You are on page 1of 110

‫سلسلة تطبيقات النظام القرآني‬

‫الحل الفلسفي‬

‫بين محاولت النسان ومكائدالشيطان‬

‫تأليـــــــــف‬
‫عالم سبيط النيلي‬

‫المحتويـات‬
‫المقدمة ‪ :‬من فلسفة )النا( إلى حكمة )الذي هو( ـ فكرة التأسيس ‪.‬‬
‫موجز في تعريف الفلسفة وإشكالياتها ‪.‬‬
‫الجلسة الولى ‪:‬‬
‫ـ لمحة عن المصادرة في إثبات واجب الوجود_ الفارابي ‪.‬‬
‫ـ لمحة عن الناوية عند أر سطو‪.‬‬
‫ـ لمحة عن ظهور النا عند لوك وبركلي ‪.‬‬
‫ـ )الخدعة الملوكية( لفلطون ‪.‬‬
‫ـ لمحة عن النا عند سبينوزا ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪2‬‬
‫ـ الشياطين يتفاءلون بأعمال النسان ‪.‬‬
‫الجلسة الثانية‪:‬‬
‫ـ الشيطان يتحدث عن كيفية قيامه بالتضليل ‪.‬‬
‫ـ طبيعة النسان ‪ :‬الشيطان والفناء ‪.‬‬
‫ـ المكون الول المزدوج الطبيعة ‪ ) :‬بديل نظرية صدور الواحد من الواحد ( ‪.‬‬
‫ـ ابتكار المكون الول للزمان والمكان ‪.‬‬
‫ـ التخريج الفلسفي لظهور الزوج من عدم عن طريق حقيقة ) الذي هو وحده ( ‪.‬‬
‫ـ الذاتية ومشاكلها ‪.‬‬
‫ـ العلم والفلسفة ‪ :‬بيكون ‪.‬‬
‫ـ ظهور النا عند هوسرل وسبينوزا ‪.‬‬
‫ـ المغالطة الناوية لديكارت ‪ :‬فناء النا وحدية ‪.‬‬
‫ـ الصفة اللوجودية للنا ‪.‬‬
‫الجلسة الثالثة ‪:‬‬
‫ـ استضافة الشياطين لكبير شياطين النس ‪.‬‬
‫ـ الحديث عن الوجود يستلزم الحديث عن العدم ‪ :‬تأسيس جديد ‪.‬‬
‫ـ العقل والرادة ‪ :‬النفس ‪.‬‬
‫ـ حشرة تفّند تعاريف الفلسفة ) للنسان ( يرصد المارد أقوالها ‪.‬‬
‫ـ النفس بعد الموت ‪ :‬نقد افلوطين وأرسطو وسقراط ‪.‬‬
‫ـ المعاد النفسي والجسماني ‪ :‬تناقضات ابن سينا ‪.‬‬
‫ـ الجلسة الرابعة ‪:‬‬
‫ـ اللهة المتعددة والحرية ‪.‬‬
‫ـ خداع النسان لنفسه يعين الشيطان على عمله ‪.‬‬
‫ـ مذكرات الشيطان عن الغزالي ‪.‬‬
‫ـ مارد يختطف محاورة حكيمين في جبال الصين ‪.‬‬
‫ـ الشياطين يناقشون المحاورة العجيبة ‪.‬‬
‫ـ تأسيس الخلق على مبدأ التناقض الجوهري وتفنيد الخلق المعلبة للفلسفة‬
‫القائمة على العقل ومبدأ عدم التناقض ‪.‬‬
‫ـ المعنى اللغوي للوجود ‪.‬‬
‫ـ مصادرات الشيرازي حول تحقق الوجود ‪.‬‬
‫ـ مصادرات نصير الدين الطوسي والكاتبي ‪.‬‬
‫ـ رئيس الشياطين يحرج الشيطان بإبطال البرهان على واجب الوجود ‪.‬‬
‫ـ مصادرات الفارابي ‪.‬‬
‫ـ محاورة أخرى يرصدها الشيطان للحكيمين موضوعها ) التحامق ( ‪.‬‬
‫ـ العقل والحركة‪ .‬تفنيد آخر للديكارتية ‪.‬‬
‫الجلسة الخامسة ‪:‬‬
‫ـ إشكالية الزمان ‪ :‬مغالطات للفلسفة في الزمان والمكان ‪.‬‬
‫ـ مغالطة انعدام الدواعي عند الله لخلق الخلق ‪ :‬تأسيس فكرة ل تناهي ) دواعي‬
‫الكمال ( ‪.‬‬
‫ـ لمحة إلى تناوب الوجود والفناء ‪.‬‬
‫ـ مصادرات أخرى للمتكلمين والفلسفة في القدرة والرادة والفعل ‪.‬‬
‫ـ تأسيس فكرة ) الفعل يستلزم عدم فعل عدمه ( ‪.‬‬
‫ـ الشيطان يفند الفارابي لتحديده الكون‪.‬‬
‫ـ الشيطان يضرب مثل ً لعمله مع النسان مقابل الرسل ‪.‬‬
‫ـ تأسيس لغوي للحدوث ) مغالطات الفلسفة ‪.‬‬
‫النيلي ‪3 -----------------------------------------‬‬
‫ـ إبطال اصطلح ) العلة الولى (‪.‬‬
‫ـ اللهة المتعددة عند الصوفية ‪ ) .‬لمحة إلى سكريتان وباسكال وكلي (‪.‬‬
‫ـ عداء المادية للمادية ‪ ،‬مكيدة كارل ماركس وأنجلز ‪.‬‬
‫ـ المعرفة والختيار ) المعقول ل يعقل غيره (~ تأسيس جديد ‪.‬‬
‫ـ استحالة حصول الثنين من الواحد ‪ ،‬واستحالة حصول الثنين بغير الواحد‬
‫)التناقض الجوهري النهائي ( ـ تفنيد الفيض والصدور ‪.‬‬
‫ـ حصول العلم اليقيني بمجهولية الواحد المعلوم ) الذي هو( ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪4‬‬

‫المقدمة‬
‫خيلــة بيــن‬ ‫يعرض هذا الكتاب الحل الفلسفي الجديد مــن خلل مناقشــات مت ّ‬
‫ون مــن عــدٍد مــن الجلســات ‪ ،‬يستعرضــون فيهــا‬ ‫الشياطين في مــؤتمر لهــم مك ـ ّ‬
‫إنجازاتهم التاريخية في مضمار الفلسفة وما حققوه من نتائج لتضــليل النســان‬
‫عن الحقيقة خلل بحثه الدؤوب عنها وحيث يفعلــون ذلــك فــان الحقيقــة تظهــر‬
‫ة في محاوراتهم ‪ ،‬إذ يتوجب عليهم لتضليل النسان عن الحقيقــة أن‬ ‫ة جلي ً‬‫واضح ً‬
‫م بها ‪.‬‬‫يكون لهم عل ٌ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ل الجديــد فهــو يفصــل فصـل تامـا بيــن المعرفــة‬ ‫وهــذا وحــده جــزءٌ مــن الح ـ ّ‬
‫ة ‪ .‬لكــن عمليــة‬ ‫ة كانت أم حسن ً‬ ‫والخلق ‪،‬فيجعل المعرفة في خدمة الخلق سيئ ً‬
‫تحديد ما هو حسن وما هو قبيح ترجــع إلــى العقــل بإنابــة مــن )النــا ( أو الــذات‬
‫‪،‬فقرارات العقل غير متحررة من سلطة الذات ‪.‬‬
‫ً‬
‫لذا يتوجب تحريــر العقــل مــن ســلطة النــا أول ليتمكــن العقــل مــن القيــام‬
‫ل الفلسفي معرفيا ً ‪.‬‬ ‫بالحكم مستقل ً وتلك أول مرحلة من مراحل التمهيد للح ّ‬
‫ُتظهر الحوارات أن ما حصل في الفلسفة بجميع أقسامها هو العكس ‪ ،‬فقــد‬
‫ر من الستلب للعقل ولحريته في الحكم ‪.‬‬ ‫م تطوير النا ليقوم بأكبر قد ٍ‬ ‫ت ّ‬
‫جها ً إلى الشياء كما فعل ديكارت ـ هيــوم ـ ـ‬ ‫ك ل يخرج من النا متو ّ‬ ‫إذن فالش ّ‬
‫هوسرل ـ هيجل أو كانت ‪ ،‬في تطوير المثل الفلطونية على المنطق الرسطي‬
‫دمــة‬‫ل بنــاءا ً علــى تلــك المق ّ‬‫ـ ول كما فعل جميع فلسفة المشرق ‪ ،‬إذ يوجب الح ّ‬
‫قــه وإجــراء التشــكيك بأوليــاته‬ ‫طقــة العقــل نفســه قبــل التســليم بمنطِ ِ‬ ‫من ِ‬
‫إعادة ِ‬
‫خل في تحديدها ‪.‬‬ ‫نفسها حذرا ً من أن يكون النا قد تد ّ‬
‫يعرض الحل صورا ً ملونة متعددة لتعظيم ) النا ( من خلل المحاورات لثبات‬
‫متــه ‪ ،‬فهــو تفكيـٌر متوحـدٌ بالنــا ولــذلك‬ ‫وحدة المنطلق في التفكير الفلسفي بر ّ‬
‫فإن العرض يلغي التقســيم الســابق للفلســفة إلــى ماديــة ومثاليــة وفروعهمــا ‪.‬‬
‫فكلها عنده فلسفات ل تختلف إل ّ في طريقة تعظيم النا ‪ ،‬فهي جميعــا ً تنطلــق‬
‫م الموجد أو من الذات للبرهنــة علــى الموجــد ثــم‬ ‫من الذات لفهم الوجود ومن ث ّ‬
‫الوجود ‪.‬‬
‫ويكمن الحل الفلسفي الجديــد فــي ضــرورة انعكــاس العلقــة بيــن النســان‬
‫والخر ‪ ،‬حيث يضع مبدأ ً جديدا ً هو ) نسبية التناقض ( ‪ ،‬فتعمل هذه النسبية علــى‬
‫تعزيز ) مبدأ عدم التناقض ( ـ كونه المبدأ المرتبط بالعلقات الخارجيــة والحــاكم‬
‫على حركتها في الزمكان ‪ .‬بيد أن هذا المبدأ هو لخدمة )التناقض( الساسي في‬
‫دعيه الماديــة ‪ ،‬والــتي‬ ‫التكوين الوجودي وهو بالطبع ل علقة له بالتناقض الذي ت ّ‬
‫هي في هذا الحل لون من ألوان المثالية ل غير ‪.‬‬
‫المادة هي كل شيء في هذا العالم ولو كان ثمــة فكــر مــادي فعل ً لكــان هــو‬
‫تلك الحكمة التي ل يمكن تخطئتها بأية حال ‪ ،‬إذن فللمادة في هــذا الحــل معنــى‬
‫آخر ‪.‬‬
‫عدم التناقض إذن هو مبدأ عام لخدمــة المبــدأ الساســي الــذي هــو التنــاقض‬
‫ض ‪ .‬فالتناقض الخير هو سر هذا الوجود ‪.‬‬ ‫الجوهري ‪ .‬وبين هذين المبدأين تناق ٌ‬
‫ً‬
‫ولما كــان التفكيــر الفلســفي بحث ـا عــن الحقيقــة الــتي وراء الحركــة ‪ .‬فــإنه‬
‫يتوجب لدراك هذه الغاية أن يستخدم التناقض في فكــرة الحــل وعــدم التنــاقض‬
‫في خطوات الحــل ــ فعليــه أن يســتخدم التنــاقض الجــوهري لمــا هــو جــوهري ‪،‬‬
‫فالحل يكمن في فكرة التناقض بيد إن خطواته تتم بمبدأ عدم التناقض ‪ ،‬ولــذلك‬
‫قف عن البحث أو وجد توقفا ً في عمــل‬ ‫فإن عليه أن ُيحدث تناقضا ً جديدا ً كلما تو ّ‬
‫النيلي ‪5 -----------------------------------------‬‬
‫مبدأ عدم التناقض ‪ .‬وحينما يصل إلى مرحلة تســاوي الطــراف ول يقــدر علــى‬
‫ض جديد فإنه يتمكن من الحصول علــى ) علــم ( بالمجهوليــة وهــذا‬‫تجاوزها بتناق ٍ‬
‫هو المطلوب أخيرا ‪.‬‬

‫وسوف أوضح الن باختصار ما تنطوي عليه هذه العملية ‪:‬‬


‫إن البحث عن النا ــ حقيقتــه ووجــوده ــ يســتلزم فــي البــدء إلغــائه ‪ ،‬وهــذه‬
‫العملية تجاري الساليب العلمية في علوم الطبيعة وهــي بخلف مــا جــرت عليــه‬
‫عادة الفلسفة جميعا ً ‪ .‬ففي العلم التجريــبي يتــم تثــبيت أحــد المتغيريــن لرصــد‬
‫المتغير الخر وهذا هو السر الوحيد في تطور العلوم جميعا وهو في الصل روح‬
‫الرياضيات ‪ .‬فالتثبيت ليس له أي معنى فيزيائي سوى اللغاء لنه يوقف الحركة‬
‫بالفرض والــذي هــو نقيــض لهــا فــي الخــارج فالحركــة ل تتوقــف بالفعــل وإنمــا‬
‫بالفرض ‪.‬‬
‫إذن العلم التجريبي يســتخدم فكــرة التنــاقض ويتوصــل إلــى الحــل بخطــوات‬
‫على مبدأ عدم التنــاقض ولكنــه ل يحصــل علــى علــم جــوهري لن التنــاقض بيــن‬
‫الفكرة والحل ليــس جوهري ـا ً ‪ ،‬فــإن افــتراض توقــف حركــة أحــد المتغيريــن هــو‬
‫افتراض يجري على الحركة ولذلك فإن النتائج ل تتجاوز الحركة ‪.‬‬
‫إذن يتوجب لمعرفة النا إجراء تناقض جوهري أول ‪ .‬ولما كان الطرف الخــر‬
‫ل يمكن الســيطرة عليــه ‪ ،‬ول فــرض أي شــيء يخصــه فيبقـى الحــل فــي تثــبيت‬
‫الطرف الول أي إلغاء النا ‪.‬ومعنى ذلك إن النا ولكي يتعــرف نفســه ينبغــي لــه‬
‫أن يلغي نفســه فــي فكــرة الحــل وينظــر للخــر ‪ .‬فالحــل ل يبــدأ بالنــا بــل يبــدأ‬
‫بال)هو( ‪ .‬عند إلغاء النا تظهر حقيقة الخر وعند الرجوع لملحظة النا الملغي‬
‫يجده قد أصــبح حقيقــة وجوديــة أبديــة ‪ ،‬لــذلك يتمكــن النــا مــن الســيطرة علــى‬
‫ألنوات الخرى أو التخلص من ألنوات المضادة أو الستفادة مــن ألنــوات الــتي‬
‫تخدم صفته البدية بحسب قدرته في اللغاء أو عدمه فكلما تــم إلغــاء أكــبر للنــا‬
‫ة من الموجودات إلغاء أو استحواذا عليها ‪.‬‬ ‫ره على جمل ٍ‬‫مت السيطرة بقد ِ‬ ‫ت ّ‬
‫لكن يتوجب معرفة الطرف الخــر فـي هــذه العمليــة أي ) الــذي هــو ( ‪ .‬فــان‬
‫عل أحدها مركزا ً مقابل ً‬ ‫الموجودات تشترك مع النا في جميع خصائص الحركة وج ِ‬
‫للنا هو إلغاء للجميع مهما كان ذلك الموجود بعيدا ً ‪.‬‬
‫وهنا يقدم الحل السلوب التجريبي ‪ ،‬فالذي هــو فــي علقتــه بالنــا موضــوع‬
‫خاضع للتجربة وإن كان الذي هو ل يخضع لها ‪ ،‬فالعلقة خاضــعة للتجربــة بيــد أن‬
‫أحد طرفيها غير خاضع لها ‪ ،‬لنه ليــس واحــدا ً مــن الموجــودات المعلومــة ‪.‬وفــي‬
‫العلم التجريبي أمثلة ل تحصى عددا ً لمثل هذا النوع من العلقة التي يكون فيهــا‬
‫أحد الطراف مجهول ً بالمّرة ول يخضع لي قياس فيكفــي تســميته فقــط ‪.‬وهنــا‬
‫تظهر الحرية بأجلى صورها من حيث أنها حقيقة أولية فهي برهــان لنفســها ول‬
‫تحتاج إلى برهــان خــارجي ‪ ،‬وذلــك مــن خلل ارتباطهــا بمعلــوم ل يعــرف والــذي‬
‫اسمه ) هو ( ‪ .‬إن إلغاء الخر ل ينتج منه ســوى إلغــاء النــا لن ) الــذي هــو ( هــو‬
‫الطرف الول الممسك بالنا ‪.‬‬
‫ومن هنا فإن الفلســفة لبــد أن تكــون تناقضــاتها فاضــحة وأوهامهــا مخزيــة‬
‫وهي تتحرك من الخارج إلى الداخل ول تفعل مثل ما يفعل جميــع العقلء حينمــا‬
‫يريدون معرفــة موضــع مــا إذ لبــد لهــم مــن إلغــاء وجــودهم فــي الموضــع الول‬
‫والتحرك إلى الموضع الخر ‪ .‬بينما يقوم الفلسفة بعمل معكــوس حينمــا يقــول‬
‫أحدهم ) أنا ( في البدء ويزعم بعد ذلك أنه كشف عن حقيقــة الخــر ‪.‬إذن تظهــر‬
‫تلك التناقضات خلل المحاورات في المؤتمر الخيالي هذا ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪6‬‬
‫إن إلغاء النا هو استمرار لوجوده وكشف للشياء المحيطة به ‪ ،‬وهــو تحقيــق‬
‫لحريته الذاتيــة ‪ .‬كمــا أن مبــادئ ) النــا وحديــة( أو ) النــا الــديكارتي ( أو ) النــا‬
‫المتعالي ( هي مبادئ تدميرية شيطانية نتيجتها الوحيــدة هــي فنــاء النــا ‪ .‬ذلــك‬
‫لن )الذي هو ( ل تسمح طبيعته الذاتية بوجود أنا غيره إل في حالــة واحــدة هــي‬
‫أن يكون هذا الغير متناقضا ً وثنائيا ً في علقته بالذي هــو أي يفنــى مــن أجــل أن‬
‫يبقى لن ) الذي هو ( مستحوذ على الوجود ‪ ،‬لذلك فإن تلك المبــادئ الفلســفية‬
‫هي مبادئ فنائية ليست لها أي صفة وجودية ‪ ،‬لنها تريد أن تتصف بالوجود مــن‬
‫حيث تريد إلغــائه بإلغــاء التنــاقض الجــوهري والبقــاء علــى مبــدأ عــدم التنــاقض‬
‫وحده ‪.‬‬
‫فأنا حر بحدود معينة وتلك حقيقة يؤكدها الموت ولذلك يستحيل معرفة النــا‬
‫وتمكينه من توسيع نطــاق حريتــه إل باعتبــار الطــرف الخــر الــذي يتحكــم بهــذه‬
‫العلقة ‪ ،‬ول سبيل إلى هذا العتبار إل بالتجربــة ول طريــق للتجربــة إل بإيقــاف‬
‫أحد الطرفين ول يمكــن ذلــك إل بإيقــاف طرفــي ) أنــا ( ‪ ،‬وهــو الطــرف الوحيــد‬
‫الممكن إلغاءه ‪.‬‬
‫ل الجديــد مقــترحه الضــمني وهــو أن العلقــة مــع اللــه خاضــعة‬ ‫إذن يقدم الحـ ّ‬
‫للتجربة وإن كان الله ل يخضع لها ـ فإن الطرف الخر يخضع لها وهو النــا ‪.‬ومــن‬
‫ح تسميتها قصة أو روايــة فلســفية يشــير‬ ‫جهة أخرى فإن هيكل هذه القصة إن ص ّ‬
‫إلى الحل من جهات أخرى من خلل حركة الشخوص وعلقــاتهم ببعضــهم البعــض‬
‫وعلقــاتهم كمجمــوع مــع رئيــس المــؤتمر الــذي هــو كــائن مختلــف عنهــم تمام ـا ً‬
‫فالهيكل العام ينطوي على علقات التناقض وعدم التناقض ‪.‬إن إلغاء النــا يعنــي‬
‫إلغاء الشياء بينه وبين ) الذي هو ( ـ فالمسافة تكون معدومــة عنــد إلغــاءه تمامـا ً‬
‫بيد إن هذا اللغاء ودرجته مرتبطــة بالختيــار والتجربــة ‪ ،‬وعنــد الرجــوع إلــى النــا‬
‫لبعثه من جديد يمر بجميع الموجودات التي تـم إلغاءهــا فهــو إذن يلغـي مركـزه ل‬
‫يلغي وجوده وإنما يرحل وخلل رحلته يكشف جميع المواضع بما في ذلك موضعه‬
‫هو ‪.‬‬
‫إذن فالعلقة هنا متناقضة بنفسها وهــي بخلف الحــل المثــالي الــذي يلغــي‬
‫الوجود برمته ) وينطوي على النا ( حسب تعبير أحدهم ‪ ،‬فهــو يتــدرج مــن النــا‬
‫إلى العالم ثم الله أوالى الله ثم العالم ‪ ،‬بينما الحل الجديــد يبــدأ بالــذي هــو بعــد‬
‫كن النا من إدراك العالم لنــه يمــر بــه مفترضـا ً توقفــات‬ ‫إلغاء النا ‪ .‬فالرجوع يم ّ‬
‫متلحقة مع ) الذي هو ( ‪.‬‬
‫يتم أيضا ً من خلل هذه المحــاورات الجابــة علــى المســائل الساســية الــتي‬
‫أثارها الفلسفة بيد إن الحل ل يدخل في التفاصــيل لنــه يقــوم بإبطــال رؤوس‬
‫هذه المباحث أو تحويل وجهتها لذلك فل يحتاج إلى مناقشة تلك التفرعات ‪ .‬نعم‬
‫يمكن للباحثين الستفادة من الحــل للمضــي قــدما ً فــي تحقيــق وتنقيــة الفــروع‬
‫الخرى أو التوسع في الحلول المطروحة ‪.‬‬
‫إن نتائج الحل الجديد هي مطلوب الفلسفة ‪ ،‬ذلك لن النا يتمكن مــن إدراك‬
‫العالم بإلغاء نفسه مقابل الذي هو فيحصل على التعظيم والتعــالي الفعلــي لن‬
‫مسافة اللغاء غير متناهية ‪.‬‬
‫هذا يعني أن الحل يرفض التعبير عن الله بعبارة غير المتنــاهي إذ أن ) الــذي‬
‫هو ( يجب أن يكون ) أكبر ( دوما ً من أي تحديد وإن كان ل متناهيا ً وهذا هو غايــة‬
‫العلم على حدود الكون أي مجهولية ) الذي هو ( ـ ـ فــإن ذلــك مــن شــأنه تفســير‬
‫المجهولية خلفا ً لجماع الفلسفة والصوفية ‪ ،‬كما يرفض الحــل تســميته بالعلــة‬
‫و‪.‬‬‫ه َ‬
‫الولى ‪ .‬فالعلقة به والعالم بأكمله مواضيع للبحث إل ُ‬
‫النيلي ‪7 -----------------------------------------‬‬
‫ويمكن القول إن هذا الكتاب هو شــرح فلســفي مــوجز لول مفردتيــن مــن‬
‫) قل هو ( ‪ .‬إذ يكمــن الحــل فــي هــذه العبــارة‬ ‫سورة الخلص ) التوحيد ( أي‬
‫فهي تقتضي بصيغة المر هــذه ‪ ..‬النقيــض ‪ ) :‬ل تقــل أنــا ( ‪ ،‬ولــذلك فــإن فعــل‬
‫المر ) قل ( إنما هو تأكيــد علــى المجهوليــة واســتمرار للغــاء النــا ‪ ،‬إذ بإلغــائه‬
‫فقط يحقق وجوده ‪ ،‬ومعنى ذلك إن الذي هو ليس موضوعا ً للبحث وإنما علقتــه‬
‫بالنا هي موضوع البحث خلفا ً أيضا ً لجمــاع الفلســفة ‪ ،‬ففــي البــدء يتــوجب أن‬
‫تقول ) هو ( ثم تجري البحــث ‪ ،‬فكــل الموجــودات باســتثناء ) الــذي هــو ( تصــلح‬
‫للبحث وكذلك علقاتها معه ‪.‬‬
‫بيد إن هذا ) الجهل ( يحتاج إلى تأسيس فلســفي ‪ .‬أي أنــه يحتــاج إلــى علــم‬
‫بالمجهولية فهذا الكتاب ُيظهر العلم بالمجهولية في أواخر صــفحاته ‪ .‬إذن ) قــل‬
‫هو ( تستلزم وجود النقيض ‪ ) :‬ل تقل أنا ( ويعتبرها هذا المبحــث مفتاح ـا ً للحــل‬
‫الميتافيزيقي بكامله ‪ .‬لكن التوصل إلى التأسيس الفلسفي لـ ‪ ) :‬قل هــو ( يتــم‬
‫من خلل بقية العبــارات فــي الســورة المكونــة مــن ســطر واحــد ‪ .‬هــذا الســطر‬
‫تعادل قيمته الفكرية ثلث الكتب المنزلة حسب الروايات وهذا ليــس بـالغريب مــا‬
‫دام يبدأ بـ ‪) :‬قل هو ( ‪.‬‬
‫ومن هنا يفوز شيطان خامل الذكر على جميع الشــخوص الــذين تمكنــوا مــن‬
‫شرح العبارات بصورة صحيحة ولكنهم توقفوا عند ) قل هو ( ‪ ،‬لنهم لم يقومــوا‬
‫بتأسيس تناقض جديد بعد هذا التوقف ‪ .‬إن ظهور الحل علــى ألســنة الشــياطين‬
‫يحاول إبراز مفهوم التجربة الذاتية والحرية ‪ ،‬فالعقل يعمل بحسب أوامر الــذات‬
‫ولذلك يمكن أن يكون الولي والشيطان على مستوى واحد من معرفة الحقيقة ‪،‬‬
‫لكن الموجودات ل تخضع للشيطان وتخضع للولي بما في ذلك الشيطان نفسه ‪،‬‬
‫لن الختيار الــذاتي المختلــف يجعــل المعرفــة فــي خدمــة متطلبــات الــذات عنــد‬
‫الولي خلفا ً للشيطان ‪ .‬إن القصة قد تذكر أشياء مختلفــة ومتناقضــة ‪ ،‬فيتــوجب‬
‫فرزها فهي بسيطة جدا ً من جهة ومعقدة من جهة أخرى ‪ .‬فمثل ً إنها تذكر تجاور‬
‫الفلسفات وعدم تراكمها في البدء ‪ ،‬ولكن الهيكل العام ينبئ من طرف آخر إلى‬
‫عكــس ذلــك فالناويــة تطــورت وتراكمــت مفاهيمهــا ولــذلك تتصــاعد المعرفــة‬
‫الشيطانية معها بالتوازي ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪8‬‬

‫موجز في تعريف الفلسفة وإشكالتها‬

‫ك بجميــع الشــياء ـ ـ حــتى أنــه‬ ‫يؤسفنا أن نقول أن ) ديكارت ( حينما بدأ بالش ّ‬
‫ك بوجود نفسه ـ فقد نسي أن يشك في أهم الشياء التي بين يــديه ‪ ،‬إذ نســي‬ ‫ش ّ‬
‫خــض‬ ‫أن يشك في ) الفلسفة ( نفسها ‪.‬ول أعنــي بهــا مجموعــة الشــياء الــتي تم ّ‬
‫عنها التفلسف بل أعني التفلسف نفســه كمنهــج أو طريقــة ذات جــدوى ‪ .‬وهــذه‬
‫ك ديكـارت ‪ .‬والسـبب الـذي أدى‬ ‫مشكلة حقيقية لم يذكرها الذين أعجبهم كثيرا ً ش ّ‬
‫ح ‪ ،‬لن هذا الشك كان القصد منه تأسيس فلسفة‬ ‫إلى هذا التغافل أو الغفلة واض ٌ‬
‫أو نقد الفلسفة التي بين يديه ‪ .‬ولكن إلى الن لم يحــدد لنــا الفلســفة موضــوع‬
‫الفلسفة ‪ ،‬وأهم من ذلك لم يحددوا لنا ‪ ) :‬ما هي الفلسفة ؟ (‪ .‬فمن حق البعــض‬
‫أن يطالب بتحديد تعريف لـ ) الفلسفة ( ‪ ،‬لنه قد يــدعي أمــرا ً أســوأ إذا لــم يجــب‬
‫أحد رغبته هذه ‪ ،‬فقد يزعم أنه في طريقــه إلــى العتقــاد أو الجــزم مــن أنــه ) ل‬
‫يحتاج ( إلى شئ لم يحدد له أحــد بعـد مـا هـو ؟! بعـد إن عجــز هــو عــن تحديــده ــ‬
‫وصاحب الشيء ) الفيلسوف ( أولى به فعليه تقع مهمة تحديد معنى الفلسفة ‪.‬‬
‫ذلك أن هذا البعض قد وجد قسما ً من الفلسفة يبحث في ماهيــة الموجــودات‬
‫وعلقاتها وعلقة النسان بها فهو يسأل ‪ ):‬هل الفلسفة نوع من المعرفة ؟ ( ‪.‬‬
‫ووجد بعضهم يبحث في قدرات وتصورات العقل وأنواع المدركات ‪ ،‬فهل هي‬
‫علم يبحث في طرائق الدراك والطرق الموصلة إلــى المعرفــة فتكــون الفلســفة‬
‫بذلك طريقا ً لتقييم المعرفة وليست هي المعرفة ؟‪ .‬ووجد بعضا ً آخــر يبحــث فــي‬
‫ميت‬ ‫سـ ّ‬‫النفس والروح وما وراء الطبيعة والذوات والجــواهر الــتي فــي الشــياء ف ُ‬
‫الفلسفة عند هؤلء بـ ) الميتافيزيقا ( فهل هي علم يبحث عن ما هو كامن وراء‬
‫المحسوسات وبالتالي هي معرفة من نوع خاص ؟ ‪.‬‬
‫ووجد البعض الخر يقول إنها كل ذلك وغيره وإنها جاءت من مفردتين تعنيان‬
‫ة ) حب الحكمة ( ‪ ،‬فهل الفلســفة حكمــة أم حــب الحكمــة أم معرفــة أم هــي‬ ‫سوي ً‬
‫طريق لمعرفة المعرفــة ؟ ذلــك لن الحكمــة تعنــي ) وضــع الشــياء فــي موضــعها‬
‫الصحيح ( ‪ .‬فالحكمة عمل إيجـابي بينمـا الفلسـفة إذا كـانت عبـارة عـن ) دراسـة‬
‫للمعرفة ( فهي علم والعلم ل علقة له بالحكمة ‪ ،‬فهي أخذ ل عطاء كالحكمة ‪.‬إننا‬
‫نرى أنه ل تلزم بين العلم والحكمة لننا نرى بأعيننا أناسا ً لهم علم عظيم بأشياء‬
‫نجهلها ومع ذلك فهم أشرار جدا ً ويستعملون هذا العلم للشّر ول يضعون الشــياء‬
‫في مواضعها الصحيحة كما يفعــل مــن نســميهم )الحكمــاء ( ‪ ،‬أو كمــا يفــترض أن‬
‫يفعله من نسميهم كــذلك ‪ .‬فل تلزم إذن بيــن الحكمــة والمعرفــة إل ّ مــن طــرف‬
‫ف دوما ً لكن ليس كل عارف حكيم ‪.‬‬ ‫د وهو أن الحكيم عار ٌ‬ ‫واح ٍ‬
‫ً‬
‫لكن الفلسفة فرقوا كثيرا بين الفلسفة والعلــم بــل ) حســدوا ( العلــم علــى‬
‫نتائجه اليقينية ذات الطابع الرياضي ووضعوا أمام أنفسهم مهمة تأسيس فلسفة‬
‫م أن نتــائج‬ ‫ذات نتائج حاسمة كالعلم ولكنهم في عيــن الــوقت أقــروا وبوضــوح تــا ّ‬
‫ل موحد وهو إقــرار‬ ‫الفلسفة ليست ) تراكمية ( ول يمكن لجامع أن يجمعها في ك ٍ‬
‫آخر بأنها ليست علما ً من العلوم ‪.‬‬
‫وبعضهم بحث القيم ولخلق فهل الفلسفة علم في الخلق ؟ وهل يمكنهــم‬
‫التحدث عن ) علم الخلق ( مع القــرار بــأن الفلســفة ليســت علمـا ً ؟ وإذا كــانت‬
‫لفظة الفلسفة قد ترجمت إلى ) حــب الحكمــة ( فهــل هــذه صــفة للفيلســوف أم‬
‫عمل وتعليم له ؟ فإن كانت صــفة لــه فالفيلســوف إذن ) حكيــم ( فلمــاذا يختلــف‬
‫الحكماء في وضع الشياء في موضعها الصحيح ؟ وإن كانت عمل ً وتعليما ً له فهــل‬
‫ب ( وتعّلمه ؟‬ ‫ح ّ‬
‫يمكن تصور أن بمقدور المرء تعليم ) ال ُ‬
‫النيلي ‪9 -----------------------------------------‬‬
‫إن الفلسفة تقوم على المنطق ـ وهذا هو المتعارف عليه ـــوالمنطق شــيءّ‬
‫ة بحيث أن العلم التجريبي يتخذه وسيلة للوصول إلى النتائج اليقينية‬ ‫محدد بصرام ٍ‬
‫فلماذا اختلفت الفلسفة في نتائجها المبعثرة عن تلك الصرامة فــي نتــائج العلــم‬
‫د ؟ ‪ .‬وإذا كــانت هــي الــتي أنتجــت المنطــق فــالمر‬ ‫ق واح ٍ‬ ‫وهما يقومان على منط ٍ‬
‫حــد‬ ‫دد واليقيني من غيــر اليقينــي والمو ّ‬ ‫دد من غير المح ّ‬ ‫أسوأ ‪ ،‬إذ كيف يتولد المح ّ‬
‫من المبعثر ؟!‬
‫دعي أنهــا تــتربع‬ ‫ً‬
‫صحيح إن الفلسفة تقول وتدعي أشياء كــثيرة ‪ ،‬فهــي مثل تـ ّ‬
‫ً‬
‫على عرش العلم كله وإن العلم وليدها وإنها الحاكم الفعلــي ‪ .‬لكــن أحــدا مــا لــم‬
‫يرها قط ول مّرة واحدة والتاج على رأســها كمــا لــم يرهــا تــدخل قصــر العلــم بل‬
‫ف مــن وليــدها أن يرســل لهــا قصاصــة ورق‬ ‫استئذان ‪ ..‬كيف ؟! وهي تنتظر بشغ ٍ‬
‫ما يجري في المملكة المترامية الطــراف …! وحــتى إنــك‬ ‫فيها بعض المعلومات ع ّ‬
‫لتراها بعد وصول القصاصة قد لملمــت نفســها وراحــت تتكلــم أكــثر ممــا تفعــل ‪،‬‬
‫قــون بتحقيقهــا أو تجربتهــا قــامت‬ ‫دعي مزيدا ً من الشياء التي إن طــالب المتل ّ‬ ‫وت ّ‬
‫دد مسرورةً عبارتها المأفونة ) وهل يستطيع هذا الولــد العــاق فعــل‬ ‫دهم ولتر ّ‬‫لتص ّ‬
‫شيء بدون إذني وتوقيعي عليه ؟ ( ‪.‬‬
‫الواقع إن شيئا ً مــا لــم يبــق للفلســفة حــتى تقــوله ‪ ،‬وقــد أق ـّر جميــع ش ـّراح‬
‫الفلسفة أن موضوع الفلسفة ) بل الصحيح مواضيعها ( قد ُأشــبع بحث ـا ً ولــم يبــق‬
‫سوى تغيير وتطوير الساليب التي تبحث في نفس المواضيع ‪.‬‬
‫إذن فالشياء التي تتحدث عنها الفلسفة هي نفــس الشــياء الــتي ل يجمعهــا‬
‫جامع ولكنها تستمر بالتحدث عنها والجابة عليها بعبارات اكثر ) وضــوحا ً ( حســب‬
‫تعبيرها كما في هذا النص ‪ ) :‬لكن قد يتهكم ساخر بقوله إن الفلسفة مــا هــي إل‬
‫ترجيع وترديد لصدى أصوات الفلسفة السابقين وإن هــي إل بقايــا أفكــارهم مــع‬
‫قليل من التحوير والتغيير وربما زاد على ذلك قائل ً إن التفكير الفلسفي راكــد ل‬
‫يتحرك ول يتقدم (‪. ((1‬‬
‫وتركز دفاع وولف عن الفلســفة بعبــارات أهمهــا ‪ ) :‬إن أقــل مــا يفعلــه أهــل‬
‫عصر من العصور أن يصوغوا المسائل القديمة وحلول هــذه المســائل فــي قــالب‬
‫جديد يتفق مع الروح الفكرية والروح اللغوية لهذا العصر ( وهكذا فالفلســفة منــذ‬
‫ة جديــدةً علــى مواضــيعها‬ ‫مئات السنين لم تقدم موضــوعا ً جديــدا ً ولــم تجــب إجابـ ً‬
‫القديمة ‪ ،‬وكل ما تفعله منذ حوالي ألفي عام هــو أن تصــوغ الجابـات والمســائل‬
‫ل دللــتين‬ ‫بطريقة ) تلئم الروح الفكرية واللغوية لكل عصر ( ‍وهذ‍ا العــتراف يــد ّ‬
‫علم ـا ً ( لن العلــم ل‬ ‫من ) ِ‬ ‫هامتين ‪ :‬الولى إن الموضــوع الكل ّــي للفلســفة ل يتض ـ ّ‬
‫يتوقف عند حدود معينــة فالفلســفة ليســت علم ـا ً ‪ .‬والثانيــة إنهــا ليســت طريقــة‬
‫م أيض ـا ً ونقــد‬ ‫للتوصل إلى العلم أو نقد العلم والمعرفة لن طريق العلم هــو عل ـ ٌ‬
‫العلم يستلزم وجود علم أعلى يمسك بخيوط العلم كلها ويمتلك مفاتيح العلم كله‬
‫‪ ،‬وكذلك المعرفــة حيــث يســتلزم تقييــم المعرفــة امتلك ) نقطــة ( جامعــة أولــى‬
‫لنطلق المعارف كلها بحيث يمكن نقد المعرفة وطرائقها ‪ .‬ولما كانت الفلســفة‬
‫ة ول طريقة لتقييــم أو‬ ‫جامدة ) مسائل وإجابات ( فليست هي إذن علما ً ول معرف ً‬
‫نقد العلم والمعرفة ‪ .‬أما كون الفلسفة تريد أن تفعل كل ذلك فهو شيء وكونها‬
‫قد فعلته فهو شيء آخر ‪.‬‬
‫انظر النص التي ‪:‬‬
‫) هناك دراسات تناقش مدى أهمية النجازات الــتي حققتهــا الفينومينولوجيــا‬
‫في مجال تقدم العلوم النسانية على الخصوص ‪ .‬من أمثلتها الجــادة هــل قــدمت‬

‫انظر ) فلسفة المحدثين والمعاصرين ( ‪ /‬صفحة ‪. 145‬‬ ‫)‪(1‬‬


‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪10‬‬
‫الفينومينولوجيا جديدا ً للعلوم النســانية ؟ والمنشــورة فــي دراســات فلســفية‬
‫‪((2‬‬
‫مهداة إلى روح عثمان أمين وانتهى في إجابته على هذا السؤال بالنفي التام (‬
‫‪.‬‬
‫ً‬
‫وأضاف المؤلف قائل ‪ ) :‬لــم نتعــرض لهــذه المشــكلة بصــورة منفــردة وإنمــا‬
‫عالجناها ضمنيا ً عندما ناقشنا الجــذور الساســية لمــدى علميــة الفينومينولوجيــا ‪،‬‬
‫وانتهينا إلى أنها ليست علما ً وإنما هي نسق فلسفي ومن ثم فإنها لــم تقــدم أي‬
‫جديد يساعد على تطور العلوم عامة سواء كانت طبيعية أو إنســانية وطالمــا أنهــا‬
‫نسق فلسفي فإن تقييم إنجازاتها يقتصر على الدراسات المذهبية الفلسفية (‪.((3‬‬
‫ور أن مــا‬ ‫إن العبارة الخيرة للكــاتب هــي لجــبر خــاطر نفســه إذ ل يمكنــه تصـ ّ‬
‫اجتهد من أجله ليس بذي قيمة مطلقا ً ـ فقيمته تقتصر على الدراســات المذهبيــة‬
‫الفلسفية ‪،‬لكن ما هي منافع هذه الدراسات إذا لم تكن علما ً ول شيئا ً يقدم للعلم‬
‫جديدا ً وبمختلف فروعه الطبيعية والنسانية ؟؟‪.‬‬
‫والسؤال الن هو ) ما هي الفلسفة إذن إذا لم تكن هي كل ما ســبق ونفينــاه‬
‫عنها ؟ ( ‪ .‬إننا ننظر إليها على أنها رؤيا ذاتية منفردة ومنعزلة عن العــالم ‪ ،‬ولكــن‬
‫هذه الرؤيا في منظور الحل الجديد ) متطورة (خلفا ً لما ذكره اكثر النقاد ‪ .‬فالنا‬
‫ل الموضـوع‬ ‫قد اتخذ أوضـاعا ً مختلفــة عــبر التاريـخ ‪ ،‬والذاتيــة حل ّــت بالتدريـج محـ ّ‬
‫الخارجي وهو تطور )تقهقري( ‪ ،‬فهو ضروري بالنسبة للنا المنفصل عن الخــر ‪،‬‬
‫لن التطور المعرفي بالموضوع علميا ً ل ينتج منه إل تحفز عدواني للنا المنفصل‬
‫عن العالم ‪ .‬فالمعرفة تزيد الذاتية رســوخا ً خلفـا ً لمــا تفعلــه زيــادة المعرفــة مــع‬
‫الموضوعية أي أن تطور العلوم الطبيعية يزيد الذاتيين جهل ً علــى جهلهــم الول ‪.‬‬
‫إن هذا التحليل يفسر لنا ولول مرة سبب تخلف العلوم النسانية ومنها الفلسفة‬
‫بنفس النسبة التي يتقدم بها العلم الطــبيعي ‪ .‬فنحــن ل ننكــر تجــاور الفلســفات‬
‫وعدم تراكمها كالعلم ‪ ،‬بل نعتقد بتراكمهــا وتطورهــا ‪ ،‬لكنــه تطــور تراجعــي فيــه‬
‫المزيــد مــن الذاتيــة ‪ .‬ولــذلك ســنعّرف الفلســفة تعريف ـا ً آخــر ‪ :‬الفلســفة هــي ‪:‬‬
‫) طريقة للتفكير تحاول معرفة الشياء بصورة أعمق بكثير ممــا يفعلــه العلــم ول‬
‫تستعمل من أجل ذلك أية أدوات للعلم سوى التفكير ‪ ،‬فهي تلغي الموضوع خلل‬
‫التفكير فيه ( ‪.‬‬
‫ومثال ما يفعله الفيلسوف ـ وقد اتفقنا مبدئيا ً علــى أن الفيلســوف هــو غيــر‬
‫ر‬ ‫الحكيم ـ هو مثل ما يفعله رجل يريد الوصول إلى مدينة ما بطريقــة أســرع بكــثي ٍ‬
‫جدا ً مما هو مستعمل في أســرع وسـائط النقــل ولكنــه ل يســتخدم سـوى قــدميه‬
‫ح أن هنـاك طريقــة‬ ‫ورغبته في الوصول ويختار مدنا ً لم يرها أحد من قبــل ‪ .‬صــحي ٌ‬
‫للوصول بغير واسطة يفرضها المكان العقلــي والحــدس الوجــداني لكــن الرغبــة‬
‫ققه إذ يجب أن تتــوجه الرغبــة أول ً إلــى مصــدر المكــان‬ ‫وحدها في الوصول ل تح ّ‬
‫العقلي والحدس الوجداني لستخلص الطريقة الممكنة منهما ـ لن الناس كلهــم‬
‫متساوون في هذا المر ‪ ،‬فكلهم يرغب في الوصـول بهـذه السـرعة وهـم جميعـا ً‬
‫تقريبا ً يمتلكون أقداما ً صالحة للمشي ‪.‬‬
‫التعريف يحقق لك تفسيرا ً معقول ً لجميع الظواهر في الفلسفة وكما يلي ‪:‬‬
‫أ ـ ـ انفصــال المواضــيع الفلســفية وعــدم إمكانيــة جمعهــا أو توصــيل بعضــها‬
‫ببعض ‪ .‬وهذا أمر يحّتمه المنهج الفلسفي للمعرفة لنه يستعمل التفكيــر المجــرد‬
‫لسبر أغوار أعمــق فــي موجــودات ــ يقــوم العقــل مســتقل ً عــن أي منهــج بفهــم‬
‫ظواهرها الخارجية فهما ً جزئيا ً بمساعدة أشياء كثيرة ‪ :‬الحواس ‪ ،‬تراكمات الخبرة‬
‫‪ ،‬اختبارات عديدة على نفس الظاهرة ‪ ،‬معونـات بـالمنطق الحسـابي والرياضـي ‪،‬‬

‫الفينومينولوجيا عند هوسرل ‪. 22 /‬‬ ‫)‪(2‬‬

‫)‪ (3‬المصدر السابق ‪ /‬ص ‪. 22 :‬‬


‫النيلي ‪11-----------------------------------------‬‬
‫سجّلت لتاريخ الشيء أو الظاهرة ‪ ،‬فكيــف يمكــن فهــم هــذا الموجــود داخلي ـا ً‬
‫ء تــام عــن هــذه‬ ‫بنفس العقل وبنفس القــدرات الفكريــة فــي العقــل مــع اســتغنا ٍ‬
‫الشياء المساعدة ؟ كأن المنهج الفلسفي لم يكفه التعمق فــي الموضــوع فجمــع‬
‫معه النقص في الدوات !! أل ترى إنــه يشــبه عمــل الرجــل المســافر ‪ :‬لــم يكفــه‬
‫طلب السرعة فاستغنى معها عن الطائرة والسيارة ! ومــن المؤكــد بعــد ذلــك إن‬
‫المعرفة المزعومة ستكون وهما ً وخيــال ً ول تتواصــل لنهــا فــي حقيقتهــا ليســت‬
‫معارف بل أوهاما ً ل غير ‪.‬كذلك لو كان مثل هــذا الرجــل كــثيرين يريــدون الســفر‬
‫بهذه الطريقة ـ ويزعمون أنهم قد وصلوا فعل ً فهم يشعرون أنهم صادقون حينما‬
‫د منهم قد رأى الخر ول مرة ‪ ،‬وهم‬ ‫ن ما من أح ٍ‬ ‫بأ ّ‬ ‫ل‪ ..‬لكن الغري َ‬ ‫قالوا ‪ :‬وصلنا فع ً‬
‫مصـدّقٌ علــى أيــة حــال لنــك ل‬ ‫بالنسبة لنا واهمون حينما قالوا ‪ :‬وصلنا ‪،‬والواهم ُ‬
‫دقك ‪.‬‬ ‫تستطيع تكذيب من يتوهم مع نفسه فهو لن يص ّ‬
‫دعــوا أن الحقــائق‬ ‫غّلت اســتغلل ً بشــعا ً عنــد أولئك الــذين ا ّ‬ ‫هذه الظــاهرة اســت ِ‬
‫ق ل يمكــن للخريــن فهمهــا … ذلــك لن الــذين امتلكــوا‬ ‫تنكشف لهم وحدهم بطر ٍ‬
‫فعل ً مثل هذه القدرات كانوا من الحكمة ومن قلة العدد أنهم لم ُيخبروا بقدراتهم‬
‫وإنما الخرون فهموا هــذا المــر مــن خلل أفعــالهم ومــن قــدرتهم الفائقــة فــي‬
‫الجابة السريعة على المعضلت ‪.‬‬
‫ب ــ الختلف فــي وصــف الطريــق الموصــل إلــى الهــدف ‪ ،‬بــل وتعــديل هــذا‬
‫حد الهدف والتراجع أحيانا ً عن هذا الوصــف رغــم اســتمرار دعــوى‬ ‫الوصف رغم تو ّ‬
‫الوصول ‪ ..‬هو أمر آخر محتوم يحّتمه البعد السحيق بين الهدف والداة الموصــلة ‪،‬‬
‫وهذه هي فعل ً خصائص الواهم حيث يتغير وصف الطريق لديه دوما ً ويــتراجع عــن‬
‫أشياء أثبت المسافرون ببطء شديد أو بآلة سريعة أنها بخلف ما زعمه ‪. ((1‬‬
‫ج ـ الختلف في وصف المنطقة ) موضوع المعرفة ( مــن قبــل الــذين ادعــوا‬
‫الوصول إليها ‪..‬هو أمر آخر محتوم يحّتمه كونهم لم يصلوا إلـى المنطقـة بالفعـل‬
‫وإنهم متوهمون أو واهمون ‪ ،‬ولذلك يكون اختلفهم فــي العموميــات كــاختلفهم‬
‫في أدقّ التفاصيل ‪ ،‬فإذا حدث إن اتفقوا على أحدهما فقد اختلفوا فــي الخــر أو‬
‫العكس ‪ ،‬وترى انحيازهم إلى بعضهم البعض يتخذ شكل الرتياح النفسي للوصــف‬
‫الخاص بالموضوع ل علفة له بالدليل المنطقي أو العلمي ‪ ،‬ولذلك يحدث الـتراجع‬
‫أيضا ً عند التأييد أو الختلف ‪ .‬فلحظ تراجعات الفلسفة عن تأييد بعضهم البعــض‬
‫أو تراجعهم عن اختلف بعضهم مع البعض ‪.‬‬
‫دد في الموضوع أو الهدف المقصود ‪ .‬هــو الخــر أمــر يحّتمــه‬ ‫د ـ التشابه والتح ّ‬
‫ر يعجبــه الســفر بهــذه‬ ‫ل جديدٌ كل مرة أو كل عص ٍ‬ ‫الوهم أو التوهم ‪ .‬فإذا ظهر رج ٌ‬
‫الطريقة ) الفنطازية ( فلــن يجــرؤ بطبيعــة الحــال علــى اختيــار مدينــة جديــدة أو‬
‫منطقة يذهب إليها أسلفه في ) أحلمهم ( لنه سيكون عرضة للف التساؤلت‬
‫الجديدة ويحتاج إلى أن يبرهن على كل ذلك ‪ .‬اليســر لــه بــالطبع أن يســافر إلــى‬
‫نفس المكان حيث ذهب أسلفه ويعتمد المـر فـي تصـديقه علـى لبـاقته وحســن‬
‫ة أكــبر وإظهــار تفاصــيل‬ ‫تصرفه فيجب عليه وصف الطريق الموصوف سابقا ً بدقـ ٍ‬
‫أخــرى تتفــق مــع العلمــات المعلومــة ســابقا ً فــي الذهــان ‪ ،‬والضــرب علــى وتــر‬
‫المرتكزات الذهنية القديمة عن خصائص المدينة وطرقها بحيث أنه يجيــد الوصــف‬
‫ويجعله متناسقا ً أكثر مما فعل سلفه وبهذا ُيصبح فيلسوفا ً يشار له بالبنان ‪.‬‬
‫دق‬ ‫ه ـ افتعال النصائح للمسافرين بآلة ‪ .‬وهذا يــوجبه أمـٌر نفســي هــو أن يصـ ّ‬
‫الناس أنه بلغ الهدف وعلم خصائص الطريق ‪ ،‬وغالبا ً ما تظهر هــذه النصــائح عنــد‬
‫الفلســفة العرفــانيين ‪ .‬ولكــن إذا ســمع علمــة ذكرهــا أحــد المســافرين ) ببطــء‬

‫انظر تراجع هوسرل عن ) النا وحدية ( بعدما تعّرض للنقد وانظر تراجعه عن التراجع وانظر تراجعات كثيرة‬ ‫)‪(1‬‬

‫أخرى للفلسفة ‪.‬‬


‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪12‬‬
‫شديد ( من علمــات الطريــق رأيتــه مســرورا ً بهــا اكــثر مــن ســروره المزعــوم‬
‫بالوصــول وبمعرفــة الطريــق كــامل ً ! وهــذا أم ـٌر يــثير الدهشــة إذا لــم يكــن يــثير‬
‫السخرية ‪ .‬فما بال الفلسفة ينتظرون من العلم التجريــبي أن يمنحهــم موضــوعا ً‬
‫للبحث ؟ وما هي أهمية البحث الفلسفي بعد إن انكشف بــالعلم التجريــبي ؟ لقــد‬
‫حاول ) فلسفة ( يمكن وصفهم بـ ـ ) الموضــوعية ( أن يتمّلقــوا العلــم التجريــبي‬
‫ليمنحهــم شــارة احــترام وذلــك بتأســيس فلســفة تقــوم علــى مغازلــة العلــم‬
‫التجريبي ‪.‬وهذا مثل أن يقول الرجل لصاحبه ‪:‬أعطني كذا دينارا ً سّرا ً بيني وبينــك‬
‫ة‬ ‫ة ‪ ،‬فإذا عطف عليه وأعطاه نادى بأعلى صوته ‪ :‬خذ هذه الدنانير هدي ً‬ ‫ة حسن ً‬‫قرض ً‬ ‫ٌ‬
‫مني لك ولسمع بعد اليوم من يقول أن هناك من يعيلك غيري ! وذلك هو موقــف‬
‫قادهــا ‪ ،‬وهــو‬ ‫الفلسفة من العلم تؤكده جميع تقارير الفلسفة وجميع شارحيها ون ّ‬
‫موقف يتسم بالنانية والستبداد والستعلء على ما هي محتاجة إليه ‪.‬‬
‫و ـ الستعلء والستكبار ‪ .‬بدءا ً من مقترح أن يحكــم الفلســفة العــالم ومــررا ً‬
‫بمقولة ابن عربي ‪ ) :‬فالرب فيك وأنت صورته ( ومــرورا ً بـ ـ ) العقــل المجــرد ( و‬
‫) النا الوحد ( وانتهاءً بسار تــر ) تعــالي النــا ( ــ صــورة واحــدة ونفســية واحــدة‬
‫جه الواهم ‪ ،‬الواهم عن قصد وبغوايــة منقطعــة النظيــر تقضــم‬ ‫جه واحد هو تو ّ‬ ‫وتو ّ‬
‫كل ما يأتي بين يديها وهي تلتهم بشراهة ) مقولت دينية ( ومباديء ) موحاة من‬
‫ســس‬ ‫السماء ( لتحيلها بعد اجترار طويل إلــى تماثيــل منحوتــة بــديل ً للصــنام وتؤ ّ‬
‫) إلحادا ً دينيا ً ( و ) كفرا ً آتيا ً من الســماء ( ــ ولــم تتعــرض فــي كــل ذلــك ول مــرة‬
‫واحدة إلى نقد أو إعادة النظر بــالداة المســتخدمة لــذلك وهــي ) اللغــة ( لنهــا ل‬
‫تريد أن تثير مشكلة على نفسها ول تحاول كشف حقيقتها ‪ .‬ولذلك فالفلســفة ل‬
‫زالت تبحث عن نفسها وهذا ) قــدرها ( المحتــوم لن الــواهم بشــأن الشــياء هــو‬
‫واهم ومتوهم في البدء مع نفسه ‪.‬‬
‫‪ .‬ـ كثرة الضحايا ‪ .‬وهو أمر يحّتمه الوهم الجماعي ‪ ،‬مجموعــة تــدفع إلــى هــذا‬
‫الوهم بقوة ومجموعة تنخدع وتقع ضحية لهذا الوهم ‪..‬وأكبر الضحايا هــي أســماء‬
‫ك ديكــارت كــان فــي محل ّــه ‪ ..‬لقــد افــترض فــي‬ ‫لمعة في الفلسفة ‪ ،‬فمثل ً إن ش ّ‬
‫البدء أن عليه أن يتصور وجود خطأ ما فــي كــل شــيء وفــي كــل معلومــة وصــلته‬
‫ويبدأ من جديد ‪ ،‬يبدأ مما لشك فيــه ‪ ،‬فاعتقــد أن احتمــال الخطــأ ســببه أمــران ‪:‬‬
‫الول القصــور فــي فهمنــا للحقــائق والثــاني وجــود قــوة محتملــة كــائدة مثــل‬
‫) الشيطان ( توهمنا وتغوينا‪. ((1‬‬
‫إن ديكــارت محــق جــدا ً فــي النــاحيتين وإن كانتــا فــي الصــل ســببا ً واحــدا ً ‪،‬‬
‫فالشيطان ليس قوة غير منظورة إنه تعبير عن ) الغواة ( من بني النســان وهــم‬
‫دمه لهم من نقاط الضعف ‪ :‬قصورنا بل تقصيرنا فــي الفهــم ‪،‬‬ ‫ل يغوونا إل بما نق ّ‬
‫ب شـديدٌ للتعـالي وأشـياء‬ ‫جح وحـ ّ‬ ‫وعجلة في الوصول إلى الحقائق ورغبة في التب ّ‬
‫كثيرة يوهمنا أن نفعلهـا لنكـون أضـعف منطقـا ً واقـل فهمـا وأكـثر إسـراعا فـي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ددهــا وراءه شــارحين‬ ‫دقها ونر ّ‬ ‫تصــديق أوهــام ٍ يجعلنــا نقولهــا بأنفســنا ونصــ ّ‬
‫وموضحين لغوامضها ‪.‬‬
‫ك فــي كــل شــيء يكــون‬ ‫وحتى يحين الوقت الذي يأتي فيه مثل ديكارت ليش ـ ّ‬
‫عـدد الضــحايا الــذين وقعــوا فـي هــذه المكيــدة كــبيرا ً ‪ .‬وديكــارت نفســه هــو أول‬
‫الضحايا ‪ ،‬شأنه في ذلك شأن السابقين عليه ‪ ،‬والشيطان الذي حاربه ديكــارت مــا‬
‫قال ولن يقول ) ديكارت كان مخطئا ً ( ‪ ..‬بل ســيكون ) الشــيطان ( أول ديكــارتي‬
‫يتتلمذ على يده وأول من يقوم بشرح غوامضه ‪ ،‬وإذا لم تكن هنــاك غــوامض عنــد‬
‫ب الناس ديكارت ؟! وحينما‬ ‫ديكارت الواضح جدا ً فسينظر الشيطان ‪ :‬لي شيء أح ّ‬
‫ك في كل شيء ليبدأ من شيء ثابت يقيني وأنه بهذا‬ ‫يكتشف أنهم أحبوه لنه يش ّ‬
‫)‪(1‬‬
‫مبادئ الفلسفة ‪ /‬ص ‪. 92 :‬‬
‫النيلي ‪13-----------------------------------------‬‬
‫العمل قد ) قضــى علــى الشــيطان ( بالضــربة القاضــية ‪ ،‬فسيبتســم ويقــول ‪:‬‬
‫حسنا ً يا صديقي ديكارت ! سأشرح فلسفتك للعالم بأسره وسأكون أول ديكــارتي‬
‫شرك بشيء ‪ ..‬سأكون أنا أيضا ً ذلك الشيء اليقينــي الثــابت الوحيــد‬ ‫فيه ولكني أب ّ‬
‫الذي تبدأ منه !!‬
‫إن الشيطان لم يجلس بانتظار أن ينتهي ديكارت من وضع فلسفته ‪ ..‬بل هــو‬
‫هناك يدور حوله ويجادله ويساومه حتى تحمّر عيناه ول يكتب ديكارت شيئا ً إل بعد‬
‫أن يحدث اتفاق مبدئي على الصيغة ‪ ،‬والشيطان الذي هو فــي داخــل الفيلســوف‬
‫م جدا ً جدا ً ‪ :‬إن الشيطان أعلــم‬ ‫أو هو خارجه شخص بارع ‪ ،‬وأود أن أخبرك بسّر ها ّ‬
‫من الفلسفة في موضوع ) اللغة ( وهو دوما ً يعثر على المفردات والجمــل الــتي‬
‫تضع الحل النهائي للصراع بينه وبيــن الفيلســوف ‪ .‬وبــالطبع ل يوافــق الشــيطان‬
‫دة‬ ‫على الصيغة النهائية حــتى تكــون قابلــة لن يشــرحها فيمــا بعــد بطريقــة مضــا ّ‬
‫جهاته الصلية ويمكــن أن يتأمــل فيمــا بعــد بــأوراق ديكــارت‬ ‫لرغبة الفيلسوف وتو ّ‬
‫ليضع ) تأملت ديكارتية ( ويضع مجموعة ديكارتية كبيرة ‪ .‬وهكذا ســيبعث ديكــارت‬
‫ليمان الغليظة لجميع الملئكة بأنه لم يكــن‬ ‫يوم القيامة وأحسبه سينكر ويحلف با َ‬
‫ديكارتيا ً قط !‬
‫كان ديكارت على علم ٍ بقصة ) طرد الشيطان ( من الجنــة ‪ ،‬لقــد كــان الســبب‬
‫ت كــان فيــه مســتيقنا ً مــن نفســه ‪،‬‬ ‫ك في الخر ـ آدم ــ فــي وقـ ٍ‬ ‫في طرده أنه ش ّ‬
‫والن في نفس ديكارت ـ حفيد آدم ـ رغبة شديدة في الثأر ! وحينما قال ديكارت‬
‫ك فــي‬ ‫ك في كل شيء ‪ ،‬ارتعب الشيطان فعل ً لنه اعتقد أن الرجل يش ّ‬ ‫‪ :‬بدأت أش ّ‬
‫المقــولت وفــي الفكــار وتأمــل قليل ً ثــم ســأل ديكــارت ‪ :‬بــأي شــيء تشــك يــا‬
‫ك ‪ .‬فقال الشيطان‬ ‫ديكارت ؟ فأجابه منزعجا ً ‪ :‬بكل شيء بكل شيء وبك أيضا ً أش ّ‬
‫‪ :‬بك ؟ ولم يقل الشيطان ) بي ( كما تقتضيه اللغــة ‪ ،‬وهكــذا انتقــل ديكــارت مــن‬
‫المقولت إلى الموجودات بل شعور منه وسأل نفســه فــي حيــن ابتعــد الشــيطان‬
‫ك إذن ؟ أليــس‬ ‫ك فــي نفســي ؟ كل‪ ..‬كل كيــف أفكــر بالشــ ّ‬ ‫قليل ً ‪ ،‬ســأل ‪ :‬أ أشــ ّ‬
‫تفكيري دليل على أني هنا بالفعل وأني موجودٌ حقا ً ؟ ولما تأكد مــن ذلــك كتــب ‪:‬‬
‫ك فــي حقيقــة هــذه الشــياء‬ ‫) ل نستطيع أن نفترض أننا غير موجودين حيــن نشـ ّ‬
‫جميعا ً لن مما تأباه عقولنا أن نتصور أن ما يفكر ل يكون موجودا ً حقا ً حين نفكــر‬
‫…(‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وإذن فما دام ديكارت يفكر بالشك فإنه ل يشك في كونه موجودا ‪ .‬ثــم كــانت‬
‫من بعد العبارة الشهيرة ‪ ) :‬أنا أفكر إذن أنا موجود ( ‪ .‬وقهقه الشيطان على باب‬
‫ديكارت بضحكات هستيرية مدوية وصاح ـ ومن المؤسف أن الفيلسوف لم يسمعه‬
‫ـ صاح قائل ً ‪ ) :‬يا صديقي المسكين لقد وقعت في الفخ مــن أول ســطر ‪ .‬ل أريــد‬
‫شيئا ً سوى أن تفعل فعلي ‪،‬ـ تنكر الخر وتثبت نفسك ـ ‪ ..‬يــا رجــل لقــد أرعبتنــي‬
‫ك‬ ‫ك في الفكار وأنك مصر على ذلك فما أسرع ما تحولت إلى الشــ ّ‬ ‫ظننت أنك تش ّ‬
‫في المخلوقات ‪ ..‬أنت الن بدأت في طريقي ـ طريق الشيطنة وسأحملك مرغما ً‬
‫ردت أنــا منهــا بســببك ؟‬ ‫على أن تقــول مــا أريــده ‪ .‬أ تريــد الرجــوع إلــى جنــة طُـ ِ‬
‫هيهات ‪ ..‬هيهات أن يحدث ذلك وبي ما بي من حياة !! اسمع يا هذا فإني ســأنفخ‬
‫فـي هــذا ) النـا ( ‪ ،‬سـأنفخ فيــه دومـا ً ‪ ،‬سـأنفخ فيــه بكــل مـا أوتيـت مـن قـوة ‪،‬‬
‫وسأجعله أكبر من السماء ‪ ،‬بل سـأجعله يحتـوي علـى ) الـرب ( نفسـه ‪ ،‬سـأجعله‬
‫) العلى ( وسأجعله ) الوحد ( في العالم‪. !! .. ((1‬‬
‫لقد أوحى لنا صـراع ديكـارت مـع الشـيطان بفكـرة غريبـة هـي أن نسـتعرض‬
‫الفلسفة بمجملها ونحاول توحيد خطوطها ونبحث عن منشأها وهدفها في داخــل‬
‫)‪(1‬‬
‫المفردات بين القواس أسماء أفكار وكتب فلسفية تدور حول تعظيم ) أنا ( الكوجيتو‬
‫الديكارتي ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪14‬‬
‫ســدة مريضــة بمــرض نفســي نكشــفه‬ ‫) اللوعــي ( ‪ ،‬ونعتبرهــا ) شخصــية ( مج ّ‬
‫للقارئ من خلل محاورات تجــري فــي اجتماعــات متخّيلــة للشــياطين المختصــين‬
‫ور ديكــارت ‪ ،‬وذلــك فــي‬ ‫بالفلسفة والذين يحاولون تضليل بني النســان كمــا تصـ ّ‬
‫مؤتمر للشياطين اسمه مؤتمر إلغاء أو إزالة آثار الحكمة‬
‫النيلي ‪15-----------------------------------------‬‬

‫الجلسة الولى لمؤتمر الشياطين‬


‫المسمى‬
‫) فريق إلغاء الحكمة (‬

‫م انعقاد هذا المؤتمر ) الخيالي ( للشــياطين ) غيــر المنظــورين ( بعــد مــوت‬ ‫ت ّ‬


‫ديكــارت بمـدة طويلــة ‪ ،‬حيــث يناقشـون فيـه مشـاكلهم ويستعرضــون إنجـازاتهم‬
‫وخططهم للتعاون مع أرباب الفكر الفلسفي مــن بنــي النســان وقــد حضــر هــذا‬
‫المؤتمر مسئولو القارات المسكونة ‪ ،‬وبعضهم كبار في السن ـ حيث يبلغــون مــن‬
‫العمر ثلثين ألف سنة أو أكثر ـ كما حضره عدد من الزائرين باختصاصات مختلفــة‬
‫كثيرة قدموا من كواكب أخرى ‪.‬‬
‫وجرت العادة قي مثل هــذا المــؤتمر أن ي ُــذكر ) إبليــس ( أول ً فــي ) كليشــة (‬
‫قديمة مكررة هي ‪ ) :‬نتقدم بالشــكر الجزيــل والمتنــان العظيــم لســيدنا وكبيرنــا‬
‫ورئيسنا إبليس الول ـ رئيس البالسة ـ على ما هدانا إليه من تعظيــم ) النــا ( ‪،‬‬
‫فقُتــم‬ ‫وما أدى إليه من تأخير جسيم ٍ في إصابتنا بالعذاب الليم دهورا ً وأحقابا ً ‪ِ ..‬‬
‫و ِ‬
‫د ‪ ) :‬باقين ‪ ..‬بــاقين أبــد‬ ‫ت واح ٍ‬‫لهذا أبد البدين … ( ‪ .‬ويردد الحاضرون بعدها بصو ٍ‬
‫س بيــن الحضــور ‪ ،‬فبعضــهم‬ ‫البدين ‪ ..‬بعيد ‪ ..‬بعيد مـا توعــدون ( ‪ .‬ثــم يــدور همـ ٌ‬
‫يقــول إن ) مــا ( فــي الكلمــة الخيــرة نافيــة وبعضــهم يقــول موصــولة وآخــرون‬
‫مل أن تعمل عمل النافية بعد دهور ! وبعضهم يكــاد يحتــج‬ ‫يقولون إنها موصولة يؤ ّ‬
‫علــى تلــك ) البــاقين ( المنصــوبة !! ‪ .‬وفــي مثــل هــذه الشــؤون ل يســأل أحــد‬
‫تــدمير اللغــات ( الــذي يحضــر عــادة جميــع المــؤتمرات‬ ‫) الخــبير بشــؤون‬
‫ي شــيء يقــوله الخــبير المــذكور بشــأن‬ ‫دقوا أ ّ‬ ‫الشيطانية لن مــن عــادتهم أل يصـ ّ‬
‫فـذون تعـاليمه بدقــة متناهيــة لن لـه مـن‬ ‫القواعـد والعـراب ‪ ،‬لكنهــم بـالطبع ين ّ‬
‫ر ! وفي البدء طلب رئيس المؤتمر‬ ‫د منهم ‪ ..‬لكأنه أمين س ٍ‬ ‫الصلحيات ما ليس لح ٍ‬
‫من الحضور بعض الشياء عندما قال ‪:‬‬
‫ول شيء أؤكد عليه هنا هو أننا لــم نجتمــع للضــحك والســتهزاء‬ ‫رئيس المؤتمر ‪ :‬أ ّ‬
‫من بني النسان مهما بلغنا من القدرة على تضليلهم عن ) الحقيقة ( ‪ ،‬لــذلك ل‬
‫تكثروا من السخرية والتندر ‪ .‬والشيء الخر هـو أن نسـتذكر فـي كــل مـؤتمر لنـا‬
‫أفعالنا العظيمة لنها ترفع من شــعورنا بــالتفوق ‪ ،‬وعلــى كــل مســؤول أن يــذكر‬
‫أيضا ً المشاكل التي تواجهه إن وجدت ‪.‬‬
‫) وبعدها تحدث المعاون ‪( ..‬‬
‫المعاون ‪ :‬إن قضــيتنا المركزيــة واضــحة ومعلومــة للجميــع ‪ ،‬فالحقيقــة واحــدة ل‬
‫م شيء قمنا به هو جعل النسان يجّزأ ما يتــوهم انــه الحقيقــة ‪ ،‬وإذن‬ ‫تتجزأ ‪ .‬وأه ّ‬
‫فأمامه دهر طويل حتى يجمع ما توهمه ثم يتأكد أن هذا المجموع وهم ‪ ،‬وإذا أراد‬
‫أن يبدأ من جديد بدأنا معه من جديد وعندها سيحتاج إلى دهر آخر حــتى يبــدأ مــرة‬
‫أخرى ‪ ..‬وهكذا دواليك ‪ .‬وإن الحقيقة الوحيدة هــي ) اللــه ( ‪ .‬والنســان ل يبحــث‬
‫في الواقع إل عن الحقيقة ‪ ،‬فهو يريد إلها ً ونحن نعطي لكل شخص إلها ً وعلى ما‬
‫يبغيه ‪ ،‬وقد ذهب عهد نوح الول ونوح الثاني ‪ ،‬فإنكم تعلمون أن شعبيهما تعلق بـ‬
‫) يغوث ويعوق ونسرا ( لن هؤلء كانوا رجال ً صالحين ‪ .‬وحينمــا رغبــوا بالحصــول‬
‫على إله أعطينا لكل جماعة الله الذي يعجبهم ‪ ،‬فهذا المر قــد ضــمن لنــا التعــدد‬
‫مر تلــك الخطــة‬ ‫ومن ثم المفاضــلة ومــن ثــم الشــقاق والتقاتــل بينهــم ‪ ،‬ولــم يــد ّ‬
‫العظيمة إل ّ تلك المأساة التي وقعت في الطوفان ‪ ،‬فقد حدث نقــص شــديد فــي‬
‫أتباعنا من بني النسان استلزم القيام بعمل إضافي ‪ .‬ومع ذلك فأنــا ل أعتقــد أن‬
‫مثل هــذه البلــوى ســتقع مــرة أخــرى بعــد تلــك السلســلة مــن الرســل والنبيــاء ‪.‬‬
‫) محمــد (‬ ‫فالوضع أصبح مختلفا ً ‪ ،‬فمنذ إن أدخل ) المســيح ( الهيكــل وارتقــى‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪16‬‬
‫أسباب السماء شعرت شعورا ً قويا ً بأن النسان قد بدأ يعجبه أن يجد اللــه فــي‬
‫داخل نفسه ‪ .‬في حين أن هذا الشعور كان ضــعيفا ً جــدا ً عنــد أفلطــون الــذي ت ـ ّ‬
‫م‬
‫التفاق معه بعد جهود مضنية علــى الصــيغة الــتي اســتمرت فــي أثينــا ألــف ســنة‬
‫ة كأحسن ما يكون التطبيق وهي من الشياء التي لزالوا يفخرون بها‪. ((1‬‬ ‫مطَب ّ َ‬
‫ق ً‬ ‫ُ‬
‫ّ‬
‫إن الذين اتبعوا المسيح كانوا بالنسبة لنا مشكلة كبيرة ‪ .‬ومع ذلك فقد تمكنــا مــن‬
‫أن نضع على لسانهم ما كنا نريده بعد إن انتظرنا هلكهم ‪ .‬ومــا يعجــب النســان‬
‫هو أن يكون إلها ً ‪ ،‬وكانت تلك فرصة عظيمة خلطنا فيها خلطتنا بين ) الرب ( و )‬
‫الله ( فجعلناهم يقولــون ) المســيح ربنــا ( ‪ ،‬لنهــم كــانوا لزالــوا يتحّرجــون مــن‬
‫القول بأنهم ) أرباب ( فليكن في البدء إنسان واحدٌ رب ّا ّ ‪ ،‬فذلك يدغدغ مشــاعرهم‬
‫د منهــم ) رّبـا ً ( لنفســه أو‬ ‫ويجعلهم يشعرون أنهم في الطريق لن يكون كل واحـ ٍ‬
‫ً‬
‫ة وإن المسيح يؤكد أنه ابن النسـان وإن مـن يمتلـك يقينـا مثلـه فـإنه‬ ‫لغيره خاص ً‬
‫يفعل فعله ‪ .‬ثم جعلناهم يقولون إن المسيح الرب هو ابــن اللــه ‪ ..‬وتلــك خطــوة‬
‫عظيمة لم تكن ممكنة مطلقا ً حتى في عهــد نــوح ‪ ،‬لن النــاس فــي ذلــك الزمــان‬
‫يرون في الرب والله أنه ) آخر ( ول يمكن أن يكون هــو ) النــا ( ‪ ،‬أمــا الن فــإن‬
‫دعي كـل منهـم أنـه رب أو حـتى ألـه بأيـة‬ ‫دون لن يـ ّ‬ ‫بنـي النسـان جميعـا ً مسـتع ّ‬
‫صورة ‪ ،‬سواء أكان هذا الستعداد شعوريا ً عندهم أم ل ‪.‬‬
‫رئيس المؤتمر ‪ :‬هذه مبالغة ‪ .‬أراك لم تستثن أحدا ً ؟‬
‫المعاون ‪ :‬آ ‪ .‬عفوا ً ‪.‬بالطبع ما عدا أقلية يمكن إهمال عددهم ‪.‬‬
‫) ثم استرسل المعاون في ذكر النجازات التي تحققت قبل المسيح وبعده‬
‫‪ .‬وأوكــل مهمــة استقصــاء التفاصــيل إلــى أعضــاء المــؤتمر مشــيرا ً إلــى أن‬
‫مسؤول الفلسفة الشرقية لديه تفاصيل كثيرة فيما يخص منطقته ‪ .‬وبعــدئذ‬
‫انبرى هذا المسؤول قائل ً (‬
‫ي ‪ .‬وإذا كــان‬ ‫المشرقي ‪ :‬نحن الن في راحة تامة لن المشرق في سبات فلســف ّ‬
‫الفلسفة والمفكرون في مركز الشعاع الوروبــي يجــتّرون نفــس الفكــار الــتي‬
‫أوحينا لهم بها ‪ ،‬فإن المشرق يجتّر الن ما يلفظه الغرب عليه بل إعمال روية ول‬
‫تدقيق ‪ .‬أما ما كان سابقا ً في المشرق فقــد اتخــذ قالبـا ً ثابتـا ً ‪ ،‬والســاتذة الجــدد‬
‫والفلسفة المعاصرون في قبضتنا ‪.‬‬
‫) وأراد هذا المسؤول أن يضحك إل أنه تمالك نفسه ثم أردف قائل ً (‬
‫ع شديدين وبدل ً من أن يتعرف‬ ‫المشرقي ‪ :‬حينما جاء ابن طرخان جاء بقوة واندفا ٍ‬
‫على ) الحقيقة ( جعلته وبمساعدة أصحابي يحاول إثبات) وجودها ( !‬
‫ع همهمــة ضــاحكة فــي أحــد جــوانب القاعــة إل ّ أنــه يتــم تجاهلهــا ويســتمر‬ ‫) ُتسم ُ‬
‫المسؤول الشرقي في حديثه (‬
‫ً‬
‫المشرقي ‪ :‬ابن طرخان البارع في الموســيقى والفــن كــان متــدينا جــدا ومتوقــد‬
‫وجد ويعلم كذلك أنه سيموت ‪ .‬وبـدل ً مـن أن‬ ‫الذهن وهو يعلم أنه لم يكن شيئا ً ثم ُ‬
‫دم نفسـه دليل ً عليـه ‪،‬‬ ‫يسـتمد وجـوده مـن الموجـد الول ويثبـت وجـود نفسـه قـ ّ‬
‫والنتيجة هي أننا جعلناه يكتب ثلثمائة رسالة وكتاب في إثبات وجود الله ‪ ،‬فأصبح‬
‫رجل ً محبوبا ً للغاية ‪ ،‬والناس يقولون انظروا إلى إيمانه وتقواه ‪ :‬الفــارابي أثبــت‬
‫وجود الله !!‬
‫) تصفيق شديد في القاعة يمتزج بضحك عارم ‪ ،‬يسكن من ثم بإشــارة‬
‫من رئيس المؤتمر الذي يقول معقبا ً وهو يبتسم (‬
‫درون أعماله ؟؟!‬ ‫الرئيـس ‪ :‬الفقهاء والعلماء إذن يجّلون الفارابي ويق ّ‬
‫المعاون ‪ :‬طبعا ً سيدي لنهــم كــانوا يص ـّلون كــثيرا ً وقــد اطمــأنوا الن إلــى أنهــم‬
‫يصّلون لكائن موجود ! لكنهم ربما انتقدوه على أشياء أخرى ‪.‬‬
‫)‪(1‬‬
‫قصة الفلسفة ‪ /‬وول ديورانت ‪.‬‬
‫النيلي ‪17-----------------------------------------‬‬
‫) ترتج قاعــة الشــياطين بالضــحك مــرة أخــرى ‪ ،‬ويتغاضــى الرئيـــس‬
‫ويشاركهم فرحتهم ‪ ،‬ثم يلتفت إلى المسؤول اللغوي قائل ً (‬
‫الرئيـس ‪ :‬الله موجود ! هــه ! بصــيغة اســم المفعــول ؟ هــه ! لقــد وجــدت اللفــظ‬
‫مكّررا ً في كتب الفلسفة والعرفانيين آلف المــرات ‪ .‬كــم أنــت رائع ومبــدع أيهــا‬
‫اللغوي الريب !‬
‫ن‬
‫شـرا كـأنه يقـول للرئيـس ‪ :‬أ ِ‬ ‫ً‬ ‫) بسرعة يضع شيطان اللغة إصـبعه علـى فمـه مؤ ّ‬
‫ضــح الشــياء هكــذا للعضــاء ‪.‬وبعــدها أشــار الرئيـــس للمســؤول‬ ‫اســكت ول تو ّ‬
‫المشرقي كي يواصل حديثه (‬
‫المشرقي ‪ :‬وهكذا فالجميع يحسدون من هو مثل الفارابي وابن رشد وابن ســينا‬
‫دين يــرون أن هــؤلء أعلــى مقامـا ً منهــم وأكــبر‬ ‫والغزالي ‪ .‬وحتى الفقهاء في الـ ّ‬
‫قدرة على التفك ّــر فــي مــا وراء المحسوســات ‪ .‬ويمكننــي أن أقــول أنــه إذا كــان‬
‫الساتذة والدارســون يغبطــون هــؤلء الفقهــاء والفلســفة فــالمجموع كلــه إنمــا‬
‫ل على إثبات الخالق من خلل إثبات الذات ‪ ،‬فالذات النســانية قبــل‬ ‫يشتهي أن ي ُدَ ّ‬
‫ككون في وجود الخالق فهم أصــحاب الفضــل‬ ‫الله وهذا هو المطلوب ‪ .‬وأما المش ّ‬
‫دموا لنا خدمة جليلــة فــي‬ ‫الكبر في تحويل اتجاه الموضوع إلى هذا التجاه فقد ق ّ‬
‫هذا الشأن‬
‫) يسكت للحظات ثم يواصل الحديث (‬
‫المشرقي ‪ :‬يمكنني أن أقول أن صديقي المسؤول الغربي الوروبي قد أخذ هــذه‬
‫الفكار جاهزة بعد جهودي المتواصلة ‪ .‬إن ديكارت كان يقول ‪ ) :‬أنا أفكر ‪ ،‬إذن أنا‬
‫موجود ‪ ،‬إذن الله موجود ( ‪ .‬وذلك هو عين ما قاله الفــارابي ‪ ) :‬أنــا أتفلســف مــع‬
‫أفلطون وطاليس ـ أنا أثبت وجود الله ( ‪ .‬وليس لصــديقي الن مــن عمــل ســوى‬
‫أن ينفخ في ) النا ( بصورة متواصلة ‪.‬‬
‫ً‬
‫) يثب المسؤول الغربي على قدميه مذعورا ‪ ،‬ثم صرخ وهو يقول (‬
‫ب‬‫المغربــي ‪ :‬هــذا الســخيف يســتهين بجلئل أعمــالي ! ســيدي الرئيـــس أطلــ ُ‬
‫معاقبته !‬
‫) يحدث هيجان شديد في قاعة المؤتمر ‪ ،‬فيسكنه الرئيـس بقوله (‬
‫الرئيـس ‪ :‬بل أتركك ترد عليه ‪.‬‬
‫) يستعيد المغربي هدوئه ثم يأخذ بالكلم قائل ً (‬
‫المغربي ‪ :‬إن ابن النسان يفكر بنفس الطريقــة ويوشــك أن يتوصــل إلــى نفــس‬
‫النتائج وعلينا أن نعيد ونجدد المكائد ‪ ..‬لقد شعر ديكارت بقوة عملي فـأثبته بخــط‬
‫يده ‪ ،‬وهذا يزعم أن الشياء جاهزة فيا له مـن جاهــل ‪ ،‬يبــدو أنـه ل زال مـن عهـد‬
‫الفارابي عاطل ً بل عمل !‬
‫المشرقي ‪ :‬هذا تزوير إذ أن عشــرات قــد جــاءوا مــن بعــد الفــارابي وابــن رشــد ‪،‬‬
‫قحــت تســعة مجلــدات‬ ‫وفة وعرفــانيون وأعمــال مضــنية جســيمة ‪ ،‬فقــد ن ّ‬ ‫متصــ ّ‬
‫للشيرازي فـي اتحـاد ) الوجـود بالموجـد ( ‪ ،‬وأربعـة مجلـدات فـي اتحـاد ) الخلـق‬
‫بالحق ( وعشرات أخرى في الماهيات والمثل والصور والتمثلت والعقل ‪ .‬وكانت‬
‫م كنــت تتوســل‬ ‫) النا ( فيها منفوخة كبيرة وكبيرة بقدر رأسك ! وأل ّ فقل لــي ل ِـ َ‬
‫إلى القاصي والداني من أجل ترجمتها إلى اللغــات الوربيــة إذا كــان تفكيــر بنــي‬
‫النسان واحدا ً والجميع يبدءون من نفس النقطة ؟‬
‫) يرد مسؤول الشياطين في أوربا بهدوء (‬
‫سعا ً في مفاهيم مترجمة أصل ً عن اليونانية‬ ‫المغربي ‪ :‬هذه التي تقولها أليست تو ّ‬
‫؟ فإذا أقررت بذلك فلنقل أنها كانت متعبة لك كما هي متعبة لي ‪.‬‬
‫) يعلق رئيس الشياطين قائل ً (‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪18‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬هذا هـو الحــل ‪ .‬فلكــل شــيطان منكــم فضــله وعملــه ولتنتهــي هــذه‬
‫المجادلة إذ ليس المهم هو استعراض العمال فقط ‪ ،‬الهم من ذلــك أن تفســروا‬
‫فكر بني النسان ‪ ،‬وأن تعلموا لماذا اتبعــوكم فــي بعــض مــا توحــون إليهــم ‪ ،‬لن‬
‫علينا أن نسبقهم دوما ً‪ ،‬علينا أن نعلم وجهين ) الحقيقة وعدمها ( ‪ ،‬ونعلم لمــاذا‬
‫أعجبهم الخذ بخلف الحقيقة في وقــت أننـا نقـوم بعــرض وجــه الحقيقــة حينمـا‬
‫نؤكد لهم على خلفها ؟‬
‫المشرقي ‪ :‬أعتقد سيدي ـ وبحكم عملــي مــع أنــواع اكــثر مــن الفلســفة أو هكــذا‬
‫عدّ السحر والكهانة والشــعر مــن الفلســفة ‪ ((1‬ـ ـ إن‬ ‫بعض بني النسان يعتقد ‪ ،‬إذ ي ُ ِ‬
‫د ســواء ‪.‬‬ ‫مسألة اللوهية هي المســألة المركزيــة بالنســبة لنــا وللنســان علــى حـ ٍ‬
‫فالنسان أمام طريقين ل ثالث لهمــا مــن أجــل الوصــول إلــى الملــك والســلطان‬
‫ن بها حينما خلق لول مرة‬ ‫ح َ‬
‫ش ِ‬‫والتحكم في الشياء ‪.‬وهذا الهدف هو الرغبة التي ُ‬
‫‪ ،‬شحنه الله بهذه الرغبة الجامحة ثم كايده بها كيدا ً وقال لــه ‪ :‬هــذا الملــك وهــذا‬
‫السلطان وهذه السماوات وهذه الرض كلهـا بيــن يـديك لنـي أسـتطيع أن أخلــق‬
‫أكوانا ً ل حصر لها بل روية ول تعب ول مرور زمان ‪ ،‬لكن عليــك أن تمــر إلــى هــذا‬
‫السلطان من باب الذل والعبودية والخضوع لي وحدي ووحـدي فقـط ‪ ،‬ولجـل أن‬
‫أشبع رغبتك في رؤية نفسك عظيما ً ســأجعل مــن جنســك أفــرادا ً م ـّروا مــن هــذا‬
‫الباب في زمن ل تدركه ‪ ،‬وأريك كيف يتحكمون بالشياء وكيــف يســيطرون علــى‬
‫الطبيعة ‪ .‬فكن حذرا ً ومنتبها ً إذ سوف أكايدك وأفتنك لني سأجعل هؤلء مثلــك ل‬
‫يختلفون عنك ‪ ،‬يأكلون ممــا تأكــل ويلبســون ممــا تلبــس ويمرضــون كمــا تمــرض‬
‫ويموتون كما تموت ‪ .‬وهذا التضاد في الفكرة نفسها قــد س ـّبب للنســان مشــكلة‬
‫صل إلى حلها إل ّ حينما يتميز بصفاء تــام ‪ .‬ويبــدو أن‬ ‫عويصة ‪ ،‬وهو ل يستطيع التو ّ‬
‫هذا هو المطلوب من الفكرة كلها ‪ .‬لذلك فإن النسان يجد ) مرارة ( في الوصول‬
‫ة يتعرض فيها‬ ‫إلى السلطان من باب الذل والهوان ‪ ،‬ولكن حماقته تبلغ أحيانا ً درج ً‬
‫للذل والهوان والخزي مــع أبنــاء جنســه مــن أجــل ســلطان مزيــف حقيــر مشــوب‬
‫بالخوف والترقب ‪ .‬ولنفس السبب سيدي الرئيـس يرغــب النســان فــي الوصــول‬
‫ل علــى قــدر طمــوحه وقــدراته‬ ‫إلى سلطان التحكم والربوبية بشتى الطــرق وك ـ ّ‬
‫الذاتية ‪ .‬فالـذي ل يقـدر علـى التأمــل العميــق واســتعمال اللفــاظ ربمــا يمـارس‬
‫السحر لنه يشعره بتحكم مباشر بالطبيعة والشــياء بــل وبعــض أقرانــه مــن غيــر‬
‫مرور من باب العبودية ‪ .‬وبعضهم يستهجن هــذا العمــل أو يخشــى التصــال بنــا ـ ـ‬
‫معاشر الشياطين والجن ـ فيرتقي في تأملته وتخدعه الطبيعة ذات العمــاق ‪ ،‬إذ‬
‫يتصور أنه اكتشف فيها أسرار وخفايا ثم ل يلبث أن يدعي دعوات أكــبر ـــ وهكــذا‬
‫دعــوا النبــوة‬ ‫دعون المامة والقيادة ثم إذا جلبنا لهــم اتباعـا ً اكــثر ا ّ‬ ‫جعلنا كثيرين ي ّ‬
‫دعون الربوبية ‪ ..‬لن تلك ســيدي رغبــة الجمــع الكــثير مــن‬ ‫وبقفزة واحدة تراهم ي ّ‬
‫ولد آدم ‪ .‬ويعلم صديقي المسؤول الغربي أن شــيخ الفلســفة أفلطــون ل يشــذ‬
‫عن هذه القاعدة في شيء سوى أن المسألة خفيت قليل ً داخل فضــائل ) اللــه (‬
‫الذي هو النسان ـ الفيلسوف ‪ ،‬لكنها ظهرت بجلء وبسرعة فائقة فيما بعد ‪.‬فعند‬
‫أرســطو أن الفلســفة تتصــف بصـفات هـي ) روح التـأليف والجمــع والتوحيـد ثـم‬
‫التجريــد والســمو النظــري بمعنــى أن الفيلســوف يرقــى إلــى أعقــد المشــكلت‬
‫وأكثرها عسرا ً وأبعدها عن الواقع ثم يّتصف بامتناع الغرض بمعنــى أنهــا ل تنشــد‬
‫منفعة بل تطلب لذاتها ثــم الســتقلل والتفــوق بمعنــى أن الفيلســوف ل يخضــع‬
‫لحد ول يحكمه أحد وأخيرا ً صفة اللوهية فبها أي بالفلســفة نشــارك اللهــة لن ّــا‬
‫نرقى إلى درجة التأمل الخالص والنظر المحــض بل غايــة (‪ . ((1‬والصــفات اللهيــة‬
‫)‪(1‬‬
‫المشكلة الفلسفية ‪28 /‬‬
‫)‪(1‬‬
‫المشكلة الفلسفية ‪28 /‬‬
‫النيلي ‪19-----------------------------------------‬‬
‫واضحة في أعمال أر سطو وأفلطون ‪ ،‬فلم يشــأ أرســطو أن ينــزل اللــه مــن‬
‫عليــاءه إلــى الرض ليكــون فــي كــل جســم إنســاني كمــا فعــل فلســفة الســلم‬
‫والمسيحية فيما بعد ‪ ،‬كان أرسطو أكــثر احترامـا ً للــرب مــن هــؤلء إذ ل يجــوز أن‬
‫يكون كل هؤلء الذين يراهم تافهين أمامه آلهة وأربابا ً ‪ ..‬وعلى رأيه فأن من يريد‬
‫ت‬‫أن يكون إلها ً فليصعد هو إلـى اللـه و) يجلـس بجـواره ( علـى أن يتصـف بصـفا ٍ‬
‫ة قبل ذلك ومنها امتناع الغــرض مــن التفكــر فكمـا أن اللــه يخلــق وهــو غيــر‬ ‫حسن ٍ‬
‫محتاج للخلق ويأمر وينهى وهو غير محتاج للطاعة وغيــر متضــرر بالمعصــية فــإن‬
‫الفيلسوف يجب أن يفكر بهذه الطريقة فالفلسفة تطلب لذاتها بل منفعة ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬لكنهم أّلفوا كتبا ً في تنظيم المجتمع والدولة والقانون وعلوم الطبيعة‬
‫وكيفية النتفاع من أشياء كثيرة وتلك هي فلسفتهم فلماذا ربطوا الفلسفة بتلك‬
‫الغراض ؟ ‪.‬‬
‫ضا ‪ ..‬فليس لك‬ ‫المشرقي ‪ :‬أهذا سؤال أم اعتراض على أرسطو ؟ فإن كان اعترا ً‬
‫أن تعترض على أرسطو لن هذا هو المطلوب في النهاية ‪ ،‬مــاذا يعمــل المــرء إذا‬
‫صعد إلــى الســماء وجلــس مــع اللهــة ؟ أل يتــوجب عليــه أن يرحــم الخلــق حينهــا‬
‫ويشرع لهم قانونا ً يحميهم من) العدوان ( بعضهم على بعض ويحقق ) العــدل(‪،((1‬‬
‫فمن ذا يحكم العالم إذا لم يعطف عليه الرئيـس الفيلسوف ويحكمه ‪.‬‬
‫) أو ليس الرئيـس ـ الرئيـس الول في جنس ل يمكن أن يرأســه شــيء مــن ذلــك‬
‫و آخر رئيسا ً عليه وكذلك في كل‬ ‫الجنس مثل رئيس العضاء ل يمكن أن يكون عض ٌ‬
‫في الجملة ‪ ،‬كذلك الرئيـس الول للمدينة الفاضلة ينبغي أن تكــون صــناعته ل أن‬
‫يخدم بها أصل ً ول يمكن فيها أن ترأسها صناعة أخرى أصل ً ؟ (‪. ((2‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬أستطيع القول أننا يجب أن ل نفتر رغم هذا النجاح الكبير فــي تكــوين‬
‫وخلق جبابرة واستبداديين من نوعين ‪ :‬نوع من الستبداد يحكــم بالســيطرة علــى‬
‫البدان بالسيف ونوع بالسيطرة على العقول بالفلســفة وكلهمــا يريــد أن يكــون‬
‫بديل ً لله ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬بالطبع سيدي فنحن ل نأمن مطلقا ً من اكتشاف اللعبــة ‪ .‬إن كشــفها‬
‫أيسر من تدخين سيجارة بالنسبة للدميين لكن أملنا الوحيد هــو فــي أن الكثريــة‬
‫الكبرى من بني النسان ل تريد بلوغ السلطان من باب العبودية للله ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬أطرف شيء في الموضــوع ســيدي الرئيــس أن فلسـفة الشــيعة فـي‬
‫دين السلم لهم آراء مختلفة كانت يوما ً ما تحمل بعض الخطورة ولكننا فيما بعــد‬
‫جعلناهم يعتقدون أن أرسطو وأفلطون وسقراط ) حكمــاء (ل فلســفة ‪ ،‬وأثبــت‬
‫أهل الخبار فيما بعد أنهم سمعوا ) البعض ( يقول أنهم كانوا ) أنبياء ( ولكن لــم‬
‫تذكرهم الكتب المنزلة من السماء !‬
‫ج القاعة بالضحك (‬‫) تض ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬كفوا عن الضحك رجاءً !‬
‫المغربي ‪ :‬ولقد نجحنا كمــا تــرى فــي جعــل الفلســفة تتحــدث باســم الحكمــة لن‬
‫الصل في الحكمة ــ حكمــة الرســل أنهــا نــوع مــن المعرفــة تجعــل الــدخول إلــى‬
‫السلطان من باب العبودية عزة وكرامة ‪ .‬ولــم يقتصــر المــر علــى المشــرق فــي‬
‫انبهاره بالفلسفة وإطلق أسم الحكماء عليهم بل الغرب يفتخر على الشرق في‬
‫أنه الوحيد الذي انفرد بهذه الحكمة‪. ! ((3‬‬
‫المعاون ‪ :‬حينما تكون الحكمة الحقيقية هي الحصول على الملك والســلطان مــن‬
‫باب العبودية تكون الفلسفة هي الحصول على هــذا الملــك مــن بــاب ) الملــك ( ‪،‬‬

‫)‪ (1‬الجمهورية ‪ 143 /‬ـ أفلطون ‪.‬‬


‫)‪(2‬‬
‫آراء أهل المدينة الفاضلة ‪ 100 /‬ـ الفارابي ‪.‬‬
‫)‪ (3‬حكمة الغرب ‪ /‬برتراند رسل ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪20‬‬
‫‪((1‬‬
‫وهي لعبتنــا الولــى مــع آدم فــي ) ملــك ل يبلــى ( ظهــرت باســم ) الخدعــة‬
‫الملوكية ( عند أفلطون والتي يسميها ) ديورانت ( الكذبة الملوكية ‪.‬‬
‫د مـن‬ ‫أحد الشـياطين ‪ :‬الجميـع يعلمـون ذلـك سـيدي ‪ ،‬بيـد أن ذلـك يغريهـم بمزيـ ٍ‬
‫الغراء وإذا ذكروه ذكروه فخورين ‪ ) :‬فقد استمدت السياســة الكاثوليكيــة الكــثير‬
‫من ) كذبة أفلطون الملوكية ( أو تأثرت بها ‪ .‬إن فكرة جهنم والعراف والمطهر‬
‫عرفت بها في القرون الوســطى مســتمدة مــن الكتــاب‬ ‫والجنة في أشكالها التي ُ‬
‫الخير من جمهورية أفلطون ‪ .‬وبهذا المبدأ تمكــن رجــال الــدين مــن حكــم أوربــا‬
‫بسهولة وبــدون اللجــوء إلــى القــوة وقبلــت الشــعوب طوعـا ً تقــديم المســاعدات‬
‫المالية لحكامها ‪ ،‬لمدة ألف سنة تقريبا ً (‪.((2‬‬
‫المشرقي ‪ :‬إن الفكرة تكرر نفسها سيادة الرئيـس وخلط الحكمة بالفلســفة أدى‬
‫إلى ثمار عظيمة ففي الوقت الذي بدأنا فيه بصنع نمــوذج آخــر للملوكيــة ظــاهره‬
‫القضاء على الستبداد وباطنه هو استبداله باستبداد اكبر ‪ ،‬أعلــن البعــض أن هــذا‬
‫النمــوذج ) اســتبدادي ( مــائة بالمــائة ‪ ،‬بينمــا هــو فــي نظــر آخريــن أفلطــوني‬
‫ديمقراطي مائة بالمائة ‪ ،‬لنهم رأوا ) أن الحزب الشيوعي الذي حكم روســيا بعــد‬
‫عام ‪ 1917‬اتخذ شكل ً شبيها ً بما جاء فــي جمهوريــة أفلطــون لدرجــة تــدعوا إلــى‬
‫‪((3‬‬
‫الدهشة (‬
‫) يطلب مارد الشمال الذن بالحديث فيوافق الرئيـس (‬
‫ً‬
‫قة وأشعر دوما أن بني النسان‬ ‫مارد الشمال ‪ :‬بالنسبة لي فل أعاني من أي مش ّ‬
‫هــم الــذين يخــدمونني ويقــدمون لــي عروضــهم للموافقــة عليهــا ‪ ،‬وفــي جميــع‬
‫دق ( حدسي وظني فيهم ‪.‬‬ ‫الوقات ) َيص ُ‬
‫معت إلى فقرة مــن‬ ‫ً‬
‫الرئيـس ‪ :‬أنت دائما تبالغ ول أشتهي سماع أحاديثك ‪ ،‬ولو تس ّ‬
‫كتاب من كتــب الرســل لــوّليت هاربـا ً ولــو كــان القــارئ فــي الجنــوب وأنــت فــي‬
‫الشمال ‪.‬‬
‫مارد الشمال ‪ :‬هذه مسألة نفسية سيدي ‪ ،‬كلنا فيها سواء فكـم مـن مـّرة غضـبت‬
‫وطردت من يذكر فقرة من القرآن أو النجيل أو الزبور في الجتماعات ؟ ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬تبا ً لك يا خبير النفوس ! أنا شخصــيا ً ل أخـاف مـن تلــك القــراءات إنمـا‬
‫أخشى عليكم من هبوط الشعور بالتفوق على بني النسان ‪ .‬يــا شــيطان الشــرق‬
‫اذكر لي شيئا يسّرني فقد أزعجني هذا المارد ‪.‬‬
‫المشـرقي ‪ :‬نعـم سـيدي الخبـار فـي هـذا الصـدد ل تسـعها المجلـدات الكـثيرة ‪،‬‬
‫ويكفي أنني قد جئت قبل فترة من جولــة فــي أنحــاء الشــام والعــراق والمشــرق‬
‫السلمي ورأيت الناس هناك مبتهجين ومسرورين بقراءة كتاب جديــد أثبــت فيــه‬
‫مؤلفه أن الفلسفة الغربيين يؤمنون بوجود ) الله ( وأن بعضهم قد أثبت وجــوده‬
‫فعل ً‪!! ((1‬‬
‫الرئيـس ) مقهقها ً ( ‪ :‬هذه هي الخبار المفرحة حقا ً !‬
‫المشرقي ) متابعا ً ( ‪ :‬وهذا المر أي ) النسان ــ اللـه ( أغرينـاهم باعتمـاده فـي‬
‫جميع التفاصيل المتعلقة بمنطق الكلم ‪ ،‬فالمسيحي اكتفى بــأن يكــون النســان‬
‫هو الرب وأن الرب هو ابن الله واختلط الثلثة بروح القدس بحيث أننــا تركنــاهم‬
‫يتخبطــون ل يعلمــون مــن هــو اللــه ومــن هــو النســان ومــن هــو الــروح ‪ .‬وأمــا‬
‫المسلمون فقد قلبنا المر ‪ ،‬فبــدل ً مــن أن يكــون النــبي عنــدهم قــد أثبــت نبــوته‬

‫‪.‬‬ ‫)‪ (1‬القرآن ‪ /‬طه ‪120 /‬‬


‫)‪(2‬‬
‫‪.‬‬ ‫النص من وول ديورانت ‪ /‬قصة الفلسفة ‪ 57 /‬أفلطون‬
‫‪.‬‬ ‫)‪ (3‬كذلك‬
‫)‪(1‬‬
‫‪.‬‬ ‫صة اليمان ‪ /‬نديم الجسر‬‫ق ّ‬
‫النيلي ‪21-----------------------------------------‬‬
‫بالقرآن جعلناهم يستدّلون على أن هذا القرآن من الله انطلقا مــن أن النــبي‬
‫قد ذكر ذلك ‪.‬‬
‫ً‬
‫الرئيـس ‪ :‬وكيف يعلمون أن النبي كان نبيا ؟‬
‫المشرقي ‪ :‬لن تلك سيدي هي بغيتنا من المر فهو الن عندهم رسول بمعجزة ‪،‬‬
‫ودليل المعجزة هو أن قائلها كــان رســول ً ‪ ،‬ودليــل رســالته هــو نفــس المعجــزة ‪،‬‬
‫فأمكننا ذلك من فصل النسان عن الله تماما ً ‪ ،‬فاستقل بنفسه ومعجزته ‪ .‬وأنــت‬
‫تعلم ما يفعل ذلك من تشكيك وتراجع في إيمــانهم ‪ ،‬فمهمــا ذعــرت مــن مظــاهر‬
‫ف كلي ـا ً ‪ ،‬فقــد أعــدنا‬‫هذا اليمان الشكلي فــأعلم انــه فــي داخلهــم منخــوٌر ومزي ـ ً‬
‫المعادلة كلها إلى ما كنا نشتهي ‪ :‬ـ النسان هو كل شيء والنسـان مقابــل اللــه‬
‫دد معــاني‬ ‫هو اله آخر ـ النسان هو الذي يحكم الن بشريعة النبي ‪ ،‬وهو الــذي يح ـ ّ‬
‫كلمه وما ورد في معجزته ‪ ،‬والنسان هو الذي يحكم علــى صــحة كلمــه أو صــحة‬
‫نسبته إليه ‪ ،‬والهم من كل ذلك ‪ ..‬النسان هو الذي يحكم بشرع النــبي ! هــذا إن‬
‫دس شرعه بحماس كبير ‪.‬‬ ‫ب النبي ويق ّ‬
‫وجد إنسان يح ّ‬
‫المغربي ‪ :‬ومن اجل ذلك فانهم يتقّبلون فلسفة الغرب لنها فــي الوقــع فلســفة‬
‫الجميع ‪.‬‬
‫ً‬
‫الرئيـس ‪ :‬من عادتي أن ل أطمئن تماما رغم كل ما قــاله المشــرقي ‪ .‬لن هنــاك‬
‫اتجاه أو أكثر ل زال يحمل خطورةً كامنــة وهــو التجــاه الــذي يصـّر علــى مبــدأ أن‬
‫المشّرع يعّين الحاكم بنفس القانون المشّرع ‪ ،‬ول يمكن أن يأتي النــاس بالحــاكم‬
‫الذي يحكم بالقانون ليعّينوه خلفا للقانون ‪ .‬وربما ينتبه البعض إلــى البحــث فــي‬
‫الكتب المنزلة عن القانون الذي يتم بموجبه تعيين الحاكم ‪.‬‬
‫ً‬
‫المعاون ‪ :‬إذا تسمح لي سيدي فأنا أجيب على ذلك لطمئن ســيادته ‪ .‬أول إن هــذا‬
‫التجاه ل يفهم المسألة بالطريقة الحكيمة الــتي ذكرتموهــا ‪ ،‬إنمــا يفهمهــا علــى‬
‫أنها وصايا وروايات من أصحاب الرسالت ‪ .‬وثانيا ً أن هذه الوصايا عرضة لهجمــات‬
‫متكررة من الكثرية ‪ .‬وثالثا ً إن أصحاب هذا التجاه هم أقليــة ضــمن أقليــة ضــمن‬
‫أقلية ثلث مرات وهم من الذعر بحيث ينكرون أحيانـا إن تكــون لهـم مبـادئ مثــل‬
‫تلك ‪ .‬ورابعا ً وهو الهم أن الشــياء عنــدهم مختلطــة مــع بعضــها ! فبشــأن الجنــة‬
‫قــق للخلص هــو بعــد‬ ‫والنار ومستقبل العالم فهم يــرون كغيرهــم أن الوعــد المح ّ‬
‫نهاية العالم ل قبلها !‬
‫) ُتسمع ضجة من أحد جوانب القاعة (‬
‫الرئيـس ‪ :‬ما هذا الضحك ‪ .‬إننا هنـا لنعمــل ل لنضــحك !‪ ..‬ثـم أن قولــك هـذا فيـه‬
‫مبالغة ‪ ،‬فالتقارير التي لدي تقول أن بعضهم ينتظر خلصا ً قبل نهاية العالم ‪.‬‬
‫دته لوجدتهما شــيئا ً غيــر‬ ‫المعاون ‪ :‬هذا صحيح ‪ ،‬لكن لو دققت في أمد الخلص وم ّ‬
‫ذي قيمة بالنسبة لعمر الكون ‪ .‬احسن الروايات تقول سبع سنين ‪ ،‬أو تسعة عشر‬
‫‪ .‬فالمهم هو ما يرتكز في الذهان من فهم عن الغاية من خلــق الكــون ‪ .‬المرتكــز‬
‫عندهم كالمرتكز عند جميع الناس ‪ :‬إن الخلق عبارة عن ) عبــث ( ‪ ،‬ونحـن بـالطبع‬
‫ل شأن لنا بالمظاهر ‪ ،‬فإن مظاهر التقوى والصلح هي عند كثيرين لو قــدر لهــم‬
‫أن يدخلوا الجنة جميعا ً لما امتلت جهنم ‪.‬‬
‫المغربــي ‪ :‬إن مــا يقــوله صــاحبي صــحيح ســيادة الرئيـــس ‪ ،‬فــإن الرجــل الطيــب‬
‫) سبينوزا ( لم يشأ إنكار ) الله (فجعله القانون الموجود فــي الطبيعــة ‪ ،‬وحينمــا‬
‫انُتقد على ذلك قال ‪ ) :‬أخطأ فهمي أولئك الذين يقولون أن غرضي هــو أن أبي ّــن‬
‫أن الله والطبيعة شيء واحد ‪ ،‬لن القائلين ذلك يفهمون من لفظ الطبيعــة كتلــة‬
‫‪((1‬‬
‫معينة من المادة المجسدة ‪ ،‬إنني ل أقصد ذلك ‪. ( .‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬وهل أوضح من هو الله ؟ وما الفرق بينه وبين الطبيعة ؟‬
‫)‪(1‬‬
‫الطبيعة والله ‪ / .‬سبينوزا ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪22‬‬
‫المغربي ‪ :‬نعم بالتأكيد أوضحه هكذا ـ وكنت يومها واقفا ً عند رأسه وكان قلمه‬
‫يرتعش حيث كتب ـ ) وهذان العقل والجسم هما الوجهان أو الصفتان اللتان بهما‬
‫ندرك عمل الجوهر الذي هو الله ) أو الله ( ‪ ، ((2‬وبهذا المعنــى يمكــن أن يقــال أن‬
‫الله وهو الحقيقة البدية وراء تدفق الشياء له عقل وجسم ‪ .‬فل العقل وحده ول‬
‫المادة وحدها هي الله ‪ ،‬ولكنه العمليــات العقليــة والعمليــات الذريــة الــتي تشــكل‬
‫تاريخ العالم المزدوج ‪ ،‬هذه وأسبابها وقوانينها هي الله (‪.((1‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬نعم ! لقد أوضح لهم المسألة بطريقة لن يســيء بهــا أيمــا أحــد فهمــه‬
‫مستقبل ً ‪!! ..‬‬
‫ً‬
‫المشرقي ‪ :‬برأيي إن أكثر الفلسفة تواضعا مع الله هو ) سبينوزا ( ‪ ،‬وهو مثــال‬
‫صالح للطيبين جدا ً والمتواضعين جدا ً من أصحاب التجاه الــذي يخيفــك ‪ ،‬فــالبعض‬
‫من غير هؤلء يريد الصعود ليكون مع الله الواحد أو في مصاف اللهة ‪ ،‬والبعــض‬
‫الخر أنزل الله ليكون في النسان ‪ .‬وأما المتواضعون فقد قالوا ) اللــه والوجــود‬
‫واحــد ( أو ) اللــه والخلــق واحــد ( أو ) اللــه والقــانون والمــادة واحــد ( أو ) اللــه‬
‫والعقل واحد ( ‪ .‬وفي جميع ذلك يظهر ) أنا النسان اللــه ( ‪ ،‬فهــو أمــا أن يكــون‬
‫إلها ً أو يشارك الله ‪ ،‬أو إذا كان في غاية التواضع فإنه يدرس الله كموضــوع ‪ ،‬ول‬
‫دد في النهاية من هو الله لن غــايته ليســت معرفــة اللــه بقــدر مــا هــي‬ ‫بد أن يح ّ‬
‫رغبته فــي مشــاركته أو ممــاثلته بخلف العــالم الطــبيعي الــذي تعجــزه الظــاهرة‬
‫فيعترف أنه ل يعلمها ‪ ،‬لن العالم الطبيعي يدرس الظــاهرة بصــفاء وخلــوص نيــة‬
‫وغرضه المعرفة فل يخدع نفسه ‪ ،‬أما الفيلسوف فغرضه المشــاركة ل المعرفــة ‪.‬‬
‫وأكثر المؤمنين بالله هم على هذه الصفة فهــم يــدعون أنهــم شــركاء للــه أو هــم‬
‫مشركون به فعل ً أو يرغبون في مشاركته على نحو ما توحيه لهم أوهامهم‪. ((2‬‬
‫مارد الشمال ‪ :‬وما هي حقيقة المر في هذا الموضوع ؟‬
‫المشرقي ‪ :‬الذي أعرفه هو إن الله قالها ‪ :‬ـ أنا الله ليــس هنــاك مــن الــه غيــري‬
‫اخلق ما أشاء والذي اخلقه اعرفه ول يعرفني ‪ ،‬أنا ل ُاعـَرف ‪ .‬وبهــذا تميــزت عــن‬
‫رفت صرت موضوعا ً وكنت مخلوقا ً‪ ،‬فأنــا الوحيــد الــذي ل‬ ‫ع ِ‬
‫كل ما اخلقه لني إذا ُ‬
‫مهــا إل استشــعار حيــاتي وفنــاء‬ ‫يمكــن معرفتــه ‪ .‬وهــذه هــي تمــام معرفــتي ل يت ّ‬
‫غيري ‪ .‬فمن عرف فناءه وحياتي وعرف أنه ل يعرفني فقد سمحت له بأن يقــول‬
‫دعاء معرفتي كذات أو موضوع فقــد تجــبر واســتكبر‬ ‫أنه عرفني ‪ ،‬ومن أصر على ا ّ‬
‫وعتا عتوا ً عظيما ً فأكبه على النار ـ قالها في كل شيء ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬كفى كفى خطبا ً من هذا النوع ‪ ..‬نحن نناقش ما يقوله الفلسفة ل مــا‬
‫يقوله الله فليفهم من يفهم ومن ل يفهم فإلى حيث … في كل مرة يس ـّبب لــي‬
‫أحد المردة إزعاجـا ً ‪ ،‬فليــت المغربــي يحــدثني عــن ) دافيــد هيــوم ( أو ) جــورج‬
‫بركلي ( كي ترتاح نفسي ‪.‬‬
‫وامة جارفة سيدي الرئيـس ! إنها دوامة اعنف قــوة وأعلــى‬ ‫المغربي ‪ :‬إنهم في د ّ‬
‫زفيرا ً من الدوامة التي في وسط الشمس ‪ .‬فحينمــا قــال ) لــوك ( ‪ :‬إن المــادة ل‬
‫توجد سوى كصورة في العقل ) تلقفها ( بركلي ‪ ،‬مثلما تلقف من هو قبله كرات‬
‫ضــربها الســابقون فــدفعوها وانــدفعوا خلفهــا ‪ ،‬ولــم يلحظوهــا حينمــا ارتطمــت‬
‫بالسور العظيم ‪ ،‬فاصطدمت رؤوسهم به ثم سقطوا وظّلوا هناك ساقطين تحــت‬
‫الجدار ورافضين العــودة ونــاكرين لوجــود الجــدار حــتى وافتهــم المنيــة ‪ .‬تلقفهــا‬
‫) بركلي ( وركض خلفها ‪ ،‬لنه أضاف شيئا ً آخر مفاده أن اليد المشلولة لو ضربت‬

‫)‪ (2‬الختلفات في الترجمة ‪.‬‬


‫)‪ (1‬نفس المصدر السابق ‪.‬‬
‫)‪(2‬‬
‫القرآن الكريم ‪. 12 / 106/‬‬
‫النيلي ‪23-----------------------------------------‬‬
‫بمطرقة فل تحس باللم ‪ ،‬فالحساس إذن نسبي ‪ ،‬وإذن فشعورنا بالمــادة هــو‬
‫شيء عقلي محض وبالتالي فل شيء سوى ) العقل ( ‪.‬‬
‫لج وابن عربي ليقول أن الله هــو العــالم ولمــا‬ ‫الرئيـس ‪ :‬إذن عاد بركلي مثل الح ّ‬
‫كان ليس للعالم وجود إل بإحساسي العقلي فهذا العقل هو ) أنا ( والنتيجة أننــي‬
‫إذا قلت ) أنا ( أو قلت ) الله ( فل فرق ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬لقد قال سبينوزا عبارة يمكن أن تجمع الــذين أرادوا أن يكونــوا آلهــة‬
‫من غير أن يصعدوا كالمجموعة الفلطونيـة أو ينزلــوا اللــه كالمجموعـة النوحيـة‬
‫والمسيحية واليهودية ‪ ،‬بل يبقون جامدين في مكانهم ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬ما هي تلك العبارة ؟‬
‫المشرقي ‪ :‬العبارة هي ) إن الطبيعة فاعلة ومنفعلة في وقت واحد ( ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬هذه عبارة عظيمة ! أهي من إملءنا أم من ابتكاراته ؟ لشدّ ما تعجبنــي‬
‫دد وكاذبة في النحاء الخرى فتختلــط‬ ‫و مح ّ‬ ‫تلك العبارات التي هي صادقة على نح ٍ‬
‫بها الشياء ‪.‬‬
‫المشــرقي ‪ :‬ســيدي الرئيـــس إنــك تعب ّــر عــن الشــياء بدقــة ‪ ،‬الحقيقــة أنهــا مــن‬
‫ابتكاراته ‪ .‬وحينما تجتمع عبارته مع أزليـة المـادة فالناتـج إن النسـان فاعـل أول‬
‫كامن فيها ‪ ،‬ومنفعل متأخر عنها ‪ .‬ومعنى ذلك إن النسان هو ) الله الفعلي ( ‪.‬‬
‫ضح لنا ما الذي أضافه بركلي ؟‬ ‫المعاون ‪ :‬هل للمغربي أن يو ّ‬
‫المغربي ‪ :‬سيدي الرئيـس ‪ .‬أنت تعلم أن الله كان ومازال ولم يكن معــه شــيء أو‬
‫كون ‪ .‬والنسان ـ الله الذي صنعه سبينوزا أزعج تأخر ظهوره في العالم مشــاعر‬
‫بركلي ‪ ،‬ولما كان ل يمكن لبركلي أن يفني الموجودات و) يزيل الجبال ( ليــبرهن‬
‫أن ) النسان ـ الله ( باق ودائم تماما ً مثل اللــه ‪ ،‬فقــد ألغــى الموجــودات نظري ـا ً‬
‫وأبقى عقل النسان ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الرئيـس ‪ :‬الحقيقة أن نفسي ترتاح لهذا الرجل كثيرا ‪ ،‬ويؤسفني جدا موته ‪ ،‬لقد‬
‫جلب لنفسي السرور أكثر مما كنت اشعر بــه دوم ـا ً عنــد دخــولي قصــر فرعــون ‪،‬‬
‫ورؤيتي للناس وهم بين راكع وساجد ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬وأما طريقته فقد تميزت بالبساطة والوضوح ‪ :‬مثــال المطرقــة واليــد‬
‫المشلولة يبرهن على نحو واضح ل يستطيع الكـثير مـن بنـي النســان تمييــزه أن‬
‫المادة عبارة عن إحساسي العقلي بالشياء ‪ ،‬وإذن فليست ثمــة أشــياء ســوى مــا‬
‫هو في عقلي ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬وكيف علمت أنهـم ل يمّيـزون ؟ إنـك لـو وصـلت إلـى عمانوئيـل كـانط‬
‫فستجد المر مختلفا ً ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬لن يختلف كثيرا ً سيادة الرئيـس ‪ .‬فمثل ً إن أحــد الشــراح وصــف إبقــاء‬
‫) بركلي ( على عقل النسان وإلغاءه المادة بأنه نــوع مــن الشــفقة علــى العقــل‬
‫غير مــدرك للمخطــط بكــامله‪ . ((1‬إن ســبينوزا ) المتــدين ( الــذي أعلــن أنــه يحــب‬
‫المسيح كثيرا ً ويقدره كثيرا ً لم يقدر على الصعود إلى السماء ‪ ،‬ول على إنزال إله‬
‫جه تلقاء المسيح لينفي عنه صفة الربوبية والبنــوة للــه ‪،‬‬ ‫السماء إلى الرض ‪ ،‬فتو ّ‬
‫ً‬
‫ليس لنه أصبح فجأة قديسا مثل بولص كما زعم ‪ ،‬بل لنه وجــد أن بنــوة المســيح‬
‫لله ل تجدي نفعا ً في جعل سبينوزا إلها ً ‪ .‬فقد مّر ألفا عام ولم يكن هناك رب هو‬
‫ابن الله سوى رجل واحد هو المسيح ‪ ،‬فإذا كان المسيح بلغ هذه الرتبة ) بعقلــه (‬
‫فعقولنا ليست قاصرة وأما القلب فهو مضــخة دم ل غيــر ‪ .‬وإذا كــان فــي القلــب‬
‫شيء فقلب سبينوزا ) الحنون ( ل يقل ما فيه عما في قلب المســيح فليكــن إذن‬
‫) العقل ( ـ عقل النسان هو الله ‪ ،‬بيد أن اللــه الحقيقــي هــو عقــل جمــاعي ـ ـ‬
‫ومنه بالطبع عقل ) سبينوزا ( ‪ ،‬فهو والجسم الذي يحوي القلب يتفاعلن ويتولــد‬
‫)‪(1‬‬
‫وول ديورانت ‪. 322 / .‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪24‬‬
‫أحدهما من الخر وهمــا فــي النهايــة صــورة اللــه ‪ .‬كــان لبــد إذن مــن تفســير‬
‫‪((2‬‬
‫النصوص فــي التــوراة والنجيــل علــى أنهــا ) مجــازات واســتعارات وإشــارات (‬
‫يتوجب فهمها في كل مرة بطريقة تلئم ما نتوصل إليه من كشف لتلك العلقات‬
‫المتفاعلة ‪.‬‬
‫ً‬
‫الرئيـس ‪ :‬شيء جميل أن يكون سبينوزا حاقدا في داخله علــى المســيح كــل هــذا‬
‫الحقد ‪.‬‬
‫سم سبينوزا اللــه علــى كــل العقــول والجســام‬ ‫المغربي ‪ :‬إذن فبركلي محق ‪ .‬ق ّ‬
‫ولهذا فهو يلعنه قائل ً ‪ :‬تبـا ً لــك يــا ســبينوزا كــم ســتكون حصــتي مــن اللوهيــة ؟‬
‫سأعيد القسمة وسأحظى بقسمة أكبر ‪ .‬ســألغي أول الجســام ثــم أختصــر وجــود‬
‫العالم الذي هو صورة الله في العقول الجبــارة ‪ ،‬وســتكون حصــتي مــن اللوهيــة‬
‫أكبر‪ .‬تبا ً لك فقد أخذت منا كل ما منحه أفلطون للفلسفة من ألوهية وما أبقيت‬
‫إل الضئيل جدا ً منها ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬أنتــم تعلمــون أنــي أحضــر جميــع المــؤتمرات العامــة للشــياطين بحكــم‬
‫موقعي الرئاسي كمسؤول دائم لـ ـ ) فريــق إلغــاء الحكمــة ( فــي الرض الثالثــة ‪،‬‬
‫ومنها مثل ً مؤتمر ) تأجيج الحروب وسفك الدماء ( ‪ ،‬لكني في الواقع أجــد متعــتي‬
‫واطمئناني في المؤتمرات الثلثــة ) المــؤتمر اللغــوي الســري ( و) مــؤتمر تــدمير‬
‫الفكر الديني ( و ) مــؤتمر التاريــخ ( ‪ .‬ولكــن أكثرهــا متعــة بالنســبة لــي مؤتمرنــا‬
‫الحالي لن خطوطه توحي بجميع ذلك ‪.‬‬
‫ً‬
‫المشرقي ‪ :‬على الرحب والسعة سيدي الرئيـس وســتجد دوم ـا مــا يســرك ‪ ،‬فــإن‬
‫لدينا تقريبا ً جميع المعلومــات الخاصــة بتلــك المــؤتمرات بحكــم عملنــا الفلســفي‬
‫المتنوع باستثناء الفريق اللغوي فإن معلوماتنا عنه ضئيلة للغاية ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬إني أفهم تلميحك وأتذكرك جيدا ً ‪ .‬أنت تريد حضور المؤتمر اللغوي وقد‬
‫أشرت على ما أتذكر إلى الشيء نفسه عنــد تأســيس المـؤتمر العاجـل بعــد مـوت‬
‫) إبراهيم بن اليعازر ( ‪ ،‬وأذكر أيضا ً أنك ألححت في الطلب فــي مــؤتمر الصــحراء‬
‫السفلى ومــؤتمر ) بورســيبا ( الــذي انعقــد موازيـا ً لـ ـ ) كــامب الســنهدرين ( ‪ .‬آه‬
‫ذكرتني بأشياء لطيفة ‪ ،‬فقد كانت جولتي طويلة ورأيت ) دانيال ( مكبل ً بالحديد ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬بلغ عمري سيادة الرئيـس خمسين ألف سنة ‪.‬‬
‫در أعمالــك ومواهبــك العظيمــة ‪ ،‬لكنــك تعلــم أن جلئل أعمالنــا‬ ‫الرئيـــس ‪ :‬أنــا اقـ ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ومواهبنا هي في النهاية عالــة علــى ) الفريــق اللغــوي ( ‪ ،‬وتحديــدا علــى ســريته‬
‫ولذلك اقتضى النظام أل ّ يحضره أحد إل بموافقــة شخصــية مــن القــائد والرئيــس‬
‫العظم المنظور بالله إبليس البالسة ‪.‬‬
‫) يردد الحاضرون جميعا ً ‪ :‬باقين باقين أبد البدين ـ بعيد بعيد ـ مــا يوعــدون ‪ .‬ثــم‬
‫يضحك المشرقي ويقول (‬
‫المشرقي ‪ :‬أنا مثل ً أعلم أن المبتدأ مرفوع ‪ ،‬والخبر كذلك ‪ ،‬فلماذا أقــره المـؤتمر‬
‫اللغوي هكذا بخلف القواعد العربية تحديدا ً ؟ باقين وليس باقون !‬
‫الرئيـس ‪ :‬يا جان … إن بعض الصيغ والمقـررات حـتى جنـابي ل يخـبروني بهـا …‬
‫لكني سأحاول ترشيحك لحضور المؤتمر اللغوي تحت الختبار مرة كــل خمســمائة‬
‫عام !!‬
‫المشرقي ‪ :‬شكرا ً سيدي ‪ ..‬إني أريد فقط أن أعرف سبب السّرية والكتمان حــول‬
‫ض بهــا‬ ‫ً‬
‫عمل الفريق اللغوي هذا لجل أن أكون في داخل نفسي مؤيدا للوامــر را ٍ‬
‫كل الرضا والقبول ‪.‬‬
‫) يلتفــت الرئيـــس إلــى شــيطان اللغــة للقــارات الســبعة كــأنه يطلــب منــه رأيــه‬
‫بالموضوع ‪ ،‬فيومئ له بالموافقة على الستجابة لطلب المشرقي فيقول (‬
‫)‪(2‬‬
‫شخصيات ومذاهب فلسفية ‪ /‬سبينوزا ‪.‬‬
‫النيلي ‪25-----------------------------------------‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬حسنا ً … ل ضير في ذلـك وليسـمع الجميـع أيضـا ً ‪ .‬إن العيـن ل تـرى‬
‫ع من أراد أن يكلمه ‪ .‬وكلمــه وصــل‬ ‫م َ‬
‫الله ولكن الذن تسمعه ‪ ،‬لنه قد تكلم فأس َ‬
‫إلى الرض ‪ .‬أوصله رغــم أنــف الجميــع ‪ ،‬والنــاس يتكلمــون ونحــن نتكلــم ‪ ،‬وإنمــا‬
‫تحصل المعرفة بالكلم لنه هو الداة ‪ .‬فمن هنا جاءت سّرية العمل اللغوي ‪.‬‬
‫) انفتحت الباب السوداء فجأة ودخلت شــبه عاصــفة فــي حيــن ظهــر فــي وســط‬
‫ح عملق بمــا يكفــي لن يضــرب برأســه الســقف ‪ ،‬فــارتعب الرئيـــس‬ ‫المؤتمر شب ٌ‬
‫وصاح (‬
‫الرئيـس ‪ :‬ما هذا ؟ ! أين الحرس ؟!‪.‬‬
‫المعاون ‪ :‬مارد الجنوب سيدي ! هذا مارد الجنوب وهو دائم التأخير سيدي ‪.‬‬
‫) يصرخ الرئيـس بحدة (‬
‫الرئيـس ‪ :‬أين كنت ؟‬
‫) يشير المعاون إلى المارد بأن ل يتكلم ثم يخاطب الرئيـس (‬
‫المعاون ‪ :‬سيدي الرئيـس إنه مارد مزعج ودائم النوم ‪ .‬أحسبه كان نائمــا ً ‪ ،‬وكلمــا‬
‫نّبهته يكّرر نفس العذر ‪ :‬ل يوجد في جنوب أفريقيا فلسفة ل يوجد في أســتراليا‬
‫فلسفة … ل يوجد في جزيرة سيلن فلسفة …‬
‫ً‬
‫) تظهر علمات البهجة على وجه الرئيـس ويقول مخاطبا مارد الجنوب (‬
‫الرئيـس ‪ :‬اجلس اجلس تعجبني حركتك النشيطة ‪ .‬كم هو عمرك يا جان ؟‬
‫الجنوبي ‪ :‬أنا كنت في الوسط ول أتذكر كم هو عمري ‪ ،‬لكن آصف بــن برخيــا هــو‬
‫مر ما كنت آمله من زعامة الشياطين ‪.‬‬ ‫الذي د ّ‬
‫) تبدو الدهشة والسرور على الرئيـس (‬
‫الرئيـس ‪ :‬كيف ‍؟ ما الذي فعله آصف هذا ؟ أهو آصف سليمان أم هو غيره ؟ ‍ ‍‬
‫الجنوبي ‪ :‬بلى سيدي إنه هو بعينه الرجل الذي يجلس في جوار سليمان في باحة‬
‫الهيكل ‪ .‬أل تعرفه ؟ سبحان الله كل الجان يعرفونه ‪ ،‬إنه الرجل الذي يعلم معنــى‬
‫ف هذا الذي ح ّ‬
‫طمتني به ؟‬ ‫ي حر ٍ‬‫أحد الحروف … ل أدري يا آصف أ ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬ما هي القصة ؟‬
‫) خلل ما يسأل الرئيـس فإنه يرمق المشرقي من طرف خفي ويراه منقبضا ً (‬
‫الجنوبي ‪ :‬لقد طلب سليمان ذات مرة أن يؤتى بعرش ملكة سبأ ‪ ،‬فقــال عفريــت‬
‫من الجان من أتباع سليمان أنه سيأتيه بالعرش قبل أن يقوم من موضــعه لقــوته‬
‫وسرعته ‪ ،‬وكان رئيسي ) كنباثا ( يتنصت على المحــاورة مــن خلل الجواســيس ‪،‬‬
‫فنظر من حوله فلمــا رآنــي تفاهمنــا بســرعة مــن خلل النظــرات علــى أننــي إذا‬
‫حطمت هذا العفريت فــي الطريــق وأخــذت العــرش منــه ‪ ،‬فــإنه ســيمنحني لقــب‬
‫رئيس المردة في الرض الثالثة كلها ‪ ،‬فما أتممت التفاهم حتى نادت الجان ممن‬
‫هم معي ‪ :‬يا نائم يا غافل العرش عند سليمان ! وحتى المارد ) كنباثا ( ذعر ذعرا ً‬
‫دق حتى ألقينا عليه نظرة ‪ ،‬وذلك فــي الجــزء الخــامس والســبعين‬ ‫عظيما ً ولم نص ّ‬
‫من المئة من الثانية التي تلت انتهاء كلم العفريت ‪ .‬ثــم سـألت مــن فعــل ذلــك ؟‬
‫فقالوا ‪ :‬آصف ‪ .‬كيف ؟ قالوا ‪ :‬بالحرف الــذي عنــده ‪ .‬رئيــس الشــياطين نفســه ل‬
‫يدرك معنى ذلك كله ول يدري ما معنى أن يكون عند المرء حرف ‪.‬‬
‫ون عليك يا جان ! المستقبل كله أمامك ‪.‬‬ ‫الرئيـس ‪ :‬ه ّ‬
‫الجنوبي ‪ :‬من أجل ذلك أصبحت كثير النوم لنهم نادوني يا نائم وأصبحت متغافل ً‬
‫لقولهم يا غافل !‬
‫الرئيـس ‪ :‬إن الحضارة والثقافة تزحف إلــى الجنــوب وســتزحف معهــا الفلســفة‬
‫ذ فإني أنــا الــذي ســيعينه رئيس ـا ً‬ ‫وسترون هذا النائم المتغافل ما سيفعله ‪ .‬وحينئ ٍ‬
‫للمردة ‪ .‬أما الذين هم مثل آصف فسوف يمضي وقت طويــل حــتى يــأتي أحــدهم‬
‫وربما لن يأتي ‪ ،‬لن بني النسان اليوم وحسب ما رأيناه من تطــورات ل يريــدون‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪26‬‬
‫العلم الذي يأتي مــن اللــه ‪ .‬إنهــم يريــدون العلــم الـذي تكشــفه عقــولهم ‪ .‬لن‬
‫العلم الذي يأتي من الله له بــاب ل يفتــح إل بمفتــاح الــذل والعبوديــة للــه ‪ ،‬لــذلك‬
‫فالمتدينون أنفسهم وعلماء الدين ذاتهم هم من أكثر الخلق بعــدا ً عــن ولــوج هــذا‬
‫الباب ‪ ،‬لننا نراهم بأم أعيننا يتكلمون نيابة عن الله ويشرعون باسمه ويفســرون‬
‫كلمه بكلمهم ويقترحون بالنيابة عنه مقترحـات كـثيرة ‪،‬ويدرسـونه كموضـوع أو‬
‫ذات ممكنة التفسير ‪ ،‬ويقلبون أشياءه كلها بالمقلوب ويضعون عليهــا ركامــا مــن‬
‫عقائدهم ورغباتهم وهواجسهم ‪ .‬فهناك إله معيــن وكتــاب معيــن ورســول معيــن‬
‫لكل واحد منهم وان تشابهت السماء وتوحدت قبلة الصــلة واتفــق صــوت الذان‬
‫ودقّ الناقوس ‪ ،‬لنك تستطيع أن تختبرهم في الحــرب وفــي الفتنــة وفــي ســفك‬
‫الدماء ‪ ،‬وتختبرهم أيضا ً عند الجــدل والنقــاش لتحصــي مقــدار الفــتراء والكــذب ‪.‬‬
‫م‬‫ل والقضاءُ قيــاس والحك ـ ُ‬ ‫ن رجا ٌ‬ ‫سن ُ‬‫ب ُزب ُُر وال ُ‬
‫مكاءٌ والكتا ُ‬
‫فالحجيج ضجيج والصلة ُ‬
‫ع‬
‫ي ‪ ،‬والصــل فــر ٌ‬ ‫ظ ‪ ،‬والحــاكم ول ـ ّ‬ ‫اختياٌر ‪ ،‬والشُر جبٌر والخيُر قدٌر‪ ،‬والمال حظــو ٌ‬
‫ل والمســتحبات ضــرورات ‪ ،‬والواجبــات متروكــات ‪ ،‬والعلــم طاقــة ‪،‬‬ ‫والفــرع أص ـ ٌ‬
‫ن ‪ ،‬واليـات تفسـير ‪ ،‬والبينـات مجــاز ‪ ،‬والمثـال‬ ‫والمعرفة تقليــد ‪ ،‬والجتهــاد ظـ ٌ‬
‫و ‪ ،‬إلــى أشــياء كــثيرة‬ ‫ب ‪ ،‬والصدق غل ـ ٌ‬ ‫استعارات واللغة مرادفات ‪ ،‬والرزاق أكاذي ٌ‬
‫جدا ً فابشر يا جان ثم أبشر إذا حفظت خطبتي وما يقال في هــذا المــؤتمر فإنــك‬
‫بفضل ما تفعله من تعاليم مع هـؤلء القـوم الــذين هـم بهـذه الصــفة فتزيـد مـن‬
‫غيهم وتزيين أعمالهم فسيكون لك شأن كبيٌر في مجمع الشياطين ‪.‬‬
‫ُ‬
‫ت أن أعيــد‬ ‫ت بكل شر وطــال عمــرك يــا ســيادة الرئيـــس وإذا شــئ َ‬ ‫الجنوبي ‪ُ :‬بشر َ‬
‫ف فعلت ‪ .‬وسأدرب نفسي مع شيطان المشرق للسيطرة علــى‬ ‫خطابك حرفا ً بحر ٍ‬
‫هؤلء القوم حتى يظهر فيلسوف في جيبوتي أو سدني أو جوهانسبيرغ ! ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬وفقت لكل شر يا جــان ‪ ،‬وإنــي إنمــا أناديــك بهــذا الســم لنــك صــورة‬
‫ي وإن كنت ل أعلم اسمك الحقيقي ‪.‬‬ ‫مركزة لكل جن ّ‬
‫الجنوبي ‪ :‬اسمي الحقيقي يا سيدي هو ) مونادو ( !‬
‫) رفــع الرئيـــس عينيــه وحــاجبيه وأدار رأســه ببطــء ناحيــة ) الشــيطان اللغــوي (‬
‫سم وهّز رأسه ببطء أيضا ً رافعا ً وخافضا ً من غير أن يلتفت‬ ‫وحينما رمقه الخير تب ّ‬
‫قب (‬ ‫ن قهقه الرئيـس بصوت عال مسرورا ً ثم ع ّ‬ ‫إلى ناحية الرئيـس … وبعد ثوا ٍ‬
‫الرئيـس ‪ :‬في المجلس التي سنتحدث عن حبيبي مونادو !‬
‫) بعد أن أوعز الرئيـس للشياطين بأن يأخذوا راحتهم إلى اليوم التالي ‪ ،‬ردد وهو‬
‫يقوم (‬
‫الرئيـس ‪ :‬يا للفأل الحسن ! حبيبي مونادو ! يا للفأل الحسن مونادو حبيبي ‪.‬‬
‫النيلي ‪27-----------------------------------------‬‬

‫الجلسة الثانية‬
‫لفريق إلغاء الحكمة‬
‫على الرض‬

‫دد الحاضرون الغنية ‪ ،‬قال الرئيـس‬ ‫جل القائد ‪ ،‬ور ّ‬ ‫) بعدما ألقيت المقدمة التي تب ّ‬
‫(‬
‫ً‬
‫الرئيـس ‪ :‬باسم قائدكم المنظور بالله وباسمي شخصيا وباسم جميــع الشــياطين‬
‫في الرض الثالثة وباسم القيادة الفلسفية المجتمعة هنا أتلو القرارات المنبثقــة‬
‫عن الجلسة الولى ‪ ،‬وعلى كافة المختصين تنفيذها فورا ً اســتغلل ً للــوقت وكيــدا ً‬
‫ببني النسان أعداءنا) الطبيعيون ( وأعداء الزمان‬
‫) يهمس أحد الشياطين بخفوت قائل ً (‬
‫أحد الشياطين ‪ :‬الطبيعيين سيدي الرئيـس !! ‪.‬‬
‫) يرد الرئيـس فورا ً (‬
‫الرئيـس ‪ :‬اسكت … هذا ليس شغلك ! ‪.‬‬
‫) ثم يواصل الحديث (‬
‫الرئيـس ‪ :‬أول ً ‪ :‬ـ الوامر العامة ‪:‬‬
‫جب تكثيف العمل اليحائي للدارسين والساتذة والتلميذ ممن هم‬ ‫يتو ّ‬ ‫‪.1‬‬
‫ً‬
‫دون مرتبــة الفلســفة بضــرورة اتخــاذ الفلســفة قــدوة لهــم ومثل أعلــى ‪،‬‬
‫مث َُلهــم الــذي فــارقوه ‪ ،‬وإنهــم يعيشــون فــي عــالم‬ ‫والنظر إليهم على أنهم َ‬
‫سعيد كل السعادة ) لتحصيلهم السعادة ( من خلل انفرادهم بالفكر الخالص‬
‫) والعقل الخالص ( ‪ ،‬ليشعروا بأن عليهم الوصول إلى تلك المرتبــة ول أقــل‬
‫من ) تمّنيها ( فإن لم يستطيعوا فل أقل من أن يغبطوا من هم فيهــا وذلــك‬
‫أضعف الشر ‪.‬‬
‫يتوجب على لجان التنسيق في علم النفس الربط العملي بين مشاعر‬ ‫‪.2‬‬
‫هذه الطبقة ومشاعر الطبقة التي دونها من العامة والذين تكون ) سعادتهم‬
‫( مراقبة وملحظة ومتابعة أخبــار وأحــوال الســعداء مــن النــوعين ) الملــوك‬
‫الجبــابرة والغنيــاء بالمــال ( ‪ ،‬فســعادة المثقفيــن هــي فــي تأمــل ســعادة‬
‫الفلسفة وسعادة العامة هي فــي تأمــل ســعادة القــادة مــن أصــحاب المــال‬
‫مــص نفســية الحاصــل عليهــا لنهــا قــوة وإن‬ ‫والسلطان وتمنــي مثلهــا ‪ ،‬وتق ّ‬
‫) القوة فضيلة جامعة للفضائل ( ‪.‬‬
‫جب على اللجان المذكورة الربــط العملــي بيــن مشــاعر الطبقــتين‬ ‫يتو ّ‬ ‫‪.3‬‬
‫أعله مع مشاعر الطبقة الموازية لهما بالشــعور الســعيد نفســه إزاء التأمــل‬
‫في سعادة قادتها لتحصيلهم ) سعادة الدارين ( باعتبارهم علماء بأطروحــات‬
‫الفكر الديني ‪ .‬مع التشديد على أن ) الدار الولى ( سعادتها فــي ) العــزوف‬
‫عنها ( ‪ ،‬و) الدار الخرة ( سعادتها بعد فناء الكون ‪ ،‬وذلك من أجــل أن يكــون‬
‫مفهوم الخرة ) غيبـا ً ( بمعنــى ) مــا وراء المــادة ( وليــس علــى مــا يقتضــيه‬
‫المعنى اللغوي على الصل أي بمعنى ) مستقبل عالم المــادة ( مــع ضــرورة‬
‫التأكيد على أن هذه المفردات في الكتب المنزلة هي ) استعارات ومجــازات‬
‫وكنايات ( ‪ ،‬مــع اليحــاء إلــى القــادة بضــرورة تحديــد مصــيرهم مــن العقــاب‬
‫ء ممكن من ) اللوهية ( في القادة ‪.‬‬ ‫قق أكبر جز ٍ‬ ‫والثواب ليتح ّ‬
‫جب على اللجان المــذكورة تكــثيف عمليــات اليحــاء إلــى أضــعافها‬ ‫يتو ّ‬ ‫‪.4‬‬
‫فيما يخص الطبقة الرابعــة المســماة طبقــة ) المرمــوزين ( ‪ ،‬والــتي تشــمل‬
‫الفن بمعناه عندنا ل بمعناه عند بني النسان ‪ ،‬كما تشمل عندهم ) الشعراء‬
‫والصحافيين والسحرة والكهان وقارئي الفأل والمتنبئين ‪ ،‬وذوي الطــرائق ‪،‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪28‬‬
‫وأصــحاب الخــرق ‪ ،‬والرعاشــين ‪ ،‬وأهــل الراحــة وأهــل الحبــال ‪ ،‬وأصــحاب‬
‫ع ـّراض العــرض ‪،‬‬ ‫النجــوم ‪ ،‬وذوي التكايــا ‪ ،‬وأهــل الغنــاء ‪ ،‬وذوي الحانــات ’ و ُ‬
‫وكتــاب النــثر ‪ ،‬ونقــدة الدب ‪ ،‬والسماســرة ‪ ،‬والوســطاء ‪ ،‬وأهــل الباحــة ‪،‬‬
‫والهّتافين ‪ ،‬والذين يدينون بــالولء لقــادتهم مــن القــادة فــي الفئات الثلثــة‬
‫ل بحسب مرجعه ‪ ،‬إلى أن سعادتهم العظمى ليس فيما يحصلون‬ ‫السابقة ‪ ،‬ك ٌ‬
‫عليه من ربــح أو خســارة أو مــوت أو خلــود أو عــذاب أو نعيــم ‪ ،‬وإنمــا تكمــن‬
‫سعادتهم في مرموزاتهم لن عملهم هو ) فن ( والفن ) مطلوب لذاته بذاته‬
‫( كما الفلسفة تطلب ) لذاتها ( ‪ ،‬فهم من هذه الجهة ليست لديهم غاية مــن‬
‫عملهم سوى العمل نفسه ‪ ،‬وهي صفة ) الله( ليس له غاية من إيجاد الوجود‬
‫إل إيجاده ‪ .‬وبذلك يكون شعورهم باللوهية شعورا ً داخليا ً وإن لم يصرحوا بـه‬
‫ر عليهم منــافع شخصــية أو يجلــب عليهــم خســائر معنويــة أو ماديــة ‪.‬‬ ‫ولم ُيج ِ‬
‫لع ‪ ،‬والنبهار ‪ ،‬والتعجب ‪ ،‬والســؤال ‪،‬‬ ‫وسوف يعّزز هذا الشعور لديهم ‪ :‬الط ّ‬
‫والدهشــة ‪ ،‬والمتابعــة ‪ ،‬وطلــب اللــذة ‪ ،‬وقضــاء الــوقت ‪ ،‬وقضــاء الحاجــة ‪،‬‬
‫ب النتقام ‪ ،‬وحصول‬ ‫مع الخبار ‪ ،‬وح ّ‬ ‫ومعرفة الطالع ‪ ،‬وتحصيل الخبرة ‪ ،‬وتس ّ‬
‫) الطلب ( ‪ ،‬ودخول العالم العلــوي ‪ .‬وهــي الشــياء الــتي يبــديها لهــم أفــراد‬
‫الفئات الخرى بشغف شـديد أحيانـا ً مـع تقـديم ) المسـاعدات الماليــة( لهــم‬
‫على شكل تذاكر أو مبيعات كي ل يموتوا جوعا ً ‪ ،‬ول أقل من أن تكــون تحــت‬
‫عنوان ) إكراميات ( أو ) بقشيش ( ‪ ،‬لن الجوع يدفعهم إلى البحث عن عمل‬
‫آخر ‪.‬‬
‫ً‬
‫تــترك بــاقي حــروف البجديــة لملئهــا مســتقبل فــي هــذا المــؤتمر أو‬ ‫‪.5‬‬
‫المؤتمرات اللحقة ‪.‬‬

‫ثانيا ً ‪ :‬الملءات ‪ :‬ـ‬


‫تمل الفقرة ) ص ( مــن فقــرات ) ثاني ـا ً ( مــن قــرارات مــؤتمر ) بحــر الظلمــات (‬
‫المنعقد بعد موت ) أشعيا ( بما يلي ‪:‬‬
‫مل وعبارات الناموس كما هو [‬ ‫] يستمر التبادل التفسيري واللغوي لج َ‬
‫) في هذا الوقت كان الوجوم سائدا ً فــي المــؤتمر وكــان بعــض الشــياطين الــذين‬
‫شحوا لول مرة للحضور قــد أخــذتهم الدهشــة مــن هــذا النظــام الغريــب فيــه ‪،‬‬ ‫ُر ّ‬
‫ّ‬
‫فة لن الرئيـس كان يتكلم كما لو كان يحارب أو يبــارز‬ ‫ولكنهم لم ينبسوا ببنت ش ّ‬
‫مر يقول (‬‫أحدا ً ما ‪ .‬في حين است ّ‬
‫ثالثا ً ‪ :‬العقوبات ‪ :‬ـ‬
‫ُتعاقب زمرة الشياطين رقم )‪(444‬المؤّلفة مــن عشــرة آلف شــيطان‬ ‫‪.12‬‬
‫) نيويــورك ( بــالكي بالنــار لمــدة‬ ‫بقيادة المارد ) تمريدا ( بقطــاع‬
‫مائة سنة لهمالها في ) اليحاء اللزم ( عند كتابة ) جمس ديوي ( لفلسفة )‬
‫هموا أنه سينفع فأضّر بالشياطين ضررا ً بالغا ً ‪.‬‬ ‫البراجماتزم ( حيث أنهم تو ّ‬
‫تعاقب الزمرة )‪ (322‬المؤّلفــة مــن ثلثــة آلف شــيطان بــالكي بالنــار‬ ‫‪.13‬‬
‫لمدة مئتي عام لهمالها في صناعة اليحاء ومنع الضــرر عنـد إطلق ) دافيــد‬
‫جــة أنــه‬ ‫هيوم ( دعاويه التي قضت على الطرف الخر للوجــود الشــيطاني بح ّ‬
‫ينفع فأضّر ‪.‬‬
‫تمل الفقرة ) ص ( من عقوبات مؤتمر ) كوب آبلو ( بما يلي ‪) :‬تعاقب‬ ‫‪.14‬‬
‫الزمرة )‪ (310‬في القطاع المذكور لهمالها في توجيه المسؤولين عن ســير‬
‫ي للشياطين لمدة قــرون وذلــك بكّيهــا‬ ‫المعركة والذي تسبب في ضرر تاريخ ّ‬
‫بالنار خمس مرات يوميا ً لمدة ألف سنة ‪.‬‬
‫تبقى حروف البجدية في ثالثا ً غير مشغولة حاليا ً ‪.‬‬ ‫‪.15‬‬
‫النيلي ‪29-----------------------------------------‬‬
‫) حينما أنهى الرئيـس كلمه وعــاد إلــى طــبيعته ‪ ،‬تجـّرأ أحــد الشــياطين الجــدد‬
‫وأبدى استغرابه من هذا النظام العقابي القاسي ‪ ،‬وما كاد الرئيـس أن يــرد عليــه‬
‫فإذا به يسمع زعيقا ً حادا ً في قاعة المؤتمر (‬
‫الرئيـس ‪ :‬ما هذا الزعيق ؟‬
‫المعاون ‪ :‬هذا ) شركابو ( يبكي على أخيه الذي هو في الزمرة )‪ (310‬وهو المارد‬
‫) كفريان ( ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬أيها الحمق ! أخرج من القاعة فأنت مطرود ومنبــوذ مــن الن ‪ .‬الــولء‬
‫وتكم في الشيطنة !‬ ‫وة ‪ .‬إن أخ ّ‬ ‫للشيطنة أكبر من الخ ّ‬
‫) يستعيد الرئيـس هدوءه ثم يقول (‬
‫الرئيـس ‪ :‬نظامنا هذا ليس قاسيا ً كما ينبغي بل هو صحيح كما ينبغي ‪ ،‬لن عملنــا‬
‫واحد ومتصل تاريخيا ً ‪ ،‬إننا لسنا بهذا الحمق والسخافة والمهانــة الــتي عليهــا بنــو‬
‫النسان حينما ل يذكرون لطغاتهم الذين سفكوا دمائهم وانتهكوا أعراضهم سوى‬
‫ما هو من العناوين البدية الثابتة عندهم ‪ ) :‬أول ً أعماله … ثانيا ً إصــلحاته … ثالثـا ً‬
‫ما إهانته لهم وقتله إياهم وإبادته خضــراء هــم فل يضــعونه تحــت‬ ‫مشاريعه … ( ‪ .‬أ ّ‬
‫كروا الــذي أهــانهم‬ ‫عنوان لنهم يريدون نسيان تاريخ مذلتهم ‪ ،‬ول يريدون أن يتــذ ّ‬
‫فهذا يتعارض مع رغبتهم قــي التعــالي والســتكبار الجــوف الكــاذب ‪ .‬إن التاريــخ‬
‫) حكمة ( ولكن بني النسان ل يدركون ذلــك ‪ ،‬باســتثناء صــاحب الــدفاتر الســجين‬
‫الذي أعلن أن ) التاريخ فلسـفة ( ‪ ،‬فقالهـا بطريقــة تخـدمنا وذلـك لنهــم يبقـون‬
‫هكذا حمقى وتحت سيطرتنا وتوجيهنا أبد البدين ‪.‬‬
‫) يردد الحاضرون أغنية أبد البدين ‪ ،‬ثم يواصل الرئيـس خطابه (‬
‫الرئيـــس ‪ :‬إن بنــي النســان ينســون الماضــي ‪ ،‬ينســون زمــانه ومكــانه ‪ ،‬وحينمــا‬
‫قبون ( في الماضي يفعلون ذلك لخدمة صفة ) النسيان ( ‪ .‬فالنســيان طبيعــة‬ ‫) ين ّ‬
‫ذات حدين من طبائع النسـان ‪ ،‬لكنـه لحمقــه وقلـة عقلـه يجعـل قبضـتها بأيـدينا‬
‫مــا أنتــم معاشــر الشــياطين فــإنكم ضــد الزمــان والمكــان‬ ‫دها علــى رقبتــه ‪ .‬أ ّ‬ ‫وحـ ّ‬
‫ض‬ ‫تجعلونهما خادمين لكم ‪ .‬نحن صنفان والنسان طبيعتان ‪ .‬نحن صنف شــٌر محــ ٌ‬
‫ليس لننا اخترنا الشّر فنحن القادة ‪ .‬وأنتم أتباع لنا اخترتم الشر اختيارا ً ‪ .‬ولــذلك‬
‫ذبكم كمــا نشــتهي ‪ .‬وإذ نحــن القـادة فنحــن أشــراٌر‬ ‫فنحــن مسـّلطون عليكــم لنعـ ّ‬
‫مــا نحــن القــادة‬‫ذب‪ .‬أ ّ‬ ‫جَبلنــا ‪ ،‬فــإذا بلــغ أحــدكم مرتبتنــا فهــو يع ـ ّ‬ ‫بــالطبع وهكــذا ُ‬
‫مــا أنتــم فتفعلــون الشـّر‬ ‫ً‬
‫ب لننــا نفعــل الشـّر قهــرا ‪ .‬أ ّ‬ ‫ّ‬
‫عذ ُ‬ ‫المجبولون بالطبع فل ن ُ َ‬
‫اختيارا ً ‪.‬‬
‫عبر عن خضوعنا وعبوديتنا بأســلوب آخــر ‪،‬‬ ‫ط أّية قدرة في أن ن ّ‬ ‫خِلقنا لم نع َ‬ ‫حينما ُ‬
‫فنحن ل نذكر كثيرا من خلقنا بالنطق والبيان لننا صنف خــاص نســمى فــي المل‬ ‫ً‬
‫العلى بـ ) أصحاب النار ( ‪ .‬فنحن مثل الملئكة في طبيعتنا ‪ .‬وشّرنا ل يغلبه شــّر‬
‫د مـا باختيارنـا‬ ‫عنا تحــت ســلطة أحـ ٍ‬ ‫قـط ‪ ،‬لكننــا ل نفعــل إل مـا نـؤمر وليــس وضـ ُ‬
‫سب عليه لن داخلنا ل ينطق بلغة تفهمونها ‪ .‬أنتم مســتعبدون لنــا والنســان‬ ‫لنحا َ‬
‫المستكبر ) النسان الله ( مستعبدٌ لكم ‪ ،‬وتلك مفارقة مهولة ل يقدر أي مخلــوق‬
‫أن يعّبرعنها بصورة دقيقـة ‪ ،‬ذلـك لنهـا هـي نفسـها ل تعنـي سـوى أن اللوهيـة‬
‫منفردة وأنها ل ُتعــرف ‪ .‬وببســاطة فهــي أبســط الشــياء أيض ـا ً وأكثرهــا وضــوحا ً‬
‫وليس لها معنى سوى شيئين بالنسبة لكم وبالنسبة للنسان ‪ :‬أنت تريد خيرا ً فخذ‬
‫خيرا ً بقدر ما تستطيع وبقدر مــا تحلــم وبقــدر مــا يمكنــك أن تحلــم مســتقبل ً وبل‬
‫نهاية ‪ .‬وللخر ‪ :‬أنت تريد شرا ً فخذ شرا ً بقدر ما تستطيع وبقدر مــا تحلــم وبقــدر‬
‫ما يمكنك أن تحلم مستقبل ً وبل نهاية ‪.‬والنسان طبيعتان ) تذكر ونسيان ( وهمــا‬
‫متساويتان ل تزيد إحداهما علــى الخــرى مثقــال ذرة ‪ ،‬وبواحــدة منهمــا يقــدر أن‬
‫يأخذ خيرا وبالخرى يقدر أن يأخذ شّرا ً وبقدر ما يســتطيع ومــا يحلــم ومــا يريــد ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪30‬‬
‫لذلك فهو إما معذب بل نهاية أو سعيد فعل ً بل نهاية ‪ .‬النســان ) قــدرة( ونحــن‬
‫قق ما يريــد ‪ .‬والملئكــة تعمــل أيض ـا ً مــن‬ ‫نعمل من أجل النسان ‪ ،‬من أجل أن يح ّ‬
‫ما الذي يذهب مــع‬ ‫ما الذي يأتي معنا فهو يسجد لنا ‪ ،‬وأ ّ‬ ‫قق ما يريد ‪ .‬فأ ّ‬ ‫أجل أن يح ّ‬
‫ما أنتم والنسان‬ ‫الملئكة فإنهم يسجدون له ‪ .‬نحن والملئكة في عمل مشترك ‪ ،‬أ ّ‬
‫قق ومعاقب ‪ ،‬وأنا الوحيــد هنــا المختلــف‬ ‫فموضوعنا ‪ .‬أنا مشرف على عملكم ومد ّ‬
‫عنكم لني لست منكم ول من جنسكم ‪ ،‬وصورتي فقط هي المشابهة لكــم لّنكــم‬
‫ض ســماوي‬ ‫مــا أنــا فشـّر محـ ٌ‬ ‫من ) الجان ( ‪ ،‬تملكــون اختيــارا ً كالنســان تمامـا ً ‪ .‬أ ّ‬
‫وة التي أمتلكها هي قوة رهيبة بالنسبة لكــم ولــن‬ ‫المنشأ لني هكذا خلقت ‪ ،‬فالق ّ‬
‫تستطيعوا ولو اجتمعتــم وأنتــم ملييــن المليــارات أن تــؤذوني بينمــا أســتطيع أن‬
‫ص(‬ ‫ذة عظيمة في تعذيبكم ‪ .‬ذلك لني في الواقع ) شّر خال ٌ‬ ‫أعذبكم جميعا ً وأجد ل ّ‬
‫‪ ،‬أنا قطعة من جهنم ومســكني بهــا وأقضــي فــترة راحــتي هنــاك ‪ ،‬فــي قعرهــا ‪،‬‬
‫وبقية أرجائها حديقتي‪.‬‬
‫وأنا أفرح وأسّر سرورا ً عظيما ً بأعمــالكم ليــس لنــي أحبكــم بــل لنــي أبغضــكم ‪،‬‬
‫وأكرهكم مع شياطين النس كرها ً شديدا ً يشتدّ كلما اقتربتم مني ‪ ،‬ويزداد عذابي‬
‫ذتي بالعذاب الذي أصّبه عليكم كلما ازددتم قربا ً منـي وطاعـة لـي‬ ‫لكم كما تزداد ل ّ‬
‫ض ( ‪ .‬ويمكنني أن أشرح لكم طبيعتي لنكم هنا جميعا ً‬ ‫لني هكذا خلقت ) شّر مح ٌ‬
‫شياطين بلغتم من النحراف الدرجة التي ل رجعة عنها ‪ .‬ولكن لــن تســتطيعوا أن‬
‫تشــرحوا ذلــك لبنـي النســان لنهــم مصـّرون علــى فهــم العــالم كطبيعــة واحــدة‬
‫يسودها مبدأهم الثابت ) عدم التناقض ( ‪ ،‬ولنهم يريدون جعل الكــون ) مقبوضــا ً‬
‫ن الكــون أفســح مــن‬ ‫وروا أ ّ‬ ‫بيمينهم ( لهوســهم باللوهيــة ‪ ،‬فل يقبلــون بــأن يتصـ ّ‬
‫ن أنظمتــه مختلفــة ول تنطبــق عليهــا‬ ‫ن عــوالمه ل تحصــى عــددا ً ‪ ،‬وأ ّ‬ ‫خيــالهم ‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن هناك من هــو فـي مثــل طبيعــتي العجيبــة ‪ .‬طبيعــتي تنطــق ببيــان‬ ‫مبادئهم ‪ ،‬وأ ّ‬
‫واضح أن اللوهية شيء آخر غير الطبيعة وغير العوالم ‪ ،‬هو فيها وهو خارجها هو‬
‫بعيد عنها وهو لصيق بها ‪ ،‬هو بعيد إلى الحد الذي تكون الشياء كلها في قبضته ‪،‬‬
‫وقريب إلى الحد الذي تكون الشياء كلها هي غيره ‪ ،‬وأني لم أخطئ الــترتيب بــل‬
‫ض ومعنــى ذلــك أنــي تعــبيٌر عــن ) الفنــاء ( ‪ ،‬فأنــا فنــاء‬ ‫أقصده قصدا ً ‪ .‬أنا شّر مح ٌ‬
‫سدت في هيكل مخلوق ‪ ،‬ظاهري شيء وحقيقتي شيء ‪ ،‬وليس ) المــوت ( إل‬ ‫تج ّ‬
‫أحد جنودي المخلصين الذين يفــوق عــددهم تصــوراتكم ‪ .‬وطبيعــة الفنــاء هــي أن‬
‫ُيرجع الشياء إلى العدم ‪ ،‬ل ُيرجعها بالموت بل باستهلك طاقتها الوجوديــة كلهــا‬
‫ض ( لنفسه إل الموجودات التي تعمل الشّر وتريد في عين‬ ‫ول يجذب ) الشّر المح ُ‬
‫الوقت أن تبقى لن هذا العمل مضادّ لللوهية التي ل تعمل سوى الخيــر ‪ ،‬فأنــا ل‬
‫أعمل الشّر ‪ ،‬فهذا التعبير خاطئ معي ول يطابق صفتي ‪ ،‬وإنما أجذبكم لتعملوه ‪.‬‬
‫فأنا مثل القطب الممغنط الذي يفصل قطــع الحديــد عــن غيرهــا ‪ ،‬فــإنه ل يجعــل‬
‫بعض القطع حديدا ً ويترك الخرى ‪ ،‬بل الحديد كله هو الــذي يتعل ّــق بــه لنــه حديــد‬
‫‪.‬قوتي عارمة وعظيمة لن الله هكذا خلقني ‪ ،‬فقد جعلني ) مضادّ الوجود ( ‪ ،‬فأنــا‬
‫م بالطعام والشراب ‪ ،‬طعامي وشرابي هو طـاقتكم الوجوديــة الــتي أســتهلكها‬ ‫نه ٌ‬
‫بالتعذيب والتدمير والتلف ‪ ،‬وهي طاقة هائلة في داخلكم ل تنفــد إل بعــد مــرور‬
‫در لــي أجل ً بطــاقتكم‬ ‫در آجــالكم بــالموت ق ـ ّ‬ ‫دهور ل أعلم عددها لن الله مثلما ق ـ ّ‬
‫ب‬ ‫ب تكاثركم حولي وتعّلقكم بي لنــي أيض ـا ً أح ـ ّ‬ ‫وفناءها ‪ .‬لذلك فطبعي هو أن أح ّ‬
‫دة أطول ‪ .‬وأنتم بالنسبة لي الطعام والشراب الذي يطول بــه أجلــي ‪.‬‬ ‫أن أبقى م ّ‬
‫انتم خلقتم من نار والنسان خلق من تراب وماء وأصل النار من تراب ‪ ،‬وفي كل‬
‫من النار والتراب عناصر أخرى عديدة ‪ .‬لهــذا فقــد خلطنــي فلســفة اليونــان مــع‬
‫ما أنــا فلــم ُأخلــق‬ ‫عناصركم لنهم لم يستطيعوا التمييز حينما رأوا آثاري فيهم ‪ .‬أ ّ‬
‫مثلكم من شيء محسوس ‪ ،‬إنما خلقت من ) البغض ( ‪ ،‬وفي البغض عناصر بقــدر‬
‫النيلي ‪31-----------------------------------------‬‬
‫من تلك العناصر ‪ ،‬وجسمي يحتوي‬ ‫عدد عناصر الوجود ‪ .‬فأنا ) الفناء ( الذي يتض ّ‬
‫ددة من الحقد والحسد والكراهية ومواد أخرى ‪ ،‬وعناصــركم ليســت‬ ‫على نسب مح ّ‬
‫جون منهــا هــي جــزء مــن طبيعــتي‬ ‫سوى شيء ضئيل من عناصري والنار التي تض ّ‬
‫لن ناري التي خلقت منها أشدّ وأقوى وهي تحرق جميع أنواع النار لن ناري هي‬
‫نار الحقد والحسد والكراهية ‪ .‬فأنا أحّبكم لني أبغضكم وجعل الله لكم في ناركم‬
‫ب النار الحطب فتحرقه فكذلك محبتي لكم لنكــم‬ ‫ونار النسان مثل ً لي ‪ ،‬فكما تح ّ‬
‫ن هيكل ً‬ ‫دقون أ ّ‬ ‫غذائي الوحيد ‪ .‬الحجام تغّركــم والمظــاهر تغريكــم ‪ .‬فــأنتم ل تصـ ّ‬
‫ذب المخلوقـات ويســكن فـي‬ ‫ضئيل ً بحجم النسان يمكنه أن يطفئ الشموس ويعـ ّ‬
‫قعــر جهنــم يؤججهــا ويجلــب لهــا الحطــب ‪ ،‬لنكــم تقيســون الشــياء بــالحجوم ‪،‬‬
‫ن حجمــي الــذي هــو‬ ‫يأ ّ‬ ‫وسيهول النسان مظهري حينما يكتشف علــى نحــو يقين ـ ّ‬
‫ذبه حــتى أعيــده إلــى‬ ‫بقدر حجمه ل علقة له بقدراته وقــدراتي وبــدل ً مــن أن أع ـ ّ‬
‫الفناء كان يمكنه أن يجعلني مرعوبا ً منه ـ أنا الذي ترعــب منــه جميــع الموجــودات‬
‫ب الوجــود المحــض ويكــره الشـّر أن يغلبنــي لن ذلــك هــو‬ ‫ــ ‪ .‬يســتطيع الــذي يح ـ ّ‬
‫ر مــن ) الحســرة ( والعــذاب‬ ‫ص لكــبر قــد ٍ‬‫م مخصـ ٌ‬ ‫خلقت به ‪ ،‬تصــمي ٌ‬ ‫التصميم الذي ُ‬
‫يمكن إثارته في نفوسكم فضل ً عـن عــذاب أبــدانكم ‪ .‬لـذلك فــإن حقــدي وحنقــي‬
‫خلقــتي ‪،‬‬ ‫يشتدّ على الذين يريـدون منـي ) وجـودا ً ( وأنـا فنـاء فـي طبعـي وفـي ِ‬
‫فأفقد ) عقلي ( وأزمجر وأدخل في طبيعة ) الجنون ( وأنتقــم شــر انتقــام ‪ ،‬لن‬
‫في وأتقن اتقانا ً تاما ً كيف أعذب بحيــث أجعـل الكـوان كلهــا‬ ‫عناصر الوجود في ك ّ‬
‫ل‬ ‫ترتجف ذعرا ً مني ومن أساليبي العجيبة في تعذيب الخلق ‪ .‬ذلك أن اللــه قــد ج ـ ّ‬
‫ورونه عن الله يجعلني أغضب لن الله‬ ‫ذب بنفسه مخلوقا ً ‪ ،‬إن هذا الذي تتص ّ‬ ‫أن يع ّ‬
‫س أحد الوجود المحــض بســوء لنـي فـي الواقــع ) فنـاء‬ ‫هكذا خلقني أغضب إذا م ّ‬
‫محض ( ‪ ،‬ل أريد صفة تخرج مني ول أريد صــفة مــن الوجــود تــدخل فــي طبعــي ‪.‬‬
‫ي بالنــار ألــف ســنة فليــس‬ ‫مــا الكـ ّ‬
‫أنتم ل تعرفون عذابي لنكــم لــم تــروه بعــد ‪ .‬أ ّ‬
‫طعامي ‪ ،‬هذا فقط إنضاج و ) تحضير ( لبعــض مــوائدي فــي اليــام التاليــة ‪ .‬ولــن‬
‫يفلت مّني أحد قط ‪ .‬وهل يفلت الطعام من فكين جائعين ؟ لن يفلــت أحــد منــي‬
‫إل ذلك الذي يهرب مني بعيدا ً … الذي يفّر مذعورا ً وأنا ألحقه أيض ـا ً أينمــا ول ّــى ‪،‬‬
‫لني نهم جائع طوال الوقت ولــن أتركــه قـط حـتى أرى أنـه قـد أمسـك بـالوجود‬
‫د قويــة ‪ ،‬ول أتركــه حــتى يبلــغ منــي اليــأس مبلغــه وحــتى‬ ‫مــش بــه بيـ ٍ‬‫المحض وك ّ‬
‫دة لطبيعــة الوجــود ‪ ،‬وقــوتي تتضــاءل هنــاك ‪،‬‬ ‫يرهقني بإرجاعه لن طبيعتي مضــا ّ‬
‫وكلما أمسك بالوجود واســتغاث بــالله ولذ بــه وصــار يتوســل إليــه أن ينقــذه مــن‬
‫مخالبي ضعفت قوتي فإذا يئست منه وعرفت ضــعفي تركتـه ‪ ،‬إن الــذين يفلتـون‬
‫ل آخٌر من بني النســان‬ ‫مني قلة أو ثّلة ‪ .‬أنا اسمي ) الساقي ( فكما أن هناك رج ٌ‬
‫يسقي النــاس مــاءا ً فــي الجنــة فأنــا أيضـا ً مخلــوق بنفــس الحجــم أســقي جهنــم‬
‫بالحطب ‪ .‬واسمي أيضا ً ) الغربيل ( لنه ل يمر عبر خططي إل أولئك الذين أقّروا‬
‫) بفنــائهم ( وخضــعوا لحقيقــة أنهــم ) لشــيء( ومثلهــم كمثــل الحبــة تتضــاءل‬
‫م‬ ‫دق مــن ) س ـ ّ‬ ‫وتتضاءل حتى تعبر من الغربيل ‪ ،‬لني غربيل ناعم جــدا ً وأبــوابي أ ّ‬
‫الخياط ( فهل يعبر الجمل منه ؟ ثم أن لي أسماء أخرى كــثيرة ل علــم لكــم بهــا ‪.‬‬
‫أما الذين هم طعامي فليتخذوا لهم ما يعجبهم من أسماء ولكن لن يكون لهم من‬
‫وجود قط ‪ .‬وواقــع الحــال أنــه ليــس لهــم حــتى مجــرد اســم واحــد لنهــم ليســوا‬
‫) شيئا ً ( ‪ .‬ولنهم طعامي فهــم فــي طريــق الفنــاء وليــس لهــم اســم واحــد ‪ .‬أنــا‬
‫موجود في جميع الموجودات ‪ ،‬سرياني فيها يشبه سريان الماء في خليــا النبــات‬
‫وبعض الحمقى رأى آثــاري واستشــعر وجــودي فاعتقــد أنــي ) إلــه ( ‪ ،‬ل حبــا بــي‬
‫وتقديرا لتواجدي ‪ ،‬بل ليكون هو على تلك الصــفة الــتي وصــفني بهــا ‪ ،‬فأنــا أبــدأ‬
‫ق شديد لن طبيعتي الفناء وبسـبب هـذا فـإني أمقـت مــن‬ ‫ي بحن ٍ‬ ‫ببغضه وأجلبه إل ّ‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪32‬‬
‫يسميني وجودا ً أو إلهـا ً ‪ ،‬وانتقــم منــه شــر انتقــام واســتنفذ طــاقته الوجوديــة‬
‫بالعذاب والتعذيب ذّرة ذّرة وجزيئا جزيئا ‪ ،‬وذلك من أجل أن أعرفه بنفسي ‪ ،‬فـإنه‬
‫ل يعرفني حتى أفنيه لن الله هكذا أرادني أعرفهم بنفسي ليعرفوا من هــو اللــه‬
‫وليعلموا أنهم إذ ل يدركوني وأنا الفناء فلن يدركوا الذي خلقني ‪ .‬وإذا كانت تلــك‬
‫) حقيقتي ( فــإن ظــاهري مختلــف ومنــاقض لهــا ‪ ،‬لن طبيعــتي مزدوجــة ولنــي‬
‫أتظاهر بأني في خدمة الذين هم طعامي ‪ ،‬وأني أنا طعامهم وشرابهم فأنا أعمل‬
‫مثل الصياد يعطي للسمكة طعاما ً من أجل أن تكون هي طعاما ً له ‪ .‬وحينما أعلــن‬
‫عن حقيقتي الن فلني ل أخشى منكم لنكــم علــى مــائدتي كمثــل المــوتى‪ ،‬بــل‬
‫الن أنتم موتى وكلمي معكم مثل كلم الصياد مع الســمكة الــتي اصــطادها فهــو‬
‫يقول لها سأشق بطنك وأضع عليها الملح وأنضجك على النار وتكوني طعاما ً لــي‬
‫والسمكة ل تعي ما تقول ‪.‬فكذلك طعامي منكــم ومــن بنــي النســان ل يعــي مــا‬
‫أقول له مثلما ل يعي المقر بالعبودية للــه حينمــا يصــف لــه أحــد مــا مزايــا الكفــر‬
‫والتجبر ‪ ،‬لنه أخــرج نفســه اختيــارا ً إلــى الطبيعــة الــتي يريــدها فل يســمع شــيئا ً‬
‫بخلفها ول يعي مضادها ‪ .‬فأنا أتكلم الن لنفســي ومــع نفســي ‪ .‬وطبيعــتي فــي‬
‫ض عنــد تمــام الغضــب ‪.‬‬ ‫الغضب والرضا مزدوجة فأنا غاضب عنــد تمــام الرضــا ورا ٍ‬
‫ً‬
‫وحينما يزعجني أحد أشتهي أن يكلمني آخر عن موائدي لنــي أجــوع مزيــدا علــى‬
‫جوعي إذا انزعجت وأتذكر فجأة أني جائع ‪ .‬أنا لم آتي هنا للزيارة والتفتيش كمــا‬
‫ق مــن أســواقي آخــذ منــه مــا أشــتهي لمطبخــي‬ ‫ن البعض بل أنا الن في ســو ٍ‬ ‫يظ ّ‬
‫ي فلــن يزيــد غضــبي‬ ‫وأضع ألوانا من الطعام بحسب ما يعجبني ومــن يعــترض علـ ّ‬ ‫ً‬
‫ة ‪ .‬حينمــا يمــوت النــاس‬ ‫ر مختلف ـ ٍ‬ ‫بقدر ما يزيد رغبتي في التفّنن فــي أكلــه بصــو ٍ‬
‫يعتقد الغبياء منهم أنهم قد تخّلصوا من قبضتي ‪ ،‬بينما المــوت هــو أحــد أدواتــي‬
‫ة من آلت طعامي ‪ ،‬لني ) أنا الفناء ( الوحيــد مــن الكائنــات المســموح لــه أن‬ ‫وآل ٌ‬
‫يقول ) أنا ( وأن يعظم ذاته ‪ .‬وذلك لني في الصل )خضوع محض ( لكوني ) فناء‬ ‫ّ‬
‫د ‪ ،‬وهــم مــن ألـ ّ‬
‫ذ‬ ‫محض ( والذين يقولــون ) أنــا ( مثــل اللــه ألتهمهــم بنهـم ٍ شــدي ٍ‬
‫أطعمتي وأشدّ ما أكون حريصا ً على اســتجلبهم لمطــابخي وأفرانــي ‪ .‬ليــس اللــه‬
‫) وجودا ً ( وليس هو تلك ) الموجودات ( وليس هو أيضـا ً ) الوجـود المحـض ( ‪ ،‬لن‬
‫الوجود المحض مخلوقٌ أيضا ً ‪ ،‬إذ إنه نصفي الخر وشقيقي في الظهور ‪ .‬كّنا فــي‬
‫ن الله أمر أن يكــون ذلــك الواحــد شــيئا ً ‪ .‬وعنــدما‬ ‫البدء واحدا ً ) ليس شيئا ً ( ‪ ،‬ولك ّ‬
‫قال له ) كــن ( لــم يســتطع الظهــور والخــروج إلــى الكينونــة فــانفلق مــن رعــب‬
‫فت حول ذاتها بسرعة ـ ـ تقصــر‬ ‫ة تدكدكت على نفسها والت ّ‬ ‫اللوهية فلقتين ‪ ،‬فلق ٌ‬
‫ة عن فناءها أمام عظمة اللوهية وجبروتها ‪ ،‬والخــرى‬ ‫عقولكم عن إدراكها ـ باحث ً‬
‫ة هــي الخــرى عــن‬ ‫ة مــن ذاتهــا باحث ـ ً‬ ‫تطايرت قطعا ً قطعا ً فاّرةً من نفســها هارب ـ ً‬
‫د أن يظهر أبدا ً مع الحــد ‪ .‬كــان المفــروض أن يفنــى‬ ‫فناءها ‪ .‬ل يمكن لشيءً واح ٍ‬
‫ة في الخضــوع والرجــوع إلــى‬ ‫ون ( حال ظهوره ‪ ،‬ولكنه وجد لذّةً عظيم ً‬ ‫ذلك ) المك ّ‬
‫ج ‪ ،‬إذ قال الجــزء الــذي يتضــاءل‬ ‫ل مزدو ٍ‬ ‫الفناء ‪ ،‬فاستهواه ذلك إلى أن يقوم بعم ٍ‬
‫ويكبس نفسه في المركز للجزء الخر ‪ :‬تمسك بي لتبقى فإنك ) فناء ( وأحب أن‬
‫سك لتبقى ‪ .‬وقال الجزء المتطاير للمتضائل‬ ‫أراك باقيا ً أمام وحدانية اللوهية فتم ّ‬
‫سك بي فإنك ) وجود( وأحب أن أراك فانيا ً أمام وحدانية اللوهيــة‬ ‫في المركز ‪ :‬تم ّ‬
‫ء لصاحبه ‪ :‬هذا أفضــل ‪ ،‬ليــس بمقــدور شــيء‬ ‫مسك بي لتفنى ‪ .‬ثم قال كل جز ٍ‬ ‫فت ّ‬
‫أن يكون ) وحده ( أمام الله حتى يفنى ‪ ،‬وليس بمقدوره أن ينفــذ أمــر اللــه فــي‬
‫أن ) يكون ( إل بهذه الطريقة ‪ .‬وإننا لنجد لذّةً في ذلك ‪ :‬نبقــى لنفنــى أمــام اللــه‬
‫ونفنى لنبقى يرانا كـذلك ‪ .‬فليـس ثمـة شـيء ) فـرد ( فـي العـالم وأصـبح الكـل‬
‫) أزواج ـا ً ( وأصــبح ) مــن كــل شــيء زوجيــن ( ‪ ،‬ثــم ذرأ الخلــق مــن تلــك الزواج‬
‫وتعددت الشياء بالتوالد ‪ ،‬وتولد أحدها من الخر فلم يكن العالم ) فيضا ً ( من الله‬
‫النيلي ‪33-----------------------------------------‬‬
‫ول كان العالم هو الله ولن يكون ‪ .‬ثم قال الله ‪ :‬ســأخلق منكمــا عــوالم كــثيرة‬
‫كما خلقت من قبــل ‪ ،‬وتبقــى هياكلهــا وصــورها وبواطنهــا ظــاهرة فــي ) رقصــة‬
‫الوجود والفناء ( التي أنتما عليها ـ لني سأخلق خلقا ً آخر منكما أجعلــه ) يختــار (‬
‫وأعطيه ما أعطيتكما من ) الحريــة ( فــي نفســه وجســده ‪ .‬أمــا بــدنه فهــو أزواج‬
‫ما موضعه فأجعله يتراقص بالوجود والفنــاء ‪ ،‬ولكنــي‬ ‫تتراقص بالوجود والفناء ‪ .‬وأ ّ‬
‫دعي أنــه‬ ‫ً‬
‫أعلم أن بعــض هــذا الخلــق ســيختار أن يكــون بــديل عنــي أو يســتكبر فيـ ّ‬
‫ل لـي ويعلــم أنـي إلــه واحــد ل أتعـدد وأن الشــياء‬ ‫يعرفني ‪ ،‬وبعضه سيخضع ويــذ ّ‬
‫خلقي وهي غيري لكني ل أباينها وأنــي معهــا لكنــي ل أداخلهــا ‪ .‬فاشــتدّ شــوقي‬
‫لرؤية الخاضعين واشــتدّ غيضــي علــى المســتكبرين ‪ .‬فقلنــا ‪ :‬مــاذا نفعــل لهــؤلء‬
‫وهؤلء ؟ فقال الله ‪ :‬سأخلق منكما رسولين ‪ :‬رسول خير ورسول ش ـّر ‪ ،‬فــإني ل‬
‫صر حتى يتمّيزوا ويتفّرقوا فرقتين ‪.‬‬ ‫أعاقب الجاهل وأحلم عن المذنب وأنذر المق ّ‬
‫أما أنت أيها المتطاير فلتكن رجل ً بهيئتهم ‪ ،‬فتأخذ منهم ما تريد من عــدد ‪ ،‬وأنــت‬
‫تحتاج إلى طاقة فخذ طاقتك منهم لنــك مشــغوف بالبقــاء والديمومــة ‪ ،‬اســلبهم‬
‫طاقتهم ـ طاقة الشرار ـ حتى تفنيهم بألوان العذاب ‪ .‬وأمــا أنــت أيهــا المتمركــز‬
‫صتك وأنت تفقــد طاقتــك لنــك مشــغوف‬ ‫فلتكن رجل ً أيضا ً بهيئتهم فتأخذ منهم ح ّ‬
‫كنهــم مــن أن‬ ‫ُ‬
‫بالفناء فــأعط طاقتــك للخيــار بحيــث يســتنفذونها كلهــا وبــذلك أم ّ‬
‫ة ‪ .‬ثم قال ‪ :‬أمــا أنــت الشــر المحــض فجــوع ل‬ ‫ة أبدي ٍ‬‫يحكموا العوالم ويتمتعوا بحيا ٍ‬
‫ينتهي للطاقة وأما أنت الخير المحض فعطـاء ل ينتهـي للطاقـة ‪ .‬وسـأجعل لكمـا‬
‫أمثلة ل تحصــى فــي الشــياء يــدور بعضــها حــول بعــض ويمســك بعضــها ببعــض ‪.‬‬
‫وسأجعلكما ) رجلين ( أحدكما يظهر مع أولهم والخر يظهــر مــع آخرهــم ‪ ،‬وكلمــا‬
‫ظهر أحدكما سّرا ً ظهر معه الخــر جهــرا ً وكلمــا ظهــر أحــدكما جهــرا ً ظهــر الخــر‬
‫ما‬‫ما المتمركز فيموت خلفا ً لطبعه ‪ ،‬وأ ّ‬ ‫سّرا ً ‪ .‬وسأجعل لكما حجابا ً تحتجبون به ‪ .‬أ ّ‬
‫المتطاير فيحيا خلفا ً لطبعه لني أريد أن يتمّيز هذا الخلق المختار تمّيزا ً حقيقيا ً ‪.‬‬
‫ثم تظهران سوية وتقبلن في آخر المطاف كما بدأتما ‪ .‬فلم يكن شيءٌ أحب إلينا‬
‫مما قاله الله لنا ‪.‬‬
‫س الرئيـس فجأةً أنه كان يكلم نفســه ‪ ،‬فنظـر إلـى مجمـع كــبراء الشــياطين‬ ‫) أح ّ‬
‫فلما وجدهم واجمين يخيم عليهم صمت مطبق شعر بأنهم لم يدركوا مــن خطــابه‬
‫عد ‪ ،‬ولما كانت هذه الحالة تطرأ دوما ً على جميع الرؤســاء ‪ ،‬فقــد‬ ‫دد ويتو ّ‬‫إل ّ أنه يه ّ‬
‫غاضه الشعور بأن هؤلء الكبراء يعتبرون المــر عادي ـا ً ‪ .‬وبعــد أن صــمت للحظــات‬
‫مركزا نظره على القوم ‪ ،‬فكر بأن يخــاطب المشــرقي والمغربــي ليعيــدهما إلــى‬
‫أصل الموضوع لكنه أدرك بأنه مخطئ فــي تقييمــه لطبيعــة تــأثير كلمــه عليهــم ‪،‬‬
‫فقد وجد القادة في حال تنبئ عن عظيم ما يشــعرون بــه مــن الخــوف والرعــب ‪،‬‬
‫كر أن الرؤســاء‬ ‫كانت العيون غائرة والوجوه ذابلة والبشــرة مصــفّرة ‪ ،‬وعنــدها تــذ ّ‬
‫والقادة من أعضاء المجمع هذا يعون كلمــه ويعرفــون مــواقعه فق ـّرر أن يواصــل‬
‫الحديث ليزيدهم إيلما ً وليرتوي هو من هذا الحديث فاستأنف القول (‬
‫الرئيـس ‪ :‬ل يبقى ) الوجود المحض ( إل معي ول أبقى إل معه فهو وجــودي وأنــا‬
‫ن كــل‬ ‫ما الذين يأتون معــي فــأفنيهم ‪ .‬إ ّ‬ ‫بقاءه ‪ ،‬لذلك فل بقاء إل لمن يكون معه أ ّ‬
‫ت أو لم تحمل علــى‬ ‫فقرة من كلمي تفسر كونا ً من الكوان ‪ ،‬ولكن قد قيل حمل َ‬
‫الكلب‪ ((1‬فإنه يلهث لن الكلب هو الذي يريد اللهاث ‪ ،‬ول شأن لـه بمـا تفعـل ‪ .‬أنـا‬
‫بقاء محض وأنا الذي تول ّــد منــي المكــان ‪ ،‬والــذين يبحثــون عــن مكــان لللــه إنمــا‬
‫يبحثون عن ألوهية أنفسهم ‪ ،‬ومصــيرهم هــو أن يــأتوا معــي ولــو لبســوا الصــوف‬
‫وأكلوا الجشب وزهدوا وأنفقوا مل الرض ذهبا ً وتهّرأت أقدامهم من الصلة ‪ .‬فل‬
‫د لنهم طعامي البدي ‪ .‬أما‬ ‫ء شدي ٍ‬‫طعهم أربا ً أربا ً ببط ٍ‬ ‫نجاة لهم من أنيابي التي تق ّ‬

‫)الكلب ‪ :‬بكسر اللم ـ صفة ‪.‬‬


‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪34‬‬
‫الذين ذّلوا واستقالوا عن معرفــة اللوهيــة وأق ـّروا بالعبوديــة فأنــا أف ـّر منهــم‬
‫وأوّلي مدبرا ً ول أستطيع أن أسلبهم شــيئا ً ولــو تزّينــوا بالفضــة وأكلــوا الطيبــات‬
‫قي الخر ) الوجود المحــض ( يعطيهــم ‪ ،‬ويــدفع‬ ‫واقترفوا جبال ً من الذنوب لن ش ّ‬
‫عوضا ً عنهم حتى يخرجهم أبرارا ً ‪ .‬أنا والوجود المحــض كن ّــا واحــدا ً قبــل أن نكــون‬
‫شيئا ً مذكورا ً ‪ ،‬واحدا ً ليس له وجود ‪ .‬ولو كان هنــاك رجلن فــي مكــان مــا وقعــت‬
‫ل لنا ولن يكونا مثال ً‬ ‫ب وهرب الخر فهما مثا ٌ‬ ‫ج ٍ‬ ‫عليهما صواعق فاختبأ أحدهم في ُ‬
‫جــب فقــد هــرب فــي ) الزمــان ( لن المكــان‬ ‫مــا الــذي دخــل ال ّ‬ ‫لنــا فــي البــدء ‪ .‬أ ّ‬
‫ّ‬
‫ما الــذي ولــى‬ ‫ً‬
‫المستهدف هو نفسه فهو كمن يقول أنا لست موجودا ) الن ( ‪ .‬وأ ّ‬
‫هاربا ً فقد هرب في ) المكان ( لن الزمان المستهدف هو نفسه فهو كمن يقول‬
‫ر أفضـل فـي‬ ‫ي فـرا ٍ‬ ‫) هنـا ( ‪ .‬ول يـدري المـرء المرعـوب أ ّ‬ ‫أنـا لسـت موجـودا ً‬
‫ل كهــذا أن يهــرب بهمــا‬ ‫د منكم فــي حــا ٍ‬ ‫ي واح ٍ‬ ‫الزمان أم في المكان ‪ .‬ولو قدّ ر ل ّ‬
‫ء لفعل ‪ ،‬لكنه ل يقدر على النشطار ‪ ،‬فإذا فـّر فــي المكــان ســاوره‬ ‫على حدّ سوا ٍ‬
‫مــا إذا‬ ‫ما إذا كانت النجاة في الزمان وإذا فّر في الزمان ســاوره القلــق ع ّ‬ ‫القلق ع ّ‬
‫كانت النجاة في المكان ‪.‬لم يكن في البدء زمــان أو مكــان ‪ ،‬إنمــا نحــن خلقناهمــا‬
‫خلقا ً وابتكرناهما ابتكارا ً فرارا ً مــن وحدانيــة اللوهيــة وجبروتهــا ‪ .‬وهــي مفارقــة‬
‫عجيبة مذهلة أن يكون المكان مع الفناء والزمان مع الوجود ‪ ،‬والكثر إذهال ً فيهــا‬
‫قي‬ ‫أن المكان معي وليس لي مكان أعمل فيه سوى الوجــود وأن الزمــان مــع ش ـ ّ‬
‫دقني ؟ ! فــإنكم ل‬ ‫وليس له زمان يعمل فيه إل أنا ‪ .‬فمــن ذا يفهــم أقــوالي ليص ـ ّ‬
‫تدركون معنى ذلك لني أنا ل أدرك معناه لن غاياته كلها هــي فــي أن ل نــدركه ‪.‬‬
‫وهذه المفارقة العجيبة ليست تعبيرا ً عن ) المحـال ( ‪ ،‬بـل هـي ) المحـال ( ظهـر‬
‫محال هو الشيء الوحيــد الــذي‬ ‫في الصورة الوحيدة التي يمكن أن يظهر فيها ‪ .‬ال ُ‬
‫قي (‬ ‫يمكن أن يظهر ) ليكون ( ‪ ،‬فمن ذا الذي يفهم عني مــا أقــوله ؟ ‪ ) .‬أنــا وش ـ ّ‬
‫م ( أفصح عن وجوده بأجلى صورة للعــدم ‪ ،‬ذلــك لنــه‬ ‫) عد ٌ‬ ‫ة‬
‫محال ‪ ،‬وكلنا سوي ً‬ ‫ُ‬
‫هر وجــوده مــع اللــه ســوى العــدم ‪ ،‬ليــس لن اللــه ل‬ ‫يظ‬ ‫أن‬ ‫يمكن‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫مطلق‬ ‫شيء‬ ‫ل‬
‫ُ ِ‬
‫ح أش ـدّ لنــه ليــس معــه شــيء‬ ‫ٍ‬ ‫ـو‬
‫ـ‬ ‫ووض‬ ‫شديدة‬ ‫ببساطة‬ ‫د غيره بل‬ ‫يرضى بظهور أح ٍ‬
‫ليظهر ‪ ،‬فإن الله وحده ل أحد غيره ‪ .‬أما أنتم فابقوا هكــذا مــع النســان تبحثــون‬
‫عن وجود العدم !! ‪ .‬وحينما قال الله ‪ :‬أنا وحدي ‪ .‬فقـد قـال خلل ذلـك ‪ :‬لشـيء‬
‫معي ‪ .‬إذن فلتكن تلك الحقيقــة ) اللشــيء ( ظــاهرة للعيــان ‪ ،‬لكــن هــذا محــال ‪،‬‬
‫محال أن يظهر اللشيء فــي صــورة شــيء ‪ .‬إن عبــارة ) أنــا وحــدي ( و) لشــيء‬
‫) محال أن يظهــر اللشــيء فــي صــورة‬ ‫معي ( هي بنفس معنى وقوة عبارة‬
‫شيء ( ‪ .‬لن هذا المحال أصبح الن ) حقيقة ( وهي نفس حقيقة ) أنا وحــدي ( ‪.‬‬
‫والحقيقة تظهر ‪ ،‬وليس محال ً أن ل تظهر الحقيقة ‪ ،‬بل المحال هو في أل ّ تظهر‬
‫‪ ) .‬أنا وحدي ( ـ فلتظهر حقيقة أنا وحدي أمــام عينــي وحــدي ‪ .‬وليظهــر المحــال‬
‫وليظهر ) كل شيء ( من هذا المحــال ‪ ،‬فــإن المحــال هــو ) حقيقــة غيــر اللــه ( ‪،‬‬
‫م ( أراد‬ ‫وهي عجز غيره عن أن يعلم ما هو ‪ ،‬لن هذا الغير ل وجود له ‪ ،‬فهو ) عــد ٌ‬
‫له الله أن يظهر فظهر متشبثا ً بعــدميته وفنــاءه ‪ ،‬فهــذا الوجــود ) حقيقــي ( مــن‬
‫حيث أنه متمسك بفناءه ول بقاء له بغير هذا التمسك ‪ ،‬والذين يريدون أن يوجدوا‬
‫من غير أن يتمسكوا بفنائهم وعدميتهم يفنون وأنا الذي يفنيهــم ‪ ،‬وذلــك بســحب‬
‫طاقة الوجود منهم شيئا ً فشيئا ً فيلقوا عذابا ل تتصوره العقــول ول يخطــر علــى‬
‫بال أحد لنهم تجاوزوا حدود عقــولهم وأحلمهــم وأرادوا أن يقفــزوا إلــى البقــاء‬
‫ل جزء منه واحــدٌ مــن‬ ‫ر بالعدم ‪.‬كل ما قلته الن ‪ ،‬أقّر بك ّ‬ ‫وإقرا ٍ‬ ‫سك بالفناء‬ ‫بغير تم ّ‬
‫‪((2‬‬ ‫‪((1‬‬
‫ه تعالي ) النــا ( ‪ .‬فمــن أيــن يــأتي هــذا‬ ‫الفلسفة على القل ‪ .‬لكنه إقراٌر شاب ُ‬
‫)‪ (1‬الفلسفة والنسان ‪ _ 35 /‬مسألة العدم _ سارتر ‪.‬‬
‫)‪ (2‬الفينومينولوجيا ‪ /‬الطريق إلى النا المتعالي ‪. 153 /‬‬
‫النيلي ‪35-----------------------------------------‬‬
‫د يتكلــم قبــل الوجــود إذا كــان فــي قلــب كــل‬ ‫قّر بـ ) أنا ( واح ـ ٍ‬‫المجموع الذي ي ُ ِ‬
‫فيلسوف ) أنــا ( يتكلــم عــن ) أنــاويته ( الخاصــة ؟ إلــى أيــن تريــد أن تصــعد هــذه‬
‫الناوات ؟ … إني أنا الفناء المحض وأنا الوحيد الــذي أســتّلمها وُأصــعدها بسـّلمي‬
‫إلى أتوني السفلي لستهلك ما فيها من طاقة للصعود ‪ ،‬لني الوحيـد الـذي يحـق‬
‫له أن يقول ) أنا ( مثل الله لني أنا الول الــذي خلقــت مــن ) اللشــيء ( ‪ ،‬لنــي‬
‫الباب الموصد أمام كل ) أنا ( تريد التداخل والشتراك مع ) النا ( الوحد والوحيد‬
‫‪ ،‬فأنا أبتلع كل ) أنا ( تريد النفاذ إلى هناك وأفنيها بقــوتي العدميــة ل كفكــرة أو‬
‫أطروحة قابلة للنقاش بل كذات فلسفية متكلمة ‪ .‬أما الفكــرة فهــي الــتي تمــزق‬
‫نفسها بنفسها ولذلك تتجاور النوات ول تتحارب وتتموضع الفلســفات ول يلغــي‬
‫أحدها الخر بخلف العلم لنها أنوات تعّبر عن ذوات استبدادية متكّبرة على الــذي‬
‫تخاطبه فهي شبيهة بي وهي لي وهي حصتي ‪.‬‬
‫قف الرئيـس عن الكلم ‪ ،‬وأحدث توقفه انتباهة لدى الجميــع ثــم قــال بلهجــة‬ ‫) تو ّ‬
‫ملؤها التعالي (‬
‫الرئيـس ‪ :‬أيها المشرقيون … أيها المغاربة … حدثوني أيها الشياطين الفذاذ عن‬
‫) أنواتي أنا ( ‪.‬‬ ‫موائدي ‪ .‬حدثوني عن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ة أحدثت ترجيعا عجيبا كما لو كان الصدى الراجع‬ ‫ة طويل ً‬ ‫ة عالي ً‬‫)ثم إنه قهقه قهقه ً‬
‫عنها يخرج من جميع اللهوات التي تجلس في المؤتمر (‬
‫المغربي ‪ :‬السمع والطاعة لك سيدي الرئيـس ‪.‬‬
‫) تختلف الفلسفة عن العلم في كــون الفكــار الفلســفية ل تــترابط أو تتسلســل‬
‫في مسارها التاريخي والفكار الجديـدة فـي الفلســفة ل تمحـو الفكــار القديمـة‬
‫) كما يحدث في العلم ( وإنما تتجاور تلك الفكار مع بعضها البعض وتتعــايش مــع‬
‫بعضها البعـض باعتبـار أن كـل واحـد منهـا تنتمـي إلـى ذاتيـة خاصـة بالفيلسـوف‬
‫ر فردية تختلف عن وجهات نظر الخرين ‪ .‬وكــذلك تختلــف فــي‬ ‫وترتبط بوجهة نظ ٍ‬
‫التحديد فهو يقتصر في الفلسفة على طريقة تناول تلك الموضــوعات لنهــا هــي‬
‫نفسها تتكرر بين الفلسفة ‪ ،‬وإذا كان يمكن إغفال تاريخ العلم والكتفاء بآخر ما‬
‫وصــل إليــه فــالمر يختلــف فــي الفلســفة إذ ل يمكــن الكتفــاء بواقعهــا الحاضــر‬
‫وإغفال تاريخها لن الفلسفة هي تاريخ الفلسفة وتاريخها هــو الفلســفة ذاتهــا ‪،‬‬
‫ر للعلمــاء ‪ ،‬فإننــا‬
‫وإذا كــان بمقــدورنا ذكــر العلــم وكشــوفاته وقــوانينه بغيــر ذك ـ ٍ‬
‫بالمقابل ل نستطيع تصور الفلسفة ومذاهبها بدون أصحابها وذلــك لرتبــاط بنــاء‬
‫كل مذهب بالرؤية الذاتية الخاصة بكل فيلسوف على حدة (‪.((1‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬أراك تقرأ يا جان !‬
‫المغربي ‪ :‬سيدي لنك كنت تتكلم وفاجأتني ‪ ،‬فعمدت إلى أقرب كتــاب بيــن يــدي‬
‫فقرأت حيثما فتحت لني اعتدت على سرور حضــرتكم بــأي شــيء مــن الفلســفة‬
‫وحيثما قرأته ‪.‬‬
‫ت لكل شر ‪ .‬الجميع موائدي ول أستغني عن شيء منها‬ ‫فق َ‬ ‫و ِ‬
‫الرئيـس ‪ :‬هذا صحيح ُ‬
‫‪ ،‬والذاتية المختلفة للفلسفة ما هــي إل تنويــع لطعمــتي الشــهية ‪ .‬إننــي حريــص‬
‫ن قــوتي العدميــة ل يوازيهــا ســوى خــوفي مــن‬ ‫على الحفاظ علــى أطعمــتي ‪ ،‬وإ ّ‬
‫انتباهــة النســان ‪ ،‬فــاكتموا مــا ذكرتــه لكــم ‪ .‬صــحيح أنهــم لــن يفكــروا فــي حـ ّ‬
‫ل‬
‫مشكلتهم ولن يتأملوا في أقوالي ‪ ،‬ولن يضعوها على بسـاط البحـث العلمـي بـل‬
‫سوف يتساءلون عن أشياء أخرى ‪ :‬ممن أخذ تلك القوال ؟ وسيرجعون كل فقرة‬
‫فيها ‪ ،‬كل مقدمة ونتيجة لحد الفلسفة ‪ ،‬لنهــا إن لــم يأكلوهــا تــأكلهم ‪ .‬وبعــدما‬
‫يفعلون ذلك سيتناقشون عـن المـؤثرات الشخصــية والعوامــل الوطنيــة وظــروف‬
‫العصــر وعلقتهــا بــالفكرة كلهــا ‪ .‬وســوف يتجــادلون أيض ـا ً إن كــانت ) دينيــة ( أو‬
‫)‪(1‬‬
‫الفينومينولوجيا ‪. 211 /‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪36‬‬
‫ة ما ‪ ،‬ثم يتساءلون‬ ‫مع ليضع حل ّ لمعضل ٍ‬ ‫) أفلطونية ( أو ) رواقية ( أو شيئا ً يتج ّ‬
‫‪ :‬وأين هو الحل ؟ … وبــالطبع فليــس فــي هــذه الفلســفة ول غيرهــا ول فــي أي‬
‫ل ( لمشكلتهم ‪ .‬الله نفســه ــ يقــدر علــى كــل شــيء ــ‬ ‫فلسفة تأتي مستقبل ً ) ح ّ‬
‫ولكنه ل يقدر على حل مشكلة الفلسفة ‪ .‬لن مشكلة الفلسفة هي ‪ :‬من أين جاء‬
‫هذا العالم وما غايته ؟ ‪ .‬فأما السؤال الول فقد بدأوا بالبحث عن إجــابته ‪ ،‬وأمــا‬
‫السؤال الثاني فلم يبدأوا به بعد ولن يبدأوا حتى تتحقق غايته ‪ .‬لنهم لن يرضــوا‬
‫أن يكون العالم قد جاء من تلقاء نفسه لنهـم تـأخروا فـي ظهـورهم عـن ظهـور‬
‫العــالم فيكــون العــالم هــو خــالقهم ويصــبحون إذن ) مخلــوقين ( ‪ .‬وفــوق هــذه‬
‫ة ‪ .‬وأن كان هذا العالم قد خلقــه‬ ‫المصيبة مصيبة أخرى هي أنهم مخلوقون بل غاي ٍ‬
‫كائن سبقه كان ذلك الكائن إلها ً وصاروا أيضا ً ) مخلوقين ( ‪ .‬وفوق هذه المصــيبة‬
‫ة واحــدة فحســب وهــي أن يكونــوا عبيــدا ً ‪.‬‬ ‫مصيبة أكبر هي أنهــم مخلوقــون لغاي ـ ٍ‬
‫ولهــم وآخرهــم وأحيــائهم‬ ‫والحل الذي يطلبــه بنــو النســان أعرفــه لنــي خــبرت أ ّ‬
‫وأمواتهم وأجسادهم وأرواحهم فأعلم ما يطلبون ‪ .‬إنمــا يطلبــون حل ّ خالي ـا ً مــن‬
‫تلك المصائب الربعة ! وهذا غير ممكن مطلقا ً إل إذا كان النسان مفارقا ً للعــالم‬
‫ر به ‪ ،‬وهذه هي اللوهية ‪ .‬وإنه لمطلــب قــديم جــدا ً للنســان ‪،‬‬ ‫مؤثرا ً فيه غير متأث ٍ‬
‫وأنتم تذكرون بدايته ! فقد كنتم توحون إلى النسان في عصور مــا قبــل التاريــخ‬
‫كي يصنع آلهة من خياله ‪ .‬وقد كان ذلك هو التمهيد الول للوصول إلى اللوهية ‪.‬‬
‫سمت وتج ـّزأت وتســاقط‬ ‫فما زالت هذه اللهة تختلف من خيال إلى خيال حتى تق ّ‬
‫ي مــن‬ ‫بعضها إلى العالم الرضي في صورة ملــوك حكمــوا المــدن ‪ .‬فــإذا جــاء ول ـ ّ‬
‫الولياء أوحيتم بعد مهلكه بأن بعضه أو ثلثيه آلهة والثلث الخر من البشر ‪ .‬وتلــك‬
‫ور بعضــها عــن بعــض هــي جــزء هــام مــن دروســكم فل تكونـوا‬ ‫المراحل التي تطـ ّ‬
‫مغفلين مثل النسان يتنكر لدراســة التاريــخ أو يدرســه فيقلــب المعادلــة ويجعــل‬
‫التعدد في اللهة هو الذي تطور إلى التوحيد ! فانتبهوا واكتموا ما ذكرته لكم عن‬
‫خلقي الول ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬كان ذلك من إيحائنا سيدي الرئيـس ‪ ،‬نحن قلبنا المر في عقله ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬أعلم ذلك ‪ ،‬ولول مشكلة الخلق وكيفيته لدعــى النســان اللوهيــة منــذ‬
‫ر ‪ .‬لذلك فهو ل يريد إلها ً واحدا ً وإن كان يعلمه يقينـا ً ‪ ،‬فيجعــل ــ الخلــق‬ ‫وقت مبك ٍ‬
‫ة ما إلى الله الواحد ‪.‬‬ ‫من العدم ـ مشكلة يحاول من خللها أن يمت بصل ٍ‬
‫المشرقي ‪ :‬إن بعضهم يقول إن الخلق من عــدم ليــس لــه مــا يؤيــده فــي الكتــب‬
‫المنزلة ‪ ،‬ول في أقوال الرسل وهذا تطوٌر هام حصل حديثا ً ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬إن نقد العلــم يتــم بطلــب الدلــة ‪ .‬أمــا نقــد الفلســفة فيتــم بملحظــة‬
‫التجانس بين المقدمات والنتائج ! ‪.‬‬
‫قاد الفلسفة ليسوا من أهل العلــم‬ ‫المغربي ‪ :‬قد علمت سيدي ما تخشاه ! فإن ن ّ‬
‫حتى تخاف أن يتنقصوا من الفلسفة ‪ .‬إن فكرة العدم مضطربة في عقــولهم ‪ ،‬ل‬
‫في كونها غير محددة الموضوع بل هي غير واضحة المعنى أصل ً ‪ .‬فهم يتصورون‬
‫إن المرء إذا قال إن الله خلق العالم من عدم ـ يتصورون ثلثة حــدود ‪ :‬اللــه الــذي‬
‫خلق وهو وجود محدود ‪ ،‬وثمـة فـراغ هـو العــدم ‪ ،‬ثـم خلــق اللــه مـن هـذا العــدم‬
‫) الفراغ( العالم ـ وهو الحد الثالث ـ ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬إن ما تقوله يا صاحبي لصحيح ‪ .‬فإني مــا وقفــت عنــد رأس أحــد مــن‬
‫الفلسفة إل ورأيته يعبر من هذا الوجود إلى مـا هــو قبلــه ‪ .‬ثـم إنـه إذا عــبر إلـى‬
‫ما وراء الوجــود‬ ‫ة وفرشه بعد عبوره وصار يتحدث ع ّ‬ ‫هناك أخذ ) وجوده ( في حقيب ٍ‬
‫من داخل الوجود ‪ ،‬وألقى الزمان والمكان ظللــه عليــه وراح يتحــدث عــن انعــدام‬
‫الزمان من خلل تصور الزمان وعن انعدام المكان وهو لزال مقّيدا ً بالمكان ‪.‬‬
‫النيلي ‪37-----------------------------------------‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬وهل يهرب المرء من جلده ؟ ومن جهة أخرى يجــب أن يبقــى العــدم‬
‫مجهول ً ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬أستطيع أن أعّبر عن هذه المحنة تعــبيرا ً آخــر ‪ :‬إن الفلســفة يتحــدثون‬
‫حقب تاريخية ( ليس فيها زمان ‪ .‬والســؤال‬ ‫عن ) أماكن ( ليس فيها مكان وعن ) ُ‬
‫هو ‪ :‬أل يمكن أن نفهم وجودنا وغايتنا منه ونحن فــي مكاننــا ؟ ‪ .‬وبحســب علمــي‬
‫فلم يسأل أحد هذا السؤال بهذه الصيغة ‪ .‬ولكن بعض الــدعوات حــاولت أن تنقــل‬
‫الفلسفة إلى ) العلم ( وأن تدعوها لمعالجة أشياء كثيرة في حياة بني النســان ‪.‬‬
‫وهذا المر لو استمّر فإنه يؤثر على موقفنا وُيضعف قوتنا ‪.‬‬
‫قعــوا كــل شـيء ‪ ،‬فمـن الممكــن أن يـدعو أحـد مـن بنـي‬ ‫الرئيــس ‪ :‬يجــب أن تتو ّ‬
‫ت مــا فمــن المحــال‬ ‫النسان بقوله ‪ :‬إذا كان الخلق قد خلق لغاية وابتــدأ فــي وق ـ ٍ‬
‫انعدام آثار هذه الغاية وهذا الوقت وكيفية الخلق في نفس هــذا الوجــود ‪ ،‬فلســنا‬
‫في حاجة إلى تجاوزه أو النفصال عنه لمراقبته وهو بهذا الكــبر والعظمــة بحيــث‬
‫أن ما نراه منه بعيوننا ل يتجاوز مقــدار مــا تــراه النملــة بالنســبة إلــى المجموعــة‬
‫الشمسية أو هو دون ذلك بل قياس ‪ .‬أو يدعو آخر فيقول ‪ :‬وإذا كنا ل نبحــث عــن‬
‫غاية ول منشأ لهذا الوجود فعل ً ) حينما نكون صــادقين فيمــا نريــد ( فلنفكــر إذن‬
‫بوضع ) غاية نبيلة ( لوجودنا العبــثي الــذي هــو بل غايــة ‪ ،‬ولنحــاول فهــم وجودنــا‬
‫نفسه بما فيه لتحقيق تلك الغاية ‪ .‬أو يدعو ثــالث فيقــول ‪ :‬إذا كنــا ل نرغــب فــي‬
‫معرفة غاية ول نبحث عن غاية ول نريــد غايــة فلمــاذا ) نتفلســف ( ؟ فلنكــن إذن‬
‫كائنات ) حكيمة ( مثل النمل ‪ ،‬ويفــي بجعلنــا مثــل النمــل طغــاة أبــدان فقــط فل‬
‫نحتاج إلى طغاة عقول لننا بل غاية ول نبحث عن غاية ‪.‬‬
‫) يتوقف الرئيـس لبرهة ثم يتابع(‬
‫ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬إن ظهور مثل تلك السئلة يزعجني ويقلل من أطعمتي فاعملوا الجهد‬
‫كر فيها كثرة من بني النسان ‪.‬‬ ‫اللزم في أن ل يف ّ‬
‫المشرقي ‪ :‬إن ما تقوله يا سيادة الرئيـس قد ظهر في صورة أو أخرى في نقــد‬
‫الفلسفة أو في الموازنــة بيــن العلــم والفلســفة أو فــي نقــد الفلســفة لنفســها‬
‫ر عديدة وأشكال شّتى ‪ ،‬ولكنني مطمئن جدا ً من هذه النواحي ‪.‬‬ ‫بصو ٍ‬
‫الرئيـس ‪ :‬وكيف ذلك ؟‬
‫المشرقي ‪ :‬لن الذين دعوا الفلسفة إلى تغيير وجهتها لينبثق عنها ) علم كّلي أو‬
‫يقيني ( بالشياء ولتحقق حلمها بـ ) السيادة علــى كــل العلــوم ( ــ إنمــا يــدعونها‬
‫للغاء نفسها ‪ ،‬ذلك لن العلم له حدود يعمــل بهــا هــي الموجــودات ‪ ،‬ولــه طــرائق‬
‫يحصل بها على ) اليقين ( هي القتران المتكرر في الستقراء ‪ ،‬وله أدوات يعمل‬
‫بها هي الخبرة والتجربــة والملحظــة والحســاس المــادي بالشــياء ‪ ،‬ولــه قواعــد‬
‫يسير عليها هي إلغاء الصحيح للخاطئ واللحق للسابق ‪ .‬فالعلم يتنــامى ويتعــالى‬
‫من أن تعــترف الفلســفة بســيادة‬ ‫والفلسفة تتبعثر وتتفــرق ‪ .‬فالــدعوة تلــك تتض ـ ّ‬
‫العلم وأن تنضوي تحته ليبتلعها ‪ .‬ولما كان ) الذوات ( من بني النسان ينزع كــثيٌر‬
‫منهم إلى ) سيادة ذوات عاقلة ( ول تشبعهم سيادة العلم على ) المادة الجامدة (‬
‫‪ ،‬ولن هــؤلء الــذوات ) يــرون ( عصــيانا ً فــي المـادة أيضـا ً بالضـدّ مـن رغبــاتهم ‪،‬‬
‫ويشعرون بأن سيادة العلم على المادة هي سيادة شكلية حقيقتها أنها بالمقلوب‬
‫‪ ،‬إذ يحتال العلم على المادة لتفصح له عن قوانينهــا وحركتهــا ‪ ،‬وليــس هــو الــذي‬
‫يفرض عليها القانون فرضا ً ‪ ،‬ولما كان كل ذلك شيئا ً يختلف عن غايات الفلســفة‬
‫وأهدافها ‪ ،‬فإن الفلسفة تبقى ويستمر ظهور الفلسفة على ما كانوا عليه ‪.‬‬
‫شرت بكل شر ‪ ،‬فإنك دوما ً تسّرني بأقوالك ‪ .‬لكن ) الممالك ( الخيالية‬ ‫الرئيـس ‪ :‬ب ُ ّ‬
‫ة تعتمد العلم تزعجني ‪.‬‬ ‫القائمة على فلسف ٍ‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪38‬‬
‫المشرقي ‪ :‬لن تزعجك سيدي تلك الدعوات ‪ .‬فحينما دعا ) بيكون ( إلى تكــوين‬
‫دولة مثالية يحكمها ) فلسفة ( وهم فــي عيــن الــوقت ) علمــاء فــي الطبيعــة ( ‪،‬‬
‫فإن مثل تلك الدعوات بالنسبة لنا أشياء تبعث على السرور ‪ .‬وإنمــا ظهــرت هــذه‬
‫سما ً ( في ) بدنه وعقله ( بين أعباء الحكم والسياسة‬ ‫الدعوة لن الرجل كان ) مق ّ‬
‫ً‬
‫وبين ) رغبته الطفولية الولى ( في أن يكون فيلسوفا ‪ .‬وحينما أعلــن أنــه اختــار‬
‫من الفلسفة ذلك الطريق الذي يــؤدي إلــى ) أعظــم خدمــة فعليــة للمــواطنين ( ‪،‬‬
‫فــإنه فــي تلــك اللحظــة لــم يكــن فيلســوفا ً ســيدي الرئيـــس ‪ ،‬ذلــك لن الشــياء‬
‫المتناقضة ل تجتمع ‪ .‬فإن في العالم الطبيعي إذعان وخضوع وطاعة للقــانون ‪.‬‬
‫والناموس الطبيعي هو الذي يجعلــه يكشــف هــذا القــانون ‪ ،‬وإن فــي الفيلســوف‬
‫استكبارا ً وتعاليا ً ل يصلح مطلقا ً لكتشاف شيء من الطبيعة ‪.‬‬
‫الرئيـــس ‪ :‬هــذا بالنســبة لكــم ‪ .‬أمــا بالنســبة لــي فــالمر مختلــف فــإن طبيعــتي‬
‫المزدوجة تجعلني أحذر من أمثال هؤلء ‪ ،‬ربما هكذا خلقت مــن أجــل أن ل يفلــت‬
‫مني أحد إل من كان فعل ً يبحث عن الحقيقة ‪.‬‬
‫قق حلم ) بيكون ( ـ الذي حلم به في بداية عصر النهضــة ـ ـ‬ ‫المشرقي ‪ :‬وحينما تح ّ‬
‫قق بصورة أو بأخرى ‪:‬لم يعمل حكام الجزيرة مـا كــان يأمــل منهــم علــى‬ ‫حينما تح ّ‬
‫‪((1‬‬
‫إلغاء المؤتمرات والخطب الجوفاء ولــم يتخلــوا عــن ) الكــاذيب ( ولــم يمارســوا‬
‫العلــم بأنفســهم ولــم ينشــغلوا بمعرفــة أســرار الطبيعــة ‪ .‬ولكنهــم انشــغلوا‬
‫بالمؤامرات ‪ ،‬بعضهم ضد بعض وأنتجوا القنابل وأسلحة الدمار الشامل أكــثر ممــا‬
‫كان يأمل ) بيكــون ( مــن عملهــم فــي اســتغلل ) مصــادر الطاقــة ( و ) مســاقط‬
‫المياه (‪.((2‬ولم تكن دار الحكومة أو ما سماه بيت سليمان ) دارا ً للعلــم ( بقــدر مــا‬
‫أصبحت سيادة الرئيـس مركزا ً من مراكزنا الهامــة فــي العــالم ‪ ،‬واعتقــد أنــك قــد‬
‫زرتنا أكثر من مرة ونحن مجتمعون مع ) البرلمان ( في نفس القاعة ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬نعم … نعم أذكر ذلك فأنــا عكــس النســان تمامـا ً ‪ .‬أبطــأ الوقــات هــي‬
‫أوقات مسراتي ‪ .‬لكن هناك محــاولت أخــرى ــ فلســفية محضــة لجعــل الفلســفة‬
‫تتمتع بعلم يقيني كّلي ‪.‬‬
‫دثك عن هوسرل ؟‬ ‫المشرقي ‪ :‬أحسبك سيدي تود أن أح ّ‬
‫دثني المغربي ‪ .‬أليس هذا من اختصاصه ؟‬ ‫الرئيـس ‪ :‬هذا صحيح ولكن لماذا ل يح ّ‬
‫مــا تعلــم ‪،‬‬ ‫المغربي ‪ :‬أنت تكيدنا سيدي الرئيـس ول تسألنا لن عادتك أن تســأل ع ّ‬
‫فلتجد سرورك عندنا لننا افضل من بني النســان ‪ ،‬لن فلســفتهم فـي المغـرب‬
‫وهون عن أصحابها ويضعونها فــي قــوالب‬ ‫يسرقون أفكار فلسفة المشرق ول ين ّ‬
‫ومسميات جديدة مختلفة وينكرون فضلهم في تعليمهم ) تعظيم النا ( ‪ ،‬أما نحن‬
‫معشر الشياطين فنتعاون ونتلحم فيحــدثك المشــرقي عــن أرضــي وأحــدثك عــن‬
‫أرضه وُيقّر كل منا بفضل الخر ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬يا ظلم … يا ظلم ! إنكم تفعلون ما أشتهي ‪.‬‬
‫ُ‬
‫ن له‬ ‫ما أذَ ِ‬
‫ة ‪ ،‬ول ّ‬
‫ة عالي ً‬
‫ف ثقاف ً‬ ‫رقَ الباب طرقا ً خفيفا ً يوحي بوجود مستأذن مثق ٍ‬ ‫) طُ ِ‬
‫بالدخول ظهر مــاردٌ حيــاهم قــائل ً ‪:‬عمتــم شـّرا ً ‪ .‬فــردوا عليــه ‪ :‬عمــت شــرا ً ‪ .‬أمــا‬
‫الرئيـس فلم يرد التحية وبقي المــارد صــامتا ً ثــم إن الرئيـــس نظــر إلــى الجميــع‬
‫شزرا ً وقال (‬
‫الرئيـس ‪ :‬أذكر أني قد نهيتكم عن تلك التحية ‪ .‬فنحن نتوخى الحــذر الشــديد فــي‬
‫اللفاظ ‪ ،‬وقــد أك ّــد النحــو والبلغــة الشــيطانيين علــى أن هــذا الســتعمال ليــس‬
‫صــحيحا ً لنــه مخــالف لوحــدة الشــياطين وتلحمهــم ‪ .‬الصــحيح أن تقولــوا إذا حيــا‬
‫بعضكم بعضا ً ‪ :‬الظلم عليكم ‪ .‬فإنه آنس لنفوسكم وأكتم لعمــالكم وأكــثر تلئمـا ً‬

‫)‪ (1‬قصة الفلسفة ‪. 171 /‬‬


‫)‪(2‬‬
‫اطلنطا الجديدة ‪ /‬فرنسيس بيكون ‪.‬‬
‫النيلي ‪39-----------------------------------------‬‬
‫ة ‪ .‬لن ) الغمــوض ( و ) عــدم الوضــوح ( مــن‬ ‫مع خصائص الفلسفة بصــفة عامـ ٍ‬
‫د ) كسر خاطره ( السلوب الواضــح‬ ‫أهم مميزات الفيلسوف الناجح ‪ ،‬فكم من ناق ٍ‬
‫لـ ) سبينوزا ( وأمثاله ‪ ،‬واعتبروا هذا السلوب الواضح هو الســبب الرئيســي فــي‬
‫ة كــبيرة‬ ‫هجــران أعمــاله ‪ ،‬لن البحــث والجــدال حــول مقاصــده ل يجــد فرصــ ً‬
‫ً‬
‫للستمرار ‪ ،‬وهــذا خطــأ ارتكبــه ) ســبينوزا (‪((1‬حيــث جعــل ) النــا ( واضــحا بخلف‬
‫ر مــن‬ ‫اللوهية الغامضة كل الغموض ـ في حين أن أعمالنا يجب أن تّتسم بأكبر قد ٍ‬
‫د وجــد فرصــة للبحــث والتنقيــب فـي‬ ‫س وناقـ ٍ‬‫الغمــوض ‪ .‬وبالمقابــل كــم مــن دار ٍ‬
‫هى ويشتغل أكــبر‬ ‫غوامض الفلسفة العظام ‪ .‬وإنه لهدف جليل من أهدافنا أن يتل ّ‬
‫عدد من الدارسين بمثل هذه المواضيع لنستنفذ زمانهم الول ونســتهلك زمــانهم‬
‫الخر ‪.‬‬
‫) ثم أن الرئيـس التفت إلى المارد وقال له (‬
‫الرئيـس ‪ :‬ما وراءك أيها المارد ؟‬
‫ل عن عدد الدارسين والنقاد والعــاكفين‬ ‫المارد ‪ :‬سيدي الرئيـس لدي تقرير مفص ٌ‬
‫على دراسة مبدأ ) النا وحدية ( للفيلسوف هوسرل من جميع أرجاء الرض ولــم‬
‫خر تسليمه لرئاسة المؤتمر ‪.‬‬ ‫أشأ أن أو ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬ها نحن ما إن بدأنا بالتحدث عن هوسرل العظيــم حــتى أتيتنــا ! فكأننــا‬
‫ننتظرك وكأنك تنتظرنا ‪ ،‬اجلس وفقت لكل شّر مستطير ‪.‬‬
‫) يلتفت الرئيـس ناحية المشرقي (‬
‫ل هذا أيها المشرقي المستغرب !‬ ‫الرئيـس ‪ :‬فلتحدثني عن هوسر ٍ‬
‫ً‬
‫المشرقي ‪ :‬إن أعظم الفكار قدرة على اجتلب الخرين وأطولها بقاءا هــي تلــك‬
‫الفكار التي تحاول إن تستشرف ) الغاية( المجهولة من خلق العالم بطريقة يبرز‬
‫فيها ) النا ( ظاهرا ً قويا ً ول يتضاءل أو ل يشــترط لــه إن يتضــاءل للوصــول إلــى‬
‫هذه الغاية ‪ .‬هذا مع أن مجهولية الغاية من الخلق ) مفتعلة ( ‪ ،‬إنها مجهوليــة هــي‬
‫ذاتها مجهولة ‪ ،‬وإنما يؤدي الفتعال إلى رسم غاية بديلة عنهــا ل تبــدأ بالســتعباد‬
‫د ولو كان للله نفســه ‪ .‬فــالبحث عــن غايــة ) بديلــة ( للغايــة المعلومــة‬ ‫والذل لح ٍ‬
‫ء البحــث ‪ ،‬وهــذا‬ ‫سلفا ً يحدد لنا المسار الــذي ســيتحرك بــه كــل فيلســوف منــذ ِبـد ِ‬
‫كننا منذ البداية من إدراك ما ستؤول إليه حركة البحث‬ ‫يسهل مهمتنا اليحائية ويم ّ‬
‫وما هي التناقضات التي ستقع فيها وما هي الشياء المتناسقة التي ستمّيزه عن‬
‫غيــره مــن البحــاث ‪ .‬بــدأ هوســرل فلســفته بالعتمــاد علــى ) النــا ( الــديكارتي‬
‫واعتبره مبدأ الحركة الولى الصحيحة لوضع فلسفة ) كّلية ( ذات علم يقينــي لــم‬
‫يستطع ) ديكارت ( التوصل إليهــا لرتكــابه أخطــاء أبعــدته عــن ) النــا ( المركــزي‬
‫ك فــي كــل‬ ‫الذي بدأ منه ‪ .‬إذ من المعلوم أن ديكارت مشى بالتسلسل التي ‪ :‬أش ـ ّ‬
‫ل شــيء ‪ .‬إذن فأنــا‬ ‫ك بنفسي ما دمت أش ّ‬
‫ك بك ّ‬ ‫ل العالم ‪ ،‬لكني ل أش ّ‬ ‫شيء وفي ك ّ‬
‫الشيء الوحيد غير المشكوك فيه بالنسبة لي ‪ .‬وهو ذاتي من حيث كونها موجودة‬
‫‪ .‬لني ما كنت أقدر علــى التفكيــر لــو لــم اكــن موجــودا ً ‪ ،‬فأنــا أفك ّــر … إذن فأنــا‬
‫موجودٌ … وإلى هنا فإن ديكارت يسير بشكل صحيح ‪ .((1‬ولكن حينما أثبت من خلل‬
‫ن ذاته الموجودة لم توجد نفسها وهــو‬ ‫ن هذا الوجود حقيقة وأ ّ‬ ‫وجوده ومن خلل أ ّ‬
‫يشك في قدرتها على هذا العمل ‪ ،‬وبعد التسلسل المعلوم يتوصل إلى أن هناك )‬
‫وجود ( آخر خلق ديكارت الموجود حاليا ً وهو الله ‪ ،‬ثم يتوصل بعد ذلك إلــى إثبــات‬
‫وجود العالم الخارجي ـ حينما فعل ذلك فقد أخطــأ فــي اعتقــاد هوســرل ‪ .‬فهــذه‬
‫الفقرات ‪ :‬إثبات وجود الله ومن ثم العالم ـ انطلقا من النا ـ هو أمر خاطئ فــي‬

‫)‪ (1‬سبينوزا ‪ /‬نقد كتاب الله والعالم ‪.‬‬


‫)‪(1‬‬
‫صحيح بالنسبة للشخص موضوع البحث ) أي هوسرل ( _ لن الشيطان هو الذي أملى هذه‬
‫المقولة فهو يعلم خطأها الذي سيبرهن عليه فيما بعد للرئيس ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪40‬‬
‫نظر هوسرل ‪ ،‬لن ) النـا ( أصـبح منفصـل ً عـن اللـه وعـن العـالم مـرة أخــرى‬
‫وأصبح ) النا ( مصدر المعرفة جزءً من العالم منفعل ً به غير فاعل فيه ‪ ،‬في حين‬
‫يــرى هوســرل أن ) النــا ( يجــب أن يبقــى منفتحـا ً علــى ذاتــه أو ) ينطــوي علــى‬
‫ذاته ( ‪ ،‬وأن يحاول تقويض جميع الشياء والمعارف دفعة واحــدة ‪ ،‬فــالرجوع إلــى‬
‫الذات يتيح له ) النفصال ( ووضع العالم بين قوسين أمل ً في الوصول إلــى علــم‬
‫كّلي يقيني بشأنه وهو علم مختلف عن جميع العلوم بما في ذلــك ) الرياضــيات (‬
‫و ) الفيزياء ( لن الخيرة هي أيضا ً ل ترقى إلى مستوى العلم الكّلي ول تتوصــل‬
‫إلى نتائج يقينية ‪ .‬أما العلم الذي يخرج من الذات ) النا ( ويعود مرتــدا ً منهــا إلــى‬
‫العالم فهـو مختلـف ‪ .‬الشـياء المدركــة فـي هــذه الحالـة هـي نفسـها ) عمليــة (‬
‫ل بيــن‬ ‫صـ َ‬‫الدراك فلن يكون هناك فصل بين الدراك وموضوعه ‪ .‬إذن يجــب أن ُيف َ‬
‫نوعين من ) النا ( ‪ :‬النا النفسي الذي هو جزءٌ من العــالم وهــذا ل يعطــي شــيئا ً‬
‫من العلم ‪ ،‬و) النا ( الخر هو النا الذي ينطوي على ذاته ويصبح العالم كلــه جــزءً‬
‫ذاتيا ً فيه ويمكنه بعد ذلك من إدراكه إدراكا ً فعليا ً فهذا هو ) النا المتعالي ( ‪.‬‬
‫ي؟‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫الرئيـس ‪ :‬أين يكمن الخطأ عند ديكارت وهل هو خطأ حقيق ّ‬
‫المغربي ‪ :‬إن ديكارت مخطيء في نظــر الرئيـــس ومخطــئ فــي نظــر هوســرل ‪.‬‬
‫ولكن الخطأ في نظر الخير غيره فــي نظركــم ســيدي الرئيـــس ‪ .‬فــأنت تــرى أن‬
‫ء منه هو عمل مخالف للمنطق حتى لو كــان‬ ‫إثبات وجود العالم من خلل وجود جز ٍ‬
‫ذلك الجزء هو الخاص بإدراك العالم ـ إذ الثبــات هــو غيــر الدراك ـ ـ فــي حيــن أن‬
‫الخطأ عند هوسرل هو عكس ذلك تماما ً ‪ .‬والمعنى الذي يقصده في لغة الرئيـــس‬
‫هو ‪ :‬إذا كان النا دال ً على الله والعالم فكيف تحول فيمــا بعــد إلــى مــدلول لهمــا‬
‫ل بهما ؟ فل يقترح إلغاء المقدمة والنتيجــة ضــرورةَ أن النتيجــة والمقدمــة‬ ‫ومنفع ٍ‬
‫قط إحــداهما الخــرى ‪ ،‬بــل‬ ‫َ‬ ‫متعارضتان ولكونهمــا ظهرتــا هكــذا ) بــالتلزم ( فُتسـ ِ‬
‫يقترح إبقاء المقدمة والثبات عليهــا والســتمرار فــي رفعهــا إلــى العلــى بحيــث‬
‫يدخل العالم كله كمدلول في النا ويصبح إدراكه في النا ذاتي ـا ً ‪ .‬ومعنــى ذلــك أن‬
‫ء لن الــذات‬ ‫م أشــيا ٍ‬‫ه وعــال ُ‬‫ُيلغى الحد الوسطي عند ديكارت فليس ثمة ثنائية ‪ :‬إل ـ ٌ‬
‫ة هــي ) النـا ( وهــي فاعــل‬ ‫ركـ ٌ‬
‫مد ِ‬
‫ت ُ‬‫) النا الموجود ( شيءٌ من الشياء بل هــو ذا ٌ‬
‫ع‬ ‫ة وهي الشياء موضوع الدراك ‪ ،‬وبتعالي النا ُيصبح موضــو ُ‬ ‫مدَرك َ ٌ‬
‫ت ُ‬
‫الدراك وذوا ٌ‬
‫ل الدراك واحدا ً ‪ ،‬أي إن إدراك الشياء ليس أمرا ً غيرهــا بــل الشــياء‬ ‫الدراك وفع ُ‬
‫نفسها هي الدراك ‪.‬‬
‫م‬ ‫ً‬
‫المشرقي ‪ :‬هذا يســتلزم أن يكــون إدراك الشــياء ) مطلقـا ( ــ فــالعلم بهــا علـ ٌ‬
‫ق ينفــذ إلــى داخلهــا وإلــى جزئياتهــا وعلقاتهــا بحيــث ل يفلــت شــيء مــن‬ ‫مطل ـ ٌ‬
‫خصائصها ‪ ،‬وبالطبع يستلزم أن تكون الشياء كلها بهذه الصورة مرةً واحدةً ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬إذن فإلغاء الحد الوسطي ـ الله ـ ُيمل ُ بالنا نفسه فيحل النا محل الله‬
‫‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬هذا صحيح سيدي ‪ .‬فذلك هو المقصود من النا المتعالي ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬العبارة الخيرة للمشرقي هامة ‪ ،‬فكيف يعالجها هوسرل ؟‬
‫المشرقي ‪ :‬العبارة الخيرة سيدي ليـس لهـا ذكـر مطلقـا ً فـي آلف أو مئات مـن‬
‫اللف من التعليقات والشروح على أفكار هوسرل ‪ .‬إنما هي من إنشائي !‬
‫الرئيـس ‪ :‬أنا أعلم ذلك ‪ .‬فأنت رئيس فلسفة الشياطين بل منازع ول بــد مــن أن‬
‫تفسر الفلسفة ول يكفي في الشيطنة أن تكــون فيلســوفا ً فهــذا وحــده ل يخــدم‬
‫قضيتي ‪.‬‬
‫ي شـــيء بهـــذا ) الحـــل‬ ‫ح ‪ .‬فـــإذا أردنـــا إدراك أ ّ‬ ‫المشـــرقي ‪ :‬إنهـــا أمـــٌر واضـــ ٌ‬
‫الفينومينولوجي ( فإن الدراك ل يكون على طريقة هوسرل إل إذا كان الموضوع‬
‫ة‬ ‫مدَرك والدراك هما شيئا ً واحدا ً ‪ .‬وهذا يعني أن ) نحيط ( بالشــيء إحاطــة تام ـ ً‬ ‫ال ُ‬
‫النيلي ‪41-----------------------------------------‬‬
‫ة ل بالمعنى اللهي الذي ينفذ إلى حقيقة الشيء وأجزاءه من حيــث هــو‬ ‫مطلق ً‬
‫) شيء في ذاته بالتعبير الفلسفي الشرقي ( أو من حيث هو ) ماهيــة ( بــالتعبير‬
‫جب حصــول معرفــة مماثلــة للشــيء‬ ‫قدما ً ‪ .‬ومعنى ذلك أنه يتــو ّ‬ ‫الفلسفي العلى ِ‬
‫المجاور ذي العلقة بهذا الشــيء إذ مــن المعلــوم أنــه ل يوجــد شــيء فــي العــالم‬
‫دما ً فــالواجب مــن أجــل‬ ‫ل كليا ً عن الموجودات ‪ .‬وإذا سرنا بهذا التسلسل ق ُ‬ ‫منفص ٌ‬
‫د ( صحيح للحل الفينومينولــوجي الــذي يقــترحه هوســرل‬ ‫ل واح ٍ‬ ‫إعطاء مجرد ) مثا ٍ‬
‫ّ‬
‫ة وهذا هو المقصود الكلي من وراء الحــل البحــث‬ ‫ة واحد ً‍‬ ‫أن نحيط بالعالم كله دفع ً‬
‫عن النسان الله ‍ ‍‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬أل يشعر هوسرل والشّراح ‍بوجود معضلة مثل هذه ؟ ‍‬
‫المغربي ‪ :‬إن الشّراح في الغرب سيدي أبــدوا بعــض النتقــادات للحــل المقــترح ‪.‬‬
‫وبعضهم ـ في حياة هوسرل ـ عارضه بشدة وربما تغاضبوا فلم يكلم أحدهم الخر‬
‫رغم الصداقة الحميمة التي تجمعهــم ‪ .‬وأكــثر النتقــادات انصــبت علــى التنــاقض‬
‫الداخلي في عمليات تكوين النا المتعالي ‪ ،‬وتمثلت بأشياء منها ‪:‬‬
‫من النفصال عن العــالم فــي البــدء فقــط ‪ ،‬وفــي عيــن‬ ‫الول ‪ :‬إن المقترح تض ّ‬
‫ك حينمــا‬ ‫ع مــدَر ٍ‬‫ل كموضو ٍ‬ ‫الوقت يتوجب احتواءه عند انطواء الذات ‪ .‬فهو منفص ٌ‬
‫ل حيــث يتــوجب‬ ‫تأتي مرحلة التلحم بين الذات والموضوع المــدَرك ‪ ،‬وهــو متصـ ٌ‬
‫النفصال ‪ .‬فالحل يحمل تناقضه في داخله ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إن الذوات النسانية متعددة ‪ .‬واقتراح تعالي النا يستلزم الوصــول إلــى‬
‫ة‬‫المرحلة التالية وهي ) أنا وحدي أفكر ( ‪ .‬والحتواء ســيكون مــن قبــل ذات أناويـ ٍ‬
‫ة هي ذات الفيلسوف نفسه ! فأين بقية الناوات ؟ أهي عبيــد لهوســرل ؟ ‪.‬‬ ‫واحد ٍ‬
‫وقد حاول هوسرل إصدار عدة كراسات لمعالجة هذه المشكلة وتوصيل ) الناوات‬
‫( مع بعضها ‪ ،‬ولكنه ـ حسب النقاد ـ فشل فشـل ً ذريعـا ً واسـتعمل لـذلك مفـردات‬
‫غريبة وأساليب غامضة أو ملتوية حسب تعـبير البعضـ‪ . ((1‬وظهـر مـن بعضـها أنـه‬
‫قّرا ً ب ) النا وحدية ( معجبا ً بها ‪.‬‬ ‫م ِ‬
‫يتراجع حتى عن عملية التوصيل ُ‬
‫أما شرط الحاطة فهو من مبتكرات المشرقي ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬إن النتيجة التي أقولها بشأن الحاطة كانت موضوعة مسبقا ً منذ بــدء‬
‫م بيــن‬ ‫البحث عن النا حينما قال هوسرل أنه يتوجب أن يضع النا المتعــالي العــال َ‬
‫ب مثال تطبيقيا ً للحــل المقــترح ســوى مــا ورد‬ ‫قوسين ‪ .‬لذلك لم يستطع أن يضر َ‬
‫على سبيل التندر والتهكم ‪ .‬فقد قال شيللر أحد تلمذة هوسرل لجورج لوكــاش ‪:‬‬
‫ع قصديا ً وتعالجه بالفينومينولوجيا ‪ ،‬وبإمكانك وضــع‬ ‫ل موضو ٍ‬ ‫) تستطيع أن تعتبر ك ّ‬
‫ي حيث تضعه بين قوسين وتعتبره مشــكلة‬ ‫ع فينومينولوج ّ‬ ‫الشيطان نفسه كموضو ٍ‬
‫د وحينما ينتهي التحليل مــا عليــك إل ّ‬ ‫ل تأكي ٍ‬‫وتقوم بتحليله ( ‪ .‬فقال لوكاش ‪ ) :‬بك ّ‬
‫ً‬
‫ذ يظهر الشيطان واقفـا أمامــك ( ‪ .‬فهـّز شــيللر كتفيــه‬ ‫أن تحذف القوسين وعندئ ٍ‬
‫ضاحكا ً ولم يجب بشيء ‪.‬‬
‫ف ( ‪ ،‬إنما المهم هو عدد الذين يتبعونه ‪.‬‬ ‫الرئيـس ‪ :‬ليس المهم أن يظهر ) فيلسو ٌ‬
‫ف ) الصنم ( نفسه ل يهمني وإنما يهمني أمران ‪ :‬عــدد الصــنام الممكــن تكونهــا‬
‫ل صــنم‬ ‫فيما بعد من ذلك الصنم ‪ ،‬والمــر الثــاني هــو عــدد الوثــان المرتبطــة بك ـ ّ‬
‫ل‬‫وأتباعهم ‪ .‬وقد أصـبح كلمكــم مزعجـا ً لـي فليحـدثني أحـدٌ عــن التبـاع لهوســر ٍ‬
‫العظيم ‪.‬‬
‫ف لفكــار وآراء هوســرل‬ ‫م تأســيس أرشــي ٍ‬ ‫مــارد الحصــاء ‪ :‬ســيدي الرئيـــس ‪ .‬ت ـ ّ‬
‫ومخطوطاته والكتــب الخاصــة ذات العلقــة فــي ســنة ‪ 1938‬وهــي تحتــوي علــى‬
‫م تزويد العواصم الكبرى والمراكز العلمية بفــروع‬ ‫خمسة وأربعين ألف صفحة ‪ .‬وت ّ‬
‫لهذا الرشيف بعد تنظيمه وتعييــن أســاتذة مختصــين لفهرســة محتويــاته ووضــع‬
‫)‪(1‬‬
‫الفينومينولوجيا عند هوسرل ‪. 242 /‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪42‬‬
‫كافة البيانات المتعلقة به ونقل نسخة متكاملة مصورة منه إلى تلـك المراكـز ‪.‬‬
‫م‬
‫م اعتمــاد الفينومينولوجيــا ) كعلــم فلســفي ( وت ـ ّ‬ ‫ورغم المعارضة والنقد فقد ت ّ‬
‫إجراء بعض التعديلت عليهـا وتفرعـت عنهـا اتجاهـات فينومينولوجيـة فـي جميـع‬
‫م جماعــات فرعيــة أخــرى‬ ‫مراكز البحث ‪.‬وأهم تلك المراكــز ‪ :‬جماعــة ميونــخ وتضـ ّ‬
‫وأشــهر رجالهــا ) بفانــدر ( ‪ ) ،‬مكســيمليان بيــك ( ‪ ) ،‬جيــردا فــالتز ( ‪ ) ،‬هربــرت‬
‫شـــيجلبرج ( ‪ ) ،‬أدولـــف راينـــخ ( ‪ ) ،‬أديـــث شـــتاين ( ‪ ) ،‬شـــاب ( ‪ ) ،‬كـــواريه ( ‪،‬‬
‫) جوتجن ( ‪ ) ،‬جايجر ( ‪ ) ،‬شيللر ( ‪ ) ،‬هارتمان ( ‪ ) ،‬هايــدجر ( ‪ ،‬وعشــرات آخريــن‬
‫لم يتمكنوا من تكوين مــدارس خاصــة بهــم وإنمــا اقتصــر نشــاطهم علــى الشــرح‬
‫والتدريس ‪ .‬هذا في ألمانيا وأما في فرنسا ‪ ) :‬مارسيل ( ‪ ) ،‬جان بول ســارتر ( ‪،‬‬
‫) موريس مارلو بونتي ( ‪ ،‬ومن الجيــل الثــاني ‪ ) :‬مــوريس نيدولســيل ( ‪ ) ،‬هنــري‬
‫ديمتري ( ‪ ) ،‬مايكل ديفرين ( ‪ ) ،‬ديكور ( ‪ .‬وفي أمريكا ‪ ) :‬بوفالو ( ‪ ) ،‬فاربر ( ‪) ،‬‬
‫كيرتز ( ‪ ) ،‬مندولباوم ( وغيرهم ‪ .‬وجميع هؤلء قد أسســوا مراكــز للبحــث خاصــة‬
‫بهـم ولهـم أتبـاع ومؤيـدون ‪ .‬وهـذه سـيادة الرئيــس سـجلتهم وأعمـالهم وعـدد‬
‫مؤلفاتهم وجميع ما يتعلق بشؤونهم ‪.‬‬
‫صوا أمام الرئيـــس مئات الســجلت‬ ‫) يتقدم أربعة عفاريت من الجان القوياء وير ّ‬
‫ة أنها قد حجبت عنه أعضاء المؤتمر (‬ ‫والضابير لدرج ِ‬
‫الرئيـس ‪ :‬أعيدوها إلى مكاتبكم ‪ ،‬فإني أعلم ما فيها بطريقتي الخاصة المعاكسة‬
‫تماما ً لطريقة هوسرل ‪ ،‬لكــن الختبــار والتفــتيش والمراقبــة ضــرورية حــتى مــع‬
‫الشياطين ‪ .‬لقد كانت معاناتكم كبيرة سابقا ً ‪ ،‬حينما كنتــم تجلبــون بنــي النســان‬
‫لعبادة اللهة في عهــد نــوح ‪ .‬والن أصــبح عملكــم أكــثر حركــة ونشــاطا ً ‪ ،‬عملكــم‬
‫ولها النسان بفضل نشــاطكم‬ ‫السابق يتحرك الن بمفرده لن الصنمية تحولت ـ ح ّ‬
‫ـ من الخر إلى نفسه هو ‪ .‬ولقــد احتــاج هــذا التحــول إلــى حقــب ودهــور لينتقــل‬
‫د إلى آلهة عليا متعددة في النجوم والشموس والفلك ‪ ،‬إلى‬ ‫بالتدريج من إله واح ٍ‬
‫آلهة أرضــية مرمـوزة فــي الشــياء القريبــة ‪ ،‬ثــم إلـى آلهــة مرمــوزة فــي ) تعــدد‬
‫ديني ( ‪ ،‬ثم إلى آلهة مرمــوزة فــي شــخوص تحمــل فكــرة ) التوحيــد ( ‪ ،‬أمل ً فــي‬
‫انتقالها إلى ) النا العام ( لبني النسان ‪ .‬لذا يتوجب عليكم أل تضيعوا هذا الجهــد‬
‫والعناء وأن تبقى عيونكم مفتوحة وآذانكم صاغية فإن أساس عملنا هو ) حكمة (‬
‫‪ .‬وهذا التضاد الظاهري في العمليــة منشــأه طبيعــتي وطبيعــة الوجــود المحــض ‪.‬‬
‫فنحن نعمل بطريقة السلب والجذب ‪ ،‬واليجــاب والــدفع ‪ .‬فأنــا أدفــع الــذين هــم‬
‫حصته حينما أعجل فــي ســلبهم لنهــم ل يــأتون إل ّ نــادرا ً ‪ ،‬كــذلك يفعــل الوجــود‬
‫المحض مع منن هم من حصتي فكلنا يدفع بحصة صاحبه إليه ‪ .‬وعلى العكس من‬
‫ل منا من هو من حصته فهو ل يعطي بعجلــة لكــي يعطــي‬ ‫ذلك حينما يقترب من ك ّ‬
‫الكل وأنا ل أسلب فورا ً لني سأسلب منه الكل ـ اسلب منه ذاته ووجوده ـ وأبتلــع‬
‫النا التي في داخله ‪ .‬أيامي مختلفة ‪ ،‬وأول البارحة كــان الطوفــان ‪ ،‬وكنــت قبــل‬
‫الطوفان أتمشى …فسمعت رجل ً ينشد شعرا ً يذكُرني فيــه فحفظتــه ‪ ،‬فقــد كــان‬
‫يقول ‪:‬‬
‫خلقنا فيه كي ندرك أنا لن ندركه‬ ‫و ُ‬ ‫خلق العالم كي ندركه‬
‫فيجعلنا نخلق ما ندركه‬ ‫كيما يشفق يوما ً خالقه‬
‫بغير ما ) لن ندركه (‬ ‫ومن يزعم أّنا ندركه‬
‫قيه صعودا ً حتى يرهقه‬ ‫ير ّ‬ ‫فإن الساقي ُيشركه‬
‫كحامل الصخرة تعرك ُ ُ‬
‫ه‬ ‫أبد الباد ل يتركه‬
‫لكن الصخرة ل تتر ُ‬
‫كه‬ ‫هو يتركها …‬
‫ل … لن تهجر المرء إرادته !!‬
‫النيلي ‪43-----------------------------------------‬‬
‫ق المعرفــة فقلــت لــه مــن أنــت ؟ فقــال أنــا‬ ‫فعلمت أن هذا الرجل يعرفني ح ـ ّ‬
‫) عين الوجود ( قلت ما اسمك ؟ فقال كيــف ل تعرفنــي أنــا ) كنكــر ( ! فتــذكرته‬
‫وتعانقنا ومشينا متعانقين حتى تلبدت السماء بــالغيوم وأوشــك البركــان القريــب‬
‫أن يفرغ ما في جوفه من حمم ونار وحينما هطلت السماء بــالمطر كــانت أرجلنــا‬
‫قد ترطبت بماء الينابيع ‪ .‬إن الناس يأخذون حاجياتهم ويعطــون بــدلها ) عملــة ( ‪،‬‬
‫ويكــدون ويأخــذون ) عملــة ( ‪ ،‬أمــا أنــا فعملــتي هــي حاجيــاتي كلهــا ‪ ،‬آخــذ عملــة‬
‫وأعطي عملة وعملتي هي ) الزمان ( ‪ .‬وقد جربتــم ) مكافــآتي ( الســابقة ‪ ،‬فقــد‬
‫قيل أن ابن آوى يستجلب أكثر ما يمكن من أصناف الحيوانات لتكون طعاما ً للسد‬
‫ن الســد عليــه ويزيــد فــي‬ ‫فيزيد بذاك عمر السد والثمن الذي يتقاضاه هو أن يم ّ‬
‫ل ‪ .‬وقد ل يدرك العضاء الجدد فــي هــذا‬ ‫ل تا ٍ‬
‫عمره بأن يؤخر أكله كل مرة إلى أج ٍ‬
‫المــؤتمر كــثيرا ً مــن العلقــة بيــن المقــررات المتخــذة وبيــن الفكــار المطروحــة‬
‫للنقاش ومــا ذلــك إل ّ لنهــم لــم يعتــادوا بعــد علــى الفنــون الشــيطانية ‪ ،‬وتقصــر‬
‫عقولهم عن الربط بين الزمنة والماكن وإن المكافآت والعقوبات تحفزهــم إلــى‬
‫د من الدراسة والنشــاط والرياضـة الفكريـة ‪ .‬وسـأعطي الن مكافـآت لبعــض‬ ‫مزي ٍ‬
‫المتميزين منكم بالعمل الدؤوب والنشاط اليحائي ‪:‬‬
‫جــرف (‬ ‫تكافــأ الزمــر المشــتركة فــي العمــل اليحــائي لســرية ) ال ُ‬ ‫‪.21‬‬
‫العسكرية المنطلقة ببطيء شديد إلى الشام من الجزيرة بتأجيل عذابها مدة‬
‫إضافية قدرها ألف سنة ‪.‬‬
‫تكافأ الزمر المشتركة فــي العمــل اليحــائي للجيــوش المنطلقــة مــن‬ ‫‪.22‬‬
‫الجزيرة إلى الشام بتأجيل عذابها مدة إضافية قدرها ألف سنة ‪.‬‬
‫تكافأ الزمر المشتركة فــي العمــل اليحــائي للفلســفة ) عمــا نوئيــل‬ ‫‪.23‬‬
‫كنت ( و ) ليبتنز ( بتأجيل عذابها مدة إضافية قدرها ألف سنة ‪.‬‬
‫تبقى حروف البجدية غير مشغولة لملها في المؤتمرات الســابقة أو‬ ‫‪.24‬‬
‫اللحقة ‪.‬‬
‫وفقتم لجميع الشرور …انتهت الجلسة ‪.‬‬

‫الجلسة الثالثة لمؤتمر إلغاء آثار الحكمة‬

‫) عندما أراد الرئيـس أن يتكلم لحظ لفتة كبيرة على أحد الجدران تقول) إلغاء‬
‫ددوا المقدمــة‬‫آثار الحكمة ( فأمر بجعلها ) إزالة آثار الحكمــة ( ‪ .‬ثــم قــال بعــدما ر ّ‬
‫والغنية (‬
‫الرئيـس ‪ :‬يجلس معكم اليوم ) كائن ( من بني النسان ‪ ،‬هو أعظــم شــياطينهم‬
‫على الطلق من أجل أن ينفعكم بعلمه وخبرته ‪ .‬ولتعلمــوا أن ) الشــياطين ( هــو‬
‫في الصل تعبير ديني أطِلق علـى أشــخاص لهــم هــذه الصـفة مـن بنـي النسـان‬
‫ء ‪ ،‬ولكننا وبفضل جهودكم جعلنا بني النسان ل يفهمون من‬ ‫والجان على حدّ سوا ٍ‬
‫ً‬
‫لفظ ) الشيطان ( إل ّ كائنا ل ُيحس ول ُيرى ‪ ،‬فـي حيـن إن الكتـب المنّزلـة إليهـم‬
‫دى هــذا إلــى تشــكيكهم‬ ‫تذكر شياطين النس في عشرات المواضع ‪ .‬وطبعا ً فقد أ ّ‬
‫بوجودكم فضل ً عن وجود شياطين مــن النــس ‪ ،‬بحيــث أن الفيلســوف ) شــيللر (‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪44‬‬
‫يمّني لوكاش برؤية الشيطان بالرغم من وجود ما يقرب من ثلث العــدد الكلــي‬
‫جب بقــاء الظلم كهفــا ً‬ ‫منهم داخل بنايات الجامعة التي يحاضران فيها ‪ .‬لذلك يتو ّ‬
‫تستترون به فإنه من أهم مستلزمات عملنا ‪ .‬وقد أعطيت هذا النسي فترة راحــة‬
‫جلــت عــذابه‬ ‫دثكم عن أفعاله العظيمــة ‪ ،‬إذ لــول طــبيعته النســية ل ّ‬ ‫من عذابي ليح ّ‬
‫مى ) الشــيطان ( حينمــا تــذكره الكتــب‬ ‫مليين السنين ‪ .‬وهذا الرجل هو الذي ُيس ـ ّ‬
‫ولهمــا‬ ‫المنّزلة بهذه الصفة ‪ .‬وهي حينما تقــول ذلــك فإنمــا تعنــي أحــد رجليــن ‪ ،‬أ ّ‬
‫صاحبكم وهو معروف لديكم ولم يستطع حضور الجتماعات لني كّلفتــه بمهمــات‬
‫أخرى والخر هو هذا النسي وبعض قادتكم يعرفونه جيدا ً ‪.‬‬
‫) يوجه الرئيـس كلمه إلى النسي (‬
‫الرئيـس ‪ :‬ما هي جلئل أعمالك أيها الشيطان المريد ؟‬
‫ل ُبعث بكتاب فاشتهيت أن أقتله فلم أستطع‬ ‫النسي ‪ :‬كنت أعيش في جوار رسو ٍ‬
‫ة أن‬ ‫‪ ،‬وكلما عجزت عن قتله اشتهيت ما هـو اكـثر ‪ ،‬حـتى بلغـت بـي الرغبـة درجـ َ‬
‫اكتم غيظي وُأظهر إيماني وتصديقي به أمل ً في أن افعل ما هو اعظم مــن ذلــك‬
‫ة العدد من الناس ‪ .‬وقــد قــال فيمــا‬ ‫ة عظيم ُ‬ ‫وأبعد أثرا ‪ .‬وقد كان لهذا الرسول أم ٌ‬
‫قاله لهذه المة قبل موته ‪ :‬إن الله خلقكم لتكونوا عبادا ً طائعين فإن لــم ترغبــوا‬
‫بذلك فإنه يجعلكم عبيدا ً كــارهين ‪ .‬ولن اللــه يعلــم أنكــم تــؤثرون طاعــة بعضــكم‬
‫البعض على طاعته ‪ ،‬فقد جعل لكم من أنفسكم رجال منحهم علما ً بالشياء كلهــا‬
‫ل‬ ‫لترون فيهم أنفسكم وتشبعوا نزوتكم في رؤية أنفسكم من خللهم ‪ .‬وهم رجا ٌ‬
‫ة منذ البداية وأنا أحد هؤلء ‪ ،‬واعلموا أن الله ل ُيكره أحدا ً‬ ‫طائعون له طاعة مطلق ً‬
‫ء ‪ .‬ولو كان يعمل بالكراه لما أرسلني ‪ ،‬بل لفعل مــا‬ ‫ء أو ترك شي ٍ‬ ‫على فعل شي ٍ‬
‫يريد فعله بكم كرها ‪ .‬فإذا شئتم أن تطيعوه فأطيعوني ‪ ،‬فإذا هلكت فأطيعوا هذا‬ ‫ً‬
‫الخر ‪ ،‬وإن لم تشاءوا ذلك فــأنتم ومــا تشــاءون ‪ .‬مــن أطــاعني أطــاع اللــه ومــن‬
‫عصاني عصاه ‪ .‬فلما مات هذا الرســول عمــدت إلــى ذلــك الخــر فقتلتــه وحملــت‬
‫الناس على ذلك ‪ .‬ثم استوليت على المر من بعده ولم أفعل من بعد ما فعلت إل ّ‬
‫أربعة أشياء ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬اذكر هذه الشياء لخوانك الشياطين ‪.‬‬
‫م له ولكن الحــاكم‬ ‫النسي ‪ :‬أول ً ‪ :‬جعلت الناس يؤمنون بأن الشرع بيد الله والحك ُ‬
‫) الديمقراطية ( في مّلة ذاك الرسول ‪ ،‬وأول مــن‬ ‫بأيديهم ‪ .‬فأنا أول من وضع‬
‫انتخب كي ُينتخب ‪.‬‬
‫ع لقواعــد الكلم واللغــة ‪ ،‬حيــث جعلتهــا وفــق مبــدأ‬ ‫ول واض ـ ٍ‬ ‫ثاني ـا ً ‪ :‬إنــي أ ّ‬
‫) القواعد هي ما نقول ( وليس ) ما ينبغي أن نقول ( ‪ .‬وجعلت الفصاحة هي ) ما‬
‫نتكلم ( وليس ) ما ينبغي أن نتكلم ( ‪.‬‬
‫ســمه اللــه ‪ ،‬إذ أمــر هــذا‬ ‫سم المال والســلطان كمــا يق ّ‬ ‫ول من ق ّ‬ ‫ثالثا ً ‪ :‬إني أ ّ‬
‫ســم فــي‬ ‫الرسول أن يقسم المال بالسوّية والسلطان بالهّلية ‪ ،‬ولما كان الله يق ّ‬
‫ســم‬ ‫سمت المــال والســلطان كمــا يق ّ‬ ‫الحساب حسب السبقية والفضلية ‪ ،‬فقد ق ّ‬
‫الله ‪.‬‬
‫دد في الحكــام الشــرعية وحمــل النــاس علــى الــتردد‬ ‫رابعا ‪ :‬أني أول من ر ّ‬ ‫ً‬
‫ددون فــي أحكــام‬ ‫كون ويــتر ّ‬ ‫فيها ) خشية عقاب الله ( ‪ .‬ومنذ ذلك اليوم وهــم يش ـ ّ‬
‫هذا الرسول وشرائعه على وفق ما وضعته لهم من الشياء السابقة ‪.‬‬
‫ة‬ ‫الرئيـس ‪ :‬ألم تفعل شيئا ً آخر ؟ فإن الشرور والفتن ظهرت بعــد موتــك متدافع ـ ً‬
‫ق ( تستتر ‪.‬‬ ‫كما لو كانت خلف ) غل ٍ‬
‫ق الشــرور‬ ‫غل َـ ُ‬
‫النسي ‪ :‬ل ‪ .‬لم أفعل شــيئا ً آخــر ‪ ،‬كــان ذلــك الرســول يســميني ) َ‬
‫والفتن ( ولكنها جميعا ً ) تلقحت وتناتجت ( من هذه الربعة ‪.‬‬
‫النيلي ‪45-----------------------------------------‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬أيها العفاريت خذوا رئيس الشياطين النسية إلى موضعه وليغسلوه‬
‫ساق ويطعموه‬ ‫من هذا العناء والسفر الطويل بماء الحميم ‪ ،‬ويسقوه شيئا ً من الغ ّ‬
‫ُ‬ ‫شيئا ً من الز ّ‬
‫ة مــن الســرابيل القطرانيــة حــتى أنهــي‬ ‫قوم ويــدّثروه بقطــع ســميك ٍ‬
‫أعمالي في هذا المؤتمر ‪ .‬ثم لبدّ لي من أقول لكم إن النسان لم يفهم إلى هذا‬
‫اليوم العلقة بين الموت والحياة ‪ ،‬لنه ل يفهم العلقة البسط بين الجماد والحي‬
‫‪ ،‬وهو ل زال يتساءل عن معنى العدم ‪ .‬وكــثيٌر منكــم قــد ل يفهــم معنــى كلمــه ‪،‬‬
‫فعلى الذين فهمــوا أن يعّلمــوا الــذين لــم يفهمــوا ‪ ،‬إن أخــاكم رئيــس الشــياطين‬
‫ظمــة ومترابطــة ‪ .‬فعليكــم حمــل بنــي‬ ‫النسية وضع أعماله وفــق ) خطــوات ( من ّ‬
‫ة ) حقيقــة( جزئيــة‬ ‫النسان على إتباع هذه الخطوات نفسها حينما تظهر لهــم أي ّ ـ ُ‬
‫طلع واسع بهذه الشياء ‪.‬‬ ‫تمّثل الحقيقة الكلية ‪ .‬إن قادتكم هنا على ا ّ‬
‫المغربي ‪ :‬سيدي الرئيـس ‪ .‬إن منطقنا الشيطاني يعتمد على طريقة الربــط بيــن‬
‫) جملة ( صادقة وأخرى كاذبــة ‪ .‬فــإن الشــيطان النســي قــد أعلــن فــي الخطــوة‬
‫ة صادقة وربطها بالجملة الكاذبــة ) الحــاكم‬ ‫الولى أن ) الحكم بيد الله ( وهي جمل ٌ‬
‫بيد النسان ( ‪ .‬ولمــا كــان النســان حـّرا ً وفــق تعــاليم ذلــك الرسـول ‪ ،‬ولمــا كــان‬
‫ء إزاء تلــك الحريــة ‪ ،‬فينبغــي إذن أن يزيــد‬ ‫ل شي ٍ‬ ‫الشيطان النسي ل يستطيع فع َ‬
‫عدد الذين يتبعونه ) بسرقة ( عدد من الـذين اتبعــوا الرســول ‪ ،‬وذلــك عـن طريــق‬
‫جعلهم يتساءلون عن حريتهم ومقدارها ‪ .‬فقد جعلهم ـ بوضعهم حريتهــم موضــع‬
‫التساؤل ــ يّتبعـونه مـن حيـث ل يشـعرون ‪ .‬ومـن يومهـا أصـبحت الحريـة موضـع‬
‫التساؤل ‪ ،‬وصار النسان يحاول أن يدرس) ذاته ( كبــديل عــن دراســة ) الوجــود (‬
‫كوا‬ ‫ة بالنسبة لبني النسان‪ ،‬كان ديكارت وغيــره قــد ش ـ ّ‬ ‫بأسره ‪ .‬وهذه مأساة أليم ٌ‬
‫في كل شيء إل ّ فيها )الحّريــة ( ‪ .‬والصــل فــي المســألة أن الجملــتين يمكــن أن‬
‫تتبادل ‪ ) :‬الحكم بيد النسان ( و ) الحاكم بيد الله ( ‪ ،‬لن الرسول إذا كــان حاكم ـا ً‬
‫ر على هذا أو‬ ‫وط بالنسان وحده وهو غير مجب ٍ‬ ‫من الله فالحكم باّتباعه أو عدمه من ّ‬
‫ة بــالتلزم فــي شــرع ذلــك الرســول‬ ‫حان ســوي ً‬ ‫ذاك ‪ .‬ومعنى ذلك أن الجملتين تصـ ّ‬
‫ة في واقــع النســان‬ ‫حان سوي ً‬ ‫باعتبارهما ) وصية أو شيئا فيه طاعة لله (‪ ،‬كما تص ّ‬
‫باعتباره موضوع هذه الوصية فهو قادر على تنفيذها أو رفضها ‪ .‬وحينما فعل هذا‬
‫النسي ذلك اللتباس فقد جعل النسان ـ الذي يملك اختياره ـ جعلــه يفت ّــش عنــه‬
‫بدل ً من استعماله في أي طريق ‪ .‬إن هذا العمل الجبار لرئيس الشياطين النسية‬
‫ق الختيار بطريقة واضحة قسرية كما فعل‬ ‫هو أفضل بكثير مما لو كان يسلبهم ح ّ‬
‫ّ‬
‫فرعون حينما قال أنا إلهكــم ‪ .‬لن هــذه الطريقــة ل تجعلهــم يسـلمون اختيــارهم‬
‫ويصبحوا عبيدا ً له فقط ‪ ،‬بل ل يعلمون أين هو اختيارهم أصل ً ‪ ،‬فهم يفتشون عن‬
‫ة مــن‬ ‫ت أعطاهم جزءا ً منه مثل قطــر ٍ‬ ‫اختيارهم الذي وضعه هو في جيبه ‪ ،‬في وق ٍ‬
‫ر ليجعلوه رئيسا ً عليهم وهم فرحون جدّا ً لنهم اختاروه بمحض إرادتهم ‪ .‬بينمــا‬ ‫بح ٍ‬
‫كان القتيل مختارا من قبــل رســولهم ‪.‬يمكننــي أن أقــول إذن أن جميــع فلســفة‬ ‫ً‬
‫) الحرية ( في الغرب وجميع فلسفة ) الجبر والختيــار ( فــي الشــرق إنمــا يعــود‬
‫ماها ســيادتكم ‪.‬‬ ‫الفضل في ظهورهم إلى الفقرة أو ) الخطــوة ( الولــى كمــا سـ ّ‬
‫وكذلك فجميع الذين حكموا بعد جناب رئيس الشياطين النسية يعود الفضــل فــي‬
‫توليتهم إلى هذه الخطوة بالذات ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬يسعدني جدا ً أنك تفهم أهمية هذه العمال ‪ .‬وبالنسبة لي فإن المــوتى‬
‫ى كــبيرا ً‬‫ي فــي آخــر المطــاف ‪ ،‬لكــن مــوته ســبب أذ ً‬ ‫من هذا الصنف سيرجعون إل ّ‬
‫لسيدكم العلى نفسه بحيث أنه يعدّ هذا اليوم أسوأ يوم في حياته ‪ ،‬وبخاصــة أنــه‬
‫ل يوجد في فلسفة الشياطين منكم ومن بني النسان مـن يضـاهي مرتبتـه فـي‬
‫ء ‪ .‬أل ترون أن هذا الشيطان المريــد قــد‬ ‫الفلسفة العملية والنظرية على حدّ سوا ٍ‬
‫أخذ أحدى الجملتين من ) شرع الرسول ( وترك الخــرى ‪ ،‬وأخــذ إحــدى الجملــتين‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪46‬‬
‫من ) حقيقة النسان ( وترك الخرى وربط بين واحدة صادقة في الشرع كاذبة‬
‫مع النسان وبين واحدة كاذبة فــي الشــرع صــادقة مــع النســان ؟ ‪ .‬وبمثــل هــذه‬
‫الطريقــة يجــب أن تشــرحوا الخطــوات الخــرى ‪ ،‬وتعملــوا وفــق مــا تعلمتــم فــإن‬
‫ة مــا آلف‬ ‫النسان كائن جهول جدا ً وشديد الغباوة ‪ ،‬ويستمر أحيانا ً بمناقشة مسأل ٍ‬
‫الســنين والمســألة نفســها ليــس لهــا وجــود أو أصــل أو إن جوابهــا عنــده ‪ .‬فهــو‬
‫) النسان ( اسمه مأخوذ من النسيان ‪ ،‬أل ترونه ينسى أحيانــا الشــيء أو الحاجــة‬
‫في يده ويــدور يفت ّــش عنهــا ؟ هـذه الحالــة تســتمر فـي الفـرد الواحـد دقيقـة أو‬
‫ع ( إنساني ألف سنة أو ألفين بحســب النســبة‬ ‫دقيقتين ولكنها تستمر عنده ) كنو ٍ‬
‫كنتــم مــن إضــاعة شــيء منــه‬ ‫والتناسب بين عمــر الفــرد وعمــر النــوع ‪ .‬وكلمــا تم ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خرتم عذابكم وخلصــه ألف ـا أو آلف ـا مــن‬ ‫وإنساءه إياه في الفكر الفلسفي كلما أ ّ‬
‫السنين ‪ .‬ويجب أن تعلموا الفروق في هذا المثال والتفريــق بيــن الشــياء كلهــا ‪.‬‬
‫فالناسي للحاجة في يده ينتبه لها بعد حين ‪ ،‬لماذا ؟ لنه يستعمل جــوارحه واليــد‬
‫كر ذلك الشيء ‪ .‬أما الذي ينسى الحاجة في موضع مــا ‪،‬‬ ‫منها فإذا نظر إلى يده تذ ّ‬
‫فإنه لن يتذكر بهذه السرعة وقد تمر أيام أو شــهور ول يــدري أيــن وضــع الحاجــة‬
‫فعليكم بالنتفاع من هذا التمييز ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬إن الرئيـس يقصد بكلمه أنه إذا كان ثمة حل لمعضــلة مــا لقــوم عنــد‬
‫قوم آخرين فيجب أن تعملوا على فصلهم عن بعضهم البعض ‪ ،‬كي ل ينّبه أحــدهم‬
‫الخر ولو قدرتم على قطع اليد الماسكة بالشيء عن رأس صاحبها ليبقى يفتش‬
‫عنها دوما ً فافعلوا ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬نحن منتبهون جدا ً لهــذا المــر ســيدي ‪ .‬فــإن الفلســفة فــي الغــرب ل‬
‫ينظرون في شيء من أقوال أهل الدين في الشرق ‪ .‬وأهل الدين في الشــرق ل‬
‫ينظــرون فــي شــيء مــن نتــاج ) المفكريــن ( الخريــن فــي الغــرب والشــرق ‪.‬‬
‫دين فــي الغــرب ‪.‬‬ ‫والساتذة في الشرق ل ينظرون في شيء من أقــوال أهــل الـ ّ‬
‫وأهل الفنون والداب في الشرق ل ينظرون في شيء مــن الــدين فــي الشــرق ‪.‬‬
‫وأما بقية العلوم في الشرق والغرب فهي في خصام ونزاع وتعّزز وامتناع ‪ ،‬وقــد‬
‫ينقسم الشيء ) الضائع ( أحيانا ً بين أنواع وأنــواع مثلمــا انقســم النســان نفســه‬
‫بين الدين والفلسفة ‪ ،‬وعلم النفس والجتماع ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬لقد نسي النسان حّريته وهو ل يزال يفّتش عنها من حيــث هــي عنــده‬
‫وانبثق من ضياعها ألف مشكلة ومشكلة ‪ ،‬والتهى بحــل تلــك المشــاكل ‪ .‬فمــن ذا‬
‫يحل تلك المشاكل ؟ أم يكون النسان أصل ً راغبا ً بالمشاكل ؟ ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬بلى ‪ .‬فحينما جاء ) هيجل ( حاول وضع حلول لجميع المشاكل ‪ .‬وهي‬
‫حلول ناقصة ومتناقضة إذ نظر آخــرون فــي الوجــود فقــالوا ‪ ) :‬ليســت الفلســفة‬
‫دعي وضــع حلــول لجميــع المشــاكل ‪ ،‬إنمــا الفلســفة‬ ‫الحقيقية هي التي تضع أو ت ّ‬
‫الحقيقية هي الــتي تفتــح البــاب لمعرفــة العــالم بطريقــة تجعــل النســان يفهــم‬
‫موضــعه منهــا ويعيــش قلقــه الفلســفي ‪ ،‬فالحيــاة بل هــاجس مــن القلــق تصــبح‬
‫موتا ً ‪ .((1( .‬وهذا الكلم سيدي الرئيـس فيه خطورة عظيمة على جميع الشــياطين‬
‫لنه يوافق تماما ً الغاية والمبادئ التي خلق الله لها وبها النســان ‪ .‬ولكــن لحســن‬
‫حظنا إن هذا الكلم صدر من قوم ينكرون هذه المبادئ وتلك الغاية بل وينكرون )‬
‫ر لعبوديتهم ‪ .‬وكما قال الرئيـس فإننا نأمل‬ ‫ف مباش ٍ‬‫الله ( نفسه تخّلصا ً من اكتشا ٍ‬
‫أن يبقى الوضع كما هو ‪ .‬إن الذين يكتشفون بحدســهم أن لهــم غايــة يتناقشــون‬
‫في ) الحرية ( ‪ ،‬في حين أنها هي الغاية المكتشفة فيــذهبون مــذاهب شـّتى فــي‬
‫إثبات وجودها مع أنها هي نقطة انطلقهم في البحث ‪ .‬والذين لم يكتشفوا غايــة‬
‫ة واحــدةً ووضــع‬ ‫بل جعلوا أنفسهم هم الغاية حــاولوا تفســير العــالم بكــامله دفع ـ ً‬
‫)‪(1‬‬
‫أفكار وجودية ‪. 96 /‬‬
‫النيلي ‪47-----------------------------------------‬‬
‫حلول لجميــع التســاؤلت مــرةً واحــدة غيــر مــؤمنين بضــرورة اســتمرار القلــق‬
‫قفــوا فجــأة فــي موضــعهم ل يتقــدمون ول يرجعــون ثــم طمــروا‬ ‫المعرفي ثــم تو ّ‬
‫رؤوسهم في الرمال كي ل يسمعوا أحدا ً يناديهم قائل ً ‪ :‬أريــد ســعادتي ‪ ،‬أريــد أن‬
‫ون ‪ .‬فكيـف يرفعـون رؤوسـهم لمـن ينـادي ‪ :‬قـد‬ ‫ُ‬
‫أخلق وأبدع ‪ ،‬أريد أن أكون وأكـ ّ‬
‫علمتم كل شيء فاخلقوا كائنــا ُيهلــك الــذباب أو اخلقــوا كائنــا غيــر الــذباب فقــد‬
‫ضجرت من الذباب ‪ ،‬أو على القل اجعلوا الذباب ل يقترب من وجوهكم …!!‬
‫الرئيـس ‪ :‬ولن يرفعوا رؤوسهم لمن ينــاديهم أن يخّلصــوا أنفســهم مــن مخــالبي‬
‫قائل ً ‪ :‬ادرأوا عن أنفسكم الموت ‪.‬‬
‫ً‬
‫المشرقي ‪ :‬لذلك فإني ما زلت أطمئنك دائبا‪ .‬فكــل فكــرة فلســفية ُتنــاقش إنمــا‬
‫من نفس البحث إجابة عنهــا ‪ .‬ألــم ترهــم‬ ‫تحمل في نفس النقاش نقيضها ‪ ،‬ويتض ّ‬
‫دثون ويتجــادلون فــي‬ ‫دثون عن العدم الذي هــو ضـدّ الوجــود ونقيضــه ثــم يتحـ ّ‬ ‫يتح ّ‬
‫) وجود العدم ( أو ) عدم وجوده ( ؟ ‪ .‬فالنسيان قد بلغ بهم مبلغا ً عظيما ً لن الذي‬
‫يتحدث عن الوجود إنما يتحدث عن العدم ‪ ،‬والذي يتحـدث عـن العـدم إنمـا يتحـدث‬
‫دث عــن ) وجــود العــدم ( ‪ .‬فهــو‬ ‫عن الوجود ‪ ،‬فلم أر أحمق من النسان الذي يتح ـ ّ‬
‫مثل ذلك التلميذ الذي سأل أستاذه وهو يقوم بتجربة على درجــات الحــرارة ‪ :‬كــم‬
‫بلغت الحرارة في هذا السائل يـا أسـتاذ ؟ فقـال الســتاذ ‪ :‬أربـع درجـات مئويـة ‪.‬‬
‫فقال التلميذ ‪ :‬فكم أصبحت برودة هــذا الســائل ؟ ! ‪ .‬لكــن الفلســفة فـاقوا هــذا‬
‫التلميذ في التدقيق في المسألة إذ لو كانوا مكانه لسألوا الستاذ ‪ :‬فكــم أصــبحت‬
‫برودة الحرارة ؟ ! وهم تماما مثل هذا التلميذ ‪ ،‬فماذا سيقال عــن هــذا المســكين‬
‫ل سأل حكيمـا ً‬ ‫لو سأل عن برودة الحرارة أو حرارة البرودة ؟ ‪ .‬ومثل ذلك مثل رج ٍ‬
‫عن معنى ) العِالم ( فأجابه الحكيم فقال الرجل ‪ :‬فاخبرني عــن الجاهــل ‪ .‬فقــال‬
‫الحكيم ‪ :‬قد أخبرتك يا جاهــل ! ‪ .‬والفلســفة قــد فــاقوا هــذا الرجــل فــي تــدقيق‬
‫المسألة ولو كانوا مكانه لقالوا للحكيم ‪ :‬فاخبرنــا عــن جهالــة العــاِلم ‪ ،‬وهــو عيــن‬
‫سؤالهم عن وجود العدم ‪.‬‬
‫لت ثم يضعونها أمام الرئيـس‬ ‫) يطلب المغربي من العفاريت أن يجلبوا كتبا ً وسج ّ‬
‫فتحجب ما بينه وبينهم (‬
‫المغربي ‪ :‬هذه سيدي الرئيـــس المقــالت الفلســفية حــول مســألة ) هــل يســمى‬
‫المعدوم شيئا ً ؟ ( ‪ ،‬وهي ما أثاره أخي المشرقي ‪.‬‬
‫) تظهر آثار الدهشة الشديدة على الرئيـس ثم يستفهم قائل ً (‬
‫ل شيء في هذه المسألة ؟‬ ‫الرئيـس ‪ :‬هل هذا هو ك ّ‬
‫المشرقي ‪ :‬نعم سيدي ‪ .‬وهناك شروح وفقرات متفّرقة فــي الكتــب وفــي لغــات‬
‫أقوام ليست لديهم فلسفة بهذا المعنى لكنهم ينقلون البحاث إلى لغاتهم ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬ل…ل هنا تقصير واضح ‪ .‬ينبغــي أن تكــون الكميــات أكــبر ‪ ،‬فمثــل هــذه‬
‫المسألة وإن كانت واحدة من عشرات الفروع في موضوع الوجود والعدم ‪ ،‬لكنــي‬
‫قعت المزيد من الكتابات حولها فالنسان مولع بمثل هــذه الشــياء الــتي يخــدع‬ ‫تو ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بها نفسه ‪ .‬يبدو لي أن عملكــم اليحــائي فــي هــذا المــر كــان ضــعيفا جــدا ‪ ،‬لن‬
‫النسان هو وجود العدم ‪.‬‬
‫) يرفع أحد المردة رأسه ويده طالبا ً الكلم (‬
‫الرئيـس ‪ :‬تكّلم من أنت ؟‬
‫المارد ‪ :‬أنا مساعد مارد النار وعملي هو العادة والتلف ‪ .‬وحسب أمركم ســيدي‬
‫نقــوم بنقــل وتســوية المخطوطــات والكتــب ‪ ،‬ونحــاول بالعمــل اليحــائي إتلف‬
‫وإحراق الجزاء التي تفصم عرى التواصل بينها من أجل أن يبدأ النســان ببحثهــا‬
‫من جديد ‪ .‬صحيح أننـا نتبـع إداريـا ً مـؤتمر الحـروب وسـفك الـدماء ‪ ،‬ولكـن قسـم‬
‫المكتبات يستلم أوامره من الجميع وينفذ وصايا مؤتمر إلغاء الحكمــة ‪ .‬ســيدي إن‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪48‬‬
‫الكميات المحروقة في مســألة ) وجــود العــدم ( فــي مكتبــات الشــرق والغــرب‬
‫ن مختلفــة‬ ‫ن وأمـاك َ‬ ‫م حرقهــا فـي أزمــا ٍ‬ ‫تفوق ما جلبوه الن أمام سيادتكم ‪ ،‬وقد ت ّ‬
‫صل عنها سيادة الرئيـس ‪.‬‬ ‫خلل استغللنا بعض الفتن ‪ .‬وهذا تقرير مف ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬إن الحرق العشوائي هو عمل تخريبي ضدّ أمن الشياطين وســلمتهم ‪،‬‬
‫دمه المشــرقي مثل ً حــول هــذه المســألة إذا ورد فـي كتــاب أو‬ ‫فاليضاح الـذي قـ ّ‬
‫كّراس فينبغي أن يحرق ‪ ،‬أما النقاشات الفلســفية حــول الموضــوع والــتي تعتــبر‬
‫جب‬ ‫) وجود العدم ( مســألة فعليــة ومشــكلة قائمــة ‪ ،‬فيجــب أن تبقــى ‪ ،‬بــل ويتــو ّ‬
‫الحفاظ عليها ‪ .‬أعتقد بأني سأحرق اللف منكم على هذا الهمال الجسيم ‪ .‬أيهــا‬
‫كل لجنة فورية لجرد المحروقات كّلها وإيضاح ما فيها كلمة كلمــة‬ ‫الشياطين …ُتش ّ‬
‫منذ عهد سقراط بل وقبل سقراط بألف سنة وإلى هذه الساعة ‪.‬‬
‫القادة ‪ :‬السمع والطاعة سيادة الرئيـس ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬أودّ أن أطمئن سيادتكم إلى تلــك الشــياء الــتي تخشــونها ‪ .‬إذ أننــا ل‬
‫نستطيع أبدا ً ) إلغاء ( إجابات حقيقية عن المسائل الفلسفية ‪ .‬فمن تلك الجابات‬
‫مقاطع أو مقولت مشهورة مكتوبة في مليين النسخ ‪ .‬وعزائنــا الوحيــد هــو فــي‬
‫أن النسان ل يبحث عن حقيقة الشياء ول عن إجابات لمشاكل افتعلها هو ‪ .‬لقــد‬
‫أمرتنا سيدي أن نكون حكماء بـوجه النسـان الفيلســوف ليكــون عملنـا متقنـا ً فل‬
‫ت إن النســان يبحــث‬ ‫سر فلسفة النسان ‪ .‬وقد رأيــ َ‬ ‫نتفلسف مثل النسان بل نف ّ‬
‫ً‬
‫في فلسفته _ وإن لم يكن فيلسوفا عند الناس _ عن ألوهية نفســه فهــو يفتعــل‬
‫مشكلته افتعال ً ‪ .‬وحينما ُيوحى له بإجابات عن مشاكله ‪ ،‬يطــالب بــالقلق ول يريــد‬
‫ل شيء ‪ .‬في حين أنه يزعم أن الفلسفة تبدأ من الدهشة والقلق‬ ‫سر ك ّ‬
‫إجابات تف ّ‬
‫ّ‬
‫بالشياء ومنها ‪ ،‬وفي نفس الوقت يجد راحة في التفلسف ‪ ،‬فهو ل يريد التخلــي‬
‫عن مشاكله ‪ .‬ويمكننا أن نحلل النسان في هذه النقاط ونعلم وجه خداعه لنفسه‬
‫‪ .‬فالقلق الذي استبدّ به جراء كونه عبدا ً ومخلوقا ولــه غايــة وهــدفا ً عظيمـا ً جعلــه‬
‫يبحث عن هدف وغاية يضعها هو ويريدها هو ‪ ،‬وكّلما دار وبحث لم يجد نفسه يريد‬
‫شيئا ً سوى ما وضع لــه ‪ .‬إنــه يريــد الســيادة المطلقــة والســلطان الــدائم والبقــاء‬
‫المستمر في الحياة _ الحياة التي يمارس فيهــا الســلطان والتحكــم فــي الشــياء‬
‫ولكن بشرط أن يفعل هو كل ذلك بمفرده تماما ً ‪ .‬ونحن معاشر الشياطين وضعنا‬
‫ق ‪ ،‬ذلك‬ ‫ول ضربتنا هنا ‪ .‬فقد أوحينا له أن ما يشعر به هو ح ّ‬ ‫السفين هنا وضربنا أ ّ‬
‫ً‬
‫ون ـا بــه وفيــه‬ ‫لننا ل نقدر على تغيير شيء خلقه الله في ذات النسان وجعلــه مك ّ‬
‫ً‬
‫دقنا معه ‪ .‬ثم أوحينا له أن هذا الهدف ل يتحقق مطلقا بالوعد‬ ‫ومنه ‪ .‬وفي هذه ص ّ‬
‫اللهي ‪ ،‬فإنه مجرد غيب ‪ ،‬فهذا العالم هــو عبــارة عــن أشــياء مترابطــة وقــوانين‬
‫كر ويؤمن بأبديــة‬ ‫صارمة ل يمكن خرقها ول تغييرها ‪ .‬ثم جعلناه منذ ذلك الحين يف ّ‬
‫الشياء وثباتها أو حركتها الثابتة ‪ ،‬وجعلنا أتباعنا في الملل الدينية يفســرون كــل‬
‫ما يتعلق بهذا الوعد والملكوت على أنه إن وقع فإنه يقــع فــي عــالم آخــر بنظــام‬
‫آخر من أجل أن يؤمن النسان بأن هذا النظام الطبيعي هو نظــام ثــابت ل يمكــن‬
‫ول ‪ .‬ولم يكن أمام النسان إذن إل ّ ثلثة أو أربعة خيارات ‪ :‬أن يكون قانعــا ً‬ ‫أن يتح ّ‬
‫بعبوديته لله منتظرا دخول ذلك العالم البدي الذي ل ُيرى إل ّ بعد دهور أو أحقــاب‬‫ً‬
‫ل يعلم كم هي ‪ .‬وفي هذا المر جمعنا بيــن أشــياء مختلفــة انطلــت عليــه‪ .‬فعــالم‬
‫الوسط بين الموت والحياة جعلناه مثــال ً لعــالم الواقــع الموعــود ‪ .‬وعــالم مـا بعـد‬
‫انتهاء الكون والخليقة جعلناه هو العالم الموعود ‪ .‬وهكذا فقــد آمــن أهــل الديــان‬
‫بعد ذلك بأن العالم الحالي هو عالم ثابت ل يتغير ‪ .‬وهذا هو المطلــوب إذ لــم يبــق‬
‫شيء حقيقي في الديان ‪ .‬ذلك لن ) النعيم والعذاب ( المشار إليه في مرحلة ما‬
‫بعد الموت وقبل الحياة وفي مرحلة ما بعد انتهاء هذا العالم ل يــترتب إل ّ بمقــدار‬
‫اليمان والكفر بحقيقة إمكانية تغّير هذا العالم الواقعي ‪ .‬وأما حقيقة مـا جـاء بـه‬
‫النيلي ‪49-----------------------------------------‬‬
‫الوحي يا سيدي فهو إمكانية تغّير هذا النظام إلى ما هــو أفضــل تغي ّــرا ً واقعي ـا ً‬
‫ه_ بحســب مــا وصــف الــوحي ‪ .‬وهــذا هــو‬ ‫ماديا ً ليكون فــي الخــرة _ أي فــي آخــر ِ‬
‫المعنى الحقيقي للغيب ‪ .‬فالخرة هي آخرة في الزمان وليس في المكــان آخــرة‬
‫دث عــن هــذه المســألة ل غيرهــا ‪ ،‬وهــي‬ ‫كما هو واضح ‪ .‬فالديان اللهية إنما تتح ـ ّ‬
‫وه عن أهميــة القضــية المحوريــة الــتي‬ ‫دث عن المراحل الخرى فإنما تن ّ‬ ‫حينما تتح ّ‬
‫تــدور عليهــا غايــات وأهــداف الرســالت ‪ .‬وهكــذا أصــبح هــذا القســم مــن النــاس‬
‫يعيشون في أديان هم خارجها ‪ ،‬ويعملون في واقــع هــم بــه كــافرون ‪ ،‬ويحلمــون‬
‫بتحقيق الهدف البعــد _ الخلــود البــدي فــي جنــة الخلــد _ مــن غيــر أن يعملــوا أو‬
‫يعلموا شيئا ً عن الهدف القــرب ‪ .‬وإذن فمــا أبعــد وقــوع هــذا الهــدف القــرب ! ‪.‬‬
‫ومعلوم أن الهدف البعد فـي نصـوص الكتـب المنّزلـة ل يمكـن نـواله إل ّ بتحقيـق‬
‫الهدف القرب ‪ ،‬ولكننا عملنا جهدنا لصرف النظر عــن تلــك النصــوص وتفســيرها‬
‫بطريقة تجمع بين الهدفين وتجعلهما واحدا ً هو الخلــود فــي عــالم الغيــب ‪ ،‬حيــث‬
‫أوحينا أن الغيب هو مرادف لما وراء الطبيعـة ‪ .‬ولـم يكـن أمـام القسـم الخـر إل ّ‬
‫البحث عن ما وراء الطبيعة ودخول الميتافيزيقا ‪ .‬فمــن المؤكــد أن إلهـا ً ل يعتنــي‬
‫بمخلوقاته إلى هذا الحد ويتركهم على هذا النحو هو إله ل يستحق العبادة ‪ ،‬ومــن‬
‫ة جمــع بيــن‬ ‫ل محلــه ‪ ،‬وثالث ـ ً‬ ‫هنا عاند النسان ربه فتارةً أنكره ‪ ،‬وتــارةً أراد أن يح ـ ّ‬
‫المرين ‪ ،‬وأخرى حاول فيها تجاوز الطبيعة لمعرفة ما يكمن وراءهــا ‪ .‬وبعــد ذلــك‬
‫وجد النسان أنه ل يستطيع القفز إلى ما وراء الطبيعة فهي سدّ منيع أمامه فبدأ‬
‫ظر في الشياء بنفسه ليعلم كنهها وما انطوت عليــه ‪ .‬ورأى‬ ‫يغّير فلسفته وبدأ ين ّ‬
‫أخيرا ً أنه من الفضــل لــه أن يبــدأ بمعرفــة الشــياء وقوانينهــا ‪ ،‬وأن ينتفــع بهــذا‬
‫ممها مــن‬ ‫لته بابتكار اللت التي توصله إلى غاياته والتي ص ّ‬ ‫النظام نفسه على ع ّ‬
‫خلل محاكاة القوانين العاملة في الطبيعــة أو اســتغلل خصائصــها فكــان العــالم‬
‫الطبيعي ‪ .‬كان على النسان إذن أن يتفهم المنطق ‪ .‬وحينما وضع المنطــق كــان‬
‫فيه مخالفا ً للمنطق ‪ .‬فالمنطق الذي ابتكره النسان كان ) منطقه هو ( ل منطــق‬
‫العالم والشياء ‪ ،‬وإذا كان فيه شيء من ظواهر الشياء وخصائصها فهو ل يعمــل‬
‫حينما يقابله منطق العالم ‪ .‬وحدثت كل تلــك المــور ســوية فــي الزمــان وأنتجــت‬
‫ثمارها متفّرقة في المكنة وكان وما زال الفيلسوف ينظــر فــي الطبيعــة أحيان ـا ً‬
‫ومازال الطبيعي يتفلسف أحيانا ً أخرى ‪ .‬ولم يكن النسان في كــل ذلــك مخــدوعا ً‬
‫من غيره ‪ ،‬بل هو مخدوع بنفسه ومن نفسه ‪ ،‬فهو يشتهي أن نوحي له بما نوحي‬
‫‪ ،‬ذلك لنه هو الذي يغّير غايته وهدفه عن قصد وسابق عمد ‪ .‬وهو إذ يتساءل عــن‬
‫أشياءه الضائعة _ وجوده وسلطانه وبقــاءه وغــايته وحريتــه _ فإنمــا يتســاءل عــن‬
‫أشياء يمسكها بيده ويتظاهر بأنها ليست هي ‪ ،‬ثم يبحث عنها ‪ ،‬فإن فعله بالشياء‬
‫عموما ً هو نفس فعله بكل واحد منها على انفراد ‪ .‬أنت تعلــم ســيدي الرئيـــس إن‬
‫ة تسود عــالم الموجــودات ‪ ،‬ويكفــي لفهــم أي نظــام ٍ‬ ‫ة كانت أم حسن ً‬ ‫النظمة سيئ ً‬
‫ً‬
‫د ‪ ،‬فإذا لم ُيمكن النظام من نفسه فل يعدّ نظاما ‪ .‬وقد خب َِر النســان‬ ‫ّ‬ ‫ب واح ٍ‬ ‫ح با ٍ‬‫فت ُ‬
‫ي علــى فهمــه‬ ‫ر عص ـ ّ‬ ‫ل الذي ينتزعه من الطبيعة لم ـ ٍ‬ ‫ذلك في علم الطبيعة ‪ ،‬فالح ّ‬
‫ل لمشكلت أخرى ‪ ،‬وهو باب تنفتح منه أبواب كثيرة وبل حدود لمعرفة ذلــك‬ ‫هو ح ّ‬
‫الشيء وما يرتبط به ‪ .‬وإذا كان الفلسفة قد انتبهوا أخيــرا ً إلــى ضــرورة محاكــاة‬
‫كوا قط في جميع الشياء الــتي يرغبــون‬ ‫العلم فقد كذبوا في النوايا لنهم لم يش ّ‬
‫ل‬ ‫ك فيه وبشــك ٍ‬ ‫كهم على ما يريدون الش ّ‬ ‫ول ‪ ،‬واقتصر ش ّ‬ ‫في بقاءها على حالها ال ّ‬
‫ي ‪ .‬ويا سيادة الرئيـس إنني إذ أقصد إلى إطالة هــذا الكلم فلنــي أوشــك أن‬ ‫كيف ّ‬
‫أصل إلى النتيجة التي ترضي سيادتكم كل الرضا ‪.‬‬
‫ً‬
‫دث فلن نعجل ‪ .‬فأنا لست إنســانا لعجــل ‪ .‬النســان‬ ‫ت دهرا ً تتح ّ‬ ‫الرئيـس ‪ :‬لو بقي َ‬
‫هو الذي يعجل ‪ ،‬ومع ذلك فإنه يقطع زمانه بل نتيجة ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪50‬‬
‫المشرقي ‪ :‬خلصــة كــل ذلــك ‪ :‬إن فلســفة النســان ‪ ،‬ناقشــت عقــل النســان‬
‫وقدراته المعرفية ‪ ،‬فعَزت كل خير وشّر إلى عقل النسان وربطت المعرفة بهــذا‬
‫العقل ‪ .‬وحينما أقول أنهم ) كذبوا (فإني أقصد ذلك ‪ ،‬فإن مشكلة النسان ليست‬
‫في عقله لنخشى عاقبة عمله العقلي ‪ .‬فليرقَ النسان إلى السماء ‪ ،‬ولينزل إلى‬
‫أعماق البحار ‪ ،‬وليكشف بعلمه اللف من السرار فإن صراعنا معــه ليــس صــراع‬
‫مم لمعرفــة هــذه‬ ‫ل جبــار ‪ ،‬وهــو مص ـ ّ‬ ‫ل مع عقــل ‪ .‬إن عقــل النســان هــو عقـ ٌ‬ ‫عق ٍ‬
‫خلــت فيــه كــل المعــارف والســرار‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الكوان المحيطة به ‪ .‬أرأيت لو أن عقل آليا أد ِ‬
‫ح هذا العقل خطرا ً خطورةً نخشاها ؟‬ ‫أُيصب ُ‬
‫حن بشيء من ) الحرية ( ‪.‬‬ ‫الرئيـس ‪ :‬كل لن يكون خطرا علينا إل ّ إذا ُ‬
‫ش ِ‬
‫المشرقي ‪ :‬ذلك هو بيت القصيد _ كما يقول النسان _ ونحن إذ سلبنا منه حريتــه‬
‫وجعلناه ل يقدر على أن يأمر عقله ليحسب له الشياء بطريقة أخرى فقــد أصــبح‬
‫ة مــا بلغــت فلــن يقــدر‬ ‫مرة الكامنة في السرار بالغ ً‬ ‫وة المد ّ‬‫ة في أيدينا ‪ .‬إن الق ّ‬ ‫آل ً‬
‫على توجيهها إل ّ إلى تدمير نفسه ‪ .‬إن عقل النسان يحســب الكــثير مــن الشــياء‬
‫ر من المعلومــات ‪ .‬ويــرى الجميــع أن العقــول المختلفــة تحســب‬ ‫ويحصل على كثي ٍ‬
‫ة‬
‫ل ناجح فــي عملــه حســب الشــياء بطريق ـ ٍ‬ ‫ق مختلفة ‪ ،‬فكم من عاق ٍ‬ ‫الشياء بطر ٍ‬
‫ّ‬
‫مختلفة عن أقرانه وهو يؤكد أنه لم يفته شيء من العناصر التي يذكرونه بهــا ؟ ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ب أو البغض أو بواعث أخرى ‪ .‬إن عقــل النســان‬ ‫وربما دفعه إلى هذا الحساب الح ّ‬
‫ليس ســوى آلــة ل تملــك قطميــرا ً مــن الحريــة ‪ ،‬إنــه آلــة حاســبة ومركـٌز لتنظيــم‬
‫لت والمعلومــات واســتخلص النتــائج والتقــارير ‪ .‬وهنــاك شــيء آخــر فــي‬ ‫الســج ّ‬
‫النسان جعلناه ينساه تماما ً ـ هو صاحب الشأن الــذي يتخــذ القــرارات وهــو الــذي‬
‫يأمر وينهى ـ والذي هو جوهر فردٌ ل تستطيع جميع القوى الموجــودة مــن النفــاذ‬
‫إليه أو التأثير على قراراته الحقيقية ‪ .‬وهذا الشيء يأمر أحيان ـا َ بخلف مــا يعتقــد‬
‫ويصّرح حال الخوف والضــغط بعكــس مــا يــؤمن ولكــن قراراتــه الداخليــة الفعليــة‬
‫فــاته المتداولــة علــى أيــدي‬ ‫فه السّري شيء آخر يختلف أحيانـا ً كــثيرة عــن مل ّ‬ ‫ومل ّ‬
‫الجوارح ‪ ،‬وهو يعمل أيضا ً كمحارب من طــراز رفيــع ‪ .‬فهــو قــد يــأمر العقــل بــأن‬
‫ة لمــا يعتقــد ومخالفــة للمنطــق _ كمــا لــو‬ ‫يحسب له الشياء بطريقة معّينة مخالف ٍ‬
‫كان مضطرا ً أو راغبا ً في قراءة تقرير عــن نجــاح أو فشــل شــيء مــن الفكــار أو‬
‫و له أو خوفا ً من أحد أو رغبة في التظاهر أو لسباب أخــرى ل‬ ‫المشاريع نكاية بعد ّ‬
‫ّ‬
‫ل يتعلــم‬ ‫حصر لها ‪ .‬وهو يستعمل هذا السلوب يوميا حينما يقوم ) بتشجيع ( طف ـ ٍ‬
‫دد أو يشــجع أناسـا ً يعملــون لــديه ‪ .‬فالعقــل إذن آلــة‬ ‫أو يغازل امرأة يرغبها أو يهـ ّ‬
‫فذ ما يطلب منها ‪ .‬وهو مثــل مركــز المعلومــات ‪ ،‬أو هــو مثــل ) دائرة (‬ ‫مأمورة تن ّ‬
‫فرة لتقــدمها إلــى الرئاســة ‪ .‬إن‬ ‫تقوم بحساب جميع الشياء من المعطيات المتــو ّ‬
‫فــاته الســرية‬ ‫ّ‬
‫فلسفة النسان ل تدخل مق ـّر الرئاســة ول تحــاول الطلع علــى مل ّ‬
‫ي‬‫وتكتفي فقط بالحديث عن مركز المعلومات والحاسبة ‪ . .‬ذلك لن الفلسفة كــأ ّ‬
‫ي آخــر إنمــا هــو صــادر فــي الصــل عــن ) الــذات المــرة ( ‪ .‬وليســت‬ ‫نشــاط فكــر ّ‬
‫الفلســفة الخارجــة فــي النهايــة إل ّ حســابات ومعلومــات المركــز ‪ ،‬فــأن الــذات ل‬
‫دث عــن نفســها ول تكشــف سـّرها لحــد ‪ .‬وهــذا المــر يمارســه النــاس دومـا ً‬ ‫تتح ّ‬
‫ويفعلونه أفرادا ً وجماعات ودول ً بل اختلف ‪ .‬وحينما ُنرجع مشكلت الفلسفة إلى‬
‫ة وتعود في النهاية إلــى مشــكلة‬ ‫عللها كما يفعل النسان فإنها سوف تتجمع سوي ً‬
‫واحدة فقط وإلى سبب واحد وحسب وهو العلقة بين هــذا المــر الــداخلي وبيــن‬
‫العقل ‪ .‬وهذه المسألة هي التي أهملــت تمامـا ً مــن قبــل جميــع الفلســفة ‪ .‬هــل‬
‫بمقدور أحد أن يسأل دولة من الــدول عــن نواياهــا الحقيقيــة الكامنــة وراء قــرار‬
‫سياســي تتخــذه ؟ وهــل يأمــل أن تخــبره الدولــة بشــيء أكــثر ممــا هــو معلــن‬
‫) رسميا ً ( ؟ ‪ .‬وهي إذا افترضنا تريد الستجابة لهــذا الطلــب الغريــب فلــن يكــون‬
‫النيلي ‪51-----------------------------------------‬‬
‫الشــيء الخــر المعلــن إل ّ ) حســابا ً آخــر ( جديــدا ً لمراكــز الحســابات ووســائل‬
‫س أن المعلن مطابق تماما ً لرادة الحكومة ونواياها ول يزيــد‬ ‫العلم ‪ .‬وحينما نحدُ ُ‬
‫أو ينقــص عنهــا شــيئا ً فهــل ُتعل ِــن أن حدســنا حــق ولــو كــان المــر فضــيلة مــن‬
‫الفضائل ؟ ‪ .‬كل لنها ل تود أن تعِلمنا أن تفريقنا بيــن المعلــن وغيــر المعلــن هــو‬
‫شيء صــحيح فعلنــاه حــتى لــو كــان فــي صــالحها ‪ .‬ســيادة الرئيـــس … إن نفــس‬
‫النسان مركبة مثل تركيب الدولة الكبيرة ‪ ،‬وإن فـي بـدنه وروحـه ونفسـه أجـزاء‬
‫تشبه أجزاء الدولة ‪ .‬والفلسفة حينما تتحدث عن العقل وقدراته فإنها في الواقع‬
‫ل تريد التحدث عن نفسها ‪ .‬ولن تنجح الفلسفة حتى تجعل اختيــار الــذات المــرة‬
‫مرتبط ـا ً بالتجربــة ‪ .‬إن الفلســفة ل تريــد أن تكشــف عــن حقيقتهــا لن حقيقتهــا‬
‫ليست في كونها نشاط عقلي محض ‪ .‬إذ لــو كــانت كــذلك لكــان الفلســفة كلهــم‬
‫د ما دام العقل ) عند الفلسفة ( قـدرة كامنــة فـي النسـان تعتــبر‬ ‫ل واح ٍ‬
‫على قو ٍ‬
‫في مجموعها شيئا ً واحــدا ً ‪ ،‬ومــا دامــت الموجــودات المحيطــة بالعقــل _ موضــو َ‬
‫ع‬
‫مـن ذا مـن علمـاء الطبيعـة يزعـم أن قـوانين‬ ‫نشاطه _ هـي نفـس الموجــودات ‪َ .‬‬
‫الحركة خاطئة أو إن التفاعلت الكيميائية تحدث بطريقة أخــرى ؟ فمــا هــو ســبب‬
‫التفاق عند علماء الطبيعة ؟ ‪ .‬ليس التفاق هنا هو أن الظاهرة تعلن عن نفســها‬
‫بقانون أو ُتعَلم بالحواس بحيث ل يمكن الختلف حولها كما يزعــم النســان ‪ .‬إن‬
‫التفاق في العلم والختلف في الفلسفة له منشأ آخر هــو منشــأ الــذات المــرة‬
‫للعقل ‪ .‬ففي العلم تأمر جميع الذوات العاملة عقولها أن تعمل بكــل جهــد وبكــل‬
‫صدق لفهم ما يحدث في الطبيعة ‪ .‬وحينمــا تــأتي المعلومــات وتجتمــع فــي البــدء‬
‫وتظهــر الحاجــة إلــى جمعهــا فــي تفســير واحــد ‪ ،‬تجــد الــذوات ) فرصــتها ( فــي‬
‫ي ( تظهــر فيــه ذاتيــة‬ ‫ر ) ذات ـ ّ‬‫الســتحواذ علــى المعلومــات وإرجاعهــا إلــى تفســي ٍ‬
‫ر‬ ‫النسان ل الظاهرة فحسب ‪ .‬والذي يجعلهــم يّتفقــون فــي النهايــة علــى تفســي ٍ‬
‫ح بحيــث أنــه ل يقبــل اختلف ـا ً عنــد‬ ‫د ليس هو ) ظهور حقيقة ( التفسير الص ّ‬ ‫ح ٍ‬
‫مو ّ‬
‫تلك الحدود ‪ ،‬إنما يعود سببه إلى المرحلة التالية في دراســة الظــاهرة _ المرحلــة‬
‫كد تفســيرا ً واحــدا ً وحســب ‪ ،‬وبهــذا تنهــار ذاتيــة التفســير‬ ‫التي تأتي بمعلومات تؤ ّ‬
‫بضربة من موضوعية الظاهرة الطبيعية ‪ .‬والتفسير الذي يفوز في النهاية ودومــا ً‬
‫هو التفسير البعــد عــن ذاتيــة النســان النــاظر إلــى المعلومــات علــى أنهــا ملــك‬
‫الظاهرة وليست ملكا ً لصاحب الختبار ‪ .‬والدرس الذي ينبغي للفلسفة أن تتعّلمــه‬
‫من العلم هو هذا الدرس فقط ل سواه ‪ .‬ولكنهــا لــن تتعّلمــه قــط مــا دامــت هــي‬
‫فلسفة وليست حكمة ‪.‬‬
‫وتي الجّبارة ل يضــاهيها ســوى خــوفي الشــديد‬ ‫ت ما تقول ولكن ق ّ‬ ‫الرئيـس ‪ :‬فهم ُ‬
‫ّ‬
‫من النسان ‪.‬وأل فلماذا يتناقش النــاس ويتجــادلون ؟ أليــس فــي عقــل النســان‬
‫ي ترجــع إليــه فــي النهايــة كــل الحســابات ؟ ولنفــرض أنــه‬ ‫طــط ( أساســ ّ‬ ‫) مخ ّ‬
‫طط ( مصمم وفق طبيعة الشياء فماذا تقول ؟ ‪.‬‬ ‫) مخ ّ‬
‫المشرقي ‪ :‬وأنا أسأل أيضا ً أيها الرئيـس لماذا يتجــادل بنــو النســان ؟ فــإذا كــان‬
‫طط من هذا النــوع فيفــترض أن ل يتجــادلوا ‪ ،‬وإذا تجــادلوا فُيفــترض فــي‬ ‫ثمة مخ ّ‬
‫أسوأ الحوال أن يّتفقوا فــي النهايــة عنــدما ترجــع الشــارات إلــى الصــل وُتثــار‬
‫ح‬ ‫طط ‪ .‬إن ما تقوله أيها الرئيـــس صــحي ٌ‬ ‫المعلومات الساسية الموضوعة في المخ ّ‬
‫و آخر ‪ ،‬إنه تماما على النحو الذي صنع به النسان آلته الحاسبة ‪.‬‬ ‫ولكن على نح ٍ‬
‫الرئيـس ‪ :‬حتى الطغاة والجبابرة يقّرون بحسن الفضيلة وقبح الرذيلة فما تقول‬
‫؟‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬الرذيلة والفضيلة في العقل عبارة عن ) أرقام مجردة ( في حاسبة ‪.‬‬
‫إنها ألفاظ تحتاج في العقل إلى أن ) تمل ( بمفاهيم كما ُتمل الحاسبة بالوحــدات‬
‫التي لها مفاهيمها ‪ ،‬والتي أنت حٌر في صياغتها بالشكل الذي تريد ‪ .‬أنــت تضــرب‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪52‬‬
‫ب‬‫سم وتطرح والمجاور ل يعلم إن كــانت تلــك نقــود أو أفــراد شــع ٍ‬ ‫الرقام وتق ّ‬
‫تريد إهلك بعضه والحاسبة أيضا ً ل تدري ‪ .‬أنت وحـدك تعلـم ذلـك ‪ .‬الرذيلـة سـيئة‬
‫جدا ً عند الجميع ‪ ،‬والحاسبة تعمل بنظام ٍ موحد هو نفــس النظـام والعقــول تعمــل‬
‫ن مــا هــو‬‫بنفس النظام الحسابي وفيها جميعا ً معادلة ) الرذيلة ســيئة جــدا ً ( ‪ .‬لك ـ ّ‬
‫رذيلة عند المسيح مثل ً يكون فضيلة عند فرعون والعكس بــالعكس ‪ ،‬فليــس عليــه‬
‫أن يذكر ذلك لنه يعلم ما هي الفضيلة ومــا هــي الرذيلــة ولكــن هــذا العلــم ليــس‬
‫ء مـن العقــل يوجــد ) أرشــيف (‬ ‫مركزه العقل وإنما هو محفــوظ فيــه ‪ ،‬ففــي جــز ٍ‬
‫للمعلومــات ‪ ،‬وليــس العقــل هــو الــذي يعطــي المفــاهيم لللفــاظ ‪ .‬ومعلومــات‬
‫ء آخر من العقل ليست ملكا ً للعقل بل هــي ملــك الــذات المــرة‬ ‫ي جز ٍ‬ ‫الرشيف كأ ّ‬
‫‪.‬وحينما تضغط على الزر لي فرعــون لتســأله عــن الرذيلــة تظهــر علــى الشاشــة‬
‫الجابة التي هي نفس المعادلة عند جميع الخلــق ‪ ) :‬الرذيلــة ســيئة جــدا ً ( ‪ .‬ليــس‬
‫هذا هو المهم ‪ ،‬المهم هو أنك إذا سألت عقل فرعون ‪ :‬هل إن إجبار الناس علــى‬
‫خر ظهــور اللفتــة‬ ‫أن يعتقدوا بما يعتقده المرء رذيلة ؟ ‪ .‬في هذه الحال سوف يتأ ّ‬
‫على شاشة عقل فرعون وستظهر بعد حين وهي تقول ‪ :‬أحيانا ً … ! ولكــن إجابــة‬
‫المسيح ستكون ‪ ) :‬نعم رذيلة من أبشع الــرذائل ‪ ( .‬وتســتظهر هـذه الجابــة بكــل‬
‫سرعة ‪ .‬وحينما تسأل ‪ :‬هل إجبار فرعون للنــاس علــى أن يّتخــذونه إله ـا ً رذيلــة ؟‬
‫فسيجيب فرعون ‪ :‬كل إنها من أعظـم الفضـائل لنـي … ) ويبـدأ العقـل بحسـاب‬
‫مــا المســيح فســتكون إجــابته هــي نفســها ‪ ) :‬نعــم رذيلــة مــن أبشــع‬ ‫مختلف ( ‪ .‬أ ّ‬
‫الرذائل ‪ ( .‬وبنفس الســرعة ‪ .‬فمـن أيـن جـاء الختلف بيــن الجــابتين والمعادلـة‬
‫الصلية واحدة ؟ ‪ .‬كّلما اقترب السؤال من الذات النسانية كلما اختلفت الجابات‬
‫‪ .‬الذات هي التي تضع المفاهيم لللفاظ ‪ .‬وتلــك هــي حريــة النســان ‪ ،‬إنــه قــادر‬
‫على أن يأمر العقل فيجيب على النحو الذي تريده ذاتـه وليـس علـى النحـو الـذي‬
‫يريده عقله ‪ .‬إن العقل مسلوب الرادة مسلوب الحرية ‪ ،‬إنه آلة منفــذةٌ وحســب ‪،‬‬
‫وهو المر الذي أغفلته فلســفة النســان ‪ .‬وليــس بمقــدور المــرء افــتراض عقــل‬
‫ل مجــرٍد ‪ ،‬فكـل عقــل إنمـا هـو فـي‬ ‫ة ‪ ،‬ببساطة لنه ل وجود لعقـ ٍ‬ ‫يعمل بحرية تام ٍ‬
‫‪((1‬‬
‫! ‪ .‬ولذلك فإن أّية نظريــة‬ ‫جسم ونفس وتملكه ذات ‪ ،‬فليبك إذن عمانوئيل كنت‬
‫دث فيهــا الــذات‬ ‫للمعرفة تقوم على ملحظة العقل وقدراته إنما هي نظريــة تتح ـ ّ‬
‫دث عن عقلها فضل ً عن عقول الخرين أو ذواتهــم ‪ .‬صــحيح أن‬ ‫عن نفسها ول تتح ّ‬
‫مم لمعرفة الشياء على وجهها الصحيح ولكــن مــن أيــن يــأتي اليقيــن‬ ‫العقل مص ّ‬
‫ة قد أعطت عقلهــا ) حريــة ( فــي أن يقــوم بحســاب الشــياء‬ ‫ً‬
‫للذوات أن ذاتا معين ً‬
‫ً‬
‫ع ذلك أبدا أي واحد مــن‬ ‫ل منها ؟ ‪ .‬لم يدّ ِ‬ ‫وملحظتها وفق نظامه الساسي بل تدخ ٍ‬
‫ً‬
‫الرسل ولكنه يفعل ما هو عكس ذلك تماما ‪ :‬إنه يطلب من كل ذات سامعة لكلمه‬
‫أن تعطي حرية لعقلها ليتمكن من الحكم في صدق رسالته أو كذبها ‪ .‬إن الفــارق‬
‫بين الفيلسوف والرسول هو كالفارق بيــن العــدم والوجــود ‪ .‬فالفيلســوف يقـول‬
‫للناس انظروا ) ذاتـي ( والرسـول يقـول ) انظـروا ذواتكــم (‪ .‬الفيلسـوف يقـول‬
‫) موتوا كي أحيا ( والرسول يقول ) أموت لتحيوا ( ‪ .‬الرسول يعطي لعقلــه حريــة‬
‫دعيه لنــه ل يمكنــه‬ ‫لتعقل الشياء ويجعله عقل ً مجردا ً ولكنه ل يعلن عن ذلك ول ي ّ‬
‫أن يبرهن على ذلك إل ّ من خلل تحرر عقول الخرين ‪ .‬فتحرر عقول الخرين هو‬
‫برهانه الوحيد ‪ ،‬بينما يكون تقييد عقول الخرين هو البرهان الوحيد للفيلســوف ‪.‬‬
‫ي عالم ٍ هذا الــذي ل ي ُــرى ول ُيحــس ول‬ ‫إن الفيلسوف مستعب ِدٌ والرسول محّرٌر ‪ .‬أ ّ‬
‫قله إل ّ بعقل النسان ؟ ‪ .‬فانظر إلى تخّبطهم ‪ :‬العالم موجود ‪ ،‬بل العالم‬ ‫يمكن تع ّ‬
‫غير موجود إل ّ في ذاتي وشعوري بل العالم حقيقــة وهــو بنظــام صــارم ونظــامه‬
‫بديهية ‪ ،‬العالم إرادة ‪ ،‬العالم صورة أولى للعّلية ‪ ،‬العالم علة كافيــة ‪ ،‬العــالم فــي‬
‫)‪(1‬‬
‫كنت‪/‬من أشهر الفلسفة اللمان له كتاب ) نقد العقل الخالص ( و ) نقد العقل العملي ( ‪.‬‬
‫النيلي ‪53-----------------------------------------‬‬
‫وراتنا ‪ .‬العالم هو إرادة الحياة والحياة شّر‬ ‫الخارج وهم ‪ ،‬العالم هو مجموعة تص ّ‬
‫محض ‪ .‬ليست هذه تعريفات للعاَلم عند فلسفة كثيرين بل هــي تعريفــات العــالم‬
‫ل‬ ‫ل حافــ ٌ‬‫فــي فلســفة ذاتيــة واحــدة لواحــد منهــم ‪ . ((1‬ولكــل واحــد منهــم ســج ّ‬
‫ذبت دراســة الطبيعــة‬ ‫بالتعريفات المختلفة والمخالفة والمتناقضة للعالم ‪ .‬لقد ه ـ ّ‬
‫من خلل التجربة نفوس علماء الطبيعة بما لم يستطع التأمــل العقلــي وحــده أن‬
‫ول من يخدع نفسه‬ ‫يفعله في نفوس الفلسفة ‪ .‬فالخدعة مستمرة والفيلسوف أ ّ‬
‫وهو ل يثبت على شيء من قوله إل ّ ذلك الشــيء الــذي بــدأ منــه وأراده أن يكــون‬
‫محورا ً لفلسفته ‪ ،‬وبعد ذلك يلوي اللغة لي ّا ً ويطوي المسافات طّيــا ً ويــأتي بجميــع‬
‫ي علــى المــر الــذي أراده أن يكــون محــورا ً‬ ‫و تعســف ّ‬‫الشياء ليبرهن بها علــى نحـ ٍ‬
‫لفلسفته ‪ .‬ول يهمه أن يــأتي بألفـاظ جديــدة واصــطلحات مختلفــة يختلقهــا مـن‬
‫وهمه وُيضفي عليها وجودا ً معينا ً لتكون سّلما للوصول إلى هدفه ‪ .‬فهدفه سـراب‬
‫وطريقه وهـم وعملـه مخادعـة ‪ .‬ولـو أنـي كنـت مـن بنـي النسـان لمـا اشـتغلت‬
‫بالفلسفة مطلقا ً إذ كيف أفقد جزءا ً من حياتي القصيرة كان مخصصـا ً لمتعــتي أو‬
‫ر تأخــذني وتعيــدني إلـى‬ ‫لفهم ما حولي من الموجودات فإذا أنا أفقــده فـي أفكــا ٍ‬
‫موضعي كل مّرة لمجــرد أن أحــدهم يعجبــه أن ننظــر إليــه بعيوننــا المفتوحــة مــن‬
‫الدهشة ؟ ‪ .‬لكني لحسن حظي لم أفعل ذلك إل ّ وأنا من الجــن حيــث العمــر مديــد‬
‫والبصر حديد والشباب دائم ! وكــل مــا أريــد قــوله ســيدي الرئيـــس هــو أن عقــل‬
‫النسان ليس خصمنا لنخشاه ‪ ،‬ومع ذلك فهو لم ينتبــه إلــى شــيء ســوى عقلــه ‪.‬‬
‫دد بعد قدراته‬ ‫ح لعقله ولم يح ّ‬ ‫ف واض ٍ‬ ‫وفوق هذا فهو ل يقدر للن على إعطاء تعري ٍ‬
‫كر بعد فــي عللــه وأعطــاله واشــتباهاته ‪ ،‬فــأّنى لــه أن يغلبنــا أو‬ ‫وإمكاناته ولم يف ّ‬
‫النتصار لنفسه مّنا ؟ ؟‬
‫ت بكل شر ووفقت لجميع الشرور ‪.‬‬ ‫شر َ‬ ‫الرئيـس ‪ :‬ب ُ ّ‬
‫) يدخل في هذا الوقت المارد جليوتا (‬
‫خرت يا جليوتا كثيرا ً ‪ ،‬أكثر مــن الــوقت اللزم لتنفيــذ مــا أمرتــك‬ ‫الرئيـس ‪ :‬لقد تأ ّ‬
‫به ‪ .‬أين كنت ؟ ‪.‬‬
‫جليوتا ‪ :‬هذا صحيح سيدي ‪ .‬أنت تعلم أني تعّلمــت لغــات بعــض الكائنــات كــالطيور‬
‫والنمل والحشرات والنحل وذلك هو سبب تأخيري ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬ماذا تعني ؟‬
‫ع مـن الحشـرات مـن‬ ‫جليوتا ‪ :‬وجدت حشـرة مـن ذوات المنطـق تخطـب فـي جمـ ٍ‬
‫دثت عــن‬ ‫دثت عن النسان وتح ّ‬ ‫جنسها فاستوقفني ذلك حتى أنهت كلمها لنها تح ّ‬
‫طباعه المشينة ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬فاعجل بشر ‪.‬‬
‫ّ‬
‫جليوتا ‪ :‬لم أحفظ ولم أسمع ما سبق من حديثها أل من قولهــا ‪ :‬أمــا النســان يــا‬
‫أخواتي فالحذر الحذر ‪ .‬لنــي إذا أوضــحت لكــم مخــاطر مــا جــرى علــى بــالي مــن‬
‫الكائنات فإن خطر هذا المخلوق هو أكبر مــن مجمــوع مخاطرهــا ‪ .‬ول يمكنكــم أن‬
‫تتوخوا الحذر منه ما لم تعلمــوا طبــائعه وخصائصــه أســوة بمــا أوضــحته لكــم مــن‬
‫) طبائع الحيوان ( ‪ .‬فهو بخلف باقي الحيوانات في هذا المر ‪ ،‬فليس فيه خصلة‬
‫أحسن ما تكون وأخرى سيئة أسوأ ما تكون ‪ ،‬على غــرار مــا أوضــحت لكــم لبــاقي‬
‫سن وأسوأها إذا ســاء _ هكــذا كلــه‬ ‫أصناف الحيوان ‪ .‬فهو أحسن المخلوقات إذا ح ُ‬
‫قـع أن يمـّر بمســاكنكم منـه فـرد حســن ‪ ،‬لن الحسـن‬ ‫ة واحدةً ‪ .‬ولنـي ل أتو ّ‬ ‫دفع ً‬
‫فيهم كنسبتكم إلى الجبل فإني أذكر لكم طبائعه ‪ .‬فأسوأ خصال السوء فيه هو )‬
‫الكــذب ( ‪ .‬فعجبــت الحشــرات وقلــن لهــا ‪ :‬مــا تقــولين ؟ ! إن هــذه صــفة حســنة‬
‫وليست سيئة ! فقالت ‪ :‬نعم لني ل أعرف إل ّ هذه المفــردة ولكنهــا ليســت بهــذا‬
‫)‪(1‬‬
‫التعريفات من فلسفة شوبنهاور ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪54‬‬
‫ن مــرة حشــرة تخــبر صــاحباتها‬ ‫المعنى الذي تفعله معاشر الحشرات ‪ .‬هل رأيتـ ّ‬
‫عن شيء من الطعام أو العدو فإذا ذهبن إلى هناك لم يجدن طعام ـا ً ولــم يلقيــن‬
‫العدو ؟ ‪ .‬فقالت الحشرات ‪ :‬كل وأّنى يكون هــذا ؟ ‪ .‬فقــالت ‪ :‬فالنســان هــذا هــو‬
‫طبعه ‪ ،‬يستعمل الكذب أكثر ما يكون مع أبناء جنسه ل مع عدوه من بقية الكائنات‬
‫ة صاخبة فواحدة تقول وكيف ل يفنى جنس هذا الكائن العجيب ‪،‬‬ ‫‪ .‬فأخذتهن ولول ٌ‬
‫وأخرى تقول ل بدّ أنه سيهلك نفسه ‪ ،‬وأخرى تقــول هــذا اغــرب مــا ســمعته عــن‬
‫عجائب المخلوقات ‪ ،‬ورابع من الذكور يقول ‪ :‬أل يتوقع الفاعل أن يفعل به الخر‬
‫مثل فعله ؟ ‪ .‬فقالت الخطيبة ‪ :‬فإني أحــدثكم بمــا هــو أعجــب فــإذا لــم يجــد هــذا‬
‫الكائن أحدا ً يكذب عليه استعاض عن ذلــك بــأن يكــذب علــى نفســه ! ‪ .‬فعل صــياح‬
‫الحشرات وقلن للخطيبــة ‪ :‬هــذا يكفــي فإننــا ل نريــد منــك الن إل ّ أن تفعلــي مــا‬
‫تقدري عليه لتجدي لنا أرضا ً ل يمر بها هذا الكائن أبدا ً حتى نرتاح مــن ذكــره قبــل‬
‫دثتكن عنــه ‪ .‬فقــال‬ ‫رؤيته ‪ .‬فقالت ‪ :‬على رسلكن ! فلو كان إلى ذلك سبيل لما ح ّ‬
‫م تعجبون فإن من يفعل الولى يفعل الثانيــة ‪ .‬مــن خــدع جنســه خــدع‬ ‫الذكر ‪ :‬وم ّ‬
‫نفسه ‪ .‬ثم إن الخطيبة قالت ‪ :‬وأما الطبع الذي خرج من هذه الصفة فهــو الفخــر‬
‫واحتقار بقية الكائنات ‪ .‬فقــالت الحشــرات ‪ :‬وكيــف ذلــك ؟ ‪ .‬فقــالت ‪ :‬يزعــم أنــه‬
‫يدرس طبائع الحيوان ونســي أن يــدرس طبــائع نفســه ‪ ،‬فلمـا ّ أراد التمييــز بينهــا‬
‫وبينه عّرف نفسه تعريفا ً فيه هذه الصفة فقال ‪ ) :‬أنــا حيــوان … عاقـل (‪ .((1‬وقـد‬
‫كذب في ذلك لنكم ترون بأننا وإخواننا من النحل والنمل وجميع المم المجــاورة‬
‫مــن الحشــرات عقلء أيضـا ً ‪ .‬وذلــك أنــه أراد أن يعـّرف العقــل فقــال ‪ :‬هــو وضــع‬
‫الشياء في مواضعها ‪ ،‬فهل رآنا مجــانين نرمــي بطعامنــا فــي الشــقوق بحيــث ل‬
‫نصل إليه أو نرمي بأنفســنا إلــى مهــاوي التهلكــة ؟ ‪ .‬ثــم أنــه عّرفــه فقــال ‪ :‬هــو‬
‫الذاكرة ‪ ،‬فهل رآنا نضع الحاجة ول نعود إليهــا ونخــرج مــن جحورنــا ونــدخل جحــر‬
‫ب أم أننا نرجع إلى موضعنا ونذكر أبنائنا ومواضــع طعامنــا ؟ ‪ .‬إنمــا غ ـّره منــا‬ ‫الض ّ‬
‫صغر حجومنا فظن أنه وحده الذي يمتلك ذاكرة في عقله ‪ .‬وإنمــا لكــل كــائن منــا‬
‫الذاكرة التي يحتاجها والتي تناسب حركته وعمره وغاياته ‪ .‬أتذكرن حينمــا درســنا‬
‫لغة النحل في خفــق أجنحتــه ولغــة النمــل المؤلفــة مــن أوضــاع أرجلــه ؟ وحينمــا‬
‫مة مــن الكائنــات ليــس لهــا شــيء‬ ‫سألني أحد التلميذ قائل ً ‪ :‬هل تعلمين سيدتي أ ّ‬
‫من اللغات فقلت له ‪ :‬ل أعلم ذلك ولكني أعلم أن صنفا ً من الكائنات عّرف نفسه‬
‫لنفسه فقال ‪ :‬أنا كائن اختلف عن الكائنــات فــي كــوني أمتلــك لغــة فأنــا الوحيــد‬
‫) الحيوان الناطق فيها ( ؟ !فقال بعضكم ‪ :‬مـا أشـدّ جهلــه ! فقــالت الحشــرات ‪:‬‬
‫نعم نذكر ذلـك ‪ .‬فقـالت ‪ :‬فـذلك القـائل هـو النسـان ‪ ،‬وذلـك هـو تعريفـه الخـر‬
‫لنفسه ) حيوان ناطق ( ‪ .‬وقد حفظ أفراد هــذا الجنــس هــاتين المقولــتين اللــتين‬
‫دوهما من أروع ما قاله هذا الجنس بشأن نفسه ‪ .‬فقال أحــد‬ ‫ذكرهما الذكياء ‪ ،‬وع ّ‬
‫الذكور ‪ :‬ربما يقصد بقوله ) أنا حيوان ناطق ( أن لغته هــي أصــوات ل أنــه منفــرد‬
‫ض مــن إخواننــا مــن أمــم‬ ‫ً‬
‫باللغة ‪ .‬فقالت الستاذة ‪ :‬وفي هذا يكذب أيضـا لن لبعـ ٍ‬
‫ة من الصوات ‪ ،‬ونحن معاشر الحشرات لبعضنا لغة منها أيضا ً ‪ ،‬فليست‬ ‫الطيور لغ ٌ‬
‫لغة الصوات حكرا عليه ‪ .‬ثم إن الستاذة عمدت بعد ذلك إلى تلوة أشــياء زعمــت‬ ‫ً‬
‫وذهم بها من شرور النسان وجهله ولم أفهــم منهــا شــيئا ً‬ ‫أنها من كتاب ربها لتع ّ‬
‫لنها كانت بلغة قديمة من لغات الحشرات ‪ .‬فذلك ســيدي هــو عــذري فــي التــأخر‬
‫عن المجيء إلى هذا الوقت ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬قد عذرتك في ذلك ‪ ،‬وأما أنا فسأقتص من النسان حينما أس ـّلط علــى‬
‫جسده إذا مات هذه الحشرات وغيرها من الديدان ‪ ،‬فــأفرق مــادته الوجوديــة فــي‬
‫)‪(1‬‬
‫من بعده ول زالت مستعملة ‪.‬‬
‫التعاريف لرسطو و َ‬
‫النيلي ‪55-----------------------------------------‬‬
‫صـل فـي عـدمّيتي ‪ .‬وأمـا فـي حيــاته فـإني‬ ‫ضرها للفناء المتأ ّ‬ ‫أجسادها كّيما أح ّ‬
‫ســها بيــده ول يعلــم إن‬ ‫أسّلط عليه قوى الفناء الدقيقة التي ل يراها بعينه ول يح ّ‬
‫كانت هي أحياء أم جماد فهي خارج بـدنه جامـدة ‪ ،‬وداخــل بـدنه حي ّــة تتكــاثر مثــل‬
‫يأجوج ومأجوج فتهــاجم جســده وتســكن أعضــاءه وتحطمــه شــيئا ً فشــيئا ً ‪ ،‬وكلمــا‬
‫ل‬ ‫أعطيته فرصة لمعالجة نوع منها ابتكــرت لــه لون ـا ً آخــر … فلــن أتــرك هــذا العت ـ ّ‬
‫ة للموجــودات وعــبرة للكائنــات‬ ‫الزنيم المستكبر حتى ُأذّله وأهينــه وأجعلــه أحدوث ـ ً‬
‫حتى ُيقّر بعبوديته طائعا ً أو كارها ً ‪ ،‬ولن ينقذه شيء من قوتي العدمية إل ّ الفــرار‬
‫إلى العبودية ‪ .‬أيها المشرقي ماذا يقول فلسفة ) الســلم ( عــن فعــالي بهــم ؟‬
‫بل تكلم أنت يا مغربي !‬
‫المغربي ‪ :‬سيدي الرئيـس ‪ .‬أنت تســألني عــن شــيء تكلــم فيـه فلســفة اليونــان‬
‫والهنود والصين وأهـل الديـان ومتكلمـو السـلم وفلسـفتهم وفلسـفة الغـرب‬
‫وجميع الناس ‪ .‬وهذا الشيء يتعّرض للمــادة والجــوهر والعــرض والصــور والعقــل‬
‫ما تنوء به العي َُر حــال النفيــر ‪ ،‬إذا‬ ‫والمعاد والجسام وعذابها والرواح والنفوس م ّ‬
‫راجعته لك قول ً قول ً وكتابا ً كتابا ً بأجمعه فبماذا تأمر ؟ ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬فاخبرني كيف يتصورون أنفسهم بعد الموت ؟‬
‫المغربي ‪ :‬سيدي الرئيـس إن عملنا اليحائي عمل مستمر ‪ ،‬وما دمنا مع النســان‬
‫مِئن ‪ ،‬فنحــن نعمــل دوم ـا ً‬ ‫فلن يصل إلى ما يمكنه أن يسميه ) حقيقــة ( وهــو مط َ‬
‫ة فكــرة يرغــب فيهــا فنحــن ل‬ ‫وفق مبدأ ) التعويض ( ‪ ،‬إننا نعوض النسان في أي ـ ِ‬
‫نرفض له فكرة معينــة ‪ ،‬ولمـا كــانت كــل فكـرة _ تنبثــق مـن نفســه ويضــعها مـن‬
‫تلقاءها _ تسّبب له خسارة جسيمة يلحظها بوضوح ‪ ،‬فإننا نوحي له بأشياء تجعله‬
‫وض هذه الخسارة فيندفع بشراهة لثبات فكرتــه بشــتى الســبل ويــدعو النــاس‬ ‫يع ّ‬
‫ل لهم ألغاز هذا العالم ‪ .‬وبالطبع تعمل‬ ‫إلى اعتناقها واحتضانها لنها هي التي تح ّ‬
‫عــال ‪ .‬نحــن نلحــظ مــن هــو المتكلــم وظروفــه وقــدراته‬ ‫) الذاتية ( هنا عملها الف ّ‬
‫وزمانه وما يؤّثر عليه ‪ .‬فليس ابن سينا فــي التعامــل مثــل ابــن رشــد ول الكنــدي‬
‫مثل كنت ول زمن أفلطون كزمن ديكارت ‪ .‬والنسان في حيرة ل يدري أين يضع‬
‫نفسه في هذا العالم ‪ .‬فإذا كان يرغب في الصعود ليكون فــي مصــاف اللهــة فل‬
‫ل آخــر‬ ‫بدّ له إذن من أن يقرر أن الروح خالد وأنه سابق على البدن وليس لديه حــ ّ‬
‫ما دام هناك موت ‪ ،‬ذلــك لنــه يعــاني مـن مشــكلة المــوت ‪ .‬وإذا كــان ل يصــعد إل ّ‬
‫ل فــي‬ ‫ل لبقية الرواح المســكينة ‪ .‬والحــل هــو أنهــا ســتظ ّ‬ ‫الفلسفة فل بدّ من ح ّ‬
‫الرض ولكنها خالدة ‪ .‬وقــد تــوّرط فــي هــذا القــول فل بــد مــن حــل ‪ .‬وهــل هــذه‬
‫مشكلة ؟! فليقل للناس أن أرواح هــؤلء تــدخل فــي أجســام جديــدة علــى الرض‬
‫وهكذا تستمر فـي العثـور علـى مسـكن دائم لهـا فـي الجسـاد مـا دامـت الحيـاة‬
‫مستمرة ‪ ،‬فهذا القــول هــو بــالمّرة تفســير لســتمرارها ‪ .‬وهــل تتركهــا هكــذا يــا‬
‫ل لنواعها يا أفلوطين ‪ ،‬تكلــم يــا ســقراط فــإن بعضــها‬ ‫فيثاغورس ؟ اعثر على ح ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مارس الفجور وبعضــها كــان شخصـا طيبـا غايــة الطيبــة ولكنــه للســف لــم يكــن‬
‫فيلسوفا ً ‪ ،‬فهل يذهب الجميع إلى أجسام متشابهة ؟ وهل هــذا معقــول ؟ فقــال‬
‫ســقراط ‪ :‬معــك حــق فعل ً إذ ل يمكــن أن يرجــع الجميــع إلــى نفــس الجســام ‪:‬‬
‫ه تدخل نفوسهم بالطبع فــي صــورة الحميــر أو مــا‬ ‫) فالذين مارسوا الفجور بشر ٍ‬
‫شابه من حيوانات ‪ .‬أما الطغاة والظلمة فإنهم يعــودون فــي صــورة ذئاب وصــقر‬
‫داء وما شابه … أما الذين مارسوا الفضيلة الجتماعية والمدنية باعتدال وعدل‬ ‫وح ّ‬
‫بعمل خال من الفلسفة ‪ ،‬قل لي بأي معنى يكون أولئك أكثر سعادة ؟ طبيعي أن‬
‫عودتهم تكون بطريقة ملئمة نحو نوع حيــواني اجتمــاعي فتــدخل نفوســهم فــي‬
‫النحل والزنابير والنمل (‪.((1‬‬
‫)‪(1‬‬
‫طيماؤس ‪ 453 /‬آ ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪56‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬جليوتا…! ل أظن أن الحشرات التي كنت في ضيافتها اليــوم توافــق‬
‫على مقترح سقراط !‬
‫) تهب عاصفة من الضحك من جهة الشياطين في حين يواصل المغربي حديثه (‬
‫المغربــي ‪ :‬أمــا افلــوطين فقــال ‪ ) :‬إن أولئك الــذين عاشــوا حيــاتهم للمطــالب‬
‫سيمسخون إلى حيوانــات تناســب فــي جنســها لنــوع الحيــاة الــتي عاشــوا فيهــا ‪،‬‬
‫حيوانــات شرســة حيــث كــانت الحيــاة مزيج ـا ً مــن الســتجابة لمطــالبهم الحســية‬
‫والروحية وحيوانات شرهة حيث كانت الحياة حياة شهوات وتخمة (‪ .((2‬أما أرسطو‬
‫فاستهوته التجزئة ولم يجرؤ على تأكيد هــذه المسـخرة فقـال ‪ ) :‬إن جــزءا ً معينـا ً‬
‫غــرس فــي النفــس ومــن ثــم‬ ‫من النفس ‪ ،‬النفس الفاعلة هي عنصر قائم بــذاته ُ‬
‫‪((3‬‬
‫فهي خالدة ‪ ) .‬والنفس الفاعلة هي عقــل بالفعــل ( … ( ‪ .‬وإذن فــإن جــزء مــن‬
‫النفس أو ) أجزاء معينة منها ل تنفصل عن الجسد ‪ ،‬أما العقل فهــو عنصــر قــائم‬
‫غرس في النفس وأنه غير قابل للفناء (‪.((4‬‬ ‫بذاته ُ‬
‫الرئيـس ‪ :‬أليس جعل العقل جزءا ً من النفس وتقسيم النفس إلــى جزئيــن واحــد‬
‫يفنى والخر ل يفنى هو مسخرة أيضا ً ؟‬
‫المغربــي ‪ :‬إنهــا مســخرة لكنهــا أهــون ‪ .‬فالعقــل والنفــس كلهمــا مــن غيــر‬
‫المحسوسات ‪ .‬صحيح أن العقل والنفس قد أصبحا شيئا ً واحدا ً ‪ ،‬وهو بهذا يخــالف‬
‫منطقه الســابق كلــه فــي التمييــز بينهمــا ويخــالف مــا ذكــره مــن أنــه يميــل إلــى‬
‫الفلطونية في كون النفوس موجودة قبل البدان والعقول مــع البــدان ‪ ،‬ولكــن‬
‫من من الفلسفة كــان كلمــه فــي الصــفحة اللحقــة موافقـا ً لجميــع كلمــه فــي‬ ‫َ‬
‫الصفحة السابقة ؟ !!‪ .‬وأما الذين أرادوا لللوهيــة أن تنــزل إليهــم وجعلوهــا هــي‬
‫ض وإن استعملوا لغــة الصــطلحات‬ ‫وُرهم ) مادي ( مح ٌ‬ ‫والوجود شيئا ً واحدا ً ‪ ،‬فتص ّ‬
‫الروحية ‪ .‬ولذلك فل وجود آخر وراء هذا الوجود ‪ .‬ومن هنا أصبح ) إحياء المــوتى (‬
‫_ والذي جعلناه في الديان كما أسلفنا ل يعني سوى إحياءها في عــالم آخــر غيــر‬
‫ذرا ً فــي فلســفتهم ‪ .‬ولــذا كــان علــى الفلســفة‬ ‫هــذا العــالم _ أصــبح أمــرا ً متع ـ ّ‬
‫المســلمين أن يجــدوا حل ّ ) للمعــاد الجســماني ( ‪ .‬ولــن تكــون هــذه مشــكلة لننــا‬
‫سنوحي إليهم بالقول ‪ :‬إذا كانت هناك مشكلة لوجود القرآن والكتــب المنزلــة ول‬
‫مّلة‬‫تريدون ) الخروج من الملة ( أو إنكم ل تقدرون على التصريح بأن أكثر أهل ال ِ‬
‫مّلـة ( مـن هـذه الناحيـة لوجـود تناقضـات كـثيرة فهـاجموا بنفـس‬ ‫) ليسوا مـن ال ِ‬
‫ً‬
‫الطريقة ‪ .‬تقاسموا الشياء بينكم ولتكن متناقضة أيضا ‪ ،‬فإن روح الفلســفة فــي‬
‫تناقضــها ‪ .‬وهكــذا فقــد أنكــر ابــن ســينا المعــاد الجســماني بعــد المــوت وجعلنــاه‬
‫يستعمل الظواهر التي تدل على المعاد كأدّلة على استحالة المعاد !‬
‫الرئيـس ‪ :‬أليس هذا غريبا ؟ كيف قدرتم على ذلك ؟ ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬وما العجب سيدي ؟ ألم نّتفق وُنخِبر أن النسان هو كائن ) جهــول ( ؟‬
‫والجهول ليس كالجاهل إذ الجاهل يحتمل منه العلم مستقبل ً ‪ ،‬أمــا الجهــول فهــو‬
‫ب الجهل ( _ الجهول صفة ملزمة للجاهل أي إن جهله هو علمه وعلمــه‬ ‫كائن ) يح ّ‬
‫هو جهله ‪ .‬أولم يقل حكيم سابق ‪ … ) :‬ورجل ل يعلم ول يعلــم أنــه ل يعلــم فهــو‬
‫؟‪ .‬فالجهول ســيدي هــو رجــل إتصــف بهــذه الصــفة‬ ‫شّر ( ‪ ،‬ونحن نبحث عن الشّر ‍‬
‫عدّ جهالته علما ً فل ينفع معه علم حقيقي ليكشف له عن جهله _ لن مــن‬ ‫وأصبح ي ِ‬
‫دد في علمه ومن طبيعة الجاهــل اليقيــن بجهلــه ‪ .‬وإذا‬ ‫ك والتر ّ‬ ‫طبيعة المتعلم الش ّ‬
‫در جهــالتهم ‪ .‬ومــن صــفة‬ ‫ظمون من هذا حاُله في الجهل فــأنت تقـ ّ‬ ‫كان الناس يع ّ‬
‫الجاهل النتباه ولو بعد حين ‪ .‬أما الجهول فإنه ينطق الجملة تلو الجملة وإحداهما‬

‫)‪ (2‬الفلسفة في السلم ‪. 228 /‬‬


‫)‪ (3‬النفس ‪ /‬أرسطو ‪ 415 / 4_2 /‬ب ‪.‬‬
‫)‪(4‬‬
‫تاريخ الفلسفة الغربية ‪ /‬برتراند رسل ‪. 274 /‬‬
‫النيلي ‪57-----------------------------------------‬‬
‫كرته بذلك فلن يق ـّر ولــن يــتراجع‬ ‫تناقض الخرى فل ينتبه ‪ .‬وإذا افترضنا أنك ذ ّ‬
‫ت أقواله ‪ .‬لقد أثبت ابن سينا وجود ) النا ( أو الذات من‬ ‫قه تناقضا ُ‬ ‫طعت عن َ‬ ‫ولو ق ّ‬
‫خلل ) ثباتها ( مع اختلف المادة ‪ .‬حيث قال ‪ :‬فأنت حيــن تقــول ) أنــا ( وعمــرك‬
‫خمس سنين ووزنك أرطال قليلة وحينما تقــول ) أنــا ( ووزنــك أكــبر أربــع م ـّرات‬
‫وعمرك خمسين سنة لم تؤّثر زيــادة الـوزن علــى نظــرك إلــى نفســك ! كــذلك إذا‬
‫ص في ذاتك ونظرك‬ ‫ً‬
‫امتنعت عن الطعام نقص وزنك كثيرا وما تشعر عند ذلك بنق ٍ‬
‫إلى نفسك ول يقول الناس أن هذا الكائن هو غيرك ‪ .‬فتلك هي نفســك فــالنفس‬
‫ل عن المادة ‪ .‬ثم خطى خطوات أخرى لثبات أنها ) النفس‬ ‫ت منفص ٍ‬ ‫ق ثاب ٍ‬‫جوهر با ٍ‬
‫( جوهر روحاني ل يعتريه فســاد ول فنــاء ‪ ،‬كمــا برهــن أنهــا الشــيء الوحيــد غيــر‬
‫المشكوك فيه ‪ .‬وهو كما ترى أمٌر واحـدٌ مــن أفلطــون إلــى ســارتر وإن اختلفــت‬
‫اللفاظ والطرائق للوصول إليه ‪ .‬ولكنه حينما أراد إبطال المعــاد الجســماني ذكــر‬
‫أن هــذا المــر مســتحيل عقل ً وغيــر ممكــن ) فلســفيا ً ( _ لننــا ل نعلــم أيــة مــادة‬
‫سترجع فيها النفــس ؟؟ ‪ .‬وقـد نسـي أو تناسـى أنــه جعـل النفــس مســتقلة عـن‬
‫المادة ‪ ،‬وأن المادة تتغّير ول تؤّثر فيها ‍!فقال إن المادة الترابيــة علــى الرض إذا‬
‫ما أن تعود إلـى المـادة الــتي فارقتهـا أو إلــى‬ ‫اشترك فيها شخصان أو أكثر ‪ 0) :‬إ ّ‬
‫مادة أخرى ‪ ،‬وقيــل مــن حكايــة مــذهب المخــاطبين بهــذه الفصــول ‪ :‬إنهــم يــرون‬
‫ذ احتمــالن ‪ :‬أمــا أن تكــون هــي المــادة الــتي‬ ‫عودتها إلى تلك المادة بعينها وعندئ ٍ‬
‫‪((1‬‬
‫فارقتها عند الموت أو جميع المادة التي قرنته جميـع أيـام العمـر ( ‪ .‬ثـم يبطـل‬
‫ابن سينا هذين الحتمالين ‪ :‬أما الول ‪ :‬فلن بعض الموتى يموتون ناقصــي بعــض‬
‫العضاء فليس من العدل بعثهم على هذه الحال ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬أكثر ما يعجبنـي فيكـم أنكـم تجعلـونهم يـتركون الموضـوع ويتجـاهلون‬
‫الحتمالت الخرى ويجعلون ما ) قيل ( _ وربمــا هــو مــن مقــولكم أيضـا ً _أساسـا ً‬
‫للمناقشة ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬ولماذا أصــبحنا شــياطين إذن إذا لــم نفعــل أمثــال ذلــك ؟ ‪ .‬أمــا المــر‬
‫الثاني ‪ ) :‬فإن الجزاء العضوية يغتذي بعضها ببعض وينتقل بعضها إلى بعض في‬
‫الغتذاء (‪.((2‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬ماذا يقصد ؟ ‪.‬‬
‫دى مــن المعــدة والقلــب يتغــذى‬ ‫المغربي ‪ :‬هكذا هو عنده كطبيب أيضا ً ‪ :‬الكبد يتغـ ّ‬
‫من الرئتين ‪ ،‬وكل عضو يدفع من غذائه الزائد إلى العضــو المحتــاج !! ‪ .‬وإذا كــان‬
‫المر كذلك فإن مادة العضو الواحد هي مادة بقية العضاء أيضا ً فــوجب أن يبعــث‬
‫الميت ) جسدا ً واحدا ً بعينه يــدا ً ورأس ـا ً وكبــدا ً وقلب ـا ً وذلــك ل يصــح (‪ .((3‬وبــالتعبير‬
‫المعاصر يبعث كتلة من اللحم والعظم غير واضحة المعالم ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬ألم يقل هو أن بدن المرء يتغّير طــوال حيــاته مــرات كــثيرة وأن مــادته‬
‫تتبدل ولكن نفسه وذاته ثابتة على حالها ؟ فمــن أيــن جـاءت المشـكلة ؟ إذ يقـال‬
‫مثل أن الحي يأكل من مادة أجساد الحيوانات وموتى النسان فل تتلحم أعضــاءه‬
‫ول تفترق ول يظهر له قلبان أبدا ً !! ‪.‬‬
‫ل غربي فــي حالــة كتلــك ‪ ،‬وحينمــا‬ ‫المغربي ‪ :‬إذا كنت يا سيدي تسألني فهناك مث ٌ‬
‫يكون المرء عــاجزا ً عــن الجابــة ‪ ) :‬الشــيطان يــدري ( !‪ .‬لكــن المثــل هــذه المـّرة‬
‫خاطئ بصفة مطلقة فأنا من أكابر الشياطين ومع ذلك فل أدري ! وكل ما أعلمــه‬

‫)‪(1‬‬
‫رسالة أضحوية في أمر المعاد ‪.‬‬
‫)‪ (2‬المصدر السابق ‪.‬‬
‫)‪ (3‬المصدر السابق ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪58‬‬
‫دق وجعلها رسالة في أمر‬ ‫در فص ّ‬ ‫هو أننا أوحينا له ذلك على سبيل الضحك والتن ّ‬
‫المعاد‪. ((1‬‬
‫المشرقي ‪ :‬لكننا ل نعجز عن تفسير ذلك ‪ .‬إذا كــان المعــاد جســمانيا ً فــإذن يرجــع‬
‫الجميع فلسفة وغير فلسفة ‪ .‬ويريد ابن سينا أن يجعــل الفلســفة وحــدهم هــم‬
‫الخالــدون لتمي ّــز عقــولهم عــن عقــول الخريــن فل ب ـدّ إذن مــن التوصــل لــذلك‬
‫بطريقين ‪ :‬الول إثبات بقاء النفس _ والتي هي فيمــا بعــد ستصــبح عقل ً وتصــبح‬
‫ذة المعقولت هي اللذة المقصودة في الكتب المنزلة ‪ .‬أما الذين عقولهم ليست‬ ‫ل ّ‬
‫فلسفية فل عقولهم ترقى لتحوي الموجودات في عالم الســعادة بعــد المــوت ول‬
‫أبدانهم ترجع إليهم ! ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬يمكنني أن أقول أن أفكار ) برغسون ( و ) سبينوزا ( و ) ديكارت ( و )‬
‫كنــت ( و ) هوســرل ( وقــادة الوجوديــة والنــا وحديــة لــم تكــن إل ّ تطــويرا ً لغويـا ً‬
‫لمضمون ابن سينا والذي هو ليس سوى تطويرا ً لغوي ـا ٍ _ فيــه حيلــة علــى مــا ورد‬
‫فــي الكتــب المنزلــة _ للفلطونيــة ‪ .‬فالعــالم فــي النهايــة ســيكون فــي ذات‬
‫الفيلسوف ‪ ،‬و عند ابن سينا جزئيا ً في الحياة وكليا ً بــالترقي بعــد المــوت ‪ ،‬وعنــد‬
‫هوسرل في الحياة فقط لنه ل يؤمن بوجود أو بقاء الذات بعد الموت ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬ماذا قال ابن سينا ؟‬
‫المغربي ‪ :‬قال ‪) :‬إن النفس الناطقة كمالها الخاص أن تصير عالما ً عقليا ً مرتسما ً‬
‫فيه صورة الكل مبتدأ ً من مبدأ الكل ]لحظ أنه يبتــدئ مــن ألوهيــة الــذات [ســالكا ً‬
‫إلى الجواهر الشريفة فالروحانية المطلقــة ثـم الروحانيــة المتعلقـة بالبــدان ثـم‬
‫الجسام العلوية بهيآتها وقواها ثم تستمر كذلك حتى تستوفي في أنفســها هيئة‬
‫الوجود كله فتنقلب عالما ً معقـول ً موازيـا ٍ للعـالم الموجـود كلــه مشـاهدا ً لمـا هــو‬
‫الحسن الطلق والخير المطلق ومّتحدا ً به ومنتقشا ً بمثاله وهيأته (‪ . ((2‬وبهذا تكون‬
‫نجاة النسان ولن ينجو حتى يكون فيلسوفا ً !! ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬وهذا هو عين ما يريد هوسرل إثباته ) بالنا وحدية ( حينما يبدأ بتمّثل‬
‫الصور ثم الماهيات والتي أفنى عمره لجلها ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬هذا صحيح فالذي ل يفّر إلى الله عبدا ً يفّر منه ) إلها ً ( لنفسه ‪ .‬وليــس‬
‫ثمة من يقف فــي الوســط إل ّ المصــابين بعاهــات جســيمة تمنعهــم مــن التفك ّــر ‪،‬‬
‫وسوف ُتعطى لهؤلء الفرصة الكافية ليختاروا ما يريدون ‪ .‬وهذا المر هو الوحيــد‬
‫المنطقي ‪ .‬إن الهارب من شخص ل ينوي بالطبع إل ّ المجابهة والنتقام ولــو بعــد‬
‫حين ‪ .‬الفارق أن الهاربين من الله إلى أنفســهم لهــم فرصــة فــي أن يفعلــوا مــا‬
‫يشاءون في وقت فرارهم وبضمنها أن يتفلسفوا ‪.‬ثم قل لــي يــا ابــن ســينا أيــن‬
‫تذهب هذه المليين من الخلق من غير الفلسفة ؟‬
‫المغربي ‪ :‬يقول ابن سينا أن مادة الرض ل تكفي لحشر جميـع المخلـوقين علـى‬
‫صورة المعاد الجسماني ‪ ) :‬لن النفــوس الناطقــة علــى تقــدير قــدم العـالم غيــر‬
‫متناهية فيستدعي حشــرها جميع ـا ً أبــدانا ً غيــر متناهيــة فتحتــاج إلــى أمــاكن غيــر‬
‫متناهية ‪ ،‬ولكن الثابت تناهي أبعاد المكان بالبرهــان (‪ . ((1‬ثــم قــال ‪ ) :‬لكننــا نــبين‬
‫برهانيا ً أنه ل يمكن أن تعود النفوس بعد الموت إلى البدن البتة (‪. ((2‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬ألم ينتبه أحد إلى أن ) تقدير قدم العالم ( هنــا هــو مــن آراء المنكريــن‬
‫وعنده أن العالم حادث فكيف يبني نتائج على فلسفة تعــارض رأيــه فــي الحــدوث‬
‫والقدم ؟‬

‫‪.‬‬ ‫)‪ (1‬المصدر السابق‬


‫‪.‬‬ ‫)‪ (2‬النجاة ‪ /‬ابن سينا ‪291 /‬‬
‫‪.‬‬ ‫)‪ (1‬شرح العضدية ‪606 /‬‬
‫‪.‬‬ ‫)‪ (2‬الرسالة الضحوية ‪89 /‬‬
‫النيلي ‪59-----------------------------------------‬‬
‫المشرقي ‪ :‬العبارة نفسها يثبت فيها محدودية المكان ‪ ،‬وهذا ل يكون إل ّ عندما‬
‫يكون العالم مخلوقا ً غير أزلي ‪ .‬فالمكان المحدود والمادة المحدودة نتج منها خلق‬
‫غير محدود فإذا ُأعيدوا بالبعث الجسماني فالمادة ل تكفي لجميعهم !!! ‪.‬‬
‫ي شيء أعظم من هذا يجعلك مطمئّنا سيدي الرئيـــس ؟ ‪ .‬إن الــذين‬ ‫المغربي ‪ :‬فأ ّ‬
‫ى نلعب بها ل غير ‪.‬‬ ‫دقوا هذا الكلم هم بالنسبة لنا دم ً‬ ‫ص ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬المارد جليوتا ! هــل صــحيح أن الجبـال والصـحاري والهضـاب والوديـان‬
‫والسهول وقاع البحار والمحيطات ل تكفي لحشـر الكائنـات النسـانية علـى هيئة‬
‫أبدان كما كانت قبل موتها حسبما يقول ابن سينا ؟‬
‫حد ( ابن سينا مع ) الكــل ( وٌيصــبح هــو و‬ ‫جليوتا ‪ :‬ل أظّنها مشكلة ‪ ،‬فبعد أن ) يتو ّ‬
‫ً‬
‫) الوجود الكلي ( سواء فسيقترض ) الله ( منه شــيئا مــن مــادة الكــواكب الخــرى‬
‫والمجرات لحشر المخلوقات على الرض !! ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬إذا أراد أحد أن يفهم هل المادة ل تكفــي أم المعــاد الجســماني ممتنــع‬
‫في ذاته فأيهما هو الذي يؤمن به ابن سينا ؟ ‪.‬فثمة فرق بين مــا هــو ممكــن ومــا‬
‫هو ممكن غير مقدور ‪.‬‬
‫جليوتا ‪ :‬كل شيء سيدي كل شيء ‪ .‬إن مبدأ الفلسفة هو ‪ :‬قل أي شــيء يخطــر‬
‫على بالك لعله ينفع !! ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬وهكذا وّلدت المادة المحــدودة علــى الرض أجســادا لنهايــة لعــددها ‪،‬‬
‫ً‬
‫ســر آيــات الكتــب المنزلــة والــتي‬ ‫ويفهم ذلك من عبارة واحدة فقط ‪ ،‬أما كيف ُتف ّ‬
‫صرح بشيء خلف ذلك كله فليس هو من مهمة الفيلسوف ‪ ،‬إنما هو مــن واجــب‬ ‫ت ّ‬
‫جب عليهــم صـرف المعـاني لمطابقــة أفكــار‬ ‫أهل اللغة والنحو والتفسير حيث يتو ّ‬
‫الفيلسوف ‪ .‬ومعلوم أن هذه المهمــة ليســت عســيرة مــع وجــود ) المرادفــات ( و‬
‫) الكنايات ( و ) الستعارات ( وما شابه ‪.‬‬
‫المغربــي ‪ :‬وأمــا إذا كــان المــرء يرغــب فــي إنــزال اللوهيــة إلــى الرض _ وهــي‬
‫المرحلة المتطورة عن الفلطونية والــتي تعهــد برعايتهــا فلســفة ) الســلم ( _‬
‫فإنها تظهر بصــور وأشــكال عديــدة ‪ .‬وتصــبح اللوهيــة فــي هــذه الحالــة مرتبطــة‬
‫ســر وهـي الـتي‬ ‫بالمادة من أسفلها ل مـن أعلهـا ‪ ،‬وُتصـِبح المـادة هــي الـتي تف ّ‬
‫ما كان ل يلحظ من هــذه الفاعليــة إل ّ هــذا التوالــد‬ ‫تتحكم في العادة والبعث ‪ .‬ول ّ‬
‫المستمر للكائنات ‪ ،‬فالنسان هو أشرف هذه الكائنات المتول ّــدة باســتمرار ‪.‬ويع ـّز‬
‫ولهــا إلــى تــراب ‪،‬‬ ‫عليهم ذهاب نفسه هباءا ً بعد المــوت وتفــرق مــادة جســده وتح ّ‬
‫) أخلقي ( يــردع هــذا الكــائن عــن فعــل الشــر‬ ‫ولذلك ل بدّ من شيء‬
‫ويبقيه شريفا ً وأل ّ فليس هناك دار أخرى لهذا الكائن ‪ .‬فليكن لهذا الكائن روح أو‬
‫ي عن خروج روحه من بــدنه ‪ ،‬ثــم ) يقــوم ( بهــا بــدن‬ ‫نفس ‪ .‬والقيامة تعبير مجاز ّ‬
‫ذب فيها ‪ ،‬أبدان منعمة وأخــرى‬ ‫آخر غيره ‪ .‬فهو إما مسرور في هذه البدان أو مع ّ‬
‫معذبة رديئة الطبع ‪ ،‬فالنسان كروح يتنقل في هــذه البــدان فهــي جنتهــم وهــي‬
‫نارهم ‪ .‬وعلى هذا الرأي فرق عديــدة مــن فــرق ) المســلمين ( ‪ .‬وأمــا إذا كــان ل‬
‫ل عليهــا فــي‬ ‫يرغب في بقاء الروح بل ل يرغب في وجودها لنه لــم يــر شــيئا ً يــد ّ‬
‫م ) بالنا ( في هذه الحياة ‪.‬‬ ‫عالم المحسوسات فالتعويض يت ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬لكن اللوهية هنا قاصرة فالنسان يموت وتلك هي الحقيقيــة الوحيــدة‬
‫التي ل يمكن إنكارها ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬في البــدء ) النســان ( كنــوع أبــدي خالــد ‪ ،‬لن العــالم قــديم ومــادام‬
‫النسان قد بقي حيا ً وأنتج حضارته ومدنيته فهو أقوى وأبقـى مــن ) الديناصــور (‬
‫ي لن العــالم أزل ّــي ‪ .‬ولكــن الصــدمة فــي‬ ‫الضخم الغبي ‪ ،‬ولذلك فهو نوع خالد أبد ّ‬
‫) القنبلة النووية ومن بعدها الهيدروجينية والنيوترونية وأسلحة الدمار الشــامل (‬
‫قد قلبت المعادلة ‪ .‬فحينما يهددنا خطر غير معلوم القوة والوقت تظهر ) النانية‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪60‬‬
‫( بأجلى صورها ‪ .‬قد ل يكون للمرء بقاء بالنوع الول فيحاول الســتحواذ علــى‬
‫دى فــي‬ ‫أكبر قدر من الحياة المتبقية مثل ما يفعل هوسرل أو يتشاءم جــدا ً ويتح ـ ّ‬
‫د مثل ما يفعل أي ملك أو طاغية عند اقتراب أجلــه ‪ ،‬لــذلك انفصــلت النــا‬ ‫ن واح ٍ‬
‫آ ٍ‬
‫عن النوع لتشير إلى ذات المتكلم ‪ .‬الموت هــو الشــيء الوحيــد الــذي يرعــب هــذا‬
‫الخلق فيحاول جاهدا ً التخّلص منه ولو بالوهام ‪ .‬وبنفس الطريقة يــرى الفــارابي‬
‫أن الموتى الذين لم ترق عقولهم إلى درجة التفلسف فإن مصيرهم هــو الفنــاء ‪.‬‬
‫قيهــم لدراك الموجــودات وبالتــالي التســامي فوقهــا‬ ‫أما الفلســفة فعقــولهم تر ّ‬
‫سم الخرين ولــم‬ ‫عالة ل تموت إنما هي خالدة ‪ .‬لكن الفارابي لم يق ّ‬ ‫وعقولهم الف ّ‬
‫عالــة فــي‬ ‫عالــة والــتي كــانت ف ّ‬
‫ُيعطنا إشارة عن مصــير الشــرار ذوي العقــول الف ّ‬
‫عالة في الخير !‬ ‫الشرور ‪ ،‬كما أوضح لنا مصير العقول الف ّ‬
‫) يستأذن أحد المردة بالحديث ويظهر أنه خزنابو مارد الضحك (‬
‫خزنابو ‪ :‬لو سمحت سيدي الرئيـس فقد تمنيت قبل قليل أن أكون إنسانا ً ! ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬لماذا ؟‬
‫خزنابو ‪ :‬لعلي أموت بسرعة فارجع ملكا ً أو رئيسا ً في دول ٍ‬
‫ة نامية ! ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬أليس من الفضل في دولة صناعية كبيرة ؟‬
‫خزنابو ‪ :‬كل سيدي ‪ .‬رئيس الدولة النامية أفضل ‪ ،‬حراســته مــن الغــرب وطعــامه‬
‫من الشرق ‪ ،‬وهو بعد ذلك غير مسؤول عن أي شيء مما يحدث من الشــرور فــي‬
‫المشرق أو المغرب ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬وهل سترجع روحك أم نفسك إذا حدث لك ذلك ؟‬
‫خزنابو ‪ :‬إن الفلسفة لــم يناقشــوا نفــوس وأرواح الشــياطين ‪ .‬كــانوا مشــغولين‬
‫بــأرواحهم وأنفســهم ‪ .‬ومــن حســن الحــظ أن النفــوس والرواح عنــدهم مــن‬
‫مهــم‬ ‫المترادفات ‪ ،‬ولم يسأل أحد قبل الرئيـس عن الفــارق إل ّ بعــض الــذين ل يه ّ‬
‫هذا الفارق كثيرا ً ‪ .‬وأنا شخصيا ً ل أومـن بشـيء سـوى المـادة ‪ .‬ومــن يـدري لعـل‬
‫دثون عنــه فــي أنــه ) مــا وراء الطبيعــة ( ســيجدونه يوم ـا ً مــا ‪ ) ،‬قبــل‬ ‫الــذي يتح ـ ّ‬
‫الطبيعة ( أو ) في قلب الطبيعة ( ‪ ،‬وإن كل مــا حــدث ســابقا ً هــو أنهــم مــا كــانوا‬
‫) يبصرون ( هــذه الشــياء ‪ .‬ولربمــا أدخــل مختــبرات الفيزيــاء والكيميــاء والحيــاء‬
‫المجهرية وهناك أضحك من عقل النســان ‪ .‬يقــول الرجــل وهــو يفتــح عينــه فــي‬
‫دق بوجــود الشـيطان ؟ أنـت شـخص متخّلـف‬ ‫مجهر إلكتروني لصـاحبه ‪ :‬وهـل تصـ ّ‬
‫ً‬
‫فعل ً ‪ ،‬كأنك لست من الغرب ‪ .‬وأنسى أحيانـا واجبـاتي وأتمّنـى أن أخـبره أن فـي‬
‫ى كثيرة ل يلحظها ول يهتم بها وأنه ينظر الن في كائنات دقيقة كــان‬ ‫غرفته قو ً‬
‫ً‬
‫دون مــن يخــبرهم عــن مثلهــا مجنون ـا ‪ .‬إن النســان‬ ‫أسلفه قبل سنوات مضت يع ّ‬
‫دها‬ ‫عجول في إصدار الحكام شديد الرغبة فــي أن يضــع الشــياء فــي قــوالب أعـ ّ‬
‫سلفا ً لرغبته في التحكم بالشياء ‪ ،‬وهو يضع القواعد لكل شيء ‪ .‬ولول إن العلــم‬
‫التجريبي يتحّرك من جهات شّتى مدفوعا ً بالربح المادي وصــناعة الســلحة والــتي‬
‫حح أي قانون‬ ‫فيها تحكم ملموس أكثر من مجرد المعرفة لما حاول النسان أن يص ّ‬
‫علمي يضعه ‪ .‬لذلك تبقى القواعد التي وضعها للشياء الخرى في علــومه والــتي‬
‫ميها علوما ً إنسانية تبقى ثابتة مئات أو آلف السنين كمــا لــو كــانت شــيئا ً مــن‬ ‫يس ّ‬
‫المقدسات ‪ .‬والمقدسات الحقيقية يضعها أيضـا ً فــي قــوالبه الجــاهزة ول يقبلهــا‬
‫كمقدسات حتى يصبغها بصبغته ‪ ،‬فإن صبغة الله هي أمّر عليه من العلقم ‪ .‬وتلــك‬
‫هي حرب النسان مع الرسل ‪ ،‬هو يريد البقاء على ما وجد عليه أسلفه وآبــاءه ‪،‬‬
‫دث‬ ‫والرسل يريدون كل مّرة أن يبدأ من جديد ويتحّرر مــن الوهــام ‪ .‬وحينمــا يتح ـ ّ‬
‫النسان عن التجديــد فمــا أكــذبه ‪ .‬الكــثير مــن المجلت والصــحف والكتــب تحمــل‬
‫عنوان التجديد ومفردة ) الجديد ( ‪ ،‬وأنا أتابعها بحكم اختصاصي ‪ ،‬فإن فيها أفكــار‬
‫لته لمم ٍ هلكت مــن‬ ‫ونة في سج ّ‬ ‫وأشياء يتعجب المشرقي حين يلحظها ‪ ،‬لنها مد ّ‬
‫النيلي ‪61-----------------------------------------‬‬
‫دم خطــوة واحــدة ‪ .‬فليهنــك‬ ‫آلف السنين ‪ .‬إنه يرجــع خطــوتين مــن حيــث يتق ـ ّ‬
‫سيدي ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬وفقت للشّر العميم ووفقتم جميع ـا لش ـّر أعــم ‪ .‬لقــد شــعرت بســعادة‬
‫م‬
‫طر بروائح الباطل فسررت وشبعت مــن الش ـ ّ‬ ‫عظيمة في هذا المجلس والذي تع ّ‬
‫قبل القضم ‪ .‬ولكن هذا ل يمنع وأنتم رؤساء الشياطين وكبراؤهم ومردتهــم مــن‬
‫السير على ختـم المجلـس بمـا هـو معمـول بـه مـن نظـام العقـاب والثـواب كمـا‬
‫تعلمون ‪.‬‬

‫) ثم تل الرئيـس هذه الفقرة قائل ً (‬

‫الرئيـس ‪:‬‬
‫‪ .1‬تعاقب جميع الزمـر المهملـة فـي اليحـاء اللزم فـي القطاعــات _ يـثرب _‬
‫دمشق _ الكوفة _ مكة _بيـت سـليمان _ انطاكيـة _ بورسـيبا _ بـالحرق بالنـار‬
‫لتسّببها في تسّرب السطر الربعة التي تعالج موضوع الحريــة ‪ ،‬بغيــر رقابــة‬
‫لغوية ‪.‬‬
‫‪.2‬يمل ) س ( في مؤتمر ) جاوا ( بمكافأة الّزمر التي قــامت بتفريــق الســطر‬
‫الربعة ‪ ،‬والّزمر التي حاولت ملحقتها وإتلفها بتأجيل عــذابها ثلثمــائة ســنة‬
‫أخرى ‪ ،‬كما تكافأ جميع الّزمر التي قامت بمنع ترجمتها إلــى اللغــات الخــرى‬
‫بخمسمائة سنة تأجيل إضافية ‪.‬‬
‫‪ .3‬تكافأ الّزمر اليحائية المشرفة على شــرح وتفســير وإعــراب مــا لــه علقــة‬
‫بالسطر الربعة من النصوص الثابتة بتأجيل عذابها ألف سنة ‪.‬‬
‫‪ .4‬تبقى حروف البجدية فارغة للمليء مستقبل ً ‪.‬‬
‫م عليكم _إلى اللقاء ‪.‬‬
‫ظل ٌ‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪62‬‬

‫الجلسة الرابعة لمؤتمر الشياطين‬


‫المسمى‬
‫فريق إزالة آثار الحكمة‬

‫صل عن‬ ‫دم المعاون لقراءة تقرير مف ّ‬ ‫) بعد التلوات الخاصة وقراءة النشودة ‪ ،‬تق ّ‬
‫مد بين المثالية والمادية ‪ ،‬وأعلن أن هـذا التقسـيم هــو مــن الهــداف‬ ‫الخلط المتع ّ‬
‫ً‬
‫ص الشــياطين مطلقـا وإنمــا هــي‬ ‫مة في العمل الشيطاني وهو مســألة ل تخـ ّ‬ ‫الها ّ‬
‫صة بالنسان فقط ‪.‬‬ ‫خا ّ‬
‫وخلل ذلك تعرض لقوانين الحركة وآخر ما وصلت إليــه علــوم الفيزيــاء عنــد‬
‫النسان ‪ ،‬ولكنه ذكر أن إبقاء الفوارق بين ما هو ) حي ( و ) جامد ( وكذلك إبقــاء‬
‫الفوارق بين حالت المادة التي يلحظها النسان هــو أمــر ضــروري ‪ .‬كمــا أوضــح‬
‫بجلء أهميــة الســحر وعلقتــه بــالعلم وتط ـّرق إلــى الســرع والمعجــزات وعلقــة‬
‫ون المعجزة ‪ ،‬وأثبت على نحو واضح أن المعاجز ما هــي إل ّ‬ ‫) السرعة ( بنشوء وتك ّ‬
‫قواعد مادية وظواهر تحدث بسرعة وفق نفس القانون ‪ ،‬مبرهنا ً بطريقة فلسفية‬
‫سنن وليس إلغاءا ً‬ ‫كم بال ّ‬‫غريبة أن الغاية منها هي للبرهنة على قدرة الفاعل بالتح ّ‬
‫مى‬ ‫ذب بها مما يســتدعي النتبــاه إلــى أن مــا يس ـ ّ‬ ‫لها ‪ ،‬وأن اللغاء هو طريق المك ّ‬
‫مى‬ ‫عند النسان مثاليا ً أو غيبيا ً أو طوباويا هو عند الشياطين ماديا ‪ ،‬أو أن من يس ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كدا ً أن سبب هذا التقسيم عنــد‬ ‫روحانيا ً قد يكون عندهم من جماعة الواقعيين ‪ ،‬مؤ ّ‬
‫النسان هو ليس لختلف نظرتـه للعـالم والشـياء مـن حـوله وإنمـا هـو لختلف‬
‫هم ‪ .‬وتطــّرق كــذلك إلــى ضــرورة إبقــاء‬ ‫نظرتــه إلــى نفســه ورغبتــه فــي التــو ّ‬
‫) الصــراع ( مســتمرا ً بــل والعمــل علــى ) إنتــاج ( فلســفة يفلســفون الصــراع أو‬
‫سنن ( الطبيعية العاملة في الكون ‪.‬‬ ‫الختلف على أنه أحد ) ال ّ‬
‫وبهذا الصدد نّبه بصورة حثيثة على أن الغاية من الصراع هــي الصــراع وأكــد‬
‫على خلطه بصورة جيدة مع نوع من الصراع غــايته إزالــة الصــراع بحيــث ل يمكــن‬
‫) الختلف ( التمييز بينهما ‪.‬‬ ‫لفلسفة‬
‫وتط ـّرق خلل ذلــك إلــى أن الزعيــم المنظــور بــالله إنمــا زرع فكــرة اللهــة‬
‫المتعــددة لهــذه الغايــة ‪ ،‬لن اللهــة المتعــددون يختلفــون فــي القــوة والعلــم‬
‫والسيطرة ‪ ،‬فهناك كبير لللهة وهناك ) النوناكي ( مجمــع اللهــة وهنــاك اللهــة‬
‫الصــغار ‪ .‬وإذا لحــظ النســان أن اللهــة أنفســهم طبقــات ويحــدث بينهــم صــراع‬
‫ده عند عبيد اللهة بنــي النســان ‪.‬‬ ‫طبقي ‪ ،‬فالولى أن يكون هذا الصراع على أش ّ‬
‫جب‬ ‫وذكر أن الله الواحد بالعدد والذات إنما هو إلغاء للصراع والختلف ولذلك يتو ّ‬
‫ددة بأية صورة أو صور ممكنة ‪.‬‬ ‫البقاء على اللهة المتع ّ‬
‫ً‬
‫ولم يتوّرع خلل ذلك كله من تكرار الهجوم على النسان واصفا إياه بأبشــع‬
‫الصفات ‪ ،‬أهونها أنه مخلوق غبي ل يفرق بين ما هو مادي وغيــر مــادي وبيــن مــا‬
‫جعا ً الشــياطين ومؤك ّــدا ً علـى قـدرتهم وحتميـة‬ ‫يقابله من موجـود ومعــدوم ‪ ،‬مشـ ّ‬
‫ً‬
‫انتصارهم على النسان ‪ .‬وقال أيضا إن النسان بارع في الشّر ول يترك احتمــال ً‬
‫منه إل ّ وطرق بابه بحيث أننا ندين له بالستاذية ونتتلمذ علــى يــديه لغــواء أفــراد‬
‫د حينمـا‬ ‫ل وحيـ ٍ‬ ‫جنسه الخرين ‪ .‬ولكنه قد يبقـى ألـف سـنة ل يـتزحزح عـن احتمـا ٍ‬
‫يكون المر متعّلقا ً بالخير ‪ ،‬وأشار إلى أن ذلك هو سبب قوة الشياطين ‪.‬‬
‫دم‬ ‫وفي ختام ذلك ذكر أن النسان ) يريد خداع نفسه ( بأية صورة ونحن نقــ ّ‬
‫ســر‬ ‫سر الدين ولم تف ّ‬ ‫له الصور الممكنة لهذا الخداع وأشار إلى أن الفلسفة لم تف ّ‬
‫السحر ولم تفسر الطبيعة ‪ ،‬وأن الذين ُأورثوا الكتب المنّزلة لم يفّرقــوا بعــد بيــن‬
‫السحر والمعجزة ‪ ،‬ومع ذلك تحظى هاتان الفئتان بالتقدير الفكــري العظــم عنــد‬
‫بني النسان ‪.‬‬
‫النيلي ‪63-----------------------------------------‬‬
‫م من أهميتها قائل ً (‬ ‫وتطّرق إلى " السياسات " فأعظ َ‬
‫المعاون ‪ :‬النسان لجهله وتجاهله مثل ً ل يدرك أننــا نربــط بيــن السياســة والــدين‬
‫والفلسفة والســحر ‪ ،‬وعنــدنا ) للساســة ( كمــا تعلمــون الموقــع الكــبر ‪ ،‬فهــم ل‬
‫ميهم الفلسـفة‬ ‫يكثرون من الكلم الذي ل طائل من وراءه ‪ ،‬لنهـم يمكـن أن نسـ ّ‬
‫م مــن الفلســفة النظريــة ‪ ،‬لن هــذا النــوع مــن‬ ‫العمليين ‪ ،‬والفلسفة العمليــة أهـ ّ‬
‫ي ‪ .‬وإذا أردنــا إرجــاع الشــياء‬ ‫ي يسبق فيه النظــر ّ‬ ‫الفكر هو بعكس العلم ‪ ،‬فالعمل ّ‬
‫إلى عللها كما يفعل النسان فل مندوحة لنا من القول بــأن فلســفة النظــر هــم‬
‫في النهاية هم مــن صــنع فلســفة العمــل ‪ .‬لكــن النســان لجهــالته لزال ينتظــر‬
‫الخلص من هؤلء على يـد أولئك ‪ .‬النســان يعصــي أولئك الــذين يرفضـون سـلبه‬
‫حّريته وإرادته ويخلصون له في إفهامه معناهــا ومغزاهــا وأهــدافها‪،‬فــي حيــن أن‬
‫سلبه حريته هو أفضل الطرق لوضعه على جادة الطاعة العمياء ‪ ،‬ولكن حـتى فـي‬
‫واء‬ ‫هذه الحالة فإنها صفقة وهمية بين الطرفين مثل التفاق الذي جرى بين الش ّ‬
‫و) نصــر الــدين ( عنــدما أعطــاه رائحــة الشــواء وأراد أن يقبــض الثمــن ‪ .‬وليــس‬
‫واء رنيــن‬ ‫للكثرية مثل نباهة ) جحا (حينما جعل الثمــن المــدفوع هــو إســماع الش ـ ّ‬
‫الدراهم ‪ ،‬لن الحرية مثل ) الصندوق السود ( لــن يس ـّلمها أو يســتلمها إل ّ واحــد‬
‫فقط هــو واهبهــا ‪ ،‬وقــد جعــل هــذا الـوهم النســان ل يســتحي مـن أن ) ينظّـَر (‬
‫فلسفة خاصة بسلب الحريــة فــي صــفقة هــي الخــزى فــي تــاريخه بيــن الحــاكم‬
‫والمحكوم‪ ،((1‬وقد يعجبه أن يقرأ بشغف وانبهار النصائح التي يقــدمها الفيلســوف‬
‫للحاكم عن أفضل الطرق لسرقة حرية الرعية في وقت تلحظ الرعية التطبيقات‬
‫العملية للتنظيــر فل تتراصــف مثــل الغنــام إذا وجههــا الــذئب بــل تحيــط بالــذئب‬
‫عارضة عليه اختيار ما يلئم شهيته !! ‪ .‬وحينما تقتل ذئبا ً _ ونادرا ً ما تفعل _ فهي‬
‫ع ‪ ،‬وإذن فل‬ ‫ل تقتله لنه ذئب بل هي تفعل ذلك لسرافه في إفناءها لغيــر مــا دا ٍ‬
‫جــح ‪ ،‬وهــي مــن ثــم ل تتعاقــد مــع كبــش مــن أكباشــها فــي ) عقــد‬ ‫ق لهــا بالتب ّ‬
‫حـ ّ‬
‫مــن بدرجــة أفضــل‬ ‫ب آخــر ُيث ّ‬‫اجتماعي ( بقدر ما ترغب في إبرام هذا العقد مع ذئ ٍ‬
‫ض عليه بل مجهود ليلي حتى يحيــن وقــت استرخاصــه لــه ‪.‬‬ ‫لحم الضأن عندما ُيعر ُ‬
‫وقد يكون النسان هو الوحيد أو النادر من الكائنات الذي يفّتش عن شيء يحملــه‬
‫هو في ثناياه ‪ ،‬ويعبد إلها ً يريد أن يدركه بحواسه وعقله ‪ ،‬ويؤمن بخـالق لجـل أن‬
‫يعلم وبالتفصيل كيف خلقه ‪ ،‬ويحــاول التخل ّــص مــن مشــاكل يضــعها بيــده وينكــر‬
‫أشياء يتعامل معها يوميا ً في وقــت يحــاول فيــه إثبــات الوهــام أو يتســاءل عــن‬
‫المعــدومات !! ‪ .‬وهــل هنــاك أكــثر حمقــا ً مــن كــائن يقــوم أحــد أفــراده بإنكــار‬
‫الموجودات بأسرها ويعتبرها وهما ً من الوهام ل وجود لها البتة ومــع ذلــك يبقــى‬
‫باحثا ً عن حلول لمشكلت وجودية ورغم ذلك يتابع أفراد هذا الكائن مقــولت هــذا‬
‫الفرد ويحتفظون بها ويمنحون لجلها شهادات المعرفة ؟؟ ‪.‬‬
‫) بعدما أنهى المعاون كلمه قال الرئيـس (‬
‫الرئيـس ‪ :‬أرى أن ) أنا ( نية النسان هي الصل في معرفة طبائعه ‪ ،‬وهــو حــاذق‬
‫في الخبث بحيث أنه يهاجم النا بقوة ليؤكد علــى ذاتيتــه الخاصــة فيلتبــس المــر‬
‫ن السامع أنه بريء من هذا المرض فيجذبه إليه بقوة ‪ .‬ولما‬ ‫على السامع حيث يظ ّ‬
‫كنت أريد منكم أن تسبقوا النسان فــي المــر المحتمــل وغيــر المحتمــل ‪ ،‬فــإني‬
‫أضع لكم سؤال ً أريد أن تجيبوا عليه لعلم مقدار علمكم في هذه المور الدقيقة ‪.‬‬
‫فإذا هاجم رجل جميع الناس واّتهمهم بقلة المعرفة والجهل حرصا ً على الحقيقة‬
‫ل آخر مثله وكان أحدهما خبيثا ً من شياطين النــس والخــر صــادقا ً فــي‬ ‫وفعل رج ٌ‬
‫حرصه وكان عندهما من التهم مقدارا ً متشابها ً ومن النقد اللذع قــدرا ً متســاويا ً ‪،‬‬
‫فكيف يستطيع النسان _ فيما لو أراد _ أن يفّرق بينهما علــى فــرض أنــه ل يــرى‬
‫)‪(1‬‬
‫المير ‪ ،‬والمطارحات ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪64‬‬
‫منهما إل ّ ما كتباه وأّلفاه لهــذه المقاصــد ؟ وكيــف يعلــم الصــادق ويمي ّــزه عــن‬
‫الكاذب ؟‬
‫المغربي ‪ :‬إذا تشابه القول من أحدهما في غاياته ومقاصده من أوله إلــى آخــره‬
‫وفي جميع كتبه وأّيد بعضه البعض ولم ينقض بعضه بعضا ً فذلك هو الصادق ‪ ،‬ومــا‬
‫كان فيه خلف ذلك فهو المخادع صاحب ) النا ( ‪.‬‬
‫م غيــره وأكــثر مــن دعــوى نفــي قــدرة‬ ‫المشرقي ‪ :‬وإذا أكثر من امتداح نفسه وذ ّ‬
‫الخرين على فهمه بمناسبة أو غير مناسبة ‪ ،‬فذلك هو المخادع صاحب ) النــا ( ‪.‬‬
‫وإن أقّر بجهله وسكت عن ما ل يعلم فذلك هو الصادق ‪ .‬وإنمــا يعــرف المــرء مــن‬
‫فلتات لسانه ‪.‬‬
‫ً‬
‫مونادو ) مارد الجنوب ( ‪ :‬إذا تعّرض لجميع الخلــق بالنقــد ولــم يســتثن أحــدا فهــو‬
‫الكاذب ‪ .‬وإذا استثنى وأقّر بوجود من هو أعلم منه فهو الصادق على أن ل يكــون‬
‫المستثنى مقدسا ً عند العامة ‪ .‬وفي هذه الحالة يجب النظر ‪ ،‬فربما استثنى خوفا ً‬
‫فُيعذر أو طمعا ً فيترك وإنمــا يعــرف الكــاتب الصــادق مــن إتمــامه الحــديث وعــدم‬
‫بتره ‪.‬‬
‫هــال وســكت عــن القــادة والحك ّــام ولــم‬ ‫مارد الشمال ‪ :‬إذا طال نقده للعامة والج ّ‬
‫يربط جهل أولئك بطغيان هؤلء فهو الكاذب ‪ .‬وإذا فعل خلف ذلك فهو الصــادق ‪.‬‬
‫وإنما يعرف المرء من إلهه الذي يعبد ‪.‬‬
‫ماه‬ ‫ماه بلفظ ثم حكاه في مواضع أخرى وس ّ‬ ‫شيطان اللغات ‪ :‬إذا حكى الشيء وس ّ‬
‫وي معنى السم الول فهو الكاذب صاحب النا ‪ .‬وأن ثبت على‬ ‫بأسماء أخرى ل تق ّ‬
‫وي معانيها نفسها فهــو الصــادق ‪ .‬وإنمــا يعــرف المــرء مــن‬ ‫تسمية الشياء بما يق ّ‬
‫منطقه ‪.‬‬
‫سر جميع الظــواهر ويحيــط بجميــع الشــياء فهــو الكــاذب‬ ‫جليوتا ‪ :‬إذا ادعى أنه يف ّ‬
‫ل فوق طاقته وسأل أن يمهل لعلــه يعلــم فهــو‬ ‫م َ‬
‫صاحب النا ‪ .‬وإذا طلب أن ل يح ّ‬
‫الصادق ‪ .‬وإنما يعرف مقدار علم المرء من مقدار ما يجهل ‪.‬‬
‫ن اللوهيــة ل ُتعــرف‬ ‫الرئيـس ‪ :‬أما أنا فأجمع ما قلتموه فــي وصــف واحــد هــو ‪ :‬إ ّ‬
‫مدَةٌ ل يخرج منها‬ ‫مص َ‬ ‫لجل عدم معرفتها إل ّ بسبع صفات اختصارا ً ‪ ،‬إحداها ‪ ..‬أنها ُ‬
‫و كــان اقــترف _ ل محالــة _‬ ‫شيء ول يدخلها شيء ‪ .‬فمن يقترب منها على أي نح ٍ‬
‫واحدا ً أو أكثر مما ذكرتــم وعنــدها فهــو الكــاذب صــاحب النــا وأنــا أتــوله ‪ .‬لكنــي‬
‫أسألكم عن معنى قولي أيضا ما هو ؟‬
‫مدُ ل يخرج منه شــيء ول يــدخله شــيء‬ ‫مص َ‬ ‫المشرقي ‪ :‬إنه واضح سيدي ‪ .‬فهذا ال ُ‬
‫وليس هو من الشياء التي تعرف ول يمكن أن يعرف أو يعّرف بشيء ‪ .‬فمــن أراد‬
‫إدخال شيء أو إخراج شيء فكأنما أراد إدخال أو إخراج نفسه ليكون مع المصمد‬
‫أو منه في شيء ‪ .‬وتلك هي ) النا ( التي مهما تضاءلت واحتالت فــي التضــاؤل _‬
‫ة أكبر من السموات والرض ومــن‬ ‫ة منتفخ ً‬ ‫وهي تفعل ذلك دوما ً _ فستبقى واضح ً‬
‫فيهن ‪.‬‬
‫مــن أصــحاب النــا‬ ‫الرئيـس ‪ :‬نعم هذا هو ما يعنيه قولي ‪ .‬وإذن فما أكثر من هــم ِ‬
‫بين الزهاد والفقراء والمتقشفين ‪ ،‬وما أكثر من هــم ليســوا كــذلك بيــن العصــاة‬
‫والمذنبين الذين لم يتجلببوا بجلباب الورع والتقوى ‪ .‬وحينما يقع الحســاب تظهــر‬
‫المفاجآت العجيبة ‪ ،‬فيسأل الشرار في الجحيم عن ) الشرار ( الخرين ويفتقد‬
‫الخيار في النعيم ) الخيار ( الخرين ‪ .‬أريدكم أن تأّزوا أصحاب النا أّزا ً حثيثا ً ل‬
‫هوادة فيه ‪ ،‬فإني نهم إليهم نهما ً ل تتصوره عقول بني النسان مثلما ل تتصــوره‬
‫أوهامكم ‪ .‬فإن مثقال ذرة من ) النا ( خافية في قلب أحدهم ستظهر فجأة بقدر‬
‫الكون بفضل جهودكم ‪ ،‬فاعملوا بجدّ ونشاط ل فتور فيه ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬ليكن ظّنك بنا في محّله سيدي ولن نفتّر أبدا ً في عملنا ‪.‬‬
‫النيلي ‪65-----------------------------------------‬‬
‫شرت بكل شر وقد ارتاحت نفسي راحة عظيمة لمــا ذكرتمــوه مــن‬ ‫الرئيـس ‪ :‬ب ُ ّ‬
‫أشياء ‪ .‬والن فــإني أشــتهي أن يحــدثني أحــدكم عــن المــام العظيــم أبــي حامــد‬
‫الغزالي ‪.‬‬
‫) نظر القادة في وجوه بعضهم البعض وهم فــي حــال مــن الوجــوم والقلــق ولــم‬
‫ة فصاح بهم الرئيـس (‬ ‫ي منهم بنت شف ٍ‬ ‫ينبس أ ّ‬
‫ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬ما لكم تكلموا ؟ ! ‪.‬‬
‫المعــاون ‪ :‬لقــد جــرت العــادة _ســيدي الرئيـــس _ أن نســتعرض هــذا الســم فــي‬
‫المجلس السّري الدنى للقادة الذي ينعقد في أعقاب كل مؤتمر ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬هذا صحيح ولكني إذا اشتهيت شيئا ً لم يكن لي بدّ من الحصــول عليــه ‪،‬‬
‫والسّر إذا صار إماما ً لم يعد سّرا ً ‪ ،‬وإنما أريد أن تشرحوا كيف كانت البداية لتكون‬
‫درسا ً للشياطين ‪.‬‬
‫قق فوجــدهم‬ ‫د في أصحاب النا نظــر الفــاحص المــد ّ‬ ‫المشرقي ‪ :‬لقد نظر أبو حام ٍ‬
‫أربعة أقسام ‪ :‬أرباب الفلسفة وأرباب النظــر والكلم وأربــاب الفقــه مــن الحلل‬
‫والحرام وأرباب الطريقة أصحاب الكشف واللهام ‪ .‬ثم وجد صــنفا ً خامس ـا ً غريب ـا ً‬
‫سل ( ‪ ،‬حيث وجدهم حازوا على الحكمة وحازوا على الكلم وحازوا علــى‬ ‫هم ) الُر ُ‬
‫ُ‬
‫معرفة الحلل والحرام وأوتوا ما ل يمكن تفسيره من الكشــف واللهــام ‪ ،‬فعجــب‬
‫كر في اقتفاء آثارهم ‪ ،‬فعجز عجزا ً تاما ً أن يكون مثلهــم أو واحــدا ً‬ ‫من أحوالهم وف ّ‬
‫طة قبلهــا وعمــل بهــا‬ ‫ما بلغ من العمر والفكر هذا المبلغ عرضنا عليه خ ّ‬ ‫منهم ‪ .‬ول ّ‬
‫ُ‬
‫قعه وكنــت أخـاطبه بكلم منقــوع‬ ‫وجدّ واجتهد وبلغ من النشــاط فيهــا مـا لـم نتــو ّ‬
‫طة هي ‪ :‬إن أغلب ما يرد عــن الفــرق الربعــة إنمــا هــو مــن‬ ‫بنظم مسجوع ‪ .‬والخ ّ‬
‫عقولها وإن ما يرد عن الخامسة إنما هو من وحي السماء ‪ .‬ثم قلت له ‪ ) :‬وإن ما‬
‫هو من وحي السماء إنما تنقله تلك الفرق لتسند به مقولتها وأكثره أمــا محــّرف‬
‫ســره بحسـب مـا يؤيــد مرادهـا ‪ .‬وأمــا‬ ‫أو مكذوب أو تفتريه هي حال الحاجـة أو تف ّ‬
‫صه فليــس فيــه وجه ـا ً واحــدا ً وإنمــا وجــوه تقلُبهــا حيــث تشــاء ‪ .‬فــإذا‬
‫ّ‬ ‫الذي ثبت ن ّ‬
‫ت بعضــه أو كلــه‬ ‫ُ‬ ‫تك ّ‬
‫ت من قدرة في نظم الكلم وأثبــ ّ‬ ‫ل فرقة منها بما أوتي َ‬ ‫هاجم َ‬
‫في موضع آخر مستندا ً إلى نفس ما يستندون إليه من النصوص تابع ـا ً لطريقتهــم‬
‫في معالجة النصوص ‪ ،‬فقد حزت على علم الولين والخرين ولم يكــن فوقــك إل ّ‬
‫ة‬ ‫الفرقة الخامسة وستجعلهم إذ ذاك يذكرون أقوالك كلهــا ‪ .‬فمــن أراد نقــد فرق ـ ٍ‬
‫اعتمد عليك ومن أراد إثبات صحة مذهبه اعتمد عليك أيضا ً ‪ .‬فقال الشيخ ‪ :‬وبــذلك‬
‫كر في المر قال ‪ :‬لكن هذا شيء يصعب عمله ! ‪.‬‬ ‫أكون أنا أنا وهم هم ‪ .‬وحينما ف ّ‬
‫فقلت له ‪ :‬ل يصعب أمام عبقريتك شـيء ! فقـال ‪ :‬فمـا أكـون أنـا ؟ فقلـت لـه ‪:‬‬
‫تكون أنت ؟ أنت على نهج صــاحب الشــريعة ‪ .‬أنــت الوحيــد الــذي يفهــم مقاصــده‬
‫ويعلم من هو وكيف هو ‪ .‬فلو كان في تلك الفرق خير لما تفّرقوا كــل حــزب بمــا‬
‫لديهم فرحون ‪ .‬فانظر لماذا يجمع صاحب الشريعة كــل تلــك العلــوم والطــرائق ؟‬
‫م _ جميعا ً ‪ ،‬إذ في كل منها مــا هــو‬ ‫أليس لنه يعلمها جميعا وينقدها _ فيما لو تكل ّ َ‬
‫صحيح على منهاجه وما هو خاطئ ل يرجى علجه ‪ .‬فلمــا رأيتــه لن وأخــذ كلمــي‬
‫بمجامع قلبه والجنان زدته من معسول البيان فقلت ‪ :‬واعلم أن اللغة تعطيــك مــا‬
‫تريد وتوصلك فوق هذا إلى المزيد ‪ ،‬وإنما أخطأ ) محي الدين ( ‪ ،‬لنه لــزم طريــق‬
‫التصوف وهو أمر مشين ‪ ،‬ولكنه برع في تصريف المفردات ما جعل السامع يظّنه‬
‫يسري في بطون اليات ‪ .‬فاللغة سلحك ‪ ،‬والمعاني رماحك ‪ ،‬والنصوص جناحــك ‪،‬‬
‫وليس لهذه الفرق شيء سوى المعقول والمنقول ‪ ،‬وأنت فيهما أعلم منهم فــي‬
‫الفروع والصــول !!‪ .‬فقــال الشــيخ ‪ :‬للــه دّر أقوالــك الجامعــة ‪ ،‬وخطتــك البارعــة‬
‫وحتى لكأني بها أطير في السماء السابعة ‪ ،‬ولكن قد بقيــت قضــية هــي لنفســي‬
‫كامعة ‪ ،‬فانظر ما أنت صانعه !‪ .‬فقلــت ‪ :‬فــاذكر هــذا الشــيء الكــامع ‪ ،‬فــإني لــك‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪66‬‬
‫ســامع ! ‪ .‬فقــال ‪ :‬إن لبعــض العلمــاء فحوصــا ً دقيقــة ‪ ،‬وأخشــى أن تنكشــف‬
‫س ولم تتزوج مــن علــي !! ‪.‬‬ ‫َ‬
‫م قلي ( لم تحظ بعبا ٍ‬ ‫الحقيقة ‪ ،‬ويكون حالي مثل ) أ ّ‬
‫فلما رأيته ُيريد النكوص ‪ ،‬أزجيته كمــا تزجــى القلــوص ‪ ،‬وعــالجته بعبــارتين كانتــا‬
‫كمن ألهبه بسوطين ‪ .‬حيث قلت ‪ :‬تب ّا ً لضعف عزيمتك مع قــوة اعلميتــك ‪ ،‬أتراهــم‬
‫صــلت ‪ ،‬أم حل ّــوا المعضــلت ‪ ،‬أم‬ ‫كشفوا اليات البينات أم اتفقوا فــي تلكــم المف ّ‬
‫وهم الوحيد هو الئتلف ‪ .‬وعلى‬ ‫أجابوا عن المشكلت ؟ إنما ديدنهم الختلف وعد ّ‬
‫فرض أن أحدهم كشف أمرك بعد قرون فمــا هــو بأفضــل ممــن خــوطب بــالنون ‪،‬‬
‫فقالوا عنه ويقولون ساحٌر أو مجنــون ! فــالخلق بالفرقــة مولعــون ‪ ،‬وبــالغوامض‬
‫مشغوفون ‪ ،‬وسينشغلون بك عنك وتجعلهم في معيشــة ضــنك ‪ ،‬وأنــت نــائم ملــئ‬
‫العين وهم في الحيرة بين بين تماما ً مثلما قال الشاعر ‪:‬‬
‫أنام مل عيوني عن شواردها‬
‫م‬‫ويسهر الخلق جّراها ويختص ُ‬
‫فقال ‪ :‬في هذه صدقت وبالغت ونصــحت ‪ ،‬وإنــي عــازم علــى أن أكســو المعــاني‬
‫) حلل ً مختلفــة مــن اللفــاظ ( وأعجــن الجــواهر والعــراض بإنــاءين مــن التشــبيه‬
‫والتنزيه وأدخل أفلطون في رأس كل فقيه ‪ ،‬وأبتر ما يبقــى مــن الكلم فــأوكله‬
‫ل حســام ‪ ،‬ثــم‬ ‫ل خصــام وأج ـّرد علــى ك ـ ٍ‬ ‫إلى سّر الكشف واللهام ‪ ،‬وافتعل مع ك ـ ّ‬
‫ي على لسان كل بعيد لمن خاصمته شيئا ً من التأييد حتى أخلط الحابل بالنابل‬ ‫أجر ُ‬
‫دك ‪ ،‬وعل مجدك ‪ ،‬وشاع حمدك ‪ .‬ثم تركتــه‬ ‫ج ّ‬
‫وأجعل العالي سافل ! ‪ .‬فقلت ‪ :‬جدّ َ‬
‫وخرجت ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬وهل سار بهذا المسار وكسا الظلمة جلباب النهار ؟! ‪.‬‬
‫المشــرقي ‪ :‬بــل ســار فيــه حثيثــا ً حــتى أمكنــه التصــريح دون التلميــح فقــال ‪:‬‬
‫) والتماسي قبول معذرتي عند مطالعة هذه المحادثات فيما آثرتــه فــي المــذاهب‬
‫من العقد والتحليل وأبـدعته فـي السـامي مـن التغييـر والتبـديل واخـترعته مـن‬
‫المعاني في التخييل والتمثيل فلي تحت كل واحد منها غرض صحيح (‪.((1‬‬
‫المغربــي ‪ :‬وقــال أيضـًا‪) :‬أمــا هــذه الســامي فأنــا ابتــدعتها وأمــا المــوازين فأنــا‬
‫ت في استخراجها ولها عند المتأخرين‬ ‫سِبق ُ‬
‫استخرجتها من القرآن وما عندي أني ُ‬
‫‪((2‬‬
‫أسام ٍ أخر سوى ما ذكرتها وعند المم السابقة أسام أخر كانوا قد نقلوها ( ‪.‬‬
‫مونـادو ) مـارد الجنــوب ( ‪ :‬وأنــا أحفــظ قـوله ‪ ) :‬وإيــاكم أن تغي ّــروا هــذا النظــام‬
‫وتنتزعوا هذه المعاني من هذه الكسوة ‪ .‬قد علمتم كيف ُيزّين المعقول بالستناد‬
‫إلى المنقول لتكون القلوب فيها أسرع إلى القبول(‪. ((3‬‬
‫المغربي ‪ :‬ومعنى ذلـك أنـه يـدخل المعقـول ويجعلـه جـزءا ً مـن المنقـول بعـد أن‬
‫ى ‪ .‬فقلــت لــه ‪ :‬ل تفضــح‬ ‫صا ً أو معن ً‬ ‫يكسوه بحّلة من اللفاظ من السّنة والقرآن ن ّ‬
‫سّرك وأضف عليه ما يجعل المعنى مرتدّا ً إليه ‪ ،‬فأخذ بالنصــيحة وتسـّلح بالقريحــة‬
‫وأضاف إلى تلك العبارة قوله ‪ ) :‬وإّياكم أن تجعلوا المعقول أصل ً والمنقول تابعـا ً‬
‫عد وأجعل قولك هذا هو الفصــل مــن خــالفه فقــد‬ ‫دد وتو ّ‬‫ورديفا ً ‪ . ((4(.‬فقلت ‪ :‬فه ّ‬
‫ي‬
‫ل كيما يرتعب القاريء ويهرب الشانئ ‪ ،‬ويكون بذلك أشبه بقــول اللــه مــن أ ّ‬ ‫ض ّ‬
‫ل سواه ‪ ،‬فأضاف ‪ ) :‬فإياكم أن تخالفوا المر فتهلكوا وُتهلكوا وَتضلوا وُتضلوا‬ ‫قو ٍ‬
‫(‪ . ((1‬وهو في جميع ذلك يقصــد عكســه ‪ ،‬ويــرى أن المــرء ل يكشــفه حــتى يــدخل‬

‫) ‪ ( 4 – 1‬جميع النصوص من ‪ /‬القسطاس ‪. 68 / 67 / 101 / 110 /‬‬


‫)‪ (1‬المصدر السابق ‪.‬‬
‫)‪ (2‬هذا رأي المغربي وسوف يخالفه المشرقي ويعطي سببا ً للختلف ‪.‬‬
‫)‬

‫)‬

‫)‬
‫النيلي ‪67-----------------------------------------‬‬
‫رمسه ‪ ،‬ومن أجــل ذلــك مضــت القــرون والنــاس فيــه مختلفــون ‪ ،‬وتمك ّــن مـن‬
‫ل حوزة ومسجد ومدرسة من حيث رماها بسهم ثابت سمّاه‬ ‫إدخال الفلسفة في ك ّ‬
‫) كتاب التهافت ( ‪ ،‬وهو في غيرها نابت ‪ .‬فكان يا سيدي مــن نتــائج تلــك الخطــة‬
‫ملة في ورطة ‪ ،‬فجاء من بعده كل نبيه وأديب وفيلســوف وأديــب‬ ‫أن وقع علماء ال ِ‬
‫ي نجيب ‪ ،‬حامى عن الدين ودرج في السالكين حتى أتاه اليقين ‪.‬‬ ‫دوه نجيبا ً أ ّ‬ ‫فع ّ‬
‫قــن‬ ‫الرئيـس ‪ :‬مــا أســعدني بكــم يــا عظمــاء الشــياطين وقــادتهم … ! غربّيكــم ُيت ِ‬
‫قــاد‬ ‫الســجع وشــرقّيكم يتقــن عــزف ) بحيــرة البجــع ( !! ولكــن مــاذا يقــول الن ّ‬
‫والباحثون في نقد فلسفة ) السلم ( ؟‬
‫قــاد والبــاحثون ل يفهمــون ولــو كــانوا يفهمــون مرامــي الفلســفة‬ ‫المغربي ‪ :‬الن ّ‬
‫لكانوا فلسفة ولوضعوا لنفسهم فلسفة فهــو أجــدر بهــم وأليــق بمقــامهم فــي‬
‫حالة كتلك ‪ .‬وكل ما يفعلونه أنهم يقولون ‪ :‬هذه نريدها لنها جيدة وتلك ل نريدها‬
‫لن‪ .‬وإذا كــانت‬ ‫فــق لحّلهــا ع ّ‬
‫فــق لهــا فلن وتلــك لــم يو ّ‬ ‫لنها غير جيــدة ‪ ،‬وهــذه و ّ‬
‫الشــياء مختلطــة فــي ذهــن الفيلســوف فكيــف ينــبري لفرزهــا مــن هــو دون‬
‫فقوا للغزالــي لنــه أبطــل نظريــة الفيــض بقــي المســلمون‬ ‫مقامه ؟ ‪ .‬وحينما صـ ّ‬
‫سمون الشياء إلى ممكن وواجب بدل ً من التقسيم القديم إلى‬ ‫بفضل الغزالي يق ّ‬
‫) حادث وقديم ( ‪ ،‬ول فرق في التسميات سوى أن القديم هــو الــواجب والحــادث‬
‫فيــن فمــن ذا‬ ‫هو الممكن‪ .((2‬وحينما يرتدي أرسطو عمامة ويلبس عباءة وينتعــل خ ّ‬
‫ُيفّرقــه عــن الخريــن إذا مــا تمشــى بيــن بغــداد والشــام أو صــّلى بيــن الركــن‬
‫ي‬‫والمقام ؟ عجز فلسفة السلم عن بلوغ هدف محدد ‪ ،‬لقد عجزوا أن يقوموا بأ ّ‬
‫د من الحتمالت الممكنة ‪:‬‬ ‫واح ٍ‬
‫الول ‪ :‬إنهم عجزوا أن يبطلوا مقولت اليونان بفلسفة من عندهم ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إنهم عجزوا عن رفض تلك المقولت لنها تخــالف كتــابهم علــى مــا‬
‫يفهمونه من المخالفة ‪.‬‬
‫فقوا بين تلك المقــولت وبيــن مــا يفهمــونه مــن‬ ‫الثالث ‪ :‬إنهم عجزوا أن يو ّ‬
‫كتابهم المنّزل إليهم ‪.‬‬
‫صهم من كتــاب ربهــم المن ـّزل‬ ‫الرابع ‪ :‬إنهم عجزوا أن يستخرجوا فلسفة تخ ّ‬
‫إليهم ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬إنهم عجزوا عن الجابة على السؤال ‪ :‬هل في كتابكم فلسفة أم‬
‫ل؟‪.‬‬
‫والحال هو ليس أن البعــض يقــول نعــم فيــه فلســفة والخــر يقــول ل ‪ .‬بــل‬
‫الرجــل نفســه منهــم تــأتيه لتســأله عــن مــا ينطــوي عليــه هــذا الكتــاب مــن‬
‫المعارف فيقول كل شيء وتفصيل كل شيء ‪ ،‬وتأتيه ثانية بعد لي فتقــول‬
‫له أين فلسفتكم المطابقة ليات الكتاب المنّزل ؟ عندها ســيزعم إنــه كتــاب‬
‫دين وعقيدة وما هو بكتاب فلسفي ‪ ،‬ولكن في موضــع أخــر ربمــا يعجبــه أن‬
‫دد أسماء أعلم باعتبارهم فلسفة السلم ‍ ! فهل تخاف سيدي الرئيـــس‬ ‫يع ّ‬
‫ً‬
‫من هؤلء خيرا ؟! ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬كل … نعم … بل آمــل ش ـّرا ً ‪ .‬لكنهــم حــاولوا أن يجــدوا طريق ـا ً وســطا ً‬
‫يجمع بين تلك الشياء ويوافق الكتاب المّنزل ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬إذن فقد خالفوا الكتاب المنّزل مــن أول خطــوة مــا دام الهــدف هــو‬
‫التوفيق ! ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬لقد اختلفوا أيضا ً في ضرورة الفلسفة ‪ ،‬فبعضهم قال إنها ليست مــن‬
‫قف اليمان عليها ‪.‬‬ ‫الدين في شيء ول ضرورة لها ول يتو ّ‬

‫)‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪68‬‬
‫دين كل ّــه ليــس‬ ‫المغربي ‪ :‬إذا كانت الفلسفة تعني الحصول على الحكمة ‪ ،‬فالـ ّ‬
‫سوى فلسفة إذ الغاية منه تعليم الحكمة على أوسع نطاق ل حصرا ً بين ) الخواص‬
‫ص هو على ذلك ‪ .‬والذين قالوا أن الفلســفة ليســت ضــرورية لــم يــبرهنوا‬ ‫( كما ن ّ‬
‫ّ‬
‫و من الحكمة ‪ ،‬ولم يأتوا بالحكمة البديلة عنها ‪ ،‬ولــم يفكــروا‬ ‫على أن الفلسفة خل ّ‬
‫في الفصل ‪ ،‬ثم عملوا ما هو أشنع حينما أخذوا مقالت الفلسفة وجعلوها قواعد‬
‫دوها حكمــة لكنهــم‬ ‫دين ‪ .‬والذين قالوا أنها ضرورة فقد ع ّ‬ ‫لهم لشياء كثيرة في ال ّ‬
‫دين فلــم يقــدروا علــى التوفيــق ولــم ينكــروا إحــدى‬ ‫وجدوها ل تتفق مع حكمة الـ ّ‬
‫ً‬
‫الحكمتين !! وهذا هو حـال أهـل الديـان الثلثــة جميعـا ‪ .‬ومـأزقهم الوحيـد الــذي‬
‫يجعل جميع المشكلت بل حــل هــو العلقــة بيــن الخــالق والمخلــوق وطبيعــة كــل‬
‫منهما ‪ .‬فإن مردّ جميع الشياء بما في ذلك النظام الخلقــي والسياســي وحــدود‬
‫المعرفة وقدرات العقل إنما مرجعها إلى الباب الموصد بــوجه الميتافيزيقــا وهــو‬
‫باب معرفة الله والعالم ‪.‬‬
‫رعت الباب ودخل أحد المردة (‬ ‫) ُ‬
‫ق ِ‬
‫الرئيـــس ‪ :‬أنتــم يــا مــردة الشــرق وشــياطين الجنــوب تــأتون دائم ـا ً بعــد الــوقت‬
‫المحدد !! المهمة التي أرسلتك مــن أجلهــا ل تســتدعي كــل هــذا الــوقت يــا مــارد‬
‫الخطفات !‬
‫مارد الخطفات ‪ :‬صحيح سيدي ‪ .‬لكني جئتك بمنافع أخــرى ومعلومــات كــثيرة عــن‬
‫المهمة ‪ ،‬علوة على محاورة حكيمين مــن حكمــاء الصــين انتهيــت مــن ملحظتهــا‬
‫ة!‬ ‫ن معدود ٍ‬ ‫قبل ثوا ٍ‬
‫الرئيـس ‪ :‬ماذا ؟حكماء ل فلسفة ؟!!!‬
‫مت به (‬ ‫م الرئيـس بالقيام وقد بدا على شفير نوبة من غضب عارم أل ّ‬ ‫) يه ّ‬
‫ً‬
‫المارد ‪ :‬ل تخف سيدي إنهما ليسا من أهــل المــدن ول يقــابلن أحــدا قــط وهمــا‬
‫منعزلن تماما ً عن العالم ول يملكان قصاصة ورق ول قلمــة قلــم ويعيشــان فــي‬
‫ء‪.‬‬‫ع نا ٍ‬‫ل مرتف ٍ‬ ‫سفح جب ٍ‬
‫الرئيـس ‪ :‬ومع ذلك فيجب تشديد الحراسة عليهما فالمر خطير جدا ً ‪ .‬هــل تركــت‬
‫حرسا ً عليهما ؟‬
‫المارد ‪ :‬بالتأكيد سيدي الرئيـس ‪ ،‬أربعة آلف يتناوبون حسب النظام ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ُ :‬ترى هل سمعت بهما من قبل ؟ من هما ؟ ‪.‬‬
‫المارد ‪ :‬أرى أنك تعرفهما ‪ ) :‬براهما ( و ) ماهانا ( ‪.‬‬
‫ي معلومات سابقة عنهما ‪ .‬ما كانا يفعلن ؟‬ ‫الرئيـس ‪ :‬آ … نعم … نعم لد ّ‬
‫المارد ‪ :‬كانا سيدي الرئيـس يمّثلن ‪ ،‬فقــد وقــف ) براهمــا ( فــي النــور الســاطع‬
‫جة أن ) براهما ( يريد أن يعرف كيف يحــاوره‬ ‫ور ) ماهانا ( في ظّله بح ّ‬ ‫المعلق وتك ّ‬
‫ظّله ‪ ،‬فقال ) ماهانا( ‪ :‬حسنا سأكون أنا ظلك ولكن رفقا بي ‪ .‬ثم تحاورا ‪:‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫دد بل كلل كمن يغني ( ‪ :‬أنا وحدي … أنا وحدي ليـس معـي أحــد ‪.‬‬ ‫براهما ) وهو ير ّ‬
‫أنا وحدي … أنا … أنا…‬
‫دد ( ‪ :‬أنا وحدي … أنا وحدي …‬ ‫وره في الظل فير ّ‬ ‫ماهانا ‪ ) :‬يجزع من تك ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫براهما ) يلتفت إليه ( ‪ :‬من هذا ؟ ظلي يتكلم ؟ أصبحت تتكلم مثلي ؟ يا لصــلفك‬
‫ووقاحتك ! ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬ولم ل ؟ ألست موجودا ً ؟‬
‫براهما ‪ ) :‬متعجبا ً غاية التعجب ( ‪ :‬أنت موجود ؟ !‬
‫صــر الظــل فكافــح ماهانــا ليكــون ضــمن حــدوده ويزمــع‬ ‫) وحينما جلس براهمــا ق ُ‬
‫براهما أن يتمدد فيصيح ماهانا (‬
‫ماهانا ‪ :‬الغوث الغوث سيدي الحكيم ستضطرني للفناء !‬
‫براهما ‪ :‬والن هل أنت موجود ؟‬
‫النيلي ‪69-----------------------------------------‬‬
‫ن أنني موجود على نحو غريب ومزعج ‪ ،‬إذ يمكن أن أفنــى فــي أي ّــة‬ ‫ماهانا ‪ :‬أظ ّ‬
‫لحظة ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫دبا يا ظلي هكذا دوما !‬ ‫ً‬ ‫براهما ‪ :‬إذن فكن مؤ ّ‬
‫ّ‬
‫ماهانا ‪ :‬أريد أن أراك فلماذا ل أراك وأنت تراني ؟‬
‫براهمــا ‪ :‬لنــك ظّلــي فكيــف تــرى ؟ أنــت عبــارة عــن ) ظلمــة ( وبينــي وبينــك‬
‫) ظلمة ( ‪ ،‬لكنك تستطيع على نحو ما رؤية بعض أجــزاء جســدك ممــا يشــرق مــن‬
‫أنوار قليلة في الظلمة ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬لكني مصّر على أن أراك ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬آسف يا ظّلي ‪ .‬أنا شخصيا ل أستطيع أن أجعلك تراني ‪ .‬لنك لن تراني‬
‫ل وليس بمقدوري أن أجعل ظّلي هو أنا أو مثلي ‪.‬‬ ‫حتى تكون مثلي ويكون لك ظَ ّ‬
‫ت أنت الذي أولدتني ؟‬ ‫ماهانا ‪ :‬ألست منك ؟ ألس َ‬
‫ت مني ‪.‬‬ ‫براهما ‪ :‬أنا لم ألدك مطلقا ً ولس َ‬
‫ماهانا ‪ :‬فهل أنا منفصل عنك ؟‬
‫ل بي رغم أنفك ‪.‬‬ ‫براهما ‪ :‬كل ‪ .‬أنت متص ٌ‬
‫ماهانا ‪ :‬إذن فأنا منك !‬
‫ً‬
‫براهما ‪ :‬كل أنت لست مني وإن كنت متصل بي ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬أريد أن أعرف من أنا ؟‬
‫براهما ‪ :‬أنت ظل ! أنت ل شيء ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬لكني أتكلم وأحاورك الن فأنا شيء ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬تكّلم كما يحلو لك وافعل ما تريد فأنت ل شيء ‪ .‬أما أنا فواحد مستقل ‪.‬‬
‫ل بــي‬ ‫ماهانا ‪ :‬أنا أيضا ً واحد ‪ ،‬كائن مستقل ‪ ،‬وليس اتصالي بك نقصا ً فــأنت متص ـ ٌ‬
‫أيضا ً ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬أنا منفصل عنك !!‬
‫ل بي !‬ ‫ماهانا ‪ :‬قلت للتو أنك متص ٌ‬
‫ت أنك ستحاول أن تقولني بأشياء لم أقلها ‪ .‬أنا قلت أنك متصــل‬ ‫براهما ‪ :‬قد علم ُ‬
‫ل بك ‪.‬‬ ‫بي ولم أقل أّني متص ٌ‬
‫ماهانــا ‪ :‬أليــس هــذا مخــالف للمنطــق ‪ .‬شــيئان متصــلن ومـع ذلــك فــإن أحــدهما‬
‫منفصل عن الخر ‪ ،‬والخر متصل به !!‬
‫‪((1‬‬
‫دث عنه ‪.‬‬ ‫براهما ‪ :‬مخالف لمنطق الظل ل لمنطقي أنا ذلك الذي أنت تتح ّ‬
‫ماهانا ‪ :‬وكيف أعلم أي المنطقين هو الصحيح ؟‬
‫براهما ‪ :‬بسيطة ! أنا أفعل ما يحلو لي وأنت افعل ما يحلــو لــك ولحــظ بالتجربــة‬
‫من المنفصل ومن المتصل !‬
‫دد على الرض (‬ ‫) يهم براهما أن يتم ّ‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫سم عليك أل تفعل !‬ ‫ماهانا ) صارخا ً ( ‪ :‬أق ِ‬
‫براهما ‪ :‬أما أنا فأقول لك افعل ما تشاء ‪ ،‬لكنــي أنصــحك أن تكــون مؤدبـا ً _ وهــذا‬
‫فرق عظيم بيني وبينك هو كالفرق بين الشيء واللشيء ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬أرى نفسي واحدا ً كما أنت واحد ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬أما أنا فأراك أثنين ‪ ،‬حّريتك واحدٌ وقيدك آخر ‪.‬‬
‫ماهانا‪ :‬وكيف ترى نفسك ؟‬
‫براهما ‪ :‬هذا ليــس شــأنك ‪ ،‬إذا رأيتنــي أو انفصــلت عنــي أو خرجــت مــن قبضــتي‬
‫فاسأل ما تشاء ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬أريد أن أعرف من أي شيء أنت ؟!‬
‫براهما ‪ :‬وكيف يعرف اللشيء ما الشيء ؟؟‬
‫)‪(1‬‬
‫يتعمد المؤلف هنا تكرار الضمائر في عموم المحاورة ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪70‬‬
‫ونتني ؟‬ ‫ماهانا ‪ :‬لماذا إذن ك ّ‬
‫براهما ‪ :‬أنا أفعل ما يحلو لي ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬هذا منتهى القهر والتسلط !‬
‫براهما ‪ :‬نعم إنه منتهى القهر والتسلط ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬أريد أن أتخّلص من قبضتك ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬قد تتخّلص بالفناء ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬أريد أن أتخّلص بالوجود ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬هذا محال ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬لماذا ؟‬
‫ً‬
‫براهما ‪ :‬لنك لست شيئا في الحقيقة ‪ ،‬أنت ظــل ‪ ،‬ومــن طبــع الظــل انــه متصــل‬
‫دوما ً بصانعه ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬ما هي الحقيقة ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬أنا وحدي ‪.‬‬
‫دد (‬ ‫ماهانا ‪ :‬رائع لقد اكتشفت الحقيقة ‪ :‬أنا وحدي … أنا وحدي ! ) ير ّ‬
‫براهما ‪ :‬يا لك من غبي ‪ .‬عليك أن تقولها هكذا ‪ ) :‬أنت وحــدك ( ‪ ،‬ول تعيــد نفــس‬
‫القول كما يعيده التلميذ الغبي‬
‫ماهانا ‪ :‬أنا ذكي … أنا فيلسوف … أنا… !‬
‫براهما )مقاطعا ً ( ‪ :‬هذا في نظرك ‪ .‬أما عنــدي فــأنت غــبي تريــد أن تســرق منــي‬
‫شيئا ً هو عندك أو تهب لي شيئا ً ليس عندك ول حاجة لي به ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬إذن فأنا أريــد أن أفنــى إذ لــم يعــد يعجبنــي البقــاء‪ ،‬لنــي ل أفهــم ســببا ً‬
‫لوجودي ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬أنت تكذب ‪.‬‬
‫سم بأني صادق … هّيا … هّيا أفنني ‪ .‬وافعل ذلك بسرعة كي ل أتألم ‪.‬‬ ‫ماهانا ‪ :‬أق َ‬
‫براهما ‪ :‬ما أسرع ما تنسى ‪ .‬في كل مرة تطلب ذلك ثم تستغيث إذا اقــترب منــك‬
‫الفناء ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬هذه المرة دعني أفنى ‪ .‬وحتى لو استغّثت بك وصرخت فل تسمعني ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬ليس من عادتي أن ل أسمع المنادي ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬لماذا ؟ ها أنا الذي يطلب منك ذلك ‪.‬‬
‫ُ‬
‫براهما ‪ :‬لنك تكذب وفي لحظة الستغاثة فقــط أنــت صــادق ومــن خلقــي ســماع‬
‫الصادق ‪.‬‬
‫سر أحوالي ‪ .‬أنا الن أريد أن أفنى ‪.‬‬ ‫ماهانا ‪ :‬ل يهمني ما تقول وكيف تف ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫براهما ‪ :‬وأنا ل يأمرني أحد ‪ .‬أنا لن أكون وما كنت يوما مقّيدا بك ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬إذن فأنت تحتاجني ! ها لقد أوقعتك في الكلم ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬أنــا ل أحتاجــك وقــد أوقعــت نفســك ‪ .‬فــأنت تريــد أن تفنــى لتثبــت أنــي‬
‫ي ما لم تكذب على نفسك أول ً ‪.‬‬ ‫أحتاجك ‪ .‬أنت ل تستطيع أن تكذب عل ّ‬
‫ماهانا ‪ :‬من أي شيء خلقتني ؟ ألم تخلقني من مادة سابقة على مـادتي ؟ لنقـل‬
‫أن أسمها الهيولى ‪.‬‬
‫صل إلى أنك تمت إلى جوهري بصــلة مــن نــوع مــا ‪.‬‬ ‫ل كثيرة لتتو ّ‬ ‫براهما ‪ :‬لديك حي َ ٌ‬
‫لم أخلقك من شيء لنك في الحقيقة لشيء ‪ .‬كل ما في المر أننـي إذا أوقــدت‬
‫السراج فإنك تظهر ‪ ،‬وإذا أطفأته فإنك تفنى ‪ .‬والسراج من صنعي وأنت ل تدركه‬
‫أيضا ً ‪ ،‬لنه إذا أضاء كنت ظلمة وإذا انطفأ فنيــت ‪.‬فل تقــدر علــى معرفــة مــا هــو‬
‫السراج فضل ً عن صانعه ‪.‬‬
‫ماهانا‪ :‬إما أن أكون وإما أن أفنى ‪ .‬أما هكذا أبقى مستعبدا ً لك فهذه مشكلة ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬إنها مشكلتك ل مشكلتي !‬
‫النيلي ‪71-----------------------------------------‬‬
‫ل‬‫جب عليك حّلها لي ما دمت تقدر ‪ ،‬فقد بــدأت أفهــم أنــه لح ـ ّ‬ ‫ماهانا ‪ :‬لكن يتو ّ‬
‫ول عقد لي بغيرك ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬بالنسبة فل أرى مشكلة ول أراك في مشكلة ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬لماذا تتجاهلني ؟ فأنت تعلم مشكلتي ‪ .‬إما أن أكون أو أفنى ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬ها أنت تكون مرة وتفنى مرة فأين المشكلة ؟‬
‫ماهانا ‪ :‬كل … كل … أنا أريد واحدة فقط ‪ .‬إما وجود دائم أو فناء دائم ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬حينما توجد فلســت فانيـا ً وحيــن تفنـى ل تشــعر بوجــودك الفــاني فـاين‬
‫المشكلة ؟‬
‫ماهانا ‪ :‬أنا أحّبذ أن أوجد بغير متاعب ‪ ،‬بل قيود ‪ ،‬بل خــوف ‪ .‬وإذا لــم يحــدث ذلــك‬
‫فإني حال وجودي أفضل الفناء كي ل أشعر بمشاكل الوجود ‪ .‬أل تفهمني ؟ ؟‬
‫براهما ‪ :‬إني أفهمك جيدا ً ‪ ،‬لكن ما تقوله فهــو مجــرد وهــم ‪ .‬فالمتــاعب والقيــود‬
‫والخوف أنت تضعها بنفسك ‪ .‬إنها واحدة من أكاذيبك على نفسك ‪ .‬فــأنت ل تريــد‬
‫ب لنــك تريــد الخــروج مــن‬ ‫عـ ٌ‬
‫ل لــي ‪ .‬أنــت مت َ‬ ‫أن تجّرب العيش وفــق طبيعتــك كظـ ّ‬
‫حدودي الظّلية ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬ماذا تقصد ؟ دّلني على طريق سعادتي !‬
‫ل وهذه هي سعادتك ‪ .‬كل ما تخشاه مـن حركـاتي سـينقلب إلـى‬ ‫براهما ‪ :‬أنت ظ ّ‬
‫أشــياء تجلــب لــك الســعادة ‪ .‬ســتكون مغرمـا ً بملحقــتي ودخــول حــدودي الظّليــة‬
‫والتحّرك ضمنها ‪ .‬وعليك فقط أن تفهم بأنك ظــل ل غيــر ‪ .‬وكــل شــيء آخــر هــو‬
‫مسئوليتي ‪.‬‬
‫ماهانا ‪ :‬وهل ستكّبر لي مساحة الحركة ؟‬
‫ً‬
‫براهما )يضحك ثم وبخطفة يضع السراج قريبا منه ( ‪ :‬ماهانا ! أنظــر … أنــت الن‬
‫ل نهائي ول حدود لك ‪ .‬أنظر جيدا ً … عبرت المحيطــات وســرحت فــي الفضــاءات‬
‫وخرق سوادك القاتم شموس الفلك ‪ ،‬لنك لول مرة تتركني أفعل لــك مـا تريــد‬
‫ولول مرة تقر بعبوديتك لي ‪ .‬تحرك الن كما يعجبك يا ظّلي ‪ ،‬تحرك كيفما تشــاء‬
‫وأّنى تشاء ‪.‬‬
‫ل براهمــا خطــوات ثــم رجــع إليــه وتعانقــا‬ ‫) قام ماهانا على رجليه راكضا ً في ظ ـ ّ‬
‫وانتهى تمثيل هذا المشهد وهما يضحكان سوية والجبل يردد الصدى (‬
‫الرئيـس ‪ :‬وهل علمت أيها المارد ما قصده الحكيمان من تمثيل هذا المشهد ؟‬
‫المـارد ‪ :‬ل أدري سـيدي ‪ ،‬لكنـي أظـن أنهمـا يقـولن مـن خلل ذلـك أن المنطـق‬
‫الفلسفي ل ينطبق ول يصــلح لتفســير العلقــة بيــن الرجــل وظلــه فكيــف يصــلح‬
‫لتفسير العلقة بين الله والعالم ؟ لن ما يبدو منطقيا ً عندهم أصبح غير منطقــي‬
‫مة ملحظة في كل حين ‪ .‬وبالتالي فإن‬ ‫في نفس هذا الوجود من خلل ظاهرة عا ّ‬
‫ن كــثيرة داخلهــا ‪ ،‬ولــذلك‬ ‫منطقهم ل يعمل خارج الطبيعة إذا كان يخطئ في أحيا ٍ‬
‫شددت الحراسة عليهما ‪.‬‬
‫الرئيـس نعم وفقت لكل شر فاجلس ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬سيدي الرئيـس ‪ :‬إن المحاورة بيــن الحكيميــن هــي أوســع مــن مجـّرد‬
‫الشارة إلى هــذا المــر ‪ ،‬فعلوة علـى تحديـد الجابـات لمســائل فلسـفية عديــدة‬
‫منت تفــاؤل ً بّينـا ً بمســتقبل العــالم النســاني ‪ .‬إذ جعل‬ ‫ر وتركيــز فقــد تضـ ّ‬ ‫باختصا ٍ‬
‫دد بين أشياء فمّرة يريد معرفة نفسه ومّرة يريد أن يوجد بل قيــد وم ـّرة‬ ‫الظ ّ‬
‫ل يتر ّ‬
‫يريد معرفة براهما ومّرة يريد أن يعرف عّلة براهما ومّرة يريد أن يراه ومّرة يريــد‬
‫أن يفنى وأخرى يريد أن ينفصل عنه ‪ ،‬وأخرى يرغب في أن يجعل براهمــا متصـل ً‬
‫ب ولــو الفنــاء نفســه أو إلغــاء ذاتــه ‪.‬‬ ‫ي مطلـ ٍ‬ ‫به وأخرى يرغب في أن يملي عليه أ ّ‬
‫ولكن في النهاية انتبه الظل وأدرك أنه ل شيء ‪ ،‬وفهــم أن مــا يبغيــه لــن يحصــل‬
‫عليه إل ّ بالقرار بلشيئيته وفناءه وعدمه ‪ ،‬فامتدّ فجأة ليخرق ســواده المســاحات‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪72‬‬
‫الشاسعة أو شموس الفلك كما عّبر براهما ‪ ،‬مستخدما ً مسألة علميــة واضــحة‬
‫وهي استمرار حركة الضوء إلى ما ل نهاية وبالتالي امتداد الظل إلى مــا لنهايــة‬
‫وإن كّنا ل ندركه بحواسنا ‪ .‬لذلك أطلب السراع في إرسال جيوش من الشياطين‬
‫إلى الموقع المذكور واستخدام كافة الوســائل لتســليط قــوى الش ـّر علــى هــذين‬
‫مد عقباه ‪.‬‬‫الرجلين وإهلكهما قبل حصول ما ل ُيح َ‬
‫المغربي ‪ :‬إن في التأني الســلمة وفــي العجلــة الندامــة ‪ ،‬فالعجلــة مــن خصـائص‬
‫النسان ل مــن صــفات الشــيطان ‪ .‬فمــا لــي أراك يــا كــبير شــياطين الشــرق قــد‬
‫د ؟ أم‬ ‫ل بعي ـ ٍ‬
‫ح جب ـ ٍ‬ ‫أرعبتك محاورة بين رجلين أعزلين من بني النســان علــى ســف ِ‬
‫ما جاء به آلف النبياء والمرسلين ‪ ،‬فجعلنــا حمــاة‬ ‫ترى أن ما قاله أكثر وضوحا ً م ّ‬
‫دين وحاملي لواء المّتقين من بعدهم يتقاتلون ويتحاربون ويتلعنون ويقولــون‬ ‫ال ّ‬
‫دلوا‬ ‫قول ً غير الذي قيل لهم ‪ ،‬فرفع كل منهم راية وكانت عاقبة أمرهم خسرا وبــ ّ‬
‫نعمة الله كفرا ً وأحّلوا أنفسهم وقومهم دار البوار ؟‬
‫ن مجتمع بنــي النســان‬ ‫المشرقي ‪ :‬إني أفهم ما تقول ولكنك ل تفهم ما أقول ‪.‬إ ّ‬
‫د مريـض بـداء النسـيان فل يغّرنـك منـه هـذا المظهـر وقـد نصـحنا‬ ‫ل واحـ ٍ‬ ‫مثل رج ٍ‬
‫ظ وإرشاٍد عظيمين حينما نّبه إلــى العلقــة بيــن عمــر الفــرد وعمــر‬ ‫الرئيـس بوع ٍ‬
‫النوع النساني ‪ ،‬فإن النسان قد يفاجئك يوما بصحوته وإدراكــه حقيقــة نفســه ‪،‬‬
‫م مــن المحتومــات لمــا أتعــب‬ ‫ولول أن هذه الحقيقــة هــي خاتمــة أمــره وهــي حتـ ٌ‬
‫دوا كل هذا الجد ولمــا نشــطوا كــل هــذا‬ ‫ل هذا التعب ولما ج ّ‬ ‫المرسلون أنفسهم ك ّ‬
‫عهــم حــتى يغلــظ ويســتوي‬ ‫النشاط ‪ .‬وإنما يرون أنفسهم مثل الزّراع لن يثمر زر ُ‬
‫ه ويطغــى عليــه فيهلكــه …‬ ‫على عوِده ويأكــل صــغار العشــب والقصــب ومــا شــاب َ‬
‫ن الشجر وإن كان قليل ً لكنــه بســق وأزهــر فل يغّرن ّــك احتجــابه بالقصــب‬ ‫مأ ّ‬ ‫ولتعل َ‬
‫ل الغابة إذا احترقت لن يطفــئ ناَرهــا أحــد ولكــن‬ ‫ه ‪ ،‬فإن مثله مث ُ‬ ‫والحلفا وما شاب َ‬
‫الذي يبقى فيها هو الشجر الغليظ المختبئ فـي مـا كـان أصـل ً للنـار ‪ .‬وقـد أدرك‬
‫علم النفس الفردي والجتماعي هذه الحقيقة وعامل مجتمــع النســان كمعــاملته‬
‫لفرد النسان مع اختلف العمار ‪.‬‬
‫ع شيئا ً إل ّ مــا هــو مــن بــاب‬ ‫درا فليس الحذر بناف ٍ‬
‫المغربي ‪ :‬إذا كان المر حتما ً مق ّ ً‬
‫التأخير ‪.‬‬
‫ل جــدا ً مــن بنــي‬ ‫الرئيـس ‪ :‬وأنتم ل تفعلون ولن تفعلوا شــيئا ً ســوى ذلــك ‪ .‬وقلي ـ ٌ‬
‫النسان من يدرك ذلك لنهم يعتقدون أن وعــد اللــه فــي خلصــهم هــو فــي يــوم‬
‫محدٍد بالزمان ‪ ،‬والقليل يعلم إنما هو محددٌ بالنسان نفسه ‪ ،‬محــددٌ بــاليوم الــذي‬
‫كر فيه نفسه ‪ .‬وإنمـا عملكــم هـو فـي إبقـاء النســان ذاهل ً عـن أدراك نفسـه‬ ‫يتذ ّ‬
‫مشغول ً بإدراك رّبه ‪ .‬وكّلما أبعدتم هذا الموعد عن النسان كّلما أبعدتم النــار عــن‬
‫أنفسكم ‪.‬‬
‫ة بيــده ثــم يخــرج‬ ‫ّ‬
‫) يدخل أحد بني النسان بصورة مفاجئة ويسلم الرئيـــس رســال ً‬
‫فيندهش الحاضرون جميعا ً … بينما يظهر الرئيـس كما لو لم يفاجئ به مطلقا (‬
‫ً‬
‫قي ونصـفي الخـر ‪ .‬ول بـأس فـي أن أقـرأ‬ ‫الرئيـس ‪ :‬نعم ‪ .‬إنهـا رسـالة مـن شـ ّ‬
‫عليكم بعض ما ورد فيها ولكني ســأتجّنب الشــياء الــتي تفزعكــم والســرار الــتي‬
‫صني ‪:‬‬ ‫تخ ّ‬
‫قي ونصفي الخر فناء الوجود ‪ :‬الحمد للــه‬ ‫)… من وجود الفناء إلى أخي وش ّ‬
‫د‬
‫ت أنك مجتمع بشياطين الجان تحّرضهم على الج ّ‬ ‫وسلم علينا … وبعد ‪ :‬فقد علم ُ‬
‫والجتهاد في عملهم على استجلب بني النسان إليهم وإبعادهم عنــي ‪ ،‬فالحمــد‬
‫ت تعلــم _ أن‬ ‫لله على المّنة والشكر له على هذه النعمة ‪ .‬أقول لك أخي _ وإن كنـ َ‬
‫الجدال والخصومة بين الناس هي عّنا وفينا ومّنا ولنا لن الله أعـّز وأمنــع مــن أن‬
‫ضــحه‬ ‫ده الصفات أو تدركه العقول أو تتصوره المخلوقات أو تو ّ‬ ‫تناله الوهام أو تح ّ‬
‫النيلي ‪73-----------------------------------------‬‬
‫المفردات أو تنفذ إليه الكلمات ‪ .‬واعلم أننا موضوع تلك الصــفات ومنشــأ تلــك‬
‫السماء ‪ ،‬فهم يتجادلون في المخلوق ويحسبون أنهم يتناقشون عن الخــالق إذ ل‬
‫أحد يعلم اسمه الحقيقي من جميع الكائنات فهو شديد المحال ‪.‬واعلم بأنه مّنا قد‬
‫ظهر الزمان والمكان فل موضوع للسؤال مــاذا كــان وكيــف كــان وأيــن كــان هــذا‬
‫هموا في كل الشياء‬ ‫المكان والزمان فضل ً من خالقه ومبدعه ‪ .‬واعلم أنهم قد تو ّ‬
‫ولم يمّيزوا بين السماء والفعال ووضعوا من أنفسهم قواعد ومبادئ ما هــي إل ّ‬
‫أوهام في أوهام ‪ ،‬ولو عالجنـا بهــا بعــض مظاهرنــا لفســدت وتناقضــت وأصــبحت‬
‫سروا بها العلقات‬ ‫مثارا ً لسخرية الساخرين ‪ .‬فسألهم _ إن كانوا صادقين _ أن يف ّ‬
‫حرور أو الشموس والقمار أو الليــل والنهــار أو‬ ‫بين الظلمات والنور أو الظ ّ‬
‫ل وال َ‬
‫ســراب ‪ ،‬أو القــوى الماســكة والجاذبــة والهادمــة فــي أقطــار الســماء أو‬ ‫الماء وال َ‬
‫أجسام الحياء في الرض ‪ .‬فأين هــو الجــوهر المزعــوم الــذي ل تتج ـّزأ أجــزاءه ؟‬
‫ومتى رأوها ل تتجّزأ ؟ وكيــف يــبرهنون علــى ذلــك ؟ ‪ .‬إنمــا هــي أوهــام تراكمــت‬
‫بعضها فوق بعض ولم يجرؤأحدٌ من بعدهم على أن يقول هاتوا برهــانكم إن كنتــم‬
‫صادقين ‪ .‬ثم أين هو الواحد الذي ل يصدر عنه إل ّ واحد ؟ ‪ .‬لم يخالفوا بــذلك آيــات‬
‫من ـّزلت زعمــوا أنهــم يريــدون التوفيــق بينهــا وبيــن أهــوائهم بــل خــالفوا بــذلك‬
‫ظ بين أيديهم ومن خلفهــم ‪ ،‬فقــل لهــم هــذه هــي العــداد‬ ‫طبيعتهم وما هو ملح ٌ‬
‫فأعطوني من الواحد عددا ً هو غيره وهو نفس الواحد إن كنتم صــادقين ‪ ،‬وأيــن‬
‫‪((1‬‬

‫هو علمهم من علم الله حتى يجعلوه موضوعا ً لهم ؟‪ .‬إذ قال قائل منهم هو يعلــم‬
‫بالشيء قبل كونه وقال الخر ل يعلــم بــه حــتى يكــون ‪ ،‬وهــم ل يعلمــون عــن أي‬
‫م كهــذا فــأخرجوه لنــا ولتخبرونــا عــن‬ ‫دثون ‪ .‬فقل لهم ‪ :‬إن كان لكم عل ٌ‬ ‫شيء يتح ّ‬
‫ً‬
‫علم الخرين بل وليخبرونا عن علمهم بأنفسهم فإننا نرضى بهذا بديل عــن ذاك ‪.‬‬
‫وأين هم من ذوات المخلوقات أو ذوات أنفسهم حتى يدركوا ذاته ؟ وأين هم مــن‬
‫ق‬
‫صفات أنفسهم حتى يعلموا صفاته ؟ ‪ .‬إنمــا جـاءهم مــن الصــفات مـا هــو متعلـ ٌ‬
‫ســموها كيــف شــاءوا وجعلــوا العلــم والقــدرة والرادة غيــر الحلــم‬ ‫بالكائنــات فق ّ‬
‫خلق والبداع ‪ .‬وما علموا _ أو تجاهلوا _ أن العلم بل معلوم أو القدرة‬ ‫والرحمة وال َ‬
‫خلــق بل مخلــوق‬ ‫ر عليه والرادة بل مراد هي مثل الرحمــة بل مرحــوم وال َ‬ ‫بل مقدو ٍ‬
‫دع ‪ .‬هيهــات هيهــات كــل هــذه ! إنمــا هــي صــفات ومتعلقــات‬ ‫والبــداع بل مبَتــ َ‬
‫بالموجودات فل كلم عن ذاته وصفاته من غير موجود إل ّ أنه أحد صمد لم يلد ولم‬
‫يولد ولم يكن له كفوا ً أحد ‪ .‬هيهات أن يعلم له أحدٌ اسما ً إل ّ هو حينما ل يكون ث ّ‬
‫مة‬
‫من أحد إل هو ‪ .‬فليأتوا بأســماء آبــائهم إن كــان لهــم علــم بالشــياء قبــل ظهــور‬
‫موه العل ّــة الولــى وإنمــا العلــل أســباب ‪ ،‬ول‬ ‫م تمادوا فس ـ ّ‬ ‫المفردات والسماء ‪ .‬ث ّ‬
‫دثون عــن‬ ‫علقة لها بالبتداع ‪ .‬فما زالوا يتحدثون عن المألوه ويظنــون أنهــم يتح ـ ّ‬
‫دقوا لغفلتهــم إنكــار‬ ‫الله ‪ ،‬فجعلوا أنفسهم سببا ً للبرهان المزعوم مــن حيــث ص ـ ّ‬
‫المنكر وسهوا عن الخالق ونسوه وجعلوا إثبات وجوده مــن خلل إثبــات وجــودهم‬
‫ة من العلل سوى أنها ليســت معلولــة لشــيء ومــا أدركــوا‬ ‫فلم يكن عندهم إل ّ عل ّ ٌ‬
‫أنهم بهذا يفسدون مذهبهم في العّلة والمعلول ‪ ،‬إذ العل ّــة ل تكــون إل ّ فــردا ً أحــد‬
‫زوجين اثنين ‪ .‬وزعموا أن وراء هــذه المحسوســات جــواهر وماهيــات ‪ ،‬واختــاروا‬
‫منها جــواهر وماهيــات لتكــون صــورة وســطى بيــن العــدم والوجــود ‪ ،‬فــانقطعت‬
‫سلسلة العلل عند تلك الحلقة عينها ولــم تصــل إلــى اللــه فــأبقوه عل ّــة مــن غيــر‬
‫معلول وتراكب الخطأ من جميع الجهات وأصبحت الظلمات طبقات ‪ ،‬فما كان لله‬
‫فهو يصل إلى شركاءهم وما كان لشركاءهم فهو ل يصل إلــى اللــه ‪ .‬وزعمــوا أن‬

‫)‪ (1‬أي أن العدد القرب مثل )‪ (2‬ل يمكن استخراجه من الواحد إل ّ إذا فقد صفته كواحد مثل‬
‫) إثنان نصف الواحد ( ‪ .‬وهذه العبارة هي التي يسرقها الشيطان فيؤسس عليها علما ً بالمجهولية‬
‫‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪74‬‬
‫ض بــذاته ل‬ ‫اختلف الصفات هو بل عّلة ومّثلوه بالسواد أسودٌ بذاته والبياض أبي ٌ‬
‫لعّلة بل هكذا هو أبدعه الله فانخلعت سلسلة العلل قبل وصولها إلــى اللــه وصــار‬
‫البياض متمّيزا ً عن السواد من غـبر عّلـة !! ‪ .‬فـانظر إلـى جميـع مـا احتملـوه مـن‬
‫ي وجه إل ّ وكانوا به محتذين آباءهم حــذو‬ ‫الوجوه كأنهم تواصوا به ‪ ،‬ولم يحتملوا أ ّ‬
‫قذة ‪ .‬فدع عنك ذلك فــإنهم أمســكوا بــالعقول ليخفــوا مــا انطــوت عليــه‬ ‫قذة بال َ‬ ‫ال َ‬
‫ل القلوب موصدة ‪ ،‬وأعرضوا عن المعلوم‬ ‫الفئدة ‪ ،‬ولحقوا المجهول لُيبقوا أقفا َ‬
‫التوقيع ‪ :‬أخوك ) كنكر ( ‪.‬‬ ‫وخاضوا مع الخائضين فسوف يعلمون … (‬
‫م يقول (‬ ‫) يلتفت الرئيـس إلى القادة ث ّ‬
‫ي شيء يقوله الفلسفة في الخلق ؟‬ ‫الرئيـس ‪ :‬أ ّ‬
‫المشرقي ‪ :‬سيدي الرئيـس ‪ .‬إن الفكر بمختلف اتجاهاته إنما يجتمــع فــي النهايــة‬
‫دد كل اتجاه مــوقفه منهــا ‪ ،‬حــتى لــو تناســت أو ســكتت‬ ‫في موضوع الخلق ويح ّ‬
‫بعــض الفلســفات والعقــائد عــن مســائل معينــة وراحــت عقــائد أخــرى تــثير تلــك‬
‫ل اتجاه من أن يحددّ موقفه منــه‬ ‫المسائل فإن الخلق هو الموضوع الذي ل بدّ لك ّ‬
‫كل إل ّ‬ ‫في نهاية المر ‪ .‬ويمكن القول أن بعــض التجاهــات أو الجماعــات لــم تتشـ ّ‬
‫م اســتنتاجه‬ ‫وفق مبدأ أخلقي معّين ‪ ،‬وإن رأيها في المســائل الفلســفية إنمـا يتـ ّ‬
‫من خلل بحثها الخلقي ‪ .‬إن الفقرات القليلة التي ذكرتموها أّيها الرئيـــس عــن‬
‫ق بفناءه أو فناء تعّلق بوجوده في لحظة الكينونــة هربـا ً مــن‬ ‫خِلقكم ‪ :‬ووجود متعل ّ ٌ‬ ‫ُ‬
‫ل لـــ ) مــا‬ ‫ً‬
‫وحدة اللوهية أو شوقا لبقاء هذا الفرار شاخصا إنما هو تفسيٌر متكامــ ٌ‬ ‫ً‬
‫ح لهدفه وغايته وسلوكه ‪ ،‬وما انبثق بعد ذلك أو خلل‬ ‫هو المخلوق ؟ ( وتحديدٌ واض ٌ‬
‫ون ‪ ،‬والــتي حــدودها هــي حــدوده المســتمرة فــي‬ ‫ة واسعة لهذا المك ّ‬ ‫ذلك من حري ٍ‬
‫ّ‬
‫دد في أقطار الكون تجيب على جميع التســاؤلت المتعلقــة‬ ‫التوسع من خلل التح ّ‬
‫ً‬
‫بالخلق دفعة واحدة ‪ .‬وإني لتأمل في قولك فأجد أمرا فــي غايــة الدهشــة ذلــك‬
‫ون الهــارب‬ ‫أني ألحظ أن نظريات الخلق قد اجتمعت كلها في خصائص هذا المك ّ‬
‫مــن وجــوده ‪ .‬فقــد وجــد ســعادته العظمــى فــي هــذا القــتران حســب نظريــة‬
‫هــم‬ ‫ة حسب نظريــة ) المنفعــة ( ‪ ،‬وحــاول أن يتف ّ‬ ‫ة عظيم ً‬ ‫) السعادة ( وأدرك منفع ً‬
‫واجبه من خلل طبيعة تكوينه ومن خلل حريته ‪ ،‬فعمل ما ينبغي عليه ومــا يمليــه‬
‫) الواجب ( المنبثــق أصـل ً فــي طــبيعته‪ ،‬وهــو الجمــع بيــن الوجــود والفنــاء أمــام‬
‫ذة ( حسب ما تقتضيه‬ ‫الوحدانية ليبقى أطول فترة ممكنة وهو ممتلئ بشعور ) الل ّ‬
‫ذة ( ‪ ،‬وقد أدرك أيضا ً أنه يتمكــن‬ ‫نظرية ) الواجب ( وحسب ما تقتضيه نظرية ) الل ّ‬
‫ددا ً‬‫من ) البداع ( بنفس القدر الذي يتمكن فيه مـن ) الّتبـاع ( فجـاء سـلوكه محـ ّ‬
‫قب حسب ما تقتضيه نظرية ) البداع ( أو‬ ‫تحديدا ً صارما ً ولكنه ممتلئ بالقلق والتر ّ‬
‫ء ل أدركــه مــن الزمــن _ هــذه المرحلــة‬ ‫ي جز ٍ‬ ‫نظرية ) المل ( ‪ .‬وحينما بلغ _ في أ ّ‬
‫وته‬ ‫وته الوجودية الممسكة بالفنــاء أو قـ ّ‬ ‫ء في ق ّ‬ ‫ن أو استرخا ٍ‬ ‫ي تهاو ٍ‬ ‫فإنه شعر أن أ ّ‬
‫د‬ ‫ً‬
‫العدمية الممسكة بالوجود سيجعله يميل ) ميل ( باتجاه أحدهما ‪ ،‬وشعر بألم ٍ شدي ٍ‬
‫مـا ألـم‬ ‫وة الفناء الكبرى وإ ّ‬ ‫ما ألم التقابل مع الوحدانية حيث ستضغط عليه ق ّ‬ ‫هو إ ّ‬
‫الفرار السلبي والستقالة من الوجــود والظهــور الــذي أمــرت بــه الوحدانيــة مــن‬
‫ي ألم ٍ‬ ‫وة الوجود الكبرى ‪ ،‬وهو ل يقدر على إطاقة أ ّ‬ ‫خلل أمر الله فتضغط عليه ق ّ‬
‫منهما ‪ .‬وهذا هو ما تقتضيه نظرية ) المل ( أو ) اللم ( أو مشكلة ) الميول ( في‬
‫ون أيضا ً أن عمله هذا هو عمل شخصي محــض وأنــه ح ـّر‬ ‫الخلق ‪ .‬وأدرك هذا المك ّ‬
‫في التصرف لكن حّريته هــي مــن النــوع الغريــب والغيــر معهــود ‪ ،‬مثلهــا مثــل أن‬
‫ق لكّنه طويل جدا ً ‪ ،‬ومساحته أضعاف ما‬ ‫ق ضي ٍ‬ ‫أعطي ) زيدا ( مساحة للحركة بطري ٍ‬
‫ً‬
‫يمكن أن يحلم به وعلى الشكل الذي يرغب هو به من أشكال المربع أو الدائرة أو‬
‫ما شابه ‪ ،‬مع أني ل امنعــه مــن الخــروج عــن هــذا الطريــق أو الرجــوع إليــه ‪ .‬وإذا‬
‫ة للتراجع فالمساحات الــتي يحلــم بهــا هــي الخــرى‬ ‫دما ً بل ني ٍ‬ ‫ق ُ‬‫ن للسير فيه ُ‬ ‫اطمأ ّ‬
‫النيلي ‪75-----------------------------------------‬‬
‫ستكون قريبة جدا ً وفي متناوله ‪ .‬حينما أدرك ذلك فقــد علــم أن هــذا التصــرف‬
‫ل‬ ‫خِيل إليه أنه إذا تكث ّــر علــى صــورة أفــراد كـ ّ‬ ‫شيءٌ يخصه بالدرجة الولى ‪ ،‬ولكن ُ‬
‫ي‬‫منهم يمتلك قدرا ً من الحّرية كهذا القدر ‪ ،‬فإن الذين سيخرجون عن الطريــق ل ّ‬
‫سبب دوما ً أو مؤقتا ً يؤّثرون تأثيرا ً بالغا ً على حركته وسـرعته فـي الوصـول ‪ .‬وإذا‬
‫ة ‪ ،‬حيــث‬ ‫ة غريبـ ٍ‬ ‫كان مصيرهم بهذا العمل هو الفناء فقد جعله ذلــك يقلــق بطريقـ ٍ‬
‫ة بالشخاص ‪ ،‬وصار يرى نفسه فيهم‬ ‫ر متمثل ٍ‬ ‫ول القلق الشخصي عنده إلى صو ٍ‬ ‫تح ّ‬
‫ي _ وذابــت أنــانيته فــي‬ ‫ق جمــاع ّ‬ ‫ول قلقــه الشخصــي إلــى قلـ ٍ‬ ‫ّ‬
‫ولم يشــعر إل وتحـ ّ‬
‫ة‬ ‫الجماعة _ وصارت ذات الجماعــة هــي ذاتــه فهــو يجــابه ويحــارب ويــدعو بطريق ـ ٍ‬
‫ة _ إنه يفعل ذلك مع الجماعة كما لو كان يحــارب ويــدعو ويجــابه نفســه _ ‪.‬‬ ‫مختلف ٍ‬
‫ً‬
‫والحرية التي يشعر بها هي الشــيء الوحيــد الــذي يــراه جــزءا منــه ‪ ،‬وفــي نفــس‬
‫الوقت يرى أن الجميع يستخدمونه كما لو كانوا شــيئا واحــدا ً يــأبى النقســام ‪ .‬إن‬
‫ه بـه إلـى حـدّ بعيـد ‪ .‬وهـذا هـو سـبيل أخلقــه‬ ‫ون وشبي ٌ‬ ‫النسان جزءٌ من هذا المك ّ‬
‫ون والذي هــو جــزءٌ منــه بقــي مــا بقــي هــذا‬ ‫وسلوكه ‪ .‬فإن سلك سلوك هذا المك ّ‬
‫ول إلى الفناء‬ ‫ون من أحقاب ودهور _ كما يبقى الوجود _ وإن خالفه فقد تح ّ‬ ‫المك ّ‬
‫‪ ،‬الفناء الدائم المستمر والمتعلق بالوجود _ لنه فنــاء الوجــود الــذي هــو النقيــض‬
‫ي إل ّ ما شاء المر فقد يشاء أن‬ ‫المتعّلق بوجود الفناء ‪ .‬ويبدو لي أن كل ً منهما أبد ّ‬
‫ون ‪.‬‬ ‫يبقى منفردا ً فيلغي هذا المك ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬لقد فهمت كل ما قلت أّيها المشرقي ‪ ،‬وأراك أحســنت فهــم عبــاراتي‬
‫ن أن بني النســان يجهلونهــا _ ول‬ ‫كلها فاستخرجت منها نظرية في الخلق _ أظ ّ‬
‫يعلمهــا إل ّ تلــك القّلــة أو الثلــة الــتي ل تــأتي معــي ‪ .‬لكنــي أراك كأنــك ل تريــد‬
‫استعراض النظريات الخمسة التي ذكرتها والتي فيها مجموع ما وضعه الفلســفة‬
‫ده عرضا ً لها ونقدا ً عليها مع تقــديم‬ ‫ع ّ‬‫وأهل الخلق ‪ ،‬وكأنك تكتفي بهذا القليل وت ُ ِ‬
‫البديل ! ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬وأّنى لي باســتعراض هــذه النظريــات والعقــائد ؟ إنهــا كــثيرة ســيدي‬
‫سر الفيلسوف سلوك‬ ‫الرئيـس والحديث عنها ذو شجون ‪ .‬إذ ليس الضروري أن يف ّ‬
‫ح ويــدعو النســان ليأخـذَ بــه‬ ‫ك مقت َـَر ٍ‬ ‫النســان ‪ ،‬بــل يجــب أن ينتهــي بوضــع ســلو ٍ‬
‫ويتصّرف بمقتضــاه ‪ .‬وليــس هــذا هــو المهــم أيضـا ً ‪ ،‬لن الســلوك هــو ) الحّريــة (‬
‫ددا ً فقــد قتــل الحّريــة أو ) كفــر بهــا ( ‪،‬‬ ‫نفسها ‪ ،‬فإذا وضع الفيلسوف سلوكا ً محـ ّ‬
‫ض‬ ‫ق ٌ‬ ‫دد منــا ِ‬‫ح ‪ ،‬لن الحّرية ل ُتسَلب ول ُتؤخذ ول ُتعطى ‪ ،‬فالسلوك المحــ ّ‬ ‫وهو الص ّ‬
‫د ( أن ســلوكك هــو بــدافع )المنفعــة(‬ ‫لليمــان بالحّريــة ‪ .‬وحينمــا تقــول لـــ )زيــ ٍ‬
‫قب المل ( أو ) الخلص من اللم ( أو ) أنــه فــي‬ ‫ذة ( أو) السعادة ( أو ) تر ّ‬ ‫أو) الل ّ‬
‫الصل شعوٌر بالواجب ( أو ) أنك فيه تابع ( أو ) أنك تسلك ســلوك متبــوع ( أو أي‬
‫شيء آخر تقوله ‪ ،‬فإن ذلــك ل يغي ّــر شــيئا ً فــي ســلوك ) زيــد ( ‪ ،‬لن لــه فلســفته‬
‫صة للطبيعة والشــياء ولنفســه ‪ ،‬ومنهــا انبثــق لــه‬ ‫الخاصة في الحياة ونظرته الخا ّ‬
‫سلوك معّين ‪ .‬وإذا أردت أن يغّير سلوكه فعليك أن تعطيه تفســيرا ً جديــدا ً واضــحا ً‬
‫ومقِنعا ً للعالم ولوجــوده فيــه ‪ ،‬وإذا اقتنــع ) زيــد ( بهــذا التفســير فمــا أســرع مــا‬
‫ى أن أغي ّــر ســلوكي تغييــرا ً شــامل ً ( ‪ .‬وســوف‬ ‫ُيخبرك هو قــائل ً … ) يبــدوا أن عل ـ ّ‬
‫يخترع لنفسه السلوك الملئم للتفسير الجديد ولعّله يســبقك بوضــعه عمليـا ً قبــل‬
‫أن تنتهي أنت من التنظير !! ‪ .‬وإذا كــانت الفلســفة إلــى هــذا اليــوم عــاجزة عــن‬
‫ع مـن‬ ‫ن للجنـس النسـاني هــو نـو ٌ‬ ‫ك معي ٍ‬ ‫تفسير العالم فإن محاولتها لتحديد سلو ٍ‬
‫ب‬ ‫الحمق والغفلة ‪ ،‬إذ ل أحد سيتبع هذه ) الخلق ( المقّننة والموضوعة في قــوال َ‬
‫لــ ) زيــد ( تفســيرا ً‬ ‫ة ول أحد يشتريها أو يتعامــل بهـا ‪ .‬وحينمـا تعطــي‬ ‫جاهز ٍ‬
‫جديدا ًَ للعــالم وبحيــث يعــي مــوقعه فيــه فــإنه ســيفهم تلقائيـا أهــدافه وغايــاته ‪،‬‬
‫ً‬
‫ب هو عليك سيل ً من التساؤلت عما ينبغي لــه أن يفعــل وكيــف ســيفعل ‪،‬‬ ‫وسيص ّ‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪76‬‬
‫ة ضــمن حّريتــه الخاصــة ‪ .‬إن فــي‬ ‫دد ٍ‬ ‫وهو الذي سيبدأ بتقييد نفســه بقيــوٍد مش ـ ّ‬
‫نفوس الفلسفة شيءٌ من ) الُرسل (‪ ،‬ولذا فهم يرغبون في أن يتشــّبهوا بهــم ‪.‬‬
‫دم بها ) زيد ( وأمثاله بلغت حدّا ً أن الله كان يرأف‬ ‫ة تق ّ‬ ‫فالشرائع ما كانت إل ّ أسئل ٌ‬
‫بهم ويأمرهم أل ّ يسألوا عن أشياء قد تجلب لهم مزيدا ً من القيــود وتجعلهــم فــي‬
‫ف‬ ‫شـ ُ‬ ‫ج من التطبيق ‪ ،‬ذلك لن تلــك القيــود ) كامنــة ( فــي نفــس الفكــرة وُتكت َ َ‬ ‫حر ٍ‬
‫وره‪ .‬ولــن‬ ‫ل حسب عمره ودرجة رقي ّــه وتط ـ ّ‬ ‫تدريجيا على مستوى الفرد والنوع وك ّ‬ ‫ً‬
‫ة ل ترتبط بأي ّــة‬ ‫ّ‬
‫يشتري أحدٌ ما من الفلسفة ) أخلقهم ( المعلبة لنها أخلقٌ سائب ٌ‬
‫ة لتفسير العــالم وموضــع النســان منــه ‪ ،‬ولــن يكونــوا بهــذا التشـّتت‬ ‫ة واضح ٍ‬ ‫فكر ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بمستوى أدنى التباع الحقيقيين للُرسل ذكاءا ووعيا للشياء فضل ً عن أن يكونــوا‬
‫في مصاف الُرسل أو مثلهم ‪ .‬وما الذي يدعو النــاس ليتخّلقــوا بــأخلق الفلســفة‬
‫إذا كانت ل ترقى ول تبقــى إل ّ نفــوس الفلســفة بعــد المــوت ؟ ومــن أيــن تــأتي‬
‫الخلق العملية وهي مقطوعة الجذور أصل ً بالموت وبفناء النفوس ؟ نعــم ‪ .‬إنهــا‬
‫ة من قبل ) النا ( و ) للنا ( وحده ‪ ،‬وليس هو ) أنــا (‬ ‫ق ولكنها مكتوب ٌ‬ ‫ت أخل ٍ‬ ‫نظريا ُ‬
‫ذة ( أم ) سعادة (‬ ‫النسان ‪ ،‬بل ) أنا ( المتكّلم والواضع فحسب ‪ .‬وسواءٌ أكانت ) ل ّ‬
‫أم ) منفعة ( أم ) ألم ـا ً ( أم ) أمل ً ( فــإن النهايــة واحــدةٌ والنتيجــة واحــدةٌ مــا دام‬
‫هناك موت ‪ .‬وإن ) زيدا ً ( ليعلم جّيدا ً كيف يسلك حّتى يأتيه الموت وليست مشكلة‬
‫ة لحيـاته الـتي ل‬ ‫) زيد ( في حياته هذه ! لنه إذا أضطّر فسوف يضع بنفسـه نهايـ ً‬
‫يفهم سببا ً لها ‪ ،‬ولديه الكثير من الوسائل ليكون ماكرا ً أو سارقا ً أو متغافل أو أّية‬
‫ً‬
‫ت أخرى ل حصر لها حينما يقّرر أن ينتظر الموت ول يذهب هو برجلــه إليــه ‪.‬‬ ‫صفا ٍ‬
‫ء هام ٍ حــتى‬ ‫ً‬
‫وحينما ل تخبره عن ) الموت ( فإنه ل يقتنع أبدا بأنك قد أخبرته بشي ٍ‬
‫ً‬
‫سرت له جميع أجزاء الكون وشرحت له خــرائط الوجــود بأســره ‪ .‬إن ) زيــدا (‬ ‫لو ف ّ‬
‫يريد أن يعلم لماذا جاء ولماذا يمــوت بهــذه الســرعة ولمــاذا يكابــد مــرارة العيــش‬
‫دة جميـع أولئك‬ ‫ة جـدّا ً ‪ .‬وإن ) زيـدا ً ( ليحتقــر فـي داخـل نفسـه وبشـ ّ‬ ‫ة قصير ٍ‬ ‫لحيا ٍ‬
‫ة‬ ‫ق عاليـ ٍ‬ ‫ة ويطــالبونه فــي نفــس الــوقت بــأخل ٍ‬ ‫ت ناقصـ ً‬ ‫دمون لــه مــبّررا ٍ‬ ‫الذين يقـ ّ‬
‫ة !! وإن ) زيدا ً ( ليشعر وبحدسه القوي بأن هناك إجابات حقيقيــة لســئلته‬ ‫ورفيع ٍ‬
‫دموا لــه بــدل ً عنهــا تفســيرات متناقضــة‬ ‫أخفاها نفس هــؤلء الشــخاص الــذين ق ـ ّ‬
‫وضئيلة ل تتناسب مع حجم الخلقية التي يطالبونه بها ‪ .‬وما الذي يدعوه ليتخّلــق‬
‫ق ل يعلم سببا ً لها ؟ ‪ .‬إن ) زيدا ً ( يدرك جّيدا ً أن ) الخلق ( ما هي إل ّ قيود ‪،‬‬ ‫بأخل ٍ‬
‫ع‬ ‫ى كثيرةً ‪ ،‬وحينمــا تطــالبه بنــو ٍ‬ ‫ة في وضعه الذي يصارع فيه قو ً‬ ‫وهي قيودٌ إضافي ٌ‬
‫سر له وجـوده ومـوته فـإنه يعتقـد أن ذلـك هــو منتهــى‬ ‫من الخلق من غبر أن تف ّ‬
‫ً‬
‫ة عنــدما تكــون تلــك الخلق ) فضـائل ( ‪ .‬وهـو يــرى أن الــذهاب‬ ‫الستبداد وبخاصـ ٍ‬
‫ً‬
‫دين _ والذي يجلب له شيئا من الجاه والســلطان‬ ‫ّ‬
‫لخدمة الطغاة من الحكام المستب ّ‬
‫ة مـن‬ ‫والمال ليتمكن بها من مصارعة القوى المحيطة بـه _ هـو أمـٌر أكــثر عقلنيـ ٍ‬
‫ن‬ ‫سر له الموت وسببه وما يكون بعده ‪ .‬ول يحسب ّ‬ ‫ة ل تف ّ‬ ‫ة فاضل ٍ‬ ‫الدخول في أّية مل ّ ٍ‬
‫أحدٌ أن ) زيدا ً ( ل يفهم شيئا ً من الفلسفة ! بل إن ) زيدا ً ( هو فيلسوف بطبعــه ‪،‬‬
‫ضـل الـذهاب لخدمــة المسـّتبد ‪ ،‬فـإنه‬ ‫صــة وحينمـا يف ّ‬ ‫وحينما ل يكتب فلسفته الخا ّ‬
‫هناك أيضا ً فيلسوف ومن الطراز الرفيــع ‪ .‬ذلــك لنــه يجــد عنــد المس ـّتبد تطابق ـا ً‬
‫فلسفيا ً بين التفسير والخلق التي يطالبه بها ‪ .‬فالتفسير هو أن الموت حتم ول‬
‫ء آخر ل تفسيَر له فــي الطبيعــة ‪ ،‬والخلق المطلوبــة هــي شــيءٌ‬ ‫ي شي ٍ‬ ‫سر كأ ّ‬ ‫ُيف ّ‬
‫ر‬
‫ر من الجاه والمال وأكبر قد ٍ‬ ‫وة والسلطان وأكبر قد ٍ‬ ‫ر من الق ّ‬ ‫يلئم ذلك ‪ :‬أكبر قد ٍ‬
‫من نسيان الموت حــتى يــأتي المــوت ‪ .‬وتجتمـع إذ ذاك جميــع تفاســير الفلسـفة‬
‫ب يقتضيه الصراع مــع‬ ‫ص من اللم وواج ٌ‬ ‫ل وخل ٌ‬ ‫ة ولذّةٌ وسعادةٌ وأم ٌ‬ ‫للخلق ‪ :‬منفع ٌ‬
‫ء‬ ‫ً‬
‫القوى التي وجد ) زيدٌ ( نفسه مقذوفا في وسطها ‪ ،‬وهو بالتــالي أفضــل شــي ٍ‬
‫يفعله ) النا وحدي ( أو ) النا المتعالي ( على الصعيد النظري والعملي حــتى لــو‬
‫النيلي ‪77-----------------------------------------‬‬
‫كان ) زيدٌ ( ل يدري من هو أفلطون أو الفارابي أو كانت أو ستيوارت مــل أو‬
‫د ( في حالة كتلك أن هؤلء قــد‬ ‫كير كجارد أو سارتر أو هوسرل ‪ .‬ولو قلت لـ ) زي ٍ‬
‫ســروا المــوت والحيــاة بالطريقــة الــتي ذكروهــا ولكنهــم‬ ‫ســروا أخلقياتــك وف ّ‬ ‫ف ّ‬
‫ً‬
‫ول عن المسّتبد لتكون شخصا فاضـل غيـر مـا أنـت عليــه الن لمـا‬ ‫ً‬ ‫يطالبونك بالتح ّ‬
‫دق أن رجل ً عاقل يفعل ذلك ‍أو ينصحه بمثــل هــذه النصــيحة ! وســوف يتســاءل‬ ‫ً‬ ‫ص ّ‬
‫حته ‪ ،‬لن ما أفهمــه مــن‬ ‫ّ‬
‫مندهشا ‪ :‬لماذا أغّير سلوكي ؟ فإن ما تقوله لي يؤكد ص ّ‬ ‫ً‬
‫ث وأنهــا حــدثت بنفــس الطريقــة الــتي‬ ‫مجموع هذا الكلم أن حياتي هي مجّرد عب ٍ‬
‫تخرج بها كرة بيضاء أو سوداء من كيس اليانصيب ‪ .‬وهذا هو عيــن التفســير الــذي‬
‫ي هذه الخلق ل غيرها _ والــتي بهــا‬ ‫يخبرني به سيدي المسّتبد _ والذي يحّتم عل ّ‬
‫ّ‬
‫ل محله‬ ‫ة لح ّ‬ ‫أسعى لما هو أفضل ومن بينه أن أطيح برأس سيدي في أقرب فرص ٍ‬
‫‪ .‬لكــن الطاغيــة أفضــل منكــم لنــه عّلمنــي كــل ذلــك بغيــر مــا يزعــج رأســي‬
‫مــن‬ ‫مــن ِ‬‫ولــة ‪ .‬فقــل لــي ســيدي الرئيـــس َ‬ ‫قــدة والكتــب المط ّ‬ ‫بالمصــطلحات المع ّ‬
‫ة أخرى ؟‬ ‫ج ٍ‬‫د ( بح ّ‬ ‫جة ) زي ٍ‬ ‫الفلسفة يقدر على أن يدحض ح ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬ل أحد مطلقا ً ‪.‬‬
‫د ( ‪ ] :‬إن الله إلـه إحيـاء ل‬ ‫المشرقي ‪ :‬ولكن المسيح يستطيع حينما يقول لـ ) زي ٍ‬
‫إله أموات [‪ .((1‬وسوف يســأله قــائل ً ‪ :‬مــاذا تقــول أّيهــا الســيد ؟ أتعنــي أن مــوتي‬
‫خدعة ؟ ‪ .‬ولن يخبره السيد أن الدليل علــى ذلــك هــو أن ينفتــح علــى ذاتــه ويــرى‬
‫ي آخــر ‪ .‬إذا لــم‬ ‫ق فلســف ّ‬ ‫ي طري ـ ٍ‬ ‫) النا ( باقيا ً في عالم الوهام ‪ ،‬ولن يدّله على أ ّ‬
‫ة‬
‫تكن العبارة كافية ولــم يكــن لــديه العقــل المكيــن مــن فهمهــا ورؤيتهــا كحقيقـ ٍ‬
‫ة ‪ ،‬فــإن الســيد المســيح يســتطيع أن يجعلــه يســتعمل الحــواس الخمســة‬ ‫شاخص ـ ٍ‬
‫ص يرغــب برؤيتــه مــن‬ ‫لملحظة تلك الحقيقــة حينمــا يطلــب منــه تســمية أي شــخ ٍ‬
‫الموتى ‪ ،‬ويقتاده إلى القبر ليلحظ أن نشوء النفس مّرة أخرى هو كنشوئها فــي‬
‫المّرة الولى ل فرق بينهما إل ّ في السرعة التي يقتضــيها الســتدلل و البرهــان‬
‫ة‬
‫ي حيــا ً‬ ‫ة ‪ ،‬وأنــه ح ـ ّ‬ ‫في الموقف ‪ .‬وفي تلك اللحظة يعلم ) زيدٌ ( أن موته هو خدع ٌ‬
‫ة ‪ .‬وسوف يتشّبث بالسيد ليسأله عن افضل ما يمكــن أن يفعلــه لجــل حيــاته‬ ‫أبدي ً‬
‫البدية هذه ‪ .‬ولكن إذا كان ) زيـدٌ ( أنانيـا ً إلــى حـدّ أنــه ل يريــد أن يكــون محتاجــا‬
‫د ‪ ،‬ويرغب في أن يجعل الجميع محتاجين إليه بما في ذلك السيد نفســه فــإنه‬ ‫لح ٍ‬
‫ذب أقوال الســيد حــتى لــو‬ ‫حي بحياته كلها وبقسميها لجل أنانيته ‪ .‬وسوف يك ّ‬ ‫يض ّ‬
‫ّ‬
‫بعث له كافة أهل القبور ‪ ،‬ولن يقّر بتلك الحاجة إل في حالة واحــدة فقــط وذلــك‬
‫ط‬‫ط على بدنه عذابا ً وألم ـا ً ل يقــوى علــى احتمــاله ‪ .‬لكنــه إقــراٌر مرتب ـ ٌ‬ ‫حينما ُيسل ّ ُ‬
‫بالمؤّثر وإنه ليزول إذا زال ‪.‬‬
‫من أن يستمّر وجوده مع المتأّثر من أجل استمرار هذا‬ ‫المغربي ‪ :‬إذن ل بدّ للمؤّثر ِ‬
‫القرار ‪.‬‬
‫المشــرقي ‪ :‬نعــم ‪ .‬إن أخــي المغربــي يســتنتج الن أبديــة العــذاب ‪ ،‬لكنهــا أبديــة‬
‫قق ‪.‬‬ ‫مرتبطة بأبدية الوجود المتح ّ‬
‫ة ُتظهــر عوارضــه الناصــعة البيــاض‬ ‫) يرفع الرئيـس حــاجبيه ويفتــح فمــه بابتســام ٍ‬
‫ور الوجه ‪ ،‬طويل الرموش ‪ ،‬إذا رآه‬ ‫ث اللحية ‪ ،‬مد ّ‬ ‫لك ّ‬ ‫وتتجّلى في وجهه صورة رج ٍ‬
‫م أنه قال (‬ ‫المرء حسبه ظريفا ً عليه بلهة ويعجبه أن يمازحه … ث ّ‬
‫قق ؟ ‪.‬‬ ‫ة وجوٍد غير متح ّ‬ ‫قق ؟ أثمـ َ‬ ‫الرئيـس ‪ :‬وما الوجود المتح ّ‬
‫ل ‪ ،‬بيــد أن‬ ‫م مفعــو ٍ‬ ‫م والموجود إس ـ ُ‬ ‫المغربي ‪ :‬طبعا ً سيدي الرئيـس ‪ .‬فالوجود إس ٌ‬
‫م ( فالسم ) قدوم ( وإذا‬ ‫قدَ َ‬ ‫ت) َ‬ ‫ظ معنى ‪ ،‬فإذا قل َ‬ ‫ل لف ٍ‬ ‫هذا السم مختلف فإن لك ّ‬
‫) وجــود ( ‪.‬‬ ‫ت ) وجــد ( فالســم‬ ‫ت ) وقع ( فالسم ) وقوع ( ‪ ،‬فكذلك إذا قلـ َ‬ ‫قل َ‬
‫ما بالماضــي‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫م لتحقق كل الفعال ‪ .‬فالفعل دوما يفيد التحقق ‪ .‬إ ّ‬ ‫ّ‬ ‫م عا ّ‬
‫فالوجود اس ٌ‬
‫)‪(1‬‬
‫العبارة كلها من كلمات المسيح ) ع ( ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪78‬‬
‫قق معه كما لو قلت ) وقــع زيـدٌ ( فــالوقوع بهــذه‬ ‫فيكون قد انتهى واسمه متح ّ‬
‫قق ‪ .‬وإذا قلت ) يرضخ ( فهو مســتمر والرضــوخ‬ ‫د ( قد تح ّ‬ ‫الصورة وبخصوص ) زي ٍ‬
‫حـظ ‪ .‬وإذا أمـرت بصـيغة المـر فإنـك تطلـب تحقيـق‬ ‫قـق بـالزمن المل َ‬ ‫ل زال يتح ّ‬
‫ء‬
‫قق ممتلىءّ بالمعنى ‪ .‬وبالتالي فإن ) وجود ( شي ٍ‬ ‫السم ‪ .‬فالسم فارغ من التح ّ‬
‫ق شــيء مــا بحيــث يكــون متواجــدا ً ‪ ،‬فالحــديث عــن‬ ‫قـ ِ‬ ‫ما ل يعني ســوى إمكــان تح ّ‬
‫قق في التواجد أو عدمه سواء‬ ‫الشيء ووجوده بصيغة السم قد يعني حصول التح ّ‬
‫قق بالفعــل لكــان كــل ســؤال عــن وجــود‬ ‫بسواء ‪ .‬إذ لو كان ل يعني إل ّ ما هو متح ّ‬
‫ء ما سؤال ً خاطئا ً ‪.‬‬ ‫شي ٍ‬
‫الرئيـس ‪ :‬فما معنى ) الوجود ( المعّرف عندهم بـ ) أل التعريف ( ؟ ‪.‬‬
‫ى ل يمكــن‬ ‫المغربي ‪ :‬معناه عندهم هو غير معناه فـي اللغــة _ فهــو عنــدهم بمعنـ ً‬
‫ذكــره فــي اللغــة إل ّ بعبــارة مثــل ) وجــود الشــياء الموجــودة ( _ إذا افترضــنا أن‬
‫م وأشــياء غيــر‬ ‫وة فهــذا قسـ ٌ‬ ‫الشياء قسمان ‪ :‬موجــودة بالفعــل أو موجــودة بــالق ّ‬
‫دثون عــن ) الموجــود (‬ ‫موجودة ومحال أن توجد وهو القسم الخر ‪ .‬إذن فهم يتحـ ّ‬
‫مونه ) وجودا ً ( ‪.‬‬ ‫ويس ّ‬
‫المشرقي ‪ :‬وعند ذلك فنحن ندرك جّيدا ً أن اللغة هي الفكر ‪ ،‬وليست أداةً للفكر ‪.‬‬
‫فما ليس له في اللغة وجود فليس له في الواقع وجود ‪.‬‬
‫ّ‬
‫وةً ما تسري في الموجودات تمكــن القســم الول‬ ‫المغربي ‪ :‬لكنهم قد يعنون به ق ّ‬
‫من الشياء من الظهور ‪ ،‬أي أن الوجود مفهوم لحصول تواجد الشياء ‪ ،‬وهــو كمـا‬
‫وة مــن جهــة أخــرى ) موجــودة ( فليســت‬ ‫ترى خلف منطق اللغة ‪ ،‬فــإن تلــك القـ ّ‬
‫سابقة إذن على الشياء ! إنما هي فيهــا ومعهــا فهــي إذن عيــن ظهورهــا ‪ ،‬فهنــا‬
‫تتطابق اللغة مع المنطق ‪ .‬أما عندهم فالفتراق وعدم فهم دللة المفــردة لغوي ـا ً‬
‫يجعل المور عويصة عليهم ‪.‬‬
‫مونادو ‪ :‬يقول الشيرازي ) صدر المتألهين ( كما يدعوه أتبـاعه مـن بنـي النسـان‬
‫قق الشــياء ( ليطــابق‬ ‫قق ( ‪ .‬فلم يقل هو ) تح ّ‬ ‫ق الشياء بالتح ّ‬ ‫أن الوجود هو ‪ ) :‬ح ّ‬
‫ق ( ســابق‬ ‫قــق ‪ .‬إذن فالشــياء لهــا ) ح ـ ّ‬ ‫قها في التح ّ‬ ‫المفهوم اللغوي ‪ ،‬بل قال ح ّ‬
‫قق ‪ ،‬وعليه فإن الشياء أصــبحت ) واجبــة الوجــود ( ل فــرق بينهــا وبيــن‬ ‫في التح ّ‬
‫دعوه في التضاعيف ونقضوه في التجاويف !‬ ‫واجب الوجود ‪ ،‬ذلك الفرق الذي ا ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬آ … أيها المونادو الذي لم يخّيب ظّني فيه ! ما أسرع ما صرت تكتشــف‬
‫ن مــارٍد ! لكنــي‬ ‫ل في توحيد ) صدر المتألهين ( … يا لــك مــن شــيطا ٍ‬ ‫مونادَ هوسر ٍ‬
‫أسال ‪ :‬أهذا الفهم للوجود هو عين الماهية ؟‬
‫المشــرقي ‪ :‬كل ّ ‪ .‬فقــد ف ـّرق الشــيرازي بيــن الماهيــة والوجــود لنــه قــال ‪ ) :‬إن‬
‫شموله الكّلي هو مــن بــاب النبســاط والســريان علــى هياكــل الماهيــات ســريانا ً‬
‫ور فهو مختِلف الحقائق بحسب الماهيات (‪! ((1‬‬ ‫مجهول التص ّ‬
‫وليا ً _ مع أنه يعــترف ضــمنا ً‬ ‫ً‬
‫قا ( أ ّ‬‫ما كان هذا الفهم يجعل الوجود ) ح ّ‬ ‫المغربي ‪ :‬ول ّ‬
‫ســموا الوجــود‬ ‫م حقيقة الله ‪ ،‬ومن هنــا ق ّ‬ ‫وة سارية مخلوقة _ فقد أصبح يض ّ‬ ‫أنه ق ّ‬
‫إلى واجب وممكن ومحال ‪ .‬وفي هذا التقسيم مشكلتان ‪ :‬الولى أن الله اشــترك‬
‫مـا المشـكلة‬ ‫في صفة الوجود مع الممكنات واشترك في التعريف مع المحالت ‪ ،‬أ ّ‬
‫الثانية فإن إدخال ) المحال الوجود ( كقسم ٍ منها مناقض لتعريف الوجود بمــا هــو‬
‫ي بأن اللفظ على فهمه اللغوي ل يمكن إخراجــه مــن‬ ‫وة سارية ‪ ،‬واعتراف ضمن ّ‬ ‫ق ّ‬
‫ت سابقا ً ‪.‬‬ ‫قق أو عدمه سواء بسواء كما قل ُ‬ ‫هذه الدللة ‪ ،‬فهو حصول التح ّ‬
‫مــا قــال أن‬ ‫المشرقي ‪ :‬ولكنه ناقض قوله في الفرق بين الماهية والوجــود ‪ .‬إذ ل ّ‬
‫الوجود منبسط على هياكل الماهيات فقد أصبحت الماهيات موجودة قبلــه ! وإذن‬
‫فهي موجودة قبل ) الوجود ( ! وبالتالي فهي ليست إله ـا ً آخــر بــل أعظــم ‪ ،‬لنــه‬
‫)‪(1‬‬
‫الفقرات من الشواهد الربوبية ‪ /‬الفصل الول ‪.‬‬
‫النيلي ‪79-----------------------------------------‬‬
‫سيحاول بعد ذلك إثبات وجود ) الله ( بينما وجود الماهيات مفروغ منه ! ‪ .‬لكنـه‬
‫دم علــى‬ ‫ق أن الوجــود متق ـ ّ‬ ‫ميها يقول ‪ ) :‬فــالح ّ‬ ‫في ) الشراقة (الخامسة كما يس ّ‬
‫دمه مــع عــدم التــأثير ؟ إذ تبقــى‬ ‫الماهية ل بمعنى أنه مؤّثر فيه ( ! ‪ ،‬فما فائدة تق ّ‬
‫الماهية مستقّلة بوجودها عن مفهوم الوجــود نفســه فهــي إذن اكــبر مــن واجــب‬
‫الوجود ‍ لنها ل تحتاج ول تتأّثر حتى بالوجود ‪ ،‬بينما يحاول فيما بعد البرهنة علــى‬
‫واجب الوجود ‍! فقد انعكس المر ‪ ،‬إذ الماهية أصـبحت ل توصـف حـتى بـالوجود ‪،‬‬
‫م أن هذه هي صفة ) الله ( لن الحديث عن الوجود كاسم لغوي إنمــا يعنــي‬ ‫ومعلو ٌ‬
‫الحديث عن العدم ! ‪ ،‬بينما احتاج واجب الوجود إلى برهان لثبــات وجــوده ! علــى‬
‫ما أجمع عليه فلسفة السلم كّلهم ‪.‬‬
‫ل‬ ‫دم في الوجــود علــى آخــر فل بـدّ مــن اتصــا ٍ‬ ‫ء متق ّ‬ ‫ي شي ٍ‬ ‫م أن أ ّ‬
‫المغربي ‪ :‬ومعلو ٌ‬
‫ر ‪ ،‬فضرب مثل ً لعدم التأّثر هو قوله ‪ ) :‬بمعنــى أن الوجــود هــو الصــل‬ ‫بينهما وتأث ّ ٍ‬
‫ل والظـ ّ‬
‫ل‬ ‫ل الشخص (‪. 1‬لكن الشخص يؤّثر في الظ ـ ّ‬ ‫((‬
‫ع له كما يتبع الظ ّ‬ ‫والماهية تب ٌ‬
‫دم ل يــؤّثر ‪ ،‬وإذن فل‬ ‫ل يؤّثر في الشخص بخلف الفرض الذي زعمه من أن المتق ّ‬
‫خر ‪.‬‬ ‫دم في الوجود ل يؤّثر في المتأ ّ‬ ‫يجد مثال ً لمتق ّ‬
‫المشرقي ‪ :‬لكنه يناقض ذلك كله بعد سطور إذ يزعم أن الوجود والماهية مّتحدان‬
‫! بل يزعم أن الماهية ناتجة عــن الوجــود وذلــك حينمــا يقــول ‪ ) :‬فيكــون الوجــود‬
‫مــا الماهيــة فموجــودة بــالوجود أي بــالعرض فهمــا‬ ‫موجودا ً في نفســه بالــذات ‪ ،‬أ ّ‬
‫مّتحدان ( ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬ويكون الناتج سيدي الرئيـس هو ألوهية الوجود ) بمعنى وجود الشياء‬
‫الموجــودة ( ‪ ،‬لن الماهيــة ليســت ســوى ماهيــة الشــياء الموجــودة فعل ً فهــي‬
‫قق عيانا ً أربكتهم فأعطوها صفة واجب الوجود ‪ ،‬لذلك احتاج واجب‬ ‫لوجودها المتح ّ‬
‫ً‬
‫الوجود إلى برهان لثبات وجوده خلفا للماهيات !‬
‫المشــرقي ‪ :‬وإذن فالتنــاقض الخــر هــو فــي التقســيم ‪ ،‬إذ المعلــوم أن ) واجــب‬
‫الوجود (لفظ أو اصطلح يتناقض مع البحث الدائم عن الـبراهين لثبـات وجـوده !‬
‫إذ كيف يحتاج واجب الوجود إلى برهان ‪ ،‬بينما ل يحتاج الممكن الوجود إلى مثــل‬
‫ذلك ؟‬
‫المغربي ‪ :‬ومن هنا اّتفقــت كلمتهــم علــى أن يبحثــوا فــي إثبــات واجــب الوجــود‬
‫موه المطلوب العظيم‪. ((2‬‬ ‫وس ّ‬
‫دمات‬ ‫ً‬
‫الرئيـــس ‪ :‬مــع أنــي مســروٌر ج ـدّا لعمــالكم الجليلــة فــي وضــع هــذه المق ـ ّ‬
‫ل يقول أننا وجدنا المثّلث القائم‬ ‫ب قائ ٍ‬ ‫ل ‪ ،‬فر ّ‬ ‫م ٌ‬ ‫المتهّرئة إل ّ أن هناك اعتراض محت َ‬
‫الزاوية يكون فيه المرّبع المنشأ على الوتر يساوي مجمــوع المرّبعيــن المجـاورين‬
‫دة طويلــة ‪،‬‬ ‫ن عليه ‪ ،‬ثم جــاء البرهــان بعــد ذلــك بم ـ ّ‬ ‫له ومع ذلك لم يكن لدينا برها ٌ‬
‫ّ‬
‫فكذلك المر فإن واجب الوجود ل ش ـك فــي وجــوده ومــع ذلــك فإننــا نحتــاج إلــى‬
‫كنا بوجوده فالبرهان هو لهذه الغاية‪. ! ((1‬‬ ‫معرفة السبب في عدم ش ّ‬
‫ة أكثر مما نحن‬ ‫ة عويص ٍ‬ ‫سل إليك سيدي الرئيـس … ل تربكنا بأسئل ٍ‬ ‫المشرقي ‪ :‬أتو ّ‬
‫مرتبكين بمسائلك السابقة !‬
‫ً‬
‫دق الرئيـس بالمشرقي مندهشا ثم يقول (‬ ‫) يح ّ‬
‫ُ‬
‫ول تقدر أّيها المشرقي علــى إجابــة ســؤالي ؟ أقســم بعــدميتي الــتي‬ ‫َ‬
‫الرئيـس ‪ :‬أ َ‬
‫ن‬‫ذعرت منها الكائنات لئن لم تجب على مسألتي بأثبت جنان وأفصح بيان لنــتزع ّ‬
‫ل للعذاب منذ الن ! ‪.‬‬ ‫ل تأجي ٍ‬ ‫منك ك ّ‬

‫)‪ (1‬الشواهد الربوبية ‪ /‬الشراقة الخامسة ‪.‬‬


‫)‪ (2‬إثبات واجب الوجود ‪/‬نجم المّلة علي بن عمر الكاتبي ‪ /‬المطارحات الفلسفية ‪ /‬دار‬
‫المعارف ‪. 1956/‬‬
‫)‪(1‬‬
‫هذه هي العبارة الخرى التي يرصدها مونادو والتي سيحاول الستفادة منها في آخر القصة ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪80‬‬
‫المشرقي ‪ :‬بل أجيب على المسألة بأثبت جنان وأفصح بيان وأقول بأن ســبيل‬
‫هذا البرهان مختلف عن سبيل ذلك البرهان بــل هــو نقيضــه ‪ .‬ذلــك لنهــم حينمــا‬
‫وجدوا المثّلث القائم الزاوية على هذا الحـال ‪ ،‬فـإن العقـل أوجـب ويـوجب علـى‬
‫المرء البحث عن سبب ظهور هذه الحقيقة في المثّلث والمرتبط ببديهيات أوليــة‬
‫معلومة في العقل ‪ .‬فالعقل يعلم أشياء قالوا أنهــا بديهيــة ل تحتــاج إلــى برهــان‬
‫ة بين هذه الحقيقــة وتلــك البــديهيات ‪ .‬ولــذلك فــأن‬ ‫ة منطقي ٍ‬
‫وإذن فل بدّ من علق ٍ‬
‫ّ‬
‫البرهنة على هذه الصفة في المثلث تعتمد على تلــك البــديهيات ويســتحيل وضــع‬
‫ما سبيل البرهان على واجب الوجــود فهــو نقيــض ذلــك تمام ـا ً ‪،‬‬ ‫ن خارجها ‪ .‬أ ّ‬ ‫برها ٍ‬
‫‪((2‬‬
‫دوا علـى مـن قـال بـأن الوجـود اعتبـاري‬ ‫لنهم قالوا أن ) الوجـود بديهيـة ( ‪ ،‬ور ّ‬
‫محض ‪ .‬والذي وجوده واجب يجب أن يكون هو تلــك البديهيــة الوجوديــة الولــى ‪،‬‬
‫خروا واجب الوجــود عــن‬ ‫فل شيء من البديهيات قبله ليمكن البرهنة عليه بها ‪ ،‬فأ ّ‬
‫مــا‬‫وجوده الواجب وطلبوا البرهان عليه ‪ .‬فعملهم مثل عمل مجنونة بنــي فلن ‪ :‬ل ّ‬
‫مت الغزل قالت فأين ذهب الصوف ؟ فقيل لها فــي الغــزل فقــالت لنقض ـّنه ‪،‬‬ ‫أت ّ‬
‫مت النقض قالت فأين ذهب الغزل ؟فقيل لها استحال إلى صوف ‪ ،‬قــالت‬ ‫ما أت ّ‬
‫فل ّ‬
‫‪((3‬‬
‫لغزلّنه ! فما زالت تنقض ما غزلت وتغزل ما نقضت حتى هلكت ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬فالفلسفة أجمعوا على إمكانيــة إثبــات وجــود ) واجــب الوجــود ( ‪ ،‬بــل‬
‫وتناقشوا في أفضل السبل الكفيلــة بهــذا الثبــات وامتــدح بعضــهم البعــض رغــم‬
‫حد الهدف ‪ .‬فقد قال ) نصير المل ّــة ( فــي مطارحــاته مــع‬ ‫الفجوات والخلفات لتو ّ‬
‫) نجم المّلة ( ‪ ) :‬طالعت الرسالة الــتي عملهــا مولنــا المــام نجــم الملــة والــدين‬
‫ّ‬
‫لمة العصــر وافضــل العــالم علــي بــن عمــر الكــاتبي _ أدام اللــه أفضــاله _ فــي‬ ‫ع ّ‬
‫المباحث المتعّلقة بإثبات واجب الوجود _ جّلت أسماءه _ فوجدتها مشــحونة بغــرر‬
‫درر مشتملة على فرائد الفوائد … (‪. ((1‬‬ ‫ال ُ‬
‫المشرقي ‪ :‬ليس المر كما قال أخي شيطان المغرب وحسب ‪ ،‬بل انطــوى تــأخير‬
‫واجب الوجود عن وجوده على إضفاء صفات الممكنات عليه وإضفاء صفاته علــى‬
‫جله التاريــخ لنــا علــى‬ ‫الممكنات فانعكس المر ‪ .‬وهذا هو النجاح الساحق الذي س ـ ّ‬
‫بني النسان ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬وكيف كان ذلك ؟‬
‫المغربي ‪ :‬كان ذلك ظــاهرا ً فــي جميــع أقــوالهم فبــأّيهم تريــدني أن أبــدأ ســيدي‬
‫الرئيـس ؟‬
‫ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬إبدأ بما يقوله المعلم الثــاني ‪ ،‬فــإنه قــد أطــال المقــالت فــي الوجــود‬
‫وأقسامه ‪.‬‬
‫ل مــا كــان جــوهره‬ ‫ّ‬
‫المغربي ‪ :‬قال المعلم في صفة ممكن الوجود وتعريفــه ‪ ) :‬ك ـ ّ‬
‫(‬
‫ه(‬ ‫ب آخـُر غيـَرهُ وهــو عــدم ض ـدّ ِ‬ ‫ف فــي بقــاءه أو وجــوده فلوجــوِده ســب ٌ‬ ‫ليس بكا ٍ‬
‫ف‬ ‫‪.(2‬والمعنى هو أن الموجودات ليست موجودة بذاتها إذ لشيء في جوهرهــا كــا ٍ‬
‫ج عنها وهذا الشــيء هــو‬ ‫لبقائها ووجودها والسبب في وجودها هو شيء آخر خار ٌ‬
‫عدم وجود ما ينفي وجودها وهو الضدّ ‪ .‬إذ عّرف الضدّ بــأنه الــذي ينفــي الشــيء‬

‫)‪ (2‬الشواهد الربوبية ‪ /‬الشراقة الولى ‪.‬‬


‫)‪ (3‬القرآن الكريم ‪ /‬آية ‪/ 92‬سورة النحل ‪.‬‬
‫‪(1‬‬
‫مد بن نصير الدين الطوسي _ فيلسوف وفلكي بنى مراصد المشرق وكان‬ ‫مد بن مح ّ‬
‫) مح ّ‬
‫وزيرا ً لهولكو وكان إسماعيلي المذهب وقيل اثنا عشري فيما بعد وله مؤّلفات كثيرة في الفلك‬
‫والفلسفة _ والفقرة من المطارحات ‪ 49 /‬ب ‪.‬‬
‫)‪ (2‬آراء أهل المدينة الفاضلة ‪ /‬الفارابي _ ‪. 30‬‬
‫النيلي ‪81-----------------------------------------‬‬
‫تحديدا ً ( ‪ .‬إذن فالموجودات ل ضدّ لها ! لك ّ‬
‫‪(3‬‬
‫ن عنوان البحــث هــو ‪ ) :‬القــول فــي‬
‫ضدّ له !! ‪.‬‬ ‫واجب الوجود أّنه ل ضدّ له ( ! فكانت النتيجة أن ممكن الوجود ل ِ‬
‫الرئيـس ‪ :‬فأين مكمن الخطأ هنا ؟‬
‫دية هــي‬ ‫المشرقي ‪ :‬إنه يكمن سيدي الرئيـس في انعكــاس الفــرض ‪ .‬فــإن اللض ـ ّ‬
‫صفة واجب الوجود على التقسيم المذكور والتي اعترف بهــا عنــوان البحــث عنــد‬
‫ورهم أن ممكــن‬ ‫ل منهم وخالفتها النتيجة عنــد جميعهــم ‪ .‬والــوهم هــو فــي تصـ ّ‬ ‫ك ّ‬
‫ً‬
‫ده ‪ ،‬بينما المر هو على العكس تماما ‪.‬‬ ‫الوجود إنما كان سبب وجوده هو انتفاء ض ّ‬
‫فإن الممكنات هي الضداد فقط إذ ل يقدر على الظهور وارتداء الوجــود إل ّ مــاله‬
‫ة ‪ ،‬وليــس مـن شـيء يمكــن لـه أن‬ ‫ة ويختفيـان سـوي ً‬ ‫دان يظهران سوي ً‬ ‫ضدّ ‪ ،‬فالض ّ‬
‫يوجد وهو بغير ضدّ ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬لماذا ؟‬
‫ء‪.‬‬ ‫المغربي ‪ :‬لن الشيء الذي ليس له ضدّ ليس بشي ٍ‬
‫الرئيـس ‪ :‬ماذا تعني بالشيء إذن ؟‬
‫المغربي ‪ :‬إن اللغة فكٌر … وإن في اللغة القدرة على أن نشير إلى ما نفك ّــر فيــه‬
‫ولو كان محال ً أو خيال ً أو بــاطل ً … إن مفــردة ) الشــيء ( هــي المفــردة الوحيــدة‬
‫دث عن التسامح في اســتعمال المفــردات‬ ‫التي تشير إلى اللغة كّلها ‪ .‬وإني ل أتح ّ‬
‫ميه صديقا ً في البدء‬ ‫ق ( فتس ّ‬ ‫مثل قولك ‪ ) :‬إن الصديق الذي ل يذكرني ليس بصدي ٍ‬
‫وتنفي عنه التسمية في النهاية ‪ .‬كل ‪ .‬إني إنما أتحدث عن مفردة ) شيء ( الــتي‬
‫ورها وتشير‬ ‫ة ‪ ،‬فهي تعمل بوجهين لنها تشير إلى إمكان تص ّ‬ ‫ة ممكن ٍ‬ ‫تعني ك ّ‬
‫ل فكر ٍ‬
‫ة ‪.‬وإذن فهناك دوم ـا ً‬ ‫قق إل بوقوع المكانين سوي ً‬ ‫ّ‬ ‫إلى إمكان وجودها ‪ ،‬وهي ل تتح ّ‬
‫ً‬
‫وره النسان شيئا بل ضدّ هو )‬ ‫شيء ليس بشيء ‪ .‬ومن هنا أقول إن هذا الذي تص ّ‬
‫ور لكنه ليس بشيء على المكان والناتج أنه ليس بشــيء ‪ .‬مــن‬ ‫شيء ( على التص ّ‬
‫أجل ذلك فإن أحد الذين أنزلت عليهم الكتــب ســكت طــويل ً ورفــض الجابــة علــى‬ ‫ُ‬
‫ن‬‫سؤال الســائل ‪ ) :‬هــل اللــه شــيء ؟ ( ‪ .‬ذلــك لنــه إن قــال ) نعــم ( فرّبمــا يظـ ّ‬
‫قــق الوجــود‬ ‫ن أنه غيــر متح ّ‬ ‫وره ‪ ،‬وإن قال ) ل ( فقد يظ ّ‬ ‫السائل أنه يمكنه أن يتص ّ‬
‫ح عليه قال الــولي ‪:‬‬ ‫ما أل ّ‬
‫فاحتار ذلك الولي في الجابة على سؤال هذا الجاهل فل ّ‬
‫ور ‪ .‬بيدَ إن الفلسفة يعجبهم أن‬ ‫قق ونفى التص ّ‬ ‫) شيءٌ ل كالشياء ( ‪ .‬فأثبت التح ّ‬
‫ور مــن حيــث أنــه ) موجــود ( فــي‬ ‫يقلبوا هذا القول فيظّنون أنه شيء فــي التص ـ ّ‬
‫ور ولكنه ليس كالشياء في الوجود ! ‪.‬‬ ‫التص ّ‬
‫ء ول يمكــن أن‬ ‫الرئيـس ‪ :‬لكن لو قيل لك أنك قلت أن ما ليس له ضدّ فليس بشي ٍ‬
‫ُيوجد وأنت تقول أيضا ً أن الله ليس له ضدّ ‪ .‬وإذن فهو ليس بشيء فماذا تقول ؟‬
‫ل شيء له ضدّ يمكــن أن ُيوجــد ومــا ليــس لــه‬ ‫المشرقي ‪ :‬ل نقول إل ّ ما قلناه ‪ :‬ك ّ‬
‫ضدّ ل يمكن أن ُيوجد وإن الله ليس له ضدّ ول يمكن أن ُيوجد فهل أخطأتنــا اللغــة‬
‫أم نحن أخطأناها ؟‬
‫الرئيـس ‪ :‬لكّني أرى بعض الشياطين لم يفهموا ! ‪.‬‬
‫ي للمكــان ‪ .‬أولــم‬ ‫المغربي ‪ :‬بالطبع ) ل يمكن أن يوجد اللــه ( فهــذه العبــارة نف ـ ٌ‬
‫يكونوا يبحثون عن نفي المكان عنه لثبات الوجوب ؟ ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬لنه إن أمكن أن يوجد فهناك مــن أوجــده وأصــبح حادث ـا ً وهــو نقيــض‬
‫القديم على تقسيمهم العجيب ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬فقولنا ‪ ) :‬ل يمكن أن يوجد ( هو مثل قولنا ‪ ) :‬ل يمكن أن يولد ( فهل‬
‫اخطأنا اللغة سيدي الرئيـس ؟‬
‫الرئيـس ‪ :‬بل أنا مسرور جدّا ً لما ذكرتموه ‪ ،‬فقــد برهنتــم علــى الصــفة الخامســة‬
‫والصفة الرابعة من عبارة الناموس التي ذكرها آخر الكتب المنّزلــة ‪ .‬فلكمــا منــي‬
‫)‪(3‬‬
‫المصدر السابق ‪. 26 /‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪82‬‬
‫على ذلك أن أمنحكما تأجيل ً استثنائيا ً من العذاب قــدره عشــرة آلف ســنة عــن‬
‫الخامســة وضــعفها عــن الرابعــة … وكــذلك فالمقــدار يتضــاعف إذا خطــوتم نحــو‬
‫ة منها ‪.‬‬
‫ل واحد ٍ‬ ‫دمة في العبارة عن ك ّ‬ ‫الصفات الثلثة المتق ّ‬
‫ً‬
‫) ينظر المشرقي في وجه المغربي مذهول من هذا الرقم المفاجئ للمكافـأة ثـم‬
‫يقول له (‬
‫قى‬ ‫ّ‬
‫المشرقي ‪ :‬ماذا نريد أعظم من هذا الرصيد فتعال نستأذن لنتناجى لعلنــا نــتر ّ‬
‫بالستدلل إلى بقية مفردات عبارة الناموس !‬
‫) وإذ ينتبه الرئيـس لما هما فيه فإنه يقول لهما (‬
‫الرئيـس ‪ :‬أّيها المغربيان المشرقيان … اذهبا فتناجيا ما شئتما ‪ ،‬وأحكمــا المعنــى‬
‫قعا مني أعوص المسائل ‪.‬‬ ‫واللفظ والبناء وتو ّ‬
‫) يخرجان من الباب السود (‬
‫الرئيـس ‪ :‬ما لي ل أرى المارد الذي جاء بمحاورة الحكيمين ؟‬
‫المعاون ‪ :‬أتراحسس ! سيدي الرئيـس اسمه أتراحسس ‪ ،‬وقــد بعثت ُــه علــى وجــه‬
‫ر‪.‬‬‫د آخ ٍ‬‫ء عن عزمهما على تمثيل مشه ٍ‬ ‫السرعة بعد مجيء أنبا ٍ‬
‫الرئيـس ‪ :‬وما تفصيل هذه النباء ؟‬
‫المعاون ‪ :‬تفصيُلها أن ماهانا الحكيم قال ضحى اليــوم لصــديقه براهمــا الحكيــم ‪:‬‬
‫جب علــى المــرء أن يتعل ّــم ) التحــامق ( كمــا‬ ‫دثني أنه يتو ّ‬ ‫)أي براهما إن نفسي تح ّ‬
‫ت عنــه‬ ‫قل ! ( فقال براهما ‪ ) :‬إن مـا تقــوله يــا ماهانــا شـيءٌ قــد غفلـ ُ‬ ‫يتعّلم التع ّ‬
‫ل الحق ‪ ،‬ولكن أخبرني كيف نفعل ذلك ومــا وجــه الحيلــة‬ ‫ق فيه ك ّ‬ ‫فعل ً ‪ ،‬وإنك لمح ّ‬
‫فيه ؟ ( ‪ .‬فقال ماهانا ‪ ) :‬ما ترى لو نتحامق مع هذا الجبل الــذي نحــن فــي كهفــه‬
‫دث فإني ل أرى شــيئا ً وأنــت تقــول آ‬ ‫وكنفه ؟ كأن أنكره فأقول عن أي شيء تتح ّ‬
‫س جدّا هو أن ل‬‫ً‬ ‫همت فإني أيضا ً ل أرى شيئا ً ‪ .‬وهكذا على شر ٍ‬
‫ط قا ٍ‬ ‫… نعم لقد تو ّ‬
‫ل ما في وسعك من الحمــق … فــإذا اختلفنــا أصـّر‬ ‫تعود إلى عقلك قط ‪ ،‬وتفعل ك ّ‬
‫ك مـن‬ ‫ل مّنـا بتلبيــب صـاحبه حــتى نتهالـ َ‬ ‫ل مّنا على حمقه ثم نتجادل ويمسك ك ّ‬ ‫ك ّ‬
‫قل ؟ ( ‪ .‬فردّ عليه براهما قائل ً ‪) :‬‬ ‫العراك … فهل ننجح في ضبط أنفسنا عن التع ّ‬
‫ما أنا فلست مطمئن ّا ً تماما ً إلى أن موضوع الجبل يمنحني ما‬ ‫يا لخيالك الواسع … أ ّ‬
‫خب ـا ً‬‫منت َ‬‫أحلم به من حماقات ! فيا عزيزي ماهانا يجب أن يكــون الموضــوع جي ّــدا ً و ُ‬
‫ق سـيدي الحكيـم ‪،‬‬ ‫ر ممكـن مـن الحمـق ‪ . ( .‬فقـال ماهانـا ‪ ) :‬أنـت محـ ّ‬ ‫لكبر قـد ٍ‬
‫كر إذن … حتى يحين وقت العصر ‪. ( .‬‬ ‫فلنف ّ‬
‫) يقول المعاون مخاطبـا ً الرئيـــس ومشــيرا ً فـي نفــس الـوقت إلـى أحـد المـردة‬
‫بالخروج (‬
‫المعاون ‪ :‬ومن أجل ذلك أرسلت أتراحسس إلى الموقع لني ل آمن من أن يقوما‬
‫بخلف ما يظهر منهما من كلم ‪ ،‬فلطالمــا تفاهمــا بــالنظرات واّتفقــا بالشــارات‬
‫وخالفا المأمول فل يجد الشياطين إليهما من سبيل ‪ .‬وإني لمل مــن أتراحســس‬
‫ة شاء أن يفسد عليهما ما أزمعــا عليــه‬ ‫ور بأّية صور ٍ‬ ‫المارد البارع القادر على التص ّ‬
‫من التحامق ‪.‬‬
‫) يعود المارد الذي أرسله المعاون ويقول (‬
‫المارد ‪ :‬انتهت آخر فقرة من الحوار وأتراحسس في أثري أّيها الرئيـس ‪.‬‬
‫) يصل أتراحسس ويستأذن للدخول ويدخل معه المشرقيان (‬
‫أتراحسس ‪ :‬الظلم عليكم !‬
‫الرئيـس ‪ :‬وعليك الظلم أعجل بشّر ‪.‬‬
‫أتراحسس ‪ :‬زعما سيدي الرئيـس أنهما وإلى أن حان وقت العصر لم يجدا ما هــو‬
‫جديٌر بالتحامق !‬
‫النيلي ‪83-----------------------------------------‬‬
‫ت إذن وأنت الذي تكمن بين الصلب والـترائب وتسـري فـي‬ ‫الرئيـس ‪ :‬وأين كن َ‬
‫العروق ؟‬
‫أتراحسس ‪ :‬وما الفائدة من الكمون إذا كان للنسان القدرة على مخالفــة نفســه‬
‫حينما يّتصف بالحكمة ؟ إذ ليــس للشــيطان من ّــا مهمــا بلــغ مــن البراعــة أن يكــون‬
‫ك فـي‬ ‫ن لهـذين الرجليـن سـوى الشـ ّ‬ ‫أقرب للنسان من نفسـه ‪ ،‬وليـس مـن ديـد ٍ‬
‫نفسيهما ‪.‬‬
‫ذاب ! فما جرى بعد ذلك ؟‬ ‫ت يا ك ّ‬‫الرئيـس ‪ :‬صدق َ‬
‫أتراحسس ‪ :‬إليك هذا المحاورة بأحداثها والــتي جــرت بينهمــا ‪ .‬فقــد قــال ماهانــا‬
‫لبراهما ‪:‬‬
‫ل على عدم بلوغنا المرتبة اللئقة بنــا مــن‬ ‫ماهانا ‪ :‬إن عجزنا عن التحامق لهو دلي ٌ‬
‫قل ‪.‬‬ ‫التع ّ‬
‫ء لعّلنا ندخل في التحامق عفوا ً ‪.‬‬ ‫ي شي ٍ‬ ‫دث عن أ ّ‬ ‫ت يا أخي ‪ .‬فلنتح ّ‬ ‫براهما ‪ :‬صدق َ‬
‫ماهانا ‪ :‬هذا أحسن ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬مع من تتكّلم أّيها النسان ؟ أل تعلم بأني لست موجودا ً الن ؟‬
‫دد ( … بالطبع أنت لست موجودا ً الن …نعم …‬ ‫ماهانا ‪ :‬معك … كل ّ … مع … ) يتر ّ‬
‫ت لك ل تكّلمني ‪ .‬ألم تسمع ؟ فأنا لست موجودا ً ‪.‬‬ ‫براهما ‪ :‬قل ُ‬
‫ّ‬
‫كر في الرد ( ‪ :‬آه … نعم ل تكلمني أّيها الرجل فأنا معدوم ‪.‬‬ ‫ماهانا ) يف ّ‬
‫م تكّلم معدوما ً ؟‬ ‫براهما ‪ :‬عجبا ً ل ِ َ‬
‫ماهانا ‪ :‬لن أكّلمك بعد الن … لكني ســأتكّلم عــن المعــدومات وأنــت معــدوم وأنــا‬
‫معدوم أيضا ً ‪ ) .‬يكّلم نفسه (‬
‫براهما ‪ :‬لكنك ل زلت تخاطبني وقد قلت لك ل تكّلمني فأنا معدوم ‪.‬‬
‫ماهانا ) يكّلم نفسه ( ‪ :‬أنا معدوم … أنا معدوم ‪.‬‬
‫براهما ‪ :‬أنا غبر موجود … أنا غبر موجود ‪.‬‬
‫) يفترقان غير أن براهما يصيح (‬
‫قــل … هــذه‬ ‫قــف وارجــع إلــى التع ّ‬ ‫قــف يــا ماهانــا عــن التحــامق ! تو ّ‬ ‫براهمــا ‪ :‬تو ّ‬
‫ة ‪ .‬إنها ل تعجبني !‬ ‫المحاورة مقرف ٌ‬
‫ماهانا ‪ :‬كان المفروض أن نختلف ونتعارك فما الذي حصل ؟‬
‫ئ للغاية ‪.‬‬ ‫ق سي ٌ‬ ‫براهما ‪ :‬الذي حصل أننا اّتفقنا ‪ .‬إنه تحام ٌ‬
‫عد المحاورة وســأبدأ أنــا ‪-:‬ل‬ ‫ماهانا ‪ :‬لقد اكتشفت السبب يا براهما ‪ .‬هّيا … هّيا أ ِ‬
‫ت موجودا ً ‪.‬‬‫تكّلمني قط فأنا لس ُ‬
‫دم نحــوه غاضــبا ً ( ‪ُ :‬تكل ّــم مــن أّيهــا الرجــل ؟ أل تعلــم بــأني لســت‬ ‫براهمــا ) يتق ـ ّ‬
‫موجودا ً ؟‬
‫ة ‪ ،‬أنــا الــذي قلــت أول ً لســت‬ ‫ة لحقـ ٍ‬ ‫ماهانا ‪ :‬آ … أتريد أن ُتسـِبق عــدمّيتي بعدمي ّـ ٍ‬
‫موجودا ً ‪ .‬تاب … تاب‬
‫ل منهما بتلبيب الخر حتى سقطا إلــى الرض فوقــع‬ ‫) يضرب براهما ثم أمسك ك ّ‬
‫ً‬
‫براهما إلى ظهره ووقع ماهانا فوقه عرضيا إلى بطنه وهما خائري القوى ( ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬أريد أن أعلم ما الذي فهمه ) مونادو ( من هذه المحاورة ؟ ‪.‬‬
‫مونادو ‪ :‬إن فهمي لقاصٌر أّيها الرئيـس ! ‪.‬‬
‫ت ولو كــان‬ ‫ت أن تخبرني بما فهم َ‬ ‫الرئيـس ‪ :‬لم أطلب منك فهما ً صحيحا ً ‪ ،‬بل طلب ُ‬
‫خاطئا ً ‪.‬‬
‫ما التزما بهذا الشرط اختلفا ‪ .‬هذا‬ ‫ما لم يلتزما بشرط التحامق اّتفقا ول ّ‬ ‫مونادو ‪ :‬ل ّ‬
‫‪((1‬‬
‫هو ما فهمته ‪.‬‬

‫إن مونادو يكذب هنا لنه ينتفع بهذه المحاورة لتأسيس العلم بمجهولية الواحد المعلوم ‪ ،‬لكنه )‪1‬‬
‫(‬

‫‪ .‬ينتظر اللحظة المناسبة ليوِقع بالمشرقي ويفوز بزعامة الشياطين‬


‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪84‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬إن فهمك لقريب من الحقيقة ولكنه بالمقلوب ‪ .‬تكّلم يا مغربي ‪.‬‬
‫ل مــا‬ ‫ما كان التحامق هو خلف المعقول فإن كــ ّ‬ ‫المغربي ‪ :‬نعم سيدي الرئيـس ‪ .‬ل ّ‬
‫يقوله أحدهما فل بدّ للخر من القرار به على شرط التحامق ‪ .‬ولذلك اّتفقا على‬
‫اللمعقول ‪ .‬وحينما أعاد ماهانا المحاورة لكتشافه السبب حسب زعمــه اكتشــفه‬
‫في عين الوقت براهما ‪ ،‬فأسرع في الجابــة بخلف الشــرط وذلــك حينمــا قــال ‪:‬‬
‫ُتكّلم من أّيها الرجل أل تعلم بأني لســت موجــودا ً ؟ ‪ ،‬فهــو وأن كــان تحامق ـا ً فــي‬
‫م علــى الكــذب ‪ .‬وهنــا‬ ‫ظاهره إل ّ أنه ينطوي على تخطيط عقلني للسبق وهو قائ ٌ‬
‫ل ماهانا وبالمقابل بالشرط فقال ‪ :‬تريد أن ُتسبق … الخ ‪ .‬ثم قــال ‪ :‬أنــا الــذي‬ ‫أخ ّ‬
‫ة‬
‫ة كاذب ٍ‬ ‫م على الصدق بشأن قضي ّ ٍ‬ ‫ي قائ ٌ‬ ‫ً‬
‫قلت أول ً لست موجودا ‪ .‬وهذا احتجاج عقل ّ‬
‫هي ) عدم وجوده ( ‪ .‬ولذلك اختلفا ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬سيدي الرئيـس ‪ .‬تبدو لنا الشارة هنا إلى مصادر الختلف والتفاق ‪.‬‬
‫ة ‪ .‬يحصــل‬ ‫ة واحـد ٍ‬ ‫فالّتفاق يحصــل فــي حــالتين والختلف ل يحصــل إل ّ فـي حالـ ٍ‬
‫قل كامل ً ‪ .‬وهي حالة الحكيمين قبل المحــاورة ‪ ،‬ويحصــل‬ ‫الّتفاق حينما يكون التع ّ‬
‫قل ‪ .‬ومعنى ذلك إن المّتفقين دوما ً هم‬ ‫كذلك حينما يكون التحامق كامل ً أي اللتع ّ‬
‫ذج الــذين ل‬ ‫ما أن يكونوا من البلهاء الســ ّ‬ ‫ما حكماء تحّررت عقولهم من الذاتية وأ ّ‬ ‫إ ّ‬
‫ّ‬
‫ة هي الخلط بين التعقل‬ ‫ة واحد ٍ‬ ‫ّ‬
‫ما الختلف فل يحدث إل في حال ٍ‬ ‫ً‬
‫يحسنون شيئا ‪ .‬أ ّ‬
‫والتحامق ‪.‬‬
‫ل من يرغب في الكلم بشأن هذه المحاورة ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬ليتكلم ك ّ‬
‫جليوتا ‪ :‬كأنهما يقولن ‪ :‬إن الذين يمكن أن يّتفقوا علــى اللمعقــول هــم البلهــاء‬
‫ذج الذين انعدمت لديهم العقلنية أو الحكماء الذين يّتفقــون علــى المعقــول‬ ‫س ّ‬‫وال ُ‬
‫ما الفلسفة فل بدّ من اختلفهم لنهم رمــز النانيــة‬ ‫حينما تنعدم لديهم النانية ‪.‬أ ّ‬
‫ة…‬ ‫قــل فل ينتــج شــيءٌ ذو ثمــر ٍ‬ ‫قل معا ً ‪ .‬فالنانيــة تجلــب التحــامق مــع التع ّ‬ ‫والتع ّ‬
‫ة ل مفّر منها ‪.‬‬ ‫ويكون الختلف نتيج ٌ‬
‫ً‬
‫قــل تمام ـا ‪ ،‬فمــن‬ ‫عاليات العقل شأنه شــأن التع ّ‬ ‫ما كان التحامق من ف ّ‬ ‫المغربي ‪ :‬ل ّ‬
‫عال ً في ما هو مضادٌ لعمله الصلي ولغيا ً له ‪.‬‬ ‫غير المنطقي أن يكون العقل ف ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬نعم يا مغربي وما الذي ينتج من ذلك ؟‬
‫ن أكيدٌ على وجود النفــس _ العنصــر الخــر _ الــذي يقــف وراء‬ ‫المغربي ‪ :‬إنه برها ٌ‬
‫ل‬‫ل ل فاعـ ٌ‬ ‫ن علـى أن العقــل منفعـ ٌ‬ ‫العقل وينطوي على الذات المرة ‪ .‬إنـه برهـا ٌ‬
‫وهو إنما يكـون فـاعل ً بالنفعـال ‪ ،‬ومـن هنـا فـإنه يحســب الشــياء حسـب مـراد‬
‫الذات ‪.‬‬
‫ع‬ ‫عــال لجم ـ ٍ‬ ‫ة لبطال مقــولت العقــل الف ّ‬ ‫صص ً‬ ‫المشرقي ‪ :‬رّبما تكون المحاورة مخ ّ‬
‫من الفلسفة ‪.‬‬
‫سـس‬ ‫المغربي ‪ :‬وقد يكون المقصود بها إلغـاء مـا جـاء بـه عمانوئيـل كـانت والمؤ ّ‬
‫لل‬ ‫و ٌ‬ ‫لأ ّ‬‫عــال عنــد الفــارابي هــو عق ـ ٌ‬ ‫على العقل العملي الخالص ‪ .‬لن العقل الف ّ‬
‫ترقى إليه العقول ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬إن ) كانت ( يّتفق معنا في تحليلنا هذا بشأن العقل الخالص لنه إنما‬
‫كن من الحكم المسـّتقل ‪ .‬ولــذلك كتــب كتــابه ) الــدين‬ ‫أراد فصله عن النوازع ليتم ّ‬
‫ما الفارابي فــإن‬ ‫ي مغايٌر لهذا الدين ‪ .‬أ ّ‬ ‫ن عقل ّ‬ ‫مة دي ٌ‬ ‫داخل حدود العقل فقط ( ‪ .‬فث ّ‬
‫ل مخلوقٌ نشأ منه الفلك القصـى لــذا فهــو إلــه آخــر ‪.‬‬ ‫عال عنده هو عق ٌ‬ ‫العقل الف ّ‬
‫عــال ‪ ،‬إذ أنهــا ُتثبــت أن العقــل ل يمكــن أن يعمــل‬ ‫فالمحاورة إذن ُتلغي العقل الف ّ‬
‫ت ل يمكن فيه إطلق هذا السم على ) الله‬ ‫مستقل ّ عن الدوات المادية ‪ ،‬في وق ٍ‬ ‫ُ‬
‫( ليكون هو المقصود ‪.‬‬
‫م‬ ‫ن حينما يقــو ُ‬ ‫ب للدين بما هو دي ٌ‬ ‫دق أن ) كانت ( هو رجل مح ّ‬ ‫المغربي ‪ :‬كأنك تص ّ‬
‫ة مــن خلل نقــده‬ ‫بالتصحيح ؟ إنه فعل ذلك لمرين ‪ :‬الول هو لعطاء العقل هيمن ً‬
‫النيلي ‪85-----------------------------------------‬‬
‫كل لــديه خطوطـا ً حمــراء ل ينبغــي‬ ‫له فيكون بديل ً للوحي وإن كان الــوحي يشـ ّ‬
‫قـف عنـد تلـك الحـدود ‪ ،‬فإنمـا فعلـه إرضـاءا ً‬ ‫تجاوزها ‪ .‬والمر الخر هـو هـذا التو ّ‬
‫لجماعة اللهوت ‪ .‬ذلك لن ) كانت ( نفسه يقول ‪ ) :‬من المحتمل جدّا ً أن ل يوجــد‬
‫دين‬ ‫ط من العقل المحض (‪ .((1‬فــإذا أضــفت إلــى ذلــك قــوله ) إ ّ‬
‫ن ال ـ ّ‬ ‫ن قد اسُتنب ِ َ‬ ‫دي ٌ‬
‫ن من عقل النسان‬ ‫س دي ٍ‬ ‫ل هو تأسي ُ‬ ‫ق أريد بها باط ٌ‬ ‫ت إن هذه مقولة ح ّ‬ ‫واحد ( علم َ‬
‫ً‬
‫_ العقل العملي ل العقل المحض ‪ .‬فالباحثون قد ل يفّرقــون كــثيرا بيــن العملــي‬
‫دوا نقد العقل العملي والمحض نقدا ً واحدا ً ‪ ،‬وقارنوهما مــع كتــابه‬ ‫والمحض ‪ ،‬إذ ع ّ‬
‫ق علــى ظهــور المــادة‬ ‫عــال عنــده ســاب ٌ‬ ‫ما الفارابي فإن العقل الف ّ‬ ‫الثالث فقط ‪ .‬أ ّ‬
‫ً‬
‫ل مجّردٌ ‪ .‬ومن المحتمل جـدّا أن يكــون ) كــانت ( قــد‬ ‫ولكنه بعد الله ‪ ،‬فهو إذن عق ٌ‬
‫مى العقل ) المستفاد ( في تســمية‬ ‫عال بالمجّرد وس ّ‬ ‫مى الف ّ‬ ‫أخذ الفكرة منه ‪ ،‬فس ّ‬
‫الفارابي بالعقل العملي ‪.‬‬
‫ل جـدّا ً ( ‪ .‬فـأين كنتـم إذن‬ ‫الرئيـس ‪ :‬إنه لمـٌر سـيئ أن يقـول الشــيطان ) محتمـ ٌ‬
‫حينما كتب ) كانت ( الكتابين المذكورين ؟ ‪.‬‬
‫أتراحسس ‪ :‬إن المسائل المنية سيدي الرئيـس ُتلقي بظللها على الصيغ اللغوية‬
‫‪.‬‬
‫ّ‬
‫خزنابو ‪ :‬هل أتكلم ؟ ‪.‬‬
‫مل؟‪.‬‬ ‫الرئيـس ‪ :‬بلى … بلى … ول ِ َ‬
‫خزنابو ‪ :‬لكن ل تضحكوا من عقلي ‪ ،‬فإني ل أستطيع فهــم مســألة العقــل هــذه ‪،‬‬
‫ة أخــرى لحظتهــا عنــدما يذبــح بنــو النســان‬ ‫لكني أريد أن أعرض المشكلة بطريق ٍ‬
‫الدجاج ! ‪.‬‬
‫ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬نعم تكلم ما هي ؟‬
‫خزنابو ‪ :‬إن بني النسان في علومهم الطبية والتشريحية قــد فرغــوا مــن القــول‬
‫أن العقل في الــدماغ ‪ .‬وكــذلك فــإنهم يقولــون أن الــدماغ هــو عبــارة عــن خليــا‬
‫ء عــن بقيــة‬ ‫ة شــعرّية فهــي ل تختلــف بشــي ٍ‬ ‫ة تجري فيها الدماء بأوعي ٍ‬ ‫ة مادي ّ ٍ‬ ‫عصبي ٍ‬
‫م‬ ‫الخليا إل ّ بنفس نسبة اختلف خليا النسجة بعضها عن بعض ‪ .‬وإني لتساءل ِلــ َ‬
‫ر من هذه النسجة الكــثيرة فــي جســم النســان كــأن‬ ‫ز آخ ٍ‬ ‫ل يكون العقل في مرك ٍ‬
‫يكون في القلب أو الطحال أو المعدة ؟‬
‫م‬ ‫ل هــذا الســؤال ؟ المــر معلــو ٌ‬ ‫ؤ عاقـ ٌ‬ ‫مطيروش ) مارد الحياء ( ‪ :‬وهل يسأل أمر ٌ‬
‫فإن رئيس العضاء هو الرأس والذي فيه هو الدماغ وهو الوحيــد الــذي تمت ّــد منــه‬
‫شبكة العصاب إلى كافة الجزاء ‪.‬‬
‫ّ‬
‫دم إلى كافة‬ ‫خزنابو ‪ :‬على رسلك يا ملك التشريح ! فإن القلب هو الخر يرسل ال ّ‬
‫فة الجزاء ‪.‬‬ ‫الجزاء ‪ .‬وإن الغدد تفرز موادها إلى كا ّ‬
‫هــز البــدن‬ ‫ة تج ّ‬ ‫م مادي ّـ ٌ‬ ‫دم والهرمونــات إنمــا هــي مــوادٌ وأجســا ٌ‬ ‫مطيــروش ‪ :‬إن ال ـ ّ‬
‫ّ‬
‫ما الجهاز العصبي فإنه يســيطر علــى عمــل العضــاء كلهــا ‪ ،‬وعملــه‬ ‫باحتياجاته ‪ ،‬أ ّ‬
‫مة تفاعلت كيميائية ونتائج كهربائيــة تنتقــل علــى صــورة إشــارات‬ ‫قدٌ جدّا ً ‪ .‬فث ّ‬ ‫مع ّ‬
‫فة الجزاء ‪.‬‬ ‫إلى كا ّ‬
‫قــف‬ ‫ة ‪ ،‬أليس المفروض أن تتو ّ‬ ‫ن حادّ ٍ‬ ‫كي ٍ‬ ‫خزنابو ‪ :‬فإذا انفصل الدماغ عن البدن بس ّ‬
‫فة الحركات في البدن لنقطاع الشارات ؟‬ ‫كا ّ‬
‫ء ويموت ! ‪.‬‬ ‫ل شي ٍ‬ ‫قف ك ّ‬ ‫مطيروش ‪ :‬طبعا ً ! أل تراه يسكن بعد ذلك ويتو ّ‬
‫مني جدّا ً من الناحية الفيزيائية ‪ .‬فإن‬ ‫خزنابو ‪ :‬إن عبارة ) بعد ذلك ( التي قلتها ته ّ‬
‫الطير المقطوع الرأس يتحّرك ويفّر ويركض مّرة بعد مـّرة قبـل أن يسـكن سـكنة‬
‫الموت ‪.‬فاخبرني مـن أيــن يـأتي اليعـاز والــرأس منفصــل ؟ ل تقـل لـي بقـانون‬
‫الســتمرارية فــإن أهــل الفيزيــاء سيغضــبون جــدّا ً ‪ .‬لن الســتمرارية هــي مثــل‬
‫)‪(1‬‬
‫تمهيدات ‪ /‬كانت – نشرة الكاديمية ج ‪. 32/91‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪86‬‬
‫وة المحّركة عنه ‪ ،‬فهنا يحــدث تبــاطؤ فــي‬ ‫استمرار دوران القرص بعد قطع الق ّ‬
‫ت تحت رجل الناحر ‪،‬‬ ‫ما الطير فإنه مثب ّ ٌ‬ ‫وة الحتكاك ‪ .‬أ ّ‬ ‫الحركة لحين التساوي مع ق ّ‬
‫ز‬ ‫ّ‬
‫فإذا أطلقه تحّرك وركض ومــا يــزال ينطلــق ويتوقــف حــتى يســكن ‪ .‬فبــأي إيعــا ٍ‬
‫ز مــن الــدماغ والــدماغ‬ ‫يتحّرك ويركض وأنت تقول أن حركة الطراف إرادية بإيعــا ٍ‬
‫منفصل ؟ ‪.‬‬
‫مطيروش ‪ ) …… :‬ل يجيب (‬
‫عــال ( يــا مطيــروش ‪ .‬أيكــون مقامــك أن ُيفحمــك مثــل‬ ‫الرئيـس ‪ :‬تب ّا ً لعقلك ) الف ّ‬
‫خزنابو ! ‪.‬‬
‫ة هنــا وذات صــورتين‬ ‫المغربي ‪ :‬تبدو لنا قضّية أســبقّية الوجــود أو الفكــر متداخل ـ ً‬
‫ما الولى …‬ ‫متعامدتين ‪ ،‬أ ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫) الرئيـس مقاطعا ومشيرا لحد المردة (‬
‫جل بشّر أّيها المارد ‪ .‬ما تريد أن تقول ؟‬ ‫ضل وع ّ‬ ‫الرئيـس ‪ :‬تف ّ‬
‫ماسيروس ‪ :‬سيدي الرئيـس ‪ .‬ماسيروس كاتب القصــص القصــيرة الشــهيرة بيــن‬
‫دث عنها المغربــي وبــالطبع ل‬ ‫ص قصيرةٌ بشأن السبقية التي يتح ّ‬ ‫ي قص ٌ‬ ‫يديك ‪ .‬لد ّ‬
‫يمكن استنفاد الوقت بمثل هذه القصص فأكتفي بذكر عناوين مجموعتي الرابعــة‬
‫ماة ) المجموعة الديكارتية ( وحوادثها كالتي ‪:‬‬ ‫المس ّ‬
‫ول ديكارت بالعربة ويعتــذر‬ ‫صة الولى ) العتذار ( ‪ -:‬وفيها يدهس البائع المتج ّ‬ ‫الق ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫منه قائل ‪ :‬الواقع أني لم أكن أفكر في تلــك اللحظــة ‪ .‬فيقــول ديكــارت غاضــبا ‪:‬‬ ‫ً‬
‫م يقــول لــديكارت‬ ‫كر ‪ .‬فيغضب البائع بدوره غضبا ً شديدا ً ث ّ‬ ‫كان عليك أن تنظر وتف ّ‬
‫ممسكا ً بتلبيبه ‪ :‬كأنك لم تفهــم للن يــا رجــل ؟ حينمــا أقــول لــك لــم أكــن أفك ّــر‬
‫فمعنى ذلك أني لم أكن موجودا ً ‪ .‬هكذا يقول الفيلسوف ديكارت‪ ،‬وعليــك إذن أن‬
‫تعتذر لنك أهدرت وقتي في تعليمك بديهيات واضحة !‬
‫ة مــن‬ ‫صة الثانية ) الحرامي ( ‪ -:‬وفيها يقوم خادم ديكارت بالّتفاق مع مجموعـ ٍ‬ ‫الق ّ‬
‫دعـاءه أنــه غيــر موجـود ســاعة‬ ‫ده‪ .‬ويعتــذر الخــادم با ّ‬ ‫اللصوص على سرقة دار سـي ّ ِ‬
‫ذ ‪ .‬بيــد أن‬ ‫الحادث ‪ .‬ولكن أهل الجوار شهدوا أّنهم رأوه نائما ً في الشــرفة ســاعتئ ٍ‬
‫القاضــي أطلــق ســراحه حينمــا قــال ‪ :‬بالفعــل كنــت نائمـا ً وإذن فلــم أكــن أفك ّــر‬
‫وبالتالي فإني غيــر موجـود حسـب ديكــارت والـواجب أن يكـون حكمـي هـو حكــم‬
‫الغائب ‪ ،‬فحكم القاضـي للحرامـي وكّلـف ديكـارت دفـع الرسـوم وأجـر المحامـاة‬
‫والتعويض عن وقت الحرامي ‪.‬‬
‫القصة الثالثــة ) الجنيــن ( ‪ -:‬وفيهــا يقــوم ديكــارت بمراجعــة المستشــفى لجــراء‬
‫الفحص على زوجته الحامــل ووضــع الجنيــن ‪ .‬لكــن الطــبيب ل يبــالي بالموضــوع‬
‫كر ؟ فيــردّ ديكــارت قــائل ً ‪ :‬إنــه‬ ‫ويسأل ديكارت بدون اكتراث قائل ً ‪ :‬هل الجنين يف ّ‬
‫ي للفحــص فهــو غيــر موجــود !‬ ‫كر ؟ فيقول الطــبيب ‪ :‬إذن ل داع ـ َ‬ ‫جنين فكيف يف ّ‬
‫فيخرج ديكارت وهو يلعن ) الكوجيتو ( ‪.‬‬
‫ة سيدي الرئيـس على خلف ما يظّنه البعض‬ ‫المغربي ‪ :‬إن قصص ماسيروس رائع ٌ‬
‫ة مع المشرقي نّبهني إلــى أن تنــاقض الكوجيتــو هــو فــي‬ ‫‪ ،‬ذلك أنني وفي محاور ٍ‬
‫الجزء الول من العبارة ل في العبارة كلها ‪ .‬أي أن الناتج ‪ ) :‬أنا موجود ( يتناقض‬
‫مع ) أنا ( فقط الموجود في عبارة ) أنـا أفك ّــر ( ‪ .‬والمعنـى ‪ :‬أنــك حينمـا تبـدأ أ ّ‬
‫ي‬
‫ة بالقول ) أنا ( فهذا تقريٌر في الوجود فهو ل يحتاج إلى إثبــات جديــد ‪ ،‬فــإذا‬ ‫عبار ٍ‬
‫دمة نفســها فأصــبحت عبــارة ) أنــا أفك ّــر (‬ ‫احتاج إلى إثبات تطّرق الشك إلى المق ّ‬
‫عبارة مشكوك بها فيفسد الناتج حتما ً ‪.‬‬
‫دمة إل ّ عندما يكون قــول‬ ‫دق المق ّ‬ ‫ى آخر وبمفردات أخرى ‪ :‬ل تص ّ‬ ‫المشرقي ‪ :‬بمعن ً‬
‫ً‬
‫القائل ) أنا ( مفروغا منــه ‪ .‬إذ ل يعنــي ذلــك شــيئا ســوى ‪ :‬أنــا ) هــذا الموجــود (‬ ‫ً‬
‫النيلي ‪87-----------------------------------------‬‬
‫م على التفكير وهو عكس‬ ‫كر ‪ ،‬فل يحتاج إلى الناتج ‪ .‬وإذن فالوجود هنا متقدّ ٌ‬ ‫أف ّ‬
‫ما زعمه ديكارت ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬ومن هنا سألت المشرقي كيف انتبهت إلى ذلك فقال لي ‪ :‬مــن اللغــة‬
‫فإني أتعلم من اللغة فقط ‪ ،‬فاللغــة عنــد المشــرقي هــي الفكــر وليســت حــامل ً‬
‫ر عليه فــي اللغــة‬ ‫للفكر أو أداةً له ولذلك يزعم المشرقي أن التركيب الغير مقدو ٍ‬
‫ة هــي‬ ‫قــ ٍ‬ ‫ً‬
‫ر عليه في الواقع ‪ .‬وإن الفكرة التي ل يمكن صياغتها لغويا بد ّ‬ ‫غير مقدو ٍ‬
‫الفكرة المستحيلة المتناقضة ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬إن عبارة ) إذن أنا موجود ( هي نوع من التفكيــر لن فيهــا اســتنتاج ‪،‬‬
‫وضنا عنها بالتفكير أصبح الناتج بعــد اختصــار الطرفيــن ) أنــا موجــود ‪ ،‬إذن‬ ‫فإذا ع ّ‬
‫ة‬ ‫ة واحــد ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كر ( _ ذلك لن معادلة الكوجيتو ليست سوى تكرارا سوفسطائيا لقضي ٍ‬ ‫أف ّ‬
‫وعلى النحو التالي ‪:‬‬
‫كر _ إذن _ أنا موجود ‪.‬‬ ‫أنا أف ّ‬
‫وبالتعويض عن وجود النا تصبح ‪:‬‬
‫كر _ إذن _ أنا ) الموجود ( موجود ‪.‬‬ ‫أنا ) الموجود ( أف ّ‬
‫المغربي ‪ :‬وإن إبطال هذا الستدلل ل يعني سوى إبطال الفلســفة كلهــا ‪ ،‬ذلــك‬
‫لن الفلسفة ما هي إل ّ ظهــوٌر لفكــرة ) النــا ( ســواء علــى المســتوى العــام أي‬
‫تجــاور الفلســفات وعــدم إمكانيــة الجمــع بينهــا أو علــى مســتوى التفاصــيل ‪.‬‬
‫ل الفلســفات وهــي تحــاول الســتحواذ علــى‬ ‫كد ظهور النــا فــي كـ ّ‬ ‫فالتفاصيل تؤ ّ‬
‫مــا بالّتحــاد‬ ‫ما بالمشاركة بارتقاء النا أو بتنزيــل اللــه‪ ،‬وإ ّ‬ ‫الوجود وعلى المطلق إ ّ‬
‫مــص‬ ‫مــا بتق ّ‬ ‫عــال أو النــور ‪ ،‬وإ ّ‬ ‫ه آخر ل مادي هو الهيولى أو العقل الف ّ‬ ‫بافتراض إل ٍ‬
‫صفات الله ‪.‬‬
‫دة ‪ .‬لقـد تجـادلوا‬ ‫دق المتـألهون بأسـبقّية الفكــر علـى المـا ّ‬ ‫الرئيـس ‪ :‬لطالما تشـ ّ‬
‫دة على الفكر ‪ .‬وإن الناس يعتقدون‬ ‫ديين الذين أعلنوا أسبقّية الما ّ‬ ‫طويل ً مع الما ّ‬
‫دة ‪ ،‬وفـي الثانيـة إنكـار هـذا‬ ‫أن في الولى إثبـات وجـود اللـه السـابق علـى المـا ّ‬
‫الوجود ‪ .‬وها أنتم الن تثبتون مقالة الماديين ‪.‬‬
‫المشــرقي ‪ :‬وتلــك هــي جلئل أعمالنــا الشــيطانية ســيادة الرئيـــس ! فــإن أكــثر‬
‫الحقــائق يقولهــا ويــدافع عنهــا أعــداءها وأكــثر المنكــرات يحملهــا ويــدافع عنهــا‬
‫خصومها ‪ ،‬وهذا هو عملنا الذي نفخر به دوما ً ‪ .‬فنحــن حينمــا نخلــط المــور بهــذه‬
‫الصورة نأمن من سرعة اكتشافها ‪ .‬وفي الواقع ل يزعجنا شــيء إل ّ أمثــال ذلــك‬
‫ق في‬ ‫الولي الذي كان يرتقي المنبر وينادي بأعلى صوته ) أّيها الناس إن اكثر الح ّ‬
‫ن النسان _‬ ‫دة _ وعلى عكس ما ظ ّ‬ ‫ما تنكرون ( ‪ .‬ذلك أن أسبقّية الفكر على الما ّ‬
‫دة ! لن ) الفكــر ( مــن‬ ‫ص قبــل المــا ّ‬ ‫ن نــاق ٍ‬ ‫ل تثبت وجود الله بل تثبت وجود كــائ ٍ‬
‫عاليــات الجاهــل بالشــياء وبنفســه ‪.‬‬ ‫م أن التفكيــر هــو مــن ف ّ‬ ‫التفكيــر ‪ .‬ومعلــو ٌ‬
‫ن لديه‬ ‫ّ‬
‫ما الله فإنه ل يوصف بأنه مفكر أو كائ ٌ‬ ‫ّ‬
‫كر لنه يريد أن يتعلم ‪ ،‬أ ّ‬ ‫فالنسان يف ّ‬
‫أفكار ! وعليه فإن أسبقّية الفكر تعني أسبقّية النسان نفســه !! ومــن هنــا فــإن‬
‫دة على الفكر تثبت الظهور السلبي للمادة ‪ ،‬فهي فكرةٌ تنطوي ذاتيـا ً‬ ‫أسبقّية الما ّ‬
‫دة فهــي عيــن‬ ‫دم الفكــر علــى المــا ّ‬ ‫ما فكــرة تق ـ ّ‬ ‫ه متقدّم ٍ عليها ‪ .‬أ ّ‬ ‫على القرار بإل ٍ‬
‫وجــدوا بعــد‬ ‫الكوجيتو الديكارتي المتناقض ‪ .‬فالناس المتدينون يعلمون جّيدا ً أنهم ُ‬
‫وجود هذا العالم ل قبله ‪.‬‬
‫ة جدّا ً عن المفهوم الذي أوحينــا بــه إلــى‬ ‫دة في مفهومنا مختلف ٌ‬ ‫المغربي ‪ :‬إن الما ّ‬
‫ل مــا هــو غيــر‬ ‫دة الموجودات كّلها وهي ك ـ ّ‬ ‫دة في مفهومنا هي ما ّ‬ ‫النسان ! فالما ّ‬
‫دة ‪.‬‬ ‫ة عندنا في أسبقّية الما ّ‬ ‫الله ‪ .‬فأسبقّية الرواح على البدان داخل ٌ‬
‫ء(‪.‬‬ ‫ّ‬
‫دة في مفهومنا هي ) كل شي ٍ‬ ‫المشرقي ‪ :‬إن الما ّ‬
‫المغربي ‪ :‬وقد ذكرنا لك سيدي الرئيـس ما هو ) الشيء ( ؟ ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪88‬‬
‫ل للنفعال ‪ ،‬وقابل للتحويل‬ ‫ل للشيئية ‪ ،‬فهو قاب ٌ‬ ‫ء قاب ٍ‬ ‫ل شي ٍ‬ ‫المشرقي ‪ :‬إنها ك ّ‬
‫ي مخلوقٌ ‪.‬‬ ‫والنقسام ‪ .‬فالروح كائن مادّ ّ‬
‫ة ‪ :‬كنتم‬ ‫دين حينما ُيقال لمجموع ٍ‬ ‫ً‬
‫الرئيـس ‪ :‬نعم ‪ .‬إنني أدرك جّيدا مفارقات يوم ال ّ‬
‫ً‬
‫ة أيضـا إذ‬ ‫ة أخـرى ‪ :‬أنتـم كذبـ ٌ‬ ‫ُتقـّرون بمـا أعلنتـم الـبراءة منـه ‪ ،‬وُيقـال لمجموعـ ٍ‬
‫ة‬
‫تنكرون ما أعلنتم اليمان به ‪ .‬لذلك فهم مشــتركون فــي التعــذيب عنــدي لدرجـ ِ‬
‫أني ل أستطيع التمييز بينهم لول ما يقومون به من تلوم ٍ بعضهم لبعض ‪.‬‬
‫دث دخل مارد الخطفات من غير استئذان وقال للرئيس‬ ‫) وبينما كان الرئيـس يتح ّ‬
‫(‬
‫دمان نحونــا‬ ‫مارد الخطفات ‪ :‬سيدي … رجلن من النــس يحملن المشــاعل ويتق ـ ّ‬
‫ل من مؤمني الجان !!‬ ‫بين أيديهما جحف ٌ‬
‫ً‬
‫ب الرئيـس صارخا (‬ ‫) يه ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬انتهت الجلسة … تفّرقوا !‬
‫ل‬‫ل مخلوق وأصــبح ك ـ ّ‬ ‫ل من عشر الثانية كان الموقع قد خل تماما ً من ك ّ‬ ‫) وفي أق ّ‬
‫ن منهم تحت نجم ٍ من نجوم السماء (‬ ‫شيطا ٍ‬

‫الجلسة الخامسة لمؤتمر الشياطين‬


‫مى‬ ‫المس ّ‬
‫فريق إزالة الحكمة‬

‫دد الحاضرون نشيد البقاء وبعدها أثنى المعاون على الزعيم فأعاد الحاضــرون‬ ‫)ر ّ‬
‫ّ‬
‫ددا ثم تل المعاون خلصة الوصايا التي أكد فيها مّرة أخرى على وجوب‬ ‫ً‬ ‫النشيد مج ّ‬
‫استمرار الفصل بين العلوم المختلفة ‪ .‬ثم قال (‬
‫ء هــو أن تتس ـّرب علــوم الفلــك والفيزيــاء والهندســة أو‬ ‫المعاون ‪ :‬إن أسوأ شــي ٍ‬
‫ّ‬
‫الفنون بأنواعها إلى عقول الفلسفة أو المتكلمين ‪ ،‬فإن ذلك لو حــدث فســيفقد‬
‫الشياطين جميع ثمار أعمالهم طوال العصــور ‪ .‬لـذلك ليكــن شــعارنا هــو ‪ :‬لتبقـى‬
‫الفلسفة ُتدّرس في حقل الداب كي تبقى في بؤرة الخراب اللغوي ‪.‬‬
‫ضل بالمناقشة فيقول هذا (‬ ‫) يشير المعاون إلى الرئيـس ليتف ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬الظلمات في الموقع الجديد هذا متكاثفة وملئمة ‪ .‬لذلك سنغّير موضــع‬
‫د‬ ‫اجتماعاتنا دوما ً حسب دوران الشمس وتكاثف الظلم فنختار فــي ك ـ ّ‬
‫ل م ـّرة أش ـ ّ‬
‫ة فإنه أكتم لعمالكم ‪ .‬فاخبروني الن كيف يــرى الفلســفة‬ ‫المواقع الرضية ظلم ً‬
‫خلق هذا العالم الن ؟‬
‫ء بعــد إن‬
‫ل شــي ٍ‬ ‫ق لهــذا العــالم اختلفــوا فــي كـ ّ‬‫المشرقي ‪ :‬إن الذين آمنوا بخــال ٍ‬
‫ء ‪ ،‬وقــال آخــرون‬ ‫اّتفقوا على أنه مخلوق ‪ .‬فقد قال بعضهم أنه مخلوقٌ مــن شــي ٍ‬
‫ر وهــو علــى‬ ‫ق آخ ٍ‬‫بل هو مخلوقٌ من لشيء ‪ .‬وفي الحالتين فإنهم وقعوا في مأز ٍ‬
‫م عليه في الزمان فلمــاذا‬ ‫د ٌ‬
‫ن الله متق ِ‬
‫ق ‪ ،‬فل بدّ أ ّ‬‫خل ِ َ‬‫زعمهم أن العالم إذا كان قد ُ‬
‫ت أســبق أو وقــت لحــق مــا دام ل يطــرأ علــى علمــه‬ ‫خلقه في هذا الوقت ل بوق ٍ‬
‫ل الحوال واحدٌ ؟ فقال بعضهم فــي الجــواب علــى‬ ‫زيادة ول نقصان وشأنه في ك ّ‬
‫ح الســؤال وردّ عليهــم البعـض الخــر أن‬ ‫ذلك ‪ :‬إنه لم يكن قبل العـالم زمـان ليصـ ّ‬
‫النيلي ‪89-----------------------------------------‬‬
‫الزمان المقصود هنا ليس زمان العالم بل زمان الله المطلق ‪ .‬وقــال آخــرون ‪:‬‬
‫لنه وجد أن هذا الزمان هو أصلح الزمنــة وقــالوا فــي الــردّ عليــه أنــه ل يتضــمن‬
‫ي ‪ ،‬ولكــي ل يكونــوا‬ ‫إجابة عن السؤال ‪ .‬وقالت طائفة ‪ :‬إن العالم قديم فهو أزل ـ ّ‬
‫ن هـؤلء‬ ‫م عليــه بالــذات ل بالزمــان ‪ .‬ثــم أ ّ‬ ‫ديين قالوا أيضا أن اللــه متقـدّ ٌ‬ ‫مثل الما ّ‬
‫ح تســمية‬ ‫ق منه العالم أهو شيء ؟! وهل يصـ ّ‬ ‫جميعا ً اختلفوا في اللشيء الذي ُ‬
‫خل ِ َ‬
‫المعدوم شيئا ً ؟ وهل له وجود ؟ ‪ ،‬فقال سارتر المعدوم له وجــود وذلــك هــو آخــر‬
‫مطاف الفلسفة ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬فأوضح لي أين المغالطات في إشكالية الزمان ؟‬
‫المغربي ‪ :‬لقد لحظنا في هذه الحقول ظـاهرة غريبـة عنـد بنـي النسـان ! فـإن‬
‫ســكون بــه‬ ‫ة يتم ّ‬ ‫ة مقبولـ ٍ‬ ‫ة ويعلن ظاهريـا ً عــن حقيقـ ٍ‬ ‫ظ فارغ ٍ‬
‫مق بألفا ٍ‬‫الفرض المن ّ‬
‫عب البحث حتى ل تجد أحدا منهم ينتبه إلى أســاس الفــرض فيحتمــل وجــود‬ ‫ً‬ ‫ويتش ّ‬
‫الخطأ فيه أصل ً ‪ .‬وقد نجحنا في استغلل هــذه الطبيعــة عنــد بنــي النســان علــى‬
‫فة المستويات ‪.‬‬ ‫كا ّ‬
‫د غيـر‬ ‫ر جديـ ٍ‬ ‫ن آخ ٍ‬ ‫م أنهم يّتفقون على أن الله قادر على خلق كو ٍ‬ ‫المشرقي ‪ :‬معلو ٌ‬
‫هذا ‪ ،‬فإذا افترضنا أنه خلق عالما ً آخرا ً غير هذا فهو إذن يحمل زمــانه معــه إذ هــو‬
‫عين حركته وحركته هي عين وجوده ‪ .‬فإذا قال أهــل العـالم الجديـد ‪ :‬لمـاذا خلــق‬
‫الله الوجود في هذا الوقت دون سواه ‪ ،‬فإن أرادوا به زمانهم فقــد أخطــأوا وإن‬
‫ح السؤال ‪ ،‬ولكــن جــوابه ســيكون مــن‬ ‫ق فيص ّ‬ ‫أرادوا به نقطة زمان من وجوٍد ساب ٍ‬
‫خارج وجودهم ـ من الوجود السابق ‪ .‬ول يزال المر كذلك إلى أول وجود شاء الله‬
‫ذ ينقطــع الزمــان وتنقطــع الحركــة‬ ‫أن يوجده ليس مسبوقا ً إل ّ بوجوده هو ‪ ،‬فعندئ ٍ‬
‫مــا كــانت ذاتــه ل توصــف بالســكون ول‬ ‫ويكون جوابه من وجود ذاتــه ل ســواه ‪ ،‬ول ّ‬
‫ة لي‬ ‫ة مفهوم ـ ٍ‬ ‫ذر صياغته بأي ّــة لغ ـ ٍ‬ ‫توصف بالحركة فهو جواب خارج الظرفين وتتع ّ‬
‫موجود ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬إن أخي المشرقي يقول ‪ :‬إن ما هو خــارج الظرفيــن يســتحيل إدراكــه‬
‫من قبل ما هو داخل الظرفين وإن كان هو مدَركا ً ممن هو خارجهما ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬ومن أين يأتي هذا التلزم ؟‬
‫ل مـّرة وإذا سـألك‬ ‫المغــرب ‪ :‬إنـه يـأتي مــن أي مثـال ‪ .‬فـأنت تتحـّرك وتلتفـت كـ ّ‬
‫ك أحدٌ أنه يريد أن يعرفك كما تعــرف‬ ‫ة فل يش ّ‬ ‫ل حرك ٍ‬ ‫ل مّرة عن سبب ك ّ‬ ‫المراقب ك ّ‬
‫نفسك أو أكثر ‪ .‬وقد أوجز المسيح ذلك حينما أعلن أن الله يعرف ما في نفســه _‬
‫أي المسيح _ ولكن المسيح ل يعرف ما في نفس الله‪.((1‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬سأقول ما ابطل به كلمك ‪ ،‬فإن النسان يعلــم الوقــائع الســابقة فــي‬
‫التاريخ مع انه خارج عن ظرفي المكان والزمان اللذين وقعت فيهما الحوادث ‪.‬‬
‫ب‬‫المشرقي ‪ :‬تريد تغليطنا أّيهــا الرئيـــس ! إن النســان يعلــم تلــك الوقــائع لســب ٍ‬
‫د فقط هو امتداد الظرفين واكتنافهما للسابق واللحق ‪ .‬فإن وجود الظرفين‬ ‫واح ٍ‬
‫ف عن مقاطعهما ‪.‬‬ ‫من حيث هما وجود مختل ٌ‬
‫المغربــي ‪ :‬ومــع ذلــك فــإن الخبــار تخفــى إذا كــانت خــارج الظرفيــن وضــمن‬
‫مقاطعهما أيضا ً ‪ ،‬فإنه يعلم تلك الوقائع عن طريق الوسطاء الــذين تواجــدوا فــي‬
‫هذين الظرفين ‪ .‬فإن كان النسان صادقا ً فليخبرنا بما يكون مستقبل ً قبل مجيء‬
‫المقطع اللحق أو فليخبرنا عن ظرفيــن أحــدهما مشــترك ) زمــان واحــد ومكــان‬
‫ة‪.‬‬ ‫ة ناقل ٍ‬ ‫ل للخبر أو آل ٍ‬ ‫مختلف ( أو بالعكس من غير وسيط ناق ٍ‬
‫ة أخرى ‪.‬‬ ‫الرئيـس ‪ :‬فليقل المشرقي عين هذا القول بصيغ ٍ‬

‫)‪(1‬‬
‫القرآن الكريم ‪ /‬المائدة ‪ /‬آية ‪. 115‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪90‬‬
‫المشرقي ‪ :‬ذلك أن الموجود ما هو في الواقع إل ّ هــذين الظرفيــن المتلزميــن‬
‫فل مكان بغير زمان ول زمان بغير مكان ‪ ،‬وهنا نعود للشيء فليس الشيء ســوى‬
‫ك الزمكان من ليس فيه ‪.‬‬ ‫ر ُ‬
‫) الزمكان ( فل ُيد ِ‬
‫المغربي ‪ :‬أليس غريبا إذن أن يسأل الناس لماذا خلق الله العالم في هذا الــوقت‬ ‫ً‬
‫م فعلتها في هذا‬ ‫ة أفعلها ‪ :‬ل ِ َ‬ ‫ل حرك ٍ‬ ‫دون سواه ‪ ،‬وليس بمقدوره ان يسألني عن ك ّ‬
‫الوقت دون سواه مع أن حرّيتي مقّيدة بخلف حرّية الله المطلقة ؟‬
‫ل تلــك‬ ‫ق ‪ ،‬فنحــن نفعــل ك ـ ّ‬ ‫الرئيـس ‪ :‬إن الله مقي ّدٌ بألوهيته ‪ ،‬إنه مقي ّدٌ بكونه مطل ٌ‬
‫ة لكمال نقائصنا أمــا اللــه فلنــه‬ ‫الحركات لن لدينا أسباب ودواعي لها لننا عرض ٌ‬
‫ح السؤال ‪.‬‬ ‫ق فل دواعي ول أسباب ولذلك يص ّ‬ ‫ل ومطل ٌ‬ ‫كام ٌ‬
‫المشرقي ‪ :‬وتلك هي المغالطة الكبرى ‪ .‬فإن السؤال ) لماذا (المنبثق عــن إنكــار‬
‫ل نقــص‬ ‫ل عن الدواعي ! فكأن العتراف ببراءة الله مــن ك ـ ّ‬ ‫الدواعي إنما هو سؤا ٌ‬
‫ول النقــائص ! وإذا لــم تكــن‬ ‫دفعهم للبحث عن النقص ! ‪ .‬إن إنكار الدواعي هــو أ ّ‬
‫م بالنقص ! ومن الجهــتين‬ ‫م له بالعبث ! وإثبات الدواعي اتها ٌ‬ ‫الفعال لله فهو اتها ٌ‬
‫فالمر يعود للنقص ! ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬فما نقول ؟ ‪.‬‬
‫مــة دواعــي لك ـلّ‬ ‫المشرقي ‪ :‬أقول عن انعدام الدواعي هو افتراءٌ على اللــه ! فث ّ‬
‫ّ‬
‫ل من أفعـاله بيـد أنهـا دواعـي مختلفـة عـن مـا نفهـم ‪ ،‬لنهـا ليسـت متعلقـة‬ ‫فع ٍ‬
‫بالنقص بل متعلقة بالكمال نفسه ‪ .‬إذ حسبوا أن الكامل غير محتاج ولذلك تنتفي‬ ‫ّ‬
‫ر ل يريـد شـيئا ً ول يرغـب فـي‬ ‫لديه الـدواعي ! وهكـذا اسـتحال الكامـل إلـى حجـ ٍ‬
‫شيء ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬إننا نلحظ شيئا من ذلك في المخلوق الذي يدعوه كماله النسبي إلــى‬ ‫ً‬
‫م‬‫ل ل يرجو منها فخرا ً ول جزاءا ً ول شكورا ‪ .‬ومعلو ٌ‬ ‫معونة الخرين أو القيام بأفعا ٍ‬
‫ل لــه تنتفــي فيــه‬ ‫ع واحدٌ منفردٌ ل مثيـ َ‬ ‫ة ‪ ،‬فكمال الله هو نو ٌ‬ ‫أن المقارنة هنا خاطئ ٌ‬
‫ق عداه ‪،‬‬ ‫ل مخلو ٍ‬ ‫المنافع انتفاءا ً كامل ً وتتكّثر فيه الدواعي إلى ما لنهاية خلفا لك ّ‬
‫ً‬
‫وهذا هو مأزق الفلسفة فقد حسبوا الدواعي نقائص ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬نعم من هنا وقعوا ‪ .‬فقد زعموا أن وحدة الله تستلزم أن يكون شأنه‬
‫ور هــو ســبب إشــكالية زمــان خلــق‬ ‫ت لخــر ‪ ،‬وهــذا التص ـ ّ‬ ‫واحدا ً ل يختلف مــن وق ـ ٍ‬
‫العالم ‪ .‬بينما الحقيقة هو ما أخبرنا به عن نفسه وهو أمٌر مغــايٌر لمــا قــالوا فهــو‬
‫الكــثر شــؤونا ً فـي المعروفــات بحيــث ل يمكــن إحصــاء شـؤونه وإن كثرتهــا هــي‬
‫ة القياس ‪ .‬إن المرء ل يمكنه أن يعلو‬ ‫ة معدوم ُ‬ ‫بنسبته هو إلى مخلوقاته وهي نسب ٌ‬
‫فع عن النقائص مع علو الموجودات والتكوينات إلــى مــا ل نهايــة‬ ‫بالفضائل أو يتر ّ‬
‫ويستمّر بها متجاوزا ً حدود الكون ليصـل إلـى وصـف اللـه ‪ .‬لن المفـاهيم تنقلـب‬
‫إلى أضدادها على حدود الكون قبل الوصول إلى وصـف اللـه ‪ .‬فـإذا كنـت تراقـب‬
‫ل شيء فإنه سيقال عنــك بأنــك عظيــم القلــق كــثير‬ ‫ل صغيرة وكبيرة وتلحظ ك ّ‬ ‫ك ّ‬
‫فع عن هذه المنقصة أن تفقــد تلــك الصــفة‬ ‫الشكوك ‪ ،‬فهل يستلزم إذا أردت التر ّ‬
‫ح مــع المخلــوق فــإنه ل‬ ‫ول المرء إلى حجر ‪ .‬وإذا كــان ذلــك ل يصـ ّ‬ ‫تماما ً ؟ إذن يتح ّ‬
‫م‬ ‫ح مع الخالق إل ّ باللمحدود ‪ ،‬حينما تنقلب المفاهيم إلى أضدادها ‪ ،‬فهو مص ّ‬
‫م ٌ‬ ‫يص ّ‬
‫ة في السموات والرض ‪ .‬بيــد أن هــذه الصــفة انقلــب‬ ‫ل مثقال ذر ٍ‬ ‫على ملحظة ك ّ‬
‫منشؤها إلى الضدّ من ذلك أيضا ً ‪ .‬فقد انقلبت الدواعي على حدود الكــون واصــبح‬
‫مة علــى‬ ‫ك والقلق بل العلم المطلق والسيطرة التا ّ‬ ‫منشأ هذه الملحظة ليس الش ّ‬
‫الشياء ‪.‬‬
‫عب البحـث بشـأن الـدواعي إلـى الترجيـح‬ ‫المغربي ‪ :‬ومن هنا سيدي الرئيـس تشـ ّ‬
‫جح فكان يدور حول دواعي النقص ل دواعي الكمال ‪ .‬إن الســؤال‬ ‫والترجيح بل مر ّ‬
‫عن الزمان الذي خلق اللــه فيــه العــالم والمؤســس علــى التنزيــه والكمــال اقلــب‬
‫النيلي ‪91-----------------------------------------‬‬
‫حينما أبوا قلب المفاهيم وانتج خلف المأمول عند محاولة الجابة عليه ‪ ،‬لنــك‬
‫ل للخالق فقد خالفت المــر الــذي ابتــدأت منــه فــي‬ ‫ل فع ٍ‬ ‫حينما تسأل عن سبب ك ّ‬
‫التنزيه إذ أنك تسأل في الواقع عن دواعي النقص ‪.‬‬
‫ه داخل حدود الكون ول صلة له بــالله‬ ‫دثون عنه هو إل ٌ‬ ‫المشرقي ‪ :‬وإذن فالذي يتح ّ‬
‫مموه‬ ‫ّ‬
‫دث عنه الرسل والنبياء ‪ .‬إنه إلــه الفلســفة والمتكلميــن الــذي ص ـ ّ‬ ‫الذي يتح ّ‬
‫ف عن إله الرسل ‪ .‬فالرســل ل يعبــدون هــذا‬ ‫ه مختل ٌ‬ ‫صيصا ً ليلئم ذائقتهم ‪ ،‬إنه إل ٌ‬ ‫خ ّ‬
‫ق إلهه الذي يعبد ‪.‬‬ ‫ل فري ٍ‬‫الله الفلسفي ول الفلسفة يعبدون إله الرسل ‪ ،‬إن لك ّ‬
‫وره ومعرفته‬ ‫المغربي ‪ :‬إن منطق الرسل هو ‪ :‬انتم تعبدون الله الذي يمكنكم تص ّ‬
‫ه يعرفــه‬ ‫‪ ،‬ونحــن نعبــد اللــه الــذي ل يمكــن أن يعرفــه أحــد ‪ .‬مــاذا نجنــي مــن إلـ ٍ‬
‫ة لمخلــوقيه … إنــه إلــه‬ ‫ل حال لنــه موضــوع دراس ـ ٍ‬ ‫ف على ك ّ‬ ‫ه مزي ّ ٌ‬ ‫المألوه ؟ إنه إل ٌ‬
‫ق هــو المفــترق عــن جميــع‬ ‫قة ‪ .‬فــالله الح ـ ّ‬ ‫ب من اللوهية الح ّ‬ ‫ل ليس له نصي ٌ‬ ‫باط ٌ‬
‫الموجودات بكونه ل يكون موضوعا ً للمعرفة ‪ .‬إن المعرفة تتعّلق بالحركة فقط ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬إذن فالحركــة هـي حركــة الموجــودات ‪ ،‬ومـا الزمـان إل ّ مظهــر لتلــك‬
‫الحركة ‪ .‬فالوجود في الواقع ما هو إل ّ تعاقب للسكون والحركــة وهــو الــذي نعب ّــر‬
‫عنه بالزمان ‪ ،‬لن هذا التموضع المكاني والتغّير هو الزمان ‪ .‬فالوجود تموضع في‬
‫ل جرم أو جسيم أو موجود مــا هــو‬ ‫الزمان أو زمان للتموضع ‪ ،‬فهو ) زمكان ( ‪ .‬وك ّ‬
‫إل ّ زمكان ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬لقد نفى المتكّلمون في دفاعهم وجود الزمــان قبــل العــالم ‪ .‬أو ليــس‬
‫هذا هو عين ما نقوله الن ؟‬
‫المغربي ‪ :‬لقد نفى المتكلمون الزمان وحــده وتركــوا لنفســهم وللخريــن تصــور‬
‫ق بيد أنه عديم الزمان ‪ .‬فمن هنــا أوقعهــم الفلســفة فــي حفيرتهــم ‪،‬‬ ‫وجود ساب ٍ‬
‫ف عن ما نقوله الن ‪.‬‬ ‫فهذا مختل ٌ‬
‫الرئيـس ‪ :‬وما تلك الحفيرة المشتركة ؟‬
‫المشرقي ‪ :‬تلك هي التي أدركوا فيها التلزم بين الحركة والجسم والزمــان ولــم‬
‫كنهم من إثبات أو نفي قــدم‬ ‫يدركوا التلحم ‪ .‬لقد حسبوا أن التلزم بين الثلثة يم ّ‬
‫الشياء أو حدوثها من خلل قدم أو حدوث أحــدها كالزمــان أو الحركــة مثل ً ‪ ،‬ومــا‬
‫د ثنــائي التكــوين بطــبيعته ومحـال ظهــوره إل ّ‬ ‫ء واح ٍ‬ ‫علموا أنهم يتكّلمون عن شي ٍ‬
‫بهذا الزدواج وله أسماء مختلفة ‪ ،‬فالحديث عــن الزمــان هــو حــديث عــن الحركــة‬
‫ث عــن‬ ‫د من الظرفين هــو حــدي ٌ‬ ‫وتموضعها الذي هو المكان ‪ ،‬والحديث عن أي واح ٍ‬
‫ّ‬
‫الخــر ومجمعهمــا وهــو الحركــة ‪ .‬فــالبراهين ســارت كلهــا بــافتراض وجــود أحــد‬
‫الظرفين دون الظرف الخر أو المجموع دون أفراده ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬لقد تخّلص الشاعرة من المشكلة كلها بقولهم إن الوجــود ينعــدم بيــن‬
‫ة وأخرى‬ ‫لحظ ٍ‬
‫المغربي ‪ :‬وما أدراك سيدي الرئيـس أن هذا الفرض الذي أثار ســخرية الفلســفة‬
‫هو المتعّين وإن كان الذي ألجأهم إليه العجز ‪ ،‬فــإن تذبــذب جســيمات الــذرة بيــن‬
‫الوجود والعدم في آخر البحــاث لينطــوي علــى تأييــد الشــاعرة مثلمــا يؤي ّــد تلــك‬
‫سك بفناءه ‪.‬‬ ‫صة العجيبة التي ذكرها سيادتكم عن الوجود المتم ّ‬ ‫الق ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬آ … نعم إنه يؤّيد براهما الحكيم حينما قال لظّله قائل ً ‪ :‬هــا أنــت تكــون‬
‫ت أخــي ) كنكــر ( يــدعو قــائل ً ‪:‬‬ ‫مّرة وتفنى مّرة فأين المشكلة ؟ ‪ .‬ولطالمــا ســمع ُ‬
‫إلهي عبدك الفاني بين يديك ‪ .‬لكن للشيخ الرئيـس تخريجا ً آخــر مفــاده أن واجــب‬
‫خر‬ ‫الوجود بذاته هو واجب الوجود من جميع جهــاته وفــي جميــع أحــواله ‪ ،‬فــإذا تــأ ّ‬
‫ة مــن جهــاته فيفقــد وجــوبه ‪ ،‬وإذن‬ ‫خلق العالم عنه أصبح ممكن الوجود فــي جه ـ ٍ‬
‫فالعالم ممكن الوجود بالفرض فقط وأل ّ فهو واجب الوجــود بغيــره فتثبــت أزليــة‬
‫م عليه بالــذات ل بالزمــان ‪ .‬أو كمــا قــال‬ ‫ة له ‪ ،‬إل ّ أن الله متقدّ ٌ‬ ‫العالم وانعدام بداي ٍ‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪92‬‬
‫ر بل كل مــا هــو ممكــن لــه‬ ‫خر عن وجوده وجود منتظ ٍ‬ ‫ر ‪ ) :‬ل يتأ ّ‬ ‫آخ( ٍ‬ ‫ع‬‫في موض ٍ‬
‫‪(1‬‬
‫فهو واجب له ( ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬إن كان ذلك للحفاظ على وحدة الذات فقد ابتــدأ البرهــان بتقســيمها‬
‫حينما قال ‪ :‬جهاته وأحواله ‪ .‬ولكنهم قــالوا وراء الفــارابي ومــن ســبقه بمراتــب‬
‫د مــن ذلــك الزمــان المطلــق أو‬ ‫ن واحـ ٍ‬ ‫الوجود فهل تلكم المراتب ظهرت في زمــا ٍ‬
‫زمان الوجود أم ظهرت تباعا ً ؟ وهل الشـيخ الرئيــس نفسـه غيـر منتظـر وجـوده‬
‫ي قضاءا ً مبرما ً وجوبا ً على اللــه ؟! وإن‬ ‫م حتما ً ومقض ٌ‬ ‫قبل وجوده أم وجوده محتو ٌ‬
‫ول فمن ذا يبرهن أن هذا الوجود ل ُينَتظُر منه إل ّ ما كــان‬ ‫كان المقصود الكّلي ال ّ‬
‫وما سيكون ؟ لقد ألغى اختيار الله بهذا الفرض فأصبح مجبورا ً مقهورا ً على خلق‬
‫ب كــثير الشــبه بآلهــة قريــش ‪ ،‬فــإن‬ ‫ه عجي ـ ٌ‬ ‫العالم بمقتضى وجوب ذاته ‪ ،‬وإنه لل ٌ‬
‫ل الحوال ‪ ،‬وهــو قــد أفقــدها الختيــار ‪ .‬لقــد‬ ‫ب في ك ّ‬ ‫وجوب كونها مادية هو وجو ٌ‬
‫عــل‪ .‬فالعل ّــة اســم مقصــو ٌ‬
‫د‬ ‫كدت تسميتهم الله بالعل ّــة الولــى هــذا التلزم المفت َ‬ ‫أ ّ‬
‫فظهار التلزم مع المعلول فهــو مقي ّـدٌ بمــا خلــق ‪ .‬لــذا يمكننــا القــول أن فقــدان‬
‫ن لوجوب الوجود من حيث كان دفاعا ً عنه ‪.‬‬ ‫الختيار هو فقدا ٌ‬
‫ة من لعبهم ل تعني شيئا ً‬ ‫ة لفظي ٌ‬ ‫دم بالذات دون الزمان هو لعب ٌ‬ ‫المغربي ‪ :‬إن التق ّ‬
‫دم‬ ‫دد ‪ .‬ك ـل مــا فــي المــر أن التق ـ ّ‬‫ّ‬ ‫د بيد أنه في الواقع متع ـ ّ‬ ‫ه واح ٍ‬ ‫سوى القرار بإل ٍ‬
‫الذاتي يستلزم أن نحترم الله أكثر من مخلوقاته مثلما نفّرق بيــن أخــوين تــوأمين‬
‫ق‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أحدهما أكبر من الخر عرفا لنه أكبر التوأمين ظهورا ‪ .‬ومع ذلك فل بدّ من ســب ٍ‬
‫ي للــه علـى‬ ‫ق زمــان ّ‬
‫ي لحد التوأمين ‪ ،‬لكن الشيخ مصّر علــى عـدم وجــود ســب ٍ‬ ‫زمان ّ‬
‫العالم ! هبنا رضينا أن يكون اللـه والعـالم تـوأمين فكيــف نرضــى بـالخرى ؟ ‪ .‬إن‬
‫ور العــالم بغيــر زمـان إنمـا‬ ‫ق أو مـع تصـ ّ‬ ‫ن مطلـ ٍ‬ ‫ور زما ٍ‬ ‫دم بالذات سواء مع تص ّ‬ ‫التق ّ‬
‫ة‪.‬‬ ‫ظ ملتوي ٍ‬ ‫ه للعالم بجوار الله بألفا ٍ‬ ‫ينطوي على تألي ٍ‬
‫المشرقي ‪ :‬ومع ذلك فإن المشــكلة المزعومــة لــم ُتحــل مــن قبــل الفلســفة ول‬
‫م ذهنـي ل‬ ‫المتكّلمين ‪ ،‬ذلك أن ) النعدام الذهني ( للعـالم قبـل وجـوده هــو انعـدا ٌ‬
‫م فإن نهاية البحــث تق ـّرر أن العــالم‬ ‫م معناه وجودٌ دائ ٌ‬ ‫يرتبط بزمان فهو إذن انعدا ٌ‬
‫موجودٌ منذ الزل ‪.‬‬
‫ه على مقــاس العــالم أو هــو عــن منشــأ‬ ‫المغربي ‪ :‬قد نسأل هل البحث هو عن إل ٍ‬
‫ورنا عــن‬ ‫ق بين طريقتين ‪ :‬هل نغّير تص ـ ّ‬ ‫مة فر ٍ‬ ‫ق ؟ ‪ ،‬فث ّ‬ ‫ه مطل ٍ‬ ‫العالم بعد القرار بإل ٍ‬
‫ورنا عــن‬ ‫اللــه ليلئم مــا نريــده للعــالم أم نغي ّــر مــا نعرفــه عــن العــالم ليلئم تصـ ّ‬
‫الله ؟ ‪ .‬إن الذي حدث ويحدث للن هو أنهم فعلوا الولى عن طريق الثانيــة لكــي‬
‫ر‬ ‫و ٍ‬ ‫ل يقال لهم ‪ :‬أنتـم تغّيـرون صـفات واجـب الوجـود ليلئم مـا تريــدونه مـن تصـ ّ‬
‫للعالم ‪ .‬وذلك هو ما أوحينا لهم ‪.‬‬
‫كز اليحاء على عدم التحّرش بصفات الله بل يجــري تحويــل غيــره‬ ‫المشرقي ‪ :‬يتر ّ‬
‫لحصول المطلــوب مــن المشــابهة _ إذن فليكــن العــالم أزليــا شــبيها ً بخــالقه ‪ .‬إن‬
‫ذة هذه قد نجحــت نجاح ـا ً عظيم ـا ً علــى كافــة الصــعدة ‪ ،‬وهــي نفــس‬ ‫طريقتنا الف ّ‬
‫طريقتنا المستعملة في اللغة ‪ ،‬فقد أوحينا إليهم من قبل أن ل تقولــوا أن كلمــه‬
‫يشبه كلم الخلق ‪ ،‬بل قولوا أن دلئل العجاز هي في كلمنا وكلمه ‪ ،‬وأن أســرار‬
‫البلغة هي في كلمنا وكلمه سواء بسواء ‪ ،‬ففي كلمه مجاز وفي كلمنا كــذلك ‪،‬‬
‫وفي كلمه تقديم وتأخير وتكرار وفي كلمنا كذلك ‪ ،‬وفــي كلمــه حــذف وزيــادات‬
‫ة‬
‫سخت تلك القواعد فإنك تسمع من يقول ‪ -‬صراح ً‬ ‫وفي كلمنا كذلك ‪ ،‬وبعد إن تر ّ‬
‫– بشأن أّية مشكلة في كلمه ‪ ) :‬إنما نزل بين أظهرنــا وحــاكى بأســاليبه أســاليبنا‬
‫وجرت قواعده على قواعدنا ( ! ‪.‬‬

‫)‪(1‬‬
‫الشفاء ‪ /‬ج ‪ / 374/ 2‬وكذلك النجاة ‪. 372 /‬‬
‫النيلي ‪93-----------------------------------------‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬فما الذي يقوله الشيخ بشأن انعدام الرادة مع عــالم ٍ واجــب الوجــود‬
‫بغيره ؟‬
‫المغربي ‪ :‬أجاب على ذلك بقوله ‪ ) :‬إنهم يرون أي المعترضون أن مــا مــن شــأنه‬
‫أن يفعل فقط فل قدرة له ‪ ،‬وهذا ليس بصادق ( ! ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬لماذا ؟‬
‫المغربي ‪ :‬لنه يزعم ) أنه إذا كـان الشـيء الـذي يفعلـه فقـط مـن غيـر أن يشـأ‬
‫وة ‪ ،‬ولكــن إذا كــان يفعــل باختيــار إل ّ أنــه دائم‬ ‫ويريد فذلك ليــس لــه قــدرة ول ق ـ ّ‬
‫الرادة ول يتغّير وإرادته وجودا ً اّتفاقيا فإنه يفعل بقدرة ( ‪.‬‬
‫ً‬
‫الرئيـس ‪ :‬فما معنى هذا ؟‬
‫ً‬
‫المغربي ‪ :‬ل أدري معنى هذه اللتواءات في كلمه ‪ ،‬إذ هو مثل القائل أن زيــدا ل‬
‫وره وهو غير فاعل ‪ ،‬فإذا قيل لــه ‪ :‬فهــو إذن‬ ‫شأن له سوى أن يفعل ول يجوز تص ّ‬
‫مسلوب الرادة فسيقول ‪ :‬كل إنه يفعل ما يفعل باختياره بيد أنه يفعــل دومــا ً ول‬
‫يمكن إل ّ يفعل وقتا ً ما مطلقا ً ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬وهكذا أجاب الشيخ على العتراض قائل ً ‪ ) :‬ليــس إذا صــدق قولنــا إذا‬
‫لم يشأ لم يفعل يلزم أن يصدق ‪ :‬لكنه لم يشأ وقتا ً ما ( !! فما الذي يلزم إذن ؟‬
‫ت ‪ ،‬فــإن‬ ‫ي وقـ ٍ‬ ‫قق في أ ّ‬ ‫المغربي ‪ :‬وما فائدة تلك المشيئة إذا كانت مستحيلة التح ّ‬
‫ذلك هو كقول القائل‪ :‬زيدٌ إذا شاء كتــب وإذا لــم يشــأ لــم يكتــب ‪ .‬فيقــول الشــيخ‬
‫ور أنه لم يكتب وقتا ً ما !!! ‪ .‬الناتج الوحيــد‬ ‫الرئيـس له ‪ :‬صدقت ولكن إّياك أن تتص ّ‬
‫ة مزّيفة ‪.‬‬ ‫هو أنه ) مقهوٌر ( على الكتابة دوما ً فهي مشيئ ٌ‬
‫عبات هــذا الشــكال المتعل ّــق بالزمــان ‪،‬‬ ‫ت أنكــم تفهمــون تشـ ّ‬ ‫الرئيـس ‪ :‬قــد فهمـ ُ‬
‫فاخبروني الن أين مكمن المغالطة في المبحث بأكمله ؟‬
‫المشرقي ‪ :‬إنها تكمن في أن التفريق بين مشيئة الفعل ومشيئة عدم الفعل هــو‬
‫ق سوفسطائي ‪ ،‬فإن إرادة الفعل إرادة ‪ ،‬وإرادة عدم الفعــل هــي عيــن تلــك‬ ‫تفري ٌ‬
‫الرادة ‪ .‬إذ ل معنى للرادة سوى اختيار أحد الفعال وعدم اختيــار الخــرى والــتي‬
‫د‪.‬‬‫ت واح ٍ‬ ‫هي عدمها في وق ٍ‬
‫ل كفعل الخلق وهذا هو‬ ‫المغربي ‪ :‬إن أخي المشرقي يقول إن عدم الخلق هو فع ٌ‬
‫ه‬
‫ل اخــترت ُ ُ‬ ‫ت عــدم الســفر فــإنه فع ـ ٌ‬ ‫ل ‪ .‬فأنك لو قلت لي ‪ :‬تعال نســافر واخــتر ُ‬ ‫الح ّ‬
‫ل أو عدمه ‪.‬‬ ‫مثلما لو اختُر فعل السفر ‪ ،‬فهو كذلك في كل فع ٍ‬
‫ً‬
‫الرئيـس ‪ :‬إذن فبإمكان المرء أن يؤمن بـأن اللــه لـم يـزل فـاعل ومــا كــان عـديم‬
‫الرادة وقتا ً ما ولو مع انعدام العالم فيسقط المبحث بأكمله ‪ ،‬يا لك من مارد ! ‪.‬‬
‫ل البحــث وجميــع مــا تف ـّرع‬ ‫ل سيادة الرئيـس ‪ .‬فيسقط ك ّ‬ ‫المغربي ‪ :‬وذلك هو الح ّ‬
‫ل‬‫مــة فاع ـ ٍ‬ ‫موا الله بالفاعل المطبوع ؟ فمن الواضح أنــه ليــس ث ّ‬ ‫منه ‪ .‬أل تراهم س ّ‬
‫ع إل ّ وهو مقهوٌر على الفعل ! وحينما لم يشأ خلق العالم كــان فــاعل لعــدم‬
‫ً‬ ‫مطبو ٍ‬
‫ٌ‬
‫دعي أن الفاعل المطبــوع ســاقط عــن العتبــار‬ ‫الخلق ‪ .‬أما أخي المشرقي فإنه ي ّ‬
‫ّ‬
‫في البناء اللغوي لن كل اسم مفعول متعلق بالفعل ل يمكن أن يوصف به الله ‪.‬‬
‫فالفاعل المطبوع ل يصلح أن يكون إلها ً ولو كان مطبوعا ً بذاته ‪ .‬إنما تصلح أسماء‬
‫قف عند فاعلها مثــل محمــود ومشــكور‬ ‫المفعول التي ل تتعّلق بفعله هو وإنما تتو ّ‬
‫ومعبود فهي أفعال الحامدين والشاكرين والعابدين ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬وإذن فأصل المشكلة في هذا المبحــث هــو الخلــط بيــن إرادة الفعــل‬
‫ل يستلزم‬ ‫ل والخرى ليست فعل ً مع إن كل فع ٍ‬ ‫وعدم الفعل والزعم أن الولى فع ٌ‬
‫الفعل وعدم فعل عدمه ‪ .‬والخرى هي زعمهــم بالتفــاق علــى أن فعــل اللــه إن‬
‫ض فهــو محــال لنــه يلــزم منــه اســتكماله بــالغير وهــو زعــم‬ ‫ً‬
‫كــان تابعــا لغــر ٍ‬
‫سوفسطائي ‪ ،‬لن الله أخبر عن طريق رسله – وهم مقّرون على زعمهم بكلمه‬
‫ض فإنما هو كافٌر بــألوهيته ‪.‬‬ ‫وكلم رسله ‪ ، -‬أخبر أن الزاعم أنه يفعل من غير غر ٍ‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪94‬‬
‫ما أسقطنا هذين الشكالين المزعومين فقد أسقطنا المبحــث بــأكمله ‪ .‬أمــا‬ ‫فل ّ‬
‫ض مــا ‪ ،‬بيــد أن‬ ‫ً‬
‫س ‪ ،‬إذ أن الله يفعل دوما لغــر ٍ‬ ‫المحال الثاني المزعوم فهو معكو ٌ‬
‫المــر ينقلــب خــارج حــدود الكــون وخــارج المخلــوق ‪ ،‬فــإن الغــرض ل ينتــج منــه‬
‫استكماله بالغير وإنما يلزم منه استكمال الغير به ‪.‬‬
‫ر مــن الشــكالت ‪ ،‬فكــم‬ ‫ل عدٍد كبي ٍ‬ ‫ة واحدةً قد تكفي لح ّ‬ ‫الرئيـس ‪ :‬نعم … إن جمل ً‬
‫ل ذلــك الشــكال‬ ‫صرفوا من الوقت والكلم ؟ وكم هو عدد الذين شــاركوا فــي ح ـ ّ‬
‫المزعوم ؟ وكم هو عدد الدارسين لهم ؟‬
‫مارد الحصاء ‪ :‬لقد كتب فيها الشهرستاني في ) نهاية القدام ( وابن سينا في )‬
‫العرشّية ( و ) الشفاء ( و ) النجاة ( والفارابي في ) الدعاوي ( و ) الفصــوص ( و‬
‫) السياسات المدنية ( و ) الجمع بين آراء الحكيمين ( وعشرات الرســائل الخــرى‬
‫والطوسي في ) المطارحات ( و ) شرح التجريد ( ‪ ،‬وأبو البركات في ) المعتــبر (‬
‫والغزالي في ) التهــافت ( وابــن رشــد فــي ) تهــافت التهــافت ( ‪ ،‬والــرازي فــي‬
‫) الربعيــن ( والكــاتبي فــي ) المطارحــات ( وأبــو ســعديا فــي ) المانــات ( ‪،‬‬
‫والماتريدي في ) التوحيــد ( ‪ ،‬والشــعرية فــي كتبهــم ‪ ،‬والمعتزلــة فــي كتبهــم ‪،‬‬
‫وكانت في ) نقد العقول ( ‪ ،‬وهيجل في ) الجدل ( ‪ ،‬وشوبنهور في ) الطبيعــة ( ‪،‬‬
‫ســرين عــدا عــن مئات‬ ‫وفة والعرفانيين والعلماء والمف ّ‬ ‫وعشرات آخرين من المتص ّ‬
‫الدراسات وألوف الدارسين ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬فهؤلء الدارسون الجدد يقولون ‪ :‬أن بمقدورنا أن نجمع بين الطريقين‬
‫ه (كما فعل الفلسفة مــن قبــل ‪ ،‬ل كمــا يقــول المــاديون‬ ‫) أزلية العالم ووجود إل ٍ‬
‫‪((1‬‬
‫) أزلية المادة من غير إله (وإن العلم يساندنا في ذلك ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬لقد كان ذلك من إيحائنا لهم سيدي الرئيـس ‪ .‬فلقد قاســوا ذلــك علــى‬
‫دعى أن الجرام ل يطــرأ عليهــا الفســاد ‪ ،‬والكــون‬ ‫الجرام السماوية لن ارسطو إ ّ‬
‫ة تنتهــي‬ ‫ددوا عــددها بعشــر ٍ‬ ‫وهي جواهر زكية وعاقلة ولها نفوس ‪ .‬وكــانوا قــد ح ـ ّ‬
‫بالحادي عشر وهو فلك القمر ‪ .‬يقول الفارابي ‪ ) :‬يفيض من الول أي الله وجــود‬
‫سم أصل ً ول في مادة ‪ .‬فهو يعقل الول ويعقل ذاتــه ‪.‬‬ ‫الثاني وهو جوهٌر غير متج ّ‬
‫ويلزم عنه وجود ثـالث وبمـا هـو متجـوهر بـذاته يلـزم عنـه وجـود السـماء الول ‪.‬‬
‫ل بجوهره وفيما يتجوهر من ذاته يلزم عنه وجــود كــرة الكــواكب‬ ‫والثالث أيضا ً عق ٌ‬
‫ع ‪ .‬وهــذا أيضـا ً ل فــي مــادة فهــو‬ ‫الثابتة! وبما يعقله من الول يلزم عنه وجود راب ٍ‬
‫يعقل ذاته ويعقل الول وفيما يتجوهر من ذاته يلزم عنه وجود كوكب زحــل وبمــا‬
‫يعقله من الول يلزم وجــود خــامس … ( ‪ .‬وهكــذا يســتمّر الفــارابي فــي معادلــة‬
‫قل والتجوهر لنتاج المشتري ثم المريخ ثــم الشــمس ثــم الزهــرة ثــم عطــارد‬ ‫التع ّ‬
‫وأخيرا ً القمر الذي ينتج الحادي عشر ‪ ) :‬وهذا الحادي عشر هو أيضا وجوده ل في‬
‫مادة ويعقل ذاته ويعقل الول وعنده ينتهي الوجود وعند كرة القمر ينتهي وجــود‬
‫دة ملحظات ‪:‬‬ ‫الجرام السماوية (‪ .!! ((2‬وقد تلحظ أّيها الرئيـس هنا ع ّ‬
‫ع‪،‬‬ ‫قـ ُ‬‫ل ‪ ،‬وأتو ّ‬‫مـ ُ‬
‫ن ‪ ،‬وأحت ِ‬ ‫الولى ‪ :‬إنه مثل من سبقه ومن تله ل يقــول ‪ :‬أظـ ّ‬
‫دث كما لو كان قد شهد خلق السماوات‬ ‫ب وما شابهها من اللفاظ ‪ ،‬بل يتح ّ‬ ‫وأحس ُ‬
‫رضـا عــن النــص المنـّزل الــذي أك ّــد علــى عــدم وجــود مــن شــهد تلــك‬ ‫ً‬ ‫والرض مع ِ‬
‫‪((3‬‬
‫التكوينات ‪ ،‬بل لم يشهدوا خلق آخرها وهو أنفسهم ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬إنه جعل الله محــدودا إذ هــو بهــذا المنظــار العلمــي أكــبر قليل ً مــن‬
‫نصف مجموعتنا الشمسية ‪.‬‬

‫حوار بين الفلسفة والمتكّلمين ‪ – 166 /‬د ‪ .‬حسام الدين اللوسي ‪.‬‬ ‫)‪(1‬‬

‫)‪ (2‬آراء أهل المدينة الفاضلة ‪ / 46 / .‬الفارابي ‪.‬‬


‫)‪ (3‬القرآن الكريم ‪ /‬سورة الكهف ‪ /‬آية ‪. 51‬‬
‫النيلي ‪95-----------------------------------------‬‬
‫الثالثة ‪ :‬إن ما ذكره من التكوينات هو هباءة أو ذّرة في مجّرة درب التّبانة‬
‫دة ملييــن‬ ‫التي تحتوي على خمسمائة بليون نجــم بعضــها أكــبر مــن الشــمس بعـ ّ‬
‫ة بمليون مّرة ‪ .‬وما درب التّبانة هذه إل ّ واحدة من مائة وخمسين ألف‬ ‫واشدّ إضاء ٍ‬
‫ة في العنقود المجري الــذي تنتمــي إليــه ‪ .‬وأن المكَتشــف مــن العناقيــد هــو‬ ‫مجّر ٍ‬
‫مئات اللف بحيــث أن مراكــز البحــث الفلكــي أعرضــت عــن رســم خــرائط لهــا‬
‫ل هــذا‬ ‫ة عنهــا ‪ .‬وإن ك ـ ّ‬ ‫ة مؤك ّــد ٍ‬
‫ت علمي ـ ٍ‬ ‫وترقيمهــا لكثرتهــا ولعــدم وجــود معطيــا ٍ‬
‫ة في صفحة الورقة الــتي بيــن يــديك مــن الكــون‬ ‫كل إل ّ مثل نقط ٍ‬ ‫المجموع ل يش ّ‬
‫ف ‪ ،‬وهكذا‬ ‫م مختل ٌ‬ ‫ق به له نظا ٌ‬ ‫ن مجاوٌر لصي ٌ‬ ‫الممكن رصده ‪ .‬وإن بعد هذا الكون كو ٌ‬
‫ة‬ ‫تتلصق الوجودات والكــوان المحتملــة ‪ .‬وإن ســرعة الضــوء الفائقــة هــي ســرع ٌ‬
‫ف إذا قيســت بأبعــاد المجــرات لن الضــوء يحتــاج إلــى مــائة‬ ‫د مقــر ٍ‬ ‫ة جدّا ً لحـ ٍ‬‫بطيئ ٌ‬
‫وخمسين مليون سنة ليصل بين مجرتين في العنقود المجري ‪.‬‬
‫الرابعة ‪ :‬إن لهذه المجّرات أنظمة شمسـية مختلفـة وكـواكب تـدور حولهـا ‪،‬‬
‫ة وإنهــا تنتهــي وتمــوت وتنكبــس مادتهــا ثــم تخــرج مــن القمــع‬ ‫ولها أعماٌر مختلف ٌ‬
‫مجّرات كاملة من الطرف الخر ‪ .‬وإذن فالعلم الحديث يخالف نظرية أبدّية الحركة‬
‫في الفلك أو سرمدّية الجرام ‪.‬‬
‫الخامسة ‪ :‬إن هؤلء قاسوا الشياء على الرؤية البصرّية – الحجــم والضــاءة‬
‫ن أنهــا‬ ‫دم الفارابي زحــل والمشــتري والمريــخ علــى الشــمس لنــه ظ ـ ّ‬ ‫– فلذلك ق ّ‬
‫أقرب منهم بينما هي مركز حركة المجموعة كلها وهي أبعــدها عــن الرض ‪ .‬فــي‬
‫خر القمر لكبر حجمه وقّلة إضاءته فجاء موافقا ً للبعاد بمحض الصدفة ‪.‬‬ ‫حين أ ّ‬
‫السادسة ‪ :‬إنهم تحّيروا في الحركة المعاكسة التي تظهر للسّيارات فحاولوا‬
‫تفسيرها فلسفيا ً بينما هي ظاهرة طبيعية سببها الحركة الدورانيــة للرض معهــم‬
‫ة في مــدارها فيظهــر أن المشــتري مثل ً‬ ‫ة معّين ً‬
‫طى نقط ً‬ ‫حول الشمس ‪ ،‬فهي تتخ ّ‬
‫يتراجع عن سيره ويتحّرك من الغرب إلى الشرق ‪.‬‬
‫السابعة ‪ :‬إنهم ومع جهلهم بهذا العالم استكبروا على ما جاء به الرسل مــن‬
‫دد العــوالم وأنهــا بــاللوف ‪ ،‬وأن تلــك‬ ‫معلومات عن الكون ‪ .‬فقد ذكــر الرســل تع ـ ّ‬
‫الكواكب المرئية في السماء ما هي إل ّ عوالم كهذا العالم وقد ذكروا أرقاما كبير ً‬
‫ة‬
‫ســك ابــن رشــد‬ ‫ة التناقض مع نظرية بطليموس ‪ ،‬ومــع ذلــك فقــد تم ّ‬ ‫جدا ً إلى درج ِ‬
‫والفارابي وابن سينا والكندي والغزالي بهذه النظرية ‪ ،‬وانعكست مبّررات ملئمة‬
‫أفكار بطليموس مع الكتاب والسّنة على الفقهاء والفلســفة والمتكّلميــن وأهــل‬
‫الفلك كالطوسي وغيره ‪.‬‬
‫الثامنة ‪ :‬إن الجدد من الدارســين وهــم الموضــوع الــذي ذكــره ســيادتكم لــم‬
‫ت لهـم مكـاتب فـي وكالـة ناسـا للفضـاء !‬ ‫يخرجوا من دائرة بطليموس ولـو فتحـ َ‬
‫فلتكن مطمئن ّا ً سيدي الرئيـس‬
‫الرئيـس ‪ :‬ومن أين علمت أنهم لن يخرجوا عن تلك الدائرة ؟‬
‫المغربي ‪ :‬لنهم داخل قّبة بطليموس الفلكية فإذا ذهبت بهم إلى عواصم الفضاء‬
‫فلن تذهب بهم إل ّ وهم داخل القّبة ! ‪ .‬إن الدارسين للفلسفة سيدي الرئيـس هم‬
‫في قسم الداب أو الحوزات الدينية ‪ ،‬وقد ذهــب الزمــان الــذي كــان العلمــاء فيــه‬
‫مــا‬‫ل بعلمــه ‪ ،‬ول ّ‬ ‫ل امــرئ مشــغو ٌ‬ ‫ل علوم عصرهم ‪ .‬ففي هذا الزمــان ك ـ ّ‬ ‫يجمعون ك ّ‬
‫قفت عند أولئك الرجال ‪ ،‬فالفلك الــذي يســير مــع الفلســفة‬ ‫كانت الفلسفة قد تو ّ‬
‫س‬‫هو فلك ذلك الزمان ل فلك وكالة ناسا للفضاء ! ‪ .‬لذا فل تعجب إذا ما ظهر دار ٌ‬
‫كبيٌر في بغداد أو القاهرة يفخر بأن ابن رشد جاء بما جاء به بطليموس ! ولو كان‬
‫ابن رشد مهمل ً جدّا ً في دراسة النصوص الفلكية لخــر الرســل والــتي تؤك ّــد علــى‬
‫دد العوالم وُتناقض بطليموس ‪ .‬ذلك لن هذا الدارس لــه بــدن القــرن العشــرين‬ ‫تع ّ‬
‫وعقل القرون الماضية ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪96‬‬
‫ل كرب وبلء ‪ ،‬فاضــرب لــي مثل ً للصــراع‬ ‫الرئيـس ‪ :‬بشرت بكل شر ووفقت لك ّ‬
‫ة لهذا الشكال حتى ندخل في إشــكال آخــر‬ ‫بين المتكّلمين والفلسفة يكون خاتم ً‬
‫من إشكالت خلق العالم ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬إن مثلهم مثل رجليــن اتفــق إن تواجــدا فــي ظلم حالــك ‪ .‬أرادا إيقــاد‬
‫ل فجاءهما ثالث ومن طبعــه أن يــرى فــي الظلم فقــال ‪ :‬ل‬ ‫حطب من هشيم ٍ زج ٍ‬
‫ب عليه الزيت ‪ ،‬فهاتــان قارورتــان فــي إحــداهما زيــت وف‬ ‫يّتقد الحطب حتى ُيص ّ‬
‫ّ‬
‫الخرى ماء لتشربوا منه ثم اختفى ‪ ،‬فأمضيا الليل كله يتجادلن فــي القــارورتين‬
‫اّيتهما الزيت وأّيتهما الماء ‪ ،‬فلم يوقدا ولم يشربا ولم يتحّركا عم موضــعهما قيــد‬
‫ة ولم يناما الليل كله ‪.‬‬ ‫أنمل ٍ‬
‫الرئيـس ‪ :‬فما كان من أمرهما بعدُ ؟‬
‫المغربي ‪ :‬لو قد انبلج الصبح لوجدا القــارورتين خــاليتين ‪ ،‬وكــان الهشــيم الجــزل‬
‫ء من شعاع الشمس ‪.‬‬ ‫سيّتقد من غير الزيت ولو بشي ٍ‬
‫الرئيـس ‪ :‬فليغّير المشرقي شيئا ً في هذا المثل حتى يكون فيه للرسل موضع ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬السمع والطاعة سيدي ‪ :‬وكان قد جاءهما في عين الوقت الــذي جــاء‬
‫ع وكــان مــن طبعــه أن يــرى فــي الظلم أيضـا ً فقــال لهمــا ‪:‬‬ ‫فيه الثالث رجل رابـ ٌ‬
‫ة إلــى الحطــب والنــار ول إلــى‬ ‫اتبعوني فإني أرى في الظلم ‪ ،‬ولســتم فـي حاجـ ٍ‬
‫ً‬
‫ع ‪ .‬فقال ‪ :‬عجبا وكيف تــرى فــي‬ ‫الماء ‪ ،‬فالنهر على بعد خطوات وصاحبكم مخاد ٌ‬
‫ً‬
‫قــد نــارا ؟‬ ‫الظلم ؟ إنما أنت المخادع ‪ .‬فقال ‪ :‬أفرأيتم صــاحبكم وقــد مـّر ولــم يو ِ‬
‫عليــه وتركنــا ومضــى ‪ .‬فلمــا رآهــم غي ّــروا‬ ‫ح لنا فقد قال مــا‬ ‫فقال ‪ :‬وإنه لناص ٌ‬
‫طرفا ً من الحتجاج قال ‪ :‬والذي يمضي ل يلزمه شيء والمتبـوع يلزمـه أن يريكـم‬
‫ق بأن يكون مخادعا ً والــذي ألــزم‬ ‫الطريق خطوة من بعد خطوة ‪ ،‬فالذي يمضي أح ّ‬
‫ق بأن يكون صادقا ً ‪ .‬قــال ‪ :‬فإن ّــا ل نأمنــك علــى أنفســنا لنــك تــرى فــي‬ ‫نفسه أح ّ‬
‫ة !! ‪.‬‬ ‫ب أو حفيــر ٍ‬ ‫ع فــي ج ـ ّ‬ ‫ّ‬
‫الظلم ول نرى ‪ ،‬فلعلك تقول سيروا خلفي فتعبَر ونق ُ‬
‫ً‬
‫دما أمامي لنكم ل ترون شيئا كما أرى ‪ ،‬فـإذا رأيتـم‬ ‫قال ‪ :‬فلذلك ل أقول لكما تق ّ‬
‫قفــا فــإن مــا ورائي يكــون منيــرا ً إل ّ أن تتخّلفــوا كــثيرا ً عامــدين أو‬ ‫ما يريبكمــا تو ّ‬
‫ط كيــف نســير خلفــك ؟ ل واللــه إن‬ ‫تنكصوا على أعقــابكم ‪ .‬فقــال ‪ :‬وأنــت تشــتر ُ‬
‫ق بالتباع لنه لم يمل علينا شرطا ً ‪ .‬قال ‪ :‬أو يثقــل عليكــم‬ ‫صاحبنا الذي مضى أح ّ‬
‫هذا الشرط ‪ ،‬إنه شرط المسير والرؤيــة ل شــرطي ‪ .‬قــال ‪ :‬يثقــل علينــا المســير‬
‫والرؤية بشرطهما هذا ! ‪ .‬قال ‪ :‬إذن يثقل عليكم المسير والرؤية ل الشرط ‪ ،‬لنه‬
‫ل رؤيـة مـن غيـر شـرط ‪ .‬قـال ‪ :‬صـاحبنا وعـدنا الرؤيــة مـن غيــر شــرط ‪ .‬قـال ‪:‬‬
‫صاحبكم وضع بينكم الشرط من غير رؤية ‪ .‬قال ‪ :‬ل نفقه كثيرا ً مما تقــوله الن !‬
‫وما أكثر ما تجادل ‪.‬قال ‪ :‬ول حاجة للفقــه ‪ ،‬فــأنتم تريــدون الســير فــي الظلمــة‬
‫والرؤية فاتبعوني فإني ســائٌر أمامكمــا … فــانتظروه حــتى يــذهب ‪ ،‬فلمــا رأوه ل‬
‫يبارح مكانه ويدعوهم قال ‪ :‬بل نتشاور ‪ ،‬فقال الول ‪ :‬ما خلصنا يا أخي من هــذا‬
‫الرجل سينقضي الليل وهو يجادلنا !! فقال الثاني ‪ :‬أرأيت حينما قلنا ل نفقه مــا‬
‫قنا فالخلص في هــذا المــر _ وإنــي مثلــك لســف علــى مـا مضــى مـن‬ ‫تقول صدّ َ‬
‫الليل !! فقال الول ‪ :‬وكيف ذلــك ؟ فقــال الثــاني ‪ :‬نســخر منــه فــإن ذلــك أمتــع‬
‫وآنس لنا من جلوسنا ‪ ،‬نسير خلفه ونتوه عنه فنرجع إلــى موضــعنا الول ونقــول‬
‫والله ما رأينا الطريق ‪ ..‬والله تهنا عنك ‪ ..‬فإن كان ل يعلم ما في قلوبنــا ســخرنا‬
‫ل‬‫منه وإن كان يعلم عذبناه فإنه ل يقدر على تكــذيبنا ‪ ،‬ثــم نســير قليل ً ونرجــع ك ـ ّ‬
‫ة ‪ ،‬وخلل سيرنا نرى ما نريد ان نــراه مــن أمــر القــارورتين والحطــب ‪ ،‬وخلل‬ ‫مّر ٍ‬
‫دث عنه ونكون بذلك قد جمعنا المطالب كّلها ‪ .‬فأخذا في ذلــك شــطرا ً‬ ‫رجوعنا نتح ّ‬
‫ً‬
‫من الليل حتى إذا مضى الرجل عادا يتسامران وافتعل جدال عن القــارورتين بمــا‬
‫ق ‪ .‬وكـان الرجـل قبـل أن يمضـي قـد قـال ‪:‬‬ ‫يوحي للنظر أنهما يريدان الرؤية بح ّ‬
‫النيلي ‪97-----------------------------------------‬‬
‫ر ؟ قــال ‪ :‬إنــي‬ ‫ي تحــذي ٍ‬‫ة وأ ّ‬ ‫ي وص ـي ّ ٍ‬
‫ي أن أوصيكما وأحذركما ‪ .‬قــال ‪ :‬أ ّ‬ ‫ق عل ّ‬ ‫حقي ٌ‬
‫ك لكما سراجين يّتقدان من غير نار إن شئتم أن تخرجا مــن هــذه الظلمــة وإذا‬ ‫تار ٌ‬
‫أوقدتما أيا ً منهما إّتقد الخر فأنارا ما بين أيديكما وما خلفكما ‪ .‬فلما رأيا أنه يريد‬
‫دعهما تجرئا بالقول ‪ :‬وإن لم نفعل ؟ قال ‪ :‬إذن يستعّر الحطب الجزل على‬ ‫أن يو ّ‬
‫ة منكما فيحرقكما قريبا من الفجر ‪ .‬فلمــا مضــى كــان جــدالهما عــن أي‬ ‫ً‬ ‫حين غفل ً‬
‫ّ‬
‫السراجين يوقد أول قد اختلط بجدالهما عن القارورتين فأمضيا الليــل كلــه علــى‬ ‫ً‬
‫ذلك الحال ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬فما عملك الن مع هذين الرجلين ؟‬
‫المشرقي ‪ :‬عملي أن أمدّ بطول الليل ما استطعت ‪ ،‬فإنه يمتدّ مع امتداد جدالهما‬
‫حتى ل يقترب الفجر ‪.‬‬
‫ّ‬
‫س مستمر ‪ .‬فاخبرني عن علــة الخلــق بيــن‬ ‫الرئيـس ‪ :‬وّنقت لك ّ‬
‫ل شّر مستقر ونح ٍ‬
‫الحدوث على قول بعضهم والمكان على قول البعض الخر ‪.‬‬
‫دث هــي الحــدوث ‪ .‬إذ‬ ‫مح ِ‬
‫المشرقي ‪ :‬كان بعضهم يقول أن حاجة المحدثات إلى ال ُ‬
‫دث إلى من ُيحدثه هي حاجــة‬ ‫دث فإن حاجة هذا العالم المح َ‬ ‫ل حادث مح ِ‬ ‫لما كان لك ّ‬
‫حدوث ‪ .‬فقال لهم البعض الخر ‪ :‬إذن تنتفي حاجة العالم إلى الله بعد إن أحدثه ‪،‬‬
‫دثه مثلما يبقى البناء بعد الذي بناه ‪ ،‬وتنتفي حاجة العالم‬ ‫دث بعد مح ِ‬ ‫إذ يبقى المح َ‬
‫إلى الله بعد إن أوجده مثلما تنتفي حاجة البناء إلى الباني ‪ .‬ويظهر أنهــم أذعنــوا‬
‫ذ وردّ ‪ ،‬فعدلوا عنه إلــى القــول بــأن الحاجــة هــي حاجــة‬ ‫إلى هذا العتراض بعد أخ ٍ‬
‫إمكان !‬
‫جب من فعلهم ؟‬ ‫الرئيـس ‪ :‬وأراك تتع ّ‬
‫ق‬
‫ب مــن الحـ ّ‬ ‫جب مــن فعلهــم وقــد ابتــدءوا بمــا هــو قريـ ٌ‬ ‫المشرقي ‪ :‬وكيف ل أتع ّ‬
‫ك وإن ذكــره‬ ‫ض مضح ٌ‬ ‫وانتهوا إلى الباطل ؟ ‪ .‬ذلك لن العتراض المذكور هو اعترا ٌ‬
‫أعاظم الفلسفة وكّرروا فيه مثال البناء والباني في كتبهم ‪ .‬فالبناء والباني هما‬
‫ة مع ما كان حادثا ً مــن قبــل وهــو موضــوع البحــث فل َيص ـُلح مثــال ً بأي ّــة‬ ‫في شرك ٍ‬
‫حال ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬وكيف ذلك ؟‬
‫ة فــي‬ ‫المشرقي ‪ :‬ذلك أن الباني إذا بنى فإنمــا يبنــي وفــق ســنن وقــوانين عاملـ ٍ‬
‫الطبيعة فهو يستخدم عّلة ماسكة للبناء قائمة وموجودة ‪ ،‬فإذا هلــك البــاني بقــي‬
‫البناء ممسوكا ً بهذه القوى وعّلة إحداثه بهذا الهيكل هي غير عّلة بقاءه ممســوكا ً‬
‫ص وطــابوق … إذ صــنعها بهــذه‬ ‫فترة أطول وهي غير عّلة وجود مواد البناء من ج ّ‬
‫ل ذلــك‬ ‫ة ‪ .‬وك ـ ّ‬ ‫م آخــرون ‪ ،‬واســتعملوا لهــا علل ً أخــرى وقــوانين ماســك ً‬ ‫الصورة قو ٌ‬
‫ف عن علة وجود الرمل والتراب والنار والماء ‪ ،‬وهي المواد التي صــنع منهــا‬ ‫ّ‬ ‫مختل ٌ‬
‫ة فــي‬ ‫ل قديمـ ٌ‬ ‫صّناع تلك المواد … فــإن وجودهــا بهــذه الصــور المختلفــة لــه علـ ٌ‬ ‫ال ُ‬
‫ّ‬
‫الطبيعة وفق سنن وقوانين أخرى وهكذا … بينما البحث هو عن علة وجود العــالم‬
‫بعد إن لم يكن موجودا ً أي عل ّــة الوجــود مــن عــدم !! وهــو ينطــوي علــى أمريــن ‪:‬‬
‫اليجاد بعد العدم واستمرار الوجــود ‪ .‬فقــول الوائل أن العل ّــة هــي الحــدوث إنمــا‬
‫معنــاه الحــدوث نفســه ولفــظ الحــدوث ينطــوي علــى الحــوادث المتصــلة وغيــر‬
‫ل‬ ‫قفت الحركــة انعــدم الشــيء لن ك ـ ّ‬ ‫المنقطعة فهو ينطوي على الحركة إذ لو تو ّ‬
‫دث دائم ‪ .‬فــانظر إلــى تفاهــة العــتراض إذن‬ ‫موجود دائم الحركة ‪ ،‬فل بدّ من مح ـ ِ‬
‫ق‬‫دث ‪ ،‬بينما الحدوث هو تعل ّـ ٌ‬ ‫حينما يقال إذا حدث الحادث لم يبق مبرٌر لوجود المح ِ‬
‫دث حينما يكون الكلم عن الوجود بأسره ‪.‬‬ ‫م بالمح ِ‬ ‫دائ ٌ‬
‫الرئيـس ‪ :‬فما الذي جعلهم يذعنون للعتراض ؟ أهو سوء فهمهم الوائل أو سوء‬
‫استعمال الوائل للحدوث ‪.‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪98‬‬
‫المشرقي ‪ :‬إنما هو سوء استعمال الوائل للحــدوث ! لنهــم أرادوا بــه حصــول‬
‫ورهم للمر هو كما يحصل البناء من الباني‬ ‫الشيء بعد إن لم يكن حاصل ً وكان تص ّ‬
‫منذ البداية وقبل أن يأتي المتأخرون ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬إذن فــأنت تجعلهــم يصــيبوا التســمية دون المفهــوم وبمحــض الصــدفة‬
‫السعيدة !‬
‫ّ‬
‫المشرقي ‪ :‬تماما ولــذلك أذعــن المتكلمــون للفلســفة لنهــم اشــتركوا فــي هــذا‬ ‫ً‬
‫الفهم ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬فما هو الحل الذي وضعه الفلسفة بديل ً للحدوث ؟‬
‫المشرقي ‪ :‬وضعوا لهم الحل القائم على ) المكان ( بدل ً من الحدوث فأوقعوهم‬
‫د ‪ .‬فقد قــالوا ‪ :‬إن ارتبــاط العــالم بالخــالق هــو ارتبــاط إمكــان لن‬ ‫ق جدي ٍ‬ ‫في مأز ٍ‬
‫ً‬
‫ة ‪ .‬فلكي يبقــى موجــودا فل‬ ‫ة دائم ٍ‬‫العالم ممكن أن يوجد وممكن أن ل يوجد بصور ٍ‬
‫د دائم ٍ ‪ .‬وإذن فارتبــاط العــالم بالــذي أوجــده مــن اللإمكــان إلــى‬ ‫بدّ لــه مــن موجـ ٍ‬
‫المكان هو ارتباط إمكــان ‪ .‬ومــن هنــا أوقعــوهم فــي مــأزقين اكتشــفوا أحــدهما‬
‫وخفي عليهم الخر ‪ .‬أمــا الول فهــو قـولهم بإمكــان العــالم ‪ ،‬فـإن إخراجــه إلـى‬
‫ده ‪ .‬فأصبح العالم وسائر الموجــودات معدومــة‬ ‫ده يستلزم انتفاء ض ّ‬ ‫المكان من ض ّ‬
‫الضداد ومتصفة بنفس صفات الله ‪ .‬وذلك هو قول ابن سينا والفارابي والكنــدي‬
‫الذي ذكرته لسيادتكم في المجلس السابق وهو ما خفي عليهم أو تغــافلوا عنــه ‪.‬‬
‫وأما الثاني فهو قولهم أن العالم مستديم في الزمــان ‪ ،‬وهــو زمــان مطلــق قبــل‬
‫إيجاد العالم وإذن فالعالم موجود منذ الزل ‪ .‬ولكي ل يكون العالم نفسه إلها ً آخر‬
‫دم الله بالذات دون الزمان ‪ ،‬وهــو المــر الــذي اكتشــفه‬ ‫ابتدع الفلسفة فكرة تق ّ‬
‫ّ‬
‫المتكلمون وحاولوا جاهدين التخلص منه من غير جــدوى ‪ .‬وقــد أســس الفلســفة‬
‫ولها اّتفق عليهــا المتكلمــون معهــم‬ ‫لزلية العالم تأسيسات مرتبطة بالفكرة من أ ّ‬
‫فلم يقدروا بعد ذلك على الفكاك من أسرهم ‪.‬‬
‫اضرب لي مثل ً لهذا السر الذي يضع المرء فيه نفسه بأيدي الخصم ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬نعم سأضرب لك مثل ً من الفكــر نفســه المرتبــط بالــدين ‪ .‬فقــد قــال‬
‫ي شيء يختلف هــذا الكتــاب المنــزل باعتبــاره آخــر الكتــب‬ ‫خصوم الدين لهله ‪ :‬بأ ّ‬
‫ر‬ ‫السماوية عن لغة العرب ‪ ،‬فأّنا نراه مخالفا ً لقواعدهم وأساليبهم فمــا هــو بشــع ٍ‬
‫ء ‪ .‬وبدل ً من أن يقولــوا نعــم إنــه كتــاب اللــه‬ ‫ة ول إنشا ٍ‬
‫ع ول خطاب ٍ‬ ‫ر ول سج ٍ‬ ‫ول نث ٍ‬
‫ّ‬
‫المختلف في كل شيء عن كلم المألوه وأنه ل يشبهه في شيء إل في كونه من‬ ‫ّ‬
‫نفس الحروف ‪ ،‬قالوا ‪ :‬كذبتم وأجرمتم ! إنما جاء بأساليب العرب وعلى مقتضــى‬
‫دم ونــؤخر‬ ‫قواعدهم ‪ .‬فقال الخصوم ‪ :‬صدقتم وهل نريد غير ذلك ! إذن فنحن نق ـ ّ‬
‫در تقديما ً وتأخيرا ً في كلمه ونحن نحــذف ونختصــر وســوف‬ ‫في كلمنا فسوف نق ّ‬
‫ة‬‫ظ زائد ٍ‬ ‫در المحذوفات في كلمه ‪ ،‬ونحن نحشــو الجملـة بألفـا ٍ‬ ‫نحذف ونختصر ونق ّ‬
‫ه وســوف‬ ‫ب وجي ٍ‬ ‫در ألفاظا ً مزيدةً في كلمه ‪ ،‬ونحن نكّرر من غيرما سب ٍ‬ ‫وسوف نق ّ‬
‫نحمل أكثر العبارات على التكرار ‪ .‬وما زالوا يضعون فيــه مــا جــرت عليــه اللســن‬
‫حتى أخرجوه من حدّ كلم الخالق إلى حدّ كلم المخلوق وحملوهم على أن يبــدءوا‬
‫سسوا له قواعد‬ ‫ل ذلك حتى أ ّ‬ ‫هم بذلك ‪ ،‬فعمل العلماء بنصائح الذين أوحينا لهم ك ّ‬
‫كنــوا منهــم قــال‬ ‫د ‪ .‬حــتى إذا تم ّ‬‫وأحكام ‪ ،‬وجمعوا كلمهم وكلمــه فــي حكـم ٍ واحـ ٍ‬
‫ة ‪ :‬فكيف‬ ‫م ُ‬ ‫الخصوم ‪ :‬فأين العجاز فيه ؟ فأبلسوا فهم ل ينطقون ‪ .‬ثم سألت العا ّ‬
‫نعلم أنه كتاب الله ؟ وما الفرق بينه وبين غيره من الكلم ؟ فضحك العلماء علــى‬
‫مة بعدما ضحكوا على أنفسهم وقالوا ‪ :‬تعلمون ذلــك مــن تــواتره عــن صــاحب‬ ‫العا ّ‬
‫ول تؤمنون بصاحب الرسالة ؟ ‪ .‬وتناسوا أن صاحب الرســالة إنمــا كــان‬ ‫الرسالة ! أ َ‬
‫د‬
‫حة كلم اللــه ‪ ،‬فارت ـ ّ‬ ‫برهانه على صدقه هو كلم الله وليس هو البرهان على ص ـ ّ‬
‫الناس سّرا ً وآمنوا جهرا ً ‪.‬‬
‫النيلي ‪99-----------------------------------------‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬وفقتم لجميع الشرور فما كان من أمــر الفلســفة والمتكلميــن بعــد‬
‫ذلك ؟‬
‫ّ‬
‫ما كان المتكلمون قد أذعنوا للفلسفة بان علــة الحــدوث ل تســتلزم‬ ‫المشرقي ‪ :‬ل ّ‬
‫دثــة‬ ‫دث ) بالكسر ( ‪ ،‬واّتفقــوا معهــم علــى أن الشــياء المح َ‬ ‫مح ِ‬ ‫دوام الحاجة إلى ال ُ‬
‫ممكنة الوجود وأن ظهورها هو لنتفاء أضدادها ‪ ،‬فقد غّيروا طريقتهــم فيمــا بعــد‬
‫د هــو ممكــن وواجــب ‪،‬‬ ‫ث إلــى تقســيم ٍ جديـ ٍ‬ ‫من تقسيم الشــياء إلــى قــدٍيم وحــاد ٍ‬
‫واعترفوا أن عّلة الوجود هي المكان غير مبالين بمسالة الضداد إلــى هــذا اليــوم‬
‫ل وعقيم ٍ أقّروا بــذلك‬ ‫ل طوي ٍ‬ ‫إذ لم ينتبه لها أحد إلى هذه الساعة ‪ .‬ولكنهم بعد جد ٍ‬
‫كارهين غيــر راضــين عــن أزليــة الموجــودات والــتي هــي تحصــيل حاصــل للقــول‬
‫دد للمكان ‪ .‬لكن ) صـدر الـدين الشـيرازي ( جمـع بيـن‬ ‫بالمكان بهذا المعنى المح ّ‬
‫ّ‬
‫الثنين بحيث تخفى أزلية العالم ‪ ،‬وذلك من خلل تحويل علة الوجود إلى الحركــة‬
‫أي إلى إمكان الوجود ل المكان عموما ً ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬فما الفرق بينهما ؟‬
‫ك عنــه أبــدا ً ل‬ ‫ســخ ارتبــاط العــالم بخــالقه بحيــث ل ينف ـ ّ‬ ‫المشرقي ‪ :‬الفرق أنــه ر ّ‬
‫بالزمان وحده بل وبالظهور أيضا ً ‪ .‬ولذلك اخذ الشيرازي بنظرية الفيض للفارابي‬
‫عال لهما وأخــذ بالماهيــة والهيــولى وأخــذ بمــا نســب إلــى‬ ‫وابن سينا وبالعقل الف ّ‬
‫ً‬
‫ســب إلــى أرســطو وإن كــان بــاطل مثــل كتــاب‬ ‫أفلطــون وأرســطو وأخــذ بمــا ن ُ ِ‬
‫ســس الوثنيــة الدينيــة ‪ ،‬وأخــذ‬ ‫ل مــا جــاء بــه ابــن عربــي مؤ ّ‬ ‫) أتولوجيا ( ‪ ،‬وأخذ بكـ ّ‬
‫وفة ‪ ،‬وأخــذ بالنصــوص المنّزلــة ونصــوص الوليــاء ‪ ،‬فكــان يحمــل‬ ‫بمقولت المتصـ ّ‬
‫ة بالفكار في كتابه ) السفار ( ‪ .‬ومــن هنــا تجــاوز مرحلــة العتــذار‬ ‫أسفارا ً مثقل ً‬
‫ل مـا دام‬ ‫ة حـ ّ‬‫ل معضـل ٍ‬ ‫التي دأب عليها الشيخ ابن سينا في ) الشفاء (‪ .((1‬فلديه لك ّ‬
‫ل‪ .‬ولكي ل تنكشف أسرار هــذا التخليــط فعــل كمــا فعــل الغزالــي‬ ‫يقضم حيثما ح ّ‬
‫وابن عربي من قبل حينما يقــوم باســتلب نفــس المتلقــي وروحــه باليحــاء إليــه‬
‫ة ( أو )‬ ‫ة ربوبي ٌ‬ ‫ة ( أو ) حكم ٌ‬ ‫ة إلهي ٌ‬
‫بزخارف القول من أن ما سوف يذكره هو ) نفح ٌ‬
‫ص مــن الكرســي ( مــن أعــرض عنــه كفــر وذاق وبــال أمــره ‪.‬‬ ‫ي ( أو ) ف ّ‬ ‫سٌر عرش ّ‬
‫ب مـع التحـذير والتهديــد والوعــد والوعيــد مـن‬ ‫وتسير هذه اليحاءات جنبا ً إلى جنـ ٍ‬
‫الرتكاس بالجهالت أو البقاء في الظلمات وذلك هو عين الطريق الذي أوحينا بــه‬
‫إلى علماء اللغة فأخذ به الفارابي ومن بعده الزملكاني ‪ ،‬وكان النجاح حليفهما ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬فأين يكمن الخطأ في هذا المبحث ؟‬
‫ظ له علقة بهذا المبحث مثــل الوجــود ‪ ،‬العــدم ‪،‬‬ ‫ل لف ٍ‬ ‫المشرقي ‪ :‬إنه يكمن في ك ّ‬
‫ل‬ ‫ّ‬
‫إرادة الله ‪ ،‬مشيئته ‪ ،‬الزمان ‪ ،‬المكان ‪ ،‬العلة ‪ ،‬المعلول … إلى آخرها ‪ .‬فــإن لكــ ّ‬
‫ظ منها دللة يخرجون عنها خلل البحث كما هو ديــدنهم فــي التفســير والنقــد‬ ‫لف ٍ‬
‫والفلسفة سواء بسواء ‪ .‬إنهم يبحثون عن ارتباط العالم بخالقه وبالطبع يستحيل‬
‫استخراج علقة غير عّلية بين شيئين وفق قوانين الوجود الذي ترتبط فبه الشياء‬
‫كعّلة ومعلول ‪ ،‬ثم تنطبــق هــذه العلقــة علــى الوجــود مــن خــارجه قبــل إيجــاده ‪.‬‬
‫فالعلقة بين الله والعالم مختلفة حتما ً عن العلقــة بيــن الشــياء بعضــها ببعــض ‪،‬‬
‫حت علقة من هذا النوع لكان الله والمألوه سواءً ‪ ،‬ولكان سيضــيع الفــرق‬ ‫ولو ص ّ‬
‫بين الله والعالم ‪ .‬أل ترى أن الجميع اضطّروا في النهايــة إلــى توليــد العــالم مــن‬
‫عــال الوســيط بيــن اللــه‬ ‫موه صدورا ً عنه أو فيضا ً ؟ أو ســموه بالعقــل الف ّ‬ ‫الله وس ّ‬
‫م‬ ‫ي صدر عنه وجود العالم ؟ وذلــك حــتى يتـ ّ‬ ‫ة أزل ّ‬ ‫والعالم والذي يعمل عندهم بمثاب ِ‬
‫دثون عــن الوجــود ويريــدون بــه وجــود اللــه ووجــود‬ ‫التشابه بينهما ‪ .‬أل تراهم يتح ّ‬
‫ّ‬
‫العـالم ؟ أل تراهــم يثبتــون وجـود اللــه عـن طريـق مبــدأ العليـة والتسلسـل ؟ ‪. .‬‬
‫ل عل ّــة فــإذا كــانت العل ّــة معلولــة بــذاتها فهــو المطلــوب وأل ّ‬ ‫ل معلو ٍ‬ ‫يقولون ‪ :‬لك ّ‬
‫)‪(1‬‬
‫الشواهد الربوبية ‪. 16 /‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪100‬‬
‫ة غيــر‬ ‫ل ‪ .‬وإذن فل بدّ من عل ّـ ٍ‬ ‫تسلسل المر فل نجد عّلة غير معلولة وهذا باط ٌ‬
‫ة فــي آخــر‬ ‫ة هي الله ‪ .‬ففي هذا البرهان جعلوا الله شيئا ً مــن الشــياء وعل ّـ ً‬ ‫معلول ٍ‬
‫ل لغيــره ‪ .‬ومــن هنــا حصــل لــه التشــبيه‬ ‫ّ‬
‫العلل ل يختلف عنها إل بكونه غيــر معلــو ٍ‬
‫ّ‬
‫والمثل ‪ .‬وقد اعترض عليهم ) الماديون ( إذ قالوا ‪ :‬إن السؤال عن العلــة الولــى‬
‫دين ارتبطــا ببعضــهما همــا‬ ‫ل معنى له لن التفسير العّلي أو الســببي يســتلزم ح ـ ّ‬
‫العّلة والمعلول ‪ ،‬فعبارة ) العّلة الولى ( فيها تناقض في الحدود ‪ ،‬إذ أن مفردة )‬
‫دين ومفـردة ) أولـى ( تسـتلزم حـدّا ً واحـدا ً فل يمكـن أن‬ ‫عّلة ( وحدها تستلزم حـ ّ‬
‫تكون أولى وتكون عّلة في عين الوقت ‪.‬‬
‫ل شر ‪.‬‬ ‫الرئيـس ‪ :‬فاشرح العبارة الخيرة للعتراض المادي وفقت لك ّ‬
‫ل شــيء ‪،‬‬ ‫المشرقي ‪ :‬المقصود أن الول ) الله ( يجب أن يكون غنيا ً بنفسه عن ك ّ‬
‫ت ) أولــى (‬ ‫ف آخــر هــو ) المعلــول ( وإذا قل ـ َ‬ ‫ت ) عّلة ( استلزم وجود طــر ٍ‬ ‫فإذا قل َ‬
‫ت به التفّرد تناقض لفظ ) أولى ( مــع لفــظ ) عل ّــة ( ‪ .‬وهــو كمــا تــرى ليــس‬ ‫وعني َ‬
‫ض ينســف الصــدور والفيــض‬ ‫اعتراضا ً على دليل العل ّــة والتسلســل وحــده ‪ ،‬اعــترا ٌ‬
‫عال وأزلّية العالم مع تقدم الله بالذات أو قدم بعض صــفاته‬ ‫والهيولى والعقل الف ّ‬
‫ة واحدةً ‪.‬‬ ‫دون بعض ‪ ،‬وينسف كذلك مباحثهم عن الين والزمان والكيف دفع ً‬
‫الرئيـس ‪ :‬فكيف أجابوا على هذا العتراض ؟‬
‫ّ‬
‫المشرقي ‪ :‬كان بإمكانهم استغلل هذا التنبيه والّتخلي عن الستمرار فــي مبــدأ‬
‫العّلية والحكم به على العلقة بين الله والعـالم ولكنهـم لـم يفعلـوا ‪ .‬فمثـل هـذه‬
‫ة أفضــل أوضــح مــن‬ ‫جب عليه اليمــان بــالله بصــور ٍ‬ ‫الشارة تقّرر أن المعترض يتو ّ‬
‫ل شــيء فــي‬ ‫مــا كــان كـ ّ‬ ‫ّ‬
‫إيمان أولئك الذين آمنوا به عن طريــق مبــدأ العليــة ‪ .‬إذ ل ّ‬
‫ور جزء منه مستقل ً بذاته غيــر مــؤّثر ول متــأثر ‪،‬‬ ‫الوجود مرتبط بآخر ول يمكن تص ّ‬
‫هاريــة ل غيــر ‪ .‬إي أن‬ ‫ر والــذي يظهــر فيــه مــن اللــه هــو الق ّ‬ ‫فهو إذن وجوٍد مقهو ٍ‬
‫ل ‪ .‬فالعلية تثبت انفعاله لفاعل‬ ‫ّ‬ ‫ة واحدةً وله فاع ٌ‬ ‫العّلية تثبت كونه منفعل ً كله جمل ً‬
‫ّ‬
‫ولكنها ل تظهر اسلوب الفعل ‪ ،‬فهذا خارج عن قانونها – لن الحديث عـن كيفيــة‬
‫انفعاله هو حديث من خارج الوجود ل من داخلــه ‪ .‬وهــذا هــو منطــق العلقــة بيــن‬
‫الله والعالم ‪ ،‬إذ يستطيع العاَلم أن يــدرك نفســه إلــى أدقّ التفاصــيل ويــدرك أنــه‬
‫ل ولكن مــن المحــال أن يخــرج مــن جلــده ليــدرك كيــف انفعــل ! إذ لــو كــان‬ ‫منفع ٌ‬
‫بمقدوره أن يفعـل ذلـك لمـا كـان منفعل ً أصـل ً ‪ .‬ومعنـى هـذا البحـث عـن كيفيـة‬
‫انفعاله يناقض القرار بانفعاله خلفا ً لجميع أجزاءه بعضها عن بعض ‪ .‬وسبب ذلك‬
‫هو أن انفعاله هو عين إيجاده ‪.‬‬
‫ل الذين أرادوا أن يعرفوا كيف انفعــل ! ‪ . . .‬علمـوا أم‬ ‫الرئيـس ‪ :‬إذن فقد كفر ك ّ‬
‫لم يعلموا‬
‫المشرقي ‪ :‬نعم ‪.‬‬
‫ّ‬
‫ل شر فكيف كان جواب المتكلمين ؟‬ ‫الرئيـس ‪ :‬وفقتم لك ّ‬
‫ّ‬
‫ة قبلهــا ؟ ! وإنمــا تتطلــب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المشرقي ‪ :‬قالوا ‪ ) :‬من قال أن كلمة علة تستلزم عل ـ ً‬
‫فران معا ً في فرضية ) العل ّــة الولـى ( لن العلــة الولـى لهــا‬
‫ّ‬ ‫معلول ً فالح ّ‬
‫دان متو ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫معلولها الذي نشأ منها وللمعلول علته الولــى ل يتطلــب المعلــول دائم ـا معلــول ً‬
‫ينشأ منه (‪ .((1‬وكما ترى سيدي الرئيـس فهذا هو أحدث النصوص وليست له أدنى‬
‫كد نشوء العالم من ) الله ( وليــس نشــوء‬ ‫ة بالعتراض ول يجيب عليه ‪ ،‬بل يؤ ّ‬ ‫علق ٍ‬
‫دث عن التلزم بين العّلة ومعلولهــا الــذي بعــدها‬ ‫العالم بأمر الله ‪ .‬فالعتراض يتح ّ‬
‫ز على الغني بذاته عن المعلولت مــن بعــده والجــواب ينفــي أن تكــون‬ ‫والغير جائ ٍ‬
‫ق هذا الذي يقــول‬ ‫ي منط ٍ‬ ‫للعّلة عّلة قبلها ويؤكد التلزم بين العلة ومعلولها !! فأ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ل آخر ؟ لكن الفلسفة‬ ‫ي فع ٍ‬ ‫أن المعلول يدرك عّلته مع أن عّلته هي عّلة إيجاد ل أ ّ‬
‫)‪(1‬‬
‫فلسفتنا ‪. 305 /‬‬
‫‪101‬‬ ‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬
‫وفة أصّروا على إمكانية إدراك الموجد مــن قبــل الموجــود‬ ‫والمتكلمين والمتص ّ‬
‫وكذلك زعم الفـارابي قـائل ً ‪ ) :‬يفيـض مـن الول ) أي اللـه ( وجـود الثــاني وهـو‬
‫سم أصل ً ول في مادة فهو يعقــل الول ويعقــل ذاتــه (‪ .((2‬أل تــراه‬ ‫جوهر غير متج ّ‬
‫جعل الله ثاني اثنين في بدء التكوين كلهما يعقل نفسه ويعقل الخــر وكلهمــا‬
‫ســم أصــل ً ول فــي مــادة ؟ وعلــى ذلــك جميــع الفلســفة والمتكلميــن‬ ‫غيــر متج ّ‬
‫وفة ‪ ،‬بل استعمل الفقهــاء أنفســهم اصــطلح الفيــض بهــذا المعنــى فــي‬ ‫والمتص ّ‬
‫ء أكثر من ذلك يبعث السرور في نفسك ســيدي‬ ‫ي شي ٍ‬‫شروحهم وتفاسيرهم ‪ .‬فأ ّ‬
‫دد اللهة في طّيات التوحيد ؟‬ ‫الرئيـس وأنت ترى تع ّ‬
‫ء دفعهم إلى أن يزعموا أنهم قادرون على إدراك الله ؟‬ ‫ي شي ٍ‬ ‫الرئيـس ‪ :‬فأ ّ‬
‫ب ذواتهم أكثر من حّبهم لله فرغبــوا فــي‬ ‫المشرقي ‪ :‬الذي دفعهم إلى ذلك هو ح ّ‬
‫عامة لهــم‬ ‫ملوه من تقديس ال ّ‬ ‫أن يتشّبهوا به ويّتصفوا بصفاته ولو من بعيد مع ما أ َ‬
‫والتمّيز على الخريـن بـدعوى انكشـاف الحقـائق علـى أيـديهم ‪ ،‬ولـذلك اعتمـدوا‬
‫دثوا بوضــوح‬ ‫خوا الغموض والتلبيس في القوال وأما أن يتح ّ‬ ‫طريقتين ‪ :‬إما أن يتو ّ‬
‫ة المستيقن والمغرور فيحشو سطوره من عبــارات الفتخــار واليحــاء‬ ‫ولكن بلهج ِ‬
‫كي مــن أهــل‬ ‫ء مــن التش ـ ّ‬‫ء من التهديــد والوعيــد وشــي ٍ‬ ‫بانفراده بالكشف مع شي ٍ‬
‫الجهالت ‪ .‬فأخــذ بــالطريق الول المتكلمــون والفلســفة وأخــذ بــالطريق الثــاني‬
‫وفة وأهل الطريقة ‪.‬‬ ‫المتص ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬قد رأينا الفلسفة والمتكلمين فاضرب لي مثال مــن أصــحاب الطريقــة‬
‫ت‬ ‫وف نفسه شريكا ً لله في صــفاته ويجعلــه – كمــا ذكــر َ‬ ‫ل فيه المتص ّ‬ ‫وفة ُيح ّ‬ ‫المتص ّ‬
‫من قبل – عين مخلوقاته ‪.‬‬
‫قــب‬ ‫ة سيدي ‪ :‬فمــن التبــاع ) عبـد الكريــم الجيلـي ( المل ّ‬ ‫المشرقي ‪ :‬سمعا ً وطاع ً‬
‫ج تقيس عليه أشــباهه ‪ ،‬لــه‬ ‫بالعارف بالله وهو واحد من عشرات أذكره لك كنموذ ٍ‬
‫كتب منها ) الكمالت اللهية ( و ) مراتب الوجود ( و ) قاب قوسين ( و ) المناظر‬
‫اللهية ( ‪ ،‬وهي عنــاوين كمــا تــرى مشــابهة لعنــاوين الخريــن كالشــيرازي وابــن‬
‫ة‬ ‫ة مشــترك ٌ‬ ‫عربي والغزالي ووالزنجاني والسهروردي والداماد وغيرهم وفيها صف ٌ‬
‫طلع علــى الملكــوت والمل العلــى وأســرار الخلــق وصــفات‬ ‫توحي بالكشــف وال ّ‬
‫الخالق مما عجز عنه الناس وكّلت العقول ‪ .‬فأول شيء تلحظه في عنوان كتــابه‬
‫ل موجود ( مـا يـوحي بـه العنــوان مـن معرفــة حقيقـة‬ ‫) مراتب الوجود وحقيقة ك ّ‬
‫ل موجود ( بما في ذلك خالق الوجود لنه عندهم هو عين الوجود ‪ .‬هذا العنوان‬ ‫)ك ّ‬
‫الضخم مع أن الكتاب هو خمسة وأربعين صفحة من القطع الصغير ‪ .‬والمر الخر‬
‫ل موجود بكمــاله مــن‬ ‫هو الفتتاح حيث قال ‪ ) :‬وأشهد أن ل إله إل ّ الله الظاهر بك ّ‬
‫ل موجـوٍد مــن‬ ‫ن أن ظهــوره بكـ ّ‬ ‫غير حلول و ل اتصال ول انفصال (‪ .‬فالقارئ يظـ ّ‬
‫حيث كون الموجود متعّلق بالفناء بينما مراده الظهور الفعلي من غير اتصــال ول‬
‫سم الوجود إلى مراتب متنّزلة من العلى إلــى‬ ‫انفصال فهو عين الشياء ‪ .‬فلما ق ّ‬
‫م‬ ‫ل مرتبة فيها وجعل المرتبة الربعيــن هــي النســان ث ـ ّ‬ ‫السفل جعل ذات الله أو ّ‬
‫وس هذا الخط فرجع النســان ليكــون هــو اللــه مــن الطــرف الخــر فلــم يفعــل‬ ‫ق ّ‬
‫سبينوزا ول هوسرل شيئا ً أزيد مما فعله الرجل ولم يفعــل أنجلـز بعـد ذلــك شـيئا ً‬
‫وته الذاتية وأن الجدل المتنــاقض‬ ‫أزيد مما منه حينما قال ‪ :‬أن الوجود مشحون بق ّ‬
‫هو محّركه الوحيد وعّلتــه الســرمدية ‪ .‬والفــرق الوحيــد هــو أن أنجلــز أشــرف مــن‬
‫أولئك إذ جعــل نفســه واحــدا ً مــن تلــك الموجــودات الــتي يقضــي عليهــا جــدل‬
‫المتناقضات ‪ ،‬أما المتصوفة فأنهم زعموا كالفلسفة أن مح ـّرك هــذا الوجــود هــو‬
‫ل إنسان ‪ ،‬بل الذي فهم سّر الوجــود كمــا فهمــوه ‪ ،‬فكتبــوا‬ ‫النسان ‪ ،‬وليس هو ك ّ‬

‫)‪(2‬‬
‫آراء أهل المدينة الفاضلة ‪. 46 /‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪102‬‬
‫لنفسهم شهادة بالخلود واللوهية والبقاء خلفا ً لبقّية الخلق – لن الله الذي‬
‫ل فيهم ‪.‬‬ ‫أنكره ماركس أصل ً ح ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬وكيف ذلك ؟‬
‫سم الوجـود إلـى مراتـب لـم يكـن اللـه فـي هـذا التقسـيم أول‬ ‫المشرقي ‪ :‬لما ق ّ‬
‫سما هو الخر إلى مراتب في وجوده ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫موجود وحسب ‪ ،‬بل كان مق ّ‬
‫فأول المراتب ‪ :‬الذات اللهية ‪.‬‬
‫والثانية ‪ :‬الحـديـة ‪.‬‬
‫والثالثة ‪ :‬الواحـديـة ‪.‬‬
‫والرابعة‪ :‬اللـوهيـة ‪ .‬وهذه هي مرتبة ظهور الشياء وهي كمــا قــال ‪ ) :‬مــن‬
‫هذه الحضرة تتعّين الكثرة (‬
‫والخامسة ‪ :‬الرحمـانيـة ‪.‬‬
‫والسادسة ‪ :‬الربـوبيـة ‪.‬‬
‫والسابعة ‪ :‬المـالكيــة ‪.‬‬
‫والثامنة ‪ :‬السماء والصفات النفسية ‪.‬‬
‫ن أنها صــفات اللــه فهــو واهــم ‪.‬‬ ‫والتاسعة ‪ :‬هي الجلليـة ‪.‬وإذا كان المرء يظ ّ‬
‫ّ‬
‫لن الكثرة ابتدأت من اللوهية وهي المرتبة الرابعــة ‪ .‬وإذن فك ـل مــا بعــدها هــي‬
‫صفات مشتركة بين الخالق والمخلوق ‪ .‬علما ً أنه لم يأت بصفة الخالق ولم يذكرها‬
‫مطلقا ً من مجموع الصفات لنها مخالفة لفكرة التقسيم ‪ .‬قال ‪ ) :‬المرتبة الثامنة‬
‫ق كمال الذات إل ّ بها (‬ ‫هي الصفات والسماء النفسية وهي أربعة ل يتعّين لمخلو ٍ‬
‫‪.‬‬
‫والعاشرة ‪ :‬الجمـاليـة ‪.‬‬
‫والحادية عشر ‪ :‬السماء الفعلية ‪.‬‬
‫والثانية عشر ‪ :‬هي عالم المكـان وهـي آخـر التنـّزلت اللهيـة والعقـل الول‬
‫أول التنّزلت ‪.‬‬
‫والثالثة عشر ‪ :‬العقل الول ‪.‬‬
‫والرابعة عشر ‪ :‬الروح العظم ‪.‬‬
‫والخامسة عشر ‪ :‬العرش ‪.‬‬
‫والسادسة عشر ‪ :‬الكرسي ‪.‬‬
‫والسابعة عشر ‪ :‬الملئكة ‪.‬‬
‫… وهكذا إلى المرتبة التاسعة والثلثين ‪ :‬وهي الحيوانات والمرتبة الربعين وهي‬
‫ق تعالى‬ ‫مت مراتب الوجود وكمل العالم وظهر الح ّ‬ ‫النسان فقال ‪ ) :‬وبالنسان ت ّ‬
‫ق وهو الذات ) أي المرتبة الولى ( وهو الصفات )‬ ‫( ثم قال ‪ ) :‬فالنسان هو الح ّ‬
‫أي المراتب من ثمانية إلى عشرة ( وهو العرش وهــو الكرســي وهــو اللــوح وهــو‬
‫ق وهو الخلق وهو الحــادث‬ ‫القلم وهو الملك وهو … وهو … ( إلى قوله ) وهو الح ّ‬
‫وهو القديم ‪ ،‬فلله دّر مــن عــرف نفســه معرفــتي إياهــا لنــه عــرف رب ّــه معرفتــه‬
‫ل والهوان والقرار بالعبودّية في‬ ‫لنفسه (‪ . ((1‬أفرأيت سيدي كيف أبدلنا طريق الذ ّ‬
‫عقول هؤلء إلى الطريق المناقض ‪ :‬طريق المشاركة مع الله في صــفاته ليكــون‬
‫ق وهو العرش وهو النور … إلى آخر الصفات والتجّليات ؟ وقــد‬ ‫هو الذات وهو الح ّ‬
‫خدمنا في ذلك مقولة أحد الرسل ‪ ) :‬من عرف نفسه فقد عــرف رب ّــه ( ‪ .‬فلهــذه‬
‫المقولة معنيان ‪ :‬ما أراده ذلك الرسول وبّينه أحد الولياء بقـوله ‪ :‬مـن عـرف أنـه‬
‫ة‪،‬‬‫ط وأنه يستحيل إلى جيفــ ٍ‬ ‫خرج من طريق البول مرتين وأن نصفه ممتلئ بالغائ ٍ‬
‫ّ‬
‫ب ل يمكن أن ُيعَرف ‪ .‬وهــو فهــم ل يقبلــه إل المق ـّر‬ ‫فمن عرف ذلك عرف أن الر ّ‬
‫ّ‬
‫ى آخــر هــو مــا أردنــاه ‪ :‬أن العبــارة أحلــت‬ ‫بالواقع الموضوعي للشياء ‪ .‬ولها معن ـ ً‬
‫مراتب الوجود وحقيقة ك ّ‬
‫ل موجود ‪. 42-1 /‬‬ ‫)‪(1‬‬
‫‪103‬‬ ‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬
‫ب ‪ ،‬لذلك أكثر المتصوفة وأهل الكشف من الستشــهاد بهــذه‬ ‫ل الر ّ‬‫النفس مح ّ‬
‫لج والبسطامي والحافي وآخــرون‬ ‫ما تلميحا ً أو تصريحا ً حتى إذا أعلن الح ّ‬ ‫العبارة أ ّ‬
‫ة زعــم الزاعمــون أن تلــك شــطحات مــن شــطحات‬ ‫من هذه الطبقة عنهــا صــراح ً‬
‫م على فكرة المعنى الخر لهذه المقولة‬ ‫ّ‬
‫الصوفية بينما التأسيس الصوفي كله قائ ٌ‬
‫ً‬
‫– فكرة عبادة الذات بالنيابة عن عبادة الله ‪ .‬ومع ذلك فإن هناك تناقضا آخــر ولــو‬
‫جهوا ألى أنفسهم ليعرفوا رّبهم كمــا تقــّرره‬ ‫بهذا المعنى ‪ :‬فإن المتصوفة لم يتو ّ‬
‫ب ‪ ،‬وزعمــوا أنهــم عرفــوا‬ ‫جهوا لمعرفــة الوجـود بأســره ومنــه الــر ّ‬ ‫العبارة ‪ ،‬بل تو ّ‬
‫خرا ‪ :‬فلله دّر من عــرف نفســه معرفــتي إياهــا !‬ ‫ً‬ ‫أنفسهم كما قال هذا الشيخ مفا ِ‬
‫فكأن معرفة الله والوجود بأسره أهون من معرفة النفــس ! بينمــا ق ـّررت الكتــب‬
‫المنّزلة أن خلق السماوات والرض أكبر مــن خلــق الناس ـ‪ _((2‬فض ـل ً عــن أن تص ـ ّ‬
‫ح‬
‫ة ما مع خالق السماوات والرض ‪.‬‬ ‫مقارن ٌ‬
‫دون عليك قولك إذا زعموا أن ما ابتدءوا بــه مــن ) النــا (‬ ‫الرئيـس ‪ :‬لكأني بهم ير ّ‬
‫ة ذلك المرسل ‪ :‬اعرف نفسك تعرف رّبك ‪.‬‬ ‫ق لمقول ِ‬ ‫في الغرب إنما هو تطبي ٌ‬
‫د ليعرف نفسه ؟‬ ‫ن واح ٍ‬ ‫مارد الشمال ‪ :‬ومن ذا يحاول أن يعرف حّريته وقيده في آ ٍ‬
‫كانت تلك بداية على يد ) جول لكي ( و ) ســكرتان ( ‪ ،‬لكنهمــا لــم يشــتهرا شــهرة‬
‫) هيوم ( و ) هيجل ( و ) نيتشه ( و ) ميكافيللي ( _ فالمشرق والمغرب ينساهما‬
‫‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬ل تزعجني أّيها المارد بهذه السماء المنسّية ! هّيا ارتجــز قــل لــي مــن‬
‫أنت ‪ ،‬هّيا ارتجزوا فقد انزعجت غاية النزعاج ‪.‬‬
‫) شــعروا أن الرئيـــس يريــد منهــم فعل ً أن يرتجــزوا لــترتفع معنويــات المجمــع‬
‫الشيطاني فارتجزوا وابتدأ المشرقي (‬
‫سس النفاق ‪ .‬أنــا أصــل الشــقاق ‪.‬‬ ‫المشرقي ‪ :‬أنا مبتدع فلسفة الشراق ‪ .‬أنا مؤ ّ‬
‫أنا الكامن بين الماق والحداق ‪.‬‬
‫مارد الشمال ‪ :‬أنا مارد الشمال ‪ .‬أنا مصطنع البلبال ‪ .‬أنــا مخــترع عبــادة الصــنام‬
‫وجاعل النسان معّلقا ً بالمحال والمال ‪ .‬أنا الوبال ‪.‬‬
‫المغربـي ‪ :‬أنـا زعيــم الغـرب ‪ .‬أنـا المــوحي بقيـاس نفـس النسـان علـى نفـس‬
‫ل كرب ‪.‬‬ ‫جج الحرب ‪ .‬أنا مصدر ك ّ‬ ‫الكلب ‪ .‬أنا مؤ ّ‬
‫مر القــروم ‪ .‬أنــا نــار‬ ‫مارد الجنوب ‪ :‬أنا مونادو المشؤوم ‪ .‬أنا مجّزء العلوم ‪ .‬أنا مد ّ‬
‫السموم ‪ .‬أنا النا المعلوم ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬كّلكم أجاد والفائز موناد ! لكنكــم لــم تخــبروني بشــيء عــن أصــل هــذا‬
‫المبحث ‪ ،‬أعني إدراك وجود الله وكيفية البرهنة على هذا الوجود ‪.‬‬
‫دد فــي البــدء أســس نظريــة‬ ‫المغربي ‪ :‬إن أصــله يــا ســيدي هــو الدراك الــذي يحـ ّ‬
‫كرت ‪ ..‬فقد كاد )باسكال ( أن يقضي علينا لــول ديكــارت‬ ‫المعرفة ‪ .‬يا للهول ! تذ ّ‬
‫العظيم الذي جعل الناس ينسون فلسفة باسكال التي نثرها في أوراقه المبعثرة‬
‫قبيل موته ولم يبق منه في ذاكرة التلميذ سوى ) أوانيه المستطرقة ( !‬
‫د أكثر‬ ‫ء جدي ٍ‬ ‫المشرقي ‪ :‬يا للمبالغات التي يذكرها المغربي ! لم يأت باسكال بشي ٍ‬
‫ّ‬
‫ي ‪ .‬إن النسان هو الذي يعيننا على نفسه ‪ ،‬وكلما‬ ‫ممل ذكره من قبل مائة ألف نب ّ‬
‫سكه أقوى ‪ .‬أل تــراه هــرع يؤي ّــد كــارل‬ ‫كانت الفكرة أسوأ كان تشبثه بها أشدّ وتم ّ‬
‫ماركس حينما اكتشف بذكائه الحادّ ما يريده النسان ؟ فكــأني بــه يقــول ‪ ) :‬أّيهــا‬
‫ء تبحث … عــن‬ ‫ي شي ٍ‬ ‫ل القيم والمشغوف بالتفلسف _ عن أ ّ‬ ‫الحمق – الرافض لك ّ‬
‫ء أيها المنحدر من البرمائيـات والقـرود العليـا ؟ ل أحسـبك تبحـث إل ّ عـن‬ ‫ي شي ٍ‬ ‫أ ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أصلك القديم ‪ ،‬وسأجعلك كما تريد كائنا اقتصاديا نحسب قدرته الحصانية ونأخذها‬
‫ذ ستكون فاض ـل ً رغــم أنفــك ‪ .‬لكنــك مــع‬ ‫ة ونسّلمه علفه اليومي ‪ ،‬وعندئ ٍ‬ ‫منه كامل ً‬
‫)‪(2‬‬
‫القرآن الكريم ‪ /‬سورة غافر ‪ /‬آية ‪. 57‬‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪104‬‬
‫دس‬ ‫ون المــر ‪ ..‬فــإني أراك تق ـ ّ‬ ‫ذلــك تبحــث عــن الدكتاتوريــة ‪ ،‬وهــذا مــا يه ـ ّ‬
‫قــن (‬ ‫الطواغيت في عين الوقت الــذي ترفضــهم فيــه ! ســأجعلك إذن ) الس ـّيد ال ِ‬
‫ة مختلفــة‬ ‫ة واحــد ٍ‬ ‫الوحد في العالم … وهذا بالطبع ل يمكن أن يحدث إل ّ في حالــ ٍ‬
‫عن الحالة المعتادة التي يكون فيها السّيد في مقابلــة العبــد ‪ ،‬وهــذه الحالــة هــي‬
‫ة‬
‫ة دكتاتوري ـ ٍ‬ ‫في أن نكون كلنا سادة في دولة العبيــد ‪ ،‬وأن نمــارس دورنــا كشــغيل ٍ‬
‫ســر‬ ‫ة تف ّ‬ ‫تحسب قدرتها الحصانية بنفسها ‪ .‬وأنا أعلم أيضا ً أنك تحتــاج إلــى فلســف ٍ‬
‫لك وجودك سّيدا ً مستعبدا ً أو حصانا ً دكتاتوريا ً مستبدّا ً ‪ ،‬فليكن التناقض في صميم‬
‫الوجود وليساعدني العلم الذي ل تعلم الجماهير إنه من نتاج مبدأ عــدم التنــاقض‬
‫… والمعذرة لــك يــا صــديقي طــاليس الــوفي المعــذرة فــإني ســألغي مبــدأ عــدم‬
‫التنــاقض مؤقتـا ً فقـط مـن أجـل أن تســمو روح الجمـاهير ‪ ..‬وسـأودعكم الن يـا‬
‫أصدقائي ‪ ..‬باي باي أرسطو باي باي سقراط ! باي باي ديموكراتيس ‪ ..‬بــاي بــاي‬
‫ليكتريو … ( وانقطع صوته لن الجماهير احتشدت خلفــه ولــم يكمــل الرجــل بعــد‬
‫توديعه لعمدة الحكمة السبعة ‪! ..‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬لكن العزيز كارل ماركس لم يبرهن علــى عــدم وجــود اللــه كمــا حــاول‬
‫ص‬ ‫ر لم يــدركه الخــرون أم هــو نقـ ٌ‬ ‫الخصم البرهنة على وجوده ‪ .‬أهو ذكاءٌ منه لم ٍ‬
‫في فكرته لم يتلفاه ؟‬
‫ن فــي هــذا‬ ‫ر لم يدركه الخــرون ‪ .‬ذلــك أن كـ ّ‬
‫ل كــائ ٍ‬ ‫المغربي ‪ :‬بل هو ذكاءٌ منه لم ٍ‬
‫العالم يدرك جيدا ً حقيقة الله ‪ ،‬لن مثلها مثل الواحد مع الثنين والثلثة إلى آخــر‬
‫العداد في علقة الواحــد بــالكثرة فــي المفهــوم الرياضــي المحــض الخــالي مــن‬
‫ع ‪ ،‬فيقول الخر ‪ :‬برهـن علـى ذلـك‬ ‫الوحدات ‪ .‬فالمرء يقول أن للمثلث ثلثة أضل ٍ‬
‫فيقول ‪ :‬أحسب الضلع هذا واحد وهذا اثنان وهذا ثلثة … لكن إذا قــال الخــر ‪:‬‬
‫ن علــى‬ ‫هذا ل يكفي ‪ ..‬برهن أن الواحد هو واحد ‪ ،‬فمن أين يأتي له المــرء ببرهــا ٍ‬
‫هذا ؟ فالواحد كونه واحدا ً هو برهان نفســه إذ لــوله لمــا عرفنــا الثنيــن والثلثــة‬
‫وإلى آخر العداد ‪ .‬إن من المعقــول نوع ـا ً مــا أن تســألني ‪ :‬مــا الثلثــة ؟ وأجيبــك‬
‫فأقول ‪ :‬هي ثلثة آحاد ‪ .‬ولكن هل يعقل أن تطلــب منــي برهان ـا ً علــى أن أع ـّرف‬
‫الواحد عن طريق الثلثة ؟ لن الصل هو أني ما كنت أعــرف الثلثــة إل ّ بالواحــد ‪.‬‬
‫خُلقيــة ل علقــة لهــا بنظريــة المعرفــة‬ ‫مــاذا يعنــي إذن إنكــار اللــه ؟ إنــه مســألة ُ‬
‫كد للنسان دوما ً أنه يحتاج إلــى برهــان عليهــا ‪ ،‬لننــا إذا‬ ‫مطلقا ً ‪ ..‬ولذلك فنحن نؤ ّ‬
‫أسقطنا ما يرتكز عليه الحساب العقلي كّله فقد ســلبناه عقلــه كل ّــه مــن غيــر أن‬
‫ل ‪ ،‬بل تبحث‬ ‫يعلم ‪ .‬لقد أدرك هذا الرجل ) ماركس ( أن الجماهير ل تبحث عن دلي ٍ‬
‫ة يضــيع فيهــا الــدليل ! فكــرةٌ ل وجــود للعـدد الحقيقــي فيهــا ‪ ،‬فكــرةٌ ل‬ ‫عن فكــر ٍ‬
‫تنطوي على القضّية الرياضية من أن الواحد هو فكرة الواحد في الرياضيات دوما ً‬
‫‪ .‬تحتاج الجماهير إذن إلى من يسلب منها عقلها وعلمها بالشــياء ‪ ..‬فــأنكر كــارل‬
‫ماركس لجل الجماهير الحقيقة الثابتــة ! وجــاء أنجلــز ليــبرهن علــى غبــاء أولئك‬
‫الذين يعتقدون أن الواحد هو واحدٌ دوما ً !!‬
‫ء استطاع إثبات ذلك ؟‬ ‫ي شي ٍ‬ ‫الرئيـس ‪ :‬وبأ ّ‬
‫المغربي ‪ :‬عن طريق العلم نفسه ! ليس المطلوب من المرء إل ّ أن يقلب حقــائق‬
‫د‬ ‫العلم فتؤمن به الجماهير ! لن أنجلز يقول ‪ :‬أن واحدا ً من الماء مضافا ً إلى واح ٍ‬
‫من التراب ل ينتج اثنين مــن الطيــن _ وإذن فالواحــد ليــس واحــدا ً علــى الــدوام ‪.‬‬
‫دق وليــس لنهــا تريــد أن تتعل ّــم ‪ .‬إذ ليــس لهــا‬ ‫دق لنها تريد أن تص ّ‬ ‫والجماهير تص ّ‬
‫حاجة إلى التعّلم فحقيقة ثبــوت الواحــد بالمـاء والطيــن تمـارس يوميـا ً مــن قبــل‬
‫حملت أحدهم عشرين كيلوغراما من المــاء‬ ‫دقوا بنقيضها ‪ .‬لنك لو ّ‬ ‫جميع الذين ص ّ‬
‫ن لسرع في نســيان أنجلــز ولنكــر‬ ‫ً‬
‫وعشرين كيلوغراما من التراب على شكل طي ٍ‬
‫ما ً أن يكون الطين دون المجموع الذي هــو أربعيــن كيلــو غرام ـا إذا كــانت‬
‫ً‬ ‫إنكارا ً تا ّ‬
‫‪105‬‬ ‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬
‫أجور التحميل تدفع مقابل الوزن ‪ .‬جمع أنجلــز الحجــوم لخفــاء إبقــاء الــوزن‬
‫ثابتا ً ‪ ..‬نعم أما أنا فأذكى منه لني رأيت النجار يوما ً قــد جمــع عشــرة مــع ثمانيــة‬
‫ر ‪.‬كم كان يعجبنــي أن‬ ‫فكان الناتج واحدا ً ! لقد كانت قطعا ً من الخشب لصنع سري ٍ‬
‫أوحي له بها ‪ ،‬فأنا أيضا ً حافظت على الوحدات لنها قطع ‪ ،‬وإذا كان ) دوهرنــك (‬
‫ف عن هذه الترهات المنافية للعلم والمنطـق‬ ‫هو الوحيد الذي صاح بوجه أنجلز ليك ّ‬
‫ت أعظــم كــانت مــدعاة‬ ‫فل أنجلز بالردّ عليها في ) أنتي دوهرنك ( بترها ٍ‬ ‫‪ ..‬فقد تك ّ‬
‫لتأييد الجماهير ! ‪ .‬لقد كان ماركس وأنجلز سيدي الرئيـس من ألدّ أعداء المادية ‪،‬‬
‫ولقد أوحينا إليهما التأكيد على المادية والــدفاع عنهــا لننــا نــدرك جيــدا ً أن إنكــار‬
‫النظمة الصارمة والحقائق الثابتة في حركة المادة هو شيء سيثير علينــا ســخط‬
‫علماء الطبيعة جميعا ً ‪ ،‬فكان ل بدّ لنا من الرتكاز على ما نحــن أعــداء لــدودين لــه‬
‫كمثل الساحر حينما يستخدم أسماء الله الحسنى ‪ .‬إن المادة هي خلــق اللــه ‪ ..‬إن‬
‫المادة هي مثل كتبه المنّزلة ل بدّ لنا من النتساب لها ‪.‬‬
‫ل طــاقتي مــع الزمــر الــتي تحــت‬ ‫مارد التلف ‪ :‬لقد قمــت ســيدي الرئيـــس وبكـ ّ‬
‫أمرتي بإتلف ) دوهرنــك ( ‪ ..‬والبقــاء علــى ) أنــتي دوهرنــك ( _ فهــل تــرى فــي‬
‫المشرق دوهرنك ؟ حتى في ألمانيا يصعب جدً الحصول على دوهرنك ! ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬وفقتم لجميع الشرور ‪ .‬ولكني أريد أن أسألكم سؤال ً شخصيا ً آخر هو ‪:‬‬
‫وليــس العــارف‬ ‫َ‬
‫كيف كفرتم بالله وأنتم على هذا القــدر الواســع مــن المعرفــة ؟ أ َ‬
‫ق ؟ ما تقولون أّيها المل ؟ ‪.‬‬ ‫ق هو المح ّ‬ ‫بالح ّ‬
‫ق سيدي الرئيـس بل المعـّرف بــالحق والــذي‬ ‫ق هو المح ّ‬ ‫مونادو‪ :‬ليس العارف بالح ّ‬
‫ً‬
‫ل دوم ـا ‪.‬‬ ‫ل الناس عته فهــو مبط ـ ٌ‬ ‫ق الذي يض ّ‬ ‫يهدي الناس إليه ‪ .‬وأما العارف بالح ّ‬
‫ً‬
‫ق ل بدّ أن يكون عارفا بنقيضه‬ ‫فمعرفتنا شيءٌ واختيارنا شيءٌ آخٌر ‪ .‬والعارف بالح ّ‬
‫ح أن يقــال ‪:‬‬ ‫ق وهو ل يمّيزه عن الباطل ؟ فهل يص ّ‬ ‫وهو الباطل إذ كيف يعرف الح ّ‬
‫ل وشريٌر ؟ فالرسل أعلم الخلق بالشرور‬ ‫العارف بالباطل أو العالم بالشرور مبط ٌ‬
‫ومع ذلك فهم أخيار ‪.‬‬
‫المغربي ‪ :‬ومن هنا جاء أحد المناطقة إلى أحد الرســل فحــاججه الرســول طــويل ً‬
‫ق ولكــن قلــبي ل يطــاوعني علــى‬ ‫فقــال المنطيــق ‪ ) :‬واللــه إن مــا تقــوله لحــ ّ‬
‫ل ‪..‬‬ ‫اّتباعك ( ‪ ،‬فكان ذلك الرسول يقول له ) هل ّ رحلت عنــي ( فقــال ‪ :‬إنــي راح ـ ٌ‬
‫فمشى قليل ً ثم رحل إلى عالم الموات ‪.‬‬
‫ف إلى الختيار ‪ .‬فالذي اختــار الشــر طريق ـا ً‬ ‫المشرقي ‪ :‬إن المعرفة هي حدٌ مضا ٌ‬
‫فإن المعرفة تزيده شّرا ً والذي اختار الخير فإن المعرفة تزيده خيرا ‪.‬‬
‫ً‬
‫الرئيـس ‪ :‬فكيف اعتمد الفلسفة على نظرية المعرفة لتأسيس الخلق ؟‬
‫المغربي ‪ :‬وهل يجهل الفلسفة أن العقول اختلف حسابها للشياء تبعا ً للختيار؟‬
‫لكننا أوحينا بذلك كي ل يتمّيز الخير من الشّر وندخل بمعرفتنا للشياء فــي جملــة‬
‫ة هو الكثر خيــرا ً ‪ ..‬ومــن هنــا أصــبحنا‬ ‫الخيار ‪ ،‬لن الناس يظنون أن الكثر معرف ً‬
‫مــة التمييــز‬ ‫مع إخواننا شياطين النس ومردتهم من خيار الخلــق‪،‬فضــاع علــى العا ّ‬
‫كنا من أن نقودهم كم تقاد القطعان !‪.‬‬ ‫بين الخير والشّر وتم ّ‬
‫ف بالشـّر‬ ‫ر مـن أن يمّيـزوا بيـن عـار ٍ‬ ‫د غير منظو ٍ‬ ‫المشرقي ‪ :‬ولن يتمكنوا وإلى أم ٍ‬
‫ف بالخير وهو من الشرار ‪ .‬ولكن أل تأذن لنا يــا ســيدي‬ ‫وهو من الخيار وبين عار ٍ‬
‫الرئيـس أن نسألك كما سألتنا ؟ ‪.‬‬
‫مر نظر الرئيـس على ظهر اللوحة الموضوعة علــى يمينــه ولــم يحّركــه إلــى‬ ‫) تس ّ‬
‫ة والــتي هــي عبــارة عــن‬ ‫ة وأدقّ صــنع ٍ‬ ‫الجدران التي بناها العفاريت بأقصى ســرع ٍ‬
‫ف من صخر النكوكمي المعــدني الســود ث ُّبتــت‬ ‫ة كالثلج قام عليها سق ٌ‬ ‫ح بّلوري ٍ‬ ‫ألوا ٍ‬
‫ُ‬
‫بالصماغ الزرنيخية ‪ ،‬وكان البـاب المصـنوع مـن الرصــاص الحمـر قـد ثب ّــت علـى‬
‫ة‬
‫ر مصقول ٍ‬ ‫ة ‪ ،‬وقد ب ُّلطت الرضية بصخو ٍ‬ ‫ة ولطاف ٍ‬ ‫ق ٍ‬‫ت بد ّ‬
‫ع من حجر الدم منحو ٌ‬ ‫مصرا ٍ‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪106‬‬
‫ق من غابات‬ ‫ت ساب ٍ‬ ‫جِلبت في وق ٍ‬ ‫ل هذه المواد كانت قد ُ‬ ‫من الزاج الزرق ‪ ،‬وك ّ‬
‫ماة‬ ‫الرز الصــخرية المنتشــرة علــى ســطح أكــبر أقمــار الرض السادســة المســ ّ‬
‫ع قصــيٌر بيــن مــارد الريــح‬ ‫وق أو ذي الكتاف ‪ .‬وكــان قــد حــدث نــزا ٌ‬ ‫بالكوكب المط ّ‬
‫دعى أن التفاؤل يقضي ببناء الهيكل مــن‬ ‫ومارد الماء انتهى بانتصار الول حينما ا ّ‬
‫ً‬
‫و ذي الكتــاف مســتقبل ‪،‬‬ ‫مواد خارجية ل من مواد الغوص لعّلهم يرجعون إلى غــز َ‬
‫وزعم أنه راعى في البناء الشروط الربعة لعمل الشياطين وهي التستر بــالظلم‬
‫والستعلء على الجواء والبحــار والــدخول والخــروج بالنــار وأخيــرا ً القــدرة علــى‬
‫النفاذ من الجهات الربعة ‪ .‬ولم في الهيكل من المفارش سوى المقاعــد العاريــة‬
‫ل ملساءَ مــن الجرانيــت الحمــر‬ ‫ن القمري مثّبتة على أرج ٍ‬ ‫مس ّ‬ ‫المنحوتة من حجر ال ِ‬
‫ة تقابلها طاولة الرئيـس المصــنوعة مــن البريــز الخــالص‬ ‫ة صلد ٍ‬ ‫بمسامير من فض ٍ‬
‫ة وحيــدةٌ مــن‬ ‫ســطت عليــه مخملـ ٌ‬ ‫ك خليط الحديد والفيناديوم ‪ ،‬ب ُ ِ‬ ‫سّلح بأسل ٍ‬ ‫والذي ُ‬
‫عل َــق‬ ‫ي م ـّزق ذكــرا ً مــن ال َ‬ ‫م يخلب اللبــاب لشــاهٍين مخلــب ّ‬ ‫العبقري طُّرز عليها رس ٌ‬
‫ل‬‫مـ ُ‬ ‫ب يتأ ّ‬ ‫س قريـ ٍ‬ ‫ل الجهات حــتى تســاقط بعضــه علــى طــاوو ٍ‬ ‫وتطاير ريشه في ك ّ‬
‫دمت في إبراز ألوانها سبعون نوعا من مياه المعادن ‪ .‬بينمــا كــانت اللوحــة‬ ‫واسُتخ ِ‬
‫ب الــزان ومســاميرها مــن‬ ‫طرة بخش ـ ِ‬ ‫المقابلة للحضور والوحيدة فــي الهيكــل مــؤ ّ‬
‫ة غايــة القبــح وهــي‬ ‫ة قبيح ـ ٌ‬ ‫ن طفل ٌ‬ ‫سم عليها وبإتقا ٍ‬ ‫العاج وهي من جلد الحيوان ُر ِ‬
‫تج ـّر امــرأة فاتنــة الحســن مــن شــعرها فــي الوحــال والمــرأة تســتغيث ‪ ،‬وقــد‬
‫دمت في تلك اللوحة جميع اللــوان المســتخَرجة مــن البــدان الحي ّــة ‪ .‬وكــان‬ ‫اسُتخ ِ‬
‫مر علــى ظهــر هــذه اللوحــة حينمــا ســأله المشــرقي وأجــابه‬ ‫نظر الرئيـس قد تس ّ‬
‫قائل ً (‬
‫الرئيـس ‪ :‬ليس من العادة أن يسألني أحدٌ من الخلق إل ّ شــقيقي ) كنكــر ( ‪ ،‬لكــن‬
‫إذا كانت السئلة بخصوصه فإني ُأجيب ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬إنها بخصوصه سيدي الرئيـس ‪ ،‬فقد قارب حدسي أنــه أفضــل منــك ‪،‬‬
‫فإن صدق حدسي فـإني أتســائل ‪ُ :‬تـرى مـا الــذي جعـل هـذا الشـطر أفضـل مـن‬
‫الشطر الخر إذا كانا في الصل شيئا ً واحدا ً ما ينبغي له أن يكون إل ّ منشطرا ً ؟‬
‫الرئيـس ‪ :‬يا لك من خبيث !‬
‫دمني‬ ‫مونادو ‪ :‬إذا كان الرئيـس يرى أنه سيجيب على المسألة فلينظر فــي أن يق ـ ّ‬
‫بين يديه ‪.‬‬
‫دم ‪. ! ..‬‬ ‫الرئيـس ‪ :‬تق ّ‬
‫ل فّر إلى أبيه على الذي فّر من أبيــه ‪.‬‬ ‫مونادو ‪ :‬إن فضله على شقيقه كفضل رج ٍ‬
‫فالول طلب رضاه والثاني خاف سخطه ‪ ،‬الول رجاه والثاني خشاه ‪.‬‬
‫د أم بعقلين مختلفين ؟‬ ‫ل واح ٍ‬ ‫المشرقي ‪ :‬فهل اّتخذا هذا القرار بعق ٍ‬
‫مونادو ‪ :‬بعقلين مختلفين طبعا ً ! ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬أفكان لهما عقلن قبل وجودهما أم بعده ؟ ! ‪.‬‬
‫) يضحك الرئيـــس ورأسـه يرتفـع وينخفــض علـى الطاولــة ‪ ،‬وضــحك مونـادو مـن‬
‫بعده (‬
‫م تضحك ؟‬ ‫ً‬
‫المشرقي ) مخاطبا مونادو ( ‪ :‬ل ِ َ‬
‫مونادو ‪ :‬الرئيـس يضحك أيضا ً فلم ل تسأله ؟‬
‫ب ل أعلمه ‪.‬‬ ‫المشرقي ‪ :‬الرئيـس ربما يضحك لننا نتحاور أو لسب ٍ‬
‫مونادو ‪ :‬الرئيـس يضحك منك ! ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬وكيف ؟‬
‫خره عن الوجود ! ‪.‬‬ ‫دم العقل أو تأ ّ‬ ‫مونادو ‪ :‬لنك تسأل عن تق ّ‬
‫د‬
‫ون عــاقل قبــل وجــوده فل ب ـ ّ‬‫ً‬ ‫المشرقي ‪ :‬بالطبع لنه ل يعقل أن يكون هذا المك ّ‬
‫إذن أن يكون عاقل ً بعد وجوده ‪.‬‬
‫‪107‬‬ ‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬
‫دما ً ول متــأخرا ً ‪ ،‬إن‬‫كد ما يثير الضحك ‪ .‬إن العقل ليس متق ّ‬ ‫مونادو ‪ :‬ل زلت تؤ ّ‬
‫س به فل وجود بغير عقل ول عقل بغير وجود !‬ ‫ء آخر وانحبا ٌ‬ ‫ق بشي ٍ‬ ‫العقل هو تعل ّ ٌ‬
‫ّ‬
‫ق‪،‬‬ ‫فلم يكن قبله ول بعده بل كان هو ومعه ‪ .‬إذ ل يمكن أن يظهــر شــيءٌ إل ّ بتعل ـ ٍ‬
‫ب التع ّ‬
‫قل ‪.‬‬ ‫وهذا التعّلق هو ل ّ‬
‫المشرقي ‪ :‬المادة إذن عاقلة ؟ ‪.‬‬
‫ت عالقة ‪..‬‬ ‫ت عاقلة ؟ ! يا صديقي أنا قل ُ‬ ‫مونادو ‪ :‬أنا قل ُ‬
‫المشــرقي ‪ :‬لقــد زعمــت أن العقــل مــع المــادة ل ســابق ول لحــق وإذن فمعهــا‬
‫عقلها ‪.‬‬
‫مونادو ‪ :‬بلى بلى معها عقلها لكنها ليست عاقلة !! بل معقولة ‪.‬‬
‫المشرقي‪ :‬أتريدني أن أخرج من هذه القاعــة مجنونـا ً ؟ كيــف يكــون فــي الشــيء‬
‫عقل وليس عاقل ً ؟‬
‫مونادو ‪ :‬نعم يكون ذلك ول يكون غير ذلك أبدا ً ‪ ،‬لنه سيقع التناقض ‪ .‬أل تــرى أن‬
‫النسان يكــون فــي يــده ورجلــه العقــل أي مــا يقي ّــد حركتــه ولــذلك ل يكــون هــو‬
‫ل ولكنــه‬ ‫ت البعيــر ؟ وإذن يكـون فـي البعيــر عقـ ٌ‬ ‫العاقل ؟ أل تراهم يقولون عقلـ ُ‬
‫ليس هو الواضع ؟ يا أخي إذا كان ) العقل ( يفقدك عقلك هكذا فاجعل بــدل ً عنــه‬
‫لفظ الحبس أو القيد ‪..‬فلنتكّلم هكــذا ‪ :‬المــادة معهــا عقلهــا قيــدها ول يمكــن أن‬
‫تظهر بغير عقل بغير قيد ‪ ،‬وإذن فهي غير عاقلة غير قــادرة علــى تقييــد نفســها‬
‫فهي معقولة مقّيدة بوجود فنائها وفناء وجودها ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬فما يكون هذا العقل ؟‬
‫مونادو ‪ :‬إنه المادة ‪ .‬فالمادة هي العقل والعقل هو المادة ! أل تــرى هــذا العقــل‬
‫ء من المادة ؟ أل ترى كيف اعتقلت النواة جسيماتها وعلقــت‬ ‫ل جز ٍ‬ ‫الذي هو في ك ّ‬
‫بها جسيماتها ؟ ولتلــك الجــزاء أجــزاءٌ أدقّ قي ّــدت بعضــها البعــض وعلقــت بعضــها‬
‫ببعض ‪ ،‬فأّنى لها بالنفراد والوحدة أمام اللوهية ؟‬
‫المشرقي ‪ :‬أفل يكون الذي فيه عقل عاقل ً قط ؟‬
‫ي‬‫م بذاته له خصائصه المختلفة‪ .‬فــإلى أ ّ‬ ‫ن قائ ٌ‬
‫ل تعاقب صوتي هو كيا ٌ‬ ‫مونادو‪ :‬إن ك ّ‬
‫د‬
‫د فل ب ـ ّ‬ ‫ء ترمي ؟ إن كنت تريد أن يكون الشيء عاقل ً ومعقــول فــي آ ٍ‬
‫ن واح ـ ٍ‬ ‫شي ٍ‬
‫ظ آخر فالمفعول غير الفاعل والمكسور غير الكاسر وإذا كان‬ ‫لك من استعمال لف ٍ‬
‫العالم معقول ً ومقّيدا ً بذاته فأنى له أن يكــون عــاقل لغيــره ! مــا لــك تــدافع أيهــا‬
‫صل من خللها إلــى‬ ‫المشرقي ؟ أظننت أنك إذ تسأل الرئيـس هذه المسائل ستتو ّ‬
‫إثبات أول عبارتين في الناموس فتفــوز بالجــائزة ؟ هيهــات إنمــا فتنــك الرئيـــس‬
‫حينما ضاعف لك الجائزة المنتظرة ليكشــف مقــدار معرفتــك وفتنــك تــارةً أخــرى‬
‫صل إلى ما ترمي إليــه ولــو‬ ‫حينما قال لك مخاطبا ً ‪ ) :‬يا لك من خبيث ( ‪ ،‬فلن تتو ّ‬
‫أهلكت نفسك ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬دعك من علمك بنفسي ونفس الرئيـس وأجب على المسألة أل يكون‬
‫المعقول عاقل ً لغيره قط ؟‬
‫ل!‬‫ل فهو عاق ٌ‬ ‫ل معقو ٍ‬ ‫مونادو‪ :‬بلى ك ّ‬
‫المشرقي ) ملتفتا إلى الرئيـس ( ‪ :‬أل ترى يا سيدي جنون هذا المارد ؟ فقد قال‬ ‫ً‬
‫قبل لحظة واحدة ‪ :‬المعقول ل يكون عاقل ً ! ‪.‬‬
‫الرئيـس ‪ :‬إن الخبث الذي يجدي نفعا ً هو في تطبيق المعرفة ل في تحصيلها ! ‪.‬‬
‫مونادو‪ :‬فاغلق فمك إذن أّيها الماكر في تحصيل المعرفة ل في تطبيقها ! فــإني‬
‫ما قلت المعقول ل يكون عاقل ً ! بل قلت تحديــدا ً ل يكــون عـاقل ً لغيـره ‪ .‬أفتعلـم‬
‫ء وليــس مقي ّــدا ً بشــيء‪ ..‬إنــه الخــر ‪..‬‬ ‫من هو غيره ؟ غيُره ما ليس معقــول ً بشــي ٍ‬
‫ل لنفسه فقط ‪ ..‬لقــد أعمــاك‬ ‫ء فيه معقول فهو عاق ٌ‬ ‫ل جز ٍ‬‫ل وك ّ‬ ‫والعالم كّله معقو ٌ‬
‫ل‪،‬‬ ‫ل غير معقو ٍ‬ ‫خبثك الشنيع في تحصيل المعرفة عن صفة الخر فصفته أنه عاق ٌ‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪108‬‬
‫وأصبحت مثل النسان الذي لم ينتبه إلى تلك الصفة التي هي أولى العبارتين‬
‫فــي النــاموس والوحيــدة المســبوقة بفعــل المــر ) قــل ( ‪ ،‬فلــو كــانت معقولــة‬
‫لمعقولية الموصوف لما قال ‪ :‬قل ! ‪ .‬فإذا لم تستفد مــن الكتــب المنّزلــة فــانظر‬
‫ونا النسان ؟‬ ‫ل بها عد ّ‬ ‫لنفسك كم ارتكبت من الحماقات وكم فاتك من أشياء تض ّ‬
‫المشرقي ‪ :‬أل ترى يا سيدي أنه هو الــذي فــاته تضــليل النســان فقــد أثبــت الن‬
‫عال وما أكثرهم !‬ ‫قول القائلين بالعقل الول الف ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬إن الخبث في تحصيل المعرفة نقيض للخبث في تطبيقها !‬
‫مونادو ‪ :‬لقد بدأت أشفق عليك أّيها المشرقي ‪ .‬فهذا تحــذير آخــر مــن الرئيـــس ‪،‬‬
‫عال عند هؤلء يعقل الخر الذي ) هو ( ‪ ،‬والذي جاء بعد فعل المــر‬ ‫فإن العقل الف ّ‬
‫في العبارة ‪ .‬فإذا كان يعقل الذي هو فقد حصل المطلوب من التضليل ‪ ،‬فإنه إما‬
‫أن يكون إلها ً آخر وإما أن يكون العالم عين الذي هو فهو إله نفسه ‪ ،‬أما أنــا فقــد‬
‫ل ولكنه ل يعقل غيره قط ‪.‬‬ ‫ل فهو عاق ٌ‬ ‫ل معقو ٍ‬ ‫قلت أن ك ّ‬
‫ل مريدٌ وقادٌر على الختيار !‬ ‫ل معقو ٍ‬ ‫المشرقي ‪ :‬إذن فك ّ‬
‫ن أن اللــه يخلــق‬ ‫مونادو ‪ :‬يا لخضوعك للنسان ! ما أشدّ إتباعك للنسان حينما تظ ّ‬
‫ل فهو مريد ‪ .‬من أين تــأتي للشــيء‬ ‫ل معقو ٍ‬ ‫ما ل يعي ول يفهم ول يختار ! نعم ك ّ‬
‫قدرةٌ على الظهور إذا لم يكن حـّرا ً ؟ ‪ .‬إن الشــيء الوحيــد الممكــن أن يوجــد هــو‬
‫الحّرية ‪ ،‬فإذا لم يقدر على الختيار لم يقدر على النشطار فيفنى من حيث يوجد‬
‫ء كهذا فقــد بلغــت مــن‬ ‫سك كي يبقى ؟ ‪ .‬وإذا افترضت وجود شي ٍ‬ ‫ء يتم ّ‬ ‫ي شي ٍ‬ ‫! بأ ّ‬
‫ً‬
‫الجهل أقصاه لنك تفترض وجود معــدوم ‪ ..‬إنــه تمام ـا مثــل الــذي يفــترض وجــود‬
‫واحدين في العداد ‪ .‬إن الله ل يقدر أصل ً أن يخلق شيئا ً معدوم الرادة ومسلوب‬
‫الحّرية لنه ل يقدر أن يخلق إلها ً آخر ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬إذن فالله مسلوب الرادة ! اسمع سيدي الرئيـس !‬
‫ً‬
‫الرئيـس ‪ :‬إنه لم يقل ذلك ‪ .‬بل قال ســيكون هــذا المخلــوق إلهـا مســلوب الرادة‬
‫وهي عبارة خاطئة كّلها إذ يتنافى وسطها مع الطرفين ‪ .‬فهي ناتج لقولك بوجود‬
‫مخلوق مسلوب الرادة ‪.‬‬
‫ر يبقيه مقابل الفناء الذي‬ ‫ي قرا ٍ‬‫مونادو ‪ :‬لن هذا المخلوق ل قدرة له على اتخاذ أ ّ‬
‫ه مــن‬ ‫ل بدّ منه _ فكيف إذن يبقى موجودا ً ؟ ل بدّ أن يكون موجــودا ً بــذاته فهــو إلـ ٌ‬
‫ة ! يـا هـذا أل تـرى فـي الكتـب‬ ‫ة ثالثـ ٍ‬ ‫د مـن جهـ ٍ‬ ‫ة وغيـر مريـ ٍ‬ ‫ق من جه ٍ‬ ‫ة ومخلو ٍ‬ ‫جه ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫المنّزلة أن الله ما خلــق شــيئا إل كلمــه ؟ أفــتراهُ يكلــم مــن ل يعــي ويــأمر مــن ل‬
‫يختار ؟ ‪ .‬سيدي الرئيـس ‪ :‬إن هذا الشيطان لم يستفد من الكتب المنّزلة مطلقا ً !‬
‫قى في هذه المناصب زورا ً ! إنه ينكر الحّرية التي هي وجــود العــالم ومــن‬ ‫لقد تر ّ‬
‫يدري لعّله سيحاول إثباتها في _ ما بعد الوجود _ كما يفعل النسان تمامــا ً ‪ ،‬فهــو‬
‫ل يخدم الشياطين بشيء إذا كانت حدود معرفته بحدود معرفة النسان للشياء ‪.‬‬
‫قف عــن العبــارات الــتي تريــد أن تشــغلني بهــا عــن الحفــرة الــتي‬ ‫المشرقي ‪ :‬تو ّ‬
‫ّ‬
‫ت فيها الن ‪ ،‬فاخبرني عن هذا الشيء الذي كلمه الله كلمــه قبــل أن يوجــده‬ ‫وقع َ‬
‫أم بعد أن أوجده ؟‬
‫ة منكرةً ؟ أنــت الــذي‬ ‫زمت هزيم ً‬ ‫ه ِ‬
‫ء تبحث أّيها الماكر بعد إن ُ‬ ‫ي شي ٍ‬ ‫مونادو ‪ :‬عن أ ّ‬
‫كد أن المنفعل ل بدّ أن يجهل كيف انفعل إذا كان هذا المنفعل هو العــالم‬ ‫كنت تؤ ّ‬
‫كّله ‪ ،‬تريد عن طريق الـ ) متى ( أن تتسلل إلى الـ ) كيف ( ؟ هيهــات ! ‪ .‬ل يتكل ّــم‬
‫الله مثل الخلق عنــدما يبــدأ الخلــق ‪ ،‬لــم يكّلمــه قبــل اليجــاد ول بعــد اليجــاد بــل‬
‫التكليم هو عين اليجاد وحاُله ‪ ..‬أتريد أن تنفذ إلى الموصوف عن طريق الصفة ؟‬
‫‪ .‬إن معرفة الصفة غير ملزمة لمعرفة الموصوف ‪ ..‬لن تلك هــي الصــفة الولــى‬
‫ن‬
‫ل شــيء ول برهــان عليهــا ‪ ،‬فهــي برهــا ٌ‬ ‫والبديهية الولى الــتي هــي برهــان كـ ّ‬
‫ة نعرفها عنه ‪.‬‬ ‫ة بعدها فهي أول صف ٍ‬ ‫ل صف ٍ‬ ‫نك ّ‬ ‫لنفسها وبرها ُ‬
‫‪109‬‬ ‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬
‫المشرقي ‪ :‬فاخبرني إذن كيف حصلت الكثرة ؟‬
‫مونادو ‪ :‬هكذا سل منذ البداية فلماذا الدوران ؟ أتحصل الكثرة من الواحــد أم مــن‬
‫الوحدة ؟ أجبني أنت ! ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬تحصل من الواحد ‪.‬‬
‫مونادو ‪ :‬كذبت ! ل تحصل الكـثرة مـن الواحـد ول مـن الوحـدة ‪ ،‬إنمـا تحصـل مـن‬
‫الثنين ‪ .‬لن في الثنين واحدٌ وواحدٌ آخٌر ‪ ،‬بينما ل يوجد اثنين في الواحد ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬فكيف تحصل الكثرة وما علقتها بالواحد ؟‬
‫مونادو ‪ :‬تحصل من الثنين وعلقتها به أنها تنشأ به ‪.‬‬
‫المشرقي ‪ :‬قلت للتو أن الكثرة ل تحصل من الواحد !‬
‫مونادو ‪ :‬ول زلت أقول ذلك ‪ ،‬فهي ل تحصل من الواحد ‪,‬إنما تحصل بــه ‪ .‬أل تــرى‬
‫أنك ل تقدر أن تأتي بما هو بعد الثنين إل ّ منها وباستعمال الواحد الجديد ؟‬
‫المشرقي ) يقهقه عاليا ً ( ‪ :‬اسمعوا يا شياطين الجان ‪ ،‬لقــد برهــن مونــادو علــى‬
‫غياب الواحد من حيث ل يعلم !‬
‫فل ! فليشهد الجمع أني أشهدُ علــى‬ ‫مونادو ‪ :‬وهل أريد غير هذا القرار أّيها المغ ّ‬
‫غياب الواحد ‪ .‬هيا أرني واحدا ً وحده في هذا الوجود ل ثاني لــه ! أرنــي مــن هــذه‬
‫الموجودات شيئا ً واحدا ً يكــون واحــدا ً فــي الحقيقــة ل زوج لــه ول مك ـّرر لــه مــن‬
‫سبه وتبدأ بالواحــد فهــو‬ ‫ء تح َ‬‫ل شي ٍ‬ ‫أفراده ول مثيل له ! فأين هو هذا الواحد ؟ ‪ .‬ك ّ‬
‫ت العدّ أصبح ثانيا ً أو عاشرا ً أو كما يحلــو لـك ‪ ،‬فـأرني واحـدا ً‬ ‫واحد بالعدد إذا عكس َ‬
‫ً‬
‫هو واحدٌ فعل ً ! ل ثاني له ويبقى واحدا على الدوام ‪.‬‬
‫) يضرب المشرقي على رأس المقعد الحجري فيحدث صوتا ً ثم يقول (‬
‫المشرقي ‪ :‬انتبهوا أيها الجمع ‪ ..‬انتبهوا ‪..‬‬
‫مه حصاة ويقول (‬ ‫) يخرج من ك ّ‬
‫ل‬ ‫المشرقي ‪ :‬هذه حصاةٌ واحدةٌ ل ثاني لها مــن حيــث خطوطهــا وألوانهــا فــي ك ـ ّ‬
‫الحصى الذي في الوجود ! لقد وقع الجنوبي !‬
‫دم الجنوبي نحو الرئيـس ويضرب على الطاولة الذهبية ويخاطب الرئيـس (‬ ‫) يتق ّ‬
‫مونادو ‪ :‬اعذرني أّيها الرئيـس إذ أضرب على طاولتك فقد اقترب الفوز‬
‫مه حصاة أخرى ويقول (‬ ‫) ثم أنه يخرج من ك ّ‬
‫ة لها في الوزن ‪ ..‬إنها مثيلتهـا فـي وزنهــا تمامـا ً هّيـا‬ ‫مونادو ‪ :‬هذه حصاةٌ مساوي ٌ‬
‫زنوهما بأدقّ الوزان !‬
‫) تنهمك مجموعة من الجان في وزن الحصاتين وفي الثناء يواصل الجنوبي قائل ً‬
‫(‬
‫ة أخـرى‬ ‫ة دون حيثيـ ٍ‬ ‫د مـن حيثيـ ٍ‬ ‫مونادو ‪ :‬أتحسب أّيهــا المشـرقي أن تـأتيني بواحـ ٍ‬
‫د حقيقي ‪ ،‬وعدا ذلك فهو يتجــّزأ ‪.‬‬ ‫وينطلي المر على المجمع ؟ إن هذا ليس بواح ٍ‬
‫ّ‬
‫ل وجودنا وبه فقط نحيا ونتعامل ونتعلم ونحسب ونجمع ونثيب‬ ‫إذن فالواحد هو ك ّ‬
‫ل رق ـم ٍ آخــر !‬ ‫ً‬
‫ونعاقب وبه نوجد ومع ذلك فإننا ل نبلغه ول ندري ما هو خلف ـا لك ـ ّ‬
‫ده أبســط‬ ‫دها حــدودا ً لن ح ـ ّ‬ ‫فهو أكثر ما نعرفه من الشياء إبهاما ً ‪ ،‬ولذلك فهو أح ّ‬
‫ف ‪ ،‬لنــه‬ ‫ده أنه الحقيقة الوحيدة التي بها نكون وتعريفــه أبســط تعري ـ ٍ‬ ‫الحدود ! ح ّ‬
‫وحده الذي ل نعّبر عنه إل ّ بمثل ) ل أدري ( ‪ ،‬أ‪ ,‬الذي هو هو ول ندري ما هــو فهــو‬
‫ء‪.‬‬‫ل شي ٍ‬‫الحدّ من ك ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬إن الذي هرب من أبيه كي ل يسخطه في طبعه ش ـّر كتمــه ‪ .‬قــال فــي‬
‫ذات نفسه ‪ :‬هذا أبي وأخشى أن أواجهه فأسخطه ‪ .‬أما الــذي بقــي فــي موضــعه‬
‫كنه مــن‬ ‫فقد كان في طبعه خيـٌر اعتمــده ‪ .‬قــال فــي ذات نفســه ‪ :‬هــذا أبــي فــأم ّ‬
‫معاقبتي لعّله يرضى ‪ .‬فقال الب للول الهارب ‪ :‬هربت من وجهي وكتمت ش ـّرك‬
‫عني فأجازيك بأن تفرغ شّرك على أعدائي وأسّلطك عليهم ‪ ،‬وقال للثاني الصابر‬
‫النيلي ‪-----------------------------------------‬‬ ‫‪110‬‬
‫ُ‬
‫ي ولجأت إلى جواري فإني أجيرك ‪ ،‬وأجازيك عل فعلــك بــأن تفــرغ‬ ‫ت إل ّ‬
‫‪ :‬فرر َ‬
‫ل دائم ـا ً تبحــث عــن‬ ‫خيرك كّله على أوليائي ‪ .‬ثم قال للول ‪ :‬هذا هو قدرك ستظ ّ‬
‫ل دائما ً تبحث عن الخيار ! ثم قــال ‪:‬‬ ‫الشرار ! وقال للثاني ‪ :‬هذا هو قدرك ستظ ّ‬
‫دمني إذ‬ ‫خرني عندما قال ‪ :‬أنا مــن ؟ وأبــي مــن ؟ والثــاني قـ ّ‬ ‫ل ‪ ،‬فالول أ ّ‬ ‫هذا عد ٌ‬
‫ذ يذهب مع أحدهما حسب قوله ‪.‬‬ ‫ل يذهب بعدئ ٍ‬ ‫ل قائ ٍ‬ ‫قال ‪ :‬أبي من وأنا من ؟ فك ّ‬
‫ً‬
‫ت يواصل الرئيـس قائل (‬ ‫ة سكو ٍ‬ ‫) بعد فتر ِ‬
‫ً‬
‫الرئيـس ‪ :‬اكتبوا هذا القرار ‪ُ ) :‬يعّين مونادو بن ســامورا البــرع زعيمـا لشــياطين‬
‫الرض الثالثة في مجموعة الشــمس الســاطعة إحــدى مجموعــات مج ـّرة الطريــق‬
‫اللبني في العنقود المجري السابع ويكون نافذا ً هذا القرار قبل تاريخه بألف سنة‬
‫مع مكافآتها المنصوص عليها ‪( ..‬‬
‫) قام الرئيـس باتجاه الباب ثم قال (‬
‫الرئيـس ‪ :‬سأعود لحقا ً لقرأ عليكــم مقــررات هــذه الجلســة فقــد أوشــكت علــى‬
‫النتهاء …‬
‫ب‬ ‫ل صو ٍ‬ ‫) وحالما خرج الرئيـس هجمت جحافل من الجان خصوم الشياطين من ك ّ‬
‫طمت الجدران البّلورية وهوى السقف ‪ ،‬وُأضرمت النار بنيــران المشــاعل فــي‬ ‫وح ّ‬
‫ملــة‬‫ورت المخ ّ‬ ‫ة فــي الهــواء فــي حيــن تكـ ّ‬ ‫القاعة وتطايرت شظايا اللوحة مشــتعل ً‬
‫العبقرية تحت الطاولة الذهبية التي اتكأت على جانبها ‪ ..‬لحظات وانتهت المعركة‬
‫ة‬
‫ة متباعد ٍ‬ ‫ت منتظم ٍ‬ ‫ل المجاور وهو يقهقه بدفقا ٍ‬ ‫التي راقبها الرئيـس من على الت ّ‬
‫ن‬‫ن أوشك أن يخمــد أو بركــا ٍ‬ ‫‪ :‬هه … هه … هه … تشتبه على السمع بدفقات بركا ٍ‬
‫ل(‬ ‫ابتدأ الثوران ‪ .‬ثم نادى الرئيـس من أعلى الت ّ‬
‫الرئيـس ‪ :‬أعيدوا تنظيم الزمر … … ) ورجع الصدى كما لو كان يصدر مــن جميــع‬
‫قمم الجبــال وعــن كــل الموجــودات الرضــية ‪ :‬أعيــدووووو … تنظيــم م م م م …‬
‫ك قــط أن هــذا ليــس صــدى وإنمــا هــو صــوت‬ ‫الزمرررررر‪ .‬لكن الرئيـس لــم يش ـ ّ‬
‫) كنكــر ( ! (‬

‫مـــت ( قبــل النهايــــة‬


‫) ت ّ‬

You might also like