You are on page 1of 33

‫إشكالّية تأويل القرآن‬

‫ما وحديًثا‬
‫قدي ً‬

‫‪ .‬تقديم‬

‫لعل الفتراض الذي ينطلق منه العداد ُ لهذه الندوة الهامة في الذكرى‬
‫المئوية الولى لرحيل أحد رّواد الفكر النهضوي – عبد الرحمن الكواكبي –‬
‫في حاجة إلى مراجعة‪ :‬هل صحيح أن مشروع "الصلح الديني" في‬
‫منظومة فكر النهضة العربي قد فشل في تحقيق أهدافه؟‬

‫ل يمكن إعطاء إجابة شافية عن هذا السؤال دون تحديد طبيعة الهداف‬
‫التي سعى مشروعُ "الصلح الديني" إلى تحقيقها‪ .‬فالهداف‪ ،‬كما نعلم‪،‬‬
‫تمثل الركائز الساسية لب َل ْوََرة الوسائل التي تصوغ‪ ،‬بدورها‪ ،‬المبادئ‬
‫النظرية التي يمكن لنا أن نطلق عليها اسم "المنهج"‪ .‬ول يستقيم في‬
‫منا على مشروع‬ ‫منهج الفكر العلمي – التحليل النقدي – أن ينطلق حك ُ‬
‫ور نحن أن‬ ‫حا أو إخفاًقا – من منظور أهداف نتص ّ‬ ‫"الصلح الديني" – نجا ً‬
‫المشروع كان عليه إنجاُزها‪ .‬في عبارة أخرى‪ ،‬ل يجوز أن نفترض أهدافاً‬
‫ل الرّواد على فشلهم‬ ‫من منظور إشكالياتنا الصلحية الن‪ ،‬ونحاسب جي َ‬
‫في تحقيقها‪ .‬فالذي ل شك فيه أن مطالبنا الصلحية الن تتجاوز بدرجات‬
‫ل الرّواد إلى تحقيقها‪ ،‬وهي‬ ‫ف المطالب الصلحية التي كان يطمح جي ُ‬ ‫سق َ‬
‫ة المرحلة التاريخية وتحدياتها الداخلية‬
‫ددْتها طبيع ُ‬ ‫المطالب التي ح ّ‬
‫والخارجية‪ .‬نحن إزاء تحديات داخلية وخارجية تختلف‪ ،‬كمّيا وكيفّيا‪ ،‬عن تلك‬
‫ب الصلح الديني آنذاك‪.‬‬ ‫مل معها خطا ُ‬ ‫التحديات التي تعا َ‬
‫ة اللتباس الذي يمكن أن ينتج عن‬ ‫من المطلوب في البداية كذلك إزال ُ‬
‫حها اليوم بإلحاح‬‫كون الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني السلمي ُيعاد طر ُ‬
‫بعد أحداث الحادي عشر من سپتمبر ‪ ،2001‬في سياق الضغوط المريكية‬
‫على العالم العربي والسلمي لتعديل برامجه التعليمية‪ ،‬خاصة منها ما‬
‫دين لهذه الندوة كانت تحّركهم‬‫معِ ّ‬
‫يرتبط بتعليم السلم‪ .‬فل أظن أن ال ُ‬
‫دوافعُ الستجابة للضغط المريكي بطرح التساؤل عن أسباب فشل‬
‫مشروع النهضة من زاوية مشروع "الصلح الديني" بصفة خاصة‪ .‬لكن‬
‫نفي هذا الرتباط بين الضغط السياسي المريكي وبين إعادة تقييم‬
‫ث الحادي‬ ‫مشروع الصلح الديني ل يعني عدم العتراف بما أثاره حد ُ‬
‫عشر من سپتمبر من أصداء في العالمين العربي والسلمي‪ ،‬بعضها سلبي‬
‫وبعضها إيجابي‪ .‬وفي تقديري أن بعض النتائج اليجابية تتمّثل في الحاجة‬
‫إلى إعادة النظر في صيغة "النا"‪ ،‬من حيث علقُتها بالخر‪ ،‬من منظور‬
‫نقدي‪.‬‬
‫ول يحتاج الكاتب هنا إلى إبراز جهوده في مجال "نقد الخطاب الديني"‬
‫خلل أكثر من ربع قرن‪ ،‬هي مجمل حياته الكاديمية؛ وهي جهود صارت‬
‫مكّثفة خلل السنوات العشر الخيرة بصفة خاصة‪ .‬الكاتب هنا ل يتعامل‬
‫مع السئلة والشكاليات التي يطرحها علينا الخرون بقدر ما يتعامل مع‬
‫جلة‬
‫جلة‪ .‬أكثر السئلة المؤ ّ‬ ‫أسئلة الواقع الراهن – وكثير منها أسئلة مؤ ّ‬
‫ّ‬
‫تتعلق بحقوق النسان وحقوق المرأة وحقوق القليات‪ ،‬وهي الحقوق التي‬
‫مة أسئلة تتعلق بقضايا التعليم‬ ‫يمكن لنا تصنيفها تحت مفهوم "العدل"‪ .‬وث ّ‬
‫والحرية والديموقراطية والتقدم والنهضة إلخ‪ .‬إنها قضايانا وأسئلتنا منذ‬
‫عصر النهضة‪ ،‬الذي بدأناه في القرن التاسع عشر‪ ،‬وتعّثرت مسيرُتنا معها‬
‫مها منذ أمد ليس بالقريب‪.‬‬ ‫جلت القضايا وتوقف حس ُ‬ ‫لسباب عديدة‪ ،‬فتأ ّ‬

‫ينبغي‪ ،‬إذن‪ ،‬أل نتقاعس عن التعامل مع هذه القضايا وغيرها لمجرد أنها‬
‫ورين أننا بذلك‬‫ُتثار وتنعكس علينا من مرايا الخرين‪ ،‬فيركبنا العناد‪ ،‬متص ّ‬
‫ندافع عن "هويتنا"‪ .‬ليست هويتنا هي "التخلف" ومقاومة "التطور"‪ ،‬ومن‬
‫العبث أن ننحاز إلى صفوف دعاة "التجمد" باسم الدفاع عن الدين‬
‫والهوية‪ .‬وأخيًرا‪ ،‬فإن المعيار الذي على أساسه نقيس المور يجب أن‬
‫يكون معيار حاجتنا إلى التطور‪ ،‬ومقاومة "الجمود"‪ ،‬وهو المعيار الذي‬
‫سس نهضتنا الحديثة‪ ،‬والتي لم يتحقق الكثيُر من‬ ‫قامت على بنائه أ ُ‬
‫جلة‪.‬‬
‫طموحاتها‪ ،‬فتركت وراءها كثيًرا من القضايا المؤ ّ‬

‫سس أكثر متانة إل أن‬ ‫ل سبيل أمامنا إلى استئناف مشروع النهضة على أ ُ‬
‫نبحث عن أسباب إخفاقها ونواجه في شجاعة أسئلتها‪ ،‬أو بالحرى أسئلتنا‬
‫جلة‪ ،‬وعلى رأس هذه القضايا قضية "تجديد الخطاب الديني"‪ .‬وقد‬ ‫المؤ ّ‬
‫اخترت في هذا البحث أن أتناول قضية "التأويل" بوصفها واحدة من أخطر‬
‫ن تكن‪ ،‬على الرغم من ذلك‪ ،‬من أكثر القضايا‬
‫قضايا الفكر الديني‪ ،‬وإ ْ‬
‫مشة في الخطاب الديني الراهن؛ لذلك حرصت على إثارتها بوصفها‬ ‫المه ّ‬
‫"إشكالية"‪ .‬هذا بالضافة إلى أنها واحدة من قضايا مشروع الصلح الديني‬
‫المتعّثرة لسباب سنتناولها في سياق تحليلنا للمشكلة في تطورها‬
‫التاريخي‪.‬‬

‫‪ .2‬تمهيد‬

‫لعله من المفيد أن نبدأ الكلم في هذا الموضوع بتحليل العنوان الذي‬


‫كل في حد ّ ذاته‪ .‬وتحليل هذا‬ ‫مش ِ‬‫اخترناه لهذا البحث‪ ،‬ذلك أنه عنوان ُ‬
‫العنوان يضعنا مباشرة في قلب الموضوع من حيث هو بدوره إشكالية‪.‬‬
‫وكلمة "إشكالية" ليست مقبولة عادة في الحديث عن القرآن‪ ،‬وكذلك‬
‫ج العلماء المسلمون منذ القرن الرابع الهجري‬ ‫كلمة "تأويل"‪ ،‬حيث د ََر َ‬
‫تقريًبا‪ ،‬أي العاشر الميلدي‪ – ،‬باستثناء الشيعة وبعض المتصوفة – على‬
‫تفضيل مصطلح "التفسير" على مصطلح "التأويل"‪ ،‬فصار شائًعا أن‬
‫ل في‬‫ح عن المقاصد والدللت الموضوعية في القرآن ودخو ٌ‬ ‫"التأويل" جنو ٌ‬
‫ف مقصودٍ‬ ‫إثبات عقائد وأفكار – أو بالحرى "ضللت" – من خلل تحري ٍ‬
‫لدللت المفردات والتراكيب القرآنية ومعانيها‪.‬‬
‫صحيح أننا نجد عند جلل الدين السيوطي )القرن التاسع الهجري‪،‬‬
‫حي "التفسير" و"التأويل"‬ ‫الخامس عشر الميلدي( تمييًزا دللّيا بين مصطل َ‬
‫ل منهما بالخر‪ ،‬وحاجة‬ ‫طك ّ‬ ‫يضعهما مًعا على قدم المساواة‪ ،‬من حيث ارتبا ُ‬
‫سر – أو المؤّول – إليهما مًعا‪ ،‬وذلك على أساس أن "التفسير" هو‬ ‫المف ّ‬
‫ةةة ةةةةة ةةةةةةة ةةةةةةة‪ ،‬في حين أن "التأويل" هو ةةةةةةة‬
‫منه من حذف وإضمار وتقديم وتأخير وكناية‬ ‫ةةةةة ةةةةةةةة‪ ،‬بما تتض ّ‬
‫واستعارة ومجاز إلخ‪ .‬لكن ما يقوله السيوطي في القرن التاسع ليس في‬
‫مجمله إل إعادة صياغة وترتيب لما سبق قوُله في القرون الربعة الولى‬
‫وما تلها بقليل‪ ،‬وربما حتى نهاية القرن الخامس الهجري‪ ،‬حيث ينقل كثيًرا‬
‫من أقوال المام الغزالي‪ [1].‬ومعنى ذلك أن القوال التي يرويها السيوطي‬
‫عن السلف يمكن أن تؤخذ على أنها وصف للممارسة الفعلية في مجال‬
‫ها‪،‬‬
‫حا مشبو ً‬‫التفسير في عصره‪ ،‬وهو العصر الذي يعتبر "التأويل" مصطل ً‬
‫إن لم يكن سيئ الدللة‪.‬‬

‫ومن الضروري هنا الشارة إلى أن مصطلح "التأويل" اكتسب دللَته غير‬
‫الحسنة تدريجّيا‪ ،‬ومن خلل عمليات التطور والنموّ الجتماعيين وما‬
‫يصاحبهما عادة من صراع فكري وسياسي‪ .‬ويمكن لنا هنا أن نستشهد‬
‫ت متناثرةً في كتب التاريخ والتفسير‪ .‬من هذه‬ ‫ببعض القوال التي وََرد َ ْ‬
‫القوال ما ُيروى عن علي بن أبي طالب حين رفع المويون المصاحف‬
‫سّنة الرماح‪ ،‬عمل ً بنصيحة الداهية عمرو بن العاص‪ ،‬طالبين الحتكام‬ ‫على أ ِ‬
‫ً‬
‫إلى القرآن‪ ،‬المر الذي أحدث انشقاقا في صفوف جيشه‪ ،‬فقال علي‪:‬‬
‫"بالمس حاربناهم على تنزيله‪ ،‬واليوم نحاربهم على تأويله" – وهي عبارة‬
‫تحاول أن تلفت أنظار الذين استجابوا للتحكيم إلى أن هؤلء القوم من‬
‫بني أمية يحاولون اليوم التلعب بالتأويل‪ ،‬بعد أن كانوا في سنوات سابقة‬
‫يرفضون التنزيل‪ .‬لكن عبارة علي ل تتضمن أية دللة معيبة لكلمة‬
‫"تأويل"‪ ،‬التي لم تكن بعد ُ قد تحولت إلى مصطلح‪ ،‬بل هي عبارة واصفة‬
‫دا على‬‫لطبيعة الخلف‪ .‬والذي يؤكد ذلك أنه هو نفسه الذي قال ر ّ‬
‫ّ‬
‫كمة كذلك‪" :‬القرآن بين دّفتي المصحف ل ينطق وإنما يتكلم به‬ ‫المح ّ‬
‫الرجال‪ ".‬وهو الذي قال لبن عباس وهو بصدد الحجاج مع الخوارج‪" :‬ل‬ ‫]‪[2‬‬

‫سّنة‪".‬‬
‫جه‪ ،‬بل حاجهم بال ّ‬
‫مال أوْ ُ‬
‫تحاجهم بالقرآن‪ ،‬فإن القرآن ح ّ‬
‫وفيما يورده محمد بن جرير الطبري )القرن الثالث الهجري‪ ،‬التاسع‬
‫الميلدي( عن بعض التابعين في شرح الية ‪ 7‬من سورة آل عمران‪ ،‬هناك‬
‫غ" الذين يّتبعون المتشاِبه أن المقصود‬ ‫من يقول عن "الذين في قلوبهم زي ٌ‬ ‫َ‬
‫هم الخوارج‪ [3].‬والعبارة‪ ،‬في دللتها الحرفية‪ ،‬تعني أنهم يقصدون إلى تأويل‬
‫المتشاِبه من القرآن واّتباعه "ابتغاء الفتنة"‪ ،‬لن المتشاِبه "ما يعلم تأويَله‬
‫ص الية المذكورة‪ .‬ولعّلنا نعلم جميًعا أن هذه الية صارت فيما‬ ‫إل الله" بن ّ‬
‫فَرق المختلفة‪ ،‬ل‬ ‫سرين من التجاهات وال ِ‬ ‫بعد محور جدال عميق بين المف ّ‬
‫حول تأويلها وشرح معناها فقط‪ ،‬بل حول علمات الوقف والتصال فيها‬
‫كذلك‪.‬‬

‫دد التأويلت‬
‫ما من تع ّ‬
‫ولعلنا ل نحتاج هنا إلى شرح ما هو معروف تما ً‬
‫واختلف التفاسير بدًءا من القرن الول الهجري؛ وهو أمر نما واتسع في‬
‫القرون التالية‪ ،‬حتى صار مصطلح "المؤّولة" يضم‪ ،‬إلى جانب الخوارج‪،‬‬
‫الشيعة والمعتزلة والمتصوفة‪ .‬ولعل القرن الرابع‪ ،‬الذي شهد نموّ الفكر‬
‫الشيعي على مستوى الصياغة الفلسفية واللهوتية‪ ،‬هو نفسه القرن الذي‬
‫ة في دولة الخلفة العباسية‪ ،‬وبين‬ ‫شهد قمة العداء بين الدولة السّنية‪ ،‬ممثل ً‬
‫الدولة الشيعية التي امتد سلطانها حتى القاهرة‪ .‬وهو كذلك القرن الذي‬
‫كان قد شهد النتصار السياسي‪ ،‬ممثل ً في تأييد الدولة‪ ،‬بدًءا من عصر‬
‫المتوكل‪ ،‬للفكر الفقهي السّني المحاِفظ‪ ،‬بعد أن كانت الدولة في عصر‬
‫ف الفقهي السّني‪.‬‬ ‫المأمون والمعتصم تتبّنى الفكَر العتزالي وتعادي الموق َ‬
‫من الطبيعي أن يكون لهذا المشهد‪ ،‬الذي يصعب فيه التمييز بين‬
‫السياسي والفكري‪ ،‬أو بين الدنيوي والديني‪ ،‬تأثيُره في إلصاق دللة‬
‫دم‬
‫"التحريف" بدللة "التأويل"؛ المر الذي جعل مصطلح "التفسير" يتق ّ‬
‫تدريجّيا ليكون هو المصطلح الدال على البراءة الموضوعية‪.‬‬

‫ل مصطلح‬ ‫ولكي تتضح أبعاد ُ هذا الحلل لمصطلح "التفسير" مح ّ‬


‫"التأويل"‪ ،‬ينبغي العودة إلى كلمة "تفسير" في مجال التداول اللغوي‪.‬‬
‫ومن الجدير بالذكر أن كلمة "تفسير" لم ت َرِد ْ في القرآن كّله سوى مرة‬
‫ص‬
‫واحدة‪ ،‬بينما وردت كلمة "تأويل" أكثر من عشر مرات‪ .‬وإذا أخذنا الن ّ‬
‫جا لما‬
‫ما – نموذ ً‬
‫القرآني – الذي طالت فترة نزوله أكثر من عشرين عا ً‬
‫دل النتشار"‪ ،‬لجاز لنا أن نقول إن كلمة‬ ‫مى في الدراسات اللغوية "معَ ّ‬ ‫ُيس ّ‬
‫"تأويل" تنتشر في اللغة العربية في عصر القرآن عشرة أضعاف انتشار‬
‫كلمة "تفسير"؛ هذا بالضافة إلى أن كلمة "التفسير" – وهناك خلف حول‬
‫جذرها اللغوي‪ ،‬هل هي من "الفسر" أم من "السفر" – تعني في الغالب‬
‫ة"‬
‫ما يقترب إلى حد ّ كبير من معنى "الترجمة" الن‪ ،‬وإن كانت "ترجم ً‬
‫داخل النظام اللغوي نفسه‪ .‬من هنا نفهم لماذا أطلق ابن جني )أبو الفتح‬
‫عثمان‪ ،‬القرن الرابع الهجري‪ ،‬العاشر الميلدي( على شرحه لديوان‬
‫فسر"‪ ،‬وهو مجرد شرح لمعاني المفردات‪.‬‬ ‫المتنّبي اسم "ال َ‬

‫أما أول كتاب كبير في شرح القرآن‪ ،‬وهو كتاب محمد بن جرير الطبري‪،‬‬
‫ل ما سبقه في مجال شرح النص القرآني‪ ،‬فقد أطلق‬ ‫م داخله ك ّ‬‫الذي ض ّ‬
‫عليه اسم ةةةة ةةةةةة ةة ةةةةة ةة ةةةةةة؛ وهو يبدأ ك ّ‬
‫ل آية‬
‫ل‪" :‬تأويل قوله تعالى‪ ."...‬وخلصة ذلك أن ما يقوله السيوطي‬ ‫بالشرح قائ ً‬
‫عن الفرق بين "التفسير" و"التأويل"‪ ،‬من حيث إن أولهما بمثابة تمهيد‬
‫م صحيح في مجمله؛ وفي الممارسة الفعلية لعملية‬ ‫للثاني ضروريّ له‪ ،‬كل ٌ‬
‫الشرح‪ ،‬التي هي "التأويل"‪ ،‬ل بد ّ من المرور بالتفسير‪ .‬لكن وصف‬
‫الممارسة العملية ل يكفي لبيان ما حدث من تفضيل لمصطلح "التفسير"‬
‫على مصطلح "التأويل"‪ ،‬وهو المر الذي حاولنا شرحه باختصار فيما‬
‫دمناه إلى إبراز أن ثمة إشكالية‬
‫مضى‪ .‬ولكن أل يفضي هذا الشرح الذي ق ّ‬
‫في المصطلحات ذاتها‪ ،‬فضل ً عن عملية التأويل في الممارسة العملية؟‬

‫هذا السؤال يقودنا إلى كلمة "إشكالية" في العنوان؛ وهي بدورها كلمة ل‬
‫ُتتقّبل في سهولة في مجال الدراسات القرآنية الذي يبدو مجال ً شديد‬
‫قا متسع الطراف‪" ،‬بحًرا ل ساحل له عميق‬ ‫الوضوح‪ ،‬وإن كان مجال ً عمي ً‬
‫دا إلى جمال‬ ‫الغوار"‪ ،‬إذا استخدمنا لغة القدماء‪ .‬ويعجب النسان مشدو ً‬
‫الستعارة‪ :‬كيف يكون "بحٌر ل ساحل له عميق الغوار" خالًيا من المواج‬
‫المتلطمة على سطحه ومن الدوامات القاتلة في أعماقه! لكن هذا هو‬
‫الفارق الواسع بين دللة أقوال القدماء المجازية في الغالب وبين الفهم‬
‫السطحي المعاصر لتلك القوال‪ .‬في الفهم السطحي المعاصر ابتذا ٌ‬
‫ل‬
‫للقوال نابعٌ من نزعها من سياقها الكّلي‪ ،‬المعرفي واللغوي مًعا‪.‬‬

‫ب" في قوله تعالى‪" :‬وفاكهة‬ ‫منذ تساءل عمر بن الخطاب عن معنى "ال ّ‬
‫وأّبا"]‪ ،[4‬وقبله في عصر التنزيل تساءل المسلمون عن معنى "الظلم" في‬
‫قوله تعالى‪" :‬الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"]‪ ،[5‬فشرحه لهم‬
‫دا بما وََرد َ في نصيحة‬‫شرك" في هذا السياق‪ ،‬مستشه ً‬ ‫الرسول بأنه "ال ّ‬
‫]‪[6‬‬
‫م عظيم"‬ ‫شرك لظل ٌ‬ ‫لقمان لبنه في القرآن‪" :‬يا بني ل تشرك بالله إن ال ّ‬
‫– منذ ذاك العصر والمسلمون يدركون أن شرح القرآن ليس أمًرا بسيطاً‬
‫ل‪ .‬وهذا الدراك لشكالية التأويل هو الذي جعل ابن أبي طالب يح ّ‬
‫ذر‬ ‫سه ً‬
‫ابن عباس من النزلق إلى هاوية "التأويل" و"التأويل المضاد" في نقاشه‬
‫جل‬ ‫مع الخوارج‪ .‬بل إن هذا الحساس هو الذي يمكن لنا أن نتبّينه من وَ َ‬
‫الجيل الول من الصحابة من الدخول في عملية التأويل‪ ،‬مثل قول‬
‫ديق أبي بكر‪" :‬أي أرض تقّلني وأي سماء ت ُظ ِّلني إذا قلت في القرآن‬ ‫الص ّ‬
‫م للسف تحريف دللتها كذلك في سياق الطعن‬ ‫برأيي"؛ وهذه القوال ت ّ‬
‫في التأويل ومهاجمته‪.‬‬

‫در‪ .‬فالحياة تتقدم‪ ،‬والمجتمع السلمي ينمو‪،‬‬ ‫ق َ‬


‫لكن هذا الحذر لم يمنع ال َ‬
‫وتتسع دائرةُ الثقافات التي يتفاعل معها السلم‪ ،‬وتتعدد مرجعيات التأويل‬
‫ن كان ذلك التعدد ل ينفي وحدة المنظور الذي يمكن لنا أن ُنطِلق‬ ‫– وإ ْ‬
‫عليه مصطلح "رؤية العالم" السلمية‪ .‬وليس هذا أمًرا غريًبا في سياق‬
‫ل فيهم‬ ‫س َ‬ ‫ُ‬
‫منَزل من الله بلغة القوم الذين أر ِ‬
‫ص ديني ُ‬ ‫حضارة مركزها ن ّ‬
‫الرسول‪ .‬هنا تتعدد المرجعيات‪ ،‬بين لغوية وفقهية وكلمية وفلسفية‪،‬‬
‫ص‬
‫ويصبح "التأويل" أداةً من أهم أدوات التوافق مع المرجع الول‪ ،‬الن ّ‬
‫القرآني‪ ،‬مركز هذه الحضارة‪.‬‬

‫هل يمكن بعد ذلك النظر إلى التأويل تلك النظرة السطحية الساذجة إلى‬
‫ما‬
‫حد ّ كبير؟ أم أن التأويل إشكالية الشكاليات في العقل المسلم‪ ،‬قدي ً‬
‫وحديًثا؟‬

‫ما‬
‫‪ .3‬الشكال قدي ً‬
‫دا ما أشرنا‬‫ما‪ ،‬يجب أل يغيب عن بالنا أب ً‬ ‫لكي نتناول إشكالية التأويل قدي ً‬
‫إليه من إحساس الجيل الول من المسلمين – جيل الصحابة – بثقل‬
‫قتها‪ ،‬حتى أوشك بعضهم أن يقترب بها من مجال التحريم‪.‬‬ ‫المهمة ومش ّ‬
‫ولم يكن المر‪ ،‬كما يحلو لبعض المعاصرين أن يفهموا‪ ،‬هرًبا من "التأويل"‬
‫ور هذا "التضاد" الذي‬ ‫وخشية منه اكتفاًء بالتفسير‪ – ،‬إذ لم يكن قد ت َب َل ْ َ‬
‫حدث مؤخًرا بين التفسير والتأويل‪ – ،‬بل كان المر ما صاغه علي بن أبي‬
‫طالب عن "احتمال الوجوه" الذي ُيفضي إلى إمكانية التضارب والتضاد‪.‬‬
‫لكنه هو نفسه‪ ،‬أي علّيا بن أبي طالب‪ ،‬الذي قّرر أن القرآن "بين دفَّتي‬
‫المصحف ل ينطق وإنما يتكّلم به الرجال"‪ ،‬أي قّرر أن "التأويل" ل مفّر‬
‫عا للتلعب‬
‫م‪ ،‬أل يكون موضو ً‬ ‫منه‪ ،‬لكنه ليس أمًرا سه ً‬
‫ل‪ ،‬ويجب‪ ،‬من ث َ ّ‬
‫السياسي‪.‬‬

‫لكن المتأخرين بعد القرنين الرابع والخامس الهجريين )العاشر والحادي‬


‫عشر الميلديين( قد تلعبوا بدللت كلم القدماء‪ ،‬كما يتلعب المحدثون‬
‫بدللت كلم هؤلء المتأخرين‪ ،‬فقاموا بإحداث ذلك الفارق المزعوم بين‬
‫"الرأي المقبول" و"الرأي المذموم" في مجال التأويل‪ ،‬وذلك ليضعوا‬
‫اجتهادات المسلمين من غير فقهاء أهل السّنة والجماعة داخل دائرة‬
‫صا لهم‪.‬‬
‫"الرأي المذموم" المحّرم‪ ،‬بينما يصبح الوصف "رأي مقبول" خال ً‬
‫وانتشرت في كتب المتأخرين‪ ،‬وخاصة ابن تيمية وتلميذه ابن قّيم الجوزية‪،‬‬
‫ت من التفاسير الضارة والتأويلت المنحرفة‪ .‬وحين يريدون أن‬ ‫التحذيرا ُ‬
‫حهم إزاء بعض تفسيرات المعتزلة‪ ،‬يشيرون إلى تفسير‬ ‫ُيظِهروا تسام َ‬
‫الزمخشري لقيمته البلغية‪ ،‬مع التحذير من ضللته العتزالية‪ ،‬وعدم‬
‫كنين من براهين أهل السّنة والجماعة‪ .‬ومن‬ ‫السماح بمطالعته إل للمتم ّ‬
‫اللفت للنتباه أن الطبعة المشهورة للكتاب )طبعة مصطفى البابي‬
‫الحلبي بالقاهرة( تتضمن ردود ابن المنير السّني وتعليقاته على انحرافات‬
‫الزمخشري بالهامش‪ [7].‬والختلف في التأويل بين أهل السّنة والجماعة‪– ،‬‬
‫وهو مصطلح إيديولوجي‪ – ،‬من جهة‪ ،‬وبين المعتزلة‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬أقدم‬
‫من الزمخشري وابن المنير؛ وهو‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أقدم من ابن تيمية وتلميذه‪.‬‬

‫ولعل بعض النماذج يمكن لها أن تكشف الجذور التاريخية لهذا الختلف‬
‫في منبعها الصلي‪ .‬ودون الدخول في التفاصيل‪ ،‬يمكن القول إن تاريخ‬
‫تأويل القرآن‪ ،‬ومن ث َ ّ‬
‫م إشكاليته‪ ،‬تنبع من تجدد الحياة بالحركة والصيرورة‬
‫ص في منطوقه‪ .‬وهي الشكالية التي عّبر عنها علماُء أصول‬ ‫مع ثبات الن ّ‬
‫الفقه حين قالوا بندرة النصوص مع تكاثر الوقائع وتجددها‪ .‬وإذا كان علماء‬
‫الصول قد حلوا إشكاليتهم بمقولة "خصوص السبب وعموم اللفظ"‪،‬‬
‫فجعلوا من "عموم اللفظ" قاعدةً للفهم ومن "خصوص السبب" قاعدةً‬
‫ل العبقري لم يتجاوز حدود آيات الحكام والشرائع‬ ‫للقياس‪ ،‬فإن هذا الح ّ‬
‫]‪[8‬‬ ‫ّ‬
‫سدس آيات القرآن كله‪.‬‬‫التي تمثل أقل من ُ‬

‫دد الوقائع وتكاثرها تحدًيا للعقل الفقهي إزاء ندرة‬ ‫هكذا تمثل حقيقة تج ّ‬
‫النصوص؛ فكانت الستجابة مزدوجة‪ ،‬عقلّيا ولغوّيا‪ .‬نفس الظاهرة –‬
‫ن على مستوى آخر هو‬ ‫جَهها العقل المعتزلي‪ ،‬وإ ْ‬ ‫ظاهرة التحدي – وا َ‬
‫مستوى فهم العقيدة‪ ،‬فكانت استجابته‪ ،‬بالمثل‪ ،‬مزدوجة عقلّيا ولغوّيا‪ .‬على‬
‫جد َ المعتزلي في مقولة "المجاز" – وهي مقولة لغوية‬ ‫المستوى اللغوي‪ ،‬وَ َ‬
‫ص والعقل؛ وكان اعتماده في‬ ‫– حل ً لشكالية التعارض الظاهر بين الن ّ‬
‫استجابته العقلية على قياس – "قياس الغائب على الشاهد" – إدرا ً‬
‫كا‬
‫ل وجه؛ فهو قياس مخالفة ل قياس‬ ‫للمطلق في مخالفته للمحدود من ك ّ‬
‫ور بعض الدارسين‪ [9].‬وبناًء على قياس المخالفة هذا بين‬ ‫مطابقة‪ ،‬كما تص ّ‬
‫ة شبه‬ ‫ت الصياغ ُ‬
‫م ِ‬
‫الله‪ ،‬من جهة‪ ،‬وبين العالم والنسان‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬ت ّ‬
‫مي "التوحيد" و"العدل"‪ ،‬وهما أساس مبادئهم الخمسة‬ ‫الفلسفية لمفهو َ‬
‫المعروفة؛ بل "العدل" هو أساس التوحيد‪ ،‬كما يقّرره الخياط في كتاب‬
‫ةةةةةةةة]‪.[10‬‬

‫ب‬
‫لنفور أهل الحديث والفقهاء من فكر المعتزلة وطرائق استدللهم أسبا ٌ‬
‫كثيرة‪ ،‬ليس هاهنا مجال لشرحها‪ .‬ويكفي فقط القول إن أهل الحديث‬
‫ما من التعمق المعرفي في أسرار النص‬ ‫والفقهاء كانوا ينفرون عمو ً‬
‫القرآني؛ ذلك أن نفورهم من المعتزلة والفلسفة لم يكن أكثر من نفورهم‬
‫من المتصوفة‪ ،‬خاصة من هؤلء الذين يتفوهون بعبارات غريبة أو يقيمون‬
‫زهدهم على أساس عرفاني‪ .‬لهذا دفع الحلج‪ ،‬وكذلك السهروردي‪ ،‬الثمن‬
‫ما باللحاد والزندقة‪.‬‬‫غالًيا من حياتهم‪ ،‬ودفعه غيُرهم من سمعتهم اتها ً‬
‫وربما كان لقبول علماء أصول الفقه التحدي في مجال آيات التشريع‬
‫ب عملية‪ ،‬نظًرا لتصال تلك القضايا بالحياة اليومية‬
‫والحكام أسبا ٌ‬
‫والمصالح المباشرة؛ هذا بالضافة إلى أن القياس الذي اعتمدوه كان‬
‫طا من الوجهة العقلية‪ ،‬لنه ببساطة قياس تطاُبق ل مخالفة‪.‬‬ ‫سا بسي ً‬
‫قيا ً‬
‫وبصرف النظر عن أسباب الختلف بين أهل الحديث والفقهاء وبين‬
‫غيرهم من الفلسفة والمتكّلمين والصوفية‪ ،‬فإن استجابة هؤلء الخيرين‬
‫للتحدي نفسه على مستوى العقيدة والفكر والخلق لم تكن مقبولة من‬
‫الفقهاء‪.‬‬

‫لننظر في مسألة "استواء الله على العرش"‪" :‬الرحمن على العرش‬


‫استوى" )طه ‪" ،(5‬إن ربكم الله الذي خلق السماوات والرض في ستة‬
‫أيام ثم استوى على العرش" )العراف ‪ ،(54‬التي يرى المعتزلة أنها‬
‫"مجاز"‪ ،‬أو صورة تمثيلية )تمثيل(‪ ،‬وأنه ليس هناك عرش ول استواء‬
‫بمعنى الجلوس‪ :‬إنهم في هذا التأويل ينطلقون من استحالة المعنى‬
‫الحرفي في حق الله الذي "ليس كمثله شيء وهو اللطيف الخبير" ‪ .‬إذا‬
‫]‪[11‬‬

‫كان الله مستوًيا على العرش فمعنى ذلك‪ ،‬من منظور المعتزلة‪ ،‬أنه‬
‫محدود في المكان‪ ،‬وأنه جسم يقبل العراض‪ ،‬إلخ‪ .‬واعتماد المعتزلة في‬
‫مرجعية التأويل على القياس العقلي – قياس المخالفة – يجد له كذلك‬
‫كم‬‫مح َ‬ ‫ص القرآني كما تصوروها من خلل ثنائية "ال ُ‬
‫ة في بنية الن ّ‬‫مرجعي ً‬
‫والمتشاِبه" التي سنتناولها بعد قليل‪.‬‬

‫في مقابل هذا التأويل العتزالي لهذه الية ولمثالها مما ُيطَلق عليه آيات‬
‫سك الفقهاء بالمعنى الحرفي للستواء على العرش؛ لكنهم‬ ‫"الصفات"‪ ،‬تم ّ‬
‫حاولوا مع ذلك جهدهم في نفي "المشاَبهة" التي يفضي إليها الفهم‬
‫سب إلى مالك بن أنس أحياًنا‬ ‫صلوا إلى تلك الصياغة التي ُتن َ‬‫الحرفي‪ ،‬فتو ّ‬
‫وإلى أحمد بن حنبل أحياًنا أخرى‪ ،‬تلك هي العبارة التي صارت شائعة‬
‫وتتكرر عبر الجيال حتى يومنا هذا‪" :‬الستواء معروف والكيف مجهول‬
‫والحديث عنه بدعة"‪.‬‬

‫لو تأملنا قليل ً هذه العبارة المتداولة في دوائر الفكر السلمي كّلها –‬
‫والتي لم يتأملها أحد‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬تأمل ً عمي ً‬
‫قا – لوجدنا أنها عبارة تتضمن‬
‫ضا على أكثر من مستوى‪:‬‬ ‫تناق ً‬
‫س أو‬ ‫‪ .1‬المستوى الول أن ما هو "معروف" ل بد ّ أن يكون مدَر ً‬
‫كا بالح ّ‬
‫ل حالة من تلك الحالت‪ ،‬ل يكون‬ ‫بالعقل أو بالخيال‪ ،‬وهو‪ ،‬في ك ّ‬
‫مجهول الكيفية؛ إذ ما هو مجهول من حيث كيفيته – والكيف أحد‬
‫العراض التي يتحدد بها الشيء – ل يكون معروًفا‪.‬‬

‫‪ .2‬المستوى الثاني أن "الستواء" معطى لغوي‪ ،‬ل تنكشف دللُته إل‬


‫من خلل سياق تركيبي هو الجملة في الحد ّ الدنى‪ ،‬وما يسبقها وما‬
‫ص في تركيبه في الحد ّ‬ ‫يتلوها في الحد ّ الوسط‪ ،‬ثم هو سياق الن ّ‬
‫العلى‪ .‬وعلى ذلك‪ ،‬فالقول إن "الستواء معروف" قول يتناول‬
‫ل اللغوي‪ ،‬ول علقة‬ ‫المفهوم الذهني‪ ،‬الذي هو المدلول المباشر للدا ّ‬
‫له بالعبارة القرآنية‪.‬‬

‫‪ .3‬المستوى الثالث من التناقض نفي "الحديث" بزعم أنه بدعة‪ ،‬مع أن‬
‫اليات القرآنية "حديث" عن الستواء‪ ،‬من حيث هو فعل إلهي‪.‬‬

‫أمثال العبارة السابقة من أقوال الفقهاء تؤخذ هكذا‪ ،‬دون تحقيق أو فحص‬
‫عن محتواها‪ .‬ول شك أن إيقاعها الثلثي الذي يجعل الدللة الحرفية‬
‫واضحة )"الستواء معروف"(‪ ،‬ويجعل التأويل العتزالي كاذًبا )"الكيف‬
‫مته في هاوية "البدعة" – و"كل بدعة ضللة‪،‬‬ ‫مجهول"(‪ ،‬ثم يطرح المر بر ّ‬
‫وكل ضللة في النار"! – هذا اليقاع الثلثي التنغيمي في تصاعده‪ ،‬من‬
‫"المعروف" إلى "المجهول" إلى "البدعة"‪ ،‬يمارس تأثيًرا شبه سحري حين‬
‫ُيتلى على العامة في المواعظ‪ .‬وهكذا تتم تعبئة عوام المسلمين وأشباه‬
‫المتعّلمين منهم ضد "التأويل" لحساب "التفسير"‪.‬‬

‫ولعل أهم تفسير‪ُ ،‬يشار إليه بوصفه أعظم التفاسير عند أهل السّنة‬
‫والجماعة‪ – ،‬عدا كثرة استشهاده بالمرويات السرائيلية‪ – ،‬هو كتاب ابن‬
‫حصنا كتاب ةةةة ةةةةةة في‬ ‫جرير الطبري ةةةة ةةةةةة‪ .‬وإذا تف ّ‬
‫خصوص قضايا التأويل العقلي‪ ،‬وبصرف النظر عن أن مصطلح "التأويل"‬
‫دال على عملية الشرح كّلها عند الطبري‪ ،‬كما أسلفنا‪ ،‬فسنلحظ‬ ‫هو ال ّ‬
‫سره الباحث الساذج ضد ّ‬ ‫غياب هذا النوع من التأويل‪ ،‬وهو الغياب الذي يف ّ‬
‫"التأويل" لصالح "التفسير"‪ .‬والحقيقة أن غياب تلك القضايا عن كتاب‬
‫الطبري له دللة تستحق التأمل‪ .‬إن الطبري يشرح معنى "الستواء"‬
‫حا وافًيا في الية ‪ 29‬من سورة البقرة‪" :‬هو الذي خلق لكم ما في‬ ‫شر ً‬
‫واهن سبع سماوات وهو بك ّ‬
‫ل‬ ‫الرض جميًعا ثم استوى إلى السماء فس ّ‬
‫شيء عليم" – وهي آية ل تثير إشكالية الستواء على العرش التي تثيرها‬
‫اليات الخرى المشار إليها فيما سلف‪ ،‬وهي اليات التي يمر عليها‬
‫الطبري متجاهل ً الشكالية ومكتفًيا بالقول‪" :‬لقد شرحنا الستواء فيما‬
‫مضى فل حاجة لعادته هنا‪ [12]".‬ما معنى هذا التجاهل من جانب الطبري‬
‫ما هو‬ ‫لشكالية ما تزال مستمرة حتى الن؟ بل هي إشكالية أنتجت كتاًبا ها ّ‬
‫ةةة بعد‬
‫ةةة ةةةةةةة ةةةةة ةة‬ ‫ةةة ةة ةةةةةة‬ ‫ةةةةةةة ةةةة ة‬
‫الطبري بحوالى أربعة قرون؛ وهذا الكتاب يتضمن فصل ً كبيًرا بعنوان‬
‫"طاغوت المجاز"‪ .‬فكيف يمر عليها الطبري هكذا مرور الكرام في القرن‬
‫الثالث الهجري؟!‬
‫ليس الغياب بالضرورة دليل ً على عدم اتفاق الطبري مع المعتزلة؛ كما أنه‬
‫ليس‪ ،‬بالمثل‪ ،‬قرينة على اتفاقه معهم – ول بد ّ للصمت مع ذلك من دللة‪.‬‬
‫لقد عاصر الطبري عصر ازدهار الحنابلة وسيطرتهم‪ ،‬من خلل التحالف مع‬
‫السلطة السياسية في بغداد‪ .‬والطبري فقيه‪ ،‬له اجتهاداُته الفقهية الصيلة‬
‫دا‬
‫على مستوى النظر والتطبيق مًعا‪ ،‬وله في مجال نقد المروّيات‪ ،‬سن ً‬
‫ومتًنا‪ ،‬كتاب هام لم ينل ما يستحقه من اهتمام الباحثين بعد‪ ،‬هو كتاب‬
‫ةةةةة ةةةةةة؛ وقد كان له رأي في ابن حنبل أثار عليه الحنابلة‪ ،‬حتى‬
‫أوشكوا أن يقتلوه‪ ،‬فظل رهين بيته حتى مات ود ُِفن‪ .‬فهل كان لهذا الحدث‬
‫تأثيُره الذي جعل الطبري يتحاشى الدخول في مناقشة هذه الموضوعات‬
‫الشائكة؟ ل يمكن لنا أن نطرح إجابة دقيقة عن هذا السؤال‪ ،‬خاصة وأن‬
‫ي على طلبه؛ فل يمكن الجزم يقيًنا بسبب هذا الغياب‪.‬‬ ‫ُ‬
‫مل ِ َ‬
‫كتاب الطبري أ ْ‬
‫لكن الغياب‪ ،‬كما سبق القول‪ ،‬ل يعني التفاق مع تأويل المعتزلة؛ وهو يقيًنا‬
‫ل يعني المخالفة التامة‪ .‬هذا بالضافة إلى أن كتاب الطبري من أهم الكتب‬
‫في حرصه الدائب على القيام بعمل تأويلي حقيقي يمثل تركيًبا‪ ،‬ل بين‬
‫التفسير والتأويل فقط‪ ،‬بل بين علوم القرآن النقلية كافة وبين العمل‬
‫التأويلي الحق‪.‬‬

‫والسؤال الن هو‪ :‬هل ثمة وجود حقيقي للكتب في مجال التفسير تكتفي‬
‫بشرح المفردات – أي الترجمة – وتنبو عن التأويل‪ ،‬حتى بالمعنى‬
‫دعي أنها تفسير‪ ،‬بل‬ ‫العتزالي؟ مثل هذه الكتب موجود بالفعل‪ ،‬ولكنها ل ت ّ‬
‫هي شروح للمفردات‪ ،‬مثل كتب ةةةة ةةةةةة‪ ،‬على سبيل المثال‪ .‬إن‬
‫عملية التأويل واحدة في جوهرها‪ ،‬لن الوصول إلى "الدللة" – التي هي‬
‫دا على درجة عالية من التركيب‪ ،‬كما أنه‬ ‫سر – يتطلب جه ً‬ ‫ضاّلة المف ّ‬
‫ص القرآني‪ .‬لقد اعتمد‬ ‫ما أو تصوًرا – ولو ضمني – لماهية الن ّ‬ ‫يتطلب فه ً‬
‫المعتزلة على الية السابعة من سورة آل عمران التي تقول إن الكتاب –‬
‫ت"‪ ،‬وصاغوا‬ ‫خر متشابها ٌ‬ ‫م الكتاب وأ ُ َ‬
‫نأ ّ‬
‫ته ّ‬ ‫مح َ‬
‫كما ٌ‬ ‫ت ُ‬
‫القرآن – "منه آيا ٌ‬
‫سا على‬‫نظرية في التأويل تعتمد على فهم المتشاِبه – الغامض – قيا ً‬
‫كم‪ ،‬أي الواضح‪ .‬ومن خلل نظريتهم في المعرفة واللغة‬ ‫مح َ‬ ‫مرجعية ال ُ‬
‫ددوا عدة مستويات للوضوح‪ ،‬ومثلها للغموض‪ ،‬وصارت نظريُتهم في‬ ‫ح ّ‬
‫محتذى عند‬ ‫جا ُ‬
‫التأويل في قالبها النظري التجريدي الخالص نموذ ً‬
‫خصومهم‪.‬‬

‫ما هو موطن الخلف إذن؟ موطن الخلف أن الية المشار إليها أثبتت‬
‫دد ما هو الغامض وما هو‬ ‫للجميع وجود َ الواضح ووجود الغامض‪ ،‬لكنها لم تح ّ‬
‫الواضح – وليس ثمة في القرآن تحديد‪ .‬لذلك صار من السهل على‬
‫سا‪ :‬فما يتفق مع المفاهيم‬ ‫المعتزلة أن يجعلوا المعرفة العقلية مقيا ً‬
‫ضا‬
‫كم‪ ،‬وما يبدو متناق ً‬‫مح َ‬‫العقلية بدللته اللغوية المباشرة فهو الواضح ال ُ‬
‫معها فهو المتشاِبه الغامض الذي ل سبيل إلى تقّبل دللته اللغوية‬
‫م التناقض‬‫المباشرة‪ .‬وهنا تتدخل أداة "المجاز" لتزيل الغموض وتنهي وَهْ َ‬
‫كم‪ .‬وتلك هي بالضبط النظرية التي صاغها ابن رشد‬ ‫مح َ‬‫بين المتشاِبه وال ُ‬
‫في التأويل على قانون الكلم العربي لنفي التعارض بين الشريعة‬
‫]‪[13‬‬
‫والبرهان‪.‬‬
‫في كتابه ةةةةةة ةةةةةة يصوغ القاضي عبد الجبار السدآبادي‬
‫المعتزلي )القرن الرابع الهجري‪ ،‬العاشر الميلدي( نظرية المعتزلة تلك‬
‫جا‪ .‬لكن كتاب ابن قتيبة ةةةةة ةةةة ةةةةةة في‬ ‫في شكلها الكثر نض ً‬
‫ّ‬
‫القرن الثالث الهجري )التاسع الميلدي( يؤكد‪ ،‬في ردوده على المعتزلة‪،‬‬
‫أنه يتبّنى نظريتهم‪ ،‬حتى في قراءة نهاية الية على العطف وليس على‬
‫الوقف ثم الستئناف‪" :‬وما يعلم تأويَله إل الله والراسخون في العلم‬
‫مح َ‬
‫كم وما هو‬ ‫يقولون آمّنا به"‪ .‬والخلف هنا يكمن في تحديد ما هو ُ‬
‫حا هو عند خصومهم متشاِبه‬ ‫محك َ ً‬
‫ما واض ً‬ ‫متشاِبه‪ :‬فما يعتبره المعتزلة ُ‬
‫غامض‪ ،‬والعكس صحيح‪ [14].‬وهذا معنى قولنا إن القالب النظري التجريدي‬
‫محتذى عند الخصوم‪ .‬وهذا ما‬ ‫الخالص لنظرية المعتزلة صار هو النموذج ال ُ‬
‫دا في تعليقات ابن المنير السّني على تفسير الزمخشري‪.‬‬ ‫حا ج ّ‬
‫نجده واض ً‬

‫كز في النهاية حول قضايا العدل –‬‫ولن خلف الشاعرة مع المعتزلة تر ّ‬


‫وفي القلب منها قضية "خلق الفعال" – فقد حدث اتفاق في تأويل آيات‬
‫الصفات‪ ،‬وهي اليات المتصلة بقضية التوحيد والتنزيه‪ .‬لكن هذا التفاق لم‬
‫ح له النموّ والتواصل في الفكر السلمي لسباب عديدة‪ ،‬لعل من أهمها‬ ‫ي ُت َ ْ‬
‫حالة التمزق السياسي التي أصابت المبراطورية السلمية‪ ،‬وما أدت إليه‬
‫دد القاليم‬
‫من ضعف انتهى باكتساح المغول لبغداد‪ ،‬وصارت المخاطر ته ّ‬
‫السلمية كّلها‪ .‬ومن شأن ذلك الخطر الخارجي أن يؤدي إلى نموّ نزعة‬
‫الحتماء بما تتصور الجماعة أنه خصائصها الذاتية‪ .‬لذلك كان من الطبيعي‬
‫نمو الفكر الحنبلي وسيطرته في كثير من مجالت الفكر السلمي‪ .‬وهنا‬
‫سنلحظ أنه حتى تأويلت الشاعرة ليات الصفات‪ ،‬انطلًقا من اتفاقهم مع‬
‫المعتزلة في محور "التوحيد"‪ ،‬صارت تأويلت غير مشروعة من منظور‬
‫الفكر الحنبلي المحاِفظ‪.‬‬

‫صحيح أن ابن تيمية – وهو من أهم ممّثلي الفكر الحنبلي – يعلن نظرّيا‬
‫"موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول"‪ ،‬لكن مرجعية التفاق عنده‬
‫ليس "المعقول" بل "المنقول"! وفي عبارة أخرى‪ ،‬إذا كان المعتزلة‬
‫والفلسفة يعتبرون "العقل" هو الصل الذي على أساسه يتم تأويل النقل‬
‫وتفسيره‪ ،‬فإن مدرسة ابن تيمية ترى أن صحيح المنقول هو الصل الذي‬
‫َ‬
‫محكم‬ ‫على أساسه ُيرَفض المعقول أو ُيقبل‪ .‬ونتيجة لذلك ل تصير ثنائية "ال ُ‬
‫والمتشاِبه" هي العنصر الجوهري في بنية النص القرآني الذي على‬
‫أساسه يقوم قانون "التأويل"‪ ،‬بل يصير "النقل" هو مرجعية التأويل‪.‬‬

‫من هنا يتم ترتيب الصول النقلية ترتيًبا يبدأ بالعلى في ةةةةة ابن تيمية‬
‫لصول التفسير‪ ،‬وذلك على النحو التالي تقريًبا‪:‬‬

‫صل ً في‬‫ضا‪ :‬فما وََرد َ مجمل ً في موضع ي َرِد ُ مف ّ‬


‫ضه بع ً‬
‫سر بع ُ‬‫‪ .1‬القرآن يف ّ‬
‫ل الحوال‪ ،‬لن ثمة‬ ‫حا في ك ّ‬
‫موضع آخر‪) .‬هذا المبدأ ليس صحي ً‬
‫حد ََثه القرآن في كثير من اللفاظ‪ ،‬بحيث يصعب أن‬ ‫تطوًرا دللّيا أ ْ‬
‫ص استمر نزوُله أكثر من عشرين عا ً‬
‫ما؛‬ ‫تكون الدللة هي هي في ن ّ‬
‫وتلك ملحظة سيوردها محمد عبده وكذلك أمين الخولي في العصر‬
‫الحديث‪(.‬‬
‫‪ .2‬ما وََرد َ منسوًبا إلى الرسول في التفسير‪ ،‬سواء بطريقة مباشرة –‬
‫وهي حالت قليلة – أو بطريقة غير مباشرة‪ ،‬أي من خلل السّنة‪.‬‬

‫حتها‪ ،‬لنهم أقرب‬


‫‪ .3‬ما وََرد َ عن الصحابة في الروايات الموثوق في ص ّ‬
‫إلى عصر التنزيل‪ ،‬وأعلم بأسباب النزول‪ ،‬والناسخ والمنسوخ‪،‬‬
‫والمكي والمدني‪ ،‬وقرائن الحوال الملزمة للوحي‪ ،‬إلخ‪.‬‬

‫خذ منه وُيتَرك‪ ،‬مع العلم أن كثيًرا‬


‫‪ .4‬ما وََرد َ من تفسير عن التابعين يؤ َ‬
‫وع وليس اختلف تضاد‪.‬‬ ‫من اختلفاتهم في التفسير هي اختلف تن ّ‬
‫سر بالشروط اللزمة من‬ ‫‪ .5‬يأتي في هذه المرحلة الخيرة اجتهاد ُ المف ّ‬
‫]‪[15‬‬
‫العلم باللغة والفقه وعلوم القرآن‪ ،‬أي العلوم النقلية كافة‪.‬‬

‫ول مكان في هذا الترتيب لصول التفسير للتفسير بالمجاز على الطلق!‬
‫فالمجاز نوع من "الكذب" في استخدام اللغة – أو "الدعاء" في أحسن‬
‫الحوال‪ ،‬إذا استخدمنا لغة عبد القاهر الجرجاني – والقرآن منّزه عنه‪ .‬وإذا‬
‫كان المتكّلم العادي يلجأ إلى المجاز لن الحقائق ل تسعفه‪ ،‬فهذا ما ل‬
‫يجوز على العلم اللهي في إطلقه‪ .‬وما يرى المعتزلة والشاعرة أنه‬
‫ت‬
‫م ْ‬
‫"مجاز" في القرآن ليس إل أسلوًبا من أساليب التعبير الوضعية اسُتخدِ َ‬
‫في اللغة العادية‪ .‬وتلك كلها قضايا يصوغها ابن قّيم – تلميذ ابن تيمية –‬
‫ةةة ةة ةةةة ةةة‬ ‫في الكتاب الذي أشرنا إليه ةةةةةةة ةةةة ة‬
‫ةةةةةةة ةةةةةةةة في فصل عنوانه "طاغوت المجاز"‪ ،‬وهو كتاب‬
‫]‪[16‬‬
‫يستحق دراسة مستقلة في حد ّ ذاته‪.‬‬

‫‪ .4‬الشكال في العصر الحديث‬

‫من الطبيعي أن يقال هنا إن باب الجتهاد صار شبه مقفل‪ ،‬ولم يلبث إل‬
‫قليل ً حتى أحكم رتاجه في عصر الركود والنحطاط‪ ،‬عصر التلخيصات‬
‫وشرح التلخيصات والحواشي وشروح الحواشي في مجالت المعرفة‬
‫كافة‪ .‬ذلك أن العقل السلمي النشط‪ ،‬الذي كان قادًرا على قبول‬
‫التحديات والستجابة لها‪ ،‬صار عقل ً يعيش على مخزونه – التراث – الذي‬
‫دد‬‫ل في وعي المتأخرين‪ ،‬وتحول إلى أقوال ُتر ّ‬ ‫أخذ يتناقص حتى اضمح ّ‬
‫ّ‬
‫وتلوكها اللسن‪ ،‬مثل العبارة التي حللناها فيما سبق‪" :‬الستواء معروف‬
‫والكيف مجهول والحديث عنه بدعة"‪ .‬وفتاوى ابن الصلح في القرن‬
‫ما أو‬ ‫الثامن الهجري )الرابع عشر الميلدي( تؤكد أن تعاطي المنطق‪ ،‬تعل ّ ً‬
‫م الكلم‬ ‫ول عل ُ‬ ‫ما‪ ،‬صار جريمة‪ ،‬ول مجال إطلًقا لذكر الفلسفة‪ .‬وتح ّ‬ ‫تعلي ً‬
‫]‪[17‬‬

‫صا عليها ليحفظها‬ ‫إلى علم العقائد التي ت َرِد ُ في الكتب المتأخرة منصو ً‬
‫ث في مجال‬ ‫حد َ َ‬ ‫ّ‬
‫ث في المجالت كلها َ‬ ‫حد َ َ‬
‫قن‪ .‬وما َ‬ ‫المتعّلم‪ ،‬أو بالحرى المتل ّ‬
‫التفسير‪ ،‬فصار تفسير ابن عطية أفضل من الزمخشري‪ ،‬لنه تلخيص له‬
‫دون الوقوع في ضللته‪ ،‬وأصبح تفسير الزمخشري ل ُيقَرأ إل في ردود‬
‫ل لتفسير ابن كثير المتأخر على‬ ‫ث تفضي ٌ‬ ‫حد َ َ‬
‫ابن المنير عليه‪ .‬وبالمثل‪َ ،‬‬
‫دم‪ ،‬لن الول يخلو من تعقيدات الثاني‪ ،‬كما يخلو من‬ ‫تفسير الطبري المتق ّ‬
‫إسرائيلياته‪.‬‬
‫ت علم التفسير فعليك بابن كثير في‬ ‫هكذا تكاثرت النصائح للطلب‪ :‬إذا أرد َ‬
‫ةةةةة وابن عطية في ةةةةة؛ وإن أردت النحو فعليك بشرح ابن عقيل؛‬
‫وإن أردت البلغة فعليك بالخطيب القزويني؛ وإن أردت علم الفقه فهذا‬
‫يتوقف على المذهب الذي تّتبعه‪ .‬وحذارِ من المنطق وعلم الكلم‬
‫والفلسفة؛ فإنها أضاليل ل ينجو من ضررها إل الفحول من العلماء‬
‫كنين من عقائد أهل السّنة والجماعة‪ .‬وقد استمرت الحال هكذا‪،‬‬ ‫المتم ّ‬
‫حتى بدأ العقل السلمي الفاقة تدريجّيا والوعي بحالة الركود والنحطاط‬
‫التي هو عليها‪ .‬إنه الوعي بالهزيمة وليس الهزيمة ذاتها‪ ،‬لن الهزيمة كانت‬
‫واقًعا ماثل ً دون أن يعيها العقل‪ ،‬لنه كان قانًعا بما يتغذى عليه من تراث‬
‫ومات الحيوية والنضارة والتقدم كافة‪.‬‬‫ل من مق ّ‬ ‫خا ٍ‬
‫م‬
‫من يدّرس للطلب في الزهر عل َ‬ ‫لم يكن غريًبا أن يكون محمد عبده أّول َ‬
‫البلغة من كتاَبي عبد القاهر الجرجاني )القرن الخامس الهجري‪ ،‬الحادي‬
‫عشر الميلدي( ةةةةة ةةةةةةة وةةةةة ةةةةةةة؛ ولم يكن غريًبا‬
‫أن تكون ةةةةة ةةةةةةة استعادةً لعلم الكلم العتزالي في مبدأ‬
‫"العدل" والشعري في مبدأ "التوحيد"‪ .‬وقد سبق أن أشرنا إلى التقارب‬
‫الذي كان قد وقع بين الشاعرة والمعتزلة في قضية "التوحيد"‪ .‬هكذا يمثل‬
‫محمد عبده‪ ،‬على مستوى الفكر اللغوي واللهوتي‪ ،‬إحياًء للتراث في‬
‫حيويته وقوته نضارته‪ ،‬بنفس القدر الذي يمثل به محمود سامي البارودي‬
‫الشاعر عصَر إحياء التراث الشعري في حيويته وقوته ونضارته‪.‬‬

‫ول شك أن الحياء هنا يمثل شكل ً من أشكال الستجابة للتحديات التي‬


‫ف الجتماعية والسياسية الناشئة عن الحتكاك بأوروبا؛‬ ‫فرضْتها الظرو ُ‬
‫وهي تحديات لم يكن ممكًنا للتراث السّني المحاِفظ‪ ،‬الذي أغلق باب‬
‫الجتهاد وأحكم رتاجه‪ ،‬أن يكون قادًرا على مواجهتها‪ .‬فكان من الطبيعي‬
‫ديته‪.‬‬
‫استدعاء التراث‪ ،‬في حيويته وقوته ونضارته‪ ،‬ليثبت العقل السلمي ن ّ‬
‫كنان محمد عبده من سجال بلنت‬ ‫ومن سوى المعتزلة وابن رشد يم ّ‬
‫ورينان وفرح أنطون‪ ،‬ويساعدانه‪ ،‬في الوقت نفسه‪ ،‬على إثبات أن‬
‫صل هذا الحياء مع واحد من‬ ‫"السلم دين العلم والمدنية" ‪ .‬وقد توا َ‬
‫]‪[18‬‬

‫تلميذ عبده هو طه حسين‪ ،‬الذي لم يكن غريًبا أن يبدأ عمَله الكاديمي‬


‫ل من أبي العلء المعري‪ ،‬الشاعر الفيلسوف الضرير‪ ،‬وابن‬ ‫بدراسة ك ّ‬
‫خلدون‪ ،‬المؤّرخ ومبدع علم "العمران البشري"؛ ثم لم يكن غريًبا أن يكون‬
‫هو نفسه‪ ،‬طه حسين‪ ،‬على رأس البعثة التي كشفت عن كنوز التراث‬
‫المعتزلي التي كانت مدفونة في المكتبة المتو ّ‬
‫كلية باليمن‪ ،‬وأهمها‬
‫موسوعة القاضي عبد الجبار ةةةةةة ةة ةةةةة ةةةةةةة ةةةةةة‪.‬‬

‫لكن ماذا عن تأثير هذا كّله في علم التأويل القرآني؟ وكيف كانت‬
‫ص المركزي‪ ،‬ل للثقافة وحدها بل للحضارة كّلها‪،‬‬
‫قا مع الن ّ‬‫الستجابة تواف ً‬
‫في صيرورتها وارتفاعها وانخفاضها؟‬

‫ن تفسير الطنطاوي الجوهري من هذه‬ ‫من المهم هنا أن نشير إلى أ ّ‬


‫ة كاملة للعلوم الطبيعية والجتماعية‪ ،‬كما استوعبها‬ ‫الناحية يمثل استجاب ً‬
‫َ‬
‫جا بين النظريات التي عََرفها وما يشابهها أو يقاربها في‬
‫بالطبع‪ ،‬ماز ً‬
‫التراث‪ .‬لكنه‪ ،‬مثله كمثل سلفه الرازي‪ ،‬صاحب ةةةةةةة ةةةةةة‪،‬‬
‫ص‬
‫مى "إشباع الدللة" حتى تفيض خارج الن ّ‬ ‫حرص على ما يمكن أن ُيس ّ‬
‫دق عليه – أي على تفسير الطنطاوي‬‫في مساحات شاسعة‪ .‬لذلك َيص ُ‬
‫الجوهري – ما قاله القدماُء على ةةةةةةة ةةةةةة للرازي أنه "فيه من‬
‫ك ّ‬
‫ل شيء إل التفسير"]‪![19‬‬

‫ولعل ما يمّيز تفسيَر محمد عبده )الذي أكمله تلميذه رشيد رضا( أنه‪ ،‬على‬
‫ص‬
‫اتساعه وحرصه على"إشباع الدللة"‪ ،‬تفسير يكاد أل يتجاوز نطاق الن ّ‬
‫حتى يعود إليه؛ هذا بالضافة إلى أنه – خلًفا لتفسير الطنطاوي الجوهري‬
‫– اكتسب انتشاًرا واسًعا‪ ،‬ل في دائرة المهتمين والطلب الذين دّرس لهم‬
‫عبده فقط‪ ،‬بل في دائرة أوسع من القراء والمثقفين في العالم العربي‬
‫والسلمي‪ .‬ومن المؤكد أن استجابة محمد عبده – في التفسير –‬
‫ة أكثر‬‫للتحديات التي كانت مطروحة على العقل السلمي كانت استجاب ً‬
‫تركيًبا من استجابة الطنطاوي الجوهري في تفسيره؛ فلم يكن مشغول ً‬
‫بالبحث عن التطابق بين حقائق العلم ودللة النص‪ ،‬بقدر ما كان شاغَله‬
‫ص لمخاطبة العقل السلمي الناهض وحّثه على مواصلة‬ ‫ح دللة الن ّ‬
‫فت ُ‬
‫]‪[20‬‬
‫النهوض‪.‬‬

‫لذلك كان من الطبيعي‪ ،‬على المستوى النظري للقواعد التي وضعها في‬
‫خطوات التفسير‪ ،‬أن تكون قواعد َ عامة لتأويل النصوص‪ ،‬دون إغفال‬
‫ي هدفه "هداية" البشر إلى اليمان‪.‬‬
‫ص دين ّ‬
‫ص القرآني‪ ،‬بما هو ن ّ‬
‫طبيعة الن ّ‬
‫وعلى ذلك‪ ،‬فالمقصد من التفسير والهدف هو‬

‫مراد من القول‪ ،‬وحكمة التشريع في العقائد والحكام على‬ ‫فهم ال ُ‬


‫دعة‬
‫الوجه الذي يجذب الرواح‪ ،‬ويسوقها إلى العمل والهداية المو َ‬
‫ل تلك الشروط‬ ‫في الكلم‪ [...] .‬فالمقصد الحقيقي من وراء ك ّ‬
‫]‪[21‬‬
‫والفنون هو الهتداء بالقرآن‪.‬‬

‫ف التفسير وغايَته "الهتداء‬


‫من الواضح هنا أن محمد عبده‪ ،‬حين يجعل هد َ‬
‫بالقرآن"‪ ،‬يقصد تنوير العقل السلمي ذاته مما ران عليه من إظلم عصور‬
‫مًرا‬
‫الركود والنحطاط‪ .‬وربما يكون القصد إلى هداية "غير المسلمين" مض َ‬
‫في كلم محمد عبده؛ ولعل القرب إلى السياق أن نقول إن المقصود‬
‫بالهداية – في حالة غير المسلمين – شرح القرآن وإبراز دللته لمن‬
‫أساؤوا فهمه من غير المسلمين‪ ،‬فهاجموا السلم‪ .‬وأّيا كان تأويل مقصد‬
‫"الهداية" عند عبده‪ ،‬فل شك أنه مقصد ديني في جوهره‪ ،‬و"هو مقصد‬
‫ص عبارة الشيخ أمين‬ ‫جليل ول شك يحتاج المسلمون لتحقيقه"‪ ،‬بن ّ‬
‫]‪[22‬‬
‫الخولي‪.‬‬

‫لكن الشيخ الخولي ل يعتبر مقصد الهداية "الغرض الول من التفسير‪،‬‬


‫وليس هو أول ما يعنى به ويقصد إليه"‪ ،‬ويرى أن‬

‫ض‬
‫ضا أبعد تنشعب منه الغرا ُ‬ ‫دا أسبق وغر ً‬‫قبل ذلك كّله مقص ً‬
‫المختلفة وتقوم عليه المقاصد المتعددة‪ .‬ول بدّ من الوفاء به قبل‬
‫ي مقصد آخر‪ ،‬سواء كان ذلك المقصد الخر علمّيا أم‬ ‫تحقيق أ ّ‬
‫]‪[23‬‬
‫عملّيا‪ ،‬دينّيا أم دنيوّيا‪.‬‬

‫دا جوهرّيا وأساسّيا هو "البيان"؛‬


‫هذا المقصد الذي يعتبره الخولي مقص ً‬
‫وهو مصطلح يحتاج لتحليل خاص وشرح دقيق في سياق مجموعة‬
‫المفاهيم التي تناَولها الخولي في مشروعه التجديدي في النحو والبلغة‬
‫ن القول بصفة عامة‪ .‬ويكفي هنا الشارة إلى أن ما يعنيه‬ ‫والتفسير وف ّ‬
‫الخولي بمفهوم "البيان" قريب الصلة إلى حد ّ كبير – إن لم يكن إلى حد ّ‬
‫التطابق – بمفهوم "المنهج اللغوي الفّني" الذي استخدمه طه حسين في‬
‫إثبات صحة بعض قصائد الشعر الجاهلي في كتابه المعروف ةة ةةةةة‬
‫ةةةةةةة‪ ،‬الذي سنتناول ما يربط بين ما وََرد َ فيه وما يقوله الخولي في‬
‫فقرة تالية‪.‬‬

‫ف من التفسير في‬ ‫وليس مقصد "الهداية" الذي يعتبره محمد عبده الهد َ‬
‫معزل عن "المنهج اللغوي الفّني"‪ ،‬لن هذا الخير هو الداة والوسيلة التي‬
‫دده‬‫من دونها ل يمكن الوصول إلى الهدف والمقصد‪ .‬وهذا المنهج يح ّ‬
‫محمد عبده في الخطوات التالية‪:‬‬

‫‪ .1‬فهم حقائق اللفاظ المفردة الموجودة في القرآن بحسب دللتها‬


‫سر ذلك من‬ ‫قق المف ّ‬ ‫التداولية في عصر النزول‪" ،‬بحيث يح ّ‬
‫ف بقول فلن وفهم علن‪ .‬فإن كثيًرا‬ ‫استعمالت أهل اللغة‪ ،‬غير مكت ٍ‬
‫ن‪ ،‬ثم غلبت على‬ ‫مَعا ٍ‬‫مل في زمن التنزيل ل َ‬ ‫من اللفاظ كانت ُتستع َ‬
‫غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد" ‪ .‬وفي هذه الخطوة يبدو‬
‫]‪[24‬‬

‫ض محمد عبده لعملية "السقاط" الدللي من الحاضر‬ ‫حا رف ُ‬‫واض ً‬


‫على الماضي من خلل عدم الهتمام بالدللة التداولية لللفاظ في‬
‫عصر النزول – وهو إسقاط صار شائًعا الن‪ ،‬ويتجّلى في كثير من‬
‫كتب التفسير المعاصرة‪ .‬ولعل مجله الوضح هو ذلك التفسير‬
‫مى بـ"التفسير العلمي للقرآن"‪.‬‬‫المس ّ‬

‫م‬
‫م دللة اللفاظ المفردة في سياق تداولها اللغوي فه ُ‬ ‫‪ .2‬يلي فه َ‬
‫الساليب‪ ،‬و"يحتاج في هذا إلى علم العراب وعلم الساليب‬
‫)المعاني والبيان("]‪.[25‬‬

‫‪ .3‬الخطوة الثالثة في المنهج هي "علم أحوال البشر"‪ :‬إذ ل بد ّ للناظر‬


‫في هذا الكتاب من "النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم‬
‫ذل‪ ،‬وعلم وجهل‪،‬‬ ‫ومناشئ اختلف أحوالهم‪ ،‬من قوة وضعف‪ ،‬وعّز و ُ‬
‫وإيمان وكفر‪ ،‬ومن العلم بأحوال العاَلم الكبير‪ ،‬علوّيه وسفلّيه‪.‬‬
‫مها التاريخ بأنواعه"]‪.[26‬‬
‫ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة‪ ،‬من أه ّ‬

‫دا للخطوة الثالثة‪ ،‬أو تفريًعا‬


‫‪ .4‬والخطوة الرابعة في المنهج ت ُعَد ّ امتدا ً‬
‫لها‪ :‬إذ العلم بأحوال البشر يندرج فيه العلم بما "كان عليه الناس‬
‫سر ما‬ ‫وة‪ ،‬من العرب وغيرهم‪ [...] .‬وكيف يفهم المف ّ‬ ‫في عصر النب ّ‬
‫ت من عوائدهم على وجه الحقيقة‪ ،‬أو ما يقترب منها‪ ،‬إذا‬ ‫قّبحْته اليا ُ‬
‫]‪[27‬‬
‫لم يكن عارًفا بأحوالهم وما كانوا عليه؟"‬

‫‪ .5‬كذلك ت ُعَد ّ الخطوة الخامسة تفريًعا للخطوة الرابعة‪ :‬فالعلم بما كان‬
‫وة من العرب وغيرهم يتضمن "العلم‬ ‫عليه الناس في عصر النب ّ‬
‫بسيرة النبي صلعم وأصحابه‪ ،‬وما كانوا عليه من علم وعمل‬
‫وتصرف في الشؤون‪ ،‬دنيوّيها وُأخروّيها"]‪.[28‬‬

‫جا‬
‫دا أن نقول هنا إن الخطوات التي يرّتبها عبده منه ً‬ ‫وليس من الصعب أب ً‬
‫محك َ ً‬
‫ما بين مرجعّيتين متجاوبتين‪ :‬اللغة في‬ ‫قا ُ‬
‫طا وثي ً‬‫للتفسير تربط رب ً‬
‫السياق التاريخي لتداُولها )عصر النزول(‪ ،‬والعاَلم من حيث القوانين‬
‫ص هنا‪ ،‬في‬ ‫المحّركة له طبيعّيا واجتماعّيا في صيرورته في التاريخ‪ .‬إن الن ّ‬
‫ل في‬ ‫فهم عبده الضمني من خلل تحديده لخطوات المنهج‪ ،‬بناٌء لغوي دا ّ‬
‫سياق اجتماعي تاريخي بعينه‪ ،‬غير معزول‪ ،‬في الوقت نفسه‪ ،‬عن القدرة‬
‫على إنتاج الدللة خارج إطار هذا السياق‪ .‬لكن الدللة المنَتجة خارج‬
‫ً‬
‫السياق الجتماعي التاريخي الخالص يجب أل تكون مفروضة "إسقاطا"‬
‫ل للنص؛ أو لنقل‪ ،‬في عبارة أخرى أقرب إلى لغة‬ ‫على البناء اللغوي الدا ّ‬
‫التراث‪ ،‬إن "المفهوم" يجب أل يفارق "المنطوق"‪ ،‬على الرغم من ثبات‬
‫الثاني وحركّية الول‪.‬‬

‫ت التأويل العتزالية )علم المعاني والبيان(‬‫وهنا تسعف محمد عبده أدوا ُ‬


‫ص من خلل "المنطوق" الثابت‪ .‬لكن محمد عبده – وهذا أمر‬ ‫لفتح دللة الن ّ‬
‫ما حديًثا هو "علم‬
‫مي البلغة التقليديين اس ً‬‫لفت – يطلق على عل َ‬
‫ة معاصرة في تجاورٍ ل يخلو في حد ّ‬ ‫الساليب"‪ ،‬مستبدِل ً باللغة القديمة لغ ً‬
‫ذاته من دللة‪ .‬إن الجديد هنا ل يزيح القديم ول يحل محّله‪ ،‬بل يجاوُِره في‬
‫علقة مقارنة واضحة‪ .‬وتلك بالضبط كانت استجابة عبده على مستوى‬
‫تأويل القرآن‪ .‬وهنا نشير إلى بعض المثلة إشارةً سريعة‪ ،‬تاركين التحليل‬
‫التفصيلي لسياق آخر‪.‬‬

‫صص القرآني كله ليس تاري ً‬


‫خا‪" ،‬وإنما المراد بها العتبار والعظة‬ ‫ال َ‬
‫ق َ‬
‫من السياق"]‪ .[29‬وليس المهم في القصة ما تحكيه من وقائع وأحداث‪ ،‬بل‬
‫ةة ةةة ةةةةة‪.‬‬ ‫ةةةة ة‬‫المهم هو ةةةةة ةةةةة ةةةة ةةةة ة‬

‫وعلى ذلك‪ ،‬فإن "العجاز" في القصص القرآني "في اللفظ‪ ،‬ل في‬
‫القصص نفسها"]‪ ،[30‬أي في بنائها اللغوي السردي‪ ،‬وليس في مماثلة‬
‫وقائعها المروّية للتاريخ أو في َتطاُبقها مع وقائع التاريخ‪ [31].‬بالضافة إلى‬
‫ذلك‪ ،‬يقّرر محمد عبده أن ترتيب السرد في القرآن ل يتطابق مع الترتيب‬
‫]‪[32‬‬
‫المنطقي الطبيعي للوقائع‪ ،‬بل هو ترتيب لتأدية وظائف الوعظ والعتبار‪.‬‬
‫ومن البديهي فيما يؤكد عبده أن‬
‫ذكر القصة في القرآن ل يقتضي أن يكون ك ّ‬
‫ل ما ُيحكى فيها عن‬
‫حا‪ .‬فذكر السحر في هذه اليات ]البقرة ‪ [102‬ل يستلزم‬
‫الناس صحي ً‬
‫إثبات ما يعتقد الناس منه‪ ...‬إن القصص جاءت في القرآن لجل‬
‫مل على العتقاد‬ ‫ح ْ‬
‫الموعظة والعتبار‪ ،‬ل لبيان التاريخ ول لل َ‬
‫ق‬
‫بجزئيات الخبار عند الغابرين‪ .‬وإنه ليحكي من عقائدهم الح ّ‬
‫والباطل‪ ،‬ومن تقاليدهم الصادق والكاذب‪ ،‬ومن عاداتهم النافع‬
‫والضار‪ ،‬لجل الموعظة والعتبار‪ .‬فحكاية القرآن ل تعدو موضع‬
‫عبرة‪ ،‬ول تتجاوز موطن الهداية‪ ،‬ول بدّ أن يأتي في العبارة أو‬ ‫ال ِ‬
‫سن واستهجان‬ ‫ح َ‬
‫السياق وأسلوب النظم ما يدل على استحسان ال َ‬
‫ملة عند‬ ‫القبيح‪ .‬وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستع َ‬
‫ة في نفسها‪،‬‬ ‫ي عنهم‪ ،‬وإن لم تكن صحيح ً‬ ‫طبين أو المحك ّ‬‫المخا َ‬
‫ن من المس" ]البقرة ‪،[275‬‬ ‫كقوله‪" :‬كما يقوم الذي يتخّبطه الشيطا ُ‬
‫وكقوله‪" :‬بلغ مطلع الشمس" ]الكهف ‪ .[90‬وهذا السلوب مألوف‪.‬‬
‫فإننا نرى كثيًرا من كّتاب العربية وكّتاب الفرنج يذكرون آلهة‬
‫الخير والشّر في خطبهم ومقالتهم‪ ،‬ولسيما في سياق كلمهم‬
‫عن اليونان والمصريين القدماء‪ ،‬ول يعتقد واحدٌ منهم شيًئا من‬
‫]‪[33‬‬
‫تلك الخرافات الوثنية‪.‬‬

‫إذا تأملنا ما يحاوله عبده هنا‪ ،‬فمن السهل أن نقرر أنه يحاول حماية‬
‫القرآن من هجوم بعض المستشرقين‪ ،‬خاصة فيما يتصل بمسألة القصص‬
‫ةة ةة ةةةةةةة – هكذا‬ ‫القرآني والدقة التاريخية‪ .‬ةةة ةةةةةة ةةة ة‬
‫عْبرة‪ ،‬يوِرد ما‬
‫يكرر عبده هذه العبارة – بل هو كتاب هداية وموعظة و ِ‬
‫ُيروى وما ُيحكى عن المم السابقة مورد الحكاية لتحقيق هذه الغاية‪ ،‬التي‬
‫فا للوقائع‪ .‬بالضافة إلى‬ ‫قد تتطلب تحويًرا أو اختصاًرا أو ترتيًبا سردّيا مخال ً‬
‫هذا‪ ،‬يؤكد عبده أن ما ُيحكى من اعتقادات وما ي َرِد ُ من عبارات‪ ،‬إنما ُيحكى‬
‫م ل مجال لعتقاد صحته‬ ‫طبين أو المحكي عنهم؛ ومن ث َ ّ‬ ‫قا لوعي المخا َ‬‫مطاب ِ ً‬
‫أو صوابه لمجرد أنه ذ ُك َِر في القرآن‪ .‬وهنا يتمكن عبده من تأويل ك ّ‬
‫ل ما‬
‫س الشيطان للنسان تأويل ً عقلنّيا‪.‬‬ ‫ورد عن السحر والحسد وم ّ‬
‫ق عليها‪ ،‬هي أن‬‫ف ٍ‬‫وإذا كان عبده ينطلق في كثير مما سبق من حقيقةٍ مت َ‬
‫ور هذا المفهوم‬ ‫الله يخاطب البشر على قدر عقولهم وأفهامهم‪ ،‬فإنه يط ّ‬
‫ل أساسية‪ .‬ول شك أن عبده‬ ‫ة تأوي ٍ‬ ‫تطويًرا شام ً‬
‫ل‪ ،‬بحيث يجعل منه مرجعي َ‬
‫قد أفاد من علم النفس كثيًرا في عملية التطوير تلك؛ لكنه أفاد بالمثل من‬
‫مفاهيم التمثيل والمجاز والكناية والستعارة في التراث البلغي العربي‪.‬‬
‫في عبارة أخرى‪ ،‬يمكن القول إن عبده قد جمع بين الستمداد من التراث‬
‫وبين العلوم العصرية في محاولته الستجابة للتحدي المطروح على العقل‬
‫المسلم الذي يعتبر القرآن مرجَعه الساسي‪ .‬لذلك استند فعل التأويل‬
‫عنده إلى مرجعية اللغة‪ ،‬كما استند إلى مرجعية المعرفة العصرية في‬
‫ي دقيق يتطابق‪ ،‬إلى حد ّ كبير‪ ،‬مع خطوات المنهج التي سبق‬ ‫تركيب منهج ّ‬
‫تحليُلها‪.‬‬

‫قه وأمر الملئكة‬‫خل ْ ِ‬


‫منْته من تفاصيل َ‬
‫هكذا تصبح قصة آدم وحواء‪ ،‬بما تض ّ‬
‫بالسجود له‪ ،‬ومخالفة إبليس‪ ،‬وتعليمه السماء‪ ،‬ثم إغراء إبليس‪،‬‬
‫فالمعصية‪ ،‬فالخروج من الجنة – يصبح ذلك كله من قبيل "التمثيل"‬
‫و"التصوير"]‪ .[34‬وبالمثل‪ ،‬فإن "آدم" – فيما يرى عبده في تفسيره لكلمة‬
‫"خليفة" – "ليس أول الحياء التي سكنت الرض"]‪ .[35‬وهكذا يستجيب‬
‫العقل المسلم لنظرية "النشوء والرتقاء" التي مّثلت آنذاك تهدي ً‬
‫دا مباشًرا‬
‫لنسجام العقل المتدين عامة والعقل المسلم خاصة‪ .‬لكن استجابة عبده‬
‫ل ل سند له من اللغة أو التراث؛ ذلك أن‬‫هنا ليست قفًزا في الفراغ بتأوي ٍ‬
‫سرين القدماء – يمكن أن تعني‬ ‫كلمة "خليفة" – كما فهمها بعض المف ّ‬
‫فا" لقبيل سابق من الحياء كان يسكن الرض‪" ،‬يفسد فيها ويسفك‬ ‫"خل ً‬
‫الدماء"‪.‬‬

‫وبتطبيق المنهج نفسه‪ ،‬تصبح قصة ابَني آدم – قابيل وهابيل – تمثيل ً لنوازع‬
‫الخير والشر‪ ،‬وتصبح قصة إبراهيم مع الطير‪ ،‬الواردة في القرآن إثباًتا‬
‫لقدرة الله على إحياء الموتى‪ ،‬تمثيل ً كذلك‪ ،‬لن معنى "فصرهن إليك"‬
‫طعهن أجزاء‪ ،‬بل "مّرنهن على طاعتك"‪ .‬وهكذا‪ ،‬إذا كان الطير‬ ‫ليس ق ّ‬
‫ل ما في الوجود رهن مشيئة‬ ‫بالتمرين يستجيب للنسان ويطيعه‪ ،‬أليس ك ّ‬
‫الله بما هو الخالق؟]‪ [36‬بل يذهب محمد عبده – في جرأة غير مسبوقة إل‬
‫في أقوال بعض المعتزلة – إلى أن نزول الملئكة وقتالهم مع المسلمين‬
‫في موقعة بدر الكبرى لم يكن حقيقة حرفية‪ ،‬بل كان من قبيل الُبشرى‬
‫والتأييد المعنوي‪ [37].‬وهو في هذا التأويل يستند إلى نفس القاعدتين اللتين‬
‫أشرنا إليهما‪ :‬ةةةةة‪ ،‬من جهة‪ ،‬وةةةةةة ةةةةةةةةة ةةةةةةةة‬
‫ةةةةةةةة‪ ،‬من جهة أخرى – وكلهما ينفي النزول الحرفي للملئكة‪ .‬أما‬
‫الدليل اللغوي فموجود في السرد القرآني‪" :‬وما جعله الله إل ُبشرى‬
‫ولتطمئن به قلوبكم"؛ بينما يستند عبده في مرجعيته التراثية إلى تفسير‬
‫حد]‪ ،[38‬وسكت عن‬ ‫ُ‬
‫محمد بن جرير الطبري – الذي أنكر نزول الملئكة في أ ُ‬
‫قل"]‪.[39‬‬ ‫حرِّية بأن ُتن َ‬‫مرويات قتالهم في بدر لنها‪ ،‬فيما يرى عبده‪" ،‬لم تكن َ‬
‫ويستند كذلك إلى المعتزلي أبي بكر بن الصم‪ ،‬الذي أنكر قتال الملئكة‬
‫مَلك الواحد يكفي في إهلك‬ ‫في بدر‪ ،‬وقال – فيما يروي عنه عبده – إن "ال َ‬
‫أهل الرض‪ ،‬كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط؛ فإذا حضر هو يوم أحد‪،‬‬
‫]‪[40‬‬
‫فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار؟"‬

‫هكذا ةةةة ةةةة ةةة ةةةةة ةةةةةة‪ .‬وينتهي عبده إلى ةةة ةةةةة‬
‫ةةةة ةةةةةة ةة ةةةةة‪ ،‬قائ ً‬
‫ل‪:‬‬

‫وهت التفسير وقلبت‬ ‫كفانا الله شّر هذه الروايات الباطلة التي ش ّ‬
‫ص القرآن نفسه‪ .‬فالله تعالى يقول‬ ‫الحقائق‪ ،‬حتى إنها خالفت ن ّ‬
‫ن به قلوُبكم"‪.‬‬
‫في إمداد الملئكة‪" :‬وما جعله الله إل ُبشرى ولتطمئ ّ‬
‫وهذه الروايات تقول بل جعلها مقاتلة‪ ،‬وإن هؤلء السبعين الذين‬
‫قتلوا من المشركين لم يمكن قتلهم إل باجتماع ألف أو ألوف من‬
‫صهم الله بما ذكر من أسباب‬ ‫الملئكة عليهم مع المسلمين الذين خ ّ‬
‫النصر المتعددة‪ .‬إل أن في هذا من شأن تعظيم المشركين ورفع‬
‫شأنهم وتكبير شجاعتهم وتصغير شأن أفضل أصحاب الرسول‬
‫ب عقَله لتصحيح‬‫سل ِ َ‬
‫وأشجعهم‪ ،‬ما ل يصدر عن عاقل إل وقد ُ‬
‫]‪[41‬‬
‫روايات باطلة ل يصح لها سند‪.‬‬

‫هكذا يمكن القول إن مرجعية التأويل عند محمد عبده مرجعية مركبة‬
‫تركيًبا أعقد من تركيب مرجعية التأويل عند المعتزلة؛ بل الحرى القول إن‬
‫مرجعية عبده هي مرجعية معتزلي يعيش في نهاية القرن التاسع عشر‪،‬‬
‫ص المركزي في‬‫محاول ً الفادة من ثمار الفكر النساني والتوافق مع الن ّ‬
‫حضارته وثقافته‪ .‬لذلك نراه يضع "القصص القرآني" في إطار‬
‫"المتشابهات" التي تحتاج للتأويل وفق مقتضيات العقل‪ ،‬دون التسليم‬
‫بدللتها الحرفية‪ [42].‬لكنه‪ ،‬على الرغم من ذلك‪ ،‬ل يدخل في عراك ضد‬
‫"طريقة السلف" – أهل السّنة والجماعة – كما فعل أسلُفه من المعتزلة‪،‬‬
‫بل يحاول أن يمّيز بين "تفويض" أهل السلف وبين "تأويل" المعتزلة أو‬
‫الخلف‪ ،‬ويرى أن التفويض واجب ضروري على مستوى "العتقاد" القلبي‬
‫الداخلي‪ ،‬لكن "التأويل" كذلك واجب ضروري للكلم اللهي "لنه ل بد ّ‬
‫للكلم من فائدة يحمل عليها‪ ،‬لن الله – عّز وج ّ‬
‫ل – لم يخاطبنا بما ل‬
‫نستفيد منه معنى"]‪.[43‬‬

‫على أساس هذا التمييز‪ ،‬يمكن لنا أن نفهم ما يقوله عبده عن نفسه من‬
‫أنه يجمع بين طريقة السلف وطريقة الخلف‪ ،‬وذلك على عكس تلميذه‬
‫ما إلى طريقة أهل‬ ‫مل تفسيره محمد رشيد رضا‪ ،‬الذي يطمئن تما ً‬ ‫مك ّ‬
‫و ُ‬
‫السلف‪ ،‬ويؤكد أن هذا الطمئنان الكامل لم يتحقق له تفصيل ً إل بممارسة‬
‫مَلي لواء السلفية الحنبلية‬ ‫كتب ك ّ‬
‫ل من ابن تيمية وابن القيم]‪ ،[44‬حا ِ‬
‫هضة لية مرجعية في التأويل سوى مرجعية اللغة‪ ،‬المعزولة حتى عن‬ ‫المنا ِ‬
‫صيرورتها التاريخية وأُفقها الجتماعي‪.‬‬

‫معَ عبده بين طريقتي السلف والخلف )مع التمييز بينهما في الوقت‬ ‫ج ْ‬
‫لكن َ‬
‫ول في أتباعه إلى تيارين ما يزالن حتى الن يشكلن قطَبي‬ ‫ذاته( تح ّ‬
‫صراع – يهدأ حيًنا ويشتد أحياًنا – في تاريخ الفكر السلمي حتى يومنا هذا‪،‬‬
‫خاصة في مجال تأويل القرآن وتفسيره – وهو المجال الذي نركز عليه‬
‫ت‬
‫سس ْ‬ ‫هنا‪ :‬من طريقة السلف نهل رشيد رضا‪ ،‬ومنه نقل حسن البنا‪ ،‬فتأ ّ‬
‫جماعة "الخوان المسلمين"؛ ومن طريقة الخلف نهل علي عبد الرازق‬
‫ل منهم قصة‬ ‫وطه حسين وأمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله – ولك ّ‬
‫]‪[45‬‬
‫دامية مع تيار أهل السلف معروفة‪.‬‬

‫لن نتوقف هنا عند كتاب ةةةةةةة ةةةةة ةةةةة لعلي عبد الرازق‪ ،‬لن‬
‫اتصاله بعلم التأويل اتصال غير مباشر‪ ،‬من جهة‪ ،‬ولننا تناولناه تفصيل ً في‬
‫دراسة سابقة من جهة أخرى‪ [46].‬لكن لماذا ذ ُك َِر اسم طه حسين من بين‬
‫ل بعلم التأويل كذلك؟ تتضح‬ ‫أتباع منهج الخلف‪ ،‬وليس لطه حسين اتصا ٌ‬
‫العلقة بين طه حسين ومحمد عبده – من زاوية تأويل القرآن – حين‬
‫نتأمل سياق الفقرة التي وردت في كتاب طه حسن ةة ةةةةة‬
‫ةةةةةةة والتي أثارت ما أثارت من احتجاج وردود ومناقشات ومطالبة‬
‫بفصل طه حسين من الجامعة – حتى حسم وكيل النائب العام محمد نور‬
‫ن ظلت لها‪ ،‬حتى الن‪ ،‬امتداداتها‬ ‫الدين المشكلة من الناحية الدارية‪ ،‬وإ ْ‬
‫ّ‬
‫وتفاعلتها‪ ،‬سلًبا وإيجاًبا‪ – ،‬هذا على الرغم من أن المؤلف نفسه – طه‬
‫حسين – قام بسحب الكتاب‪ ،‬وحذف منه الفقرة التي أثارت ك ّ‬
‫ل هذا‬
‫الضجيج‪ ،‬ثم أعاد نشره باسم ةة ةةةةة ةةةةةةة الذي يماثل من حيث‬
‫الحجم ثلثة أضعاف الكتاب الول‪.‬‬
‫طه حسين )‪(1973-1889‬‬

‫إن السياق الساسي للكتاب هو مناقشة مدى انتساب هذا الشعر الذي‬
‫ل‪ .‬ومن خلل بعض الدلة‬ ‫يسمى "جاهلّيا" إلى عصر ما قبل السلم فع ً‬
‫والسانيد التاريخية واللغوية‪ ،‬يرى طه حسين أن "الصلة بين أصل اللغة‬
‫العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية )في الحجاز وشمال‬
‫الجزيرة( واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية )في اليمن(‪ ،‬إنما هي‬
‫كالصلة بين اللغة العربية وأية لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة"‪.‬‬
‫وبصرف النظر عن صحة هذه القضية أو خطئها‪ ،‬فإن المؤّلف يستند إليها‬
‫في الشك في صحة نسبة هذا الشعر المنسوب إلى شعراء أصلهم يمني‬
‫والمصوغ بلغة عربية فصحى هي لغة الشمال‪ .‬ويرى طه حسين أن هذا‬
‫الشعر ل يمكن له أن يكون قد ظهر قبل القرآن‪ ،‬لنه مكتوب بلغة قريبة‬
‫دا من عربية القرآن‪ ،‬التي لم تصبح لغة الجزيرة كّلها إل مع انتشار‬‫ج ّ‬
‫سا على ذلك‪ ،‬يرى طه حسين أن القرآن يجب أن يكون هو‬ ‫السلم‪ .‬وتأسي ً‬
‫سب إلى الجاهليين‬ ‫المرجع في فهم حياة الجاهلية‪ ،‬ل هذا الشعر الذي ُين َ‬
‫وهو ل ينتسب لذاك العصر‪:‬‬

‫سب إلى امرئ القيس أو إلى العشى أو‬ ‫إن هذا الشعر الذي ُين َ‬
‫إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين ل يمكن‪ ،‬من الوجهة اللغوية‬
‫والفنية‪ ،‬أن يكون لهؤلء الشعراء ول أن يكون قد قيل وأذيع قبل‬
‫هد بهذا الشعر على تفسير‬ ‫أن يظهر القرآن‪ ...‬ول ينبغي أن ُيستش َ‬
‫هد بالقرآن والحديث‬ ‫القرآن وتأويل الحديث‪ ،‬وإنما ينبغي أن ُيستش َ‬
‫على تفسير هذا الشعر وتأويله‪ ...‬هذه الشعار ل تثبت شيًئا ول‬
‫ة إلى ما اتخذت إليه من‬ ‫تدل على شيء‪ ،‬ول ينبغي أن ت ُّتخذ وسيل ً‬
‫عا‬
‫ت اخترا ً‬
‫ْ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ر‬
‫ُ ِ‬ ‫ت‬ ‫واخ‬ ‫علم بالقرآن والحديث؛ فهي إنما ت ُك ُّلفت‬
‫]‪[47‬‬
‫ليستشهد بها العلماءُ على ما كانوا يريدون أن يستشهدوا عليه‪.‬‬

‫في مقابل هذا الشك في الشعر الجاهلي والتقليل من شأنه في مسائل‬


‫ص القرآني‪ ،‬حتى ليغدو في‬‫ة مطلقة في صحة الن ّ‬ ‫التفسير والتأويل‪ ،‬نجد ثق ً‬
‫نظر طه حسين المرآةَ الصدق للحياة الجاهلية؛ وهو يرى أن هذه القضية‬
‫من يسمعها لول‬ ‫بدهية‪ ،‬على الرغم مما تبدو عليه من غرابة في نظر َ‬
‫مرة‪ .‬إنها قضية بدهية لن "نص القرآن ثابت ل سبيل إلى الشك فيه"‪.‬‬
‫لكن هذا النفي الحاسم لصحة كثير من الشعر الجاهلي‪ ،‬من حيث نسبُته‬
‫إلى ذلك العصر‪ ،‬مع التأكيد الحاسم كذلك على صحة النص القرآني وكونه‬
‫هو المرآة الصادقة للعصر الجاهلي‪ ،‬يفضي إلى مشكل ل بد ّ من حّله‪ .‬ذلك‬
‫أن الذين يقولون بوجود لغة موحدة يتكلمها العدنانيون والقحطانيون )أهل‬
‫الشمال والجنوب( يستندون إلى بعض المرويات في التفرقة بين "العرب‬
‫العاربة" – أي العرب القحاح الصليون )وهم أهل الشمال( – وبين‬
‫"العرب المستعربة"‪ ،‬وهم أهل الجنوب الذين تعّلموا العربية وأتقنوها‬
‫وتخلوا عن لغتهم الحميرية منذ عصور بعيدة‪ ،‬وهي لغة يربطها هؤلء‬
‫ل من إسماعيل وهاجر إلى أرض الحجاز‪،‬‬ ‫البعض تاريخّيا بهجرة إبراهيم بك ّ‬
‫وهي القصة الواردة في القرآن الكريم‪.‬‬

‫كان تأويل القصة القرآنية على أساس "التمثيل" بوصفها من‬


‫دمه طه‬ ‫قا لمنهج المام محمد عبده‪ ،‬هو الحل الذي ق ّ‬‫"المتشابهات"‪ ،‬وف ً‬
‫همه‬ ‫ض الشكالية؛ ولم يكن هذا الحل يتضمن بأية حال ما تو ّ‬ ‫حسين لف ّ‬
‫َ‬
‫ض من أتباع منهج السلف التشكيك في صحة القرآن‪ :‬فالقرآن ليس‬ ‫البع ُ‬
‫كتاًبا في التاريخ‪ ،‬من جهة‪ ،‬وهو يخاطب الناس على قدر عقولهم‬
‫وأفهامهم‪ ،‬من جهة أخرى‪ .‬وخلصة ذلك أن ما ُيروى في القرآن من‬
‫قصص يجب أل نبحث عن صدقه – أو عدم صدقه – في التاريخ العلمي‬
‫ل‪ .‬وهنا ل بد ّ أن‬‫الموّثق‪ ،‬لنه قصص كان معروًفا عند الناس وكان متداو ً‬
‫نشير إلى أن طه حسين يؤكد – بالضافة إلى تأكيده صحة النص وكونه‬
‫أصدق مرآة للعصر – أن إعجاب الناس بالقرآن – من أسلم منهم ومن‬
‫أصّر على وثنيته – نابعٌ من وجود نوع من الصلة‪" ،‬هي هذه الصلة بين الثر‬
‫الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه"]‪.[48‬‬
‫دا‪ ،‬ل بمعنى الغرابة التامة‬ ‫ومن شروط الثر الفني البديع أن يكون جدي ً‬
‫التي تجعله عصّيا على الفهم وفوق مستوى الدراك والتذوق‪ ،‬بل بمعنى‬
‫الجدة اللفتة والمتضمنة لعناصر مألوفة في نفس الوقت‪ .‬إذ لو كان‬
‫ما بالنسبة للعرب‬‫دا تما ً‬
‫القرآن جدي ً‬
‫ضه وجادل فيه‬ ‫ه َ‬
‫ضهم ول نا َ‬ ‫لما فهموه ول وعوه ول آمن به بع ُ‬
‫دا فيما يدعو‬‫ً‬ ‫جدي‬ ‫أسلوبه‪،‬‬ ‫في‬ ‫دا‬
‫ضهم الخر‪ .‬إنما كان القرآن جدي ً‬ ‫بع ُ‬
‫دا فيما شّرع للناس من دين وقانون‪ .‬ولكنه كان كتاًبا‬ ‫إليه‪ ،‬جدي ً‬
‫عربّيا‪ ،‬لغته هي اللغة العربية الدبية التي كان يصطنعها الناس في‬
‫]‪[49‬‬
‫عصره‪ ،‬أي في العصر الجاهلي‪.‬‬

‫ليس من الغريب في ظ ّ‬
‫ل هذا التصور – المستند إلى أطروحة عبده عن‬
‫القصص القرآني – أن تكون هجرة إبراهيم بإسماعيل وهاجر للكعبة‬
‫معروفة عند العرب قبل نزول القرآن‪ .‬وليس ورودها في القرآن دليل‬
‫على صحتها التاريخية بقدر ما هو دليل على وجودها في وعي المخا َ‬
‫طبين‬
‫بالقرآن وفي ضمائرهم‪ .‬ويرى طه حسين أن أقدم عصر يمكن أن تكون‬
‫قد انتشرت فيه هذه القصة‬

‫إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلد‬
‫العربية ويبثون فيه المستعمرات‪ .‬فنحن نعلم أن حروًبا عنيفة‬
‫شّبت بين هؤلء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا‬
‫يقيمون في هذه البلد‪ ،‬وانتهت بشيء من المسالمة والملينة‬
‫ونوع من المحالفة والمهادنة‪ .‬فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذي‬
‫غيرين وأصحاب البلد منشأ هذه القصة التي تجعل‬ ‫م ِ‬
‫استقر بين ال ُ‬
‫العرب واليهود أبناء أعمام‪ ،‬لسيما وقد رأى أولئك وهؤلء أن بين‬
‫الفريقين شيًئا من التشابه غير قليل‪ :‬فأولئك وهؤلء ساميون‪...‬‬
‫ل الستعداد لقبول مثل هذه‬‫وقد كانت قريش مستعدة ك ّ‬
‫السطورة في القرن السابع للمسيح‪ .‬فقد كانت في أول هذه‬
‫ن‬‫م َ‬‫ض ِ‬
‫ظ من النهضة السياسية والقتصادية َ‬ ‫القرن قد انتهت إلى ح ّ‬
‫ط سلطانها المعنوي على جزء‬ ‫س َ‬‫لها السيادة في مكة وما حولها وب َ ْ‬
‫غير قليل من البلد العربية الوثنية‪ .‬وكان مصدر هذه النهضة وهذا‬
‫]‪[50‬‬
‫السلطان أمرين‪ :‬التجارة من جهة‪ ،‬والدين من جهة أخرى‪.‬‬

‫وينتهي طه حسين من ذلك إلى أن قصة "العاربة والمستعربة" وتعّلم‬


‫جْرهم – ذلك كله "حديث أساطير ل خطر له ول‬ ‫إسماعيل العربية من ُ‬
‫عناء"]‪ .[51‬لكن ظهورها في القرآن – الذي ل يعني صحَتها التاريخية – كانت‬
‫ف دينية يمكن أن تكون القصة ناجزة في تحقيقها‪ .‬ذلك‬‫وراءه أهدا ٌ‬
‫إن ظهور السلم وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية‬
‫ة الوثيقة بين‬
‫العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أن تثبت الصل ُ‬
‫الدين الجديد وبين الديانتين القديمتين‪ :‬ديانة النصارى واليهود‪ .‬فأما‬
‫الصلة الدينية فثابتة واضحة‪ :‬فبين القرآن والتوراة والنجيل اشتراك‬
‫في الموضوع والصورة والغرض – كلها ترمي إلى التوحيد‪ ،‬وتعتمد‬
‫على أساس واحد‪ ،‬هو هذا الذي تشترك فيه الديانات السماوية‬
‫السامية‪ .‬ولكن هذه الصلة الدينية معنوية عقلية‪ ،‬يحسن أن تؤيدها‬
‫ة أخرى مادية ملموسة – أو كالملموسة – بين العرب وأهل‬ ‫صل ٌ‬
‫غل هذه القصة‪ ،‬قصة القرابة المادية‬ ‫الكتاب‪ .‬فما الذي يمنع أن ُتست َ‬
‫]‪[52‬‬
‫بين العرب العدنانية واليهود؟‬

‫هذا التأويل التاريخي‪/‬السياسي‪/‬الجتماعي لورود القصة في القرآن لكي‬


‫ة الدينية المعنوية بين القرآن‬‫مق من خلله الصل ُ‬ ‫ضا دينّيا‪ ،‬تتع ّ‬
‫تؤدي غر ً‬
‫والنصوص الدينية السابقة عليه‪ – ،‬وهي صلة ل مجال للتشكيك فيها‪– ،‬‬
‫قا بإطار ثقافي وأُفق معرفي‬ ‫م ً‬
‫دا لطروحة محمد عبده‪ ،‬مع ّ‬ ‫ليس إل امتدا ً‬
‫سر‬
‫حا لمحمد عبده‪ .‬ولعل هذا هو الذي يف ّ‬ ‫أوسع من ذلك الذي كان متا ً‬
‫مفارقة لغة طه حسين ل ُِلغة محمد عبده‪ ،‬من جهة‪ ،‬ويف ّ‬
‫سر رد ّ الفعل‬
‫العنيف والُعصابي ضد كتاب ةة ةةةةة ةةةةةةة وضد طه حسين‪ ،‬من‬
‫جهة أخرى‪ .‬إنها لغة جديدة‪ ،‬وغير مهاِدنة في الوقت نفسه‪ ،‬لنها تستخدم‬
‫فا لتوظيف‬‫مفردات مثل "أسطورة" لوصف القصة ومثل "استغلل" وص ً‬
‫القرآن للقصة‪ .‬وتبلغ لغة طه حسين أقصى درجاتها تحدًيا للعقل النقلي –‬
‫اللغة التي تعني عدم المهادنة مع لغة الوعظ والخطابة – حين يقول‪:‬‬

‫دثنا‬
‫دثنا عن إبراهيم وإسماعيل‪ ،‬وللقرآن أن يح ّ‬‫للتوراة أن تح ّ‬
‫ضا‪ .‬ولكن ورود هذين السمين في التوراة والقرآن ل‬ ‫عنهما أي ً‬
‫يكفي لثبات وجودهما التاريخي‪ ،‬فضل ً عن إثبات هذه القصة التي‬
‫دثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب‬ ‫تح ّ‬
‫]‪[53‬‬
‫المستعربة فيها‪.‬‬

‫قد يختلف الباحثون أو يتفقون مع ما يطرحه طه حسين في مشكلة‬


‫"الشعر الجاهلي"‪ ،‬وقد يختلفون معه أو يتفقون في الدلئل والبراهين التي‬
‫استند إليها لثبات اختلف لغة أهل الشمال عن لغة أهل الجنوب؛ لكن‬
‫كك في صدق القرآن بأية حال من الحوال‪ ،‬بل تعّرض‬ ‫الرجل لم يكن يش ّ‬
‫قا دون شك‬ ‫لتأويل قصة من القصص القرآني تأويل ً اجتماعّيا تاريخّيا‪ ،‬منطل ً‬
‫من إنجاز محمد عبده بشأن عدم التطابق بين القصص القرآني والتاريخ‪.‬‬
‫لكن أتباع منهج السلف قرءوا الكتاب على طريقة "ول تقربوا الصلة‪،"...‬‬
‫]‪[54‬‬
‫كما فعلوا ذلك مع كتاب ةةةةةةة ةةةةة ةةةةة لعلي عبد الرازق‪.‬‬

‫خ أمين‬‫صَله الشي ُ‬
‫لكن ما أضافه طه حسين إلى إنجاز محمد عبده‪ ،‬وا َ‬
‫الخولي في مجال الدراسات القرآنية‪ ،‬وذلك على الرغم من أن طه حسين‬
‫نفسه – كما سلفت الشارة – سحب الكتاب وأزال منه لغَته غير المهاِدنة‪،‬‬
‫ما كما فعل علي عبد الرازق الذي ظل مصّرا على عدم طبع كتابه‪– ،‬‬ ‫تما ً‬
‫ُ‬
‫على الرغم من تغّير المناخ العام‪ – ،‬حتى طب ِعَ مرة ثانية في منتصف‬
‫السبعينات بعد وفاته‪ .‬أما كتاب طه حسين فلم ُيطَبع طبعته الثانية إل في‬
‫]‪[55‬‬
‫سياق المأساة الرابعة في بداية العام ‪.1995‬‬

‫إن حديث محمد عبده عن أسلوب السرد في قصص القرآن‪ ،‬وكيف أنه‬
‫أسلوب يتحدد من خلل الغََرض الديني الوعظي للقص‪ ،‬ول علقة له‬
‫بالتتابع الطبيعي المنطقي أو التاريخي للوقائع خارج القرآن‪ ،‬كان مقدمة‬
‫ما‬
‫ت طه حسين من أن يبني عليها مقدمة أخرى معروفة تما ً‬ ‫أساسية م ّ‬
‫كن ْ‬
‫دة القرآن من حيث السلوب"‪ .‬واستنبط طه حسين‬ ‫قا عليها‪ ،‬هي "ج ّ‬
‫ومتف ً‬
‫من المقدمتين نتيجة فحواها أن القرآن "أثر فني بالغ"‪ ،‬وأنه مارس تأثيره‬
‫في معاصريه من خلل كونه كذلك‪ .‬وهذا بالتحديد هو المفهوم الذي ينطلق‬
‫ص القرآني‪ :‬إنه كتاب العربية الكبر‪،‬‬ ‫منه الشيخ أمين الخولي عن الن ّ‬
‫ن العربي القدس‪ ،‬سواء نظر‬ ‫وأثُرها الفني القدس‪" :‬فالقرآن كتاب الف ّ‬
‫إليه الناظُر على أنه كذلك في الدين أم ل" ‪.‬‬
‫]‪[56‬‬

‫سس أمين الخولي اختلَفه الذي أشرنا إليه مع محمد عبده على‬‫من هنا يؤ ّ‬
‫غاية التفسير‪ ،‬ويرى أن المقصد السبق والغرض الول لعملية التفسير هو‬
‫"البيان"؛ إذ هو الهدف الذي‬

‫ض المختلفة وتقوم عليه المقاصدُ المتعددة‬ ‫تنشعب منه الغرا ُ‬


‫]ومنها قصد الهداية عند محمد عبده[‪ ،‬ول بدّ من الوفاء به قبل تحقيق‬
‫ي مقصد آخر‪ ،‬سواء كان ذلك المقصد الخر علمّيا أم عملّيا‪ ،‬دينّيا‬ ‫أ ّ‬
‫]‪[57‬‬
‫أم دنيوّيا‪.‬‬

‫مي البلغة‬‫وإذا كان محمد عبده – كما سلفت الشارة – يشير إلى عل َ‬
‫التقليديين )المعاني والبيان( باسم "علم السلوب"‪ ،‬فليس منطقّيا أن‬
‫ُتفَهم كلمة "البيان" – التي هي المقصد الساسي والجوهري من عملية‬
‫]‪[58‬‬
‫التأويل والتفسير – بدللتها البلغية عند القدماء‪.‬‬

‫وإذا كان أمين الخولي لم يترك تفسيًرا – مثل محمد عبده – فقد كان‬
‫انشغاله بقضية "المنهج" هو الحافز وراء القيام بدراسات وبحوث‬
‫ت لنا تسعة كتب في اللغة والدب والبلغة والفكر‬ ‫استكشافية عديدة‪ ،‬خّلف ْ‬
‫والديان المقارنة‪ .‬واحد من هذه الكتب هو كتاب ةةةةة ةةةةةةة‪– ،‬‬
‫سا‪ – ،‬ويضم بين دّفتيه عشر دراسات من تلك‬ ‫الذي نعتمد عليه هنا أسا ً‬
‫كز على ةةةةة ةةةةةة‪ .‬وانشغال‬ ‫مشار إليها‪ ،‬وكلها ير ّ‬‫المجالت ال ُ‬
‫الخولي هكذا بقضية المنهج في أكثر من مجال من المجالت المشار إليها‬
‫مه لمنهج التفسير‬
‫مق إلى حد ّ كبير مفهو َ‬
‫كان من شأنه‪ ،‬دون شك‪ ،‬أن يع ّ‬
‫والتأويل‪.‬‬

‫دد للقرآن‪ ،‬بوصفه أثر العربية الخالد‬ ‫قلنا إن المنهج ينطلق من مفهوم مح ّ‬
‫دا‪.‬‬
‫ما كان أم مسيحّيا أم يهودّيا أم ملح ً‬ ‫القدس‪ ،‬هو كذلك للعربي‪ ،‬مسل ً‬
‫وليس المقصود بـ"العروبة" عند الخولي عروبة العرق والجنس والعصب‬
‫والدم‪ ،‬بل العروبة هي ةةةةة ةةةةةة ةةةةةةةة ةةةةةة‪ .‬وليس‬
‫سا منَزل ً من عند‬‫معنى أن القرآن أثر فني عربي أنه ليس كتاًبا دينّيا مقد ً‬
‫الله على نبّيه محمد‪ ،‬بل المعنى أنه نص يمارس تأثيره وفعاليته‪ ،‬على‬
‫المسلم وعلى غير المسلم كذلك‪ ،‬من خلل خصائصه الدبية والفنية‪،‬‬
‫الممّيزة له والفارقة له عما سواه من النصوص؛ وهو التمييز والتفريق‬
‫الذي أطلق عليه القدماء اسم "العجاز" – هذا من ناحية‪ .‬ومن ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬فليس معنى القول بأنه "عربي" أنه ل يخاطب غير العرب في‬
‫مراميه وأهدافه؛ كما أن هذا الوصف ل يعني انحسار دللته في المدى‬
‫القصير لزمن نزوله أو بعده بقليل‪ .‬ل شيء من هذا يتضمنه مفهوم أن‬
‫القرآن "أثر فني عربي" أو أنه "كتاب العربية الكبر"‪ ،‬لن للقرآن‪ ،‬بما هو‬
‫أثر فني‪،‬‬

‫معاني ومرامي إنسانية اجتماعية بعيدة الهدف‪ ،‬أبدية العمر‪ ،‬لكن‬


‫ذلك كّله إنما جاء النسانية في ثوبه العربي وبذلك التعبير العربي؛‬
‫والتمثيل التام لهذه العروبة هو السبيل المتعّينة لفهم ذلك كّله‬
‫]‪[59‬‬
‫والوصول إليه‪.‬‬

‫من هنا ل بد ّ أن نفهم أن "البيان" الذي يعنيه الخولي‪ ،‬بوصفه مقصد‬


‫المقاصد وغرض الغراض من عملية التفسير والتأويل‪ ،‬هو منهج التحليل‬
‫ت‬
‫الدبي القادر على التعامل مع الثر الفني الخالد‪ .‬ول بد ّ أن تتحدد خطوا ُ‬
‫ص ذاته – من حيث البنية والتركيب‬ ‫هذا المنهج انطلًقا من خصائص الن ّ‬
‫فا للتعامل مع‬‫العام – لنه ليس هناك منهج واحد ذو خطوات محددة سل ً‬
‫أنماط النصوص كّلها‪ ،‬وليس هناك منهج مصمت‪ ،‬ثابت القالب‪ُ ،‬يفَرض على‬
‫هذا النص أو ذاك‪ ،‬لن ةةةة ةةةةةة ةةةةةة ةة ةةةة ةةةة‬
‫دمة مع‬‫م ةةةةةة ةةةةة ةةةةةةة – المستخ َ‬ ‫ةةةةةةةةة – ومن ث َ ّ‬
‫ص انطلًقا من طبيعته الخاصة‪ .‬لهذا يبدأ أمين الخولي بوصف بنية‬ ‫لن ّ‬‫ك ّ‬
‫النص القرآني وتحديد خصائصها‪:‬‬

‫إن ترتيب القرآن في المصحف قد ترك وحدة الموضوع‪ ،‬لم‬


‫قا‪ .‬وقد ترك الترتيب الزمني لظهور اليات‪ ،‬لم‬ ‫يلتزمها مطل ً‬
‫دا‪ .‬وقد فّرق الحديث عن الشيء الواحد والموضوع‬ ‫يحتفظ به أب ً‬
‫الواحد في سياقات متعددة‪ ،‬ومقامات مختلفة‪ ،‬ظهرت في ظروف‬
‫عا‬
‫سر القرآن موضو ً‬ ‫مختلفة‪ .‬وذلك كله يقتضي في وضوح بأن ي ُ َ‬
‫ف ّ‬
‫عا إحصائّيا‬
‫مع آُيه الخاصة بالموضوع الواحد جم ً‬ ‫عا‪ ،‬وأن ُتج َ‬ ‫موضو ً‬
‫مستقصّيا‪ ،‬وُيعَرف ترتيُبها الزمني ومناسباتها وملبساتها الحافة‬
‫هم‪ ،‬فيكون ذلك التفسير‬ ‫سر وُتف َ‬‫ظر فيها بعد ذلك لُتف ّ‬ ‫بها‪ ،‬ثم ُين َ‬
‫]‪[60‬‬
‫أهدى إلى المعنى‪ ،‬وأوثق في تحديده‪.‬‬
‫ددة‬
‫من الضروري النتباه هنا إلى أن هذا الوصف لبنية النص القرآني المح ّ‬
‫ف صحيح وصائب من الوجهة التاريخية‪ ،‬أي من وجهة‬ ‫لخصائصه وص ٌ‬
‫ت بنيُته من خلل عمليتي الجمع‬ ‫دد ْ‬ ‫ّ‬
‫الكيفية التي تركب فيها النص وتح ّ‬
‫الولى والثانية في عصر الخلفة الول‪ .‬لكن هذه البنية‪ ،‬بخصائصها تلك‪،‬‬
‫هي التي تمارس فاعليَتها وتأثيرها منذ ذلك العصر وحتى الن في قلوب‬
‫المسلمين وغير المسلمين وعقولهم‪ .‬في عبارة أخرى‪ ،‬كان المتوّقع من‬
‫الشيخ الخولي‪ ،‬وقد انطلق من مفهوم أن القرآن هو "نص العربية الكبر"‬
‫ة فنية أدبية‬
‫جا لدراسة النص دراس ً‬ ‫و"أثرها الفني القدس"‪ ،‬أن يطرح منه ً‬
‫في بنيته الراهنة‪ ،‬بصرف النظر عن كيفية تر ّ‬
‫كبها من الوجهة التاريخية‪.‬‬

‫لكن مطلًبا مثل هذا ي َُعد مستحيل ً بالنسبة للشيخ أمين الخولي‪ ،‬فضل ً عن‬
‫أن يكون متوقًعا‪ .‬فالشيخ خّريج مدرسة "القضاء الشرعي"‪ ،‬وتأّثره بعلماء‬
‫أصول الفقه واضح في المنهج الذي يطرحه‪ :‬جمع اليات ذات الموضوع‬
‫الواحد جمًعا إحصائّيا‪ ،‬ثم ترتيبها ترتيًبا تاريخّيا‪ ،‬قبل القيام بعملية التفسير‪.‬‬
‫لقد كان على علماء الصول أن يقوموا بذلك في دراسة الحكام الفقهية‪،‬‬
‫مل" من‬ ‫وذلك من أجل فَْرزِ ناسخ الحكام من منسوخها‪ ،‬وبيان "المج َ‬
‫"المفصل" و"العام" من "الخاص" – وذلك كله ل يتأّتى إل بالجمع‬
‫ول منهج‬ ‫الموضوعي لليات والترتيب التاريخي لها كذلك‪ .‬لكن الشيخ يح ّ‬
‫علماء الصول هذا – الخاص بدراسة الحكام والضروري لها – إلى منهج‬
‫صالح للتعامل مع القرآن كّله‪ .‬ول يمكن التقليل من شأن هذا المنهج حين‬
‫تتعلق الدراسة بموضوعات القرآن وقضاياه الفكرية والعقيدية والخلقية؛‬
‫لكنه ليس المنهج الجدى في الدراسة الدبية للقرآن‪ .‬وليس ذلك كله من‬
‫قبيل تناُقض في منهج الشيخ أمين الخولي‪ ،‬لن مفاهيمه للدراسة الدبية –‬
‫التي تحتاج إلى دراسة مستقلة ليس هاهنا مجالها – هي مفاهيم أقرب إلى‬
‫المفاهيم الرومانسية المشبعة بمفاهيم الكلسيكية الجديدة؛ وهي مفاهيم‬
‫ص الدبي من حيث الموضوعات والمضامين أكثر من تناُولها له‬ ‫تتناول الن ّ‬
‫من حيث الشكل والبنية‪.‬‬

‫وهذا هو الذي حدا بالشيخ إلى تقسيم الدراسات القرآنية إلى فرعين هما‪:‬‬
‫دراسة "ما حول القرآن"‪ ،‬التي تنقسم إلى "عامة" و"خاصة"‪ :‬أما‬
‫مى "علوم القرآن"‪ ،‬كأسباب‬ ‫ةةةةةة فهي تلك الدراسات التي ُتس ّ‬
‫النزول‪ ،‬والمكي والمدني‪ ،‬والجمع والترتيب والقراءة‪ ،‬إلخ؛ والدراسات‬
‫ةةةةةة حول القرآن هي تلك الدراسات التي تتجاوز "علوم القرآن"‬
‫التقليدية إلى ذلك النمط من الدراسة التاريخية والجتماعية الذي سبق أن‬
‫تناوله محمد عبده‪ .‬هذه الدراسة العامة تتناول عند الخولي‬

‫ما يتصل بالبيئة المادية والمعنوية التي ظهر فيها القرآن وعاش‪،‬‬
‫من خاطب‪،‬‬ ‫ظ وخاطب أهلها أول َ‬ ‫ف َ‬
‫ح ِ‬
‫رئ و ُ‬‫ق ِ‬ ‫ع وك ُت ِ َ‬
‫بو ُ‬ ‫م َ‬
‫ج ِ‬
‫وفيها ُ‬
‫وإليهم ألقى رسالَته لينهضوا بأدائها وإبلغها شعوب الدنيا‪ .‬فروح‬
‫القرآن عربية‪ ،‬ومزاجه عربي‪ ،‬وأسلوبه عربي‪ ...‬والنفاذ إلى‬
‫مقاصده إنما يقوم على التمثيل الكامل والستشفاف التام لهذه‬
‫الروح العربية‪ ،‬ولذلك المزاج العربي والذوق العربي‪ .‬والتمّثل التام‬
‫لهذه العروبة هو السبيل المتعّينة لفهم ذلك كّله والوصول إليه‪.‬‬
‫ة الكاملة لهذه البيئة العربية المادية‪ ...‬فكل‬
‫ومن هنا لزمت المعرف ُ‬
‫ما يتصل بتلك الحياة المادية العربية وسائل ضرورية لفهم القرآن‬
‫ل ما تتسع له‬ ‫العربي المبين – هذا مع ما يتصل بالبيئة المعنوية‪ ،‬بك ّ‬
‫ض سحيق وتاريخ معروف‪ ،‬ونظام أسرة أو‬ ‫هذه الكلمة من ما ٍ‬
‫ت‪،‬‬‫ون ْ‬
‫ي لون تل ّ‬‫ي درجة كانت‪ ،‬وعقيدة‪ ،‬بأ ّ‬ ‫قبيلة‪ ،‬وحكومة‪ ،‬في أ ّ‬
‫عب‪ .‬فكل ما‬ ‫ّ‬ ‫وتتش‬ ‫تختلف‬ ‫مهما‬ ‫وأعمال‪،‬‬ ‫وفنون‪ ،‬مهما تنوعت‪،‬‬
‫تقوم به الحياة النسانية لهذه العروبة وسائل ضرورية كذلك لفهم‬
‫]‪[61‬‬
‫هذا القرآن العربي المبين‪.‬‬

‫إن تلك الدراسات "حول القرآن"‪ ،‬الخاص منها والعام‪ُ ،‬تعد بمثابة‬
‫الدراسات الضرورية الممّهدة لدراسة النص ذاته‪ ،‬أي للتأويل والتفسير‪.‬‬
‫ص‬
‫وليست هذه الدراسات‪ ،‬في التحليل الخير‪ ،‬إل دراسة لسياق الن ّ‬
‫بالمعنى الشامل التاريخي والجتماعي والثقافي والديني‪ .‬وهنا يتجاوب فكر‬
‫ما مع فكره الدبي‪ ،‬خاصة‬ ‫أمين الخولي في الدراسات القرآنية تجاوًبا تا ّ‬
‫في المنهج الذي طرحه في كتابه عن ةةةةة ةةةةةة )‪ ،(1943‬مرك ًّزا‬
‫على أهمية "البيئة" بالمعنى الواسع الشامل لدرس الدب‪.‬‬

‫بعد هذه الدراسة الساسية الجوهرية‪ ،‬تترتب خطوات عملية التأويل‬


‫والتفسير ترتيًبا ل يختلف كثيًرا عن ترتيب تلك الخطوات عند محمد عبده‪،‬‬
‫مع إضافات تفصيلية شديدة الهمية‪ .‬الخطوة الولى تبدأ بالنظر في‬
‫"المفردات"‪ .‬ويؤكد الخولي‪ ،‬مثل عبده‪ ،‬أنه‬

‫ص القرآني‬ ‫دب إلى فهم ألفاظ هذا الن ّ‬ ‫من الخطأ البّين أن يعمد متأ ّ‬
‫م لهذا التدرج والتغير‬ ‫ما ل يقوم على تقدير تا ّ‬‫الدبي الجليل فه ً‬
‫س حياة اللفاظ ودللَتها‪ ،‬ول على التنّبه إلى أنه إنما يريد‬ ‫الذي م ّ‬
‫ت أول ما‬‫ذلك ليفهم هذه اللفاظ في الوقت الذي ظهرت فيه وت ُل ِي َ ْ‬
‫]‪[62‬‬
‫من حول تاليها الول عليه السلم‪.‬‬ ‫ت على َ‬ ‫ت ُل ِي َ ْ‬

‫لكن هذه المرحلة الولى من الخطوة الولى – خطوة النظر في المفردات‬


‫– ل تعني أن دللة تلك المفردات مرهونة فقط بالستخدام اللغوي خارج‬
‫ة ثانية في‬
‫النص‪ .‬لذلك يضيف الخولي إلى هذه المرحلة الولى مرحل ً‬
‫سر من أن ينتقل إليها في تحليل المفردات‪ :‬تلك هي‬‫التحليل‪ ،‬ل بد ّ للمف ّ‬
‫ةةةةةةةة ةة ةةةةةة ةةةةةة ةةة ةةةةةة ةةةةةةةة ةة‬
‫ةةةةةة‪ .‬وعلى الباحث في هذه المرحلة الثانية أن‬

‫دها ]اللفظة المفردة[ لينظر في ذلك‪ ،‬فيخرج منه برأي عن‬‫يتتّبع ورو َ‬
‫ّ‬
‫استعمالها‪ :‬هل كانت له وحدة اطردت في عصور القرآن المختلفة‬
‫ومناسباته المتغيرة؟ وإن لم يكن المر كذلك‪ ،‬فما معانيها المتعددة‬
‫]‪[63‬‬
‫التي استعملها فيها في عصر نزول القرآن؟‬

‫وكما يؤكد الخولي أن عروبة القرآن – من حيث السلوب والطابع والروح‬


‫– ل تتعارض مع إنسانية مراميه وأهدافه وعالمية رسالته‪ ،‬فإنه بالمثل يؤكد‬
‫ن في استعمالها اللغوي أو القرآني‪ ،‬ليست‬ ‫أن دللة اللفاظ المفردة‪ ،‬إ ْ‬
‫دللة ساكنة‪ ،‬بل هي ةةةةة ةةةةةة ةةةةة‪ .‬لكنه يحذر من عمليات‬
‫سر‪ ،‬لن النمو أو‬‫القفز والسقاط الدلليين‪ ،‬التي يمكن أن يقع فيها المف ّ‬
‫ما في حركته بالدللة الصلية الولى ول‬
‫التطور الدللي لللفاظ مرهون دائ ً‬
‫يصح ول ينبغي أن يفارقها‪:‬‬

‫كر أن خلود هذا الكتاب ورياضته الدائمة للحياة‪ ،‬مع صلته‬ ‫ل ين َ‬


‫الوثقى بها – كل ذلك يهيئ لفهم معاني متجددة أو نامية‪ .‬لكّنا‪ ،‬مع‬
‫سب إلى القرآن من‬ ‫عدم إنكار هذا القدر‪ ،‬نرى أنه ل ينبغي أن ُتن َ‬
‫هذه المعاني إل ما كان طريق فهمه الحس اللغوي للعربية‪ ،‬وسبيل‬
‫]‪[64‬‬
‫النتقال إليه هو دللة اللفظة الولى في عصر نزول القرآن‪.‬‬

‫وإذ تتحقق الخطوة الولى‪ ،‬بمرحلتيها السالفتين‪،‬‬

‫سر الدبي في المركبات؛ وهو في ذلك ‪ -‬ول مرية‪-‬‬ ‫يكون نظر المف ّ‬
‫مستعين بالعلوم الدبية‪ ،‬من نحو وبلغة‪ ...‬والنظر في اتفاق‬
‫معاني القراءات المختلفة للية الواحدة‪ ،‬والتقاء الستعمالت‬
‫المتماثلة في القرآن كّله‪ ...‬على أن النظرة البلغية هي النظرة‬
‫الدبية الفنية التي تتمثل الجمال القولي في السلوب القرآني‪،‬‬
‫سماته‪ ،‬في ذوق بارع قد‬ ‫ق َ‬‫وتتبين معارف هذا الجمال وتستجلي َ‬
‫ما إلى ذلك التأملت‬‫ض ّ‬‫من َ‬‫استشف خصائص التراكيب العربية‪ُ ،‬‬
‫العميقة في التراكيب والساليب القرآنية لمعرفة مزاياها الخاصة‬
‫]‪[65‬‬
‫بها بين آثار العربية‪.‬‬

‫نلحظ هنا أن "علم الساليب" عند محمد عبده يتحول عند الخولي إلى‬
‫أداة للكشف عن أسرار جمال السلوب القرآني‪ .‬إن علوم البلغة التقليدية‬
‫التي حاول الخولي تطويرها في كتابة الهام ةة ةةةةة )‪ ،(1947‬وفي‬
‫سر‬‫مها كتاُبه ةةةةة ةةةةةةة‪ ،‬هي أدوات المف ّ‬ ‫دراسات أخرى سابقة ض ّ‬
‫للكشف عن هذا الجمال – هذا بالضافة إلى أن الغاية من تحليل أساليب‬
‫القرآن والكشف عن جمالياتها هي الوصول إلى سّر "العجاز" الذي يرى‬
‫]‬
‫الخولي أنه "نفسي"‪ ،‬أي أنه قائم على "التأثير" في المتلقي تأثيًرا نفسّيا‪.‬‬
‫‪[66‬‬

‫وهنا كان ل بد ّ للخولي من أن يدرك أن ما يمارسه القرآن من تأثير نفسي‬


‫د‪ ،‬إلى القراءة الموضوعية بحسب‬ ‫دا‪ ،‬ول يمكن أن ي َُر ّ‬
‫جز ليس مردو ً‬
‫مع ِ‬
‫ُ‬
‫ص التي يطلق عليها‬ ‫ترتيب النزول‪ ،‬بل هو تأثير ناتج عن البنية الحالية للن ّ‬
‫القدماء "ترتيب التلوة"‪ ،‬في مقابل "ترتيب النزول" الذي يشير إلى ما‬
‫قبل هذه البنية الحالية‪ .‬لكن هذا الدراك لم يكن ممكًنا له أن يتحقق‬
‫]‪[67‬‬
‫للخولي‪ ،‬لن الوعي به لم يبدأ إل في الخمس والعشرين سنة الخيرة‪.‬‬
‫ذلك أن تلميذ الخولي‪ ،‬بدًءا من بنت الشاطئ ومحمد أحمد خلف الله‬
‫وشكري عياد‪ ،‬ظلوا متمسكين‪ ،‬بدرجات متفاوتة بالطبع‪ ،‬بمنهج وحدة‬
‫الموضوع وترتيب النزول‪.‬‬

‫يبقى‪ ،‬لكشف بعض الجوانب الهامة المتصلة بتصور الخولي للعجاز‬


‫ده على أصحاب نظرية "العجاز العلمي"‬ ‫النفسي‪ ،‬أن نتناول بالتحليل ر ّ‬
‫دا في السنوات‬‫للقرآن‪ ،‬وهي نظرية تحظى بقبول وانتشار واسعين ج ّ‬
‫الخيرة في بعض الدوائر الكاديمية‪ ،‬فضل ً عن سريانها سريان النار في‬
‫الهشيم في وعي العوام وأشباه المثقفين من المسلمين‪ .‬إن الخولي في‬
‫س بأهمية إيراده كامل ً هنا( يش ّ‬
‫دد على ثلث نقاط‬ ‫ح ّ‬
‫هذا الرد ّ )الذي ن ُ ِ‬
‫جوهرية كاشفة عن مفهوم "العجاز النفسي" عنده‪ ،‬أو عن بعض جوانبه‬
‫على القل‪.‬‬

‫‪ -‬النقطة الولى‪ :‬إن القرآن‪ ،‬حين يتناول بعض حقائق الكون‬


‫ومشاهده‪ ،‬إنما يتناولها تناول ً فنّيا‪ ،‬ول يتناولها من ناحية قوانين العلم‬
‫الدقيقة أو نواميس الكون المنضبطة‪.‬‬

‫‪ -‬النقطة الثانية‪ :‬إن هذا التناول لحقائق الكون إنما يعتمد على‬
‫المشهود والمدَرك للناس جميًعا‪ ،‬العامة والخاصة‪ ،‬والعلماء وأنصاف‬
‫ضا‪.‬‬
‫العلماء‪ ،‬بل والجهلء أي ً‬

‫هدة‬‫‪ -‬النقطة الثالثة‪ :‬إن القرآن يتناول هذه الحقائق المشا َ‬


‫والملموسة للناس جميًعا من ناحية وَقِْعها على الحواس‪ ،‬وانفعال‬
‫الناس بها‪ ،‬وما تثيره من روعة في نفوسهم‪.‬‬

‫ويمكن صوغ هذه النقاط الثلث بعبارة أخرى‪ ،‬هي أن القرآن‪ ،‬حين يتناول‬
‫هدة والمدَركة‪ ،‬إنما يتناولها ليثير مخيلة القارئ‪،‬‬
‫بعض حقائق الكون المشا َ‬
‫ً‬
‫دا على ما هو قاّر في تصوراتهم‪ ،‬محّركا لنفعالتهم التي قد تكون‬ ‫معتم ً‬
‫خمدت بحكم اللفة‪ ،‬وذلك كله في أسلوب أدبي مؤثر‪ .‬وهكذا يمكن القول‬
‫إن هذا التناول لظواهر الكون والطبيعة هو نفسه أسلوب تناُول القصص‬
‫في القرآن لهداف دينية وعظية‪ ،‬وليس لرواية التاريخ‪ .‬وهذا هو نص‬
‫الشيخ أمين الخولي‪:‬‬

‫فهم من أن يتجهوا‬ ‫فل ّ‬


‫إن كان ل بدّ لصحاب هذه النوايا ومن ل ّ‬
‫ة الدين للعلم‪ ،‬فلعله يكفي في هذا ويفي أل‬ ‫إليه‪ ،‬ليدفعوا مناقض َ‬
‫ة يكشف‬ ‫ة علمي ً‬ ‫ص صريح يصادم حقيق ً‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫الدين‬ ‫يكون في كتاب‬
‫ب كتاب الدين‬ ‫ُ‬
‫ث أنها من نواميس الكون ون ُظم وجوده – وحس ُ‬ ‫البح ُ‬
‫صا من النقد‪ .‬على‬ ‫ً‬ ‫وخل‬ ‫للعلم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ة‬ ‫ومساير‬ ‫للحياة‪،‬‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫صلحي‬ ‫القدر‬ ‫بهذا‬
‫أني‪ ،‬حين أتسامح بهذا القدر في سبيل إرضاء رغبات هؤلء‬
‫كرهم بأن التناول الفني لحقائق‬ ‫الطّيبي النية‪ ،‬ل أنسى أن أذ ّ‬
‫ة وجدانات‬ ‫مشاهده هو التناول الذي يقصد به الدين رياض َ‬ ‫الكون و َ‬
‫جه لعامتهم وخاصتهم‪ ،‬وعلمائهم وأنصاف علمائهم‪ ،‬بل‬ ‫الناس‪ ،‬و ُ َ ّ‬
‫و‬‫ي‬
‫ضا‪ ،‬كما هي مهمة الدين والغاية من تلوة كتابه بينهم‬ ‫لجهلئهم أي ً‬
‫عا‪ .‬وهذا التناول إنما يقوم على المشهود البادي من ناحية‬ ‫جمي ً‬
‫روعته في الّنفس‪ ،‬ووقعه على الحواس‪ ،‬وانفعال الناس به‪ ،‬ل من‬
‫ناحية دقائق قوانينه ومنضِبط نواميسه في معادلت جبرية أو‬
‫ف لخصائصه وحقائقه‪ .‬وبقيام هذا‬ ‫أرقام حسابية أو بيان جا ّ‬
‫التناول على المشاهد والمدرك بادئ الرأي‪ ،‬والمؤثر في الّنفس‬
‫المثير للنفعال‪ ،‬ل يجب الوفاء به بحماية الحقائق العلمية‬
‫والخصائص المجّربة لهذه العوالم الموصوفة والمناظر التي ل ُيراد‬
‫ولها إل إثارة الشعور بجللها وجمالها ودللتها على عظمة‬ ‫من تنا ُ‬
‫سر في شيء‬ ‫ّ‬ ‫المف‬ ‫التزم‬ ‫ولو‬ ‫لنظامها‪.‬‬ ‫ققة‬ ‫ّ‬ ‫المح‬ ‫لها‪،‬‬ ‫برة‬‫ّ‬ ‫المد‬ ‫القوة‬
‫م كثيًرا‬ ‫ل هذا اللتزا ُ‬ ‫من هذا لتصحيح المقّررات العلمية لخ ّ‬
‫ع الحياة‬ ‫َ‬ ‫ونف‬ ‫قها‬ ‫َ‬ ‫تحقي‬ ‫الدين‬ ‫بالهداف الفنية الوجدانية التي يريد‬
‫بها عن طريق التأمل المتدين والعتبار النفسي العاطفي المريح‪،‬‬
‫]‪[68‬‬
‫قبل ك ّ‬
‫ل شيء آخر‪.‬‬

‫حا أن الشيخ أمين الخولي هو المتداد المعرفي‬ ‫الن‪ ،‬وقد صار واض ً‬
‫ل من محمد عبده وطه حسين على مستوى المنهج‪ ،‬فمن‬ ‫التركيبي لك ّ‬
‫ة له‪ :‬لم يعد‬
‫اللزم بيان طبيعة التحدي الذي ي ُعَد ّ منهج الخولي استجاب ً‬
‫التحدي‪ ،‬في نظر الخولي‪ ،‬هو التحدي الخارجي المتمثل في الوجود‬
‫الوروبي – مادّيا وعقلّيا – في قلب العالم العربي والسلمي‪ ،‬وما يطرحه‬
‫ف إليه ةةةةةة ةةةةةةة‬ ‫هذا الوجود من قضايا ومشكلت‪ ،‬بل أضي َ‬
‫جه منذ إنشاء "جماعة‬ ‫ةةةةةة ةةةةةة‪ ،‬الذي بلغ أوْ َ‬ ‫ةةةةةةة ةة ةةةةة‬
‫الخوان المسلمين"‪ ،‬والذي كان استطاع قبل ذلك كبح جماح مدرسة‬
‫"التأويل" على مذهب الخلف في معركَتي ةةةةةةة ةةةةة ةةةةة‬
‫وفي ةةةةة ةةةةةةة‪.‬‬

‫يحاول منهج الخولي أن يستعيد لهذا التيار حيويته على مستوى قضايا‬
‫التجديد‪ ،‬بصفة عامة‪ ،‬وعلى مستوى تأويل القرآن‪ ،‬بصفة خاصة‪ .‬من هنا‬
‫ت علماء‬ ‫يضيف إلى وعي محمد عبده بالتراث المعتزلي والرشدي إنجازا ِ‬
‫أصول الفقه في مجال التحليل اللغوي‪ ،‬لستثمار الحكام من النصوص عن‬
‫طريق وحدة الموضوع وترتيب النزول؛ ويضيف إلى منهج طه حسين‬
‫"اللغوي الفني" أبعاًدا من نظرية الدب عن تأثير البيئة وعن التأثير‬
‫ة تيار "التأويل"‬‫النفسي للدب في القارئ‪ .‬وفي ذلك كّله‪ ،‬لم ُتفارق محن ُ‬
‫ة ةةةة ةةةةةة‬ ‫ت بها إلى السطح محن ُ‬ ‫ن دفع ْ‬ ‫دا‪ ،‬وإ ْ‬
‫ي أمين الخولي أب ً‬
‫وع َ‬
‫ت تحت إشراف الخولي‪.‬‬ ‫ُ‬
‫جَز ْ‬
‫ةة ةةةةةة‪ ،‬الرسالة التي أن ِ‬
‫ت الجامعة‬ ‫في مقدمته للطبعة الولى لكتاب ةةةة ةةةةةة‪ ،‬الذي رفض ْ‬
‫منح صاحبه درجة الدكتوراه‪ – ،‬بل وفصلْته من السلك الجامعي‪ – ،‬يكشف‬
‫الخولي لنا عن أهمية منهجه في القضاء على "الزدواج" في شخصية‬
‫المثقف المسلم‪ ،‬الذي يؤمن بالقرآن وصحته من ناحية عواطفه ومشاعره‬
‫الدينية‪ ،‬وهو كذلك يثق في العلم وإنجازاته من ناحية الفكر والعقل‪ .‬وفي‬
‫م إلى طه‬‫إشارة واضحة صريحة إلى كتاب ةة ةةةةة ةةةةةةة‪ ،‬ومن ث َ ّ‬
‫حسين‪ ،‬يقّرر الخولي أن‬

‫الدراسة الفنية المتجددة للقرآن‪ ،‬كتاب العربية الكبر‪ ،‬والمستفيدة‬


‫دم‬ ‫من التقدم الفني والعقلي والجتماعي‪ ،‬تنتهي إلى أن يتق ّ‬
‫سُبها أن‬ ‫ح ْ‬‫التفسيُر الدبي للقرآن خطوة للمام بعيدة الثر‪ ،‬خطوة َ‬
‫ّ‬
‫ج الشخصية في المتدين – ذلك الزدواج الذي يتجلى‬ ‫تمنع ازدوا َ‬
‫قا مؤمًنا‪ ،‬ثم يدرك ويقّرر‪ :‬إن‬ ‫ف بالسلم‪ ،‬واث ً‬ ‫حين يتدين مثق ٌ‬
‫دث عن الشياء والواقعات بما يشاء‪،‬‬ ‫السلم وكتابه القرآن يح ّ‬
‫ويستغلها في ترويج الدعوة السلمية كما يشاء‪ ،‬دون أن يكون‬
‫ع به في مصر منذ‬ ‫ف َ‬
‫ما للمؤمنين‪ .‬وهو ما أذيع وتقّرر ودُ ِ‬ ‫ز ً‬
‫مل ِ‬ ‫ح ّ‬
‫قا ُ‬
‫]‪[69‬‬
‫ثلث قرن في أزمة ييييي ييييييي‪.‬‬

‫مل بالتفسير ل التبرير‪ ،‬لطه‬


‫هذا الوصف المشّبع بالنقد‪ ،‬أو النقد المح ّ‬
‫حسين ولطروحته عن القرآن في كتاب ةة ةةةةة ةةةةةةة‪ ،‬يكشف‬
‫م من وجوه التحدي الذي يرى الخولي أن منهج "التفسير‬ ‫عن وجه ها ّ‬
‫ل مشكل "الزدواج" في المثقف‬ ‫الدبي" قادر على مواجهته وعلى ح ّ‬
‫المتدين‪ .‬وهنا تتقدم أطروحة محمد عبده عن "القصص القرآني" والتاريخ‪،‬‬
‫ة بأدوات منهج التحليل الدبي وإجراءاته‪ ،‬لكي تكون دواء ناجًعا‬
‫عم ً‬
‫مد ّ‬
‫لمرض "الزدواج"‪ .‬يقول الخولي – مشيًرا بالطبع إلى ةةةة ةةةةةة‬
‫ومدافًعا عنه حتى الستعداد لللقاء في النار‪ ،‬على حد ّ تعبيره في المقدمة‬
‫نفسها‪:‬‬

‫وعلى هذا الساس‪ ،‬يستطيع المثقف الراقي‪ ،‬حين يتدين‪ ،‬أن‬


‫يعتقد في تسليم مطمئن بحديث القرآن الفني في قصصه‪ ،‬ومع‬
‫قق ويحّلل في عمق ووضوح تاريخ هاتيك الحداث‪،‬‬ ‫ذلك‪ ،‬يح ّ‬
‫ص أصحابها‪ ،‬وينفي في ذلك ويثبت‪ ،‬مطمئًنا إلى أن هذا لن‬ ‫وأشخا َ‬
‫يصادم بحال ذلكم العرض الفني الخر‪ ،‬وأن هذا العرض الفني‪،‬‬
‫قه‪.‬‬‫ة القرآن وصد َ‬‫س سلم َ‬‫مهما يقل التاريخ في أحداثه‪ ،‬لن يم ّ‬
‫وهكذا ل يضطر العالم المؤمن إلى أن يعالن العالم وأهله بأن‬
‫للقرآن أن يقول ما يشاء‪ ،‬وأن يستغل الحداث كما يشاء‪ ،‬دون أن‬
‫زمنا ذلك بشيء‪ ،‬لننا مؤمنون بوجداننا‪ – ،‬ثم باحثون بعقلنا‪– ،‬‬ ‫ُيل ِ‬
‫عا‪ .‬لن يقول‬ ‫وفي أنفسنا هذان التياران المتخالفان والمتجاوران م ً‬
‫المستنير ذلك‪ ،‬بل سيقول‪ ،‬بعد أن يفهم خطة الدرس الفني‬
‫لقصص القرآن الكريم‪ :‬إن للقرآن أن يسلك من السُبل الفنية في‬
‫عرضه لقصص السابقين ما يشاء‪ ،‬دون أن يقصد إلى مساس‬
‫التاريخ بشيء‪ ،‬لنه إنما يعرضها العرض الفني الذي ل يقوم على‬
‫التفاصيل أو الروايات والتحديات‪ ،‬بل يقصد ما قّرر أن يقصده‬
‫عْبرة‪ :‬لقد كان في قصصهم عبرة لولي‬ ‫بصراحة‪ ،‬أل وهو ال ِ‬
‫]‪[70‬‬
‫اللباب‪.‬‬

‫‪ .5‬خاتمة‬

‫ما قانون "التحدي والستجابة" في‬‫قا بإزاء "إشكالية" يحكمها دائ ً‬


‫ألسنا ح ّ‬
‫سياق التطور الجتماعي والثقافي والفكري للعقل السلمي؟ ثم أليست‬
‫تلك إشكالية "تأويل"‪ ،‬ل مجرد مشكل شرح مفردات بالترجمة والتفسير؟‬
‫دا‪ ،‬والصراع بين طرفي "السلف"‬ ‫وأخيًرا‪ ،‬أليست الشكالية تزداد تعقي ً‬
‫و"الخلف" يزداد حدة وضراوة‪ ،‬ويرحل كثيًرا عن تاريخه الطويل بوصفه‬
‫عا فكرّيا ثقافّيا‪ ،‬ليتحول إلى صراع دموي؟!‬‫صرا ً‬

‫لعل هذا العرض أن يكون محاولة لفتح باب الفكر وإغلق أبواب القتل‪.‬‬
‫قا لنجازات المعرفة المتنامية في مجال‬ ‫ولعل تطوير منهج الخولي‪ ،‬وف ً‬
‫العلوم النسانية )خاصة اللسنية والتأويلية(‪ ،‬أن يمثل تجاوًُزا لحالة الركود‬
‫في مجال الدراسات القرآنية – ذلك الركود الذي لم تستطع جهود مدرسة‬
‫ما لهل‬‫ده تما ً‬‫ل قيا َ‬ ‫الخولي – لسباب كثيرة – أن تتخ ّ‬
‫طاه‪ ،‬فأسلم المجا ُ‬
‫السلف المعاصرين – والبون بينهم وبين أسلفهم شاسع‪ ،‬كما هو البون‬
‫بين البداع والتكرار‪ ،‬بين الصالة والنقل‪ ،‬وبين الفادة والعادة‪.‬‬

‫*** *** ***‬

‫تنضيد‪ :‬نسرين الحمد‬


‫]‪[29‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد الول‪ ،‬ص ‪.271‬‬

‫]‪[30‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد الرابع‪ ،‬ص ‪.42‬‬

‫]‪[31‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد الرابع‪ ،‬ص ‪.7‬‬

‫]‪[32‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد الول‪ ،‬ص ‪.271‬‬

‫]‪[33‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد الول‪ ،‬ص ‪.330-329‬‬

‫]‪[34‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد الول‪ ،‬ص ‪.234-233‬‬

‫]‪[35‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد الول‪ ،‬ص ‪.215‬‬

‫]‪[36‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬ص ‪.48-47‬‬

‫]‪[37‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد الرابع‪ ،‬ص ‪93-92‬؛ وانظر كذلك‪ :‬المجلد التاسع‪ ،‬ص ‪.511-506‬‬

‫]‪[38‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد الرابع‪ ،‬ص ‪.93‬‬

‫]‪[39‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد التاسع‪ ،‬ص ‪.511‬‬

‫]‪[40‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد الرابع‪ ،‬ص ‪.93‬‬

‫]‪[41‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد التاسع‪ ،‬ص ‪.511‬‬

‫]‪[42‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد‪ ،‬الول‪ ،‬ص ‪.210‬‬

‫]‪[43‬‬
‫السابق‪ ،‬المجلد الول‪ ،‬ص ‪.211‬‬

‫]‪[44‬‬
‫السابق نفسه‪.‬‬

‫ة‪ ،‬فالحقيقة أنها كذلك‪ :‬لقد كان الستاذ‬ ‫]‪ [45‬إذا كانت قصة أمين الخولي ل تبدو لبعضهم دامي ً‬
‫المشرف على رسالة الدكتوراه ةةةة ةةةةةة ةة ةةةةةة للطالب محمد أحمد خلف الله‪،‬‬
‫خل الزهر والحكومة‪ ،‬حتى‬ ‫عا خرج من الجامعة إلى الحياة العامة‪ ،‬فتد ّ‬ ‫وهي رسالة أثارت نزا ً‬
‫ب من الجامعة سنة ‪ .1949‬وبعد خمس سنوات‪ ،‬تم فصل الستاذ‬ ‫ل الطال ُ‬ ‫ة وفُ ِ‬
‫ص َ‬ ‫ُألغِي َ ِ‬
‫ت الرسال ُ‬
‫م‬
‫حر ِ َ‬
‫ف باسم "حركة التطهير"‪ ،‬بعد أن كان قد ُ‬ ‫ضا‪ ،‬فيما عُرِ َ‬
‫الشيخ أمين الخولي من الجامعة أي ً‬
‫من حقّ الشراف على الرسائل الجامعية المتصلة بالدراسات القرآنية بقرار من إدارة‬
‫دا من طلب الخولي النابهين – هو شكري عياد – قد‬ ‫الجامعة‪ .‬ومن الجدير بالذكر أن واح ً‬
‫اضطر في دراسته للدكتوراه إلى تغيير التخصص من "الدراسات القرآنية" إلى "الدراسات‬
‫البلغية" لكي يحظى بشرف الستمرار تحت إشراف أمين الخولي وتوجيهه‪.‬‬

‫]‪ [46‬انظر مقدمة المؤّلف لكتاب ةةةةةةة ةةةةة ةةةةة‪ ،‬المترجم عن التركية‪ ،‬طب ‪ ،2‬دار‬
‫نهر‪ ،‬القاهرة‪.1995 ،‬‬

‫]‪[47‬‬
‫ةة ةةةةة ةةةةةةة‪ ،‬طب ‪ ،2‬دار نهر‪ ،‬القاهرة‪ ،1995 ،‬ص ‪.20‬‬
‫]‪[48‬‬
‫السابق‪ ،‬ص ‪.26‬‬

‫]‪[49‬‬
‫السابق نفسه‪.‬‬

‫]‪[50‬‬
‫السابق‪ .‬ص ‪.33‬‬

‫]‪[51‬‬
‫السابق‪ ،‬ص ‪.35‬‬

‫]‪[52‬‬
‫السابق‪ ،‬ص ‪.33‬‬

‫]‪[53‬‬
‫السابق نفسه‪.‬‬

‫]‪[54‬‬
‫ما – مع رسالة محمد أحمد خلف الله‬‫وكما سيفعلون ذلك مرة ثالثة – ولكن بعد عشرين عا ً‬
‫ما‬
‫ةةةة ةةةةةة ةة ةةةةةة‪ .‬ثم تتكرر المأساة مرة رابعة بعد حوالى خمسة وأربعين عا ً‬
‫على المأساة الثالثة!‬

‫]‪ [55‬ط ُب ِعَ طبع ً‬


‫ة مستقلة في دار نهر بالقاهرة‪ ،‬ثم طبعْته مجلة ةةةةةةة في أحد أعدادها )مايو‬
‫‪.(1995‬‬

‫]‪[56‬‬
‫ةةةةة ةةةةةةة‪ ،‬ص ‪.304‬‬

‫]‪[57‬‬
‫ةةةةة ةةةةةةة‪ ،‬ص ‪.303-302‬‬

‫]‪ [58‬هذا ما حدث مع التلميذة الولى من تلميذ الخولي )وزوجته بعد ذلك(‪ ،‬د‪ .‬بنت الشاطئ‪ ،‬في‬
‫ةةةةةةة ةةةةةةة ةةةةةة‪ ،‬الذي يكاد من الناحية المنهجية أل يتجاوز حدود علم البلغة‬
‫الكلسيكي‪.‬‬

‫]‪[59‬‬
‫ةةةةة ةةةةةةة‪ ،‬ص ‪) 310‬الحاشية(‪.‬‬

‫]‪[60‬‬
‫السابق‪ ،‬ص ‪.306‬‬

‫]‪[61‬‬
‫السابق‪ ،‬ص ‪.310‬‬

‫]‪[62‬‬
‫السابق‪ ،‬ص ‪.310‬‬

‫]‪[63‬‬
‫السابق‪ ،‬ص ‪.314-313‬‬

‫]‪[64‬‬
‫السابق‪ ،‬ص ‪) 312‬الحاشية(‪.‬‬

‫]‪[65‬‬
‫السابق‪ ،‬ص ‪.315-314‬‬

‫]‪[66‬‬
‫انظر‪ :‬ص ‪ 203‬من المصدر السابق‪.‬‬

‫]‪[67‬‬
‫لعل دراسات محمد أركون خير تعبير عن هذا الدراك الن‪.‬‬

‫]‪[68‬‬
‫انظر‪ :‬ص ‪ 295-294‬من المصدر السابق‪.‬‬

‫]‪ [69‬ةةةة ةةةةةة ةة ةةةةةة ةةةةةة‪ ،‬مكتبة النجلو المصرية‪ ،‬طب ‪) 1972 ،4‬المقدمة‬
‫بقلم أمين الخولي(‪ ،‬ص د‪.‬‬
‫]‪[70‬‬
‫السابق‪ ،‬ص هـ‪.‬‬

‫***‬

‫تنضيد‪ :‬نسرين أحمد‬

‫عن موقع معابر‬

‫]‪ [1‬السيوطي )عبد الرحمن جلل الدين(‪ ،‬ةةةةةةة ةة ةةةة ةةةةةة‪ ،‬مكتبة مصطفى‬
‫البابي الحلبي‪ ،‬ط ‪ ،3‬القاهرة‪ 1370 ،‬هـ‪ 1951/‬م‪.‬‬

‫]‪ [2‬انظر‪ :‬محمد بن جرير الطبري‪ ،‬ةةةةة ةةةةة ةةةةةةة‪ ،‬بتحقيق محمد أبو الفضل‬
‫إبراهيم‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪ ،1979 4‬الجزء الخامس‪ ،‬ص ‪ ،49-48‬وكذلك ص ‪.66‬‬

‫]‪ [3‬الطبري‪ ،‬ةةةة ةةةةةة ةة ةةةةة ةة ةةةةةة‪ ،‬بتحقيق محمود محمد شاكر‪ ،‬دار‬
‫المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،1971 ،‬الجزء السادس‪ ،‬ص ‪.198‬‬

‫]‪[4‬‬
‫سورة عبس )رقم ‪ ،(80‬الية ‪.31‬‬

‫]‪[5‬‬
‫سورة النعام )رقم ‪ ،(6‬الية ‪.82‬‬

‫]‪[6‬‬
‫سورة لقمان )رقم ‪ ،(31‬الية ‪.13‬‬

‫]‪ [7‬ةةةةةة ةة ةةةةة ةةةةةةة ةةةةة ةةةةةةةة ةة ةةةة ةةةةةةة‪ ،‬وبهامشه‬


‫منه ةةةةةة من العتزال" لحمد بن محمد السكندراني المالكي‪ ،‬مكتبة‬
‫"النتصاف فيما تض ّ‬
‫مصطفى البابي الحلبي‪ ،‬ط ‪.1966 ،3‬‬

‫]‪[8‬‬
‫انظر‪ :‬السيوطي‪ ،‬ةةةةةةة ةة ةةةة ةةةةةة‪ ،‬نوع "أسباب النزول"‪.‬‬

‫]‪ [9‬انظر‪ :‬محمد عابد الجابري‪ ،‬ةةةة ةةةةة ةةةةةة‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫ط ‪ .1989 ،4‬وفيما يتصل بمنهج المعتزلة في التأويل‪ ،‬انظر دراستنا‪ :‬ةةةةةةة ةةةةةة ةة‬
‫ةةةةةةة‪ :‬ةةةةة ةة ةةةة ةةةةةة ةة ةةةةةة ةةة ةةةةةةةة‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬ط ‪،3‬‬
‫‪.1993‬‬

‫]‪ [10‬الخياط )أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان(‪ ،‬ةةةةةةةة ةة ةةةة ةةة ةةة‬
‫ةةةةةةةة‪ ،‬بتحقيق نيبرج‪ ،‬المطبعة الكاثوليكية‪ ،‬بيروت‪ ،1957 ،‬ص ‪.14-13‬‬

‫]‪ [11‬انظر‪ :‬القاضي عبد الجبار أبو الحسن السدآبادي‪ :‬ةةةةةة ةةةةةة‪ ،‬بتحقيق عبد الكريم‬
‫عثمان‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬ط ‪ ،1‬القاهرة‪ ،1966 ،‬ص ‪.36-35‬‬

‫]‪ [12‬انظر‪ :‬الطبري‪ :‬ةةةة ةةةةةة‪ ،‬بتحقيق شاكر )سبقت الشارة إليه(‪ ،‬الجزء الول‪ ،‬ص‬
‫‪431-428‬؛ وانظر كذلك المجلد الحادي عشر‪ ،‬مطبعة الريان‪ ،‬القاهرة )مصورة عن طبعة‬
‫بولق قديمة(‪ ،‬ص ‪.483-482‬‬
‫]‪ [13‬انظر‪ :‬ابن رشد‪ ،‬ةةة ةةةةةة ةةةة ةةة ةةةةةة ةةةةةةةة ةة ةةةةةةة‪ ،‬بتحقيق‬
‫محمد عمارة‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،1972 ،‬ص ‪.32‬‬

‫]‪[14‬‬
‫انظر نماذج لهذا الخلف في كتابنا السابق الشارة إليه في الحاشية ‪ ،9‬ص ‪.78‬‬

‫]‪[15‬‬
‫انظر‪ :‬ابن تيمية‪ ،‬ةةةةة ةة ةةةة ةةةةةةة‪.‬‬

‫]‪[16‬‬
‫شَر الكتاب بتصحيح زكريا علي يوسف‪ ،‬مطبعة المام‪ ،‬القاهرة‪ 1380 ،‬هـ‪.‬‬
‫نُ ِ‬

‫]‪ [17‬نقل ً عن‪ :‬مصطفى عبد الرزاق‪ ،‬ةةةةة ةةةةةة ةةةةةةة ةةةةةةةةة‪ ،‬مكتبة النهضة‬
‫المصرية‪ ،‬ط ‪ ،1966 ،3‬ص ‪.86-85‬‬

‫]‪[18‬‬
‫ما بين علمات التنصيص أسماء كتب لمحمد عبده‪ ،‬سنحيل إلى بعضها فيما يلي‪.‬‬

‫]‪[19‬‬
‫تفسير طنطاوي الجوهري‪ ،‬ةةةةة ةةةةةةة‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دون تاريخ‪.‬‬

‫]‪[20‬‬
‫تفسير ةةةةةة‪ ،‬المجلد الول‪ ،‬ص ‪.21‬‬

‫]‪ [21‬أمين الخولي‪ ،‬ةةةةة ةةةةةةة ةة ةةةةة ةةةةةةةة ةةةةةةةة ةةةةةة‪ ،‬دار‬
‫المعرفة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪.1961 ،3‬‬

‫]‪[22‬‬
‫ةةةةة ةةةةةةة‪ ،‬ص ‪.302‬‬

‫]‪[23‬‬
‫ةةةةة ةةةةةةة‪ ،‬ص ‪.303-302‬‬

‫]‪[24‬‬
‫تفسير ةةةةةة‪ ،‬المجلد الول‪ ،‬ص ‪.19‬‬

‫]‪[25‬‬
‫السابق‪ ،‬ص ‪.20‬‬

‫]‪[26‬‬
‫السابق‪ ،‬ص ‪.21-20‬‬

‫]‪[27‬‬
‫السابق‪ ،‬ص ‪.21‬‬

‫]‪[28‬‬
‫السابق نفسه‪.‬‬

You might also like