أو‬
‫أن يخشى من غيره أن يقطع رزقه‪.‬‬
‫هذا ما تيسر أن نقوله بين يدي هذا المر‪ ،‬والمر أوسع وأعظم وأجل من أن‬
‫تحيط به لغة البشر القاصر والعبد المذنب المسيء‪ ،‬لكن هذه محاولة أن‬
‫نتأمل بعض ما يجب علينا تجاه أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته عز وجل ‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫مان‬ ‫عل ْ َ‬
‫ولن ترضى عنك بنو ِ‬
‫سنة ربانية من سنن الله تعالى سنها منذ قام على هذه الرض الحق‬
‫والباطل‪ ،‬الشر والخير‪ ،‬أهل اليمان وأهل الكفر‪ ،‬معسكر الهدى ومعسكر‬
‫الضلل‪ ،‬فل يزال أهل الكفر والنفاق يناوئون أهل اليمان ويكيدون لهم‬
‫ويحاربونهم في دينهم ما بقي على الرض مسلم وما دعا إلى الله داع‪ ،‬بيد‬
‫أن هذه الحرب سجال واليام بين المعسكرين دول فُينال من أهل الحق حينا ً‬
‫وينالون من عدوهم حينا ً آخر ولكن العاقبة للمتقين‪ ،‬والنصر لهل اليمان‬
‫واليقين كما أخبر بذلك رب العالمين‪.‬‬
‫وصور هذا الكيد والمكر تتلون وتتغير حسب قوة أهل الحق وضعفهم‪ ،‬وقلتهم‬
‫وكثرتهم‪ ،‬فتارة تكون الحرب عسكرية حربية وتارة تكون اقتصادية مادية‬
‫وتارة تكون إعلمية وسياسية وغير ذلك من أساليب الحرب القذرة التي‬
‫مَلته‪ ،‬والتاريخ القديم والحديث يشهد‬ ‫ح َ‬ ‫يشنها أعداء الله على أهل السلم و َ‬
‫ن أعداء الله في هذا العصر تفّتقت عقولهم‬ ‫لهذه الصور المتعددة كلها‪ ،‬غير أ ّ‬
‫المتشبعة ببغض هذا الدين وأهله عن حرب جديدة وأساليب ماكرة لمحاربة‬
‫الدين حربا ً تناسب العصر وتواكب العولمة الحديثة تلكم هي محاربة‬
‫"المنهج"‪.‬‬
‫إن أعداء الله ل يقلقهم مناهج عباد القبور ول مناهج الرافضة ول مناهج‬
‫المعتزلة والعصرانية‪ ،‬إن الذي يقض مضاجعهم وينغص عيشهم هو المنهج‬
‫الذي تربى عليه سلف هذه المة من الصحابة ومن جاء بعدهم‪ ،‬منهج الحنيفية‬
‫السمحة الوسطية العدل‪ ،‬ملة إبراهيم حنيفا ً كما جاء بها القرآن والسنة وكما‬
‫فهمها سلف هذه المة‪ .‬لقد مارس أعداء الله كل أساليب الحرب والبادة‬
‫لطفاء هذا الدين وإخماد جذوته من حين بدأ رسول الله صلى الله عليه‬
‫ك أ َْو‬
‫فُروا ل ِي ُث ْب ُِتو َ‬‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬‫ك ال ّ ِ‬‫مك ُُر ب ِ َ‬
‫وسلم دعوته حيث قال الله عنهم‪) :‬وَإ ِذ ْ ي َ ْ‬
‫ن( )النفال‪(30:‬‬ ‫ري َ‬
‫ماك ِ ِ‬ ‫ْ‬
‫خي ُْر ال َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ه َوالل ُ‬ ‫مك ُُر الل ّ ُ‬ ‫مك ُُرو َ‬
‫ن وَي َ ْ‬ ‫جو َ‬
‫ك وَي َ ْ‬ ‫ك أ َوْ ي ُ ْ‬
‫خرِ ُ‬ ‫قت ُُلو َ‬
‫يَ ْ‬
‫فمكرهم ماضي وكيدهم مستمر حتى يردوا المسلمين عن دينهم وعقيدتهم‪.‬‬
‫لقد أدرك أعداء الله أن محاربة المنهج ليست من السهولة بمكان ومن‬
‫الخطأ الستراتيجي – حسب ظنهم – القضاء على المنهج بشكل سريع أو‬

‫‪144‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الدخول المباشر في هذه المواجهة التي ربما أفسدت عليهم خططهم‪ ،‬ولكن‬
‫من يستطيع أن يمارس هذا الدور بشكل فعال‬ ‫هناك من أذنابهم وأعوانهم َ‬
‫وبنتائج باهرة فكان توظيفهم لطابور العلمنة والنفاق في بلد المسلمين لجل‬
‫التشكيك في ثوابت المة ومقومات دينها ولمز أئمتها وعلمائها وبدأ ذلك‬
‫بشكل واضح بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وارتفعت وتيرة هذه‬
‫الحرب بعد دخول قوات الصليب عاصمة الخلفة العباسية بغداد المسلمة‪.‬‬
‫إن التاريخ يشهد أن بني علمان مهما أصاغ المسلمون لهم السمع وحققوا‬
‫بعض مطالبهم بحجة الصلح وجمع الكلمة وغير ذلك من الشعارات الزائفة‬
‫لن يقفوا عند حد ولن يرضوا بذلك حتى يتحقق "ما لقيصر لقيصر وما لله‬
‫لله" وحتى يروا علمانيتهم الكافرة تضرب بأطنابها في بلد المسلمين‬
‫ومجتمعاتهم‪ ،‬وقصة صراع العلمانية مع السلم في مصر خير شاهد على‬
‫ذلك‪ ،‬فكيف يرضى أهل الدعوة وحماة المنهج أن يتحقق للعلمانيين ذلك وقد‬
‫أمرهم ربهم تعالى بأن يكون الدين كله لله؟؟‪.‬‬
‫إن الواجب على المسلمين عموما ً وعلى أهل الدعوة وأصحاب الرأي‬
‫خصوصا ً الوقوف صفا ً واحدا ً وبحزم تجاه هذه الهجمة الشرسة على دين‬
‫المة وثوابتها وأل ّ يتنازل أهل المنهج ولو قيد شعرة عن دينهم وثوابتهم‪ ،‬إن‬
‫حماية هذا "المنهج" مسئولية الجميع كل فيما يخصه ويحسنه أفرادا ً‬
‫ومؤسسات‪ ،‬حكاما ً ومحكومين‪ ،‬مع أهمية أن تكون هذه المقاومة لهذه‬
‫الهجمة ضمن خطط مدروسة وبرامج عمل جادة طويلة المدى وأل ّ تكون‬
‫برامجنا ومواقفنا ردود أفعال مؤقتة قصيرة النفس‪ ،‬محددة العمر ما تلبث أن‬
‫تضعف ثم تتلشى‪.‬‬
‫إن بني علمان مهما كادوا ومكروا فإن كيدهم ضعيف ومكرهم واهٍ إذا‬
‫واجههم أهل الحق بالحجة والبرهان وقاموا بما أوجب الله عليهم من بيان‬
‫الحق وكشف عوار المفسدين والمنافقين وتبيين المنهج الصحيح والدعوة‬
‫إليه‪ ،‬ومع ذلك ربما يبتلون ويؤذون ويتهمون وهذا كله ليس بمستغرب فهي‬
‫سنة أخرى من سنن الله تعالى في ابتلء المؤمنين وتمحيصهم وهي من قدر‬
‫الله الغالب وسننه الماضية‪.‬‬
‫محمد بن فهد الرشيد‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ولنا في حّر الصيف عبرة‬


‫سامي الماجد ‪11/6/1426‬‬
‫‪17/07/2005‬‬
‫ت‪ ،‬تدل بعظمتها على العظيم سبحانه‪،‬‬ ‫مِلئ هذا الكون الفسيح دلئ َ‬
‫ل وآيا ٍ‬ ‫فقد ُ‬
‫ن‬‫ل خلقه وإتقا َ‬ ‫ويكشف ما فيها من عجائب الخلق وبدائعه قدرة َ الخالق وجمي َ‬
‫صنعه )صنع الله الذي أتقن كل شيء(‪ .‬وإتقان صنعه يتجّلى لنا في كل شيء‬
‫في هذا الوجود الفسيح‪ ،‬فل فلتة ول مصادفة ول خلل ول نقص‪ ،‬ول تفاوت ول‬
‫خل ّةٍ واحدة‬
‫نسيان‪ .‬ويتدبر المتدبر آثار صنع الله المعجز‪ ،‬فل يعثر على َ‬
‫متروكة بل تقدير ول إتقان؛ فكل شيء بتدبير وتقدير ُيدهش العقول التي‬
‫تتابعه وتتمله‪.‬‬
‫ويربط القرآن بين القلب ومشاهد الكون؛ لينبه الحس الخامد‪ ،‬والقلب‬
‫قد َُر‬
‫المغلق‪ ،‬إلى بدائع صنع الله المبثوثة حول النسان في كل مكان؛ كي ي َ ْ‬
‫ه في بدائع صنعه‪ ،‬ويشعَر به‬ ‫جلِله‪ ،‬ويشاهد َ عظمت َ ُ‬ ‫جّله حقّ َ‬
‫ه حقّ قدره‪ ،‬وي ُ ِ‬
‫الل َ‬

‫‪145‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ة‬
‫كر ولحظ ِ‬ ‫ل به في كل ساعة تف ّ‬ ‫كلما وقعت عينه على آية من خلقه؛ ويتص َ‬
‫مل‪.‬‬ ‫تأ ّ‬
‫ن للتفكر في ملكوت السموات والرض‪ ،‬وأن‬ ‫ت آي التنزيل تدعو النسا َ‬ ‫وتتابع ْ‬
‫ظ وعين‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ق‬ ‫ي‬ ‫وقلب‬ ‫مرهف‬ ‫س‬
‫ٍ‬ ‫بح‬ ‫رة؛‬ ‫ّ‬ ‫م‬ ‫أول‬ ‫يراها‬ ‫كان‬ ‫لو‬ ‫كما‬ ‫النظر‬ ‫إليها‬ ‫يعيد‬
‫وره أجرامها من‬ ‫مبصرة؛ ليلحظ ما فيها من آيات البداع والتقان‪ ،‬وما تص ّ‬
‫ة له وتوقيرًا‪.‬‬ ‫عظمة الخالق وقدرته وحسن تقديره‪ ،‬فيزداد إيمانا ً به‪ ،‬ومهاب ً‬
‫ويتجدد له هذا الشعور ُتجاه خالقه كلما جدد النظر في أجرام الكون الفسيح‬
‫ب‬ ‫ه قَل ْ ٌ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ل َذِك َْرى ل ِ َ‬ ‫ن ِفي ذ َل ِ َ‬ ‫قظ )إ ِ ّ‬ ‫س متي ّ‬ ‫بقلب شاهد وبصر نافذ وح ّ‬
‫د( ]ق‪ [37:‬لنستمع إلى دعوة القرآن للتفكر في هذا‬ ‫شِهي ٌ‬ ‫معَ وَهُوَ َ‬ ‫س ْ‬ ‫قى ال ّ‬ ‫أ َوْ أ َل ْ َ‬
‫ن‬ ‫ت َوالن ّذ ُُر عَ ْ‬ ‫ما ت ُغِْني اْليا ُ‬ ‫ض وَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ت َواْل َْر‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ماَذا ِفي ال ّ‬ ‫ل ان ْظ ُُروا َ‬ ‫الكون‪) :‬قُ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫ملكو ِ‬ ‫م ي َن ْظُروا ِفي َ‬ ‫ن( ]يونس‪) .[101:‬أوَل ْ‬ ‫مُنو َ‬ ‫قَوْم ٍ ل ي ُؤْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ما ب َي ْ َ‬ ‫م ي ََرْوا إ ِلى َ‬ ‫يٍء‪](...‬العراف‪ :‬من الية ‪) ،[185‬أفَل ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ه ِ‬ ‫خل َقَ الل ُ‬
‫ّ‬ ‫ما َ‬ ‫وَ َ‬
‫ة‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن آي َ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ض‪](...‬سبأ‪ :‬من الية ‪) ،[9‬وَكأي ّ ْ‬ ‫ماِء َوالْر ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫فهُ ْ‬ ‫خل َ‬ ‫ما َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫أي ْ ِ‬
‫َْ‬
‫ن( ]يوسف‪.[105:‬‬ ‫ضو َ‬ ‫معْرِ ُ‬ ‫م عَن َْها ُ‬ ‫ن عَل َي َْها وَهُ ْ‬ ‫مّرو َ‬ ‫ض يَ ُ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ِفي ال ّ‬
‫صلنا التفكر في هذا الملكوت العجيب بالخالق ‪-‬جل جلله‪ -‬فإن التفكرّ‬ ‫وكما ي ِ‬
‫في هذا الملكوت وفي تقلب الليل والنهار واختلفهما‪ ،‬وفي تعاقب فصول‬ ‫ّ‬
‫عه واخضراِره ثم ُيبسه وموته؛‬ ‫ت ثم إينا ِ‬ ‫السنة‪ ،‬وما يتبع ذلك من حياة النبا ِ‬
‫ر‬
‫ض الكب ِ‬ ‫كرنا بها؛ حتى ليتخي ّ ُ‬ ‫صُلنا بعالم الخرة ويذ ّ‬
‫ل لنا مشهد البعث والعر ِ‬ ‫لي ِ‬
‫يوم القيامة‪ ،‬ومشهد ُ الجنة والنار في نظرات التفكر هذه‪.‬‬
‫ض َليا ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ت‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ه ِفي ال ّ‬ ‫خل َقَ الل ّ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ل َوالن َّهارِ وَ َ‬ ‫ف الل ّي ْ ِ‬ ‫خِتل ِ‬ ‫ن ِفي ا ْ‬ ‫)إ ِ ّ‬
‫كر في ذلك باعثا على التقوى لول‬ ‫ً‬ ‫ن(‪] .‬يونس‪ .[6:‬وكيف يكون التف ّ‬ ‫قو َ‬ ‫قوْم ٍ ي َت ّ ُ‬ ‫لِ َ‬
‫ما في اختلف الليل والنهار وبديع خلق السموات والرض من إيماء وتذكير‬
‫بالخرة‪.‬‬
‫ب‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ت ِلوِلي اللَبا ِ‬ ‫ل َوالن َّهارِ ليا ٍ‬ ‫ف اللي ْ ِ‬ ‫خِتل ِ‬ ‫ض َوا ْ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫خل ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫)إ ِ ّ‬
‫ت‬‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ه قَِياما وَقُُعودا وَعَلى ُ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ن ي َذ ْكُرو َ‬ ‫ُ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫خل ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫فكُرو َ‬ ‫م وَي َت َ َ‬ ‫جُنوب ِهِ ْ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ذي َ‬
‫َ‬
‫ب الّناِر( ]آل عمران‪-190:‬‬ ‫ذا َ‬ ‫قَنا عَ َ‬ ‫ك فَ ِ‬ ‫حان َ َ‬
‫سب ْ َ‬ ‫ذا َباط ِل ً ُ‬ ‫ت هَ َ‬ ‫ق َ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ض َرب َّنا َ‬ ‫َوالْر ِ‬
‫ْ‬
‫ر‬
‫كر‪ ،‬تذك ِ‬ ‫كر والتف ّ‬ ‫ة أمام هذا الرتباط العجيب بين التذ ّ‬ ‫‪ .[191‬وتأخذنا الدهش ُ‬
‫النار عند لحظات التفكر في خلق السموات والرض واختلف الليل والنهار‪:‬‬
‫)ربنا ما خلقت هذا باطل ً سبحانك فقنا عذاب النار(‪ ،‬أيّ مناسبة تلك التي‬
‫اقتضت هذا الرتباط العجيب بين المشهدين‪ :‬بين مشهد السموات والرض‬
‫ومشهد ِ عذاب النار؟! ويا لله العجب كيف قادهم هذا التفكر في ملكوت‬
‫السموات والرض إلى تذكر الخرة وما فيها من العذاب الشديد؟!‬
‫ل‪ ،‬وأرق مشهدًا‪ ،‬وأرهف حسًا‪،‬‬ ‫أما إنه لتفكٌر فريد ٌ ‪ ،‬هو أعمق أثرًا‪ ،‬وأطول تأم ً‬
‫فزة لكل مشهد من‬ ‫كر انفرد به نظر أولي اللباب المتح ّ‬ ‫وأوسع تدبرًا‪ ،‬إنه تف ّ‬
‫مشاهد عظمة الله ل كنظر الغافلين‪ ،‬الذين يمرون باليات‪ ،‬وهم عنها‬
‫من ألفه حسه‪ ،‬بتكّرر‬ ‫معرضون‪ ،‬وينظرون إلى بديع هذا الخلق العجيب نظَر َ‬
‫قظ له‪.‬‬ ‫منظره فلم ي َعُد ْ يتي ّ‬
‫إن التفكر في هذا الملكوت وفي تعاقب الليل والنهار وحركة الجرام وتتابع‬
‫فصول العام لهو عبادة تزيد اليمان وتذكر بالخرة‪ ،‬وتمل القلب من تعظيم‬
‫الله ومهابته‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫‪146‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وكل ما في الدنيا فهو مذكر بالخرة ودليل عليها‪ ،‬وها هي دورة ُ حياةِ النبات‬
‫كر بحقيقة الدنيا وتفضح زخرفها‬ ‫تكشف للمرء ِقصر المد في هذه الحياة‪ ،‬وتذ ّ‬
‫خت َل َ َ‬ ‫َ‬
‫ت‬‫ط ب ِهِ ن ََبا ُ‬ ‫ماِء َفا ْ‬ ‫س َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ماٍء أن َْزل َْناه ُ ِ‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا ك َ َ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫مث َ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫الزائل‪) ،‬إن ّ َ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ظ‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫وا‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ر‬ ‫خ‬ ‫ز‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫إ‬ ‫تى‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫عا‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫وا‬ ‫س‬ ‫نا‬ ‫ال‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫اْل َرض م ِما يأ ْ‬
‫ْ ُ ُ ْ ُ َ َ َّ ّ َ ْ َ ّ‬ ‫َ ِ‬ ‫ّ ُ ََ ْ َ َُ َ ّ ِ‬ ‫ْ ِ ِ ّ َ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ْ ْ َ َ‬‫ْ‬ ‫غ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ا‬ ‫صيد‬ ‫ح‬
‫َ َ َ َ َ ِ‬ ‫ها‬ ‫نا‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ج‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫هار‬ ‫ْ ََ‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫ل‬
‫َْ َ َ ْ ُ َ ْ‬ ‫نا‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ها‬ ‫تا‬ ‫أ‬ ‫ها‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫م َ ُِ َ‬
‫ن‬ ‫رو‬ ‫د‬ ‫قا‬ ‫أهْل َُها أن ّهُ ْ‬
‫َ‬
‫دي‬ ‫سلم ِ وَي َهْ ِ‬ ‫عو إ َِلى َدارِ ال ّ‬ ‫ه ي َد ْ ُ‬ ‫ن َوالل ّ ُ‬ ‫فك ُّرو َ‬ ‫قوْم ٍ ي َت َ َ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫ل اْليا ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫ف ّ‬ ‫ك نُ َ‬ ‫س ك َذ َل ِ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ِباْل ْ‬
‫م( ]يونس‪ .[25-24:‬ويحضرنا في هذه اليام‬ ‫قي ٍ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫شاُء إ َِلى ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫صل القلوب‬ ‫ة من آيات التفكر‪...‬مشهد ٌ ي ِ‬ ‫مشهد ٌ آخر من مشاهد العتبار وآي ٌ‬
‫بخالقها‪ ،‬وينفذ بها إلى عالم الخرة؛ حيث كربة الموقف في العرصات‪ ،‬وحيث‬
‫الناُر بسمومها وعذابها‪.‬‬
‫سه اللهبة وظلهّ‬ ‫سمومه اللفح وحّره المؤذي وشم ِ‬ ‫ظ الشديد ب َ‬ ‫إنه هذا القي ُ‬
‫ل نظر‪ ،‬بل هو فصل معتاد‬ ‫اليحموم‪ .‬وليس هو بالحدث الجديد الذي يلفت ك ّ‬
‫ّ‬
‫فناه وعرفنا تفسيَره وتجلت لنا‬ ‫مألوف معروف السبب‪ ،‬ومهما اعتدناه وأل ِ ْ‬
‫أسبابه فذلك ل ُيذهب ما فيه من مشهد العظة والذكرى‪ ،‬فلقد كان القرآن‬
‫كر الخرة عند لحظات التفكر‪ ،‬ويلفت أنظارنا إلى‬ ‫يعطف بصائَرنا إلى تذ ّ‬
‫م‬‫جهَن ّ َ‬ ‫ل َناُر َ‬ ‫حّر قُ ْ‬ ‫فُروا ِفي ال ْ َ‬ ‫مشهد النار إذا ُذكر حّر القيظ‪ ...) ،‬وََقاُلوا ل ت َن ْ ِ‬
‫ن(]التوبة‪ :‬من الية ‪ ,[81‬وفي نار الدنيا ما يذكر بنار‬ ‫قُهو َ‬ ‫ف َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫حّرا ً ل َوْ َ‬ ‫شد ّ َ‬ ‫أَ َ‬
‫َ‬ ‫الخرة )أ َفَرأ َيتم النار ال ّتي تورون أ َأ َنتم أ َن َ ْ‬
‫شُئو َ‬
‫ن‬ ‫من ْ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫جَرت ََها أ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫م َ‬ ‫شأت ُ ْ‬ ‫َ ُْ ُ ّ َ ِ ُ ُ َ ُْ ْ ْ‬
‫ن( ]الواقعة‪ .[73-71:‬وكذلك كان يفعل‬ ‫وي َ‬ ‫ق ِ‬ ‫م ْ‬‫مَتاعا ً ل ِل ْ ُ‬ ‫ها ت َذ ْك َِرة ً وَ َ‬ ‫جعَل َْنا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ح ُ‬ ‫نَ ْ‬
‫ة لتذكر‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪ ،‬كان يجعل من مشاهد الحياة المألوفة صل ً‬
‫عاَلم الخرة‪" ،‬إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلة فإن شدة الحر من فيح جهنم"‪.‬‬
‫سموم جهنم‪،‬‬ ‫وقال صلى الله عليه وسلم‪" :‬أشد ما تجدون من الحر من َ‬
‫وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم"‪.‬‬
‫ب السموم يوم القيامة‪ ،‬وإذا آذانا حر‬ ‫م هذا القيظ عذا َ‬ ‫فلنتذكر إذا لفحنا سمو ُ‬
‫ل حين نفّر من لهيب الشمس إلى الظل‬ ‫م‪ ،‬ولنتمث ّ ْ‬ ‫ْ‬ ‫الهاجرة فلنتذكر حّر جهن َ‬
‫ت الشمس من الخلئق قدر‬ ‫م العرض على الله وقد دن ِ‬ ‫ذلك اليوم العظيم‪...‬يو َ‬
‫ميل‪ ،‬ل يجدون ظل ً إل ظل عرشه جل جلله‪ ،‬ول ُيظل فيه إل من يستحقه‬
‫من صالحي عباده‪ ،‬فإين هي شمس الدنيا من شمس الخرة‪ ،‬وما تبلغ‬
‫سويعات الهاجرة من يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة‪.‬‬
‫إن الستباق إلى الظل في عرصات يوم القيامة ل يتأتى بحث الخطا‬
‫والسراع إليه ركضًا‪ ،‬إنما هو بالستباق بالخيرات والمنافسةِ في الطاعات‪.‬‬
‫وكم ُيشعرنا هذا بمنة الظل الذي يقينا حر الشمس‪ ،‬والقرآن يذكرنا هذه‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫جعَ َ‬ ‫ظلل ً وَ َ‬ ‫خل َقَ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫م ّ‬‫م ِ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫جعَ َ‬ ‫ه َ‬ ‫النعمة في آيتين من آياته‪َ) :‬والل ّ ُ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ال ْجبا َ‬
‫م ك َذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫م ب َأ َ‬ ‫قيك ُ ْ‬ ‫ل تَ ِ‬ ‫سَراِبي َ‬ ‫حّر وَ َ‬ ‫م ال َ‬ ‫قيك ُ ُ‬ ‫ل تَ ِ‬ ‫سَراِبي َ‬ ‫م َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫جعَ َ‬ ‫ل أك َْنانا ً وَ َ‬ ‫ِ َ ِ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ث‬‫ْ‬ ‫ك‬ ‫يت ِم ن ِعمته عَل َيك ُم ل َعل ّك ُم تسل ِمون يعرُفون ن ِعمت الل ّه ث ُم ينكرونها وأ َ‬
‫ُ ُ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ُ ّ ْ َ ُ‬
‫ّ‬
‫مد ّ الظ ّ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫م ت ََر إ ِلى َرب ّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ف َ‬ ‫ك كي ْ َ‬ ‫ن( ]النحل‪ [83- 82:‬وقال جل جلله‪) :‬أل ْ‬ ‫كافُِرو َ‬
‫ل( ]الفرقان‪ .[45:‬ـ وكما‬ ‫س عَل َي ْهِ د َِلي ً‬ ‫م َ‬ ‫ش ْ‬ ‫جعَل َْنا ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫كنا ً ث ُ ّ‬ ‫سا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫جعَل َ ُ‬ ‫شاَء ل َ َ‬ ‫وَل َوْ َ‬
‫و‬
‫ة لدن ّ‬ ‫للقيظ في حره وسمومه آية‪ ،‬فله في سببه آيه‪ ،‬فما القيظ إل نتيج ٌ‬
‫ل‪ ،‬حالتان‬ ‫ل‪ ،‬كما أن زمهرير الشتاء من انصرافها عنا قلي ً‬ ‫الشمس نحونا قلي ً‬
‫متضادتان‪ ،‬سببهما دنوّ يسير أو انصراف يسير‪ ،‬ولو دنت أكثر لحرقت‪ ،‬ولو‬
‫بعدت أكثر لماتت‪.‬‬
‫ة من آيات الله‪ ،‬يخوف الله بها‬ ‫والشمس ـ كما أخبر صلى الله عليه وسلم ـ آي ٌ‬
‫عباده‪ ،‬سخرها لهم لتكون سببا ً لبعض النعم التي يجود بها عليهم‪ ،‬فهي نعمة‬
‫من النعم وآية من اليات الباهرات‪ .‬ولها في حركتها وتنقلها في منازلها شأن‬

‫‪147‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عجيب؛ إذ لها في كل يوم من أيام السنة الشمسية مطِلع‪ ،‬ولها في كل يوم‬


‫ب ثابت في كل سنة ل تحيد عنه الشمس ول تميد‪،‬‬ ‫رب‪ ،‬مطل ِعٌ ومغرِ ٌ‬ ‫منها مغ ِ‬
‫ن( أي‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫مغْرِب َي ْ ِ‬‫ب ال َ‬
‫ن وََر ّ‬ ‫مشرِقي ْ‬
‫قوله ) َِفل أ ُ‬
‫ب ال َ‬ ‫وإلى هذا يشير القران في قوله تعالى‪َ) :‬ر ّ‬
‫ب‬ ‫ر‬
‫ِ ُ َِ ّ‬‫ب‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫ْ‬ ‫ق‬ ‫وفي‬ ‫مشرق الشتاء ومشرق الصيف‪ ،‬ومغربهما‪،‬‬
‫ب(‪ .‬وكلما اختلف مطلعها ومغربها اختلف تبعا ً لذلك طول‬ ‫ق َوال ْ َ‬
‫مَغارِ ِ‬ ‫شارِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫الليل والنهار‪ ،‬فأخذ هذا من ذاك‪ ،‬أو أخذ ذاك من هذا‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ل‪](...‬الحج‪ :‬من الية ‪.[61‬‬ ‫ج الن َّهاَر ِفي الل ّي ْ ِ‬
‫ل ِفي الن َّهارِ وَُيول ِ ُ‬ ‫ج الل ّي ْ َ‬ ‫)‪ُ...‬يول ِ ُ‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ظ وإن كان يؤذي إل أنه نافع تقتضيه ضرورة الحياة لبعض‬ ‫إن هذا القي َ‬
‫ظ لما كان لها ثمر‪ ،‬فل‬ ‫الكائنات‪ ،‬وبه يكتمل نموها ويينعُ ثمُرها‪ ،‬ولو لم يكن قي ٌ‬
‫ت ظاهرة‪ .‬والله سبحانه ل‬ ‫كم بالغة وآيا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫ُينسينا إيذاؤه تذك َّر ما لله فيه من ِ‬
‫در ول يخلق عبثًا‪ ،‬إنما خلق لحكمة وقدر لغاية‪ ،‬وله في كل تحريكة‬ ‫يق ّ‬
‫ً‬
‫ديرا()الفرقان‪ :‬من الية ‪.(2‬‬ ‫ق ِ‬ ‫يٍء فَ َ‬
‫قد َّره ُ ت َ ْ‬ ‫ل َ‬
‫ش ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫خل ق َ ك ّ‬
‫وتسكينة شاهد‪ ...) ،‬وَ َ‬
‫تبارك الله‪...‬‬
‫ّ‬
‫أل وإن التفكر في شدة القيظ وتذكر الخرة به ل يستدعي التعرض للحر ول‬ ‫ّ‬
‫قظ مرهف وقلب شاهد‬ ‫س متي ّ‬ ‫البروَز للشمس‪ ،‬فالمر ل يتطلب سوى ح ّ‬
‫سموم من أجل تذكر‬ ‫ّ‬ ‫لل‬ ‫والتعرض‬ ‫ونظر ثاقب‪ ،‬وأما التعّبد لله بالبروز للشمس‬
‫ة من ضللت الجهال‪ ،‬ومن تعّبد الله بذلك‬ ‫الخرة ووعظ النفس به فذلك بدع ٌ‬
‫فقد أعظم عليه الفرية‪ ،‬وأساء وتعدى وظلم‪.‬‬
‫قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ‪" :‬وأما مجرد بروز النسان للحر والبرد ‪ .‬بل‬
‫منفعة شرعية ‪ ,‬واحتفاؤه وكشف رأسه ‪ ,‬ونحو ذلك مما يظن بعض الناس‬
‫أنه من مجاهدة النفس‪ ,‬فهذا إذا لم يكن فيه منفعة للنسان‪ ,‬وطاعة لله‪ ,‬فل‬
‫خير فيه‪ ,‬بل قد ثبت في الصحيح أن النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬رأى رجل ً‬
‫قائما في الشمس‪ ,‬فقال‪ :‬ما هذا؟ قالوا‪ :‬هذا أبو إسرائيل‪ ,‬نذر أن يقوم في‬
‫الشمس‪ ,‬ول يستظل‪ ,‬ول يتكلم‪ ,‬ويصوم‪ .‬فقال‪ :‬مروه فليجلس‪ ,‬وليستظل‪,‬‬
‫وليتكلم‪ ,‬وليتم صومه" )الفتاوى الكبرى ‪(2/148‬‬
‫ثم كيف يكون ذلك مستحبا ً وقد أمر النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬إذا اشتد ّ‬
‫قة طريقا ً‬ ‫الحّر أن ُنبرد َ بالصلة‪ .‬وعلى هذا فل يجوز للمسلم أن يتعنى المش ّ‬
‫للعبادة وهو يجد طريقا ً إليها أيسر‪ ،‬وإنما المشقة التي ُيؤجر المرء على‬
‫تحملها تلك المشقة الملزمة للعبادة‪ ،‬بحيث ل يتأّتى تحقيقها إل باحتمال تلك‬
‫المشقة‪ ،‬فمثل ً ل يشرع الوضوء بالماء الحميم مع وجود غيره‪ ،‬ول الوضوء‬
‫بالماء البارد في الليلة الشاتية مع وجود الدافئ‪ ،‬وإنما ُيؤجر من توضأ بذلك‬
‫وهو ل يجد غيره‬

‫)‪(3 /‬‬

‫وليس الذكر كالنثى‬


‫ـ قد يعجب كثير من الزواج رجال ً ونساًء عندما يسمعون أن هناك فروًقا‬
‫هامة بين الرجل والمرأة‪ ،‬وأن فهم طبيعة هذه الفروق بين الجنسين من‬
‫شأنه أن يغير حياتهم‪ ،‬ويزيد من قدرتهم على التعايش الزوجي‪ ،‬ويجنبهم‬
‫الكثير من المشكلت والصعوبات‪ ،‬والتي يمكن أن يؤدي عدم فهمها إلى‬
‫تفكك هذه العلقة الزوجية المقدسة‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫جا فيه‬ ‫قد تستطيع المحبة وحدها حفظ الزواج لبعض الوقت‪ ،‬وإن كان زوا ً‬
‫الكثير من الخلفات والمشكلت‪ ،‬وإنما ل بد مع الحب من الفهم العميق‬
‫والصحيح للفروق بين الرجل والمرأة‪ ،‬ومعرفة الطريقة النسب للتعامل مع‬
‫الجنس الخر‪.‬‬
‫ـ وكثير من الناس يقرون ويعرفون نظرًيا أن هناك فروًقا بين الجنسين‪ ،‬إل‬
‫أن طبيعة هذه الفروق قد ل تكون واضحة‪ ،‬إل إذا كانت الفروق جسدية أو‬
‫ربما انفعالية وعاطفية‪.‬‬
‫قا عن الخر‪ ،‬وهذا الفهم‬ ‫ما عمي ً‬
‫ودراسة الفروق بين الجنسين تكون لدينا فه ً‬
‫ضا‪ ،‬وهذا الفهم سيولد نوعية من‬ ‫العميق يولد المحبة والمودة والحترام أي ً‬
‫القتراحات والبدائل لحل كثير من المشكلت على ضوء هذا الفهم‪.‬‬
‫كيف تبدأ المشكلت؟‬
‫ً‬
‫تبدأ المشكلت بداية عندما ينسى الرجل أو تنسى المرأة أن كل منهما‬
‫مختلف عن الخر وأن لكل منهما طبيعة خاصة به جبله الله عليها‪ ،‬فيتوقع من‬
‫الخر فعل ً أو رد فعل معيًنا يتناسب مع طبيعته هو‪ ،‬ثم يكون الفعل غير ما‬
‫توقع لختلف الطبيعة‪ ،‬فالرجل يريد من المرأة أن تطلب ما يود هو الحصول‬
‫ما‪.‬‬
‫عليه‪ ،‬وتتوقع المرأة منه أن يشعر بما تشعر هي به تما ً‬
‫إن كل ً منهما يفترض خطأ‪ ،‬أنه إن كان الخر يحبه فسوق يتصرف بنفس‬
‫الطريقة التي يتصرف فيها هو ما يعبر عن حبه وتقديره‪ ،‬وهذا الفتراض‬
‫الخاطئ سيكون عند صاحبه خيبات المل المتكررة‪ ،‬وسيضع الحواجز الكثيرة‬
‫بين الزوجين‪.‬‬
‫ولذلك كان من الواجب على كل طرف منهما التعرف على معالم الفروق‬
‫بينه وبين الخر لتلفى كثير من المشكلت ولخلق جو من الحوار المثمر‬
‫والفهم المتبادل بين الطرفين يثمر عن حياه هادئة وسعيدة‪.‬‬
‫معالم الفروق بين الذكر والنثى‪:‬‬
‫وهذه المعالم كما ذكرها د‪ /‬مأمون مبيض في كتابه التفاهم بين الزوجين‬
‫نذكرها مختصرة‪.‬‬
‫]‪ [1‬اختلف القيم والنظرة إلى المور‪:‬‬
‫فالرجل يخطئ عندما يبادر إلى تقديم الحلول العملية للمشكلت‪ ،‬ول يرى‬
‫أهمية لشعور المرأة بالنزعاج أو اللم‪ ،‬وهذا ما يزعج المرأة من حيث ل‬
‫يدري‪.‬‬
‫والمرأة تبادر إلى تقديم النصائح والتوجيهات للرجل‪ ،‬وهذا ما يزعجه كثيًرا‬
‫من حيث ل تدري‪.‬‬
‫فالمرأة عندما ينتابها أمر أو تحل عليها مشكلة‪ ،‬تحب أن تتكلم وتحب من‬
‫يستمع إليها فإن ذلك يشعرها بالحب والرعاية‪ ،‬ول تطرح المشكلة للبحث‬
‫صا في بداية الطرح ولكن لتحس أن هناك من يهتم بها‬ ‫عن حل وخصو ً‬
‫ويرعاها ويقدر ما هي فيه من البلء‪.‬‬
‫في حين أن الرجل عندما تنتابه مشكلة فهو يرى أن عليه المسئولية في حلها‬
‫وأن أي نصح للمرأة في هذه الحالة دون طلب ذلك منه فإنه يشعره أنها ترى‬
‫أنه عاجز وأنه غير قادر على حلها وهو بدوره يبحث عن الحل بنفسه أو يسأل‬
‫من يظن أنه خبير ويستطيع الحل‪.‬‬
‫]‪ [2‬اختلف الوسائل في التعامل مع المشاكل‪:‬‬
‫فالرجل عندما يواجه مشكلة ما‪ ،‬فإنه يميل بطبعه إلى النعزال بنفسه‬
‫والتفكير بهدوء في مخرج من هذه المشكلة التي تواجه‪ ،‬بينما تميل المرأة‬
‫إلى الرغبة في الجلوس مع الخرين‪ ،‬والحديث فيما يشغل بالها‪ ،‬والمرأة كلما‬

‫‪149‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫كانت المشكلة كبيرة‪ ،‬شغلت بالها كثيًرا وكانت في حاجة إلى الكلم كثيًرا‬
‫والعكس من ذلك الرجل‪.‬‬
‫]‪ [3‬اختلف المحفزات والدوافع للعمل والعطاء‪:‬‬
‫فالرجل يقوم ويعمل ويعطي ما عنده عندما يشعر أن هناك من يحتاج إليه‪.‬‬
‫بينما تميل المرأة للعمل والتقديم والعطاء عندما تشعر أن هناك من يرعاها‪.‬‬
‫]‪ [4‬القرب من الطرف الخر‪:‬‬
‫فعندما يقترب الرجل من المرأة يشعر بالحاجة الملحة للبتعاد لبعض الوقت‪،‬‬
‫وليعواد للقتراب من جديد‪ ،‬مما يشعره باستقلليته المتجددة‪ ،‬بينما تميل‬
‫المرأة في علقتها ومشاعرها إلى الصعود والهبوط كموح البحر‪ ،‬وفهم هذه‬
‫الفروق يساعد المرأة على التعامل المثل مع الوقات التي يميل فيها الرجل‬
‫لبعض البتعاد‪ ،‬ويعين الرجل على التعامل الفضل مع المرأة عندما تتغير‬
‫فجأة طبيعة مشاعرها‪ ،‬وكيف يقدم لها ما تحتاج في هذه الوقات‪.‬‬
‫]‪ [5‬تقدير أعمال الخر‪:‬‬
‫حيث تقوم المرأة باعتبار تقدير كل العطايا وما يقدمه الرجل بنفس الدرجة‬
‫تقريًبا‪ ،‬فمثل ً إذا اشترى لها مجوهرات بمبلغ كبير فقدره عندها كخاتم صغير‬
‫من الذهب‪ ،‬بينما يميل الرجل إلى التركيز على عمل واحد كبير‪ ،‬أو تضحية‬
‫عظيمة‪ ،‬ويهمل العمال الخرى الصغيرة‪.‬‬
‫ما على حق‪ ،‬مما يشعر المرأة بعدم‬ ‫ما وكأنه دو ً‬
‫وأخيًرا فالرجل يتصرف دائ ً‬
‫صحة مشاعرها وعواطفها‪.‬‬
‫]‪ [6‬اختلف الحاجات العاطفية‪:‬‬
‫فالرجل يحتاج إلى الحب الذي يحمل معه الثقة به وقبوله كما هو‪ ،‬والحب‬
‫الذي يعبر عن تقدير جهوده وما يقدمه‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫بينما تحتاج المرأة إلى الحب الذي يحمل معه رعايتها وأنه يستمع إليها‪ ،‬وأن‬
‫مشاعرها تفهم وتقدر وتحترم‪.‬‬
‫وبالطبع فهذه المعالم ليست كل الفروق بين الرجل والمرأة ولكنها أهمها‪،‬‬
‫وبداية حل أي مشكلة هي تفهم دوافع الطرف الخر ]ما حملك على هذا؟[‬
‫وفهم طبيعة وجبلة الطرف الخر يعين على التفاهم معه‬

‫)‪(2 /‬‬

‫وما زلنا ننطلق من فراغ‬


‫د عبد الله بن إبراهيم الطريقي ‪23/8/1423‬‬
‫‪08/11/2001‬‬
‫ربما تكون أحداث الحادي عشر من سبتمبر من أهم الحداث في عصرنا‬
‫الحاضر وأخطرها ‪ ،‬سواء هي في نفسها أو من خلل تداعياتها وذيولها ‪ .‬حيث‬
‫اختلطت الوراق على كثير من العقلء من مسلمين وغير مسلمين ‪ ،‬وحامت‬
‫الشكوك والظنون حول اليقينيات حتى تشكك الناس في عقولهم ‪ .‬وقد رأينا‬
‫من المواقف والراء المتباينة والمتناقضة من قبل أهل الملة المسلمة مال‬
‫يليق بأمة وسط ‪ ،‬هي خير أمة أخرجت للناس ‪ ،‬لها ثوابتها ولها مصادرها‬
‫المعروفة ‪ .‬أما حين تستقرئ هذه المواقف المتباينة فإن ذاكرتك وتخيلتك‬
‫تذكرك بأهل الكتاب واختلفهم على أنبيائهم ‪ ،‬ثم تعدد كتبهم ومصادرهم ‪ .‬لقد‬

‫‪150‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫رأينا من قومنا من أهل العلم والفكر والرأي من ندد بالحدث واستنكره بغض‬
‫النظر عن ظروفه المكانية ‪ ،‬وفيهم من مّرره وبّرره ‪ ،‬وفيهم من تغاضى‬
‫عنه ‪ ،‬كما رأينا من يبارك هذه الحرب ضد ما يسمى )الرهاب( أيا ً كانت‬
‫الجهة المقصودة ‪ ،‬ومهما يترتب عليها‪ ،‬وبأي وسيلة كانت ‪ ،‬ورأينا في المقابل‬
‫من يستهجنها وينكرها ‪.‬‬
‫كما سمعنا ‪ ،‬ومازلنا نسمع كيل التهامات ومباركة الحكام الصوارم في حق‬
‫كل شخص أو جهة أو مبدأ ينقم عليه الغرب ‪ ،‬وفي غمضة عين انقلبت‬
‫مفاهيمنا السابقة ‪ ،‬فأصبح الجهاد والمقاومة إرهابا ً ‪ ،‬وأصبح المجاهد إرهابيا ‪،‬‬
‫ً‬
‫وكل مجتمع مسلم يعتز بإسلمه فهو محل اتهام‪ ،‬فما مرد ذلك ؟‬
‫أهو بسبب هول الحدث وما نتج عنه من ذهول ‪ ،‬أم بسبب وسائل العلم‬
‫التي تقوم بتهويل الحدث وترويج الشائعات وإلقاء الرعب ‪ ،‬وهي ‪ -‬في غالبها‪-‬‬
‫وسائل إعلم غربي ‪ ،‬تعنى بالمصالح الغربية ليس إل ‪.‬‬
‫أم ترى ذلك بسبب غياب العلم السلمي الرزين الذي يتعامل مع الحدث‬
‫بعقلنية وموازين إسلمية ‪ ،‬ويتصدى للزمات بعزم وحزم ‪.‬‬
‫أم تراه بسبب غياب الرأي العام السلمي الذي يحتوي مرئيات جماهير‬
‫المسلمين ونظراتهم إلى الحداث ‪ ،‬وتنبع – من ثم – القرارات والمواقف‬
‫الثابتة ‪ .‬أم مرد ّ ذلك إلى غياب المرجعية العلمية العليا التي يرجع إليها الناس‬
‫عند كل أمر ذي بال يحتاج إلى حكم شرعي ويقفون عند رأيها ‪.‬‬
‫إنها تساؤلت متسلسلة ‪ ،‬بل قل متداخلة تستحق الوقوف الطويل ‪ ،‬عسى‬
‫أن نصل إلى شيء من الجابات المفيدة ‪.‬‬
‫أما الحدث ذاته فهو مهول ‪ ،‬ولذلك فقد يكون لصدمته رد فعل غير شعوري‬
‫لكل من رآه ممن يعنيه أمره أو ل يعنيه ‪ ،‬كما حصل لعمر بن الخطاب –‬
‫رضي الله عنه – حينما سمع بوفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم –‬
‫حيث استنكر ذلك ونفاه ‪ .‬لكن أبا بكر – رضي الله عنه – كان أكثر صلبة منه‬
‫مع ما هو مطبوع عليه من الرقة ‪ ،‬فتعامل مع المر بواقعية أكثر‪ ،‬وأحل‬
‫السكينة محل الضطراب ‪ ،‬فكانت تلك من أعظم مناقبه ‪.‬‬
‫وهذا هو السلوب المثل تجاه الحداث العظام ‪ ،‬فالتسرع ليس من شيم‬
‫المسلم ‪ ،‬وقد مدح النبي – صلى الله عليه وسلم – أشج عبد القيس‬
‫بخصلتين طبع عليهما الحلم والناه ‪.‬‬
‫أما التساؤل الخر ‪ :‬وهو دور وسائل العلم الغربي في تهويل الحداث فهذا‬
‫أمر مشهود ‪ ،‬وليس فقط مجرد التهويل ‪ ،‬ولكنه الستغلل للحدث ‪ ،‬بحيث‬
‫يكون ) قضية الساعة ( ‪.‬‬
‫ثم يأتي أساطينه – وغالبهم من اليهود – فيوظفون القضية لمصالح الغرب‬
‫بصفة عامة ‪ ،‬ولمصلحة الصهيونية والصليبية بصفة خاصة سواء عن طريق‬
‫الخبر ‪ ،‬أو التحليل ‪ ،‬أو التصوير ‪ ،‬أو الرسم أو التمثيل ‪ ،‬أو الحوار ‪ ..‬إلى غير‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أما إعلم العرب أو المسلمين فإنه يأتي لحقا ومحاكيا ‪ ،‬وربما متسول عن‬
‫طريق وكالت العلم الغربية وفضائياته ‪ .‬حتى ل يكاد يسمع للعرب‬
‫والمسلمين صوت ‪ ،‬أو يقرأ لهم رأي مميز‪.‬‬
‫وكم يكون الناس ‪ -‬في شرق الرض وغربها ‪ -‬محتاجين إلى العلم الرشيد ‪،‬‬
‫الذي يتعامل مع الحداث بعقل وعلم ‪ ،‬بعيدا ً عن الشطح والتطرف ‪ ،‬أو‬
‫النهزامية والتذلل ‪.‬‬
‫وننتقل إلى التساؤل الخاص بالرأي العام فهو ) الرأي العام ( في نظري من‬
‫أهم الموجهات والمؤثرات في صناعة القرارات في كل المجتمعات النسانية‬

‫‪151‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بغض النظر عن هذه القرارات ومواءمتها للحق ؛ وذلك لكونه أثرا ً من آثار‬
‫ثقافة المجتمع وأسلوب تفكيره ‪.‬‬
‫والنظام الغربي ) الديمقراطي ( يعتمد على الرأي العام بشكل ملحوظ في‬
‫كثير من شؤونه السياسية والقتصادية والجتماعية ‪ ،‬وغيرها ‪ ،‬سواء في‬
‫سياسته الداخلية أم الخارجية ‪.‬‬
‫ل القرارات تكتسب صفة التأييد الشعبي ‪ ،‬مهما كانت قناعات‬ ‫ج ّ‬
‫ولذلك فإن ُ‬
‫الشعب ‪ ،‬حقيقية كانت أو مموهة ‪.‬‬
‫أما في السلم الذي يختلف عن النظام الديمقراطي في كثير من الصول‬
‫والمنطلقات ‪ ،‬فإن في المسألة تفصيل ً ‪ .‬فكل قضية أو شأن منصوص عليه‬
‫شرعا ً فليس محل نظر أو استطلع رأي ‪.‬‬
‫" وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا ً أن يكون لهم الخيرة‬
‫من أمرهم " "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا "‪ .‬بل على‬
‫المسلم ‪ ،‬أيا ً كان موقعه ‪ ،‬المتثال والستجابة ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫وإذا كان لهل العلم والرأي مجال – هنا‪ -‬فهو في أسلوب التطبيق ‪ ،‬كما في‬
‫أسلوب جباية الزكاة أو الطواف والسعي والرمي ‪ ،‬وكذا مثل الجهاد ‪ ،‬وتنفيذ‬
‫الحدود ‪ ..‬إلخ ‪.‬‬
‫أما ما كان محل اجتهاد في مسائل الدين فمرّده إلى أهل العلم المجتهدين ‪،‬‬
‫فهم الذين يرجحون ويناقشون أو يحسمون الخلف ‪ .‬وأما شؤون الحياة‬
‫التفصيلية فمرجعها أهل الختصاص والخبرة والتجربة ‪.‬‬
‫ومن التكلف الظاهر إيجاد الحواجز بين الدين وشؤون الحياة ‪ ،‬فيقال ‪ :‬هذا‬
‫أمر ديني مرجعه الشياخ من العلماء ‪ ،‬وهذه دنيا ليس لهم إليها من سبيل‬
‫‪،‬اللهم إل في تنظيم المور الدنيوية البحتة وتنفيذها ‪ ،‬أما تفصيل أحاكمها فهو‬
‫إلى الشياخ وليس إلى العامة ‪ .‬على أن مجالت الحياة واسعة سواء في‬
‫تنظيمها أو تنفيذها ‪ ،‬المر الذي يجعل للرأي مجال ً رحبا ً ‪ ،‬وهو ما يلحظ في‬
‫أسلوب المؤسسات والجهات الحكومية وغير الحكومية ‪ ،‬التي تقدم‬
‫مشروعات ومقترحات من خلل مشاورات ومداولت كثيرة تصل في نهاية‬
‫المطاف إلى تنظيمات أو قرارات ‪.‬‬
‫وربما كان لوسائل العلم زمام المبادرة إلى إبداء الملحوظات ‪ ،‬ثم‬
‫المقترحات في أمور غير محصورة ؛ المر الذي يؤكد أهمية الرأي العام في‬
‫مجتمعاتنا المسلمة ‪.‬‬
‫لكن ) الرأي العام ( ليس مصدر صناعة العلم فقط ‪ ،‬بل ثمة مصادر أخرى‬
‫ل تقل أهمية ‪،‬يأتي في مقدمتها ‪:‬‬
‫أ( المنبر المسجدي ‪ :‬حيث يفترض أن من يعتليه من الخطباء هم على‬
‫مستوى رفيع من العلم والوعي ‪ ،‬بحيث تكون خطبهم مصدر إلهام‬
‫للمستمعين ‪ ،‬تجمع بين العظة والتعقل وُبعد النظر والتعليم والتفقيه ‪ .‬وهذه‬
‫مميزات ل تتوافر بالضرورة في العلم الذي يعتمد الثارة في وسائله في‬
‫أكثر مواده العلمية ‪.‬‬
‫ث أصحابه‬ ‫ومن هنا ينبغي التوكيد على أهمية هذا المصدر )أعني المنبر ( وح ّ‬
‫على الستثمار الجيد ‪ ،‬الذي يزرع في القلوب اليمان والتقوى ‪ ،‬والخشية في‬
‫السر والعلنية ونشر الوعي العام بين الناس ‪ .‬ويكون من الخطأ البّين‬
‫التهوين من شأن هذا المصدر وشأن الخطيب ‪ ،‬وأن وظيفتهما محصورة في‬

‫‪152‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫دائرة ما يسمى )الوعظ( ‪.‬‬


‫إذ بهذا المنهج يعيش الناس في انفصام شديد بين حياة المعاد وحياة المعاش‬
‫‪ ،‬بل في صراع مرير بين قناعاتهم الشرعية أو اليمانية وبين هموم الحياة‬
‫اليومية ‪.‬وغني عن البيان كثرة الشائعات وسرعة انتشارها في الزمات مما‬
‫يولد الذعر واختلف الرأي ‪ ،‬وليس أولى وأجدر في علج هذه المشكلة من‬
‫ن أكثر الناس غيره ‪.‬‬‫المسجد ولو ظ ّ‬
‫ب( مجلس الشورى ‪ ،‬الذي يضم عادة نخبة من المجتمع ‪ ،‬ويكون العضو فيه‬
‫قريبا ً من الناس يسمع آراءهم ويتعرف على آلمهم وآمالهم ‪ ،‬فيعرضها على‬
‫المجلس ‪ ،‬وتسمع الراء والنطباعات فتناقش بحرية وعقل ‪ .‬وهناك مصادر‬
‫أخرى معروفة لدى أهل الختصاص ‪.‬‬
‫ً‬
‫ثم نأتي إلى التساؤل الخير المتعلق بالمرجعية العلمية‪ ،‬منوهين أول بهذه‬
‫المرجعية ‪ ،‬وأن وجودها ضرورة اجتماعية ؛ لكونها صمام المان في كل‬
‫مجتمع ‪ .‬إن العلماء ورثة النبياء ‪ ،‬وهم كالنجوم يقتدى بها في ظلمات البر‬
‫والبحر ‪ ،‬وما ضل قوم يتبعون أثر النبياء ‪ ،‬وورثت ِِهم ‪ .‬أما إذا غاب هؤلء أو‬
‫غيبوا فقد أذنت بلدان المسلمين ومجتمعاتهم بانهيار‪.‬‬
‫وأرجو أل نوغل في دائرة الشؤم ؛ فندعي غياب العلماء بإطلق ‪ ،‬بل لهم‬
‫وجود وحضور في أكثر بقاع الرض ‪ ،‬مع العتراف بوجود الفروق بينهم وبين‬
‫أسلفهم في القرون السلمية الماضية ‪ ،‬سواء من حيث الصفات الشخصية‬
‫أو العلمية ‪ .‬وربما يكون لبلد الحرمين الشريفين نصيب السد منهم ‪.‬‬
‫ن وِفي خضم‬ ‫بيد أن التساؤل الذي ل يزال قائما ً هو ‪ :‬أين هؤلء العلماء ِ‬
‫م ْ‬
‫الحداث والنوازل العالمية ؟ أين صوتهم ؟ وأين آراؤهم وفتاويهم ؟ وأزعم أن‬
‫الصوات موجودة ‪ ،‬وإن كان فيها خفوت ‪ ،‬ولكنها متباعدة معنى ومبنى ‪،‬‬
‫ومتباينة شكل ًً ومضمونا ً حتى اجتمعت النقائض ‪ ،‬واضطربت الراء والفكار‬
‫وتزعزت الثقة في هذه المرجعية ‪ .‬ترى ‪ ،‬ما سر ذلك ؟‬
‫الذي يبدو لي هو ضعف رابطة الرحم العلمية التي تصل بين العلماء ‪ ،‬عن‬
‫طريق الشورى والتعاون على البر والتقوى ‪ ،‬بحيث أصبح لكل عالم منهج‬
‫وأسلوب وقناعة مؤسسة على الفردية أو على ) النا ( ‪.‬‬
‫ولذلك ل يكون غريبا ً أن نسمع التحليل والتحريم ‪ ،‬أو التأييد والستنكار في‬
‫قضية واحدة‪ ،‬وفي آن واحد ‪ ،‬وربما مكان واحد ‪.‬‬
‫إن هذه المرجعية مطالبة – الن ‪ -‬أكثر من أي وقت مضى بأن تدرك‬
‫مسؤولياتها ‪ ،‬وتدرك جسامة الحداث الراهنة وما تحمله من نذر ‪ ،‬ثم تفكر‬
‫مليا ً في هذه الصراعات العالمية من حيث أسبابها وأبعادها ومنطلقاتها ‪،‬‬
‫وأساليبها وعلقة ذلك بأمة السلم ‪ ،‬وملة السلم ‪ ،‬ودار السلم ‪ ،‬ولعل من‬
‫أهم القضايا الفكرية المصاحبة لهذا الصراع ما يأتي ‪:‬‬
‫‪ -‬موقف السلم من الرهاب‪.‬‬
‫‪ -‬الفروق بين الرهاب والجهاد‪.‬‬
‫‪ -‬الولء والبراء في العلقة بالخر ‪.‬‬
‫‪ -‬الخاء السلمي والخاء النساني ‪.‬‬
‫‪ -‬القيم النسانية المشتركة ‪.‬‬
‫‪ -‬عمومية الدعوة السلمية ‪.‬‬
‫‪ -‬مفهوم العزة السلمية‪.‬‬
‫‪ -‬المصطلحات الوافدة وكيفية التعامل معها ‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫‪153‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪ -‬أصول مذهب السلف ومعطياته الحضارية ‪.‬‬


‫‪ -‬الجهاد ‪ ،‬شروطه وغاياته ‪.‬‬
‫‪ -‬المعاهدات والمواثيق الدولية من منظور إسلمي ‪.‬‬
‫إلى غير ذلك من الموضوعات التي أصبحت محل اهتمام العالم كله في هذه‬
‫الظروف العصيبة‪.‬‬
‫وحسم مثل هذه القضايا العلمية والفكرية وفق المنهج السلمي الراشد ل‬
‫يمكن أن يقوم به سوى العلماء ‪ ،‬ولكن ليس بطريقة ُأحادية ‪ ،‬بل جماعية‬
‫شورية تجمع رموز العلماء من كل صقع وعلى صعيد واحد وليكن مكة‬
‫ل‪ -‬تحت ظلل منظمة المؤتمر السلمي أو رابطة العالم‬ ‫المكرمة – مث ً‬
‫السلمي ‪ ،‬أو ما أشبه ذلك ؛ وذلك للخروج بآراء محررة تجمع بين الصلبة‬
‫والمرونة ‪ ،‬أو جلب المصلحة ودرء المفسدة ‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم‬
‫الخيرة ‪... ...‬‬
‫يقول الله ‪ -‬تعالى ‪":-‬وما كان لمؤمن ول مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمرا ً‬
‫ٍ‬
‫أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلل ً‬
‫مبينًا"‪.‬‬
‫هذه الية من آيات البلء والمتحان والتمحيص‪ ،‬تضع المؤمن على المحك‬
‫الحقيقي ليمانه ليتميز الصادق من الدعي‪ ،‬والكّيس من العاجز‪ ...‬يا لها من‬
‫آية عظيمة تكشف حقيقة اليمان عندما يصطدم أمر الشرع مع هوى النفس‬
‫وعندما يكون أمر الله ورسوله في كفة وحظوظ النفس وشهواتها في كفة‪.‬‬
‫كلنا نحب السلم‪ ...‬وكلنا نحب رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ...-‬وكلنا‬
‫نطمع في رضوان الله وجنته‪ ...‬وكلنا يتمنى أن يكون مؤمنا ً صادق اليمان‪.‬‬
‫ولكن هل المسألة بالتمني والدعاء أم بالعمل والخلص‪ ،‬هل نريد اليمان بل‬
‫عمل ونرجوه بل ثمن؟! أل إن سلعة الله غالية أل إن سلعة الله هي الجنة‪.‬‬
‫أخي الكريم‪ :‬إنها أية تستحق منا التوقف عندها وتأمل كلماتها واستيعاب‬
‫مدلولتها ثم مقارنتها بالواقع الذي نحياه والنهج الذي نعيشه‪ .‬إن هذه الية‬
‫تحمل معنى السلم أل وهو الستسلم لله والنقياد له والخضوع له بالطاعة‪.‬‬
‫فهو استسلم وانقياد وخضوع ول مجال فيه للختيار بين قبول ورفض ول بين‬
‫أخذ ورد‪ .‬إذا جاء أمر الله ورسوله في مسألة من المسائل فليس غير السمع‬
‫والطاعة‪ .‬ل اعتبار وقتها لهوى النفس ول لعادات المجتمع ول لي اعتبار آخر‪،‬‬
‫هذا هو معنى الستسلم لله والنقياد له أما إذا تخيرنا من شرع الله ما يوافق‬
‫أهواءنا ورغباتنا وعاداتنا وجئنا به على أنه دين خالص لله وفي نفس الوقت‬
‫تركنا ما يخالف أهواءنا وعاداتنا وتقاليدنا بحجج واهية وأعذار ملفقة فذلك هي‬
‫الخيرة التي لم يرتضيها لنا ربنا ‪ -‬سبحانه و تعالى ‪ -‬بنص الية الكريمة‪.‬‬
‫إن رسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬المبلغ عن ربه ‪ -‬تبارك و تعالى ‪ -‬كما‬
‫أمرنا بالصلة والصيام والزكاة أمرنا بغض البصر وحفظ الفرج وصلة‬
‫الجماعة وطاعة الوالدين وصلة الرحام وإرخاء اللحى وحجاب النساء ونهانا‬
‫عن الغيبة والنميمة وأكل الربا والسبال وأذى الجار وسماع الغناء وغيرها من‬
‫الوامر والنواهي مما ل يخفى على مسلم ول مسلمة‪.‬‬
‫فليقف أخي الكريم كل منا مع نفسه وقفة محاسبة في ساعة صدق مع‬
‫النفس وليسأل نفسه‪ :‬هل أنا ممن يأخذ من دين الله ما يوافق هواه ويترك‬

‫‪154‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ماعدا ذلك؟ فمن وجد خيرا ً فليحمد الله وليسأله الثبات ومن وجد غير ذلك‬
‫فليثب إلى رشده وليقصر نفسه على الحق قسرًا‪ .‬فالمر جد ل هزل فيه‬
‫وحق ل مراء فيه‪ .‬والموعد‪ :‬يوم ل ينفع مال ول بنون إل من أتى الله بقلب‬
‫سليم‪ ،‬والموعود‪ :‬جنة نعيم أو عذاب مقيم‪ .‬اللهم إنا نسألك عمل ً صالحا ً ونية‬
‫صادقة وقلبا ً خاشعا ً ولسانا ً ذاكرا ً وعلما ً نافعًا‪ ،‬اللهم إنا نسألك الخلص في‬
‫القول والعمل وحسن القصد والتوكل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله‬
‫وصحبه أجمعين‪... ... .‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫وما نيل المطالب بالتمني‪ .....‬بل أول النيل التمني‬


‫مفكرة السلم ‪:‬على العكس المتبادر للذهان يأتي حديثنا اليوم‪ ،‬فهذا البيت‬
‫المشهور من الشعر يتداوله الناصحون والموجهون الذي يطالبوننا بأننا ل بد‬
‫وأن نبذل الكثير لنحصل على ما نريد‪ ،‬وأن هذه المعادلة تنطبق على الخرة‬
‫كما هي تنطبق على الدنيا‪ ،‬فلئن كان أهل الدنيا يتمايزون فيما بينهم بدرجة‬
‫المغالبة التي يبذلونها كي يصلوا إلى مرادهم؛ فإن طريق الخرة يلزمها جهد‬
‫وبذل وكد مضاعف؛ ليحصل السائر فيها على نصيبه ومكانته‪.‬‬
‫ولسنا هنا ننقد هذه القاعدة‪ ،‬أو نريد أن نقرر أن حصول المرء على مراده‬
‫يتوقف على الماني‪ ،‬فل بد أن من وقف على عتبة الماني ظاّنا أنها كافية‬
‫لتحقيق مراده؛ سيكتشف عما قريب أنما هو في الحقيقة واهم كبير‪.‬‬
‫ولكننا هنا لنقول‪ :‬إن كان الطريق ل يتحصل عليه بالماني فقط إل أن هذا ل‬
‫ينفي أن أول نيل ما تطلبه إنما يكون عن طريق الماني ل غيرها‪ ،‬وأن الله‬
‫دا؛ فيعطي كل امرئ ما تمناه وأراده‪.‬‬ ‫تبارك وتعالى عادل ل يظلم أح ً‬
‫ودعنا نتأمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ]] :‬كتب على ابن آدم‬
‫نصيبه من الزنا مدرك ذلك ل محالة؛ فالعينان زناهما النظر‪ ,‬والذنان زناهما‬
‫رجل زناها الخطا‪،‬‬ ‫الستماع‪ ,‬واللسان زناه الكلم‪ ,‬واليد زناها البطش‪ ,‬وال ِ‬
‫والقلب يهوى ويتمنى‪ ،‬ويصدق ذلك الفرج ويكذبه [[‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫فلئن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم حديثه بالركان المفتتحة لفعل‬
‫الزنى؛ فقد ختم ببيان صاحب المسؤولية العظمى‪ ،‬وحامى حمى ديار اليمان‬
‫في الجسد النساني أل وهو القلب‪ ،‬وحصر المسألة كلها أو المأساة في‬
‫إرتكاب هذه الكبيرة بين عضوين؛ عضو التمني وعضو الفعل‪ ،‬فقال صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ ]] :‬والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه [[‪ ،‬فهو‬
‫التمني أوًل ثم الفعل والتصديق أو التكذيب‪ ،‬وهو المتوقف حقيقة على حجم‬
‫التمني‪ ،‬فكلما عل قدره وصدق عزمه؛ نال من تصديق عضو الفعل القدر‬
‫العلى وهكذا‪.‬‬
‫ولئن كان هذا هو المشهد في المعصية؛ فأزيدك ملحظة –ل بد أن لها صدى‬
‫داخل نفسك‪ -‬وهي أن الذنوب التي يستمر عليها أصحابها كلها ل بد لها من‬
‫تعلق ما بالقلب‪ ،‬وتلذذ وتمني من جهة أدق‪ ،‬حتى مع أن الشخص قد يصيبه‬
‫الندم الشديد بعد ارتكاب المعصية المتكررة‪ ،‬إل أن هناك جزًءا يتفنن في‬
‫إخفائه‪ ،‬أل وهو التلذذ بالفعل ذاته‪ ،‬وما دام هذا باقًيا؛ فل بد أنه سيقع في‬
‫الفعل ثانية وإن امتنع عنه دهًرا من الزمان‪ ،‬فإن تذكره المرة تلو المرة بتلذذ‬
‫يولد المنيات في داخل النسان هذه المنيات‪ ،‬التي تصنع دوافع الكائن‬
‫البشري؛ فتقوده في أي الطريقين شاء‪ ،‬وما ذاك إل لنه اختار نوعية المنيات‬
‫التي تشغل كيانه‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وتلمح معي في بدايات كل السائرين سواء في طريق الدنيا أو الخرة ترى‬


‫كل منهم صاحب حلم جميل‪ ،‬ابتدره وهو ما زال بعد في نعومة أظفاره‪ ،‬هذا‬
‫الحلم وهذه المنية ما تلبث أن تواجه بأعاصير الحياة؛ فيتمسك بها المؤمنون‬
‫بأحلمهم‪ ،‬ويرسل الخرون من بين أيديهم؛ فيسمحون لها بالتسرب‪،‬‬
‫ويفقدونها وهم ل يعلمون أنهم إنما يفقدون حياتهم عندما يفقدون أمنياتهم‬
‫وأحلمهم‪.‬‬
‫وها هو عمر بن عبد العزيز يضرب المثل في ذلك فيقول‪ ] :‬إن لي نفسا ً‬
‫تواقة لم تزل تتوق إلى المارة‪ ،‬فلما نلتها تاقت للخلفة‪ ،‬فلما نلتها تاقت إلى‬
‫الجنة [‪.‬‬
‫وها هو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يربي أمته على تعظيم‬
‫الماني‪ ،‬ولكنه يقرنها في الوقت ذاته بالعمل المطلوب‪ ،‬فيقول صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ ]] :‬إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله‬
‫ما بين الدرجتين كما بين السماء والرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس‬
‫فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة أراه فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار‬
‫الجنة [[‪ .‬رواه البخاري‪.‬‬
‫ويقول عليه الصلة والسلم ]] إن الله يحب معالي المور وأشرافها ويكره‬
‫سفاسفها [[‪ .‬صححه اللباني في صحيح الجامع‪.‬‬
‫وعلى النقيض من ذلك يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من التدني في‬
‫الماني والحلم‪ ،‬والستسلم للعجز والكسل‪ ،‬ففي الحديث عنه قال عليه‬
‫الصلة والسلم‪ ]] :‬اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل‪ ،‬والجبن والهرم‪،‬‬
‫وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات‪ ،‬وأعوذ بك من عذاب القبر [[‪ .‬رواه‬
‫البخاري‪.‬‬
‫إنها دعوة للتمسك بالمنيات والحلم بعد دراستها دراسة واعية‪ ،‬فما قيمة‬
‫المرء بغير أمنياته وتطلعاته‪ ،‬فما فقد النسان قيمته حتى فقد أحلمه‪،‬‬
‫كا له الفرصة كي يعيد صياغة نفسه وفق‬ ‫واستسلم وسلمها لواقعه‪ ،‬تار ً‬
‫الظروف والحوال‪ ،‬وهذه آفة شباب المة‪ ،‬تركوا أحلمهم بأيدي غيرهم‬
‫يصوغونها ويرسمونها‪ ،‬فأصاب القلب من ذلك هم كبير‪:‬‬
‫شكوت ‪ ...‬وما الشكوى لمثلي عادة ولكن تفيض الكأس عند امتلئها‬

‫)‪(1 /‬‬

‫امسك بحلمك وأمنيتك‪ ،‬فهي أول الطريق إلى تحصيل مرادك‪ ،‬ثم أتبعها بعد‬
‫ذلك بالجد والجتهاد والبذل والسعي؛ تكتمل لك منظومة تحقيق مرادك بإذن‬
‫الله‪ ،‬واحرص على أن يوافق حلمك وأمنيتك مراد الله ول يخالفه؛ تنل ما‬
‫تريد‪ ،‬ول تنس أن أول النيل التمني‪.‬‬
‫ما‪:‬‬
‫وختا ً‬
‫إذا غامرت في أمر مروم *** فل تقنع بما دون النجوم‬
‫فطعم الموت في امر حقير *** كطعم الموت في أمر عظيم‬
‫وإلى لقاء قريب بإذن الله لكم مني خير تحية وأطيب سلم‬
‫والسلم عليكم ورحمة الله وبركاته‬

‫)‪(2 /‬‬

‫‪156‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وما يمكرون إل بأنفسهم وما يشعرون ‪... ... ...‬‬


‫قال ‪ -‬تعالى ‪)) :-‬وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما‬
‫يمكرون إل بأنفسهم وما يشعرون(( ]النعام‪.[123/‬‬
‫طرد في تاريخ المم وسير الدعوات‪ .‬قال الشيخ‬ ‫هذه الية تحكي عن أمر م ّ‬
‫محمد رشيد رضا‪" :‬إن سنة الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬في الجتماع البشري‪ ،‬قد مضت‬
‫بأن يكون في كل عاصمة لشعب‪ ،‬أو أمة‪ ،‬أو كل قرية‪ ،‬أو بلدة بعث فيها‬
‫رسول‪ ،‬أو بلدة مطلقًا؛ رؤساء وزعماء يمكرون فيها بالرسل في عهدهم‬
‫وبسائر المصلحين من بعدهم" ]تفسير المنار للشيخ رشيد رضا ‪.[8/132‬‬
‫إذن‪ ،‬ففهم هذه الية القرآنية‪ ،‬بل فهم هذه السنة اللهية‪ ،‬مهم في إدراك‬
‫طبيعة سير المور في التاريخ النساني‪ ،‬فيما مضى‪ ،‬وفيما بقي‪ .‬فما من‬
‫دعوة إصلح‪ ،‬إل وتصدى المجرمون الكابر لحربها وتصدروا لمقاومتها‪،‬‬
‫ولكنهم في النهاية ‪ -‬ومن حيث ل يشعرون ‪ -‬يسهمون إسهاما ً مباشرا ً‬
‫وأساسيا ً في إنعاشها وإحيائها بل‪ ،‬وفي تقويتها وإكسابها الصلبة والصلدة‪...‬‬
‫كيف‪...‬؟!‬
‫تأمل هذه الية‪ ،‬واستعرض تاريخ الرسالت والدعوات‪ ،‬تجد أن أكابر‬
‫المجرمين يتسببون‪ ،‬فيما يبذلون من الضغوط والملحقة والمطاردة لنبتات‬
‫اليمان المستضعفة‪ ،‬يتسببون في تقوية عودها‪ ،‬وإثراء روافدها‪ ،‬وتكثير‬
‫المتعاطفين معها‪ ،‬ثم في غربلة عناصرها وتنقية صفوفها من الشوائب‪.‬‬
‫وقد يعجب المرء من نسبة كل هذه اليجابيات التي تلحق بالدعوات إلى‬
‫أفاعيل أعدائهم‪ ،‬ولكن هذا العجب يزول‪ ،‬عندما نعلم أن هؤلء المجرمين‬
‫يمثلون أداة البتلء التي ُتطهر بها الصفوف‪ ،‬وتصهر فيها المعادن‪ .‬قال ‪-‬‬
‫تعالى ‪)) :-‬ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه‪ ،‬حتى يميز الخبيث‬
‫من الطيب‪ ،‬وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله‬
‫من يشاء‪ ،‬فآمنوا بالله ورسله(( ]آل عمران‪.[179/‬‬
‫فدعوة الرسل ‪ -‬على مر التاريخ ‪ -‬تبتلى بالمجرمين‪ ،‬ثم تكون العاقبة‬
‫للمتقين‪ .‬قال ابن كثير في تفسير قوله ‪ -‬تعالى ‪)) :-‬وكذلك جعلنا في كل‬
‫قرية أكابر مجرميها‪" :((...‬وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين‬
‫والرؤساء ودعاة الكفر والصد عن سبيل الله‪ ،‬وإلى مخالفتك وعداوتك‪ ،‬كذلك‬
‫كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك ثم تكون لهم العاقبة" ]تفسير ابن كثير‬
‫‪.[2/164‬‬
‫‪ -‬لقد مكر المجرمون الكابر بأول الرسل نوح ‪ -‬عليه السلم ‪)) :-‬ومكروا‬
‫مكرا ً كبارًا‪ ،‬وقالوا ل تذرن آلهتكم‪] ((...‬نوح‪ [22/‬ولكن مكرهم حاق بهم‪.‬‬
‫مكر بنبي الله صالح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬فكانت العاقبة له‪)) :‬ومكروا مكرا ً‬ ‫‪-‬و ُ‬
‫ومكرنا مكرا وهم ل يشعرون‪ ،‬فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم‬ ‫ً‬
‫وقومهم أجمعين(( ]النمل‪.[51 ،50/‬‬
‫مكر بموسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬أشد المكر‪ ،‬ولكن كان المر كما قال ‪ -‬تعالى‬ ‫‪-‬و ُ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪)) :-‬فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا(( ]القصص‪ ،[8/‬ومكر بأتباعه‬
‫والداعين إلى دعوته ))فوقاه الله سيئات ما مكروا(( ]غافر‪.[45/‬‬
‫مكر بعيسى ‪ -‬عليه السلم ‪)) :-‬ومكروا ومكر الله والله خير المكرين‪ .‬إذ‬ ‫‪-‬و ُ‬
‫قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا(( ]آل‬
‫عمران‪.[55 ،54/‬‬
‫وسيرة هذا الرسول العظيم ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬خير شاهد على ما‬
‫دلت عليه الية التي نتحدث عنها‪ .‬ففي قريته ‪ -‬مكة ‪ -‬انبعث أكابرها‬
‫المجرمون يمكرون‪ ،‬حتى اضطروا المستضعفين إلى الهجرة إلى الحبشة‪ ،‬ثم‬

‫‪157‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الهجرة إلى المدينة‪ .‬تلك الهجرة التي انعكس بها السحر على الساحر‪ ،‬فإن‬
‫هؤلء المهجرين الممكور بهم‪ ،‬هم الذين دقوا أعناق أكابر المجرمين في بدر‬
‫بعد أعوام قليلة‪ ،‬وهم الذين فتحوا القرية ))مكة(( بعد ذلك‪ ،‬وأذلوا كبرياء‬
‫المجرمين الكابر فيها ولهذا‪ ،‬فإن ثمة سؤال‪ ،‬ينبغي أن يعاد طرحه‪ ،‬وُتعاد‬
‫الجابة عليه في ضوء ما حدث في دعوات المرسلين ومكر المجرمين بها‪.‬‬
‫هذا السؤال هو‪)) :‬ما هو دور المجرمين في انتصار الدعوات التي‬
‫يحاربون((؟‪.‬‬
‫ً‬
‫وهو سؤال ربما يبدو غريبا‪ ...‬ولكنها الحقيقة التي نطق بها القرآن لو تأملنا‪،‬‬
‫فالله ‪ -‬تعالى ‪ -‬يقول‪)) :‬وما يمكرون إل بأنفسهم وما يشعرون((‪ .‬وقال‪:‬‬
‫))وما يحيق المكر السيئ إل بأهله(( ]فاطر‪ .[43/‬وقال‪] :‬وقد مكروا مكرهم‬
‫وعند الله مكرهم(( ]إبراهيم‪ .[46/‬وقال‪)) :‬سيصيب الذين أجرموا صغار عند‬
‫الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون(( ]النعام‪ ،[124/‬فالمكر يعود على أهل‬
‫الكفر ويحيق بهم في الدنيا والخرة‪ ،‬أما في الخرة فظاهر‪ ،‬وأما في الدنيا‬
‫فعلينا أن نستعرض نتائج مكر الكفار برسلهم‪ ،‬ونتائج مكر الكفار من أهل‬
‫الكتاب والمشركين برسولنا ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬خلل سنوات بعثته‬
‫سبق بمكر من المجرمين كبير‪.‬‬ ‫وحتى لقي ربه‪ ،‬وسوف نجد أن كل انتصار ُ‬

‫)‪(1 /‬‬

‫فالخسران كله في الدنيا والخرة لحق ويلحق بأكابر المجرمين‪ .‬ومن عجيب‬
‫نظم القرآن الكريم‪ ،‬أنه قصر ضرر مكرهم عليهم ))وما يمكرون إل‬
‫بأنفسهم(( وهذه الية ‪ -‬كما كانت تسلية لرسول الله ‪ -‬صلى الله عليه وسلم‬
‫‪ ، -‬لكي يستصحب معناها أثناء تصديه لمهمة إبلغ الدين والجهاد في سبيله‪،‬‬
‫وينبغي أن تكون كذلك سلوى لكل داعية إلى هذا الدين في كل عصر‪ .‬فليعلم‬
‫الدعاة أن أساليب المكر والدهاء والحيل التي يلجأ إليها المجرمون في‬
‫مطاردة المصلحين والتضييق عليهم وتنفير الناس عن دعوتهم‪ ،‬ستعود ‪ -‬بإذن‬
‫الله ‪ -‬أثرا ً إيجابيا ً على الدعوة وعلى الدعاة‪ .‬فليطمئن الدعاة على دين الله‪،‬‬
‫ماداموا هم أمناء عليه في أنفسهم وأهليهم‪ .‬قال ‪ -‬تعالى ‪ -‬لرسوله ‪ -‬صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪)) :-‬واصبر وما صبرك إل بالله‪ ،‬ول تحزن عليهم ول تك في‬
‫ضيق مما يمكرون‪ .‬إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون(( ]النحل‪/‬‬
‫‪... ... .[128 ،127‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ومتى فقناهم عددا أو عدة؟‬


‫بقلم‪ :‬محمد حسن يوسف‬
‫يعتري الكثير من الناس حالة من الحباط واليأس من جراء ما يحدث‬
‫للمسلمين في كل مكان من العالم الن‪ ،‬حيث ينطبق عليهم قول الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ثوبان‪ ،‬أنه قال‪ :‬يوشك المم أن تداعى‬
‫عليكم كما تداعى الكلة إلى قصعتها‪ .‬فقال قائل‪ :‬ومن قلة نحن يومئذ؟ قال‪:‬‬
‫بل أنتم يومئذ كثير‪ ،‬ولكنكم غثاء كغثاء السيل! ولينزعن الله من صدور‬
‫عدوكم المهابة منكم‪ ،‬وليقذفن في قلوبكم الوهن‪ .‬فقال قائل‪ :‬يا رسول الله!‬
‫وما الوهن؟ قال‪ :‬حب الدنيا وكراهية الموت ]‪.[1‬‬
‫ويتساءلون‪ :‬هل بعد كل هذه النكبات من وثبة أخرى للمارد؟! هل يستطيع‬

‫‪158‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫منيت بهم وتوالت عليهم‪ ،‬حتى‬ ‫المسلمون الخروج من قمقم الهزائم التي ُ‬
‫أصبحت صفة ملزمة لهم؟! ومتى سيكون ذلك؟! أم أن على المسلمين‬
‫الستسلم لتلك الضربات المتوالية التي تلحق بهم‪ ،‬وفي كل مكان من‬
‫العالم‪ ،‬لكي تستأصل شأفتهم وتزيل دولهم‪ ،‬ومن ثم وجودهم من على‬
‫خريطة العالم؟!!‬
‫وفي الواقع فإن المتبصر بأمر الدين ل يعتريه مثل هذا الشعور المحبط‪ ،‬بل‬
‫على العكس تجده واثقا في قدرة الله‪ .‬فكل ما يحدث للمسلم هو خير له‪.‬‬
‫وحسبك تلك النازلة العظيمة التي حدثت ببيت النبي صلى الله عليه وسلم ‪،‬‬
‫وما قيل في عرضه‪ ،‬وما ُاتهمت به أعز زوجاته إليه وأحبهن إلى قلبه من‬
‫حادثة الفك‪ .‬فإذا بالوحي يتنزل قائل بأن كل ذلك إنما هو في حد ذاته خير‬
‫خي ٌْر‬
‫ل هُوَ َ‬ ‫شّرا ل َك ُ ْ‬
‫م بَ ْ‬ ‫سُبوه ُ َ‬
‫ح َ‬
‫للمسلمين وليس شرا‪ ،‬حيث قال تعالى‪ ? :‬ل ت َ ْ‬
‫م ? [ النور‪. ] 11 :‬‬‫ل َك ُ ْ‬
‫إذن ما يحدث للمسلمين في جميع أنحاء العالم من حولنا إنما هو في حقيقة‬
‫در رباني يجري وفقا لسنن الله الكونية التي يستحيل تغييرها إل إذا‬ ‫المر قَ َ‬
‫تغير مضمونها‪ .‬فإذا أردنا الخروج من الزمة التي ألمت بنا حاليا‪ ،‬فعلينا العمل‬
‫من أجل تغيير الواقع من حولنا حتى نسمح لسنن الله التي تساند المسلمين‬
‫من العمل مرة أخرى‪ .‬ونوضح هذا المر فيما يلي‪:‬‬
‫مفاهيم ينبغي ترسيخها في النفس‬
‫هل يريد المسلمون حقا تحقيق النصر؟!! هذا سؤال هام لبد لكل منا أن‬
‫يسأله لنفسه ويحدد إجابته عليه‪ .‬إن نصر الله يتنزل وفقا لسنن ربانية لبد‬
‫من تحققها‪ .‬وحين يريد المسلمون أن يتحقق ذلك النصر في أرض الواقع‬
‫فلبد من عدة أمور تستقر في عقيدتهم تكون محركا ودافعا لهم على‬
‫النطلق‪ ،‬حتى يستفيدوا من " معية الله " في المعركة إلى جانبهم‪:‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫? التخلي عن المعاصي واللجوء إلى الله‪ :‬فلن يتم النصر إل بذلك‪ ،‬فاليمان‬
‫أقوى سلح لتحقيق النصر‪ .‬ولنستعرض في ذلك ما كتبه عمر بن الخطاب‬
‫رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ومن معه من الجناد‬
‫حينما أرسله في أحد فتوح العراق‪ :‬أما بعد‪ ،‬فإني آمرك ومن معك من الجناد‬
‫بتقوى الله على كل حال‪ ،‬فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو‪ ،‬وأقوى‬
‫المكيدة في الحرب‪ .‬وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي‬
‫صُر‬
‫منكم من عدوكم‪ ،‬فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم‪ .‬وإنما ُين َ‬
‫المسلمون بمعصية عدوهم لله‪ ،‬ولول ذلك لم تكن لنا بهم قوة‪ ،‬لن عددنا‬
‫ليس كعددهم‪ ،‬ول عدتنا كعدتهم‪ .‬فإذا استوينا في المعصية‪ ،‬كان لهم الفضل‬
‫صْر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا‪ .‬واعلموا أن عليكم‬ ‫علينا في القوة‪ ،‬وإل ن ُن ْ َ‬
‫حيوا منهم‪ ،‬ول تعملوا‬ ‫ة من الله يعلمون ما تفعلون‪ ،‬فاست َ ْ‬ ‫فظ َ ً‬
‫ح َ‬
‫في مسيركم َ‬
‫ّ‬
‫بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله‪ ،‬ول تقولوا إن عدّونا شٌر منا فلن ُيسلط‬
‫سّلط على بني‬ ‫سّلط عليهم شٌر منهم‪ ،‬كما ُ‬ ‫ب قوم ُ‬ ‫علينا وإن أسأنا‪ ،‬فُر ّ‬
‫ل الد َّياِر‬ ‫َ‬
‫خل َ‬‫سوا ِ‬ ‫فاُر المجوس ? فَ َ‬
‫جا ُ‬ ‫ُ‬
‫إسرائيل – لما عملوا بمساخط الله – ك ّ‬
‫ن على أنفسكم كما‬ ‫فُعول ً ? [ السراء‪ . ] 5 :‬واسألوا الله العو َ‬ ‫م ْ‬
‫دا َ‬
‫ن وَعْ ً‬ ‫وَ َ‬
‫كا َ‬
‫تسألونه النصر على عدّوكم‪ .‬اسأل الله ذلك لنا ولكم ]‪ .[2‬وانظر إلى هذا‬
‫صُر المسلمون بمعصية عدوهم لله‪ ،‬ولول ذلك لم تكن‬ ‫القول الملهم‪ :‬وإنما ُين َ‬
‫لنا بهم قوة‪ ،‬لن عددنا ليس كعددهم‪ ،‬ول عدتنا كعدتهم‪ .‬فهنا يتجلى سر نصر‬

‫‪159‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المؤمنين في معاركهم‪ .‬فمتى تحقق هذا الشرط‪ ،‬جاء النصر بإذن الله ول‬
‫ريب‪ .‬وإل فقل لي بربك كيف ينصر الله قوما يخذلون نبيهم صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬ويكرهون تطبيق سنته المطهرة‪ ،‬ول يجدون في وقتهم متسعا لقراءة‬
‫القرآن‪ ،‬ويبارزون الله بالمعاصي جهارا نهارا؟!! فالنصر لن يتحقق إل بعد‬
‫التمحيص‪ ،‬أي تنقية المسلمين وإفراز القلة المتمسكة بدين الله‪ .‬قال‬
‫ن ? [ آل عمران‪. ] 141 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫حقَ ال ْ َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫م َ‬
‫مُنوا وَي َ ْ‬
‫نآ َ‬‫ذي َ‬‫ه ال ّ ِ‬ ‫ص الل ّ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫م ّ‬
‫تعالى‪ ? :‬وَل ِي ُ َ‬
‫قال القرطبي في تفسيره‪ :‬فيه ثلثة أقوال‪ :‬يمحص‪ :‬يختبر‪ .‬الثاني‪ :‬يطهر; أي‬
‫من ذنوبهم ‪ ...‬والمعنى‪ :‬وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا ‪ ...‬الثالث‪ :‬يمحص‪:‬‬
‫يخلص ‪ ...‬فالمعنى ليبتلي المؤمنين ليثيبهم ويخلصهم من ذنوبهم‪ " .‬ويمحق‬
‫الكافرين "‪ :‬أي يستأصلهم بالهلك‪ .‬أ‪ .‬هـ‪ .‬فلبد للمة من القلع عن الذنوب‬
‫التي يرتكبها أفرادها ليل نهار‪ ،‬سرا وجهرا‪ .‬والمثلة كثيرة‪ :‬القلع عن‬
‫التدخين‪ ،‬التخلي عن الكذب‪ ،‬عدم النميمة والغيبة‪ ،‬ترك النفاق ‪ ...‬الخ‪ .‬فقد‬
‫أصبحت تلك المعاصي متفشية كالسرطان الخبيث في جسد المة‪ .‬ولبد أن‬
‫تتيقن أنك أنت ‪ -‬بذنبك الذي تصر عليه – من يؤخر النصر عن المة‪ .‬فابدأ‬
‫بنفسك وأعلنها توبة شاملة لله لعل نصر الله يتنزل على المة بسببك‪.‬‬
‫? جهاد النفس في مرضاة الله‪ :‬ذلك أن نصر يتحقق بعد العمل بتشريعه‬
‫والكف عن مناهيه‪ ،‬قبل أن يتحقق الجهاد في ميدان القتال‪ .‬قال تعالى‪? :‬‬
‫سب ُل ََنا ? [ العنكبوت‪ .] 69 :‬قال القرطبي في‬ ‫م ُ‬ ‫دوا ِفيَنا ل َن َهْدِي َن ّهُ ْ‬ ‫جاهَ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫تفسيره‪ :‬أي جاهدوا الكفار في الله‪ ،‬أي في طلب مرضاة الله ‪ ...‬وقال ابن‬
‫عباس وإبراهيم بن أدهم‪ :‬هي في الذين يعملون بما يعلمون ‪ ...‬وقال عمر بن‬
‫عبد العزيز‪ :‬إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا‪ ،‬تقصيرنا في العمل بما علمنا‪ .‬ولو‬
‫قوا‬‫لورثنا علما ل تقوم به أبداننا‪ .‬قال الله تعالى‪َ ? :‬وات ّ ُ‬ ‫عملنا ببعض ما علمنا‪ُ ،‬‬
‫ه ? [ البقرة‪ .] 282 :‬وقال أبو سليمان الداراني‪ :‬ليس‬ ‫م الل ّ ُ‬‫مك ُ ْ‬ ‫ه وَي ُعَل ّ ُ‬
‫الل ّ َ‬
‫الجهاد في الية قتال الكفار فقط‪ ،‬بل هو نصر الدين والرد علي المبطلين;‬
‫وقمع الظالمين; وتعظيم المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ومنه مجاهدة‬
‫النفوس في طاعة الله‪ ،‬وهو الجهاد الكبر‪ .‬وقال سفيان بن عيينة لبن‬
‫المبارك‪ :‬إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله‬
‫تعالى يقول‪ " :‬لنهدينهم "‪ .‬والجهاد في عمل الطاعات يستلزم إرغام النفس‬
‫على الستيقاظ لداء صلة الفجر في جماعة‪ ،‬وقيام الليل‪ ،‬وقراءة جزء من‬
‫القرآن على القل يوميا‪ ،‬وأداء جميع الصلوات في جماعة‪ ،‬وإخراج جزء من‬
‫مالك للفقراء من حولك‪ ،‬ومساعدة المشردين من المسلمين في أنحاء‬
‫العالم‪ .‬كل هذه أمثلة على الجهاد في سبيل مرضاة الله‪.‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫? تحقيق التربية اليمانية المطلوبة لفراد المة‪ :‬فلبد من سلوك طريق‬


‫النبياء وهو تعبيد الناس لرب العالمين حتى يتحقق النصر من عند الله‪ .‬إذن‬
‫لبد من طريق الدعوة إلى الله عز وجل‪ ،‬والرتفاع بقلوب الناس وعقولهم‬
‫إلى المستوى اليماني المطلوب‪ ،‬وتبيين حقائق السلم‪ ،‬والدعوة إلى توحيد‬
‫ن ? [ الروم‪. ] 47 :‬‬
‫مِني َ‬ ‫صُر ال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬ ‫قا عَل َي َْنا ن َ ْ‬
‫ح ّ‬
‫ن َ‬ ‫الملك العلم‪ .‬قال تعالى‪ ? :‬وَ َ‬
‫كا َ‬
‫فلبد أن يكون الجميع متشوق لرؤية نواة المجتمع المسلم تتحقق على أرض‬
‫الواقع‪ .‬أما البيئة التي تطرد من كيانها امرأة لنها ارتدت النقاب‪ ،‬أو تنظر‬
‫بعين الشك إلى رجل أطلق لحيته فما زالت بعيدة عن نيل رضا الله بله‬
‫نصره‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫? انفراد الله تعالى وحده بالقدرة‪ :‬وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما‬
‫ه ل ِل ّهِ ? [ آل‬ ‫لإ ّ َ‬
‫مَر ك ُل ّ ُ‬‫ن ا ْل ْ‬ ‫هي منه وبإرادته وقدرته‪ .‬فقال عز من قائل‪ ? :‬قُ ْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ن قَب ْ ُ‬‫م ْ‬‫مُر ِ‬ ‫ميًعا ? [ الرعد‪ ? ، ] 31 :‬ل ِل ّهِ ا ْل ْ‬ ‫ج ِ‬‫مُر َ‬ ‫ل ل ِل ّهِ ا ْل ْ‬
‫عمران‪ ? ، ] 154 :‬ب َ ْ‬
‫ن ب َعْد ُ ? [ الروم‪ .] 4 :‬أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء‪.‬‬ ‫م ْ‬ ‫وَ ِ‬
‫أي هو المالك لجميع المور‪ ,‬الفاعل لما يشاء منها‪ ,‬فكل ما تلتمسونه إنما‬
‫يكون بأمر الله‪ .‬وهذا دحض للنظرية التي مفادها أن " ‪ %99‬من أوراق اللعبة‬
‫بيد أمريكا "‪ .‬بل جميع مقدرات المر بيد الله‪ ،‬ول تملك ل أمريكا ول غيرها أيا ً‬
‫من مقدرات المور‪ ،‬ول حتى نصف بالمائة! فالله سبحانه ينصر من يشاء‪،‬‬
‫ويخذل من يشاء‪ ،‬ويرفع من يشاء‪ ،‬ويذل من يشاء‪ .‬تلك العقيدة يجب أن‬
‫تستقر في النفوس‪ ،‬وتكون هي الموجه الول والخير لنا في كل تحركاتنا‪.‬‬
‫? ترسيخ مفهوم الستطاعة‪ :‬وهو أن المطلوب منا إعداد ما في الطاقة‪،‬‬
‫ط‬
‫ن رَِبا ِ‬ ‫ن قُوّةٍ وَ ِ‬
‫م ْ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ست َط َعْت ُ ْ‬
‫ما ا ْ‬ ‫دوا ل َهُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ع ّ‬‫وليس كل شيء‪ .‬قال تعالى‪ ? :‬وَأ َ ِ‬
‫ل ? [ النفال‪ .] 60 :‬وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة‪ ،‬ولم يقل كل‬ ‫ال ْ َ‬
‫خي ْ ِ‬
‫القوة‪ .‬إذن ما استطعتم أي ما في أيديكم‪ .‬وقوله تعالى‪ " :‬من قوة "‪ :‬أي من‬
‫كل ما يتقوى به في الحرب من عددها‪ .‬وهذه القوة تتحقق بما يتحقق به‬
‫معناها‪ ،‬وهو القدرة على تنفيذ إرادة صاحبها‪ .‬فقد يكون تحقيقها بإعداد‬
‫السلح للجند‪ ،‬وتدريبهم على فنون القتال‪ ،‬وتربيتهم على معاني اليمان التي‬
‫تهيئهم للقتال في سبيل الله والرغبة في الشهادة في سبيله ]‪ .[3‬إذن توافر‬
‫اليقين مع القوة المؤمنة هو المحك الصلي للجهاد وليس العدة أو العدد‪ .‬قال‬
‫القرطبي في تفسيره‪ " :‬وأعدوا لهم " أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد‬
‫القوة للعداء بعد أن أكد تقدمة التقوى‪ .‬فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم‬
‫بالكلم والتفل في وجوههم وبحفنة من تراب‪ ,‬كما فعل رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ .‬ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه‬
‫النافذ‪ .‬ولذلك فإن السيف الخشب الذي أخذه عكاشة بن محصن من رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر قتل به الكفار‪ ،‬لنه كان يضرب بإذن‬
‫الله‪ .‬فقد شهد عكاشة بن محصن بدرا وأبلى فيها بلء حسنا‪ ،‬وانكسر في يده‬
‫جونا – أو عودا – فعاد‬ ‫سيف‪ ،‬فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عُْر ُ‬
‫في يده سيفا يومئذ شديد المتن‪ ،‬أبيض الحديدة‪ ،‬فقاتل به حتى فتح الله عز‬
‫وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ثم لم يزل يشهد به المشاهد مع‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬حتى ُقتل في الردة وهو عنده‪ ،‬وكان ذلك‬
‫ون ]‪.[4‬‬ ‫السيف يسمى العَ ْ‬
‫? إرجاع النصر لله‪ :‬بمعنى أنه حتى مع تحقق العدة الكافية في أيدي الفئة‬
‫المؤمنة‪ ،‬وحين يتحقق النصر لهذه الفئة‪ ،‬فإن هذه الفئة يجب أن ُترجع هذا‬
‫النصر لله‪ ،‬وأل تنسب تحقيق هذا النصر لنفسها‪ .‬وذلك مصداقا لقوله‬
‫مى ? [ النفال‪ .] 17 :‬فما يتحقق‬ ‫ه َر َ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫ت وَل َك ِ ّ‬ ‫ت إ ِذ ْ َر َ‬
‫مي ْ َ‬ ‫مي ْ َ‬
‫ما َر َ‬
‫تعالى‪ ? :‬وَ َ‬
‫من نصر فمرجعه الله وحده‪ ،‬وليس كثرة العدد أو تطور المكانيات‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫? التخلص من حب الدنيا ونعيمها‪ :‬انظر إلى سؤال الصحابة إلى الرسول‬


‫صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم‪ :‬وما الوهن؟ قال‪ :‬حب الدنيا‬
‫وكراهية الموت‪ .‬هذا هو الداء‪ .‬أننا أصبحنا الن نتعلق بالدنيا ونتمسك بها‪،‬‬
‫وكأنها أصبحت هي دار القرار بالنسبة لنا‪ .‬مع أن المسلمين على مدار‬
‫تاريخهم كانوا ينظرون إلى الدنيا باستهانة‪ ،‬وأنها ليست إل ممر لدار مقر‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫انظر إلى قول خالد بن الوليد‪ ،‬حينما سار إلى الحيرة بعد فراغه من أمر‬
‫اليمامة‪ ،‬فخرج إليه أشرافهم مع أميرهم الذي عّينه عليها كسرى‪ .‬فقال له‬
‫خالد ولصحابه‪ :‬أدعوكم إلى الله وإلى السلم‪ ،‬فإن أجبتم إليه فأنتم من‬
‫المسلمين‪ ،‬لكم ما لهم وعليكم ما عليهم‪ ،‬فإن أبيتم فالجزية‪ ،‬فإن أبيتم‬
‫الجزية فقد أتيكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة‪ ،‬جاهدناكم‬
‫حتى يحكم الله بيننا و بينكم ]‪ .[5‬فهذه هي ثقافة السلم‪ ،‬أو ثقافة الدار‬
‫الخرة التي يحملها السلم‪ .‬الحرص فيها على الخرة يكون مثل حرص غير‬
‫المسلمين على دنياهم‪ ،‬التي هي جنتهم‪ .‬إن أهم شيء في حياة المسلم هو‬
‫نظرته إلى الدار الخرة‪ ،‬حتى وإن كان ثمن ذلك حياته‪.‬‬
‫? تغيير ما بأنفسنا‪ :‬فلبد أن يستشعر كل فرد منا بفداحة الوضع الذي أصبحنا‬
‫عليه الن‪ .‬فالمر ليس هزل‪ .‬ولبد لكل فرد أن يتغير‪ ،‬وأن يستشعر هذا‬
‫التغيير في كل مفردات حياته‪ .‬فما لم يحدث ذلك‪ ،‬فلن ُينزل الله نصره علينا‪.‬‬
‫م ? [ الرعد‪11 :‬‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ما ب َِأن ُ‬
‫ف ِ‬ ‫حّتى ي ُغَي ُّروا َ‬
‫قوْم ٍ َ‬‫ما ب ِ َ‬ ‫ه ل ي ُغَي ُّر َ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫قال تعالى‪ ? :‬إ ِ ّ‬
‫]‪ .‬إن نصر الله ل يتنزل على قوم إل إذا كانوا قد اتخذوا منهج الله شريعة‬
‫لهم تحكمهم ويتمسكون بتطبيقها مستقبل بعد تحقق نصر الله لهم‪ .‬فهل‬
‫ينزل نصر الله علينا الن‪ ،‬ونحن لم نتغير بعد‪ ،‬حتى إذا انتهت المعركة‪ ،‬عدنا‬
‫لدارة حياتنا بالطريقة التي كان أعداؤنا يديرون بها حياتهم؟! كل! لن يحدث‬
‫موا ال َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫وا الّز َ‬
‫كاةَ‬ ‫صلة َ َوآت َ ْ‬ ‫ض أَقا ُ‬
‫م ِفي الْر ِ‬ ‫مك ّّناهُ ْ‬ ‫ن َ‬‫ن إِ ْ‬ ‫ذي َ‬‫هذا‪ .‬قال تعالى‪ ? :‬ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫من ْك َرِ ? [ الحج‪.] 41 :‬‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫وا عَ ْ‬ ‫ف وَن َهَ ْ‬‫معُْرو ِ‬ ‫مُروا ِبال ْ َ‬
‫وَأ َ‬
‫مواقف من السنة المطهرة‬
‫ومن أهم المواقف التي تثبت عدم سريان قانون المكانيات مع رسوخ عقيدة‬
‫اليمان والتوكل على الله في العهد النبوي‪ ،‬موقف الصحابة في غزوة مؤتة‪.‬‬
‫فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى مؤتة في جمادى‬
‫ن من الهجرة‪ ،‬واستعمل عليهم زيد بن حارثة‪ .‬وقال‪ :‬إن‬ ‫الولى سنة ثما ٍ‬
‫أصيب زيد‪ ،‬فجعفر بن أبي طالب على الناس‪ .‬فإن أصيب جعفر‪ ،‬فعبد الله‬
‫بن رواحة على الناس‪.‬‬
‫فتجهز الناس‪ ،‬ثم تهيئوا للخروج‪ ،‬وهم ثلثة آلف‪ .‬فلما حضر خروجهم ودع‬
‫الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وسلموا عليهم‪ .‬ثم مضوا‬
‫حتى نزلوا مكانا قريبا من أرض الشام‪ .‬فبلغ الناس أن هرقل زعيم الروم‪،‬‬
‫إحدى أكبر إمبراطوريتين في ذلك الوقت‪ ،‬قد نزل بالقرب منهم في مائة‬
‫ألف من الروم‪ ،‬وانضم إليهم من القبائل القريبة مائة ألف آخرين‪ .‬مائتي ألف‬
‫في مواجهة ثلثة آلف!! وإمبراطورية عريقة ضالعة في الحروب في مواجهة‬
‫دولة فتية ناشئة لم تثبت أركانها بعد!!‬
‫فلما بلغ ذلك المسلمين‪ ،‬أقاموا في مكانهم ليلتين يفكرون في أمرهم‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا‪ ،‬فإما‬
‫أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له‪ .‬فوقف عبد الله بن رواحة‬
‫يشجع الناس‪ ،‬وقال‪ :‬يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون‪:‬‬
‫الشهادة! وما نقاتل الناس بعدد ول قوة ول كثرة‪ ،‬ما نقاتلهم إل بهذا الدين‬
‫الذي أكرمنا الله به‪ .‬فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين‪ :‬إما ظهور وإما‬
‫شهادة‪ .‬فقال الناس‪ :‬قد والله صدق ابن رواحة‪ ،‬فمضى الناس‪ .‬وذهبوا للقاء‬
‫عدوهم‪ .‬أرأيت إلى قول عبد الله بن رواحة‪ :‬وما نقاتل الناس بعدد ول قوة‬
‫ول كثرة‪ ،‬ما نقاتلهم إل بهذا الدين الذي أكرمنا الله به‪ .‬هذا هو سر الحرب‬
‫لدى المسلمين‪ .‬ولنتابع بقية القصة‪.‬‬
‫ثم بدأت المعركة‪ .‬فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه‬

‫‪162‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وسلم ‪ ،‬حتى استشهد برماح القوم‪ .‬فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب يقاتل‬
‫تحت لوائها‪ .‬وقد أخذ جعفر الراية بيمينه‪ ،‬فقطعت‪ .‬فأخذها بشماله‪ ،‬فقطعت‪.‬‬
‫فاحتضنها بعضديه‪ ،‬حتى ُقتل رضي الله عنه‪ .‬فأثابه الله بذلك جناحين في‬
‫الجنة يطير بهما حيث شاء‪ .‬ويقال إن رجل من الروم ضربه يومئذ ضربة‬
‫فقطعه نصفين‪.‬‬
‫فلما استشهد جعفر‪ ،‬أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها‪ ،‬وهو على‬
‫فرسه‪ .‬فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد‪ .‬ثم حسم أمره وتقدم نحو‬
‫العدو‪ .‬فلما كان في طريقه نحو العدو‪ ،‬أتاه ابن عم له بعرق من لحم‪ .‬فقال‪:‬‬
‫شد بهذا صلبك‪ ،‬فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت‪ .‬فأخذه من يده‪ ،‬ثم‬
‫انتهس منه نهسة‪ ،‬ثم سمع الحطمة في ناحية الناس‪ .‬فقال لنفسه‪ :‬وأنت في‬
‫الدنيا!! يريد أن المعركة حامية وهو مازال بأكله عرق اللحم هكذا يفكر في‬
‫الدنيا! ثم ألقى عرق اللحم من يده‪ ،‬وأخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى ُقتل‪.‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫ثم أخذ الراية أحد المسلمين‪ ،‬وقال‪ :‬يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل‬
‫منكم‪ .‬فاصطلح الناس على خالد بن الوليد‪ ،‬فلما أخذ الراية دافع القوم‬
‫وحاول تثبيت مواقع الجيش حتى نزول الظلم‪ .‬فلما أصبح بدأ في إعادة‬
‫ترتيب جيشه‪ :‬فجعل مقدمة الجيش مكان ساقته‪ ،‬وساقة الجيش مكان‬
‫مقدمته‪ .‬وميمنة الجيش مكان ميسرته‪ ،‬وميسرة الجيش مكان ميمنته‪ .‬فلما‬
‫رأى الروم جيش المسلمين بهذه الهيئة‪ ،‬أنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم‬
‫وهيئاتهم‪ .‬وقالوا‪ :‬قد جاءهم مدد! وهم قد كانوا رأوا العاجيب من هذه القلة‬
‫التي تقاتلهم‪ ،‬فما بالك بمدد يأتيهم ليشد أزرهم‪ .‬فُرعبوا وانكشفوا منهزمين‪،‬‬
‫فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم‪ .‬فأين كانت المكانيات التي قاتل بها المسلمون‬
‫في هذه الموقعة؟!!‬
‫بل قد تكون الوفرة في العدد والعدة سببا في نزول الهزيمة بالمسلمين‪ ،‬إذا‬
‫تمسكوا بأسبابها ولم يتجهوا إلى حول الله وقوته‪ .‬وأكبر دليل على ذلك ما‬
‫شهدته غزوة حنين في بادئ المر من هزيمة ماحقة للمسلمين حين اتكلوا‬
‫على أنفسهم‪ .‬فلما فاءوا إلى الله وتمسكوا بحبله‪ ،‬أنزل نصره وسكينته على‬
‫ن إ ِذ ْ‬
‫حن َي ْ ٍ‬
‫م ُ‬‫ن ك َِثيَرةٍ وَي َوْ َ‬
‫واط ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِفي َ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫صَرك ُ ْ‬ ‫قد ْ ن َ َ‬ ‫المؤمنين‪ .‬وقال تعالى‪ ? :‬ل َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ت ثُ ّ‬
‫م‬ ‫حب َ ْ‬‫ما َر ُ‬ ‫ض بِ َ‬‫م ا ْلْر ُ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ضاقَ ْ‬ ‫شي ًْئا وَ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن عَن ْك ُ ْ‬ ‫م ت ُغْ ِ‬‫م فَل َ ْ‬‫م ك َث َْرت ُك ُ ْ‬ ‫جب َت ْك ُ ْ‬
‫أعْ َ‬
‫ن ? [ التوبة‪ُ ، ] 25 :‬يعلم تبارك وتعالى أن النصر ليس على كثرة‬ ‫ري َ‬ ‫مد ْب ِ ِ‬‫م ُ‬ ‫وَل ّي ْت ُ ْ‬
‫العدد ول بلبس اللمة والِعدد‪ ،‬وإنما النصر من عنده تعالى‪ .‬كما قال تعالى‪? :‬‬
‫ن ? [ البقرة‪:‬‬ ‫ري َ‬‫صاب ِ ِ‬
‫معَ ال ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّهِ َوالل ّ ُ‬ ‫ة ك َِثيَرة ً ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫ت فِئ َ ً‬ ‫ن فِئ َةٍ قَِليل َةٍ غَل َب َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫كَ ْ‬
‫‪. ] 245‬‬
‫مواقف من جيل الصحابة‬
‫كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه‪ :‬أما‬
‫بعد‪ ،‬فقد جاءني كتابك تذكر ما جمعت الروم من الجموع‪ .‬وأن الله لم ينصرنا‬
‫مع نبيه صلى الله عليه وسلم بكثرة عدد ول بكثرة جنود‪ .‬وقد كنا نغزو مع‬
‫سان‪ ،‬وإن نحن إل نتعاقب‬ ‫رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معنا إل فََر َ‬
‫البل‪ .‬وكنا يوم ُأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معنا إل فرس‬
‫واحد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركبه‪ ،‬وقد كان يظهرنا ويعيننا‬
‫على من خالفنا ]‪.[6‬‬
‫ومما يروى في ذلك‪ ،‬قول خالد حين قال له رجل‪ :‬ما أكثر الروم وأقل‬

‫‪163‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المسلمين! فقال خالد‪ :‬ما أكثر المسلمين وأقل الروم‪ ،‬إنما تكثر الجنود‬
‫بالنصر‪ ،‬وتقل بالخذلن ل بعدد الرجال‪ ،‬والله لوددت أن الشقر ) اسم فرس‬
‫خالد ( براء‪ ،‬وأنهم أضعفوا ) أي‪ :‬زادوا ( في العدد ]‪.[7‬‬
‫وفي فتوح العراق‪ ،‬كان الفرس قد فروا بكمالهم إلى المدائن‪ ،‬وتحصنوا بها‪.‬‬
‫وقد فروا إليها عن طريق نهر دجلة وأخذوا كل سفنهم معهم‪ .‬فلما وصل‬
‫سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين في فتوح العراق إلى شاطئ دجلة لم‬
‫يجد شيئا من السفن‪ ،‬ورأى دجلة قد زادت زيادة عظيمة وأسود ماؤها‪.‬‬
‫فوقف سعد يخطب في المسلمين على شاطئ دجلة‪ .‬فأوضح للمسلمين أن‬
‫عدوهم قد اعتصم منهم بهذا البحر ‪ ...‬فهم ل يستطيعون الوصول إلى هذا‬
‫العدو بسببه‪ ،‬بينما هم يستطيعون الوصول إلى المسلمين متى شاءوا‪ .‬وأنظر‬
‫إلى تلك العبارة الرائعة التي قالها لهم في هذا الموقف‪ :‬وليس وراءكم شيء‬
‫تخافون أن ُتؤتوا منه‪ ،‬وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن‬
‫تحصدكم الدنيا‪ .‬أل إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم ]‪ .[8‬انظر إلى‬
‫هذه الكلمات الرائعة التي يبثها القائد في جنوده‪ .‬فالمسلمون ل يهمهم شيء‬
‫أن يفوتهم إذا ما قورن بالجهاد‪ .‬فالجهاد هو أفضل العمال في السلم‪.‬‬
‫والشهادة في سبيل الله هي أسمى ما يتوق المسلم لنيله‪ .‬والموت قادم ل‬
‫محالة‪ .‬فمن لم يمت بالسيف مات بغيره‪ .‬فالنهاية محتومة‪ .‬فلماذا ل تكون‬
‫شهادة ومنزلة رفيعة في الخرة‪ ،‬بدل من حياة ذليلة يعقبها موت أيضا‪ ،‬ولكن‬
‫في درجة متدنية من الجنة أو في النار نعوذ بالله منها! وقد عزم على خوض‬
‫البحر إليهم بل سفن يمتلكها! يمضي في البحر هكذا! بل إمكانيات! يواجه‬
‫جيش إمبراطورية فارس بعدتها وعتادها بل سفن!! ل ‪ ...‬إنه يواجه ذلك‬
‫بسلح أقوى من أي سلح آخر ‪ ...‬إنه سلح اليمان‪ .‬ولذلك فقد طلب منهم‬
‫إخلص نياتهم لله‪ ،‬وقد كان‪.‬‬

‫)‪(5 /‬‬

‫ونعود للقصة‪ .‬فقد وافق الجند على خوض البحر مع سعد رضي الله عنه‪.‬‬
‫فانتدب لذلك كتيبة تسمى في كتب التاريخ بكتيبة الهوال‪ .‬وهي كذلك‬
‫بالفعل‪ .‬وكانت هذه الكتيبة تتكون من ستين فارس من ذوي البأس‪ ،‬وكان‬
‫عاصم بن عمرو أميرا عليها‪ .‬وكانت مهمة هذه الكتيبة عبور البحر إلى العدو‬
‫وتأمين ثغرة المخاضة من الناحية الخرى حتى تستطيع بقية الجيش أن تعبر‬
‫هذه المخاضة وهم آمنين‪ .‬تأمل هذا الموقف ‪ ...‬العدو واقف على شاطئ‬
‫النهر‪ ،‬يرصد تحركاتك‪ ،‬ويشهر سلحه في وجهك‪ ،‬وأنت تقف على الشاطئ‬
‫الخر‪ ،‬تريد أن تعبر هذا النهر لكي تصل إلى العدو‪ ،‬وتشتبك معه‪ ،‬وتتحصن‬
‫ؤمن من خللها الطريق لبقية الجيش‬ ‫في بقعة تكون بمثابة نقطة ارتكاز ت ُ ّ‬
‫حتى يعبر ويستقر فيها وينطلق للبدء في عملياته منها‪ .‬موقف في غاية‬
‫الصعوبة!‬
‫وقد أحجم أفراد الكتيبة في بادئ المر عندما فكروا في هذا المر بهذه‬
‫الطريقة المنطقية‪ .‬إلى أن تقدم رجل من المسلمين وقال لهم‪ :‬أتخافون من‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن الل ّهِ ك َِتاًبا‬
‫ت ّإل ب ِإ ِذ ْ ِ‬
‫مو َ‬‫ن تَ ُ‬
‫سأ ْ‬‫ف ٍ‬
‫ن ل ِن َ ْ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫هذه النقطة؟ ثم تل قوله تعالى‪ ? :‬وَ َ‬
‫جل ً ? [ آل عمران‪ . ] 145 :‬ثم أقحم فرسه فيها ومضى‪ .‬فلما رأى الناس‬ ‫مؤ َ ّ‬
‫ُ‬
‫ذلك اقتحموا معه‪ .‬هنا زالت العقلنية المثبطة‪ ،‬وارتفعت سحائب اليمان‬
‫والثقة بالله وبوعده للمؤمنين‪ ،‬فبدأوا في اجتياز المخاضة‪.‬‬
‫فلما رآهم الفرس يقفون على وجه الماء‪ ،‬قالوا‪ :‬مجانين! مجانين! ثم قالوا‪:‬‬

‫‪164‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والله ما تقاتلون إنسا بل تقاتلون جنا! وحاولوا منع هؤلء المتقدمين نحوهم‬
‫عن طريق الماء ليمنعوهم من الخروج منه‪ .‬ولكن المسلمين شرعوا لهم‬
‫الرماح وتوخوا العين‪ ،‬فقلعوا عيون الخيول‪ .‬فرجعوا أدراجهم من حيث أتوا‪،‬‬
‫وواصل المسلمون تقدمهم‪ .‬حيلة بسيطة استخدمها المسلمون‪ ،‬وهداهم الله‬
‫إليها لما رأى شدة تمسكهم به‪ ،‬فأدت إلى السيطرة على النقطة الحصينة‬
‫التي ستكون محور تحرك الجيش بعد ذلك‪.‬‬
‫ثم نزلت الكتيبة الثانية فالثالثة‪ .‬ثم أمر سعد بقية الجيش بالنزول في الماء‪،‬‬
‫وذلك بعد تحصن الجانب الخر بوجود نقاط الرتكاز السلمية فيه‪ .‬وقد أمر‬
‫سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا‪ :‬نستعين بالله ونتوكل عليه‪.‬‬
‫حسبنا الله ونعم الوكيل‪ .‬ول حول ول قوة إل بالله العلي العظيم ]‪ .[9‬هذه‬
‫هي مبادئ النصر في الحرب في السلم‪ .‬تفويض مطلق للمر لله‪ ،‬ثم تضرع‬
‫وابتهال له بأن ينزل نصره وسكينته على المسلمين‪.‬‬
‫يقول المؤرخون‪ :‬وسار الناس في النهر كأنما يسيرون على وجه الرض‪،‬‬
‫حتى ملؤوا ما بين الجانبين‪ .‬فل يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة‪ .‬وجعل‬
‫الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الرض‪ ،‬وذلك لما‬
‫حصل لهم من الطمأنينة والمن‪ ،‬والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده‪.‬‬
‫فكان ذلك معجزة بكل المقاييس‪.‬‬
‫ثم أكمل المسلمون معاركهم انطلقا من هذه النقطة وأكملوا بقية فتوحات‬
‫العراق‪ .‬فأين هي المكانيات التي كانت متاحة للمسلمين في ذلك الوقت‪.‬‬
‫إنها لم تكن إل بقدر الستعانة المطلوبة‪ ،‬ولكن جيشان اليمان في الصدور‬
‫هو الذي يقف وراء هذه النتصارات الباهرة‪.‬‬
‫وكان سعد يقول‪ :‬والله لينصرن الله وليه‪ ،‬وليظهرن الله دينه‪ ،‬وليهزمن الله‬
‫عدوه‪ ،‬إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات ]‪ .[10‬وهكذا‬
‫يحدد سعد بن أبي وقاص مفاتيح النصر في المعركة‪ .‬عدم وجود بغي أو‬
‫ذنوب تغلب الحسنات‪.‬‬
‫والمتأمل في تاريخ المسلمين يجد الكثير والكثير من المواقف التي وقف‬
‫فيها المسلمين يواجهون أعتى الظروف‪ ،‬من أسود وفيلة وغيرها‪ ،‬بمجرد‬
‫إيمانهم القوي المتدفق من صدورهم‪ ،‬ليكتب الله لهم النصر في معاركهم‬
‫التي خاضوها‪.‬‬
‫مواقف معاصرة‬
‫ومن المثلة الحديثة على هذه القضية‪ ،‬ما حدث في جهاد الشعب الفغاني‬
‫ضد روسيا‪ .‬فقد كان هذا الجهاد هو الذي أعاد لذهان المسلمين مفهوم‬
‫الجهاد في الونة الخيرة‪ .‬لقد واجه الشعب الفغاني الدبابات الروسية أول‬
‫أمره بالحجارة والصخور‪ .‬لقد آمن الشعب الفغاني بالحقيقة اليمانية البديهية‬
‫التي تمثلها المعادلة التالية‪ :‬الله أقوى من روسيا‪ .‬الله ل ُيقهر ول ُيهزم! إذن‬
‫سُتهزم روسيا وُتقهر بإذن الله‪.‬‬
‫ومن المواقف المثيرة التي واجهتها المقاومة الفغانية في ذلك الوقت‪ ،‬أنها‬
‫تعرضت على مدى سبعة أشهر تقريبا لقصف الطائرات الروسية كل يوم‬
‫مرتين إلى خمس مرات‪ ،‬ولم يستشهد واحد من المجاهدين‪ ،‬وذلك لنهم‬
‫كانوا يدعون الله قائلين‪ :‬اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا تجاه‬
‫الطائرات‪ ،‬فيحميهم الله‪.‬‬
‫ويقول أحد المجاهدين‪ :‬ما هجمت الطائرات علينا مرة إل ورأيت الطيور‬
‫تحتها‪ ،‬فأقول للمجاهدين‪ :‬جاء نصر الله! ولقد توقف ذات مرة مضاد‬
‫الطائرات‪ ،‬فدعوت الله‪ ،‬فساق الله علينا الغمام تغطينا من الطائرات‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ويقول‪ :‬لقد هجمت علينا ستمائة دبابة وناقلة‪ ،‬وكنا مجموعة من المجاهدين‬
‫ليس معنا سوى ) ‪ ( 14‬بندقية مع العصي والسيوف‪ ،‬وهزمهم الله!‬

‫)‪(6 /‬‬

‫ويحكي أحد المجاهدين الفغان‪ :‬كانت معنا قذيفة واحدة مع مضاد واحد‬
‫للدبابات‪ .‬فصلينا ودعونا الله أن تصيبهم هذه القذيفة‪ ،‬وكان مقابلنا مائتا دبابة‬
‫وآلية‪ .‬فضربنا القذيفة‪ ،‬فإذا بها تصيب السيارة التي تحمل الذخيرة‬
‫والمتفجرات‪ ،‬فانفجرت ودمرت ) ‪ ( 85‬دبابة وناقلة وآلية‪ ،‬وانهزم العدو‪،‬‬
‫وغنمنا كثيرا ]‪.[11‬‬
‫كما أن ما قامت به المقاومة الفلسطينية مؤخرا يعطي أكبر الدللة كذلك‬
‫على هذه القضية‪ .‬فعلى الرغم من قلة إمكانيات المقاومة‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫تطوير العدو الصهيوني لعرباته المدرعة ودباباته بحيث فشلت أسلحة‬
‫المقاومة المتمثلة في قذائف الر بي جي في وقف زحف الدبابة ميركافا من‬
‫قبل‪ ،‬وخاصة بعد تطوير وتحديث هذه الدبابة لتكون الحدث والولى في‬
‫س كبيرة في نفوس البطال عندما استعدوا‬ ‫العالم‪ ،‬حيث ترك هذا التطوير مآ ٍ‬
‫لها في مخيم جنين‪ ،‬ولكن كانت طلقات الر بي جي ل تفعل معها شيئا‪.‬‬
‫وبالرغم من ذلك نجد المقاومة قادرة اليوم على تفجير هذه الدبابة بعد أن‬
‫قامت المقاومة بتطوير أسلحتها هي أيضا‪ ،‬فأصبحت قادرة على النيل من‬
‫هذه الدبابة وتدميرها‪.‬‬
‫فهذه إرادة التحدي التي يبثها الله في قلوب عباده المخلصين ليثبتهم‬
‫وينصرهم على عدوهم هي التي جعلت المقاومة تستطيع إدخال التطوير على‬
‫نوعية سلحها‪ ،‬بحيث استطاعت تفجير هذه الدبابة حتى بعد تطويرها‪ ،‬لتصيب‬
‫وعت المقاومة الفلسطينية أسلحتها من‬ ‫العدو بالصدمة والذهول‪ .‬لقد ن ّ‬
‫سام وهاون حماس والعمليات الستشهادية‪.‬‬ ‫الحجارة إلى صواريخ الق ّ‬
‫ويقول أحد قادة لواء ) حبعاتي ( الذي سقط جنوده على أيدي عناصر‬
‫المقاومة‪ ،‬في معرض تعليقه على ثبات وبسالة المقاومة‪ :‬كان بإمكان‬
‫الفلسطينيين أن يتركونا ننسحب متذرعين بتفوقنا الهائل عليهم‪ .‬لكنهم‬
‫تحدونا وتجاهلوا مظهر تفوقنا‪ .‬إن المقاتل الفلسطيني ل يهاب أي شيء‪.‬‬
‫وأضاف ضابط آخر في نفس اللواء‪ :‬ماذا لو كان هؤلء يملكون عشرة بالمائة‬
‫من إمكاناتنا؟ بكل تأكيد لبد أن شكل هذه المنطقة كان قد تغير منذ زمن‬
‫بعيد‪.‬‬
‫ونفس الشيء يحدث في الفلوجة‪ .‬فئة قليلة ل تكاد تملك من حطام الدنيا‬
‫وأسلحتها إل الشيء اليسير تقف بالمرصاد في مواجهة أعتى ترسانة للسلح‬
‫في العالم اليوم‪ ،‬وتجبرها على التراجع والنسحاب مذعورة من المدينة‪.‬‬
‫إن الفلوجة هي الكثر وضوحا والعمق في هذا الطار‪ ،‬لنها مدينة صغيرة‬
‫) حوالي ‪ 200‬ألف نسمة (‪ ،‬وهي تواجه أكبر قوة غاشمة في التاريخ‪ ،‬فليس‬
‫بعد الوليات المتحدة قوة الن‪ .‬وبالتالي فإن درس الفلوجة هو الدرس‬
‫الوضح‪ ،‬الذي ل يمكن أن يكابر أحد أو يغالط أحد في أننا أمة قادرة على‬
‫المواجهة والصمود‪ .‬وأن أصغر قرية في العالم‪ ،‬وبالذات العالم العربي‬
‫والسلمي‪ ،‬لسباب حضارية وثقافية ودينية مرتبطة بالجهاد والستشهاد‪،‬‬
‫قادرة على مواجهة الوليات المتحدة والصمود أمامها‪ ،‬بل وإنزال أكبر الذى‬
‫بها‪.‬‬
‫إن ظهور المقاتلين في فلسطين والفلوجة يمسكون المصحف الشريف بيد‪،‬‬

‫‪166‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫والبندقية أو أي سلح آخر باليد الخرى‪ ،‬هو دللة هامة على تطور البعد‬
‫السلمي والعقائدي في الصراع ضد العدو‪ ،‬وهو شرط ضروري للصمود‬
‫والنتصار في معاركنا‪.‬‬
‫الخاتمة‬
‫يجب أن يسود بين المسلمين مفهوم الستعلء على قوى الكفر بديل عن‬
‫النبطاح والتركيع‪ .‬فالمسلمون الوائل عند مجابهة حضارة الروم والفرس‬
‫كانوا يشعرون أنهم هم العلون حتى وإن كان الروم والفرس متفوقون‬
‫عليهم في التقدم العلمي وتقنيات الحياة‪ .‬لكن كان إيمانهم يعطيهم دفعة‬
‫كبيرة للستعلء على سائر من حولهم‪ ،‬وذلك تطبيقا لقوله تعالى‪ ? :‬وَل َ ت َهُِنوا‬
‫َ‬
‫ن ? [ آل عمران‪. ] 139 :‬‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫م ا ْل َعْل َوْ َ‬
‫ن إِ ْ‬ ‫حَزُنوا وَأن ْت ُ ْ‬‫وَل َ ت َ ْ‬
‫سنة التي يتعامل بها الله سبحانه وتعالى معنا تتمثل في وجوب أن‬ ‫إن ال ُ‬
‫نتصف بعدة صفات‪ :‬عدم معصية الله‪ ،‬وإعداد ما في الستطاعة‪ ،‬واليقين في‬
‫نصر الله‪ ،‬وصدق اللجوء إلى الله‪ ،‬وضرورة مراجعة النفس وتغييرها إلى‬
‫الفضل‪ .‬فمتى تقاعسنا عن تحقيق أحد هذه الشروط‪ ،‬تساوينا مع العداء‬
‫سنة ربانية أخرى‪ ،‬تتمثل في إحراز الفئة القوى‬ ‫عند الله‪ ،‬فعندئذ تسود ُ‬
‫للنصر‪.‬‬
‫إن المتأمل في واقع خطط العداء في القديم والحديث يجدها تتمثل في‬
‫إغراق الشعوب في الملذات والملهيات والشهوات‪ ،‬حتى تغدو كالقطعان‬
‫السائمة التي ل تعرف معروفا ول ُتنكر منكرا‪ ،‬بحيث تصبح شعوبا ل هم لها‬
‫إل الترفيه والتسلية‪ .‬وتنفق الوليات المتحدة وربيبتها دولة يهود الكثير والكثير‬
‫على إضلل الشعوب‪ ،‬فهذا سلحهم وطبعهم منذ القديم‪.‬‬

‫)‪(7 /‬‬

‫قال صموئيل زويمر رئيس جمعيات التبشير لزملئه من المبشرين في مؤتمر‬


‫القدس عام ‪ :1935‬إنكم أعددتم شبابا في ديار المسلمين ل يعرف الصلة‬
‫بالله‪ ،‬ول يريد أن يعرفها‪ ،‬وأخرجتم المسلم من السلم‪ ،‬ولم تدخلوه في‬
‫المسيحية‪ .‬وبالتالي جاء النشء السلمي طبقا لما أراده له الستعمار‪ :‬ل‬
‫يهتم بالعظائم‪ ،‬ويحب الراحة والكسل‪ .‬ول يصرف همه في دنياه إل في‬
‫الشهوات‪ .‬فإذا تعلم فللشهوات‪ ،‬وإذا جمع المال فللشهوات‪ ،‬وإن تبوأ أسمى‬
‫المراكز فللشهوات‪ .‬ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء ]‪.[12‬‬
‫وهكذا تخمد جذوة اليمان في الصدور‪ ،‬فتصاب حركة المسلمين بالشلل‬
‫والتوقف التام‪ .‬إن المحرك الساسي للمسلمين هو الدافع العقدي‪ .‬فلو‬
‫تحولت حركة المسلمين لكي تصبح في سبيل تحقيق شهوات النفس‪ ،‬فهذا‬
‫هو بداية طريق النحراف عن جادة الصواب‪ ،‬والهزيمة في كل ميادين الحياة‪،‬‬
‫وفي معركة القتال بالطبع‪ .‬إن على المسلمين أن يسايروا التطور الحادث‬
‫في جميع مناحي الحياة‪ ،‬ولكن بنظرة مختلفة لما ينظر إليها الخرون‪ .‬فهم‬
‫يفعلون ذلك بدافع من إيمانهم بالله‪ .‬فكل عمل يفعلونه فإنهم يبتغون من‬
‫ورائه وجه الله‪ .‬وهذا هو الفارق الجوهري بينهم وبين غيرهم‪ .‬وما لم يحدث‬
‫ذلك‪ ،‬أي ما لم يظهر الجيل الرباني الذي يحمل هم مرضاة الله سبحانه‬
‫وتعالى من وراء جميع أفعاله‪ ،‬فل تنتظر من المسلمين تحقيق أي تقدم أو‬
‫انتصار‪ ،‬بغض النظر عن إمكانياتهم أو تقنياتهم‪.‬‬
‫‪ 12‬من ربيع الثاني عام ‪ ) 1425‬الموافق في تقويم النصارى ‪ 30‬مايو عام‬
‫‪.( 2004‬‬

‫‪167‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪-----------------------‬‬
‫]‪ [1‬صحيح ‪ /‬صحيح سنن أبي داود لللباني‪4297 ،‬‬
‫]‪ [2‬العقد الفريد‪.1/119 :‬‬
‫]‪ [3‬عبد الكريم زيدان‪ ،‬السنن اللهية في المم والجماعات‪ ،‬مؤسسة‬
‫الرسالة‪ .2002 ،‬ص ص‪.67-66 :‬‬
‫]‪ [4‬أسد الغابة في معرفة الصحابة‪.4/65 :‬‬
‫]‪ [5‬تاريخ المم والملوك‪.2/307 :‬‬
‫]‪ [6‬سعيد عبد العظيم‪ ،‬طبيعة الصراع بين المسلمين واليهود‪ ،‬دار اليمان‪،‬‬
‫‪ .2001‬ص‪.60 :‬‬
‫]‪ [7‬الكامل في التاريخ‪.2/260 :‬‬
‫]‪ [8‬البداية والنهاية‪.7/53 :‬‬
‫]‪ [9‬البداية والنهاية‪.7/53 :‬‬
‫]‪ [10‬البداية والنهاية‪.7/54 :‬‬
‫]‪ [11‬كل هذه الروايات مأخوذة من‪ :‬عبد الله عزام‪ ،‬آيات الرحمن في جهاد‬
‫الفغان‪.‬‬
‫]‪ [12‬عبد الله التل‪ ،‬جذور البلء‪ ،‬المكتب السلمي‪ .1998 ،‬ص‪.276 :‬‬

‫)‪(8 /‬‬

‫ومضات على طريق الدعوة‬


‫إنها مواقف دعوية‪ ،‬وتربوية كانت لها إشارات لطيفة في كتاب الله‪ ،‬يحتاجها‬
‫الدعاة والمربون في طريق سيرهم إلى الله‪ ،‬حاولت تلخيصها في هذا‬
‫المقال‪ .‬عسى أن ينفعني الله وإياكم بها‪.‬‬
‫الصبر الجميل‪!...‬في القرآن الكريم ورد ذكر الصبر أكثر من ثمانين مرة‪،‬‬
‫وجاء في عدة أوجه‪ ،‬ولكن ما يهمنا في مقامنا هذا‪ ،‬ذلك المر اللطيف الذي‬
‫تنزل من عند الرحمان وهو يأمر عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم‬
‫بقوله‪) :‬فاصبر صبرا جميل(‪ ..‬وما قاله يعقوب عليه السلم وهو يتأسى‬
‫بالصبر على ابنه يوسف عليه السلم‪ ...) :‬فصبر جميل والله المستعان على‬
‫ما تصفون(‪ .‬فكيف إذن يكون الصبر جميل؟حتى يصبح كذلك‪ ،‬وجب أن يلزم‬
‫هذا الصبر بعض الوصاف‪:‬أولها‪ :‬الصبر عند الصدمة الولى‪ ،‬صدمة اللم‬
‫والعراض والتكذيب‪ ،‬صدمة المواجهة من أعز قريب‪ ،‬فل جزع ول سخط‪ ،‬بل‬
‫إيمان ورضا وتفاؤل وأمل‪..‬ثانيها‪ :‬صبر يورث الثبات‪ ،‬فل يأس ول فتور‪ ،‬بل‬
‫صبر يزيد الداعية ثباتا على المبدإ وقوة في الطرح وتجديدا في السلوب‬
‫والوسيلة‪ ،‬سرا وجهرا‪ ،‬جدال وحوارا‪ ،‬بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬إنها دعوة‬
‫ل تنهزم من واقع مرير‪ ،‬ومن قال هلك الناس فهو أهلكهم‪.‬آخرها‪ :‬صبر‬
‫الختيار ل الضطرار‪ ،‬فالداعية يمنع نفسه من التعصب لذاته في سبيل أن‬
‫يبلغ دعوته‪ ،‬لكن إذا انتهكت محارم الله فل ذلة في المواجهة‪ ،‬ولنا في سيرة‬
‫رسولنا عليه أفضل الصلوات والسلم مثالن لصبر الختيار‪ ،‬مرة يوم فتح‬
‫مكة حين تمكن ممن طردوه وشردوه وآذوه فقال‪ ...» :‬اذهبوا فأنتم‬
‫الطلقاء« وأخرى لما خرج من الطائف مطرودا مجروحا‪ ،‬فيأبى على جبريل‬
‫أن يأمر ملك الخشبين فيطبقه عليهم‪ ،‬ويقول »لعل الله يخرج من أصلبهم‬
‫من يعبد الله«‪.‬إنه حقا صبر جميل‪ ،‬صبر ثبات وعزة‪ ،‬صبر رضا‬
‫وتصديق‪...‬الصفح الجميل‪!...‬قال تعالى‪) :‬وما خلقنا السماوات والرض وما‬
‫بينهما إل بالحق‪ ،‬وإن الساعة لتية فاصفح الصفح الجميل( الحجر ‪85.‬فسر‬

‫‪168‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫شيخ السلم ابن تيمية الصفح الجميل على أنه »صفح بل عتاب« نعم صفح ل‬
‫أذية فيه‪ ،‬نقابل فيه إساءة المسيء بالحسان‪ ،‬فصفح يبين للمخطئ خطأه‬
‫وتقصيره لكن من غير أذى بقول أو فعل أو توبيخ‪ ،‬لن الهم عند الداعية هو‬
‫تصحيح الخطأ وكسب المخطئ‪.‬صفح يتناسى فيه الداعية ذاته وشخصه في‬
‫سبيل دعوته إلى الله‪ ،‬حتى إذا أوذي وأوذي‪ ،‬والصفة الملزمة للصفح الجميل‬
‫هي العفو عند المقدرة‪ ،‬فعم عفو عند المقدرة على الرد والنفاذ‪ ،‬فقد جاء‬
‫في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‪» :‬من كظم غيظا‬
‫وهو قادر على أن ينفذه‪ ،‬دعاه الله على رؤوس الخلئق حتي يخيره من أي‬
‫الحور شاء« وفي حديث آخر‪ ...» :‬مل الله جوفه أمنا وإيمانا« ويدخل في‬
‫مفهوم الصفح الجميل ترك المدافعة والمحاججة ولو كنا على حق‪ ،‬يقول‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم‪» :‬أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك‬
‫المراء ولو كان محقا«‪ ،‬فالداعية أرفع من أن يقضي دهره في إثبات ذاته‬
‫وقدراته على حساب دعوته ومبادئه‪ ،‬فيا ترى كم ببيت فرطنا؟ وكم من‬
‫الحور العين ضيعنا؟ وكم افتقدنا من المن وقرارة النفس‪ ،‬وسمو‬
‫اليمان‪!...‬؟الهجر الجميل‪!...‬قال تعالى‪) :‬واصبر على ما يقولون واهجرهم‬
‫هجرا جميل( المزمل ‪10‬تبين هذه الية للداعية الموقف الرباني من قضيتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬موقف الداعية من المجتمع الذي يعيش فيه‪ ،‬والثانية‪ :‬موقف الداعي‬
‫من المدعويين بشتى أصنافهم‪.‬وحتى يكون الهجر جميل‪ ،‬وجب أن يكون هجرا‬
‫دون أذى‪ ،‬هجر يكون حيث اقتضت المصلحة‪ ،‬هجر لقوال وأفعال المدعوين‬
‫مع الستمرار في دعوتهم‪ ،‬إنه هجر يحمي نفس الداعية من النخراط في‬
‫براثن المنكر والفحشاء‪ ،‬فالداعية هنا يرى المنكر ول يعايشه ول هو بمعرض‬
‫عنه إعراضا بل توجيه‪ ،‬بل يهجره هجرا جميل يحمي النفس من الضعف‬
‫ويعلي الهمة للنكار والعمل والدعوة والنصيحة‪ ،‬يقول الصادق المصدوق‬
‫صلى الله عليه وسلم‪» :‬المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير‬
‫من المؤمن الذي ل يخالط الناس ول يصبر على أذاهم« إنها إذن ليست‬
‫مخالطة تعايش مع المنكر والباطل وإنما هي معايشة للبذل والنصح‬
‫والتضحية والتغيير‪.‬ولبن مسعود رضي الله عنه وصف جميل للهجر الجميل‬
‫حيث يقول‪» :‬خالطوا الناس وزايلوهم وصافحوهم ودينكم ل تكلموه« ـ ل‬
‫تكلموه بمعنى ل تجرحوه والمزايلة بمعنى البراءة القلبية‪ .‬كانت هذه إذن‬
‫ثلث ومضات دعوية‪ ،‬أشار إليها القرآن إشارات لطيفة بديعة‪ ،‬تنير لها‬
‫الطريق بإذن الله للوصول إلى المبتغى‪.‬‬
‫الدريسي الخمليشي رضوان‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ومن المدامة ما قتل‬


‫الدكتور حسان شمسي باشا‬
‫شرب الخمور مشكلة تقض مضاجع الغرب ‪ ..‬تقول دائرة معارف جامعة‬
‫كاليفورنيا ‪:‬‬
‫" إن الخمر يعتبر حاليا القاتل الثاني ‪ -‬بعد التدخين ‪ -‬في أمريكا ‪ .‬فشرب‬
‫المسكرات هناك مسؤول عن موت أكثر من ‪ 100.000‬شخص سنويا " ‪.‬‬
‫وجاء في المرجع الطبي الشهير ‪ Cecil‬طبعة ‪ 1996‬أن الخسائر الكلية‬
‫الناجمة عن مشكلة المسكرات بلغت ما قيمته ‪ 136‬بليون دولر في العام‬
‫الواحد ‪ .‬ويقدر الخبراء أن ربع الحالت التي تدخل المستشفيات المريكية‬

‫‪169‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫سببها أمراض ناجمة عن شراب المسكرات ‪.‬‬


‫وليس هذا فحسب ‪ ،‬بل إن الخمر مسؤول عن إصابة أكثر من نصف مليون‬
‫أمريكي سنويا بحوادث السيارات ‪.‬‬
‫وتتابع دائرة المعارف القول ‪ " :‬والمسكرات ل تسبب المشاكل في البيت أو‬
‫على الطرقات فحسب ‪ ،‬بل إن خسائر أمريكا من نقص النتاج وفقدان‬
‫العمل نتيجة شرب الخمر تزيد على ‪ 71‬بليون دولر سنويا ‪ .‬ناهيك عن‬
‫الخسائر التي ل تقدر بثمن من مشاكل نفسية وعائلية واجتماعية " ‪.‬‬
‫ويحث كتاب الجرائد والمجلت المريكية الناس على عدم تقديم المسكرات‬
‫قبل العشاء‬
‫‪ -‬أثناء الحفلت التي يقيمونها ‪ -‬ويحثون أيضا على أن تصادر مفاتيح السيارات‬
‫من المفرطين في شرب الخمر ‪ ،‬حتى ل يقودوا أنفسهم إلى الموت " ‪.‬‬
‫وعلى الجانب الخر من الطلنطي نجد أوربا ترزح تحت وطأة الخمور ‪ ،‬إذ‬
‫تذكر مجلة اللنست البريطانية أن مائتي ألف شخص يموتون سنويا في‬
‫إنجلترا بسبب الخمور ‪.‬‬
‫وواحد من كل خمسة أشخاص يدخلون المستشفيات في اسكتلنده ‪ ،‬يدخل‬
‫المستشفى بسبب شرب الخمور وإدمانها ‪.‬‬
‫وتقدر الخسائر الناجمة عن شرب المسكرات في بريطانيا وحدها بـ ‪2000‬‬
‫مليون جنيه إسترليني في العام الواحد ‪.‬‬
‫أبعد هذا الداء داء ؟ ‪ ..‬يقول أبو نواس ‪:‬‬
‫إن الشراب إذا ما كان من عنب داء وأي لبيب يشرب الداء‬
‫ويقول إسحاق بن سويد ‪:‬‬
‫الماء فيه حياة الناس كلهم وفي النبيذ إذا ما عاقرته الداء‬
‫ويقول أحدث تقرير للكلية الملكية للطباء في بريطانيا ‪:‬‬
‫" لم يكتشف النسان شيئا شبيها بالخمور في كونها باعثة على السرور‬
‫) الوقتي ( ‪ ،‬وفي نفس الوقت ليس لها نظير في تحطيم حياته وصحته ‪ ..‬ول‬
‫يوجد لها مثيل في كونها مادة مسيية للدمان ‪ ،‬وسما ناقعا ‪ ،‬وشرا اجتماعيا‬
‫خطيرا " ‪.‬‬
‫وفي هذا المعنى يقول أبو الفتح كشاجم ‪:‬‬
‫يا خليلي جنباني الرحيقا إنني لست للرحيق مطيقا‬
‫قد تيقنت أنها تطرد الهم وتبدي إلى السرور طريقا‬
‫غير أني وجدت للراح نارا تلهب الجسم والمزاج الرقيقا‬
‫فإذا ما جمعتها ومزاجي حرقتني بنارها تحريقا‬
‫ويقول كتاب ‪ Safe Food‬الشهير في طبعة ‪: 1997‬‬
‫" إن نصف عدد الجرائم في بريطانيا يقوم بها أناس سكارى ‪ ،‬وثلث حوادث‬
‫السيارات تحدث بسبب الخمر ‪ ،‬والخمر مسؤول عن ثلثي حالت النتحار ‪،‬‬
‫وخمس حالت العتداء الجنسي عند الطفال ‪.‬‬
‫ويقدر الخبراء النجليز أن واحدا من كل أربعة رجال ‪ ،‬وامرأة من كل عشرة‬
‫نساء يشربون المسكرات إلى درجة تعرضهم لفقدان عائلتهم ‪ ..‬أو عملهم ‪..‬‬
‫أو صحتهم ‪ ..‬أو أصدقائهم ‪ ..‬أو الربعة معا " ‪.‬‬
‫قال الشاعر ‪:‬‬
‫أرى كل قوم يحفظون حريمهم وليس لصحاب النبيذ حريم‬
‫إذا جئتهم حيوك ألفا ورحبوا وإن غبت عنهم ساعة فذميم‬
‫إخاؤهم ما دامت الكأس بينهم وكلهم رث الوصال شؤوم‬
‫فهذا بياني لم أقل بجهالة ولكنني بالفاسقين عليم‬

‫‪170‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وقال أبو العلء المعري ‪:‬‬


‫عد عن شارب كأس أسكرت فهو مثل الكلب في الرجس ولغ‬
‫ويصف المتنبي تأثيرات الخمر على العقل فيقول ‪:‬‬
‫وجدت المدامة غلبة تهيج وللقلب أشواقه‬
‫وأنفس ما للفتى لبه وذو اللب يكره إنفاقه‬
‫وقد مت أمس بها موتة ول يشتهي الموت من ذاقه‬
‫والحقيقة أن أهم تأثير للكحول هو تخديره لخليا المخ جميعا ‪ ،‬ولكن أهم‬
‫الخليا التي تصاب هي خليا قشرة الدماغ ‪ ،‬وهي الخليا المتحكمة في الرادة‬
‫‪ ،‬أو ما نعبر عنها بكلمة " العقل " ‪.‬‬
‫يقول البروفسور لورانس رئيس قسم الطب العلجي في جامعة لندن ‪:‬‬
‫" إن أول ما يفقد من وظائف المخ بواسطة الكحول هو القدرات الدقيقة‬
‫على التحكم والملحظة والنتباه ‪ ،‬كما أن الكفاءة العقلية والبدنية تنخفض‬
‫بتناول الكحول مهما كانت الكمية المتعاطاة قليلة " ‪.‬‬
‫يقول قيس بن عاصم ‪ ،‬وهو أول من حرم الخمر على نفسه ‪ -‬كما يذكر‬
‫الزركلي في العلم ‪ -‬وكان شاعرا اشتهر وساد في الجاهلية ‪ ،‬ووفد على‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم سنة ‪ 9‬هـ فأسلم ‪:‬‬
‫رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما‬
‫فل والله أشربها صحيحا ول أسقي بها أبدا سقيما‬
‫وقال الشاعر ‪:‬‬
‫بنت كرم يتموها أمها وأهانوها ‪ ..‬وديست بالقدم‬
‫ثم عادوا حكموها بينهم ويلهم من جور مظلوم حكم‬
‫وقد شطر هذين البيتين علمة حمص الشيخ مؤيد شمسي باشا رحمه الله‬
‫فقال ‪:‬‬
‫بنت كرم يتموها أمها ل لذنب قد جنته في القدم‬
‫واستباحوا ذلها في شرعهم وأهانوها ‪ ..‬وديست بالقدم‬
‫ثم عادوا حكموها بينهم يذهبون الهم فيها واللم‬
‫سلبت ألبابهم واستحكمت ويلهم من جور مظلوم حكم‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ويؤكد تقرير الكلية الملكية للطباء في بريطانيا ‪ " :‬أن المخاطر الصحية‬
‫المتعلقة بتعاطي الخمور ليست ناتجة بالدرجة الولى من العدد القليل الذي‬
‫يتناول الكحول بكميات كبيرة‪ ،‬ولكن الخطر العظم على الصحة العامة هو‬
‫من العداد الكبيرة التي تتناول الكحول باعتدال وانتظام "‬
‫ويقول كتاب ‪ : Alcoholism‬إن التخريب الحاصل في أنسجة الجسم نتيجة‬
‫شرب الخمر مرة واحدة يمكن أن يكون تخريبا دائما غير قابل للتراجع ‪.‬‬
‫ول غرابه حينئذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم شرب الكحول‬
‫مهما كانت الكمية صغيرة ‪ " :‬ما أسكر كثيره فقليله حرام " ‪.‬‬
‫هل في القليل من الخمر فوائد ؟‬
‫شاعت بين الطباء والناس في الغرب فكرة تقول ‪ :‬إن شرب القليل من‬
‫الخمر ينقص نسبة الوفيات من جلطة القلب ‪ ،‬حيث يزيد من مستوى‬
‫الكولسترول المفيد ‪. HDL‬‬
‫والحقيقة أن الباحثين اليابانيين اكتشفوا حديثا أن المادة التي ترفع مستوى‬
‫الكولسترول المفيد موجودة أصل في قشر العنب الحمر وتسمى هذه المادة‬

‫‪171‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪. Resveratrol :‬‬


‫يقول الدكتور ‪ " : Mindel‬إن العنب الحمر يعطي نفس الخصائص الموجودة‬
‫في الخمر الحمر ‪ ،‬فلماذا يعرض النسان نفسه لمخاطر الكحول ؟ "‬
‫وليس هذا فحسب ‪ ،‬بل إن البروفسور ‪ Sheehy‬يحذر من الكحول عند‬
‫المصابين بتضيق في شرايين القلب فيقول ‪:‬‬
‫" رغم أن بعض البحاث أشارت إلى أن الكحول قد يوسع شرايين القلب ‪،‬‬
‫فإن الخمر يهيئ لحدوث جلطة في القلب عند المصابين بضيق في شرايين‬
‫القلب ‪ ،‬كما أن شرب الخمر يسبب الذبحة الصدرية ‪ ،‬واضطراب نظم‬
‫) ضربات ( القلب ‪ ،‬واعتلل في العضلة القلبية ‪ ،‬ويؤدي إلى الموت‬
‫المفاجئ ‪.‬‬
‫ويحذر كتاب ‪ The Food Revolution‬من أخطار سهرة يشرب فيها الخمر‬
‫فيقول ‪:‬‬
‫" إن سهرة يفرط فيها شارب الخمر في تناول المسكرات قد يؤدي إلى‬
‫حدوث اضطراب شديد في ضربات القلب ‪ ،‬وقد يسبب ذلك الموت الفجائي‬
‫"‪.‬‬
‫ول غرابة أن حرم السلم الخمر على إطلقه فقال معلم هذه المة صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪:‬‬
‫" كل مسكر حرام ‪ ،‬وما أسكر منه الفرق ‪ ،‬فملء الكف منه حرام " ‪.‬‬
‫والفرق كيلة تسع تسعمائة وعشرين رطل ‪.‬‬
‫ومن الوهام المتعلقة بمنافع الخمر أنها تقوي الباءة وتزيد من القدرة‬
‫الجنسية ‪.‬‬
‫ومنذ آماد طويلة والنسان سادر في غيه وأوهامه ‪ ..‬ويشرب الخمر على أمل‬
‫أن تزيد من قدراته الجنسية ‪ .‬ولكن الشاعر النجليزي الموهوب شكسبير‬
‫تنبه لهذه النقطة فقال عنها ‪:‬‬
‫" إنها تحفز الرغبة ‪ ،‬ولكنها تفقد القدرة على التنفيذ "‬
‫) ‪. ( It Provokes the desire but it takes away the performance‬‬
‫وأخيرا ‪ ،‬فإن مشكلة الخمور مشكلة عالمية لم يحلها إل السلم ‪ ،‬وفي ذلك‬
‫يقول المؤرخ العالمي أرنولد توينبي في كتابه " محاكمة الحضارة " )‬
‫‪: ( Civilization on trial‬‬
‫" إن الروح السلمية تستطيع أن تحرر النسان من ربقة الكحول عن طريق‬
‫العتقاد الديني العميق ‪ ،‬والتي استطاعت بواسطته أن تحقق ما لم يمكن‬
‫للبشرية أن تحققه في تاريخها الطويل ‪ .‬ولقد استطاع السلم أن يحقق ما‬
‫لم تستطع أن تحققه القوانين المفروضة بالقوة ومن خارج النفس ‪.‬‬
‫وهاهنا نقول ‪ :‬إن السلم يستطيع أن ينقذ النسانية من تأثيرات المجتمعات‬
‫المدنية الغربية التي ثبتت شباكها في أنحاء العالم أجمع "‬
‫وصدق الله تعالى حيث يقول ‪:‬‬
‫) إنما الخمر والميسر والنصاب والزلم رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه‬
‫لعلكم تفلحون ‪ .‬إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في‬
‫الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلة فهل أنتم منتهون (‬
‫المائدة ‪91 - 90‬‬
‫للمزيد من التفاصيل راجع كتابنا ‪ " :‬أطباء الغرب يحذرون من شرب الخمر "‬
‫وهو من منشورات دار البشير بجدة‬

‫)‪(2 /‬‬

‫‪172‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ومن يتولهم منكم فإنه منهم‬


‫عندما قال شيخ السلم ابن تيمية عبارته المتينة‪) :‬الناس تغيب عنهم معاني‬
‫القرآن عند الحوادث فإذا ذكروا بها عرفوها( )مجموع الفتاوى ‪ (27/363‬فإن‬
‫كان مدركا ً لذلك من خلل وقائع وأحداث‪ ،‬حيث كان فقيها ً في قضايا عصره‬
‫والحكم عليها‪ ،‬فقد حفلت سيرته بنوازل شائكة متعددة ‪ ،‬وأزمات عويصة‬
‫مشكلة‪ ،‬ومع ذلك فكان ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬دقيقا ً في توصيفها‪ ،‬ومصيبا ً في الحكم‬
‫ل‪ -‬في شأن التتار مثال ظاهر على ذلك‪.‬‬ ‫عليها‪ ،‬وفتواه مث ً‬
‫والناظر إلى حال أهل السلم تجاه نازلة العراق يرى انحسارا وذهول ً عن‬
‫معاني القرآن‪ ،‬ومن ذلك قوله ‪ -‬تعالى ‪) :-‬ومن يتولهم منكم فإنه منهم(‬
‫"المائدة‪ ،‬آية ‪ "51‬فمظاهرة الكفار على أهل السلم ردة وخروج عن الملة‪،‬‬
‫والمقصود بالمظاهرة أن يكون أولئك أنصارا ً وظهورا ً وأعوانا ً للكفار ضد‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫يقول شيخ المفسرين ابن جرير‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في تفسير هذه الية‪) :‬من‬
‫تولهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم‪ ،‬فإنه ل يتولى‬
‫ض‪ ،‬وإذا رضيه ورضي دينه‪ ،‬فقد‬ ‫ً‬
‫متول أحدا إل وهوبه وبدينه وما هو عليه را ٍ‬
‫عادى ما خالفه وسخطه‪ ،‬وصار حكمه حكمه(‪" .‬تفسير الطبري ‪."6/160‬‬
‫وها هو شيخ السلم ابن تيمية مع سعة علمه ورحابة صدره يقرر ذلك بكل‬
‫ل‪) :‬فمن قفز منهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار‪،‬‬ ‫صرامة قائ ً‬
‫فإن التتار فيهم المكره وغير المكره‪ ،‬وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد‬
‫أعظم من عقوبة الكافر الصلي فمن وجوه متعددة(‪" .‬مجموع الفتاوى‬
‫‪."28/534‬‬
‫مع أن الحكم على التتار في حد ذاته‪ -‬مشكل على بعض أهل العمل‪ ،‬لكن‬
‫المام ابن تيمية يقطع بكفرهم‪ ،‬وكفر من لحق بهم وظاهرهم‪ ،‬فما بالك‬
‫بالقتال مع المريكان الصليبيين المقطوع بكفرهم وظلمهم واستبدادهم؟!‬
‫ويقول ابن القيم "إنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬قد حكم ـ ول أحسن من حكمه ـ أن من‬
‫تولى اليهود والنصارى فهو منهم"‪) ،‬ومن يتولهم منكم فإنه منهم( فإذا كان‬
‫أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم" )أحكام أهل الذمة ‪.(3/67‬‬
‫وقد عني أئمة الدعوة السلفية في الجزيرة العربية بهذه النازلة ابتداًء من‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬وإلى سماحة العلمة الشيخ عبد‬
‫العزيز بن باز ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬حيث قال‪) :‬وقد أجمع علماء السلم على أن من‬
‫ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة فهو‬
‫كافر مثلهم‪ ،‬كما قال ‪ -‬سبحانه ‪) -‬يا أيها الذين آمنوا ل تتخذوا اليهود‬
‫والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم( "المائدة‪،‬‬
‫آية ‪) ."51‬فتاوى ابن باز ‪.(1/274‬‬
‫ولم يقتصر علماء الدعوة السلفية على مجرد تنظير هذه المسألة‪ ،‬بل ّنزلوا‬
‫هذا الحكم الشرعي على ما يلئم من الوقائع وبكل رسوخ وتحقيق‪ ،‬والناظر‬
‫ي "الدلئل" للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبدالوهاب‪،‬‬ ‫إلى رسالت ّ‬
‫و)النجاة والفكاك من مولة المرتدين وأهل الشراك( للشيخ حمد بن عتيق‪،‬‬
‫ومناسبة تأليفهما يدرك جليا ً صرامة هؤلء العلم تجاه هذه القضية وتنزيل‬
‫حكم الله على من تلّبس بهذه الردة‪.‬‬
‫كما أفتى علماء من المالكية أن من حمل السلح مع العدو الكافر ضد‬
‫المسلمين ويحاربهم يكون حكمه كحكم الكافر في نفسه وماله ‪) ،‬أنظر كتبا‬
‫الفتاوى الفقهية في أهم القضايا لحسن اليوبي ‪.(234-229‬‬
‫وأخيرا ً فإن في العراق أهل إسلم وسنة‪ ،‬كما أن فيها مستضعفين مظلومين‬

‫‪173‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ملهوفين فحق علينا نصرهم بالدعاء لهم‪ ،‬والدعاء على كفرة أهل الكتاب‪،‬‬
‫والسعي إلى إغاثتهم ودعمهم من أجل دفع هذا العدو الصليبي الصائل عنهم‪،‬‬
‫فل ينبغي أن يكون كفار مكة خيرا ً منا حيث اجتمعوا في حلف الفضول على‬
‫التعاون مع العدل ونصرة المظلوم‪ ،‬وكما في الحديث عنه ‪ -‬صلى الله عليه‬
‫ف حقه من القوي وهو غير‬ ‫وسلم ‪) -‬إن الله ل يقدس أمة ل يأخذ الضعي ُ‬
‫متعتع( أخرجه البيهقي‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح الجامع الصغير ج )‬
‫‪.(1853‬‬
‫الشيخ عبد العزيز آل عبد اللطيف‬
‫‪...‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ونبلوكم بالشر والخير فتنة‬


‫ً‬
‫خلق الله جل وعل الدنيا لتكون دارا للبتلء والختبتار ‪ ،‬ومن ثم فإنه جعل‬
‫النسان يتقلب فيها بين المنشط والمكره ‪ ،‬والرخاء والشدة ‪ ،‬والخير‬
‫والشر ‪ ،‬ليرى سبحانه كيف يصنع هؤلء العباد ‪ ،‬وكيف يطلبون مراضيه في‬
‫جميع الحوال ‪ } ،‬ونبلوكم بالشر والخير فتنة { ]النبياء ‪ :‬من الية ‪. [35‬‬
‫ولعلنا نقبس من نور هذه الية المباركة في الوقفات التالية ‪:‬‬
‫ظم العامة التي تحكم مسيرة الحياة يجد أن جوهر )البتلء(‬ ‫‪ -1‬الناظر في الن ُ ُ‬
‫يقوم على )التشتيت بين المتقابلت( حيث يؤدي عدم القيام بحق الحالة‬
‫الراهنة أو ما سماه القدماء بأدب الوقت إلى الخفاق في المتحان الذي‬
‫يعني تحول الخير إلى شر أو ارتفاع وتيرة الشر والتدهور ‪ ،‬ولعلنا نميط اللثام‬
‫عن هذا المعنى من خلل نموذجين اثنين ‪:‬‬
‫)أ( يسعى كل مجتمع إلى إيجاد أكبر قدر ممكن من التماثل بين أفراده بنية‬
‫المحافظة على قيمه وخصوصياته وزخمه الحركي ‪ ،‬وهذا التماثل من الخير‬
‫ول ريب لن البديل عنه هو الشقاق والحتراب الداخلي لكن التجربة‬
‫الجتماعية أثبتت أن الحرص على التماثل التام بين أفراد المجتمع يؤدي إلى‬
‫انقسامه على نفسه ‪ ،‬حيث يتشوف أعضاؤه ولسيما الصفوة منهم إلى النفاذ‬
‫إلى واقع المجتمع على نحوٍ منفرد ومنعهم من ذلك يؤدي إلى التوتر‬
‫الجتماعي ‪ ،‬ويجعل )التماهي( الظاهر عبارة عن شكل فارغ من المضمون ‪،‬‬
‫فينتشر النفاق الجتماعي والزدواجية في السلوك ‪ ،‬ومن ثم فإن المطلوب‬
‫هو قدر من التنوع الجتماعي واحترام الخصوصيات في إطار النظم الكبرى‬
‫للمجتمع وفي إطار أهدافه ومبادئه العامة ‪.‬‬
‫)ب( حث السلم على صلة الرحم وأداء حقوق القرابة ‪ ،‬ورتب في ذلك‬
‫أحكاما ً وآدابا ً عديدة ‪ ،‬واللتزام بها ورعايتها من الخير العظيم ‪ ،‬لكن ذلك لبد‬
‫أن يوقف عند حدود رعاية مسائل أخرى ل تقل أهمية وحيوية من مثل احترام‬
‫النظم التي تتولى توزيع وترتيب الحقوق والواجبات في المجتمع ‪ ،‬حيث ل‬
‫يصح لعامل القرابة أن يمس العدالة الجتماعية أو يضغط عليها ‪ ،‬الملحوظ‬
‫أن ما تسمى بـ )سيادة القانون( لم تأخذ أبعادها بشكل جيد في العصور‬
‫الحديثة إل حيث اضمحلت العلقات السرية والقرابية كما هو الشأن في‬
‫المجتمعات الغربية أما في المجتمعات السلمية حيث التواصل السري‬
‫والعائلي أمتن وأفضل ‪ ،‬فإن من الملحوظ أنه يتم الكثير من التجاوز والتفلت‬
‫من النظم العامة في سبيل إعطاء القرباء ما ليس لهم من مكتسبات ظنا ً‬
‫أن في ذلك صلة للرحم ! لكن هذا يعني عدم النجاح في البتلء والتشتت بين‬

‫‪174‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫المتقابلت ‪ ،‬إن إكرام القرباء ل ينبغي أن يتم على حساب الخرين ول بخرق‬
‫النظام العام ‪ ،‬وإل كان شرا ً وبلًء ‪.‬‬
‫ولعلنا ل نبالغ إذا قلنا إن من أشد ما عاناه التمدن السلمي في تاريخنا‬
‫الطويل كان نقل العرب من مرحلة )القبيلة( إلى مرحلة )الدولة( حيث يتم‬
‫الفصل شبه الكامل بين العلقات والحقوق الشخصية وغير الشخصية ‪ ،‬ونجد‬
‫إلى جانب هذا في سيرة النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬وسلوك أصحابه‬
‫الكرام موازنة دقيقة في هذا الشأن ‪ ،‬فالنبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬هو‬
‫الذي قال ‪ :‬يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت فإني ل أغني عنك‬
‫من الله شيئا ً ]‪ [1‬وهو الذي قال ‪ .... :‬لو أن فاطمة بنت محمد سرقت‬
‫لقطعت يدها ]‪. [2‬‬
‫ً‬
‫‪ -2‬النجاح في البتلء يقتضي نوعا من اليقظة لجميع قوانا العقلية والروحية‪،‬‬
‫حتى ل نقع في أسر اللحظة الحاضرة ونستسلم لخيرها وشرها رضائها‬
‫وكربها ‪ ،‬وهذا يعني نوعا ً من الستعلء على الواقع وعدم الركون إليه ‪،‬‬
‫والذوبان فيه ‪ ،‬وذلك إنما يقع عند الغفلة عن )نواة( البتلء الكامنة فيه ‪ ،‬على‬
‫نحو ما حدث من غفلة الرماة يوم أحد عن نواة البتلء في أمر النبي ‪-‬صلى‬
‫الله عليه وسلم‪ -‬لهم بالبقاء في مواقعهم مهما كان اتجاه المعركة ‪ ،‬فأدى‬
‫ذلك إلى تحويل النصر الذي كان يلوح في مستهل المعركة إلى هزيمة ! لكن‬
‫النبي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬لم يدع المسلمين يستسلمون لمرارة الهزيمة ‪،‬‬
‫ويغرقون في التلوم والندم ‪ ،‬وإنما اندفع بهم إلى ساحة ابتلء جديد بأمره‬
‫لهم بالتوجه إلى حمراء السد حيث تحولت مشاعر الفّر والنكسار إلى‬
‫مشاعر المبادأة والمطاردة للعدو ! ]‪. [3‬‬
‫ولعل مما يعصم عن الغرق في الحالة الراهنة تعود الستبصار وتقليب النظر‬
‫في الحالة الراهنة خيرها وشرها ‪ ،‬ومحاولة فهم المنطقية واللية التي أدت‬
‫إلى ولدتها وتجسدها ‪ ،‬وإذا ما تم ذلك أمكن أن نسيطر على تلك الحالة ‪،‬‬
‫ونتصرف إلى اتجاهات سيرها وتطورها ‪ ،‬فإذا كان البتلء عبارة عن خير أي‬
‫خير أصابه المؤمن ثمرة لجهده وكفاحه وجب عليه أن يستمر في ذلك الجهد‬
‫على نفس الوتيرة التي كان عليها ‪ ،‬وإذا كان قد أصابه من غير تعب كمن‬
‫ورث مال ً وْفرا ً وجب عليه أن يشكر الله على ذلك أول ً ‪ ،‬وأن يقوم ثانيا ً ببحث‬
‫السباب والعوامل التي تؤدي إلى المحافظة عليه وتنميته وتزكيته ‪ ،‬حتى ل‬
‫يشعر يوما ً ما أن النعمة التي هبطت عليه لم يكن يستحقها ! ‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫وإذا كان ما أصاب المؤمن من شر ومحنة بسبب أخطائه وخطاياه ‪ ،‬فإن‬


‫النجاح في مواجهة ذلك البتلء ل يكون إل بالخلص مما اقترفت يداه ‪ ،‬وبذلك‬
‫يستحق تغيير الله تعالى له كما قال سبحانه ‪ } :‬إن الله ل يغير ما بقوم حتى‬
‫يغيروا ما بأنفسهم { ]الرعد ‪. [11 :‬‬
‫وإذا كان ما أصابه بسبب ما جناه غيره فإن عليه أن يصبر ‪ ،‬ويحاول أن‬
‫يتجاوز ما هو فيه من بلء بتحوله من )صالح( إلى )مصلح( لن البلء حين يعم‬
‫بسبب انتشار الفساد ل يتأهل للنجاة منه إل الذين يسعون إلى تحجيمه‬
‫وتطهير المجتمع منه ‪ ،‬كما قال سبحانه ‪ [ :‬فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا‬
‫الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ]‬
‫] العراف ‪ ، [165 :‬ولبد للتوطئة لكل ذلك من سيادة روح المفاتحة‬
‫والمكاشفة والنقد المنصف البناء حتى ل تندغم الذات في الموضوع ‪ ،‬ونصبح‬

‫‪175‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫كمن كان يدفع العجلة إلى أن أصبح يجري وراءها مستسلما ً لقوة اندفاعها ‪.‬‬
‫‪ -3‬إن مبدأ )الزوجية( ملحوظ في الكثير الكثير من المخلوقات‬
‫والموجودات ‪ ،‬وهذا المبدأ كما أنه سبب في تكاثر الكائن الحي ونمو النوع‬
‫كذلك هو سبب في تحول حالت الرخاء والشدة ‪ ،‬ففي رحم كل رخاء )نواة(‬
‫لمحنة ‪ ،‬كما أن في أحشاء كل شدة نواة لرخاء ومنحة وهذا واضح في قوله‬
‫جل وعل ‪ } :‬فإن مع العسر يسرا‪ ،‬إن مع العسر يسرا { )الشرح ‪(6 ، 5 :‬‬
‫إن فهم هذه المسألة يقتضي منا أن نضع الحالة الراهنة التي نعيشها في‬
‫السياق التاريخي والسببي ‪ ،‬حتى يتبين لنا أنها ليست أكثر من حلقة في‬
‫سلسلة غير متجانسة من النجود والوهاد والنجاحات والخفاقات ‪.‬‬
‫إن هذه الدنيا ليست هي الظرف المناسب لتموضع )الحوال النهائية( في‬
‫خير أو شر ‪ ،‬وإنما هناك دائما ً خلف الباب محنة تنتظر إذا ما نحن أسأنا‬
‫جر‬ ‫التصرف بالمكانات التي بين أيدينا ‪ ،‬وفي المقابل فإن الشدائد والمحن تف ّ‬
‫روح المقاومة والصرار والعناد ‪ ،‬تلك الروح التي كثيرا ً ما تظل هاجعة خامدة‬
‫إلى أن تأتيها صدمة قوية توقظها من سباتها ‪ ،‬وهكذا فالمطلوب دائما ً أن‬
‫نكون في الموقع الصحيح لمواجهة البتلء ‪.‬‬
‫إن طبيعة البتلء تقوم على قاعدة من التوازنات العميقة والدقيقة ‪،‬‬
‫والنسان المبتلى يشبه في كثير من الحيان الذي يسير على حبل مشدود‬
‫فهو يطالب حتى ل يقع بأن يستنفذ كل قواه العقلية والجسمية على نحو‬
‫دقيق ومتوازن وإل ‪...‬‬
‫‪ -4‬تمتلك أمة السلم بحمد الله عددا ً من المنظومات المعيارية والرمزية‬
‫التي تمكنها من اختراق الحالة التي تعايشها ومعرفة أوجه البتلء فيها ‪ ،‬بل‬
‫وتمكن الصفوة الممتازة من أبنائها من معرفة نسب الخير والشر وحجم‬
‫اليجابيات والسلبيات في الواقع المعاش ‪ ،‬وهذه المعرفة تنظم أيضا ً ردود‬
‫أفعالنا على الطوارئ والوافدات الجديدة رفضا ً ومدافعة وتعديل ً وتهذيبا ً‬
‫وقبول ً وترحيبا ً ‪ ،‬وهذا يعني أن كل ابتلء جديد ل يدخل في حياة المة )الحية(‬
‫إل بعد أن يمر بمصفاة قيمها ومبادئها و )عقيدتها الجتماعية( ]‪ [4‬أيضا ً ‪،‬‬
‫وكلما كان وقع البتلء الجديد حادا ً ومكشوفا ً استطاع أن يستفز ردود أفعال‬
‫المة عليه بصورة قوية وسريعة ‪ ،‬فظاهرة الردة الولى كانت ابتلء كبيرا ً جدا ً‬
‫واجهته دولة الخلفة الوليدة في زمان أبي بكر رضي الله عنه بالقوة‬
‫والسرعة المكافئة ‪ ،‬لكن البتلء )المتدرج( الذي حصل بعد ذلك في صورة‬
‫فرق وعقائد فاسدة وانحرافات سلوكية وفي صورة تجديد أطر الدولة وفق‬
‫اتساع أمة السلم لم يستوفز الطاقات الكامنة في المة ‪ ،‬فلم تقم بواجبها‬
‫تجاهه ‪ ،‬ولعل هذا يدفعنا إلى القول ‪ :‬إن أخطر ما يغيب الحساس بالبتلء‬
‫على مستوى الفرد والجماعة معا ً ليس الكوارث الكبرى ول الجوائح العظيمة‬
‫وإنما )التغيرات البطيئة( التي تدخل من أضيق المسام ‪ ،‬فتتكيف المة معها‬
‫سلبيا ً على سبيل التدرج‪ ،‬وهذا ما حصل بالنسبة لمة السلم وما حدث لدول‬
‫عظمى في عصرنا الحديث ‪ ،‬فقد بدأت بريطانيا العظمى تتراجع عن مركزها‬
‫العالمي ‪ ،‬وبدأت الشيخوخة تدب في أوصالها منذ أكثر من قرن لكن ذلك لم‬
‫يظهر إل في الحرب العالمية الثانية ‪.‬‬
‫ومن الطريف أن بعض علماء )الحياء( جاءوا بضفدع ‪ ،‬ووضعوه في إناء‬
‫وأوقدوا تحته نارا ً هادئة ‪ ،‬فصارت درجة حرارة الماء ترتفع بمنتهى البطء ‪،‬‬
‫س بسخونة الماء لكن حدوث‬ ‫وكان المأمول أن يقفز الضفدع عندما يح ّ‬
‫در( وكانت‬ ‫التسخين على نحو بطيء أدى إلى أن يتحول )المحّرض( إلى )مخ ّ‬
‫النتيجة أن الضفدع انسلق دون أن يبدي أية مقاومة !‬

‫‪176‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وهنا تبرز مهمة العلماء الربانيين العظام والمفكرين المبدعين الذين يمتلكون‬
‫حاسة )الستشعار عن بعد( حيث يرون عواقب المور قبل فوات الوان ‪،‬‬
‫ويقومون بما تستحقه من مواجهة وعمل ‪ ،‬وفي هذا يقول سفيان الثوري‬
‫رحمه الله ‪ :‬الفتنة إذا أدبرت عرفها كل الناس ‪ ،‬وإذا أقبلت لم يعرفها إل‬
‫العالم ‪.‬‬
‫وحتى ننجح في مواجهة البتلء )التغيرات البطيئة( فإن علينا أن نقوم بأمرين‪:‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫أ‪ -‬النشداد إلى الصول والثوابت في المنشط والمكره والتأبي على انصهار‬
‫منهجيتنا وحاستنا النقدية في المعطيات الجديدة مع محاولة استيعاب تأثير‬
‫المستجدات على تلك الصول ومحاولة إيجاد التكييفات والتوظيفات التي‬
‫ترسخها ‪ ،‬وتجعلها تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ‪.‬‬
‫ب‪ -‬المتابعة الجادة والدقيقة لمجمل التغيرات التي تطرأ على حياتنا ل من‬
‫خلل الحدس والتخمين والملحظة العامة ‪ ،‬وإنما من خلل ) الرقم (‬
‫والساليب الكمية ‪ ،‬حتى نتعرف بدقة على سيرورة أحوالنا المختلفة‬
‫والمآلت الصائرة إليها ‪ ،‬وهذا لن يتم إل من خلل إعادة تنظيم حياتنا‬
‫ومؤسساتنا المختلفة على أسس جديدة بحيث تخصص كل جهة أو مؤسسة‬
‫قسما ً أو موظفا ً يتولى جمع المعلومات الخاصة بها ونشرها حتى ينمو‬
‫إحساس الناس ب )الكم( وطريقة قياسه ‪ ،‬وليس من المستفز اليوم ذلك‬
‫التلزم التام والمطلق بين درجة تحضر الدولة ودرجة تقدم الحصاء فيها ‪.‬‬
‫إن على المسلم أن يظل يكافح ويجاهد في سبيل التعرف على مراضي الله‬
‫تعالى في كل حالة من أحواله ‪ ،‬ويستشرف بعد ذلك عاقبة المتقين ‪.‬‬
‫__________________‬
‫)‪ (1‬أخرجه البخاري ‪.‬‬
‫)‪ (2‬أخرجه البخاري ‪.‬‬
‫)‪ (3‬انظر الرحيق المختوم ‪. 318 :‬‬
‫)‪ (4‬العقيدة الجتماعية عبارة عن جماع المبادئ والمصالح ومركز التوازن‬
‫بينهما ‪.‬‬
‫أ‪.‬د‪ .‬عبدالكريم بكار‬

‫)‪(3 /‬‬

‫________________________________________‬
‫ونطق التاريخ قبل أن ينطق الحجر‬
‫رئيسي ‪:‬عقائد ‪:‬الثلثاء ‪ 21‬ربيع الول ‪1425‬هـ ‪ 11-‬مايو ‪ 2004‬م‬
‫الحمد لله ‪ ،‬وبعد‪،،،‬‬
‫فإننا في زمن الستسلم باسم السلم‪ ،‬والتنازل باسم المفاوضات‪ ،‬زمن‬
‫قا‪ ،‬والناصح شريًرا‪ ،‬والملتزم بالدين‬
‫أحلمه وفكره وأدبه يصور العدو صدي ً‬
‫والقيم إرهابًيا‪ ،‬والرافض للنحلل رجعًيا‪ ،‬إنه زمان كثرت فيه معاول الهدم‬
‫التي تحطم جدار الولء والبراء‪ ،‬وتغير نظرتنا للعداء‪ ،‬وتغيب مفاهيم الجهاد‬
‫والعزة في سبيل الله‪ ،‬وكم تحتاج المة والحالة هذه إلى معرفة الداء‬
‫والدواء‪ ،‬وذلك بالرجوع إلى موردها الصافي‪.‬‬
‫وهذه معالم في تاريخ المعركة مع اليهود‪ ،‬أسوقها تذكره لنا بحقيقة العداء‪،‬‬

‫‪177‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ولنبين خطرهم على المة‪ ،‬إنها معالم سوداء في صفحات اليهود‪ ،‬وحقائق‬
‫ذكرها الله عن اليهود‪ ،‬وهي من القرآن والسنة والشواهد التاريخية الصادقة‪،‬‬
‫وهذه المعالم التي سنذكرها ينبغي أن نعلمها وُنعلمها وأن نسوقها لجيالنا؛‬
‫حتى ل نغتر باليهود‪ ،‬وحتى ل نسالم اليهود‪ ،‬وحتى ل نتنازل مع اليهود‪.‬‬
‫ومن أبرز هذه المعالم التي جاءت في القرآن عن اليهود‪:‬‬
‫معلم الول‪ :‬عدواتهم للنسانية عامة‪ ،‬وللمؤمنين خاصة‪:‬‬ ‫ال َ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫كوا‪]{[82]...‬سورة‬ ‫شَر ُ‬‫نأ ْ‬ ‫ذي َ‬
‫مُنوا الي َُهود َ َوال ِ‬
‫نآ َ‬‫ذي َ‬
‫داوَة ً ل ِل ِ‬
‫س عَ َ‬ ‫نأ َ‬
‫شد ّ الّنا ِ‬ ‫}ل َت َ ِ‬
‫جد َ ّ‬
‫المائدة[‪ .‬قال ابن كثير‪' :‬ما ذلك إل لن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة‬
‫للحق‪ ،‬وغمط للناس‪ ،‬وتنقص بحملة العلم؛ ولذلك قتلوا كثيًرا من النبياء حتى‬
‫هموا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ذات مرة‪ ،‬وسموه وألبوا عليه‬
‫أشباههم من المشركين‪ ،‬عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة'‪.‬‬
‫فعداوة اليهود هذه تشهد بخستها القرون الغابرة‪ ،‬وتؤكدها العصار اللحقة‪،‬‬
‫أذكر منها‪:‬‬
‫ما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم فحاولوا أكثر من مرة قتله‪ ،‬فلم‬
‫يفلحوا‪ ،‬تعاونوا مع المشركين ومع المنافقين لحربه ولكنهم لم يوفقوا‪ ،‬بل‬
‫وأعلنوا العداوة بكل وقاحة وصراحة مع كونهم يعترفون بنبوته‪ ،‬ولكنهم كفروا‬
‫دا وبغًيا حتى الممات‪ ،‬فهذا زعيم من زعماء بني إسرائيل الغابرين‬ ‫به؛ حس ً‬
‫حيي بن أخطب زعيم يهود بني النضير سأله أخوه أبو ياسر‪ :‬أهو هو؟ قال‪:‬‬
‫نعم والله إنه لمحمد‪ ،‬قال‪ :‬أتعرفه وتثبته؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فما في نفسك‬
‫منه؟ قال‪ :‬عدواته والله ما بقيت‪.‬‬
‫واستمرت عداوة اليهود للسلم والمسلمين‪:‬فبعد وفاة النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم في أيام الخلفاء الراشدين يخرج ذلك القذر عبد الله بن سبأ اليهودي‬
‫ليشعل الفتنة‪ ،‬ويبذر الخلف بين المسلمين‪ ،‬وكانت الفتنة وكانت الحروب‪.‬‬
‫ونتجاوز الزمن ونقف عند الدولة العثمانية‪ :‬حاول اليهود ليسمح لهم بالهجرة‬
‫إلى فلسطين‪ ،‬ليستوطنوا فيها‪ ،‬فأصدر السلطان عبد الحميد أمًرا بمنع اليهود‬
‫القادمين لزيارة بيت المقدس من القامة في القدس أكثر من ثلثة أشهر‪،‬‬
‫ثم يعيدون الكرة مع السلطان عبد الحميد الثاني‪ ،‬ويعيدونه ويمنونه بالهبات‬
‫والموال والقتصاد‪ ..‬لقد وعدوه بسداد الديون المستحقة على بني عثمان‪،‬‬
‫وعلى تقديم القروض الئتمانية لتطوير الزراعة والقتصاد في دولة بني‬
‫عثمان‪ ،‬وعلى إنشاء جامعة في اسنطبول تغني الطلبة التراك من أن‬
‫يسافروا إلى أوروبا‪ ..‬كل هذه الوعود والهبات‪ ،‬مقابل إنشاء مستعمرة قرب‬
‫القدس‪ ،‬فهل تنازل المسلم؟‬
‫ل‪ ..‬بل أجابهم بالرفض التام والتوبيخ كما في الوثائق المشهورة عنه‪ ،‬فماذا‬
‫فعلوا مع هذا السلطان؟ لقد حققوا أهدافهم وتآمروا مع الدول الكبرى‬
‫لسقاط الدولة العثمانية‪ ،‬فأسقطوها‪ ،‬واختاروا الزعماء المناسبين لها‪ ،‬الذين‬
‫أعلنوا العلمانية‪ ،‬وفعلوا بالمسلمين ما فعلوا‪.‬‬
‫خا مضى وانتهى‪ ،‬بل هي‬ ‫ويستمر العداء ويؤكده الخلف‪ ،‬فليست عداوتهم تاري ً‬
‫عقيدة راسخة يلقنها الباء للبناء‪ ،‬فهذا مناحم بيجن يقول‪ ':‬أنتم أيها‬
‫السرائيليون ل يجب أن تشعروا بالشفقة حتى تقضوا على عدوكم ول عطف‬
‫ول رثاء حتى تنتهوا بإبادة ما يسمى بالحضارة السلمية التي سنبني على‬
‫أنقاضها حضارتنا'‪ .‬ويقول بن غوريون‪ ':‬نحن ل نخشى الشتراكيات ول‬
‫الثوريات‪ ،‬ول الديمقراطيات‪ ،‬نحن فقط نخشى السلم‪ ،‬هذا المارد الذي نام‬
‫طويًل وبدأ يتململ'‪ .‬وهذا إسحاق شامير يقول ‪-‬في حفل استقبال اليهود‬
‫السوفيت المهاجرين إلى إسرائيل‪':-‬إن إسرائيل الكبرى‪ :‬من البحر إلى‬

‫‪178‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫النهر‪ ،‬وهي عقيدتي وحلمي شخصًيا‪ ،‬وبدون هذا الكيان لن تكتمل الهجرة‪ ،‬ول‬
‫الصعود على أرض الميعاد‪ ،‬ولن يتحقق أمننا ول سلمنا'‪.‬‬
‫هكذا يخططون‪ ،‬ويأبى الله والمؤمنون أن يتحقق لهم ما يريدون‪ ،‬وفينا أهل‬
‫الجهاد‪ ،‬وفينا أهل الجد والعمل‪.‬‬
‫معلم الثاني ‪-‬وهو بارز في تاريخ اليهود‪ -‬فهو نقضهم للعهود‪ ،‬وخيانتهم‬
‫ال َ‬
‫للمواثيق‪:‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫م ِفي‬ ‫ن عَهْد َهُ ْ‬ ‫ضو َ‬ ‫ق ُ‬ ‫م ثُ ّ‬


‫م ي َن ْ ُ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ت ِ‬ ‫عاهَد ْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫قال تعالى مجلًيا هذه الحقيقة‪}:‬ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫دا‬ ‫دوا عَهْ ً‬ ‫عاهَ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن]‪]{[56‬سورة النفال[‪ .‬ويقول‪ }:‬أوَك ُل ّ َ‬ ‫قو َ‬ ‫م ل ي َت ّ ُ‬ ‫مّرةٍ وَهُ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫كُ ّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن ]‪]{[100‬سورة البقرة[‪ .‬فهذه شهادة‬ ‫مُنو َ‬ ‫م ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ل أكث َُرهُ ْ‬ ‫م بَ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ريقٌ ِ‬ ‫ن َب َذ َه ُ فَ ِ‬
‫ربنا على اليهود‪ ،‬فما هي شهادة الواقع على هؤلء القوام‪:‬‬
‫‪ -‬لقد عاهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم وكتب بينه وبينهم كتاًبا حين‬
‫وصل إلى المدينة‪ ،‬فهل التزم اليهود العهد؟ هل احترموا الميثاق؟ هل نفذوا‬
‫بنود السلم؟‬
‫كل فقد غدر يهود بنو قينقاع بعد غزوة بدر‪ ،‬والمعاهدة لم يمض عليها إل سنة‬
‫واحدة‪ ،‬وغدرت يهود بني النضير بعد غزة أحد‪ .‬تجرءوا على المسلمين بعدما‬
‫أصابهم من البلء في هذه الغزو الشديدة‪ ،‬وغدرت بنو قريظة عهدهم في‬
‫أشد الظروف وأحلكها على المسلمين يوم الحزاب‪.‬‬
‫إن اليهود قوم بهت خونة كما قال عبد الله بن سلم الذي كان يهودًيا فأسلم‬
‫رضي الله عنه وأرضاه‪ ،‬هم نقضة العهود‪ ،‬هم نقضة المواثيق‪ ،‬فإذا كان هذا‬
‫واقعهم مع من يعرفون صدقه ونبوته كما يعرفون أبناءهم‪ ،‬فهل يرجى من‬
‫اليهود حفظ العهود مع الخرين؟!‬
‫إذا كان هذا حالهم مع من يعدونه نبًيا صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فكيف يكون‬
‫الحال مع من يرونه ذ َن ًَبا؟! وتلك هي حالهم في وقت عز المسلمين واجتماع‬
‫كلمتهم‪ ،‬فكيف يكون حالهم الن مع ضعف المسلمين وتفرقهم؟!‬
‫إن اليهود ينظرون إلى العهود مع غيرهم على أنها ضرورة لغراض مرحلية‪،‬‬
‫أو لمقتضيات مصلحة آتية‪ ،‬فإذا استنفذوا هذه الغراض المرحلية؛ نقضوا‬
‫الميثاق‪ ،‬وهذه هي طبيعة اليهود‪.‬‬
‫إن من الجهل والحمق الثقة بأي معاهدة يبرمها اليهود‪ ،‬وبأي اتفاق يتم مع‬
‫حا آمًنا‪،‬‬ ‫ما صادًقا‪ ،‬أو ينشدون صل ً‬ ‫اليهود‪ ،‬وإن الذين يعتقدون من اليهود التزا ً‬
‫ل؛ هؤلء إنما يجرون وراء السراب الخادع‪ ،‬ويحرثون‬ ‫ما شام ً‬ ‫ما عادل ً دائ ً‬ ‫أو سل ً‬
‫في البحر الهائج‪ ..‬كيف ل‪ ،‬وفي حكم ربنا عليهم في نقض العهود والمواثيق‪.‬‬
‫َ‬
‫دا ن َب َذ َهُ‬ ‫دوا عَهْ ً‬ ‫عاهَ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫وليس ذلك بحكم فئة منهم‪ ،‬بل أكثرهم ل يؤمنون‪ }:‬أوَ ك ُل ّ َ‬
‫فَريق منهم ب ْ َ‬
‫ن]‪]{[100‬سورة البقرة[‪.‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫م َل ي ُؤْ ِ‬ ‫ل أك ْث َُرهُ ْ‬ ‫ِ ٌ ِ ُْ ْ َ‬
‫المعلم الثالث‪:‬من المعالم القرآنية التي حكم الله بها على اليهود أن التفرق‬
‫ض فيهم إلى يوم القيامة‪:‬‬ ‫والشتات ما ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫ن ذ َل ِك وَب َلوَْناهُ ْ‬ ‫م ُدو َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ن وَ ِ‬‫حو َ‬ ‫صال ِ ُ‬‫م ال ّ‬ ‫من ْهُ ُ‬ ‫ما ِ‬ ‫م ً‬ ‫ضأ َ‬ ‫م ِفي الْر ِ‬ ‫}وَقَط ّعَْناهُ ْ‬
‫َ‬
‫ن]‪]{[168‬سورة العراف[ ‪...} .‬وَأل ْ َ‬
‫قي َْنا‬ ‫جُعو َ‬ ‫م ي َْر ِ‬ ‫ت ل َعَل ّهُ ْ‬ ‫سي َّئا ِ‬ ‫ت َوال ّ‬ ‫سَنا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫ة‪]{[64]...‬سورة المائدة[‪.‬‬ ‫م ِ‬ ‫ضاَء إ َِلى ي َوْم ِ ال ْ ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫داوَة َ َوال ْب َغْ َ‬ ‫م ال ْعَ َ‬ ‫ب َي ْن َهُ ُ‬
‫شّتى‪]{[14]...‬سورة الحشر[‪ .‬نعم فهذه سنة‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ميًعا وَقُلوب ُهُ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫م َ‬ ‫سب ُهُ ْ‬
‫ح َ‬ ‫}‪...‬ت َ ْ‬
‫ما‬ ‫من سنن الله في اليهود ماضية وهي باقية يعلمها من سبر تاريخهم قدي ً‬
‫وحديًثا‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫فبعصرنا الحاضر وفي دولة ما يسمى إسرائيل يوجد من العداوة والبغضاء‬


‫والتفرقة العنصرية بين اليهود ما الله به عليم‪ ،‬اليهود الذين جاءوا من الشرق‬
‫يعادون أهل الغرب‪ ،‬واليهود الذين جاءوا من أوروبا ينظرون إلى يهود العراق‬
‫وفي اليمن ويهود الفلشا نظرة دونية‪ ،‬يتعاملون معهم بالطبقية‪ ،‬وصدق الله‪:‬‬
‫شّتى‪]{[14]...‬سورة الحشر[‪.‬‬ ‫م َ‬ ‫ميًعا وَقُُلوب ُهُ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫م َ‬ ‫سب ُهُ ْ‬
‫ح َ‬ ‫}‪...‬ت َ ْ‬
‫فل تظنوا أن يهود اليوم صف واحد‪ ،‬وبنيان مرصوص كل فبنيانهم مثل بيت‬
‫العنكبوت‪...}:‬وإ َ‬
‫ن]‪{[41‬‬ ‫مو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْل َ ُ‬
‫ت ل َوْ َ‬‫ت ال ْعَن ْك َُبو ِ‬
‫ت ل َب َي ْ ُ‬‫ن ال ْب ُُيو ِ‬ ‫ن أوْهَ َ‬‫َِ ّ‬
‫]سورة العنكبوت[‪.‬‬
‫وما يخيل لبعض المسلمين اليوم من هيبة وقوة واجتماع كلمة اليهود‪،‬‬
‫وسيطرتهم على العالم اقتصادًيا وسياسًيا‪ ،‬وما إلى ذلك إنما يبرز بسبب واقع‬
‫المسلمين‪ ،‬فهم ل يجتمعون إل إذا تفرقنا‪ ،‬ول يتحركون إل إذا نمنا‪ ،‬ول يقوون‬
‫إل إذا ضعفنا‪.‬‬
‫ما يحصل لهم من القوة والعزة إنما يبزر بسبب واقع المسلمين من التفرقة‬
‫والضعف والشتات‪ ،‬لكن حينما نعود إلى كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه‬
‫وسلم؛ ينقشع عنا هذا الكابوس وسنبصر حقيقة الحال‪ ،‬وتذهب الغشاوة عن‬
‫العيون‪ ،‬ويفر اليهود كما تفر الفئران‪ ،‬ليحتموا بقصورهم وحصونهم‬
‫ن وََراِء‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫قات ُِلونك ُم جميعا ً إّل في ُقرى محصنة أ َ‬ ‫وأشجارهم وصدق الله‪} :‬ل ي ُ َ‬
‫ً ُ َ َ ّ َ ٍ ْ ِ ْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ ْ َ ِ‬
‫ْ‬
‫مل‬ ‫م قَوْ ٌ‬ ‫ك ب ِأن ّهُ ْ‬‫شّتى ذ َل ِ َ‬‫م َ‬ ‫ميعا ً وَقُُلوب ُهُ ْ‬‫ج ِ‬
‫م َ‬ ‫سب ُهُ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ديد ٌ ت َ ْ‬
‫ش ِ‬‫م َ‬ ‫م ب َي ْن َهُ ْ‬‫سهُ ْ‬ ‫جد ُرٍ ب َأ ُ‬ ‫ُ‬
‫ن]‪]{[14‬سورة الحشر[‪.‬‬ ‫َ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫ق‬
‫يَ ْ ِ‬
‫ع‬
‫والواقع الن يقرر هذا‪ :‬فهم يخافون من شباب وفتيات فلسطين‪ ،‬يخافون من‬
‫الصغار والطفال الذين ل يملكون إل حفنات الحصى والرمال‪ .‬وذكرت بعض‬
‫التقارير أن غالب الصابات في الفتيان والطفال ل تأتي إل في الرءوس وفي‬
‫الصدور؛ لن اليهود يخافون من هؤلء الطفال والشباب الذين يحملون‬
‫الرادة القوية‪ ،‬والعزيمة الماضية‪ ،‬والحماس والجهاد في سبيل الله‪.‬‬
‫المعلم الرابع‪ :‬التطاول على الذات اللهية‪ ،‬وإساءة الدب مع الله‪:‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ما َقاُلوا ب َ ْ‬ ‫َ‬


‫داهُ‬‫ل يَ َ‬ ‫م وَل ُعُِنوا ب ِ َ‬‫ديهِ ْ‬
‫ت أي ْ ِ‬‫ة غُل ّ ْ‬ ‫مغُْلول َ ٌ‬ ‫ت ال ْي َُهود ُ ي َد ُ الل ّهِ َ‬ ‫}وََقال َ ِ‬
‫ل‬ ‫معَ الل ّ ُ‬
‫ه قَوْ َ‬ ‫س ِ‬‫قد ْ َ‬ ‫شاء‪]{[64]...‬سورة المائدة[ ‪} .‬ل َ َ‬ ‫ف يَ َ‬ ‫فقُ ك َي ْ َ‬ ‫ن ي ُن ْ ِ‬‫سوط ََتا ِ‬ ‫مب ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ن اغن َِياُء‪]{[181]...‬سورة آل عمران[‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ح ُ‬ ‫قيٌر وَن َ ْ‬ ‫َ‬
‫هف ِ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ُ‬
‫ن قالوا إ ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ال ِ‬
‫المعلم الخامس‪:‬التزوير المتعمد لكتاب الله المنزل عليهم وتغييرهم لحقائق‬
‫الدين‪:‬‬
‫ن‬
‫ذي َ‬‫ل ل ِل ّ ِ‬‫ه‪]{[46]...‬سورة النساء[ }‪...‬فَوَي ْ ٌ‬ ‫ضعِ ِ‬‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن َ‬‫م عَ ْ‬ ‫ن ال ْك َل ِ َ‬ ‫حّرُفو َ‬ ‫}‪...‬ي ُ َ‬
‫َ‬
‫ه‪]{[79]...‬سورة البقرة[ ‪.‬‬ ‫عن ْدِ الل ّ ِ‬
‫ن ِ‬‫م ْ‬‫ذا ِ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ب ب ِأي ْ ِ‬ ‫ن ال ْك َِتا َ‬ ‫ي َك ْت ُُبو َ‬
‫فاختلقوا كتاًبا من عند أنفسهم‪ ،‬وأضفوا عليه من القداسة أكثر من التوراة‬
‫المنزلة على نبي الله موسى‪ ،‬بل ويفضلونه على شريعة موسى‪ ،‬وفي‬
‫التلمود نص يشير إلى أن من يخالف شريعة موسى خطيئته مغفورة‪ ،‬أما من‬
‫يخالف التلمود‪ ،‬فإنه يعاقب بالقتل‪ .‬والتلمود هو شرح للتوراة ألفه أحبارهم‬
‫وعلماؤهم‪ ،‬يمجد الشعب المختار‪ ،‬ويدنس النبياء الطهار‪ ،‬ويعد الناس‬
‫حيوانات‪ ،‬ويأمر بأكل أموال الناس بالباطل حتى تعود إلى ملك شعب الله‬
‫المختار‪..‬إلخ الترهات والعجائب‪.‬‬
‫المعلم السادس‪:‬ارتكابهم للموبقات‪ ،‬وانحرافاتهم الخلقية‪:‬‬
‫فهم أكلة المال الحرام‪ ،‬أكلة الربا‪ ،‬أكلة السحت‪ ،‬يقول الله مبيًنا هذا الفساد‬

‫‪180‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬
‫َ‬
‫ما‬ ‫س َ‬ ‫ت ل َب ِئ ْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫س ْ‬‫م ال ّ‬ ‫ن وَأك ْل ِهِ ُ‬ ‫ن ِفي اْل ِث ْم ِ َوال ْعُد َْوا ِ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫م يُ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫}وَت ََرى ك َِثيًرا ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م وَأك ْل ِهِ ُ‬
‫م‬ ‫م اْل ِث ْ َ‬ ‫ن قَوْل ِهِ ُ‬ ‫حَباُر عَ ْ‬ ‫ن َواْل ْ‬ ‫م الّرّبان ِّيو َ‬ ‫ن]‪[62‬ل َوَْل ي َن َْهاهُ ُ‬ ‫مُلو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫َ‬
‫ن]‪]{[63‬سورة المائدة[‪ .‬ولم تستخدم كلمة‬ ‫صن َُعو َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫ت ل َب ِئ ْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫س ْ‬ ‫ال ّ‬
‫السحت في القرآن إل في حق اليهود‪.‬‬
‫المعلم السابع‪:‬من المعالم التي ذكرها الله عن اليهود‪:‬‬
‫أن القوة الرهيبة هي التي تحملهم على اللتزام بالشرائع‪ ،‬وتطبيق العهود‬
‫والمواثيق‪ :‬فالشخصية اليهودية ملتوية تطلق لنفسها العنان في الفساد‪،‬‬
‫وتبحر في بحار الشهوات بل ضابط‪ ،‬ول قيود‪ ،‬لقد جاءهم موسى عليه السلم‬
‫عظ َ ً‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫مو ْ ِ‬ ‫يٍء َ‬ ‫شُ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫واِح ِ‬
‫َ‬ ‫ه ِفي اْْلل ْ َ‬ ‫بألواح التوراة كما قال تعالى‪} :‬وَك َت َب َْنا ل َ ُ‬
‫ْ‬ ‫صيًل ل ِك ُ ّ‬
‫م َداَر‬ ‫سأِريك ُ ْ‬ ‫سن َِها َ‬ ‫ح َ‬ ‫ذوا ب ِأ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫ك ي َأ ُ‬ ‫م َ‬ ‫مْر قَوْ َ‬ ‫قوّةٍ وَأ ُ‬ ‫ها ب ِ ُ‬ ‫خذ ْ َ‬ ‫يٍء فَ ُ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ف ِ‬ ‫وَت َ ْ‬
‫ن]‪]{[145‬سورة العراف[‪.‬‬ ‫قي َ‬ ‫س ِ‬ ‫فا ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫قال بن جرير‪ ':‬قال بن عباس رضي الله عنه‪ :‬أمرهم موسى بالذي أمره الله‬
‫أن يبلغهم إياه من الوظائف والشرائع ثقلت عليهم‪ ،‬وأبوا أن يقروا بها‪ ،‬حتى‬
‫نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظله‪ ،‬قال‪ :‬رفعته الملئكة فوق رءوسهم' ‪.‬‬
‫المعلم الثامن‪:‬كثرة إشعالهم للحروب والفتن‪ ،‬وإفسادهم في الرض‪:‬‬
‫َ‬ ‫ب أ َط َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ها‬ ‫فأ َ‬ ‫حْر ِ‬ ‫دوا َناًرا ل ِل ْ َ‬ ‫ما أوْقَ ُ‬ ‫ولكن الله تولى إخماد حربهم وإفسادهم‪} :‬ك ُل ّ َ‬
‫َْ‬
‫ن]‪]{[64‬سورة‬ ‫دي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬ ‫ساًدا َوالل ّ ُ‬ ‫ض فَ َ‬ ‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫سعَوْ َ‬ ‫ه وَي َ ْ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫المائدة[ ‪ .‬ومع تكبر اليهود وفسادهم ومع كل لما مضى من خبرهم وحقائقهم‬
‫دا‬
‫يأبى الله إل أن ينتقم من هذه الحثالة الفاسدة في الحياة الدنيا‪ ،‬فيبعث جن ً‬
‫من جنده لتقليم أظافر اليهود كلما تطاولت إلى يوم القيامة‪ ،‬وبتسليط‬
‫َ‬
‫الشعوب والمم عليهم كلما طغوا وأفسدوا وتجبروا‪ ،‬وصدق الله‪} :‬وَإ ِذ ْ ت َأذ ّ َ‬
‫ن‬
‫ع‬
‫ري ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ك لَ َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫ب إِ ّ‬ ‫ذا ِ‬ ‫سوَء ال ْعَ َ‬ ‫م ُ‬ ‫مهُ ْ‬ ‫سو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫م ْ‬‫مةِ َ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م إ َِلى ي َوْم ِ ال ْ ِ‬ ‫ن عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ك ل َي َب ْعَث َ ّ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫م]‪]{[167‬سورة العراف[‪.‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه لغَ ُ‬ ‫َ‬ ‫ب وَإ ِن ّ ُ‬ ‫قا ِ‬ ‫ال ْعِ َ‬
‫لقد حكم الله عليهم بالهزيمة في الدنيا كلما عادوا إلى الفساد مع ما يدخره‬
‫م‬
‫جهَن ّ َ‬ ‫جعَل َْنا َ‬ ‫م عُد َْنا وَ َ‬ ‫ن عُد ْت ُ ْ‬ ‫لهم في الخرة من العذاب والنكال الشديد‪...} :‬وَإ ِ ْ‬
‫صيًرا]‪]{[8‬سورة السراء[‪.‬هذا في القرآن‪.‬‬ ‫ح ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ل ِل ْ َ‬
‫وفي صحيح السنة أخبر الصادق المصدوق عن الملحم التي تكون في آخر‬
‫ن‬
‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫قات ِ َ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫ة َ‬ ‫ساعَ ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫قو ُ‬ ‫الزمان‪ ،‬ومن بينها الحرب مع اليهود‪ ] :‬ل ت َ ُ‬
‫ر‬
‫ج ِ‬ ‫ش َ‬ ‫جرِ َوال ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ْ‬
‫ن وََراِء ال َ‬ ‫م ْ‬ ‫ئ ال ْي َُهودِيّ ِ‬ ‫خت َب ِ َ‬ ‫حّتى ي َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫قت ُل ُهُ ْ‬ ‫ال ْي َُهود َ فَي َ ْ‬
‫َ‬
‫ل َفاقْت ُل ْ ُ‬
‫ه‬ ‫في فَت ََعا َ‬ ‫خل ْ ِ‬ ‫ذا ي َُهودِيّ َ‬ ‫م َيا عَب ْد َ الل ّهِ هَ َ‬ ‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫جُر َيا ُ‬ ‫ش َ‬ ‫جُر أوْ ال ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫فَي َ ُ‬
‫جرِ ال ْي َُهود ِ [ رواه مسلم‪.‬‬ ‫ش َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫إ ِّل ال ْغَْرقَد َ فَإ ِن ّ ُ‬
‫هذه معالم وحقائق في تاريخ المعركة الصراع مع اليهود‪ ،‬ونحن ننتظر‬
‫المعركة الفاصلة مع بني صهيون كما أخبر الصادق المصدوق‪ ،‬ول شك أن‬
‫العلم بهذه المعالم والحقائق مهم في كل زمان‪ ،‬وهو في أزماننا هذه أهم‪،‬‬
‫وقد قيل‪ :‬أن معرفة المؤمنين بحالهم وحال أعدائهم هي نصف المعركة‪.‬‬
‫نعم‪ ..‬تنظير المشكلة‪ ،‬ومعرفة العدو وماذا يخطط وماذا يفعل؟ نصف‬
‫المعركة‪.‬‬

‫)‪(3 /‬‬

‫وهذا منهج قرآني فربنا تكلم عن اليهود في غير ما آية‪ ،‬وتكلم عن أهل‬
‫م ال ْعَد ُوّ‬
‫الكتاب‪ ،‬وتكلم عن المنافقين؛ لنحذرهم ونستعد للمعركة‪...} :‬هُ ُ‬
‫م‪]{[4]...‬سورة المنافقون[‪ .‬حتى ل تنخدع بأحابيلهم مهما أرضونا‬ ‫َفا ْ‬
‫حذ َْرهُ ْ‬
‫بالكلم المعسول من السلم‪ ،‬من العدل‪ ،‬من المصالحة‪ ،‬من حقوق النسان‪،‬‬

‫‪181‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ولكن ما تخفي صدورهم أكبر‪ ،‬ما تجن لنا نواياهم من الحقد والشر أكبر‬
‫وأعظم‪.‬‬
‫ويبقى شق مهم‪ :‬وهو العمل والستعداد مجرد أن تعلم حقيقة العداء‪ ،‬هذا ل‬
‫ست َط َعْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ما ا ْ‬ ‫م َ‬ ‫دوا ل َهُ ْ‬ ‫ع ّ‬ ‫يكفينا يجب أن نعمل‪ ،‬وأن نستعد‪ ،‬وأن نعد العدة‪ } :‬وَأ َ ِ‬
‫م َل‬ ‫ن ُدون ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬‫م َوآ َ‬ ‫ن ب ِهِ عَد ُوّ الل ّهِ وَعَد ُوّك ُ ْ‬ ‫ل ت ُْرهُِبو َ‬ ‫خي ْ ِ‬‫ط ال ْ َ‬ ‫ن رَِبا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن قُوّةٍ وَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫م‪]{[60]...‬سورة النفال[‪ .‬ول بد أن نقوم بالنصرة‪.‬‬ ‫ه‬ ‫م‬‫َ‬
‫ُ َْ ُ ُ ْ‬‫ل‬ ‫ع‬‫ي‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫تَ ْ ُ َ ُ ُ‬
‫ه‬ ‫ن‬‫مو‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫هذه الحقائق والمعالم عن اليهود وعن أخلقهم وعداوتهم ونقضهم للعهود‬
‫هي من الكتاب والسنة ل يلغيها تخاذل متنازل قبل النزال‪ ،‬ويمحوها من‬
‫ذاكرة الوجود تراخي وخور منافق ألقى السلح‪ ،‬وترك الكتاب‪ ،‬وبدأ يهرول‬
‫في اتجاه العدو في مسرحية وجهز له السلح‪ .‬ويريدون تغييبنا إعلمًيا‪،‬‬
‫نتعرض لتغييب بالتلعب باللفاظ والمفاهيم‪ ،‬فيسمى الجهاد ثورة‪ ،‬والقتال‬
‫انتفاضة‪ ،‬والمجاهد متطرًفا‪.‬‬
‫نتعرض لتغييب شباب المة عن معاني الجهاد والكرامة والعزة و الستعداد‪،‬‬
‫يغيبون شبابنا بالجنس والشهوة والرياضة‪ .‬يغيبون شبابنا عن معالي المور‪،‬‬
‫يلهون شبابنا بالدنيا‪ .‬نتعرض إلى تغييب في مناهج التعليم بسبب التطبيع‪ .‬هل‬
‫بعد ما ذكره ربنا يتلعب بمناهجنا التي تعادي بني إسرائيل؟!‬
‫ن ]‪]{[7‬سورة‬ ‫ضاّلي َ‬ ‫م وََل ال ّ‬ ‫ب عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ضو ِ‬ ‫مغْ ُ‬ ‫لن يمسحوا من قلوبنا‪}:‬غَي ْرِ ال ْ َ‬
‫َ‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫داوَة ً ل ِل ّ ِ‬ ‫س عَ َ‬ ‫شد ّ الّنا ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫جد َ ّ‬ ‫الفاتحة[‪ .‬ولن يمسحوا من صدورنا‪ } :‬ل َت َ ِ‬
‫كوا‪]{[82]...‬سورة المائدة[ ‪.‬‬ ‫شَر ُ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ْي َُهود َ َوال ّ ِ‬
‫ففروا إلى ربكم‪ ،‬وإلى سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم‪ :‬ول يغرنكم كثرة‬
‫هّ‬
‫ن الل َ‬ ‫صُره ُ إ ِ ّ‬ ‫ن ي َن ْ ُ‬‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫صَر ّ‬ ‫عدوكم فإن الله تكفل بنصرة هذا الدين‪ } :‬وَل َي َن ْ ُ‬
‫َ‬
‫ن‬‫كو َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫سى أ ْ‬ ‫ل عَ َ‬ ‫مَتى هُوَ قُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫زيٌز]‪]{[40‬سورة الحج[‪...} .‬وَي َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫قوِيّ عَ‬ ‫لَ َ‬
‫َ‬
‫ب]‪]{[214‬سورة‬ ‫ري ٌ‬ ‫صَر الل ّهِ قَ ِ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫ريًبا]‪]{[51‬سورة السراء[ ‪...} .‬أَل إ ِ ّ‬ ‫قَ ِ‬
‫البقرة[‪.‬‬
‫ول يغرنكم ما عندهم من القنابل النووية‪ ،‬أو غيرها‪ ،‬ل يغرنك كل هذا‪ ،‬فهذه‬
‫تزول أمام صيحات التكبير‪ ،‬وهذه تتلشى أمام عزائم المجاهدين الصادقين‪:‬‬
‫فُروا ِفي ال ْب َِلِد]‪]{[196‬سورة آل عمران[‪ .‬قوة عما‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫قل ّ ُ‬
‫ك تَ َ‬ ‫} َل ي َغُّرن ّ َ‬
‫ْ‬
‫مَهاُد]‪]{[197‬سورة آل‬ ‫س ال ْ ِ‬‫م وَب ِئ ْ َ‬ ‫جهَن ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫مأَواهُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل ثُ ّ‬ ‫مَتاع ٌ قَِلي ٌ‬ ‫قليل تتلشى‪َ } ..‬‬
‫عمران[‪.‬‬
‫ولتعلم أمة السلم أنها لن ترجع إل بالجهاد والعمل الجاد‪ ،‬فماذا فعلنا يا عباد‬
‫الله؟‬
‫هل جاهدنا؟هل تحركنا؟ نعم لقد جاهدنا بالجتماعات التي نهايتها الشجب‬
‫والستنكار وامتصاص غضب الجماهير‪.‬‬
‫لقد حررنا ولكن بالصياح‪ ،‬لقد تحركنا ولكن بالخطب الرنانة‪ ،‬شجبنا بالكلم‬
‫ولم نحمل سلح‪ ،‬ولم نركب على سفينة‪.‬‬
‫نشكو إلى مجلس المن الدعي!‬
‫إن الصياح والشجب والتنديد والستنكار لن يداوي جراحات المسلمين‪ ،‬ولن‬
‫ضا مسلوًبا‪.‬‬ ‫قا مغتصًبا‪ ،‬أو عر ً‬ ‫يعيد للمة ح ً‬
‫إن التسول على عتبات هيئة المم ومجالس المن لن يوقف حمامات الدم‪.‬‬
‫لن يوقف ذلك إل غضبة كغضبة المعتصم‪.‬‬
‫لقد جربنا لغة التفاوض‪ ،‬ولغة السلم‪ ،‬فلم تفلح معهم إن اللغة التي يفهموها‬
‫هي لغة القوة‪ ،‬وليس غير القوة‪ ،‬إن القوة هي الترجمة الحقيقة لما يجيش‬
‫في صدورنا‪:‬‬
‫أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدى‬

‫‪182‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وليسوا بغير صليل السيوف يجيبون صوتا لنا أو صدى‬


‫إن النصر ل يأتي من فراغ‪ ،‬وليس ثمن النتصار يسيًرا بل هو نتاج العمل‬
‫دوا‬ ‫َ‬
‫ع ّ‬
‫والجد والستعداد‪ ،‬ونبذ الراحة‪ ،‬ونبذ غبار الكسل وتطليق الشهوات‪ } .‬وَأ ِ‬
‫ن ب ِهِ عَد ُوّ الل ّهِ وَعَد ُوّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ل ت ُْرهُِبو َ‬ ‫ط ال ْ َ‬
‫خي ْ ِ‬ ‫ن رَِبا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن قُوّةٍ وَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ست َط َعْت ُ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل َهُ ْ‬
‫ل‬‫سِبي ِ‬ ‫يٍء ِفي َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫قوا ِ‬ ‫ما ت ُن ْفِ ُ‬
‫م وَ َ‬‫مهُ ْ‬‫ه ي َعْل َ ُ‬
‫م الل ّ ُ‬‫مون َهُ ُ‬ ‫م َل ت َعْل َ ُ‬ ‫ن ُدون ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬‫ري َ‬‫خ ِ‬ ‫َوآ َ‬
‫َ‬
‫ن]‪]{[60‬سورة النفال[‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫م َل ت ُظ ْل َ ُ‬ ‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ف إ ِل َي ْك ُ ْ‬ ‫الل ّهِ ي ُوَ ّ‬
‫كما ينبغي أن نعلم أن قوة الرادة والعزيمة مطلب مهم‪ ،‬فإن إرادة الشعوب‬
‫ل تهزم ول تقهر؛ لنطرد عن أنفسنا هذا النهزام وهذا الذل‪ ،‬وهذا الخور‪.‬‬
‫إن قوما قاتلوا من أجل ذرات الرمال‪ ،‬واستبسلوا لجل الدغال والحراش‬
‫هزموا أمريكا‪ ،‬بل وأجبرت حرب فيتنام الرئيس المريكي على الستقالة‪ ،‬ما‬
‫سبب ذلك؟‬
‫دوا‬ ‫َ‬
‫ع ّ‬‫إنها الرادة مع كونها أمة وثنية‪ ،‬ونحن أمة ل إله إل الله‪ ،‬نحن أمة } وَأ ِ‬
‫ة{‪ ..‬نحن أمة الجهاد‪ .‬نحن نقاتل عن شيء هو أعز‬ ‫ن قُوّ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ست َط َعْت ُ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل َهُ ْ‬
‫علينا من أنفسنا وأبنائنا‪ ،‬نحن نقاتل عن عقيدة وإيمان‪.‬‬
‫إذا اليمان ضاع فل أمان ول دنيا لمن لم يحيى دينا‬

‫)‪(4 /‬‬

‫ومن رضى الحياة بغير دينا فقد جعل الفناء لها قريًنا‪.‬‬
‫إذا أردنا النصر فل بد أن نعتز بالسلم‪ ..‬هذا الفاروق عمر رضي الله تعالى‬
‫عنه حرر القدس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بـ ‪ 6‬سنوات‪ ،‬حررها‬
‫بثياب مرقعة‪ ،‬لكنه كان يقول وهو في الطريق إليها‪ ':‬نحن قوم أعزنا الله‬
‫بالسلم فمهما ابتغينا العزة بغيرة أذلنا الله'‪.‬‬
‫أيا يا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهي وتأمر‬
‫أمة السلم إن عزتنا ورفعتنا بالجهاد في سبيل الله‪ ،‬والمة حين تغيب نفسها‬
‫عن الجهاد في سبيل الله‪ ،‬وحينما تتقاعس عن هذه الفريضة التي أصبحت‬
‫في زمننا المعاصر فريضة غائبة؛ فإن الهوان والذل سيلحقها‪ ،‬قال صلى الله‬
‫ب ال ْب َ َ‬ ‫خذ ْت َ‬ ‫َ‬
‫م ِبالّزْرِع وَت ََرك ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ضيت ُ ْ‬‫قرِ وََر ِ‬ ‫م أذ َْنا َ‬ ‫م ِبال ِْعين َةِ وَأ َ ُ ْ‬ ‫عليه وسلم‪ ] :‬إ َِذا ت ََباي َعْت ُ ْ‬
‫م [ رواه أبوداود‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫جُعوا إ ِلى ِدين ِك ْ‬ ‫حّتى ت َْر ِ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫م ذ ُل ل ي َن ْزِعُ ُ‬ ‫ه عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ط الل ّ ُ‬
‫سل ّ َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫جَهاد َ َ‬
‫وأحمد ‪.‬‬
‫ولنثق بموعود‪ ،‬وأن الله قادر على أن يخلق من الضعف قوة‪ ،‬وسلطة مهما‬
‫ادعت موازين البشر أن النصر بعيد‪ ،‬وأن عدد المة قليلة‪ ،‬مهما قالوا هذا‬
‫الكلم‪ ،‬فإن السنن اللهية‪ ،‬وإن إرادة الله جل وعل ل تعترف بالقلة والكثرة‪:‬‬
‫ن]‪{[249‬‬ ‫ري َ‬
‫صاب ِ ِ‬
‫معَ ال ّ‬ ‫ه َ‬‫ن الل ّهِ َوالل ّ ُ‬ ‫ة ك َِثيَرةً ب ِإ ِذ ْ ِ‬‫ت فِئ َ ً‬ ‫ن فِئ َةٍ قَِليل َةٍ غَل َب َ ْ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬‫}‪...‬ك َ ْ‬
‫]سورة البقرة[‪.‬‬
‫قا في البحر يبسا‪،‬‬ ‫والله جل وعل هو الذي قدر على أن يشق لموسى طري ً‬
‫سبحانه قادر على أن ينجي المستضعفين في كل مكان‪ ،‬ويحمي النساء من‬
‫الجلدين‪ ،‬قادر سبحانه على أن يحفظ المجاهدين‪ ،‬والذي نصر القلة في بدر‬
‫ومؤتة قادر على نصرة المجاهدين في كل مكان اللهم انصر إخواننا‬
‫المجاهدين نصًرا مؤزًرا‪ .‬كن لهم ولًيا‪ ،‬ومعيًنا‪ ،‬ونصيًرا ‪.‬‬
‫من خطبة ‪':‬ونطق التاريخ قبل أن ينطق الحجر' للشيخ‪ /‬محمد بن إبراهيم‬
‫السبر‬

‫)‪(5 /‬‬

‫‪183‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫وهذه الجامعات والمدارس الدينية‪...‬ما شأنها؟‬


‫زين العابدين الركابي ‪19/11/1424‬‬
‫‪11/01/2004‬‬
‫هل نحن في عصر تحريف المور عن مواضعها‪ ،‬وقلب الحقائق؟ أو في عصر‬
‫استراتيجيات نفسية وسياسية وإعلمية تتعمد أو تحترف )إسقاط خطايا‬
‫الذات على الخرين( وهي حرفة تعارفت الدراسات النفسية على تسميتها بـ‬
‫) مرض السقاط(؟‪.‬‬
‫في المبتدأ لن نتورط في تبرئة العرب والمسلمين من الخطاء والخطايا‪،‬‬
‫فهذه تبرئة تتجافى عن الطبيعة البشرية‪ ،‬وعن الواقع الماثل الطافح بالخطاء‬
‫ب المسلمين أخطاؤهم‪ ..‬ومن الظلم البواح‪ :‬أن‬ ‫من كل نوع‪ .‬بيد أنه حس ُ‬
‫ملوا أوزار قوم آخرين‪ ،‬وأن يسقط عليهم ما تعج به حياة هؤلء القوم‪،‬‬ ‫يح ّ‬
‫ً‬
‫والملحظ الشد حزنا – هنا‪ -‬أن طوائف من المسلمين صدقت أو كادت‬
‫تصدق بأن ما ُيسقط عليها هو شيء صحيح بإطلق‪ ،‬وأن هذا الشيء من‬
‫خصائصها وسماتها التي ل تنفك عنها‪ ..‬وهذا الشك العاصف في الذات مسبب‬
‫بالقصف العلمي المركز والمستمر والذي يلج – مث ً‬
‫ل‪ -‬على أن العرب‬
‫والمسلمين عدوانيون‪ ،‬وشهوانيون‪ ،‬وإنه لكاذب من ينكر أن في العرب‬
‫والمسلمين شيئا ً من ذلك‪ ،‬ولكن بالستقراء العلمي يتبين‪ :‬أن المسلمين‬
‫)هواة( بالنسبة إلى )الخبراء المتخصصين( في هذه المجالت‪ .‬والغربيون‪ -‬إل‬
‫العقلء المنضبطين منهم – هؤلء هم الخبراء المتخصصون العريقون في‬
‫صناعة الموت‪.‬‬
‫ً‬
‫كم عدد القتلى في الحروب والصراعات التي كان المسلمون طرفا فيها عبر‬
‫‪1410‬هـ سنوات؟ هو عدد قليل‪ ،‬ل يساوي واحدا ً في المائة ألف من عدد‬
‫القتلى في الحروب والصراعات التي أوقدها وقادها وخاضها غربيون في‬
‫القرن العشرين‪ ،‬ومن هؤلء القتلى ‪ 27‬مليون عسكري في الحربين‬
‫العالميتين‪ :‬الولى والثانية‪ ،‬ويقدر عدد المدنيين من ضحايا هاتين الحربين بـ‬
‫‪ 13‬مليونا ً من النساء والطفال وكبار السن في أثناء الحرب العالمية الولى‪،‬‬
‫ونحو ‪ 20‬مليونا ً في الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وبلغ مجموع القتلى في القرن‬
‫العشرين – لسباب دينية وأيديولوجية‪ -‬وبعيدا ً عن المعارك الحربية – بلغ ‪80‬‬
‫مليون إنسان‪ .‬وفي الجملة فإن ‪167‬مليون إنسان لقوا مصرعهم في مجازر‬
‫وقفت خلفها السياسة‪ ،‬ومعظم هذه المجازر دبرها وقادها غربيون‪ ،‬هكذا‬
‫تحدث التاريخ الموثوق فمن مسّعر الحروب على الحقيقة؟ وليس هناك امرؤ‬
‫أمين صاحب ضمير يستطيع أن ينفي‪ :‬أن من العرب والمسلمين من استبد‬
‫به نزق الشهوات‪ ،‬ولكن هل الغربيون أطهار عفيفون زاهدون في هذه‬
‫المسألة؟ إن النفجار الشهواني قد بلغ الذروة هناك‪ ،‬بعد أن تحطمت قيم‬
‫ومعايير عديدة‪ .‬وهو انفجار تخطى العلقة بين الذكر والنثى إلى المعاشرة‬
‫المثلية‪ ..‬لسنا ننصر شهوة عربية ملهوفة على شهوة غربية ملهوفة‪ .‬فالسوء‬
‫هو السوء‪ ،‬سواء صدر عن هذا الجنس أو ذاك‪ ،‬ومورس في هذه البيئة أو تلك‬
‫‪ ،‬ولكنا نعجب من موقف‪ ،‬ومن تفكير من يستكثر بضعة أرطال من الشهوات‬
‫المفلتة‪ ،‬ول يلفت نظره‪ :‬ألوف الطنان من الشهوانية السائبة‪ ،‬بل يسقط‬
‫هذه الطنان على صاحب الرطال‪ ،‬وفي كل شر‪.‬‬
‫المثل الثالث هو‪ :‬المنابع والمصادر الثقافية ) وهذا هو جوهر المقال الذي‬
‫يبسط القول في هذه النقطة التي أجملت في مقال السبوع الماضي( فلم‬
‫تكد أحداث سبتمبر تقع حتى طفقت دوائر معروفة تبدئ وتعيد وتكثر الكلم‬
‫حول‪ :‬أن للرهاب منابع وأن هذه المنابع هي‪ :‬المناهج الدينية والثقافية في‬

‫‪184‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫الوطن العربي والعالم السلمي‪ .‬ولم ينحصر التشنيع والتهام في‬


‫)الجتهادات البشرية( التي تصيب وتخطئ‪ ،‬وإنما تعدى هذه الجتهادات إلى‬
‫)المصادر العظمى( لدين السلم‪ ،‬أي الكتاب والسنة‪.‬‬
‫وهذا توجه ينطوي على ثلثة )مخاطر( حقيقية ل وهمية‪ ،‬وجدية غير هازلة‪.‬‬
‫أ‪ -‬فهذا التوجه )تدخل في الحرية الدينية( للمسلمين‪ ،‬فهو ينزع إلى أن يعلم‬
‫المسلمين كيف يعتقدون؟ وماذا يعتقدون؟ وماذا عليهم أن يتركوه من‬
‫المعتقدات؟‪.‬‬
‫ب‪ -‬وهو توجه يحمل )المطالب الصهيونية( ويترجمها على نطاق واسع‪ ،‬فمنذ‬
‫مدة طويلة تطالب المؤسسة الصهيونية بـ )تعديل( السلم نفسه‪ ،‬وفق‬
‫دعوى تدعيمها وهي‪ :‬أن )المشكلة( في السلم نفسه‪ ،‬ل في أتباعه فحسب‪.‬‬
‫وأنه بناء على هذه الدعوى ينبغي أن ينعقد )إجماع دولي( لمواجهة مصدر‬
‫التهديد وهو السلم ولقد جدد الحاخام اليهودي المريكي الشهير)مارفين‬
‫هير( – منذ أسبوع‪ -‬هذه الدعوى‪ ،‬عبر برنامج ) لري كنج( ومما قاله هذا‬
‫الحاخام‪" :‬لو سألتني بشكل مباشر‪ :‬هل هناك آراء متطرفة في القرآن؟‬
‫سوف أقول نعم"‪.‬‬
‫ج_ وهو توجه يؤيد –بقوة‪ -‬مقولت )الرهابيين( الذين يقولون‪ :‬إن الغرب –‬
‫والمريكان بوجه خاص‪ -‬يحاربوننا عل أساس عقدي ديني‪.‬‬
‫ولنبسط القول – الن‪ -‬في )المؤسسات( والتجاهات التي تغذي الناس هناك‬
‫بآراء ومواقف متحاملة على السلم والعرب والمسلمين‪.‬‬
‫أو ً‬
‫ل‪ -‬في الوليات المتحدة المريكية‪:‬‬
‫على الرغم من أن أمريكا دولة علمانية وفق نص التعديل الول من الدستور‬
‫المريكي وهو النص الذي يقول‪ " :‬لن يصدر الكونجرس أي قانون بصدد‬
‫ترسيخ الدين أو منع ممارسته"‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫وعلى الرغم من التفسير القاطع الذي قدمه الرئيس المريكي السبق‬


‫)جيفرسون( إذ قال‪" :‬هدف التعديل الول في الدستور هو‪ :‬إنشاء حائط‬
‫فاصل بين الكنيسة والدولة"‪ .‬وعلى الرغم من تفسير المحاكم المريكية لهذا‬
‫ضا‪ ،‬أي التفسير الذي يقول‪ " :‬ل تستطيع الولية أو الحكومة‬ ‫التعديل أي ً‬
‫التحادية تأسيس كنيسة أو سن قوانين تساعد أي دين أو تفضل ديًنا على‬
‫آخر أو تجبر إنساًنا أو تؤثر فيه ليذهب أو يبتعد عن الكنيسة ضد رغبته"‪.‬‬
‫على الرغم من ذلك كله‪ ،‬فإن العلقة بين الدين والدولة في أمريكا ل تزال‬
‫قوية ول يزال )المد المسيحي( ينمو ويتأصل‪ ،‬وهذا وضع ل يزعجنا بل يسرنا‬
‫أن يفيء النصارى إلى ديانتهم‪ ،‬فهذه إفاءة تقربهم إلينا – بموجب النص‬
‫القرآني‪ -‬ثم إن اليمان بكتاب أفضل – بيقين‪ -‬من اللحاد يضم إلى ذلك‪ :‬أن‬
‫التمسك بمقادير من القيم المسيحية يبقي على تماسك السرة‪ ،‬ولقد سرنا –‬
‫ل‪ -‬أن أكثر من ‪ %70‬من أعضاء مؤتمر الترشيح للرئاسة – في أحد‬ ‫مث ً‬
‫الحزبين الكبيرين متزوجون ولديهم عوائل‪ .‬وهناك المقادير الخلقية التي‬
‫تنشأ عن التمسك بالمسيحية وهي مقادير مشتركة في الغالب‪.‬‬
‫هذا النعطاف نحو الديانة المسيحية امتد إلى الحياة السياسية يقول الرئيس‬
‫المريكي السبق )جيمي كارتر(‪ " :‬يلعب الدين دورا ً حاسما ً في الحياة‬
‫السياسية لمتنا"‪ ،‬وقال )رونالد ريغان( مثل قوله‪ .‬أما الرئيس المريكي‬
‫الحالي )جورج بوش( الثاني فقد صرح بأنه ‪ " :‬لن يدخل الجنة من لم يؤمن‬

‫‪185‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫بالمسيح ) نحن نؤمن بالمسيح( وبأن المسيح هو الفيلسوف الذي يتلقى منه‬
‫الحكمة والسدادة‪ ،‬ومن المفارقات أن اليهود في أمريكا أثاروا ضجة كبرى‬
‫حول مسألة )عدم اليمان( بالمسيح عيسى ابن مريم عليه السلم ؟ لماذا‬
‫لنهم لم يؤمنوا به ل بالمس ول اليوم‪.‬‬
‫وفي ظل هذا النبعاث المسيحي حصل ارتباط قوي بين جامعات عديدة وبين‬
‫الكنيسة‪ ،‬ومن هذه الجامعات‪ :‬الجامعة المريكية وجامعة جورج تاون في‬
‫واشنطن‪ ،‬وجامعتا ديتون في ولية أوهايو‪ ،‬وبيلور في ولية تكساس‪ ،‬وجامعة‬
‫أموري في مدينة أتلنتا‪ ،‬وجامعة دنفر في كوالورادو وجامعة ديوك في‬
‫كارولينا الشمالية‪ ،‬كما نشأت مؤسسات تعليمية دينية كثيرة منها‪) :‬جامعة‬
‫الحرية( التي أسسها أشهر قس أمريكي هو )جيري فولويل( الذي قدر‪ :‬أن‬
‫يصل عدد طلب هذه الجامعة ‪ 50‬ألف طالب مع نهاية القرن الماضي‪،‬‬
‫ويتعلم الطلب في هذه الجامعة علوم اللهوت من منظور يهودي‪ ،‬كما أنشأ‬
‫هذا القس أكثر من ‪ 20‬ألف مدرسة دينية وهذا مثال فحسب‪ .‬أما في المجال‬
‫العلمي فإن الحركة المسيحية الصولية تسيطر على معظم شبكة محطات‬
‫الكنيسة المرئية والمسموعة‪ ،‬أي المحطات التلفزيونية والذاعية‪.‬‬
‫ومع اجتناب الوقوع في خطأ التعميم‪ ،‬فمن المؤكد أنه يصدر عن هذه‬
‫المؤسسات ما يؤيد الظلم والرهاب الصهيونيين‪.‬‬
‫ومن ذلك ما قاله جيري فولويل إذ قال‪ :‬إن الوقوف ضد إسرائيل هو معارضة‬
‫ل‪ -‬هو المعبر عن إرادة الله! ويصدر عن هذه‬ ‫لله"‪ ،‬وكان )شارون( – مث ً‬
‫المؤسسات ما يتعمد تقبيح وجه العرب‪ ،‬ومن ذلك ما قاله القس )بات‬
‫روبرتسون( إذ قال‪" :‬إن الله يقف بجانب إسرائيل‪ ،‬وليس بجانب العرب‬
‫السرائيليين"‪ .‬هذه العقليات التي تزكي الرهاب وتشوه صورة العرب‬
‫والمسلمين‪ ،‬ألم تتكون في جامعات ومدارس دينية في الوليات المتحدة؟‬
‫ثانيًا‪ -‬المؤسسة الصهيونية‪:‬‬
‫إن العنف والرهاب الذي مارسته ول تزال تمارسه هذه المؤسسة‪ ،‬إن هو إل‬
‫ثمرة )التعليم الديني( اليهودي‪ ،‬فمع السنوات الولى لنشأة الكيان الصهيوني‬
‫في فلسطين المحتلة؛ صدر قانون التعليم الذي قسم المدارس إلى نوعين‪:‬‬
‫مدارس حكومية تضم ثلثي الطلب ومدارس حكومية ينتظم فيها الثلث‬
‫الباقي‪ ،‬ومع ملحظة أن نصيب التعليم الديني كبير جدا ً في المدارس‬
‫الصهيونية العامة‪ ،‬وثمة مادة بعنوان )الوعي اليهودي( يدرسها الطلب كافة‪.‬‬
‫وفي هذه المدارس تخرج غلة الصهاينة الذين احترفوا الرهاب‪ ،‬ويمارسون‬
‫قتل )الغيار( بنفسية من يمارس هوايته المفضلة!! إن )إيجال عامير( – وهو‬
‫ابن حاخام‪ -‬الذي اغتال إسحاق رابين قد تربى ونشأ وتكون على تعاليم‬
‫)المدارس التلمودية( ومن أفضل الكتب التي كان هذا القاتل يدمن على‬
‫قراءتها )سيرة باروخ جولد شتاين( الذي قتل ‪ 27‬فلسطينيا ً مسلما ً وهم‬
‫يؤدون صلة الفجر في المسجد البراهيمي‪.‬‬
‫فهل تنتظم الدعوة إلى تغيير المناهج الدينية‪ :‬مناهج الجامعات والكليات‬
‫والمدارس الدينية في كل من الوليات المتحدة وإسرائيل؟‬
‫وهل يوافق أصحاب هذه الدعوة على ) خيار الصفر اليديولوجي( الذي‬
‫اقترحناه‪ -‬من قبل‪ ،-‬أم أن المطلوب – فحسب‪ -‬هو‪ :‬أن يهجر المسلمون –‬
‫وحدهم‪ -‬دينهم ومصادر هويتهم؛ وإل فهم )إرهابيون( بالهوية والجبلة‬
‫والديانة؟!‬

‫)‪(2 /‬‬

‫‪186‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ويؤثرون على أنفسهم‬


‫سنا‬ ‫ن شرورِ أنف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه‪ ،‬ونعوذ ُ باللهِ ِ‬ ‫ه ونستغفُر ُ‬ ‫ه‪ ،‬ونستعين ُ ُ‬ ‫ه‪ ،‬نحمد ُ ُ‬ ‫ن الحمد َ لل ِ‬ ‫إ ّ‬
‫ن ُيضل ِل فل هادِيَ له‪ ،‬وأشهد ُ‬ ‫ْ‬ ‫م ْ‬ ‫د‪ ،‬و َ‬ ‫ه فهوَ المهت ِ‬ ‫ن يهدِهِ الل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ت أعماِلنا‪َ ،‬‬ ‫وسيئا ِ‬
‫ه } َيا أ َي َّها‬ ‫ن محمدا ً عبد ُهُ ورسول ُُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫أ‬ ‫د‬ ‫وأشه‬ ‫له‪،‬‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫شري‬ ‫ل‬ ‫ه‬
‫َ ُ‬ ‫د‬ ‫وح‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫الل‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ه‬
‫ن ل إل َ‬ ‫أ ْ‬
‫َ‬
‫ن { } آل عمران ‪:‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن إ ِل ّ وَأنُتم ّ‬ ‫موت ُ ّ‬ ‫قات ِهِ وَل َ ت َ ُ‬ ‫حق ّ ت ُ َ‬ ‫ه َ‬ ‫قوا ْ الل ّ َ‬ ‫مُنوا ْ ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫‪. { 102‬‬
‫د‪:‬‬ ‫ما بع ُ‬ ‫أ ّ‬
‫وى اللهِ تعالى‪ ،‬فإّنها خيُر زاد ٍ ليوم ِ المعاِد‪.‬‬ ‫َ‬ ‫سي بتق َ‬ ‫عباد َ اللهِ ‪ -‬ونف ِ‬ ‫م– ِ‬ ‫صيك ْ‬ ‫فأو ِ‬
‫م‪:‬‬‫ن الكرا ِ‬ ‫معاشَر المؤمني َ‬
‫ه في‬ ‫َ‬
‫ن يشارِك ُ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ه‪ ،‬وما أجم َ‬ ‫س ِ‬ ‫ب ِلنف ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ب المرُء لخيهِ ما ي ُ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ما أعظ َ‬
‫ه‬
‫ت يد ِ ِ‬ ‫ت ذا ُ‬ ‫ّ‬
‫سّر‪ ،‬و يواسيهِ بمال ِهِ إذا قل ْ‬ ‫سّر ي ُ َ‬ ‫ن لحْزن ِهِ وإذا ُ‬ ‫ه‪ ،‬كلها‪ ،‬فيحز ُ‬ ‫ّ‬ ‫أحوال ِ ِ‬
‫ج ما‬ ‫ن غيَره ُ بالشيِء وهوَ أحو ُ‬ ‫ن ُيؤث َِر النسا ُ‬ ‫ن ذل ِك أ ْ‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن العظ َ‬ ‫وافتقَر‪ ،‬ولك ّ‬
‫ن‬
‫سهِ التي ب َي ْ َ‬ ‫ه لنف ِ‬ ‫ُ‬
‫جهْدِهِ ما ل يبذل ُ‬ ‫ن مال ِهِ ووقت ِهِ و ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل له ِ‬ ‫ن يبذ َ‬ ‫ه‪ ،‬وأ ْ‬ ‫ن إلي ِ‬ ‫يكو ُ‬
‫ه‪،‬‬ ‫ى الكريم ِ سبحاَنه وتعالى؛ فيجوع ُ ِليشبعَ أخو ُ‬ ‫َ‬
‫ه‪ ُ ،‬ابتغاَء مرضاةِ المول َ‬ ‫جن ْب َي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ه‪-‬‬ ‫ي طاِويا محتاجا‪ ،‬فَهذا ‪ -‬والل ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ق َ‬ ‫ه ولوْ ب َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ه وحاجت َ ُ‬ ‫خلت َ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ويظمأ ل ِي َْرَوى‪ ،‬ويسد ّ َ‬
‫مى‪ ،‬وله‬ ‫س ول أس َ‬ ‫ظ عظيم‪ ،‬و ُ ُ‬ ‫ح ّ‬
‫مْنه في دنيا النا ِ‬ ‫م ِ‬ ‫م‪ ،‬فل أحد َ أكر ُ‬ ‫ق كري ٍ‬ ‫خل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ذو َ‬
‫ب‬ ‫ٍ‬ ‫طال‬ ‫أبي‬ ‫ن‬‫ّ ُ‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫عل‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫قا‬ ‫كما‬ ‫مى‪،‬‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ظ‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫ة‬ ‫المرتب‬ ‫ى‬ ‫تعال‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫بالل‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫اليما‬ ‫ب‬‫في َ ِ ِ‬ ‫ت‬ ‫مرا‬
‫َ‬
‫ن‪.‬‬ ‫ب اليما ِ‬ ‫‪ -‬رضي الله عنه ‪ :-‬اليثاُر أعَلى مرات ِ ِ‬
‫ه‪:‬‬ ‫عباد َ الل ِ‬ ‫ِ‬
‫ة‬
‫ن حيا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ص اِلعب َرِ ِ‬ ‫د‪ ،‬وأخل َ َ‬ ‫ة‪ ،‬وأصد َقَ الشواهِ ِ‬ ‫خ أروعَ المثل َ ِ‬ ‫ل التاري ُ‬ ‫ج َ‬ ‫َلقد ْ س ّ‬
‫ه‬
‫فحات ِ ِ‬ ‫ن زّينوا ص َ‬ ‫م‪ ،‬الذي َ‬ ‫ن اللهِ عليه ْ‬ ‫فنا الصالِح رضوا ُ‬ ‫سل ِ‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ل الوّ ِ‬ ‫الرعي ِ‬
‫ه‬
‫جبين ِ ِ‬ ‫فخاِر‪ ،‬وصاغوا على َ‬ ‫َ‬ ‫ه بقلئ ِدِ العّز وال َ‬ ‫ق ُ‬ ‫عن َ‬ ‫ب واليثاِر‪ ،‬وقلدوا ُ‬ ‫ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫مةِ ال ُ‬ ‫س َ‬ ‫بأو ِ‬
‫ن الدنيا لم ت ََر إيثارا ً‬ ‫ة‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ق ُ‬ ‫ة الفائ ِ َ‬ ‫ة والمحب ّ ُ‬ ‫ؤها الخوّة ُ الصاِدق ُ‬ ‫ُ‬ ‫مل ُ‬ ‫ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫الغّر صفحا ٍ‬
‫ن‪،‬‬ ‫ه المؤمنو َ‬ ‫ش ُ‬ ‫ة؛ كاليثارِ الذي عا َ‬ ‫ن المنفع ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ُ‬ ‫حب ّا تعالى عَ ِ‬ ‫ة‪ ،‬ول ُ‬ ‫ن الشهو ِ‬ ‫فع َ ع َ ِ‬ ‫ارت َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن يخرجو َ‬ ‫ن الولو َ‬ ‫م أولِء المهاجرو َ‬ ‫ن‪َ ،‬فهاهُ ْ‬ ‫ه المسلمو َ‬ ‫َ‬
‫ب الذي تباد َل ُ‬ ‫والح ّ‬
‫ه‪،‬‬ ‫َ‬
‫ه ورسول ُ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ضوانا‪ ،‬وينصرو َ‬ ‫ً‬ ‫ن اللهِ ورِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن فضل ِ‬ ‫ً‬ ‫م يبتغو َ‬ ‫م وأموالهِ ْ‬ ‫دَِيارِهِ ْ‬
‫ة‬ ‫َ‬
‫مةٍ ومحّبة صادق ٍ‬ ‫م ِبلهفةٍ عارِ َ‬ ‫م ويستقبلونهَ ْ‬ ‫مه ْ‬ ‫م النصاُر بقدو ِ‬ ‫فيستبشُر إخوانهُ ُ‬
‫ن‪ ،‬ورفقاِء‬ ‫دي ِ‬ ‫م في ال ّ‬ ‫ف استضافةِ إخوت ِهِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ل شَر ِ‬ ‫م في ن َي ْ ِ‬ ‫س بين َهُ ْ‬ ‫حد ّ التنافُ ِ‬ ‫ت َ‬ ‫بلغَ ْ‬
‫ن‪.‬‬ ‫خات َم ِ النبياِء وإمام ِ المرسلي َ‬
‫ه‪:‬‬ ‫عباد َ الل ِ‬
‫ت‬ ‫ُ‬
‫م ْ‬ ‫ن والنصارِ أخوة ً قا َ‬ ‫ن المهاجري َ‬ ‫ي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬بي َ‬ ‫خى النب ّ‬ ‫قد ْ آ َ‬ ‫ل َ‬
‫ب واليثاُر‬ ‫ُ‬
‫م الح ّ‬ ‫ب‪ ،‬قا َ‬ ‫م أخوّةِ الدم ِ والنس ِ‬ ‫ب ـ مقا َ‬ ‫مّرةِ في تاريِخ العر ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ـ ولوّ ِ‬
‫ة‪،‬‬ ‫ت الجاهلي ّ ِ‬ ‫ت عصبّيا ُ‬ ‫ة‪ ،‬فذاب َ ْ‬ ‫هلي ّ ِ‬ ‫مي ّةِ الجا ِ‬ ‫ح ِ‬ ‫م العصبي ّةِ القبلي ّةِ وال َ‬ ‫فيهم مقا َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ف ب َي ْ َ‬ ‫ة السلم ِ } وَأل َ‬ ‫م يبقَ إل حمي ّ ُ‬ ‫ن‪ ،‬ول ْ‬ ‫ِ‬ ‫ن والدم ِ والوط‬ ‫ت فوارِقُ اللو ِ‬ ‫وسقط َ ْ‬
‫ف‬‫ه أ َل ّ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م وَل َك ِ ّ‬ ‫ن قُُلوب ِهِ ْ‬ ‫ت ب َي ْ َ‬ ‫ف ْ‬ ‫ما أ َل ّ َ‬ ‫ميعا ً ّ‬ ‫ج ِ‬ ‫ض َ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬
‫َ‬
‫ت َ‬ ‫ق َ‬ ‫ف ْ‬ ‫م ل َوْ َأن َ‬ ‫قُُلوب ِهِ ْ‬
‫ي ‪ -‬صلى الله‬ ‫م النب ّ‬ ‫خى بيَنه ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬ ‫م { } النفال‪ { 63 :‬و ِ‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫م إ ِن ّ ُ‬ ‫ب َي ْن َهُ ْ‬
‫ه عنهما فقا َ‬
‫ل‬ ‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ن الربيِع ر ِ‬ ‫ف وسعد ُ ب ُ‬ ‫ن عو ٍ‬ ‫نب ُ‬ ‫عليه وسلم ‪ -‬عبد ُ الرحم ِ‬
‫ي‬
‫ن‪ ،‬ول ِ َ‬ ‫صفي ِ‬ ‫م ماِلي ن ِ ْ‬ ‫س ْ‬ ‫ً‬
‫ن‪ :‬إّني أكثُر النصارِ مال فاقْ ِ‬ ‫ن الربيِع لعبدِ الرحم ِ‬ ‫سعد ُ ب ُ‬
‫جها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ت عد ُّتها فتزو ْ‬ ‫ض ْ‬ ‫قها‪ ،‬فإذا انق َ‬ ‫مها ِلي أطل ْ‬ ‫ن فانظْر أعجب َُهما إليك فس ّ‬ ‫امرأتا ِ‬
‫ق‪.‬‬ ‫َ‬
‫ه لك في أهل ِك ومال ِك‪ ،‬د ُلوِني على السو ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن‪ :‬بارك الل ُ‬ ‫َ‬ ‫فقا َ‬
‫ل عبد ُ الرحم ِ‬
‫ر‪:‬‬ ‫ع ِ‬ ‫ل الشا ِ‬ ‫قد ْ صد َقَ فيهم قو ُ‬ ‫م[‪ .‬ول َ‬ ‫ه البخاريّ ومسل ٌ‬ ‫ج ُ‬ ‫]أخر َ‬
‫م ب َُنو الخياِر‬ ‫خياَر هُ ُ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫ن كابرٍ إ ِ ّ‬ ‫م كاِبرا عَ ْ‬ ‫ً‬ ‫وَرُِثوا المكارِ َ‬
‫ن‬
‫ري َ‬ ‫ن المهاج ِ‬ ‫م َ‬ ‫ي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ِ -‬‬ ‫م النب ّ‬ ‫خى بيَنه ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وما سائ ُِر َ‬
‫م‬
‫ِ َ‬ ‫س‬ ‫يق‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫‪-‬أ‬ ‫وسلم‬ ‫عليه‬ ‫الله‬ ‫صلى‬ ‫‪-‬‬ ‫ي‬‫ّ‬ ‫النب‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ضوا‬ ‫ُ‬ ‫عر‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ف‬ ‫هم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫والنصارِ إل ِ ُ‬
‫ل‬ ‫ث‬ ‫م‬ ‫ّ‬

‫‪187‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ن‪.‬‬
‫م المهاجري َ‬
‫ن إخواِنه ُ‬ ‫النخ َ‬
‫ل بين َْهم وب َي ْ َ‬
‫ن‪:‬‬‫شَر المؤمني َ‬ ‫معا ِ‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ص‬ ‫ن وخلو ِ‬ ‫ق اليما ِ‬ ‫صد ْ ِ‬ ‫ل عَلى ِ‬ ‫ة تد ّ‬ ‫ة ثاني ٌ‬ ‫ل رائ ِعٌ آخُر‪ ،‬وصورة ٌ مشرِقَ ٌ‬ ‫وهذا مثا ٌ‬
‫ي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬إذ ْ رَوى أبو هريرةَ‬ ‫ب النب ّ‬ ‫المحب ّةِ واليثارِ َلدىَ أصحا ِ‬
‫ل‪:‬‬‫ي ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ -‬فقا َ‬ ‫ن رجل جاَء إلى النب ّ‬ ‫‪ -‬رضي الله عنه ‪ -‬أ ّ‬
‫ه‬
‫ض نسائ ِ ِ‬ ‫ل إلى بع ِ‬ ‫ن الجوِع ‪ -‬فأرس َ‬ ‫م َ‬ ‫ة ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫جهْد ُ والمش ّ‬ ‫ه ال َ‬ ‫ي مجهود ٌ ‪ -‬أيْ أصَاب ُ‬ ‫إن ّ‬
‫ك‪،‬‬ ‫ل ذل ِ َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫ت ِ‬ ‫َ‬
‫م إلى أخَرى فقال ْ‬ ‫دي إل ماٌء‪ ،‬ث ّ‬ ‫ك بالحقّ ما عن ِ‬ ‫ت‪ :‬والذي بعث َ َ‬ ‫فقال ْ‬‫َ‬
‫ي‪-‬‬ ‫ل النب ّ‬ ‫عْندي إل ماٌء‪ .‬فقا َ‬ ‫ك بالحقّ ما ِ‬ ‫ك‪ :‬ل والذي بعث َ َ‬ ‫ل ذل ِ َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن كله ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫حّتى قُل َ‬
‫ن النصارِ ‪-‬‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ل رج ٌ‬ ‫ة؟" فقا َ‬ ‫هذا الليل َ‬ ‫ف َ‬ ‫ضي ُ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫صلى الله عليه وسلم ‪َ ":-‬‬
‫مي‬ ‫ه‪ :‬أكرِ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ل لمرأت ِ ِ‬ ‫حل ِهِ فقا َ‬ ‫ه‪ ،‬فانطلقَ بهِ إلى َر ْ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫ة‪ :-‬أنا يا رسو َ‬ ‫وهوَ أبو طلح َ‬
‫ك شيٌء؟‬ ‫عن ْد َ ِ‬ ‫ل ِ‬ ‫ة‪ :‬هَ ْ‬ ‫ل اللهِ ‪ -‬صلى الله عليه وسلم ‪ ،-‬وفي رواي ٍ‬ ‫ف رسو ِ‬ ‫ضي َ‬
‫م‪،‬‬ ‫ميه ْ‬ ‫م بشيٍء وإذا أرادوا الَعشاَء َفنوّ ِ‬ ‫ل‪ :‬فَعَلِليه ْ‬ ‫ّ‬ ‫صْبياِني‪ .‬قا َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ت‪ :‬ل‪ ،‬إل قو ُ‬ ‫قال َ ْ‬
‫ف وباتا‬ ‫ل الضي ُ‬ ‫قَعدوا وأك َ‬ ‫ل‪ ،‬ف َ‬ ‫ج وأِريهِ أّنا نأك ُ‬ ‫َ‬ ‫خ َ‬
‫سرا َ‬ ‫فِئي ال ّ‬ ‫فنا فأط ِ‬ ‫ل ضي ُ‬ ‫وإذا د َ َ‬
‫صِنيعِكما‬‫ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ب الل ُ‬ ‫ج َ‬ ‫قد ْ ع َ ِ‬ ‫ي فقال‪ ":‬ل َ‬ ‫َ‬ ‫دا على النب ّ‬ ‫َ‬ ‫حغ َ‬ ‫َ‬ ‫ما أصب َ‬ ‫ن‪ ،‬فل ّ‬
‫َ‬ ‫طاوِي َي ْ ِ‬
‫ة‬
‫ص ٌ‬ ‫صا َ‬ ‫خ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ب ِهِ ْ‬ ‫َ‬
‫م وَلوْ كا َ‬ ‫َ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن عَلى أن ُ‬ ‫َ‬ ‫ه } وَي ُؤث ُِرو َ‬ ‫ْ‬ ‫ة" فأنزل الل ُ‬ ‫َ‬ ‫كما الليل َ‬ ‫ف ُ‬ ‫بضي ِ‬
‫ي‬ ‫البخار‬ ‫ه‬ ‫ج‬ ‫]أخر‬ ‫{‬ ‫‪9‬‬ ‫الحشر‪:‬‬ ‫{‬ ‫}‬ ‫ن‬ ‫حو‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ئ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ه‬ ‫س‬ ‫ْ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ح‬ ‫ُ‬
‫ش‬
‫ّ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ ِ ُ َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ْ ِ‬ ‫ّ َ ِ ِ‬ ‫من ُ َ‬
‫ق‬ ‫يو‬ ‫وَ َ‬
‫ة‪.‬‬ ‫ج ٌ‬ ‫ي‪ :‬حا َ‬ ‫ة‪ ،‬أ ْ‬ ‫ص ٍ‬ ‫صا َ‬ ‫خ َ‬ ‫م[‪.‬ومعَنى َ‬ ‫ومسل ٌ‬
‫سيرا ً‬ ‫َ‬
‫كينا ً وَي َِتيما ً وَأ ِ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫حب ّهِ ِ‬ ‫م عََلى ُ‬ ‫ن الط َّعا َ‬ ‫مو َ‬ ‫م } وَي ُط ْعِ ُ‬ ‫ل الحقّ ِفيه ْ‬ ‫وصدقَ قو ُ‬
‫كورا ً } النسان‪. { 8:‬‬ ‫ش ُ‬ ‫جَزاًء وَل َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫منك ُ ْ‬ ‫ريد ُ ِ‬ ‫جهِ الل ّهِ ل َ ن ُ ِ‬ ‫م ل ِوَ ْ‬ ‫مك ُ ْ‬ ‫ما ن ُط ْعِ ُ‬ ‫)‪ (8‬إ ِن ّ َ‬
‫جد ْ ما‬ ‫ق إذا لم ي َ ِ‬ ‫ن العمي ِ‬ ‫حْز ِ‬ ‫سى وال ُ‬ ‫ل إلى ال َ‬ ‫ل بهِ الحا ُ‬ ‫ص ُ‬ ‫س يَ ِ‬ ‫ض النا ِ‬ ‫ن بع َ‬ ‫لإ ّ‬ ‫بَ ْ‬
‫ةَ‬
‫حيل ُ‬ ‫ه ال ِ‬ ‫س قَد ْ أعْي َت ْ ُ‬ ‫ف النا َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ع‪ ،‬أوْ ساِئل ي ََتك ّ‬ ‫ف‪ ،‬أو جاَرهُ الجائ َ‬ ‫ي ُؤْث ُِر بهِ أخاه ُ الملهو َ‬
‫ه‬‫ي رحم ُ‬ ‫ل الشافع ّ‬ ‫ه‪ ،‬كما قا َ‬ ‫ب الناِزلةِ ب ِ‬ ‫ن المصائ ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫ة‪ ،‬وَي َعُد ّ ذل ِ َ‬ ‫ه الفاقَ ُ‬ ‫مت ْ ُ‬ ‫ول َزِ َ‬
‫ه‪:‬‬ ‫الل ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫يا ل َهْ َ‬
‫ت‬ ‫مُروءا ِ‬ ‫ل ال ُ‬ ‫ن أهْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫قلي َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه على ال ُ‬ ‫ل أفَّرقُ ُ‬ ‫سي على ما ٍ‬ ‫ف ِ‬ ‫ف نَ ْ‬
‫َ‬
‫ت‬ ‫ن إحدى المصيبا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫دي ل َِ‬ ‫عن ْ ِ‬ ‫س ِ‬ ‫سأل ُِني ما لي َ‬ ‫ن جاَء ي َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن اعتذاِري إلى َ‬ ‫إ ّ‬
‫دى‬ ‫ن الهُ َ‬ ‫م َ‬ ‫ة‪ ،‬ونفَعنا جميعا بما فيهما ِ‬ ‫ً‬ ‫سن ّ ِ‬ ‫ن وال ّ‬ ‫م في القرآ ِ‬ ‫ه لي ولك ْ‬ ‫باَرك الل ُ‬
‫ن ؛ فاستغفروهُ وتوبوا‬ ‫م المّنا َ‬ ‫ه الكري َ‬ ‫ن وأستغفُر الل َ‬ ‫ة‪ ،‬أقول ما تسمعو َ‬ ‫ُ‬ ‫م ِ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫وال ِ‬
‫ن‪.‬‬ ‫فرا ِ‬ ‫وى والغُ ْ‬ ‫ه هوَ أهل التق َ‬ ‫ُ‬ ‫ه‪ ،‬إن ّ ُ‬ ‫إلي ِ‬
‫الخطبة الثانية‬
‫ه إل ّ‬ ‫ن ل إل َ‬ ‫فى‪ ،‬وأشهد ُ أ ْ‬ ‫ي المصط َ‬ ‫م عَلى النب ّ‬ ‫فى‪ ،‬والصلةُ والسل ُ‬ ‫الحمد ُ للهِ وك َ‬
‫ه المجت ََبى‪ ،‬صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫ن محمدا ً عبد ُهُ ورسول ُ ُ‬ ‫ك له‪ ،‬وأشهد ُ أ ّ‬ ‫ه وحد َهُ ل شري َ‬ ‫الل ُ‬
‫شَرَفا‪.‬‬ ‫جَباِء ال ّ‬ ‫ل اليثارِ والوَفا‪ ،‬والتابعين لهم الن ّ َ‬ ‫عليهِ وعلى آلهِ وآصحاب ِهِ أه ِ‬
‫د‪:‬‬ ‫ما بع ُ‬ ‫أ ّ‬
‫ل‬‫م‪ ،‬وأفض ُ‬ ‫مت ُ ْ‬ ‫وى اللهِ خيُر ما قد ّ ْ‬ ‫ن تق َ‬ ‫م؛ فإ ّ‬ ‫عباد َ اللهِ ‪ -‬ما استطعت ْ‬ ‫ه‪ِ -‬‬ ‫فاتقوا الل َ‬
‫خْرُتم‪.‬‬ ‫ما اد ّ َ‬
‫ة‪:‬‬ ‫عّز ُ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫أّيها المسلمو َ‬
‫ة‬
‫س المطمئن ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ن إل في النفو ِ‬ ‫م‪ ،‬ل يسك ُ‬ ‫خلقٌ عظي ٌ‬ ‫م‪ ،‬و ُ‬ ‫ن اليثاَر طبعٌ كري ٌ‬ ‫إ ّ‬
‫ة‪،‬‬ ‫مو بالرعاي ِ‬ ‫ن‪ ،‬فين ُ‬ ‫وى والعِْرفا ِ‬ ‫ب العامرةِ بالتق َ‬ ‫خ إل في القلو ِ‬ ‫ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ن‪ ،‬ول ير َ‬ ‫باليما ِ‬
‫ة‪،‬‬ ‫ن بالمجاهدةِ والمصاَبر ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ق المؤم ِ‬ ‫ن أخل ِ‬ ‫م ْ‬ ‫خلقا ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫ة‪ ،‬حّتى ُيصب ِ َ‬ ‫ويزداد ُ بالعناي ِ‬
‫ة‬
‫شد ّةِ المحب ّ ِ‬ ‫نو ِ‬ ‫مع قوّةِ اليقي ِ‬ ‫ُ‬ ‫ة‪َ ،‬‬ ‫ل في حقيقةِ الدنيا الغابر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫والنظرِ والتأ ّ‬
‫ة‪.‬‬ ‫ن اللهِ ونعيم ِ الخر ِ‬ ‫ضوا ِ‬ ‫ة؛ ابتغاَء رِ ْ‬ ‫ق ِ‬ ‫والصبرِ على المش ّ‬

‫‪188‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ه وجاد َ ب ِد ُْنياه ُ ِلما ي ََتوقّعُ‬ ‫ه رب ّ ُ‬ ‫طوَبى ل َِعبدٍ آثَر الل َ‬ ‫فَ ُ‬


‫ل‬‫م ‪ِ -‬رضا رّبهم سبحاَنه وتعاَلى عَلى ك ُ ّ‬ ‫م الصلةُ والسل ُ‬ ‫وقَد ْ آثَر النبياُء ‪ -‬عليه ُ‬
‫ب في‬ ‫عداوَةَ البعيدِ والقري ِ‬ ‫مُلوا َ‬ ‫د‪ ،‬إذ ْ تجّردوا ِللدعوةِ إلى اللهِ تعاَلى‪ ،‬واحت َ‬ ‫أح ٍ‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬
‫ِ ٍ َ َ ْ‬‫ع‬ ‫و‬ ‫ن‪،‬‬ ‫دي‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ك‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫نه‬
‫َ ِ ُ ْ‬ ‫دي‬ ‫ر‬ ‫ظه‬ ‫تى‬ ‫ّ‬ ‫ح‬ ‫م؛‬ ‫لئ‬ ‫ة‬
‫َ ُ‬ ‫م‬ ‫لو‬‫َ‬ ‫لك‬ ‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫في‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ُ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫خ‬ ‫تأ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ول‬ ‫ه‪،‬‬
‫الل ِ‬
‫ٍ‬
‫ن‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫م عَلى العال َ ِ‬ ‫جُته ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ت ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ة‪ ،‬وقا َ‬ ‫ل راي ٍ‬ ‫م فوقَ ك ّ‬ ‫راياُته ْ‬
‫ق الخيارِ البراِر؛‬ ‫ل بأخل ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن المجتمعَ الذي يسود ُ فيهِ اليثاُر‪ ،‬ويتعا َ‬ ‫واعَلموا أ ّ‬
‫ع‬
‫م ٌ‬
‫د‪ ،‬إّنه مجت َ‬ ‫ققَ السعادةَ والمج َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫سؤد ََد‪ ،‬وأ ْ‬ ‫ة وال ّ‬ ‫ل الّرفعَ َ‬ ‫ن ينا َ‬ ‫قيقٌ أ ْ‬ ‫ح ِ‬‫لَ َ‬
‫ة‪،‬‬‫ي النسانيةِ ‪َ -‬بعد َ الركائ ِزِ اليمان ِي ّةِ ‪ -‬ويست َعِْلي عَلى ال َث ََرةِ والنان ِي ّ ِ‬ ‫عُ معان ِ َ‬ ‫يجم‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ض ُ‬ ‫ُ‬
‫قد ّ ُ‬ ‫ة على المبدِإ‪ ،‬وت ُ َ‬ ‫ل فيها المصلح ُ‬ ‫ف ّ‬ ‫ة‪ ،‬التي ت ُ َ‬ ‫ن الحياةِ المادِي ّ ِ‬ ‫سهِ ع ِ‬ ‫ويْرب َأ بنف ِ‬
‫ف فيهِ الكبيُر‬ ‫م بمجتمٍع يعط ِ ُ‬ ‫ْ‬
‫ة‪ ،‬فأكرِ ْ‬ ‫شرعي ّ ِ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫مث ُ ِ‬ ‫ة على ال ُ‬ ‫َ‬ ‫صي ّ ُ‬
‫ة الشخ ِ‬ ‫فيها الرغب ُ‬
‫َ‬
‫ر‪ ،‬وي ُؤْث ُِر المْرُء في ِ‬
‫ه‬ ‫ه بالفقي ِ‬ ‫ف غَن ِي ّ ُ‬ ‫ر‪ ،‬وُيوقُّر فيهِ الصغيُر الكبيَر‪ ،‬وي َْرأ ُ‬ ‫عَلى الصغي ِ‬
‫داهُ اليثاُر‪.‬‬ ‫س َ‬ ‫نو َ‬ ‫ه اليما ُ‬ ‫مت ُ ُ‬
‫ح َ‬ ‫مع ٌ ل ُ ْ‬ ‫ف الكسيَر‪ ،‬مجت َ‬ ‫أخاه ُ الضعي َ‬
‫ه‪:‬‬ ‫عباد َ الل ِ‬

‫)‪(2 /‬‬

‫ه‪،‬‬ ‫مت َ ُ‬ ‫ن قِ ّ‬ ‫ن اليقي ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه‪ ،‬و ِ‬ ‫ن ذِْروَت َ ُ‬ ‫ن اليما ِ‬ ‫م َ‬ ‫كهذا سيبلغُ ِ‬ ‫ن مجتمعا ً َ‬ ‫لأ ّ‬ ‫ك عاقِ ٌ‬ ‫ش ّ‬ ‫ل يَ ُ‬
‫ك‬
‫مل ِ ِ‬ ‫ْ‬
‫عن طاعةِ ال َ‬ ‫ن‪ ،‬ويصدُر َ‬ ‫ه‪ ،‬وسيجتمعُ على مائدةِ اليما ِ‬ ‫َ‬ ‫ب غاي َت َ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬‫و ِ‬
‫ن‬ ‫بي‬ ‫ج‬ ‫ئ‬ ‫الوشا‬ ‫وى‬ ‫أق‬ ‫د‬ ‫تنعق‬ ‫ة‬ ‫م‬ ‫ّ‬ ‫ظ‬ ‫المع‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ق‬ ‫وال‬ ‫ة‪،‬‬ ‫المبارك‬ ‫ق‬ ‫الخل‬ ‫ه‬ ‫ذ‬ ‫وبه‬ ‫ن‪،‬‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ديا‬
‫َ‬ ‫ِِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ِ‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫م‪،‬‬ ‫حه ْ‬ ‫ت مصال ِ ُ‬ ‫م‪ ،‬وت َن َوّعَ ْ‬ ‫ت ِدياُرهُ ْ‬ ‫م‪ ،‬وتباعَد َ ْ‬ ‫سهُ ْ‬ ‫ت أجنا ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫مْهما اختل َ َ‬ ‫أفرادِهِ َ‬
‫ة‬
‫ن حيا ِ‬ ‫م َ‬‫ل ِ‬ ‫ن الوّ ِ‬ ‫ن والنصارِ في الزم ِ‬ ‫ل مجتمعَ المهاجري َ‬ ‫مث ّ َ‬ ‫م؛ ل ِي ُ َ‬ ‫ت ُلغاُته ْ‬ ‫وتفاوت َ ْ‬
‫ف أهل ِهِ فقا َ‬ ‫ل‪ -‬عَلى مواقِ ِ‬ ‫ج ّ‬ ‫ُ‬
‫ل‪:‬‬ ‫ه‪ -‬عّز و َ‬ ‫ة‪ ،‬الذي أث َْنى الل ُ‬ ‫مةِ الخال ِد َ ِ‬ ‫هذِهِ ال ّ‬
‫ن‬
‫دو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫م وََل ي َ ِ‬ ‫جَر إ ِل َي ْهِ ْ‬ ‫ها َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ن َ‬ ‫حّبو َ‬ ‫م يُ ِ‬ ‫من قَب ْل ِهِ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ما َ‬ ‫لي َ‬ ‫ِ‬ ‫داَر َوا ْ‬ ‫ؤوا ال ّ‬ ‫ن ت َب َوّ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫ة‬
‫ص ٌ‬ ‫صا َ‬ ‫خ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ب ِهِ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫م وَل َوْ َ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن عََلى َأن ُ‬ ‫ما أوُتوا وَي ُؤْث ُِرو َ‬
‫ُ‬
‫م ّ‬ ‫ة ّ‬ ‫ج ً‬ ‫حا َ‬ ‫م َ‬ ‫دورِهِ ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ِفي ُ‬
‫ن { } الحشر‪. { 9:‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫سهِ فَأوْلئ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫من ُيوقَ ُ‬
‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬‫م ْ‬‫م ال ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫ح نَ ْ‬ ‫ش ّ‬ ‫وَ َ‬
‫ق‬
‫فَر والفسو َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ه في قلوِبنا‪ ،‬وكّره ْ إلينا الك ْ‬ ‫ن وزي ّن ْ ُ‬ ‫ب إلينا اليما َ‬ ‫حب ّ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫الله ّ‬
‫ت‬‫ن والمسلما ِ‬ ‫فْر ِللمسلمي َ‬ ‫م اغ ِ‬ ‫ن‪ ،‬الله ّ‬ ‫دي َ‬ ‫ن الراش ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن واجعلنا يا رّبنا ِ‬ ‫ْ‬ ‫صيا َ‬ ‫والعِ ْ‬
‫ل عملهما‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ي عهدِهِ ل ُِهداك‪ ,‬واجع ْ‬ ‫م وفّقْ أميَرنا وول ّ‬ ‫ت‪ ،‬الله ّ‬ ‫ن والمؤمنا ِ‬ ‫والمؤمني َ‬
‫حةِ‬ ‫ب الص ّ‬ ‫سهما ثو َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫في ِرضا َ‬
‫م احفظهما بحفظ ِك‪ ,‬واكلهما ِبرعاي َت ِك‪ ,‬وألب ِ ْ‬ ‫ك‪ ،‬الله ّ‬
‫هذا البلد َ آمًنا مطمئ ِّنا‬ ‫ل َ‬ ‫م اجع ْ‬ ‫م‪ ،‬الله ّ‬ ‫ل والكرا ِ‬ ‫ن‪ ,‬يا ذا الجل ِ‬ ‫والعافِي َةِ واليما ِ‬
‫ن‬
‫م شهداَءنا وشهداَء المسلمي َ‬ ‫ل الله ّ‬ ‫ن‪ ,‬وتقب ّ ِ‬ ‫سخاًء رخاًء وسائ َِر بلد ِ المسلمي َ‬
‫ن‪.‬‬ ‫أجمعي َ‬
‫)‪(3 /‬‬

‫ويحك أتدري ما الله‬


‫لتعلم أن من المور المهمة لك معرفة صفات و أسماء ارب جل جلله كما‬
‫وردت في الكتاب والسنة ‪ ..‬و بعد معرفتها ‪ ..‬عليك تذكرها باستمرار ‪ ..‬حتى‬
‫تصير لقلبك بمنزلة المرئي ‪ ..‬فتحقق بذلك مرتبة الحسان فتعبد الله كأنك‬
‫تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك و بهذا تحيا القلوب الميته و تنقشع الغفلة و‬
‫تنشرح الصدور بنور التوحيد‬
‫والرسل كلهم عرفوا بالله سبحانه من خلل التعريف بأسمائه و صفاته‬
‫وأفعاله تعريفا مفصل حتى كن العباد يشاهدونه سبحانه و ينظرون اليه و قد‬
‫استوى على عرشه فوق سماواته عال على خلقه قاهرا لكل شيء يدبر أمر‬

‫‪189‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫مملكته آمرا ناهيا ‪ ..‬باعثا لرسله ‪..‬منزل كتبه ‪ ..‬فينزل المر من عنده بتدبير‬
‫مملكته ‪ ..‬فيكلم عبده جبريل و يرسله الى من يشاء بما يشاء ‪ ..‬ملئكته‬
‫يخافونه من فوقهم ‪ ,‬و ينفذون أوامره في أقطار ملكه في السماوات‬
‫والرض و ما بينهما ‪ ..‬تصعد المور اليه و تعرض عليه ‪ ..‬له المر و ليس لحد‬
‫معه شيء بل المر كله له معبود مطاع ل شريك له و ل مثيل و ل عدل‬
‫موصوف بصفات الكمال ‪ ...‬منعوت بنعوت الجلل ‪ ..‬منزه عن العيوب‬
‫والنقائص قائما بالملك والتدبير فل حركة ول سكون و ل نفع ول ضر و ل‬
‫عطاء و ل منع و ل قيض ول بسط ال بقدرته و تدبيره فقيام الكون كله به و‬
‫ح‬
‫فات ِ ُ‬‫م َ‬ ‫عن ْد َه ُ َ‬ ‫قيامه سبحانه بنفسه فهو القائم بنفسه ‪ ..‬المقيم لكل ما سواه )وَ ِ‬
‫ن وََرقَةٍ إ ِل ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ط ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫س ُ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫حرِ وَ َ‬ ‫ما ِفي ال ْب َّر َوال ْب َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مَها إ ِل ّ هُوَ وَي َعْل َ ُ‬ ‫ب ل ي َعْل َ ُ‬ ‫ال ْغَي ْ ِ‬
‫َ‬
‫ن(‬‫مِبي ٍ‬ ‫ب ُ‬ ‫س إ ِل ّ ِفي ك َِتا ٍ‬ ‫ب َول َياب ِ ٍ‬ ‫ض َول َرط ْ ٍ‬ ‫ت الْر ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫حب ّةٍ ِفي ظ ُل ُ َ‬ ‫مَها َول َ‬ ‫ي َعْل َ ُ‬
‫ويقول صلى الله عليه وسلم )مفاتح الغيب خمس ‪ :‬إن الله عنده علم‬
‫الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما في الرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا‬
‫و ما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير( رواه البخاري‬
‫وهو يتكلم سبحانه و تعالى يأمر و ينهى و يتأذى و يفرح و يسمع ويبصر و‬
‫يرصى و يغضب و يحب و يسخط و يجيب دعوة المضطر من عباده و يغيث‬
‫ملهوفهم و يعين محتاجهم و يجبر كسيرهم و يغني فقيرهم و يميت و يحيى و‬
‫يمنع و يعطي و يثيب و يعاقب مالك الملك يؤتي الملك من يشاء و ينزع‬
‫الملك ممن يشاء و يعز من يشاء و يذل من يشاء بيده الخير و هو على كل‬
‫َ‬
‫ن( يغفر ذنبا و يفرج كربا و‬ ‫كو ُ‬ ‫ن فَي َ ُ‬ ‫ه كُ ْ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫قو ُ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫مرا ً فَإ ِن ّ َ‬ ‫ضى أ ْ‬ ‫شيء قدير )إ َِذا قَ َ‬
‫يفك عانيا و ينصر مظلوما و يقصم ظالما و يرحم مسكينا و يغيث ملهوفا و‬
‫يسوق القدار الى مواقيتها و يجريها على نظامها و يقدم ما يشاء تقديمه و‬
‫يؤخر ما يشاء تأخيره فأزمة المور كلها بيده و مدار تدبير الممالك كلها إليه‬
‫فله الجلل والجمال والكمال والعزة والسلطان‪.‬‬
‫يرحم إذا استرحم و يغفر اذا استغفر و يعطي إذا سئل و يجيب إذا دعي و‬
‫يقيل إذا استقيل قال صلى الله عليه وسلم )ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة‬
‫الى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الخر فيقول ‪ :‬أنا الملك أنا الملك ‪..‬‬
‫من يدعوني فأستجيب له ‪ ..‬من يسألني فأعطيه ‪ ..‬من يستغفرني فأغفر له (‬
‫متفق عليه‬
‫هو سبحانه و تعالى أكبر من كل شيء و أعظم من كل شيء و اعز من كل‬
‫شيء و أقدر من كل شيء و اعلم من كل شيء و أحكم من كل شيء‪...‬‬
‫بصير بحركات العالم علويه وسفليه و أشخاصه و ذواته سميع لصواتهم‬
‫رقيب على ضمائرهم و أسرارهم ويرى أفعالهم و حركاتهم يشاهد بواطنهم‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض‬
‫ما ِفي َ الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م ت ََرى أ ّ‬ ‫كما يشاهد ظواهرهم )أل َ ْ‬
‫ن‬ ‫م ْ‬ ‫م َول أد َْنى ِ‬ ‫سهُ ْ‬ ‫سادِ ُ‬ ‫سةٍ إ ِل ّ هُوَ َ‬ ‫م َ‬ ‫خ ْ‬ ‫م َول َ‬ ‫وى َثلث َةٍ إ ِل ّ هُوَ َراب ِعُهُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫كو ُ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫َ‬
‫هّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ة‬‫م‬ ‫يا‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ما‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ئ‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ث‬ ‫نوا‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ما‬ ‫ن‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ع‬‫م‬ ‫و‬‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ث‬‫ْ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫ول‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ذَ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ ْ ِ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ِ‬ ‫َ‬
‫م(‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫ب ِك ّ‬
‫سميع يسمع ضجيج لصوات باختلف اللغات على تنوع الحاجات فل يشغله‬
‫سمع عن سمع و ل تغلطه المسائل ول يتبرم بإلحاح الملحين سواء عنده من‬
‫أسر القول و من جهر به فالسر عنده علنيه والغيب عنده شهادة يرى و‬
‫يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء و يرى و‬
‫يسمع نبض عروقها و مجاري الطعام في أعضائها‬
‫يمسك السماوات و الرض أن تزول و يمسك البحار أن تغيض أو تفيض على‬
‫العالم و يمسك السماء أن تقع على الرض و يمسك الطير في الهواء‬

‫‪190‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫صافات و يقبضن‬
‫يجعل سبحانه و تعالى السماوات يوم القيامة على أصبع والرضين على أصبع‬
‫والجبال والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع ثم يهزهن فيقول انا‬
‫الملك أنا الملك ‪ ..‬الكبرياء رداءه و العظمة إزاره يقول سبحانه و تعالى في‬
‫الحديث القدسي )فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار( رواه مسلم‬

‫)‪(1 /‬‬

‫ملكه عظيم عظيم يقول سبحانه و تعالى ) يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري‬
‫فتضروني ‪ ...‬و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ‪ ....‬يا عبادي لو أن أولكم و آخركم‬
‫و إنسكم و جنكم كانوا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا‬
‫على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن‬
‫أولكم وآخركم و إنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص‬
‫ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في‬
‫صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إل‬
‫كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم‬
‫أوفيكم إياها ‪ ،‬فمن وجد خيرا فليحمد الله ‪ ،‬ومن وجد غير ذلك فل يلومن إل‬
‫نفسه ‪ .‬رواه مسلم ‪.‬‬
‫فهو حي ل يموت قيوم ل ينام عليم ل يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات‬
‫ول في الرض ما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن ل تتحرك ذرة إل بإذنه‬
‫والخلق مقهورين تحت قبضته و هو رب العالمين و أرحم الراحمين و أقدر‬
‫القادرين وأحكم الحاكمين الذي له الخلق والمر المعروف بالفطره الذي‬
‫أقرت به العقول و دلت عليه كل الموجودات و شهدت بوحدانيته و ربوبيته‬
‫جميع المخلوقات‬
‫فإذا علمنا أنه ل رب غيره و ل يملك الضر و النفع والعطاء والمنع إل هو‬
‫فعليك بالسعي في طلب الوصول أليه بفعل الواجبات وال نوافل ‪ ...‬و ترك‬
‫المحرمات والغفله فإنك إن فعلت فتح لك أبواب الخير واليمان والتقوى و‬
‫بتذكرك أسماء الله و صفاته و أفعاله دائما بالليل والنهار ينشأ نور اليمان في‬
‫قلبك ‪ ...‬يريك ذلك النور أنك واقف بين يدي ربك عز و جل فتستحي منه في‬
‫خلواتك و جلواتك و ترزق عند ذلك دوام المراقبه للرقيب و دوام التطلع الى‬
‫حضرة العليم العظيم حتى كأنك تراه و تشاهده من فوق سماواته مستويا‬
‫على عرشه ناظرا الى خلقه سامعا لصواتهم مشاهدا لبواطنهم فاذا استولى‬
‫عليك هذا الشاهد أزال عنك هموم الدنيا كلها و تعلقت بربك واتخذته وحده‬
‫وكيل فسمت روحك و دخلت جنته في هذه الدنيا قبل جنته التي في الخره‬
‫فتأمل و تفكر واقرأ هذا الكلم لتشاهد ربك في الدنيا بعيني قلبك و سوف‬
‫تراه يوم القيامه ببصرك فإنه )إذا دخل أهل الجنة يقول الله تبارك و تعالى ‪:‬‬
‫تريدون شيئا أزيدكم ؟ فيقولون ‪ :‬ألم تبيض و وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنه و‬
‫تنجنا من النار ؟ فيكشف سبحانه و تعالى الحجاب ‪ ,‬فما أعطوا شيئا أحب‬
‫أليهم من النظر الى ربهم عز و جل ( رواه مسلم‬
‫وأما من كان في هذه أعمى فهو في الخرة أعمى وأضل سبيل فإنها ل تعمى‬
‫البصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور‬

‫)‪(2 /‬‬

‫‪191‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‬


‫ضياء الحق محمد الرفاعي‬
‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫م َ‬ ‫سُبوه ُ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ب ل ِت َ ْ‬ ‫سن َت َُهم ِبالك َِتا ِ‬ ‫ن أل ِ‬ ‫وو َ‬ ‫ريقا ي َل ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫مل َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫يقول الله تعالى‪} :‬وَإ ِ ّ‬
‫عندِ الل ِّ‬
‫ه‬ ‫ن‬
‫ِ َ َ ُ َ ِ ْ ِ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫د‬ ‫عن‬
‫َ ُ َ ِ ْ ِ ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ن ال ْك ِ َ ِ َ َ‬
‫ي‬ ‫و‬ ‫ب‬ ‫تا‬ ‫م َ‬ ‫ما هُوَ ِ‬ ‫ب وَ َ‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫ن{ ]آل عمران‪ ،[78:‬ومن أصدق من‬ ‫مو َ‬ ‫م ي َعْل َ ُ‬ ‫ب وَهُ ْ‬ ‫ن عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫وَي َ ُ‬
‫ل‪ ،‬ومن أصدق من الله حديثًا‪.‬‬ ‫الله قي ً‬
‫وفي هذا المقال عرض مختصر يبن فيه الباحث أن ك َت َِبة الناجيل يكذبون‪،‬‬
‫يقولون على الله الكذب وهم يعلمون؛ فقط ليضلوا قومهم!‬
‫ومما ل يخالف فيه عاقل أن )أي كتاب يحتوي على معلومة مكذوبة أو مجرد‬
‫خبر خاطئ يحكم على نفسه بعدم المصداقية ‪ ،‬ويكفي ذلك سببا لتجنبه‬
‫وتركه بحثا ً عن الحق والصواب‪ .(...‬ونحن هنا فقط نضرب مثالين لكذب واحد‬
‫من كتبة الناجيل )مّتى(‪ ،‬فقط لنقول أنهم يكذبون عليكم أيها النصارى‪ ،‬وأنهم‬
‫ن{‪ .‬والحال أن‬ ‫مو َ‬ ‫م ي َعْل َ ُ‬ ‫ب وَهُ ْ‬ ‫ن عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫كما قال ربنا عز وجل‪} :‬وَي َ ُ‬
‫الكذبات في الناجيل كثيرة جدا‪ ،‬ومن شاء المزيد راسلنا وأطلعناه‪.‬‬ ‫ً‬
‫المثال الول‪ :‬من هو عمانوئيل؟‬
‫ً‬
‫يقول )مّتى( )‪ (1‬في سرده لقصة ولدة السيد المسيح ‪-‬محاول وضع تصور‬
‫شخصي )بديل ً عن العجاز بولدة السيد المسيح( وإضفاء صفة القدسية عليه‬
‫من بداية )إنجيله(‪ ،‬ليكمل رسم صورة السيد المسيح على أنه )ابن العلي –‬
‫أو ابن الله( كما في ثنايا إنجيله‪ .‬ففي الصحاح الول‪ ،23 - 18 :‬يقول مّتى‪:‬‬
‫خ ُ‬ ‫كانت مري ُ‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫س َ‬ ‫ة ل ُِيو ُ‬ ‫طوب َ ً‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫م ُ‬ ‫مأ ّ‬ ‫ما َ َ ْ َ ْ َ ُ‬ ‫ذا‪ :‬ل َ ّ‬ ‫ت هَك َ َ‬ ‫كان َ ْ‬ ‫سيِح فَ َ‬ ‫م ِ‬ ‫سوع َ ال ْ َ‬ ‫ما وِل َد َة ُ ي َ ُ‬ ‫"أ ّ‬
‫ن َباّرا ً‬ ‫جل َُها إ ِذ ْ َ‬ ‫ن الّروِح ال ْ ُ‬ ‫قَب َ َ‬
‫كا َ‬ ‫ف َر ُ‬ ‫س ُ‬ ‫س‪ .‬فَُيو ُ‬ ‫ِ‬ ‫قد ُ‬ ‫م َ‬ ‫حب َْلى ِ‬ ‫ت ُ‬ ‫جد َ ْ‬ ‫مَعا وُ ِ‬ ‫جت َ ِ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫موِر‬ ‫فك ٌّر ِفي هَذِهِ ال ُ‬ ‫مت َ َ‬ ‫ما هُوَ ُ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫سّرا ‪ .‬وَلك ِ ْ‬ ‫خل ِي َت ََها ِ‬ ‫ها أَراد َ ت َ ْ‬ ‫شهَِر َ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫شأ أ ْ‬ ‫م يَ َ‬ ‫وَل َ ْ‬
‫ْ‬ ‫خ ْ َ‬ ‫حل ْم ٍ َقائ ِ ً‬
‫خذ َ‬ ‫ن ت َأ ُ‬ ‫فأ ْ‬ ‫ن َداوُد َ ل َ ت َ َ‬ ‫ف اب ْ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ل‪َ :‬يا ُيو ُ‬ ‫ه ِفي ُ‬ ‫ب قَد ْ ظ َهََر ل َ ُ‬ ‫ك الّر ّ‬ ‫مل َ ُ‬ ‫إ َِذا َ‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عو‬ ‫ست َل ِد ُ اْبنا وَت َد ْ ُ‬ ‫س‪ .‬فَ َ‬ ‫قد ُ ِ‬ ‫ن الّروِح ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ل ب ِهِ ِفيَها هُوَ ِ‬ ‫حب ِ َ‬ ‫ذي ُ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫مَرأت َك ل ّ‬ ‫ما ْ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫َ‬
‫ما ِقي َ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م َ‬ ‫ي ي َت ِ ّ‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫كا‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫م‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫يا‬
‫َ‬ ‫طا‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ن‬‫ْ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ع‬ ‫ش‬ ‫ص‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫سو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫س‬ ‫ْ‬ ‫ا‬
‫ل‪.‬‬‫ماُنوِئي َ‬ ‫ع ّ‬ ‫ه ِ‬ ‫م ُ‬ ‫س َ‬ ‫نا ْ‬ ‫عو َ‬ ‫ً‬
‫ل وَت َل ِد ُ اْبنا وَي َد ْ ُ‬ ‫حب َ ُ‬ ‫ي ‪ ،‬هُوََذا العَذ َْراُء ت َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ب ِبالن ّب ِ ّ‬ ‫ن الّر ّ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫معََنا(‪.‬‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ه‪ :‬الل ُ‬ ‫َ‬ ‫سيُر ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫ذي ت َ ْ‬ ‫)ال ِ‬‫ّ‬
‫ماذا يقول مّتى هنا؟‬
‫إنه يستحضر بشارة موجودة في )العهد القديم(‪ ،‬ويقول أن ملك ‪-‬ملك‪-‬‬
‫الرب جاء ليوسف النجار ‪-‬الذي كان قد خطب مريم العذراء‪ ،-‬وقال له أن‬
‫المسيح هو البشارة التي تكلم عنها نبي من أنبياء بني إسرائيل في العهد‬
‫ن‬‫عو َ‬ ‫ل وَت َل ِد ُ اْبنا ً وَي َد ْ ُ‬ ‫حب َ ُ‬ ‫القديم في العهد القديم والتي نصها‪" :‬هُوََذا ال ْعَذ َْراُء ت َ ْ‬
‫معََنا(‪.‬‬ ‫ه َ‬ ‫ه‪َ :‬الل ّ ُ‬ ‫سيُر ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫ذي ت َ ْ‬ ‫ل"‪) .‬ال ّ ِ‬ ‫ماُنوِئي َ‬ ‫ع ّ‬ ‫ه ِ‬ ‫م ُ‬ ‫س َ‬ ‫ا ْ‬
‫هكذا يروي )مّتى( القصة‪ ،‬وتعالوا ننظر إليها في العهد القديم وننظر ماذا‬
‫فعل هذا الرجل!‬
‫النص الصلي الذي نقل عنه )مّتى( موجود في سفر إشعياء‪ ،‬حيث يقول‬
‫كاتب هذا السفر ‪-‬وليصبر للقراءة دقائق كل من أراد الحق‪:-‬‬
‫القصة أصل ً من بداية سفر إشعياء تتحدث عن آية أعطاها الرب لحاز بن‬
‫يوثام بن عزيا ملك يهوذا‪ ،‬حين سأله أن يطلب منه آية‪ ،‬ولنتأمل ما يقول من‬
‫البداية‪:‬‬
‫‪ :Is:7:1‬وحدث في أيام آحاز بن يوثام بن عزيا ملك يهوذا أن رصين ‪-‬ملك‬
‫أرام‪ -‬صعد مع فقح بن رمليا ‪-‬ملك إسرائيل‪ -‬إلى أورشليم لمحاربتها فلم‬
‫يقدر أن يحاربها‪ .‬وأخبر بيت داود وقيل له قد حلت أرام في أفرايم‪ .‬فرجف‬
‫قلبه وقلوب شعبه كرجفان شجر الوعر قدام الريح‪(SVD) .‬‬

‫‪192‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫‪ :Is:7:3‬فقال الرب لشعياء أخرج لملقاة آحاز أنت وشآرياشوب ‪-‬ابنك‪ -‬إلى‬
‫صار )‪(SVD‬‬‫طرف قناة البركة العليا إلى سكة حقل الق ّ‬
‫ي هاتين‬
‫‪ :Is:7:4‬وقل له‪ :‬احترز واهدأ‪ ،‬ل تخف ول يضعف قلبك من أجل ذنب ْ‬
‫الشعلتين المدخنتين بحمو غضب رصين وأرام وابن رمليا‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:7:5‬لن أرام تآمرت عليك بشر مع أفرايم وابن رمليا قائلة )‪(SVD‬‬
‫وضها ونستفتحها لنفسنا ونمّلك في وسطها ملكا ً‬ ‫‪ :Is:7:6‬نصعد على يهوذا ونق ّ‬
‫ابن طبئيل )‪(SVD‬‬
‫‪ :Is:7:7‬هكذا يقول السيد الرب ل تقوم ل تكون‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:7:8‬لن رأس أرام دمشق ورأس دمشق رصين‪ ،‬وفي مدة خمس وستين‬
‫سنة ينكسر أفرايم حتى ل يكون شعبًا‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:7:9‬ورأس أفرايم السامرة ورأس السامرة ابن رمليا إن لم تؤمنوا فل‬
‫تأمنوا )‪(SVD‬‬
‫‪ :Is:7:10‬ثم عاد الرب فكلم آحاز قائل ً )‪(SVD‬‬
‫‪ :Is:7:11‬اطلب لنفسك آية من الرب إلهك‪ ،‬عمق طلبك أو رّفعه إلى فوق‪) .‬‬
‫‪(SVD‬‬
‫‪ :Is:7:12‬فقال آحاز‪ :‬ل أطلب ول أجرب الرب‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:7:13‬قال اسمعوا يا بيت داود هل هو قليل عليكم أن تضجروا الناس حتى‬
‫تضجروا إلهي أيضًا‪(SVD) .‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫‪ :Is:7:14‬ولكن يعطيكم السيد نفسه آية ها العذراء تحبل وتلد ابنا ً وتدعو‬
‫اسمه عمانوئيل‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:7:15‬زبدا ً وعسل ً يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:7:16‬لنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير تخلى الرض‬
‫التي أنت خاش من ملكيها )‪(SVD‬‬
‫‪ :Is:7:17‬يجلب الرب عليك وعلى شعبك وعلى بيت أبيك أياما ً لم تأتي منذ‬
‫يوم اعتزال أفرايم عن يهوذا أي ملك أشور‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:7:18‬ويكون في ذلك اليوم أن الرب يصفر للذباب الذي في أقصى ترع‬
‫مصر وللنحل الذي في أرض أشور )‪(SVD‬‬
‫‪ :Is:7:19‬فتأتي وتحل جميعها في الودية الخربة وفي شقوق الصخور وفي‬
‫كل غاب الشوك وفي كل المراعي‪(SVD) .‬‬
‫‪:Is:7:20‬في ذلك اليوم يحلق السيد بموسى مستأجرة في عبر النهر بملك‬
‫أشور الرأس وشعر الرجلين وتنزع اللحية أيضًا‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:7:21‬ويكون في ذلك اليوم أن النسان يربي عجلة بقر وشاتين‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:7:22‬ويكون أنه من كثرة صنعها اللبن يأكل زبدا ً فإن كل من أبقي في‬
‫الرض يأكل زبدا ً وعس َ‬
‫ل‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:7:23‬ويكون في ذلك اليوم أن كل موضع كان فيه ألف جفنة بألف من‬
‫الفضة يكون للشوك والحسك‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:7:24‬بالسهام والقوس يؤتى إلى هناك لن كل الرض تكون شوكا ً‬
‫وحسكًا‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:7:25‬وجميع الجبال التي تنقب بالمعول ل يؤتى إليها خوفا ً من الشوك‬
‫والحسك فتكون لسرح البقر ولدوس الغنم )‪(SVD‬‬
‫‪ :Is:8:1‬وقال لي الرب خذ لنفسك لوحا ً كبيرا ً واكتب عليه بقلم إنسان لمهير‬

‫‪193‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫شلل حاش بز‪(SVD) .‬‬


‫‪ :Is:8:2‬وأن أشهد لنفسي شاهدين أمينين أوريا الكاهن وزكريا بن يبرخيا‪) .‬‬
‫‪(SVD‬‬
‫ً‬
‫‪ :Is:8:3‬فاقتربت إلى النبية فحبلت وولدت ابنا‪ ،‬فقال لي الرب ادعو اسمه‬
‫مهير شلل حاش بز‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:8:4‬لنه قبل أن يعرف الصبي أن يدعو يا أبي ويا أمي‪ ،‬تحمل ثروة دمشق‬
‫وغنيمة السامرة قدام ملك أشور )‪(SVD‬‬
‫‪ :Is:8:5‬ثم عاد الرب يكلمني أيضا ً قائل ً )‪(SVD‬‬
‫‪ :Is:8:6‬لن هذا الشعب رذل مياه شيلوه الجارية بسكوت وسر برصين وابن‬
‫رمليا )‪(SVD‬‬
‫‪ :Is:8:7‬لذلك هوذا السيد يصعد عليهم مياه النهر القوية والكثيرة ملك أشور‬
‫وكل مجده فيصعد فوق جميع مجاريه ويجري فوق جميع شطوطه )‪(SVD‬‬
‫‪ :Is:8:8‬ويندفق إلى يهوذا‪ ،‬يفيض ويعبر‪ ،‬يبلغ العنق ويكون بسط جناحيه ملء‬
‫عرض بلدك يا عمانوئيل )‪(SVD‬‬
‫‪ :Is:8:9‬هيجوا أيها الشعوب وانكسروا‪ ،‬وأصغي يا جميع أقاصي الرض‪،‬‬
‫احتزموا وانكسروا‪ ،‬احتزموا وانكسروا‪(SVD) .‬‬
‫‪:Is:8:10‬تشاوروا مشورة فتبطل‪.‬تكلموا كلمة فل تقوم‪ ،‬لن الله معنا‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:8:11‬فإنه هكذا قال لي الرب بشدة اليد‪ ،‬وأنذرني أن ل أسلك في طريق‬
‫هذا الشعب قائل ً )‪(SVD‬‬
‫‪ :Is:8:12‬ل تقولوا فتنة لكل ما يقول له هذا الشعب فتنة ول تخافوا خوفه ول‬
‫ترهبوا‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Is:8:13‬قدسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم‪(SVD) .‬‬
‫من خلل السياق كامل ً تدرك أنه ل علقة للسيد المسيح ‪-‬عليه السلم‪ -‬ول‬
‫ولدته بما يتحدث عنه النص‪ .‬والقائل للنبوئة ‪-‬حسب السياق‪ -‬ليس الرب كما‬
‫ادعى )مّتى( وإنما هو )آحاز(‬
‫ونسأل‪:‬‬
‫هل خلت تلك الرض من )رصين ملك آرام وابن رمليا ملك إسرائيل( عند‬
‫ولدة السيد المسيح؟؟‬
‫هل تمت جميع تلك النبوءات )من تصفير )الرب( للذباب في ترع مصر!!‬
‫وحلولها في الودية الخربة ‪ ...‬إلى حلقة )السيد( بموس مستأجرة في )عبر‬
‫النهر بملك أشور لرأسه وشعر رجليه وهل نزع لحيته )عند ولدة السيد‬
‫المسيح(!!؟ ومن هو السيد في المواضع الثلث أصل ً ؟؟‬
‫هل أكل كل من بقي في الرض زبدا ً وعس ً‬
‫ل؟‬
‫هل حملت ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور؟! )قبل أن يعرف‬
‫الصبي أن يقول يا أبي ويا أمي(؟‬
‫هل أصعد )السيد( مياه شيلوه الجارية متدفقة إلى يهوذا‪ ،‬ففاض الماء وعبر‬
‫وبلغ العناق؟ وكان بسط )جناحيه( ملء عرض بلد عمانوئيل؟؟ عند ولدة‬
‫السيد المسيح )أو عمانوئيل ‪-‬كما يريد كاتب إنجيل مّتى؟؟(‬
‫هل بقي شك بأن تلك النبوءة كانت خاصة بانهزام رصين وابن رمليا‪ ،‬الذين‬
‫هاجما أورشليم على يد عمانوئيل؟؟‬
‫وهل بقي هناك أدنى شك بأن )لمهير شلل حاش بز( هو )عمانوئيل( وهو ابن‬
‫آحاز من )النبية(؟ وأن الله نصره وملكه أشور وأرض يهوذا وأبطل به‬
‫مشاورات الشعوب واحتزامهم بشدة اليد؟‬
‫ل‪ :‬تمّهل! كيف تكون النبوءة عن )عذراء( ويكون‬ ‫وقد يصرخ القارئ قائ ً‬

‫‪194‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عمانوئيل ابن النبية؟ فأقول‪ :‬ومن أخبرك أيها القارىء الكريم أن الكلمة‬
‫العبرية الصلية كانت )عذراء(؟!‬
‫نعم! إن الكلمة في الصل العبري هي )عالما‪ (almaw:‬وترجمتها الحرفية‬
‫)الفتاة الشابة(‪ .‬وإليك الترجمة النكليزية‪:‬‬
‫)‪JPS) Therefore the Lord Himself shall give you a sign: behold, the young‬‬
‫‪.woman shall conceive, and bear a son, and shall call his name Immanuel‬‬
‫)‪BBE) For this cause the Lord himself will give you a sign; a young woman‬‬
‫‪is now with child, and she will give birth to a son, and she will give him the‬‬
‫‪.name Immanuel‬‬

‫)‪(2 /‬‬

‫وأما الترجمة السبعينة لنص اشعياء ‪ ،3-8‬فهي كالتالي‪ :‬دنوت من امرأتي‬


‫مه‪ :‬أسرع إلى السلب بادر إلى‬ ‫النبية فحملت وولدت ابنا فقال لي الرب س ّ‬
‫النهب‪.‬‬
‫)‪Bishops) After that went I vnto the prophetisse, and she conceaued & bare‬‬
‫‪a sonne: Then sayde the Lord to me, Geue him his name, a speedie robber,‬‬
‫‪.an hastie spoyler‬‬
‫وبقي أمر أخير لتبيانه‪ ،‬وهو أن عادة اليهود وملوك إسرائيل كانت إطلق‬
‫اسمين على المولود‪ ،‬أحدهم كان صفة يربط بلفظ الجللة بالعبرية )ئيل( أي‬
‫إله اسرائيل‪ ،‬كما في إسماعيل )أي سمع الله( ويعقوب وهو إسرائيل‬
‫)السائر إلى الله(‪ ...‬وكما في أسماء الملئكة عبيد الله )عزرائيل ‪ -‬جبرائيل ‪-‬‬
‫ميكائيل‪ .(...‬ولم يبقى سوى أن نبّين أن مهير شلل حاش بز‪ ،‬وهو عمانوئيل‬
‫)يعني مع الله(‪ ،‬وليس كما قرره مّتى )بأن تفسيره الله معنا!(؛ لنها وجدت‬
‫في إصحاح آخر‪.‬‬
‫‪ Is:8:10 10‬تشاوروا مشورة فتبطل‪ ،‬تكلموا كلمة فل تقوم‪ ،‬لن الله معنا‪) .‬‬
‫‪(SVD‬‬
‫وهي تنسجم مع نصرة الله لعمانوئيل الذي كان )مع الله(‪ ،‬وتأييده حين نصره‬
‫على رصين وابن رمليا‪...‬‬
‫ويكفي الشارة الخيرة إلى غرابة نص إنجيل مّتى الذي أقّر بأن السيدة مريم‬
‫ستدعوا ابنها )يسوع( وليس )عمانوئيل( وأن السيد المسيح طوال حياته لم‬
‫يدع بهذا السم إطلقًا!‬
‫خ َ‬ ‫َ‬
‫م‪.‬‬
‫طاَياهُ ْ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫ه ِ‬
‫شعْب َ ُ‬‫ص َ‬ ‫خل ّ ُ‬
‫ه يُ َ‬‫سوع َ لن ّ ُ‬ ‫ه يَ ُ‬ ‫م ُ‬‫س َ‬ ‫عو ا ْ‬ ‫ست َل ِد ُ اْبنا ً وَت َد ْ ُ‬
‫‪ Mat 1:21‬فَ َ‬
‫ذي‬ ‫ل )ال ّ ِ‬
‫ماُنوِئي َ‬ ‫ع ّ‬
‫ه ِ‬ ‫م ُ‬‫س َ‬
‫نا ْ‬ ‫عو َ‬ ‫ل وَت َل ِد ُ اْبنا ً وَي َد ْ ُ‬‫حب َ ُ‬‫‪ Mat 1:23‬هُوََذا ال ْعَذ َْراُء ت َ ْ‬
‫معََنا(‪.‬‬ ‫ه َ‬ ‫ه‪َ :‬الل ّ ُ‬
‫سيُر ُ‬
‫ف ِ‬
‫تَ ْ‬
‫ولحظ أيها القارىء العزيز أنها )ستدعو( اسمه يسوع )أي المخلص(‪ ،‬وأنهم‬
‫)سيدعون( اسمه عمانوئيل‪ ،‬واعتقد أن هناك فرقا ً بين ‪-‬تدعوا )هي(‪ ،‬يدعون‬
‫)هم(‪ ،‬وهناك فرق بين عمانوئيل ويسوع‪ ،‬مما ل يدع مجال للشك أنه هذا‬
‫م‬
‫الرجل ‪-‬أعني مّتى‪ -‬يأخذ كلمة من هنا وكلمة من هناك‪ ،‬ويأتي بكلمة من أ ّ‬
‫رأسه كي فقط ليضل قومه!‬
‫ً‬
‫مثال آخر‪ :‬هل كان رؤساء الكهنة وكتبة الشعب يعلمون حقا بولدة )يسوع(‬
‫ومكان ولدته؟‬
‫يقول مّتى في الصحاح الثاني من إنجيله‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك إ َِذا‬‫مل ِ ِ‬
‫س ال َ‬ ‫هيُرود ُ َ‬ ‫حم ِ ال ْي َُهودِي ّةِ ِفي أّيام ِ ِ‬ ‫ت لَ ْ‬ ‫سوع ُ ِفي ب َي ْ ِ‬ ‫ما وُل ِد َ ي َ ُ‬ ‫‪ Mat 2:1‬وَل َ ّ‬

‫‪195‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫م‬
‫شِلي َ‬ ‫جاُءوا إ َِلى ُأوُر َ‬ ‫ق قَد ْ َ‬ ‫ش َرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫س ِ‬ ‫جو ٌ‬ ‫م ُ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫شرِ ِ‬ ‫ه ِفي ال َ‬ ‫م ُ‬ ‫ج َ‬ ‫مل ِك الي َُهوِد؟ فإ ِن َّنا َرأي َْنا ن َ ْ‬ ‫موْلود ُ َ‬ ‫ن هُوَ ال َ‬ ‫ن‪ :‬أي ْ َ‬ ‫‪ Mat 2:2‬قائ ِِلي َ‬
‫َ‬
‫ه‪.‬‬‫جد َ ل َ ُ‬ ‫س ُ‬ ‫وَأت َي َْنا ل ِن َ ْ‬
‫ه‪.‬‬
‫معَ ُ‬ ‫م َ‬ ‫شِلي َ‬ ‫ميعُ ُأوُر َ‬ ‫ج ِ‬ ‫ب وَ َ‬ ‫ضط ََر َ‬ ‫كا ْ‬ ‫مل ِ ُ‬ ‫س ال ْ َ‬ ‫هيُرود ُ ُ‬ ‫مع َ ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ما َ‬ ‫‪ Mat 2:3‬فَل َ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ح؟‬ ‫سي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ُيول َد ُ ال ْ َ‬ ‫م‪ :‬أي ْ َ‬ ‫سأل َهُ ْ‬ ‫ب وَ َ‬ ‫شعْ ِ‬ ‫ساِء ال ْك َهَن َةِ وَك َت َب َةِ ال ّ‬ ‫ل ُرؤَ َ‬ ‫مع َ ك ُ ّ‬ ‫ج َ‬ ‫‪ Mat 2:4‬فَ َ‬
‫َ‬
‫ي )‪:(2‬‬ ‫ب ِبالن ّب ِ ّ‬ ‫مك ُْتو ٌ‬ ‫ذا َ‬ ‫ه هَك َ َ‬ ‫حم ِ ال ْي َُهودِي ّةِ لن ّ ُ‬ ‫ت لَ ْ‬ ‫ه‪ِ :‬في ب َي ْ ِ‬ ‫قاُلوا ل َ ُ‬ ‫‪ Mat 2:5‬فَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ساِء ي َُهوَذا ل ْ‬
‫ن‬ ‫ن ُرؤَ َ‬ ‫صغَْرى ب َي ْ َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫س ِ‬ ‫ض ي َُهوَذا ل َ ْ‬ ‫حم ٍ أْر َ‬ ‫ت لَ ْ‬ ‫ت َيا ب َي ْ َ‬ ‫‪ Mat 2:6‬وَأن ْ ِ‬
‫ل‪.‬‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫شعِْبي إ ِ ْ‬ ‫عى َ‬ ‫مد َب ٌّر ي َْر َ‬ ‫ج ُ‬ ‫خُر ُ‬ ‫ك يَ ْ‬ ‫من ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫وبهذا النص يقرر كاتب إنجيل مّتى بأن رؤساء الكهنة وكتبة الشعب كانوا‬
‫يعلمون‪ ،‬بل وينتظرون ولدة السيد المسيح في بيت لحم‪ ،‬والدليل )ماهو‬
‫مكتوب بالنبي(‪ ،‬فأين ذكر هذا الكلم في العهد القديم؟‬
‫إنه يقصد النص الموجود بسفر ميخا القائل‪:‬‬
‫ف ي َُهوَذا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫‪ Mic 5:2‬أ َما أ َنت يا بيت ل َحم أ َفْرات َ َ‬
‫ن ألو ِ‬ ‫ن ت َكوِني ب َي ْ َ‬ ‫صِغيَرة ٌ أ ْ‬ ‫ت َ‬ ‫ة وَأن ْ ِ‬ ‫ّ ْ ِ َ َ ْ َ ْ َِ َ َ‬
‫من ْذ ُ‬ ‫ديم ِ ُ‬ ‫ق ِ‬ ‫ْ‬
‫من ْذ ُ ال َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ج ُ‬ ‫خارِ ُ‬ ‫م َ‬‫ل وَ َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫سّلطا عَلى إ ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫مت َ َ‬ ‫ن ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫ذي ي َ ُ‬ ‫ج ِلي ال ّ ِ‬ ‫خُر ُ‬ ‫ك يَ ْ‬ ‫من ْ ِ‬ ‫فَ ِ‬
‫ل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أّيام ِ الَز ِ‬
‫ترى هل حقا ً تنطبق هذه النبوءة على السيد المسيح حسب النص‬
‫)المنسوخ(؟ تعال لنتابع قصة هذا النص )المقتطع( منذ البداية‪ ،‬وسأترك‬
‫الحكم للقارئ‪:‬‬
‫جاء في سفر النبي ميخا الصحاح الرابع العدد واحد وما بعده ما نصه‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ل‬
‫جَبا ِ‬ ‫س ال ْ ِ‬ ‫ن َثاِبتا ِفي َرأ ِ‬
‫ً‬ ‫كو ُ‬ ‫ب يَ ُ‬ ‫ت الّر ّ‬ ‫ل ب َي ْ ِ‬ ‫جب َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫خرِ ال َّيام ِ أ ّ‬ ‫ن ِفي آ ِ‬ ‫كو ُ‬ ‫‪ Mic 4:1‬وَي َ ُ‬
‫ب‪.‬‬ ‫شُعو ٌ‬ ‫ري إ ِل َي ْهِ ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫ل وَت َ ْ‬ ‫فعُ فَوْقَ الت ّل َ ِ‬ ‫وَي َْرت َ ِ‬
‫ُ‬
‫ت إ ِل َ ِ‬
‫ه‬ ‫ب وَإ َِلى ب َي ْ ِ‬ ‫ل الّر ّ‬ ‫جب َ ِ‬ ‫صعَد ْ إ َِلى َ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫ن‪ :‬هَل ُ ّ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م ك َِثيَرةٌ وَي َ ُ‬ ‫م ٌ‬ ‫سيُر أ َ‬ ‫‪ Mic 4:2‬وَت َ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ة‬‫ريعَ ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫ج ال ّ‬ ‫خُر ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫صهْي َوْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ه‪ .‬لن ّ ُ‬ ‫سب ُل ِ ِ‬ ‫ك ِفي ُ‬ ‫سل َ‬ ‫ن طُرقِهِ وَن َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ب فَي ُعَل ّ َ‬ ‫قو َ‬ ‫ي َعْ ُ‬
‫ُ‬
‫ب‪.‬‬ ‫ة الّر ّ‬ ‫م ُ‬ ‫م ك َل ِ َ‬ ‫شِلي َ‬ ‫ن أوُر َ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ن‬‫مم ٍ قَوِي ّةٍ ب َِعيد َةٍ فَي َطب َُعو َ‬
‫ُ‬
‫ف ِل َ‬ ‫ص ُ‬
‫ُ‬
‫ن‪ .‬ي ُن ْ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫ب ك َِثي ِ‬ ‫شُعو ٍ‬ ‫ن ُ‬ ‫ضي ب َي ْ َ‬ ‫ق ِ‬ ‫‪ Mic 4:3‬فَي َ ْ‬
‫ن‬
‫مو َ‬ ‫ّ‬
‫سْيفا وَل َ ي َت َعَل ُ‬ ‫ً‬ ‫مةٍ َ‬ ‫ة عَلى أ ّ‬ ‫َ‬ ‫م ٌ‬ ‫ل‪ .‬ل َ ت َْرفَعُ أ ّ‬ ‫ج َ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫حهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫سككا وَرِ َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫م ِ‬ ‫سُيوفَهُ ْ‬ ‫ُ‬
‫د‪.‬‬
‫ما ب َعْ ُ‬ ‫َ‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ر‬ ‫ال ْ ْ‬
‫ح‬
‫َ‬
‫ب‬‫ع ُ‬ ‫ن ي ُْر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َ‬ ‫كو ُ‬ ‫ت ِتين َت ِهِ وَل َ ي َ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫مت ِهِ وَت َ ْ‬ ‫ت ك َْر َ‬ ‫ح َ‬ ‫حد ٍ ت َ ْ‬ ‫ل َوا ِ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫سو َ‬ ‫جل ِ ُ‬ ‫ل يَ ْ‬ ‫‪ Mic 4:4‬ب َ ْ‬
‫م‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫جُنود ِ ت َكل َ‬ ‫ب ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫م َر ّ‬ ‫ن فَ َ‬ ‫لَ ّ‬

‫)‪(3 /‬‬

‫سم ِ‬‫ك ِبا ْ‬ ‫سل ُ ُ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫سم ِ إ ِل َهِهِ وَن َ ْ‬ ‫حد ٍ ِبا ْ‬ ‫ل َوا ِ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫كو َ‬ ‫سل ُ ُ‬ ‫ب يَ ْ‬ ‫شُعو ِ‬ ‫ميعَ ال ّ‬ ‫ج ِ‬ ‫ن َ‬ ‫‪ Mic 4:5‬ل َ ّ‬
‫ب إ ِل َهَِنا إ َِلى الد ّهْرِ َوال َب َ ِ‬
‫د‪.‬‬ ‫الّر ّ‬
‫ّ‬
‫مطُرود َة َ َوالِتي‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م ال َ‬ ‫ض ّ‬ ‫ة وَأ ُ‬ ‫معُ الظال ِعَ َ‬ ‫ج َ‬
‫بأ ْ‬ ‫قول الّر ّ‬ ‫‪ِ Mic 4:6‬في ذل ِك الي َوْم ِ ي َ ُ‬
‫ت ب َِها‬ ‫َ‬
‫ضَرْر ُ‬ ‫أ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫م ِفي‬ ‫ب عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ك الّر ّ‬ ‫مل ِ ُ‬ ‫ة وَي َ ْ‬ ‫ة قَوِي ّ ً‬ ‫م ً‬ ‫صاةَ أ ّ‬ ‫ق َ‬ ‫م ْ‬ ‫ة َوال ْ ُ‬ ‫قي ّ ً‬ ‫ة بَ ِ‬ ‫ظال ِعَ َ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫جعَ ُ‬ ‫‪ Mic 4:7‬وَأ ْ‬
‫ن إ َِلى ال َب َ ِ‬
‫د‪.‬‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫صهْي َوْ َ‬ ‫ل ِ‬ ‫جب َ ِ‬‫َ‬
‫حك ُْ‬
‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫جي‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫تي‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫ص‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ب‬ ‫ة‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ع‬ ‫طي‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫ب‬ ‫يا‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫‪Mic‬‬ ‫‪4:8‬‬
‫ُ‬ ‫ََ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِْ ِ ِ ْ َ ْ َ ِ ْ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ ْ َ َ ُْ َ‬
‫م‪.‬‬ ‫َ‬ ‫لي‬
‫ِ‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫ت ُأوُر‬ ‫ك ب ِن ْ ِ‬ ‫مل ْ ُ‬‫ل ُ‬ ‫ال َوّ ُ‬
‫م هَل َ َ‬ ‫خين صراخًا؟ أ َل َيس فيك مل ِ ٌ َ‬
‫حّتى‬ ‫ك َ‬ ‫شيُر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ك ُ‬ ‫كأ ْ‬ ‫ْ َ ِ ِ َ‬ ‫صُر ِ َ ُ َ‬ ‫ماَذا ت َ ْ‬ ‫ن لِ َ‬ ‫‪َ Mic 4:9‬ال َ‬
‫ة؟‬ ‫وال ِد َ ِ‬ ‫كال ْ َ‬‫جع ٌ َ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫خذ َ ِ‬ ‫أَ َ‬
‫دين َةِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫جي َ‬ ‫خُر ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫ك ال َ‬ ‫وال ِد َةِ ل َن ّ ِ‬ ‫كال ْ َ‬
‫ن َ‬ ‫صهْي َوْ َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ي اد ْفَِعي َيا ب ِن ْ َ‬ ‫‪ Mic 4:10‬ت َل َوّ ِ‬
‫ن إ َِلى َباب ِ َ‬ ‫ْ‬
‫ن ي َدِ‬‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫ك الّر ّ‬ ‫دي ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ك يَ ْ‬‫ن‪ .‬هَُنا َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ق ِ‬‫ك ت ُن ْ َ‬ ‫ل‪ .‬هَُنا َ‬ ‫ن ِفي ال ْب َّري ّةِ وَت َأِتي َ‬ ‫سك ُِني َ‬ ‫وَت َ ْ‬

‫‪196‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫ك‪.‬‬ ‫َ‬
‫دائ ِ ِ‬ ‫أعْ َ‬
‫ُ‬
‫س‬
‫ن‪ :‬ل ِت َت َد َن ّ ْ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ك َِثيَرةٌ ال ّ ِ‬ ‫م ٌ‬ ‫كأ َ‬ ‫ت عَل َي ْ ِ‬ ‫معَ ْ‬ ‫جت َ َ‬ ‫ن قَدِ ا ْ‬ ‫‪َ Mic 4:11‬وال َ‬
‫ن‪.‬‬ ‫صهْي َوْ َ‬ ‫س عُُيون َُنا ِفي ِ‬ ‫فّر ْ‬ ‫وَل ْت َت َ َ‬
‫َ‬
‫حَزم ٍ‬ ‫م كَ ُ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫ه قَد ْ َ‬ ‫صد َه ُ إ ِن ّ ُ‬ ‫ن قَ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫فهَ ُ‬ ‫ب وَل َ ي َ ْ‬ ‫كاَر الّر ّ‬ ‫ن أفْ َ‬ ‫م ل َ ي َعْرُِفو َ‬ ‫‪ Mic 4:12‬وَهُ ْ‬
‫إ َِلى ال ْب َي ْد َِر‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ديدا ً وَأظ ْل َفَ ِ‬ ‫ح ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ل قَْرن َ ِ‬ ‫جعَ ُ‬ ‫ن لّني أ ْ‬ ‫صهْي َوْ َ‬ ‫ت ِ‬ ‫سي َيا ب ِن ْ َ‬ ‫مي وَُدو ِ‬ ‫‪ُ Mic 4:13‬قو ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫سي ّدِ‬‫م لِ َ‬ ‫ب وَث َْروَت َهُ ْ‬ ‫م ِللّر ّ‬ ‫مت َهُ ْ‬ ‫م غَِني َ‬ ‫حّر ُ‬ ‫ن وَأ َ‬ ‫ري َ‬ ‫شُعوبا ً ك َِثي ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫قي َ‬ ‫ح ِ‬ ‫س َ‬ ‫حاسا ً فَت َ ْ‬ ‫جعَل َُها ن ُ َ‬ ‫أ ْ‬
‫ض‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ل ال َْر‬ ‫كُ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ضرُِبو َ‬ ‫ة‪ .‬ي َ ْ‬ ‫س ً‬ ‫مت َْر َ‬ ‫م عَلي َْنا ِ‬ ‫ش! قَد ْ أَقا َ‬ ‫جُيو ِ‬ ‫ت ال ُ‬ ‫ن َيا ب ِن ْ َ‬ ‫شي َ‬ ‫جي ّ ِ‬ ‫ن ت َت َ َ‬ ‫‪ Mic 5:1‬ال َ‬
‫ه‪.‬‬ ‫خد ّ ِ‬ ‫ب عَلى َ‬ ‫َ‬ ‫ضي ٍ‬ ‫ق ِ‬ ‫ل بِ َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ي إِ ْ‬ ‫ض َ‬ ‫َقا ِ‬
‫ف ي َُهوَذا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م ِ أفَْرات َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ألو ِ‬ ‫ن ت َكوِني ب َي ْ َ‬ ‫صِغيَرة ٌ أ ْ‬ ‫ت َ‬ ‫ة وَأن ْ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫تل ْ‬ ‫ت َيا ب َي ْ َ‬ ‫ما أن ْ ِ‬ ‫‪ Mic 5:2‬أ ّ‬
‫من ْذ ُ‬ ‫ديم ِ ُ‬ ‫ق ِ‬ ‫ْ‬
‫من ْذ ُ ال َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ج ُ‬ ‫خارِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫سلطا عَلى إ ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مت َ َ‬ ‫ن ُ‬ ‫ذي ي َكو ُ‬ ‫ُ‬ ‫ج ِلي ال ِ‬‫ّ‬ ‫خُر ُ‬ ‫ك يَ ْ‬ ‫من ْ ِ‬ ‫فَ ِ‬
‫ل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أّيام ِ الَز ِ‬
‫ه‬
‫خوَت ِ ِ‬ ‫ة إِ ْ‬ ‫قي ّ ُ‬ ‫جع ُ ب َ ِ‬ ‫م ت َْر ِ‬ ‫ت َوال ِد َة ٌ ث ُ ّ‬ ‫ن قَد ْ وَل َد َ ْ‬ ‫كو ُ‬ ‫ما ت َ ُ‬ ‫حين َ َ‬ ‫م إ َِلى ِ‬ ‫مهُ ْ‬ ‫سل ّ ُ‬ ‫ك يُ َ‬ ‫‪ Mic 5:3‬ل ِذ َل ِ َ‬
‫ل‪.‬‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫إ َِلى ب َِني إ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫ب إ ِل َهِهِ وَي َث ْب ُُتو َ‬
‫ن‬
‫ه ال َ‬ ‫ن‪ .‬لن ّ ُ‬ ‫سم ِ الّر ّ‬ ‫مةِ ا ْ‬ ‫ب ب ِعَظ َ َ‬ ‫قد َْرةِ الّر ّ‬ ‫عى ب ِ ُ‬ ‫ف وَي َْر َ‬ ‫ق ُ‬ ‫‪ Mic 5:4‬وَي َ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ض‪.‬‬ ‫صي الْر ِ‬ ‫م إ َِلى أقا ِ‬ ‫َ‬ ‫ي َت َعَظ ّ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫لمًا‪ .‬إ َِذا د َ َ‬ ‫س َ‬ ‫‪ Mic 5:5‬وَي َ ُ‬
‫صورَِنا‬ ‫س ِفي قُ ُ‬ ‫ضَنا وَإ َِذا َدا َ‬ ‫شوُر ِفي أْر ِ‬ ‫لأ ّ‬ ‫خ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫كو ُ‬
‫ُ‬
‫س‬
‫مَراِء َالّنا ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫مان ِي َ ً‬ ‫عاةٍ وَث َ َ‬ ‫ة ُر َ‬ ‫سب ْعَ َ‬ ‫م عَل َي ْهِ َ‬ ‫قي ُ‬ ‫نُ ِ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ذ‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ها‬ ‫ب‬ ‫وا‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫في‬ ‫د‬ ‫رو‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ف‬ ‫ي‬ ‫س‬ ‫بال‬ ‫ر‬ ‫شو‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫عو‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ف‬
‫ِ ْ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ َِ‬ ‫َ ِ ّ ْ ِ َ ْ َ ِ ْ ُ َ ِ‬ ‫َْ ُ َ ْ َ‬ ‫‪Mic‬‬ ‫‪5:6‬‬
‫مَنا‪.‬‬ ‫خو‬ ‫َ‬ ‫خ َ َ‬ ‫شوَر إ َِذا د َ َ‬ ‫أَ ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ضَنا َ ِ َ َ ُ‬
‫ت‬ ‫س‬ ‫دا‬ ‫ذا‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫ل أْر َ‬
‫ب‬ ‫عن ْدِ الّر ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫دى ِ‬ ‫كالن ّ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ري َ‬ ‫ب ك َِثي ِ‬ ‫شُعو ٍ‬ ‫ط ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ب ِفي وَ َ‬ ‫قو َ‬ ‫ة ي َعْ ُ‬ ‫قي ّ ُ‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫كو ُ‬ ‫‪ Mic 5:7‬وَت َ ُ‬
‫ر‪.‬‬ ‫ش ِ‬ ‫صب ُِر ل ِب َِني ال ْب َ َ‬ ‫سانا ً وَل َ ي َ ْ‬ ‫ذي ل َ ي َن ْت َظ ُِر إ ِن ْ َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫ل عََلى ال ْعُ ْ‬ ‫واب ِ ِ‬ ‫كال ْ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫سد ِ ب َي ْ َ‬ ‫كال َ‬ ‫ري َ‬ ‫ب ك َِثي ِ‬ ‫شُعو ٍ‬ ‫ط ُ‬ ‫س ِ‬ ‫مم ِ ِفي وَ َ‬ ‫ن ال َ‬ ‫ب ب َي ْ َ‬ ‫قو َ‬ ‫ة ي َعْ ُ‬ ‫قي ّ ُ‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫كو ُ‬ ‫‪ Mic 5:8‬وَت َ ُ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ش ال ْوَعْرِ ك َ ِ‬
‫س‬
‫فت َرِ ُ‬ ‫س وَي َ ْ‬ ‫دو ُ‬ ‫ذي إ َِذا عَب ََر ي َ ُ‬ ‫ن الغَن َم ِ ال ِ‬ ‫ن قُطَعا ِ‬ ‫سد ِ ب َي ْ َ‬ ‫ل ال َ‬ ‫شب ْ ِ‬ ‫حو ِ‬ ‫وُ ُ‬
‫ذ‪.‬‬ ‫ق ُ‬ ‫ن ي ُن ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫س َ‬ ‫وَل َي ْ َ‬
‫قرض ك ُ ّ َ‬
‫ك!‬ ‫دائ ِ َ‬ ‫ل أعْ َ‬ ‫ك وَي َن ْ َ ِ ْ‬ ‫ضي َ‬ ‫مب ْغِ ِ‬ ‫ك عََلى ُ‬ ‫فعْ ي َد ُ َ‬ ‫‪ Mic 5:9‬ل ِت َْرت َ ِ‬
‫سط ِكَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب أّني أقْطعُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن ِفي ذ َل ِك الي َوْم ِ ي َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن وَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫خي ْلك ِ‬ ‫ل الّر ّ‬ ‫‪» Mic 5:10‬وَي َكو ُ‬
‫ك‪.‬‬ ‫مْرك ََبات ِ َ‬ ‫ُ‬
‫وَأِبيد ُ َ‬
‫ك‪.‬‬ ‫صون ِ َ‬ ‫م كُ ّ‬ ‫‪ Mic 5:11‬وأ َقْط َع مدن أ َرض َ َ‬
‫ح ُ‬ ‫ل ُ‬ ‫ك وَأهْدِ ُ‬ ‫ُ ُ ُ َ ْ ِ‬ ‫َ‬
‫هل هناك داع لشرح؟؟ وهل هناك مايشير إلى أن الذي يخرج )في ذلك اليوم‬
‫الذي هو في آخر اليام( من بيت لحم الذي )يكون متسلطًا( على إسرائيل‬
‫ومخارجه من القديم إلى الزل )وليس ‪-‬مدبر‪ -‬يرعى شعبي إسرائيل حسب‬
‫مّتى( كان هو السيد المسيح؟!!‬
‫هل سلم السيد المسيح جيوش بنت صهيون إلى آشور؟؟ وهل رجع بقية‬
‫)إخوته( إلى بني إسرائيل؟؟‬
‫هل وقف ورعى )بقدرة الرب إلهه(؟؟ وأقام سبعة رعاة وثمانية من أمراء‬
‫الناس ليرعوا أرض أشور بالسيف وأرض نمرود في أبوابها؟؟‬
‫رعى بقدرة الرب إلهه؟؟!!! )أو ليس السيد المسيح برأي المسيحيين هو‬
‫سد‪..‬المصلوب والمهان من أجل )الخلص((‪.‬‬ ‫الرب المتج ّ‬
‫وهل كان السيد المسيح يوما ً )متسلطًا( على إسرائيل؟؟!! أم مكذوبا ً‬
‫ومضطهدا ً )ومصلوبًا( على أيديهم؟؟!!‬
‫وبالتالي وجب عليك أيها القارئ الكريم أن تجيب على السؤال المطروح‬
‫"بنفسك"‪:‬‬

‫‪197‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫)‪(4 /‬‬

‫هل كان رؤساء الكهنة وكتبة الشعب يعلمون بولدة السيد المسيح ومكانه؟؟‬
‫وينتظرونه حسب النص المستشهد حقًا؟ ولو كانت تلك صفاته كما تتابعت به‬
‫النبوءة فلماذا اضطهدوه و )صلبوه(‬
‫مد كتبة الناجيل الكذب على الله!‬ ‫نموذج ثالث لتع ّ‬
‫هل ذهب السيد المسيح إلى مصر )وُدعي( من هناك؟‬
‫مرة ثانية يظهر ملك الرب ليوسف النجار‪ ،‬واسمع للقصة كما يرويها مّتى‬
‫في إنجيله‪.‬‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫حلم ٍ قائ ِل‪ :‬ق ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ف ِفي ُ‬ ‫س َ‬ ‫ب قد ْ ظهََر ل ُِيو ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ملك الّر ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫صَرفوا إ َِذا َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ان ْ َ‬ ‫‪ Mat 2:13‬وَب َعْد َ َ‬
‫س‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫هيُرود ُ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫حّتى أقول لك‪ .‬ل ّ‬ ‫ن هَُناك َ‬ ‫صَر وَك ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ب إ ِلى ِ‬ ‫ه َواهُْر ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ي وَأ ّ‬ ‫صب ِ ّ‬ ‫خذِ ال ّ‬ ‫وَ ُ‬
‫ه‪.‬‬ ‫ي ل ِي ُهْل ِك َُ‬ ‫ب‬ ‫ص‬ ‫ال‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ط‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫مزمع أ َ‬
‫ّ ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ ِ ٌ ْ َ‬
‫صَر‬ ‫م‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫ف‬ ‫ر‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫وا‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ص‬ ‫ال‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫خ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫‪Mat 2:14‬‬
‫ِ ْ‬ ‫ّ ِ ّ َ ّ ُ ْ َ ْ َ َ َ ِ‬ ‫َ َ‬
‫ي‪:‬‬
‫ب ِبالن ّب ِ ّ‬ ‫ن الّر ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ما ِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ي ي َت ِ ّ‬ ‫س ل ِك َ ْ‬ ‫هيُرود ُ َ‬ ‫ك إ َِلى وََفاةِ ِ‬ ‫ن هَُنا َ‬ ‫كا َ‬ ‫‪ Mat 2:15‬وَ َ‬
‫ت اب ِْني‪.‬‬ ‫صَر د َعَوْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫وحتى يفهم قراءنا الفاضل كلمة بالنبي تعني الشارة إلى سفر من أسفار‬
‫العهد القديم ‪-‬الذي يطلق عليه التوراة مجازًا‪ .-‬إذا ً فالنبوءة كانت تتحدث عن‬
‫دعوة السيد المسيح )من مصر( لنه )ابن الله(‪ ،‬وهذا ما كان يعني كاتب‬
‫إنجيل مّتى )إثبات البنوة لله( والعياذ بالله! فهل وفق في ذلك؟؟ تعالوا نرى‬
‫ونتأمل في أصل تلك النبوءة‪:‬‬
‫كانت تلك العبارة موجودة في سفر هوشع وجاءت من البداية )قبل القتطاع(‬
‫على الشكل التالي‪:‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫ت اب ِْني‪.‬‬ ‫صَر د َعَوْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه وَ ِ‬ ‫حب َب ْت ُ ُ‬ ‫ل غلما أ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫سَراِئي ُ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫‪ Hos 11:1‬ل َ ّ‬
‫ن ل ِل ْب َعِْليم ِ وَي ُب َ ّ‬ ‫َ‬ ‫‪ Hos 11:2‬ك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫ماِثي ِ‬ ‫ن ِللت ّ َ‬ ‫خُرو َ‬ ‫حو َ‬ ‫م ي َذ ْب َ ُ‬ ‫مهِ ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ذ َهَُبوا ِ‬ ‫عوهُ ْ‬ ‫ما د َ ُ‬ ‫ل َ‬
‫ة‪.‬‬
‫حوت َ ِ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‪.‬‬ ‫في ْت ُهُ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫م ي َعْرُِفوا أّني َ‬ ‫م فَل َ ْ‬ ‫عهِ ْ‬ ‫م ب ِأذ ُْر ِ‬ ‫سكا ً إ ِّياهُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ت أفَْراي ِ َ‬ ‫ج ُ‬ ‫‪ Hos 11:3‬وَأَنا د َّر ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن ي َْرفَعُ الّنيَر‬ ‫م‬ ‫ك‬
‫َ َ ّ ِ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ط‬‫ج ُُِ ْ ِ ِ َ ِ َ ِ ُِ ُ ِ‬
‫ب‬ ‫ر‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫ح‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ذ‬ ‫تأ ْ‬ ‫‪ Hos 11:4‬ك ُن ْ ُ‬
‫عَ َ‬
‫ه‪.‬‬ ‫مط ِْعما ً إ ِّيا ُ‬ ‫ت إ ِل َي ْهِ ُ‬ ‫مد َد ْ ُ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ن أعَْناقِهِ ْ‬ ‫ْ‬
‫جُعوا‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫شور هُو مل ِك ُه‪ .‬ل َنهم أ َبوا أ َ‬ ‫ّ‬ ‫ل أَ‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ص‬ ‫م‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫‪ Hos 11:5‬ل َ يرجع إَلى أ َ‬
‫ْ َْ ِ‬ ‫ُّ ْ ُ‬ ‫ُ َ َ ُ‬ ‫ْ ِ ِ ْ َ َ‬ ‫َْ ِ ُ ِ‬
‫عصيها ويأ ْك ُل ُهم من أ َ‬
‫م‪.‬‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫را‬
‫ِ َّ ََ ُ ْ ِ ْ ْ ِ َ ِ ْ‬ ‫آ‬ ‫ل‬ ‫ج‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ي‬
‫ُ ُ ِ ْ َُْ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫د‬ ‫م‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ف‬
‫ُ‬ ‫س ْ‬
‫ي‬ ‫‪ Hos 11:6‬ي َُثوُر ال ّ‬
‫َ‬
‫حد ٌ‬ ‫ي وَل َ أ َ‬ ‫م إ َِلى ال ْعَل ِ ّ‬ ‫عون َهُ ْ‬ ‫داد ِ عَّني فَي َد ْ ُ‬ ‫ن إ َِلى ال ِْرت ِ َ‬ ‫حو َ‬ ‫جان ِ ُ‬ ‫شعِْبي َ‬ ‫‪ Hos 11:7‬وَ َ‬
‫ه‪.‬‬ ‫ي َْرفَعُ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫م َ‬ ‫ك ك َأد َ َ‬ ‫جعَل َ‬ ‫فأ ْ‬ ‫ل؟! ك َي ْ َ‬ ‫سَراِئي ُ‬ ‫ك َيا إ ِ ْ‬ ‫صي ُّر َ‬ ‫مأ َ‬ ‫ك َيا أفَْراي ِ ُ‬ ‫جعَل َ‬ ‫فأ ْ‬ ‫‪ Hos 11:8‬ك َي ْ َ‬
‫ميعا!ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ج ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ح ِ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫ت َ‬ ‫م ْ‬ ‫ضطَر َ‬ ‫ي قَلِبي‪ .‬ا ْ‬ ‫ب عَل ّ‬ ‫قل َ‬ ‫م؟! قَدِ ان ْ َ‬ ‫صُبوِيي َ‬ ‫ك كَ َ‬ ‫صن َعُ َ‬ ‫أ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫عود ُ أ َ ْ‬ ‫ضِبي‪ .‬ل َ أ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫ن‬‫سا ٌ‬ ‫ه ل َ إ ِن ْ َ‬ ‫م لّني الل ّ ُ‬ ‫ب أفَْراي ِ َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫موّّ غَ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ري ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫‪ Hos 11:9‬ل َ أ ْ‬
‫ط‪.‬‬ ‫خ ٍ‬ ‫س َ‬ ‫ك فَل َ آِتي ب ِ َ‬ ‫سط ِ َ‬ ‫س ِفي وَ َ‬ ‫دو ُ‬ ‫ق ّ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫َ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫سرِعُ ال ْب َُنو َ‬ ‫جُر فَي ُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ي َُز ْ‬ ‫جُر‪ .‬فَإ ِن ّ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫سدٍ ي َُز ْ‬ ‫ن‪ .‬ك َأ َ‬ ‫شو َ‬ ‫م ُ‬ ‫ب يَ ْ‬ ‫‪ Hos 11:10‬وََراَء الّر ّ‬
‫ر‪.‬‬‫ح ِ‬ ‫ال ْب َ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫سك ِن ُهُ ْ‬ ‫شوَر فَأ ْ‬ ‫ضأ ّ‬ ‫ن أْر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مةٍ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ح َ‬ ‫صَر وَك َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫فورٍ ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫ن ك َعُ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫سرِ ُ‬ ‫‪ Hos 11:11‬ي ُ ْ‬
‫ب‪.‬‬ ‫ل الّر ّ‬ ‫قو ُ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫ِفي ب ُُيوت ِهِ ْ‬
‫م ي ََزل ي َُهوَذا‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مكرِ وَل ْ‬ ‫سَراِئيل ِبال َ‬ ‫ت إِ ْ‬ ‫ب وَب َي ْ ُ‬ ‫م ِبالكذِ ِ‬ ‫حاط ِبي أفَراي ِ ُ‬ ‫‪ Hos 11:12‬قد ْ أ َ‬
‫ن‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫مي ِ‬ ‫س ال ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫ق ّ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫ن اللهِ وَعَ ِ‬ ‫شاِردا عَ ِ‬
‫هل يشك عاقل حكيم أن النبوءة والخبر كان عن إسرائيل الذي دعاه الله‬
‫حين كان صغيرا ً )ابنه( فدعاه من مصر )أي أنبأه بخروج شعبه ‪-‬الذي أطلق‬

‫‪198‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫عليه فيما بعد شعب إسرائيل‪) -‬أخرجهم( من مصر إلى أرض أبيهم‬
‫إسرائيل؟؟‬
‫وة هنا إنما هو استعارة تعني )عبده( وهي كذلك في الصول‬ ‫وأن لفظ البن ّ‬
‫العبرية‪ ،‬ولكنها استبدلت إلى )فتى( ومن ثم إلى )غلم( كما في تحريف‬
‫التراجم بين هذين النصين‪:‬‬
‫‪ :Mt:12:17‬لكي يتم ما قيل باشعياء النبي القائل‪(SVD) .‬‬
‫‪ :Mt:12:18‬هوذا فتاي الذي اخترته حبيبي الذي سّرت به نفسي‪.‬اضع روحي‬
‫عليه فيخبر المم بالحق‪(SVD) .‬‬
‫والصحيح في النص المقتطع من اشعياء في العهد القديم هو هكذا ‪:‬‬
‫َ‬
‫ت‬‫ضعْ ُ‬ ‫سي‪ .‬وَ َ‬ ‫ف ِ‬
‫ت ب ِهِ ن َ ْ‬
‫سّر ْ‬
‫ذي ُ‬ ‫خَتاِري ال ّ ِ‬ ‫م ْ‬
‫ضد ُه ُ ُ‬‫ذي أعْ ُ‬ ‫دي ال ّ ِ‬ ‫‪ Isa 42:1‬هُوََذا عَب ْ ِ‬
‫م‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫حي عَل َي ْهِ فَي ُ ْ‬
‫م ِ‬‫حقّ ل ِل َ‬ ‫ج ال َ‬‫خرِ ُ‬ ‫ُرو ِ‬
‫ً‬
‫* وتلك ايضا نبوءة "مكذوبة" منسوبة باطل إلى السيد المسيح‪ ،‬مقتطعة‬
‫وملصوقة في إنجيل مّتى سيأتي ذكرها فيما بعد(*‬
‫ونعود إلى ذات النص فنجد فيه مال يخفى عن أحد‪ ،‬النبوءة التي تحدثت عن‬
‫إخراج الله ودعوته )لبني إسرائيل( من مصر ونصرهم على سكان أرض‬
‫ن‬
‫عو َ‬ ‫سرِ ُ‬‫أشور الذين كانوا يذبحون )للبعليم( ويبخرون للتماثيل المنحوتة ي ُ ْ‬
‫ُ‬
‫ب‪ ،‬وحالهم مع سيدنا‬ ‫قو ُ‬
‫ل الّر ّ‬ ‫م يَ ُ‬
‫م ِفي ب ُُيوت ِهِ ْ‬ ‫سك ِن ُهُ ْ‬ ‫صَر‪ ،‬فَأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫فورٍ ِ‬ ‫ك َعُ ْ‬
‫ص ُ‬
‫موسى وإعراضهم عن الوصايا وما بدر منهم )بارتدادهم واتخاذهم العجل(‬
‫داد ِ عَّني‪..‬‬ ‫ن إ َِلى ال ِْرت ِ َ‬ ‫حو َ‬ ‫جان ِ ُ‬
‫شعِْبي َ‬ ‫وَ َ‬

‫)‪(5 /‬‬

‫وأجمل ما في ذلك النص "ماتغافل عنه كاتب إنجيل مّتى" والذي فيه معلن‬
‫بأن )الله( عز وجل ليس إنسانًا( وهو وحده جل وعل القدوس المين‪.‬‬
‫ن‪ ..‬ال ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ك‪.....‬‬ ‫سط ِ َ‬ ‫س ِفي وَ َ‬ ‫دو ُ‬ ‫ق ّ‬ ‫سا ٌ‬ ‫ه ل َ إ ِن ْ َ‬ ‫‪ Hos 11:9‬لّني الل ّ ُ‬
‫فهل كان كما أراد أن يصوره كاتب إنجيل مّتى بأن السيد المسيح هو ابن‬
‫الله‪ ،‬وأنه دعي من مصر؟؟‬
‫ثم أل تكفي تلك العبارة والشهادة في تلك النبوءة‪ ،‬بأن الله العلي القدير‬
‫)ليس إنسان( ل بذاته ولبصفته‪ ،‬ول ينبغي أن يكون له ولد سبحانه وتعالى‬
‫عما يصفون‪ ،‬فهو القدوس العلي العظيم؟؟‬
‫فانظر كيف يكذب‪ ،‬وأنظر كيف يبتر من النص ويأخذ منه كما يحلو له كلمة‬
‫من أوله وكلمة من آخره وكلمة من عنده نفسه‪ ،‬ليخرج بما لم يقله الكتاب‬
‫المقدس‪.‬‬
‫حقّ وَل َ ت َت ّب ُِعوا ْ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ر‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫غ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ن‬ ‫دي‬ ‫في‬ ‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ُ‬
‫لو‬ ‫غ‬
‫َْ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫تا‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫يا‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫}‬ ‫الكتاب‪:‬‬ ‫ويا أهل‬
‫َ‬ ‫ِ ِ ْ َْ‬ ‫ِ‬ ‫َِ ِ‬ ‫َ ْ‬
‫ضّلوا ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل{‬ ‫سِبي ِ‬ ‫واء ال ّ‬ ‫س َ‬
‫عن َ‬ ‫ضّلوا ْ ك َِثيرا ً وَ َ‬‫ل وَأ َ‬ ‫من قَب ْ ُ‬ ‫ضّلوا ْ ِ‬ ‫واء قَوْم ٍ قَد ْ َ‬
‫أهْ َ‬
‫]المائدة‪.[77:‬‬

‫)‪(6 /‬‬

‫ويقولون متى هو؟!‬


‫عز الدين فرحات ‪12/10/1424‬‬
‫‪06/12/2003‬‬
‫إن المتفحص لحوال المة والدارس لما تمر به يدرك أنه منذ بعثة رسول‬
‫الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬ومنحنى هذه المة في صعود‪ ،‬وبلغت المة ذروة‬

‫‪199‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫صعودها في قرون الخيرية التي أشار إليها رسول الله ‪-‬صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ -‬في قوله‪ " :‬خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"‪.‬‬
‫وقد تعرض هذا المنحنى لفترات استعلء وظهور ثم انحسار بلغت ذروته‬
‫بسقوط الخلفة عام ‪1924‬م‪ ،‬إل أن هذه المة تحمل بداخلها عوامل القوة‬
‫والستمرار‪ ،‬لذا كان ل بد لها من أن تنهض من جديد لتحمل معالم مرحلة‬
‫أخرى في هذا المنحنى وهي مرحلة البعث والنهوض‪ ،‬وذلك مصداقا ً لقوله‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ " :‬ل تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ل‬
‫يضرهم من خالفهم أو خذلهم‪ "....‬الحديث‪ .‬وقوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬إن‬
‫الله يبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه المة أمر دينها"‪.‬‬
‫وانطلقا ً من سنة التدافع‪ ،‬وطبيعة الصراع الزلي بين قوى الخير والشر‪،‬‬
‫والحق والباطل‪ ،‬لم يترك أعداء المة للعاملين على تحقيق هذه الهداف‬
‫السامية مجال ً للعمل؛ بل كان التضييق ومحاولت الوأد والتعذيب هو ديدنهم‬
‫تجاه هؤلء العاملين‪ .‬وبلغت ذروة هذا الكيد وتلك المحاولت للقضاء على‬
‫صا بعد أحداث الحادي عشر من‬ ‫هذه المة مداها خلل الفترة الخيرة خصو ً‬
‫سبتمبر وسفور الوجه الكريه لعداء المة‪ .‬لذا كان ل بد من وقفة جادة‬
‫ونظرة متفحصة وتشخيص دقيق للوضع الراهن سواء كان دوليا ً أو محليا‪ً،‬‬
‫والبحث عن عوامل القوة ومصادرها في هذه المة في محاولة متأنية‬
‫وواقعية للتعامل مع هذا الوضع بجهد صادق وواقعية منطقية‪ ،‬وذلك من خلل‬
‫وضع ممارسات عملية تتلءم مع إمكانياتنا والظروف المحيطة بنا‪.‬‬
‫أول ‪ :‬التحديات الخارجية و الوضاع العالمية الراهنة‪:‬‬
‫لقد قدر لهذه المة أن تعيش في ظل أوضاع ومعطيات عالمية وإقليمية‬
‫مضطربة أوجبت عليها ابتداًء حصرها والتعرف عليها كي تتمكن من صياغة‬
‫الحلول المثلى لتجاوزها والتغلب على آثارها السلبية‪ ،‬ولعل أبرز وأهم هذه‬
‫الوضاع سيطرة أمريكا على العالم بنظام القطب الواحد‪ ،‬والذي ترتبت عليه‬
‫آثار متعددة منها‪:‬‬
‫‪ -1‬السيطرة على منابع الغاز والنفط والطاقة بشكل عام‪.‬‬
‫‪-2‬النفراد المريكي بمؤسسات المم المتحدة المختلفة وجعلها تدور في‬
‫فلكها ووفق إرادتها‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-3‬التحكم في المؤسسات التي تلعب أدوارا فاعلة في عجلة القتصاد الدولي‬
‫مثل‪ :‬منظمة تحرير التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي‪،‬‬
‫وإدارة دفة مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى‪ ،‬وغير ذلك‪..‬‬
‫‪-4‬الضغوط السياسية على حكومات دول العالم الثالث وفرض شروط مذلة‬
‫عليها تصب في نهاية المطاف في مصلحتها فقط‪ ،‬ومن أمثلة ذلك‪:‬‬
‫التسهيلت المنية‪ ،‬والحصار القتصادي والسياسي‪ ،‬وتجميد الرصدة‬
‫والحسابات‪ ....‬إلخ‪.‬‬
‫‪ -5‬إعلن الحرب ضد السلم تحت مسمى وزعم محاربة الرهاب‪ ،‬وجاءت‬
‫أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتكمل الحلقة في هذه السلسلة من خلل‬
‫تلفيق الّتهم وتزوير الحقائق وقلب الموازين والمفاهيم‪ ،‬وحصار الدعاة‬
‫والمؤسسات السلمية والدعوية والغاثية وتجفيف منابعهم الفكرية والمادية‬
‫والملحقة المستمرة لهم‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬التحديات الداخلية التي تواجه نهضة المة‪:‬‬
‫‪-1‬تفرق المة وعدم اتحادها بل وموالة أعدائها والدوران في فلكهم ومحاربة‬
‫كل ما هو إسلمي‪.‬‬
‫‪-3‬الستبداد والدكتاتورية وكبت الحريات والفساد الداري في كثير من الدول‬

‫‪200‬‬
‫مكتبيييييييية موقييييييييع بّلغييييييييوا عّنييييييييي ولييييييييو آييييييييية‬ ‫‪http://www.balligho.com‬‬

‫السلمية‪.‬‬
‫‪-4‬الحتكام إلى القوانين والدساتير الوضعية وإهمال شرع الله‪.‬‬
‫‪-5‬عدم وجود أهداف وتوجهات كبرى تجتمع عليها المة‪.‬‬
‫‪-6‬غياب البناء القتصادي الموحد للمة الذي تتكامل فيه مواردها رغم وجود‬
‫التكتلت الدولية في هذا المجال‪.‬‬
‫‪-7‬فقدان الهوية والتأثر بكل جديد وإن خالف مبادئ السلم في كافة‬
‫المجالت وخاصة مجال الفكر والثقافة‪ ،‬وإفساح المجال لمنحرفي الفكر‬
‫لترويج أفكارهم الهدامة عن السلم والمسلمين‪.‬‬
‫‪ -8‬ضعف مستوى التعليم وانتشار الجهل‪ ،‬وارتفاع نسبة المية بين أبناء المة‪.‬‬
‫‪-9‬الفساد الجتماعي و الخلقي وضعف دور السرة كلبنة في بناء المجتمع‬
‫المسلم‪.‬‬
‫ورغم كل هذه التحديات الداخلية والخارجية؛ إل أن لهذه المة خصائص‬
‫تميزها عن غيرها وتساعد على نهوضها مرة أخرى‪.‬‬
‫ثالثا‪:‬خصائص المة السلمية‪.‬‬
‫تختص هذه المة بعدة خصائص تميزها عن غيرها من المم وحتى إن وجدت‬
‫بعض هذه الخصائص أمة أخرى؛ إل أنها ل تجتمع إل في أمة السلم!‪ .‬وهذه‬
‫الخصائص مجتمعة هي بل شك مصدر عزها واستمرارها وتأهيلها لمكان‬
‫الريادة بين المم قاطبة‪ .‬ومن أهم الخصائص ما يلي‪:‬‬
‫‪-1‬السلم وهو الدين الخاتم وآخر صلة بين السماء والرض‪ ،‬وهو المهيمن‬
‫على جميع الديانات والرسالت السابقة‪ ،‬قال تعالى‪ ) :‬قل يا أيها الناس إني‬
‫رسول الله إليكم جميعًا(‪ ،‬وقال‪ ) :‬وما أرسلناك إل رحمة للعالمين(‪.‬‬

‫)‪(1 /‬‬

‫‪201‬‬

You might also like