Professional Documents
Culture Documents
هذا هو الكتاب الثالث في سلسلة " دراسة تراثنا الفكري " التي يصدرها
الدكتور نصر حامد أبوزيد الستاذ بقسم اللغة العربية في جامعة
القاهرة ،والتي بدأها بكتابه " التجاه العقلي في التفسير " ،ثم أردفها
بكتابه الثاني "فلسفة التأويل " .وكان تركيزه في هاتين الدراستـين
السابقتين ينصـب على الفـاق الفكرية والمعـرفية التي تبدأ منها
عمليات التفسير والتأويل.
يركز المؤلف في هذه الدراسة الثالثة على جانب النص ذاته وعلقة المفسر به
وجدله معه ،وذلك في محاولة لكتشاف مكونات النص وآلياته الخاصة ،ودوره اليجابي
في عملية التأويل ،وهي محاولة تهدف إلى إعادة التوازن بين طرفي عملية التأويل
وهما النص والمفسر فل يهدر أحدهما على حساب الخر كـما يحدث أحيانا في فلسفة
التأويل المعاصرة.
والبحث عن " مفهـوم النص " عنـد المؤلف ليس مجرد رحلة فكرية في
التراث ،ولكنه فوق ذلك بحث عن " البعد " المفقود في هذا التراث ،وهو البعد الذي
يمكن أن يساعـدنا على القتراب من صياغة " الوعي العلمي " بهذا التراث .ول يأتي
ذلك للبـاحث في -القرآن إل حين يعتمد أساسا على دراسة أدبيـة لكتاب العربية
الوحـد دراسة صحيحـة مفهمة له .فهذه الدراسة هي الكفيلة بتحقيق " وعي علمي "
نتجاوز به مـوقف " التوجيـه اليديـولوجي " السـائد في ثقافتنا وفكرنا .والبحث عن
هذا المفهوم وبلورته وصياغته ل يمكن أن يتم بمعزل عن إعادة قراءة " علوم القرآن
" قراءة جديدة باحثة منقبة.
ويرى المؤلف أن التركيز على وظيفة ما لنص من النصوص -دون غيرها من
الوظائف الممكنة والمحتملة لهذا النص -يرتبط بالتجاه العام السائد المسيطر على
الثقـافة في حركتها الجدليـة مع الواقع الذي تصوغـه وتعبر عنه .وقد فرضت بعض
التجاهات السائدة عبر تاريخنا السلمي عزلة على " النص " الديني عن حركة الواقع
في كثير من الحيان بأن أغلقت على المفكـرين "باب الجتهاد " ،بعد أن كـانت "
الشريعة " و " علوم القرآن " بوجـه عام تصوغ نفسها مع حركة الـواقع السلمي في
تطوره .وأوضح دليل على ذلك ما نراه من اختلف النص القرآني من حيث مضمونه
وأسلوبه في مرحلته " المدنية " عنه في مرحلته " المكية " :المرحلة الولى هي
مرحلـة تأسيس " مجتمع " جديد نقيض للمجتمع السائد المسيطر في " مكة "،
والمرحلة الثانية هي مرحلـة " البناء الجتماعي " وتقنين هذا البناء .وليس هذا كلـه-
في التحليل الخير -سوى تعميق لمفهوم " الديـن " يقصره على الشعائر والعبادات،
في حين أن " الدين " مفهوم ثقافي عام يتجـاوز حـدود العقائد والشعائر.
هل يوجد نص مطلق؟
والتجاه السلفي في العصر الحديث هو الذي يطالب بتطبيق " نص مطلق "
على " واقع مطلق " .وفي المقابل هناك تيار " التجديد " الذي ل يتقبل " التراث "
القديم كـما هو ،وإنما يريد أن يضع صياغة جديدة لهذا التراث ،بطرح ما ل يلئم
عصرنا ،وبتأكيد الجوانب اليجابية في هـذا التراث ووضعها في اللغة المناسبـة
لعصرنـا .فالتراث ليس له وجـود مستقل عن واقع حي يتغير ويتبـدل يعبر عن روح
العصر ،وتكـوين الجيل ،ومرحلة التطور التاريخي .ول مندوحـة للباحث عن الختيار بين
التجاهات المختلفة ،ذلك الختيار الذي يحدده موقف الباحث مـن الواقع الذي يعيش
فيـه بوصفه شرطا أوليا للتجـديد .ومطلب التجـديد على وجاهته وأهميته إذا لم يستند
إلى فهم " علمي " للصول الموضوعية التي قـام التراث على -أساسها كفيل بأن
يؤدي إلى تكريس أشد عناصر التراث تخلفا ،إلى جانب أنه يساند -دون وعي -أشد
القوى سيطرة وهيمنة ورجعية في الواقع الراهن.
وعلى هذا يكـون المؤلف قد أوضح الهدف من هذه الدراسة .وهما في الـواقع
هدفان :أما أولهما فهو إعادة ربط الدراسات القرآنية بجمال الـدراسات الدبية
والنقدية بعد أن انفصلـت عنها في الوعي الحديث والمعـاصر نتيجـة لعـوامل كثيرة
أدت إلى الفصل بين محتوى التراث وبين مناهج الدرس العلمي ،وصارت الدراسات
السلمية نتيجـة لذلك مجال حائرا بين التخصصات الكاديمية .أو بعبارة أخرى هي
امتداد لمحاولت سبقتها في النظر إلى التراث ودراسته من منظور وعينا المعاصر.
وأما الهدف الثاني فيتمثل في محاولة تحديد مفهوم " مـوضـوعي " للسلم،
مفهوم يتجـاوز الطروح اليديولوجية من القوى الجتماعية والسياسية المختلفة في
الواقع العربي السلمي .إذ يرى الباحث إن إعادة طرح السؤال :ما هو السلم؟ من
خلل البحث عن مفهوم للنص هو بمثابة التساؤل عن هويتنا الحضارية في التاريخ،
سواء كنا مسلمين أم كنا مسيحيين مادمنا نعيش واقع هذه الثقافة العربية السلمية
بمكـوناتها التاريخية.
ويذهب المؤلف في معرض حديثه عن المنهج الذي اتبعه في كتابه إلى أن هذه
الدراسة تنطلق مـن مجموعة الحقائق التي صاغتها الثقافة العربية حول النص القرآني
من جهة ،كـما أنها تنطلق من المفـاهيم التي يطرحها النص ذاته عن نفسه من جهة
أخرى .وقد اختار النص اللغـة التي يخاطب بها الناس عن طريق الوحي الذي استقبله
خـاتم النبيين والمرسلين .ولما كانت اللغة هي من أهم أدوات الجماعة في إدراك
العالم وتنظيمه ،فل يمكن أن نتحـدث عن هذه اللغة بوصفها مفارقـة للثقـافـة
والـواقع ،ول يمكـن من ثم أن نتحـدث عن " نص " مفارق للثقافـة والواقع أيضا ما دام
أنـه نص داخل إطار النظام اللغوي للثقافة .إن ألـوهية مصدر النص ل تنفي واقعيـة
محتـواه ،ول تنفي من ثم انتماءه إلى ثقافة البشر .ولما كانت العلقة بين النص
والثقافة عـلقـة جـدليـة معقـدة تتجاوز كـل الدعـاوى اليديولـوجيـة في ثقافتنا
المعاصرة عن النص ،ومن أجل الكشف عن بعـض جـوانب هذا التـداخل بين النص
والثقافة ،اعتمدت هذه الدراسة بصفة أساسية على المدخل اللغوي.
تشكل النص
كـما اعتمدت بصفة أساسية أيضا على أن " النص" موضع الدراسة لم ينزل
كـامل ونهائيا في لحظة واحدة ،بل كـان نزوله خـلل فترة زادت على العشرين عاما.
ومعنى ذلك أنه " تشكـل" في هـذه الفترة ليكون له وجـود متعين في الـواقع والثقافـة
بقطع النظر عن أي وجود سابق لـه في العلم اللهي أو في اللوح المحفوظ .وهذا هو
المنهج الول في هذه الدراسة الذي يبدأ من المطلق والمثالي في حركـة هابطة إلى
الحسي والمتعين .أما المنهج الثاني فهو حركة صاعدة تبدأ من الحسي والعيني صعودا.
يبدأ من الحقائق والبديهيات ليصل إلى المجهول ويكشف عما هو خفي.
إن محاولة البحث عن مفهوم للنص سعي لكتشاف العلقات المركبة لعلقـة
النص بالثقـافـة من حيث تشكله بها أول ،وعلقته بها من حيث تشكيله لها ثانيا.
فالتشكل والتشكيل هما موضـوع الباب الول من هذه الدراسة .وهذا الباب ينقسم
إلى فصول خمسة هي على التوالي :مفهوم الوحي ،المتلقي الول للنص ،المكي
والمدني ،أسباب النزول ،ثم الناسخ والمنسوخ .ويأتي الباب الثاني عن " آليات النص "
من حيث علقته بالنصوص الخرى في الثقافة من جهة ،ومن حيث آلياته في إنتاج
الدللة من جهة أخرى .ويضم هذا الباب أيضا خمسة فصول هي على التوالي :العجاز،
المناسبة بين اليات والسـور ،الغموض والوضوح ،العام والخاص ،والتفسير والتأويل.
وفي الباب الثالث والخير يكشف المؤلف عن التحـول الذي أصـاب مفهوم النص
ووظيفته والذي صارت له السيادة في الثقافة العربية السلمية حتى عصورها الحديثة.
.ويمثلها " أبو حـامد الغزالي " بوصفـه المفكر الذي التقت عنده تيـارات الفكـر
الديني واتجاهـاته على المستويين الرسمي والشعبي .وهو في هذه الوقفة مع "
الغزالي " يستهدف الكشف عن أسباب بداية عزل النص عن الواقـع وعن حركـه
الثقافـة من جهة ،والكشف عن جـذور كثير من الفكـار والمفـاهيم الشائعة في
الخطاب الديني المعاصر من جهة أخرى باستخدام أساليب الدرس العلمي الحديث.
بعد هذا التمهيـد الوافي لمنهج الدراسة وأهدافها وملمحها العامة ،ينطلق
المؤلف سعيا وراء المواطن التي يلتقي فيها الـوحي بالـواقع ،من حيث إن الوحي في
اللغـة العـربية كلمـة تتضمن معـاني " اللهام " و " الشارة " و " اليماء " و " الكتابة
" و " الكلم " ،وهذه المعاني كلها يستوعبها معنى " العلم " ،بشرط أن يكون هذا
العلم خفيا سريا .وكذلك فإن مفهوم الوحي يتضمن مفهوم " الشفرة " .وقد كان
قبول العقل العربي لمفهوم الـوحي هـو ما ارتبط في اعتقاده بإمكـان التصال بين
البشر والجن عن طـريق ظاهرتي "الشعر والكهانة " .وهذا الرتباط هو الساس
الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها .لذلك ل نجد من العرب المعاصرين لنزول القرآن
اعتراضا على ظاهرة الوحي ذاتها ،بل انصب العتراض إمـا على مضمون كـلم الـوحي
أو على شخص الموحى إليـه .وعلى أسـاس تصـور هذا التصال بين البشر وعالم الجن
أو العـوالم الخرى أمكن تفسير ظاهرة النبوة ذاتها من خـلل نظرية الخيال عند
الفلسفة والمتصوفة.
وينبغي بداية أن نفهم النص من حيث هو رسالة لغوية ،أو " تنزيل " إلى الناس
عبر وسيطين :الول الملك ،والوسيط الثاني محمـد البشر .إنها رسالة السماء إلى
الرض ،ولكنها ليست رسالة مفارقـة لقوانين الواقع بكل ما ينتظم في هذا الـواقع من
أبنية وأهمها البنـاء الثقافي .إن المطلق يكشف عن نفسـه للبشر " يتنزل " إليهم
بكلمه عبر نظامهم الدللي الثقافي.
وتنجلي علقة النص بالثقافة والواقع بالنظر إلى " تحنف " الرسول قبل نزول
الوحي ،هذا " التحنف " الذي يمكن أن نعتبره بحثا عن " دين إبراهيـم " الذي يحقق
للعرب هـويتهم من جهة ،ويعيد تنظيم حياتهم على أسس جديدة من جهة أخرى .وكان
" السلم " هو الدين الذي جاء يحقق هذه الهداف .فمن حيث هو دين يرد نفسه
للحنيفية ملة إبراهيم -كان تجاوبا مع حاجة الواقع ،وهـي الحاجة التي عبر عنها الحناف
وكان محمد واحـدا منهم ،تجسدت في داخله أحلم الجـماعة البشرية التي ينتمي إليها،
إنسان ل يمثل ذاتا مستقلة عن حركة الواقع ،بل إنسان تجسدت في أعماقه أشواق
الواقع وأحلم المستقبل.
التفرقة بين المكي والمدني
ولقد كانت التفرقة بين المكي والمدني في النص تفرقة بين مرحلتين مهمتين
ساهمتا في تشكيل النص سواء على مستوى المضمون أو على مستوى التركيب
والبناء .وليس لذلك من دللة سوى أن النص ثمرة للتفاعل مع الـواقع الحي التـاريخي.
إذا كان علم " المكي والمدني " يكشف عن الملمح العامة لهذا التفاعل ،فإن علم
"أسباب النـزول " يكشف عن تفاصيـل هذا التفاعل ،ويكاد يزودنا بالمراحل الدقيقة
لتشكيل النص في الواقع والثقافـة .وأسلوب التنجيم -أي نزول القرآن منجما -في
الشريعـة يتضمن معنى الـواقعيـة ،والتدرج بالنسان وإعانته شيئا فشيئا على التخلي
عن الجاهليـة وعاداتها المستحكمة فيه والتحلي بالسـلم وفضائل أخلقه .والتفرقة
بين المكي والمدني هي تفرقة بين " النذار " و" الـرسالـة " " :النـذار " يـرتبط
بمصارعة المفاهيم القديمة على مستوى الفكر والدعوة إلى المفاهيم الجديدة ،فهو
بمثابة تحريك للوعي لدراك فساد الواقع والنهوض من ثم إلى تغييره .و " الرسالة "
تعني بناء أيديولوجية المجتمع الجديد . .وكانت الهجرة هي الفيصل بين هاتين
المرحلتين.
ويعتـبر علم " أسباب النزول " من أهم العلوم الدالة والكاشفة عن علقة
النص وجدله معه ،وهو يزودنا بمادة جـديدة ترى النـص استجابة للواقع تأييـدا أو رفضا،
وتؤكـد علقة " الحوار " و " الجدل " بين النص والواقـع .وقد أدرك علماء القرآن أن
قدرة المفسر على فهم دللة النص ل بد أن تسبقها معرفة بالوقائع التي أنتجت هذه
النصوص .هذا مع إدراكهم بأن للنص -من حيث هو نص لغوي -فعاليته الخاصة التي
يتجاوز بها حدود الوقـائع الجزئية التي كان استجابة لها ،وهو ما ناقشوه تفصيل في
قضية " العام والخاص " وهي القضية التي يتعرض لها المؤلـف في الباب الثاني
الخاص بآليات النص .وفضل عن ذلك فقد أدرك العلماء أيضا أن النص وإن كان من
حيث " النزول" -أي من حيث ترتيب نزول أجزائه -مرتبطا بالوقائع والسباب فإنه من
حيث التـلوة -أي من حيث تـرتيبـه الن في المصحف -يتجاوز هذا الرتباط بالوقائع
ليقيم روابط أخرى نـاقشها العلماء أيضا في " علم المنـاسبـة بين اليات ".
حكمة التشريع
بعد أن يبين المؤلف أهمية دراسة " أسباب النزول " في الباب الول من كتابه
" مفهوم النص " ،ويؤكد أن معرفـة هذه السباب ل تقتصر على مجرد الولع برصد
الحقائق التاريخية التي أحاطت بشكل النص ،وإنما تستهدف هذه المعرفة فهم " النص
" واستخراج دللته ،فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب كـما يقولون ،هذا إلى
جـانب أن دراسة السباب والوقـائع تؤدي إلى فهم " حكمة التشريع " ،يقول " :إن هذا
التدرج في التشريع مهم جدا فيما نلح عليه من جـدلية العلقة بين النص والواقع " ،بل
" إن مثل هـذا التدرج في التشريع ل يؤكـد جدلية الوحي والواقع فقط ،بل يكشف عن
منهـج النص في تغيير الواقـع وعلج عيوبه " .ذلك أن دللـة النصـوص ليست إل
محصلـة لعمليـة التفـاعل في عمليـة تشكيل النصـوص وصنعها من جـانبي اللغة
والواقع ،وكل الجانبين مهم لكتشاف دللة النصوص.
وإذا كانت " أسباب النزول " هي السياق الجتماعي للنصوص ،وكانت علقة
النصوص بالواقع جـزءا أصيل من مفهوم النص ،فإن قضية " الناسخ والمنسوخ " تـؤكـد
أيضـا هذا الرتبـاط الضروري بين النص والواقع ،ومن ثم بـين السلم وحركة المجتمع.
والمشكلـة الساسية في هـذه القضيـة هي :كيف يمكن التوفيق بين هذه
الظاهرة بما يترتب عليها من تعديل للنص بالنسخ واللغاء ،وبين اليمان الذي شاع
واستقر بوجود أزلي للنص في اللوح المحفوظ؟.
ول يرى المؤلف حرجا أو تناقضا في عملية النسخ واللغاء لنـه إذا كان النص
في مفهومه السـاسي من حيث كـونه وحيا انطلق من حدود مفاهيم الـواقع ،فل شك
أنه في تطوره كان ل بد أن يراعي هذا الواقع .والحكام الشرعية أحكام خاصة بالبشر
في حركتهم داخل المجتمع ،ول يصح إخضـاع الواقع لحكام وتشريعات جامدة ل تتحرك
ول تتطور.
وإذا كان المؤلف قد ركز في الباب الول على علقة النص بالواقع والثقافة
فإنه يركز في الباب الثاني على " آليات النص " سواء من حيث صلتـه بالنصوص
الخرى داخل الثقافـة أو من حيث طرائقه في إنتاج الدللة.
ويبدأ هذا الباب بقضية " العجاز " فيرى أنها بحث عن السمات الخاصة للنص
والتي تميزه عن النصوص الخـرى في الثقافة وتجعلـه يعلو عليها ويتفوق .ول شك أن
النص في علقتـه بالنصوص الخـرى يتضمن داخله دوال تؤكد مشابهته لها ،ولكنه
يتضمن أيضا دوال أخرى تؤكـد مخالفته لها .وهذا الدراك لعلقة " التماثل " بين
النصوص ،وعلقة " المخـالفة " بينها هو الذي دفع المفسرين القدماء إلى أن يكون
إطارا مرجعيا في تفسير القـرآن .وهكـذا أدرك المسلمون الوائل أن " النص " غير
منعزل عن الواقع.
وجاء المعتزلة بعد هؤلء المسلمين الوائل فـذهبوا إلى أن الكـلم اللهي فعل
يـرتبط بمخـاطبـة البشر لتحقيق مصالحهم ،وأصروا من ثم على أن اللغـة نتاج بشري،
وعلى مواضعاتها وطرائقها نزل الكلم اللهي وكان من الطبيعي بعـد ذلك كله أن
يكـون تحديدهم للعجاز قائما على أساس اكتشاف قوانين عامة يمكن للعقل البشري
تقبلها والتسليم بها .وهـذه القوانين قوانين لغوية يشارك فيها النص غيره من النصوص
من جهة ،ولكنه يتفوق عليها في استثمار القوانين من جهة أخرى .وهكـذا يمكن أن
نفيد من هذه القوانين ل في تفسير العجاز فقط بل في تفسير خصائص النصوص
الممتازة بشكل عام.
وبهذه القضية -قضية العجاز -يرتبط علم آخر هو " علم المناسبة " .والفارق
بين " علم المناسبة " وعلم " أسباب النزول " فـارق بين درس علقـات النص في
صورتها النهائية الخيرة وبين درس أجزاء النص من حيث علقـاتها بالظـروف
الخارجيـة ،أو بالسياق الخارجي لعملية تشكل النص .إنه بعبارة أخرى فارق بين البحث
عن جماليات النـص وبين البحث عن دللة النص على الوقائع الخارجية .نستطيع إذن
أن نقول مع القدماء إن علم " أسباب النزول " علم تاريخي ،في حين أن " علم
المناسبة " علم أسلوبي ،بمعنى أنه يهتم بأساليب الرتباط بين اليات والسـور .ولهذا
قيل :المناسبة أمر معقول ،إذا عرض على العقول تلقته بالقبول .ومعنى ذلك أن "
العلقات " و "المناسبات " احتمالت ممكنـة ،على المفسر أن يحاول اكتشـافهـا
وتحديدها في كل جـزء من أجزاء النص .أو بعبارة أخـرى أن المفسر يكتشـف جـدلية
أجزاء النص من خلل جدله هـو مع النص .وموجز القول هـو أن "وحدة " النص
القرآني بوصفه " بناء مترابط الجزاء " -على حد تعبـير القدماء -هي الغاية التي
يبحث عنها " علم المناسبة ".
وتسلمنـا دراسـة " علم المنـاسبـة " إلى دراسـة "الغموض والوضوح" في
النص القرآني وهي القضية التي وصفت في القرآن " بالمحكم والمتشابه " .وجدلية
الغموض والـوضوح من أهم خصائص النص في الدراسات النقدية الحديثة ،إذ الفارق
بين النص ذي الطبيعة "العلمية " الخالصة وبين النص الدبي يكمن في قدرة النص
الدبي على إبداع نظامه الدللي الخاص داخل النظام الدللي العام في الثقافة التي
ينتمي إليها .فـالنص الدبي -على خـلف " النص العلمي " -يتضمن أجزاء تعـد بمثابة
" مفاتيح " دلليـة تمكن القارئ من الـولـوج إلى عـالم النص وكشف أسراره
وغوامضه .وهذا كله مفهوم معاصر للـدللة يرى أن فعل القراءة -ومن ثم التأويل -ل
يبدأ من المعطى اللغوي للنص ،أي ل يبدأ من المنطوق ،بل يبدأ -قبل ذلك -من الطار
الثقافي الذي يمثل أفق القارئ الذي يتوجه لقراءة النص.
واختلف مذاهب التأويل للنص القرآني اختلف مردود إلى آلية النص في تحديد
طبيعته الخاصة ،وهو اختلف ل يـؤدي إلى التناقض ،وإنما يؤدي إلى تحديد هويته
وتمييزه عن غيره من النصـوص .ليس هذا فحسب ،بل إنه يتجاوز ذلك " ليجعل من
نفسه محورا في الثقافة عن طريق قـابليته للتفسيرات والتأويلت المختلفة في
المكان والزمان على السواء ".
وكما يـرتبط " علم المنـاسبـة " بين اليـات بعلم "أسباب النزول " ،فكذلك
يرتبط به علم " العام والخاص " .وهو العلم الذي يهتم باكتشاف الطرائق التي يمكن
أن يستجيب بها النـص لمتغيرات الواقع في حركته النامية المتطورة عبر التاريخ ،هو
العامل الكبر وراء التركيز على " عموم اللفظ " دون الوقوف عنـد "خصوص السبـب
" .لذلك نظر كثير من الفقهاء إلى " الوقـائع " الجزئية التي يمثلها علم " أسبـاب
النزول " بوصفها نـماذج وأمثلـة لحوال اجتماعية وإنسانية .وعلى ذلك فإن دللة النص
ل تقف عند حدود هذه الوقائع الجزئية بل تنسحب على كل الوقـائع الشبيهة .فالصل
في آليات اللغة إذن هو التعميم.
التفسير والتأويل
وفي تفرقة مهمة بين التفسير والتأويل يخلص المؤلف بعد تحليل الدللة
اللغـوية للكلمتين إلى أن " التأويل " يرتبط بـالستنباط في حين يغلب على التفسـير
النقل والروايـة .وعلى ذلك يكـون " التفسير " جـزءا من عملية " التأويل " ،وتكون
العلقة بينهما علقة الخاص بالعام من جهة ،أو علقة " النقل " بالجتهاد من جهة
أخرى ،وهـي العلقة التي يعبر عنها القدمـاء بأسماء الرواية و " الدراية " .و " التفسير
" ينتمي في مفهومه إلى أهل السنة ،على حـين ينتمي التأويل إلى أهل الكلم ،
وبخاصة المعتزلة -وإلى المتصوفـة .ولهذا كان موقف السنة من هؤلء على طرفي
نقيض ،إذ يرى أهل السنة أن المعتزلة أخطأوا في الدللت التي حملوا عليها ألفاظ
القرآن فكان خطؤهم نابعا من خطأ المعاني ومن الخطأ في حمل ألفاظ القرآن عليها.
أما خطأ المتصوفة فـيرتد إلى حمل ألفاظ القرآن على معـايير هي في ذاتها صحيحة
ولكن اللفاظ ل تدل عليها .ورفع مكانة " التفسـير " على حساب " التأويل " يعد جزءا
من هذا الخطأ في فهم " أهل السنة " وفي موقفهم الفكري قديما وحديثا.
ويـذهب المؤلف إلى أن التأويل الذي ل يعتمد على " التفسير " هو التأويل
المرفوض والمكروه ،فالستنباط ل يعتمد على مجرد " التخمين " ول على إخضاع
النص لهواء المفسر وأيديولوجيته مهما كانت النوايا حسنة ،وإنما ل بد أن يستند
الستنباط إلى " حقائق " النص من جهة ،والى معطياته اللغوية من جهة أخرى ،ثم ل
بأس بعـد ذلك من النتقـال من " الـدللـة " إلى " المغزى" دون الوثب مباشرة إلى "
مغزى " يتعارض مع دللة النص .والتفسير هنا هو العلوم الدينية واللغوية التي يحتاج
إليها المفسر للكشف عن دللة النص ،وهي الدللة التي ينطلق منها " المؤول "
للغوص في أعماق النص من خلل حركة " الذهن " أو الجتهاد ".
وعمل بالحكمة القائلة بأن الشياء تظهر بأضدادها ،لجأ المؤلف إلى عرض
الرؤية المضادة لرؤيته فيما يتعلق بفلسفة التأويل ،وهذه الرؤية المضادة وجـدها عنـد
المام الغزالي في فلسفته التصوفيـة عن التأويل والتي يضمها كتابه الشهير " جواهر
القرآن" ،وهذا هو موضوع الباب الثالث وعنوانه " :تحويل مفهوم النص ووظيفته " .إذ
يرى المؤلف " أن حركة الوحي النازلة من الله إلى النسـان والتي تعني الكشف
والفصـاح والبيان قـد تحولت في الفكر الـديني المتأخر إلى حـركة صعـود من جـانب
النسان سعيا إلى الله ذاته .وعلى حين كانت حركة الوحـي في بدايتها تستهدف
النسان بما هو عضو في جماعة .ومن ثم تستهـدف إعادة بنـاء الواقع لتحقيق مصلحة
النسان ولشبـاع حاجاته المادية والـروحيـة ،فقد كـانت الحركـة النسانية في
التصورات الصـوفية حركـة للخلص الذاتي الفردي بمعانقة المطلق والفناء فيه.
ونتيجـة لذلك تم توجيه النص وتمت إعـادة تصوره في الفكـر لتحقيق هـذه الـوظيفة. .
ولم يكن لمثل هذا التحـول أن يتم إل بعـد حدوث تحول مواز في حركـة الواقع الـذي
تفاعل مع النص " .ويلخص المؤلف تصـورات الغـزالي للنص ولهدافه وغاياتـه من
منطلقين أساسيين :أحـدهما أشعري كـلمي والثاني صوفي غنوصي -فالحقيقة أن
الغزالي لم يتخل إطلقا عن منهج المتكلمين والفلسفة كـما يدعـي -أما المنطلق
الشعري للغزالي فيتحـدد من حقيقـة تصور الشـاعرة للنص بوصفه " صفة " من
صفات الذات اللهية ،في حـين يتحـدد منطلقه الصوفي من حصر غاية الـوجودي
النسـاني على الرض في تحقيق الفوز والفلح في الخرة .وفي المنطلق الشعري
ثنائية هي ثنائية الصفات والفعال ،والكلم اللهي عند الشـاعرة صفة وليس فعـل .كما
أن في البعد الصوفي ثنائية أخرى هي ثنائية الظاهر والباطن ،فـالباطن هـو السرار،
والجواهر هي الحقائق التي يتضمنها النص من حيث هو مضمون ،أما الظاهر فهو
الصدف والقشر ،هـو اللغـة التي يظهـر بها النص لفهامنا وعقولنا .ولهذا يصنف
الغزالي العلوم القرآنية -إلى علوم القشر والصدف وهي علوم اللغة والقراءات
والتفسير وعلـوم اللباب هي العلـوم التي تهدف إلى معرفة الله سبحانه وتعالى في
صفاته وأفعاله ،والوصول إليه هو الهدف السمى من الحياة والمعرفـة والعلم .فهناك
أول :علم الذات والصفات والفعال ،ويتلوه ثانيا علم الخرة وهو علم المعاد ،ثم يأتي
بعد هذا كله علم السلـوك إلى الله أو علم التعـريف بـالصراط المستقيم.
وتأويل النص القرآني يتم بالعبور من علوم القشر والصدف إلى علوم اللباب
والجواهر ،ويوازي هذا العبور عمليـة العروج الخيـالية بالقلـب من عالم الحس
والشهادة إلى عالم الغيب والملكوت.
وينتهي المؤلف إلى أن تصـورات الغـزالي كلهـا تعارض المقاصد الولية للوحي
والشريعـة معا ،رغم ما لقيته من شيوع وانتشار ،كما أنها ساعدت على تحويل النص
تدريجيا إلى " شيء " ثمين في ذاته ،بحيث تم " تشييئه " في الثقافة فصار " حلية " و
" أيقونة".
ونحن نرى من جـانبنا أن هذه الـدعوى الخـيرة في حاجة إلى مزيد من
التوضيح والتفسير ،وربما احتاجت في نهايـة المر إلى كتاب آخر من المؤلف صاحب
كل هذه الجتهادات.